البيان في مذهب الإمام الشافعي

العمراني

المقدمة

[المقدمة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [مقدمة المؤلف] : الحمد لله الذي أوجدنا بقدرته، وأرشدنا بخلقه إلى معرفته، وتعبدنا بما شاء من عبادته، وصلواته على محمد المصطفى نبيه خير بريته، وعلى أهله وذريته وصحابته. أما بعد: فلما كان مذهب الشافعي رحمة الله عليه اعتقادي، وفي " المهذب " درسي، وعليه اعتمادي، ثم طالعت في غيره من مصنفات أئمتنا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مسائل غير مذكورة فيه، يصعب علي استخراجها وانتزاعها من معانيه، فأشار علي بعض شيوخي رحمة الله عليهم بمطالعة الشروح وجمعها، والتقاط هذه المسائل ونزعها، لأستعين بمطالعته مع " المهذب "، على المسائل المنصوص عليها في المذهب.. فجمعت كتابًا قبل هذا، سلكت فيه هذا السبيل، لكني أغفلت البروز فيه وأقوال المخالفين، خشية التطويل، ثم نظرت، فإذا لي حاجة إلى ذكر ما أغفلته، واستيفاء ما تركته وأهملته، فجمعت هذا الكتاب مشتملًا من ذلك على ما قصدته، وعلى ترتيب " المهذب " رتبته، والله أسأل العون على ما أردته، والتوفيق في ما نويته، وهو حسبي ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير.

ذكر نسب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا ينبغي لمن انتحل مذهب إمام أن يجهل نسبه. وهو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن الشافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف جد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. وكان لعبد مناف خمسة أولاد: هاشم بن عبد مناف جد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمطلب بن عبد مناف جد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعبد شمس بن عبد مناف جد بني أمية، وعثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - منهم، ونوفل بن عبد مناف جد بني نوفل، وجبير بن مطعم منهم، وأبو عمرو بن عبد مناف ولا عقب له. وكان المطلب جد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كفل عبد المطلب بن هاشم جد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه ولد بالمدينة، ومات أبوه، فمضى له المطلب، وقدم به مكة وهو رديفه، وعليه ثياب رثة، فإذا سئل عنه.. استحيا أن يقول: إنه ابن أخي، فكان يقول: عبد لي، فلما وصل منزله.. ألبسه ثم أخرجه، وقال: هذا ابن أخي، فسمي بذلك: عبد المطلب، وكان اسمه المطلب، وكان يسمى شيبة الحمد؛ لأنه ولد وفي رأسه شعرة بيضاء، وقيل: إن شافعا لقي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مراهق للبلوغ. وأما مولد الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فإنه ولد بـ (غزة) - قرية من قرى الشام - سنه خمسين ومائة، فمكث بها سنتين، ثم حمل إلى مكة، فنشأ بها، وتعلم بها القرآن،

على سفيان بن عيينة، وغيره، ثم خرج إلى المدينة، فقرأ على مالك بن أنس " الموطأ " وحفظه، ثم دخل بغداد، وأقام به سنين، وصنف بها كتبه القديمة، ثم عاد إلى مكة، وأقام بها سنة تسع وسبعين، ثم عاد إلى بغداد، وأقام بها أشهرًا، ولم يصنف بها شيئًا، ثم خرج إلى مصر، فصنف بها كتبه الجديدة، وأقام بها إلى أن مات بها ودفن هنالك، وكان موته ليلة الجمعة، وقد صلى العشاء الآخرة آخر ليلة من شهر رجب، ودفن في يوم الجمعة. رحمة الله عليه. قال الربيع: انصرفنا من دفن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فرأينا هلال شعبان، وكان ذلك في سنة أربعة ومائتين، وكان عمره أربعًا وخمسين سنة. وأصحابه البغداديون: الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، والحسين الكرابيسي، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، وأحمد بن حنبل، وهم الذين يروون عنه الكتب القديمة. وأما أصحابه المصريون الذين يروون عنه الكتب الجديدة: فإسماعيل بن يحيى المزني، والربيع بن سليمان المرادي، والربيع بن سليمان الجيزي، ويوسف بن يحيى البويطي، وحرملة بن يحيى التجيبي، ويونس بن عبد الأعلى. وإنما اخترنا مذهبه؛ لموافقته الكتاب والسنة والقياس. وأمرنا المتعلم أن

يتعلم مذهبه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأئمة من قريش» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تعلموا من قريش ولا تعلموها» ، وروي: «ولا تعالموها، فإن عالمها يملأ الأرض علمًا» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس في هذا الشأن تبع لقريش، فمسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم» . وليس في الأئمة المشهورين قرشي غير الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فكان اتباعه أولى من اتباع غيره. وأما تخريج الأئمة المسألة على قولين وأكثر، فعلى معنى: أن كل قول سوى ذلك باطل، وليس على سبيل الجمع، ولا على سبيل التخيير، وقد يقوم للمجتهد الدليل على إبطال كل قول سوى قولين، فلم يظهر له الدليل في تقديم أحدهما على الآخر، فيخرجهما على قولين، وهذا كما فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث قال: (الخلافة بعدى في هؤلاء الستة) ؛ ليدل على أن الخلافة ليست في غيرهم. وقد قيل: إن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يمت حتى بين الصحيح من أقواله إلا في ست عشرة مسألة، أو سبع عشرة مسألة.

كتاب الطهارة

[كتاب الطهارة] [باب ما يجوز به الطهارة من المياه وما لا يجوز به]

كتاب الطهارة باب ما يجوز به الطهارة من المياه، وما لا يجوز به قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] [الفرقان: 48] . إذا الطهور عندنا: هو الطاهر في نفسه، المطهر لغيره، وهو اسم متعد، وتعديته: تطهيره لغيره من الحدث والنجس. وقال أبو حنيفة، والأصم: (هو اسم لازم غير متعد يعم جميع الطاهرات) . وأجاز أبو حنيفة إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات، كالخل. وأجاز الأصم رفع الحدث بالمائعات الطاهرة غير الماء: كاللبن، والخل. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خلق الله الماء طهورًا» .

وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . فخص الماء باسم الطهور، فدل ذلك على أنه لا يسمى غيره بهذا الاسم. إذا ثبت هذا: فيجوز رفع الحدث، وإزالة النجس بالماء المطلق، كماء المطر، وذوب الثلج والبرد، وماء الآبار والأنهار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] [الأنفال: 11] . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ من بئر بضاعة» . وأما الثلج والبرد قبل أن يذوبا: فيجوز مسح الرأس والخف بهما لا غير. وقال الأوزاعي (إذا أمره على العضو المغسول.. أجزأه) . والدليل على أنه لا يجوز: أن أقل الطهارة جري الماء بطبعه على العضو المغسول، وهذا لا يوجد فيهما قبل أن يذوبا. وتجوز الطهارة بماء البحر مع وجود غيره من الماء، ومع عدمه، وهو قول كافة العلماء، إلا ما حكي عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو: أنهما قالا: (التيمم أعجب إلينا منه) .

مسألة: الماء المشمس

وقال ابن المسيب: إن كان واجدًا لغيره من الماء.. لم يجز الوضوء به، وإن لم يجد غيره.. جاز الوضوء به. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . وماء البحر يسمى ماءً. وروى أبو هريرة: «أن رجلًا قال: يا رسول الله إنا نركب في البحر أرماثًا، ومعنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو الطهور ماؤه الحل ميتته» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يطهره البحر، فلا طهره الله» . [مسألة: الماء المشمس] وأما الماء المشمس: فإن لم يقصد إلى تشميسه.. لم تكره الطهارة به؛ لأنه لا يمكن صون الماء عن الشمس، وإن قصد إلى تشميسه.. فهل تكره الطهارة به؟ فيه خمسة أوجه: أحدهما - وهو المنصوص - (أنه يكره) ؛ لما روي: «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سخنت ماء بالشمس، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا حميراء، لا تفعلي هذا، فإنه يورث البرص» ، تقول العرب: امرأة حميراء أي: بيضاء. وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان ينهى عن الماء المشمس، وقال: (إنه يورث البرص) ، فذكر أن رجلًا عانده في ذلك، وكان يتطهر به، فما مات حتى أصابه البرص.

فرع: الماء المسخن

وسواء شمس بالحجارة أو النحاس أو الزجاج، وفي الإناء المغطى والمكشوف.. فإنه يكره. والوجه الثاني: لا يكره بحال، وهو قول أبو حنيفة، كما لا يكره ما تشمس بنفسه في البرك والأنهار. والثالث: إن شمس في البلاد الحارة في آنية الصفر.. كره؛ لأنه يورث البرص، وإن شمس بغير ذلك.. لم يكره؛ لأنه لا يورث البرص. والرابع - حكاه الشاشي - يكره في البدن، دون الثوب. والخامس - حكاه أيضًا - إن قال عدلان من أهل الطب: إنه لا يورث البرص.. فلا يكره، وإن قال يورث.. كره، وهذا ضعيف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبر أنه يورث البرص، فلا معنى للرجوع إلى قول أهل الطب. فإن قلنا: يكره، فبرد الماء المشمس.. فهل تزول كراهة الطهارة به؟ سمعت بعض شيوخي يحكي فيه ثلاثة أوجه: أحدها: تزول الكراهة، لزوال التشميس. والثاني: لا تزول الكراهة؛ لأنه لا يزول عنه اسم التشميس. والثالث: يرجع إلى عدلين من أطباء المسلمين، فإن قالا: لا يورث البرص.. زالت الكراهة، وإن قال: يورث.. كره؛ لأن العلة في كراهته خوف البرص، فرجع إليهم في ذلك بعد التبريد. فإن توضأ بالماء المشمس.. ارتفع حدثه؛ لأن المنع منه لخوف البرص، فلم يمنع صحة الطهارة، كما لو توضأ بماء حار أو بارد يخاف منه. [فرع: الماء المسخن] وإن سخن الماء بالنار.. لم تكره الطهارة به، سواء سخن بالوقود الطاهر أو

النجس. وقال مجاهد: تكره الطهارة به بكل حال. وقال أحمد: (إن سخن بالوقود النجس.. كرهت الطهارة به، وإن سخن بالوقود الطاهر.. لم تكره) . دليلنا: (أنه كان يسخن لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ماء في قمقم، فكان يتوضأ به) . وروى « [الأسلع بن] شريك قال: (أجنبت وأنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فجمعت أحجارًا، وسخنت ماء، فاغتسلت به، فأخبرت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فلم ينكر علي» . وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل حمامًا بالجحفة، فاغتسل منه» . ولا يكره الوضوء والغسل بماء زمزم. وقال أحمد في إحدى الروايتين عنه:

مسألة: الماء غير المطلق

(يكره) ؛ لما روي عن العباس بن عبد المطلب: أنه قال في ماء زمزم: (لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . وهذا ماء؛ ولأن الناس يفعلون ذلك من لدن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى وقتنا هذا من غير إنكار. وأما ما روي عن العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فيتحمل أنه نهى عن ذلك في وقت قل الماء فيها، وكثر من يطلب الشرب منها. [مسألة: الماء غير المطلق] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وما عدا ذلك من ماء ورد، أو شجر، أو عصفر، أو ماء زعفران، أو عرق.. فلا يجوز التطهر به) . وهذا كما قال: لا يجوز رفع الحدث بغير الماء المطلق من المائعات الطاهرة، كـ (ماء الورد) : وهو الماء الذي يعتصر من الورد. و (ماء الشجر) : وهو أن يقطع الشجر رطبًا، فيجري منه الماء، و (ماء العصفر والزعفران) : وهو ما اعتصر منهما. وبه قال عامة أهل العلم، إلا الأصم، فإنه قال: يجوز رفع الحدث بكل مائع طاهر. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ، فنقلهم من الماء عند عدمه إلى التيمم، فدل على أنه لا يجوز الطهارة بغيره. وأيضًا: فإن الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - قد كانوا يسافرون، فيعدمون الماء، فيتيممون، وما روي أن أحدًا منهم توضأ بمائع غير الماء. وأما (العرق) : ففيه ثلاث روايات:

مسألة: الطهارة بشيء من الأنبذة

(الأولى) : قيل: عرق - بفتح العين والراء - وهو عرق الآدميين وغيرهم. و (الثانية) : قيل: عرق - بكسر العين وسكون الراء - وهو ماء عروق الشجر. و (الثالثة) : قيل: عرق - بفتح العين وسكون الراء - وهو الماء الذي يعتصر من أكراش الإبل، كانت العرب تفعله في المفاوز. والجميع لا تجوز الطهارة به. أما الأولان: فلما قدمناه. وأما الثالث: فلأنه نجس. [مسألة: الطهارة بشيء من الأنبذة] مسألة: [في الأنبذة] : ولا تجوز الطهارة بشيء من الأنبذة. وقال أبو حنيفة: (يجوز الوضوء بنبيذ التمر المطبوخ في السفر عند عدم الماء) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . فنقلهم عند عدم الماء إلى التيمم، فدل على أنه لا يجوز الوضوء بغيره من المائعات. إذ لو جاز الوضوء بغيره من المائعات.. لكان النقل إليه أقرب من التراب؛ لأنه أقرب إلى صفة الماء. [فرع: إزالة النجاسة بالمائعات] ولا تجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات. وقال أبو حنيفة: (تجوز إزالة النجاسة بكل مائع طاهر مزيل للعين، كالخل) .

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] [الأنفال: 11] . فخص الماء بالتطهير. وروي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأسماء بنت أبي بكر في دم الحيض يصيب الثوب: "حتيه واقرصيه، ثم اغسليه بالماء» . فخص الماء بالغسل به، فدل على أنه لا يجوز بغيره. و (الحت) : هو أن تحكه بضلع أو جريدة. و (القرص) : أن يفرك باليد، يراد بذلك المعونة للماء. وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأم قيس بنت محصن: حكيه بضلع، ثم اغسليه بماء وسدر» . وبالله التوفيق

باب ما يفسد الماء من الطاهرات وما لا يفسده

[باب ما يفسد الماء من الطاهرات وما لا يفسده] إذا اختلط بالماء شيء طاهر، ولم يتغير به الماء لقلة المخالط.. لم تمنع الطهارة بالماء؛ لأن الماء باق على إطلاقه. وإن لم يتغير الماء بما خالطه من الطاهرات التي تسلب تطهير الماء إذا غيرته لا لقلة المخالط، ولكن لموافقته الماء في صفاته، كالعرق، وماء الورد إذا انقطعت رائحته.. قال ابن الصباغ: وهذا يبعد؛ لأنه لا بد أن ينفرد عنه بطعم، فإن اتفق ذلك.. ففيه وجهان: أحدهما: يعتبر هذا المخالط بغيره من الطاهرات التي تغير صفته صفة الماء، فيقال: لو كان هذا المخالط من الطاهرات التي تخالف صفتها صفة الماء.. هل كانت تتغير صفة هذا الماء به؟ فإن قيل: نعم.. قيل: فهذا أيضًا يمنع الطهارة به وإن لم يتغير الماء. وإن قيل: لا يتغير صفة هذا الماء.. قيل: فكذا هذا أيضًا لا تمنع الطهارة به؛ لأنه لما لم يمكن اعتبار هذا المخالط بنفسه، لموافقته الماء في الصفة.. اعتبر بغيره مما يخالف الماء، كما نقول - في الجناية على الحر التي ليس لها أرش مقدر -: لما لم يتمكن اعتبارها بنفسها.. اعتبرت بالجناية على العبيد. قال ابن الصباغ: وهذا يبعد؛ لأن الأشياء تختلف في ذلك، فبأيها تعتبر؟ فإن قال: بأدناها صفة إلى الماء.. قيل: فاعتبر هذا المخالط بنفسه، فإن له صفة ينفرد بها عن الماء. والوجه الثاني - وهو الصحيح -: إن كان الماء أكثر من المخالط له.. جازت الطهارة به؛ لبقاء إطلاق اسم الماء عليه. وإن كان المخالط له أكثر من الماء.. لم تجز الطهارة به؛ لأن إطلاق اسم الماء يزول بذلك. وإن كان المخالط للماء المطلق ماء مستعملًا في الحدث، وقلنا: إنه ليس بمطهر.. فإن الشيخ أبا حامد وابن الصباغ قالا: يكون الاعتبار هاهنا بالكثرة وجهًا

واحدًا. وقال القاضي أبو الطيب: هي على وجهين، كما لو خالطه ماء ورد انقطعت رائحته، أو عرق. إذا ثبت هذا: فذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": إذا احتاج في طهارته إلى خمسة أرطال ماء، ومعه أربعة أرطال ماء، فكمله برطل من مائع لم يتغير به، كماء ورد انقطعت رائحته.. فهل تجوز الطهارة به؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي علي الطبري، وأبي حنيفة -: (أنه لا تصح الطهارة به) ؛ لأنه كمل الوضوء بالماء والمائع، فأشبه إذا غسل بعض أعضائه بالماء، وبعضها بالمائع. والثاني: تصح الطهارة به. قال أصحابنا: وهو الصحيح؛ لأن المائع استهلك في الماء، فصار كما لو طرح ذلك في ماء يكفيه. والذي تبين لي في هذه المسألة: أنها مبنية على الوجهين في المائع إذا وقع في الماء ولم يغيره، لموافقته الماء في الصفة: فإن قلنا: إن المائع الذي توافق صفته صفة الماء يعتبر بغيره من الطاهرات التي تخالف صفته صفة الماء.. لم تجز الطهارة به هاهنا بشيء من هذه الخمسة الأرطال وجهًا واحدًا؛ لأنا لو قدرنا في عقولنا أن رطلًا من قطران، أو زعفران، وقع في أربعة أرطال من الماء.. لغيره. وإن قلنا: إن الاعتبار بكثرة الماء، أو بكثرة المخالط.. فهاهنا وجهان: [أحدهما] : قال أبو علي الطبري: لا تجوز الطهارة به. والثاني: قال سائر أصحابنا: تجوز. فكان أبو علي الطبري يقول: إن المائع الطاهر إذا خلط بماء يكفي للطهارة، ولم يغير صفة الماء، وكان الماء أكثر.. تصح الطهارة به، وإن كان الماء لا يكفي للطهارة إلا بالذي خالطه من المائعات الطاهرات.. لم تصح الطهارة به.

ويأتي على قول أبي علي: لو احتاج في الغسل عن الجنابة إلى عشرة أرطال ماء وليس معه إلا تسع أرطال ماء، فطرح فيه رطلًا من ماء ورد انقطعت رائحته، ولم يتغير به الماء، فإن اغتسل بجميعه عن الجنابة.. لم تصح. وإن توضأ بجميعه عن الحدث.. صح. وهذا ظاهر الفساد. وغيره من أصحابنا قالوا: لا فرق بينهما؛ ولهذا قاسوا ما يكفي للطهارة إلا بالمائع على ما يكفي بنفسه للطهارة، فهي وإن كانت مقدمة في " المهذب " في الباب الأول، إلا أنها مبنية على الوجه الأول في الباب الثاني. ولعله فرعها على الصحيح. وإن تغيرت إحدى صفات الماء من طعم، أو لون، أو رائحة بشيء مما خالطه من الطاهرات.. نظرت: فإن كان مما لا يمكن حفظ الماء منه، كالطحلب - وهو نبت ينبت في الماء - وما يجري عليه الماء من الملح، والكحل، والزرنيخ، والنورة، وما أشبه ذلك.. جازت الطهارة به؛ لأنه لا يمكن صون الماء عن ذلك. وإن جرى الماء على التراب، فتغير الماء به.. لم يمنع الطهارة به، واختلف أصحابنا الخراسانيون في علته: فمنهم من قال: لأنه لا يمكن صون الماء عنه، فهو كالطحلب إذا تغير به الماء. ومنهم من قال: لأن التراب يوافق الماء في التطهير.

وإن تناثرت أوراق الشجر في الماء، فتغيرت بعض صفاته.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو المشهور -: أنه تصح الطهارة به. قال الطبري: وهذا قول من يقول: إن العلة في الماء إذا جرى عليه التراب، فغيره.. أنه لا يمكن صون الماء عنه؛ لأن هذا لا يمكن أيضًا صون الماء عنه. والوجه الثاني: لا تصح الطهارة به. قال الطبري: وهذا قول من يقول: إن العلة في التراب: أنه يوافق الماء في التطهير؛ لأن هذا لا يوافق الماء في التطهير. والثالث: إن كان الورق خريفيا.. لم يمنع الطهارة بالماء. وإن كان ربيعيا.. منع، والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن الربيعي يخرج منه رطوبة تختلط بالماء. والخريفي يابس لا يخرج منه شيء. والثاني: أن الربيعي قلما يتناثر، فيمكن صون الماء عنه، والخريفي يتناثر غالبًا، فلا يمكن صون الماء عنه. والأول أصح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره. وإن طرح في الماء ملح، فغير إحدى صفات الماء.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو قول الشيخ أبي حامد، والبغداديين من أصحابنا -: إن كان الملح انعقد من الماء.. لم يمنع الطهارة به؛ لأنه كان ماء في الأصل، فهو كالثلج إذا ذاب في الماء. وإن كان الملح جبليا.. منع الطهارة بالماء، كما لو طرح فيه دقيقًا، فغيره.

والثاني - وهو قول القفال، واختيار المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 2]-: أنه لا تمنع الطهارة بالماء، سواء كان الملح انعقد من الماء، أو كان جبليا؛ لأن كل ملح أصله الماء. والثالث - يحكى عن ابن القاص -: أن كل واحد من المحلين يمنع؛ لأنه قد خرج عن صفة الماء، فهو كالطحلب. والأول هو المشهور. وإن طرح التراب في الماء، فغير صفته.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: تجوز الطهارة به؛ لأنه يوافق الماء في التطهير، فهو كما لو صب ماء ملح على ماء عذب، فتغير به. وأما الخراسانيون فقالوا: إن قلنا: إن الماء إذا جرى عليه فتغير به، أن العلة فيه: أنه يوافق الماء في التطهير.. لم تمنع الطهارة بالماء هاهنا. وإن قلنا: إن العلة هناك: أنه لا يمكن صون الماء عنه.. منع الطهارة به. وإن أخذ الطحلب، أو ورق الشجر، ودق وطرح في الماء، فغيره.. فهل تصح الطهارة به؟ فيه وجهان، حكاهما أبو علي في " الإفصاح "، والشيخ أبو حامد: أحدهما: تصح الطهارة به، كما لو تغير بالطحلب الذي نبت فيه. والثاني: لا تصح الطهارة به، وهو المشهور؛ لأنه زال عن أصله بصنعة آدمي، بخلاف النابتة فيه، فإنه لا يمكن صون الماء عنه.

فرع: حكم ما غير الماء كزعفران

[فرع: حكم ما غير الماء كزعفران] ] : وإن وقع في الماء زعفران، أو كافور، أو دقيق، أو ثمر، أو ما أشبه ذلك، فغير إحدى صفاته.. لم تسلب طهارته، فيجوز شربه، ولكن يسلب تطهيره، فلا تصح الطهارة به. وقال أبو حنيفة: (إن كان الماء يجري بطبعه، صحت الطهارة به، إلا ماء اللحم وماء الباقلاء، فلا تصح الطهارة به، وإن كان الماء لا يجري بطبعه.. لم تصح الطهارة به) . دليلنا: أنه زال عنه إطلاق اسم الماء بمخالطة ما ليس بمطهر، والماء مستغن عنه، فلم تصح الطهارة به، كماء اللحم، وماء الباقلاء. وإذا شدد (الباقلا) .. قصر، وإذا خفف.. مُدَّ. فقولنا: (زال عنه إطلاق اسم الماء) احتراز من هذه الأشياء الطاهرة إذا وقعت في الماء، ولم تغير صفاته. وقولنا: (بمخالطة) احترازٌ من الماء إذا تروح بجيفة بقربه. وقولنا: (ما ليس بمطهر) احتراز من التراب، على المشهور من المذهب. وقولنا: (والماء مستغن عنه) احتراز من الماء إذا جرى على الكُحل، أو نبت فيه الطحلب، فتغير به. وإن حلف: لا يشرب الماء، فشرب من هذا الماء، قال القاضي في " التحقيق ": لا يحنث. وإن وكل من يشتري له الماء، فاشترى له الوكيل هذا الماء، لم يصح الشراء في حق هذا الموكل؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الماء.

فرع: تغير رائحة الماء بمجاور

[فرع: تغير رائحة الماء بمجاور] وإن وقع في الماء دُهن طيب، أو عود، فتغير به ريح الماء، ففيه قولان: أحدهما - وهو الأصح -: أنه لا يمنع الطهارة بالماء؛ لأن تغيره عن مجاورة، فهو كما لو تغير ريحه بجيفة بقربه. والثاني: يمنع الطهارة به، كما لو طرح فيه زعفران فتغير به. وإن وقع في الماء قطران فغير ريح الماء.. فقد قال الشافعي في " الأم " [1/6] : (لا يجوز الوضوء به) ، وقال بعده بأسطر: (إن وقع به قطران، أو بان، فتغير به ريح الماء، لم يمنع الوضوء به) . فقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، فحيث قال: (لا يجوز الوضوء به) ، أراد: إذا اختلط بأجزاء الماء، وحيث قال: (يجوز) ، أراد: إذا لم يختلط بالماء، وإنما تغير به عن مجاورة. قال أبو علي الطبري: وقيل: إن القطران على ضربين: ضرب يختلط بالماء، وضرب لا يختلط به. [فرع: حكم ما لا يختلط بالماء كالكافور] وإن وقع في الماء قليل كافور، وهو مما لا يختلط بجميع أجزاء الماء، وإنما يختلط باليسير منه، فتغير به ريح الماء.. ففيه وجهان: أحدهما: تجوز الطهارة به؛ لأن تغيره عن مجاورة. والثاني: لا تجوز، كما لو وقع فيه زعفران، فتغير به. وبالله التوفيق

باب ما يفسد الماء من النجاسة

[باب ما يُفسِدُ الماء من النجاسة] ، وما لا يُفسِدُهُ إذا وقعت في الماء نجاسة، فتغير لونه أو ريحه أو طعمه، نجس الماء، سواء كان الماء قليلًا، أو كثيرًا. والدليل عليه: ما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ من بئر بُضاعة - وهي بئر في المدينة - فقيل: يا رسول الله، إنك تتوضأ من بئر بضاعة، وإنه يطرح فيها المحائض ولحوم الكلاب وما ينجي الناس! فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خُلق الماء طهورًا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه، أو ريحه» . فنص على (الطعم، والريح) ، وقسنا اللون عليهما؛ لأنه أدل على غلبة الماء منهما، وقد روي: «إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» . (والمحائض) : خرق الحيض، و (ما ينجي الناس) : الغائط، يقال: أنجى الرجل إذا تغوط. فإن قيل: كيف يطرح ذلك في بئر يتوضأ منها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قلنا: يحتمل أن البئر في متسفل من الأرض، فتكون هذه الأشياء بقربها، ثم يحملها السيل إليها، ويحتمل أن يكون طرحوا ذلك إليها قبل أن يتوضأ منها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحتمل أن يكون طرحها المنافقون. وإن تغير بعض الماء دون بعض.. فقد ذكر في " المهذب "، و" المقنع ": أنه ينجس الجميع؛ لأنه ماء واحد، فلا يجوز أن ينجس بعضه دون بعض. وقال بعض أصحابنا المتأخرين: أراد إذا كان الماء الذي لم يتغير أقل من قلتين. فأما إذا كان الذي لم يتغير قلتين أو أكثر.. لم ينجس ما لم يتغير منه؛ لأنه

مسألة: النجاسة المعفو عنها

قد يتغير موضع من البحر بالنجاسة، فكيف يحكم بنجاسة جميعه؟! وظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق: أنه لا فرق بين أن يكون ما لم يتغير أقل من قلتين، أو قلتين، أو أكثر، فإنه ينجس الجميع؛ لأنه قال: لأنه ماء واحد، وهذه العلة موجودة. وإن كان الذي لم يتغير قلتين أو أكثر.. فقد ذكر ابن الصباغ ما يدل على صحة ذلك، فقال: إذا كان هناك ماء راكد متغير بالنجاسة، وبجنبه قلتان تمران براكد غير متغير.. فقياس المذهب: أن كل جرية تنجس به؛ لأنه كالماء الواحد، فكان الكل نجسًا وإن كثر، ولأنه ماء واحد فلا يتبعض حكمه، فإذا انفصلتا عنه.. زال حكم النجاسة؛ لأنه قلتان غير متغير بالنجاسة، فجعل ابن الصباغ القلتين نجستين وإن كانتا غير متغيرتين، لاتصالهما بالماء المتغير بالنجاسة. ومن قال بهذا: يمكنه أن ينفصل عما ذكروه في البحر بأن يقول: المتغير لا يستقيم فيه، فلا ينجس بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يطهره البحر.. فلا طهره الله» . ولم يفرق بين أن يتغير بالنجاسة، أو لا يتغير؛ لأن التغير في جميعه لا يتصور، وفي بعضه لا يستقيم. [مسألة: النجاسة المعفو عنها] وإن وقعت في الماء نجاسة يدركها الطرف، من بول، أو خمر، أو ميتة لها نفس سائلة ولم تغيره، فإن كان راكدًا.. نظرت: فإن كان الماء أقل من قلتين.. نجس، وإن كان قلتين، أو أكثر.. لم ينجس، وروي ذلك عن ابن عمر، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأحمد، وإسحاق. وذهبت طائفة: إلى أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، سواء كان قليلًا، أو كثيرًا. ذهب إليه من الصحابة: ابن عباس، وحذيفة، وأبو هريرة. وبه قال الحسن

البصري، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، وابن أبي ليلى، وجابر بن زيد، ومالك، والأوزاعي، وداود، والثوري، والنخعي، واختاره ابن المنذر، واحتجوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء طهور، لا ينجسه شيء، إلا ما غير طعمه، أو ريحه» ، ولم يفرق بين القليل والكثير. وقال أبو حنيفة: (كل ما وصلت إليه النجاسة، أو غلب على الظن وصول النجاسة إليه.. حكم بنجاسته وإن لم يتغير، سواء كان قليلًا أو كثيرًا، والطريق إلى معرفة وصولها إليه: إن كان الماء إذا حرك أحد جانبيه، تحرك الجانب الآخر، فإن النجاسة إذا حصلت بأحد جانبيه.. غلب على الظن أنها وصلت إلى الجانب الآخر، وإن كان لا يتحرك الجانب الآخر.. لم يغلب على الظن وصول النجاسة من أحد جانبيه إلى الآخر) . واحتج بما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البول في الماء الراكد» ، فلم يفرق بين القليل والكثير، ولا بين المتغير وغير المتغير. ودليلنا: ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان الماء قلتين بقلال هجر.. لم يحمل الخبث» أي: لا يقبل حكمه ولا يلتزمه. فدل على أنه إذا كان أقل من قلتين.. حمل الخبث. فإن قيل: فلعله أراد بقوله: " لم يحمل الخبث "، أي: أنه يضعف عن حمله، كما يقال: فلان لا يحمل هذه الخشبة، أي: أنه يضعف عن حملها.. قلنا: الشيء إذا كان عينًا، فقيل: فلان لا يحمله.. فمعناه: أي أنه ضعيف عن حمله،

والخشبة عين. وإذا كان الشيء حكمًا، فقيل: فلان لا يحمله.. فمعناه: أي أنه لا يقبل حكمه، ولا يلتزمه، كما قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: 5] [الجمعة: 5] . فأراد: أنهم حملوا أحكامها، فلم يقبلوها، ولم يلتزموها، لا أنهم يضعفون عن حملها؛ لأن المراد به الحكم، وكذلك النجاسة هي حكم لا عين. وأما الخبر الذي احتج به مالك: فيحمله على الماء الكثير، بدليل ما ذكرناه. وأما الخبر الذي احتج به أبو حنيفة: فيحمله على الماء القليل، بدليل خبرنا، فاستعمل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الأخبار الثلاثة، وأخذ مالك بواحد من الأخبار الثلاثة، وأسقط اثنين، وكذلك أبو حنيفة أخذ بواحد منها، وأسقط اثنين. إذا ثبت هذا: فإن هجر - التي تنسب القلال إليها - موضع بقرب المدينة، كان ابتداء عمل القلال بها، فنسبت إليها، ثم عملت بعد بالمدينة. و (القلة) : حب يسع جرارا من الماء، وجمعها: قلال. قال الشاعر: يمشون حول مكدم قد كدحت ... متنيه حمل حناتم وقلال و (الحناتم) - جمع حنتم - وهي: الجرة الكبيرة، ذات عروتين، وهو يصف الحمار. واختلف أصحابنا في حد القلتين. فمنهم من قال: هما خمسمائة منًا، وهو ألف رطل بالبغدادي. وقال أبو عبد الله الزبيري: هما ثلاثمائة منًا، وهو ستمائة رطل بالبغدادي.

وهو قول القفال، واختيار المسعودي [في الإبانة: ق \ 7] . وقال الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: هما خمسمائة رطل بالبغدادي، وهو المنصوص؛ لأن ابن جريج قال: رأيت قلال هجر، فرأيت القلة منها تسع قربتين، أو قربتين وشيئًا. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والاحتياط أن تجعل قربتين ونصفًا) . قال الشافعي: (والقربة بالحجاز، تسعمائة رطل) ، فصار ذلك خمسمائة رطل، وهل ذلك تحديد أو تقريب؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: هو تقريب، فإن نقص منه رطلان أو ثلاثة أو ما أشبه ذلك، لم يؤثر نقصانه؛ لأن الشيء قد يستعمل فيما دون النصف في العادة، ولهذا يقال في الشيئين وأكثر من نصف الثالث: ثلاثة إلا شيئًا. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: هو تحديد، فإن نقص منه نصف رطل، وما أشبهه.. فينجس بوقوع النجاسة فيه؛ لأن الحكم قد يجب للاحتياط، واستيفاء الواجب، كما يجب أن يصوم جزءًا من الليل لاستيفاء النهار، وكما يجب غسل شيء من الرأس لاستيفاء غسل الوجه. إذا ثبت هذا: فنقول: إن داود قال: (إذا بال الإنسان في الماء الراكد، ولم يجز له أن يتوضأ منه وإن كان كثيرًا لم يتغير، ولا يحكم بنجاسته، فيجوز لغيره أن يتوضأ منه، وكذلك إذا تغوط الإنسان في الماء.. جاز له ولغيره الوضوء به إذا لم يتغير به) . وهذا خطأ بين لا يحتاج إلى الاستدلال عليه، وإنما قال هذا لتركه القياس.

فرع: الشك في قدر القلتين

[فرع: الشك في قدر القلتين] قال الصيمري: وإن وقعت في الماء نجاسة ولم تغيره، وشك في الماء، هل هو قلتان، أو أقل.. حكم بنجاسته؛ لأن الأصل فيه القلة. وإن وقعت في الماء الكثير نجاسة ولم تغيره، لكون صفة النجاسة موافقة لصفة الماء، قال القاضي حسين: يعتبر بالنجاسة التي تخالف صفتها صفة الماء، وقد استعبد ابن الصباغ ذلك في الطاهر المخالط للماء، وهو في النجاسة أبعد. وإن كان الماء قلتين إلا كوزًا، فصب فيه كوزًا من ماء ورد، ثم وقعت فيه نجاسة.. نجس الماء وإن لم يتغير، وإن كمل القلتين بكوز من ماء تغير بالزعفران، ثم وقعت فيه نجاسة، لم ينجس الماء من غير تغيير. والفرق بينهما: أن ماء الورد عرق، وماء الزعفران كان مطهرًا. فإن صب على القلتين الناقصتين كوزًا من خمر، أو بولٍ.. حكم بنجاسة الماء. وهكذا إن صب عليه ماء نجسًا ولم يبلغا قلتين.. حكم بنجاسة الماء. وإن صب القلتين الناقصتين، على البول، أو الخمر، أو على الماء النجس، فاستهلك ذلك في الماء.. حكم بطهارته؛ لأن النجاسة إذا وردت على الماء القليل، نجسته، وإذا ورد الماء على النجاسة فاستهلكها، طهرها، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا» . فنهى عن إيراد اليد النجسة على الماء، وأمر بإيراد الماء عليها. وإن كان الماء قلتين، فوقعت فيه نجاسة لم تغيره، والذي فيه النجاسة متميز عن الذي لا نجاسة فيه، مثل أن يكون أحدهما كدرًا، والآخر صافيًا، حكم بطهارة الجميع؛ لأن الاعتبار بالكثرة لا بالمخالطة.

فرع: نجاسة ما لا يدركه الطرف

[فرع: نجاسة ما لا يدركه الطرف] ] : وإن وقع في الماء القليل نجاسة لا يدركها الطرف، أو كان ذلك في الثوب، ففيه خمس طرق مشهورة: أحدها: يعفى عنها فيهما قولًا واحدًا؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منها. والثانية: لا يعفى عنها فيهما قولًا واحدًا؛ لأنها نجاسة متيقنة، فهي كالنجاسة التي يدركها الطرف. والثالثة: أن فيها قولين: أحدهما: يعفى عنها فيهما. والثاني: لا يعفى عنها فيهما، ووجههما ما ذكرناه. والرابعة: ينجس الماء ولا ينجس الثوب؛ لأن الثوب أخف حكمًا في النجاسة، بدليل أنه يعفى عن قليل الدم والقيح فيه، بخلاف الماء. والخامسة: ينجس الثوب ولا ينجس الماء؛ لأن الماء يزيل النجاسة عن غيره، فدفع النجاسة عن نفسه، بخلاف الثوب. وحكى الشاشي طريقة سادسة: عن أبي علي بن أبي هريرة -: أنه ينجس الثوب قولًا واحدًا، وفي الماء قولان. [فرع: ما لا نفس له سائلة إذا وقع في المائعات] الحيوان الذي له نفس سائلة: هو الذي إذا ذبح سال دمه عن موضعه، كالدجاج، والحمام، وما أشبههما؛ لأن النفس هي الدم. والحيوان الذي لا نفس له سائلة: هو الذي إذا ذبح لم يسل دمه عن موضعه، كالذباب والزنبور. وفي الحية والوزغ وجهان، حكاهما الشاشي:

[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لهما نفس سائلة. و [الثاني] : قال أبو العباس بن القاص والصيمري: ليس لهما نفس سائلة. وإذا مات ما لا نفس له سائلة، ووقع في ماء ولم يغيره، أو في طعام أو شراب.. فقد قال الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: ينجس الحيوان نفسه قولًا واحدًا. وهل ينجس ما وقع فيه من الماء القليل والطعام والشراب؟ فيه قولان: وقال القفال: القولان في الحيوان نفسه، هل ينجس بالموت؟ فإذا قلنا: لا ينجس ما وقع فيه؛ وهو قول عامة الفقهاء، قال أصحابنا: وهو الأصلح للناس. فوجهه: ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا وقع الذباب في الطعام، فامقلوه، ثم انقلوه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء، وإنما يقدم السم، ويؤخر الشفاء» . و (المقل) : الغمس، وقد يكون الطعام حارا، فيموت بالمقل فيه، فلو كان ينجسه.. لما أمر بمقله. وروى سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما طعام أو شراب وقعت فيه ذبابة ليس لها دم، فماتت فيه، فهو حلال أكله، وشربه، ووضوؤه» ولأنه لا يمكن الاحتراز منه، فلو لم يعف عنه، لم يؤكل الباقلاء المطبوخ، والجبن؛ لأنه لا ينفك من وقوع الذباب فيه. وإذا قلنا: ينجس ما وقع فيه، وحكي ذلك عن ابن المنذر، ويحيى بن أبي كثير.. قال في " الإفصاح " و" التنبيه " وهو الأقيس. فوجهه: أنه حيوان لا يؤكل بعد موته لا لحرمته، فأشبه ما له نفس سائلة.

فقولنا: (حيوان لا يؤكل بعد موته) احتراز من الحوت، والجراد. وقولنا: (لا لحرمته) احتراز من الآدمي إذا مات، وقلنا: إنه طاهر. وأما ابن المنذر فقال: لا أعلم أحدا قال: إنه ينجس ما وقع فيه غير الشافعي. إذا ثبت هذا: فنقول: فإن كثر من ذلك ما غير الماء، فإن قلنا: إن الماء ينجس بوقوع ذلك فيه وإن لم يغير صفته.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: لا ينجس.. فهاهنا وجهان: أحدهما: ينجسه؛ لأنه ماء تغير بالنجاسة. والثاني: لا ينجسه؛ لأن ما لا ينجس الماء القليل، إذا وقع فيه ولم يغيره.. لم ينجسه وإن غيره، كالسمك والجراد. فإذا قلنا بهذا: فإنه يكون طاهرًا غير مطهر، وكذلك إذا تغير الماء بالسمك والجراد.. كان طاهرًا غير مطهر. ذكره الصيدلاني. هذا إذا كان الحيوان غير متولد في نفس الشيء. فأما إذا كان متولدا في نفس الشيء، كدود الخل، والجبن، ودواب الباقلاء، فإن مات فيما تولد فيه.. لم ينجسه قولا واحدا؛ لأنه لا ينفك منه، وإن نقل منه إلى غيره ومات فيه.. فهل ينجسه؟ على القولين في الذباب إذا وقع في ماء قليل، وما له نفس سائلة مما لا يعيش إلا في الماء كالسلحفاة إذا قلنا: لا يحل أكله، والضفدع إذا مات في ماء قليل.. فإنه ينجسه قولًا واحدًا. وقال أبو حنيفة: (لا ينجسه، كالسمك) . دليلنا: أنه حيوان له نفس سائلة لا يحل أكله، فينجس الماء القليل بوقوع ميتته فيه، كحيوان البر. قال الصيدلاني: ودود الميتة نجس العين؛ كولد الكلب، وأراد بذلك: الدود المتولد في نفس الميتة، أنه نجس العين لا يطهر بالغسل، كولد الكلب، وكذلك عند البقلة النابتة في العذرة وسائر النجاسات.

مسألة: تطهير الماء النجس

[مسألة: تطهير الماء النجس] إذا وقعت في الماء نجاسة، وحكم بنجاسته.. نظرت: فإن كان الماء أكثر من قلتين وتغير بالنجاسة، وأراد تطهيره، طهر بأن يزول التغير بنفسه، بهبوب الريح، أو بطلوع الشمس، أو بأن يضاف إليه ماء آخر أو ينبع فيه، فيزول التغير. أو بأن يؤخذ بعض الماء، فيزول التغير قبل أن ينقص عن قلتين؛ لأن النجاسة بالتغيير، وقد زال. فإن طرح فيه شيئًا غير الماء، فزال التغير.. نظرت: فإن تغير طعم الماء بالنجاسة، فطرح فيه ما له طعم، فغلب طعمه طعم النجاسة. أو تغير لون الماء بالنجاسة، فطرح فيه ما له لون، فغلب لونه لون الماء. أو تغير ريح الماء، فطرح فيه ما له ريح، فغلب ريحه ريح الماء، لم يحكم بطهارة الماء؛ لأنه يجوز أن تكون صفة الماء المتغير بالنجاسة باقية، وإنما لم يطهر؛ لغلبة ما طرح فيه. وإن طرح فيه تراب، فأزال تغير الماء، ففيه قولان: أحدهما: لا يطهر - وهو اختيار المحاملي، وصاحب " المذهب " - لأنه زال تغيره بوارد عليه لا يزيل النجاسة، فأشبه ما إذا طرح فيه كافورًا أو مسكًا، فزالت رائحة النجاسة. والثاني: يطهر - وهو اختيار القاضي أبي حامد، والشيخ أبي إسحاق - لأنه قد زال التغيير، فأشبه إذا زال بنفسه، أو بماء، ويخالف إذا طرح فيه الكافور والمسك؛ لأن لهما رائحة زكية، فربما غلبت رائحتها رائحة النجاسة. وإن طرح فيه غير التراب من الجامدات التي ليس لها ريح، ولا طعم، ولا لون، ينحل في الماء، كالجص، والحجارة، فزال التغيير، فحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: لا يطهر بذلك قولًا واحدًا، بخلاف التراب؛ لأن التراب يوافق الماء في التطهير، بخلاف غيره من الجامدات. وقال سائر أصحابنا: فيه قولان، كالتراب.

وإن كان الماء قلتين فقط، وتغير بالنجاسة.. طهر بجميع ما ذكرناه، إلا بأخذ بعضه، فإنه لا يطهر؛ لأنه ينقص عن قلتين، وفيه نجاسة. وإن كان الماء أقل من قلتين، وقعت فيه نجاسة، فحكم بنجاسة، وأراد تطهيره، فإن صب عليه ماء آخر، فبلغ قلتين، وهو غير متغير.. حكم بطهارته؛ لأنه لو وقعت فيه نجاسة، وهو قلتان، ولم تغيره.. لم يؤثر وقوعها فيه، فكذلك إذا بلغ هذا الحد، وهو غير متغير بالنجاسة. وهكذا: لو كان هناك قلتان منفردتان في كل واحدة منهما نجاسة، فخلطتا، وهما غير متغيرتين، أو كانتا متغيرتين وهما منفردتان، فخلطتا وزال التغير.. حكم بطهارتهما. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يحكم بطهاتهما؛ لأن كل واحدة منهما نجسة فلا تطهران بالاجتماع، كالمتولد بين الكلب والخنزير. ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا بلغ الماء قلتين.. لم يحمل خبثًا» . وهذا قد بلغ قلتين. فإذا فصلت إحدى القلتين عن الأخرى، فإذا كانت النجاسة مائعة.. كانتا طاهرتين. وإن كانت جامدة.. حكم بنجاسة ما حصلت فيه منهما بعد ذلك. وإن كاثره بالماء، ولم يبلغ الجميع قلتين.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يطهر؛ لأنه دون القلتين، وفيه نجاسة. والثاني: يطهر - وهو الأصح - كالأرض النجسة إذا كوثرت بالماء. فإذا قلنا بهذا: فإنه يكون طاهرًا غير مطهر؛ لأن الغلبة للماء الذي أزيلت به النجاسة، وهو غير مطهر على الأصح. وإن أراد الطهارة بالماء الذي هو أكثر من قلتين، وفيه نجاسة زال حكمها، فإن كانت النجاسة جامدة مثل: جلد الميتة ولحمها، وكان الماء راكدًا، فإن استعمل من موضع بينه وبين النجاسة قلتان، أو أكثر.. جاز بلا خلاف على المذهب. وإن استعمل من موضع بينه وبين النجاسة أقل من قلتين.. ففيه وجهان:

[أحدهما] : قال أبو إسحاق، وابن القاص: لا يجوز؛ لأنه لا حاجة به إلى استعمال ما فيه نجاسة قائمة. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يجوز، وهو المذهب؛ لأن هذا الماء محكوم بطهارة جميعه، والمعنى الذي ذكراه موجود فيه. وإن كان بينه وبين النجاسة قلتان، فإن كان الماء قلتين لا غير، وفيه نجاسة جامدة ولم تغيره.. ففيه وجهان: [الوجه الأول] : قال أبو إسحاق: لا يجوز أن يستعمل شيئًا منه؛ لأن النجاسة إن كانت في وسط الماء؛ فلأنه يستعمل من موضع بينه وبين النجاسة أقل من قلتين، وهذا لا يجوز على أصله في الأولى. وإن كانت النجاسة في طرف الماء؛ فلأنه ماء واحد، فإذا كان ما يبقى بعد ما غرف منه نجسًا.. وجب أن يكون الذي غرفة نجسًا. والوجه الثاني: أنه يجوز أن يستعمل من أي موضع شاء منه، حتى لو أصاب بيده عين النجاسة، كما لو لم يقع فيه نجاسة.. صح، وهو الأصح؛ لأنا قد حكمنا بطهارة هذا الماء، والماء الطاهر يجوز استعماله. فعلى هذا: إذا أخذ منه بدلو أو إناء.. نظرت: فإن بقيت النجاسة في البئر.. فإن الماء الذي في الدلو طاهر؛ لأنه ينفصل عنه قبل أن يحكم بنجاسته، ويكون باطن الدلو طاهرًا، وظاهره نجسًا. وإن خرجت النجاسة في الماء الذي في الدلو.. كان الماء الذي في الدلو نجسًا، وما بقي في البئر طاهرًا، ويكون باطن الدلو نجسًا، وظاهره طاهرًا. فإن قطر مما في الدلو قطرة إلى الماء الباقي في البئر.. نجس أيضًا. فإن أراد تطهيره.. رد الماء الذي في الدلو إلى البئر، والأولى أن يخرج النجاسة من الدلو، ثم

مسألة: أحكام الماء الجاري

يرد الماء الذي في الدلو إلى الماء الذي في البئر، ثم يغترف، ليخرج من خلاف أبي إسحاق، وابن القاص. وإن كان الماء قلتين، أو أكثر، وفيه نجاسة ذائبة لم تغيره.. جاز الاستعمال منه، وهل يجوز استعمال جميعه؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يجوز استعمال جميعه، بل يبقى منه قدر النجاسة؛ لأنه إذا لم يترك قدر النجاسة كان مستعملا للنجاسة بيقين.. فوجب ترك قدرها، كما لو حلف لا يأكل تمرة، فاختلطت بتمر كثير ولم تتميز، فأكل الجميع إلا تمرة.. فإنه لا يحنث. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يجوز استعمال الجميع، وهو الصحيح؛ لأن كل ما جاز استعمال بعضه.. جاز استعمال جميعه، كما لو لم تقع فيه نجاسة؛ ولأنه إذا ترك قدر النجاسة، فإنه لا يجوز أن يكون المتروك هو عين النجاسة؛ لأن النجاسة قد اختلطت بالماء، ولم تتميز عنه، بخلاف التمرة، فإنه يجوز أن تكون هي المحلوف عليها.. فلا تلزمه الكفارة، ويجوز أن تكون المحلوف عليها قد أكلها، وهذه غيرها، فتجب عليه الكفارة، وإذا احتمل الأمرين احتمالًا واحدًا.. لم نوجب عليه الكفارة؛ لأن الأصل براءة ذمته منها. والله أعلم. [مسألة: أحكام الماء الجاري] وأما الماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة: ففيه ثلاث مسائل: الأولى: إذا كانت النجاسة تجري مع الماء بجرية لا تنفك عنه، فإن الماء الذي قبل النجاسة طاهر؛ لأنه لم يصل إلى النجاسة، والماء الذي بعد النجاسة طاهر أيضًا؛ لأن النجاسة لم تصل إليه.

وأما الجرية التي فيها النجاسة - وهي ما بين حافتي النهر في العرض عن يمينها وشمالها مما يحيط بها -: فإن كان متغيرًا بالنجاسة.. فهو نجس، قليلًا كان أو كثيرًا لتغيره بالنجاسة. وإن كان غير متغير بها، فإن كان الماء قلتين، أو أكثر.. فهو طاهر كالراكد، هكذا نقل أصحابنا البغداديون، وقال الخراسانيون: هي على قولين: أحدهما: أنه طاهر. والثاني: أنه نجس. والفرق بين الراكد والجاري في أحد القولين: أن الراكد يتراد بعضه على بعض، فيدفع النجاسة عن نفسه عند الكثرة، والجاري لا يتراد بعضه على بعض، فلم يكن للكثرة حكم، والأول هو المشهور، وعليه التفريع. وإن كانت الجرية أقل من قلتين.. ففيه قولان، حكاهما ابن القاص، والقاضي أبو الطيب: [أحدهما] : قال في القديم: (هو طاهر؛ لأنه ماء وارد على النجاسة، فلم ينجس من غير تغيير، كالماء المزال به النجاسة) . و [الثاني] : قال في الجديد: (هو نجس، وهو الأصح؛ لأنه ماء قليل لاقى نجاسة لا حاجة إلى ملاقاته لها، فحكم بنجاسته كالراكد) . وفيه احتراز من الماء المزال به النجاسة. المسألة الثانية: إذا كانت النجاسة واقفة، والماء يجري عليها.. فالماء الذي قبل النجاسة طاهر، والماء الذي بعد النجاسة مما لم يمر على النجاسة طاهر أيضًا؛ لما ذكرناه في التي قبلها. وأما الجرية التي فوق النجاسة: فإن كانت متغيرة بالنجاسة.. فهي نجسة.

وإن كانت غير متغيرة، فإن كان الماء قلتين فأكثر.. فهو طاهر قولًا واحدًا، على طريقة البغداديين، وعلى طريقة الخراسانيين على قولين. وإن كان الماء أقل من قلتين.. فعلى القولين اللذين حكاهما ابن القاص والقاضي أبو الطيب. فإن كانت الجرية أقل من قلتين وقلنا: إنها نجسة، لم تطهر حتى تركد في موضع وتبلغ قلتين. قال ابن سريج: فإن مرت هذه الجرية على ماء راكد، وكانت الجرية كدرة، والراكد صافيًا، فبلغا قلتين، كان الجميع طاهرًا؛ لأن الاعتبار باجتماع الماء الكثير في موضع واحد، ولا اعتبار باختلاطه بحيث لا يتميز. فإن تباعد رجل عن موضع النجاسة الراكدة، واستعمل من هذه الجرية من ماء قد مر على النجاسة الراكدة قبل أن يبلغ القلتين في عرض النهر؛ إلا أنه يبلغ قلتين بطول النهر من حيث استعمل إلى موضع النجاسة، ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق، وابن القاص، والقاضي أبو حامد: يجوز؛ لأن بينه وبين النجاسة قلتين. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يجوز، وهو الأصح؛ لأنه استعمل من ماء قد مر على النجاسة قبل أن يبلغ قلتين، وكل جرية لها حكم نفسها. المسألة الثالثة: إذا كان في الماء الجاري موضع منخفض زائل عن سمت الجري، فركد فيه الماء، فوقع في الراكد نجاسة قائمة.. فإن الماء الذي قبل الموضع المنخفض طاهر، وكذلك الماء الجاري بعد الموضع المنخفض قبل وصول ماء النجاسة إليه، طاهر.

فرع: الجرية إذا كانت قلتين

وأما الماء الذي في الموضع المنخفض، والجرية التي تجري بجنبه: فإن كانا متغيرين بالنجاسة.. فهما نجسان، وإن كانا غير متغيرين فإن بلغا جميعًا قلتين.. فهما طاهران، وإن كانا دون القلتين.. فهما نجسان، هكذا ذكره جماعة من أصحابنا. وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إذا كان الماء الراكد أقل من قلتين، وفيه نجاسة ولم يتغير.. نظرت في الماء الجاري: فإن دخل على الراكد وخرج منه من الجانب الآخر، فإن بلغا قلتين.. فهما طاهران وإن كانا دون القلتين.. فهما نجسان. وإن كان الجاري لا يدخل إلى الراكد، ولكن يجري على سمته، فإن كان الجاري أقل من قلتين.. نجس؛ لأنه ملاصق ماء نجسًا، وإن كان قلتين.. لم ينجس؛ لأنه ماء كثير. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يطهر به ذلك الراكد؛ لأنه يفارقه، وما فارق الشيء.. فليس معه) . وإن كان الراكد متغيرًا بالنجاسة، والجاري بجنبه قلتان غير متغير.. فقد تقدم ذكره عن ابن الصباغ: أن الجرية تنجس ما دامت محاذية للراكد، فإذا انفصلتا عنه.. حكم بطهارتهما. [فرع: الجرية إذا كانت قلتين] إذا كانت الجرية تبلغ قلتين وفيها نجاسة جارية معها، أو كانت النجاسة واقفة والجرية عليها تبلغ قلتين، أو كان في الموضع المنخفض من النهر نجاسة واقفة والراكد فيها مع الجرية بجنبه يبلغ قلتين، وهو غير متغير في ذلك كله.. فقد ذكرنا: أن الماء طاهر في هذه المسائل الثلاثة قولًا واحدًا، على طريقة البغداديين. فإن أراد أن يستعمل من هذه الجرية، فإن قلنا بقول أبي إسحاق، وابن القاص في الماء الراكد: إنه لا يجوز له أن يستعمل إلا من موضع بينه وبين النجاسة قلتان.. فهاهنا أولى.

فرع: تغير وصف الماء بالمكث

وإن قلنا هناك: يجوز له أن يستعمل من أي موضع شاء، فهاهنا وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد عن أبي العباس: أحدهما: يجوز أن يستعمل من أي موضع شاء، حتى لو أصاب بيده عين النجاسة، كما قلنا في الماء الراكد. والثاني: لا يجوز أن يستعمل إلا من موضع بينه وبين النجاسة قلتان في عرض النهر، قال صاحب " الفروع " وهو الأقيس؛ لأن الماء الراكد ماء واحد، فحكم ما بعد من النجاسة حكم ما قرب منها، فلا يمكنه أن يستعمل من شيء لم تحله النجاسة، فلذلك جاز أن يستعمل من أي موضع شاء منه، والماء الجاري ذو أجزاء، فلا يكون حكم ما قرب منها حكم ما بعد. [فرع: تغير وصف الماء بالمكث] إذا تغيرت صفة الماء بالمكث.. لم يكره استعماله. وقال ابن سيرين: يكره. دليلنا: أنه تغير من غير شيء خالطه، فلم يكره استعماله، كالبحر. [فرع: حلول النجاسة في المائع] وإن وقعت نجاسة في مائع غير الماء، كاللبن والخل والدهن.. حكم بنجاسته سواء كان قليلًا أو كثيرًا وسواء تغير أو لم يتغير؛ لأنه لا قوة له في دفع النجاسة عن غيره، فلا يدفعها عن نفسه بخلاف الماء. وبالله التوفيق.

باب ما يفسد الماء من الاستعمال وما لا يفسده

[باب ما يفسد الماء من الاستعمال وما لا يفسده] الماء المستعمل ضربان: مستعمل في طهارة الحدث، ومستعمل في طهارة النجس. فالماء المستعمل في طهارة الحدث طاهر عندنا، يجوز شربه واستعماله في غير الطهارة. وعن أبي حنيفة روايتان: إحداهما: كقولنا، والثانية: (أنه نجس) . دليلنا: أنه ماء طاهر لاقى محلًا طاهرًا، فكان طاهرًا كما لو غسل به ثوب طاهر، وهل هو مطهر؟ المنصوص للشافعي: (أنه غير مطهر) . وقال أبو ثور: (توقف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الماء المستعمل) . وحكى عيسى بن أبان: أن الشافعي قال: (هو طاهر مطهر) . فقال القاضي أبو حامد: المسألة على قولين: أحدهما: أنه مطهر، وبه قال الحسن البصري، والزهري، والنخعي، وداود؛ لما روي: أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مسح رأسه بفضل ماء كان في يده» ؛ ولأنه ماء يؤدي الغرض، فلا يخرج عن حكمه بتأدية الغرض فيه، كالثوب يصلى به مرارًا. الثاني: أنه غير مطهر، وهو الصحيح، وبه قال الليث، وأحمد، ومالك، والأوزاعي، وهو المشهور عن أبي حنيفة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يتوضأ أحدكم بفضل وضوء المرأة» .

وإذا ثبت أنه لم يرد ما بقى في الإناء.. ثبت أنه أراد ما استعملت. ولأن الصحابة والتابعين - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - ومن بعدهم كانوا يسافرون ويعدمون الماء فيتيممون وما روي عن أحد منهم: أنه توضأ بالماء المستعمل، وقد اختلفوا فيمن وجد من الماء ما لا يكفيه لأعضاء الطهارة: فمنهم من قال: لا يجب عليه أن يتوضأ بما معه من الماء، بل يتيمم. ومنهم من قال: يجب عليه أن يتوضأ بما معه من الماء ثم يتيمم. ولم يقل أحد منهم: يغسل بما معه من الماء ما قدر عليه من أعضائه إلى إناء، ثم يتم به وضوءه، ولو كان الماء المستعمل في رفع الحدث مطهرًا لقالوا ذلك. ومن أصحابنا من قال: المسألة على قول واحد، وأنه غير مطهر؛ لأن رواية أبي ثور - أن الشافعي توقف فيه - لا تدل على أنه مطهر عنده، ورواية عيسى بن أبان: لا يعتد بها؛ لأنه رجل مخالف. قال المحاملي: والأول أصح؛ لأنه ثقة، فقبلت روايته وإن كان مخالفًا. فإذا قلنا: إنه مطهر.. جاز رفع الحدث به ثانيًا، وجاز إزالة النجس به. وإذا قلنا: إنه ليس بمطهر.. لم يجز رفع الحدث به ثانيًا، وهل يجوز إزالة النجس به؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: يجوز؛ لأن للماء حكمين: رفع حدث، وإزالة نجس، فإذا رفع الحدث.. بقي عليه إزالة النجس.

مسألة: الماء المستعمل إذا كثر

و [الثاني] : منهم من قال: لا يجوز، وهو الصحيح؛ لأن كل ما لا يجوز رفع الحدث به.. لم يجز إزالة النجس به كالماء النجس. وقول من قال: له حكمان، غير صحيح؛ لأنه لو كان كما ذكر، لجاز رفع الحدث الأكبر بالماء الذي رفع به الحدث الأصغر؛ لأن له حكمين: رفع حدث أصغر، ورفع حدث أكبر، وقد رفع أحدهما، فبقي عليه الآخر، فلما لم يقل ذلك فيهما، فكذلك هذا مثله. [مسألة: الماء المستعمل إذا كثر] وإن جمع الماء المستعمل في الحدث فبلغ قلتين، وقلنا بالأصح: إنه غير مطهر وعليه التفريع.. فهل يصير هنا مطهرًا؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول ابن سريج -: إنه يصير مطهرًا كالماء النجس، إذا جمع فبلغ قلتين. والثاني: أنه لا يصير مطهرًا؛ لأنه لا يقع عليه اسم الماء المطلق، وإنما يسمى ماء مستعملًا، وإن كان كثيرًا بخلاف الماء النجس. [فرع الانغماس في قلتين] وإن انغمس الجنب في قلتين من الماء بنية الغسل من الجنابة، أو أدخل يده فيه بنية غسلها من الجنابة، ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:

أحدهما: يصير مستعملًا، ويخرج من جنابته؛ لأن الاستعمال حصل بجميعه، والاستعمال مانع من طريق الحكم، فلا تؤثر فيه الكثرة. والثاني - وهو الأصح -: أنه يخرج من جنابته ولا يصير الماء مستعملًا؛ لأن حكم النجاسة أقوى من حكم الاستعمال. ولو وقعت فيه نجاسة لم تزل حكمه من غير تغيير، فالاستعمال بذلك أولى. قلت: ولو أن جنبًا انغمس في البحر بنية الغسل من الجنابة، لم يكن لأحد أن يقول: إنه صار مستعملًا، فكذلك ما دونه مما دخل في حد الكثرة، إذ لا فرق بينهما في الحكم. وإن أدخل الجنب يده في ماء قليل بنية الاغتراف، لم يصر الماء مستعملًا؛ لأن النية شرط في صحة الغسل عندنا، ولم توجد. وإن أدخلها فيه بنية رفع الجنابة، صار الماء مستعملًا، وخرج من جنابته في اليد، كما لو أفاض الماء عليها بنية غسل الجنابة. وإن انغمس الجنب في ماء قليل بنية غسل الجنابة.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي عبد الله الخضري من أصحابنا -: أن الماء يصير مستعملًا، ولا يخرج من جنابته. ووجهه: أنه لما لاقى أول جزء من بدنه أول جزء من الماء.. صار الماء مستعملًا بأول الملاقاة، فإذا انغمس فيه.. صار منغمسًا في ماء مستعمل. والوجه الثاني: أنه يخرج من جنابته، ولا يصير الماء مستعملًا إلا بالانفصال عنه، فلو توضأ منه رجل، أو اغتسل قبل أن ينفصل الأول عنه.. صح، وهو المنصوص. ووجهه: أنا لو قلنا: إنه يصير مستعملًا بأول ملاقاته لجزء من بدنه.. لوجب أن يصير الماء الذي يفيضه على عضو من أعضاء الطهارة مستعملًا بأول ملاقاته لأول العضو، وهذا لا يقوله أحد.

فرع: وضوء الحنفي بماء قليل

فعلى هذا: إذا صب الجنب على رأسه ماء، فإن نزل الماء عن رأسه متصلًا على ظهره، أو على عنقه.. أجزأه النازل من رأسه عما مر عليه بعد رأسه. وإن كان له شعر كثير، فوقع الماء على الشعر، ثم تقاطر من أعلى طبقات الشعر ماء، ومر في الهواء إلى ظهره، أو بطنه.. لم يجزئه عما وقع عليه بعد انفصاله من الرأس في الهواء؛ لأن بنفس الانفصال عنه في الهواء قد صار مستعملًا. [فرع: وضوء الحنفي بماء قليل] وإن توضأ الحنفي بماء قليل.. فهل يصير مستعملًا؟ فيه ثلاثة أوجه، بناء على جواز الائتمام به: أحدها: إن نوى الطهارة به.. صار مستعملًا؛ لأنه ارتفع به حدثه، وإن لم ينو به الطهارة.. لم يصر مستعملًا؛ كما لو توضأ به الشافعي من غير نية. والثاني: أنه لا يصير مستعملًا بحال؛ لأنه يتوضأ من غير نية، وإن أتى بالنية.. اعتقدها غير واجبة، فلم يزل الماء عن حكمه. والثالث: أنه يصير مستعملًا وإن لم ينو الطهارة؛ لأنه يحكم بصحة صلاته، بدليل أنه لا يباح قتله، ولو كانت صلاته غير صحيحة.. لكان بمنزلة من لم يصل، أو بمنزلة من صلى بغير طهارة في إباحة قتله، وهذا لا يقوله أحد. [فرع: ماء وضوء الكافر والمرتد] وإن توضأ الكافر الأصلي، أو المرتد، أو اغتسلا من الجنابة، أو اغتسلت الذمية من غير حيض، ولا نفاس.. فإن الشيخ أبا حامد، والمسعودي [في " الإبانة ": ق \ 3] قالا: لا يصير الماء المنفصل عنهم مستعملًا وجهًا واحدًا؛ لأنه لا يجوز لهم تأدية الصلاة بتلك الطهارة. وإن اغتسلت الذمية من الحيض، أو النفاس.. فهل يصير الماء المنفصل عن أعضائها الطاهرة مستعملًا؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين في وجوب إعادة غسلها بعد إسلامها.

فرع: ماء تجديد الطهارة

[فرع: ماء تجديد الطهارة] وإذا صلى الرجل بطهارة صلاة فرض.. استحب له أن يجدد الطهارة؛ لما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ لكل صلاة، طاهرًا كان أو غير طاهر» ، وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ على طهر.. كتب الله له به عشر حسنات» . فإذا كان على طهارة، ثم جدد الطهارة ثانيًا.. فهل يصير الماء المجدد به مستعملًا؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال القاضي أبو الطيب، وأبو علي السنجي: إن أدى بالطهارة الأولى صلاة فرض.. استحب له أن يجدد الطهارة ثانيا، وهل يصير الماء المجدد به مستعملًا؟ وجهان: وإن لم يصل بالأول.. لم يستحب له تجديد الطهارة، وإن جدد.. لم يصر الماء المجدد به مستعملًا وجهًا واحدًا. فعلى هذا: إن صلى بالأولى صلاة نفل.. فهل يستحب له تجديد الطهارة، ويصير الماء المجدد به مستعملًا؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي. وقال أكثر أصحابنا: إذا جدد الطهارة.. فهل يصير الماء المجدد به مستعملًا؟ فيه وجهان من غير تفصيل، وكذلك الوجهان في الماء المستعمل، في الدفعة الثانية والثالثة في الطهارة:

مسألة: الماء المستعمل في إزالة النجاسة

أحدهما: يصير مستعملا؛ لأنه ماء استعمله في طهارة، فهو كالدفعة الأولى في الطهارة الأولى. والثاني: لا يصير ماء مستعملًا؛ لأنه لم يرفع به حدث ولا نجس، فهو كالدفعة الرابعة في الطهارة. وهكذا الوجهان في الماء المستعمل في كل غسل مستحب، كغسل العيدين، وما أشبههما. وإن قام من النوم، فغسل كفيه في ماء قليل للطهارة قبل إفاضة الماء عليه.. فهل يصير الماء مستعملًا؟ قال أبو علي في " الإفصاح " فيه وجهان، كالماء المستعمل في نفل الطهارة. ومنهم من قال: لا يصير مستعملا وجهًا واحدًا؛ لأن غسلهما لخوف النجاسة فيهما. وإن غسل رأسه مكان مسحه.. فهل يصير مستعملا؟ فيه وجهان، ذكرهما في " الإفصاح ". [مسألة: الماء المستعمل في إزالة النجاسة] ] : وأما الماء المستعمل في إزالة النجاسة: فإن انفصل متغيرًا بالنجاسة، فهو نجس، وإن انفصل غير متغير فإن كان لم يحكم بطهارة المحل، كالغسلات الست الأولى من ولوغ الكلب ففيه وجهان: أحدهما: أنه طاهر؛ لأنه ماء لا يمكن حفظه من النجاسة، فلم ينجس من غير تغيير، كالماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة. والثاني - وهو الصحيح -: أنه نجس؛ لأنه لما لم يزل النجاسة عن محلها.. كانت النجاسة غالبة له، ولأن البلل الباقي في المحل نجس، وهو جزء منه، ولهذا لو زيد في العصر، نزل منه من بقيته. وإن انفصل الماء، وقد طهر المحل، كالغسلة السابعة من ولوغ الكلب.. ففيه وجهان:

أحدهما - وهو قول الأنماطي وأبي حنيفة -: (إنه نجس) ؛ لأن النجاسة انتقلت إليه، فوجب أن نحكم بنجاسته. والثاني - وهو المذهب -: أنه طاهر؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في بول الأعرابي: «صبوا عليه ذنوبًا من ماء» . ولو كان ما صب عليه ينجس.. لكان قد أمر بزيادة النجاسة في المسجد، ولأنه من جملة البلل الباقي، وهو طاهر، فكذلك ما انفصل عنه، هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي في [" الإبانة ": ق \ 8] : الماء المزال به النجاسة إذا لم يتغير.. على قولين: [الأول] : قال في الجديد: (حكمه حكم المحل بعد الغسل) . و [الثاني] : قال في القديم: (هو طاهر بكل حال ما لم يتغير) . وخرج الأنماطي قولًا ثالثًا، وهو: أن حكمه حكم المحل قبل ورود الماء عليه. فكل موضع قلنا: إنه نجس فلا كلام. وكل موضع قلنا: إنه طاهر هو غير مطهر للنجس ثانيًا، على أصح الطريقين، وهل يكون مطهرًا للحدث؟ على الوجهين في الماء المزال به الحدث، هل يرفع به النجس؟ وإن أصاب الإناء نجاسة من غير الكلب، فغسله أربع مرات، فإن انفصلت الأولى غير متغيرة وقد حكم بطهارة المحل.. فإنها مستعملة وجهًا واحدًا، وهل هي طاهرة، أو نجسة؟ على وجهين، الصحيح: أنها طاهرة. أما الثانية والثالثة: فهما طاهرتان وجهًا واحدًا، وهل هما مستعملتان؟ فيه

وجهان، كالوجهين في الدفعة الثانية والثالثة في رفع الحدث: أحدهما: أنهما غير مستعملتين، فيجوز إزالة النجاسة بهما ثانيًا؛ لأنه ماء لم يرفع به حدث ولا نجس. فعلى هذا: يجوز رفع الحدث به أيضًا. والثاني: أنهما مستعملتان، فلا تجوز إزالة النجاسة بهما؛ لأنه ماء مستعمل في نفل الطهارة في النجس فهو كالمستعمل في فرضها. فعلى هذا: يجوز رفع الحدث بهما، على الوجهين في الماء المزال به الحدث هل يزال به النجس؟ وأما الدفعة الرابعة: فهي طاهرة مطهرة وجهًا واحدًا؛ لأنها غير واجبة، ولا مستحبة في الغسل. وبالله التوفيق

باب الشك في نجاسة الماء والتحري

[باب الشك في نجاسة الماء والتحري] فيه إذا تيقن طهارة الماء أو نجاسته، وشك فيما يضاد ما تيقنه.. فالأصل بقاؤه على ما تيقنه. وإن لم يتيقن طهارته ولا نجاسته.. فهو طاهر؛ لأن الله تعالى خلق الماء طهورًا، والأصل بقاؤه على خلقته. وإن وجد الماء متغيرًا، ولم يعلم بأي شيء تغير.. توضأ به؛ لجواز أن يكون تغير بطول المكث. وإن رأى حيوانًا يبول في ماء كثير، ووجده متغيرًا، فإن جوز أن تغيره بالبول.. لم يتوضأ به؛ لأن الظاهر أن التغير من البول. وإن كان الماء كثيرًا، وبول الحيوان قليلًا مما لا يجوز أن يتغير به.. توضأ به؛ لأن ذلك مما لا يتغير به في العادة. [مسألة: في ولوغ الهرة بالماء القليل] وإن ولغت هرة في ماء قليل، فإن لم يرها قبل ذلك أكلت نجاسة.. جاز الوضوء بسؤرها، ولا يكره. وقال أبو حنيفة: (يكره) .

فرع: سؤر غير مأكول اللحم

دليلنا: ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصغي لها الإناء لتشرب منه، وقال: «إنها من الطوافين عليكم والطوافات» . و (الطوافون) : الخدم. وإن رآها أكلت نجاسة، ثم ولغت في ماء قليل.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: تنجسه؛ لأنا تيقنا نجاسة فيها. والثاني: لا تنجسه؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منها. والثالث: إن غابت، ثم رجعت.. لم تنجسه؛ لجواز طريان الطهارة على فيها. وإن لم تغب.. نجسته؛ لأن الأصل بقاء نجاسة فيها. [فرع: سؤر غير مأكول اللحم] سؤر الحمار طاهر يجوز أن يتوضأ منه، وعرقه طاهر. وقال أبو حنيفة: (سؤر الحمار مشكوك فيه، لا يجوز أن يتوضأ به عند وجود غيره، وعرقه نجس) . دليلنا على سؤره: أنه ماء يتوضأ به عند عدم غيره، فيتوضأ به عند وجود غيره، كسائر المياه. وعلى عرقه: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركب حمار معروريًا وصلى» .

مسألة: الإخبار عن نجاسة الماء

والظاهر: أنه أصابه من عرقه، ولأنه لا يجب غسل الإناء من ولوغه سبعًا، فكان عرقه طاهرًا، كالشاة. ولا يكره سؤر الفرس. وقال أبو حنيفة: (يكره) . دليلنا: أنه ذو سهم في الغنيمة، فلم يكره سؤره، كالآدمي. [مسألة: الإخبار عن نجاسة الماء] إذا ورد على ماء قليل، فأخبره رجل بنجاسته.. فذكر الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: أنه لا يلزمه قبول خبره حتى يبين بأي شيء نجس، لجواز أن يكون رأى سبعًا ولغ فيه، فاعتقد أنه نجس بذلك. وذكر الشيخ أبو حامد: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (إذا علم بأن المخبر ممن

فرع: الإخبار بولوغ الكلب

يرى أن الماء بلغ قلتين لم يحمل نجسًا.. لزمه قبول خبره مطلقًا) ؛ لأن من يقول هذا.. لا يرى أن سؤر السباع نجس. فإن بين النجاسة.. قبل منه ولم يجتهد، كما يقبل ممن يخبره بالقبلة عن علم، ويقبل فيه قول الرجل والمرأة والحر والعبد، كما تقبل منهم أخبار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقبل فيه قول الأعمى؛ لأن له طريقًا إلى العلم به بالمحس والخبرة، ولا يقبل فيه قول كافر ولا فاسق؛ لأن أخبارهما غير مقبولة. وهل يقبل فيه قول الصبي المراهق؟ فيه وجهان: أحدهما: يقبل قوله؛ لأنه من أهل الإخبار. والثاني: لا يقبل قوله؛ لأنه ليس من أهل الشهادة. [فرع: الإخبار بولوغ الكلب] وإن كان معه إناءان، فأخبره رجل أن الكلب ولغ في أحدهما بعينه.. قبل قوله ولم يجتهد، كما نقول في القبلة. وإن أخبره رجل: أن الكلب ولغ في هذا دون ذاك، وقال آخر: بل ولغ في ذاك دون هذا، فإن لم يعينا الوقت.. حكم بنجاستهما؛ لجواز أن يكون قد ولغ فيهما في وقتين، وإن عينا وقتًا واحدًا.. فهما كالبينتين إذا تعارضتا، وفيهما قولان: أحدهما: يسقطان، والثاني يستعملان. فإن قلنا: إنهما يسقطان.. توضأ بما شاء منهما؛ لأنه لم تثبت نجاسة واحد منهما. وقال الصيدلاني: يجتهد فيهما، وليس بشيء. وإن قلنا: إنهما يستعملان.. ففي استعمال البينتين ثلاثة أقوال: أحدهما: القسمة. والثاني: الوقف. والثالث: القرعة. والإناءان لا يمكن القسمة فيهما؛ لأنه يؤدي إلى استعمال النجس منهما، فسقط هذا القول فيهما.

مسألة: اشتباه الطاهر بالنجس

وأما القولان الآخران: فاختلف أصحابنا فيهما: فقال الشيخ أبو إسحاق: يريقهما، أو يصب أحدهما في الآخر، ثم يتيمم. وقال ابن الصباغ: يوقفان، فيدعهما، ويتيمم، ويصلي ويعيد. وقال صاحب " المذهب ": هل يقرع بينهما، على قول القرعة؟ فيه وجهان. ولا فرق بين أن يستوي المخبرون في الإناءين، أو يكون في أحد الإناءين واحد، وفي الآخر أكثر، فالكل واحد. وإن قال رجل: إن هذا الكلب ولغ في هذا الإناء في وقت بعينه، وقال آخر: هذا الكلب كان في ذلك الوقت في مكان آخر.. ففيه وجهان، حكاهما الشاشي: أحدهما: أنه طاهر؛ لتعارض الخبرين. والثاني: أنه نجس؛ لأن الكلاب تشتبه. وإن قال: أدخل الكلب رأسه في الإناء، ولم أعلم بولوغه.. لم يحكم بنجاسته؛ لأن الأصل عدم الولوغ. وإن قال: أدخل رأسه، وأخرجه وعلى فيه رطوبة، ولم أعلم بولوغه.. فهل يحكم بنجاسته؟.. فيه وجهان: أحدهما: لا يحكم بنجاسته؛ لأن الأصل عدم الولوغ. والثاني: يحكم بنجاسته؛ لأن الظاهر: أنه ولغ فيه لخروج الرطوبة التي على فيه. [مسألة: اشتباه الطاهر بالنجس] ] : وإن اشتبه عليه الماء الطاهر بالماء النجس، أو اشتبه الثوب الطاهر بالثوب النجس.. جاز له التحري في ذلك، ولا فرق بين أن يكون عدد الطاهر أكثر، أو النجس أكثر، أو كانوا سواء. وقال المزني، وأبو ثور: (لا يتحرى في الماء ولا في الثياب) .

وقال ابن الماجشون، وابن أبي سلمة: يتوضأ بأحدهما ويصلي، ثم يتوضأ بالثاني ويصلي، وكذلك في الثياب يصلي بكل واحد منهما. وقال أبو حنيفة: (يتحرى في الثياب) كما قلنا. وأما المياه: فإن كان عدد الطاهر أكثر، تحرى فيهما، وإن كانا سواء، أو عدد النجس أكثر.. لم يتحر. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] [الحشر: 2] ، وهذا من الاعتبار، ولأنه سبب من أسباب الصلاة يمكنه التوصل إليه بالاستدلال، فجاز له التحري فيه عند الاشتباه، كالقبلة. فقولنا: (سبب من أسباب الصلاة) بمعنى: شرط من شروط الصلاة، وفيه احتراز ممن شك في صلاته، هل صلى ثلاثًا أم أربعا؟ فإنه لا يتحرى. وقولنا: (يمكنه التوصل إليه بالاستدلال) احتراز من الأعمى في الاجتهاد في القبلة، أو في الإناءين، في أحد القولين. ولأن كل ماء دخله التحري إذا كان عدد المباح أكثر.. دخله التحري وإن كان عدد المحرم أكثر، كالثياب. إذا ثبت هذا: فيكفيه التحري عند البغداديين من أصحابنا: هو أن ينظر إلى الإناءين، ويميز الطاهر منهما من النجس بتغير اللون، أو الرائحة، أو الاضطراب، أو الترشش حوله، أو بأن يرى أثر الكلب إلى أحدهما أقرب، فإذا عرف ذلك.. غلب على ظنه نجاسة الإناء بهذه الأمارات، وطهارة الآخر لعدمها.

فرع: اشتباه نجاسة أحد الإناءين

فأما ذوق الماء: فلا يجوز؛ لأنه ربما كان نجسًا، فلا يحل له ذوقه قبل أن يغلب على ظنه طهارته. وأما الخراسانيون: فقالوا: هل يحتاج المجتهد إلى نوع دليل؟ فيه وجهان: أحدهما: يحتاج، كما يحتاج المجتهد في الأحكام. والثاني: لا يحتاج، بل يكفيه أن يبني أمره على الطهارة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ظن المؤمن لا يخطئ» وهذا ليس بشيء؛ لأن الظن لا يكون إلا عن أمارة. [فرع: اشتباه نجاسة أحد الإناءين] وإن وقعت نجاسة في أحد الإناءين واشتبها عليه، فانقلب أحدهما قبل الاجتهاد.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يتحرى في الباقي منهما؛ لأن جواز الاجتهاد قد ثبت فيه، فلم يسقط بالانقلاب. والثاني: لا يتحرى فيه، ولكن يتيمم ويصلي؛ لأن الاجتهاد يكون بين أمرين. والثالث: أنه يتوضأ بالثاني من غير اجتهاد؛ لأن الأصل بقاؤه على الطهارة. [فرع: الاجتهاد في الإناءين المتضادين] وإن اجتهد في الإناءين، فلم يغلب على ظنه طهارة أحدهما، فإن أراقهما، أو صب أحدهما في الآخر، ثم تيمم، وصلى.. صح، ولا إعادة عليه، بخلاف ما لو صب الماء من غير عذر، وتيمم.. فإن عليه الإعادة في أحد الوجهين؛ لأن هناك لا عذر له، وهاهنا له عذر. وإن صب أحدهما، وترك الثاني.. فهل له أن يتوضأ بالثاني؟ فيه وجهان - حكاهما

في " الفروع " - قال: وهكذا الوجهان لو أصابت النجاسة موضعًا من ثوبه وخفي عليه موضعها، فغسل موضعًا منه: أحدهما - وهو قول أبي العباس -: يجوز أن يتوضأ بالثاني، ويصلي بالثوب؛ لأنه إذا أراق أحد الإناءين، وغسل موضعًا من الثوب.. جاز أن يكون الذي أراقه هو النجس، والذي غسله هو الذي أصابته النجاسة، فكان الباقي كالماء والثوب المشكوك في نجاستهما. والثاني - وهو المذهب -: أنه لا يجوز له أن يتوضأ بالثاني، ولا يصلي بالثوب؛ لأنه كان ممنوعًا من استعمالهما للنجاسة، وصار يشك في زوالها، والأصل بقاؤها. وإن لم يرقهما ولا أحدهما، قال ابن الصباغ: فإن لم يغلب على ظنه طهارة أحدهما.. فإن الشافعي قال: (لا يتيمم بل يخمن، ويتوضأ على أكثر ما يقدر عليه من ذلك ويصلي) ، ولم يذكر الإعادة. وقال القاضي أبو الطيب: يعيد؛ لأن الماء الذي توضأ به، لم تثبت طهارته عنده بأمارة. وقال الشيخ أبو حامد: يتيمم، ويصلي، ويعيد. قال في " الإفصاح ": إن خاف خروج الوقت قبل فراغه من التحري.. تأخى وصلى على غالب ظنه، وأعاد؛ لأنه توضأ به على تخمين. وإن تيمم وصلى قبل إراقة الإناءين، أو صب أحدهما في الآخر.. فهل عليه إعادة ما صلى بالتيمم؟.. فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ": أحدهما - وهو الأصح -: أنه يعيد؛ لأنه صلى بالتيمم ومعه ماء طاهر بيقين. والثاني: لا يلزمه أن يعيد؛ لأن ما معه من الماء ممنوع من استعماله في الشرع، فهو كما لو لم يكن معه ماء.

فرع: استحباب إراقة أحد الإناءين

[فرع: استحباب إراقة أحد الإناءين] وإذا أداه اجتهاده إلى طهارة أحد الإناءين.. فالمستحب له: أن يريق الآخر؛ حتى لا يتغير اجتهاده فيما بعد. فإن لم يرقه وبقيت من الأول بقية، ثم حضرت صلاة أخرى وهو محدث.. قال ابن الصباغ، والمحاملي: فعليه أن يعيد الاجتهاد ثانيًا، كما لو صلى إلى جهة بالاجتهاد، ثم حضرت صلاة أخرى، ولعلهما أرادا على أحد الوجهين. فإن أداه اجتهاده إلى طهارة الأول.. فلا كلام، فيستحب له أن يريق الماء النجس لكي لا يشتبه عليه ثانيًا. وإن تيقن أن الذي توضأ به هو الطاهر.. لم يستحب له أن يريق النجس؛ لأنه ربما احتاج إليه لعطشه. وإن تيقن أن الذي استعمله هو النجس.. غسل ما أصابه من الماء الأول في ثيابه وبدنه، وأعاد ما صلى بالطهارة الأولى؛ لأنه تعين له يقين الخطأ، فهو كالحاكم إذا أخطأ النص. وإن أداه اجتهاده إلى طهارة الثاني، ونجاسة الذي توضأ به.. فقد روى المزني عن الشافعي: (أنه لا يتوضأ بالثاني، ولكن يتيمم، ويصلي، ويعيد كل صلاة صلاها بالتيمم) واختلف أصحابنا فيها: فقال أبو العباس: هذا الذي نقله المزني لا يعرف للشافعي، والذي يجيء على قياس قول الشافعي: أنه يتوضأ بالثاني، كما لو صلى إلى جهة بالاجتهاد ثم حضرت صلاة أخرى، وأداه اجتهاده إلى أن القبلة في غير تلك الجهة.. فإنه يصلي الصلاة الثانية إليها، ثم كذلك الثالثة والرابعة. وقال سائر أصحابنا: بل المذهب ما رواه المزني، وقد رواه حرملة أيضًا عن الشافعي؛ لأنا إذا أمرناه أن يتوضأ بالثاني.. لم يخل: إما أن نأمره أن يغسل ما أصابه

من الماء الأول، أو لا نأمره. فإن لم نأمره بذلك.. أمرناه أن يصلي وعليه نجاسة بيقين. وإن أمرناه أن يغسل ما أصابه من الماء الأول.. نقضنا الاجتهاد بالاجتهاد، وهذا لا يجوز ويخالف القبلة، فإنا إذا أمرناه أن يصلي إلى الجهة الثانية.. لم يتيقن الخطأ في الثانية، فلا يؤدي إلى نقض الاجتهاد في الأولى بالاجتهاد. فإن قلنا بقول أبي العباس.. توضأ بالثاني، وصلى، ولا إعادة عليه. قال ابن الصباغ: وينبغي أن يغسل ما أصابه من الأول في غير مواضع الوضوء؛ لأن مواضع الوضوء يطهرها الماء عن الحدث والنجس، ولا يكون ذلك نقض الاجتهاد بالاجتهاد؛ لأنا لسنا نحكم ببطلان طهارته الأولى وصلاته فيها، وإنما أمرناه بغسل ما غلب على ظنه نجاسته، كما أمرناه باجتناب بقية الأول، وحكمنا بنجاسته، ولا يقال: هو نقض الاجتهاد بالاجتهاد. وإن قلنا بالمنصوص.. فإنه يتيمم ويصلي، وهل يلزمه إعادة ما صلى بالتيمم؟ ينظر فيه: فإن كان قد بقي معه من الأول بقية يلزمه استعمالها في الطهارة أن لو كان طاهرًا.. لزمته الإعادة على المنصوص. ومن أصحابنا من قال: لا تلزمه الإعادة؛ لأن ما معه من الماء ممنوع من استعماله بالشرع، وهذا ليس بشيء؛ لأنه صلى بالتيمم ومعه ماء طاهر بيقين. وإن لم يبق معه من الأول شيء، أو بقي منه بقية لا يلزمه استعمالها.. ففيه وجهان: أحدهما: لا إعادة عليه؛ لأنه ليس معه ماء طاهر بيقين، بل الشرع قد منعه من استعماله. والثاني: يلزمه الإعادة؛ لأنه صلى بالتيمم، وعنده ماء يعتقد طهارته.

فرع: اشتباه الإناء الطاهر بالنجس ومعه آخر بيقين

[فرع: اشتباه الإناء الطاهر بالنجس ومعه آخر بيقين] ] : وإن اشتبه عليه ماءان: طاهر ونجس، ومعه ماء ثالث يتيقن طهارته.. فهل يجوز له الاجتهاد في المشتبهين؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أنه لا يجوز له؛ لأنه يمكنه إسقاط الفرض بيقين، بأن يتوضأ بما يتيقن طهارته، فلم يجز الرجوع إلى غلبة الظن، كما لا يجوز له الاجتهاد في القبلة إذا أمكنه الرجوع إلى اليقين فيها. والثاني - وهو قو عامة أصحابنا، وهو الأصح -: أنه يجوز له الاجتهاد؛ لأنه ليس فيه أكثر من العدول عن الماء المتيقن طهارته إلى الماء المحكوم بطهارته في الظاهر، وذلك غير ممتنع في الطهارة، كما يجوز له أن يتوضأ من الماء القليل بحضرة البحر، ويفارق القبلة، فإنه إذا تيقن كونها في جهة.. لم يجز أن تكون في جهة أخرى، وهاهنا يجوز أن يكون الماءان طاهرين. ولهذه المسألة نظائر: منها: إذا اشتبه عليه ماء طاهر مطهر، وماء مستعمل.. هل يجوز له أن يتحرى فيهما، أو يلزمه أن يتوضأ بهما؟ على وجهين: فإذا أمرناه: أن يتوضأ بهما، أو اختار فعل ذلك، واحتاج إلى الاستنجاء.. فإنه يستنجي بأحدهما، ثم يستنجي بالثاني، ثم يتوضأ بكل واحد منهما على الانفراد. ومثلها: إذا اشتبه عليه ماءان، في أحدهما نجاسة، وكان يعلم أنه إذا خلط أحدهما بالآخر بلغ قلتين، وأمكنه خلطهما.. فهل يجوز له التحري فيهما، أو لا يجوز بل يخلطهما؟ على وجهين: فإن كان يعلم أنهما لا يبلغان قلتين، فخلطهما بعد دخول الوقت، وإمكان التحري، وتيمم وصلى.. قال الصيمري: لزمته الإعادة؛ لأنه فرط. ويحتمل عندي وجه آخر: أنه لا إعادة عليه، مأخوذ من أحد الوجهين ممن أراق الماء بعد دخول الوقت، وتيمم وصلى.

فرع: التحري في الإناءين وقت العطش

ومثلها: إذا اشتبه عليه ثوبان: طاهر ونجس ومعه من الماء ما يمكنه أن يغسل به أحدهما.. فهل يجوز له التحري فيهما، أو لا يجوز بل يغسل أحدهما؟ فيه وجهان، وعلة الوجهين ما تقدم في الأولى. وإن اشتبه عليه ماء طهور، وماء ورد، أو ماء شجر.. لم يتحر فيهما وجهًا واحدًا؛ لأن ماء الورد، وماء الشجر لا أصل لهما في التطهير فيرد إليه بالاجتهاد، ولكن يتوضأ بكل واحد منهما، ليسقط الفرض بيقين، هذا قول أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: فيه وجهان، كالماء المطلق والمستعمل. وإن اشتبه عليه ماء، وبول انقطعت رائحته.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا يجوز له التحري فيهما وجهًا واحدًا؛ لأن البول لا أصل له في التطهير فيرد إليه بالاجتهاد. والخراسانيون قالوا: هي على وجهين. أحدهما: هذا. والثاني: يتحرى فيهما، كما يتحرى في الماء الطاهر، والماء النجس. [فرع: التحري في الإناءين وقت العطش] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/9] : (إذا كان مع الرجل في السفر إناءان: أحدهما طاهر، والآخر نجس، فاشتبها عليه وكان يخاف العطش فيما بعد إن توضأ بالماء.. فإنه يتحرى فيهما، ويتوضأ بالذي يغلب على ظنه منهما، ويمسك الآخر، حتى إن احتاج إليه؛ لعطشه.. شربه) . قال الشيخ أبو حامد: وهذا صحيح؛ لأن ترك التوضؤ بالماء والعدول إلى التيمم؛ لخوف العطش فيما بعد.. لا يجوز، وإنما يجوز ذلك إذا خاف العطش في الحال، وأما شربه للماء النجس إذا خاف على نفسه.. فيجوز، كما يجوز أكل الميتة. [فرع: اشتباه الأطعمة] وإن اشتبه عليه طعام طاهر، وطعام نجس.. جاز له التحري فيهما؛ لأن أصلهما على الإباحة، فإذا طرأت النجاسة على أحدهما، واشتبها عليه.. جاز له التحري

فرع: الاشتباه على الأعمى

فيهما، كما لو اشتبه عليه ماء طاهر، وماء نجس. وإن اشتبه عليه طعام طاهر، وطعام نجس، ومعه طعام ثالث من ذلك الجنس، يتيقن طهارته.. فهل يجوز له التحري في المشتبهين؟ قال الشيخ أبو حامد: فيه وجهان، كما قلنا في الماء. وإن اشتبه عليه شاة ميتة بشاة مذبوحة.. فهو كما لو اشتبه عليه ماء وبول: فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا يتحرى فيهما وجهًا واحدًا. والخراسانيون قالوا: فيه وجهان، وتعليلهما ما تقدم. [فرع: الاشتباه على الأعمى] وإن اشتبه الماء الطاهر بالماء النجس على أعمى.. ففيه قولان: أحدهما: لا يتحرى كما لا يجوز له الاجتهاد في القبلة. فعلى هذا: يقلد بصيرًا. والثاني: يتحرى، كما يجتهد في وقت الصلاة. فإذا قلنا بهذا، فلم يكن له دلالة على الطاهر.. فهل له أن يقلد بصيرًا؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنا قد قلنا: إنه من أهل الاجتهاد، ومن كان من أهل الاجتهاد في شيء.. لم يقلد فيه غيره، كالحاكم في الأحكام، والبصير في القبلة. والثاني: يقلد غيره؛ لأن الأمارة على الطاهر والنجس تتعلق بالبصر وبغيره، فإذا غلب على ظنه طهارة أحدهما.. كان كالاجتهاد في الوقت، وإذا لم يغلب على ظنه طهارة أحدهما.. كان كالقبلة. فإذا قلنا: ليس له أن يقلد بصيرًا، ولم تكن له دلالة، أو قلنا: له أن يقلد البصير، ولم يكن للبصير دلالة.. فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (لا يتيمم، ولكن يخمن، ويتوضأ على أكثر ما يقدر عليه من ذلك ويصلي) ولم يذكر الإعادة،

فرع: الاشتباه على رجلين

فقال القاضي أبو الطيب: عندي أن الإعادة واجبة عليه؛ لأنه لم يثبت عنده طهارة الماء بأمارة. وقال الشيخ أبو حامد: يتيمم ويصلي ويعيد؛ لأنه لم يثبت عنده طهارة الماء بعلم، ولا بغلبة ظن. قال ابن الصباغ: وما قاله القاضي أشبه بأصل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وما قاله الشيخ أبو حامد أقيس. [فرع: الاشتباه على رجلين] إذا كان مع رجلين إناءان فيهما ماء: أحدهما طاهر، والآخر نجس، واشتبها عليهما، فأدى اجتهاد كل واحد منهما إلى طهارة أحدهما.. توضأ كل واحد منهما بما أداه إليه اجتهاده، ولم يجز لأحدهما أن يأتم بالآخر. وقال أبو ثور: (يجوز؛ لأن كل واحد منهما صلاته صحيحة) وهذا خطأ؛ لأن كل واحد منهما يعتقد أن إمامه توضأ بالنجس، فصلاته باطلة، ولا يجوز له أن يعلق صلاته بصلاة يعتقدها باطلة. وإن كان هناك ثلاثة أوان، وثلاثة رجال، فإن كان فيها طاهر ونجسان، فأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى طهارة إناء، وتوضأ به.. لم يأتم أحدهم بالآخر على المذهب، وعليه التفريع. وإن كان فيها نجس وطاهران، وأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى طهارة إناء وتوضأ به.. فهل يجوز لبعضهم أن يأتم بالبعض؟ فيه وجهان: أحدهما - حكاه المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 10] عن ابن القاص -: أنه لا يجوز؛ لأن كل واحد منهم يقول: يحتمل أن إمامي استعمل النجس. والثاني - وهو قول ابن الحداد وهو المشهور -: أنه يجوز؛ لأنه قد بقي هناك طاهر غير الذي استعمله هو، فيجوز أن يكون إمامه هو الذي استعمل الطاهر، وأن النجس استعمله غيرهما. فعلى هذا: إذا تقدم أحدهم فصلى بهم الصبح، وتقدم آخر وصلى بهم الظهر، وتقدم الثالث وصلى بهم العصر.. فإن صلاة الصبح صحيحة في حق جميعهم. وأما صلاة الظهر: فصحيحة في حق إمامها وإمام الصبح، باطلة في حق إمام

العصر؛ لأن كل إمام يقول: أنا توضأت بالطاهر، وإمام الظهر وإمام العصر لا يخطئان إما الصبح في الاجتهاد، وكذلك إمام الصبح لا يخطئ إمام الظهر في الاجتهاد، وأما إمام العصر فإنه يخطئ إمام الظهر في الاجتهاد؛ لأنه يقول: توضأت بطاهر، وتوضأ إمام الصبح بطاهر، فتعين النجس في حقه لإمام الظهر. وأما صلاة العصر: فباطلة في حق إمام الصبح وإمام الظهر؛ لما ذكرناه من التعليل، وهل تصح في حق إمامها؟ فيها وجهان: أحدهما - وهو المشهور -: أنها صحيحة له؛ لأنه يقول: توضأت بطاهر وأحدهما بالطاهر الثاني. والثاني - حكاه في الفروع -: أنها باطلة في حقه؛ لأنه لما صلى خلف إمام الصبح، وإمام الظهر.. جرى ذلك منه مجرى الشهادة لهما بالطاهرين، فتعين النجس في حقه. وإن كان هناك أربعة أوان، وأربعة رجال، فأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى طهارة إناء وتوضأ به، وتقدم كل واحد منهم، وأم الباقين في صلاة، فإن كان فيها طاهر وثلاثة أنجاس.. لم تصح صلاة واحد منهم خلف واحد منهم على المذهب، خلافًا لأبي ثور. وإن كان فيها طاهران ونجسان.. لم تصح صلاة أحدهم خلف صاحبه، على قول ابن القاص. وعلى المشهور: تصح صلاة الصبح في حق الجميع منهم، وتصح صلاة الظهر في حق إمامها وإمام الصبح، وتبطل في حق إمام العصر وإمام المغرب. وأما

صلاة العصر والمغرب: فيبطلان في حق المؤتمين بهما، وهل تصح صلاة كل واحدة منهما لإمامهما؟ المشهور: أنها تصح له، وعلى ما حكاه في " الفروع " لا تصح له. وإن كان فيها نجس وثلاثة طواهر.. لم تصح صلاة المؤتمين فيهن على قول ابن القاص وعلى المشهور: تصح صلاة الصبح والظهر في حق جميعهم وتصح صلاة العصر في حق إمامها وإمام الصبح وإمام الظهر، وتبطل في حق إمام المغرب، وأما صلاة المغرب: فتبطل في حق إمام الصبح والظهر والعصر، وهل تصح في حق إمامها؟ المشهور: أنها تصح وعلى ما حكاه في " الفروع ": لا تصح له. وإن كان هناك خمسة أوان، وخمسة رجال، فأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى طهارة إناء فتوضأ به، وتقدم كل واحد منهم وأم الباقين في صلاة، فإن كان فيها طاهر واحد، وأربعة أنجاس.. لم تصح صلاة المأمومين هاهنا فيما ائتموا به على المذهب، خلافًا لأبي ثور. وإن كان فيها طاهران، وثلاثة أنجاس، وقلنا بقول ابن الحداد.. صحت صلاة الصبح للجميع، وصحت الظهر لإمامها وإمام الصبح، وتبطل في حق الباقين. وأما صلاة العصر والمغرب والعشاء: فتبطل كل واحدة في حق المؤتمين بها، وهل تبطل كل واحدة في حق إمامها؟ المشهور: أنها تصح، وعلى ما حكاه في " الفروع ": لا تصح. وإن كان فيها ثلاثة طواهر، ونجسان.. صحت صلاة الصبح والظهر للجميع. وتصح صلاة العصر لإمامها وإمام الصبح وإمام الظهر، وتبطل في حق إمام المغرب والعشاء، وأما صلاة المغرب والعشاء: فتبطل كل واحدة في حق المؤتمين بها، وهل تبطل كل واحدة في حق إمامها؟

فرع: الاشتباه في خروج الحدث

المشهور: أنها لا تبطل. وعلى ما حكاه في " الفروع ": تبطل. وإن كان فيها أربعة طواهر، ونجس.. صحت صلاة الصبح والظهر والعصر في حق الجميع. وصحت صلاة المغرب في حق الجميع إلا في حق إمام العشاء، فإنها باطلة في حقه. وأما صلاة العشاء فإنها باطلة في حق المؤتمين بها. وهل تبطل في حق إمامها؟ المشهور: أنها لا تبطل. وعلى ما حكاه في " الفروع ": تبطل. [فرع: الاشتباه في خروج الحدث] وإن كان هناك خمسة رجال، فظهر من بينهم حدث لا يدرى ممن ظهر، ولا يتحقق كل واحد منهم ذلك من نفسه، فتقدم كل واحد منهم فصلى بالباقين صلاة.. فحكى القاضي أبو الطيب: أن ابن القاص قال: لا يجوز لأحدهم أن يأتم بواحد منهم؛ لأن المحدث منهم لا يصح الاجتهاد فيه لغيره؛ لأنه لا أمارة تدل عليه، بخلاف الآنية والثياب، فإن عليها أمارة يعرف بها الطاهر من النجس. وقال ابن الحداد: يجوز لبعضهم أن يصلي خلف بعض؛ لأنه قد يغلب على ظنه من خرج منه الحدث بأمارة عنده من حال من يخرج منه بعادة يعرفها منه، وبسبب يقتضيه يدله عليه. فعلى هذا: حكمهم حكم خمسة أوان، إذا كان فيها نجس وأربعة طواهر، فتصح صلاة الصبح والظهر والعصر في حق الجميع. وتصح المغرب في حق الجميع إلا في حق إمام العشاء. وتبطل العشاء في حق الجميع إلا في حق إمامها. وإن خرج الحدث من بين رجلين.. لم يصح أن يأتم أحدهما بالآخر وإن خرج الحدث من بين ثلاثة أو أربعة.. فمقيسه على الخمسة. وبالله التوفيق

باب الآنية

[باب الآنية] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويتوضأ في جلود الميتة، إذا دبغت) وهذا كما قال. اختلف العلماء في جلود الميتة، هل تطهر بالدباغ؟ على ستة مذاهب. فـ[الأول] : ذهب الشافعي: إلى أن جلود الميتة كلها تطهر بالدباغ إلا جلد الكلب والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما، وبه قال علي، وابن مسعود. وهل يطهر جلد الآدمي بالدباغ؟ قال ابن الصباغ: من أصحابنا من قال: فيه وجهان، ومنهم من قال: لا يتأتى فيه الدباغ. و [الثاني] : قال أبو حنيفة: (تطهر جميع الجلود. وجلد الكلب، وفي جلد الخنزير ثلاث روايات: إحداهن: يطهر، والثانية: لا يطهر، والثالثة: لا جلد له، وإنما ينبت شعره على لحمه) . و [الثالث] : قال داود: (يطهر الجميع، وجلد الكلب والخنزير) . و [الرابع] : قال أحمد: (لا يطهر شيء من الجلود) . و [الخامس] : قال الأوزاعي، وأبو ثور: (يطهر جلد كل ما يؤكل لحمه، ولا يطهر جلد ما لا يؤكل لحمه) .

مسألة: ما يدبغ به

و [السادس] : قال مالك: (يطهر ظاهر الجلد بالدباغ، ولا يطهر باطنه، فتجوز الصلاة عليه، ولا تجوز الصلاة فيه، ويجوز الانتفاع به بعد الدباغ في الأشياء اليابسة دون الرطبة) . دليلنا: ما وري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بشاة ميتة ملقاة لميمونة فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به" فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة، فقال: "إنما حرم من الميتة أكلها» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أيما إهاب دبغ.. فقد طهر» . وهذا عام في جميع الحيوان. وأما جلد الكلب والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما.. فمخصوص بالقياس، وهو أن الدباغ ليس بأقوى من الحياة، ثم الحياة لا تدفع النجاسة عن الكلب والخنزير، فالدباغ بذلك أولى. قال صاحب " الفروع ": ولا يطهر من الجلود إلا ما يندبغ ولا يتمزق عند الدباغ. [مسألة: ما يدبغ به] قال الشافعي في " الأم " [1/8] : (والدباغ بكل ما دبغت به العرب من قرظ، وشث، وما عمل عمله مما يمكث فيه الإهاب، حتى ينشف فضوله، ويطيبه، ويمنعه الفساد إذا أصابه الماء) . وهذا كما قال.

فرع: الدباغ بالشمس والتراب

وأما (القرظ) : فمعروف. وأما الشث -بثلاث نقط -: فشجر مر الطعم، وروي: شب، وهو يشبه الزاج. والأصل فيه ما روي: أن رجالًا من قريش كانوا يجزون شاة ميتة، كالحمار، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به"؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يطهره الماء، والقرظ» فنص على القرظ، وقسنا عليه ما عمل عمله مثل العفص، وقشور الرمان. قال ابن الصباغ: وإن كان الرمان، يصلح الجلد.. جاز الدباغ به. قال الصيمري: وإنما يحكم بطهارته إذا عمل فيه الدباغ ثلاثة أشياء: إذا نشف الفضول، وطيب الريح، وبقي على ذلك في حال ما لا يستعمل. [فرع: الدباغ بالشمس والتراب] ] : وإن دبغه بالتراب أو بالشمس، حتى استحجر.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول القاضي أبي الطيب وأبي حنيفة -: (أنه يحكم بطهارته؛ لأنه يجففه، ويطيب فضوله فهو كالقرظ) . والثاني - وهو المنصوص، واختيار الشيخ أبي حامد -: (أنه لا يطهر؛ لأنه لا يصلحه، فهو كما لو جفف في الهواء) .

فرع: الدباغ بالنجس

قال الصيدلاني: قال الشيخ أبو إسحاق: ليس في ذلك خلاف بينهم بل أراد الشيخ أبو حامد: إذا كان التراب أو الشمس لا يزيلان فضول هذا الجلد. وأراد القاضي: إذا أزال فضوله، وعمل عمل القرظ. قال ابن الصباغ: هذا يرفع الخلاف؛ لأنه لا يعمل عمل الدباغ. [فرع: الدباغ بالنجس] فإن دبغ بماء نجس.. فهل يطهر الجلد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يطهر؛ لأن الطهارة لا تحصل بالنجس، كالطهارة عن الحدث. والثاني: يطهر. ولم يذكر ابن الصباغ غيره؛ لأنا لو قلنا: لا يطهر، لأدى إلى ألا يكون له سبيل إلى تطهيره؛ لأنه لا يمكن رده غير مدبوغ. فإذا قلنا بهذا: افتقر إلى غسله بالماء بعد الدباغ وجهًا واحدًا. وإن دبغه بشيء طاهر.. فهل يفتقر إلى غسله بالماء بعد الدباغ؟ فيه وجهان: أحدهما: قال أبو إسحاق: لا يطهر، حتى يغسل؛ لأن ما يدبغ به.. ينجس بملاقاة الجلد، فإذا زالت نجاسة الجلد.. بقيت نجاسة ما دبغ به، فوجب أن يغسل ليطهر. والثاني: لا يفتقر إلى غسله؛ لأن طهارته تتعلق بالاستحالة، وقد حصلت، فوجب أن يحكم بطهارته، كالخمر إذا استحالت خلا. قال ابن الصباغ: والأول أقيس. [مسألة: الانتفاع بجلد الميتة] ] : ولا يجوز الانتفاع بجلد الميتة قبل الدباغ ولا بيعه. وقال الزهري: يجوز الانتفاع به قبل الدباغ. وقال أبو حنيفة: (يجوز بيعه قبل الدباغ) .

فرع: أكل جلد الميتة بعد الدبغ

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به» فعلق الانتفاع به بالدباغ، فدل على أنه لا يجوز قبله. وأما إذا دبغ الجلد.. جاز الانتفاع به في الأشياء الرطبة واليابسة، خلافًا لمالك في الأشياء الرطبة. ودليلنا عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» وهذا عام في البيع وغيره، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جلد الشاة الميتة: «هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به» وهذا عام في الانتفاع بالأشياء اليابسة والرطبة. وهل يجوز بيعه؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا يجوز) . وبه قال مالك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خص الانتفاع، ولم يذكر البيع. و [الثاني] : قال في الجديد: (يجوز) وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لأن البيع من جملة الانتفاع، ولأنه طاهر منتفع به ليس في بيعه إبطال حق فجاز بيعه، كجلد الشاة المذكاة. فقولنا: (طاهر) احتراز منه قبل الدباغ. وقولنا: (منتفع به) احتراز مما لا يؤكل من [نحو] الغراب، وما لا ينتفع به من الأعيان الطاهرة. وقولنا: (ليس في بيعه إبطال حق) احتراز من أم الولد والوقف. [فرع: أكل جلد الميتة بعد الدبغ] وأما أكله بعد الدباغ، فإن كان من حيوان مأكول.. ففيه قولان:

مسألة: الانتفاع بأجزاء الميتة

قال في الجديد: (يجوز؛ لأنه طاهر لا يخاف من أكله، فجاز أكله، كجلد الشاة المذكاة) . وقال في القديم: (لا يجوز) . قال ابن الصباغ: وهو الصحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في شاة ميمونة: «إنما حرام من الميتة أكلها» . مع أمره لهم بالدباغ والانتفاع، ولأن الدباغ لو أفاد الإباحة.. لم يصح فيما لا يؤكل لحمه، كما لا تصح الذكاة فيه، ولم يطهر بها جلده. وإن كان من حيوان لا يؤكل لحمه، كالبغل، والحمار.. فإن الشيخ أبا حامد، والبغداديين من أصحابنا قالوا: لا يحل أكله قولًا واحدًا؛ لأن الدباغ ليس بأقوى من الذكاة، ثم الذكاة فيه لا تبيح أكل جلده فكذلك الدباغ. وقال القفال، والقاضي أبو القاسم بن كج: هو على قولين، كجلد ما يؤكل لحمه؛ لأن الدباغ قد طهره، كما طهر جلد ما يؤكل لحمه، فكان مثله في جواز أكله بخلاف الذكاة؛ فإنها لا تؤثر في تطهيره فلم تؤثر في إباحته. [مسألة: الانتفاع بأجزاء الميتة] روى المزني، والربيع بن سليمان المرادي، وحرملة والبويطي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الصوف، والشعر، والقرن، والعظم، والظلف، والظفر.. فيها روح، وتلحقها نجاسة الموت) . وأما شعر الآدمي: فإن قلنا: إن ابن آدم لا ينجس بالموت.. فشعره طاهر بكل حال. وإن قلنا: إنه ينجس بالموت.. فعلى هذه الرواية: ينجس شعر ابن آدم بموته، وكذلك ما ينفصل من شعره في حياته.

وروى إبراهيم البلدي، عن المزني: أن الشافعي رجع عن تنجيس شعور بني آدم. واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم: من لم يثبت هذه الرواية، وقال: ينجس الشعر بالموت قولًا واحدًا. ومنهم: من أثبتها، وهو الصحيح. واختلفوا فيها: فمنهم من قال: إنما رجع الشافعي عن تنجيس شعر بني آدم؛ لأنه ثبت عنده أن الشعر والصوف والوبر لا روح فيه، فيكون في الشعور قولان: أحدهما: لا روح فيها، ولا تنجس بالموت، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق، والثوري، والمزني، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ، ولا بأي بصوفها وشعرها إذا غسل بالماء» ؛ ولأنه لو كان فيه روح.. لكان نجس بالقطع، كالأعضاء. فعلى هذا: لا يوجد شعر نجس العين إلا شعر الكلب والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما، وقد حكى فيه بعض أصحابنا الخراسانيين وجهًا آخر: أنه كسائر الشعور في الطهارة على هذا. والقول الثاني: أن الشعور تحلها الروح، وتنجس بالموت. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح الذي به نفتي، وعليه نناظر، وبه قال عطاء، والحسن، والأوزاعي، والليث. ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شاة ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به» فلو جاز الانتفاع بالشعر.. لبين، كما بين في الجلد؛

لأنه متصل بالحيوان اتصال خلقة، فينجس بالموت كالأعضاء. فقولنا: (اتصال خلقة) احتراز من الحمل والبيض. وأما الخبر الأول: فرواه يوسف بن السفر، وهو ضعيف. وقولهم: إنه لا يحس.. يبطل بما غلظ من العقب؛ ولأن النعامة تبتلع الصنجة المحماة، ولا تحس بذلك. وفيها روح. فعلى هذا: إذا دبغ جلد الميتة، وعليه شعر، ولم ينفصل الشعر عنه.. فهل يحكم بطهارته؟ فيه قولان: أحدهما: قاله في " الأم " [1/8] : (لا يطهر؛ لأن الدباغ لا يؤثر فيه، فلم يؤثر في تطهيره) . والثاني - رواه الربيع بن سليمان الجيزي عنه -: (أنه يطهر؛ لأنه شعر نابت على جلد طاهر، فكان طاهرًا؛ كشعر الحيوان الطاهر في حال الحياة، أو بعد الذكاة) . ومن أصحابنا من جعل رجوع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن تنجيس شعر بني آدم رجوعًا عن تنجيس شعر بني آدم لا غير، فقال: ينجس شعر غير بني آدم بالموت قولًا واحدًا، وفي شعر الآدمي، قولان: أحدهما: ينجس بموته، كما ينجس شعر غيره بموته. فعلى هذا: ينجس منه ما انفصل عنه في حياته أيضًا. والثاني: لا ينجس؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] [الإسراء: 70] . ومن تكريمه ألا ينجس شعره، ولهذا أحل لبن ابن آدم، وإن كان غير مأكول اللحم.

فعلى هذا: يحكم بطهارته بعد موته، وبطهارة ما انفصل من شعره في حياته. وأما شعر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإن قلنا: إن شعر غيره من بني آدم طاهر.. فشعره أولى بالطهارة، وإن قلنا: إن شعر غيره من بني آدم نجس.. ففي شعره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجهان: أحدهما - وهو اختيار صاحب " الفروع " -: أنه ليس بنجس؛ (لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حلق شعره بـ: منى.. ناوله أبا طلحة، ففرقه على الصحابة) . فلو كان نجسًا.. لم يفرقه عليهم. والثاني: أنه نجس!! وهو اختيار المحاملي؛ لأنه شعر آدمي، فكان نجسًا، كشعر غيره من الآدميين. وأما بول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وغائطه، ودمه: فالبغداديون من أصحابنا قالوا: هو نجس وجهًا واحدًا، والخراسانيون قالوا: هو على وجهين كشعره لـ: (أن أبا طيبة شرب دم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . و (حسا ابن الزبير دمه تبركًا به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، ولم ينكر عليه.

فرع: الشعر المنفصل

و (شربت أم أيمن بوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوجع كان في بطنها فبرئت) . فإذا قلنا: إن شعر ابن آدم نجس.. فإنه يعفى عن قليله؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه، فهو كدم البراغيث. قال ابن الصباغ: من أصحابنا من فسر ذلك بالشعرة والشعرتين في الماء والثوب. [فرع: الشعر المنفصل] إذا قلنا: إن الشعر تحله الروح، وتلحقه نجاسة الموت، فإن جز الشعر من الحيوان في حال الحياة، فإن كان من حيوان غير مأكول.. نجس الشعر بالانفصال؛ لأن الجز للشعر كالذبح للحيوان، وما لا يؤكل لحمه ينجس بذبحه فكذلك شعره. وإن كان الحيوان مأكولًا.. لم ينجس الشعر بالجز، كما لا ينجس الحيوان نفسه بالذبح. وإن نتف الشعر منه، فهل ينجس بذلك؟ فيه وجهان. حكاهما الشاشي. الصحيح: أنه لا ينجس. [فرع: القرن والعظم] وأما العظم، والقرن، والظلف، والسن، والظفر.. فاختلف أصحابنا فيه: فذهب أبو إسحاق: إلى أنه كالشعر والصوف والوبر، على ما ذكرناه؛ لأنه لا يحس ولا يألم، كالشعر. وقال أكثر أصحابنا: تحلها الروح، وينجس بالموت قولًا واحدًا؛ وهو الصحيح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] [يس: 78 - 79] .

مسألة: اللبن في ضرع الميتة

و (الإحياء) : لا يكون إلا لما كان فيه الروح، ثم فارقه؛ ولأن العظم يحس، وأطراف الأسنان يلحقها الضرس. إذا ثبت هذا: فسئل فقيه العرب: أيتوضأ من إناء معوج؟ فقال: إن كان الماء يصيب تعويجه.. لم يجز، وإن كان لا يصيب تعويجه.. جاز. و (الإناء المعوج) : هو الإناء الذي جعل فيه العاج، وهو عظم الفيل. وعظم الفيل نجس.. لا يجوز بيعه، ولا استعماله في الأشياء الرطبة، ويكره استعماله في الأشياء الجامدة، مثل الامتشاط بمشط العاج من غير رطوبة. [مسألة: اللبن في ضرع الميتة] وإن ماتت شاة، وفي ضرعها لبن.. نجس اللبن بموتها، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: (لا ينجس) وبه قال داود. دليلنا: أنه مائع غير الماء في وعاء نجس، فكان نجسًا، كما لو حلبت في وعاء نجس. وإن ماتت دجاجة، وفي جوفها بيضة، فإن لم يتصلب قشرها، فهي نجسة، كاللبن، وإن كان قد تصلب قشرها، نجس ظاهر القشر، فإذا غسلت.. طهرت، وحل أكلها. وقال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا يحل أكلها) . دليلنا: أن البيضة مودعة في الحيوان، فلم تنجس بموت الحيوان، كالحمل إذا خرج حيًا.

مسألة: حكم أجزاء الحيوان بالذكاة

[مسألة: حكم أجزاء الحيوان بالذكاة] ] : وإن ذبح حيوان يؤكل لحمه.. لم ينجس بالذبح شيء من أعضائه، وجاز الانتفاع بلحمه، وعظمه، وشعره، وعصبه، ما لم يكن عليه نجاسة، فإن رأى شعر حيوان مأكول اللحم، وعظمه، ولم يعلم أنه أخذ منه في حال حياته، أو بعد ذكاته، أو بعد موته.. قال في " الفروع ": حكم بطهارته؛ لأن الأصل فيه الطهارة. وإن ذبح حيوان لا يؤكل لحمه.. نجس بذبحه، كما ينجس بموته. وقال أبو حنيفة: (يطهر جلده بذكاته، وأما لحمه: فلا يباح) . واختلف أصحابه في طهارته. دليلنا: أنها ذكاة لا تبيح أكل اللحم، فلا يطهر بها الجلد، كذكاة المجوسي. [مسألة: أواني الذهب والفضة] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في [" الأم 1/8"] : (ولا أكره في الأواني إلا الذهب والفضة) . وجملة ذلك: أن الأواني على ضربين: متخذة من جنس الأثمان، ومتخذة من غير جنس الأثمان. فأما المتخذة من جنس الأثمان: وهي آنية الذهب والفضة.. فيكره استعمالها للرجال والنساء في الشراب والأكل والبخور والوضوء، وغير ذلك من وجوه الاستعمال وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم. وقال داود، وأهل الظاهر: (لا يكره غير الشرب وحده) . دليلنا: ما وري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن استعمال أواني الذهب والفضة» . ولم يفرق بين الشرب وغيره.

إذا ثبت هذا: فهل هو كراهة تنزيه، أو تحريم؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يكره كراهة تنزيه لا تحريم؛ لأنه إنما نهى عن ذلك، لما يلحق من ذلك من السرف والخيلاء وإغاظة الفقراء، وهذا لا يوجب التحريم) . و [الثاني] : قال في الجديد: (يكره كراهة تحريم) ، وهو الصحيح؛ لما روت أم سلمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذي يشرب في آنية الفضة.. إنما يجرجر في جوفه نار جهنم» . وهذا وعيد يقتضي التحريم. و (الجرجرة) : حكاية الصوت، يقال: جرجر فلان الماء في حلقه: إذا جرعه جرعًا متتابعًا يسمع له صوت، وجرجر الفحل في هديره: إذا ردده في شقشقته، قال الشاعر: وهو إذا جرجر بعد الهب ... جرجر من حنجرة كالخب وهامة كالمجل المنكب قال أصحابنا الخراسانيون: وهل يحرم استعمال آنية الذهب والفضة للزينة والفخر، أو لعين الذهب والفضة؟ فيه قولان. وفائدة ذلك: لو اتخذ إناء من ذهب أو فضة، وغشاه رصاصًا، فإن قلنا: حرم

لأجل الزينة والفخر.. جاز، وإن قلنا: حرم لأجل الذهب والفضة.. لم يجز. وإن اتخذ إناء من رصاص أو نحاس وموهه بذهب أو فضة فإن قلنا: حرم لأجل الزينة والفخر.. لم يجز استعماله وإن قلنا: حرم لعين الذهب والفضة جاز هاهنا. فإن أكل من آنية الذهب والفضة، أو شرب منها، أو توضأ.. لم يحرم المأكول والمشروب، وصح وضوؤه؛ لأن المنع لمعنى يعود إلى الإناء لا إلى ما في الإناء، فهو كما لو توضأ بماء مغصوب، أو صلى في دار مغصوبة، بخلاف ما لو توضأ بماء نجس، أو صلى في ثوب نجس.. فإن ذلك لا يصح؛ لأن النهي يرجع إلى معنى في الماء والثوب. فإن قلنا: لا يحرم استعمال أواني الذهب والفضة.. جاز اتخاذها. وإن قلنا: يحرم استعمالها.. فهل يجوز اتخاذها؟ من أصحابنا من قال: فيه وجهان. ومنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: يجوز؛ لأن فيه إحراز المال، ولأن الشرع إنما ورد بتحريم الاستعمال دون الاتخاذ. والثاني: لا يجوز، وهو الأصح؛ لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه، كالملاهي. قال المحاملي: ولأنه لا خلاف - على مذهبنا - أن الزكاة تجب فيها، فلو كان اتخاذها مباحًا.. لسقطت عنها في أحد القولين، كالحلي المباح. فإذا قلنا: يجوز اتخاذها.. جاز الاستئجار على عملها. وإن كسر على غيره إناء من ذهب أو فضة.. وجب عليه ما نقصت قيمته بالكسر. وإن قلنا: لا يجوز اتخاذها.. لم تصح الإجارة على عملها، وإن كسر على غيره إناء منها.. لم يجب عليه ضمان ما نقص بالكسر.

وأما الآنية المتخذة من غير الأثمان: فضربان: نفيس، وغير نفيس. فأما النفيس: فما اتخذ من البلور والفيروزج، فإن قلنا: لا يحرم استعمال آنية الذهب وآنية الفضة.. فهذه أولى. وإن قلنا: يحرم استعمال آنية الذهب والفضة.. ففي هذه قولان: [الأول] روى حرملة: (أنه لا يجوز؛ لأن فيه سرفًا، فأشبه آنية الذهب والفضة) . و [الثاني] روى الربيع، والمزني: (أنه يجوز؛ لأن السرف فيها غير ظاهر؛ لأنه لا يعرفها إلا خواص الناس، فلا يؤدي استعمالها إلى افتتان الناس، بخلاف آنية الذهب والفضة) . وأما الأواني المتخذة من العود الطيب المرتفع، والكافور، والمصاعد، والعنبر.. فهل يجوز استعمالها؟ قال الشاشي: فيه قولان، كالبلور، والفيروزج. فإذا قلنا: يجوز استعمال هذه الآنية.. جاز اتخاذها، وإن قلنا: لا يجوز استعمالها.. فهل يجوز اتخاذها؟ فيه وجهان، بناء على ما ذكرناه في آنية الذهب والفضة.

مسألة: التضبيب بالذهب والفضة

أما الآنية المتخذة مما ليس بنفيس: فإن كانت صنعتها نفيسة، كالآنية المخروطة من الزجاج، وأواني الصفر المنقوش.. فهل يجوز استعمالها؟ أومأ صاحب " الفروع " فيها إلى وجهين، الصحيح: أنه يجوز. وإن كانت صنعتها غير نفيسة، أو كان ذلك من المدر، أو ما أشبهه.. جاز استعمالها واتخاذها؛ لأنه لا سرف في ذلك. [مسألة: التضبيب بالذهب والفضة] قال الشافعي: (وأكره المضبب بالفضة؛ لئلا يكون شاربًا على فضة) . وجملة ذلك: أن التضبيب بالذهب والفضة يبنى على استعمال آنية الذهب والفضة، فإن قلنا بالقول القديم: (إنه لا يحرم استعمالها) .. فالتضبيب بهما أولى بالجواز. وإن قلنا بالجديد: (وأنه يحرم استعمال آنيتهما) .. فهل يجوز التضبيب بهما؟ أما الذهب: فذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه يحرم التضبيب به؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذهب والحرير: «هذان حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها» .

وإن اضطر إلى الذهب.. جاز؛ لما روي: «أن عرفجة بن أسعد أصيبت أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفا ً من فضة، فأنتن، (فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتخذ أنفًا من ذهب» . وذكر المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 13] ، والجويني: أنه كالتضبيب بالفضة. وقد اختلف أصحابنا في التضبيب بالفضة، على ثلاثة أوجه: فـ[الوجه] الأول: قال أبو إسحاق: إن كان التضبيب في غير شفة الإناء.. جاز؛ لأنه لا يقع عليه الشرب، وإن كان في شفة الإناء.. لم يجز؛ لأنه يكون شاربًا عليه. والوجه الثاني - وهو المشهور -: أن التضبيب على أربعة أضرب: ضرب يسير لحاجة، كحلقة القصعة، وشعيرة السكين، وضبة القصعة، وما أشبهه.. فهذا مباح غير مكروه؛ لما روي: «أنه كان حلقة قصعة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فضة» ، و «قبيعة سيفه من فضة» ، وكذلك ما ذكرناه من

فرع: فيما يتخذ من الذهب والفضة

«حديث عرفجة بن أسعد: (حيث أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتخذ أنفًا من ذهب» ومعني قولنا: (لحاجة) أي: في موضع الحاجة، وإن قام غيرها مقامها في ذلك؛ لأن الحاجة داعية إلى الفضة نفسها. والضرب الثاني: كثير للحاجة.. فتكره لكثرته، ولا تحرم للحاجة. وحد الكثير: أن يكون جزءا من الإناء كاملًا من الفضة؛ كأسفله أو جميع شفته. والضرب الثالث: قليل لغير الحاجة.. فلا يحرم لقلته، ويكره لعدم الحاجة. والضرب الرابع: كثير لغير حاجة.. فيحرم لعدم الحاجة. والوجه الثالث: أنه مكروه غير محرم بحال، وهو قول أبي حنيفة. دليلنا: ما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شرب من إناء الذهب والفضة، أو إناء فيه شيء من ذلك.. فإنما يجرجر في جوفه نار جهنم» . ولأن هذا فيه سرف وخيلاء، فأشبه الإناء. [فرع: فيما يتخذ من الذهب والفضة] قال المسعودي [في" الإبانة ": ق \ 13] : إذا اتخذ شيئًا من ذهب أو فضة، أو ربط سنة بذلك، أو اتخذ أنفًا منهما.. جاز، والذهب أولى بالجواز؛ لأنه لا يصدأ ولا يبلى. فإن اتخذ إصبعًا منهما.. لم يجز؛ لأنها لا تعمل، فلم يكن إلا مجرد الزينة. ولو اتخذ منهما أنملة.. جاز؛ لأنها تعمل بعمل الإصبع، فيمكن تحريكها بالقبض والبسط.

مسألة: استعمال أمتعة المشركين

[مسألة: استعمال أمتعة المشركين] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا بأس بالتوضؤ من ماء مشرك، وبفضل وضوئه) . وجملة ذلك: أن المشركين على ضربين: ضرب: لا يتدينون باستعمال النجاسة. وضرب: يتدينون باستعمال النجاسة. فأما الذين لا يتدينون باستعمال النجاسة، كاليهود والنصارى: فما تحقق طهارته من ثيابهم وأوانيهم.. فيجوز استعماله ولا يكره. وما تحقق نجاسته.. فلا يجوز استعماله. وما شك فيه من أوانيهم وثيابهم.. فيكره استعماله؛ لما «روى أبو ثعلبة قال: قلت: يا رسول الله، إنا بأرض أهل الكتاب، ونأكل في آنيتهم؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تأكلوا في آنيتهم، إلا إن لم تجدوا عنها بدًا.. فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنا لسراويلاتهم، وما يلي أسافلهم أشد كراهية) . فإن توضأ بشيء من آنيتهم، أو صلى في شيء من ثيابهم، مما لم يتحقق نجاسته قبل الغسل.. صح. وقال أحمد: (لا يصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] [التوبة: 28] . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ من مزادة مشركة» . و (المزادة) : الراوية. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أضافه وثني، فسقاه لبنًا فشربه، ولم يأمر بغسل ما سقاه فيه» . و: (توضأ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من ماء في جرة نصرانية) .

وأما قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] [التوبة: 28] . فأراد: نجس الأديان، لا الأبدان والثياب والأواني. وأما الذين يتدينون باستعمال النجاسة، وهم المجوس؛ لأنهم يتطهرون بالبول، ويتقربون بأرواث البقر.. فهل يجوز استعمال أوانيهم وثيابهم، التي لم تعلم طهارتها، ولا نجاستها قبل غسلها؟ فيه وجهان: أحدهما: قال أبو إسحاق: لا يجوز قبل غسلها. وهو قول أحمد، وإسحاق؛ لأنهم يتدينون باستعمال النجاسة، فالظاهر من أوانيهم وثيابهم النجاسة. والثاني: قال أبو علي بن أبي هريرة: يجوز، وهو المذهب، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لأن الأصل فيها الطهارة. قال ابن الصباغ: وهكذا الوجهان في الطين في الطرق. وهذا إنما هو في آنيتهم وثيابهم التي يستعملونها. فأما أوانيهم وثيابهم التي لا يستعملونها.. فإنها كآنية اليهود والنصارى، وقد مضى ذكرها. ويستحب تغطية الإناء؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بتغطية الوضوء، وإيكاء السقاء» . ولأنه أحوط. وبالله التوفيق.

باب السواك

[باب السواك] السواك غير واجب، وهو قول كافة العلماء. وقال داود وأهل الظاهر: (هو واجب) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو كان واجبًا لأمرهم به، سواء شق أو لم يشق) . إذا ثبت أنه ليس بواجب.. فهو سنة، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أوصاني جبريل بالسواك حتى خفت أن يدردني» . وروي عن ابن عباس أنه قال: (في السواك عشر خصال: مطهرة للفم، مرضاة للرب، مفرحة للملائكة، مسخطة للشيطان، يذهب الحفر ويجلو البصر، ويشد اللثة، ويقلل البلغم، ويطيب الفم، وهو من السنة، ويزيد في الحسنات) .

قال أبو علي في " الإفصاح " وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " السواك يزيد في الفصاحة» وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: (السواك يجلب الرزق) . وقيل: إن السواك من الكلمات التي قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] [البقرة: 124] . وهي عشر: (خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فاللواتي في الرأس: السواك، والمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وفرق الشعر، واللواتي في الجسد: الختان، وحلق العانة، والاستنجاء، وتقليم الأظافر، ونتف الإبطين) . وروي: (أن السواك كان في أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنزلة

القلم من أذن الكاتب) . قال المسعودي: [في " الإبانة: ق \ 16"] وهل هو من سنن الوضوء؟ فيه وجهان. ويستحب عند ثلاثة أحوال: أحدها: عند القيام إلى الصلاة، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك» . ومعناه: أن ثواب صلاة بسواك أكثر من ثواب سبعين صلاة بغير سواك. والثاني: عند اصفرار الأسنان، لما روى العباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «استاكوا لا تدخلوا علي قلحًا» ، و (القلح) : جمع أقلح، والقلح: صفرة الأسنان، قال الشاعر:

قد بنى اللؤم عليهم بينه ... وفشا فيهم مع اللؤم القلح والثالث: عند تغير الفم، وقد يتغير بالنوم، ويتغير بأكل الثوم والبصل والكراث ويتغير بالأزم، واختلفوا في الأزم: فقيل: هو طول السكوت، ولهذا يقال: أزم الفرس على اللجام. وقيل: هو من الجوع؛ ولهذا يقال: (نعم الدواء الأزم) يعني: الجوع. وذكر بعض أصحابنا: أن السواك يستحب في حالين آخرين: أحدهما: عند القيام إلى الوضوء. والثاني: عند قراءة القرآن. ولا يكره إلا في موضع واحد، وهو للصائم بعد الزوال. وقال أبو حنيفة: (لا يكره) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» . قال [ابن] الصفار: ومعنى الخبر: أن ثواب خلوف فم الصائم أفضل عند الله من ريح المسك؛ لأن الأشياء عند الله على خلاف حقائقها، والسواك يقطع ذلك فكره.

ويستحب أن يعود ذلك الصبيان، ليعتادوه عند بلوغهم. ويستحب أن يستاك بالأراك. قال الصيمري: ولا بأس بالخلال قبل السواك وبعده. ويستحب أن يكون عود الخلال من عود السواك، ولا يجوز السواك بما كان من المشمومات. وبأي شيء استاك مما يزيل القلح والتغيير، كالخرقة الخشنة، أجزأه، فإن أمر أصبعه على أسنانه.. لم يجزئه. وقال مالك: (يجزئه) . دليلنا: أن ذلك لا يسمى سواكًا، فلم يجزئه. قال الصيمري: ويكره أن يدخل سواكه في وضوئه. ويستحب إذا أراد السواك ثانيًا: أن يغسله. والمستحب إذا أراد السواك: أن يبدأ بالجانب الأيمن، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب التيامن في كل شيء» ، ويستحب أن يستاك عرضًا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استاكوا عرضًا، وادهنوا غبا، واكتحلوا وترًا» . و (الدهان الغب) : أن يدهن يومًا ثم يتركه حتى يجف رأسه، ثم يدهن؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الإرفاه» . قال أبو عبيد: هو كثرة التدهن.

مسألة: ذكر خصال الفطرة

و (اكتحال الوتر) : هو أن يكتحل في كل عين ثلاثة أطراف؛ لما روي: «أنه كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكحلة يكتحل منها كل ليلة - في كل عين - ثلاثة أطراف» . [مسألة: ذكر خصال الفطرة] قال الصيمري: وإن كانت له لحية.. فينبغي له أن يسرحها، ولا يتركها مشعانة، فإذا شابت.. غيرها بالحناء والكتم. ويستحب أن يقلم الأظفار، ويقص الشارب، ويغسل البراجم - وهي عقد اليدين - وينتف الإبط، ويحلق العانة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] [البقرة: 124] ، وقد تقدم تفسيرها. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الفطرة: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، والانتضاح بالماء، والختان، والاستحداد» .

فرع: حكم الختان

وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جاءني جبريل، فقال: يا محمد، إذا توضأت فانتضح» . واختلف في (الانتضاح) . فقيل: هو الاستنجاء بالماء. وقد روي: " الانتقاص بالماء " لأنه ينتقص البول، أي: يقطعه. وقيل: هو أن ينضح فرجه بالماء بعد فراغه من الطهارة. [فرع: حكم الختان] ويجب الختان في حق الرجال والنساء. وقال أبو حنيفة: (هو سنة في حق الجميع) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] [النحل: 123] ، فأمر الله نبيه باتباع ملة إبراهيم. وروي: «أن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختتن بالقدوم» . وهو مقيل له، أي: كان ينزل به. وقيل: هي قرية بالشام، وقيل: هو الفأس. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأم عطية - وكانت تختن النساء -: «أشمي، ولا

تنهكي» ، وروي: «اخفضي ولا تنهكي.. فإنه أسرى لوجهها، وأحظى لها عند زوجها» . فقوله: " أشمي " أي: خذي قليلًا، وقوله: " لا تنهكي "، أي يعني: ولا تستقصي في القطع. والختان في الرجل: هو أن تقطع الجلدة التي فوق الحشفة، حتى تنكشف جميعها. وفي المرأة: أن تقطع الجلدة التي فوق مدخل الذكر. ويستحب أن يفعل ذلك يوم السابع من ولادته، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ختن الحسن والحسين يوم السابع» ، ولأنه أسهل. وأما وقت وجوبه: فلا يجب على الصبي حتى يبلغ؛ لأنها عبادة بدنية، فلم تجب على الصبي، كالصلاة، فإذا بلغ.. أُمر بالختان، فإن امتنع.. أجبره السلطان. وهل يجب ذلك على الولي، أن يفعله بالصبي قبل بلوغه؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الفتوح: [أحدهما] : قال الصيدلاني، وأبو سليمان المروزي: يجب عليه، فإذا لم يفعله الولي حتى بلغ الصبي.. عصى الولي. و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: لا يجب على الولي. فإن كان هناك خنثى مشكل: قال القاضي أبو الفتوح: وجب عليه ختان الفرجين؛ لأن أحدهما أصلي يجب ختانه، والآخر زائد لا يجب ختانه، فوجب ختانهما ليسقط الفرض باليقين.

فإن قلتم: كيف أوجبتم قطعها، وإنما يجب عليه قطع أحدهما؟ قلنا: لأنه لما لم يتمكن من الوصول إلى قطع المستحق منهما إلا بقطعها.. وجب قطعهما، كما أن من تزوج بكرًا، لما لم يتمكن من وصوله إلى حقه إلا بإتلاف البكارة - وهي جزء منها - كان له ذلك، ولم يلزمه لأجله ضمان، وكما أنه إذا جبر عظمه بعظم نجس، والتحم اللحم عليه.. فإنه عليه شق الجلد واللحم؛ ليصل إلى العظم ويخرجه. وذكر أبو المعالي الجويني: أن رجلًا لو توسط قومًا، ولم يجد سبيلًا إلى الخروج لكثرة الناس، فخاف أن يموت جوعًا أو عطشًا أو ضيق نفس، ولا يجد السبيل إلى الخروج إلا بوطء بعضهم وإتلافه.. كان له ذلك!. إذا ثبت هذا: فإن كان الخنثى صغيرًا.. ختنه الرجال والنساء إذا قلنا: يجب ختان الصغير. وإن قلنا: لا يجب ختان الصغير.. لا يختن الخنثى الصغير؛ لأنه لا يتعين المحل فإذا بلغ.. وجب عليه الختان بلا خلاف على المذهب. ومن الذي يتولى ذلك منه؟ ينظر فيه: فإن كان يحسن ذلك بنفسه.. تولاه، وإن لم يقدر على ذلك لجبنه أو لقلة إحسانه.. اشترى له جارية تتولى ذلك منه. وإن لم توجد جارية تحسن ذلك.. جاز أن يتولاه الرجال والنساء منه؛ لأن هذا موضع ضرورة، فجاز للرجال والنساء، كالطبيب.

وإن كان لرجل ذكران، فإن عرف الأصلي منهما.. وجب ختانه دون غيره. قال صاحب " الإبانة " [ق 25 - 26] : ويعرف الأصلي بالبول. وقال غيره من أصحابنا: يعرف بالعمل، فإن كانا عاملين، أو كان يبول منهما، وكانا على منبت الذكر على حد السواء.. وجب ختانهما، كما قلنا في الخنثى المشكل. وبالله التوفيق

باب نية الطهارة

[باب نية الطهارة] الطهارة ضربان: طهارة عن نجس، وطهارة عن حدث. فأما الطهارة عن النجس: فلا تفتقر إلى النية في قول عامة أصحابنا. وحكى صاحب " الإبانة " [ق \ 13] : أن أبا العباس بن سريج قال: لا تصح من غير نية، كطهارة الحدث. والأول هو المشهور؛ لأن إزالة النجاسة من باب التروك، فلا تفتقر إلى النية، كما لا يفتقر ترك الزنا والغصب إلى النية، ولا يلزم الصوم حيث افتقر إلى النية وإن كان من باب التروك؛ لأنه ترك معتاد، فافتقر إلى النية ليتميز الترك الشرعي عن غيره. وأما الطهارة عن الحدث - وهو الوضوء، والغسل والتيمم -: فلا يصح شيء من ذلك إلا بالنية. وبه قال ربيعة، ومالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، وداود. وروي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال أبو حنيفة: (يصح الوضوء، والغسل بغير نية، ولا يصح التيمم إلا بالنية) . وقال الحسن بن صالح بن حي: يصح الوضوء، والغسل، والتيمم بغير نية.

وعن الأوزاعي روايتان: إحداهما: كقول الحسن بن صالح. والأخرى: كقول أبي حنيفة. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله.. فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها.. فهجرته إلى ما هاجر إليه» . قلنا: من الخبر ثلاثة أدلة: أحدها: قوله: «إنما الأعمال بالنيات» ولم يرد: أن صور الأعمال لا توجد إلا بالنية؛ لأن صورها قد توجد من غير نية، وإنما أراد: أن حكم الأعمال لا توجد إلا بالنية. والثاني: قوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى» دليل خطابه: أن من لم ينو.. فليس له. والثالث: أن هذا الخبر ورد على سبب، وذلك: أن رجلًا هاجر من مكة إلى المدينة بسبب امرأة يقال لها: أم قيس، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «إنما الأعمال بالنيات» .. " الخبر إلى آخره. فأخبر: أن الأعمال لا تكون قربة وطاعة إلى بالقصد إلى الطاعة والقربة؛ ولأنها عبادة محضة، وطريقها الأفعال، فلم تصح من غير نية كالصلاة. فقولنا: (محضة) احترازًا من العدة، ومن غسل الذمية. وقولنا: (طريقها الأفعال) احترازًا من الخطبة، والقراءة في الصلاة.

مسألة: لا تصح العبادة إلا بعد الإسلام

[مسألة: لا تصح العبادة إلا بعد الإسلام] فرع: [لا تصح العبادة إلا بعد الإسلام] : إذا توضأ الكافر أو تيمم، ثم أسلم.. لم يصح وضوؤه، ولا تيممه. وقال أبو حنيفة: (يصح وضوؤه، دون تيممه) بناءً على أصله: أن الوضوء يصح من غير نية. دليلنا: أن الوضوء طهارة، تستباح بها الصلاة، لم تصح من غير نية تنظر من الكافر، كالتيمم. [مسألة: النية ومحلها وزمنها وكيفيتها] مسألة: [في النية ومحلها وزمنها وكيفيتها] : إذا ثبت وجوب النية: فالكلام فيها في أربعة فصول: في محلها، وفي وقت استحبابها، وفي وقت وجوبها، وفي صفتها. فأما محلها: فالواجب أن ينوي بقلبه وهو: أن يقصد فعل ذلك بقلبه؛ لأن النية هي القصد - تقول العرب: نواك الله بخير، أي: قصدك الله بخير، وتقول: نويت بلد كذا، أي: قصدت إليه - إلا أن المستحب أن يقصد ذلك بقلبه، ويتلفظ به بلسانه؛ ليكون اللفظ به أعون له على خلوص القصد، فإن تلفظ به بلسانه من غير قصد في القلب.. لم يجزئه؛ لأنه قد يتلفظ بذلك عادة، وإن قصده بقلبه، ولم يتلفظ به.. أجزأه. وأما وقت استحبابها: فيستحب أن ينوي ذلك أول الطهارة وهي: عند غسل كفيه، ويستصحب ذكرها إلى آخر الوضوء؛ لتشتمل نيته على الفرائض والسنن. وأما وقت وجوبها: فإنه ينوي مع غسل أول جزء من الوجه، ثم يستصحب حكم النية في باقي أعضائه، وهو: ألا ينوي قطعها ولا ما ينافيها؛ لأن الوجه أول أعضاء الطهارة الواجبة، فأجزأه ذكر النية عنده، كالصلاة. قال الطبري: إذا غسل كفيه، وتمضمض، واستنشق من غير نية.. لم يحصل له ثواب ذلك.

فرع: ذهاب النية

[فرع: ذهاب النية] وإن نوى الطهارة عند المضمضة والاستنشاق، ثم عزبت نيته - أي: انقطعت - فإن كان قد غسل شيئًا من وجهه مع المضمضة والاستنشاق، مثل: رأس أنفه، أو ظاهر شفتيه.. نظرت: فإن غسل ذلك بنية غسل الوجه.. لم يؤثر انقطاع النية بعد ذلك؛ لأنها قد وجدت مع غسل أول فرض من فروض الطهارة. وإن غسل ذلك من وجهه لا بنية غسل الوجه.. فهل يكون حكمه حكم من غسله بنية غسل الوجه، أو حكم من لم يغسل شيئًا من وجهه؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ": أحدهما: حكمه حكم من غسله بنية غسل الوجه؛ لأنه قد وجد منه غسل جزء من الوجه بنية الطهارة. والثاني: حكمه حكم من لم يغسل شيئًا من وجهه؛ لأنه لم يغسل ذلك بنية غسل الوجه. وإن عزبت نيته قبل أن يغسل شيئًا من وجهه.. فهل يجزئه شيء من ذلك؟ فيه وجهان، وحكاهما في " الفروع " قولين: أحدهما: يجزئه؛ لأنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه فرض، فإذا عزبت النية عنده.. أجزأه كغسل الوجه. وقولنا: (فعل) احتراز من التسمية، فإنها لو عزبت النية عندها.. لم يجزئه. وقولنا: (راتب في الوضوء) احتراز من الاستنجاء، فإنه ليس براتب في الوضوء، بل لو استنجى بعد الوضوء.. كان كما لو استنجى قبله؛ ولأن الطهارة قد تخلو من الاستنجاء. وقولنا: (لم يتقدمه فرض) احتراز من غسل اليدين؛ لأنه لو لم ينو إلا عندهما.. لم يجزئه.

فرع: صفة النية

والوجه الثاني: لا يجزئه، وهو الصحيح؛ لأن نيته عزبت قبل الفرض، فلم يجزئه، كما لو عزبت عند غسل الكف. وما قاله الأول ينتقض بغسل الكف، فإنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه فرض، وإن عزبت النية عنده.. لم يجزئه. وهذه طريقة أكثر البغداديين من أصحابنا: أن نيته إن انقطعت عند غسل الكف.. لم يجزئه. وأما المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 16] ، وصاحب " الفروع " فقالا: إذا عزبت نيته عند غسل الكف.. هل يجزئه؟ على وجهين أيضًا، كالمضمضة والاستنشاق. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 16] : وكذلك إذا عزبت نيته عند الاستنجاء، أو عند السواك - إذا قلنا: إنهما من سنن الوضوء - فهل يجزئه ذلك؟ على وجهين، كما لو عزبت عند المضمضة والاستنشاق. [فرع: صفة النية] وأما صفة النية: فإن نوى رفع الحدث، أو الطهارة عن الحدث، أو الطهارة لأجل الحدث.. أجزأه؛ لأنه قد نوى المقصود. وإن نوى الطهارة وأطلق.. فقد ذكر ابن الصباغ: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " مختصر البويطي ": (أجزأه) . قال أصحابنا: أراد: إذا نوى الطهارة عن الحدث، فأما مع الإطلاق: فلا تجزئه الطهارة؛ لأن الطهارة قد تقع عن حدث، أو عن نجس، فلا بد من النية لتميز بينهما. وإن نوى المحدث رفع الجنابة.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ": أصحهما: أنه لا يجزئه؛ لأنه نوى غير ما عليه. وإن نوى الجنب رفع الحدث عن جميع بدنه.. أجزأه، وإن نوى الحدث الأصغر.. أجزأه عن أعضاء الطهارة.

فرع: النية وسبب الطهارة

وقال في " الفروع ": وقد قيل: لا معنى لهذه النية. [فرع: النية وسبب الطهارة] وإن نوى الطهارة لأمر لا يصح من غير طهارة، بأن ينوي الطهارة للصلاة، أو الطواف، أو سجود التلاوة أو الشكر، أو مس المصحف.. ارتفع حدثه؛ لأن فعل هذه الأشياء لا يصح من غير طهارة، فإذا نوى الطهارة لها.. تضمنت نيته رفع الحدث. وإن نوى الطهارة لفعل يصح من غير طهارة، ولا تستحب له فيه الطهارة، كأكل الطعام، ولبس الثوب، والدخول إلى السلطان.. لم يرتفع حدثه؛ لأنه يستبيح فعل هذه الأشياء من غير طهارة، فلم تتضمن نيته لها رفع الحدث. وإن نوى الطهارة لأمر يصح من غير طهارة، ولكن يستحب له فيه الطهارة كقراءة القرآن، ورواية الحديث وتدريس الفقه والاعتكاف.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يرتفع حدثه؛ لأن فعل هذه الأشياء يصح من غير طهارة، فلم تتضمن نيته لها رفع الحدث، كما لو نوى الطهارة لأكل الطعام. والثاني: يرتفع حدثه؛ لأنه يستحب له ألا يفعل هذه الأشياء إلا وهو طاهر، فتضمنت نيته لها رفع الحدث، كما لو نوى الطهارة للصلاة، بخلاف ما لو نوى الطهارة لأكل الطعام. وإن نوى غسل الجمعة.. قال ابن الصباغ: فينبغي أن يجزئه عن الوضوء؛ لأنه مأمور به للصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من توضأ يوم الجمعة.. فبها ونعمت، ومن اغتسل.. فالغسل أفضل» . فدل على: أن الغسل ينوب مناب الوضوء.

فرع: نية رفع جملة الأحداث

وإن نوى رفع الحدث، والتبرد، والتنظيف.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يصح؛ لأنه أشرك في النية بين القربة وغيرها. والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يصح) ؛ لأنه قد نوى رفع الحدث، وضم إليه ما لو لم ينوه.. لحصل له، فوزانه من الصلاة: أن ينوي الصلاة، ودفع خصمه باشتغاله بها.. فتصح، أو ينوي صلاة الظهر، وتحية المسجد.. فتصح، كما لو نوى الإحرام بالحج عن الفرض، وعن دخول الحرم. وإن فرق النية على أعضائه.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: لا يجزئه؛ لأنها عبادة واحدة، فلم يصح تفريق النية على أبعاضها، كالصلاة والصوم. والثاني: يجزئه؛ لأن تعيين النية في أثنائها لا يبطله حكم ما فعله منها. [فرع: نية رفع جملة الأحداث] وإن أحدث أحداثًا، ونوى رفع بعضها.. قال صاحب " الفروع ": ارتفع الجميع. وإن نوى رفع واحد منها، وإبقاء غيره.. فهل يصح؟ فيه أربعة أوجه: أحدها: لا يصح وضوؤه؛ لأنه لم ينو رفع جميع الأحداث. والثاني: أنه يصح وضوؤه، وهو الصحيح؛ لأن الأحداث تتداخل، فإذا نوى رفع واحدٍ منها.. ارتفع الجميع. والثالث: إن نوى رفع الحدث الأول.. ارتفع الجميع، وإن نوى غيره.. لم يصح وضوؤه؛ لأن الذي أوجب الطهارة هو الأول فإذا نواه.. ارتفع الجميع.

فرع: نية الوضوء لصلاة بعينها

والرابع - حكاه ابن الصباغ -: إن نوى رفع الحدث الأخير.. ارتفع الجميع، وإن نوى غيره.. لم يصح؛ لأنها تتداخل في الآخر منها. وإن نوى رفع حدث بعينه ثم بان أنه غيره.. قال الصيدلاني: فالمذهب: أنه يجزئه؛ لأنه من جنسه. [فرع: نية الوضوء لصلاة بعينها] وإن نوى بطهارته أن يصلي بها صلاة بعينها، أو أطلق.. ارتفع حدثه، واستباح به جميع الصلوات؛ لأن ذلك يتضمن رفع حدثه. وإن نوى أن يصلي به صلاة، وألا يصليها.. قال في " الفروع ": كان ذلك متناقضًا، ولا يرتفع حدثه. وإن نوى أن يصلي به صلاة بعينها، ولا يصلي به غيرها.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: لم يصح وضوؤه؛ لأنه لم ينو نية صحيحة. والثاني: يرتفع حدثه للصلاة التي عينها دون غيرها، اعتبارا بنيته. والثالث: يرتفع حدثه في حق جميع الصلوات، وهو الصحيح؛ لأنه لما نوى ليصلي به صلاة بعينها.. ارتفع حدثه في حق الجميع، ونيته: ألا يصلي غيرها.. لا حكم لها، فتصير كما لو نوى قطع الصلاة بعد الفراغ منها. [فرع: نية قطع الطهارة بعد الفراغ منها] إذا فرغ من الطهارة ثم نوى قطعها.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو المشهور -: أن طهارته لا تبطل، كما لو فرغ من الصلاة، ثم نوى قطعها. والثاني - حكاه الصيدلاني -: أن طهارته تبطل، كما لو ارتد. وإن غسل بعض أعضائه، ثم نوى قطع الطهارة، فإن قلنا بما حكاه الصيدلاني: أنها تبطل، إذا نوى قطعها بعد الفراغ.. فهاهنا أولى. وإن قلنا بالمشهور: وأنها لا تبطل فهاهنا وجهان، حكاهما ابن الصباغ:

أحدهما: تبطل طهارته، كما لو نوى قطع الصلاة في أثنائها. والثاني - وهو الصحيح -: أنه لا يبطل ما مضى منها قبل نية القطع؛ لأنه قد صح، فلا يبطل إلا بالحدث، كما لو فرغ منها ثم نوى قطعها. فعلى هذا: إن أراد تمام الطهارة قبل تطاول الفصل.. فلا بد من تجديد النية لما بقي من أعضائه؛ لأن حكم الأولى.. قد بطل بما بقي، وإن طال الفصل.. فعلى القولين في تفريق الوضوء. فإن نوى رفع الحدث، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ثم غسل رجليه بنية التنظيف والتبرد.. لم يصح غسله لهما، وإن نوى بغسله لهما التبرد والتنظيف ورفع الحدث.. فعلى ما مضى من الوجهين. وبالله التوفيق

باب صفة الوضوء

[باب صفة الوضوء] المستحب: ألا يستعين على الوضوء بغيره، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا لا نستعين على الوضوء بأحد» . وإن استعان بغيره نظرت: فإن كان بتقريب الوضوء إليه، وما أشبه ذلك.. لم يكره، وإن استعان بغيره بصب الماء عليه جاز..؛ لما روي «أن أسامة، والمغيرة، والربيع بنت معوذ بن عفراء: (صبوا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الماء، فتوضأ» . وإن وضأه غيره، ولم يوجد منه غير النية.. أجزأه عندنا. وقال داود: (لا يجزئه) . دليلنا: أن فعله غير مستحق في الطهارة، ولهذا لو وقف تحت ميزاب أو مطر، ونوى الطهارة، وأمر الماء على أعضاء الطهارة أجزأه. وأما قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . فالمراد به: تحصيل الغسل. [مسألة: استحباب التسمية عند ابتداء الوضوء] ويسمي الله تعالى عند ابتداء الطهارة؛ لأن التسمية مشروعة في جميع الأعمال، فالطهارة بذلك أولى.

مسألة: سنية غسل الكفين

إذا ثبت هذا: فإنها مستحبة وغير واجبة، وهو قول ربيعة، ومالك، وأبي حنيفة. وقال إسحاق بن راهويه: هي واجبة في الطهارة، إن تركها عامدًا.. لم تصح طهارته، وإن تركها ناسيًا.. صحت وهي إحدى الروايتين عن أحمد. وقال داود، وأهل الظاهر: (هي واجبة وشرط في الطهارة، فإن تركها عامدًا أو ناسيًا.. لم تصح طهارته) . دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ وذكر اسم الله تعالى عليه.. كان طهورًا لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه.. كان طهورًا لما مر عليه الماء» . فصحح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطهارتين: وإنما جعل الطهارة التي ذكر اسم الله عليها.. طهارة لجميع بدنه من الذنوب والتي لم يذكر اسم الله عليها.. طهارة لما مر عليه الماء من الذنوب؛ لأن رفع الحدث لا يتبعض. فإن نسي التسمية في أول الطهارة.. أتى بها متى ذكرها قبل الفراغ، حتى لا يخلو الوضوء من اسم الله تعالى. [مسألة: سنية غسل الكفين] ثم يغسل كفيه ثلاثًا؛ لأن عثمان وعليا وعبد الله بن زيد وصفوا وضوء رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكلهم قالوا: «غسل كفيه ثلاثًا» .

ثم ينظر فإن قام من النوم، أو شك في نجاسة يده.. فالمستحب: ألا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا. وإن لم يقم من النوم، ولم يشك في نجاسة يده.. فهو بالخيار بين أن يغمس يده في الإناء، وبين أن يفرغ الماء من الإناء على يده. وهذا كله مستحب غير واجب عندنا. وقال الحسن: هو واجب؛ لأجل النجاسة، فإن غمس يده في الإناء قبل أن يغسلها.. نجس الماء. وقال داود: (هو واجب تعبدًا، فإن خالف وغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها.. صار الماء مهجورًا، وليس بنجس) . وقال أحمد: (إن قام من نوم النهار.. فهو مستحب، وإن قام من نوم الليل.. فهو واجب) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . فمن قال: يجب غسل اليدين قبل الوجه.. فقد خالف ظاهر القرآن. وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه.. فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده منه. وروي: أين طافت منه» . وإنما قال: «أين باتت يده منه» ؛ لأن القوم كانوا يستنجون بالحجارة، وكانت بلادهم حارة، فإذا ناموا.. لم يأمنوا أن تطوف أيديهم على الآثار التي لم تقلعها الحجارة، وفي هذا الخبر فوائد: منها: أن اليد تغسل ثلاثًا قبل الطهارة. الثانية: أن ذلك مستحب؛ لأنه قال: «أين باتت يده منه» فتبين أنه احتياط للنجاسة.

مسألة: استحباب المضمضة والاستنشاق

الثالثة: أن النجاسة إذا وردت على ماء قليل نجسته. الرابعة: أن الماء القليل، إذا ورد على النجاسة.. أزالها؛ لأنه حكم بطهارة اليد بإيراد بعض ماء الإناء عليها. [مسألة: استحباب المضمضة والاستنشاق] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ثم يغرف بيده اليمنى غرفة لفيه وأنفه) . وإنما قال: (بيمينه) ؛ لأن اليمين مما يرجى أن يؤخذ بها الكتاب يوم القيامة، فقدمت في أعمال البر. و (الغرفة) - بضم الغين - اسم للماء الذي يكون بكفه، وبفتح الغين: مصدر غرف، يغرف، غرفة. وجملة ذلك: أن المضمضة والاستنشاق.. مشروعان في الطهارة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما منكم من أحد يقرب وضوءه، ثم يتمضمض، ثم يستنشق، ثم يستنثر.. إلا خرجت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء» . قال الشافعي: (والمضمضة: أن يأخذ الماء في فمه، ويديره فيه، ثم يمجه، فإن مجه ولم يدره في الفم.. لم يعتد به) ؛ لأن القصد قطع الرائحة من الفم، وإزالة تغيره، وهذا لا يوجد من غير إدارة. هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في " التعليق ". و (الاستنشاق) : أن يجعل الماء في أنفه، ويجذبه بنفسه إلى خياشيمه، ويستنثره. والمستحب: أن يبالغ فيهما إلا أن يكون صائمًا.. فيرفق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» .

وهل يسن الجمع بينهما، أو الفصل؟ فيه قولان: [أحدهما] : روى المزني: (أنه يجمع بينهما) وقد نص عليه في " الأم " [1/21] ؛ لما روي: أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فتمضمض مع الاستنشاق بماء واحد» . و [الثاني] : قال في " البويطي ": (يفصل بينهما) قال المحاملي: وهو الأصح؛ لما روى طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفصل بين المضمضة والاستنشاق» ؛ ولأنه أبلغ في النظافة، وأشبه بأعضاء الطهارة، فكان أولى. واختلف أصحابنا في كيفية الجمع، والفصل: فقال الشيخ أبو حامد: (الجمع) : هو أن يغرف غرفة واحدة، فيتمضمض ويستنشق منها ثلاثًا، يجمع في كل مرة بينهما. وأما (الفصل) : فيغرف غرفة، فيتمضمض منها ثلاثًا، ثم يأخذ غرفة ثانية، فيستنشق منها ثلاثًا. قال القاضي أبو حامد المروروذي، وأبو يعقوب الأبيوردي: (الجمع) هو: أن يأخذ غرفة فيتمضمض منها ويستنشق، ثم يأخذ غرفة ثانية يفعل بها كذلك، ثم يأخذ غرفة ثالثة يفعل بها كذلك. و (الفصل) : أن يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة، وثلاث غرفات للاستنشاق.

وما قاله الشيخ أبو حامد أشبه بكلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه قال في الجمع: (يغرف غرفة لفيه وأنفه) ، وهذا لا يوجد إلا على ما قاله الشيخ أبو حامد، إلا أن ما ذكره القاضي أبو حامد أمكن وأثبت. إذا ثبت هذا: فإن المضمضة والاستنشاق.. سنة في الوضوء وغسل الجنابة، وهو قول مالك. وقال ابن أبي ليلى، وإسحاق: هما واجبان في الوضوء، والغسل. وقال أحمد، وداود: (الاستنشاق واجب فيهما دون المضمضة) . وقال الثوري، وأبو حنيفة: (هما واجبان في الغسل، سنتان في الوضوء) . دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، والمضمضة، والاستنشاق، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء» . فجعل المضمضة والاستنشاق مع هذه المسنونات، فدل على أن حكم الجميع واحد، وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للأعرابي: «توضأ كما أمرك الله» . وليس فيما أمره الله: المضمضة والاستنشاق. وعلى أبي حنيفة -: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم سلمة: «إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضي عليك الماء» . ولأنه عضو باطن دونه حائل معتاد، فلم يجب غسله كالعين.

مسألة: فرضية غسل الوجه

[مسألة: فرضية غسل الوجه] ثم يغسل وجهه، وهو واجب؛ لنص الكتاب، والسنة والإجماع. وكيف يأخذ الماء؟: روى المزني، عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه يغرف الماء بيده) . وقال الصيمري في " الإيضاح ": يأخذ الماء بكفيه؛ اتباعًا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنه لا يتمكن من غسل وجهه إلا هكذا. قال: ويبدأ بأعلاه؛ اتباعًا للسنة، ولأنه أشرف، فبدأ به. إذا ثبت هذا: فإن المزني قال: حد الوجه: من منابت شعر الرأس إلى أصول أذنيه ومنتهى اللحية، إلى ما أقبل من وجهه وذقنه. وذكر الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الأم " [1/21] حد الوجه، فقال: (حده: من دون منابت شعر الرأس إلى أصول الأذنين إلى الذقن. وهو مجتمع اللحيين) . قال الشيخ أبو حامد: وهذا هو الحد الصحيح، وما ذكره المزني فاسد من وجوه: أحدها: أنه قال: (من منابت شعر الرأس) . والوجه: إنما هو ما دون منابت شعر الرأس. والثاني: أنه قال: (إلى منتهى اللحية) ، فإن أراد منتهى النبات.. فمنتهاه تحت الحلق، وليس ذلك من الوجه. وإن أراد منتهى النبات طولا.. فعلى أحد القولين: لا يجب غسله، وعلى الثاني: يجب، وليس من الوجه، وإنما هو في حكمه. والثالث أنه قال: (إلى ما أقبل من وجهه وذقنه) . فحد الوجه بالوجه، وإنما يحد الشيء بغيره. والاعتبار بالمنابت المعتادة، لا بمن تصلع الشعر عن ناصيته، ولا بمن نزل الشعر

إلى جبهته. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وذكر المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 17] : إذا نبت الشعر على بعض جبهته كالأغم.. فمن أين يجب الغسل؟ فيه وجهان: أحدهما: من المنبت، وهو الأصح. والثاني: من منحدر الرأس. وأما تفصيل الوجه: فـ (الجبهة) من الوجه، وهي: موضع السجود، قال الله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] [الفتح: 29] . و (الجبينان) من الوجه، وهما: العظمان المشرفان على الجبهة. و (النزعتان) من الرأس، وهما، البياض الذي انحسر عنه شعر الرأس من جانبي مقدم الرأس، يقال: نزع الرجل، فهو أنزع، وتسمى أيضًا: الجلحة، يقال: رجل أجلح. و (الناصية) : من الرأس. و (الصدغان) من الرأس، وهو: الشعر الذي يتجاوز موضع الأذن، المتصل بشعر الرأس. و (العذاران) : من الوجه، وهو: الشعر الخفيف المقابل للأذن. و (البياض الذي بين العذار والأذن) : من الوجه. وقال مالك: (هو من الرأس) . و (العارضان) من الوجه، وهو: الشعر الكثيف تحن العذار. وفي موضع (التحذيف) ، وهو: الشعر الذي بين ابتداء العذار والنزعة، وهو الداخل إلى الجبين من جانبي الوجه.. وجهان:

فرع: غسل اللحية والعارض

[أحدهما] : قال أبو العباس: هو من الوجه؛ لأن العادة تحذيفه، فقد جعلوه وجهًا. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: هو من الرأس وهو الصحيح؛ لأنه متصل بشعر الرأس؛ ولأن الله تعالى خلقه رأسًا، فلا يصير وجهًا بفعل الناس له. [فرع: غسل اللحية والعارض] إذا كان لا شعر على لحيته أو عارضيه، بأن كان أمرد، أو (أثط) : وهو الذي لم تخلق له لحية.. فإنه يجب عليه غسل جميع الوجه الذي تقدم حده؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . وهذه المواضع تقع بها المواجهة. وإن كان قد نبتت على لحيته وعارضيه شعر، فإن كان الشعر خفيفًا.. وجب تخليل الشعر، وإيصال الماء إلى البشرة؛ لأن الواجهة تقع بذلك. وإن كان شعر لحيته وعارضيه كثيفًا.. فالمستحب له: أن يخلل الشعر، ويوصل الماء إلى البشرة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخلل لحيته» . ولا يجب عليه التخليل. وقال المزني: وأبو ثور: (يجب عليه التخليل، وإيصال الماء إلى البشرة) . دليلنا: ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ، فغرف غرفة، فغسل به وجهه» . ومعلوم أنه بغرفة واحدة لا يصل الماء إلى باطن الشعر من

فرع: غسل شعور الوجه

اللحية مع كثافته، وقد «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثيف شعر اللحية» ، رواه علي بن أبى طالب في وصف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإن كان بعض لحيته خفيفًا، وبعضها كثيفًا.. وجب عليه إيصال الماء إلى ما تحت الخفيف، ولا يجبُ إلى ما تحت الكثيف اعتبارًا بكل واحد منهما. واختلف أصحابنا في حد الكثيف: فمنهم من قال (الكثيف) : هو الشعر الذي لا يصل الماء إلى باطنه إلا بمشقة. ومنهم من قال: (الكثيف) : هو الشعر الذي يستر بشرة اللحية أن ترى، وهذا هو المشهور. [فرع: غسل شعور الوجه] قال الشيخ أبو حامد: فإن نبت له شعر تحت محاجر عينيه.. وجب عليه: إيصال الماء إلى بشرته؛ لأنه نادر، وكذا إن نبت للمرأة لحية.. وجب: إيصال الماء إلى بشرتها وإن كان الشعر كثيفًا؛ لأنه نادر. ويجب إيصال الماء إلى باطن الأهداب، والحاجبين، والعذارين، والشارب، وإن كان شعرها كثيفًا. واختلف أصحابنا في علته: فمنهم من قال: لأن الشعر يخف في هذه الموضوع في الغالب، فإذا كثف.. كان نادرًا، فيلحق بالغالب. وهذا هو الصحيح. ومنهم من قال: يجب؛ لإحاطة بياض الوجه بهذه الشعور. وأما (العنفقة) : وهو الشعر الذي على الشفة السفلى إلى اللحية، فإن كانت منفرجة عن اللحية.. وجب إيصال الماء إلى بشرتها وإن كانت كثيفة، كما قلنا في هذه الشعور.

فرع: استرسال اللحية

وإن كانت العنفقة متصلة بشعر اللحية، فإن قلنا: العلة في تلك الشعور أنها خفيفة في الغالب.. وجب هاهنا أيضًا؛ لهذه العلة. وإن قلنا: إن العلة هناك إحاطة بياض الوجه بهن.. لم يجب إيصال الماء إلى باطنها؛ لفقد هذه العلة. قال الصيدلاني: ولو خرجت سباله عن حد الوجه.. فالمذهب: أنه يجب غسلها، وكذلك لو كان بوجهه سلعة وخرجت عن حد الوجه.. وجب غسلها. [فرع: استرسال اللحية] وإن نبتت له لحيه واسترسلت، ونزلت عن حد الوجه.. وجب غسل ظاهر الشعر الذي لم ينزل عن الوجه. وفيما نزل عن حد الوجه طولًا وعرضًا.. قولان: أحدهما: لا يجب إفاضة الماء على ظاهره؛ لأنه شعر لا يلاقي محل الفرض، فلم يكن محلا للفرض، كطرف شعر الذؤابة. والثاني: يجب؛ لأنه شعر ظاهر نابت على بشرة الوجه، فأشبه شعر الحاجب. [فرع: غسل داخل العينين] فرع: [لا يجب غسل داخل العينين] : وأما إدخال الماء في العينين: فلا يجب؛ لأنه لم ينقل ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولًا، ولا فعلًا. قال الشيخ أبو حامد: وهو هيئة في الوضوء، وليس بسنة؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (إنما ذكرت المضمضة والاستنشاق دون غسل العين؛ للسنة، ولأنهما يتغيران، فيزيل الماء تغيرهما، والعين لا تتغير) .

مسألة: فرضية غسل اليدين

ومن أصحابنا من قال: يستحب ذلك؛ لما روي: أن ابن عمر كان يغسل عينيه حتى عمي. والأول أصح. قال ابن الصباغ: إلا أنه يستحب أن يمسح (مآقي العينين) ، وهو: مخصرهما؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمسح المأقين» ، واحدهما: مأق، ويسمى: المؤق أيضًا، ولأنه قد يجتمع فيهما كحل أو رمص، فيزيل ذلك، ويصل الماء إليه. [مسألة: فرضية غسل اليدين] ثم يغسل يديه، وهو واجب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . وروي: «أن النبي لما توضأ.. غسل يديه» ، وقال لأعرابي: «توضأ كما أمرك الله» . وأجمعت الأمة على وجوب غسلهما. ويستحب أن يبدأ بيده اليمنى، ثم باليسرى؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا توضأتم.. فابدؤوا بميامنكم» .

فإن بدأ باليسرى قبل اليمنى.. أجزاه، وبه قال عامة أهل العلم. وقال الفقهاء السبعة: لا يجزئه. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . ولم يفرق. قال الصيمري: فإن كان هو الغاسل.. أخذ الماء بكفه، ثم أحدره إلى مرفقه مجريًا له بكفه، وكذلك يفعل باليسرى. وإن كان غيره يصب الماء عليه.. أمره بالصب من مرفقه إلى أطراف أصابعه، ويكون مجلس الصاب عن يساره. ويجب إدخال المرفقين في الغسل، وهو قول كافة العلماء. وقال زفر، وأبو بكر بن داود: هما حدان، فلا يجب إدخالهما في الغسل. دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا توضأ.. أمر الماء على مرفقيه» . وهذا منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج مخرج البيان؛ لما ورد به القرآن مجملًا. قال المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 18] : وفي (المرفق) قولان: أحدهما: أنه مجتمع العظمين: عظم الساعد، وعظم العضد. والثاني: أنه عظم الساعد، وإنما يغسل عظم العضد تبعًا. ومن أصحابنا من قال: المرفق: مجتمع العظمين قولًا واحدًا. وفي المرفق لغتان: [يقال] : مرفق، بكسر الميم وفتح الفاء. ويقال مرفق، بفتح الميم وكسر الفاء.

فرع: ما طال من الأظفار

[فرع: ما طال من الأظفار] وإن كانت له أظفار قد طالت، وخرجت عن حد اليد.. فهل يجب غسل ما خرج منها من حد اليد؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان، كاللحية المسترسلة. ومنهم من قال: يجب غسل ذلك قولًا واحدًا؛ لأن ذلك نادر، بخلاف اللحية. [فرع: غسل العضو الزائد] ] : إذا كانت له أصبع زائدة، أو كف زائد في كفة أو ذراعه.. وجب غسلهما؛ لأنهما في محال الفرض. وإن كانت له يد زائدة، فإن كان أصلها في محال الفرض.. وجب غسلها مع اليد؛ لأنها في محل الفرض.. وإن كان أصلها في منكبه أو عضده، فإن كانت قصيرة لم تحاذ شيئًا من محال الفرض.. لم يجب غسلها. وإن كان فيها شيء قد حاذى محل الفرض.. فهل يجب غسل ما حاذى منها محل الفرض مع اليد؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما - وهو المشهور -: أنه يجب؛ لأنه يقع عليها اسم اليد. والثاني: لا يجب؛ لأن أصلها في غير محل الفرض، وهي تابعة له. وما قاله الأول من: أنه يقع عليها اسم اليد؛ يبطل بها إذا كانت قصيرة لم تحاذ من محال الفرض، فإنه يقع عليها اسم اليد، ومع هذا فلا يجب غسلها. وإن كان لها يدان متساويان على منكب أو مرفق.. وجب غسلهما؛ لوقوع اسم اليد عليهما.

فرع: الجلد المنكشط

[فرع: الجلد المنكشط] وإن انكشطت منه جلدة، وتدلت من محل الفرض في اليد.. وجب غسلها مع اليد، سواء انكشطت من محل الفرض وتدلت منه، أو انكشطت من العضد، وبلغت إلى المرفق أو الساعد فتدلت منه؛ لأنها صارت تابعة لما نزلت منه. وإن تدلت من العضد.. لم يجب غسلها، سواء انكشطت من العضد وتدلت منه، أو انكشطت من محل الفرض وبلغت إلى العضد؛ لأنها صارت تابعة للعضد. وهكذا إن انكشطت من الساعد أو العضد، والتزقت بالآخر.. وجب غسل ما حاذى منها محل الفرض، ولا يجب غسل ما علا العضد؛ لأن ما علا محل الفرض تابع له، فوجب غسله، وما علا العضد تابع له، فلم يجب غسله. وإن سقط طرفها من أحدهما والتحم بالأخرى، وبقي ما تحتها متجافيا.. وجب غسل ما تحتها متجافيا من محل الفرض، ووجب غسل ما حاذى محل الفرض من الجلدة وإن كان متجافيا؛ لأنه تابع له. [فرع: العضو المبان بعضه] وإن كان أقطع اليد، فإن كان مقطوعًا من دون المرفق.. وجب غسل ما بقي من الساعد مع المرفق. وإن كان مقطوعًا من فوق المرفق.. فلا فرض عليه، ويستحب له أن يمس ما بقي.. من العضد ماء حتى لا يخلو العضو من الطهارة. وإن كان مقطوعًا من المرفقين.. فنقل المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا فرض عليه) ، ونقل الربيع: (أنه يجب عليه غسل ما بقي من المرفقين) . واختلف أصحابنا في ذلك: فقال أكثر البغداديين من أصحابنا: غلط المزني في نقله، وأجاب في هذه المسألة بجواب المسألة قبلها.

فرع: شرعية استعانة الأقطع

ومنهم من قال: بل ما نقله المزني صحيح أيضًا، وأراد بقوله: (من المرفقين) ، أي: مع المرفقين. وقال الخراسانيون: في المسألة قولان، واختلفوا في أصل القولين: فمنهم من قال: أصلهما القولان في المرفق: أحدهما: أنه مجتمع العظمين: عظم الساعد، وعظم العضد، وهو المشهور. فعلى هذا: يجب عليه غسل عظم العضد. والثاني: أن المرفق عظم الساعد. فعلى هذا: لا يجب غسل عظم العضد. ومنهم من قال: المرفق: هو مجتمع العظمين، وإنما هل يغسل عظم العضد تبعًا، أو قصدًا؟ وفيه قولان: فإن قلنا: يجب غسله قصدًا.. وجب غسله هاهنا. وإن قلنا: يجب غسله تبعًا.. لم يجب غسله هاهنا. وكل موضع قلنا: لا يجب غسله.. استحب له أن يمسه ماء؛ حتى لا يخلوا العضو من الطهارة. [فرع: شرعية استعانة الأقطع] فإن وجد الأقطع من يوضئه بأجرة المثل، وهو قادر عليها.. لزمه ذلك، كما يلزمه شراء الماء بثمن المثل. وإن بذل له غيره توضيئه بغير أجرة.. قال الصيدلاني: لزمه ذلك؛ لأن عليه التسبب إلى أداء الصلاة. وإن لم يجد من يوضئه بأجرة، ولا بغير أجرة.. صلى على حسب حاله، وأعاد إذا قدر، كما لو لم يجد ماء ولا ترابًا. وإن كان معسرًا بالأجرة.. صلى على حسب حاله وأعاد؛ لأنه نادر. وإن توضأ، ثم قطعت يده.. لم يلزمه غسل ما ظهر عن الحدث. وكذلك لو مسح رأسه، ثم حلقه.. لم يلزمه مسح ما ظهر.

فرع: سنية تحريك الخاتم

وقال محمد بن جرير الطبري: يبطل مسح الرأس، كما يبطل مسح الخف. دليلنا: أن الطهارة لم تتعلق بموضوع القطع، وإنما كانت متعلقة بما ظهر من اليد، وقد غسله؛ ولأن ما ظهر ليس ببدل عما تحته، فهو كما لو غسل يده، ثم كشط جلدها. فإن أحدث بعد ذلك.. لزمه غسل ما ظهر بالقطع. وكذلك إن حصل في بعض أعضاء الطهارة ثقب.. لزمه غسل باطنه؛ لأنه صار ظاهرًا. [فرع: سنية تحريك الخاتم] ] : قال ابن الصباغ: وإذا كان في إصبعه خاتم.. فيستحب أن يحركه مع علمه بوصول الماء إلى ما تحته، إلا أن يكون الخاتم واسعًا، فلا يحتاج إلى التحريك؛ لما روى أبو رافع: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا توضأ.. حرك خاتمه في أصبعه» . [مسألة: فرضية مسح الرأس] ثم يمسح رأسه، وهو واجب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . ولأن كل من وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: [مسح رأسه] . وأجمعت الأمة على وجوبه. ثم الكلام فيه في ثلاثة فصول: في قدر الواجب، والمستحب، والتكرار. فأما قدر الواجب منه.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: الواجب مسح ثلاث شعرات، كما قلنا في الحلق في التحلل من الإحرام. والمذهب: أنه لا يتقدر، بل لو مسح ما يقع عليه اسم المسح ولو بعض شعره..

أجزأه؛ لأن الله تعالى أمر بالمسح، وأقله ما يقع عليه الاسم. هذا مذهبنا. وقال مالك، والمزني، وأحمد - في إحدى الروايتين -: (يجب مسح جميعه) . وقال محمد بن مسلمه: إن ترك الثلث.. جاز. وهي الرواية الثانية عن أحمد. وقال بعض أصحاب مالك: إن ترك اليسير منه ناسيًا.. جاز. وعن أبى حنيفة ثلاث روايات: إحداهن: (الواجب مسح قدر ربعه) . والثانية: (الواجب مسح قدر الناصية) . والثالثة: (الواجب مسح قدر ثلاث أصابع بثلاث أصابع) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . والباء: للتبعيض. وروى المغيرة بن شعبة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح بناصيته، وعلى عمامته» . وهذا يبطل قول من أوجب مسح الكل، ويبطل التقدير الذي قدره أبو حنيفة بالربع، فإن الناصية ما بين النزعتين، وهو ما دون الربع. أما المستحب: فهو أن يمسح جميعه، ويجعل الماء في كفيه، ثم يرسله، ثم يضع إبهاميه على صدغيه، وسبابتيه على مقدم رأسه، ثم يذهب بيده إلى قفاه، ثم

فرع: ما يقوم بدل المسح

يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه؛ لما روي: (أن عبد الله بن زيد وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوصف: أنه مسح رأسه كما ذكرنا) ؛ ولأن منابت الشعر مختلفة، ففي ذهابه يقع المسح على باطن شعر مقدم رأسه وعلى ظاهر مؤخره، وفي رد يديه يقع على باطن مؤخره وظاهر مقدمه. [فرع: ما يقوم بدل المسح] وإن وضع إصبعه على رأسه ولم يمرها عليه، أو قطر على رأسه ماء، أو غسل رأسه مكان المسح.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه، وهو اختيار القفال؛ لأنه لم يمسح. والثاني: يجزئه، وهو الأصح؛ لأنه قد حصل فيه المسح وزيادة في الغسل. [فرع مسح المحلوق والأصلع] فإن كان محلوقا أو أصلع، فمسح على البشرة.. أجزأه؛ لأنه مسح على ما يقع عليه اسم الرأس. وإن كان له شعر قد نزل عن حد الرأس، فمسح على ما نزل عن حد الرأس منه.. لم يجزئه؛ لأنه لا يقع عليه اسم الرأس. وإن رد الشعر النازل عن حد الرأس إلى وسط الرأس، ومسح عليه هناك.. لم يجزئه أيضًا؛ لأنه كالعمامة. وإن كان له شعر قد زايل منبته، إلا أنه لم ينزل عن حد الرأس، فمسح على ما زايل منبته.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه مسح على شعر في غير منبته، فهو كما لو مسح على الشعر النازل عن حد الرأس.

فرع: المسح على العمامة

والثاني: يجزئه، وهو المذهب؛ لأنه مسح على ما يقع عليه اسم الرأس، فهو كما لو مسح على رؤوس الشعر الذي لم يزايل منبته. فإذا قلنا بهذا، ولم يمسح على الشعر، بل مسح على البشرة التي تحت هذا الشعر.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يجزئه؛ لأنه لم يمسح على ما برأس. قال ابن الصباغ: وإنما هذا يتصور أن يمسح أصول الشعر دون أعلاه، وإلا فمتى كان تحت الشعر بشرة لا شعر عليها، وإنما عليها شعر غيرها.. جاز المسح عليها، كما لو كانت مكشوفة. و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يجزئه؛ لأنه محل للمسح، بدليل أنه لو لم يكن عليه شعر، فمسح عليه.. أجزأه. وإن كان بعض رأسه محلوقًا، أو أصلع وعلى بعضه شعر لم ينزل عن منبته، فإن مسح على المحلوق أو الأصلع.. أجزأه، وإن مسح على الشعر الذي لم ينزل عن منبته.. أجزأه؛ لأن كل واحد منهما محل للمسح، فيخير بينهما. [فرع: المسح على العمامة] فرع: [ندب المسح على العمامة] : فإن كان على رأسه عمامة، ولم يرد نزعها.. فالمستحب: أن يمسح بناصيته، ويتم المسح على العمامة؛ لما روى المغيرة بن شعبة: (أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح بناصيته، وعلى عمامته» . فإن اقتصر على مسح العمامة.. لم يجزئه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة. وقال الثوري، والأوزاعي، وأحمد، وداود: (يجوز) ، إلا أن أحمد والأوزاعي قالا: (إنما يجوز إذا لبسها على طهارة، كالخف) . وقال بعض أصحاب أحمد: إنما يجوز إذا كانت تحت الحنك.

فرع: استحباب تكرار مسح الرأس

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . والعمامة لا يقع عليها اسم الرأس؛ ولأنه عضو لا يلحقه المشقة في إيصال الماء إليه.. فلم يجز المسح على حائل منفصل عنه، كالوجه واليد. فقولنا: (لا يلحقه المشقة في إيصال الماء إليه) احتراز من الخف والجبيرة. وقولنا: (على حائل منفصل عنه) احتراز من مسح الشعر النابت على الرأس. [فرع: استحباب تكرار مسح الرأس] وأما تكرار مسح الرأس: فاختلف الناس فيه على ثلاثة مذاهب: فـ[الأول] : ذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إلى أن السنة: أن يمسحه ثلاثًا، كل مرة بماء جديد) . وروى ذلك عن أنس، وهو قول عطاء. و [الثاني] : قال الحسن، ومجاهد، ومالك، وأبو حنيفة، والثوري، وأحمد وأبو ثور: (السنة: أن يمسحه مرة واحدة) . وهو اختيار الشيخ أبي نصر البندنيجي صاحب " المعتمد ". و [الثالث] : قال ابن سيرين: يمسحه مرتين، مرة فرضًا، ومرة سنة. دليلنا: ما روى أبي بن كعب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: توضأ مرة مرة، وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به"، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: "من توضأ مرتين مرتين.. آتاه الله أجره مرتين"، ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: "هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء من قبلي، ووضوء خليلي إبراهيم» . ولم يفرق بين الرأس وغيره؛ ولأنه أحد أعضاء الطهارة، فسن فيه التكرار، كسائر الأعضاء.

مسألة: سنية مسح الأذنين

[مسألة: سنية مسح الأذنين] ] : ثم يمسح أذنيه ظاهرهما، وباطنهما. قال الصيمري: وظاهرهما: مما يلي الرأس، وباطنهما: مما يلي الوجه ليس الصماخين؛ لما روى المقدام بن معدي كرب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ، فمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما، وأدخل أصبعيه في صماخي أذنيه» قال صاحب " الفروع ": ويدخل أصبعيه في صماخي أذنيه، ويمر اليد مع تلك البلة على عنقه، وقد قيل: يعود إلى الصماخين بماء. وقد اختلف الناس في الأذنين، على خمسة مذاهب: فـ[الأول] : ذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: (أنهما ليستا من الوجه فلا يغسلان معه، ولا من الرأس فلا يمسحان معه، وإنما هما عضوان منفردان، فيأخذ لهما ماء جديدا غير الذي مسح به الرأس) . وروي ذلك عن ابن عمر، والحسن، وعطاء. و [الثاني] : ذهب مالك، وأحمد: (إلى أنهما من الرأس، إلا أنه يأخذ لهما ماء غير الماء الذي مسح به الرأس) . فوافقانا في الحكم دون الاسم. و [الثالث] : ذهب أبو حنيفة، وأصحابه: (إلى أنهما من الرأس ... فيمسحان بالماء الذي مسح به الرأس) . فخالفونا في الاسم والحكم.

مسألة: فرضية غسل الرجلين

و [الرابع] : قال الزهري: هما من الوجه، فيجب غسلهما مع الوجه. وحكى الشاشي: أن أبا العباس بن سريج كان يغسل أذنيه مع الوجه، ويمسحهما مع الرأس احتياطًا. وهذا ليس بمشهور عنه. و [الخامس] : قال الشعبي، والحسن بن صالح، وإسحاق: ما أقبل منهما من الوجه فيغسل مع الوجه، وما أدبر منهما مع الرأس فيمسح معه. دليلنا: ما روى عبد الله بن زيد بن عاصم ـ وليس بصاحب الأذان ـ من " التعليقة " لعطاء: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: توضأ، فمسح أذنيه بماء غير الماء الذي مسح به رأسه» ؛ ولأن كل ما لم يجز مسحه عن مسح الرأس، انفرد بحكمه، كالجبهة. ومسحهما: سنة غير واجب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «توضأ كما أمرك الله» . ولم يأمر الله بمسحهما. [مسألة: فرضية غسل الرجلين] ] : ثم يغسل رجليه ـ وهو واجب ـ في قول أكثر العلماء. وقالت الإمامية ـ من الرافضة ـ: يجب مسحهما، ولا يجزئ غسلهما. وقال ابن جرير الطبري: هو مخير بين أن يغسلهما، وبين أن يمسحهما. وقال بعض أهل الظاهر: يجب عليه أن يجمع بين غسلهما ومسحهما. دليلنا قولة تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] بنصب قوله: (وأرجلكم) ، فتكون عطفًا على الغسل.

وقراءة من قرأ بخفض (وأرجلكم) ، فإنما هو جر بالجوار، لا بحكم العطف. [كما] قال الشاعر: فظل طهاة اللحم من بين منضجٍ ... صفيف شواءٍ أو قديرٍ معجل فجر: أو (قديرٍ) بالجوار مع واو العطف. وتقول العرب: (هذا جحر ضب خربٍ) .

فرع: الكعبان من الرجلين

ولأن كل من وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: غسل رجليه، ولم يذكر أحد منهم: أنه مسحهما. وقال جابر: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا توضأنا أن نغسل أرجلنا» . قال الصيمري: فإن كان هو الغاسل بنفسه، بدأ بصب الماء من أطراف أصابعه إلى كعبيه. وإن كان غيره هو الغاسل له، صب الماء من كعبيه إلى أطراف أصابعه. [فرع: الكعبان من الرجلين] ] : ويجب إدخال الكعبين في الغسل. وقال زفر بن الهذيل، وأبو بكر بن داود: هما حدان، فلا يجب إدخالهما في الغسل. دليلنا قولة تعالى {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . قال أهل التفسير: مع الكعبين. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ويل للأعقاب من النار» يعني: التي لم يصبها الماء. و (الكعبان) : هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم. وقال محمد بن الحسن، وبعض أصحاب الحديث: الكعبان: هما العظمان الناتئان في ظهر القدم موضع الشراك.

فرع: وجوب تخليل الأصابع الملتوية

دليلنا: قولة تعالى {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] ، ولم يرد به حد جميعهما؛ لأنه لو أراد ذلك لقال: إلى الكعاب، كما قال تعالى {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . فدل على: أنه أراد حد الرجل الواحدة، وليس للرجل الواحدة كعبان إلا على ما قلنا، وعلى قولهم لا يكون لها إلا كعب واحد. وروى النعمان بن بشير قال: «أقبل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوجهه، وقال: " أقيموا صفوفكم ". فلقد رأيت الرجل منا يلصق كعبه بكعب صاحبه، ومنكبه بمنكبه» . وهذا لا يكون إلا على ما قلناه. [فرع: وجوب تخليل الأصابع الملتوية] ] : فإن كانت أصابعه ملتفة لا يصل الماء إلى باطنها إلا بالتخليل ... وجب عليه إيصال الماء إلى باطنها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خللوا بين أصابعكم، لا يخلل الله بينها النار» . وإن كانت منفرجة يصل الماء إليها من غير تخليل.. استحب له التخليل بينها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيط بن صبره: «وخلل بين الأصابع» . وكيفية استحباب التخليل: أن يبدأ بخنصر رجله اليمنى، ويختمها بإبهامها، ويبدأ بإبهام رجله اليسرى، ويختمها بخنصرها، ويكون ذلك من أسفل الرجل في باطن القدم.

مسألة: تكرار الغسل في الوضوء

وإن خلقت أصابعه مرتتقة، فلا يجب عليه أن يفتقها. ويستحب له أن يغسل فوق المرفقين، وفوق الكعبين؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تأتي أمتي يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» . [مسألة: تكرار الغسل في الوضوء] مسألة: [تكرار الغسل] : والواجب في الوضوء الغسل والمسح مرة مرة، والمرتان فضيلة، والثلاث سنة، والزيادة على ذلك مكروهة. وقال بعض الناس: الثلاث واجبة. وقال مالك: (السنة: مرة مرة) . دليلنا: ما روى أبي بن كعب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ مرة مرة، وقال: " هذا وضوء، لا يقبل الله الصلاة إلا به " ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: " من توضأ مرتين.. آتاه الله أجره مرتين "، ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء قبلي، ووضوء خليلي إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.» ففي الخبر دليل على الفريقين. وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: " هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم» .

مسألة: وجوب الترتيب في الوضوء

فمعنى قوله: (فقد أساء) : لمخالفته السنة إذا نقص عن الثلاث. ومعنى قوله: (ظلم) : إذا زاد عليها، يعني جاوز الحد؛ لأن الظلم: مجاوزة الحد، وهي إساءة وظلم لا تقتضي العصيان والإثم. [مسألة: وجوب الترتيب في الوضوء] ] : ويجب الترتيب في الوضوء مع الذكر، وهو: أن يبدأ بغسل وجهه، ثم بيديه، ثم يمسح رأسه، ثم يغسل رجليه، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبي ثور. فإن نسي الترتيب فهل يجزئه؟ فيه قولان، كما لو نسي الفاتحة حتى ركع، الصحيح: لا يجزئه. وذهبت طائفة إلى: أن الترتيب ليس بواجب، وروي ذلك عن علي، وابن مسعود. وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، والزهري، والنخعي، ومكحول. والأوزاعي، ومالك، وأبو حنيفة، وداود، والمزني. وهو اختيار الشيخ أبي نصر في " المعتمد ". دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] قلنا: من هذه الآية أدلة: منها قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، والفاء: للتعقيب، فمن قال: إنه يبدأ بغسل اليد، فقد خالف ظاهر القرآن. والثاني: أن الله تعالى، بدأ بالوجه، ثم باليد بعده، والرأس أقرب إلى الوجه، فلو جازت البداية بالرأس لذكره بعد الوجه؛ لأنه أقرب إليه. والثالث: أنه أدخل مسح الرأس بين غسل اليدين، وغسل الرجلين، وقطع النظير عن نظيره، فدل على: أنه قصد إيجاب الترتيب.

مسألة: استحباب الولاء

وروى أبي بن كعب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: توضأ مرتبًا مرة مرة، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به.» ولأنها عبادة تشتمل على أفعال متغايرة في أصل وضعها، يرتبط بعضها ببعض، فوجب فيها الترتيب، كالصلاة والحج. فقولنا: (تشتمل على أفعال) احتراز من الخطبة، فإنها تشتمل على أقوال متغايرة، ولا يجب فيها الترتيب. وقولنا: (متغايرة) ـ يعني: نفلا وفرضًا، ومغسولا وممسوحًا ـ احتراز من غسل الجنابة والنجاسة، والعضو الواحد في الوضوء. وقولنا: (في أصل وضعها) احتراز ممن وضع الجبيرة على بعض العضو، فإنه لا يجب عليه الترتيب بين المسح على الجبيرة، وغسل الصحيح من العضو؛ لأن المسح لم يجب في أصل وضع الطهارة على جميع الناس. وقولنا: (يرتبط بعضها ببعضٍ) احتراز من جلد البكر وتغريبه في الزنا؛ فإنه لو تقدم التغريب على الجلد أجزأه. [مسألة: استحباب الولاء] ] : ويوالي بين أعضائه، فإن فرق تفريقًا يسيرًا لم يضر؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه.

وإن فرق تفريقًا كثيرًا فهل تصح طهارته؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا تصح طهارته) . وبه قال عمر؛ لما روى خالد بن معدان، عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا على قدمه لمعة قدر درهم، لم يصبها الماء، فأمره بإعادة الوضوء، والصلاة» . ولأنها عبادة يبطلها الحدث، فأبطلها التفريق الكثير، كالصلاة. أو عبادة يرجع إلى شطرها مع العذر، فكانت الموالاة شرطًا فيها، كالصلاة، وفيها احتراز من تفرقة الزكاة. و [الثاني] : قال في الجديد: (تصح طهارته) . وبه قال ابن عمر، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . فأمر بغسل هذه الأعضاء، والأمر يقتضي إيجاد المأمور به، سواء أوجده متواليًا أو متفرقًا. وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ في السوق، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه فدعي إلى جنازة، فأتى المسجد، فدعا بماء، فمسح على خفيه وصلى عليها» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وبين ذهابه من السوق إلى المسجد تفريق كثير) ؛ ولأنها عبادة لا يبطلها التفريق اليسير، فلم يبطلها التفريق الكثير، كالحج، وتفرقة الزكاة. وفيه احتراز من أفعال الصلاة.

فرع: عدم الموالاة بين الغسل والتيمم

واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان إذا فرق لغير عذر، فأما إذا فرق لعذر، بأن ينقلب الوضوء، فيمضي في طلبه، أو ما أشبه ذلك، فيجوز قولا واحدًا. وهو قول مالك، والليث، وأحمد، واختاره المسعودي [" في الإبانة " ق\19] . ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو نقل البغداديين من أصحابنا. واختلف أصحابنا في حد التفريق الكثير: فذهب أكثرهم إلى: أن حده هو: أن يجف الماء على العضو قبل أن يغسل ما بعده، في زمان معتدل، مع استواء الحال، ولا اعتبار بشدة الحر والريح، فإن الجفاف يسارع فيهما، ولا بشدة البرد، فإن الجفاف يبطئ فيه. ويعتبر: استواء حال المتوضئ، فإنه إذا كان محموما، فإن الجفاف يسارع إليه لأجل الحمى. ومنهم من قال: التفريق الكثير: هو التطاول المتفاحش. [فرع: عدم الموالاة بين الغسل والتيمم] ] : وإن فرق في الغسل والتيمم تفريقًا كثيرًا، فهل يبطل؟ قال ابن الحداد، وابن القاص: لا يبطل قولا واحدًا. وقال أكثر أصحابنا: هو على قولين: كالوضوء، وهو الأصح. فإذا فرق تفريقًا كثيرًا، وقلنا بقوله القديم، لزمه استئناف الطهارة، ولا كلام. وإن قلنا بقوله الجديد، لم يلزمه استئناف الطهارة، ولكن هل يلزمه استئناف النية؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه، لأن النية قد انقطعت بطول الزمان. والثاني: لا يلزمه.

مسألة: ما يقال عقب الوضوء

قال ابن الصباغ: وهو الأظهر، لأن التفريق إذا جاز، لم ينقطع حكم الأول. [مسألة: ما يقال عقب الوضوء] ] : والمستحب: لمن فرغ من الوضوء: أن يستقبل القبلة، ويقول ما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ، فأحسن وضوءه، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله ـ صادقًا من قلبه ـ اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، فتح الله له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أي باب شاء» . ويقول ما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ، ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كتب في رق، وطبع عليها بطابع، فلم يكسر إلى يوم القيامة» أي: ختم بخاتم. قال أبو علي في " الإفصاح ": ويستحب له ألا ينفض يده، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم، فإنها مراوح الشيطان» .

قال ابن الصباغ: وقد روت ميمونة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل، فجعل ينفض يديه» . ولما فرغ الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من ذكر الوضوء، قال: (وذلك أكمل الوضوء إن شاء الله) . فإن قيل: أفتراه كان شاكا فيما ذكر؟ والمشيئة تكون في المستقبل لا في الماضي، لا يقول الرجل: قمت إن شاء الله، وإنما يقول: أقوم إن شاء الله. فعن ذلك جوابات: [الأول] : قيل: أي ذلك أكمل الوضوء بمشيئة الله تعالى، أي: إن شاء الله تعالى أن يكون هذا أكمل الوضوء. و [الثاني] : قيل: هذه الجملة مشتملة على المفروضات والمسنونات، وليس يقطع على الله بصحة جميعها، ولا أنه على يقين من سائرها، فلهذا حسُن أن يقول: إن شاء الله. و [الثالث] : قيل: لأن من الناس من خالفه في أكمل الوضوء، لأن بعضهم يرى أن يجعل شيء من الماء فيما يلي حلقه ومؤخر الرأس، وكان ابن عمر يدخل الماء في عينيه.

مسألة: القول في تنشيف الأعضاء

و [الرابع] : قيل: ليس يعود إلى الأكمل، لكن تقدير الكلام: وذلك أكمل الوضوء الذي من فعله.. حاز الفضل ورجا الثواب من الله إن شاء الله تعالى. و [الخامس] : قيل: معناه المستقبل لا الماضي، أي: الذي وصفته هو الكمال فتوضؤوا كذلك إن شاء الله. [مسألة: القول في تنشيف الأعضاء] ] : وأما تنشيف الأعضاء من بلل الوضوء والغسل: قال أصحابنا البغداديون: فلا خلاف أنه جائز، ولا خلاف أنه ليس بمستحب، ولكن هل يكره؟ اختلف الصحابة فيه على ثلاثة مذاهب: فـ[الأول] : روي عن عثمان، وأنس وبشير بن أبي مسعود، والحسن بن علي، أنهم قالوا: (لا بأس به في الوضوء والغسل) ، وهو قول مالك، والثوري، لما روى قيس بن سعد، قال: «أتانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوضعنا له غسلا فاغتسل، ثم أتيناه بملحفة ورسية، فالتحف بها، فرأيت أثر الورس على عكنه» ، وروي «على كتفه» . و [الثاني] : روي عن عمر: أنه كرهه في الوضوء والغسل، وبه قال ابن أبي ليلى، لما روت ميمونة، قالت: «دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضعت له غسلا فاغتسل، فلما فرغ ناولته المنديل، فلم يأخذه، وجعل ينفض يديه» .

مسألة: واجبات وسنن الطهارة

و [الثالث] : قال ابن عباس: (لا بأس به في الغسل دون الوضوء) . قال أصحابنا: وليس للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه نص، والذي يقتضيه المذهب: أنه لا يحرم فعله، لحديث قيس بن سعد، والأولى أن يتركه، لحديث ميمونة، ولأنه أثر عبادة، فاستحب تركها، كخلوف فم الصائم. وقال المسعودي [في الإبانة: ق\19] : هل يستحب المسح بالخرقة؟ فيه وجهان. [مسألة: واجبات وسنن الطهارة] ] : قال أصحابنا: الطهارة تشتمل على واجبات، ومسنونات، وهيئات. فالواجبات: ما كان شرطًا في الطهارة، وذلك ستة أشياء، لا خلاف فيها على المذهب، وهي: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح بعض الرأس، وغسل الرجلين، والترتيب، وفي السابع ـ وهو الموالاة ـ قولان. وأما المسنونات: فكل ما كان ليس بشرط في الطهارة، ولكنه راتب فيها، وهي أشياء: المضمضة، والاستنشاق، وتخليل اللحية، واستيعاب مسح الرأس، ومسح الأذنين والعنق، والدفعة الثانية والثالثة، والبداية باليمين، وفي التسمية وغسل الكفين قبل إدخالهما في الإناء وجهان: أحدهما: أنهما سُنَّة، والثاني: أنهما هيئة. وأما الهيئات: فرتبتها دون رتبة المسنونات، وذلك كتخليل الأصابع، والمبالغة في المضمضة والاستنشاق، وتطويل الغرة.

مسألة: الشك بعد انتهاء الوضوء

ويدعو عند غسل الوجه، فيقول: اللهم بيض وجهي يوم تسود الوجوه. وعند غسل اليد اليمنى: اللهم أعطني كتابي بيميني. وعند غسل اليد اليسرى: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي، ولا من وراء ظهري، ولا تغلل يدي إلى عنقي. وعند مسح الرأس: اللهم حرم شعري وبشري على النار. وعند مسح الأذنين: اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وعند غسل الرجلين: اللهم ثبت قدمي على الصراط المستقيم. [مسألة: الشك بعد انتهاء الوضوء] ] : إذا فرغ من الطهارة، ثم شك: هل مسح رأسه، أو غسل عضوًا من أعضاء الطهارة؟ ففيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا تأثير لهذا الشك، لأن الشك الطارئ بعد الفراغ من العبادة لا تأثير له، كما لو فرغ من الصلاة، ثم شك: هل ترك رُكنًا منها؟ و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لهذا الشك تأثير، كما لو طرأ عليه الشك في أثناء الطهارة، ولأن الطهارة تقصد للصلاة، ولهذا: ظهور أصلها بعد الفراغ منها،

فرع: الشك في الطهارتين

كظهوره قبل الفراغ منها، وهو الماء، ولأنا لو لم نجعل لهذا الشك تأثيرًا لأدى إلى أن يدخل في الصلاة بطهارة مشكوك فيها. ومن قال بالأول، قال: لا يمتنع ذلك، كما لو توضأ وشك: هل أحدث أم لا؟ فإنه يجوز له الدخول في الصلاة بطهارة مشكوك فيها. [فرع: الشك في الطهارتين] ] : وإن توضأ عن حدث فصلى به الظهر، ثم أحدث وتوضأ، فصلى به العصر، ثم تيقن أنه ترك مسح الرأس، في إحدى الطهارتين، ولا يعلم عينها، وجب عليه إعادة الصلاتين، لأنه تيقن أن إحداهما لم تسقط عنه فلزمه إعادتهما، ليسقط الفرض عنه بيقين. وأما الطهارة: فإن قلنا: يجوز التفريق في الطهارة، مسح رأسه، وغسل رجليه، وإن قلنا: لا يجوز التفريق استأنف الطهارة. فلو لم يحدث بعد الظهر، ولكن جدد الطهارة للعصر، ثم تيقن أنه ترك مسح الرأس في إحدى الطهارتين، قال الشيخ أبو حامد: لزمه إعادة الظهر، لأنه يشك: هل صلاها بطهارة صحيحة أو فاسدة، فلا يسقط عنه بالشك. وأما العصر: فإن قلنا: إن من توضأ لمندوب، مثل: قراءة القرآن، والجلوس في المسجد، أو لتجديد الطهارة، يرتفع حدثه، لم يلزمه إعادة العصر. وإن قلنا: لا يرتفع حدثه، أعاد العصر أيضًا، وما حكم الطهارة على هذا الوجه؟ إن قلنا: يجوز تفريق الوضوء، مسح رأسه وغسل رجليه. وإن قلنا: لا يجوز التفريق، استأنف الطهارة.

فرع: رفع الحدث بتجديد الوضوء

[فرع: رفع الحدث بتجديد الوضوء] ] : وإن توضأ للصبح عن حدث فصلاها، ثم جدد الطهارة للظهر فصلاها، ثم أحدث فتوضأ للعصر فصلاها، ثم جدد الطهارة للمغرب فصلاها، ثم أحدث وتوضأ للعشاء فصلاها، ثم تيقن أنه ترك مسح الرأس في إحدى الطهارات ولا يعرف عينها. فإن قلنا: إن تجديد الطهارة يرفع الحدث، صحت له صلاة الظهر والمغرب، ووجب عليه إعادة الصبح والعصر والعشاء. وإن قلنا: إن التجديد لا يرفع الحدث، أعاد جميع الصلوات. وأما الطهارة: فإن قلنا: يجوز تفريق الوضوء، مسح رأسه، وغسل رجليه، وإن قلنا: لا يجوز التفريق، استأنف الطهارة. وبالله التوفيق.

باب المسح على الخفين

[باب المسح على الخفين] يجوز المسح على الخفين في الوضوء، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وقالت الشيعة، والخوارج:

لا يجوز المسح على الخفين، وهو قول أبي بكر بن داود. وروي عن مالك في ذلك روايات: إحداهن: (يجوز المسح عليه مؤقتًا) كقول الشافعي الجديد. الثانية: (أنه أجاز المسح عليه أبدًا) كقول الشافعي القديم. الثالثة: (أنه يمسح عليه في الحضر دون السفر) . الرابعة: (أنه يمسح عليه في السفر دون الحضر) وهي الصحيحة عنه. والخامسة: (أنه كره المسح على الخفين) . السادسة: رواية رواها ابن أبي ذئب عنه: (أنه أبطل المسح في آخر أيامه) . كقول الشيعة. دليلنا: ما روى بلال: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه ومسح على خفيه» . وروى المغيرة بن شعبة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على الخفين، فقلت: يا رسول الله، أنسيت، لم تخلع الخفين؟ فقال: " بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي عز وجل» . وهذا أمر اختيار، لا أمر إلزام.

وروي عن الحسن البصري، أنه قال: «حدثني سبعون من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه مسح على الخفين» . ولأن الحاجة تدعو إلي لبسه، وتلحقه المشقة في نزعه، فجاز المسح عليه، كالجبائر. إذا ثبت هذا: فإن الشيخ أبا نصر قال في " المعتمد ": غسل الرجلين أفضل من المسح على الخفين، على قياس قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال الشعبي، والحكم، وحماد: المسح على الخفين أفضل من الغسل، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه» . دليلنا: أن الغسل أصل، والمسح بدل منه، فكان أفضل منه. وأما الخبر: فإنما هو حث على ألا يترك الرخصة رغبة عنها. ولا يجوز مسح الخفين في الغسل الواجب، كغسل الجنابة، والحيض، لما روى صفوان بن عسال المرادي: قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا إذا كنا مسافرين ـ أو سفرًا ـ ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط أو بول، أو نوم ثم نحدث بعد ذلك وضوءًا» ، ولأن الغسل يندر، فلم تدع الحاجة إلى مسح الخفين فيه.

مسألة: توقيت المسح

ولا يجوز المسح على الخفين في الغسل المسنون، كغسل الجمعة والعيدين، أي: لا يحكم له بصحة الغسل، لأنه يندر، فهو كغسل الجنابة. [مسألة: توقيت المسح] مسألة: [في توقيت المسح] : روى الزعفراني: أن الشافعي قال في العراق: (يجوز المسح على الخفين من غير توقيت) ، وروي ذلك عن عمر، وابن عمر، وعائشة، وبه قال الليث. ووجهه: ما «روي عن أُبي بن عمارة بكسر العين، من " المؤتلف والمختلف "، وقال في " الاستيعاب ": هو بضم العين عُمارة: أنه قال: يا رسول الله، أمسح على الخف؟ قال: " نعم "، قلت: يومًا، قال: " نعم "، إلى أن بلغ سبعًا، قال: " نعم وما بدا لك» . ولأنه مسح بالماء فلم يتوقت كمسح الرأس. قال الزعفراني: ورجع الشافعي عن هذا قبل رحلته من عندنا إلى مصر، وقال: (يمسح المقيم يومًا وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن) ، وبه قال علي بن أبي

مسألة: ابتداء مدة المسح

طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وهو قول عطاء، وشريح، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة، وأصحابه، وهو الأصح، لما روى أبو بكرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص للمقيم يومًا وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن» ، ولأن المسح على الخفين إنما أجيز لتترفه رجله، ولا حاجة بالمقيم إلى ترك رجله في الخف فيما زاد على يوم وليلة، ولا بالمسافر فيما زاد على ثلاثة أيام ولياليهن، بل الحاجة تدعو إلى كشفها، لتسوية لفائفه وإراحة رجله. [مسألة: ابتداء مدة المسح] ] : وابتداء المدة من حين بعد لبس الخفين، لا من حين اللبس، ولا من حين الطهارة بعد الحدث. وقال الأوزاعي، وأحمد، وأبو ثور، وداود: (ابتداء المدة من حين المسح) . دليلنا: ما روي في حديث صفوان بن عسال المرادي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من الحدث إلى الحدث» . ولأن زمان الحدث زمان يستباح به المسح، فكان من وقته كبعد المسح. إذا ثبت هذا: فأكثر ما يصلي المقيم بالمسح في الوقت خمس صلوات بغير حيلة ولا عذر، وبالحيلة ست صلوات وهو: أن يحدث بعد اللبس بعد أن توسط وقت الظهر ويصليها، ثم يصليها في اليوم الثاني في أول وقتها، ويمكنه أن يصلي سبع صلوات مع الحيلة والعذر، وهو: أن يصلي في اليوم الأول الظهر في آخر وقتها حين أحدث، ويصليها في اليوم الثاني في أول وقتها، ويقدم إليها العصر في المطر.

مسألة: شأن من مسح حضرا ثم سافر

وأكثر ما يمكن للمسافر أن يصلي بالمسح من صلوات في وقتها: خمس عشرة صلاة من غير حيلة، ولا عذر، ومع الحيلة ست عشرة صلاة، وبالحيلة والعذر: سبع عشرة صلاة، كما ذكرنا في المقيم. وإن كان السفر معصية، لم يجز له أن يمسح ما زاد على يوم وليلة، لأنه مستفاد بالسفر، والعاصي لا يجوز له الترخص برخص المسافرين. وهل له أن يمسح يومًا وليلة؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع "، المشهور: أنه يستبيح ذلك. [مسألة: شأن من مسح حضرًا ثم سافر] ] : وإن لبس الخف في الحضر، ثم سافر قبل أن يحدث، ثم أحدث في السفر، فله أن يسمح مسح مسافر، بلا خلاف، لأن ابتداء مدة المسح وابتداء فعله وجد في السفر. وإن أحدث في الحضر، ثم سافر قبل أن يمسح، وقبل أن يخرج وقت الصلاة، ثم مسح في السفر، فإنه يمسح مسح مسافر. وقال المزني: لا يجوز له أن يمسح مسح مسافر، بل يمسح مسح مقيم؛ لأنه قد اجتمع السفر والحضر في وقت المسح. دليلنا: أنه سافر قبل أن يتلبس بالعبادة في وقتها، فكان الاعتبار بفعلها لا بدخول وقتها، كالصلاة. وإن أحدث في الحضر وخرج وقت الصلاة، ثم سافر ومسح في السفر ... ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا يستبيح مسح مسافر، بل يمسح مسح مقيم لا غير؛ لأن المقيم لو خرج عنه وقت الصلاة في الحضر، ثم سافر، فإنه يلزمه إتمام الصلاة، كما لو أحرم بالصلاة في الحضر، ثم سافر فإنه يلزمه أن يتم، فإذا كان خروج وقت الصلاة عنه في الحضر بمنزلة التلبس بالصلاة في الحضر في وجوب إتمامها، فكذلك خروج وقت الصلاة عنه في الحضر بمنزله تلبسه بالمسح في الحضر.

فرع: نية الإقامة في الصلاة

و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: له أن يمسح مسح مسافر. وهو الصحيح؛ لأنه سافر قبل التلبس بالمسح، فكان له أن يمسح مسح مسافر، كما لو سافر قبل خروج وقت الصلاة. ويخالف الصلاة، فإنه يأتي بها بعد الوقت قضاء، والمسح يأتي به أداء في وقته. وإن أحدث في الحضر ومسح، ثم سافر، أتم مسح مقيم لا غير، وبه قال أحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة، والثوري: (له أن يمسح مسح مسافر) . دليلنا: أنها عبادة تتغير بالحضر والسفر، فإذا تلبس بها في الحضر، ثم سافر كان الاعتبار بحكم الحضر، كما لو أحرم بالصلاة في الحضر، ثم سافر. وإن أحدث في السفر ومسح، ثم أقام، أتم مسح مقيم لا غير، فإن أقام بعد استكمال مدة مسح المقيم، نزع الخفين. وإن أقام قبل استكماله، كان له أن يتم مسح مقيم لا غير. وقال المزني: يمسح ثلث ما بقي له من المدة من حين الإقامة. دليلنا: أنها عبادة تتغير بالحضر والسفر، فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر، كالصلاة. [فرع: نية الإقامة في الصلاة] ] : قال في " الأم " [1/30] : (ولو مسح المسافر يوما وليلة، ثم دخل في الصلاة فنوى الإقامة في الصلاة، بطلت صلاته) ؛ لأنه قد استكمل مسح المقيم، فإذا نوى الإقامة بطل مسحه، فبطلت صلاته. [فرع: الشك في ابتداء المسح] ] : وإذا سافر، ثم شك: هل ابتدأ المسح في السفر، أو في الحضر؟ بنى الأمر على أنه بدأ في الحضر؛ لتكون طهارته صحيحة بيقين، ولا يجوز له

فرع: لا يمسح في مدة الشك

المسح بعد ذلك؛ لأنه شك في إباحته. فإن ذكر بعد ذلك أنه كان ابتداء المسح في السفر، أتم مسح مسافر. فإن صلى بالمسح بعد يوم وليلة مع شكه، ثم تيقن بعد ذلك أن ابتداء المسح كان في السفر، لزمه إعادة ما صلى بالشك؛ لأنه صلاها وهو يعتقد أنه على غير طهارة، فلم يصح. وإن شك: هل كان حدثه وقت الظهر أو وقت العصر؟ بنى الأمر على أنه كان حدثه وقت الظهر؛ ليرجع إلى اليقين. [فرع: لا يمسح في مدة الشك] ] : قال الشافعي رحمة الله: (فإن تيقن أنه صلى بالمسح ثلاث صلوات، وشك: هل صلى الرابعة أم لا؟ أعاد الرابعة، وأخذ في المسح بالأكثر) . وصورتها: أن يتيقن لابس الخف: أنه صلى العصر والمغرب والعشاء بطهارة المسح، وشك: هل أحدث وقت الظهر، وتوضأ للظهر ومسح وصلاها أم أغفلها ولم يصلها؟ فإن عليه إعادة الظهر؛ لأنه شك: هل صلاها أم لا؟ والأصل: أنه ما صلاها حتى يعلم أنه صلاها بيقين. وأما المسح: فإنه يحتسب على أنه أحدث في وقت الظهر، فيكون له المسح إلى مثله من الغد، لأن هذا يقين، وما ذاد عليه شك: هل له فيه المسح أم لا؟ والأصل: أنه لا مسح حتى يعلم جوازه. [مسألة: وصف خف المسح] ] : ويجوز المسح على كل خف صحيح، يمكن متابعة المشي عليه، وهو: التردد عليه لحوائجه، سواء كان من جلد، أو لبد ثخين، أو خرق طبق بعضها فوق بعض، لأن الحاجة تدعو إلى لبسه.

فرع: المسح على الخف المخرق

قال الطبري: فإن لبس خفًا من زجاج، جاز المسح عليه، وإن بدا منه لون الرجل، وليس كمن يستر عورته بشيء من الزجاج يبدو منه لون العورة، فإنه لا يصح؛ لأن القصد ستر العورة، وأن لا تراها أعين الناس، وذلك لا يحصل في الزجاج. والقصد في الخف: لبس ما يمكن متابعة المشي عليه، وذلك يمكن في الزجاج. قال الجويني: الواجب في الخف ستر الرجل مع الكعب من الجوانب، ومن أسفلها، ولا يجب سترها من أعلاها؛ لأن ذلك يتعذر، والواجب في العورة سترها من أعلاها ومن الجوانب لا من أسفل؛ لأن ذلك يتعذر. وإن لبس خفًا لا يمكنه التردد عليه في حوائجه، إما: لرقته، أو لثقله، لم يجز المسح عليه؛ لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه. [فرع: المسح على الخف المخرق] ] : وهل يجوز المسح على الخف المخرق؟ ينظر فيه: فإن كان الخرق فوق الكعب.. جاز المسح عليه، لأن عدم ساق الخف لا يمنع من جواز المسح على الخف، فكذلك خرقه. وإن كان الخرق في محل الفرض، فإن كان الخرق يمنع متابعة المشي عليه، لم يجز المسح عليه، لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه. وإن كان الخرق لا يمنع متابعة المشي عليه.. ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يجوز) لأنه خف يمكن متابعة المشي عليه، فأشبه الصحيح. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجوز) ، وهو الصحيح، لأن ما بدا من الرجل فحكمه حكم الغسل، وما استتر، حكمه حكم المسح، والجمع بينهما لا يجوز، كما لو بدت إحدى الرجلين، واستترت الأخرى.

فرع: خرق الظهارة

وقال مالك: (إن كبر الخرق وتفاحش، لم يجز المسح عليه، وإن كان دون ذلك، جاز المسح عليه) . وحكى الشيخ أبو حامد: أن هذا قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في القديم، والأول حكاه الشيخ أبو حامد وابن الصباغ. وقال أبو حنيفة: (إن تخرق قدر ثلاثة أصابع، لم يجز المسح عليه، وإن كان دونها، جاز المسح عليه، لأن الثلاث أكثر أصابع اليد) . دليلنا: أنه خف غير ساتر لجميع قدميه، فلم يجز المسح عليه، كما لو تخرق منه قدر ثلاثة أصابع. وإن بقي في الخف مخارق الإشفى ومنافذ الإبر، فإن لم يبن شيء من الرجل، أو اللفافة، جاز المسح عليه، لأن ذلك لا يمكن الاحتراز منه، وإن كان يبين شيء من محل الفرض من الرجل، أو من اللفافة عليها، قال صاحب " الفروع ": لم يجز المسح عليه. قلت: وهذا إنما يكون على القول الجديد، فأما على القول القديم: فيجوز إذا كان يمكن متابعة المشي عليه. [فرع: خرق الظهارة] فرع: [في خرق الظهارة] : قال في " الأم " [1/29] : (وإن تخرقت ظهارة الخف وبقيت بطانته، جاز المسح عليه) . قال أصحابنا: أراد: إذا كانت البطانة صفيقة يمكن متابعة المشي عليها، فأما إذا كانت رقيقة بحيث لا يمكن متابعة المشي عليها، فإن المسح عليها لا يجوز. وقال في " الأم " [1/31] : (وإن كان في الخف شرج ـ بفتح الراء وبعده جيم ـ العرى، فوق الكعب، لم يمنع جواز المسح عليه، وإن كان الشرج تحت الكعب،

فرع: المسح على الجورب

فإن كان محلولا، لم يجز المسح على الخف، سواء بانت منه الرجل، أو لم تبن، لأنه إذا مشى بانت منه الرجل، وإن كان مشدودًا، فإن كان في الشد خلل، بحيث إذا مشى بان شيء من الرجل أو اللفافة، لم يجز المسح عليه، وإن لم يكن فيه خلل، جاز المسح عليه) . [فرع: المسح على الجورب] ] : قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا يمسح على جوربين، إلا أن يكون الجوربان مجلدي القدمين إلى الكعبين، حتى يقوم مقام الخف) . قال أصحابنا: والجوارب على ضربين: فـ[الأول] : منه ما يمكن متابعة المشي عليه، بأن يكون ساترًا لمحل الفرض صفيقًا، ويكون له نعل، فيجوز المسح عليه.

فرع: لبس الجرموق

قال ابن الصباغ: فأما تجليد القدمين: فليس بشرط، إلا أن يكون الجورب رقيقًا.. فيقوم تجليده مقام صفاقته وقوته، وإنما ذكر الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - التجليد لأن الغالب من الجوارب الرقة. و [الثاني] : إن كان الجورب لا يمكن متابعة المشي عليه، مثل: أن لا يكون منعل الأسفل، أو كان منعلا، لكنه من خرق رقيقة، بحيث إذا مشى فيه تخرق، لم يجز المسح عليه. هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال أحمد: (يجوز المسح على الجورب الصفيق، وإن لم يكن له نعل) . وروي ذلك عن عمر، وعلي، وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمد، وداود. دليلنا: أنه لا يمكن متابعة المشي عليه، فلم يجز المسح عليه، كالرقيق. [فرع: لبس الجرموق] ] : وإن لبس الجرموق فوق الخف، قال صاحب " المذهب ": وهو خف كبير فوق خف صغير ـ فإن كان الأسفل مخرقًا والأعلى صحيحًا، جاز المسح على الأعلى، لأن الأسفل بمنزلة اللفافة تحت الخف. وإن كان الأعلى مخرقًا، والأسفل صحيحًا.. لم يجز المسح على الأعلى؛ لأن الأعلى بمنزله اللفافة فوق الخف. وإن كانا صحيحين بحيث إذا انفرد كل واحد منهما، جاز المسح عليه، فهل يجوز المسح على الأعلى؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم، و " الإملاء ": (يجوز المسح عليه) ، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، والمزني، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على الموق» .

فرع: المسح على الخف تحت الجرموق

و (الموق) : الجرموق، ولأنه خف يمكن متابعة المشي عليه، فجاز المسح عليه، كالمنفرد. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجوز المسح عليه) وبه قال مالك، وهو الصحيح، لأن حاجة عامة الناس لا تدعو إلى لبسهما، وإنما تدعو إليها حاجة خواص الناس، في مواضع مخصوصة، وهي: المواضع التي يكثر فيها المطر والوحل، والبرد الشديد، فلم تتعلق به رخصة عامة، كما لو لبس جبيرة فوق جبيرة، فإنه لا يجوز المسح على العليا. وأما الخبر: فالمراد به الخف المنفرد، ولم ينقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبس الجرموق. فإذا قلنا: يجوز المسح على الجرموق، فعن ماذا يكون بدلا؟ فيه ثلاثة أوجه، خرجها أبو العباس ابن سريج: أحدها: يكون بدلا عن الخف، والخف يكون بدلا عن الرجل. والثاني: يكون الجرموق بدلا من الخف، ويكون الخف بدلا من اللفافة. والثالث: أن الجرموق بمنزلة طاقات الخف، وتأتي فوائد ذلك. فإن لبس الجرموق في رجل واحدة، فهل يجوز المسح عليه؟ على القول القديم، فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\39] . [فرع: المسح على الخف تحت الجرموق] ] : فإذا قلنا: لا يجوز المسح على الجرموق، فأدخل يده في ساقه، ومسح على الخف، فهل يصح؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح، لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (نزع

فرع: الجبيرة تحت الخف

الجرموقين، ومسح على الخفين) ؛ ولأن الخف بدل ضعيف، فلم يجز مسحه مع استتاره. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يصح، واختاره ابن الصباغ، كما لو أدخل يده تحت العمامة، ومسح على الرأس، ولأنه لو غسل رجله، وهي في الخف، صح، فكذلك إذا مسح على الخف، وهو في الجرموق، وما ذكره الشافعي، فليس ذلك على سبيل الشرط. وإن قلنا: يجوز المسح على الجرموقين، فهل له أن يدخل يده في ساقه ويمسح على الخف؟ قال القاضي أبو الطيب: يحتمل وجهين: أحدهما: لا يجوز، لأنه إذا جاز المسح على الظاهر، لم يجز المسح على الباطن، كما لو أدخل يده في الخف ومسح على الجلد الذي يلي رجله. والثاني: يجوز المسح ـ وهو اختيار ابن الصباغ ـ لأن كل واحد منهما محل للمسح، فجاز المسح على ما شاء منهما، كما لو مسح بشرة الرأس تحت الشعر. [فرع: الجبيرة تحت الخف] ] : وإن احتاج إلى وضع الجبيرة على رجليه فوضعها، ثم لبس فوقها الخف، فهل يجوز المسح عليه؟ فيه وجهان: أظهرهما: أنه لا يجوز، لأنه ملبوس فوق ممسوح، فلم يجز المسح عليه، كالعمامة. والثاني: يجوز. وبه قال أبو حنيفة، لأنه خف صحيح، يمكن متابعة المشي عليه، فجاز المسح عليه، كما لو لبسه على رجليه ولا جبيرة عليهما. فإن لبس الخف في إحدى الرجلين، والأخرى مريضة لا يجب غسلها، لم يجز المسح على الخف في الرجل الصحيحة. إن قطعت إحدى الرجلين، جاز أن يلبس الخف في الرجل الباقية، ويمسح

فرع: المسح على الخف المغصوب

عليه إذا لم يبق من محل الفرض المقطوع شيء، وإن بقى شيء من محل الفرض، لم يجز المسح حتى يخففهما، لأن الرخصة إنما تتعلق بلبس الخفين في الرجلين مع وجودهما، لا يلبسه في إحداهما. [فرع: المسح على الخف المغصوب] ] : وإن لبس خفًا مغصوبًا، فهل يجوز المسح عليه؟ فيه وجهان: [أحدهما] قال ابن القاص: لا يجوز، لأن لبسه معصية، فلم يجز المسح عليه، كما لو لبس خفًا من جلد كلب. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يجوز؛ لأنه خف طاهر يمكن متابعة المشي عليه، فهو كما لو كان ملكه. وأما المعصية: فلا تختص باللبس، فلم تمنع صحة العبادة، كالصلاة في الدار المغصوبة، ويخالف الخف من جلد الكلب، لأن المعصية هنالك لمعنى في الخف، فهو كالصلاة في ثوب نجس. [مسألة: الطهارة شرط لمسح الخف] ] : ولا يجوز المسح على الخف، إلا أن يلبسه على طهارة كاملة. فإن غسل إحدى الرجلين، وأدخلها في الخف، ثم غسل الرجل الأخرى، وأدخلها في الخف، لم يجز المسح حتى ينزع الخف الذي لبسه قبل كمال الطهارة. وهل يشترط نزع خف الرجل الأخرى فيه وجهان: الصحيح: أنه لا يشترط، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة، والثوري، والمزني، وأبو ثور، وداود: (يجوز المسح) .

فرع: يشترط لبس الجرموقين على طهارة

دليلنا: ما روى أبو بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يومًا وليلة، إذا تطهر، فلبس خفيه أن يمسح عليهما» . وهذا يقتضي تقدم الطهارة على اللبس. وروى المغيرة بن شعبة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، فأهويت لأنزع خفية، فقال: " دعهما، فإني لبستهما وهما طاهرتان» ، ومسح عليهما. فعلل بأنه لبس خفيه، ورجلاه طاهرتان، فعلم أن المسح يتعلق بهذا التعليل. [فرع: يشترط لبس الجرموقين على طهارة] ] : وإن لبس الخفين على طهارة، ثم لبس الجرموقين عليهما من غير حدث بينهما، وقلنا: يجوز المسح عليهما، جاز المسح هاهنا عليهما. وإن لبس الخفين على طهارة ثم أحدث، ثم لبس الجرموقين قبل المسح، لم يجز المسح عليهما قولا واحدًا؛ لأنه لبسهما على حدث. وإن لبس الخفين على طهارة، فأحدث، ومسح عليهما، ثم لبس الجرموقين، فهل يجوز المسح عليهما هاهنا؟ فيه وجهان، بناء على القولين في المسح على الخف هل يرفع الحدث؟ فإن قلنا: إنه يرفع الحدث، جاز المسح هاهنا. وإن قلنا: لا يرفع الحدث، لم يجز المسح هاهنا.

مسألة: لبس المستحاضة ونحوها الخف

[مسألة: لبس المستحاضة ونحوها الخف] ] : إذا دخل على المستحاضة وقت الصلاة المفروضة، فتوضأت، لبست الخفين، وصلت تلك الفريضة، جاز لها أن تصلي بتلك الطهارة ما شاءت من النوافل. فإن أحدثت بغائط أو بول أو نوم بعد أداء الفريضة، جاز لها أن تتوضأ، وتمسح على الخفين، وتصلي به ما شاءت من النوافل. فإن دخل عليها وقت الفريضة الثانية، فأرادت أن تتوضأ، وتمسح على الخفين، وتصلي به تلك الفريضة الثانية، لم يكن لها ذلك. والفرق بين النافلة والفريضة الثانية: أنها حين توضأت للفريضة الأولى، استباحت بذلك الوضوء الفريضة الأولى، وما يتبعها من النوافل، فكانت في حكم الطاهرات في حق الفريضة الأولى، وما يتبعها من النوافل، فلذلك: استباحت النافلة بالمسح، ولا تستبيح أن تصلي بالطهارة الأولى الفريضة الثانية، فكانت في حكمها محدثة، فكذلك لم تستبحها بطهارة المسح. وأما إذا توضأت للفريضة الأولى بعد دخول وقتها، ولبست الخفين، فقبل أن تصليها طرأ عليها حدث غير حدث الاستحاضة، كالغائط والبول والنوم والمس واللمس، فلها أن تتوضأ وتمسح على الخفين، وتصلي به تلك الفريضة، وما شاءت من النوافل، ولا تصلي به فريضة أخرى. وقال زفر: لها أن تصلي به يومًا وليلة. دليلنا: أن الطهارة التي لبست عليها الخفين لا تستبيح بها أكثر من فريضة واحدة، فلم تستبح بالمسح عليها أكثر منها، وإنما استباحت تلك الفريضة؛ لأنها كانت في حقها حين لبست الخف في حكم الطاهرات. فإن انقطع دمها قبل أن تصلي تلك الفريضة، أو بعد ما صلتها وقبل أن تصلي النوافل، بطلت طهارتها، ووجب عليها نزع الخفين، واستئناف الطهارة؛ لأنها طهارة ضرورية، فإذا زالت الضرورة قبل التلبس بالصلاة، بطلت. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.

مسألة: هيئة مسح الخف

وقال المسعودي [في " الإبانة ": ق\39] : إذا توضأت للفريضة، ولبست الخفين قبل أن تصليها، طرأ عليها حدث غير حدث الاستحاضة، فهل لها أن تمسح على الخف لهذه الفريضة؟ فيه وجهان، بناء على أن طهارة المستحاضة: هل ترفع الحدث السابق؟ فإن قلنا: ترفعه، استباحتها بطهارة المسح. وإن قلنا: لا ترفعه، لم تستبحها بطهارة المسح. وإن تيمم للفريضة لعدم الماء، ولبس الخفين، ثم وجد الماء قبل الصلاة، ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس: يجوز له أن يتوضأ ويمسح على الخفين، ويصلي به فريضة، كما قلنا في المستحاضة. والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يجوز المسح على الخفين) ؛ لأنه لبسهما من غير غسل الرجلين؛ ولأن برؤيته للماء، بطل التيمم، فصار كالمستحاضة إذا انقطع دمها. [مسألة: هيئة مسح الخف] ] : وإذا أراد أن يمسح على الخف، قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فأحب أن يغمس يديه في الماء، ثم يضع كفه اليسرى تحت عقب الخف، وكفه اليمنى على أطراف أصابعه، ثم يمر اليمنى إلى ساقه، واليسرى إلى أطراف أصابعه) . وبه قال ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، ومالك، وابن المبارك. وقال الثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وأحمد: (المستحب: أن يمسح أعلى الخف، دون أسفلة) . وروي ذلك عن أنس، وجابر.

فرع: ما يسن مسحه من الخف

دليلنا: ما روى المغيرة بن شعبة: قال: «وضأت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، فمسح أعلى الخف وأسفله» ؛ ولأنه خارج من الخف يحاذي محل الفرض، فكان المسح عليه مسنونًا كأعلى الخف. [فرع: ما يسن مسحه من الخف] ] : وهل يسن له أن يمسح على عقب الخف، وهو: الموضع الصقيل؟ ظاهر ما نقله المزني: أنه يسن له ذلك. وقال القاضي أبو حامد: نص الشافعي في " البويطي ": أنه يمسح على العقب. ومن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: لا يسن له أن يمسح عليه؛ لأنه موضع صقيل يضر به المسح. والثاني: يمسح عليه، وهو الأصح؛ لأنه خارج من الخف يحاذي محل الفرض؛ فهو كأعلاه. ومنهم من قال: يمسح عليه قولا واحدًا؛ لما ذكرناه. وما نقله المزني، يحتمل أن يريد به: أن يضع باطن أصابع يده اليسرى تحت عقب الخف، فتكون راحته على عقبه.

فرع: ما يكفي من المسح

[فرع: ما يكفي من المسح] ] : وكيفما أتى بالمسح على الخف، أجزأه، سواء كان بيده، أو ببعضها، أو بخشبة، أو بخرقة. وسواء مسح قليلا أو كثيرًا فإنه يجزئه. وقال أبو حنيفة: (لا يجزئه، إلا أن يمسح قدر ثلاث أصابع بثلاث أصابع) ، فقدر الممسوح وعين الممسوح به، حتى إن عنده: لو مسح قدر ثلاث أصابع بأصبع واحدة لم يجزئه. وقال زفر: إذا مسح قدر ثلاث أصابع بأصبع واحدة أجزأه، وقال أحمد: (لا يجزئه، إلا أن يسمح أكثر القدم) . دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يومًا وليلة» ، ولم يفرق. فإن أصاب الخف بلل المطر، أو نضح عليه الماء، قال الشيخ أبو نصر: فليس للشافعي فيه نص، والذي يجيء على مذهبه: أنه لا يجزئه عن المسح. وقال الثوري، والأوزاعي: يجزئه ذلك عن المسح. وقال إسحاق: إن نوى به المسح، أجزأه. وقال أهل الرأي: إذا خاض الماء، وأصاب ظاهر الخف، أجزأه.

مسألة: انقضاء مدة المسح

واحتج الشيخ أبو نصر: بأن ما فرضه المسح لم يجز فيه الغسل، كمسح الرأس. وعندي: أنها على وجهين، كما ذكر أصحابنا فيمن غسل رأسه مكان المسح. إذا ثبت ما ذكرناه: فإن اقتصر على مسح القليل من أعلى قدم الخف، أجزأه؛ لأنه يقع عليه اسم المسح. وإن اقتصر على مسح القليل من أسفله، ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: يجزئه؛ لأنه خارج من الخف يحاذي محل الفرض، فهو كأعلى الخف. و [الثاني] : قال أبو العباس: لا يجزئه، وهو المنصوص؛ لأنه موضع لا يرى من الخف غالبًا، فلم يجز الاقتصار عليه، كمسح باطن الخف الذي يلي الرجل. وإن اقتصر على مسح القليل من عقب الخف فهل يجزئه؟ من أصحابنا من قال: إن قلنا: إنه محل لمسنون المسح، جاز الاقتصار عليه. وإن قلنا: ليس بمحل لمسنون المسح فهل يجوز الاقتصار عليه؟ فيه وجهان. وقال الشاشي: بل هو بالعكس، فإن قلنا: إنه ليس بمحل لمسنون المسح، لم يجز الاقتصار عليه وجهًا واحدًا، كساق الخف. وإن قلنا: إنه محل لمسنون المسح، فهل يجوز الاقتصار عليه؟ فيه وجهان، كأسفله. [مسألة: انقضاء مدة المسح] ] : إذا انقضت مدة المسح وهو على طهارة المسح، أو خلع خفه في أثناء المدة وهو على طهارة المسح، لم يجز له أن يصلي بتلك الطهارة. وقال الحسن البصري: لا يبطل المسح، ويجوز له أن يصلي إلى أن يحدث، فإذا أحدث، لم يمسح.

وقال داود: (يجب عليه نزع الخفين، إذا انقضت مدة المسح، ولا يصلي فيهما، فإذا نزعهما، صلى بطهارته إلى أن يحدث) . دليلنا: أنها طهارة انتهت إلى حال لا يجوز ابتداؤها فلم يجز استدامتها، كالتيمم إذا رأى الماء. وما الذي يصنع في الطهارة؟ قال الشافعي في موضع: (يعيد الوضوء) ، وقال في موضع: (يجزئه غسل رجليه) . واختلف أصحابنا: على أي أصل بناها الشافعي؟ فقال أبو إسحاق: بناها على القولين في تفريق الوضوء: فإن قلنا: يجوز التفريق، كفاه غسل الرجلين. وإن قلنا: لا يجوز التفريق، فعليه استئناف الوضوء. ومنهم من قال: بناها على هذا، لأنه ذكر في " الأم " [1/31] ، وفي (كتاب ابن أبي ليلى) : (أنه يستأنف الوضوء) . ومذهبه فيهما: أن تفريق الوضوء جائز، وإنما بناها على أن مسح الخف هل يرفع الحدث عن الرجلين؟ وفيه قولان: [الأول] : فإن قلنا: إنه لا يرفع الحدث كفاه غسل الرجلين. و [الثاني] : إن قلنا: إنه يرفعه لزمه استئناف الطهارة، لأن نزع الخف ينقض الطهارة في الرجلين، فإذا انتقضت الطهارة في بعض الأعضاء، انتقضت في جميعها. ووجه قوله: (إنه لا يرفع الحدث) : أنه مسح، فلم يرفع الحدث كالتيمم. ووجه قوله: (إنه يرفع الحدث) : أنه مسح بالماء، فرفع الحدث، كمسح الرأس. ومنهم من قال: القولان أصل بأنفسهما، غير مبنيين على غيرهما، وهو اختيار ابن الصباغ:

فرع: لا يمسح قبل استقرار القدم في الخف

أحدهما: يلزمه استئناف الطهارة. وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، لأن الطهارة لما بطلت في الرجلين، بطلت في جميع الأعضاء، لأنها لا تتبعض، كما لو أحدث. والثاني: يكفيه غسل الرجلين. وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وأبو ثور، والمزني، لأن مسح الخفين ناب عن غسل الرجلين خاصة، فظهورهما، يبطل به ما ناب عنهما دون غيرهما، كما يبطل التيمم برؤية الماء. [فرع: لا يمسح قبل استقرار القدم في الخف] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم " [1/28] : (إذا أكمل الوضوء، ثم أدخل إحدى الرجلين في الخف، ثم أدخل الرجل الأخرى في ساق الخف، فقبل أن تستقر الرجل في قدم الخف أحدث، لم يكن له أن يمسح، لأنه لا يكون متخففًا حتى تقر قدمه في قدم الخف) . وإن أخرج رجله من قدم الخف إلى ساق الخف، ولم يبن شيء من محل الفرض فنص الشافعي في " الأم " [1/31] ، والقديم: (أن المسح لا يبطل) . وقال القاضي أبو حامد: يبطل المسح. وهو اختيار القاضي أبو الطيب، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد وإسحاق، لأن استقرار الرجل في الخف شرط في جواز المسح، فإذا تغير بطل، كما لو أحدث قبل أن تستقر في الخف. فإذا قلنا بالأول فالفرق بين ابتداء اللبس وبين استدامته: أن في الابتداء يستبيح به المسح، فلم يستبحه إلا بلبس تام، وليس كذلك في الاستدامة؛ فإنه مستبيح للمسح، فلا يزول إلا بنزع تام.

فرع: حكم الجرموق في المدة

فإن كان الخف طويلا خارجًا عن العادة، فأخرج رجليه إلى موضع لو كان عليه الخف المعتاد، لبان شيء من محل الفرض، بطل مسحه. [فرع: حكم الجرموق في المدة] ] : وإن مسح على الجرموقين، وقلنا: يجوز المسح عليهما، ثم نزعهما في أثناء المدة، فإن قلنا: إن الجرموق بدل من الخف، والخف بدل من الرجل، فله أن يمسح على الخفين. وهل يلزمه استئناف الطهارة؟ فيه قولان. وإن قلنا: الجرموق بدل من الخف، والخف بدل من اللفافة نزع الخف أيضًا، وهل يلزمه استئناف الطهارة، أو يقتصر على غسل الرجلين؟ فيه قولان. وإن قلنا: الجرموق بمنزلة طاقات الخف، لم يؤثر نزع الجرموق هاهنا. وإن نزع الجرموق من إحدى الرجلين: فإن قلنا: إن الجرموق بدل من الخف، والخف بدل عن الرجل، بنى على أحد الوجهين: هل له أن يمسح الجرموق في إحدى الرجلين؟ فإن قلنا: له ذلك، كان له هاهنا أن يمسح على الجرموق الآخر، وعلى الخف في الرجل الأخرى. وإن قلنا: ليس له ذلك نزع الجرموق الآخر، ومسح على الخفين. وهل يستأنف الطهارة، أو يقتصر على المسح؟ على قولين. وإن قلنا: الجرموق بدل من الخف، والخف بدل من اللفافة، نزع الخف من الرجل التي بقي عليها، ونزع الجرموق والخف من الرجل الأخرى، وغسل الرجلين. وهل يلزمه استئناف الطهارة؟ على قولين. وإن قلنا: الجرموق بمنزلة طاقات الخف، لم يؤثر نزع هذه الجرموق. والله أعلم، وبالله التوفيق.

باب الأحداث التي تنقض الوضوء

[باب الأحداث التي تنقض الوضوء] [مسألة: الخارج من السبيلين] وهي أربعة: الخارج من السبيلين، والغلبة على العقل بنوم أو جنون أو إغماء، ولمس النساء، ومس الفرج. فأما الخارج من السبيلين: فضربان: معتاد ونادر. فأما المعتاد فهو: الغائط، والبول، والريح، والصوت، والمذي، والودي، فجيمع ذلك ينقض الضوء. والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6) . وأصل الغائط: الموضع المطمئن من الأرض، وسمي ما يخرج من الإنسان: غائطًا؛ لأن العادة أن من يريد إخراج ذلك، يتحرى الموضع المطمئن من الأرض، فسمي الخارج باسم ذلك الموضع. ومن السُنَّة: ما روي عن صفوان بن عسال المرادي: أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

يأمرنا إذا كنا مسافرين ـ أو: سفرًا ـ أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط أو بول أو نوم، ثم نحدث بعد ذلك وضوءًا» . والدليل على أن الريح والصوت ينقضان الوضوء: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وضوء إلا من صوت، أو ريح» . وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان في جماعة، فشم ريحًا، فقال: (عزمت على من خرج منه هذا أن يقوم ويتوضأ، فقال العباس بن عبد المطلب: كلنا نقوم ونتوضأ، فقاموا وتوضؤوا) فدل على أنهم مجمعون على ذلك. والدليل على أن المذي ينقض الوضوء: ما روي «عن علي كرم الله وجهه: أنه قال: كنت رجلا مذاءً، فجعلت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إنما يكفيك أن تنضح الماء على فرجك، وتتوضأ للصلاة» .

وأما النادر فهو: كالحصى، والدود، وسلس البول، ودم الاستحاضة، وهو ينقض الوضوء عندنا، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وإسحاق. وقال ربيعة: لا ينتقض الوضوء بشيء من ذلك، وقال مالك: (لا ينتقض الوضوء بشيء من ذلك، إلا دم الاستحاضة) . وقال داود: (لا ينتقض الوضوء إلا بالدود والدم) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] ، ولم يفرق بين أن يخرج معتادًا أو غير معتادٍ، ولأنه خارج من مخرج الحدث، فأشبه البول والغائط. قال الصيمري: وأما دم البواسير: فإنه لا ينتقض الوضوء بخروجه، لأنه ليس من نفس الجوف، إلا أن يكون من باسور باطن، فينقض الوضوء. قال في " الأم " [1/14] : (إذا خرج ريح من فرج المرأة، أو ذكر الرجل فإنه ينقض الوضوء) . وقال أبو حنيفة: (لا ينقض الوضوء) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وضوء إلا من صوت، أو ريح» ، ولم يفرق، ولأنه أحد السبيلين، فانتقض الوضوء بالريح الخارج منه كالدبر. وكذلك إذا أدخل في فرجه مسبارًا ـ وهو الميل ـ أو قطنًا فخرج منه، أو صب فيه ماء فخرج منه، انتقض الوضوء، لأنه خارج من مخرج الحدث، فهو كالغائط والبول. قال الشاشي: وإن أطلعت دودة رأسها من أحد السبيلين، ثم رجعت فهل ينتقض الوضوء؟ فيه وجهان.

فرع: انسداد المخرج المعتاد

[فرع: انسداد المخرج المعتاد] فرع: [انسداد المخرج] : فإن انسد المخرج المعتاد، وانفتح له مخرج من بدنه، فهل ينتقض الوضوء بالخارج منه؟ ينظر فيه: فإن كان دون المعدة انتقض الوضوء بالخارج منه، لأن الله تعالى أجرى العادة: أنه لا بد للإنسان من موضع يخرج منه الغائط والبول. فإذا اسند المعتاد وانفتح له موضع آخر كان ذلك بمنزلة الأصلي. وإن كان المنفتح فوق المعدة ففيه قولان: أحدهما: ينتقض الوضوء بالخارج منه، للمعنى الذي ذكرناه، إذا كان دون المعدة. والثاني: لا ينتقض الوضوء بالخارج منه؛ لأن ما فوق المعدة يكون الخارج منه قيئًا، و (الغائط) : ما أحالته المعدة ونزل عنها. وإن لم ينسد المخرج الأصلي، وانفتح له موضع آخر فهل ينتقض الوضوء بالخارج منه؟ ينظر فيه: فإن كان دون المعدة، فهل ينتقض الوضوء بالخارج منه؟ من أصحابنا من قال: فيه وجهان، ومنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: لا ينتقض. وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شرط انسداد الموضع الأصلي؛ ولأن الأصلي إذا كان مفتوحًا كان هذا بمعنى الجائفة، فلم ينتقض الوضوء بالخارج منه. والثاني: ينتقض الوضوء بالخارج منه؛ لأنه مخرج يخرج منه البول والغائط، فهو كالمعتاد.

فرع: الخنثى المشكل إذا بال من فرجيه

وإن كان المنفتح فوق المعدة.. فهل ينتقض الوضوء بالخارج منه؟ قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: يبنى على القولين، فيما لو انفتح له مخرج فوق المعدة مع انسداد المعتاد: فإن قلنا هناك: لا ينتقض الوضوء بالخارج منه فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: ينتقض الوضوء بالخارج منه فهاهنا وجهان، كما لو انفتح له مخرج دون المعدة، مع انفتاح الأصلي. وأما صاحب " المهذب " فذكر: أنه إذا انفتح له مخرج فوق المعدة، مع انفتاح الأصلي لم ينتقض الوضوء بالخارج منه، من غير تفصيل، ولعله بنى ذلك على الأصح. [فرع: الخنثى المشكل إذا بال من فرجيه] فرع: [الخنثى المشكل] : وأما الخنثى المشكل: إذا بال من فرجيه انتقض وضوؤه. وإن بال من أحدهما، ومن عادته أن يبول منهما في بعض الحالات فقد قال الشيخ أبو علي السنجي: ينتقض وضوؤه ببوله من أحدهما. وقال القاضي أبو الفتوح: يبنى ذلك عندي على من انفتح له مخرج دون المعدة مع انفتاح الأصلي: فإن قلنا في أحد القولين: إن وضوءه ينتقض بالخارج منه انتقض هاهنا. وإن قلنا ثم: لا ينتقض فهاهنا مثله. ولعل السنجي بناه على الأصح عنده.

مسألة: أحكام النوم

[مسألة: أحكام النوم] ] : وأما النوم: فعلى أربعة أضرب: أحدها: أن ينام زائلا عن مستوى الجلوس في غير الصلاة، بأن ينام مضطجعًا على جنبه، أو مستلقيًا على قفاه ـ قال الشيخ أبو حامد: وهو نوم الأنبياء عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ أو مكبوبًا على وجهه ـ قال: وهو نوم الشياطين ـ أو متكئًا على أحد جنبيه. أو مستندًا على حائط أو غيره، فينتقض وضوؤه في هذه الحالات، سواء تحقق خروج شيء منه، أو لم يتحقق، وهو قول عامة العلماء. وقال أبو موسى الأشعري، وأبو مجلز، وحميد الأعرج، وعمرو بن دينار: (النوم لا ينقض الوضوء، حتى يتحقق خروج الخارج منه) . وبه قالت الشيعة الإمامية. وقال مالك: (النوم اليسير في القعود لا ينقض، والكثير ينقض) . وقال أبو حنيفة: (إذا نام على حالة من أحوال الصلاة في حال الاختيار: إما قائمًا، أو راكعًا، أو ساجدًا لم ينتقض وضوؤه وإن لم يكن في الصلاة. وإن نام مضطجعًا انتقض وضوؤه؛ لأنه لا يصلي مضطجعًا في حال الاختيار) . وبه قال داود. قال المسعودي [في " الإبانة ": ق\24 ـ 25] : وقد نقل البويطي مثل مذهب أبي حنيفة عن الشافعي، فمن أصحابنا من جعل ذلك قولا آخر له، ومنهم من قال: غلط البويطي في النقل. دليلنا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .

قال بعض أهل التفسير: أراد إذا قمتم من النوم، ولأن الآية وردت على سبب، وهو: «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في غزاة، ففقدت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عقدها، فأقاموا يطلبونه، فناموا، فأصبحوا ولا ماء معهم، فجاء إليها أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فقال: حبست القوم ولا ماء معهم؟! فنزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] » . والخطاب إذا ورد على سبب فلا بد أن يكون السبب داخلا فيه، فكان النوم مضمرًا فيها. ويدل على أن النوم ينقض: حديث صفوان بن عسال المرادي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أو نوم ". وروى علي، ومعاوية: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «العينان وكاء السه، فمن نام فليتوضأ» . و (السه) : حلقة الدبر. قال الشاعر: ادع فعيلا باسمها لا تنسه ... إن فعيلا هي صئبان السه

وقال آخر: شأتك قعين غثها وسمينها ... وأنت السه السفلى إذا دعيت نصر والضرب الثاني: أن ينام قاعدًا متمكنًا من القعود، متربعًا كان أو غير متربع، فهل ينتقض وضوؤه؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في " البويطي ": (ينتقض وضوؤه) . وهو قول المزني، وإسحاق، وأبي عبيد، لعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث صفوان: " أو نوم "، ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «العينان وكاء السه، فمن نام فليتوضأ» . ولم يفرق؛ ولأن ما نقض الوضوء في غير حال القعود، نقضه في حال القعود، كسائر الأحداث. والثاني ـ وهو المشهور ـ: أنه لا ينتقض وضوؤه؛ لما روي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من نام قاعدًا فلا وضوء عليه، ومن وضع جنبه فعليه الوضوء» . وهذا أخص من الخبرين الأولين، فقضى به عليهما. وروى أنس: قال: «كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينتظرون العشاء، فينامون قعودًا، حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون، ولا يتوضؤون» . ومثل هذا لا يخفى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وإن نام جالسًا، ثم زال عن حالته، نظرت، فإن زالت أليتاه، أو إحداهما، قبل الانتباه بطلت طهارته. وإن انتبه بزوالهما لم تبطل طهارته. فإن تيقن النوم، وشك هل نام قاعدًا، أو زائلا عن مستوى الجلوس لم ينتقض وضوؤه؛ لأن الأصل بقاؤه على الطهارة. الضرب الثالث: إذا نام في حال الصلاة: إما قائمًا، أو راكعًا، أو ساجدًا فهل ينتقض وضوؤه؟ فيه قولان: [أحدهما] : روى الزعفراني: أن الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قال في القديم: (لا ينتقض وضوؤه) . وهو قول ابن المبارك؛ لما روي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا نام العبد في سجوده، باهى الله به ملائكته، يقول: عبدي روحه عندي، وجسده ساجد بين يدي» . فسماه: ساجدًا، فدل على أن وضوءه لم ينتقض. و [الثاني] : قال في الجديد: (ينتقض وضوؤه) . وهو الصحيح؛ لما ذكرناه في حديث علي، وصفوان بن عسال، ولأنه نام زائلا عن مستوى الجلوس، فهو كما لو نام في غير الصلاة. وأما الخبر فالمقصود به: مدحه على الاجتهاد، ومكابرته النوم؛ لأن النائم لا يمدح على فعله. إذا ثبت هذا: قال الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (فحد النوم الذي ينقض الوضوء: هو الذي يغلب على العقل، قليلا كان أو كثيرًا. فأما ما لا يغلب على العقل، مثل: طرق النعاس، وحديث النفس فلا ينقض الوضوء. فإن تيقن الرؤيا، وشك في

فرع: زوال العقل

النوم، انتقض وضوؤه؛ لأن الرؤيا لا تكون إلا في نوم. وإن خطر بباله شيء، فلم يدر أكان ذلك في حديث نفس، أو رؤيا؟ لم يلزمه الوضوء؛ لأن الأصل الطهارة، ولا يزول ذلك الأصل بالشك) . [فرع: زوال العقل] ] : وأما زوال العقل بالجنون والإغماء فينقض الوضوء على أي حال كان؛ لأن حسه أبعد من حس النائم؛ لأن النائم إذا نبه انتبه. قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الأم " [1/32 ـ 33] : وقد قيل: (ما جن إنسان إلا أنزل، فإن كان هكذا، اغتسل المجنون للإنزال، وإن شك فيه أحببت له أن يغتسل احتياطًا) . قال الشيخ أبو حامد، وغيره من أصحابنا: إن كان الغالب من المجنون الإنزال لزمه أن يغتسل بمجرد الجنون، كالنائم مضطجعًا. وإن لم يكن الغالب من حاله الإنزال لم يجب عليه الاغتسال، إلا أن يتحقق الإنزال، كما قلنا فيمن نام قاعدًا. وأما من زال عقله بالسكر، فالبغداديون من أصحابنا قالوا: يجب عليه الوضوء؛ لما ذكرناه في المجنون والمغمى عليه. وقال المسعودي: [في " الإبانة ": ق\24] : لا يجب عليه الوضوء؛ لأنه كالصاحي في ظاهر المذهب، إلا أن يغشى عليه، فحينئذٍ يجبُ عليه الوضوء. وقال: وعلى هذين الوجهين: هل ينعزل وكيله؟ [مسألة: لمس الأنثى] ] : وأما لمس النساء: فإذا وقعت الملامسة بين رجل وامرأة ـ يحل له الاستمتاع بها بحال ـ بأي عضو كان من أبدانهما لا حائل بينهما، انتقض وضوء اللامس منهما،

سواء كان بشهوة أو بغير شهوة. وبه قال ابن مسعود، وابن عمر. والزهري، وربيعة، وزيد بن أسلم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: (لا تنتقض الطهارة بذلك) . وبه قال ابن عباس، وعطاء، وطاووس، إلا أن أبا حنيفة، وأبا يوسف قالا: (إذا وطئها فيما دون الفرج وانتشر، انتقضت الطهارة، وكذلك إذا وضع فرجه على فرجها، وإن لم يولج) . وقال مالك وإسحاق: (وإن لمسها بشهوة انتقض وضوؤه. وإن لمسها بغير شهوة لم ينتقض وضوؤه) . قال المسعودي [في " الإبانة ": ق\25] : وخرج الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قولا مثل هذا من لمس ذوات المحارم؛ لأنه لا شهوة فيه. وقال داود: (إن قصد لمسها، انتقض الوضوء. وإن لم يقصد، لم ينتقض) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] . وحقيقة اللمس: باليد، ولهذا: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الملامسة» . وقال الشاعر: لمست بكفي كفه طلب الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي

فرع: بيان طهارة الملموس

وإن لمسها من وراء حائل لم ينتقض الوضوء، سواء كان الحائل صفيقًا أو رقيقًا، بشهوة أم بغير شهوة. وقال مالك: (إن لمسها بشهوة من وراء حائل رقيق انتقض وضوؤه، وإن كان صفيقًا لم ينتقض) . وقال ربيعة: إذا لمسها بشهوة انتقض وضوؤه وإن كان بينهما حائل، سواء كان صفيقًا أو رقيقًا. دليلنا: أن اللمس من وراء حائل لا يقع عليه اسم اللمس، ولهذا: لو حلف لا يلمسها، فلمسها من وراء حائل لم يحنث. [فرع: بيان طهارة الملموس] ] : وإذا لمس أحدهما الآخر من غير حائل فهل ينتقض طهر الملموس؟ فيه قولان: أحدهما: لا ينتقض؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] [النساء: 43] فخصهم بذلك. «وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: افتقدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة في الفراش، فظننت أنه قد ذهب إلى بعض نسائه، فقمت أطلبه، فوقعت يدي على أخمص قدمه، وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته قال: " أتاك شيطانك» . فلو انتقض طهره لقطع الصلاة.

و (الأخمص) : الموضع المنخفض في باطن القدم. والثاني: ينتقض وضوؤه؛ لأن ما نقض بالتقاء البشرتين استوى فيه اللامس والملموس، كالجماع. وأما الخبر: فيحتمل أنها لمسته من وراء حائل. وإن لمس شعرها أو ظفرها أو سنها فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا ينتقض الوضوء بذلك؛ لأنه لا يلتذ بمسه. والخراسانيون قالوا: هو على وجهين: أحدهما: هذا. والثاني: ينتقض وضوؤه لأنه لمس جزءًا منها. وإن لمس يدًا مقطوعة من امرأة، لم ينتقض وضوؤه عند البغداديين من أصحابنا؛ لأنها بالانفصال زال عنها اسم النساء. وقال الخراسانيون: فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: ينتقض، كما لو كانت متصلة. وإن لمس امرأة لا يحل له الاستمتاع بها، بنسب أو رضاع ففيه قولان: أحدهما: ينتقض وضوؤه. وهو اختيار المسعودي [في " الإبانة " ق\25] ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] . وهذه من النساء. والثاني: لا ينتقض وضوؤه. وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأنها ليست بمحل لشهوته، فهو كما لو لمس رجلا. وإن لمس امرأة كانت حلالا له، ثم حرمت عليه على التأبيد، كأم زوجته، وربيبته، فقد اختلف أصحابنا فيه:

فرع: لمس الميتة

فمنهم من قال: فيه قولان، كذوات المحارم. ومنهم من قال: ينتقض وضوؤه قولا واحدًا؛ لأنها كانت تحل له، فهي كأم من وطئها بشبهة. وإن لمس صغيرة لا تُشتهى، أو عجوزًا لا تُشتهى، فإن كانت أجنبية منه، قال الشيخ أبو حامد: فإن أصحابنا يحكون فيها قولين. قال: ولا أعرف للشافعي نصًا في هذا، ولكن أظنهم بنوا ذلك على القولين في ذوات المحارم. وأما الصغائر والعجائز من المحارم، فمبني على القولين في الكبار منهن. فإن قلنا: لا ينتقض وضوؤه بلمس الكبار منهن، فالصغار والعجائز منهن أولى. وإن قلنا: ينتقض وضوؤه بلمس الكبار منهن فهل ينتقض بلمس الصغائر منهن والعجائز؟ على قولين، كالصغائر والعجائز الأجنبيات. [فرع: لمس الميتة] ] : وإن لمس امرأة ميتة، فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: تنتقض طهارته بذلك؛ لأن اللمس إذا نقض الوضوء استوى فيه الحي والميت، كما لو مس فرج ميت. ومنهم من قال: فيه قولان، كلمس الصغائر والعجائز الأجنبيات. وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الميتة لا تشتهى في العادة. [فرع: لمس الخنثى المشكل] ] : وإن لمس الخنثى المشكل رجلا أو امرأة، أو خنثى مثله لم ينتقض وضوء أحد منهما؛ لجواز أن يكون الخنثى على صفة من لامسه. فإن لمس الخنثى رجلا وامرأة في حالة واحدة، أو في حالتين من غير أن يحدث بينهما وضوء، انتقض وضوؤه، ولم ينتقض وضوء واحد منهما؛ لأنا نتيقن أنه لمس

مسألة: مس الفرج

من ليس كمثله، ولم نتيقن في حق أحدهما أنه لمس من ليس كمثله. والذي يقتضي المذهب: أنه لا يجوز لهذه المرأة أن تأتم بهذا الرجل؛ لأن طهارة أحدهما منتقضة بيقين، فهما كالمجتهدين في إناءين: أحدهما طاهر، والآخر نجس. وإن لمس الخنثى رجلا وخنثى، أو امرأة وخنثى، لم ينتقض وضوء واحد منهم؛ لجواز أن يكون اللامس مثل الملموس. وإن لمس الخنثى رجلا، فصلى الظهر، ثم لمس امرأة، فصلى العصر، قال القاضي: وجب عليه قضاء العصر دون الظهر؛ لأنا نتيقن أن طهره قد انتقض في العصر بيقين. وإن لمس الخنثى رجلا، فصلى الظهر، ثم جدد الطهارة، ثم لمس امرأة، ثم صلى العصر فلا يلزمه إعادة الظهر. وأما العصر: فإن قلنا: إن تجديد الوضوء يرفع الحدث لم يلزمه إعادتها. وإن قلنا: لا يرفع الحدث لزمه إعادتها. [مسألة: مس الفرج] ] : وأما مس الفرج: فقد اختلف العلماء فيه: فذهب الشافعي إلى: (أن الرجل إذا مس ذكره ببطن كفه، أو مست المرأة فرجها ببطن كفها، انتقض وضوؤهما بذلك) . وهو قول عمر، وابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة، وأبي هريرة، وابن عباس. وبه قال عطاء، وابن المسيب، وأبان بن عثمان، وعروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، والزهري، ومجاهد. وأحمد، وإسحاق. وقال مالك: (ينتقض وضوء الرجل، ولا ينتقض وضوء المرأة) . وذهبت طائفة إلى: (أنه لا ينتقض الوضوء بذلك) . ذهب إليه علي، وابن مسعود،

فرع: أي مس ينقض الطهارة

وعمار بن ياسر، والحسن البصري، وربيعة، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه. وقال جابر بن زيد: إن تعمد مسه انتقض وضوؤه، وإن لم يتعمد مسه لم ينتقض وضوؤه. دليلنا: ما روت بسرة بنت صفون: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ويل للذين يمسون فروجهم، ثم يصلون، ولا يتوضؤون ". قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: بأبي وأمي، هذا للرجال، أفرأيت النساء؟ قال: " إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ» . ورواه بضعة عشر نفسًا من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وعمل به أصحاب الحديث. [فرع: أي مس ينقض الطهارة] ؟] : وإن مس فرجه بظهر كفه، أو ساعده لم ينتقض وضوؤه.

وقال عطاء، والأوزاعي: ينتقض. دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ» . و (الإفضاء) ـ عند أهل اللغة ـ: بباطن الكف، تقول العرب: أفضيت بيدي مبايعًا، وأفضيت بيدي ساجدًا. وإن مسه بحرف يده، أو بما بين الأصابع، أو برؤوس الأصابع، ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو المذهب ـ: أنه لا ينتقض لأنه ليس بآلة لمسه، فهو كما لو مس بظهر الكف. والثاني: ينتقض؛ لأن خلقته كخلقة الباطن. وإن كان له أصبع زائدة، أو كف زائدة في محل الفرض، فمس الفرج بباطنها، ففيه وجهان: أحدهما: لا ينتقض وضوؤه؛ لأن الخبر ورد في المس، وذلك ينصرف إلى اليد المعهودة، وهي الأصلية. والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه ينتقض؛ لأن الزائدة تدخل في اسم اليد، ولهذا يجب غسلها في الوضوء مع الأصلية.

فرع: من له ذكران

[فرع: من له ذكران] ] : وإن خلق له ذكران، فمس أحدهما قال المسعودي [في " الإبانة " ق\25 ـ 26] : فإن كانا عاملين انتقض وضوؤه؛ لأنه يقع عليه اسم الذكر. وإن كان أحدهما غير عامل، فمس غير العامل لم ينتقض وضوؤه. وإن مس ذكرًا مسدودًا لا يخرج منه مني، ففيه وجهان، حكاهما الصيمري: أصحهما: أنه ينتقض وضوؤه؛ لأنه يقع عليه اسم الذكر. والثاني: لا ينتقض وضوؤه؛ لأنه لا يخرج منه مني، فهو كسائر الأعضاء. وهذا يبطل بذكر الصبي والعنين. [فرع: مس حلقة الدبر] ] : وإن مس حلقة دبره، أو دبر غيره انتقض وضوؤه. وحكى ابن القاص: أن الشافعي قال في القديم: (لا ينتقض وضوؤه) . وهو قول مالك، وداود؛ لأنه لا يقصد إلى مسه بشهوة. قال أصحابنا: لم يوجد هذا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قديم ولا جديد. والدليل على أنه ينقض: ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل مس فرجه، فليتوضأ» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والدبر في معنى الفرج، فوجب أن يقاس عليه) . قال ابن الصباغ: وإن مس بذكره دبر غيره انتقض وضوؤه؛ لأنه آلة مسه. مس المخرج غير الأصلي

فرع: انتقاض الوضوء بمس الفرج

فرع: [مس المخرج غير الأصلي] : وإن انفتح له مخرج غير الأصلي فهل ينتقض الوضوء بمسه؟ كل موضع قلنا: لا ينتقض الوضوء بالخارج منه، لم ينتقض الوضوء بمسه. وكل موضع قلنا: ينتقض الوضوء بالخارج منه، فهل ينتقض الوضوء بمسه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا ينتقض الوضوء بمسه؛ لأنه لا يقع عليه اسم الفرج. والثاني: ينتقض؛ لأنه مخرج ينتقض الوضوء بالخارج منه، فأشبه الأصلي. وهكذا الوجهان: في وجوب الغسل من الإيلاج فيه، وفي جواز استنجائه منه بالأحجار، وفي وجوب ستره من الرجل إذا كان فوق السرة، وفي وجوب المهر بالإيلاج فيه، وفي حصول الإحلال بالإيلاج فيه. [فرع: انتقاض الوضوء بمس الفرج] ] : وإن مس فرج غيره من كبير، أو صغير، أو حي، أو ميت، انتقض وضوء الماس. وقال داود: (لا ينتقض وضوؤه بمس ذلك من غيره) . وقال الزهري، والأوزاعي، ومالك: (لا ينتقض الوضوء بمس ذلك من الصغير) . وقال إسحاق بن راهويه: لا ينتقض بمس ذلك من ميت. دليلنا: ما روي في بعض ألفاظ حديث بسرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس ذكره فعليه الوضوء» ، ولأنه مس فرج آدمي متصل به، فانتقض وضوؤه، كما

فرع: مس الخصيتين

لو مس ذلك بنفسه، ولأنه إذا انتقض وضوؤه بمسه ذلك من نفسه، ولم يهتك به حرمة، فلأن ينتقض بمسه لذلك من غيره، وقد هتك به حرمة ذلك الغير أولى. وهل ينتقض وضوء الممسوس؟ من أصحابنا الخراسانيين من قال: فيه قولان، كالملموس. وأكثرهم قالوا: لا ينتقض وضوؤه قولا واحدًا. وهو الأصح؛ لأنه علق الطهارة على المماسة، ولم تحصل هاهنا إلا من واحد، بخلاف الملامسة، فإنها تحصل بين اثنين، وإن كانت من واحد. وإن مس ذكرًا مقطوعًا ففيه وجهان: أحدهما: ينتقض وضوؤه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من مس الذكر فعليه الوضوء» . ولأنه يقع عليه اسم الذكر، وإن كان مقطوعًا. والثاني: لا ينتقض وضوؤه؛ لأن المقطوع لا يقصد مسه في العادة، فهو كما لو مسه بظهر كفه. [فرع: مس الخصيتين] ] : وإن مس أنثييه، وأليته، أو عانته لم ينتقض وضوؤه. وحكي عن عروة بن الزبير: أنه قال: (ينتقض وضوؤه) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أفضى منكم بيده إلى ذكره فليتوضأ» . فخص الذكر بذلك، ولأنه مس من بدنه غير السبيلين، فلم ينتقض وضوؤه، كما لو مس فخذه. وإن مس فرج بهيمة لم ينتقض وضوؤه. وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي: أنه قال: (ينتقض وضوؤه) . وهو قول

فرع: مس الخنثى أحد فرجيه

الليث؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس الفرج الوضوء» ووجه القول المشهور: أنه لما لم ينتقض الوضوء بمس الأنثى من البهائم، لم ينتقض بمس فرج البهيمة، ولأن البهيمة لا حرمة لها، ولا تعبد عليها. وأما الخبر: فلا يعرف هذا اللفظ فيه، وإن صح فإن إطلاق ذلك لا ينصرف إلى البهيمة. [فرع: مس الخنثى أحد فرجيه] ] : وأما الخنثى المشكل: إذا مس أحد فرجيه لم ينتقض وضوؤه؛ لجواز أن يكون ذلك خلقة زائدة. فإن مس أحدهما، وصلى الظهر، ثم مس الآخر، وصلى العصر، لزمه إعادة العصر دون صلاة الظهر؛ لأن بمسه الثاني انتقضت طهارته بيقين. وإن مس أحدهما، وصلى الظهر، ثم توضأ، ومس الثاني، وصلى العصر ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\26] : أحدهما: يلزمه إعادة الصلاتين؛ لأنه قد صلى إحداهما بغير طهارة بيقين، فإذا أشكل عينها لزمه إعادتهما، كما لو نسي صلاة من صلاتين لا يعرف عينها. والثاني ـ وهو المذهب ـ: أنه لا يلزمه قضاء واحدة منها؛ لأنهما حادثتان لم يتعين الخطأ في واحدة منهما، فهما كرجلين قال أحدهما: إن كان هذا الطائر غرابًا فنسائي طوالق، وقال الآخر: إن لم يكن غرابًا فنسائي طوالق، فطار ولم يعرف فإنه لا يطلق نساء واحد منهما. وإن مس الخنثى ببطن كفه ذكر رجل، أو فرج امرأة انتقض وضوء الخنثى، سواء كان الممسوس أجنبيًا منه، أو من ذوي محارمه؛ لأنه قد وجد منه المس لا اللمس. ولا ينتقض وضوء الممسوس؛ لجواز أن يكون الخنثى مثل من مسه. وإن وضع الخنثى ذكره على فرج امرأة، أو دبرها، لم ينتقض وضوء واحد منهما؛ لجواز أن يكون الخنثى امرأة، وهذه خلقة زائدة فيه.

فرع: مس الخنثى

[فرع: مس الخنثى] ] : وإن مس رجل ذكر خنثى مشكل انتقض وضوء الرجل؛ لأنه إن كان الخنثى رجلا فقد وجد المس، وإن كان امرأة فقد وجد اللمس. ولا ينتقض وضوء الخنثى؛ لجواز أن يكون رجلا. وإن مس رجل فرج خنثى لم ينتقض وضوء واحد منهما؛ لجواز أن يكون الخنثى رجلا، وهذه خلقة زائدة فيه. وإن مست امرأة فرج خنثى انتقض وضوء المرأة؛ لأنه قد وجد: إما المس، وإما اللمس، ولا ينتقض وضوء الخنثى؛ لجواز أن تكون امرأة. وإن مست امرأة ذكر خنثى لم ينتقض وضوء واحد منهما؛ لجواز أن يكون الخنثى امرأة، وهذه خلقة زائدة فيها. وإن مس ماس فرجي الخنثى انتقض وضوء الماس؛ لأنه قد وجد مس الفرج الأصلي بيقين، ولا ينتقض وضوء الخنثى؛ لجواز أن يكون كمن مسه. وإن كان هناك خنثيان مشكلان، فمس أحدهما أحد فرجي الآخر لم ينتقض وضوء واحد منهما؛ لجواز أن يكونا على صفة واحدة، والفرج الممسوس خلقة زائدة. وإن مس هذا ذكر هذا، ومس هذا فرج هذا، فإنا لا نوجب الطهارة على أحدهما؛ لأنهما إن كانا رجلين، فقد انتقض وضوء ماس الذكر. وإن كانا امرأتين، انتقض وضوء ماس الفرج. وإن كان أحدهما رجلا، والآخر امرأة انتقض وضوؤهما. فإذا احتمل هذه الاحتمالات فإنا نتيقن أن أحدهما قد انتقض طهره، ولكنا لا نعرفه بعينه، فلم نوجب على أحدهما الطهارة، وهذا مراد صاحب " المهذب " [1/23] بقوله: و (كذا) لو تيقنا أنه انتقض طهر أحدهما، ولم نعرفه بعينه.

فرع: السهو كالعمد في النقض

[فرع: السهو كالعمد في النقض] ] : وما أوجب الطهارة فعمده وسهوه سواء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب الطهارة من النوم، والنائم لا يحس بما يخرج منه، ولا يقصد إليه. «وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: كنت رجلا مذاءً، وكنت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري، فاستحييت أن أسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكان ابنته مني، فسألت المقداد أن يسأله، فسأله، فقال: " ينضح فرجه بالماء، ويتوضأ» . وقال: «كل فحل مذاء» ، فأوجب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوضوء من المذي، وإن كان يخرج بغير اختياره. [مسألة: أمور لا تنقض الوضوء] ] : وأما دم الفصد، والحجامة، والرعاف، والقيح، والقيء، فلا ينقض الوضوء، سواء كان قليلا أو كثيرًا. وروي ذلك عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وابن عباس، وابن أبي أوفى، وأبي هريرة، وعائشة، وجابر بن زيد، وبه قال سعيد بن المسيب، ومكحول، وربيعة، ومالك. وقال أبو حنيفة: (كل نجس خرج من البدن فإنه ينقض الوضوء إذا سال. وإن وقف على رأس الجرح لم ينقض) . وقال في القيء: (إن ملأ الفم نقض

فرع: لا يجب الوضوء مما مست النار

الوضوء، وإن كان دونه لم ينقض) . وبه قال الأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق. دليلنا: ما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وصلى، ولم يزد على غسل محاجمه» . وروى أبو الدرداء، قال: «قاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأفطر» ، وقال ثوبان: «وأنا صببت له وضوءًا» ، فقلت: يجب الوضوء من القيء؟ فقال: (لو كان واجبًا لوجدته في كتاب الله تعالى) . ولأنه لو انتقض الوضوء بالكثير من ذلك لانتقض باليسير منه، كالغائط. ولما لم ينتقض باليسير منه لم ينتقض بالكثير منه، كالبصاق والمخاط. [فرع: لا يجب الوضوء مما مست النار] ] : ولا يجب الوضوء بأكل ما مسته النار، وهو قول الخلفاء الأربعة، وابن عباس، وأبي أمامة، وأبي الدرداء. وذهب الحسن البصري، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، وأبو مجلز، وأبو قلابة إلى: (أنه يجب الوضوء من ذلك) . وروي ذلك: عن ابن عمر، وأبي

طلحة، وأنس، وأبي موسى، وعائشة، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «توضؤوا مما مسته النار، أو مما غيرته النار» . دليلنا: ما روي عن جابر: أنه قال: «كان آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك الوضوء مما مسته النار» ، وهذا يدل على أن الأول منسوخ بهذا. ولا ينتقض الوضوء بأكل لحم الجزور. وقال أحمد بن حنبل: (ينتقض الوضوء بذلك) . وحكى ابن القاص في " التلخيص ": أن هذا قول الشافعي في القديم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل: أنتوضأ من لحم الغنم؟ فقال: " لا "، فقيل له: أنتوضأ من لحم الإبل، فقال: " نعم» .

فرع: القهقهة في الصلاة لا تنقض الوضوء

والأول هو المشهور: لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوضوء مما يخرج، لا مما يدخل» . وما رووه محمول على غسل اليد؛ لأن الوضوء إذا أضيف إلى الطعام اقتضى ذلك غسل اليد، لما روي عن بعض الصحابة: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بالوضوء قبل الطعام وبعده» ، وإنما فرق بين لحوم الإبل والغنم؛ لأن لحوم الغنم في الحجاز لا زهومة لها، بخلاف لحوم الإبل. [فرع: القهقهة في الصلاة لا تنقض الوضوء] ] : ولا ينتقض الوضوء بقهقهة المصلي، وبه قال جابر، وأبو موسى، وعطاء، وعروة، والزهري، ومكحول، ومالك. وقال الشعبي، والنخعي، والثوري وأبو حنيفة: (ينتقض الوضوء به، ويبطل الصلاة) ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قهقه في صلاته فليعد الوضوء والصلاة» .

فرع: لا وضوء من فحش الكلام

وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بقوم من أصحابه، فأتى ضرير فتردى في بئر، فقهقه بعض من كان خلفه، فلما فرغ أمره بإعادة الوضوء والصلاة» . ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المقهقه في الصلاة يعيد الصلاة، ولا يعيد الوضوء» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الضاحك في الصلاة كالمتكلم» . ولأن كل ما لا ينقض الوضوء خارج الصلاة، لم ينقضه داخل الصلاة، كالكلام. وأما خبرهم الأول: فنحمله على أنه يعيد الصلاة وجوبًا، والوضوء استحبابًا، بدليل ما رويناه. وخبرهم الثاني: مرسل على أنه لا يظن ذلك بالصحابة؛ لأنهم كانوا خيار الأمة، ووصفهم الله بالرحمة والرأفة، فكيف يضحكون من رجل وقع في بئر؟. وإن صح حملناه على الاستحباب، بدليل ما ذكرناه. [فرع: لا وضوء من فحش الكلام] ] : قال في " الأم " [1/18] : (ولا وضوء من الكلام، وإن عظم، ولا في إيذاء أحدٍ، ولا في قذف) .

مسألة: لا يؤثر الشك في الحدث

قال ابن الصباغ: وهذا إجماع، غير أنه قد روي عن ابن مسعود: أنه قال: (لأن أتوضأ من الكلمة الخبيثة أحب إلي من أن أتوضأ من الطعام الطيب) . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب، ولا يتوضأ من الكلمة العوراء؟!) . وقال ابن عباس: (الحدث حدثان: حدث الفرج، وحدث اللسان، وأشدهما: حدث اللسان) . فقال ابن الصباغ: الأشبه بذلك: أنهم أرادوا غسل الفم. وظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق في " المهذب "، والشيخ أبي نصر: أنهم أرادوا به الوضوء الكامل. [مسألة: لا يؤثر الشك في الحدث] ] : ومن تيقن بحدث، وشك في الطهارة بنى على تيقن الحدث، بلا خلاف؛ لأن الحدث يقين، فلا يرتفع بالشك. وإن تيقن الطهارة وشك في الحدث بنى على يقين الطهارة عندنا، سواء كان في الصلاة أو خارجًا منها. وقال مالك: (يبني على الحدث، سواء كان في الصلاة، أو خارجًا منها) . وقال الحسن: إن كان في الصلاة بنى على يقين الطهارة، وإن كان في غير الصلاة بنى على يقين الحدث، وتوضأ. دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سُئل عن الرجل يخيل إليه الشيء في الصلاة؟

فرع: طهارة المرتد

فقال: " لا ينفتل حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا» وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الشيطان ليأتي أحدكم وهو في الصلاة، فينفخ بين أليتيه، فيقول: أحدثت أحدثت، فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا» . وإن تيقن الطهارة والحدث، وشك في السابق منهما، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يجب عليه الوضوء؛ لأنه قد تيقنهما، وليس لأحدهما مزية على الآخر، فلم يجز له دخول الصلاة بطهارة مشكوك فيها. والثاني: ذكره ابن القاص، وهو المشهور: أنه ينظر إلى الحال التي يتيقنها من نفسه قبلهما: فإن كانت حالة حدث فهو الآن متطهر، لأنه قد تيقن أن الطهارة وردت على الحدث السابق فأزالته، وهو يشك في ارتفاع هذه الطهارة بحدث، والأصل: بقاؤها. وإن كانت حالته قبلهما حالة طهر فهو الآن محدث؛ لأنه قد تيقن أن الحدث ورد على الطهارة فأزالها، ثم صار يشك: هل ارتفع هذا الحدث بطهارة بعده؟ والأصل: أنه لم يرتفع. والوجه الثالث: حكاه الطبري في " العدة ": أنه ينظر إلى الحالة التي تيقنها من نفسه قبلهما فيبني الأمر عليها؛ لأنه يتعارض اليقينان بعده بالطهارة والحدث فيسقطان، ويبقى على الحالة الأولى، وهذا أضعف الوجوه. [فرع: طهارة المرتد] ] : وإن توضأ أو تيمم، ثم ارتد ففيه ثلاثة أوجه:

مسألة: لا صلاة ونحوها إلا بطهارة

أحدها: يبطلان؛ لأن ذلك أعظم من الحدث. والثاني: لا يبطلان؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث صفوان: «إلا من غائط، أو بول، أو نوم» فاقتضى أن جميع ذلك نواقض الوضوء. والثالث: يبطل التيمم، ولا يبطل الوضوء؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، فضعف أمره، فبطل بالردة، والوضوء يرفع الحدث فقوي أمره، فلم يبطل بالردة. [مسألة: لا صلاة ونحوها إلا بطهارة] ] : لا يجوز للمحدث فعل الصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول» . ولا يصح له الطواف، خلافًا لأبي حنيفة، ويأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطواف بالبيت صلاة» . ولا يجوز للمحدث مس المصحف، ولا مس حواشيه، ولا مس جلده المتصل به. ولا يجوز له حمله بعلاقة، ولا بغير علاقة. وقال داود: (يجوز له مسه) . وقال بعض أصحاب أبي حنيفة الخراسانيين: يجوز له مس حواشيه التي لا كتاب فيها، ويجوز له مس جلده. وقال أحمد: (يجوز له حمله بعلاقة، أو بغير علاقة) . وقال أبو حنيفة: (يجوز له حمله بعلاقة، ولا يجوز له حمله بغير علاقة) . وبه قال حماد، وعطاء، والحسن. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] [الواقعة: 79] . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في كتاب عمرو بن حزم: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» .

فرع: حكم ما زين بآيات القرآن

وأما الدليل على أنه لا يجوز مس حواشيه، ودفتيه؛ فلأنه جزء من المصحف فلم يجز للمحدث مسه، كموضع الكتابة. وأما الدليل على من أجاز حمله؛ فلأن الحمل أعظم في الهتك من المس، فإذا منع المحدث من مسه، فلأن يمنع من حمله أولى. [فرع: حكم ما زين بآيات القرآن] ] ويجوز للمحدث: أن يمس ثوبا أو بساطا نقش عليه القرآن؛ لأن القصد منه التزين، دون القرآن. وفيه وجه آخر: أنه لا يجوز. وليس بشيءٍ. وهل يجوز للمحدث: أن يقلب أوراق المصحف بين يديه بخشبة من غير أن يحمله، أو يكتب القرآن علي شيء غير حامل له؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز. وهو اختيار المسعودي في [" الإبانة " ق\20] ؛ لأن ما بيده منسوب إليه، فلم يجز له مس القرآن به، كما لا يجوز له مسه بيده. والثاني: يجوز. وهو قول البغداديين من أصحابنا؛ لأنه غير ماس له، ولا حامل. وهل يجوز للصبيان حمل الألواح التي فيها القرآن وهم محدثون؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز. كما لا يجوز ذلك لغيرهم.

فعلى هذا: على الولي والمعلم أن يأمرهم بالطهارة لذلك، فإن لم يفعل ـ أثم بذلك هو دون الصبي. والثاني: يجوز؛ لأن حاجتهم إلي ذلك كثيرة، وطهارتهم لا تنحفظ، فلو اشترطنا طهارتهم، لأدى ذلك إلى تنفيرهم. وإن حمل متاعًا وفي جملته مصحف، فهل يجوز؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\20] : أحدهما: لا يجوز. لأنه يحمل القرآن. والثاني: يجوز. وهو قول أصحابنا البغداديين؛ لأن المقصود منه حمل المتاع، فعفي عما فيه من القرآن؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى المشركين {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} [آل عمران: 64] [آل عمران: 64] . وإن حمل كتابا من كتب الفقه، وفيه شيء من القرآن، أو حمل دنانير أو دراهم عليها نقش القرآن، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه يحمل القرآن. والثاني: يجوز؛ لأن المقصود بها غير القرآن، ولأن ذلك يشق. وهل يجوز للمحدث حمل تفسير القرآن؟ قال الشاشي: اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: إن كان القرآن أكثر، لم يجز. وإن كان التفسير أكثر، ففيه وجهان، ككتب الفقه التي فيها آيات من القرآن.

ومنهم من قال: إن كان القرآن متميزًا عن التفسير، بأن كتب القرآن صدرا في خط غليظ، وتفسيره تحته بخط أدق منه، لم يجز حمله. وإن لم يتميز عنه في الخط، كره له حمله. قال الشاشي: وهذا لا معنى له؛ لأنه إذا لم يترك شيئا من القرآن، فهو مصحف أودع فيه، فلم يجز للمحدث حمله. وإن كان في موضع من بدنه نجاسة، فمس المصحف بغيره من بدنه وهو متطهر، فهل يجوز؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال القاضي أبو القاسم الصيمري: لا يجوز، كما لا يجوز للمحدث مس المصحف بظهره. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يجوز. وهو الصحيح؛ لأن النجاسة لا تتعدى محلها، بخلاف الحدث. وبالله التوفيق

باب الاستطابة

[باب الاستطابة] إذا أراد قضاء الحاجة، ومعه شيء عليه اسم الله تعالى، أو شيء من القرآن، فالمستحب له: أن ينحيه عنه؛ لما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل الخلاء، وضع خاتمه» . وإنما وضعه؛ لأنه كان مكتوبا عليه: محمد رسول الله. ثلاثة أسطر. وهل يختص ذلك بالبنيان، أو يشترك فيه البنيان والصحراء؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد: يختص ذلك بالبنيان. وقال المحاملي، وصاحب " المذهب ": يشترك فيه البنيان والصحراء. وقال الشيخ أبو حامد: ومما يختص به البنيان دون الصحراء، إذا أراد دخول الخلاء: أن يقول عند دخوله: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ستر ما بين عورات أمتي، وأعين الجن: بسم الله» . وروي: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول إذا أراد دخول الخلاء: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» .

وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الخبيث المخبث، الرجس النجس الشيطان الرجيم» . قال أبو عبيد: (الخبث) : الشر، و (الخبائث) : الشياطين، وأما (الخبيث) : فهو الخبيث بنفسه، و (المخبث) : هو المخبث لغيره. ويستحب إذا خرج أن يقول: «الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني، وأمسك لي ما ينفعني» . لما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك) . ويستحب أن يقول مع ذلك: «غفرانك، غفرانك» . لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك. ويستحب أن يقدم في الدخول رجله اليسرى، وفي الخروج رجله اليمنى؛ لأن الدخول أدنى فقدمت فيه اليسار، والخروج أعلى فقدمت فيه اليمنى. ويستحب لمن أراد قضاء الحاجة في الصحراء أن يبعد في المذهب؛ لما روى المغيرة بن شعبة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ذهب إلى الغائط، أبعد، بحيث لا يراه أحد» .

مسألة: حكم استقبال القبلة حال قضاء الحاجة

ويستحب أن يستتر عن العيون بشيء؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتي الغائط فليستتر» . «وروى جابر قال: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فرأى شجرتين بينهما نحو أربعة أزرع، فقال: " يا جابر، اذهب إلى تلك الشجرة، فقل لها: قال لك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحقي بصاحبتك؛ فإنه يريد أن يجلس وراءكما "، فقلت لها ذلك، فلحقت بصاحبتها، فجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وراءهما، فلما قضى حاجته وقام، عادت إلى مكانها» . [مسألة: حكم استقبال القبلة حال قضاء الحاجة] ] : وأما استقبال القبلة بالغائط والبول، فاختلف العلماء في جواز ذلك. فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى: (أنه يجوز ذلك في البنيان، ولا يجوز ذلك في الصحراء، فإن فعل ذلك ذاكرا عالما بتحريمه أثم) . وروي ذلك عن العباس بن عبد المطلب، وابن عمر، وبه قال مالك وإسحاق. وذهب أبو حنيفة إلى: (أن ذلك لا يجوز في البنيان، ولا في الصحراء) . وبه قال أبو أيوب الأنصاري، والنخعي. وذهب عروة بن الزبير، وربيعة، وداود إلى: (أنه يجوز ذلك في البنيان والصحراء) . دليلنا: ما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما أنا لكم مثل الوالد، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط، فلا يستقبل القبلة لغائط ولا بول، وليستنج بثلاثة أحجار» .

ونهى عن الروث والرمة، وهذا دليل على منع ذلك في الصحراء. وأما الدليل على جواز ذلك في البنيان: فما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «ذكر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن قوما يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال: " أوقد فعلوا ذلك؟ استقبلوا بمقعدتي إلى القبلة» . وكان ذلك في البنيان. وروى ابن عمر، قال: «اطلعت على إجار ببيت حفصة، فرأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقضي حاجته قاعدا على لبنتين، مستقبل الشام، مستدبرا القبلة» . فإن قيل: كيف جاز لابن عمر أن ينظر إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على تلك الحال؟. قلنا: يحتمل أنه لم يقصد النظر، ولكن فاجأته النظرة، ويحتمل أنه رأى ظهره وأعالي بدنه. وإذا ثبت هذا: فروى معقل بن أبي معقل الأسدي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن استقبال القبلتين» . فتأول أصحابنا ذلك بتأويلين: أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينهى عن استقبال بيت المقدس، حين كان قبلة، ثم نهى عن استقبال الكعبة، حين صارت قبلة، فجمع الراوي بينهما.

فرع: حكم استقبال القبلة في الأبنية

والثاني أن هذا ورد على أهل المدينة، ومن كان في سمتهم من البلدان؛ لأن من هناك إذا استقبل الكعبة، استدبر بيت المقدس، وإذا استدبر الكعبة، استقبل بيت المقدس. وسمي بيت المقدس قبلة؛ لأنه كان قبلة على عادة العرب في استصحاب الاسم بعد زواله. [فرع: حكم استقبال القبلة في الأبنية] ] : البنيان الذي يجوز فيه استقبال القبلة واستدبارها. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\21] : يجب ألا يكون البناء أقل من مؤخرة الرحل، ويشترط أن يكون بقرب البناء، فإن كان بينه وبين البناء أكثر مما بين الصفين، كان كالصحراء. ولا يشترط البناء والتسقيف، بل لو كان بينه وبين القبلة دابة، أو أرسل ثوبه من خلفه، كان كالبناء؛ لأن ذلك يستره عن القبلة. فإن كان في وهدة من الأرض، وبينه وبين القبلة شيء يستره من الأرض، أو كان بينهما شجرة، ففيه وجهان: أحدهما: لا يكون ذلك كالبنيان، لأنه يقع عليه اسم الصحراء. والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يكون كالبنيان؛ لأن ذلك يستره عن القبلة، فهو كالبنيان. ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرفع ثوبه، حين رآه من فوق سطح بيت حفصة حتى دنا من الأرض» .

فرع: تهيئة مكان البول وما يكره فيه من أمور

[فرع: تهيئة مكان البول وما يكره فيه من أمور] [تهيئة مكان البول وما يكره فيه من أمور] : وإذا أراد أن يبول، ارتاد لبوله موضعا لينا؛ لا يترشش عليه البول: إما رملا، أو ترابا لينا، فإن كان الموضع صلبا، دقه بحجر؛ لما «روى أبو موسى الأشعري، قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم، فأراد أن يبول، فأتى دمثا في أصل جدار، فبال فيه، ثم قال: " إذا أراد أحدكم أن يبول، فليرتد لبوله، ولا يستقبل الريح؛ فإنها ترده عليه» . و (الدمث) : الموضع اللين. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتمخر الريح إذا أراد أن يبول» . ويستحب أن يجلس إذا أراد أن يبول، ويكره أن يبول قائما من غير عذر؛ لما روي عن عمر: أنه قال: (ما بلت قائما منذ أسلمت) . وقال ابن مسعود: (من الجفاء أن تبول وأنت قائم) . ولأنه لا يأمن أن يترشش عليه. وروي عن بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنها قالت: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يبول تفاج؛ حتى إنا لنأوي له» .

فإن كان له عذر عن الجلوس، لم يكره له البول قائما؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال قائما لعلة بمأبضه» و (المأبض) : ما تحت الركبة من كل حيوان. ويكره أن يبول في جحر من الأرض؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البول في الجحر، قيل لقتادة: فما بال الجحر؟ فقال: يقال: إنها مساكن الجن» . وقيل: إن سعد بن عبادة خرج إلى الشام، فسمع أهله هاتفا يهتف في داره ويقول: نحن قتلنا سيد الخز ... رج سعد بن عباده قد رميناه بسهمي ... ن فلم نخط فؤاده ففزع أهله من ذلك، وتعارفوا خبره، فكان قد مات في تلك الليلة. وقيل: إنه قد كان جلس يبول في جحر، فاستلقى ميتا. ولأنه لا يؤمن أن يخرج من الجحر بالبول شيء يلسعه، أو يرد عليه بوله. ويكره أن يبول في الماء الراكد؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البول في الماء الراكد» ؛ لأنه ربما أفسده. ويكره أن يبول في الظل، والطريق، والموارد؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:

فرع: كراهة استقبال النيرين

«اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل المقصود» . قال أبو عبيد: فسميت ملاعن؛ لأن من رأى ذلك، قال: من فعل هذا، لعنه الله؟! ويكره أن يبول في مساقط الثمار؛ لأنه يقع عليه فينجس. ويكره أن يبول في موضع ويتوضأ فيه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يتوضأ فيه؛ فإن عامة الوسواس منه» . ولا بأس أن يبول في الإناء؛ لما روي: «أنه كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدح يبول فيه بالليل يوضع تحت سريره» . [فرع: كراهة استقبال النيرين] ] : قال الصيمري: ويكره له استقبال الشمس والقمر، واستدبارهما بفرجه، ولا يحرم. ويستحب لمن كان في قضاء حاجته أن يقنع رأسه، ولا ينظر إلى فرجه، ولا إلى

ما يخرج منه، ولا يرفع بصره إلى السماء، ولا يعبث بيده. ويكره أن يتكلم على الخلاء؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك» . ويكره له أن يرد السلام؛ لما روي: «أن المهاجر بن قنفذ سلم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يبول، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم رد عليه، وقال: " كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر» . ويكره أن يحمد الله تعالى إذا عطس، أو يجيب المؤذن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كرهت أن أذكر الله تعالى إلا على طهر» . ويستحب أن يتكئ على رجله اليسرى، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قعد أحدكم لحاجته، فليعتمد على رجله اليسرى» . ولأنه أسهل في قضاء الحاجة. ويستحب له ألا يطيل الجلوس على قضاء الحاجة؛ لما روي عن لقمان أنه قال: (إن طول القعود على الحاجة، تتجع منه الكبد، ويأخذ منه الباسور، فاقعد هوينا واخرج) .

مسألة: حكم الاستنجاء

وإذا بال، تنحنح ومسح ذكره من مجامع عروقه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا بال أحدكم، فلينتر ذكره ثلاث مرات» . ولأنه يخرج إن كان هناك بقية. [مسألة: حكم الاستنجاء] ] : الاستنجاء واجب من الغائط، فإن صلى قبل أن يستنجي لم تصح صلاته، وبه قال مالك في إحدى الروايتين، وأحمد، وإسحاق، وداود. وقال أبو حنيفة: (لا يجب، بل هو مستحب) . وهي الرواية الثانية عن مالك، وحكي ذلك عن المزني. وقدر أبو حنيفة النجاسة التي تصيب البدن والثوب بموضع الاستنجاء، وقال: (لا يجب إزالتها) . وقدرها أيضًا بالدرهم الأسود البغلي. وإنما يعتبر هذا القدر في المساحة دون السمك، فلو علت أيضًا شبرًا أو أكثر، ولم تزد مساحتها على قدر الدرهم لم يجب إزالتها. دليلنا: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وليستنج بثلاثة أحجار» . وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، ولأنها نجاسة لا تلحق المشقة في إزالتها غالبًا، فلم تصح الصلاة معها، كما لو زادت على قدر الدرهم. ويجب الاستنجاء من البول، كما يجب من الغائط.

فرع: حكم الخارج غير البول والغائط

وقال أبو حنيفة: (لا يجب الاستنجاء منه) . دليلنا: ما روى ابن عباس رضى الله عنهما: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بقبرين، فقال: " إنهما يعذبان، وما يعذبان بكبير، أما أحدهما: فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر: فكان لا يستنزه من البول» . وروي «لا يستبرئ من البول» وروي أن عبد الله بن عمر خرج في سفر، قال: فدفع بي الطريق إلى مقبرة، فأويت إلى امرأة، فلما جنني الليل سمعت صوتًا من المقبرة وهو يقول: شن وما شن، بول وما بول، فجزعت من ذلك، فقلت للمرأة: ما هذا؟ فقالت: ولدي، قدم علينا رجل في يوم صائف شديد الحر، فاستسقى ماء، فقال ولدي: قم إلى الشن، فاشرب منه، ولم يكن في الشن شيء، فقام ليشرب، فلم ير فيه شيئًا، فوقع فمات، وكان لا يستبرئ من البول، وكنت أنهاه عن ذلك، فلا ينتهي، فلما مات دفنته في هذه المقبرة، فكلما جن الليل يصيح: شن وما شن، بول وما بول. فحدث ابن عمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فـ: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسافر الرجل وحده» . قال أصحابنا: فيحتمل أن يكون نهى عن ذلك؛ لأن ابن عمر جزع مما أصابه، ويحتمل أن يكون لأجل ما أصاب الرجل من العطش. [فرع: حكم الخارج غير البول والغائط] ] : قال ابن الصباغ: ولا يجب الاستنجاء من المني، ولا من الريح؛ لأنهما طاهران، فلا يجب منهما الاستنجاء.

مسألة: تقديم الاستنجاء على الوضوء

وإن خرج منه حصاة أو دودة، عليها رطوبة وجب منها الاستنجاء. وإن كان لا رطوبة عليها، فهل يجب منها الاستنجاء؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب؛ لأنه لا بلل معه، فهو كالريح. والثاني: يجب؛ لأنه لا يخلو من بلل. والأول أصح. قال ابن الصباغ: وإن خرجت منه بعرة، لا بلل عليها، فهي كالدودة والحصاة التي لا رطوبة معها. [مسألة: تقديم الاستنجاء على الوضوء] ] : والمستحب: أن يستنجي أولا، ثم يتوضأ إن كان واجدًا للماء قادرًا على استعماله. وإن كان عاجزًا عن الماء، أو عن استعماله، تيمم بعد الاستنجاء. فإن توضأ ثم استنجى، أو تيمم ثم استنجى، ولم يمس شيئًا من عورته فهل يصح؟ اختلف أصحابنا فيهما على ثلاث طرق: فـ[الأول] : قال أبو علي في " الإفصاح " قولان. و [الثاني] : قال أبو العباس ابن القاص: يصح الوضوء قولا واحدًا، وفي التيمم قولان. و [الثالث] : قال أكثر أصحابنا: يصح الوضوء، ولا يصح التيمم قولا واحدًا. والفرق بينهما: أن الوضوء يرفع الحدث، وذلك يصح مع بقاء النجاسة. والتيمم لا يرفع الحدث، وإنما يستباح به فعل الصلاة، فلم يصح مع بقاء النجاسة. فإذا قلنا: لا يصح تيممه قبل أن يستنجي، فكان على بدنه نجاسة في غير موضع الاستنجاء، فتيمم قبل إزالتها فهل يصح تيممه؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وهو المنصوص في " الأم " ـ: (أنه لا يصح؛ لما ذكرناه في النجاسة في موضع الاستنجاء) . والثاني ـ وهو قول أبي علي الطبري ـ: أنه يصح. والفرق ـ بين النجاسة على موضع الاستنجاء، وبين غيره من البدن ـ: أن خروج النجاسة إلى موضع الاستنجاء

مسألة: أفضلية استعمال الحجر والماء معا

توجب الطهارة، فجاز أن يكون بقاؤها فيه يمنع صحة الطهارة. وليس كذلك النجاسة في غير موضع الاستنجاء، فإن خروجها إليه لا يوجب الطهارة، فكان بقاؤها فيه لا يمنع صحة الطهارة. [مسألة: أفضلية استعمال الحجر والماء معًا] ] : وإذا أراد الاستنجاء، وكان الخارج غائطًا أو بولا، ولم يجاوز الموضع المعتاد، فالأفضل أن يستنجي بالأحجار أولا، ثم بالماء بعده. وحكى ابن المنذر، عن سعد بن أبي وقاص، وابن الزبير، وحذيفة: أنهم كانوا لا يرون استعمال الماء. وقال سعيد بن المسيب: ما يفعل ذلك إلا النساء. وقال عطاءٌ: غسل الدبر محدث. وكان الحسن لا يغسل بالماء. دليلنا: ما روي عن أبي هريرة: أنه قال: (إن هذه الآية نزلت في أهل قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] [التوبة: 108] . قال: وكانوا يستنجون بالماء) . وقال جابر، وأنس: لما نزلت هذه الآية دعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأنصار، فقال: «إن الله عز وجل قد أحسن عليكم الثناء، فما تصنعون؟ " فقالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، فقال: " هل غير هذا؟ " فقالوا: لا، إلا أن أحدنا إذا خرج من الخلاء أحب أن يستنجي بالماء، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هو ذاك، فعليكم به» .

وهذا يدل على: أنهم كانوا يستعملون الحجارة أولا؛ لأنهم لا يخرجون إلا بعد استعمال الحجارة. وقد روي: أنهم قالوا: (نتبع الحجارة الماء) . فإن أراد الاقتصار على أحدهما فالأفضل: أن يقتصر على الماء؛ لأنه أبلغ في الإنقاء. وإن أراد الاقتصار على الأحجار جاز، سواء كان الماء موجودًا أو معدومًا. وقال قوم من الزيدية، والقاسمية: لا يجوز الاقتصار على الأحجار، مع وجود الماء. دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار، يستطيب بها، فإنها تجزئ عنه» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال، فقام عمر خلفه بكوز من ماء، فقال: " ما هذا يا عمر؟ "، فقال: ماء تتوضأ به، فقال: " ما أمرت كلما بلت أن أتوضأ، ولو فعلت ذلك لكان سنة» . وهذا يبطل ما قالوه.

فرع: كيفية الإنقاء

[فرع: كيفية الإنقاء] ] : إذا استنجى بالماء لزمه إذهاب الأجزاء، وإذهاب الرائحة، لأن بقاء الرائحة يدل على بقاء الأجزاء. وإذا استنجى بالأحجار لزمه أبعد الأمرين من الإنقاء، واستيفاء ثلاثة أحجار، فإن لم ينق بالثالث لزمه أن يزيد رابعًا. فإن أنقى بالرابع أجزأه، ولا يلزمه استيفاء ستة أحجار. وحكى في " الفروع ": أن ابن خيران قال: يلزمه ذلك. وليس بشيء؛ لأن المقصود قد حصل. وإن أنقى بحجر أو بحجرين لزمه استيفاء الثلاثة. وقال مالك، وداود: (لا يلزمه ذلك) ، وحكي ذلك عن بعض أصحابنا، وليس بمشهور. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليستنج أحدكم بثلاثة أحجار» . وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. وقال سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن لا نجتزئ بأقل من ثلاثة أحجار» .

فرع: كيفية الاستجمار

فإن استنجى بحجر له ثلاثة أحرف، فمسح بكل حرف مرة، وأنقى أجزأه؛ لأن المقصود قد حصل، وهو المسح والإنقاء، فصار كما لو مسح بثلاثة أحجار وأنقى. و (الإنقاء) ـ في الأحجار ـ هو: أن لا يبقى إلا أثر لاصق لا يزيله إلا الماء، فيعفى عن ذلك الأثر؛ لأنا قد بينا أن استعمال الماء غير واجب. قال الصيدلاني: فلو عرق محل النجو وجاوزه، نجسه، ووجب عليه غسله بالماء. وإن لم يجاوزه عفي عنه، على الأصح. قال الصيمري: وإن بقيت بعد الأحجار بقية يخرجها حجر صغير، أو ما صغرَ من الخزف ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه إخراجها، كما لو بقيت بقية يخرجها حجر كبير. والثاني: لا يلزمه، كما لا يلزمه إخراج الأثر اللاصق الذي لا يزيله إلا الماء. [فرع: كيفية الاستجمار] ] : قال أصحابنا: وأما كيفية الاستنجاء بالأحجار: فليس فيه تقدير واجب، وإنما يجب أن يمر كل حجر من الأحجار الثلاثة على كل موضع من مواضع الاستنجاء. وأما كيفية الاستنجاء: ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: يأخذ حجرًا فيمره على الصفحة اليمنى ويرمي به، ثم يأخذ حجرا آخر فيمره على الصفحة اليسرى ويرمي به، ثم يأخذ حجرًا فيمره من مقدم على المسربة ويرمي به، لما روى سهل بن سعد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يكفي أحدكم إذا قضى حاجته أن يستنجي بثلاثة أحجار: حجرين للصفحتين، وحجر للمسربة» .

فرع: كيفية استنجاء غير الرجل

و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يأخذ حجرًا فيمره من مقدم صفحته اليمنى إلى مؤخرها، ثم يديره إلى اليسرى من مؤخرها إلى مقدمها، ثم يأخذ حجرًا ثانيًا فيمره من مقدم صفحته اليسرى إلى مؤخرها، ويديره من مؤخر صفحته اليمنى إلى مقدمها، ثم يأخذ حجرًا ثالثًا فيمره على جميعهما وعلى المسربة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقبل بحجر، ويدبر بحجر، ويحلق بالثالث» . وهذا أصح؛ لأنه يستعمل جميع الأحجار، في جميع مواضع الاستنجاء. [فرع: كيفية استنجاء غير الرجل] ] : واستنجاء المرأة في الدبر كاستنجاء الرجل. وأما استنجاؤها من البول: فإن كانت بكرًا فإنها تستنجي في مواضع البول بالأحجار والماء كالرجل. وأما موضع البكارة: فلا تعلق للبول فيه؛ لأنه مسدود تحت ثقبة البول، ولا يصل إليه البول، ولكن يستحب لها: أن تدخل أصبعها في الثقب الذي في الفرج، فإن لم تفعل لم يلزمها شيء. وأما الثيب: فإنها إذا جلست للبول انفرج ذلك الموضع، فربما ينزل إليه البول، فإن تحققت وصول البول إلى موضع البكارة ـ وهو مدخل الذكر، ومخرج الحيض،

فرع: النهي عن استعمال اليمين في الاستنجاء

والمني، والولد ـ وجب غسله بالماء. وإن لم يتحقق وصول البول إليه استحب لها: أن تغسله، ولا يجب عليها. وحكى في " الفروع " وجهًا آخر: أن الثيب لا يجزئها الاستنجاء بالحجر. وليس بشيء. وأما الخنثى المشكل: فحكمه في الاستنجاء في الدبر حكم غيره. وإن خرج البول من أحد فرجيه، ومن عادته أن يبول منهما فقد مضى ذكره في الحدث. وإن بال منهما وجب عليه الاستنجاء فيهما؛ لأن أحدهما أصلي بيقين، ولكن لا نعرفه بعينه، فلزمه الاستنجاء فيهما؛ ليسقط الفرض بيقين. فإن أراد الاستنجاء بالماء فيهما جاز. وإن أراد الاقتصار فيهما على الحجر فهل يجزئه؟ فيه وجهان ـ بناء على من انفتح له مخرج دون المعدة، مع انفتاح المعتاد ـ: إذا قلنا: ينتقض الوضوء بمسه فهل يجزئ فيه الحجر؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. فإذا قلنا: يجزئه فيه الحجر وجب لكل واحد منهما أبعد الأمرين من ثلاثة أحجار، أو الإنقاء، كما قلنا في الأصلي. [فرع: النهي عن استعمال اليمين في الاستنجاء] ] : ويكره أن يستنجي بيمينه؛ لما روى أبو قتادة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه، وإذا خلا فلا يستنجي بيمينه» . وروي عن عائشة: أنها قالت: «كانت يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليمنى لطعامه وشرابه

مسألة: ما يقوم مقام الحجر

وطهوره، ويده اليسرى للاستنجاء» . ويستحب أن لا يستعين بيمينه في الاستنجاء على شيء يمكنه فعله بغيرها، فإن كان يستنجي بالحجر من الغائط أخذها بيساره ومسح بها. وإن كان يستنجي بالحجر من البول، فإن كان يستنجي على حائط أو أرض أو حجر كبير أخذ ذكره بيساره ومسحه بها. وإن كان يستنجي بحجر صغير ترك الحجر بين عقبيه أو إبهامي رجليه، ومسح عليه ذكره بيساره، وإن لم يمكنه، أمسكه بيمينه ومسحه بها. وهكذا إن كان يستنجي بالماء فإنه يصب الماء بيمينه على موضع الاستنجاء، ويدلكه بيساره؛ لأنه لا يمكنه غير ذلك. وإن كان أقطع اليسار لم يكره له أن يستنجي بيمينه؛ لأنه موضع ضرورة. فإن استنجى بيمينه مع تمكنه من فعله بيساره أجزأه؛ لأن الاستنجاء يقع بما يأخذه بها، لا بها. [مسألة: ما يقوم مقام الحجر] ] : وإن استنجى بما يقوم مقام الحجر أجزأه. وقال داود وأهل الظاهر، وزفر، وأحمد: (لا يجزئه) . دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قضى أحدكم حاجته فليستنج بثلاثة أحجار، أو بثلاثة أعواد، أو بثلاث حثيات من تراب» . ذكره الدارقطني. إذا ثبت هذا: فإن ما يقوم مقام الحجر ما اجتمع فيه ستة شروط:

الشرط الأول: أن يكون جامدًا، فإن استنجى بمائع غير الماء، كالخل، واللبن وما أشبههما لم يجز؛ لأن إزالة النجاسة لا تجوز عندنا بغير الماء، وقد مضى ذكره. الشرط الثاني: أن يكون الجامد طاهرًا؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستنجاء بالروث، والرمة» . وإنما نهى عنهما لنجاستهما؛ بدليل ما روي: «عن ابن مسعود: أنه قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحجرين وروثة ليستنجي به، فأخذ الحجرين، ورمى بالروثة، وقال: " إنها ركس» . ولأن الماء النجس لا يجوز إزالة النجاسة به، فكذلك الجامد النجس. إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال في " المختصر " [1/12] : (فإن استطاب بما يقوم مقام الحجر من الخزف والآجر وأنقى ما هنالك أجزأه) . وذكر أيضًا في " الأم " [1/19] : (أن الاستنجاء بالآجر يجوز) . قال الشيخ أبو حامد: فيحتمل أن يكون الآجر عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يطرح فيه روث، وقد قيل: إن طرح الروث فيه لم يكن قبل، ثم حدث، ويحتمل أن يكون علم أن فيه روثًا، ولكنه حكم بأن النار أكلته، فإذا غسل طهر ظاهره، فيجوز الاستنجاء به. فإن كسر موضع منه فموضع الكسر نجس، لا يجوز الاستنجاء به وإن غسله؛ لأن الأعيان قائمة فيه لم تحرقها النار. ولا يستنجي بحجر قد استنجى به هو، أو غيره قبل أن يغسل الحجر بالماء. فإن غسل بشيء من المائعات، كالخل، وماء الورد فالمشهور من المذهب: أنه لا يحكم بطهارته، ولا يجوز الاستنجاء به؛ لأن إزالة النجاسة لا تجوز بغير الماء.

وحكى الصيمري قولا آخر: أنه يحكم بطهارته، ويجوز الاستنجاء به؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأرض يطهر بعضها بعضًا» . ولأن المقصود إزالة عين النجاسة، وقد زالت. وهذا قول أبي حنيفة. فإن جفت النجاسة بالشمس، وذهبت عينها فهل يحكم بطهارته، ويجوز الاستنجاء به؟ فيه وجهان. فإن قلنا: يحكم بطهارته بالشمس فهل يحكم بطهارته إذا ذهبت عين النجاسة بالظل والرياح؟ فيه قولان. وإن استنجى بحجر، ثم وجده وشك: هل جرى عليه ماء طهره أم لا؟ لم يستنج به؛ لأن الأصل بقاؤه على النجاسة. وإن رأى حجرا وشك: هل استنجى به هو، أو غيره؟ قال الشافعي: (كرهت له أن يستنجي به، فإن فعل به أجزأه؛ لأن الأصل أنه لم يستنج به) . فإن استنجى بشيء نجس، أو بمائع غير الماء فهل يجزئه الاستنجاء بالأحجار من ذلك؟ فيه وجهان. أحدهما: لا يجزئه إلا الماء؛ لأن هذه النجاسة من غير الخارج من السبيلين، فلم يجزئه إلا الماء، كما لو وقعت نجاسة على موضع من بدنه غير موضع الاستنجاء. والثاني: تجزئه الأحجار؛ لأن هذه النجاسة تابعة للنجاسة التي على المحل، فزالت بزوالها. الشرط الثالث: أن يكون الجامد منقيًا، فإن كان غير منقٍ، كالزجاج، والحديد الصقيل، وما أشبه ذلك لم يجزه الاستنجاء به، لأن المقصود إزالة عين النجو،

وهي لا تزول بذلك. وكذلك اللزج الذي لا يجري على موضع الاستنجاء لا يصح الاستنجاء به، لأن عين النجاسة لا تزول به. وأما الفحم: فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا يصح الاستنجاء به؛ لأنه لا يزيل العين، فهو كالزجاج. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\23] : قد اختلف نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه، والصحيح: إن كان صلبًا صح الاستنجاء به، وإن كان رخوًا لم يصح الاستنجاء به. وإن استنجى بحجر فيه رطوبة فهل يصح؟ فيه وجهان. قال الصيمري: ويمكن أن يقال: إن كانت الرطوبة يسيرة صح، وإن كانت كثيرة لم يصح. فإن استنجى بشيء أملس، كالزجاج الأملس، والحديد الصقيل، فهل يصح الاستنجاء بعده بالحجر؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال القفال: لا يصح. و [الثاني] : قال غيره: يصح. الشرط الرابع: أن لا يكون الجامد مطعومًا، فإن استنجى بمطعوم، كالخبز والعظم لم يجز. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجوز الاستنجاء بالعظم) . فأما مالك: فلأنه مزيل عنده للعين. وأما أبو حنيفة: فلأن الاستنجاء عنده غير واجب. ودليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرويفع بن ثابت الأنصاري: «يا رويفع، لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس أن من استنجى بعظم، أو رجيع فقد برئ من محمد» .

وروى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستنجاء بالروث والرمة» : وهي العظم البالي. وروى ابن مسعود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستنجاء بالعظام، وقال: " هي زاد إخوانكم من الجن» . إذا ثبت هذا: فإن استنجى بالخبز وأنقى، أو بعظم طاهر وأنقى، فقد فعل فعلا محرمًا، ويأثم به إذا علم تحريمه. وهل يصح استنجاؤه؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه جامد طاهر مزيل للعين، فصح استنجاؤه، وإنما منع منه للحرمة، كما لو صلى في ثوب حرير. والثاني: لا يصح، وهو صحيح؛ لأن الاستنجاء بغير الماء رخصة، والرخص لا تتعلق بالمعاصي. فإذا قلنا بهذا. أجزأه الاستنجاء بالأحجار وجهًا واحدًا، هكذا ذكره في " الفروع ". الشرط الخامس: أن لا يكون للجامد حرمة. فإن كان له حرمة، بأن استنجى بما فيه قرآن، أو حديث، أو فقه لم يجز؛ لأن فيه استخفافًا بالشريعة. فإن استنجى بشيء من ذلك وأنقى فهل يصح؟ فيه وجهان، كما ذكرنا في الخبز والعظم. فإذا قلنا: لا يصح، أجزأه الإعادة بالأحجار وجهًا واحدًا. وإن استنجى بقطعة خشنة من ذهب، أو فضة، فهل يصح؟ فيه وجهان:

فرع: الاستنجاء بالصوف

أحدهما: يصح؛ لأنه جامد طاهر مزيل للعين غير مطعوم، فأجزأه كالحجر. والثاني: لا يصح؛ لأن فيه سرفًا. فعلى هذا: يصح إعادة الاستنجاء بالحجر وجهًا واحدًا. وإن استنجى بقطعة ديباج أجزأه؛ لأنه جامد طاهر مزيل للعين، لا حرمة له، فأجزأه كالحجر. قال في " حرملة ": (وإن استنجى بخرقة من أحد جانبيها، وكانت رقيقة بحيث تصل النجاسة إلى الجانب الآخر، لم يجز الاستنجاء في الجانب الآخر؛ لأنها تتندى بالرطوبة النجسة، فتصير نجسة، إلا أن تلف الخرقة بعضها على بعض، بحيث لا تتندى النجاسة إلى الجانب الآخر، أو تكون ثخينة لا تصل النجاسة إلى الجانب الآخر منها، فيجوز حينئذ أن يستنجي بالجانب الآخر؛ لأن النجاسة من الجانب الآخر لا تصل إليه) . الشرط السادس: أن لا يكون جزءًا من حيوان متصل به؛ لأن له حرمة. فإن استنجى بشيء طاهر من ذلك، مثل أن يستنجي بيده، أو عقبه، أو بيد غيره، أو بذنب حمار متصل به، فهل يصح؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: يصح؛ لأنه جامد طاهر منق غير مطعوم، فأجزأه كالحجر. و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يصح؛ لأن له حرمة، فلم يصح الاستنجاء به، كالعظم. [فرع: الاستنجاء بالصوف] ] : قال في " حرملة ": (وإذا نتف الصوف من ظهر الحيوان المأكول، واستنجى به، كرهته، وأجزأه) . قال أصحابنا: إنما كره النتف؛ لأن فيه تعذيب الحيوان. فأما الاستنجاء بالصوف من الحيوان المأكول: فلا يكره؛ لأنه جامد طاهر منق غير مطعوم، فهو كالحجر.

فرع: الاستنجاء بالجلد

[فرع: الاستنجاء بالجلد] ] : وهل يجوز الاستنجاء بالجلد بعد الدباغ؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في " البويطي "، و" حرملة ": (لا يجوز) ؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستنجاء بالرمة» . وهذا الجلد في معنى الرمة. والثاني: يجوز؛ لأنه جامد طاهر مزيل للعين غير مطعوم، فأشبه الحجر. فإن قيل: هلا قلتم: لا يجوز؛ لأنه مأكول؟ قلنا: هو في العادة لا يقصد أكله، ولهذا يجوز بيع جلدين بجلد. وإن استنجى بجلد حيوان مأكول مذكى، غير مدبوغ، فهل يصح؟ فيه قولان: أحدهما: يصح، كما يصح بالخرق. والثاني: لا يصح؛ لأنه لا يقلع النجو للزوجته. [مسألة: تجاوز الخارج المخرج] ] : وإذا خرج منه الغائط، فكان على المخرج وما حوله مما ينتشر إليه في العادة، أجزأه فيه الحجر، بلا خلاف بين أصحابنا؛ لأن هذا هو المعتاد في عموم الناس، فحمل لفظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك. قال أصحابنا: وقد روى المزني: (إذا عدى المخرج لم يجزئه إلا الماء) . وهذا غير صحيح، بل الصحيح: ما نقله عن القديم: (أنه يستطيب بالأحجار، إذا لم ينتشر منه إلا ما ينتشر في العادة من العامة، في ذلك الموضع وحوله) .

فرع: حكم انتشار البول فوق المعتاد

فإن تغوط وقام، أو جف الغائط لم يجزئه إلا الماء؛ لأن بقيامه يزول الغائط الخارج عن موضعه بفعله. وبجفافه لا يزول بالحجر، فانحتم الماء فيه. وإن انتشر الغائط إلى باطن الأليتين، ولم يخرج شيء منه إلى ظاهرهما فهل يجزئه الحجر؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في القدم: (لا يجزئه إلا الماء؛ لأن ذلك يندر ويقل، فلا حاجة به إلى استعمال الأحجار فيه) . و [الثاني] : قال في " الأم " [1/19] : يجزئه الأحجار؛ لأن المهاجرين لما قدموا المدينة أكلوا التمر - وكانت أقواتهم الحنطة والشعير - والتمر يرق بطن من لا يعتاد أكله. ومعلوم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لهم في الاستنجاء بالأحجار. ولأن ذلك يتعذر ضبطه، فجعل الباطن كله حدًا. وإن خرج الغائط إلى ظاهر الأليتين لم يجزئه فيما خرج عن الأليتين إلا الماء قولا واحدًا؛ لأن ذلك نادر، فلم يجزئه إلا الماء، كالنجاسة على سائر بدنه. فإن قلنا بقوله في " الأم "، وأن المنتشر إلى باطن الألية يجزئ فيه الحجر. قال الشيخ أبو حامد: وجب عليه استعمال الماء فيما ظهر على ظاهر الأليتين، وأجزأه الحجر في المخرج وفي باطن الأليتين. وإن قلنا بقوله القديم، وأنه لا يجزئه الحجر في باطن الأليتين، فلا يمكن ـ هاهنا ـ أن يقال: يستعمل الحجر في المخرج وما حوله، والماء فيما زاد على ذلك؛ لأنه لا يتأتى الفصل بينهما، فإن أمكنه ذلك أجزأه. [فرع: حكم انتشار البول فوق المعتاد] ] : وأما البول: فإن كان على ثقب الذكر وما حوله، مما جرت العادة بانتشار البول إليه، أجزأه الحجر قولا واحدًا؛ لأنه هو المعتاد في عموم الناس.

فرع: حكم الخارج غير المعتاد

وإن جاوز البول موضع الطوق من باطن الذكر، أو ظاهره، لم يجزئه فيما جاوز الطوق إلا الماء؛ لأن ذلك نادر. وإن جاوز البول الثقب وما حوله، ولم يتجاوز الطوق، فهل يجزئ فيه الحجر؟ فيه طريقان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالقولين في الغائط إذا جاوز المخرج وما حوله إلى باطن الأليتين: أحدهما: لا يجزئه إلا الماء؛ لأنه يندر. والثاني: يجزئه الحجر؛ لأنه قد ينتشر إليه في العادة، فجعل الطوق كله حدًا، ووجب الماء فيما زاد. و [الطريق الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق: لا يجزئه إلا الماء قولا واحدًا؛ لأن ما ينتشر من البول نادر بخلاف الغائط. [فرع: حكم الخارج غير المعتاد] ] : وإن كان الخارج من السبيلين غير الغائط والبول، فإن كان دم حيض، أو نفاس، أو منيًا، فإن هذا لا مدخل لاستعمال الأحجار فيه؛ لأن ذلك يوجب الطهارة الكبرى. وإن كان دما غير الحيض والنفاس، أو قيحًا، أو صديدًا، فإن ذلك يوجب الاستنجاء؛ لأنه مائع نجس، فأوجب الاستنجاء كالغائط والبول. وهل يجزئ فيه الأحجار؟ فيه قولان. وكذلك إذا خرج منه دودة أو حصاة لا رطوبة معها، وقلنا: يجب منها الاستنجاء، ففيه قولان:

أحدهما: يجزئ فيه الحجر؛ لأنه نجس خارج من السبيلين، فأشبه البول والغائط. والثاني: لا يجزئ فيه الحجر؛ لأن الأحجار إنما أجزأت في الغائط والبول؛ لتكررهما ولخوف المشقة باعتياد الماء فيهما، وهذا لا يوجد في هذه الأشياء النادرة، فانحتم فيها الماء. وبالله التوفيق

باب ما يوجب الغسل

[باب ما يوجب الغسل] [مسألة: إيلاج الحشفة في الفرج] والذي يوجب الغسل: إيلاج الحشفة في الفرج، وخروج المني، والحيض، والنفاس. فأما إيلاج الحشفة في الفرج: فإنه يوجب الغسل، سواء أنزل أو لم ينزل، وهو قول كافة العلماء. وقال سعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبو سعيد الخدري، وأبو أيوب الأنصاري، ورافع بن خديج: (لا غسل عليه، ما لم ينزل) . وبه قال عروة، وداود. وقيل: إن أبيًا، وزيد بن أرقم رجعا عن ذلك.

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والجنابة عند العرب: الجماع، وإن لم يكن معه إنزال) . وروي عن عائشة: أنها قالت: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا التقى الختانان وجب الغسل» ، فعلته أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاغتسلنا.

وروى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قعد بين شعبها الأربع، وألصق ختانه بختانها فقد وجب الغسل، أنزل أو لم ينزل» . وهذه نص. قال الزهري: وشعبها الأربع: هي شعبتا رجليها، وشعبتا شفري فرجها. وإلصاق الختان بالختان لا يوجب الغسل، وإنما عبر به عن إيلاج الحشفة؛ لأن (ختان المرأة) هو: أن يقطع منها جلدة فوق ثقبة البول في أعلى الفرج. و (مدخل الذكر) هو ثقبة في أسفل الفرج. فإذا غيب الحشفة فيه تحاذى (ختانه) ـ وهو: موضع القطع من ذكره المنحسر عن الحشفة ـ وختانها. قال الشافعي: (والعرب تقول: التقى الفارسان: إذا تحاذيا، وإن لم يتضاما) . فعبر عن الإيلاج بالتقائهما لتقاربهما. وإن أولج بعض الحشفة لم يجب الغسل؛ لأن التقاء الختانين لا يحصل بذلك. فإن كان مقطعوع الحشفة ففيه وجهان، حكاهما الشاشي: أحدهما: لا يجب عليهما الغسل، إلا بتغييب ما بقي من الذكر؛ لأنه لم يبق حد يعتبر، فاعتبر الجميع. والثاني: يجب عليهما الغسل، إذا غيب من الباقي قدر الحشفة. فإن أولج ذكره في دبر امرأة، أو دبر رجل، أو دبر خنثى مشكل، وجب عليهما الغسل، لأنه أحد السبيلين، فوجب الغسل بتغييب الحشفة فيه كالفرج.

فرع: الإيلاج في الخنثى

وإن أولج ذكره في دبر بهيمة أو فرجها، أو فرج امرأة ميتة أو في دبرها وجب عليه الغسل. وقال أبو حنيفة: (لا يجب) . دليلنا: أنه يقع عليه اسم الفرج، فوجب الغسل بتغييب الحشفة فيه، كفرج المرأة الحية. وهل يجب غسل المرأة الميتة بذلك؟ فيه وجهان. وهل يجب الحد على المولج فيها؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجب؛ لأنه فرج محرم، فوجب بالإيلاج فيه الحد، كالمرأة الأجنبية الحية. والثاني: لا يجب؛ لأنه فرج غير مقصود. والثالث: إن كانت زوجته أو جاريته فلا حد عليه؛ للشبهة. وإن كانت أجنبية منه وجب عليه الحد؛ لأنه لا شبهة له فيه. [فرع: الإيلاج في الخنثى] ] : وإن أولج رجل ذكره في فرج خنثى مشكل لم يجب عليهما الغسل ولا الوضوء؛ لجواز أن يكون الخنثى رجلا، وهذه خلقة زائدة فيه. وإن أولج الخنثى ذكره في دبر رجل لم يجب الغسل على واحد منهما؛ لجواز أن يكون الخنثى امرأة، وهذه خلقة زائدة، فلا يجب بإيلاجها الغسل. قال القاضي: وأما الوضوء: فإنه يجب على الرجل بالإخراج لا بالإيلاج، ويجب الوضوء أيضًا على الخنثى؛ لأن الخنثى إن كان رجلا فقد وجب عليهما الغسل، وإن كان امرأة وجب عليهما الوضوء بالملامسة، فوجوب غسل أعضاء الوضوء متيقن. وهل يجب الترتيب في الوضوء؟

قال القاضي أبو الفتوح: أما وضوء الرجل: فيجب فيه الترتيب بلا خلاف. وأما الخنثى: فهل يجب عليه الترتيب في الوضوء؟ فيه وجهان. والذي يقتضي المذهب: أن الوضوء إنما يجب عليهما بالإيلاج لا بالإخراج؛ لأن الخنثى إن كان رجلا وجب عليه الغسل بالإيلاج، وإن كان امرأة وجب عليهما الوضوء بالتقاء بشرة الذكر وبشرة الدبر. ولا يجب الترتيب في وضوء الرجل؛ لأن له حالتين: حالة يجب عليه فيها الغسل دون الترتيب، وهو: إذا كان الخنثى رجلا. وحالة يجب عليه فيها الوضوء مرتبًا، وهو: إذا كان الخنثى امرأة، فأوجبنا المتيقن من ذلك، وهو: غسل أعضاء الطهارة، وأسقطنا المشكوك فيه، وهو: غسل ما زاد على أعضاء الطهارة، والترتيب في أعضاء الطهارة. وإن أولج الخنثى ذكره في فرج امرأة أو دبرها لم يجب على واحد منهما الغسل؛ لجواز أن يكون الخنثى امرأة، وهذه بضعة زائدة فيه. وأما الوضوء: فلا يجب على الخنثى؛ لجواز أن يكون امرأة. ويجب على المرأة؛ لأن الخنثى إن كان رجلا وجب عليهما الغسل. وإن كان امرأة فهذا عضو زائد فيهما، فيجب على المرأة الوضوء بإخراج ذلك منها، كما لو أدخلت في

فرجها مسبارًا، وأخرجته. وهل يجب عليها الترتيب في الوضوء؟ يحتمل أن يكون على الوجهين اللذين حكاهما القاضي أبو الفتوح في الأولى. وإن أولج الخنثى ذكره في قبل خنثى مثله لم يجب على واحد منهما وضوء ولا غسل؛ لجواز أن يكونا رجلين، والفرجان زائدان. وإن أولج الخنثى ذكره في دبر خنثى مثله لم يجب على المولج غسل ولا وضوء؛ لجواز أن يكونا امرأتين. قال القاضي: ويجب على المولج فيه الوضوء مرتبًا؛ لأن المولج إن كان رجلا فقد وجب عليهما الغسل. وإن كان امرأة صار ذلك خلقة زائدة فيه، فصار كما لو أدخل في دبره مسبارًا وأخرجه فيجب الوضوء بالإخراج لا بالإيلاج. وإن كان هناك خنثيان، فأولج كل واحد منهما ذكره في فرج صاحبه لم يجب على واحد منهما وضوء ولا غسل؛ لجواز أن يكونا رجلين، والفرجان عضوين زائدين، فلا يجب بإيلاجهما شيء. وإن أولج كل واحد منهما ذكره في دبر صاحبه، قال القاضي: وجب على كل واحد منهما الوضوء مرتبًا؛ لأنهما إن كانا رجلين، أو أحدهما رجلا، وجب عليهما الغسل. وإن كانا امرأتين صار الذكران كالمسبارين، فيجب الوضوء بإخراجهما لا بإيلاجهما على المولج فيه، وكل واحد منهما مولج فيه، فوجب عليهما الوضوء؛ لأنه متيقن. وإن أولج أحدهما ذكره في فرج صاحبه، وأولج الآخر ذكره في دبر الذي أولج فيه، فذكر القاضي أبو الفتوح: أنه لا يجب على واحد منهما غسل. وأما الوضوء: فإنه يجب على المولج في دبره بالإخراج لا بالإيلاج، ولا يجب الوضوء على المولج في قبله.

مسألة: وجوب الغسل من خروج المني

والذي يقتضي المذهب: أنه يجب الوضوء أيضًا على المولج في قبله؛ لأنهما إن كانا رجلين، أو أحدهما رجلا وجب عليهما الغسل. وإن كانا امرأتين كان الذكران كالمسبارين يجب الوضوء بإخراجهما على المولج في دبره، وعلى المولج في قبله، فعلى أي تنزيل نزلتهما فلا بد من غسل أعضاء الوضوء، فوجب غسلهما. [مسألة: وجوب الغسل من خروج المني] ] : وأما خروج المني: فإنه يوجب الغسل، سواء خرج بشهوة أو بغير شهوة. وقال مالك، وأبو حنيفة وأحمد: (لا يوجب الغسل، إلا إذا خرج بدفق وشهوة) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء من الماء» . ولم يفرق. ولأنه آدمي خرج المني من مخرجه المعتاد، فأوجب الغسل، كما لو خرج بدفق وشهوة. [فرع: خروج المني من فرج المرأة] ] : وإن خرج المني من فرج المرأة وجب عليها الغسل. وقال النخعي: لا يجب عليها. دليلنا: ما روت أم سلمة، «أن أم سليم، قالت: يا رسول الله: هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال: " نعم، إذا رأت الماء» .

فرع: خروج مني المشكل

قال أبو العباس بن القاص: وإن استدخلت المرأة المني، ثم خرج منها لم يجب عليها الغسل، وإنما يجب الوضوء عليها. [فرع: خروج مني المشكل] ] : وإن خرج المني من قبلي الخنثى المشكل وجب عليه الغسل؛ لأنه قد خرج من الفرج الأصلي بيقين. وإن خرج من أحدهما، فقد قال أبو علي السنجي: يجب عليه الغسل. قال القاضي أبو الفتوح: وعندي أنها تكون على وجهين، كما لو خرج المني من دبره، وهذا ـ من قول القاضي ـ يدل على: أن المني إذا خرج من دبر الرجل أو المرأة هل يجب عليه الغسل منه؟ فيه وجهان. [فرع: تكرار خروج المني] ] : إذا خرج من الإنسان المني فاغتسل، ثم خرج منه المني ثانيًا وجب عليه الغسل، سواء خرج قبل البول، أو بعده. وقال أبو حنيفة، والأوزاعي: (إن خرج قبل البول وجب عليه إعادة الغسل؛ لأنه بقية ماء خرج بدفق وشهوة. وإن خرج بعد البول لم يجب عليه؛ لأنه خرج بغير دفق وشهوة) . وقال مالك، والزهري، والليث، وعطاء، وأحمد، وإسحاق: (لا غسل عليه، وإنما عليه الوضوء، سواء خرج قبل البول أو بعده) .

فرع: تيقن وجود المني

دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء من الماء» . ولم يفرق. ولأنه مني آدمي خرج من محله، فأوجب الغسل، كما لو خرج ابتداءً. وإن أحس الإنسان بانتقال المني منه، ولم يخرج فلا غسل عليه. وقال أحمد: (يجب عليه الغسل) . دليلنا: أن ما أوجب الطهارة، كان الاعتبار فيه بالظهور لا بالانتقال كالحدث. [فرع: تيقن وجود المني] ] : وإن وجد المني على فخذه، أو في ثوب لا ينام فيه غيره، ولم يتيقن خروجه منه ففيه وجهان: [أحدهما] : قال صاحب " الفروع "، وأبو المحاسن: لا يجب عليه الغسل؛ لأنه لم يتيقن خروجه منه، فلم يجب عليه الغسل. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يجب عليه الغسل؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سئل عن الرجل يجد البلل، ولا يذكر الاحتلام؟ فقال: " يغتسل ". وسئل عن الرجل يرى أنه احتلم، ولم يجد البلل؟ فقال: " لا غسل عليه» .

ولأن الظاهر: أنه خرج منه. فعلى هذا: يجب عليه إعادة كل صلاة صلاها قبل الاغتسال بعد أقرب نومة نامها؛ لأنه اليقين. والمستحب: أن يعيد كل صلاة صلاها من الوقت الذي تيقن أنه لم يكن معه المني إلى أن رآه. وإن احتلم، ولم يجد البلل، أو شك: هل خرج منه المني؟ لم يجب عليه الاغتسال؛ لما ذكرناه من الخبر. وإن رأى المني على فراش، أو ثوب يبتذله هو، وغيره، لم يجب عليه الغسل؛ لجواز أن يكون من غيره، والمستحب له: أن يغتسل؛ لجواز أن يكون منه. وإن تحقق أن المني خرج منه في النوم، ولم يعلم متى خرج منه وجب عليه أن يغتسل، ووجب عليه أن يعيد كل صلاة صلاها بعد أقرب نومة نامها. ويستحب له أن يعيد ما صلى من الوقت الذي تيقن أنه حدث بعده. قال في " المذهب ": وإن تقدمت منه رؤيا فنسيها، ثم ذكرها عند وجود المني فعليه إعادة ما صلى بعد ذلك؛ لأن معه علامة ودليلا. و (مني الرجل) : هو الأبيض الثخين الذي تشبه رائحته رائحة طلع النخل في حال رطوبته، وتشبه رائحته رائحة البيض في حال يبوسته، وقد يجهد الرجل نفسه في الجماع فيخرج منيه أحمر وقد تصيب الرجل علة فيخرج منيه أصفر رقيقًا. وأما (مني المرأة) : فهو أصفر رقيق.

فرع: لا غسل من المذي

والمني: مشدد لا غير، قال الله تعالى {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37] [القيامة: 37] . وسمي المني منيًا؛ لأنه يمنى، أي: يراق، ولهذا سميت البلد: منى بهذا الاسم؛ لما يراق فيها من الدماء، يقال: منى الرجل وأمنى. [فرع: لا غسل من المذي] ] : ولا يجب الغسل من المذي) ـ وهو: ماء أصفر رقيق، يخرج بأدنى شهوة من غير دفق، وهو مخفف، يقال: أمذى الرجل يمذي ـ ويجب منه الوضوء، وغسل الموضع الذي يصيبه لا غير. وقال مالك: (يجب عليه غسل جميع الذكر) . وقال أحمد ـ في إحدى الروايتين ـ: (يجب عليه غسل جميع الذكر، والأنثيين مع الوضوء؛ لما روي في بعض ألفاظ حديث علي: «يغسل ذكره وأنثييه» . دليلنا: أنه قد روي في حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «ينضح الماء على فرجه ويتوضأ» . ولأن هذا خارج لا يوجب غسل جميع البدن، فلا يوجب غسل ما لم يصبه من الذكر والأنثيين، كالبول. [فرع: لا غسل من الودي] ] : ولا يجب الغسل من خروج الودي) ـ وهو: ماء كدر ثخين، يخرج عقيب البول ـ لأن الغسل إذا لم يجب لخروج المذي، وهو أقرب إلى صفة المني، فلأن لا يجب بخروج الودي ـ وهو أقرب إلى البول ـ أولى. والودي بالتخفيف: هو ما يخرج بعد البول، وبالتشديد: صغار النخل.

مسألة: الغسل من الحيض

فإن خرج منه شيء يشبه المذي، أو المني، أو الودي، ولم يتميز له ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يجب منه الوضوء لا غير؛ لأن غسل أعضاء الوضوء متيقن، فوجب. وما زاد على ذلك مشكوك فيه، فلم يجب. والثاني: أنه مخير بين أن يجعل حكمه حكم المني، فيجب الغسل منه، ولا يجب غسل الثوب منه. وبين أن يجعل حكمه حكم المذي، فيجب منه الوضوء مرتبًا، ويجب غسل الثوب منه؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. والثالث ـ وهو قول الشيخ أبي إسحاق ـ: أنه يجب عليه أن يجعل حكمه حكم المني وحكم المذي، فيجب عليه غسل جميع بدنه، ويجب عليه الترتيب في الوضوء، ويجب غسل الثوب؛ لأنه ليس لأحدهما مزية على الآخر، فوجب عليه أن يجمع بين حكميهما؛ ليسقط الفرض عنه بيقين. [مسألة: الغسل من الحيض] ] : وأما الحيض: فإنه يوجب الغسل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] [البقرة: 222] . فموضع الدليل: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]ـ بالتشديد ـ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] . والمراد به: الاغتسال. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت أبي حبيش: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي» .

وهل وجب الغسل برؤية الدم، أو بانقطاعه؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه وجب بانقطاعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي» . فأمر بالاغتسال عند الإدبار، فدل على: أنه وجب بذلك. والثاني: أنه وجب برؤية الدم، لأن ما أوجب الطهارة، وجب بالخروج لا بالانقطاع، كخروج البول والمني. وأما الخبر: فإنما أمر بالغسل في الوقت الذي يصح فيه الغسل. وإن خرج الدم من أحد قبلي الخنثى المشكل، أو منهما، لم يجب عليه الغسل، سواء استمر يومًا وليلة، أو لم يستمر؛ لأنه إن خرج الدم من فرج الرجال فهو دم خرج من غير محل الحيض. وإن خرج من فرج النساء أو منهما فيجوز أن يكون الخنثى رجلا، وهذا عضو زائد خرج منه الدم فلم يجب عليه الغسل، كما لو خرج الدم من جروح في بدنه. وأما دم النفاس: فإنه يوجب الغسل؛ لأنه حيض مجتمع احتبس لأجل الولد. وهل يجب الغسل برؤيته أو بانقطاعه؟ يحتمل أن يكون على الوجهين في دم الحيض. وإن ولدت المرأة ولدًا، ولم تر دمًا فيه وجهان: أحدهما: يجب عليها الغسل؛ لأن خروج المني منها يوجب الغسل، والولد من المني. والثاني: لا يجب عليها الغسل؛ لأنه لا يقع عليه اسم المني. فعلى هذا: يجب عليها الوضوء، كما لو خرج من فرجها قطنة أو مسبار.

فرع: إيلاج الصغير

[فرع: إيلاج الصغير] ] : وإن أولج صبي ذكره في فرج امرأة فلا أعرف فيه نصًا، والذي يقتضي المذهب: أنه يصير جنبًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . و (الجنابة) ـ عند العرب ـ: الجماع، وهذا جماع؛ بدليل أنه يجب على المرأة المولج فيها الغسل؛ ولأنه حدث، فصح من الصبي، كخروج البول، ولكن لا يجب على الصبي الغسل إلا بعد البلوغ؛ لأنها عبادة بدنية، فلم تجب على الصبي كالصلاة. فإن اغتسل في حال صغره، وهو مميز صح غسله، ولم يجب عليه إعادته بعد البلوغ، كما لو توضأ وهو مميز، ثم بلغ. [مسألة: غسل الكافر للإسلام] ] : إذا أسلم الكافر، ولم يكن وجب عليه الغسل في حال كفره، فالمستحب له: أن يغتسل؛ لما «روي أنه أسلم قيس بن عاصم، وثمامة بن أثال، فأمرهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يغتسلا» . ولا يجب عليه الغسل. وقال أحمد، وأبو ثور، وابن المنذر: (يجب عليه الغسل؛ لحديث قيس بن عاصم، وثمامة بن أثال) .

دليلنا: أنه أسلم خلق كثير من الناس، ولم يأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغسل، ولو أمرهم بذلك لنقل نقلا ظاهرًا. وأما أمره لقيس وثمامة بن أثال: محمول على الاستحباب، ويحتمل: أنه علم أن عليهما غسلا من جنابة لم يغتسلا منه. وإن كان قد وجب على الكافر غسل في حال كفره، ثم أسلم قبل أن يغتسل وجب عليه الغسل. وحكى الشاشي وجهًا آخر: أنه لا يجب عليه. وليس بشيء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . وإن كان قد اغتسل في حال كفره فهل يجب عليه إعادته بعد الإسلام؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يجب عليه الإعادة؛ لأن غسل الكافر غسل صحيح، بدليل: أن المسلم إذا تزوج ذمية، فاغتسلت من الحيض حل له وطؤها، فلولا أن غسلها صحيح لم يحل له وطؤها. و [الثاني] : يجب عليه الإعادة، وهو المنصوص؛ لأن الغسل عبادة بدنية تفتقر إلى النية، فلم يصح من الكافر، كالصلاة والصوم؛ ولأن وضوء الكافر لا يصح، فكذلك غسله. وأما غسل الذمية من الحيض: فقد اختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد: يصح في حق الآدمي، ولا يصح في حق الله تعالى، فيجب عليها إعادته بعد الإسلام؛ لأن غسلها يتعلق به حقان: حق الآدمي لاستباحة الوطء، فصح منها؛ لأنه لا يفتقر إلى النية. وحق الله تعالى، وذلك قربة يفتقر إلى النية، ولا تصح منها النية، فإذا أسلمت لزمها إعادته لحق الله تعالى، كما تقول فيمن وجبت عليه الزكاة فامتنع من بذلها، فإن الإمام يأخذها منه قهرًا، فإذا أخذها منه سقط بها حق الآدمي، ولا يجب عليه الدفع

مسألة: فيما يحرم بالجنابة

إليهم ثانيًا، ولا يسقط بذلك حق الله تعالى، وهو القربة. وقال ابن الصباغ: لا يجب على الذمية إعادة الغسل لحق الله تعالى؛ لأنه لا حق للآدمي في غسلها، وإنما حقه في الوطء، ومن شرط استباحة الوطء صحة الغسل لحق الله تعالى، فلو لم يصح غسلها في حق الله تعالى لما استباح وطأها، ولأنه لو كان للآدمي حق في غسلها لسقط عنها بترك الزوج له، وإنما صح غسلها في حال كفرها لموضع الحاجة إليه، كما أن من شرط دفع الزكاة النية، وإذا امتنع من عليه الزكاة أخذها منه الإمام قهرًا من غير نية لموضع الحاجة. قال الشافعي: (وينبغي أن يقال: إن الذمية إذا اغتسلت، ولم تنو أنه للحيض لم يستبح الزوج وطأها، كالذمي إذا وجبت عليه الكفارة في الظاهر، فأعتق من غير نية لم يجزئه. وإن نوى العتق عن الظهار أجزأه عنه، واستباح وطء المظاهر منها) . [مسألة: فيما يحرم بالجنابة] ] : ولا يجوز للجنب: أن يصلي، ولا أن يطوف بالبيت، ولا يمس المصحف، ولا يحمله؛ لأنه إذا لم يجز ذلك للمحدث فالجنب بذلك أولى. ولا يجوز له: أن يقرأ شيئًا من القرآن. وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يقرأ صدر الآية، ولا يقرأ إتمامها، ولا يكون المقصود من ذلك القراءة، وإنما هو بمنزلة التسبيح والذكر) . وقال مالك: (يقرأ الجنب الآية والآيتين، على سبيل التعوذ) . وقال داود: (يقرأ الجنب ما شاء من القرآن) . وحكي عن ابن عباس: (أنه كان يقرأ ورده وهو جنب) . وقال ابن المسيب لابن عباس: أيقرأ الجنب القرآن؟

فقال: (نعم، أليس هو في صدره) . وقال الأوزاعي: (لا يقرأ الجنب إلا آية الركوب والنزول، كقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف: 13] [الزخرف: 13] ، وكقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا} [المؤمنون: 29] الآية [المؤمنون: 29] . دليلنا: ما «روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قلت: يا رسول الله، إنك تأكل وتشرب، وأنت جنب؟! فقال: " أنا آكل وأشرب وأنام وأنا جنب، ولا أقرأ وأنا جنب» . وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحجزه عن قراءة القرآن شيء، ليس الجنابة» . وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقرأ الجنب، ولا الحائض شيئًا من القرآن» .

وروى ابن عباس قال: (كان عبد الله بن رواحة نائمًا مع امرأته في الفراش، فقام إلى جارية له في جانب البيت فأتاها، فانتبهت امرأته، فطلبته فلم تجده، فقامت تطلبه، فوجدته مع الجارية، فرجعت وأخذت الشفرة، فتلقاها فقال: ما هذه الشفرة؟! فقالت له: لو وجدتك في الموضع الذي رأيتك لوجأتك بها بين كتفيك، فقال: وأين كنت؟! فقالت: مع الجارية. فقال: ما كنت معها، أليس قد نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجنب عن القراءة؟ فقالت: اقرأ، فأنشدها: أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من النجم طالع أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع قال الشيخ أبو حامد: وهذا هو المشهور. وذكر بعضهم: أنه أنشدها: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا فقالت زوجته: صدق الله وكذب بصري. ثم غدا عبد الله بن رواحة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بذلك، فضحك حتى بدت نواجذه. فأقره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك) .

فرع: ما يكره في الحمام

وإن لم يجد الجنب ماء ولا ترابًا فإنه يصلى على حسب حاله، ويقرأ ما لا بدَّ له منه من القرآن؛ لموضع الحاجة والضرورة. [فرع: ما يكره في الحمَّام] ] : ولا تكره قراءة القرآن في الحمَّام، وبه قال محمَّد. وقال أبو حنيفة: (تكره) . دليلنا: أنه موضعٌ نظيفٌ ' فلم تكره فيه قراءة القرآن، كغير الحمَّام. وإن نجس فوه ولسانه بدم أو غيره كره له قراءة القرآن، وهل يحرم؟ فيه وجهان، حكاهما أبو المحاسن من أصحابنا. وقال أبو حنيفة: (لا يكره) . دليلنا: أن فيه استهانة بالقرآن، فأشبه القراءة على الخلاء، وعلى الجنابة. [فرع: اللبث في المسجد] ] : ولا يجوز للجنب اللبث في المسجد، ويجوز له العبور فيه. وبه قال ابن عباسٍ، وابن مسعودٍ. وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يجوز له اللبث فيه، ولا العبور، إلا أن يحتلم في المسجد فيعبر فيه ليخرج) . وقال الثوري: يتيمَّم، ثمَّ يخرج منه. وقال أحمد، وإسحاق: (إذا توضأ الجنب جاز له اللبث في المسجد) .

فرع: النوم مع الجنابة

وقال المزني، وداود: (يجوز له اللبث فيه) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . وأراد به: موضع الصلاة ـ فعبّر بـ (الصَّلاةِ) عن موضعها، كقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40] [الحج: 40] . والصلوات: لا تهدّم، وإنما أراد به: مواضع الصلوات، وهي المساجد ـ لأن العبور لا يمكن في الصلاة، فثبت أنه أراد موضعها. وقال جابٌر: (كان أحدنا يمرُّ في المسجد، وهو جنبٌ مجتازًا) . ولا يفعلون ذلك في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بإذنه. والدليل ـ على من جوز اللبث ـ: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا أحل المسجد لجنب، ولا لحائض» . [فرع: النوم مع الجنابة] ] : ويجوز للجنب: أن ينام قبل أن يغتسل؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنَّها قالت: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينام وهو جنبٌ لا يمس ماء» . والمستحبُّ له: أن يتوضَّأ، ثمَّ ينام؛ لما روي «عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيرقد أحدنا وهو جنبٌ؟ فقال: " نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد» .

قال أبو عليّ الطبريُّ: وكذلك يستحبُّ له: أن يتوضأ إذا أراد أن يأكل، أو يشرب، أو يطأ ثانيًا؛ لأن هذه الأسباب في معنى النوم. ولا يستحب ذلك للحائض؛ لأن حدثها لا يتخفَّف بالوضوء، بخلاف الجنب. ولا يكره للجنب: أن يصافح غيره؛ لما روي «عن أبي هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيه وهو جنبٌ، قال: (فانخنست) ـ يعنى: تنحَّيت ـ فاغتسلت ثم جئت، فقال: " أين كنت "؟ قلت: كنت نجسًا، فقال: " إن المسلم لا ينجس» . وبالله التوفيق

باب صفة الغسل

[باب صفة الغُسلِ] [مسألة: كيفية الغسل ومستحباته] ِ إذا أراد أن يغتسل من الجنابة فالمستحبُّ أن يقول: بسم الله، على جهة الذكر، ولا ينوي بذلك التلاوة، وينوي الغسل من الجنابة، أو الغسل لأمر لا يستباح إلا بالغسل، كقراءة القرآن، أو الجلوس في المسجد، ثمَّ يغسل كفَّيه ثلاثًا قبل إدخالهما الإناء، ثم يغسل ما على فرجه من الأذى، ثمَّ يصبَّ الماء بيمينه على شماله، فيغسل ما بها من أذى، ثمّ يتمضمض ويستنشق ثلاثًا، ثمّ يتوضأ وضوءه للصّلاة، ثمّ يدخل أصابعه العشر في الماء، ويشرب بها أصول شعر رأسه ولحيته؛ ليكون أسهل لدخول الماء، ثمّ يحثي على رأسه ثلاث حثياتٍ من ماءٍ، ثمّ يفيض الماء على سائر جسده، ويدلك ما قدر عليه من بدنه بيديه. والأصل فيه: ما روي «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وميمونة، وصفتا غسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل ما وصفنا» .

وهل يندب إلى غسل الرجلين بعد فراغه من الاغتسال؟ فيه قولان، حكاهما في " الإبانة " [ق\27] . أحدهما: يندب إليه؛ لما روي في حديث ميمونة: «ثمّ تحوَّل عن مكانه، فغسل قدميه» . والثاني: لا يندب، كسائر أعضاء الوضوء. إذا ثبت هذا: فالواجب منه ثلاثة أشياء: النّيّة، وإزالة النجاسة، وإيصال الماء إلى البشرة الظاهرة وما عليها من الشّعر. وما زاد على ذلك سنّةٌ. وقال أبو ثورٍ، وداود: (يجب الوضوء) . وقال مالكٌ، والمزنيُّ: (إمرار اليد على ما تناله من البدن واجبٌ) . وقال أبو حنيفة: (المضمضة والاستنشاق في الجنابة، واجبان) . دليلنا: ما روي: «أنّ أمّ سلمة قالت: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الغسل من الجنابة؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثياتٍ من ماءٍ، ثمّ تفيضي الماء على سائر جسدك، فإذا أنت قد طهرت» . ولم يأمرها بالوضوء، ولا بالتدليك، ولا بالمضمضة والاستنشاق. «وروى جبير بن مطعم قال: تذاكرنا الغسل من الجنابة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أما أنا: فيكفيني أن أصب الماء على رأسي ثلاثًا، ثمّ أفيض الماء بعد ذلك على سائر جسدي» .

فرع: غسل المرأة

قال في " الأمّ " [1/35-36] : (ويغسل ظاهر أذنيه وباطنهما؛ لأنهما ظاهرتان، ويدخل الماء فيما ظهر من صماخيه، وليس عليه غسل ما بطن) . قال الصيدلاني: وإن كان داخل عينيه شعرٌ لم يلزمه غسله. [فرع: غسل المرأة] ] : وإن كانت المرأة تغتسل كان غسلها كغسل الرجل. فإن كان لها ضفائر، فإن كان الماء يصل إليها من غير نقضها لم يجب عليها نقضها. وإن كان لا يصل إليها إلا بنقضها وجب عليها نقضها. وقال النّخعيّ: يجب عليها نقضها بكل حالٍ. وقال الحسن، وطاووسٌ: يجب عليها نقضها في غسل الجنابة دون الحيض. دليلنا: ما روي «أنّ أم سلمة، قالت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه للغسل من الجنابة؟ فقال: " لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثياتٍ من ماءٍ، ثمّ تفيضي عليك الماء، فإذا أنت قد طهرت» . وإنما لم يأمرها بنقضها، لعلمه أنّ شعرها خفيف يصل الماء إليه من غير نقضٍ؛ لأنّ شعور العرب خفيفةٌ. فإن كان في رأسها حشوٌ، فإن كان رقيقًا لا يمنع من وصول الماء إلى باطنه لم يلزمها إزالته، ولا اعتبار بأن يصل الماء إلى ما تحته صافيًا؛ لأن تغيّر الماء على العضو غير مؤثرٍ. وإن كان الحشو ثخينًا يمنع من وصول الماء إلى باطنه وجب إزالته ليصل الماء إلى باطن الشعر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحت كل شعرةٍ جنابةٌ» .

فرع: قدر ماء الغسل

وإن كان على الرجل شعرٌ فحكمه حكم شعر المرأة. وإن كانت المرأة تغتسل من الحيض أو النفاس فالمستحبّ: أن تأخذ قطعة من مسكٍ فتتبع بها أثر الدّم؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن امرأة جاءت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسأله عن الغسل من الحيض، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خذي فرصةً من مسكٍ فتطهري بها "، فقالت: كيف أتطهر بها؟ فقال: " سبحان الله! تطهري بها " قالت عائشة: فاجتذبتها، وعرَّفتها الذي أراد، فقلت: تتبعي بها أثر الدّم» . و (الفرصة) : القطعة، و (الفرص) : القطع. قال المزني: فإن لم تجد مسكًا فطيبًا غيره، فإن لم تجد فالماء كافٍ. فمن أصحابنا من صحّف ذلك، وقال: فطينًا بالنون، والصحيح: أنه أراد الطيب، وقد بيَّنه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/39] ، فقال: (وإن لم يكن مسكٌ فطيب ما كان، اتباعا للسنّة) . قال ابن الصبّاغ: فإن تتبعته بالطين فلا بأس. [فرع: قدر ماء الغسل] ] : ويستحبّ: أن لا ينقص في الغسل عن صاع، ولا في الوضوء عن مدّ؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يَغْتَسِلُ بِصَاعٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِمُدٍّ» .

وروي: أنه «سئل جابرٌ عن الغسل؟ فقال: (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل بالصّاع، ويتوضأ بالمدّ. فقال رجلٌ: إنه لا يكفيني، قال جابرٌ: قد كان يكفي من هو خيرٌ منك، وأوفر منك شعرًا» . فإن أسبغ دون ذلك، وأقله: أن يجري الماء على ما أمر بغسله.. أجزأه. وقال أبو حنيفة ومحمّدٌ: (لا يجزئه) . وروي ذلك عن عمر في الغسل. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية، إلى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . ولم يفرق. وروى عبد الله بن زيد: «أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ بثلثي مدّ» . ولأن ذلك يختلف باختلاف الأبدان وبالخرق والرّفق.

مسألة: وضوء الجماعة من إناء

[مسألة: وضوء الجماعة من إناء] ] : ويجوز أن يتوضأ الاثنان والثلاثة من إناء واحد؛ لما روى أنسٌ قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بوضوء في إناء؛ فوضع يده في ذلك الإناء، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، وأمر النّاس أن يتوضؤوا، فتوضأ الناس من عند آخرهم، وكانوا نحوا من سبعين رجلاً» . وهذا من معجزات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أبلغ في الإعجاز من انفجار الماء لموسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصخرة؛ لأن العادة جرت أنّ الماء يخرج من الحجر، ولم تجر العادة أنّ الماء يخرج من اليد. ويجوز: أن يتوضأ الرجل والمرأة من إناء واحد؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد» . وروى «ابن عمر: قال: (كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناءٍ واحدٍ» .

مسألة: ليس في الغسل ترتيب الأعضاء

ويجوز أن يتوضأ أحدهما، ويغتسل بفضل الآخر في الإناء. وقال أحمد: (يجوز للمرأة أن تتوضأ وتغتسل بفضل الرجل وبفضل المرأة، ولا يجوز للرجل أن يتوضأ أو يغتسل بفضل المرأة، إذا خلت به) . دليلنا: ما روي عن ميمونة: أنها قالت: «أجنبت فاغتسلت من جفنة، ففضلت فيها فضلة، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل منها، فقلت: إني اغتسلت منه، فقال: "إن الماء ليس عليه جنابةٌ" واغتسل منه» . ولأن ما جاز للمرأة أن تتوضأ به.. جاز للرجل أن يتوضأ به، كفضل الرّجل، وعكسه الماء النجس. [مسألة: ليس في الغسل ترتيب الأعضاء] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وما بدأ به الرجل والمرأة في الغسل.. أجزأهما) . وهذا صحيح؛ لأن الترتيب في الغسل ليس بواجب؛ لأنه فعل واحد في جميع البدن فهو كالعضو الواحد في الوضوء، إلا أنّ المستحبّ: أن يبدأ بما قدمناه. قال في " البويطي ": (وأكره للجنب أن يغتسل في البئر، معينة كانت أو دائمة، وفي الماء الراكد قليلاً كان أو كثيرا، وكذلك التوضؤ فيه) ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة» .

فرع: حكم وجود الحائل على الذكر حال الجماع

و (الدائم) : هو الراكد، و (المعين) : السائل. فإن انغمس في بئر، أو نهر، أو وقف تحت ميزاب ماءٍ أو مطرٍ، فأتى الماء على جميع بشرته الظاهرة، وما عليها من الشعر، ونوى الغسل من الجنابة.. أجزأه، كما لو غسل ذلك بنفسه. [فرع: حكم وجود الحائل على الذّكر حال الجماع] ] : إذا لفّ على ذكره خرقةً، وأولجه في فرج امرأةٍ ولم ينزل.. ففيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنه لا يجب عليهما الغسل؛ لأن ما أوجب الطهارة من الملامسة من غير حائل لم يوجب الغسل مع الحائل، كالطهارة الصّغرى. والثاني: يجب عليهما الغسل؛ لأنه يسمّى مولجًا. والثالث ـ وهو اختيار الصّيمري ـ: إن كانت الخرقة رقيقة..وجب عليهما الغسل؛ لأنّ وجودها كعدمها. وإن كانت صفيقةً.. لم يجب عليهما الغسل. وإذا قلنا بالوجه الثاني، أو كانت الخرقة رقيقة في الثالث، ولم يباشر بدنه بدنها.. فإنه يكون جنبًا غير محدث. وإن نظر إلى امرأة وهو على طهارةٍ، فأنزل، أو باشرها من وراء حائل وهو على طهارة، فأنزل، أو نام قاعدًا وهو على طهارة، فاحتلم.. فقد قال الشيخ أبو حامدٍ: إنه يكون جنبًا غير محدثٍ؛ لأنه يقال له: جنبٌ، ولا يقال له: محدثٌ. وقال القاضي أبو الطيب: هو محدثٌ جنبٌ؛ لأنّ الحدث يحصل بخروج الخارج من أحد السبيلين، والجنابة تحصل بخروج المنيّ، فاجتمع فيه العلتان.

وإن كان الرجل جنبًا غير محدثٍ.. فإنه يجب عليه غسل جميع بدنه مرةً واحدةً من غير ترتيب، ويستبيح به ما يستبيح بالوضوء. وإن كان الرجل جنبًا محدثًا، بأن يولج ذكره في فرجها من غير حائل، أو ينام مضطجعًا فيحتلم، وما أشبه ذلك.. فقد وجب عليه الوضوء والغسل، وفيما يجزئه من ذلك من خمسة أوجهٍ: أحدها ـ وهو المنصوص عليه ـ: (أنه إذا اغتسل بنية الجنابة، وأمر الماء على أعضاء الطهارة مرّةً واحدة من غير ترتيبٍ.. أجزأه عنهما) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . ولم يفرّق؛ ولأنهما طهارتان فتداخلتا، كغسل الجنابة والحيض. والوجه الثاني: يجب عليه الوضوء مرتبًا والغسل؛ لأنهما حقان مختلفان، يجبان بسببين مختلفين، فلم يدخل أحدهما في الآخر، كحد الزنا والسرقة. فعلى هذا: يجب عليه إمرار الماء على أعضاء الطهارة مرتين، ويجب عليه الترتيب في أعضاء الطهارة، ويحتمل: أن تجب عليه نيّة الوضوء مع نيّة الجنابة. ولا فرق بين أن يتوضأ أولا ثمّ يغتسل، أو يغتسل أولا ثمّ يتوضأ. والثالث: يجب عليه الوضوء مرتبًا، ويجب عليه غسل سائر بدنه؛ لأنهما متفقان في الغسل مختلفان في الترتيب، فتداخلا فيما اتفقا فيه. فعلى هذا: يجزئه إمرار الماء على أعضاء الطهارة مرّة واحدة لهما، ويحتمل: أن تجزئه نيّة الجنابة عن نيّة الوضوء، على هذا. والرابع: أنه يقتصر على غسل واحد، ولا يجب عليه الترتيب؛ إلاّ أنه يجب عليه أن ينويهما، كما نقول فيمن جمع بين الحج والعمرة. والخامس ـ حكاه في " الفروع " ـ: إن أحدث ثمّ أجنب، فعليه الوضوء والغسل. وإن أجنب ثمّ أحدث، كفاه الغسل.

فإذا قلنا بالمنصوص: فغسل الجنب جميع بدنه عن الجنابة إلا أعضاء الوضوء، ثمّ أحدث.. لم يلزمه الوضوء؛ لأن حكم الجنابة باقٍ فيها، فلا يؤثر فيها الحدث، ويجزئه غسل أعضاء الطهارة من غير ترتيب. وإن غسل الجنب أعضاء الوضوء دون بقية بدنه، ثم أحدث.. لزمه أن يتوضأ مرتبًا وجهًا واحدًا؛ لأن حدثه صادف أعضاء الوضوء، وقد زال حكم الجنابة منها، فلزمه الوضوء مرتبًا. وإن غسل الجنب جميع بدنه إلا رجليه، ثمّ أحدث.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها ـ وهو قول ابن الحداد، وهو المشهورـ: أنه لا يتعلق حكم الحدث في الرجلين؛ لوجود حدث الجنابة فيهما، فيغسلهما عن الجنابة، ويغسل باقي أعضاء الطهارة مرتبًا. قال القاضي أبو الطيب على هذا: فهذا وضوءٌ ليس فيه غسل الرجلين، وإن شئت.. قلت: هذا وضوءٌ يبدأ فيه بغسل الرجلين، ولا نظير له. والثاني ـ حكاه في " الفروع " ـ وهو: أنه يجب عليه الترتيب في الرجلين؛ تبعًا لوجوب الترتيب في باقي الأعضاء. والثالث ـ حكاه أيضًا ـ: أنه يسقط الترتيب في باقي الأعضاء أيضًا؛ لسقوطه في الرجلين. قال القاضي أبو الطيب: فإن كان محدثًا، فاعتقد أنه جنبٌ، فاغتسل من غير ترتيب، فإن قلنا بالمنصوص ـ في الجنب إذا كان محدثًا ـ: أنه يكفيه غسلٌ واحدٌ من غير ترتيب.. فهل يجزئه ها هنا الغسل في أعضاء الوضوء؟ فيه وجهان: أحدهما: يجزئه؛ لأن الغسل يجزئ عن الحدثين معًا وإن لم يرتب، فلأن يجزئ عن الأصغر أولى. والثاني: لا يجزئه ـ وهو الصحيح ـ لأنه أسقط الواجب بالتطوع، ويخالف إذا كانا واجبين؛ لأن حكم الحدث يسقط مع الجنابة، فكان الحكم لها.

فرع: الجنب إذا اغتسل للحدث

[فرع: الجنب إذا اغتسل للحدث] ] : وإن كان جنبًا، فنسي الجنابة واغتسل عن الحدث.. أجزأه ذلك في أعضاء الوضوء دون غيرها. وكذلك إذا توضأ عن الحدث.. أجزأه ما غسله من أعضاء الطهارة عن الجنابة. وكذلك لو غسل الجنب جميع بدنه إلا رجليه، فنسي الجنابة وغسلهما بنيّة الوضوء.. أجزأه عن الجنابة؛ لأن فرض الطهارة في أعضاء الوضوء من الجنابة والحدث واحدٌ، فأجزأه غسلهما، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـ فيمن نسي الجنابة، فتيمّم عن الحدث ـ: (أجزأه؛ لأنه لو ذكر الجنابة.. لم يكن عليه أكثر ممّا فعل) . وكما لو توضأ ينوي: أنّ حدثه ريحٌ، فكان بولاً. أو اغتسلت المرأة بنيّة الغسل عن الحيض، وكانت نفساء أو جنبًا. [فرع: قطع ما ترك من الشعر بلا غُسلٍ] ٍ] : إذا غسل الجنب جميع بدنه إلا طرف شعره، فقطع ما بقي من الشعر ممّا لم يغسله.. فقد اختلف أصحابنا المتأخرون فيها: فمنهم من قال: يجب عليه غسل ما ظهر من الشعر بالقطع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . والقطع لا يسمى غسلا. ومنهم من قال: لا يجب عليه شيء؛ لأنه زال ما وجب غسله، فهو كما لو توضأ وترك رجله، ثم قطعت من فوق الكعب.. فإنه لا يجب عليه غسل ما ظهر بالقطع عن الحدث. وبالله التوفيق

باب التيمم

[باب التيمُّم] الأصل في جواز التيمّم: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] . [المائدة: 6] والتيمّم في اللغة: هو القصد، تقول العرب: تيممت فلانًا، أي: قصدته. قال امرؤ القيس: فلما رأت أنّ الشّريعة همها ... وأنّ البياض من فرائضها دامي تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي وكذلك التيمّم في الشرع، هو القصد إلى الصعيد. وقد اختلف في قدر الممسوح، وعدد المسح: فذهب الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى: أنّ التيمّم هو مسح الوجه واليدين إلى المرفقين، بضربتين أو أكثر. وروي ذلك عن ابن عمر، وجابر وإحدى الروايتين

عن عليّ، وهو قول الشعبي، والحسن، ومالكٍ، والثوري، وأبي حنيفة. وذهب الزهري إلى: أنه يمسح وجهه بضربةٍ، ويمسح يديه بضربةٍ إلى المنكبين. وقال ابن المسيب، وابن سيرين: ضربةٌ للوجه، وضربةٌ للكفين، وضربة للذراعين. وقال عطاءٌ، ومكحولٌ، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وداود، وابن جريرٍ: (ضربةٌ واحدةٌ للوجه، واليدين إلى الكفين) وهو اختيار ابن المنذر. وروي عن علي: أنه قال: (ضربةٌ للوجه، وضربة لليدين إلى الكفّين) .

وحكى بعض أصحابنا: أن هذا قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم. قال الشيخ أبو حامدٍ: وليس بصحيح؛ وإنما قال في القديم: (والتيمّم: أن تضرب ضربة فتمسح بها وجهك، ثمّ تضرب أخرى فتمسح بها يديك إلى المرفقين، وقد روي فيه شيء لم يثبت، ولم ثبت لم أعده) . فخرجوا ذلك قولاً، وليس بشيء. ودليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تيمّم فمسح وجهه وذراعيه» . وروى ابن عباس، وجابر، وابن عمر، وأبو أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التيمّم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» . ولأنه بدل يؤتى به في محلّ

مبدله، فكان حده فيهما واحدًا، كالوجه. إذا ثبت هذا: فيجوز التيمّم عن الحدث الأصغر، وهو: حدث الغائط، والبول، والريح، ولمس النساء، ومسّ الفرج. وعن الحدث الأكبر وهو: الجنابة، والحيض، والنّفاس. وبه قال علي، وابن عباس، وعمار بن ياسر، وأبو موسى الأشعري. وروي عن عمر، وابن مسعود: أنهما قالا: (لا يجوز للجنب أن يتيمّم) . وبه قال النخعي. وقيل: إنهما رجعا عن ذلك. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . قال زيد بن أسلم: وترتيبها: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]ـ يعني: من النوم ـ {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] : {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إلى آخر الكلام، ثمّ بيّن حكم الجنب، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] يعني: فاغتسلوا، ثمّ بيّن حكم

المحدث والجنب معًا، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] ، فاشتملت الآية عليهما) . «وروى عمّارٌ قال: أجنبت فتمعّكت بالتراب، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما كان يكفيك هكذا": (وضرب بيديه على الأرض، ومسح بها وجهه وكفيه» . «وروى عمران بن الحصين قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما انفتل من الصلاة رأى رجلا لم يصل.. فقال له: " لم لم تصل؟ "فقال: كنت جنبا، ولم أجد الماء، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الصعيد يكفيك» . «وروى أبو ذرّ قال: اجتويت المدينة ـ يعني: كرهت المقام فيها ـ فأمر لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذود وبغنم، وقال لي: "ابد ابد" يعني: اخرج إلى البادية ـ فخرجت بأهلي إلى الربذة، فكنت أعدم الماء الخمسة الأيام والستة وأنا جنب، فأصلي بغير طهور، ثم قدمت المدينة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " أبو ذر؟ " قلت: نعم، هلكت يا رسول الله، قال: "وما أهلكك؟ "، فقصصت عليه القصّة،

مسألة: فيما يتيمم به

وقلت: إني كنت أصلي بغير طهورٍ، فأمر لي بماء، فاستترت براحلته واغتسلت، ثمّ أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا أبا ذرّ، الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج، فإذا وجد الماء.. فليمسسه بشرته» . فإن وجد الجنب الماء بعد التيمّم.. لزمه استعمال الماء، وهو قول كافة العلماء، إلا ما حكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: لا يلزمه استعمال الماء؛ بل له أن يصلي بتيمّمه. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا وجد الماء.. فليمسسه بشرته» . ولا يصح التيمّم عن إزالة النجاسة. وقال أحمد: (يصح) . دليلنا: أن التيمّم مسح الوجه واليدين، وقد تكون النجاسة في غير الوجه واليدين، فكيف يؤمر بمسح الوجه واليدين عن نجاسة في غيرهما؟! كما لا يجوز أن يغسل وجهه ويديه لنجاسة في غيرهما، ولأن المقصود إزالة عين النجاسة، وذلك لا يزول بالتيمّم. [مسألة: فيما يتيمّم به] ] : ولا يجوز التيمّم إلا بالتراب الذي له غبارٌ يعلق في العضو، وبه قال أحمد، وداود. وقال أبو حنيفة: (يجوز التيمّم بالتراب، وبكل ما كان من جنس الأرض، كالكحل، والنّورة، والزرنيخ، والجصّ) . والغبار عنده ليس بشرط، بل لو ضرب يده على صخرة ملساء، أو حائطٍ أملس.. أجزأه. وأما الشجر والذهب، والفضة

والحديد، والرصاص..فلا يجوز التيمّم به. وقال مالكٌ: (يجوز التيمّم بالأرض، وبما كان متصلاً بالأرض، كالأشجار) ويجوز التيمّم عنده بالملح. وقال الثوري، والأوزاعي: (يجوز التيمّم بالأرض، وبكل ما كان عليها، سواءٌ كان متصلاً بها، أو غير متَّصلٍ) . وهذا أعمُّ المذاهب. دليلنا: ما روى حذيفة بن اليمان: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فضلنا على النّاس بثلاث خصال: جعلت الأرض لنا مسجدًا، وترابها لنا طهورًا، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة» . فخصَّ ترابها بجواز التيمّم، فدلّ على: أنه لا يجوز بغيره؛ ولأنه طهارةٌ عن حدثٍ فاختصّت بجنسٍ طاهرٍ، كالوضوء، وفيه احترازٌ من الاستنجاء والدّباغ. إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (يجوز التيمّم بالتراب من كلّ أرضٍ: سبخها، ومدرها، وبطحائها) . فأما (السّبخ) : فهي الأرض المالحة. وحكي عن بعضهم: أنه قال: لا يصح التيمّم به. وهذا ليس بصحيح؛ لـ: «أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتيمّم بتراب المدينة» ، وهي أرضٌ مالحةٌ. وأما (المدر) : فهو التراب الذي أصابه الماء، فاستحجر وخفّ، فإذا سحق.. صار ترابًا. وأمّا (البطحاء) : ففيه تأويلان: أحدهما: أنه القضّ من الأرض.

فرع: التيمم بالرمل

والثاني: أنه التراب المستحجر. وهل يجوز التيمّم بالطين الأرمنيّ، والتراب المأكول؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وهو المشهور ـ: أنه يجوز التيمّم؛ لأنه ترابٌ. والثاني: لا يجوز؛ لأنه مأكولٌ. [فرع: التيمّم بالرمل] قال في " الأمّ " [1/43] : (ولا يجوز التيمّم بالكثيب الغليظ) ، وقال في " الإملاء ": (يجوز التيمم بالتراب، والرّمل) . وقال في القديم: (يجوز التيمّم بالرّمل) . واختلف أصحابنا في التيمّم بالرمل: فقال أبو إسحاق: ليست على قولين، وإنما هي على الحالين: والذي قاله في " الأم " في الكثيب الغليظ، أراد به: الرّمل الذي لا يخالطه التراب. والذي قاله في " الإملاء " والقديم أراد به: الرّمل الذي يخالطه التراب. وقال ابن القاصّ: بل في الرّمل قولان: أحدهما: يجوز التيمّم به؛ لما روى أبو هريرة: «أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: إنا نكون بأرض الرّمل، وتصيبنا الجنابة، والحيض، والنفاس، ولا نجد الماء أربعة

فرع: التيمم بالطين والتراب النجس

أشهر، أو خمسة أشهر؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عليكم بالأرض» . والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يقع عليه اسم التراب، فأشبه الحجارة المدقوقة، وأما حديث أبي هريرة: فمحمول على رمل يخالطه تراب؛ لأن العرب لا تغرب إلا إلى أرض بها نبات، والرّمل لا ينبت إذا كان لا تراب فيه. وإن أحرق الطين وتيمّم بمدقوقه.. فهل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه يقع عليه اسم التراب. والثاني: لا يصح، كما لا يصح بالخزف المدقوق. [فرع: التيمّم بالطين والتراب النجس] ] : قال في " الأم " [1/43] : (ولو لطخ على وجهه الطين.. لم يجزه) ؛ لأنه لا يقع عليه اسم التراب، ولما روى عكرمة: أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سئل عن رجل في طين، لا يستطيع أن يخرج منه؟ فقال: (يأخذ من الطين، فيطلي به بعض جسده، فإذا جفّ.. تيمّم به) . ولا يعرف له مخالف. فإن خاف فوت الوقت قبل أن يجفّ.. كان بمنزلة من لم يجد ماءً ولا ترابًا، ويأتي حكمه. ولا يجوز التيمّم بتراب نجس؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . و (الطيب) : يقع على ما تستطيبه النفس؛ كقولهم: هذا طعام طيب. ويقع على الحلال، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] [المؤمنون: 51] يعني: الحلال. ويقع على الطاهر.

فرع: تيمم الجماعة في مكان وصور أخرى

ولا يجوز أن يكون المراد بالآية ها هنا: ما تستطيبه النفس، ولا الحلال؛ لأن التراب لا يوصف بذلك، فثبت أنه أراد به الطاهر. ولأنه طهارةٌ، فلا تصح بنجس، كالوضوء. ولا فرق بين أن يكون التراب الذي خالطته النجاسة قليلاً أو كثيرًا، بخلاف الماء؛ لأن للماء قوة تدفع النجاسة عن نفسه. وإن خالط التراب ذريرةٌ أو نورةٌ أو دقيقٌ، فإن استهلك التراب في هذه الأشياء، وغلبت عليه.. لم يجز التيمّم به بلا خلاف على المذهب. وإن استهلكت هذه الأشياء في التراب، وغلب عليها.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: يجوز التيمّم به، كما تجوز الطهارة بالماء الذي خالطه مائعٌ واستهلك المائع فيه. والثاني: لا يجوز، وهو المذهب؛ لأن المخالط للتراب يمنع من وصول التراب إلى العضو، والمخالط للماء لا يمنع من وصول الماء إلى العضو؛ لأن الماء يجري بطبعه. [فرع: تيمّم الجماعة في مكان وصورٌ أخرى] ] : ويجوز أن يتيمّم الجماعة من موضعٍ واحد، كما يجوز أن يتوضأ الجماعة من ماء في إناءٍ واحدٍ. وإن ضرب يديه على بدنه، أو ثيابه، أو آذانه، أو رأسه، أو ظهره، فعلق بهما غبارٌ، فتيمّم به.. صحّ. وقال أبو يوسف: لا يصحّ. دليلنا: أنه يقع عليه اسم التراب، وهو طاهرٌ غير مستعمل، فصحٌ تيمّمه به، كما لو أخذه من الأرض.

وإن تيمّم، فبقي على أعضاء التيمّم غبارٌ من التيمّم، فتيمّم هو به، أو غيره.. لم يصح تيمّمه؛ لأنه مستعمل في التيمّم، فلم يصح التيمّم به، كما لو أخذ الماء من وجهه أو يديه، ومسح به رأسه. ولو علق على وجهه ترابٌ من غير التيمّم، فمسح به وجهه من غير أن ينقله عنه.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\35] : لم يصح تيمّمه. وإن أخذه من وجهه، ثمّ أعاده إليه.. فهل يصح تيمّمه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح، كما لو مسحه عليه من غير أن ينقله. والثاني: أنه يصح، كما لو وقع على غير الوجه، فنقله منه إلى وجهه. وإذا قلنا بالأول، وعلق على يديه ترابٌ من غير التيمّم، فأخذه ومسح به وجهه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه نقله من موضع الفرض، فهو كما لو نقل منه ما بقي عليه من التيمّم. والثاني: يصح، وهو الأصح؛ لأنه غبار ترابٍ طاهرٍ غير مستعملٍ، فهو كما لو أخذه من بطنه أو ظهره. وإن تيمّم بما يتناثر من أعضاء المتيمّم من الغبار من التيمّم، أو تيمّم به غيره.. فهل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأن المستعمل من التراب ما بقي على أعضاء التيمّم، دون ما تناثر. والثاني: لا يصح، كما لا يصح الوضوء بما تساقط من الماء عن أعضاء الطهارة؛ ولأنه لو مسح يديه بالضربة التي مسح بها وجهه..لم يصح وإن كان قد بقي فيهما غبارٌ، فلأن لا يصح فيما تناثر من الوجه أولى.

مسألة: هل يرفع التيمم الحدث

[مسألة: هل يرفع التيمّم الحدث] ؟] : التيمّم لا يرفع الحدث. وقال داود وشيعته، وبعض أصحاب مالك: (التيمّم يرفع الحدث) . وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين؛ لأنها طهارةٌ عن حدث تستباح بها الصلاة، فوجب أن يرفع الحدث، كالطهارة بالماء. ودليلنا: ما «روى عمرو بن العاص قال: (كنت في غزوة ذات السّلاسل، فأجنبت في ليلةٍ باردةٍ، فأشفقت على نفسي، إن اغتسلت بالماء.. هلكت، فتيمّمت وصليت بأصحابي صلاة الصبح، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "يا عمرو: صلّيت بأصحابك وأنت جنبٌ؟ " فقلت: سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] [النساء: 29] . فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقل شيئًا» . ففي هذا الخبر فوائد. منها: أنّ التيمّم يجوز لخوف التّلف من البرد. ومنها: أنّ الجنب يجوز له التيمّم. ومنها: أنّ الجنب إذا صلى بالتيمّم في السفر.. لا إعادة عليه.

مسألة: نية التيمم

ومنها: أنّ من تيمّم لأجل البرد في السفر.. لا إعادة عليه. ومنها: أنّ التيمّم لا يرفع الحدث؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماه جنبًا مع علمه أنه قد تيمّم. ومنها: أنه يجوز للمتيمّم أن يؤم المتوضئين؛ لأن أصحابه كانوا متوضئين. ومنها: أنّ هذا المتلو كلام الله؛ لأن عمرًا قال: سمعت الله تعالى يقول، ولم يسمع إلا المتلوّ. ومنها: أنّ الجنب إذا تيمّم.. يجوز له أن يقرأ في غير الصلاة؛ لأن عمرًا قال: سمعت الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] [النساء: 29] . ولم ينكر عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومن الدليل على أن التيمّم لا يرفع الحدث: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذرّ: «الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج، وإذا وجد الماء.. فليمسسه بشرته» . فلو ارتفع حدثه..لم يجب عليه استعمال الماء. [مسألة: نية التيمّم] ] : ولا يصح التيمّم إلا بالنية. وقال الأوزاعي، والحسن بن صالح: (يصح من غير نية) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . والتيمّم في اللغة: القصد. والنية: هي القصد أيضًا. إذا ثبت هذا: فإن نوى بتيمّمه: رفع الحدث، وقلنا: إن التيمّم لا يرفع الحدث.. ففيه وجهان:

أحدهما: ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يصح تيمّمه؛ لأن التيمّم لا يرفع الحدث، فقد نوى ما لا يفيده. والثاني ـ حكاه في " المهذب " ـ: أنه يصح؛ لأنه يتضمن استباحة الصلاة. وإن نوى بتيمّمه استباحة الصلاة المفروضة، أو نوت الحائض إذا انقطع دمها: استباحة الوطء.. صح التيمّم؛ لأن التيمّم يراد لذلك. وإن نوى بتيمّمه استباحة صلاةٍ نافلة.. صح تيمّمه على المذهب؛ لأن كلّ طهارة صحت بنية استباحة الفرض.. صحت بنية استباحة النفل، كالطهارة بالماء. وحكى الطبري: أن ابن القاص قال: لا يصح تيمّمه؛ لأن التيمّم طهارة ضرورة، ولا ضرورة به إلى النفل. فإذا قلنا بالأول، ونوى بتيمّمه استباحة الصلاة، ولم ينو الفريضة، أو نوى صلاة نفلٍ..استباح به النّفل. وهل يستبيح بذلك التيمّم صلاة الفرض؟ فيه طريقان: [الأول] : قال عامة أصحابنا: لا يستبيح به الفريضة قولاً واحدًا. و [الثاني] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق\15] ، وأبو حاتم القزويني: هي على قولين: أحدهما: يستبيح به الفرض، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن كل طهارة استباح بها النّفل.. استباح بها الفرض، كالطهارة بالماء. والثاني: لا يستبيح به الفرض، وبه قال مالك؛ لأن التيمّم لا يرفع الحدث، وإن استباح به الصلاة.. فلم يستبح به ما لم ينوه، بخلاف الطهارة بالماء. فإذا قلنا بهذا: أنه لا يصح تيمّمه للفرض حتى ينويه.. فهل يفتقر إلى تعيين الفريضة بنية التيمّم؟ فيه وجهان: أحدهما: يفتقر إلى ذلك، لأن كل موضع افتقر إلى نية الفرض.. افتقر إلى تعيين الفرض، كالإحرام في الصلاة، ونّية الصّوم. والثاني: لا يفتقر إلى ذلك، وهو ظاهر النّصّ؛ لأن الشافعي قال: (وينوي

بتيممه الفريضة) . وأطلق، ولم يشترط التعيين. وقال في " البويطي ": (فلو تيمّم ونوى المكتوبتين.. لم تجزه إلا لصلاةٍ واحدةٍ) . ولو كان التعيين شرطًا.. لم تجزئه لواحدةٍ منهما، ولأن الأحداث الموجبة للطهارة لا يحتاج إلى تعيينها، فلم يفتقر إلى تعيين المستباح. وإذا نوى بتيمّمه استباحة فريضةٍ ونافلةٍ.. جاز له أن يصلي به الفريضة التي نواها، ويصلي به ما شاء من النوافل قبل الفريضة وبعدها، في وقتها وفي غير وقتها؛ لأنه قد نوى استباحة النّفل بتيمّمه، والنفل لا ينحصر. وإن نوى بتيمّمه استباحة فريضةٍ، ولم ينو النفل..فهل يستبيح به النفل؟ قال المسعودي [في " الإبانة " ق\15] : فيه قولان. وقال البغداديون من أصحابنا: يستبيح به النفل قولاً واحدًا؛ لأن الفرض أعلى من النفل، فإذا استباح الفرض بتيمّمه.. استباح به النفل. فعلى هذا: له أن يصلي به النفل بعد الفريضة، ما دام وقتها فيها باقيًا على سبيل التبع لها. وإن خرج وقت الفريضة..فهل له أن يصلي النّفل بذلك التيمّم؟ فيه وجهان؛ حكاهما المحاملي: أحدهما: لا يجوز؛ لأن النافلة من أتباع الفريضة، فلم تصح له النافلة بذلك التيمّم بعد ذهاب وقت المتبوع. والثاني: يجوز؛ لأنها طهارة استباح بها النفل في وقت الفريضة، فاستباح بها النفل بعد خروج وقت الفرض، كالوضوء. وهل له أن يتنفل بذلك التيمّم قبل صلاة الفريضة؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز؛ لأن كل طهارة جاز له أن يتنفل بها بعد الفريضة.. جاز له قبلها، كالوضوء. والثاني: لا يجوز؛ لأنه إنما استباح النافلة بهذا التيمّم تبعًا للفرض، فلا يجوز أن يتقدم التابع على المتبوع.

فرع: ما يفعل بنية النفل

[فرع: ما يفعل بنّية النفل] ] : وإن نوى بتيمّمه استباحة صلاة النفل.. جاز له أن يصلي به على الجنازة إذا لم تتعيّن عليه؛ لأنها كالنافلة. ويستبيح به مسّ المصحف وحمله. وإن كان جنبًا، أو حائضًا، ونوى التيمّم للنافلة.. استباح به قراءة القرآن، واللبث في المسجد، والوطء؛ لأن النافلة أكد من هذه الأشياء، لأن الطهارة شرط فيها بالإجماع، والطهارة مختلف فيها لهذه الأشياء، فإذا استباح النافلة.. استباح ما دونها. وإن نوى بتيمّمه استباحة هذه الأشياء.. فهل له أن يصلي به النفل؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يستبيح به النفل؛ لأن هذه الأشياء نوافل، فاستباح صلاة النفل بالتيمّم لهذه الأشياء. والثاني: لا يستبيح به صلاة النفل؛ لأنها آكد في باب الطهارة، على ما تقدم. [مسألة: كمال كيفية التيمم] وإذا أراد التيمّم.. فإنه يسمي الله تعالى، كما قلنا في الوضوء، وينوي على ما مضى، ثمّ يتيمّم. والكلام فيه في فصلين: في الاستحباب، وفي المجزئ منه. فأما الاستحباب: فإن المزني روى: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر " (1/28) قال: (يضرب على التراب ضربةً، ويفرق بين أصابعه) . وقال في موضعٍ آخر: (يضع يديه على التراب) . قال أصحابنا البغداديون: ليست على قولين، وإنما أراد بقوله (يضع يديه) : إذا كان التراب ناعمًا دقيقًا؛ لأنه يعلق غباره من غير ضربٍ.

وأما إذا كان التراب غير ناعمٍ.. فإنه يضرب ويفرق بين أصابعه؛ لأنه لا يعلق الغبار بكفيه إلا بالضرب. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\35] : لا يفرق بين أصابعه في الضربة الأولى؛ لئلا يحصل التراب بين أصابعه في الأولى، فيكون ماسحًا لجزء من يديه قبل وجهه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن حصل على كفّيه تراب كثير.. نفخ التراب؛ ليخففه من على يديه، ويبقي عليهما أثره) ؛ لما «روى أسلع، قال: قلت: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا جنب، فنزلت آية التيمّم، فقال: "يكفيك هكذا": (فضرب بكفيه الأرض، ثمّ نفضهما، ثمّ مسح بهما وجهه، ثمّ أمرهما على اللحية، ثمّ أعادهما إلى الأرض، فمسح بهما الأرض، ثمّ دلك إحداهما بالأخرى، ثمّ مسح ذراعيه: ظاهرهما وباطنهما» . وإنما نفضهما؛ لأنه علق بهما غبار أكثر مما يحتاج إليه فخففهما، ثمّ يمسح بيديه على وجهه الذي وصفناه في الوضوء، ويمرهما، على ظاهر شعر الوجه. وهل يجب عليه إيصال التراب إلى باطن الشعر في الوجه الذي يجب إيصال الماء إليه في الوضوء؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه ذلك، كما قلنا في الوضوء. والثاني: لا يجب عليه، وهو المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصف التيمّم، ومسح وجهه بضربة، وبذلك لا يصل التراب إلى باطن شعر الشارب، والعذار، والعنفقة وإن كان خفيفا. ويخالف الوضوء؛ لأنه لا مشقة عليه في إيصال الماء إلى باطن هذه الشعور، فوجب، وعليه مشقة في إيصال التراب إلى باطنها، فلم يجب.

ثم يضرب ضربة ثانية، ويفرق بين أصابعه. وإن كان عليه خاتم.. نزعه قبل الضربة الثانية؛ لئلا يمنع من وصول التراب إلى ما تحتها، فإذا فعل ذلك.. فقد سقط الفرض عن الراحتين، وعما بين الأصابع بما وصل إليها من التراب. فإن قيل: إذا سقط الفرض به.. فقد صار مستعملا، فكيف يجوز مسح الذراعين به، وعندكم: لا يجوز نقل الماء من إحدى اليدين إلى الأخرى؟ فالجواب: أنه لو انفصل الماء من إحدى اليدين إلى الأخرى، لكان في صحة ذلك وجهان: أحدهما: يجزئه؛ لأنهما كالعضو الواحد، ولهذا يجوز البداية بما شاء منهما. والثاني: لا يجوز، وهو الأصح، كما لو انفصل الماء من وجهه إلى يديه. فعلى هذا: الفرق بين الماء والتراب: أن الماء ينفصل من إحدى اليدين إلى الأخرى، والتراب لا ينفصل من إحداهما إلى الأخرى، ولأن هاهنا به حاجة إلى ذلك؛ لأنه لا يمكنه أن ييمم ذراعا من يد بكفها، بل لا بد من كف أخرى، فصار ذلك بمنزلة نقل الماء في العضو الواحد من بعضه إلى بعض. وأما مسح إحدى اليدين بالأخرى.. فذكر المزني [في " المختصر " 1/28-29] فيها ترتيبا، فقال: يضع كفه اليسرى على ظهر كفه اليمنى وأصابعهما، ثم يمرها على ظهر الذراع إلى مرفقه، ثم يدير بطن كفه إلى بطن كف الذراع، ثم يقبل بها إلى كوعه فيمرها على ظهر إبهامه، ويكون باطن كفه اليمنى لم يمسها شيء من يده، فيمسح بها اليسرى كما وصفت في اليمنى، ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى، وخلل بين أصابعهما.

مسألة: فيمن ييممه آخر

وإنما قال: يضع [ذراعه اليمنى في بطن] كفه اليسرى؛ لأنها هي الماسحة، فاستحب له أن يضع الماسح على الممسوح. وذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/42] ترتيبا آخر، فقال: (يضع ذراعه اليمنى في باطن كفه اليسرى على ظاهر أصابعه اليمنى، ويضم إبهامه إلى أصابعه، ثم يمر بطن يده، فإذا بلغ الكوع أدار إبهامه على ذراعه، وقبض بإبهامه وأصابعه على باطن ذراعه، ثم يمر ذلك إلى المرفق، فإن بقي شيء من ذراعه لم يمر التراب عليه.. أدار يده عليه حتى يصل التراب إلى جميعه) . قال أصحابنا: وما ذكره المزني أحسن. و (الكوع) : هو العظم الناتئ الذي في معصم اليد تحت الإبهام. و (الكرسوع) : هو العظم المقابل له تحت الخنصر. قال الجويني: ويستحب أن لا يفصل يديه، بل تكونان متصلتين حين يمسحهما إلى أن يفرغ. والأصل في ذلك: ما ذكرناه من حديث الأسلع. وأما المجزئ من ذلك: فأن ينوي، ويوصل التراب إلى وجهه ويديه إلى المرفقين بضربتين أو أكثر - وسواء أوصل ذلك بيديه أو بخشبة أو بغير ذلك ـ وتقديم الوجه على اليدين. وما زاد على ذلك سنة. [مسألة: فيمن ييممه آخر] وإن أمر غيره فيممه، ونوى هو.. فالمنصوص: (أنه يجزئه، كما يجزئه في الوضوء) . وقال ابن القاص: لا يجزئه، قلته: تخريجا. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.

فرع: الوقوف في مهب الريح

وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\35] : إذا يممه غيره، فإن كان لعجز.. صح، وإن كان لغير عجز.. فهل يصح؟ فيه وجهان. [فرع: الوقوف في مهب الريح] قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الأم " [1/42] : (وإن سفت الريح عليه ترابا ناعما، فأمر يده على وجهه.. لم يجزئه؛ لأنه لم يأخذه لوجهه، ولو أخذ ما على رأسه لوجهه، فأمره عليه..أجزأه) . واختلف أصحابنا في ذلك: فقال القاضي أبو حامد: هذا إذا لم يعمد الريح وينو التيمّم، فأما إذا عمد الريح، ونوى التيمم..أجزأه، كما يجزئ في الوضوء إذا جلس تحت ميزاب ماء، فنوى الوضوء، وجرى الماء على أعضاء الطهارة. وقال القاضي أبو الطيب: يجب أن يحمل هذا على: أنه لم يتيقن وصول التراب إلى جميع أعضاء التيمم، فأما إذا تيقن ذلك.. أجزأه، ولم يحتج إلى إمرار اليد. وقال أكثر أصحابنا: لا يجوز؛ لأن الشافعي لم يفصل. قال ابن الصباغ: ولأنه يتعذر وصول التراب إلى الوجه من غير مسح، ولأن الله تعالى أمر بالمسح، وهذا لم يمسح، ولا يدخل عليه: إذا غسل رأسه مكان المسح.. فإنه يجزئه وإن لم يمر يده عليه لقيام الدليل على ذلك؛ لأنه إذا أجزأه ذلك عن

فرع: استيعاب المسح لأعضاء التيمم

الجنابة.. فلأن يجزئ ذلك عن الوضوء أولى، بخلاف التيمم. قال المسعودي [في " الإبانة ": ق\35] : وإن أدنى وجهه من الأرض، أو تمعك في التراب، فحصل الغبار على أعضاء التيمم، فإن كان لعجز.. صح. وإن كان لا لعجز.. فهل يصح؟ فيه وجهان. [فرع: استيعاب المسح لأعضاء التيمم] إذا بقي لمعة من الوجه لم يمر عليها التراب..لم يجزئه. وحكى الحسن بن زياد الوضاحي عن أبي حنيفة: (أنه إذا مسح أكثر وجهه..أجزأه) . دليلنا: أن أكثر العضو لا يقوم مقام جميعه في الوضوء في الماء القليل، فكذلك في التيمم. فعلى هذا: إن كان قد مسح يديه..لم يجزئه مسحهما، فيعيد اللمعة وحدها، ثم اليدين إن لم يتطاول الفصل. وإن تطاول الفصل.. فهل الفصل يبطل ما مسحه من وجهه؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما في الوضوء. [مسألة: للمسافر والراعي أن يتيمما] قال في " الأم " [1/39] : (وللمسافر الذي لا ماء معه، وللمعزب في إبله أن يجامع أهله، وإن لم يكن معه ماء) . وروي ذلك عن ابن عباس.

فرع: تيمم عن حدث فبان جنبا

وروي عن علي، وابن عمر، وابن مسعود: أنهم قالوا: (ليس له أن يصيب أهله) . وقال مالك: (أحب أن لا يصيب أهله إلا ومعه الماء) . وقال الزهري: المسافر لا يصيب أهله، والمعزب يصيب أهله. دليلنا: أنا قد دللنا على: أنه يجوز للجنب التيمم، فلم يمنع من أهله، كما لو وجد الماء. قال الشافعي: (ويجزئه التيمم إذا غسل ما أصاب ذكره، وغسلت المرأة ما أصاب فرجها) . وهذا نص الشافعي [في " الأم " 1/39] : على أن رطوبة فرج المرأة نجسة. ومن أصحابنا من قال: إنها طاهرة، ويأتي ذكر ذلك. [فرع: تيمم عن حدث فبان جنبا] فإن تيمم للفريضة، معتقدا: أنه محدث، ثم ذكر: أنه كان جنبا.. أجزأه. وقال مالك وأحمد: (لا يجزئه) . دليلنا: أنه لو ذكر الجنابة.. لم يكن عليه أكثر مما فعل، وهو: نية استباحة

فرع: التيمم في السفر والحضر

الصلاة، فأجزأه، كما لو اغتسلت المرأة عن الحيض، ثم بان: أنها كانت جنبا، أو توضأ عن حدث البول، فبان: أنه كان ريحا. [فرع: التيمم في السفر والحضر] يجوز التيمم في السفر الطويل، بلا خلاف على المذهب. وأما في الحضر والسفر القصير: فأكثر أصحابنا قالوا: يجوز قولا واحدا. وحكى ابن الصباغ، والشيخ أبو نصر: أن فيه قولين: أحدهما: لا يجوز؛ لأن استباحة الصلاة بالتيمم رخصة، فاختص بالسفر الطويل، كالقصر، والفطر. والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] [النساء: 43] . ولم يفرق بين الحضر والسفر، ولا بين السفر القصير والسفر الطويل، وإنما يختلف الحكم في الإعادة. مسألة: [يتيمم بعد دخول الوقت] : ولا يصح التيمم للصلاة إلا بعد دخول الوقت. وبه قال مالك، وأحمد، وداود. وقال أبو حنيفة: (يصح التيمم لها قبل دخول وقتها) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . فأجاز التيمم للقائم إلى الصلاة، وإنما يصح القيام إليها بعد دخول وقتها.

فرع: تيمم لفائتة وصلى حاضرة

وأما الطهارة بالماء: فظاهر الآية يدل على: أنه لا يجوز قبل دخول الوقت، إلا أنا تركناه بالسنة والإجماع، وبقي التيمم على ظاهر الآية. ولأن التيمم طهارة ضرورة، فلم يصح للصلاة قبل دخول وقتها، كطهارة المستحاضة. إذا ثبت هذا: فقال المسعودي [في " الإبانة ": ق\29] : وقت التيمم لصلاة الخسوف: عند الخسوف. ولصلاة الاستسقاء: عند خروج الناس إلى الصحراء. وللصلاة على الميت: إذا غسل. ولتحية المسجد: بعد الدخول. وللفوائت: عند تذكرها. وإن تيمم لنافلة لا سبب لها في الوقت المنهي عن الصلاة فيه.. لم يصح تيممه، ولم يستبح به النافلة بعد دخول وقتها، كما لو تيمم لفريضة قبل دخول وقتها. [فرع: تيمم لفائتة وصلى حاضرة] وإن تيمم لفائتة عليه قبل دخول وقت الفريضة، فلم يصل الفائتة حتى وقت الفريضة.. فهل له أن يصلي بذلك التيمم فريضة الوقت؟ ينظر فيه: فإن كانت الصلاتان مختلفتين، بأن كانت الفائتة عليه الصبح، والتي دخل وقتها الظهر، أو العصر، فإن قلنا: إن تعيين الصلاة التي تيمم لها شرط في صحة التيمم

مسألة: من يحق له التيمم

لها.. لم يصح له أن يصلي بتيممه الصلاة التي دخل وقتها؛ لأنه لم يعينها في التيمم. وإن قلنا: إن تعيين الصلاة لا يشترط في نية التيمم لها، أو كانت الفائتة عليه موافقة للداخل وقتها، بأن كانت الفائتة ظهر أمسه، والتي دخل وقتها ظهر يومه.. فهل له أن يصلي بتيممه الصلاة التي دخل وقتها؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال ابن الحداد: يجوز. وهو اختيار القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ؛ لأنه يجوز له أن يصلي به الفائتة بعد دخول وقت الحاضرة، فجاز له أن يصلي به الحاضرة بعد دخول وقتها، كما لو تيمم للحاضرة بعد دخول وقتها، فأراد أن يصلي به مكانها فائتة عليه، ولأنه تيمم وهو غير مستغن عن التيمم، فأشبه إذا تيمم للحاضرة بعد دخول وقتها. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يجوز؛ لأنها فريضة تقدم التيمم على وقتها، فهو كما لو تيمم للحاضرة قبل دخول وقتها. [مسألة: من يحق له التيمم] ولا يصح التيمم للصلاة بعد دخول وقتها إلا لعادم للماء، أو لخائف من استعماله. فأما الواجد للماء، القادر على استعماله.. فلا يصح تيممه، سواء خاف فوت وقت الصلاة، أو لم يخف. وقال أبو حنيفة: (إذا خاف فوت وقت صلاة العيد أو الجنازة.. جاز له أن يتيمم لهما، وإن كان واجدا للماء) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] .

مسألة: حكم طلب الماء

وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، ما لم يجد الماء» . وهذا واجد للماء. وإن وجد ماء يحتاج إليه للشرب، ويخاف إن استعمله في الطهارة التلف من العطش؛ لأنه يقطع مفازة لا يكون فيها ماء.. جاز له أن يتيمم؛ لأن المريض الذي يخاف من استعمال الماء يجوز له تركه وإن كان لا يتلف في الحال، فكذلك هذا مثله. [مسألة: حكم طلب الماء] ولا يصح التيمم للعادم للماء إلا بعد الطلب وإعواز الماء. وقال أبو حنيفة: (لا يحتاج إلى الطلب، بل إذا كان مسافرا لا يعلم وجود الماء.. جاز له أن يتيمم) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . ولا يثبت له أنه غير واجد إلا بعد الطلب. ولا يجزئه الطلب إلا بعد دخول الوقت؛ لأنه وقت جواز التيمم. فإن طلب قبل دخول الوقت..أعاد الطلب بعد دخول الوقت. قال ابن الصباغ: فإن قيل: فإذا كان قد طلب قبل دخول الوقت، ثم دخل الوقت ولم يتجدد حدوث ماء.. كان طلبه عبثا؟ فالجواب: أنه إنما يتحقق أنه لم يحدث ماء إذا كان ناظرا إلى مواضع الطلب ولم يتجدد فيها شيء.. فهذا يجزئه بعد دخول الوقت؛ لأن هذا هو الطلب. وأما إذا غابت عنه.. جاز له أن يتجدد فيها حدوث ماء، فيحتاج إلى الطلب.

فرع: من تيمم وأخر الصلاة

فأما إذا طلب بعد دخول الوقت، ولم يتيمم عقبه..جاز له أن يتيمم بعد ذلك، ولا يلزمه إعادة الطلب، إلا أن يتجدد أمر؛ لأنه لما طلبه في وقته.. لم يكلف تجديد الطلب؛ لما فيه من المشقة. وإذا طلب قبل الوقت.. كلف إعادته؛ لتفريطه. وإن كان في مفازة لا يوجد في مثلها الماء غالبا.. فهل يلزمه الطلب؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\30] : أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه غير مفيد. والثاني: يلزمه تعبدا. [فرع: من تيمم وأخر الصلاة] قال في" البويطي ": (فإن تيمم بعد الطلب في أول الوقت، وأخر الصلاة إلى آخر الوقت..أجزأه؛ لأنه تيمم في وقت يمكنه فعل الصلاة فيه) . قال ابن الصباغ: فإن سار بعد تيممه إلى موضع آخر، وطلع عليه ركب يجوز أن يكون معهم ماء بتفتيش ما.. احتاج إلى تجديد الطلب. وأما كيفية الطلب: فهو أن يبدأ بتفتيش رحله؛ لأنه أقرب الأشياء إليه، ثم ينظر في الناحية التي هو فيها يمينا وشمالا، وأماما وخلفا، وهذا إذا كان في سهل من الأرض لا يحول دون نظره شيء. فإن كان دونه حائل صعد إليه ونظر حواليه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " البويطي ": (وليس عليه أن يدور في طلب الماء؛ لأن ذلك أكثر ضررا عليه من إتيان الماء في الموضع البعيد) . فإذا نظر ولم ير الماء..قال ابن الصباغ: سأل واستخبر من يظن أن عنده علما من الماء، فإن دل على ماء.. لزمه أن يأتيه بثلاث شرائط: إحداهن: أن لا ينقطع عن رفقته. الثانية: أن لا يخاف على نفسه، أو ثيابه، أو رحله. الثالثة: أن لا يخاف فوت وقت الصلاة.

فرع: لا يتيمم لخوف فوات الوقت وبقربه ماء

وإن وجد بئرا ولا حبل معه، فإن كان يقدر أن يوصل إليها ثيابا حتى يصل إلى أن يأخذ الماء بإناء أو دلو به، أو قدر على ثوب يبله بالماء ثم يعصره ويتوضأ به..لم يكن له أن يتيمم، وسواء قدر على ذلك بنفسه أو بغيره. وإن قدر على نزول البئر بأمر ليس عليه خوف.. نزلها، وإن كان عليه ضرر.. تيمم. [فرع: لا يتيمم لخوف فوات الوقت وبقربه ماء] قال في " الإبانة " [ق\30] : وإن كان بقربه ماء، وهو يخاف فوت وقت الصلاة لو اشتغل به.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يجوز له التيمم) ، وقال في العراة ـ إذا كان بينهم ثوب يتداولونه، فخاف بعضهم فوت وقت لو صبر حتى تنتهي النوبة إليه ـ: (إنه يصبر حتى تنتهي النوبة إليه) . وقال ـ في جماعة معهم دلو ينزحون به الماء، وخاف فوت وقت لو صبر حتى تنتهي النوبة إليه ـ: (يصبر ولا يتيمم) . وهذه نصوص متفقة. وقال ـ في جماعة في سفينة، فيها موضع واحد يمكن أن يصلي فيه واحد قائما، وخاف أن يفوته الوقت لو صبر حتى تنتهي النوبة إليه-: (إنه يصلي قاعدا، ولا يلزمه الصبر) . وهذا نص مخالف للنصوص الأولى. فمن أصحابنا من عسر عليه الفرق، وجعل الجميع على قولين. ومنهم من حمل الجميع على ما نص عليه، وفرق بينهما: بأن القيام أخف؛ لأنه يسقط في النافلة مع القدرة، بخلاف الطهارة بالماء، والسترة، فإنه لا يجوز تركها بحال.

فرع: حكم قبول الماء أو ثمنه

[فرع: حكم قبول الماء أو ثمنه] وإن بذل له غيره الماء، فإن كان بغير عوض.. فهل يلزمه قبوله؟ فيه وجهان: أحدهما ـ حكاه في " الفروع " ـ: أنه لا يلزمه قبوله، كما لا يلزمه قبول الرقبة في الكفارة. والثاني: يلزمه قبوله، وهو المشهور؛ لأنه لا منة عليه في قبوله؛ لأن العادة جرت أن الفقير يبذله للغني، بخلاف الرقبة. وإن بذل له ثمن الماء.. لم يلزمه قبوله؛ لأن عليه منة في قبول الماء. وإن بذل له الماء بثمن مثله، وهو واجد للثمن غير محتاج إليه في سفره.. لزمه شراؤه، ولا يجوز له التيمم. وإن كان غير واجد لثمن مثله، أو كان واجدا له إلا أنه محتاج إليه لسفره..جاز له أن يتيمم؛ لأن المال الذي معه هو محتاج إليه لإحياء نفسه، فهو كما لو كان معه ماء يحتاج إليه للعطش. فإن بيع الماء منه بثمن المثل، وأنظره البائع إلى بلده، وكان له في بلده مال.. وجب عليه شراؤه ولم يجز له التيمم؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك. وإن كان مع غيره ماء، وهو غير محتاج إليه، ولم يبذله له..لم يجز له أن يكابده على أخذه منه؛ لأن له بدلا، وهو التيمم. وفى كيفية اعتبار ثمن مثل الماء، ثلاثة أوجه، حكاها في " الإبانة " [ق\32] :

فرع: إعادة طلب الماء

أحدها ـ ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه يعتبر ثمنه في موضعه الذي هو فيه، مع وجود العذر. والثاني: يعتبر ثمنه عند السلامة، ووجود الماء غالبا. والثالث: لا ثمن له، ولكن يراعي أجرة مثل من يأتي به إلى ذلك الموضع. وإن وهب له الماء هبة فاسدة، فقبضه.. لم يملكه بذلك. فإن توضأ به.. صح وضوؤه، ولا يجب عليه ضمانه؛ لأن الهبة الفاسدة تجري مجرى الصحيحة في باب الضمان، كما في البيع. [فرع: إعادة طلب الماء] فإن طلب الماء للصلاة الحاضرة، فلم يجده، فتيمم وصلى، ثم دخل عليه وقت صلاة أخرى.. قال الشيخ أبو حامد: فعليه أن يعيد الطلب، ولا يلزمه الطلب في رحله؛ لأنه قد علم بالطلب الأول أنه لا ماء فيه، ولا يجوز حدوثه بعد ذلك فيه، ويفارق خارج الرحل؛ لأنه قد يجوز حدوث الماء فيه بعد الطلب. وعلى قياس ما حكيناه عن ابن الصباغ -قبل هذا-: لا يلزمه الطلب فيما لم يغب عن عينه من الموضع الذي طلب فيه للصلاة الأولى. [فرع: هبة فضل الماء] قال الصيدلاني: ولا يلزمه أن يهب فضل مائه لمن لا يجده ـ خلافا لأبي عبيد بن حربويه ـ لأنه ماء يحتاج إليه لإحياء نفسه.

فرع: تعجيل الصلاة بتيمم

[فرع: تعجيل الصلاة بتيمم] وإذا طلب الماء بعد دخول الوقت فلم يجده.. جاز له أن يتيمم ويصلي، سواء علم أنه يجد الماء من آخر الوقت، أو لا يجده. وقال الزهري: لا يجوز له التيمم، إلا إذا خاف فوت الوقت قبل وجود الماء. دليلنا: أن الله تعالى أجاز التيمم لمن قام إلى الصلاة عند عدم الماء، وهذا موجود فيمن قام إليها في أول وقتها. وهل الأفضل أن يقدم الصلاة بالتيمم، أو يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت؟ فيه ثلاث مسائل: إحداهن: أن يتيقن أنه يجد الماء في آخر الوقت.. فالأفضل أن يؤخر الصلاة ليصليها بالوضوء في آخر الوقت؛ لأن الصلاة في أول الوقت فضيلة، والطهارة بالماء فريضة، فكان مراعاة الفريضة أولى. الثانية: إذا كان على إياس من وجود الماء.. فتقديم الصلاة في أول وقتها بالتيمم أفضل؛ لأن الظاهر أنه لا يجد الماء. الثالثة: إذا كان يرجو وجود الماء.. ففيه قولان: أحدهما: التأخير أفضل؛ لأن مراعاة الفريضة ـ وهي الطهارة بالماء ـ أولى من مراعاة الفضيلة، وهي الصلاة في أول الوقت. والثاني: أن تقديم الصلاة في أول الوقت بالتيمم أفضل، وهو الأصح؛ لأنه فضيلة متيقنة، فلا يجوز تركها لأمر مشكوك فيه. قال أصحابنا: وهكذا المريض العاجز عن القيام، إذا رجا القيام في آخر الوقت. أو رجا العريان وجود السترة في آخر الوقت. أو رجا المنفرد وجود الجماعة في آخر الوقت.. هل الأفضل لهم تقديم الصلاة في أول وقتها، على حالتهم التي هم عليها، أو تأخيرها لما يرجونه؟ فيه وجهان مبنيان على هذين القولين.

مسألة: التيمم حالة نسيان الماء

ولا يترك الترخص بالقصر في السفر وإن علم إقامته في آخر الوقت، وجها واحدا؛ لأن ترك الرخصة غير مستحب. قال صاحب " الفروع ": فإن خاف فوات الجماعة لو أسبغ الوضوء.. فإدراك الجماعة أولى من الاحتباس على إسباغ الوضوء وإكماله. [مسألة: التيمم حالة نسيان الماء] إذا نسي الماء في رحله، فتيمم وصلى، ثم علم به فيه.. فالمنصوص ـ في عامة كتبه ـ: (أن عليه الإعادة) . وقال أبو ثور: سألت أبا عبد الله عمن نسي الماء في رحله، فتيمم، وصلى؟ فقال: (لا يعيد) . واختلف أصحابنا في ذلك: فقال أبو إسحاق: هي على قولين، كما قال فيمن ترك فاتحة الكتاب ناسيا. ومنهم: من لم يثبت رواية أبي ثور عن الشافعي في هذا، وقال: يحتمل أنه أراد بذلك مالكا أو أحمد. ومنهم: من تأول رواية أبي ثور على: أنه قد فتش رحله فلم يجد، وكان قد خبأه غيره. والطريقة الأولى أصح؛ فإن أبا ثور لم يلق مالكا، وهو يروي عن أحمد، فيكون على قولين: أحدهما: لا يجب عليه الإعادة. وبه قال أبو حنيفة، ومحمد؛ لأن النسيان عذر حال بينه وبين الماء، فصار كما لو حال بينه وبين الماء سبع. والثاني: يجب عليه الإعادة. وبه قال أحمد، وأبو يوسف، وهو الأصح؛ لقوله

فرع: إذا كان حائل عن الماء أو أخطأ رحله

تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] . وهذا لا يقال له: غير واجد، وإنما يقال له: غير ذاكر. ولأنها طهارة تجب مع الذكر، فلم تسقط مع النسيان، كما لو نسي بعض أعضائه فلم يغسلها. [فرع: إذا كان حائل عن الماء أو أخطأ رحله] قال في " الأم " [1/40] : (فإن كان في رحله ماء، فحال العدو بينه وبين رحله، أو حال بينهما سبع، أو حريق؛ حتى لا يصل إليه.. تيمم وصلى، وهذا غير واجد للماء) . قال أصحابنا: معناه: أنه لا قضاء عليه؛ لأنه فيه في حكم العادم. وإن كان في رحله ماء، فأخطأ رحله وضل عنه، فحضرت الصلاة، فطلبه فلم يجده.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تيمم وصلى) . ولم يذكر الإعادة. فاختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: تجب عليه الإعادة؛ لأنه غير عادم، وإنما هو ناس. ومنهم من قال: لا تجب عليه الإعادة؛ لأنه غير منسوب إلى التفريط في طلب الماء، بخلاف الناسي، فإنه مفرط. فأما إن ضل هو عن القافلة، أو عن الماء.. تيمم وصلى، ولا إعادة عليه. [فرع: علم بوجود الماء بعد الصلاة] ] : قال في " البويطي ": (وكذلك يكون إلى جنب المسافر بئر أو بركة في الموضع الذي عليه أن يطلب الماء فيه، فتيمم، ثم علم.. فعليه الإعادة) . وقال في " الأم " [1/40] : (لا إعادة عليه؛ لأنه كلف ـ فيما ليس معه ـ الطلب المؤدي على الظاهر، وغلبة الظن دون الإحاطة به) . قال ابن الصباغ: وظاهر هذا: قولان.

مسألة: وجد ماء لا يكفيه

قال: ومن أصحابنا من قال: ليست على قولين؛ وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (لا إعادة عليه) ؛ إذا كانت البئر خفية، مثل أن كانت في بسيط من الأرض لا علامة عليها. والموضع الذي قال: (عليه الإعادة) ؛ إذا كانت علامتها ظاهرة، فيكون قد فرط في طلبها. [مسألة: وجد ماء لا يكفيه] إذا وجد من الماء ما لا يكفيه: بأن كان محدثا، فوجد ماء لا يكفيه لأعضاء الوضوء، أو كان جنبا، فوجد ماء لا يكفيه لغسل جميع بدنه.. جاز له استعمال ما وجد من الماء، بلا خلاف. وهل يلزمه استعماله، أو يجوز له الاقتصار على التيمم؟ فيه قولان: أحدهما: لا يلزمه استعماله، ولكن يستحب له. وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وداود، والمزني؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] . وأراد به: الماء الذي تغسل به الأعضاء، وهذا غير واجد له. ولأن هذا ماء لا يطهره، فلم يلزمه استعماله، كالماء المستعمل. ولأنه لو وجد بعض الرقبة في الكفارة.. جعل كالعاجز في جواز الاقتصار على البدل، فكذلك هذا مثله. والثاني: يلزمه استعماله. وبه قال معمر بن راشد، وعطاء، والحسن بن صالح، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] . فمنها دليلان: أحدهما: أنه أمر بغسل هذه الأعضاء، فإذا قدر على غسل بعضها..لزمه ذلك بظاهر الآية.

فرع: تيمم ثم وجد ماء لا يكفي

والثاني: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] [النساء: 43] . فذكر الماء منكرا، فاقتضى: أنه إذا وجد ماء ما..لم يجز له التيمم؛ لأنه لو أراد ما يغسل به جميع الأعضاء.. لقال: (فلم تجدوا الماء) . فاختلف أصحابنا في مأخذ هذين القولين. فمنهم من قال: هما مأخوذان من القولين في جواز تفريق الوضوء: فإن قلنا: لا يجوز التفريق.. لم يلزمه استعمال ما معه من الماء. وإن قلنا: يجوز التفريق.. لزمه استعماله. ومنهم من قال: القولان أصل في أنفسهما، وهو الأصح. فإذا قلنا: يلزمه استعماله.. نظرت: فإن كان محدثا.. فإنه يلزمه استعمال الماء في وجهه، ثم في يديه، إلى حيث بلغ، على الترتيب في أعضاء الوضوء. وإن كان جنبا.. فالمستحب: أن يستعمل الماء في رأسه، وفي أعالي بدنه. هكذا قال أصحابنا. ولو قيل: المستحب أن يستعمله في أعضاء الطهارة؛ لأنه هو المستحب في ابتداء غسل الجنابة..كان محتملا. وفي أي موضع من بدنه استعمله.. جاز؛ لأن الترتيب غير مستحق في الغسل. ويجب أن يستعمل الماء أولا، ثم يتيمم بعده، بخلاف الجريح؛ لأن التيمم هاهنا لعدم الماء، فلا يصح مع وجوده. وإن كان على بدنه نجاسة.. لزمه استعمال ما معه من الماء في إزالتها، أو في إزالة ما قدر عليه منها، قولا واحدا؛ لأن التيمم لا يصح عن إزالة النجاسة. [فرع: تيمم ثم وجد ماء لا يكفي] إذا لم يجد الجنب والمحدث ماء، فتيمم، ثم وجد من الماء ما لا يكفيه:

فإن قلنا: إن من وجد من الماء ما لا يكفيه، لا يلزمه استعماله.. فتيممه باق بحاله. وإن قلنا يلزمه استعماله.. بطل تيممه. وإن أجنب ولم يجد الماء، فتيمم وصلى به فريضة، ثم أحدث.. لم يجز له: أن يصلي فريضة ولا نافلة. فإن وجد من الماء ما لا يكفيه لغسل جميع بدنه، ولكن يكفيه لأعضاء الوضوء: فإن قلنا: يلزمه استعماله لو وجده للجنابة.. بطل تيممه؛ لوجوده، ولم يجز له أن يصلي بالتيمم الأول نافلة، ولا فريضة، بل يجب عليه أن يستعمله، ثم يتيمم. وإن قلنا: لا يجب عليه استعماله للجنابة.. فإن أبا عباس بن سريج قال: إن توضأ به.. ارتفع حدثه، وجاز له أن يصلي به النافلة دون الفريضة؛ لأن التيمم الذي ناب عن غسل الجنابة أباح له فريضة واحدة، وما شاء من النوافل، فلما أحدث.. حرم عليه أن يصلي النوافل. فإذا توضأ.. ارتفع تحريم النوافل فاستباحها، ولم يستبح الفريضة؛ لأن هذا الوضوء لا ينوب عن الجنابة، وهذا وضوء تستباح به النافلة دون الفريضة. وإن أراد أن يتيمم للفريضة الثانية بعد دخول وقتها.. صح تيممه لها، واستباح به الفريضة، ويستبيح به النافلة أيضا؛ لأنه إذا استباح به الفريضة.. فلأن يستبيح به النافلة أولى. وإن أراد أن يتيمم للنافلة.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: يصح؛ لأنه يصح أن يتيمم به للفريضة، ويستبيح به النافلة، فصح تيممه للنافلة مفردة. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: لا يصح تيممه للنافلة؛ لأنه يقدر على الوضوء لها، فلا يستبيحها بالتيمم. ويفارق الفريضة؛ لأنه لا يقدر على استباحتها بالوضوء؛ ولأن تيممه للفريضة ينوب عن الجنابة، فاستباح به النافلة، وتيممه للنافلة ينوب عن الوضوء، فلم يصح مع قدرته على الوضوء.

مسألة: فيمن أولى بالماء

فيقال في هذه المسألة: هل تعلم على مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وضوءًا يصح بنيته رفع الحدث، ولم تستبح به الفريضة، واستبيح به النافلة؟ فقل: نعم، وهو هذا على هذا القول. فإن قيل: هل تعلم وضوءًا لا يصح بنية استباحة الفرض، ويصح بنية استباحة النفل؟ فقل: نعم، وهو هذا الوضوء؛ لأنه لا يصح أن يستبيح به الفرض، فلا يصح أن ينوي به استباحته. ويستبيح به النقل، فصح بنية استباحته. فإن قيل: هل تعلم محدثًا ممنوعًا من الفرض والنفل، لحدثه، فإن تيمم للفرض.. صح، وإن تيمم للنقل ... لم يصح؟ فقل: نعم، وهو هذا، على قول القاضي أبي الطيب. فإن قيل: هل تعلم جنبًا يجوز له: أن يقعد في المسجد ويقرأ القرآن، ولا يجوز له مس المصحف، وفعل الصلاة؟ فقل: نعم، وهو هذا. وكذلك الجنب: إذا عدم الماء، فتيمم، وأحدث، ولم يجد ماء، فإنه يجوز له: أن يقعد في المسجد، ويقرأ القرآن، ولا يجوز له: مس المصحف، ولا فعل الصلاة. [مسألة: فيمن أولى بالماء] وإذا اجتمع ميت، وجنب، وحائض انقطع دمها، وهناك ما يكفي أحدهم ... فإن كان لأحد الحيين كان أحق به، ولا يجب عليه بذله للميت. وقال أبو إسحاق في " الشرح ": من أصحابنا من قال: فيه قول آخر، إن عليه أن يقدم الميت به، ويأخذ ثمنه من مال الميت. قال ابن الصباغ: وهذا لا يعرف للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه محتاج إليه لنفسه، فلا يجب عليه أن يبذله لغيره. فإن خالف مالك الماء، فبذله للميت، أو للحي الآخر ... فحكى المحاملي في

" المجموع "، عن أبي إسحاق: أنه لا يزول ملكه عن الماء، وهكذا ذكره الصيدلاني. فإن تيمم وصلى ... نظرت: فإن تيمم مع بقاء الماء لم يصح تيممه؛ لأنه تيمم مع وجود الماء. وإن تيمم بعد أن غسل الميت بالماء، أو اغتسل به الحي الآخر ... فهل يلزم باذل الماء إعادة ما صلى بالتيمم؟ فيه وجهان، كالوجهين فيمن كان معه ماء، فأراقه بعد دخول الوقت، وتيمم وصلى. فإذا قلنا: يلزمه الإعادة، فكم يعيد من الصلوات؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\32] : أحدهما: يعيد صلاة واحدة. والثاني: يعيد من الصلوات التي صلاها بالتيمم ما كان يصليها في غالب أحواله بالطهارة لو تطهر. وهكذا لو بذل له غيره الماء بغير عوض، أو بعوض مثله وهو واجد له غير محتاج إليه، فلم يقبل، وتيمم وصلى ... فإنه يعيد، وفي القدر الذي يعيده هذان الوجهان. وإن كان الماء للميت ... كان أحق به منهما؛ لأنه ملكه، إلا أن يحتاج إليه الحيان لعطش يخافان منه التلف فلهما أن يشربا ذلك وييمما الميت؛ لأن حفظ الحي آكد من تطهير الميت. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: ويجب عليهما قيمة الماء للوارث في ذلك الموضع. وهكذا قال المسعودي [في " الإبانة " ق\33] ، غير أنه قال: لأن الماء وإن كان من ذوات الأمثال، إلا أنه لا قيمة للماء في البلد.

قال: فإذا رجع الورثة بقيمة الماء، ثم عادوا يومًا إلى ذلك المكان ... فهل لهم أن يردوا قيمة ما أخذوه من الماء، ويطالبوا بمثل الماء؟ فيه وجهان، بناء على ما لو أتلف عليه شيء من ذوات الأمثال، ففقد المثل فانتقل إلى قيمة، ثم وجد المثال ... هل له أن يرد القيمة، ويأخذ المثل؟ فيه وجهان. وكذلك: لو وجد بالمبيع عيبًا بعدما حدث عنده عيب آخر، ثم زال العيب الجديد ... هل له أن يرد بالعيب الأول؟ فيه وجهان. وإن كان الماء مباحًا أو لغيرهم، وأراد أن يجود به على أحدهم ... فالميت أولى؛ وعلله الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بأن هذا خاتمة أمر الميت، ولا يرجى له طهارة بعدها، والحيان يرجى لهما طهارة بعد هذا. ومن أصحابنا من علله بعلة أخرى، وقال: لأن غسل الميت لا يراد لرفع الحدث والصلاة به، وإنما يراد للتنظيف، وذلك لا يحصل بالتراب. والقصد من طهارة الحيين استباحة الصلاة، والتيمم يقوم مقام الماء في استباحة الصلاة. فإن اجتمع حي على بدنه نجاسة، وميت، والماء يكفي أحدهما: فإن قلنا بتعليل الشافعي في الأولى ... فالميت أولى. وإن قلنا بتعليل غيره فيها ... فصاحب النجاسة أولى. وإن اجتمع جنب، وحائض انقطع دمها، وهناك ماء يكفي أحدهما ... ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد: أحدها: أن الجنب أولى؛ لأن وجوب غسله معلوم بنص القرآن، وغسل الحائض مستفاد بخبر الآحاد، والاجتهاد. والثاني: أن الحائض أولى، لأنها تستبيح بالغسل أكثر مما يستبيحه الجنب، وهو إباحة الوطء، ولأن الحائض لا تخلو من نجاسة، والجنب قد يخلو منها، ولأن

مسألة: فاقد الطهورين

غسلها قد ورد به القرآن، وثبت به الإجماع. والثالث: أنهما سواء لأن التيمم بدل عن غسل كل واحد منهما، فاستويا. وإن اجتمع جنب ومحدث وهناك ماء فإن كان يكفي المحدث، ولا يكفي الجنب ... فالمحدث أولى؛ لأنه يرفع حدثه، ويسقط به فرضه، والجنب لا يرفع حدثه، ولا يسقط به عنه فرضه على قول بعض الناس. وإن كان الماء يكفي الجنب، ويفضل عنه ما يغسل به المحدث بعض أعضائه، ويكفي المحدث ويفضل عنه ما لا يكفي الجنب ... فالجنب أولى؛ لأن حدث الجنب أغلظ؛ لأنه لا يقدر على اللبث في المسجد، ولا على قراءة القرآن. وإن كان الماء يكفي الجنب، ولا يفضل عنه شيء، ويكفي المحدث، ويفضل عنه ما يغسل به الجنب بعض أعضائه ... ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الجنب أولى؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها من أن حدثه أغلظ. والثاني: أن المحدث أولى؛ لأن فيه تشريكًا بينهما. والثالث: أنهما سواء؛ لأنه يرتفع به حدث كل واحد منهما. وإن كان على بدنه نجاسة، وهو محدث ومعه من الماء ما يكفي أحدهما ... فإنه يغسل النجاسة بالماء، ويتيمم للحدث؛ لأنا قد بينا: أن التيمم لا يصح عن إزالة النجاسة، ولا بدل لها، والتيمم ينوب عن الحدث، فوجب استعمال الماء فيما لا يقوم غيره مقامه. [مسألة: فاقد الطهورين] وإن عدم الماء والتراب، بأن حبس في موضع لا يجدهما، أو لم يجد إلا ترابًا نجسًا ... فالمشهور من المذهب: أنه يجب عليه أن يصلي على حسب حاله. وبه قال الليث، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد.

وقال أبو حنيفة: (يحرم عليه أن يصلي، ولكن يقضي) : وحكى الشيخ أبو حامد: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في القديم: (يعجبني أن يصلي حتى لا يخلو الوقت من الصلاة، ولا يجب عليه؛ لأنه لا يفيد، ولكن يقضي) . وقال مالك، وداود: (لا يجب عليه أن يصلي، ولا يقضي) . ودليلنا للأول: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أسيد بن حضير، وأناسًا معه في طلب قلادة أضلتها عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فحضرت الصلاة ولا ماء معهم، فصلوا بغير طهارة، فأتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبروه بذلك، فنزلت آية التيمم» ، ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاتهم بغير طهارة. ولأن الصلاة لا تسقط عن المكلف بتعذر شرط من شرائطها، كتعذر السترة، وإزالة النجاسة. فإذا قلنا بهذا: فهل يجب عليه القضاء؟. وقال البغداديون من أصحابنا: تجب عليه الإعادة؛ لأن هذا عذر نادر غير متصل، فلم يسقط فرض الصلاة معه؛ كما لو صلى بنجاسة نسيها. وحكى بعض أصحابنا الخراسانيين فيها قولين: أحدهما: يجب عليه الإعادة؛ لما ذكرناه. والثاني: لا يجب عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر أسيد بن حضير وأصحابه بالإعادة. والأول أصح؛ لأن الإعادة على التراخي، ويجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة. وإن انقطع دم الحائض، ولم تجد ماء، ولا ترابًا ... فحكمها في الصلاة حكم غيرها، على ما بينا.

مسألة: تيمم المريض

قال الصيدلاني: ولا يباح وطؤها على الأصح؛ لأنها ما أتت على حدثها بأصل، ولا بدل. [مسألة: تيمم المريض] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يتيمم مريض في شتاء ولا صيف، إلا من به قرح له غور، أو به ضنى من مرض، يخاف إن مس الماء أن يكون منه التلف) . وجملته: أن المرض على ثلاثة أضرب. ضرب: لا يخاف من استعمال الماء فيه تلف نفس، ولا عضو، ولا حدوث مرض مخوف، ولا إبطاء البرء، مثل: الصداع، ووجع الضرس، والحمى ... فهذا لا يجوز التيمم لأجله، وهو قول كافة العلماء. وقال داود، وبعض أصحاب مالك: (يجوز) . واستدلوا: بعموم قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء: 43] [النساء: 43] الآية. ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه» . وهذا عموم يعارض عمومهم. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحمى من فيح جهنم، فأطفئوها بالماء» ، وروي: «فأبردوها بالماء» . فندب إلى إطفاء حرها بالماء، فلا يجوز أن يكون ذلك سببًا لترك استعمال الماء؛ لأن هذا واجد للماء

لا يخاف التلف من استعماله، فأشبه الصحيح. وأما الآية: فالمراد بها: إذا خاف التلف من استعمال الماء. الضرب الثاني ـ من الأمراض ـ: هو أن يخاف من استعمال الماء تلف النفس، أو تلف عضو، أو حدوث مرض يخاف منه تلف النفس، أو تلف عضو.. فهذا يجوز له التيمم مع وجود الماء. وبه قال كافة أهل العلم، إلا ما حكي عن الحسن، وعطاء، أنهما قالا: لا يجوز له التيمم مع وجود الماء، واحتجا بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] ، فأباح للمريض التيمم عند عدم الماء. ودليلنا: ما ذكرناه من حديث عمرو بن العاص: (أنه تيمم لخوف التلف من البرد، مع وجود الماء، فعلم به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك، فلم ينكر عليه) . وروي: أن رجلاً أصابته شجة في رأسه في بعض الغزوات، ثم أجنب، فسأل الناس، فقالوا: لا بد لك من الغسل، فاغتسل، فمات، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «قتلوه، قتلهم الله، هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على رأسه خرقة، ويمسح عليها ويغسل سائر بدنه» . وهذا نص. وأما الآية: ففيها إضمار، وتقديرها: وإن كنتم مرضى فلم تقدروا على استعمال

الماء، أو كنتم على سفر فلم تجدوا ماء.. فتيمموا. وإن سلمنا: أنه لا إضمار فيها.. فالمراد بها: المرض الذي يخاف من استعمال الماء فيه التلف، بدليل ما رويناه. والضرب الثالث: ـ من الأمراض ـ: أن لا يخاف من استعمال الماء فيه تلف النفس، ولا تلف عضو، ولكن يخاف منه إبطاء البرء، أو زيادة الألم.. فالمنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/38] ، و" المختصر " [1/34] : (أنه لا يجوز له التيمم) . وقال في القديم، في " الإملاء "، و" البويطي ": (يجوز له التيمم) . واختلف أصحابنا على ثلاث طرق: فـ[الأول] : قال أكثرهم: هي على قولين: أحدهما: لا يجوز له التيمم، وبه قال أحمد، وعطاء، والحسن. ووجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] . [النساء: 43] قال ابن عباس، في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء: 43] [النساء: 43] : (إذا كانت بالرجل جراحة في سبيل الله، أو قروح، أو جدري، فيجنب، ويخاف إن اغتسل أن يموت.. فإنه يتيمم بالصعيد) . بشرط خوف الموت. والقول الثاني: أنه يجوز له أن يتيمم. وبه قال مالك، وأبو حنيفة.

مسألة: حصول عيب على عضو ظاهر

قال ابن الصباغ: وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] [النساء: 43] . فعم ولم يخص. ولأنه يستضر باستعمال الماء، فأشبه إذا خاف منه التلف. وما روي عن ابن عباس.. فليس بتفسير، بدليل: أن من كانت به جراحة في غير سبيل الله يخاف منها التلف.. جاز له أن يتيمم، بلا خلاف. و [الطريق الثاني] : قال أبو العباس، وأبو سعيد الإصطخري: يجوز له التيمم، قولاً واحدًا؛ لما ذكرناه على ما قاله في القديم، و" البويطي "، و" الإملاء "، وما قاله في " الأم "، و" المختصر " محمول عليه: إذا كان لا يخاف التلف، ولا الزيادة في العلة. و [الطريق الثالث] : منهم من قال: لا يجوز التيمم، قولاً واحدًا، وما قاله في القديم، و" البويطي "، و" الإملاء " محمول عليه: إذا خاف زيادة يكون منها التلف. [مسألة: حصول عيب على عضو ظاهر] فرع: [حصول عيب على عضو ظاهر] : وإن كان يخاف من استعمال الماء لحوق الشين لا غير.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق المروزي: لا يجوز له أن يتيمم لأجل ذلك بحال؛ لأنه لا يخاف التلف، ولا الألم، ولا إبطاء البرء، فهو كما لو خاف وجود البرد. وقال أكثر أصحابنا: إن كان شينًا يسيرًا لا يشوه خلقة الإنسان، ولا يقبحها، مثل آثار الجدري، أو قليل حمرة، أو خُضرة.. لم يجز له: أن يتيمم قولاً واحدًا؛ لأنه لا يستضر بذلك. وإن كان يحصل به شينٌ كبيراٌ، مثل: أن يسود بعض وجهه،

فرع: يغسل الصحيح ويتيمم عن الجريح

أو يخضر، أو يحصل به آثار يقبح منظرها.. فهو كما لو خاف الزيادة في المرض، على ما مضى من الخلاف؛ لأنه يألم قلبه بذلك، كما يألم بزيادة المرض. [فرع: يغسل الصحيح ويتيمم عن الجريح] ] : لو كان بعض بدنه صحيحًا، وبعضه جريحًا.. غسل الصحيح، وتيمم عن الجريح. وقال أبو إسحاق، والقاضي أبو حامد: يحتمل أن يكون فيه قول آخر: أنه يقتصر على التيمم، كما لو وجد من الماء ما لا يكفيه للطهارة. وقال عامة أصحابنا: بل هي على قول واحدٍ، وهذا التخريج لا يصح؛ لأن عدم بعض الأصل يجري مجرى عدم جميعه، كما تقول فيمن وجد بعض الرقبة، بخلاف عجزه في نفسه، فإنه لو كان بعضه حرًا، وبعضه عبدًا، ووجبت عليه الكفارة في اليمين.. فإنه يكفر بالمال هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (عن كان أكثر بدنه صحيحًا.. اقتصر على غسل الصحيح، ولا يلزمه التيمم. وإن كان أكثر بدنه جريحًا.. اقتصر على التيمم، ولا يلزمه غسل الصحيح) . ودليلنا: ما روى جابر، في الرجل الذي أصابته الشجة في رأسه فاحتلم، فاغتسل فمات، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما كان يكفيه أن يعصب على رأسه خرقة، ويمسح عليها، ويتيمم، ويغسل سائر بدنه» . إذا ثبت هذا: فإن كان جنبًا.. فهو بالخيار؛ إن شاء تيمم عن الجريح، ثم غسل

الصحيح، وإن شاء غسل الصحيح، ثم تيمم عن الجريح؛ لأن الترتيب لا يجب في الغسل. فإن كانت الجراحة في وجهه وقال: إن غسلت رأسي فاض الماء على وجهي.. لم يكن له ترك غسل الرأس، بل يجب عليه أن يستلقي، أو يقنع رأسه، فيمر عليه الماء. فإن خاف إذا صب عليه الماء أن ينتشر الماء إلى القرح.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أمسه الماء إمساسًا، وناب التيمم عما تركه) . وإن كان الجرح في ظهره، ومعه من يضبطه منه. فعليه أن يأمره بذلك، ويغسل الصحيح. وكذلك إن كان أعمى.. أمر بصيرا بذلك. فإن كان في موضع لا يجد فيه من يضبطه منه.. غسل ما يقدر عليه من بدنه، وتيمم، وأعاد إذا قدر؛ لأن ذلك نادر، كما نقول في الأقطع إذا لم يجد من يوضئه. ولا يلزمه أن يعصب على الجراحة، ويمسح على العصابة، إلا إن كان محتاجًا إلى العصابة؛ لشد الدواء على الجراحة، أو يخشى انبعاث الدم.. فإنه يعصب على الجراحة، وعلى ما لا يمكن عصبها إلا بعصبة من الصحيح. فإن خاف من حل العصابة.. لم يلزمه حلها، ويلزمه المسح على العصابة؛ لأجل ما تحتها من الصحيح الذي لا بد أن يكون عليه، لا لأجل موضع الجراحة، كما قلنا في الجبيرة. وإن كان القرح على موضع التيمم.. أمر التراب على موضع القرح؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك.

وإن كان للقرح هناك أفواه منفتحة.. لزمه أن يمر التراب على ما انفتح منها؛ لأنه صار ظاهرًا، ثم يغسل الصحيح. وبدأ الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هاهنا بالتيمم؛ ليكون الغسل بعده، فيزيل التراب عن صحيح الوجه واليدين. وإن بدأ بالغسل قبل التيمم.. جاز. وإن كان محدثًا الحدث الأصغر.. فهل يلزمه الترتيب بين الطهارة بالماء، والتيمم؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها صاحب " الإبانة " [ق\34] : أحدها: يجب الترتيب. فعلى هذا: يغسل، ثم يتيمم. والثاني: لا يجب الترتيب. فعلى هذا: لا يجوز له التيمم أولاً، ثم الغسل. والثالث: ـ وهو الأصح ـ ولم يذكر المحاملي، وابن الصباغ غيره: أنه لا ينتقل من عضو حتى يكمل طهارته. فعلى هذا: إن كانت الجراحة في بعض وجهه، فإن شاء.. غسل صحيح وجهه، ثم تيمم عن جريحه، ثم غسل يديه، ومسح برأسه، وغسل رجليه. وإن شاء.. تيمم عن جريح وجهه أولاً، ثم غسل صحيحه، ثم غسل يديه، ومسح برأسه، وغسل رجليه. وإن كانت الجراحة في إحدى يديه.. فعليه أن يغسل وجهه أولاً، ثم هو بالخيار: إن شاء تيمم عن جريح يده، ثم غسل صحيحها والأخرى، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه. وإن شاء غسل صحيح يده بعد غسل وجهه، ثم تيمم عن جريحها. وإن كانت الجراحة في يديه.. فالمستحب: أن يجعل كل يد بمنزلة عضو منفرد، فيغسل وجهه، ثم يغسل صحيح يده اليمنى، ثم يتيمم عن جريحها، ثم يغسل صحيح يده اليسرى، ثم يتيمم عن جريحها. وإن شاء قدم التيمم لكل يد على غسل صحيحها. وإن شاء جعل اليدين كالعضو الواحد، فيتيمم لجريحيهما تيممًا واحدًا، ثم يغسل صحيحيهما. أو يغسل صحيحيهما ثم يتيمم عن جريحيهما تيممًا واحدًا، وعلى هذا التنزيل في رجليه. فإن كان في بعض وجهه جراحة، وفي يده جراحة، وفي رجله جراحة.. فهو بالخيار: إن شاء غسل صحيح وجهه، ثم يتيمم عن جريحه. وإن شاء تيمم عن

جريحه، ثم غسل صحيحه، ثم ينتقل إلى اليدين، كما ذكرنا في الوجه، ثم يمسح برأسه ثم ينتقل إلى الرجلين، كما ذكرنا في الوجه واليدين. فيلزمه هاهنا ثلاثة تيممات. قال ابن الصباغ: فإن قيل: فهلا قلتم: إذا غسل صحيح وجهه أولاً، ثم تيمم عن جريحه.. أجزأه هذا التيمم عن جريح وجهه، وعن جريح يديه، بدليل: أنه لو أراد أن يوالي بين التيممين ـ على ما قلتم ـ لصح؟! فالجواب: أنَّا لا نقول ذلك؛ لأن هذا يؤدي إلى سقوط الفرض عن جزءٍ من الوجه، وجزءٍ من اليد في حالة واحدة، وذلك يبطل الترتيب. فإن قيل: أليس التيمم يقع عن جميع الأعضاء، فيسقط به الفرض مرة واحدة، ولا يحصل الترتيب؟! فالجواب: أنه إذا وقع عن جملة الطهارة.. كان الحكم له دونها، وهاهنا وقع عن بعضها، فاعتبر ـ فيما يفعله من ذلك ـ الترتيب. فإذا دخل عليه وقت فريضة أخرى، فإن كان جنبًا.. أعاد التيمم دون الغسل. وإن كان محدثًا الحدث الأصغر.. فقد قال ابن الحداد: أعاد التيمم. قال ابن الصباغ: وهذا يحتاج إلى تفصيل: فإن كانت الجراحة في رجله.. أعاد التيمم وأجزأه. وإن كانت في وجهه أو يديه.. فينبغي على الأصل الذي قدمناه أن يعيد التيمم، وما بعد موضع الجراحة من الغسل؛ ليحصل الترتيب. فإن قيل: فبحضور الفريضة الثانية، لم يعد حدث إلى موضع الجرح، وحكم التيمم باقٍ فيه، ولهذا يصلي به النافلة؟

فرع: من لا يستطيع الطهارة بنفسه لا يتيمم

فالجواب: أن حكم الحدث عاد إليه في حق الفريضة الثانية، ولهذا منعناه من أن يصليها، فإذا أراد استباحتها. تيمم لها، فينوب هذا التيمم عن غسل العضو المجروح في حق الفريضة، فيحتاج إلى إعادة ما بعده ليحصل الترتيب. فإذا برئ موضع الجراحة.. بطل حكم التيمم فيه، ووجب غسله. وهل يحتاج إلى إعادة ما غسله من الصحيح؟ نظرت: فإن كان في الوضوء.. غسل ما بعد ذلك العضو. فأما ما قبله من أعضاء الطهارة.. ففيه، وفي غسل بقية بدنه إن كان جنبًا قولان، كما قلنا في ماسح الخفين: إذا نزعهما، أو انقضت مدة المسح، وهو على طهارة.. فإنه يبطل مسحه، وهل يحتاج إلى استئناف الطهارة؟. فيه قولان. [فرع: من لا يستطيع الطهارة بنفسه لا يتيمم] ] : إذا لم يجد المريض من يناوله الماء.. صلى على حسب حاله، وأعاد ولا يتيمم! فإذا لم يستطع أن يتوضأ بنفسه.. وضأه غيره. فإن لم يجد من يوضئه.. صلى وأعاد، ولا يتيمم. وقال مالك: (إذا لم يجد من يناوله الماء.. تيمم) . وقال الحسن: إذا لم يجد من يوضئه، وخاف خروج الوقت.. تيمم.

مسألة: جمع فرضين بتيمم

وقال إسحاق: إذا لم يستطع المريض الوضوء بنفسه.. تيمم. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] وهذا واجد للماء لا يخاف الضرر من استعماله، فأشبه إذا كان قادرًا على استعماله. [مسألة: جمع فرضين بتيمم] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجمع بين صلاتي فرض) . وجملة ذلك: أنه لا يجوز للمتيمم أن يصلي بتيمم واحد فريضتين من فرائض الأعيان، سواء كان ذلك في وقت أو وقتين. وقد روي ذلك عن علي، وابن عباس وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، والنخعي، وقتادة، وربيعة، ومالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه، والمزني: (يجوز له أن يصلي بالتيمم ما شاء من الفرائض إلى أن يحدث، كالطهارة بالماء) . وقال أبو ثور: (له أن يجمع بين فوائت في وقتٍ، ولا يجمع بين فرائض في أوقات) .

فرع: لا يجمع بين واجبين بتيمم

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] [المائدة: 6] الآية. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فكان الظاهر من هذا يقتضي: أن كل من قام إلى الصلاة، فعليه الغسل إن كان واجدًا للماء، أو التيمم إن كان عادمًا للماء أو خائفًا من استعماله كلما قام إليه، وإنما تركنا هذا الظاهر بالوضوء؛ بما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين صلوات عام الفتح بطهارة» . فخرج هذا من مقتضى دليل الآية، وبقي التيمم على ما اقتضته الآية) . وروي «عن ابن عباس: أنه قال: (من السُنَّة أن لا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة، ثم يتيمم للأخرى» وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولأن التيمم طهارة ضرورية، فلا يجمع فيها بين فريضتين من فرائض الأعيان، كطهارة المستحاضة. [فرع: لا يجمع بين واجبين بتيمم] ولا يجوز أن يجمع فيها بين صلاة فريضة وطواف واجب بتيمم، ولا بين طوافين واجبين. وهل يجوز أن يجمع بين صلاة فريضة وبين صلاة منذورة، أو بين صلاتين منذورتين بتيمم واحدٍ؟ فيه قولان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\36] ، بناءً على أنه: هل يسلك

فرع: التيمم للفوائت

بالمنذور مسلك المفروض، أو مسلك المندوب؟ فيه قولان. فإن أراد أن يجمع بين صلاة مفروضة وبين ركعتي الطواف، أو بين طوافٍ واجبٍ وبين ركعتي الطواف بتيمم.. فيه قولان: [أحدهما] : إن قلنا: إن ركعتي الطواف واجبتان.. لم يكن له ذلك. و [الثاني] : إن قلنا: إنهما سُنَّة.. كان له ذلك. [فرع: التيمم للفوائت] وإن كان عليه صلوات فوائت، وأراد أن يقضيها في وقت واحد، وهو عادم للماء.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يطلب الماء للأولى، ويتيمم، ويصليها، فإذا أراد أن يصلي الثانية.. أعاد الطلب لها، ثم يتيمم وكذلك الثالثة والرابعة وإن كان في موضع واحدٍ، لأن ذلك شرط في التيمم. [فرع: حكم نسيان صلاة من يوم] ] : وإن نسي صلاة من صلوات اليوم والليلة، ولا يعرف عنها.. لزمه أن يصلي صلوات اليوم والليلة ليسقط الفرض عنه بيقين. فإن كان عادما للماء، فأراد فرض القضاء بالتيمم.. فكم يلزمه أن يتيمم؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال الخضري ـ من أصحابنا ـ يلزمه أن يتيمم لكل صلاة تيممًا؛ لأن كل صلاة قد صارت فرضًا.

و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يلزمه إلا تيمم واحد، وهو الأصح؛ لأن وجوب ما زاد على المنسية؛ ليتوصل به إلى تأدية المنسية، فهي كالتابعة للمنسية، فلم تفتقر إلى تيمم تنفرد به. وأما إذا نسي صلاتين من صلوات اليوم والليلة، ولا يعرف عينها.. فإنه يلزمه أن يصلي خمس صلوات أيضًا. فإن كان عادمًا للماء، وأراد أن يصليهما بالتيمم، فإن قلنا بقول الخضري في الأولى.. لزمه هاهنا أن يتيمم لكل صلاة، على ما مضى. وإن قلنا بقول الأكثرين في الأولى.. فإن ابن القاص قال: يتيمم لكل صلاة من الخمس؛ لأنه ما من صلاة من الخمس يصليها بالتيمم الأول، إلا ويجوز أن تكون هي المنسية، ويجوز أن تكون المنسية الثانية هي التي تليها، وقد زال حكم التيمم الأول بفعل الأولى، فلا يجوز أداء الثانية بتيمم مشكوك في صحته. وقال ابن الحداد: يكفيه أن يصلي ثماني صلوات بتيممين: فيتيمم، ويصلي الصبح والظهر والعصر والمغرب، ثم يتيمم، ويصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فعلى أي تنزيل نزلت المنسيتين.. فإنه قد أدى إحداهما بالتيمم الأول، والثانية بالتيمم الثاني. قال أصحابنا: وما قاله ابن القاص وابن الحداد صحيح كله على قول الأكثرين من أصحابنا في المسألة الأولى. وأما على قول الخضري: فلا يصح هاهنا إلا قول ابن القاص، غير أن ابن القاص اجتهد في تقليل الصلوات وتكثير التيممات، وابن الحداد اجتهد في تكثير الصلوات وتقليل التيممات. فإن غير هذا الترتيب الذي ذكره ابن الحداد، فصلى بالتيمم الأول الظهر والعصر

والمغرب والعشاء، ثم تيمم وصلى الصبح والظهر والعصر والمغرب.. لم يجزئ؛ لاحتمال: أن عليه العشاء مع الظهر، أو مع العصر، أو مع المغرب، فزال حكم التيمم الأول بفعل الأولى، فلم تصح له العشاء. فإن أراد أن يجزئه. صلى العشاء بالتيمم الثاني. وإن بدأ فصلى بالتيمم الأول: العشاء والمغرب والعصر والظهر، ثم تيمم، فصلى المغرب والعصر والظهر والصبح.. أجزأه. وإن بدأ فصلى بالتيمم الأول: المغرب والعصر والظهر والصبح، ثم تيمم، وصلى: العشاء والمغرب والعصر والظهر.. لم يجز له إلا أن يعيد الصبح بهذا التيمم الثاني. وإن بدأ فصلى بالتيمم الأول من الصبح إلى المغرب، ثم صلى بالثاني من العشاء إلى الظهر.. فذلك جائز. وقد ذكر بعض أصحابنا لما قال ابن الحداد أصلاً في الحساب، وهو: أنك تضرب المنسي في عدد المنسي منه، ثم تزيد المنسي على ما صح لك من الضرب، فتحفظ مبلغ ذلك كله، ثم تضرب المنسي في نفسه، فما بلغ من ضربه.. نزعته من الجملة التي حفظتها، فما بقي بعد ذلك.. فهو عدد الصلوات التي يصليها، وعدد التيمم بقدر عدد المنسي. مثال ذلك في مسألتنا: أنك تضرب اثنين في خمسة، فذلك عشرة، ثم تزيد عدد المنسيتين على ذلك، فتجتمع لك اثنا عشر، ثم تضرب اثنين في اثنين، فذلك أربعة، فإذا نزعت ذلك من اثني عشر.. بقي لك ثمانية، وهو عدد ما تصلي به، بتيممين عدد المنسيتين. وإن نسي ثلاث صلوات من خمس صلوات، ولم يعرف عينها.. فالعمل فيه على ذلك: أن تضرب ثلاثة في خمسة، فذلك خمسة عشر، ثم تزيد عليها ثلاثة، فذلك ثمانية عشر، ثم تضرب ثلاثة في ثلاثة، فذلك تسعة، فتنزعه من ثمانية عشر.. فيبقى لك تسعة، وهو عدد ما يصلي بثلاث تيممات.

فرع: صلوات الجنائز والنوافل بتيمم

فعلى هذا: يتيمم ويصلي الصبح والظهر والعصر، ثم يتيمم ويصلي الظهر والعصر والمغرب، ثم يتيمم ويصلي العصر والمغرب والعشاء. وإن نسي أربع صلوات من خمس.. فالعمل فيه: أنك تضرب أربعة في خمسة، فذلك عشرون، ثم تزيد عليها أربعة، فتجتمع لك أربعة وعشرون، ثم تضرب أربعة في أربعة، فذلك ستة عشر، فتنزع ذلك من أربعة وعشرين.. ويبقى لك ثمانية، وهي عدد ما تصلي من الصلوات بأربع تيممات، فيتيمم ويصلي الصبح والظهر، ثم يتيمم ويصلي الظهر والعصر، ثم يتيمم ويصلي العصر والمغرب، ثم يتيمم ويصلي المغرب والعشاء، وعلى هذا: التنزيل. فإن نسي صلاتين من صلوات يومين وليلتين، فإن كانتا مختلفتين، بأن قال: هما صبح وظهر، أو ظهر وعصر، أو صبح ومغرب، أو ما أشبه ذلك.. فهو كما لو نسي صلاتين من صلوات يوم وليلة على ما مضى. وإن كانتا متفقتين، بأن قال: هما صبحان، أو ظهران، أو عصران، أو مغربان، أو عشاءان.. لزمه أن يصلي عشر صلوات. وفي التيمم وجهان: [أحدهما] : ـ على قول الخضري ـ: يتيمم لكل صلاة من العشر. و [الثاني] : ـ على قول الأكثرين من أصحابنا ـ: يصلي صلوات يوم وليلة بتيمم، وصلوات يوم وليلة بتيمم. فإن شك: هل هما متفقان، أو مختلفان.. لزمه أن يأخذ بالأشد، وهو: أنهما متفقان؛ لأنه أغلظ. [فرع: صلوات الجنائز والنوافل بتيمم] وإن أراد أن يصلي على جنائز صلوات بتيمم واحدٍ، فإن لم يتعين عليه.. جاز؛ لأنها كالنافلة في حقه، بدليل: أنه يجوز له تركها. وإن تعينت عليه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنها إذا تعينت عليه.. صارت كفرائض الأعيان.

مسألة: تيمم ثم أحدث

والثاني: يجوز، وهو المنصوص؛ لأنها لو كانت كفرائض الأعيان.. لم يكن له أن يصلي بتيمم على جنائز وإن لم تتعين عليه؛ لأنها بالفعل تتعين وتقع فريضة. هكذا ذكر ابن الصباغ. ويجوز له أن يصلي بتيمم ما شاء من النوافل؛ لأن أمرها أخف؛ بدليل: أنه يجوز له تركها، ويجوز ترك القيام فيها مع القدرة عليه، بخلاف الفرائض. [مسألة: تيمم ثم أحدث] إذا تيمم عن الحدث الأصغر.. استباح به ما كان يستبيحه بالوضوء. فإن أحدث.. مُنع مما كان يمنع منه قبل التيمم، كالمتوضئ إذا أحدث. وإن تيمم الجنب.. استباح الصلاة وقراءة القرآن، وجميع ما يستبيحه بالغسل. فإن أحدث الحدث الأصغر.. لم يجز له أن يصلي، ولا يمس المصحف، وجاز له قراءة القرآن، واللبث في المسجد، كما لو اغتسل ثم أحدث. فإن قيل: هلا قلتم لا يجوز له قراءة القرآن، واللبث في المسجد؛ لأن الحدث أبطل التيمم، فإذا بطل التيمم، عاد حكم الجنابة؟. قلنا: التيمم هاهنا نائب عن الغسل، والحدث لا يبطل الغسل، فلا يبطل ما ناب عنه. [مسألة: رأى الماء بعد تيمم وقبل الصلاة] إذا تيمم لعدم الماء، ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة.. بطل تيممه، خلافًا لأبي سلمة بن عبد الرحمن. ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، ما لم يجد الماء، ولو عشر حجج، فإذا وجد الماء.. فليمسسه بشرته» . ولأن التيمم لا يراد لنفسه، وإنما يراد لاستباحة الصلاة. فإذا قدر على الأصل قبل الشروع في المقصود منه.. لزمه العود إليه، كالحاكم إذا اجتهد، فتغير اجتهاده قبل تنفيذ الحكم.

فرع: وجد المسافر الماء بعد صلاته بتيمم

وإن عدم الماء في الحضر.. تيمم وصلى، وبه قال أبو يوسف، وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة. وقال زفر: لا يصلي. وروي ذلك عن أبي حنيفة، وهو قول مخرج لنا، قد مضى. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، ما لم يجد الماء» . ولم يفرق بين السفر والحضر. فإذا وجد الماء بعد ذلك.. لزمه أن يعيد الصلاة. وقال مالك: (لا إعادة عليه) . وبه قال الثوري، والأوزاعي، والمزني، وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\33] : أنه أحد قولي الشافعي. والأول أصح؛ لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر غير متصل، فلم يسقط عنه فرض الإعادة، كما لو صلى بنجاسة نسيها. فقولنا: (نادر) احتراز من عدم الماء في السفر. وقولنا: (غير متصل) احتراز من الاستحاضة، ومن سلس البول؛ لأن الأعذار على ثلاثة أضرب: [الأول] : عذر معتاد: وهو السفر، والمرض. و [الثاني] : عذر نادر متصل: وهو الاستحاضة، وسلس البول.. فهذان العذران يسقط معهما فرض الإعادة. و [الثالث] : عذر نادر منقطع: وهو عدم الماء في الحضر، وخوف البرد في الحضر، ومثل أن يحبس في موضع لا يمكنه فيه القيام.. فيصلي قاعدًا. أو يجبر على الصلاة قاعدًا، وما أشبه ذلك.. فهذا لا يسقط معه فرض إعادة الصلاة. [فرع: وجد المسافر الماء بعد صلاته بتيمم] وإن تيمم في السفر لعدم الماء وصلى، ثم وجد الماء، فإن كان السفر طويلاً.. لم يجب عليه إعادة الصلاة.

فرع: التيمم في سفر المعصية

وبه قال عامة العلماء، إلا ما حكي عن طاووس، فإنه قال: عليه أن يتوضأ ويعيد الصلاة. دليلنا: ما روي: «أن رجلين كانا في سفر، فعدما الماء، فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء، فأعاد أحدهما، ولم يعد الآخر، فأتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبراه بذلك، فقال للذي لم يعد: "أصبت السُنَّة"، وقال للذي أعاد: "لك أجران» . ولأن عدم الماء في السفر عذر عام، فهو كما لو صلى مع سلس البول. وإن كان السفر قصيرًا.. فهل يلزمه الإعادة؟ فيه قولان: أحدهما: يلزمه الإعادة؛ لأنه سفر لا يجوز له فيه القصر والفطر، فهو كالحضر. والثاني: ـ وهو الصحيح ـ: أنه لا إعادة عليه؛ لأنه موضع يعدم فيه الماء غالبًا، فهو كالسفر الطويل. وقال الشيخ أبو حامد: وإذا خرج الرجل إلى ضيعته وبستانه، فعدم الماء.. كان له أن يتيمم، وينتفل على الراحلة، ويأكل الميتة إذا اضطر إليها. فعلى مقتضى ما قاله: يكون سفرًا قصيرًا، وفي إعادة ما صلى فيه بالتيمم القولان. [فرع: التيمم في سفر المعصية] وإن كان في سفر معصية فعدم الماء.. فهل يستبيح الصلاة بالتيمم؟ فيه وجهان: أحدهما ـ حكاه في " الفروع " ـ: أنه لا يستبيحها، ولكن يقال له: تب

فرع: تيمم لفقد الماء فجاء ركب

واستبح الصلاة بالتيمم، كما يقال له: تب وكل الميتة، إن كنت مضطرًا إليها. والثاني: يستبيحها، وهو المشهور؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] [النساء: 43] ولم يفرق. فعلى هذا: هل يلزمه إعادة ما صلى بالتيمم؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه؛ لأن سقوط الفرض بالتيمم رخصة تختص بالسفر، فلم يستبح ذلك في سفر المعصية، كالفطر والقصر. والثاني: لا يلزمه الإعادة، لأنه صلى صلاة صحيحة بتيمم في سفر، فلم يلزمه الإعادة، كما لو كان السفر مباحًا. [فرع: تيمم لفقد الماء فجاء ركبٌ] ٌ] : قال في " الأم " [1/41] : (فإن تيمم، فلم يدخل في الصلاة، حتى طلع عليه ركبٌ.. لزمه أن يسألهم عن الماء، سواء علم أن معهم ماء أو لم يعلم، فإن كان معهم ماء، فلم يبذلوه له، أو وجد ماء فحيل بينه وبين الماء.. بطل تيممه الأول) . قال في " الأم " [1/41] : (ولو ركب البحر، ولم يكن معه ماء في مركبه، ولم يقدر على استعمال ماء البحر لشدة.. تيمم وصلى، ولا إعادة عليه؛ لأنه غير قادر على الماء) .

فرع: إعادة طلب الماء إذا تيمم وثم حائل

[فرع: إعادة طلب الماء إذا تيمم وثم حائل] ] : ذكر في " العدة ": ولو تيمم لعدم الماء، ثم رأى الماء ودونه سبع، فإن رآهما معًا، أو عرف مكان السبع أولاً، ثم رأى الماء.. فتيممه باقٍ. وإن رأى الماء، ثم عرف أنه محول دونه.. أعاد الطلب والتيمم؛ لأن الطلب والمصير إليه قد لزمه. وكذلك لو رأى ماء في قعر بئر، وليس معه رشاء ولا دلو، فإن علم مكان الماء، وهو عالم بأنه لا آلة معه ذاكرٌ لذلك.. لم يبطل تيممه. وإن رأى الماء وعنده أن معه آلة النزح، فلا طلب، أو تأمل [و] لم يجد.. أعاد التيمم. قال في " المذهب ": وإن تيمم، ثم وجد الماء وهو محتاج إليه لعطشه، أو لبهائمه.. لم يبطل تيممه؛ لأنه لو كان موجودًا معه.. لم يلزمه استعماله. [فرع: إراقة ما معه من الماء] وإن كان معه ماء فأراقه، وتيمم وصلى، فإن أراقه قبل دخول الوقت.. لم يلزمه إعادة ما صلى بالتيمم؛ لأنه أراقه قبل توجه فرض الطهارة عليه. وإن أراقه بعد دخول الوقت.. فهل تلزمه الإعادة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه الإعادة؛ لأنه فرط في إتلاف الماء، وترك الطهارة به مع القدرة عليها. والثاني: لا يجب عليه الإعادة، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه بعد الإراقة عادم للماء إن كان قد عصى بالإراقة.. فهو كمن قطع رجله، فإنه يعصي بذلك، وإذا صلى جالسًا ... أجزأه.

فرع: رأى الماء أثناء الصلاة

[فرع: رأى الماء أثناء الصلاة] وإن تيمم لعدم الماء، ودخل في الصلاة، ثم وجد الماء في أثناء الصلاة، فإن كان ذلك في الحضر، أو في سفر قصير وقلنا: يلزمه الإعادة.. بطلت صلاته؛ لأنه تلزمه الإعادة، وقد وجد الماء، فوجب أن يشتغل بالإعادة. وإن كان سفرٍ طويلٍ، أو في سفر قصير وقلنا: لا تلزمه الإعادة.. لم تبطل صلاته. وبه قال مالك، وداود. وقال أبو حنيفة، والثوري، والمزني، وأبو العباس ابن سريج: (تبطل صلاته) ، إلا أن أبا حنيفة يقول: (لا تبطل صلاة الجنازة والعيدين، ولا تبطل أيضًا الصلاة برؤية سؤر البغل والحمار) . وقال الأوزاعي: (تصير نفلاً) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشيطان ليأتي أحدكم وهو في صلاته، فينفخ بين أليتيه، ويقول: أحدثت، أحدثت.. فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا» .

فرع: تيمم ورعف في الفرض

فمن قال: ينصرف إذا رأى الماء.. خالف ظاهر الخبر. ولأنه دخل في صلاة معتد بها، فلم تبطل برؤية الماء، كصلاة الجنازة والعيد. فقولنا: (معتد بها) احترازًا منه إذا رأى الماء في صلاة الحضر. إذا ثبت هذا: فهل له الخروج منها؟ من أصحابنا من قال: الأفضل له أن يخرج منها؛ لأن الشافعي قال في (الكفارات) : (إذا وجد الرقبة في أثناء الصوم.. الأفضل أن يرجع إلى العتق) . ولأنه يخرج بذلك من الخلاف. ومنهم من قال: لا يجوز له الخروج منها؛ لأنها صلاة فريضة صحيحة، فلا ينصرف عنها. والأول أصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - استحب لمن دخل في الصلاة منفردًا، ثم رأى الجماعة يصلون ... أن يخرج منها؛ ليصلي مع الجماعة. والخروج إلى الطهارة أولى. [فرع: تيمم ورعف في الفرض] قال في " الأم " [1/41] : (وإن تيمم، فدخل في المكتوبة، ثم رعف.. انصرف، فإن وجد الماء.. لزمه أن يغسل الدم ويتوضأ. وإن لم يجد من الماء إلا ما يغسل به الدم عنه.. غسله واستأنف تيممًا؛ لأنه لما لزمه طلب الماء.. بطل تيممه) . وإن صلى متيمم بمتوضئين، ومتيممين، فرأى المتوضئ الماء في أثناء الصلاة.. لم تبطل صلاته؛ لأن رؤية المأموم المتوضئ للماء ليست برؤية للإمام المتيمم، فلم تبطل به صلاة المتوضئ، كما لو كان منفردًا.

فرع: صلى بتيمم فرأى الماء ونوى الإقامة

[فرع: صلى بتيمم فرأى الماء ونوى الإقامة] وإن دخل المسافر في الصلاة المفروضة بالتيمم، ثم رأى الماء في أثنائها، ثم نوى الإقامة بعد ذلك.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول ابن القاص ـ: أن تيممه يبطل، وتبطل صلاته؛ لأنه صحيح مقيمٌ واجد للماء، فبطلت صلاته، كما لو عدم الماء في الحضر، فتيمم وصلى، ثم رأى الماء في أثناء الصلاة. والثاني ـ حكاه في " العدة " ـ: لا تبطل صلاته؛ لأنه افتتحها مع عدم الماء، فكان مأذونًا فيه، فوجود الماء لا يؤثر في إبطال الصلاة، وجواز التيمم يفترق في الحضر والسفر، وإنما يختلفان في الإعادة. وأما إذا نوى الإقامة دون رؤية الماء.. لم تبطل صلاته. وقال القفال: إن كان في موضع لا يوجد فيه الماء غالبًا.. لم تبطل صلاته، وإن كان في بلد أو قرية.. بطلت صلاته. فإذا قلنا: لا تبطل صلاته.. فهل يلزمه الإعادة؟ فيه وجهان: أحدهما: تلزمه؛ لأنه يصير في حكم المتيمم للصلاة حال الإقامة لعدم الماء، فلزمته الإعادة. والثاني: لا تلزمه الإعادة، وهو قول ابن الصباغ؛ لأن الاعتبار في التيمم بالموضع الذي يوجد فيه الماء نادرًا أو معتادًا، وهذا لا يقف على النية.

فرع: رأى الماء حال صلاته بتيمم

[فرع: رأى الماء حال صلاته بتيمم] وإن دخل في الفريضة بالتيمم، ثم رأى الماء في أثناء الصلاة، فلم يفرغ من الصلاة حتى فني الماء.. فهل يجوز له أن يتنفل بذلك التيمم؟ فيه طرق: أحدها ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يجوز له؛ لأنه إذا رأى الماء، لم يكن له استفتاح الصلاة، كما لو رآه قبل الدخول. والثاني: ـ وإليه أشار ابن الصباغ ـ: أنه يجوز له التنفل؛ لأن هذا الماء لم يلزمه استعماله لهذه الصلاة، ولا قدر على استعماله، فلم يبطل تيممه. قال: ويلزم من قال: لا يصلي النافلة بالتيمم، أن يقول: إذا مر عليه ركب، وهو في الصلاة، ففرغ منها، وقد ذهب الركب.. لا يجوز له أن يصلي النافلة. والثالث ـ حكاه أبو علي السنجي ـ: إن لم يعلم بتلفه قبل الفراغ.. لم يتنفل به، وإن علم بتلفه قبل الفراغ فوجهان. [فرع: رؤية الماء أثناء النافلة] وإن دخل في صلاة نافلة بالتيمم، ثم رأى الماء في أثنائها.. ففيه خمسة أوجهٍ: أحدها ـ وهو المشهور ـ: إن كان قد نوى عددًا.. أتمه كالفريضة، وإن لم ينو عددًا.. سلم من ركعتين، ولم يزد عليهما؛ لأن هذا هو الشرع في النافلة. والثاني: ـ وهو قول أبي علي السنجي، وأبي زيد المروزي ـ: أنه لا يزيد على ركعتين، وإن نوى أكثر منهما. والثالث ـ وهو قول أبي العباس ـ: أنه يقتصر على ما صلى منها؛ لأن ما مضى من النافلة يثاب عليه، والفريضة لا يثاب عليها إلا بإكمالها.

فرع: لا يلزم المتيمم المريض إعادة صلاته

والرابع ـ وهو قول القفال ـ: أنه يزيد ما يشاء من عدد الركعات بعد رؤية الماء؛ لأنه قد صح دخوله فيها. والخامس ـ وهو قول صاحب " الفروع " و" المذهب " ـ: إن نوى عددًا.. أتمه، وإن لم ينو.. بنى على القولين فيمن نذر صلاة: فإن قلنا: يلزمه ركعتان.. صلى ركعتين، وإن قلنا: يلزمه ركعة.. لم يزد عليها. [فرع: لا يلزم المتيمم المريض إعادة صلاته] وإن تيمم للمرض، وصلى.. لم تلزمه الإعادة؛ لأنا قد قلنا: إنه من الأعذار العامة، فهو كمن يصلي مع سلس البول. وإن خاف من استعمال الماء في البرد تلف النفس، أو تلف عضو، أو حدوث مرض يكون منه ذلك، فإن كان في موضع يمكنه تسخين الماء، وأمكنه أن يغسل من بدنه عضوًا ويدثره حتى يأتي على الكل.. لم يجز له التيمم؛ لأنه قادر على استعمال الماء. وإن لم يمكنه ذلك، بأن لم يجد ما يسخنه به، أو كانت الرفقة سائرة، أو كان الماء في موضع لا يمكنه الانغماس فيه.. جاز له التيمم؛ لحديث عمرو بن العاص. وهل يلزمه الإعادة؟ إن كان ذلك في الحضر.. لزمته الإعادة قولاً واحدًا؛ لأنه عذر نادر غير متصل، فهو كما لو صلى بنجاسة نسيها. وإن كان ذلك في السفر.. ففيه قولان: أحدهما: لا تلزمه الإعادة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر عمرو بن العاص بالإعادة. والثاني: تلزمه الإعادة؛ لأنه عذر نادر غير متصل، فهو كعدم الماء في الحضر، وأما الخبر: فيجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، ويجوز أنه لم يأمره بذلك؛ لعلمه أن عمرًا يعلم ذلك.

مسألة: حكم الجبيرة على عضو التيمم

[مسألة: حكم الجبيرة على عضو التيمم] قال الشافعي: (ولو ألصق على موضع التيمم لصوقًا.. نزع اللصوق وأعاد) . واختلف أصحابنا في مراد الشافعي بذلك: فمنهم من قال: أراد إذا كان على موضع التيمم قرح أو جرح، فألصق عليه الدواء بخرق أو غيرها، ولا يخاف الضرر من نزعها.. فإنه يلزمه نزع اللصوق، وغسل الصحيح الذي تحتها، والتيمم في موضع القرح، فيصلي ولا يعيد الصلاة. ومعنى قول الشافعي: (وأعاد) يرجع إلى اللصوق، أي: إذا نزع اللصوق، وغسل الصحيح.. تيمم، وأعاد اللصوق على موضعها. ومنهم من قال: بل يراد أن يكون القرح على موضع التيمم، وعليه اللصوق، ويخاف من نزعه الضرر.. فإنه يمسح عليه. فإذا نزع اللصوق.. تيمم على القرح، وأعاد الصلاة؛ لأن التيمم لا يجزئ على حائل دون العضو. وقوله: (أعاد) يرجع إلى الصلاة. قال الشيخ أبو حامد: والتأويل الأول أصح. وقال ابن الصباغ: أي المسألتين أراد.. فالحكم على ما ذكرناه. [مسألة: حكم الجبيرة] مسألة أخرى: [حكم الجبيرة] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يعدو بالجبائر موضع الكسر، ولا يضعها إلا على وضوء) .

وجملة ذلك: أن (الجبائر) هي الخشب التي توضع على الكسر. وقوله: (لا يعدو موضع الكسر) يريد: لا يتجاوز. وليس هذا على ظاهره؛ لأن الكسر لا توضع عليه الجبائر خاصة، بل لا بد أن يضعها على شيء من الصحيح معه للحاجة إليه. أراد: أي: أن لا يضع على شيء من الصحيح لا حاجة به إليه. فإذا وضع الجبيرة، ثم أراد الغسل أو الوضوء، فإن كان لا يخاف من نزعها ضررًا.. نزعها وغسل ما يقدر عليه من ذلك، وتيمم عما لا يقدر عليه. وإن خاف من نزعها تلف النفس، أو تلف عضو، أو إبطاء البرء أو الزيادة في الألم إذا قلنا: إنه كخوف التلف.. لم يلزمه حلها، ولزمه غسل ما جاوز موضع الشد، والمسح على الجبيرة. والأصل فيه: ما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: (انكسر زندي، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرني أن أمسح على الجبائر» . وهل يلزمه أن يمسح جميعها؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه مسح الجميع؛ لأنه لا ضرر عليه في استيعاب مسحها، فلزمه كالتيمم. والثاني: يجزئه ما يقع عليه اسم المسح؛ لأنه مسح على حائل منفصل عنه، فهو كالخف. وهل يتقدر المسح؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\35] :

أحدهما: أنه يتقدر؛ لأنه مسح على حائل منفصل عنه، فهو كالخف. والثاني: لا يتقدر، بل يمسح عليه إلى أن يبرأ، وهو طريقة البغداديين من أصحابنا، وهو الصحيح؛ لأن الحاجة تدعو إلى استدامة اللبس والمسح إلى البرء، بخلاف الخفين، فإنه إذا استدام لبسهما.. تشوشت لفائفه وحميت رجلاه، فكان به حاجة إلى نزعهما. وواضع الجبيرة ما لم ينجبر.. حاجته باقية إلى اللبس، ويجوز لواضع الجبيرة المسح عليها مع الجنابة، بخلاف لابس الخف؛ لما ذكرناه من الفرق. وهل يجب عليه أن يتيمم مع المسح؟ ذكر أصحابنا البغداديون فيها قولين: [الأول] قال في القديم: (لا يتيمم؛ لأنه لا يجب عليه بدلان من مبدل، كما لا يلزم ماسح الخف) . و [الثاني] قال في الجديد: (يتيمم؛ «لحديث جابر في الرجل الذي أصابته الشجة في رأسه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على رأسه خرقة، ويمسح عليها، ويغسل سائر بدنه» . ولأن واضع الجبيرة أخذ شبهًا من الجريح؛ لأنه يخاف الضرر من غسل العضو، كما يخافه الجريح، وأخذ شبهًا من لابس الخف؛ لأن المشقة تلحقة في نزع الجبيرة، كلابس الخف، فلما أشبههما.. وجب عليه أن يجمع بين حكميهما، وهما المسح والتيمم. وأما صاحب " الإبانة " فقال [في ق\35] : هل يلزمه التيمم؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يلزمه. والثاني: لا يلزمه.

والثالث: إن كان تحت الجبيرة جراحة. لزمه، وإن لم يكن تحتها جراحه.. لم يلزمه. فإن برئ الموضع.. لزمه حل الجبيرة، وغسل الموضع. وإن سقطت عنه الجبيرة في الصلاة.. بطلت الصلاة في مدة المسح، كالخف إذا سقط عنه في الصلاة في مدة المسح. وهل يلزمه إعادة ما صلى بالمسح؟ ينظر فيه: فإن كان قد وضع الجبيرة على طهر.. ففيه قولان: أحدهما ـ وهو الأشبه بالسنة ـ: أنه لا إعادة عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر علينا بالإعادة. والثاني: عليه الإعادة. قال أصحابنا: وهو الأحوط؛ لأن هذا عذر نادر غير متصل، فهو كعدم الماء الحضر. وأما حديث علي: فلا يصححه أهل النقل. وإن كان قد وضعها على غير طهر.. مسح عليها، وصلى، وأعاد قولاً واحدًا، كما لو لبس الخف على غير طهارة.

قال الشيخ أبو حامد: ومن أصحابنا من قال: في الإعادة قولان، وليس بشيء. قال ابن الصباغ: وهكذا الحكم فيه إذا كان على جرحه عصابة يخاف من نزعها. وإن كانت الجبيرة على موضع التيمم.. قال ابن الصباغ: فإن قلنا: يكفيه المسح بالماء.. أجزأه. وإن قلنا: يحتاج إلى التيمم.. فإنه يمسح بالماء ويتيمم، ويمسح بالتراب على الجبيرة وتلزمه الإعادة قولاً واحدًا؛ لأن الجبائر لا يجزئ مسحها في التيمم؛ لأن البدل لا يكون على بدل. وأما تجديد الطهارة لكل صلاة: فإن قلنا: لا يتيمم.. كفته طهارة من الحدث إلى الحدث. وإن قلنا: يتيمم.. احتاج إلى الطهارة عند كل صلاة مفروضة، ولا يجوز أن يجمع بين فرضين بتيمم. وبالله التوفيق

باب الحيض

[باب الحيض] [مسألة: المراد بالحيض والأحكام المترتبة عليه] قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] [البقرة: 222] . واختلف الناس في المحيض المراد بالآية: فقال قوم: هو موضع الحيض، وهو الفرج، كما يقال: مبيت لموضع البيتوتة. وقال قوم: هو زمن الحيض. وذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: (أنه هو الحيض، وهو الدم؛ فكأنه قال: اعتزلوا النساء في حال وجود الدم؛ لأنه قال: {هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] [البقرة: 222] . ولا يوصف الفرج والزمان: أنه أذى، وإنما يوصف به الدم) . وروي: «أن أسماء قالت: يا رسول الله، كيف تغتسل إحدانا من المحيض؟» . فإذا حاضت المرأة.. تعلق بها أربعة عشر حكمًا: أحدها: أنه يحرم فعل الصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقبلت الحيضة.. فدعي الصلاة» . والثاني: أنه يسقط وجوبها؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (كنا نحيض عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا نقضي الصلاة، ولا نؤمر بقضائها» .

الثالث: أنه يحرم عليها الصوم؛ لما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حاضت المرأة.. لم تصل، ولم تصم» . ولا يسقط وجوبه؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أنها قالت: (كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» . الرابع: أنه يحرم الطواف؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة رضوان الله عليها وقد حاضت وهي محرمة: «اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» . الخامس: يحرم عليها قراءة القرآن. وقال مالك: (لا يحرم عليها قراءة القرآن؛ لأنها إذا لم تقرأ.. نسيت القرآن) .

وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\21] : أن هذا قول للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم. ووجه الأول: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقرأ الجنب، ولا تقرأ الحائض شيئًا من القرآن» . ولأنها يمكنها أن تستذكر القرآن في نفسها، فلا تنسى. السادس: يحرم عليها مس المصحف وحمله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] [الواقعة: 79] . السابع: يحرم عليها اللبث في المسجد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض» . الثامن: يمنع صحة الاعتكاف؛ لأنه إذا حرم عليها اللبث في المسجد من غير عبادة.. فلأن يحرم ذلك عليها مع نية العبادة أولى. وأما العبور في المسجد: فإن لم تستوثق في الشد والتلجم.. حرم عليها؛ لأنه لا يؤمن أن تلوث المسجد. وإن استوثقت بالشد.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: يجوز؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: قال لي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ناوليني الخمرة من المسجد"، فقلت: إني

حائض، فقال: "ليست حيضتك في يدك» و (الخمرة) : الحصير الصغير. ولأنه حدث يمنع اللبث في المسجد، فلم يمنع العبور فيه، كالجنابة. و [الثاني] : منهم من قال: لا يجوز؛ لأن حدث الحيض أغلظ من حدث الجنابة، بدليل: أنه يمنع صحة الصوم، ويسقط الصلاة، بخلاف حدث الجنابة. التاسع: يتعلق به وجوب الغسل. وهل يجب برؤية الدم، أو بانقطاعه؟ فيه وجهان، قد مضى ذكرهما. الصحيح: أنه يجب برؤيته. فعلى هذا: إذا أجنبت المرأة، وحاضت قبل أن تغتسل، وأرادت أن تغتسل؛ لتقرأ القرآن: إذا قلنا بالقول القديم.. لم يصح غسلها؛ لأن ما أوجب الطهارة منع صحتها، كخروج البول. وإن قلنا: إن الغسل لا يجب عليها إلا بانقطاع الدم.. صح غسلها عن الجنابة قبل انقطاعه. العاشر: أنه يحكم ببلوغ المرأة به. الحادي عشر: أنه يمنع من الاعتداد بالشهور. الثاني عشر: أنه يمنع من الدخول في العدة وهو إذا طلقها حائضًا. الثالث عشر: أنه يحرم طلاق المدخول بها، ونحن نذكر أدلة هذه الأحكام في مواضعها، إن شاء الله تعالى.

الرابع عشر: أنه يحرم وطؤها في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] [البقرة: 222] . فأما مباشرتها فيما بين السرة والركبة.. فالمنصوص: (أنه لا يجوز) . وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف. وقال الثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، ومحمد بن الحسن: (يجوز) . وبه قال أبو إسحاق المروزي من أصحابنا؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «اصنعوا كل شيء غير النكاح» . ودليلنا: ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر إحدانا إذا حاضت أن تأتزر، ثم يباشرها» . وفي رواية عنها: «كان يباشر نساءه فوق الإزار، وهن حيض» . وروي «عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يحل للرجل من

امرأته، وهي حائض؟ فقال: "ما فوق الإزار» . وأما مباشرتها فيما فوق السرة، وفيما دون الركبة: فإن لم يكن عليه شيء من دم الحيض.. جاز له مباشرتها فيه بالإجماع، ولما رويناه عن عمر، وعائشة. وإن كان عليه شيء من دم الحيض.. فهل يجوز له مباشرتها؟ فيه وجهان، حكاهما المحاملي: أحدهما: لا يجوز؛ لأن به أذى الحيض. والثاني: يجوز؛ لحديث عمر، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولم يفرق. فإن خالف ووطئ امرأته في فرجها وهي حائض، فإن كان جاهلاً بحيضها، أو جاهلاً بتحريمه.. فلا شيء عليه. وإن كان عالمًا بحيضها، عالمًا بتحريم وطئها.. ففيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (إن كان في أول الدم.. لزمه أن يتصدق بدينار. وإن كان في آخره.. لزمه أن يتصدق بنصف دينار) . وبه قال الأوزاعي، وإسحاق؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتى امرأته حائضًا.. فليتصدق بدينار، ومن أتاها وقد أدبر الدم ولم يقبل.. فليتصدق بنصف دينار» . وفي رواية: «في الذي يأتي امرأته وهي حائض.. يتصدق بدينار، أو بنصف دينار» ولهذا خيره أحمد بينهما.

و [الثاني] : قال في الجديد: (يأثم بذلك، وقد أتى كبيرة، فليستغفر الله ويتوب إليه، ولا كفارة عليه) ؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقوله، أو أتى امرأته في دبرها، أو حائضًا.. فقد كفر بما أنزل على محمد» ولم يأمره بالكفارة. ولأنه وطء محرم؛ للأذى، فلم تتعلق به الكفارة، كالوطء في الدبر. وفيه احتراز ممن وطئ في رمضان، أو محرمًا بالحج أو العمرة. وأما حديث ابن عباس: فقيل: إنه موقوف عليه. فإذا قلنا بالقول القديم.. فاختلف أصحابنا في إقبال الدم الذي يجب بالوطء فيه دينار، وفي إدباره نصف دينار: فقال أكثرهم: (إقباله) : هو أول الدم، وأيام كونه قويًا، و (آخره) : هو انتقاله من القوة إلى الضعف، كانتقال الأسود إلى الأحمر، وانتقال الأحمر إلى الأصفر؛ لما روي في حديث ابن عباس: أنه قال: (إن كان الدم أحمر.. فدينار، وإن كان أصفر.. فنصف دينار) . وقال أبو إسحاق الإسفراييني: (أول الدم) : هو قبل انقطاعه، و (آخره) : هو إذا انقطع، ولم تغتسل.

فرع: إخبارها بالحيض

و (الدينار) الذي يجب في ذلك: هو مثقال الإسلام. وقال الحسن البصري، وعطاء: يجب فيه ما يجب على المجامع في رمضان. ودليلنا: ما ذكرناه من الخبر. قال صاحب " الفروع ": ويجب ذلك على الزوج دون الزوجة، على ظاهر المذهب، ومصرفه مصرف الكفارات. [فرع: إخبارها بالحيض] ] إذا أراد الرجل وطء امرأته فقالت: أنا حائض، ولم يعلم بحيضها.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: إن كانت فاسقة.. لم يقبل قولها. وإن كانت عفيفة.. قبل قولها. وقال الشاشي: إن كانت بحيث يمكن صدقها.. قبل كلامها. وإن كانت فاسقة.. فكما نقول في العدة. [فرع: غسل الحائض بعد الانقطاع] وإذا انقطع دم الحائض.. حل لها: أن تصوم، وتغتسل؛ لأن تحريمهما بالحيض، وقد زال.

مسألة: سن الحيض

ولا يحل لها: الصلاة، والطواف، واللبث في المسجد، والاعتكاف، وقراءة القرآن؛ لأن المنع منه؛ لحدثها، وهو باق. ولا يحل وطؤها حتى تغتسل، وبه قال الزهري، وربيعة، والثوري، ومالك. وقال أبو حنيفة: (إن انقطع دمها لأكثر الحيض.. حل وطؤها قبل الاغتسال، وإن انقطع لدون ذلك.. لم يحل حتى تغتسل) . وقال داود: (إذا غسلت فرجها.. حل وطؤها) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] [البقرة: 222] . فشرط الطهر والطهارة. فإن عدمت الماء فتيممت.. حل وطؤها. وقال مكحول: لا يحل وطؤها بالتيمم. وقال أبو حنيفة: (لا يحل وطؤها حتى تصلي به) . دليلنا: أن التيمم طهارة تبيح الصلاة، فأباحت الوطء، كطهارة الماء. فإن صلت بالتيمم فريضة.. فهل يحل وطؤها؟ فيه وجهان. أحدهما: لا يحل، كما لا يحل لها فعل فريضة ثانية. والثاني: يحل، وهو الأصح؛ لأن هذا التيمم قام مقام غسلها، ولهذا يجوز لها فعل النافلة. [مسألة: سن الحيض] ] الحيض له سن مخصوص، وقدر مخصوص، فإذا وجد ذلك.. تعلق به أحكام الحيض. والمرجع في إثبات ذلك إلى الوجود، وهو ما يوجد عادة مستمرة، فإذا وجد ذلك.. صار أصلاً. ومن الناس من قال: لا يرجع في ذلك إلى الوجود. ودليلنا: أن كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا بد من تقديره، ولم يكن له أصل في

فرع: أقل الحيض

الشرع، ولا في اللغة.. رجع فيه إلى العرف والعادة، كالتفرق في البيع، والقبض، والحرز في السرقة. إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (أعجل من سمعت من النساء يحضن نساء تهامة، يحضن لتسع سنين) . وقال في بعض كتبه: (رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة) . قال أصحابنا: ويجيء على أصله أن تكون جدة لها تسع عشرة سنة؛ لأنها تحبل لتسع سنين، وتضع لستة أشهر، ثم تحبل ابنتها لتسع سنين، وتضع لستة أشهر، فذلك تسع عشرة سنة. [فرع: أقل الحيض] وأما أقل الحيض: فاختلف العلماء فيه: فقال أبو حنيفة، والثوري: (أقله ثلاثة أيام) . وقال أبو يوسف: أقله يومان وأكثر اليوم الثالث. وقال مالك: (ليس لأقله حد، ويجوز أن يكون لحظة واحدة) . وأما الشافعي: فذكر في " المختصر " [1/55] : (أن أقله يوم وليلة) . وقال في كتاب (العدد) : (أقله يوم) . واختلف أصحابنا فيها، على ثلاث طرق: فـ[الأول] : منهم من قال: فيه قولان.

و [الثاني] : منهم من قال: أقله يوم، قولاً واحدًا، وإنما قال: يوم وليلة، قبل أن يثبت عنده اليوم وحدة، فلما ثبت عنده اليوم.. رجع إليه. و [الثالث] : منهم من قال: هو يوم وليلة، قولاً واحدًا. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح الذي فرعنا عليه، وبه نفتي، وعليه نناظر، ولا يجوز أن يكون للشافعي فيها قولان؛ لأنه رجع في ذلك إلى الوجود، وقد ثبت الوجود عنده بذلك. وقوله: (يوم) أراد: بليلته؛ لأن العرب إذا أطلقت الأيام.. فالمراد بها: بلياليها، وإذا أطلقت الليالي.. فالمراد بها: بأيامها. قال الله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة: 7] [الحاقة: 7] . وأما الوجود في ذلك: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (رأيت امرأة أثبت لي عنها: أنها لم تزل تحيض يومًا لا تزيد عليه، وأثبت لي عن نساء: أنهن لم يزلن يحضن أقل من ثلاثة أيام) . وقال عطاء: رأيت من النساء من تحيض يومًا، وتحيض خمسة عشر يومًا. وقال أبو عبد الله الزبيري: كان من نسائنا من تحيض يومًا، وتحيض خمسة عشر يومًا. وأكثر الحيض خمسة عشر يومًا. وبه قال أحمد في إحدى الروايتين عنه. وروي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال أبو حنيفة، والثوري: (أكثره عشرة أيام) .

وقال سعيد بن جبير: أكثره ثلاثة عشر يومًا. وروي عن مالك ثلاث روايات: إحداهن: كقولنا. والثانية: (لا حد لأكثره) . والثالثة: (أكثره سبعة عشر يومًا) . دليلنا: أن المرجع في ذلك إلى الوجود، وقد روينا عن عطاء، وأبي عبد الله الزبيري: أن من النساء من تحيض خمسة عشر يومًا. وقال شريك بن عبد الله: عندنا امرأة تحيض من الشهر خمسة عشر يومًا. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (رأيت نساء أثبت لي عنهن: أنهن لم يزلن يحضن ثلاثة عشر يومًا) . وغالب الحيض: ست أو سبع؛ «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحمنة بنت جحش: "تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام، كما تحيض النساء ويطهرن؛ لميقات حيضهن وطهرهن» .

فرع: حد الطهر

[فرع: حد الطهر] وليس لأكثر الطهر حد بلا خلاف. وأما أقله.. فاختلف العلماء فيه: فذهب الشافعي إلى: أن أقله خمسة عشر يومًا. وقال عبد الملك بن الماجشون: أقله خمسة أيام. وقال أحمد: (أقله ثلاثة أيام) . وقال يحيى بن أكثم: أقله تسعة عشر يومًا. وقال بعضهم: أقله عشرة أيام. وقال بعضهم: أقله ثمانية أيام. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النساء: «نقصان دينهن: أن إحداهن تمكث شطر دهرها لا تصلي» . ولأن الله سبحانه وتعالى أوجب على المعتدة بالأقراء ثلاثة أقراء، وأوجب على الآيسة ثلاثة أشهر، فبطل أن يكون أقام الشهر مقام أكثر الحيض وأكثر الطهر؛ لأن أكثر الطهر لا حد له. وبطل أن يكون أقامه مقام أقل الحيض وأقل

فرع: دم الحامل

الطهر؛ لأن أقلهما ستة عشر يومًا. وبطل أن يكون أقامه مقام أقل الحيض وأكثر الطهر؛ لأن أكثر الطهر لا حد له، فثبت: أنه أقامه مقام أقل الطهر وأكثر الحيض، وذلك ثلاثون يومًا. [فرع: دم الحامل] وأما الدم الذي تراه الحامل.. ففيه قولان: أحدهما: أنه ليس بحيض، بل هو دم فساد. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها لا تحبل، فلا تحيض كالصغيرة. ولأنه لو كان حيضًا.. لحرم الطلاق، ولانقضت العدة بثلاثة أطهار منه. والثاني: أنه حيض، وهو الصحيح؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخصف نعله، وأسارير وجهه تبرق، فقلت: يا رسول الله، أنت أحق بما قال أبو كبير الهذلي: ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأنت مبرأة من أن تكون أمك حملت بك في غبر الحيض» . و (الغبر) : البقية.

فرع: أيام النقاء

وإذا ثبت أن المرأة تحمل على الحيض.. ثبت أنها تحيض على الحمل. ولأن الحمل عارض لا يمنع دم العلة، وهو دم الاستحاضة، فلم يمنع دم الحبلة، وهو: دم الحيض، كالرضاع، أو لأنه دم لا يمنعه الرضاع، فلا يمنعه الحمل، كالاستحاضة. [فرع: أيام النقاء] إذا رأت المرأة يومًا وليلة دمًا، ويومًا وليلة طهرًا، ولم يعبر ذلك الخمسة عشر يومًا.. فلا خلاف على المذهب: أن أيام الدم حيض، ولا خلاف أنها إذا رأت النقاء.. يجب عليها أن تغتسل، وتصلي، وتصوم. ويجوز للزوج وطؤها؛ لأن الظاهر بقاء الطهر، وعدم معاودة الدم. فإذا عاودها الدم في اليوم الثالث.. فما حكم ذلك النقاء؟ فيه قولان: أحدهما: أنه حيض ـ وهو قول أبي حنيفة ـ لأن أقل الطهر خمسة عشر يومًا، ولأن الدم يسيل مرة وينقطع أخرى. فعلى هذا: لا يجزئها الصوم إن كان فرضًا، ويجب عليها قضاؤه، ولا ثواب لها فيه إن كان نفلا، ولا إثم على الزوج ولا عليها بالوطء، ولا إثم عليها بفعل الصلاة، ولا يجب عليها إعادتها؛ لأن الحائض لا يجب عليها الصلاة. والقول الثاني: أن أيام النقاء طهر، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو صحيح؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف الحيض بأنه: أذى [البقرة: 222] . وأمر باعتزال النساء فيه حتى يطهرن، وليس هناك ما يستدل به على الحيض إلا وجود الدم، ولا ما يستدل به على الطهر إلا النقاء. فعلى هذا: قد وقع ما فعلت في أيام النقاء من الصلاة والصوم والوطء موقعه. فإذا رأت النقاء في اليوم الرابع، والسادس، والثامن، وما بعدها.. كان حكمه حكم اليوم الثاني. فإن قيل: هلا قلتم ـ على القول الذي يجعل أيام النقاء حيضًا، إذا تكرر ذلك

مسألة: الصفرة والكدرة

منها ـ: أن تؤمر فيه بما تؤمر الحائض، كما قلتم في المستحاضة في الشهر الثاني، إذا جاوز الدم عادتها؟ فالجواب: أن المستحاضة انضمت عادتها في الشهر الأول إلى الظاهر في الشهر الثاني، وهو بقاء الدم الذي تراه، ومجاوزته أكثر الحيض، فثبت على ذلك. وليس كذلك هاهنا؛ فإن الظاهر بقاء الطهر، فلم ينتقل عن هذا الظاهر بمجرد العادة. [مسألة: الصفرة والكدرة] إذا رأت المرأة الدم لسن يجوز أن تحيض فيها.. أمسكت عما تمسك عنه الحائض؛ لأن الظاهر أنه حيض. فإن انقطع لدون اليوم والليلة.. علمنا أنه دم فساد، ولم تأثم بخروج وقت الصلاة عنها؛ لأنا قد أمرنا بتركها، ووجب عليها قضاؤها لأنا قد تبينا أنه لم يكن حيضًا، ولا يفسد صومها. وإن انقطع ليوم وليلة، أو لخمسة عشر يوما، أو لما بينهما، وهو أسود أو أحمر.. فهو حيض. وإن كان في الدم صفرة أو كدورة.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الصفرة والكدورة في أيام الحيض حيض) . واختلف أصحابنا فيه، على ثلاثة أوجه: أحدهما ـ وهو قول أبي العباس، وأبي إسحاق، وأكثر أصحابنا ـ: أن الصفرة والكدرة حيض في أيام العادة، وفي غيرها من الأيام التي يمكن أن تكون أيام الحيض؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] [البقرة: 222] . وهذا يتناول الصفرة، والكدرة.

و [الثاني] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا تكون الصفرة والكدرة حيضا، إلا إذا رأت ذلك في أيام العادة، بأن تكون قد حاضت في أيام من الشهر دمًا أسود، أو أحمر، ثم رأت ـ في الشهر الثاني في مثل تلك الأيام ـ صفرة أو كدرة. فأما إذا رأت المبتدأة صفرة، أو كدرة، أو رأت المعتادة في غير أيام العادة الصفرة أو الكدرة.. لم يكن ذلك حيضًا؛ لما روي «عن أم عطية، وكانت قد بايعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنها قالت: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الغسل شيئًا» ولأنه ليس فيه أمارة الحيض، فلم يكن حيضًا. والثالث ـ وهو اختيار أبي علي الطبري ـ: إن تقدمهما دم قوي، كالأسود، والأحمر، ولو بعض يوم؛ كانا حيضًا. وإن لم يتقدمها دم قوي.. فليسا بحيض. وهو قول أبي ثور. وقال أبو يوسف: الصفرة حيض، والكدرة ليست حيض، إلا أن يتقدمها دم. والأول أصح: لأنه دم في زمان الإمكان، ولم يجاوز الأكثر، فكان حيضًا، كالأسود، وكما لو كان في أيام العادة. وما روي عن أم عطية يعارضه ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (كنا نعد الصفرة والكدرة حيضًا» وقولها أولى؛ لأنها أعلم.

فإن رأت المبتدأة خمسة أيام دما أسود، ثم رأت خمسة أيام دما أصفر أو كدرة، ثم رأت خمسة أيام دمًا أسود، وانقطع.. فعلى قول أبي سعيد الإصطخري: أن الصفرة والكدرة هاهنا ليست بحيض. وعلى الوجه الذي اختاره أبو علي الطبري: الجميع هاهنا حيض. وأما على قول عامة أصحابنا: فإن أبا العباس ابن سريج قال: تكون الصفرة والكدرة هاهنا طهرًا واقعا بين الدمين. فتكون على قولين في التلفيق؛ لأن عادة دم الحيض، كلما تطاول به الأيام.. رق وضعف، وتغيرت صفته. فإذا رأت في الابتداء دما أسود، ثم رأت بعده صفرة، أو كدرة.. حمل على: أن الصفرة والكدرة بقية ذلك الدم. فإذا رأت بعده دم أسود، علم أنه ليس ببقيته، بل هو بحكم الطهر. قال ابن الصباغ: وهذا لا يجيء على قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقول أبي العباس؛ لأن عندهما: أن الصفرة والكدرة في زمان الإمكان حيض. وإنما يجيء على قول أبي سعيد الإصطخري. وإن رأت الدم، وعبر على خمسة عشر يوما.. فقد اختلط الحيض بالاستحاضة؛ لأنا حكمنا بأن ابتداء الدم حيض، ولا يزيد الحيض على خمسة عشر يوما، ويجوز أن يكون قد وردت الاستحاضة على الحيض، لأن الحيض في النساء جبلة وعادة وصحة، لا تنقطع إلا من علة أو كبر، والاستحاضة مرض وسقم، والمرض يطرأ على الصحة، والصحة تطرأ على المرض، وأحدهما لا ينفي الآخر، فكذلك الحيض

مسألة: أحكام المستحاضة المبتدأه غير المميزة

يطرأ على الاستحاضة، والاستحاضة تطرأ على الحيض، ولا بد من التمييز بينهما. إذا ثبت هذا: فالمستحاضات على ثلاثة أضرب: مبتدأة، ومميزة، ومعتادة. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحيض ثلاثة أخبار، جعلها الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أصولا في المستحاضات، ونحن نذكر كل واحدة منهن على ما ينقسم عليه أمرها، وما يتفرع عليها. [مسألة: أحكام المستحاضة المبتدأه غير المميزة] فأما المستحاضة المبتدأة: فصفتها أن ترى المرأة أول ما طرقها الحيض دما بصفة واحدة، وعبر خمسة عشر يومًا. فالخبر الذي جعله الشافعي أصلا فيها ما روي: «أن حمنة بنت جحش ـ وقيل: أم حبيبة بنت جحش ـ قالت: (كنت أحيض حيضة كثيرة شديدة) . وروي: (أنها استحيضت سبع سنين) . قالت: فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجدته في بيت أختي زينب، فقلت يا رسول الله، إن لي حاجة، وإنه لحديث لا بد منه وإني لأستحيي منه. فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (ما هو يا هنتاه؟) فقلت: إني أحيض حيضة كثيرة شديدة، فقد منعتني الصلاة والصوم، فما ترى؟ قال: (أنعت لك الكرسف، فإنه يذهب بالدم، فاحتشي به) فقلت: هو أشد من ذلك، فقال: (تلجمي) ، فقلت: هو أشد من ذلك، فقال (اتخذي ثوبا) فقلت: هو أشد من ذلك؛ إنما أثج ثجًا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إنها ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي في علم الله ستا أو سبعا، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت، فصلي أربعًا وعشرين ليلة، أو ثلاثًا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي، فإنها تجزئك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء ويطهرن، لميقات حيضهن وطهرهن» .

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فيحتمل أن تكون حمنة مبتدأة، فردها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عادات النساء، فيكون هذا الخبر أصلا للمبتدأة. ويحتمل أن تكون حمنة معتادة، فردها إلى عادتها، فترد المبتدأة إلى اليقين، ولا يكون هذا الخبر أصلا لها) . فيخرج من بين هذين التأويلين في المبتدأة وغير المميزة قولان: أحدهما: ترد إلى يوم وليلة؛ لأنه هو اليقين، وما زاد مشكوك فيه. وعلى هذا: إلى ماذا ترد إليه من الطهر؟ فيه قولان، حكاهما في " العدة ". أحدهما: إلى أقل الطهر، وهو خمسة عشر يوما، كما ردت إلى أقل الحيض. والثاني ـ وهو المشهور ـ: أنها ترد إلى غالب طهر النساء، وهو ما بقي من الشهر، فيكون لها على هذا القول ثلاثة أحوال: حيض بيقين، وهو اليوم والليلة. وطهر بيقين، وهو ما زاد على خمسة عشر يومًا. وطهر مشكوك فيه، وهو ما زاد على يوم وليلة إلى خمسة عشر يومًا. وعلى هذا ـ القول ـ: تكون حمنة معتادة، فيكون تخيير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها بين الست والسبع يحتمل: أن تكون شاكة في أن عادتها كانت ستا أو سبعًا، فقال لها: «تحيضي في علم الله ستًا أو سبعا» . أي: فيما علمك الله، ومعناه: فيما تحفظين من عادتك.

ويكون تأويل قوله ـ على هذا ـ: «وكذلك فافعلي في كل شهر، كما تحيض النساء ويطهرن، لميقات حيضهن وطهرهن» ؛ أي: أنك إذا حيضت نفسك ستًا أو سبعًا.. صرت بمنزلة سائر النساء اللواتي يحضن ستا أو سبعا، فذكر ذلك لها على وجه التشبية بغيرها من النساء؛ لأنه جعل عادتها كعادة غيرها. والقول الثاني ـ في أصل المسألة ـ: أنها ترد إلى ست أو سبع، وهو إذا قلنا: إن حمنة كانت مبتدأة، وهو الأصح؛ لأنه لم ينقل: أنه سألها عن حيضها قبل ذلك، ولو كانت معتادة.. لسألها عن عادتها، وردها إليها. فعلى هذا: يكون لها أربعة أحوال: حيض بيقين، وهو الليلة واليوم. وطهر بيقين؛ وهو ما زاد على خمسة عشر يومًا. وحيض مشكوك فيه، وهو ما زاد على يوم وليلة إلى الست أو السبع. وطهر مشكوك فيه، وهو ما زاد على الست أو السبع إلى تمام خمسة عشر يومًا. وأما تخيير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحمنة ـ على هذا القول ـ بين الست أو السبع.. فقال أصحابنا: يحتمل تأويلين: أحدهما: أنه خيرها في ذلك، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الست عادة غالبة في النساء، والسبع عادة غالبة فيهن، وقد روي: أنه قال لها: «فأيهما قعدت.. فلا حرج؛ لأنك لم تخرجي عن عادة النساء» . والثاني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شك في العادة الغالبة، فردها إلى اجتهادها في ذلك، وهو اختيار الطبري، فيكون معنى قوله: "تحيضي في علم الله تعالى". يعني: إن كانت العادة في علم الله ستًا.. فتحيضي ستًا، وإن كانت سبعًا.. فتحيضي سبعًا. فإذا قلنا بهذا التأويل.. فهل تعتبر نساء الناس. أو نساء أهلها وأقربائها وأهل بلدها؟ فيه وجهان: أحدهما: تعتبر نساء العالم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كما تحيض النساء". والعموم يقتضي نساء العالم.

والثاني: تعتبر نساء أهلها وأهل بلدها؛ لأنها أقرب إليهن. إذا ثبت هذا: فإن حال هذه المستحاضة في الشهر الأول بالصلاة والصوم: أن تؤمر بالإمساك عن ذلك من حين رأت الدم، فإذا جاوز الدم الخمسة عشر.. فإنا نأمرها بالاغتسال وبالصلاة والصوم، وتقضي ما تركت فيه الصوم في مدة الخمسة عشر. وأما الصلاة: فإذا قلنا: إنها ترد إلى يوم وليلة.. قضت صلاة ما زاد على يوم وليلة إلى خمسة عشر يومًا. وإن قلنا ترد إلى ست أو سبع.. قضت صلاة ما زاد على ذلك إلى خمسة عشر يومًا. وأما في الشهر الثاني: فإنا نأمرها بالاغتسال والصوم والصلاة، عند انقضاء اليوم والليلة ـ إذا قلنا: ترد إليه ـ أو عند انقضاء الست أو السبع ـ إذا قلنا: ترد إليه ـ لأن الظاهر أنها مستحاضة في هذا الشهر كالأول. فإن انقطع الدم في هذا الشهر لخمسة عشر يومًا أو لدونها.. علمنا أنها إنما كانت مستحاضة في الشهر الأول دون الثاني. فعلى هذا: يلزمها إعادة ما صامت فيه، ولا إثم عليها بفعلها الصلاة والصوم والوطء؛ لأنا قد حكمنا لها بالطهر في الظاهر. فإذا انقطع الدم لخمسة عشر يومًا.. تيقنا أنه كان حيضًا. وإن زاد الدم في هذا الشهر على خمسة عشر يومًا.. فإنها لا تقضي ما أتت به من الصلاة بعد الخمسة عشر؛ لأنه طهر بيقين. ولا تقضي ما أتت به من الصلاة في الطهر المشكوك فيه، وهو ما بعد اليوم والليلة إلى تمام خمسة عشر يوما في أحد القولين، أو ما بعد الست أو السبع في الثاني؛ لأنها إن كانت حائضا فيه.. فلا صلاة عليها، وإن كانت طاهرا فيه.. فقد صلت. وهل تقضي ما أتت به من الصوم؟

مسألة: المستحاضة المبتدأة المميزة

قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وعامة أصحابنا: فيه قولان، وحكاهما صاحب " المهذب " وجهين: أحدهما: يجب عليها قضاء ذلك؛ لأنا نتيقن وجوب ذلك عليها، ونشك في سقوط ذلك عنها؛ لجواز أن تكون حائضًا فيه، فلم يسقط الفرض عنها بالشك. والثاني: لا يجب عليها قضاؤه، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحمنة بنت جحش: «فإذا علمت أنك قد طهرت.. فصلى ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها، أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي؛ فإنها تجزئك» . فأخبر: أن صومها يجزئها، وما أجزأها.. فلا يجب قضاؤه. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إذا استحاضت المبتدأة.. ردت إلى أكثر الحيض، وهو عشرة أيام) . وقال أبو يوسف: يؤخذ بالصوم والصلاة بأقل الحيض. وبتحريم الوطء بأكثر الحيض. وعن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثلاث روايات: إحداهن: (ترد إلى عادة لداتها) . والثانية: (إلى عادة نسائها، ويستظهر بعد ذلك بثلاثة أيام، ما لم يجاوز خمسة عشر يوما) . والثالثة: (أنها تقعد خمسة عشر يوما) . ودليلنا ـ عليهم ـ: ما مضى من القولين. [مسألة: المستحاضة المبتدأة المميزة] وأما المستحاضة المميزة: فهي المرأة إذا ابتدأها الحيض، وعبر الخمسة عشر، إلا أن الدم على لونين: قوي، وضعيف، بأن يكون الدم في بعض الأيام ثخينا محتدما قانيا، وفي بعضها أحمر مشرقًا.

فـ (المحتدم) : الحار، يقال: احتدم النهار: إذا اشتد حره. و (القاني) : هو الذي يضرب إلى السواد من شدة حمرته. فالقوي هاهنا: هو الأسود. وإن رأت بعض الأيام الدم أحمر مشرقًا، وفي بعضها أصفر.. فالقوي هاهنا: هو الأحمر. إذا ثبت هذا: فإنها لا تغتسل عند تغير صفة الدم في الشهر الأول؛ لجواز أن لا يجاوز الدم خمسة عشر يومًا، فيكون الجميع حيضًا. فإذا جاوز الدم خمسة عشر يومًا.. علمنا أنها مستحاضة، فيكون حيضها أيام الأسود مع الأحمر، أو أيام الأحمر مع الأصفر، بشرط أن لا ينقص القوي عن أقل الحيض ولا يزيد على أكثره. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (لا اعتبار بالتمييز، وإنما الاعتبار بالعادة. فإن لم يكن لها عادة.. ردت إلى أكثر الحيض) . دليلنا: ما روي: «أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله، إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اأ: "إنما ذلك عرق، وليست بحيضة، إن دم الحيض أسود يعرف، فإذا كان ذلك.. فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر.. فتوضئي وصلي» . وروي عن ابن عباس: أنه قال: (إن دم الحيض بحراني) .

فرع: المبتدأة المميزة

و (البحراني) : الأحمر، يريد: شديد الحمرة. وقيل: إنه يخرج من قعر الرحم. ولأنه خارج يوجب الغسل، فجاز الرجوع إلى صفته عند الإشكال، كالمني. فإن رأت السواد أقل من يوم وليلة، أو أكثر من خمسة عشر يوما.. لم تكن مميزة؛ لأن الحيض لا ينقص عن يوم وليلة، ولا يزيد على خمسة عشر يومًا. وإن رأت خمسة أيام دما أسود، وخمسة أيام دما أحمر، وخمسة أيام دمًا أسود، وانقطع.. فالكل حيض؛ لأنه لم يزد على أكثر الحيض، بخلاف ما لو كانت الخمس الثانية كدرة، أو صفرة على قول أبي العباس؛ لأن الأحمر أشبه بصفة دم الحيض. إذا ثبت هذا: فإن المبتدأة إذا رأت يومًا وليلة دما أسود، ثم احمر الدم أو اصفر، وجاوز الخمسة عشر مع السواد.. فإنا نأمرها بالغسل عند انقضاء الخمسة عشر، وبالصلاة والصوم؛ لأنه لا يجوز أن يكون حيضًا، ثم نأمرها بقضاء صوم الخمسة عشر يومًا، وبقضاء صلاة ما زاد على يوم وليلة. فإن رأت السواد في الشهر الثاني يوما وليلة، أو ثلاثا، أو أربعًا، ثم احمر الدم أو اصفر.. فإنا نأمرها بالاغتسال عند تغير الدم، وبالصلاة والصوم؛ لأن الظاهر أنها مستحاضة في هذا الشهر كالأول. فإن لم يجاوز الدم الخمسة عشر في هذا الشهر.. علمنا أن الكل حيض، وعلمنا أنها إنما استحيضت بالأول دون الثاني. [فرع: المبتدأة المميزة] وإن رأت خمسة أيام دما أسود، وخمسة أيام طهرًا، وعشرة أيام دمًا أحمر.. فحيضها أيام الأسود، وأما أيام الأحمر: فاستحاضة؛ لأن الدم الأحمر لو زاد مع

فرع: ومن صور المستحاضة غير المميزة

الأسود على خمسة عشر يومًا، ولم يفصل بينهما طهر.. لكان استحاضة، فإذا فصل بينهما طهر أولى. قال أبو العباس: فإن رأت نصف يوم دمًا أسود، ونصف يوم دما أحمر، وكذلك فيما بعده، فلما كان يوم الخامس، رأت في جميعه دمًا أسود، ثم احمر الدم، وعبر الخمسة عشر يومًا.. فالدم الأحمر الذي وجد بعد الخامس استحاضة، وأما السواد في الخامس، وما قبله: فهو حيض، وأما الأحمر الذي وجد بين السواد: فهو في حكم الطهر، فيكون على قولين في التفليق. قال أبو العباس: والأشبه هاهنا أن يكون حيضا ـ وإن كان الصحيح من القولين في الطهر الموجود بين الدمين: أنه طهر ـ لأن الأحمر هاهنا بصفة دم الحيض، فكان إلى الحيض أقرب. [فرع: ومن صور المستحاضة غير المميزة] وإن رأت خمسة أيام دما أحمر، ثم رأت نصف يوم دما أسود، ثم احمر الدم، وعبر الخمسة عشر.. فهذه مبتدأة، لا تمييز لها؛ لأنها لم تر السواد في يوم كامل، فيكون على القولين في المبتدأة. [فرع: ومن صور الاستحاضة] وإن رأت خمسة أيام دما أحمر، وخمسة أيام دما أسود؛ ثم احمر الدم، وعبر مع ما قبله الخمسة عشر.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن حيضها أيام السواد، وما قبله وبعده استحاضة؛ لأن السواد بصفة دم الحيض، فكان حيضًا، كما لو كان متقدمًا. والثاني: أنها مبتدأة، لا تمييز لها؛ لأن الأحمر الأول له قوة السبق، والأسود له قوة الصفة، وما بعدهما مثل الأول في الصفة. فعلى هذا: يكون على قولين، كالمبتدأة.

والثالث: أن حيضها العشر الأولى؛ لأن الأول له قوة السبق، والثاني له قوة الصفة، فتساويا، وما بعدهما استحاضة. والأول أصح؛ لأن الصفة أقوى من الزمان. فإن رأت خمسة أيام دمًا أحمر، وعشرة أيام دما أسود، ثم احمر الدم إلى آخر الشهر.. فعلى الوجه الأول: حيضها العشر الأسود، وما قبله وبعده استحاضة. وعلى الثاني: لا تمييز لها، فترد إلى يوم وليلة في أحد القولين، أو إلى ست أو سبع من أول الأحمر. وعلى الثالث: حيضها الخمس التي قبل العشر مع العشر، وما بعد العشر استحاضة. وإن رأت خمسة أيام دما أحمر، ثم أسود الدم إلى آخر الشهر.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تمييز لها، فترد إلى يوم وليلة في أحد القولين، أو إلى ست أو سبع في الثاني، ويجعل ابتداء ذلك من أول الأحمر؛ لأن له قوة بالسبق، ولا حكم للأسود؛ لأنه زاد على أكثر الحيض. والثاني: أن الأسود يرفع الأحمر ـ ومعنى قولنا: (يرفعه) ، أي يسقط حكمه ـ ويكون ابتداء حيضها من أول الأسود يوما وليلة في أحد القولين، أو ستًا أو سبعًا في الآخر؛ لأنه بصفة دم الحيض. والأول أصح. وإن رأت خمسة عشر يوما دما أحمر، وخمسة عشر يوما دما أسود، وانقطع.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: فيه وجهان، كالتي قبلها: أحدهما: لا تمييز لها، فحيضها من أول الدم الأحمر يوما وليلة في أحد القولين، أو ستًا أو سبعًا في الثاني. والثاني: أن حيضها الأسود؛ لأنه لم يزد على خمسة عشر يومًا. وقال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: يكون حيضها الأسود وجها واحدًا.

فرع: من صور المبتدأة

[فرع: من صور المبتدأة] فإن رأت المبتدأة ستة عشر يوما دما أحمر، ثم رأت دما أسود، وزاد على خمسة عشر يوما.. فإن أبا العباس قال: يبنى على الوجهين في الأسود إذا وجد بعد الأحمر، وزاد على خمسة عشر.. هل يرفع حكمه؟ فإن قلنا بالأول: إن الأسود لا يرفع حكم الأحمر.. فهي كالمبتدأة التي لا تمييز لها. فإن قلنا: إن المبتدأة ترد إلى يوم وليلة.. حيضناها من أول الأحمر يوما وليلة، وجعلنا باقيه، وهو خمسة عشر يوما طهرًا، ثم حيضناها من أول الأسود حيضا آخر يوما وليلة. وإن قلنا: إن المبتدأة ترد إلى ست أو سبع.. فإنا نحيض هذه من أول الأحمر ستًا أو سبعا، ولا يمكننا أن نحيضها من أول الأسود حيضا آخر؛ لأنه يوجد في اليوم السابع عشر، اللهم إلا أن يستمر بها الدم الأحمر إلى آخر الحادي والعشرين، أو إلى آخر الثاني والعشرين. ثم ابتدأها الأسود بعد ذلك.. فإنا نحيضها من أول الأسود حيضًا آخر؛ لأنا إذا حيضناها من أول الأحمر ستًا أو سبعا، وكان باقي الأحمر خمسة عشر يومًا، وبعده الأسود.. كان ابتداء الحيض الثاني بعد استكمال طهر صحيح بعد الحيضة الأولى. وإذا ابتدأ الأسود قبل استكمال طهر صحيح.. لم يمكن أن نجعل ابتداء الأسود حيضًا. وإن قلنا: إن الأسود يرفع الأحمر ويبطل حكمه.. فلا حاجة بنا إلى إسقاط حكم الأحمر، بل نحيضها من أول الأحمر يومًا وليلة قولاً واحدا، ويكون باقية طهرا، وهو خمسة عشر يومًا، ثم نبتدئ لها حيضًا آخر من أول الأسود، إلا أن يستمر بها الأحمر اثنين وعشرين يوما، ثم يبتدئها الأسود.. فإن في القدر الذي نحيضها من أول الأحمر قولين: أحدهما: يوما وليلة.

مسألة: المستحاضة المعتادة غير المميزة

والثاني: ست أو سبع؛ لأنه يمكن الجمع بينهما. قال القاضي أبو الطيب: الصحيح عندي أن نحيضها من أول الأحمر، إما يوما وليلة في أحد القولين، أو ستًا أو سبعًا في الثاني. ولا نحيضها من أول الأسود؛ لأنه قد بطلت دلالته؛ لزيادته على أكثر الحيض. قال: وقد ناقض أبو العباس ابن سريج في هذا الفرع؛ لأنه إذا قال: إن الأسود يرفع الأحمر.. فكان ينبغي أن يحيضها من أول الأسود، ويكون الأحمر استحاضة؛ لأن معنى قولنا: (يرفعه) أي: يدل على أنه استحاضة، وقوله: (لأنه يمكن الجمع بينهما) ليس بصحيح؛ لأن المميزة لو رأت يومًا وليلة دما أسود، وباقي الشهر أحمر.. حيضناها الأسود، وكان الأحمر كله استحاضة، وإن كان يمكن أن يكون السابع عشر حيضًا، ولا يمنعه الأسود. [مسألة: المستحاضة المعتادة غير المميزة] مسألة: [في المستحاضة المعتادة غير المميزة] : وأما المستحاضة المعتادة: فلا تخلو: إما أن تكون ذاكرة لوقت عادتها وعددها، أو ناسية. فإن كانت ذاكرة.. نظرت: فإن كانت غير مميزة، بأن تكون قد ثبت لها حيض صحيح، ثم عبر الدم عادتها، وعبر على الخمسة عشر، والدم على لون واحد.. فإنها لا تغتسل في الشهر الأول عند مجاوزة الدم عادتها إن كانت عادتها دون الخمسة عشر لجواز أن تنقطع لخمسة عشر. فإذا جاوز الدم الخمسة عشر.. علمنا أنها مستحاضة، فتغتسل عند ذلك، وتقضي

صلاة ما زاد على أيام عادتها. وفي الشهر الثاني تغتسل عند مجاوزة الدم أيام العادة، ويكون حيضها أيام عادتها. وقال مالك: (لا اعتبار بالعادة) . ودليلنا: ما روي: «أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستفتت لها أم سلمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتدع الصلاة قدر ذلك، فإذا خلفت ذلك.. فلتغتسل، ولتستثفر بثوب وتصلي» . فإن رأت الدم في خمسة أيام من كل شهر مرتين، ثم استحيضت في الشهر الثالث.. فإنها ترد إلى الخمس، بلا خلاف على المذهب. وإن رأت الدم في خمسة أيام مرة، ثم استحيضت في الشهر الثاني.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تكون معتادة؛ لأن العادة مأخوذة من العود، وذلك لا يستعمل في أقل من مرتين. والثاني: أنها تكون معتادة، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتدع الصلاة قدر ذلك» . ولم يفرق بين أن تحيض فيه مرة أو مرتين.

فرع: ثبوت العادة

[فرع: ثبوت العادة] وتثبت العادة بالتمييز، كما تثبت بانقطاع الدم. فإن كانت عادتها أن ترى ثلاثة أيام أو أربعا من أول الشهر دما أسود، وباقي الشهر أحمر، فلما كان بعض الشهور رأت الدم من أوله مبهما، وجاوز الخمسة عشر.. جعل حيضها أيام السواد. ويثبت الطهر بالعادة، كما يثبت الحيض. فإن كانت عادتها أن ترى الدم خمسة أيام من أول الشهر، وتطهر باقي الشهر، والشهر الذي بعده، فرأت في بعض الشهور الدم مناول الشهر، وعبر على خمسة عشر.. فإن شهر حيضها يكون ستين يومًا: حيضها خمسة أيام، وطهرها خمسة وخمسون يومًا. [فرع: تلون دم المبتدأة] فإن رأت المبتدأة دما أحمر، واتصل في شهر، ثم رأت في الشهر الثاني خمسة أيام دما أسود، ثم أحمر إلى آخر الشهر، ثم رأت الشهر الثالث دما مبهما.. فإنها في الشهر الأول: مبتدأة غير مميزة، إلى ماذا ترد؟ على قولين. وفي الشهر الثاني: هي مميزة، فترد إلى أيام السواد. وفي الشهر الثالث: إن قلنا: إن العادة تثبت بمرة.. كان حيضها خمسة أيام. وإن قلنا: لا تثبت إلا بمرتين.. كانت كالمبتدأة التي لا تمييز لها، إلى ماذا ترد؟ فيه قولان. [فرع: تغير العادة] وقد تنتقل العادة، فتتقدم وتتأخر، وتزيد وتنقص، فترد إلى آخر ما رأت. فإن كانت عادتها أن تحيض خمسة أيام من أول الشهر، فلما كان في بعض الشهور رأت الخمس المعتادة من أول الشهر، ثم طهرت عشرين يومًا، ثم رأت الدم في الخمس الأخيرة من الشهر وانقطع.. فهذه قد تقدمت عادتها.

فرع: أحوال العادة

وإن رأت الطهر في الخمسة الأولى من الشهر، ثم رأت الدم في الخمسة الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، أو الخامسة، أو السادسة وانقطع.. فهذه تأخرت عادتها. وإن رأت الدم من أول الشهر، واستمر بها إلى آخر العاشر وانقطع.. فهذه زادت عادتها. وكذلك لو رأت الدم في خمس قبل عادتها، واستمر بها الدم إلى آخر عادتها وانقطع.. فهذه زادت عادتها. وإن رأت الدم في ثلاثة أيام، أو أربع من أول الشهر، وانقطع.. فهذه نقصت عادتها، ولم تنتقل. وإن رأت الدم في أيام عادتها، وفي خمس قبلها، وخمس بعدها.. فقد صار حيضها خمسة عشر يوما. وقال أبو حنيفة: (إذا رأت الدم في خمس قبل عادتها، وفي أيام عادتها.. كان حيضها في زمان عادتها، وما قبل ذلك استحاضة وإن رأت مع عادتها خمسا بعدها.. كان الجميع حيضًا؛ لأن الذي بعد عادتها تبع لها) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه دم رأته في زمان إمكانة، ولم يجاوز أكثر الحيض، فكان حيضًا، كما لو رأته بعد أيام العادة. [فرع: أحوال العادة] وإن كانت عادتها الخمسة الأولى من الشهر، فلما كان في بعض الشهور رأت الدم في الخمسة الأولى وانقطع، ثم رأت الدم في الخمسة الأخيرة واتصل، أو طهرت في الخمسة الأولى، ورأت الدم من أول الخمس الثانية، واتصل الدم.. ففيه وجهان: أحدهما: أن حيضها: خمسة أيام من أول الدم؛ لأنه دم رأته في زمان إمكانه، فكان حيضًا.

فرع: صور في اختلاف عادة غير المميزة

والثاني: أن حيضها: الخمس الأولى من الشهر، وهو الصحيح؛ لأنه قد ثبتت عادتها فيها، فلا تنتقل عنها إلا بحيض صحيح، وهذا دم قد زاد على أكثر الحيض، فلم يكن له حكم. [فرع: صور في اختلاف عادة غير المميزة] وإن كانت عادتها أن تحيض خمسة أيام من أول الشهر، ثم رأت في شهر خمسة أيام من أوله دمًا أحمر، ثم اسود الدم إلى آخر الشهر: فإن قلنا: إن الأسود لا يرفع الأحمر.. كان حيضها الخمسة الأولى، وهي أيام الدم الأحمر. وإن قلنا: إن الأسود يرفع الأحمر.. كان حيضها خمسة أيام من أول الأسود، وقد انتقلت عادتها. فإن كانت بحالها، ورأت خمسة أيام من أول الشهر دمًا أحمر، وخمسًا بعدها أسود، ثم احمر الدم، وعبر.. بنيت على الثلاثة الأوجه ـ لأبي العباس في المبتدأة ـ: فإن قلنا: ـ في المبتدأة أن لو رأت كذلك ـ: إن حيضها أيام السواد.. كان حيضها هاهنا الخمس الثانية، وقد انتقلت عادتها. وإن قلنا: ـ في المبتدأة أن لو رأت ذلك ـ: إنها غير مميزة.. كان حيضها هاهنا الخمس الأولى، وهي أيام عادتها. وإن قلنا: ـ في المبتدأة ـ: إن حيضها العشر الأولى.. كان حيضها هاهنا الخمس الأولى، والخمس الثانية، وقد زادت عادتها.

فرع: اختلاف عادة غير المميزة

[فرع: اختلاف عادة غير المميزة] وإن كانت عادتها تختلف.. نظرت: فإن كانت على نسق واحد، مثل أن كانت عادتها أن تحيض في الشهر الأول ثلاثة أيام، وفي الثاني أربعة أيام، وفي الثالث خمسة أيام، وفي الرابع ستة أيام، ثم تعود في الشهر الخامس إلى الثلاث، وفي السادس إلى أربع، وفي السابع إلى خمس، وفي الثامن إلى ست، فاستحيضت في شهر.. قيل لها: ما كانت عادتك في هذا الشهر؟ فإن قالت: ثلاثًا.. حيضناها فيه ثلاثا، وفي الذي بعده أربعا، وفي الذي بعده خمسًا، وعلى هذا على ترتيب عادتها؛ لأن ذلك قد ثبت عادة لها، هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\43] : فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: ترد إلى أيام حيضها في الشهر الذي قبل شهر الاستحاضة؛ لأنا لا نقول: إن ذلك لها عادة دائرة، ولكنها منتقلة، والعادة تنتقل بمرة. وإن قالت: عادتي على نسق، ولكني لا أدري ما كانت عادتي في هذا الشهر، ولا في الذي قبله.. حيضناها ثلاثة أيام في هذا الشهر؛ لأنه يقين، ثم نأمرها أن تغتسل في آخرها؛ لجواز أن يكون هذا وقت انقطاع حيضها، ثم تصلي اليوم الرابع، وتغتسل في آخره؛ لجواز أن يكون حيضها أربعا، ثم تصلي الخامس، فتغتسل في آخره، ثم في آخر السادس. وإن كانت عادتها على غير نسق.. نظرت: فإن كانت أوائل أيامها متفقة، لكنها غير دائرة، مثل أن كانت عادتها أن ترى من أول الشهر ثلاثة أيام، وفي الشهر بعده خمسًا، ثم في شهر بعده أربعا، ثم في شهر

بعده ستًا، ثم استحيضت.. فإن البغداديين من أصحابنا قالوا: ننظر إلى الشهر الذي قبل شهر الاستحاضة: فإن كانت قد حاضت فيه ذلك القدر مرتين.. كان حيضها في شهر الاستحاضة ذلك القدر. وإن لم تحض فيه إلا مرة، فإن قلنا: العادة تثبت بمرة.. كان حيضها ذلك القدر. وإن قلنا: لا تثبت إلا بمرتين، أو كانت ناسية لحيضها في الشهر الذي قبل شهر الاستحاضة.. كان حيضها في هذا الشهر ثلاثة أيام، ثم تغتسل؛ لأنه اليقين. وحكى المسعودي [في " الإبانة ": ق\49] ، عن المزني فيها قولين: أحدهما: ترد إلى أقل عادتها، وهي ثلاثة أيام، ثم تغتسل في آخرها، ثم لها ما للطواهر، وعليها ما عليهن إلى آخر الشهر. والثاني: تحيض ثلاثة أيام من أول الشهر، ثم تغتسل في آخره، وتصلي اليوم الرابع بالوضوء، ثم تغتسل في آخره، ثم كذلك في الخامس والسادس، ثم تدخل في طهر بيقين إلى آخر الشهر. وإن اختلفت أوائلها، وأواخرها، ومقدارها، مثل: أن ترى في شهر ثلاثة أيام دمًا من أول الشهر، وفي الثاني خمسًا من آخره، ثم استحيضت، فإن كانت تحفظ أيام حيضها في الشهر الذي قبل شهر الاستحاضة، وكانت قد حاضت ذلك القدر فيه مرتين أو مرة ـ إذا قلنا: تثبت العادة بمرة ـ حيضناها ذلك القدر. وإن كانت لا تحفظ حيضها في الشهر الذي قبل شهر الاستحاضة.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\49ـ50] : ففيه وجهان، بناء على القولين في المسألة قبلها:

فرع: المعتادة المميزة

أحدهما: يحكم لها بالحيض في ثلاثة أيام، ثم تغتسل في آخرها، ثم لها ما للطواهر، وعليها ما عليهن إلى آخر الشهر. والثاني: تصلي بالوضوء ثلاثًا من أول الشهر، ثم تغتسل بعد ذلك لكل صلاة إلى آخر الشهر. ووجه البناء: أن جميع الشهر في حق هذه، كالخمس والأربع والست في حق تلك. [فرع: المعتادة المميزة] وإن كانت معتادة مميزة، بأن تكون عادتها أن تحيض خمسة أيام من أول الشهر، فلما كان في بعض الشهور رأت من أول الشهر عشرة أيام دما أسود، ثم احمر الدم إلى آخر الشهر. ففيه وجهان: أحدهما ـ هو قول ابن خيران، والإصطخري، وأبي حنيفة ـ: (أن العادة أولى) . فيكون حيضها الخمسة الأولى؛ لأنه قد ثبتت عادتها في ذلك، فلا تنتقل عنها إلا بحيض صحيح. والثاني ـ وهو المذهب ـ: أن التمييز أولى. فيكون حيضها هاهنا العشرة الأولى؛ لأن التمييز علامة قائمة في شهر الاستحاضة، فكان الرد إليه أولى من الرد إلى عادة قد انقضت. [مسألة: نسيان عادة المميزة] وإن كان لها عادة فنسيت أيام عادتها، واستحيضت. نظرت: فإن كانت مميزة في شهر الاستحاضة: فإن قلنا: التمييز مقدم على العادة إذا ذكرتها.. ردت هاهنا إلى التمييز. وإن قلنا: إن العادة مقدمة على التمييز. كانت كمن لا تمييز لها.

مسألة: نسيان عادة غير المميزة والمتحيرة

[مسألة: نسيان عادة غير المميزة والمتحيرة] وإن كانت لها عادة فنسيتها، ثم استحيضت ولا تمييز لها، فلا يخلو: إما أن تكون ناسية للوقت والعدد، أو ناسية للوقت ذاكرة للعدد، أو ناسية للعدد ذاكرة للوقت. فإن كانت ناسية للوقت والعدد وهي المتحيرة ـ قال ابن الصباغ ويتصور وجود ذلك بأن يصيبها الجنون سنينا كثيرة، ثم أفاقت واستحيضت، ولا تذكر عدد أيام حيضها ولا وقتها ـ: فقال الشافعي في (العدد) : (إنها تحيض من أول كل هلال يومًا وليلة) . وقال في كتاب (الحيض) : (لا حيض لها في زمان بعينة، ويكون زمانها مشكوكًا فيه، فتغتسل لكل صلاة وتصوم، ولا يأتيها زوجها) . واختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: هي على قول واحد، وأنه لا طهر لها ولا حيض بيقين، كما قال في كتاب (الحيض) ، وتأولوا ما ذكره في (العدد) على أنه أراد: في حكم العدة، حتى لا يحصل لها في كل شهر إلا قرء واحد.

وقال أكثرهم: هي على قولين: أحدهما: أنها تحيض يومًا وليلة؛ لأنه أقل الحيض. هكذا ذكره الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وسليم، وابن الصباغ، قالوا: وهذا يدل على ضعف هذا القول؛ إذ لم يردها إلى ست أو سبع في أحد القولين، كالمبتدأة. وأما الشيخ أبو إسحاق، وصاحب " العدة "، والمسعودي [في " الإبانة " ق\44] فقالوا: هي ـ على هذا ـ على قولين، كالمبتدأة. فإذا قلنا بهذا القول.. فمن أين يعتبر ابتداء ذلك؟ المنصوص ـ للشافعي في (العدد) ـ: (أن ابتداء ذلك من أول كل هلال) . وقال أبو العباس: يحتمل وجهًا آخر، أن يقال لها: هل تذكرين ابتداء حيضك؟ فإن ذكرت ذلك.. كان ابتداء حيضها من ذلك الوقت. وإن لم تذكر ذلك.. قيل لها: أتذكرين وقتا كنت فيه طاهرًا؟ فإن ذكرت ذلك.. جعل ابتداء حيضها عقيب ذلك الوقت. فعلى هذا: نأمرها باجتناب ما تجتنبه الحائض يومًا وليلة، أو ستًا أو سبعًا في أحد القولين في طريقة صاحب " المهذب "، ثم تغتسل بعد ذلك، وتصلي، وتصوم إلى آخر الشهر. ولا يلزمها قضاء الصلاة. وأما الصوم: فلا تقضي ما صامت بعد الخمسة عشر. وهل تقضي ما صامت بعد اليوم والليلة إلى الخمسة عشر؟ على القولين، أو الوجهين المذكورين في المبتدأة. والقول الثاني ـ في أصل المسألة، وهو المنصوص في (الحيض) ، وهو الصحيح ـ: (أنه لا حيض لها ولا طهر لها بيقين) ؛ لأن كل وقت يمكن أن تكون فيه حائضًا، ويمكن أن تكون فيه طاهرًا، وقول الأول: نحيضها اليقين.. فليس بصحيح؛ لأنا لا نعلم ذلك الوقت من أيام الشهر. فعلى هذا: يجعل زمانها زمان الطاهرات في إيجاب العبادات عليها، ويحرم عليها ما يحرم على الحائض، ولا يطؤها الزوج احتياطًا. وهل يجوز لها أن تصلي النوافل؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي.

وأما الصلوات المفروضة: فيجب عليها أن تصليها، ولكن يلزمها أن تغتسل لكل صلاة؛ لجواز أن يكون ذلك وقت انقطاع حيضها، وهل يلزمها قضاؤها؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وغيرهما: لا يلزمها قضاؤها؛ لأنها إن كانت طاهرة وقت الصلاة.. فقد صحت صلاتها، وإن كانت حائضًا.. فلا صلاة عليها. و [الثاني] : قال الشيخ أبو زيد المروزي: يلزمها أن تعيد كل صلاة، وهو الأقيس؛ لأنه يحتمل أن ينقطع دمها في حال الصلاة أو بعد فراغها، وقد بقي من الوقت قدر ركعة، أو تكبيرة.. فيجب عليها إعادة تلك الصلاة. ويحتمل أيضًا: أن ينقطع دمها قبل غروب الشمس.. فيلزمها فرض الظهر والعصر، أو قبل طلوع الفجر.. فيلزمها فرض صلاة العشاء والمغرب. فعلى هذا: يلزمها أن تعيد الظهر والعصر بعد غروب الشمس؛ لما ذكرناه. فإن أرادت قضاءهما قبل المغرب. اغتسلت للأولى منهما، وكفاها الوضوء للثانية؛ لأنه إن كان دمها قد انقطع قبل أن تصلي الظهر لم يلزمها إعادة واحدة منهما. وإن انقطع دمها قبل الغروب.. فقد اغتسلت بعده. ثم يلزمها أن تغتسل للمغرب؛ لجواز أن ينقطع دمها في حال قضائها لها بين الصلاتين. وإن أرادت أن تؤدي المغرب قبل قضاء الظهر والعصر.. كفاها غسل واحد لهذه الصلوات الثلاث؛ لما ذكرناه، ولكن يلزمها الوضوء لكل واحدة من الظهر والعصر. فإذا طلع الفجر.. لزمها أن تعيد المغرب والعشاء، والكلام في الغسل لهما مع الصبح على ما مضى في الظهر والعصر مع المغرب. فإذا طلعت الشمس.. لزمها أن تعيد الصبح، ويلزمها أن تغتسل له؛ لما ذكرناه. وأما الصوم: فإنها تصوم شهر رمضان؛ لأنه لا يجوز لها أن تفطر إلا في الوقت الذي يتيقن حيضها فيه، وليس لها وقت يتيقن حيضها فيه، فإذا صامت رمضان: قال الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وأبو علي في " الإفصاح ": يصح لها منه

خمسة عشر يوما؛ لأن ذلك أقل الطهر، ويبقى عليها منه خمسة عشر يومًا. وقال الشيخ أبو زيد المروزي: هذا إذا عرفت أن انقطاع دمها كان ليلا.. فإنه لا يفسد عليها من الصوم إلا خمسة عشر يومًا، فأما إذا لم تعرف متى كان ينقطع دمها، أو عرفت أن دمها كان ينقطع نهارًا، فإنها إذا صامت شهر رمضان وكان تامًا.. لم يصح لها منه إلا أربعة عشر يومًا ـ ولم يذكر في " المهذب " و" الشامل " غير هذا ـ لأنه يجوز أن يكون حيضها أكثر الحيض، وهو خمسة عشر يوما، ويجوز أن يكون ابتداء ذلك من بعض اليوم الأول من الشهر.. فيفسد عليها صوم ذلك اليوم؛ لوجود الحيض في آخره. ثم تنتهي مدة الحيض إلى مثل ذلك الوقت من اليوم السادس عشر.. فيفسد عليها صوم ستة عشر يومًا، ويبقى لها أربعة عشر يومًا. فإذا أرادت قضاء ذلك..صامت ثلاثين يومًا متوالية، وصح لها منها أربعة عشر يومًا؛ لما ذكرناه في شهر رمضان. ويبقى عليها قضاء يومين. وإن كان شهر رمضان الذي صامه الناس ناقصًا فصامته، وصامت بعده ثلاثين يومًا.. فقال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": بقي عليها قضاء يوم. فقال بعض أصحابنا: بل يجب على هذا التنزيل أن يبقى عليها قضاء يومين؛ لأن الناقص تسعة وعشرون يومًا، وإذا صامته.. فسد عليها صوم ستة عشر يوما، وصح لها ثلاثة عشر يومًا فإذا صامت بعده ثلاثين يوما..صح لها منه أربعة عشر يومًا، فذلك سبعة وعشرون يومًا، فيبقى عليها من الشهر الذي صامه الناس يومان. وما قاله هذا القائل ليس بصحيح؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أن الشهر لا يخلو من طهر صحيح، سواء كان متفرقًا أو متتابعًا، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن إحداكن

تمكث شطر دهرها لا تصلي» . والشهر يقع على ما بين الهلالين، فإذا كان ناقصا.. لم يجز أن ينقص طهرها فيه عن أقله، وهو خمسة عشر، ويجوز أن ينقص الحيض فيه عن أكثره. فإذا كان كذلك.. كان حيضها من الناقص أربعة عشر يومًا، لكن يفسد عليها في الصوم خمسة عشر يومًا؛ لجواز تفرق الحيض في يوم، ويصبح لها منه صوم أربعة عشر يومًا، كالتام. فإذا صامت بعد ذلك ثلاثين يومًا.. صح لها صوم أربعة عشر يومًا، وبقي عليها صوم يوم. إذا ثبت هذا: وأرادت قضاء صوم هذا اليوم، أو كان عليها صوم يوم عن نذر.. فإن الشيخ أبا حامد، ومن قال بطريقته، قال: يمكنها ذلك، بأن تصوم يومين بينهما أربعة عشر يومًا. وهذا صحيح إذا علمت أن دمها كان ينقطع ليلاً. فأما إذا علمت أن دمها كان ينقطع نهارًا، أو لم تعلم متى كان ينقطع.. فلا يصح لها صوم يوم من هذا القدر، لجواز أن يبتدئها الحيض في بعض اليوم الأول، ثم ينتهي إلى مثل ذلك الوقت من اليوم السادس عشر، فيفسد عليها صوم اليومين. فعلى هذا: هي بالخيار في قضاء اليوم بين ثلاثة أشياء: إن شاءت صامت ثلاثة أيام، في كل عشرة أيام يومًا. وإن شاءت صامت أربعة أيام من سبعة عشر يومًا: يومين في أولها، ويومين في آخرها؛ لأنه إن كان بدأ بها الحيض في بعض اليوم الأول.. كان انتهاؤه يوم السادس عشر، فيصح لها السابع عشر. وإن كان ابتدأها في بعض الثاني من الشهر.. انتهى إلى بعض السابع عشر، فيصح لها اليوم الأول. وإن بدأ بها بعض اليوم السادس عشر من الشهر الذي قبل الشهر الذي صامت فيه هذه الأيام.. انتهى حيضها إلى بعض اليوم الأول من الشهر الذي صامت فيه هذه الأيام، ولم يصح لها منه إلا الثاني.

وإن ابتدأها الحيض من بعض اليوم السابع عشر من الشهر الذي قبل شهر القضاء.. كان انتهاؤه إلى اليوم الثاني من شهر القضاء، وصح لها صوم السادس عشر. وإن شاءت قضت صوم اليوم بصوم ثلاثة أيام من سبعة عشر يومًا، لكنها تصوم اليوم الأول، ثم تصوم يومًا من الثالث إلى الخامس عشر، أي يوم شاءت منها، بشرط أن لا تصومه في اليوم الثاني، ولا في السادس عشر، ثم تصوم الثالث يوم السابع عشر، فيصح لها قضاء اليوم، لأن حيضها إن كان ابتداؤه من بعض اليوم الأول من شهر القضاء.. كان انتهاؤه بعض السادس عشر، فيصح لها صوم السابع عشر. وإن كان ابتداؤها من بعض الثاني منه.. كان انتهاؤه بعض السابع عشر، فصح لها منه صوم اليوم الأول. وإن كان ابتداء حيضها من يوم السادس عشر من الشهر الذي كان قبل شهر القضاء.. كان انتهاؤه إلى بعض اليوم الأول من شهر القضاء، وصح لها اليوم الأوسط، وفسد عليها السابع عشر من شهر القضاء؛ لأنها تكون فيه حائضًا أيضًا. وإن كان ابتداء حيضها من بعض اليوم السابع عشر من الشهر الذي قبل شهر القضاء.. كان انتهاؤه إلى بعض الثاني من شهر القضاء، وصح لها الأوسط، فكان ابتداء حيضها من شهر القضاء كالذي قبله أيضًا. وإن أرادت أن تقضي صوم اليومين عليها في الشهر التام، أو لزمها صوم يومين بنذر.. فهي بالخيار: إن شاءت صامت ستة أيام من ثمانية عشر يومًا، ثلاثًا في أولها، وثلاثًا في آخرها. وإن شاءت صامت أربعًا في أولها، ويومين في آخرها. وإن شاءت صامت يومين في أولها، وأربعًا في آخرها. وإن شاءت صامت يومين في أولها، ويومين في وسطها، ويومين في آخرها؛ لأنك على أي تنزيل نزلت.. فإنه يصح لها صوم اليومين.

فرع: طواف المتحيرة

وإن لزمها صوم ثلاثة أيام.. صامت ثمانية أيام من تسعة عشر يوما، على ما ذكرناه في قضاء اليومين، وعلى هذا التنزيل. [فرع: طواف المتحيرة] وإن لزمها طواف، وأرادت أن تؤديه، أو كان عليها صلاة فرض، فأرادت أن تقضيها.. فهي بالخيار بين ثلاثة أشياء: إن شاءت طافت ثلاث مرات، في كل عشرة أيام طوافًا. وإن شاءت طافت أربع مرات، فتطوف في اليوم الأول طوافًا، ثم تطوف بعد فراغها منه طوافًا آخر، ثم تترك خمسة عشر يومًا، ابتداؤها من ابتداء الطواف الثاني من الأول، ثم تطوف طوافًا ثالثا، ثم تفرغ منه آخر هذه الخمسة عشر، ثم تطوف عقيبه طوافًا رابعًا. وإن شاءت طافت ثلاث مرات، فتطوف طوافًا، ثم تترك من بعد فراغها منه خمسة عشر يومًا، ثم تطوف في وسط الخمسة عشر طوافًا ثانيًا، بشرط أن تترك منه ـ مثل أول الخمسة عشر ـ ساعة بقدر الطواف، ومن آخرها مثل ذلك لا تطوف الطواف الثاني فيه، ثم تطوف الطواف الثالث عقيب خمسة عشر يومًا؛ لأنك على أي تنزيل نزلت.. صح لها الطواف. فإذا فرغت من الطواف.. فهل تفتقر إلى إعادة الوضوء لركعتي الطواف؟ إن قلنا: إنهما واجبتان.. افتقرت إلى وضوء ثان لهما. وإن قلنا: إنهما سنتان.. كفاها لهما الغسل للطواف.

مسألة: الناسية لوقت حيضها الذاكرة لعدده

فأما إعادة الغسل لهما: فلا يجب قولا واحدًا؛ لأن الطواف إن صح.. فلا يكون عقيبه توهم انقطاع الحيض، فتحتاج إلى الاغتسال له. وإن لم يصح الطواف؛ لوقوعه في الحيض.. فلا حاجة بها إلى الركعتين. [مسألة: الناسية لوقت حيضها الذاكرة لعدده] ] : وإن كانت ناسية لوقت الحيض، ذاكرة لعدد أيامه.. نظرت ـ في الأيام المنسية ـ: فإن كانت مثل نصف الأيام المنسي منها، أو أقل.. فلا حيض لها بيقين. وإن كانت أزيد من نصفها بيوم.. فلها فيها يومان: حيض بيقين. وإن كانت أكثر من نصفها بيومين.. فلها فيها أربعة أيام حيض بيقين. وإن كانت أزيد من نصفها بثلاث.. فلها فيها ستة أيام حيض بيقين. وعلى هذا التنزيل. فكل زمان تيقنا فيه حيضها.. لزمها أحكام الحيض فيه. وكل زمان تيقنا فيه طهرها.. وجب عليها فيه ما يجب على الطاهر، وأبيح لها ما يباح للطاهر. وكل زمان شككنا في طهرها.. حرمنا عليها ما يحرم على الحائض، وأوجبنا عليها ما يجب على الطاهر احتياطًا، وأوجبنا فيه الوضوء لكل صلاة. وكل زمان جوزنا انقطاع الدم فيه.. أوجبنا عليها فيه الغسل. فإذا قالت: كان حيضي عشرة أيام من هذا الشهر، لا أعلم وقتها.. فهذه ليس لها في الشهر حيض ولا طهر بيقين؛ لأن عدد الأيام المنسية لا تزيد على نصف عدد الأيام المنسي فيها، فيجب عليها ما يجب على الطاهر، ويحرم عليها ما يحرم على الحائض احتياطًا، إلا أنها تتوضأ لكل صلاة في العشر الأولى؛ لأنه لا يحتمل أن ينقطع فيها الدم، ثم تغتسل عقيبها؛ لجواز أن يكون ذلك وقت انقطاع حيضها. فإن علمت وقتًا من اليوم كان ينقطع دمها فيه.. اغتسلت فيه دون غيره، وإن لم تعلم ذلك.. لزمها أن

تغتسل لكل صلاة. ولا يلزمها أن تعيد الصلاة في العشر الأولى؛ لأنه يحتمل أن ينقطع فيها الدم. وأما فيما بعدها: فيأتي على قياس ما قاله الشيخ أبو زيد: أن تعيد كل صلاة ـ على ما مضى في المتحيرة ـ لأنه يجوز أن ينقطع دمها بعد الصلاة. وإذا صامت رمضان.. فسد عليها أحد عشر يومًا، إذا لم تعلم متى كان ينقطع حيضها، أو علمت أنه كان ينقطع نهارًا. وإن علمت أنه كان ينقطع ليلاً.. لم يفسد عليها إلا صوم عشرة أيام، كما ذكرنا في المتحيرة. وإن قالت: كان حيضي إحدى عشرات الشهر.. فليس لها حيض ولا طهر بيقين فتصلي جميع الشهر، وتتوضأ لكل صلاة، ولا يلزمها الاغتسال إلا في آخر كل عشر من عشرات الشهر؛ لأنه يحتمل أن ينقطع فيه الدم دون غيره. وإن قالت: كان حيضي ثلاثة أيام من العشر الأولى، أو أربعًا، أو خمسًا.. فهذه ليس لها حيض ولا طهر بيقين في العشر الأولى؛ لأن عدد الأيام المنسية لا تزيد على نصف المنسي منها. فتتوضأ لكل صلاة في الأيام المنسية من العشر؛ لأنه لا يحتمل أن ينقطع فيها الدم. وتغتسل بعدها لكل صلاة إلى آخر العشر؛ لجواز أن يكون ذلك وقت انقطاع الحيض، إلا أن تعلم وقتًا من اليوم كان ينقطع فيه الدم.. فتغتسل فيه دون غيره. فإذا مضت العشر الأولى.. دخلت في طهر بيقين، تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الشهر. وإن قالت: كان حيضي ستة أيام من العشر الأولى.. فإنها في أربعة أيام من أول العشر الأولى في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل أن ينقطع فيها الدم، فتتوضأ لكل صلاة. وفي اليوم الخامس والسادس في حيض بيقين؛ لأنك على أي تنزيل نزلت.. لم يخرجا عن الحيض، فتترك فيهما ما تترك الحائض، ثم تغتسل في آخر السادس، ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر العشر. وإن قالت: كان حيضي سبعة أيام من العشر الأولى.. فهي في ثلاثة أيام من أول العشر في طهر مشكوك فيه، فتتوضأ فيها لكل صلاة. ومن الرابع إلى آخر السابع في

حيض بيقين، فتغتسل في آخر السابع إلى آخر العشر لكل صلاة؛ لجواز انقطاع الدم فيه. وإن قالت: كان حيضي ثمانية أيام من العشر الأولى.. فاليومان الأولان في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيهما لكل صلاة، وتدخل من أول الثالث إلى آخر الثامن في حيض بيقين، ومن آخر الثامن إلى آخر العاشر في طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيه، فتغتسل فيهما لكل صلاة. وإن قالت: كان حيضي تسعة أيام من العشر الأولى.. فاليوم الأول منها في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. ومن آخر الأول إلى آخر التاسع، في حيض بيقين، فتغتسل في آخر التاسع، وفي العاشر لكل صلاة. إذا ثبت هذا: فذكر في " المهذب ": إذا قالت: كان حيضي ثلاثة أيام، أو أربعة أيام من العشر الأولى.. فليس لها حيض ولا طهر بيقين في هذه العشر، ثم قال: وعلى هذا التنزيل في الخمس، والست، والسبع، والثمان، والتسع. فحمل بعض أصحابنا كلامه هذا على أنه أراد: إذا قالت: كان حيضي ستة أيام، أو سبعًا أو ثمانيًا، أو تسعًا من العشر.. فإنه لا حيض لها بيقين. وأخطأ من حمل كلامه على هذا؛ لأنه أجل قدرًا من أن يذهب عليه هذا ـ وأنها إذا قالت: كان حيضي تسعة أيام في العشر الأولى.. لا حيض لها قبلها بيقين ـ بل يحمل كلامه على أنه أراد: إذا قالت: كان حيضي في الخمس، أو الست، أو السبع، أو الثمان، أو التسع أيامًا، لا تزيد على نصفها.. فإنه لا حيض لها فيها بيقين؛ لأنه عطف ذلك على من قالت: كان حيضي ثلاثًا، أو أربعا في العشر.

فرع: تيقن الطهر أثناء الشهر

[فرع: تيقن الطهر أثناء الشهر] ] : وإن علمت بيقين الطهر في بعض الشهر، بأن قالت: كان حيضي عشرة أيام من الشهر، لا أعلم موضعها، إلا أني أعلم أني كنت طاهرًا في العشر الأولى.. فإنها في العشر الأولى في طهر بيقين. وفي العشر الثانية في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل أن ينقطع فيها الدم، فتتوضأ فيها لكل صلاة. وفي العشر الثالثة في طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيها، فتغتسل فيها لكل صلاة. وهكذا إن قالت: كنت أحيض عشرا من الشهر، لا أعلم وقتها، إلا أني كنت طاهرًا في العشر الأخيرة.. فهي في العشر الأولى في طهر مشكوك فيه، فتتوضأ فيها لكل صلاة. وفي العشر الثانية في طهر مشكوك فيه، ويحتمل انقطاع الدم فيها، فتغتسل فيها لكل صلاة. وفي العشر الأخيرة في طهر بيقين. وإن قالت: كان حيضي خمسة أيام من العشر الأولى، وكنت في اليوم الأول من الشهر طاهرًا.. فهي في اليوم الأول في طهر بيقين. وقد زاد عدد الأيام المنسية هاهنا على نصف الأيام المنسي فيها بنصف يوم، فيكون لها فيها حيض بيقين يومًا. فعلى هذا: هي في اليوم الأول في طهر بيقين. ومن الثاني من الشهر إلى آخر الخامس في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. وفي السادس في حيض بيقين. وتغتسل من آخر السادس إلى آخر العشر لكل صلاة لجواز انقطاع الدم فيه. وإن قالت: كان حيضي خمسة أيام من العشر الأولى، وكنت طاهرا في اليوم الثاني من الشهر.. فلا يجوز لها أن تكون حائضًا في اليوم الأول أيضًا، فتكون طاهرا في اليومين الأولين، وتصير كما لو قالت: كان حيضي خمسة أيام من ثمانية أيام، فيكون لها يومان حيضًا بيقين؛ لأن عدد الأيام المنسية زاد على نصف المنسي منها بيوم،

فتكون في الثالث، والرابع، والخامس، في طهر مشكوك فيه لا يحتمل أن ينقطع فيها الدم، فتتوضأ فيها لكل صلاة. وفي السادس والسابع في حيض بيقين. وتغتسل في آخر السابع، وفيما بقي من العشر لكل صلاة؛ لجواز انقطاع الدم فيها. وإن قالت: كان حيضي خمسة أيام من العشر الأولى، وكنت طاهرا في اليوم الرابع منها.. فإنها في طهر بيقين من أول الشهر إلى آخر الرابع. وفي اليوم الخامس في طهر مشكوك فيه لا يحتمل انقطاع الدم، فتتوضأ فيه لكل صلاة. ومن السادس إلى آخر التاسع في حيض بيقين، فتغتسل في آخره إلى آخر العاشر لكل صلاة؛ لأنه طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيه. وإن قالت: كان حيضي عشرة أيام من الشهر، لا أعلم وقتها، إلا أني كنت أعلم أني كنت طاهرا في السادس من الشهر. أو تيقنت طهرها في اليوم العاشر، أو فيما بينهما.. فإنها تكون في طهر بيقين من أول الشهر إلى آخر اليوم الذي تيقنت طهرها فيه من العشر؛ لأنه لا يجوز أن تكون حائضًا في ذلك. وتصير كما لو قالت: كان حيضي عشرة أيام مما بقي من الشهر.. فلا حيض لها فيها ولا طهر بيقين؛ لأنه لا يزيد عدد الأيام المنسية على نصف المنسي منها، فتصلي عشرة أيام من أول ما بقي من الشهر بالوضوء، وتغتسل بعد ذلك لكل صلاة إلى آخر الشهر. وإن قالت: كان حيضي عشرة أيام من الشهر، وأعلم أني كنت طاهرًا يوم الحادي عشر.. فليس لها حيض ولا طهر بيقين في العشر الأولى، بل يحتمل أن تكون حائضًا فيها، ويحتمل أن تكون فيها طاهرًا، فتتوضأ فيها لكل صلاة، وتغتسل في آخرها، لجواز انقطاع الدم فيها. وفي اليوم الحادي عشر في طهر بيقين. ومن أول الثاني عشر إلى آخر الحادي والعشرين في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيها لكل صلاة. وتغتسل من آخر الحادي والعشرين إلى آخر الشهر لكل صلاة، لأنه طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيه. وإن قالت: كان حيضي خمسة أيام من الشهر، لا أعلم موضعها، إلا أني أعلم أني كنت طاهرًا في الخمس الأخيرة من الشهر، وأعلم أن لي طهرًا صحيحًا غيرها.. فإنه يحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الأولى، والباقي من الشهر طهرًا. ويحتمل

فرع: تيقنت العدد وعينت يوما من الحيض

أن يكون حيضها في الخمس الثانيه، والباقي طهرًا، ولا يحتمل أن يكون حيضها في الخمس الثالثه؛ لأن قبلها أقل من الطهر، وبعدها أقل من الطهر غير الخمس الأخيرة. ويحتمل أيضًا أن يكون حيضها في الخمسة الرابعة. ويحتمل أن يكون حيضها في الخمسة الخامسة. فتكون في الخمس الأولى في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل أن ينقطع فيه الدم، فتتوضأ فيها لكل صلاة، وتغتسل في آخرها. وفي الخمس الثانية تغتسل لكل صلاة؛ لأنها في طهر مشكوك فيه، يحتمل أن ينقطع فيها الدم. وفي الخمس الثالثة في طهر بيقين. وفي الخمس الرابعة في طهر مشكوك فيه، فتتوضأ فيها لكل صلاة؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيها. وفي الخمس الخامسة في طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيها فتغتسل فيها لكل صلاة. وفي الخمس الأخيرة في طهر بيقين. وإن قالت: كان حيضي خمسة عشر يومًا من الشهر، وكنت في الثاني عشر طاهرًا.. فهي من أول الشهر إلى آخر الثاني عشر في طهر بيقين، فتتوضأ فيه لكل صلاة. وفي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. ومن السادس عشر إلى آخر السابع والعشرين في حيض بيقين. وفي الثلاث الأخر من الشهر في طهر مشكوك فيه، يحتمل أن ينقطع فيها الدم، فيها لكل صلاة. [فرع: تيقنت العدد وعينت يومًا من الحيض] وإن علمت يقين الحيض في وقت من الشهر، بأن قالت: كان حيضي عشرة أيام من الشهر، لا أعلم موضعها، غير أني أعلم أني كنت حائضًا في اليوم السادس من الشهر.. فيحتمل أن يكون ابتداء حيضها من أول يوم من الشهر، وآخره العاشر. ويحتمل بأن يكون ابتداؤه من السادس، وآخره يوم الخامس عشر. ويحتمل بأن يكون ابتداؤه ما بين اليوم من الشهر والسادس. ولا يحتمل ابتداؤه في غير ذلك.

فتكون من أول يوم من الشهر إلى آخر الخامس في طهر مشكوك فيه، ولا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ لكل صلاة. ومن أول السادس إلى آخر العاشر في حيض بيقين، ثم تغتسل في آخره، وفيما بعده إلى آخر الخامس عشر؛ لأنه طهر مشكوك فيه يحتمل انقطاع الدم فيه. ومن السادس عشر إلى آخر الشهر في طهر بيقين. وإن قالت: كان حيضي عشرة أيام من الشهر، وكنت حائضًا في اليوم العاشر.. فإنها من أول الشهر إلى آخر التاسع في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل أن ينقطع فيه الدم، فتتوضأ فيه لكل صلاة. وفي اليوم العاشر في حيض بيقين. ومن الحادي عشر إلى آخر التاسع عشر في طهر مشكوك فيه، يحتمل أن ينقطع فيه الدم، فتغتسل فيه لكل صلاة. ومن أوائل العشرين إلى آخر الشهر في طهر بيقين. وإن قالت: كان حيضي عشرة أيام من الشهر، وكنت حائضًا في اليوم الثاني عشر من الشهر.. فإنها في اليومين الأولين من الشهر في طهر بيقين. ومن الثالث إلى آخر الحادي عشر في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه فتتوضأ فيه لكل صلاة. وفي الثاني عشر في حيض بيقين. ومن الثالث عشر إلى آخر الحادي والعشرين في طهر مشكوك فيه، ويحتمل انقطاع الدم فيه، فتغتسل فيها لكل صلاة. وبعد ذلك في طهر بيقين إلى آخر الشهر. وإن قالت: كان حيضي عشرة أيام من الشهر، وكنت في الثاني عشر حائضًا، ولي طهر صحيح في الشهر.. فإنها في اليومين الأولين من الشهر في طهر بيقين. ومن الثالث إلى آخر الخامس في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. ومن أول السادس إلى آخر الثاني عشر في حيض بيقين. ومن الثالث عشر إلى آخر الخامس عشر في طهر مسكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيه، فتغتسل فيه لكل صلاة. ومن أول السادس عشر إلى آخر الشهر في طهر بيقين.

فرع: من لها حيضان في شهر

[فرع: من لها حيضان في شهر] ] : وإن قالت: كان لي في كل شهر حيضتان، لا أعلم قدريهما، ولا وقتيهما.. ففيه وجهان: [الأول] : قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا: لا يحصل لها في الشهر حيضتان، إلا إن كان بينهما طهر كامل. وأقل ما يحتمل أن يكون حيضها يومًا وليلة من أول الشهر، ويومًا وليلة من آخره، ويكون ما بينهما طهر. وأكثر ما يحتمل أن يكون حيضها يومًا وليلة من أول الشهر، وبعده خمسة عشر يوما طهرًا، وأربعة عشر يوما من آخره حيضًا. أو أربعة عشر يومًا من أوله حيضًا، وبعده خمسة عشر يومًا طهرًا، ويومًا وليلة من آخره حيضًا. ويحتمل ما بين ذلك. فعلى هذا: هي في يوم وليلة من أول الشهر في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. ثم تغتسل بعد ذلك لكل صلاة إلى آخر الرابع عشر، لأنه طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيه. وفي الخامس عشر والسادس عشر في طهر بيقين. وفي اليوم السابع عشر في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. ثم بعد ذلك تحصل في طهر مشكوك فيه إلى آخر الشهر، يحتمل انقطاع الدم فيه، فتغتسل فيه لكل صلاة. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: هي كالمتحيرة الناسية لأيام حيضها ووقته ـ على ما مضى ـ لأنا إذا نزلنا هذا التنزيل في شهر.. لم يمكنا ذلك في الشهر الثاني.

فرع: من حيضها خمسة أيام في الشهر

[فرع: من حيضها خمسة أيام في الشهر] ] : وإن قالت: كان حيضي خمسة أيام من الشهر، لا أعلم وقتها غير أني أعلم أني إذا كنت يوم السادس طاهرًا، كنت في اليوم السادس والعشرين حائضًا. وإن كنت في اليوم السادس من الشهر حائضًا، كنت في اليوم السادس والعشرين طاهرًا. وتحقيق هذا: أني كنت حائضًا، في أحد هذين اليومين، ولا يحصل لي الحيض، ولا الطهر فيهما معًا. فإن كانت حائضًا في اليوم السادس.. احتمل أن يكون ابتداؤه من اليوم الثاني من الشهر، وآخره السادس. ويحتمل أن يكون ابتداؤه من السادس، وآخره العاشر. ويحتمل أن يكون ابتداؤه ما بين اليوم الثاني والسادس. وإن كانت حائضًا يوم السادس والعشرين.. احتمل أن يكون ابتداء حيضها من اليوم الثاني والعشرين، وآخره يوم السادس والعشرين. ويحتمل أن يكون ابتداؤه يوم السادس والعشرين، وآخره يوم الثلاثين. ويحتمل أن يكون ابتداؤه ما بين اليوم الثاني والعشرين، والسادس والعشرين. فلا يكون لها في هذا الشهر حيض بيقين. فعلى هذا: تكون في اليوم الأول من الشهر في طهر بيقين. ومن الثاني إلى آخر السادس في طهر مشكوك فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه، وتغتسل في آخر السادس؛ لجواز انقطاع الدم فيه. ثم تغتسل من السابع إلى آخر العاشر؛ لأنه طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيه. ومن الحادي عشر إلى آخر الحادي والعشرين في طهر بيقين، فتتوضأ فيه لكل صلاة. ومن الثاني والعشرين إلى آخر السادس والعشرين في طهر مشكوك فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه. وتغتسل من آخر السادس والعشرين إلى آخر الشهر لكل صلاة؛ لأنه طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيه. وإن قالت: كنت أحيض خمسة أيام من العشر الأولى لا أعلم وقتها، إلا أني كنت في اليوم الثاني من الشهر طاهرًا، وفي اليوم الخامس حائضًا. فإنها في اليومين

فرع: المعتادة غير المميزة الناسية للعدد لا الوقت

الأولين من الشهر في طهر بيقين. وفي الثالث والرابع في طهر مشكوك فيه، فتتوضأ فيهما لكل صلاة؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه. وفي اليوم الخامس والسادس والسابع في حيض بيقين. وفي الثامن والتاسع في طهر مشكوك فيه، يحتمل انقطاع الدم فيه، فتغتسل فيه لكل صلاة. ومن العاشر إلى آخر الشهر في طهر بيقين. [فرع: المعتادة غير المميزة الناسية للعدد لا الوقت] ] : وإن كانت ناسية لعدد أيام الحيض، ذاكرة لوقته.. نظرت: فإن كانت ذاكرة لوقت ابتدائه، بأن قالت: كان ابتداء حيضي أول الشهر، ولا أعلم عدده.. فإنا نحيضها يوما وليلة من أول الشهر؛ لأنه اليقين، ثم نأمرها بالاغتسال لكل صلاة إلى آخر الخامس عشر؛ لأنه طهر مشكوك فيه، ويحتمل انقطاع الدم فيه. وفي النصف الأخير من الشهر هي في طهر بيقين. وإن كانت ذاكرة لوقت انقطاع الدم، بأن قالت: كان حيضي ينقطع آخر ساعة من الشهر.. فإنها في النصف الأول من الشهر في طهر بيقين، ومن أول السادس عشر إلى آخر التاسع والعشرين في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. وفي يوم وليلة من آخر الشهر في حيض بيقين. [فرع: خلط أحد النصفين بيوم أو أكثر] ] : وإن قالت: كان حيضي خمسة عشر يومًا من الشهر، وكنت أخلط أحد النصفين بالآخر بيوم، ولا أخلط بأكثر منه. فتحقيق هذا: أن الحيض أربعة عشر يومًا من أحد النصفين، ويوم وليلة من أحدهما، ولكن وقع شكها: هل الأربعة عشر من النصف الأول، واليوم والليلة من النصف الثاني. أو اليوم والليلة من الأول، والأربعة عشر من الثاني؟ فيحتمل أن تكون الأربعة عشر من النصف الأول، فيكون ابتداء حيضها من اليوم الثاني من الشهر، وآخره السادس عشر. ويحتمل أن تكون الأربعة عشر من النصف الثاني، فيكون ابتداء حيضها من اليوم الخامس عشر، وآخره التاسع والعشرون.

فاليوم الأول والآخر من الشهر طهر بيقين. ومن اليوم الثاني إلى آخر الرابع عشر طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. والخامس عشر والسادس عشر حيض بيقين، فتغتسل في آخر السادس عشر؛ لجواز أن تكون الأربعة عشر من النصف الأول، واليوم والليلة من النصف الثاني، فيكون هذا وقت انقطاع حيضها. ومن السابع عشر إلى آخر التاسع والعشرين في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل فيه انقطاع الدم. فإذا انتهى التاسع والعشرون.. اغتسلت في آخره؛ لجواز أن تكون يكون اليوم والليلة من النصف الأول، والأربعة عشر من النصف الثاني، فيكون هذا وقت انقطاع الحيض. وإن قالت: كنت أحيض خمسة عشر يومًا من الشهر، وأخلط أحد النصفين بالآخر بيومين، ولا أدري: هل اليومان من النصف الأول، أو من الثاني؟ فهي في اليومين الأولين والآخرين من الشهر في طهر بيقين. أما الثالث إلى آخر الثالث عشر في طهر مشكوك فيه لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. ومن الرابع عشر إلى آخر السابع عشر في حيض بيقين، فتغتسل في آخر السابع عشر. ثم تحصل في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه إلى الثامن والعشرين، وتغتسل في آخر الثامن والعشرين. وإن قالت: كان حيضي أربعة عشر يومًا من الشهر، وكنت أخلط أحد النصفين بالآخر بيوم، ولا أدري: أن اليوم من النصف الأول، أو من الثاني؟ فيحتمل أن يكون ابتداء حيضها من اليوم الثالث، وآخره السادس عشر. ويحتمل أن يكون ابتداؤه من اليوم الخامس عشر، وآخره الثامن والعشرين. فهي في اليومين الأولين والآخرين من الشهر في طهر بيقين. ومن الثالث إلى آخر الرابع عشر في طهر مشكوك فيه لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. وفي الخامس عشر والسادس عشر في حيض بيقين، فتغتسل في آخره. ومن السابع عشر إلى آخر الثامن والعشرين في طهر مشكوك فيه، ولا يحتمل أن ينقطع الدم فيه، إلا في آخر الثامن والعشرين، فتغتسل فيه، وتتوضأ في غيره.

فرع: الخلط بجزء من يوم

وإن قالت: كان حيضي ثلاثة أيام من الشهر، وأخلط أحد النصفين بالآخر بيوم.. فيحتمل أن يكون ابتداء حيضها من الرابع عشر، وآخره السادس عشر. ويحتمل أن يكون ابتداؤه من الخامس عشر، وآخره السابع عشر. فهي من أول الشهر إلى آخر الثالث عشر في طهر بيقين. وفي الرابع عشر في طهر مشكوك فيه لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. والخامس عشر والسادس عشر حيض بيقين، فتغتسل في آخره. وفي السابع عشر في طهر مشكوك فيه، ويحتمل انقطاع الدم في آخره، فتتوضأ فيه لكل صلاة، وتغتسل في آخره. ثم تدخل في طهر بيقين إلى آخر الشهر. وإن قالت: كان حيضي خمسة عشر يومًا من الشهر، وكنت أخلط أحد النصفين بالآخر بيوم، وأشك: هل كنت أخلط بأكثر؟ فحكمها حكم من تيقنت الخلط بيوم غير، في يقين الطهر والحيض، إلا في شيء واحد، وهو: أن هذه يلزمها أن تغتسل بعد السادس عشر لكل صلاة إلى آخر التاسع والعشرين؛ لجواز أن يكون الخلط بأكثر من يوم. [فرع: الخلط بجزء من يوم] ] : وإن قالت: كنت أحيض خمسة عشر يومًا من الشهر، وكنت أخلط أحد النصفين بالآخر بجزء، ولا أدري: هل كان الجزء من النصف الأول، أو من الثاني؟ ولا أخلط بأكثر من ذلك.. فيحتمل أن يكون الجزء من النصف الأخير، فيكون ابتداء الحيض بعد مضي جزء من الليلة التي يرى فيها الهلال من أول الشهر، وآخره بعد مضي جزء من النصف الأخير: وهو بعد غروب الشمس من اليوم الخامس عشر. ويحتمل أن يكون الجزء من النصف الأول، فيكون ابتداء الحيض قبل غروب الشمس من اليوم الخامس عشر، وآخره إذا بقي جزء من يوم الثلاثين، قبل غروب الشمس. إذا ثبت هذا فإنها في جزء من أول الشهر: وهو بعد غروب الشمس من الليلة

فرع: من أحكامها خلط يوم وكسر

التي يرى فيها الهلال، وفي جزء من آخر الشهر: وهو قبل غروب الشمس يوم الثلاثين في طهر بيقين. ويحصل لها الحيض بيقين في جزء من آخر اليوم الخامس عشر: وهو قبل غروب الشمس، وفي جزء من أول ليلة السادس عشر. ولا يفوتها في هذين الجزءين صلاة إلا أن صوم يوم الخامس عشر يبطل، ولا يجب عليها الغسل إلا بعد جزء من أول ليلة السادس عشر، وإذا بقي جزء من آخر الشهر. وتتوضأ في غير ذلك لكل صلاة. فإن كانت بحالها وقالت: لا أدري هل كنت أخلط بجزء أو بأكثر منه؟ فالحكم في هذه كالحكم في التي قبلها إلا في الغسل، فإنه يلزمها أن تغتسل لكل صلاة، بعد مضي جزء من ليلة السادس عشر إلى أن يبقى جزء من الشهر؛ لجواز أن يكون الخلط بأكثر من جزء. [فرع: من أحكامها خلط يوم وكسر] ] وإن قالت: كنت أحيض خمسة عشر يومًا من الشهر، وأكسر في أول حيضي بنصف يوم، وأخلط أحد النصفين بالآخر بيوم من الشهر.. فإنها تكون طاهرا في اليوم الأول من الشهر، وفي نصف اليوم الثاني من الشهر. وتكون حائضًا من نصف اليوم الثاني من الشهر إلى آخر السادس عشر، فيكون حيضها أربعة عشر يومًا ونصفًا. ويكون باقي شهرها طهرًا بيقين. وإن قالت: كنت أحيض خمسة عشر يومًا، وأكسر في آخر حيضي بنصف يوم، وأخلط أحد النصفين بالآخر بيوم، ولا أخلط بأكثر منه.. فإنها تكون طاهرًا من أول الشهر إلى آخر الرابع عشر. ويكون ابتداء حيضها من أول الخامس عشر إلى نصف اليوم التاسع والعشرين. وباقيه واليوم الأخير طهر بيقين؛ لأنها قد أخبرت: أنها تخلط بيوم، وأن الكسر في آخر حيضها. فيكون حيضها أربعة عشر يوما ونصفًا؛ لأنه لا يحتمل غير ذلك. وإن قالت: كنت أحيض خمسة عشر يومًا، وأكسر في أول حيضي بنصف يوم،

فرع: من صور الشك تخلط بين الخمسين الأول

وفي آخره بنصف يوم، وأخلط أحد النصفين بالآخر بيوم، ولا أخلط بأكثر منه.. فهذه مستحيلة؛ لأنه إن كان اليوم الذي يقع به الخلط من النصف الأول.. فأول حيضها يكون من الخامس عشر، فلا يحصل في ابتداء حيضها كسر بنصف يوم. وإن كان من النصف الثاني.. فآخر حيضها يكون السادس عشر، فلا يكون في آخر حيضها كسر بنصف يوم. [فرع: من صور الشك تخلط بين الخمسين الأول] ] : وإن قالت: كان حيضي خمسة أيام من العشر الأولى: ثلاثًا من إحدى الخمسين، ويومين من الخمس الأخرى، ولا أدري: هل الثلاث من الخمس الأولى، واليومان من الخمس الثانية. أو اليومان من الخمس الأولى، والثلاث من الخمس الثانية؟ فيحتمل أن تكون الثلاث من الخمس الأولى، فيكون ابتداء حيضها من اليوم الثالث، وآخره السابع. ويحتمل أن تكون الثلاث من الخمس الثانية، واليومان من الخمس الأولى، فيكون ابتداء حيضها من الرابع، وآخره الثامن. فاليومان الأولان من الشهر طهر بيقين. والثالث طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة. ومن الرابع إلى آخر السابع حيض بيقين، فتغتسل في آخر السابع؛ لجواز أن تكون الثلاث من الخمس الأولى.. فيكون هذا وقت انقطاع الدم. واليوم الثامن طهر مشكوك فيه فتتوضأ فيه لكل صلاة، وتغتسل في آخره؛ لجواز أن تكون الثلاث من الخمس الثانية.. فيكون هذا وقت انقطاع الحيض. ومن التاسع إلى آخر الشهر في طهر بيقين. وإن قالت: كنت أحيض خمسة أيام من العشرة الأولى، وكنت أخلط أحد الخمسين بالأخرى بجزء، ولا أخلط بأكثر من ذلك، ولا أدري من أي الخمسين كان الجزء؟ فإنها في طهر بيقين بجزء من أول الخمس الأولى، وهو: لحظة بعد غروب الشمس من الليلة التي يرى فيها الهلال.

فرع: اختلاط الحيض

وكذلك هي في طهر بيقين بجزء من آخر الخمس الثانية، وهي لحظة قبل غروب الشمس من اليوم العاشر. وتحصل في طهر مشكوك فيه بعد اللحظة الأولى من العشر؛ لأنه لا يحتمل أن ينقطع فيه الدم، فتتوضأ فيه لكل صلاة إلى أن تبقى لحظة من الخمس الأولى، وهي: قبل غروب الشمس من اليوم الخامس. فتكون في تلك اللحظة مع لحظة تليها من أول الخمس الأخيرة ـ وهي: بعد غروب الشمس من ليلة السادس ـ في حيض بيقين، وتغتسل عقيب تلك اللحظة من ليلة السادس؛ لاحتمال انقطاع الدم فيه. ولا يفوتها في هاتين اللحظتين صلاة، ولكن يبطل صوم اليوم الخامس. ثم تتوضأ لكل صلاة إلى أن تدخل في اللحظة التي في آخر العشر، فتغتسل أيضا؛ لاحتمال انقطاع الدم فيها. [فرع: اختلاط الحيض] فرع: [في اختلاط حيضها] : وإن قالت: كنت أحيض خمسة أيام في الشهر، وأخلط إحدى الخمسين بالتي بعدها بثلاثة أيام من إحدى الخمسين، ويومين من الخمس الأخرى، ولا أدري: هل الثلاث من الخمس الأولى، واليومان من الخمس التي بعدها؟ أو اليومان من الخمس الأولى، والثلاث من الخمس التي بعدها؟ ثم لا أدري ـ مع ذلك ـ في أي الخمسات وقع الخلط: هل في الخمس الأولى مع الثانية، أو في الثانية مع الثالثة، أو في الثالثة مع الرابعة، أو في الرابعة مع الخامسة، أو في الخامسة مع السادسة؟ فإنه ليس لها حيض بيقين في الشهر. ولكن لها اليومان الأولان من الشهر، والآخران منه طهر بيقين. وباقي شهرها طهر مشكوك فيه: فمن الثالث إلى السابع تتوضأ لكل صلاة؛ لأنه لا يحتمل أن ينقطع الدم في شيء من ذلك. وتغتسل في آخر السابع؛ لجواز أن تكون الثلاث من الخمس الأولى، واليومان من الخمس الثانية. ثم تغتسل في آخر الثامن؛ لجواز أن يكون اليومان من الأولى، والثلاث من الثانية. ومن التاسع إلى الثاني عشر تتوضأ لكل صلاة؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه

فرع: خلط جزء من نهارين

وتغتسل في آخر الثاني عشر؛ لجواز أن يكون الخلط في الخمس الثانية مع الثالثة، وتكون الثلاث من الثانية، واليومان من الثالثة. ثم تغتسل أيضا في آخر الثالث عشر؛ لجواز أن يكون اليومان من الخمس الثانية، والثلاث من الخمس الثالثة. وتتوضأ لكل صلاة من الرابع عشر إلى السابع عشر؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه. ثم تغتسل في آخر السابع عشر؛ لجواز أن يكون الخلط في الخمس الثالثة والرابعة، وتكون الثلاث من الثالثة، واليومان من الرابعة. ثم تغتسل في آخر الثامن عشر؛ لجواز أن يكون اليومان من الثالثة، والثلاث من الرابعة. ثم تتوضأ لكل صلاة من التاسع عشر إلى الثاني والعشرين؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه. وتغتسل في آخر الثاني والعشرين؛ لجواز أن يكون الخلط في الرابعة والخامسة، وتكون الثلاث من الرابعة، واليومان من الخامسة، فيكون هذا وقت انقطاع الدم فيها. ثم تغتسل أيضا في آخر الثالث والعشرين؛ لجواز أن يكون اليومان من الرابعة، والثلاث من الخامسة. ثم تتوضأ لكل صلاة من الرابع والعشرين إلى السابع والعشرين؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه. وتغتسل في آخر السابع والعشرين؛ لجواز أن يكون الخلط في الخامسة والسادسة، وتكون الثلاث من الخامسة، واليومان من السادسة. ثم تغتسل أيضًا في آخر الثامن والعشرين؛ لجواز أن يكون اليومان من الخامسة، والثلاث من السادسة، فيكون هذا وقت انقطاع الدم. فيلزمها في هذا الشهر عشرة اغتسالات في المواضع التي ذكرنا ويلزمها الوضوء لكل صلاة في غير ذلك. [فرع: خلط جزء من نهارين] فروع ثلاثة: [في خلط جزء من نهارين] : فرعها ابن بنت الشافعي، وهو أحمد بن محمد: الأول: إذا قالت: كنت أحيض خمسة أيام من العشرة الأولى، وكنت أخلط نهار إحدى الخمسين بنهار الخمس الأخرى بجزء، ولا أخلط بأكثر، ولا أدري: من أي الخمسين كان الجزء؟

فإن كان الجزء من نهار الخمس الثانية.. فإن أول حيضها بعد مضي جزء من نهار اليوم الأول من الشهر، وآخره إذا مضى جزء من نهار يوم السادس. وإن كان الجزء من نهار الخمس الأولى: فإن أول حيضها قبل غروب الشمس من اليوم الخامس بجزء إلى قبل غروب الشمس من اليوم العاشر. فعلى هذا التنزيل: هي من الليلة الأولى، وفي جزء من نهار اليوم الأول من الشهر في طهر بيقين، ثم تحصل في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل أن ينقطع فيه الدم، فتتوضأ فيه لكل صلاة، إلى أن يبقى من اليوم الخامس جزء قبل غروب الشمس. فيحصل في ذلك الجزء في ليلة السادس، وفي جزء من أول اليوم السادس في حيض بيقين، ويجب عليها أن تغتسل بعد ذلك الجزء من اليوم السادس؛ لجواز أن يكون ذلك في وقت انقطاع حيضها. ولا يسقط عنها في هذين الجزأين من النهارين صلاة، ولكن لا تجب عليها صلاة المغرب والعشاء ليلة السادس ولم يذكر الصوم. والذي يقتضي المذهب: أنه يفسد عليها يوم الخامس والسادس ـ ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة؛ لأنه طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، إلى أن يبقى من اليوم العاشر جزء.. فيجب عليها أن تغتسل؛ لأنه لا يحتمل انقطاع الدم فيه. الفرع الثاني: إذا قالت: كان حيضي يومين من العشر الأولى، لا أعلم موضعها، ولكني كنت أخلط نهار إحدى الخمسين بالأخرى بجزء، ولا أخلط بأكثر منه، ولا أدري: من أين كان الجزء؟ فيحتمل أن يكون الجزء من نهار الخمس الثانية.. فيكون ابتداء حيضها بعد مضي جزء من اليوم الرابع، وآخره إذا مضى جزء من اليوم السادس. وإن كان الجزء من الخمس الأولى.. كان ابتداء حيضها إذا بقي جزء من اليوم الخامس قبل غروب الشمس، وآخره إذا بقي جزء من اليوم السابع، وهو قبل غروب الشمس.

فهي من أول الشهر إلى أن يمضي جزء من اليوم الرابع في طهر بيقين. ثم تدخل في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة إلى أن يبقى جزء من اليوم الخامس. ثم تحصل في ذلك الجزء في ليلة السادس، وفي جزء من أول اليوم السادس في حيض بيقين، ولا تفوتها إلا صلاة المغرب والعشاء ـ ولم يذكر الصوم، والذي يقتضي المذهب: أن صوم يوم الخامس والسادس يبطل ـ ثم يجب عليها أن تغتسل إذا مضى جزء من أول اليوم السادس؛ لجواز أن ينقطع فيه دمها. وتحصل في طهر مشكوك فيه لا يحتمل انقطاع الدم فيه، فتتوضأ فيه لكل صلاة، إلى أن يبقى جزء من السابع فتغتسل فيه؛ لجواز انقطاع الدم فيه. وبعد ذلك تحصل في طهر بيقين إلى آخر الشهر. الفرع الثالث: إذا قالت: كنت أحيض يومًا من العشر الأولى، وكنت أخلط نهار إحدى الخمسين بنهار الخمس الأخرى بجزء، ولا أخلط بأكثر منه، ولا أدري: من أين كان الجزء؟ فإن كان الجزء من نهار الخمس الثانية.. فأول حيضها إذا مضى جزء من أول اليوم الخامس، وآخره بعد مضي جزء من اليوم السادس. وإن كان الجزء من الخمسة الأولى.. فأول حيضها إذا بقي جزء من اليوم الخامس قبل غروب الشمس، وآخره إذا بقي جزء من اليوم السادس قبل غروب الشمس. فهي من أول الشهر إلى أن يمضي جزء من اليوم الخامس بعد طلوع الفجر في طهر بيقين. ثم تحصل في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه إلى أن يبقى جزء من اليوم الخامس. فتحصل في ذلك الجزء في ليلة السادس، وفي جزء من أول اليوم السادس في حيض بيقين، فتغتسل عقيب ذلك الجزء؛ لجواز انقطاع دمها فيه. ولا تفوتها إلا صلاة المغرب والعشاء ليلة السادس ـ والذي يقتضي المذهب: أن يبطل

مسألة: بيان حكم النقاء

صوم اليوم الخامس، والسادس ـ ثم تحصل في طهر مشكوك فيه، لا يحتمل انقطاع الدم فيه إلى أن يبقى جزء من اليوم السادس، فيجب عليها الغسل فيه أيضًا؛ لجواز انقطاع الدم فيه. وتحصل في طهر بيقين إلى آخر الشهر. [مسألة: بيان حكم النقاء] ] : وإن رأت يومًا دمًا، ويوما نقاء.. فقد تقدم ذكر الحكم في يوم النقاء في العبادات والمباحات، إذا لم يجاوز ما رأت من ذلك على خمسة عشر يوما. فأما إذا جاوز ذلك خمسة عشر يومًا.. فالمنصوص ـ في كتاب (الحيض) ـ: (أن هذه مستحاضة، اختلط حيضها بالاستحاضة) . وقال ابن بنت الشافعي: الطهر في اليوم السادس عشر يفصل بين الحيض والاستحاضة. وفي النقاء الذي وجد في مدة الخمسة عشر القولان في التلفيق. قال أصحابنا: وهذا خطأ مذهبا وحجاجا: أما المذهب: فلأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص على ما ذكرناه. وأما الحجاج: فلأن الطهر لو كان يفصل في اليوم السادس عشر.. لفصل في الخمسة عشر كالمميزة. إذا ثبت هذا: فلا يخلو إما أن تكون مميزة، أو معتادة، أو مبتدأة. فإن كانت مميزة، بأن ترى يومًا وليلة دمًا أسود، ويومًا وليلة طهرًا إلى اليوم التاسع، ثم رأت اليوم العاشر طهرًا، ثم رأت الحادي عشر دما أحمر، ثم رأت يوما وليلة طهرًا إلى أن عبر الخمسة عشر.. فإن الدم الأسود الذي رأته في اليوم الأول والثالث والخامس والسابع والتاسع حيض. وفيما بين ذلك من النقاء القولان في التلفيق. والدم الأحمر الذي رأته بعد الأسود استحاضة.

وإن كانت معتادة غير مميزة، بأن رأت يومًا وليلة دمًا، ويومًا وليلة طهرًا، والدم على صفة واحدة إلى أن جاوز الخمسة عشر، وقالت: كانت عادتي خمسة أيام. فإن قلنا: لا يلفق الدم إلى الدم.. كانت الخمسة كلها حيضًا، وما زاد عليها من الدم استحاضة. وإن قلنا: يلفق لها.. فمن أين يلفق؟ حكى الشيخ أبو حامد فيه قولين، وحكاهما القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق وجهين: أحدهما: يلفق لها من أيام عادتها فحسب؛ لأن النقاء من أيام العادة، وإنما انقطع دمها فيه، فنقص من عادتها. فعلى هذا: يكون حيضها ثلاثة أيام، ونقص من عادتها يومان. والثاني: يلفق لها من مدة الخمسة عشر؛ لأن عادتها تفرقت فيها. فعلى هذا: يلفق لها خمسة أيام من تسعة أيام. وإن قالت: كانت عادتي ستة أيام: فإن قلنا: لا يلفق لها.. كان حيضها هاهنا خمسة أيام، ونقص من عادتها يوم؛ لأن يوم السادس نقاء، والنقاء إنما يجعل حيضا على هذا القول، إذا كان واقعا بين دمي حيض. وإن قلنا: يلفق لها من أيام عادتها.. كان حيضها ثلاثة أيام لا غير. وإن قلنا: يلفق لها من عدة الخمسة عشر.. لفقنا لها بستة أيام من أحد عشر يومًا. وإن كانت عادتها سبعة أيام، فإن قلنا: لا يلفق لها.. كانت السبع كلها حيضًا، ولا ينقص من عادتها هاهنا شيء؛ لأن الدم في اليوم السابع، فيمكن استيفاء عادتها. وإن قلنا: يلفق لها، فإن قلنا: يلفق لها من أيام العادة.. كان حيضها هاهنا أربعة أيام، ونقص ثلاث من عادتها.

فرع: نقاء المبتدأة غير المميزة

وإن قلنا: يلفق لها من الخمسة عشر.. لفقنا لها سبعة أيام من ثلاثة عشر يومًا. وإن كانت عادتها ثمانية أيام، فإن قلنا: لا يلفق لها.. كان حيضها سبعة أيام ونقص عليها يوم. وإن قلنا: يلفق لها، فإن قلنا: يلفق من أيام العادة.. كان حيضها أربعة أيام. وإن قلنا: يلفق لها من الخمسة عشر.. لفقنا لها ثمانية أيام من خمسة عشر يومًا. وإن كانت عادتها تسعة أيام، فإن قلنا: لا يلفق.. كان حيضها تسعة أيام، من غير نقص. وإن قلنا: يلفق لها من أيام العادة.. لفقنا لها من التسع خمسة أيام، ونقصت عادتها أربعا. وإن قلنا: يلفق لها من الخمسة عشر.. لفقنا لها من الخمسة عشر ثمانية أيام، ونقصت عادتها يوما؛ لأنه لا يمكن التلفيق مما زاد عليها. وإن كانت مبتداة غير مميزة ولا معتادة، فإن قلنا: إنها ترد إلى يوم وليلة.. كان حيضها يومًا وليلة من أول ما رأت. وإن قلنا: ترد إلى ست أو سبع.. كانت كمن عادتها ست أو سبع، وقد مضى. [فرع: نقاء المبتدأة غير المميزة] ] : إذا رأت ثلاثة أيام دمًا، واثني عشر يومًا نقاء، ثم رأت ثلاثة أيام دمًا.. فالأول حيض، والثاني دم فساد؛ لأنه لا يمكن تلفيقه إلى الأول؛ لأنه خارج عن الخمسة عشر. ولا يمكن أن يجعل حيضًا آخر؛ لأنه ليس بينهما طهر كامل. فإن رأت يوما بلا ليلة دمًا، وأربعة عشر يومًا طهرًا، وثلاثة أيام دمًا.. فالدم الثاني حيض. والأول دم فساد؛ لأنه لا يمكن ضم الأول إلى الثاني؛ لأنه وجد بعد الخمسة عشر، فاعتبر كل واحد منهما بنفسه. والثاني يمكن أن يكون حيضًا بنفسه. والأول لا يمكن أن يكون حيضًا بنفسه.

فرع: نقاء المعتادة غير المميزة

وإن رأت يومًا بلا ليلة دمًا، وأربعة عشر يوما طهرًا، وربما بلا ليلة دمًا.. فاليومان دم فساد على القولين؛ لأنا: إن قلنا: لا يلفق.. فلا يمكن أن يضم الدم في اليوم الأول إلى الدم في اليوم السادس عشر. وإن قلنا: يلفق.. لم يمكن؛ لأن الدم في اليوم وجد بعد الخمسة عشر، فلم يمكن ضمه إلى الأول. وإن رأت يومًا دمًا، وثلاثة عشر يومًا طهرًا، وثلاثة أيام دمًا.. فقد رأت في الخمسة عشر يومين دمًا. فإن قلنا لا يلفق.. جعلنا الدم الثاني حيضًا، والأول دم فساد؛ لأنه لا يمكن أن يضم الثاني إلى الأول ويجعلا مع ما بينهما حيضا ً لأنه يزيد على خمسة عشر فأسقطنا الأول. وإن قلنا: يلفق من وقت العادة فحسب.. فهذه مبتدأة لا عادة لها. وإلى ماذا ترد المبتدأة؟ على قولين: أحدهما: ترد إلى يوم وليلة. والثاني: إلى ست أو سبع. وما وجد في هذين الوقتين إلا يوم لا يمكن أن يكون حيضًا بنفسه، فحكم بأنه دم فساد، والثاني بأنه حيض. وإن قلنا: يلفق لها من مدة الخمسة عشر، فإن قلنا: إن المبتدأة ترد إلى يوم وليلة.. حيضناها اليوم الأول، ومن اليوم الخامس عشر بمقدار ليلة. وإن قلنا: ترد إلى ست أو سبع.. حيضناها اليوم الأول، والخامس عشر بكماله. [فرع: نقاء المعتادة غير المميزة] ] : إذا كانت عادتها أن تحيض خمسة أيام من أول كل شهر، فلما كان بعض الشهور رأت اليوم الأول من الشهر طهرًا، ثم رأت من اليوم الثاني يوما وليلة دمًا، ويوما وليلة طهرًا، إلى أن عبر الخمسة عشر.

فإن قلنا: يلفَقُ لها من زمان العادة لا غير.. كان لها يومان حيضًا، وهما الثاني والرابع لا غير. وإن قلنا: يلفَقُ لها من مدة الخمسة عشر.. لفقنا لها خمسًا، أوَلها الثاني، وآخرها العاشر. وإن قلنا: لا يلفق لها.. قال أبو العباس: فهل الاعتبار بزمان العادة، أو بعددها؟ فيه قولان ـ يعني: وجهين ـ: أحدهما: أن الاعتبار بزمان العادة؛ لأنه اعتبر عددها، فوجب اعتبار زمانها. فعلى هذا: يكون حيضها ثلاثة أيام، وهي: الثاني، والثالث، والرابع لا غير. وأما الأول والخامس: فطهر. وما بعد الخامس من الدم استحاضة. والوجه الثاني: أن الاعتبار بعد العادة دون زمانها؛ لأن الحيض انتقل، بدليل: أن الطهر وجد في أول زمان العادة. فيكون حيضها خمسة أيام، أولها الثاني من الشهر، وآخرها السادس. ولو كانت بحالها، فحاضت قبل عادتها يومًا، وطهرت اليوم الأول من الشهر، ثمَ رأت يومًا دمًا، ويوما طهرًا إلى أن عبر الخمسة عشر: فإن قلنا: إنه يلفق لها، وقلنا: يلفق لها من زمان العادة لا غير.. فليس لها في زمان العادة إلا يومان: الثاني، والرابع، فيكون ذلك حيضها. وإن قلنا: يلفق لها من الخمسة عشر.. قال أبو العباس: احتمل أن يكون أول الحيض اليوم الذي سبق العادة، واحتمل أن يكون أوله الثاني من الشهر. والأول أظهر؛ لأنه دم وجد في زمان الإمكان: فإن قلنا: أوله اليوم الذي سبق العادة.. لفقنا لها خمسًا، آخرها الثامن من الشهر. وإن قلنا: أوله الثاني من الشهر.. لفقنا لها خمسًا، آخرها العاشر من الشهر. وإذا قلنا: لا يلفق، فإن قلنا: إن الاعتبار بزمان العادة.. حيَضناها ثلاثًا من الشهر، وهي، الثاني، والثالث، والرابع.

فرع: التلفيق للمعتادة غير المميزة في أيام الحيض

وإن قلنا: الاعتبار بعدد أيام العادة.. حيَضناها خمسا، أولها اليوم الذي سبق العادة، وآخرها الرابع من الشهر. [فرع: التلفيق للمعتادة غير المميزة في أيام الحيض] ] : قال أبو العباس: إذا كانت عادتها أن تحيض خمسة أيام من أول كل شهر، فلما كان في بعض الشهور رأت أربعة أيام من أول الشهر دمًا، وخمسة أيام طهرًا، ويومًا دمًا: فإن قلنا: لا تلفق.. كانت العشرة كلها حيضًا. وإن قلنا: تلفق.. حيضناها خمسة أيام وهي: الأربعة الأولى، واليوم العاشر. فإن كانت بحالها، فرأت من أول الشهر يومًا دمًا، وسبعة أيام طهرًا، ويومين دمًا: فإن قلنا: لا تلفق.. حيضناها العشر كلها، فتزيد عادتها خمسة أيامٍ. وإن قلنا: تلفق.. حيضناها ثلاثة أيام فنقصت عادتها. [فرع: رؤية الدم نصف يوم] ] : وإن رأت نصف يومٍ دمًا، ونصف يوم نقاءً، فإن لم يجاوز الخمسة عشر.. فاختلف أصحابنا فيه: فذهب أبو العباس، وأبو إسحاق، وعامة أصحابنا إلى أنها على القولين في التلفيق: فإن قلنا: لا يلفق.. كان لها أربعة عشر يوما، ونصف يوم حيضًا. وإن قلنا: يلفق.. كان حيضها سبعة أيام ونصفًا. وقال بعض أصحابنا: هي مستحاضة إلا أن يتقدم لها أقل الحيض متصلاً. وقال بعضهم: هي مستحاضة إلا أن يتقدم لها أقل الحيض متصلاً، وينعقب لها أقل الحيض متصلاً. والأول أصح.

قال أبو العباس: وهل يلزمها الاغتسال عندما ترى الطهر؟ إن قلنا: لا يلفق لها.. لم يلزمها الاغتسال؛ لأن الدم إن عاد.. فالنقاء حيض، وإن لم يعد.. فالنصف الأول دم فسادٍ، فلا يجب الغسل بانقطاعه؛ لأنه أقل من أقل الحيض. وإن قلنا: يلفق.. وجب عليها الاغتسال؛ لأن الدم إن عاد.. كان انتقالاً من بعض الحيض إلى بعض الطهر، فوجب الاغتسال، كما إذا انتقلت من جميع الحيض إلى بعض الطهر. قال ابن الصباغ: وعندي أنه لا يجب عليها الاغتسال على هذا القول أيضا؛ لأن الدم لم يحكم بكونه حيضا، ولا يعلم معاودة الدم، والظاهر بقاء الطهر، كما إذا كان الدم يومًا وليلةً.. فإنه يلزمها الاغتسال إذا رأت الطهر، ويأتيها زوجها؛ لأن الظاهر بقاؤه، وإنما يتصور ما ذكره في اليوم الثاني، وما بعده. وإن رأت نصف يوما دمًا، ونصف يوم نقاءً، وجاوز الخمسة عشر.. فقد اختلط حيضها بالاستحاضة، فترد إلى التمييز إن كانت مميزة، بأن ترى نصف يوم دمًا أسود، ونصف يوم نقاء، ثم ترى في اليوم الثاني نصف يوم دما أسود، ونصف يوم نقاء، ثم كذلك في الثالث والرابع، ثم ترى في اليوم الخامس نصف يوم دمًا أحمر، ونصف يومٍ نقاء، ثم كذلك إلى أن عبر الخمسة عشر يومًا.. فإن حيضها: هو الأسود. وفيما بينه من النقاء القولان في التلفيق. وإن كانت معتادة، بأن كانت عادتها خمسة أيام من الشهر، فرأت في بعض الشهور نصف يوم دمًا، ونصف يوم نقاء إلى أن جاوزت الخمسة عشر، والدم بصفة واحدة: فإن قلنا: لا يلفق.. كان حيضها أربعة أيام ونصف يوم ونقص من عادتها نصف يوم. وإن قلنا: يلفق لها من أيام العادة.. كان حيضها يومين ونصفًا، ونقص يومان ونصف. وإن قلنا: يلفق لها من الخمسة عشر.. لفقت الخمس لها من عشرة أيام.

فرع: رؤية الدم ساعة وساعة

وإن كانت مبتدئة، فإن قلنا: ترد إلى ست أو سبعٍ.. كانت كمن عادتها ست أو سبعٌ. وإن قلنا: تردُ إلى يوم وليلة، فإن قلنا: لا يلفق، أو قلنا: يلفق من أيام العادة لا غير.. فلا حيض لها؛ لأنه لا يحصل لها أقل الحيض من ذلك. وإن قلنا: يلفق لها من الخمسة عشر.. لفق لها يوم وليلة من أربعة أيام. [فرع: رؤية الدم ساعة وساعة] وإن رأت ساعة دمًا، وساعة نقاءً، ولم تجاوز الخمسة عشر.. نظرت ـ في الساعات ـ: فإن كانت تبلغ بمجموعها أقل الحيض.. كانت كالاتصاف على ما مضى. وإن كانت الساعات لا تبلغ بمجموعها أقل الحيض ـ بأن رأت في أول الخمسة عشر ساعة دمًا، وفي آخرها ساعة دمًا، وما بينهما طهرٌ ـ: فإن قلنا: يلفق لها.. كان دم فساد؛ لأنه لا يتلفق منه أقل الحيض. وإن قلنا: لا يلفق.. قال أبو العباس: فيه وجهان: أحدهما: أن الدمين وما بينهما من النقاء حيض؛ لأنا نجعل النقاء حيضا على هذا. والثاني: أنه دم فساد؛ لأن النقاء إنما يجعل حيضا ـ على هذا القول ـ على سبيل التبع للدم، والدم لا يبلغ بمجموعه أقل الحيض، فلم يجعل النقاء تابعا له. [مسألة: حكم النفاس] مسألة: [في حكم النفاس] : وأما دم النفاس: فإنه يحرم ما يحرم الحيض، ويسقط ما يسقط الحيض؛ لأنه حيض مجتمع لأجل الحمل. فإذا ولدت المرأة، وخرج منها دم بعد الولادة.. كان

فرع: رؤية الحامل الدم

نفاسًا بلا خوف. وإن خرج قبل الولادة.. لم يكن نفاسًا. وإن كان خرج مع الولد.. فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق، وابن القاص: هو نفاس؛ لأنه دم خرج بخروج الولد، فأشبه الدم الخارج بعده. والثاني: ليس بنفاس؛ لأنه دم انفصل قبل انفصال الولد، فأشبه ما خرج قبله. [فرع: رؤية الحامل الدم] وإن رأت المرأة الحامل الدم قبل ولادتها خمسة أيام، ثم ولدت قبل مضي أقل الطهر.. فإن الدم الذي رأته قبل الولادة ليس بنفاس، وهل هو حيض، أو دم فساد؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: إنه دم فساد قولاً واحدًا؛ لأنه لما لم يكن بينه وبين النفاس طهرٌ صحيح.. كان دم فساد. ومنهم من قال: هو على القولين ـ في أن الحامل تحيض ـ: فإن قلنا: إنها تحيض.. كان حيضًا؛ لأن الولد يقوم مقام الطهر في الفصل. [فرع: مدة النفاس] أكثر مدة النفاس: ستون يوما، وغالبه: أربعون يومًا. وبه قال مالك، وداود، وعطاءً، والشعبي. وقال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وأبو عبيد، والمزني: (أكثره أربعون يومًا) .

وقال الحسن: أكثره خمسون يومًا. ومن الناس من قال: أكثره سبعون يومًا. دليلنا: أن المرجع في ذلك إلى الوجود. وقد قال الأوزاعي: (عندنا امرأة ترى النفاس شهرين) . وليس لأقل النفاس حد، وقد تلد المرأة ولا ترى دمًا. وقال الثوري: أقله ثلاثة أيام. وقال أبو يوسف: أقله أحد عشر يومًا؛ ليزيد أقله على أكثر الحيض. دليلنا: أن المرجع فيه إلى الوجود. وقد روي: «أن امرأة ولدت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم تر دمًا، فسميت: ذات الجفوف» . وروى أبو أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا طهرت المرأة حين تضع.. صلت» . وإن ولدت ولدين توأمين، ورأت بينهما الدم.. فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يعتبر أول النفاس وآخره بالولد الأول. وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف؛ لأنه يقع عليه اسم الولد، فأشبه إذا كان وحده.

فرع: رؤية دم النفاس ساعة بعد ساعة

والثاني: أنه يعتبر أول النفاس وآخره بالثاني. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأن الولدين في حكم الولد، ألا ترى أن الزوج لا يملك نفي أحدهما دون الآخر، ولا تنقضي عدتها إلا بوضعهما؟ والثالث: أنه يعتبر ابتداء المدة من الأول، ثم تستأنف المدة من الثاني؛ لأن كل واحد منهما سبب في إثبات حكم النفاس إذا انفرد، فإذا اجتمعا.. ثبت لكل واحد منهما نفاس، وتدخلا فيما اجتمعا فيه، كالوطء بالشبهة في العدة. [فرع: رؤية دم النفاس ساعة بعد ساعة] ] : إذا ولدت المرأة ورأت ساعةً دمًا، وساعةً طهرًا، ولم تجاوز الستين. أو رأت يومًا دمًا، ويومًا طهرًا، ولم تجاوز الستين.. فإن الدَم نفاسٌ، وفيما بينهما من النَقاء القولان في التَلفيق. وإن رأت ساعةً دمًا، ثمَ طهرت أربعة عشر يومًا، ثمَ رأت يومًا وليلةً دمًا.. فالدَمان: نفاسٌ، وفي ما بينهما من النَقاء القولان في التلفيق. وإن رأت ساعةً دمًا، ثمَ طهرت خمسة عشر يومًا ثمَ رأت يومًا وليلةً دمًا.. ففيه وجهان: أحدهما: أن الدَم الأول نفاسٌ، والثاني حيضٌ، وما بينهما طهرٌ. وبه قال أبو يوسف، ومحمَدٌ؛ لأن الدمين قد فصل بينهما طهرٌ صحيحٌ، فلم يضمَ أحدهما إلى الآخر، كالحيضتين. والثاني ـ وبه أبو حنيفة ـ: أن الدمين نفاسٌ، وما بينهما من النَقاء على القولين في التلفيق؛ لأنهما وجدا في زمان إمكان النفاس، فهو كما لو كان بينهما أقل من خمسة عشر يومًا. ويفارق الحيضتين؛ لأن الثاني لا يمكن ضمه إلى الأول.

وقال أحمد: (الأول نفاسٌ. والثاني مشكوكٌ فيه، فتصوم وتصلي، ولا يأتيها زوجها، وتقضي الصوم والصلاة؛ لأنه يحتمل أنه نفاسٌ، ويحتمل أنه دم فسادٍ) وهذا ليس بصحيح؛ لأنه دم في زمان الإمكان، فكان نفاسًا. وإن رأت ساعة دمًا، ثمَ طهرت خمسة عشر يومًا، ثم رأت ساعةً دمًا: فإن قلنا في الأولى: إنهما نفاسٌ.. فها هنا مثله. وإن قلنا في الأولى: إن الثاني حيضٌ.. فخرج أبو العباس في هذه وجهين: أحدهما: أنه نفاسٌ ـ وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ـ لأنه ينقص عن أقل الحيض. والثاني: أنه دم فساد ـ وهو قول زفر، ومحمد ـ لأنه لا يمكن أن يكون حيضًا؛ لأنه دون أقله، ولا يمكن أن يكون نفاسًا؛ لأن بينهما طهرًا صحيحًا. قال أبو العباس: فإذا قال لامرأته الحامل: إذا ولدت فأنت طالقٌ. فولدت.. طلقت. فإذا أخبرت بانقضاء العدة.. فكم القدر الذي يقبل قولها فيه؟ إن قلنا: إن الدم إذا عاودها بعد الطهر يكون حيضًا.. فأقل مدة تنقضي عدتها فيها سبعة وأربعون يومًا وجزءان؛ لأنه يمكن أن تضع قبل المغرب بجزء ترى فيه الدم، فيكون نفاسًا، ثم تطهر خمسة عشر يومًا، ثم تحيض يومًا وليلةً، ثم تطهر خمسة عشر يومًا، ثم تحيض يومًا وليلةً، ثم تطهر خمسةَ عشرَ يومًا، ثم تطعن في الحيض، فتنقضي عدَتها. والذي يقتضي المذهب عندي: أنه يقبل قولها ـ على هذا ـ في سبعة وأربعين يومًا وجزء؛ لأنها قد تلد ولا ترى دمًا، فتكون في القُرءِ الأول عقيب الولادة. وإن قلنا: إن الدم إذا عاودها في مدة الستين كان نفاسًا.. فأقل مدة تنقضي بها عدتها اثنان وتسعون يومًا وجزءٌ؛ لأن الستين لا يمكن أن يحصل فيها إلا طهرٌ واحدٌ ثم تحيض بعد الستين يومًا وليلةً، ثم تطهر خمسةَ عشرَ يومًا، ثم تحيضُ يومًا وليلةً، ثم تطهر خمسةَ عشرَ يومًا، ثم تطعنُ في الحيض، فتنقضي به عدتها.

فرع: انقطاع النفاس لدون أربعين

[فرع: انقطاع النفاس لدون أربعين] ] : وإذا انقطع دم النفاس لدون أربعين يومًا.. لم يكره وطؤها. وقال أحمد) يكره وطؤها) . وروي ذلك عن علي، وابن عباس. دليلنا: أنها حالة يجب عليها الصلاة، فلم يكره وطؤها فيها كما لو انقطع لأربعين يومًا. [فرع: جاوز النفاس الستين] إن جاوز النفاس الستين فرعٌ: [إن جاوز النفاس الستين] : وإذا جاوز دم النفاس ستين يومًا.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد: أحدها ـ وهو قول أكثر أصحابنا ـ: أن الاستحاضة قد دخلت في النفاس. فعلى هذا: تُردُ إلى التمييز إن كانت مميزة، أو إلى العادة إن كانت معتادةً. وإن كانت مبتدئة لا تمييز لها.. فاختلف أصحابنا فيها: فقال أبو العباس، وأبو إسحاق: نردُها إلى أقل النفاس، وهو: لحظة. وقال سائر أصحابنا: هي على قولين: أحدهما: هذا. والثاني: تردُ إلى غالب النفاس، وهو: أربعون يومًا، كما قلنا في الحيض إن جاوز أكثره. والوجه الثاني: أن الستين تكون نفاسًا، وما زاد عليها استحاضةً. والفرق بين النفاس والحيض: أن النفاس يُعلم وجوده قطعًا؛ لأنه يخرجُ عقيب الولد، فلم يجز أن ينتقل عن النفاس إلى الاستحاضة إلا باليقين، وهو: مجاوزة الدَم

فرع: ولدت في وقت حيضها ولم تتغير عادتها

الستين، بخلاف الحيض؛ لأنا إنما نحكم بكونه حيضًا من حيث الظاهر، لا بالقطع واليقين، فجاز أن ينتقل عنه من غير قطع. والوجه الثالث ـ ذكره ابن القطان ـ: أن الستين نفاسٌ، وما زاد عليها حيضٌ؛ لأنهما لا يتنافيان. والأول أصح. [فرع: ولدت في وقت حيضها ولم تتغير عادتها] ] : ذكر أبو إسحاق المروزي في (النفاس) مسألتين: إحداهما: إذا كانت المرأة تحيض خمسة أيام وتطهر خمسة عشر يومًا.. فهذه شهرها عشرونَ يومًا، فلما كانت في بعض الشهور ولدت في وقت حيضها، ورأت عشرين يومًا دمًا، ثم طهرت خمسة عشر يومًا، ثم رأت الدم بعد ذلك، وعبر الخمسة عشر.. فهذه لم تتغير عادتها في حيضها وطهرها. فتكون نفاسًا في مدة العشرين، وطاهرًا في مدة الخمسة عشر، ونحيضها بعد ذلك خمسة أيام، وتكون طاهرًا خمسة عشر يومًا، وعلى هذا أبدًا. الثانية: إذا كانت عادتها أن تحيض عشرة أيامٍ، وتطهر عشرين يومًا.. فهذه شهرها ثلاثون يومًا. فإن ولدت في وقت حيضها، ورأت عشرين يومًا دما وانقطع، وطهرت شهرين، ثم رأت الدم بعد ذلك، وزاد على خمسة عشر يومًا.. فهذه لم تتغير عادتها في الحيض، ولكن زاد الطهر فصار شهرين، بعد أن كان عشرين يومًا، وتكون نفساء في مدة العشرين الأولى، وطاهرًا في الشهرين بعدها، وحائضًا عشرة أيام بعدها، ويكون طهرها بعد ذلك شهرين. قال ابن الصباغ: وهذا يجيء على قول من لا يعتبر تكرار العادة. [مسألة: فيما يجب على المستحاضة] ] : يجب على المستحاضة ـ إذا أرادت أن تصلي ـ: أن تغسل فرجها، وتحتشي؛ لترد الدم.

فإن كان الدمُ يسيرًا، وإذا أدخلت قطنةً أو خِرقةً حبستهُ.. فعلت ذلك. وإن لم ينقطع بذلك.. (تلجَمت) : وهو أن تأخذ قطنةً أو خرقةً وتسدَ بها فرجها، وتأخذ خرقةً مشقوقة الطرفين فتدخلها بين فخذيها، وتشدها على تلك القطنة، وتخرج أحد طرفيها إلى بطنها، والآخر إلى صلبها، ثم تشدَ أحد الطرفين بالآخر إلى خاصرتها اليمنى، وأحد الطرفين المشقوقين بالآخر إلى خاصرتها اليسرى. وهذا هو الاستثفار المذكور في الخبر، مأخوذ من: ثفر الدابة تحت ذنبها. وهكذا يفعل بالميت إذا غُسل. والدليل على هذا: ما روي في «حديث حمنة بنت جحش: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: "أنعت لك الكرسف، فإنه يذهب بالدم"، فقالت: هو أشد من ذلك، فقال: "اتخذي ثوبًا"، فقالت: هو أشد من ذلك، إنما أثج ثجًا، فقال: تلجمي» ولا يجب على المستحاضة غير المتحيرة إلا غسل واحد، عندما يحكم لها بانقطاع دم الحيض، وإنما يجب عليها الوضوء. وروي ذلك عن علي، وعائشة وابن مسعود، وابن عباسٍ. وروي عن ابن عمر، وابن الزبير: أنهما قالا: (يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة) . وقد روي ذلك أيضًا عن عليٍ، وابن عباس. وروي ـ أيضًا ـ عن عائشة: أنها قالت: (تغتسل لكل يومٍ غسلاً واحدًا) . وقال ابن المسيب، والحسن: تغتسل من طهرٍ إلى طهرٍ، وتتوضأ لكل صلاةٍ.

دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن فاطمة بنت أبي حبيس استحيضت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تدع الصلاة أيام أقرائها، ثم تغتسل، وتتوضأ لكل صلاة، وتصلي حتى يجيء ذلك الوقت، وإن قطر الدم على الحصير» . وإذا استوثقت بالشد على ما ذكرناه وتوضأت، فخرج منها الدم قبل الدخول في الصلاة، أو في حال الصلاة، فإن كان لرخاوةٍ في الشد.. وجب إعادة الشد والطهارة. وإن كان ذلك لغلبة الدم وقوته.. لم يجب عليها إعادة الشد والطهارة، ولا تبطل الصلاة؛ لما ذكرناه في حديث فاطمة ابنة أبي حبيشٍ، ولأنه لا يمكن الاحتراز منه. وإن توضأت المستحاضة.. ارتفع حدثها السابق. وأما حدثها الموجود حال الطهارة والطارئ.. فلا يرتفع ذلك، ولكن يعفى عنه؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة" ق \ 15] : هل يرتفع حدثها؟ فيه وجهان. فإن قلنا: لا يرتفع حدثها.. فكيف تنوي بطهارتها؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وهو الأصح ـ: أنها تنوي استباحة الصلاة، ولا تنوي رفع الحدث؛ لأنه لا يرتفع.

فرع: لا تجمع المستحاضة بالوضوء أكثر من فرض

و [الثاني] : قال الخضريُ: تجمع في نيتها بين رفع الحدث، واستباحة الصلاة. [فرع: لا تجمع المستحاضة بالوضوء أكثر من فرض] ] : ولا يجوز للمستحاضة أن تصلي بالوضوء أكثر من فريضةٍ واحدةٍ، وما شاءت من النوافل، سواء كان ذلك في وقت، أو في وقتين. وقال أبو حنيفة، وأحمد: (يجوز لها أن تجمع بين فريضتين في وقت واحد، وتبطل طهارتها بخروج وقت الصلاة) . وقال ربيعة، ومالك: (لا وضوء على المستحاضة) . وقال الأوزاعي، والليث: (تجمع في طهاراتها بين الظهر والعصر) . دليلنا: ما ذكرناه من حديث فاطمة ابنة أبي حبيش. ولا تصح طهارتها إلا بعد دخول الوقت. وقال أبو حنيفة: (تصح) . دليلنا: أنها طهارة ضرورةٍ، ولا ضرورة بها إلى الطهارة قبل دخول الوقت. وهل يجب عليها حل العصابة، وغسل الفرج عند الصلاة الثانية؟ قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 44] : ينظر فيها: فإن كانت العصابة قد تحركت من موضعها.. وجب غسلها، وإن لم تتحرك من موضعها.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو الأصح ـ: أنه يجب عليها ذلك، كما يجب عليها الوضوء. والثاني: لا يجب. والفرق بينهما: أنه قد تؤمر بالطهارة عن الحدث وإن لم يرتفع، ولا تؤمر بإزالة النجاسة إذا لم تزل بالغسل.

فرع: حكم الولاء بين الطهارة والصلاة

[فرع: حكم الولاء بين الطهارة والصلاة] ] : إذا توضأت المستحاضة بعد دخول الوقت.. فالأولى: أن تصلي عقيب الطهارة. فإن أخرت الصلاة إلى آخر الوقت أو وسطه، فإن كان لسبب يعود إلى مصلحة الصلاة، كانتظار الجماعة، وستر العورة، وما أشبهه.. جاز ذلك. وإن أخرتها لغير ذلك.. فهل تصح صلاتها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، وعليها أن تستأنف الطهارة؛ لأنه لا حاجة بها إلى ذلك. والثاني: يجوز؛ لأنه قد جوز تأخير الصلاة إلى آخر الوقت، فلا يضيق عليها. وإن خرج الوقت قبل أن تصلي به الفرض.. فهل لها أن تصلي الفرض بتلك الطهارة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنها غير معذورة في ذلك. والثاني: يجوز، لأن طهارتها لا تبطل ـ عندنا ـ بخروج الوقت. فإذا صلت الفريضة بوقتها.. فلها أن تتنفل بها ما شاءت؛ لأن النوافل تكثر، فلو ألزمناها: أن تتوضأ لكل صلاة نافلة.. شق وأدى إلى قطعها. فإذا خرج وقت الفريضة.. فهل لها أن تتنفل بتلك الطهارة؟ فيه وجهان. [فرع: انقطاع دم المستحاضة] ] : إذا انقطع دم المستحاضة.. نظرت: فإن كان قبل الدخول في الصلاة: فإن كان انقطاعًا غير معتاد، بأن كان أول ما استحيضت، فتوضأت ودمها سائل، ثم انقطع.. قال الشيخ أبو حامد: فلا خلاف على المذهب: أنه يجب عليها إعادة الوضوء إذا أرادت أن تصلي؛ لأن هذا الانقطاع يجوز أن يكون لزوال الاستحاضة، فتبطل لذلك طهارتها. ويجوز أن يكون ليعود، فلا تبطل، إلا أن الظاهر أنه لا يعود. فإن خالفت ودخلت في الصلاة من غير تجديد طهارة، فإن اتصل الطهر.. لم تصح صلاتها.

وإن عاودها الدم، فإن كان بين معاودة الدم وانقطاعه مدة يمكن فيها فعل الصلاة.. لم تصح صلاتها؛ لأنه قد أمكنها فعل الصلاة من غير نجاسةٍ. وإن كان بينهما مدة لا يمكن فيها فعل الصلاة.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليها إعادة الصلاة؛ لأنا تيقنا بعود الدم أن الانقطاع لا حكم له. والثاني: يجب عليها الإعادة، وهو الأصح؛ لأنها حال ما دخلت في الصلاة، دخلت بطهارة مشكوك فيها، فيلزمها إعادتها، وإن تيقنت أن طهارتها كانت صحيحة، كما لو استفتح لابس الخف الصلاة بعد أن مسح يومًا وليلة، وهو يشك: هل ابتدأ المسح في الحضر أو في السفر، ثم بان له أنه ابتدأ المسح في السفر. وإن كان انقطاع دمها معتادًا، مثل: أن تستمر عادتها بأن ينقطع دمها ساعةً، ثم يعود، ثم ينقطع، فإن كانت مدة الانقطاع في عادتها مما يمكن فيها فعل الطهارة والصلاة.. فعليها: أن تعيد الطهارة والصلاة. قال ابن الصباغ: وليس لها أن تتوضأ في حال جريان الدم، بل عليها أن تنتظر حال انقطاعه، ما لم يخرج الوقت. فإن توضأت في المدة التي جرت عادتها أن الانقطاع يتسع لفعل الطهارة والصلاة، ثم دخلت في الصلاة، ثم عاد الدم في حال الصلاة.. قال أبو العباس: فهذا حدث ثانٍ، فتبطل طهارتها بوجوده، ويلزمها الخروج من الصلاة، واستئناف الطهارة. وهل يلزمها استئناف الصلاة؟ فيه قولان كالقولين فيمن يسبقه الحدث في الصلاة؛ لأن خروج الدم عنها بغير اختيارها، كالصحيح إذا سبقه الحدث في الصلاة. وإن كانت مدة الانقطاع يسيرة لا تتمكن فيها من فعل الصلاة والطهارة.. فهو كما لو كان الدم متصلاً. قال أبو العباس: وهكذا إذا كانت مبتدأة وانقطع دمها، وعلمت أن هذا الانقطاع لا يتصل، لكنه يعود الدم. أو كان به جرح يسيل منه الدم فانقطع، فأخبره أهل البصر

فرع: وطء المستحاضة

بالطب: بأن هذا الانقطاع لا يتصل، بل يعود.. فهو كما لو لم ينقطع. ولها أن تصلي مع هذا الانقطاع. فإن اتصل بها الطهر.. فإنه يجب عليها إعادة الصلاة وجهًا واحدًا؛ لأنا إنما أجزنا الصلاة بالطهر الأول ظنا أن الدم يعود، فإذا لم يعد.. تيقنا الخطأ فيما ظنناه. وإن توضأت المستحاضة، ودخلت في الصلاة، فانقطع دمها في حال الصلاة، فإن كانت قد جرت عادتها بأن دمها ينقطع ويعود، وبين وقت انقطاعه وعوده مدة لا تتمكن فيها من الطهارة والصلاة.. لم تبطل صلاتها بهذا الانقطاع؛ لأن وجوده كعدمه. وإن كانت قد جرت عادتها بأن دمها ينقطع، ويعود بعد مضي مدة تتمكن فيها من فعل الطهارة والصلاة. أو كان هذا الانقطاع لم تجر لها به عادةٌ، والظاهر أنه لا يعود الدم.. فهل تبطل صلاتها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تبطل صلاتها، كالمسافر إذا عدم الماء فتيمم، ثم وجد الماء بعد الدخول في الصلاة. والثاني: تبطل صلاتها، وهو الصحيح؛ لأن عليها طهارة حدث، وطهارة نجس، ولم تأت عن طهارة النجس بشيء، وقد قدرت عليها، فلزمها الإتيان بها. وتفارق المتيمم؛ لأنه قد أتى عن الطهارة بالماء بما هو بدل عنها، فجاز له استدامة التيمم مع وجود الماء. وطهارة المستحاضة قد بطلت بانقطاع الدم، وإذا بطلت الطهارة.. بطلت الصلاة. [فرع: وطء المستحاضة] ] : يجوز للزوج وطء زوجته المستحاضة وإن كان الدم جاريًا. وقال الحكم، وابن سيرين، والنخعي: لا يجوز له وطؤها.

فرع: صاحب السلس

وبه قال أحمد، إلا أن يخاف على نفسه العنت. دليلنا: ما روي: (أن حمنة بنت جحش كانت تحت طلحة بن عبيد الله، وأم حبيبة كانت تحت عبد الرحمن، وكانتا مستحاضتين، وكانا يجامعان) . والظاهر أنه لا يخفى ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه قد بين سائر أحكامها ولم يذكر الوطء، فدل على جوازه. [فرع: صاحب السلس] ] : ومن به سلس البول والمذي.. حكمه حكم المستحاضة في الشد، والوضوء لكل صلاة؛ لأن ذلك من نواقض الوضوء، فهو كالاستحاضة. وأما من به جرح لا ينقطع منه الدم أو القيح.. فإنه بمنزلة المستحاضة في وجوب غسله، وشده عند كل صلاةٍ؛ لأنها نجاسة متصلة لعلة، فهو كالمستحاضة. وأما الوضوء لكل صلاة: فلا يجب عليه. وبالله التوفيق

باب إزالة النجاسة

[باب إزالة النجاسة] أبوال بني آدم وذروقهم نجسةٌ، وهو قول كافة العلماء، إلا ما حكي عن داود: أنه قال: (بول الغلام الذي لم يطعم الطعام طاهرٌ) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه» . ولم يفرق. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بقبرين، فقال: "إنهما يعذبان، وما يعذبان بكبيرةٍ، أما أحدهما: فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر: فكان لا يستنزه من البول» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمارٍ: «إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والمني والدم والقيء» .

وأجمعت الأمة على نجاسة الغائط. وأما أبوال البهائم وأرواثها: فهي نجسةٌ ـ عندنا ـ سواءٌ في ذلك ما يؤكل لحمه، وما لا يؤكل لحمه. وبه قال ابن عمر، والأوزاعي، وهذه طريقة أصحابنا البغداديين. وقال صاحب " الإبانة " [ق \ 68] : في بول ما لا نفس له سائلةٌ، وروثه وجهان، بناء على الوجهين في: أنه هل ينجس بالموت؟ وقال النخعي: أبوال البهائم كلها طاهرةٌ. وقال مالكٌ والزهري، والثوري، وأحمد: (بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهرٌ) . وحكى صاحب " الفروع ": أن هذا وجه لبعض أصحابنا؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على الجمل) فلولا أن بوله وروثه طاهرٌ.. لما طاف عليه خشية أن ينجس المسجد. وقال أبو حنيفة: (الكل نجسٌ، إلا ذرق الحمام، والعصافير، وما لا يمكن الاحتراز منه.. فإنه طاهرٌ؛ لأن العسل ذرق النحل، وهو طاهرٌ) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] [النحل: 66] . فامتن الله علينا بأن أخرج لنا لبنًا طاهرًا يحل شربه من بين نجسين: الفرث، والدم.

مسألة: القول في المذي والمني

وروي: «أن ابن مسعود أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحجرين وروثةٍ؛ ليستنجي بذلك، فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال: "إنها ركسٌ» . و (الركس) : الرجيع وهذه العلة تعم جميع ما ذكرناه. وأما طواف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجمل؛ فلأنه حمل أمره: على السلامة، وأنه لا يبول ولا يبعر. كما حمل أمامة بنت أبي العاص في الصلاة وحمل أمرها على: أنها لا تبول ولا تتغوط. ثم لا يدل ذلك على: أن بولها وغائطها طاهرٌ. وأما قوله: إن العسل ذرق النحل.. فغير صحيح؛ لأنه قد قيل: إن النحل تعسل بأفواهها، وقيل: لا يكاد يعرف منها حقيقة؛ لما روي: أن سليمان بن داود - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أراد أن يعرف حقيقة ذلك، فاتخذ آنية من زجاج، وجعلها فيها؛ ليعرف كيف تعسل.. فلطخت وجه الآنية بالطين حتى لم يرها كيف تعسل. والقيء نجس؛ لحديث عمار، ولأنه طعام استحال في الجوف، فكان نجسًا، كالغائط. والبلغم الخارج من المعدة نجسٌ. وقال أبو حنيفة: (هو طاهرٌ) . دليلنا: أنه طعام أحالته الطبيعة فكان نجسًا، كالسوداء والصفراء. [مسألة: القول في المذي والمني] ] : والمذي نجسٌ؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يغسل ذكره منه) . والودي نجسٌ؛ لأنه في معناه. وأما مني الآدمي: فالمشهور من مذهب الشافعي أنه طاهر ما لم تصبه نجاسةٌ. وبه

قال من الصحابة: ابن عباس، وسعد بن أبي وقاصٍ وعائشة. وقال مالك، والأوزاعي: (هو نجس يجب غسله رطبًا ويابسًا) . وخرج صاحب " التلخيص " قولاً للشافعي مثل هذا. وقال أبو حنيفةَ: (هو نجس يجب غسله إن كان رطبًا، وإن كان يابسًا.. أجزأه الفرك) . وحكى بعض أصحابنا الخراسانيين في مني المرأة قولين. ومنهم من يقول: فيه وجهان، بناء على الوجهين في نجاسة رطوبة فرجها. دليلنا: ما روى ابن عباسٍ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن المني يصيب الثوب؟ فقال: "أمطه عنك بإذخرةٍ؛ فإنما هو كبصاقٍ أو مخاطٍ» . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيصلي فيه» ولو كان نجسًا.. لما انعقدت معه الصلاة. ولأنه خارجٌ من حيوانٍ طاهرٍ، يخلق منه، مثل أصله، فكان طاهرًا، كالبيض. فقولنا: (من حيوانٍ طاهرٍ) احترازٌ من مني الكلب والخنزير. وقولنا: (يخلق منه، مثل أصله) احتراز من البول والمذي والودي. وأما مني سائر الحيوانات غير الكلب، والخنزير، وما تولد منهما أو من أحدهما.. ففيه ثلاثة أوجهٍ:

مسألة: حكم الدماء

أحدها: أنه طاهرٌ، كعرقه ولعابه. والثاني: أنه نجسٌ؛ لأنه من فضول الطعام المستحيل، وإنما حكم بطهارته من الآدمي؛ لكرامته. والثالث: أن كل ما أكل لحمه.. فمنيه طاهرٌ، كلبنه. وما لا يؤكل لحمه.. فمنيه نجسٌ، كلبنه. فكل موضع قلنا: إن المني طاهرٌ.. فهل يحل أكله؟ فيه وجهان: [الأول] : قال الشيخ أبو حامد: لا يحل أكله. و [الثاني] : قال الشيخ أبو زيد المروزي: يحل أكله. وفي نجاسة بيض ما لا يؤكل لحمه وجهان، كمنيه: فإذا قلنا: إنه طاهرٌ.. فهل يجب غسل ظاهره؟ فيه وجهان، بناء على نجاسة رطوبة الفرج. قال المسعودي [في" الإبانة " ق \ 68] : وإذا قلنا ماتت الدجاجة وفي جوفها بيضٌ.. فهل يحكم بنجاستها؟ فيه وجهان. [مسألة: حكم الدماء] مسألةٌ: [في الدماء] : وجميع الدماء نجسةٌ. وفي دم السمك وجهان: أحدهما: أنه نجسٌ، كغيره. والثاني: أنه طاهرٌ، كميتته. وقال أبو حنيفة: (دم ما لا نفس له سائلةٌ طاهرٌ) . وهي إحدى الروايتين عن أحمد. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] . وحديث عمارٍ. ولم يفرق.

فرع: القيح والصديد والعلقة

[فرع: القيح والصديد والعلقة] فرعٌ: [في القيح والصديد والعلقة] : وأما القيح والصديد: فهو نجسٌ؛ لأنه أسوأ حالاً من الدَم. وأما ماء القروح: فإن كان له رائحةٌ.. فهو كالقيح نجسٌ وإن لم يكن له رائحةٌ.. ففيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: أنه نجس، كالقيح. والثاني: أنه طاهرٌ، كالعرق. و [الطريق الثاني] : منهم من قال: هو طاهرٌ قولاً واحدًا، كالعرق. واختلف أصحابنا في العلقة والمضغة التي هي مبتدأ خلق الآدمي، وفي البيضة إذا صارت دمًا. فقال الصيرفي: الكل طاهرٌ؛ لأنه مبتدأ خلق حيوان طاهرٍ، فكان طاهرًا، كالمني. وقال أبو إسحاق: هو نجسٌ؛ لأنه دمٌ خارجٌ من الرحم، فهو كالحيض. [مسألة: ميتة الحيوان الطاهر] ] : الحيوان الطاهر إذا مات.. ينظر فيه: فإن كان من غير السمك، والجراد، والآدمي.. فهو نجسٌ، سواءٌ كانت له نفسٌ سائلةٌ، أو لا نفس له سائلةٌ. هذا نقل أصحابنا البغداديين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] . ولم يفرق. وحكى الخراسانيون في طهارة ميتة ما لا نفس له سائلةٌ، وجهين.

وأما السمك والجراد: فميتتهما طاهرةٌ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحلت لنا ميتتان ودمان؛ أما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال» . فإن قطع من السمكة قطعةٌ، وبقيت السمكة حيةً.. فهل يحكم بطهارة تلك القطعة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: أنها نجسةٌ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي.. فهو ميتٌ» . والثاني: أنها طاهرةٌ؛ لأن ميتة السمك طاهرةٌ.

فرع: ميتة الآدمي

قلت: وينبغي أن يكون فيما أخذ من الجرادة، وبقيت الجرادة حيةً وجهان، كالسمكة. وكذلك ينبغي أن يكون في ذرق الجراد وجهان، كدم السمك وذرقه. [فرع: ميتة الآدمي] ] : وأما الآدمي إذا مات.. ففيه قولان: أحدهما: أنه نجسٌ؛ لأنه حيوان لا يؤكل بعد موته، فكانت ميتته نجسةً، كسائر الميتات. والثاني: أنه طاهرٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] [الإسراء: 70] . ومن كرامته أن لا يكون نجسًا بعد موته. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمن ليس بنجس حيا ولا ميتًا» . وإن انفصل شيء من جسد ابن آدم في حياته.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال الصيرفي: فيه قولان، كميتته. وقال عامة أصحابنا: هو نجسٌ قولاً واحدًا. وهو الأصح؛ لأن الحرمة إنما تثبت لجملته لا لأبعاضه.

فرع: حكم الخمر

قال ابن الصباغ: والمشيمة - التي يكون فيها الولد - نجسةٌ إذا انفصلت؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي.. فهو ميتٌ» . [فرع: حكم الخمر] فرعٌ: [في الخمر] : الخمر نجسةٌ. وقال ربيعة، وداود: (هي طاهرةٌ) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] [المائدة: 90] . فسماه: رجسًا، و (الرجس) ـ عند العرب ـ: النجس. وقَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] وهذا عمومٌ. وأما النبيذ: فالمذهب: أنه نجسٌ؛ لأنه مسكرٌ، فكان نجسًا، كالخمر. ومن أصحابنا من قال: إنه طاهرٌ؛ لاختلاف الناس فيه. وليس بشيءٍ. [فرع: نجاسة الكلب والخنزير] ] : الكلب نجس الذات، نجس السؤر. وبه قال ابن عباسٍ، وأبو هريرة، وعروة بن الزبير، وبه قال أبو حنيفة. وذهب الزهري، ومالك، وداود إلى: (أنه طاهرٌ، وسؤره طاهرٌ، إلا أنه يجب الغسل من ولوغه تعبدًا، لا للنجاسة) . واختاره ابن المنذر. دليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فأريقوه، واغسلوه سبعًا، أولاهن بالتراب» .

فرع: ألبان غير المأكول

فأمر بإراقة ما فيه وقد يكون عسلاً أو سمنًا، فلولا أنه نجس الذات والسؤر.. لما أمر بإراقة سؤره، مع (نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إضاعة المال) . والخنزير نجس الذات نجس السؤر؛ لأنه أسوأ حالاً من الكلب؛ بدليل: أنه يندب إلى قتله وإن كان لا ضرر به، فإذا كان الكلب نجسًا.. فهذا أولى. وينجس ما تولد من الكلب والخنزير؛ لأنه مخلوق من أصل نجس، فكان نجسًا. [فرع: ألبان غير المأكول] ] : واختلف أصحابنا في ألبان الحيوانات التي لا يؤكل لحمها غير الآدمي: فقال أبو سعيد الإصطخري: هو طاهرٌ؛ لأنه حيوانٌ طاهرٌ، فكان لبنه طاهرًا، كالشاة والبقرة. وقال عامة أصحابنا: هو نجسٌ ـ وهو المنصوص ـ كلحمه. [فرع: رطوبة فرج المرأة] واختلف أصحابنا في رطوبة فرج المرأة: فمنهم من قال: إنها طاهرةٌ، كعرقها. ومنهم من قال: إنها نجسة. وهو المنصوص؛ لأنها متولدة في محل النجاسة. وكل عين طاهرةٍ إذا أصابها شيءٌ من هذه النجاسات، وأحدهما رطبٌ.. نجست العين الطاهرة بذلك.

مسألة: تخليل الخمر

[مسألة: تخليل الخمر] ] : لا يجوز تخليل الخمر، وإذا خللت بخل، أو ملح، أو ما أشبهه.. لم تطهر. وقال أبو حنيفة: (يستحب تخليلها، وتطهر إذا خللت فتخللت) . وقال مالك: (يكره تخليلها، إلا أنها إذا خللت فتخللت.. طهرت) . دليلنا: ما روي: «أن أبا طلحة سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أيتام ورثوا خمرًا؟ فقال: "أهرقها" قال: أفلا أخللها؟ قال: لا» فنهاه عن التخليل. فإن تخللت الخمر بنفسها.. طهرت؛ لأنا إنما حكمنا بنجاستها للشدة المطربة فيها، وقد زالت من غير نجاسة خلفتها، فحكم بطهارتها. وهل يطهر الدن الذي هي فيه؟ فيه وجهان: [الأول] : قال الداركي: إن كان مما لا يقبل جزءًا منها، كالزجاج، ونحوه.. طهر. وإن كان مما يقبل جزءًا منها.. لم يطهر. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يطهر بكل حال، على سبيل التبع للخمر. وهو الأصح.

فرع: السرجين والعظام المحروقة

وإن نقل الخمر من الشمس إلى الظل، أو من الظل إلى الشمس، فتخللت.. فيه وجهان: أحدهما: لا تطهر؛ لأنها إنما تخللت بفعله، وهو فعل محظورٌ، فلم تطهر. والثاني: أنها تطهر؛ لأنها قد زالت الشدة المطربة فيها، من غير نجاسةٍ خلفتها. ولا يجوز إمساك الخمر لكي تتخلل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله الخمرة وحاملها» . فإن أمسكها حتى تخللت بنفسها من طول الإمساك.. فهل يحكم بطهارتها؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي. [فرع: السرجين والعظام المحروقة] ] : وإن أحرق العذرة أو السرجين أو عظام الميتة فصار رمادًا، أو طرح كلبًا ميتًا في مملحةٍ فصار ملحًا، أو طرح السرجين في التراب فصار ترابًا.. لم يطهر شي من ذلك. وقال أبو حنيفة: (يطهر جميع ذلك) . وحكى صاحب " الإبانة " [في ق \ 70] : أن هذا وجه لبعض أصحابنا. والمذهب الأول. دليلنا: أن نجاسة هذه الأشياء لعينها، والرماد هو عينها، فلم يحكم بطهارته، كالدَبس المتنجس إذا صار خلاً. وفي دخان النجاسة وجهان:

مسألة: ولوغ الكلب

أحدهما: أنه طاهرٌ؛ لأنه ليس هو النجاسة، ولا تولد منها، وإنما هو شيءٌ يحدثه الله عند التقاء جسم النار والعين النجسة، فلا معنى لتنجيسه. فعلى هذا: إذا علق بالثوب.. لم يمنع من الصلاة فيه. وإذا حصل على حائط تنورٍ.. لم يمنع الخبز عليه. والثاني: أنه نجسٌ. قال في " الفروع ": وهو الأصح؛ لأنه حادث من العين النجسة، فأشبه الرماد. قال أصحابنا: فعلى هذا: إذا علق بالثوب، فإن كان قليلاً.. عفي عنه. وإن كان كثيرًا.. لم يطهر إلا بالغسل. وإن سود التنور، فإن مسحه بخرقة وزال.. جاز الخبز عليه؛ لأن التنور والدخان يابسان. وإن ألصق عليه الخبز قبل الإزالة.. نجس ظاهر الرغيف، ووجب غسله. هكذا ذكره الشيخ أبو حامد. وقال الشاشي: إذا قلنا: إن دخان النجاسة نجسٌ.. فهل يعفى عنه؟ فيه وجهان. [مسألة: ولوغ الكلب] ] : إذا ولغ الكلب في إناء فيه مائعٌ، أو ماءٌ دون القلتين، أو أدخل فيه منه عضوًا، أو وقع فيه شيءٌ من دمه، أو بوله، أو ذرقه.. وجب غسله سبع مرات، إحداهنَ بالتراب. وبه قال ابن عباس، وأبو هريرة، وأحمد، وإسحاق، والأوزاعي. وقال أبو حنيفة: (يجب غسله إلا أن السبع لا تجب، بل يغسل حتى يغلب على الظن طهارته، فلو غلب على الظن طهارته بمرة أو مرتين.. حكم بطهارته) . وقال مالك، وداود: (يغسل من الولوغ ـ كما قلنا ـ فأما إذا أدخل عضوًا منه فيه، أو بال فيه، أو وقع فيه شيءٌ من دمه أو روثه.. فلا يجب غسله سبعًا من ذلك) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعًا أولاهنَ

بالتراب» فعلق طهارته بالسبع، فمن قال: إنه يطهر بدون ذلك.. فقد خالف مقتضى الخبر. والاستدلال على داود ومالك: أنه نص على الولوغ، ونبه به على ما سواه. إذا ثبت هذا: فإنه لا يجب أن يكون التراب في غسلةٍ ثامنةٍ، بل في أي السبع جعل التراب.. جاز. والأفضل أن يجعل التراب فيما قبل السابعة؛ ليرد عليه ما ينظفه. وقال الحسن، وأحمد: (يجب أن يكون التراب في غسلةٍ ثامنةٍ) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إحداهن بالتراب» . وهذا نصٌ في موضع الخلاف. وفي قدر التراب وجهان، حكاهما الشاشي عن " الحاوي ": أحدهما: ما يقع عليه الاسم. والثاني: ما يستوعب محل الولوغ. قال الشاشيُ: فإن أصاب بول الكلب أو دمه ثوبًا، فلم تزل عين البول والدم إلا بمرتين.. فهل يحتسب بهما من السبع، أو يحتاج إلى استئناف السبع بعد زوال العين؟

فيه وجهان. ولا فرق بين أن يصب الماء على التراب، أو يصب التراب على الماء.. فإنه يجزئ؛ لأن المقصود يحصل بذلك. وإن خلط التراب بخل، أو بماء ورد، وغسل به.. فهل يصحُ؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 6] : أحدهما: لا يجزئ؛ لأن المقصود هو التراب. والثاني: لا يجزئ. قال: وهو الأصح؛ لأن الخل وماء الورد ليس بطهورٍ. وإن كان التراب نجسًا.. فهل يجزئ؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة" [ق \ 6] . وإن أصاب بول الكلب أرضًا، وجرى الماء عليه سبع مراتٍ.. فهل يحتاج إلى تراب آخر؟ فيه وجهان، حكاهما في" الإبانة " [ق \ 5] . الأصح: لا يحتاج؛ لأن نفس الأرض ترابٌ. وإن غسل الإناء ثماني مرات بالماء من غير تراب.. فهل يحكم بطهارته؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين في أن التراب شرع تعبدًا لا بد منه، أو للتنظيف؟ قال أبو العباس ابن سريج: شرع لتنظيف النجاسة. فعلى هذا: تقوم الثامنة مقام التراب في التنظيف؛ لأن كل موضع يجوز التطهر بالتراب.. فالماء أجوز. وقال غيره من أصحابنا: شرع التراب تعبدًا لا بد منه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصد تقوية الماء بالتراب؛ لتغلظ النجاسة، والتراب مع الماء ينقي ما لا ينقي تكرار الماء. هكذا ذكر أصحابنا. وذكر في " المهذب ": إذا غسل بالماء وحده.. فهل يجزئ؟

فرع: وقوع ما نجسه الكلب في قليل الماء

فيه وجهان، وأطلق، ولعله أراد: إذا أقام الثامنة مقام التراب، كما ذكر غيره. [فرعٌ: وقوع ما نجسه الكلب في قليل الماء] ] : وإن وقع الإناء ـ الذي ولغ فيه الكلب ـ في ماء قليل.. نجس الماء، ولم يطهر الإناء. وإن وقع الإناء في ماء كثير.. لم ينجس الماء، وهل يطهر الإناء؟ فيه خمسة أوجه: أحدها: يحكم بطهارته؛ لأنه قد بلغ إلى حالة لو ولغ فيه الكلب.. لم ينجس، فحكم بطهارته. وهذا قول من يقيم الثامنة مقام التراب. والثاني: يحتسب بذلك مرةً واحدةً، ولا بد من أن يغسل سبع مراتٍ، إحداهن بالتراب؛ لأن الإناء ما لم ينفصل عن الماء.. فهو في حكم الغسلة الواحدة. والثالث: يحتسب بذلك ست مراتٍ؛ لأن ذلك أبلغ من ورود الماء عليه ست مرات، ولا بد من غسلةٍ سابعةٍ بالتراب. وهذا قول من لا يقيم الثامنة مقام التراب. والرابع ـ ذكره في " العدة " ـ: إن أصاب الكلب الإناء نفسه.. احتسب بذلك غسلةً. وإن أصاب الكلب الماء الذي في الإناء، ونجس الإناء تبعًا للماء.. احتسب به ـ ها هنا ـ سبعًا؛ لأنه لما نجس الإناء تبعًا لغيره.. حكم بطهارته تبعًا لغيره. والخامس ـ ذكره في " الفروع " ـ: إن كان الإناء ضيق الرأس.. لم يطهر؛ لأن الماء لا يجول فيه إلا مرةً. وإن كان واسعًا.. طهر؛ لأنه يجول فيه مرارًا. [فرع: فقد التراب] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كان في بحر لا يجد ترابًا، فغسله بما يقوم مقام التراب في التنظيف، من الأشنان، والنخالة، وما أشبه ذلك.. ففيه قولان: أحدهما: لا يجزئه؛ للخبر. ولأنه تطهير نص فيه على التراب، فاختص به، كالتيمم. وفيه احتراز من الاستنجاء، والدباغ.

والثاني: يجزئه؛ لأنه تطهير نص فيه على جامد، فلم يختص به، كالاستنجاء والدباغ) . وفيه احتراز من إزالة النجاسة بالماء. واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان في حال عدم التراب، فأما مع وجود التراب: فلا يجوز بغيره قولاً واحدا. وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص على القولين، إذا كان في البحر حيث يعدم التراب، فعلم أن مع وجوده لا يقوم مقامه غيره قولاً واحدًا. ومنهم من قال: القولان في الحالين؛ لأنه على القول الذي يقول: لا يجوز بغير التراب.. شبهه بالتراب ًفي التيمم، وجعل التيمم بالتراب أصلاً له، وعندنا: لا يجوز التيمم بغير التراب، مع وجود التراب، ولا مع عدمه.. فيجب أن يكون الغسل بغير التراب لا يجوز ـ على هذا القول ـ مع وجود التراب، ولا مع عدمه، كالأصل الذي قاس عليه. وعلى القول الذي قال: يجوز الغسل بغير التراب.. شبهه بالاستنجاء والدباغ، وجعل الأحجار في الاستنجاء، والدباغ في القرظ أصلا له. والاستنجاء يجوز بغير الأحجار، مع وجود الأحجار ومع عدمها. والدباغ يجوز بغير القرظ مع وجود القرظ ومع عدمه.. فيجب أن يجوز غسل الإناء بغير التراب ـ على هذا القول ـ مع وجود التراب، ومع عدمه، كالأصل الذي قاس عليه. وأما كلام الشافعي ـ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في البحر ـ: فلم يذكر البحر على سبيل الشرط، وإنما ذكر الموضع الذي تدعو الحاجة إلى العدول إلى غير التراب؛ لأنه مع وجود التراب.. لا غرض له في العدول عنه. إذا ثبت هذا: فذكر في " الإبانة " [ق \ 5 و6] : إذا قلنا: يقوم غير التراب مقامة في الإناء.. ففي الثوب أولى.

فرع: في ولوغ الكلاب

وإن قلنا: لا يقوم غير التراب مقامه في الإناء.. ففي الثوب وجهان. والفرق بينهما: أن التراب يفسد الثوب ويقطعه ـ وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إضاعة المال ـ بخلاف الإناء. [فرع: في ولوغ الكلاب] ] : قال في " حرملة ": (إذا ولغ في الإناء كلابٌ.. أجزأه أن يغسله سبع مراتٍ إحداهن بالتراب) . ومن أصحابنا من قال: يجب أن يغسل لكل كلبٍ سبع مراتٍ، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا بال رجلٌ.. صب عليه ذنوبٌ وإن بال رجلان.. صب عليه ذنوبان) . والأول أصح؛ لأن البول يحتاج إلى زيادة ماء ليزيله. ولم يرد الشافعي بما ذكره التقدير، وإنما ذكره على حكم الغالب. وليس كذلك ولوغ الكلب الثاني؛ فإنه لا يزيد النجاسة، ولا يؤثر فيها، فجرى الكلب الواحد إذا كرر الولوغ. وإن ولغ الكلب في إناء، ووقعت فيه نجاسةٌ.. أجزأه للجميع غسله سبع مراتٍ إحداهن بالتراب؛ لأن النجاسة تتداخل. ولهذا لو أصابه بولٌ ودمٌ، وغسله مرةً زال الجميع.. أجزأه. [فرع: غسالة الولوغ] إذا ولغ الكلب في إناء فغسل، وانفصل الماء عن الإناء، وهو غير متغيرٍ.. فهل يحكم بطهارة الماء؟ فيه ثلاثة أوجهٍ:

أحدها: أن جميع الغسلات طاهرةٌ. والثاني: أن جميعها نجسةٌ. والثالث: أن السابعة طاهرةٌ، وما قبلها نجسةٌ. وهو الصحيح، وقد مضت دلالة الوجوه. فإذا قلنا بهذا: فجمعت السابعة إلى الست، ولم يبلغ قلتين.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه طاهرٌ؛ لأنه ماءٌ انفصل عن الإناء وهو طاهرٌ، فأشبه السابعة. والثاني: أن الكل نجسٌ. وهو الصحيح؛ لأن السابعة هي الطاهرة، والست نجساتٌ، وهن الغالبات على السابعة، فكان الكل نجسًا. فأما إذا قلنا: إن الكل نجسٌ.. فلا يفيد الجمع، إذا لم يبلغ الجميع حد الكثرة. وإن أصاب الثوب شيء من ماء إحدى الغسلات، فإن قلنا: إن الجميع طاهرٌ.. فلا تفريع عليه. وإن أصابه مما حكم بنجاسته منها.. نجس الثوب. وكم القدر الذي يجب غسل الثوب منه؟ ينظر فيه: فإن أصابه من السادسة، أو من السابعة إذا قلنا: إنها نجسةٌ.. حكم بطهارته بغسل مرة واحدةٍ، وجهًا واحدًا. وإن أصابه مما قبلهما.. ففيه وجهان: أحدهما: يكفيه غسل مرةٍ واحدةٍ؛ لأن كل غسلةٍ تزيل سبع النجاسة، فيغسل منها مرةً. والثاني: إن أصابه من الغسلة الأولى.. لم يطهر ما أصابه منها إلا بغسل ست مراتٍ. وإن أصابه من الثانية.. غسل منها خمس مراتٍ. وإن أصابه من الثالثة.. غسل منها أربع مراتٍ، اعتبارًا بالبلل الباقي في الإناء. فعلى هذا: ينظر: فإن أصاب الثوب من الغسلة التي غسل الإناء فيها بالتراب، أو

فرع: أكل الكلب الطعام الجامد

مما بعدها.. لم يجب أن يغسل الثوب بالتراب. وإن أصابه من غسلة في الإناء قبل التراب.. لم يطهر الثوب إلا بالغسل بالتراب، اعتبارًا بالبلل الباقي في الإناء. [فرع: أكل الكلب الطعام الجامد] ] : إذا أكل الكلب من طعامٍ جامدٍ.. فإنه يزال ما أصاب منه، أو يغسل سبعًا إحداهن بالتراب، وينتفع بالباقي من غير غسل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الفأرة تقع في السمن: «إن كان ذائبًا.. فأريقوه، وإن كان جامدًا.. فألقوها وما حولها» . [مسألة: حكم الخنزير] مسألة: [في حكم الخنزير] : حكم الخنزير حكم الكلب، في جميع ما ذكرناه من الغسل. وقال أبو العباس ابن القاص في " المفتاح ": قال الشافعي في القديم: (يغسل منه مرةً واحدةً) . وقال سائر أصحابنا: يغسل منه كالكلب، قولاً واحدًا. والذي قاله في القديم مطلقٌ، وأراد به: السبع؛ لأنه حيوانٌ نجسٌ في حياته، فهو كالكلب.

مسألة: بول الغلام الصغير

[مسألة: بول الغلام الصغير] ] : بول الصبي والصبية اللذين لم يطعما الطعام نجسٌ، كبول الذي يطعم الطعام، خلافًا لداود في بول الصبي، وقد مضى. إذا ثبت هذا: فلا خلاف على المذهب: أنه يجب الغسل منهما، ولكنهما مختلفان في كيفية الغسل: فيجزئ في بول الغلام الذي لم يطعم الطعام النضح، وهو: أن يبل موضعه بالماء، وإن لم ينزل عنه. وفي بول الصبية وجهان، ومنهم من يقول: هما قولان: أحدهما: يجزئ فيه النضح، كبول الغلام. والثاني: يجب غسله، كسائر الأبوال. وهو المشهور. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجب غسل بول الصبي، كسائر الأبوال) . دليلنا: ما روي: «أن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بال على ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرشه، فقيل له: ألا تغسل ثوبك؟! فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "إنما يغسل بول الجارية، ويرش بول الغلام» . وروي عن علي كرم الله وجهه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام» .

مسألة: أنواع النجاسات

قال أصحابنا: ولأن الغلام يبلغ بطاهر وهو: المني والجارية تبلغ بنجس ـ وهو: الحيض ـ فاختلفا في تطهير بولهما. وأيضًا: فإن البول يختلف في الإزالة والتطهير: فمنه ما يحتاج في تطهيره إلى ماء كثير، وهو: بول المحرور فإن بوله ثخين أصفر، له رائحة، فلا يزول إلا بماء كثير. وبول المرطوب: أبيض رقيق، لا رائحة له، يزول بماء قليل. وإذا كان كذلك.. فقيل: إن بول الجارية أصفر ثخينٌ، وبول الغلام أبيض رقيق، فاختلفا في باب الإزالة. [مسألة: أنواع النجاسات] وما سوى ذلك من النجاسات.. ينظر فيها: فإن كانت ذائبة.. غسل موضعها. وإن كانت جامدة.. أزيلت، ثم غسل موضعها. والمستحب: أن يغسل ذلك ثلاث مراتٍ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استيقظ أحدكم من نومه.. فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا» . فإذا شرع ذلك في النجاسة التي يشك فيها.. فلأن يشرع في النجاسة المتيقنة أولى. والواجب من ذلك: مرةٌ واحدةٌ. وقال أحمد: (يجب في جميع النجاسات سبع مراتٍ) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في دم الحيض يصيب الثوب: «حتيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه بالماء» . ولم يعتبر العدد.

فرع: نجاسة الأرض

وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يغسل من بول الجارية، وينضح من بول الغلام» . ولم يعتبر العدد. وروي عن ابن عمر: أنه قال: «كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة والبول سبع مراتٍ، فلم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يراجع ربه ليلة أسري به، حتى جعلت الصلاة خمسًا، والغسل من الجنابة والبول من الثوب مرةً» . [فرع: نجاسة الأرض] فإن أصابت الأرض نجاسةٌ ذائبةٌ وكاثرها بالماء.. أجزأه. وقال أبو حنيفة: (إن كانت الأرض رخوة ينزل فيها الماء، وصب عليها الماء.. أجزأه. وإن كانت صلبة.. لم يجزئه إلا حفرها، ونقل التراب) . دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن أعرابيًا دخل المسجد، فقال: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لقد تحجرت واسعًا". فما لبث أن قام إلى زاوية من المسجد، فبال فيها، فابتدره أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دعوه"، ثم دعا بذنوب من ماءٍ، فأراقه عليه، وقال: "علموا، ويسروا ولا تعسروا» و (الذنوب) : هو الدلو الكبير، قال الشاعر: لنا ذنوبٌ ولكم ذنوبُ ... فإن أبيتم فلنا القليب

والسجل: مثله، والغرب: دونه، والقليب: البئر. وفي قدر المكاثرة وجهان: أحدهما: لا يطهر حتى يصب على النجاسة سبعة أضعافها من الماء؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ويصب الماء على البول سبعة أضعافه) . والثاني ـ وهو المذهب ـ: أن قدر المكاثرة: هو أن يصب على النجاسة ماءٌ يغمرها ويستهلكها، مما يذهب بلونها ورائحتها، وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذا في " الأم " [1/44] . وأما قوله: (يصب الماء على البول سبعة أضعافه) : فليس على سبيل التقدير، بل أراد على حكم الغالب، وأن البول لا يذهب برائحته ولونه إلا هذا القدر. وإن بال في الأرض اثنان.. ففيه وجهان: [الأول] : من أصحابنا من قال: يجب لبول كل واحد ذنوبٌ؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وإن بال اثنان.. لم يطهره إلا ذنوبان) . والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يكفي فيه المكاثرة، على ما ذكرناه؛ لأن ذلك يؤدي إلى التناقض، بأن يطهر البول الكثير من واحد بذنوب، وما دون ذلك من اثنين لا يطهر إلا بذنوبين. وكلام الشافعي محمول على حكم الغالب في العادة، وأن بول الواحد لا يغمره إلا ذنوبٌ، وبول الاثنين لا يغمره إلا ذنوبان. وإن أصابت الأرض نجاسةٌ مستحسةٌ، كالعذرة، والسرجين، ولحم الميتة، وفي أحدهما رطوبةٌ.. فتطهير الأرض يحصل بأن تزال عنها الأعيان النجسة، ثم يطهر موضعها، إما بأن يقلع التراب الذي بلغت إليه رطوبة النجاسة، أو بأن يغسل على ما ذكرناه في الذائبة. وإن طين على النجاسة بطينٍ طاهرٍ، أو بترابٍ طاهر، وصلى فوق ذلك.. صح مع الكراهة، كالمقبرة التي لم تنبش. وإن اختلطت العذرة بالتراب، ولم تتميز.. فإنها لا تطهر بصب الماء عليها؛ لأن أعيان النجاسة لا تطهر بالماء، وإنما تطهر بأن يزال ذلك التراب الذي بلغت إليه رطوبة

فرع: مكاثرة النجاسة بالماء

العذرةِ. أو بأن يطرح عليها ما يغطيها من التراب أو الطين، فإذا صلى فوقها.. كره، وصحت صلاته، كالمقبرة التي لم تنبش. [فرع: مكاثرة النجاسة بالماء] ] : وإن كانت النجاسة على الأرض، فكاثرها بالماء.. فهل يحكم بطهارتها قبل أن ينشفها؟ فيه وجهان: أحدهما: يحكم بطهارتها؛ لأن الطهارة تتعلق بالمكاثرة، وقد وجدت. والثاني: لا يحكم بطهارتها حتى تنشف؛ لأنه لا يتحقق ذهاب النجاسة إلا بذلكٍ. والأول أصحُ. وإن كانت على ثوبٍ، فكاثرها بالماء.. فهل يحكم بطهارته قبل العصر؟ فيه وجهان: أحدهما: يحكم بطهارته، كالأرض إذا كوثرت. والثاني: لا يحكم بطهارته حتى يعصر؛ لأن العصر ممكن فيه، بخلاف الأرض. والأول أصح. وإن كانت النجاسة في إناء، فصب عليها ماء غمر النجاسة.. فهل يحكم بطهارته قبل أن يصب ما فيه؟ أو كان في الإناء شيءٌ، وفيه نجاسةٌ.. فهل تجزيء فيه المكاثرة قبل إراقة ما فيه؟ على وجهين: أحدهما: يحكم بطهارته قبل إراقة ما كاثره به، وتجزئ فيه المكاثرة قبل إراقة ما فيه، كالأرض النجسة إذا كاثرها بالماء. والثاني: لا يحكم بطهارته قبل الصب والإراقة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكلب يلغ في

فرع: التلوث بنجاسة الخمر

الإناء: «فليهرقه، ثم ليغسله سبع مراتٍ» . ولأنه يمكن إراقة ما في الإناء، فلم يحكم بطهارته قبل ذلك. والأول أصح. [فرع: التلوث بنجاسة الخمر] ] : وإن كانت النجاسة خمرًا، فغسل ما أصابته، وبقي لونها.. لم يحكم بطهارة ما أصابته؛ لأن بقاء اللون يدل على بقاء عين الخمر. وإن ذهب لونها، وبقي ريحها.. ففيه قولان ـ قال صاحب " العدة ": وقاس أصحابنا بول المبرسم على الخمر إذا بقي ريحه؛ لأن له رائحةً كريهةً ـ: أحدهما: لا يحكم بطهارة الموضع؛ لأن بقاء الرائحة يدل على بقاء شيءٍ من عينها، فهو كما لو بقي اللون. والثاني: يحكم بطهارته؛ لأن رائحته قد تعبق وإن لم يبق شيء من العين، بخلاف اللون. فإن بقي ريح غير الخمر.. فسائر أصحابنا قالوا: لا يحكم بطهارة المحل، قولاً واحدًا. وقال صاحب " الفروع "، و" التلخيص ": هي على قولين، كالخمر. وإن أصاب الثوب دم الحيض، أو غيره من الدماء.. فالمستحب: أن يحته بعود أو عظم، ثم يقرصه بين إصبعيه، ثم يغسله؛ لما ذكرناه في حديث أسماء.

فإن غسله من غير قرصٍ ولا حتً.. أجزأه. وقال أهل الظاهر: لا يجزئه. دليلنا: أن المقصود غسله وإزالة عينه، وقد وجد. فإن غسله، وبقي له أثر لم يزله الماء، ولا يزول إلا بالقطع.. عفي عنه، وكذلك الحكم في كل نجاسة غسلت، وبقي لها أثر لا يزول إلا بالقطع.. فإنه يعفى عنها. وروي عن ابن عمر: (أنه كان يدعو بالجلم فيقطعه) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لخولة بنت يسار: «الماء يكفيك، ولا يضرك أثره» . وروي: أن معاذة العدوية سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن ذلك؟ فقالت: «اغسليه بالماء، فإن لم يذهب فغيريه بالصفرة، ولقد كنت أحيض عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث حيضٍ، ولا أغسل لي ثوبًا» . وروي: أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: (كنا نغسل الثوب من دم الحيض، فيبقى لونه، فنلطخه بالحناء) . وإن غمس الثوب النجس في إناء فيه ماءٌ دون القلتين.. نجس الماء، ولم يطهر الثوب فيه. ومن أصحابنا من قال: إن قصد إلى إزالة النجاسة بذلك.. طهر الثوب.

فرع: غسل بعض الثوب النجس

والأول أصح؛ لأنه ماءٌ قليلٌ قد وردت عليه النجاسة، والقصد غير معتبر في إزالة النجاسة، ولهذا يطهر الثوب بغسل المجنون، وبماء المطر. [فرع: غسل بعض الثوب النجس] ] : حكى الشيخ أبو حامدٍ، والمحاملي، وصاحب " الإفصاح ": أن أبا العباس ابن القاص قال: إذا كان الثوب كله نجسًا، فغسل نصفه، ثم عاد إلى ما بقي، فغسله.. فإنه لا يطهر حتى يغسله كله. قال: لأنه إذا غسل نصفه.. فالجزء الرطب الذي يلاصق الجزء اليابس النجس ينجس به؛ لأنه يلاصق ما هو نجسٌ، ثم الجزء الذي بعده ينجس بملاصقته الجزء الأول، ثم الذي بعده ينجس بملاصقته، حتى تنجس الأجزاء بعضها ببعض إلى آخر الثوب. وقال الشيخ أبو حامدٍ: غلط أبو العباس، بل يطهر الثوب؛ لأن الجزء الذي يلاصق ذلك الجزء النجس من الثوب ينجس به؛ لأنه لاقى عين النجاسة. فأما الجزء الذي يلاصق ذلك الجزء: فإنه لا ينجس به؛ لأنه لاقى ما هو نجسٌ حكمًا لا عينًا، ألا ترى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الفأرة تقع في السمن؟ فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن كان جامدًا.. فألقوها وما حولها» . فحكم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بنجاسة الجزء الذي يلاصق الفأرة من السمن، دون سائر الأجزاء، فعلم بهذا: أن الجزء الذي يلاصق عين النجاسة ينجس به، وما لاقى ذلك الجزء لا ينجس. ولو كان الحكم كما ذكر ابن القاصَ.. لوجب أن ينجس السمن كله. وأما ابن الصباغ: فحكى: أن ابن القاص قال: إذا غسل نصفه في جفنةٍ، ثم عاد إلى ما بقي فغسله.. لم يطهر حتى يغسله كله. وحكى عن أبي العباس العلة التي حكاها عنه الشيخ أبو حامدٍ. قال ابن الصباغ: والأمر على ما قاله أبو العباس، إلا أنه أخطأ في الدليل، بل الدليل على صحة ما ذهب إليه: أن الثوب إذا وضع نصفه في الجفنة، وصب عليه ماءٌ يغمره.. فلا بد أن يكون هذا الماء ملاقيًا لجزء مما يغسله من الثوب، وذلك الجزء

مسألة: طهارة المصقول

نجسٌ واردٌ على ماءٍ قليلٍ فينجسه، وإذا نجس الماء.. نجس الثوب. والذي يتبين لي من هذا: أنهما مسألتان: فإن غسل نصفه في جفنةٍ.. فالأمر على ما قاله ابن الصباغ. وإن غسل نصفه بصب الماء عليه من غير جفنةٍ.. فكما قال الشيخ أبو حامدٍ. [مسألة: طهارة المصقول] ] : إذا أصابت النجاسة الأشياء الصقيلة، كالمرآة والسكين، والسيف.. لم تطهر بالمسح، وإنما تطهر بالغسل. وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد: (تطهر بالمسح) . دليلنا: أنه محلٌ نجسٌ، فلم يطهر بالمسح، كالثوب. وإن بل خضابًا ببول أو خمرٍ أو دمٍ، وخضب به شعره أو بدنه، فغسله وبقي اللون.. فإن كان الباقي لون النجاسة.. لم يطهر. وإن كان لون الخضاب.. فيه وجهان، حكاهما الشاشي. قال: فإذا قلنا: إنه نجسٌ، وكان الخضاب في الشعر.. لم يلزمه حلقه. ويصلي، فإذا ذهب الخضاب.. أعاد الصلاة. وإن كان في بدنه، وكان لا يذهب، كالوشم، وخاف التلف من إزالته.. ففيه وجهان. وإن سقى سكينًا بماءٍ نجسٍ ثم غسله.. طهر ظاهره. وهل يطهر باطنه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يطهر إلا أن يسقيه مرةً ثانيةً بماءٍ طاهرٍ.

مسألة: النجاسة الذائبة إذا أصابت الأرض

والثاني: يطهر بغسل ظاهره؛ لأن الماء هو المطهر دون النار. وإن طبخ لحمًا بماءٍ نجسٍ.. صار ظاهره وباطنه نجسًا. وكيف يطهر؟ فيه وجهان: أحدهما: يطهر بأن يغليه مرةً أخرى بماءٍ طاهرٍ. والثاني: يكاثره، ثم يعصره، كالبساط. وإن ابتلعت بهيمةٌ حباتٍ من طعامٍ، فألقتها.. فقد قال بعض أصحابنا: إن كانت بحيث إذا زرعت نبتت.. غسل ظاهرها. وإن كانت بحيث إذا زرعت لم تنبت.. لم تطهر. قال الشاشي: وهذا فيه نظرٌ بل هو بمنزلة ما طبخ بماءٍ نجسٍ. [مسألة: النجاسة الذائبة إذا أصابت الأرض] ] : إذا أصابت الأرض نجاسةٌ ذائبةٌ، فطلعت عليها الشمس، وهبت عليها الريح حتى ذهب لونها وأثرها وريحها.. ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (تطهر) . وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف؛ لأن الأرض مع الشمس والريح يحيلان الشيء عن طبعه، فكان تأثيرها أكثر من تأثير الماء. ولأنها إذا جفت.. لم يبق شيء من النجاسة، أو يبقى الشيء القليل، فعفي عنه. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تطهر) . وبه قال مالك، وهو الصحيح؛ لأنه محل نجسٌ، فلا يطهر بالشمس، كالثوب. وأما إذا ذهب لون النجاسة وريحها بالظل.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا تطهر الأرض، قولاً واحدًا؛ لأنه ليس للظل قوة كقوة الشمس. وقال الخراسانيون: إن قلنا: إن الأرض لا تطهر بالشمس.. فالظل أولى أن لا تطهر به. وإن قلنا: تطهر بالشمس.. ففي الظل وجهان.

فرع: حكم ضرب اللبن بتراب نجس

[فرع: حكم ضرب اللبن بتراب نجس] ] : إذا ضرب لبن من تراب فيه نجاسةٌ ذائبةٌ، مثل: البول، والخمر.. فإن اللبن نجسٌ. فإن أراد تطهيره قبل الطبخ، فإن كاثر ظاهره بالماء.. طهر ظاهره، ولا يطهر باطنه إلا بأن يفت، ثم يكاثره بالماء، أو يصب عليه من الماء ما يغمره ويتهرى في الماء. وإن طبخ هذا اللبن، فإذا كاثر ظاهره بالماء.. طهر، فإن خرج البذاء من الجانب الآخر.. طهر باطنه أيضًا. فإن خلط بطينه نجاسةً مستجسدةً مثل: السرجين، والعذرة، فما دام لبنًا لم يطبخ.. فإنه لا يطهر بالغسل؛ لأن الأعيان النجسة لا تطهر بالغسل. فإن طبخ هذا اللبن.. فهل يطهر بذلك من غير غسل؟ المشهور من المذهب: أنه لا يطهر. وخرج الخضري قولاً آخر: أنه يطهر قبل أن يغسل. وأخذه من أحد قولي الشافعي في الشمس إذا طلعت على الأرض التي أصابتها نجاسةٌ ذائبةٌ، وأذهبت لونها وأثرها وريحها. فإذا قلنا: لا يطهر بالطبخ، فغسل ظاهر هذا اللبن.. فهل يحكم بطهارة ظاهره؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول القفال، وابن المرزبان، واختيار ابن الصباغ ـ: أنه يطهر؛ لأن النار أحرقت النجاسة، وإنما يبقى أثرها، فإذا مر عليها الماء.. طهرها.

مسألة: حكم الخف الذي تصيبه النجاسة

والثاني ـ وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق ـ: أنه لا يطهر؛ لأن النار لا تطهر النجاسة عندنا. فإذا قلنا: إنه طاهرٌ، وكسر موضعٌ منه.. فما ظهر بالكسر نجسٌ، فلا يطهر بالغسل، وتصحُ الصلاة على ما لم يكسر منه، ولكنها مكروهةٌ، كما لو صلى على مقبرة لم تنبش. ويكره أن يبنى به المسجد. وإن حمله المصلي.. فهل تصح صلاته؟ فيه وجهان، كما لو حمل قارورة فيها نجاسةٌ، وقد سد رأسها بصفرٍ أو نحاسٍ. [مسألة: حكم الخف الذي تصيبه النجاسة] ] : إذا أصاب أسفل الخف نجاسةٌ، فدلكه على الأرض، فأزال عينها وبقي أثرها، فإن كانت رطبةً.. لم يجز؛ لأنها تزول بالدلك في حال رطوبتها عن محلها إلى غيره من الخف. وإن أصابت الخف وهي رطبةٌ، فجفت عليه، ثم دلكها عن الخف، فأزال عينها وبقي الأثر.. فإنه لا يحكم بطهارة الخف قولاً واحدًا. وهل يعفي عن ذلك الأثر؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يعفى عنه، وتصحُ صلاتهُ وهو لابسٌ لهُ) . وبه قال أبو حنيفة؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جاء أحدكم إلى المسجد.. فلينظر نعليه: فإن كان فيهما خبثٌ.. فليمسحه بالأرض، ثم ليصل فيهما» . ولأنه موضع تتكرر فيه النجاسة، فأجزأ فيه المسح، كموضع الاستنجاء.

و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يعفى عنه) . وهو الصحيح؛ لأنه ملبوسٌ نجسٌ، فلا يطهر إلا بالغسل، كالثوب. هذا ترتيب الشيخ أبي إسحاق. وأما الشيخ أبو حامد، والمحاملي.. فقالا: إذا أصاب أسفل الخفَ نجاسةٌ، فدلكه بالأرض، حتى ذهبت عينها.. فهل تصح الصلاة به؟ فيه قولان: الصحيح: لا تصحُ. ولم يفصلا. والله أعلم بالصواب، وبالله التوفيق.

كتاب الصلاة

[كتاب الصلاة] الصلاة في اللغة: عبارة عن الدعاء، قال الله تعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] [التوبة: 103] ؛ أي: ادع لهم. وقال الأعشى: تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليكِ مثل الذي صليت فاغتمضي ... يومًا فإن لجنب المرء مضطجعا يقول: عليكِ مثل الذي دعوت. وأما في الشرع: فقد نقل هذا الاسم إلى أقوال وأفعال مخصوصة، وهي: التكبير، والقراءة، والركوع، والسجود، والتشهد، وغير ذلك. فإذا وردت الصلاة في الشرع.. فإنما تنصرف إلى الصلاة الشرعية دون اللغوية. إذا ثبت هذا: فإن الصلاة واجبة، والأصل - في وجوبها -: الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 110] [البقرة: 110] . وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] [البينة: 5] . وقَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] [الكوثر: 2] . وغير ذلك من الآيات.

وأما السنة: فما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» . وغير ذلك من الأخبار. وأجمعت الأمة على وجوب الصلاة. إذا ثبت هذا: فإن أول ما افترض الله تعالى من الصلاة قيام نصف الليل، أو دونه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} [المزمل: 3] {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} [المزمل: 4] [المزمل: 1 - 4] . ثم نسخ ذلك، وخففه بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] [المزمل: 20] . يريد: صلوا ما تيسر. قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (كان بين أول السورة وآخرها سنة، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس) . وقيل نسخ بقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] [الإسراء: 78] . واستقر الفرض على الصلوات الخمس ليلة الإسراء. والدليل عليه: ما روي - في حديث المعراج -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فرض الله تعالى على أمتي خمسين صلاة، فلما لقيت موسى بن عمران - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.. فقال: ما فعل معك ربك؟ فقلت: فرض على أمتي خمسين صلاة، فقال: ارجع، فاسأله التخفيف؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك. فراجعته، فنقصني خمسًا - وفي رواية: فوضع شطرها - فما زلت أتردد بين ربي وموسى، حتى جعلها خمس صلوات، فقال موسى: ارجع إلى ربك، فاسأله التخفيف؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك، فقلت: أستحيي، فإذا النداء - من عند الله تعالى -: ألا إني قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وجعلت الحسنة بعشر أمثالها، هي خمس، وهن خمسون، ما يبدل القول لدي، وما أنا بظلام للعبيد» .

مسألة في شروط وجوب الصلاة

وروى عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «افترض الله تعالى على عباده خمس صلوات، فمن جاء بهن، فأحسن وضوءهن، وأتم ركوعهن وخضوعهن وخشوعهن ... كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة. ومن لم يأت بهن، وضيّع حقوقهن.. لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له» . وروي: «أن أعرابيًا دخل المسجد، وسأل عن الإسلام؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خمس صلوات في اليوم والليلة ". فقال: هل علي غيرها؟ فقال: " لا، إلا أن تطوع» . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن، ما لم تُغْشَ الكبائر» . [مسألة في شروط وجوب الصلاة] ] : ولا تجب الصلاة إلا على مسلم، بالغ، عاقل، طاهر. فأما الكافر: فإن كان أصليًا. . فلا خلاف أنه مخاطب بالتوحيد. وهل هو مخاطب بالأعمال الشرعية، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج؟ فيه وجهان: [الأول] : قال أكثر أصحابنا: هو مخاطب بها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 44] [المدثر: 42 - 44] .

وقَوْله تَعَالَى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6] {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7] [فصلت: 6 - 7] . فعلى هذا: يعاقبون على ترك ذلك في الآخرة، إذا ماتوا على الكفر، ولا خلاف أنهم لا يعاقبون على تركها في الدنيا، ولا يصح منهم فعلها قبل الإسلام. والوجه الثاني - وهو اختيار الشيخ أبي حامد -: أنهم غير مخاطبين بذلك، ولا يأثمون بتركها؛ لأنهم لو كانوا مخاطبين بذلك. . لعوقبوا على تركها في الدنيا، ولصح منهم فعلها، ولوجب عليهم قضاؤها. ومن الناس من قال: إنهم مخاطبون بالمنهيات، مثل: ترك الزنا، والقتل، وغير مخاطبين بالمأمورات. وإذا أسلم الكافر. . لم يجب عليه قضاء ما تركه من الصلوات في حال الكفر، سواء قلنا: إنه مخاطب بفعلها، أو غير مخاطب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] [الأنفال: 38] . ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يجب ما قبله» . ولأن في إيجاب القضاء عليه تنفيرًا عن الإسلام.

وإن كان الكافر مرتدًا. . فإنه مخاطب بالصلاة؛ لأنه قد التزم ذلك بالإسلام، ولا تصح منه في حال الردة؛ لأن الردة تنافي الصلاة، فلم تصح معها. فإذا أسلم. . وجب عليه قضاء ما تركه في حال الردة. وقال أبو حنيفة: (لا يجب) . دليلنا: أنه قد التزم ذلك بالإسلام، فلم تسقط عنه بالردة، كحقوق الآدميين. وأما الصبي: فلا تجب عليه الصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . إلا أنه يجب على الولي: أن يعلمه فرض الطهارة والصلاة؛ ليبلغ وهو يحسن ذلك. ويستحب للولي: أن يأمره بفعل الطهارة والصلاة إذا صار ابن سبع سنين وكان مميزًا، ويضربه على ترك ذلك إذا صار ابن عشر سنين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» . ولا يلزم الصبي ذلك.

فرع زوال العقل بجنون

وقال أحمد: (يلزمه ذلك) . وقال الطبري: وإليه أشار الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في بعض كتبه. وليس بشيء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة» . فذكر فيه: «عن الصبي حتى يبلغ» . [فرع زوال العقل بجنون] ] : ومن زال عقله بجنون، أو إغماء. . لم تجب عليه الصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وعن المجنون حتى يفيق» . وإن شرب دواء ولم يكن الغالب منه ذهاب العقل، فزال عقله. . لم يجب عليه فرض الصلاة؛ لأنه زال عقله بسبب مباح، فهو كما لو زال بالجنون. وإن أراد أن يتناول دواء فيه سم. . فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب (الصلاة) : (إن غلب على ظنه، أنه يسلم منه. . جاز له تناوله، وإن غلب على ظنه أنه لا يسلم منه. . لم يجز له تناوله) . وذكر في (الأطعمة) : (إذا كان الغالب منه السلامة. . هل له تناوله؟ فيه قولان) . قال الشافعي: (وأقل زوال العقل: أن يكون مختلطًا، فيعزب عنه الشيء وإن قل، ثم يثوب إليه عقله) .

فرع زوال العقل بسكر

وإذا أفاق المجنون، أو المغمى عليه، أو من زال عقله بمباح. . لم يجب عليهم قضاء ما فاتهم من الصلوات، في حال زوال العقل. وقال أبو حنيفة: (إذا أغمي عليه أكثر من يوم وليلة، حتى دخلت الصلاة في حد التكرار.. سقط عنه فرض الصلاة. وإن أغمي عليه دون ذلك.. وجب عليه القضاء) . وفي المجنون: عنه روايتان، المعروف عنه: أنه كمذهبنا. دليلنا: أن كل معنى أسقط فرض الصلاة إذا دخل في حد التكرار. . أسقطها وإن لم يدخل في حد التكرار، كالجنون. [فرع زوال العقل بسكر] ] : وإن شرب مسكرًا فزال عقله، أو شرب دواء من غير حاجة فزال عقله. . فإن فرض الخطاب بالصلاة متوجه عليه؛ لأنه مفرط فيما فعل، ولكن لا يصح منه فعل الصلاة؛ لأنه لا يمكنه ذلك؛ فإذا أفاق.. لزمه قضاء ما فاته في حال السكر؛ لأنه غير معذور بزوال عقله. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم " [1/60] : (وأقل السكر: أن يغلب عليه؛ فيذهب عنه بعض ما لم يكن يذهب عنه) . ولا يجب فرض الصلاة على الحائض والنفساء، وقد مضى ذلك في كتاب (الحيض) . [فرع الجنون في حال الردة والسكر] ] : وإن سكر أو ارتد، ثم جن في حال سكره، أو في حال ردته. . وجب عليه القضاء. وإن حاضت المرأة في حال الردة.. لم يجب عليها قضاء ما فاتها في حال الحيض.

مسألة في إتمام وإعادة ما صلي قبل البلوغ

والفرق بينهما: أن سقوط الصلاة عن المجنون للتخفيف، والمرتد والسكران ليسا من أهل التخفيف. وسقوط الصلاة عن الحائض عزيمة، والمرتد من أهل العزائم. قال في " الإبانة " [ق \ 57] : وكم القدر الذي يجب قضاؤه على المجنون في حال سكره من الصلوات؟ فيه وجهان: أحدهما: قدر ما يدوم السكر. والثاني: ما فاته في أيام جنونه. وأما إذا جن في حال الردة. . فيلزمه إعادة جميع ما فاته في حال الجنون. [مسألة في إتمام وإعادة ما صُلِّيَ قبل البلوغ] قال الشافعي: (ولو دخل غلام في الصلاة، فلم يكملها، حتى استكمل خمس عشرة سنة.. أحببت أن يتم ويعيد، ولا يبين لي أن عليه الإعادة) . واختلف أصحابنا فيها. فقال أبو إسحاق: يلزمه أن يتم الصلاة؛ لأن صلاته صحيحة، وقد أدركه الوجوب وهو فيها، فلزمه إتمامها، كمن دخل في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه، ويستحب له أن يعيد؛ ليكون مؤديًا للصلاة في حال الكمال. وهذا: ظاهر نص الشافعي؛ لأن سقوط الإعادة عنه معلوم بقوله: (ولا يبين لي أن عليه الإعادة) . وقوله: (أحببت أن يتم ويعيد) الاستحباب: عائد إلى الإعادة، مع وجوب الإتمام. فعلى هذا: إذا صلى في أول الوقت، ثم بلغ في آخره. . لم تلزمه الإعادة، بل يستحب. قال الشيخ أبو حامد: ورأيت في كتاب " الانتصار " لأبي العباس مثل قول أبي إسحاق. وحُكِيَ عن أبي العباس: أنه قال: يستحب له الإتمام، وتلزمه الإعادة؛ لأن

مسألة حكم تارك الصلاة

ما صلى قبل البلوغ نفل، فاستحب له إتمامه. ويلزمه أن يعيد؛ لأنه لا يصح أداء الصلوات الواجبة إلا بعد البلوغ. فعلى هذا: إذا صلى في أول الوقت، ثم بلغ في آخره. . لزمه أن يعيد. وقال أبو سعيد الإصطخري: إن بلغ وقد بقي من الوقت ما يتمكن فيه من فعل الصلاة. . لزمه أن يعيد، وإن لم يبق في الوقت ما يتمكن فيه من فعل الصلاة. . لم يلزمه أن يعيد. وهذا ليس بشيء؛ لأنه لو لزمته الإعادة إذا بقي من الوقت قدر الصلاة. . لكانت الإعادة لازمة له وإن لم يبق من الوقت إلا قدر ركعة. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إذا بلغ الصبي في حال الصلاة، أو بعد الصلاة. . لزمه أن يعيد) . وأصل الخلاف - بيننا وبينه -: يعود إلى أن للصبي صلاة شرعية أم لا؟ فعندنا: له صلاة شرعية. وعنده: إنما يؤمر بالصلاة؛ ليتمرن على فعلها، وليست بصلاة شرعية. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر» . فلولا أن ما يفعلونه عبادة.. لما أمر بضربهم عليها؛ ولأنها عبادة يرجع إلى شرطها في حال العذر، فجاز أن يعتد بفعلها في حال الصغر، كالطهارة. [مسألة حكم تارك الصلاة] مسألة: [حكم ترك الصلاة] : ومن وجبت عليه الصلاة، فلم يصل حتى خرج الوقت. . سئل: لم تركها؟ فإن قال: لأني أعتقد أنها غير واجبة علي. . نظرت: فإن كان ناشئًا في بلد قاصية من المسلمين، أو أسلم ولم يختلط بالمسلمين. .

قيل له: هي واجبة عليك. وإن كان ممن تقدم إسلامه، وهو مخالط للمسلمين. . حكم بكفره؛ لأن وجوبها معلوم من دين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطريق يوجب العلم الضروري. ويجب قتله لذلك. وإذا قتل. . كان ماله فيئًا للمسلمين، ولا يرثه ورثته من المسلمين، ولا يدفن في مقابرهم. وإن قال لما سئل عنها: نسيتها. . قيل له: اقضها، فإن قال: لا أستطيع. . قيل له: صل كيفما استطعت. قال صاحب " الفروع ": وهل يتعين فعل القضاء في أول وقت التذكر، حتى يقتل إن أخره عن ذلك الوقت؟ فيه وجهان. المذهب: أنه لا يتعين، ولا يقتل. وإن قال: أنا أعتقد وجوبها، ولكني لا أصلي كسلاً وتهاونًا. . فهذا يجب قتله عندنا. وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، والمزني: (لا يقتل) . فمنهم من يقول: (يحبس، حتى يصلي) . ومنهم من يقول: يضرب، وهو اختيار المزني. ومنهم من قال: لا يتعرض له؛ لأنها أمانة في عنقه. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] . فأمر الله تعالى بدفع القتل عنهم بالتوبة، وإقامة الصلاة، فمن قال: إنه إذا تاب وآمن، ولم يصل، سقط عنه القتل. . فقد ترك أحد الشرطين في الكتاب.

وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ترك الصلاة. . فقد برئت منه الذمة» . وهذا يدل على: إباحة دمه. وروي: أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهيت عن قتل المصلين» فدل على: أنه لم ينه عن قتل غير المصلين. ولأن الصلاة عبادة محضة، تجب لا بقوله، لا تدخلها النيابة ببدن ولا مال، فوجب: أن يقتل تاركها، كالشهادتين. فقولنا: (عبادة محضة) احتراز من العدة. وقولنا: (تجب لا بقوله) احتراز من الصلاة المنذورة. وقولنا: (لا تدخلها النيابة ببدن) احتراز من الحج. وقولنا: (ولا مال) احتراز من الزكاة، ومن الصوم؛ لأن الشيخ الهرم إذا عجز. . أفطر وفدى. إذا ثبت هذا - أنه يقتل -: فمتى يقتل؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها ابن الصباغ: أحدها - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه يقتل إذا ضاق الوقت عن الصلاة الرابعة، فيقتل بها لا بما مضى؛ لأنه إذا ترك ثلاث صلوات. . علم تهاونه بها، وإذا ترك دونها. . جاز أن يكون تركها لعذر، أو تأويل.

والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يقتل إذا ضاق وقت الصلاة الثانية، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأن الأولى مختلف في جواز تأخيرها، فإذا ترك الثانية. . علم أنه قد عزم على الترك مداومة. والثالث: أنه يقتل إذا خرج وقت الأولى. قال ابن الصباغ: وهذا ظاهر مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ومتى وجب قتله. . فهل يجب استتابته ثلاثة أيام، أو في الحال؟ فيه قولان، كالمرتد: فإذا قلنا: يجب استتابته ثلاثة أيام، فقتله قبل الثلاث. . أثم قاتله، ولا يجب ضمانه، كالمرتد. وكيف يقتل؟ المنصوص: (أنه تحز رقبته) . ومن أصحابنا من قال: لا تحز رقبته، بل يضرب بالخشب حتى يصلي، أو يموت. فإذا قتل. . فإنه يقتل حدًا، كما يقتل الزاني المحصن، فيدفن في مقابر المسلمين، وترثه ورثته من المسلمين. وقال صاحب " التلخيص ": يسوى عليه التراب بحيث لا يعلم أن هناك قبرًا؛ عقوبة له. ولا يحكم بكفره في هذا القسم. وقال أحمد، وإسحاق، وبعض أصحابنا: (يكفر بذلك) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بين العبد والكفر ترك الصلاة، فمن تركها. . فقد كفر» .

ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس صلوات في اليوم والليلة كتبهن الله تعالى على عباده، فمن فعلهن. . كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن تركهن. لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له» . ولو كان كافرًا. . لم يغفر له؛ لأن الكافر لا يغفر له. وأما الخبر: فمحمول على أنه يتعلق عليه بعض أحكام الكفر، وهو القتل، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قتال المسلم كفر» . قال الصيمري: ومن كذب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببعض ما جاء به، أو قال: أصلي الفرض قاعدًا مع القدرة على القيام، أو عريانًا مع السترة، أو أصلي بغير وضوء. . كفر بذلك. وبالله التوفيق. * * *

باب المواقيت

[باب المواقيت] . الصلاة مؤقتة، والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] [النساء: 103] . وقَوْله تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] [الروم: 17 - 18] . قال ابن عباس: (والمراد بالتسبيح - هاهنا -: الصلاة، والمراد بقوله: {حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] : المغرب والعشاء، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] : الصبح، {وَعَشِيًّا} [الروم: 18] : العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] : الظهر) . وقَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] [الإسراء: 78] . فـ (الدلوك) : الزوال، و (غسق الليل) : الظلام. فتضمن ذلك: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء. و (قرآن الفجر) : يعني الصبح. [مسألة وقت الصلاة] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والوقت للصلاة وقتان: وقت مقام ورفاهية، ووقت عذر وضرورة) . ولا خلاف بين أصحابنا أن (وقت المقام والرفاهية) : هو وقت المقيم المترفه، الذي ليس بممطور؛ لأن (المقام) - بضم الميم -: من الإقامة، و - بفتحها -: هو الموضع الذي يقام فيه.

مسألة في وقت الظهر

و (الرفاهية) : هي الخفض والدعة. وأما وقت العذر والضرورة: فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: (وقت العذر) : هو وقت المسافرين، والممطورين في الحضر. وأما (وقت الضرورة) : فهو وقت أهل الضرورات، وهم: الكافر إذا أسلم، والصبي إذا بلغ، والمجنون والمغمى عليه إذا أفاقا، والحائض والنفساء إذا طهرتا. فعلى قول هذا القائل: الوقت ثلاثة أوقات. وذهب أبو إسحاق، وسائر أصحابنا إلى: أن وقت العذر والضرورة، هو وقت واحد، وهو وقت أهل الضرورات الذين ذكرناهم، وهو الأصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (والوقت وقتان) . [مسألة في وقت الظهر] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/62] : (إذا زالت الشمس. . فهو أول وقت الظهر والأذان) . وإنما بدأ الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بوقت الظهر؛ لـ: «أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - علم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مواقيت الصلاة في يومين متواليين، عند باب البيت، فبدأ بصلاة الظهر» .

وقيل: إنها أول ما افترض الله من الصلوات. والدليل على أن أول وقت الظهر يدخل بالزوال: ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن للصلاة أولا وآخرًا، فإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر» . وروي عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمني جبريل عند باب البيت مرتين: فصلى بي الظهر في المرة الأولى، حين زالت الشمس والفيء مثل الشراك. وصلى بي الظهر في المرة الثانية، حين صار ظل كل شيء مثله» . وهو إجماع لا خلاف فيه. إذا ثبت هذا: فالزوال: هو زوال الشمس من الارتفاع إلى الانخفاض؛ لأن السماء

مثل القبة: وسطها عال، وأطرافها نازلة. والشمس تطلع في أطرافها، فيكون ظل الشخص - حين الطلوع - طويلاً إلى قدام الشخص؛ لدنو الشمس من الأرض، فكلما ارتفعت الشمس. . تناقص ظل الشخص، ودار حتى إذا حصلت الشمس في كبد السماء. . تناهى نقصانه، فيعلم - حينئذ - على ظل الشخص بعلامة، فإذا أخذت الشمس في الانحطاط. . زاد الظل، وذلك هو الزوال. وظل الشخص الذي يكون عند الزوال يختلف باختلاف الأزمان والبلدان: فأما (الأزمان) : فإنه يكون بالصيف قليلاً، وفي الشتاء أكثر منه؛ لأن الشمس بالصيف تسير في وسط السماء، فإذا حصلت في وسط الفلك. . لم يبق للشخص إلا ظل قليل. وتسير في الشتاء في جانب الفلك في عرض السماء، ولا تبلغ إلى وسطها، فتكون أقرب إلى الأرض، فيطول الظل لذلك قبل الزوال. وأما (اختلاف ذلك في البلدان) : فكل بلد قرب من المشرق، أو المغرب. . بعد عن وسط الفلك، فيكون ظل الشخص عند الزوال أكثر منه في البلاد التي تحت وسط الفلك. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وقيل: إن الشخص قد لا يبقى له عند زوال الشمس في بعض الأوقات ظل) . قال الشيخ أبو حامد: وهذا إنما يكون بمكة في السنة يومًا واحدًا، وهو أطول يوم في السنة؛ لأنه يقال: إن مكة أوسط الدنيا. وقيل: إن الكعبة سرة الأرض. إذا تقرر هذا: فإنه لا يجوز افتتاح صلاة الظهر قبل الزوال، وهو قول كافة العلماء. وروي عن ابن عباس رواية ضعيفة: (أنه يجوز) . وليس بشيء. فإذا زالت الشمس. . فقد وجبت الصلاة. ويستحب: إقامتها، ولا ينتظر بها حتى يصير الفيء مثل الشراك. وحكى الساجي: عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنه قال: (يستحب ذلك، ولا يجب) . وليس بشيء.

ومن الناس من قال: لا يجوز أن تصلي، حتى يصير الفيء مثل الشراك؛ لأن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يصل بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر في المرة الأولى، إلا حين صار الفيء مثل الشراك. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن وقت الظهر حين تزول الشمس» . وروي: «أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نزل، فقال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين زالت الشمس: " يا محمد قم فصل الظهر» . وأما ما روي: «أنه صلى به حين زالت الشمس والفيء مثل الشراك» : فالمراد به: أنه حين زالت الشمس. . كان الفيء مثل الشراك، لا أنه أخر إلى أن صار الظل مثل الشراك. فرع: [في الدلوك] : و (الدلوك) : هو الزوال وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وعائشة. وقال أبو حنيفة: (الدلوك: هو الغروب) . وبه قال علي، وابن مسعود. دليلنا: ما روى أبو مسعود البدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فصلى بي الظهر حين دلكت الشمس» وأراد: حين زالت؛ لأنه وقت الظهر.

وأما آخر وقت الظهر: فهو إذا صار ظل كل شيء مثله من غير الزيادة، لا من ظل أصل الشخص. وإن لم يكن للشخص ظل وقت الزوال، فمن أصل الشخص. ويدخل وقت العصر، ولا فاصل بينهما. وقد أوهم المزني: أن بينهما فصلا، حيث قال: ثم لا يزال وقتها قائما حتى يصير ظل الشيء مثله، فإذا جاوز ذلك بأقل زيادة. . فقد دخل وقت العصر. فيقتضي ظاهر هذا الكلام: أن تلك الزيادة ليست من وقت الظهر، ولا من وقت العصر، غير أن المذهب: ما ذكرناه. وقد بينه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/63] فقال: (إذا جاوز ذلك بأقل زيادة. . فقد خرج وقت الظهر، وذلك حين ينفصل وقت الظهر من وقت العصر) . ويكون تأويل ما ذكره المزني: أن يعلم بتلك الزيادة دخول وقت العصر. وبهذا قال الأوزاعي والليث والثوري. وذهب عطاء، وطاوس، ومالك إلى: أنه يدخل وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله، ولا يذهب وقت الظهر، بل يمتزج الوقتان إلى غروب الشمس. وقال ابن جرير الطبري، والمزني، وأبو ثور، وإسحاق: يمتزج الوقتان بقدر أربع ركعات، من حين يصير ظل كل شيء مثله، ثم يصير الوقت بعد ذلك للعصر وحده. وعن أبي حنيفة ثلاث روايات: إحداهن: - وعليها يعتمدون - (أن وقت الظهر باق إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه) . والثانية: (أن وقت الظهر باق إلى أن يصير ظل كل شيء دون مثليه) . والثالثة: (أن آخره إذا صار ظل كل شيء مثله. ويدخل وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثليه، وما بينهما يكون فصلا بين الوقتين) .

مسألة وقت العصر

دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلى بي جبريل الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس، ثم صلى بي الظهر في اليوم الثاني حين كان كل شيء بقدر ظله وقت العصر بالأمس، ثم التفت، وقال: يا محمد، الوقت ما بين هذين الوقتين» . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر» . وهذا ينفي أن يكون بينهما فاصل. [مسألة وقت العصر] ] : وأول وقت العصر: إذا صار ظل كل شيء مثله، غير الظل الذي يكون له وقت الزوال، وزاد أنى زيادة. وآخر وقتها المختار: إذا صار ظل كل شيء مثليه. وبهذا قال الأوزاعي، وأحمد، ومالك. وقال أبو حنيفة (أول وقت العصر: إذا صار ظل كل شيء مثليه، وآخره: إذا اصفرت الشمس) . دليلنا: ما روي عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " صلى بي جبريل الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس والفيء مثل الشراك، ثم صلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى بي الظهر في المرة الثانية حين كان ظل كل شيء مثله، وقت العصر بالأمس، ثم صلى بي العصر في المرة الثانية حين كان ظل كل شيء مثليه» . ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلى بي الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس، وصلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثله» أي: بدأ بالصلاة. وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صلى بي الظهر في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله، وقت العصر بالأمس، وصلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثليه» أي: فرغ؛ لأنه جاء ليبين أول الوقت وآخره.

مسألة وقت المغرب

فإذا صار ظل كل شيء مثليه. . ذهب وقت العصر المختار، وبقي وقت الجواز فيها إلى غروب الشمس. وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا صار ظل كل شيء مثليه. . ذهب وقت العصر الجائز، وكان ما بعده وقت القضاء. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس. . فقد أدرك العصر» . [مسألة وقت المغرب] ] : وأول وقت المغرب: إذا غابت الشمس، وتم غروبها لما روي في حديث ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وصلى بي جبريل المغرب في اليوم الأول، حين وجبت الشمس وأفطر الصائم» . و (وجوب الشمس) : سقوطها، ولا يفطر الصائم إلا بعد غروب الشمس، ولا خلاف بين أهل العلم في أول وقت المغرب. إذا ثبت هذا: فليس لابتدائها إلا وقت واحد، وهو: إذا غابت الشمس، وتطهر، وستر عورته، وأذن، وأقام، ودخل في الصلاة. فإذا فاته الابتداء في هذا الوقت. . أثم وكان قاضيًا. وبه قال الأوزاعي.

وقال مالك: (يمتد وقت المغرب إلى أن يطلع الفجر الثاني) . وقال أبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود: (يمتد وقت المغرب إلى غيبوبة الشفق) . وحكى ذلك أبو ثور عن الشافعي في القديم، وهو اختيار ابن المنذر، والزبيري من أصحابنا. وقال الشيخ أبو حامد: لا يعرف هذا للشافعي. ودليلنا: ما روي في حديث ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلى بي جبريل المغرب في المرة الثانية لوقتها الأول» . وقال الشيخ أبو حامد: وعبارة أصحابنا: إن للمغرب وقتًا واحدًا، ولسائر الصلوات وقتين. . خطأ، بل الصلوات كلها لها وقت واحد، وإنما سائر الصلوات يمتد وقتها ويطول، ووقت المغرب قصير غير ممتد. وإذا دخل في المغرب في وقتها. . فكم القدر الذي يجوز له استدامتها؟ فيه ثلاثة أوجه: [الأول] : قال أبو إسحاق: له أن يستديمها إلى غيبوبة الشفق؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ الأعراف في صلاة المغرب» . ولا يفرغ منها إلا بعد غيبوبة الشفق. والثاني: يجوز له أن يستديمها قدر ثلاث ركعات، لا طويلات، ولا قصيرات؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها ثلاث ركعات. والثالث: أن له أن يستديمها بمقدار أول الوقت من سائر الصلوات، وذلك ما لا يبلغ نصف وقتها؛ قياسًا على غيرها. هكذا ذكره عامة أصحابنا. وذكر ابن الصباغ: أن الوجهين الآخرين في وقت ابتدائها أيضًا.

مسألة وقت العشاء

فرع: [الحفاظ على اسم المغرب] : روى البخاري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، إنها المغرب، وإن العرب تسميها العشاء» . [مسألة وقت العشاء] وأول وقت العشاء: إذا غاب الشفق، بلا خلاف بين أهل العلم؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلى بي جبريل العشاء حين غاب الشفق» . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن أول وقت العشاء إذا غاب الشفق» . واختلف العلماء: أي شفق هو؟ فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: أنه الشفق الأحمر. وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وعبادة بن الصامت، ومن الفقهاء: مالك، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة، والأوزاعي، والمزني: (بل هو الشفق الأبيض) . وقال أحمد: (إن كان في الصحراء. . فحين يغيب الأحمر، وإن كان في البنيان. . فحين يغيب الأبيض) .

دليلنا: ما روي عن جابر: «أن رجلاً سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مواقيت الصلاة؛ فقال: " لو صليت معنا» . . " فذكر الحديث، إلى أن قال: «فصلى المغرب حين غابت الشمس، وصلى العشاء قبل غيبوبة الشفق» . ولا يجوز أنه أراد به: الأحمر؛ لأن ذلك لا يجوز بالإجماع، فثبت أنه أراد به: الأبيض. وروى النعمان بن بشير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي العشاء لسقوط القمر لثالثة» . وهذا يكون قبل غيبوبة الشفق الأبيض. ولأنها صلاة تجب بعلم يشاركه غيره في اسمه، فوجبت بأظهرهما، كالصبح. واختلف قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في آخر وقتها المختار: فقال في الجديد: (إلى ثلث الليل) . وبه قال عمر بن الخطاب، وأبو هريرة. وعمر بن عبد العزيز؛ لما روي في حديث ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ثم صلى بي العشاء في المرة الثانية حين ذهب ثلث الليل» . وقال في القديم و " الإملاء ": (إلى نصف الليل) .

فرع كراهية تسمية العشاء عتمة

قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت العشاء ما بينك وبين نصف الليل» . فإذا ذهب ثلث الليل، أو نصفه. . ذهب وقتها المختار، وبقي وقت الجواز إلى طلوع الفجر. وقال أبو سعيد الإصطخري: يفوت وقتها، ويكون ما بعده وقتا للقضاء. وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: إذا قلنا بالقول الجديد: وأن آخر وقتها إذا ذهب ثلث الليل. . كان ما بعد ذلك قاضيًا؛ لأن الشافعي قال: (فإذا ذهب ثلث الليل. . فلا أراها إلا فائتة) . والأول أصح؛ لما روى أبو موسى الأشعري: قال: «أعتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة حتى ابهار الليل» أي: تهور. وروي عن بعض الصحابة: أنه قال: «بقينا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة، حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح» ومعنى قوله: (بقينا) أي: انتظرنا. و (الفلاح) : السحور. والفلاح لا يخاف فوته إلا بطلوع الفجر. [فرع كراهية تسمية العشاء عتمة] فرع: [كراهة تسمية العشاء عتمة] : قال في " الأم " [1/64] : (ولا أحب أن تسمى صلاة العشاء بالعتمة؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، هي العشاء،

مسألة وقت الفجر

ألا إنهم يعتمون بالإبل» لأنهم كانوا يؤخرون الحلب إلى أن يعتم الليل، ويسمون الحلبة: العتمة) . ويكره النوم قبلها، والحديث بعدها؛ لما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذلك) . [مسألة وقت الفجر] ويدخل أول وقت الصبح بطلوع (الفجر الثاني) : وهو الفجر الصادق المنتشر عرضًا، وسمي: صادقا؛ لأنه صدقك عن الصبح. وأما (الفجر الأول) : فهو المستدق المتنفس صعدًا، كذنب السرحان، وهو: الذئب، وسمي: الفجر الكاذب؛ لأنه يضيء، ثم يسود، ويسمى: الخيط الأسود، ولا يتعلق به شيء من الأحكام. والدليل عليه: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الفجر فجران: فأما الذي هو كذنب السرحان: فلا يحل الصلاة، ولا يحرم الطعام والشراب على الصائم، وأما المستطير في الأفق: فإنه يحرم الطعام والشراب على الصائم، ويحل الصلاة» .

وروى سمرة بن جندب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمنعنكم أذان بلال من سحوركم، ولكن الفجر المستطير في الأفق» . ثم لا يزال الوقت المختار باقيًا إلى أن يسفر؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " صلى بي جبريل الصبح في اليوم الأول حين طلع الفجر، ثم صلى بي الصبح في اليوم الثاني حين أسفر، ثم قال: فيما بين هذين الوقت» . ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الشمس. وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا أسفر. . ذهب الوقت، وكان قاضيًا فيما بعده. دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس. . فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس. . فقد أدرك العصر» كذا في البخاري. ويكره أن تسمى صلاة الغداة؛ لأن الله تعالى سماها صلاة الفجر بقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] [الإسراء: 78] . وسماها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " الصبح ". إذا ثبت هذا: فإن صلاة الصبح من صلاة النهار. وبه قال كافة العلماء. وقال بعض الناس: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ليس من الليل، ولا من النهار. وقال حذيفة، والأعمش: (الليل من غروب الشمس إلى طلوعها) . فصلاة الصبح عندهما من صلاة الليل، ولا يحرم على الصائم الطعام والشراب، حتى تطلع

مسألة وجود الغيم في السماء

الشمس، واحتجا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة النهار عجماء» وصلاة الصبح مما يجهر فيها. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] . ولأن الأمة أجمعت على تحريم الطعام والشراب على الصائم بطلوع الفجر. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] [هود: 114] . وقال أهل التفسير: أراد الصبح والعصر. وأما قوله: «صلاة النهار عجماء» : فلا يصح ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما هو من قول بعض الفقهاء، فإن صح. . فالمراد به: معظم صلاة النهار عجماء، بدليل: أن الجمعة والعيدين من صلاة النهار، ويجهر فيهما. والدليل على من قال: إن بين الليل والنهار فصلاً. . قَوْله تَعَالَى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [آل عمران: 27] [آل عمران: 27] . فدل على: أنه لا فاصل بينهما. [مسألة وجود الغيم في السماء] إذا كان في السماء غيم راعى فرجة الشمس، فإن بان له منها ما يدله على الوقت. . عمل عليه، وإن لم يرها. . استدل على دخول الوقت بمرور ما يعتاده من: قراءة القرآن، أو درس، أو عمل، فإذا غلب على ظنه. . عمل عليه. قال الشيخ أبو حامد: وإنما جاز له الصلاة بغلبة الظن؛ لأن السماء لو كانت مصحية، فغلب على ظنه دخول الوقت من غير أن يراعي الشمس. . جاز له أن يصلي، فبأن يجوز له في يوم الغيم أولى.

فرع الإخبار بالوقت

قال: وكان ابن المرزبان من أصحابنا يقول: لا يجوز له أن يصلي، حتى يعرف دخول الوقت بيقين. وهذا خطأ. فإذا صلى بالاجتهاد، وبان له أنه صلى في الوقت، أو فيما بعده أجزأه. وإن بان له أنه صلى قبل الوقت. . لم يجزئه، سواء علم ذلك بنفسه، أو أخبره غيره عن ذلك عن علم، لا عن اجتهاد، كالحاكم إذا حكم بالاجتهاد، ثم وجد النص بخلافه. [فرع الإخبار بالوقت] ] : وأما الأعمى والمحبوس في ظلمة - إذا أخبرهما غيرهما عن الوقت -: فإن أخبرهما عن مشاهدة، وكان مصدقًا. . لزمهما قبول قوله، كما يلزم المجتهد قبول الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإن أخبرهما عن اجتهاد، فإن كان لهما طريق إلى الاجتهاد بالوقت: بقراءة أو درس، أو عمل. . لم يجز لهما العمل بقول من يجتهد لهما، كما لا يجوز للحاكم أن يحكم باجتهاد غيره. وإن لم يكن لهما طريق إلى الاجتهاد بالوقت. . فهل يجوز لهما تقليد من يجتهد لهما؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، وهو ظاهر النص؛ لأن في أمارات الوقت ما يدرك بالنظر، ومنها ما يدرك بالعمل، فإذا تعذر الأمران. . لم يبق غير اجتهاد غيره. والثاني: لا يجوز لهما؛ لأنهما من أهل الاجتهاد، فهما كالبصر الذي ليس بمحبوس. [فرع سماع المؤذن] ] : وهل يجوز الرجوع إلى سماع المؤذن؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو قول أبي العباس، والشيخ أبي حامد -: أنه يجوز ذلك للبصير والأعمى؛ لأن المؤذن لا يؤذن في العادة إلا بعد دخول الوقت.

فرع الصلاة من غير تأكد

والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب -: أنه يجوز للأعمى الرجوع إلى قوله، ولا يجوز ذلك للبصير؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - خص الأعمى بذلك. ولأنه يجوز أن يكون قد أذن عن اجتهاد، لا عن مشاهدة. والثالث - وهو قول ابن الصباغ -: إن كان في الصحو. . جاز الرجوع إلى قوله للبصير والأعمى؛ لأنه إذا كان ثقة. . فالظاهر: أنه لا يؤذن في الصحو إلا بعد العلم بدخول الوقت من طريق المشاهدة، فيكون ذلك خبرًا. وإن كان غيم. . جاز للأعمى تقليده إن لم يغلب على ظنه دخول الوقت. ولا يجوز للبصير؛ لأنه يحتمل أن يكون أذن عن اجتهاد، والبصير من أهل الاجتهاد. قال في " الفروع ": فإن كان منجمًا، فعلم دخول الوقت بالحساب. . فهل يقبل قوله فيه، وفي شهر رمضان؟ فيه وجهان: المذهب: أنه يعمل عليه بنفسه، وأما غيره: فلا يعمل عليه. [فرع الصلاة من غير تأكد] فإن صلى المحبوس في ظلمة، أو الأعمى، أو البصير من غير توخ، فوافقوا الوقت. . أعادوا الصلاة؛ لأنهم صلوا من غير خبر، ولا غلبة ظن. [مسألة في وجوب الصلاة بأول وقتها] الصلاة تجب عندنا بأول الوقت، ويستقر الوجوب بإمكان الأداء. وقال أبو حنيفة، وأصحابه: (تجب الصلاة بآخر الوقت، وإنما أول الوقت وقت؛ لجواز فعل الصلاة فيه) . وقد اختلفوا في وقت الوجوب: فذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد إلى: (أنها تجب إذا بقي من آخر الوقت قدر تكبيرة) . وذهب زفر إلى: أنها تجب إذا بقي مقدار ما يصلى فيه صلاة الوقت. فأما إذا صلى في أوله: فذهب أكثرهم إلى: أنها تقع مراعاة، فإن بقي إلى آخر الوقت، وهو على صفة تلزمه الصلاة. . تبين بذلك أنها كانت فريضة. وإن خرج عن

فرع أفضل وقت الصبح

أن يكون من أهل وجوب الصلاة في آخر الوقت. . تبين أنها كانت نفلاً. وذهب الكرخي إلى: أنه إذا صلى في أول الوقت. . كانت نفلاً. فإن بقي إلى آخر الوقت، وهو من أهل الوجوب. . منع ذلك النفل وجوب الفرض عليه. ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] الآية [الإسراء: 78] . والأمر إذا تجرد. . اقتضى الوجوب، وذلك يتناول أول الوقت. ولأنها عبادة بدنية، ليس من شرط وجوبها المال، فوجب أن يكون أول وقت جواز فعلها متبوعة وقتًا لوجوبها، كالصوم. فقولنا: (عبادة بدنية) احتراز من الزكاة؛ لأنه يجوز تقديم فعلها على وقت وجوبها. وقولنا: (ليس من شرط وجوبها المال) احتراز من الحج. وقولنا: (متبوعة) احتراز من العصر، إذا فعلها في وقت الظهر، على سبيل الجمع؛ لأنها لا تفعل متبوعة، بل تفعل تابعة للظهر. [فرع أفضل وقت الصبح] ] : والأفضل: أن يصلي الصبح في (أول وقتها) : وهو إذا تحقق طلوع الفجر. وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وابن الزبير، وأنس، وأبي موسى، وأبي هريرة. وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق.

فرع أفضل وقت الظهر

وذهب أبو حنيفة، وأصحابه إلى: (أن الإسفار بها أفضل، إلا أن يخشى طلوع الشمس. . فيكره تأخيرها) . وروي ذلك عن ابن مسعود. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] [البقرة: 238] . ومن المحافظة عليها فعلها في أول وقتها. وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كن نساء من المؤمنات ينصرفن من صلاة الصبح مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهن متلفعات بمروطهن لا يعرفن من الغلس» . وهذا إخبار عن مداومة. وروى أبو مسعود البدري قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الصبح مرة بغلس ثم صلاها مرة أخرى بعد ما أسفر، ثم لم يصليها بغلس، إلى أن مات، ولم يعد إلى الإسفار» . [فرع أفضل وقت الظهر] وأما صلاة الظهر: فإن كانت في غير وقت الحر. . فتقديمها في أول وقتها أفضل.

وقال مالك: (الأفضل أن يؤخرها، حتى يصير الفيء قدر ذراع) . وقال أبو حنيفة: (تعجيلها في الشتاء أفضل، وتأخيرها في الصيف أفضل) . ولا يراعي الإبراد. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الأعمال عند الله الصلاة لأول وقتها» . وإن كان في وقت الحر. . فتأخيرها أفضل بأربع شروط: إحداهن: أن تكون الصلاة تصلى جماعة في مسجد الجماعات. الثانية: أن يكون ذلك في شدة الحر. الثالثة: أن يكون في البلاد الحارة. الرابعة: أن ينتاب الناس الصلاة من البعد. قال ابن الصباغ: وله قول آخر في " البويطي ": (إن القريب والبعيد في ذلك سواء) . ووجهه: أن القريب يلحقه حر المسجد، ويشق عليه ذلك، فيتأذى به، كما يتأذى البعيد. والدليل على ما ذكرناه: ما روى أبو ذر قال: «كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال: " أبرد " ثم أراد أن يؤذن ثانيًا، فقال: " أبرد " مرتين أو

ثلاثًا، حتى رأينا فيء التلول، ثم قال: " إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر. . فأبردوا بالصلاة» . قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (يؤخرها إلى القدر الذي إذا صلاها فيه. . كان بين فراغه منها، وبين آخر الوقت فصل) . وفي الجمعة وجهان: أحدهما: يبرد بها، كما يبرد في الظهر، إذا وجدت فيه الشرائط الأربع، كما ذكرناه في الظهر. والثاني: لا يبرد بها؛ لأن الناس قد ندبوا إلى التبكير لها، ويشق عليهم الانتظار، بل يؤذيهم حر المسجد. وهل الإبراد بالصلاة عند وجود هذه الشرائط سنة، أو رخصة؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه سنة؛ لأن شدة الحر تذهب الخشوع، فجرى مجرى الذي به حاجة إلى الطعام عند حضور الصلاة. . فإنه يستحب له البداية به. والثاني: أنه رخصة؛ لأن الشافعي قال في " البويطي ": (أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتأخيرها في الحر توسعة، ورفقًا بالذين ينتابونه) . والأول أصح؛ لأن أقل أحوال الأمر الندب

فرع أفضل وقت العصر

[فرع أفضل وقت العصر] وأما العصر: فتعجيلها أفضل. وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر. وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك: (يؤخرها يسيرًا) . كما قال في الظهر. وقال الثوري، وأبو حنيفة: (تأخيرها إلى آخر الوقت أفضل، ما دامت الشمس بيضاء نقية) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الأعمال عند الله الصلاة في أول وقتها» . وروي عن أنس قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس بيضاء نقية، ثم يذهب إلى العوالي، فيأتيها والشمس مرتفعة» . وبين العوالي والمدينة ستة أميال. [فرع أفضل وقت المغرب] وأما المغرب: فتقديمها في أول وقتها أفضل. وبه قال أهل العلم كافة. وقالت الروافض: تأخيرها إلى اشتباك النجوم أفضل. ودليلنا: ما روى جابر قال: «كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة المغرب، ثم نخرج فنتناضل، حتى نبلغ دور بني سلمة، ونبصر مواقع النبل من الإسفار» .

فرع أفضل وقت العشاء

وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بادروا بصلاة المغرب طلوع النجم» . وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (صلوا هذه الصلاة - يعني: المغرب - والفجاج مسفرة) . (مسفرة) يعني: مضيئة. [فرع أفضل وقت العشاء] ] : وأما العشاء الآخرة: ففيها قولان: [الأول] : قال في القديم، و " الإملاء ": (تقديمها في أول وقتها أفضل) . قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الأعمال عند الله الصلاة لأول وقتها» . وروي عن النعمان بن بشير: أنه قال: أنه قال: «أنا أعلمكم بوقت هذه الصلاة، صلاة العشاء الآخرة: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها، لسقوط القمر لثالثة» .

فرع تأخير الصلاة للغيم

وهذا إخبار عن دوام فعله. و [الثاني] : قال في الجديد: (تأخيرها أفضل) - وبه قال أبو حنيفة - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي. . لأمرتهم بتأخير العشاء إلى ثلث الليل» . إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في الوقت الذي إذا صلى فيه. . صار مدركًا لفضيلة أول الوقت: فمنهم من قال: هو أن يفتتحها عقيب دخول الوقت، من غير فصل. فعلى هذا: المتيمم لا يمكنه أن يحوز فضيلة أول الوقت؛ لأنه لا يتيمم إلا بعد دخول أول الوقت، ويشتغل بعد الدخول بالطلب. ومنهم من قال: إذا أداها في النصف الأول من الوقت. . فقد حاز فضيلة أول الوقت. وهذا هو المشهور؛ لأن النصف الأول من جملة الأول، والنصف الثاني من جملة الآخر. ولأن اجتماع الجماعة لا يحصل إلا بذلك. [فرع تأخير الصلاة للغيم] ] : وإن كان في يوم غيم. . فالمستحب: أن يؤخر الصلاة، إلا أن يخشى إن أخرها عن ذلك، خرج وقت الصلاة. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال - في الغيم -: (يؤخر الظهر، ويعجل العصر، ويؤخر المغرب، ويعجل العشاء) . وقال ابن مسعود: (يعجل الظهر والعصر، ويؤخر المغرب) .

فرع تأخير الصلاة

وقال أبو حنيفة: (يؤخر الظهر، ويعجل العصر، ويؤخر المغرب، ويعجل العشاء، وينور بالفجر) . دليلنا: أن فيما ذكرناه احتياطًا للصلاة، وفيما ذكروه من التعجيل تغرير بالصلاة. [فرع تأخير الصلاة] ويجوز تأخير الصلاة عن أول وقتها؛ لـ: «أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلوات في المرة الثانية في آخر وقتها» . فدل على جواز التأخير. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أول الوقت رضوان الله، وأوسطه رحمة الله، وآخره عفو الله» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والرضوان: إنما يكون للمحسنين، والعفو: يشبه أن يكون للمقصرين) . فسماه مقصرًا. قال أصحابنا: وله تأويلان: أحدهما: أنه أراد أنه مقصر بإضافته إلى من صلى في أول الوقت وإن لم يكن

مسألة الصلاة الوسطى

مقصرًا في نفسه، كما أن من تنفل بعشر ركعات مقصر عند من تنفل بعشرين ركعة. والثاني: أنه أراد أنه مقصر في تأخير الصلاة عن أول الوقت؛ لأن الله تعالى وسع عليه في ذلك، ولا يأثم به. فإن صلى ركعة في الوقت، ثم خرج الوقت. . ففيه وجهان: أحدهما: أنه يكون مؤديًا لما صلى في الوقت، قاضيًا لما صلى بعد خروجه، كما لو صلى جميع الصلاة بعد الوقت. والثاني: أنه يكون مؤديًا للجميع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس. . فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس. . فقد أدرك العصر» . [مسألة الصلاة الوسطى] قال الله سبحانه وتعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] [البقرة: 238] . واختلف العلماء في الصلاة الوسطى التي خصها الله تعالى بالذكر: فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: أنها الصبح. وروى ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وجابر. ورواه مالك، عن علي كرم الله وجهه.

وقالت عائشة، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد. وعبد الله بن شداد: (هي صلاة الظهر) . وحكي ذلك عن أبي حنيفة. وقال أبو هريرة، وأبو أيوب، وأبو سعيد الخدري: (إنها العصر) . وهي الرواية الثانية عن علي. وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة. وقال قبيصة بن ذؤيب: هي المغرب. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] [البقرة: 238] . قال الشافعي: (وسياق الآية يدل على أنها الصبح، لأن الله تعالى قال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] [البقرة: 238] . فذكر القنوت فيها، ولا قنوت إلا في الصبح) . وروي عن ابن عباس: أنه صلى الصبح، وقنت فيها، وقال: (هذه هي الصلاة التي أمرنا الله أن نقوم فيها قانتين) .

مسألة وقت أهل العذر والضرورة

وروي «عن أبي يونس - مولى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنه قال: (أمرتني عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن أكتب لها مصحفًا، وقالت: إذا بلغت هذه الآية: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] فآذني. فلما بلغتها آذنتها، فأملت علي: حافظوا على الصلوات، وصلاة العصر، والصلاة الوسطى، ثم قالت: سمعتها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . ولأن صلاة الصبح يدخل وقتها والناس في أطيب نوم، فخصت بالذكر، حتى لا يتغافل عنها. [مسألة وقت أهل العذر والضرورة] قد مضى الكلام على وقت المقام والرفاهية، والكلام هاهنا في وقت أهل العذر والضرورة، وهم: الصبي إذا بلغ، والمجنون والمغمى عليه إذا أفاقا، والحائض والنفساء إذا طهرتا. سموا بهذا الاسم؛ لأنهم كانوا معذورين عن الفرض، مضطرين إلى تركه. وفي معناهم: الكافر إذا أسلم، وإنما جعلناه من المعذورين؛ لأن بإسلامه سقطت عنه المؤاخذة بما تركه في حال الكفر. فإذا زالت أعذارهم، أو عذر واحد منهم، وقد بقي من الوقت قدر ركعة. . لزمه فرض الوقت؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس. . فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس. . فقد أدرك العصر» . وإن أدرك من الوقت دون الركعة. . ففيه قولان: أحدهما: لا يلزمه - وهو قول مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، واختيار أبي إسحاق المروزي - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس. . فقد أدرك الصبح» . فدل على: أنه لا يكون مدركًا بما دونها.

والثاني: يلزمه - وهو قول أبي حنيفة، واختيار القاضي أبي حامد - لأن الإدراك إذا تعلق به الإيجاب. . استوى فيه الركعة وما دونها، كما لو أتم المسافر خلف المقيم بجزء من الصلاة. وأما الصلاة التي قبلها: فننظر فيها: فإن كان ذلك في وقت الصبح، أو الظهر، أو المغرب. . لم يلزمه ما قبلها؛ لأن ذلك ليس بوقت لها بحال. وإن كان ذلك في وقت العصر، أو العشاء. . ففيه ستة أقوال: أحدها: يلزمه الظهر، إذا أدرك من وقت العصر قدر تكبيرة. ويلزمه المغرب، إذا أدرك من وقت العشاء قدر تكبيرة. والثاني: لا تلزمه الصلاة الأولى، إلا إذا أدرك من وقت الصلاة الثانية قدر ركعة، وهو الأصح؛ لأنه لما كان وقت العصر وقتًا للظهر، ووقت العشاء وقتًا للمغرب في حق المسافر. . وجب أن يكون ذلك وقتًا لها في حق هؤلاء؛ لأنهم معذورون كالمسافر. والثالث: لا تلزمه الصلاة الأولى، إلا إذا أدرك من وقت الثانية قدر ركعة وطهارة؛ لأنه لما اعتبر إدراك ركعة. . اعتبر قدر الطهارة؛ لأن الركعة لا تصح إلا بها. والرابع: أن الظهر لا يلزمه، إلا إذا أدرك من وقت العصر قدر خمس ركعات؛ لأنه لما اعتبر الوقت للصلاتين. . اعتبر وقتًا يفرغ من إحداهما، ويشرع في الأخرى. وهل يعتبر مع الخمس قدر الطهارة؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإفصاح ". فإذا قلنا بهذا. . فهل الأربع منها للعصر، أو للظهر؟ فيه وجهان: أحدهما: أن الأربع منها للعصر، والخامسة للظهر. فعلى هذا: لا يلزمه المغرب مع العشاء، إلا إذا أدرك من وقت العشاء قدر خمس ركعات: أربع للعشاء، وركعة للمغرب.

مسألة فيمن طرأ عليه مانع بعد الوقت

والثاني: أن الأربع للظهر، والخامسة للعصر، وهو الأصح؛ لأن العصر يلزمه بقدر ركعة، قولاً واحدًا، فدل على: أن الأربع للظهر. فعلى هذا: يلزمه المغرب إذا أدرك من وقت العشاء قدر أربع ركعات. والخامس - خرجه أبو إسحاق -: أن الظهر يلزمه إذا أدرك من وقت العصر قدر أربع ركعات وتكبيرة. ويلزمه المغرب مع العشاء، إذا أدرك من وقت العشاء قدر ثلاث ركعات وتكبيرة؛ لأن الشافعي قال في الجديد: (يلزمه العصر بقدر تكبيرة، فتكون الأربع للظهر) . والسادس - ذكره في " الإفصاح " -: يلزمه الظهر إذا أدرك من وقت العصر قدر أربع ركعات. ويلزمه المغرب إذا أدرك من وقت العشاء قدر أربع ركعات؛ لأنه إذا أدرك من الوقت قدر صلاة الوقت. . لزمته الأولى تبعًا للثانية. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه الأولى بإدراك وقت الثانية) . دليلنا: ما روي: (أن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس أوجبا على الحائض تطهر قبل الفجر بركعة المغرب والعشاء) . ولا مخالف لهما. ولأنه لما كان وقت الثانية وقتًا للأولى في حق المسافر. . كان وقتًا لهما في حق هؤلاء. [مسألة فيمن طرأ عليه مانع بعد الوقت] ] : وإن كان مفيقًا في أول الوقت، ثم طرأ عليه الجنون أو الإغماء، إلى أن خرج الوقت، أو كانت طاهرًا في أول الوقت، ثم طرأ عليها الحيض أو النفاس. . نظرت: فإن لم تدرك من الوقت ما تتمكن فيه من فعل جميع الصلاة. . لم يلزمها قضاؤها.

مسألة قضاء الصلاة

وقال أبو يحيى البلخي من أصحابنا: إذا أدرك من أول الوقت قدر ركعة أو تكبيرة في أحد القولين. . لزمه قضاؤها، كما إذا أدرك ذلك من آخر الوقت. وهذا خطأ؛ لأنه لم يدرك من الوقت ما يتمكن فيه من فعل الفرض، فلم يجب عليه، كما لو ملك نصابًا من المال، فهلك بعد الحول، وقبل إمكان الأداء. وإن طرأ عليه العذر بعد أن أدرك ما يتمكن فيه من فعل الفرض. . وجب عليه القضاء عند زوال العذر. وقال مالك: (لا يجب عليه، حتى يدرك آخر الوقت من غير عذر) . وبه قال أبو العباس ابن سريج. وهذا خطأ؛ لأنه قد أدرك ما يتمكن فيه من فعل الفرض، فلم يسقط، كما لو هلك النصاب بعد الحول، وبعد إمكان الأداء. وأما الصلاة التي بعدها: فلا تلزمه. وحكى الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وأبو علي في " الإفصاح ": أن أبا يحيى البلخي قال: إذا أدرك من وقت الظهر قدر ثماني ركعات، ثم طرأ العذر. . لزمه الظهر والعصر، كما إذا أدرك ذلك من وقت العصر. . لزمه الظهر. وهذا خطأ؛ لأن وقت الظهر إنما يكون وقتًا للعصر، على سبيل التبع لفعل الظهر؛ ولهذا يشترط تقديمها، بخلاف وقت العصر، فإنه وقت للظهر لا على سبيل التبع لها؛ ولهذا يجوز البداية بما شاء منهما. [مسألة قضاء الصلاة] ] : ومن وجبت عليه الصلاة، فلم يصلها، حتى خرج وقتها. . وجب عليه قضاؤها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها. . فليصلها إذا ذكرها» .

فإذا وجب القضاء على النائم والناسي. . فلأن يجب على من تركها عامدًا أولى. ولا يجب عليه القضاء على الفور. وقال أبو إسحاق: إن تركها بغير عذر. . وجب عليه القضاء على الفور. والأول أصح؛ لأن وقتها قد فات، فصار الزمان كله في حقها واحدًا. وإن فاتته صلوات. . فالمستحب: أن يقضيهن على الترتيب؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك أربع صلوات يوم الخندق، حتى خرج وقتها. . فقضاها على الترتيب» . وكان ذلك جائزًا في أول الإسلام، ثم نسخ، وأمر أن يصلي كيف أمكنه. فإن قضاهن من غير ترتيب. . جاز؛ لأن الترتيب استحق للوقت، وقد فات الوقت، فسقط الترتيب. وإن ذكر الفائتة في وقت صلاة حاضرة، فإن كان قد ضاق وقت الحاضرة. . لزمه أن يبدأ بالحاضرة، ثم يصلي الفائتة. وإن كان وقت الحاضرة واسعًا. . فالمستحب: أن يبدأ بالفائتة، ثم بالحاضرة. وإن بدأ بالحاضرة قبل الفائتة. . صح. وذهب النخعي، والزهري، وربيعة إلى: أن من نسي صلاة فذكرها، وقد دخل وقت غيرها، وأحرم بالحاضرة. . فإن صلاته تبطل، فيصلي الفائتة، ثم يصلي الحاضرة. وذهب مالك، والليث إلى: أنه إن نسي صلاة، حتى دخل وقت صلاة أخرى، فإن ذكر ذلك، وقد أحرم بالحاضرة. . فيستحب له أن يتم التي هو فيها، ثم يقضي

فرع نسيان صلاة غير معينة

الفائتة، ثم يجب عليه: أن يصلي الحاضرة، إلا أن تكون الفوائت ستًا، فيسقط الترتيب. وذهب أبو حنيفة، وأصحابه إلى: أنه إن نسي صلاة، حتى دخل وقت صلاة أخرى، ثم ذكرها، فإن ذكرها بعد فراغه من الحاضرة. . أجزأته، ويقضي الفائتة، سواء كان الوقت واسعًا، أو ضيقًا. وإن ذكرها وقد أحرم بصلاة وقته، فإن كان الوقت واسعًا. . بطلت، فيصلي الفائتة، ثم يصلي الحاضرة، وإن كان الوقت ضيقًا. . مضى عليها، ولم تبطل، ثم يقضي الفائتة. وإن كن الفوائت ستًا. . سقط الترتيب. وفي الخمس روايتان: إحداهما: أنهن كالست. والثانية: أنهن كالأربع. وذهب أحمد، وإسحاق إلى: أنه إن ذكر الفائتة وهو مع الإمام في الحاضرة. . مضى فيها واجبًا، ثم قضى الفائتة، ثم أعاد الحاضرة. وقال أحمد: (إذا ترك الرجل صلاة في شبابه إلى أن شاخ. . فعليه أن يقضي الفائتة، ثم يعيد كل صلاة صلاها قبل قضائها) . ودليلنا: ما روى الدارقطني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نسي أحدكم صلاة، فذكرها وهو في صلاة مكتوبة. . فليبدأ بالتي هو فيها، فإذا فرغ منها. . صلى التي نسي» . [فرع نسيان صلاة غير معينة] ] : وإن نسي صلاة من خمس صلوات، ولا يعرف عينها. . لزمه أن يصلي خمس صلوات. وقال المزني: يجوز أن ينوي الفائتة، ويصلي أربع ركعات، فيجلس في ركعتين، ويجلس في الثالثة، ويجلس في الرابعة، ويسجد للسهو، ويسلم؛ لجواز أن يكون قد زاد في صلاته.

وهذا خطأ؛ لأن تعيين الصلاة واجب وذلك لا يحصل إلا بخمس صلوات. وإن كان عليه فوائت لا يعرف عددها، ولكن يعرف مدتها. . ففيه وجهان، حكاهما الشاشي: أحدهما - وهو قول القفال -: أن يقال له: كم تحقق أنك تركت من الصلوات؟ فإن قال: عشرًا، قلنا: اقضها دون ما زاد. والثاني - وهو قول القاضي حسين -: أن يقال له: كم تتحقق أنك صليت في هذه المدة؟ . فإن قال: عشرًا. . أمرناه بقضاء ما زاد؛ لأن الأصل اشتغال ذمته بالصلاة، فلا يسقط عنه إلا ما يتحقق أداؤه. وبالله التوفيق. * * *

باب الأذان

[باب الأذان] الأذان: إعلام بدخول وقت الصلاة، يقال: أذن يؤذن تأذينًا وأذانًا، أي: أعلم الناس. قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] [التوبة: 3] . أي: إعلام. وإنما قيل: أذن - بالتشديد - مبالغة وتكثيرًا. وإنما سمي الإعلام بوقت الصلاة أذانًا، اشتقاقًا من الأذن؛ لأنها بها يسمع الأذان. هكذا قاله الزجاج. والأصل فيه: الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] الآية [الجمعة: 9] . وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 58] [المائدة: 58] . وأما السنة: فما «روى أبو عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار، قال: اهتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصلاة، كيف يجمع الناس لها؟ فاستشار المسلمين في ذلك، فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رآها الناس آذن بعضهم بعضًا. . فلم يعجبه ذلك؛ فذكروا له البوق، فقال: " هو مزمار اليهود "، وذكروا له الناقوس، فقال: " هو مزمار النصارى "، فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم لاهتمام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأري الأذان في منامه، فغدا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بذلك، وقال: يا رسول الله، إني لبين النائم واليقظان، إذ أتاني آت، فأراني الأذان. قال: وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يومًا، ثم أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فقال: " ما منعك أن تخبرنا " فقال: سبقني عبد الله بن زيد، فاستحييت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قم يا بلال،

فانظر ماذا يأمرك به عبد الله بن زيد، فافعله ". قال: فأذن بلال. قال أبو عمير عن عمومته: وإنما لم يأمر عبد الله بن زيد أن يؤذن؛ لأنه كان يومئذ مريضًا» . وأجمعت الأمة: على أنه مشروع للصلاة. إذا ثبت هذا: فالأذان مستحب؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أذن اثني عشرة سنة. . وجبت له الجنة، وكتب له بكل أذان ستون حسنة، وبكل إقامة ثلاثون حسنة» . وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أذن سبع سنين محتسبًا. . كتب له براءة من النار» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة» . ولهذا الخبر خمس تأويلات: [إحداهن] : قيل: أطول الناس رجاء؛ لأنه يقال: طال عنقي إلى وعدك، أي: إلى رجائك.

و [الثانية] : قيل: إن المؤذنين أكثر الناس أتباعًا يوم القيامة؛ لأنه يتبعهم كل من صلى بأذانهم، يقال: جاءني عنق من الناس، أي: جماعة. و [الثالثة] : قيل: إن أعناقهم تطول، حتى لا ينالهم العرق يوم القيامة؛ لأنه روي: «أن العرق يلجم الناس يوم القيامة» . و [الرابعة] : قيل: أطول الناس أصواتًا، وعبر بالعنق عن الصوت؛ لأنه منه يخرج. و [الخامسة] : قيل: إعناقًا - بكسر الهمزة - أي: أشد الناس إسراعًا في السير. إذا ثبت هذا: فهل هو أفضل، أو الإمامة في الصلاة؟ فيه أربعة أوجه: أحدها - وهو قول أكثر أصحابنا -: أن الأذان أفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤذنون أمناء، والأئمة ضمناء، فأرشد الله الأئمة، وغفر للمؤذنين» . والأمين أحسن حالاً من الضمين. ولأنه دعا للأئمة بالرشد، وللمؤذنين بالمغفرة، والغفران أفضل من الرشد. ومعنى قوله: (أمناء) أي: على المواقيت، فلا يؤذنون قبل دخول الوقت. وقيل: لأنهم يشرفون على موضع عال، فيكونون أمناء على الحرم. وقيل: أمناء في تبرعهم بالقيام بالأذان وليس بفرض. فأما الأئمة: فإنهم (ضمناء) إذا قاموا بفرض الصلاة، فيسقط فرض الكفاية عن سائر الناس.

مسألة حكم الأذان والإقامة

وقيل: إنهم ضمناء، أي: أنهم يتحملون سهو المأمومين إن وقع عليهم، ويتحملون القيام والقراءة، إذا أدركهم المأمومون في الركوع. قال أبو إسحاق المروزي: الإمامة مكروهة. والوجه الثاني: أن الإمامة أفضل. لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا أئمة، ولم يكونوا مؤذنين. والثالث - حكاه في " الفروع " -: أنهما سواء. والرابع - وهو اختيار أبي علي الطبري، والمسعودي [في " الإبانة " ق \ 60] : إن كان الإمام يعلم من نفسه القيام بحقوق الإمامة، وما ينوب فيها. . فالإمامة أفضل. وإن كان يعلم أنه لا يقوم بذلك. . فالأذان أفضل؛ لأنه أقل خطرًا. قال الجويني: ويكون المؤذن غير الإمام؛ لنهي ورد فيه، إن صح. [مسألة حكم الأذان والإقامة] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أحب لأحد أن يصلي في جماعة، ولا وحده، إلا بأذان وإقامة، فإن لم يفعل. . أجزأه) . وجملة ذلك: أن الأذان والإقامة سنتان مؤكدتان، فإن تركهما. . كان تاركًا لسنة، وصلاته صحيحة. وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه. وقال أبو سعيد الإصطخري: الأذان فرض من فرائض الكفايات، فإذا كان الرجل. . سقط بذلك الفرض عمن يبلغه الصوت وينتشر إليه، ولا يسقط ذلك عمن لم يظهر ذلك فيه. فإن كانت قرية صغيرة، أو رفقة في سفر، فأذن واحد منهم. . سقط الفرض عن جميعهم.

وإن كان بلد كبير. . فلا بد أن يؤذن في كل ناحية؛ لينتشر الأذان في جميعهم. فعلى هذا: إن أجمع أهل بلد على تركه. . قوتلوا. وهذا قول أحمد. وقال ابن خيران: هو سنة في الصلوات، إلا في صلاة الجمعة، فإنه من فرائض الكفايات فيها؛ لأنها لما اختصت بوجوب الجماعة فيها. . اختصت بوجوب الدعاء إليها. وقال الأوزاعي: (الأذان ليس بواجب. والإقامة واجبة، فإن تركها، فإن كان الوقت باقيًا. . أعاد الصلاة، وإن خرج الوقت. . لم يعدها) . وقال أهل الظاهر: (الأذان والإقامة واجبان لكل صلاة) . فمنهم من قال: هما شرط في صحة الصلاة. ومنهم من قال: ليسا بشرط. وقال مالك: (هو واجب في مساجد الجماعات) . دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للمسيء صلاته: «إذا أدركت الصلاة. . فأحسن الوضوء، ثم استقبل القبلة، وكبر» . ولم يأمره بالأذان والإقامة. فإذا قلنا: إنه سنة، فاتفق أهل بلد على تركه. . فهل يقاتلون على تركه؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 59] : أحدهما: أنهم يقاتلون؛ لأنه من شعائر الإسلام، فلا يجوز تعطيله. والثاني: لا يقاتلون؛ لأنه سنة، فلا يقاتلون عليه، كسائر السنن. إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/72] : (فلا أحب ترك الأذان والإقامة في سفر، ولا حضر، ولا منفرد، ولا في جماعة، وأنا له في المساجد العظام أشد استحبابًا، وهو في السفر أخف حالاً منه في الحضر) . وقال في القديم: (وأما الرجل يصلي وحده في المصر. . فأذان المؤذنين وإقامتهم كافية له) . قال ابن الصباغ: وظاهر هذا: قولان.

فرع فيما لا يشرع له الأذان والإقامة

[فرع فيما لا يشرع له الأذان والإقامة] ] : والأذان والإقامة مشروعان للصلوات الخمس، فأما صلاة الجنازة، والعيدين، والخسوف، والاستسقاء، والتراويح. . فليس ذلك بسنة فيها. وحكي عن معاوية، وعمر بن عبد العزيز: (أنهما أمرا بالأذان لصلاة العيد) . دليلنا: ما روى جابر بن سمرة قال: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عيد. . فلم يؤذن، ولم يقم» . إلا أن السنة في صلاة العيد، والخسوف والاستسقاء، والتراويح، أن يقال لها: الصلاة جامعة. فأما صلاة الجنازة: فليس ذلك سنة فيها؛ لأنها ليست من النوافل، فليس لها: الصلاة جامعة. ولا من فرائض الأعيان، فيسن لها الأذان. [فرع الأذان والإقامة للفوائت] ] : وإن كان عليه فوائت، فأراد قضاءها في وقت واحد. . فلا خلاف على المذهب: أنه يسن له أن يقيم لكل صلاة منهن. ولا خلاف على المذهب: أنه لا يسن له أن يؤذن لغير الأولى. وهل يسن له أن يؤذن للأولى؟ فيه ثلاثة أقوال:

[الأول] : قال في الجديد: (لا يسن له أن يؤذن لها) . وبه قال مالك، والأوزاعي، وإسحاق؛ لما روى أبو سعيد الخدري، قال: «حبسنا يوم الخندق عن الصلاة، حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل. . فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالا، فأمره، فأقام صلاة الظهر فصلاها، ثم أقام العصر فصلاها، ثم أقام المغرب فصلاها، ثم أقام العشاء فصلاها» . و [الثاني] : قال في القديم: (يؤذن لها) . وبه قال أحمد، وأبو ثور، واختاره ابن المنذر؛ لما روى عمران بن الحصين قال: «سرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، أو قال: في سرية، فلما كان من آخر الليل. . عرسنا، فما أيقظنا إلا حر الشمس، فأمرنا فارتحلنا، ثم سرنا، حتى ارتفعت الشمس، ثم نزلنا، فقضى القوم حوائجهم، ثم أمر بلالاً فأذن، فصلينا ركعتين، ثم أمر بلالا فأقام، ثم صلى الغداة» . وروى ابن مسعود: «أن المشركين شغلوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أربع صلوات، حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالا فأذن، وأقام للظهر، ثم أقام للتي بعدها» . و [الثالث] : قال في " الإملاء ": (إن رجا اجتماع الناس. . أذن، وإن لم يرج اجتماعهم. . لم يؤذن) ؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يؤذن للعصر بعرفات، ولا للعشاء بمزدلفة» ؛ لاجتماع الناس هنالك. قال أبو إسحاق: ولا فرق على هذا القول بين الفائتة، والحاضرة في وقتها، إذا صلى في موضع يرجو اجتماع الناس لها. . أذن وأقام، وإن لم يرج اجتماعًا. . أقام،

فرع الأذان والإقامة لمريد الجمع

ولم يؤذن. فكان عنده: هل يسن الأذان للصلاة الحاضرة، إذا لم يرج اجتماع الناس لها؟ قولان. قال ابن الصباغ: ولعل هذا لا يصح عنه. وقال أبو حنيفة: (إذا فاتته صلوات. . أذن وأقام لكل واحد منهن) . دليلنا: ما ذكرناه من حديث أبي سعيد، وابن مسعود، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر بالأذان لغير الأولى. [فرع الأذان والإقامة لمريد الجمع] ] : وإن جمع بين الصلاتين في السفر، أو في المطر، فإن جمع بينهما في وقت الأولى منهما. . أذن وأقام للأولى؛ لأنها مؤداة في وقتها، ويقيم للثانية من غير أذان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك بعرفة. وإن جمع بينهما في وقت الثانية. . فإنه يقيم لكل واحدة منهما. وهل يسن له الأذان للأولى؟ على الأقوال الثلاثة. وأما الثانية: فلا يسن لها الأذان، قولاً واحدًا. وقال أبو حنيفة: (لا يؤذن، ولا يقيم للعشاء بمزدلفة) . دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد، وإقامتين» . ولأن الأولى قد فات وقتها. وأما الثانية: وإن كان يصليها في وقتها، إلا أنها تابعة للأولى، بدليل: أنه يستحب له أن يقدم الأولى قبل الثانية. [مسألة الأذان قبل الوقت] ] : ولا يجوز الأذان لغير الصبح قبل دخول وقتها؛ لأنه يراد للإعلام بدخول الوقت، فلا معنى له قبل دخول وقت الصلاة.

وأما الصبح: فيجوز أن يؤذن لها قبل دخول وقتها. وبه قال مالك، والأوزاعي، وأبو يوسف، وأهل الشام. وقال أبو حنيفة، والثوري: (لا يجوز الأذان لها قبل دخول وقتها) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بلالا يؤذن بليل. . فكلوا واشربوا، حتى يؤذن ابن أم مكتوم» . فإن كان للمسجد مؤذنان. . فالمستحب: أن يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجر، والثاني بعد طلوعه؛ لأن بلالا كان يؤذن قبل طلوع الفجر، وابن أم مكتوم كان يؤذن بعد طلوعه. وذكر بعض أصحابنا: إن كان في بلد قد جرت عادتهم بالأذان لها بعد طلوع الفجر. . لم يسع أحدًا أن يؤذن لها في ذلك البلد قبل طلوع الفجر؛ لئلا يغرهم بأذانه. وفي أول وقت أذان الصبح خمسة أوجه: أحدها - وهو المشهور - أنه بعد نصف الليل، كالدفع من المزدلفة. والثاني: إن كان في الشتاء. . فلسبع يبقى من الليل، وإن كان في الصيف. . فلنصف سبع يبقى من الليل. قال الجويني: وذلك سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والثالث - ذكره المسعودي [في " الإبانة " ق \ 60]-: قبيل الصبح لوقت السحر.

مسألة كلمات الأذان

والرابع - حكاه في " العدة " -: أن الليل كله وقت لأذان الصبح. وهذا ضعيف جدًا. والخامس - ذكره في " الفروع " -: أن ذلك يبنى على آخر وقت العشاء المختار: فإن قلنا: إنه إلى ثلث الليل. . أذن للصبح، إذا ذهب ثلث الليل. وإن قلنا: إنه إلى نصف الليل. . أذن، إذا ذهب نصف الليل. وأما الإقامة: فإنه لا يعتد بها قبل دخول الوقت؛ لأنها تراد لاستفتاح الصلاة، ولا يجوز استفتاحها قبل دخول الوقت. [مسألة كلمات الأذان] ] : والأذان تسع عشرة كلمة في غير الصبح، وهو: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله - يخفض صوته بهؤلاء الأربع الكلمات من الشهادة - ثم يرجع فيمد صوته، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. وقال مالك: (الأذان سبع عشرة كلمة) . وأسقط من التكبير في أول الأذان تكبيرتين. وقال أبو حنيفة: (الأذان خمس عشرة كلمة) . فأسقط (الترجيع) : وهو الأربع الكلمات، التي يخفض بها صوته. وقال أبو يوسف: الأذان ثلاث عشرة كلمة. فأسقط تكبيرتين في أول الأذان، كمالك، وأسقط الترجيع. دليلنا: ما روى أبو داود، «عن أبي محذورة قال: قلت: يا رسول الله، علمني

سنة الأذان، قال: فمسح مقدم رأسي، وقال: " قل: الله أكبر، الله أكبر» وذكر ما قلناه. فإن ترك الترجيع في أذانه. . فهل يحتسب بأذانه؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 58] : أحدهما: يحتسب به، كما لو ترك التثويب. والثاني: لا يحتسب له، كما لو ترك التكبير. فإن كان في أذان الصبح. . زاد التثويب بعد الفلاح، وهو أن يقول: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم. نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك في القديم، وعلقه في الجديد على صحة حديث أبي محذورة فيه. قال الشيخ أبو حامد: يسن ذلك، قولاً واحدًا؛ لأن الحديث قد صح فيه. وبه قال مالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وأما أبو حنيفة: فحكى عنه الطحاوي في التثويب، مثل قولنا. وحكى عنه محمد بن شجاع الثلجي التثويب الأول في نفس الأذان، والثاني بين الأذان والإقامة. وقال محمد بن الحسن: كان التثويب الأول بين الأذان والإقامة: الصلاة خير من النوم - مرتين - ثم أحدث الناس بالكوفة: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وهو حسن. واختلف أصحابه فيه: فمنهم من اختار ما ذكره محمد بن شجاع. ومنهم من اختار ما ذكره الطحاوي.

وروى الحسن بن زياد: أنه ينتظر بعد الأذان بقدر عشرين آية، ثم يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، مرتين. ومنهم من لم يقدره. وقال النخعي: يستحب التثويب لكل صلاة. وقال الحسن: يثوب للعشاء وللصبح مرتين. دليلنا: ما روى أبو محذورة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «حي على الفلاح، وإن كان في صلاة الصبح. . قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم» . وروي: «أن بلالا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمه بالصلاة، فقيل له: إنه نائم، فقال: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، فقال له: " اجعلها في تأذينك» . والدليل على أنه لا يثوب في غير الصبح: ما روى سويد بن غفلة، «عن بلال قال: (أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أثوب في أذان الصبح، ولا أثوب في غيرها» .

فرع عدد كلمات الإقامة

إذا ثبت هذا: فـ (التثويب) في اللغة هو: الرجوع إلى الشيء بعد الخروج منه، قال الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 125] [البقر: 125] . أي: يرجعون إليه. وأنشدوا: وكل حي وإن طالت سلامته ... يومًا له من دواعي الموت تثويب وإنما سمي هذا تثويبًا؛ لأنه يرجع إلى ذكر الصلاة بعد الفلاح. والسنة: أن يقف المؤذن على أواخر الكلمات في الأذان؛ لأنه روي موقوفًا. وقال أبو عبيد الهروي: وعوام الناس يضمون الراء من قوله: الله أكبر، وكان أبو العباس المبرد يفتح الراء، ويقول: الله أكبر الله أكبر، فيفتحها في الكلمة الأولى، ويقف في الثانية، واحتج بأن الأذان سمع موقوفًا، غير معرب في مقاطعه، كقولهم: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وكان الأصل أن يقول: الله أكبر الله أكبر، بتسكين الراء، فحولت فتحة الألف من اسم الله تعالى في اللفظة الثانية على الراء قبلها. [فرع عدد كلمات الإقامة] وأما الإقامة: فإنها إحدى عشر كلمة في القول الجديد: التكبير مرتان، والشهادة مرتان، والدعاء إلى الصلاة مرة، والدعاء إلى الفلاح مرة، ولفظ الإقامة مرتان، والتكبير مرتان، والتهليل مرة. وبهذا قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال في القديم: (لفظ الإقامة مرة) . وبه قال مالك، وداود.

مسألة أذان الكافر وغير المكلف

وقال أبو حنيفة: (والإقامة مثل الأذان، ويزيد لفظ الإقامة مرتين) . والإقامة عنده: سبع عشرة كلمة أكثر من الأذان الأول. دليلنا: ما روى البخاري، عن أنس قال: «أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة» . [مسألة أذان الكافر وغير المكلف] ] : ولا يصح أذان الكافر؛ لأنه ليس من أهل العبادة. فإن أذن. . فهل يكون إسلامًا منه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يكون إسلامًا؛ لجواز أن يأتي بذلك على سبيل الحكاية، وقد كان أبو محذورة، وأبو سامعة مؤذنين قبل إسلامهما، على سبيل الحكاية. والثاني: يحكم بإسلامه، وهو الصحيح؛ لأن هذا صريح في الإسلام، فهو كما لو أتى بالشهادتين باستدعاء غيره منه. ولا يصح الأذان من المجنون؛ لأنه ليس من أهل العبادة. قال الجويني: وإن نظم الشارب كلمات الأذان. . فليس بسكران. ويصح أذان الصبي إذا كان مميزًا. وقال داود: (لا يعتد به) . دليلنا: ما روي عن عبد الله بن أبي بكر: أنه قال: (كان عمومتي أمروني أن أؤذن لهم، وأنا غلام لم أحتلم، وأنس بن مالك شاهد لم ينكره) . ولأنه من أهل العبادة، بدليل: أن إمامته صحيحة، فكذلك أذانه.

فرع أذان المرأة والخنثى

[فرع أذان المرأة والخنثى] ] : قال الشافعي في " الأم " [1/73] : (وليس على المرأة أذان، وأحب لها أن تقيم فإن أذنت. . فلا بأس) . قال قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا: الأذان غير مسنون للمرأة، سواء صلت بانفرادها، أو كن جماعة نساء، فصلين جماعة. فإن أذنت. . كان ذكرًا؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (ليس على المرأة أذان، فإن أذنت. . كان ذكرًا) . وذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه يكره للمرأة أن تؤذن، ويستحب لها أن تقيم. ولعله أراد بذلك: رفع الصوت؛ لأنه يخاف الافتتان بصوتها. فأما الأذان من غير رفع الصوت. . فلا يكره؛ لأنه ذكر الله تعالى. فإن أذنت للرجال. . لم يعتد بأذانها لهم، كما لا تصح إمامتها لهم. قال القاضي في " كتاب الخناثى ": والخنثى كالمرأة. لا يستحب له أن يؤذن، ويستحب له أن يقيم. فإن أذن. . لم يعتد بأذانه، كالمرأة. [مسألة صفات المؤذن] ] : والمستحب: أن يكون المؤذن حرًا بالغًا عدلاً؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤذن لكم خياركم»

والعبد، والصبي، والفاسق ليسوا من الخيار. ولأنه أمين على المواقيت، وقد يؤذن في موضع عال. فإذا لم يكن عدلا. . لم يؤمن أن يؤذن في غير الوقت، ولم يؤمن أن ينظر إلى حرم الناس. وينبغي أن يكون عارفًا بالمواقيت؛ لئلا يغر الناس بأذانه. ويستحب أن يكون المؤذن من أولاد من جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأذان فيهم، مثل: أولاد أبي محذورة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل إليه الأذان بمكة. أو أولاد بلال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الأذان إليه في المدينة. أو أولاد سعد القرظ؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل إليه الأذان بعد بلال. فإن انقرضوا، أو لم يكونوا عدولاً. . ففي أولاد الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. فإن لم يوجدوا. . جعله الإمام إلى من يراه من خيار المسلمين. فإن تنازع جماعة فيه مع تساويهم. . أقرع بينهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لا يجدون، إلا أن يستهموا عليه. . لاستهموا» . وروي: أن الناس تشاجروا يوم القادسية في الأذان، فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص. . فأقرع بينهم) .

فرع حسن صوت المؤذن وأذان الأعمى

وروي: (أنه اختصم إلى عمر جماعة في الأذان. . فقضى لكل واحد بأذان صلاة) . [فرع حسن صوت المؤذن وأذان الأعمى] ] : ويستحب أن يكون المؤذن صبيًا؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عبد الله بن زيد أن يعلم بلالا الأذان، وقال: " إنه أندى منك صوتًا» ، و (اختار أبا محذورة لعلو صوته) . ويستحب أن يكون مع علو صوته حسن الصوت؛ لأنه ذكر لله تعالى ولرسوله. فإذا كان صوته حسنًا. . رقت قلوب الناس، ورغبوا في استماعه.

فرع أذان المحدث والجنب

ويكره أن يكون المؤذن أعمى؛ لأنه ربما غر الناس بأذانه. فإن كان معه بصير. . لم يكره؛ لأن ابن أم مكتوم كان أعمى، وكان يؤذن مع بلال. [فرع أذان المحدث والجنب] ] : ويكره أن يؤذن وهو محدث؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يؤذن إلا متوضئ» . ولأنه إذا لم يكن متوضئًا. . انصرف لأجل الطهارة، فإذا جاء غيره، لا يرى أحدًا. . فيظن أن ذلك ليس بأذان. فإن أذن وهو محدث. . صح؛ لأن المقصود يحصل به. وإن أذن وهو جنب، فإن كان خارج المسجد. . صح أذانه ولا يأثم، وإن كان في المسجد أو في رحبته. . أثم بلبثه فيه وصح أذانه. وقال مجاهد، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: (لا يعتد بأذان المحدث والجنب) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حق وسنة أن لا يؤذن الرجل إلا وهو طاهر» . فأخبر أن ذلك سنة، وهذا ينفي أن يكون واجبًا.

فرع إقامة غير المتطهر

فإن أحدث في أثناء الأذان. . فالمستحب: أن يمضي على أذانه، ولا يخرج منه للطهارة؛ لأنه إذا خرج للطهارة، وقطع الأذان. . ظن السامع أنه متلاعب. فإن خرج للطهارة. . فالمستحب له: أن يستأنف الأذان؛ لما ذكرناه. وإن بنى على أذانه، فإن لم يطل الفصل. . جاز، وإن طال الفصل، ففيه طريقان، يأتي ذكرهما. [فرع إقامة غير المتطهر] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/74] : (وإذا كرهت الأذان على غير طهر. . فأنا للإقامة على غير طهر، أكره) . وجملة ذلك: أنه يستحب أن يكون متطهرًا حال الإقامة. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لأنه إذا لم يكن على طهارة. . فأقل ما في ذلك: أنه يعرض نفسه للتهمة، ويستهزئ الناس به) . وعلل أصحابنا بغير هذا، وقالوا: لأن الإقامة تراد لاستفتاح الصلاة، فاحتاج أن يكون على صفة يمكنه استفتاحها. [فرع ومما يستحب للمؤذن] ] : ويستحب أن يؤذن المؤذن على موضع عال؛ لما روي في «حديث عبد الله بن زيد: (أنه رأى رجلاً قائمًا، عليه ثوبان أخضران على جذم حائط يؤذن» .

فرع الالتفات في الحيعلتين

و (جذم الحائط) : أصله. وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ما كان بين أذان بلال، وابن أم مكتوم إلا قدر ما ينزل هذا ويرقى هذا» . فأخبرت أنهما يرقيان إلى موضع عند أذانهما. ولأن ذلك أبلغ في الإعلام. والمستحب: أن يؤذن قائمًا، مستقبل القبلة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال: " قم فأذن» . ولأنه إذا لم يكن بد من جهة. . فجهة القبلة أولى. وقال الجويني: القيام مع القدرة، واستقبال القبلة شرط في الأذان. والأول هو المشهور؛ لأن الأذان ليس بأعلى حالاً من صلاة النفل، وصلاة النفل تصح مع ترك القيام فيها مع القدرة عليه. ولأن المقصود بالأذان: الإعلام بدخول الوقت، وذلك يحصل وإن كان قاعدًا، أو إلى غير القبلة. [فرع الالتفات في الحيعلتين] وإذا أذن إلى القبلة، فبلغ إلى الحيعلة. . لوى عنقه ورأسه يمينًا وشمالاً. فأما سائر بدنه وقدماه: فلا يلتوي بذلك، سواء كان على الأرض، أو على المنارة.

وقال ابن سيرين: لا يستحب ذلك. وقال أحمد: (إن كان على المنارة. . فعل ذلك) . وقال أبو حنيفة: (إن كان فوق المنارة. . استدار بجميع بدنه. وإن كان على الأرض. . لوى عنقه لا غير) . دليلنا: ما «روى أبو جحيفة قال: (أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة وهو في قبة له حمراء من أدم، فخرج بلال فأذن، فلما بلغ: حي على الصلاة، حي على الفلاح. . لوى عنقه يمينًا وشمالاً ولم يستدر، وأصبعاه في أذنيه، وخرج بلال بين يديه بالعنزة، فركزها بالبطحاء، فصلى إليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمر بين يديه الكلب والحمار، وعليه حلة حمراء، كأني أنظر إلى بريق ساقيه» . وفي كيفية الالتواء وجهان: أحدهما - وهو قول البغداديين من أصحابنا -: أنه يلوي عنقه ورأسه إلى الجانب الأيمن، فيقول: حي على الصلاة، حي على الصلاة. ويلوي عنقه ورأسه إلى الجانب الأيسر، فيقول: حي على الفلاح، حي على الفلاح. وفي كيفية التوائه على هذا أيضًا وجهان: أحدهما: أنه يلوي عنقه ورأسه إلى الجانب الأيمن، ويقول: حي على الصلاة، حي على الصلاة، ثم يرد وجهه إلى القبلة، ثم يلوي عنقه إلى الجانب الأيسر، ويقول: حي على الفلاح، حي على الفلاح. والثاني: أنه يلوي عنقه إلى الجانب الأيمن، فيقول: حي على الصلاة، ثم يرد

فرع ومما يستحب للمؤذن

وجهه إلى القبلة، ثم يلوي إلى الجانب الأيمن، فيقول: حي على الصلاة، ثم يرد وجهه إلى القبلة، ثم يلوي إلى الجانب الأيسر، ويقول: حي على الفلاح، ثم يرد وجهه إلى القبلة، ثم يلوي إلى الجانب الأيسر، ويقول: حي على الفلاح، ثم يرد وجهه إلى القبلة، ويتم أذانه. والوجه الثاني - في أصل المسألة، وهو قول القفال -: أنه يكون عنقه إلى القبلة، ثم يلوي إلى الجانب الأيمن، فيقول: حي على الصلاة، ثم يرد وجهه إلى القبلة، ثم يلوي عنقه ورأسه إلى الجانب الأيسر، فيقول: حي على الصلاة، ثم يرد وجهه إلى القبلة ثم يلوي عنقه إلى الجانب الأيمن، فيقول: حي على الفلاح، ثم يرد وجهه إلى القبلة ثم يلوي إلى الجانب الأيسر، فيقول: حي على الفلاح. وإنما خصت الحيعلة بالالتواء دون سائر ألفاظ الأذان؛ لأن سائر ألفاظ الأذان ذكر لله ولرسوله، فكان الاستقبال بها أولى. والحيعلة: تراد للإعلام بدخول الوقت، فكان الالتواء بهما أشبه. وهل يلتوي في حال الإقامة بالحيعلة؟ فيه وجهان، خرجهما القفال: أحدهما: يلتوي، كالأذان. والثاني: لا يلتوي؛ لأن الإقامة للحاضرين، فلا يحتاج إلى الالتواء. بخلاف الأذان، فإنه للغائبين، فاستحب الالتواء فيه؛ ليحصل الإعلام لجميع أهل الجهات. [فرع ومما يستحب للمؤذن] ] : ويستحب أن يضع أصبعيه في صماخي أذنيه؛ لما ذكرناه في حديث أبي جحيفة. ولأن الصوت من مخارج النفس، فإذا سدهما. . اجتمع النفس في الفم، وخرج الصوت عاليًا. ولأنه قد يكون هناك من لا يسمع صوته، فيحصل له العلم بالأذان بمشاهدته له بذلك. ويستحب له أن (يترسل في الأذان) وهو: الترتيل. و (يدرج الإقامة) وهو:

فرع يستحب رفع الصوت

القطع لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال: «يا بلال، إذا أذنت. . فترسل، وإذا أقمت. . فاحدر، واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته، ولا تقوموا حتى تروني» . ذكره الترمذي. وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال للمؤذن: (إذا أذنت. . فترسل، وإذا أقمت. . فاحذم) . قال أبو عبيد: والرواية بالحاء، وهو القطع، وكذلك الجذم - بالجيم - أيضًا: القطع. ولأن الأذان للغائبين، فكان الترسل فيه أبلغ، والإقامة للحاضرين، فكان الحدر فيها أولى. [فرع يستحب رفع الصوت] ] : ويستحب أن يرفع صوته إن كان يؤذن للجماعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يغفر للمؤذن مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس» .

فرع الجهر والمخافتة في الأذان

ولا يرفع، بحيث يخاف انشقاق حلقه؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأبي محذورة - وقد بالغ في رفع صوته -: (أما خشيت أن تنشق مريطاؤك) . و (المريطاء) : ما بين السرة والعانة، والغالب عليها المد، وبذلك وردت الرواية، ويجوز قصرها. قال الشافعي: (والأذان بغير تمطيط، ولا بغي) . وقيل: (ولا تغن) . فمن أصحابنا من قال: (التمطيط) : التمديد، ولهذا يقال: مطط حاجبه، إذا مده. و (البغي) : هو أن يرفع صوته، حتى يجاوز المقدار. ومنهم من قال: (التمطيط) : التقطيع. و (البغي) : أن يتشدق في كلامه، ويتشبه في كلامه بالجبارين. وأما (التغني) : فهو التطريب والتلحين، وأيهما كان. . فهو مكروه. وإن كان يؤذن لنفسه وحده. . لم يرفع صوته؛ لأنه لا يعلم غيره. وأما في الإقامة: فلا يرفع صوته، كما يرفع في الأذان؛ لأنها للحاضرين. [فرع الجهر والمخافتة في الأذان] ] : قال في " الأم " [1/72] : (فإن جهر بشيء من الأذان، وخافت بالباقي. . لم يكن عليه إعادة ما خافت به) ؛ لأنه قد أتى بلفظ الأذان كاملاً، فهو كما لو خافت بالقراءة في موضع الجهر. قال الشيخ أبو حامد: هذا إذا كان يؤذن لنفسه، فأما إذا كان يؤذن في مسجد الجماعات. . فإنه يجهر به، ولا يخافت في شيء؛ ليحصل به الإعلام.

فرع الأذان والإقامة للمتأخر عن الجماعة

قال: فإن خافت ببعضه. . فإن شاء أعاد ما خافت به، وإن شاء استأنف. وقال ابن الصباغ: يحتمل أن يريد الشافعي بذلك: إذا خافت بشيء، لا يخرجه ذلك من حصول الإعلام، كتكبيرة، أو شهادة، فيكون الباقي كافيًا. [فرع الأذان والإقامة للمتأخر عن الجماعة] ] : قال في " الأم " [1/72] : (فإن دخل مسجد جماعة، وقد أقيمت فيه الصلاة. . أحببت له: أن يؤذن، ويقيم في نفسه، ولا يجهر؛ لئلا يظن أن هذا لصلاة أخرى، أو أن الأول كان قبل دخول الوقت، فيفسد قلب الإمام) . قال ابن الصباغ: وإنما قال هكذا في " الأم "؛ لأن الأذان مسنون في " الأم " سواء رجا اجتماع جماعة، أو لم يرج. [فرع ترتيب الأذان] ] : ويجب أن يرتب الأذان، فإن نكس الأذان أو ترك شيئًا منه. . عاد إليه ورتبه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أبا محذورة الأذان مرتبًا، ولأن الأذان متميز عن جميع الأذكار بترتيبه، فإذا لم يرتبه. . لم يعلم السامع أن ذلك أذان. [فرع كراهة الكلام حال الأذان] ] : والمستحب له: أن لا يتكلم في أذانه بمصلحته، ولا بمصلحة غيره. فإن تكلم فيه. . لم يبطل؛ لما روي عن سليمان بن صرد: (أنه كان يتكلم في أذانه بحوائجه) . وكانت له صحبة. وروى نافع عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمر مؤذنه - في ليلة باردة ذات ريح - أن

يقول: ألا صلوا في رحالكم» . وظاهر هذا: أنه كان في حال الأذان. وروي عن ابن عباس: (أنه أمر مؤذنه في يوم الجمعة وكان مطيرًا أن يقول - بعد الفلاح -: صلوا في رحالكم، وقال: قد فعله من هو خير مني) . فإن تكلم كلامًا يسيرًا. . لم يبطل أذانه. وهل يستحب له الاستئناف؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي علي الطبري، والشيخ أبي حامد -: أنه لا يستحب له الاستئناف، كما لو سكت سكوتًا يسيرًا. والثاني - وهو قول ابن الصباغ -: أنه يستحب له الاستئناف؛ لأنه مستغن عن يسير الكلام، غير مستغن عن يسير السكوت. وإن تكلم كلامًا كثيرًا، أو سكت سكوتًا كثيرًا، أو نام أو أغمي عليه في حال أذانه. . فهل يبطل أذانه؟ فيه طريقان: [الأول] : قال البغداديون من أصحابنا: لا يبطل أذانه. و [الثاني] : قال الخراسانيون: يبنى على من سبقه الحدث في الصلاة، فإن قلنا: لا تبطل صلاته. . فهاهنا أولى، وإن قلنا: تبطل صلاته. . ففي الأذان قولان. والفرق بينهما: أن الكلام اليسير يجوز في الأذان، بخلاف الصلاة.

فرع المؤذن يرتد

فإذا قلنا: لا يبطل. . فهل لغيره أن يبني على أذان الأول؟ قال البغداديون من أصحابنا: لا يجوز؛ لأن ذلك لا يحصل به الإعلام؛ لأن السامع يظن أن ذلك على وجه التلاعب. وقال الخراسانيون: إن قلنا: يجوز الاستخلاف في الصلاة. . ففي الأذان أولى أن يجوز. وإن قلنا: لا يجوز الاستخلاف في الصلاة. ففي الأذان قولان. والفرق بينهما ما قدمناه. [فرع المؤذن يرتد] ] : فإن أذن، ثم ارتد. . فالمستحب: أن لا يصلى بأذانه؛ لأن حصول الردة بعد الأذان يوقع شبهة في حاله. وإن ارتد في حال الأذان. . لم يصح إتمامه منه في حال ردته؛ لأن الكافر لا يعتد بأذانه. ولا يجوز لغيره أن يبني عليه، على طريقة البغداديين من أصحابنا، وهو المشهور. فإن رجع إلى الإسلام عن قرب. . فهل يجوز له البناء عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه قد بطل بالردة. والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لأن الردة لا تبطل العمل - عندنا - ما لم تتصل بالموت. [فرع الكلام حال الإقامة] ] : وإن تكلم في الإقامة. . لم تبطل. وهو قول كافة العلماء. وقال الزهري: تبطل الإقامة.

مسألة ما يقوله مستمع الأذان

دليلنا: أن الخطبة أعلى من الإقامة؛ لأنها شرط في الصلاة، ويشترط فيها الطهارة والستارة في قول. فإذا لم تبطل بالكلام. . فلأن لا تبطل الإقامة بذلك أولى. [مسألة ما يقوله مستمع الأذان] ] : ويستحب لغير المصلي - إذا سمع المؤذن - أن يقول مثل ما يقول، إلا في الحيعلة، فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لما روى عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال - حين يسمع النداء - ذلك خالصًا من قلبه. . دخل الجنة» . وروى «عن عبد الله بن علقمة: أنه قال: (إني لعند معاوية، إذ أذن مؤذنه. . فقال معاوية كما قال مؤذنه، حتى إذا قال: حي على الصلاة، حي على الفلاح. . قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال بعد ذلك مثل ما قال المؤذن، ثم قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ذلك» . وإنما سن له أن يقول كما يقول المؤذن في غير الحيعلة؛ ليدل على رضاه بقوله، وأما (الحيعلة) : فمعناها الدعاء؛ لأن معنى: (حي على الصلاة) أي: هلم إلى الصلاة، ومعنى (حي على الفلاح) أي: هلم إلى العمل الذي يوجب (الفلاح) ، وهو: البقاء في الجنة. وهذا المعنى لا يصلح لغير المؤذن، فاستحب له أن يأتي بذكر لله غيره. وخص قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله عند الحيعلة؛ لأن معناها: لا حول عن معصية الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بالله. والصلاة من أعمال الطاعات. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 59] : ويقول المتابع عند تثويب المؤذن: صدقت وبررت.

إذا ثبت هذا: فروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته. . حلت له الشفاعة يوم القيامة» . وروى سعد بن أبي وقاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال حين يسمع النداء: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًا ورسولاً. . غفر الله له ما تقدم من ذنبه» . وهذا يدل على: أنه يقول ذلك في أثناء أذانه. وروى عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سمعتم المؤذن. . فقولوا: مثل ما يقول، ثم صلوا علي؛ فإنه من صلى علي مرة. . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بها عشرًا، ثم اسألوا الله لي الوسيلة والفضيلة؛ فإنها منزلة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن يكون أنا، فمن سأل الله لي الوسيلة. . حلت له الشفاعة» .

فرع سماع الأذان حال القراءة والذكر

وهذا يدل على: أنه يقول ذلك بعد الأذان. قال ابن الصباغ: ويحتمل أن يقول مثل ما يقول المؤذن، ثم يدعو في حال تطويل المؤذن صوته، وأي ذلك فعل. . جاز. وإن كان في أذان المغرب. . قال: «اللهم: إن هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعاتك، فاغفر لي» ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أم سلمة أن تقول ذلك. قال أصحابنا: وإن كان في أذان الصبح. . قال: اللهم هذا إقبال نهارك، وإدبار ليلك، وأصوات دعاتك، فاغفر لي. [فرع سماع الأذان حال القراءة والذكر] ] : وإن سمع المؤذن، وهو في قراءة، أو ذكر لله. . قطع القراءة والذكر، وتابع المؤذن؛ لأن الأذان يفوت، والقراءة والذكر لا يفوتان. فإن سمع المؤذن، وهو في الصلاة. . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لم يتابعه، فإذا فرغ منها. . قاله) . هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 59] : هل يسن للمصلي متابعة المؤذن؟ فيه قولان: ولا فرق - عندنا - بين صلاة الفرض والنفل. وقال مالك، والليث: (إن كان في النفل. . تابعه، إلا في الحيعلة. . فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله) . وهذا ليس بصحيح؛ لأن ذلك يقطعه عن الصلاة، ويشتغل بغيرها.

فرع الدعاء بين الأذانين والخروج من المسجد

فإن خالف المصلي، وتابع المؤذن، فإن قال مثل ما قال المؤذن، وقال عند الحيعلة: لا حول ولا قوة إلا بالله. . لم تبطل صلاته بذلك؛ لأن ذلك ذكر لله، وذكر الله لا يبطل الصلاة. وإن قال في الحيعلة: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فإن لم يعلم أن هذا دعاء إلى الصلاة. . لم تبطل صلاته. وإن علم. . بطلت صلاته؛ لأنه خطاب آدمي. قال الصيمري: إن تابعه، وأراد به الأذان. . بطلت صلاته. وإن قال ذلك على سبيل الذكر. . لم تبطل صلاته، إذا لم يقل: حي على الصلاة، حي على الفلاح، مع العلم بتحريمه. [فرع الدعاء بين الأذانين والخروج من المسجد] ويستحب أن يدعو الله بين الأذان والإقامة؛ لما روى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة، فادعوا» . ويكره الخروج من المسجد بعد الأذان، وقبل الصلاة إلا لعذر؛ لما «روى أبو الشعثاء قال: (خرج رجل من المسجد بعد ما أذن فيه بالعصر، فقال أبو هريرة: أما هذا: فقد عصى أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وبه قال عثمان.

فرع انتظار المؤذن للجماعة

وقال النخعي: يخرج ما لم يأخذ المؤذن في الإقامة. ودليلنا عليه: ما تقدم. [فرع انتظار المؤذن للجماعة] ] : ويستحب - إذا أذن المؤذن - أن ينتظر في غير المغرب حضور الجماعة؛ لأنه إذا وصل الأذان بالإقامة. . لم يحصل المقصود. قال في " الأم " [1/72] : (وإذا أذن المؤذن الأول. . خرج الإمام، ولم ينتظر أذان غيره، فإذا خرج الإمام. . قطع الأذان وصلى) . قال الشيخ أبو حامد: إذا كان للمسجد جماعة مؤذنين، فأذن واحد منهم في أول الوقت. . فإن الإمام يخرج، ولا ينتظر أذان غيره. فإذا خرج. . قطع المؤذنون، ولم يؤذنوا، وصلى؛ لأنه إذا صلى في ذلك الوقت. . أدرك الناس فضيلة أول الوقت. وإذا أخره وانتظر أذان الباقين. . فاتهم فضيلة أول الوقت، فكان تحصيل فضيلة أول الوقت أولى. [مسألة ما يستحب للمقيم] ] : وإذا أراد المؤذن الإقامة. . فالمستحب له: أن يتحول من موضع الأذان إلى غيره؛ لما روى عبد الله بن زيد - في الرجل الذي رآه -: (أنه استأخر عن موضع الأذان غير كثير، ثم قال مثل ما قال في الأذان، وجعلها وترًا) . ويستحب أن يتولى الإقامة من تولى الأذان؛ لما روي «عن زياد بن الحارث الصدائي: قال: أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أؤذن في صلاة الفجر، فأذنت، فأراد بلال أن يقيم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن أخا صداء أذن، ومن أذن. . فهو يقيم» .

قال الجويني: ولا يقيم إلا واحد، فإن أذن جماعة واحد بعد واحد. . أقام من أذن أولاً. وإن أذنوا في حالة واحدة. . اقترعوا للإقامة، أو رضوا بواحد منهم يقيم. فإن أذن واحد، وأقام غيره. . قال البغداديون من أصحابنا: صح؛ لـ: (أن بلالا أذن، وأقام عبد الله بن زيد بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . وقال الخراسانيون: هل يعتد بالإقامة؟ فيه قولان، بناء على القولين، إذا خطب واحد، وصلى آخر. ويؤذن المؤذن عند دخول الوقت من غير أمر. وأما الإقامة: فلا يقيم إلا بأمر الإمام؛ لما روي في حديث أبي جحيفة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقوموا حتى تروني» . وروي عن جابر بن سمرة: قال: «كان مؤذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمهل فلا يقيم، حتى إذا رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد خرج. . أقام الصلاة حين يراه» . ويستحب - لمن سمع الإقامة - أن يقول كقوله، إلا في الحيعلة. . فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. ويقول في لفظ الإقامة لفظ: «أقامها الله وأدامها» ؛ لما روى أبو أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك.

مسألة عدد المؤذنين

[مسألة عدد المؤذنين] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب أن يكون المؤذنون اثنين) ؛ لأن الذي حفظ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلال، وابن أم مكتوم. فإن اقتصر على واحد. . جاز؛ لأن مسجد مكة كان فيه مؤذن واحد. ولا يضر أن يكون أكثر من اثنين. وقال أبو علي الطبري، وعامة أصحابنا: لا يجاوز أربعة؛ لأن أكثر ما روي عن الصحابة في ذلك، عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه اتخذ أربعة) . ولأنهم إذا زادوا على ذلك، وأذنوا واحدًا بعد واحدٍ. . فوتوا على الناس فضيلة أول الوقت. وقال ابن الصباغ: هذا التقدير لا يصح، بل على حسب ما تدعو إليه الحاجة؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يحدد ذلك بحد. فإن كانوا أكثر من واحد. . لم يتراسلوا بالأذان، بل يؤذن واحد بعد واحد إن كان الوقت متسعًا؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «لم يكن بين أذان بلال وابن أم مكتوم إلا قدر ما ينزل هذا، ويرقى هذا» . قال الجويني: فإن ضاق الوقت. . أذنوا دفعة واحدة. وهكذا إن كان المسجد كبيرًا. . فلا بأس أن يؤذن كل واحد منهم في منارة، أو ناحية منه؛ ليسمع من يليه من أهل البلد.

فرع أذان الجمعة

[فرع أذان الجمعة] ] : قال المحاملي: قال الشافعي: (وأحب أن يؤذن للجمعة أذانًا واحدًا عند المنبر؛ لما «روى السائب بن يزيد قال: كان الأذان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر، وعمر - إذا جلس الإمام على المنبر - أذانًا واحدًا، فلما كان في زمن عثمان، وكثر الناس. . أمر بالأذان الثاني، فأذن به، فكان يؤذن به على الزوراء لأهل السوق والناس» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب ما كان يفعل على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر) . ويستحب أن يكون المؤذن واحدًا؛ لأنه لم يكن يؤذن يوم الجمعة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بلال. [فرع استدعاء الأئمة إلى الصلاة] ] : يجوز استدعاء الأمراء إلى الصلاة؛ لما روي: (أن بلالا كان يفعل ذلك في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، و: (في زمن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) .

مسألة التطوع بالأذان

[مسألة التطوع بالأذان] ] : إذا لم يوجد من يتطوع بالأذان. . رزق الإمام من سهم المصالح من يؤذن. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أحسب بلدًا تخلو من متطوع بالأذان) . فإن أراد أن يستأجر رجلا للأذان. . فهل يصح عقد الإجارة عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، وهو اختيار الشيخ أبو حامد؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعثمان بن أبي العاص: " اتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» . قال الشيخ أبو حامد: وكذلك لا تصح الإجارة على القضاء، والإمامة الكبرى والصغرى، والجهاد. والوجه الثاني: يصح الاستئجار على الأذان، وهو اختيار القاضي أبي الطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وابن الصباغ. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه إعلام بوقت الصلاة، فيصح الاستئجار عليه، كالمواقيتي. فإذا قلنا بهذا. . فهل يختص عقد الإجارة عليه بالإمام، أو يصح منه ومن غيره من الناس؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 60] . وبالله التوفيق * *

باب طهارة البدن وما يصلى فيه وعليه

[باب طهارة البدن وما يصلى فيه وعليه] الطهارة ضربان: طهارة عن حدث، وطهارة عن نجس. فأما الطهارة عن الحدث: فهي شرط في صحة الصلاة، وذلك إجماع لا خلاف فيه وقد مضى ذكر ذلك. وأما الطهارة عن النجس في البدن، والثوب، والبقعة التي يصلي عليها: فهي شرط في صحة الصلاة عندنا، وهو قول كافة العلماء. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا صلى وعليه نجاسة. . أعاد في الوقت) . وهذا من قوله يدل على الاستحباب وروي عن ابن عباس: أنه قال: (ليس على الثوب جنابة) . وروي: أن رجلاً سأل سعيد بن جبير عمن صلى وفي ثوبه نجاسة؟ فقال: اقرأ علي الآية التي فيها غسل الثوب من النجس.

وروي عن ابن مسعود: (أنه نحر جزورًا، فأصاب ثوبه من دمه وفرثه، فصلى ولم يغسله) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] [المدثر: 4] والمراد به: عن النجس؛ لأن الثوب لا يتأتى فيه الطهارة عن الحدث. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه» . ولم يفرق. وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم» . إذا ثبت هذا: فالنجاسة على ضربين: دم، وغير دم. فأما غير الدم، كالخمر، والبول، والعذرة: فإن كانت يدركها الطرف. . لم يعف عنها؛ لأنه يمكن الاحتراز منها. وإن كانت لا يدركها الطرف. . ففيها طرق مضى ذكرها في المياه. وإن كانت دمًا: فإن كان دم ما لا نفس له سائلة، كالبق، والبرغوث. . فقد ذكرنا فيما قبل: أنه نجس - خلافًا لأبي حنيفة - وإذا ثبت: أنه نجس. . فإنه يعفى عن قليله في الثوب والبدن؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه. وهل يعفى عن كثيره؟ فيه وجهان: [الأول] قال أبو سعيد الإصطخري: لا يعفى عنه؛ لأنه لا يشق الاحتراز منه. و [الثاني] قال عامة أصحابنا: يعفى عنه. وهو الأصح؛ لأن هذا الجنس يشق الاحتراز منه في الغالب، فألحق نادره بغالبه.

مسألة حكم النجاسة التي لا يعفى عنها

وإن كان دم ما له نفس سائلة من الحيوان غير الكلب، والخنزير، وما توالد منهما، أو من أحدهما. . ففيه ثلاثة أقوال: [الأول] : قال في " الإملاء ": (لا يعفى عن قليله، ولا عن كثيره، كالبول، والعذرة) . و [الثاني] : قال في القديم: (يعفى عما دون الكف، ولا يعفى عن الكف؛ لأن ما دون الكف قليل فيعفى عنه، والكف فما زاد كثير، فلم يعف عنه) . و [الثالث] : قال في " الأم " [1/47] : (يعفى عن القليل منه، وهو: ما يتعافاه الناس في العادة) . وهو الأصح، وقدره بعض أصحابنا بلمعة؛ لأنه يشق الاحتراز من ذلك، ولا يشق الاحتراز عما زاد. وهل يفرق بين الدم الذي يخرج منه، وبين ما يخرج من غيره؟ فيه وجهان: أحدهما: لا فرق بينهما؛ لأنه دم. والثاني: أن الأقوال إنما هي في الدم الذي يخرج من غيره، فأما الدم الذي يخرج منه: فهو كدم البراغيث - يعفى عن القليل منه، قولاً واحدًا. وفي الكثير وجهان - لأنه يمكنه الاحتراز من الدم الذي يخرج من غيره، ولا يمكنه الاحتراز من الدم الذي يخرج منه. [مسألة حكم النجاسة التي لا يعفى عنها] ] : إذا كان على بدنه نجاسة غير معفو عنها، ولم يجد ماء يغسله به. . صلى، وأعاد، كما قلنا فيمن لم يجد ماء ولا ترابًا. وإن كان على قرحه دم يخاف من غسله تلف النفس، أو تلف عضو، أو الزيادة في العلة أو إبطاء البرء إذا قلنا: إنه كخوف التلف. . فإنه يغسل ما قدر عليه، ويتيمم

فرع تبديل العظم والسن بنجس

لأجل الجراحة، إن كان جنبًا، أو كان محدثًا، والقرح في أعضاء الطهارة. وهل يلزمه إعادة الصلاة، إذا قدر على الغسل؟ فيه قولان: أحدهما: لا تلزمه الإعادة إذا قدر - وهو قول أبي حنيفة، واختيار المزني - لأنه صلى على حسب حاله. والثاني: تلزمه الإعادة، وهو الصحيح؛ لأنه صلى بنجس نادر غير متصل، فهو كما لو صلى بنجاسة نسيها. فقولنا: (بنجس نادر) احتراز من أثر الاستنجاء. وقولنا: (غير متصل) احتراز من الاستحاضة، ومن سلس البول. [فرع تبديل العظم والسن بنجس] ] : إذا انكسر عظمه وبان، أو سقطت سنه، فأراد أن يبدل مكانها عظمًا آخر، فإن كان عظمًا طاهرًا، كعظم الحيوان المأكول بعد الذكاة. . جاز. وإن كان عظمًا نجسًا، كعظم الميتة - إذا قلنا: تحله الروح - أو عظم الكلب والخنزير. . لم يجز، فإن فعل ذلك، فإن لم يلتحم عليه اللحم. . لزمه قلعه بلا خلاف. وإن التحم عليه اللحم، فإن لم يخف التلف من قلعه. . لزمه قلعه. وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه قلعه) . دليلنا: أنها نجاسة غير معفو عنها، أوصلها إلى موضع، يلحقه حكم التطهير، لا يخاف التلف من قلعه، فلزمه قلعه، كما لو كانت نجاسة على ظاهر بدنه. فقولنا: (نجاسة غير معفو عنها) احتراز من النجاسة التي لا يدركها الطرف. وقولنا: (إلى موضع يلحقه حكم التطهير) احتراز ممن شرب الخمر، في أحد الوجهين.

فرع حقن الدم وابتلاع النجاسة

وقولنا: (لا يخاف التلف من قلعه) احتراز من أحد الوجهين. وإن خاف تلف النفس من قلعه، أو تلف عضو. . فهل يلزمه قلعه؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه قلعه، وإن أدى إلى التلف، كما يقتل الممتنع من الصلاة. والثاني - وهو المذهب - أنه لا يلزمه قلعه؛ لأن حكم النجاسة يسقط مع خوف التلف. وكل موضع قلنا: يلزمه القلع، فصلى قبل القلع. . لم تصح صلاته؛ لأنه صلى بنجس نادر غير متصل، فهو كما لو حمل نجاسة في كمه. وإن مات قبل أن يقلع. . ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: يقلع، حتى لا يلقى الله تعالى حاملاً للنجاسة. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يقلع؛ لأن قلعه للتعبد، وقد سقطت عنه العبادة بالموت. [فرع حقن الدم وابتلاع النجاسة] ] : قال في " الأم " [1/46] : (فإن أدخل تحت جلده دمًا، فنبت عليه اللحم. . فعليه أن يخرج ذلك الدم، ويعيد كل صلاة صلاها مع ذلك الدم) ؛ لما ذكرناه في العظم. وإن شرب خمرًا، أو أكل ميتة من غير ضرورة. . فالمنصوص: (أنه يلزمه أن يتقيأ) ؛ لما ذكرناه في العظم. ومن أصحابنا من قال: لا يلزمه؛ لأن المعدة معدن النجاسة. والأول أصح؛ لأن هذا لما كان شربه محرمًا. . كانت استدامته محرمة. ولهذا روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شرب لبنًا، فقيل له: إنه من إبل الصدقة. . فتقيأه) .

فرع وصل الشعر

[فرع وصل الشعر] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا تصل المرأة شعرها بشعر إنسان، ولا بشعر ما لا يؤكل لحمه بحال) . وهذا كما قال: لا يجوز للمرأة أن تصل شعرها بشعر نجس. والدليل عليه: ما روت أسماء: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله إن ابنتي أصابتها حصبة فتمزق شعرها، أفأصله؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة، والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة، والمفلجة للحسن، والمغيرة خلق الله، والمتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال» . فأما (الواصلة) : فهي المرأة التي تصل الشعر لغيرها. وأما (المستوصلة) : فهي التي يوصل لها الشعر. قال في " الإفصاح ": وقيل: إن الواصلة: هي التي تصل بين الرجال والنساء. والأول أشهر. وأما (الواشمة والمستوشمة) : فهي المرأة التي تجعل في وجهها، أو في بدنها خالاً للحسن بالنؤور. وأما (النامصة والمتنمصة) : فهي التي تنتف الشعر من وجهها، وتدقق

حاجبيها، مأخوذ من (المنماص) ، وهو: الملقاط. وأما (المفلجة) فهي: الواشرة، وقد روي: " الواشرة والموتشرة ". وهي: التي تشر أسنانها وتدققها، يفعل ذلك الكبار؛ تشبهًا بالصغار. إذا ثبت هذا: فإن أرادت أن تصل شعرها بشعر طاهر، كشعر ما يؤكل لحمه بعد الذكاة أو الجز في حال الحياة، أو أرادت وصله بشيء طاهر غير الشعر، فإن كانت غير ذات زوج ولا سيد. . فهل يحرم عليها فعله؟ فيه وجهان: [الأول] : قال الشيخ أبو حامد: يكره ذلك لها؛ لأنها تغر غيرها بكثرة الشعر، وقد «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الغرر» والتدليس. ولا يحرم عليها ذلك؛ لأنه زينة بطاهر. و [الثاني] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 69] ، والطبري: يحرم عليها ذلك؛

مسألة طهارة الثوب

لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله الواصلة والمستوصلة» . وإن كان لها زوج أو سيد. . ففيه وجهان: [الأول] : قال الشيخ أبو حامد، وغيره من أصحابنا: يجوز، ولا يكره؛ لأن لها أن تتزين له، وهذا من الزينة المباحة. والثاني: لا يجوز. وإليه أشار في " الإفصاح "؛ لعموم الخبر. قال الطبري: وهكذا الحكم في النقوش بالحناء، وتحمير الوجه، إن كانت غير ذات زوج أو سيد. . لم يجز. وإن كان لها زوج، أو سيد. . فهل يجوز بإذنه؟ فيه وجهان، ولم يشترط الشيخ أبو حامد إذنه في ذلك. [مسألة طهارة الثوب] ] : قد ذكرنا أن طهارة الثوب الذي يصلى فيه شرط في صحة الصلاة، ومضى الخلاف فيه، والدليل. فإذا ثبت هذا: وكان معه ثوب عليه نجاسة غير معفو عنها، ولا يجد ماء يغسله به، ولم يجد سترة غيره. . فهل يصلي فيه؟ قولان: أحدهما: يصلي في الثوب النجس، ويعيد، كما قلنا فيمن لم يجد ماء، ولا ترابًا. والثاني - وهو الأصح -: إنه يجب عليه أن يصلي عريانًا، ولا يعيد؛ لأن الصلاة تصح مع العري، إذا لم يجد سترة، ووجود هذا الثوب كعدمه. وإن اضطر إلى لبسه؛ لحر أو برد. . صلى فيه، وأعاد، كما قلنا فيمن لم يجد ماءً ولا ترابًا.

فرع اشتباه أحد الثوبين بالنجاسة

وإن وجد من الماء ما يغسله به، فإن عرف موضع النجاسة. . لزمه غسلها دون غيرها. وإن خفي عليه موضع النجاسة من الثوب. . لم يجز له أن يتحرى في موضع النجاسة؛ لأن التحري إنما يكون بين عينين، والثوب عين واحدة. وما الذي يلزمه؟ فيه وجهان: [الأول] : قال أبو العباس: يغسل موضعًا منه؛ لأنه إذا غسل موضعًا منه. . تحقق طهارة ما غسله، وصار يشك في باقيه: هل هو نجس أم لا؟ والأصل بقاؤه على الطهارة. والثاني - وهو الأصح - أنه يلزمه غسل الثوب كله، كما لو نسي صلاة من خمس صلوات. . فإنه يلزمه أن يصلي الخمس؛ ليسقط الفرض عنه بيقين. ولا يطهر بغسل بعضه؛ لأنه قد تحقق حصول النجاسة فيه، وهو يشك: هل ارتفعت بغسل بعضه؟ والأصل بقاؤها. فإن شقه نصفين، فأراد أن يتحرى في القطعتين. . لم يجز؛ لجواز أن يكون الشق في وسط النجاسة، فتكون القطعتان نجستين. [فرع اشتباه أحد الثوبين بالنجاسة] ] : وإن كان معه ثوبان، وفي أحدهما نجاسة، واشتبها عليه. . جاز له التحري فيهما، وقد مضى ذكر الخلاف في ذلك، والدليل. فإن كان معه ثوب ثالث يتيقن طهارته، أو كان معه ماء يمكنه أن يغسل به أحد الثوبين. . فهل يجوز له التحري في الثوبين المشتبهين؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له التحري؛ لأنه يقدر على إسقاط الفرض بيقين.

فرع في القميص أصابته نجاسة وخفيت عليه

والثاني: يجوز له؛ لأنه يجوز إسقاط الفرض في الظاهر، مع القدرة على اليقين. وإن أداه اجتهاده إلى طهارة أحدهما، ونجاسة الآخر، فغسل النجس عنده. . جاز له أن يصلي بكل واحد منهما على الانفراد. فإن جمع بينهما، وصلى بهما. . ففيه وجهان: [الأول] : قال أبو إسحاق: لا يجوز؛ لأنه يتيقن حصول النجاسة فيهما، ويشك في زوالها بالغسل، فلم يصح، كما لو أصابت النجاسة موضعًا من الثوب، واشتبه عليه، فغسل موضعًا منه. و [الثاني] : قال أبو العباس: تصح صلاته. وهو الأصح؛ لأن أحدهما طاهر بيقين، والآخر طاهر في الظاهر، فجاز له أن يجمع بينهما. وإن لم يغلب على ظنه طهارة أحدهما، ولا ماء معه. . ففيه وجهان: [الأول] : قال صاحب " الفروع ": يصلي بكل واحد منهما على الانفراد، إذا اتسع الوقت؛ ليسقط عنه الفرض بيقين. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يصلي عريانًا ويعيد؛ لأنه لا يجوز أن يستفتح الصلاة بثوب غير محكوم بطهارته باليقين، ولا في الظاهر. [فرع في القميص أصابته نجاسة وخفيت عليه] ] : وإن أصابت النجاسة موضعًا من القميص، وخفي عليه موضعها، ففصل أحد الكمين. . لم يجز له التحري فيه وجهًا واحدًا؛ لأن أصله على المنع. وإن أصابت النجاسة أحد الكمين، أو أحد شقي الثوب، واشتبها عليه. . فهل يجوز له أن يتحرى فيه قبل أن يفصله؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنهما عينان متميزتان، فهما كالثوبين.

فرع ما اتصل بالمصلي ولم يتحرك بحركته

والثاني: لا يجوز؛ لأنه ثوب واحد. فإن فصل أحدهما عن الآخر. . جاز له التحري فيهما وجهًا واحدًا. [فرع ما اتصل بالمصلي ولم يتحرك بحركته] ] : وإن كان معه ثوب، بعضه طاهر، وبعضه نجس، فلبسه وصلى فيه، والموضع النجس منه موضوع في الأرض. . لم تصح صلاته. وقال أبو ثور: (تصح صلاته) . وقال أبو حنيفة: (إن لم يتحرك بحركته. . صحت صلاته) . دليلنا: أنه حامل لما هو متصل بالنجاسة، فلم تصح صلاته، كما لو كان يرتفع معه، أو يتحرك بحركته. وإن صلى وعلى رأسه عمامة، وطرفها على نجاسة. . لم تصح صلاته، سواء كانت متضاعفة فوق النجاسة، أو غير متضاعفة. وقال أبو حنيفة: (إن لم تتحرك بحركته. . صح) . دليلنا: أنه حامل لما هو متصل بالنجاسة، فلم تصح صلاته، كما لو كان حاملاً للنجاسة. [فرع ثوب الحائض والجنب والصبي والصلاة في الصوف] ] : وتجوز الصلاة في ثوب الحائض، إذا لم تتحقق عليه النجاسة؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (كنت أحيض عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث حيض، ولا أغسل لي ثوبًا» . وإنما أرادت: إذا لم تتحقق أنه أصابه من دمها شيء. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة: " ناوليني الخمرة من المسجد " فقالت: إني حائض، فقال: " ليست الحيضة في يدك، والمؤمن لا ينجس» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويجوز للرجل أن يصلي في الثوب الذي يجامع فيه أهله، إذا لم يصبه شيء من النجاسة) ؛ لما روي: «أن معاوية سأل أخته أم حبيبة

فرع في الكلب المشدود بحبل

زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في الثوب الذي يجامع فيه أهله؟ فقالت: نعم، إذا لم ير فيه أذى» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وتجوز الصلاة في ثوب الصبي، ما لم يعلم عليه نجاسة؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمل أمامة ابنة أبي العاص، وهو يصلي، وعليها ثيابها) . وتجوز الصلاة في الصوف، والشعر، والوبر، إذا كان طاهرًا، وهو قول كافة العلماء. وقالت الشيعة والروافض: لا تصح الصلاة إلا على ما تخرجه الأرض. دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي على نمرة» . و (النمرة) : هي الشملة المخططة من الصوف. [فرع في الكلب المشدود بحبل] ] : وإن شد حبلاً في كلب، أو خنزير، وتركه تحت رجله وصلى. . صحت صلاته؛ لأنه ليس بحامل للنجاسة، ولا لما هو متصل بها. وإن كان الحبل في يده، أو وسطه. . فذكر الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: إن كان الكلب صغيرًا. . لم تصح صلاته، وجهًا واحدًا؛ لأنه حامل لما هو متصل بالنجاسة. وإن كان الكلب كبيرًا. . ففيه وجهان:

فرع الصلاة بسفينة مشدودة بحبل

أحدهما: تصح صلاته؛ لأن للكلب اختيارًا. والثاني: لا تصح، وهو الأصح؛ لأنه حامل لما هو متصل بالنجاسة. وذكر ابن الصباغ الوجهين من غير تفصيل بين الكبير والصغير. وذكر المسعودي [في " الإبانة " ق \ 68] ثلاثة أوجه، ولم يفرق بين الصغير، والكبير أيضًا: أحدها: يصح. والثاني: لا يصح. والثالث: إن كان الحبل مشدودًا على خرقة، أو شيء طاهر فوق الكلب. . صحت صلاته، وإن كان الحبل مشدودًا على الكلب. . لم تصح صلاته. [فرع الصلاة بسفينة مشدودة بحبل] نجس] : وإن شد حبلاً على سفينة فيها نجاسة، فإن كان الشد في موضع نجس من السفينة. . نظرت: فإن كان الحبل تحت قدمه، وصلى. . صحت صلاته؛ لأنه غير حامل للنجاسة، ولا لما هو متصل بها. وإن كان الحبل مشدودًا في وسطه، أو يده. . لم تصح صلاته وجهًا واحدًا؛ لأنه حامل لما هو متصل بالنجاسة. وإن كان الحبل مشدودًا في موضع طاهر من السفينة، وطرفه في يده. . فذكر الشيخان أبو حامد، وأبو إسحاق: إن كانت السفينة صغيرة. . لم تصح صلاته وجهًا واحدًا؛ لأنه حامل لما هو متصل بالنجاسة. وإن كانت كبيرة. . ففيه وجهان: أحدهما: لا تصح، كالصغيرة. والثاني: تصح. وهو المذهب؛ لأنه ليس بحامل لها، ولا لما هو متصل بالنجاسة. وذكر ابن الصباغ وجهين، من غير تفصيل بين الصغيرة، والكبيرة.

فرع حمل الحيوان في الصلاة

[فرع حمل الحيوان في الصلاة] ] : وإن حمل المصلي حيوانًا نجسًا، كالكلب والخنزير. . لم تصح صلاته؛ لأنه حامل لنجاسة غير معفو عنها. وإن كان الحيوان طاهرًا، ولا نجاسة عليه. . صحت صلاته؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمل أمامة ابنة أبي العاص، وهو يصلي» . ولأن النجاسة في جوف الحيوان لا حكم لها، كالنجاسة التي في جوف المصلي. وإن حمل المصلي رجلا استنجى بالأحجار. . ففيه وجهان: [الأول] : قال أبو علي السنجي: تصح صلاة الحامل، كما لو حمل حيوانًا في بطنه نجاسة. ولأنه لما عفي عن ذلك في حق المستنجي. . عفي عنه في حق من حمله. و [الثاني] : قال القفال: لا تصح صلاة الحامل. وهو الأصح؛ لأنه حامل لنجاسة لا حاجة به إليها، فلم تصح، كما لو حمل نجاسة في كمه. ويخالف نجاسة الحيوان التي في بطنه؛ لأنه لا حكم لها. ويخالف أيضًا أثر الاستنجاء في حق المستنجي بنفسه؛ لأنه مضطر إلى ذلك. قال الطبري: فهو كدم البراغيث، يعفى عنه في الثوب، فلو لبس ذلك الثوب، وبدنه رطب. . لم يعف عنه؛ لأنه لا ضرورة به إلى ذلك. وإن حمل المصلي حيوانًا طاهرًا مذبوحًا، وقد غسل الدم عن موضع الذبح. . قال ابن الصباغ: لم تصح صلاة الحامل؛ لأن باطن الحيوان لا حكم له ما دام حيًا، فإذا زالت الحياة. . صار حكم الظاهر والباطن سواء، وجرى ذلك مجرى من حمل نجاسة في كمه. وإن حمل المصلي قارورة فيها نجاسة، وقد سد رأسها بصفر أو نحاس، أو حديد. . ففيه وجهان:

مسألة طهارة المكان

[الأول] : قال أبو علي بن أبي هريرة: تصح صلاته؛ لأن النجاسة لا تخرج منها، فهي كالنجاسة التي في جوف الحيوان. والثاني: لا تصح، وهو المذهب؛ لأنها نجاسة غير معفو عنها في غير محلها، فهي كما لو كانت ظاهرة. فأما إذا سدها بخرقة، أو شمع، وما أشبهه. . قال أكثر أصحابنا: لا تصح صلاته، وجهًا واحدًا. وذكر الشيخ أبو إسحاق: إذا سدها. . فهل تصح صلاته؟ فيه وجهان، من غير تفصيل، ولعله أراد ما قالوا. [مسألة طهارة المكان] ] : طهارة الموضع الذي يصلى عليه شرط في صحة الصلاة، خلافًا لمالك، وقد ذكرناه. وقال أبو حنيفة: (إذا كان موضع قدميه طاهرًا. . صحت صلاته وإن كان موضع ركبتيه نجسًا) . وفي موضع الجبهة: روايتان. دليلنا: ما روى عمر بن الخطاب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سبعة مواطن لا تجوز الصلاة فيها: المجزرة، والمقبرة، والمزبلة، ومعاطن الإبل، والحمام، وقارعة الطريق، وفوق بيت الله العتيق» .

فرع إصابة النجاسة للأرض

وإنما منع من الصلاة في المجزرة والمزبلة؛ لنجاستها، ولأنه موضع يلاقيه بدن المصلي، فلم تصح، كموضع القدم. وإن كان بحذاء صدر المصلي على الأرض، أو البساط نجاسة، ولم يصبها في ثيابه، ولا بدنه. . فهل تصح صلاته؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 68] و " الفروع ": أحدهما: لا تصح صلاته؛ لأنه إذا لم تصح صلاة من على رأسه عمامة، وطرفها على النجاسة. . فلأن لا تصح صلاة هذا أولى. والثاني: تصح. وهو الأصح؛ لأنه غر مباشر للنجاسة، ولا حامل لما هو متصل بها. وإن صلى على موضع طاهر من البساط، وفي موضع منه نجاسة لا تحاذيه. . صحت صلاته. وقال أبو حنيفة: (إن كان البساط لا يتحرك بحركته. . صحت صلاته، وإن كان يتحرك بحركته. . لم تصح) . دليلنا: أنه غير حامل للنجاسة، ولا لما هو متصل بها، فهو كما لو صلى على أرض طاهرة وفي طرف منها نجاسة. [فرع إصابة النجاسة للأرض] ] : وإن أصابت الأرض نجاسة، فإن عرف موضعها. . تجنبها، وصلى في غيره.

فرع الشبهة في نجاسة أحد البيتين

وإن فرش عليها بساطًا طاهرًا، وصلى عليه. . صحت صلاته. وقال أبو حنيفة: (إن كان البساط يتحرك بحركته. . لم تصح صلاته) . وقد مضى الدليل عليه. وإن خفي عليه موضع النجاسة. . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أحببت أن يتباعد إلى موضع يتحقق أن النجاسة لم تبلغ إليه احتياطًا) . فإن لم يفعل، وصلى في موضع منها، فإن كان ذلك في الصحراء. . صحت صلاته؛ لأنه لا يمكن غسلها. وإن كان ذلك في بيت. . ففيه وجهان: أحدهما: أنه كالصحراء؛ لأنه يشق عليه غسل جميعه، فهو كالصحراء. والثاني - وهو المذهب -: أنه لا يجوز، حتى يغسله كله؛ لأن البيت يمكن غسله، فهو كالبساط إذا أصابت النجاسة موضعًا منه، وخفي عليه. ويخالف الصحراء؛ فإنه لا يمكن حفظها من النجاسة، وإذا نجس موضع منها. . لم يمكن غسل جميعها. [فرع الشبهة في نجاسة أحد البيتين] ] : وإن كانت النجاسة في أحد البيتين، واشتبها عليه. . تحرى فيهما، كما يتحرى في الثوبين. وإن كان هناك بيت ثالث يتيقن طهارته، أو معه من الماء ما يمكنه أن يغسل به أحدهما. . فهل له التحري في البيتين؟ على الوجهين في الثوبين. [فرع من حبس بمكان نجس] ] : وإن كان مربوطًا على خشبة، أو محبوسًا في حش أو موضع نجس، وهو

متوضئ. . فلا خلاف على المذهب: أنه يلزمه أن يصلي على حسب حاله. وهو قول كافة العلماء. وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة: (أنه لا يلزمه أن يصلي) . دليلنا: أن من لزمه فرض الوقت. . لزمه الإتيان به على حسب حاله، كالمريض. إذا ثبت هذا: فإنه يحرم بالصلاة، ويأتي بالقيام إن قدر عليه، وبالقراءة، والركوع، فإذا أراد أن يسجد. . فإنه يدني رأسه من الأرض إلى القدر الذي لو زاد عليه. . لاقى النجاسة، ولا يضع جبهته وأنفه، ولا يديه ولا ركبتيه على الموضع النجس. ومن أصحابنا من قال: يلزمه أن يسجد على النجاسة واشترط في " الفروع " على هذا: إذا كانت النجاسة يابسة. والمذهب الأول؛ لأنه إذا سجد على النجاسة. . حصلت النجاسة على جبهته وكفيه، فكانت مباشرته للنجاسة بعضو واحد - وهو قدماه - أولى من مباشرته لها بثلاثة أعضاء. إذا ثبت هذا: فصلى على حسب حاله، ثم إذا قدر. . فهل تلزمه الإعادة؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا تلزمه الإعادة) ؛ لأنه صلى على حسب حاله، فهو كالمريض. و [الثاني] : قال في الجديد: (تلزمه الإعادة) . وهو الأصح؛ لأن هذا عذر نادر غير متصل، فلم يسقط معه الفرض. وإذا أعاد. . ففي فرضه أقوال:

مسألة رأى نجاسة في ثوبه بعد الصلاة

قال في " الأم " [1/80] : (الفرض هو الثانية) ؛ لأنا إنما أمرناه بفعل الأولى؛ لحرمة الوقت، كمن لم يجد ماء ولا ترابًا. وقال في القديم: (الفرض هو الأولى) ؛ لأن الإعادة غير واجبة في القديم. وقال في " الإملاء ": (الجميع فرض عليه) ؛ لأنه يجب عليه فعل الجميع. وهو اختيار ابن الصباغ. قال: والأول أشهر. وخرج أبو إسحاق قولاً رابعًا: إن الله تعالى يحتسب له بأيتهما شاء، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم فيمن صلى الظهر في بيته، ثم صلى الجمعة: (إن الله تعالى يحتسب له بأيتهما شاء) . وإن صلى الأولى بغير طهارة. . قال الشيخ أبو حامد: فالفرض هو الثانية، قولاً واحدًا. [مسألة رأى نجاسة في ثوبه بعد الصلاة] ] : إذا فرغ من الصلاة، فرأى على بدنه، أو على ثوبه، أو موضع صلاته نجاسة غير معفو عنها، فإن كان قد علم بها قبل الصلاة، ونسيها. . لم تصح صلاته؛ لأنه مفرط في ذلك. وإن لم يعلم بها. . نظرت. فإن جوز أن تكون وقعت عليه بعد الصلاة. . لم تلزمه الإعادة؛ لأن الأصل عدم كونها معه في الصلاة، إلا أن المستحب له: أن يعيدها؛ لجواز أن تكون معه في الصلاة. وإن كانت مما لا يجوز حدوثها عليه بعد الصلاة. . فهل تلزمه الإعادة؟ فيه قولان: أحدهما: (لا تلزمه الإعادة) . وهو قوله القديم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلع نعليه في الصلاة، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف. . قال: " ما لكم خلعتم نعالكم؟ " فقالوا: رأيناك خلعت نعليك، فخلعنا نعالنا. فقال: " إنما خلعتها؛

مسألة الصلاة في المقبرة

لأن جبريل أتاني فأخبرني: أن فيها قذرًا. أو قال: دم حلمة» . فلو لم تصح الصلاة. . لاستأنفها. وقال في الجديد: (تلزمه الإعادة) . وهو الأصح؛ لأنها طهارة واجبة، فلا تسقط بالجهل، كالوضوء. وأما الخبر: فيحتمل أن القذر الذي أصابه من المستقذرات الطاهرة، كالنخامة، وغيرها. وأما دم الحلمة: فيحتمل أنه كان قذرًا يعفى عنه. [مسألة الصلاة في المقبرة] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن صلى فوق قبر، أو إلى جنبه، ولم ينبش. . أجزأه) . وجملة ذلك: أن القبور على ثلاثة أضرب: [الضرب الأول] : مقبرة قد تحقق أنه قد نبشت، وجعل أسفلها أعلاها، فهذه لا تصح الصلاة فوقها؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» . ولأنها قد اختلط بتربتها صديد الموتى، ولحومهم. الضرب الثاني: مقبرة تحقق بأنها لم تنبش، فهذه تكره الصلاة عليها؛ لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في المقبرة. ولأنها مدفن النجاسة. فإن صلى عليها. . صحت صلاته.

مسألة الصلاة في الحمام

وقال أحمد: (لا تصح) . وفي كراهية استقبالها روايتان. دليلنا: ما «روى أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أول مسجد وضع في الأرض؟ فقال: " المسجد الحرام "، قلت: ثم أي؟ قال: " المسجد الأقصى "، فقلت: كم بينهما؟ قال: " أربعون عامًا، وحيثما أدركتك الصلاة. . فصل» . ولأن النجاسة تحت الأرض، وأجزاء الأرض تحول بين النجاسة وبين المصلي، فصحت الصلاة، كما لو فرش حصيرًا فوق النجاسة، وصلى عليه. الضرب الثالث: مقبرة شك فيها: هل هي جديدة، أم قد نبشت. . فهل تصح الصلاة عليها؟ فيه قولان: أحدهما: لا تصح؛ لعموم الخبر. ولأن الظاهر تكرار النبش فيها. والثاني: تصح الصلاة؛ لأن الأصل عدم النبش، وبقاء طهارة الأرض. [مسألة الصلاة في الحمام] ] : (نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في الحمام) . واختلف أصحابنا: لأي معنى نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة فيه؟ فمنهم من قال: نهى عن ذلك؛ لأجل النجاسة التي فيه. فعلى هذا: يكون كالمقبرة على الأضرب الثلاثة، وأما المسلخ: فلا يدخل في النهي على هذا. ومنهم من قال: إنما نهى عن الصلاة فيه؛ لأنه مأوى الشياطين؛ لما يكشف فيه

مسألة الصلاة في أعطان الإبل

من العورات، كما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرس هو وأصحابه في واد، فناموا حتى لم يوقظهم إلا حر الشمس، فقال لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارتفعوا عن هذا الوادي؛ فإن فيه شيطانًا» ، ولم يصل فيه. فعلى هذا: تكره الصلاة في جميع بيوته. وإن تحقق طهارتها، فإن صلى في موضع طاهر منه. . صحت صلاته. وقال أحمد: (لا تصح الصلاة فيه، ولا على سطحه؛ لعموم الخبر) . دليلنا: أنه موضع طاهر، فصحت الصلاة فيه، كسائر المواضع، والخبر نحمله: على الاستحباب، بدليل رواية أبي ذر الغفاري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وحيث ما أدركتك الصلاة. . فصل» . [مسألة الصلاة في أعطان الإبل] ] : ورد النهي عن الصلاة في أعطان الإبل، وهو ما روى عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة» فذكر فيها معاطن الإبل. «وروى عبد الله بن المغفل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا أدركتك الصلاة وأنت في مراح الغنم. . فصل فيه؛ فإنها سكينة وبركة، وإذا أدركتك الصلاة وأنت في معاطن

الإبل. . . فاخرج منها وصل، فإنها جِنٌّ، من جن خُلقت، ألا تراها إذا نفرت. . كيف تشمخ بآنافها» ؟ ". قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، (ومراح الغنم هو: الموضع الذي تأوي إليه) . وأراد: الطاهر الذي لا بَعْرَ فيه. (ومعاطن الإبل: موضع قرب البئر، تنحى إليه الإبل، حتى يرد غيرها للشرب) . وقال غير الشافعي: (أعطان الإبل) : هو الموضع الذي تناخ فيه الإبل في الصيف، إذا شربت المرة الأولى، ثم يملأ الحوض مرة أخرى، ثم ترد إليه، فتعلل، قال لبيد: تكره الشرب فلا تعطنها ... إنما يعطين من يرجو العلل فجعل ذك عطنا إذا كان يرجو أن يشرب مرة ثانية. واختلف في الفرق بين مراح الغنم، وأعطان الإبل من طريق المعنى: فقال بعضهم: لأن الإبل جن من جن خلقت، والصلاة بقرب الشياطين مكروهة، والغنم فيها سكينة وبركة. وقيل: إنها من دواب الجنة.

مسألة الصلاة في قارعة الطريق

وقيل إنما نهى عن الصلاة في أعطان الإبل؛ لما يخاف من نفورها، وذلك يقطع الخشوع، ولا يخاف ذلك من الغنم. وقيل: إنما نهى عن الصلاة في أعطان الإبل؛ لأنها مأوى الجن والشياطين. وقيل: إنما نهى عن ذلك؛ لأن أعطان الإبل وسخة في العادة، ومراح الغنم طيب في العادة؛ لأن الغنم إنما تراح إلى ما استعلت أرضه، وطابت تربته، ودنا من الشمال موضعه، ولا تصلح إلا على ذلك، والإبل لا تراح إلى أدقع الأرض؛ لأنها لا تصلح إلا على ذلك. و (الدقعاء) : التراب الكثير. [مسألة الصلاة في قارعة الطريق] ] . وتكره الصلاة في قارعة الطريق؛ لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه لا يتمكن من الخشوع في الصلاة؛ لممر الناس فيها، ولأنها تداس بالنجاسات. فإن صلى في موضع منها، فإن تحقق طهارته، صحت صلاته، وإن تحقق نجاسته، لم تصح صلاته، وإن شك فيها، ففيه وجهان مضى ذكرهما في المياه. ولا يجوز له: أن يصلي في أرض مغصوبة؛ لأنه لا يجوز له: دخولها في غير الصلاة، ففي الصلاة أولى. فإن صلى فيها. . صحت صلاته خلافا لداود. دليلنا: أنها أرض طاهرة، وإنما المنع فيها لمعنى في غيرها، وهو حق المالك، وذلك لا يمنع صحة الصلاة.

فرع كراهة الزروع في المسجد

[فرع كراهة الزروع في المسجد] ] . قال الصيمري: ويكره غرس النخل والشجر، وحفر الآبار في المساجد، لأنه ليس من فعل السلف. قال: ولا بأس بإغلاق المساجد في غير أوقات الصلاة، صيانة لها، وحفظا لما فيها. والله أعلم.

باب ستر العورة

[باب ستر العورة] يجب ستر العورة عمن ينظر إليها في غير الصلاة، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي، ولا ميت» . فإن اضطر إلى كشفها للمداواة. . . جاز؛ لأنه موضع حاجة. وهل يجب سترها في حالة الخلوة في غير الصلاة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب؛ لأنه ليس هناك من ينظر إليه. والثاني: يجب، وهو المذهب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبرز فخذك» ولم يفرق بين أن يكون هناك من ينظر، أو لا ينظر. [مسألة ستر العورة من شروط الصلاة] ] . ستر العورة شرط من صحة الصلاة، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (ليس بشرط في الصلاة، بل هو واجب في الصلاة، وفي غيرها فإن صلى مكشوف العورة، صحت صلاته) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] . [الأعراف: 31] .

فرع انكشاف جزء من العورة

قال ابن عباس: يعني: (الثياب عند الصلاة) . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقبل الله صلاة امرأة حائض إلا بخمار» . وقد روي: " امرأة تحيض " (تحيض) أي: التي وجبت عليها الصلاة. [فرع انكشاف جزء من العورة] ] . فإن انكشف شيء من العورة مع القدرة على السترة ... لم تصح صلاته. وقال أبو حنيفة (إن بان من العورة المغلظة، وهي: القبل والدبر قدر الدرهم في الصلاة.. لم تبطل الصلاة، وإن بان منها أكثر من ذلك ... بطلت. وإن بان من العورة المخففة، وهي: ما عداهما، -أقل من الربع.. لم تبطل -هذا في الرجل- وأما المرأة: فإن انكشف ربع شعرها، أو ربع فخذها، أو ربع بطنها.. بطلت صلاتها، وإن كان أقل من ذلك. . لم تبطل) . وقال أبو يوسف: إن انكشف من ذلك أقل من النصف ... لم تبطل. دليلنا: أن هذا حكم يتعلق بالعورة، فاستوى فيه القليل، والكثير، كالنظر.

مسألة حد العورة

[مسألة حد العورة] ] وعورة الرجل: ما بين السرة والركبة بلا خلاف على المذهب، وبه قال مالك. وفي السرة والركبة ثلاثة أوجه: أحدها: أنهما من العورة. والثاني: حكاه في " الفروع ": أن السرة من العورة، دون الركبة. والثالث: وهو الأصح، أنهما ليستا من العورة. وقال أبو حنيفة، وعطاء: (الركبة من العورة، دون السرة) . وقال داود، وأحمد: (العورة هي: القبل والدبر لا غير) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عورة الرجل ما بين سرته وركبته» .

فرع عورة المرأة

[فرع عورة المرأة] ] . وأما المرأة الحرة: فجميع بدنها عورة، إلا الوجه والكفين. وبه قال مالك. وفي أخمص قدميها وجهان عند الخراسانيين. وقال الثوري: وأبو حنيفة (قدمها ليس بعورة) . وقال داود، وأحمد: (جميع بدنها عورة، إلا الوجه) . وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: كل بدنها عورة، حتى ظفرها. دليلنا: قَوْله تَعَالَى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] [النور: 31] . قال ابن عباس: (وجهها وكفاها) . «وروت أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، تصلي المرأة في درع وخمار، وليس عليها إزار؟ فقال " نعم إذا كان سابغا، يغطي ظُهُور قدميها» . [فرع عورة الأمة] ] . وأما الأمة: فلا يجب تغطية رأسها، بلا خلاف على المذهب.

وقال الحسن: إذا تزوجت الأمة، أو تسراها سيدها؛ أو ولدت. . وجب عليها تغطية رأسها. دليلنا: ما روي: أن عمر رأى أمة لآل أنس، قد قنعت رأسها، فجذب قناعها، وضربها بالدرة، وقال: (يا لكعاء، اكشفي رأسك، لا تتشبهي بالحرائر) . إذا ثبت هذا: ففي عورتها ثلاثة أوجه: أحدها: أن جميع بدنها عورة، إلا مواضع التقليب عند شرائها، وهو: ما يبدو منها عند العمل، مثل الكفين والذارعين، والساقين، والرأس، لأن ذلك تدعو الحاجة إلى كشفه، وما سواه لا تدعو الحاجة إلى كشفه. والثاني: وهو قول أبي علي الطبري، أن عورتها كعورة الحرة، إلا أن لها كشف رأسها، لحديث عمر. والثالث: هو الأصح، أن عورتها ما بين السرة والركبة، لما روي: أن أبا موسى الأشعري، قال على المنبر: (ألا لا أعرفن أحدا أراد أن يشتري أمة، فينظر إلى ما بين السرة والركبة، لا يفعلن ذلك أحد، إلا عاقبته) . ولم ينكر عليه أحد.

فرع عورة الخنثى والصبي

ولأن من لم يكن رأسه عورة. . لم يكن صدره عورة، كالرجل. وحكم المكاتبة والمدبرة، ومن بعضها حر، وأم الولد حكم الأمة فيما ذكرناه. وقال ابن سيرين: تتقنع أم الولد، لثبوت سبب الحرية لها، وهي إحدى الروايتين عن أحمد. دليلنا: أنها مضمونة بالقيمة، فكانت كالأمة. [فرع عورة الخنثى والصبي] وأما الخنثى المشكل: فإن كان رقيقا، وقلنا: إن عورة الأمة ما بين السرة والركبة، كان ذلك عورة للخثنى، وإن كان حرًا، أو كان رقيقا وقلنا: إن عورة الأمة أكثر مما بين السرة والركبة. وكشف ما عداهما، وصلى. . فهل تلزمه الإعادة؟ فيه وجهان: أحدهما: ولم يذكر القاضي: غيره، أنه لا تلزمه الإعادة، لجواز أن يكون رجلا. والثاني: تلزمه الإعادة، لأن ذمته قد اشتغلت بفرض الصلاة، وهو يشك في إسقاطها، والأصل بقاؤها في ذمته. قال الصيمري: وأما عورة الصبي، والصبية، قبل سبع سنين. . فالقبل والدبر، ثم تتغلظ بعد السبع. . . فأما بعد العشر: فكعورة البالغين؛ لأن ذلك زمان يمكن البلوغ فيه. [مسألة الثوب الشفاف] ] . ويجب ستر العورة بما لا يصف لون البشرة، وهو: صفة جلده: أنه أسود، أو أبيض، وذلك يحصل بالثوب، والجلد، وما أشبههما. قال في " الفروع " وإن وصف الثوب خلقته على التفصيل، لم يجز، وإن صفها على الجملة. . جاز.

مسألة ما تلبس المرأة لصلاتها

وإن صلى في الماء. . . قال في " الإبانة " [ق\ 71] : فإن كان كدرًا، صحت صلاته، وإن كان صافيا. . لم تصح؛ لأن الكدر لا يمكن أن يوصف معه لون البشرة، ويمكن ذلك مع الصافي. [مسألة ما تلبس المرأة لصلاتها] ] . قال في " الأم " [1/78] : (وتصلي المرأة في الدرع والخمار، وأحب إلي ألا تصلي إلا في جلباب، فوق ذلك تجافيه عنها؛ لئلا يصفها الدرع) . وجملة ذلك: أنه يستحب للمرأة أن تصلي في ثلاثة أثواب: قميص سابغ: تغطي به، بدنها وقدميها، وخمار: تغطي به رأسها وعنقها، وإزار غليظ: فوق القميص والخمار. وروي ذلك عن عمر، وابن عمر، وعائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وتكثف جلبابها) . قال أبو عبيد: (الجلباب) الخمار والإزار. وقال الخليل: (الجلباب) أوسع من الخمار، وألطف من الإزار. وقوله: (تكثف جلبابها) ، أي: تجعله كثيفا، حتى لا يصفها. وقيل (تكثف جلبابها) ، أي: تعقده. وقيل: تكفت، أي تجمع، مأخوذ من (الكفات) ، وهو: الجمع قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] ، {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26] [المرسلات 25 - 26] يعني: تجمع الأحياء في ظهرها، والموتى في بطنها. وأقل ما يجزئ في سترها: الدرع إذا كان سابغا، والخمار، لما ذكرناه في حديث أم سلمة.

مسألة لباس الرجل في الصلاة

[مسألة لباس الرجل في الصلاة] ] . وأما الرجل: فالمستحب له: أن يصلي في ثوبين: قميص ورداء: أو قميص وإزار، أو قميص وسراويل، أو إزار ورداء. والأصل فيه: ما روي ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من يزين له، فإن لم يكن له ثوبان. . . فليأتزر إذا صلى، ولا يشتمل اشتمال اليهود» فإن أراد أن يصلي بثوب واحد. . . فالقميص أولى من غيره؛ لما روي: (أنه «كان أحب الثياب إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القميص» . ولأنه أعم في الستر من غيره. فإن كان ضيق الجيب لا ترى منه العورة إذا ركع. . . جاز. وإن كان واسع الجيب، ترى منه العورة، لم يجز إلا أن يزره، فإن لم يزره، ولكن شد وسطه بحبل. . جاز؛ لما «روى سلمة بن الأكوع قال: قلت: يا رسول الله، إنا نكون في الصيد، أفيصلي أحدنا بالقميص الواحد؟ قال: (نعم، وليزره، ولو لم يجد إلا أن يخله بشوكة» .

فإن كانت لحيته طويلة، فسدت الجيب، أو كان في ثوبه خرق مقابل لعورته، فستره بيده. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح، لأن ذلك بعض منه. والثاني: يصح، وهو الصحيح، لأن ذلك سترة ظاهرة، فأشبهت الثوب. فإن لم يكن قميص. . فالرداء أولى من الإزار والسراويل؛ لأنه يستر العورة، ويبقى منه شيء على الكتف، فإن كان الرداء واسعا. . التحف به، وخالف بين طرفيه على عاتقيه. وإن كان ضيقا. . ائتزر به؛ لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان الثوب واسعا. . فخالف بين طرفيه، وإن كان ضيقا,. . فاشدده على حقويك» . وروى سلمة بن الأكوع قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في ثوب واحد ملتحفا به، مخالفا بين طرفيه على منكبيه» . فإن اجتمع إزار وسراويل. . فأيهما أولى؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو قول المحاملي،: أن السراويل أولى؛ لأنه أجمع في الستر. والثاني: وهو المنصوص في " الأم " [1/77] : (أن الإزار أولى) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن لم يكن له ثوب. . فليأتزر» ، ولم يقل: فليتسرول. ولأن الإزار يتجافى عنه، فلا يصف الأعضاء، والسراويل تصف الأعضاء.

مسألة كراهة اشتمال الصماء وغير ذلك

فإن لم يكن معه إلا إزار أو سراويل. . فالمستحب: أن يطرح على منكبيه شيئا. . . فإن لم يجد شيئا. . طرح عليه حبلا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يصلين أحدكم في ثوب ليس على عاتقه منه شيء» . . وأقل ما يجزئ الرجل في الستر: مئزر أو سراويل. وقال أحمد: (لا يجزئه، حتى يطرح على عاتقه منه شيئًا؛ للخبر. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن لم يكن له ثوبان. . فليأتزر إذا صلى» . والخبر نحمله: على الاستحباب. [مسألة كراهة اشتمال الصماء وغير ذلك] ] . يكره اشتمال الصماء؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن اشتمال الصماء» . واختلف في صفتها: فذهب أهل اللغة إلى أن صفتها: أن يشتمل الرجل بثوب واحد فيجلل به جسده، ولا يرفع منه جانبا يخرج منه يده، وربما اضطجع على هذه الحال؛ لأنه لا يدري لعله يصيبه شيء، يريد الاحتراز منه، ويقيه بيديه، فلا يمكنه ذلك، وإنما سميت: صماء، لأنه يسد على يديه المنافذ، كالصخرة الصماء، ليس فيها صدع، ولم يذكر ابن الصباغ غير هذا. قال أبو عبيد: وذهب الفقهاء إلى أن صفتها: هو أن يشتمل الرجل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه إلى أحد جانبيه، فيضعه على منكبه، فيبدو منه فرجه.

مسألة الصلاة في ثوب الحرير أو المغصوب أو ما فيه صور

قال أبو عبيد: والفقهاء أعلم بالتأويل في هذا، الأول أصح في الكلام. ويكره أن يسدل في الصلاة وفي غيرها، وأن يغطى فاه في الصلاة، لما روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن السدل في الصلاة، وأن يغطي فاه» . قال أبو عبيد: و (السدل) أن يسدل الرجل إزاره من جانبيه، ولا يضم طرفيه بيديه، كما يقال لإرخاء الستر: سدل. ويكره للمرأة أن تنتقب في الصلاة؛ لأن وجهها ليس بعورة. [مسألة الصلاة في ثوب الحرير أو المغصوب أو ما فيه صور] ] . ولا يجوز للرجل: أن يصلى في ثوب حرير ولا عليه، لأنه يحرم عليه لبسه في غير الصلاة، ففي الصلاة أولى. فإن صلى فيه، صحت صلاته؛ لأن النهي لا يختص بالصلاة. فإن لم يجد العريان غير ثوب الحرير، قال ابن الصباغ: فعندي أنه يجوز له: أن يصلى فيه، ولا يصلي عريانا. . . لأنه موضع عذر. فإن صلى عريانا. . قال القاضي أبو الفتوح بطلت صلاته. وقال أحمد بن حنبل: (تصح صلاته) ، وليس بصحيح، لأن معه سترة طاهرة. وقال الصيمري: وإن صلى في ثوب مغصوب، أو دار مغصوبة، أو توضأ بماء مغصوب. . فصلاته في ذلك كله صحيحة، وأما ثوابها: فإلى الله سبحانه.

مسألة السترة بورق الشجر أو الطين

وأما المرأة: فيجوز لها أن تصلي بالثوب من الحرير وعليه؛ لأنه لا يحرم عليها لبسه في غير الصلاة، فلم يحرم في الصلاة. ويكره أن يصلي في ثوب عليه صور؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: كان لي ثوب فيه صورة، وكنت أبسطه؛ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي عليه، فقال لي: " أخريه عني "، فجعلت منه وسادتين» . [مسألة السترة بورق الشجر أو الطين] ] . إذا لم يجد ما يستر به عورته، إلا ورق الشجر، لزمه أن يستتر بذلك؛ لأنه سترة طاهرة، يمكنه الستر بها. وإن لم يجد إلا طينا طاهرًا. . فهل يلزمه أن يستتر به" فيه وجهان؟ [أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا يلزمه الاستتار به، لأنه يلوث به نفسه، ولأنه يجف فيتناثر عنه. والثاني: يلزمه الاستتار به، قال المحاملي: وهو المذهب، لأنه سترة طاهرة، فأشبه الثوب. فعلى هذا: إذا كان ثخينا، وأمكنه أن يستر نفسه به، من غير أن يمس عورته. . تولى ذلك بنفسه، وإن كان رقيقا لا يمكنه الاستتار به، إلا بمس عورته، أمر غيره أن يتولى ذلك عنه؛ لئلا يمس عورته، فتبطل طهارته. وإن لم يجد إلا ما يستر به بعض العورة. ستر به القبل والدبر، لأنهما أغلظ من غيرهما.

فرع الصلاة عريانا

وإن لم يجد إلا ما يستر به أحدهما. . ففيه وجهان. أحدهما: أن الدبر أولى؛ لأنه أفحش في حال الركوع والسجود. والثاني: أن القبل أولى، وهو المنصوص، لأنه لا يستتر بغيره، والدبر يستتر بالأليتين، ولأنه يستقبل به القبلة. قال في " الفروع ": وقيل: هما سواء. فإن خالف، وستر بذلك فخذه، أو سائر عورته غير الفرجين، جاز؛ لأن حكم الجميع واحد، وإن كن قد خالف المستحب. [فرع الصلاة عريانًا] ] . فإن لم يجد سترة. . صلى عريانا، ويلزمه أن يصلى قائما. وقال الأوزاعي، ومالك، والمزني: (يلزمه أن يصلي قاعدًا) وحكاه المسعودي في " الإبانة " [ق \ 71] قولا للشافعي، وهو ليس بمشهور. وقال أبو حنيفة: (هو بالخيار بين: أن يصلي قائما، وبين أن يصلي قاعدا) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صل قائما، فإن لم تستطع. . فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» ولم يفرق بين العريان وغيره.

فرع من وجد السترة حال الصلاة

ولأنه مستطيع للقيام، فلا يجوز له تركه، كما لو كان مستترًا. فإن صلى عريانا، مع عدم السترة. . فهل تلزمه الإعادة؟ قال الشيخ أبو زيد: إن كان في الحضر. . ففي الإعادة قولان، وإن كان في السفر. . لم يلزمه الإعادة، قولا وحدا. وقال سائر أصحابنا: لا تلزمه الإعادة قولا واحدا، في سفر ولا في حضرٍ؛ لأن العري عذر عام، وربما اتصل ودام، وقد يعدم ذلك في الحضر، كما يعدمه في السفر، فلو ألزمناه الإعادة. . . لشق ذلك. [فرع من وجد السترة حال الصلاة] ] . إذا لم يجد سترة، فدخل في الصلاة، وهو عريان، ثم وجد السترة في أثناء الصلاة، أو صلت الأمة مكشوفة الرأس، فأعتقت في أثناء الصلاة، ووجدت ما تستر به رأسها، فإن كانت قريبة منهما تناولاها، واستترا، وأتما صلاتهما، لأن ذلك عمل قليل. وإن كانت السترة بعيدة منهما، يحتاج إلى أن يمشي إليها خطوات، فإن كان هناك من يناولهما السترة فإن ناولهما سريعا. . صح.

وإن طال الانتظار، فصبرا إلى أن ناولهما الغير.. فهل تبطل صلاتها؟ فيه وجهان: [الأول] : قال أبو إسحاق: لا تبطل؛ لأنه انتظار واحد، فلم تبطل به الصلاة، كالإمام إذا انتظر المأموم في الركوع. والثاني: تبطل؛ لأنهما تركا السترة، مع القدرة عليها. قال في " الإبانة " [ق\71] : وهذان الوجهان، بناء على الوجهين فيمن سكت في صلاته سكوتا طويلًا، ولم يعمل فيه شيئا من أعمال الصلاة. وإن لم يكن هناك من يناول السترة.. فقد قال البغداديون من أصحابنا: تبطل صلاتهما؛ لأنهما يحتاجان إلى عمل كثير. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\71] : يلزمهما المشي إلى السترة، ويستتران، وهل تبطل صلاتهما، أو يجوز لهما البناء عليها؟ فيه وجهان، بناء على القولين فيمن سبقه الحدث في الصلاة. وإن عتقت الأمة في الصلاة، ولم تعلم بعتقها، حتى فرغت من الصلاة، وكان لها سترة يمكنها الاستتار بها: إما قريبة أو بعيدة، أو علمت بالعتق، وجهلت وجود السترة، فهل يلزمها الإعادة؟ فيه طريقان، حكاهما ابن الصباغ. [أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن صلى، ثم وجد على ثوبه نجاسة، كانت معه في الصلاة، ولم يعلم بها قبل دخوله. ولم يذكر في " المهذب " غير هذا. و [الثاني] منهم من قال: تجب عليها الإعادة، قولا واحدًا - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره - والفرق بينهما: أن الأمة قد كان يمكنها أن تستتر قبل الدخول في الصلاة، فإذا تركت السترة. . فقد فرطت. ومن عليه نجاسة لا يعلم بها.. غير مفرط في تركها.

فرع صلاة مكشوفة الرأس

[فرع صلاة مكشوفة الرأس] ] . قال ابن الصباغ: إذا قال الرجل لأمته: إن صليت مكشوفة الرأس فأنت حرة من الآن فصلت مكشوفة الرأس. . صحت صلاتها، ولم تعتق قبل الصلاة؛ لأن هذه صفة باطلة؛ لأن تقدم المشروط على الشرط محال، فيكون بمنزلة إيقاع العتق في الزمان الماضي. [مسألة عراة الرجال والنساء] ] . وإن اجتمع جماعة عراة رجال ونساء. . فإن النساء لا يصلين مع الرجال؛ لأنا: إن قلنا: يقفن مع الرجال في صفهم. . خالفن السنة في موقفهن. وإن قلنا: يقفن في صف خلف الرجال. . أبصرن عورات الرجال؛ لأنهن لا يمكنهن غض أبصارهن. فإن كان هناك حائل. . دخله النساء، وصلين وحدهن، وصلى الرجال وحدهم. وإن لم يكن حائل، وكان الموضع ضيقا، كالسفينة. . فإن النساء يولين الرجال ظهورهن، ويستدبرن القبلة، فيصلي الرجال، ثم يولونهن ظهورهم، ويصلين أيضا. وهل يصلي الرجال جماعة، أو فرادى؟ قال الشافعي في الجديد (إن شاؤوا. . صلوا جماعة، وإن شاؤوا. . صلوا فرادى) . وقال في القديم: (أحببت أن يصلوا فرادى، فإن صلوا جماعة. . فلا بأس به) . فخيرهم في الجديد؛ لأنه تقابل أمران: فضيلة الجماعة، وترك نظر بعضهم إلى عورة بعض، فخيرهم.

فرع عراة ومعهم من وجد السترة

واستحب في القديم الفرادى؛ لأن الجماعة فضيلة، وترك النظر واجب، فقدم الواجب على الفضيلة. فإن صلوا جماعة. . وقف الإمام وسطهم، وكانوا صفا واحدًا؛ لأن ذلك أغض لأبصارهم. فإن لم يمكن إلا صفين. . صلوا صفين، وغضوا أبصارهم. وأما النساء فإنهن يصلين جماعة؛ لأن سنة الموقف في حقهن لا تتغير بالعري. [فرع عراة ومعهم من وجد السترة] ] . وإن كان مع الرجال رجل يصلح للإمامة، معه سترة. . . فالأولى أن يصلوا جماعة، قولا واحدًا؛ لأنهم يمكنهم الجمع بين فضيلة الجماعة وسنة الموقف، بأن يقدموه. وإن كان مع رجل سترة، تزيد على ستر عورته. . استحب له أن يعير العراة، فإن أعار واحدا منهم. . . فالمذهب: أنه يلزمه قبول العارية؛ لأنه لا منة عليه في ذلك، فإن صلى عريانًا. . . بطلت صلاته؛ لأنه صلى عريانًا، مع وجود السترة الطاهرة. وحكى صاحب " العدة " وجها آخر: أنه لا يلزمه قبول العارية، كما لا يلزمه قبول هبته، وليس بشيء. وإن وهب له السترة، فهل يلزمه قبولها؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدهما - هو المشهور - أنه لا يلزمه قبول الهبة؛ لأن في قبول ذلك التزام منة، فلم يلزمه، كما لا يلزمه قبول الرقبة، إذا كان عليه كفارة.

فعلى هذا: إذا صلى عريانا. . . صحت صلاته. والثاني: حكاه في " الفروع ": أنه يلزمه قبول الهبة، كما يلزمه قبول العارية. الثالث - وهو قول أبي علي الطبري -: أنه يلزمه قبول هبته، فيصلي به، ثم يرده إن شاء؛ لأن عليه: أن يتسبب إلى ستر عورته، بما أمكنه من ورق الشجر وغيره، وقد أمكنه ذلك، فلزمه. ولأن الهبة تضمنت تمليك العين والمنافع، فإذا لم يلزمه قبول ملك العين لزمه قبول المنافع، فيكون في التقدير: كأنه إعارة. قال القاضي أبو الطيب: وهذا ليس بصحيح؛ لأن صاحب الثوب ملكه العين، فلا يملك قبول المنافع، وإذا قبل العين وقبضها.. فلا يملك ردها، إلا برضا الواهب. وإن اجتمع رجل وامرأة عاريان، ومع رجل سترة، تكفي أحدهما. . فالمرأة أولى؛ لأن عورتها أغلظ. وإن أعار صاحب السترة جميع العراة. . صلوا فيها واحدا بعد واحد، فإن خافوا فوت الوقت. . قال الشافعي: (لزمهم انتظار السترة وإن فات الوقت) . وقال في قوم في سفينة ليس فيها موضع يقوم فيه إلا واحد: (إنهم يصلون من قعود) . فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منها إلى الأخرى، وخرجهما على قولين. ومنهم من حملهما على ظاهرهما؛ فقال في السترة: يلزمهم الانتظار، وفي القيام: لا يجوز لهم الانتظار؛ لأن السترة لا يجوز تركها مع القدرة عليها بحال؛ والقيام يجوز تركه مع القدرة عليه في صلاة النفل. فإن امتنع صاحب السترة من الإعارة.. لم يجبر؛ لأن صلاة العريان صحيحة. والله أعلم وبالله التوفيق.

باب استقبال القبلة

[باب استقبال القبلة] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجوز لأحد: أن يصلي فريضة، ولا نافلة، ولا سجود قرآن، ولا جنازة، إلا متوجها إلى البيت الحرام) . وجملة ذلك: أن القبلة كانت في أول الإسلام إلى بيت المقدس، وقد استقبله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مدة إقامته بمكة قبل الهجرة، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب أن يوجه إلى الكعبة؛ لأنها قبلة آبائه: إبراهيم وإسماعيل، وبيت المقدس: قبلة اليهود. وكان من شدة حبه لذلك يصلي من ناحية الصفا؛ ليستقبل الكعبة وبيت المقدس. فلما تحول إلى المدينة. . . تعذر عليه استقبالهما؛ لأن من استقبل بيت المقدس بها. . استدبر الكعبة، فأقام - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالمدينة إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، يسأل الله: أن يحول قبلته إلى الكعبة، فنزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأخبره: أنه يحب استقبال الكعبة، فعرج جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبعه بصره، ويقلب طرفه نحو السماء، ينتظر نزول الوحي بذلك، فنزل عليه قَوْله تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] [البقرة: 144] . و (المسجد الحرام) هاهنا: الكعبة، قال الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] [المائدة: 97] يعني: مقاما لهم، ولصلاتهم.

وقال الله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] [الحج: 26] يعني: المصلين. ومعنى قوله: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] أي نحوه: وتلقاءه. قال الشاعر: ألا من مبلغ عمرا رسولا ... وما تغني الرسالة شطر عمرو أي: نحو عمرو. إذا ثبت هذا: فهل استقبال القبلة ركن في الصلاة، أو شرط فيها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 62] : الظاهر: أنها شرط. فإن كان بحضرة البيت. . لزمه التوجه إليه؛ لما روى أسامة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل الكعبة، فلم يصل فيها، ثم خرج وصلى إليها ركعتين، وقال: هذه القبلة» . فإن استقبل القبلة ببعض وجهه. . ففيه وجهان حكاهما المسعودي.

[في" الإبانة " ق\61\أ] ، بناء على القولين في الطائف، إذا استقبل الحجر ببعض بدنه. وإن دخل الكعبة، وصلى فيها. . صحت الصلاة، سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلًا. وقال ابن جرير: لا يصح فيها فرض ولا نفل. وقال مالك: (يصح فيها النفل دون الفرض) . دليلنا، - على ابن جرير - ما روى بلال: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل الكعبة، وصلى فيها ركعتين» . وعلى مالك: أنه متوجه إلى جزء من البيت، فجازت فيه صلاة الفرض، كما لو كان خارج البيت. إذا ثبت هذا: فروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف

صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا» . فسألت الشيخ الشريف محمد بن أحمد العثماني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما المراد بالمسجد الحرام بهذا الخبر؟ فقال: المراد به: الكعبة، والمسجد حولها، وسائر بقاع الحرم لأن الله تعالى قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1] [الإسراء: 1] ومعلوم: أنه أسري به من بيت خديجة، وكل موضع أطلق: المسجد الحرام. . فالمراد به: جميع الحرم. والذي تبين لي أن المراد بهذا الخبر: الكعبة، وما في الحجر من البيت، وهو ظاهر كلام صاحب " المهذب "؛ لأنه قال: الأفضل أن يصلي الفرض خارج البيت؛ لأنه يكثر فيه الجمع، والأفضل أن يصلي النفل في البيت؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا» . ومن الدليل على ما ذكرته، ما وري: أن عائشة قالت: «يا رسول الله، إن نذرت أن أصلي في البيت، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلي في الحجر، فإنه من البيت» . فلو كان المسجد وسائر بقاع الحرم يساوي الكعبة بذلك. . لم يكن لتخصيصها البيت بالنذر معنى، ولأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تصلي في سائر بقاع الحرم. ولا فرق بين أن يقول: عليه لله أن يصلي في المسجد الحرام، أو في البيت الحرام. إذا ثبت أن: البيت الحرام: إنما هو الكعبة، فكذلك المسجد الحرام.

مسألة الصلاة فوق الكعبة

وأما الآية: فإنما سمي بيت خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بالمسجد الحرام، على سبيل المجاورة. وإذا صلى في البيت. نظرت. فإن استقبل شيئا من جدرانه، أو أساطينه. . صح؛ لأنه متوجه إلى جزء منه. وإن صلى إلى باب البيت، فإن كان مردودا إلى خارج. . صح؛ لأن الباب من البيت. وإن كان الباب مفتوحا. . . قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، فإن كان للباب عتبة شاخصة وإن قلت. . . صحت صلاته؛ لأنه متوجه إلى جزء من البيت. وإن لم يكن له عتبة شاخصة. . . لم تصح صلاته؛ لأنه لم يتوجه إلى جزء من البيت. [مسألة الصلاة فوق الكعبة] وإن صلى على ظهر الكعبة، فإن لم يكن بين يديه سترة متصلة بالبيت. . لم تصح صلاته. وقال أبو حنيفة: (تصح) . دليلنا: ما روي عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة فذكر فيها: فوق بيت الله العتيق» . ولأنه صلى عليها، ولم يصل إليها من غير عذر، فأشبه إذا نزل واستدبرها. فقولنا: (من غير عذر) احتراز من صلاة الخوف، ومن صلاة النفل في السفر.

وإن كان بين يديه سترة غير متصلة بالبيت، كالأحجار التي ليست بمبنية. . لم تصح صلاته؛ لأنها ليست من جملة البيت. وإن كانت مبنية عليه، أو مسمرة. . صحت صلاته؛ لأنها صارت من البيت. وإن كانت فيه عصا مغروزة. . ففيه وجهان: أحدهما: يصح استقبالها؛ لأن المغروز من البيت، ولهذا تدخل الأوتاد المغروزة في بيع البيت. والثاني: لا يصح؛ لأنها غير متصلة بالبيت. وإن نبتت شجرة في البيت، وعلت على ظهره، فاستقبلها على ظهره. فهل تصح صلاته؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ". وهل يعتبر أن تكون السترة فوق ظهر الكعبة مقدرة؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ". أحدهما: أنه يعتبر أن تكون بقدر قامة المصلي ليكون مستقبلا لها بجميع بدنه. والثاني: - وهو قول القفال -: يكفيه أن تكون بقدر مؤخرة الرحل، وإن كان دونها. . لم يصح. وقد ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أن عتبة الباب إذا كانت شاخصة وإن قلت. . . صح استقبالها ولا فرق بين الجميع. وإن هدمت الكعبة - وأسال الله الكفاية -وبقت عرصة، لا بناء فيها، فإن خرج عن العرصة، وصلى إليها. . جاز، وإن وقف في العرصة، وصلى إلى ما بين يديه منها. . ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس: يصح؛ لأنه صلى إلى ما بين يديه من أرض البيت، فهو كما لو خرج من العرصة، وصلى إليها.

مسألة صلاة من ليس بحضرة البيت

و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا يصح. وهو المنصوص، كما لو صلى على سطحه، ولا سترة قدامه. [مسألة صلاة من ليس بحضرة البيت] ] . ومن لم يكن بحضرة البيت. . ينقسم على أربعة أضرب: ضرب: يتيقن إصابة الكعبة وإن لم يكن مشاهدا لها، كمن نشأ بمكة. . . فإنه يعلم - بجري العادة - القبلة، ويتيقنها وإن غاب عنها في بيته. وكذا من صلى إلى محراب مسجد المدينة، أو إلى محراب مسجد صلى فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه لا يقر على الخطأ. وضرب: يرجع إلى إخبار غيره، فإن أخبره غيره عن علم، بأن يكون على رأس جبل، ويشاهد الكعبة منه. . . فيلزمه قبول خبره ولا يجتهُد؛ لأن الخبر مقدم على الاجتهاد. قال الشافعي رحمة الله: (وكذلك، إذا ورد رجل على مياه قوم، فأخبروه: بأن القبلة في هذه الجهة. . . رجع إلى قولهم وإخبارهم) . فإن أخبره صبي عن القبلة. . فحكى الخضري عن الشافعي: (أنه لا يقبل) . وحكى الشيخ أبو زيد: (أنه يقبل) . فمن أصحابنا من قال: هي على حالين: فحيث قال: (لا يقبل) إذا كان عن اجتهاد. وحيث قال: (يقبل) . . . إذا كان عن مشاهدة. وقال القفال: في قبول إخباره بذلك، وبالخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وجهان. وأما دلالة المشرك على القبلة: فلا تقبل، وإنما تقبل في الإذن في دخول الدار، وفي قبول الهدية؛ لأن ذلك يقبل من الصبي، فكذلك من الكافر. وقال القاضي أبو الطيب: وكذلك الفاسق عندي يقبل في هذين؛ لأنه أحسن حالا من الكافر. والضرب الثالث: من يرجع إلى اجتهاد غيره، وهم العميان، ومن لا بصيرة له ويأتي ذكرهم.

والضرب الرابع: من يرجع إلى استدلاله واجتهاده، وهو إذا لم يتيقن القبلة، ولم يجد من يخبره، وهو ممن يعرف دلائل القبلة. . . فينظر فيه: فإن كان بينه وبين البيت حائل أصلي، كالجبل. . جاز له الاجتهاد، والاستدلال على القبلة بالشمس، والقمر، والنجوم والرياح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] [النحل: 16] . ولا يلزمه صعود الجبل؛ لأن في تكليف ذلك مشقة. ولأنا لو ألزمناه ذلك. . للزم من كان بينه وبين الكعبة ميل أو ميلان: أن يمضي إليها ويشاهدها، ولو ألزمناه ذلك. . لم ينفصل عمن بينه وبين [الكعبة] مسيرة يوم أو أكثر: أن يمضي إليها، فسقط ذلك عن الجميع. وإن كان بينه وبين الكعبة حائل طارئ، كالبناء. . . ففيه وجهان. أحدهما: لا يجوز له الاجتهاد - ولم يذكر في " التعليق " و" المجموع " غيره - لأن الاجتهاد كان لا يجوز في هذا الموضع قبل حدوث البناء، فلم يتغير الحكم بحدوثه. والثاني: يجوز. قال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: وهو الأصح؛ لأنه لا يرى البيت، فهو كما لو كان الحائل أصليا. وإذا ثبت هذا: ففي فرض المجتهد قولان: أحدهما: (أن فرضه إصابة الجهة دون العين) وهو قول أبي حنيفة. وروي عنه: أن قال (قبلة العراق ما بين مطلع الشمس ومغربها) . لأنه لو كان الفرض هو إصابة العين. . . لما صحت صلاة الصف الطويل؛ لأن فيهم من يخرج عن العين.

فرع المجتهدان في القبلة

والثاني: (أن الفرض هو إصابة العين) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] [البقرة: 144] ولم يفرق. ولأن من لزمه فرض القبلة.. لزمه إصابة العين، كالمشاهد للكعبة. وأما صلاة أهل الصف: فإنما صحت؛ لأن مع البعد يتسع الصف المحاذي، ألا ترى أن الناس إذا صلوا ملاصقين للكعبة. . فإن المستقبل لها عدد يسير، فإذا بعدوا، فصلوا في آخر المسجد. . . استقبلها أكثر؟ وكذلك النقطة إذا دور حولها دائرة. . . كانت صغيرة؛ لقربها من النقطة، فإذا زاد خلف الأولى دائرة ثانية. . . كانت أكبر من الأولى؛ لبعدها من النقطة، وجميع الدائرة في الحالتين مستقبل للنقطة؟ [فرع المجتهدان في القبلة] وإن اجتهد رجلان في القبلة. . . نظرت: فإن أداهما اجتهادهما: أن القبلة في جهة واحدة. . . استحب لهما: أن يصلي أحدهما بالآخر؛ لأن صلاة الجماعة مندوب إليها. وإن اختلف اجتهادهما، فأدى اجتهاد أحدهما: أن القبلة في غير الجهة التي أدى اجتهاد الآخر إليها. . صلى كل واحد منهما إلى الجهة التي أداه اجتهاده إليها، ولا يأتم أحدهما بالآخر. وقال أبو ثور: (يجوز أن يأتم أحدهما بالآخر، ويصلي كل واحد منهما إلى الجهة التي أداه اجتهاده إليها، كمن يصلي حول الكعبة. . فإنه يجوز لمن يصلي إلى جهة منها: أن يأتم بمن يصلي إلى الجهة الأخرى. دليلنا: أن كل واحد منهما يعتقد بطلان اجتهاد صاحبه وبطلان صلاته، فلا يجوز أن يعلق صلاته بصلاة باطلة، بخلاف من يصلي إلى جهتي الكعبة. . فإن كل واحد منهما يعتقد صحة صلاة صاحبه.

فرع الاجتهاد في القبلة لصلاتين أو صلى شاكا

[فرع الاجتهاد في القبلة لصلاتين أو صلى شاكا] ] . وإن صلى إلى جهة بالاجتهاد، ثم حضرت صلاة أخرى، ولم يتغير اجتهاده الأول. . فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه أن يعيد الاجتهاد، بل يصلي إلى الجهة الأولى؛ لأنه قد عرف القبلة بالاجتهاد الأول. والثاني: يلزمه أن يجتهد للصلاة الثانية، كما لو حكم الحاكم بقضية بحكم، ثم حضرت مرة أخرى. . . فإنه يعيد الاجتهاد لها ثانيًا. فإن أداه اجتهاده: إلى الجهة الأولى. . . صلى إليها، ولا كلام. وإن أداه اجتهاده: أن القبلة في غير تلك الجهة. . صلى الصلاة الثانية إلى الجهة الثانية، وهل يلزمه الإعادة؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الخضري. أحدهما - وهو المذهب -: أن لا يلزمه إعادة واحدة منهما؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله. ولأنه لا يؤمن أن يؤديه الاجتهاد إلى القبلة في جهة ثالثة ورابعة، أو أن القبلة في الجهة الأولى. والثاني: يلزمه أن يعيد الصلاتين؛ لأنه يتيقن أنه صلى إحداهما إلى غير القبلة فلزمه إعادتهما، كمن نسي صلاة من صلاتين، لا يعرف عينها منهما. والثالث أنه يعيد الأولى؛ لأن الاجتهاد الثاني هو المعول عليه في هذه الحالة، والأول هو المشهور. وإن اجتهد في القبلة فأداه اجتهاده إلى: أن القبلة في جهة، فصلى إلى غيرها، ثم بان أنها القبلة. . لم تصح صلاته. وبه قال أبو حنيفة. وقال أبو يوسف: تصح. دليلنا: أنه ترك التوجه إلى ما أداه إليه اجتهاده، وصلى إلى ما ليس بقبله عنده،

فرع التيقن بعد الاجتهاد أو كان له اجتهادان

فلم يصح بالتبين، كما لو استفتح الصلاة وهو يشك: أنه توضأ، أم لا؟ ثم بان أنه كان متوضئًا. [فرع التيقن بعد الاجتهاد أو كان له اجتهادان] إذا صلى إلى جهة بالاجتهاد، فلما فرغ من الصلاة تيقن أنه صلى إلى غير جهة القبلة. . فهل تلزمه الإعادة؟ فيه قولان. أحدهما: لا تلزمه الإعادة. وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد. ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» وأراد: حكم الخطأ. وروى جابر قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرية، وكنت فيها، فأصابتنا ظلمة، فلم نبصر معها القبلة، فقالت طائفة منها: قد عرفنا القبلة: قبل الشمال، وصلوا إليها، وخطوا خطا. وقال بعضهم: هكذا القبلة: نحو الجنوب، وصلوا إليها، وخطوا خطا. فلما أصبحنا وطلعت الشمس، أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلما قفلنا من السفر. . . سألنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسكت، ولم يقل شيئا، فنزل قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » [البقرة: 115] . وفي بعض الروايات: قال لهم: " قد أجزأتكم صلاتكم ".

ولأنها جهة مأمور بالصلاة إليها، فسقط الفرض بالصلاة إليها، كما لو صلى إلى غير جهة القبلة في شدة الخوف. والقول الثاني: تلزمه الإعادة، وهو الأصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150] [البقرة: 150] . ولأنه تعين له يقين الخطأ فيما يؤمن مثله في القضاء، فوجب أن لا يعتد بما فعله، كالحاكم إذا حكم بحكم، ثم وجد النص بخلافه. فقولنا: (تعين له) احتراز منه إذا صلى صلاتين إلى جهتين باجتهادين. . فإنه تيقن الخطأ في إحداهما، ولا إعادة عليه؛ لأنه لم يتعين الخطأ في إحداهما. وقولنا: (يقين الخطأ) احتراز منه إذا صلى إلى جهة، ثم أداه اجتهاده إلى: أن القبلة في جهة أخرى. . فإنه قد تعين له الخطأ، ولا تلزمه الإعادة؛ لأنه لم يتيقن ذلك، وإنما ذلك من طريق الاجتهاد. وقولنا: (فيما يؤمن مثله في القضاء) احتراز من الأكل في الصوم ناسيا، ومن الوقوف بعرفة يوم الثامن، أو يوم العاشر، على وجه الخطأ؛ لأنه لا يؤمن مثله - في القضاء - الخطأ. وأما حديث جابر: فلا حجة فيه؛ لأن القوم كانوا صلوا تطوعا، هكذا روي عن ابن عمر: أنه قال: (نزلت هذه الآية في التطوع) . ولنا مثل هذه المسألة مسائل على قولين. منها: إذا صلى، ثم بان أنه كان في ثوبه نجاسة لم يعلم بها حتى فرغ منها. ومنها: إذا صلت الأمة مكشوفة الرأس، فأعتقت في أثناء الصلاة، وبقربها سترة، ولم تعلم بالعتق أو بالسترة إلا بعد الفراغ من الصلاة. ومنها: إذا ترك فاتحة الكتاب ناسيا. . هل تلزمه الإعادة؟ على قولين. ومنها: إذا دفع الزكاة إلى من ظاهره الفقر، ثم بان أنه غني. . فهل يلزمه الضمان؟ قولان.

ومنها: إذا صام الأسير شهرًا بالاجتهاد، ثم بان بعد رمضان أنه صام شعبان. . . هل يجزئه؟ فيه قولان. إذا ثبت هذا: فقد اختلف أصحابنا الخراسانيون في موضع القولين في القبلة. فمنهم من قال: القولان، إذا بان له يقين الخطأ مع يقين الصواب، فأما إذا بان له يقين الخطأ دون يقين الصواب: فلا يعيد، قولا واحدًا. ومنهم من قال: القولان، إذا بان له يقين الخطأ، دون يقين الصواب، فأما إذا بان له اليقينان معا: فيعيد قولا واحدا. ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو قول الشيخ أبي حامد. وإن بان له يقين الخطأ، وهو في أثناء الصلاة. . نظرت. فإن كان ذلك في جهتين، مثل: أن كان قد استفتح الصلاة إلى جهة الغرب، فبان أن القبلة في الشرق. . . بنى ذلك على القولين - فيمن بان له اليقين بعد الفراغ من الصلاة -. فإن قلنا: يعيد بعد الفراغ.. استأنف هاهنا الصلاة. وإن قلنا - هناك -: لا يعيد. . فهاهنا وجهان: أحدهما: ينحرف إلى الجهة الثانية، ويبني على صلاته؛ لأن ما فعله قد صح. والثاني: يلزمه أن يستأنف الصلاة؛ لأن الصلاة بعد الفراغ منها كالقضية المبرمة وقبل الفراغ منها كغير المبرمة. قال ابن الصباغ: وهذا يحتاج إلى تفصيل، فإن كان حين بان له الخطأ، بانت له جهة القبلة لوقته. . تحول إليها، وهل يبني، أو يستأنف؟ على ما مضى. وإن لم يتبين له جهة القبلة، بل يحتاج إلى اجتهاد. . . بطلت صلاته؛ لأنه لا يستديم الصلاة إلى غير القبلة.

وإن كان ذلك في جهة واحدة - مثل: أن كان قد صلى إلى جهة الغرب بالاجتهاد، ثم بان له بعد ذلك أن الكعبة في غير السمت الذي صلى إليه، وإنما هي في غيره في تلك الجهة: قال الشيخ أبو حامد: فإن الشافعي يذهب إلى: أنه لا يتيقن أحد بالاجتهاد عين الكعبة في بعض الجهة دون بعضها، وإنما يتيقن ذلك بالمشاهدة. فعلى هذا: يلزمه الانحراف إلى الثانية؛ لأنها هي القبلة عند المجتهد في هذه الحالة، ولا يلزمه استئناف الصلاة؛ لأنه لا يتيقن أن الأولى ليست بقبلة. قال: ومن أصحابنا من قال: يمكن أن يتيقن بالاجتهاد أن عين الكعبة في بعض الجهة دون بعض، فيلزمه الانحراف إلى الثانية، وهل يبني، أو يستأنف؟ . على القولين في أن فرض المجتهد: هل هو إصابة العين، أو الجهة؟ فإن قلنا: فرضه الجهة. . . لم يلزمه الاستئناف، قولا واحدًا. وإن قلنا: إن فرضه إصابة العين. . كان على قولين - كما لو صلى إلى جهة، ثم تيقن أنها ليست بجهة القبلة -: فإن قلنا - هناك -: يعيد.. لزمه هاهنا أن يستأنف. وإن قلنا - هناك -: لا يعيد. . . فهاهنا وجهان، مضى ذكرهما. وأما إذا أداه اجتهاده إلى أن القبلة في جهة، ثم بان له باجتهاد ثان أن القبلة في غير تلك الجهة: فإن بان له ذلك قبل الدخول في الصلاة. . . لزمه أن ينحرف إلى الثانية، ويصلي إليها. وإن بان له ذلك في أثناء التكبيرة. . لزمه أن يستأنف التكبيرة أيضا إلى الجهة الثانية؛ لأنه لم يأت بما يُسمى صلاة.

فرع تغير الاجتهاد للجماعة

وإن بان له بعد فراغه من تكبيرة الإحرام. . . فإنه ينحرف إلى الجهة الثانية، وهل يستأنف الصلاة، أو يبني على إحرامه؟ فيه وجهان: [الأول] : من أصحابنا من قال: يلزمه أن يستأنف؛ لأن الصلاة الواحدة لا تؤدى باجتهادين، كما لا يحكم الحاكم في قضية واحدة باجتهادين. والثاني - وهو المنصوص -: أنه يبني على إحرامه؛ لأن الاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله، ويخالف حكم الحاكم؛ لأن حكم الحاكم هو قوله: حكمت، وأمضيت. ولا يتصور تبعيض ذلك؛ لأن اجتهاده إن تغير قبله. . . فإنه يحكم بالثاني، وإن تغير بعده. . فإنه لا ينقض الأول، وليس كذلك ما فعل من الصلاة؛ لأنه كالحكم الذي نفذ، فلا ينقض باجتهاد ثان. [فرع تغير الاجتهاد للجماعة] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/82] : (وإذا اجتهد جماعة في القبلة، فأداهم اجتهادهم إلى جهة واحدة، فأمهم أحدهم، ثم تغير اجتهاد بعضهم في أثناء الصلاة، فإن تغير اجتهاد الإمام. . . فعليه أن ينحرف إلى الجهة الثانية، ولا يلزم المأمومين اتباعه، بل ينوون مفارقته؛ لأن اعتقادهم بطلان اجتهاده، وإن تغير اجتهاد المأمومين.. فعليهم أن ينووا مفارقته، وينحرفوا إلى الثانية) . وهل يبنون، أو يستأنفون على ما مضى. فإذا قلنا: يبنون. . لم تبطل صلاتهم؛ لأنهم فارقوه بعذر. [فرع لو شك أثناء الصلاة أو دخل بلدًا فيها محاريب] ] : قال في " الأم " [1/82] : (وإذا دخل في الصلاة بالاجتهاد، ثم شك في أثناء الصلاة: أن تلك جهة القبلة، أم لا؟ فعليه أن يمضي في صلاته، ولا ينحرف؛ لأنه دخل في الصلاة بالاجتهاد، والاجتهاد إنما يتغير باجتهاد، أو يقين، فأما الشك: فلا يؤثر فيه) .

مسألة تقليد الأعمى ونحوه لجهة القبلة

قال في " الفروع " إذا دخل بلدا، ووجد فيها محاريب، فإن لم يعرف أن تلك المحاريب مما بناها المسلمون. . . فلا يجوز له استقبالها، ويجتهد. وإن عرف أنها من بناء المسلمين، فإن كان ذلك البلد من البلاد التي صلى فيها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -.. وجب اتباعهم. وإن كانوا لم يصلوا فيها، فإن كان القوم الذين بنوها في الكثرة بحيث يقع التواتر في خبرهم، ويصير إجماعهم قاطعا لوجوه الاجتهاد. . صلى إليها. وإن كان عددهم قليلًا، أو كانت في بلد مختلفة. . فعلى المصلي أن يجتهد فيها. [مسألة تقليد الأعمى ونحوه لجهة القبلة] ] . وإن كان ممن لا يعرف الدلائل، ولا يعرفها إذا عرف بها. . فهو كالأعمى، وفرضهما: التقليد؛ لأنه لا فرق في ذلك بين أن يعدم البصر، أو يعدم البصيرة. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويقلد من يصدقه: من حر، وعبد، وامرأة؛ لأنهم من أهل الاجتهاد) . فإن كان هناك جماعة، واتفقوا على جهة واحدة. . . كان له أن يقلد أيهم شاء. وإن اختلفوا في الجهات. . . استحب أن يقلد أوثقهم وأعلمهم، وأيهم قلد.. جاز؛ لأنه قلد من يجوز له تقليده. وإن لم يجد - من فرضه: التقليد - من يقلده. . صلى على حسب حاله، وأعاد إذا قدر وإن كان قد أصاب القبلة؛ لأنه استفتح الصلاة وهو شاك في القبلة.

فرع اختلاف قول المقلد أو خطأه غيره

[فرع اختلاف قول المقلد أو خطأه غيره] ] : وإن دخل المقلد في الصلاة بالتقليد وفرغ منها، ثم قال له من قلده: القبلة في غير الجهة التي صليت إليها، فإن بان له ذلك باجتهاد. . . لم يجب على المصلي الإعادة؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله، وإن بان له بيقين. . كان في وجوب الإعادة عليه قولان. وإن قال له آخر - في أثناء الصلاة -: قد أخطأ بك الأول، والقبلة في جهة أخرى - وكان قول الثاني عن اجتهاد - فإن كان الثاني كاذبا عنده. . لم يجز له الرجوع إلى قوله. وإن كان الثاني أصدق من الأول عنده. . فعليه أن ينحرف إلى الجهة الثانية؛ لأن الثاني أولى من الأول عنده، ولا يستأنف الإحرام؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله. وإن كان الثاني عنده مثل الأول في الصدق. . . فعليه أن يمضي في صلاته، ولا ينحرف؛ لان الاجتهاد لا ينقص بمثله. وإن قال الثاني ذلك له على وجه الإخبار عن مشاهدة. . . لزمه الانحراف إلى الجهة الثانية، وهل يلزمه الاستئناف؟ على القولين في البصير إذا تيقن الخطأ. [فرع معرفة الأعمى القبلة] ] . وإن عرف الأعمى القبلة باللمس، فصلى إليها. . . أجزأه؛ لأن ذلك بمنزلة الخبر. وإن دخل الأعمى في الصلاة بالتقليد، ثم أبصر في حال الصلاة، فإن بان له حين أبصر: أن الجهة التي يصلي إليها جهة القبلة.. أتم صلاته. وإن احتاج إلى الاجتهاد. . بطلت صلاته؛ لأنه صار من أهل الاجتهاد. وإن دخل البصير باجتهاده في الصلاة، ثم عمي في أثنائها. . . مضى على صلاته؛ لأن اجتهاده أولى من اجتهاد غيره، فإن تحول عنها. . . بطلت صلاته؛ لأنه لا يمكنه الرجوع إليها، ويحتاج أن يقلد، وذلك لا يمكنه في الصلاة.

مسألة خفاء دلائل القبلة بغيم وحكم تعلم ذلك

[مسألة خفاء دلائل القبلة بغيم وحكم تعلم ذلك] ] : وإن كان ممن يعرف الدلائل ولكن خفيت عليه؛ لظلمة، أو غيم. . فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فهو كالأعمى) وظاهر هذا أنه يجوز له التقليد. وقال في موضع: (ولا يسع بصيرا خفيت عليه الدلائل أن يقلد غيره) . واختلف أصحابنا فيها: فقال أبو إسحاق: لا يقلد، قولا واحدًا، بل عليه أن يتعلم ويجتهد؛ لأنه يمكنه ذلك. وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (هو كالأعمى) أراد: في وجوب الإعادة، إذا ضاق الوقت عن الاجتهاد. . فإنه يصلي ويعيد، كالأعمى إذا لم يجد من يقلده. وقال أبو العباس: هي على حالين: إن ضاق الوقت. . قلد غيره، وإن اتسع. . تعلم واجتهد. وقال أكثر أصحابنا: هي على قولين - وهو الصحيح -. أحدهما: يقلد لأنه خفيت عليه الدلائل، فهو كالأعمى. والثاني: لا يقلد؛ لأنه من أهل الاجتهاد. وإن كان من ممن لا يعرف الدلائل، ولكن إذا عرفها عرف، فإن كان الوقت واسعا.. لزمه أن يتعرفها، ولا يقال: إن ذلك تقليد، كما أن العامي إذا أخبر العالم بخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستدل به.. لا يقال: قلده فيما حكم به. فإن أمكنه التعلم، فأخره حتى ضاق الوقت عن التعلم والاجتهاد. . . صلى بالتقليد، وهل يعيد؟ فيه وجهان، كمن كان معه ماء، فأراقه بعد دخول الوقت وتيمم.

فرع الغريق والمريض

وإن لم يجد من يتعلم منه إلا في آخر الوقت، وضاق الوقت عن التعلم والاجتهاد، أو كان محبوسا في موضع لا يتمكن فيه من الاجتهاد. . فهل يجزئه أن يقلد غيره؟ على الطرق الثلاث في المسألة قبلها. إذا ثبت هذا: فإن تعلم ما يكفي من دلائل القبلة فرض من الفرائض الأعيان؛ لأنه لا يمكنه أداء الصلاة إلا بذلك. [فرع الغريق والمريض] ] . قال في " الإبانة " [ق\60] : إذا بقي الغريق على خشبة في البحر. . فإن يصلي على حسب حاله، وهل يعيد؟ فيه قولان. وإن لم يجد المريض من يوجهه إلى القبلة. . صلى كيف أمكنه، فمن أصحابنا من قال في وجوب الإعادة عليه القولان في الغريق. ومنهم من قال: يعيد، قولا واحدا؛ لأن ذلك نادر. [مسألة في التنفل على الراحلة] ] : يجوز التنفل في السفر على الراحلة حيثما توجه إلى جهة مقصده؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] [البقرة: 115] ، قال ابن عمر: نزلت هذه الآية في التطوع. وروى ابن عمر قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على حماره متوجها إلى خيبر» . ومن توجه إلى خيبر من المدينة. . فإنه يستدبر القبلة. ويجوز ذلك في السفر الطويل والقصير.

وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " مختصر البويطي ": (وقد قيل: لا يتنفل أحد على ظهر دابة، إلا في سفر تقصر فيه الصلاة) . فقال البغداديون من أصحابنا: هذا على قول مالك، وليس بقول له. والخراسانيون من أصحابنا: جعلوه قولا ثانيا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ودليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلى على راحلته، حيثما توجهت به» . ولم يفرق بين: الطويل والقصير. ولأنه إنما جوز له ذلك في السفر؛ حتى لا ينقطع عن النافلة، وهذا المعنى موجود في السفر الطويل والقصير. إذا ثبت هذا: فإن كان راكبًا في كنيسة واسعة أو عمارية يمكنه أن يدور فيها. . . فإنه يصلي إلى جهة القبلة، ويركع، ويسجد، كما يفعل بالسفينة، ولا يومئ. فإن أمكنه القيام فيها، وأراد أن يصلي عليها الفريضة. . . ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز - وهو المنصوص في " الأم " - لأن البهيمة لها اختيار بنفسها، ولا تكاد تثبت على حالة واحدة، فيؤدي ذلك إلى تغيره عن القبلة، بخلاف السفينة؛ لأنها لا تسير بنفسها وإنما يسيرها مسير إلى جهة واحدة لا تختلف. والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب -: أنه يصح، كما لو صلى على سرير يحمله أربعة. قال ابن الصباغ: وهذا إنما يكون إذا كانت راحلته واقفة، أو كان لها من يسيرها فتتبعه.

فأما إذا كان راكبا في كنيسة ضيقة، أو على: قتب، أو زاملة، أو سرج، وأراد أن يصلي عليها النافلة، وكانت الدابة واقفة، فإن كانت مقطرة. . . فله، أن يصلي حيثما توجه. وإن كانت منفردة. . . لزمه استقبال القبلة عند افتتاح الصلاة؛ لأنه يمكنه ذلك. قال ابن الصباغ: والذي يقتضيه القياس: أنه ما دام واقفا. . فإنه لا يصلي إلا إلى القبلة، فإذا أراد السير.. انحرف إلى طريقه. وإن كانت الدابة سائرة، فإن كانت مقطرة. . افتتح الصلاة، وأتمها إلى جهة مقصده. وإن كانت منفردة، فإن كانت صعبة يشق إدارتها. . لم يلزمه إدارتها. وإن كانت سهلة. . ففيه وجهان. أحدهما: يلزمه إدارتها إلى القبلة، لافتتاح الصلاة، والركوع، والسجود؛ لأن ذلك يمكنه. والثاني: لا يلزمه؛ لأن ذلك يقطعه عن سفره. فإذا أراد أن يركع ويسجد. . أومأ إيماء إلا أنه يجعل السجود أخفض من الركوع. فإن سجد على مقدمة سرجه أو رحله. . . جاز، ولا يلزمه ذلك. وإذا استفتح الصلاة إلى جهة مقصده، ثم انحرف عنها إلى جهة ثانية، وثالثة، وكل ذلك جهات مقصده. . صحت صلاته.

فرع المسافر يدخل بلدا مصليا

وإن انحرف إلى غير جهة مقصده، فإن كان جهة القبلة.. صحت صلاته؛ لأن القبلة هي الأصل. وإن كانت غير جهة القبلة، فإن كان عالما بذلك.. بطلت صلاته؛ لأنه عدل عن القبلة بما لا حاجة به إليه. وإن كان مخطئا، بأن نسي أنه في الصلاة، أو ظن أنها جهة مقصده، أو غلبته الدابة. . قال الشافعي رحمه: (فإن رجع عن قريب. . بنى على صلاته، ولم يسجد للسهو، وإن تمادى ساهيا، ثم ذكر. . عاد وبنى على صلاته، وسجد للسهو) . [فرع المسافر يدخل بلدًا مصليًا] ] . وإذا دخل الراكب بلدا وهو في الصلاة، فإن كان بلد إقامته، أو نوى الإقامة فيه. . . فعليه أن ينزل، ويتم صلاته إلى القبلة، ولا يؤثر النزول في الصلاة؛ لأنه عمل يسير. وإن كان مجتازا فيه.. فإنه يتم صلاته إلى جهة مقصده، ولا تأثير للبنيان. وإن دخله لينزل فيه، ثم يرتحل. . فإنه يمضي على صلاته، ما دام سائرًا، فإذا نزل. . صلى إلى القبلة. وإن كان له فيه أهل ومال، ولم ينو الإقامة فيه.. ففيه قولان، حكاهما في " الإبانة " [ق\61\أ] : أحدهما: حكمها حكم دار إقامته؛ تغليبا لأهله وماله. والثاني: حكمها حكم الصحراء؛ لأنه مسافر فيها. [فرع تنفل المسافر الماشي] ] : وإن كان المسافر ماشيا. . . جاز له أن يتنفل إلى جهة مقصده.

فرع حكم غير الفرائض في السفر

وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يجوز) . دليلنا: أنه إحدى حالتي مسير السفر، فجاز فيه التنفل، كحالة الركوب. إذا ثبت هذا: فإن الماشي يلزمه استقبال القبلة عند افتتاح الصلاة، وعند الركوع والسجود؛ لأن ذلك لا يقطعه عن السير. وهل يلزمه السجود على الأرض، أو يكفيه الإيماء، كالركب؟ فيه وجهان، حكاها في " الإبانة " [ق\61\أ] : الصحيح: يلزمه ذلك على الأرض. وهل يلزمه استقبال القبلة في السلام؟ فيه وجهان. ويجوز له القراءة والتشهد، وهو يمشي إلى جهة مقصده؛ لأن مدته تطول. [فرع حكم غير الفرائض في السفر] ويجوز سجود التلاوة والشكر، والسنن الرواتب في السفر في حال السير؛ لأنها نوافل. وهل تصح فيه صلاة النذر؟ فيه قولان، بناء على أنه: هل يسلك به مسلك النفل، أو الفرض؟ وفي ركعتي الطواف قولان، بناء على القولين في وجوبهما. قال الصيدلاني: ولا تصح صلاة العيد، والخسوف والاستسقاء في حال السير في السفر؛ لأنها تندر. وأما صلاة الجنازة، فإن تعينت عليه.. لم يجز فعلها في السير في السفر؛ لأنها واجبة عليه، فهي كفرائض الأعيان. وإن لم تتعين عليه.. فوجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: تصح؛ لأنها غير واجبة عليه، فهي كسائر النوافل. والثاني: لا تصح - وهو المنصوص - لأنها وإن لم تتعين عليه، فإنها تقع واجبة، وليست بتطوع.

فرع تنفل الحاضر

[فرع تنفل الحاضر] فأما إذا أراد الحاضر أن يتنفل، فإن كان واقفا. . . لم يجز له ترك الاستقبال. وإن كان سائرًا.. فهل يجوز له ترك الاستقبال في النفل؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه يجوز له؛ لأن عادة الناس في الحضر المشي في حوائجهم أكثر النهار، فجوز لهم ترك الاستقبال في النفل، لئلا ينقطعوا عنه، كما قلنا في السفر. والثاني - وهو الصحيح -: أنه لا يجوز؛ لأن الغالب من حال الحاضر اللبث والمقام. [مسألة سترة المصلي] المستحب لمن يصلي إلى السترة أن يدنو منها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم إلى السترة. . . فليدن منها» . قال الشافعي: (والمستحب أن يكون بينه وبينها ثلاثة أذرع، أو أقل) ؛ لما وري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان بينه وبين قبلته قدر ممر العنز» : وهي الشاة. وقد يكون ثلاثة أذرع أو أقل، ولا يتباعد منها أكثر من ذلك؛ لما روى ابن المنذر: أن مالكا كان يصلي مباينا عن السترة، فمر به رجل لا يعرفه، فقال: أيها المصلي، ادن من سترتك، فجعل مالك يتقدم، ويقول: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] [النساء: 113] .

فإن كان يصلي في الصحراء.. فالمستحب: أن ينصب بين يديه عصا، ويكون طولها ذراعا، لما روى طلحة بن عبيد الله: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل. . فلا يبالي من مر وراء ذلك» . قال عطاء: مؤخرة الرحل ذراع. وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج إلى العيد. . تنصب له الحربة، فيصلي إليها، وكذلك كان يفعل في السفر» . قال الشيخ أبو حامد: ومن هناك اتخذ الولاة ينصبون الحربة في العيد. قال في " مختصر البويطي ": (ولا يستتر بامرأة، ولا دابة) . وقد ذكر ابن المنذر، عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى بعير» . قال في " البويطي ": (ولا يخط المصلي بين يديه خطا، إلا أن يكون فيه حديث ثابت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . فيتبع) . وكرهه مالك، وأبو حنيفة. وقال الشافعي في القديم: (أستحب له أن يخط بين يديه خطا) لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فإن لم يكن معه عصا. . فليخط خطًا» .

فرع المرور بين يدي المصلي والتوجه لوجه آدمي

قال أصحابنا: يسن ذلك، قولا واحدًا؛ لهذا الحديث. قال أبو داود: ويكون الخط كهيئة الهلال. [فرع المرور بين يدي المصلي والتوجه لوجه آدمي] ] . قال المسعودي [في " الإبانة "] : ويكره المرور بين يدي المصلي، إذا كان يصلي إلى سترة أو عصا أو خط، وكان بينهما ثلاثة أذرع، أو ذراعان. فإن مر بين يديه مار في هذه الحالة. . فله منعه. وإن لم يجعل المصلي تلقاءه شيئا من ذلك. لم يكره المرور بين يديه؛ لأن المصلي فرط في حق نفسه. وإن مر بين يدي المصلي مار. . لم تبطل صلاته. وقال أحمد، وإسحاق: (إن مر بين يديه كلب أسود، أو امرأة حائض، أو أتان. . بطلت صلاته) . دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقطع صلاة المرء شيء، فادرؤوا ما استطعتم» . ويكره أن يجلس رجل مستقبل القبلة للمصلي، لما روي: " أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب رجلين فعلا ذلك ". وبالله التوفيق.

باب صفة الصلاة

[باب صفة الصلاة] إذا أراد الرجل أن يصلي في جماعة. . لم يقم، حتى يفرغ المؤذن من الإقامة. وقال أبو حنيفة: (يقوم إذا قال المؤذن: حي على الصلاة، ويكبر إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة) . دليلنا: ما روي: أن بلالا لما أخذ في الإقامة. . قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقامها الله وأدامها» وقال في سائر الإقامة كقوله، وهذا يبطل قول أبي حنيفة. ولأن قبل الفراغ من الإقامة ليس بوقت للدخول، فلا معنى للقيام. والقيام فرض في الصلاة المفروضة مع القدرة عليه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] [البقرة: 238] ، قال الشافعي: (مطيعين) . وروى عمران بن الحصين قال: «كان بي بواسير، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة؟ فقال: " صل قائمًا، فإن لم تستطع.. فقاعدًا، فإن لم تستطع.. فعلى جنب» . وأما النفل: فيصح قاعدا مع القدرة على القيام؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتنفل قاعدًا على راحلته في السفر» . وهل له أن يتنفل مضطجعا، أو مومئا مع القدرة على القعود؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\64] . [مسألة النية في الصلاة] ثم ينوي، والنية واجبة في الصلاة، لا خلاف في وجوبها.

والأصل في وجوبها قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] [البينة: 5] . و (الإخلاص) : هو النية. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» . إذا ثبت هذا: فالكلام في محل النية، ووقتها، وكيفيتها. فأما (محلها) : فالقلب؛ لأن النية الإخلاص، ولا يكون الإخلاص إلا بالقلب. فإن نوى بقلبه، وتلفظ بلسانه.. فقد أتى بالأكمل. وإن تلفظ بلسانه، ولم ينو بقلبه.. لم يجزه. وإن نوى بقلبه، ولم يتلفظ بلسانه.. أجزأه. ومن أصحابنا من قال: لا يجزئه؛ لأن الشافعي قال: (وليس الصلاة كالحج؛ لأن الصلاة في أولها نطق واجب) . وهذا غلط؛ لأن النية هي القصد، وقد وجد منه ذلك، وما قاله الشافعي.. فإنما أراد به: النطق بالتكبير، لا بالنية. وأما (وقتها) : فإن الشافعي قال: (وإذا أحرم إماما كان أو وحده.. نوى صلاته في حال التكبير لا قبله، ولا بعده) . قال أصحابنا: لم يرد بهذا: أنه لا يجوز أن تتقدم النية على التكبير، ولا تتأخر عنه، وإنما أراد الشافعي بقوله: (لا قبله) : أنه لا يجوز أن ينوي قبل التكبير، ويقطع نيته قبل التكبير. وكذلك لم يرد بقوله: (ولا بعده) : أنه لا يجوز استدامتها بعد التكبير، وإنما أراد به لو ابتدأ بالنية بعد التكبير.. لم يجزه، فإن نوى قبل التكبير واستصحب ذكرها إلى آخر التكبير أجزأه، وكذلك لو استدام ذكرها بعد الفراغ من التكبير.. أجزأه، وقد أتى بأكثر مما يجب عليه، ولا يضره ذلك. وإن نوى قبل التكبير، واستصحب ذكرها في أول التكبير لا غير.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ". أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه عري حرف من التكبير عن ذكر النية، فلم يجزئه، كما لو عري أول حرف منها.

والثاني: يجزئه - وهو اختيار صاحب " الفروع " - لأنه يشق استصحاب ذكر النية في جميع التكبير. ويجب أن يستصحب حكم النية لا ذكرها في جميع الصلاة، كما قلنا في الطهارة. هذا مذهبنا. وقال داود: (يجب أن تتقدم النية على التكبير، فإن نوى مع التكبير. . لم يجزئه؛ لأنه إذا نوى مع التكبير، فإلى أن تتكامل نيته، يمضي جزء من التكبير عاريا عن النية) . وقال أبو حنيفة، وأحمد: (إذا تقدمت النية على التكبير بزمان يسير. . جاز) . دليلنا على داود: أن النية ليست بلفظ يحتاج أن يأتي بها حرفا بعد حرف، فيتكامل ذلك في أزمنة متراخية، وإنما هي اعتقاد، والاعتقاد يمكن في جزء يسير. وعلى أبي حنيفة، وأحمد: أنها تحريمة عريت عن النية، فلم تصح، كما لو تقدمت على التكبير بزمان طويل. وأما (كيفية النية) : فإن كانت الصلاة فرضا. . فلا بد أن ينوي: أنها الظهر، أو العصر؛ لتتميز عن غيرها. وهل يجب عليه أن ينوي: أنها فريضة عليه؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد -: أنه يجب عليه ذلك؛ ليتميز عن ظهر الصبي، وظهر من صلى وحده، ثم أدرك جماعة يصلون فصلاها معهم. والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، وأبي حنيفة -: أنه لا يجب عليه ذلك؛ لأنها لا تكون على هذا إلا فرضا. ولأن الصبي إذا صلى صلاة الوقت في أول الوقت، ثم بلغ في آخره.. أجزأه عند الشافعي وإن لم ينو الفريضة. ولأن الشافعي قال: (إذا صلى وحده، ثم أعادها في جماعة. . . إن الله يحتسب له بأيتهما شاء) ، هذا يدل على: أن نية الفرض لا تجب عليه. وهل يلزمه نية أعداد الركعات، ونية استقبال القبلة؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\61\ب] والصحيح: لا يلزمه.

فرع نية القضاء

وهل يلزمه أن ينوي: لله؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه؛ لأن الصلاة لا تكون إلا لله. الثاني: يلزمه؛ ليتميز عن الصلاة اللغوية التي هي الدعاء. [فرع نية القضاء] ] . وإذا أراد أن يصلي الفائتة. . . فهل تلزمه نية القضاء؟ فيه وجهان، وحكاهما الشيخ أبو حامد قولين. أحدهما - قاله في القديم -: (أنه لا بد من نية القضاء؛ ليتميز عن صلاة الوقت) . والثاني -وهو قول القاضي أبي الطيب -: أنه لا يفتقر إلى نية القضاء؛ لأن الشافعي نص فيمن صلى يوم الغيم، وبان أنه صلى بعد الوقت: (أنه يجزئه) ، ونص في الأسير، إذا تحرى، فوافق صومه ما بعد رمضان: (أنه يجزئه) ، وكذلك لو اعتقد أن وقت الصلاة قد فات، فنوى القضاء، ثم بان أن الوقت باق.. أجزأه، فبان: أن نية القضاء ليست بواجبة. قال ابن الصباغ: ويمكن أن يجاب القاضي عن هذا، فيقال له: هاهنا نوى صلاة وقت بعينه، وهو ظهر هذا اليوم، فكيف وقعت. .أجزأه؛ لأنه قد عين وقت وجوبها، كمن نوى صلاة أمس فاتته. . فإن يجزئه وإن لم ينو القضاء. وإنما يتصور الخلاف فيمن عليه فائتة الظهر، فصلى في وقت الظهر، ينوي: صلاة الظهر الفريضة، فإن هذه الصلاة تقع بحكم الوقت. وإذا كان نسى أنه صلى، فصلى ثانيا، ينوي: الظهر الفريضة، فيجيء على ما حكاه الشيخ أبو حامد عن القديم: أنه لا يجزئه عن القضاء، ويقع نافلة، وعلى قول القاضي.. يجزئه. ولا يشبه هذا ما ذكره الشافعي لما مضى، ويلزم القاضي أن يقول: في رجل صلى قبل الظهر صلاة الظهر، يعتقد أن الوقت قد دخل ولم يكن دخل -: إنها تجزئه عن

فرع النية لأكثر من صلاة فائتة

فائتة الظهر. وأما من صلى في غير وقت الظهر، ونوى: الظهر الفريضة، وهو عالم بالوقت.. فلا بد أن يكون عالما بسبب الوجوب، وهو فوت الظهر في وقتها، فقد تضمنت نيته القضاء. ومثل ما صورته في الصلاة لا يتصور في الصوم؛ لأنه لا يقضيه. إلا في غير زمانه، فإذا نواه في غير رمضان. . فقد تضمنت نيته القضاء. [فرع النية لأكثر من صلاة فائتة] قال في " الأم " [1/186] : (ولو فاتته الظهر والعصر، فدخل في الصلاة ينويهما جميعا.. لم تجزئه) ؛ لأن التعيين واجب، وتشريكه بين الصلاتين يمنع وقوعها لإحداهما. قال: (ولو دخل بنية إحداهما، ثم شك، فلم يدر أيتهما نوى.. لم يجزئه هذا عن إحداهما، حتى يتيقن أيتهما نوى) . [فرع الاستثناء وتشريك النية بين فرض وسنة] قال الصيدلاني: إذا زاد في النية: إن شاء الله. فإن أراد الاستثناء. . . لم تصح؛ لأنه أدخل في الصلاة ما ينافيها ويرفعها. وإن أراد إيقاع الصلاة بمشيئة الله. . أجزأه؛ لأن الأفعال لا تقع إلا بمشيئة الله. وإن نوى الفرض والنفل. . لم تنعقد صلاته. وبه قال محمد. وقال أبو حنيفة: (تنعقد بالفرض) . دليلنا: أنه نوى صلاتين مختلفتين، فلم تصح، كما لو نوى الفرض والجنازة. ذكره أبو المحاسن. [فرع نية الإمام والمأموم] إذا كان إماما. . . فيسن له: أن ينوي الإمامة، فإن لم ينو ذلك. . لم تحصل له فضيلة الجماعة، هكذا ذكره الجويني. وتجوز نية الإمامة بعد التكبيرة.

فرع التكبير بغير نية

وإن كان مأمومًا.. قال الجويني، والمسعودي [في " الإبانة " ق\61\ب] : فعليه أن ينوي الاقتداء، فإن لم ينو ذلك، وتابع الإمام. . بطلت صلاته. [فرع التكبير بغير نية] إذا كبر مع النية، ثم كبر من غير نية.. لم تبطل الأولى؛ لأن التكبير لا يبطل الصلاة. وإن كبر ثانيًا، ونوى افتتاح الصلاة.. قال ابن القاص: بطلت الأولى، ولا تصح الثانية؛ لأن الشروع لا يتكرر. فإذا نوى الافتتاح ... فلا يكون إلا بعد الخروج من الأولى فتضمنت نيته الخروج من الأولى، ولم تصح له الثانية؛ لأن الشيء الواحد لا يصير به خارجًا من الصلاة، داخلاً به فيها. فإن كبر ثالثًا: صحت له، فإن كبر رابعا مع النية. . . بطلت الثالثة. وحكى الصيدلاني وجها آخر: أن الأولى لا تبطل بالثانية؛ لأنه تكرار تكبير لم ينو به الإبطال. والأول هو المشهور. فلو قطع نيته الأولى قبل التكبيرة الثانية.. انعقدت الصلاة بالثانية. قال الطبري: فإن نوى الشروع قبل التكبيرة الثانية، ثم كبر الثانية مستديما لهذه النية. . فهل يصير شارعا بالصلاة في التكبيرة الثانية؟ فيه وجهان، بناء على ما لو قال: إذا لقيت فلانا.. فقد خرجت من الصلاة.. فهل تبطل في الحال، أو حتى يلقاه؟ على جهين: فإن قلنا: تبطل في الحال. . . صح له الشروع هاهنا بالتكبيرة الثانية؛ لأنه لما نوى الشروع. . صار كأنه نوى قطع الصلاة؛ فإذا كبر مستديما لهذه النية. . انعقدت صلاته. وإن قلنا: لا تبطل صلاته حتى يلقى فلانا، لم يصر شارعا هاهنا بالتكبيرة الثانية، فإن كبر ثالثا. . انعقدت.

فرع نية الرواتب وغيرها

[فرع نية الرواتب وغيرها] ] . وإن كانت الصلاة نافلة، فإن كانت غير راتبة.. أجزأته نية الصلاة، وإن كانت راتبة.. فلا بد أن ينوي سنة الظهر أو الصبح، أو صلاة العيد وما أشبهها، لتتميز بذلك عن النوافل التي ليست براتبة. [فرع الشك في النية] ] . قال الشافعي: (وإذا شك هل عين النية للفريضة؟ ثم ذكر بعد ذلك، أنه كان قد عين، فإن كان ذلك قبل أن يفعل شيئا من الصلاة.. مضى على صلاته وأجزأه وإن تذكر بعد ما فعل شيئا من الصلاة في حال الشك. . . بطلت) . وإن كان هذا الشك في أصل النية. . . ففيه وجهان: أحدهما: أن حكمه حكم ما لو شك في التعيين، وهو الأصح؛ لأن التعيين يجب كما يجب أصل النية. والثاني: تبطل الصلاة بنفس الشك؛ لأنه لم يتيقن الدخول في الصلاة. إذا ثبت هذا: فإن قرأ الفاتحة، أو ركع، أو رفع منه، أو سجد، أو رفع منه في حال الشك.. بطلت صلاته؛ لأن فعل الصلاة في حال الشك، لا يصح. وإن وقف، ولم يفعل شيئا من ذلك، أو سبح في حال الشك إلى أن ذكر. . لم تبطل صلاته؛ لأن الصلاة لو خلت من ذلك الجزء. . . لجازت، بخلاف القراءة، والأفعال التي ذكرناها. [فرع الشك في نية القصر] ] . ولو كان مسافرًا فشك: هل نوى القصر؟ فإن تذكر في الحال أنه كان قد نواه. . لزمه الإتمام؛ لأنه حصل في جزء من صلاته من غير نية القصر، فيصير في تلك الحال كأنه نوى الإتمام.

فرع نية الخروج

وإن صلى الظهر والعصر، ثم تيقن أنه نسي النية في إحداهما.. وجب عليه إعادتهما. [فرع نية الخروج] وإن نوى الخروج من الصلاة، أو شك: هل يخرج أم لا. . بطلت صلاته. وقال أبو حنيفة: (لا تبطل) . دليلنا: أن استدامة حكم النية واجب في الصلاة، فإذا قطعها.. بطلت، كما لو أحدث فيها عامدًا. وإن دخل صلاة الظهر، ثم صرفها إلى العصر.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: يبطل الظهر؛ لأنه قطع نيته، ولا تصح له العصر؛ لأنه لم ينوها عند الإحرام. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\62] : لا تصح له الظهر والعصر، وهل تصح له نفلا؟ فيه قولان. قال: وكذا لو كبر للظهر قاعدا مع القدرة على القيام، أو أحرم بالظهر قبل الزوال، أو اقتدى بإمام مريض يصلي قاعدًا، فقدر على القيام، فلم يقم، وعلم بحاله، فلم يخالفه.. فهل تنعقد له نفلا؟ فيه قولان. قال: ومثله لو أحرم بالحج قبل أشهر الحج. . لم ينعقد له الحج، وهل تنعقد له العمرة؟ فيه قولان. وإن صرف الظهر إلى النفل. . قال أصحابنا البغداديون: فإن الظهر لا يصح له؛ لأنه قطع نيته. وهل يصح له النفل؟ فيه قولان. أحدهما: لا يصح له، كما لا تصح العصر إذا انتقل إليه من الظهر. والثاني: يصح لأن نية الفرض تتضمن النفل، ولهذا لو أحرم بالظهر قبل وقته وهو يظن أن الوقت قد دخل. . . أنها تنعقد له نافلة.

مسألة تكبيرة الإحرام

[مسألة تكبيرة الإحرام] وتكبيرة الإحرام واجبة لا تنعقد الصلاة إلا بها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مفتاح الصلاة الوضوء، وتحريهما التكبير، وتحليلها التسليم» . قال الصيمري: والإمام يدخل في الصلاة بفرضين وسنتين: فالفرضان: النية والتكبير، والسنتان: رفع اليدين، والجهر بالتكبير. والمأموم يدخل بفرضين وسنة؛ لأنه لا يسن له الجهر بالتكبير، بل يسمع نفسه. قال الشافعي: (ولا يجزئه إلا قوله: الله أكبر، أو الله الأكبر) . وقال مالك: (لا تنعقد بقوله الله الأكبر) . وقال أبو حنيفة، ومحمد: (تنعقد بكل اسم لله على وجه التعظيم، كقوله: الله العظيم، أو: الله الجليل، وكقوله: الحمد لله، أو: سبحان الله، أو: لا إله إلا الله، فأما الدعاء، كقوله: اللهم اغفر لي وارحمني. . فلا تنعقد به الصلاة) . وقال الزهري: لا تفتقر الصلاة إلى التكبير، بل إذا نوى الصلاة. . انعقدت وإن لم يكبر، كسائر العبادات. ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وتحريمها التكبير» . وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفتتح الصلاة بقوله: " الله أكبر "، وما روي عنه: أنه عدل إلى غيره، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .

فرع التكبير بالعربية

وقوله: الله الأكبر، هو كقوله: الله أكبر، وفيه زيادة لا تحيل المعنى، فإن قال: الله العظيم الخالق أكبر. . أجزأه، وإن قال: الله أكبر وأجل وأعظم وأعز. . . أجزأه؛ لأنه أتى بقوله: الله أكبر، وزاد زيادة لا تحيل المعنى، فهو كقوله: الله أكبر كبيرًا. قال الشافعي: (وإن قال: الله أكبر من كل شي وأعظم، ونوى به التكبير. . . دخل في الصلاة بقوله: الله أكبر، وكان ما زاد عليه نافلة، وإن قال: الله الكبير، أو الكبير الله. . لم يجزئه؛ لأن ذلك ليس بتكبير) . وإن قال: أكبر الله، أو الأكبر الله. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: فيه وجهان: أحدهما: يجوز، كما لو قال: عليكم السلام في آخر الصلاة. والثاني: لا يجوز، كما لو غير الترتيب في الفاتحة. وقال المسعودي في [" الإبانة " ق\63] : نص الشافعي: (أنه لو قال: الأكبر الله.. لا يجزئه) ، ونص: (لو قال: عليكم السلام. . . أجزأه) . فمن أصحابنا من قال: فيهما قولان. ومنهم من حملهما على ظاهرهما، فقال في التكبير: لا يجزئه، وفي السلام: يجزئه؛ لأنه يسمى مسلما وإن عكسه، ولا يسمى مكبرا إذا عكسه. [فرع التكبير بالعربية] ] : ولا يجوز أن يكبر بالفارسية، مع قدرته على العربية - وبه قال محمد، وأبو يوسف - وكذلك سائر الأذكار فيها مثل التسبيح والتشهد. وهل يجوز أن يأتي بالشهادتين في غير الصلاة بالفارسية مع قدرته على العربية؟ وهل يحكم بإسلامه بذلك؟ فيه وجهان. وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يكبر بالفارسية، مع قدرته على العربية) . دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر بالعربية، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .

فرع تكبير الأخرس ونحوه

فإن لم يحسن العربية. . فعليه أن يتعلم. فإن اتسع الوقت للتعلم، فلم يفعل، وكبر بالفارسية. . لم تصح صلاته؛ لأنه ترك الفرض مع القدرة عليه. [فرع تكبير الأخرس ونحوه] فإن كان بلسانه اضطراب، لا يمكنه أن يفصح بالتكبير، أو كان أخرس، أو مقطوع اللسان. . فإنه يجب عليه أن ينوي التكبير، ويحرك لسانه وشفتيه بقدر ما يمكنه، وكذلك في القراءة والأذكار الواجبة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر. . . فأتوا منه ما استطعتم» . [فرع الجهر بالتكبير] ] . قال في " الأم " [1/88] : (وأحب للإمام أن يجهر بالتكبير ويبينه، ولا يمططه، وإنما يجهر؛ ليسمع المأموم) . و (التمطيط) : هو المد، وذلك مثل أن يقول: أكبار، فيزيد ألفا. . فلا يجوز؛ لأن (الأكبار) : جمع كبر، وهو الطبل. وكذلك إن مد الهمزة التي في قوله: آلله. . . لا يجزئه؛ لأنه يصير استفهامًا. ولا يقصره أيضا، بحيث ينقص حروفه. وأما المأموم: فلا يستحب له الجهر به؛ لأنه لا يتعبه غيره، بل يأتي بالواجب، وأقله: أن يسمع نفسه، وإن كان أقل من ذلك. . لم يعتد به؛ لأن ذلك ليس بتكبير، بل هو حديث نفس. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والنساء يسمعن أنفسهن بالتكبير، فإن أمتهن إحداهن. . جهرت بالتكبير؛ لأنه يقتدى بها، وتخفض من صوتها، ليكون دون صوت الرجال)

فرع نقص لفظ التكبير

[فرع نقص لفظ التكبير] قال في " الأم " [2/87-88] : (فإن بقي من التكبير حرف، فأتى به وهو منحن للركوع. . لم يكن داخلا في الصلاة المكتوبة، وكان في نافلة) . قال القاضي أبو الطيب: هذا إذا كان جاهلًا بأن ذلك لا يجوز، فأما إذا كان عالما بأن ذلك لا يجوز: فإنها لا تنعقد صلاته بفرض ولا نفل، كما قلنا - فيمن صلى الظهر، يعتقد أن الوقت قد دخل، ولم يكن دخل -: إنها تنعقد له نفلا، وإن صلى الظهر قبل وقتها مع علمه بذلك. . لم تنعقد صلاته. هذا نقل أصحابنا البغدادين، وقد تقدمت طريقة الخراسانيين. [فرع التكبير والتسليم من الصلاة] التكبير من الصلاة - إلا أنه لا يدخل في الصلاة إلا باستكمال التكبير - وهو أول الصلاة، والتسليم من الصلاة وهو آخرها. وقال أبو حنيفة: (التكبير ليس من الصلاة، وإنما يدخل به فيها، والتسليم ليس من الصلاة، وإنما يخرج به منها) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هي التكبير، والقراءة والتسبيح» فدل على: أن التكبير من جملتها. ولأنه ذكر من شرط صحة كل صلاة، فوجب أن يكون منها، كالقراءة. فقولنا: (من شرط صحة كل صلاة) احتراز من الخطبة، فإنها شرط في الجمعة لا غير.

فرع تكبير المأموم عقب تكبير الإمام

[فرع تكبير المأموم عقب تكبير الإمام] ] : ولا يكبر المأموم، حتى يفرغ الإمام وبه قال مالك، وأبو يوسف. وقال الثوري، وأبو حنيفة، ومحمد: (يكبر مع الإمام، كما يركع مع ركوعه) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا كبر الإمام. . فكبروا» . فإن سبق المأموم الإمام بالتكبيرة. . فإنه ينوي قطعها، ثم يكبر، وينوي الاقتداء بالإمام. قال ابن الصباغ: وهذا يتصور عندي، إذا اعتقد أنه قد كبر، ولم يكن قد كبر. وإن ألحق صلاته بصلاة الإمام من غير أن ينوي القطع. . ففيه قولان، كما نقول في المنفرد إذا ألحق صلاته بصلاة الإمام، ويأتي توجيههما. وإن أدرك الإمام في الركوع، فكبر تكبيرة واحدة، نوى بها الافتتاح، وتكبيرة الركوع.. لم تجزئه عن الفرض؛ لأنه أشرك بين الفرض والنفل، وهل تجزئه عن النفل؟ فيه وجهان: أحدهما: تنعقد نفلا، كما لو أخرج رجل خمسة دراهم، ودفعها إلى المساكين، ونوى بها الزكاة وصدقة التطوع، فإنها لا تجزئه عن الزكاة، وتقع له تطوعا. والثاني: لا تنعقد نفلًا، كما لو أحرم بصلاة ونواها عن الفرض والنفل. . فإن صلاته لا تنعقد. [مسألة رفع اليدين] ويستحب أن يرفع يديه في تكبيرة الافتتاح، وعند الركوع، والرفع منه، وبه قال

الأوزاعي، والليث، وأحمد، وإسحاق، ورواه ابن وهب عن مالك. وقالت الزيدية: لا يرفع يديه في شيء من الصلاة. وقال أبو حنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى: (يرفع يديه في تكبيرة الافتتاح، ولا يرفع في الركوع، ولا في الرفع منه) . دليلنا: ما روى ابن عمر قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة. . . رفع يديه حذو منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعد ما يرفع رأسه من الركوع، ولا يرفع بين السجدتين» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (روى هذا اثنا عشر رجلا من الصحابة، ورواه أبو حميد في عشرة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدهم: أبو قتادة) . إذا ثبت هذا: فإنه يرفع يديه، حتى تحاذي كفاه منكبيه، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة: (يرفعهما، حتى تحاذي الكفان الأذنين) . واحتج بما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه، حتى حاذتا أذنيه» . ودليلنا: ما روي: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما قدم العراق المرة الأولى، جاءه أبو ثور، والكرابيسي - وكانا شيخي العراق - فأرادا أن يستعلما ما عنده، فقالا له:

تكلم، فقال: تكلما، فقالا: ما تقول في رجلين اصطدما، ومع كل واحد منهما بيضة، فانكسرت البيضتان؟ فقال: (هذا سهل، على كل واحد منهما نصف قيمة بيضة صاحبه. ولكن ما تقولان في رفع اليدين عند الافتتاح؟) فقالا: يرفع اليدين إلى المنكبين؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حذو منكبيه» . فقال: (ما تقولان فيما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حتى حاذتا أذنيه» ؟ . فقالا: نرفع اليدين إلى الأذنين، فقال: (فما تقولان فيما روى وائل بن حجر في خبر آخر: فرجعت إليهم - يعني: الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فرأيتهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم؟) فقالا: لا نعلم. فقال الشافعي: (أما رواية ابن عمر: فأراد أنه رفع الكف إلى المنكب، وأما رواية وائل بن حجر: فأراد أنه رفع أطراف الأصابع إلى أذنيه، وأما روايته الأخرى: أنه رجع إليهم وهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم: فإنما كان رجع إليهم في الشتاء، وكانت عليهم برانس وثياب الصوف الثقال، فلم يمكنهم أن يرفعوا أيدهم إلى المناكب؛ لثقل ما عليهم، فرفعوا إلى صدورهم) . فاستعمل الأخبار الثلاثة. ومتى يرفع يديه؟ حكى أصحابنا البغداديون فيه وجهين: أحدهما - وهو ظاهر قول الشافعي -: أنه لا يقدم رفع يديه على التكبير؛ لأن الرفع من هيئات الصلاة، والتكبير أول الصلاة، فلا تتقدم هيئته عليه، بل يرفع يديه عند ابتداء التكبير، فيفرغ من الرفع قبل فراغه من التكبير، فيتركهما مرفوعتين، حتى يفرغ من التكبير، ثم يرسلهما. فإن ترك يديه مرفوعتين بعد التكبير. . قال الشافعي: (لم يضره ذلك، ولا آمره به) . والثاني: وهو قول الشيخ أبي إسحاق المروزي، وأبي علي الطبري، أنه يبتدئ

فرع في رفع اليدين

بالرفع مع ابتداء التكبير، ويفرغ منه مع فراغه من التكبير. وليس بشيء؛ لأن من سنة التكبير: أن يأتي به مبنيا مرتلا، ولا يمكنه أن يأتي به على هذه الصفة في حال الرفع؛ لأن الرفع يحصل في وقت يسير لا يتمكن فيه من بيان التكبير وترتيله. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\63] فيه وجهين آخرين. أحدهما: أنه يرفع يديه من غير تكبير، ثم يرسلهما بتكبير. واستدل بأن أبا حميد الساعدي روى ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والثاني: يرفع يديه، ثم يكبر وهما مرفوعتان، ثم يرسلهما بعد التكبير، واستدل بأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - روى ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [فرع في رفع اليدين] قال الشافعي في " الأم " [1/90] : (ويرفع يديه في كل فريضة ونافلة، ولا فرق في ذلك بين الإمام والمأموم، ولا فرق بين أن يصلي قائما أو قاعدا) . قال الشافعي: (فإن ترك رفع اليدين، حيث أمر به. . كرهت ذلك، ولا إعادة عليه، ولا سجود) . وقال في " الأم ": (وينشر أصابع يديه للتكبير) ؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا كبر في الصلاة. . نشر أصابعه» . فإن نسي الرفع حتى فرغ من التكبير. . . لم يسن له الإتيان به؛ لأن محله فات وإن ذكره في أثناء التكبير. . أتى به؛ لأن محله باق. وإن كان بيديه علة لا يمكنه رفعهما إلى المنكبين. . رفعهما إلى حيث أمكنه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر. . فأتوا منه ما استطعتم» .

مسألة موضع اليدين عقب التكبير

وإن كانتا قائمتين لا يمكنه رفعهما إلى المنكبين إلا بأن يعلوا على المنكبين. . رفعهما إلى أعلى المنكبين. وكذلك إن كان يمكنه الرفع إلى ما دون المنكبين، ويمكنه الرفع إلى أعلى المنكبين ولا يمكنه الرفع إلى المنكبين. . فإنه يرفعهما إلى أعلى المنكبين؛ لأنه يأتي بزيادة هو مغلوب عليها. وإن كانت إحدى يديه صحيحة، والأخرى عليلة. . رفع الصحيحة إلى المنكبين، ورفع العليلة إلى حيث أمكنه؛ لما مضى. [مسألة موضع اليدين عقب التكبير] فإذا فرغ من التكبير، وحط يديه. . . فالمستحب: أن يقبض بكفه اليمنى كوعه الأيسر مع الرسغ وبعض الساعد، ويضعهما تحت صدره، وفوق سرته. وحكى أبو إسحاق في " الشرح ": أن الشافعي قال في " الأم ": (القصد تسكين يديه، فإن أرسل يديه، ولم يعبث بهما. . فلا بأس) . وروي ذلك عن ابن الزبير. وقال الليث: (إن أعيا في الصلاة. . فعله، وإلا. . لم يفعله) . وقال الأوزاعي: (من شاء. . فعل، ومن شاء. . ترك) . وقال أبو إسحاق في " الشرح ": إذا وضع يديه إحداهما على الأخرى. . جعلهما تحت سرته. وهو مذهب أبي حنيفة، وإسحاق بن راهويه. دليلنا: ما روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] [الكوثر: 2] قال: (وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة تحت النحر) . وهذا لا يقوله إلا لغة، أو توقيفا. وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرنا معاشر الأنبياء أن نؤخر السحور،

فرع موضع نظر المصلي

ونعجل الفطر، ونأخذ بأيماننا على شمائلنا في الصلاة» . «وروى وائل بن حجر: (أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك) » . [فرع موضع نظر المصلي] ويتسحب أن يكون نظره في جميع صلاته إلى موضع سجوده، وبه قال أبو حنيفة والثوري. وقال مالك: (ينظر أمام قبلته) . وقال شريك بن عبد الله: ينظر في القيام إلى موضع سجوده، وفي الركوع إلى قدميه، وفي السجود إلى أنفه، وفي القعود على حجره. دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استفتح الصلاة. . . لم ينظر إلا إلى موضع سجوده» . ولأنه أبلغ في الخشوع، فكان أولى. [مسألة دعاء الإفتتاح] ] : وأول ما يأتي به من الذكر - في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام - دعاء الاستفتاح في الفريضة والنافلة. وقال مالك: (لا يأتي به، بل يبتدئ بالقراءة) . والذي استحبه الشافعي أن يقول: ما روى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استفتح الصلاة. . قال: " وجهت وجهي للذي فطر السماوات

والأرض حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ورب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين» . وأما المنقول في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وأنا أول المسلمين» ولكن لا يقوله غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان أول المسلمين من هذه الأمة. ثم يقول: «اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهديني لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها إنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، إنا بك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك» .

فقوله: «والخير بيديك، والشر ليس إليك» يقتضي: أن الخير من فعل الله، والشر ليس من فعله، ولم يفرق أحد من الأئمة بينهما؛ لأن أصحاب الحديث يقولون: الخير والشر من فعل الله، والمعتزلة يقولون: هما من فعل العبد. إلا أن للخير تأويلين: أحدهما - ذكره المزني -: وهو أن معنى: " والشر ليس إليك " أي: لا يضاف إليك وإن كنت خلقته؛ لأنه لا يضاف إليه إلا الحسن من أفعاله، فيقال: يا خالق النور والشمس والقمر، ولا يقال: يا خالق القردة والخنازير وإن كان خالقها، كذا لا يضاف إليه الشر وإن كان خالقه. والتأويل الثاني - ذكره ابن خزيمة - أنه أراد أن الشر لا يُتقرب به إليك، وإنما يتقرب إليك بالخير. قال ابن الصباغ: فإن كان منفردًا. . أتى بجميع ذلك. وإن كان إماما. . أتى به، إلا أن يكون في ذلك مشقة على المأمومين. قال الطبري في " العدة ": والمستحب أن يقول: (الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا) ، وجهت وجهي. .إلى آخره. وقال أبو حنيفة: (يستحب أن يقول عقيب التكبيرة: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك) . روته عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يقرأ.

مسألة استحباب التعوذ

وقد استحب جماعة من أصحابنا أن يجمع بين هذا. وبين ما رواه الشافعي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهو مذهب أبي يوسف. [مسألة استحباب التعوذ] ثم يتعوذ قبل القراءة، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقال النخعي، وابن سرين: يتعوذ بعد القراءة. وبه قال أبو هريرة. وقال مالك: (لا يتعوذ إلا في قيام رمضان بعد القراءة) . وقال الثوري: يتعوذ قبل القراءة، ولكن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم. وقال الحسن بن صالح: يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) .

دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ قبل القراءة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» . فإن كان في صلاة يسر بها. . أسر بالتعوذ. وإن كان في صلاة يجهر بها. . فقال الشافعي في " الأم " [1/93] : (كان أبو هريرة يجهر به، وابن عمر يسر به. وأيهما فعل. . جاز) وظاهر هذا: أنهما سواء. وقال في " الإملاء ": (السنة: أن يجهر به.) . فقال الشيخ أبو حامد: فيه قولان. أحدهما: أنه مخير فيه بين الجهر والإسرار. والثاني - وهو الصحيح -: أنه يجهر به؛ لما روي في الخبر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ قبل القراءة» . فلولا أنه جهر به.. لما سمع منه. وقال أبو علي الطبري: السنة: أن يسر به؛ لأن السنة: الجهر للقراءة أو التأمين، دون غيره من الأذكار. ويستحب ذلك في الركعة الأولى، وهل يستحب فيما سواها؟ فيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: يستحب في كل ركعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] [النحل: 98] وهذا يريد القراءة. والثاني: لا يستحب إلا في الركعة الأولى؛ لأنه ذكر شرع قبل القراءة، وبعد الافتتاح، فلم يسن في غير الأولى، كدعاء الاستفتاح. و [الطريق الثاني] : منهم من قال: يستحب في كل ركعة، قولا واحدًا، وإنما في الأولى أشد استحبابا. فإن قلنا: يستحب في الأولى لا غير، فنسيه فيها. . أتى به في الثانية، ومتى ذكره. .

مسألة قراءة الفاتحة

أتى به في ابتداء القراءة، فمتى تركه ناسيا، أو جاهلًا أو عامدًا. . لم يكن عليه إعادة، ولا سجود سهو. [مسألة قراءة الفاتحة] ثم يقرأ فاتحة الكتاب، وهي فرض في الصلاة، فإن تركها عامدا مع القدرة عليها. . لم تصح صلاته، وإن تركها ناسيا. . ففيه قولان: [أحدهما] قال في القديم: (يجزئه) لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ترك القراءة في الصلاة، فقيل له في ذلك، فقال: (كيف كان الركوع والسجود؟) قالوا: حسنا قال: (فلا بأس به) . و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجزئه) وهو الأصح؛ لأن ما كان واجبًا في الصلاة.. لم يسقط بالنسيان، كالركوع والسجود. هذا مذهبنا. وقال الحسن بن صالح، والأصم: لا تجب القراءة في الصلاة. وقال أبو حنيفة، وأصحابه: (القراءة واجبة في الصلاة، إلا أنها لا تتعين) . واختلفوا فيما يجزئه منها، فالمشهور من مذهبه: أن الواجب آية، إما طويلة، أو قصيرة، وروي عنه: (ما يقع عليه اسم القراءة) . وقال أبو يوسف، ومحمد: إن قرأ آية طويلة، كآية الكرسي، أو آية الدَّيْن. . أجزأه، وإن كانت قصيرة.. لم تجزئه إلا ثلاث آيات. دليلنا: ما روى ابن عمر قال: «سأل رجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيقرأ في الصلاة؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أو تكون صلاة بلا قراءة؟!» .

فرع قراءة البسملة

وروى عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» . وروى الشافعي بإسناده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تجزئ صلاة لم يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب» . [فرع قراءة البسملة] ويجب أن يبتدئها بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] وهي آية منها، بلا خلاف على المذهب. وهل هي آية من أول كل سورة غير براءة؟ الظاهر من المذهب: أنها آية من أول كل سورة غير براءة؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أثبتوها في أول كل سورة غير براءة، ولم يثبتوا بين الدفتين غير القرآن. ومن أصحابنا من يحكي فيها قولا آخر للشافعي، وبعضهم يحكيه وجهًا لبعض أصحابنا: أنها ليست بآية من أول كل سورة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سورة ثلاثون آية شفعت

لقارئها، وهي {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] » . ومعلوم أنها ثلاثون آية غير البسملة. وهل هي آية من أول الفاتحة وغيرها على سبيل القطع، أو على سبيل الحكم؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: إنها آية من أول كل سورة قطعًا، كسائر القرآن. وهذا القائل لا يقبل في إثباتها خبر الواحد، وإنما يثبتها بالنقل المستفيض؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - نقلت إلينا هذه المصاحف، وأثبتوا فيها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ، ولم يكونوا يثبتون في المصحف شيئًا إلا ما يقطعون على كونه قرآنًا. ألا ترى أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (لولا أن يقال: إن عمر زاد في كتاب الله. . لكتبت آية الرجم على حاشية المصحف: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله ") . و [الثاني] : منهم من قال: إني أثبتها قرآنًا، حكمًا على معنى: أنه يجب قراءتها في الصلاة، ولا تصح الصلاة إلا بها، ولا أقطع على كونها قرآنًا في أول كل سورة. وهذا القائل يقبل في إثباتها خبر الواحد؛ لأن خبر الواحد يوجب العمل، ولا يوجب العلم، وهذا مثل ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كان فيما أنزل الله من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس» .

ولا خلاف على الوجهين: أن رادها ومثبتها. . لا يكفر، وأن تاركها. . لا يفسق؛ لحصول الشبهة في الاختلاف فيها. هذا مذهبنا. وذهب مالك، والأوزاعي إلى: (أنها ليست من القرآن، إلا في سورة (النمل) ، فإنها بعض آية منها، وفي سائر السور إنما ذكرت تبركًا بها. ولا تقرأ في الصلاة إلا في قيام رمضان، فإنها تقرأ في ابتداء السورة بعد الفاتحة، ولا تقرأ في ابتداء الفاتحة) . وذهب أبو حنيفة، وأصحابه إلى: أنها ليست بآية من فاتحة الكتاب، وليست بشرط في صحة الصلاة؛ لأن القراءة لا تتعين عندهم، إلا أنه يستحب له قراءتها في نفسه سرًا. واختلف أصحابه في مذهبه: فقال بعضهم: مذهبه كمذهب مالك، وأنها ليست من القرآن، إلا في (النمل) ، فإنها بعض آية، وهو الظاهر من مذهبه. وقال بعضهم: مذهبه: أنها آية في كل موضع ذكرت فيه، إلا أنها ليست بآية من السورة. ويختارون هذا، ويناظرون عليه. دليلنا - أنها آية من فاتحة الكتاب وغيرها -: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قرأتم فاتحة الكتاب. . فاقرؤوا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ فإنها أم القرآن، والسبع المثاني، وإن: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] إحدى آياتها» . وروى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أنزل علي آنفًا سورة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] » .

فرع الجهر بالبسملة

[فرع الجهر بالبسملة] واختلف أهل العلم في الجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] فيما يجهر به من الصلوات: فذهب الشافعي إلى: أنه يجهر بها - بأول الفاتحة، وفي أول السورة - فيما يجهر به من القراءة في الصلاة، ويسر بها فيما يسر بالقراءة في الصلاة. وروي ذلك عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس؛ وهي إحدى الروايتين عن عمر. وبه قال من التابعين: عطاء، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير. وذهبت طائفة إلى: أنه يسر بها في كل صلاة. وروي ذلك عن علي وابن مسعود، وهي إحدى الروايتين عن عمر، وبه قال

فرع كيفية القراءة

الثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، إلا أن أحمد يقول: (هي من القرآن، ولكن يسر بها) . وقال مالك، والأوزاعي: (لا تقرأ في الصلاة) ؛ لأنها ليست من القرآن عندهما، إلا في (النمل) ، فإنها بعض آية. دليلنا: ما روى علي وابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجهر بها في الصلاة، وبين السورتين» . وروى نافع، عن ابن عمر قال: «صليت خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخلف أبي بكر، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فكانوا يجهرون بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] » . [فرع كيفية القراءة] ] : والمستحب: أن يقرأ قراءة مرتلة، من غير عجلة، ولا تمطيط. ويستحب ذلك لكل قارئ في الصلاة وغيرها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ} [المزمل: 4] [المزمل: 3] . إلا أنه في الصلاة أشد استحبابًا؛ لأن القراءة تجب فيها دون غيرها.

قال الشافعي: (فإن أخل ببعض الفاتحة، أو بحرف من حروفها: إما ألف، أو لام، أو غير ذلك. . لم تجزئه صلاته) . قال أصحابنا: وكذلك إذا ترك بعض التشديد الذي فيها. . لم تصح صلاته. ولم ينص عليه الشافعي، ولكن أهل اللغة والعربية قالوا: التشديد يقوم مقام حرف؛ لأن كل موضع ذكر فيه التشديد، فإنه قد أدغم مكانه حرفًا، فإذا ترك التشديد. . فكأنه قد ترك حرفًا. وفي الفاتحة أربع عشرة تشديدة: الأولى: تشديدة اللام في: بسم الله. الثانية: تشديدة الراء من: الرحمن. الثالثة: تشديدة الراء من: الرحيم. الرابعة: تشديدة اللام من: لله. الخامسة: تشديدة الباء من: رب. السادسة: تشديدة الراء من: الرحمن. السابعة: تشديدة الراء من: الرحيم. الثامنة: تشديدة الدال من: الدين. التاسعة: تشديدة الياء من: إياك. العاشرة: تشديدة الياء من: وإياك. الحادية عشرة: تشديدة الصاد من: الصراط. الثانية عشرة: تشديدة اللام من: الذين. الثالثة عشرة: تشديدة الضاد من: الضالين. الرابعة عشرة: تشديدة اللام الأخيرة من: الضالين.

فرع ترتيب الفاتحة

[فرع ترتيب الفاتحة] ويجب أن يقرأ الفاتحة على الترتيب، كما أنزلت. فإن بدأ فقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] . . لم تجزئه حتى يبتدئ بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فاقرؤوا، كما علمتم» . فإن قرأ آية على آية، أو حرفًا على حرف، أو قرأ في أثنائها من غيرها، فإن كان فعل ذلك عامدًا. . بطلت قراءته، واستأنفها، ولا تبطل صلاته، وإن كان ساهيًا. . لم تبطل قراءته، وعاد إلى الموضع الذي أخل بالترتيب فيه. فإن قرأ آية منها مرتين، فإن كانت أول آية منها، أو آخر آية منها. . لم يؤثر ذلك. وإن كان في وسطها. . فالذي يقتضيه القياس: أنه كما لو قرأ في خلالها غيرها، فإن كان عمدًا. . بطلت قراءته، وإن كان ساهيًا. . بنى عليها. [فرع من قدم على الفاتحة السورة أو سكت أثنائها] ] : فإن ابتدأ، فقرأ السورة، ثم قرأ الفاتحة. . قال الشافعي في " الأم " [1/95] : (أجزأته) . وإنما أراد: أن فاتحة الكتاب تجزئه دون السورة؛ لأنه قرأ السورة في غير موضعها، فكأنه لم يقرأها. قال في " الأم " [1/95] : (وإن سكت سكوتًا طويلاً ساهيًا، أو تعايا فقطع القراءة. . لم تبطل قراءته. وإن تعمد ذلك. . بطلت قراءته) . وإن نوى قطع القراءة، فإن سكت مع النية. . بطلت قراءته. وإن لم يسكت،

فرع قطع القراءة بتأمين ونحوه

ومضى على قراءته. . لم تبطل؛ لأنه لو سكت عن القراءة عامدًا ولم ينو قطعها. . بطلت، فإذا نوى القطع مع السكوت. . أولى: أن تبطل. أما إذا نوى قطع القراءة، ولم يسكت. . لم تبطل؛ لأن الواجب عليه الإتيان بها، وقد أتى بها. والفرق بينها، وبين الصلاة: أن الصلاة يجب في أولها القصد إلى فعلها، ثم يستديم حكم ذلك القصد، فإذا نوى قطعها. . بطلت. والقراءة لا يجب عليه القصد إلى فعلها، فلم تبطل بنية القطع من غير قطع. [فرع قطع القراءة بتأمين ونحوه] فإن فتح المأموم على غير الإمام، أو أجاب مؤذنًا في أثناء الفاتحة. . انقطعت قراءته. وإن فتح المأموم على الإمام، أو أمن بتأمينه، أو سجد للتلاوة في أثناء الفاتحة. . فهل تنقطع قراءته؟ فيه وجهان: [الأول] : قال القفال، وأبو علي الطبري، والقاضي أبو الطيب: لا تنقطع قراءته بذلك؛ لأن هذا مأمور به، فلم يقطع القراءة. قال ابن الصباغ: وكذلك إذا مرت به آية رحمة فسأل، أو آية عذاب فاستعاذ، أو قال الإمام: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40] [القيامة: 40] . فيقول المأموم: بلى. . لم تنقطع قراءته بذلك. و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: تنقطع قراءته ويستأنفها، إذا أمن بتأمين الإمام؛ لأن الشافعي قال: (لو عمد فقرأ فيها من غيرها. . استأنفها) . [فرع النطق في غير اللسان] ] : قال في " الأم " [1/95] : (ولا يجزئه أن ينطق بصدره، ولا ينطلق به لسانه) ؛ لأن عليه: أن يحرك بالقراءة لسانه، ويسمع نفسه. فإن لم يسمع نفسه لشغل قلبه. . أجزأه؛ لأنه قد قرأ بحيث يسمع نفسه.

مسألة حكم التأمين

[مسألة حكم التأمين] فإذا فرغ من الفاتحة. . أمن، وهو سنة لكل من قرأ الفاتحة في الصلاة وغيرها، وهو أن يقول: (آمين) ؛ لما روي عن وائل بن حجر: أنه قال: «سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقال: " آمين "، ومد بها صوته» ومعناها: اللهم استجب، وفيها لغتان: أمين: بقصر الألف، وآمين: بمدها، والتخفيف فيهما. وأنشدوا في المقصور: تباعد عني فطحل إذ دعوته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا وأنشدوا في الممدود: يا رب لا تسلبني حبها أبدًا ... ويرحم الله عبدًا قال آمينا وأما بتشديد الميم: فإنهم: القاصدون، قال الله تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] [المائدة: 2] . أي: قاصدين.

وأما الجهر به: فإن كان في صلاة يسر بها. . أسر به المنفرد، والإمام، والمأموم؛ لأنه تابع للقراءة. وإن كان في صلاة يجهر بها، فإن كان منفردًا، أو إمامًا. . جهر به؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمن الإمام. . فأمنوا» . قال الصيمري: أي لا تتقدموا عليه بالتأمين. وإن كان مأمومًا. . فهل يجهر به؟ ينظر فيه: فإن نسي الإمام التأمين، أو الجهر به. . جهر المأموم به؛ لينبه الإمام وغيره. وإن جهر به الإمام. . فهل يجهر به المأموم؟ قال في الجديد: (لا يجهر به، بل يسمع نفسه) . وقال في القديم: (يجهر) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: يجهر به؛ لما روي: (أنهم كانوا يؤمنون خلف ابن الزبير، حتى إن للمسجد للجة) . والثاني: لا يجهر به، كالتكبيرات. ومنهم من قال: إن كان المسجد ضيقًا يبلغهم تأمين الإمام. . لم يجهر به المأموم، وإن كان كبيرًا لا يبلغهم تأمين الإمام. . جهر به المأموم. وحمل القولين على هذين الحالين. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة، وأصحابه: (يؤمن الإمام والمأموم، ولكن يسران به) .

فرع تأخير التأمين وفصله والدعاء بما شاء

وعن مالك روايتان: إحداهما: (لا يؤمن الإمام، ويؤمن المأموم) . والثانية: (يخفيها الإمام) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمن الإمام. . فأمنوا، فإن الملائكة تؤمن بتأمين الإمام، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة. . غفر له ما تقدم من ذنبه» . [فرع تأخير التأمين وفصله والدعاء بما شاء] قال الشافعي: (وإذا أخر التأمين عن موضعه. . لم يأت به فيما بعد) . وهذا كما قال: إذا قال المصلي: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ولم يأت بالتأمين، ودخل في غيره. . لم يأت بالتأمين؛ لأنه سنة مرتبة في مكان، فإذا فات موضعها. . لم يقض؛ كالتشهد الأول إذا حصل في القيام. قال الشافعي: (والإذن بالتأمين يدل على: أن لكل مصل أن يدعو في صلاته بما شاء وأحب من دين ودنيا، مع ما فيه من الأخبار والآثار) ؛ لأن معناه: اللهم: افعل لي ما سألتك. فدل على: جواز الدعاء فيها. والمستحب: أن لا يصل: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] بـ: " آمين "، بل يفصل بينهما بسكتة يسيرة؛ ليعلم أنه ليس من كلام الله تعالى. [مسألة وجوب القراءة] وتجب القراءة في كل ركعة. وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك: (تجب القراءة في معظم الصلاة، فإن كانت رباعية. . قرأ في ثلاث منها، وإن كانت ثلاثية. . قرأ في ركعتين، وإن كانت ركعتين. . قرأ فيهما) . وقال أبو حنيفة، والثوري: (القراءة إنما تجب في الركعتين الأوليين، فأما الأخريان: فهو فيهما بالخيار، إن شاء. . قرأ، وإن شاء.. سبح، أو سكت. فإن لم يقرأ في الأوليين. . قرأ في الأخريين) .

وقال الحسن، وبعض أهل الظاهر: تجب القراءة في الصلاة دفعة واحدة. وروي ذلك عن أحمد. دليلنا: ما روي عن عبادة بن الصامت، وأبي سعيد الخدري: أنهما قالا: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة» . وروى رفاعة بن [رافع بن] مالك قال: «دخل رجل المسجد، فصلى بقرب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم جاء فسلم عليه، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعد صلاتك؛ فإنك لم تصل " فصلى لنحو ما صلى أولاً، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعد صلاتك؛ فإنك لم تصل "، فقال: يا رسول الله، علمني كيف أصلي، فقال: " إذا قمت إلى الصلاة. . فكبر، ثم اقرأ فاتحة الكتاب وما تيسر، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا. . . " وذكر الخبر، إلى أن قال: " وهكذا فاصنع في كل ركعة» .

ولأنها ركعة يجب فيها القيام، فوجبت فيها القراءة مع القدرة، كالركعة الأولى، وفيه احتراز ممن أدرك الإمام راكعًا. وهل يقرأ المأموم؟ ينظر فيه: فإن كان في صلاة يسر فيها. . قرأ المأموم. وإن كان في صلاة يجهر فيها. . فهل تجب على المأموم قراءة الفاتحة؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا تجب عليه القراءة) . و [الثاني] : قال في الجديد: (تجب عليه القراءة) . وقال أبو حنيفة: (لا تجب على المأموم القراءة، سواء كانت الصلاة سرية أو جهرية) . وروي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وأنس. فمن قال بالقديم: احتج بما روى أبو هريرة قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة يجهر فيها بالقراءة، فلما فرغ من صلاته. . قال: " هل فيكم من قرأ معي؟ " فقال رجل: أنا يا رسول الله، فقال: " إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟ ! " قال: فانتهى الناس عن القراءة في الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منذ سمعوا ذلك منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . ودليلنا - للقول الجديد -: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» . وروى عبادة بن الصامت قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالتبست عليه القراءة، فلما انصرف. . قال: " إنكم تقرؤون خلفي إذا جهرت؟ " فقال بعضنا: إنا لنصنع ذلك، فقال: " لا تقرؤوا خلفي إذا جهرت، إلا بفاتحة الكتاب» .

فرع تفسير القراءة بغير العربية

وأما الخبر الأول: فقيل: إن قوله: (فانتهى الناس. . .) من كلام الزهري، فلا حجة فيه. على أنه وإن صح. . فإنما أراد: انتهى الناس عن المنازعة بالجهر بالقراءة. وخبر عبادة أولى؛ لأنه أزيد ومثبت، والإثبات أولى. فإذا قلنا: لا تجب على المأموم قراءة الفاتحة. . فهل يسن له: أن يتعوذ؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ": أحدهما: لا يأتي به، وبه قال أبو حنيفة كما لا يأتي بالفاتحة. والثاني: يأتي به؛ لأنه شارك الإمام في الذكر الذي يسر به. [فرع تفسير القراءة بغير العربية] ] : ولا يقوم تفسير القراءة، ولا العبارة عنها بالفارسية مقامها، ولا يجزئ في الصلاة. وبه قال مالك، وعامة الفقهاء. وقال أبو حنيفة: (المصلي بالخيار، إن شاء. . قرأ القرآن، وإن شاء. . قرأ معنى القرآن، وتفسيره بالفارسية أو العربية، وغير ذلك، سواء كان يحسن قراءة القرآن، أو لا يحسنها) . واختلف أصحابه، إذا قرأ المصلي معنى القرآن، وتفسيره: هل يكون قد قرأ القرآن؟ فمنهم من قال: إذا قرأ معنى القرآن. . فقد قرأ القرآن. وعلى هذا يناظرون. ومنهم من قال: لا يكون قد قرأ القرآن، وإنما يكون في الحكم: يقوم مقامه. وقال محمد بن الحسن، وأبو يوسف: إن كان هذا المصلي يحسن القرآن. . لم يجز أن يقرأ معنى القرآن. وإن كان لا يحسن القرآن. . جاز أن يقرأ معنى القرآن،

مسألة فيمن لا يحسن الفاتحة أو بعضها

ويعبر عن القراءة بعبارة. كما قالا في التكبير. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] [المزمل: 20] . وروى عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» : [مسألة فيمن لا يحسن الفاتحة أو بعضها] وإن كان لا يحسن الفاتحة، وضاق الوقت عن التعلم، فإن كان يحسن غيرها من القرآن. . فإنه يقرأ سبع آيات من غيرها، سواء كن من سورة، أو من سور. وهل يعتبر أن يكون بقدر حروف الفاتحة؟ منهم من يقول: فيه قولان. ومنهم من يقول: وجهان: أحدهما: يعتبر أن يكون بقدر حروف الفاتحة، كما يعتبر عدد الآيات. والثاني: لا يعتبر، كما لا يعتبر في قضاء الصوم عدد الساعات. وإن كان يحسن آية من الفاتحة. . أتى بها. وهل يلزمه تكرارها، أو يقرؤها مرة، ثم يأتي بغيرها من القرآن إن كان يحسنه، أو من الذكر؟ فيه وجهان: أحدهما: يكررها؛ لأنها أقرب إلى الفاتحة من غيرها. والثاني: يأتي ببقية الآيات من غيرها؛ لأن هذه الآية قد سقط فرضها بقراءتها، فينبغي أن لا يعيدها، ويأتي بغيرها؛ كما إذا وجد بعض الماء. . فإنه يغتسل به، ويتيمم. قال ابن الصباغ: وهذا الوجه يدل على صحة السنة، في الرجل الذي قال: لا أستطيع أن أحفظ شيئًا من القرآن، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتي بالذكر، وفيه: " الحمد لله ".

ولا يتعذر عليه أن يقول: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، ولم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتكرارها. وإن كان يحسن أقل من الفاتحة من غيرها من القرآن. . فهل يلزمه تكراره، أو يلزمه أن يأتي بتمامه من الذكر؟ على الوجهين فيمن يحسن آية من الفاتحة. قال ابن الصباغ: وذكر الشيخ أبو حامد: أن في ذلك قولين نص عليهما في " الأم ". فإن كان يحسن النصف الأول من الفاتحة لا غير، وقلنا: " لا يلزمه تكراره. . فإنه يأتي به أولا، ثم يأتي بالبدل بعده. وإن كان يحسن النصف الأخير منها. . فإنه يأتي بالبدل أولاً، ثم بالنصف الذي يحسنه؛ لأن الترتيب شرط في القراءة. ولو تعلم الفاتحة في إتيانه بالبدل. . ففيه وجهان: الصحيح: أنه يترك البدل، ويشتغل بالفاتحة. والثاني: يمضي في البدل، ولا يشتغل بالفاتحة. ولو تعلم الفاتحة بعد فراغه من البدل، وقبل الركوع. . فمنهم من قال: فيه وجهان، كالأولى. ومنهم من قال: لا يلزمه قراءة الفاتحة، وجهًا واحدًا. وإن كان لا يحسن شيئًا من الفاتحة، ولا من غيرها. . فإنه يأتي مكانها بالذكر. وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه، ويقوم ساكتًا) . وقال مالك: (لا يلزمه الذكر، ولا القيام) . دليلنا: ما روى رفاعة [بن رافع] بن مالك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة. . فليتوضأ كما أمره الله، ثم ليكبر، فإن كان معه شيء من القرآن. . قرأ به، وإن لم يكن معه شيء. . فليحمد الله، وليكبر» .

وروى عبد الله بن أبي أوفى: «أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني لا أستطيع أن أحفظ شيئًا من القرآن، فعلمني ما يجزئني في الصلاة. فقال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله» . وهل يتعين عليه هذا الذكر؟ فيه ثلاثة أوجه: [الأول] : منهم من قال: يتعين عليه هذا الذكر، ولكن يضيف إليه كلمتين أخريين؛ ليكون بقدر سبع آيات، والأولى أن يضيف إليه ما روي في بعض الأخبار: (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن) . ولا يعتبر - على هذا -: عدد الحروف. و [الثاني]- وهو قول أبي إسحاق -: أنه لا يتعين عليه هذا الذكر، بل يجب عليه أن يأتي من ذكر الله تعالى ما شاء، ويعتبر أن تكون حروفه بقدر حروف الفاتحة، ويسقط اعتبار الآيات؛ لأنه لا يمكن اعتبارها من الذكر. و [الثالث] : وهو قول أبي علي في " الإفصاح " -: إنما يجب الذكر الذي نص عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو الخمس الكلمات، ولا تجب الزيادة عليه. وهو الصحيح؛ لأن الرجل قال: يا رسول الله، علمني ما يجزئني في الصلاة، فعلمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا، ولم يأمره بالزيادة: وقد روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فرغ من الخمس الكلمات. . قال الرجل: هذا لله تعالى، فما لي؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قل: اللهم ارحمني، وعافني، وارزقني» . وإن لم يحسن شيئًا من القرآن، ولا من الذكر. . وجب عليه أن يقوم بقدر قراءة الفاتحة، وعليه أن يتعلم.

مسألة القراءة بعد الفاتحة

[مسألة القراءة بعد الفاتحة] ثم يقرأ بعد الفاتحة سورة، وذلك سنة. وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (تجب القراءة بعد الفاتحة، وأقله ثلاث آيات) . وقال عثمان بن أبي العاص: (تجب القراءة بعد الفاتحة، وأقله ما يقع عليه الاسم) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» . فنفى الصلاة بعدمها، وأثبتها بوجودها، فدل على: أنه لا يجب غيرها. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «كل صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب. . فهي خداج» . و (الخداج) : الناقص، فدل على: أن الصلاة التي يقرأ فيها بفاتحة الكتاب تمام. إذا ثبت هذا: فإن المستحب عندنا - إن كان في صلاة الصبح -: أن يقرأ بـ: (طوال المفصل) ؛ وهو: السبع الأخير من القرآن، مثل: (الحجرات) ، و (ق) ، و (الواقعة) .

وقال أبو حنيفة: (يقرأ في الأولى من: ثلاثين آية، إلى ستين آية. وفي الثانية من: عشرين آية، إلى ثلاثين آية) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ فيها: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق: 10] » [ق: 10] يعني: سورة ق.) وإن كان يوم جمعة. . قرأ فيها: {الم} [السجدة: 1] * {تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] [السجدة] ، و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] [الدهر] ؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ ذلك فيها يوم الجمعة» . فإن قرأ فيها أوساط المفصل، أو قصاره. . جاز؛ لما روى عمرو بن حريث أنه قال: «كأني اسمع صوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في صلاة الغداة: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير: 15] » [التكوير: 15] ) .

وروى أبو داود: «أن رجلاً من جهينة سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الصبح: {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] » [الزلزلة] . قال الشافعي: (ويقرأ في الظهر شبيهًا مما يقرأ في الصبح) - وحكى الكرخي مثل ذلك عن أبي حنيفة - لما روى أبو سعيد الخدري قال: «حزرنا قيام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية، قدر: {الم} [السجدة: 1] * {تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] [السجدة] ، وحزرنا قيامه في الأخريين منها على النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك» . ومعنى قوله: (حزرنا) أي: قدرنا. فإن قرأ غيرها. . جاز؛ لما روي عن جابر بن سمرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كان يقرأ في الظهر، والعصر بـ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] ، و {الطَّارِقُ} [الطارق: 2] وما أشبههما، ويقرأ في العصر، والعشاء بأوساط المفصل، كسورة (الجمعة) و (المنافقين) ، وما أشبههما» . وقال أبو حنيفة: (يقرأ في العصر في الأوليين في كل ركعة بعد الفاتحة عشرين آية، وكذلك في العشاء) . دليلنا: حديث أبي سعيد الخدري، وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في العشاء سورة الجمعة والمنافقين» .

فإن قرأ غيرهما. . جاز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في العشاء الآخرة بـ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] و {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] » . ويستحب أن يقرأ في المغرب بقصار المفصل؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ فيها بقصار المفصل» . وروى: (أن ابن مسعود كان يقرأ فيها: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] [الإخلاص: 1] ) . فإن قرأ فيها غيرها. . جاز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ فيها بـ: الأعراف» . وروى جبير بن مطعم: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ فيها: {وَالطُّورِ} [الطور: 1] » .

فرع قراءة السورة للمأموم وفيما زاد على الركعتين

وروت أم الفضل قالت: «خرج إلينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلى المغرب، فقرأ بـ: {وَالْمُرْسَلاتِ} [المرسلات: 1] فما صلاها بعد، حتى لقي الله تعالى» . [فرع قراءة السورة للمأموم وفيما زاد على الركعتين] والتسوية بين الأوليين ويوجز في الأخرين] : وهل يسن قراءة السورة للمأموم؟ ينظر فيه: فإن كان في صلاة جهرية، تسمع فيها قراءة الإمام. . فلا يسن له؛ لما مضى في حديث عبادة. وإن كان في صلاة سرية، أو جهرية لا يسمع فيها قراءة الإمام. . فوجهان حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 65] . وكذا الوجهان فيمن تباعد عن الخطيب، بحيث لا يسمع الخطبة: هل الأولى له أن يقرأ القرآن، أو يسكت؟ وهل تستحب قراءة السورة فيما زاد على ركعتين؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا يستحب) قال أبو إسحاق المروزي: وهو الصحيح - وبه قال مالك، وأبو حنيفة - لما روى أبو قتادة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ السورة في الأوليين دون الأخريين» . و [الثاني] : قال في الجديد: (يستحب أن يقرأ السورة فيهما) . قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لحديث أبي سعيد الخدري.

فرع قراءة المسبوق

إذا ثبت هذا: فيستحب عندنا أن يسوي بين الركعات في القراءة، ولا يفضل أوله على ثانيه، وأما الأخريان: فالمستحب فيهما: الحذف والإيجاز، على القولين. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (يستحب أن تفضل الأولى على الثانية في الفجر خاصة) . وقال الثوري، ومحمد: يستحب في جميع الصلوات أن يطيل الركعة الأولى على التي بعدها. وبه قال الماسرجسي، من أصحابنا. دليلنا: حديث أبي سعيد الخدري: «أنه كان يقرأ في الظهر في كل ركعة ثلاثين آية» . [فرع قراءة المسبوق] ] : قال الشافعي: (وإن فات رجلاً ركعتان مع الإمام من الظهر. . قضاهما بأم القرآن وسورة) . واختلف أصحابنا في صورة ذلك: فقال أبو إسحاق: إنما قال ذلك؛ لأنه لم يقرأها في الأوليين، ولا أدرك قراءة الإمام لها، فاستحب له أن يأتي بها؛ لتحصل له فضيلتها. وقال أبو علي في " الإفصاح ": إنما قال هذا على القول الذي يقول: إنه يقرأ السورة في جميع الركعات. فأما على القول الآخر: فلا يقرأ. وإلى هذا ذهب القاضي أبو حامد. قال ابن الصباغ: والأول أصح. فإن كان ذلك في صلاة جهرية. . فهل يجهر المأموم، أو يسر في الأخريين؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: لا يجهر؛ لأن سنة القراءة في الأخريين الإسرار. والثاني: يجهر؛ ليدرك ما فاته من الجهر بالقراءة.

فرع ما يجهر به من الصلوات للرجل والمرأة وتلقين الإمام

[فرع ما يجهر به من الصلوات للرجل والمرأة وتلقين الإمام] ] : والسنة: أن يجهر الإمام، والمنفرد في: الصبح، والأوليين من المغرب، والأوليين من العشاء، ويسر فيما سوى ذلك من الصلوات الخمس؛ لأنه نقل ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نقلاً متواترًا، وهو إجماع لا خلاف فيه. فإن فاتته في صلاة سرية، فقضاها. . أسر بها القضاء، سواء قضى في وقت الجهرية، أو في وقت السرية. وإن فاتته صلاة جهرية، فإن قضاها في وقت الجهرية. . جهر بها. وإن قضاها في وقت السرية. . ففيه وجهان: أحدهما: يسن له الجهر في القضاء، كما لو قضى السرية في وقت الجهرية. والثاني: لا يسن له الجهر بها؛ لأنه يقال: صلاة النهار عجماء. ولا تجهر المرأة في موضع فيه رجال أجانب؛ لأنه يخاف الافتتان بصوتها. قال في " الأم ": (ولا بأس بتلقين الإمام إذا أحصر) ؛ لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إذا استطعمكم الإمام. . فأطعموه) و (استطعامه) : سكوته. [مسألة تكبيرات الانتقال ورفع اليدين] ] : فإذا فرغ من السورة. . ركع، ولا يصل تكبيرة الركوع بآخر السورة؛ لما روى سمرة بن جندب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسكت سكتة إذا افتتح القراءة، وسكتة إذا فرغ

من القراءة، فرآه، فأنكر عليه عمران بن الحصين هذه الرواية، فكتبوا بذلك إلى أبي بن كعب، فقال: صدق سمرة بن جندب» . والركوع واجب بنص الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {ارْكَعُوا} [الحج: 77] [الحج: 77] . وأما السنة: فإنه نقل ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نقلاً متواترًا. وأجمعت الأمة على وجوبه. ويستحب أن يكبر للركوع، فيبتدئ التكبير قائمًا، ويرفع يديه، ويأتي بهما في حالة واحدة، فيكون ابتداء رفع يديه - وهو قائم - مع ابتداء التكبيرة، فإذا حاذى كفاه منكبيه. . انحنى - حينئذ - للركوع، ومد تكبيره، حتى يكون انقضاؤه مع ركوعه؛ لأن الرفع هيئة للتكبير، فلهذا قلنا: يأتي به مع التكبير. وقال عمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير: لا يكبر المصلي، إلا عند افتتاح الصلاة.

فرع كيفية الركوع

وقال أبو حنيفة: (لا يرفع يديه إلا عند الافتتاح، وإذا كبر للركوع. . فإنه يكبر قائمًا، فإذا فرغ من التكبير. . انحنى للركوع) . دليلنا: ما روى ابن مسعود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر إذا افتتح الصلاة، وفي كل خفض، ورفع، وقيام، وقعود. وكذلك أبو بكر، وعمر» . وروي عن عكرمة: أنه قال: «صليت خلف شيخ بـ: مكة، فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة، فأتيت ابن عباس، فقلت له: إني صليت خلف شيخ أحمق، فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة، فقال: (ثكلتك أمك، تلك صلاة أبي القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . ودليلنا - على أبي حنيفة -: حديث ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرفع يديه عند الافتتاح، وعند الركوع، وعند الرفع منه» . فإن نسي رفع اليدين حتى فرغ من التكبير، ثم ذكر. . لم يرفع يديه؛ لأنه هيئة في محل، فإذا فات. . لم يؤت به. وإن ذكر ذلك قبل الفراغ من التكبير. . فإنه يرفع؛ لأن محله باق. قال الشافعي: (فإن ترك رفع اليدين. . فلا سجود عليه للسهو؛ لأنه هيئة) . [فرع كيفية الركوع] وأقل ما يجزئ في الركوع: أن ينحني إلى حد لو أراد أن يقبض بيديه على ركبتيه. . أمكنه ذلك. ويطمئن، وهو أن يلبث - بعد أن يبلغ حد الإجزاء - لبثا ما.

وقال أبو حنيفة: (لا تجب الطمأنينة) ؟ دليلنا: ما روي في خبر الأعرابي المسيء صلاته: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «ثم اركع، حتى تطمئن " إلى أن قال في آخر الخبر: " فإذا فعلت ذلك. . فقد تمت صلاتك» . فإذا رفع رأسه من الركوع، وشك: هل بلغ ركوعه إلى حد الإجزاء. . لم يجزئه ذلك، وعليه أن يرجع إلى حد الإجزاء؛ لأن الأصل بقاء الفرض في ذمته. وأما الكمال في الركوع: فهو أن يقبض على ركبتيه بيديه، ويفرق بين أصابعه، ويجافي مرفقيه عن جنبيه، ويمد ظهره وعنقه، ولا يقنع رأسه، ولا يخفضه، ولا يطبق يديه بين ركبتيه. وقال ابن مسعود: (يطبق يديه، ويجعلهما بين ركبتيه) . وروي ذلك عن صاحبيه: الأسود بن يزيد، وعبد الرحمن بن الأسود. دليلنا: ما روي: (أن أبا حميد الساعدي وصف صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمحضر جماعة من الصحابة) - فذكر نحو ما قلناه - فقالوا: (صدقت) .

وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يذبح الرجل في الصلاة كما يذبح الحمار» . و (التذبيح) : هو أن يخفض رأسه في الركوع، كما يخفض الحمار رأسه، وقد روي بالدال والذال. وروي «عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص: أنه قال: (صليت إلى جنب أبي، فطبقت يدي، وجعلتهما بين ركبتي، فضرب أبي في يدي، فلما انصرف، قال: يا بني: إنا كنا نفعل هذا، فنهينا عنه، وأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب» وهذا يدل على النسخ. وإن كان المصلي امرأة. . لم تجاف، بل تضم المرفقين إلى الجنبين؛ لأن ذلك أستر لها. وإن كان خنثى مشكلاً. . قال القاضي: لم نأمره بالضم، كما نأمر المرأة، ولا نأمره بالتجافي، بل أيهما فعل. . فهو مجزئ؛ لأنه ليس أمرنا له بأحدهما، بأولى من الآخر. قال: وكذلك لا يجهر الخنثى بالقراءة في الصلاة الجهرية، بل من سنته الإسرار؛ خوف الافتتان بصوته، إن كان امرأة. ويستحب أن يقول في ركوعه: " سبحان ربي العظيم "، ثلاث مرات، وذلك أدنى الكمال؛ لما روى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ركع أحدكم، فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات. . فقد تم ركوعه، وذلك أدناه. وإذا سجد

فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات. . فقد تم سجوده، وذلك أدناه» . وقيل لأحمد بن حنبل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هل يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده؟ فقال: (أما أنا: فلا أقول: وبحمده) . قال ابن الصباغ، والشيخ أبو نصر: الأولى أن يقوله؛ وقد رواه حذيفة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن فيه زيادة حمد. قال الشيخ أبو حامد: وقد غلط بعض أصحابنا، وقال: أكمل الكمال أن يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، خمسًا، أو سبعًا، وهو قول الحسن البصري، واختاره صاحب " الفروع "، وليس بشيء، بل أكمل الكمال أن يقول في ركوعه - مع التسبيح ثلاث مرات - ما روى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في ركوعه: اللهم لك ركعت، ولك أسلمت، وبك آمنت، وأنت ربي، خشع سمعي وبصري، وعظامي، وشعري، وبشري، وما استقلت به قدمي لله رب العالمين» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في ركوعه: سبوح قدوس، رب الملائكة والروح» .

فرع قصد فعل الأركان

قال الشافعي: (وأستحب ذلك كله؛ لأنه يخف، ولا يثقل) . ولا يجب التسبيح في الركوع والسجود، وهو قول كافة أهل العلم. وقال بعض أهل الظاهر: (هو واجب فيهما) . وحكي ذلك، عن أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وليس بصحيح عنه. ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] [الحج: 77] . ولم يذكر التسبيح، وكذلك المسيء صلاته، لم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتسبيح فيهما. [فرع قصد فعل الأركان] قال الشافعي: (فإن ركع رجل، وبلغ الموضع الذي لو أراد أن يقبض بيديه على ركبته أمكنه، ثم أراد أن يرفع رأسه، فسقط على وجهه. . أجزأه ركوعه، وكان عليه أن ينتصب قائمًا، ثم يهوي ساجدًا) . [مسألة الرفع من الركوع] ثم يرفع رأسه من الركوع، ويعتدل، وذلك واجب. وقال أبو حنيفة: (لا يجب، بل لو انحط من الركوع إلى السجود. . أجزأه) . واختلف أصحاب مالك في مذهبه: فمنهم من قال: هو واجب عنده. كقولنا. ومنهم من قال: مذهبه: أنه ليس بواجب عنده. كقول أبي حنيفة. دليلنا: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا» . وروى أبو مسعود الأنصاري البدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجزئ صلاة لا يقيم

الرجل فيها صلبه من الركوع والسجود» . إذا ثبت هذا: فإن السنة عندنا أن يجمع بين ثلاثة أشياء: أن يبتدئ مع الرفع بقول: سمع الله لمن حمده، وأن يرفع يديه مع رفع صلبه، حتى يحاذي بهما منكبيه. فإذا استوى قائمًا. . قال: ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملئ ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء، والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.

فرع الذكر في الإعتدال

وإن قال: (ربنا ولك الحمد) . . فقد روي ذلك، وذكر الشيخ أبو حامد: ما يقوله العبد حق، وكل لك عبد. قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فإن قال: اللهم ربنا لك الحمد، أو الحمد لربنا، أو قال: من حمد الله سمع له. . جاز) ؛ لأن معنى الجميع واحد، إلا أن الأولى أن يأتي بالأول؛ لما روى أبو سعيد الخدري: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك) . ومعنى قوله: (سمع الله لمن حمده) أي: تقبل الله منه حمده، وأجاب حمده. تقول العرب: اسمع دعائي، أي: أجب دعائي. ومعنى قوله: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) أي: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، إنما ينفعه العمل الصالح. [فرع الذكر في الإعتدال] ويستحب للإمام والمأموم أن يأتي بجميع هذا الذكر. وقال أبو حنيفة: (الإمام يقول: سمع الله لمن حمده، ولا يزيد عليه، والمأموم يقول: ربنا لك الحمد، ولا يقول: سمع الله لمن حمده) . واختاره ابن المنذر؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد» . وقال مالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد: (يأتي الإمام بهما، والمأموم يقتصر على قوله: سمع الله لمن حمده) . دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك كله، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . ولأنه ذكر مسنون في الانتقال للإمام، فسن للمأموم، كالتكبيرات.

مسألة فرضية السجود

وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده. . قولوا: ربنا لك الحمد» . . فيحتمل: أن يكون قال لهم ذلك؛ لأنهم لا يسمعون الإمام يقولها، وإنما يجهر بقوله: سمع الله لمن حمده. ولم يأمرهم بها؛ لأن المأمومين مقتدون بالإمام في جميع الأذكار، فاقتصر على تعريفهم ما لا يجهر به، دون ما يجهر به. ويجب أن يطمئن قائمًا: فلو سجد، ثم شك، هل رفع رأسه من الركوع أم لا؟ وجب عليه أن ينتصب، فإذا انتصب. . سجد. وإن أتى بقدر الركوع الواجب، فاعترضته علة منعته عن الانتصاب. . فإنه يسجد من ركوعه، ويسقط عنه الرفع؛ لتعذره. فإن زالت العلة. . نظرت: فإن زالت قبل أن يبلغ بجبهته إلى الأرض. . فإنه يرتفع، وينتصب، ويسجد؛ لأن العلة زالت قبل فعله لركن، أو فعل مقصود. وإن زالت بعد ما حصلت جبهته على الأرض ساجدًا. . فإنه لا ينتصب، ويسقط عنه؛ لأن السجود قد صح، فسقط ما قبله. فإن خالف، وانتصب من السجود قبل تمامه، فإن كان عالمًا بتحريمه. . بطلت صلاته، وإن كان جاهلاً. . لم تبطل، ويعود ويجلس للفصل بين السجدتين، ويسجد للسهو. [مسألة فرضية السجود] ثم يسجد، وهو فرض. والدليل عليه: الكتاب، والسنة، والإجماع الذي ذكرناه في الركوع.

ويكبر؛ لما ذكرناه من حديث ابن مسعود. ويستحب أن يكون ابتداء التكبير مع ابتداء انحنائه إلى السجود، حتى يكون آخر التكبيرة مع أول السجود، هذا نقل أصحابنا البغداديين، وهو المشهور، وحكى صاحب " الإبانة " [ق \ 65] فيه قولين: أحدهما: هذا، وهو قوله الجديد. والثاني: لا يمده، وبه قال أبو حنيفة. دليلنا: أن الهوي إلى السجود فعل في الصلاة، فاستحب مد التكبير فيه؛ لئلا يخلو من ذكر، كسائر أفعال الصلاة. والمستحب: أن يكون أول ما يقع منه على الأرض في السجود: ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه، وبهذا قال عمر بن الخطاب، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه. وقال الأوزاعي: (المستحب أن يكون أول ما يقع منه على الأرض في سجوده: يداه، ثم ركبتاه) . وقال مالك: (إن شاء وضع اليدين أولا، وإن شاء وضع الركبتين أولاً) . دليلنا: ما روى مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: «كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأمرنا بالركبتين قبل اليدين» . وروى وائل بن حجر، قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد، وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض، رفع يديه قبل ركبتيه» .

والأكمل في السجود: أن يسجد على جبهته، وأنفه، وكفيه، وركبتيه، وقدميه؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة: يديه، وركبتيه، وأطراف أصابعه، وجبهته» . وروى أبو حميد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد، ومكن جبهته وأنفه من الأرض» . والواجب عندنا: هو السجود على الجبهة، دون الأنف، وبه قال الحسن، وابن سيرين، وعطاء، وطاوس، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد. وقال سعيد بن جبير وعكرمة والنخعي وإسحاق: يجب السجود عليهما، ولا يجوز الاقتصار على أحدهما.

وحكاه أبو زيد المروزي قولاً لنا، وليس بمشهور. وقال أبو حنيفة: (إذا اقتصر في السجود على أحدهما. . أجزأه) . قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا سبقه بهذا القول. دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة: يديه، وركبتيه، وأطراف أصابعه، وجبهته» ، ولم يذكر الأنف، وما كان مأمورًا به لا يجوز تركه. وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سجدت. . فمكن جبهتك من الأرض» ، ولم يذكر الأنف. وروي عن جابر: أنه قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد بأعلى جبهته على قصاص الشعر» . ومعلوم: أنه إذا سجد كذلك. . لم يسجد على الأنف. فإن كان بجبهته جراحة، فعصبها بعصابة، وسجد على العصابة. . أجزأه؛ لأنه لما جاز ترك أصل السجود؛ لعذر. . فلأن يجوز ترك مباشرة الجبهة لعذر أولى. والمستحب: أن يسجد على جميع جبهته؛ لحديث أبي حميد، فإن سجد على بعض الجبهة. . أجزأه؛ لحديث جابر. وكذلك لو عصب على جبهته بعصابة مشقوقة، وسجد عليها، وماس بعض جبهته الأرض من شق العصابة. . أجزأه، كما لو سجد بأعلى جبهته. وإن سجد على حائل متصل به، مثل كور عمامته، أو طرف منديله، أو ذيله، أو بسط كفه، فسجد عليه. . لم يجزئه ذلك، وبه قال مالك، وأحمد بن حنبل.

وقال أبو حنيفة: (يصح سجوده على ذلك كله) . دليلنا: ما روى رفاعة بن رافع: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقبل الله صلاة امرئ، حتى يضع الوضوء مواضعه. . .» ، إلى أن قال: «ثم يسجد، فيمكن جبهته من الأرض، حتى تطمئن مفاصله» . وهل يجب السجود على اليدين، والركبتين، والقدمين؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب، وبه قال أبو حنيفة، وأكثر الفقهاء. قال في " المهذب ": وهو الأشهر. ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سجد وجهي» ، فأضاف السجود إلى الوجه، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سجدت. . فمكن جبهتك من الأرض» ، ولم يذكر ما عداها، فدل على أنه لا يجب السجود على ما عداها. ولأنه لا يجب الإيماء بباقي الأعضاء في السجود عند العجز، فدل على أنه لا يجب السجود عليها. والثاني: يجب السجود عليها. قال الشافعي: (وهذا قول يوافق الحديث) . ووجهه: حديث ابن عباس: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة. . .» الخبر. فإذا قلنا: لا يجب السجود عليها، إلا أنه لا يمكنه أن يسجد، إلا بأن يعتمد على بعض هذه الأعضاء. . فله أن يعتمد على أيها شاء، ويرفع أيها شاء. وإذا قلنا: يجب السجود عليها. . . قال الشافعي في " الأم " [1/99] : (فإن سجد على ظهر كفيه. . لم يجزئه، وكذلك إن سجد على حرف راحته، مما يلي ظهر كفه. .

لم يجزئه، وإن سجد على بعض كفيه. . جاز، كما يجزئ بعض جبهته) . قال في " الفروع ": وإن سجد على ظاهر قدميه. . أجزأه. وأما كشف هذه الأعضاء في السجود: فلا يجب كشف القدمين والركبتين؛ لأن كشف ذلك يؤدي إلى بطلان الصلاة، وذلك أن الركبتين من العورة، وقد يكون لابسًا للخف. . فتبطل الطهارة بكشف القدم، فتبطل الصلاة بذلك. وهل يجب كشف الكفين؟ فيه قولان: أحدهما: يجب؛ لما روي عن خباب بن الأرت: أنه قال: «شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا» . ولأنه عضو له مدخل في التيمم. . فوجب كشفه في السجود، كالوجه. والثاني: لا يجب؛ لأنه عضو لا يبرز في العادة إلا لحاجة، فلم يجب كشفه في السجود، كالركبتين والقدمين. وأما الخبر: فيرجع إلى الجباه، دون الأكف. قال في " الأم " [1/99] : (فإن هوى الرجل ليسجد، فسقط على جنبه، ثم انقلب، فماست جبهته الأرض، فإن كان بانقلابه نوى السجود. . أجزأه، وإن لم ينوه. . لم يجزئه) ؛ لأنه إذا سقط على جنبه ... فقد خرج عن سمت السجود، فلا يرجع إليه إلا بفعل، أو نية. فالفعل: هو أن يعود جالسًا، ثم يسجد. والنية: أن ينوي بانقلابه السجود.

وتجب الطمأنينة في السجود، وهو أن يلبث لبثا ما. وقال أبو حنيفة: (لا تجب) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم اسجد، حتى تطمئن ساجدًا» . والكمال في السجود: أن يجافي مرفقيه عن جنبيه، حتى لو لم يكن عليه ثوب رؤيت عفرة إبطيه؛ لما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . جافى عضديه عن جنبيه، حتى يرى بياض إبطيه» . ويقل بطنه عن فخذيه؛ لما روى البراء بن عازب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . جخ» ، وروي: (جخى) . و (الجخ) : الخاوي. وروي عن ميمونة: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد. . جافى يديه، حتى لو أرادت بهمة أن تمر تحته. . لمرت» .

وإن كانت امرأة. . ضمت بطنها إلى فخذيها؛ لأن ذلك أستر لها. ويضع يديه حذو منكبيه، ويضم أصابعهما، ويضم إبهامه إليها، ويستقبل بها القبلة؛ لما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . ضم أصابعه، وجعل يديه حذو منكبيه» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . وضع أصابعه تجاه القبلة» . والفرق بين الركوع والسجود في ضم الأصابع: أنه إذا فرق أصابع يديه في الركوع على ركبتيه. . كان أمكن لركوعه، وأمن من السقوط، وفي السجود لا يخاف السقوط. ولأنه إذا ضم أصابعه في السجود. . استقبل بها القبلة، ولو فرقها.. لم يستقبل بها القبلة، وفي الركوع لا يستقبل بها القبلة، سواء ضمها، أو فرقها. ويرفع مرفقيه، ويعتمد على راحتيه؛ لما روى البراء بن عازب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سجدت. . فضم كفيك، وارفع مرفقيك» . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سجد أحدكم. . فلا يفترش ذراعيه افتراش الكلب» .

ويفرج بين رجليه؛ لما روى أبو حميد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . فرج بين رجليه» . وينصب قدميه؛ لما روى سعد بن أبي وقاص: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع اليدين، ونصب القدمين» ، يعني: في السجود. ولا يكف شعره، ولا ثوبه عن الأرض؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة، وألا يكف شعرًا ولا ثوبًا» . وروى: (ولا يكفت) ، والكفت: الجمع. ويستحب أن يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاثًا، وذلك أدنى الكمال؛ لما ذكرناه من حديث ابن مسعود. وروى عن عقبة بن عامر: أنه قال: «لما نزل قَوْله تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 96] [الواقعة: 96] : قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجعلوها في ركوعكم "، ولما نزل قَوْله تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] [الأعلى: 1] . . قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجعلوها في سجودكم» . قال ابن الصباغ، والشيخ أبو نصر: ويزيد: (وبحمده) ؛ لما مضى في الركوع. وأكمل الكمال: أن يقول مع ذلك، ما روى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في سجوده: اللهم لك سجدت، ولك أسلمت، وبك آمنت، وأنت ربي، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين» .

مسألة الرفع من السجود

ويستحب أن يدعو في سجوده بما أحب من أمر دينه ودنياه؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو في سجوده، فيقول: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، آخره وأوله، علانيته وسره» . قال الشافعي في بعض كتبه: (يقول في سجوده: سجد وجهي حقًا حقًا، تعبدًا ورقًا) . قال الشافعي في " الأم " [1/100] : (ويجتهد في الدعاء، رجاء الإجابة، ما لم يكن إمامًا، فيثقل على من خلفه، أو مأمومًا، فيخالف إمامه) . وقال في " الإملاء ": لا يزيد على الدعاء الذي ذكرناه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأول أصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم» . ومعنى قوله: " فقمن "، أي: جدير، وحقيق، وحري أن يستجاب لكم، وقد روي بفتح الميم وكسرها. ويكره أن يقرأ في الركوع أو السجود؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني نهيت أن أقرأ راكعًا، أو ساجدًا» . [مسألة الرفع من السجود] ثم يرفع رأسه مكبرًا؛ لحديث أبي هريرة، ويكون ابتداء التكبير مع ابتداء الرفع،

فرع كراهة الإقعاء

ويمده، حتى ينتهي إلى آخره مع انتهاء الرفع؛ لئلا يخلو فعل من ذكر. ويجب عليه أن يطمئن في هذا الاعتدال. وقال أبو حنيفة ومالك: (لا يجب عليه الطمأنينة فيه، فمتى رفع رأسه رفعًا ما. . أجزأه) ، حتى حكي عن أبي حنيفة: أنه قال: (لو رفع جبهته بقدر ما يدخل بين جبهته والأرض سمك سيف. . أجزأه) . وقال مالك: (يعتبر ما كان أقربه إلى الجلوس) ، وكذلك يقول في الاعتدال عن الركوع: (ما كان أقربه إلى القيام) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم يرفع رأسه من السجود، حتى يطمئن جالسًا» . وأما الكلام في صفة هذا الجلوس: فقال الشافعي: (هو أن يثني رجله اليسرى، ويقعد عليها، وينصب قدمه اليمنى) . وحكى أبو علي في " الإفصاح "، عن الشافعي قولاً آخر: (أنه يجلس على صدور قدميه) ، والأول هو المشهور؛ لما روي: أن أبا حميد الساعدي وصف صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فلما رفع رأسه من السجدة الأولى. . ثنى رجله اليسرى، وقعد عليها، واعتدل، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه» . [فرع كراهة الإقعاء] ويكره الإقعاء في الجلوس، وروي عن العبادلة: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن العباس، وعبد الله بن الزبير: أنهم قالوا: (هو من السنة) ، وبه قال نافع، وطاوس، ومجاهد.

دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الإقعاء في الصلاة» ، وروى علي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لي: يا علي، أحب لك ما أحب لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقع بين السجدتين» . واختلف في تأويله: فقال أبو عبيدة: هو أن ينصب ساقيه معًا على الأرض، ويجلس على أليتيه. وقال أبو عبيد: وسمعت أهل العلم يقولون: (الإقعاء) : هو أن يفترش رجليه، ويجلس على عقبيه. هكذا ذكر في " التعليق "، وذكر في " المهذب " تأويلاً آخر، فقال: هو أن يجعل يديه على الأرض، ويقعد على أطراف أصابعه. وأما الذكر في الجلوس بين السجدتين: فلم يذكر الشافعي فيه شيئًا، ولكن قد روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي، وارحمني، واجبرني، وارفعني، واهدني، وارزقني» ،

مسألة السجدة الثانية

وفي رواية أم سلمة: «واهدني للسبيل الأقوم، وعافني» . والمستحب: أن يقول ذلك. وقال أبو حنيفة: (ليس فيه ذكر مسنون) . دليلنا: ما ذكرناه من الخبر، ولأن أفعال الصلاة مبنية على أن لا ينفك شيء منها من ذكر الله. [مسألة السجدة الثانية] ثم يسجد سجدة ثانية على ما ذكرناه في الأولى من التكبير وغيره. فإذا رفع رأسه منها. . فروى المزني: (أنه يستوي قاعدًا، ثم ينهض) ، وقال في " الأم " [1/101] : (يقوم من السجدة الثانية) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يجلس، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق؛ لما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رفع رأسه من السجود. . استوى قائمًا بتكبيرة» . والثاني: يجلس؛ لما روي: أن أبا حميد ذكر ذلك في وصفه صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروي عن مالك بن الحويرث: «أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، فكان إذا كان في وتر من صلاته. . لم ينهض، حتى يستوي جالسًا» .

وقال أبو إسحاق: هي على حالين: فإن كان ضعيفًا.. جلس؛ لأنه يحتاج إليها للاستراحة، وإن كان قويًا. . لم يجلس؛ لأنه لا يحتاج إليها. فإذا قلنا: لا يجلس. . فإنه يبتدئ بالتكبير مع ابتداء الرفع، وينتهي به مع انتهاء الرفع، وذلك عند أول حالة القيام. وإذا قلنا يجلس للاستراحة. . فإنه يجلس مفترشًا؛ لما روي: أن أبا حميد ذكر ذلك في وصفه صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومتى يبتدئ بالتكبير؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يبتدئ بالتكبير عند ابتداء رفع رأسه من السجود، وينتهي به إلى حالة الجلوس، ثم يقوم من غير تكبير؛ لأن التكبير - هاهنا - للرفع من السجود، لا للقيام. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يطيل التكبير، ولا يطيل الجلوس، ويتم التكبير في حال النهوض إلى القيام، وهذا أشبه بأفعال الصلاة؛ لأن أفعالها لا تخلو من ذكر. وحكى في " الإبانة " [ق \ 66] : أن القفال كان يقول: لا يكبر عند رفع الرأس من السجود، بل عند الرفع من الجلسة، ثم رجع عنه. وهل تكون هذه الجلسة فصلاً بين الأولى والثانية؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول ابن الصباغ -: أنها لا تكون من الأولى، ولا من الثانية، بل تكون فضلا بينهما، كالتشهد الأول. والثاني - يحكى عن الشيخ أبي حامد -: أنها من الثانية؛ لأنه يبتدئ بالتكبير بعد الفراغ من الأولى، وهذا مخالف لأصل الصلاة؛ لأنه ليس في الصلاة الواجبة جلوس في ابتداء ركعة، فثبت أنها فصل بينهما. وإذا أراد القيام إلى الركعة الثانية، إما من السجدة الثانية، أو من جلسة الاستراحة. .

فإنه يقوم معتمدًا على الأرض بيديه، وحكي ذلك عن ابن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق. وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: (لا يعتمد على الأرض بيديه، وإنما يعتمد على صدور قدميه) . وروي ذلك عن علي، وابن مسعود. دليلنا: ما روي عن مالك بن الحويرث، في صفة صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «فلما رفع رأسه من السجدة الأخيرة في الركعة الأولى، واستوى قاعدًا. . قام، واعتمد على الأرض بيديه» . قال الشافعي: (ولأن ذلك أشبه بالتواضع، وأعون للمصلي) . قال ابن الصباغ: ويرفع يديه من الأرض قبل ركبتيه؛ لما روى وائل بن حجر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد. . وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض. . رفع يديه قبل ركبتيه» . ولأن اليدين، لما تأخر وضعهما. . تقدم رفعهما، كالجبهة. ولا يرفع يديه إلا في المواضع الثلاثة التي ذكرناها، وهي: عند تكبيرة الإحرام، وعند تكبيرة الركوع، وعند الرفع منه. وقال أبو علي في " الإفصاح ": يستحب ذلك كلما قام إلى الصلاة من سجود، أو تشهد. وهو قول ابن المنذر. قال ابن المنذر: هذا باب أغفله كثير من أصحابنا، وقد ثبت فيه حديث أبي حميد

مسألة عن أحكام الركعة الثانية

الساعدي، وروي في حديث علي أمير المؤمنين أيضًا. دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أنه قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة. . رفع يديه حذو منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعدما يرفع، ولا يرفع بين السجدتين» ، ولأنها تكبيرة يتصل طرفها بسجود أو قعود، فلم يرفع فيها يديه، كتكبيرة السجود من القيام. فإن ركع، أو سجد في الفرض بنية النفل. . لم يجزئه عن الفرض، وتبطل صلاته. وقال أبو حنيفة: (يقع عن فرضه) . دليلنا: أنه ركن في الصلاة، فإذا أداه بنية النفل. . لم تجزئه، كتكبيرة الإحرام. [مسألة عن أحكام الركعة الثانية] ثم يقوم إلى الركعة الثانية، فيصليها مثل الأولى، إلا في النية، ودعاء الاستفتاح؛ لأن ذلك يراد للدخول، فإن كانت الصلاة تزيد على ركعتين. . جلس، وتشهد، وهذا الجلوس والتشهد فيه سنتان، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم. وقال الليث، وأحمد، وإسحاق، وداود، وأبو ثور: (هما واجبان) . دليلنا: ما روي عن ابن بحينة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام من اثنتين من الظهر، أو العصر ولم يجلس، فلما قضى صلاته. . سجد سجدتين للسهو، ثم سلم» ، ولو كانتا واجبتين. . لما جبرهما بالسجود، كالركوع.

والجلسات في الصلاة أربع: الجلسة بين السجدتين، وجلسة الاستراحة، والجلسة للتشهد الأول، والجلسة للتشهد الأخير. والسنة عندنا: أن يجلس في الجلسات الثلاث الأول مفترشًا، وهو أن يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب قدمه اليمنى. قال الشافعي: (ويفضي ببطون أصابعه إلى الأرض) . وفي الجلسة الأخيرة يجلس متوركا، وهو أن يخرج رجله اليسرى من تحت وركه، ويفضي بمقعدته إلى الأرض، وينصب قدمه اليمنى. وقال مالك: (السنة: أن يتورك في جميعها) . وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: (السنة: أن يفترش في جميعها) . دليلنا: أن أبا حميد وصف صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «لما جلس في الأوليين، وبين السجدتين. . ثنى رجله اليسرى، وجلس عليها، ونصب اليمنى، فلما جلس في الرابعة. . أماط رجله من تحت وركه، وأفضى بمقعدته إلى الأرض، ونصب قدمه اليمنى» . وإن كانت الصلاة صبحًا، فإنه إذا جلس للتشهد. . تورك فيه؛ لأنها الجلسة الأخيرة فيها. قال الشافعي: (فإن أدرك المأموم الإمام في الركعة الأخيرة من الصبح. . فإنه يجلس مع الإمام تبعًا له، ويفترش رجله اليسرى؛ لأن عليه أن يتبع الإمام في فعله، لا في صفته، ألا ترى أنه يتبع الإمام في القراءة، ولا يتبعه بالجهر بها) . وكذلك إذا أدركه في الثانية من المغرب بعد الركوع. . فإن هذا المأموم يجلس أربع جلسات للتشهد، يفترش في ثلاث منها، ويتورك في الأخيرة منها؛ لما ذكرناه.

مسألة الجلوس للتشهد

[مسألة الجلوس للتشهد] وإذا جلس للتشهد. . فإنه يضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ويبسط أصابعه. قال المحاملي: ويضمها. وقال ابن الصباغ: ويفرقها. وأما اليد اليمنى: ففي كيفية وضعها ثلاثة أقوال: أحدها - وهو المشهور -: أنه يضعها على فخذه اليمنى مقبوضة الأصابع، إلا المسبحة؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قعد للتشهد. . وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثة وخمسين، وأشار بالسبابة» . وروى ابن الزبير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جلس للتشهد. . افترش رجله اليسرى، ونصب اليمنى، ووضع إبهامه عند الوسطى، وأشار بالسبابة، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى» . ذكره البغوي. وكيف يصنع بالإبهام على هذا؟ فيه وجهان: أحدهما: يضعها في وسط كفه، كأنه عاقد ثلاثة وخمسين؛ لما ذكرناه في رواية ابن عمر. والثاني: يضعها على أصبعه الوسطى، كأنه عاقد ثلاثة وعشرين؛ لما ذكرناه في رواية ابن الزبير.

والقول الثاني: أنه يقبض الخنصر والبنصر، ويحلق بالإبهام والوسطى، ويشير بالسبابة؛ لما روى وائل بن حجر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل هكذا. والقول الثالث: أنه يقبض الخنصر والبنصر والوسطى، ويبسط الإبهام والسبابة، ويشير بها؛ لما روى أبو حميد الساعدي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل هكذا. قال ابن الصباغ: وهذه الأخبار تدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يضعها تارة كذا، وتارة كذا، فكيفما وضع يده من ذلك. . أتى بالسنة، ويشير بالسبابة، على الأقوال كلها عند الشهادة؛ لما ذكرناه من الأخبار، ولكن يشير بها عند كلمة الإثبات، وهو قوله: (إلا الله) ، لا عند كلمة النفي. قال ابن الصباغ: ولا يجاوز طرفه إشارته. وهل يحركها؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو الصحيح -: أنه لا يحركها، وإنما يشير بها فقط؛ لما روى ابن الزبير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشير بها، ولا يحركها، ولا يجاوز بصره إشارته» . والثاني: يحركها؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يشير بها، وقال: «إنها مذعرة للشيطان» .

مسألة ألفاظ التشهد

قال الشيخ أبو حامد: فإذا قلنا بهذا: فإنه يحركها في جميع التشهد، ولا تبطل صلاته بذلك؛ لأنه عمل قليل، فهو كما لو غمض عينيه وفتحهما. وحكى الصيدلاني، عن أبي علي بن أبي هريرة: أن صلاته تبطل بذلك؛ لأنه عمل كثير، وليس بشيء. [مسألة ألفاظ التشهد] ويتشهد، وأفضل التشهد عندنا: ما رواه ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أن يقول: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله» . وهذه رواية الشافعي، عن ابن عباس، ورواه عنه أبو داود، وقال: " السلام ". بزيادة الألف واللام فيهما.

قال الشيخ أبو حامد: والجميع واحد؛ لأن التنوين يقوم مقام الألف واللام. وقال أبو حنيفة: (الأفضل: أن يتشهد بما رواه ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو: «التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله» ، وبه قال الثوري، وأحمد، وإسحاق، واختاره ابن المنذر. وقال مالك: (الأفضل: أن يتشهد بما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه علم الناس التشهد على المنبر، وهو: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله، الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله ".

وإنما اختار الشافعي رواية ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمنا التشهد، كما يعلمنا السورة من القرآن» ، وذكر ما قلناه، وهذا يدل على حفظه وضبطه، وكل موضع ذكر الله التحية، فإنه قال: " سلام " من غير ألف ولام. إذا ثبت هذا: فإن أبا علي الطبري، حكى عن بعض أصحابنا: أن الأفضل أن يقول: بسم الله وبالله، التحيات المباركات الزاكيات، والصلوات والطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ ليجمع بذلك بين الروايات، وليس بشيء؛ لأن التسمية غير ثابتة في الحديث، والواجب من ذلك خمس كلمات وهي: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله؛ لأن كل من روى التشهد روى هؤلاء الكلمات. وفي قوله: (ورحمة الله) وجهان: [الأول] : قال ابن سريج: لا تجب. و [الثاني - وهو] المذهب -: أنه يجب. وفي قوله: (وبركاته) وجهان: [الأول] : قال أكثر أصحابنا: لا يجب. و [الثاني] : أنه واجب. حكاه الصيدلاني، والمسعودي [في " الإبانة " ق \ 66] . قال الشافعي: (ويقول: وصلى الله على محمد) . فيكون ستًا. قال الشيخ أبو حامد: أو يقول: اللهم صل على محمدٍ.

وأما قوله: (المباركات) فلا يجب؛ لأنه نعت للتحيات. وقوله: (الصلوات الطيبات) لا يجب؛ لأن قوله: التحيات يقوم مقامه. قال في " الأم ": (ولو قدم بعض ألفاظها على بعض. . أجزأه، كما يجزئه في الخطبة) . وأما تفسير (التحيات لله) : فروي عن ابن عباس، وابن مسعود: أنهما قالا: أنهما قالا: (معنى: (التحيات لله) : العظمة لله) . وقال أبو عمر: (التحيات لله) : الملك لله. وأنشد قول زهير: ولكل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحية يعني: إلا الملك. وقال بعضهم: (التحيات لله) ، يعني: سلام الخلق لله. مأخوذ من قَوْله تَعَالَى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس: 10] [يونس: 10] . وأما (الصلوات) : فيريد: الصلوات الخمس. (والطيبات) يريد: الأعمال الصالحة. وقيل: (الطيبات) الثناء على الله. وأما (السلام) : فقيل: معناه: اسم السلام، والسلام هو الله، كما يقال: اسم الله عليك. وقيل: معناه: سلم الله عليك تسليمًا وسلامًا. وهل تسن الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأول؟ فيه قولان: أحدهما: لا تسن؛ لما روى ابن مسعود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جلس في التشهد الأول. . كأنما يجلس على الرضف» . يعني: الحجارة المحماة، وهذا يدل على أنه كان لا يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه.

مسألة حكم الصلاة غير الثنائية

والثاني: تسن فيه الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يسن فيه الدعاء؛ لأنه تشهد، فسن فيه الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كالأخير، وقال مالك: (يصلي فيه ويدعو) . دليلنا عليه: حديث ابن مسعود. وهل يسن الصلاة على آله في هذا التشهد؟ قال أكثر أصحابنا: لا يسن ذلك، كما لا يسن الدعاء فيه. وقال صاحب " الفروع ": إن قلنا: لا تسن فيه الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . لم تسن الصلاة فيه على آله. وإن قلنا: تسن فيه الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . فهل تسن فيه الصلاة على آله؟ فيه وجهان. [مسألة حكم الصلاة غير الثنائية] ثم يقوم إلى الثالثة معتمدًا على الأرض بيديه؛ لما ذكرناه من رواية مالك بن الحويرث، ويكره أن يقدم إحدى رجليه على الأخرى عند النهوض في الصلاة. وقال مالك: (لا بأس به) . دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: (هذه الخطوة الملعونة) . ثم يصلي ما بقي من صلاته مثل الثانية، إلا في الجهر بالقراءة، فإذا بلغ إلى آخر صلاته. . جلس، وتشهد فيه، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا الجلوس، والتشهد فيه، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واجب، وبه قال عمر، وابن عمر، وأبو مسعود البدري. وذهب علي بن أبي طالب، والزهري، ومالك، والثوري إلى: (أن هذا

الجلوس، والتشهد فيه، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يجب شيء من ذلك، بل إذا فرغ من الركعة الأخيرة. . فقد تمت صلاته) . وذهب أبو حنيفة، وأصحابه إلى: (أن التشهد، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يجبان، وأما الجلوس: فيجب منه بقدر قراءة التشهد) . دليلنا: ما روي عن ابن مسعود: أنه قال: «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات» . . . ". فموضع الدليل: أنه قال: قبل أن يفرض علينا التشهد، فدل على أنه قد فرض عليهم، ولأنه أمرهم بالتشهد، والأمر يقتضي الوجوب. وأما الدليل على وجوب الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] [الأحزاب: 56] . قال الشافعي: (أمر الله بالصلاة على نبيه، وظاهره يقتضي الوجوب، ولا موضع تجب فيه الصلاة عليه أولى من الصلاة) . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقبل الله صلاة إلا بطهور، وبالصلاة علي» . وروى أبي بن كعب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في الصلاة: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم» .

وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . والأفضل أن يقول: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وآل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد؛ لما روى أبو حميد: «أنه قيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وآل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» . والواجب: اللهم صل على محمد. وهل تجب الصلاة على آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال أكثرهم: فيه وجهان: أحدهما: تجب، وبه قال أحمد؛ لحديث أبي حميد. والثاني - وهو المنصوص -: (أنه لا يجب) ؛ لأن من لم يكن ذكره شرطًا في صحة الأذان. . لم يكن شرطًا في صحة الصلاة، كالصحابة. وقال صاحب " الفروع ": إن قلنا. تسن الصلاة عليهم في الأول. . وجبت هاهنا.

مسألة الدعاء آخر الصلاة

قال: وكذلك الوجهان في الصلاة على إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. واختلف الناس في آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فمنهم من قال: هم بنو هاشم، وبنو المطلب؛ لأنهم أهل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وآل: منقلب من: أهل. ومنهم من قال: آله من كان على دينه، كقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} [غافر: 46] [غافر: 46] . وأراد: من كان على دينه. وسئل الشافعي عن أفضل الأنبياء، - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -؟ فقال: (نبينا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) ، فقيل له: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وآل إبراهيم ". فسأل الله تعالى أن يصلي عليه، كما صلى على إبراهيم، وهذا يدل على أن إبراهيم كان أفضل منه؟ ! فقال: (لا؛ لأن قوله: " اللهم صل على محمد " كلام تام، " وعلى آل محمد " كلام مبتدأ، " كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم "، فيكون معناه: وصل على آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم) . [مسألة الدعاء آخر الصلاة] فإذا فرغ من التشهد، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى آله. . فله أن يدعو بما شاء من دين ودنيا، والأفضل أن يدعو بما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا تشهد أحدكم، فليستعذ بالله من أربع: من عذاب النار، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال» ، وبما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان

يقول بين التشهد والسلام: اللهم اغفر لي ما قدم وما أخرت، وما أعلنت وما أسررت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت» . وروى أبو داود، عن ابن مسعود: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمنا كلمات، ولم يكن يعلمناهن كما يعلمنا التشهد: اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا، إنك أن التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها، قابليها، وأتمها علينا» . ويجوز أن يقول: اللهم ارزقني جارية حسنة، وزوجة صالحة، وضيعة،

وخلص فلانا من الحبس، وأهلك فلانًا، وغير ذلك مما يجوز أن يدعو به خارج الصلاة. وقال أبو حنيفة: (لا يدعو إلا بالأدعية المأثورة، أو ما أشبه ألفاظ القرآن) . ومن أصحابه من قال: ما لا يطلب إلا من الله، يجوز أن يدعو به في الصلاة، وما يجوز أن يطلب من المخلوقين، إذا سأله الله في الصلاة. . أفسدها. دليلنا: ما روى ابن مسعود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه التشهد إلى قوله: " وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله "، ثم قال: وليدع بعد ذلك بما شاء» . وروى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع رأسه من الركوع الأخير في الصبح، وقال: اللهم نج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، وأهلك رعل وذكوان، واجعل سنيهم كسني يوسف» . وروى عن أبي الدرداء: أنه قال: (إني لأدعو لسبعين صديقًا في كل صلاة بأسمائهم، وأسماء آبائهم) . قال الشافعي: (ويدعو قدر أقل التشهد) . وقال في " الإملاء ": (ويدعو بقدر التشهد) . قال أصحابنا: وليس بينهما اختلاف؛ لأن أقل التشهد مع الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كأكثر التشهد بغير الصلاة. فقوله: (بقدر أقل التشهد) ، يعني: مع الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقوله: (بقدر التشهد) ، يعني: بغير صلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

مسألة في السلام

فإن كان إمامًا. . فإنه يدعو بقدر التشهد؛ لكي لا يثقل على من وراءه، وإن كان منفردًا. . فيطيل ما شاء. ويكره أن يقرأ القرآن في التشهد؛ لأنها حالة في الصلاة، لم تشرع فيها القراءة، فكرهت فيها، كالركوع، والسجود. قال الشافعي: (وأحب للإمام أن يرتل القراءة والتشهد، ويزيد عليها، حتى لو كان خلفه من في لسانه ثقل. . أدركه، وأحب له أن يتمكن في الركوع والسجود؛ لكي يلحقه الكبير والضعيف) . [مسألة في السلام] ثم يسلم، والسلام واجب في الصلاة، لا تصح الصلاة إلا به، وهو من الصلاة، وبه قال أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة، وأصحابه: (السلام ليس بواجب، وإنما على المصلي إذا قعد قدر التشهد. . أن يخرج من الصلاة بما ينافيها من قيام، أو كلام، أو حدث، أو سلام) . دليلنا: ما روى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» . فجعل تحليلها التسليم، فدل على أنه لا تحليل إلا به، ولأنه أضافه إليها، فدل على أنه منها. وروى جابر بن سمرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سلم في الصلاة، أومأ أحدنا بيده يمينًا وشمالاً: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما لي أراكم تؤمنون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس، إنما يكفيكم أن تقولوا عن يمينكم وشمالكم: السلام عليكم ورحمة الله» .

فإن كان المسجد كبيرًا مثل الجوامع، والناس كثيرًا، وهناك ضجة وكلام حول المسجد. . فإن المستحب أن يسلم الإمام تسليمتين: إحداهما: عن يمينه، هي من الصلاة، والأخرى: عن شماله، وليست من الصلاة. وإن كان المسجد صغيرًا، ولا لغط هناك، أو كان منفردًا. . ففيه قولان: [الأول] : قال في الجديد: (السنة أن يسلم تسليمتين: إحداهما: عن يمينه، والأخرى: عن شماله) . وروى ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وهو قول الثوري، وأبي حنيفة، وأصحابه؛ لما روى ابن مسعود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمتين: عن يمينه، وشماله» . و [الثاني] : قال في القديم: (السنة أن يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه) ؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه» .

وروي عن ابن عمر، وأنس، وسلمة بن الأكوع، وعائشة: (أن السنة أن يسلم تسليمة واحدة بكل حال) . وبه قال الحسن البصري، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والأوزاعي. ودليلنا عليهم: حديث ابن مسعود. والواجب: تسليمة واحدة، وبه قال أكثر أهل العلم. وقال الحسن بن صالح، وأحمد - في أصح الروايتين عنه -: (الواجب تسليمتان) . ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وتحليلها التسليم» . وهذا يقع على تسليمة واحدة. وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه» . والسلام هو أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله؛ لما ذكرناه من حديث جابر بن سمرة. وروى أبو هريرة: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم هكذا) .

فرع نية السلام

فإن قال: السلام عليكم. . أجزأه. وإن قال: السلام، ولم يقل: عليكم. . لم يجزئه. فإن قال: سلام عليكم. . ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، وهو اختيار الشيخ أبي حامد -: أنه لا يجزئه، وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي قال في السلام: (السلام عليكم) . فإن نقص من هذا حرفًا. . أعاد، ووجهه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما يكفيكم أن تقولوا عن يمينكم، وعن شمائلكم: السلام عليكم ورحمة الله» . والثاني: يجزئه، وهو اختيار ابن الصباغ، كما يجزئه في التشهد. ومن قال بالأول. . قال: قد روي في التشهد بغير ألف ولام، وهاهنا لم يرو إلا بالألف واللام. وإن قال: عليكم السلام. . فإن الشافعي قال: (كرهته، ولم يقطع صلاته) ؛ لأن ذكر الله لا يقطع الصلاة. فمن أصحابنا من قال: لا تجزئه؛ لأن الشافعي قال: (ولم يقطع صلاته) . فثبت: أنه لم يخرج به من الصلاة، ولأن الخبر لم يرد به. ومنهم من قال: يجزئه، وهو قول أبي العباس، والشيخ أبي حامد؛ لأنه ذكر ليس في جنسه إعجاز، فلم يجب فيه الترتيب، كالتشهد، ولو لم يجزئه عند الشافعي. . لقطع ذلك صلاته. [فرع نية السلام] وأما النية في السلام: فلا يخلو: إما أن يكون إمامًا، أو مأمومًا، أو منفردًا: فإن كان إمامًا. . فإنه ينوي بالتسليمة الأولى ثلاثة أشياء: الخروج من الصلاة، والسلام على الحفظة، وهم الملائكة، والسلام على المأمومين عن يمينه. وينوي بالتسليمة الثانية شيئين: السلام على الحفظة، وعلى من على يساره من المأمومين.

وإن كان مأمومًا عن يسار الإمام. . نوى بالتسليمة الأولى أربعة أشياء: الخروج من الصلاة، والسلام على الحفظة، والرد على الإمام، والسلام على المأمومين عن يمينه. وينوي بالتسليمة الثانية شيئين: السلام على الحفظة، وعلى من على يساره من المأمومين. وإن كان عن يمين الإمام. . نوى بالأولى ثلاثة أشياء: الخروج من الصلاة، والسلام على الحفظة، وعلى المأمومين عن يمينه. ونوى بالثانية ثلاثة أشياء: السلام على الحفظة، والسلام على المأمومين عن يساره، والرد على الإمام. . وإن كان الإمام محاذيًا له. . نوى الرد عليه في أي التسليمتين شاء. وإن كان منفردًا. . نوى بالتسليمة الأولى شيئين: الخروج من الصلاة، والسلام على الحفظة. ونوى بالثانية: السلام على الحفظة، لا غير. والدليل عليه: ما روى سمرة قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نسلم على أنفسنا، وأن يسلم بعضنا على بعض» . وروى علي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي قبل الظهر أربعًا، وبعدها ركعتين، وقبل العصر أربعًا، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين، والنبيين، ومن معهم من المؤمنين» .

فرع نية التسليم

قال الجويني: وتكون نية الخروج ممتزجة بالسلام، ولا يجب ما سوى نية الخروج. وفي نية الخروج وجهان: أحدهما: - وهو قول أكثر أصحابنا، وهو ظاهر النص -: أنها واجبة؛ لأنه ذكر في أحد طرفي الصلاة، فوجبت مقارنة النية له، كتكبيرة الإحرام. والثاني - وهو قول أبي حفص بن الوكيل، وأبي عبد الله ختن الإسماعيلي -: أنها غير واجبة، وإليه أشار الشيخ أبو حامد؛ لأن نية الصلاة قد اشتملت على جميع أفعالها، وأقوالها، فلا معنى لإعادة النية، ولأن نية الخروج لو وجبت. . لوجب تعيين الصلاة التي يخرج منها، كنية الإحرام. [فرع نية التسليم] ] : إذا سلم من الظهر، ونوى الخروج من العصر، فإن قلنا: إن نية الخروج واجبة. . بطلت صلاته، وإن قلنا: لا تجب. . لم يضره ذلك، كما لو شرع في الظهر، وظن في الركعة الثانية أنه في العصر، ثم تذكر في الثالثة أنه في الظهر. . لم يضره ذلك. [مسألة الدعاء بعد الصلاة] ويستحب للإمام وغيره إذا فرغ من الصلاة أن يدعو. قال الشافعي: (وأحب أن يخفت صوته، ويسمع به نفسه، ولا يجهر، إلا أن يكون إماما، فيريد أن يتعلم الناس منه، فيجهر به حتى يعلم أنهم تعلموا، ثم يخفت؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] [الإسراء: 110] . يعني: لا تجهر بدعائك، ولا تخفت حتى لا تسمع نفسك) .

وقد روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فرغ من صلاته مكث قليلاً، وانصرف» . وروى ابن الزبير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سلم من الصلاة يقول بصوته الأعلى: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا نعبد إلا إياه، وله النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون» . وروى معاوية: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوم بعد السلام: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» . وروى ثوبان: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن ينصرف من الصلاة.. استغفر ثلاث مرات، ثم قال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» .

فرع انتظار خروج النساء

وروي: «أنه كان يقول: سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين» . فتحمل رواية من روى أنه دعا وجهر: على أنه أراد بذلك ليتعلم الناس، وتحمل رواية من روى أنه مكث قليلاً، ثم انصرف: على أنه دعا سرًا، بحيث يُسمع نفسه. [فرع انتظار خروج النساء] قال الشافعي: (ويَثْبُتُ ساعةَ يُسَلِّم، إلا أن يكون معه نساء فيلبث؛ لينصرفن قبل الرجال) . وجملة ذلك: أنه إذا كان خلف الإمام رجال ونساء. . فالمستحب له إذا سلم: أن يقف في مكانه ساعة، بقدر ما لو خرج سرعان الرجال. . لم يلحقوا النساء؛ لما روت أم سلمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سلم من الصلاة.. انصرف النساء حين يقضي سلامه، ويمكث في مكانه يسيرًا» . قال الزهري: أرى ذلك؛ لئلا يلحق الرجال بالنساء. وإن كان خلفه رجال، ولا نساء معهم.. استحب له أن يثبت ساعة يسلم، ولا يقف؛ لمعنيين:

فرع الانصراف من الصلاة

أحدهما: أنه إذا ثبت في مكانه، ربما وقع عليه السهو أنه سلم أم لا؟ والثاني: ربما دخل داخل، فيظن أنه في السلام، فيدخل معه في الصلاة، فإن لم يثبت.. فالأولى للمأمومين أن يقفوا معه؛ لكي يتذكر سهوًا، فيتبعونه. قال أصحابنا: ويستحب للإمام والمأموم إذا قضى فرضه، أن يصلي النافلة في بيته؛ لما روى أسامة بن زيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا، إلا المكتوبة» . وهذا مع قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا» . وروى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورًا» . [فرع الانصراف من الصلاة] فإذا أراد أن ينصرف، فإن كانت له حاجة.. توجه في جهتها، سواء كانت يمينًا أو شمالاً؛ لما روى أبو هريرة: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوجه يمينًا وشمالاً) .

مسألة القنوت في الصلاة

وروى ابن مسعود: (أن أكثر انصراف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات الشمال؛ لأن منازله كانت ذات الشمال) . وإن لم يكن للمصلي غرض ولا حاجة.. فالمستحب له: أن ينصرف ذات اليمين؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب التيامن في كل شيء، حتى في طهوره، وانتعاله» . هكذا ذكر أصحابنا البغداديون، ويريدون بذلك: الانصراف في الجهات، عند الخروج من المسجد. وأما صاحب " الإبانة " [ق \ 67] : فقال: تفسير الانصراف عن اليمين عند أكثر أصحابنا: أن يفتل يده اليسرى، ويجلس على الجانب الأيمن من المحراب. وقال القفال: الانصراف عن اليمين هو: أن يفتل يده اليمنى، ويجلس على الجانب الأيسر من المحراب، كما قلنا في الطائف: أنه يبتدئ من الحجر، وتكون يده اليسرى إلى الكعبة، واليمنى إلى الناس. [مسألة القنوت في الصلاة] والسنة: أن يقنت في صلاة الصبح عندنا في جميع الدهر، وبه قال مالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، ورواه الشافعي عن الخلفاء الأربعة، وأنس.

وذهب الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه إلى: (أنه غير مسنون في الصبح) ، وروي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وأبي الدرداء. وقال أبو يوسف: إذا قنت الإمام. . فاقنت معه. وقال الإمام أحمد: (القنوت للأئمة، يدعون للجيوش، فإن ذهب إليه ذاهب. . فلا بأس) . ودليلنا: ما روى أبو داود في " سننه "، «عن أنس: أنه سئل: هل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقنت في الصبح؟ قال: نعم، فقيل له: قبل الركوع، أو بعده؟ فقال: بل بعد الركوع» . وفي رواية عن أنس: «ما زال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقنت في صلاة الصبح، حتى فارق الدنيا» . أخرجه الدارقطني. إذا ثبت هذا: فإن محل القنوت في الصبح عندنا، بعد الركوع في الثانية، وبعد ما يقول: سمع الله لمن حمده. . . . إلى آخره. وذهب مالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، إلى: (أن محله قبل الركوع) .

ودليلنا: حديث أنس الذي مضى. وأما صفة القنوت: قال الشافعي: فأحب أن يقنت بالثمان الكلمات المنقولة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي: «اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت وتعاليت» ؛ لما روي عن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: «علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمات أقولهن في الوتر: " اللهم اهدني فيمن هديت» . . . . ". وذكر الكلمات الثمان. وإن كان إمامًا. . قال: اللهم اهدنا. . . إلى آخره. قال أصحابنا: وقد زاد بعض أهل العلم: ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك وأتوب إليك. قال الشيخ أبو حامد: وهو حسن. وقال القاضي أبو الطيب: قوله: ولا يعز من عاديت. ليس بحسن؛ لأنه لا يضاف العداوة إلى الله تعالى. قال ابن الصباغ: ومثل ما قالوه قد جاء في القرآن، وهو قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] [البقرة: 98] . ولا بأس بهذه الألفاظ. قال الشيخ أبو إسحاق: وإن قنت بما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. . كان حسنًا. وذكر الشيخ أبو نصر: أن مالكًا اختار القنوت في الصبح بالمروي عن عمر، وهو

ما روى أبو رافع: أن عمر قنت في الصبح بعد الركوع، فسمعته يقول: (اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ولا نكفرك، ونؤمن بك، ونخلع من يفجرك - أي: يعصيك، ويخالفك - اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك الجد، إن عذابك بالكفار ملحق. اللهم عذِّب الكفرة كفرة أهل الكتاب، الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة، وثبتهم على ملة رسولك، وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم: إله الحق، واجعلنا منهم) . قوله: (نحفد) أي: نخدم، والحفد: الخدمة، ومنه قَوْله تَعَالَى: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] [النحل: 72] . قيل: الحفدة: الخدم. وقوله: (ملحق) أي: لاحق. ويستحب أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد القنوت؛ لما روي في حديث الحسن: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: تباركت وتعاليت، وصلى الله على النبي وسلم» .

وهل يستحب رفع اليدين في القنوت؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -: أن ذلك غير مستحب؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرفع يديه إلا في الاستسقاء، والاستنصار، وعشية عرفة) . والثاني: أن ذلك مستحب، وهو قول أكثر أصحابنا؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواضع: عند رؤية البيت، وعلى الصفا، والمروة، وفي الصلاة، وفي الموقف بعرفة، وعند الجمرتين» . وروي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كان يرفع يديه حتى يبدو ضبعاه) .

وعن ابن مسعود، وابن عباس: (أنهما كانا يرفعان أيديهما إلى صدورهما) . فعلى هذا: يستحب أن يمسح يديه على وجهه عند الفراغ من الدعاء؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دعوت. . فادع الله ببطون كفيك، ولا تدع بظهورهما، فإذا فرغت. . فامسح راحتيك على وجهك» . قال ابن الصباغ: ولا يمسح بيديه على غير وجهه من جميع بدنه، فإن فعل ذلك كان مكروهًا. قال في " الإبانة " [ق 77] : وهل يجهر بالقنوت، أو يسر به؟ فيه وجهان. وقال البغداديون من أصحابنا: يجهر به. وإذا قنت الإمام. . فهل يقنت المأموم، أو يؤمن؟ قال ابن الصباغ: لا يحفظ فيه نص للشافعي، غير أنه قال: (إذا مرت به آية رحمة، سألها، وكذلك المأموم) . فشرك بينهما في الدعاء، فينبغي ها هنا مثله. وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو، ويؤمن من خلفه» وهذا يدل على أنه يؤمن، ولا يدعو. قال: فينبغي أن يكون المأموم - ها هنا - بالخيار بين أن يدعو، وبين أن يؤمن؛ لأن التأمين دعاء.

قال: وقد قال بعض أصحابنا: يؤمن المأموم على الدعاء، ويشاركه في الثناء. ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غير هذا. وأما سائر الصلوات غير الصبح: فإن نزل بالمسلمين نازلة. . جاز القنوت فيها؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يقنت، إلا أن يدعو لأحد، أو يدعو على أحد» . وإن لم تنزل بالمسلمين نازلة. . فهل يجوز القنوت فيها؟ فيه قولان حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: يجوز؛ لأنه قد روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت في جميع الصلوات» . والثاني: لا يجوز، وهو الصحيح؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قنت فيها لنازلة) ، وهي: أن قومًا قتلوا أصحابه، أهل بئر معونة، فكان يدعو عليهم، ثم أسلموا فترك مسألة ذلك. إذا ثبت ما ذكرناه: فالصلاة تشتمل على أركان، ومسنونات، وهيئات، وشرائط. فالشرائط: ما تتقدم الصلاة، وهي خمس متفق عليها، والسادسة مختلف فيها.

فأما الخمس المتفق عليها: فهي: الطهارة عن حدث، وستر العورة، والطهارة عن النجس: في الثوب، والبدن، والمكان، والعلم بدخول الوقت بيقين، أو غلبة الظن، واستقبال القبلة. والسادسة: النية، وفيها وجهان: [الأول] : من أصحابنا من قال: إنها من الشرائط. و [الثاني] : منهم من قال: إنها من الأركان، هذه طريقة أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: في استقبال القبلة أيضًا وجهان، كالنية. الصحيح: أن النية من الأركان، وأن استقبال القبلة من الشرائط. وأما الأركان: فكل ما كان واجبًا في أثناء الصلاة. وكل ركن شرط؛ لأن الصلاة لا تصح إلا به. وليس كل شرط ركنًا؛ لأن الشرائط ما وجبت خارج الصلاة. قال أصحابنا: ففي الركعة الأولى من كل صلاة واجبة أربعة عشر ركنًا: تكبيرة الإحرام، والنية على قول من يجعلها ركنًا، والقيام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والطمأنينة فيه، والرفع من الركوع، والطمأنينة فيه، والسجدة الأولى، والطمأنينة فيها، والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة فيه، والسجدة الثانية، والطمأنينة فيها، هذه طريقة أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: في السجدة الثانية وجهان: الصحيح: أنها ليست بركن؛ لأنها متكررة. وأما الركعة الثانية: ففيها اثنا عشر ركنًا على طريقة البغداديين؛ لأنه تسقط منها النية، وتكبيرة الإحرام، وكذلك في الثالثة والرابعة.

وفي الجلوس الأخير خمسة أركان: الجلوس، والتشهد فيه، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه، والتسليمة الأولى، ونية الخروج من الصلاة، على قول من يوجبها. وزاد الشيخ أبو إسحاق ركنًا مع ذلك كله، وهو: ترتيب أفعالها، على ما ذكرناه. فيكون في الصلاة الرباعية: ستة وخمسون ركنًا، وفي الثلاثية: أربعة وأربعون ركنًا، وفي الصبح: اثنان وثلاثون ركنًا. فإن قلنا: إن الصلاة على آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واجبة. . زاد في عدد أركان كل صلاة ركناً، وقد يختصر، فيقال: في الركعة الأولى تسعة أركان، وتجعل الطمأنينة صفة للركن. وأما المسنونات في الصلاة - وقد يسميها بعض أصحابنا: الأبعاض - وهي التي تجبر بالسجود: فهي أربعة: الجلوس الأول، والتشهد فيه، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه، على القول الذي يقول: إنه سنة فيه، والقنوت في الصبح. وأما الهيئات: فهي ما عدا ذلك، والفرق بين المسنونات والهيئات: أنه إذا أتى بالهيئات. . أكمل صلاته، وإن تركها. . لم يسجد للسهو. وإذا ترك شيئًا من المسنونات. . نقصت صلاته، وجبرها بسجود السهو. هذه عبارة أكثر أصحابنا. وأما الشيخ أبو إسحاق: فعد ما ليس بركن في الصلاة من المسنونات. ولا فائدة في هذا الاختلاف إلا في التسمية. وبالله التوفيق * * *

باب صلاة التطوع

[باب صلاة التطوع] أفضل أعمال البدن - بعد الشهادة -: الصلاة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» فجعل الصلاة بعد الشهادة، فدل على أنها أفضل من غيرها. وروى عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «استقيموا، واعلموا: أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» . وتطوعها أفضل التطوع، كما أن فرائضها أفضل الفرائض. وتطوعها ضربان: ضرب تسن له الجماعة، وضرب لا تسن له الجماعة. فما تسن له الجماعة: صلاة العيدين، والكسوف، والاستسقاء، وهذا الضرب أفضل مما لم تسن له الجماعة؛ لأن ما تسن له الجماعة أشبه بالفرائض، وأفضل ذلك صلاة العيدين؛ لأنها راتبة بوقت، فهي بالفرائض أشبه، ولأنه مختلف في وجوبها، ثم تليها صلاة الكسوف، لأن القرآن دل عليها، ولأنها أكثر عملاً من صلاة الاستسقاء، ولأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يدع صلاة الكسوف عند وجود سببها، وقد كان

يستسقي تارة، ويدع أخرى، ولأن صلاة الكسوف خالصة لله تعالى، وصلاة الاستسقاء لطلب الرزق، وأجمع المسلمون على كون صلاة الكسوف سنة، واختلفوا في كون صلاة الاستسقاء سنة. وأما ما لا تسن له الجماعة فضربان: راتبة بوقت، وغير راتبة بوقت. فأما الراتبة بوقت: فمنها: السنن الرواتب مع الفرائض. واختلف أصحابنا في عددها: فمنهم من قال: هي عشر ركعات غير الوتر. قال الشيخ أبو إسحاق: وذلك أدنى الكمال، وهي: ركعتان قبل الصبح، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء؛ لما روي «عن ابن عمر: أنه قال: (صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الظهر سجدتين وبعدها سجدتين، وبعد المغرب سجدتين، وبعد العشاء سجدتين» ، وحدثتني حفصة بنت عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي سجدتين خفيفتين، إذا طلع الفجر» . ومنهم من قال: هي ثمان ركعات غير الوتر، وهو المنصوص في " البويطي "، فنقص مما قال في الأول سنة العشاء، وهو اختيار الخضري من أصحابنا، أنه لا سنة للعشاء. ومنهم من قال: هي اثنتا عشرة ركعة غير الوتر، وزاد على ما قال الأول ركعتين قبل الظهر، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من

ثابر على اثنتي عشرة ركعة. . بنى الله له بيتًا في الجنة: أربع ركعات قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر» . ومنهم من قال: هي ثمان عشرة ركعة غير الوتر، وهو قول أبي علي في " الإفصاح ". قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الأكمل، وهي: ركعتان قبل الصبح، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء؛ لحديث ابن عمر، وأربع قبل الظهر، وأربع بعدها؛ لما روت أم حبيبة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حافظ على أربع قبل الظهر، وأربع بعدها. . حرم على النار» . وأربع قبل العصر؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا» . وروى علي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي قبل العصر أربع ركعات، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين والنبيين، ومن معهم من المؤمنين» .

وأما قبل المغرب: قال أبو علي في " الإفصاح ": وروى عبد الله بن بريدة، عن عبد الله المزني، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا قبل المغرب ركعتين لمن شاء؛ خشية أن يتخذها الناس سنة» ، فدل على أن ذلك جائز. قال ابن الصباغ: وروي عن أنس: أنه قال: «صليت الركعتين قبل المغرب على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قيل لأنس: رآكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: (نعم، رآنا، فلم يأمرنا، ولم ينهنا» . وقال طاووس: سئل ابن عمر عن الركعتين قبل المغرب؟ فقال: (ما رأيت أحدا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليهما) . والسنة في الأربع قبل الظهر وبعدها، وفي الأربع قبل العصر: أن يسلم من كل ركعتين؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ويدخل وقت هذه السنن - التي تفعل قبل الفرض - بدخول وقت الفرض، ويكون ذلك وقت الاختيار لها، فإذا فعل الفرض. . ذهب وقت الاختيار لها، وبقي وقت الجواز لها إلى خروج وقت الفرض. ومن أصحابنا من قال: يبقى وقت سنة الفجر إلى الزوال، وهو ظاهر النص، والأول أظهر.

مسألة صلاة الوتر

وما يفعل من هذه السنن بعد الفرض، يدخل وقتها بالفراغ من الفرض، ولأنها تابعة للفرض. [مسألة صلاة الوتر] ] : الوتر سنة، وليس بواجب ولا فرض. وبه قال مالك، والثوري، والليث، والأوزاعي، وأبو يوسف، ومحمد، وأكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة وحده: (هو واجب، وليس بفرض) ؛ لأن الواجب عنده ما ثبت بدليل غير مقطوع به، والفرض ما ثبت بدليل مقطوع به. دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث هي على فرض، ولكم تطوع: النحر، والوتر، وركعتا الفجر» . وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث كتبت علي، ولم تكتب عليكم: النحر، والوتر، وركعتا الفجر» . وروى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوتر حق مسنون، وليس بواجب» . إذا ثبت هذا: فأقل الوتر: ركعة، وأكثره: إحدى عشرة ركعة، وأدنى الكمال منه: ثلاث ركعات.

وقال مالك: (أقل الوتر: ركعة، وليس لما بعدها من الشفع حد، وأقله: ركعتان، ويكره أن يوتر بثلاث ركعات بتسليمة، إلا أن يكون مع الإمام، فيوتر بوتره، ولا يخالفه) . وقال أبو حنيفة: (الوتر: ثلاث ركعات، ولا تجوز الزيادة عليها، ولا النقصان عنها) . دليلنا: ما روى أبو أيوب الأنصاري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوتر حق مسنون، وليس بواجب، فمن أحب أن يوتر بخمس. . فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث. . فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة. . فليفعل» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر بإحدى عشرة ركعة» . وبهذا: يبطل مذهب مالك، وأبي حنيفة.

فرع ما يقرأ في الوتر

[فرع ما يقرأ في الوتر] ] : وإذا أوتر بثلاث، فالأفضل - عندنا - أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وفي الثانية بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثالثة بعد الفاتحة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] والمعوذتين. وقال أبو حنيفة: (لا يقرأ المعوذتين، بل يقتصر على سورة الإخلاص) . ودليلنا: ما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ ما ذكرناه. ويجوز أن يجمع بين جميع ركعات الوتر بتسليمة واحدة. قال أصحابنا ببغداد: والأفضل أن يسلم من كل ركعتين، ويفرد ركعة الوتر وحدها بتسليمة؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفصل بين الشفع والوتر» . وروي عن ابن عمر: (أنه كان يسلم بين الركعة والركعتين، حتى يأمر بحاجته، فإن لم تكن له حاجة، قال: يا جارية، اعلفي الناضح) ، ولا يعرف له مخالف

فرع قنوت الوتر

وقال المسعودي [في " الإبانة " ق 77] : في الأفضل أربعة أوجه: أحدها: الأفضل أن يفصل بين الشفع والوتر بالتسليم؛ لما ذكرناه. والثاني: الأفضل أن يجمع بين الثلاث بتسليمة، وهو اختيار الشيخ أبي زيد. والثالث - وهو اختيار القفال -: أن الأفضل أن يجمع بين الجميع بتسليمة، إلا أن تكون ركعتان لصلاة، وركعة للوتر، فالأفضل أن يفصل الركعة وحدها. والرابع: إن كان يصلي في جماعة، فالأفضل ألا يفصل؛ خشية الفرقة والفتنة بين الناس، وإن كان يصلي وحده. . فالأفضل أن يفصل. [فرع قنوت الوتر] ] : والسنة أن يقنت في الركعة الأخيرة في الوتر، في النصف الأخير من شهر رمضان لا غير، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة، وأحمد: (يستحب القنوت في الوتر في جميع السنة) ، وبه قال أبو عبد الله الزبيري من أصحابنا؛ لما روى أبي بن كعب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر بثلاث ركعات، ويقنت قبل الركوع» . وحكي عن بعض أصحابنا أنه قال: يستحب القنوت في الوتر في جميع شهر رمضان لا غير، والمذهب الأول.

ودليلنا: إجماع الصحابة، وذلك أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يلي بهم التراويح عشرين ليلة، ولا يقنت إلا في النصف الثاني، ثم ينفرد في بيته، فيقال: أبق أبي) ، وهذا بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد. وروي «عن عمر: أنه قال: (السنة إذا انتصف الشهر من رمضان: أن يلعن الكفرة في الوتر بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، اللهم قاتل الكفرة» ، وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحديث أبي غير ثابت عند أصحاب الحديث. وفي محل القنوت من الوتر وجهان: أحدهما: بعد الركوع، وهو المنصوص في " حرملة "، ووجهه: حديث عمر، وأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت في الصبح بعد الركوع» ، فكان هذا مثله، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر. والثاني: قبل الركوع، وبه قال مالك وأبو حنيفة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت في الصبح بعد الركوع» ، و (في الوتر قبل الركوع) ، والقياس يقتضي المخالفة بين النفل والفرض، كما خولف بين الخطبتين في الفرض والنفل، فكانت في الجمعة قبل الصلاة، وفي العيدين والخسوف والاستسقاء بعد الصلاة. وقال الشيخ أبو نصر في " المعتمد ". عندي: أنه أيهما فعل أجزأه؛ لأنه ورد الأثر بهما.

قال: وإذا قنت قبل الركوع. . فليس لأصحابنا فيه قول. وقد روي عن عمر وعلي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: (أنهم كانوا يكبرون إذا فرغوا من القراءة قبل القنوت، ثم يقنتون) ، وهو قول أبي حنيفة. وقال الشيخ أبو نصر: وبفعل عمر، وعلي، وابن مسعود، أقول. قيل للشيخ أبي حامد: هل يرفع يديه في دعاء القنوت؟ فقال: لم يذكر في الخبر، وليس يبعد أن يجوز فعله. قال أصحابنا: ولم يذكر الشافعي ما يقنت به في الوتر، وإنما لم يذكره؛ لأنه نص عليه في قنوت الصبح، وهو الثمان الكلمات: «اللهم اهدني فيمن هديت. .» . إلى آخره. قال القاضي أبو الطيب: وكان شيوخنا يدعون بعد الثمان الكلمات بالدعاء المروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في القنوت، وقد مضى ذكره في قنوت الصبح. قال ابن الصباغ: وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» .

فرع وقت الوتر

قال ابن الصباغ: فإذا فرغ من القنوت. . فالمستحب أن يقول: «سبحان الله الملك القدوس، رب الملائكة والروح» ؛ لأنه روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول ذلك ثلاثًا، ويمد صوته بـ: «رب الملائكة والروح» . فإذا فرغ. . مسح وجهه بيديه. [فرع وقت الوتر] ] : ووقت الوتر بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر الثاني؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله زادكم صلاة وهي الوتر، فصلوها من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر» . فإن كان ممن تهجد له. . فالأفضل أن يوتر بعد صلاة العشاء، وإن كان له تهجد. . فالأفضل أن يوتر بعد التهجد؛ لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من خاف منكم ألا يستيقظ من آخر الليل. . فليوتر من أول الليل، ثم ليرقد، ومن طمع منكم أن يقوم من آخر الليل. فليوتر آخر الليل» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي بكر: "متى توتر؟ "، فقال: أوتر، ثم أنام،

ثم أقوم، فقال: "أخذت بالحزم"، وقال لعمر: "متى توتر؟ "، فقال: أنام، ثم أقوم، ثم أوتر، فقال: أخذ هذا بالقوة» . وهذا أفضل. فإن أوتر أول الليل: ثم نام، ثم قام للتهجد، فإنه لا ينتقض وتره عندنا. وروي عن علي، وابن عمر: (أنه ينتقض الوتر) ، فيصلي ركعة، ويضيفها إلى الوتر؛ ليصير شفعًا، ثم يتهجد، ثم يوتر بركعة بعد التهجد. دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وتران في ليلة» ، ولـ: (أن ابن عباس كره لابن عمر أن يشفع وتره) ، وروي عن ابن عمر، وعمار بن ياسر، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: (ألَّا يشفع الرجل وتره) .

فإن اعتقد أنه صلى العشاء فأوتر، ثم ذكر أنه لم يكن صلى العشاء. . لم يعتد بالوتر. وبه قال أبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة: (يعتد بما قد أوتره) . دليلنا: أن وقت فعله بعد العشاء، فإذا فعله قبله. . لم يجزئه وإن كان مخطئًا، كما لو ظن أن وقت الفريضة قد دخل. . فصلاها، ثم بان أنه لم يدخل. وأوكد هذه السنن الرواتب: الوتر، وركعتا الفجر؛ لأنه ورد فيهما من الأخبار، ما لم يرد في غيرهما. وأيهما آكد؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (ركعتا الفجر آكد) ، وبه قال أحمد، ومالك؛ لما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوها ولو طردتكم الخيل» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» . ولأنها محصورة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان، فكانت بالفرائض أشبه. فإذا قلنا بهذا، فيليها في التأكيد الوتر. و [الثاني] : قال في الجديد: (الوتر آكد) ، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

مسألة قيام رمضان

«إن الله زادكم صلاة هي خير لكم من حمر النعم، ألا وهي الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن» . وهذا أمر، وأقل أحواله: الاستحباب والتأكيد. ولأنه مختلف في وجوبها، وركعتا الفجر مجمع على كونهما سنة. قال في "الفروع": وقيل: هما سواء. فإذا قلنا بالجديد، فاختلف أصحابنا فيما يلي الوتر في التأكيد: فقال أبو إسحاق: يليها التهجد، ثم ركعتا الفجر بعد التهجد؛ لأن المزني [في " المختصر " (1 106) ] نقل عن الشافعي: (والوتر آكد، ويشبه أن يكون صلاة التهجد، ثم ركعتا الفجر) ، ولأن التهجد كان واجبًا، ثم نسخ. وقال أكثر أصحابنا: يلي الوتر في التأكيد: ركعتا الفجر، وهو الأصح؛ لما ذكرناه من الأخبار في ركعتي الفجر. وما حكاه المزني في التهجد، فإنما أراد به الشافعي: الوتر لا التهجد، وقد بينه في " الأم " [1 125] ، فقال: (وكذلك الوتر، وهو يشبه أن يكون صلاة التهجد) . فأسقط المزني: (وهو) . وقد قيل في قَوْله تَعَالَى -: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] [الإسراء: 79] : والمراد به: الوتر. [مسألة قيام رمضان] ] : ومن السنن الرواتب: قيام شهر رمضان، وهو عشرون ركعة، بعشر تسليمات بعد العشاء، وأول من سنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صام رمضان وقامه إيمانًا واحتسابًا. . غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر» . فقوله: (إيمانًا) أي: مصدقًا بثواب الله. وقوله: (احتسابًا) أي: طالبًا لثواب الله. يقال: فلان يحتسب الأخبار، أي: يطلبها ويتوقعها. قال أبو علي في " الإفصاح ": وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم عشرين ركعة في الليلة الأولى، فلما كان في الليلة الثانية خرج، فاجتمع الناس إليه، وكثروا، فلما كان في الليلة الثالثة. . اجتمع الناس، فلم يخرج إليهم، فلما كان من الغد. قال: قد عرفت اجتماعكم، ولكن لم يمنعني من الخروج إلا مخافة أن يفرض عليكم في رمضان، فتعجزوا عنها» . وفي حديث أبي هريرة: «خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا ناس يصلون في ناحية من المسجد، فقال: "من هؤلاء؟ "، فقيل: هؤلاء ناس ليس معهم قرآن، وأبي بن

كعب يصلي بهم، وهم يصلون بصلاته، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصابوا، ونعم ما صنعوا» . فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأمر كذلك، وفي زمن أبي بكر، وصدر من خلافه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. ثم جعل الناس يصلون جماعة وفرادى، ويتبعون القراء والصوت الحسن، فخاف عمر الفتنة والافتراق، فقال: (أجعلتم القرآن أغاني؟ !) ، فجمعهم على أبي بن كعب؛ لأنه كان آخر من أخذ القرآن عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه عرض عليه القرآن في السنة التي مات فيها، فأخرج عمر القناديل إلى المسجد، وجعلهم جماعة واحدة، فكان أبي يصلي بهم عشرين ليلة، ثم ينفرد في بيته، فيقال: ابق أبي، ويتم بهم تميم الداري. فعمر إنما كان منه إخراج القناديل، وجمع الناس جماعة واحدة، ولهذا روي: أن عمر خرج ذات ليلة، فرأى الناس يصلون جماعة واحدة، فقال: (إنها بدعة، ونعمت البدعة) .

ورأى علي القناديل في المسجد، فقال: (رحم الله عمر، ونور قبره كما نور مساجدنا) . وقد روي عن علي: (أنه صلى بهم في شهر رمضان، وكان يسلم بهم من كل ركعتين، يقرأ في كل ركعة بخمس آيات) . إذا ثبت هذا: فقال الشافعي: (فأما قيام رمضان: فصلاة المنفرد أحب إلي منه) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال بظاهره، وإن صلاة التراويح على الانفراد أفضل بكل حال؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها في جماعة، ثم صلاها بعد ذلك منفردًا) . وقال أبو العباس وأكثر أصحابنا: بل فعلها جماعة أفضل؛ لما ذكرناه من إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم يرد الشافعي بهذا: أن التراويح على الانفراد، أفضل من فعلها في الجماعة، وإنما أراد: أن صلاة التراويح، وإن سن لها الجماعة، فإن صلاة المنفرد - وهي الوتر، وركعتا الفجر - أحب إلي منه؛ للأخبار التي وردت بها، وقد اختلف في وجوب الوتر، وواظب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها في الحضر والسفر، ولو أراد: الانفراد في التراويح أفضل. . لكان يقول: وأما قيام رمضان: فصلاتها على الانفراد أحب إلي من صلاتها في جماعة. وأما انفراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإنه قال: «خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها» . ومن أصحابنا من قال: إن كان الرجل يحفظ القرآن، وكان إذا تخلف عن المسجد

فرع عدة قيام رمضان وميزة أهل المدينة

والجماعة، لم تختل الجماعة بتخلفه، ولم يتعطل المسجد. . فصلاته في بيته أفضل من صلاته في المسجد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة المرء في بيته، أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة» . ولم يذكر في " الإبانة " [ق 76] غير هذا، والصحيح: أن صلاتها في الجماعة أفضل؛ لإجماع الصحابة على ذلك، وإجماع أهل الأعصار بعدهم. وأما الخبر: فأراد النوافل التي ليس لها سبب، ولا وقت معين. [فرع عدة قيام رمضان وميزة أهل المدينة] قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ورأيتهم بالمدينة يقومون بتسع وثلاثين، وبمكة بثلاث وعشرين، وهو أحب إلي) . وجملة ذلك: أن التراويح عندنا عشرون ركعة، بعشر تسليمات. وبه قال أبو حنيفة، وأحمد. وقال مالك: (هو ست وثلاثون) . وتعلق بفعل أهل المدينة. ودليلنا: ما ذكرناه من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفعل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وأما أهل المدينة: فإنما فعلوا هذا؛ لأنهم أرادوا أن يساووا أهل مكة، وذلك: أن أهل مكة كلما صلوا ترويحة: وهي أربع ركعات. . طافوا بالبيت سبعًا، فتحصل عنهم أربع طوفات، ولا بيت لأهل المدينة يطوفون به، فجعل أهل المدينة مكان كل طواف ترويحة، أربع ركعات، فزادوا أربع ترويحات، وهي ست عشرة ركعة مع التراويح، وهي عشرون ركعة، والوتر ثلاث ركعات، فحصل معهم: تسع وثلاثون ركعة. قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: وليس لغير أهل المدينة أن يفعلوا ذلك؛ لأن أهل المدينة شرفوا بمهاجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلهذا أرادوا مساواة أهل مكة.

مسألة صلاة الضحى

وقال الشيخ أبو حامد: فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. . أحب إلينا من فعل أهل المدينة. [مسألة صلاة الضحى] قال الشيخ أبو إسحاق: ومن السنن الراتبة صلاة الضحى، وأفضلها ثمان ركعات؛ لما روت أم هانئ بنت أبي طالب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها ثمان ركعات» . وأقلها: ركعتان؛ لما روى أبو ذر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «على كل سلامى من أحدكم صدقة، وتجزئ من ذلك ركعتان يصليها من الضحى» . قال أبو عبيد: و (السلامى) : قصب اليدين والرجلين، قال الشاعر: لا يشتكين عملاً ما أنقين ... ما دام مخ في سلامى أو عين ووقتها: إذا أشرقت الشمس إلى الزوال، ولم يذكر أحد من أصحابنا: أن الضحى من السنن الرواتب.

فرع قضاء الرواتب

[فرع قضاء الرواتب] ] : ومن فاته شيء من هذه السنن الراتبة في وقتها. . ففيه قولان: أحدهما: لا يقضي. وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لأنها صلاة نفل، فإذا فات وقتها. . لم تقض، كصلاة الخسوف، والاستسقاء. فعلى هذا: إذا صلاها في غير وقتها. . لم تكن سنة راتبة، وإنما تكون نافلة لا سبب لها، ولا يجوز فعلها في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها. والثاني: تقضى، وهو الصحيح لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة، أو نسيها. . فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقت لها» . وقد ينام عن الفريضة والنافلة. ولأنها صلاة راتبة بوقت، فلم تسقط بفوات الوقت إلى غير بدل، كالفرائض. فقولنا: (راتبة بوقتٍ) ، احتراز من الخسوف والاستسقاء؛ لأنها راتبة، لكن في غير وقت معين. وقولنا: (إلى غير بدل) احتراز من الجمعة؛ فإنها صلاة راتبة بوقت، وإذا فاتت. . لم تقض، لكن تسقط إلى بدل، وهو الظهر. فعلى هذا: يجوز قضاء السنن الراتبة، ويجوز فعلها في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها. وقال أبو إسحاق المروزي: يجوز قضاؤها، قولاً واحدًا. والموضع الذي قال الشافعي فيه: (لا تقضى) ، أراد به: لا تقضى على التأكيد الذي يصليها في وقتها. وهذا اختيار القاضي أبي الطيب. [مسألة النوافل غير المؤقتة] وأما النوافل التي ليست بأتباع للفرائض: فكل وقت ليس بمنهي عن الصلاة فيه، فهو وقت لها، إلا أن صلاة الليل أفضل من صلاة النهار.

والدليل ليه: قَوْله تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] [السجدة: 16] ، وهذا ورد في صلاة الليل؛ لأن تجافي الجنب عن المضجع، إنما يكون بالليل، ثم قال: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] [السجدة: 17] . فدل على أن ثواب من يقوم بالليل غير محصور. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من أطال قيام الليل. . خفف الله عنه يوم القيامة» . وروى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من كثرت صلاته بالليل. . حسن الله وجهه بالنهار» . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رحم الله امرأ أيقظ زوجته، فإن أبت. . نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة أيقظت زوجها، فإن أبى. . نضحت الماء في وجهه» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» .

فإن اختار أن يجزئ الليل جزأين. . فالجزء الأخير أفضل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] [آل عمران: 17] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] [الذاريات: 18] . ولأن آخر الليل ينقطع فيه الذكر، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذاكر الله في الغافلين، كشجرة خضراء بين أشجار يابسة» . وإن اختار أن يجزئ الليل أثلاثا. . فالجزء الأوسط أفضل. وقال مالك: (الجزء الأخير أفضل) . دليلنا: ما روى عبد الله بن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحب الصلاة إلى الله تعالى، صلاة داود - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه» ، ولأن الذاكرين الله في ذلك الوقت أقل، فكانت الصلاة فيه أفضل. قال الشيخ أبو إسحاق: ويكره أن يقوم الليل كله؛ لما «روى عبد الله بن عمرو: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: "أتصوم النهار؟ ". قلت: نعم. قال: "وتقوم الليل؟ ". قلت: نعم. قال: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمس النساء، فمن رغب عن سنتي. . فليس مني» . وأفضل التطوع في البيت؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا» .

فرع كيفية صلاة الليل

وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة» ، ولأنه أبعد من الرياء. [فرع كيفية صلاة الليل] والأفضل أن يسلم من كل ركعتين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الليل مثنى مثنى» . ويجوز أن يصلي ثلاثًا، وأربعًا، وخمسًا، وستًا وأكثر، بسلام واحد، إلى أن قال الشافعي: (ويجوز أن يصلي النوافل، أي عدد شاء، سواء علم عدد ما صلى، أو لم يعلم، فإذا أراد أن يسلم. . تشهد وسلم) . وقد قيل: إن رجلاً من السلف كان يصلي النوافل بلا عدد، فقيل له في ذلك؟ فقال: الذي أصلي له يعرف العدد. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق 77] : يجوز له أن يصلي ثلاث عشرة ركعة بتسليمة، وهل يجوز له الزيادة على ذلك؟ فيه وجهان. قال: وهو بالخيار بين أن يجلس في كل ركعتين، ويتشهد ولا يسلم، وبين أن لا يجلس إلا في الأخيرة منها، وقد وردت الأخبار في جميع ذلك. قال: ومن أصحابنا من قال: لا يجلس إلا في الأخيرة، والذي روي عنه: أنه كان يجلس في كل ركعتين، فإنما كان يسلم عند كل جلسة، والأول أصح. هذا مذهبنا.

وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يصلي نوافل النهار مثنى مثنى، وأربعًا أربعًا، فإن زاد على ذلك. . بطلت صلاته، والأربع أفضل) . وأما نوافل الليل: فتجوز مثنى، وأربعًا، وستًا، وثمانيًا، ولا يجوز الزيادة على ذلك، والأربع أفضل. وقال مالك، وأحمد: (لا يزيد على ركعتين، ليلاً كان، أو نهارًا) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الليل مثنى مثنى» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل تسع ركعات» . وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة» . وهذا إخبارٌ عن دوامٍ. ويجوز أن يتطوع بركعةٍ لا غير. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ومن أحب أن يوتر بواحدة. . فليفعل» . وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دخل المسجد، فصلى ركعة لا غير، فقيل له في

فرع السهو في النافلة

ذلك؟ فقال: إنما هو تطوع، فمن شاء. زاد، ومن شاء. . نقص) . [فرع السهو في النافلة] فإن احرم بركعتين نافلة، ثم قام إلى الثالثة ساهيًا. . عاد إلى التشهد، كما في الفرض، وإن نوى أن يكملها أربعًا. . جاز. وهل يعود إلى القعود، ثم يقوم؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ". وإن قام عامدًا من غير أن ينوي زيادة. . بطلت صلاته. وإن نوى أربع ركعات في إحرامه، ثم سلَّمَ عن اثنتين. . فإن سلَّمَ ساهيًا. . قام، وأتم أربعًا، وسجد للسهو في آخرها، وإن نوى الاقتصار على اثنتين وسلَّم منهما. . فوجهان حكاهما في " العدة ": الأصحُّ: أنه يصحُّ. وإن نذر أن يصلي التطوعات قائمًا. . لم يلزمه ذلك؛ لأن القعود في النافلة رخصة، ونذره أن لا يقبل الرخصة لا يلزمه، كما لو نذر أن لا يفطر، أو لا يقصر في السفر، أو لا يمسح على الخف. ولو نذر أن يصلي ركعتين قائمًا. . لزمه ذلك؛ لأنه نذر صلاة بصفةٍ مخصوصةٍ. . فلزمه. [فرع النوافل في السفر] يجوز التنفل وفعل الرواتب مع الفرائض في السفر. وروي عن ابن عمر، وعلي بن الحسين: (أنهما كانا لا يتطوعان في السفر قبل الفريضة، ولا بعدها) .

مسألة تحية المسجد

دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتطوع في السفر» ، وكذلك روي عن عمر، وعلي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وقال الحسن البصري: كان أصحابُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسافرون، فيتطوعون قبل المكتوبة، وبعدها. [مسألة تحية المسجد] ] : يستحب لمن دخل المسجد أن يصلي ركعتين من قبل أن يجلس، تحية للمسجد؛ لما روى أبو قتادة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جاء أحدكم المسجد. . فليركع ركعتين من قبل أن يجلس» . فإن دخل وقد أقيمت الصلاة، أو أقيمت بعد دخوله، وقبل أن يصلي. . لم يصل التحية، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة. . فلا صلاة إلا المكتوبة» ؛ ولأن التحية تحصل له بالصلاة المفروضة، فإن صلَّى الفريضة أو شيئًا من الرواتب، ونوى به الفريضة وتحية المسجد، أو السُّنَّة الراتبة وتحية المسجد. . جاز؛ لأن التحية تحصل له من غير أن ينويها، فكانت نيته لها صحيحة. وبالله التوفيق

باب سجود التلاوة

[باب سجود التلاوة] سجود التلاوة مشروع للقارئ والمستمع إليه، لما روي عن ابن عمر: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا القرآن فإذا مرَّ بسجدةٍ. . كبَّر، وسَجَدَ، وسَجَدْنا معه» . فأما السامع من غير أن يقصد الاستماع: فقال الشافعي في " مختصر البويطي ": (لا أُؤَكِّدُ عليه، كما أُؤَكِّدُ على المستمع، فإن سجد. . فحسنٌ) . وقال أبو حنيفة: (التَّالي، والمستمع، والسامع: سواءٌ) . وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين. ودليلنا: ما روي عن عثمان: (أنه مرَّ بقاصٍّ، فقرأ ألفاظ سجدة؛ ليسجد عثمان معه، فلم يسجد، وقال: ما استمعنا لها) .

وكذلك روي عن ابن مسعود، وابن عباس، وعمران بن الحصين، ولا يعرف لهم مخالفٌ. فإن لم يسجد القارئُ. . فهل يسجد المستمع؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد، وأصحابنا البغداديون: يسجد المستمع؛ لأنه قد سُنُّ لهما، فلا يترك أحدهما بترك الآخر. وقال القفال: لا يسجد؛ لأنه تابع له. فإن كان القارئ في الصلاة، والمستمع مؤتم به، فلم يسجد القارئ. . لم يسجد المستمع، بلا خلافٍ بين أصحابنا؛ لأن عليه متابعته في أفعال الصلاة. فإن كان القارئ في الصلاة، والمستمع في غير الصلاة. . قال الطبرانيُّ: لم يسجد المستمع معه. وقال أبو حنيفة: (يسجد) . دليلنا: أنه غير مؤتمٍّ به، فلا يتبعه في السجود، كالتَّأمين. وإن كان القارئ في غير الصلاة، والسامع في الصَّلاة. . قال ابن الصبَّاغ: فإنه لا يسجد، ولا ينبغي له أن يستمع القارئ، بل يشتغل بصلاته، فإن استمع.. لم يسجد؛ لأن سببها لم يوجد في الصلاة، ولا يسجد بعد فراغه من الصلاة. وقال أبو حنيفة: (يسجد إذا فرغ من الصلاة) . وبناه على أصله: أن السامع يلزمه السجود، ولا يمكنه أن يسجد في صلاته، فيسجد إذا فرغ. وإن استمع المتطهر القراءة من المحدث، فمرَّ بآية سجدةٍ. . لم يسجد المستمع وقال أبو حنيفة: (يسجد) .

مسألة سجود التلاوة

دليلنا: أن القارئ لم يُسن له السجود، فلم يُسن للمستمع إليه، كالمأموم إذا لم يسجد الإمام. [مسألة سجود التلاوة] وسجود التلاوة سُنَّةٌ، وليس بواجب، وبه قال عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، ومن الفقهاء: مالك، والأوزاعي. وقال أبو حنيفة: (هو واجبٌ على القارئ والمستمع، إلا أنه إذا تكرر في مجلس. . لم تجب إلا الأولى، دون ما بعدها) . دليلنا: ما روي عن زيد بن ثابت: أنه قال: «عرضت والنجم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يسجد منا أحدُ» . وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قرأ على المنبر سورة فيها سجدة، فنزل، وسجد، وسجد الناس معه، فلما كان في الجُمُعَةِ الثانية. . قرأها، فتهيأ الناس للسجود، فقال: (أيها الناس على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا، إلاَّ أن نشاء) . وهذا بمجمع من الصحابة، ولم ينكر ذلك عليه أحد، فدل على أنه إجماع. قال ابن الصباغ: فإن لم يسجد في موضع السجود. . لم يسجد بعد ذلك، لأنها تتعلق بسببٍ، فإذا فات. . سقطت.

فرع من سجود التلاوة

فإن أخر السجود، وهو في مجلسه، فإن لم يطل الفصل. . سجد، وإن طال الفصل. . لم يسجد بعد ذلك؛ لأنه ليس بأعظم ممَّن ترك ركعة، وذكرها بعد السلام. وإن سجد للتلاوة في مجلس، ثم أعاد تلك السجدة في ذلك المجلس. . سجد في أصح الوجهين. وقال أبو حنيفة: (لا يسجد) . دليلنا: أن ما اقتضى السجود في مجلسين. . اقتضاه في مجلسٍ واحد، كالآيتين المختلفتين. [فرع من سجود التلاوة] قال الطبري في " العُدَّة ": إذا قرأ صبي، أو كافرٌ آية سجدةٍ. . لم يسجد المستمع. وقال أبو حنيفة: (يسجد) . دليلنا: أن كل تلاوةٍ لا تقتضي السجود على التالي، لم تقتض السجود على المستمع، كقراءة المأموم في الصلاة. قال: وإذا قرأ آية سجدةٍ في الصلاة، فلم يسجد حتى خرج منها. . قضى السجود. وقال أبو حنيفة: (لا يقضيه) . دليلنا: أنه سجود زائد، مقتضاه كان في صلاة، فلم يسقط بالخروج من الصلاة كسجود السهو. [فرع آية السجدة في الصلاة] ] : ولا تكره قراءة السجدة في الصلاة. وقال مالك: (تكره) .

مسألة سجدات التلاوة

وقال أبو حنيفة، وأحمد: (تكره في السِّرِّيَّة، ولا تكره في الجهريَّة) . دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد في الظهر، فرأى أصحابه أنه قرأ آية سجدة، فسجد» . [مسألة سجدات التلاوة] وسجدات التلاوة أربع عشرة سجدة، في القول الجديد: سجدةٌ في آخر (الأعراف) ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] [الأعراف: 206] . وسجدة في (الرعد) ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] [الرعد: 15] . وسجدة في (النحل) ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] [النحل: 50] . وسجدة في (بني إسرائيل) ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] [الإسراء: 109] . وسجدة في (مريم) ، عند قَوْله تَعَالَى: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] [مريم: 58] . وسجدتان في (الحج) : سجدة عند قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] [الحج: 18] ، وسجدة عند قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] [الحج: 77] . وسجدة في (تبارك: الفرقان) ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] [الفرقان: 60] . وسجدة في (النمل) ، عند قَوْله تَعَالَى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] [النمل: 15] . وسجدة في (الم تنزيل) [السجدة] ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] [السجدة: 15] . وسجدة في (حم تنزيل) ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] [فصلت: 38] .

وثلاث سجدات في المفصَّل: سجدة في آخر (النجم) ، عند قَوْله تَعَالَى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] [النجم: 62] . وسجدة في (الانشقاق) ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] [الانشقاق: 21] . وسجدة في آخر اقرأ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] [العلق: 19] . وقال في القديم: (عزائم السجود إحدى عشرة سجدة) . وأسقط ثلاث سجدات في المفصل، وبه قال مالك، وروي ذلك عن ابن عباس، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومجاهد. لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسجد في شيء من المُفَصَّلِ، منذ تحول إلى المدينة» . قال أبو حنيفة: (ليس في الحج إلا سجدة واحدة) . وهي الأولى، وأسقط الثانية. دليلنا: ما روي عن عمرو بن العاص: أنه قال: «أقرأني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس عشرة سجدة في القرآن: منها ثلاث في المُفَصَّلِ، وفي الحج: سجدتان» . وروي عن عقبة بن عامر: أنه قال: «قلت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في (الحج)

فرع السجود عند منتهى السجدة

سجدتان؟ قال: نعم. من لم يسجدهما. . فلا يقرأهما» . وروي عن عمر: أنه سجد في (الحج) سجدتين، وقال: (فضلت بسجدتين) . وروي عن علي، وابن عمر، وابن عباس: (أنهم سجدوا في (الحج) سجدتين) . وليس في شيء من مواضع السجود خلاف إلا سجدة حم؛ فإن الثوري - قال في إحدى الروايتين عنه- وأبا حنيفة، وأحمد: (إنها عند قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] [فصلت: 27] ) . وروي ذلك عن ابن عباس. ودليلنا: أن الكلام إنما يتم عند قَوْله تَعَالَى: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] [فصلت: 38] ، فكان ذلك موضع السجود، كما قلنا في السجدة في: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] [النحل: 50] ، إنها عند قَوْله تَعَالَى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] . ولأن هذا إن كان موضع السجود. . فقد أتى به في موضعه، وإن كان قبلهُ. . فتأخيره لا يضر، وإذا قدَّمَهُ. . لم يقع موقعه. [فرع السجود عند منتهى السجدة] قال الشيخ أبو حامد: وإذا سجد قبل منتهى السجدة. . لم يصحَّ، وإن سجد بعد الزيادة على موضع السجود. . جاز.

فرع سجدة ص

[فرع سجدة ص] ] : وأما السجدة التي في ص: فهي عندنا سجدة شكر، وليست من عزائم السجود. وقال أبو حنيفة: (هي من عزائم السجود) . وعزائم السجود عنده أربع عشرة سجدة، فأسقط الثانية في (الحج) ، وجعل هذه من عزائم السجود، ووافقه أبو العباس بن سريج، على أن سجدة ص من عزائم السجود؛ لما روي «عن عمرو بن العاص: أنه قال: (أقرأني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس عشرة سجدة في القرآن» . ولا تكون خمس عشرة سجدة، إلا بسجدة ص. ودليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرًا» . وروي عن أبي سعيد الخدري: أنه قال: «خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقرأ على المنبر ص، فلما بلغ السجود. . تشزَّنَّا للسجود. وروي: تشزَّن الناس للسجود، فقال: إنما هي توبة نبي، ولكن قد استعددتم للسجود. فنزل، وسجد» . فبين أنها توبة، وليست بسجدةٍ، و (التَّشَزُّنُ) : التحرُّفُ، والتهيُّؤُ للشيء.

فرع شروط سجدة التلاوة

ومنه ما روي: أن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سئل أن يحضر مجلس المذاكرة، فقال: (حتى أتشزَّن) ، أي: حتى أستعد للاحتجاج. ومنه: ما روي: (أن أبا سعيد الخدري أتى جنازة، فلما رآه القوم. . تشزَّنوا ليوسعوا له) . وأسمعنيه بعض شيوخي: تيسَّرنا للسجود، و (التيسُّر) أيضًا: التهيٌّؤ، ومنه قَوْله تَعَالَى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] و {لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] [الليل: 7 و 10] ، أي: سَنُهَيِّؤُهُ. وأما حديث عمرو: فإنما عدَّها سجدةً، على أنها سجدة شكر، بدليل ما ذكرناه، وسجدة الشكر تسمى: سجدةً. إذا ثبت أنها سجدةُ شكرٍ: فإن سجدها في غير الصلاة على وجه الشكر. . جاز، وإن فعلها في الصلاة، فإن كان جاهلاً أو ناسيًا. . لم تبطل صلاته، وإن كان عالمًا بأنها ليست من عزائم السجود. . ففيه وجهان: أحدهما: تبطل صلاته؛ لأنها سجدة شكر، فإذا فعلها في الصلاة عالمًا ذاكرًا. . أبطلها، كما لو بلغهُ شيءٌ يُسرُّ به، وهو في الصلاة. فسجد. والثاني: لا تبطل صلاتهُ؛ لأنها سجدةٌ متعلقةٌ بالتلاوة، فلم تبطل بها الصلاة، كسائر السجدات. قال صاحب " الإبانة " [ق 75] : وإذا كان الإمام حنفيًّا، فسجد فيها. . لم يتابعه المأموم، ولكن ينتظره، حتى يفرغ. [فرع شروط سجدة التلاوة] ] : ويشترط في صحة سجود التلاوة ما يشترط في الصلاة، من الطهارة، والستارة، واستقبال القبلة؛ لأنها صلاةٌ في الحقيقة. وقال ابن المسيب: (الحائض تومئ برأسها إلى السجود، وتقول: اللهم لك سجدت) . وروي ذلك عن عثمان.

مسألة سجود التلاوة في الصلاة

دليلنا: أن ما نافى الصلاة نافى السجود، كالكفر، فإن قرأ آية سجدةٍ، أو سمع آية سجدةٍ، وهو محدث. . قال الشيخ أبو نصر: توضَّأَ وسجد. وقال النخعي: يتيمم ويسجد. دليلنا: أنه قادر على الطهارة بالماء، فلم يجز له التيمم، كالنفل. [مسألة سجود التلاوة في الصلاة] ] : فإن كان سجود التلاوة في أثناء الصلاة. . فالمستحب أن يكبر تكبيرة للسجود، ثم يكبر للرفع منه. وقال أبو علي بن أبي هريرة: يسجد من غير تكبيرة، ويرفع من غير تكبير؛ لأنه ليس بسجود ثابت. والمذهب الأوَّل؛ لأنَّ التكبير مسنون في كل خفض ورفع، ولا يُسنُّ رفع اليدين في ذلك؛ لأن ذلك ليس بتكبير افتتاح. ثم يقوم من السجود، فإذا استوى قائمًا. . فالمستحب أن يقرأ شيئًا من الذي بعد السجدة، ثم يركع، فإن لم يقرأ شيئًا، وركع من القيام. . صح، وإن قام من السجود إلى الركوع، ولم ينتصب قبل الركوع. . لم يصح الركوع. وحكى صاحب " الإبانة " وجهًا آخر: أنه يصح! والمذهب الأول؛ لأنه لم يبتدئ الركوع من قيام. وإن كان السجود خارج الصلاة. . قال الطبري: فإنه ينوي، ويكبر رافعًا يديه؛ لأنها تكبيرة افتتاح، ثم يكبر تكبيرة ثانية للسجود، لا يرفع فيها يديه. وقال أبو جعفر الترمذي - من أصحابنا -: يكبر تكبيرة واحدة للسجود لا غير. والمذهب الأول؛ لأن هذا افتتاح للصلاة، فافتقر إلى التكبير، كسائر الصلوات. والمستحب أن يقول في سجوده: «سجد وجهي للذي خلقه، وصوره، وشق

سمعه وبصره، بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين» ؛ لما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك في سجود القرآن. ويستحب أن يقول: اللهم اكتب لي عندك بها أجرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وضع عني بها وزرًا، واقبلها مني، كما قبلتها من عبدك داود؛ لما «روى ابن عباس: أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إني رأيت فيما يرى النائم، كأني أصلي خلف شجرة، فقرأت سجدة، فسجدت، فرأيت الشجرة سجدت لسجودي، فسمعتها وهي ساجدة تقول: اللهم اكتب لي عندك بها أجرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وضع عني بها وزرًا، واقبلها مني، كما قبلتها من عبدك داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: قال ابن عباس: (فرأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ السجدة، فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما قال الرجل عن الشجرة» . وهل يسلم ويتشهد؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هل يفتقر إلى السلام؟ فيه قولان: أحدهما: لا يسلم منه، كما لا يسلم منه في الصلاة. والثاني: يسلم منه؛ لأنها صلاة افتقرت إلى الإحرام، فافتقرت إلى السلام، كسائر الصلوات. فإذا قلنا بهذا: فهل يتشهد؟ فيه وجهان: [الأول] : من أصحابنا من قال: يتشهد؛ لأنه سجود يفتقر على الإحرام

فرع السجود حال السفر

والسلام، فافتقر إلى التشهد، كسجود الصلاة. و [الثاني] : منهم من قال: لا يتشهد. وهو المذهب؛ لأنه لا قيام فيه. ومن أصحابنا من قال: في السلام والتشهد ثلاثة أوجه: أحدهما: يفتقر إليهما. والثاني: لا يفتقر إليهما. والثالث يفتقر إلى السلام دون التشهد. [فرع السجود حال السفر] فإن كان القارئ ماشيًا في السفر. . فهل يكفيه الإيماء، أم يحتاج إلى وضع جبهته على الأرض؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة ". ولا يقوم الركوع مقام السجود. وقال أبو حنيفة: (هو بالخيار، إن شاء. . ركع، وإن شاء سجد) . دليلنا: قوله تعلى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] [العلق: 19] ، ولأنه مستطيع للسجود، فلم ينب عنه الركوع، كسائر السجود. [مسألة سجود الشكر] ومن تجددت عليه نعمة ظاهرة، مثل: أن رزقه الله ولدًا، ومالاً، أو وجد ضالة له، أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة، مثل: أن كان محبوسًا، فخلي، أو مريضًا، فشفي، أو هناك عدوٌ، فهزم. . فالمستحب له أن يسجد شكرًا لله، وبه قال أحمد. وقال مالك: (يكره سجود الشكر) . وهي إحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وروي عنه: أنه قال: (لا أعرف سجود الشكر) . دليلنا: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سجدة ص: «سجدها نبي الله داود توبة، ونحن نسجدها شكرًا» . وروى عبد الرحمن بن عوف الزهري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد، فأطال السجود، فلما

رفع. . قلنا: يا رسول الله، سجدت، فأطلت السجود؟ قال: نعم، أخبرني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن الله تعالى يقول: من صلى عليَّ مرةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عشرًا فسجدت شكرًا لله» . وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرَّ برجل به زمانة، فنزل وسجد شكرًا لله» ، و: «مرَّ برجل أعمى، فنزل، وسجد شكرًا لله» . فإن كان هذا خارج الصلاة. . فإنه ينوي، ويكبر للافتتاح، ويرفع يديه، ثم يكبر للسجود، كما قلنا في سجود التلاوة، وإن كان في الصلاة. . لم يسجد؛ لأن سبب السجدة ليس منها. فإن قرأ سورة ص. . فهل يسجد بها للشكر؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يسجد؛ لأن سببها وجد في الصلاة، وهو التلاوة. والثاني: لا يسجد؛ لأنها سجدة شكر، وليست بمتعلقة بالتلاوة، وإنما تجدد سببها عند التلاوة، فلم يسجد فيها في الصلاة، كسائر سجود الشكر.

مسألة ما يستحب في الصلاة لأجل التلاوة

وهل يظهر سجود الشكر، أو يخفيه؟ قال في " الإبانة ": إن كان لتجدد نعمة. . أظهره، وإن كان لدفع بليَّةٍ. . نظرت: فإن رأى فاسقًا، فسجد شكرًا لله حين عصمه من فسقه. . فإنه يظهره، وإن كان رأى مبتلى، فسجد شكرًا لله حين عافاه الله. . فإنه يخفيه، لئلا يراه المُبْتَلَى، فيسخط. [مسألة ما يستحب في الصلاة لأجل التلاوة] ] : المستحب للمصلي إذا مرت به آية رحمةٍ: أن يسألها، وإن مرَّت به آية عذاب أن يتعوذ منه، سواء كان إمامًا، أو مأمومًا، أو منفردًا. وقال أبو حنيفة: (يستحب ذلك في النفل دون الفرض) . دليلنا: ما روي عن حذيفة: أنه قال: «صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقرأ (البقرة) ، فما مرَّت به آية رحمة، إلا سألها، ولا آية عذاب، إلا استعاذ منه، وكذلك سورة: (آل عمران) ، و: (النساء) ، حتى هممت بأمر سوءٍ، فقيل له: وما هو؟ فقال: أردت أن أقطع الصلاة» ، ولأن ما لا يكره في النفل، لا يكره في الفرض، كسائر الأذكار. وبالله التوفيق

باب ما يفسد الصلاة ويكره فيها

[باب ما يفسد الصلاة ويكره فيها] إذا أحدث في الصلاة عامدًا، مثل أن يقصد إلى الحدث، مع علمه أنه في الصلاة، أو أحدث ناسيًا، مثل: أن ينسى أنه في الصلاة، فيقصد إلى الحدث. . فإن طهارته وصلاته تبطلان، وهو إجماع؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الشيطان ليأتي أحدكم وهو في الصلاة، فينفخ بين أليَتَيْهِ، ويقول: أحدثت، فلا ينصرف، حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا» . وهذا قد سمع الصوت، أو وجد الريح. وإن سبقه الحدث، وهو في الصلاة، مثل: أن يخرج منه الريح، أو الغائط، أو البول بغير اختياره، أو يكره على الحدث. . فإن طهارته تبطل بلا خلاف، وهل تبطل صلاته؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا تبطل صلاته، فيتوضأ ويبني على صلاته) . وروي ذلك عن عمر، وعليٍّ، وابن عمر. وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وابن أبي ليلى، وداود، إلا أن أبا حنيفة قال: (إذا غلبه المنيُّ، أو شجه آدمي، فخرج منه الدَّم. . بطلت صلاته) . وقال الثوري: إن كان حدثه من رعافٍ، أو قيءٍ. . توضأ وبنى، وإن كان من بولٍ، أو ريحٍ، أو ضحكٍ. . أعاد الوضوء والصلاة. ووجه قوله القديم ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قاء أو رعف. . فليتوضأ، وليبن على صلاته، ما لم يتكلم» . وفي روايةٍ: «إذا قاء أحدكم، أو قلس. . فلينصرف، وليتوضأ، وليبن على ما مضى، ما لم يتكلم» .

ولأنه حدث حصل بغير اختياره، فهو كسلس البول. و [الثاني] : قال في الجديد: (تبطل صلاته) . وبه قال ابن سيرين، وهو الأصح؛ لما روى أبو داود في "سننه": أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قاء أحدكم في صلاته. . فلينصرف وليتوضأ وليعد صلاته» . ولأن هذا الحدث يمنع المضيَّ في الصلاة، فمنع البناء عليها، كحدث العمد، والخبر الأول مرسل. فإذا قلنا بقوله القديم، وأخرج بقية الحدث، وتوضأ. . كان له أن يبني على صلاته. واختلف أصحابنا في علته: فمنهم من قال: لأن الحدث لا يؤثر بعد نقض الطهارة. ومنهم من قال: لأن به حاجة إلى إخراج بقية الأول؛ ليكمل طهارته، ولم يذكر في " المهذب " غير هذا. فإن أحدث حدثًا آخر، فإن قلنا بالتعليل الأول. . لا تبطل صلاته، وإن قلنا بالثاني. . بطلت. وإن كشفت الريح الثوب عن عورته، فرده. . لم تبطل صلاته، لأنه معذورٌ في ذلك، فهو كما لو غُصب منه الثوب في الصلاة. فإن ترك رُكنًا من أركان الصلاة، كالركوع، والسجود عامدًا. . بطلت

مسألة الكلام حال الصلاة

صلاته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي حين ترك شيئًا من الأركان: «أعد صلاتك، فإنك لم تصل» . وإن ترك قراءة الفاتحة ناسيًا. . ففيه قولان، مضى ذكرهما. [مسألة الكلام حال الصلاة] وإن تكلم في الصلاة. . نظرت: فإن كان بالتسبيح، أو التهليل، أو غير ذلك، من ذكر الله ورسوله. . لم تبطل صلاته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هي التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن» . وإن تكلم بكلام يصلح لخطاب الآدميين. . فهذا على أضربٍ: أحدها: أن يقصد إلى الكلام وهو عالم بأن هذا يبطل الصلاة، وكان ذلك لغير مصلحة الصلاة، غير مجيب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وغير منذرٍ لأعمى، فهذا تبطل الصلاة به، وهو إجماع لا خلاف فيه، والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين» ، وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الكلام ينقض الصلاة، ولا ينقض الوضوء» . الضرب الثاني: أن يتكلم عامدًا عالمًا بتحريمه لمصلحة الصلاة، فهذا يبطل الصلاة عندنا، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك والأوزاعي: (لا تبطل به الصلاة) .

دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الكلام ينقض الصلاة، ولا ينقض الوضوء» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نابكم شيء في الصلاة. . فليسبح الرِّجال، وليصفق النساء» . فلو كان الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها. . لما عدل عنه إلى التسبيح والتصفيق. ولأنه خطاب لآدمي غير واجب على وجه العمد، مع العلم بتحريمه، فأبطل الصلاة، كما لو كان لغير مصلحة الصلاة. الضرب الثالث: كلام الناسي، مثل: أن يعتقد أنه سلم، أو أنه ليس في الصلاة، فتكلم، ولا يطيل الكلام، فهذا لا تبطل به الصلاة عندنا، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة: (تبطل به الصلاة، إلا أن يسلم من اثنتين ناسيًا فلا تبطل به الصلاة) . دليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» . ومعلوم: أنه لم يرد رفع نفس الخطأ والنسيان والاستكراه؛ لأن ذلك لا يرفع، وإنما أراد رفع حكمه. وروى مالك، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان، عن أبي هريرة: أنه قال: «صلَّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العصر، فسلم في الركعتين الأوليين، فقام ذو اليدين، وقال: أقصرت الصلاة، أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كلُّ ذلك لم يكن"، ثم أقبل على القوم، فقال: "أصدق ذو اليدين؟ ". فقالوا: نعم. فقام

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتمم ما بقي من صلاته، وسجد سجدتي السهو وهو جالس بعد السلام» , فموضع الدليل من الخبر: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلَّم من اثنتين ساهيًا، وعنده أنه آخر الصلاة، فلمَّا قال له ذو اليدين: (أقصرت الصلاة، أم نسيت؟) . . لم يتذكر سهوه، وقال: «كل ذلك لم يكن» ، ثم كلَّم القوم، وقال: «أصدق ذو اليدين؟» ، وعنده أنه خارج من الصلاة، فلمَّا قيل له: نعم. . تذكر السهو، فرجع، وبنى على صلاته، وسجد للسهو. فإن قيل: فلم لم يبطل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة ذي اليدين؟ قلنا: لأنه تكلم وعنده أنه قد خرج من الصلاة، لأن النسخ يومئذ كان جائزًا، ولكن جوِّز أيضًا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سها في صلاته، فلمَّا احتمل الأمران عنده حمل أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصواب، وقال: "أقصرت الصلاة، أم نسيت؟ ". فإن قيل: فلِمَ لم يبطل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة القوم الذين أجابوه، وقد كان عندهم أنهم في الصلاة؟ قلنا: قد روى جماعةٌ عن أبي هريرة: أنهم لم يقولوا: نعم، وإنما أومؤوا برؤوسهم، أي: نعم. وروى جماعةٌ عنه: أنهم قالوا: نعم، فتحمل رواية من روى أنهم قالوا: نعم،

على أنهم رووه على المعنى، وعلى أنه: وإن صحَّ أنهم قالوا: نعم. . فإن صلاتهم لا تبطل بذلك، لأن ذلك جوابٌ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك لا يبطل الصلاة. والدليل عليه: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرَّ على أبيٌّ بن كعبٍ، وهو يصلي في المسجد، فسلَّم عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالتفت إليه أبيٌّ، ولم يجبه، ثم إن أُبيًّا خفَّف الصلاة، وانصرف إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: السلام عليك يا نبي الله، قال: "وعليك السلام، ما منعك أن تجيبني إذ دعوْتك؟ " فقال: كُنت أُصلي يا رسول الله، قال: ألم تجد فيما أوحي إليَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] [الأنفال: 24] ، فقال: بلى يا رسول الله، لا أعود» . فإن قيل: فما معنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كلُّ ذلك لم يكن» . وقد علم أن أحدهما قد كان؟ فالجواب: أن القصر والنسيان لم يكونا، وإنما كان أحدهما. وقيل: بل قال ذلك على مبلغ علمه؛ لأنه كان عنده أنه قد خرج من الصلاة، وفرغ

منها، فقال: «كل ذلك لم يكن» ، أي: ما قصرت الصلاة ولا نسيت، والسهو يجوز عليه، ولكنه لا يقرُّ عليه. فإن قيل: أفيجوز للإمام أن يرجع إلى قول المأمومين، كما رجع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قول المأمومين؟ فاختلف أصحابنا في الجواب عنه: فقال الشيخ أبو حامد: لم يرجع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قولهم تقليدًا لهم، وإنَّما تذكَّر سهوهُ بقولهم، وبنى صلاته على يقين نفسه، لا بقولهم. ومنهم من قال: إنَّما رجع إلى قولهم؛ لأنهم كانوا جماعة عظيمة، لا يجوز اجتماعهم على الخطأ. وهذا قول أبي عليٍّ في " الإفصاح ". قال الشيخ أبو حامد: وحدُّ الكلام اليسير الذي لا تبطل صلاة الناسي به، هو الكلمة والكلمتان والثلاث ونحوها. قال ابن الصباغ: حدُّ اليسير منه: مثل كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذي اليدين. فإن كثر كلام الناسي. . ففيه وجهان: [الأول] : من أصحابنا من قال: تبطل صلاته. وزعم هذا القائل أن هذا مذهب الشافعي؛ لأنه قال: (ومن تكلم في الصلاة ساهيًا، أو ترك شيئًا من صلب الصلاة. . بنى، ما لم يتطاول الفصل) . قال ابن الصباغ: وهو الأصحُّ، ووجهه: أن الفصل إذا طال. . أبطل الصلاة، فكذلك الكلام. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا تبطل صلاته. قال المحاملي: وهو القياس؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفع عن أُمتي الخطأ والنسيان..» . ولم يفرق بين القليل والكثير. وأنه خطاب آدمي على وجه السهو. . فلم يبطل الصلاة، كاليسير، ويفارق القول الفعل، فإن الفعل آكد، أنه ينفذ إحبال المجنون، ولا ينفذ عتقه.

وأما قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإنما أراد: إذا سلَّم. . بنى على صلاته، ما لم يتطاول الفصل. الضرب الرابع: أن يقصد إلى الكلام، وهو يجهل أن الكلام يبطل الصلاة، فلا تبطل صلاته بذلك. وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق ,، وعبد الله بن الزبير، وعطاء، والشعبيُّ. وقال أبو حنيفة: (تبطل صلاته) . دليلنا: ما روي عن معاوية بن الحكم: «أنه قال: بينا أنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فحدَّقني القوم بأبصارهم، فلمَّا رأيتهم ينكرون عليَّ. . قُلت: واثكل أمَّاه! ما لكم تنظرون إليَّ، فأخذوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم يُسكتُونني، فلمَّا علمت أنهم يسكتونني. . سكت، فلمَّا انصرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاته. . دعاني - بأبي وأمي ما رأيت معلِّمًا أحسن تعليمًا منه، والله ما كهرني، ولا شتمني، ولا ضربني - وقال: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الآدميين، إنما هي التكبير، والتسبيح، والقراءة". وروي: "وتلاوة القرآن» . ولم يأمره بالإعادة. و (الكهر) : الانتهار. وقد روي في قراءة عبد الله بن مسعود: (وأما السائل فلا تكهر) .

فرع سبق الكلام ونحوه في الصلاة

[فرع سبق الكلام ونحوه في الصلاة] ] : وإن سبق لسانه إلى الكلام من غير قصد إليه، أو غلبه الضحك. . لم تبطل صلاته؛ لأنه معذورٌ في ذلك، فلم تبطل به الصلاة، كالناسي. وإن طال الكلام، وهو جاهل، أو مغلوبٌ. . فهل تبطل صلاته؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق، كالوجهين في كلام الناسي إذا طال. [فرع الحزن والبكاء في الصلاة] وإن حزن في الصلاة، ففاضت عيناه. . لم تبطل صلاته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] [مريم: 58] . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل» . (والأزيز) : غليان صدره، وحركته بالبكاء. فإن تنحنح، أو أَنَّ، أو تنفس، أو نفخ، فإن تبين منه حرفان، مثل أن يقولك آه، أو واه، أو أف. . بطلت صلاته؛ لأن ذلك يُعدُّ كلامًا. وإن لم يتبين منه حرفان، مثل أن يقول: فٍ، ومدَّ بها صوته. . لم تبطل صلاته. وقال أبو حنيفة: (إذا نفخ. . بطلت صلاته بكل حالٍ، وإن تأوَّه، أو أَنَّ لمرضٍ. . بطلت صلاته، وإن كان لخوف الله تعالى. . لم تبطل صلاته وإن بان منه حرفان) . دليلنا: ما روي عن عبد الله بن عمرو: أنه قال: «كُسِفَتِ الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى آضت كالتنومة، فصلَّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الكسوف، فلمَّا كان في آخر سجدةٍ. . جعل ينفخ، ويبكي، وقال: اللَّهم لم تعدني وأنا فيهم، اللهم لم

فرع إنذار الأعمى ونحوه

تعدني هذا ونحن نستغفرك. فلمَّا قضى صلاته. . قال: والذي نفسي بيده، لقد عرضت علي النار، حتى إني لأطفئها؛ خشية أن تغشاكم» . فلولا أنه نفخ، ورفع صوته. . لما سمع. ولأنَّ ما بان حرفان. . يعدُّ كلامًا، فبطلت به الصلاة، كما لو كان لمرض. قال الشيخ أبو حامدٍ: والقهقهة في الصلاة، كالأنين والنفخ، إن تبيَّن منها حرفان. . أبطلت الصلاة، وإن لم يتبيَّن منها حرفان. . لم تبطل الصلاة. [فرع إنذار الأعمى ونحوه] فإن رأى المصلِّي أعمى أو صغيرًا يريد الوقوع في بئر، أو من شاهقٍ، أو رأى حيةً أو عقربًا تدب إليه. . فإنه يجب عليه أن ينذره، فإن أنذره بالقول. . فهل تبطل صلاته بذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تبطل صلاته بذلك؛ لأنه واجب عليه، فلم تبطل به صلاته، كإجابة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والثاني: تبطل صلاته؛ لأن ذلك ليس بمُتحقَّقٍ؛ لأنه قد لا يقع في البئر والشاهق، ولا تبلغهُ الحيَّةُ والعقربُ.

فرع القراءة في النفس

[فرع القراءة في النفس] ] : قال القاضي أبو الفتوح بن أبي عمامة في " التحقيق ": إذا قال الإمام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، فقال المأموم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ، فإن أراد التلاوة. . لم تبطل صلاته، وإن لم يرد التلاوة. . بطلت صلاته، وكذلك إذا قال: استعنَّا بالله، أو: نستعين بالله. وإن قرأ المصلّي كتابًا بين يديه، فيه شعرٌ، أو غيره من الكلام، في نفسه، ولم ينطق به لسانه. . كره له ذلك، ولم تبطل به صلاته؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تجاوز الله لأُمتي عما حدَّثت به نفوسها، ما لم يتكلّموا به» . وإن قرأ في المصحف في الصلاة. . لم تبطل صلاته. وقال أبو حنيفة: (تبطل، إلا أن تكون آية قصيرة) . دليلنا: أنه قراءةٌ، فلم تبطل به الصلاة، كالآية القصيرة. [فرع إيجاز الصلاة لحاجة] ] : إذا ناب المصلِّي شيءٌ في صلاته. . فله أن يوجز في صلاته، سواء ناب الإمام أو المأموم، مثل: أن يكون مسافرًا، فترحل القافلة، أو يقع الحريق في متاع رجل، وما أشبه ذلك؛ لما روى أنسٌ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني لأدخل في الصلاة أريد أن أُطيلها، فاستمع بكاء الصبي من روائي، فأتجوَّز في صلاتي؛ لما تجد أمُّهُ في قلبها من بكائه» , فأخبر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه كان يتجوَّز لما ينوبُ الأمَّهات من بكاء أولادهنَّ، فدل على جواز ذلك. وإن أراد المصلِّي أن يعلم غيره، مثل: أن سها إمامه، فأراد أن يعلمه بسهوه، أو غير ذلك. . فيستحبُّ للرجل أن يسبح، وللمرأة أن (تصفِّق) وهو: أن تضرب ببطن كفِّها الأيمن على ظهر كفِّها الأيسر.

وقيل: تضرب بأصبع يمينها على ظهر كفِّها الأيسر. وقال مالك: (يسبح الرجل والمرأة) . دليلنا: ما روى أبو داود، عن سهل بن سعدٍ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نابكم شيء في الصلاة. . فليسبح الرِّجال، وليصفق النساء» . فإن صفَّق الرجل، وسبحت المرأة. . لم تبطل صلاتهما، إلا أنهما خالفا السُّنَّة. فإن صفَّق الرجل أو المرأة على وجه اللهو، لا الإعلام، قال ابن الصباغ: بطلت صلاتهما؛ لأن اللَّعب ينافي الصلاة. وإن أفهم غير إمامه بالتسبيح، أو التكبير، أو التهليل، أو القرآن. . لم تبطل صلاته. قال أبو حنيفة: (إن نبَّه إمامه أو المارَّ بين يديه. . لم تبطل صلاته، وإن نبَّه غيرهما , بطلت صلاته) . دليلنا: ما ذكرناه من الخبر، ولم يفرق. لأن هذا تنبيه بذكر الله تعالى، فلم تبطل به صلاته، كما لو نبَّه به إمامه. وإن أراد الإذن لرجل بالدخول، فقال: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] [الحجر: 46] ، فإن لم يقصد بذلك التلاوة. . بطلت صلاته؛ لأنه من كلام الآدميين. وإن قصد التلاوة والإعلام. . لم تبطل صلاته؛ لأن قراءة القرآن لا تبطل الصلاة. وحكى الطبري وجهًا آخر في " العُدّة ": أن صلاته تبطل. قال: وكذلك إذا سبَّح، أو كبَّر، وقصد به الذكر والإعلام. . بطلت صلاته. وليس بشيءٍ؛ لما ذكرناه من الخبر. وإن شمَّت المصلِّي عاطسًا، بأن قال له: يرحمُك الله، أو: رحمك الله، وهو عالمٌ بتحريمه. . بطلت صلاته؛ لأن الصحابة أنكرت على معاوية بن الحكم تشميت

مسألة أكل المصلي

العاطس في الصلاة، واقرَّهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، فلو كان لا يبطل الصلاة، لما كان لإنكارهم معنى. وروى يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي: أنه قال: (لا تبطل صلاته، لأنه دعاءٌ بالرحمة، فهو كالدعاء لأبويه بالرَّحمة) . والمشهور من المذهب هو الأوَّل؛ لأنه كلامٌ وُضع لمخاطبة الآدمي، فهو كردِّ السلام. [مسألة أكل المصلي] وإن أكل المصلِّي، أو شرب عامدًا عالما بالتحريم. . بطلت صلاته، وحكي عن سعيد بن جبير: أنه شرب الماء في صلاة النفل. وقال طاووس: لا بأس بشرب الماء في النافلة. دليلنا: أن الأكل والشرب أعظم أثرًا في العبادة من الكلام، فلمَّا ثبت أن الكلام على وجه العمد يبطل الصلاة. . فلأن تبطل الصلاة بالأكل والشرب على وجه العمد أولى. وإن كان بين أسنانه طعامٌ، فنزل الريقٌ به إلى جوفه. . لم تبطل صلاته بذلك؛ لأن الاحتراز منه لا يمكن، ولهذا لا يبطل به الصوم. وإن ترك في فمه سُكَّرةً، ولم ينزل منها إلى جوفه شيءٌ. . لم تبطل صلاته؛ لأن ذلك لا يبطل الصوم، وإن نزل منها شيءٌ إلى جوفه. . فاختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد: لا تبطل صلاته بذلك لأنه لم يبتلعه باختياره، ولا ازدرده، وإنما جرى ذلك مع ريقه، فأشبه الريق.

مسألة العمل اليسير في الصلاة

وقال صاحب " الإبانة ": تبطل صلاته؛ لأنه يبطل بذلك صومه؛ ولأن الصوم شرط في الصلاة. وإن أكل ناسيًا أو جاهلاً، ولم يطل الأكل. . لم تبطل صلاته، كما لا يبطل الصوم بذلك. وإن كان كثيرًا , فهل تبطل الصلاة به؟ فيه وجهان، حكاهما صاحب " الإبانة ". [مسألة العمل اليسير في الصلاة] ] : وإن عمل في الصلاة عملاً ليس منها. . فلا يخلو: إما أن يكون من جنس أفعالها، أو من غير جنس أفعالها: فإن كان من جنس أفعالها، مثل: أن يركع، أو يسجد في غير موضعه، فإن كان عامدًا عالمًا بتحريمه. . بطلت صلاته؛ لأنه متلاعب في الصلاة، وإن كان ناسيًا. . لم تبطل صلاته، سواء كان قللاً أو كثيرًا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى الظهر خمس ركعات ساهيًا. وإن فعل ذلك جاهلاً. . لم تبطل صلاته؛ لأنه معذور، فلم تبطل به صلاته، كالناسي. وإن قام في الرابعة من الظهر قبل السلام، وأحرم بالعصر، فإن كان عامدًا عالمًا بتحريمه. . صحَّ إحرامه بالعصر؛ لأن بقيامه عمدًا قبل السلام، بطل ظُهرهُ، فصحَّ شروعه في العصر، وإن قام ناسيًا أو جاهلاً. . لم يبطل الظهر، ولم يصحَّ إحرامًه بالعصر. وإن قرأ فاتحة الكتاب في الركعة مرتين عامدًا. . ففيه وجهان: أحدهما: تبطل صلاته؛ لأنه زاد ركنًا في الصلاة عامدًا، فبطلت به الصلاة، كما لو زاد ركوعًا، أو سجودًا. والثاني: لا تبطل صلاته، وهو المنصوص في صلاة المريض؛ لأنه زيادة ذكر، فهو كما لو قرأ السورة بعد الفاتحة مرتين.

وإن عمل في الصلاة عملاً ليس من جنسها. . نظرت: فإن كان قليلاً، مثل: دفع المارِّ بين يديه، وفتح الباب، وخلع النعل، وإصلاح الرداء عليه، والحمل، أو الوضع، أو الإشارة، وما أشبه ذلك. . لم تبطل صلاته؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المصلِّي بدفع المارِّ بين يديه» ، و: «خلع نعليه في الصلاة» ، و: «حمل ابنة ابنته، وهي أمامةُ بنت أبي العاص، وهو يصلي، فكان إذا سجد.. وضعها , وإذا قام. . رفعها» ، و: «سلم عليه الأنصار وهو يصلي، فردَّ عليهم بالإشارة» ، وهو إجماع لا خلاف فيه. ولأن المصلِّي لا يخلو من عمل قليلٍ، فعُفي عنه. وإن عمل عملاً كثيرًا متواليًا. . بطلت صلاته، لأنه لا حاجة به إليه، فأبطل الصلاة، كالكلام، ولا فرق في العمل الكثير، بين أن يفعله عامدًا عالمًا بتحريمه، أو ناسيًا، أو جاهلاً؛ فإنه يبطل الصلاة. والفرق بينه وبين القول: أن الفعل أقوى من القول، ولهذا ينفذ إحبال المجنون؛ لكونه فعلاً، ولا ينفذ إعتاقه؛ لكونه قولاً. فإن قيل: فلم قلتم: إن الفعل أقوى من القول، وقد قلتم: إنه يجوز للمصلي أن يفعل فعلاً قليلاً قاصدًا له، ولا تبطل به صلاته، ولا يجوز أن يتكلم بالكلام اليسير قاصدًا إليه؟ فالجواب: أنا إنما قلنا: الكثير أقوى في إبطال الصلاة من القول؛ لأنه لا حاجة

فرع قتل الأسودين

به إلى الفعل الكثير المتوالي، وبالمصلي حاجةٌ إلى القليل من الفعل، ولا حاجة به إلى الكلام القليل، فلذلك أبطل عمده الصلاة. فإن عمل في الصلاة عملاً كثيرًا متفرقًا. . لم تبطل به صلاته؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمل أمامة بنت أبي العاص في الصلاة، فكان إذا قام. . رفعها، وإذا سجد. . وضعها» . ولم تبطل الصلاة بذلك، لتفرُّقه، ولأن الكثير إذا تفرَّق. . فكلُّ جزءٍ منه قليل بنفسه. واختلف أصحابنا في حدِّ العمل القليل والكثير: فقال الشيخ أبو حامد: المرجع في ذلك إلى العُرف والعادة، إلا أن الشافعيَّ نصَّ على: (أن الفعلة الواحدة عملٌ قليلٌ، والثلاث فعلاتٌ) . قال أصحابنا: وفي الخطوتين والضربتين إذا توالتا. . وجهان: أحدهما: لا تبطلان الصلاة؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلع نعليه» . وهذان فعلان. والثاني: تبطلان الصلاة؛ لأنهما عمل متكرِّرٌ، فهما كالثلاث. وقال القفَّال: الكثير ما لو نظر إليه الناظر. . تصور عنده أنه ليس في الصلاة، وما دون ذلك يكون قليلاً. ومن أصحابنا مَنْ قال: حدُّ القليل: كل عمل لا يحتاج فيه إلى اليدين، مثل: حكَّ الجربان، والكثير: ما يحتاج فيه إلى اليدين، مثل: كور العمامة. وهذا ليس بصحيح. [فرع قتل الأسودين] ] : يجوز قتل الحية والعقرب في الصلاة، ولا يكره، وقال النخعي: يكره.

مسألة مكروهات الصلاة

دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتل الأسودين: الحيَّة، والعقرب، في الصلاة» . [مسألة مكروهات الصلاة] ] : ويكره أن يترك شيئًا من سنن الصلاة، ويكره أن يلتفت في الصلاة، من غير حاجة؛ لما روي عن عائشة: أنها قالت: «سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التفات الرجل في الصلاة؟ فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا التفت العبد في صلاته، يقول الله تعالى: عبدي، إلى من تلتفت؟! أنا خيرٌ ممَّنْ تلتفت إليه» . وروى أبو ذرٍّ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يزال الله مُقبلاً على عبده في صلاته، ما لم يلتفت، فإذا التفت. . صرف وجهه عنه» .

فإن التفت يمينًا، أو شمالاً لحاجة. لم يكره؛ لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلتفت يمينًا وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهره» ، ولا تبطل به الصلاة؛ للخبر، ولأنه عملٌ قليلٌ. وإن استدبر القبلة. . بطلت صلاته؛ لأنه ترك شرطًا من شروط الصلاة. ويكره أن يرفع بصره إلى السماء، لما روى أنسٌ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة» ، حتى اشتد قوله في ذلك: «لينتهن عن ذلك، أو لتخطفنَّ أبصارهم» . ويكره أن ينظر في صلاته إلى شيء يُلهيه من ثوب أو غيره؛ لما روي عن عائشة: أنها قالت: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وعليه خميصةٌ ذات أعلام، فلما فرغ. . قال: ألهتني أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبي الجهم، فليبعها، وأتوني بأنبجانيَّةٍ» . فإن فعل ذلك. . لم تبطل صلاته؛ لأنه لم ينقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعاد الصلاة.

ويكره الاختصار في الصلاة؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يصلي الرجل مختصرًا» . قال أبو داود: وهو أن يضع الرجل يده على خاصرته في الصلاة. وقيل: إنها راحة أهل النار. وقيل: (الاختصار) : هو أن يأخذ الرجل بيده عصًا، يتكئ عليها في الصلاة، وهي المِخْصَرَةُ. وقيل: الاختصار المنهيُّ عنه: هو أن يقرأ الرجل من آخر السورة آية، أو اثنتين، ولا يقرأ السورة بكاملها. ويكره أن يكف شعره، وثوبه في الصلاة؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة أعظم، ونُهي أن يكفَّ شعرهُ وثوبه في الصلاة» . ويكره أن يمسح المصلّي الحصى في الصلاة؛ لما روى أبو ذر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الرَّحمة تواجهه. . فلا يمسح الحصى» . وروى مُعيقيبٌ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تمسح الحصى، وأنت تُصلي، فإن كنت لا بُدَّ فاعلاً. . فواحدةٌ تسوية الحصى» .

فرع عد الآيات

[فرع عد الآيات] ] : قال الشافعي: (وإذا عدَّ الآيات في الصلاة عقدًا، ولم يتلفظ به. . لم تبطل صلاته، وتركه أحبُّ إليَّ) . وبه قال أبو حنيفة، ومحمد. وقال مالك: (لا بأس به) . وبه قال الثوري، وإسحاق، وأبو ثور، وابن أبي ليلى، والنخعي. وقال أبو يوسف: لا بأس به في التطوع. دليلنا: أن هذا ليس من عمل الصلاة، فكان تركه أولى، كمسح الوجه، ولأنه يشغل قلبه، ويمنعه من الخشوع. ويكره التثاؤب في الصلاة؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا تثاءب أحدكم وهو في الصلاة. . ليرد ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها ها. . ضحك الشيطان منه» . ويكره البصاق في المسجد، في الصلاة، وفي غير الصلاة، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المسجد لينزوي من النخامة، كما تنزوي الجلدة من النار» .

قال أبو عبيد: و (الانزواء) : الاجتماع، والتقبض. وروى أبو سعيد الخدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُحب العراجين، فدخل يومًا المسجد وبيده عرجون، فرأى نخامات في قبلة المسجد، فحكَّهنَّ، وقال: أيحب أحدكم أن يستقبله الرجل يبزق في وجهه؟! إن أحدكم إذا كان في الصلاة. . فإنه يستقبل ربه بوجهه، والملك عن يمينه، فلا يبزق بين يديه، ولا عن يمينه، وليبزق في نعله اليسرى» . فإن بدره بادرةٌ، فليأخذ بثوبه، وليحك بعضه ببعض. فإن خالف، وبزق في المسجد. . دفنه؛ لما روى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البصاق في المسجد خطيئة، وكفارته دفنه» . وإن كان المصلِّي في غير المسجد، وأراد أن يبزق. . فإنه لا يبصق بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن يبصق عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى، فإن بدرته بادرة. . بصق في ثوبه، وحكَّ بعضه ببعضٍ؛ لما ذكرناه في الخبر. والله ولي التوفيق.

باب سجود السهو

[باب سجود السَّهو] إذا شكَّ المصلِّي، وهو في الصلاة: هل صلَّى ركعةً، أو ركعتين، أو ثلاثًا، أو أربعًا؟ فإنه يأخذ بالأقل، ويبني على صلاته، ويسجد للسهو. وبه قال مالك، وربيعة، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعليٍّ، وابن مسعود. وقال الشعبي، وشريح، وعطاء والأوزاعي: (تبطل صلاته) . وروي ذلك عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس. وقال الحسن البصري: يذهب على وهمه، ويسجد للسهو. وبه قال أبو هريرة، وأنس. وقال أبو حنيفة: (إن لحقه ذلك أوَّل دفعة. . بطلت صلاته، وإن تكرر ذلك

مسألة السهو في الصلاة

منه. . اجتهد، وعمل على ما يؤديه اجتهاده إليه، فإن لم يؤده اجتهاده إلى شيء. . عمل على اليقين) . دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا شك أحدكم في صلاته. . فليلق الشَّكَّ، وليبن على اليقين، فإذا استيقن التمام. . سجد سجدتين، فإن كانت صلاته تامة. . كانت الرَّكعة نافلة له والسَّجدتان، وإن كانت صلاته ناقصة. . كانت الرَّكعة تمامًا لصلاته، والسَّجدتان تُرغِمان أنف الشيطان» . [مسألة السهو في الصلاة] ] : قال الشافعي: (ومن سلَّم، أو تكلَّم ساهيًا، أو نسي شيئًا من صُلب صلاته. . بنى، ما لم يتطاول الفصل) . وهذا كما قال: إذا نسي شيئًا من أركان الصلاة. . نظرت: فإن نسي النية، أو تكبيرة الافتتاح. . لم تنعقد صلاته. وإن نسي قراءة الفاتحة. . ففيه قولان، مضى ذكرهما. وإن نسي غير ذلك من الأركان، كالركوع والسجود، وذكره بعد السلام، فإن ذكره قبل أن يتطاول الفصل بعد السلام. . بنى على صلاته، سواءٌ تكلَّم، أو لم يتكلَّم، خرج من المسجد، أو لم يخرج. وإن ذكر ذلك بعد السلام، وتطاول الفصل. . استأنف الصلاة. واختلف أصحابنا في حدِّ التطاول: فقال أبو إسحاق: هو أن يمضي قدر ركعةٍ

مسألة ما تركه المصلي أو شك في تركه

تامَّةٍ. نص عليه الشافعي في " البويطيِّ ". وقال أبو عليّ بن أبي هريرة: هو أن يمضي قدرُ الصلاة التي هو فيها؛ لأن آخر الصلاة يُبنى على أولها، وما زاد على ذلك لا يُبنى عليه. وقال أبو عليٍّ الطبري: يُرجعُ فيه إلى العُرفِ والعادةِ. وهو ظاهرُ النَّصِّ؛ لأنه ليس له حد في الشرع، فرُجع فيه إلى العرف والعادة. وما قاله أبو عليِّ بن أبي هريرة ليس بشيءٍ؛ لأنه يؤدي إلى اختلاف حدِّ التطاول، لاختلاف عدد ركعات الصلوات. وإن شكَّ بعد السلام: هل صلَّى ثلاثًا، أو أربعًا؟ فنقل أصحابنا البغداديون أنه لا يلزمه شيءٌ؛ لأن الظاهر أنه أداها تامة، ولأنا لو اعتبرنا الشك الطارئ بعد الفراغ منها. . لشق ذلك، وضاق. وحكى أصحابنا الخراسانيون في ذلك قولين: أحدهما: هذا. والثاني: حكمه حكم الشك الطارئ عليه في أثناء الصلاة. [مسألة ما تركه المصلي أو شك في تركه] إذا قام من الركعة الأولى إلى الثانية، ثم تيقَّن أنه ترك سجدةً من الأولى، أو شكَّ في تركها. . لم تُحسب له بما فعل من الثانية، حتى يتمِّ الأولى. وقال مالك: (إذا قام إلى الثانية، ثم ذكر أنه ترك سجدة من الأولى، فإن ذكر ذلك بعد أن اطمأن في الركوع في الثانية، أو بعدما سجد فيها. . لم يعد إلى إتمام الأولى، بل تبطل الأولى، وتصحُّ الثانية) . وقال أحمد: (إن ذكر بعد القراءة في الثانية. . حصلت له الثانية، وبطلت الأولى، وإن كان قبل القراءة الثانية. . سجد لتمام الأولى) . كقولنا. دليلنا: أن ما فعله من الأولى. . قد صحَّ، فلا يبطل بترك ما بعده، كما إذا ذكر

ذلك قبل الركوع عند مالك، وقبل القراءة عند أحمد. إذا ثبت هذا: نظرت: فإن سجد في الأولى السجدة الأولى، وترك الجلوس بين السجدتين، والسجدة الثانية، فذكر ذلك، وهو قائم في الثانية. . فإنه يلزمه أن يجلس، ثم يسجد. ومن أصحابنا من قال: لا يلزمه الجلوس؛ لأن الجلوس يراد للفصل بين السجدتين، وقد قام القيام مقام الجلوس في الفصل. والمذهب الأوَّل؛ لأن الجلوس بين السجدتين فرضٌ، فلا يقوم القيام مقامه، كما لو قصد إلى القيام بين السجدتين للفصل. وإن كان قد جلس بعد السجدة الأولى للفصل، ثم قام، ولم يسجد الثانية، فمن قال من أصحابنا: لا يلزمه الجلوس في الأولى. . فها هنا أولى ألا يلزمه، ومن قال في الأولى: يلزمه الجلوس. . اختلفوا ها هنا على وجهين: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق - أنه يلزمه أن يجلس، قال: ولست أقول: إن الجلسة الأولى قد بطلت، ولكن ليكون السجود عقيب الجلوس. والثاني: لا يلزمه، وهو الصحيح؛ لأن المتروك هو السجود، فلا يلزمه إعادة ما قبله، كما لو ترك الجلسة. . فإنه لا تلزمه إعادة السجدة قبلها. قال ابن الصباغ: ولأن أبا إسحاق قد سلَّم أنه إذا ترك أربع سجدات من أربع ركعات. . فإنه تحصل له ركعتان، ونحن نعلم أن السجدة التي في الثانية وقعت من قيام. وإن سجد في الأولى سجدة، فظن أنها الثانية، وجلس عقيبها معتقدًا أنها جلسة الاستراحة، ثم قام إلى الثانية، وذكر ذلك في القيام، فمن قال: إن القيام يقوم مقام الجلسة بين السجدتين، ولا يوجب عليه الجلوس. . فها هنا قال: لا يلزمه الجلوس أيضًا. ومن قال بقول أبي إسحاق: إنه يحتاج إلى الجلوس في التي قبلها؛ ليقع السجود عقيبه. . فإنه يقول ها هنا: يجب عليه الجلوس أيضًا.

ومن قال بالمذهب في الأولى. . اختلفوا ها هنا على وجهين: أحدهما- وهو قول أبي العباس -: يلزمه أن يجلس؛ لأن الأولى فعلها على وجه النفل، فلا تقع عن الفرض. والثاني - وهو قول عامة أصحابنا، وهو الأصحُّ - أنه يلزمه أن يجلس؛ لأن الواجب عليه أن يجلس بعد السجدة الأولى، وقد فعله، ولا يضره اعتقاده أنها عن جلسة الاستراحة، كما لو جلس في التشهد يعتقد أنه الأول، ثم بان أنه الأخير. . فإنه يعتد به، وهذان الوجهان يشبهان الوجهين في التجديد: هل يرفع الحدث أم لا؟ وإن ذكر أنه ترك سجدة من الأولى، بعدما سجد في الثانية السجدة الأولى، فإن قلنا: إن القيام يقوم مقام الجلوس بين السجدتين. . فقد تمَّت الركعة الأولى بهذه السجدة، سواءٌ جلس عقيب السجدة الأولى في الركعة الأولى أو لم يجلس في الركعة الأولى. وإن قلنا بقول أبي إسحاق في الأولى، وأنه لا بدَّ من الجلسة لتكون السجدة عقيبها. . لم تتم الركعة الأولى بهذه السجدة؛ لأنها لم تقع عقيب الجلوس. وإن قلنا بالمذهب. . نظرت: فإن كان قد جلس عقيب السجدة الأولى في الركعة الأولى. . تمَّت له الركعة الأولى بهذه السجدة، وإن كان لم يجلس بعد السجدة الأولى. . لم تتم الركعة الأولى بهذه السجدة. وإن ذكر أنه ترك السجدة الثانية من الأولى، بعدما أتى بسجدتين وجلسةٍ بينهما في الثانية. . فقد تمت الركعة الأولى بلا خلافٍ بين أصحابنا. وبماذا تمت؟ على قول أبي إسحاق: تمت بالسجدة الثانية، سواء جلس عقيب السجدة الأولى في الأولى، أو لم يجلس. وعلى قول أكثر أصحابنا: إن كان لم يجلس بعد السجدة في الأولى. . فإنها تمت بالسجدة الثانية من الركعة الثانية، وإن كان قد جلس بعد السجدة في الأولى. . فإنها تمت بالسجدة الأولى من الركعة الثانية. ومن قال: إن القيام يقوم مقام الجلوس في الفصل. . فإنها تمت بالسجدة الأولى من الركعة الثانية بكل حال.

فرع تذكر أنه لم يسجد إلا مرة في كل ركعة

وإن كان قد جلس عقيب السجدة في الركعة الأولى، وهو يظن أنها جلسة الاستراحة. . فعلى قول أبي إسحاق: تمت بالثانية ها هنا. وكذلك على قول أبي العباس - حيث قال: لا يقوم مقام الجلسة بين السجدتين - تمت الأولى ها هنا بالسجدة الثانية. وعلى قول سائر أصحابنا - الذين قالوا: يقوم مقام الجلسة بين السجدتين في الفصل - تمت بالسجدة الأولى من الثانية. [فرع تذكر أنه لم يسجد إلا مرة في كل ركعة] ] : وإن صلَّى صلاة أربع ركعات، ثم ذكر في آخرها أنه ترك من كل ركعة سجدة، فإن تيقن أنه قد أتى بالجلسة بين كل سجدتين في كل ركعة. . فقد صحَّ له ركعتان، وبقي عليه ركعتان ووافق أبو إسحاق على هذا، وهو المنصوص للشافعي؛ لأنَّ الركعة الأولى تتم بالثانية، والثالثة تتمم بالرابعة. فإن كان قد تشهد في الرابعة، يظن أنه الأخير. . فإنه يُعتد بهذا التشهد عن الأوَّل، ثم يأتي بركعتين، ويتشهد ويسلِّم. وإن كان قد ترك سجدة من كل ركعة، والجلسة بين السجدتين. . فعلى قول أبي إسحاق - حيث قال: لا بد من الجلوس؛ لتقع السجدة عقيب الجلوس - يحصل له ركعة إلا سجدة. وعلى قول من قال من أصحابنا: القيام يقوم مقام الجلوس في الفصل. . تحصل له ركعتان، وتبقى عليه ركعتان. وعلى قول سائر أصحابنا: ينظر فيه: فإن كان تشهد في الثانية. . حصل له ركعتان إلا سجدة؛ لأن التشهد الأول يقوم مقام الفصل بين السجدتين في الأولى، وتمت له الركعة الأولى بالسجدة الأولى من الركعة الثالثة، واحتسب له بالقيام، والقراءة، والركوع، والسجدة الأولى من الركعة الرابعة، فيجلس، ويسجد الثانية، وتصحُّ له ركعتان، وإن لم يتشهد الأوَّل. . حصل له ركعة إلا سجدة لا غير. هذا مذهبنا.

فرع صلى أربعا وتذكر ترك سجدة

وقال أبو حنيفة: (يأتي في آخر صلاته بأربع سجدات، وتتم صلاته) . . وبه قال الحسن البصري، والثوري، والأوزاعي. وقال الحسن بن صالح: لو نسي ثمانية سجدات. . أتى بهن متواليات. دليلنا: أن السجود فعل واجب في الصلاة، فوجب أن يكون الترتيب بينه وبين ما بعده مستحقًا، كسائر أفعال الصلاة. [فرع صلى أربعًا وتذكر ترك سجدة] فأما إذا صلى صلاة أربع ركعات، ثم تذكر قبل أن يسلم أنه ترك سجدة منها، أو شكَّ في تركها، ولم يعلم من أي موضع تركها. . لزمه أن يأتي بركعة؛ لأن أحسن أحواله أن يكون تركها من الرابعة، فيأتي بسجدة، وأسوأ أحواله أن يكون تركها ممَّا قبلها، فيتم المتروك منها بسجدة من التي بعدها، فلزمه أن يأخذ بأسوأ أحواله؛ ليسقط الفرض بيقين. وإن ترك منها سجدتين، ولم يعلم موضعهما. . لزمه ركعتان؛ لجواز أن يكون قد ترك من الأولى سجدة، ومن الثانية سجدة، فيتمم الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، والكلام: بماذا حصل التمام؟ على ما مضى. وإن ترك ثلاث سجدات. . لزمه ركعتان أيضًا؛ لجاوز أن يكون قد ترك من الأولى سجدة، ومن الثانية سجدة، ومن الرابعة سجدة، أو ترك من الأولى سجدة، ومن الثانية سجدة، ومن الثالثة سجدة، أو من الأولى سجدة، ومن الثالثة سجدتين، فيتم الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة. وإن ترك أربع سجدات، ولم يعلم موضعها. . لزمه سجدة، ثم ركعتان بعدها؛ لجواز أن يكون قد ترك من الأولى سجدة، ومن الثالثة سجدتين، ومن الرابعة سجدة، أو من الأولى سجدة، ومن الثالثة سجدة، ومن الرابعة سجدتين. . فيتم الأولى بالثانية، ويبقى له ركعة إلا سجدة، فيضيف إليها سجدة، ثم يأتي بركعتين. وإن قال: تركت مع أربع سجدات أربع جلسات. . فقياس

مسألة ترك التشهد الأول

المذهب: أنه تحصل له ركعة إلا سجدة، وإن كان لم يتشهد التشهد الأول، فيلزمه أن يجلس، ثم يسجد سجدة، فتتمم له ركعة. وإن قلنا: إن القيام يقوم مقام الجلوس. . فهو كما لو جلس بين كل سجدتين. وإن ترك خمس سجدات من أربع ركعات، ولم يعلم موضعها. . فقد قال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": يلزمه سجدتان وركعتان، ويجعل المتروك من الأولى سجدة، ومن الثالثة سجدتين، ومن الرابعة سجدتين. وقال أبو عليٍّ في " الإفصاح "، وابن الصباغ: يلزمه ثلاث ركعات؛ لأن أسوأ أحواله أن يكون قد ترك من الأولى سجدة، ومن الثانية سجدتين، ومن الثالثة سجدتين، وأتى بالسجدتين في الرابعة، فتتمم الأولى بالرابعة، ويبقى عليه ثلاث ركعات، وهذا هو الأصحُّ. وإن ترك ستَّ سجدات. . لزمه ثلاث ركعات أيضًا؛ لجواز أن يكون قد ترك من الأولى سجدة، ومن الثانية سجدتين، ومن الثالثة سجدتين، ومن الرابعة سجدة، فيتم الأولى بالرابعة. وإن ترك سبع سجدات. . حصل له ركعةٌ إلا سجدة، فيأتي بسجدة، وثلاث ركعات بعدها. وإن ترك ثمان سجدات. . لزمه سجدتان، وثلاث ركعات بعدهما. وإن ذكر أنه ترك ذلك بعد السلام، فإن ذكره بعد تطاول الفصل. . استأنف الصلاة، وإن ذكره قبل تطاول الفصل. . بنى على صلاته. وإن شكَّ في تركه بعد السلام. . لم يؤثر هذا الشكُّ، على طريقة أصحابنا البغداديين، وعلى طريقة الخراسانيين: يكون على قولين، كما مضى في الركعة. [مسألة ترك التشهد الأول] ] : إذا قام من الثانية ناسيًا إلى الثالثة، وترك التشهد ثم ذكر. . نظرت: فإن ذكر بعد أن انتصب قائمًا. . لم يعد إليه، وإن ذكر قبل أن ينتصب قائمًا. . عاد إليه.

وقال مالك: (إن قام أكثر القيام. . لم يرجع، وإن قام أقل القيام. . رجع) . وحكى ابن المنذر عنه أنه قال: (إذا فارقت أليتاه الأرض. . لم يرجع) . وقال النخعي: يرجع ما لم يستفتح القراءة. وقال الحسن: يرجع ما لم يركع. وقال أحمد: (يرجع قبل أن يستوي قائمًا، وإن استوى قائمًا. . فهو بالخيار: إن شاء. . رجع، وإن شاء. . لم يرجع) . دليلنا: ما روى المغيرة بن شعبة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قام أحدكم إلى الرَّكعتين، فلم يستتم قائمًا. . فليجلس، وإذا استتم قائمًا. . فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو» . ولأنه إذا استتم قائمًا. . فقد حصل في فرض، فلم يجز أن يرجع منه إلى سُنَّة. إذا ثبت هذا، وانتصب قائمًا، فإنه يمضي في صلاته، ويسجد للسهو؛ للنقصان. فإن خالف ورجع إلى القعود، فإن كان قاصدًا عالمًا بتحريمه. . بطلت صلاته؛ لأنه قعد في موضع القيام، وإن كان ناسيًا أو جاهلاً. . لم تبطل صلاته؛ لأنها زيادة من جنس الصلاة، فإن علم تحريم ما جهله، أو ذكر ما نسيه في القعود. . فالذي يقتضي المذهب: أنه يلزمه أن يقوم، ولا يتشهد؛ لأن التشهد قد سقط عنه بالقيام، وصار القيام فرضه، ويسجد للسهو، للزيادة والنقصان. أما الزيادة: فجلوسه بعد القيام، وأما النقصان: فتركه القعود والتشهد فيه.

وإن كان إمامًا لغيره. . نظرت: فإن انتصبوا معه. . لم يعودوا؛ لأنهم صاروا في فرضٍ، وإن لم ينتصبوا، بل انتصب الإمام وحده، ثم رجع. . قال ابن الصباغ: فقياس المذهب: أن المأموم يقوم، ولا يتابعه في الجلوس؛ لأن المأموم، وإن لم يكن انتصب. . فقد وجب عليه الانتصاب، لانتصاب الإمام، فإذا رجع الإمام. . لم يسقط عن المأموم ما وجب عليه من الانتصاب. فإن خالفوا ورجعوا. . نظرت: فإن كانوا عالمين بتحريمه. . بطلت صلاتهم، وإن كانوا جاهلين. . لم تبطل صلاتهم. وإن ذكر قبل أن ينتصب، ورجع إلى القعود. . فهل يسجد للسهو؟ قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان: أحدهما: يسجد، وبه قال أحمد بن حنبل؛ لما روى يحيى بن سعيد قال: (رأيت أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يتحرك للقيام في الركعتين من العصر، فسبَّحوا له، فجلس، ثم سجد للسهو) ، وهو في الصلاة. ولأنه زاد في الصلاة زيادة من جنسها ساهيًا، فأشبه إذا زاد ركوعًا. والثاني: لا يسجد، وبه قال الأوزاعي، وعلقمة، والأسود؛ لما روي في حديث المغيرة بن شعبة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا شكَّ أحدكم، فقام من اثنتين، فإن ذكر، وقد استتم قائمًا. . فلا يجلس، وإن ذكر قبل أن يستتم قائمًا. . جلس، ولا سهو عليه» . ولأنه عمل قليل، فلم يقتض سجود السهو، كالخطوة، والالتفات.

فرع ترك دعاء الاستفتاح

وقال القفال: إن كان أقربه إلى القيام. . سجد للسهو، وإن كان أقربه إلى القعود. . لم يسجد للسهو. فإن ذكر قبل أن ينتصب، فخالف، وقام. . لم تبطل صلاته؛ لأنه ترك سُنَّة، ويسجد للسهو. فإن رجع الإمام قبل أن ينتصب، وكان قد سبقه المأموم بالانتصاب. . فهل يجب عليه أن يرجع إلى القعود؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه أن يرجع، وهو الأصح؛ لأن متابعة الإمام فرض. والثاني: لا يلزمه أن يرجع؛ لأنه قد حصل في فرض. [فرع ترك دعاء الاستفتاح] ] : فإن ترك دعاء الاستفتاح، فذكره وقد تلبَّس بالتعوذ، أو ترك التعوذ، فذكره، وقد استفتح القراءة. . لم يعد إليه، وإن ترك تكبيرات العيد، فذكرها، وقد استفتح القراءة ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يأتي بها) ؛ لأن محلَّها باقٍ، وهو القيام. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يأتي بها) ، وهو الصحيح؛ لأنه ذكر مسنون فاته محلُّه، فلم يأت به، كما لو ترك دعاء الاستفتاح، فذكره بعد استفتاح القراءة. [مسألة من ترك ركعة] وإن قام من الرابعة إلى الخامسة ساهيًا، ثم ذكر ذلك في القيام، أو في الركوع، أو في السجود. . فإنه يلزمه العود إلى الجلوس، وبه قال الحسن، وعطاء، والزهري، ومالك، والليث.

وقال أبو حنيفة: (ينظر فيه: فإن ذكر قبل أن يسجد في الخامسة. . فإنه يعود إلى الجلوس، كما قلنا. وإن ذكر بعدما سجد في الخامسة، فإن كان قد قعد في الرابعة قدر التشهد. . فقد تمت صلاته؛ لأنه لم يبق عليه غير الخروج منها، وقيامه إلى الخامسة خروج، فيضيف إلى هذه الخامسة ركعة ثانية، فيحصل له ركعتان نافلة؛ لأنه لا يجبر التنفل بأقل من ركعتين، وإن قام إلى الخامسة قبل أن يقعد في الرابعة قدر التشهد. . فقد بطلت صلاته بالقيام) . دليلنا: ما روى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلَّى الظهر خمسًا، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: "وما ذاك؟ "، فقيل له: صليت الظهر خمسًا، فسجد سجدتين، وهو جالس بعد السلام» . قال ابن مسعود: (ولم يكن قعد في الرابعة) . إذا ثبت ما ذكرناه: نظرت: فإن ذكر في الخامسة بعد أن تشهد، وسلَّم. . فإنه يسجد للسهو، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإن ذكر بعدما تشهد، وقبل أن يسلِّم. . فإنه يسجد للسهو، ويسلم. وإن ذكر قبل أن يتشهد في الخامسة، فإن كان لم يتشهد في الرابعة. . فإنه يعود إلى الجلوس، ويتشهد، ثم يسجد للسهو، ويسلِّم، وإن كان قد تشهد في الرابعة. . فهل يعيد التشهد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يعيد التشهد، بل يجلس، ويسجد للسهو، ويسلِّم، وهو الأصحُّ؛ لأنَّ ما فعله من التشهد قد صح، فلا يبطل بسهوه إلى القيام. والثاني- وهو قول أبي العباس -: أنه يلزمه أن يعيد التشهد. والعلة فيه - عند

مسألة سجود السهو للزيادة والنقصان

أصحابنا ببغداد: ليكون السلام عقيب التشهد؛ لأن ترتيب الصلاة هكذا. وقال أصحابنا بخراسان: في علته معنيان: أحدهما: لأن الموالاة شرط بين الأركان. والثاني: لأنه لا يجوز إفراد ركن. قالوا: وفائدة هذا تظهر فيما لو ترك الركوع ناسيًا، وذكره وهو في السجود، فإن قلنا: يجب عليه لأجل الموالاة. . فإنه يجب عليه ها هنا أن يقوم من السجود مستويًا، ثم يركع. وإن قلنا هناك: يجب عليه؛ لأنه لا يجوز إفراد ركن. . جاز ها هنا أن يقوم من السجود إلى الركوع. [مسألة سجود السهو للزيادة والنقصان] ] : قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ولا سجود إلا في عمل البدن) . وجملة ذلك: أن سجود السهو يقع تارة للزيادة، وتارة للنقصان، فأما الزيادة: فضربان: أفعال، وأقوال. فأما الأفعال: فهي كل فعل إذا أتى به في الصلاة عامدًا. . أبطل الصلاة، فإذا أتى به ساهيًا. . سجد للسهو لأجله، وهي على ضربين: ضرب: من غير جنس أفعال الصلاة، وضرب: من جنس أفعالها. فأما زيادة الأفعال التي ليست من جنس أفعال الصلاة: فإنها لا تقتضي سجود السهو بحال؛ لأنها إن كانت قليلاً، كالخطوة والضربة. . فإن الصلاة لا تبطل بفعلها عامدًا ففعلها في السهو لا يقتضي السجود. وإن كانت كثيرة. . فإن الصلاة تبطل بفعلها في العمد والسهو، فلا معنى لسجود السهو لأجله.

وأما ما كان من جنس أفعال الصلاة. . فضربان: متحقَّقَةٌ، ومتوهَّمَةٌ. فأما (المتحققة) : فهو أن يزيد ركعة. والدليل عليه: ما روى ابن مسعود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى الظهر خمسًا، فقيل له في ذلك، فسجد سجدتين، وهو جالس بعد السلام» . وهكذا: إذا سجد في موضع الركوع، أو ركع في موضع السجود. . فإنه يسجد للسهو؛ لأنه في معنى زيادة ركعة. وإن طال القيام بنية القنوت، في غير موضع القنوت. . قال الشيخ أبو إسحاق: يسجد للسهو. وإن جلس عقيب السجدة الثانية في الركعة الأولى، أو الثالثة في الصلاة الرباعيَّة، فإن ابتدأ بالتشهد ساهيًا. . سجد للسهو؛ لأنها زيادة في الصلاة، فهو كما لو قام في موضع القعود. وإن لم يتشهد. . قال المحامليُّ: فإن كان قعد بقدر جلسة الاستراحة. . فلا سجود عليه، وإن كان أكثر من ذلك. . سجد للسهو. وأما (المتوهمة) : فهو أن يشكَّ: هل صلَّى ثلاثًا، أم أربعًا؟ فيأتي بركعة، ويسجد للسهو؛ لحديث أبي سعيد في أوَّل الباب. وأما زيادة الكلام: فهو أن يسلم في غير موضع السلام ناسيًا، أو يتكلم ناسيًا. . فيسجد للسهو؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلَّم في العصر من اثنتين، وكلَّم ذا اليدين، وأتمَّ صلاته، وسجد للسهو» . قال ابن الصباغ: فإن قام قبل الركوع وبعد القراءة، فدعا، فإن نوى به القنوت. . سجد؛ لأنه أتى به في غير موضعه، وإن لم ينو القنوت. . لم يسجد للسهو، وكان تابعًا للقراءة. وإن قرأ في الركوع أو القعود ناسيًا. . سجد للسهو؛ لأنه قرأ في غير موضعه، فهو كما لو سلَّم في غير موضعه، وهذا نادرٌ، لأن عمده لا يبطل الصلاة، وسهوه يقتضي سجود السهو. وحكى في "الفروع" وجهًا آخر: أنه لا يسجد للسهو، ولعل قائل هذا يقول:

لأن عمد ذلك لا يبطل الصلاة، فسهوه لا يقتضي سجود السهو. والأول هو المشهور. وأما النقصان: فإن ترك ركنًا من أركان الصلاة. لم يحكم بصحة صلاته حتى يأتي به، ولا ينجبر بسجود السهو. وإن ترك سُنَّة يقصد لها عمل البدن، مثل الجلوس للتشهد الأول، أو التشهد فيه، أو الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه - إذا قلنا: إنها سُنن- أو القنوت في الصبح، أو الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان، فمتى ترك شيئًا من ذلك ناسيًا. . سجد للسهو؛ لما روى عبد الله بن بحينة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام في الظهر من اثنتين، فلما جلس من أربع. . انتظر الناس تسليمه، فسجد قبل أن يسلم» . وقول الشافعي: (لا سجود إلا في عمل البدن) ليس على ظاهره، وإنما أراد فيما يقصد له عمل البدن، وهي هذه الأذكار التي ذكرناها؛ لأنها ليست بهيئة لغيرها، وإنما يقصد بعمل البدن الإتيان بها. وإن ترك شيئًا من هيئات الصلاة ناسيًا، كدعاء الاستفتاح، وقراءة السورة بعد الفاتحة، والتكبيرات في الصلاة للركوع، والسجود، والرفع، وتكبيرات العيد، والجهر، والإسرار، وغير ذلك من الهيئات. . فإنه لا يسجد للسهو؛ لأن هذه الأشياء يؤتى بها هيئة، وتابعة لغيرها؛ لأن دعاء الاستفتاح يراد لاستفتاح الصلاة، وقراءة السورة تبع للفاتحة، والتكبيرات هيئات للخفض والرفع، والتسبيح هيئة للركوع والسجود، بخلاف القنوت والتشهد؛ فإنهما لا يفعلان على وجه الهيئة والتبع لغيرهما، بل يقصدان بأنفسهما، ولهذا شرع لهما محل غير مفروض، يختص بهما.

فرع ترك السنة في الصلاة

قال ابن الصباغ: وحكى أبو إسحاق: أن الشافعي قال في القديم: (يسجد لترك كل مسنون في الصلاة، سواء كان ذكرًا، أو عملاً) . وهكذا: إذا جهر بما يسر به، أو أسر بما يهجر به. قال: وهذا مرجوع عنه، وبه قال مالك، وهذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إذا ترك تكبيرات العيد. . سجد للسهو، ولا يسجد لترك سائر التكبيرات، وإن ترك الجهر أو الإسرار. . سجد إذا كان إمامًا) . وقال ابن أبي ليلى: إذا جهر في موضع الإسرار، أو أسر في موضع الجهر. . بطلت صلاته. دليلنا: ما روي: (أن أنسًا جهر في صلاة العصر، فلم يعدها، ولم يسجد للسهو) ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، لأن هذه هيئات. . فلم تقتض الجبران، كالرمل والاضطباع في الحج. [فرع ترك السنة في الصلاة] ] : وإن ترك السنن المقصودة في موضعها عامدًا. . فهل يسجد للسهو؟ فيه وجهان، ومن أصحابنا من يحكيهما قولين: أحدهما: لا يسجد، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن هذا السجود يسمَّى: سجود السهو، وإذا ترك هذه الأشياء عامدًا. . لم يسم بهذا الاسم. والثاني: يسجد، وهو الأصح؛ لأنه إذا سجد لتركها ساهيًا. . فلأن يسجد لتركها

فرع الشك في السهو

عامدًا أوْلى، ولأن ما اقتضى الجبران إذا فعله ناسيا. . اقتضى الجبران إذا فعله عامدًا، كفدية الأذى، وقتل الصيد في الحج. [فرع الشك في السهو] قال الشافعي: (ومن شكَّ: هل سها، أو لا؟ فلا سهو عليه) . قال أصحابنا: إذا شكَّ هل زاد في الصلاة، أم لا؟ لم يسجد؛ لأن الأصل أنه لم يزد. وهذا مراد الشافعي. وحُكي: أن الكسائي، ومحمد بن الحسن اجتمعا عند هارون الرشيد، فقال الكسائي: العلوم كلها جنس يُستدل ببعضها على بعض، فقال محمد بن الحسن: ليست بجنس، ولا يستدل ببعضها على بعض، فقال الكسائي: بلى، فقال محمد: ما تقول في رجل شكَّ هل سها، أم لا؟ هل عليه سجود السهو؟ فقال الكسائي: لا سجود عليه، فقال محمد بن الحسن: لم؟ قال: لأن العرب لا تصغر التصغير، كذا لا سهو عليه للسهو. فإن قيل: أليس إذا شك: هل صلى ثلاثًا، أم أربعًا، فإنه يأتي بركعة ويسجد للسهو، وإن كانت هذه الزيادة مشكوكًا فيها، والأصل عدمها؟ فالجواب: أنه إذا شكَّ في هذه الركعة: هل هي من أصل الصلاة، أم لا؟ فإن هذه الركعة قد دخل عليها النقص في ذلك، فجبرها بالسجود، وإن كان الشك في النقصان: هل أتى بالتشهد الأول، أو القنوت؟ سجد للسهو؛ لأن الأصل أنه لم يأت به. [مسألة من لزمه سهوان] وإن اجتمع عليه في صلاته سهوان، أو أكثر. . كفاه للجميع سجدتان، وبه قال أكثر أهل العلم.

مسألة السهو خلف الإمام

وقال الأوزاعي: (إن كانا من جنس واحد. . تداخلا، وإن كانا من جنسين. . لم يتداخلا) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلَّم من اثنتين، وكلَّم ذا اليدين، واقتصر على سجدتين» . ولأن سجود السهو إنما أخر إلى آخر الصلاة؛ ليجبر كل سهو وقع فيها. وإن سجد للسهو، ثم سها قبل أن يسلم. . فهل يسجد لسهوه ثانيًا؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي العباس بن القاص -: أنه يسجد، وبه قال قتادة؛ لأن سجود السهو لا يجبر ما بعده. والثاني- وهو قول أبي عبد الله الختن، والمسعودي [في " الإبانة " ق 72] ، واختيار الشيخ أبي نصر -: أنه لا يسجد، لأنه لو لم يجبر كل سهو. . لما أُخر إلى آخر الصلاة. قال المسعودي [في " الإبانة " ق 72] : ولأنه لو لزمه السجود. . لم يؤمن أن يسهو ثانيًا وثالثًا، فيؤدي إلى ما لا نهاية له، والتصغير لا يصغر. [مسألة السهو خلف الإمام] ] : إذا سها خلف الإمام. . فلا سجود عليه، وإن سها إمامه. . سجد معه، وبه قال كافة أهل العلم، إلا ما حُكي عن مكحول: أنه قام عن قعود الإمام، فسجد سجدتي السهو. دليلنا: ما روى الدارقطني، عن عبد الله بن عمر [عن عمر] : أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها الإمام. . فعليه وعلى من خلفه» .

ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأئمة ضمناء» . قيل في تفسيره: إنهم يتحملون السهو عن المأمومين. وقيل: قراءة الفاتحة. وقيل: قراءة السورة. ولـ: (أن معاوية بن الحكم شمَّت العاطس خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسجود) . فإن سها الإمام فسجد. . سجد معه المأموم. قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع. والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» . و (الائتمام به) هو: الاقتداء في جميع أفعاله، ومن أفعاله أيضًا إذا سها. . سجد سجود السهو، ولأنه قال: «فإذا سجد. . فاسجدوا» . ولم يفرِّق. فإن لم يتابعه المأموم في سجود السهو. . قال صاحب " الإبانة " [ق 72] : بطلت صلاته. فإن لم يسجد الإمام. . سجد المأموم، وبه قال مالك، والأوزاعي، والليث. وقال أبو حنيفة والنخعي: (لا يسجد) . وبه قال المزني، وأبو حفص من أصحابنا؛ لأنه إنما يسجد تبعًا للإمام، وقد ترك الإمام، فلم يسجد المأموم. ودليلنا: أن صلاة المأموم قد نقصت بنقصان صلاة إمامه، فإذا لم يجبر الإمام صلاته. . جبر المأموم صلاته.

فرع سهو الإمام حال اقتدائه

[فرع سهو الإمام حال اقتدائه] ] : فلو سبقه الإمام بركعة، فلمَّا كان في آخر التشهد. . سمع المأموم صوتًا، فظن أن الإمام قد سلم، فقام، فقضى ما فاته، فلمَّا فرغ من القضاء. . بان أن إمامه سلَّم بعدما جلس هو. . لم يعتد له بتلك الركعة التي قضاها؛ لأنه أتى بها في غير موضعها، فيقوم، ويأتي بها، ولا سجود عليه للسهو؛ لأنه كان في حكم صلاة الإمام عند السهو. وإن سلَّم الإمام وهو قائم. . فهل يجب عليه أن يمضي في القيام، ويستأنف القراءة؟ أو يجب أن يعود إلى القعود، ثم يقوم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه القعود، ولا يجوز له؛ لأن الواجب عليه القيام، وقد صار قائمًا. والثاني: يجب عليه القعود؛ لأنه قام في غير محله، فلم يحتسب له به، كما لو أتى بالركعة. [فرع سها الإمام قبل الائتمام] ] : وإن سها الإمام، ثم أدركه المأموم. . فإنه يلزم المأموم حكم سهو الإمام. ومن أصحابنا من قال: لا يلزمه، كما لا يحمل عنه الإمام سهوه بعد انفراده عنه. والمذهب الأول؛ لأن المأموم دخل في صلاة ناقصة، فنقصت بها صلاته. فإذا قلنا بهذا، فسجد الإمام لسهوه قبل السلام. . لزم المأموم متابعته في السجود، وبه قال أكثر أهل العلم. وقال ابن سيرين: لا يلزمه أن يسجد معه، وحكاه الطبري عن بعض أصحابنا؛

لأن محل سجود السهو آخر الصلاة، وليس هذا آخر صلاة المأموم، والمذهب الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا سجد. . فاسجدوا» . وإن سلم الإمام قبل أن يسجد، ثم سجد الإمام بعد السلام. . قام المأموم على ما بقي من صلاته، ولم يتابع الإمام في سجود السهو. وقال أبو حنيفة: (عليه متابعته) . دليلنا: أن المأموم إنما يلزمه متابعة الإمام ما دام في الصلاة، وبالسلام قد خرج عن الصلاة، فلم يلزمه متابعته. فإن سجد الإمام للسهو قبل السلام، فسجد معه المسبوق، ثم قضى ما عليه. . فهل يعيد سجود السهو في آخر صلاته؟ فيه قولان: أحدهما: يعيد؛ لأن هذا موضع سجوده. والثاني: لا يعيد؛ لأن النقص قد انجبر بسجوده مع الإمام. وإن سبقه الإمام ببعض الصلاة، ثم سها الإمام فيما أدرك معه المأموم، وسجد الإمام في آخر صلاته، فسجد معه المسبوق، ثم قضى المسبوق ما فاته مع الإمام. . فهل يلزمه أن يعيد السجود؟ على القولين في التي قبلها. وإن سبقه الإمام ببعض الصلاة، ثم سها الإمام فيما أدرك معه المأموم، وسجد الإمام لسهوه، فسجد معه المأموم، ثم قام المسبوق إلى قضاء ما فاته، فسها فيما قضاه، فإن قلنا في الأولى: لا يلزمه أن يعيد ما سجد مع الإمام. . سجد المأموم ها هنا في آخر صلاته سجدتين للسهو الذي سهاه في انفراده. وإن لم يسجد الإمام، أو سجد وسجد معه المسبوق، وقلنا: يلزمه أن يعيد سجود السهو في آخر صلاته. . فكم يسجد ها هنا؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه أن يسجد أربع سجدات؛ لأنه يسجد لسهوين مختلفين: أحدهما من جهة الإمام، والآخر من جهته. والثاني- وهو المنصوص -: تكفيه سجدتان؛ لأن السجدتين تجبران كلَّ سهو وقع في الصلاة.

فرع المنفرد والساهي بعد صلاة الإمام

فإذا قلنا بهذا، فعما يقعان؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها في "الفروع": أحدها: يقعان عن سهو إمامه، وسهوه تابعٌ: والثاني: يقعان عن سهوه، وسهو إمامه تابعٌ. والثالث: يقعان عنهما. قال: وفائدة هذا تظهر فيه إذا نوى به خلاف ما جعل مقصودًا بهما. [فرع المنفرد والساهي بعد صلاة الإمام] ] : وإن صلَّى ركعة منفردا، فسها فيها، ثم أحرم إمامٌ، فضم المنفرد بركعة صلاته على صلاة الإمام، وقلنا: يصح، فسَها الإمام، فإن تمت صلاة المأموم قبل أن تتم صلاة الإمام. . كان المأموم بالخيار بين أن يقعد، وينتظر الإمام إلى أن يتم صلاته، ويسجد للسهو معه، وبين أن ينوي مفارقته، فإن نوى مفارقته. . سجد للسهوين، وكم يسجد؟ على الوجهين في التي قبلها: أحدهما: أربع سجدات. والثاني: يكفيه سجدتان. فإذا قلنا بهذا، فعمَّا يقعان؟ يحتمل الأوجه الثلاثة التي حكاها صاحب "الفروع". وإن كانت صلاة المأموم أطول، بأن كانت صلاته رباعية، فصلى منها ركعة منفردًا، فسها فيها ثم ألحق صلاته بصلاة من يصلِّي ركعتين، فسها الإمام، ثم قام المأموم إلى ما بقي عليه من صلاته، فسها فيها. . فكم يسجد في آخر صلاته؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يسجد ست سجدات؛ لأنه سها في ثلاث حالات.

فرع سها في الجمعة

والثاني: يسجد أربع سجدات؛ لأن سهوه جنسان: سهو في جماعة، وسهو في انفراد. والثالث- وهو الأصح -: تكفيه سجدتان؛ لأنهما يجبران كل سهوٍ وقع في الصلاة. فإذا قلنا بهذا، فعما يقعان؟ يحتمل أن يكون فيه الأوجه الثلاثة التي حكاها صاحب "الفروع" في الأولى. [فرع سها في الجمعة] ] : إذا سها في صلاة الجمعة، فسجد سجدتي السهو، ثم دخل وقت العصر قبل أن يسلِّم منها. . فإنه يجب عليه أن يتمها ظهرًا، ويعيد سجدتي السهو في آخر صلاته؛ لأن الأوليين حصلتا في وسط صلاته. [فرع سهو المسافر القاصر] ] : إذا نوى المسافر القصر، وسجد للسهو، ثم نوى الإقامة قبل أن يسلّم، أو اتَّصلت السفينة بدار إقامته، وهو في الصلاة، أو نوى الإتمام. . وجب عليه أن يتمها أربعًا، ويعيد سجود السهو؛ لأن الأوليين حصلتا في وسط الصلاة. [فرع من زاد ركعة سهواً] ً] : إذا صلَّى المغرب أربع كلمات ساهيًا. . سجد للسهو، وأجزأته صلاته. وقال قتادة والأوزاعي: (يضيف إليها أخرى، ويسجد للسهو) ؛ لأنه إذا لم يضف إليها ركعة، كانت شفعًا. دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى الظهر خمسًا، فلمَّا قيل له في ذلك. .

مسألة استحباب سجود السهو

سجد للسهو» . ولم يضف إليها أخرى، لتصير شفعًا. وإن سبقه الإمام ببعض الصلاة. . فإنه يقضي ما فاته مع الإمام بعد سلام الإمام، ولا يسجد للسهو. وحُكي عن ابن عمر، وابن الزبير، وأبي سعيد الخدري: أنهم قالوا: (يسجد للسهو في آخر صلاته) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أدركتم مع الإمام فصلوا، وما فاتكم. . فاقضوا» . ولم يأمر بالسجود. [مسألة استحباب سجود السهو] ] : سجود السهو مستحب، وليس بواجب. وقال الكرخي: ليس لأبي حنيفة فيه نص، والذي يقتضيه مذهبه: أنه واجب. وقال مالك: (إن كان لنقصان. . فهو واجب، وإن كان لزيادة. . فليس لواجب) . دليلنا على أبي حنيفة: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث أبي سعيد: «كانت الركعة نافلة له والسجدتان» . وعلى مالك: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن كانت صلاته ناقصة، كانت الركعة تمامًا لصلاته، والسجدتان ترْغمان أنف الشيطان» . وما يرغم أنف الشيطان، فليس بواجب. ولأنه سجود لا تبطل الصلاة بتركه، فلم يكن واجبًا، كسجود التلاوة.

مسألة محل سجود السهو

[مسألة محل سجود السهو] ] : قال الشافعي: (فإذا فرغ من صلاته بعد التشهد. . سجد سجدتي السهو) . واختلف الناس في محل سجود السهو: فذهب الشافعي في عامة كتبه إلى: (أن محلَّه قبل السلام) سواءٌ كان لزيادة، أو نقصان، وروي ذلك عن أبي هريرة , وأبي سعيد الخدري، والزهري، وربيعة، والليث، والأوزاعي. ومن أصحابنا من حكى للشافعي قولاً في القديم: (أنه إن كان السهو لنقصان. . كان محل سجود السهو قبل السلام، وإن كان لزيادة. . فمحله بعد السلام) . وهو مذهب مالك، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، والمزني. وحكى الطبري في "العدة": أن من أصحابنا من حكى أن الشافعي أشار في القديم: (أنه مخير بين أن يسجد قبل السلام، أو بعده) . والمشهور من المذهب هو الأول. وقال الحسن البصري، والنخعي، وابن أبي ليلى، والثوري، وأبو حنيفة: (محله بعد السلام، سواءٌ كان لزيادة، أو نقصان) ، وروي ذلك عن عليٍّ، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وعمار.

دليلنا: حديث أبي سعيد الخدري في أول الباب، وروي عن عبد الله ابن بحينة: أنه قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى صلاتي العشاء، فقام من اثنتين، فقام الناس معه، فلما جلس. . انتظر الناس تسليمه، فسجد قبل أن يسلم» . وكذلك: رواه عمر، وابن عباس. وروي عن أبي هريرة: أنه قال: «كان آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود قبل السلام» . ولأنه يفعل لتكمل الصلاة به، فكان محله قبل السلام، كما لو نسي سجدة من صلب الصلاة. فإذا قلنا: محله قبل السلام، فسلم قبل سجود السهو عامدًا، وأراد السجود من قريب. . ففيه وجهان، حكاهما بعض أصحابنا المتأخرين: أحدهما: لا يسجد؛ لأنه قد قطع الصلاة بالتسليم. والثاني: حكمه حكم ما لو سلَّم ناسيًا، فيسجد. فإن سلَّم ناسيًا لسجود السهو، ثم ذكر من قريب. . سجد للسهو؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر خمسًا وسلّم، فقيل له في ذلك، فسجد بعد السلام» . وما حكم سلامه؟ فيه وجهان: أحدهما - وإليه ذهب أبو زيد المروزي، والجويني -: أنه يسقط، كما لو سلَّم ناسيًا في غير موضعه. فعلى هذا: لا يحتاج إلى إعادة التشهد؛ لأنه قد عاد إلى أصل صلاته، فلو أحدث في هذه الحالة. . بطلت صلاته. والثاني: أن السلام قد وقع موقعه، وتحلل من الصلاة.

فعلى هذا: إذا أحدث في هذه الحالة. . لم تبطل صلاته؛ لأن السلام لو لم يقع موقعه، لزمه الرجوع إليه. فعلى هذا: هل يعيد التشهد؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يتشهد ويسلم، وهو ظاهر كلام الشافعي، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأن هذا أشبه بأفعال الصلاة؛ لأن من حكم الصلاة أن يكون السلام عقيب التشهد. والثاني - وهو اختيار ابن الصباغ، والطبري في " العدة " -: أنه لا يتشهد؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى الظهر خمسًا، فقيل له في ذلك، فسجد سجدتين بعدما سلَّم» . ولم يذكروا أنه تشهد. ولأنه إنما ترك السجود وحده، فلا يعيد ما قبله، كما إذا نسي شيئًا من صلب الصلاة، فإنه لا يعيد ما قبله. قال الطبري: فإذا قلنا يتشهد. . ففيه وجهان. أحدهما: أنه يسجد للسهو، ثم يتشهد، ثم يسلم، وبه قال أبو حنيفة؛ ليكون السلام عقيب التشهد. والثاني: يتشهد، ثم يسجد للسهو، ثم يسلم، وهو اختيار أبي إسحاق الإسفراييني؛ لأن سنَّة سجود السهو أن يكون عقيب التشهد. وإن سلم ناسيًا لسجود السهو، ثم ذكر بعد تطاول الفصل. . فيه قولان: [الأول] : قال في القديم (يسجد) ؛ لأنه جبران للعبادة، فجاز الإتيان به بعد تطاول الفصل، كالجبران في الحج. فعلى هذا: حكمه حكم ما لو لم يتطاول الفصل. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يسجد) ، وهو الأصح؛ لأنه يفعل لتكميل

فرع السهو في النوافل

الصلاة، فلم يفعله بعد تطاول الفصل، كما لو ترك سجدة من الصلاة، فذكرها بعد السلام، وبعد تطاول الفصل. وأما حد القرب والبعد في ذلك: فحكى المحاملي فيه قولين: [الأول] : قال في الجديد: (المرجع فيه إلى العرف والعادة) . و [الثاني] : قال في القديم: (القرب: ما لم يقم من مجلسه، والبعد هو: إذا قام من مجلسه) . وقال الحسن البصري، وابن سيرين: يسجد، ما لم يلتفت من محرابه. وقال أبو حنيفة: (يسجد ما لم يتكلم أو يخرج من المسجد) . دليلنا للأول - وهو الأصح -: أنه لا حد لهذا في لغة، ولا في الشرع، فرجع فيه إلى العرف والعادة، كالقبض، والحرز. وأما إذا قلنا: إن محل سجود السهو بعد السلام للزيادة. . قال الشيخ أبو حامد والمحاملي: فإنه يكبر، ويسجد سجدتي السهو، ويتشهد، ويسلم، بلا خلاف، على المذهب؛ لما روي عن عمران بن الحصين: أنه قال: «صلَّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة، فسها فيها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلَّم» ، ولأن هذا أشبه بترتيب الصلاة. [فرع السهو في النوافل] ] : إذا سها في صلاة النفل. . سجد للسهو، ومن أصحابنا من حكى فيه قولاً آخر: أنه

لا يسجد للسهو في صلاة النفل. وبه قال ابن سيرين. والمذهب الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكل سهو سجدتان» . ولم يفرق بين الفرض والنفل. ولأنها عبادة يدخل الجبران في فرضها، فدخل في نفلها، كالحج، ويسلم بعد سجود السهو تسليمتين. وقال النخعي: لا يسلم فيه إلا تسليمة واحدة. وكذلك قال في صلاة الجنازة. دليلنا: أنه سجود مشروع، فشرع فيه تسليمتان، كسجود التلاوة. وبالله التوفيق

باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها

[باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها] وهي خمس ساعات: ثلاث منها نهي عن الصلاة فيها لأجل الوقت، وهي: عند طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح أو رمحين، وعند استواء الشمس في كبد السماء، حتى نزول، وعند ابتدائها في المغيب حتى تغرب. وساعتان منها نهي عن الصلاة فيهما لأجل الفعل، وهما: بعد الصبح، وبعد العصر، فمن صلَّى صلاة الصبح في وقتها. . لا يجوز له التنفل بعدها إلى أن ترتفع الشمس، ومن صلَّى صلاة العصر في وقتها. . لا يجوز له التنفل بعدها إلى أن تغرب الشمس، وروي عن عليَّ: (أنه دخل فسطاطه بعد العصر، فصلَّى ركعتين) . وقال ابن المنذر: لا يكره فعل النوافل بعد العصر، ما لم تصفر الشمس. وقال داود: (يجوز فعل النوافل إلى غروب الشمس) . دليلنا: ما روي «عن ابن عباس: أنه قال: (شهد عندي رجالٌ مرضيون أرضاهم عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس» . وروي عن عقبة بن عامر: أنه قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلّي فيها، أو نقبر أمواتنا: إذا طلعت الشمس، حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضيف الشمس للغروب» .

وقوله: (تضيف) أي: تميل، ومنه قولهم: ضفت فلانًا: إذا ملت إليه. وروى الشافعي بإسناده، عن الصنابحي، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «إن الشمس تطلع، ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، ثم إذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها» . فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في تلك الأوقات. وقد اختلف في تأويل هذا الحديث، فقيل: معناه أن قرن الشيطان ناحية رأسه، والعرب تسمِّي ناحيتي رأس الإنسان: قرنين. وقيل: يحتمل أنه أراد: أن الكفار كانوا يعبدونها في تلك الأوقات، وسمَّاهم قرن الشيطان، كما قال الله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} [مريم: 74] [مريم: 74] . وحُكي عن إبراهيم الحربي، أن معنى ذلك: أن في تلك الأوقات يتحرك الشيطان، ويتسلَّط، فيكون كالمعين لهم.

وكذلك الحديث الآخر: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدَّم» . أي: يقويه على المعاصي. وروى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة بعد العصر، حتى تغرب الشمس، ولا بعد الصبح، حتى تطلع الشمس» . وإذا ثبت هذا: فإن النهي عن الصلاة في هذه الأوقات ليس بعام عندنا، وإنما يختص ببعض الصلوات وبعض الأزمان وبعض البلدان. فأما الصلوات: فإنما ينصرف النهي إلى إنشاء صلاة نافلة لا سبب لها، فأما الصلاة التي لها سبب: فيجوز فعلها في هذه الأوقات، كقضاء الفائتة من الفرائض، والسنن، وصلاة الجنازة، وسجود التلاوة. وقال مالك: (يقضي الفرائض في هذه الأوقات، ولا يقضي فيها السنن) . وبه قال أحمد، إلا أنه أجاز فيها ركعتي الطواف، وصلاة الجماعة مع إمام الحيِّ. ووافقنا أبو حنيفة على جواز فعل الصلاة التي لها سبب بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر. وأما الأوقات الثلاثة: فقال: (لا يجوز فعل جميع الصلوات فيها، إلا عصر يومه) ؛ لما روي عن عقبة بن عامر: أنه قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

ينهانا أن نصلي فيها، وان نقبر فيها أمواتنا: إذا طلعت الشمس بازغة، حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضيف الشمس للغروب» . قال: (والنهي عن القبران في هذه الأوقات، إنما هو نهيٌ عن صلاة الجنازة فيها، لا عن نفس القبران) . ودليلنا: ما روي عن قيس بن قهد: أنه قال: «رآني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد الصبح، فقال: "ما هاتان الركعتان؟ " قلت: لم أكن صليت ركعتي الفجر، فهما هاتان الرَّكعتان» . وروي عن أم سلمة: أنها قالت: «دخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد العصر، فصلَّى ركعتين، فقلت: يا رسول الله، صليت هاتين الرَّكعتين في وقت ما كنت تصليهما فيه؟ فقال: "ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر، فقدم عليَّ وفد بني تميم، فشغلوني عنهما، فصليتهما بعد العصر". قالت: ثم داوم عليهما» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نام عن صلاة، أو نسيها: فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها» . ولم يفرق. وأما الجواب عن حديث عقبة بن عامر: فظاهر الإقبار أنه: الدفن، وذلك جائز بالإجماع بيننا وبينهم، فلا يجوز حمله على الصلاة.

فإن عقد نافلة لا سبب لها في هذه الأوقات. . فهل تنعقد؟ فيه وجهان، حكاهما صاحب " الإبانة " [ق 78] : وكذلك الوجهان في عقد نذر الصلاة في هذه الأوقات. واختار ابن الصباغ: أنه لا يصح نذره. فأما إذا قال: إن شفاني الله من المرض، أو رزقني ولدًا. . فعليَّ لله أن أصلي ركعتين، فشفاه الله، أو رزقه الولد في تلك الأوقات. . جاز له أن يصلي فيها؛ لأنه قد كان يجوز أن يشفيه الله، أو يرزقه في غير تلك الأوقات. وهل يجوز أن يصلي الاستسقاء في هذه الأوقات؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوزُ؛ لأنها صلاة لها سبب. والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يخاف فوتها. قال في " الإبانة " [ق 78] : ولا يجوز أن يصلي ركعتي الإحرام في هذه الأوقات؛ لأن سببها متأخر عنها. وأما تحية المسجد في هذه الأوقات: فاختلف أصحابنا فيها: فذكر الشيخ أبو حامد، وأصحابنا البغداديون: أنه ينظر فيه: فإن دخل المسجد في هذه الأوقات ليعتكف فيه، أو ليدرس العلم فيه، أو يقرأ، أو غير ذلك من الأغراض. . جاز له أن يصلي تحية المسجد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دخل أحدكم المسجد. . فلا يجلس، حتى يصلي ركعتين» . ولم يفرق. وإن دخل المسجد، لا لحاجة، ولكن ليصلي التحية لا غير. . ففيه وجهان: أحدهما: يجوز أن يصلي التحية؛ لما ذكرناه من الخبر، ولأن سبب الصلاة الدخول، وقد وجد.

والثاني: لا يجوز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتحرى أحدكم بصلاته طلوع الشمس وغروبها» ، وهذا تحرى بصلاته طلوع الشمس وغروبها، والتحري: التعمد. ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان، من غير تفصيل: أحدهما: يجوز. والثاني - وهو قول أبي عبد الله الترمذي -: أنه لا يجوز. فأما إذا كانت له نافلة يداوم على فعلها في وقت يجوز فيه فعل الصلاة، فنسيها أو شغل عنها. . جاز له أن يقضيها في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ لما ذكرناه من حديث أم سلمة. وهل له أن يداوم على فعلها في ذلك الوقت الذي قضاها فيه بعد ذلك؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: يجوز؛ لما ذكرناه في حديث أم سلمة: أنها قالت: «ثم داوم على فعلهما» . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ما دخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد العصر قط إلا صلَّى ركعتين» .

والثاني: لا يجوز له المداومة على ذلك؛ لأنا لو جوَّزنا له ذلك، لصارت صلاة لغير سبب. وأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإنه كان ملتزمًا للمداومة على أفعاله، فصار مخصوصًا بذلك. وهل يكره التنفل بعد طلوع الفجر بغير ركعتي الفجر؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو إسحاق: وهل يكره ذلك صلَّى ركعتي الفجر، فيه وجهان: أحدهما: يكره؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليبلغ الشاهد الغائب، ألا لا تصلُّوا بعد الفجر إلا سجدتين» . والثاني: لا يكره؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينه إلا بعد الصبح، حتى تطلع الشمس) . وظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق: أنه لا يكره التنفل بعد طلوع الفجر لمن لم يصل ركعتي الفجر. وذكر ابن الصباغ: أن الوجهين في كراهية التنفل بعد طلوع الفجر من غير تفصيل: أحدهما - وهو ظاهر مذهب الشافعي -: أنه يكره، وبه قال ابن عمر، وعبد الله بن عمر، وابن المسيب، والنخعي، وأبو حنيفة. [والثاني] : قال بعض أصحابنا: لا يكره. وبه قال مالك، والأوزاعي، والأوَّل

مسألة تخصيص بعض الأزمان بعدم الكراهة

أصحُّ؛ لما روي: أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة بعد طلوع الفجر، إلا ركعتي الفجر» . وصحَّ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يصلي بعد طلوع الفجر، إلا ركعتي الفجر) . [مسألة تخصيص بعض الأزمان بعدم الكراهة] مسألة: [تخصيص بعض الأزمان بعدم الكراهية] : وأما اختصاص النهي في بعض الزمان: فإنه لا يكره التنفل بما لا سبب لها يوم الجمعة، عند استواء الشمس لمن حضر الجامع. وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد: (يكره) . دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة نصف النهار، حتى تزول الشمس، إلا يوم الجمعة» . ولأن الناس ينتظرون الجمعة، ويشق عليهم مراعاة الشمس، وربما غلبهم النوم إن قعدوا، فجوَّز لهم النفل لذلك. وهل يكره التنفل بما لا سبب له في سائر الأوقات المنهي عن الصلاة فيها في يوم الجمعة؟ فيه وجهان:

مسألة النهي في بعض البلدان

أحدهما: يكره؛ لأنَّ الرخصة إنما وردت في نصف النهار. والثاني: أنه لا يكره، وهو قول أبي عليٍّ الطبري؛ لأنه قد روي في بعض الأخبار: (أن جهنم تُسْجَرُ في الأوقات الثلاثة في سائر الأيام إلا في يوم الجمعة) . والأول أصحُّ. فإذا قلنا بهذا، لم يكره التنفل يوم الجمعة نصف النهار لمن كان في الجامع وغيره. وإذا قلنا بالأول. . فهل يكره التنفل يوم الجمعة نصف النهار، لمن لم يحضر الجامع؟ فيه وجهان: أحدهما: يكره؛ لأن الرخصة إنما وردت فيمن يحضر الجامع؛ لئلا يغلبه النوم إن قعد، وعليه مشقة في مراعاة الشمس، وهذا المعنى لا يوجد في غيره. والثاني: لا يكره؛ لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا يوم الجمعة» . [مسألة النهي في بعض البلدان] وأما اختصاص النهي في بعض البلدان: فإنه لا يكره أن يصلي صلاة لا سبب لها في هذه الأوقات بمكة. ومن أصحابنا من قال: إنما الرخصة فيها في ركعتي الطواف؛ لئلا ينقطع الطواف، فأما غير ركعتي الطواف مما لا سبب لها: فيكره. وقال أبو حنيفة: (يكره الجميع) . والأول أصحُّ. والدليل عنه: ما روي أبو ذرٍّ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة بعد صلاة الصبح، حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر، حتى تغرب الشمس، إلا بمكة» . ولم يفرق بين ركعتي الطواف وغيرهما.

مسألة من أدرك ركعة قبل طلوع الشمس

وروى جبير بن مطعم: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا بني عبد مناف: مَنْ ولي منكم مِنْ أمور الناس شيئًا. . فلا يمنعن أحدًا طاف بهذا البيت أو صلَّى، أية ساعة شاء من ليل أو نهار» . وهذا عام. قال أصحابنا: ولا فرق بمكة بين مسجدها، وبيوتها؛ لعموم الخبر. [مسألة من أدرك ركعة قبل طلوع الشمس] فإن صلَّى ركعة من الصبح، ثم طلعت الشمس. . لم تبطل صلاته. وقال أبو حنيفة: (تبطل) ؛ لأنه نُهيَ عن الصلاة في هذا الوقت. ودليلنا ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صلَّى ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس. . فقد أدرك الصبح - وروي: "فليتم صلاته" - ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس. . فقد أدرك العصر» . ولأن أبا حنيفة وافقنا إذا اصفرت الشمس هو في صلاة العصر. . أن صلاته لا تبطل، فكذلك هذا مثله. وبالله التوفيق

باب صلاة الجماعة

[باب صلاة الجماعة] الجماعة في الجمعة فرض على الأعيان، فيمن وجدت فيه شرائط، نذكرها في الجمعة، إن شاء الله تعالى. وحكى ابن الصباغ عن بعض أصحابنا: أنها فرض على الكفاية. وليس بشيء. وأما الجماعة في سائر الصلوات: فإنها ليست بواجبة على الأعيان، ولا شرط فيها، بلا خلاف على المذهب. واختلف أصحابنا: هل هي فرض على الكفاية، أو سُنَّة: فذهب أبو إسحاق، وأبو عباس، وأكثر أصحابنا إلى أنها فرض على الكفاية، وهو المنصوص للشافعي في (الإمامة) . ومن أصحابنا من قال: إنها سُنَّة؛ لأن الصلاة لا تفسد بعدمها، فكانت سُنَّة فيها، كالتكبيرات والتسبيحات، والأوَّل أصحُّ؛ لما روى أبو الدرداء: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من ثلاثة في قرية أو بدو، لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، عليك بالجماعة، فإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم» .

واستحواذ الشيطان لا يكون إلا على ترك شيء واجب، هذا مذهبنا، وبه قال الثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأصحابه. وقال الأوزاعي، وأحمد، وداود، وأبو ثور، وابن المنذر: (الجماعة فرض على الأعيان) . وقال بعض أهل الظاهر: الجماعة شرط في الصلاة، ولا تصحُّ صلاة المنفرد. ودليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة» . وروي: «بسبع وعشرين درجة» ،

ففاضل بين صلاة من صلَّى في جماعة، وبين صلاة المنفرد، والمفاضلة بينهما تدل على كونهما صحيحتين فاضلتين، إلا أن إحداهما أفضل من الأخرى. ولأنها صلاة تؤدى جماعة وفرادى، فلم تكن الجماعة شرطًا في صحتها، كصلاة العيدين. فإذا قلنا: إنها سُنَّة، فأطبق أهل بلد أو قرية على تركها. . فإنهم لا يأثمون، ولا يقاتلون، ولكنهم تركوا سُنَّة مؤكدة، وضيَّعوا حظ أنفسهم. وإذا قلنا: إنَّها فرضٌ على الكفاية، فأطبقوا على تركها. . أثموا، وقوتلوا على تركها، كما لو أطبقوا على ترك الصلاة على الجنازة. وإن ظهرت فيهم. . سقط الفرض عنهم. قال الشيخ أبو حامد: وحدُّ ظهورها: إن كان في قرية عشرون رجلاً، أو ثلاثون، فأقيمت الجماعة في مسجد واحد في القرية. . فإن ذلك يظهر في العادة، ويعلم به أهل القرية كلهم، فيسقط الفرض عن الباقين. وإن كانت القرية كبيرة، فأقيمت في طرفٍ منها. . لم يسقط عنهم الفرض؛ لأنها لا تظهر فيهم، وإنما يسقط الفرض بأن تقام في كل طرفٍ، وكذلك أهل البلد العظيم، كبغداد لا يسقط الفرض عنهم، حتى يقام في كلّ محلَّة في مسجد، حتى يظهر إقامتها في المحلة.

مسألة أقل الجماعة

قال أبو إسحاق المروزي: ولو أن كل واحد من أهل البلد أقام الجماعة في بيته. . لم يسقط الفرض عنهم؛ لأنها لا تظهر في البلد. وقال ابن الصباغ: إذا أقامها في بيته، بحيث يظهر ذلك في الأسواق. . سقط الفرض بذلك. [مسألة أقل الجماعة] وأما أقلُّ الجماعة: فإن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في " الأمِّ " [1 137] : (وإذا كانوا ثلاثة، فصلَّى بهم أحدهم. . كان ذلك جماعة، وإن كانوا اثنين، فأمَّ كل واحد بصاحبه. . رجوت أن تجزئهما الجماعة) ، ثم قال في آخر الباب: (وإن كانوا اثنين، فصلَّى أحدهما بالآخر. . كان ذلك جماعة) . قال الشيخ أبو حامد: والذي لا خلاف فيه على المذهب، ولا بين أحد - إن شاء الله - أن الاثنين إذا أمَّ أحدهما الآخر جماعةٌ داخلة تحت قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة» . والدليل عليه: ما روى أبو موسى الأشعري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الاثنان فما فوقهما جماعة» . فإن صلى في بيته بزوجته أو جاريته، أو ولده. . فقد أتى بفضيلة الجماعة. وأما أفضل الجماعة فكلَّما كثرت فيه الجماعة. . كان أفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من

صلاته مع الرجل، وما كان أكثر. . فهو أحب إلى الله تعالى» . فإن كان بالبعد منه مسجد تكثر فيه الجماعة، وبالقرب منه مسجد فيه الجماعة أقلُّ من المسجد البعيد. . نظرت: فإن كانت جماعة المسجد القريب منه، تختل بتخلفه عنه، بأن يكون إمامًا له، أو كان مِمَّن يحضر الناس فيه بحضوره فيه. . فصلاته في المسجد القريب أفضل؛ لتحصل الجماعة في البلد في موضعين. وإن كانت الجماعة في المسجد القريب، لا تختل بتخلفه عنه. . فالأفضل أن يصلِّي في المسجد البعيد الذي تكثر فيه الجماعة. وحكى في " الإبانة " [ق 79] وجهًا آخر: أن صلاته في مسجد الجوار أفضل؛ لئلا يؤدي إلى تعطيل الجماعة الأخرى، والمذهب الأول، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الرجل مع الرجل، أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين، أزكي من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر. . فهو أحب إلى الله تعالى» . فإن كان إمام المسجد البعيد مبتدعًا، رافضيًّا أو معتزليًّا أو فاسقًا مظهرًا لفسقه. . فالأفضل أن يصلي في المسجد القريب، الذي تقل فيه الجماعة بكل حال. وقال أبو إسحاق المروزي: وصلاة المنفرد أحب إليَّ من الصلاة خلف الحنفيِّ؛ لأنه لا يرى الترتيب واجبًا في الطهارة، ولا النية، ولا يرى وجوب الأركان. وقال في "الفروع": وقيل: الصلاة خلفه أفضل من الانفراد.

فرع جماعة النساء

[فرع جماعة النساء] وأما النساء: فجماعتهن في البيوت أفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن» . فإن أرادت المرأة حضور الجماعة مع الرجل في المسجد، فإن كانت شابَّة أو كبيرة يُشتهى مِثلها. . كُرِه لها الحضور؛ لأنه يخاف الافتتان بها، وإن كانت كبيرة، لا يُشتهى مثلُها. . لم يكره لها الحضور؛ لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى النساء عن الخروج إلى المساجد، إلا عجوزًا في مَنْقَلَيْهَا» . و (المَنْقَلُ) - بفتح الميم -: هو الخفُّ، ولم يرد أن المنقل شرط في الرخصة، وإنما ذكره؛ لأن الغالب من العجائز لبس الخفاف. [مسألة نية المأموم بالاقتداء] ولا تصح الجماعة للمأموم، حتى ينوي الاقتداء بالإمام؛ لأنه يريد أن يتبع غيره، فلا بد من نية الاتِّبَاع.

فرع الائتمام بأكثر من إمام

فإن صلى خلفه، وتابعه في الأفعال، ولم ينو الاقتداء به. . فهل تصح صلاته؟ فيه وجهان: وإن نوى الاقتداء به، ولم يعلم الإمام. . صحت صلاته. وقال الأوزاعي: (لا تصحُّ صلاة المأموم، حتى ينوي الإمام أنه إمامٌ، وليس بشيء) . وأما الإمام: فذكر المسعودي [في " الإبانة " ق 81] ، والجويني: أنه لا يصحُّ له فضيلة الجماعة، حتى ينوي أنه إمامٌ، والذي يقتضيه المذهب: أن فضيلة الجماعة تحصل له وإن لم ينو ذلك؛ لأن هذه النية لا تصح منه عند الإحرام. [فرع الائتمام بأكثر من إمام] وإن رأى رجلين يصلِّيان، فنوى الائتمام بهما، أو بأحدهما، لا بعينه. . لم تصحَّ صلاته؛ لأنه لا يمكنه الائتمام بهما، وإن كان أحدهما يصلِّي بالآخر فنوى الائتمام بالمأموم. . لم تصحَّ صلاته؛ لأنه ائتم بمن ليس بإمام. فإن قيل: فقد روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمَّا وجد في مرضه خفَّة. . خرج يُهادى بين رجلين، فتقدم، فكان يؤم أبا بكر وحده، وأبو بكر يؤم الناس» . قال أصحابنا: فالجواب: إن هذا لا يصح عند أحد من الناس، فيكون تأويل ذلك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إمامًا لأبي بكر وللناس، وإنما كان أبو بكر يُسمعُهُم التكبير؛ لعجز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إبلاغهم ذلك. وإن رأى رجلين يصلِّيان، فائتم بمن على يسار القبلة، وظنه الإمام؛ لأن السُنَّة أن

مسألة أعذار ترك صلاة الجماعة

يكون ذلك موقف الإمام، ثم بان أنه كان مأمومًا، خالف سُنَّة الموقف. . لم تصح صلاة المؤتم به، لأنه بان أنه ائتم بمن ليس بإمام. فإن صلَّى رجلان في مكان واحد، واعتقد كل واحد منهما أنه مؤتم بالآخر. . لم تصحَّ صلاتهما؛ لأن كل واحدٍ منهما ائتم بمن ليس بإمام، فإن اعتقد كل واحد منهما أنه إمام للآخر. . صحَّت صلاتهما؛ لأن كل واحد منهما يُصلي لنفسه، ولا يتبع غيره. وإن فرغا من الصلاة، فشكَّ كل واحد منهما أنه كان الإمام أو المأموم. . لم تصح صلاتهما؛ لأن كل واحدٍ منهما لا يدري هل صحت صلاته، أم لا؟ لأنه إن كان إمامًا. . صحَّت صلاته، وإن كان مأمومًا. . لم تصح صلاته؛ لجواز أن يكون قد نوى الاقتداء بمن ليس بإمام. وهكذا: لو طرأ الشَّكَّ عليه في أثناء الصلاة أنه إمامٌ، أو مأمومٌ. . بطلت صلاته؛ لأنه لا يدري أنه تابع، أو متبوعٌ. [مسألة أعذار ترك صلاة الجماعة] ] : يجوز ترك الجماعة للعذر، سواءٌ قلنا: إن الجماعة فرض على الكفاية، أو سُنَّة. والعذر في ذلك ضربان: عامٌّ، وخاصٌ. فأما العامُّ: فمثل: المطر، والريح في الليلة المظلمة، فأما بالنهار: فإن الريح ليس بعذرٍ، لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر مناديه في الليلة المظلمة المطيرة ذات الريح: «ألا صلُّوا في رحالكم» .

وأما الوَحَلُ: فقال أصحابنا ببغداد: هو عذرٌ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ابتلت النعال. . فصلُّوا في الرحال» . وقال الخراسانيون: فيه وجهان: أحدهما: أنع عذرٌ، كالمطر. والثاني: ليس بعذر؛ لأنه له مُدَّةً. قال ابن الصباغ: وكذلك الحَرُّ الشديد عذرٌ في ترك الجماعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اشتد الحر، فأبردوا بالظهر» . وأما الأعذار الخاصة: فذكر الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عشرة أشياء: أحدها: أن يحضر الطعام ونفسه تتوق إليه، فيبدأُ بالأكل، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حضر العَشَاءُ والعِشَاءُ، وأُقيمت الصلاة. . فابدءوا بالعَشَاء» . ولأن ذلك يمنعه من الخشوع في الصلاة. فإن كان طعامًا يمكنه أن يستوفيه قبل فوات وقت الصلاة. . استوفاه، وإن كان يخشى فوت الوقت. . أكل منه ما يسد به رمقه لا غير. والثاني: أن تحضر الصلاة، وهو يدافع الأخبثين أو أحدهما، فيبدأ بقضاء

حاجته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يُصلِّينَّ أحدكم وهو يدافع الأخبثين» . فإن خالف وصلَّى مع ذلك. . صحَّت صلاته. وقال أبو زيد المروزي: لا تصحُّ صلاته؛ لعموم الخبر. والمذهب الأوَّل؛ لأنه غير محدثٍ، والخبر محمول على الاستحباب، كما قلنا في العَشَاء. الثالث: أن يكون معه مرضٌ يشق القصد؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مرض العبد. . قال الله لملائكته: ما كان يصنع عبدي؟ فيقولون: كان يصنع كذا وكذا، فيقول: اكتبوا له ثواب ما كان يعمل» . ولأنه يشق عليه القصد. الرابع: الخوف، وهو أن يكون عليه دين، ولا مال له يُقضى منه، ويخشى أن يحبسه غريمه إن رآه، أو يخشى السلطان ظُلمًا، فله ترك الجماعة؛ لما روي عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سمع النداء، فلم يُجبه. . فلا صلاة له، إلا من عُذر. قالوا: وما العُذر يا رسول الله؟ قال: خوفٌ، أو مرضٌ» .

الخامس: السفر، وهو أن تقام الصلاة، وهو يريد السفر، ويخشى أن ترحل القافلة، ولا يلحقها، فله ترك الجماعة؛ لأن عليه ضررًا بتخلفه عن القافلة. السادس: خوف غلبة النوم إن انتظر الجماعة، فله أن يشتغل بالنوم؛ لأن النعاس يمنعه من الخشوع في الصلاة، ورُبما انتقضت طهارته. السابع: أن يكون قيِّمًا بمريض يخاف ضياعه، لأن سبب حفظ الآدمي آكد من حُرمة الجماعة، فإن كان له قيِّم سواه، إلا أنه مشتغل القلب بسببه. . ففيه وجهان: أحدهما: له ترك الجماعة، لأن اشتغال قلبه به يمنعه من الخشوع في الصلاة. والثاني: ليس له ترك الجماعة به؛ لأن للمريض من يقوم به. الثامن: أن يكون له قريب منزول به، فله ترك الجماعة، ليقف عنده؛ لأن قلبه يألم بتخلفه عنه. التاسع: أن يخاف فساد مالهِ أو ضياعه، بأن يكون الخبز على النار، فيخشى من اشتغاله بالجماعة احتراقه، أو يقدم له من سفرٍ أو من موضع مالٌ، فيخشى لو اشتغل بالجماعة تلفه أو ذهاب منه شيء، فله ترك الجماعة؛ لأن عليه ضررًا بذلك. العاشر: أن يكون قد ضاع له مال، يرجو إن ترك الجماعة وجوده، فيجوز له ترك الجماعة له، لأن قلبه يألم بذهاب ماله. وذكر القاضي أبو الطيب: إذا أكل بصلاً، أو كرَّاثًا، أو ثُومًا، فإن ذلك عذرٌ في ترك الجماعة؛ لما روي: أن النبي قال: «من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين، فلا يؤذنا في مسجدنا» .

مسألة المشي بسكينة إلى الجماعة

قال: وهذا إذا كان لم يمكنه إزالة هذه الرائحة بغسل فيه، أو بدواءٍ، فأما إذا أمكنه ذلك: لم يكن ذلك عذرًا. فإن أكلهما مطبوختين. . لم يكن عذرًا في ترك حضور الجماعة؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (من أراد أكلهما، فليطبخهما) . قال المسعودي [في " الإبانة " ق 80] : ومن الأعذار أيضًا: أن يكون عاريًا، أو يكون عليه قصاص، ويرجو العفو. [مسألة المشي بسكينة إلى الجماعة] ] : والمستحب لمن قصد الجماعة: أن يمشي إليها على سجية مشيه. وقال أبو إسحاق: إن خاف فوت التكبيرة الأولى. . أسرع؛ لما روي: أن ابن مسعود استدعى إلى الصلاة، وقال: (بادروا حدَّ الصلاة) ، يعني: التكبيرة الأولى. والصحيح هو الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أُقيمت الصلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة» .

فرع إذا لم يحضر الإمام

إذا ثبت هذا: فروى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صلَّى لله أربعين يومًا في جماعة، يدرك التكبيرة الأولى. . كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق» . واختلف أصحابنا: متى يكون مدركًا للتكبيرة الأولى؟ على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه متى أدركه في الركوع من الأولى. . فإنه يكون مدركًا لها، وإن أدركه بعد الركوع في الأولى. . لم يكن مدركًا لها. والثاني: ما لم يدرك القيام في الأولى. . لا يكون مدركًا لها. والثالث: إن كان مشتغلاً بأسباب الصلاة، مثل: الطهارة، وما أشبه ذلك، ثم أدرك الركوع في الأولى. . فإنه يكون مدركًا لها. وإن كان مشتغلاً بأمر الدنيا، فلا يكون مدركًا لها. . ما لم يدرك القيام فيها. [فرع إذا لم يحضر الإمام] فإن حضر المأمومون ولم يحضر الإمام، فإن كان قريبًا. . بُعث إليه، سواءٌ كان إمام المسجد، أو الإمام الأعظم، فإن جاء، وإلاَّ استخلف؛ لأن في تفويت الجماعة عليه تغييرًا لقلبه. وإن كان بعيدًا. . نظرت: فإن لم يخافوا فتنته. . قدموا واحدًا يصلَّي بهم، متى خافوا فوات أول الوقت. وإن خافوا إنكاره وفتنته. . قال الشافعي: (انتظروه لكيلا يفتاتوا عليه، إلا أن يخافوا فوات الوقت، فلا يجوز إخراج الصلاة عن وقتها) . والأصل فيه: ما روي:

مسألة تغيير نية الاقتداء

«أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى صلح بني عمرو بن عوف، فقدم الناس أبا بكر، فصلَّى بهم» . «وانصرف النبي في غزوة تبوك لحاجة، فقدَّم الناس عبد الرحمن بن عوفٍ، فصلَّى بهم، فرجع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلَّى خلفه ركعة، فلمَّا سلَّم. . قام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقضى ما عليه، فلمَّا سلَّم. . قال: أحسنتم، أو أصبتم» . قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وإن حضر الإمام وبعض المأمومين. . فإن الإمام يصلِّي بهم، ولا ينتظر اجتماع الباقين) وإنما كان كذلك؛ لأنَّ الصلاة في أوَّل الوقت مع الجماعة القليلة أفضل من فعلها في آخر الوقت مع الجماعة الكبيرة. [مسألة تغيير نية الاقتداء] إذا افتتح الرجل صلاة جماعةٍ ثم نقلها على صلاة جماعة أخرى، بأن يحرم بالصلاة خلف محدثٍ أو جُنبٍ لم يعلم بحاله حال الإحرام، فعلم الإمام بجنابته أو حدثه، فخرج وتطهر ورجع، فأحرم بالصلاة، وألحق المأموم صلاته بصلاته ثانيًا، أو جاء آخر وأحرم بالصلاة، فألحق المأموم صلاته بصلاته بعد علمه بجنابة الأول أو حدثه. . قال أصحابنا: فإن ذلك يجوز، بلا خلاف على المذهب، فتكون صلاة المأموم قد انعقدت أولاً جماعة بغير إمام، ثم صارت بعد ذلك جماعة بإمام. والدليل على ذلك ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افتتح الصلاة بأصحابه وهو جنبٌ، فلمَّا ذكر جنابته في أثناء الصلاة. . أشار إليهم كما أنتم، وخرج فاغتسل، ورجع

ورأسه يقطر ماءً، فأحرم بالصلاة بهم، وبنى القوم على إحرامهم الأول، وائتموا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .» . وكلك إذا أحدث الإمام، واستخلف غيره. وقلنا: يجوز؛ فإن المؤتم بالإمام الأول والثاني، نقل صلاته من جماعة بإمام، إلى جماعة بإمام، فيجوز ذلك؛ لما ذكرناه في الأول. وأما إذا نقل صلاة الانفراد إلى الجماعة، بأن أحرم بالصلاة منفردًا، ثم جاء آخر، وأحرم بالصلاة، وألحق الأول صلاته بصلاة الثاني. . فهل يصح؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصح، وبه قال مالك، وأبو حنيفة. ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبَّر الإمام. . فكبَّرُوا» . فأمر بالتكبير بعد تكبير الإمام، وهذا كبَّر قبل إمامه. ولأن هذا كان جائزًا في أول الإسلام - أن يصلي المسبوق ما فاته، ثم يدخل مع الإمام - فنسخ، فلا يجوز فعله. والثاني: يصحُّ، وهو الأصح؛ لـ: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمَّ الناس، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الصلاة، فقدمه أبو بكر، فصار أبو بكر مأمومًا بعد أن كان إمامًا) . ومعلومٌ: أن حكمه وهو إمامٌ مخالف لحكمه وهو مأمومٌ، فكذلك يجوز أن يكون منفردًا ثم يصير مأمومًا. واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان إذا لم يختلف ترتيب صلاة الإمام والمأموم، مثل: أن يُلحق صلاته بصلاة الإمام قبل أن يركع في الانفراد. فأما إذا ركع في الانفراد: فلا يصحُّ: قولاً واحدًا؛ لأنه لا يمكنه المتابعة مع اختلاف ترتيب الصلاتين. ومنهم من قال: القولان إذا اختلف ترتيب صلاتهما، بأن يركع في حال الانفراد. فأما إذا لم يركع في حال الانفراد: فيصح، قولاً واحدًا. ومنهم من قال: القولان في الحالتين، وهو الأصح؛ لأن الشافعي لم يفرق.

فرع عدم الاشتغال عند الإقامة بغير الفريضة

فإذا قلنا: يصحُّ، وكان المأموم قد صلَّى في حال الانفراد ركعة، أو أكثر. . فإن المأموم إذا بلغ إلى آخر صلاته، وقام الإمام. . لم يجز للمأموم أن يقوم معه؛ لأن ذلك ليس من صلاته، بل يجلس ويتشهد، ثم هو بالخيار: إن شاء طوَّل الدعاء، حتى يفرغ الإمام من صلاته ويتشهد ويسلم، ثم يسلم بعده، وإن شاء أخرج نفسه من صلاة الإمام وتشهد وسلَّم، ولا تبطل صلاته بذلك، لأن ذلك مفارقة للعذر، وقد أجاز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك في صلاة الخوف. إذا ثبت هذا: فإن الأولى للمأموم، إذا أراد أن يُلحق صلاته بصلاة الإمام. . أن يسلِّم من صلاة الانفراد، ويحرم بالصلاة خلف الإمام. وإن دخل في صلاة نافلة، ثم أقيمت صلاة جماعة، فإن لم يخش فوات الجماعة. . أتم النافلة، ثم دخل في الجماعة، وإن خشي فواتها. . قطع النافلة، ودخل في الجماعة؛ لأن صلاة الجماعة أفضل من النافلة. [فرع عدم الاشتغال عند الإقامة بغير الفريضة] ] : وإن حضر المأموم، وقد أُقيمت الصلاة. . لم يشتغل عنها بنافلة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أُقيمت الصلاة. . فلا صلاة إلا المكتوبة» . وإن أدرك الإمام في القيام، وخاف أن تفوته القراءة. . لم يشتغل عنها بدعاء الاستفتاح؛ لأنه نفل، فلا يشتغل به عن الفرض. وإن قرأ بعض الفاتحة، ثم ركع الإمام قبل أن يتم المأموم الفاتحة. . ففيه وجهان: أحدهما: أنه يركع، ويترك باقي الفاتحة، وهو ظاهر النَّص في " الأمِّ "؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا ركع. . فارْكعوا» . ولأنه لو دخل، فركع الإمام قبل أن يقرأ. . لزمته متابعته في الركوع، فكذلك هذا مثله.

فرع نسيان التسبيح في الركوع

والثاني: يلزمه أن يتم الفاتحة؛ لأنه لما لزمه بعض القراءة. . لزمه إتمامها. وإن أدركه راكعًا، فركع معه، واطمأن. . فقد أدرك هذه الركعة؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك الرُّكوع من الرَّكعة الأخيرة يوم الجمعة. . فليصف إليها أُخرى، ومن لم يدرك الرُّكوع. . فليصل الظهر أربعًا» . ولأنه قد أدرك معظم هذه الركعة، فاحتسب له بها. وإن رفع الإمام رأسه من الركوع، قبل أن يركع المأموم. . لم يحتسب له بهذه الركعة؛ لحديث أبي هريرة، لأنه لم يدرك معظمها. وإن هوى المأموم للركوع، فتحرك الإمام في الرفع من الركوع، فإن بلغ المأموم في ركوعه موضع الإجزاء في الركوع - وهو بقدر أن يقبض بيديه على ركبته- واطمأن قبل أن خرج الإمام عن حد الإجزاء في الركوع. . اعتد للمأموم بهذه الركعة؛ لأنه قد أدرك معه الركوع. وإن لم يبلغ المأموم أول حد الإجزاء، حتى خرج الإمام عن حد الركوع. . لم يعتد للمأموم بهذه الركعة، كما لو أدركه بعد الرفع من الركوع. [فرع نسيان التسبيح في الركوع] : [نسيان التسبيح في الركوع] : فإن ركع الإمام، فنسي التسبيح في الركوع، فرفع رأسه، ثم رجع إلى الركوع، ليُسبح. . فظاهر كلام الشافعي: أن صلاة الإمام لا تبطل بذلك. قال الربيع: وفيه قولٌ آخر: (أن صلاته تبطل) . قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:

فرع إدراك الإمام ساجدا

فحيث قال: (لا تبطل) أراد: إذا كان الإمام جاهلاً بتحريم ذلك؛ لأنه زاد في صلاته زيادة من جنسها جاهلاً. وحيث قال: (تبطل) أراد إذا كان عالمًا بتحريم ذلك. فإن أدركه المأموم في هذا الركوع الثاني، في موضع لا تبطل فيه صلاة الإمام. . لم يحتسب له بهذه الركعة. ومن أصحابنا من قال: يحتسب له بهذه الركعة، كما لو أدرك معه الركعة الخامسة. والمذهب الأول؛ لأن هذا الركوع لا يحتسب للإمام به، ويخالف إذا أدركه في الخامسة؛ لأن المأموم قد أتى بأفعال الركعة كلَّها، وها هنا لم يأت بكمال الركعة، والذي أدركه مع الإمام، فليس من صلب صلاته، فوزان هذا من مسألتنا: أن يدركه المأموم في الركوع في الخامسة، فإنه لا يحتسب له بهذه الركعة أيضًا، وهذا كما نقول فيمَنْ صلَّى خلف جُنُبٍ، لم يعلم بحاله، فإن صلاة المأموم تجزئه؛ لأنه قد أتى بها كاملة، ولو أدرك الجنب في الركوع. . لم يعتد له بهذه الركعة؛ لأن القراءة إنما تسقط بفعل إمام صحيح. [فرع إدراك الإمام ساجدًا] وإن أدرك الإمام ساجدًا. . فإنه يكبر للافتتاح قائمًا، ثم يخرُّ على السجود من غير تكبير. ومن أصحابنا من قال: يخرُّ بتكبير، كما لو أدركه راكعًا. والمذهب الأول؛ لأن هذا ليس بسجود معتد به للمأموم، بخلاف ما لو أدركه راكعًا. وإن أدرك مع الإمام السجدة الأخيرة. . لم يعد الأولى. قال في "الفروع": وقد قيل: يعيد الأولى. وليس بشيء.

فرع حكم ما أدركه المسبوق

وإن أدركه قاعدًا للتشهد. . فإنه يخرُّ إلى الجلوس من غير تكبير، وجهًا واحدًا، وقد نص الشافعي عليه في " البويطي ". والفرق بينه وبين الركوع والسجود: أن الجلوس عن القيام في الصلاة لم يشرع بحال، فلم يكبر له بخلاف الركوع والسجود. وهل يتشهد مع الإمام؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يتشهد معه) كما يقعد، وإن لم يكن موضع قعوده. والثاني: لا يتشهد، لأن هذا ليس بموضع تشهده. فإذا قلنا: يتشهد. . فإنه لا يكون واجبًا عليه؛ لأنه إنما يلزمه متابعة الإمام في الأفعال، دون الأذكار. فإن كان هذا في التشهد الأول. . فإن الإمام إذا قام. . فإن المأموم يقوم معه بتكبير؛ لأنه يقوم على ابتداء ركعة. وإن كان أدركه في التشهد الأخير، فسلَّم الإمام. . فإن المسبوق يقوم من غير تكبير، لأن هذا ليس بابتداء ركعةٍ له، وإنما هو أثناء ركعةٍ، وليس له إمامٌ مُكبرٌ، فيتبعه، وإذا قام، فإنه يبتدئ بالقراءة، ولا يُسن له الابتداء بدعاء الاستفتاح؛ لأن دعاء الاستفتاح قد فات محله؛ لأنه إنما يؤتى به عقيب تكبيرة الافتتاح. [فرع حكم ما أدركه المسبوق] وما أدرك المأموم مع الإمام، فهو أول صلاة المأموم فعلاً وحُكمًا، وبه قال عُمر وعليٌّ، وأبو الدرداء، ومن التابعين: ابن المسيب، والحسن

فرع تعداد الجماعة في المسجد

البصري، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وإسحاق، ومحمد بن الحسن. وقال مالك، وأبو حنيفة، والثوري، وأبو يوسف: (ما أدركه مع الإمام فهو آخر صلاته، وما يقضيه بعد سلام الإمام هو أول صلاته) . وأبو حنيفة يقول: (هو آخر صلاته حُكمًا، وأوَّلها فعلاً، وما يقضيه بعد سلام الإمام، هو أول صلاته حكمًا، وآخرها فعلاً) . وحجَّتُهم: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا» . ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أدركتم. . فصلُّوا، وما فاتكم. . فأتموا» . وحقيقة الإتمام هو: البناء على ابتداء تقدم. وأما قوله "فاقضوا": فلا حُجَّة فيه؛ لأنَّ القضاء يُستعمل في ابتداء الفعل، ولهذا قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 103] [النساء: 103] ، أي: فإذا فعلتم، فيكون معناه: فاقضوا آخر صلاتكم. فعلى هذا: إذا أدرك معه الأخيرة من الصبح. . أعاد القنوت في الركعة الثانية. [فرع تعداد الجماعة في المسجد] إذا كان للمسجد إمامٌ راتبٌ، مثل مساجد المحال والدُّروب، فأُقيمت فيه الجماعة. . كُره إقامة الجماعة فيه مرة أخرى. قال الشافعي: (لأن السلف من الصحابة والتابعين لم يفعلوا هذا، بل قد عابه بعضهم) ، ولأنه قد يكون بين الإمام، وبعض الجيران شيءٌ، فيقصد إلى أن يصلِّي بعده جماعة في ذلك المسجد مغايظة للإمام، فيؤدي ذلك إلى تفريق كلمتهم، وتأكد عداوتهم. وحكى في " الإبانة " [ق 79] وجهًا آخر: أنه يُنْدَب إلى إقامة الجماعة بكل حال.

مسألة استحباب إعادة الصلاة

وبه قال عطاء، والحسن، والنخعي، وقتادة، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، والمشهور هو الأول. وأما إذا كان المسجد ينتابه الناس من كل جهة، مثل مساجد الأسواق، والجوامع.. فإنه لا تكره إقامة الجماعة فيه مرارًا؛ لأنه لا يؤدي إلى تفريق الكلمة، وتأكيد العداوة. ويستحب لمن صلَّى ثم رأى رجلاً يصلِّي وحده أن يصلِّي معه؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبصر رجلاً يصلِّي وحده، فقال: «ألا رجلٌ يتصدق عليه، فيصلي معه» . [مسألة استحباب إعادة الصلاة] ] : إذا صلَّى صلاة، ثم أدركها في جماعة.. فالمستحب: أن يعيدها مع الجماعة، سواءٌ كان قد صلَّى الأولى منفردًا، أو في جماعة. وبه قال عليٌّ، وحذيفة، وأنس بن مالك، إلا أن الصحابة قالوا في المغرب: (إذا أعادها، وسلم الإمام.. أضاف إليها أخرى وسلم) . وبه قال محمد. وعندنا: لا يضيف إليها. ومن أصحابنا من قال: يعيدها إذا كان قد صلاَّها منفردًا، وإن كان صلاَّها في جماعة. . لم يعدها؛ لأن فضيلة الجماعة قد حازها. ومن أصحابنا من قال: يعيد الصلوات كلَّها، إلا الصبح والعصر، فإنه لا يعيدهما؛ لأنه نُهي عن النافلة بعدهما. وبه قال الحسن البصري.

وذهب آخرون إلى أنه يعيد كل صلاة صلاها، إلا المغرب، فإنه لا يعيدها؛ لئلا تصير شفعًا. ذهب إليه ابن مسعود، ومن الفقهاء: مالك، والأوزاعي، والثوري. وقال أبو حنيفة: (لا يعيد إلا الظهر والعشاء) . دليلنا: ما روى يزيد بن الأسود العامري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى صلاة الصبح، فلما فرغ من صلاته.. رأى رجلين في آخر القوم لم يُصليا معه، فقال: "عليَّ بهما"، فأتي بهما ترعد فرائصهما، فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟ "، فقالا: يا رسول الله، قد كنا صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة.. فصليا معهم؛ فإنها لكما نافلة» . ولم يفرق بين الصلوات، ولا بين أن يصلي وحدهُ، أو في جماعة. إذا ثبت هذا: فما ينوي الثانية؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق 79] : أحدهما: ينويها فرضًا. والثاني: أنه بالخيار بين أن ينويها فرضًا، وبين أن يطلق. وبم يسقط عنه الفرض؟ فيه قولان: [الأول] : قال في الجديد: (يسقط عنه الفرض بالأولى) . وبه قال أبو حنيفة. و [الثاني] : قال في القديم: (يحتسب الله له بأيَّتهما شاء؛ لأنه إنما استحب له إعادة الفريضة؛ ليكملها بالجماعة) . فلو كانت الثانية نافلة.. لم يستحب له الجماعة. وقال الشعبي، والأوزاعي: (الجميع فرضه) .

مسألة ما يستحب للإمام

والأول أصحُّ؛ لحديث يزيد بن الأسود، ولأنه لا يجب عليه الإعادة مع الجماعة، فدلَّ على أن الفرض قد سقط عنه بفعل الأولى. [مسألة ما يستحب للإمام] ويستحب للإمام ألا يكبر حتى يلتفت يمينًا وشمالاً، ويقول: سوُّوا صفوفكم، لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: «سوُّوا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة» . وروي عن أبي مسعود البدري: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: استووا، ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم» . قال ابن الصباغ: ومعناه: إذا اختلف القوم، فتقدم بعضهم على بعض.. تغير قلب بضعهم على بعض، وذهب عن الصلاة. وروي: (أنه كان لعمر قومٌ يأمرهم بتسوية الصفوف، فإذا رجعوا. . كبَّر) . ويستحب له أن يخفِّف في القراءة والأذكار،؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلَّى أحدكم بالناس.. فليخفف، فإن فيهم السقيم، والضعيف، وذا الحاجة، فإذا صلَّى لنفسه.. فليطول ما شاء»

فرع تطويل الإمام للحوق المصلين

فإن صلَّى وحده.. طوَّل ما شاء؛ للخبر، وكذلك إذا صلَّى بقوم، يعلم أنهم يؤثرون التطويل.. فلا بأس بالتطويل. [فرع تطويل الإمام للحوق المصلين] إذا كان يصلِّي في مسجد، جرت العادة بأن الجماعة إذا أقيمت فيه. . أتاه الناس فوجٌ بعد فوج، كمساجد الأسواق، فأراد الإمام أن يطول فيه الصلاة لكي تكثر الجماعة.. قال أصحابنا: فلا خلاف على المذهب أن هذا الانتظار مكروه؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أمَّ أحدكم. . فليُخفف» . وهكذا: إذا طوَّل الإمام الصلاة؛ لحضور رجل له محل، لِدِينه، أو علمه، أو دنياه. . فلا خلاف أن هذا الانتظار مكروهٌ، لما ذكرناه في الأول. فأما إذا ركع الإمام، فأحس في ركوعه برجل دخل المسجد، يريد الصلاة. . فهل ينتظره؟ فيه قولان: أحدهما: ينتظره، وبه قال أبو حنيفة. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصحُّ؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي، وقد أجلس الحسن بن عليٍّ بين يديه، فلمَّا سجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. ركب الحسن ظهره، فانتظره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى نزل، فلمَّا فرغ من صلاته.. قيل له: لم أطلت السُّجود؟ فقال: إن ابني كان ارْتحلني، فأطلت السُّجود؛ ليقضي وطره» .

فإذا كان هذا الانتظار لغير من هو في الصلاة، فلمن يريد الصلاة أوْلى. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتل الحية والعقرب في الصلاة، ومعلومٌ: أن حال من يقتل الحيَّة والعقرب مشغول عن الصلاة، فلأن ينتظر رجلاً مسلمًا؛ ليلحق معه الصلاة أولى. والثاني: لا ينتظره، قال في "الفروع": وهو الأصحُّ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمَّ أحدكم فليخف» . ولم يفرق. ولأن كل من لم ينتظره في غير الركوع، لم ينتظره في الركوع، كما لو أحس به قبل أن يدخل المسجد. ولأن الجماعة كلّما كثرت كان أفضل، فلمَّا لم يكن للإمام أن يطول لتكثر الجماعة فالرجل الواحد أولى ألا يطوَّل له. ولأنه إذا لم ينتظره، وفوت عليه الركعة كان ذلك زجرًا له، وتأديبًا له عن التأخر عن الجماعة. ومن قال بهذا: قال: إنما انتظر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزول الحسن؛ لأنه خاف سقوطه. ومن أصحابنا من قال: ينتظره يسيرا، ولا ينتظره كثيرا. ومن أصحابنا من قال: إن كان هذا الداخل له عادة بحضور المسجد وملازمة الجماعة جاز انتظاره، وإن كان غريبًا لم يجز. وحكى صاحب " الإفصاح ": أن مِنْ أصحابنا مَنْ قال: إن كان الانتظار لا يضرُّ بالمأمومين، ولا تدخل عليهم مشقة، كانتظار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنزول الحسن عن ظهره، وكرفعه لأمامة بنت أبي العاص، ووضعه؛ جاز قولاً واحدًا. وإن كان ذلك ممَّا يطوِّل ففيه قولان. واختلف أصحابنا في موضع القولين:

مسألة سبق الإمام

فقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: لا يحرم هذا الانتظار، ولا يستحب ولا تبطل به الصلاة، وإنما القولان في الكراهة. وقال القاضي أبو الطيب: القولان في الاستحباب لا في الكراهة. وقال أبو إسحاق المروزي: فيه قولان: أحدهما: يكره. والثاني: يستحب. وهذه طريقة الشيخ أبي إسحاق في " المهذب ". وحكى صاحب " الإبانة " [ق \ 79] : أن من أصحابنا من قال: القولان في البطلان. وإن أحس به، وهو في التشهد قبل السلام بجزءٍ فهل ينتظره؟ فيه قولان؛ لأنه يدرك الجماعة. وإن أحس به في غير ذلك من أحوال الصلاة لم ينتظره، قولاً واحدًا؛ لأنه إن كان قبل الركوع فهو يدرك الركعة في الركوع، وإن كان بعد الركوع، فقد فاتته الركعة، فلا معنى لانتظاره. [مسألة سبق الإمام] ] : ينبغي للمأموم ألا يتقدم الإمام بشيء من أفعال الصلاة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد، فإذا سجد، فاسجدوا، ولا ترفعوا قبله» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أما يخشى أحدكم الذي يرفع رأسه والإمام ساجد أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو صورته صورة حمار» .

فإن كبَّر للإحرام معه أو قبله، ونوى الاقتداء به لم تنعقد صلاته؛ لأنه نوى الاقتداء بغير مُصلٍّ، مع العلم به، فلم تصحَّ صلاته، كما لو نوى الاقتداء بمحدث، مع العلم بحاله. فإن سبقه بركن، بأن ركع قبله، أو سجد قبله، فقد قال: بعض أصحابنا: يستحب له أن يعود إلى القيام؛ ليركع مع الإمام من قيام. وحكى الشيخ أبو حامد: أن الشافعي قال: (يلزمه أن يعود إلى متابعته؛ ليكون مُتَّبعًا لإمامه، فإن لم يفعل لم تبطل صلاته؛ لأنه يسير) . فإن ركع قبل الإمام، أو سجد عامدًا، فهل تبطل صلاته؟ فيه وجهان: [الأول] : قال الشيخ أبو حامد: لا تبطل؛ لأن الشافعي لم يفرق بين السهو والعمد، وعلل: بأنه يسير. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: تبطل؛ لأنه فارق الإمام بغير عذر، فإن ركع قبل الإمام، فلمَّا أراد الإمام أن يركع رفع المأموم رأسه، فلمَّا أراد الأمام أن يرفع رأسه سجد المأموم، فقد سبقه بركنين، فإن فعل هذا عامدًا بطلت صلاته؛ لأن ذلك مفارقةٌ كثيرة. وإن فعل ذلك جهلاً لم تبطل صلاته، ولا تحتسب له بهذه الركعة؛ لأنه لم يتبع الإمام معظمها. فإن ركع قبل الإمام، ورفع رأسه، وأدركه الإمام في حال الرفع فهل تبطل صلاته؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 79] . وإن ركع قبل الإمام، ثم وقف حتى ركع الإمام، ثم رفع رأسه من الركوع قبل الإمام، ثم وقف حتى رفع الإمام رأسه، ثم سجد قبل الإمام، وأدركه الإمام، ثم رفع

فرع تسبيح المقتدي

رأسه قبل الإمام، وفعل ذلك في صلاته كلها، قال الشيخ أبو حامد: بطلت صلاته. وإن سجد قبل الإمام سجدتين ففيه وجهان: أحدهما: تبطل صلاته أيضًا؛ لأنه سبقه بركنين، وهما السجدتان، والجلسة بينهما. والثاني: لا تبطل؛ لأن السجدتين والجلسة بينهما، ركن واحد. [فرع تسبيح المقتدي] وإن سها الإمام في فعل سبح له المأموم، فإن وقع له السهو عمل بقوله. وإن لم يقع له أنه سها فاختلف أصحابنا فيه: فقال أكثرهم: يعمل على يقين نفسه، ولا يرجع إلى قولهم؛ لأن من شكَّ في فعل نفسه لم يرجع إلى قول غيره، كالحاكم إذا نسي حُكمًا حكم به، فشهد شاهدان عليه أنه حكم به، وهو لا يذكره. وقال أبو عليٍّ في " الإفصاح ": إن كان خلف الإمام جماعة عظيمة، بحيث يعلم أن تلك الجماعة لا يجوز اجتماعهم على الخطأ رجع إليهم، وإن كانت قليلة عمل الإمام فيما يثبت عنده، ولم يلتفت إليهم. ووجه قوله: حديث ذي اليدين، الذي ذكرناه فيما يفسد الصلاة. [مسألة مفارقة الإمام] ] : وإن نوى المأموم مفارقة الإمام، وأتم لنفسه، فإن كان لعذر، مثل: أن ترحل القافلة، ويخشى إن شغل بالصلاة مع الإمام فاتته القافلة، أو وقع الحريق في ماله، أو خاف على مريض له منزول به الموت جاز له ذلك، ولا تبطل به صلاته؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرَّق الناس بذات الرِّقاع فرقتين، فصلَّى بفرقة ركعة، ثم أتموا لأنفسهم» . وهذه مفارقة لعذر.

وإن فارقه لغير عذر، فاختلف أصحابنا فيه: فقال أكثرهم: فيه قولان: أحدهما: تبطل صلاته، وبه قال أبو حنيفة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبَّر فكبَّروا، وإذا ركع فارْكعوا» . فأمر بمتابعة الإمام، فمن خالفه فقد دخل تحت النهي، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أَمَا يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام، أن يحول الله رأسه رأس حمار» فلو كان هذا جائزًا، لما توعده. ولأنهما صلاتان مختلفتان في الحكم، فلا يجوز أن ينتقل من إحداهما إلى الأخرى، كالظهر والعصر، وفيه احترازٌ ممَّن انتقل من القصر إلى التمام، أو ممَّن خرج عنه وقت الجمعة، فأتم الظهر. والقول الثاني: لا تبطل صلاته، وهو الأصحُّ؛ لما روى جابر: «أن معاذًا كان يُصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العِشاء، ثم يأتي قومه في بني سلمة، فيُصليها بهم، فلمَّا كان ذات ليلة أخَّر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العِشَاء، فصلَّى معاذ معه، ثم أتى قومه، وافتتح الصلاة بسورة البقرة، فتنحى رجل من خلفه، وصلَّى لنفسه، فقالوا له: نافقت، فقال: لآتين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتاه، فأخبره بذلك، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أفتَّانٌ أنت معاذ» ولم يأمر الذي انفرد عنه بالإعادة. قال الشيخ أبو حامد: وهذا انفراد من غير عذر؛ لأنه لم يكن مسافرًا، ولا يخشى على ماله، وإنما هرب من تطويله. ولأن الانفراد عن الإمام، لو كان يبطل الصلاة لأبطلها وإن كان لعذر، كالأكل والشرب في الصوم.

وقال أبو سعيد الإصطخري: لا تبطل صلاته، قولاً واحدًا، ولا يُعرف القول الآخر للشافعي، وإنما يكره له ذلك؛ لحديث معاذ. وأما الشيخ أبو إسحاق: فذكر أن انفراد الأعرابي عن معاذ لعذر.

باب صفة الأئمة

[باب صفة الأئمة] إذا كان الصبي ابن سبع سنين، أو ثمان سنين، وهو مميز من أهل الصلاة؛ صحَّت إمامته للبالغين في الفرض والنفل. وهل يصحُّ أن يكون إمامًا في الجمعة؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصحُّ؛ لأن الإمام شرط في الجمعة، وصلاة الصبي نافلة. والثاني: يصحُّ؛ لأن من صحَّ أن يكون إماما في غير الجمعة؛ صحَّ أن يكون إمامًا في الجمعة كالبالغ، هذا مذهبنا. وقال مالك: (يجوز أن يكون إمامًا في النفل دون الفرض) . وعن أبي حنيفة روايتان: إحداهما: (أن الصبي لا صلاة له، وإنما يؤمر بفعلها؛ لكي يتعلمها، ويتمرَّن عليها، فإذا فعلها؛ كانت تشبه الصلاة) . فعلى هذه الرواية: لا يكون إمامًا لغيره. والرواية الثانية: (أن صلاة الصبي صحيحة، وهي نافلة) . فعلى هذه الرواية: يجوز أن يكون إمامًا في النفل دون الفرض. دليلنا: ما روي «عن عمرو بن سلمة: أنه قال: كنت غلامًا قد حفظت قرآنًا كثيرًا، فانطلق بي أبي وافدًا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفر من قومه، فعلَّمهم الصلاة، وقال: "يؤمُّكم أقرؤكم لكتاب الله"، وكنت أُصلِّي بهم، وعلى جنائزهم، وأنا ابن سبع سنين، أو ثمان سنين» .

مسألة إمامة من ليس أهلا لها

فموضع الدليل من هذا: أن القوم إنما قدموا به على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ليعرفوه أنه أقرؤهم، فلما عرف ذلك قال: «يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله» ، ولا أقرأ هناك غيره، فكأنه قال: يؤمكم هذا. وروي عن عائشة أنها قالت: "كنا نأخذ الصبيان من الكتاب، ليصلوا بنا قيام رمضان ". [مسألة إمامة من ليس أهلًا لها] ] : ولا تصح إمامة الكافر؛ لأنه ليس من أهل الصلاة، فإن صلى الكافر، لم يحكم بإسلامه بنفس الصلاة. وقال القاضي أبو الطيب: إذا صلى الحربي في دار الحرب، حكم بإسلامه. وقال المحاملي: يحكم بإسلامه في الظاهر، ولكن لا يلزمه حكم الإسلام بذلك. والمذهب الأول: وقال أبو حنيفة: "إن صلى منفردًا لم يحكم بإسلامه، وإن صلى في جماعة؛ استدللنا بذلك على إسلامه". وقال محمد بن الحسن: إذا صلى في المسجد حكم بإسلامه، سواء صلى في جماعة أو منفردًا، وكذلك إذا أذن حيث يؤذن المسلمون، أو حج، أو طاف فإنه يحكم بإسلامه. وقال أحمد: "يحكم بإسلامه بالصلاة بكل حال". دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن

محمدًا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» . فمن قال: يحرم قتاله بالصلاة فقد خالف ظاهر الخبر. وروي: «أن رجلًا مر بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقسم الغنيمة، فقال: يا محمد، اعدل؛ فإنك لم تعدل. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ويلك، إذا لم أعدل، فمن يعدل"، ثم مر الرجل، فوجه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر وراءه ليقتله، فوجده يصلي، فقال: يا رسول الله، وجدته يصلي، فوجه عمر ليقتله، فوجده يصلي، فقال: يا رسول الله، وجدته يصلي، فوجه بعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال: "إنك لن تدركه"، فذهب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلم يجده» . فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتله؛ لأنه نسبه إلى الجور، وذلك يوجب كفره، وقد علم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخبر أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه يصلي، فدل على أنه لا يصير مسلمًا بنفس الصلاة. ولأنها عبادة من شرطها تقديم الإيمان، فوجب ألا يكون فعلها دلالة على الإسلام، كصوم رمضان، وزكاة المال، وأما إذا أتى الكافر بالشهادتين: فإن أتى بهما على سبيل الحكاية، مثل: أن يقول: سمعت أن فلانًا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، لم يكن هذا إسلامًا منه، بلا خلاف بين أصحابنا؛ لأنه حكى ذلك عن غيره، كما أن من حكى الكفر لا يكون كافرًا. وإن أتى بهما على وجه الإجابة لاستدعاء غيره، بأن قيل له: قل: أشهد أن لا إله

فرع صلاة كافر بمسلم

إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فقال ذلك، وبرئ من كل دين خالف الإسلام حكم بإسلامه، بلا خلاف. وإن أتى بالشهادتين من غير استدعاء، أو أتى بهما في الصلاة، أو في الأذان ففيه وجهان، ذكرناهما في الأذان: أحدهما: يحكم بإسلامه، وهو قول أبي إسحاق، وهو الصحيح؛ لأنه قد أتى بالشهادتين على سبيل الحكاية، فهو كما لو دعي إليهما فأجاب. والثاني: لا يحكم بإسلامه؛ لأنه متردد بين: أن يكون أراد به الإخبار عن غيره، أو الإسلام. وروي: (أن أبا محذورة، وأبا سامعة كانا مؤذنين على سبيل الحكاية قبل إسلامهما) . [فرع صلاة كافر بمسلم] ] : وإذا صلى الكافر بالمسلمين عزر؛ لأنه أفسد على المسلمين صلاتهم، واستهزأ بدينهم. وحكي عن الأوزاعي: أنه قال: (يعاقب) ، ولعله أراد: التعزير. وهل تجب الإعادة على من صلى خلفه؟ ينظر فيه: فإن علم بحاله قبل الصلاة لزمته الإعادة؛ لأنه علق صلاته بصلاة باطلة مع العلم بها. وإن لم يعلم بحاله نظرت: فإن كان كافرًا متظاهرًا بكفره، كاليهودي، والنصراني، والمجوسي لزمته الإعادة؛ لثلاثة معان:

فرع الكافر يسلم ويؤم الناس ثم يرتد

أحدها: أنه قد ترك الاستدلال عليه بالعلم الظاهر، وهو الزنار، والغيار، فكان مفرطًا. والثاني: أن العادة جرت أن الكافر لا يحسن أن يصلي كصلاة المسلمين، إذا لم يتعودها، فأما إذا لم ينبه المسلم لذلك: كان مفرطًا. والثالث قاله الشافعي: (أنه ائتم بمن لا يجوز له الائتمام به بحال، فلزمته الإعادة، كما لو صلى خلف امرأة) . وإن كان كافرًا مستترًا بكفره، كالزنديق والملحد ففيه وجهان: أحدهما وهو المنصوص: (أن عليه الإعادة) ؛ لأنه ائتم بمن لا يجوز الائتمام به بحال. والثاني: لا إعادة عليه؛ لأنه لم يفرط، فهو كما لو صلى خلف جنب. [فرع الكافر يسلم ويؤم الناس ثم يرتد] ] : وإذا أسلم الكافر، وصلى خلفه رجل، فلما فرغ من الصلاة قال الإمام: قد كنت جحدت الإسلام، وارتددت؛ قال الطبري: فإن صلاة المؤتم به لا تبطل؛ لأنه إذا عرف منه الإسلام، لم يزل عن حكمه، إلا بأن يسمع منه الجحود، وقد سمع منه ذلك بعد الصلاة، فلم يحكم ببطلان الصلاة. فإن كان له حال ردة، وحال إسلام، فصلى خلفه، ولم يدر في أي حالتيه صلى؟ قال الشافعي: (أحببت له أن يعيد، فإن لم يفعل لم يجب؛ لأن الأصل هو الإسلام) . وإن صلى خلف غريب، لا يدري أمسلم هو، أم كافر؟ لم تكن عليه الإعادة؛ لأن الظاهر من أمر من يصلي، أنه مسلم.

فرع الصلاة خلف الفساق

[فرع الصلاة خلف الفساق] ] : وأما الصلاة خلف الفساق والمبتدعين: فقال الشيخ أبو حامد: المخالفون لنا على ثلاثة أضرب: [الأول] : قوم نخطؤهم ولا نكفرهم، ولا نفسقهم، كأصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، ومن أشبههم، فهؤلاء يجوز الائتمام بهم ولا يكره، إلا أن يعلم أنهم تركوا شيئًا من فروض الطهارة، والصلاة، مثل: ترتيب الطهارة، أو النية، أو قراءة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أو غير ذلك، فلا تصح الصلاة خلفهم؛ لأنهم إذا أتوا بواجبات الطهارة والصلاة لم يؤثر اعتقادهم في كون هذه الأشياء غير واجبة في الصلاة، ولا يأثمون بذلك. وذكر صاحب " الإبانة " في الائتمام بهم ثلاثة أوجه: أحدها: هذا؛ لما ذكرناه. والوجه الثاني حكاه في " النهاية "، عن الإمام أبي إسحاق الإسفراييني: أنه لا يصح الائتمام بهم، وإن أتوا بجميع الواجبات في الطهارة والصلاة عندنا؛ لأنهم يعتقدون ذلك نافلة. والثالث وهو قول القفال: أنه يصح الائتمام بهم، وإن لم يأتوا بشيء من الواجبات عندنا؛ لأنه يحكم بصحة صلاتهم في الشرع، بدليل أنه لا يباح قتلهم، فلو لم يحكم بصحة صلاتهم؛ لوجب قتلهم. الضرب الثاني: من نكفرهم، وهو من يقول بخلق القرآن، وقد نص الشافعي على كفر من يقول بخلق القرآن، وكذلك الغلاة من الرافضة الذين يقولون: إن عليًّا كان نبيًّا، وإن جبريل غلط.

والجهمية والقدرية كفار، فهؤلاء لا يصح الائتمام بهم. قيل للشيخ أبي حامد: فمن ينفي الرؤية يحكم بكفره؟ فقال: لا ينفي الرؤية إلا معتزلي. الضرب الثالث: قوم نفسقهم ولا نكفرهم، وهم الذين يسبون السلف ويكفرونهم، وكذلك من يشرب الخمر ويزني، ويأخذ الأموال غصبًا؛ فتكره الصلاة خلفهم، وإن صلي خلفهم صحت الصلاة. وقال مالك: من فسق بغير تأويل: كشارب الخمر، والزاني لا تصح الصلاة خلفه، ومن فسق بتأويل كمن يسب السلف ويكفرهم تصح الصلاة خلفه) . دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: «صلوا خلف كل بر وفاجر» ، و (الفاجر) : هو الفاسق.

فرع إمامة المرأة

ولما روي: (أن ابن عمر وأنسًا كانا يصليان خلف الحجاج) ولا نشك في فسقه. [فرع إمامة المرأة] ] : ولا يجوز أن تكون المرأة إمامًا للرجل ولا للخنثى، وبه قال عامة الفقهاء. وقال أبو ثور والمزني، ومحمد بن جرير الطبري: (يجوز أن تكون إمامًا للرجل في التراويح، إذا لم يكن قارئ غيرها، وتقف خلف الرجال) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أخروهن من حيث أخرهن الله» ، فلو قدمناهن فعلنا ما نهينا عنه. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تؤم امرأة رجلًا» . فإن صلى خلفها، ولم يعلم بحالها ثم علم؛ لزمته الإعادة؛ لأن عليها أمارة تدل على كونها امرأة؛ فلم يعذر في الائتمام بها.

فرع إمامة المرأة بالخنثى

[فرع إمامة المرأة بالخنثى] ] : ويجوز أن تأتم المرأة بالخنثى المشكل؛ لأنه لا بد أن يكون رجلًا أو امرأة، وصلاة المرأة خلفهما صحيحة، ولا يجوز أن يكون الخنثى إمامًا للرجل، ولا للخنثى؛ لجواز أن يكون الإمام امرأة، والمأموم رجلًا. فإن صلى الخنثى خلف امرأة؛ فإنا نأمره بالإعادة، فإن لم يعد، حتى بان أنه امرأة، فهل تلزمه الإعادة؟ فيه قولان، حكاهما أبو علي السنجي. وكذلك إذا صلى الرجل خلف الخنثى، أمر الرجل بالإعادة، فإن لم يعد، حتى بان الخنثى رجلًا، فهل يلزم المؤتم به الإعادة؟ على القولين المحكيين. وهكذا: إذا صلى الخنثى خلف الخنثى، أمر المأموم بالإعادة فلو لم يعد، حتى بان أنه امرأة، أو بان أن الإمام رجل، أو بانا امرأتين، أو رجلين؛ فهل يلزم المأموم الإعادة؟ على القولين المحكيين على أبي علي السنجي: أحدهما: تلزمهم الإعادة، وهو الصحيح؛ لأنهم استفتحوا الصلاة، وهو شاكون في صحتها، فلم تصح بالتبين، كما لو دخل في الصلاة، وهو شاك بدخول الوقت، وبان أن الوقت كان قد دخل. والثاني: لا تلزمهم الإعادة؛ لأنا تبينا أنهم صلوا خلف من تصح صلاتهم خلفه. قال أصحابنا: ولهذه المسألة نظائر: منها: إذا باع الرجل مال أبيه، وهو يظن أنه حي، فبان أنه كان ميتًا؛ فهل يصح البيع؟ فيه قولان. ومنها: إذا وكل وكيلًا في ابتياع شيء، فباعه على توهم أنه لم يكن اشتراه الوكيل له، وكان قد اشتراه؛ فهل يصح بيعه؟ فيه قولان.

فرع إمامة المجنون

وكذلك القولان، لو كان عبدًا فأعتقه. وأصلها: إذا كاتب عبده كتابة فاسدة، ولم يعلم بفسادها، ثم باعه، أو وصى برقبته فهل يصح؟ فيه قولان، نص عليهما في " مختصر المزني ". [فرع إمامة المجنون] ] : ولا تصح الصلاة خلف المجنون؛ لأنه ليس من أهل الصلاة، وإن كان له حال إفاقة، وحال جنون، فصلى خلفه، ولم يعلم في أي حالتيه صلى، قال صاحب " الفروع ": فالصلاة جائزة قياسًا على ما قاله الشافعي في المرتد، قال: ويحتمل ألا تصح الصلاة؛ لأن المجنون يوقف عليه بأحواله في الأغلب. [مسألة إمامة الجنب] ] : ولا تصح الصلاة خلف المحدث والجنب؛ لأنه ليس من أهل الصلاة، فإن صلى خلفه، ولم يعلم بحاله، ثم علم، فإن كان في غير الجمعة لم تلزمه الإعادة، وبه قال عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، ومن التابعين: الحسن،

والنخعي، وابن جبير، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وأحمد، وأبو ثور. وقال الشعبي، وابن سيرين، وحماد، وأبو حنيفة، وأصحابه: (لا تصح صلاة المؤتم به بكل حال) . وقال مالك: (إن كان الإمام عالمًا بحدث نفسه أو جنايته؛ لم تصح صلاة المؤتم به، وإن كان غير عالم به صحت) . وحكى ابن القاص، وصاحب " الفروع ": أن هذا قول آخر للشافعي، وليس بمشهور. وقال عطاء: إن كان حدث الإمام جنابة لم تصح صلاة المؤتم به، وإن كان حدثه غير جنابة، فإن علم به في الوقت أعاد، وإن خرج الوقت لم يعد. ودليلنا: ما روى أبو بكرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل في صلاة الفجر، وأحرم الناس خلفه، فذكر أنه جنب، فأومأ إليهم أن مكانكم، ثم خرج، واغتسل، ورجع ورأسه يقطر ماء، وأحرم بالصلاة» . ولم يأمرهم بالإعادة، وإنما أومأ إليهم؛ لأن الكلام إلى المصلي يكره. وكذلك روي عن أبي بكر وعمر: أنهما فعلا مثل ذلك.

وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سها الإمام، فصلى بقوم، وهو جنب، فقد مضت صلاتهم، ثم يغتسل هو ويعيد» . وإن كان هو على غير وضوء فمثل ذلك. ولأنه ليس على حدثه أمارة تدل عليه، فعذر في الصلاة خلفه. فإن كان هذا في صلاة الجمعة، فإن كان الإمام تمام الأربعين، لم تصح صلاتهم؛ لأنه فقد شرط الجمعة، وهو العدد. وإن كان زائدًا على الأربعين فحكى صاحب " التلخيص " فيه قولين، ومن أصحابنا من يحكيهما وجهين: أحدهما: لا تصح؛ لأن الإمام شرط فيها، ولم يوجد. والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأن العدد قد وجد، وحدث الإمام لا يمنع صحة الجماعة فيها، كما لا يمنع في سائر الصلوات. إذا ثبت هذا: وعلم المأموم بجناية الإمام، أو حدثه نوى مفارقته، وأتم لنفسه، وإن لم ينو مفارقته بطلت صلاته؛ لأنه يعتقد أنه في غير صلاة، والائتمام بغير مصل لا يصح. وإن علم الإمام بجنابة نفسه أو حدثه، فإن كان لم يمض من عدد الركعات شيء، وكان موضع طهارته قريبًا أومأ إليهم: كما أنتم، ومضى وتطهر ورجع، وأحرم بالصلاة وتبعوه، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإن كان موضع طهارته بعيدًا، فقد قال الشافعي في القديم: (يصلون لأنفسهم) .

فرع إمامة المتيمم

فمن أصحابنا من قال: إنما ذلك في القديم؛ لأن الاستخلاف لا يصح في القديم. ومنهم من قال: إنما قال ذلك؛ ليخرج من الخلاف؛ لأن الناس قد اختلفوا في صحة الصلاة بإمامين. وإن ذكر ذلك بعد أن صلى بهم ركعة أو أكثر، فإنهم لا ينتظرونه؛ لأنه إذا عاد وصلى بهم فإنهم يفارقونه، إذا أتموا صلاتهم، وإن كان لا بد لهم من مفارقته، لم ينتظروه. [فرع إمامة المتيمم] ] : ويجوز أن يصلي المتوضئ خلف المتيمم. وقال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إنه لا يجوز ذلك) . دليلنا: حديث عمرو بن العاص الذي ذكرناه في (التيمم) . وهل تصح صلاة الطاهرة خلف المستحاضة؟ فيه وجهان. أحدهما: تصح، كما تصح صلاة المتوضئ خلف المتيمم. والثاني: لا تصح؛ لأن المستحاضة لم تأت بالطهارة عن النجس، ولا بما يقوم مقامها. [مسألة مرض الإمام] ] : إذا مرض الإمام، وعجز عن القيام في الصلاة، فالأفضل أن يستخلف من يصلي بهم قائمًا؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مرض مرضه الذي توفي فيه، استخلف أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فصلى بالناس سبعة عشر يومًا، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد يخرج في بعض الأوقات، ويصلي بهم قاعدًا» ، وإنما فعل هذا مرة، أو مرتين؛ ليبين الجواز، وأكثر أمره الاستخلاف، فدل على أنه أفضل. فإن صلى قاعدًا كان على المأمومين أن يصلوا قيامًا، إذا كانوا قادرين على

فرع إمامة المومئ

القيام، فإن صلوا قعودًا مع القدرة على القيام، لم تصح صلاتهم، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وأبو ثور. وقال مالك: (لا تصح صلاة القائم خلف القاعد) ، في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى كقولنا. وقال الأوزاعي، وإسحاق، وأحمد: (يصلون خلفه قعودًا) ، وهو اختيار ابن المنذر. دليلنا ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالناس في مرضه الأول قاعدًا، والناس خلفه قعود» ، ثم: «صلى بهم في مرضه الذي مات فيه قاعدًا، والناس خلفه قيام» ، وهذا ناسخ لما قبله. [فرع إمامة المومئ] ] : وتصح صلاة القائم والقاعد خلف المومئ. وقال أبو حنيفة: (لا تصح) . دليلنا: أن المومئ طاهر يسقط فرض نفسه بطهارة كاملة، فجاز أن يأتم به القائم والقاعد، كالقائم. فقولنا: (يسقط فرض نفسه) احتراز من المصلوب على خشبة، فلا يجوز الائتمام به؛ لأنه لا يسقط فرض نفسه. وقولنا: (طاهر) احتراز ممن عليه نجاسة لا يقدر على إزالتها. وقولنا: (بطهارة كاملة) احتراز من الصلاة خلف المستحاضة، في أحد الوجهين. ولأنه عاجز عن ركن من أركان الصلاة لمرض، فجاز للقادر عليه الائتمام به، كالقيام. فقولنا: (لمرض) احتراز من المصلوب، ومن الأمي، في أحد القولين.

مسألة إمامة الأمي

فإن صلى خلف القاعد، أو المومئ، فقدر الإمام على القيام، أو القعود لزمه ذلك، فإن لم يفعل بطلت صلاته؛ لأنه ترك القيام مع القدرة عليه. فإن علم المأموم بقدرته على القيام، ولم يقم نوى مفارقته، وإن لم ينو مفارقته قال الشافعي: (بطلت صلاته) . فإن قيل: فكيف يعلم المأموم بقدرته على القيام؟ فالجواب: أن الشافعي لم يتعرض لكيفية العلم، إنما قال: (لو علم) ، وقد تكلم على ما يقل وجوده، كقوله: (إذا مات، وخلف مائة جدة) ، مع أنه قد يعلم بأن يكون الإمام منقبض الرجل لا يمكنه بسطها وقبضها، ثم رآه المأموم في أثناء الصلاة يبسطها ويقبضها، فيستدل بذلك على قدرته على القيام. [مسألة إمامة الأمي] ] : قال الشافعي: (والأمي: من لا يحسن فاتحة الكتاب، وإن أحسن غيرها من القرآن، والقارئ: هو من يحسن فاتحة الكتاب، وإن لم يحسن غيرها من القرآن) . إذا ثبت هذا: ففي صلاة القارئ خلف الأمي قولان منصوصان، والثالث خرجه أبو إسحاق المروزي: أحدها: لا يصح، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» . فإذا قدموا من لا يحسن الفاتحة، فقد دخلوا تحت النهي، وذلك يقتضي فساد المنهي عنه؛ ولأنه قد يتحمل عنه القراءة، إذا أدركه راكعًا، وهذا ليس من أهل التحمل.

فرع المقدم في الإمامة

والقول الثاني قاله الشافعي في القديم: (إن كانت الصلاة سرية، صحت صلاة القارئ خلفه، وإن كانت جهرية لم تصح) . لأن القراءة لا تجب على المأموم في الجهرية، بل يتحملها الإمام على القول القديم، وهذا الإمام عاجز عن التحمل، فلم تصح، كالحاكم إذا كان لا يحسن الحكم، فإنه لا يصح حكمه. وإذا كانت سرية لزمت المأموم القراءة، وهو قادر عليها، فجاز له أن يأتم بمن يعجز عنها، كصلاة القائم خلف القاعد. والثالث خرجه أبو إسحاق المروزي على هذا التعليل: تصح صلاته خلفه بكل حال؛ لأن على القول الجديد، يلزم المأموم القراءة بكل حال، هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إذا صلى أمي بقارئ بطلت صلاتهما) ، أما صلاة القارئ: فلما ذكرناه، وأما صلاة الأمي: فلأنه كان يمكنه أن يقدم القارئ ويأتم به؛ لأن قراءة الإمام عنده تجزئ عن المأموم، فإذا لم يفعل فقد ترك القراءة مع القدرة عليها، فبطلت صلاته. وكذلك إذا صلى خلفه أمي بطلت صلاته؛ لأنه علق صلاته بصلاة باطلة، وصلاة المأموم تبطل ببطلان صلاة الإمام عنده. ودليلنا: هو أن كل من صحت صلاته، إذا ائتم بغيره صحت صلاته، وإن لم يأتم بغيره، كالقارئ خلف القارئ. [فرع المقدم في الإمامة] ] : قال الشافعي: (فإن كان هناك رجلان: أحدهما يحسن جميع القرآن غير الفاتحة، والآخر يحسن سبع آيات من القرآن من غير الفاتحة، كان من يحسن جميع القرآن غير الفاتحة أولى ممن يحسن سبع آيات من غير الفاتحة؛ لأنه أكثر قرآنًا) ، فإن

فرع إمامة الأرت والألثغ

أمّ الذي يحسن سبع آيات لا غير، بالذي يحسن جميع القرآن إلا الفاتحة، صحت صلاتهما، كما لو أمّ من يحسن الفاتحة لا غير، بمن يحسن الفاتحة وغيرها. وإن كان هناك رجلان: أحدهما يحسن أول الفاتحة لا غير، والآخر يحسن آخر الفاتحة لا غير، لم يصح أن يأتم أحدهما بالآخر، إذا قلنا: لا يأتم القارئ بالأمي، وهذا مما يسأل عنه على وجه التعنت، فيقال: أيهما أحق بالإمامة؟ قال الشافعي: (فإن ائتم رجل برجل لا يدري: هل هو قارئ، أم لا؟ فصلاته صحيحة؛ لأن الظاهر أنه لا يؤم الناس إلا من يحسن الفاتحة، وأحب إليّ لو أعاد الصلاة؛ لجواز ألا يحسن الفاتحة) . فإن كانت الصلاة مما يجهر فيها، فلم يجهر هذا الإمام بالقراءة، فعلى المأموم أن يعيد الصلاة؛ لأن الظاهر أنه لما ترك الجهر أنه لا يحسن القراءة. فإن قال بعد الفراغ: أنا أحسن القراءة، وقد قرأت سرًّا، وإنما نسيت الجهر، أو تركته عامدًا، لم يلزم المأموم الإعادة. والمستحب: أن يعيد؛ لجواز ألا يصدق فيما قال. [فرع إمامة الأرت والألثغ] ] : قال الشافعي: (ولا يؤم أرت ولا ألثغ) . قال أصحابنا: و (الأرت) : هو الذي يدغم أحد الحرفين في الآخر، فيسقط أحدهما. و (الألثغ) : من يبدل حرفًا بحرف، بأن يأتي بالثاء مكان السين، أو بالثاء

فرع إمامة اللاحن

مكان الكاف، أو باللام مكان الراء. وأنشدني بعض شيوخي: وألثغ سألته عن اسمه ... فقل لي إثمي مرداث فعدت من لثغته ألثغًا ... فقلت أين الكاث والطاث وأراد: أن اسمه مرداس، وأراد: الكاس، والطاس. وحكم هذين حكم الأمي، فإن ائتم بهما من هو في مثل حالهما صحت صلاته، كما إذا ائتم أمي بأمي، وإن ائتم به القارئ الفصيح؛ فعلى الأقوال الثلاثة التي مضت في صلاة القارئ خلف الأمي. [فرع إمامة اللاحن] ] : وأما الصلاة خلف من يلحن: فاللحن على ضربين: لحن يحيل المعنى، ولحن لا يحيل المعنى. فإن كان لا يحيل المعنى، كقوله: (أهدنا) بفتح الهمزة، أو (نستعين) بكسر النون الأولى، أو ضمهما، أو فتح الثانية، أو كسرها، وما جرى هذا المجرى، فهذا لا يمنع صحة صلاة الإمام، ولا صحة من يأتم به، سواء كان ذلك في الفاتحة أو غيرها؛ لأنه لا يحيل المعنى، ولكن يكره الائتمام به؛ لأن الإمامة موضع كمال، وهذا ليس في موضع الكمال. وإن كان اللحن يحيل المعنى نظرت: فإن كان في الفاتحة، مثل أن يقول: (أنعمتُ عليهم) بضم التاء، أو: (ولا الظالين) بالظاء، فإن كان لا يحسن غير ذلك، بأن لم يطاوعه لسانه، أو لم يجد من يعلمه فهذا كالأمي، تصح صلاته، وصلاة الأمي خلفه، وأما صلاة القارئ خلفه فعلى ما مضى من الأقوال.

وإن كان يحسن القراءة الصحيحة، فتعمد ذلك، أو لا يحسن، ولكن يقدر على التعلم، ولم يفعل فصلاته باطلة؛ لأنه ترك القراءة مع القدرة عليها. فأما صلاة المؤتم به: فهو كمن صلى خلف جنب، فإن علم ببطلان صلاته، لم تصح صلاته خلفه، وإن كان لم يعلم بذلك، صحت صلاته خلفه. وإن كان هذا اللحن في غير الفاتحة، مثل: أن يقول في قَوْله تَعَالَى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] [التوبة: 3] ، بكسر اللام من (رسولِه) ، فإن كان لا يعرف أن هذا لحن، أو كان يعرف، ولكن نسيه، فقرأه على وجه السهو، لم يضره ذلك؛ لأنه ليس بأكثر من أن لا يقرأ هذا الآية. وإن كان يعرف ذلك، فتعمد قراءته بطلت صلاته؛ لأنه إن كان يعتقده فهو كفر؛ لأنه يقول: (أن الله بريء من المشركين ومن رسوله) ، وإن كان لا يعتقد فهو استهزاء بالقرآن، فبطلت صلاته. وأما المؤتم به: فهو كمن صلى خلف جنب، فإن علم بحاله لم تصح صلاته، وإن لم يعلم صحت صلاته. قال الشيخ أبو حامد: ومن تلفظ بلفظة أعجمية في القرآن، فإن إمامته مكروهة؛ لما روي: " أن ناسًا حول مكة قدموا رجلًا من آل السائب؛ ليصلي بهم، فأخره المسور بن مخرمة، وقدم آخر، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: لم فعلت ذلك؟ فقال: كان في وقت الحج، وخشيت أن يسمع بعض الحجيج قراءته، فيأخذ بعجمته، فقال: هنالك ذهبت؟ فقال: نعم، فقال: أصبت ". وكذلك العربي إذا كان لا يبين الحروف، يكره الائتمام به.

فرع صلاة الفريضة خلف المتنفل

[فرع صلاة الفريضة خلف المتنفل] ] : يجوز للمفترض أن يأتم بالمتنفل، مثل: أن يصلي العشاء خلف من يصلي التراويح، فإذا سلم الإمام قام المأموم، فأتم صلاته. ويجوز للمتنفل أن يأتم بالمفترض، كمن نوى أربع ركعات تطوعًا خلف من يصلي العشاء، ويجوز للمفترض أن يأتم بالمفترض في صلاة أخرى، كمن يصلي الظهر خلف من يصلي العصر، هذا مذهبنا، وبه قال عطاء، وطاوس، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وقال الزهري، وربيع، ومالك، ويحيى الأنصاري: (إذا اختلفت نية الإمام والمأموم لم يصح أن يأتم به) . وقال أبو حنيفة وأصحابه: (يجوز للمتنفل أن يصلي خلف المفترض، ولا يجوز للمفترض أن يصلي خلف المتنفل، ولا للمفترض أن يصلي خلف المفترض، إذا اختلف فرضاهما) . دليلنا: ما روي: «أن معاذًا كان يصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء، ثم يرجع إلى قومه في بني سلمة، فيصلي بهم العشاء، هي له تطوع، ولهم فريضة العشاء، فأخر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة العشاء، ثم رجع معاذ إلى قومه، فصلى بهم، واستفتح سورة البقرة، فتنحى رجل، وصلى فقال له قومه: نافقت، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: يا رسول الله، إن معاذًا يصلي معك العشاء، ثم يرجع إلينا فيصلي بنا، فأخرت العشاء، فصلى معك، ثم رجع إلينا وصلى بنا، وافتتح بسورة البقرة، فتنحيت، وصليت وحدي، وإنا أصحاب نواضح، نعمل بأيدينا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفتان أنت يا معاذ؟ أفتان أنت يا معاذ؟ "، وأمره أن يقرأ سورة كذا» ، وفي رواية أخرى: أمره

فرع صلاة الفرض خلف مصلي الجنازة والخسوف

أن يقرأ: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] [الطارق] ، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] [الأعلى] ، و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] [الليل] . ولأن الاقتداء يقع في الأفعال الظاهرة، وذلك ممكن مع اختلاف النية. [فرع صلاة الفرض خلف مصلي الجنازة والخسوف] ] : وهل يجوز أن يصلي المفترض خلف من يصلي على الجنازة، أو خلف من يصلي صلاة الخسوف؟ قال أصحابنا البغداديون: لا يصح؛ لأنه لا يمكنه الاقتداء به، مع اختلاف الأفعال. وقال الخراسانيون: فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لما ذكرناه. والثاني وهو قول القفال: أنه يصح؛ لأنه مقتد بمصل. فإذا قلنا بهذا: فإنه يقوم قائمًا حتى يسلم الإمام في صلاة الجنازة، ثم يركع هو. وفي صلاة الخسوف يركع مع الإمام الركوع الأول، فإذا رفع الإمام رأسه من الركوع رفع معه، وثبت المأموم قائمًا، حتى يركع الإمام الثاني، ثم يتابعه في السجود. قال المسعودي: [في " الإبانة " ق \ 80] : وهل تصح صلاة الصبح والمغرب خلف من يصلي الظهر أو العصر أو العشاء؟ فيه قولان؛ لأنه يحتاج أن يخرج من صلاة الإمام قبل تمامها. وأصحابنا البغداديون قالوا: تصح قولًا واحدًا.

فرع كراهة إمامة من يكرهه المأتمون

[فرع كراهة إمامة من يكرهه المأتمون] ] : ويكره أن يؤم الرجل قومًا، وهم له كارهون؛ لما روى أبو داود في "سننه": أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: رجل يقدم قومًا، وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دبارًا -أي: بعد ما فرغوا من الصلاة- ورجل اعتبد محرره» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقبل الله صلاة رجل أمّ قومًا، وهم له كارهون، ولا صلاة امرأة زوجها عاتب عليها، ولا صلاة عبد آبق، حتى يرجع» . قال الشيخ أبو حامد: قال الشافعي: (وهذا الخبر لا يثبت، ولكني أكره إمامته بهم، لكراهتهم له) . وروى الترمذي في "سننه ": أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله ثلاثة: رجلًا أمّ قومًا وهو له كارهون، وامرأة بات زوجها عليها ساخطًا، ورجلًا سمع: حي على الفلاح، فلم يجبه» .

وهكذا: إذا كرهه أكثرهم كره له أن يؤمهم؛ لأن الاعتبار بالكثرة، وإن كرهه أقلهم لم يكره؛ لأن أحدًا لا يخلو ممن يكرهه، هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال القفال: إن نصب الإمام رجلًا للصلاة بالناس لم يكره أن يصلي بهم، وإن كرهوه. وإن أمّ رجل نساء من ذوي محارمه جاز، ولم يكره له الخلو بهن؛ لأنه يجوز له الخلو بهن، وإن كن من غير ذوات محارمه، فإن كن امرأة أو امرأتين كره له الخلو بهن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان» . فإن كن نساء كثيرًا، فهل يجوز للرجل الأجنبي الخلو بهن؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي في (الخناثى) بناء على المرأة إذا أرادت الحج، ووجدت نساء ثقات، هل يقمن مقام المحرم؟ فيه وجهان:

فرع إمامة التمتام ونحوه

فإن أمّ الخنثى أجنبية منه كره له الخلو بها؛ لجواز أن يكون رجلًا، فإن كن نساء كثيرًا ففيه وجهان. وكذا: لو أمّ رجل خنثى أجنبيًّا منه، كره له الخلو به؛ لجواز أن يكون امرأة، فإن كان الخناثى كثيرًا فهل يجوز له الخلو بهم؟ فيه وجهان، كما قلنا في النساء. وهكذا: ينبغي أن يكره للخنثى أن يخلو بالخنثى؛ لجواز أن يكون أحدهما رجلًا، والآخر امرأة، فإن كانوا كثيرًا ففيه وجهان. [فرع إمامة التمتام ونحوه] ] : ويكره الائتمام بـ (التمتام) : وهو الذي يكرر التاء، فيقول: (إياك نستتعين) ، وبـ (الفأفاء) : وهو الذي يكرر الفاء، فيقول: (ففلله) ، وبـ (الوأواء) : وهو الذي يكرر الواو؛ لما يزيدون من الحروف، فإن صلى خلف أحدهم صح؛ لأنه يأتي بزيادة هو مغلوب عليها. [مسألة الأولى بالإمامة] ] : الأسباب التي يتعلق بها التقديم في الصلاة خمسة: الفقه، والقراءة، والهجرة، والنسب، والسن. ولا يختلف المذهب: أن صاحب الفقه والقراءة مقدمان على غيرهما من أصحاب الأسباب الثلاثة. والدليل عليه: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا بالسنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا بالهجرة سواء فأقدمهم سنًّا» .

فإن تساويا في القراءة، وأحدهما أفقه، فالأفقه أولى؛ لأنه أكمل. فإن كان أحدهما يحسن الفقه، ولا يحسن الفاتحة، والآخر يحسن الفاتحة، ولا يحسن الفقه فالذي يحسن الفاتحة أولى؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بالفاتحة. فإن كان أحدهما يحسن القرآن كله، ومن الفقه ما يحتاج إليه في الصلاة، والآخر يحسن من القرآن ما يجزئ في الصلاة، ولكنه يحسن فقهًا كثيرًا، فقد قال الشافعي: (إن قدم الفقيه فحسن، وإن قدم القارئ فحسن، ويشبه أن يكون الفقيه أولى) . قال أصحابنا: تقديم الفقيه أولى؛ لأن ما يحتاج إليه من القرآن في الصلاة محصور، وما يحتاج إليه من الفقه في الصلاة غير محصور، وربما تحدث عليه حادثة في الصلاة تحتاج إلى الاجتهاد فيها، وإلى هذا ذهب مالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة. وقال الثوري، وأحمد، وأبو إسحاق: (القارئ أولى) ، واختاره ابن المنذر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى» . ودليلنا: ما ذكرناه: من أن الواجب من القراءة في الصلاة محصور، وما يحتاج إليه من الفقه فيها غير محصور. وأما الخبر: فإنما كان ذلك في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأنهم كانوا يسلمون كبارًا، فيتعلمون القراءة، ويتعلمون أحكامها. وروي عن ابن مسعود: أنه قال: (ما كنا نتجاوز عشر آيات حتى نعرف حكمها، وأمرها ونهيها) ، ولهذا لا يوجد منهم قارئ إلا وهو فقيه، وكثير يوجد منهم فقيه غير قارئ. وقيل: إن الذي كان يحفظ منهم جميع القرآن سبعة وهم: أبو بكر، وعثمان،

وعلي، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، بخلاف أهل وقتنا، فإنهم يتعلمون القرآن، ثم الفقه. وأما الأسباب الثلاثة، وهي: النسب، والسن، والهجرة، فاختلف أصحابنا في ترتيب المذهب فيها: فذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب "، وابن الصباغ، والمحاملي فيها قولين: أحدهما وهو قوله القديم: (أن النسب مقدم، ثم الهجرة بعده، ثم السن) . قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الأصح، ووجهه: ما روي، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الأئمة من قريش» ، ولم يفرق بين الإمامة العظمى والصغرى. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قدموا قريشًا، ولا تقدموها» . ولأنه قدم الهجرة على السن في حديث أبي مسعود، والنسب مقدم على الهجرة. والثاني وهو قوله الجديد: (أن السن مقدم، ثم النسب، ثم الهجرة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجلين: "وليؤمكما أكبركما» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي، وليؤذن لك أحدكم، وليؤمكم أكبركم» ، ولم يفرق بين أن يكون الأكبر أشرف من الأصغر، أو الأصغر أشرف؛ ولأن الأكبر أخشع في الصلاة، فكان أولى. وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وصاحب " الفروع ": أن النسب والسن مقدمان على الهجرة، بلا خلاف على المذهب. وفي النسب والسن قولان: قال الشيخ أبو حامد: وأما تقديم الهجرة على السن فلم يرد به الهجرة وحدها، وإنما أراد من له هجرة ونسب؛ لأن أكثر المهاجرين كانوا من قريش. إذا ثبت هذا: فالنسب المراد هاهنا أن من كان من بني هاشم، وبني المطلب،

فيقدم على غيره من قريش، ثم يقدم قريش على غيرهم، ويحتمل أن يقدم العرب على العجم. وأما السن: فإن الرجل إذا نشأ في الإسلام، وشاخ فيه قدم على من أبلى عمره في الشرك، ثم أسلم، وكذلك يقدم من تقدم إسلامه على من تأخر إسلامه. وأما الهجرة: فإن من هاجر يقدم على من لم يهاجر، ومن تقدمت هجرته قدم على من تأخرت هجرته، وكذلك أولاد المهاجرين، يقدمون على أولاد من لم يهاجر، وكذلك في تقدم الهجرة بالآباء أيضًا، وسواء كانت الهجرة قبل الفتح أو بعده، وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا هجرة بعد الفتح» ، فأراد أن الهجرة لا تجب على أهل مكة بعد الفتح. فإن استويا في جميع الأسباب، فلا نص للشافعي فيه.

فرع تقديم صاحب البيت في الإمامة

قال أصحابنا: فيقدم أورعهم وأزكاهم. وقال بعض المتقدمين: يقدم أحسنهم. فمن أصحابنا من قال: أراد أحسنهم وجهًا؛ لأن ذلك فضيلة كالنسب. ومنهم من قال: بل أراد أحسنهم ذكرًا بين الناس. قال ابن الصباغ: وهذا حسن. [فرع تقديم صاحب البيت في الإمامة] ] : إذا حضر جماعة في دار رجل، وحضرتهم الصلاة، وصاحب البين يحسن من القرآن ما يجزئ في الصلاة، فصاحب البيت أحق بالإمامة ممن حضر معه، وإن كانوا أفقه منه وأقرأ، إلا أن يكون الحاضر سلطانًا فهو أحق؛ لما روى أبو مسعود البدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يؤم الرجل في بيته، ولا في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته في بيته إلى بإذنه» . ولأن لصاحب البيت ولاية خاصة على الدار، لا يشاركه فيها غيره. واختلف في التكرمة: فقال قوم: هي المائدة. وقال آخرون: هي البساط والفراش، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غير هذا. فإن حضر المستأجر ومالك الدار في الدار المستأجرة، فالمستأجر أحق بالتقدم من مالكها؛ لأنه أحق بمنافعها. وإن حضر العبد وغيره في دار، جعلها السيد لسكنى العبد، فالعبد أحق؛ لأنه أحق بمنافعها. وعلى قياس هذا: إذا استعار من رجل دارًا، فحضر المستعير وغيره، فالمستعير أولى.

فرع الإمام الراتب

وإن حضر العبد وسيده في الدار التي جعلها لسكناه، فالسيد أحق؛ لأنه هو المالك لرقبة الدار. وعلى قياس هذا: إذا حضر المعير والمستعير في الدار المعارة، فالمعير أولى؛ لأنه هو المالك لرقبة الدار، ويملك الرجوع في المنفعة. وحكى في " الإبانة " [ق \ 80] : أن القفال كان يقول هكذا في الابتداء، ثم رجع عنه، وقال: بل المستعير أولى بخلاف العبد؛ لأن المستعير سكن لنفسه، والعبد سكن لسيده. [فرع الإمام الراتب] ] : وإن حضر إمام المسجد الراتب مع غيره من الرعية، فإمام المسجد أحق بالتقديم، وإن كان هناك من هو أفقه منه وأقرأ؛ لما روي: (أن ابن عمر قدم مولى له كان إمامًا في مسجد، وقال: أنت أحق بالإمامة في مسجدك) . وإن أذن رب الدار، أو إمام السجد لمن حضر معه أن يتقدم، فله أن يتقدم. وقال بعض الناس: لا يجوز. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخبر: "إلا بإذنه". فإن حضر الإمام الأعظم مع رب الدار، أو مع إمام المسجد فالإمام الأعظم أولى؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ولا في سلطانه "؛ ولأنه راع وهم رعيته، فكان تقديم الراعي أولى. وإن قدم الإمام الأعظم رجلًا، كان أحق من غيره. وإن دخل الإمام الأعظم بلدًا، وله فيه خليفة، كان أولى بالتقدم فيه من خليفته؛ لأن ولايته أعم.

فرع إمامة العبد

قال الشافعي: (فإن اجتمع مقيمون ومسافرون، وفيهم وال، كان تقديم الوالي أولى، سواء كان من المسافرين أو من المقيمين، وإن لم يكن فيهم وال، فالمقيم أولى بالتقديم؛ لأنه صلاته أكمل، فإن تقدم مسافر وصلى بهم جاز) . وهل يكره؟ فيه قولان. [فرع إمامة العبد] ] : ولا تكره إمامة العبد للأحرار. وقال أبو مجلز وأبو حنيفة: (تكره) . وقال مالك: (لا يؤم في جمعة، ولا عيد) . وقال الأوزاعي: (لا يؤم الناس، ويؤم أهله) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسمعوا وأطيعوا، ولو أمر عليكم عبد أجدع، ما أقام فيكم الصلاة» . وروي: (أنه كان لعائشة غلام لم يعتق، يكنى أبا عمرو، وكان يؤمها، ويؤم محمد بن أبي بكر، وعروة بن الزبير) . إذا ثبت هذا: فالحر أولى بالإمامة؛ لأنه موضع كمال، والحر أكمل. [فرع إمامة المجهول] ] : ويكره أن يؤم من لا يعرف أبوه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأصحابه.

فرع إمامة الأعمى

وقال الثوري، وأحمد، وإسحاق: (لا يكره) ، وروي عن مالك في ذلك رواية أخرى. وقالت عائشة: (ما عليه من وزر أبويه شيء) . دليلنا: ما روي: (أن رجلًا كان يؤم الناس بالعقيق لا يعرف أبوه، فنهاه عمر بن عبد العزيز) ؛ ولأنه موضع كمال، وهذا ليس في موضع الكمال. [فرع إمامة الأعمى] ] : تجوز إمامة الأعمى بالبصير والأعمى؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استخلف ابن أم مكتوم في بعض غزواته على المدينة، وكان يصلي به» . وهل هو أولى أم البصير؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها وهو المنصوص للشافعي: (أنهما سواء؛ لأن الأعمى لا يرى ما يشغله، والبصير يتوقى الأنجاس فاستويا) . والثاني وهو قول الشيخ أبي إسحاق: أن البصير أولى؛ لأنه يتوقى الأنجاس التي تفسد الصلاة، وأما نظره إلى ما يشغل: فلا يفسد الصلاة.

والثالث وهو قول أبي إسحاق المروزي: أن الأعمى أولى؛ لأنه لا ينظر إلى ما يلهيه، فيتوفر على الخشوع. قال ابن الصباغ: وهذان الوجهان يخالفان نص الشافعي، وما قاله أحدهما يعارضه ما قال الآخر فسقطا، واستوى البصير والأعمى. وبالله التوفيق

باب موقف الإمام والمأموم

[باب موقف الإمام والمأموم] إذا صلى رجلان جماعة، قام المأموم عن يمين الإمام، وبه قال الفقهاء كافة، وحكي عن ابن المسيب: أنه قال: لا يقوم عن يساره. وقال النخعي: يقوم وراءه، فإن جاء آخر وقف معه، وإن لم يجئ آخر، وركع الإمام فإنه يتقدم إلى يمين الإمام. دليلنا: ما روي «عن ابن عباس: أنه قال: (بتُّ عند خالتي ميمونة، فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الليل، فتوضأ، وصلى، فقمت، فتوضأت كما توضأ، وقمت عن يساره، فأخذني بيدي) ، وروي (برأسي، وحولني عن يمينه) ، وروي: (فأدارني من ورائه) » . قال أصحابنا: وفي هذا الخبر أربع عشرة فائدة: إحداهن: أن المأموم الواحد ينبغي له أن يكون على يمين الإمام. الثانية: أنه إذا خالف، ووقف على يساره صحت صلاته. الثالثة: أنه لا يلزمه سجود السهو.

الرابعة: أنه إذا وقف عن يساره ينبغي له أن يتحول إلى يمينه. الخامسة: أنه إذا لم يتحول حوله الإمام. السادسة: أنه يحوله بيمينه دون يساره. السابعة: أن يديره من خلفه. الثامنة: أن صلاة النفل يحرم فيها الكلام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكلمه. التاسعة: أن النفل يجوز فعله جماعة. العاشرة: أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة، مثل ما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الإحدى عشرة: أن المشي القليل لا يبطل الصلاة، مثل مشي ابن عباس. الاثنتا عشرة: أن الصبي له موقف في الصف كالبالغ؛ لأن ابن عباس كان صبيًّا. الثالثة عشرة: أن المأموم يدور هو، ولا يدور الإمام. الرابعة عشرة: أن المرور بين يدي المصلي مكروه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أداره من خلفه، ولم يدره بين يديه. فإن جاء مأموم آخر، أحرم عن يسار الإمام، فإن كان قدام الإمام واسعًا ووراءهما ضيقًا، تقدم الإمام، وإن كان وراءهما واسعًا، تأخر المأمومان، سواء كان قدام الإمام واسعًا أو ضيقًا؛ لما روى جابر، قال: «صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقمت عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر، فقام عن يساره، فدفعنا جميعًا، حتى أقامنا من خلفه» . ولأنهما تابعان للإمام، فكانا أولى بالتأخير، بدليل: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدار ابن عباس، ولم يدر هو) . فإن جاء المأموم الثاني، وهما جالسان في التشهد، ووقف عن يسار الإمام،

وكبر، وجلس، ولا يتأخرا جالسين؛ لأن ذلك مشقة، فإذا قاموا تأخرا، وإن سلم الإمام قام المأموم، وأتم صلاته. وإن حضر رجلان مع الإمام، فالسنة أن يقفا خلف الإمام، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر. وقال ابن مسعود: (إذا كان مع الإمام اثنان، قام أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، وإن كانوا ثلاثة قاموا من خلفه) . وروي عنه: «أنه صلى بعلقمة والأسود، فجعل أحدهم عن يمينه، والآخر عن شماله، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . دليلنا: ما ذكرناه من حديث جابر، وروى سمرة بن جندب، قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كنا ثلاثة أن يتقدمنا أحدنا» . وإن حضر رجل وصبي، وقفا من خلف الإمام؛ لما روي «عن أنس: أنه قال: (صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا ويتيم لنا، وأم سليم خلفنا» .

وإن حضر مع الرجل والصبي امرأة وقفت خلفهما؛ لحديث أنس. وإن حضر مع الإمام امرأة، لا رجل معها، وقفت خلف الإمام. وإن حضر معه رجل وامرأة وقف الرجل عن يمين الإمام، والمرأة خلف الرجل؛ لحديث أنس. وإن حضر مع الإمام خنثى وقف وراءه؛ لجواز أن يكون امرأة، ولا يقف عن يمينه لتجويز كونه رجلًا؛ لأن مخالفة المرأة الموقف أشد من مخالفة الرجل. وإن كان مع الإمام رجل أو صبي وخنثى فإن الرجل أو الصبي يقف عن يمين الإمام، والخنثى وراءه. وإن كان معه خنثى وامرأة وقف الخنثى خلف الإمام، والمرأة خلف الخنثى. وإن حضر رجال وصبيان تقدم الرجال في الصف الأول، ثم الصبيان بعدهم في صف آخر. ومن أصحابنا من قال: يقف بين كل رجلين صبي؛ ليتعلموا منهم أفعال الصلاة، وهذا ليس بصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» . وروي عن أنس: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحب أن يليه المهاجرون والأنصار؛ ليحفظوا عنه» .

فرع كراهة ارتفاع موضع الإمام

وأما التعلم: فيمكنهم، وإن كانوا خلفهم. [فرع كراهة ارتفاع موضع الإمام] ] : ويكره أن يكون موضع الإمام أعلى من موضع المأموم. قال الشيخ أبو حامد: وإنما يكره إذا كانت ربوة كثيرة العلو، فأما إذا كنت دكة، أو ربوة قليلة العلو لم يكره. والدليل على الكراهة: ما روي: (أن حذيفة صلى على مكان، والناس أسفل منه، فجذبه سلمان، وقال: أما علمت أن أصحابك -يعني: الصحابة- يكرهون ذلك، فقال: بلى، قد ذكرت حين جذبتني) . وإن أراد الإمام أن يعلم المأمومين أفعال الصلاة وترتيبها لم يكره ذلك.

مسألة استحباب الجماعة للنساء

وقال أبو حنيفة ومالك: (يكره بكل حال) . وقال الأوزاعي: (إن كان موضع الإمام أعلى من موضع المأمومين، بطلت صلاتهم) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على المنبر، فركع، ورفع، ثم رجع القهقرى، فسجد، ورفع، فلما فرغ قال: "إنما صنعت هكذا لتأتموا بي» . [مسألة استحباب الجماعة للنساء] ] : يستحب للنساء الجماعة في الصلوات التي يسن لها الجماعة، إلا أنها لا تتأكد في حقهن، كتأكدها في حق الرجال، وبه قال عطاء، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق. وقال قتادة، والشعبي، والنخعي: يكره لهن الجماعة في الفرائض، ولا تكره في النوافل. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره لهن في الفرائض والنوافل) .

دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يزور أم ورقة بنت عبد الرحمن بن الحارث بن نوفل الأنصاري، وكان يسميها الشهيدة، وكان يأمرها أن تؤم أهل دارها، وجعل لها مؤذنًا» . إذا ثبت هذا، فالسنة أن تقف إمامتهن وسطهن. قال ابن الصباغ: ولا يعرف فيه خلاف؛ لما روي: (أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أمت نساء، فقامت وسطهن) . فإن تقدمت عليهن وصلت بهن كره، وصحت صلاتهن، كما لو وقف إمام الرجل وسطهم. والحرة أولى من الأمة في الإمامة، كما قلنا: إن الحر أولى من العبد. فإن أمّ الخنثى نساء تقدم عليهن، ووقفن وراءه؛ لجواز أن يكون رجلًا. ومما يسأل عنه على وجه التعنت، فيقال: إذا أمّ الخناثى واحد منهم، أين يقف؟

مسألة صلاة نية الجماعة

فإن قال: وسطهم أو قدامهم، فالجميع خطأ، وإنما الجواب الصحيح: أن يقال: لا يؤم الخنثى الخنثى، وقد مضى. [مسألة صلاة نية الجماعة] ] : إذا أمّ قومًا، فليس من شرط صحة ائتمامهم أن ينوي الإمام إمامتهم. وقال أبو حنيفة: (إن أمّ الرجل رجالًا لم تشترط نية الإمام أن يكون إمامًا لهم، وإن أمّ نساء لم تصح صلاتهن خلفه، حتى ينوي الإمام أنه إمامهن) . وقال الأوزاعي: (لا تصح صلاة من خلفه من الرجال والنساء، حتى ينوي الإمام إمامة من خلفه) . دليلنا على الأوزاعي: حديث ابن عباس الذي ذكرناه في أول الباب. وروى «أنس قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان، وهو يصلي، فوقفت خلفه، ثم جاء آخر، فوقف بجنبي، حتى صرنا رهطًا كثيرًا، فلما أحس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنا أوجز في صلاته، ثم قال: " إنما فعلت هذا لأجلكم» ، فسقط بهذا مذهب الأوزاعي. ونقيس على أبي حنيفة المرأة على الرجل، فنقول: كل من صح ائتمامه، إذا نوى الإمام إمامته صح، وإن لم ينو إمامته كالرجل. [فرع موقف المرأة وصلاة الرجل خلف الصف] ] : وإن وقفت المرأة مع الرجل أو قدامه صحت صلاة الرجل، وإن وقف الرجل في الصف وحده خلف المأمومين كره ذلك، وصحت صلاته. وقال أحمد، وإسحاق: (تبطل صلاته) . واختاره ابن المنذر.

فرع تقدم المأموم

دليلنا: ما روي: «أن أبا بكرة دخل المسجد، وهو يلهث، وقد ركع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأحرم، وركع معه، ثم دخل الصف، فلما فرغ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاته قال: "أيكم الذي ركع خلف الصف وحده؟ "، فقال أبو بكرة: أنا يا رسول الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "زادك الله حرصًا، ولا تعد» ، ولم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإعادة. وأما قوله: "ولا تعد": فيحتمل ثلاثة تأويلات: أحدها: لا تعد إلى العدو الشديد؛ لأنه جاء يلهث، وهذا كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتيتم الصلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة» . والثاني: أنه أراد: لا تعد أن تتأخر عن الصلاة، حتى تفوتك الركعة. والثالث: لا تعد إلى الإحرام خلف الصف. [فرع تقدم المأموم] إذا تقدم المأموم على الإمام، وصلى بصلاته في غير المسجد الحرام، ففيه قولان: [الأول] : قال في الجديد: (لا تصح صلاته) ، وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لأنه قد وقف في موضع ليس بموقف مؤتم بحال، فأشبه إذا وقف في موضع نجس. فقولنا: (بحال) احتراز ممن وقف على يسار الإمام وحده. و [الثاني] : قال في القديم: (تصح صلاته) ، وبه قال مالك، وإسحاق، وأبو ثور؛ لأنه خالف سنة الوقف مع الإمام، فوجب ألا يمنع صحة الصلاة، كما لو وقف على يسار الإمام وحده، فإن صلى الإمام في المسجد الحرام إلى ناحية من نواحي

مسألة استحباب الصف الأول

الكعبة، فاستدار المأمومون حول الكعبة، فإن من كان منهم في جهة الإمام، إذا تقدم على الإمام، وكان أقرب إلى الكعبة من إمامه، فعلى القولين في التي قبلها. وأما صلاة من كان أقرب إلى الكعبة من الإمام في غير جهة الإمام، ففيه طريقان: [الأول] : قال أبو إسحاق المروزي: هي على قولين كالأولى. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: تصح قولًا واحدًا وهو المنصوص؛ لأن قرب المأموم في غير جهة الإمام لا يكاد يضبط، ويشق مراعاة ذلك، وفي جهته لا يشق عليه مراعاة خلف الإمام؛ ولأن المأموم إذا كان في غير جهة الإمام، فليس هو بين يديه، وإن كان أقرب إلى الكعبة منه، وإذا كان في جهته كان بين يديه، فلهذا افترقا؛ ولأن الشافعي قد نص في " الجامع الكبير ": (إذا كان الإمام يصلي إلى الكعبة على الأرض، والمأموم على سطحها، فصلى بصلاته، أجزأه ذلك) . والمأموم هاهنا أقرب. [مسألة استحباب الصف الأول] ] : والمستحب: أن يتقدم في الصف الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لا يجدون إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا عليه» . وروى البراء بن عازب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول» يعني: على أهل الصف الأول، والصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الدعاء. ويستحب أن يعتمد يمين الإمام؛ لما روي عن البراء بن عازب: أنه قال: «كان

فرع على المأموم أن يعلم حركات الإمام

يعجبنا عن يمين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان يبدأ بمن على يمينه، فيسلم عليه» . فإن وجد في الصف الأول فرجة، فالمستحب: أن يسدها؛ لما روى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أتموا الصف الأول، فإن كان نقص ففي المؤخر» . فإن لم يجد في الصف الأول مدخلًا فاختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وسليم: يجذب رجلًا يصلي معه، فإن لم يفعل كره له أن يصلي وحده، وهو قول عطاء والنخعي. وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: يقف وحده في الصف الثاني، وهو المنصوص في " البويطي "، وبه قال مالك؛ لما ذكرناه من حديث أنس؛ ولأن في جذبه رجلًا يحدث خللًا في الصف الأول، ويحرم المجذوب فضيلة الصف الأول، وليس له ذلك. [فرع على المأموم أن يعلم حركات الإمام] ] : فإذا صلى بصلاة الإمام وهما في المسجد، فإنه يعتبر في صحة صلاة المأموم علمه بصلاة الإمام، إما أن يشاهده، أو يسمع تكبيره، أو يبلغ عنه، وسواء كان بين الإمام والمأموم قريب أو بعيد، وسواء كان بينهما حائل، أو لا حائل بينهما، وهذا إجماع لا خلاف فيه؛ لأن المسجد كله موضع للجماعة الواحدة، واعتبار رؤية الإمام ومشاهدته في المسجد لا يمكن. قال الشيخ أبو حامد: وكذلك المساجد اللطاف المتصلة بالجامع، وأبوابها شارعة

فرع صلاة المأموم خارج المسجد

إلى الجامع، فحكم من يصلي فيها بصلاة الإمام في الجامع، حكم من يصلي بصلاته في الجامع؛ لأنها إن بنيت مع الجامع فهي منه، وإن بنيت بعده فهي مضافة إليه. قال الصيدلاني: ومثله إذا صلى في رحبة المسجد؛ لأنها من جملة المسجد. فإن صلى على سطح المسجد بصلاة الإمام في المسجد جاز؛ لما روي: (أن أبا هريرة صلى فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام في المسجد) . ولأن سطح المسجد كقراره، بدليل: أن الجنب لا يلبث فيه، كما لا يلبث في قراره؛ ولأن أكثر ما فيه الحيلولة بينه وبين الإمام بالسقف، والحيلولة في المسجد لا تمنع الصلاة، كما لو كان في قرار المسجد. إذا ثبت هذا: فيحتاج أن يقف وراء الإمام، فإن وقف حذاء رأس الإمام كره، وأجزأه. وإن وقف، بحيث يكون قدام الإمام ففيه قولان، كما لو كانا في القرار. قال الصيمري: وإن كان سطح المسجد مملوكًا، فصلى عليه رجل بصلاة الإمام في المسجد لم تصح صلاته؛ لأنه ليس من جملة المسجد. [فرع صلاة المأموم خارج المسجد] ] : فأما إذا صلى خارج المسجد بصلاة الإمام في المسجد، ولم يكن بينهما حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة، بأن لم يكن للمسجد حائط، أو كان له حائط، ووقف المأموم بحذاء الباب، وهو مفتوح، فإن كان بينهما مسافة قريبة جاز، إذا علم

بصلاة الإمام، وإن كان بينهما مسافة بعيدة لم يجز، هذا قول كافة العلماء. وقال عطاء: يعتبر علمه بصلاة الإمام، وإن كان بينهما مسافة بعيدة. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة: 9] ، فأوجب الله السعي إلى الجمعة، فلو كان كل من صلى خارج المسجد بصلاة الإمام يجزئه إذا علم بصلاة الإمام، لما وجب عليه السعي. والمسافة القريبة: ثلاثمائة ذراع، والبعيدة ما زاد، ومن أين تعتبر هذا المسافة؟ فيه وجهان. أحدهما وهو المشهور من المذهب: أنها تعتبر من حائط المسجد. فعلى هذا: لو وقف الإمام في محراب المسجد، ومساحة المسجد ألف ذراع أو أكثر، ثم وقف صف خارج المسجد، بينه وبين حائط المسجد ثلاثمائة ذراع، وهم عالمون بصلاة الإمام صح، وكذلك لو وقف صف آخر بينه وبين الصف الأول ثلاثمائة ذراع، ثم بعده صف، وبينهما هذه المسافة، حتى اتصلت الصفوف فراسخ صح ذلك؛ لأن المسجد كله موضع للجماعة، فجعل آخره كأوله. والثاني حكاه في " الإبانة " [ق \ 84] أنه يعتبر من موقف الإمام. وإن كان بينه وبين الإمام حائط المسجد؛ ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي إسحاق: لا يمنع؛ لأن حائط المسجد لا يمنع صحة ائتمام من في داخل المسجد، فلم يمنع صحة ائتمام من في خارجه؛ ولأن الشافعي قال: (لو صلى في رحبة المسجد بصلاة الإمام في المسجد أجزأه) . ومعلوم أن بينهما حائط المسجد.

فرع موقف المأموم في الفلاة

والثاني وهو قول أكثر أصحابنا، وهو الصحيح: أنه يمنع؛ لأن هذا الحائط بني للفصل بينه وبين غيره، فمنع، كحائط غير المسجد. وأما ما ذكره من الرحبة: فلأن الرحبة من جملة المسجد، أو يحمل على من كان حذاء باب المسجد، وهو مفتوح، فعلى قول أبي إسحاق: لو كان لرجل دار بجنب المسجد، وحائط المسجد حائط داره، جاز له أن يصلي في بيته بصلاة الإمام في المسجد، إذا علم بصلاته، وعلى قول عامة أصحابنا: لا يجوز. وإن كان بينهما حائل يمنع الاستطراق دون المشاهدة، كالشباك ففيه وجهان: أحدهما: يمنع؛ لأنه يمنع الاستطراق، فهو كالحائط. والثاني: لا يمنع؛ لأنه لا يمنع الشاهدة. [فرع موقف المأموم في الفلاة] ] : فأما إذا كان الإمام يصلي في صحراء، فإن الإمام هاهنا للصف الأول، كالمسجد للصف الأول خارج المسجد، إذا كان الإمام يصلي في المسجد، فإن وقفوا من الإمام على ثلاثمائة ذراع فما دون أجزأتهم صلاتهم، وكذلك لو وقف صف، بينه وبين الصف الأول ثلاثمائة ذراع، ثم ثالث، ورابع، وهم عالمون بصلاة الإمام صح. واختلف أصحابنا: من أين أخذ الشافعي هذا الحد؟ فذهب أبو العباس، وأبو إسحاق: إلى أنه أخذه من صلاة الخوف؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم بطائفة، وصلى بهم ركعة» . وفي رواية ابن عمر: (أنها مضت إلى وجه العدو، وهي في الصلاة، وكن بينه وبينها قدر ثلاثمائة ذراع) ؛ ولأنهم إنما يحرسون المسلمين من وقوع السهام؛ لأنها

مسألة الصلاة في دار بقرب المسجد

أبعد وقعًا من جميع السلاح، وأكثر ما يبلغ إليه السهم ثلاثمائة ذراع. وذهب ابن خيران، وابن الوكيل: إلى أن الشافعي لم يأخذه من هذا، وإنما أخذه من عرف الناس وعادتهم، وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي قال: (وقربه ما يعرفه الناس قربًا) ، وهذا اختيار الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ. وهل ذلك تحديد، أو تقريب؟ فيه وجهان. [مسألة الصلاة في دار بقرب المسجد] قال الشافعي: (ولو صلى في دار قرب المسجد لم يجز، إلا بأن تتصل الصفوف، لا حائل بينه وبينها) ، وجملة ذلك: أنه إذا صلى في داره، أو دار غيره بصلاة الإمام في المسجد، فإن كان يصلي في قرار الدار، وباب داره مفتوح، يرى منه الإمام، أو بعض المأمومين، فاختلف أصحابنا في ذلك: فقال أبو إسحاق: لا يجوز، إلا أن تكون الصفوف متصلة إلى داره اتصال العادة؛ لأن الشافعي اشترط ذلك. والفرق بينه وبين الصحراء: أن الصحراء مهيأة لمرافق المسلمين، ومن مرافقهم الصلاة، وداره لم تبن لذلك، وإنما هي ملك له خاص، وهذه طريقة المسعودي [في " الإبانة " ق \ 86] . وقال أبو علي في " الإفصاح ": لا فرق بين الدار وبين الطرق والصحارى، ويراعى فيه القرب والبعد الذي ذكره الشافعي. وقوله: (إلا أن تتصل الصفوف) أراد: ألا يكون بين الصفين أكثر من ثلاثمائة ذراع؛ لأن هذا عنده حد الاتصال.

فرع الصلاة في الدور

[فرع الصلاة في الدور] ] : قال المسعودي: [في " الإبانة " ق \ 86] : إذا صلى في البنيان، فإن كان في بقعة وحدة، مثل: صفة، أو بيت، فيعتبر القرب والبعد على ما ذكرناه. فإن اختلفت بهم البقعة، مثل: أن كان الإمام في الصفة، وهو في البيت، فيشترط اتصال الصف. قال: واتصال الصف في الصف، من يسار الإمام ويمينه: هو أن يلتزق الجنب بالجنب، فأما إذا كان بين رجلين فرجة نظر: فإن كان أقل من موقف رجل فلا يضر ذلك، وإن كان أكثر من موقف رجل فيمنع من الاقتداء؛ لأنه لا يكون اتصال الصف، فإن كان بينهما عتبة، فإن كانت صغيرة، بحيث لا يمكن الوقوف عليها، لا تكون حائلًا، وإن كانت عريضة، بحيث يمكن الوقوف عليها كانت حائلة عن الاقتداء. وهل يراعى وراء الإمام اتصال الصف؟ فيه وجهان: الأصح: أنه يراعى، فيشترط ألا يكون بين الصفين أكثر من ثلاثة أذرع، فإن كان بينهما أكثر من ثلاثة أذرع لم يكن اتصال الصف. والثاني: لا يراعى. فعلى هذا: لو كان الإمام في الصفة مع قوم، فاقتدى به واحد في الصحراء، لم يصح اقتداؤه، وإن كان قريبًا من الصف.

فرع الصلاة في علو غير المسجد تمنع الاقتداء

[فرع الصلاة في علو غير المسجد تمنع الاقتداء] ] : فأما إذا صلى في علو الدار بصلاة الإمام في المسجد، قال الشافعي: (لم يجزئه بحال، وإن كانوا يرون من في الصحن؛ لأنها بائنة من المسجد، وليس بينهما قرار يمكن اتصال الصفوف به) ؛ لأن الصف لا يتصل إلى فوق، فإنما يتصل بالقرار. وقال في " الإفصاح ": ومن كان على الصفا والمروة، أو على جبل أبي قبيس، يصلي بصلاة الإمام في المسجد، تصح صلاته، وإن كان أعلى منه؛ لأن ذلك متصل بالقرار، وقد يكون القرار مستعليًا، ومستفلًا، ومستويًا، وليس كذلك السطح؛ لأنه ليس من القرار، والصف لا يتصل. وإن صلى رجل على سطح الدار بصلاة الإمام في الدار، أو في صحنه لم تصح صلاته؛ لأن بينهما حائلًا يمنع المشاهدة والاستطراق، والفرق بينه وبين المسجد: أن المسجد بني كله للصلاة، وسطحه منه، وليس كذلك الدار؛ لأن سطحها بني للحائل، ولم يبن للصلاة. [فرع وجود طريق بين الإمام والمأموم] ] : إذا كان بين الإمام والمأموم شارع، أو طريق جازت صلاته، هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال أبو حنيفة: (الشارع والطريق يمنع الاقتداء) . وهو قول المسعودي [في " الإبانة " ق \ 84] ، إلا أن تتصل الصفوف. دليلنا: ما روي: (أن أنسًا كان يصلي في بيوت حميد بن عبد الرحمن بن عوف

فرع الصلاة في السفينة

بصلاة الإمام في المسجد، وبينهما شارع) ، ولا مخالف له؛ ولأنه من الإمام على مسافة قريبة لا حائل بينهما، فأشبه إذا لم يكن بينهما طريق. [فرع الصلاة في السفينة] ] : يجوز أن يصلي الفرض والنفل في السفينة، سواء كانت واقفة أو سائرة؛ لأنه يتمكن فيها من القيام، والركوع، والسجود. قال الشيخ أبو حامد: وكذلك لو أمكنه القيام، والركوع، والسجود في الكنيسة على الراحلة، جاز أن يصلي عليها الفرض إلى القبلة، وإن كانت الراحلة تسير. وفيها وجه مضى ذكره وهو المنصوص: (أنه لا تصح) ، ولا يجوز أن يصلي النافلة في السفينة إلا إلى القبلة؛ لأنه يمكنه ذلك من غير مشقة. وأما وجوب القيام في الفريضة إذا كان في السفينة: فإن كان لا يخاف الغرق ولا دوران رأسه عند القيام لزمه ذلك، وإن كان يخالف الغرق، أو كان رأسه يدور عند القيام، لم يلزمه القيام. وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يصلي فيها الفرض قاعدًا، بكل حال) . دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له جعفر لما بعثه إلى الحبشة: يا رسول الله، كيف أصلي في السفينة؟ فقال له: "صل فيها قائمًا، إلا أن تخاف الغرق» .

ولأنه مستطيع للقيام في صلاة مفروضة، فلم يجز له تركه، كما لو كان في غير السفينة. فإن أراد أن يأتم من في سفينة، بإمام في سفينة أخرى، فإن كانتا مغطاتين لم يجز؛ لأن بينهما حائلًا يمنع الاستطراق والمشاهدة. وإن كان لا حائل بينهما، وكانتا متصلتين جاز، وهكذا إذا كانتا منفصلتين، وكان بينهما ثلاثمائة ذراع أو أقل جاز. واشترط صاحب " الإفصاح " مع ذلك: إذا كانوا يجرون بريح رخاء، يأمنون أن تتقدم إحداهما على الأخرى، هذا قول عامة أصحابنا، إلا أبا سعيد الإصطخري، فإنه قال: الماء يمنع الاقتداء، وهو قول أبي حنيفة. دليلنا: أن الماء لا يراد للحائل، وإنما يراد للمنفعة، فهو كالنار. ويشترط أن تكون السفينة التي فيها الإمام متقدمة على التي فيها المأمومون، فإن كانت محاذية لها كره وأجزأهم، وإن تقدمت سفينة المأمومين، فهل تصح صلاتهم؟ فيها قولان. وبالله التوفيق

باب صلاة المريض

[باب صلاة المريض] إذا عجز عن القيام جاز له أن يصلي الفرض قاعدًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] [آل عمران: 191] . قيل في التفسير: (قيامًا) إذا قدروا عليه، و (قعودًا) إذا لم يستطيعوا القيام، و (على جنوبهم) إذا لم يقدروا على الجلوس. وروي «عن عمران بن الحصين: أنه قال: كان بي بواسير، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة، فقال: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فجالسًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» . وروى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سقط من راحلته، فجحش شقه الأيمن، فصلى قاعدًا، وصلى الناس معه قعودًا» . والعجز الذي يجوز له ترك القيام: إما أن يكون زمنًا لا يستطيع القيام أصلًا، أو يكون صحيحًا، إلا أنه لا يستطيع القيام إلا بتحمل مشقة شديدة، أو يخاف تأثيرًا ظاهرًا في العلة؛ لأن كل عبادة لم يقدر على فعلها إلا بمشقة شديدة جاز له تركها إلى بدلها؛ لأجل المشقة، كالمسافر في شهر رمضان: له أن يفطر وإن كان يقدر على الصيام لو تحمل المشقة. إذا ثبت هذا: فكيف يقعد؟ فيه قولان:

أحدهما: يقعد متربعًا؛ لما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى متربعًا» . والثاني: يقعد مفترشًا؛ لأن ذلك قعود العبادة، والتربع قعود العادة. والذي يقتضي القياس: أن القولين في الاستحباب، لا في الوجوب. إذا ثبت هذا: فإن الجالس إذا أمكنه الركوع والسجود فعل ذلك. قال في " الفروع ": وينحني في الركوع، حتى يصير بالإضافة إلى القاعد، كالراكع بالإضافة إلى القائم. وإن لم يقدر أن يسجد على الأرض لعلة بجبهته، أو ظهره انحنى أكثر ما يقدر عليه. قال الشافعي: (وإن أمكنه أن يسجد على صدغه فعل ذلك) . قال أصحابنا: وأراد بهذا: أن يأتي بما تكون جبهته إلى الأرض أقرب، فكلما كان أقرب إلى الأرض كان أولى، فلو علم أنه لو سجد على عظم رأسه الذي فوق الجبهة، كنت الجبهة من الأرض أقرب فعل ذلك، ولو علم أنه لو يسجد على صدغه، كانت جبهته أقرب فعل.

فإن سجد على مخدة نظرت: فإن وضعها على يديه، وسجد عليها لم يجزئه؛ لأنه سجد على ما هو حامل له، وإن وضع المخدة على الأرض، وسجد عليها أجزأه، وهكذا إذا سجد على شيء مرتفع، وهو صحيح أجزأه، ما لم يخرج عن هيئة السجود. قال في " الأم ": (وإذا كان قادرًا على أن يصلي قائمًا منفردًا، ويخفف الصلاة، وإذا صلى خلف إمام، احتاج أن يقعد في بعضها، أحببت له أن يصلي منفردًا، وكان هذا عذرًا في ترك الجماعة، فإن صلى مع الإمام، وجلس فيما عجز عنه كانت صلاته صحيحة) . وإن كان بظهره علة لا تمنعه من القيام، وتمنعه من الركوع والسجود وجب عليه القيام، ويركع ويسجد، على حسب ما يقدر عليه. وقال أبو حنيفة: (هو بالخيار: إن شاء صلى قائمًا، وإن شاء صلى جالسًا، إذا عجز عن الركوع) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن الحصين: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فجالسًا» ، وهذا مستطيع للقيام، فلم يسقط عنه، فإذا بلغ إلى الركوع، وعجز عن أن يحني ظهره حتى رقبته، فإن لم يقدر عليها، إلا بأن يعتمد على عكازة، أو غيرها؛ اعتمد عليها وانحنى. وإن تقوس ظهره من الكبر أو الحدب، حتى صار يمشي كالراكع، ولا يقدر على الاستواء، فعليه أن يصلي على حالته، فإذا بلغ إلى الركوع انحنى وإن كان يسيرًا؛ ليقع الفصل بين القيام والركوع.

وإن كان بعينيه رمد أو غيره، وكان يقدر على الصلاة قائمًا، فقيل له: إن صليت مستلقيًا على قفاك كان برؤك أسرع: قال أصحابنا: فليست بمنصوصة للشافعي، ولكن قال مالك والأوزاعي: (لا يجوز له ذلك) . قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: وهذا هو الأشبه بمذهبنا. وقال الثوري، وأبو حنيفة: (يجوز له ترك القيام) ، وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن بعض أصحابنا. ووجهه: أنه لو كان صائمًا، فرمدت عينه، فاحتاج إلى الفطر لأجل ذلك؛ لكان له أن يفطر، كذلك هاهنا، يجوز له ترك القيام؛ لسرعة برئه. ووجهه الأول: ما روي: أن ابن عباس، لما وقع في عينيه الماء، وكف بصره أتاه رجل، وقال له: (إن صبرت علي سبعة أيام تصلي مستلقيًا داويتك، ورجوت برأك، فأرسل إلى عائشة، وأم سلمة، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة، فسألهم عن ذلك، فقالوا له: إن مت في هذه السبع ما تفعل بصلاتك؟ ! ولما ترك المداواة. وأما الصوم: فإنما جاز له تركه؛ لأنه يرجع إلى بدل تام مثله، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه لا يرجع منه إلى بدل تام، فلم يجز له تركه بأمر مظنون.

مسألة الصلاة مضطجعا

[مسألة الصلاة مضطجعًا] ] : فإن عجز عن الصلاة قاعدًا صلى مضطجعًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] [آل عمران: 191] ، ولما ذكرناه من حديث عمران بن الحصين. وكيف يضطجع؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها وهو المنصوص في " البويطي ": (أنه يضطجع على جنبه الأيمن معترضًا بين يدي القبلة، كما يوضع الميت في لحده) وبه قال عمر، وأحمد بن حنبل. قال الشيخ أبو حامد: وكذلك لو اضطجع على جنبه الأيسر معترضًا، أو وضع الميت في لحده على جنبه الأيسر جاز ذلك عندي، والأول أولى. والثاني: أنه يستلقي على ظهره، ويستقبل القبلة برجليه، وبه قال ابن عمر، والثوري في إحدى الروايتين عنهما، والأوزاعي، وأبو حنيفة. والثالث: أنه يضطجع على جنبه الأيمن، ويستقبل القبلة برجليه. والأول أصح؛ لما روى علي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يصلي المريض قائمًا، فإن لم يستطع صلى جالسًا، فإن لم يستطع صلى على جنبه مستقبل القبلة، فإن لم يستطع صلى على قفاه، ورجلاه إلى القبلة، وأومأ بطرفه» . ولأنه إذا فعل ذلك استقبل القبلة بجميع بدنه، وإذا كان رأسه في دبر القبلة لم يستقبل القبلة إلا برجليه، ويومئ برأسه إلى الركوع، والسجود، فإن عجز عن

مسألة العجز أثناء الصلاة

الإيماء برأسه أومأ بحاجبه وطرفه إليهما؛ لما ذكرناه في حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فإن لم يمكنه أن يصلي مضطجعًا بالإيماء، وعجزت لسانه عن القراءة حركها عند القراءة، فإن لم يمكنه تحريكها وعقله معه نوى الصلاة، وعرض القرآن على قلبه ونواه، وكذلك يعرض سائر أفعال الصلاة على قلبه وينويها. وقال أبو حنيفة: (يسقط عنه فعل الصلاة في هذه الحالة) . وحكى الطبري في " العدة " ذلك عن بعض أصحابنا. والمذهب الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ، وهذا يستطيع ما ذكرناه، فوجب عليه الإتيان به. [مسألة العجز أثناء الصلاة] ] : إذا افتتح الصلاة قائمًا، ثم عجز عن القيام، فله أن يجلس، ويبني على صلاته. قال أصحابنا: وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، فلو قرأ الفاتحة في حال الانحطاط إلى الجلوس أجزأه؛ لأن الانحطاط أعلى حالًا من الجلوس، فإذا أجزأته القراءة في حال الجلوس، فلأن تجزئه في حال الانحطاط أولى. وكذلك إذا افتتح الصلاة جالسًا، ثم عجز عن الجلوس، واضطجع في صلاته بنى عليها، كما قلنا في التي قبلها. وإن افتتح الصلاة جالسًا عند العجز، ثم قدر على القيام في أثناء الصلاة، وجب عليه القيام، ويبني على صلاته، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وأكثر أهل العلم. وقال محمد بن الحسن: تبطل الصلاة، ويستأنفها.

دليلنا: أنه قادر على القيام في موضع القيام، فلزمه القيام والبناء عليه، كما لو قعد التشهد الأول؛ ولأن زوال العذر لا يورث عملًا طويلًا، فلم تبطل الصلاة لأجله. إذا ثبت هذا: فإن كان قد قرأ الفاتحة في جلوسه قال الشافعي: (أستحب له أن يعيدها في حال القيام؛ ليأتي بها على أكمل أحواله) ، وهذا يبطل قول من قال من أصحابنا: إن من قرأ فاتحة الكتاب مرتين في ركعة بطلت صلاته، ولا يجب عليه إعادتها؛ لأن فرض القراءة قد سقط عنه بالفراغ منها. فإن قدر على القيام قبل أن يقرأ الفاتحة وجب عليه أن يقوم، ويقرأ الفاتحة في حال القيام، وإن قدر على القيام في أثناء الفاتحة وجب عليه أن يقوم، ويتم قراءتها وهو قائم، فإن أتمها في حال نهوضه إلى القيام لم يجزئه؛ لأن القراءة وجبت عليه وهو قائم، والقيام أعلى من حال النهوض، فلا يجوز أن يسقط ما وجب عليه في حال الكمال، بما هو أدنى منه. وإن افتتح الصلاة مومئًا، ثم قدر على الجلوس، أو القيام في أثناء الصلاة، فإنه يلزمه ذلك، ويبني على صلاته. وقال أبو حنيفة، وأصحابه: (تبطل صلاته، فيقوم، ويستأنف الصلاة) . وكذلك العريان عندهم إذا استفتح الصلاة، ثم قدر على السترة في أثناء الصلاة، فإنه يستر عورته، ويستأنف الصلاة، إلا أنهم وافقونا في الأمة، إذا أعتقت وهي في الصلاة مكشوفة الرأس، أنها تستر رأسها، وتبني على صلاتها. وقالوا في الأمي إذا افتتح الصلاة، ثم قدر على القراءة في أثناء الصلاة: إنه يستأنف الصلاة. ودليلنا: أنه قدر على ركن من أركان الصلاة في أثنائها، فوجب أن يلزمه البناء على صلاته، كما لو افتتح الصلاة جالسًا، ثم قدر على القيام. وبالله التوفيق

باب صلاة المسافر

[باب صلاة المسافر] يجوز قصر الصلاة في السفر في: الخوف، والأمن. والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] [النساء: 101] . وأما السنة: فروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر في أسفاره حاجًّا وغازيًا» . وروي عن «يعلى بن أمية: أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب: قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ، وقد أمن الناس، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» ، فثبت جواز القصر في السفر بالخوف بالكتاب، وثبت جواز القصر في السفر بالأمن بالسنة. وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على جواز قصر الصلاة في السفر.

مسألة أنواع السفر

إذا ثبت هذا: فإنما يجوز قصر الظهر والعصر والعشاء، فأما الصبح والمغرب: فلا يجوز قصرهما؛ لأنه لم يروَ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصرهما، وقصر سائر الصلوات الأخرى؛ ولأن الأمة أجمعت على ذلك أيضًا. وروي عن عائشة: أنها قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتْين، إلا المغرب والصبح، وكان إذا سافر عاد إلى الأول) . ويجوز قصر الصلاة في السفر في البحر، كما في السفر في البر. [مسألة أنواع السفر] والأسفار على أربعة أضرب: واجب، ومحظور، وطاعة، ومباح. فأما الواجب: فهو سفر الحج والعمرة الواجبين، والجهاد في سبيل الله، إذا تعين عليه، والهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام، فهذا يجوز الترخص فيه برخص السفر، بلا خلاف بين أهل العلم.

وأما السفر المحظور: فهو أن يسافر لقطع الطريق، أو لقتل نفس بغير حق، أو ليزني بامرأة، وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز الترخص فيه بشيء من رخص السفر عندنا. وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يترخص بجميع الرخص، حتى قال: لو خرج مع الحاج ليسرقهم، ولم ينو حجًّا ولا عمرة، جاز له أن يترخص) . وبه قال الثوري، والأوزاعي، والمزني. ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] إلى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] . وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] [البقرة: 173] . قال ابن عباس: (غير باغ على المسلمين، ولا عاد عليهم بسيفه) ؛ ولأن في تجويز الترخص برخص السفر في سفر المعصية إعانة على المعصية، وهذا لا يجوز. وأما سفر الطاعة: فهو السفر لزيارة الوالدين، والسفر لحج التطوع، وما أشبهه. وأما المباح: فهو أن يسافر لنزهة، أو تجارة، فحكم هذين الضربين عندنا حكم السفر الواجب في جواز الترخص بهما، وبه قال أكثر أهل العلم. وقال ابن مسعود: (لا يجوز قصر الصلاة إلا في السفر الواجب) . وقال عطاء: لا يجوز القصر إلا في سفر الطاعة.

دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في السفر ركعتين، وفي الحضر أربعًا» ، ولم يفرق بين المباح والواجب. ولأن كل رخصة تعلقت بالسفر الواجب تعلقت بالطاعة والمباح، كالنافلة على الراحلة. قال الشيخ أبو حامد: والأحكام التي تتعلق بالسفر على ثلاثة أضرب: ضرب: لا يتعلق إلا بالسفر الطويل، وضرب: يتعلق بالسفر الطويل والقصير، وضرب: يتعلق بالطويل، وهل يتعلق بالقصير؟ فيه قولان. فأما الضرب الذي لا يتعلق إلا بالطويل: فهي ثلاثة: القصر، والفطر في رمضان، ومسح الخفين ثلاثة أيام. وحكى أبو علي السنجي قولًا آخر: أن القصر يجوز في السفر القصير مع الخوف لعموم الآية، وليس بصحيح. وأما الأحكام التي تتعلق بالقصير والطويل: فهي ثلاثة: النافلة على الراحلة، والتيمم عند عدم الماء، وأكل الميتة عند الضرورة. وقد ذكرت قبل هذا قولًا آخر في (التيمم) والتنفل على الراحلة: أنه لا يجوز في القصير، وليس بمشهور. وأما الذي اختلف فيه قول الشافعي في القصير: فهو الجمع بين الصلاتين، ويأتي توجيه القولين في موضعهما.

إذا ثبت هذا: فاختلفت عبارات الشافعي عن حد السفر الطويل: فقال في موضع: (ستة وأربعون ميلًا بالهاشمي) . وقال في موضع: (ثمانية وأربعون ميلًا بالهاشمي) . وقال في موضع: (أكثر من أربعين ميلًا) . وقال في موضع: (أربعون ميلًا: مسيرة ليلتين بسير الأثقال، ودبيب الأقدام) . وقال في موضع: (مسيرة يومين) . وقال في موضع: (مسيرة يوم وليلة) . قال أصحابنا: وليس بين هذه العبارات اختلاف في المعنى، وإنما المراد واحد، وهو أربعة برد، كل بريد أربعة فرسخ ثلاثة أميال بالهاشمي، كل ميل اثنا عشر ألف قدم، وذلك ثمانية وأربعون ميلًا بالهاشمي. وحيث قال الشافعي: (ستة وأربعون ميلًا) أراد: غير الميل الذي يبدأ به، وغير الميل الذي يختم به. وحيث قال: (أكثر من أربعين ميلًا) فتفسيره: ما ذكرناه.

وحيث قال: (أربعون ميلًا) أراد: بأميال بني أمية؛ لأنها تكون ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي. وحيث قال: (مسيرة ليلتين) أراد: من غير يوم بينهما. وحيث قال: (مسيرة يومين) أراد: من غير ليلة بينهما. وحيث قال: (مسيرة يوم وليلة) أراد: متواليين، وذلك يبلغ ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي، هذا مذهبنا، وبه قال مالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس. وذهب الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه إلى: أن السفر الذي تقصر فيه الصلاة: (ثلاث مراحل) ، وهو أربعة وعشرون فرسخًا، وروي ذلك عن ابن مسعود. وقال الأوزاعي: (يقصر في مسيرة يوم) ، وروي ذلك عن أنس. وقال داود، وأهل الظاهر: (يقصر في طويل السفر وقصيره) . دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا أهل مكة، لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان والطائف» .

فرع ما لو كان للبلد طريقان

فدليل الخطاب من الخبر دليل على أبي حنيفة، ونطقه دليل على غيره. فإن كان السير في البحر، فالاعتبار بالمسافة التي ذكرناها في البر، وهي أربعة براد، ولو قطعها في أدنى زمان، فيجوز له القصر في السفر في ذلك. [فرع ما لو كان للبلد طريقان] ] : وإن كان للبلد الذي يقصده طريقان، يقصر في إحداهما الصلاة، دون الأخرى، فسافر في الطريق القصيرة لم يقصر. وإن سافر في الطريق الطويلة، فإن كان لغرض صحيح في السفر من واجب، أو طاعة، أو مباح، فله أن يقصر الصلاة؛ لأنه سافر لمعنى جائز. وإن كان لغير غرض، ولكن ليقصر الصلاة، ففيه قولان: أحدهما: ليس له أن يقصر، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يبغض المشائين من غير أرب» ، وهذا يمشي من غير أرب؛ ولأنه طول الطريق على نفسه لا لغرض، فأشبه إذا مضى في الطريق القصير طولًا وعرضًا، حتى طال. والثاني: له أن يقصر، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] [النساء: 101] وهذا ضارب. ولأنه سفر مباح تقصر في مثله الصلاة، فهو كما لو لم يكن له طريق سواه.

فرع سافر في سفينة ونحوها ومعه أهله

وإن سار هائمًا على وجهه، لا لغرض، فقد قال في " الفروع ": هل له أن يقصر؟ فيه وجهان، بناءً على القولين في التي قبلها. وقال ابن الصباغ، والطبري: لا يقصر. قال في " الفروع ": وإن كان الرجل ممن لا موطن له، بل عادته السير أبدًا، جاز له القصر، والمستحب له: الإتمام. [فرع سافر في سفينة ونحوها ومعه أهله] قال في "الأم" [1/166] : (وإذا كان ملاح في سفينة له، وكان فيها أهله، وماله، وولده، وهو يسافر في البحر، أحببت له ألا يقصر؛ لأنه في وطنه، وموضع إقامته، فإن قصر الصلاة جاز؛ لأنه مسافر) . وقال أحمد: (لا يجوز له القصر) . دليلنا: أنه يسافر لمباح سفرًا تقصر فيه الصلاة، فهو كما لو يم يكن له فيها أهل. قال في قال في "الأم" [1/167] : (وإن كان سيارة، يتبع أبدا مواقع القطر -حل بموضع- إذا شام برقا انتجعه، فإن كان لا يبلغ سيره إليه ستة عشر فرسخًا، لم يقصر) ، ومعنى هذا: أنه يسير في طلب موضع القطر، وليس يقصد موضعًا بعينه. وقوله: (شام) : أبصر. وكذلك إذا سير في طلب الخصب. [فرع صلاة الأسير] فإن أسر المشركون رجلًا من المسلمين، فساقوه معهم، لم يجز له القصر؛ لأنه لا يتيقن المسافة التي يحمل إليها.

فرع تعدد نية المسافر

قال الشافعي: (فإن ساروا به ستة عشر فرسخًا، كان له أن يقصر؛ لأنه قد تيقن طول سفره) . وينبغي أنه إذا علم أنهم يحملونه إلى بلد يقصر إليه الصلاة، فإن كان ينوي أنهم متى خلوه رجع لم يقصر، وإن نوى أن يقصد ذلك البلد، أو غيره مما تقصر إليه الصلاة قصر. وإن أبق له عبد، أو ضل له مال، فسافر لطلبه إلى بلد، تقصر إليه الصلاة، واعتقد أنه إن لقي عبده أو ماله دونه، رجع لم يقصر؛ لأنه لم يقطع على سفر طويل. وإن نوى أنه لا يرجع وإن وجده جاز له أن يقصر؛ لأنه نوى سفرًا طويلًا، فإن وجده، ثم بدا له الرجوع صار سفرًا مستأنفًا، فإن كان بينه وبين بلده ما تقصر إليه الصلاة قصر، فإن كان دونه لم يقصر. [فرع تعدد نية المسافر] قال الشافعي في "الأم" [1/162 و166] : (وإذا نوى أن يسافر من بلده إلى بلد، ثم يسافر من ذلك البلد إلى بلد آخر، اعتبر حكم كل واحد منهما بنفسه) ، هكذا أطلقها الشافعي، والشيخ أبو إسحاق في " المهذب". قال أصحابنا: وهذا يقتضي أن يكون المسافر قصد أن يقيم في البلد الأول أربعة أيام، وهذا مرادهما فيما أطلقا من ذلك. فعلى هذا: إن كان بين بلده الذي سافر منه، وبين البلد الأول مسافة القصر، كان له أن يقصر، وكذلك إن كان بين البلد الأول والثاني مسافة القصر، كان له أن يقصر أيضًا، إذا خرج من البلد الذي وصله، وإن كان بين كل واحد منهما دون مسافة القصر، لم يقصر في واحد منهما.

مسألة الإتمام أفضل أم القصر

[مسألة الإتمام أفضل أم القصر] ] : قد ذكرنا أن مسافة القصر: ستة عشر فرسخًا، وهو مسير يومين، قال الشافعي: (وأحب ألا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام) ليخرج بذلك من الخلاف. وإذا كان سفره مسيرة ثلاثة أيام، فهل القصر أفضل، أم الإتمام؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ، وغيره: أحدهما: أن الإتمام أفضل، وهو اختيار المزني؛ لأن الأصل: التمام، والقصر بدل عنه، فكان أفضل، كغسل الرجلين، والصوم في السفر؛ ولأنه أكثر عملًا. والثاني: أن القصر أفضل، وبه قال مالك، وأحمد، ولم يذكر الشيخان: أبو حامد وأبو إسحاق غيره. ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خيار عباد الله الذين إذا سافروا قصروا» . ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يداوم على القصر، ولا يداوم إلا على الأفضل. ولأنه إذا قصر سقط عنه الفرض بالإجماع، وإذا أتم اختلف في إجزائه. وأما الصوم في السفر: فقال في " العدة": فيه وجهان: أحدهما: الفطر أفضل، فعلى هذا: يسقط السؤال. والثاني: الصوم أفضل، وهو المشهور.

فرع ترك المسافر القصر

والفرق بينه وبين القصر على هذا: أنه إذا أخره، عرضه للنسيان وعوارض الزمان، وليس كذلك الإتمام، فإنه يسقط إلى بدل في الحال. قال في " الفروع ": وقد قيل: إن القصر والإتمام سواء. قال أبو المحاسن من أصحابنا: إذا نوى الكافر أو الصبي السفر إلى بلد مسيرة ثلاثة أيام، فسار يومين، فأسلم الكافر، وبلغ الصبي جاز لهما أن يقصرا فيما بقي من سفرهما. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: يقصر الكافر؛ لأن له نية صحيحة، ولا يقصر الصبي؛ لأنه لا نية له. ودليلنا: أن الكافر أسوأ حالًا من الصبي؛ لأنه ليس من أهل الصلاة والرخص، فإذا جاز له القصر؛ فالصبي بذلك أولى. [فرع ترك المسافر القصر] فإن ترك المسافر القصر، فأتم جاز، وبه قال عثمان بن عفان، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة. وذهبت طائفة إلى أن القصر عزيمة، ولا يجوز له التمام، ذهب إليه عمر وعلي، ومن الفقهاء: مالك، وأبو حنيفة. وتفصيل مذهب أبي حنيفة: أنه إذا ائتم بمقيم لزمه أن يتم، وإن صلى منفردًا

مسألة نية المعصية في السفر

أربعًا، فإن جلس في الأوليين قدر التشهد، ثم قام أجزأ عنه الركعتان الأوليان، وكان الأخريان نافلة، وإن لم يجلس بطلت صلاته. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] [النساء: 101] ، وهذه اللفظة في لغة العرب وكلامهم موضوعة للإباحة ورفع الحرج. وروي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: سافرت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما رجعت قال: ما صنعت في سفرك؟ فقلت: أتممت الذي قصرت، وصمت الذي أفطرت، فقال: أحسنت» . وروي عن عائشة: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقصر في السفر، ويتم» . وروي عن أنس: أنه قال: (سافرنا معاشر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنا المقصر، ومنا المتم، فلم يعب المقصر على المتم، ولا المتم على المقصر) . [مسألة نية المعصية في السفر] قد ذكرنا أن المسافر للمعصية لا يترخص بشيء من رخص المسافر، ومضى

الخلاف فيه، فإن أبق عبد من سيده، أو نشزت المرأة من زوجها، أو هرب من عليه حق، وهو قادر على أدائه، من الحق الذي عليه لم يجز لواحد منهم أن يترخص بشيء من رخص المسافر؛ لأنهم عصاة، فإن سافر بنية تجوز له القصر، ثم أحدث نية المعصية في أثناء سفره، فهل تمنعه هذه النية من الترخص برخص المسافر؟ فيه وجهان: حكاهما الشيخ أبو حامد في " التعليق ". أحدهما: له أن يترخص؛ لأن بإنشاء سفره، كان يباح الرخصة، فلا يضره ما اعترض بعد ذلك من نية المعصية. والثاني: لا يجوز له الترخص؛ لأنه عاص في سفره، فهو كما لو أنشأ السفر بهذه النية. وتشبه هذه المسألة: إذا كان له مقصد صحيح، ثم أحدث نية في أثناء السفر، أنه إذا استقبلني فلان انصرفت، فهل تمنعه هذه النية من القصر؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 86] : أحدهما: تمنع، كما لو أنشأ السفر على هذه النية. قال القفال: فإن عرف أنه لا يستقبله ما لم يمض ستة عشر فرسخًا فله القصر، وإن سار ابتداء على هذه النية. والوجه الثاني: له أن يقصر، اعتبارًا بإنشاء سفره، ولا اعتبار بالنية الحادثة، وهذا هو القياس؛ لأن الشافعي نص في "الأم" [1/165] : (إذا سافر إلى بلد، فمر في بلد، وأقام بها يومًا، ونوى: إن لقي فلانًا، أو قدم فلان أقمت أربعًا، أو أكثر، فله أن يقصر ما لم يلق فلانًا؛ لأنه لم يوجد شرط الإقامة) . قال الشافعي: (فإذا لقي فلانًا أتم الصلاة؛ لأن الإقامة والنية وجدتا جميعًا) . قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على أنه إن لقي فلانًا، وهو مستصحب للنية، عازم عليها، فإن لقي فلانًا، ثم بدا له ألا يقيم قال الشافعي: (لم يكن له أن

فرع تغير نية المسافر

يقصر؛ لأنه قد صار مقيمًا، فما لم يخرج لم يقصر) . قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون إذا بدا له قبل لقاء فلان، أن له القصر، إذا لقيه؛ لأنه لم تحصل نية الإقامة. [فرع تغير نية المسافر] ] : قال في "الأم" [1/166] : (وإذا خرج رجل من مكة يريد المدينة قصر، فإن خاف في طريقه وهو بعسفان، فأراد المقام به، أو الخروج على غير المدينة ليقيم، أو ليرتاد الخير به جعلته إذا ترك النية من سفره إلى المدينة مبتدئًا بالسفر من عسفان؛ لأنه قد قطع النية إلى المدينة) . [مسألة ابتداء السفر] ولا يجوز له القصر حتى يفارق موضع الإقامة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة. وقال عطاء: يجوز له أن يقصر، وإن لم يخرج عن بيوت القرية. وحكي: أن الحارث بن ربيعة: أراد سفرًا، فصلى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد، وغير واحد من أصحاب عبد الله بن مسعود. وقال قتادة: إذا جاوز الجسر أو الخندق قصر. وقال مجاهد: إذا خرج بالنهار فلا يقصر إلى الليل، وإذا خرج بالليل فلا يقصر إلى النهار. دليلنا على مجاهد: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] [النساء: 101] . وهذا قد ضرب.

وعلى الحارث: أن من كان في بيته، ولم يفارق البنيان فلم يضرب. وروى أنس قال: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين» . وروي عن علي بن ربيعة: أنه قال: (خرجت مع علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقصر ونحن نرى البيوت) . إذا ثبت هذا: فإن كان بطرف البلد مساكن خربت وخليت من السكان، إلا أن الجدران قائمة لم يقصر، حتى يفارقها؛ لأن السكنى فيها ممكن، فإن تهدمت، وذهبت قواعدها جاز له القصر قبل مفارقتها؛ لأنها لا تسكن. وإن كان حيطان البساتين متصلة بحيطان البلد فله أن يقصر إذا فارق حيطان البلد، وإن لم يفارق حيطان البساتين؛ لأنها ليست بمبنية للسكنى. قال ابن الصباغ: وإن كان في وسط البلد نهر يجري مثل بغداد، فأراد رجل سفرًا يجتاز فيه إلى الجانب الآخر، لم يجز له أن يقصر، حتى يفارق بنيان الجانب الآخر والنهر، والماء ليس بحائل، ألا ترى أنه لو كان في وسط البلد رحبة واسعة ميدانًا لم يقصر حتى يفارقها، فالنهر أولى بالمنع لتعلق المنافع به. فإن كان هناك قريتان، فاتصل البناء بينهما، حتى صارتا قرية واحدة لم يقصر حتى يفارق جميعها، وإن كان بينهما فضاء قصر إذا فارق القرية التي هو فيها، وإن لم يفارق القرية الأخرى. وقال أبو العباس بن سريج: إذا كان بينهما قريب، فهما كالقرية الواحدة. والمذهب الأول؛ لأن كل واحدة من القريتين منفصلة عن الأخرى، فثبت لكل واحدة حكم نفسها.

فرع قصر أهل الخيام

[فرع قصر أهل الخيام] ] : فأما أهل الخيام، فإن كانت مجتمعة لم يقصر، حتى يفارق جميعها، وإن كانت متفرقة لم يقصر، حتى يفارق ما يقرب من بيوته. قال أبو إسحاق المروزي: معنى هذا: إذا كان الحين بطونًا، فلكل بطن حكم نفسه. وإن كان في الصحراء، فنقل المزني: (أنه لا يقصر، حتى يفارق موضعه) . وقال في "الأم" [1/162] : (حتى يفارق البقعة التي فيها موضعه) وهذا صحيح، لا يقصر حتى يفارق الموضع الذي يسكن فيه، ويكون فيه رحله، وقماشه، وتصرفه. قال الشافعي: (فإن كان في عرض الوادي، فحتى يقطع عرض الوادي، وإن كان في طول الوادي، فحتى ينبت عن موضع منزله) . وقال أكثر أصحابنا: إنما اشترط قطع عرضه، إذا كانت البيوت في جميع عرض الوادي، وإن كانت البيوت في بعضه، فيقصر إذا فارقها، وإن كان في عرض الوادي. وقال القاضي أبو الطيب: لم يشترط الشافعي ما ذكروه بل أطلق، وإنما قال ذلك؛ لأن جانبي الوادي بمنزلة السور على البلد؛ لأنهم إنما اختاروا النزول في الوادي؛ ليتحصنوا بجانبيه، كما يتحصن أهل البلد بسوره، فينبغي ألا يقصر، حتى يفارقه. [فرع خرج من بلد ثم عاد لحاجة] ] : فإن خرج من بنيان بلده فله أن يقصر، فإن ذكر أنه نسي حاجة في البنيان، فعاد إليه لم يكن له أن يقصر فيه؛ لأن هذا موضع إقامته، فلم يقصر حتى يفارقه.

مسألة كون جميع الصلاة في السفر شرط للقصر

قال في " الإملاء " والقديم: (فإن فارق البنيان، وشرع في الصلاة، فرعف، وانصرف إلى البنيان، فغسل الدم لم يجز له أن يتم الصلاة قصرًا، ووجب عليه الإتمام؛ لأنه يتم في البنيان) . وعلى القول الجديد: تبطل صلاته، فإن أراد أن يستأنف، أتم الصلاة في البنيان، فإن خرج من البنيان استأنفها مقصورة. وإن خرج وأقام في موضع خارج البلد، ينتظر القافلة، فإن نوى أنه ينتظر دون الأربع إن اجتمعت، وإلا سافر كان له أن يقصر؛ لأنه قد قطع بالسفر، وإن نوى أنه لا يسافر، حتى تجتمع القافلة وإلا ترك السفر، لم يكن له أن يقصر؛ لأنه لم يقطع على السفر. [مسألة كون جميع الصلاة في السفر شرط للقصر] ] : ولا يجوز القصر، حتى يكون جميع الصلاة في السفر، فإن حصل جزء من الصلاة في دار إقامته، وذلك يتصور في بلد يكون في وسطه نهر، تمر به السفينة، أو نوى الإقامة في أثناء الصلاة في السفر لزمه أن يتم الصلاة؛ لأنها لم تتمحض في السفر. [مسألة نية القصر] ولا يجوز له القصر حتى ينوي القصر عند الإحرام. وقال أبو حنيفة: (القصر عزيمة، فلا يفتقر إلى نية) . وقال المزني: لا تختص نية القصر بأول الصلاة، بل لو نوى القصر في أثناء الصلاة جاز له القصر.

فرع من أراد القصر بعد تركه

وقال المغربي: لو نوى الإتمام، ثم نوى أن يقصر في أثناء الصلاة، كان له أن يقصر. فأما أبو حنيفة: فقد مضى الدليل عليه، وأن القصر ليس بعزيمة. ودليلنا على المزني: أن كل نية افتقرت إليها الصلاة، كان محلها عند الإحرام، كنية الصلاة. ودليلنا على المغربي: أنه أحرم بالصلاة تامة، فلم يجز له القصر بعد ذلك، كما لو أحرم بها في السفينة بدار الإقامة، ثم سافر. [فرع من أراد القصر بعد تركه] فإن أحرم بالصلاة وهو جاهل، ثم بان له أن يقصر لأجل السفر، ثم سلم من ركعتين، وجب عليه قضاؤها أربعًا؛ لأن عقدها أربعًا، فإذا سلم من ركعتين فقد قصد إفسادها متلاعبًا، فلزمته الإعادة. [فرع الشك في النية] ] : وإن شك: هل نوى القصر، أم لا؟ وجب عليه الإتمام؛ لأن الأصل التمام، ما لم يتيقن الرخصة، فإن ذكر بعد ذلك أنه قد كان نوى القصر لم يكن له القصر؛ لأنه قد وجب عليه الإتمام بنفس الشك، وإن نوى القصر، فصلى أربعًا ساهيًا، ثم ذكر فإنه يجزئه، ويسجد للسهو لأجل الزيادة، وهذه نادرة؛ لأن الزيادة التي توجب السهو إذا تعمدها أفسدت صلاته. ولو نوى هذا المسافر التمام لم تفسد صلاته، ولزمه التمام، هذا مذهبنا. وقال مالك: (إذا نوى المسافر القصر لم يكن له أن ينوي الإتمام؛ لأنه نوى عددًا، فإذا زاد عليه حصلت الزيادة بغير نية) وهذا ليس بصحيح؛ لأن نية الزيادة على العدد لا تعتبر لها النية؛ لأن نية صلاة الوقت تجزئ لهما، كما قلنا في النافلة إذا نواها ركعتين، كان له أن ينويها أربعًا في أثنائها.

مسألة ائتمام المسافر بالمقيم

[مسألة ائتمام المسافر بالمقيم] ] : إذا ائتم المسافر بالمقيم في جزء من صلاته لزمه الإتمام، وبه قال أبو حنيفة. وقال طاوس، والشعبي، وإسحاق: يجوز له القصر. وقال مالك: (إن أدرك معه ركعة لزمه التمام، وإن كان دونها لم يلزمه) . دليلنا ما روي: أنه «سئل ابن عباس: ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد، وأربعًا إذا ائتم بمقيم؟ ! فقال: (تلك السنة» ؛ وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والدليل على مالك: أنه مؤتم بمقيم فلزمه التمام، كما لو أدرك معه ركعة. [فرع المسافر يصلي خلف إمام الجمعة والصبح] فإن صلى المسافر خلف من يصلي الجمعة لزمه التمام، سواء كان إمام الجمعة مقيمًا أو مسافرًا؛ لأن الصلاة تامة. قال الشيخ أبو حامد: وكذلك لو فاتته الصلاة في السفر، وأراد قصرها -على القول الذي يجوز له القصر- وائتم بمن يصلي الصبح لزمه التمام؛ لأن الصبح صلاة تامة. [فرع ائتمام المسافر بمقيم] ] : إذا ائتم المسافر بمن يعلم أنه مقيم، مثل: أن يراه في منزله ووطنه لزمه أن ينوي التمام؛ لأن الإمام مقيم، وكذلك إذا ائتم بمن الظاهر من حاله أنه مقيم، مثل:

أن يرى عليه زي المقيمين لا زي المسافرين، فإن عليه أن ينوي التمام؛ لأن الظاهر من حاله أنه مقيم، وإن ائتم بمن يعلم أنه مسافر، أو بمن الظاهر من حاله أنه مسافر فهل له أن ينوي القصر، أو يعلق نيته بنية إمامه؟ فيه وجهان، ذكرهما ابن الصباغ: أحدهما: ينوي القصر، ولا يجوز تعليق نيته بنية غيره، كما لا يجوز أن ينوي الصلاة التي عليه إذا نسيها، ولم يعلم عينها. والثاني: يجوز تعليق نيته بنية إمامه؛ لأن صلاته تقع بحسب صلاة الإمام إذا نواها مقصورة، فجاز أن يعلقها بنية الإمام. فإن اقتدى المسافر بمن ظنه مسافرًا، ونوى القصر، فبان أن الإمام مقيم محدث، أو مسافر نوى الإتمام وهو محدث، فإن تبين له الأمران معًا، أو بان له حدثه قبل إقامته، فهل للمؤتم به أن يقصر هذه الصلاة؟ فيه وجهان: أحدهما وهو قول ابن القاص، ولم يذكر ابن الصباغ غيره: أن له أن يقصرها؛ لأن صلاة الإمام لم تنعقد، فلم يلزم المؤتم به التمام. والثاني حكاه الطبري في " العدة": ليس له أن يقصر؛ لأنه قد صح اقتداؤه به، إذا لم يعلم حدثه، ولهذا لا إعادة على من يقتدي به، إذا علمه بعد. وأما إذا بان له أنه مقيم، أو أنه نوى الإتمام أولًا، ثم بان له حدثه، فعليه أن يتم هذه الصلاة، وجهًا واحدًا. وكذلك لو ظنه مقيمًا، فاقتدى به، ثم بان أنه مسافر محدث، أو غير محدث، فإن المأموم يلزمه إتمام هذه الصلاة؛ لأنه قد التزم إتمامها، فلم يسقط عنه بما بان بعد ذلك. وإن ائتم المسافر بمقيم، أو بمن نوى الإتمام، أو لم ينو القصر، أو نوى الائتمام فإنه يلزمه في هذه المسائل الإتمام. فإن أفسد صلاته لزمه إعادتها تامة؛ لأنه قد التزمها تامة بإحرامه الأول، فإن بان أن المأموم كان محدثًا فيه جاز له أن يعيدها مقصورة؛ لأنه بان أن إحرامه كلا إحرام.

فرع ائتمام المسافر بالمسافر

[فرع ائتمام المسافر بالمسافر] ] : إذا ائتم المسافر بمن يعلمه مسافرًا، أو بمن الظاهر من حاله أنه مسافر، ثم نويا القصر، فقام الإمام من الثانية إلى الثالثة ساهيًا، فإن علم المأموم أن الإمام قام ساهيًا، وقل ما يعلم ذلك فإنه يفارقه، كما لو قام إلى الخامسة. وإن لم يعلم ذلك، بل ظن أنه أتم الصلاة لأمر ما لزمه متابعته؛ لأن الظاهر أن ما يأتي به الإمام من الصلاة، فلو أن الإمام -بعد أن فرغ من الرابعة- ذكر أنه صلى أربعًا ساهيًا، ثم نوى إتمامها لم يحتسب بهاتين الركعتين، بل يجب عليه أن يقوم، ويأتي بركعتين أخريين، ولا يجوز للمأموم متابعته فيهما؛ لأن الظاهر من الإمام، أنه قام ساهيًا في هذه الحالة. وإن نوى القصر خلف المسافر، ثم أفسد الإمام صلاته، ثم قال: كنت نويت القصر، كان للمأموم أن يتمها مقصورة، وإن قال الإمام: كنت نويتها تامة لزم المأموم أيضًا أن يتمها. وإن انصرف ولم يعلم بماذا أحرم الإمام، ففيه وجهان: أحدهما وهو المنصوص: (أنه يلزمه أنه يتمها) ؛ لأنه يشك في عدد الركعات، فلزمه البناء على اليقين. والثاني وهو قول أبي العباس: أن له أن يقصر؛ لأن الظاهر من إمامه أنه يقصر. [مسألة إمامة المسافرين وغيرهم] ] : قال الشافعي: (وإن صلى مسافر بمسافرين ومقيمين، فرعف الإمام واستخلف مقيمًا، كان على جميعهم والراعف أن يصلوا أربعًا؛ لأنه لم يكمل واحد منهم الصلاة، حتى صار فيها في صلاة مقيم) .

وجملة ذلك: أنه إذا صلى مسافر بمسافرين ومقيمين، فرعف الإمام، واستخلف مقيمًا كان على المأمومين أن يتموا الصلاة. وقال أبو حنيفة: (لا يلزم المسافرين الإتمام؛ لأنهم يبنون على حكم الإمام الأول) . ودليلنا: أنهم مؤتمون بالمقيم، فأشبه إذا أحرموا خلف المقيم. وأما الراعف: فإن الشافعي قال: (يلزمه أن يتم) . قال المزني: هذا غلط، بل هو بالخيار، إن شاء قصر، وإن شاء أتم؛ لأنه مسافر لم ينو الإتمام، ولا اقتدى بمقيم. قال أصحابنا: الصحيح ما قاله المزني. واختلفوا في تأويل قول الشافعي: فقال أبو إسحاق: تأويل ذلك هو أن الراعف لما رعف، واستخلف المقيم ذهب، وغسل الدم عن نفسه، ثم عاد، فائتم بالمقيم، وعليه يدل ظاهر كلام الشافعي، حيث قال: (لأنه لم يكمل واحد منهم الصلاة، حتى صار فيها في صلاة مقيم) ، وهذا الراعف لا يكون فيها في صلاة مقيم إلا بهذا. وتأولها أبو العباس تأويلين غير هذا: أحدهما: أنه قال: بنى الشافعي هذا على القول القديم، وأن الصلاة لا تبطل إذا سبقه الحدث، فيكون في حكم المؤتم بالمقيم. وهذا التأويل ليس بشيء؛ لأنه وإن لم تبطل صلاته على هذا القول إلا أنه منفرد عن الجماعة. والتأويل الثاني حكاه أبو العباس عن بعض أصحابنا: أنه قال: يحتمل أن يلزمه التمام على القولين؛ لأن هذا الخليفة فرع له، ولا يجوز أن تكون صلاة الأصل أنقص من صلاة الفرع. وهذا ليس بشيء؛ لأن الإمام إنما لزمه التمام؛ لأنه مقيم.

فرع تفريق الإمام المصلين في صلاة الخوف

ألا ترى أن الراعف لو لم يصبه الرعاف؛ لكانت صلاته أنقص من صلاة فرعه في حال كونه إمامًا له. وقال أبو غانم ملقي أبي العباس: تأويلها: هو أن الراعف لما أحس بالرعاف استخلف المقيم، وهو في الصلاة قبل أن يظهر الدم، فائتم بالمقيم في جزء من صلاته، ثم خرج الدم. وهذا ليس بشيء؛ لأن الإمام إنما يستخلف وينصرف، فأما أن يستخلف، ويصلي مع خليفته فلا، هكذا قال ابن الصباغ؛ ولأن الشافعي قال: (فرعف، واستخلف مقيمًا) . وظاهر قوله: أنه استخلف بعد أن رعف. [فرع تفريق الإمام المصلين في صلاة الخوف] إذا فرق الإمام الناس فرقتين في صلاة الخوف، وصلى بفرقة ركعة، وقام إلى الثانية فأحدث، واستخلف مقيمًا ليصلي بهم الركعة الثانية قال الشافعي: (كان على الطائفتين أن يصلوا أربعًا) . قال أصحابنا: تأويلها: إذا قدم المقيم قبل أن تفارقه الأولى، فأما بعد مفارقته: فإن الأولى تقصر دون الثانية. [مسألة حكم القصر] إذا سافر إلى بلد تقصر إليه الصلاة، فوصل ذلك البلد، فإن لم ينو الإقامة فيه فهو مسافر فيه، وله أن يقصر فيه الصلاة. وإن نوى فيه الإقامة صار مقيمًا فيه بنفس الدخول، فينقطع عنه رخص المسافر؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة يوم الرابع من ذي الحجة، وخرج إلى منى يوم الثامن من ذي الحجة، وهو يقصر الصلاة» .

وتأويل ذلك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة يوم الرابع، ولم يكن انتهى سفره؛ لأنه كان يريد الخروج إلى عرفات، فلما خرج إلى عرفات لم ينو الإقامة فيها، فلذلك قصر فيه وجمع، فلما فرغ من نسكه، ونزل من منى لم يدخل مكة، وإنما نزل بالمحصب، فلما كان من الغد دخل مكة، وطاف للوداع، وراح إلى المدينة، فلم ينو الإقامة بمكة. فإن دخل المسافر في طريقه بلدًا له فيها أهل ومال، ولم ينو الإقامة فيها، فإن له أن يقصر فيها؛ لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حج معه خلق كثير من المهاجرين، وكذلك حج أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالناس في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حجًّا بالناس، وكان لهم بمكة دور، وأهل، وقرابة، ولم ينقل: أن أحدًا منهم أتم الصلاة، بل نقل: أنهم قصروا فيها. ولأن الإقامة إنما تكون بنية الإقامة، أو بأن تحصل بدار إقامته، ولم يوجد شيء منهما.

فرع نية الإقامة

وحكى الطبري في " العدة" قولًا آخر: أن بنفس الدخول يصير مقيمًا، كدخوله دار إقامته، والأول هو المشهور. [فرع نية الإقامة] ] : إذا نوى المسافر أن يقيم ببلد أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج، انقطعت رخص السفر، وبه قال عثمان بن عفان، وسعيد بن المسيب، ومالك، وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: (إذا نوى إقامة خمسة عشر يومًا، مع اليوم الذي يدخل فيه، واليوم الذي يخرج فيه أتم الصلاة، وإن نوى دون ذلك قصر) . وهي إحدى الروايتين عن ابن عمر، واختاره المزني. وحكي عن سعيد بن جبير: أنه إذا نوى إقامة أكثر من خمسة عشر يومًا أتم الصلاة، وإن نوى دون ذلك قصر. وروي عن ابن عمر رواية أخرى: (أنه إن نوى إقامة ثلاثة عشر يومًا أتم الصلاة، وإن نوى دون ذلك قصر) . وروي عنه رواية ثالثة: (إن نوى إقامة اثني عشر يومًا أتم، وإن نوى دون ذلك قصر) . وقال علي وابن عباس: (إن نوى إقامة عشرة أيام أتم الصلاة، وإن نوى دون ذلك قصر) .

وقال ربيعة: إن نوى إقامة يوم وليلة أتم الصلاة. وقال الحسن البصري: إذا دخل المسافر البلد أتم الصلاة. وقالت عائشة: (إذا وضع المسافر رحله أتم الصلاة، سواء كانت في البلد أو خارجًا منها) . دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثًا» . ووجه الدلالة منه هو: أن المهاجرين حرمت عليهم الإقامة بمكة قبل فتحها، فلما صارت دار إسلام تحرج المسلمون من الإقامة فيها؛ ليكونوا على هجرتهم، وكانوا لا يدخلونها إلا لقضاء نسك، فلما أذن لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إقامة الثلاثة دل على أنها في حكم السفر، وما زاد علها في حكم الإقامة، وفي هذا دليل على أكثر المخالفين. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر الصلاة بمكة، ومنى، وعرفات» ، وفي هذا دليل على باقي المخالفين فيها. وأما يوم الدخول ويوم الخروج: فلا يعتبر؛ لأنه يشق مراعاة الزمان والساعة التي يدخل فيها أو يخرج، وضم بعضه إلى بعض، فسقط اعتبار ذلك.

فرع نية الإقامة

[فرع نية الإقامة] ] : وإن نوى الإقامة في موضع لا يصلح لها، كالمفازة من الأرض؛ فقال البغداديون من أصحابنا: حكمه حكم ما لو نوى الإقامة في بلد. وقال الخراسانيون: هل يكون كالإقامة في بلد؟ فيه قولان، بناء على القولين فيمن نوى الإقامة عند مواجهة العدو. وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه الإتمام) . دليلنا: أنه نوى الإقامة مدة الإقامة، فأشبه إذا نوى الإقامة بقرية. [فرع نية التابع إذا انفرد بها] إذا كان العبد مع سيده في سفر، فنوى العبد إقامة أربعة أيام، أو كانت الزوجة مع زوجها في السفر، فنوت الإقامة، ولم ينو الزوج، ولا السيد ففيه وجهان: أحدهما: يلزم العبد والزوجة الإتمام؛ لأنهما قد نويا الإقامة، فصارا كغيرهما. والثاني: لا يلزمهما؛ لأنه لا اختيار لهما في الإقامة. ويحتمل أن يكون إذا نوى الجيش الإقامة مع الإمام، أو الأمير من قبله، ولم ينو هو الإقامة على هذين الوجهين. [فرع نية إقامة المسافرين] لو أن مسافرين دخلا بلدًا، ونويا إقامة أربعة أيام، غير يوم الدخول ويوم الخروج، وأحدهما يعتقد جواز القصر مع نية إقامة أربعة أيام، كره للآخر أن يأتم به، فإن خالف، واقتدى به، فقصر الإمام لم تبطل صلاة المأموم بذلك؛ لأن الإمام لا تبطل صلاته إلا بالسلام من ركعتين، فيقوم المأموم، ويتم لنفسه، كما لو أفسد الإمام صلاته بكلام أو غيره.

فرع نية الإقامة لإنجاز حاجة

[فرع نية الإقامة لإنجاز حاجة] ] : فأما إذا نوى المسافر الإقامة؛ لينجز حاجة، ثم يرحل بعدها، مثل: أن يقيم على كتب حديث أو سماعه، أو قراءة علم، أو على بيع سلعة أو شرائها، أو كان مريضًا، فنوى الإقامة إلى أن يبرأ، ولم ينو إقامة مدة نظرت: فإن كان يعلم أن حاجته لا تتنجز له إلا بإقامة أربعة أيام، فما زاد لم يجز له القصر، كما لو نوى إقامة أربعة أيام. وإن كان لا يدري متى تتنجز حاجته، وقد تتنجز في أربع، وفيما دونها، وفيما زاد عليها، فقد اختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد: له أن يقصر إلى أن تبلغ إقامته إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هوازن عام الفتح قولًا واحدًا، وقد اختلفت الرواية في قدر إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هوازن. ففي رواية: (أنه أقام سبعة عشر يومًا) . وفي رواية: (أنه أقام ثمانية عشر) . قال في " الإبانة " [ق \ 88] : وهو الأصح.

وفي رواية ثالثة ذكرها في " الإبانة " [ق \ 88] : (أنها عشرون يومًا) . وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فتح مكة، جمعت هوازن قبائل العرب، وأرادت المسير إلى قتاله، فكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقيمًا يتخوف من ذلك، وينتظرهم ليقاتلهم، وهو يقصر الصلاة، فأقام المدة التي ذكرناها. فإن زادت إقامته على ذلك، ففيه قولان: أحدهما: يجوز له أن يقصر؛ لأنه إقامة في مدة، على تنجز حاجة يرحل بعدها، فجاز له القصر فيها، كالإقامة في سبعة عشر يومًا. والثاني: يلزمه الإتمام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] [النساء: 101] ، وهذا ليس بضارب؛ ولأن الأصل التمام، إلا فيما وردت فيه الرخصة، وهو قدر إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونفي ما زاد على الأصل. وقال أبو إسحاق المروزي: له أن يقصر أربعة أيام، قولًا واحدًا، وفيما زاد عليها ثلاثة أقوال: أحدها: يجوز له أن يقصر أبدًا. والثاني: له أن يقصر إلى أن يبلغ مدة إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يتم فيما زاد عليها، ووجههما ما ذكرناه. والثالث: يلزمه الإتمام بعد الأربع؛ لأن الإقامة أبلغ من نية الإقامة، فإذا لزمه

الإتمام بنية إقامة أربعة أيام، فلأن يلزمه الإتمام بالإقامة فيما زاد عليها أولى. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 88] : له أن يقصر ثلاثة أيام قولًا واحدًا، وفيما زاد عليها قولان: أحدهما: يقصر أبدًا. والثاني: يقصر ما لم تبلغ مدة إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويتم فيما زاد عليها. فأما الإقامة على حرب: فلا فرق بين أن يكون مقاتلًا في الحال، أو يكون متخوفًا من القتال، والحكم فيه واحد، فينظر فيه: فإن لم ينو إقامة مدة، بل نوى أنه متى انقضى القتال رحل، فهو كما لو نوى الإقامة على تنجز حاجة يرحل بعدها، على ما مضى من الطرق. وإن نوى إقامة أربعة أيام، فما زاد على ذلك ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز له القصر؛ لأنه نوى إقامة أربعة أيام، فهو كما لو نوى الإقامة على غير حرب. والثاني: له أن يقصر؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بمكة على قتال هوازن المدة التي ذكرناها، وهو يقصر الصلاة. ولما روي: أن رجلًا سأل ابن عباس، فقال: إنا نغزو بخراسان، فتطول المدة؛ أنقصر؟ فقال: (اقصروا، ولو بقيتم عشر سنين) ، وروي: (أن أنسًا أقام بنيسابور سنة يقصر الصلاة على حرب) ، و (أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة) .

فرع المسافر في البحر عند ركود الريح

قال أبو المحاسن من أصحابنا: إذا نزل المسافر قرية، فأقام بها أربعة أيام، من غير نية الإقامة لم يكن له أن يقصر بعدها. وقال أبو حنيفة: (يقصر ما لم ينو الإقامة) . دليلنا: أن وجود الإقامة عيانًا وحقيقة، أقوى من نية الإقامة، ولو نوى هذه المدة لم يقصر كذلك إذا وجد حقيقة. [فرع المسافر في البحر عند ركود الريح] وإن سافروا في البحر، فركدت بهم الريح، فأقاموا على هبوبها، فهم كالمقيمين على تنجز حاجة، فلو أقاموا في موضع قدر إقامة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التي قبلها، وقلنا: يجب عليهم التمام، أو قلنا: يلزمهم الإتمام بعد أربعة أيام، في أحد الأقوال على طريقة أبي إسحاق، ثم هبت الريح، فعدوا عن موضعهم، جاز لهم القصر. فإن ردتهم الريح إلى موضعهم الأول، ثم ركدت بهم الريح فيه كانوا كالمقيمين في هذه الحالة على تنجز حاجة، فلهم أن يقصروا أربعة أيام، قولًا واحدًا، وفيما زاد عليها الطرق؛ لأنهم قد أنشئوا السفر بهبوب الريح، وهذه إقامة غير الأولى، وإن كان الموضع واحدًا. [فرع يقصر المكي] ] : ذكر الطبري في " العدة": لو أن مكيًّا قصد إلى عرفات، ثم يعود إلى منى، ثم إلى مكة، ثم يخرج إلى بعض الآفاق، ولم يقم في شيء من هذه المواضع أربعة أيام، فليس له أن يقصر في شيء منها، ما لم يفارق مكة بعد رجوعه إليها؛ لأن كل ذلك بلد إقامته، والمسافات متقاربة.

فرع المسافر يؤم غيره

فأما إذا قصد المكي إلى جدة، أو إلى موضع تقصر إليه الصلاة من مكة، ثم يعود إلى مكة، ولا يقيم بها أربعة أيام، بل يخرج منها إلى بعض الآفاق فله أن يقصر هاهنا عند خروجه من مكة إلى جدة، وفي رجوعه من جدة إلى مكة، وهل له أن يقصر بمكة؟ فيه قولان، كالقولين فيمن مر ببلد له فيها أهل ومال. قلت: وعندي: أنه لا يقصر بمكة قولًا واحدًا؛ لأن الشافعي قال: (لو خرج من وطنه مسافرًا إلى بلد تقصر إليه الصلاة، فأحرم بالصلاة خارج البلد فرعف، فرجع إلى البلد لغسل الدم، أو لحاجة نسيها لم يكن له أن يقصر ببلده) ؛ لأنه في دار إقامته، وإن كان برجوعه لم ينو الإقامة، بل هو على نية السفر. ويدل على ما ذكرته: أن الشافعي قال في "الأم" [1/164] والقديم: (إذا ولى الإمام رجلًا مكة، فسار من موضع تقصر منه الصلاة إليها، وهو يريد الحج، فبلغ مكة انقطع قصره، وإن كان يريد المسير إلى منى وعرفات) ؛ لأنه يحصل بذلك في وطنه، ولا يقطع قصره إذا حصل في طرق عمله؛ لأن ذلك ليس بوطن له؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسير في البلد التي فيها أهل طاعته، وكان يقصر الصلاة فيها. [فرع المسافر يؤم غيره] إذا أمّ المسافر بمسافرين وبمقيمين جاز، ويجوز للإمام، ولمن خلفه من المسافرين أن يقصروا، ويتم المقيمون؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤم المسافرين والمقيمين بمكة، وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن خلفه من المسافرين يقصرون الصلاة، ويتم المقيمون خلفه. ويستحب للإمام إذا سلم أن يقول للمقيمين: أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سلم قال: "أتموا يا أهل مكة، فإنا قوم سفر» . فإن أراد أن يستخلف أحد المقيمين؛ ليتم بهم الصلاة، بنى على القولين في

مسألة قضاء فائتة الحضر في السفر

الاستخلاف عند الحدث، فإن قلنا هناك: لا يجوز فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: يجوز فهاهنا وجهان، ويأتي بيان ذلك. [مسألة قضاء فائتة الحضر في السفر] ] : فإن فاتته صلاة في الحضر، فقضاها في الحضر، وجب عليه أن يقضيها تامة، سواء كان بين فواتها وقضائها سفر أو لم يكن؛ لأنه مقيم حال الوجوب، وحال القضاء. وإن فاتته صلاة في السفر، فقضاها في الحضر ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يجوز له أن يقضيها مقصورة) ، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والثوري، والحسن البصري، وحماد؛ لأنها صلاة، فكان قضاؤها كأدائها كالصبح، والمغرب، وكما لو فاتته في الحضر، فقضاها في السفر. و [الثاني] : قال في الجديد: (يلزمه أن يقضيها تامة) ، وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، والمزني، وهو الأصح؛ لأن القصر تخفيف تعلق بعذر، وقد زال العذر، فزال التخفيف، كالقعود في صلاة المريض. وإن فاتته صلاة في السفر، فقضاها في السفر ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز له قصرها؛ لأنها صلاة ردت إلى ركعتين، فكان من شرطها الوقت، كصلاة الجمعة. والثاني: يجوز له قصرها، وهو الأصح؛ لأنه تخفيف تعلق بعذر، والوقت باق، فجاز أن يكون التخفيف باقيًا، كالقعود في صلاة المريض. فعلى هذا: إن تخلل بين الفوات والقضاء حضر، فهل يجوز له القصر؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 87] .

فرع القضاء في السفر

[فرع القضاء في السفر] ] : وإن فاتته صلاة في الحضر، وأراد قضاءها في السفر، وجب عليه أن يقضيها تامة. وقال الحسن البصري والمزني: يجوز أن يقضيها مقصورة؛ لأن الاعتبار بحال الفعل، ولهذا لو ترك صلاة في حال الصحة، فقضاها في حال المرض، كان له أن يصليها قاعدًا، وكما لو فاته صوم في الحضر، فذكره في السفر فإن له أن يفطر. ودليلنا: أن هذه صلاة تعين عليه فعلها أربعًا، فلا يجوز له النقصان عن عددها، كما لو لم يسافر، وكم لو نذر أن يصلي أربع ركعات. وأما ما ذكراه من صلاة المريض: فالفرق بينهما: أن المرض حال ضرورة، والسفر حال عذر، فلا يعتبر أحدهما بالآخر، ألا ترى أنه لو افتتح الصلاة قائمًا في الصحة، ثم طرأ عليه المرض، في أثنائها جاز له القعود، ولو افتتح الصلاة في الحضر، ثم سافر في أثنائها لم يجز له قصرها. وأما الصوم: فإن كان تركه في الحضر لغير عذر، بأن أكل عامدًا فقد اختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق المروزي: لا يجوز له تركه في السفر؛ لأنه مفرط. فعلى هذا: يسقط السؤال. وقال أكثر أصحابنا: هو مخير بين قضائه في السفر أو الحضر، وكذلك إذا تركه في الحضر بعذر، فهو مخير أيضًا بين قضائه بالسفر أو الحضر، فيكون الفرق بينه وبين الصلاة: أن الترخص في الصوم بالسفر هاهنا إنما هو بتأخيره، لا بسقوط بعضه، والترخص بالسفر في الصلاة إنما هو بسقوط بعضها، ولهذا لو دخل في الصوم بالسفر؛ كان مخيرًا بين إتمامه أو الفطر منه، ولو دخل في الصلاة في السفر بنية التمام لم يجز له قصرها.

فرع أدرك الصلاة حضرا وصلاها سفرا

[فرع أدرك الصلاة حضرًا وصلاها سفرًا] ] : إذا دخل عليه وقت الصلاة في الحضر، وتمكن من أدائها، ثم سافر فله أن يقصر، وقال المزني: ليس له أن يقصر. قال الشيخ أبو إسحاق: ووافقه أبو العباس ابن سريج على هذا، كما لو دخل على المرأة وقت الصلاة في الحضر، وتمكنت من أدائها، ثم حاضت قبل أن تصليها، فإنها لا تسقط عنها. والمذهب الأول؛ لأن الاعتبار في الصلاة بحال الأداء، لا بحال الوجوب، بدليل أنه لو دخل عليه وقت الظهر يوم الجمعة، وهو عبد، فلم يصل حتى أعتق فإن الجمعة تجب عليه، وهذا مسافر في حال الأداء فجاز له القصر. قال ابن الصباغ: وأما الحائض: فلا نسلمه، على قول أبي العباس، فإنه قال فيها: إذا دخل عليها وقت الصلاة، وتمكنت من فعلها، ثم طرأ عليها الحيض، أو الإغماء، فإنها تسقط عنها، وقد حكى الشيخ أبو إسحاق هذا عن أبي العباس في الحائض. فإن ثبتت الحكايتان عن أبي العباس، تناقض قوله. وإن سلمنا الحائض على المذهب، فالفرق بينها وبين المسافر: أن الحيض يؤثر في إسقاط الصلاة، فلو أثر ذلك بعد التمكن من فعلها، لأدى إلى إسقاط فرض الصلاة بعد وجوبها، والسفر لا يؤثر في إسقاط الفرض، وإنما يؤثر في عدد الركعات، فلا يؤدي إلى إسقاطها. وإن سافر، ولم يبق من وقت الصلاة إلا قدر أربع ركعات، جاز له القصر. وقال المزني: لا يجوز له القصر، ووافقه على هذا أبو الطيب بن سلمة، والصحيح هو الأول؛ لما ذكرناه في الأولى. وإن سافر وقد بقي من الوقت قدر ركعة، فإن قلنا بقول المزني، وابن سلمة في الأولى لزمه التمام.

فرع استخلاف المسافر المقيم

وإن قلنا بقول عامة أصحابنا في الأولى بنيت هذه على من صلى في الوقت ركعة، ثم خرج الوقت، فإن قلنا بقول أبي علي ابن خيران: إنه يكون مؤديًا للجميع، وهو ظاهر المذهب، جاز له القصر. وإن قلنا: يكون مؤديًا لما صلى في الوقت، قاضيًا لما صلى بعد خروج الوقت لم يجز له القصر. وإن لم يصل المسافر، حتى بقي من الوقت قدر ركعة أو أقل، فإن قلنا: يكون مؤديًا للجميع جاز له القصر، قولًا واحدًا. وإن قلنا: يكون مؤديًا لما صلى في الوقت، قاضيًا لما صلى بعد خروج الوقت، فهل يجوز له القصر؟ فيه قولان، كما لو فاتته في السفر، فقضاها في السفر. [فرع استخلاف المسافر المقيم] ] : قال في " الإبانة " [ق \ 89] : إذا اقتدى مسافر بمسافر، ونويا القصر، فأحدث الإمام، واستخلف مقيمًا لزم المأموم الإتمام، وأما الإمام الأول: فإن توضأ وعاد، فائتم بخلفيته لزمه التمام، وإن صلى منفردًا جاز له القصر. قال: وفيه وجه بعيد: أنه يلزمه الإتمام؛ لأن نظام صلاة الخليفة بنظام صلاته، ولعل هذا الوجه مأخوذ من أحد التأويلات في مسألة الراعف التي مضت. [مسألة الجمع بين الصلوات] يجوز الجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما، في السفر الطويل، وبه قال سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن

زيد، وابن عمر، وابن عباس، وأبو موسى، ومعاذ بن جبل، وجابر بن سمرة. وهل يجوز الجمع بينهما في السفر الطويل؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يجوز) ، وبه قال مالك. ووجهه: أن أهل مكة يجمعون بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة، ولا ننكر عليهم منكر؛ ولأنه سفر يجوز فيه التنفل على الراحلة، فجاز الجمع فيه كالطويل. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجوز) ، وهو الأصح؛ لأنه إخراج عبادة عن وقتها، فلم يجز في السفر القصير كالفطر، وأما أهل مكة: فلا حجة في فعلهم أيضًا. قال ابن الصباغ: لأنهم يقصرون أيضًا، ونحن لا نجيز ذلك في القصر، وأما التنفل على الراحلة: فإنما جاز ذلك؛ لئلا ينقطع عن النافلة، وفي ذلك مشقة، وهذا يستوي فيه القصير والطويل، وليس في منع الجمع في القصر مشقة، هذا مذهبنا.

وقال الحسن البصري، وابن سيرين، ومكحول، والنخعي، وأبو حنيفة، وأصحابه: (لا يجوز الجمع بين الصلاتين في السفر بحال، وإنما يجوز لأجل النسك في عرفة، ومزدلفة لا غير) . ودليلنا: ما روي عن «ابن عباس: أنه قال: (ألا أخبركم بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا زالت الشمس، وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر في وقت الزوال، وإذا سافر قبل الزوال أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر» . وروي عن «عبد الله بن دينار: أنه قال: غربت الشمس، ونحن مع عبد الله بن عمر في سفر، فسار حتى أمسى، فقلنا: الصلاة، فسار حتى غاب الشفق، وتصوبت النجوم ثم نزل، فجمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء، وقال: (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جد به السير صلى صلاتي هذه» .

إذا ثبت هذا: فالأفضل إن كان نازلًا في وقت الأولى أن يجمع بينهما في وقت الأولى، وإن كان سائرًا فالأفضل أن يجمع بينهما في وقت الثانية؛ لما ذكرناه من حديث ابن عباس؛ ولأنه أرفق بالمسافر، فكان أولى. فإن جمع بينهما في وقت الأولى، افتقر إلى ثلاثة شروط: أحدها: نية الجمع. وقال المزني: لا يفتقر إلى نية الجمع، بل إذا فرغ من الأولى، وأراد أن يصلي الثانية نوى أنه يترخص بها. ودليلنا: أنه جمع، فلا بد من نيته، كالجمع في وقت الثانية، فإنه وافقنا على ذلك. إذا ثبت هذا: فإن نوى الجمع عند الإحرام بالأولى صح ذلك قولًا واحدًا، وإن أخر نية الجمع عن حال الإحرام بالأولى، ونواه قبل تسليمه منها، في أي جزء كان منها فهل يصح؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصح؛ لأن القصر رخصة، والجمع رخصة، فلما كان القصر لا يصح إلا بنية مع الإحرام، فكذلك الجمع. والثاني: يصح، وهو الأصح؛ لأن الجمع يحصل بفعل الثانية عقيب الأولى، فإذا نوى الجمع قبل الفراغ من الأولى أجزأه، كما لو نوى عند الإحرام. وحكى في " الإبانة " [ق \ 90] : طريقة ثانية: إن كان الجمع بالمطر، اشترط أن تكون النية عند الإحرام بالأولى، وإن كان في السفر أجزأه أن ينوي قبل التسليم من الأولى، قال: وقد نص الشافعي على هذا، والفرق بينهما: أن وجود السفر شرط في جميع الصلاة، فاكتفي بوجوده عن النية في أولها، والمطر لا يفتقر إلى وجوده في جميع الصلاة، فافتقر إلى النية في أولها؛ لأن المطر يشترط في أولها. الشرط الثاني: الترتيب بين الصلاتين، وهو أن يقدم الأولى منهما؛ لأن الوقت

لها، والثانية تبع لها، فاشترط تقديم المتبوع. الشرط الثالث: التتابع بينهما، فإن فصل بينهما بفصل يسير جاز؛ لأن ذلك لا يمكن الاحتراز منه، وإن فصل بينهما بفصل طويل، ويعرف حده بالعرف والعادة منع الجمع. قال الشافعي: (ولا يسبح بينهما) ؛ يعني: لا يتنفل بينهما. وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يمنع ذلك؛ لأن ذلك من سنن الصلاة، فلم يمنع صحة الجمع كالإقامة، وهذا ليس بشيء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالإقامة للثانية، ولم يتنفل بينهما. وإن كان عادمًا للماء، وأراد الجمع بينهما بالتيمم ففيه وجهان: [الأول] : قال أبو إسحاق: لا يجوز؛ لأنه يحتاج أن يطلب الماء للثانية، ويجدد التيمم للثانية، بعد الفراغ من الأولى، وذلك فصل يطول، فمنع الجمع، كما لو فصل بينهما بنافلة. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يجوز، كما يجوز الجمع بينهما بالوضوء، وما ذكرناه من الفصل غير صحيح؛ لأنه من مصلحة الصلاة؛ ولأنه دون الطلب الأول، ويفارق النافلة؛ لأنها ليست من مصلحة الصلاة. فإن جمع بينهما في وقت الأولى، فلما فرغ منهما تيقن أنه ترك سجدة من إحدى الصلاتين، ولم يعرفها بعينها، لزمه إعادة الظهر؛ لجواز أن يكون قد ترك السجدة منها، ولم يجز له أن يجمع إليها العصر، بل يصلي العصر في وقتها؛ لجواز أن يكون قد ترك السجدة من العصر، وقد يسقط عنه فرض الظهر بفعل الأولى، وقد حصل هناك فصل طويل، بفعل العصر وبإعادة الظهر، فمنع صحة الجمع. قال أصحابنا: ويجيء فيه قول آخر: أنه يجوز الجمع له، قياسًا على الجمعتين إذا

مسألة الجمع بالمطر

أقيمتا في بلد واحد، ولم تعرف السابقة منهما: أن لهم أن يصلوا الجمعة ثانيًا، في أحد القولين. وإن نوى الإقامة في أثناء الأولى، أو بعد الفراغ منها وقبل الدخول في الثانية بطل الجمع؛ لأنه زال سبب الرخصة، وهو السفر. وإن نوى الإقامة في أثناء الثانية، فهل يبطل الجمع؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 90] . وإن نوى الإقامة بعد الفراغ من الثانية، فإن قلنا: إن نية الإقامة في أثناء الثانية لا تمنع الجمع فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: إنها تمنع الجمع بينهما، فهاهنا وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 90] . قلت: وهذا بعيد؛ لأنا قد حكمنا بسقوط الفرض عنه بالفراغ منها، فلا تؤثر هذه النية، كما لو أحدث، وكما لو قصر، ثم نوى الإقامة بعد الفراغ منها. وإن أراد الجمع بينهما في وقت الثانية افتقر إلى نية الجمع، وهو أن ينوي أنه يصليها مع الثانية في وقتها، وتجزئه النية في أي وقت شاء من وقت الأولى؛ لأنه قد يؤخر الأولى إلى وقت الثانية، على وجه المعصية، وعلى وجه النسيان، فافتقر إلى النية؛ لتمييز التأخير الشرعي عن غيره، ولا يفتقر إلى تقديم إحداهما على الأخرى، ولا إلى المتابعة بينهما؛ لأن الأولى قد فات وقتها، فهي تفعل في وقت الثانية على وجه القضاء، والثانية تؤدى في وقتها، فلا تتعلق إحدى الصلاتين بالأخرى، هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: هل تفتقر إلى الشروط الثلاثة هاهنا؟ فيه وجهان. [مسألة الجمع بالمطر] ] : يجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في وقت الأولى منهما في الحضر في المطر. وقال أبو حنيفة، والمزني: (لا يجوز) .

وقال مالك: (يجوز الجمع بين المغرب والعشاء في المطر، ولا يجوز بين الظهر والعصر) . دليلنا: ما روى نافع، عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر؛ لأجل المطر» ، وقد روى الشافعي، عن مالك، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع في المدينة بين المغرب والعشاء، من غير خوف ولا سفر» . قال مالك: (أرى ذلك في المطر) . إذا ثبت هذا: فمن شرط صحة ذلك: تقديم الأولى منهما، ونية الجمع على ما مضى، والموالاة بينهما. وأما المطر: فيشترط وجوده عند الإحرام في الأولى، وعند السلام منها، وعند الإحرام في الثانية، ولا يؤثر انقطاع المطر في غير هذه الحالات؛ لأن المطر قد وجد حال الجمع. وقال ابن الصباغ: إذا حدث المطر بعد الإحرام بالأولى، فعندي أنه يجوز له الجمع إذا قلنا: تجوز نية الجمع قبل السلام منها؛ لأن سبب الجمع قد وجد، وهو المطر. والأول هو المشهور، هذا طريقة أصحابنا العراقيين.

وقال الخراسانيون: إذا انقطع المطر في أثناء العصر فهل يبطل الجمع؟ فيه وجهان. وإن انقطع بعد الفراغ من العصر، فعلى أحد الوجهين وجهان، كما مضى في نية الإقامة، وإن أراد الجمع بينهما للمطر في وقت الثانية، فهل يجوز؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يجوز) ؛ لأن كل سبب جاز لأجله تقديم العصر إلى الظهر، جاز تأخير الظهر إلى العصر لأجله كالسفر. و [الثاني] : قال في "الأم": (لا يجوز) ؛ لأن ذلك يؤدي إلى الجمع من غير وجود العذر؛ ولأن المطر قد ينقطع. فإذا قلنا: يجوز الجمع بينهما في وقت الثانية، قال أصحابنا: فإنه يجوز الجمع سواء اتصل المطر إلى وقت الثانية أو انقطع؛ لأنه إذا أخر فقد لزمه الجمع بالضرورة، فلا تتغير حاله، هذه طريقة أصحابنا العراقيين. وقال في " الإبانة " [ق \ 90] : يجوز أن يؤخر الأولى إلى الثانية في المطر، وهل يجوز أن يقدم الثانية إلى الأولى؟ فيه وجهان.

فرع الجمع في المطر لمن لا حرج عليه

[فرع الجمع في المطر لمن لا حرج عليه] ] : وهل يجوز الجمع في المطر للمنفرد، أو لمن يصلي في بيته، أو لمن يصلي في المسجد، وبين المسجد وبين بيته سقف يمنع من وصول المطر إليه؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنا إنما جوزنا له الجمع؛ لئلا تفوته الجماعة، وللمشقة التي تلحقه بالمطر، وهذا غير موجود هاهنا. والثاني: يجوز؛ لأن العلة في جواز الجمع وجود المطر، والمطر موجود، فوجب أن يجوز له الجمع، كمن يصلي في جماعة في مسجد لا سقف بينه وبين بيته. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجمع في المطر في المسجد، وليس بين حجرة عائشة وبين المسجد شيء. [فرع المطر المجيز للجمع] والمطر الذي يجوز الجمع لأجله: هو المطر الذي يبل الأرض والثياب، سواء كان كثيرًا أو خفيفًا؛ لأن التأذي به موجود. فأما الرذاذ الذي لا يبل الأرض والثياب إلا بطول المكث فيه: فلا يجوز الجمع لأجله؛ لأن ذلك لا يتأذى به، وأما البرد: فإنه لا يجوز الجمع لأجله؛ لأنه لا يبل الأرض والثبات. وأما الثلج: فإن كان رخوًا يبل الأرض والثياب جاز الجمع لأجله؛ لأنه بمنزلة المطر بالتأذي به، وإن كان صلبًا لا يبل الأرض والثياب لم يجز الجمع لأجله كالبرد، وأما الوحل: فلا يجوز الجمع لأجله. وقال مالك وأحمد: (يجوز) .

فرع الجمع للمرض والخوف

دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع لأجل المطر، ولم ينقل أنه جمع لأجل الوحل؛ ولأن الوحل لا يشارك المطر في التأذي به؛ لأن المطر يبل الثياب، وذلك لا يوجد في الوحل. [فرع الجمع للمرض والخوف] ] : ولا يجوز الجمع في الحضر للمرض، ولا للخوف. وقال مالك وأحمد وإسحاق: (يجوز الجمع للمرض والخوف) . وقال ابن سيرين: يجوز الجمع في الحضر أيضًا من غير مرض، ولا خوف، ولا مطر، واختاره ابن المنذر؛ لما روي عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر من غير خوف ولا سفر» . قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ولم تراه فعل ذلك؟ قال: (أراد أن لا يحرج أحدًا من أمته) . وروي عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، من غير خوف ولا مطر» .

فرع جمع العصر مع الجمعة

ودليلنا: ما ذكرناه من الأخبار في المواقيت. وأما الخبر الأول: فقوله: (من غير خوف ولا سفر) ، فنقول: أراد به: في المطر، وأما قوله في الخبر الثاني: (من غير خوف ولا مطر) ، فيحتمل أن يكون أراد: أن المطر انقطع في الثانية، ويحتمل أن يكون أراد: الجمع الذي يقوله أبو حنيفة وهو: أنه أخر الظهر إلى آخر وقتها، وقدم العصر في أول وقتها. [فرع جمع العصر مع الجمعة] إذا أراد جمع صلاة العصر إلى صلاة الجمعة في المطر، فلا أعلم فيها نصًّا. والذي يقتضي القياس: أنه يجوز ويشترط وجود المطر عند الإحرام بصلاة الجمعة، وعند السلام منها، وعند الإحرام بالعصر، ولا يشترط وجود المطر في الخطبتين؛ لأنهما ليستا من الصلاة، وإنما هما شرط في صحة الجمعة، فلم يشترط وجود المطر فيهما كالطهارة والتيمم. وإن أراد أن يؤخر الجمعة إلى العصر، على القول القديم جاز ذلك، ولا يشترط وجود المطر في وقت العصر، على ما مضى، ويخطب وقت العصر، ويصلي الجمعة؛ لأن كل وقت جاز فعل الظهر فيه، جاز فيه فعل صلاة الجمعة، كآخر وقت الظهر، وهذا القول ضعيف، وما ت فرع عليه.

وبالله التوفيق

باب صلاة الخوف

[باب صلاة الخوف] صلاة الخوف ثابتة في وقتنا، ولم تنسخ، وبه قال كافة أهل العلم. وقال أبو يوسف والمزني: كانت جائزة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم نسخت في آخر زمانه، وفي حق غيره، فلا يجوز لأحد فعلها بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: لم تنسخ، وإنما هي خاصة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون من بعده. دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، وهذا عام، ويدل عليه إجماع الصحابة، فإنه روي: (أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى بأصحابه صلاة الخوف ليلة الهرير) ، وروي: (أن أبا موسى الأشعري صلى بأصحابه صلاة الخوف في بعض غزواته) ، وروي: «أن سعيد بن العاص كان أميرًا على الجيش بطبرستان، فأراد أن يصلي صلاة الخوف، فقال: (هل فيكم من

صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا فقدمه، حتى يصلي بهم» . ولم ينكر ذلك كله أحد من الصحابة، فدل على أنه إجماع. ولا يؤثر الخوف في عدد الركعات، بل إن كان في الحضر صلاها أربعًا، وإن كان في السفر صلاها ركعتين، ويستوي الإمام والمأموم في ذلك، وهو قول كافة الفقهاء، وبه قال ابن عمر وجابر. وذهب الحسن البصري، وطاوس إلى: أن الإمام يصلي ركعتين، والمأموم يصلي ركعة، وروي ذلك عن ابن عباس. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ولم يفرق. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم بذات الرقاع، بكل طائفة ركعتين» .

مسألة جواز صلاة الخوف في القتال

[مسألة جواز صلاة الخوف في القتال] ] : ويجوز صلاة الخوف بالقتال الواجب والمباح. فأما الواجب: فهو قتال الكفار، وقتال أهل العدل لأهل البغي، وقتال من يقصد نفسه، إذا قلنا: إنه واجب. وأما المباح: فهو كقتاله لمن أراد أخذ ماله، أو مال غيره من المسلمين، أو من أهل الذمة؛ لأن القرآن دل على جواز ذلك في قتال الكفار، وقسنا غيره عليه. ولا تجوز صلاة الخوف في قتال المعصية، كقتال المسلمين وأهل الذمة لأخذ أموالهم، وقتال أهل البغي لأهل العدل، وما أشبه ذلك؛ لأن ذلك رخصة متعلقة بسبب، فإذا كان السبب معصية لم تتعلق به الرخصة، كالقصر والفطر في سفر المعصية. فإن هرب من غريمه، وهو معسر فله أن يصلي صلاة الخوف عند الخوف. قال في " الإبانة " [ق \ 99] : وكذلك إذا هرب من القصاص، فله أن يصلي صلاة الخوف؛ لأنه يرجو العفو. وإن انهزموا عن المشركين، فصلوا صلاة شدة الخوف، فإن كانوا متحرفين لقتال، مثل أن تكون الشمس في وجوههم، أو في هبوط من الأرض، والعدو أعلى منهم، فانهزموا؛ ليطلبوا مكانًا أمكن للقتال، أو كانوا متحيزين إلى فئة، مستنصرين بهم، جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لأنهم ليسوا بعصاة.

مسألة صلاة الخوف عند طلب العدو

وإن انهزموا منهم لغير هذين المعنيين، فإن كان العدو أكثر من مثليهم، جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لأنه فرار جائز، وإن كانوا مثلهم أو مثليهم لم يجز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لأنهم عاصون بالهزيمة منهم. [مسألة صلاة الخوف عند طلب العدو] ] : قال الشافعي: (وليس لأحد أن يصلي صلاة شدة الخوف في طلب العدو) . قال أصحابنا: طلب العدو على ضربين. أحدهما: أن يدخل المسلمون بلاد العدو، ويبلغوا منها موضعًا لا يتلقاهم العدو هناك، ولا يخالفون منهم، أو يكون المشركون قد انهزموا من المسلمين هزيمة يتحقق أنهم لا يرجعون ولا يجتمعون عن قرب، فإن كان هكذا لم يجز أن يصلوا صلاة الخوف؛ لأنهم غير خائفين. الثاني: أن يدخل المسلمون بلاد العدو، ويبلغوا منها موضعًا لا يأمنون وقوع العدو عليهم، ويخافون نكايتهم، أو يكونون قد هزموهم هزيمة قد يمكنهم الرجوع، والاجتماع عليهم عن قرب، ولا يؤمن ذلك منهم، فيجوز لهم أن يصلوا صلاة الخوف؛ لأن الخوف هاهنا موجود. [مسألة كيفية صلاة الخوف] ] : وأما كيفية صلاة الخوف: فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أنه صلى صلاة الخوف في مواضع كثيرة، وبعضها يخالف بعضًا فعلًا) ، واختار الشافعي منها صلاته في ثلاثة مواضع: في بطن نخل، وفي ذات الرقاع، وبعسفان، وكل صلاة تخالف الأخرى فعلًا؛ لاختلاف الحال فيها.

مسألة صلاة ذات الرقاع

فأما صلاة بطن نخل: فيصليها الإمام بوجود ثلاثة شروط: أحدها: أن يكون العدو في غير جهة القبلة. الثاني: أن يكون في المسلمين كثرة، وفي العدو قلة. والثالث: ألا يأمنوا من انكباب العدو عليهم في الصلاة. فإذا وجدت هذه الشرائط، فرق الإمام الناس فرقتين، فيصلي بفرقة جميع الصلاة، وفرقة في وجه العدو، فإذا سلم الإمام بالأولى، مضت إلى وجه العدو؛ وجاءت الفرقة الثانية، فيصلي بهم جميع الصلاة أيضا مرة ثانية، فتكون للإمام تطوعا، ولهم فريضة. والدليل عليه: ما روى أبو بكرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالناس ببطن النخل هكذا» . [مسألة صلاة ذات الرقاع] ] : وأما صلاة ذات الرقاع: فتجوز بوجود هذه الشروط الثلاثة.

وصفتها: أن يفرق الإمام الناس فرقتين، فتقف فرقة في وجه العدو، ويحرم الإمام بالصلاة، وتصلي خلفه فرقة، فإن كانت الصلاة ركعتين، صلى الإمام بالفرقة الأولى ركعة، فإذا قام إلى الثانية، ثبت الإمام قائما، ونوت الأولى مفارقته، وأتموا الركعة الثانية لأنفسهم، ثم يمضون إلى وجه العدو، وتأتي الفرقة الثانية، ويحرمون خلف الإمام، وينوون الاقتداء به، فيصلي بهم الركعة الثانية، ويقومون قبل سلامه، ويتمون الركعة الثانية لأنفسهم، وينتظرهم حتى يسلم بهم، وهذا أفضل من أن يصلي بكل فرقة جميع الصلاة؛ ليسوي بين الطائفتين، فأما في الأولى: فقد صلى مع الأولى فرضا، ومع الثانية نفلا؛ ولأن هذا أخف من الأولى، هذا مذهبنا، وبه قال مالك، إلا في شيء واحد، وهو أنه قال: (إذا صلى الإمام بالفرقة الثانية الركعة التي بقيت عليه، فإنه يتشهد بهم ويسلم، فإذا سلم أمر الطائفة يقضون ما عليهم، ويسلمون لأنفسهم) . وقال أبو حنيفة: (يصلي بالطائفة الأولى ركعة، فإذا قام الإمام إلى الثانية، مضت هذه الطائفة إلى وجه العدو، وهم في الصلاة، وجاءت الطائفة الأخرى إلى مكان الأولى، فيصلي بهم الإمام ركعة ثانية، ويتشهد بهم، ويسلم الإمام وحده، فإذا فرغ الإمام من السلام، قامت الطائفة، ومضت إلى وجه العدو، وهم في الصلاة، وجاءت الطائفة الأولى إلى مكانها، وأتمت صلاتها وسلمت، ومضت إلى وجه العدو، وجاءت الطائفة الثانية إلى مكانها، وأتمت صلاتها) . واحتج بقوله تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] [النساء: 102] . فدل على أنهم إذا قاموا من سجود الأولى، مضوا إلى وجه العدو. وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بذات الرقاع نحو ما ذكروه» .

ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] [النساء: 102] . فأضاف السجود إليهم، وذلك لا يضاف إليهم بانفرادهم، إلا في الركعة الثانية؛ لأنه لو أراد السجود في الأولى، لأضافه إلى الإمام وإليهم، كما قال في الأولى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] [النساء: 102] ، فأضاف القيام إليه وإليهم؛ لما كان مشتركًا بينهم. وروى صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف بذات الرقاع، فذكر نحو ما قلناه. ولأن ما ذهبنا إليه أولى؛ لأنه روى ذلك صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسهل بن أبي حثمة، وخبرهم تفرد به ابن عمر. ولأن فيما ذكروه المشي في الصلاة، فكان ما ذهبنا إليه أولى. وذات الرقاع: اسم لمكان، واختلفوا: لم سمي بذلك؟ فقيل: لأنه اسم لجبل مختلف البقاع، فمنه: أسود، وأحمر، وأصفر، فلما اختلفت بقاعه سمي: ذات الرقاع. وقيل: إنها أرض خشنة، مشى فيها ثمانية نفر، قد ذهبت أظافيرهم، وبقيت أقدامهم، فكانوا يرقعون أظافيرهم بالخرق، فسميت بذات الرقاع.

فرع كيفية صلاة الخوف

[فرع كيفية صلاة الخوف] ] : إذا قام الإمام إلى الركعة الثانية، فإن الطائفة الأولى تنوي مفارقته، وتتم الركعة الثانية لأنفسهم، فيفارقونه فعلًا وحكمًا. ومعنى قولنا: (فعلًا) أي: أنهم ينفردون بفعل الثانية. ومعنى قولنا: (حكمًا) أي أن الإمام إذا سها بعد أن فارقوه، لم يلحقهم سهوه، وإن سهوا بعد مفارقته، لم يتحمل عنهم الإمام؛ لأنهم غير مؤتمين به، فلم يتعلق حكمهم بحكمه. فإن جلس الإمام في الثانية ساهيًا، أو عجز عن القيام فجلس، فإنهم ينوون مفارقته قبل الانتصاب؛ لأن هذا موضع قيامهم، وكذلك إذا عمد الإمام إلى الجلوس، نووا أيضًا مفارقته، وقاموا لما ذكرناه. فإن أطال الإمام الجلوس مع العلم بطلت صلاته، ولا تبطل صلاة الطائفة الأولى؛ لأن صلاته تبطل بعد أن فارقوه. وأما الطائفة الثانية: فإن جاءوا، وأحرموا خلفه، فإن كانوا عالمين ببطلان صلاته بطلت صلاتهم، وإن لم يعملوا لم تبطل صلاتهم، كما نقول فيمن صلى خلف محدث. وإذا قام الإمام إلى الثانية، وانتظر الثانية، فهل يقرأ في حال انتظاره؟ قال الشافعي في موضع: (يقرأ، ويطيل القراءة، فإذا جاءت الثانية قرأ بعد مجيئها بقدر فاتحة الكتاب، وأقصر سورة) . وقال في موضع: (لا يقرأ، وإنما يسبح) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يقرأ؛ ليساوي بين الطائفتين في القراءة. فعلى هذا: يسبح، ويذكر الله تعالى بما شاء.

والثاني: يقرأ، وهو الصحيح؛ لأن أفعال الصلاة لا تخلو من ذكر الله، والقيام لم يشرع له إلا القراءة. فعلى هذا: يقرأ بعد مجيء الثانية بقدر الفاتحة، وأقصر سورة؛ لتدرك ذلك معه الثانية. ومنهم من قال: إن كان قد نوى أن يطيل القراءة قرأ، وإن نوى ألا يطيل القراءة لم يقرأ. وحكى في " الإبانة " [ق \ 97] طريقًا آخر: أنه يقرأ، قولًا واحدًا. وإذا جاءت الطائفة الثانية أحرمت خلف الإمام، فيقرءون معه، ويركعون، ويسجدون، فإن خفف الإمام القراءة، فأدركته الثانية راكعًا، فقد أدركوا معه ركعة. ومتى يفارقونه؟ قال الشافعي في موضع: (يفارقونه بعد الرفع من السجود في الثانية) . وقال في موضع ما يدل على أنهم: (يفارقونه بعد التشهد) . فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: يفارقونه عقيب السجود؛ لأن هذه الصلاة مبنية على التخفيف، وهذا أخف. والثاني: يفارقونه بعد التشهد، كالمسبوق. ومن أصحابنا من قال: يفارقونه عقيب السجود قولًا واحدًا، وقول الشافعي: (بعد التشهد) أراد: إذا صلوا في الحضر، فإنه يصلي بالأولى ركعتين ويتشهد، وبالثانية ركعتين. قال الشيخ أبو حامد: وقد أصاب هذا القائل في هذا التأويل. فإذا قلنا: إنهم يفارقونه عقيب السجود، فهل يتشهد الإمام في حال انتظاره؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان كالقراءة.

فرع كيفية قراءة الإمام

ومنهم من قال: يتشهد قولًا واحدًا؛ لأنه لم يتشهد مع الأولى، فلا مفاضلة هاهنا. فعلى هذا: يطيل التشهد بعد مجيء الثانية بقدر ما تتشهد الطائفة. إذا ثبت هذا: فإن الطائفة الثانية تقوم إلى تمام ما عليها، ولا تنوي مفارقة الإمام؛ لأنها تفارقه فعلًا، فتنفرد بفعل الثانية، ولا تفارقه حكمًا؛ فإن سها الإمام بعد أن فارقته، أو قبل أن تأتي إليه لزمهم سهوه، وإن سهوا في حال قضاء ما عليهم فالمذهب: أنه يتحمل عنهم؛ لأنهم في حكم متابعة الإمام. وحكي عن ابن خيران، وأبي العباس: أنهما قالا: لا يتحمل عنهم، ولا يلحقهم سهوه، كالطائفة الأولى، وكذلك الوجهان في المزحوم عن السجود في الجمعة، إذا أمرناه بالسجود فسها، وكذا من وصل صلاته بصلاة إمام أحرم بعده، وجوزنا له الوصل، وكان قد سها قبل الوصل، فهل يتحمل عنه؟ على هذين الوجهين. [فرع كيفية قراءة الإمام] ويستحب للإمام أن يخفف القراءة في الركعة الأولى؛ لأنها حالة حرب ونقل سلاح، وكذلك يستحب للطائفة الأولى والثانية إذا فارقتا الإمام لتمام ما عليهما، أن يخففا القراءة؛ لما ذكرناه. وأما الإمام: فيستحب له أن يطول القراءة في الثانية لتدركه الثانية؛ لأنه موضع حاجة. [فرع تعريف الطائفة] قال الشافعي: (والطائفة: ثلاثة فأكثر، وأكره أن يصلي بأقل من طائفة، وأن تحرسه أقل من طائفة) ، وهذا صحيح، ويستحب أن تكون الطائفة التي تصلي مع الإمام ثلاثة أو أكثر، وكذلك الطائفة التي تحرسه. فإن كانوا خمسة، واحتاجوا إلى أن يصلوا صلاة الخوف، صلى الإمام بثلاثة

مسألة سهو الإمام

ركعتين، ومضوا إلى وجه العدو، وصلى الآخران أحدهما بالآخر ركعتين. فإن كان أقل من يقوم بالعدو أربعة صلى واحد واحد. واعترض ابن داود على الشافعي في هذا، وقال: الطائفة تقع على الواحد أيضًا، وقد احتج الشافعي على قبول خبر الواحد بقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] [التوبة: 122] . والطائفة: اسم للواحد. والجواب: أن مراد الشافعي أن الطائفة المذكورة في هذه الآية ثلاثة فما زاد؛ لأن الله تعالى قال فيه: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] [النساء: 102] . ولهذا خطاب جمع، وأقل الجمع ثلاثة. [مسألة سهو الإمام] ] : قد ذكرنا أن الإمام إذا سها في الأولى، لزم الأولى سهوه. فعلى هذا: إذا فارقوه، قال الشافعي: (أشار إليهم بما يفهمونه، أنه قد سها، فإذا بلغوا آخر صلاتهم سجدوا للسهو، ثم يسلموا) . قال أبو إسحاق المروزي: إنما يشير إليهم، إذا كان سهوه يخفى مثله على المأمومين، فإن كان سهوه جليًّا، لا يخفى عليهم، فإنه لا يشير إليهم. قال الشيخ أبو حامد: وأظن الشافعي أشار إلى هذا في " الإملاء ". ومن أصحابنا من قال: يشير إليهم، سواء كان سهوه خفيًّا، أو جليًّا؛ لأنه وإن كان سهوه جليًّا، فقد يجهل المأمومون أن عليهم سجود السهو بعد مفارقتهم، فيعرفهم ذلك؛ ليعلموا ذلك، ويسجدوا. فإن قامت الأولى إلى تمام ما عليها، فسهوا أيضًا، فهل يجزئهم سجدتان، أو يحتاجون إلى أربع؟ فيه وجهان: فإذا قلنا: تكفيهم سجدتان، فعم يقعان؟ فيه ثلاثة أوجه، مضى ذكرها في (السهو) .

فرع متابعة الإمام

[فرع متابعة الإمام] ] : إذا قلنا: إن الثانية تفارق الإمام عقيب السجود في الثانية، وكان قد سها الإمام، فإنهم يسجدون مع الإمام في آخر صلاتهم. وإن قلنا: إنهم يتشهدون معه، فإن الإمام يسجد لسهوه، ويسجدون معه، ثم يقومون لقضاء ما عليهم. وهل يعيدون سجود السهو في آخر صلاتهم؟ فيه قولان، كالمسبوق بركعة. وإن أدركته قاعدًا، لكنه قد سبقهم بالتشهد، وسجد للسهو قبل تشهدهم، فهل يتابعونه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يسجدون معه؛ لأنهم متبعون له. والثاني: لا يسجدون، حتى يقضوا ما عليهم، وهو التشهد. فإن قلنا: يسجدون معه، فهل يعيدونه بعد تشهدهم؟ على القولين الأولين. [مسألة كيفية صلاة المغرب] وإن كانت الصلاة مغربًا، فلا بد من تفضيل إحدى الطائفتين على الأخرى؛ لأنه لا يمكن التسوية بينهما في قسمة الصلاة، فيجوز أن يصلي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة، ويجوز أن يصلي بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين، وفي الأفضل قولان: أحدهما: أن الأفضل أن يصلي بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين؛ لما روي:

(أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى ليلة الهرير هكذا) ؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضل الثانية على الأولى بذات الرقاع؛ لأنه انتظرهم مرتين، وانتظر الأولى مرة، فدل على أن الثانية أولى بالتفضيل. والثاني: أن الأفضل أن يصلي بالأولى ركعتين، وبالثانية ركعة، وهو الأصح؛ لأنه أخف؛ وذلك أن كل طائفة هاهنا تتشهد تشهدين، وفي الأولى تتشهد الثانية ثلاث تشهدات. فإذا قلنا بهذا: جاز للإمام أن ينتظر الثانية قاعدًا في الثانية، وقائمًا في الثالثة، وفي الأفضل قولان: أحدهما: أن الأفضل أن ينتظرهم قاعدًا في الثانية؛ لتدرك معه الثانية الركعة الثالثة من أولها. والثاني: أن الأفضل أن ينتظرهم قائمًا في الثالثة، وهو الأصح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتظر الثانية قائمًا. ولأن القيام في الصلاة أفضل من القعود، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» ، وأصل هذا الخبر: إنما هو في النفل عند القدرة على

مسألة صلاة الخوف حضرا

القيام، فأما في الفرض: فإن كان قادرًا على القيام، فصلى قاعدًا.. لم تصح صلاته، وإن كان عاجزًا عن القيام، فصلى الفرض أو النفل قاعدًا.. فثوابه كثواب القائم، أو أكثر إن شاء الله. [مسألة صلاة الخوف حضرًا] ] : وإن كانت الصلاة في الحضر، واحتاج الإمام إلى صلاة الخوف، بأن ينزل العدو على باب البلد، فيخرج الناس ليقاتلوهم.. جاز للإمام أن يصلي بهم صلاة الخوف. وقال مالك: (لا يجوز) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] [النساء: 102] الآية. فبين كيفيتها، ولم يفرق بين: سفر، ولا حضر. فإن كانت الصلاة رباعية، أو كانت في السفر، وأراد الإمام إتمامها.. فإنه يفرق الناس طائفتين، ويصلي بالأولى ركعتين، وبالثانية ركعتين، وهل الأفضل أن ينتظر الثانية قاعدًا في التشهد الأول، أو قائمًا في الثالثة؟ فيه قولان، كما ذكرنا في المغرب، ويتشهد -هاهنا- مع الطائفة الأولى والثانية، قولًا واحدًا؛ لأنه موضع تشهدهم. وإن فرقهم أربع فرق، فصلى بكل طائفة ركعة.. ففي صلاة الإمام قولان: أحدهما: أنها باطلة، وهو اختيار المزني، ووجهه: أن الله تعالى أمر بالصلاة مجملًا، وكيفيتها مأخوذة من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم ينتظرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الخوف إلا انتظارين، فعلم أن هذا بيان لما أمر الله بإقامته مجملًا، فبطلت بالزيادة، كما لو صلاها خمسًا. والثاني: لا تبطل، وهو الأصح؛ لأن الانتظار الثاني والثالث والرابع بالقراءة والذكر، وذلك لا يبطل الصلاة. ولأن الحاجة قد تدعو إليه، بأن يكون المسلمون أربعمائة، والعدو ستمائة، فيصلي الإمام بمائة مائة، ويقف بإزاء العدو ثلاثمائة؛ فإذا قلنا بهذا: صحت صلاة الطائفة الرابعة؛ لأنهم لم يفارقوا الإمام حكمًا.

وأما صلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة: فإنهم فارقوه بغير عذر؛ لأنهم فارقوه قبل وقت المفارقة، وذلك أن الطائفة الأولى، إنما فارقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نصف صلاته، ونصف صلاتهم، وكل طائفة من هذه الثلاث فارقته قبل ذلك، فيكون في صلاتهم القولان، فيمن فارق الإمام بغير عذر. وإن قلنا: إن صلاة الإمام باطلة.. فمتى تبطل؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي العباس -: أنها تبطل بالانتظار الثالث؛ لأنه هو الانتظار الزائد على ما وردت فيه الرخصة. فعلى هذا: تصح صلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة، وأما الرابعة: فإن علموا ببطلان صلاة الإمام.. بطلت صلاتهم، وإن لم يعلموا.. لم تبطل، كمن صلى خلف محدث. والثاني - وهو المنصوص -: (أنها تبطل بالانتظار الثاني) ؛ لأن الزيادة حصلت فيه. وفي أي موضع تبطل منه؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أنها تبطل بمضي الطائفة الثانية؛ لأن هذا وقت الزيادة، وذلك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتظر الطائفة الأولى بقدر ما أتمت صلاتها، ومضت إلى وجه العدو، وجاءت الثانية، وهذا قد فعل مثل هذا في الانتظار الأول، وانتظر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطائفة الثانية بقدر ما أتمت صلاتها لا غير، وهذا قد انتظر الثانية بقدر ما أتمت صلاتها، ومضت إلى وجه العدو، فبنفس مضيها وقعت الزيادة.. فتبطل صلاته حينئذ. والوجه الثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أن صلاة الإمام تبطل عندما يمضي من الانتظار الثاني قدر ركعة، ووجهه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتظر الطائفتين جميعًا بقدر الصلاة التي هو فيها مع الذهاب والمجيء، وذلك: أنه انتظر الأولى بقدر ما صلت ركعة، ومضت، وجاءت الثانية، وانتظر الثانية بقدر ما صلت ركعة، وهذا قد انتظر أكثر من قدر الصلاة التي هو فيها مع الذهاب والمجيء، وذلك: أنه انتظر الأولى بقدر

ما صلت ثلاث ركعات، ومضت، وجاءت الثانية، وانتظر الثانية بقدر ما صلت ثلاث ركعات، فيجب أن تبطل صلاته إذا مضى من الثانية قدر ركعة؛ ليكون انتظاره بقدر الصلاة التي هو فيها، وهي أربع ركعات مع المضي والمجيء. إلا أن ما قاله أبو إسحاق، والشيخ أبو حامد لا يفيد في صلاة الطائفة الأولى والثانية؛ لأنهم يفارقونه قبل بطلان صلاته، وإنما يفيد في وقت بطلان صلاة الإمام. وعلى قولها معًا: ينظر في الثالثة، والرابعة، فإن علموا ببطلان صلاة الإمام.. بطلت صلاتهم، وإن لم يعلموا.. لم تبطل صلاتهم، كمن صلى خلف محدث، وإن علم البعض دون البعض.. بطلت صلاة من علم بطلان صلاة الإمام، دون صلاة من لم يعلم. وبأي شيء يعتبر علمهم؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يعتبر أن يكونوا علما تفريق الإمام للطوائف، فإن علموا ذلك.. بطلت صلاتهم، وإن لم يعلموا أن التفريق مبطل لصلاتهم، كما إذا علموا إن الإمام جنب. والثاني: يعتبر علمهم، بأن هذا التفريق مبطل لصلاته، وإن لم يعلموا ذلك.. لم تبطل صلاتهم، ويفارق الجنابة؛ لأن كل مسلم يعلم أن الجنب لا تصح صلاته، بخلاف مسألتنا، فيحصل في هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن صلاة الإمام والمأمومين صحيحة. والثاني: أن صلاة الإمام والطائفة الرابعة صحيحة، وصلاة الأولى والثانية والثالثة باطلة. والثالث: أن صلاة الإمام باطلة، وصلاة الأولى والثانية صحيحة، وأما الثالثة والرابعة: فإن علموا ببطلان صلاة الإمام.. بطلت صلاتهم، وإن لم يعلموا.. لم تبطل. ويجيء فيه قول أبي العباس: تصح صلاة الطائفة الثالثة أيضًا، فيكون فيها أربعة أقوال.

فرع صلى بطائفة ثلاثا

[فرع صلى بطائفة ثلاثًا] ] : قال في " الأم " [1/189] : (وإن صلى بطائفة ثلاث ركعات، وبطائفة ركعة.. كرهت ذلك له، ولا تبطل صلاته؛ لأن الإمام لم يزد في الانتظار) . قال الشافعي: (ويسجد الإمام للسهو؛ لأنه وضع الانتظار في غير موضعه، وكذلك الطائفة الأخرى) . قال ابن الصباغ: وهذا يدل على أنه إذا فرقهم أربع فرق، وقلنا: لا تبطل صلاتهم.. أنهم يسجدون للسهو. [فرع العدو في جهات] وإن كان العدو في جهتين أو ثلاث أو أربع، فإن أمكنه أن يفرقهم فرقتين: فرقة تصلي معه، وفرقة تتفرق في جميع الجهات.. فعل ذلك، وكان كما لو كان العدو في جهة واحدة. وإن كان لا يمكن إلا أن يكونوا أربع فرق: فإن قلنا: يجوز أن يفرقهم أربع فرق، إذا كانوا في الحضر.. فرقهم أربع فرق. وإن قلنا: لا يجوز، أو كانت الصلاة في السفر.. فإنه يصلي بفرقتين جميع الصلاة، ثم يصلي بالفرقتين الأخريين أيضًا جميع الصلاة، ويكون متطوعًا. ويأتي على قياس هذا: إذا احتاج أن يفرقهم ثلاث طوائف، بأن كان العدو في جهتين.. أن يصلي بطائفتين جميع الصلاة، ثم يعيدها بالطائفة الثالثة، ويكون متطوعًا مع الثالثة. [مسألة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان] وأما صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ: عسفان: فلها ثلاثة شروط:

أحدها: أن يكون العدو في جهة القبلة. الثاني: أن يكونوا في بسيط من الأرض، لا يحجبهم عن أبصارهم شيء. الثالث: أن يكون في المسلمين كثرة، وفي العدو قلة، فإذا وجدت هذه الشروط.. جعل الإمام الناس صفين خلفه، فيحرم بالصلاة، ويحرمون خلفه، ويركع، ويركعون معه، ويرفع، ويرفعون معه، فإذا بلغ إلى السجود.. قال الشافعي: (فإذا سجد.. وقف الصف الذي يلي الإمام، يحرسون العدو، ويسجد الصف الأخير) . وإنما اختار الشافعي هذا، لثلاثة معان: أحدها: أن الأولى أقرب من العدو، فهم بالحراسة أمكن. الثاني: أنهم يكونون جُنَّة لمن وراءهم، فإن رماهم المشركون بسهم تلقوه بسلاحهم. الثالث: لكي يمنعوا أبصار المشركين من مشاهدة المسلمين، ومعرفة عددهم، فإذا رفع الإمام رأسه من السجود.. حرس الذين سجدوا معه، وسجد الذين حرسوا. قال الشافعي: (فإن حرس الصف الثاني في مواضعهم، وسجد الصف الأول.. فحسن، وإن تقدموا إلى الموضع الأول، فحرسوا، وتأخر الأول إلى موضعه، فسجدوا.. فجائز) . فأجاز هذا؛ لكي يكون فيه مساواة بين الطائفتين، واستحسن الأول؛ لأنه ليس فيه تقدم وتأخر. فإذا ركع الإمام في الثانية.. ركعوا جميعًا، ورفعوا معه، ويسجد معه من حرس أولًا في الأولى، ويحرس من سجد أولًا في الأولى. قال الشافعي: (فإن سجد معه صف واحد من الركعتين.. جاز، وإن حرس بعض أهل الصف.. جاز) .. هذا قول الشافعي. وأما المروي في الخبر: فروى أبو داود في "سننه " [1326] بإسناده عن أبي

عياش الزرقي أنه قال: «كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ: عسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غرة، لقد أصبنا غفلة، لو كنا حملنا عليهم السلاح وهم في الصلاة، فقال بعضهم: إن بين أيديهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم، فنزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فلما حضرت العصر.. قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستقبلًا القبلة، والمشركون أمامه، فصف خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صف، وصف بعد ذلك الصف صف آخر، فركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركعوا جميعًا، ثم سجد، وسجد الذين يلونه، وقام الآخرون، يحرسونهم، فلما صلى هؤلاء السجدتين، وقاموا.. سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الأخير إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وركعوا معه، ثم سجد، وسجد الصف الذي يليه.. وقام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والصف الذي يليه.. سجد الآخرون، ثم جلسوا جميعًا، فسلم بهم جميعًا» . وما ذكر عن الشافعي مخالف لهذا الخبر. قال أصحابنا: واتباع ما في الرواية أولى، ولعل الشافعي لم يبلغه الخبر، أو سها عنه، ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " إلا ما ذكر في هذا الخبر، ولكنه لم يذكر التقدم والتأخر. واحتج بما روى جابر، وابن عباس: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى هكذا) ، ولعل الشيخ أبا إسحاق صحت له هذه الرواية، أو اختار الذي استحسنه الشافعي في ترك التقدم والتأخر.

مسألة اختيار أبي حنيفة

[مسألة اختيار أبي حنيفة] إذا صلى الإمام بالناس صلاة الخوف التي اختارها أبو حنيفة.. فإن صلاة الإمام صحيحة؛ لأنها أخف من الصلاة التي نرويها في حق الإمام. وأما صلاة المأمومين.. فهل تصح؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، وغيره من أصحابنا: أحدهما: تصح؛ لأن ابن عمر روى ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدل على جوازها. فعلى هذا: يكون الخلاف بيننا وبينهم في الأفضل. والثاني: لا تصح. فعلى هذا: ترجح أخبارنا على خبر ابن عمر بكثرة الرواة؛ ولأن فيما ذكروه أفعالًا تنافي الصلاة، أو نقول: قوله: (انصرفوا وهم في الصلاة) توهم من بعض الرواة. [مسألة صلاة الإمام حال الأمن بإحدى كيفيات صلاة الخوف] وإن صلى الإمام بالناس في حال الأمن إحدى الصلوات الثلاث التي اختارها الشافعي في الخوف.. نظرت: فإن صلى بهم صلاة بطن النخل.. صحت صلاة الإمام والمأمومين؛ لأن أكثر ما فيه أن صلاة الإمام مع الأولى فرض، ومع الثانية نفل، وذلك جائز عندنا. وإن صلى بهم صلاة ذات الرقاع.. ففي صلاة الإمام طريقان: قال عامة أصحابنا: تصح، قولًا واحدًا؛ لأن أكثر ما فيه أنه يطول الصلاة في حال الأمن بالقراءة، والتشهد، وهذا لا يبطل الصلاة. وقال القاضي أبو الطيب: في صلاة الإمام قولان، كما قلنا فيه إذا فرقهم أربع فرق في الخوف، وهذا هو الأقيس؛ لأنه إذا كان في صلاة الإمام: إذا فرقهم أربع فرق في الخوف - وقد تدعو الحاجة إلى ذلك - قولان، فلأن يكون في صلاته قولان إذا فرقهم في الأمن، ولا حاجة به إلى ذلك، أولى. وأما صلاة المأمومين: فإن في صلاة الطائفة الأولى قولين؛ لأنهم فارقوه لغير

فرع صلاة الخوف في القتال المحرم

عذر، وأما صلاة الطائفة الثانية: فإن قلنا بقول القاضي أبي الطيب، وقلنا: تبطل صلاة الإمام.. نظرت: فإن علموا ببطلان صلاة الإمام.. لم تنعقد صلاتهم؛ لأنهم يعلقون صلاتهم بصلاة باطلة، مع العلم بها، وإن لم يعلموا.. انعقد إحرامهم. وإن قلنا: إن صلاة الإمام صحيحة، إما على أحد القولين في قول القاضي، أو قولًا واحدًا، في قول غيره.. فإن إحرام الثانية صحيح. وهل تبطل بمفارقتهم له؛ لإتمام صلاتهم؟ فيه ثلاثة طرق: [الأول] : إن قلنا بقول أبي العباس، وابن خيران: إنهم إذا قاموا لقضاء ما عليهم.. فارقوا الإمام فعلًا، وحكمًا، فلا يلحقهم سهو الإمام، ولا يتحمل الإمام سهوهم.. كان في بطلان صلاتهم هاهنا قولان؛ لأنهم فارقوه بغير عذر. والطريق الثاني - وهو قول عامة أصحابنا -: أنهم يفارقونه، فعلًا، لا حكمًا. فعلى هذا: تبطل صلاتهم، قولًا واحدًا؛ لأنهم قاموا لقضاء ما عليهم قبل خروج الإمام من الصلاة. والطريق الثالث - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أن صلاتهم لا تبطل، قولًا واحدًا، وعليه يدل قول الشافعي، فإنه قال: (أحببت لهم أن يعيدوا الصلاة) ، ولم يقل: يجب عليهم. وإن صلى بهم صلاة عسفان في حال الأمن.. فصلاة الإمام وصلاة من سجد معه صحيحة، وأما صلاة من حرس: ففيها وجهان: إن قلنا: السجدتان والجلسة بينهما ركن واحد.. لم تبطل صلاتهم؛ لأن الإمام سبقهم بركن واحد. وإن قلنا: إنهما ركنان، وهو الأشبه بالمذهب.. بطلت صلاتهم. [فرع صلاة الخوف في القتال المحرم] قد ذكرنا أن القتال المحرم لا تصلى فيه صلاة الخوف، فإن خالف، وصلى فيه.. قال الشافعي: (أعاد) .

مسألة صلاة الجمعة في الخوف

قال الشيخ أبو حامد: أراد: إذا صلى به صلاة شدة الخوف، فإنه يعيد، فأما إذا صلى فيه إحدى الصلوات الثلاث: فحكمه حكم الآمن إذا صلاها، على ما مضى. [مسألة صلاة الجمعة في الخوف] ] : ذكر الشافعي في صلاة الجمعة في الخوف أربع مسائل: الأولى: إذا كان القتال في المصر، ووافق يوم الجمعة، وأراد أن يصلي بهم صلاة ذات الرقاع.. فإن الإمام يفرق الناس فرقتين: فرقة تقف في وجه العدو، ويخطب بفرقة، ولا يجوز أن تنقص هذه الفرقة عن أربعين، ويصلي بهم ركعة، ويثبت الإمام قائمًا في الثانية، ويتمون لأنفسهم، ويجهرون بالقراءة فيما بقي عليهم؛ لأنهم منفردون، ثم يمضون إلى وجه العدو، وتأتي الفرقة الثانية، ويصلي بهم الركعة التي بقيت عليه، وينتظرهم جالسًا، ويتمون لأنفسهم، ولا يجهرون بالقراءة؛ لأنهم في حكم إمامته، ويسلم بهم. فإن نقصت الفرقة الثانية عن أربعين.. فهل تصح؟ فيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: تصح قولًا واحدًا؛ لأن الجمعة قد انعقدت بالأولى. و [الثاني] : منهم من قال: فيه قولان، كالانفضاض. فإن قيل: فالعدد شرط في جميع الجمعة، فكيف جاز أن يبقى الإمام - هاهنا - منفردًا من حين مضت الأولى؟ فاختلف أصحابنا في الجواب عن هذا: فمنهم من قال: إنما بنى الشافعي هذه المسألة على أحد القولين في الانفضاض، وأنه إذا بقي وحده يصلي الجمعة.

ومنهم من قال: يجوز هاهنا، قولًا واحدًا؛ لأن الانفضاض من غير عذر، وهاهنا الانفضاض لعذر، وهو الخوف، ولأن مجيء الفرقة الثانية هاهنا يتوقت، وفي الانفضاض لا يتوقت مجيؤها. فإن قيل: أليس قد قلتم: إن الجمعة إذا أقيمت في المصر الواحد مرة.. لا يجوز إقامتها ثانيًا، فلم جوزتم - هاهنا - للطائفة الثانية أن تصلي الجمعة مع الإمام، والجمعة قد أقيمت؟ فالجواب: أنا إنما نمنع استفتاح الجمعة في المصر بعد إقامتها مرة، وفي هذه المسألة لم تستفتح الجمعة بعد إقامتها، وإنما هو استدامتها؛ لأن الإمام لم يخرج من الجمعة، فالثانية تحرم مع الإمام بالجمعة، تبعًا له. قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على أن الإمام إذا سبق بعض المأمومين بركعة من الجمعة، ثم سلم الإمام ومن معه، وقام المسبوقون لقضاء ما عليهم، فقدم الإمام رجلًا ليتم بهم، أو قدموا هم رجلًًا، وجوزنا ذلك، فأدركهم رجل، وصلى معهم ركعة.. أنهم إذا سلموا.. جاز له أن يقوم، ويأتي بركعة أخرى، وتكون له جمعة؛ لأن هذا وإن استفتح الجمعة، فهو تبع للإمام والإمام مستديم لها، لا مستفتح. المسألة الثانية: إذا خطب الإمام بالطائفة الأولى، وهم أربعون، فمضوا إلى وجه العدو، وجاءت الثانية، فأحرم بهم الجمعة.. لم تصح في حقه وحقهم؛ لأن هذا في معنى من خطب وحده، وصلى الجمعة بأربعين، وذلك لا يصح. فإن بقي من الأولى أربعون، ومضى الباقون، وجاءت الثانية.. جاز أن يصلي بهم الجمعة، تبعًا للأربعين الذين سمعوا الخطبة. المسألة الثالثة: إذا خطب الإمام بالأولى، وصلى بهم الجمعة، وسلم، ثم خطب بالثانية، وصلى بهم الجمعة.. صحت الجمعة في حق الإمام والأولى، دون الثانية؛ لأنه لا تصح إقامة الجمعة في المصر مرة بعد مرة. المسألة الرابعة: إذا كان الإمام والطائفة خارج المصر.. لم يجز أن يصلوا الجمعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حج.. وافق عرفة يوم الجمعة، فلم يصل الجمعة،

فرع الخطبة في المسجد

وقد كان معه أهل مكة، ومعلوم أن عرفة دار إقامتهم، وإنما لا يستوطنونها، ولأن المسافر يجوز له أن يقصر إذا فارق بنيان البلد، ولا يجوز له إقامة الجمعة، حيث يقصر. قال الشيخ أبو حامد: وقد كان الداركي يحكي عن أبي إسحاق: أن الجمعة لا تجوز في جامع براثا؛؛ لأنه خارج البلد، وإنما كان كذلك.. فلا فرق بين أن يكون بعيدًا، أو قريبًا، إذا كان منقطعًا عن البلد، أنه لا يجوز. [فرع الخطبة في المسجد] لو خطب بهم في المصر، وصلى بهم صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ: عسفان.. جاز ذلك؛ لأنه إذا جاز أن يصلي بهم صلاة ذات الرقاع، والإمام يبقى منفردًا في بعضها.. فلأن يجوز هاهنا أولى. ولو لم يمكن الإمام الجمعة، فصلى بهم الظهر، ثم أمكنه الجمعة، قال الصيدلاني: لم يجب عليهم، لكن على من لم يصل معهم، ولو أعاد.. لم أكره، ويقدم غيره؛ ليخرج من الخلاف. [فرع صلاة الاستسقاء ونحوها] ] : فأما صلاة الاستسقاء في الخوف: قال الشافعي في " الأم " [1/201] : (لا بأس أن يدع الاستسقاء، إلا أن يكون في عدد كثير ممتنع، فلا بأس أن يستسقي، ويصلي، كما يصلي في المكتوبات، وإن كان في شدة الخوف.. لم يصل الاستسقاء، ويصلي الخسوف والعيدين؛ لأنه لا يصلح تأخيرهما) . ومعنى ذلك: أن صلاة الاستسقاء لا يتحقق فواتها، وصلاة العيدين والخسوفين يتحقق فواتهما بخروج الوقت والتجلي.

مسألة ترك حمل السلاح حال الصلاة

[مسألة ترك حمل السلاح حال الصلاة] قال الشافعي: (ولا أحب للمصلي ترك السلاح) ، وهذا يدل على استحباب حمله في الصلاة. وذكر في موضع آخر: (لا أجيز ترك السلاح) ، وهذا يدل على وجوبه. واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هي على حالين: فالذي يجب حمله: هو السلاح الذي يدفع به عن نفسه، مثل: السكين والسيف، والذي استحبه هو ما يدافع به عن نفسه وعن غيره، كالرمح، والقوس؛ لأنه يجب عليه أن يدفع عن نفسه، ولا يجب عليه أن يدفع عن غيره. ومنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: يجب، وبه قال داود؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] [النساء: 102] . وهذا أمر، والأمر على الوجوب. ولأنهم إذا وضعوا السلاح عنهم.. لم يأمنوا هجوم العدو عليهم، فيحتاجون إلى أخذ السلاح، وربما كان ذلك سبب هزيمتهم. والثاني: (أنه لا يجب) ، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وهو الصحيح؛ لأنه لو كان حمله واجبًا في الصلاة.. لكان شرطًا فيها. وأما قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] . فإنه أمر ورد بعد الحظر.

قال الشيخ أبو حامد: ولأنه لا خلاف أن حمل السلاح في الصلاة في غير حال الخوف مكروه ينهى عنه، ثم ورد الأمر بحمله في صلاة الخوف، والأمر بالشيء إذا ورد بعد النهي.. فإنه يقتضي الإباحة، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] [المائدة: 2] . وإذا ثبت هذا: فالسلاح المختلف فيه: هو السلاح الطاهر، فأما النجس: فيحرم حمله. فإن أصاب سلاحه دم، فإن ألقاه في الحال من يده.. جاز. وإن أمسكه، للاحتياج إليه.. قال صاحب " الإبانة " [ق\ 98] : فهل تجب عليه الإعادة؟ فيه قولان، بناء على المحبوس في الحش. وإن جعله في الحال تحت ركابه.. جاز أيضًا، وإن كان متقلدًا له، فتركه.. بطلت صلاته. قال الصيدلاني: فإن تنحى لغسله.. فوجهان. إذا ثبت ما ذكرناه: فإن السلاح على قول من قال: هو على اختلاف حالين ينقسم خمسة أقسام: [الأول] : قسم يحرم حمله: وهو السلاح النجس، مثل: السيف والسكين، إذا أصابهما دم، أو سقيا بسم نجس، أو النبل، إذا كان عليه ريش نجس. والثاني: سلاح يكره حمله، وهو الثقيل الذي يشغله عن الصلاة، مثل: الدرع وأما البيضة: فإن كان لها أنف يمنع من وصول الجبهة إلى الأرض في السجود.. لم يجز حملها. والثالث: يجب حمله، وهو ما يدافع به عن نفسه، مثل: السيف.

فرع السيف المسقي سما

والرابع: يستحب حمله، وهو ما يدافع به عن نفسه، وعن غيره، مثل: القوس، والنشاب، والجعبة. والخامس: ما يختلف باختلاف موضع المصلي، وهو الرمح، فإن كان المصلي في حاشية الناس، بحيث إذا ركع، وسجد..يمكنه أن يضعه، بحيث لا يتأذى به أحد.. استحب حمله، وإن كان في وسط الناس.. لم يستحب حمله. وأما على قول من قال: المسألة على قولين.. فينقسم السلاح عنده على أربعة أقسام: [الأول] : قسم يحرم حمله، وهو النجس. و [الثاني] : قسم يكره حمله، وهو الثقيل الذي يشغله عن أفعال الصلاة. والثالث: يختلف باختلاف موضع المصلي، وهو الرمح. والرابع: هل يجب حمله؟ على قولين، وهو ما يدافع به عن نفسه، وعن غيره. [فرع السيف المسقي سما] فإن سقى سيفه سمًّا نجسًا، ثم غسل ظاهره.. طهر، وإن لم يصل إلى باطنه. هكذا قال ابن الصباغ. وإن أدخل في النار، فقيل: إنه قد ذاب وزال، حتى لم يبق منه شيء.. لم يطهر حتى يغسل، وإن مسح.. لم يطهر. وقال أبو حنيفة: (يطهر) . وقد مضى ذكر ذلك.

مسألة المتمكن يصلي قاعدا

[مسألة المتمكن يصلي قاعدًا] قال في " الإبانة " [ق\ 98] : يجوز للمتمكن أن يصلي قاعدًا؛ مخافة أن يراه العدو. وفي الإعادة قولان، بناء على القولين في المحبوس في الحش. [مسألة الصلاة في شدة الخوف] قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (وإن كان الخوف أشد من ذلك، وهي المسايفة، والتحام القتال، ومطاردة العدو، حتى يخافوا إن ولوا أن يركبوا أكتافهم، فيكون سبب هزيمتهم.. فيصلون كيف ما أمكنهم، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها، ركبانًا على دوابهم، ومشاة على أقدامهم، يومئون بالركوع والسجود، ولا يجوز لهم إخراج الصلاة عن وقتها) . وكذلك الرجل، إذا خاف من سبع، أو كافر، إن اشتغل بالصلاة ركبه.. جاز أن يصلي صلاة شدة الخوف. وقال أبو حنيفة: (إذا كان الحال هكذا، ولا يتمكنون من الركوع والسجود.. جاز لهم تأخير الصلاة عن وقتها، فأما إذا زال ذلك.. صلوا) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] [البقرة: 239] . قال ابن عمر: (مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها) . وروى ابن عمر: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة شدة الخوف) ، فذكر كمذهب أبي حنيفة، ثم قال: (فإذا كان الخوف أشد من ذلك.. صلوا كيف أمكنهم، مشاة وركبانًا، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها) . وقد روي ذلك موقوفًا على ابن عمر.

فرع جوازائتمام المقاتلين بعضهم ببعض

[فرع جوازائتمام المقاتلين بعضهم ببعض] فرع: [جواز ائتمام المقاتلين بعضهم ببعض] : يجوز أن يأتم بعضهم ببعض وإن كان كل واحد منهم يصلي إلى جهة قتاله؛ لأن كل واحد منهم يجوز أن يصلي إلى جهته مع العلم بها، فهو بمنزلة من حول الكعبة، يجوز أن يأتم بعضهم ببعض وإن كان كل واحد منهم يصلي إلى جهته، والجماعة - هاهنا - أفضل من الانفراد، كصلاة الأمن. [فرع إذا خشي العدو صلوا صلاة شدة الخوف] ] : قال الشافعي: (وإذا كان العدو بإزاء المسلمين، ولم يأمنوا مكيدتهم، وانهجامهم لو اشتغلوا بالصلاة.. جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف. وكذلك إن لم يروا العدو، ولكن أخبرهم الثقة عندهم: أن العدو بالقرب منهم، وأنه يطلبهم، فخافوا نكايتهم إن اشتغلوا بصلاة الخوف.. جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف) . [فرع بطلان الصلاة بالصياح] فإن صاح على العدو.. بطلت صلاته؛ لأنه لا حاجة به إليه. وأما العمل في صلاة الخوف: فلا فرق بين صلاة الخوف، وبين صلاة الأمن فيه، وإن عمل فيها عملًا قليلًا.. لم تبطل صلاته، وإن كان كثيرًا - في غير صلاة شدة الخوف - بطلت صلاته. قال الشيخ أبو حامد: والمرجع في ذلك إلى العرف والعادة. وقال القاضي أبو الطيب: الضربة الواحدة لا تبطل الصلاة. وفي الاثنتين إذا توالتا وجهان , وإن ضرب ثلاث ضربات، أو طعن ثلاث طعنات متواليات، أو ردد الطعنة في المطعون.. قال الشافعي: (مضى فيها، ويعيد) . فمن أصحابنا من قال: بطلت صلاته بذلك، ولهذا تجب عليه الإعادة. وقال أبو العباس: إن لم يكن مضطرًّا إليه.. بطلت صلاته به؛ لأنه لا حاجة به

فرع لا تضر الحركة القليلة

إليه، وإن كان مضطرًّا إليه.. لم تبطل صلاته؛ لأن به إليه حاجة، فلم تبطل به صلاته، كالمشي. قال ابن الصباغ: وهذا لا يصح؛ لأن الصلاة لا يمضى فيها مع البطلان، وإنما يجري مجرى الصلاة بغير طهارة عند الضرورة؛ لشغل الوقت. وإذا مشى في صلاة شدة الخوف مشيًا كثيرًا لحاجة.. لم تبطل صلاته؛ لأن المشي قد يصح مع النفل، بخلاف غيره من العمل. [فرع لا تضر الحركة القليلة] ] : قال الشافعي: (ولا بأس أن يصلي الرجل في الخوف ممسكًا بعنان فرسه؛ لأنه عمل يسير قليل، فإن نازعه فجذبه إليه جذبتين، أو ثلاثًا، أو نحو ذلك، وهو غير منحرف عن القتال.. فلا بأس، فإن كثرت مجاذبته.. فقد قطع صلاته، وعليه استئنافها) . قال ابن الصباغ: وهذا بخلاف ما ذكرناه من الضربات والطعنات، وهذا يدل على أنه تعتبر كثرة العلم، دون العدد. [فرع الحمل على العدو] قال الشافعي في " الأم " [1/199] : (ولو كانوا في صلاة الخوف، فحملوا على العدو، متوجهين إلى القبلة.. بطلت صلاتهم وإن حملوا عليهم قدر خطوة) . وهذا في غير شدة الخوف، وإنما أبطلها بالخطوة الواحدة؛ لأنهم قصدوا عملًا كثيرًا، لغير ضرورة، وعملوا شيئًا منه. قال الشافعي: (ولو نووا أن العدو، إذا أظلهم معًا قاتلوه.. لم تبطل صلاتهم؛ لأنهم في الحال لم يغيروا نية الصلاة) .

فرع الأمن حال الصلاة راكبا

[فرع الأمن حال الصلاة راكبًا] إذا كان يصلي راكبًا، فأمن.. وجب عليه أن ينزل، ويتمها على الأرض، كالمريض إذا قدر على القيام في أثناء الصلاة، فإن نزل، وهو مستقبل القبلة، وخف نزوله.. بنى على صلاته. وإن احتاج في النزول إلى عمل كثير.. فحكى في " الإبانة " [ق\ 99] وجهين: أحدهما: يستأنف الصلاة. والثاني: يبني على إحرامه. وإن افتتحها آمنًا على الأرض، فخاف، فركب في أثنائها.. قال الشافعي: (استأنف الصلاة؛ لأن الركوب عمل كثير) . وقال في موضع آخر: (يبني على صلاته) . واختلف أصحابنا فيه على طريقين: فقال أبو العباس، وأبو إسحاق: ليست على قولين، بل هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (تبطل صلاته) إذا كان ركوبه لغير ضرورة، مثل: أن يركب لطلب مشرك، وما أشبهه؛ لأنه لا حاجة به إليه. والموضع الذي قال: (لا تبطل) إذا كان ركوبه لضرورة، كالدفع عن نفسه، أو للهرب الواجب؛ لأن به إليه حاجة. ومنهم من قال: بل هي على قولين: أحدهما: يبطلها؛ لأنه عمل كثير. والثاني: لا يبطلها؛ لأن العمل الكثير للحاجة، لا يبطل الصلاة في شدة الخوف، كالمشي. [مسألة ظن وجود العدو] إذا رأوا إبلًا، أو سوادًا، أو غبارًا، فظنوا ذلك عدوًّا، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان أنهم ليسوا عدوًّا.. فهل تجب عليهم الإعادة؟ فيه قولان:

فرع خوف الغرق

أحدهما: تجب عليهم الإعادة، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنهم تركوا ركنًا من أركان الصلاة على وجه الخطأ، فلزمتهم الإعادة، كما لو تركوا الطهارة، أو الركوع على وجه النسيان. والثاني: لا إعادة عليهم، وهو الصحيح؛ لأن صلاة الخوف تتعلق بوجود الخوف وإن لم يتحقق المخوف، ألا ترى أن العدو، إذا كانوا بإزائهم، وخافوا إن اشتغلوا بالصلاة، ركبوا أكتافهم، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم علموا بعد ذلك أن العدو لم يعزم على شيء من ذلك، فإنه لا إعادة عليهم؟ فكذلك هذا مثله. واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان إذا أخبرهم ثقة أن العدو قاصد إليهم، فأما إذا ظنوهم: فعليهم الإعادة، قولًا واحدًا. ومنهم من قال: القولان في الحالين. وإن رأوا العدو، فخافوهم، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان أن بينهم وبينهم خندقًا أو نهرًا، أو طائفة من المسلمين لا يمكنهم الوصول إليهم.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: تلزمهم الإعادة، قولًا واحدًا؛ لأنهم مفرطون في ترك تأمل المانع. ومنهم من قال: فيه قولان، كالأولى. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأشبه. [فرع خوف الغرق] ] : إذا كانوا في واد فغشيهم سيل، وخافوا منه الغرق، فإن وجدوا نجوة - وهو الموضع المرتفع من الأرض - وأمكنهم صعودها.. لم يجز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف؛ لأنه لا خوف مع ذلك، وإن لم يكن هناك شيء يتحصنون به من السيل، أو كان هناك، ولم يمكنهم أن يحصنوا به أموالهم، واحتاجوا أن يمشوا في طول

الوادي.. جاز لهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف. وكذلك إذا خاف الرجل من سبع، أو حية، ولم يمكنه منعه من نفسه، ولا التحصن عنه بشيء.. جاز أن يصلي صلاة شدة الخوف؛ لأن الخوف موجود، ولا تلزمهم الإعادة. وقال المزني: قياس قوله: أن تجب عليهم الإعادة؛ لأن العذر إذا لم يكن معتادًا أو نادرًا متصلًا.. لم تسقط عنه الإعادة، وهذا ليس بشيء؛ لأن كل جنس من الأعذار، إذا كان معتادًا.. فإن أنواع ذلك الجنس ملحقة به وإن كان ذلك النوع نادرًا لا يدوم، كالمرض، وذلك: أن المرض لما كان جنسه معتادًا.. كانت أنواعه ملحقة به وإن كان منها ما يندر، مثل: السل، والبواسير.. كذلك هذا مثله. وبالله التوفيق * * *

باب ما يكره لبسه

[باب ما يكره لبسه] يحرم على الرجل لبس الحرير، والديباج من غير ضرورة، ولا يحرم على النساء؛ لما روى علي، قال: «خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومًا، وفي يمينه قطعة حرير، وفي شماله قطعة ذهب، فقال: هذان حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها» . وروى ابن عمر: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى حلة سيراء تباع على باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريناها لك لتلبسها للجمعة، وللوفد إذا قدم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا لباس من لا خلاق له في الآخرة» ويحرم الجلوس والنوم عليه، والتغطي به. وقال أبو حنيفة: (لا يحرم عليه غير اللبس) . دليلنا: حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولم يفرق فيه بين اللبس، وغيره من الاستعمالات. ولأن السرف في ذلك أعظم من اللبس. وهلي يحرم ذلك على الصبيان؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو المشهور -: أنه لا يحرم عليهم؛ لأنهم غير مكلفين. والثاني: يحرم عليهم، كما يحرم على البالغين.

والثالث: إن كان له دون سبع سنين.. لم يحرم، وإن كان له سبع فما زاد.. حرم. قال القاضي أبو الفتوح: يحرم على الخنثى لبس الحرير؛ لاحتمال كونه رجلًا. هذا الكلام إذا كان جميع الثوب، أو أكثره من الحرير، فأما إذا كان الأقل من الثوب من الحرير، كالعلم والسدى والجيب والكفة.. فلا يحرم؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: «إنما نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لبس الثوب المصمت من الحرير، فأما العلم والسدى: فلا بأس به» . وروي عن علي: أنه قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحرير، إلا في موضع أصبع، أو أصبعين أو ثلاث، أو أربع» . ولا يعرف لهما مخالف. وروي عن مولى لأسماء: أنه قال: «اشترى ابن عمر ثوبًا شاميًّا، فرأى فيه خيطًا أحمر، فرده، فأخبرت بذلك أسماء، فقالت: يا جارية، ناوليني جبة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخرجت جبة مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج» .

فإن كان نصف الثوب إبريسم، ونصفه من القطن أو الكتان.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحرم لأنه ليس الغالب فيه حلال. والثاني: لا يحرم؛ لأنه ليس الأغلب منه المحرم. إذا ثبت هذا: فإن التحريم إنما يكون في غير حال الحرب، فأما إذا فاجأته الحرب، ولم يجد ما يحصنه عن السلاح إلا الديباج.. فالمستحب له أن يتوقى لبسه. فإن لبسه.. جاز. قلت: لأنه يتوقى به، ويستعين به في الحرب. وإن احتاج إلى لبس الحرير للحكة.. جاز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص لعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام في لبس الحرير؛ لحكة كانت بهما» . وحكى الشيخ أبو إسحاق في " التنبيه " وجهًا آخر: أنه لا يجوز، والأول هو المشهور. فإن كانت له جبة قطن محشوة بالإبريسم، أو لبس الحرير باطنًا.. لم يحرم؛ لأن السرف فيه غير ظاهر. ويحرم على الرجل لبس الثوب المزعفر؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لبس القسي والمزعفر» . وأما الثياب النجسة: فلا يحرم لبسها إلا في الصلاة.

مسألة حرمة الذهب على الرجال

[مسألة حرمة الذهب على الرجال] ] : ويحرم على الرجل استعمال قليل الذهب وكثيره؛ لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لبس القسي، وعن لبس المزعفر، وعن التختم بالذهب» . والخاتم في حد القلة، ويفارق الحرير، حيث قلنا: لم يحرم القليل منه في الثوب؛ لأن السرف في قليل الذهب ظاهر، والسرف في قليل الحرير غير ظاهر. وأما القسي: قال أبو عبيد: فإن أصحاب الحديث يقولون (القسي) : بكسر القاف، وأهل مصر يقولون: (القسي) : بفتح القاف، منسوبة إلى بلد يقال لها: (القس) ، وهي ثياب يؤتى بها من مصر فيها حرير. ويجوز للرجل أن يتخذ خاتمًا من فضة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان له خاتم من فضة فصها منها، وكان يجعل فصها إلى راحته» . ويكره أن يتخذ خاتمًا من حديد، أو رصاص، أو نحاس؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى على رجل خاتمًا من حديد، فقال: "ما لي أرى عليك حلية أهل النار"، ثم جاءه الرجل وعليه خاتم من صفر، فقال: "ما لي أجد منك ريح

فرع مزج الذهب بغيره

الأصنام"، ثم أتاه وعليه خاتم من ذهب، فقال: "ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة"، فقلت: من أي شيء أتخذه؟ فقال: "من ورق، ولا تتمه مثقالًا» . وقد ورد الخبر بالتختم باليمين واليسار، وهو في اليسار أظهر. [فرع مزج الذهب بغيره] فإن كان الذهب مختلطًا بغيره.. نظرت: فإن كان الذهب ظاهرًا.. حرم استعماله؛ لأن السرف فيه ظاهر، وإن كان غير ظاهر.. لم يحرم؛ لأن السرف فيه غير ظاهر. قال الشيخ أبو حامد: وإذا صدئ الذهب، أو ذهب بالوسخ.. جاز لبسه؛ لأن السرف فيه غير ظاهر. وقال القاضي أبو الطيب: يقال: إن الذهب لا يصدأ، فإن احتاج إلى لبس درع منسوج بذهب، أو بيضة مطلية بذهب، وفاجأته الحرب، فإن وجد ما يقوم مقامهما.. لم يجز لبسهما، وإن لم يجد ما يقوم مقامهما.. جاز لبسهما؛ لأنه موضع ضرورة. [فرع لبس اللؤلؤ] قال الشافعي: (ولا أكره للرجل لبس اللؤلؤ إلا للأدب؛ فإنه من زي النساء، لا للتحريم؛ لأنه لم يرد الشرع بتحريم لبسه) .

مسألة استعمال الجلود المحرمة

قال صاحب: " الإبانة ": ويكره المشي في نعل واحدة، وخف واحد. [مسألة استعمال الجلود المحرمة] قال الشافعي: (ولا بأس أن يلبس فرسه وأداته جلد ما سوى الكلب والخنزير من جلد قرد، وأسد، وفيل، ونحو ذلك؛ لأنه جنة للفرس، ولا تعبد على الفرس) . ومن أصحابنا من قال: لا يجوز إلا بعد الدباغ؛ لأنه جلد نجس. قال: ومراد الشافعي: بعد الدباغ. وهذا ليس بشيء؛ لأن الشافعي علل: (لأنه جنة للفرس، ولا تعبد على الفرس) . وأما جلد الكلب والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما: فلا يجوز استعماله بحال؛ لأن الخنزير لا يجوز الانتفاع به في حياته بحال، والكلب لا ينتفع به إلا عند الحاجة إليه، وهو الحرث والماشية والصيد، وليس كذلك سائر الحيوانات، فإنه يجوز الانتفاع بها في حال الحياة بكل حال، فلذلك جاز بعد الموت. وبالله التوفيق

باب صلاة الجمعة

[باب صلاة الجمعة] يقال: الجمعة: بضم الميم وسكونها، ويوم الجمعة: يوم فاضل، والدليل على فضله، قَوْله تَعَالَى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] [البروج: 3] . قال الشافعي: (روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة» . فأقسم الله به، وهذا يدل على فضله) . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق الله تعالى آدم، وفيه أهبط، وفيه تاب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مسيخة يوم الجمعة، من حين يطلع الفجر إلى أن تطلع الشمس شفقًا من الساعة، إلا الثقلين الجن والإنس، وفيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي، ويسأل الله تعالى فيها شيئًا، إلا أعطاه» .

مسألة وجوب الجمعة

وقد اختلف الناس في هذه الساعة: فقيل: إن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجتمعوا، وتذاكروا فيها، فتفرقوا، ولم يختلفوا: أنها آخر ساعة من يوم الجمعة. وقيل: بعد العصر إلى غروب الشمس. وقيل: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وقيل: من زوال الشمس إلى أن يدخل الإمام في الصلاة. وقيل: من خروج الإمام إلى أن تقضى الصلاة. وقال كعب: لو قسم الإنسان جمعة في جمع ... أتى على تلك الساعة. يريد: أنه يدعو في كل جمعة في ساعة، حتى يأتي على جميع اليوم. قال الشافعي: (والجمعة: هو اليوم الذي بين الخميس والسبت، وكانت العرب تسميه: العروبة، وفيه قال الشاعر: نفسي الفداء لأقوام همو خلطوا ... يوم العروبة أزوادا بأزواد فإن قيل: لم قال الشافعي: (هو بين الخميس والسبت) وليس بخفي هذا على أحد؟ قلنا: إنما أراد الشافعي: أن يبين هذا للعرب الذين كانوا يسمونها العروبة، وكانوا يعرفون الخميس والسبت، ولا يعرفون الجمعة، فبينها لهم بما يعرفونه. [مسألة وجوب الجمعة] والأصل في وجوب الجمعة: الكتاب، والسنة، والإجماع.

أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] [الجمعة: 9] . وفيها ثلاثة أدلة: أحدها: أنه أمر بالسعي إليها، والأمر يقتضي الوجوب. والثاني: أنه نهى عن البيع لأجلها، ولا يُنهى عن منافع إلا لواجب. والثالث: أنه وبخ على تركها بقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] [الجمعة: 11] . ولا يوبخ إلا على ترك واجب. وأما السنة: فروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة.. طبع الله على قلبه» . وروى جابر أيضًا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ... فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا على امرأة، أو مسافر، أو عبد، أو مريض» . وروى جابر أيضًا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال - وهو على المنبر -: «يا أيها الناس، توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة، وصلوا ما بينكم وبينه بكثرة

مسألة فرضية الجمعة على كل مسلم

ذكركم له، وكثرة الصدقة، تؤجروا، وترزقوا، واعلموا أن الله قد فرض عليكم الجمعة في عامكم هذا، في شهركم هذا، في ساعتكم هذه، فريضة مكتوبة، فمن تركها جاحدًا بها، واستخفافًا بحقها ... فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا صيام له، ألا ولا حج له، ألا ولا صدقة له، ألا ولا بر له» . وأما الإجماع: فإن المسلمين أجمعوا على وجوبها. [مسألة فرضية الجمعة على كل مسلم] ] . الجمعة: فرض من فروض الأعيان، وغلط بعض أصحابنا على الشافعي: أنه قال: هي من فروض الكفاية؛ لأنه قال: (ومن وجبت عليه الجمعة ... وجبت عليه صلاة العيدين) . وهذا ليس بشيء، وإنما أراد الشافعي: أن المخاطب بالجمعة وجوبًا، مخاطب بالعيدين استحبابًا. إذا ثبت هذا: فإن الجمعة لا تجب إلا على من وجدت فيه سبع شرائط: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والذكورة، والحرية، والصحة، والاستيطان. ثلاثة من هذه الشروط شرط في الجمعة وفي غيرها من العبادات البدنية، مثل:

فرع وجوب الجمعة على المسافر

الصلوات، والصيام، والحج، وهي: الإسلام، والبلوغ، والعقل. وأربعة منهن شرط في الجمعة وحدها، وهي: الذكورية، والحرية، والصحة، والاستيطان. وشرطان من هذه السبعة شرط في الوجوب والإجزاء، وهما: الإسلام، والعقل. وخمسة شروط في الوجوب دون الإجزاء: فلا تجب الجمعة على كافر في قول من قال من أصحابنا: إن الكفار غير مخاطبين في الشرعيات. ولا تجب على صبي، ولا مجنون؛ لما ذكرناه في سائر الصلوات، وقد مضى ذكر ذلك في الصلاة. ولا تجب الجمعة على المرأة؛ لما ذكرناه من حديث جابر، وروى أبو عمرو الشيباني، قال: رأيت ابن مسعود يُخرج النساء من الجامع يوم الجمعة، يقول: (اخرجن إلى بيوتكن خير لكن) . قال في " الأم " [1/168] : (وأحب للعجائز إذا أذن لهن أزواجهن حضورها، لأنها لا تُشتهى) . ولا تجب الجمعة على الخنثى؛ لأنه يحتمل أن يكون ذكرًا، فتجب، ويحتمل أن يكون امرأة، فلا تجب، وإذا احتمل الأمرين ... لا تجب عليه الجمعة بالشك. [فرع وجوب الجمعة على المسافر] ] . ولا تجب الجمعة على المسافر، وبه قال عامة الفقهاء، وقال الزهري، والنخعي: إذا سمع النداء ... وجبت عليه. دليلنا: حديث جابر، ولأنه مشغول بالسفر.

فرع لا تجب الجمعة على ذي رق

ويستحب له إذا كان في بلد وقت الجمعة أن يحضرها، فإن حضرها ... فهل يتعين عليه فعلها؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ". والمذهب: أنها لا تتعين عليه، فإن نوى المسافر الإقامة في بلد أربعة أيام ... وجبت عليه الجمعة؛ لأنه مقيم غير مستوطن، وهل تنعقد به؟ فيه وجهان، ويأتي بيانهما. [فرع لا تجب الجمعة على ذي رق] ] : ولا تجب الجمعة على العبد والمكاتب، وقال داود: (تجب عليهما) ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد، وقال الحسن، وقتادة: تجب على المكاتب، وعلى العبد الذي يؤدي الضريبة، دون من لم يؤد. دليلنا: حديث جابر، ولأن العبد مشغول بخدمة سيده، وحكم المكاتب حكمه، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبيه درهم» . فإن كان نصفه حرًا، ونصفه عبدًا، فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة، أو كان بينهما مهاياة، ولكن كان يوم الجمعة في حق السيد ... لم يجب عليه؛ لما ذكرناه فيمن جميعه عبد، ويستحب له أن يحضر إذا أذن له سيده؛ لتحصيل الفضيلة، ولكن لا تجب عليه؛ لأن الحقوق الشرعية تتعلق بخطاب الشرع، لا بإذن سيده.

فرع لا تجب على المريض

وإن كان يوم الجمعة في حق العبد ... ففيه قولان، حكاهما في " الإبانة " [ق\95] : أحدهما: تجب عليه الجمعة؛ لأنه في حكم الحر في هذا اليوم، بدليل أن جميع كسبه له. والثاني: لا تجب عليه؛ لأن فيه بعض الرق. وقال أصحابنا العراقيون: لا تجب عليه من غير تفصيل. [فرع لا تجب على المريض] ] : ولا تجب الجمعة على المريض؛ لحديث جابر، ولأنه يشق عليه القصد إلى الجمعة، فلم تجب عليه. ولا تجب الجمعة على الأعمى، إذا لم يكن له قائد؛ لأنه يشق عليه ذلك، وحكى الشاشي: أن القاضي حسينا قال: تجب عليه إذا كان يحسن المشي بالعصا، ولعله أراد: إذا اعتاد المشي إلى موضع الجمعة وحده، وإن كان للأعمى قائد ... وجبت عليه الجمعة؛ لأنه مع القائد كالبصير. [فرع أعذار الجمعة] ] : والأعذار التي ذكرناها: أنها أعذار في ترك الجماعة، هي أعذار في ترك الجمعة، فلا تجب الجمعة على خائف على نفسه أو ماله، ولا على من في طريقه مطر، ولا على من له مريض يخاف ضياعه؛ لما ذكرناه في الجماعة، ولا تجب على من له قريب

مسألة وجوب الجمعة على أهل المدن

أو ذو ود يخاف موته؛ لما روي: (أنه استصرخ على سعيد بن زيد وابن عمر يسعى إلى الجمعة فتركها) لأنه ابن عمه. ومعنى قوله: (استصرخ) ، أي: استغيث عليه. فإن حضر المريض الجامع، أو الأعمى الذي لا قائد له، أو من في طريقه مطر ... وجبت عليهم الجمعة؛ لأن المشقة قد زالت بالحضور. فإن أحرم المسافر أو المريض بالجمعة، فأراد الانصراف عنها ... لم يكن لهما ذلك: لأنها قد تعينت عليهما بالدخول. وإن أحرمت المرأة أو العبد بالجمعة، فأراد الانصراف منها إلى الظهر ... فهل يجوز لهما ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري: أحدهما: يجوز لهما ذلك؛ لأنهما ليسا من أهل فرضها. والثاني: لا يجوز لهما ذلك؛ لأنها قد تعينت عليهما بالدخول. [مسألة وجوب الجمعة على أهل المدن] تجب الجمعة على أهل المصر، إذا وجدت فيهم الشرائط التي ذكرناها، سواء سمعوا النداء، أو لم يسمعوا، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاطب أهل المدينة بوجوبها، ولم

يفرق بين أن سمعوا النداء، أو لم يسمعوا؛ ولأن المصر الواحد كالدار الواحدة، بدليل: أن من سافر منه لا يقصر حتى يفارق جميعه. وأما من كان من خارج المصر: فهم على ثلاثة أضرب: [الأول] : قوم تجب عليهم الجمعة بأنفسهم. و [الثاني] : قوم لا تجب عليهم بأنفسهم، ولكن تجب عليهم بغيرهم. و [الثالث] : قوم لا تجب عليهم لا بأنفسهم ولا بغيرهم. فأما الذين تجب عليهم بأنفسهم: فهم أهل القرية إذا كانوا أربعين رجلًا على الشروط التي ذكرناها، فتلزمهم إقامتها في موضعهم، سواء سمعوا نداء المصر، أو لم يسمعوا، فإن أقاموها في موضعهم لهذا ... فقد أحسنوا، وإن أتوا المصر، وصلوا الجمعة فيه أجزأتهم، وقد أساءوا؛ لأن إقامة الجمعة في موضعين أفضل من إقامتها في موضع واحد، هذا هو المنصوص. وقال الصيدلاني: لا يكونون مسيئين بذلك؛ لأن من الفقهاء من يقول: لا تنعقد الجمعة في القرية، وإنما تنعقد في البلد، فإذا دخلوا البلد، وصلوا فيه ... فقد خرجوا من الخلاف. وأما الذين لا تجب عليهم الجمعة بأنفسهم، وتجب عليهم بغيرهم: فهم الذين ينقصون عن أربعين، ويسكنون في موضع يسمعون النداء فيه من البلد الذي تقام فيه الجمعة. وأما الذين لا تجب عليهم الجمعة لا بأنفسهم ولا بغيرهم: فهم الذين ينقصون عن الأربعين، ويسكنون في موضع لا يسمعون فيه النداء من البلد الذي تجب فيه الجمعة. هذا مذهبنا، وبه قال عبد الله بن عمرو بن العاص، وابن المسيب، وأحمد، وأبو ثور. وذهبت طائفة إلى: أن الجمعة تجب على من يمكنه إتيان الجمعة، ويأوي بالليل إلى منزله. ذهب إليه ابن عمر، وأنس، وأبو هريرة.

وقال عطاء: تجب الجمعة على من كان من المصر على عشرة أميال. وقال الزهري: تجب على من كان من المصر على ستة أميال. وقال ربيعة: على أربعة أميال. وقال مالك والليث: (على ثلاثة أميال) . وقال أبو حنيفة: (لا تجب الجمعة على من كان خارج المصر، ولو كان بينه وبين المصر خطوة) . وقال محمد: قلت لأبي حنيفة: تجب الجمعة على أهل ريادة بأهل الكوفة؟ فقال: (لا) . وبين ريادة وبين الكوفة نهر. وعند أبي حنيفة: (أن الجمعة لا تجب على أهل القرى، وإن كان العدد فيهم موجودًا، وإنما تجب على أهل المصر) . وحد المصر عنده: أن يكون هناك سلطان قاهر يستوفي الحقوق، ويقيم الحدود، أو خليفة من قبله، ويكون فيها سوق قائم، وجامع، ومنبر، ونهر جار. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] . فأوجب السعي إلى الجمعة على المؤمنين، ولم يفرق بين أهل المصر، وأهل القرى، وأهل السواد، وظاهر أمره يقتضي وجوب السعي على من كان خارج المصر، سواء كان قريبًا أو بعيدًا، إلا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيده بمن سمع النداء، فروى عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة على من سمع النداء» ،

فرع صفة نداء الجمعة

وأراد به من كان خارج المصر؛ لأن أهل المصر تجب عليهم الجمعة، سواء سمعوا النداء، أو لم يسمعوا، بالإجماع. وروي عن ابن عباس: أنه قال: (أول جمعة بعد جمعة المدينة جمعت في قرية بالبحرين، يقال لها: جواثا) . [فرع صفة نداء الجمعة] إذا ثبت: أن الجمعة تجب على من كان خارج المصر، إذا سمعوا النداء من المصر: قال الشافعي: (فصفة النداء الذي تجب به الجمعة على من سمعه: أن يكون المؤذن صيتًا، وتكون الرياح ساكنة، والأصوات هادئة، وكان من ليس بأصم مستمعًا - يعني: مصغيًا - غير لاه، ولا ساه) ، ومن أي موضع يُعتبر سماعه من المصر؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\95] :

أحدهما - وهو الأصح -: أن الاعتبار أن يقف المؤذن في طرف البلدة إلى جانب القرية الخارجة عن البلد. والثاني: يعتبر من وسط البلد. ولا يعتبر أن يعلو المؤذن على سور أو منارة؛ ليعلوا أعلى البناء؛ لأن الارتفاع ليس له حد، قال القاضي أبو الطيب: وسمعت شيوخنا يقولون: إلا بطبرستان؛ فإنها مبنية بين غياض وأشجار تمنع من بلوغ الصوت، فيعتبر أن يصعد على شيء يعلو على الغياض والأشجار. فإن كان هناك قرية على جبل يسمعون النداء من البلد الذي تقام فيه الجمعة لعلوهم، ولو كانوا في مستوٍ من الأرض ... لم يسمعوا، أو كانت هناك قرية في وهدة من الأرض، لا يسمعون النداء فيها من البلد لانخفاض قريتهم، ولو كانوا في مستوٍ من الأرض.. لسمعوا.. ففيه وجهان: [الأول] : قال القاضي أبو الطيب: لا تجب على من سمع؛ لعلو قريته، وتجب على من لم يسمع؛ لانخفاض قريته. و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: تجب الجمعة على من سمع لعلوه، ولا تجب

مسألة اتفاق العيد والجمعة

على من لم يسمع لانخفاض قريته؛ لأنا نلحق النادر بالغالب العام. قال ابن الصباغ: والذي قاله القاضي أبو الطيب أشبه بكلام الشافعي؛ لأنه اعتبر أن يكون المؤذن صيتًا، والأصوات هادئة، والرياح ساكنة، فلم يعتبر حصول السماع مع عارض، وهو شدة الرياح، كذا ينبغي ألا يعتبر العلو والانخفاض، وإنما يعتبر الاستواء. [مسألة اتفاق العيد والجمعة] وإن اتفق العيد يوم الجمعة ... وجبت الجمعة على أهل المصر، ولا تسقط عنهم بفعل العيد، وبه قال أكثر الفقهاء. وقال عطاء: يصلي العيد، ويترك الجمعة، ولا صلاة في هذا اليوم إلى العصر. وقال أحمد: (يسقط عنه حضور الجمعة) . وحكي عن عبد الله بن الزبير: أنه صلى العيد، وترك الجمعة، فعابه بعض بني أمية، فقال ابن الزبير: (هكذا كان يصنع عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، فبلغ ابن عباس فعل ابن الزبير، وكان غائبًا في اليمن، فقال: (أصاب السنة) . وروي: أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خطب في العيد، فقال: (أيها الناس، قد اجتمع

عيدان في يوم، فمن شهد العيد ... فقد قضى الجمعة إن شاء الله) . ودليلنا: ما ذكرناه من الظواهر في وجوب الجمعة، ولم يفرق فيها بين يوم العيد وغيره. وأما أهل السواد - وهم من كان خارج المصر الذين يجب عليهم حضور الجمعة بسماع النداء من المصر إذا حضروا العيد، وراحوا -: فلا يجب عليهم حضور الجمعة في يومهم ذلك. ومن أصحابنا من قال: لا يسقط عنهم فرض الجمعة؛ لأن من لزمه فرض الجمعة في غير يوم العيد ... لزمه في يوم العيد، كأهل المصر. والمنصوص هو الأول، والدليل عليه: ما روي عن أبي هريرة وابن عمر: أنهما قالا: «اجتمع عيدان على رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم واحد، فصلى العيد في أول النهار، وقال: "أيها الناس، إن هذا يوم اجتمع فيه عيدان لكم، فمن أحب أن يشهد معنا الجمعة ... فليفعل، ومن أحب أن ينصرف فليفعل» . وأراد به أهل العالية والسوادات، بدليل ما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه

مسألة يسقط الظهر بالجمعة

قال في خطبته: (أيها الناس، قد اجتمع عيدان في يومكم هذا، فمن أراد من أهل العالية أن يصلي معنا الجمعة ... فليفعل، ومن أراد أن ينصرف فليفعل) . ولأنهم إذا قعدوا في البلد بعد صلاة العيد إلى صلاة الجمعة ... فاتتهم لذة العيد، وإن راحوا بعد صلاة العيد إلى منازلهم، ثم رجعوا لصلاة الجمعة كان عليهم مشقة، والجمعة تسقط بالمشقة، بخلاف أهل المصر، فإن ذلك لا يوجد في حقهم. [مسألة يسقط الظهر بالجمعة] ومن لا جمعة عليه، كالمرأة والعبد والمسافر، إذا حضروا الجمعة، وصلوها ... سقط عنهم فرض الظهر؛ لأن الجمعة إنما سقطت عنهم لعذر، فإذا حملوا على أنفسهم، وصلوا الجمعة أجزأتهم، كالمريض إذا صلى من قيام. وإن صلوا الظهر ... أجزأتهم؛ لأنها فرضهم، فإن صلوا الجمعة بعد ذلك سقط عنهم الفرض بالظهر، وكانت الجمعة نافلة. وحكى أبو إسحاق المروزي: أن الشافعي قال في القديم: (يحتسب الله له بأيتهما شاء) . والأول أصح. وقال أبو حنيفة: (يبطل الظهر بالسعي إلى الجمعة) . وقال أبو يوسف ومحمد: يبطل الظهر بالإحرام بالجمعة. ودليلنا: أن صلاة الظهر قد صحت، فلا تبطل بالسعي ولا بالإحرام بالجمعة، كالمنفرد إذا صلى وحده، ثم صلى تلك الصلاة في جماعة. والمستحب لأهل الأعذار: ألا يصلوا الظهر حتى يفوت وقت الجمعة، وفواتها برفع الإمام رأسه من الركوع في الثانية، وإنما استحببنا ذلك لمعنيين:

أحدهما: أن الجمعة فرض الجماعة، والظهر فرض الخصوص، فاستحب تقديم فرض الجماعة. والمعنى الثاني: أن فيهم من قد يزول عذره، فيكون فرضه الجمعة، وإن صلى المعذور الظهر، ثم زال عذره قبل صلاة الإمام الجمعة ... لم تجب عليه الجمعة. وقال ابن حداد: إذا صلى الصبي الظهر، ثم بلغ قبل صلاة الإمام الجمعة ... وجبت عليه صلاة الجمعة؛ لأن ما صلى الصبي قبل البلوغ نفل، بخلاف غيره. والصحيح هو الأول؛ لأن الشافعي قد نص على: (أن الصبي إذا صلى في غير يوم الجمعة الصلاة في أول الوقت، ثم بلغ في آخره: أنه لا تجب عليه إعادتها) . فكذلك في يوم الجمعة. وإن صلى الخنثى الظهر في أول الوقت، ثم بان أنه رجل قبل صلاة الإمام الجمعة ... لزمه أن يصلي الجمعة. والفرق بينه وبين غيره من المعذورين: إذا تبين أنه كان رجلًا وقت الصلاة، بخلاف غيره من المعذورين. وتستحب الجماعة للمعذورين في الظهر يوم الجمعة. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره لهم الجماعة) . دليلنا: الأخبار التي ذكرناها في الجماعة، ولم يفرق بين صلاة الظهر يوم الجمعة وبين غيرها. قال الشافعي: (وأحب لهم إخفاء جماعتهم، لئلا يتهموا بالرغبة عن صلاة الإمام) .

قال أصحابنا: هذا إذا كان عذرهم خفيا، فأما إذا كان جليًّا: لم يستحب لهم إخفاء الجماعة؛ لأن التهمة منتفية عنهم. وأما من كان من أهل فرض الجمعة: إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة ... ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يصح ظهره، ويجب عليه السعي إلى الجمعة، فإذا صلى الجمعة احتسب الله تعالى بأيتهما شاء، فإن فاتته الجمعة ... أجزأته الظهر التي صلاها) . و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يصح ظهره، وتلزمه الجمعة، فإن لم يصلها حتى فاتت ... وجب عليه إعادة الظهر) . وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وزفر. وقال أبو حنيفة: (يصح ظهره قبل فوات الجمعة، ويلزمه السعي إلى الجمعة، فإذا سعى إليها ... بطل الظهر، وإن لم يسع أجزأته الظهر) . وقال أبو يوسف ومحمد: يصح الظهر، ويبطل بالإحرام بالجمعة. وأصل القولين عندنا: ما المخاطب به يوم الجمعة؟ وفيه قولان. [الأول] : قال في القديم: (المخاطب به هو الظهر، ولكن كلفوا إسقاطها بالجمعة) . ووجهه: أنه لا خلاف أن الجمعة إذا فاتت ... فإنه يقضي الظهر أربعًا، فثبت أنها هي الواجبة، إذ لو كانت الجمعة هي الواجبة لوجب قضاؤها. و [الثاني] : قال في الجديد: (إن المخاطب به هو الجمعة دون الظهر) . وهو الصحيح، ووجهه: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] ، فأوجب السعي إلى الجمعة، فعلم: أن المخاطب به هو الجمعة دون الظهر، ولما ذكرناه من حديث جابر؛ ولأنه مأمور بفعل الجمعة، معاقب على تركها، منهي عن فعل الظهر، فوجب أن يكون فرضه ما أمر بفعله، دون ما نهي عن فعله، كسائر الأوقات.

مسألة السفر يوم الجمعة

وأما القضاء: فقد قال أبو إسحاق: إذا فاتته الجمعة ... فإنه يقضيها، ولكن يقضي أربعًا؛ لأن الخطبتين أقيمتا مقام ركعتين، فلما فاتت الجمعة قضى أربعا. هذا قول عامة أصحابنا. وحكي عن أبي إسحاق المروزي: أنه قال: إذا اتفق أهل بلد على ترك الجمعة، وصلوا الظهر ... أثموا بترك الجمعة، وتجزئهم الظهر؛ لأن كل واحد منهم لا تنعقد به الجمعة. والصحيح: أنها لا تجزئهم على قوله الجديد؛ لما ذكرناه فيه. [مسألة السفر يوم الجمعة] ومن وجبت عليه صلاة الجمعة، وأراد السفر، فإن كان يخاف فوت السفر؛ لذهاب القافلة ولا يمكنه المشي وحده ... جاز له السفر، وترك الجمعة، سواء كان قبل الزوال أو بعده؛ لأن عليه مشقة في ذلك، والجمعة تسقط بالمشقة. وإن كان لا يخاف فوت السفر، فإن أراد السفر بعد الزوال إلى بلد لا تقام فيه الجمعة ... لم يجز. وقال أبو حنيفة: (يجوز) . وقال أحمد: (إن كان إلى سفر الجهاد ... جاز) . دليلنا: أن الصلاة قد وجبت عليه، فلا يجوز تفويتها بالسفر، كالتجارة. وإن أراد السفر بعد طلوع الفجر الثاني، وقبل الزوال ... ففيه قولان: أحدهما: يجوز، وبه قال عمر، والزبير، وأبو عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأصحابه. ووجهه: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهز جيش مؤتة، وكان فيهم عبد الله بن

مسألة البيع وقت الجمعة

رواحة، فرآه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة، فقال: "ما الذي خلفك؟ ". فقال: الجمعة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لروحة في سبيل الله، أو غدوة في سبيل الله، خير من الدنيا وما فيها» والثاني: لا يجوز له السفر، وهو الأصح؛ لأن الجمعة واجبة، والتسبب إليها وهو السعي واجب، بدليل: أن الرجل إذا كان في طرف المصر، بحيث لا يمكنه الوصول إلى الجامع إلا بالسعي قبل الزوال ... لزمه ذلك، وإذا كان التسبب إليها واجبًا، كوجوب الجمعة لم يجز له أن يسافر بعد وجوب السبب، كما لا يجوز له بعد وجوب الجمعة. وأما الخبر: فيحتمل أن يكون أمره بالخروج قبل طلوع الفجر. [مسألة البيع وقت الجمعة] وأما البيع يوم الجمعة: فينظر فيه: فإن كان قبل الزوال ... لم يكره، وإن زالت الشمس، ولم يظهر الإمام على المنبر كره، ولا يحرم. وقال الضحاك، وربيعة، وأحمد: (يحرم) .

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] . فثبت: أن النهي عن البيع يتعلق بحال النداء. وإن ظهر الإمام على المنبر، وأذن المؤذن ... حرم البيع؛ للآية. إذا ثبت هذا: فإن التحريم إنما يختص بأهل فرض الجمعة. فأما إذا تبايع اثنان ليسا من أهل فرض الجمعة، كالمسافرين والعبدين والمرأتين ... لم يحرم عليهما. وقال مالك: (يحرم عليهما) . دليلنا: أن الله تعالى أمر بالسعي إلى الجمعة، ونهى عن البيع؛ لأجلها، فلما كان السعي إلى الجمعة لا يجب على هؤلاء ... ثبت أن النهي عن البيع لا يتوجه في حقهم. فإن تبايع اثنان - بعد ظهور الإمام على المنبر، والأذان - أحدهما من أهل فرض الجمعة، والآخر ليس من أهل فرضها: قال الشافعي: (أثما جميعًا) لأن من كان من أهل فرض الجمعة ... تناولته الآية، والآخر أعانه على المعصية، فكان عاصيًا بذلك. وكان موضع يحرم فيه البيع إذا وقع البيع فيه ... صح البيع. وقال مالك، وأحمد، وداود: (لا يصح) . دليلنا: أن النهي لأجل الصلاة، وذلك لا يختص بالبيع، فلم يوجب فساده، كمن ترك الصلاة في وقتها، واشتغل عنها بالبيع، وكذلك: لو ذبح بسكين مغصوبة ... فإن الذكاة تصح، ولو ذبح بظفر أو عظم لم تصح الذكاة؛ لاختصاص النهي بمعنى في المذبوح به.

مسألة لا تقام إلا في بناء

[مسألة لا تقام إلا في بناء] ولا تصح الجمعة إلا في أبنية يستوطنها من تنعقد بهم الجمعة؛ لأنها لم تقم في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا في أيام الخلفاء، إلا في أبنية. قال الشافعي: (وسواء كانت أبنيتهم من حجارة، أو طين، أو خشب، أو شجر، أو جريد، أو سعف) . قال ابن الصباغ: وظاهر هذا أن أهل الخيام لا يجمعون؛ لأنه شرط البناء. وقال في "البويطي": (ومن كان في بادية يبلغ عددهم أربعين رجلًا حرًا بالغًا، وكانت مظالهم بعضها إلى جنب بعض، وكانت وطنهم في الشتاء والصيف، لا يظعنون عنها إن قحطوا، ولا يرغبون عنها بخصب غيرها ... وجبت عليهم الجمعة) . فالمسألة على قولين: أحدهما: لا يجب على أهل الخيام؛ لعدم البناء؛ لأن الخيام بناء المستوفزين، لا بناء المستوطنين. والثاني: تجب عليهم الجمعة؛ لأن ذلك موضع الاستيطان والمقام، فأشبه البناء. إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (من شرط القرية أن تكون مجتمعة المنازل) .

قال ابن الصباغ: فإن كانت متفرقة ... نظرت: فإن كان بعضها بائنًا من بعض بحيث يقصر إذا أراد أن يسافر من بعضها، وإن لم يفارق الباقي ... فهذه متفرقة لا تجب عليهم الجمعة، وهذا ثبت من قوله: إن الأزقة والسكك بين الدور لا تكون فاصلة بينها؛ لأن أصحابنا ذكروا: أنه لا يجوز القصر لمن يسافر من بغداد، حتى يفارق نهر بغداد، وكذلك الرحبة تكون في القرية، فإن انهدمت القرية، وأقام أهلها فيها يصلحونها فإنهم يصلون الجمعة فيها، سواء كانوا في مظال، أو غير مظال؛ لأنهم في موضع استيطانهم. وإن خرج أهل البلد إلى خارج البلد، وأقاموا فيه الجمعة ... لم تصح. وقال أبو حنيفة: (تصح خارج المصر قريبًا منه، نحو الموضع الذي يصلى فيه العيد) . وقال أبو ثور: (الجمعة كسائر الصلوات، إلا أن فيها خطبة، فحيثما أقيمت ... جاز) . واحتج: أن عمر كتب إلى أبي هريرة: (أن جمعوا حيث كنتم) . ودليلنا على أبي حنيفة: أنه موضع يجوز أن يقصر فيه المسافر من أهل البلد ... فلم تجز إقامة الجمعة فيه، كالبعيد. وعلى قول أبي ثور: أن قبائل العرب كانت حول المدينة، ولم ينقل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم بإقامة الجمعة، ولا أقاموها، وأما حديث عمر: فمحمول على أنه أراد حيث كنتم، من بلد، أو قرية.

مسألة العدد للجمعة

[مسألة العدد للجمعة] العدد شرط في الجمعة، ولا خلاف أن الجمعة لا تنعقد بواحد. واختلف أهل العلم في أقل العدد الذي تنعقد به الجمعة. فذهب الشافعي إلى: (أنها تنعقد بأربعين رجلًا، ولا تنعقد بأقل من ذلك) ، وهل يكون الإمام منهم، أو يشترط أن يكون زائدًا عليهم؟ فيه وجهان: المشهور: أنه منهم، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. وقال ربيعة: تنعقد باثني عشر رجلًا. وقال عكرمة: تنعقد بتسعةٍ. وقال أبو حنيفة: (تنعقد بأربعة: إمام، وثلاثة مأمومين) . وذهب الثوري، والأوزاعي، وأبو يوسف، وأبو ثور إلى: (أنها تنعقد بثلاثة: إمام ومأمومَين) . وحكى صاحب " التلخيص ". وصاحب " الفروع ": أن ذلك قول للشافعي في القديم. فمن أصحابنا من سلم له هذا النقل، وقال: الثلاثة جمع مطلق، فيكون على قولين. وذهب عامة أصحابنا: إلى أن هذا لا يعرف للشافعي في قديم ولا جديد، ولعل

ناقل هذا القول أخذه من أحد الأقوال في الانفضاض. وقال الحسن بن صالح: تنعقد الجمعة بإمام ومأموم. وقال مالك: (لا حد في ذلك، وإنما يعتبر عدد تتقرى بهم قرية، ويمكنهم المقام فيها، والبيع والشراء، فإذا كانت قرية، وفيها سوق ومسجد ... انعقدت بهم الجمعة) . دليلنا: ما روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: (كنت قائد أبي بعد ما كف بصره، وكان إذا سمع نداء الجمعة، ترحم على أسعد بن زرارة، فقلت له: إنك تترحم عليه عند نداء الجمعة؟ قال: نعم؛ لأنه أول من جمع بنا في بني بياضة، قلت: كم كنتم؟ قال: أربعين رجلا) . ووجه الدلالة منه: أن الناس قد كانوا يسلمون في المدينة الثلاثة والأربعة والعشرة، ولم يقيموا الجمعة حتى تم عددهم أربعين، فدل على أنه لا تجوز إقامتها فيما دون ذلك. وروي عن جابر بن عبد الله: أنه قال: «مضت السنة: أن في كل أربعين فما

فرع شرط عدد المجمعين

فوقها جمعة وأضحى وفطرًا» . وقول الصحابي: (مضت السنة) بمنزلة الرواية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن الأربعة والثلاثة والتسعة والاثني عشر لا تُبنى لهم الأوطان غالبًا، فوجب ألا تنعقد بهم الجمعة، كالاثنين. [فرع شرط عدد المجمعين] ومن شرط العدد أن يكونوا رجالًا بالغين، عاقلين، مسلمين، أحرارًا، مستوطنين؛ لما مضى ذكره. إذا ثبت هذا: فالناس في الجمعة على أربعة أضرب: ضرب: تجب عليهم الجمعة، وتنعقد بهم. وضرب: لا تجب عليهم، ولا تنعقد بهم. وضرب: لا تجب عليهم، وتنعقد بهم. وضرب: تجب عليهم، وهل تنعقد بهم؟ فيه وجهان. فأما الذين تجب عليهم وتنعقد بهم: فهم أربعون رجلًا على الشروط التي ذكرناها.

مسألة العدد شرط للخطبة

وأما الذين لا تجب عليهم، ولا تنعقد بهم: فهم الصبيان، والخناثى، والنساء والمسافرون، والعبيد. فلو اجتمع من أحدهم أربعون، وعقدوا الجمعة ... لم تصح منهم. وإن اجتمع أربعون رجلًا على الشروط التي ذكرناها، وصلوا الجمعة، وصلى هؤلاء معهم ... انعقدت لهم الجمعة تبعًا لغيرهم. وحكى ابن الصباغ: أن أبا حنيفة قال: (إذا اجتمع المسافرون أو العبيد، وصلوا الجمعة بانفرادهم ... صحت لهم الجمعة) . دليلنا: أنهم ليسوا من أهل فرض الجمعة ... فلم تنعقد بهم: بانفرادهم، كالنساء. وأما الذين لا تجب عليهم، وتنعقد بهم: فهم المرضى، ومن في طريقه مطر، ومن يخاف حضور الجامع، فإن حضروا ... وجبت عليهم، وانعقدت بهم. وأما الذين تجب عليهم، وهل تنعقد بهم؟ فيه وجهان: فهم المقيمون في بلد على تنجز حاجة، مثل: المقيم على درس الفقه أو التجارة، بحيث لا يجوز له القصر. قال أبو علي بن أبي هريرة: تنعقد بهم الجمعة؛ لأن كل من وجبت عليه الجمعة ... تنعقد به، كالمستوطن. وقال أبو إسحاق: لا تنعقد بهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقمها بعرفات بأهل مكة، وإن كانت دار إقامتهم؛ لأنها ليست بوطنٍ لهم. [مسألة العدد شرط للخطبة] العدد شرط في الخطبة. وقال أبو حنيفة في إحدى الروايتين: (لو خطب وحده، ثم حضر العدد، وصلى بهم الجمعة ... جاز) .

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] . والذكر - هاهنا - هو الخطبة؛ ولأنه ذكر هو شرط في الصلاة، فكان من شرطه حضور الجماعة، كتكبيرة الإحرام. إذا ثبت هذا: فإنما يشترط حضور العدد عند ذكر الواجبات من الخطبة على ما يأتي ذكره، دون ما سواها، فإن انفضوا عنه بعد فراغه من الواجبات، فإن عادوا قبل أن يتطاول الفصل ... بنى الإمام على الخطبة، وأحرم بهم بالجمعة، وإن رجعوا بعد أن تطاول الفصل - وحده: ما يعرفه الناس تطاولًا - قال الشافعي: (أحببت أن يعيد الخطبة، ثم يصلي بهم الجمعة، فإن لم يفعل صلى بهم الظهر) . واختلف أصحابنا في هذا: فقال أبو العباس: تجب عليهم إعادة الخطبة والجمعة؛ لأن الوقت متسع لهما، وهم من أهل فرضها. وقوله: (أحببت) لا يعرف للشافعي، وإنما هو: (أوجبت) ، فصحفه الناقل. وأما قوله: (صلى بهم الظهر) أراد: إذا ضاق الوقت عن الخطبة والجمعة. وقال أبو إسحاق: يستحب إعادة الخطبة، ولا تبطل بطول الفصل؛ لأنه لا يؤمن أن ينفضوا عنه مرة أخرى، وأما الصلاة: فتجب عليهم الجمعة؛ لأنه ممكن من فعلها، فإن صلى بهم الظهر ... أساؤوا بذلك، وأجزأهم قولًا واحدًا، بخلاف من صلى الظهر في بيته، وهو من أهل الجمعة، فإن الإعادة تجب عليه في قوله الجديد؛ لأن الجمعة قد أقيمت بعد صلاته، وهاهنا لم تقم.

فرع الانفضاض بعد الإحرام

ومن أصحابنا من قال بظاهر كلام الشافعي، وأنه يستحب إعادة الخطبة والجمعة؛ لأنه لا يؤمن أن ينفضوا عنه مرة ثانية. [فرع الانفضاض بعد الإحرام] ] : وإن أحرم الإمام بالجمعة، ثم انفضوا عنه ... ففيه ثلاثة أقوال منصوصة للشافعي: أحدها - وهو الصحيح -: (أنهم إذا انفضوا عن الأربعين في أثناء الصلاة لم تصح الجمعة) ؛ لأن العدد شرط في ابتداء الصلاة، فكان شرطًا في استدامتها، كالوقت والاستيطان. والثاني: (إن بقي معه اثنان ... أتم الجمعة) ؛ لأنهم يصيرون ثلاثة، وذلك أقل الجمع. والثالث: (إن بقي معه واحد ... أتم الجمعة) ؛ لأن اثنين يحصل معهما فضل الجماعة. وخرج المزني قولين آخرين: أحدهما: أنهم إن انفضوا بعد أن صلى بهم ركعة ... أتمها جمعة، وإن كان قبل أن يصلي بهم ركعة أتمها ظهرًا، وهو قول مالك. وإنما خرج المزني هذا من قول الشافعي: (إذا فرق الإمام الناس طائفتين في صلاة الخوف في البلد، فصلى بالطائفة الأولى ركعة من الجمعة، ثم قام في الثانية، ينتظر الثانية، فلما جاز أن يبقى وحده، ثم يتمها جمعة إذا جاءت الثانية ... كذا هذا مثله) . والثاني: إذا انفضوا عنه بعد الإحرام. جاز أن يتمها جمعة وإن بقي وحده، وأخذ هذا من قول الشافعي: (إذا أحدث الإمام، وقلنا: لا يجوز الاستخلاف ... جاز لهم أن يتموها جمعة) ؛ لأن الشيء قد يكون شرطًا في الابتداء، ولا يكون شرطًا في الاستدامة، ألا ترى أن النية شرط في ابتداء الصلاة، دون استدامتها. فمن أصحابنا من صوب المزني في هذا التخريج، فقال: في المسألة خمسة أقوال. ومنهم من خطأه في ذلك.

مسألة خطبتا الجمعة

[مسألة خطبتا الجمعة] ولا تصح الجمعة حتى يتقدمها خطبتان، وهما واجبتان، وبه قال عامة الفقهاء. وقال الحسن البصري: الخطبة مستحبة، وبه قال عبد الملك، وداود. دليلنا: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل الجمعة إلا بخطبتين) وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إنما قصرت الصلاة؛ لأجل الخطبة) . ولا تصح الخطبة والصلاة إلا بعد زوال الشمس. وقال أحمد: (يجوز فعلها قبل الزوال) . واختلف أصحابه في وقتها: فمنهم من قال: أول وقتها وقت صلاة العيد. ومنهم من قال: يجوز فعلها في الساعة السادسة. وقال مالك: (يجوز فعل الخطبة قبل الزوال، وأما صلاة الجمعة: فلا تجوز له قبل الزوال) .

دليلنا: ما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب يوم الجمعة بعد الزوال» ، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، ولأنهما فرضا وقت، فلم يختلف وقتهما، كصلاة الحضر والسفر. فإن دخل في الجمعة في وقتها، ثم خرج الوقت وهو فيها ... لم تبطل الصلاة، بل يتمها ظهرًا، ولا يحتاج إلى تجديد نية. قال صاحب " الفروع ": وقد قيل: يحتاج إلى تجديد النية بعد خروج الوقت. وقال أبو حنيفة: (إذا خرج الوقت وهو فيها ... بطلت صلاته) . وحكاه السنجي وجهًا آخر لبعض أصحابنا، وليس بمشهور. وقال عطاء، ومالك، وأحمد: (يتمها جمعة) . دليلنا على أبي حنيفة: أنهما صلاتا وقت، فجاز بناء إحداهما على الأخرى، كصلاة الحضر على صلاة السفر.

مسألة القيام في الخطبة

وعلى من قال: يتمها جمعة: أن من كان شرطًا في ابتداء صلاة الجمعة ... كان شرطًا في استدامتها، كسائر الشروط. وإن أحرم بالجمعة، وشك وهو فيها، هل خرج وقتها؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ": أحدهما - ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غيره -: أنه يتمها جمعة؛ لأن الأصل بقاء الوقت. والثاني: يتمها ظهرًا؛ لأن الأصل الظهر، وإنما جوز فعل الجمعة بشروط، فلا يجوز أن يفعلها حتى تتحقق الشروط. وإن خرج من الصلاة، ثم شك، هل خرج الوقت وهو فيها؟ لم تجب عليه إعادتها؛ لأن الظاهر أنه أداها على الصحة. وأما المسبوق فيها بركعة: إذا قام ليأتي بها، ثم خرج الوقت ... ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\90] : أحدهما: يتمها ظهرًا، كالإمام والجماعة. والثاني: يتمها جمعة، لأن هذه الركعة تبتنى على جمعة قد تمت. وإن تشاغلوا عن الجمعة، حتى ضاق الوقت ... قال الشافعي: (فإن علم الإمام أنه إذا خطب أقل خطبتين، وصلى أخف ركعتين، دخل وقت العصر قبل الفراغ منهما صلوا الظهر؛ لأنه لا يمكنهم صلاة الجمعة، وإن علم أنه يفرغ منها قبل دخول وقت العصر ... صلاها جمعة. [مسألة القيام في الخطبة] ] : القيام شرط في الخطبة، فإن خطب قاعدًا مع العجز ... أجزأه، فإن كان قادرًا لم يصح.

وقال أبو حنيفة، وأحمد: (القيام ليس بشرط فيها بحال) . دليلنا: ما روى جابر بن سمرة: أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائمًا، ثم يجلس، ثم يقوم، ويقرأ آيات، ويذكر الله» . وفي رواية عن جابر بن سمرة: أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الخطبتين، وهو قائم، فمن حدثك أنه كان يخطب قاعدًا ... فقد كذبك، فقد صليت خلفه أكثر من ألفي صلاة» ، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . فإن خطب الإمام قاعدًا، فإن علم المأمومون أنه عاجز عن القيام، أو أخبرهم: أنه عاجز ... صحت صلاتهم؛ لأنه لا يعلم ذلك إلا من جهته، وإن لم يعلموا بعجزه ولا أخبرهم صحت صلاتهم؛ لأن الظاهر من حاله: أنه ترك القيام لعجزه. فإن بان أنه كان قادرًا على القيام، فإن كان الإمام أحد الأربعين ... لم تصح الجمعة، لا له، ولا لهم، وإن كان زائدًا على الأربعين صحت الجمعة لهم دونه، كما قلنا فيمن صلى الجمعة خلف جنب. ويفصل بين الخطبتين بجلسة بينهما، فإن خطب قاعدًا عند العجز ... فصل بينهما بسكتةٍ، والجلسة واجبة. وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد: (الجلسة بينهما مستحبة غير واجبةٍ) .

مسألة الألفاظ الواجبة في الخطبة

دليلنا: حديث جابر بن سمرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصل بينهما بجلسة» ، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . وهل يشترط فيهما الطهارة من الحدث والنجس، وستر العورة؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا يشترط ذلك، وأنه مستحب) . وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد؛ لأنه ذكر يتقدم الصلاة، فلم يشترط فيه الطهارة، كالأذان. و [الثاني] : قال في الجديد: (يشترط ذلك) . وهو الأصح؛ لأنه ذكر شرط في الصلاة، فاشترطت فيه الطهارة، كتكبيرة الإحرام، وينبغي أن يكون ستر العورة فيهما شرطًا على هذين القولين. [مسألة الألفاظ الواجبة في الخطبة] وأما الألفاظ في الخطبتين: فاتفق أصحابنا على وجوب ثلاثة ألفاظ فيها: حمد الله، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والوصية بتقوى الله تعالى. وأما القراءة: فالمشهور من مذهب الشافعي: أنها واجبة. وحكى بعض أصحابنا قولًا آخر: أنها ليست بواجبة بواحدة منهما؛ لأن الشافعي قال في " الإملاء ": (فإن حمد الله، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ووعظ ... أجزأه، وقد ضيع حظ نفسه) . وهذا ليس بشيءٍ؛ لأن الشافعي قد نص على وجوبها في " الأم " [1/178] .

ووجهه: حديث جابر بن سمرة. فإذا قلنا بهذا: فاختلف أصحابنا في محلها: فمنهم من قال: القراءة واجبة في كل واحدة من الخطبتين؛ لأن ما كان واجبًا في إحداهما، كان واجبًا فيهما، كسائر الألفاظ. ومنهم من قال: تجب القراءة في إحدى الخطبتين لا بعينها؛ لأنه روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الخطبة» . وذلك لا يقتضي أكثر من مرة. وحكى في " الإفصاح " وجهًا ثالثًا: أن القراءة لا تجزئ إلا في الأولى، وهذا ليس بمشهور. وأما الدعاء: فمن أصحابنا من قال: يجب؛ لأن المزني ذكره في أقل ما يجزئ من الخطبة. ومنهم من قال: هو مستحب؛ لأنه لا يجب في غير الخطبة، فلا يجب فيها، كالتسبيح، وأما الدعاء للسلطان: فلا يستحب؛ لما روي: أنه سُئل عطاء عن ذلك؟ فقال: إنه محدث، وإنما كانت الخطبة تذكيرًا.

فرع الخطبة بالعربية

[فرع الخطبة بالعربية] ويشترط أن يأتي بالخطبة بالعربية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يخطبون بالعربية، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . فإن لم يوجد فيهم من يحسن الخطبة بالعربية ... احتمل أن تجزئهم الخطبة بالعجمية، ويجب أن يتعلم واحد منهم الخطبة بالعربية، كما قلنا في تكبيرة الإحرام. ولفظ الوصية ليس بشرط في الخطبة، فلو قرأ آية فيها وصية، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1] [النساء:1] ... أجزأه؛ لأنها أبلغ من الوصية. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (يجزئه أن يقول: الحمد لله، أو لا إله إلا الله، أو سبحان الله) . وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز حتى يأتي بكلام يسمى خطبة في العادة. وعن مالك روايتان: إحداهما: (أن من سبح أو هلل ... أعاد ما لم يصل) . والثانية: (لا يجزئه إلا ما سمته العرب خطبة) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] . ولم يبين كيفية الذكر، وكيفيته مأخوذة من فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأتي في خطبته بجميع ما ذكرناه، وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يومًا، فقال: الحمد لله نستعينه، ونستغفره، ونستنصره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله ... فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله ... فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى»

قال الشافعي: وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب، فقال: ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، ألا وإن الآخرة أجل صادق، يقضي فيها ملك قادر، ألا وإن الخير بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشر بحذافيره في النار، ألا فاعملوا، وكونوا من الله على حذر، ألا واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم - وفي رواية: على أموالكم - فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا ... يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره» وروي عن جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يوم الجمعة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته، واشتد غضبه، واحمرت وجنتاه، كأنه منذر جيش: "بعثت أنا والساعة كهاتين"، وأشار بالسبابة والوسطى، ثم قال: إن أفضل الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، من ترك مالًا ... فلأهله، ومن ترك دينًا أوضياعًا فإلي [وعلي] » وهذا يدل على وجوب الحمد والوصية.

قال أبو عبيد الهروي في " الغريب ": «خير الهدي هدي محمد» ، أي: أحسن الطرائق، يقال: فلان حسن الهدي، أي: حسن المذاهب في الأمور كلها. وقوله: " ضياعا " قال: فالضياع: العيال. وقال القتيبي: وهو مصدر ضاع يضيع ضياعًا، أي: من ترك عيالًا عالة، فجاء بالمصدر نائبًا عن الاسم. كقوله: فمن مات وترك فقيرًا، أي: فقراء، فإذا كسرت الضاد ... فهو جمع: ضائع، مثل: جائع وجياع. وأما الدليل على وجوب الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] [الانشراح:4] . قال أهل التفسير: أي: لا أذكر إلا وتذكر معي. وأما الدليل على وجوب القراءة: فحديث جابر بن سمرة، وروت أم هشام بنت حارثة، قالت: «حفظت سورة (ق) من في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر» .

فرع يستحب في الخطبة

[فرع يستحب في الخطبة] ويستحب أن يرفع صوته بالخطبة؛ لحديث جابر، ولأن القصد بالخطبة الإعلام، فكان رفع الصوت أولى، فإن خطب سرًا بحيث يسمع نفسه لا غير ... ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول الشيخ أبي زيد المروزي -: أنه يجزئه، وبه قال أبو حنيفة، كما لو خطب بالعربية، وهم عجم لا يفقهونه، أو كما لو جهر بالخطبة، وهم صم لا يسمعونه. والثاني: لا يجزئه؛ لأنه أخل بالمقصود، فهو كما لو خطب في نفسه، أو كما لو كتبها في درج، وقرؤوها في أنفسهم، وفهموها، ويخالف إذا خطب بالعربية، وهم عجم أو صم؛ لأنه لم يفرط هناك، وهاهنا قد فرط. [مسألة يسن للخطبة] والسنة: أن يخطب على شيء مرتفع: إما منبرٍ، أو درجةٍ، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دخل المدينة ... خطب مستندًا إلى جذع في المسجد، ثم صنع له المنبر، فصعده، وخطب عليه، فحن الجذع حتى سمعه أهل المسجد، فنزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه، وضمه حتى سكن» . ولأنه أبلغ في الإعلام. ويستحب أن يكون المنبر على يمين المحراب، وهو الموضع الذي يكون على يمين الإمام، إذا توجه إلى القبلة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع له منبره هكذا. ويستحب للإمام إذا دخل المسجد أن يسلم على الناس عند دخوله، فإذا بلغ المنبر ... صلى ركعتين تحية المسجد، ثم يصعد المنبر، فإذا بلغ إلى الدرجة التي تلي الدرجة التي يستريح بالقعود عليها التفت إلى الناس، وسلم عليهم.

وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره هذا السلام) ؛ لأنه قد سلم عليهم عند دخوله، فلا معنى لإعادته. دليلنا: ما روى عبد الله بن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم على من عند منبره، ثم يصعد، فإذا استقبل الناس بوجهه ... سلم، ثم قعد» ، ولأن الإمام يستدبرهم إذا صعد، فاستحب له أن يسلم عليهم إذا أقبل؛ ولهذا روي: (أن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا إذا مروا في طريق يحول بين بعضهم وبعض شجرة فيسلم بعضهم على بعض) . فإذا فرغ الإمام من السلام ... جلس، وأذن المؤذن؛ لما روى ابن عمر: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصنع ذلك) . ولأنه قد يتعب في الصعود، فاستحب له الجلوس؛ لترجع إليه نفسه. والمستحب: أن يكون المؤذن واحدًا، حكاه أبو علي في " الإفصاح "، والمحاملي، وغيرهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يؤذن له يوم الجمعة إلا واحد، ثم يقوم؛ لما ذكرناه من حديث جابر. ويستحب أن يعتمد على عنزة، أو قوس، أو سيف، أو عصى؛ لما روى

الحكم بن حزن: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمد على قوس في خطبته» ، ولأنه أسكن لجأشه. قال الشافعي: (فإن لم يكن معه شيء ... سكن نفسه: إما بأن يضع يمينه على شماله، أو بأن يرسل يديه ساكنتين، ويخطب خطبتين على ما مضى) . ويستحب أن يكون كلامه مسترسلًا معربًا بلا تمطيط ولا مد، ولا يأتي بالكلام الغريب المستنكر الذي تخفى عليهم أو على بعضهم المعاني فيه؛ لأن القصد بالخطبة الموعظة، ولا يحصل إلا بما ذكرناه. ويستحب أن يقبل على الناس بوجهه في جميع الخطبة، ولا يلتفت يمينًا ولا شمالًا. وقال أبو حنيفة: (يلتفت يمينًا وشمالًا، كالمؤذن) . دليلنا: ما روى سمرة بن جندب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خطبنا ... استقبلناه بوجوهنا، واستقبلنا بوجهه» . ولا يلتفت، ويفارق الأذان؛ فإن المقصود منه

فرع إن استغلق الكلام

الإعلام، وذلك يحصل بكلمة، وهاهنا: المقصود السماع، فإذا التفت إلى يمينه ... فوت على بعض الناس السماع، فكان أولى الجهات قصد وجهه، فإن خالف، وخطب مستقبل القبلة، مستدبر الناس صح، ولكنه قد خالف السنة. وحكى الشاشي وجهًا آخر: أنه لا يجزئه، وليس بصحيح. [فرع إن استغلق الكلام] وإن ارتج على الإمام ... فقد قال الشافعي في موضع: (ولا يلقن) ، وقال في موضع: (يلقن) . قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على حالين: فالموضع الذي قال: (لا يلقن) أراد: إذا رجى أن يفتح عليه، مثل: أن كان يردد الكلام في نفسه، والذي قال: (يلقن) أراد: إذا لم يرج انفتاحه. والدليل على ذلك: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ سورة في الصلاة، فنسى آية، فلما فرغ ... قال: "أليس فيكم أُبي؟ "، فقالوا: بلى، يا رسول الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هلا رددت علي؟ "، فقال أُبي: ما كان الله ليراني وأنا أرد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .

فرع شرب الماء حال الخطبة

وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إذا استطعمكم الإمام ... فأطعموه) ، يعني: الفتح عليه. ويستحب أن يقصر الخطبة، قال الشافعي في القديم: (يخطب بقدر أقل سورة) ، ولم يعين، وقد بينه في " الأم " [1/187] ، فقال: (أن يأتي بالألفاظ الواجبة التي ذكرناها) . والأصل في ذلك ... ما روي: أن عبد الله بن مسعود خطب، وأوجز، فقيل له: لو تنفست في خطبتك، فقال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «قصر الخطبة، وتطويل الصلاة، مئنة من فقه الرجل، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة» . قوله: " مئنة "، أي: مادة وقوة ودليل على فضل وكثرة علم. [فرع شرب الماء حال الخطبة] يجوز شرب الماء في حال الخطبة للعطش أو للتبرد. وقال مالك، وأحمد، والأوزاعي: (لا يجوز) . قال الأوزاعي: (فإن فعل ذلك ... بطلت جمعته) . دليلنا: أن الكلام إذا لم يبطلها، فشرب الماء أولى. قال الشافعي: (فإن قرأ آية فيها سجدة، فنزل، وسجد ... لم يكن به بأس) ؛ لما روي: (أن عمر فعل ذلك) .

مسألة ركعتا الجمعة

فإن تركها ... كان أولى؛ لما روي: أن عمر قرأ السجدة في الجمعة الثانية، فتهيأ الناس للسجود، فقال: (أيها الناس، على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا) ، ولم يسجد. فإن نزل، وسجد، وطال الفصل ... فهل يبني، أو يستأنف؟ فيه قولان: قال في القديم ... (يبني) ، وقال في الجديد: (يستأنف) . [مسألة ركعتا الجمعة] ] : وإذا فرغ من الخطبة ... نزل وصلى الجمعة ركعتين، وهو نقل الخلف، عن السلف، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فإن نوى أن يصليها ظهرًا مقصورة ... قال في " الفروع ": فهل يجزئه؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الواجب يوم الجمعة. ويستحب أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة (الجمعة) ، وفي الثانية بعد الفاتحة سورة (المنافقون) . قال الشافعي: (فإن قرأ في الأولى سورة (المنافقون) ... قرأ في الثانية سورة (الجمعة) ، حتى لا تخلو الصلاة من هاتين السورتين) . وقال مالك: (يقرأ في الأولى سورة (الجمعة) ، وفي الثانية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] [الغاشية:1] . وقال أبو حنيفة: (لا تتعين القراءة المستحبة فيهما، وهما وغيرهما في الفضل سواء) .

دليلنا: ما روي عن عبيد الله بن أبي رافع: أنه قال: «قرأ أبو هريرة في صلاة الجمعة سورة (الجمعة) و (المنافقون) ، فقلت له: قرأت سورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما، فقال أبو هريرة: (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأهما في صلاة الجمعة» . ولأن في الأولى ذكر الجمعة، وفي الثانية ذم المنافقين، وهذا أليق بالموضع، فإن قرأ غيرهما من السور ... جاز؛ لما روى سمرة بن جندب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الجمعة في الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وفي الثانية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » . ويستحب أن يجهر بالقراءة فيهما؛ لأنه نقل الخلف عن السلف، وأما ما روي: (أن صلاة النهار عجماء) : فإنما روي ذلك عن بعض التابعين، وإن صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... فإنه أراد: أكثر صلاة النهار عجماء، بدليل: أن صلاة الصبح يجهر بها، وهي من صلاة النهار. وبالله التوفيق

باب هيئة الجمعة والتبكير

[باب هيئة الجمعة والتبكير] والغُسل للجمعة سنة، وليس بواجب، وبه قال عامة أهل العلم، وقال الحسن البصري، وداود، وأهل الظاهر: (هو واجب) . دليلنا: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من توضأ يوم الجمعة ... فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغُسل أفضل» : فجعل غُسل يوم الجمعة فضيلة، فدل على أنه لا يجب. فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فبها ونعمت» : قال ابن الصباغ: معناه: فبالفريضة أخذ، ونعمت الخلة الفريضة. وحكى أبو عبيد الهروي، عن الأصمعي: أنه قال: فبالسنة أخذ. وقال بعضهم: فبالرخصة أخذ. ومما يدل على ما ذهبنا إليه: ما روي: «أن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دخل المسجد، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يخطب على المنبر، فقال أية ساعة هذه؟ فقال عثمان: كنت في السوق، فلم أشعر إلا أن سمعت النداء، فما زدت على أن توضأت وجئت، فقال عمر: والوضوء أيضًا؟! وقد علمت: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمرنا بالغسل» . فأقره عمر على ترك الغسل بحضرة الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولو كان واجبًا ... لم يجز تركه.

وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غُسل الجمعة واجب على كل محتلم» : فأراد: وجوب اختيار، لا وجوب إلزام، بدليل ما ذكرناه. وهل يسن غُسل الجمعة لليوم، أو للصلاة؟ فيه وجهان: المشهور: أنه يسن للصلاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من جاء منكم إلى الجمعة ... فليغتسل» . فعلى هذا: لا يسن لمن لا يأتي الجمعة. والثاني: يسن لليوم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غُسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» . فعلقه على اليوم. فعلى هذا: يسن لمن يحضر الصلاة، ولمن لا يحضرها. فإن اغتسل للجمعة قبل الفجر ... لم يجزئه، وقال الأوزاعي: (يجزئه) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غُسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» . فعلقه على اليوم. وإن اغتسل بعد طلوع الفجر، وراح إلى الجمعة عقيبه ... فقد أتى بالأفضل، وإن لم يرح عقيبه أجزأه عندنا.

مسألة الغسل من الجنابة يوم الجمعة

وقال مالك: (لا يجزئه) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من توضأ يوم الجمعة ... فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغُسل أفضل» . ولم يفرق بين أن يروح عقيبه، أو لا يروح. [مسألة الغسل من الجنابة يوم الجمعة] ] : وإن كان جُنبًا يوم الجمعة، فاغتسل غُسلين: غسلًا عن الجنابة، وغسلًا عن الجمعة ... فقد أتى بالأفضل، وإن اغتسل غسلًا واحدًا، ونواه عنهما أجزأه. وقال مالك: (لا يجزئه) . دليلنا: ما روى نافع: (أن ابن عمر كان يغتسل يوم الجمعة غُسلًا واحدًا عن الجنابة والجمعة) ، ولأنهما غسلان ترادفا، فأجزأه عنهما غسل واحد، كما لو كان على المرأة غسل جنابة، وغسل حيض. وإن اغتسل عن الجنابة، ولم ينو الجمعة ... أجزأه عن الجنابة، وهل يجزئه عن الجمعة؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه لم ينوها. والثاني: يجزئه؛ لأن القصد بالغسل عن الجمعة التنظيف، وقد حصل. وإن اغتسل، أو نوى الغسل عن الجمعة، ولم ينو عن الجنابة ... فهل يجزئه عن الجمعة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجزئه عن الجمعة؛ لأنه قد نواها، ثم يجب عليه أن يغتسل عن الجنابة.

فرع يستحب مع غسل الجمعة

والثاني: لا يجزئه عن الجمعة؛ لأن المقصود من غُسل الجمعة التنظيف، ولا تنظيف مع بقاء الجنابة. قال في " الإبانة " [ق\29] : إذا اغتسل بنية الجمعة، وكان يوم عيد ... فقد حصل له غسل الجمعة والعيد، وإن اغتسل بنية العيد حصل له غُسل العيد والجمعة؛ لأنهما غُسلا نفل، فتداخلا، بخلاف غسل الجمعة والجنابة. [فرع يستحب مع غسل الجمعة] ويستحب له مع الغُسل يوم الجمعة أن يفعل ستة أشياء: حلق الشعر، وتقليم الأظفار، والسواك، وقطع الروائح الكريهة، ولبس أحسن ثيابه، والتطيب؛ لما روى أبو سعيد، وأبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة، واستن، واستاك، ولبس أحسن ما يجد من الثياب، وخرج، ولم يتخط رقاب الناس، وركع ما شاء الله له أن يركع، وأنصت إذا خرج الإمام ... كانت كفارة ما بين تلك الجمعة إلى الجمعة التي قبلها". قال أبو هريرة: (وزيادة ثلاثة أيام؛ قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] » [الأنعام:160] . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في يوم الجمعة: "يا معشر المسلمين، إن هذا يوم جعله الله عيدًا للمسلمين، فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب ... فلا يضره أن يمسه» .

قال الشافعي: (ويستحب ذلك للعبيد والصبيان إذا أرادوا حضور الجمعة) . ويستحب للنساء التنظيف بالغسل والسواك، ويكره لهن لبس الشهرة من الثياب، والطيب؛ لأن ذلك يؤدي إلى الافتتان بهن. ويستحب له أن يلبس من الثياب البيض؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البسوا البياض؛ فإنها خير ثيابكم» . ولأن البياض كان أكثر لبس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، و: «كفن في ثلاثة أثواب بيض» ، ولم ينقل: أنه لبس السواد إلا يوم فتح مكة، فـ: «إنه دخل وعلى رأسه عمامة سوداء» .

مسألة التبكير للجمعة

فإن لم يجد البياض ... قال الشافعي: (فعصب اليمن، وهي هذه الأبراد المخططة التي يصبغ غزلها، ثم ينسج) . و (الغزل) : العصب، و (الغزال) : هو العصاب الذي يبيع الغزل. ولا يستحب لبس ما صبغ ثوبه، قال الشيخ أبو حامد: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يلبسها. ويستحب له أن يرتدي بُردًا، ويعتم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك، وروي: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي كرَّم الله وجهه: «العمائم تيجان العرب» ، وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الملائكة تكتب أصحاب العمائم يوم الجمعة» . ويستحب للإمام من ذلك أكثر مما يستحب لغيره؛ لأنه يقتدى به. [مسألة التبكير للجمعة] ويستحب التبكير إلى الجمعة؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة، ثم راح في الساعة الأولى ... فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة ... فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في

الساعة الخامسة ... فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» . قال الشيخ أبو حامد: يعني: الصحف التي يكتب فيها فضل التبكير. وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان يوم الجمعة ... كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم، الأول فالأول، فإذا خرج الإمام طويت الصحف» ، ومن أين تعتبر هذه الساعات؟ فيه وجهان: أحدهما: من طلوع الشمس؛ لأن الساعة لا تعلم إلا بعد طلوع الشمس، فأما قبله: فلا. والثاني: وهو ظاهر قول الشافعي: أنها تعتبر من طلوع الفجر؛ لأنه أول اليوم، وبه يتعلق جواز الغسل، هذا نقل الشيخ أبي حامد وأصحابنا البغداديين. وقال القفال: ليس المراد هاهنا بالساعات: أعداد ساعات اليوم والليلة التي هي أربع وعشرون ساعة في الليلة واليوم، حتى إن اثنين إذا أتيا على التعاقب في ساعة واحدة، استويا في الأجر. وإنما معنى الخبر: أن من كان أسبق الاثنين رواحًا ... فهو أعظم أجرًا وإن كان بينهما لحظة، وهو عبارة عن ترتيب المجيء، لا غير.

قال الشافعي: (فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] [الجمعة:9] . فأمر الله بالسعي بعد النداء، وهو بعد الزوال ... فكيف استحببتم السعي قبل الزوال؟ -قال - فالجواب: أن السعي المأمور به بعد الزوال واجب، وذلك لا يمنع استحباب السعي قبل الزوال) . والمستحب: أن يمشي إلى الجمعة على سجية مشيه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتيتم الصلاة ... فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن أتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة» . ولا يركب من غير عذر؛ لما روى أوس بن أوس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع، ولم يلغ ... كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها» . وقوله: (غسل) فيه ثلاث روايات: غسل - بالتخفيف - وروي: غسل - بالتشديد - وروي: عسل - بالعين غير معجمة منقوطة - فمن روى بالتخفيف ... فأراد: توضأ واغتسل، ومن روى بالتشديد فأراد: جامع أهله، فاغتسل وغسل غيره، وكذا من روى بالعين ... أي: ذاق العُسيلة - وهو الجماع - واغتسل. وقوله: "بكر"، أي: خرج في الساعة الأولى، وفي "ابتكر" تأويلان: أحدهما: أنه أراد: حضور أول الخطبة، مشتق من: باكورة الثمرة، وهو أولها. والثاني: أنه أراد: فَعل فِعل المبتكرين، من الصلاة، والقراءة، والطاعة.

مسألة تخطي الرقاب يوم الجمعة

فإن كان عاجزًا عن المشي ... لم يكره له أن يركب؛ لأنه إذا لم يكره له ترك القيام في الصلاة للعجز فلأن لا يكره ترك المندوب إليه مع العجز أولى. قال المزني: ومن بلغ باب المسجد ... فالمستحب: أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويقول: اللهم اجعلني من أوجه من توجه إليك، وأقرب من تقرب إليك، وألحح من طلب إليك. [مسألة تخطي الرقاب يوم الجمعة] ] : قال الشافعي: (وأكره تخطي رقاب الناس يوم الجمعة قبل دخول الإمام، وبعده، إلا أن يكون إمامًا، فلا يكره؛ لحديث أبي سعيد، وأبي هريرة) . وحكى الطبري: أن القفال قال: إذا كان الرجل محتشمًا أو مخوفًا ... لم يكره له أن يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة في الجامع؛ لما ذكرناه من حديث عثمان حين جاء وعمر يخطب، ولما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جيء به حين مرض يهادى بين رجلين، حتى دخل المحراب» . فإن ازدحم الناس، وكان هناك فرجة، فإن علم أنهم إذا قاموا إلى الصلاة، تقدموا إليها ... لم يتخط؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك. وإن كان يعلم أنهم إذا قاموا إلى الصلاة لا يتقدمون إليها ... جاز له أن يتخطى إليها؛ لأن به حاجة إلى ذلك، وهكذا: إذا علم أنهم يقومون إليها وإنما يتخطى إليها رجلًا أو رجلين جاز له ذلك؛ لأنه يسير.

فرع اتخاذ موضع لسماع الخطبة

[فرع اتخاذ موضع لسماع الخطبة] قال الشافعي: (ولا أكره للرجل يوم الجمعة أن يوجه من يأخذ له موضعه، فإذا جاءه الآمر ... تنحى له) ؛ لما روي: أن ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له يوم الجمعة، ليجلس فيه، فإذا جاءه محمد قام الغلام، وجلس فيه محمد. فإن جلس رجل في موضع ... فلا يجوز لغيره أن يقيمه منه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه، ولكن يقول: تفسحوا، أو توسعوا» . فإن قام الجالس، وأجلس غيره مكانه ... لم يكره له أن يجلس فيه. وأما القائم منه: فإن تقدم منه إلى موضع أقرب إلى الإمام ... لم يكره له ذلك، وإن كان أبعد من الإمام كره له؛ لأنه آثر غيره بالقربة. فإن وجد ثوبًا مفروشًا لرجل في المسجد ... لم يجز له أن يجلس عليه؛ لأنه لا يجوز له أن يرتفق بمال غيره بغير إذنه من غير ضرورة، ولا يدفعه؛ لئلا يلزمه ضمانه. قال الطبري: ولكن يُنحيه، كما نقول في المصلي إذا كان بين يديه كمشك في أسفله نجاسة، وهو في الصلاة: إن نحاه من غير أن يدفعه ... لم يضره، وإن دفعه بطلت صلاته.

مسألة قراءة سورة الكهف يوم الجمعة

ويستحب له إذا نعس ووجد موضعًا لا يتخطى إليه أحد أن يقوم إليه، لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نعس أحدكم في مجلسه ... فليتحول إلى غيره» . ولا يشبك بين أصابعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أحدكم في الصلاة ما دام يعمد إليها» ، وهذا مكروه في الصلاة، فكره لمن ينتظرها. [مسألة قراءة سورة الكهف يوم الجمعة] والمستحب له: أن يقرأ سورة الكهف ليلة الجمعة؛ ويوم الجمعة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة ويومها ... وقي فتنة الدجال» .

وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة ... غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة» . والمستحب: أن يكثر من الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة الجمعة ويوم الجمعة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة، فإني أبلغ، وأسمع» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أقربكم إلي في الجنة أكثركم صلاة علي، فأكثروا من الصلاة علي في الليلة الغراء واليوم الأزهر» . قال الشافعي: (يعني: يوم الجمعة وليلتها) .

فرع الاحتباء في الخطبة

[فرع الاحتباء في الخطبة] قال الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": ولا يكره الاحتباء في حال الخُطبة، وروي ذلك عن ابن عمر. قال بعض أصحاب الحديث: يُكره، وروى فيه حديثًا في إسناده مقال. ودليلنا: أن ذلك لا يمنع من استماع الخطبة، فلم يكره، كالتربع. قال الشيخ أبو نصر: وليس للشافعي نص فيما يصلى بعد الجمعة، والذي يجيء على المذهب: أنه يصلي بعدها ما يصلي بعد الظهر، فإن شاء صلى ركعتين، وإن شاء صلى أربعًا؛ لأنه روي عن ابن مسعود: أنه قال: (يصلي بعدها أربعًا) . قلت: وكذلك يصلي قبلها ما يصلي قبل الظهر. [مسألة التنفل قبل الخطبة] ولا ينقطع التنفل، ولا الكلام قبل خروج الإمام بالإجماع، فإذا خرج الإمام ... لم

ينقطع التنفل عندنا، حتى يجلس الإمام على المنبر، ولا ينقطع الكلام إلا بابتداء الإمام في الخطبة. وقال أبو حنيفة: (إذا خرج الإمام ... حرم الكلام والتنفل) . دليلنا: ما روي عن ثعلبة بن أبي مالك: أنه قال: (قعود الإمام على المنبر يقطع السبحة - يعني: النافلة - وكلامه يقطع الكلام) . ولأن الصحابة كانوا يتحدثون وعمر على المنبر، فإذا ابتدأ الخطبة ... سكتوا. فإن دخل رجل والإمام يخطب على المنبر ... صلى ركعتين تحية المسجد، وبه قال الحسن، ومكحول، وأحمد. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره) . دليلنا: ما روى جابر، قال: «جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فجلس، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له: "يا سليك، قم، فاركع ركعتين، وتجوز فيهما"، ثم قال: "إذا جاء أحدكم والإمام يخطب ... فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما» . وإن دخل والإمام في آخر الخطبة ... لم يصل التحية؛ لأنه يفوته أول الصلاة مع

الإمام، وهو فرضٌ، ولأن تحية المسجد تحصل بصلاة الجمعة. ويجوز الكلام إذا جلس الإمام بين الخطبتين، وإذا نزل من المنبر؛ لما روي في حديث ثعلبة بن أبي مالك: (أن الصحابة كانوا يتحدثون، إذا نزل عمر من المنبر) . ولأنه ليس بحال استماع. وإذا بدأ الإمام الخطبة ... أنصتوا؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أنصت إلى الإمام يوم الجمعة حتى يفرغ من صلاته كفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام» . ولما ذكرناه من حديث أوس بن أوس. وهل يجب الإنصات، أو يستحب؟ فيه قولان: أحدهما: يجب، وبه قال عثمان، وابن عمر، وابن مسعود، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، واختيار ابن المنذر، ووجهه: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب ... فقد لغوت» ، و (اللغو) :

الإثم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] [المؤمنون:3] . وروى جابر: «أن ابن مسعود جلس إلى جنب أبي بن كعب والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فكلمه، فلم يجبه، فظن أنه على موجدة، فلما فرغوا ... قال: ما حملك على ذلك؟ فقال: إنك تكلمت والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فلا جمعة لك، فأتى ابن مسعود إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبره بذلك؟ فقال: "صدق أُبي، وأطع أُبيًا» . والثاني: أنه لا يجب، ولكن يستحب، وهو الصحيح، ووجهه: ما روي: «أن رجلًا دخل والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال: متى الساعة؟ فأشار الناس إليه أن اسكت، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثالثة: "ما أعددت لها؟ "، فقال: حب الله وحب رسوله، فقال: "إنك مع من أحببت» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجه قومًا ليقتلوا رجلًا من اليهود بخيبر، فقدموا والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال لهم: "أفلحت الوجوه"، فقالوا، ووجهك يا رسول الله، فقال: "ما الذي صنعتم؟ "، فقالوا: قتلناه» . وروي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلم سُليكا الغطفاني وهو يخطب) . ومن قال بهذا ... قال: (اللغو) : هو الكلام في الموضع الذي تركه فيه أدب.

وعلى القولين جميعًا: إذا تكلم ... لم تبطل جمعته؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر ابن مسعود بإعادة الجمعة) . إذا ثبت هذا: فلا فرق بين أن يكون قريبًا من الإمام يسمع، أو كان بعيدًا لا يسمع، غير أن البعيد بالخيار: إن شاء ... أنصت، وإن شاء ذكر الله تعالى؛ لما روي عن عثمان: أنه قال: (إذا خطب الإمام ... فأنصتوا، فإن للمنصت الذي لا يسمع من الخطبة مثل ما للسامع) . هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال في " الإبانة " [ق\92] : هل يقرأ البعيد القرآن؟ فيه وجهان. هذا فيما لا فائدة فيه من الكلام. فأما إذا علم إنسانًا شيئًا من الخير، أو نهاه عن المنكر، أو رأى أعمى يتردى في بئر، أو رأى عقربًا تدب إليه ... لم يحرم كلامه قولًا واحدًا. وإن سلم رجل والإمام يخطب ... كره له ذلك، وهل يرد عليه، ويشمت العاطس؟ يبنى على القولين في الإنصات. فإن قلنا: إنه مستحب ... رد السلام عليه، ولكن يرد السلام عليه واحد؛ لأن الرد فرض على الكفاية، وذلك يحصل بواحد، ويشمت العاطس واحد أيضًا. وإن قلنا: إن الإنصات واجب، لم يرد السلام، ولم يشمت العاطس؛ لأن المسلم سلم في غير موضعه، فلم يرد عليه، وتشميت العاطس سنة، فلم يترك له الإنصات الواجب. ومن أصحابنا من قال: يشمت العاطس ولا يرد السلام؛ لأن العاطس غير مفرط، والمسلم مفرط. ومنهم من قال: يرد السلام ولا يشمت العاطس؛ لأن رد السلام واجب، وتشميت العاطس سنة. والأول هو المنصوص.

فرع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة

وإن سلم صبي في غير حال الخطبة ... فهل يجب الرد عليه؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي، وكذلك إن رد عنهم صبي فهل يسقط عنهم فرض الرد؟ فيه وجهان. [فرع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة] إذا قرأ الإمام في الخطبة: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] [الأحزاب:56] ... جاز للمستمع أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويرفع بها صوته. وقال مالك، وأحمد، وإسحاق: (يصلي عليه في نفسه، ولا يرفع صوته) . وقال الثوري، وأبو حنيفة: (السكوت أحب إلينا) . واختاره ابن المنذر. دليلنا: أنه يستحب له أن يسأل الرحمة عند آية الرحمة، ويستعيذ من العذاب عند ذكره، فكذلك هذا مثله. قال الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": وليس للشافعي نص في الإشارة إلى من يتكلم في حال الخطبة، والذي يجيء على مذهبه: أنه لا بأس به. ويكره الحصب بالحصا والإمام يخطب، وروي عن ابن عمر: (أنه كان يحصب من يتكلم بالحصا، وربما أشار إليه) . وقال طاووس: تكره الإشارة إليه. دليلنا: أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أشاروا إلى الرجل الذي سأل عن الساعة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إشارتهم.

مسألة المسبوق في الجمعة

[مسألة المسبوق في الجمعة] ومن دخل والإمام في صلاة الجمعة ... أحرم خلفه، فإن أدرك معه الركوع من الثانية فقد أدرك معه الجمعة، فإذا سلم الإمام ... قام، وأضاف إليها ركعة، وسلم. وإن أدركه بعد الركوع من الثانية ... فقد فاتته الجمعة، وما الذي ينوي؟ فيه وجهان: أحدهما: ينوي الظهر؛ لأنها فرضه. والثاني: ينوي الجمعة؛ لأن الإمام لم يسلم منها. هذا مذهبنا، وبه قال ابن عمر، وابن مسعود، وأنس، والأوزاعي، ومالك، والثوري، وأحمد. وقال عمر بن الخطاب: (لا يكون مدركًا للجمعة، حتى يدرك الخطبة) . وبه قال عطاء، وطاووس، ومجاهد. وقال أبو حنيفة: (إذا أحرم خلف الإمام في التشهد ... فإنه يكون مدركًا للجمعة، وكذا لو أحرم خلف الإمام في سجدتي السهو بعد السلام فإنه يدرك الجمعة) .

فرع أدرك ركعة ونسي سجدة

دليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الجمعة ... فليصل إليها أخرى» . منطوقه: دليل على عمر، ودليل خطابه: دليل على أبي حنيفة. وقد روي في رواية أخرى، عن أبي هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الجمعة ... فقد أدركها، ومن أدرك دون الركعة صلاها ظهرًا أربعًا» . فيكون نطق هذا الخبر دليلًا على إبطال قول غيرنا فيها. [فرع أدرك ركعة ونسي سجدة] إذا أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة، فلما جلس للتشهد مع الإمام ... ذكر المأموم أنه ترك سجدة فإنه يسجد، ويتابع الإمام في التشهد، فإذا سلم الإمام ... أتى بركعةٍ، ويكون مدركًا للجمعة في أصح الوجهين؛ لأنه أتى بالركعة مع الإمام، إلا أنه أتى بسجدة في حكم متابعته، فلم يمنع من إدراكها. وإن ذكر بعدما سلم الإمام أنه ترك سجدة ... أتى بها، وأتمها ظهرًا؛ لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة. وإن أدرك مع الإمام ركعة، فلما سلم الإمام ... قام المأموم، فأتى بركعته، ثم ذكر أنه نسي سجدة، ولم يدر من أي الركعتين تركها فإنه يبني عل أشد الأمرين،

مسألة منع المأموم من السجود

وأنه تركها من الركعة التي أدرك مع الإمام، فيتم الأولى بالثانية، ثم يقوم، ويأتي بثلاث ركعات. نص عليه الشافعي. قال ابن الحداد: وإن صلى الإمام الجمعة ثلاث ركعات ساهيًا، فدخل مأموم معه، وأدركه في الثالثة، ولم يعلم أنها ثالثة، فصلاها معه ... لم يكن مدركًا للجمعة؛ لأن هذه الركعة ليست من صلب صلاة الإمام، فيقوم المأموم، ويأتي بثلاث ركعاتٍ. فإن ذكر الإمام أنه ترك سجدة، ولا يعلم موضعها من الثلاث ... فإن صلاة الإمام قد تمت، وأما المدرك له في الثالثة: فلا يدرك الجمعة؛ لجواز أن يكون قد ترك الإمام السجدة من الثانية، فتمت بالثالثة. وإن ذكر الإمام أنه ترك سجدة من الأولى ... فإن المدرك له في الثالثة قد أدرك ركعة من الجمعة؛ لأن الأولى للإمام تتم بالثانية، وتكون الثالثة له فعلًا هي الثانية له حكمًا، فيضيف إليها المأموم أخرى. وإن أدرك الإمام راكعًا في الثانية، ثم رفع رأسه، وشك المأموم، هل أدرك معه الركوع الجائز، أم لا؟ لم يدرك الجمعة، بل عليه أن يصلي الظهر أربعًا؛ لأن الأصل عدم الإدراك. قال الشيخ أبو نصر: إذا دخل مع الإمام، ولم يدر أجمعة هي، أم ظهر؟ فصلى معه ركعتين ... لم يجزه ذلك عن جمعة ولا ظهر، سواء بان أن الإمام صلى الجمعة أو الظهر. وقال أبو حنيفة: (إذا علق نيته بنية الإمام ... أجزأه) . وهذا ليس بصحيح؛ لأن تعيين الصلاة في النية واجب، وهذا لم يعين. [مسألة منع المأموم من السجود] إذا زحم المأموم عن السجود ... نظرت: فإن أمكنه أن يسجد على ظهر إنسان، أو رأسه، أو رجليه، بحيث إذا سجد عليه

كان كهيئة الساجدين ... فإنه يلزمه ذلك، وبه قال أبو حنيفة، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق. وقال الحسن البصري: هو بالخيار بين أن يسجد على ظهر إنسان، وبين أن يصبر حتى يزول، الزحام، ويسجد على الأرض. وحكى بعض أصحابنا: أن ذلك قول للشافعي في القديم. وقال عطاء، والزهري، ومالك: (لا يجوز أن يسجد على ظهر إنسان، بل يصبر حتى يسجد على الأرض) . وإليه أومأ أبو علي الطبري في " الإفصاح ". دليلنا: ما روي عن عمر بن الخطاب: أنه قال: (إذا اشتد الزحام ... فليسجد أحدكم على ظهر أخيه. ولا يعرف له مخالف، ولأن أكثر ما فيه أن موضع سجوده أعلى من موضع قدميه، وقد نص الشافعي على: (أنه لو سجد على شيء أعلى من موضع قدميه جاز) مع أن السجود يجب على حسب قدرته. وأما إذا لم يتمكن من السجود على ظهر إنسان ... انتظر زوال الزحام، فإن زال، وقد صار الإمام قائمًا في الثانية فإن المأموم يسجد على الأرض، ويتابع الإمام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز مثل ذلك بعسفان للعذر، والعذر - هاهنا - موجود. ويستحب للإمام أن يرتل القراءة في الثانية؛ ليتبعه المزحوم. قال الشيخ أبو حامد: وكذلك الحكم فيمن فاته السجود مع الإمام بنسيان، أو

فرع تأخر المسبوق عن الإمام كثيرا

سهو، أو مرضٍ، أو عذرٍ، فإنه يقضيه بعد فراغ الإمام منه، ويجزئه ذلك. فإن فرغ المزحوم من السجود، وأدرك الإمام قائمًا في الثانية ... تبعه، ولا كلام. وإن أدرك الإمام راكعًا في الثانية ... فهل يلزمه أن يقرأ، أو يلزمه أن يركع مع الإمام؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه أن يتبعه في الركوع. قال ابن الصباغ: وهو الصحيح؛ لأن فرض القراءة قد سقط عنه بركوع الإمام، فهو كما لو أدركه راكعًا. والثاني: يلزمه أن يشتغل بقضاء القراءة؛ لأنه قد أدرك محلها، بخلاف المسبوق. قال ابن الصباغ: فإذا قلنا بهذا: فإنما يلزمه أن يقرأ ما لم يخف فوت الركوع، فإن خاف فوته قبل فراغه من القراءة ... فما الحكم فيه؟ على قولين، كما لو أدركه راكعًا قبل السجود. [فرع تأخر المسبوق عن الإمام كثيرًا] ] : وإن ركع الإمام في الثانية قبل أن يسجد المزحوم في الأولى ... ففيه قولان: أحدهما: لا يشتغل بقضاء ما فاته، وهو السجود، بل يجب عليه أن يتابع الإمام في الركوع، وهو قول مالكٍ، واختيار القفال؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع ... فاركعوا» . وهذا قد ركع، فوجب أن يركع معه؛ ولأنه قد أدركه راكعًا، فوجب أن يركع معه، كالمسبوق. والثاني: يلزمه أن يشتغل بقضاء ما فاته، وهو قول أبي حنيفة، واختيار الشيخ أبي حامدٍ. ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا سجد ... فاسجدوا» .

ومنه دليلان: أحدهما: أنه قال: «ليؤتم به» ، والائتمام به: هو أن يفعل كفعله، وقد سجد الإمام، فوجب أن يسجد مثله. والثاني: أنه قال: «فإذا سجد ... فاسجدوا» ، فينبغي أن يسجد مثله. فإذا قلنا: يركع مع الإمام ... نظرت. فإن فعل ذلك، وركع معه، وسجد في الثانية ... فبأي الركوعين يحتسب له؟ فيه قولان، ومن أصحابنا من يحكيهما وجهين: أحدهما: يُحتسب له بالركوع الثاني، كالمسبوق. فعلى هذا: إذا سلم الإمام ... قام، وصلى ركعة، وكان مدركًا للجمعة. والثاني: يحتسب له بالركوع الأول؛ لأنه قد صح له، فلا يبطل بترك ما بعده. فعلى هذا: يحصل له ركعة ملفقة؛ لأن القيام والقراءة والركوع من الأولى، والسجود من الثانية، وهل يدرك بها الجمعة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يكون مدركًا بها، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة؛ لأن أمر الجمعة مبني على الكمال، والكمال أن يدرك منها ركعة كاملة، والملفقة ليست بكاملة، فلم تدرك بها الجمعة. والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يدرك بها الجمعة، قال ابن الصباغ: وهو الصحيح: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من الجمعة ... فليضف إليها أخرى» . ولم يفرق بين أن تكون كاملة أو ملفقة. فإذا قلنا بقول أبي إسحاق ... أضاف إليها أخرى، وسلم، وإذا قلنا بقول أبي علي بن أبي هريرة فإنه يصلي الظهر أربعًا، وهل يبني على ما فعله مع الإمام؟ فيه

من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالقولين فيمن يصلي الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة: أحدهما: يبطل ما فعله مع الإمام، فيستأنف الإحرام، ويصلي الظهر أربعًا. والثاني: يبني عليه، فيأتي بثلاث ركعاتٍ. ومنهم من قال: يبني على ما فعله مع الإمام، قولًا واحدًا؛ لأن القولين فيمن صلى الظهر قبل صلاة الإمام من غير عذرٍ، وهذا معذور. وإن خالف ما أمرناه به، واشتغل بقضاء السجود ... نظرت: فإن اعتقد أن فرضه الاشتغال بالسجود ... لم تبطل صلاته بذلك؛ لأنها زيادة في الصلاة من جنسها ناسيًا، ولا يعتد له بهذا السجود؛ لأنه فعله في غير موضعه. فإن أدرك الإمام راكعًا، بأن خفف المزحوم سجوده، وطول الإمام ركوعه، فركع معه ... فهو كما لو أدركه راكعًا، فركع معه، على ما مضى من التفريع. وإن فرغ من السجود، وأدرك الإمام وقد رفع رأسه من الركوع فإنه يسجد معه، وتحصل له ركعة ملفقة، وهل يدرك بها الجمعة؟ على الوجهين والتفريع عليهما كما مضى. وإن كان عالمًا حين سجد أن فرضه المتابعة: فإن لم ينو مفارقة الإمام.. بطلت صلاته؛ لأنه سجد في موضع الركوع عامدًا عالمًا، فنأمره أن يحرم بالجمعة، إن طول الإمام ركوعه: فإن فعل وركع معه، وسجد معه ... حصلت له ركعة من الجمعة، ويضيف إليها أخرى بعد سلام الإمام. وإن وجد الإمام قد رفع رأسه من الركوع أحرم، وبنى الظهر على ذلك، وجهًا واحدًا؛ لأنه أحرم بعد فوات الجمعة. وإن نوى مفارقة الإمام ... فهل تبطل صلاته؟ فيه قولان فيمن فارق الإمام بغير عذرٍ.

فإذا قلنا: تبطل ... كان الحكم فيه حكم ما لو لم ينو مفارقته، على ما ذكرناه. وإن قلنا: لا تبطل ... فإن كان الإمام راكعًا أمرناه بالإحرام بالجمعة، وإن رفع الإمام رأسه من الركوع ... أتمها ظهرًا، وهل يبني على إحرامه، أو يستأنفه؟ على الطريقين المذكورين أولًا. وإن قلنا: إن فرضه الاشتغال بالسجود ... نظرت: فإن فعل ذلك، وسجد، وقام، وأدرك الإمام راكعًا ... فهل يلزمه متابعته في الركوع، أو يشتغل بقضاء ما فاته من القراءة في الثانية؟ فيه وجهان: الصحيح: يلزمه متابعته في الركوع، فإذا سجد معه في الثانية ... حصلت له الجمعة؛ لأنه قد أدرك الأولى، بعضها فعلًا، وبعضها حُكمًا، وأدرك معظم الثانية. وإن أدركه وقد رفع رأسه من الركوع، أو ساجدًا في الثانية، أو جالسًا ... فهل يتبعه، أو يشتغل بقضاء ما فاته من القراءة والركوع؟ اختلف أصحابنا فيه: فمن أصحابنا من قال: يشتغل بقضاء ما فاته؛ لأن الاشتغال بالقضاء على هذا أولى من المتابعة. ومنهم من قال: يلزمه متابعته، وهو الأصح؛ لأن هذه الركعة لم يدرك منها شيئًا يحتسب له به، بخلاف الأولى. فعلى هذا: لا يحتسب له بما فعله مع إمامه من الثانية، وهل يكون مدركًا للجمعة بالركعة الأولى؟ فيه وجهان، لا لأجل التلفيق، ولكن لأنه فعل بعضها مع الإمام، وانفرد بفعل بعضها، فأشبه التلفيق. فإذا قلنا: يكون مدركًا بها للجمعة ... أضاف إليها بعد سلام الإمام أخرى. وإن قلنا: لا يدرك بها ... فهل يبني عليها بثلاث ركعاتٍ، أو يلزمه استئناف الإحرام للظهر؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما. وإن سلم الإمام قبل أن يسجد المزحوم السجدتين في الأولى ... لم يدرك الجمعة،

وجهًا واحدًا، ويلزمه الظهر أربعًا، وهل يبني على ما قد فعله، أو يلزمه استئناف الإحرام؟ فيه طريقان. فإن خالف ما أمرناه به، وتابع الإمام في الركوع في الثانية: فإن اعتقد أن فرضه المتابعة ... لم تبطل صلاته؛ لأنه زاد فيها من جنسها ساهيًا، فإذا سجد مع الإمام اعتد له به إلى الأولى، وكانت ركعة ملفقة، وهل يدرك بها الجمعة؟ على الوجهين، والتفريع عليهما ما مضى. وإن اعتقد أن فرضه القضاء ... فقد بطلت صلاته؛ لأنه ركع في موضع السجود عامدًا عالمًا، فيلزمه أن يبتدئ بالإحرام بالجمعة مع الإمام، إن كان راكعًا، فإن سجد معه فقد أدرك ركعة تامة منها، ويدرك بها الجمعة. وإن أدركه، وقد رفع رأسه من الركوع ... أحرم معه، ويتمها ظهرًا أربعًا، وجهًا واحدًا. وإن زحم عن السجود في الأولى، ولم يتخلص من الزحام حتى سجد الإمام في الثانية قبل أن يسجد المزحوم ... فإنه يسجد معه، قولًا واحدًا، وقد أدرك ركعة ملفقة، فهل يدرك بها الجمعة؟ على الوجهين. وإن زحم عن السجود في الأولى، فزال الزحام، وسجد، وأدرك الإمام قائمًا في الثانية، وقرأ معه، وركع، ثم زحم عن السجود، فسجد، وأدركه قبل السلام ... فاختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد: يدرك الجمعة، وجهًا واحدًا. وقال الشيخ أبو إسحاق، والقاضي أبو الطيب: هل يدرك الجمعة؟ على وجهين؛ لأنه أدرك بعضها فعلًا، وبعضها حكمًا.

فرع سهو المأموم في الجمعة

قال ابن الصباغ: وهذا ضعيف؛ لأنه أدرك جميع الصلاة، بعضها فعلًا، وبعضها حكمًا، فثبت له حكم الجماعة. وإن دخل رجل مع الإمام في الركوع في الثانية، فأدركه في الركوع، ثم زحم عن السجود، ثم زال الزحام، ثم سجد، وتبع الإمام في التشهد قبل السلام ... فهل يدرك الجمعة بهذه الركعة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ، وهذا يوافق ما ذكره القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق في الأولى. فإن سلم الإمام قبل أن يسجد المزحوم ... لم يدرك الجمعة، وجهًا واحدًا، وهل يبني الظهر على ما فعله، أو يلزمه استئناف الإحرام؟ على ما ذكرناه من الطريقين. وإن أحرم مع الإمام، فزحم عن الركوع، فلم يزل الزحام حتى ركع الإمام في الثانية ... فإنه يركع معه، وهل تكون ركعة ملفقة؟ فيه وجهان: [الأول] : قال القاضي أبو الطيب: تكون ملفقة، كما قلنا فيمن زحم عن السجود، وهل يدرك بها الجمعة؟ على الوجهين. و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا تكون ملفقة، ويدرك الجمعة، وجهًا واحدًا. قال ابن الصباغ: وهذا أشبه؛ لأنه لو أدرك الركوع في الثانية ... كان مدركًا للجمعة، فما زاد على ذلك من الركعة الأولى، لا يمنعه من إدراك الجمعة. [فرع سهو المأموم في الجمعة] إذا ركع مع الإمام في الأولى، فسهى المأموم حتى ركع الإمام في الثانية: فحكى الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أن الشافعي قال: (يشتغل بالركوع قبل أن يشتغل بالسجود) ؛ لأنه مفرط في السهو، فلم يعذر في الانفراد.

مسألة حدث الإمام في الصلاة

وحكى الشيخ أبو إسحاق: أن القاضي أبا حامد قال: يجب أن يكون فيه قولان: أحدهما: هذا. والثاني: يشتغل بقضاء ما فاته، كالمزحوم. [مسألة حدث الإمام في الصلاة] إذا أحدث الإمام في الصلاة، أو ذكر أنه كان محدثًا، أو حدث عليه أمر قطعه عن الصلاة ... فهل يجوز له أن يستخلف؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا يجوز) . والدليل عليه: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم بأصحابه، ثم ذكر أنه جنب، فقال لهم: "كما أنتم"، وذهب، واغتسل، وجاء ورأسه يقطر ماء، فأحرم بهم، وصلى» . ولو كان الاستخلاف جائزًا في الصلاة ... لاستخلف من يصلي بهم. وكذلك فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هكذا. وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه أحرم بالناس، ثم خرج من صلاته، وتوضأ،

ورجع، وصلى بهم، ثم قال: (مسست ذكري) . فعلم: أن الاستخلاف لا يجوز. ولأن حكم الإمام مخالف لحكم المأموم؛ لأن الإمام يجهر ويقرأ السورة، ويسجد لسهوه، والمأموم خلافه في هذا، فلو جوزنا الاستخلاف ... لتناقض حكم المأموم فيه. و [الثاني] : قال في الجديد: (يجوز) . وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وهو الصحيح. والدليل عليه: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استخلف أبا بكر ليصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه، فأقام سبعة عشر يومًا يصلي بالناس، فوجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومًا في نفسه خفة، فخرج يُهادى بين رجلين، فقام على يسار أبي بكر، وصلى بالناس، فصار أبو بكر والناس مؤتمين بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن كان الناس مؤتمين بأبي بكر» وروي أيضًا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج ليصلح بين بني عمرو بن عوف، فأقيمت الصلاة فتقدم أبو بكر، فصلى بهم بعض الصلاة، فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما رآه الناس ... أكثروا التصفيق، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثروا التصفيق التفت، فرأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتأخر، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اثبت مكانك"، وتقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلى بهم» ومن قال بهذا ... قال: فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين ذكر أنه جنب في الصلاة لا يدل على أنه لا يجوز الاستخلاف، وإنما يدل على أن الاستخلاف لا يجب. وكذلك نقول. إذا ثبت هذا: فإن قلنا بقوله القديم ... نظرت:

فإن كان ذلك في غير الجمعة ... فإن المأمومين يتمون صلاتهم وحدانًا. وإن كان ذلك في الجمعة ... نظرت: فإن كان ذلك في الخطبة أو بعدها، وقبل الإحرام في الجمعة ... فلا يجوز أن يصلي غيره بهم الجمعة؛ لأن الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين، فيخطب غيره بهم، ويصلي الجمعة إن اتسع الوقت، وإن لم يتسع الوقت صلى بهم الظهر أربعًا. وإن كان ذلك بعد أن أحرم بهم في الجمعة ... ففيه قولان: أحدهما: يتمون الجمعة وُحدانًا، كغيرها. والثاني: إن أحدث بعد أن صلى بهم ركعة ... أضافوا إليها أخرى، وإن كان قبل أن يصلي بهم ركعة صلوها ظهرًا، كالمسبوق. وإن قلنا بقوله الجديد، وأن الاستخلاف يجوز ... لم يستخلف غير الإمام، ولا يستخلف إلا رجلًا. فإن استخلف امرأة ... فمن لم يقتدوا بها لم تبطل صلاتهم. وقال أبو حنيفة: (تبطل صلاتهم بنفس الاستخلاف) . دليلنا: أن تقديمها للصلاة لا يُبطل الصلاة، كما لو جاءت، وتقدمت بنفسها. وإن استخلف الإمام جُنبًا، ثم استخلف الجُنب رجلًا طاهرًا ... لم يجز. وقال أبو حنيفة: (يجوز) . دليلنا: أن من لا يصلح للإمامة لصفة فيه ... لا يصلح لتقديم الخليفة، كما لو استخلف صبيًا، فاستخلف الصبي بالغًا. وإن استخلف الإمام من يصح استخلافه ... نظرت:

فإن كان ذلك في غير الجمعة من الصلوات، فإن استخلف من أحرم خلفه ... جاز، سواء كان ذلك في الركعة الأولى، أو الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، وإن أراد أن يستخلف من لم يحرم خلفه بالصلاة نظرت: فإن كان ذلك في الركعة الأولى، أو الثالثة من الرباعية ... جاز، وإن كان ذلك في الثانية، أو الرابعة، أو الثالثة من المغرب لم يجز، وإنما كان كذلك؛ لأنه إذا استخلف من أحرم خلفه ... فإن الخليفة يراعي نظم صلاة الإمام، فيقعد في موضع قعوده، ويقوم في موضع قيامه؛ لأنه قد لزمه ذلك بإحرامه خلف الإمام، وليس كذلك من لم يحرم خلف الإمام، فإنه إذا استخلفه في الثانية، أو الرابعة، أو الثالثة من المغرب فإن الخليفة إذا صلى ركعة ... يجب عليه القيام؛ لأنه موضع قيامه، وهم يقعدون، وذلك لا يتفق. إذا ثبت هذا: ففرغ الخليفة من صلاة الإمام، وقد بقي عليه شيء من صلاته ... فإنه يقوم، والمأمومون بالخيار بين أن يسلموا لأنفسهم، وبين أن ينتظروا الخليفة إلى أن يفرغ من صلاته، ويسلم بهم. قال صاحب " الفروع ": وقد قيل: هو في حكم إمام منفرد، ولهذا فوائد في التشهد والسهو. وإن كان هذا في الجمعة ... نظرت: فإن أحدث في أثناء الخطبة، وقلنا: الطهارة شرط فيها، فأراد أن يستخلف من يتم الخطبة ... فهل يجوز على هذا القول؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يجوز؛ لأنهما أُقيمتا مُقام الركعتين، فلما جاز الاستخلاف في الركعتين، فكذلك في الخطبتين. والثاني: لا يجوز؛ لأن هذا ذكر يتقدم الصلاة ... فلم يجز الاستخلاف فيه، كالأذان.

وإن كان الحدث بعد الفراغ من الخطبة، وقبل الإحرام ... فإنه يجوز أن يستخلف بهم من سمع واجبات الخطبتين؛ لأنه أكمل بالسماع، ولا يجوز أن يستخلف من لم يسمع ذلك؛ لأنه لم يكمل بالسماع هذه عبارة أصحابنا، وهم يريدون بذلك: الحضور، وإن لم يسمع، ولا استمع. وإن أحدث في الركعة الأولى ... نظرت: فإن استخلف من أحرم معه في الصلاة قبل حدثه ... جاز، سواء سمع الخطبة، أو لم يسمعها، وسواء كان قبل الركوع، أو بعده؛ لأنه قد صار من أهل الجمعة. وإن أراد أن يستخلف من لم يدخل معه في الصلاة ... لم يجز؛ لأنه يكون مبتدئًا للجمعة، ولا يجوز أن يبتدئ جمعة بعد جمعة، ويخالف من قد دخل معه، فإنه متبع، وليس بمبتدئ، هكذا قال أصحابنا. والذي تبين لي: أن هذا الذي لم يحرم خلفه، لا يجوز استخلافه، سواء حضر الخطبة، أو لم يحضرها؛ لأنهم قد قالوا: العلة فيه أنه: لا يجوز ابتداء جمعة بعد جمعة، وهذا موجود فيه وإن كان قد حضر الخطبة، وإذا استخلف من حضر معه في الركعة الأولى ... فإن الخليفة ومن خلفه يصلون الجمعة. وقال أبو علي في " الإفصاح ": يحتمل أن يصلي الخليفة الظهر، وهم يصلون خلفه الجمعة، قياسًا على إمامة الصبي، وقياسًا على مسألة ذكرها الشافعي، نذكرها فيما بعد، والأول هو المشهور. وإن كان حدثه في الركعة الثانية ... فيجوز له أن يستخلف من أحرم خلفه فيها قبل حدثه قبل الركوع، أو في الركوع، ويتمون خلفه الجمعة، وما الذي يصلي هذا الخليفة؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو المنصوص للشافعي -: (أنه يتمها ظهرًا) ، وبه قال أبو العباس بن سريج، والفرق بينه وبين المأموم: أنه إذا أدرك ركعة ... أنه يتمها جمعة؛ لأن

فرع استخلف من دخل معه ولم يعلم أنها ثانية

المأموم تبع إمامه، فجاز أن يتمها جمعة على وجه التبع لإمامه، وليس كذلك الخليفة، فإنه لا يجوز أن يكون تبعًا للمأمومين، فيبني على صلاتهم. قال ابن سريج: ويحتمل أن يكون في جواز ظهره قولان؛ لأن الجمعة لم تفته بعد إذا كان يمكنه أن لا يتقدم حتى يتقدم من أدرك الركعة الأولى، لتصح جمعة هذا الخليفة. وفرع الشافعي على هذا: (لو أدرك مسبوق هذا الخليفة في هذه الركعة الثانية التي استخلف فيها قبل الركوع، أو فيه ... أضاف هذا المسبوق إليها ركعة، وأدرك الجمعة) . والوجه الثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد، وأكثر أصحابنا -: أن الخليفة يتمها جمعة؛ لأنه قد صلى منها ركعة في جماعة الجمعة، فلا فرق بين أن يكون إمامًا أو مأمومًا، كما لو استخلف في الركعة الأولى. وإن أحدث الإمام في الثانية، فاستخلف من دخل معه في الصلاة بعد الركوع، وقبل الحدث ... فاختلف أصحابنا فيه: فقال أكثرهم: لا يجوز؛ لأن فرضه الظهر، فلا يجوز أن يكون إمامًا في الجمعة. ومنهم من قال: يجوز؛ لأن الشافعي نص في التي قبلها على جواز الجمعة خلف من يصلي الظهر. [فرع استخلف من دخل معه ولم يعلم أنها ثانية] ] : ذكر الطبري في " العُدة ": إذا استخلف الإمام رجلًا دخل معه في الصلاة، فلم يدر الخليفة أنها ثانية الإمام ليجلس، أو ثالثته ليقوم؛ لأن عليه أن يراعي نظم صلاة الإمام ... فذكر صاحب " التلخيص " فيه قولين:

فرع لو صلى إمام الجمعة جنبا ثم تذكر

أحدهما: أنه يلاحظ القوم، فإن تأهبوا للقيام ... قام، وإن تأهبوا للقعود قعد؛ لأنه لا يتوصل إلى ذلك إلا من جهتهم. والثاني: لا يجوز ذلك حتى يعلم، فإما أن يقلدهم، وإلا فلا. قال الشيخ أبو علي السنجي: وليست هذه المسألة للشافعي، وإنما هي لأبي العباس بن سريج، وفيها وجهان: الصحيح: أنه يلاحظ القوم؛ لأنه يجوز أن يقلد الإمام وحده، فالجماعة أولى، وإنما القولان للشافعي: إذا سبح القوم للإمام ينبهونه على السهو، وهو لا يذكر ... فهل يقلدهم؟ فيه قولان: أحدهما: لا يقلدهم، بل يبني على يقين نفسه، وهذا هو المشهور. والثاني: إن كانوا جمعًا كثيرًا بحيث لا يقع عليهم الخطأ ... قلدهم؛ لحديث ذي اليدين مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومن قال بالأول ... قال: لم يقلدهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما تنبه بقولهم، فرجع إلى يقين نفسه. [فرع لو صلى إمام الجمعة جنبًا ثم تذكر] ] : قال في " الفروع ": قال الشافعي في " الأم ": (إذا صلى الإمام الجمعة، فذكر أنه كان جنبًا، فإن كان الأربعون تموا به ... لم تصح الجمعة، وإن تموا دونه انعقدت لهم الجمعة) . ولو أدرك رجل ركوع الركعة الثانية في هذه المسألة ... كان مدركًا للجمعة، قياسًا على ما نص عليه.

فرع صلى الجمعة أربعون محدثون

وقال ابن القاص: لا يكون مدركًا، وكذلك سائر الصلوات؛ لأن الإمام لم تصح صلاته، فلم تصح صلاة من تحمل عنه القراءة. قال: وقد قيل في الجمعة خاصة: أنها لا تصح خلف الجنب؛ لأن الإمام شرط فيها. [فرع صلى الجمعة أربعون محدثون] ] : فلو صلى الجمعة بأربعين، فبان أنهم محدثون ... فإن صلاة الإمام صحيحة إذ كان متطهرًا؛ لأنه لم يكلف العلم بطهارة من خلفه. وأما المحدثون: فتلزمهم الإعادة؛ لأنهم كلفوا العلم بأنفسهم. وإن بان أنهم عبيد أو نساء وجبت الإعادة على جميعهم؛ لأن له طريقًا إلى العلم بذلك. [مسألة تقام الجمعة بإذن الإمام] يستحب أن لا تقام الجمعة إلا بإذن الإمام؛ لأن الجمعة لم تقم في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم، فإن أُقيمت بغير إذنه ... صحت، وبه قال مالك، وأحمد، وأكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة، والأوزاعي: (لا تصح إقامتها إلا بإذن الإمام أو الوالي من قبله) . وحكى بعض أصحابنا: أن هذا قول الشافعي في القديم، وليس بمشهور. وقال محمد: إن مات الإمام، فقدم الناس رجلًا يصلي بهم الجمعة ... جاز ذلك؛ لأن ذلك موضع ضرورة.

مسألة لا تعدد الجمعة

دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ... فعليه الجمعة» . ولم يفرق بين أن يكون فيها إمام أو لم يكن. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سيأتي بعدي أُمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم سُبحة» . ولم يفرق بين الجمعة وغيرها. وروي: (أن الوليد بن عقبة أخر الصلاة بالكوفة، فصلى بهم ابن مسعود الجمعة) . ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، ولأنها صلاة، فجاز إقامتها بغير إذن الإمام، كسائر الصلوات. [مسألة لا تعدد الجمعة] قال الشافعي: (ولا يجمع في مصر وإن عظم، وكثرت مساجده إلا في مسجد واحد) . وقال عطاء، وداود: (يجوز إقامة الجمعة في كل مسجد، كسائر الصلوات) . وقال أبو يوسف: إذا كان البلد جانبين، وفي وسطه نهر عظيم يجري، مثل: مدينة السلام، وواسط ... جاز أن يصلى في كل جانب في مسجد واحدٍ الجمعة، وبه قال أبو الطيب بن سلمة من أصحابنا. وقال محمد بن الحسن: القياس: أنها لا تقام إلا في مسجدٍ واحدٍ، ولكن يجوز

إقامتها في مسجدين في البلد استحسانًا، ولا يجوز في ثلاثة مساجد، وأهل الخلاف يذكرون: أن مذهب أبي حنيفة فيها كمذهبنا. قال الشيخ أبو حامدٍ: والذي يدل عليه كلام الشافعي: أن مذهب أبي حنيفة كمذهب محمد. دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء من بعده، ما أقاموا الجمعة إلا في موضع واحدٍ، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . فإن قيل: فقد دخل الشافعي بغداد، ورأى الناس يصلون الجمع في جامع المنصور، وفي جامع المهدي، ولم ينكر عليهم. فالجواب: أن هذا موضع اجتهاد، وليس لبعض المجتهدين أن ينكر على بعضٍ. واختلف أصحابنا في بغداد: فقال القاضي أبو الطيب بن سلمة: إنما أراد الشافعي إذا كان المصر جانبًا واحدًا، فأما إذا كان البلد جانبين، ويجري فيهما نهر، كبغداد: جاز في موضعين؛ لأنه كالبلدين. قال الشيخ أبو حامد: وهذا ضعيف؛ لأنه لو كان كالبلدين ... لوجب أن يجوز له القصر إذا سافر من أحد الجانبين، وإن لم يعبر الآخر. وقال بعض أصحابنا: إنما أراد الشافعي: لا تقام إلا في مسجد واحدٍ إذا كان البلد مبنيًا بلدًا واحدًا من أصله، فأما إذا كانت قرى متفرقة، ثم اتصلت العمارة: جاز أن تقام الجمعة في القرى التي كانت قبل الاتصال، ومدينة السلام بهذه الصفة. ومن أصحابنا من قال: إنما أراد الشافعي: إذا لم يكن عليهم مشقة في الاجتماع في مسجد واحدٍ. فأما إذا كانت عليهم مشقة في الاجتماع بمسجدٍ واحدٍ: جاز إقامتها في مساجد؛

مسألة جمعتان في البلد

لأن البلد قد تكون فراسخ، ولا يمكنه الوصول إلى الجامع، إلا بالسعي قبل الفجر، فسقط هذا. قال الشيخ أبو حامدٍ: ولا يوافق شيء من هذه التأويلات كلام الشافعي؛ لأنه قال: (لا يُجمع في مصرٍ، وإن عظم، وكثر أهله، إلا في مسجدٍ واحدٍ) . [مسألة جمعتان في البلد] وإن أُقيمت جمعتان في بلدٍ في الموضع الذي نقول: لا تصح، فإن لم تكن لإحداهما على الأخرى مزية، بأن أقيمتا بإذن الإمام، أو أقيمتا بغير إذنه ... ففي هذا خمس مسائل: إحداهن: إذا سبقت إحداهما الأخرى ... فالأولى صحيحة، والثانية باطلة؛ لأن الأولى أُقيمت بشروطها، فمنعت صحة الثانية، وبماذا يعتبر السبق؟ حكى الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " قولين، وأكثر أصحابنا يحكيهما وجهين: أحدهما: يعتبر السبق بالإحرام بالصلاة، وهو الصحيح؛ لأن الأولى إذا انعقدت ... لم تنعقد بعدها أخرى. والثاني: يُعتبر السبق بالفراغ من الصلاة؛ لأن الفساد قد يطرأ عليها بعد الإحرام، وبعد الفراغ لا يطرأ عليها الفساد، هكذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال القفال: فيه وجهان: أحدهما: يعتبر السبق بالابتداء بالخطبة. والثاني: بالابتداء بالصلاة.

المسألة الثانية: إذا أحرموا بهما في حالةٍ واحدةٍ ... حكم ببطلانهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الأخرى. المسألة الثالثة: إذا لم يُعلم، هل سبقت إحداهما الأخرى، أو كانتا في وقتٍ واحد ... حكم ببطلانهما؛ لما ذكرناه في التي قبلها، ويجب عليهم أن يعيدوا فيهما الجمعة، إن كان الوقت واسعًا. المسألة الرابعة: إذا علم أن إحداهما سابقة، ولكن لا يعلم عينها، مثل: أن يُسمع تكبير أحدٍ من الإمامين في الإحرام، إذا قلنا: الاعتبار بالسبق بالإحرام، ثم كبر الثاني، ولم يعلم من المكبر أولًا. المسألة الخامسة: إذا علم عين السابقة، ثم نسيت، مثل: أن علم عين المكبر أولًا، ثم نسي ... فالحكم في هاتين المسألتين واحد، وهو أن الجمعتين باطلتان. وقال المزني: هما صحيحتان؛ لأنهم قد أدوا ما كلفوا في الظاهر، فلا يبطل ذلك بالشك، كما لو صلى، ثم وجد على ثوبه نجاسة لا يعلم هل أصابته قبل الصلاة، أو بعدها؟ وهذا غلط؛ لأنا نعلم لا محالة: أن إحداهما باطلة، والأخرى صحيحة، وإذا لم يُعلم عين الصحيحة من الباطلة، فالأصل بقاء الفرض في ذمتهم، ويفارق النجاسة؛ لأن هناك الصلاة قد صحت في الظاهر، فلا تبطل بالشك. إذا تقرر أنهما تبطلان ... فما الذي يقضي الناس؟ فيه قولان: أحدهما: يقضون الجمعة؛ لأنهما إذا بطلتا ... صار كأن لم يقم في المصر جمعة، فوجب عليهم إقامتها. والثاني: يقضون الظهر أربعًا؛ لأن الجهل بعين السابقة ليس بجهل في أن إحداهما سابقة، وقد علمنا يقينًا، بأن الجمعة قد أقيمت في المصر مرة، فلا يجوز إقامتها مرة ثانية فيه. هذا إذا تساوت الجمعتان، وإن كان لإحداهما مزية على الأخرى، بأن كان في إحداهما الإمام الراتب، وهو الإمام الأعظم، فإن كان مع الأولى ... فالأولى هي

الصحيحة؛ لأنها أولى، ولأن فيها الإمام الأعظم، وإن كان الإمام في الثانية ... ففيه قولان: أحدهما: أن الأولى هي الصحيحة. قال ابن الصباغ: وهو المشهور؛ لأن الإمام ليس بشرطٍ عندنا في الجمعة، فلا تبطل بجمعة بعدها. والثاني: أن الصحيحة هي جمعة الإمام؛ لأن في تصحيح الأولى افتياتًا على الإمام؛ لأن ذلك يؤدي إلى أنه متى شاء أربعون رجلًا ... أقاموا الجمعة قبل الإمام؛ ليفسدوا على أهل البلد صلاتهم. هذا الحكم في المسألة الأولى من الخمس المسائل، إذا كان في إحداهما الإمام. وأما الحكم في المسائل الأربع، وهو إذا عقدتا في وقتٍ واحدٍ، ولم يعلم هل سبقت إحداهما الأخرى؟ أو هل كانتا في وقتٍ واحدٍ؟ أو علم سبق إحداهما، ولم تتعين، أو علمت السابقة، ونُسيت، وكان الإمام في إحداهن: فإن قلنا: إن الثانية إذا كان فيها الإمام هي الصحيحة ... فجمعة الإمام في هذه الأربع هي الصحيحة حيث كانت. وإن قلنا في الأولى: إن الجمعة الأولى هي الصحيحة، وجمعة الإمام إذا كانت ثانية هي باطلة ... فالحكم في هذه المسائل الأربع حكم ما لو لم يكن في واحدةٍ منهما الإمام على ما ذكرناه. وبالله التوفيق

باب صلاة العيدين

[باب صلاة العيدين] صلاة العيدين الأصل في ثبوتها: الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] [الكوثر:2] . قال بعض أهل التفسير: أراد به الصلاة التي يتعقبها النحر، وهي صلاة الأضحى. وأما السنة: فروى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "ما هذان اليومان؟ "، فقالوا: يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال: "إن الله قد أبدلكم بخير منهما: يوم الفطر، ويوم الأضحى» . وأما الإجماع: فإن المسلمين أجمعوا على ثبوتها. إذا ثبت هذا: فقال الشافعي: (ومن وجب عليه حضور الجمعة ... وجب عليه حضور العيدين) . واختلف أصحابنا في هذا:

فقال أبو سعيد الإصطخري: صلاة العيدين فرض على الكفاية - فيكون تأويل كلام الشافعي عنده: من وجب عليه حضور الجمعة فرض عين ... وجب عليه حضور العيدين فرض كفاية، وهو مذهب أحمد بن حنبل - لأنها صلاة يتوالى فيها التكبير في القيام، فكانت فرضًا على الكفاية، كصلاة الجنازة. وقال عامة أصحابنا: هي سنة. فيكون تأويل كلام الشافعي عندهم: ومن وجب عليه حضور الجمعة حتمًا ... وجب عليه حضور العيدين ندبًا. وقال أبو حنيفة: (هي واجبة، وليست بفرض) . ودليلنا: «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: "خمس صلوات كتبهن الله تعالى على عباده"، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع» . ولأنها صلاة ذات ركوعٍ وسجودٍ، لم يسن لها الأذان بوجهٍ، فلم تكن واجبة بالشرع، كصلاة الاستسقاء. فقولنا: (ذات ركوع) احتراز من صلاة الجنازة. وقولنا: (لم يسن لها الأذان) احتراز من الصلوات الخمس في مواقيتها. وقولنا: (بوجهٍ) احتراز من الفوائت؛ لأنه لا يؤذن للثانية منها، ولكنه قد يسن لها الأذان بوجهٍ، وهو في وقتها. وقولنا: (بالشرع) احتراز من النذر. وأما قول الإصطخري: يتوالى فيها التكبير: فينتقض بصلاة الاستسقاء، فإن اتفق أهل بلدٍ على تركها ... قوتلوا على تركها على قول الإصطخري، وهل يقاتلون على تركها على قول عامة أصحابنا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يُقاتلون؛ لأنها نفل، والإنسان لا يُقاتل على ترك النفل. والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنهم يُقاتلون؛ لأنها من الأعلام الظاهرة في

مسألة وقت صلاة العيد

الشرع، وفي الاجتماع على تركها نقص ظاهر في الدين. قال ابن الصباغ: وعندي: أن هذا القائل رجع إلى قول الإصطخري، لأنه إذا جاز للإمام أن يقاتلهم ... لحقهم بذلك الإثم والقتل، ولا يستحقون مثل ذلك إلا عن معصيةٍ، وإذا كانوا عاصين بتركها كانت واجبة؛ لأن حد الواجب: ما أثم بتركه. [مسألة وقت صلاة العيد] وأول وقت صلاة العيد: إذا طلعت الشمس، وتم طلوعها. والمستحب: أن يؤخرها حتى يرتفع قيد رُمح. وآخره: إذا زالت الشمس. والمستحب: أن يؤخر صلاة عيد الفطر عن أول الوقت قليلًا، ويصلي الأضحى في أول وقتها: لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى عمرو بن حزم: أن آخر صلاة الفطر، وعجل صلاة الأضحى، وذكر الناس» ولأن الأفضل إخراج الفطرة قبل الصلاة، فأخرت الصلاة؛ ليتسع الوقت لذلك، والسنة: أن يضحي بعد الصلاة، فقدمت؛ ليرجع إلى الأضحية. [مسألة الصلاة في المكان الأرفق] قال الشافعي: (وأحب للإمام أن يصلي بهم حيث أرفق لهم) . وجملة ذلك: أنه إذا كان مسجد البلد ضيقًا ... فالمستحب أن يصلي العيد في المصلى، فإن كان المسجد واسعًا فالأفضل أن يصلي العيد في المسجد،

والأصل فيه: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي العيد في المصلى» ، وإنما كان كذلك؛ لأن مسجد المدينة كان صغيرًا لا يسع الناس، وكان الأئمة يصلون العيد بمكة في المسجد؛ لأنه واسع. وقال مالك: (الأفضل أن يصلي العيد في المصلى بكل حالٍ) . دليلنا: ما ذكرناه. فإن صلى العيد في المصلى في غير يوم المطر، مع اتساع المسجد ... لم يكره. وإن صلى في المسجد مع ضيقه في غير يوم المطر ... كره. وإنما كان كذلك؛ لأنه إذا صلى في المسجد مع ضيقه، ربما فات على بعض الناس للصلاة، وإذا عدل إلى المصلى مع اتساع المسجد ... لم يفت على أحد شيء من الصلاة، وإن كان قد ترك الأفضل. وإن كان في البلد مطر ... فالأفضل أن يصلي العيد في المسجد وإن كان ضيقًا؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العيد في يوم مطر في المسجد» . وكذلك روي عن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وإذا صلى في المصلى، وكان في البلد ضعفاء لا يقدرون على الخروج إلى المصلى ... استُحب للإمام أن يستخلف من يصلي بهم في المسجد في البلد؛ لما روي: (أن علي بن أبي طالب استخلف أبا مسعود الأنصاري يصلي العيد بضعفة الناس في المسجد) .

مسألة الأكل قبل صلاة الفطر

[مسألة الأكل قبل صلاة الفطر] والمستحب: أن يطعم يوم الفطر قبل الصلاة. قال الشافعي: (فإن لم يطعم في بيته، ففي الطريق، أو في المصلى إن أمكنه ذلك، فأما في الأضحى: فيستحب له ألا يطعم شيئًا حتى يرجع) ؛ لما روى بريدة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل، ويوم النحر لا يأكل حتى يرجع، فيأكل من نسيكته» . وقال ابن المسيب: كان المسلمون يأكلون يوم الفطر قبل الصلاة، ولا يفعلون ذلك يوم النحر، وإنما فرق بينهما؛ لأن السنة: أن يتصدق يوم الفطر قبل الصلاة، فاستحب له الأكل؛ ليشارك المساكين في ذلك، والصدقة يوم النحر بعد الصلاة وقبلها، فلم يستحب الأكل فيها. ويحتمل أن يكون الفرق بينهما؛ لأن ما قبل يوم الفطر يحرم فيه الأكل، فندب إلى الأكل قبل الصلاة؛ ليتميز عما قبله، وفي يوم الأضحى: لا يحرم الأكل فيما قبله، فأخر الأكل إلى ما بعد الصلاة؛ ليتميز عما قبله. والسنة: أن يأكل في يوم الفطر تمرات وترًا: إما ثلاثًا، أو خمسًا، أو سبعًا، أو أكثر، لما روى أنس: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك) .

مسألة الغسل للعيد

[مسألة الغسل للعيد] ويُسن الغسل للعيدين؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في جمعة من الجمع للناس: «إن هذا يوم جعله الله عيدًا للمسلمين، فاغتسلوا فيه، ومن كان عنده طيب ... فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك» . وروي عن علي، وابن عمر: (أنهما كانا يغتسلان في يوم الفطر والأضحى) . ولأنه يوم يجتمع فيه الكافة للصلاة، فسن فيه الغسل، كيوم الجمعة، فإن اغتسل بعد طلوع الفجر ... أجزأه بلا خلاف، وإن اغتسل قبل طلوع الفجر ففيه قولان: أحدهما: لا يُجزئه، كغسل الجمعة. والثاني: يجزئه؛ لأن صلاة العيد تفعل قريبًا من طلوع الشمس، وقد يقصدها الناس من البعد. فلو قلنا: لا يجوز الغُسل قبل الفجر ... لأدى إلى تفويتها عليهم بالغسل. فإذا قلنا بهذا: فإن القاضي أبا الطيب، والشيخ أبا إسحاق قالا: يجوز في النصف الثاني من الليل، ولا يجوز في الأول، كما قلنا في أذان الصبح. قال ابن الصباغ: ويحتمل أيضًا أن يجوز في جميع الليل، كما تجوز النية للصوم. والفرق بينه وبين الأذان للصبح: أن النصف الأول في وقتٍ مختارٍ للعشاء، فربما ظن السامع أن الأذان لها بخلاف الغسل. ويستحب أن يتطيب، ويستاك؛ لما ذكرناه في الخبر، وروي عن الحسن بن

مسألة حضور النساء وغيرهن العيد

علي: أنه قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نتنظف ونتطيب بأجود ما نجد في العيد» . ويستحب أن يتنظف، ويقلم أظفاره، ويحلق الشعر - كما قلنا في يوم الجمعة - ويلبس أحسن ثيابه، ويعتم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبس في العيدين بُرد حبرة» . ويستحب ذلك لمن يريد حضور الصلاة، ولمن لا يريد حضورها؛ لأن المقصود إظهار الزينة والجمال، فاستحب ذلك لمن حضر الصلاة، ولمن لم يحضر. [مسألة حضور النساء وغيرهن العيد] والمستحب: أن تحضر النساء غير ذوات الهيئات: لما روت أم عطية: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُخرج العواتق وذوات الخدور والحيض في العيد، وأما الحيض: فكن يعتزلن المُصلى، وتشهدن الخير ودعوة المسلمين» ويتنظفن بالماء، ولا يتطيبن،

مسألة التبكير لغير الإمام

ولا يلبسن الشهرة من الثياب، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تفلات» ، أي: غير مُتطيبات، والتفلة، والمتفال: هي التي غير متطيبة، قال الشاعر: إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها ... تميل عليه هونة غير متفال ولأن ذلك يدعو إلى الافتنان بها. ويستحب أن يحضر العبيد والصبيان، قال أصحابنا: إلا أن سُنة العيد لا تتأكد في حق العبيد والنساء والصبيان، كما تتأكد في حق الذكور البالغين الأحرار. ويزين الصبيان بالمصبغ والحرير والحلي من الذهب وغيره، ذكورًا كانوا أو إناثًا؛ لأنهم غير مكلفين. [مسألة التبكير لغير الإمام] والمستحب لغير الإمام: أن يبكر إلى المصلى، كما قلنا في الجمعة، ويمشي إليها، ولا يركب؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ركب في عيد ولا جنازة» ، ولأنه

مسألة السنة لصلاة العيد

إذا ركب ... زاحم الناس بدابته وآذاهم، وربما بالت دابته في الطريق، أو راثت، فتتلوث به نعال الناس، ولأنه إذا مشى كثر ثوابه بكثرة خطواته، إلا أن يكون به ضعف، فلا بأس بالركوب في ذهابه. قال الربيع: هذا في الذهاب. فأما في الرجوع: فإن شاء ... مشى، وإن شاء ركب. قال أصحابنا: هذا صحيح؛ لأنه غير قاصد إلى قربةٍ، إلا أن يتأذى الناس بمركوبه، فيكره له ذلك؛ لما يلحق الناس من الأذى. وأما الإمام: فالسنة له: أن لا يخرج إلا في الوقت الذي يوافي فيه الصلاة؛ لما روى أبو سعيد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كان يخرج في العيد إلى المصلى، ولا يبتدئ إلا بالصلاة» ، ولأن هذا أكثر في جماله وزينته من أن يخرج، ويجلس لانتظار الناس؛ لأن المأموم ينتظر الإمام، والإمام لا ينتظر المأموم. [مسألة السنة لصلاة العيد] ليس لصلاة العيد سنة قبلها ولا بعدها؛ لأنها نافلة، والنافلة لا إتباع لها. إذا ثبت هذا: فإن الإمام يُكره له أن يتنفل قبلها وبعدها؛ لما روى ابن عباس:

«أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الأضحى ركعتين، ولم يتنفل قبلها ولا بعدها» ، ولأن الإمام يُقتدى به، فإذا صلى قبلها أو بعدها ... أوهم أن ذلك سنة لها، ولا سنة. وأما المأموم: فيجوز له أن يتنفل قبلها وبعدها في بيته، وفي طريقه، وفي مُصلاه، وروي ذلك: عن أنس، وأبي هريرة، وسهل بن سعد الساعدي. وقال الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة: (تكره النافلة قبلها، ولا تكره بعدها) . وقال مالك، وأحمد: (تكره قبلها وبعدها) . وعند مالك في المسجد روايتان. دليلنا: أن هذا وقت للتنفل في غير هذا اليوم، فلم يكره في هذا اليوم، كسائر الأيام. قال الشافعي: (وقد روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغدو يوم الفطر والأضحى يمشي في طريق، ويرجع في أخرى على دار عمار بن ياسر» . وقد اختلف الناسُ في تأويل فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقيل: إنه كان يخرج في طريق بعيدٍ، ويرجع في طريقٍ قريبٍ؛ لكي يكثر ثوابه؛ لأن ذهابه قُربة، ورجوعه ليس بقربة. وقيل: لأنه كان يذهب في طريق، فيتصدق فيه على الفقراء والمساكين، فلا يبقى معه شيء، فيكره أن يرجع في ذلك الطريق، فيسأله سائل، ولا شيء معه، فيرده.

وقيل: بل كان يتصدق على أهل ذلك الطريق في ذهابه، ثم يرجع في أخرى؛ ليتصدق على أهله في رجوعه. وقيل: أراد: ليشرف أهل الطريق الأول برؤيته، ويرجع في أخرى؛ ليُشرف أهلها، فيساوي بين أهل الطريقين. وقيل: أراد: ليشهد له الطريقان. وقيل: أراد: ليسأله أهل الطريقين عن الحلال والحرام. وقيل: إنه كان يقصد بذلك غيظ المنافقين. وقيل: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوقى كيد المنافقين؛ لئلا يرصد في الطريق الأول. وقيل: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصد به الفأل في تغيير الحال على نفسه، رجاء أن يغير الله تعالى على الأمة حالها إلى الأجر والثواب، كما حول رداءه في الاستسقاء. وقيل: إنه كان يخرج في طريقٍ، فيخرج معه خلق كثير، فتكثر الزحمة، فإذا أراد الرجوع، انتظره الناس على ذلك الطريق؛ لكي يرجعوا معه، فكان يرجع في طريق أخرى، ويعدل عن الأول؛ لكي لا تكثر الزحمة، فيتأذى الناس بالازدحام. قال الشيخ أبو حامد: ويشبه أن يكون هذا بعد الأول أشبه؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج إلى صلاة العيدين من طريق، ويرجع من أخرى» ؛ لكي لا يكثر الزحام. إذا ثبت هذا في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فما حكم غيره من الناس؟ قال الشافعي: (أُحب ذلك للإمام والمأموم) . واختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق: إن لم يعلم المعنى الذي كان يفعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأجله ... اقتدى به، اتباعًا للسنة، وإن علم المعنى الذي فعله لأجله، فإن كان موجودًا فعل كفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن لم يكن موجودًا ... لم يفعل. قال أبو علي بن أبي هريرة: يفعل كفعله ذلك، سواء علم المعنى الذي فعله

مسألة لا يؤذن للعيد

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأجله، أو لم يعلم، وسواء كان موجودًا أو غير موجودٍ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد يفعل ذلك لمعنى، ثم يزول ذلك المعنى، وتبقى السنة فيه، كما قلنا في الرمل والاضطباع، وذلك؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم مكة معتمرًا ... قال المشركون: أما ترون أصحاب محمد قد أنهكتهم حُمى يثرب، فأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرمل والاضطباع بالطواف والسعي؛ ليريهم الجلد والقوة» ، ثم صارت مكة دار إسلام، وزال ذلك المعنى، ولم تزل السنة في الرمل والاضطباع. [مسألة لا يؤذن للعيد] ولا يُسن الأذان والإقامة للعيد، قال الشافعي: (فإن أذن، وأقام ... كرهته) . وبه قال كافة أهل العلم. وقال سعيد بن المُسيب: أول من أحدث الأذان والإقامة في العيدين معاوية. وقال ابن سيرين: أول من أحدث ذلك مروان، ثم أحدثه الحجاج. وقال أبو قلابة: أول من أحدث الأذان في العيدين ابن الزبير. فلم يختلفوا أنه محدث، وإنما اختلفوا في أول من أحدثه. دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العيد، ثم خطب بغير أذان ولا إقامة» ، وكذلك روي: عن أبي بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. إذا ثبت هذا: قال الشافعي: (فإذا خرج الإمام إلى المصلى، فالسنة: أن ينادى

مسألة صلاة العيد ركعتان

لها: الصلاة جامعة) ؛ لما روى الزهري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر مناديه يوم العيد، فينادي: الصلاة جامعة» . قال الشافعي: (فإن قال: هلموا إلى الصلاة، أو حي على الصلاة ... فلا بأس به - قال - وأحب أن يتوقى ألفاظ الأذان) . قال أصحابنا: وكذلك يفعل لصلاة الاستسقاء والكسوف والتراويح. [مسألة صلاة العيد ركعتان] ثم يصلي صلاة العيد ركعتين؛ لما روي عن عمر: أنه قال: «صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم، وقد خاب من افترى» . ولأنه نقل الخلف عن السلف، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو إجماع لا خلاف فيه.

والسنة: أن تصلى جماعة؛ لأنه نقل الخلف عن السلف، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا كبر للإحرام ... قرأ دعاء الاستفتاح عقيب تكبيرة الإحرام، وأما التعوذ: فيأتي به أول الفاتحة. وقال في " الفروع ": وقد قيل فيه قول آخر: أنه يأتي بدعاء الاستفتاح بعد التكبيرات الزوائد. والمذهب الأول. وقال أبو يوسف: يأتي بالتعوذ عقيب دعاء الاستفتاح، وهذا ليس بشيء؛ لأن دعاء الاستفتاح يراد لافتتاح الصلاة، وذلك يوجد عقيب تكبيرة الإحرام، والتعوذ يراد لافتتاح القراءة، وذلك يوجد بعد التكبيرات الزوائد. إذا ثبت هذا: وفرغ من دعاء الاستفتاح، فإنه يكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية خمس تكبيرات قبل القراءة، وبه قال أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن عمر، وعائشة، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك مثل قولنا، إلا أنه قال: (يكبر في الأولى بست تكبيرات لا غير) . وقال الثوري، وأبو حنيفة: (يكبر في الأولى ثلاث تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية: ثلاث تكبيرات بعد القراءة) . دليلنا: ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التكبير في الفطر في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات قبل القراءة فيهما» . وهذا نص.

فرع رفع اليدين حال التكبير

وروت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية خمس تكبيرات قبل القراءة» . [فرع رفع اليدين حال التكبير] ويستحب أن يرفع يديه في كل تكبيرة من هذه التكبيرات حذو منكبيه، وبه قال أبو حنيفة، إلا أنه قال: (يرفع إلى شحمتي أذنيه) . وقد مضى الدليل عليه في الصلاة. وقال مالك، والثوري: (لا يرفع يديه إلا في تكبيرة الافتتاح) . دليلنا: ما روي: (أن عمر صلى العيد، فكبر في الأولى سبعًا، وفي الثانية خمسًا، يرفع يديه عند كل تكبيرة منها) . ولا يعرف له مخالف. ولأنها تكبيرة في الصلاة في حال الانتصاب، فيسن فيها رفع اليدين، كتكبيرة الافتتاح. قال الشافعي: (ويقف بين كل تكبيرتين بقدر آية، لا طويلة ولا قصيرة، يهلل الله ويحمده - وقال - يمجده. وقال مالك: (يقف بين كل تكبيرتين، ولا يقرأ شيئًا) . وقال أبو حنيفة: (يكبر متواليًا، ولا يقف) . دليلنا: ما روي: (أن ابن مسعود صلى صلاة العيد، وكان يقف بين كل تكبيرتين، يحمد الله، ويكبره، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . ولا مخالف له.

فرع نسي التكبيرات

ومن أصحابنا من قال: يقول بين كل تكبيرتين: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. ومنهم من قال: يقول: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. قال ابن الصباغ، والشيخ أبو نصر: ولو قال ما اعتاده الناس، فحسن، وهو: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بُكرة وأصيلا، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليمًا كثيرًا. ولا يأتي بهذا الذكر بين تكبيرة الافتتاح والتي بعدها؛ لأن هذا الذكر من توابع تكبيرات العيد، وتكبيرة الافتتاح لا تختص بالعيد. [فرع نسي التكبيرات] ] : فإن نسي تكبيرات العيد حتى شرع في القراءة ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يأتي به) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأن محله القيام، وهو باقٍ. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يأتي به) ؛ لأن محله قد فات بالقراءة، كدعاء الاستفتاح. فإذا قلنا بالقديم، وذكر ذلك في أثناء الفاتحة ... قطع الفاتحة وأتى بالتكبيرات، فإذا فرغ من التكبيرات أعاد الفاتحة؛ لأنه قد قطعها بغيرها متعمدًا. وإن ذكر ذلك بعد الفراغ من الفاتحة ... أتى بالتكبيرات، ولا يجب عليه إعادة الفاتحة؛ لأنها وقعت موقعها، ولكن يستحب له أن يعيدها؛ لتكون بعد التكبيرات.

فرع فوات المأموم بعض التكبيرات

وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\101] وجهًا آخر: أنه يجب عليه إعادتها. والمذهب الأول. وإن ذكر ذلك في الركوع ... لم يأت به، قولًا واحدًا؛ لأنه فات محله. [فرع فوات المأموم بعض التكبيرات] وإن أدرك المأموم الإمام، وقد فاته ببعض التكبيرات ... فإنه يكبر ما بقي من تكبيرات الإمام، وهل يعيد ما فاته؟ على القولين في التي قبلها. وكذلك: إذا أدركه في القراءة ... فهل يقضي التكبيرات؟ على القولين. وإن أدركه راكعًا ... لم يأت بالتكبيرات، قولًا واحدًا. وقال أبو حنيفة، ومحمد: (يكبر في حال الركوع تكبيرات العيد) . دليلنا: أنه ذكر مسنون في حال القيام، فسقط بالركوع، كدعاء الاستفتاح. [فرع زيادة التكبير] فإن كبر في الأولى ثماني تكبيرات، ثم شك: هل نوى الإحرام بواحدةٍ منها؟ استأنف الصلاة؛ لأن الأصل عدم النية، وإن علم أنه نوى بواحدةٍ منها، وشك في أيهما نوى؟ قال الشافعي: (أخذ بالأشد، وأنه نوى في الآخرة، ويعيد تكبيرات العيد) . وإن علم أنه نوى في الأولى، وشك في عدد ما كبر بعدها ... بنى على اليقين، وكبر التمام.

فرع ما يقرأ في صلاة العيد

[فرع ما يقرأ في صلاة العيد] ويستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بـ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] [ق:1] . وفي الثانية بعد الفاتحة سورة: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] [القمر:1] . وقال أبو حنيفة: (ليس بعض السور بأولى من بعض) . وقال مالك، وأحمد: (يقرأ في الأولى بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] [الأعلى:1] ، وفي الثانية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] [الغاشية] ) . دليلنا: ما «روي أن عمر سأل أبا واقد الليثي: ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في صلاة العيد؟ فقال: (قرأ في الأولى بفاتحة الكتاب، و {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] [ق:1] ، وفي الثانية: بفاتحة الكتاب، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] [القمر:1] . ويجهر فيهما بالقراءة» . وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أسمع من يليك، ولا ترفع صوتك) . دليلنا: حديث أبي واقد، ولولا أنه جهر به، لما سمعه. [مسألة خطبة العيد] فإذا فرغ من الصلاة ... خطب، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي مسعود البدري. وروي عن عثمان: (أنه كان يصلي، ثم يخطب) . وروي عنه: (أنه خطب، ثم صلى، لما كثر الناس على عهده) . وروي ذلك عن ابن الزبير، ومروان بن الحكم. «وروي: أن مروان أخرج المنبر يوم العيد، وخطب قبل الصلاة، فقام رجل، فقال: يا مروان، أخرجت المنبر في يوم لم يكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بإخراجه، وخطبت قبل الصلاة، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب بعد الصلاة؟! فقال أبو سعيد الخدري:

من هذا؟ فقالوا: هذا فلان، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: من رأى منكرًا، فاستطاع أن ينكره بيده ... فليفعل، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع ... فبقلبه، وهو أضعف الإيمان» إذا ثبت هذا: فجملة الخطب عشر: خطبتا العيدين، وخُطبتا الكسوفين، وخطبة الاستسقاء، وخطبة الجمعة. وأربع خطب في الحج: خطبة بمكة يوم السابع من ذي الحجة، وخطبة يوم عرفة، وخطبة بمنى يوم النحر، وخطبة بمنى يوم النفر الأول. وكل هذه الخطب بعد الصلاة، إلا خطبة الجمعة، وخطبة عرفة، فإنهما قبل الصلاة، والفرق من ثلاثة أوجه: أحدها: أن خطبة الجمعة فرض لصلاة فرضٍ، فقدمت، وسائر الخطب نفل، فأخرت؛ ليتميز الفرض عن النفل، ولا يدخل على ذلك خطبة عرفة؛ لأنها ليست للصلاة، وإنما هي للوقت. والفرق الثاني: أن صلاة الجمعة لا تصلى إلا بجماعة، فإذا فاتته الجمعة ... لم تقض فرادى، فقدمت على الصلاة؛ لكي يمتد الوقت، ويلحق الناس الصلاة، فلا تفوتهم، وليس كذلك صلاة العيدين؛ لأنها تصح فرادى، فلم يُحتج إلى تقديم الخطبة عليها، ليلحق الناس الصلاة. وهكذا ذكره الشيخ أبو حامدٍ. والثالث -حكاه ابن الصباغ -: أن الخطبة في الجمعة شرط في الصلاة، فلذلك قدمت؛ لتكامل شرائط الصلاة، بخلاف غيرها، وأما خُطبة عرفة: فإنما قُدمت؛

فرع الخطبة على المنبر

ليعلم الناس مناسكهم وصلاتهم وما يفعلونه، فقدمت؛ ليشتغلوا بعد الصلاة بذلك. [فرع الخطبة على المنبر] ] : والسنة: أن يخطب على المنبر؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب في العيد على المنبر» . قال الشافعي: (فإذا ظهر على المنبر ... سلم عليهم، فيرد الناس السلام عليه؛ لأن هذا مروي عاليًا) ، فقيل: معناه: أن السلام يروى عاليًا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو عن أعالي الصحابة، يريد: كبارهم. وقيل: يروى: (أنه كان يسلم عاليًا) ، أي: فوق المنبر. وقيل: (عاليًا) ، أي: أنه يرفع صوته. وهل يسن له الجلوس بعد السلام؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يسن، وهو المنصوص، كما قلنا في خطبة الجمعة. والثاني: لا يُسن؛ لأن في الجمعة إنما يُسن له؛ ليفرغ المؤذن من الأذان، ولا أذان هاهنا، وهذا ليس بشيء؛ لأنه وإن لم يكن هناك أذان فإنه يحتاج إلى الجلوس؛ ليستريح من تعب صعود المنبر، وليتأهب الناس للسماع. ويخطب قائمًا؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب في العيدين قائمًا» .

فرع وقت وعدد التكبير في الخطبتين

فإن خطب جالسًا ... جاز؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب في العيد قاعدًا على راحلته» ، ولأن صلاة العيد تصح من القاعد مع قدرته على القيام، فكذلك الخطبة فيه. بخلاف الجمعة. ويجب أن يفصل بين الخطبتين بجلسة بينهما: قال في " الفروع ": وقيل: إن الجلسة ليست بمعتبرة في شيء من الخطب، وإنما المعتبر حصول الفصل، سواء كان بجلسة، أو سكتة، أو كلام من غيره. وهذا ليس بصحيح؛ لما روي «عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنه قال: (من السنة أن يخطب في العيد خطبتين، ويجلس بينهما» وإطلاق السنة يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخص الجلسة، فدل على أن غيرها لا يقوم مقامها. [فرع وقت وعدد التكبير في الخطبتين] ] : ويستحب أن يبتدأ ويكبر في الخطبة الأولى تسع تكبيرات، وفي الثانية سبع تكبيرات نسقًا؛ لما روي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنه قال: (هو من السنة) .

فرع ما يقال في خطبة العيد

قال الشافعي: (وإن فصل بين كل تكبيرتين بحمد الله والثناء عليه كان حسنًا) ؛ لأنه روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز. قال الشيخ أبو حامد: وظاهر كلام الشافعي: أن التكبيرات ليست من الخطبة؛ لأن الشافعي قال: (يكبر، ثم يخطب) . [فرع ما يقال في خطبة العيد] ] : إذا خطب للعيد، فإنه يحمد الله، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويوصي بتقوى الله، ويقرأ آية، لما ذكرناه في الجمعة. ويستحب أن يعلمهم في خطبة الفطر صدقة الفطر، ووقت وجوبها، وأن السنة أن يخرجها قبل الصلاة، ولا يجوز تأخيرها عن يوم الفطر، ويبين قدرها وجنسها. وفي الأضحى: يعلمهم أن الأضحية سنة مؤكدة، ويبين وقت الذبح، وجنس المذبوح، وسنه، وأن المعيب لا يجزئ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في خطبته: «ولا يذبحن أحدكم حتى يصلي» ، وإن كان في الحج يوم السابع ...

فرع إعادة الخطبة لمن لم يسمعها

أمرهم أن يحرموا يوم التروية، ويخرجوا إلى منى، ويبيتوا ليلتهم، ويبكروا إلى عرفات. وإن كانت الخطبة بعرفة ... أمرهم ألا يخرجوا منها، حتى تغيب الشمس، ويأمرهم بالبيتوتة بالمزدلفة، وأن عليهم أن يرموا يوم النحر جمرة العقبة بسبع حصيات. وإن كانت يوم النحر ... أعلمهم كيف ينحرون، وأين ينحرون، وكيفية الرمي في أيام منى. وإن كانت يوم النفر الأول ... أخبرهم: أنهم مخيرون بين أن ينفروا يومهم، وبين أن يقفوا حتى يرموا اليوم الثالث. وغير ذلك مما يحتاجون إليه؛ لأن ذكر ذلك يليق في الخطبة. [فرع إعادة الخطبة لمن لم يسمعها] ] : قال في " الأم " [1/212] : (وإذا خطب، ثم رأى نساء أو جماعة من الرجال لم يسمعوا الخطبة ... لم أر بأسًا أن يأتيهم، فيستأنف الخطبة لهم) ؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوم العيد، فصلى ركعتين، ولم يصل قبلهما ولا بعدهما، ثم أتى النساء، ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي خرصها وتلقي سخابها، وقد فرش بلال ثوبه يطرحن فيه» ، فـ (الخرص) : الحلقة، و (السحاب) : القلادة.

فرع من السنة استماع الخطبة

[فرع من السنة استماع الخطبة] ] : ويستحب للناس استماع الخطبة؛ لما روي عن أبي مسعود البدري: أنه قال يوم عيد: (من شهد الصلاة معنا، فلا يبرح حتى يشهد الخطبة) . فإن جاء رجل والإمام يخطب، فإن كان في المُصلى ... لم يستحب له أن يصلي التحية؛ لأنه لا حرمة لهذا الموضع، ولكن يجلس، ويستمع الخطبة، فإذا فرغ الإمام من الخطبة صلى الرجل العيد على القول الذي يقول: يجوز للمنفرد أن يصلي العيد. فإن كان في المسجد ... فإنه يصلي ركعتين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين من قبل أن يجلس» . فإذا قلنا: يجوز للمنفرد أن يصلي صلاة العيد، فما هاتان الركعتان؟ فيه وجهان: [الأول] : قال أبو إسحاق: يصليهما صلاة العيد؛ لأنهما أهم من تحية المسجد وأوكد، وإذا صلاهما ... حصلت بهما سنة صلاة العيد، وتحية المسجد. و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يصليهما تحية المسجد، وهو الأصح؛ لأنه يحتاج إلى استماع الخطبة، وصلاة العيد تطول؛ ولأن الإمام لم يفرغ

مسألة صحة صلاة العيد للمنفرد

من سنة العيد، فلا يشتغل بالقضاء، فإذا فرغ الإمام من الخطبة ... صلى صلاة العيد. [مسألة صحة صلاة العيد للمنفرد] ] : قال الشافعي: (وتجوز صلاة العيد للمنفرد في بيته، وللمسافر، والعبد، والمرأة) . وقال في مواضع من كتبه: (لا يُصَلِّي العيد إلا في الموضع الذي يصلي فيه الجمعة) . وظاهر هذا: أن المسافر والعبد والمرأة والمنفرد لا يصلون العيد، وكذلك أهل القرى الذين لا جمعة عليهم، وإنما يصليها أهل الأمصار. واختلف أصحابنا فيها، فمنهم من قال: يجوز للعبد والمرأة والمسافر والمنفرد أن يصلوا العيد، قولًا واحدًا. وما ذكره الشافعي: (لا يصلي إلا في الموضع الذي يصلي فيه الجمعة) أراد: لا يصلي العيد في المصر في مواضع، كسائر الصلوات، وإنما يصلي في موضعٍ واحدٍ، كالجمعة. ومنهم من قال، فيه قولان: أحدهما: لا يصليها إلا أهل الأمصار، ومن يصلي الجمعة، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل العيد بمنى؛ لأنه كان مسافرًا، كما لم يصل الجمعة بعرفاتٍ.

مسألة ثبوت العيد بشهادة العدول

والقول الثاني -وهو الصحيح -: أنه يجوز فعلها لكل واحدٍ؛ لأنها صلاة نفل، فاستوى فيها الحر والعبد، والرجل والمرأة، والحاضر والمسافر، كصلاة الاستسقاء، وسائر النوافل, ومن قال بهذا ... قال: إنما لم يُصل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد بمنى؛ لأنه كان مشغولًا بالنسك، فكان اشتغاله بالمناسك أولى. فإذا قلنا: حكمها حكم الجمعة ... فماذا يكون حكمها؟ فيه وجهان: أحدهما -وهو قول الشيخ أبي حامد -: أن حُكمها حكمُها في اعتبار الجماعة، وألا تقام إلا في موضع واحدٍ في المصر، ولكن لا يعتبر فيها الأربعون، ويجوز فعلها خارج البلد. والثاني -وهو قول ابن الصباغ، وصاحب " الإبانة " [ق \ 100]-: أن حكمها حكم الجمعة في العدد، فلا يصح بأقل من أربعين رجلًا على الشروط المذكورة فيهم في الجمعة. ويشترط الخطبة فيها، وإنما يجوز للمسافر والعبد والمرأة فعلها، تبعًا للعدد المشروط، كما قلنا في صلاة الجمعة. فإذا قلنا بالقول الصحيح ... جاز فعلها للمنفرد، إلا أنه إذا صلاها وحده لم يخطب. وإن كانوا مسافرين جاز أن يصلي بهم أحدهم، ويخطب بهم، قال في " الإبانة " [ق \ 100] : ويصح فعلها بغير خطبة على هذا. [مسألة ثبوت العيد بشهادة العدول] إذا أصبح الناس صيامًا يوم الثلاثين من رمضان، فشهد شاهدان: أنهما رأيا الهلال بالأمس. فإن ثبت عدالتهما قبل الزوال ... فإن الإمام يأمر الناس بالإفطار، ويصلي بهم العيد، قولًا واحدًا، ويكون ذلك أداء. وإن شهد بعد الزوال: أنهما رأيا الهلال بالأمس، أو شهدا قبل الزوال، ولم تثبت عدالتهما إلا بعد الزوال ... فإن الإمام يأمر الناس بالإفطار، وهل يسن لهم أن

يصلوا صلاة العيد؟ فيه قولان، كالقولين في النوافل، إذا فاتت ... هل يسن قضاؤها؟ وقد مضى ذكرهما. فإن قلنا: لا يقضي ... فلا كلام. فإن صلوا ... لم تكن صلاة عيد، بل تكون نفلًا، كسائر النوافل. وإن قلنا: يقضي -وهو الصحيح -: فإن كان البلد صغيرًا بحيث يتمكن الإمام من جمع الناس ... أمر بجمعهم، وصلى بهم العيد؛ لأن قضاء الصلاة كلما كان أقرب إلى وقت الصلاة كان أولى. فإن تراخى ذلك إلى الليل ... فهل تقضى؟ فيه وجهان، حكاهما في الفروع " الفروع ". وإن كان البلد كبيرًا بحيث لا يتمكن الإمام من جمع الناس ... فإنه يؤخرها إلى الغد؛ لكي يجتمع الناس، ويُظهروا الزينة. وحكى في " الإبانة " [ق \ 100] وجهًا آخر: أنها لا تقضى في الحال بكل حال، وإنما تقضى من الغد، والمشهور هو الأول. فأما إذا صام الناس يوم الثلاثين، فلما كان الليل شهد شاهدان: أنهما رأيا الهلال ليلة الثلاثين، وأن يوم الثلاثين الذي صام الناس فيه كان يوم فطر ... فإنهم يصلون يوم الحادي والثلاثين العيد، قولًا واحدًا، وتكون أداء لا قضاء، وهذا مراد الشيخ أبي إسحاق في " المهذب " بقوله: إذا شهدوا ليلة الحادي والثلاثين صلوا قولًا واحدًا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وعرفتكم يوم تعرفون» .

فرع قضاء صلاة العيد للجميع

[فرع قضاء صلاة العيد للجميع] إذا فاتته صلاة العيد مع الإمام، وقلنا: إنه يجوز للمنفرد فعلها ... صلاها ركعتين، كصلاة الإمام. وقال أحمد: (يصليها أربعًا) . وروي ذلك عن ابن مسعود. وقال * * * الثوري: إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء صلى أربعًا. وقال الأوزاعي: (يصلي ركعتين، ولا يجهر بهما، ولا يكبر كما يكبر الإمام) . وقال إسحاق: إن صلاها في الجبان ... صلاها كصلاة الإمام، وإن لم يصلها في الجبان صلاها أربعًا. دليلنا: قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صلاة الفطر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان على لسان نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ولم يفرق، ولأنها صلاة، فاستوى في عددها الانفراد والجماعة، كسائر الصلوات. وبالله التوفيق

باب التكبير

[باب التكبير] التكبير مسنون في العيدين. وقال داود: (هو واجب في عيد الفطر) . وقال النخعي: إنما يفعل ذلك الحواكون. وقال ابن عباس: (يكبر مع الإمام، ولا يكبر المنفرد) . وحُكي عن أبي حنيفة: أنه قال: (لا يكبر في الفطر، ويكبر في الأضحى) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] [البقرة:185] . قال الشافعي: (سمعت من أرضاه من أهل العلم يقول في قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185] [البقرة:185] : عدة صوم رمضان، {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} [البقرة: 185] عند كماله) . وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعًا صوته بالتهليل والتكبير، فيأخذ طريق الحدادين حتى يأتي المصلى» .

مسألة أوقات التكبير

[مسألة أوقات التكبير] وأول وقت التكبير في عيد الفطر إذا غابت الشمس من آخر يوم من رمضان، وبه قال فقهاء المدينة السبعة. وقال مالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: (لا يكبر ليلة الفطر، وإنما يكبر عند ذهابه إلى المصلى) ؛ لحديث ابن عمر. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] [البقرة:185] ، وإكمال العدة بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان، ولا يمكن حمل الواو -هاهنا- على الجمع؛ لأن أحدًا لا يقول: إنه يكبر مع جمع العدة، فثبت أن المراد بها الترتيب، فيكون تقدير الآية: (ولتكملوا العدة، ثم لتكبروا الله) . وأما حديث ابن عمر: فلا يعني: أنه لم يكبر قبله. وأما آخر وقت تكبير عيد الفطر: ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يسن التكبير إلى أن يبرز الإمام للصلاة، ثم ينقطع؛ لأنه إذا برز ... بالناس حاجة إلى أن يأخذوا أُهبة الصلاة، ويشتغلوا بالقيام إليها، فينبغي أن ينقطع التكبير. والثاني: يسن التكبير إلى أن يحرم الإمام بصلاة العيد، لأن الكلام مباح لهم في هذه الحالة، فالتكبير أولى. والثالث: إلى أن يفرغ الإمام من صلاة العيد والخطبتين؛ لما روى الزهري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر في العيد حتى يأتي المُصلى. وحتى يقضي الصلاة» . وهذا

فرع التكبير في العيد

القول إنما يجيء فيمن لم يكن مع الإمام في الصلاة. ومن أصحابنا من قال: المسألة على قولٍ واحدٍ، وأنه يكبر إلى أن يُحرم الإمام بالصلاة، قولًا واحدًا. وتأول ما سواه عليه. [فرع التكبير في العيد] ويسن في عيد الفطر التكبير المطلق: وهو أن لا يتحرى له وقت، وإنما يكبر الإنسان متى اتفق وقدر عليه في المنزل والسوق والمسجد وغيرها، وفي الليل والنهار، وهل يسن فيه التكبير المقيد، وهو أن يتحرى له أدبار الصلوات؟ فيه وجهان: أحدهما: يسن له؛ لأنه عيد يسن فيه التكبير المطلق، فسن فيه التكبير المقيد، كالأضحى. فعلى هذا: يكبر خلف ثلاث صلوات: المغرب، والعشاء، والصبح. والثاني: لا يسن فيه التكبير المقيد؛ لأنه لم يُرو ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عن أحد من الصحابة، بخلاف عيد الأضحى. [مسألة تكبير الأضحى] وأما التكبير في عيد الأضحى: فاختلف أصحابنا في وقته: فقال أكثرهم: فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه يبتدأ بالتكبير بعد صلاة الظهر يوم النحر، ويقطعه بعد صلاة الصبح من آخر يوم من أيام التشريق، فيكبر عقيب خمس عشرة صلاة مجموعة، وهو الصحيح. وروي ذلك عن عثمان، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وهو قول مالك، وأحمد. ووجهه: أن الناس تبع للحاج، والحاج يقطعون التلبية مع أول حصاةٍ، ويكبرون مع الرمي، وإنما يرمون يوم النحر، وأول صلاةٍ بعد رميهم: صلاة الظهر يوم النحر، وآخر صلاةٍ يصليها الحاج بمنى: صلاة الصبح من آخر أيام التشريق. والقول الثاني: أنه يكبر بعد المغرب من ليلة يوم النحر، قياسًا على عيد الفطر، ويقطعه بعد الصبح آخر أيام التشريق، فيكبر عقيب ثماني عشرة صلاة؛ لما ذكرناه من التبع للحاج. والقول الثالث: أنه يكبر بعد الصبح من يوم عرفة، ويقطعه بعد العصر من آخر يومٍ من أيام التشريق. وروي ذلك عن عمر، وعلي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبي يوسف، ومحمدٍ، واختاره ابن المنذر. والدليل عليه: ما «روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الصبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا، فقال: "الله أكبر، الله أكبر، ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق» . ومن أصحابنا من قال: هي على قولٍ واحدٍ، وأنه يكبر بعد الظهر يوم النحر إلى

فرع التكبير عقب الصلوات

بعد الصبح من آخر أيام التشريق، والقولان الآخران حكاهما عن غيره. قال المحاملي: ولا يأتي في الحاج إلا هذا القول؛ لأنهم قبل ذلك مشغولون بالتلبية والمناسك. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (يكبر بعد الصبح يوم عرفة إلى بعد العصر يوم النحر، لا غير) . وقال الأوزاعي، والمزني، ويحيى بن سعيد الأنصاري: (يكبر من الظهر يوم النحر إلى بعد الظهر من اليوم الثالث من أيام التشريق) . وقال داود: (يكبر من الظهر يوم النحر إلى بعد العصر آخر أيام التشريق) ، وهو قول الزهري، وسعيد بن جبير، وروي ذلك عن ابن عباس. دليلنا: ما ذكرناه للأقوال. قال الصيمري: وما الأوكد في التكبير؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (تكبير ليلة النحر آكد من تكبير ليلة الفطر) . و [الثاني] : قال في الجديد: (تكبير ليلة الفطر آكد من تكبير ليلة النحر) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] [البقرة:185] . [فرع التكبير عقب الصلوات] ] : ويكبر في الأضحى خلف الفرائض في الأمصار والقرى المقيم، والمسافر، والرجل، والمرأة، سواء صلى في جماعة أو منفردًا.

وقال أبو حنيفة: (التكبير مسنون للرجال البالغين من أهل الأمصار إذا صلوا الفرض في جماعة، فأما أهل السواد والقرى والمسافرون، ومن صلى منفردًا ... فلا يكبر، ومن صلى في جماعة فإنما يكبر عقيب السلام، فإن أتى بما ينافي الصلاة، مثل: أن تكلم، أو خرج من المسجد ... لم يكبر) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 200] [البقرة:200] . وقَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] [البقرة:203] . وقَوْله تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} [الحج: 28] [الحج:28] . فخاطب الله الحجيج بالتكبير، وهم مسافرون، ولأن كل من خوطب بالفرائض سن له التكبير، كأهل المصر إذا صلوا في جماعة. ويسن التكبير المطلق في عيد الأضحى، وهو أن يكبر كل وقتٍ. ويسن فيه التكبير المقيد، وهو أن يكبر خلف الفرائض. والدليل على ذلك: نقل الخلف عن السلف، وهل يسن التكبير خلف النوافل؟ فيه طريقان: من أصحابنا من قال: فيه قولان. أصحهما: أنه لا يُسن؛ لأن النقل تابع للفرض، والتابع لا يكون له تبع.

فرع التكبير بعد القضاء

والثاني: يسن؛ لأنها صلاة راتبة، فأشبهت الفرائض. ومنهم من قال: يكبر، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه. وإن صلى، وقام، ولم يكبر، ومشى خطواتٍ ... فهل يكبر؟ قال أصحابنا البغداديون: يكبر كما يصلي السنن الراتبة بعد الفرائض بعد قيامه من مجلسه. وقال الخراسانيون: هل يكبر؟ فيه قولان: بناء على أنه لو ترك سجود السهو، وسلم، وتطاولت المدة. هذا مذهبنا. وقال مالك: (إن ذكره قريبًا ... أتى به، وإن تباعد لم يأت به) . وقد مضى ذكر مذهب أبي حنيفة. دليلنا: أن التكبير مسنون في أيام التشريق، وهي باقية. [فرع التكبير بعد القضاء] ] : قال أصحابنا الخراسانيون: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق، فقضاها في أيام التشريق ... كبر خلفها قولًا واحدًا. وهل يكون قضاء أو أداء؟ فيه قولان، بناء على أنه هل يكبر خلف النفل؟ فإن قلنا: يكبر خلف النفل ... كان التكبير خلف المقضية أداء؛ لأنها أولى بالتكبير من النفل. وإن قلنا: لا يكبر خلف النفل ... كان التكبير خلف المقضية قضاء. فإن فاتته صلاة في غير أيام التشريق، فقضاها في أيام التشريق، فإن قلنا في التي

فرع ألفاظ التكبير

قبلها: تكون أداء ... فإنه يكبر هاهنا، وإن قلنا: يكون هناك قضاء فلا يكبر هاهنا. وأما البغداديون: فقالوا: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق، فقضاها في غير أيام التشريق، أو فاتته في غير أيام التشريق، فقضاها في أيام التشريق ... لم يكبر خلفها، وجهًا واحدًا. وإن فاتته صلاة في هذه الأيام، فقضاها في هذه الأيام ... ففيه وجهان: أحدهما: يكبر؛ لأن وقت التكبير باقٍ. والثاني: لا يكبر؛ لأن التكبير خلف هذه الصلوات يختص بوقتها، وقد فات الوقت، فلم يُقض. [فرع ألفاظ التكبير] التكبير: هو أن يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ثلاثًا نسقًا. قال الشافعي: (وما زاد من ذكر الله تعالى ... فهو حسن، وإن قال: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، والله أكبر) ؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك على الصفا» . قال ابن الصباغ: والذي يقوله الناس، لا بأس به، وهو: الله أكبر، ثلاثًا، لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد. هذا نقل أصحابنا البغداديين.

وقال صاحب " الإبانة " [ق] : يكبر ثلاثًا نسقًا، وهل يهلل معه؟ فيه قولان. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة، وأحمد: (يكبر مرتين) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صعد الصفا يوم النحر للسعي، قال: "الله أكبر، الله أكبر" ثلاثًا نسقًا» . ثم ذكر الدعاء الذي ذكرناه. قال الشافعي: (فثبت أن التكبير المسنون هذا؛ لأنه يوم عيد) . قال في: " الإبانة " [ق -102] : إذا اقتدى بإمامٍ لا يرى التكبير ... فهل يكبر هو؟ فيه وجهان، حكاهما ابن سريج: أحدهما: يكبر؛ لأنه قد خرج من متابعته بالسلام. والثاني: يتابعه في تركه. وبالله التوفيق * * *

باب صلاة الكسوف

[باب صلاة الكسوف] قال الأزهري: يقال: خسفت الشمس، وخسف القمر: إذا ذهب ضوؤهما، ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة: 8] [القيامة:8] . ويقال أيضًا: كسفت الشمس، وكسف القمر: إذا ذهب ضوؤهما. وقال بعضهم: كسفت الشمس: إذا تغطت، ومنه قول الشاعر: الشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا يعني: الشمس طالعة ليست مغطية نجوم الليل والقمر. والأصل في صلاة الكسوف: قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37] [فصلت:37] . قال الشافعي: (فاحتملت الآية معنيين: أحدهما: أنه أمرنا بالسجود له، ونهى عن السجود للشمس والقمر. والثاني: أنه أمر بالسجود له عند حادث يحدث فيهما) ، وهذا أظهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عند حدوث الحادث بهما. وروى الشافعي بإسناده عن أبي مسعود البدري: أنه قال: «كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الناس: إن الشمس انكسفت لموته، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم

مسألة مشروعية صلاة الكسوف للجميع

ذلك ... فافزعوا إلى ذكر الله، والصلاة» . والسنة: أن يغتسل لها؛ لأنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة، فسن لها الغسل كالجمعة، وينادى لها: (الصلاة جامعة) ؛ لما روي عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أنها قالت: «كسفت الشمس، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلًا، فنادى: الصلاة جامعة، وصلى حيث يُصلي الجمعة» ؛ لأنها قد تتفق في وقت لا يُمكن قصد المُصلى فيه. [مسألة مشروعية صلاة الكسوف للجميع] ويجوز فعلها للمقيم والمسافر، في الجماعة والانفراد. وقال الثوري، ومحمد بن الحسن: لا يجوز فعلها على الانفراد. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا رأيتم ذلك ... فافزعوا إلى ذكر الله، والصلاة» . ولم يفرق. وروى صفوان بن عبد الله، قال: (رأيت ابن عباس يصلي على ظهر زمزم صلاة الخسوف) . قال الشافعي: (فيحتمل ذلك ثلاثة معانٍ: أحدها: أن يكون الإمام غائبًا، فصلاها ابن عباس منفردًا. والثاني: يحتمل أن الإمام لم يفعلها، ففعلها ابن عباس لنفسه.

فرع الجهر في خسوف القمر

والثالث: يحتمل أن يكون ذلك وقتًا منهيًا عن الصلاة فيه، وكان الإمام ممن يرى أنها لا تصلى في الوقت المنهي عنه، ففعلها ابن عباس) . ويستحب فعلها للنساء مع الإمام؛ لما روي عن أسماء بنت أبي بكر: أنها قالت: «كسفت الشمس، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيامًا طويلًا، فرأيت المرأة التي هي أكبر مني والتي هي أصغر مني قائمة، فقلت: أنا أحرى على القيام» . وإنما يستحب ذلك لغير ذوات الهيئات، فأما ذوات الهيئات فيصلين في البيوت منفردات. قال الشافعي: (فإن جمعن ... فلا بأس، إلا أنهن لا يخطبن؛ لأن الخطبة من سنة الرجال، فإن قامت واحدة منهن، ووعظتهن، وذكرتهن، كان حسنًا) . [فرع الجهر في خسوف القمر] ] : ويُصلي لخسوف القمر، كما يُصلي لخسوف الشمس، إلا أنه يجهر في صلاة خسوف القمر، ويُسر في صلاة خسوف الشمس. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يصلي في خسوف القمر فرادى، ويكره أن يصلي جماعة) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك ... فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة» ، ولم يفرق. ولأنها صلاة خسوف، فكان من سننها الجماعة، ككسوف الشمس. والدليل على الإسرار والجهر: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «كسفت الشمس، فقام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، فقمت إلى جنبه، فلم أسمع له قراءة» .

مسألة كيفية صلاة الكسوف

وأما صلاة خسوف القمر: فلأنها صلاة ليل لها نظير بالنهار، يسن في نظيرها الإسرار، فسن فيها الجهر كالعشاء. [مسألة كيفية صلاة الكسوف] وكيفية صلاة الكسوف: أن ينوي صلاة الكسوف، ويكبر، ثم يقرأ دعاء التوجه، ثم يتعوذ، ويقرأ بأم الكتاب، وبسورة البقرة، إن كان يحفظها، أو بقدرها من القرآن إن كان لا يحفظها، ثم يركع، ويسبح بقدر قراءة مائة آية من سورة البقرة، ثم يرفع رأسه، ويستوي قائمًا، ويتعوذ، ويقرأ بفاتحة الكتاب وبقدر مائتي آيةٍ من سورة البقرة، ثم يركع، ويسبح، قال الشافعي: (بقدر ثلثي الركوع الأول) . وروي عنه: (بقدر ما يلي الركوع الأول) ، يعني: دونه بقليل. قال أصحابنا: وهذا أصح. وقدره الشيخ أبو إسحاق بقدر سبعين آية، وقدره الشيخ أبو حامد بقدر ثمانين آية من سورة البقرة، ثم يسجد كما يسجد في غيرها.

وقال أبو العباس بن سريج: يطيل السجود كما يطيل الركوع، وليس بشيء؛ لأنه لم ينقل ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو فعله ... لنقل كما نقل في الركوع. ثم يقوم إلى الركعة الثانية، فإذا استوى قائمًا ... قرأ الفاتحة، ثم يقرأ بعدها بقدر مائة وخمسين آية من سورة البقرة، ثم يركع، ويسبح فيه بقدر قراءة سبعين آية من سورة البقرة. هكذا قال عامة أصحابنا. وقال أبو علي في " الإفصاح ": يسبح فيه بقدر خمس وسبعين آية. قال أصحابنا: وهذا يدل على أن الصحيح: أن التسبيح في الركوع الثاني في الأولى يلي التسبيح الأول فيها؛ لأن السبعين أكثر من ثلثي المائة، وبناء هذه الصلاة: أن الفعل الثاني أخف من الفعل الذي قبله. قلت: وهذا يدل على أنه يسبح في الثاني من الأولى بأكثر من قدر السبعين آية؛ ليكون أكثر مما بعده؛ لتقع الصلاة على نظم واحد. ثم يرفع رأسه من الركوع، فإذا استوى قائمًا قرأ الفاتحة، وقرأ بعدها قدر مائة آية من سورة البقرة، ثم يركع، ويسبح بقدر قراءة خمسين آية من سورة البقرة، ثم يسجد سجدتين. هذا قول الشافعي المشهور. وقال في رواية " البويطي ": (يقرأ في القيام الأول في الركعة الأولى سورة البقرة، وفي الثاني منها سورة آل عمران، وفي الأول من الثانية سورة النساء، وفي الثاني منها سورة المائدة) .

قال أصحابنا: وهذا قريب من الأول. هذا مذهبنا، وبه قال عثمان، وابن عباس من الصحابة، ومن الفقهاء: مالك، وأحمد. وقال الثوري، والنخعي، وأبو حنيفة: (يصلي صلاة الخسوف، كصلاة الصبح) . وروي عن حذيفة: (أنه ركع في صلاة الخسوف ست ركعات، وأربع سجدات) . وروي عن علي: (أنه ركع خمس ركعات وسجد سجدتين، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ذلك، وقال: ما صلاها أحد بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيري) . ومن الناس من قال: الأخبار ثابتة في الكسوف في كل ركعة: ركوعان، وثلاث، وأربع، وله أن يفعل أيها شاء. واختاره ابن المنذر. دليلنا: أن ابن عباس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رويا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الخسوف ركعتين، في كل ركعة ركوعان» . فذكرا نحوًا مما قلناه. قال في " الإبانة " [ق 102] : إذا امتد الخسوف، وهو في الصلاة ... فهل يزيد ركوعًا آخر؟ فيه وجهان:

مسألة إدراك الركوع الثاني

أحدهما: يزيد، ولو امتد عشر ركعاتٍ، إلى أن ينجلي، وعلى هذا يُحمل ما ورد من الأخبار في الزيادة على ركوعين. والثاني -وهو طريقة أصحابنا البغداديين، وهو الأصح -: أنه لا يزيد؛ لأن الأخبار في الزيادة على ركوعين غير صحيحة. قال في " الإبانة " [ق 102 -103] : فإن تجلى الكسوف، وهو في القيام الأول ... فهل يتجوز، ويقتصر على ركوع واحدٍ؟ إن قلنا: يزيد ركوعًا إذا امتد الخسوف ... اقتصر -هاهنا- على ركوع واحدٍ. وإن قلنا هناك: لا يزيد ... لم يقتصر هاهنا. قال في " الإبانة " [ق 103] : وإن فرغ من الصلاة، ولم يدخل الكسوف ... فهل يعود إلى الصلاة؟ إن قلنا: يزيد ركوعًا لو امتد الخسوف ... عاد إلى الصلاة. وإن قلنا: لا يزيد ركوعًا ... لم يعد إلى الصلاة. والوجه المذكور في " الإبانة " في زيادة الركوع غريب، وما يفرع عليه. [مسألة إدراك الركوع الثاني] قال في " الإبانة " [ق 103] : وإن أدرك المأموم الإمام في الركوع الثاني ... فقد قال الشافعي: (لم يكن مدركًا لتلك الركعة؛ لأنه لم يدرك معظمها) .

مسألة خطبة الكسوف

قال الشافعي: (فعلى هذا يفعل المأموم ما بقي من الركعة متابعة لإمامه، ويصلي معه الركعة الثانية، فإذا سلم الإمام ... قام المأموم، فإن كان الكسوف باقيًا صلى الركعة الثانية بهيئاتها، وإن تجلى الكسوف ... صلاها، وتجوز فيها) . فإن لم يقرأ في كل قيام إلا بأم القرآن ... أجزأه؛ لأن الفريضة تجزئ بذلك، فالنافلة بذلك أولى. وقال صاحب " التقريب ": إذا أدركه في الركوع الثاني ... كان مدركًا للركعة. وحكى الصيمري: أنه لو اقتصر على ركوعٍ واحدٍ ... أجزأه. [مسألة خطبة الكسوف] فإذا فرغ من الصلاة، فالسنة أن يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسةٍ، يحمد الله فيهما، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويوصي بتقوى الله، ويقرأ آية؛ لما ذكرناه في الجمعة. قال الشافعي: (ويحثهم على الصدقة، ويأمرهم بالتوبة، والاستغفار، والنزوع عن المعاصي) ؛ لأنه قد روي ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يخطب) . دليلنا: ما روي عن عائشة: أنها قالت: «لما كسفت الشمس ... قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى -ووصفت صلاته نحوًا مما ذكرناه- فلما تجلت الشمس انصرف، وخطب الناس، فذكر الله، وأثنى عليه، وقال: "يا أيها الناس، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك ... فادعوا الله، وكبروا، وتصدقوا"، ثم قال: "يا أمة محمد، والله، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا» . ولأنها صلاة نافلة يسن لها الجماعة، تنفرد بوقتٍ، فكان من سننها الخطبة، كالعيدين.

مسألة جلاء الكسوف قبل الصلاة

فقولنا: (نافلة) احتراز من الفريضة. وقولنا: (يُسن لها الجماعة) احتراز من النوافل التي لم تسن لها الجماعة. وقولنا: (تنفرد بوقت) احتراز من التراويح؛ لأن وقتها ووقت العشاء واحد. وقال الشافعي: (يخطب حيث لا يجمع) . قال أصحابنا: أراد أنه يخطب في الكسوف في السفر، وفي غير عددٍ، إلا أنه إذا كان منفردًا ... لم يخطب؛ لأن الخطبة لوعظ غيره وتذكيره. [مسألة جلاء الكسوف قبل الصلاة] ] : فإن لم يصل للخسوف حتى تجلى الخسوف ... لم يصل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فصلوا حتى تنجلي ". وإن تجلى بعض الكسوف ... جاز أن يبتدأ الصلاة، كما لو لم ينكشف غير ما بقي. فإن جللها سحاب أو حائل، وهي كاسفة ... صلى الكسوف؛ لأن الأصل بقاؤه، وكذلك إذا ظهر بعض الشمس أو بعض القمر منجليًا فإنه يصلي؛ لأن الأصل بقاء الكسوف في الباقي منه. فإن غابت الشمس كاسفة ... لم يصل الكسوف؛ لأن الصلاة إنما تراد لكي يرد الله تعالى عليها نورها، ولا نور لها في الليل. وإن غاب القمر خاسفًا، فإن كان قبل طلوع الفجر ... صلى الخسوف؛ لأنه ينتفع بضوئه في غير هذا اليوم في هذا الوقت. وإن لم يصل لخسوف القمر حتى طلع الفجر الثاني، أو غاب خاسفًا في هذا الوقت ... ففيه قولان:

فرع لا يصلي لآية غير الخسوفين جماعة

[أحدهما] : قال في القديم: (لا يصلِّي؛ لأن آية القمر الليل، وقد ذهب، فلا يصلِّي لأجله، كالشمس إذا ذهبت آيتها، وهي النهار) . و [الثاني] : قال في الجديد: (يصلِّي؛ لأنه ينتفع بضوئه) . وإن كسف القمر بعد طلوع الشمس، أو بقي كاسفًا إلى تلك الحالة.. لم يصل الكسوف، قولاً واحدًا؛ لأنه لا ينتفع بضوئه في هذه الحالة. فإن طلعت الشمس، وهو في صلاة كسوف القمر، أو تجلَّى الكسوف، وهو في الصلاة.. لم تبطل صلاته؛ لأنها صلاة أصل، فلا يخرج منها بخروج وقتها، كسائر الصلوات. وفيه احتراز من الجمعة، فإنها بدلٌ عن الظهر، ويخرج منها بخروج وقتها إلى الظهر. [فرع لا يصلي لآية غير الخسوفين جماعة] ] : قال الشافعي: (ولا آمر بالصلاة جماعة لآية سواها، وآمر بالصلاة منفردين) . وهذا كما قال: لا تستحب صلاة الجماعة لسائر الآيات، مثل: الزلازل، والظلمة بالنهار، والريح الشديدة، والأمطار الشديدة. فإن صلَّى الناس منفردين؛ لئلا يكونوا على غفلة.. فلا بأس.

مسألة اجتماع صلاة الكسوف وغيرها

وقال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور: (يسن لها الصلاة بالاجتماع، كالكسوف) . دليلنا: أن هذه الآيات قد كانت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم ينقل: أنه صلَّى لها جماعة. وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رأى ريحًا عاصفًا، قال: "اللهم اجعلها رياحًا، ولا تجعلها ريحًا» . قال ابن عباس: (لأن كل موضع ذكر الله الريح، فهو عذاب) . [مسألة اجتماع صلاة الكسوف وغيرها] إذا اجتمعت صلاة الكسوف، وصلاة الجنازة، واستسقاء، وعيد ... فإنه يبدأ بصلاة الجنازة؛ لأنها فرض، ولأنه يُخشى على الميت التغير، ولهذا ندب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الإسراع بها. فإن كان وقت صلاة العيد واسعًا ... بدأ بصلاة الكسوف قبل صلاة العيد؛ لأنه يخشى فواتها، وصلاة العيد يتحقق أنها لا تفوت، ثم يُصلَّى العيد بعدها، ويخطب لهما معًا. وإن ضاق وقت صلاة العيد ... بدأ بصلاة العيد قبل صلاة الكسوف؛ لأنه يُتحقق فواتها، ويُشكُّ في فوات وقت صلاة الخسوف.

فإذا فرغ من صلاة العيد، وكان الخسوف باقيًا.. صلَّى له وخطب له، وللعيد خطبتين. وأما الاستسقاء: فإنه يؤخره عن ذلك كلَّه إلى يوم آخر، لأنه لا يفوت بتأخيره عن اليوم. وقد اعترض ابن داود على الشافعي، وقال: كيف يجتمع الكسوف مع صلاة العيد، والشمس لا تكسف في العادة إلا في يوم التاسع والعشرين، ويوم العيد أول يوم من الشهر، أو يوم العاشر؟! قال أصحابنا: فالجواب: أنه لا يمتنع كسوفها في غير ذلك اليوم، وقد روي: أنها كسفت في اليوم الذي مات فيه إبراهيم بن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وموته كان يوم العاشر من ربيع الأول، على أن الفقهاء قد يذكرون مسائل، وإن لم يتفق وجودها في العادة، كقول الفرضيِّين: إذا مات رجلٌ، وخلَّف مائة جدَّةٍ. وإن اجتمع الكسوف مع صلاة فريضة ... نظرت: فإن كانت غير الجمعة، فإن كان وقت الفريضة واسعًا.. صلَّى صلاة الكسوف، لأنه يخشى فواتها، ثم صلَّى الفريضة؛ لأنه يتحقق أنها لا تفوت. وإن كان وقت الفريضة ضيقًا ... بدأ بصلاة الفريضة؛ لأنها فريضة، ويخاف فواتها، ثم صلَّى صلاة الكسوف. وإن كانت الفريضة الجمعة: فإن كان وقتها واسعًا.. صلَّى الخسوف أوَّلاً؛ لما ذكرناه في غير الجمعة.

قال الشافعي: (ويقرأ في كل قيام فاتحة الكتاب، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] [الإخلاص] . فإذا فرغ.. خطب خطبتين للجمعة والخسوف، ثم يصلِّي الجمعة) . وإن كان وقت الجمعة ضيقًا.. بدأ بها قبل الكسوف؛ لأنها فريضة يخاف فوتها، والخسوف نافلة لا يتحقق فواتها. وإن اجتمع الخسوف مع الوتر، أو التراويح، أو ركعتي الفجر.. فإنه يقدم صلاة الخسوف، وإن خاف فوت هذه الصلوات؛ لأنها آكد منهن. قال في " الأمِّ " [1 216] : (وإن كان الكسوف حال الموقف بعرفة.. فإنه يقدم صلاة الكسوف على الدعاء، ثم يخطب راكبًا، ويدعو، وإن كسفت الشمس وقت صلاة الظهر بعرفة.. قدَّم صلاة الكسوف على الدفع إلى عرفة؛ لأنه يخاف فوات صلاة الخسوف، ولا يخاف فوات الدَّفع) . وإن خُسف القمر بعد طلوع الفجر من ليلة المزدلفة، وهو بالمشعر الحرام صلَّى الخسوف وإن كان يؤدي إلى فوات الدفع إلى منى قبل طلوع الشمس؛ لأنها آكد، ويستحب أن يخفف؛ لئلا يفوته الدفع قبل طلوع الشمس. وإن كسفت الشمس في اليوم الثامن بمكة، وخاف إن اشتغل بصلاة الخسوف أن يفوته الظهر بمنى.. قدَّم صلاة الخسوف. وبالله التوفيق والعفو والمغفرة * * *

باب صلاة الاستسقاء

[باب صلاة الاستسقاء] وصلاة الاستسقاء سُنَّة، والأصل فيها: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} [البقرة: 60] [البقرة: 60] . وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المُصلَّى للاستسقاء» . وروي عن أنس: أنه قال: «أصاب أهل المدينة قحط، فبينما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة إذ قام رجل، فقال: يا رسول الله، هلك الكراع والشاء، فادع الله أن يسقينا، فمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه، ودعا، وإن السماء لمثل الزجاجة، فهاجت ريحٌ، فأنشأت سحابًا، ثم أرسلت عزاليها، فخرجنا نخوض الماء، حتى أتينا منازلنا، فلم يزل المطر إلى الجمعة الأخرى، فقام إليه ذلك الرجل أو غيره، فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت، واحتبس الركبان، فادع الله أن يحبسه، فتبسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"، فنظرت إلى السحاب يتصدع حول المدينة، كأنه إكليل» .

مسألة الاستسقاء بطلب الحاكم

[مسألة الاستسقاء بطلب الحاكم] وإذا أرد الإمام الاستسقاء.. وعظ الناس، وأمرهم بالخروج من المظالم من دم، أو مال، أو عِرْضٍ، وصُلحِ مشاجرٍ، والصدقة، وصوم ثلاثة أيام متوالية، ويخرجون يوم الرابع صيامًا، وإنما أمروا بالخروج من المظالم؛ لما روي عن ابن مسعود: أنه قال: (إذا بخس المكيال والميزان، حبس القطر) . وقال مجاهد، في قَوْله تَعَالَى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [البقرة: 159] [البقرة: 159] : قال: دواب الأرض تلعنهم، تقول: يمنع القطر آثامهم، ولأن مَنْ عليه الدَّين لا يدخل الجنة وهو عليه، فبأن ترد دعوته أولى. وأما الصلح: فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يهجرن أحدكم أخاه فوق ثلاثة أيام، فمن هجر أخاه فوق ثلاث.. فهو في النار» .

مسألة الصلاة في المصلى

وأما الصدقة: فتستحب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصدقة تطفئ غضب الرب» ، والقحط من الغضب. وأما الصوم: فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دعوة الصائم لا ترد» . [مسألة الصلاة في المصلَّى] والسُنَّة في الاستسقاء: أن تكون في المصلَّى؛ لـ: (أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسقى فيه) ، ولأنه أوسع للجمع. قال أبو إسحاق: ولأنهم يسألون المطر، فينبغي أن يكونوا حيث يصيبهم المطر. ويخرج الناس متنظفين بالغسل والسواك في ثياب البذلة، ولا يتطيبون؛

لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى الاستسقاء متبذلاً» ، ولأنهم يخرجون للسؤال، فينبغي أن يكونوا بزيِّ السؤال، ويخالف العيد؛ لأنه يوم زينة، فاستحب إظهار الزينة فيه. ويستحب أن يستسقي بأهل الصلاح من أقرباء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لما روي: (أن عمر استسقى بالعباس بن عبد المطلب، وقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا.. توسلنا إليك بنبيك، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك، فاسقنا، فسقوا) . فإن لم يكن هناك أحد من أهل الصلاح من أقرباء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. استسقى بأهل الصلاح من غيرهم؛ لما روي: (أن معاوية استسقى بيزيد بن الأسود، وقال: اللهم إنا نستسقي إليك بخيرنا وأفضلنا، اللهم وإنا نستسقي إليك بيزيد بن الأسود، يا يزيد، ارفع يديك، فرفع يزيد يديه، ورفع الناس أيديهم، فثارت سحابةٌ من المغرب كأنها ترْسٌ، وهبَّت لها ريح، فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم) . ويستحب إخراج المشايخ، والصبيان، ومن لا هيئة لها من النساء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقول الله تعالى: لولا مشايخ ركع، وصبيان رضع، وبهائم رتع.. لصببت عليكم العذاب صبا» .

فرع لا يطلب إخراج البهائم

ولأن الإنسان إذا كبرت سَنُّهُ.. تساقطت ذنوبه. والدليل عليه: ما روي أن: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا بلغ العبد ثمانين عامًا.. غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» . ذكره الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، ومن لا ذنب له ترجى إجابة دعوته، ولهذا روي: (أن موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يستسقي، فأوحى الله إليه: قل لبني إسرائيل: من كان له ذنب.. فليرجع، فنادى موسى فيهم بذلك، فرجع الناس كلهم حتى لم يبقى منهم معه إلا رجل أعور، فقال له موسى: أما سمعت النداء؟! فقال: بلى، قال: أما لك ذنب؟ قال: لا، نظرت بهذه العين مرَّةً إلى امرأة، فقلعتها، فدعا موسى، وأمن الأعور على دعائه، فسقوا) . [فرع لا يطلب إخراج البهائم] قال الشافعي: (ولا آمر بإخراج البهائم؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخرجها، فإن أخرجت.. فلا بأس) .

وقال أبو إسحاق: يستحب إخراجها، لعل الله سبحانه أن يرحمهما، ولما روي: (أن قوم يونس لما أتاهم العذاب.. جاءوا إلى يونس، ففرَّ منهم غيظًا عليهم ففرَّقوا بين النساء وأطفالهنَّ، وبين البهائم وأولادها، ودعوا، فكثر الضجيج، فصرف الله عنهم العذاب) . وروي: (أن سليمان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يستسقي، فرأى نملة واقفة على ظهرها، وقد رفعت يديها، وقالت: اللهم إنك خلقتنا، فارزقنا، وإلا فأهلكنا) . وروي: أنها قالت: (اللهم إنا خلقٌ من خلقك لا غنى بنا عن رزقك، فلا تهلكنا بذنوب بني آدم، فقال سليمان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقومه: ارجعوا فقد كفيتم بغيركم، فسقوا) . ويكرهُ إخراج أهل الذمة للاستسقاء، فإن خرجوا.. لم يمنعوا؛ لأنهم جاءوا في طلب الرزق، ولكن لا يختلطون بالمسلمين. وقال مكحول: لا بأس بإخراجهم. وقال إسحاق: لا يأمرهم بالخروج، ولا ينهاهم عنه.

مسألة مكان الاستسقاء

وقال الأوزاعي: (كتب يزيد بن عبد الملك إلى عمَّاله بإخراج أهل الذمة للاستسقاء، ولم يعب عليه أحد ذلك في زمانه) . دليلنا: أن الكفار أعداء الله، فلا يتوسَّل بهم إليه. [مسألة مكان الاستسقاء] قال الشافعي: (ويُستسقى حيث لا يجمع من باديةٍ وقريةٍ ويفعله المسافرون، وإنما كان كذلك؛ لأنه يسنُّ للحاجة إلى المطر، وأهل الأمصار والبوادي والمسافرون في ذلك سواء) . ويجوز فعله جماعة وفرادى؛ لما ذكرناه، فإن نضب ماء الأنهار والآبار، واستنصر أهل البلد بذلك.. جاز أن يصلّى الاستسقاء؛ لأن الحاجة إلى ذلك كالحاجة إلى المطر. [مسألة ينادي للاستسقاء الصلاة جامعة] ] : ولا يؤذن لصلاة الاستسقاء، ولا يقام لها؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يستسقي، فصلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا» . ويستحب أن ينادى لها: (الصلاة جامعة) ؛ لأنها صلاةٌ شرع لها الاجتماع والخطبة، ولم يشرع فيها الأذان، فيشرع فيها: (الصلاة جامعة) ، كصلاة العيد والكسوف.

قال الشيخ أبو حامد: ووقتها وقت صلاة العيد؛ لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى صلاة الاستسقاء كصلاة العيدين» . قال ابن الصباغ: إلاَّ أن الشافعي قال: (فإن لم يصلِّها قبل الزوال.. صلاَّها بعده) ؛ لأنها لا وقت لها تفوت فيه؛ لأن صلاة الاستسقاء لا تختص بيوم، فلم تختص بوقت. إذا ثبت هذا: فإن صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، يكبر في الأولى بعد دعاء التوجه سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الثانية خمسًا قبل القراءة، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب، ومكحول، وأبو يوسف، ومحمد. وقال مالك: (يصلِّي ركعتين، كصلاة الصبح، من غير تكبير زائد) . وقال أبو حنيفة: (لا تسن الصلاة في الاستسقاء، وإنما يسن الدعاء) . دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى الاستسقاء، فصلَّى ركعتين» . وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المصلَّى للاستسقاء متبذلاً متواضعًا، فصلى ركعتين كما يصلي العيد» . ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بسورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] [ق: 1] وفي الثانية بعد الفاتحة بسورة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] [القمر: 1] . قال الشيخ أبو إسحاق: ومن أصحابنا مَنْ قال: يقرأ في الثانية بسورة نوح. وحكاه الشيخ أبو حامد قولاً للشافعي؛ لأنها تليق في الحال، لذكر الاستسقاء فيها. والأول أصحُّ؛ لما ذكرناه من حديث ابن عباس. ويجهر في القراءة فيهما، كما قلنا في صلاة العيد.

فرع خطبة الاستسقاء

[فرع خطبة الاستسقاء] فإذا فرغ من الصلاة.. خطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة، كما قلنا في خطبة الجمعة. قال المحامليُّ: ويكبِّرُ في أوَّل الخطبة، وأراد: كما يكبر في أوَّل خطبتي العيد. وقال المسعودي: [في " الإبانة " ق 103] : يستفتح الخطبة بالاستغفار مكان التكبير في خطبة العيد. هذا مذهبنا. وحُكي: (أن ابن الزبير خطب، ثم صلَّى البراء بن عازبٍ، وزيد بن أرقم) ، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب الليث بن سعد. وروي ذلك: عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع في الاستسقاء، كما يصنع في العيد» . وروى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج على الاستسقاء، فصلَّى ركعتين، ثم خطب» . إذا ثبت هذا: فإنه يحمد الله تعالى، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويوصي بتقوى الله، ويقرأ آية من كتاب الله، كما قلنا في خطبة الجمعة، ويُكثر من الاستغفار في الخطبة. ويستحب أن يدعو في الخطبة الأولى؛ لما روي عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استسقى.. قال: «اللهم اسقنا غيثًا، هنيئًا مرئيًا، مريعًا غدقًا، مجللاً طبقًا، سحًّا عامًّا دائمًا، اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين،

اللهم إن بالعباد والبلاد والخلق والبهائم من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكو إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك، إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا» . قال الشافعي: (وأحب أن يفعل هذا كله، ولا وقت للدعاء، ولا يجاوزه) . فـ (المغيث) : الذي يغيث الخلق. و (الهنيء) : الذي لا ضرر فيه، و (المريء) : مثله، و (المريع) : الذي تمرع الأرض عليه، أي: تنبت عليه، و (الطبق) : الذي يطبق الأرض، و (الغدق) : المغدوق الكثير القطر، و (الضنك) : الضيق، و (اللأواء والجهد) - بضم الجيم-: الشدة، وبفتحها: النصب. ثم يخطب بعض الخطبة الثانية مستقبلاً للناس، ثم يستقبل القبلة في بعضها، ويدعو الله، ويحوِّل رداءه، وينكسه إذا كان مربَّعًا، في قوله الجديد. وقال في القديم: (ويحوله ولا ينكسه) ، وهو قول مالك، وأحمد. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والشيخ أبو نصر في " المعتمد ". و (التحويل) : أن يجعل ما على عاتقه الأيمن على عاتقه الأيسر، وما على الأيسر على الأيمن.

و (التنكيس) : أن يجعل أعلاه أسفله، فإذا كان الرداء ساجيًا، وهو الطيلسان المقوَّر.. فإنه يحوله ولا ينكسه، ويفعل ذلك المأمومون. وقال أبو حنيفة: (لا يفعل شيئًا من ذلك) . وقال محمد بن الحسن: يفعل ذلك الإمام، دون المأمومين. دليلنا: ما روى عبد الله بن زيد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يومًا يستسقى، وعليه خميصة سوداء، فاستقبل الناس، ودعا، فأراد أن يجعل أعلاها أسفلها، وأسفلها أعلاها، فثقلت عليه، فحولها، وحول الناس معه» . قال الشافعي: (فأحب التحويل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله، وأحب القلب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يفعله، وإنما تركه لثقل الخميصة) . قال أبو عبيد: إنما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تفاؤلاً، ولكي يحول الله الخلق من حال الجدب إلى حال الخضب. ويدعو الله سرًّا فيها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] [الأعراف: 55] . قال ابن الصباغ: فيقول: اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا، اللهم امنن علينا بمغفرة ما قارفنا، وإجابتك في سقيانا، وسعةٍ في رزقنا، ثم يدعو بما شاء من دِينٍ ودنيا. [و] ليجمع في الدعاء بين الجهر والإسرار.

فرع أنواع الاستسقاء

وإذا حوَّلوا أرديتهم.. تركوها محوَّلة؛ لينزعوها مع الثياب؛ لأنه لم يرو: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه غيروها. [فرع أنواع الاستسقاء] ] : قال الشافعي: (ويجوز أن يستسقى بغير صلاة) . قال أصحابنا: الاستسقاء على ثلاث أضربٍ: أحدها -وهو أفضلها-: أن يأمر الناس الإمام بالصيام، ويستسقي بالصلاة والخطبة، كما ذكرناه. والثاني: أن يستسقي بالدعاء لا غير، إما قبل الصلاة، أو بعدها، نفلاً كانت أو فرضًا؛ لما ذكرناه في أول الباب في الرجل الذي قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر يوم الجمعة: «هلك الكراع والشاء، فدعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . والثالث: أن يجمع الناس، ويدعو؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج يستسقي، فصعد المنبر، فلم يزد على الاستغفار، حتى نزل، فقيل له: لو استسقيت؟! فقال: (لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يُستنزل بها القطر) . قال أبو عبيد [في " الغريب " (3 259) ] : (المجاديح) : واحدها مجدح ومجدح -بكسر الميم وضمها- وهو كل نجم من النجوم التي كانت العرب تمطر به في الأنواء، فجعل عمر الاستغفار هي المجاديح التي يستنزل بها القطر، لا الأنواء؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ممَّن لا يرى بالأنواء، وإنما ذلك على طريق التشبيه على ما تقوله العرب من الأنواء.

مسألة إذا تأخرت السقيا

[مسألة إذا تأخرت السقيا] فإن لم يُسْقَوْا.. قال الشافعي في موضع: (يعودون من الغد) . وقال في القديم: (يخرج ثلاثًا متواليًا إن لم يشق عليهم) . وقال في " الأمِّ " [1 219] : (يأمرهم بصيام ثلاثة أيام) . فمن أصحابنا من قال: في ذلك قولان، حتى قال ابن القطان: ليس في الاستسقاء مسألة على قولين إلا هذه: أحدهما: يأمرهم بصيام ثلاثة أيام، ويخرجون يوم الرابع صيامًا، كما قلنا في الأول. والثاني: لا يأمرهم بصيام ثلاثة أيام، بل يخرجون من الغد؛ لأنهم قد صاموا الثلاث، ويشق عليهم صوم ثلاث غيرها. وقال الشيخ أبو حامد: ليست على قولين، وإنما هي على حالين: فإن كان الإمام يعلم أنه إذا أخرجهم في اليوم الثاني، لا يشق عليهم، ولا يقطعهم عن أشغالهم ومعاشهم.. فعل ذلك، وإن كان يعلم أنه يقطعهم.. أمرهم بالصوم، وخرجوا في اليوم الرابع. وأما قول ابن القطان: ليس في الاستسقاء مسألة على قولين غير هذه.. فقد مضى ذكر مسألة قبلها في القلب والتحويل على قولين. [فرع استسقاء المسلم لأخيه] قال الشافعي: (وإن كانت ناحيةٌ خصبة، وأخرى جدبةٌ.. فحسن أن يستسقي أهل الخصبة لأهل الجدبة ولسائر المسلمين) ؛ لأن الله تعالى أثنى على من دعا

مسألة لا يلزم الخروج للاستسقاء إلا في الجدب

لغيره، فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] الآية [الحشر: 10] . قال الشافعي: (وإذا تهيأ الإمام للاستسقاء، فسقوا قبل أن يخرج.. استحب له أن يخرج، ويستسقي، ويشكر الله تعالى على ذلك، ويستزيده من المطر) فإن استدام المطر حتى تأذى الناس به، وخافوا أن يهدم البيوت.. جاز أن يدعو الله تعالى أن يحبسه عنهم، ويصرفه إلى حيث ينفع ولا يضر من الآكام وبطون الأودية؛ لما ذكرناه في الخبر الأول في أول الباب. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في دعائه في الاستسقاء: «اللهم سُقْيَا رَحْمَةٍ، ولا سقيا عذاب، ولا محق ولا بلاء، ولا هدم، ولا غرق، اللهم على الظراب، ومنابت الشجر، وبطون الأودية، اللهم حوالينا ولا علينا» . [مسألة لا يلزم الخروج للاستسقاء إلا في الجدب] قال الشافعي: (وإن نذر الإمام أن يستسقي.. لزمه ذلك، ولا يلزمه أن يخرج الناس، وإن أخرجهم.. لم يلزمهم الخروج معه؛ لأنه ليس له أن يكرههم على الخروج في غير حال الجدب) . قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على أن للإمام أن يكرههم على الخروج في حال الجدب.

وإن نذر غير الإمام أن يستسقي.. لزمه ذلك؛ لأنه نذر طاعة، فإن نذر أن يستسقي بالناس.. لزمه في نفسه دون الناس؛ لأنه لا يملك إخراجهم. ويستحب أن يُخرج معه من يقدر عليه من ولده وعبده وأهله، ويجزئه أن يستسقي في داره، أو في المسجد؛ لأن الاستسقاء هو الدعاء، وذلك لا يختص بالمسجد. قال الشافعي: (وإن نذر غير الإمام أن يستسقي، ويخطب.. لزمه أن يستسقي، ويخطب، ويجزئه أن يخطب قائمًا وقاعدًا) . وإن كان هناك ناسٌ.. قال الشيخ أبو حامد: لزمه أن يخطب قائمًا. وإن نذر أن يخطب على المنبر.. جاز أن يخطب على المنبر، أو على راحلته، أو نشز من الأرض؛ لأنه لا يختص بمكان دون مكان. قال الشافعي: (وأحبُّ أنْ يتمطر الإنسان في أول مطر حتى يصيب ثيابه وبدنه؛ لما روي: أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جاء أول المطر.. خرج حتى يصيب جسده منه، ويقول: "إنه قريب عهد بربه» . وروي: (أن ابن عباس كان إذا جاء المطر، يأمر عبده أن يخرج رحله وفراشه على المطر، فقيل له في ذلك؟ فقال: أما قرأت: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] [ق: 9] ؟!

فرع المطر من فضل الله تعالى

فأحب أن ينالني من بركته) . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سال الوادي.. قال لأصحابه: «اخرجوا بنا إلى هذا الذي سمَّاه الله طهورًا، فنتطهَّر منه، ونحمد الله عليه» . ويستحب أن يدعو عند نزول الغيث؛ لما روى الشافعي بإسناده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اطلبوا استجابة الدُّعاء عند ثلاث: عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث» . [فرع المطر من فضل الله تعالى] روى الشافعي في " الأمِّ " [1 223] : «عن زيد بن خالد، قال: (صلَّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، ثم قال: "أتدرون ما قال ربكم؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي كافرٌ بالكوكب، وكافرٌ بي مؤمن بالكوكب، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته.. فذلك مؤمن بي كافرٌ بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا.. فذلك كافرٌ بي مؤمن بالكوكب» .

فرع إشفاقه صلى الله عليه وسلم من البرق والرعد

و (الأنواء) : هي البروج، وهي ثمانية وعشرون نجمًا، يطلع في كل ثلاثة عشر يومًا منها واحد، ويغيب رقيبه، والنوء: هو النهوض، فمن قال: إن النوء هو الممطر.. فذلك كافرٌ، وإن أراد: أنه وقت أجرى الله تعالى العادة بمجيء المطر فيه.. فيكره أن يقال ذلك، ولكن لا يكفر قائله. وقد روى عن عمر: أنه قال في يوم جمعة على المنبر: (كم بقي من نوء الثُريَّا؟ فقال العباس: العواء، ودعا الناس حتى نزل من المنبر، فَمُطِروا مطرًا أحيا الناس) . [فرع إشفاقه صلى الله عليه وسلم من البرق والرعد] وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا برقت السماء، أو رعدت.. عُرف ذلك في وجهه، فإذا نزل المطر.. سري عنه» . قال الشافعي: (ولا ينبغي لأحد أن يسب الريح.. فإنها خلق لله مطيعة) . وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الريح من روح الله، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فلا تسبُّوها، واسألوا الله خيرها، وعُوذُوا به من شرها» .

وروي عن عروة: أنه قال: (إذا رأى أحدكم البرق.. فلا يشير إليه) . قال الشافعي: (حكي عن مجاهد، أنه قال: الرعد ملك، والبرق بياض جناحيه إذا نشرهما، وما أحسن ما قال؛ لأن الله تعالى قال: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد: 13] [الرعد: 13] . ويستحب لمن سمع الرعد أن يسبح؛ لما روي عن ابن عباس: قال: (كنا مع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في سفر، فأصابنا رعد وبرق وبرد، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته (ثلاثًا) .. عوفي من ذلك الرعد، فقلنا ذلك، فعوفينا) . وروي عن بعض الصحابة: أنه كان إذا سمع الرعد.. قال: (سبحان من سبحت له) . وبالله التوفيق.

كتاب الجنائز

[كتاب الجنائز] [باب ما يفعل بالميت]

كتاب الجنائز باب ما يفعل بالميت يستحب لكل أحد أن يكثر من ذكر الموت في جميع أحواله؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات". "فما ذكر في كثير ... إلا وقلله، ولا ذكر في قليل إلا وكثره» . وروي: (أنه كان منقوشًا على خاتم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كفى بالموت واعظًا يا عمر) .

مسألة: الصبر عند المرض والابتلاء

وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «استحيوا من الله حق الحياء" فقيل له: وكيف ذلك: قال: "من حفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وترك زينة الحياة الدنيا، وذكر الموتى والبلى ... فقد استحيا من الله حق الحياء» . وروي: (الجوف وما وعى) فقيل: معناه: البطن والفرج، فيكون تأويله: ألا يضع في بطنه إلا حلالاً، ولا يضع فرجه إلا في حلال. وقيل: بل أراد (بالجوف) : القلب، (وما وعى) : من معرفة الله والعلم بحلاله وحرامه، وأن لا يضيع ذلك. وأما (الرأس) : فقال أبو عبيد: أراد به الدماغ، وإنما خص به القلب والدماغ؛ لأنهما مجمع العقل ومسكنه. ويستحب أن يستعد للموت: بالخروج من المظالم، وإصلاح المشاجر له، والإقلاع عن المعاصي، والإقبال على الطاعات؛ لأنه لا يأمن أن يأتيه الموت فجأة، واستحبابنا ذلك في حال المرض أشد؛ لأنه سبب الموت. [مسألة: الصبر عند المرض والابتلاء] ومن مرض ... استحب له أن يصبر عليه؛ لما روي: «أن امرأة قالت: (يا رسول الله، ادع الله أن يشفيني، فقال: "إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت ... فاصبري، ولا حساب عليك"، فقالت: أصبر ولا حساب علي»

ويكره للمريض الأنين، لما روي عن طاووس: أنه كره له ذلك. ويكره للمريض أن يتمنى الموت وإن اشتد مرضه؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا يتمنين أحدكم الموت، لضيق نزل به، وليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي» . ويستحب له أن يتداوى؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى أنزل الداء والدواء، فتداووا، ولا تداووا بالحرام» . ويستحب للإنسان أن يحسن ظنه بالله تعالى في حياته، وعند وفاته؛ لما روى جابر: أنه قال: «سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل موته بثلاث يقول: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى»

وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على شاب، وهو يكابد الموت، فقال: "كيف تجدك؟ "، فقال: أرجو الله يا رسول الله، وأخاف من ذنوبي، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمنه مما يخاف» ويستحب عيادة المريض، لما روي عن البراء بن عازب، أنه قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصرة المظلوم، وإبرار القسم، ورد السلام، وتشميت العاطس» .

وروى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من مسلم يعود مسلمًا غدوة وعشية ... إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، فإن رجا له العافية ... دعا له بها» . والمستحب: أن يقول: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك (سبع مرات) ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال ذلك سبع مرات عند مريض لم يحضره أجله ... عافاه الله من مرضه» . ويستحب أن يبشره بالعافية؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دخلتم على المريض ... فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئًا، ويطيب نفسه» . وإن رآه منزولاً به، فالمستحب: أن يلقنه قول: لا إله إلا الله؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله»

والمستحب: أن لا يقول له: قل: لا إله إلا الله، ولكن يقول عنده؛ لأنه ربما ضاق صدره إذا قال له: قل: لا إله إلا الله، فقال: لا، فيكفر، ولا يكثر عليه. قال المحاملي: بل يلقنه ثلاث مرات، فإذا قالها ... لم يلقن إلا أن يتكلم بكلام غيرها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» . ويستحب أن يوضع على جنبه الأيمن، ويستقبل القبلة بجميع بدنه، كما يوضع الميت في لحده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نام أحدكم ... فليتوسد يمينه» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير المجالس ما استقبل به القبلة» . فاستحب أن يموت على أشرف الهيئات. وروي: أن فاطمة ابنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قالت لأم ولد رافع: (ضعي فراشي هاهنا، واستقبلي بي القبلة، ثم قامت، واغتسلت كأحسن ما يغتسل، ولبست ثيابًا جددًا، ثم

مسألة: ما يسن فعله بالميت

قالت: تعلمين أني مقبوضة الآن، ثم استقبلت القبلة، وتوسدت يمينها) . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن لم يكن ذلك لضيق المكان ... ألقي على قفاه حتى يكون بوجهه وقدميه مستقبل القبلة) . ويستحب أن يُقرأ عنده سورة (يس) ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقرؤوا على موتاكم يس» . ويستحب أن يقرأ عنده سورة (الرعد) ؛ لما روي عن جابر بن زيد: أنه قال: اقرؤوا على موتاكم سورة الرعد؛ فإنها تهون عليه خروج الروح. [مسألة: ما يسن فعله بالميت] إذا مات الميت ... استحب أن يُفعل به سبعة أشياء: أحدها: أن يتولى أرفق أهله به - إما ولده، أو والده - إغماض عينيه بأسهل ما يقدر عليه، لما روت أم سلمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغمض أبا سلمة لما مات، وقال: "إن البصر يتبع الروح» ، ولأنه إذا لم يفعل ذلك ... بقيت عيناه مفتوحتين، فقبح

منظره، وإذا أغمضتا ... بقي كالنائم. الثاني: أن يشد لحيه الأسفل بعصابة عريضة أو عمامة، ويربطها فوق رأسه؛ لئلا يبقى فوه مفتوحًا، فتدخل إليه الهوام. الثالث: أن يلين مفاصله، فيرد ذراعيه إلى عضديه، ثم يمدهما، ويرد أصابع يديه إلى كفيه، ثم يمدها، ويرد فخذيه إلى بطنه، وساقيه إلى فخذيه، ثم يمدهما؛ ليكون أسهل على غاسله، وذلك: أن الروح إذا فارق البدن ... كان البدن حارًا، لقرب مفارقة الروح، ثم تبرد، فإذا لين عقيب خروجه لانت وإذا لم يلين ... بقيت جافة. الرابع: أن ينزع عنه ثيابه التي مات فيها. قال الشافعي: (سمعت أهل التجربة يقولون: إن الثياب تحمى عليه، فيسرع إليه الفساد) . الخامس: أن يسجى جميع بدنه بثوب؛ لما روت عائشة أم المؤمنين: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مات ... سجي بثوب حبرة» . السادس: أن يترك على شيء مرتفع من الأرض: إما سرير أو لوح؛ لئلا تصيبه نداوة الأرض، فيتغير ريحه. السابع: أن يثقل بطنه بحديدة، أو طين رطب؛ لما روي: أن مولى لأنس مات، فقال أنس: (ضعوا على بطنه حديدة؛ لئلا ينتفخ) .

مسألة: التحقق من الموت قبل الدفن

قال الشافعي: (وأول ما يبدأ به ولي الميت بعد ذلك أن يقضي دينه إن كان عليه، أو يحتال به على نفسه) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نفس المؤمن معلقة بدينه» ، وروي: «مرتهنة بدينه، حتى يقضى عنه» ، وإن كان قد وصى بوصية ... نفذت؛ لكي يتعجل له منفعتها. [مسألة: التحقق من الموت قبل الدفن] فإذا مات بمرض وعلة معروفة ... لم يدفن حتى تظهر فيه علامات الموت؛ لأنه قد يغشى عليه، فيخيل إليهم أنه قد مات. وذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - للموت أربع علامات: (إحداهن: أن تسترخي قدماه، فينصبان، فلا ينتصبان. الثانية: أن تميل أنفه. الثالثة: أن تمتد جلدة وجهه. الرابعة: أن ينخلع كفه من ذراعه) .

وذكر أصحابنا علامة خامسة: وهو: أن ينخسف صدغاه. فإذا شوهدت هذه العلامات فيه، مع تقدم المرض ... تحقق بذلك موته. وإن مات فجأة بغير علة، كأن يموت من فزع، أو غرق، وما أشبه ذلك ... فإنه ينتظر حتى يتحقق موته. فإذا تحقق موته في هذا، أو في القسم قبله. فالسنة: أن يبادر إلى تجهيزه ودفنه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاثة لا تؤخروهن: الصلاة، والجنازة، والأيم إذا وجدت كفؤًا» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على طلحة بن البراء يعوده، فقال: "ما أرى الموت إلا قد ذهب بطلحة، فإذا مات ... فآذنوني، وبادروا به، فما ينبغي لجيفة مسلم أن يكون بين ظهراني أهله» . وبالله التوفيق

باب غسل الميت

[باب غسل الميت] غسل الميت فرض من فروض الكفاية، يجب على من علمه ميتًا أن يتولاه، فإذا قام به البعض ... سقط الفرض عن الباقين؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الرجل الذي سقط عن بعيره، فمات: اغسلوه بماء وسدر» قال أصحابنا: وهو إجماع لا خلاف فيه. [مسألة: المقدم لغسل الميت] فإن كان الميت رجلاً لا زوجة له: فأولى الناس بغسله الأب، ثم الجد أبو الأب وإن علا، ثم الابن، ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الأخ، ثم ابن الأخ وإن سفل، ثم العم، ثم ابن العم وإن سفل، على ترتيب العصبات. وإنما قدمنا الأب والجد على الابن، لأنهم أكثر شفقة عليه من الابن. وإن كان له زوجة ... جاز لها غسله. قال أصحابنا: وهو إجماع لا خلاف فيه، إلا رواية تروى عن أحمد: أنه قال: (لا يجوز لها) .

والدليل عليه: ما روي عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ... ما غسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير نسائه) . وروي: (أن أبا بكر أوصى أن تغسله امرأته، وهي: أسماء ابنة عميس) ، ولا مخالف له، وهل تقدم الزوجة على الأب والجد وسائر القرابات؟ فيه وجهان: أحدهما: تقدم؛ لأن لها النظر إلى عورته، بخلاف القرابات فيه. والثاني: تقدم القرابة عليها، كما يقدمون في الصلاة عليه. والأول أقيس؛ لما ذكرناه من حديث عائشة وأبيها، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان لهما قرابة من الرجال. ويخالف الصلاة؛ لأن المرأة لا مدخل لها في التقدم بالصلاة على الميت. قال أبو المحاسن من أصحابنا: وإن مات رجل وامرأته حامل، فوضعت قبل أن تغسله ... حل لها غسله بعد الوضع. وقال أبو حنيفة: (ليس لها أن تغسله) . دليلنا: أنه مات على الزوجية التامة، فأشبه إذا بقيت عدتها. وإن كان له نساء من ذوات محارمه، كأمه، وجدته، وأخته، ومن أشبههن، فالذي يقتضي المذهب: أنه يجوز لهن غسله، كما يجوز له غسلهن، إلا أن الرجال والزوجة يقدمون عليهن. وإن كان الميت امرأة، ولا زوج لها ... فالنساء أحق بغسلها من الرجال، سواء كن محارم لها، أو أجنبيات؛ لأنهن أوسع في باب النظر، وأولاهن ذوات رحم محرم، وهن: كل من لو كانت رجلاً لم يحل له أن يتزوج بها، مثل: الأم، والجدة، والأخت، وابنة الأخ، وابنة الأخت، ومن أشبههن، ثم ذات رحم غير محرم، مثل: ابنة العم، ثم الأجنبيات. فإن لم يكن هناك نساء ... غسلها أقاربها من الرجال، من كان ذا رحم محرم لها، كالأب، ثم الجد، ثم الابن، ثم ابن الابن، ثم الأخ، ثم ابن الأخ، ثم العم، وهم عصبة لها ومحرم. فإن اجتمع الخال وابن الأخت مع ابن العم ... غسلها الخال، أو ابن الأخت؛ لأنهما من ذوي الأرحام المحرمين، وابن العم ليس من المحرمين، بل هو عصبة لا غير.

وإن ماتت امرأة، ولها زوج ... جاز له غسلها، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز له غسلها) . دليلنا: ما «روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لو مت قبلي ... لغسلتك ودفنتك» . وروي: (أن فاطمة الزهراء ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ماتت ... أوصت أن يغسلها علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأسماء ابنة عميس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فغسلاها) وظهر ذلك في

الصحابة، ولم ينكره أحد، فدل على أنه إجماع. ولأنه أحد الزوجين، فجاز له غسلها، كالزوجة. ولأن النظر الذي يستفاد بعقد النكاح نظران: نظر شهوة، ونظر حرمة، فإن مات أحد الزوجين ... بطل جواز النظر بالشهوة، وبقي جواز النظر بالحرمة. إن ثبت هذا: فهل يقدم الزوج على غيره؟ فيه وجهان، كالوجهين في الزوجة، هل تقدم على الرجال، وقد مضى توجيههما. فإن قلنا: تقدم الزوجة على الرجال ... قدم الزوج - هاهنا - على النساء والرجال من أقاربها؛ لأنه أوسع في باب النظر منهن ومنهم. وإن قلنا: يقدم الرجال على الزوجة ... قدم النساء - هاهنا - ثم القرابات المحرمون من الرجال، ثم الزوج. وإن مات وله امرأتان أو أكثر في حالة واحدة ... أقرع بينهما بتقديم الغسل؛ لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى. وإن طلق زوجته طلاقًا رجعيًا، ثم مات أحدهما ... لم يجز للآخر غسله. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إحدى الروايتين عنه: (يجوز له أن يغسلها) . دليلنا: أنها محرمة الوطء عليه، فأشبهت المبتوتة.

مسألة: عدم وجود مغسل من جنسه

[مسألة: عدم وجود مغسل من جنسه] مسألة: [في عدم وجود مغسل من جنسه] : إذا مات رجل بين نسوة لا محرم له منهن، أو ماتت امرأة بين رجال لا محرم لها منهم ... ففيه وجهان: أحدهما: ييمم ولا يغسل، وهو قول ابن المسيب، وحماد، ومالك، وأبي حنيفة رحمة الله عليهم، لأن في غسله النظر إلى من ليس بمحرم. والثاني: وبه قال قتادة، والزهري، والنخعي رحمة الله عليهم: أنه يجعل على الميت ثوب، ويصب الماء من تحت الثوب، ويمر الغاسل يده عليه، وعليها خرقة؛ لأنه يمكن غسله بذلك. وقال الأوزاعي: (لا ييمم، ولا يغسل، بل يدفن) . واختار هذا الشيخ أبو نصر في " المعتمد ". دليلنا: أن غسله ممكن، على ما ذكرناه، فلم يسقط فرضه. وإن مات خنثى مشكل، وليس هناك أحد من ذوي محارمه من الرجال والنساء ... ففيه أربعة أوجه: وجهان حكاهما فيه ابن الصباغ، وهما الوجهان في التي قبل هذه في الرجل إذا مات وليس له قرابة، لا من الرجال، ولا من النساء المحرمات عليه، ووجهان حكاهما أصحابنا الخراسانيون فيه: أحدهما: يُشترى له جارية من ماله إن كان له مال، أو من بيت المال إن لم يكن له مال؛ لأنه لا يجوز للرجال غسله؛ لجواز أن تكون امرأة، ولا يجوز للنساء غسله؛ لجواز أن يكون رجلاً، ولا بد من غسله، ولا طريق إلى جواز غسله إلا بذلك.

فرع: غسل الصغير

والوجه الثاني - وهو قول القفال -: أنه يغسله الرجال والنساء استصحابًا لحكمه في حال الصغر؛ لأن الصغير من الرجال والنساء يجوز للنساء والرجال غسله. فإن كان الخنثى ذميًا، ولا مال له ... لم يكن فيه إلا الأوجه الثلاثة ويسقط شراء الجارية له من بيت المال؛ لأنه لا حق له في بيت المال. فإذا قلنا: يُشترى له جارية، فاشتريت من ماله ... فإنها تكون لوارثه، كسائر أمواله، وإن اشتريت للمسلم من بيت المال اشتريت من سهم المصالح، فإذا فرغت من غسله وتكفينه ... بيعت، وأعيد ثمنها إلى بيت المال، ولا حق لوارثه فيها. [فرع: غسل الصغير] قد ذكرنا: أن الصغير من الرجال والنساء يجوز للرجال والنساء غسله. قال الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": وليس في سنه نص، والذي يجيء على المذهب: أنه ما لم يكن مميزًا ... غسله الرجال والنساء. وقال الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما لم يفطم. وقال مالك رحمة الله عليه: (ما له دون سبع سنين) ، وقال أبو حنيفة: (ما لم يتكلم) . [فرع: يغسل السيد أمته] ] : وإن ماتت أم ولده، أو أمته القنة ... جاز للسيد غسلها. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) ؛ لأنه لا يجوز له وطؤها. دليلنا: أنه يلزمه الإنفاق عليها بحكم الملك، فكان له غسلها، كالحية.

مسألة: غسل الكافر

وإذا مات السيد: فهل يجوز لأم الولد غسله؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها عتقت بموته، فصارت أجنبية منه. والثاني: يجوز؛ لأنه لما جاز له غسلها ... جاز لها غسله، كالزوجة. وهل لأمته القنة غسله؟ فيه وجهان، حكاهما أصحابنا الخراسانيون: أحدهما: يجوز لها غسله، كما يجوز له غسلها. والثاني: لا يجوز، لأنها أجنبية منه، إذ صارت ملكًا لوارثه. [مسألة: غسل الكافر] وإن مات كافر ... جاز غسله؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يغسل أباه» ، ولو لم يكن جائزًا لما أمره بغسله. فإن كان له قرابة مسلمون، وقرابة كفار، وتنازعوا في غسله ... فالكفار أولى؛ لأنه لا موالاة بينه وبين المسلمين.

فرع: غسل الذمية ونية الغسل

فإن لم يغسله الكافر، أو لم يكن له ولي كافر، جاز لوليه المسلم غسله، وكفنه، ودفنه، ولا يجوز له الصلاة عليه. وقال مالك رحمة الله عليه: (لا يجوز له غسله، ولا يجوز الصلاة عليه) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عليًا أن يغسل أباه» ، ولو لم يجز له غسله، لما أمره به. ولأن الله تعالى قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] [لقمان: 15] . ومن المعروف غسله إذا مات، ويخالف الصلاة، فإن القصد بها الترحم عليه، والترحم عليه لا يجوز، والقصد بالغسل التنظيف، وذلك يحصل بغسله. [فرع: غسل الذمية ونية الغسل] وإن ماتت ذمية، ولها زوج مسلم ... جاز له غسلها؛ لأن النكاح يجري مجرى النسب. وإن مات المسلم وله زوجة ذمية ... قال الشافعي: (كرهت لها أن تغسله، فإن غسلته أجزأه؛ لأن القصد منه التنظيف، وذلك يحصل بغسلها) . فمن أصحابنا من قال: لا يفتقر غسل الميت إلى النية، واستدل بما ذكره الشافعي في غسل الذمية للمسلم؛ لأنها لو كانت واجبة ... لما صحت من الكافرة، ولأن القصد منه التنظيف، فلم يفتقر إلى النية، كإزالة النجاسة. ومنهم من قال: إنه يفتقر إلى النية، فينوي الغاسل أنه غسل واجب؛ لأن الشافعي

مسألة: ستر موضع الغسل

- رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (إذا وجد الغريق ... غسل) ، فلما لم يكتف بإصابته الماء علم أن النية واجبة. ولأنه غسل لا يتعلق بإزالة عين، فوجبت فيه النية، كغسل الجنابة. ومن قال بالأول ... قال: لم يوجب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - غسل الغريق لعدم النية، وإنما أوجبه لعدم فعل الآدمي فيه؛ لأن غسل الميت يجب علينا، فلما لم يفعله الآدمي لم يسقط الفرض عنا. [مسألة: ستر موضع الغسل] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويستر موضعه الذي يغسل فيه، فلا يراه إلا غاسله ومن لا بد له من معونته عليه، ويغضون أبصارهم عنه، إلا فيما لا يمكن غيره، ليعرف الغاسل ما غسل؛ لأنه قد يكون فيه عيب يكتمه) . وينبغي أن يكون الغاسل ثقة؛ لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (لا يغسل موتاكم إلا المأمونون) . ولأنه إذا لم يكن ثقة ... لم يؤمن أن لا يستوفي الغسل، أو يظهر ما يرى من قبيح، ويخفي ما يرى من جميل. ويستحب أن لا يكون مع الغاسل إلا من لا بد له من معونته. ويستحب أن يغسل في قميص رقيق؛ لكي إذا صب الماء ... نزل، ولم يقف، فإن كانت أكمام القميص واسعة أدخل الغاسل فيه يده، وصب الماء من فوق القميص،

مسألة: موضع الميت حال الغسل

وإن كانت أكمامه ضيقة ... فإن الشافعي قال: (ينزع القميص، ويطرح على عورته خرقة، ويغسل) . وقال أبو علي بن أبي هريرة: فيشق فوق الدخاريص، ويدخل يده فيه، هذا مذهبنا، وبه قال مالك، وأحمد. وقال أبو حنيفة: (الأفضل أن يجرد، ولا يغسل في قميص) . دليلنا: ما روي عن عائشة أم المؤمنين: أنها قالت: «لما مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمعنا صوتًا، ولم ندر من يتكلم: اغسلوا نبي الله في ثيابه، فغسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قميصه، والماء يصب من فوق القميص» ، ولأن ذلك أستر، فكان أولى. [مسألة: موضع الميت حال الغسل] قال المزني: ويفضى بالميت إلى مغتسله، ويكون كالمنحدر قليلاً، ويعاد تليين مفاصله، وهذا صحيح، إذا أريد غسل الميت، فإنه يجعل على ألواح، ويكون منحدرًا من قبل رجليه؛ لئلا يقف الماء، فيستنقع الميت فيه، وتسترخي مفاصله. قال أصحابنا: وأما تليين مفاصله عند الغسل: فلا يعرف في شيء من كتب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا يحتاج إليه؛ لأن بدنه قد برد، فلا ينفعه ذلك. فلا معنى لما ذكره المزني من ذلك. ويستحب أن يكون مع الغاسل ثلاثة آنية: إناء كبير، كالحب، يكون فيه الماء بالبعد منه؛ لئلا يتطاير إليه شيء من النجاسة إن كان هناك.

فرع: إعداد الغاسل الخرق ونحوها

وإناء صغير أصغر من الأول بقرب الغاسل. وإناء صغير بيد المعين يغرف به من الإناء الكبير إلى الذي هو أصغر منه، ثم من ذلك الإناء إلى الميت. والماء البارد أولى من المسخن، إلا أن يكون بالميت وسخ لا يزيله إلا المسخن، أو كان البرد شديدًا لا يقدر الغاسل على استعمال الماء البارد، فلا بأس بالمسخن. وقال أبو حنيفة: (المسخن أولى بكل حال) . دليلنا: أن البارد يشد بدنه، والمسخن يرخيه، فكان البارد أولى. [فرع: إعداد الغاسل الخرق ونحوها] ويعد الغاسل خرقتين، فيلف إحداهما على يديه، ويغسل بها فرجيه، وأسفله، ويرمي بها، ويأخذ الأخرى، فيغسل بها بقية بدنه، ولو غسل كل عضو بخرقة ... كان أولى؛ لما روي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبيديه خرقة يتبع بها ما تحت القميص) . ولو غسل الخرقة التي نجاه بها، وغسل بها بدنه ... جاز. ولا يجوز للغاسل أن يمس عورة الميت بيديه، ولا ينظر إليها، كما لا يجوز له ذلك في حال حياته، ويغض بصره عن سائر بدنه، إلا ما لا بد له منه.

مسألة: كيفية الغسل

ويستحب أن يكون بقربه مجمرة فيها بخور أو عود؛ لئلا يظهر ريح شيء إن خرج من الميت، فتضعف نفس الغاسل ومن يعينه. [مسألة: كيفية الغسل] وأول ما يبدأ به الغاسل: أن يجلس الميت إجلاسًا رفيقًا، ويكون جلوسه مائلاً على ظهره، ولا ينصبه نصبًا مستويًا؛ لأنه إذا نصبه نصبًا مستويًا ... لم يخرج منه شيء، ويمر يده على بطنه إمرارًا بليغًا؛ لما روي: (أن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما غسل عبد الله بن عبد الرحمن، فنفضه نفضًا شديدًا، وعصره عصرًا شديدًا، ثم غسله) . ولأنه إذا فعل به ذلك، وكان في جوفه شيء ... خرج منه، وإذا لم يفعل به ذلك ربما خرج منه ما بجوفه بعد كمال غسله، أو بعد تكفينه، فيفسد بدنه أو كفنه. ويلف الغاسل على يده إحدى الخرقتين المعدتين، فيدخل يده التي تلف الخرقة عليها بين فخذيه، ويصب عليه الماء، فيغسل بها مذاكيره، ويصب عليه الماء صبًا كثيرًا؛ ليذهب ما خرج من جوفه، ثم يرمي بهذه الخرقة، ويغسل يديه بماء وأشنان إن كان عليها نجاسة، ثم يأخذ الخرقة الأخرى، ويلفها على يده، فيوضئ

الميت، فيبدأ بالمضمضة والاستنشاق، ويدخل أصابعه في فمه، ويمرها على ظاهر أسنانه بالماء، ولا يفغر فاه، أي: لا يفتحه، ويدخل أصبعه في خيشومه؛ ليزيل وسخًا إن كان هناك، ثم يغسل وجهه ويديه، ويمسح رأسه، ويغسل رجليه. وقال أبو حنيفة: (لا تستحب المضمضة والاستنشاق في غسل الميت) . دليلنا: «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن غسل ابنته: ابدأن بمواضع الوضوء منها» ومعلوم: أن موضع المضمضة والاستنشاق من مواضع الوضوء، ثم يغسل رأسه، ثم لحيته، بالماء والسدر والخطمي. وقال النخعي: يبدأ بلحيته قبل رأسه. دليلنا: أنه إذا غسل لحيته أولاً، ثم غسل رأسه ... نزل الماء والسدر إلى لحيته، فيحتاج إلى غسلها من ذلك ثانيًا. وإذا بدأ بغسل رأسه، لم ينزل من لحيته إلى رأسه شيء، فكانت البداية بالرأس أولى. وإن كان شعر الرأس واللحية متلبدًا ... سرحهما بمشط منفرج الأسنان.

وقال أبو حنيفة: (لا يسرحهما بمشط) . دليلنا: ما روي «عن أم عطية: أنها قالت (ضفرنا شعر ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة قرون، وألقيناها خلفها» . وهذا لا يكون إلا بعد التسريح. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «افعلوا بميتكم ما تفعلون بعروسكم» . ومعلوم: أن شعر العروس يسرح، فكذلك شعر الميت. ثم يغسل صفحة عنقه اليمنى، ثم شق صدره، وجنبه، وفخذه، وساقه الأيمن، ثم يعود إلى شقه الأيسر، فيغسله من صفحة عنقه الأيسر كذلك، ثم يحرفه على جانبه الأيسر، فيغسل جانب ظهره الأيمن وقفاه إلى ساقه الأيمن، ثم يحرفه على جانبه الأيمن، فيغسل جانب ظهره الأيسر وقفاه إلى ساقه الأيسر.

وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع آخر: (إنه يغسل جانبه الأيمن من مقدمه ويحوله، ثم يغسل جانب ظهره الأيمن، ثم يعود إلى جانبه الأيسر من مقدمه، فيغسله، ثم يحوله، ويغسل جانب ظهره الأيسر، وأيها فعل ... أجزأه) ، إلا أن الأول أولى، ويكون ذلك بالماء المخلوط فيه السدر. وإن كان عليه وسخ كثير لا يزول إلا بالأشنان ... لم يكن باستعماله بأس، فإذا فرغ من غسله بالماء المخلوط فيه السدر، صب عليه الماء القراح - وهو الذي لا يخالطه غيره - من قرنه إلى قدميه، على جميع بدنه، ويكون الغسل المعتد به هو هذا الغسل بالماء القراح، دون الغسل بالماء والسدر. وقال أبو إسحاق المروزي: يعتد بالغسل بالماء والسدر من الغسلات. وليس بشيء؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وكل ما صب عليه الماء بعد السدر، حسب ذلك غسلاً) ، ولأن الماء إذا خلط فيه السدر ... سلب صفته. إذا ثبت هذا: فإنه يستحب أن يغسل وترًا، ثلاث مرات، أو خمسًا، أو سبعًا، كما ذكرناه، في كل مرة يغسل بالماء والسدر، ثم يصب عليه الماء القراح، فيحتسب الغسل بالماء القراح، ويستحب أن يجعل الكافور في الماء القراح في كل غسلة، فإن لم يمكن ... ترك في الغسلة الأخيرة. وقال أبو حنيفة: (يغسل ثلاث مرات، أولها: بالماء القراح، والثانية: بالماء والسدر، والثالثة: بالماء القراح، ولا يستحب الكافور) . وقال مالك: (لا حد في الغسل) .

دليلنا: ما روت أم عطية: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في غسل ابنته: "اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا بماء وسدر، أو أكثر إن رأيتن ذلك، واجعلن في الغسلة الأخيرة كافورًا، أو شيئًا من كافور» . وظاهر الخبر يقتضي: أن كل غسلة منها تكون بالسدر. والواجب غسل مرة واحدة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم الذي خر من بعيره: «اغسلوه بماء وسدر» . وذلك لا يقتضي أكثر من مرة، ولأن غسل الحي يجزئ مرة واحدة، فكذلك غسل الميت. ويستحب أن يمر يده على بطنه، ويعصرها في كل مرة، إلا أنه يبالغ في المرة الأولى، ويرفق فيما بعدها، ويتفقده عند آخر غسلة، فإن خرج من أحد فرجيه شيء ... قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يعاد غسله) ، واختلف أصحابنا فيه: فقال المزني وغيره من أصحابنا: يجب غسل الموضع لا غير، وهو قول مالك، والثوري، وأبي حنيفة رحمة الله عليهم؛ لأن غسله قد صح، فلا يبطل بالحدث، كالجنب إذا اغتسل، ثم أحدث، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يعاد غسله) أراد: استحبابًا، لا وجوبًا. وقال أبو إسحاق: يجب غسل الموضع، وغسل أعضاء الوضوء، كالحي إذا اغتسل من الجنابة، ثم أحدث. وقال أبو علي بن أبي هريرة: يجب إعادة غسل جميع بدنه، وهو قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه خاتمة طهارته. قال الشيخ أبو حامد: وهذا أضعف الوجوه، والأول هو الصحيح.

فرع: تنشيف المغسل

[فرع: تنشيف المغسل] فإذا فرغ من غسله ... قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فإنه ينشف في ثوب، ثم يصير في أكفانه، وإنما كان كذلك؛ لأن عادة الحي إذا اغتسل أن ينشف في ثوب، ثم يلبس ثيابه، فكذلك الميت، ولأنه إذا لم يفعل ذلك ابتلت أكفانه، وأسرع الفساد إليها) . وإن تعذر غسل الميت؛ لعدم الماء أو لغيره ... يمم؛ لأنه غسل لا يتعلق بإزالة عين، فناب التيمم عنه عند العجز، كغسل الجنابة. [مسألة: غسل الجنب والحائض للميت] يجوز للجنب والحائض غسل الميت، وكره ذلك الحسن، وابن سيرين، وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يغسله الجنب) . دليلنا: أن الجنب والحائض طاهران، فلم يمنعا من غسل الميت. وإن مات الجنب أو الحائض ... غسلا غسلاً واحدًا. وقال الحسن: يغسلان غسلين، وهذا ليس بصحيح؛ لأن موجبهما واحد، وهو الحدث، فتداخلا، كغسل الجنابة والحيض في حال الحياة. [مسألة: لا يختن الأقلف بعد موته] ] : وإذا مات الرجل، وهو أغلف لم يختن ... فهل يختن بعد موته؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ": أحدهما: يختن، صغيرًا كان أو كبيرًا. والثاني: إن كان صغيرًا، لم يختن، وإن كان كبيرًا ... ختن.

وقال سائر أصحابنا: لا يختن، من غير تفصيل؛ لأنه قطع عضو، والميت لا يقطع منه عضو. وأما تقليم الأظافر، وحف شاربه، وحلق عانته، ونتف إبطه: فقال الشيخ أبو حامد: لا خلاف على المذهب: أنه لا يستحب، ولكن هل يكره؟ فيه قولان: أحدهما: يكره؛ لأنه متصل بالميت، فلم يقطع منه، كموضع الختان. فإن قلنا بهذا: أخذ الغاسل خلة من شجرة لينة لا تجرح، ويتبع بها ما تحت أظافيره. والثاني: لا يكره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «افعلوا بميتكم، ما تفعلون بعروسكم» . والعروس يفعل به هذا، فكذلك الميت. وروي: (أن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: غسل ميتًا، فدعا بموسى، وحلقه) . ولا يعرف له مخالف. فإذا قلنا بهذا: فإن شاء ... حلقه بالنورة، وإن شاء بالموسى. وأما شعر رأسه: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحلق؛ لأن شعر الرأس إنما يحلق لزينة، أو نسك، والميت لا يزين، ولا نسك عليه.

فرع: غسل المرأة كالرجل

وقال أبو إسحاق: فإن كان شعره جمة ... لم يحلق؛ لأن حلقه ليس بزينة في حقه، وإن كان ممن يحلق رأسه في حياته في العادة فحلقه تنظيف في حقه، وهل يكره حلقه؟ على القولين في حلق شعر العانة، والمذهب الأول. [فرع: غسل المرأة كالرجل] وإن كان الميت امرأة ... كان غسلها كغسل الرجل، وإن كان لها شعر ضفر بعد الغسل ثلاث ضفائر، وألقين خلفها. وقال أبو حنيفة: (لا يسرح، ويجعل بين يديها) . دليلنا: ما ذكرناه من حديث أم عطية في غسل ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مسألة: غسل المغسل] وإذا فرغ الغاسل من غسل الميت ... اغتسل، وهل يجب ذلك عليه، أو يستحب؟ فيه قولان: أحدهما: يستحب، ولا يجب، وبه قال ابن عباس، وابن عمر، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأن الميت طاهر، ومن غسله طاهر، فهو كما لو غسل جنبًا. والثاني: يجب، وبه قال علي، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتًا ... فليغتسل، ومن مسه فليتوضأ» .

والأول أصح، والخبر محمول على الاستحباب، بدليل: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا غسل عليكم من غسل ميتكم، حسبكم أن تغسلوا أيديكم» . وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (أأنجاس موتاكم؟!) ، تريد بذلك: الإنكار على من قال بوجوب الغسل من غسل الميت. وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والوضوء من مسه» : فيحتمل أنه أراد: من مس ذكره، ويحتمل أنه أراد: الوضوء، لا لأجل مسه، ولكن لأجل الصلاة عليه عند مسه، حتى لا تفوته الصلاة إذا اشتغل بالوضوء بعد غسله، ويحتمل أنه أراد: غسل اليد. إذا ثبت: أن الغسل من غسل الميت لا يجب ... فهل هو آكد، أو غسل الجمعة؟ فيه قولان: أحدهما: أن غسل الجمعة آكد؛ لأن الأخبار فيه أثبت. والثاني: أن الغسل من غسل الميت آكد، وهو الأصح؛ لأنه مختلف في وجوبه عندنا، بخلاف غسل الجمعة.

ويستحب لمن غسل ميتًا، فرأى ما يعجبه، مثل: تهلل وجهه، وما أشبه ذلك ... أن يتحدث به، وإن رأى ما يكرهه، مثل: اسوداد وجهه، وما أشبه ذلك أن لا يتحدث به؛ لما روى أبو رافع: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتًا، فكتم عليه ... غفر الله له أربعين مرة» . وإن كان الميت مبتدعًا مظهرًا لبدعته، ورأى الغاسل منه ما يكرهه، فالذي يقتضي القياس: أن يتحدث به الغاسل في الناس، ليكون ذلك زجرًا للناس عن البدعة. والله أعلم، وبالله التوفيق

باب الكفن

[باب الكفن] وتكفين الميت فرض على الكفاية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم الذي خر من بعيره، فمات: «وكفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما» . ويجب الكفن ومؤنة الغسل والدفن من رأس مال الميت مقدمًا على الدين، سواء كان موسرًا أو معسرًا، وبه قال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما. وقال الزهري، وطاووس: إن كان موسرًا، فمن رأس ماله، وإن كان معسرًا، فمن ثلثه. وقال خلاس بن عمرو: يجب من ثلثه بكل حال. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذي سقط من بعيره، فوقص، فمات: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما» . ولم يسأل، هل يخرجان من ثلثه، أم لا؟ أو هل هو موسر، أو معسر؟. وروي: «أن رجلاً من الأنصار مات، فقدموا جنازته إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي عليه، فقال: "هل على صاحبكم دين؟ "، فقالوا: نعم، عليه ديناران، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلوا على صاحبكم"، فتحملها أبو قتادة، فصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه» .

مسألة: أقل الكفن

فلو كان الكفن محتسبًا من الثلث ... لوجب صرف كفنه في الدينارين. فإن قال بعض الورثة: أنا أكفنه من مالي، وقال بعضهم: بل يكفن من التركة ... كفن من التركة؛ لأن في كفنه من مال بعض الورثة منة على الباقين، فلم يلزمهم قبولها. وإن كان الميت امرأة لها زوج، ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يجب على زوجها؛ لأن من وجبت كسوته على شخص في حال الحياة ... وجب كفنه عليه في الموت، كالمملوك. والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: إنه لا يجب على الزوج، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد؛ لأن الكسوة إنما وجبت عليه في حياتها؛ لأجل تمكينها له من الاستمتاع، وقد عدم ذلك بموتها. فعلى هذا: يجب في مالها، فإن لم يكن لها مال ... فعلى قرابتها الذين تلزمهم نفقتها لو لم يكن لها زوج، فإن لم يكن ففي بيت المال. والأول أصح. [مسألة: أقل الكفن] وأقل ما يجب في الكفن ما يستر به عورة الميت. ومن أصحابنا من قال: يجب ثوب في الرجل والمرأة؛ لأن ما دونه لا يسمى كفنًا. والأول أصح؛ لما روي: «أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد، ولم يكن له إلا

نمرة، إذا غطي بها رأسه ... بدت رجلاه، وإذا غطي بها رجلاه بدا رأسه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر» و (النمرة) : الشملة المخططة. وأما المستحب في كفن الرجل: فثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة. وقال أبو حنيفة: (يستحب القميص فيها) . دليلنا: ما روي عن عائشة: أنها قالت: «كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة» وروي: (أن عمر كفن في ثلاثة أثواب، بردتين سحوليتين، وثوب كان يلبسه) . قال ابن الصباغ: و (سحول) - بفتح السين -: مدينة بناحية اليمن يعمل فيها، و (السحول) - بضم السين -: هي الثياب الشديدة البياض. وقد روى الترمذي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في ثلاثة أثواب بيض يمانية» .

وروى أبو عبيد الهروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في ثوبين صحاريين» . وأما الجائز في كفن الرجل: فخمسة أثواب؛ لما روي: (أن ابن عمر كان يكفن أهله في خمسة أثواب فيها قميص وعمامة) . فإن كان في الكفن قميص وعمامة ... جُعلا تحت الثياب؛ لأن إظهارهما زينة، وليس حاله حال زينة، ويكره الزيادة على ذلك؛ لأنه سرف. ويستحب أن يكفن الصغير في ثلاثة أثواب. وقال أبو حنيفة: (يكفن في خرقتين) . دليلنا: أنه لما ساوى الكبير في صفة الكفن ... ساواه في قدره، كحال الحياة. وأما صفة الكفن: فإن الشافعي قال: (أستحب أن يكون ثلاثة أثواب بيض رياط) . وقال أبو حنيفة: (يكون فيهما برد حبرة) . دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في ثلاثة أثواب بيض» ، وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البسوا البياض، وكفنوا فيها موتاكم، فإنها أطيب وأطهر» . وأما (الرياط) : فواحدتها: ريطة، وهي الملاءة البيضاء التي ليست ملفقة من ثوبين. وإن اختلف الورثة في قدر الكفن ... قال بعضهم: يكفن بثلاثة أثواب، وقال بعضهم: يكفن بثوب، وقال بعضهم: يكفن بما يستر عورته ففيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه يقدم قول من دعا إلى الثلاث؛ لأنه هو الكفن المسنون. والثاني: يقدم قول من دعا إلى ثوب؛ لأنه يعم ويستر البدن. والثالث - حكاه في " الفروع " -: أنه يقدم قول من دعا إلى ما يستر العورة إذا قلنا: إنه الواجب؛ لأنه هو الواجب. فإن كان الميت موسرًا ... كفن في ثياب مرتفعة، وإن كان متوسطًا ففي ثياب متوسطة، وإن كان معسرًا ... ففي ثياب أدنى من المتوسطة، اعتبارًا بحاله في الحياة. وتكره المغالاة في الكفن؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تغالوا في الكفن، فإنه يسلب سلبًا سريعًا، فإما يبدل خيرًا منه، أو شرًا منه» . ويستحب أن يبخر الكفن على مشجب أو عود؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جمرتم الميت ... فجمروه ثلاثًا» . ولأنه ربما ظهر من الميت شيء، فيغلبه ريح البخور، ولهذا قال بعض أصحابنا: يستحب أن يبخر عند الميت من حين يموت؛ لهذه العلة.

مسألة: بسط أوسع وأحسن الثياب أولا في الكفن

[مسألة: بسط أوسع وأحسن الثياب أولاً في الكفن] مسألة: [بسط أوسع وأحسن الثياب أولاً] : ويستحب أن تبسط أحسن الثياب وأوسعها، ويذر عليه الحنوط، ثم يبسط الذي بعده، ويذر عليه الحنوط ثم الذي دونها، اعتبارًا بالحي، فإنه يجعل أحسن ثيابه ظاهرًا، ثم يذر عليه الحنوط. قال ابن الصباغ: وظاهر ما نقله المزني يقتضي: ألا يذر على الثالث الحنوط؛ لأنه قال: يذر فيما بينهما الحنوط، إلا أن أصحابنا لا يختلفون أنه يذر عليه الحنوط؛ لأنه أولى بذلك، فإنه يلي الميت. ثم يحمل الميت مستورًا، حتى يوضع على الأكفان ملقى على قفاه، ويؤخذ قطن منزوع الحب، ويذر عليه الحنوط والكافور، ويدخل بين أليتيه إدخالاً بليغًا؛ ليرد شيئًا إن خرج منه. وقد ظن المزني أن الشافعي أراد: أنه يدخل في دبره، وقال أصحابنا: ليس كما ظن، وإنما أراد الشافعي: أنه يجعل كالموزة، ويدخل بين إليتيه؛ لأنه قال: (ليرد شيئًا إن خرج منه) ، فلو كان أراد إدخاله في دبره، لكان يقول: ليمنع شيئًا إن خرج. قال الشافعي: (ويشد عليه خرقة مشقوقة الطرفين بإحدى أليتيه وعانته، ثم تشد عليه كما يشد التبان الواسع) . قال الشيخ أبو حامد: وهذا الشد لا يحتاج إليه في الميت إلا إن كان به علة قيام، أو خشي عليه أن يخرج منه، فيؤخذ لبد، فيشد عليه من فوق أليتيه، فإن لم

يكن لبد، فخرقة، فأما شق الطرف: فلا يحتاج إليه في الميت، وإنما ذكره الشافعي في (المستحاضة) ؛ لأنها تنصرف وتمشي، وأما الميت: فلا يحتاج أن يشد ذلك عليه. قال ابن الصباغ: وقد قيل: يشد ذلك بخيط، والتبان: السراويل بلا تكة. ويؤخذ قطن منزوع الحب، ويذر عليه الحنوط والكافور، ويترك على الفم، والمنخرين، والعينين، والأذنين، وعلى جراح نافذة إن كانت فيه؛ ليخفى ما يظهر من الرائحة من هذه المواضع. ويذر الحنوط والكافور على قطن منزوع الحب، ويجعل على مواضع السجود من بدنه؛ لما روي عن ابن مسعود: أنه قال: (يتبع بالطيب مساجده) ، ولأنها شرفت بالسجود، فاستحب تطييبها. ويستحب أن يطيب رأسه ولحيته؛ لأن الحي يطيبهما إذا تطيب، وإن حنط جميع بدنه بالكافور والحنوط ... فلا بأس؛ لأنه يقويه. قال الشافعي: (وإن حنط بالمسك والعنبر ... فلا بأس) . وقال عطاء، وطاووس: لا يطيب بالمسك. دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المسك من أطيب الطيب» ، وروي: عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (اجعلوا في حنوطي المسك، فإنه من بقية حنوط رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . وهل يجب الحنوط والكافور؟ فيه قولان، وقيل: هما وجهان:

أحدهما: يجب؛ لأن العادة جرت به. والثاني: لا يجب، كما لا يجب الطيب في حق المفلس. فإذا فرغ من ذلك ... أدرج في ثوب. قال الشافعي في موضع: (يثني صنفة الثوب من جانبه الأيمن، ويمده إلى جانبه الأيسر، ثم يأخذ صنفة الثوب من جانبه الأيسر، ويمده إلى جانبه الأيمن) . وقال في موضع آخر: (بل يأخذ حاشية الثوب من جانبه الأيسر، ويمده إلى جانبه الأيمن، ثم يأخذ حاشية الثوب من جانبه الأيمن، ويمده إلى جانبه الأيسر، ويكون العالي ما على كتفه الأيسر) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: ومنهم من قال: هي على قول واحد، وأنه يبتدأ بالأيسر على الأيمن، ثم بالأيمن على الأيسر، وهو الأصح؛ لأن هذا عادة الحي في الرداء أو الطيلسان. ثم يفعل ببقية الأكفان كذلك، ويجعل ما يلي الرأس من زيادة الأكفان أكثر مما يلي الرجلين، كالحي ما على رأسه أكثر، ويرد ما بقي عند رأسه على وجهه، وما بقي عند رجليه على ظهر قدميه، فإن خافوا أن تنتشر الأكفان ... عقدوها عليه، فإذا أدخلوه القبر حلوها؛ لأنه يكره أن يكون معه في القبر شيء معقود، ولهذا استحب ألا يكون معه شيء مخيط، ولأن الانتشار قد أمن منه. وإن كان الكفن قصيرًا لا يعم بدنه ... ستر به عورته، وما بقي من ستر عورته غطي به صدره ورأسه؛ لما ذكرناه في حديث مصعب بن عمير.

مسألة: تكفين المرأة

[مسألة: تكفين المرأة] وأما المرأة: فإنه يستحب أن تكفن في خمسة أثواب. قال القاضي أبو الفتوح: وكذلك الخنثى يستحب أن يكفن في خمسة أثواب، كالمرأة، وهل يستحب أن يكون أحدها درعا؟ فيه قولان: أحدهما: لا يستحب؛ لأنها ميتة، فلم يستحب في كفنها المخيط، كالرجل، ولأن الدرع إنما تحتاج إليه المرأة؛ لتستتر به في تصرفها، والميت لا يتصرف. فعلى هذا: تؤزر بإزار، وتخمر بخمار، وتدرج في ثلاثة أثواب. والثاني: يستحب أن يكون أحدها درعًا. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لما روي عن أم عطية: أنها قالت: «لما غسلنا ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان جالسًا على الباب يناولنا الأكفان واحدًا واحدًا، فناولنا إزارًا، ودرعًا، وخمارًا، وثوبين» ولأن أفضل حال الإنسان، إذا كان محرمًا، فلما كان للمرأة المحرمة لبس المخيط، فكذلك بعد الموت. فعلى هذا: تؤزر بإزار، وتلبس الدرع، وتخمر بخمار، وتدرج بثوبين. قال الشافعي: (ثم يشد على صدرها ثوب؛ ليجمع أثوابها) . فقال الشيخ أبو إسحاق: هذا ثوب سادس ليس من جملة الأكفان، فيحل عنها في القبر.

فرع: كراهة المعصفر للمرأة

وقال أبو العباس: هو من جملة الأكفان، ولكن يكون فوق اللفافة؛ لأن الشافعي لم يذكر أنه يحل. والأول أشبه بقول الشافعي؛ لأنه قال: (يجمع عليها الثياب) . وهذا يقتضي أن يكون أعلاها. [فرع: كراهة المعصفر للمرأة] ويكره أن تكفن المرأة في المعصفر والمزعفر. وقال أبو حنيفة: (لا يكره) . وبه قال بعض أصحابنا. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثياب البيض: «وكفنوا فيها موتاكم» . وهذا يعم الرجال والنساء. قال الصيمري: ولا يستحب أن يعد الرجل كفنه في حياته، لئلا يحاسب عليه. [مسألة: تكفين المحرم] إذا مات محرم ... لم ينقطع إحرامه بموته، فلا يلبس المخيط، ولا يخمر رأسه، ولا يقرب طيبًا في بدنه، ولا في ثيابه، ولا يجعل الكافور في الماء الذي يغسل به. هذا مذهبنا، وبه قال من الصحابة: عثمان، وعلي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ومن التابعين: عطاء، ومن الفقهاء: الثوري، وأحمد، وإسحاق. وذهبت طائفة إلى: أن بموته ينقطع حكم إحرامه، فيلبس المخيط، ويخمر رأسه، ويطيب. ذهب إليه من الصحابة: ابن عمر، وعائشة، ومن الفقهاء: الأوزاعي، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه. دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن رجلاً محرمًا خر من بعيره، فوقص، فمات،

فرع: تطييب المعتدة

فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما، ولا تخمروا رأسه، ولا تقربوه طيبًا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا» . وروي: "ملبدًا". فإن طيبه إنسان ... لم تجب الفدية على الذي طيبه؛ لأن الطيب في الإحرام يتعلق به حقان: حق لله، وحق للآدمي، فحق الآدمي: هو الانتفاع بالطيب، وحق الله: التحريم، والفدية تجب في مقابلة الانتفاع به، وإذا مات زال انتفاعه بالطيب، فسقطت الفدية، وحق الله لم يزل بموت المحرم، فلم يسقط التحريم. وهذا كما نقول في الجناية على الآدمي: يتعلق بها حقان: حق الله تعالى، وهو التحريم، وحق الآدمي، وهو القصاص، أو الأرش. فإذا مات إنسان، ثم جنى عليه إنسان ... لم يلزمه القصاص ولا الأرش؛ لزوال حقه بموته، وكان عليه الإثم، لحق الله تعالى. [فرع: تطييب المعتدة] وإن ماتت معتدة عن الوفاة ... فهل يسقط تحريم الطيب؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يسقط، كالمحرمة. والثاني: يسقط؛ لأن المعتدة إنما حرم عليها الطيب؛ لئلا يدعوها ذلك إلى النكاح، وذلك لا يوجد بعد الموت، فسقط التحريم. وبالله التوفيق

باب الصلاة على الميت

[باب الصلاة على الميت] الصلاة على الميت فرض على الكفاية، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» . وفرض الكفاية كفرض الأعيان في ابتداء الوجوب؛ لأن فرض الأعيان يجب على كل واحد بعينه، وفرض الكفاية أيضًا يجب على كل أحد علم بالميت إلا أنهما يختلفان في الفعل، ففرض الكفاية إذا قام به بعض الناس ... سقط الفرض عنهم وعن غيرهم، وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره. إذا ثبت هذا: ففي أدنى ما يسقط به فرض الصلاة على الميت قولان، حكاهما أصحابنا البغداديون. أحدهما: ثلاثة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلوا" خطاب للجمع، وأقل الجمع ثلاثة. والثاني: يسقط الفرض بواحد؛ لأنها صلاة لا تفتقر إلى الجماعة، فلم تفتقر إلى العدد، كسائر الصلوات. وقولنا: (لا تفتقر إلى الجماعة) احتراز من الجمعة، فإنها لا تصح فرادى، فلذلك اشترط العدد فيها. وأصحابنا الخراسانيون يحكون فيها ثلاثة أوجه: أحدها: ثلاثة. والثاني: واحد.

والثالث أربعة. وهل يسقط الفرض بصلاة النساء؟ فيه وجهان، قال صاحب " الإبانة " [ق \ 108] : لا يسقط الفرض بفعلهن، واختار القاضي أبو الفتوح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» . وهذا خطاب للذكور. فعلى هذا: إذا صلى عليه الخنثى المشكل ... لم يسقط الفرض. وقال صاحب " المجموع ": يسقط الفرض بفعلهن، كالغسل. وذكر الشيخ أبو حامد: أن الرجال إذا كانوا موجودين، فالفرض لا يتوجه على النساء، وهذا يدل من قوله: إذا عدم الرجال ... توجه الفرض عليهن. والسنة: أن تصلى في جماعة؛ لنقل الخلف عن السلف. ويستحب أن يكونوا ثلاثة صفوف؛ لما روي «عن مالك بن هبيرة: أنه كان إذا صلى على ميت، فتقال الناس، جزأهم ثلاثة صفوف، ثم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من صلى عليه ثلاثة صفوف ... فقد أوجب» .

مسألة: نعي الموتى

وروت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يموت من المسلمين ميت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة، فيشفعون له، إلا شفعوا له» . قال الشيخ أبو إسحاق: وإن اجتمع نسوة، ولا رجل معهن ... صلين على الميت فرادى؛ لأن النساء لا يسن لهن الجماعة في الصلاة على الميت، فإن صلين جماعة فلا بأس. [مسألة: نعي الموتى] ويكره نعي الميت، وهو: أن ينادى في الناس: إن فلانًا قد مات؛ ليشهدوا جنازته، وحكى الصيدلاني وجهًا آخر: أنه لا يكره؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعى النجاشي للناس» . وقال النخعي: لا بأس أن تعرف قرابة الميت. دليلنا: ما روى عبد الله بن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إياكم والنعي، فإنه من عمل الجاهلية» . قال عبد الله: والنعي: أذان بالميت.

مسألة: الأولى بالصلاة على الميت

وقال حذيفة: (إذا مت، فلا تؤذنوا بي أحدًا، فإني أخاف أن يكون نعيًا) . [مسألة: الأولى بالصلاة على الميت] ] : وأولى الناس بالصلاة على الميت: الأب، ثم الجد وإن علا، ثم الابن، ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الأخ ثم بنوه، ثم العم، ثم بنوه، ثم يقدم الأقرب فالأقرب. وقال مالك رحمة الله عليه: (يقدم الابن على الأب) ؛ لأنه أقوى تعصيبًا منه في الميراث. دليلنا: أن المقصود من الصلاة على الميت الدعاء له، والأب يساوي الابن في الإدلاء إلى الميت، ويزيد على الابن بأنه أحنى على الميت، وأكثر شفقة منه، فقدم؛ لأن دعاءه أرجى إجابة. [فرع: لا ولاية للزوج في التقدم] ولا ولاية للزوج في التقدم بالصلاة على زوجته. وقال الشعبي، وعطاء، وعمر بن عبد العزيز، وإسحاق رحمة الله عليهم: هو أولى من القريب. وروي ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

وقال أبو حنيفة: (لا ولاية له، إلا أنه يكره لابنه أن يتقدم عليه، فيقدم الزوج هاهنا) . دليلنا: أنه لا ولاية له، فلم يقدم على العصبات، كتزويج الزوج جارية زوجته. وما قاله أبو حنيفة يبطل بتقديم الأب مع الجد. وإن اجتمع أخ لأب وأم، وأخ لأب ... فمن أصحابنا من قال: فيهما قولان: أحدهما: أنهما سواء. والثاني: يقدم الأخ للأب والأم، كما قلنا فيهما إذا اجتمعا في ولاية النكاح، وتحمل العقل. ومنهم من قال: يقدم هاهنا الأخ للأب والأم، قولاً واحدًا، لأن للأم مدخلاً في الصلاة على الميت؛ لأنها تصلي عليه مأمومة ومنفردة، فقدم من يدلي بها، كما يقدم من يدلي بها في الميراث، حين كان لها مدخل في الميراث. وإن لم يكن من العصبة، ولا مدخل لها في ولاية النكاح، ولا في تحمل العقل، فإن قلنا: إنهما سواء ... فأولادهما سواء، وإن قلنا: يقدم ذو القرابتين قدم ابنه على ابن الآخر. وإن اجتمع عمان، أحدهما: يدلي بالأب والأم، والآخر: يدلي بالأب. فعلى الطريقين. وكذلك: إذا كان هناك ابنا عم، أحدهما: أخ لأم، فعلى الطريقين. وإن اجتمع أخوان، أحدهما: حر، والآخر: مملوك ... فالحر أولى. وإن كان هناك أخ هو عبد، وعم حر ... ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\107] : أحدهما: العبد أولى؛ لأنه أقرب.

فرع: اجتماع وليين في رتبة

والثاني - وهو المنصوص، ولم يذكر أصحابنا البغداديون غيره -: (أن العم أولى) ؛ لأنه أكمل. قال أصحابنا: وقد سها المزني في نقله، حيث قال: (والولي الحر أولى من الولي المملوك) ، وقالوا: لا يسمى المملوك وليًا، بل قد قال الشافعي في " الأم " [1/244] : (والولي الحر أولى من المملوك) . قال صاحب " الإبانة " [ق\107] : والقريب المملوك أولى من الأجنبي الحر؛ لأنه أرجى إجابة. [فرع: اجتماع وليين في رتبة] فإن اجتمع وليان في درجة واحدة ... ففيه وجهان: أحدهما: يقدم الأفقه، كما قلنا في الصلاة المفروضة. والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يقدم الأسن) ، والفرق بينهما: أن الحق في الصلاة المفروضة لله، فقدم الأفقه؛ لأنه أعرف بحق الله، والحق - هاهنا - للميت، فقدم الأسن؛ لأنه أرجى إجابة، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يستحيي أن يرد للشيخ دعوة» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من إجلال الله وكرمه إكرام ذي الشيبة المسلم» . فإن لم يكن الأسن محمود الطريقة ... قدم الأفقه، وكذلك إذا استويا في

السن ... قدم الأفقه؛ لأن له مزية بالفقه، فإن استويا في ذلك أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. وإن اجتمع الولي والوالي ... ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يقدم الوالي) . وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤم الرجل في سلطانه» . وروي: أن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما مات ... دفع الحسين بن علي في قفا سعيد بن العاص، وهو وال يومئذ بالمدينة، وقال: (تقدم، فلولا السنة ما قدمتك) . و [الثاني] : قال في الجديد: (الولي أولى) . وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] ، وهذا عام في الصلاة وغيرها، ولأنها ولاية مستحقة بالنسب، فقدم الولي فيها على الوالي، كولاية النكاح. وأما الخبر: فمحمول على صلاة الفرض.

فرع: وصى أن يصلي عليه رجل

وأما تقديم الحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فخاف إن منعه ذلك أن تكون فتنة، والسنة: إطفاء الشر، ويحتمل أن يكون الحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قد صلى عليه قبل ذلك. [فرع: وصى أن يصلي عليه رجل] إذا أوصى الميت أن يصلي عليه رجل ... لم يقدم على الأولياء. وقال أنس بن مالك، وزيد بن أرقم: (الوصي أولى) ، وهو قول أحمد، وإسحاق. وقال مالك: (إن كان الوصي ممن يرجى دعاؤه ... قدم على الولي) . دليلنا: أنها ولاية ترتبت فيها العصبات، فلم يقدم الوصي على العصبات، كولاية النكاح. فإن غاب الولي الأقرب، واستناب من يصلي ... فالذي استنابه أولى من القريب البعيد الحاضر. وقال أبو حنيفة: (القريب الحاضر أولى) . دليلنا: أن الغائب على ولايته، فكان من استنابه أولى من الولي البعيد الحاضر، كما لو كان الولي القريب حاضرًا، واستناب غيره. [فرع: يقدم المملوك والصبي على النساء] وإن كان ميت في فلاة، ومعه نساء ومملوك وصبي يعقل ... فالمملوك والصبي أولى منهن، والمملوك أولى من الصبي؛ لأن المملوك مكلف، فإن لم يكن إلا النساء صلين عليه فرادى، فإن صلين عليه جماعة ... قامت إمامتهن في وسطهن. وقال أبو حنيفة: (يصلين عليه جماعة) . دليلنا: أن النساء لم يسن لهن الصلاة على الجنازة ... فلم يشرع لهن الجماعة.

مسألة: شروط صلاة الجنازة

هكذا ذكر ابن الصباغ، وهذا يدل عليه من قوله: إن الفرض لا يسقط بصلاتهن. وقد مضى ذكر ذلك. [مسألة: شروط صلاة الجنازة] ومن شروط صحة صلاة الجنازة: الطهارة بالماء عند وجوده، أو التيمم عند عدمه، أو الخوف من استعماله، وهو قول كافة أهل العلم. وقال الشعبي، وابن جرير: الطهارة ليست من شرط صحة صلاة الجنازة، وبه قال الشيعة؛ لأن المقصود منها الدعاء. وقال أبو حنيفة: (إن خاف فوتها بالاشتغال بالطهارة بالماء ... تيمم لها مع وجود الماء) . وقد مضى الخلاف فيها لأبي حنيفة في التيمم. ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] الآية. [المائدة:6] . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة إلا بطهور» . ولم يفرق بين صلاة الجنازة وغيرها. ولأن صلاة الجنازة تفتقر إلى ستر العورة، والطهارة من النجاسة، واستقبال القبلة، فافتقرت إلى الطهارة عن الحدث، كسائر الصلوات. [مسألة: صلاة الجنازة في المسجد] لا تكره الصلاة على الجنازة في المسجد. وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (تكره) .

فرع: موقف الإمام في الجنازة

دليلنا: ما روي: «أن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أمرت بجنازة سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه أن تدخل المسجد، ليصلى عليها، فأنكر عليها ذلك، فقالت: (ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سهيل ابن بيضاء وأخيه إلا في المسجد» ولا تكره الصلاة على الميت في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها. وقال الأوزاعي: (تكره) . وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا تجوز في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها؛ لأجل الوقت، وتجوز في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها؛ لأجل الفعل) . وقد مضى ذكر ذلك. [فرع: موقف الإمام في الجنازة] ] : وفي مسنون موقف الإمام من الرجل وجهان: أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أن يقف عند رأسه.

والثاني - وهو قول أبي علي الطبري -: أنه عند صدره. وأما المرأة: فلا يختلف أصحابنا فيها، بل يقف الإمام عند عجيزتها، وكذلك الخنثى يقف عند عجيزته، كالمرأة. وقال أبو حنيفة: (يقف عند صدر الرجل والمرأة) . وقال مالك رحمة الله عليه: (يقف من الرجل عند وسطه، ومن المرأة عند منكبيها) . دليلنا: ما روى سمرة بن جندب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها» . «وروى أبو غالب: قال: (كنت في سكة المدينة، يعني: البصرة، فمرت جنازة معها ناس كثير، فقيل: هذه جنازة عبد الله بن عمير، فتبعتها، فإذا برجل عليه كساء رقيق، وعلى رأسه خرقة تقيه من الشمس، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما وضعت الجنازة ... قام أنس، فصلى عليها، وأنا خلفه، لا يحول بيني وبينه شيء، فقام عند رأسه، فكبر أربعًا، ثم ذهب، فقعد، فقالوا: يا أبا حمزة، المرأة الأنصارية، فأتي بها، وعليها نعش أخضر، فقام عند عجيزتها، وصلى عليها صلاته على الرجل، فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبر أربعًا، ويقوم عند رأس الرجل، وعند عجيزة المرأة؟ قال: نعم، فلما فرغ قال: احفظوا» . وذكر الترمذي: أن المرأة كانت من قريش.

مسألة: اجتماع جنائز

[مسألة: اجتماع جنائز] وإن اجتمع جنائز ... فالأولى أن يفرد كل جنازة بصلاة، فإن أراد الإمام أن يصلي على جميعها صلاة واحدة جاز؛ لأن القصد من ذلك الدعاء، وذلك يحصل بصلاة واحدة. فإن كانت الجنائز جنسًا: إما رجالاً، أو نساء ... ففي كيفية وضعها وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\107] : أحدهما: يوضع رأس كل واحد عند رجل الآخر. والثاني: يوضع كل واحد بجنب الآخر، كالصف، ويقدم إلى الإمام أفضلهم، وهذه طريقة أصحابنا البغداديين، وهو الصحيح.

وإن اجتمع جنازة رجل، وصبي، وخنثى، وامرأة: فإن الرجل يكون مما يلي الإمام، ثم الصبي بعده، ثم الخنثى، ثم المرأة مما يلي القبلة. وقال القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب: يكون الرجل مما يلي القبلة، والمرأة مما يلي الإمام؛ لأن أشرف المواضع ما يلي القبلة، فخص الرجل بها، كما إذا دفنا معًا في اللحد. دليلنا: ما روي عن عمار بن أبي عمار: أنه قال: (لما ماتت أم كثلوم بنت علي بن أبي طالب، وابنها زيد بن عمر بن الخطاب، فصلى عليهما سعيد بن زيد، فجعل زيدًا مما يليه، وأمه مما يلي القبلة، وفي القوم الحسن، والحسين، وابن عباس، وأبو هريرة، حتى عد ثمانين من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: هكذا السنة) . وروي: (أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما صلى على تسع جنائز، رجالاً ونساء، فجعل الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القبلة) . ولأن الرجال يلون الإمام في جميع الصلوات، فكذلك هاهنا، ويخالف اللحد؛ لأنه ليس ثم إمام، فاعتبرت القبلة، وهاهنا إمام، فاعتبر القرب منه.

فرع: اختلاف أولياء الموتى

[فرع: اختلاف أولياء الموتى] وإن اختلف أولياؤهم فيمن يوضع للصلاة أولاً؟ فإن كان الأموات رجالاً أو نساء ... قدم السابق؛ لأن له مزية السبق. وإن كان رجلاً وامرأة ... قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (قدم الرجل، سواء كانت المرأة سابقة أو مسبوقة؛ لأن سنة موقف المرأة أن تكون خلف الرجل) . وإن كان رجلا وصبيًا: فإن كان الرجل هو السابق ... قدم إلى الإمام، وإن كانت جنازة الصبي سابقة، قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لم أؤخره؛ لأن له حق السبق، وقد يقف مع الرجل في الموقف، بخلاف المرأة مع الرجل) . [مسألة: صلاة الجنازة قائمًا] إذا أراد الصلاة على الميت ... قام، فإن صلى عليه قاعدًا مع القدرة على القيام لم تصح. وقال أبو حنيفة: (يصح) . دليلنا: أنها صلاة مفروضة، فوجب فيها القيام مع القدرة عليه، كسائر الصلوات المفروضة. ويجب أن ينوي الصلاة المفروضة، ويجب أن ينوي الصلاة على الميت؛ لأنها صلاة، فوجبت لها النية، كسائر الصلوات، ولا يفتقر أن ينوي أن الميت رجل أو امرأة. فإن نوى أن يصلي على هذا الرجل الميت، فبان الميت امرأة، أو نوى أن يصلي على المرأة، فبان رجلاً ... قال المسعودي [في " الإبانة " ق\108] : لم يجزه. ولا يجوز أن ينوي بها سنة؛ لأنها لا يتنفل بمثلها؛ ولأنها تتعين بالدخول فيها. وهل يلزمه أن ينوي أنها فريضة؟ قال الصيدلاني: فيه وجهان، كما قلنا في سائر الصلوات المفروضة.

فرع: التكبير على الجنازة أربعا

[فرع: التكبير على الجنازة أربعًا] ويكبر أربعًا، وبه قال عمر، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعقبة بن عامر، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وداود رحمة الله عليهم. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (يكبر ثلاث تكبيرات) . وبه قال ابن سيرين، وجابر بن زيد رحمة الله عليهما. و: (كان علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه يكبر على من كان بدريًا ست تكبيرات، وعلى غيره من الصحابة خمس تكبيرات، وعلى غير الصحابة أربع تكبيرات) . وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجنائز، تسعًا، وسبعًا، وخمسًا، وأربعًا، فكبروا ما كبر الإمام» . وقال زيد بن أرقم، وحذيفة بن اليمان: (يكبر خمسًا) ، وإليه ذهبت الشيعة. دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعى النجاشي لأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم، وكبر أربعًا» .

وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن آخر ما كان كبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجنازة أربعًا» وكذلك حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي مضى ذكره. وروى أبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الملائكة صلت على آدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكبرت عليه أربعًا، وقالت: هذه سنتكم يا بني آدم» . فإن كبر خمسًا عامدًا ... فقد ذكر في " الإبانة " [ق\108] وجهين: أحدهما: تبطل صلاته، كما قلنا: لو زاد في الصلاة ركعة عامدًا. والثاني: لا تبطل؛ لأنه زاد ذكرًا، وهذا هو الصحيح.

مسألة: قراءة الفاتحة

ويستحب أن يرفع يديه حذو منكبيه في كل تكبيرة. وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يرفع يديه، إلا في الأولى) . دليلنا: ما روي عن ابن عمر، وأنس: (أنهما كانا يفعلان ذلك في التكبيرات كلها) . ولأنها تكبيرة في صلاة الجنازة ... فسن فيها رفع اليدين كالأولى. [مسألة: قراءة الفاتحة] ] : ثم يقرأ بعد التكبيرة الأولى فاتحة الكتاب، وهي واجبة، وبه قال أحمد رحمة الله عليه، وإسحاق، وداود. وروي ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وقال مالك، وأبو حنيفة، والثوري: (لا يقرأ فيها شيئًا من القرآن) . وقال مالك: (أكره القراءة، وإنما يأتي بعد الأولى بالتحميد) . دليلنا: ما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر على الميت أربعًا، وقرأ بعد التكبيرة الأولى بأم القرآن» . ولأنها صلاة يجب فيها القيام فوجب فيها القراءة، كسائر الصلوات. وهل يسن دعاء التوجه والتعوذ قبلها والسورة بعدها؟ فيه وجهان:

مسألة: ما يقال عقب التكبيرة الثانية

[الأول] : قال عامة أصحابنا: لا يسن شيء من ذلك؛ لأنها مبنية على الحذف والإيجاز. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يسن ذلك كله، كما يسن في غيرها من الصلوات. وهل يسن الجهر بالقراءة فيها؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال عامة أصحابنا: لا يسن ذلك، سواء صلاها ليلاً أو نهارًا؛ لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه جهر بالقراءة فيها، وقال: (إني لم أجهر فيها؛ لأن الجهر مسنون فيها، ولكن أحببت أن تعلموا أن لها قراءة واجبة) . و [الثاني] : قال الداركي: يجهر فيها، إن صلى بالليل، كالمغرب والعشاء. وليس بشيء. [مسألة: ما يقال عقب التكبيرة الثانية] فإذا كبر الثانية ... صلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو واجب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لمن لم يصل على نبيه»

مسألة: الدعاء للميت بعد الثالثة

قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع. قال الشافعي: (ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ولا يجب، وإنما يستحب) ؛ لأن في سائر الصلوات يدعو للمؤمنين والمؤمنات بعد الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ونقل المزني: (أنه إذا كبر الثانية ... حمد الله، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . قال أصحابنا: وهذا لا يعرف للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولأن هذا ليس بموضع حمد. [مسألة: الدعاء للميت بعد الثالثة] ثم يكبر الثالثة، ويدعو للميت، وذلك واجب؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا صليتم على موتاكم ... فأخلصوا لهم بالدعاء» . ولأن القصد من الصلاة عليه الدعاء له، فلا ينبغي الإخلال به. وأما صفة الدعاء: فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدعية مختلفة، إلا أن أكثر ما نقل عنه: أنه كان يقول: «اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا ... فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام ".

وزاد ابن الصباغ في أوله، وهو: اللهم اغفر لأولنا وآخرنا، وفي آخره: فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده» قال: وعليه أكثر أهل خراسان. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا وقف فيه، فأي دعاء دعا فيه ... أجزأه) . واختار - رَحِمَهُ اللَّهُ - دعاء ذكره في " الأم " [1/240] : (اللهم هذا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمدًا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم، إن كان محسنًا فزد في إحسانه، وارفع درجته، وقه عذاب القبر، وهول يوم القيامة، وابعثه من الآمنين، وإن كان مسيئًا ... فتجاوز عن سيئاته، وبلغه بمغفرتك وطولك درجات المحسنين، اللهم إنه قد فارق ما كان يحب من سعة الدنيا وأهلها وغيره، وصار إلى ظلمة القبر وضيقه، وجئناك شفعاء له، نرجو له مغفرتك، اللهم إنه فقير إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه) . ونقل المزني عنه [في " المختصر " (1/183) دعاء أطول منه، وهو: (اللهم هذا عبدك، وابن عبدك، خرج من روح الدنيا وسعتها، ومحبوبه وأحباؤه فيها، إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وأن محمدًا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم نزل بك، وأنت خير منزول به، وأصبح فقيرًا إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له، اللهم إن كان محسنًا ... فزد في إحسانه، وإن كان مسيئًا فتجاوز عنه، ولقه برحمتك رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وافسح له في قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الأمن من

مسألة: الدعاء بعد الرابعة

عذابك حتى تبعثه إلى جنتك، يا أرحم الراحمين) . ومعنى قولنا: (كان يشهد أن لا إله إلا أنت) ، أي: إنما دعوناك له؛ لأنه كان يشهد. وإن كان الميت صغيرًا ... قال في موضع الدعاء له: اللهم اجعله فرطًا وذخرًا وأجرًا، ويدعو لأبويه، فيقول: اللهم اجعله لهما سلفًا وذخرًا، وفرطًا وغبطة واعتبارًا. [مسألة: الدعاء بعد الرابعة] فإذا كبر الرابعة ... فروى المزني: (إنه يسلم) . وذكر الشافعي في موضع آخر: (أنه إذا كبر الرابعة، قال: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده) . قال أصحابنا: وليست على قولين، ولا اختلاف حالين، وإنما ذكره في موضع، وأغفله في آخر، وليس بواجب. ثم يسلم، وذلك واجب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مفتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» . وهل يسن تسليمتان، أو تسليمة واحدة؟ فيه قولان، كسائر الصلوات.

مسألة: من سبق ببعض التكبيرات في صلاة الجنازة

[مسألة: من سبق ببعض التكبيرات في صلاة الجنازة] مسألة: [من سبق ببعض التكبيرات] : فإن فاته الإمام ببعض التكبيرات ... فإنه يكبر، ولا ينتظر تكبيرة الإمام. وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يكبر، بل ينتظر تكبيرة الإمام، فيكبر معه) . دليلنا: أنه مدرك للإمام، فدخل معه، كسائر الصلوات. إذا ثبت هذا: وأدرك المأموم الإمام في القراءة ... فإنه يكبر، ويقرأ، فإذا كبر الإمام الثانية، فإن كان المأموم قد فرغ من القراءة كبر الثانية، وإن لم يفرغ من القراءة ... فهل يقطع القراءة ويكبر، أو يتم القراءة؟ فيه وجهان: كالمسبوق إذا ركع الإمام قبل إتمام القراءة. فإذا قلنا: يقطع القراءة ويكبر ... فهل يتم القراءة بعد التكبيرة الثانية؟ فيها وجهان، خرجهما ابن الصباغ: أحدهما: يتم القراءة؛ لأن محلها القيام، وهو باق. والثاني: لا يتمها؛ لأن محلها ما قبل التكبيرة الثانية. فإن أدركه بعد التكبيرة الثانية ... فإنه يكبر، ويقرأ ما يقتضيه ترتيب صلاته، لا ما يقتضيه ترتيب صلاة الإمام. فإذا سلم الإمام، وقد بقي عليه شيء من التكبيرات ... أتى بهن. وقال الأوزاعي: (لا يأتي بهن) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا» . وهل يجب عليه أن يأتي بالذكر بين التكبيرات؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه أن يأتي به؛ لأن الميت يرفع.

مسألة: تعجيل الدفن

والثاني: يجب عليه أن يأتي به، كما لو كان الميت غائبًا. [مسألة: تعجيل الدفن] ] : إذا صلي على الميت ... بودر إلى دفنه، ولا يوضع لمن أراد أن يصلي عليه ثانيًا، إلا أن يكون وليه لم يصل عليه، فجاء ليصلي، فإن لم يخش تغير الميت فلا بأس أن يوضع ليصلي عليه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن صلى عليه بعض الأولياء والناس، ثم جاء ولي آخر كان غائبًا، فأراد الصلاة عليه ... لم توضع له الجنازة، فإن وضعت له رجوت أن لا يكون به بأس، ومن فاتته الصلاة ... صلى على القبر) . وإليه ذهب ابن سيرين، وأحمد رحمة الله عليهما. وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا تجوز الصلاة على القبر، إلا أن يكون الميت قد دفن بغير صلاة، فيجوز أن يصلى على القبر إلى ثلاثة أيام، وبعد الثلاث: لا يجوز، وإن صلي عليه ... لم يصل على القبر إلا الولي، أو الوالي، أو إمام الحي) . دليلنا: ما روي: «أن امرأة مسكينة مرضت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا ماتت ... فآذنوني"، فماتت ليلاً، فدفنوها، ولم يوقظوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما أصبح أخبر بذلك، فقال: "آلا آذنتموني؟ "، فقالوا: كرهنا أن نوقظك، فخرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قبرها، ووقف بالناس، وصلى عليها، وكبر أربعًا» .

فإن قالوا: فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الإمام. قلنا: قد أجاز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاتهم عليها. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة، وقد مات البراء بن معرور وكان قد أوصى له، فقبل وصيته، وصلى على قبره بعد شهر» . إذا ثبت هذا: فإلى أي وقت تجوز الصلاة على القبر؟ فيه أربعة أوجه: أحدها: إلى شهر، وبه قال أحمد رحمة الله عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر البراء بن معرور، وعلى أم سعد بن عبادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بعدما دفنا بشهر، ولم ينقل أكثر منه. والثاني: ما لم يبل جسده ويذهب؛ لأنه إذا كان باقيًا ... فهو بمنزلة حال الموت. والثالث: يصلي عليه من كان من أهل فرض الصلاة عليه؛ لأنه من أهل الخطاب بالصلاة عليه، فأما من ولد أو بلغ بعد موته: فلا يصلي عليه؛ لأنه لم يكن من أهل الخطاب بالصلاة عليه.

والرابع: أن يصلى عليه أبدًا؛ لأن القصد منها الدعاء له، وذلك يوجد بعد طول المدة. فأما الصلاة على قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فلا تجوز على الأوجه الثلاثة الأولى؛ لأنه قد مضى أكثر من شهر، ولأنا لا نعلم بقاءه في القبر؛ لأن الأنبياء يرفعون من قبورهم، ولأنا لم نكن من أهل الخطاب بالصلاة عليه عند موته. وأما على الوجه الرابع: فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: تجوز الصلاة عليه. ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، قال: وكذلك لو صلى على قبر آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ... جاز ذلك، كما يجوز ذلك في حق سائر الموتى. ومنهم من قال: لا يجوز. حكاه ابن الصباغ وغيره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتخذوا قبري مسجدًا» . وروي: «لا تتخذوا قبري وثنًا، فإنما هلك بنو إسرائيل؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . وهل يستحب لمن صلى على الميت أن يعيد الصلاة عليه مع من لم يصل عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: يستحب، كما قلنا في سائر الصلوات. والثاني: لا يستحب؛ لأن صلاته الثانية نفل، وصلاة الجنازة لا يتنفل بمثلها.

مسألة: الصلاة على الغائب

[مسألة: الصلاة على الغائب] وتجوز الصلاة على الميت الغائب عن البلد، فيتوجه المصلي إلى القبلة، ويصلي عليه بالنية، سواء كان الميت في جهة القبلة أو لم يكن، وبه قال أحمد بن حنبل رحمة الله عليه. وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا تجوز الصلاة على الغائب) . دليلنا ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعى النجاشي لأصحابه يوم مات، وخرج بهم إلى المصلى، وصف بهم، وكبر أربعًا» . هذا إذا كان الميت في بلد أخرى، أو قرية أخرى، وبينهما مسافة، سواء كان ما بينهما قريبًا أو بعيدًا. فإن كان الميت في طرف البلد ... لم يجز أن يصلي عليه حتى يحضر عنده؛ لأنه يمكنه ذلك. وإن كان بحضرة الجنازة، فتقدم عليها، وصلى، وهي خلفه ظهره ... ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\107] : أحدهما: يجوز، كما لو كان الميت غائبًا. والثاني: لا يجوز؛ لأن الأصول فرقت بين حال الضرورة والإمكان، وهاهنا: أمكنه أن تكون الجنازة أمامه. [مسألة: وجود جزء من الميت] إذا وجد بعض الميت ... فإنه يجب غسله والصلاة عليه، سواء وجد أكثر البدن أو أقله، حتى لو وجد منه أصبع بعد أن علم أنه انفصل من ميت، وبه قال أحمد

رحمة الله عليه، وإن وجد منه الظفر أو الشعر ... ففيه وجهان: أحدهما: يغسل، ويصلى عليه، كسائر أعضائه. والثاني: لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ لأن ذلك يوجد منه في حال الحياة. وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (إن وجد أكثر البدن ... صلي عليه، وإن وجد الأقل لا يغسل، ولا يصلى عليه) . دليلنا: ما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه صلى على عظام بالشام) . و: (صلى أبو عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه على رؤوس من المسلمين) . و: (صلت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، ألقاها طائر بمكة من وقعة الجمل، فعرفوها بخاتم) . ولأنه بعض من البدن لا يزال منه في حال السلامة، انفصل من البدن بعد وجوب الصلاة على الجملة، فصلي عليها، كما لو كان أكثر البدن. وفيه: احتراز من الظفر والشعر، ومن العضو المقطوع في حال الحياة.

مسألة: الصلاة على السقط

[مسألة: الصلاة على السقط] إذا استهل السقط صارخًا، أو تحرك ثم مات ... فإنه يغسل، ويصلى عليه. وقال سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يصلى عليه حتى يبلغ. وقال بعض الناس: إن كان قد صلى ... صُلي عليه، وإلا فلا. دليلنا: ما روى جابر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استهل السقط ... صلي عليه» . وروى المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي على المولود، ويدعو لوالديه بالمغفرة والرحمة» . وإن لم يستهل ... نظرت: فإن كان قد نفخ فيه الروح بأن يولد لأربعة أشهر فما زاد ... فهل تجب الصلاة عليه؟ فيه قولان: أحدهما: تجب الصلاة عليه؛ لأنه قد نفخ فيه الروح، بدليل: ما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يمكث أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا

نطفة، ثم أربعين يومًا علقة، ثم أربعين يومًا مضغة، ثم ينفخ فيه الروح، ويأتيه ملكان، فيقال لهما: اكتبا رزقه، وعمله، وأجله شقيًا أو سعيد» . وإذا ثبت: أنه نفخ فيه الروح ... صلي عليه. فعلى هذا: يجب غسله. والثاني: لا تجب الصلاة عليه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما، وهو الصحيح، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استهل السقط ... صلي عليه» ، فدليل خطابه: أنه إذا لم يستهل لا يصلى عليه. فعلى هذا: هل يجب غسله؟ ذكر الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ، والمحاملي فيه قولين: أحدهما: لا يغسل؛ لأن من لا يصلى عليه لا يغسل، كالشهيد. والثاني: يغسل؛ لأن الغسل آكد من الصلاة، بدليل: أن الكافر يغسل، ولا يصلى عليه. وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وسلم في " الفروع ": أنه يجب غسله، قولاً واحدًا، وقالا: وإنما القولان في وجوب غسله، إذا وضعته لدون أربعة أشهر، وقد بان فيه شيء من خلق الآدمي ... فإنه يجب كفنه، قولاً واحدًا، وفي وجوب غسله قولان. والطريقة الأولى أشهر.

مسألة: لا يصلى على الكافر

[مسألة: لا يصلى على الكافر] إذا مات كافر ... لم تجز الصلاة عليه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] [التوبة: 84] . ولأن الصلاة للرحمة، والكافر لا يرحم. ويجوز غسله وكفنه ودفنه؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه في موت أبيه، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى قميصه؛ ليكفن فيه عبد الله بن أبي، ابن سلول، وكان منافقًا، وقال: " إنه لا يعذب ما بقي عليه منه سلكة "، يعني: خيطًا. فإن اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار، ولم يتميزوا ... فإنه يصلي على واحد واحد، وينوي الصلاة عليه إن كان مسلمًا، سواء كان المسلمون أكثر أو أقل، وبه قال

مسألة: لا يصلى على الشهيد

مالك، وأحمد رحمة الله عليهما، وكذلك إذا صلى صلاة واحدة، ونوى بها الصلاة على المسلمين منهم ... صح. وقال أبو حنيفة: (إن كان المسلمون أكثر ... صلى عليهم - كما قلنا - وإن كانوا أقل من المشركين لم يصل عليهم) . دليلنا: أنه اختلط من يصلى عليه بمن لا يصلى عليه، ولم يتميزوا، فوجبت الصلاة بالقصد، كما لو كان المسلمون أكثر. [مسألة: لا يصلى على الشهيد] المقتول من المسلمين في معركة الكفار لا يغسل، ولا يصلى عليه، وكذلك من مات من المسلمين هناك بسبب من أسباب القتال، بأن وقع من دابته، أو من جبل، أو رجع عليه سلاحه، أو رفسته دابة، فمات ... فهو شهيد، وحكمه حكمه، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم. وقال الثوري، وأبو حنيفة: (لا يغسل الشهيد، وإنما يصلى عليه) . واختاره المزني. وقال الحسن وسعيد بن المسيب: يغسل، ويصلى عليه. دليلنا: ما روى جابر، وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه «قتل من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يوم أحد اثنان وسبعون قتيلاً، فـ: (أمر بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تنزع عنهم الجلود والفرى، وأن يدفنوا بثيابهم ودمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم»

إذا ثبت هذا: فإنه ينزع عنه ما لم يكن من عامة لباس الناس، مثل: الجلود، والفرى، والخفاف، ووليه بالخيار: بين أن ينزع ثيابه التي قتل فيها، ويكفنه بغيرها، وبين أن يدفنه بثيابه التي قتل فيها. وقال مالك رحمة الله عليه: (لا ينزع عنهم الخفاف والجلود والفرى) . وقال أبو حنيفة: (ليس لوليه نزع تلك الثياب، بل يدفن بها) . دليلنا على مالك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمر أن ينزع عن قتلى أحد الحديد والجلود» . وعلى أبي حنيفة: ما روي: «أن صفية أرسلت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثوبين؛ ليكفن بهما حمزة بن عبد المطلب، فكفنه بأحدهما، وكفن بالآخر رجلا آخر» . فدل على جواز ذلك.

فرع: جرح في الحرب ثم مات بعد انقضائها

[فرع: جرح في الحرب ثم مات بعد انقضائها] فإن جرح في الحرب، فمات بعد انقضاء الحرب ... فالمشهور من المذهب: أن حكمه حكم الموتى يغسل ويصلى عليه. وحكى في " الإبانة " [ق\109] قولاً آخر: أن حكمه حكم الشهيد. وقال أبو حنيفة: (إن أكل، أو شرب، أو أوصى ... لم يثبت له حكم الشهادة، وإن مات قبل ذلك ثبت له حكم الشهادة) . وقال مالك: (إن أكل، أو شرب، أو بقي يومين أو ثلاثة ... فحكمه حكم الموتى، وإن لم يأكل، ولم يشرب، ولم يبق فحكمه حكم الشهيد) . دليلنا: أنه مات بعد انقضاء الحرب، فهو كما لو أكل، أو شرب، أو بقي ثلاثًا. [فرع: المقتول خارج الصف] إذا انكشف الصف عن مقتول من المسلمين ... فإنه لا يغسل، ولا يصلى عليه، سواء كان به أثر أو لم يكن. وقال أبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما: (إن لم يكن به أثر ... غسل، وصلي عليه) . وقال أبو حنيفة: (إن كان به دم يخرج من عينه أو أذنه ... لم يغسل، وإن كان يخرج من أنفه أو ذكره أو دبره غسل) . دليلنا: أن الظاهر أنه مقتول بسبب الحرب، فلم يغسل، ولم يصل عليه، كما لو كان به أثر.

فرع: الصغير يقتل في المعركة

[فرع: الصغير يقتل في المعركة] وإن كان المقتول صغيرًا ... ثبت له حكم الشهداء. وقال أبو حنيفة: (لا يثبت حكم الشهادة لغير البالغ) . دليلنا: أنه مسلم قتل في معركة الكفار، بقتالهم، فهو كالبالغ. [فرع: الشهيد الجنب] وإن كان الشهيد جنبًا ... فاختلف أصحابنا فيه: فقال أكثرهم: لا يغسل. وقال أبو العباس، وأبو علي بن أبي هريرة: يغسل. وهو قول أحمد رحمة الله عليه. وقال أبو حنيفة: (يغسل، ويصلى عليه) . والدليل على وجوب غسله: ما روي: «أن حنظلة بن الراهب قتل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهله: "ما شأن حنظلة؟ فإني رأيت الملائكة تغسله"، فقالوا: إنه كان جنبًا، فسمع هيعة، فخرج إلى القتال، فقتل» . والأول أصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قتلى أحد: «زملوهم بكلومهم ودمائهم، فإنه ليس أحد يكلم في الله، إلا وهو يأتي يوم القيامة بدم، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك» . وهذا عام في الجنب وغيره.

مسألة: قتل أهل البغي عدلا

وأما حديث حنظلة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فلا حجة فيه؛ لأن غسله لو كان واجبًا ... لما سقط الفرض بغسل الملائكة. وإن كان على الشهيد نجاسة قبل القتال ... فهل يجب غسلها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب غسلها؛ لأنه غسل واجب، فسقط بالشهادة، كغسل الموت. والثاني: يجب غسلها؛ لأن هذا غسل وجب بغير الموت، فلم يسقط بالشهادة، بخلاف غسل الموت. [مسألة: قتل أهل البغي عدلاً] ً] : إذا قتل أهل البغي رجلاً من أهل العدل ... فهل يجب غسله والصلاة عليه؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب؛ لما روي: (أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه لم يغسل أحدًا ممن قتل معه) ، و: (أوصى عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ألا يغسل) ؛ لأنه يذب عن الدين، فهو كالمقتول في معترك الكفار. والثاني: يجب غسله، والصلاة عليه، لما روي: (أن أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه غسلت عبد الله بن الزبير) . ولم ينكر ذلك منكر. ولأنه مقتول في غير معركة الكفار، فهو كمن قتل غيلة في المصر.

ومن قتله قطاع الطريق من أهل المصر أو القافلة ... فهل يجب غسله والصلاة عليه؟ فيه وجهان، بناءً على القولين فيمن قتله أهل البغي من أهل العدل؟ وأما من قتله اللصوص من أهل القافلة: فاختلف أصحابنا فيه: فقال ابن الصباغ: فيه وجهان، كمن قتله قطاع الطريق. وقال الشيخ أبو إسحاق: يجب غسله، والصلاة عليه، وجهًا واحدًا، هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (من قتل ظلمًا بحديدة ... فإنه لا يغسل، وإن قتل بمثقل غسل) . دليلنا: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قتل بحديدة ظلمًا، فغسل، وصلي عليه) فدل على: إنه إجماع بين الصحابة. ومن قتل قصاصًا، أو رجم بالزنا ... فوجب غسله، والصلاة عليه. وقال الزهري: (المرجوم لا يصلى عليه) . وقال مالك رحمة الله عليه: (لا يصلي عليه الإمام الأعظم، ويصلي عليه غيره) . دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم الغامدية، وصلى عليها» . وإن قتل أهل العدل رجلاً من أهل البغي ... وجب غسله، والصلاة عليه. وقال أبو حنيفة: (لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ عقوبة له) . دليلنا: أنه مسلم قتل في غير معركة الكفار، فهو كما لو قتل غيلة.

مسألة: الصلاة على ولد الزنا

[مسألة: الصلاة على ولد الزنا] ولد الزنا إذا مات ... وجب غسله، والصلاة عليه. وقال قتادة: لا يغسل، ولا يصلى عليه. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» ، ولأنه مسلم مات في غير حرب الكفار ... فوجب غسله والصلاة عليه، كثابت النسب. [مسألة: الصلاة على النفساء] والنفساء إذا ماتت ... وجب غسلها والصلاة عليها. وقال الحسن: لا يصلى عليها. دليلنا: ما ذكرناه في ولد الزنا. وإن قتل نفسه، أو مات الغال من الغنيمة ... وجب غسلهما والصلاة عليهما. وقال أحمد رحمة الله عليه: (لا يصلي عليهما الإمام) . وقال الأوزاعي: (من قتل نفسه ... لا يغسل، ولا يصلى عليه) . دليلنا: ما ذكرناه في ولد الزنا. وقال الشيخ أبو حامد: وأما سائر الشهداء، مثل: من مات بحريق، أو غرق، أو بطن، أو تحت الهدم، وما أشبه ذلك ... فإنهم يغسلون، ويصلى عليهم، بلا خلاف؛ لعموم الخبر، ولأنه مسلم مات في غير معترك الكفار فوجب غسله، والصلاة عليه، كما لو مات بغير هذه الأمراض. وبالله التوفيق

باب حمل الجنازة والدفن

[باب حمل الجنازة والدفن] الحمل - بفتح الحاء -: المصدر، وما كان غير منفصل، كحمل البطن، وحمل الشجرة، وبكسر الحاء: ما كان بائنًا، كالحمل على الظهر وغيره. والجنازة - بكسر الجيم -: السرير، وبفتحها: الميت. قال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: الأفضل إذا أراد حمل الجنازة أن يجمع في الحمل بين العمودين والتربيع، وإذا أراد الاقتصار على أحدهما ... فالحمل بين العمودين أفضل. وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب "، وابن الصباغ في " الشامل ": أن الحمل بين العمودين أفضل. وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهم: (أن التربيع أفضل) . وقال النخعي، والحسن: (يكره الحمل بين العمودين) . وقال مالك رحمة الله عليه: (هما سواء) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين» . وروي ذلك عن عثمان، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم. إذا ثبت هذا: فكيفية الحمل بين العمودين، وهو أن يحمل النعش ثلاثة: واحد

من مقدم النعش، فيضع كل عمود على كتف ورأسه بينهما، ومن المؤخر اثنان، لا يتأتى غير ذلك. وأما التربيع: فيستحب لكل من أراد أن يحمل الجنازة أن يأخذ بجوانبها الأربعة، فيبدأ بياسرة المقدمة، فيضع العمود على عاتقه الأيمن، ثم بياسرة المؤخرة، فيضعها على عاتقه الأيمن، ثم يرجع إلى يامنة المقدمة، فيضعها على عاتقه الأيسر، ثم يامنة المؤخرة، فيضعها على عاتقه الأيسر. وقال سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يبدأ، فيأخذ بياسرة المقدمة، ثم بياسرة المؤخرة، كما قلنا، ثم يأخذ بيامنة المؤخرة، ثم بيامنة المقدمة. وهذا ليس بصحيح، بل الأولى أن يبدأ بالمقدم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدؤوا بميامنكم» . ويحمل على سرير أو لوح أو خشب، فإن خيف عليه الانفجار قبل أن يهيأ له ما يحمل عليه ... فلا بأس بحمله على الأيدي والرقاب، فإن ثقل فلا بأس أن يحمل في جنبي السرير من يخففه على الحاملين، وإن أدخلوا عمودًا آخر، ليكونوا ستة أو ثمانية ... لم يكن في ذلك بأس، وإن كان الميت امرأة اتخذ لها خيمة تسترها؛ لما روي: (أن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: إني لضئيلة، فإذا مت ... فلا يراني الناس) ، يعني: أنها مهزولة. فلما ماتت قالت أم سلمة، أو أسماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (إني رأيت في أرض الحبشة يعمل للنساء نعش يحملن فيه، عليه خيمة، فاتخذت لها نعشًا عليه خيمة، فكانت أول من حمل بنعش عليه خيمة فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) .

ويستحب الإسراع بالمشي في الجنازة. قال أصحابنا: وهو إجماع. والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسرعوا بالجنازة، فإن تكن صالحة ... فخير تقدمونها إليه، وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» . ولا يبلغ به الخبب، وإنما يزيد فوق سجية مشي العادة، بحيث لا يشق على ضعفاء الناس معها. وقال أبو حنيفة: (يبلغ به الخبب) . دليلنا: ما روي عن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال: «سألنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المشي بالجنازة، فقال: "دون الخبب، فإن يكن خيرًا ... قدمتموها إليه، وإن يكن شرًا فبعدًا لأصحاب النار» . فإن خيف الانفجار، إذا كان المشي فوق سجية المشي ... مشوا به أسرع من ذلك. فإن خيف الانفجار من الإسراع فإنه يمشي به على سجية المشي. ويستحب اتباع الجنازة؛ لما روي عن البراء بن عازب: أنه قال: «أمرنا

مسألة: المشي أمام الجنازة

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باتباع الجنازة، وعيادة المريض، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، ونصرة المظلوم» . ويكره له الركوب في الذهاب مع الجنازة من غير عذر؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ركب في عيد ولا جنازة» . وروي عن ثوبان: أنه قال: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جنازة، فرأى ناسًا ركبانًا، فقال: "ألا تستحيون؟! إن ملائكة الله يمشون على أقدامهم، وأنتم على ظهور الدواب» . فإن كان عاجزًا عن المشي ... لم يكره له الركوب في الذهاب؛ لأن ذلك عذر. وإن ركب في الانصراف ... لم يكره؛ لما روي عن جابر بن سمرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتبع جنازة أبي الدحداح ماشيًا، ورجع على فرس» ، ولأنه غير قاصد إلى قربة. [مسألة: المشي أمام الجنازة] والمشي أمام الجنازة أفضل للماشي والراكب، وبه قال الزهري، ومالك، وأحمد رحمة الله عليهم، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وابن عمر، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.

وقال أبو حنيفة: (المشي خلف الجنازة أفضل) . وبه قال الأوزاعي. وقال الثوري: (الراكب خلفها، والماشي أمامها) . دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبا بكر، وعمر، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يمشون أمام الجنازة» ، ويقولون: هو أفضل؛ لأنهم شفعاء الميت ... فاستحب أن يتقدموا عليه. ويستحب أن يمشي قريبًا منها؛ لأنه إذا بعد منها ... لم يكن معها، فإن سبق إلى المقبرة لم يجب عليه القيام، بل هو بالخيار إن شاء ... قام، وإن شاء قعد. وحكي عن أبي مسعود البدري، وجماعة معه: أنهم قالوا: (يجب القيام لها) . وقال أبو حنيفة، وأحمد: (يكره له الجلوس حتى يوضع في اللحد) . دليلنا: ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أنه قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقوم للجنازة، ثم أمرنا بالجلوس» .

وروى الحسن، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن جنازة اليهودي مرت بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها رائحة، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرائحتها حتى جازت، ثم قعد» . فرؤي: أنه قام لذلك. وقيل أيضًا: إنه قام، لكي لا تعلوه جنازة المشرك. وروى عبادة بن الصامت، قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان في جنازة ... لم يجلس حتى توضع في اللحد، فاعترض بعض اليهود، وقال: إنا لنفعل ذلك، فجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: "خالفوهم» . ولا يكره للمسلم اتباع جنازة قريبه الكافر؛ لما روي: «أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه لما مات أبوه ... أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إن عمك الضال قد مات، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اذهب فواره»

فرع: لا تتبع الجنائز بنار ولا نائحة

[فرع: لا تتبع الجنائز بنار ولا نائحة] ولا تتبع الجنازة بنار ولا نائحة. والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتبع الجنازة بنار ولا صوت» ، يعني: نوحًا. وروي: أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رأى مجمرة على قبر، فقال: (لا تتشبهوا باليهود) . ولأنها إذا أتبعت بالنار ... يفأل بذلك فأل السوء. [مسألة: دفن الميت] دفن الميت فرض على الكفاية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] [عبس:21] ، قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أكرمه) ، ولأنه إذا ترك ... تأذى الناس برائحته. ولا يكره الدفن بالليل، ولكنه بالنهار أولى؛ لأنه أمكن. وقال الحسن البصري: (يكره الدفن ليلاً) .

مسألة: الدفن بمكة

دليلنا: ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (ما عرفنا دفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى سمعنا صوت المساحي أول ليلة الأربعاء) . وروي: (أن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه دفن ليلاً) ، و: (دفنت عائشة، وفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ليلاً) . [مسألة: الدفن بمكة] إذا مات ميت بمكة ... فالأفضل أن يدفن في مقبرتها؛ لما جاء فيها من الأثر، وكذلك من مات في المدينة أو بيت المقدس فالأفضل أن يدفن في مقبرتهما؛ لحرمتهما، وشرف منزلتهما. وإن مات في بلد غير هذه، وكانت مقبرتها تذكر بخير، مثل: أن يكون فيها قبور الصالحين، أو يرى فيها منامات صالحة ... فالدفن فيها أولى من غيرها من المقابر، وإن لم يذكر فيها شيء فالدفن فيها أفضل من الدفن في البيت؛ لما يلحقه من دعاء المسلمين الذين يزورون القبور.

فرع: الاختلاف على موضع الدفن

فإن قيل: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفن في بيت عائشة أم المؤمنين؟ قلنا: إلا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفن أصحابه في المقبرة، فكان الاقتداء بفعله أولى. ولأنهم أرادوا تخصيص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك؛ لأنه يكثر إليه الزوار، بخلاف غيره. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مات ... اختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئًا ما أُنسيته، سمعته يقول: ما قبض الله نبيًا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه» ادفنوه في موضع فراشه. [فرع: الاختلاف على موضع الدفن] ] : وإن تشاحَّ الورثة، فقال بعضهم: ندفنه في ملكه، وقال بعضهم: يدفن في المقبرة المسبلة ... فإنه يدفن في المقبرة المسبلة؛ لأن الملك قد صار لهم. ولو قال بعضهم: أنا أكفنه من مالي، وقال بعضهم: بل يكفن من ماله ... كفن من ماله. والفرق بينهما: أنه لا منة عليهم بدفنه في المقبرة المسبلة، وعليهم المنة في كفن بعض الورثة له من ماله. فإن بادر بعضهم، ودفنه في ملك الميت ... قال أصحابنا: كان للباقين نقله؛ لأن الملك قد صار لهم، غير أنه يكره لهم نقله.

وإن بادر بعضهم، ودفنه في ملك نفسه، أو كفنه من مال نفسه، ثم دفنه ... قال ابن الصباغ: ولم يذكره أصحابنا، وعندي: أنه لا ينقل، ولا تسلب أكفانه بعد دفنه؛ لأنه ليس في تبقيته إسقاط حق أحدهم، وفي نقله هتك حرمته. وإن تشاحّ اثنان في الدفن في مقبرة مسبلة ... قدم السابق منهما؛ لأن له مزية بالسبق، وإن لم يسبق واحد منهما أقرع بينهما؛ لتساويهما. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ورأيت عندنا يحبون أن يجمع الأهل والقرابة في الدفن في موضع واحد) . وهذا صحيح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دفن عثمان بن مظعون ... أمر رجلاً أن يأتيه بحجر، فلم يستطع حملها، فقام إليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحسر عن ذراعيه، ثم حملها، فوضعها عند رأسه، وقال: "أُعلم على قبر أخي؛ لأدفن فيه من مات من أهلي» . وإذا دفن ميت في مقبرة مسبلة، ثم أراد آخر أن يدفن في ذلك الموضع ميتًا آخر، فإن علم أنه قد بلي الأول ... جاز الدفن فيه، وإن علم أنه لم يبل لم يجز الدفن فيه، وذلك يختلف باختلاف البلاد؛ لأن البلد إذا كان شديد الحر ... فإن الميت يبلى فيه في أقرب مما يبلى في البلاد الباردة، فإن خالف وحفر قبرًا، فوجد فيه ميتًا،

فرع: عارية الأرض للدفن

أو عظامًا ... أعيد القبر، إلا أن الشافعي قال: (فإن فرغ من القبر، وظهر فيه شيء من العظام لم يضر أن يجعل في جانب القبر، ويدفن الثاني معه) . [فرع: عارية الأرض للدفن] فإن أعار رجل أرضه لرجل ليدفن فيها ميتًا ... فله أن يرجع فيها ما لم يدفن؛ لأنها عارية لم تقبض، وإن دفن الميت فيها لم يكن له الرجوع فيها، فإن بلي ... كان له الرجوع. وإن دفن رجل بأرض غيره بغير إذنه ... فالمستحب لصاحب الأرض: أن لا ينقله؛ لأن في ذلك هتكًا لحرمته، فإن نقله جاز؛ لأنه دفن فيها بغير إذنه. [فرع: دفن أكثر من واحد] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أحب أن يدفن في قبر أكثر من واحد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل هكذا) . فإن دعت إلى ذلك ضرورة، بأن يكثر الموتى، أو يكون في الناس ضعف؛ لقلة الغذاء في القحط، أو مشتغلين في الحرب ... جاز أن يدفن الاثنان، والثلاثة، وأكثر في قبر، ويقدم أكثرهم قرآنًا إلى القبلة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر في قتلى أحد أن يجعل الاثنان والثلاثة في قبر، قالوا: فمن نقدم؟ قال: "أكثرهم قرآنًا» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب، وإن دعت

مسألة: ترتيب دفن الجماعة

ضرورة أن يدفن رجل مع امرأة في قبر ... جعل الرجل قدامها، وجعل بينهما حاجز من تراب) . وإن كان رجلاً وصبيا وخنثى وامرأة ... قدم الرجل، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة، اعتبارًا بصف الصلاة. [مسألة: ترتيب دفن الجماعة] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن مات جماعة من أهله، ولم يمكنه دفنهم إلا واحدًا واحدًا، فإن كان يخشى تغير أحدهم ... بدأ به، ثم بمن يخشى تغيره بعده، وإن لم يخش تغير أحدهم بدأ بأبيه؛ لأنه أكثر حرمة، وأوجب حقًا، ثم بعده الأم؛ لأن لها رحمًا، ثم الأقرب فالأقرب. وإن كانا أخوين ... قدم أكبرهما، وإن كانتا زوجتين أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى) . [مسألة: الدفن في مقابر الكفرة] ولا يدفن مسلم في مقبرة الكفار، ولا كافر في مقبرة المسلمين، فإن ماتت ذمية حامل بمسلم ... دفنت بين مقابر المسلمين والكفار، وجعل ظهرها إلى القبلة؛ لأنه يقال: إن وجه الجنين إلى ظهرها. وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه دفنها في مقبرة المسلمين) . وبه قال مكحول، وإسحاق رحمهما الله.

مسألة: الدفن في البحر

وقال عطاء، والزهري، والأوزاعي: (تدفن مع أهل دينها) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه يؤدي إلى دفن مسلم مع الكفار. وما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يصح عنه؛ لأنه يؤدي إلى دفن مشرك مع المسلمين. [مسألة: الدفن في البحر] وإن مات ميت في السفينة في البحر ... فإنه يغسل، ويحنط، ويكفن، ويصلى عليه، فإن علموا أنهم يجدون جزيرة، أو كانوا بقرب ساحل انتظروا حتى يدفنوه هنالك. وإن لم يكن شيء من ذلك ... قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يتركونه بين لوحين، ويشدونه، ويطرحونه في الماء، فربما يقع في جزيرة، فيراه بعض المسلمين، فيدفنه، ولا يثقل حتى ينزل إلى القرار، فتأكله الحيتان) . قال المزني: إنما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا إذا كان أهل الجزائر مسلمين، فأما إذا كانوا مشركين: فإنه يثقل بشيء حتى ينزل إلى القرار؛ لكي لا يأخذه الكفار، فيغيروا فيه سنة المسلمين. وقال أحمد: (يثقل بشيء حتى ينزل بكل حال) . قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: وما قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أولى؛ لأنه ربما يأخذه مسلم، فيدفنه، فيكون أولى من أن تأكله الحيتان. وأما الشيخ أبو إسحاق: فاختار في " المهذب " ما قاله المزني.

مسألة: تعميق القبر

[مسألة: تعميق القبر] قال الشافعي في " الأم " [1/244] : (ويعمق القبر قدر قامة وبسطة) . قال أصحابنا: وذلك أربعة أذرع ونصف. وقال مالك رحمة الله عليه: (لا حد فيه) . وقال عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إلى السرة. دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «احفروا، وأوسعوا، وأعمقوا» . وروي عن عمر: أنه قال: (احفروا قبري قامة وبسطة) ، ولأنه أحرى أن لا تناله السباع، وأبعد على من يريد نبشه، ولئلا يظهر ريحه. ويستحب أن يوسع عند رجلي الميت ورأسه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للحافر: أوسع من قبل رجليه ورأسه» فإن كانت الأرض صلبة ... فاللحد أحب إلينا من الشق، وهو أن يحفر في القبر

حفيرة في جانبه؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اللحد لنا، والشق لغيرنا» . وروي: (أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لما توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... اختلفوا في قبره، فقال بعضهم: يلحد له، وقال الآخرون: يشق له، وكان في المدينة حفاران، أحدهما يلحد، والآخر يشق، فوجهوا إليهما، وقالوا: اللهم اختر لنبيك ما فيه الخيرة، فجاء الذي يلحد، فلحد لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . وإن كانت الأرض رخوة ... لم يمكن اللحد، ولكن الشق. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وهو أن يبني في القبر من الجانبين بالحجارة أو اللبن، ويترك الميت في وسطه، ثم يسقف عليه باللبن أو الخشب، ويجعل في شقوقه كسر اللبن) .

مسألة: فعل الدفن للرجال

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ورأيتهم - عندنا - يضعون على السقف الإذخر، ثم يضعون عليه التراب) . [مسألة: فعل الدفن للرجال] ] : ولا يدخل الميت قبره إلا الرجال، سواء كان الميت رجلاً أو امرأة؛ لأنه يحتاج فيه إلى بطش وقوة، فكان الرجال به أقوم، ولأن المرأة إذا تولت ذلك ... بان شيء مما هو عورة منها. قال الصيدلاني: ويتولى النساء حمل المرأة من مغتسلها إلى الجنازة، وتسليمها إلى من في القبر؛ لأنهن يقدرن على ذلك ... وكذلك: يتولى النساء حل ثيابها في القبر، ولم أر هذا لغيره من أصحابنا. إذا ثبت هذا: فإن كان الميت رجلاً ... فأولى الناس بإدخاله القبر أولاهم بالصلاة عليه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويدخله منهم أفقههم) . فإن كان له قريبان، أحدهما أبعد من الآخر، وكان البعيد فقيهًا ... فهو أولى من القريب الذي ليس بفقيه؛ لأن هذا أمر يحتاج فيه إلى معرفة وعلم، فكان الفقيه بذلك أولى. فإن استويا في الفقه ... فأقربهم رحمًا، كالأب والجد، ثم بعدهما الابن، ثم ابن الابن، على ترتيب العصبات. وإن كان الميت امرأة ... فالزوج أولى بإدخالها من كل أحد؛ لأنه يحل له من النظر إليها ما لا يحل لغيره، فإن لم يكن زوج فالأب أولى، ثم الجد، ثم الابن، ثم ابن الابن، فإن لم يكن أحد من ذوي محارمها ... فمملوكها؛ لأنه محرم لها على ظاهر المذهب، فإن لم يكن فالخصي من الرجال؛ لأنه لا شهوة له، فإن لم يكن، فبنوا العم.

فرع: عدد الدافنين

قال صاحب " الفروع ": فإن لم يكونوا ... أرسلت بحبل، فإن تعذر ذلك جاز للأجانب الثقات وضعها. [فرع: عدد الدافنين] والمستحب: أن يكون عدد من يدفن وترًا: إما ثلاثة، أو خمسة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى وتر يحب الوتر» . ولما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مات ... أدخله القبر ثلاثة: العباس، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ، واختلف في الثالث: فقيل: إنه الفضل بن العباس. وقيل: أسامة بن زيد، وهو الصحيح. وأما عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فهم بذلك، وتهيأ للنزول، ولم ينزل. [فرع: ستر القبر] ويستحب أن يستر القبر بثوب عند إدخال الميت، سواء كان الميت رجلاً أو امرأة. وقال أبو حنيفة: (إن كان الميت رجلاً ... لم يفعل ذلك) . دليلنا: ما روي عن سعد بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «لما دفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

مسألة: استحباب الدفن من قبل الرأس

سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ... ستر قبره بثوب، وكنت ممسكًا بحاشية الثوب، فأصغى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقلت: ما قال لك؟ فقال: قال: اهتزت قوائم العرش لموت سعد» ولأنه لا خلاف أنه يستحب ستره بثوب بعد الموت، وعند الغسل؛ لأنه لا يؤمن أن يكون قد تغير، فاستحب - هاهنا - مثله. ولأنه يحتاج إلى حل عقد كفنه، وتسويته، فاستحب ستره. [مسألة: استحباب الدفن من قبل الرأس] ويستحب أن يسل الميت من قبل رأسه، فيوضع رأس الميت عند رجل الميت من القبر، ثم يسل الميت من قبل رأسه سلاًّ إلى القبر، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (توضع الجنازة عرضًا من ناحية القبلة، ثم يدخل إلى القبر معترضًا) . دليلنا: ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُل من قبل رأسه) ولأن ذلك أسهل.

والمستحب: أن يقول من يدخله القبر: (بسم الله، وعلى ملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . والملة والسنة واحد؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أدخل الميت القبر ... قال ذلك) . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويستحب أن يدعو مع ذلك، فيقول: اللهم أسلمه إليك الأشحاء من ولده وأهله وقرابته وإخوانه، وفارق من كان يحب قربه، وخرج من سعة الدنيا والحياة، إلى ظلمة القبر وضيقه، ونزل بك، وأنت خير منزول به، إن عاقبته ... فبذنبه، وإن عفوت فأنت أهل العفو، وأنت غني عن عذابه، وهو فقير إلى رحمتك، اللهم اشكر حسنته، واغفر سيئاته، وأعذه من عذاب القبر، واجمع له الأمن من عذابك، واكفه كل هول دون الجنة، واخلفه في تركته في الغابرين، وارفعه في عليين، وعد عليه بفضل رحمتك، يا أرحم الراحمين) .

فرع: إضجاعه على الشق الأيمن

[فرع: إضجاعه على الشق الأيمن] والمستحب: أن يوضع على جنبه الأيمن، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نام أحدكم ... فليتوسد يمينه» . ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هكذا فُعِلَ به، وكذلك فعل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم من بعده إلى يومنا هذا. ولأنه إذا فعل به ذلك ... استقبل القبلة بجميع بدنه، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير المجالس ما استقبل به القبلة» . فإن خالفوا، وأضجعوه على جنبه الأيسر، واستقبلوا بوجهه القبلة ... جاز. ويستحب أن يوسد رأسه بلبنة، كالحي إذا نام، ويدنى إلى اللحد، ويجعل خلف ظهره تراب يسنده؛ لئلا يستلقي على ظهره. ولا تترك يده تحت خده؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (إذا مت ... فأفضوا بخدي إلى الأرض) . وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فليتوسد يمينه» ... فأراد به: الجنب الأيمن. ويكره أن يدفن في تابوت، أو يجعل تحته مخدة، أو مضربة، أو غير ذلك؛

لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إذا أنزلتموني في اللحد ... فأفضوا بخدي إلى الأرض) . وعن أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: (لا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئًا) . ويستحب أن ينصب عليه اللبن؛ لما روي عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (اصنعوا بي كما صنعتم برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انصبوا علي اللبن نصبًا، وأهيلوا علي التراب) . ويستحب لمن على شفير القبر عند رد التراب أن يحثو بيده ثلاث حثيات من التراب في القبر، ثم يهال عليه التراب بالمساحي؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حثى في قبر ثلاث حثيات من التراب في القبر» . وروي عن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت:

(كيف طابت قلوبكم أن تحثوا التراب على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . فدل على: أنهم كانوا يحثون. ولا يستحب أن يزاد في القبر أكثر من ترابه؛ لئلا يرتفع، فيضيق على الناس. وقيل: إن الملك يأخذ من تراب قبر المؤمن، فإذا زيد تراب في قبره، فرآه الناس كثيرًا ... أساءوا الظن به، وأن الملك لم يأخذ من ترابه شيئًا. ويكره أن يرفع القبر فوق الأرض رفعًا كثيرًا؛ لما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألا أدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته» ويستحب أن يشخص القبر على وجه الأرض قدر شبر، ليعلم أن هناك قبرًا، لما روي عن القاسم بن محمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (قلت لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أماه، اكشفي لي عن قبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة) .

فرع: تجصيص القبر

وروي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (ألحد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونصب عليه اللبن، ورفع قبره عن الأرض قدر شبر) . ويستحب أن يسطح القبر. وقال أبو علي الطبري: الأولى أن يسنم. وبه قال أبو حنيفة؛ لأن التسطيح شعار الرافضة واليهود. قال أبو علي الطبري: وكذلك يستحب ألا يجهر بالبسملة في الصلاة؛ لأن الجهر بها شعار الرافضة، وهذا ليس بصحيح؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سطح قبر ابنه إبراهيم، ورش عليه الماء، ووضع عليه حصى من حصى العرصة» . وأما موافقة الرافضة: فلا يضر إذا صحت السنة فيه. ويستحب أن يرش على القبر الماء، ويوضع عليه الحصى؛ لما ذكرناه من الخبر، وإنما أمر بالرش؛ ليلصق عليه الحصى، وإذا لم يفعل ذلك ... زال أثره، فلا يعرف. [فرع: تجصيص القبر] ويكره أن تجصص القبور؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقعد على قبر، ولا يبنى عليه، ولا يقصص» ، يعني: لا يجصص.

مسألة: الدفن قبل الصلاة

وفي رواية أخرى: «أنه نهى عن تجصيص القبور، والكتابة فيها، والقعود عليها» . ولأن ذلك من زينة الأحياء، ولا حاجة بالميت إليه. وأما البناء على القبر: فإن بني عليه بيت أو قبة، فإن كان ذلك في مقبرة مسبلة ... لم يجز؛ لأنه يضيق على غيره، وعليه يحمل الخبر. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ورأيت من الولاة من يهدم بمكة ما بني بها، ولم أر من الفقهاء من يعيب عليه ذلك) . وإن كان في ملكه ... جاز له أن يبني ما شاء؛ لأنه لا يضيق على غيره، بخلاف المسبلة. [مسألة: الدفن قبل الصلاة] إذا دفن الميت قبل الصلاة عليه ... صلي على القبر؛ لأن الصلاة تصح على القبر عندنا.

فرع: وقوع شيء في القبر

وإن دفن بغير غسل، أو وجه إلى غير القبلة، فإن خيف عليه التغيير ... لم ينبش؛ لأن ذلك قد تعذر، وإن لم يخف عليه التغيير نبش، وغسل، ووجه إلى القبلة. وقال أبو حنيفة: (إن كان قبل نصب اللبن، أو بعد نصب اللبن، وقبل أن يطرح عليه التراب ... فإنه ينبش، وإن كان بعد طرح اللبن عليه لم ينبش) . دليلنا: أنه فرض مقدور عليه، فوجب أن ينبش لأجله، كما لو لم يطرح عليه التراب. وإن دفن من غير كفن ... ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا ينبش؛ لأن القصد منه المواراة، وقد وجد ذلك، فلا ينبغي أن ينبش. والثاني: أنه ينبش، ويكفن؛ لأنه فرض مقدور عليه، فأشبه الغسل. وإن غصب من رجل ثوبًا، وكفن به ميتًا، ودفنه ... ففيه وجهان، حكاهما في " العدة ": أحدهما: ينتقل حق مالكه إلى القيمة، مراعاة لحق الميت. والثاني - وهو الأشبه -: إن أتى عليه زمان يبلى فيه ذلك الثوب ... كان حقه في القيمة، وإن لم يأت عليه ذلك طالبه برد الثوب، كما لو دفنه في أرض مغصوبة. [فرع: وقوع شيء في القبر] فروع: [وقوع شيء في القبر] : فإن وقع في القبر شيء له قيمة ... نبش، وأخرج؛ لما روي: (أن المغيرة بن شعبة طرح خاتمه في قبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند الدفن، فقال: خاتمي، ففتح موضعًا وأخرجه) .

وقيل: إنه فعل ذلك حيلة؛ ليقول: (أنا أقربكم عهدًا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . وإن ابتلع الميت جوهرة، فإن كانت لغيره ... شق جوفه، وأخرجت، وإن كانت للميت ففيه وجهان: أحدهما: يشق جوفه، وتخرج؛ لأنها صارت للورثة. والثاني: لا تخرج؛ لأنه أتلفها في حياته، وهي على ملكه. وإن ماتت امرأة وفي جوفها جنين يتحرك ... ففيه وجهان: قال أبو العباس ابن سريج: يشق جوفها، ويخرج؛ لأن حرمة الحي آكد من حرمة الميت. ومن أصحابنا من قال: ينظر فيه: فإن قلن القوابل: إن هذا الجنين إذا أخرج عاش، مثل: أن يكون ابن ستة أشهر، فأكثر ... شق جوفها. وإن قلن: لا يعيش ... فإنه لا يخرج؛ لأن فيه هتك حرمة الميتة بما لا فائدة فيه. فعلى هذا: لا تدفن حتى يتحقق موته.

فرع: نقل الميت

[فرع: نقل الميت] ] : قال الشيخ أبو نصر: ليس في نقل الميت من بلد إلى بلد نص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. والذي يشبه عندي: أنه يكره، وروي ذلك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وسئل الزهري عن ذلك؟ فقال: (قد حمل سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه وسعيد بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من العقيق إلى المدينة) . ودليلنا: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بتعجيل دفن الميت» . وفي ذلك تأخير لدفنه، وأما نقل سعد وسعيد: فالعقيق قرب المدينة، فجرى مجرى البلد الواحد إذا نقل من مقبرة فيه إلى مقبرة. [مسألة: الانصراف بعد الدفن] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإذا فرغ من الدفن ... فقد أكمل، وينصرف من شاء) . قال أصحابنا: وفي الانصراف أربع مسائل: إحداهن: إذا صلى، وانصرف ... فله ثواب. الثانية: إذا صلى عليه، وانتظره حتى يوسد في القبر، وانصرف ... فهذا أفضل من الأول.

الثالثة: أن يقف حتى يفرغ من الدفن، وينصرف، فهذا أفضل من الأولين؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صلى على جنازة ... فله قيراط، ومن شيعها حتى قضى دفنها فله قيراطان. أحدهما - أو قال: أصغرهما - مثل جبل أحد". قال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فذكرت ذلك لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، فأرسل إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فسألها عن ذلك، فقالت: صدق أبو هريرة، فقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لقد فرطنا في قراريط كثيرة» الرابعة: أن يقف بعد الدفن، ويدعو للميت، وهذا أفضل من الأولين. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [1/245] : (وكان بعض من مضى عندنا من أهل العلم يأمر أهل الميت إذا فرغوا من الدفن: أن يقفوا عند قبره بمقدار ما ينحر جزور) .

وقال: (ذلك حسن، إلا أني لست أراهم يفعلون ذلك الآن عندنا) . فيستحب ذلك؛ لما روى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دفن ميتًا ... وقف عند قبره، وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل» . وبالله التوفيق

باب التعزية والبكاء على الميت

[باب التعزية والبكاء على الميت] يستحب أن يعزى أهل الميت وأقاربه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عزى مصابًا ... فله مثل أجره» .

وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عزى ثكلى ... كسي بردًا في الجنة» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ووقت التعزية من حين يموت الميت إلى أن يدفن، وبعد الدفن أحب إلي، إلا أن يضعف الولي عن احتماله، فيعزى قبل الدفن) . وقال أبو حنيفة، والثوري: (لا يعزى بعد الدفن، بل قبله) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عزى مصابًا ... فله مثل أجره» . ولم يفرق. ولأن بعد الدفن أولى بالتعزية؛ لأنه حين مفارقته، وتجديد مصيبته. ولأن الميت ما لم يدفن، فهو بين أظهر أهله، وإنما يأنسون منه، ويستوحشون بفرقته إذا دفن، فكان أولى الأحوال بالتعزية. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويعزى الكبير والصغير، والرجل والمرأة إلا أن تكون شابة، فلا أحب أن يعزيها إلا ذو رحم محرم لها) . فأما الأجنبي: فلا يعزيها؛ مخافة الافتتان بها، ويخص بالتعزية صبيانهم وضعفاؤهم عن احتمال المصيبة، فإن الثواب في تعزيتهم أكثر. وأما لفظ التعزية: فقال الشافعي: (فإن كان يعزي مسلمًا بمسلم، فأحب أن يعزي بتعزية الخضر أهل بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك: أنه لما مات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

مسألة: كراهة الجلوس للتعزية

وجاءت التعزية ... سمعوا صوتًا، ولا يرون أحدًا، يقول: (السلام عليكم، أهل البيت، ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة، ودركًا من كل فائت، وخلفًا من كل هالك، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب) . ويستحب أن يقول بعد ذلك: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك. وإن عزى مسلمًا بكافر ... قال: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وخلفه عليك، يعني: الله خليفته عليك. وإن عزى كافرًا بكافر ... قال: أخلف الله عليك، ولا نقص عددك، حتى تكثر الجزية. [مسألة: كراهة الجلوس للتعزية] ويكره الجلوس للتعزية، وهو أن يجتمع أهل الميت في بيت؛ ليقصدهم من أراد العزاء؛ لأن ذلك محدث وبدعة، بل يتوجه كل واحد منهم لحاجته، فيعزى الرجل في مصلاه، وفي سوقه وضيعته.

مسألة: حرمة النياحة

[مسألة: حرمة النياحة] ويحرم النوح على الميت، وشق الجيوب، ونشر الشعور، وخمش الوجوه؛ لما روت «أم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: قالت: (نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النوح، فما وفت منا واحدة، إلا أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -» وروى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن النائحة والمستمعة» . وروى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» . وروي «عن امرأة بايعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنها قالت: (أخذ علينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن

لا نخمش وجهًا، ولا ندعو ويلاً، ولا نشق جيبًا، ولا ننشر شعرًا» . ولأن ذلك شبيه بالتظلم والاستغاثة، وما فعله الله تعالى حق وعدل. ولأن ذلك يجدد الحزن، ويمنع الصبر، فحرم. وأما البكاء من غير ندب، ولا نوح: فيجوز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل ابنه إبراهيم في حجره، وهو ينزع، فبكى عليه، وقال: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، إنا بك يا إبراهيم لمحزونون" ثم فاضت عيناه، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟! فقال: إنها رحمة يضعها الله في قلب من يشاء، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» وروي أنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أليس قد نهيت يا رسول الله عن البكاء؟! فقال: "لا، إنما نهيت عن النوح» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكى على عثمان بن مظعون، حتى سالت دموعه، فروي: أنه قال في بكائه عليه: "هاء هاء هاء" ثلاث مرات» . فإن قيل: هذا صوت، وأنتم تكرهون الصوت؟!

فالجواب: أنه يحتمل أنه كان مغلوبًا عليه، وما كان مغلوبًا عليه الإنسان لا يؤاخذ به. ويحتمل أن يكون الصوت المكروه ما كان بنوح وتعديد، وهذا ليس بشيء منه. إذا ثبت هذا: فالبكاء مباح إلى أن يموت الميت، فإذا مات: فيستحب أن لا يبكي. قال الشيخ أبو حامد: وإن كان لا يحرم؛ لما روى جابر بن عتيك: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء إلى عبد الله بن ثابت يعوده، فوجده قد غلب عليه، فصاح به، فلم يجبه، فقال: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] [البقرة: 156] ، ثم قال: "قد غلبنا عليك يا أبا الربيع "، فصاحت النسوة بالبكاء، فجعل ابن عتيك يسكتهن، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دعهن يبكين، فإذا وجبت ... فلا تبكين باكية". قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: إذا مات» ولأن البكاء بعد الموت يجدد الحزن، ويمنع الصبر. فإن قيل: فقد روى عمر، وابن عمر، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» .

قال أصحابنا: فعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (روي «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: سألت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن هذا الخبر؟ فقالت: يرحم الله عمر، والله، ما حدث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا الحديث هكذا، وإنما قال: "إن الميت ليزاد في عذابه ببكاء أهله عليه". حسبكم القرآن، قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] » [الأنعام: 164] ) . وروي عنها: أنها قالت: «مات يهودي، فكان أهله يبكون، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الميت ليعذب وأهله يبكون عليه» والجواب الثاني: قال المزني: تأويله: أن يكون الميت أوصى بالبكاء عليه، وهكذا أهل الجاهلية كانوا يوصون بالبكاء عليهم، قال طرفة بن العبد:

مسألة: زيارة القبور

إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا ابنة معبد والجواب الثالث: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» ، أي: بما يبكي عليه أهله؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يبكون على ميتهم، ويعددون في بكائهم ما كان يصنع من الظلم والقتل، ويفتخرون به. [مسألة: زيارة القبور] ] : ويستحب للرجال زيارة القبور؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «زوروا القبور، فإنها تذكركم الموت، ولا تقولوا هجرًا» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زار قبر أمه في ألف مقنع» . ويستحب أن يسلم عليهم، ويدعو لهم؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بقبور بالمدينة، فأقبل عليها بوجهه، وقال: "السلام عليكم، يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا، ونحن بالأثر» .

وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى البقيع، فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله عن قريب بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» . وروي: أنه قال: «اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم» . وأما النساء: فلا يجوز لهن زيارة القبور؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله زوارات القبور» .

ولا يكره المشي في المقبرة بنعلين، وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يكره) . دليلنا: ما روي في حديث المساءلة: «وإنه ليسمع خفق نعالهم» . ويكره أن يطأ القبر، أو يجلس عليه، أو يتكئ عليه. وقال مالك: (لا يكره ذلك إلا أن يكون لبول أو غائط) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لأن يجلس أحدكم على نار، فتحرق ثوبه، ويصل إلى بدنه، أحب إلي من أن يجلس على قبر» . فإن لم يكن له طريق إلى قبر من يزوره إلا أن يمشي على قبر ... جاز له المشي عليه؛ لأنه موضع عذر. ويكره المبيت في المقبرة؛ لما فيها من الوحشة. ويكره أن يبني على القبر مسجدًا، لما روى أبو مرثد الغنوي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:

مسألة: إطعام أصحاب المصيبة

«لا تتخذوا قبري وثنًا، فإنما هلك بنو إسرائيل؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن تبنى، وأن توطأ» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدًا، مخافة الفتنة عليه، وعلى من بعده من الناس) . [مسألة: إطعام أصحاب المصيبة] ويستحب لقرابة الميت وجيرانه أن يعملوا لأهل الميت طعامًا يشبعهم يومهم وليلتهم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جاءه نعي جعفر بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ... قال: اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فإنه قد جاءهم ما يشغلهم» ولأن ذلك من البر والمعروف. وقال ابن الصباغ: وأما إصلاح أهل الميت طعامًا، وجمع الناس عليه: فلم ينقل فيه شيء، وهو بدعة، غير مستحب.

... .... .... ...

وبالله التوفيق

كتاب الزكاة

[كتاب الزكاة]

كتاب الزكاة والأصل في وجوب الزكاة: قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] [البقرة: 43] . فأمر بالإيتاء، وهو الدفع. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] [البينة: 5] . وقَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] [التوبة: 103] . وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] إلى قوله: {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35] [التوبة: 34-35] . فتواعدهم على الكنز، والكنز: كل مال لم تؤد زكاته. وروي ذلك عن ابن عمر، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ويدل على وجوبها من السنة: ما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان له مال، فلم يؤد زكاته.. مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع يطلبه وهو يفر منه حتى يطوقه، وتلا قَوْله تَعَالَى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] » [آل عمران: 180] .

وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما بعثه إلى اليمن: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم» . ووجوب الزكاة إجماع بين المسلمين، لا خلاف بينهم في ذلك.

مسألة: وجوب الزكاة في الملك الحقيقي

إذا ثبت هذا: فالزكاة - في اللغة -: هي النماء والزيادة، يقال: زكت الثمرة: إذا كثرت، وزكت النفقة: إذا بورك فيها، ويسمى ما يدفع إلى المساكين: زكاة؛ لأنها تثمن المال. واختلف أصحابنا في الآيات التي ذكرناها، وهي قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] [البقرة: 43] ، وفيما يشبهها من الأخبار: فمنهم من قال: إنها مجملة، وهو قول أبي إسحاق؛ لأن المجمل: ما لا يعلم المراد منه إلا ببيان، وهذه الآيات والأخبار بهذه الصفة. فعلى هذا: لا يحتج بها إلا على وجوب الزكاة، فأما على القدر المخرج: فلا يحتج بها. ومن أصحابنا من قال: هي عامة تدل بظاهرها؛ لأن الصلاة هي الدعاء، والزكاة النماء، فيصح أن يحتج بها على وجوب فعل ما يسمى صلاة، وعلى إخراج ما يقع عليه الاسم في الزكاة، ولا يجب ما زاد على ذلك إلا بدليل. [مسألة: وجوب الزكاة في الملك الحقيقي] ولا تجب الزكاة في مال المكاتب. وقال أبو ثور: (تجب الزكاة في ماله) . وقال أبو حنيفة: (يجب العشر في أرضه) . دليلنا: ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في مال المكاتب» .

مسألة: لا يخاطب الكافر بالزكاة

ولأن هذا يجب في المال على طريق المواساة، فلم يجب في مال المكاتب، كنفقة الأقارب، فإن أدى المكاتب ما عليه من نجوم الكتابة.. عتق، واستأنف الحول على ما بقي في يده، وإن عجز.. رد ما بيده إلى سيده، واستأنف به السيد الحول، وكان كـ: مال استفاد ملكه في هذه الحالة. وإن ملك السيد عبده، أو أم ولده مالًا: فإن قلنا بقوله القديم، وأنه يملك.. لم يجب على السيد فيه زكاة؛ لأنه خارج عن ملكه، ولا يجب على العبد فيه زكاة؛ لأن ملكه أضعف من ملك المكاتب؛ لأن للسيد أن يسترجعه متى شاء. وإن قلنا بقوله الجديد، وأن العبد لا يملك إذا ملك.. فإن حول السيد لا ينقطع فيه، ويجب على السيد زكاته. وإن كان نصفه حرًا، ونصفه مملوكًا، وملك بنصفه الحر نصابًا.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو المشهور -: أنه لا يجب عليه فيه زكاة؛ لنقصانه بالرق. والثاني: يجب عليه فيه الزكاة؛ لأنه يملكه ملكًا تامًا. [مسألة: لا يخاطب الكافر بالزكاة] وأما الكافر الأصلي: فلا يصح إخراج الزكاة منه، وهل هو مخاطب بوجوبها، ويكون آثمًا بها؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. وأما المرتد: فإن ارتد بعد وجوب الزكاة عليه.. لم يسقط عنه بردته ما قد وجب عليه، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (يسقط عنه) . دليلنا: أنه قد ثبت وجوبه عليه، فلم يسقط بردته، كالدين.

مسألة: الزكاة حق في المال

وإن ارتد في أثناء الحول.. فهل ينقطع الحول؟ يبنى على حكم ملكه، وفيه طريقان: قال أبو العباس: في ملكه قولان: أحدهما: أن ملكه لا يزول بالردة، وإنما يزول بالموت. فعلى هذا: لا ينقطع حوله، وتجب عليه الزكاة عند حلول الحول. والثاني: أن ملكه موقوف. فإن رجع إلى الإسلام.. بنينا أن ملكه لم يزل. فعلى هذا: تجب عليه الزكاة. وإن لم يعد.. بنينا أن ملكه زال بنفس الردة. فعلى هذا: لا تجب الزكاة في ماله. وقال أبو إسحاق: في ملكه ثلاثة أقوال: قولان: هما الأولان. والثالث: أن ملكه زال عن ماله بنفس الردة، وبه قال أبو حنيفة. فعلى هذا: لا تجب الزكاة، واختار صاحب " المهذب " طريقة أبي إسحاق. [مسألة: الزكاة حق في المال] وتجب الزكاة في مال الصبي، والمعتوه والمجنون، ويجب على الولي إخراجها من ماله، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر، وبه قال مالك، وابن أبي ليلي.

وقال ابن مسعود، والثوري، والأوزاعي: (تجب، ولكن لا تخرج حتى يبلغ الصبي، ويفيق المعتوه والمجنون، فيؤديها) . وقال ابن شبرمة، وأبو حنيفة وأصحابه: (لا تجب الزكاة في مالهم، وإنما تجب زكاة الفطر والعشر في مالهم) . وروي ذلك عن ابن عباس. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الرقة ربع العشر، وفي الغنم إذا بلغت أربعين شاة شاة» . ولم يفرق. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة» . ولأنه حر مسلم، فجاز أن تجب الزكاة في ماله، كالبالغ.

مسألة: أنواع المزكين

[مسألة: أنواع المزكين] ] : إذا تقرر ما ذكرناه: فالناس في الزكاة على ثلاثة أضرب: [أحدها] : ضرب يعتقد وجوبها، ويؤديها في الوقت الذي تحل عليه، فهذا داخل تحت المدح في قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] [المؤمنون: 1-4] . وفي قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] [الأعلى: 14] وما أشبهها من الآيات. والضرب الثاني: يعتقد وجوبها، ولا يؤديها، وهم فساق المسلمين، فإن كانوا في قبضة الإمام.. ضيق عليهم، وأخذها منهم. وإن امتنعوا بمنعة.. قاتلهم الإمام كما قاتل أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مانعيها. وإن أخفوا أموالهم.. حبسهم الإمام، فإذا ظهرت.. ففي القدر الذي يؤخذ منهم قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (يأخذ منهم الزكاة، وشطر مالهم، عقوبة لهم) ؛ لما روى بهز بن حكيم [بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جده] : أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ومن منعها.. فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا، ليس لآل محمد فيها شيء» .

و [الثاني] : قال في الجديد: (تؤخذ منه الزكاة لا غير) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال حق سوى الزكاة» ، ولأنها عبادة، فلا يجب بالامتناع منها أخذ شطر ماله، كسائر العبادات، والخبر منسوخ؛ لأن العقوبات كانت في أول الإسلام في الأموال. والضرب الثالث: من لا يقر بوجوب الزكاة، فإن كان قريب عهد بالإسلام، أو ناشئًا في بادية لا يعلم وجوب الزكاة.. فإنه يعرف وجوب الزكاة. وإن كان ممن نشأ مع المسلمين.. فإنه يحكم بكفره؛ لأن وجوب الزكاة معلوم من دين الله تعالى من طريق توجب العلم الضروري؛ لكونها معلومة من نص الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الخاصة والعامة، فمن جحد وجوبها بعد ذلك.. حكم بكفره. فإن قيل: أفليس الذين منعوا الزكاة في زمان أبي بكر زعموا أنها غير واجبة عليهم، ولم يكفروا؟ قلنا: إنما لم يكفروا؛ لأن وجوبها لم يكن مستقرًا في ذلك الوقت؛ لأنهم اعتقدوا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مخصوصًا بذلك، ولهذا قال عمر لأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كيف نقاتلهم؟! وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوا، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ، فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (الصلاة من حقها، والزكاة من حقها، والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة، والله لو منعوني عناقًا - وروي: عقالًا - مما أعطوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلتهم عليه) ثم اجتمعت الصحابة بعد ذلك معه على قتالهم، فاستقر الوجوب.

وهذا كما نقول: إن قدامة بن مظعون وعمرو بن معد يكرب كانا يذهبان إلى إباحة الخمر، وكان عمرو يقول: قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] [المائدة: 93] ، فقيل له: هذا فيما سلف، فرجع عن ذلك، ولم يحكم بكفره. فلو أن قائلًا قال في وقتنا: الخمر مباحة.. كان كافرًا. إذا ثبت هذا: ففي حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فوائد: أحدها: أنه يدل على وجوب الزكاة. الثانية: أن للإمام أن يقاتل مانعيها. الثالثة: أن المناظرة في الأحكام جائزة. الرابعة: أن مناظرة الإمام جائزة. الخامسة: أن الاحتجاج بالعموم جائز؛ لأن عمرَ احتج بعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

السادسة: أن تخصيص العموم جائز؛ لأن أبا بكر احتج عليه بالتخصيص، وهو قوله: «إلا بحقها» . السابعة: أن التخصيص بالقياس جائز؛ لقول أبي بكر: (والله لا أفرق بين الصلاة والزكاة) . وهذا اعتبار الزكاة بالصلاة. الثامنة: أن من ترك الصلاة قوتل. التاسعة: أن خلاف الواحد للجماعة خلاف؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنكروا على أبي بكر، ولم يكن قولهم حجة عليه. العاشرة: أن الناس إذا اختلفوا على قولين، ثم رجعوا إلى أحدهما.. صار إجماعًا؛ لأن الصحابة رجعوا إلى قول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. الحادية عشرة: أن ذلك يدل على شجاعة أبي بكر وعلمه، فإنهم أشاروا عليه بترك قتالهم، وبرد جيش أسامة بن زيد، فقال: (والله، لأقاتلنهم بموالي وأتباعي، ولا أرد جيشًا جهزه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . الاثنتا عشرة: أن الخطاب الوارد في القرآن بخطاب المواجهة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشاركه فيه غيره من الأئمة، وهو قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] [التوبة: 103] . الثالثة عشرة: أن السخلة يجوز أخذها في الزكاة؛ لقول أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (والله لو منعوني عناقًا) ، وأما (العقال) : فهو صدقة العام. وقيل: هو الحبل الذي يقرن به البعيران. وقيل: إنه الحبل الذي يشد به مال التجارة. وبالله التوفيق

باب صدقة المواشي وأحكام الملك

[باب صدقة المواشي وأحكام الملك] لا تجب زكاة العين في الماشية إلا في الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم؛ لأن الأخبار وردت بإيجاب الزكاة فيها، فأما الخيل والبغال والحمير والعبيد: فلا تجب فيها زكاة العين، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر، وبه قال عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، ومالك، والأوزاعي. وقال أبو حنيفة: (إن كانت الخيل ذكورًا وإناثًا.. وجبت فيها الزكاة، وإن كانت ذكورًا أو إناثًا، ففيها روايتان) . وزكاتها عنده: إن شاء مالكها.. أعطى عن كل فرس دينارًا، وإن شاء.. قومها، وأعطى ربع عشر قيمتها. دليلنا: ما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق» . ولأنها تقتنى للزينة لا للنماء، فلم تجب فيها الزكاة، كثياب البدن. ولا تجب الزكاة فيما تولد بين الغنم والظباء، سواء كانت الأمهات من الغنم أو من الظباء. وقال أبو حنيفة: (إن كانت الأمهات غنمًا، والفحل ظبيًا.. وجبت فيها الزكاة، وإن كانت الأمهات من الظباء، والفحل من الغنم.. لم تجب فيها الزكاة) . وقال أحمد: (تجب فيها الزكاة بكل حال) .

دليلنا: أنه متولد بين أصلين لا زكاة في أحدهما بحال، فأشبه إذا كانت الأمهات ظباء، وهذا على أبي حنيفة. وعلى أحمد: حيوان تولد بين وحشي وأهلي، فلم تجب فيه الزكاة، كما لو كان الأبوان من الوحشي. وإن ملك بقر الوحش.. لم تجب فيها الزكاة. وقال أحمد في إحدى الروايتين: (تجب فيها الزكاة) . دليلنا: أنه حيوان لا يجزئ في الأضحية، فلم تجب فيه زكاة العين، كالظباء وغيرها. وأما الماشية الموقوفة عليه إذا حال عليها الحول: فهل تجب فيها الزكاة؟ إن قلنا: إن الملك ينتقل فيها إلى الله تعالى.. لم تجب فيها الزكاة. وإن قلنا: إنه ينتقل إلى الموقوفة عليه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تجب عليه فيها الزكاة؛ لأن ملكه عليها ناقص. والثاني: يجب عليه فيها الزكاة؛ لأنه يملكها ملكًا تامًا مستقرًا، فهو كالمطلق. فإذا قلنا بهذا: فقد قال بعض أصحابنا: يخرج الزكاة منها؛ لأنها كالمطلق على هذا. والذي يقتضي المذهب عندي: أن يبنى على القولين في محل وجوب الزكاة: فإن قلنا: إنها تجب في عين المال.. كان له إخراج الزكاة منها.

مسألة: زكاة المغصوب ونحوه

وإن قلنا: إنها تجب في الذمة.. أخرجها من ماله المطلق. وما قاله الأول لا يصح؛ لأنها لو كانت كالمطلق.. لجاز له بيعها. وأما إذا وقف عليه نخلًا أو كرمًا.. وجبت زكاة الثمرة على الموقوف عليه، قولًا واحدًا؛ لأنه يملك الثمرة ملكًا تامًا. [مسألة: زكاة المغصوب ونحوه] إذا غصب له مال، أو ضاع، أو أودعه، فجحده المودع، أو وقع في بحر لا يمكنه إخراجه، أو دفنه في موضع، ونسي موضعه حتى حال عليه حول، أو أحوال.. لم يجب عليه إخراج الزكاة عنه قبل أن يرجع إليه؛ لأنه لا يلزمه زكاة مال لا يقدر عليه. فإن رجع إليه المال من غير نماء.. ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا تجب عليه فيه الزكاة، وينقطع حوله) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه ناقص التصرف فيه، فلم تجب عليه فيه الزكاة، كالمكاتب، ولأن الزكاة إنما تجب في الأموال النامية، وهذا لا نماء له، فلم تجب عليه فيه الزكاة، كالبغال والحمير. و [الثاني] : قال في الجديد: (يجب عليه فيه الزكاة) . وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» . وهذا قد حال عليه

فرع: حبس عن الوصول لماله

الحول، ولأنه مال له يملك المطالبة به، ويجبر من هو بيده على تسليمه، فهو كما لو كان في يد وكيله. فإن عاد إليه في أثناء الحول: فعلى القول القديم: يستأنف الحول. وعلى الجديد: يبني الحول. وإن كان معه أربعون من الغنم، فغصبت منها واحدة، ثم رجعت إليه: فعلى القول القديم: ينقطع الحول، فيستأنفه حين تعود. وعلى الجديد: لا ينقطع. وإن رجعت إليه الماشية مع نمائها.. ففيه طريقان: قال أبو العباس: تجب عليه فيها الزكاة، قولا واحدا؛ لأن النماء قد رجع إليه. وقال عامة أصحابنا: هي على القولين؛ لأن المانع من وجوبها الحيلولة بينه وبين ذلك، وذلك لا يعود بعود النماء. [فرع: حبس عن الوصول لماله] وإن أسر المشركون أو المسلمون رجلا من المسلمين وحبسوه عن ماله، وحال عليه أحوال.. فهل يجب عليه إخراج زكاته إذا تمكن؟ فيه طريقان: من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالمغصوب. ومنهم من قال: يجب عليه قولا واحدا؛ لأنه يملك بيعه. وإن اشترى من رجل نصابا، وبقي في يد البائع، ولم يقبضه المشترى حتى حال

مسألة: زكاة اللقطة

عليه الحول ففيه ثلاث طرق، حكاها في " الإبانة " [ق\121] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالمغصوب. وقال صاحب " التقريب ": عليه الزكاة، قولا واحدا؛ لأنه يمكنه انتزاعه من يد البائع في الحال، فهو كالمال في يد وكيله. وقال القفال: لا زكاة عليه، قولا واحدا؛ لأنه لا يصح تصرفه فيه بالبيع والهبة. [مسألة: زكاة اللقطة] وإذا ضاع من رجل نصاب من الأثمان، والتقطه آخر، وأقام في يد الملتقط حولا، وعرفه.. فإن زكاة العام الأول لا تجب على الملتقط، قولا واحدا؛ لأنه لم يملكه فيه، وهل تجب على المالك زكاة العام الأول إذا رجع إليه؟ فيه قولان، كالمال المغصوب. وأما العام الثاني: فإن لم يختر الملتقط تملكها: فإن قلنا: تدخل اللقطة في ملك الملتقط بنفس التعريف.. فهو كما لو اختار تملكها على ما يأتي بيانه. وإن قلنا بالصحيح: وأنها لا تدخل في ملكه إلا بالتملك.. فإنه لا زكاة على الملتقط في هذا العام الثاني؛ لأنه لم يملكها. وأما المالك: فهل يجب عليه زكاتها إذا رجعت إليه العام الثاني؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالعام الأول. ومنهم من قال: لا تجب عليه زكاتها، قولا واحدا؛ لأن للملتقط أن يختار تملكها، ويزيل ملكها.

مسألة: الدين يستغرق النصاب

فعلى هذا: لا تجب زكاة هذا المال على أحد للعام الثاني، وهذا ليس بصحيح؛ لأن ذلك ليس بأولى مما بعد التملك. وإن اختار الملتقط تملكها في أول الحول الثاني بعد التعريف.. فإنه يملكها، فإذا تم الحول من حين تملكها.. فهل تجب عليه زكاة هذا المال؟ ينظر فيه: فإن كان له مال بقدر هذه اللقطة.. وجب عليه زكاتها. وإن لم يكن له مال سوى هذه اللقطة.. فهل تجب عليه زكاتها؟ فيه قولان، بناء على القولين في الدين، هل يمنع وجوب الزكاة؟ على ما يأتي بيانه. وأما المالك: فهل يجب عليه إخراج الزكاة للأحوال بعد التملك إذا رجعت إليه؟ فيه قولان، كالمغصوب، فإذا أوجبنا عليهما الزكاة.. وجبت زكاتان في حول واحد؛ لأجل مال واحد، وإن أسقطنا عنهما الزكاة.. فهذا مال يملكه حر مسلم، ولا زكاة فيه. [مسألة: الدين يستغرق النصاب] ] : وإذا كان له نصاب من المال، وعليه دين يستغرق ماله، أو ينقصه عن النصاب.. فهل تجب عليه الزكاة فيه؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا تجب عليه فيه الزكاة) . وبه قال الحسن، والليث، والثوري، وأحمد. ووجهه: ما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال في المحرم: (هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين.. فليقضه، ثم ليزك بقية ماله) . ولأنه حق يتعلق بماله، فمنع منه الدين، كالحج.

و [الثاني] : قال في الجديد: (تجب فيه الزكاة) . وبه قال حماد بن أبي سليمان أستاذ أبي حنيفة، وربيعة بن أبي عبد الرحمن أستاذ مالك رحمة الله عليهم، وهو الصحيح. ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في خمس من الإبل شاة، وفي أربعين شاة شاة» . ولم يفرق. ولأن الدين يجب في الذمة، والزكاة تجب في عين ماله، فلم يمنع أحدهما الآخر، كما لو كان عليه دين، وله عبد، فجنى. قال الشيخ أبو حامد: ولا فرق بين الأموال الظاهرة والباطنة، ولا فرق بين أن يكون الدين من جنس ما بيده، أو من غير جنسه. فإن كان معه مائتا درهم، وعليه دين مائتا درهم، وله دار أو عروض قيمتها مائتا درهم.. وجبت عليه الزكاة في المأتي درهم، قولا واحدا، ويكون الدين في مقابلة الدار والعروض. وقال مالك: (إن كان ذلك الدين من الذهب أو الفضة.. منع وجوب الزكاة، وإن كان من غيرهما.. لم يمنع) . وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\121] : أن من أصحابنا من قال: للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول آخر: (إن الدين يمنع الزكاة في الأموال الباطنة، ولا يمنع في الظاهرة) . ومنهم من أنكر ذلك. وحكى أيضا: أن من أصحابنا من قال: القولان إذا كان الدين من جنس ما بيده، فإن كان من غير جنسه.. لم يمنع. ومنهم من قال: لا فرق، وهو الصحيح، وهو طريقة أصحابنا البغداديين.

فرع: من نذر التصدق بماله

[فرع: من نذر التصدق بماله] ] : إذا كان بيده مائتا درهم، فقال: لله علي أن أتصدق بها، وحال الحول، وهي بيده.. فهل تجب فيها الزكاة؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه القولان في الدين، هل يمنع وجوب الزكاة؟ ومنهم من قال: لا تجب عليه الزكاة فيها، قولا واحدا، وهو الأصح؛ لتعلق النذر بعينها. وإن نذر أن يتصدق بمأتي درهم في ذمته، فحال الحول على مائتين، وهي في يده: فمن أصحابنا من قال: فيه قولان في الدين، هل يمنع وجوب الزكاة؟ ومنهم من قال: تجب الزكاة فيها قولا واحدا، وهو الأصح؛ لأن الحق فيه لله تعالى، وهو يقبل المسامحة، بخلاف دين الآدمي، فإنه مبني على التشديد. [فرع: زكاة المحجور عليه] وإن حجر الحاكم عليه لديون عليه، ثم حال الحول على ماله، فإن حال الحول بعد أن فرق الحاكم ماله على الغرماء، وقبضوه.. لم تجب عليه فيه الزكاة، وكذلك إذا لم يقبضوه ولكن قد نظر الحاكم إلى قدر دينه، وإلى عيون ماله، وجعل لكل واحد عينا بدينه.. فإنه لا زكاة على ما ملكه؛ لأن ملكه قد زال. وإن كان موجودا في يده: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولهم أن يأخذوه حيث وجدوه) . فاعترض الكرخي عليه، وقال: أباح الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لهم انتهاب ماله. قلنا: هذا خطأ؛ لأن الحاكم إذا عين لكل واحد عينا.. جاز له أخذها حيث وجدها.

فرع: إقرار المحجور عليه بوجوب الزكاة

وإن حجر عليه الحاكم، ولم يفرق ماله، ولا عين لكل إنسان عينا، فحال عليه الحول: فإن قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة.. لم تجب الزكاة هاهنا، قولا واحدا. وإن قلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة ففيه ثلاثة طرق: من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالمال المغصوب. وقال أبو إسحاق: إن كان من الماشية.. وجبت فيه الزكاة؛ لأنه يحصل له نماؤها، وإن كان من غير الماشية.. ففيه قولان، كالمال المغصوب. وقال أبو علي في " الإفصاح ": تجب الزكاة في الماشية وغيرها، قولا واحدا؛ لأن الحجر لا يمنع وجوب الزكاة، كالحجر على السفيه والمجنون. والطريق الأول أصح. [فرع: إقرار المحجور عليه بوجوب الزكاة] إذا أقر قبل الحجر بوجوب الزكاة عليه: قال ابن الصباغ: فإن صدقه الغرماء.. ثبت، وإن كذبوه.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أمين فيها، فإذا ثبتت: فأيهما يقدم؟ فيها ثلاثة أقوال، يأتي بيانها. فإن أقر بها بعد الحجر. فعلى القولين في المحجور عليه إذا أقر بدين بعد الحجر عليه، ويأتي بيانها في (التفليس) إن شاء الله تعالى. [مسألة: زكاة السائمة] وتجب الزكاة في سائمة الإبل والبقر والغنم. فأما المعلوفة منها: فلا تجب فيها الزكاة، وبه قال الليث، وسفيان، وأبو حنيفة وأصحابه.

وقال مالك: (تجب الزكاة في المعلوفة) . وقال داود: (لا تجب في معلوفة الغنم، وتجب في معلوفة البقر والإبل) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في سائمة الغنم زكاة» . فدل على أنه لا زكاة في المعلوفة، وإذا ثبت ذلك في الغنم.. ثبت في غيرها من المواشي قياسا عليها. وأما العوامل من الإبل والبقر: إذا كانت غير سائمة.. فلا زكاة فيها، كأثاث الدار، وإن كانت سائمة.. ففيه وجهان، حكاهما في " العدة ": أحدهما - وبه قال الجويني، ومالك -: (أنه تجب فيهما الزكاة) ؛ لأن الملك والسوم موجودان، فإذا انتفع بهما من وجه.. كان أولى بإيجاب الزكاة. والثاني - وهو الأصح -: أنه لا تجب فيها الزكاة؛ لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في العوامل شيء» . وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن

جده، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في الإبل العوامل صدقة» ، ولأنها ليست مرصدة للدر والنسل، فأشبهت البغال والحمير. فإن أسيمت الماشية في كلأ مملوك.. فهل هي سائمة، أو معلوفة؟ فيه وجهان. وإن أسيمت الماشية في بعض الحول، وعلفت في بعضه.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها ابن الصباغ: [أحدها] : من أصحابنا من قال: إن علفها يوما أو يومين.. لم يبطل حكم السوم، وإن علفها ثلاثة أيام.. بطل حكم السوم؛ لأنها لا تصبر عن العلف ثلاثة أيام، وتصبر دون ذلك ولا تتلف. و [الثاني] : منهم من قال: يثبت العلف بأن ينوي علفها، ويعلفها وإن كان مرة، كما إذا كان له ذهب، فنوى صياغته، وصاغه.. انقطع الحول. والثالث: يراعي الأكثر، فإن كان الغالب السوم.. كان الحكم له، وإن كان الغالب العلف.. كان الحكم له، وهو قول أبي حنيفة، كما إذا سقى الزرع بماء السماء والناضح.. اعتبر الغالب.

فرع: غصب من نصابه

[فرع: غصب من نصابه] فإن كان عنده نصاب من المعلوفة، فغصبها غاصب، فعلفها، فرجعت إلى مالكها.. فلا زكاة على مالكها، قولا واحدا. وإن كان عنده نصاب من السائمة، فغصبها غاصب منه، فأسامها.. فهل تجب على مالكها الزكاة إذا رجعت إليه؟ فيه قولان، قد مضى ذكرهما. وإن أسامها المالك بعض الحول، فغصبت منه، ثم علفها الغاصب باقي الحول: فمن أصحابنا من قال: في وجوب الزكاة على المالك إذا رجعت إليه قولان: أحدهما: تجب عليه؛ لأن علف الغاصب لا حكم له، فصار كما لو كان المغصوب ذهبا أو فضة، فصاغه الغاصب حليا. و [الثاني] : منهم من قال: لا تجب الزكاة على المالك إذا رجعت إليه، قولا واحدا، وهو الصحيح؛ لأنه فقد السوم، وهو شرط في الزكاة فهو كما لو ذبح الغاصب شاة من النصاب. وإن علفها المالك بعض الحول ثم أسامها الغاصب بعض الحول.. فمن أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو غصب منه طعاما، فبذره. ومنهم من قال: لا تجب الزكاة، قولا واحدا، وهو الصحيح؛ لأن قصد المالك معتبر في السوم، وقصد المالك لم يوجد هاهنا، فهو كما لو رتعت الماشية بنفسها، ويخالف البذر، فإن قصده غير معتبر، ولهذا لو تبذر له طعام في أرض، ونبت.. وجب فيه العشر. [مسألة: النصاب شرط في الزكاة] ولا تجب الزكاة إلا في نصاب؛ لأن الأخبار إنما وردت بإيجاب الزكاة في النصب فإن كان عنده نصاب من الماشية، فتلفت منها واحدة، أو باعها، ثم ولدت

مسألة: الأموال على أقسام

أخرى.. استأنف الحول من حين ولدت؛ لأن الحول انقطع بموت الأولى. وإن ولدت واحدة، وتلفت واحدة في حالة واحدة.. لم ينقطع الحول؛ لأن الحول لم يخل من نصاب. وهكذا: لو شك: هل كان التلف والولادة في حالة واحدة، أو سبق التلف؟ لم ينقطع الحول؛ لأن الأصل بقاء الحول. وإن خرج بعض الحمل من الجوف، ثم تلفت واحدة قبل أن ينفصل الحمل.. انقطع الحول؛ لأن حكمه قبل الانفصال حكم الباقي في البطن. [مسألة: الأموال على أقسام] الأموال على ثلاثة أضرب: ضرب: لا ينمو في نفسه، ولا يرصد للنماء، كالعقار والثياب والصفر ومتاع البيت، وذلك: أنه ما بقي، فإنه على النقصان، فلا تجب الزكاة في شيء منه؛ لأنه لا يحتمل المواساة. وضرب: ينمو في نفسه، ويؤخذ نماؤه دفعة واحدة، كالزرع والثمار، فهذا تجب فيه الزكاة، ولكن لا يعتبر في زكاته الحول، بل متى وجد نماؤه.. وجبت فيه الزكاة. والضرب الثالث: مما ينمو حالا بعد حال، فهو المواشي والذهب والفضة، فهذا تجب فيه الزكاة، ولكن لا تجب فيه الزكاة حتى يحول عليه الحول من يوم ملكه، وهو قول كافة العلماء. وحكي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (من استفاد مالا.. فعليه أن يزكيه في الحال) .

فرع: بيع ما لم يمر عليه الحول

و: (كان ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا قبض عطاءه من بيت المال.. زكاه في الحال) . دليلنا: ما روى علي، وأنس، وعائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» ، ولأن الزكاة تجب نعمة على المسلمين، والجزية تجب نقمة على الكفار، ثم ثبت أن الجزية لا تجب إلا بعد الحول، فالنعمة بذلك أولى. [فرع: بيع ما لم يمر عليه الحول] وإن مضى عليه بعض الحول، فباع النصاب الذي عنده، أو بادل به إلى نصاب.. انقطع الحول. وإن مات.. فهل يبني وارثه على حول مورثه؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يبني عليه) ؛ لأن من ورث مالا.. ورثه بحقوقه، كما تورث الشفعة، والرد بالعيب، والوثيقة بالرهن. و [الثاني] : قال في الجديد: (يستأنف الورثة الحول) . وهو الصحيح؛ لأن ملك الميت قد زال، وابتدأ الوارث الملك عليه بموت مورثه، فهو كما لو اشتراه، ويخالف الشفعة، والرد بالعيب، والوثيقة بالرهن، فإن تلك حقوق للمال، والزكاة حق على المال. [مسألة: المستفاد خلال الحول] ] : وإن كان عنده نصاب من السائمة مضى عليها بعض الحول، ثم استفاد شيئا من جنسه ببيع، أو هبة، أو إرث.. فإن المستفاد لا يضم إلى حول ما عنده. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يضم المستفاد إلى ما عنده) . فإذا تم حول ما عنده، جعل المستفاد كأنه موجود من أول الحول.

دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» . والمستفاد لم يحل عليه الحول. فعلى هذا: ينظر في المستفاد: فإن كان لا يبلغ نصابا في نفسه، ولا يتم به الثاني بأن كان عنده خمس من الإبل، فاستفاد دون الخمس.. فإنها تكون وقصا لا يتعلق بها حكم. وإن بلغ به النصاب الثاني، مثل: أن يكون عنده ثلاثون من البقر ستة أشهر، ثم استفاد عشرا. فإنه يجب عليه تبيع لحول الثلاثين، وإذا تم حول العشر.. وجب فيها ربع مسنة؛ لأنه تم بها نصاب المسنة. وفي الحول الثاني: يجب في الثلاثين عند تمام حولها ثلاثة أرباع مسنة، وعند تمام الحول على العشر ربع مسنة. وإن كان عنده أربعون من البقر ستة أشهر، ثم استفاد عشرا.. لم يجب لأجلها شيء. وإن استفاد عشرين.. وجبت عليه مسنة عند تمام حول الأربعين، وإذا تم حول العشرين.. وجب عليها فيها ثلثا تبيع. وإن كان المستفاد يبلغ نصابا بنفسه، ولا يبلغ النصاب الثاني، قال ابن الصباغ: مثل: أن: كان عنده أربعون من الغنم أقامت ستة أشهر، ثم استفاد أربعين من الغنم، فإن الشيخ أبا إسحاق، وابن الصباغ قالا: تجب في الأولى شاة لحولها؛ لأنها انفردت بالحول. وفي الثانية ثلاثة أوجه: أحدها: تجب فيها شاة لحولها، كالأربعين الأولى.

والثاني: يجب فيها نصف شاة؛ لأنها خليطة الأربعين الأولى من حين ملكها، فكان حصتها نصف شاة. والثالث: لا يجب فيها شيء. فالأول هو الصحيح؛ لأن الأولى انفردت بالحول، ولم تبلغ بالثانية إلى النصاب الثاني، فحصلت وقصا بين النصابين. قال ابن الصباغ: وهذا إنما يتصور على القول الذي يقول: الزكاة تجب في الذمة، ولم تخرج من الأولى. فأما إذا قلنا: إنها استحقاق جزء من العين، أو قلنا: في الذمة، فأخرج منها قبل تمام حول الزيادة.. لم يجب في الزيادة شيء؛ لأنه لا يتم بها نصاب ثان، ولم يذكر في " التعليق " و " المجموع " هذه الأوجه الثلاثة، إلا أن أصحابنا ذكروا في الخلطة: إذا ملك في أول المحرم أربعين شاة، وفي أول صفر أربعين، وفي أول ربيع أربعين: فإن قلنا بقوله القديم، وأن الاعتبار بالخلطة في آخر الحول.. وجب في الجميع شاة، في كل أربعين ثلث شاة عند تمام حولها. وإن قلنا بقوله الجديد، وأن الاعتبار في الخلطة أن تكون بجميع الحول، وهو الصحيح.. وجب في الأولى شاة لحولها، وفي الأربعين الثانية والثالثة وجهان: أحدهما: يجب في كل أربعين شاة عند تمام الحول، كالأربعين الأولى. والثاني: يجب في كل أربعين ثلث شاة عند تمام حولها؛ لأنها خليطة والثمانين عند الوجوب. وأما الشيخ أبو إسحاق: فذكر الوجه الثاني في الأربعين الثانية يجب فيها نصف شاة؛ لأنها خليطة الأربعين الأولى من أول الحول. فإن قيل: فما ذكره الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ في الأولى مخالف لما ذكروه في الثانية، وهما في الصورة واحد، فما الفرق بينهما؟ فالجواب: أنه يجوز أن يكونا إنما ذكرا المسألة على القول الجديد في الثانية، ولا يبعد أن يكون على القول القديم: يجب في المسألة الأولى شاة في كل أربعين، نصفها

فرع: ضم النتاج إلى أصوله

عند تمام حولها، ويكون في الأربعين المستفادة في صفر في المسألة الثانية على القول الجديد أربعة أوجه مخرجة مما ذكروه: أحدها: يجب فيها شاة لحولها، كالأربعين الأولى. والثاني: يجب فيها نصف شاة عند تمام حولها، وهو المذكور في " المهذب " فيها؛ لأنها خليطة الأربعين الأولى من حين ملكها. والثالث: يجب فيها ثلث شاة، وهو المذكور في " التعليق " و " الشامل " فيها؛ لأنها خليطة للثمانين حال الوجوب. والرابع: أنه لا شيء فيها مخرج مما ذكره الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ في الأربعين الثانية في المسألة الأولى؛ لأنهما قالا: العلة هناك: أن الأربعين الأولى انفردت بالحول، ولم يبلغ المال بالأربعين الثانية النصاب الثاني، فكانت وقصا بين النصابين، فلم يتعلق بها فرض، وهذه العلة موجودة في مسألتنا. وأما الأربعون المستفادة في ربيع: فيحتمل أن يكون فيها على القول الجديد ثلاثة أوجه: أحدها: يجب فيها شاة. والثاني: يجب فيها ثلث شاة. والثالث: لا شيء فيها، والتعليل فيها ما تقدم في الأربعين الثانية. [فرع: ضم النتاج إلى أصوله] وإذا كان المستفاد متولدا مما عنده.. فإن الأولاد تضم إلى حول الأمهات بثلاثة شروط: أحدها: أن يكون متولدا مما عنده. والثاني: أن تكون الأمهات نصابا.

والثالث: أن يوجد قبل تمام الحول. فمتى وجدت هذه الشروط، وبلغت بالأولاد النصاب الثاني، فإنه يزكي عن النصاب الثاني، لحول الأمهات، وهو قول كافة الفقهاء. وقال الحسن البصري: لا يضم إلى الأمهات، بل يستأنف لها الحول. دليلنا: ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال للساعي: (اعتد عليهم بالسخلة التي يروح بها الراعي على يده) . وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال للساعي: (عد عليهم الصغار مع الكبار) ولا مخالف لهما. إذا ثبت هذا: فإن ولد الشاة الأنثى يسمى أيام الولادة: سخلة، فإذا ترعرعت، سميت: بهمة، فإذا صار لها أربعة أشهر، وفصلت عن أمها، فإن كانت من المعز.. سميت: جفرة، والذكر: جفرا، فإذا رعى وسمن، سمي: عريضا، وعتودا، وجديا إذا كان ذكرا، وعناقا إن كانت أنثى. فإذا ضمت الأولاد إلى الأمهات، ثم تلفت الأمهات أو بعضها، أو بقيت الأولاد، وهي نصاب.. فإنه لا ينقطع الحول، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال أبو القاسم بن بشار من أصحابنا: إذا نقصت الأمهات عن النصاب.. انقطع الحول في الأولاد؛ لأن الأولاد إنما تجري في حول الأمهات، بشرط أن تكون الأمهات نصابا، وقد زال هذا الشرط. وقال أبو حنيفة: (إن بقي من الأمهات واحدة.. فالأولاد جارية في حول أمهاتها، وإن لم يبق منها شيء.. انقطع الحول) .

مسألة: إمكان الأداء من شرط الضمان

دليلنا: أنها جملة جارية في الحول، هلك بعضها، ولم ينقص الباقي عن النصاب، فلم ينقطع الحول، كما لو بقي من الأمهات نصاب، وهو اختيار الأنماطي، وأبي حنيفة، كما لو بقيت واحدة. وما قاله الأنماطي: ينكسر بولد أم الولد، فإنه ثبت له ما ثبت لأمه من حرمة الاستيلاد، ولو ماتت الأم في حياة سيدها.. بطل ما ثبت لها، ولا يبطل ما ثبت لولدها. [مسألة: إمكان الأداء من شرط الضمان] ] : قد ذكرنا أن الحول والنصاب شرطان في وجوب الزكاة، ومضى الكلام عليهما. وأما إمكان الأداء.. ففيه قولان: أحدهما: أنه من شرائط الوجوب، وبه قال مالك. فعلى هذا: لا تجب الزكاة إلا بثلاثة شروط: الحول، والنصاب، وإمكان الأداء؛ لأن المال لو تلف بعد الحول، وقبل إمكان الأداء.. لم تجب الزكاة، فلو كانت الزكاة قد وجبت.. لم يسقط ضمانها؛ ولأن العبادات كلها إمكان الأداء شرط في وجوبها، ألا ترى أن العذر إذا طرأ بعد الزوال وقبل التمكن من الفعل.. لم يجب قضاء الظهر. والقول الثاني: أن إمكان الأداء ليس بشرط من شرائط الوجوب، وإنما هو من شرائط الضمان، وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح. والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» . ولم يفرق بين أن يتمكن من الأداء، أو لا يتمكن. ولأنه لو تلف المال بعد الحول.. كان عليه ضمان الزكاة، فلو لم تجب الزكاة فيه.. لم يجب عليه ضمانها، كما لو أتلفه قبل الحول. وأما الصلاة: فإن الشمس إذا زالت.. فقد وجبت عليه الصلاة، ولكن لا يستقر عليه الوجوب إلا بالتمكن من الأداء، وكذلك هذا مثله.

فرع: ضمان الزكاة إذا أخرها

وأما كيفية إمكان الأداء: فإن كان المال باطنا: كالذهب والفضة، ومال التجارة، وزكاة الفطر ووجبت الزكاة فيها.. فرب المال بالخيار: بين أن يفرق زكاتها بنفسه على أهل السهمان، وبين أن يدفعها إلى الإمام أو إلى الساعي، فمتى قدر على أحد هؤلاء الثلاثة.. فقد أمكنه الأداء. وإن كان المال ظاهرا، مثل: النخل، والكرم، والزرع، والماشية.. فهل يجوز لرب المال تفرقة زكاته بنفسه، أو يجب عليه دفع زكاته إلى الساعي أو الإمام؟ فيه قولان، يأتي بيانهما. فإذا قلنا: يجب دفعها إلى الإمام أو الساعي، فإن تلف المال قبل ذلك.. لم يلزمه ضمان زكاته، وإن طالبه الإمام أو الساعي، وبه قال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما، فما لم يقدر على أحدهما.. لا يكون متمكنا من الأداء. وإن قلنا: يجوز له تفرقتها بنفسه، فمتى قدر على الإمام أو الساعي أو أهل السهمان. صار متمكنا من الأداء. [فرع: ضمان الزكاة إذا أخرها] وإذا وجبت عليه الزكاة، وتمكن من أدائها، فلم يؤدها حتى تلف المال.. لزمه ضمانها. وقال أبو حنيفة في الأموال الظاهرة: (لا يلزمه الإخراج حتى يطالبه الإمام أو الساعي، فإن تلف المال قبل ذلك.. لم يلزمه ضمان زكاته، وإن طالبه الإمام أو الساعي، فلم يخرج حتى تلف المال.. لزمه الضمان) . حكاه عنه البغداديون من أصحابنا. وحكى عنه الخراسانيون من أصحابنا: (أنه لا ضمان عليه) .

فرع: وقع النتاج الثاني قبل إمكان دفعها

وأما الأموال الباطنة: (فإذا قدر على أدائها.. لزمه إخراجها، فإن لم يفعل حتى تلف المال.. فلا ضمان عليه) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] [البقرة: 43] . ولم يفرق بين أن يطالب أو لا يطالب، فإن كان عنده نصاب من المال، فهلك بعضه بعد الحول، وقبل إمكان الأداء.. لم تجب عليه زكاة التالف، بلا خلاف، وأما زكاة ما بقي: فهل يجب عليه شيء؟ على القولين في إمكان الأداء. فإن قلنا: إن إمكان الأداء شرط في الوجوب.. لم يجب عليه زكاة الباقي أيضا. وإن قلنا: إن إمكان الأداء ليس من شرائط الوجوب، وإنما هو من شرائط الضمان.. لزمه زكاة ما بقي. [فرع: وقع النتاج الثاني قبل إمكان دفعها] ] : وإن كان عنده ثمانون شاة، فتوالدت بعد الحول، وقبل إمكان الأداء، حتى بلغت النصاب الثاني.. فهل يلزمه أن يزكي النصاب الثاني لحول الأمهات؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان، بناء على القولين في إمكان الأداء. فإن قلنا: إنه من شرائط الوجوب.. ضم الأولاد إلى الأمهات، وزكى الجميع لحول الأمهات؛ لأنها بلغت النصاب الثاني قبل الوجوب، فصار كما لو توالدت قبل الحول. وإن قلنا: إن إمكان الأداء ليس من شرائط الوجوب، وإنما هو من شرائط الضمان.. لم يضم إليها في الحول الأول، كما لو توالدت بعد إمكان الأداء. ومنهم من قال: فيه قولان من غير بناء: أحدهما: يضم إليها في الحول الأول؛ لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للساعي: (اعتد عليهم بالسخلة التي يروح بها الراعي على يده) وأراد به: بعد الحول، فأما ما تولد قبل الحول: فإنه بعد الحول يمشي بنفسه.

مسألة: تعلق وجوب الزكاة

والثاني: لا يضم إليها، وهو الصحيح لأنها إذا لم تضم إليها بعد استقرار الزكاة بإمكان الأداء.. فلأن لا يضم إليها قبل استقرار الوجوب أولى. [مسألة: تعلق وجوب الزكاة] وهل تجب الزكاة في عين المال، أو في الذمة؟ فيه قولان: أحدهما - وهو قوله القديم -: (إنها تجب في الذمة، والعين مرتهنة بها) . ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في خمس من الإبل شاة» . ولا يمكن أخذ الشاة من عينها، فعلم: أنه أراد: في ذمة رب المال عن ذلك المال. ولأنه لو كان الحق متعلقا بعين المال.. لم يجز للمالك إسقاط حقهم من عين المال من غير رضاهم. والثاني - وهو قوله في الجديد -: (أنها تتعلق بعين المال) . ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في أربعين شاة شاة» . فأوجب الزكاة منها، فعلم: أن الزكاة تتعلق بعينها. ولأنه لو لم تجب الزكاة لعين المال، لما سقطت بتلف المال، هذا ترتيب أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: في محل الزكاة طريقان: [الطريق الأول] : منهم من قال فيه قولان: أحدهما: تجب في الذمة، ولها تعلق بالعين. والثاني: تتعلق بالعين. وفي كيفية تعلقها بالعين قولان: أحدهما: على معنى استحقاق جزء من العين. والثاني: كتعلق الجناية برقبة الجاني. وحكى القفال قولا ثالثا: أنها تتعلق به كتعلق حق المرتهن بالرهن، ولهذا فائدة نذكرها في بيع قدر الزكاة.

والطريق الثاني - وهو قول أبي العباس -: أن المسألة على قول واحد، وأنها تتعلق بالعين. وفي كيفية تعلقها بها قولان: أحدهما: بمعنى استحقاق جزء. والثاني: كتعلق الجناية برقبة الجاني. فأما تعلقها بالذمة: فليس بمذهب للشافعي. وطريقة البغداديين أشهر، وعليها التفريع هاهنا. فإن كان معه أربعون من الغنم، ولم يؤد زكاتها حتى حال عليها ثلاثة أحوال.. نظرت: فإن نتجت منها شاة سخلة عند ابتداء الحول الثاني، ثم نتجت شاة منها سخلة عند ابتداء الحول الثالث، وجاء الحول الثالث، وهي اثنتان وأربعون.. وجب عليه ثلاث شياه للأحوال الثلاثة؛ لأن النصاب لم ينقص في جميع الأحوال الثلاثة. وإن لم يزد النصاب، ولم ينقص، بل حال عليها ثلاثة أحوال، وهي أربعون لا غير: فإن قلنا: إن الزكاة تجب في العين.. فإنه يجب عليه شاة عند تمام الحول الأول، ولا تجب في الحول الثاني والثالث شيء فيها؛ لأن الفقراء ملكوا منها شاة عند تمام الحول الأول، فنقصت عن النصاب. وإن قلنا: إن الزكاة تجب في الذمة.. فإنه يجب عليه شاة في الحول الأول، وهل يجب عليه بالحول الثاني والثالث شيء؟ ينظر فيه: فإن كان يملك مالا من غير الغنم بقدر قيمة الشاة التي وجبت عليه من أول الحول الثاني إلى آخره.. وجبت عليه شاة ثانية عند تمام الحول الثاني. وكذلك: إن كان يملك مالا من غير الغنم بقدر قيمة شاتين من أول الحول الثالث إلى آخره.. وجبت عليه شاة للحول الثالث. وإن كان لا يملك مالا غير الأربعين من الغنم.. فإن قلنا: إن الدين يمنع وجوب الزكاة.. لم يجب عليه زكاة الحول الثاني والثالث.

وإن قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. وجبت عليه الزكاة للحول الثاني والثالث، على هذا التفصيل، هكذا ذكر أكثر أصحابنا. وأما الشيخ أبو إسحاق: فقال: إذا قلنا: تجب الزكاة في الذمة.. وجبت عليه الزكاة للحول الثاني والثالث من غير تفصيل، ولعله أراد: على الصحيح من القولين، في أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة. وبالله التوفيق.

باب صدقة الإبل السائمة

[باب صدقة الإبل السائمة] : الأصل في وجوب الزكاة فيها: قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] الآية [التوبة: 103] . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البر صدقته» . إذا ثبت هذا: فبدأ الشافعي من المواشي بالإبل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بذكرها في الصدقات. وليس فيما دون خمس من الإبل صدقة؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، فإذا بلغت الإبل خمسا، ففيها شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، فإذا بلغت خمسا وعشرين، ففيها ابنة مخاض» ، وهي التي لها سنة، ودخلت في

الثانية، وإنما سميت: ابنة مخاض؛ لأن أمها قد آن لها أن تكون ماخضا، أي: حاملا بغيرها: فإذا بلغت ستا وثلاثين.. ففيها ابنة لبون، وهي التي لها سنتان، ودخلت في الثالثة، وسميت بذلك؛ لأن أمها قد آن لها أن تكون لبونا على غيرها. فإذا بلغت ستا وأربعين.. ففيها حقة، وهي التي لها ثلاث سنين، ودخلت في الرابعة، وسميت بذلك؛ لأنها قد استحقت أن يطرقها الفحل، وهذا المروي في الخبر. وقيل: لأنها استحقت أن يحمل على ظهرها. فإذا بلغت إحدى وستين.. ففيها جذعة، وهي التي لها أربع سنين، ودخلت في السنة الخامسة، وهي أعلى سن تجب في زكاة الإبل، وسميت بذلك؛ لأنها تجذع سنها. فإذا بلغت ستا وسبعين.. ففيها بنتا لبون. فإذا بلغت إحدى وتسعين.. ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة.. ففيها ثلاث بنات لبون. قال أصحابنا: ولا خلاف فيما ذكرناه بين الصحابة والفقهاء، إلا حكاية تحكى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه، فإذا بلغت ستا وعشرين.. فيها ابنة مخاض، فإذا زادت على عشرين ومائة واحدة.. ففيها ثلاث بنات لبون، ثم في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة) . هذا مذهبنا. وقال مالك: (تجب في إحدى وتسعين حقتان، حتى تبلغ مائة وتسعا وعشرين، فإذا صارت مائة وثلاثين.. كان في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة) . وقال أبو حنيفة: (إذا بلغت مائة وعشرين.. استؤنفت الفريضة، فتجب في كل خمس شاة مع الحقتين، إلى أن تبلغ مائة وخمسا وأربعين، فتجب فيها حقتان وابنة مخاض) .

وقال ابن جرير الطبري: إذا بلغت مائة وعشرين، ثم زادت.. فرب المال بالخيار بين أن يأخذ بما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبين أن يأخذ بما قال أبو حنيفة. دليلنا: ما روي «عن أنس: أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب له لما وجهه إلى البحرين: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المسلمين، والتي أمر الله بها عباده، فمن سألها على وجهها.. فليعطها، ومن سأل فوقها.. فلا يعطه: " في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين.. ففيها ابنة مخاض، فإن لم يوجد فابن لبون ذكر، فإن بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين.. ففيها ابنة لبون، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين.. ففيها حقة طروقة الفحل، فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين.. ففيها جذعة، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين.. ففيها ابنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين.. ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا زادت الإبل على عشرين ومائة.. ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة»

وإذا ثبت هذا: فمعنى قوله: (التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أي: التي قدر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أمره الله به مجملا. وقوله: «إذا سألها على وجهها.. فليعطها» : إذا أتى المصدق، وطلب الصدقة كما أمره الله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. فإنه يعطى. وأما قوله: «ومن سأل فوقها فلا يعطه» : إن سال فوقها بتأويل، مثل: أن يكون الإمام مالكيا يرى أخذ الكبيرة من الصغار.. فإنه لا يعطى الزيادة، ويعطى الأصل، وإن سأل فوقها بغير تأويل، مثل: أن يسأل عن أربعين شاة شاتين.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا يعطى شيئا؛ لأنه قد ظهر ظلمه، ودفع الصدقة إلى الظلمة لا يجوز. ومنهم من قال: يعطى الأصل، ولا يعطى الزيادة؛ لاحتمال أن يكون سها أو نسي، فلا يمنع عن الواجب. قال ابن الصباغ: وهذا أصح. فإن ملك مائة وعشرين من الإبل وجزءا من واحدة.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه يجب عليه فيها ثلاث بنات لبون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا زادت على عشرين ومائة.. ففي كل أربعين بنت لبون» . ولم يفرق بين أن يزيد واحدة، أو أقل. والثاني - وهو المنصوص -: (أنه لا يجب فيها إلا حقتان) ؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في كتاب الصدقة: «فإذا بلغت مائة وإحدى وعشرين.. ففيها ثلاث بنات لبون» . وهذا نص لا احتمال فيه. ولأن سائر الأوقاص لا تتغير بأقل من واحد، فكذلك هذا مثله.

مسألة: وجوب زكاة المواشي في النصاب

[مسألة: وجوب زكاة المواشي في النصاب] ] : وهل تتعلق الزكاة بالنصاب والوقص، أو بالنصاب وحده، والوقص عفو؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم والجديد: (تتعلق الزكاة بالنصاب، وما زاد عليها عفو) . وبه قال أبو حنيفة، والمزني؛ لأنه وقص قبل النصاب، فلم يتعلق به حق كالأربعة الأولى. و [الثاني] : قال في " البويطي ": (تتعلق الزكاة بالجميع) . قال أبو العباس: وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين.. ففيها ابنة مخاض» ، ولأنه حق يتعلق بنصاب، فتعلق به وبما زاد عليه، كالقطع في السرقة. إذا ثبت هذا: فالوقص - بتسكين القاف -: هو ما بين الفرضين، وحكي عن بعض أهل اللغة: الوقص، بفتح القاف.

فإن ملك تسعا من الإبل، فتلف منها أربع، فإن تلفت قبل الحول.. وجبت عليه شاة؛ لتمام الحول، وإن تلفت بعد الحول وبعد إمكان الأداء.. لم يسقط عنه من الشاة شيء. وإن تلفت بعد الحول، وقبل إمكان الأداء.. فإن الشيخ أبا حامد، وأكثر أصحابنا قالوا: إن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. وجب عليه شاة بإمكان الأداء؛ لأنه جاء وقت الوجوب وعنده نصاب. وإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الضمان: فإن قلنا: إن الشاة مأخوذة من النصاب والوقص.. وجب عليه خمسة أتساع شاة، وهذا هو المشهور. وحكى القاضي أبو الطيب، عن أبي إسحاق المروزي: أنه يجب عليه شاة على هذا. ولم يذكر وجهه. قال ابن الصباغ: ووجهه عندي: أن الزيادة لما لم تكن شرطا في وجوب الشاة.. لم يسقط منها شيء بتلفها، وإن كانت الزكاة متعلقة بها.. فهو كما لو شهد ثمانية بالزنا، فرجم المشهود عليه، ثم رجع أربعة منهم، فإنه لا يجب عليهم شيء. وإن قلنا: إن الشاة مأخوذة من النصاب، والوقص عفو.. وجبت عليه شاة. وأما الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": فلم يذكر هاهنا البناء على إمكان الأداء، ولعله أراد التفريع على القول الصحيح، فحصل في هذه المسألة وجهان:

فرع: تلف بعض الماشية قبل إمكان الأداء

أحدهما: تجب عليه شاة. والثاني: لا يجب عليه إلا خمسة أتساع الشاة. وإن هلك منها خمس بعد الحول، وقبل إمكان الأداء: فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. لم يجب عليه شيء؛ لأن وقت الوجوب جاء وعنده أقل من نصاب. وإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الضمان.. بنيت على القولين الآخرين: فإن قلنا: إن الشاة مأخوذة من النصاب، والوقص عفو.. وجب عليه أربعة أخماس شاة. وإن قلنا: إن الشاة مأخوذة من النصاب والوقص.. وجبت عليه أربعة أتساع الشاة، فيحصل في هذه المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: لا يجب فيها شيء. والثاني: يجب فيها أربعة أخماس شاة. والثالث: أربعة أتساع الشاة. [فرع: تلف بعض الماشية قبل إمكان الأداء] فإن كان معه خمس وعشرون من الإبل، فتلف منها خمس من الإبل، بعد الحول، وقبل إمكان الأداء: فإن قلنا: إن إمكانية الأداء من شرائط الوجوب.. لم تجب عليه ابنة مخاض، بل يجب عليه أربع شياه.

فرع: تلف شطر الماشية

وإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الضمان.. وجب عليه أربعة أخماس ابنة مخاض. [فرع: تلف شطر الماشية] وإن كان معه ثمانون شاة، فتلف منها أربعون: فإن كان قبل الحول، أو بعد الحول وبعد إمكان الأداء وجب عليه شاة. وإن كان تلفها بعد الحول، وقبل إمكان الأداء: فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. فعليه شاة أيضا. وإن قلنا: إنه من شرائط الضمان: فإن قلنا: تجب الشاة في النصاب والوقص.. وجب عليه نصف شاة. وإن قلنا: تجب عليه في النصاب، والوقص عفو.. فعليه شاة. قال ابن الصباغ: ويجيء على الوجه المحكي عن أبي إسحاق: أنه تجب عليه شاة بكل حال. [مسألة: وجوب الغنم في دون خمس وعشرين من الإبل] ] : الواجب فيما دون خمس وعشرين من الإبل: إخراج الغنم، ولا يطالب إلا بالغنم؛ لأنه هو الفرض المنصوص عليه، فإن اختار أن يعطي بعيرا منها.. جاز، بشرط أن يكون مما يجزئ في خمس وعشرين، هذا قول عامة أهل العلم.

وقال مالك وداود: (لا يجزئه) . دليلنا: أن البعير يجزئ عن خمسة وعشرين، فلأن يجزئ عما دونها أولى. وإن كانت الإبل من أصناف، أعطى بعيرا متوسطا منها.. قال الشافعي: - رَحِمَهُ اللَّهُ - (كان له ذلك وإن كان أردأها) ؛ لأنه أفضل من الشاة، وهل الجميع فرضه؟ فيه وجهان: أحدهما: أن الجميع ليس بفرض، بل الفرض يقسط على خمس وعشرين، فإن أخرجه عن خمس.. كان خمسه فرضا لا غير، وإن أخرجه عن عشرة.. كان فرضه خمساه لا غير، والباقي تطوع؛ لأنه يجزئ عن خمس وعشرين، فدل على أن لكل خمس من الإبل خمس بعير. والثاني: أن الجميع فرضه؛ لأنه خير بين الشاة والبعير، فأيهما اختار إخراجه.. كان ذلك فرضه، كمن خير بين غسل الرجلين والمسح على الخفين. قال ابن الصباغ: ولو كان ما قاله الأول صحيحا.. لأجزأه خمس بعير. وهكذا: إذا أخرج المتمتع بدنة.. فهل الجميع فرضه أو سبعها؟ على هذين الوجهين. وإن اختار إخراج الغنم.. أخرج جذعة من الضأن، أو ثنية من المعز؛ لما «روى سويد بن غفلة، قال: أتانا مصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: (نهينا عن أخذ الراضع،

وأمرنا أن نأخذ جذعة من الضأن، وثنية من المعز» وهل يجزئ فيه الذكر؟ فيه وجهان: [الأول] : من أصحابنا من قال: لا يجزئه؛ لحديث سويد بن غفلة. والثاني: يجزئه، وهو المنصوص؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل خمس شاة» . ولم يفرق. وأما جنسها: فقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا: إنه يجب عليه من غالب غنم البلد، إن كان بمكة.. فالشاة مكية، وإن كانت غنمه غير ذلك، فإن كان ببغداد.. فتجب عليه شاة بغدادية. وإن كانت غنمه غير ذلك.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أنظر إلى الغالب من غنم البلد) . قال الشيخ أبو حامد: أراد به في الصنفين، يعني: الضأن والمعز. وقال مالك رحمة الله عليه: (إن كان غالب غنم البلد الضأن.. فعليه أن يخرج الضأن، وإن كان غالب غنم البلد المعز.. فعليه أن يخرج المعز) . وكذلك طريقة الشيخ أبي إسحاق في " المهذب " في الأغلب، كقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قال الشيخ أبو حامد: وهذا ليس بصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل خمس من الإبل شاة» . ولم يفرق بين الضأن والمعز. فإن عدل عن نوع بلده إلى نوع بلد آخر: فإن كان خيرا من نوع بلده أو مثله.. أجزأه، وإن كان دونه.. لم يجزئه.

فرع: أخر الزكاة أحوالا

وإن كانت الخمس من الإبل مراضا.. ففي شاتها وجهان: أحدهما: يجب عليه أن يخرج شاة تجزئ في الأضحية، وهو المذهب؛ لأنه لا يعتبر فيه صفة المال، فلم يختلف بصحة المال ومرضه، كالأضحية، وفيه احتراز منه إذا كانت الزكاة من جنس المال المزكى. و [الثاني] : قال أبو علي بن خيران: لا يجب عليه إلا شاة بالقسط؛ لأنه لا يجب في المال المريض صحيحة إذا كان الفرض من جنسه، فكذلك إذا كان الفرض من غير جنسه. وكيفية التقسيط هاهنا: أن يقال: لو كانت هذه الخمس من الإبل صحاحا.. كم قيمتها؟ فإن قيل: قيمتها ألف.. قيل: فكم قيمة الشاة الواجبة فيها؟ فإن قيل: عشرة.. قيل: فكم قيمة هذه الإبل المراض؟ فإن قيل: خمسمائة.. قيل له: أخرج شاة قيمتها خمسة. قال ابن الصباغ: فإن أمكن أن يشتري بها شاة، وإلا فرقت دراهم على المساكين. [فرع: أخر الزكاة أحوالا] وإن أقامت في يده خمس من الإبل ثلاثة الأحوال لم يزك عنها.. فإن بالحول الأول تجب فيه الشاة.

فإذا جاء الحول الثاني: فإن قلنا: تجب الزكاة في الذمة، وكان له مال من غير الإبل بقدر قيمة الشاة في جميع الحول الثاني، أو لم يكن له مال، ولكن قلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. فإنه تجب عليه شاة أخرى. فإذا حال الحول الثالث، وكان يملك من غير الإبل في جميع الحول الثالث بقدر قيمة الشاتين، أو لم يكن له مال غير الإبل، ولكن قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. وجبت عليه شاة ثالثة. وإن قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة.. وجبت عليه شاة في الحول الأول، ولا يجب في الثاني ولا في الثالث شيء. وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالعين.. ففيه قولان: أحدهما: تجب في السنة الأولى شاة، ولا يجب في السنة الثانية والثالثة شيء؛ لأن المساكين قد استحقوا في الحول الأول بقدر شاة، وبقي معه دون النصاب، فهو كما لو كان معه أربعون من الغنم، فحال عليها ثلاثة أحوال.. لم يزك عنها.. فإنه لا تجب عليه زكاة الثانية والثالثة على هذا القول. والقول الثاني: يجب فيه ثلاث شياه لثلاث سنين؛ لأن الشاة التي تجب في الأولى لا تؤخذ من عين المال، وإنما يؤخذ بدلها، فتكون من الإبل بقدر شاة رهنا بتلك الشاة، والرهن لا يمنع وجوب الزكاة. هكذا ذكر أصحابنا. والذي تبين لي: أن على هذا القول يجب أن يكون الحكم كالحكم فيها إذا قلنا: الزكاة تجب في الذمة، وهو أن ينظر فيه: فإن كان يملك قدر قيمة الشاة في الحول الثاني، وقدر قيمة الشاتين في الحول الثالث.. وجب عليه ثلاث شياه، وإن كان لا يملك شيئا غير هذه الإبل.. كان على القولين في الدين، هل يمنع وجوب الزكاة؟ وإن ملك ستا من الإبل، فحال عليها ثلاثة أحوال، ولم يؤد زكاتها فيها.. فإن الشيخ أبا حامد قال: يجب فيها ثلاث شياه بكل حال؛ لأن معه أكثر من نصاب؛ لأنه إذا أخرج لكل سنة شاة، يكون الباقي نصابا.

فرع: تأجيل الزكاة أحوالا

وهذا الذي قاله الشيخ أبو حامد صحيح إذا كانت قيمة واحدة من هذه الست في جميع الحول الثاني تساوي قيمة شاة، وكانت هي أو غيرها تساوي في الحول الثالث قيمة شاتين. [فرع: تأجيل الزكاة أحوالا] إذا كان معه خمس وعشرون من الإبل، وأقامت في يده ثلاثة أحوال لم يؤد زكاتها.. فإن بحؤول الحول الأول يجب عليه ابنة مخاض. فإذا حال الحول الثاني: فإن قلنا: الزكاة تجب في الذمة، والعين مرتهنة بها، فإن كان له مال من غير الإبل يفي بقيمة ابنة مخاض في جميع الحول الثاني، أو لم يكن له مال، ولكن قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. وجبت عليه بحؤول الحول الثاني ابنة مخاض ثانية. فإن كان يملك في جميع الثالث مالا من غير الإبل، بقدر قيمة ابنتي مخاض، أو لم يكن له مال، ولكن قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. فعليه ابنة مخاض ثالثة بحؤول الحول الثالث. وإن قلنا: الزكاة تجب في العين أو في الذمة، ولا مال له غيرها، والدين يمنع وجوب الزكاة.. فعليه ابنة مخاض بحؤول الحول الأول، ويجب عليه في الحول الثاني أربع شياه، وكذلك في الثالث أربع شياه. [فرع: مرور أحوال بلا زكاة] إذا كان معه أحد وتسعون من الإبل، فحال عليها ثلاثة أحوال لم يزك عنها.. فإن بحؤول الحول الأول يجب عليه حقتان. فإذا حال الحول الثاني: فإن قلنا: الزكاة تجب في الذمة، والعين مرتهنة بها،

مسألة: وجوب بنت مخاض

فإن كان له فيه مال من غير الإبل بقدر قيمة الحقتين في جميع الحول الثاني، أو لم يكن له مال، وقلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. فإنه يجب عليه حقتان بحؤول الحول الثاني. فإذا حال الحول الثالث: فإن كان له في الحول الثالث مال غير الإبل يفي بقيمة أربع حقاق، أو لم يكن له مال، ولكن قلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة.. وجب عليه حقتان أيضا بحؤول الحول الثالث. وإن قلنا: الزكاة استحقاق جزء من العين.. وجب عليه بحؤول الأول حقتان؛ لأن نصابه تام، ويجب عليه بحؤول الحول الثاني ابنتا لبون، وكذلك بحؤول الثالث أيضا. وهكذا إذا قلنا: تجب الزكاة في الذمة، ولا مال له غيره، وقلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة.. فالحكم فيه كالحكم إذا قلنا: الزكاة استحقاق جزء من العين. [مسألة: وجوب بنت مخاض] إذا ملك خمسا وعشرين من الإبل، فقد ذكرنا أن عليه ابنة مخاض، وفيها ست مسائل: الأولى: إذا كان واجدا لها في إبله.. فيلزمه إخراج ابنة مخاض على صفة إبله، ولا يجوز له إخراج ابن لبون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن لم يكن فيها ابنة مخاض.. فابن لبون ذكر» . وهذا في إبله ابنة مخاض، فدل على: أنه لا يجزئه إخراج ابن لبون. الثانية: إذا لم يكن في إبله ابنة مخاض، ولا يقدر على شرائها، وكان فيها ابن لبون ذكر.. جاز له إخراجه من غير جبران؛ للخبر، ولأن فيها فضيلة بالأنوثية،

ولكنها لا تصل حيث يصل ابن لبون من الرعي، ولا تمتنع من صغار السبع كامتناعه، ففيه فضيلة بهذا، وينقص عنها لكونه ذكرا، فاستويا. الثالثة: إذا لم يكن في إبله ابنة مخاض، وكان هو يقدر على شرائها، وعنده ابن لبون.. فيجوز له إخراج ابن لبون، ولا يلزمه شراء ابنة مخاض. والفرق بين هذه، وبين من وجبت عليه في الكفارة رقبة لا يملكها، ويقدر على ثمنها: أنه يلزمه شراؤها؛ لأن الله تعالى قال في الكفارة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] . ومن وجد الثمن.. فهو قادر على الرقبة، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الزكاة: «فإن لم يكن في إبله ابنة مخاض، فابن لبون» . وهذا ليس في إبله ابنة مخاض. الرابعة: إذا لم يكن في إبله ابنة مخاض، ولا ابن لبون، وكان قادرا على شرائهما.. فقال الشافعي: (هو بالخيار بين أن يشتري أيهما شاء) . وقال مالك: (لا يجزئه أن يشتري ابن لبون، بل يشتري ابنة مخاض) . وحكاه صاحب " الإبانة " [ق \ 111] وجها لصاحب " التقريب ".

دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن لم يكن في إبله ابنة مخاض.. فابن لبون ذكر» . فأجاز له إخراج ابن لبون، إذا لم يكن في إبله ابنة مخاض، ولم يفرق بين أن يقدر على شرائها، أو لا يقدر. الخامسة: إذا لم يكن في إبله ابنة مخاض، فأخرج مكانها حقا.. أجزأه؛ لأنه أفضل من ابنة مخاض وابن لبون. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وأطلق. والذي يقتضي المذهب: أنه لو طلب معه الجبران.. لم يعط؛ لأن الجبران إنما يكون بين الإناث، وهاهنا: لا يعلم الفضل بينهما. وإن أراد أن يخرج الحق مكان ابنة لبون.. لم يقبل منه؛ لأنهما يتساويان في ورود الماء والشجر، وتفضل عليه بالأنوثة. السادسة: إذا كانت إبله مهازيل، وفيها ابنة مخاض سمينة.. لم يلزمه إخراجها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياك وكرائم أموالهم» ، فإن أخرجها.. أجزأه، وقد تطوع بأكثر مما عليه. وإن اشترى ابنة مخاض بصفة ماله، وأخرجها.. جاز. وإن أراد إخراج ابن لبون.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يجزئه) ؛ لأن التي عنده لا يلزمه إخراجها، فكان وجودها كعدمها.

مسألة: جبران السنين

والثاني - ولم يذكر في " التعليق " غيره -: أنه لا يجزئه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن لم يكن في إبله ابنة مخاض.. فابن لبون» . وهذا في إبله ابنة مخاض تجزيء. [مسألة: جبران السنين] ] : ومن وجبت عليه سن من هذه الأسنان المذكورة، وليس عنده إلا ما هو أسفل منها بسنة.. فإنها تقبل منه، ويدفع معها شاتين أو عشرين درهما، وإن وجبت عليه سن وليس عنده إلا ما هو أعلى منها بسنة، واختار دفعها.. قبلت منه، ويعطيه الساعي شاتين أو عشرين درهما، وقال الثوري، وأبو عبيد، وإحدى الروايتين عن إسحاق بن راهويه: الجبران شاتان، أو عشرة دراهم. وروي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. دليلنا: ما روى أنس في (كتاب الصدقة) . فإن وجبت عليه جذعة، ولم يكن فيها جذعة، وفيها حقة.. فإنها تقبل منه، ومعها شاتان أو عشرون درهما، ومن بلغت صدقته الحقة، وليس عنده إلا ابنة لبون.. فإنها تقبل منه، ويعطي معها شاتين أو عشرين درهما، ومن بلغت صدقته ابنة لبون، وليست عنده، وعنده ابنة مخاض.. فإنها تقبل منه، ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت صدقته ابنة مخاض، وليست عنده، وعنده ابنة لبون.. فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهما، أو شاتين، فإن وجبت عليه جذعة، وليست عنده، وعنده ثنية، فإن دفعها، ولم يطلب الجبران.. قبلت منه؛ لأنها أعلى من الفرض بسنة، وإن طلب الجبران.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يعطى) ؛ لأنها أعلى من الفرض بسنة. والثاني: لا يعطى؛ لأن الجذعة تساوي الثنية؛ لورود الماء والشجر.

وإن وجبت عليه ابنة مخاض، ولم تكن عنده، وأراد أن يعطي ما لها دون السنة، ويدفع الجبران.. لم يجز؛ لأن ما دونها ليس بفرض مقدر. وإن كانت إبله مراضا، ولم يكن الفرض فيها، فأراد أن يصعد إلى فرض مريض، ويأخذ الجبران.. لم يجز؛ لأن الجبران بين المريضين أقل مما بين الصحيحين. وإن أراد أن ينزل إلى فرض مريض، ويدفع الجبران.. جاز؛ لأنه متطوع بالزيادة. وإن لم يكن عنده الفرض المنصوص عليه، وعنده أعلى منه بسنة وأنزل منه بسنة، فإن اتفق رب المال والساعي على الصعود أو النزول مع الجبران.. جاز. وإن اختلفا، فدعا أحدهما إلى الصعود، والآخر إلى النزول.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يقدم اختيار الساعي؛ ليأخذ للمساكين الأنفع لهم) . الثاني: يقدم اختيار رب المال؛ لأنه هو المعطي. وهذا ليس بشيء. وإن لم يوجد في المال الفرض المنصوص عليه، ووجد ما هو أعلى منه بسنتين.. قبل منه، وأعطاه الساعي أربع شياه، أو أربعين درهما. وهكذا: إذا لم يوجد في المال إلا ما هو أنزل من الفرض بسنتين.. قبل منه مع أربع شياه، أو أربعين درهما، قياسا على الجبران بسنة. وحكى ابن الصباغ: أن من الناس من قال: لا يجوز، واختاره ابن المنذر.

مسألة: فيما يجب بالمائتين من الإبل

دليلنا: أن كل سن جاز العدول عنه إلى ما يليه بسنة مع الجبران.. جاز العدول عنه إلى ما يليه بسنتين مع الجبران، كما لو دفع أعلى مما يجب عليه بسنتين من غير جبران. وإن وجبت عليه ابنة لبون، وليست عنده، وعنده حقة وجذعة، فأراد رب المال أن يدفع الجذعة، ويأخذ أربع شياه، أو أربعين درهما.. فهل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه قد عرف ما بينهما. والثاني: لا يجوز، وهو الصحيح؛ لأنه قد كان يمكنه أن يدفع ما هو أعلى بسنة وجبرانا واحدا، فلم يجز له العدول عنه إلى جبرانين، كما لو وجد الفرض، وأراد أن يعدل إلى غيره مع الجبران. ومن وجبت عليه شاتان، أو عشرون درهما.. فالخيار إليه، فإن كان الذي يدفع الجبران هو رب المال.. فالأولى أن يدفع الأكثر من الشاتين أو عشرين درهما؛ لأنه أكثر ثوابا، وإن أراد أن يدفع أدونهما.. جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيره بينهما، وإن كان الذي يدفع الجبران هو الساعي.. فلا يجوز أن يعطي إلا أقلهما؛ لأنه ناظر لغيره، فإن كان في بيت المال شيء.. دفع الإمام منه ذلك؛ لأنه مصلحة لأهل السهمان، وإن لم يكن في بيت المال شيء، باع الساعي مما في يده للمساكين، وسلمه جبرانا؛ لأنه ناظر للمساكين، فهو كولي اليتيم. فإن أراد الدافع منهما أن يدفع شاة وعشرة دراهم.. لم يجز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيره بين شيئين، فلا يجوز أن يخيره بين ثلاثة أشياء، وإن أراد من وجب عليه في الجبران أربع شياه، أو أربعون درهما، فأراد أن يعطي شاتين وعشرين درهما.. كان له ذلك؛ لأنهما جبرانان. [مسألة: فيما يجب بالمائتين من الإبل] وإن كان معه مائتان من الإبل: فقال الشافعي في الجديد: (يحب فيها أربع حقاق، أو خمس بنات لبون) .

وقال في القديم: (يجب فيها أربع حقاق) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: يجب فيها أربع حقاق لا غير؛ لأن تغير الفرض بالسن في الإبل أكثر من تغيره بالعدد، ألا ترى أنه يجب في مائة وستين أربع بنات لبون، ثم كلما زادت الإبل عشرا.. تغير الفرض فيها بالسن؟ فإذا بلغت مائة وتسعين.. ففيها ثلاث حقاق، وبنت لبون، فإذا بلغت مائتين.. وجب التغيير بالسن أيضا، فيجب أربع حقاق. والقول الثاني: يجب فيها أربع حقاق، أو خمس بنات لبون، وهو الصحيح؛ لما روى سالم بن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، يرفعه في نسخة كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا بلغت مائتين.. ففيها أربع حقاق، أو خمس بنات لبون» . ومنهم من قال: يجب أربع حقاق، أو خمس بنات لبون، قولا واحدا، وما قاله في القديم، فإنما قال ذلك؛ لأن الخيار إلى الساعي عند الشافعي، وعليه أن يأخذ الحقاق؛ لأنها أفضل. إذا ثبت هذا: فإن قلنا: إن الواجب أربع حقاق، فإن كانت موجودة في المال.. لم يجز العدول عنها إلى غيرها. وإن كانت معدومة في المال.. فرب المال بالخيار بين أن يشتري الحقاق، وبين أن يصعد إلى الجذاع، ويأخذ الجبران، أو ينزل إلى بنات لبون، ويدفع الجبران. وإن قلنا: إن الواجب أحد الفرضين، فإن وجد أحدهما في المال.. تعين إخراجه، ولا يطالبه الساعي بإحضار الثاني، وإن عدما جميعا.. كان رب المال بالخيار: بين أن يشتري أحدهما، أو ينزل عن أحدهما، ويدفع الجبران، أو يصعد إلى ما فوقه، ويأخذ الجبران، وإن وجد الفرضان معا.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو المنصوص -: (أن الخيار إلى الساعي، فيأخذ الأفضل منهما) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] [البقرة: 267] .

فلو قلنا: الخيار إلى رب المال.. لكان يخرج الأدون، فيكون قد أنفق خبيث المال. الثاني - وهو قول أبي العباس -: أن الخيار إلى رب المال، فيعطي أي الفرضين شاء، إلا أن يكون ناظرا ليتيم، فلا يجوز أن يعطي إلا أدونهما، وحمل النص عليه إذا خير رب المال الساعي. ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياك وكرائم أموالهم» . فلو جعلنا الخيار إلى الساعي، لأخذ الكريمة. فإذا قلنا بالمنصوص: فإن كان الفرضان متساويين في القيمة.. أخذ الساعي أيهما شاء، وإن كان أحدهما أكثر قيمة.. كان على الساعي أن يأخذ أفضل الفرضين. فإن أخذ الأدون: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (كان على رب المال أن يخرج الفضل، ويعطيه أهل السهمان) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: أراد بذلك: إذا أخذ الساعي الأدنى بغير عمد منه، أو من رب المال، مثل: أن يكون رب المال قد أظهرهما، وأدى الساعي اجتهاده إلى أن الذي يأخذه هو الأفضل، ثم بان أنه الأدنى.. فإنه يخرج الفضل. فأما إذا أخذ الأدنى بتفريط منهما، أو من أحدهما، بأن لم يظهر رب المال له الفرض الآخر، أو أخذه بغير نظر، أو مع العلم بأنه الأدنى.. فلا يجزئه إخراج الفضل، بل يجب رد المأخوذ إن كان باقيا، أو قيمته إن كان تالفا، ويجب على رب المال أن يخرج الفرض الأجود. ومنهم من قال: إن كان الساعي قد أخذ الأدون، وفرقه على المساكين.. لم يمكن رده؛ لأنه تالف، فيخرج الفضل هاهنا. فأما إذا لم يكن الساعي فرقه: فإنه يرد إلى رب المال، ويؤخذ الأجود. ومنهم من قال: يجزئه المأخوذ بكل حال، ويخرج الفضل؛ لأن كل واحد منهما

فرض بحال، وهل يكون إخراج الفاضل واجبا، أو مستحبا؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه مستحب؛ لأن الفرض الذي أخرجه قد أجزأ، إذ لو لم يكن مجزئا.. لوجب رده، وإخراج الأجود. والثاني - وهو المذهب -: أن إخراج الأفضل واجب؛ لأن الواجب على الساعي أن يأخذ الأجود، فإن تركه، وأخذ الأدون.. فقد أخذ بعض ما وجب له، فصار بمنزلة ما لو وجب له خمسة دراهم، فأخذ أربعة. فإذا قلنا: إن إخراج الفضل مستحب.. أخرجه كيف شاء. وإن قلنا: إنه واجب، فإن كان الفضل يسيرا لا يمكنه أن يشتري به جزءا من حيوان.. فرقه دراهم، وإن كان يمكنه أن يشتري به جزءا من حيوان.. فهل يلزمه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه؛ لأن ذلك يشق. والثاني: يلزمه لأن إخراج القيمة في الزكاة لا يجوز. فإذا قلنا بهذا: فهل يجب عليه أن يشتري من جنس الأجود منهما، أو يجوز له أن يشتري من جنس الأدون منهما؟ فيه وجهان.

فرع: جواز دفع بنات اللبون أو الحقاق

وإن وجد أحد الفرضين، وبعض الآخر. أخذ الموجود، ولا يجوز أن يأخذ بعض الموجود ويضم إليه غيره مع الجبران. وإن وجد في المال ثلاث حقاق وأربع بنات لبون، فإن أخذ الثلاث الحقاق وبنت لبون وجبرانا واحدا، أو أخذ أربع بنات لبون وحقة ودفع الجبران.. جاز، وإن أخذ ثلاث بنات لبون مع كل واحدة جبران، وحقة.. ففيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه قد عرف ما بينهما. والثاني: لا يجوز؛ لأنه عدل إلى الجبرانات مع إمكانه أن يأخذ جبرانا واحدا، فلم يصح. وإن كان الفرضان معيبين. لم يجز أخذهما؛ لأن المعيب لا يجزئ أخذه عن الصحاح، ويقال له: إما أن تشتري صحيحا، أو تصعد وتأخذ الجبران، أو تنزل وتدفع الجبران. [فرع: جواز دفع بنات اللبون أو الحقاق] فإن ملك أربعمائة من الإبل.. فعلى الطريقين في الأولى: فإن قلنا: يجب أحد الفرضين.. فله أن يأخذ عشر بنات لبون، أو ثماني حقاق، فإن أراد أن يأخذ أربع حقاق وخمس بنات لبون.. فعامة أصحابنا قالوا: يجوز. وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يجوز، كما لا يجوز مثل ذلك في المائتين. وهذا ليس بشيء؛ لأن كل مائتين فريضة منفردة بنفسها، فأشبه إذا انفردت. وبالله التوفيق

باب صدقة البقر

[باب صدقة البقر] الأصل في وجوب الزكاة فيها: قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] [التوبة: 103] . والبقر من الأموال. وروى أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البر صدقته» . إذا ثبت هذا: فأول نصاب البقر ثلاثون، ولا شيء فيها قبل ذلك، وهو قول كافة الفقهاء، إلا ما حكى عن الزهري، وسعيد بن المسيب: أنهما قالا: (في كل خمس من البقر شاة) ، كالإبل. دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر معاذا أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة» . وروي: أنه أتي بما دون ذلك، فقال: «لم أومر فيها بشيء، وسآتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأسأله عن ذلك) ، فرجع معاذ، فلم يلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .

وفي رواية: أنه سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «ليس فيها شيء» . إذا ثبت هذا: فيجب في الثلاثين تبيع، وهو الذي دخل في السنة الثانية، هذا هو المشهور. وقال صاحب " الإبانة "] ق \ 114] : هو اسم للعجل الذي يتبع أمه، وإن لم يستكمل سنة، وسمي: تبيعا؛ لأنه يتبع أمه. وقيل: سمي بذلك؛ لأن قرنيه تبعا أذنيه. ثم لا شيء في زيادتها، حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغت أربعين.. وجب فيها مسنة، وهي التي دخلت في السنة الثالثة، ثم تستقر الفريضة، فلا يجب فيها شيء حتى تبلغ ستين، فيجب فيها تبيعان، ثم يجب في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة. فإذا بلغت مائة وعشرين.. فقد اجتمع فيها فريضتان، وهي ثلاث أربعينات، أو أربع ثلاثينات، فيكون على الطريقين في الإبل إذا بلغت مائتين. وقال أبو حنيفة: (إذا بلغت أربعين.. فيها مسنة) ، كقولنا: فإذا زادت.. ففيها ثلاث روايات: إحداهن: مثل قولنا، وبه قال مالك. والثانية: (لا شيء فيه، حتى تبلغ خمسين، فيجب فيها مسنة وربع مسنة) . والثالثة - وعليها يناظرون -: (أنها إذا زادت على الأربعين شيئا.. وجب فيها بالقسط من المسنة) . دليلنا: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «خذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة» . فظاهر هذا: أن زكاة البقر لا تتعلق إلى بهذين العددين.

مسألة: جواز الإعطاء فوق الواجب

[مسألة: جواز الإعطاء فوق الواجب] ] : فإن وجب عليه تبيع، فأعطى مسنة.. جاز؛ لأنها أعلى مما وجب عليه، وإن وجب عليه مسنة، فأعطى تبيعين.. جاز؛ لأنهما يجزئان عن الستين، فلأن يجزيان عما دونها أولى. ولا مدخل للجبران في صدقة البقر؛ لأن الزكاة لا يعدل فيها عن المنصوص عليه إلى غيره بالقياس. والله أعلم.

باب صدقة الغنم السائمة

[باب صدقة الغنم السائمة] والأصل في وجوب الصدقة فيها: قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] الآية [التوبة: 103] والغنم مال. ومن السنة: ما روى أبو ذر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الغنم صدقتها» . وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من كانت له إبل أو بقر أو غنم، فلم يؤد زكاتها.. بطح بها يوم القيامة بقاع قرقر تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، كلما نفذت أخراها.. عادت عليه أولاها» . وهو بإجماع المسلمين، لا خلاف في وجوب الزكاة فيها. إذا ثبت هذا: فما دون الأربعين من الغنم لا زكاة فيها، فإذا بلغت أربعين.. ففيها شاة، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ مائة وإحدى وعشرين، فإذا بلغتها.. فيجب فيها شاتان، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ مائتين وواحدة، فإذا بلغتها.. ففيها ثلاث شياه، ثم لا شيء في زيادتها، حتى تبلغ أربعمائة، فإذا بلغتها.. ففيها أربع شياه، ثم تستقر الفريضة في كل مائة شاة.

هذا مذهبنا، وبه قال كافة أهل العلم، إلا ما حكي عن النخعي، والحسن بن صالح، فإنهما قالا: إذا زادت على ثلاثمائة واحدة.. وجب فيها أربع شياه إلى أربعمائة، فإذا زادت واحدة.. وجب فيها خمس شياه. دليلنا: ما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في (كتاب الصدقة) : «في الغنم إذا كانت سائمة، فبلغت أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت عليها واحدة.. ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة.. ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت على ذلك.. ففي كل مائة شاة» . والشاة الواجبة: هي الجذعة من الضأن، أو الثنية من المعز. قال ابن الأعرابي: والجذعة من الضأن: إذا كانت من شابين.. مالها ستة أشهر إلى سبعة، وإن كانت من هرمين.. فما لها ثمانية أشهر إلى عشرة. وحكي عن الأصمعي: أن الجذعة من الضأن: ما لها سبعة أشهر. وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أن الجذعة: مالها سنة. وقيل: مالها ستة أشهر. وأما الثنية: فما لها سنتان، وطعنت في الثالثة. هكذا ذكره ابن الصباغ، هذا مذهبنا، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يجزئ إلا الثنية منهما) . وهذه رواية (الأصول) عنه. وروى الحسن بن زياد عنه مثل مذهبنا. وقال مالك: (تجزئ الجذعة منهما) . دليلنا: ما روى سويد بن غفلة: أن مصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتانا، وقال: «أمرنا أن نأخذ الجذعة والثنية» . ولأن الجذعة تجزئ في الأضحية، فأجزأت في الزكاة، كالثنية.

مسألة: لا تؤخذ المريضة من الصحاح

[مسألة: لا تؤخذ المريضة من الصحاح] إذا كانت الماشية كلها صحاحا.. لم يؤخذ في فرضها مريضة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] [البقرة: 267] . وفي أخذ المريضة من الصحاح تيمم الخبيث. وإن كانت الماشية كلها مراضا.. جاز أن يؤخذ منها مريضة. وقال مالك: (لا يجوز، بل يكلف أن يشترى صحيحة) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إياك وكرائم أموالهم» . وفي أخذ الصحيحة من المراض أخذ الكرائم. وروى عبد الله بن معاوية الغاضري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث من فعلهن.. طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده، وأن لا إله غيره، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولم يعط الهرمة ولا اللئيمة - يعني: الدون - ولكن يعطي وسطا، فإن الله لم يسألكم خيرها، ولم يأمركم بشرها» . فمن قال: يجب إخراج الصحيحة عن المراض.. فقد خالف الخبر. إذا ثبت هذا: فإن المزني نقل عن الشافعي: (ويأخذ خير المعيب) ، ولا خلاف بين أصحابنا: أنه لا يجوز للساعي أن يأخذ خير معيب في المال. واختلف أصحابنا في تأويله: فقال ابن خيران: أراد بهذا: يأخذ خير المعيبين من الفرضين في ما بين من الإبل إذا كانت معيبة.

مسألة: إذا كان النصاب صحيحا فلا تؤخذ المراض

ومنهم من قال: يأخذ خير المعيبين، إذا خيره رب المال. ومنهم من قال: أراد به: يأخذ الوسط، وقد يسمى الوسط خيرا، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] [البقرة: 143] . وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] [آل عمران: 110] ، يعني: أوسطها وأعدلها. ومن قال بهذا اختلفوا على وجهين: فمنهم من قال: يأخذ أوسطها قيمة، وهو أن يقال: كم قيمة فرض أجود هذه المراض؟ فإذا قيل: عشرون.. فيقال: كم قيمة أوسطها؟ فيقال: خمسة عشر. فيقال: كم قيمة أقلها؟ فيقال: عشرة، فإنه يأخذ ما قيمته خمسة عشر، فأما الوسط في العيب: فلا يعتبر. ومنهم من قال: يعتبر وسطا في العيب والقيمة جميعا. والصحيح: قول ابن خيران، وقد نص الشافعي عليه في " الأم " [2/9] . [مسألة: إذا كان النصاب صحيحا فلا تؤخذ المراض] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يأخذ مريضا، وفي الإبل عدد صحيح) . وقال في موضع آخر: (ولا يأخذ مريضا، وفي الإبل عدده صحيح) . قال أصحابنا: وكلاهما صحيح. أما قوله: (وفي الإبل عدد صحيح) ، يعني: لا يأخذ الفرض مريضا، وفي الإبل عدد صحيح، يعني: بعض المال صحيحا.

وأما قوله: (عدده صحيح) ، يعني: لا يأخذ الفرض مريضا إذا كان في الإبل عدد الفرض صحيح. إذا ثبت هذا - وكان بعض الماشية صحيحا، وبعضها مريضا -: لم يجب عليه إخراج الصحيحة من غير تقسيط، كما لو كانت كلها مراضا، ولا يجزئه إخراج المريضة؛ لأن في ذلك تيمم الخبيث، ولكن يخرج صحيحة بالقسط. وكيفية ذلك: إذا كان معه أربعون من الغنم عشر منها مراض لا غير.. فإنه يقال له: كم قيمة فرض مريض منها؟ فإن قيل: عشرة دراهم.. قيل: وكم قيمة فرض صحيح منها؟ فإن قيل: عشرون درهما.. قيل له: خذ ربع قيمة الفرض المريض؛ ليكون المراض ربع النصاب، وثلاثة أرباع قيمة الفرض الصحيح؛ لكون الصحاح ثلاثة أرباع النصاب، وذلك سبعة عشر ونصف، ويشتري به فرضا صحيحا. وإن كان نصفها مراضا.. فإنه يأخذ نصف قيمة شاة صحيحة، ونصف قيمة شاة مريضة، ويشتري بذلك شاة صحيحة. وإن كان معه مائتان من الإبل، وفيها أربع حقاق صحاح، والباقي منها مراض.. فإنه لا يؤخذ منها إلا أربع حقاق صحاح بالقسط. وكيفية ذلك: أن الأربع من المائتين جزء من خمسين جزءا، فيقوم حقة صحيحة فإن قيل: قيمتها خمسون درهما.. قيل: خذ منها جزءا من خمسين جزءا، وذلك درهم، ثم يقوم حقة مريضة منها، فإن قيل: قيمتها خمسة وعشرون درهما.. قيل: خذ منها تسعة وأربعين جزءا من خمسين جزءا، وذلك أربعة وعشرون درهما ونصف درهم، فيضاف ذلك إلى الدرهم، فيقال له: اشتر أربع حقاق صحاح، كل حقة بخمسة وعشرين درهما ونصف درهم. فإن كان في المال ثلاث حقاق صحاح لا غير.. فإنه يؤخذ منها مريضة وثلاث حقاق بالقسط، على ما مضى.

فرع: في الماشية الجياد والأسن

وإن كان فيه حقتان صحيحتان لا غير.. أخذ منه حقتان مريضتان، وحقتان صحيحتان بالقسط، على ما مضى بيانه. وإن كان فيه حقة صحيحة لا غير.. أخذ منه ثلاث حقاق مراض، وحقة صحيحة بالقسط، على الإجزاء في القيمة، على ما مضى. وكذلك: إذا كان فيها صحاح من غير الحقاق.. فالكلام في التقسيط على ما مضى، وعلى هذا جميع الأنعام. [فرع: في الماشية الجياد والأسن] وإن كانت الماشية أعلى من الفرض، كالثنايا وما فوقها من الإبل.. لم يطالب رب المال إلا بالفرض المنصوص عليه؛ لئلا يؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير. وإن كانت الماشية صغارا، وحال عليها الحول، وهذا يتصور في موضع واحد، وهو أن يكون عنده نصاب من الماشية ثمانية أشهر، فتوالدت، ثم تماوتت الأمهات قبل الحول، وبقيت أولادها، فتم حول أمهاتها عليها، وأسنانها دون الفرض المنصوص عليه.. ينظر:

فإن كان ذلك في الغنم.. أخذ الساعي صغيرة منها. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يأخذ منه الساعي إلا كبيرة) . وحكى صاحب " الإبانة " [ق \ 115] : أن ذلك قول للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم، وليس بمشهور. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياك وكرائم أموالهم» . فلو أخذنا الكبيرة من الغنم عن الصغار.. لأخذنا الكريمة عن مال لا كريم فيه، فلم يجزه. وإن كان ذلك في الإبل والبقر.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو قول أبي العباس، وأبي إسحاق -: أنه لا يجزئ في زكاتها إلا الكبيرة بالقسط؛ لأنا لو أخذنا فصيلا عن خمس وعشرين من الإبل، وعن إحدى وستين فصيلا.. سوينا بين القليل والكثير. فعلى هذا: يقال: لو كانت هذه الخمس والعشرون كبارا.. كم كانت قيمتها؟ فإن قيل: ألف.. قيل: فكم قيمة ابنة مخاض تجب فيها؟ فإن قيل: عشرة.. قيل فكم قيمة هذه الخمس والعشرين الصغار؟ فإن قيل: خمسمائة.. قيل له: اشتر ابنة مخاض بخمسة دراهم. والوجه الثاني: أنا نفعل ذلك ما دام الفرض يتعين بالسن، كخمس وعشرين في الإبل، وست وثلاثين، وست وأربعين، وإحدى وستين؛ لئلا يؤخذ من القليل ما يؤخذ من الكثير. فإذا بلغت ستا وسبعين.. تغير الفرض فيها بالعدد، فيؤخذ منها صغيرتان؛ لأنه لا يؤدي إلى التسوية بين ما يؤخذ من القليل والكثير.

فرع: الثلاثون من البقر

والوجه الثالث - حكاه ابن الصباغ -: أنه يؤخذ منها صغيرة بكل حال، كما قلنا في الغنم. والأول أصح؛ لأن على الوجه الثاني: يؤخذ من ست وسبعين فصيلان، ومن إحدى وتسعين فصيلان، وعلى الوجه الثالث: يؤخذ من خمس وعشرين فصيل، ومن إحدى وستين فصيل، وهذا خلاف الأصول. [فرع: الثلاثون من البقر] إذا ملك ثلاثين من البقر.. جاز إخراج الذكر في فرضها، سواء كانت البقر إناثا أو ذكورا، أو بعضها إناثا وبعضها ذكورا؛ لما روى «عن معاذ: أنه قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل أربعين من البقر مسنة، ومن كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة» ولم يفرق بين الذكور والإناث. وإن ملك أربعين من البقر: فإن كانت كلها إناثا، أو بعضها إناثا.. لم يجزئه إلا الأنثى؛ لحديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإن كانت كلها ذكورا.. ففيه وجهان: [الأول] : قال أبو إسحاق، وأبو الطيب بن سلمة: يجب فيها مسنة بالقسط، وهو أن تقوم هذه الأربعون لو كانت إناثا، ويقوم فرضها، وتقوم هذه الأربعون الذكور، وينظر قدر قيمتها من قيمة الأربعين الإناث، فما نقصت عنها.. نقص بقدر ذلك من قيمة فرضها، واشترى به مسنة. والدليل على ذلك: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل أربعين بقرة مسنة» ، ولم يفرق. والوجه الثاني - وهو قول أبي علي بن خيران - أنه يجزئ فيه مسن ذكر، وهو

المنصوص في " الأم " [2/10] ؛ لأنا لو كلفنا رب المال إخراج المسنة عن الذكور.. أضررنا به، والزكاة مبنية على الرفق. وأما إخراج الذكر في زكاة الإبل: فإن ملك خمسا وعشرين من الإبل، ولم يكن في إبله ابنة مخاض.. فإنه يجوز إخراج ابن لبون ذكر، سواء كانت إبله ذكورا أو إناثا، أو إناثا وذكورا؛ للخبر، وقد مضى ذكر ذلك. وإن كانت في غير الخمس والعشرين.. نظرت: فإن كانت إبله إناثا، أو ذكورا وإناثا.. لم يجزئه إخراج الذكر؛ لحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإن كانت إبله كلها ذكورا.. ففيه وجهان: [الأول] : قال أبو إسحاق، وأبو الطيب بن سلمة: لا يجزئه إلا الأنثى بالقسط؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في خمس وعشرين ابنة مخاض» إلى قوله: «وفي إحدى وستين جذعة» . ولم يفرق بين أن تكون الإبل إناثا أو ذكورا، ولأنا لو أخذنا منها الذكر..لأدى إلى أن يؤخذ ابن لبون في خمس وعشرين، ويؤخذ في ست وثلاثين، وفي ذلك تسوية بين القليل والكثير. فعلى هذا: تؤخذ أنثى بالقسط، بأن تقوم هذه الإبل لو كانت إناثا كلها، ويقوم فرضها، وتقوم هذه الذكور، فما نقصت قيمتها من قيمة الإناث.. نقص من قيمة القرض قدر ذلك، واشترى به أنثى. و [الثاني] : قال أبو علي بن خيران: يجزئه الذكر، وهو المنصوص؛ لئلا يؤدي إلى الإضرار برب المال. قال ابن الصباغ: قال ابن خيران: فعلى هذا: يؤخذ ابن لبون في خمس وعشرين، وتكون قيمته دون قيمة ابن لبون يؤخذ في ست وثلاثين، ويكن بينهما في القيمة مثل ما بينهما في العدد، حتى لا يؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير. وحكى في " الفروع " وجها آخر: أنه يجوز أن يكونوا سواء. وما حكاه ابن الصباغ أولى.

وعلى قول ابن خيران: إذا ملك خمسًا وعشرين ذكرًا.. فهل يجزئ إخراج ابن مخاضٍ؟ فيه وجهان: قال الشيخُ أبو حامدٍ في " التعليق ": يجوزُ، كما يجوزُ إخراجُ ابن لبون في ست وثلاثين، وإخراجُ الحِقِّ في ستة وأربعين. وقال ابن الصباغ: لا يجوزُ؛ لأنَّ ابن مخاضٍ دون ما افتُتح به الفرضُ. وأما إخراج ذَكَرَ الغنمِ في زكاتها: فإن كانت الغنمُ كلها إناثًا، أو ذكورًا وإناثًا.. لم يُجزئه إخراجُ الذكر. وقال أبو حنيفةَ: (يُجزئهُ) . دليلنا: أنه حيوانٌ تجبُ الزكاةُ في عينه، فكانت الأنوثيةُ معتبرةً في فرضِها، كالإبلِ. وإنْ كانت الغنمُ كلُّها ذكورًا.. فالمشهورُ: أنه يجزئه إخراجُ الذكر، أما جذعٌ من الضأنِ أو ثنيٌّ من المعزِ؛ لأنَّ ذلك لا يؤدي إلى أن يؤخذ من القليل ما يُؤخذُ من الكثيرِ. وحكى في " الإبانةِ " [ق\115] وجهًا آخر: أنه لا يجزئه إلا الأنثى بالتقسيط، كما قلنا في الإبل والبقر، وليس بشيء. إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (إلا أن يكون تيسًا، فلا يقبل بحال؛ لأنه ليس في فرض الغنم ذكر) . واختلفَ أصحابنا ـ الذين قالوا: يجزئ إخراج الذكر من الغنم، إذا كانت كلها ذكورًا ـ في تأويل هذا: فمنهم من قال: أرادَ به: التيس الذي لا ينزو، فلا يؤخذ لنقصانه، فأما الفحل

مسألة: الماشية إذا تمحضت من نوع

الذي ينزو، ويضربُ الغنم: فذلك من كرائم المال، فلا يُطالب به رب المال، وإن كانت غنمه كلها ذكورًا، فإن تطوع ربُ المال بتسليمه.. قُبل منه. وقال الشيخ أبو حامد: بل تأويله: إذا كانت الغنمُ إناثًا.. فإنه لا يؤخذ التيس؛ لأنه قال: (لأنه ليس في فرض الغنم ذكر) ، أي: ليس في فرض الغنم الإناث ذكر، بل يجب أنثى، وقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [2/8] : ولا تؤخذُ الربى، ولا المَاخض ولا تيس الغنم) ، فأخبر: أن التيس الذي ينزو فلا يطالب به لفضيلته. [مسألة: الماشية إذا تمحضت من نوع] ] : وإن كانت الماشية نوعًا واحدًا، بسن الفرض، فإن كانت متفقة الصفة.. فإن الساعي يختار الواجب منها، ولا يفرق المال. وروي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (تفرق الغنم ثلاث فرق، فيختار رب المال فرقة، ويختار الساعي الفريضة من الفرقتين الأخريين) ، وبه قال الزهري، وقال عطاء والثوري: (تفرق الغنم فرقتين، فيختار رب المال

فِرقة، ويختارُ الساعي الفريضة من الفرقة الأخرى) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] [البقرة: 267] . فلو جعلنا الخيارَ لرب المال.. لأعطى الخبيث. وإن كانت الماشيةُ متفقةً بالسن مختلفةً في الصفةِ.. ففيه وجهانِ: قال أكثرُ أصحابنا: يختارُ الساعي خيرَها، كما يختارُ أربعَ حِقاقٍ، أو خمسَ بناتِ لبونٍ في المائتين. وقال أبو إسحاق: يأخذُ وسط ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» . فلو جعلنا الخيارَ إلى الساعي.. لأخذ الكرائم هاهنا. وإنْ كانت الماشيةُ أنواعًا من جنسٍ، كالضأنِ والمعزِ في الغنم، وكالمَهريةِ والأرحبية والمجيدية في الإبل، فـ: (المهرية) : منسوبةُ إلى مَهْرَةَ، وهي قبيلةٌ من العربِ أهل اليمن، وكذلك (المجيديةُ والأرحبيَّةُ) : من إبل اليمنِ، وكالجواميسِ والعِرابِ في البقرِ، و (العِرابُ) : جُرْدٌ مُلْسٌ حِسانُ الألوانِ، فإنَّ أنواعَ الجنسِ يُضمُّ بعضُها إلى بعضٍ في إكمالِ النصابِ. وفي كيفية أخذ الفرضِ منها، ثلاثةُ أقوال: أحدُها: أنه يؤخذُ الفرضُ من النوعِ الغالبِ؛ لأن للغلبةِ تأثيرًا في الأصولِ، كما نقولُ في الماءِ إذا اختلطَ بالمائع الطاهرِ، وكما تُقبلُ شهادةُ من اجتنبَ الكبائرَ، وارتكبَ الصغائِرَ. فعلى هذا: إذا ملكَ ثلاثينَ من الضأنِ وعشرًا من المعزِ.. أُخِذَ منهُ جذعةٌ من

الضأن، وإن استوى النوعان على هذا القول.. ففيه وجهانِ: قال أكثرُ أصحابنا: يختارُ الساعي أنفعَ النوعين للمساكين. وقال القاضي أبو الطيِّبِ في " المجرد ": ينبغي أن يُسقطَ هذا القولَ هاهنا. والقول الثاني: حكاه ابنُ الصبَّاغِ عن " الأمِّ ": أنه يأخذُ من أوسطِ الأنواعِ؛ لأنَّهُ أعدلُ، وهذا ليس بمشهورٍ. والقول الثالث ـ وهو الأصحُّ ـ: أنه يأخذُ من كلِّ نوع بقسطِهِ؛ لأنه مالٌ تجبُ الزكاةُ في عينهِ، فلمْ يُعتبرِ الغالبُ في أخذِ الزكاةِ منهُ، كالثمارِ إذا كانتْ نوعينِ أو ثلاثةً، ولا يدخلُ عليه إذا كانت أنواعًا كثيرةً؛ لأن ذلك يشقُّ. فعلى هذا: إذا كان معه عشرون من الضأن، وعشرون من المعز.. فإن الشيخ أبا حامدٍ، وابنَ الصباغِ، وأكثرَ أصحابِنا قالوا: يقومُ جذعةً من الضأن، فإن قيلَ: عشرةُ دراهمَ.. قيل له: خُذْ نصفَ قيمتِها، فذلكَ خمسةٌ؛ لأن الضأنَ نصفُ المالِ، ويقالُ: كمْ قيمةُ ثنيَّةٍ من المعز؟ فإن قيل: ثمانيةُ دراهمَ.. قيلَ له: خُذْ نصفَ قيمتها، وهو أربعةٌ، وضُمَّ ذلك إلى خمسةٍ، فذلك تسعةٌ، فيشتري به شاةً، ولم يذكروا تقويم النصابِ من الضأن، ولا من المعز. وذكر في " المهذب ": أنه يقوِّمُ النِّصابَ ويقومُ فرضَهُ، ولا معنى لتقويم النصاب، وقد صوَّرها الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الإبل، إذا ملك خمسًا وعشرينَ: عشرًا مَهريةً، وعشرًا أرحبيَّة، وخمسًا مجيديةً.. أن يقال: كم قيمةُ ابنة مخاضٍ مَهريةٍ؟ فإن قيلَ: ثلاثونَ.. قيل: خذْ خُمسي قيمتها، وهو اثنا عشر؛ لكونِ المَهريَّةِ خُمسي الإبل. ويقالُ: كم قيمةُ ابنةِ مخاضٍ أرحبيِّةٍ؟ فإن قيلَ: عشرون.. قيلَ: خُذْ خمسي قيمتها أيضًا، وهي ثمانيةٌ، ويقال: كم قيمةُ ابنة مخاضٍ مجيدية؟ فإن قيل: عشرةٌ.. قيل: خذ خمس قيمتها، وهو درهمان، وضُم جميع هذا المأخوذ، وهو اثنان وعشرونَ، وماذا يشتري بذلك؟ فيه وجهان: [الأول] : قالَ عامة أصحابنا: يشتري به من أي أنواع المالِ شاءَ.

مسألة: ما يقبل في الزكاة

فعلى هذا: يشتري في مسألتنا بتسعةِ دراهم في الغنم: إما جذعةً من الضأن، أو ثنيةً من المعزِ، وفي الإبل: يشتري باثنين وعشرينَ درهمًا ابنةَ مخاضٍ من أي الأنواعِ الثلاثةِ شاءَ. و [الثاني] : قال ابنُ الصبَّاغ: يشتري من أعلى أنواع المالِ، كما إذا كان بعضُ مالِهِ صحيحًا وبعضه مريضًا.. فإن الزكاة تؤخذ بالقسط، ولا يشتري إلا صحيحة. [مسألة: ما يقبل في الزكاة] قال الشافعي: (وروي: «أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثَ معاذًا إلى اليمن مصدقًا، فقال: " إياك وكرائم أموالهم» . وروي: أنَّ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استعمل أبا سفيان بن عبد الله على الطائف ومخاليفها، فقال: (اعتدَّ عليهم بالسخلة التي يروح بها الراعي على يديه ولا تأخذها، ولا تأخذ الأكولة، ولا الربى، ولا الماخض، ولا فحل الغنم، وخذ الجذعة والثنية) . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الله بن زيد: " إذا خرجت مصدقا.. فلا تأخذ الشافع ولا حزرة الرجل» . قال الشافعي: (فالأكولة: هي السمينة التي تعد للذبح، والربى: هي التي يتبعها ولدها) . وتقول العرب: هي في ربابها. كما يقال: المرأة في نفاسها، قال

الساجي: التي يتبعها ولدها، وهي حديثة العهد بالولادة، فهي في أوان كثرة لبنها، فلا تؤخذ لفضيلتها. قال الشيخ أبو حامد: وغلط بعض أصحابنا، فقال لا تؤخذ لنقصانها؛ لأن ولدها قد هزلها. وليس بشيءٍ. وأما (الماخض) : فهي الحاملُ فلا يطالبُ بها؛ لفضيلها، وكذلك ما طرقها الفحلُ، وإن لم يبن حملها؛ لأن البهيمة لا يطرقها الفحل إلا وتحمل في الغالب، وأما (فحل الغنم) : فهو الذي ينزو عليها. وأما (الشافع) : فقيل: إنها السمينةُ، وقد روي ما يدلُ على هذا، وهو: «أنَّ رجلين أتيا رجلًا يطلبان منه الصدقة، وقالا: إنَّا رسولا رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: فدفعتُ إليهما شاةً ممتلئة شحمًا ولحمًا، فقالا: إنها شافعٌ، وقد نُهينا عن أخذ الشافع» فدل على أنَّ الشافع هي السمينة، وقيل: إنَّ الشافع هي التي في بطنها ولدٌ ويتبعُها ولدٌ، وسميت: شافعًا؛ لأن ولدها شفعها، أو لأنها شفعت ولدها الأول بالآخر. وأما (حزرة الرجل) : فهو المال الذي يحزره الإنسان في نفسه ويقصده بقلبه، قال الشاعر: الحَزَراتُ حَزراتُ القلبِ

قال أبو عبيد الهروي: وقد روي: " ولا حرزات المال " ـ بتقديم الراء ـ فإن رضي رب المال بدفع الربى، والحامل.. أجزأه. وكذلك: لو وجبت عليه ابنة مخاض، فدفع عنها ابنة لبون، أو حقة.. جاز؛ لأنها أعلى منها. وقال داودُ: (لا تجزئه الحاملُ؛ لأن الحملَ عيبٌ في الحيوان) بدليل: أنه لو باعه جارية حائلًا في الظاهر، فبانت حاملًا.. كان له ردها، ولا تجزئ الحاملُ في الأضحية، وكذلك عنده: لو دفع ابنة لبونٍ عن ابنةِ مخاض.. لم يُجْزِهِ. دليلُنا: أنَّ الحمل زيادة في الحيوان، بدليل: أنه يجب دفع الحامل في دية العمد تغليظًا على القاتل، وإنما الحمل نقص في الآدميات، لما ينقص من جمالها واستمتاعها، ويخاف عليها منه الموت عند الولادة، وإنما لم تجزئ الحاملُ في الأضحية؛ لأنه ينقص من لحمها. وأما الدليل على جواز أخذ سن عما دونها: ما «روى أبي بن كعب: قال: بعثني رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصدقًا، فمررت برجل، فجمع لي ماله، فرأيت قد وجب فيها ابنةُ مخاضٍ، فقلت له: قد وجبت عليك ابنة مخاض، فقال: إنه لا در لها، ولا ظهر، ولا نسل، وهذه ناقة فتية سمينة عظيمة، فخذها، فقلت لا آخذها؛ لأني لم أومر بأخذ ذلك، وهذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منك قريبٌ، فاعرض عليه ما عرضت علي، فإن أخذها.. أخذتها، وإن ردها.. رددتها، فأتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتلك الناقة، فأخبرناه بذلك، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ذلك الذي وجب عليك، فإن تطوعت بخيرٍ.. آجرك الله فيه، وقبلناه منك ". وأمرنا بقبضها» .

مسألة: إخراج القيمة بدل الماشية

ولأنها تجزئ عن ست وثلاثين، فلأن تجزئ عما دونها أولى. [مسألة: إخراج القيمة بدل الماشيةِ] ولا يجوزُ إخراجُ القيمةِ في الزكاةِ. وقال أبو حنيفةَ: (يجوزُ) . دليلنا: أنَّ الحق لله، وقد علقه على ما نص عليه، فلا يجوز نقله إلى غيره، كالأضحية، ولا يجوزُ إخراجها من غير الأنعام. وإن أخرج ناقةً عن أربعينَ شاةً.. لم يجزه؛ لأن ذلك من غير جنس الحيوان الذي وجبت فيه الزكاة، فهو كالدراهم والدنانير. والله أعلم.

باب صدقة الخلطة

[باب صدقة الخلطة] والخلطة خلطتان: خلطة أوصاف، وخلطة أعيان وأوصاف. فأما (خلطة الأوصاف) : فهو أن يكون ملك كل واحدٍ من الرجلين متميزًا عن ملك الآخر، وإنما خلطا المالين في المرعى والمراح وغيرهما، على ما نذكره. وأما (خلطةُ الأعيان) : وهو أن يكون المال مُشتركًا بينهما مُشاعًا، قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من يسمي هذه: خلطة الاشتراك، والأول: خُلطة الأعيان. إذا ثبت هذا: فإن الخليطين في الماشية يزكيان زكاة الرجل الواحد، فإن كان لكل واحدِ عشرون من الغنم، وخلطاها حولًا.. وجبت عليهما شاةٌ، وكذلك: لو كانَ لكل واحدٍ منهما أربعونَ من الغنم، ولم ينفرد أحدُهما عن الآخر بالحول، وخلطاها حولًا.. وجبت عليهما شاةٌ واحدةٌ، وبه قال عطاءٌ، والأوزاعي، والليث، وأحمد، وإسحاقُ. وقال أبو حنيفة: (لا تأثير للخلطةِ في الزكاةِ، وزكاتُهما كما لو كانا منفردين) . وقال مالكٌ: (إن كان لكل واحدٍ نصابٌ، وخلطا المالين.. زكيا زكاةَ الواحدِ ـ كقولنا ـ وإن كان لكل واحدٍ أقل من نصابٍ، فخلطا المالين.. لم تجب عليهما زكاةٌ) ، كقول أبي حنيفة. دليلنا: ما «روى أنسٌ: أنَّ أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما ولاه البحرين.. كتب له كتاب الصدقات: (هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي أمر الله بها، إلى أن

قال: ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» فمعنى قوله: «لا يُجمعُ بين مفترقٍ» ، أي: لا يجمعُ الساعي بين ملكين في مكانين؛ ليأخذ منهما زكاة الواحد، مثل: أن يكون لأحدهما مائة شاة وشاة، وللآخر مائة شاة، فليس للساعي أن يجمع بينهما؛ ليأخذ منها ثلاث شياه، بل يأخذ من كل واحدٍ منهما شاة، ووافقنا أبو حنيفة: أنَّ هذا مراده بقوله: «ولا يجمع بين مفترقٍ» . وأما قوله: «ولا يفرق بين مجتمع» وهو موضع الدليل من الخبر: فيتصور ذلك في ثلاث مسائل: إحداهنَّ: إذا كان بين ثلاثةِ أنفس مائة وعشرون شاةً، لكلّ واحدٍ أربعون، وهم مختلطون.. فليس للساعي أن يفرق بينهم؛ ليأخذ من كل واحدٍ شاةً، بل يأخذ منهم شاةً واحدةً. الثانية: إذا اختلط الرجلان بأربعين شاةً.. فيجب عليهما شاةٌ، وليس لهما أن يفرقا حكميهما بعد تمام الحول، خشية وجوب الزكاة. الثالثة: إذا كان لأحدهما مائة شاةٍ وشاةٌ، ولأحدهما مائة شاةٍ، فاختلطا حولًا.. وجبَ عليهما ثلاثُ شياه، ولا يفرقُ حكمهما، خشية وجوب الزكاة الثالثة عليهما. وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خشية الصدقة» : فالخشية خشيتان: خشية من الساعي أن يغل الصدقة، وذلك في مسألتين: إحداهما: إذا كان المال في مكانين.. فليس له أن يجمع بينهما، كما مضى. الثانية: ليس له أن يفرق بين الشركاء الثلاثة في مائة وعشرين من الغنم. وخشية أرباب الأموال أن تكثر الصدقة، وذلك في مسألتين: وهما الأخريان من الثلاثة المسائل.

مسألة: شروط زكاة الماشية

ولنا من الخبر دليل ثانٍ: وهو قوله: «وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» ، وهذا لا يكون إلا على مذهبنا. قال الطحاوي: وقد يأتي التراجع على مذهب أبي حنيفة، بأن يكون بينهما ستون شاة، لأحدهما أربعون، وللآخر عشرون، وهي شركة بينهما، فإن الساعي إذا أخذ شاةً منهما، فإنها إنما وجبت على صاحب الأربعين، فيرجع عليه شريكه بثلث قيمتها. قال أصحابنا: لا يصح حمل الخبر على هذا؛ لأنه قال: «يتراجعان بينهما بالسوية» ، وصاحب الأربعين لا يتأتى له الرجوع على صاحب العشرين في حالٍ من الأحوال، وقد قال: " بالسوية ". [مسألة: شروط زكاة الماشية] قال المحاملي: ولا تجب الزكاة في الماشية على المنفرد إلا بخمسة شروطٍ: شرطين في المالك، وثلاثة في المملوك: فأما الشرطان في المالك: فأن يكون مسلمًا، حرًا، وأما الثلاثة في المملوك: فأن يكون المال نصابًا، وأن يكون سائمةً، وأن يمضي على ذلك حولٌ. إذا ثبت هذا: فإن مال الخلطة لا يجب الزكاةُ فيه إلا بوجود هذه الخمسة الشرائط، مع سبع شرائط أخرى تختصُّ بالخلطة: خمس منها متفقٌ عليها على مذهبنا، واثنان مختلف فيهما. فالمتفق عليها: الأولى: أن يكون مراحها واحدًا، وهو الموضع الذي تأوي إليه الغنم بالليل. الثانية: أن يكون المسرحُ واحدًا، وهو المرعى، فإن رتعت ماشية كل واحدٍ منهما في مرعى منفرد.. لم تصح الخلطة. قال المحاملي: وأصحابنا يعبرون عن المرعى بأن يكون الراعي واحدًا، وليس يحتاج إلى ذلك إذا كان المرعى واحدًا، سواءٌ كان الراعي واحدًا أو اثنين، ولكن لا ينفرد مالُ كل واحدٍ براعٍ.

وذكر في " الإبانة " [ق\115] : هل يشترطُ أن يكون الراعي مشتركًا يتفقان عليه؟ فيه وجهان: الشريطة الثالثةُ: أن يكون المشربُ واحدًا، فأما إذا كان ماشية كل واحد يشرب على ماء منفردٍ.. فلا خلطة. الشريطة الرابعة: أن يكون الفحل واحدًا، سواءٌ كان الفحل مشتركًا بينهما، أو لأحدهما، أو مستعارًا من غيرهما، فتصح الخلطة في ذلك كله. هذه طريقة أصحابنا البغداديين. وأما صاحب " الإبانة " [ق\115] : فقال: هل من شرطها أن يكون الفحل مشتركًا بينهما؟ فيه وجهان. وإن كان مالُ أحدهما ضأنًا، ومال الآخر مَعزًا، وخلطا المالين، ولكل واحدٍ منهما فحلٌ.. صحت الخلطة؛ لأنه لا يمكنُ اختلاطهما في الفحل، كما لو كان مالُ أحدهما إناثًا، ومال الآخر ذكورًا من جنسٍ. الشريطةُ الخامسةُ: أن يكون المال المختلط نصابًا، فإن كان لكل واحدٍ منهما أربعون شاةً، فخالط كل واحدٍ صاحبه بخمس عشرة، فصار مال الخلطة ثلاثين.. لم تصح الخلطة، بل يزكيان زكاةَ المنفردين على كل واحدٍ شاةٌ، وهذه الشريطة التي ذكرها قد مضت في مال المنفرد، فلا معنى لإعادتها. وأما الشريطتان المختلفُ فيهما في مذهبنا فهما: الحلب، والنية. فأما الحلب: فقال الشافعي: (وأن يحلبا معًا) . واختلف أصحابنا في ذلك [على ثلاثة أقوالٍ] : فـ[الأول] : قال أبو إسحاق المروزي: لا يشترط أن يحلب لبنُ أحدهما فوقَ لبن الآخر؛ لأن لبن أحدِهما قد يكون أكثر من لبن الآخر، فإذا قسماه بالسوية بينهما كان ذلك ربًا. واختلف أصحابنا في حكاية قول أبي إسحاق في تأويل مراد الشافعي بقوله: (وأن يحلبا معًا) على ثلاثة أوجه:

فـ[الأول] : قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": قال أبو إسحاق: مراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن يكون موضع الحلب واحدًا، وهو المكان. و [الوجه الثاني] : حكى المحاملي وصاحب " الفروع ": أن أبا إسحاق قال: مراد الشافعي: أن يكون الإناء واحدًا. و [الوجه الثالث] : حكى ابن الصباغ صاحب " الشامل ": أن أبا إسحاق المروزي قال: مراد الشافعي: أن يكون الحالب واحدًا، فاختلفوا في حكاية مذهب أبي إسحاق، وذكروا: أنه الصحيح. وأما خلط اللبنين: فلا يعتبر؛ لأن ذلك يؤدي إلى الربا. و [القول] الثاني: من أصحابنا من قال: يعتبر أن يحلبا معًا، ويخلطا اللبنين، ثم يقسمانه بالسوية، قال ابن الصباغ على هذا: ولا اعتبار بالتفاضل الذي يحصل فيه؛ لأن أحدهما يسامح الآخر به، كالمسافرين يخلطون أزوادهم، ثم يأكلون، وإن كان قد يأكل بعضهم أكثر من بعض. و [القول] الثالث: من أصحابنا من قال: يعتبر أن يكون الحالب واحدًا، والإناء واحدًا، ويخلط اللبنين. والأول أصح: لأن اللبن من النماء، فلا يعتبر فيه الخلط، كالصوف، ويخالف المسافرين؛ لأن كل واحد منهم يدعو الآخر إلى طعامه، فيكون ذلك إباحة منه له. واختلف أصحابنا في نية الخلطة، وجهان: فأحدهما: منهم من قال: إنها معتبرة؛ لأن الخلطة تؤثر في الفرض، فافتقرت إلى النية. والثاني: منهم من قال: لا يعتبر؛ لأن الخلطة إنما أثرت؛ لخفة المؤنة، وذلك موجود من غير نية. فإن اختل شرط من هذه الشروط.. لم تصح الخلطة، وهذا إنما هو في خلطة الأوصاف. فأما خلطة الأعيان: فإن هذه الشرائط موجودة فيها ضرورة.

فرع: شركة المكاتب أو الذمي

وقال مالك: (يعتبر ثلاثة شروط لا غير: الراعي، والمسرح، والفحل) . دليلنا: ما روى سعد بن أبي وقاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والخليطان: ما اجتمعا في الرعي، والسقي، والفحل "، وفي رواية: " والحوض» . فنص على هذه الأشياء، ونبه على ما سواها؛ لأن المؤنة تخف بها. [فرع: شركة المكاتب أو الذمي] فإن ملك من تجب عليه الزكاة أربعين شاة، خالط مكاتبًا، أو ذميًا.. لم تصح الخلطة، ووجب على الحر المسلم زكاة المنفرد. وقال أبو ثور: (تصح الخلطة مع المكاتب) ؛ لأن المكاتب عنده من أهل الزكاة. وقال أبو حنيفة: (لا تجب على الحر المسلم زكاة المنفرد، كما لا تجب على شريكه) . والدليل على أبي ثور: أن المكاتب ناقص بالرق، فلم تجب عليه الزكاة، كالقن. وعلى أبي حنيفة: أن الزكاة تجب عليه إذا كان منفردًا، فلا تسقط عنه الزكاة بخلطة من لا تجب عليه الزكاة، كما لو خلط الأثمان بالصفر والنحاس) . [مسألة: أنواع الخلطة] ] : وإذا وُجدت الخلطة.. فلا تخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكون لم يثبت لمال أحدهما حكم الانفراد، أو لم يثبت لمالهما حكم الانفراد، أو ثبت لمال أحدهما دون الآخر حكم الانفراد. فـ[الأول] إن لم يثبت [لمال] أحدهما حكم الانفراد، بأن ملك كل واحدٍ

عشرين من الغنم، ثم خلطاها، أو ملك كل واحدٍ أربعين من الغنم، وخلطاها عقيب الملك حولًا.. فإنهما يزكيان زكاة الخلطة. و [الحال الثاني] : إن ثبت لمالهما حكم الانفراد.. نظرت: فإن كان حولهما متفقًا، مثلُ: أن ملك كل واحد منهما أربعين من الغنم، أول المحرم، ثم خلطاها أول صفر.. ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يزكيان زكاة الخلطة، فتجبُ عليهما شاةٌ أول المحرم) . وبه قال مالك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يفرق بين مجتمع» ، ولأنه لما كان الاعتبار في قدر الزكاة آخر الحول.. وجب أن تعتبر الخلطة في آخره أيضًا. و [الثاني] : قال في الجديد: (يزكيان زكاة الانفراد) ، فيجب على كل واحدٍ منهما شاةٌ أول المحرم، وهو الصحيح، وبه قال أحمد؛ لأنهما شخصان ثبت لمالِ كل واحدٍ منهما حكم الانفراد في بعض الحول، فزكيا زكاة الانفراد، كما لو اختلطا أول الحول وانفردا آخره. وأما في الحول الثاني وما بعده: فيزكيان زكاة الخلطة على القولين؛ لأن الخلطة موجودةٌ في جميعه. وإن كان حولهما مختلفًا، مثل: أن ملك أحدهما في أول المحرم أربعين شاةً، وملك الآخر في أول صفر أربعين، ثم خلطاها في أول ربيع، فإذا بلغا أول المحرم، فإن قلنا بالقول القديم.. أخرج الذي ملك أول المحرم نصف شاةٍ، فإذا بلغا أول صفرٍ.. أخرج الثاني نصف شاةٍ، وعلى هذا في الحول الثاني وما بعده. وإن قلنا بالقول الجديد.. أخرج كل واحدٍ منهما شاةً عند تمام حوله الأول. وأما في الحول الثاني وما بعده: ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو المذهب ـ أنهما يزكيان زكاة الخلطة؛ لأنهما صارا خليطين في جميع السنة، إلا أنه لا يجب على كل واحد منهما إلا إخراج نصف شاة عند تمام حوله. والثاني ـ وهو قول أبي العباس ابن سُريج ـ: أنهما يزكيان زكاة الانفراد في جميع الأحوال، كالسنة الأولى.

فرع: وجود النصاب نصف حول

و [الحال الثالث] إن ثبت لمال أحدهما حكم الانفراد دون الآخر، مثل: أن ملك رجل أربعين شاةً أول المحرم، فلما جاء صفر.. خالط بها رجلًا له أربعون شاة، ثم جاء ثالثٌ، فاشترى تلك الأربعين من الثاني، وصورها الشيخ أبو حامد: أن الأول ملك في أول المحرم، وملك الثاني في أول صفر، وخلطاها قبل انفراد الثاني بالحولِ. قال ابن الصباغ: وهذا يتصور أن تحصل الخلطة عقيب القبول، ولا يعتبر الزمان اليسير. إذا ثبت هذا: وبلغا أول المحرم، فإن قلنا بقوله القديم.. وجب على الأول نصفُ شاة، وكذلك في الحول الثاني وما بعده. وإن قلنا بقوله الجديد.. وجب عليه شاةٌ، وأما في الحول الثاني وما بعده: فعلى المذهب: يزكيان زكاة الخلطة، وعلى قول أبي العباس ابن سريج: يزكيان زكاة الانفراد؛ لأن حولهما مختلفٌ. فإذا بلغا أول صفرٍ، فإن قلنا بالقول القديم.. وجب على الثاني نصف شاةٍ، وإن قلنا بالقول الجديد.. ففيه وجهانِ: أحدهما: يجب عليه شاةٌ؛ لأن خليطه لم يرتفق بخلطته، فلم يرتفق هو أيضًا. والثاني: يجب عليه نصف شاةٍ، وهو الصحيح؛ لأنه خليطٌ للأول في جميع السنة. وما قاله الأول لا يصح؛ لأن أحد الخليطين قد يرتفق بالخلطة دون الآخر، ألا ترى أن في هذه المسألة: إذا حال الحول الثاني على الأول.. فإنه يزكي زكاة الخلطة على المذهب، ثم لو تقاسما قبل تمام الحول الثاني.. وجب على الثاني شاةٌ عند تمام حوله، فقد ارتفق الأول دون الثاني. [فرع: وجود النصاب نصف حول] إذا ملك رجلٌ أربعين شاةً، وأقامت في يده نصف الحول، ثم باع نصفها مشاعًا من آخر، فإن حول البائع ينقطع في النصف الذي باع، وهل ينقطع في حوله الذي لم يُبع؟ فيه طريقان:

أحدهما ـ وهو قول أبي علي بن خيران ـ: أنها على القولين، هل يُبنى حول الخلطة على حول الانفراد؟ فإن قلنا بالقول القديم: (إن حول الخلطة يبنى على حول الانفراد) .. لم ينقطع. وإن قلنا بالقول الجديد: (إنه لا يبنى) .. انقطع الحول فيما لم يبع، فيستأنفان الحول من يوم البيع. قال: لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (فمن له ستون شاةً مضى عليها نصف الحول، ثم باع ثلثها مشاعًا.. إنه يجب على البائع شاةٌ عند تمام حوله) ، ولو صح بناءُ حول الخلطة على حول الانفراد.. لأوجب عليه ثلثي شاةٍ. والطريق الثاني ـ وهو المنصوص في " المختصر " [1/208] و " الأم " [2/13] ، وبه قال أبو العباس، وأبو إسحاق، وعامة أصحابنا ـ: (إن حول البائع لا ينقطع فيما لم يبع، قولًا واحدًا، فيجب عليه نصف شاةٍ عند تمام حوله) ؛ لأن نصيبه لم ينفك من نصابٍ، إما منفردًا، أو مختلطًا؛ لأنه لو كان منفردًا يملك النصاب أول الحول، ثم صار خليطًا للمشتري آخر الحول.. فلم ينقطع الحولُ فيه. هذا الكلام في البائع. وأما المبتاع: فإن ابتداء حوله من حين الابتياع، فإذا تم حوله.. نظرت في البائع: فإن كان قد أخرج زكاته من الأربعين.. فلا زكاة على المشتري؛ لأن النصاب نقص قبل الحول. وإن أخرجها من غير الأربعين، فإن قلنا: إن الزكاة تعلقت بذمة البائع.. لم ينقطع حول المبتاع، فيجب عليه نصف شاةٍ عند تمام حوله. وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين، فإن نتجت شاةٌ سخلةً مع تمام الحول أو قبله.. لم ينقطع حول المبتاع أيضًا، وإن لم تنتج شاةٌ سخلةً.. ففيه طريقان: قال عامة أصحابنا: ينقطع حول المبتاع بحؤول الحول على مال البائع؛ لأن أهل الزكاة ملكوا نصف شاة منها، فنقص المال عن النصاب، فإذا أخرج البائع الزكاة من غيرها.. عاد إليه ملك ذلك النصف بالإخراج، فيعتبر حولهما جميعًا من ذلك الوقت.

فرع: لا ينقطع الحول فيما لم يبع

وذكر أبو إسحاق في " الشرح ": أن على هذا القول قولين: أحدهما: هذا. والثاني: لا ينقطع حول المبتاع؛ لأن رب المال إذا أخرج الزكاة من غير المال.. تبينّا أن المساكين لم يملكوا جزءًا من المال. والطريق الأول أصح. فأما إذا باع عشرين منها بأعيانها، وسلمها إلى المبتاع من غير تفريق بينهما في المكان.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول أبي الطيب بن سلمة ـ: أن حكمها حكم الأول. والثاني: أن حول البائع ينقطع فيما لم يبع، ويستأنفان الحول من حين البيع؛ لأنه لما أفردها بالبيع.. صار كما لو أفردها عن ماله في المكان، ثم باعها. والأول أصح؛ لأنها لم تنفرد عن ماله في المكان. [فرع: لا ينقطع الحول فيما لم يبع] وإن ملك رجلٌ ثمانين شاةً، ومضى عليها نصفُ الحول، ثم باع نصفها مشاعًا.. فإن حول البائع لا ينقطع فيما لم يبع، بلا خلافٍ. فإذا تم حوله من حين ملكها، فإن قلنا بقوله القديم: (وأن حول الخلطة يبنى على حول الانفراد) .. وجب عليه نصف شاةٍ، ويجبُ على المبتاع نصفُ شاةٍ عند تمام حوله. وإن قلنا بقوله الجديد: (وأن حول الخلطة لا يبنى على حول الانفراد) .. وجب على البائع شاةٌ عند تمام حوله، وفي المبتاع وجهان: أحدهما: يجب عليه شاةٌ؛ لأن خليطه لم يرتفق به، فلم يرتفق هو به أيضًا. والثاني ـ وهو الصحيح ـ أن عليه نصف شاةٍ؛ لأن ماله لم ينفك عن الخلطة في جميع الحول.

فرع: انقطاع الحول

قال الشيخ أبو حامدٍ: هكذا درسها أصحابنا، إلا أني أذهب: أن البائع يجب عليه نصف شاة عند تمام حوله على القولين؛ لأن ماله لم ينفك عن الخلطة في جميع الحول، وكذلك المبتاع: يجب عليه نصف شاةٍ؛ لهذه العلة. [فرع: انقطاع الحول] إذا ملك رجلٌ أربعين شاةً في أول المحرم، وملك آخر أربعين في أول المحرم، وأقاما منفردين ستةَ أشهرٍ، ثم باع أحدهما جميع غنمه بجميع الآخر.. انقطع حولُ كل واحدٍ منهما فيما باعَ، واستأنف الحولُ فيما اشترى، فإن بقيا منفردين إلى آخر الحول.. زكيا زكاة الانفراد من حين التبايع، فإن خلطا عقيب التبايع.. صحت الخلطة، وزكيا زكاة الخلطة. وإن مضى زمانٌ، ثم تخالطا.. فعلى القولين في حال الخلطة: هل يُبنى على حول الانفراد؟ وإن باع كل واحدٍ منهما نصف غنمه مشاعًا بنصف غنم الآخر مشاعًا، ثم تخالطا عقيب التبايع.. فإن حول كل واحدٍ منهما ينقطع فيما باعَ، وهل ينقطع فيما لم يبع؟ فيه طريقان: قال عامة أصحابنا: لا ينقطع، قولًا واحدًا. وقال ابن خيران: فيه قولان، وقد مضى ذلك. فإن قلنا: ينقطع.. استأنف الحول من حين البيع. وإن قلنا: لا ينقطع. فإذا بلغا أول المحرم، فإن قلنا بقوله القديم: (وأن حول الخلطة يبنى على حول الانفراد) .. وجب على كل واحدٍ منهما ربعُ شاةٍ؛ لأنه مخالطٌ حال الوجوب بعشرين لسنتين. وإن قلنا بقوله الجديد.. وجب على كل واحدٍ منهما نصف شاةٍ. فإذا بلغا أول رجب، وهو وقت تبايعهما، فعلى القديم: يجب على كل واحدٍ منهما ربع شاةٍ، وعلى الجديد: فيه وجهان:

مسألة: اجتماع حول المشتركين

أحدهما: يجب على كل واحدٍ منهما نصفُ شاةٍ؛ لأن شريكه لم يرتفق بخلطته، فلم يرتفق هو به أيضًا. والثاني: يجب على كل واحدٍ منهما ربعُ شاةٍ؛ لأن هذا المال كان مختلطًا من حين ملك. [مسألة: اجتماع حول المشتركين] إذا كان بين رجلين أربعون شاةً، لكل واحدٍ عشرون، ولأحدهما أربعون شاةً منفردةً، واتفق حول الجميع.. ففيها ستة أوجهٍ: أحدها ـ وهو المنصوص للشافعي، وبه قال عامة أصحابنا ـ (أنه يجب في الجميع شاةٌ، ربعها على صاحب العشرين، وثلاثة أرباعها على صاحب الستين) ؛ لأن مال الرجل الواحد يضم بعضه إلى بعض بحكم الملك وإن افترقت الأماكن به، ثم يضم ذلك إلى مال خليطه، فيصير كأن الثمانين في مكانٍ واحدٍ، فجيب فيها شاةٌ مقسطةٌ على الملكين. والثاني ـ وهو قولُ أبي علي بن أبي هريرة، وأبي علي الطبري، وقياسُ قول ابن الحداد ـ: أنه يجب على صاحب الستين ثلاثة أرباع شاةٍ، وعلى صاحب العشرين نصفُ شاةٍ؛ لأن مال الرجل يضم بعضه إلى بعض بحكم الملك، وأما صاحب العشرين: فلم يخالط من مال خليطه إلا بعشرين، فلم يرتفق بغيرها. والثالث ـ وهو اختيار أبي زيد والخضري ـ أنه يجب على صاحب الستين أحد عشر جزءًا من اثني عشر جزءًا من شاةٍ، وعلى صاحب العشرين نصف شاةٍ؛ لأن صاحب الستين لو انفرد بجميع غنمه.. لوجب عليه شاةٌ، فيخص الأربعين التي انفرد بها ثلثا شاةٍ، ولو خالط بجميع غنمه.. لوجب عليه ثلاثةُ أرباع شاةٍ، لكنه لم يخالط منها إلا بعشرين فيجب فيه ربع شاةٍ، فإذا ضممت ثلثي شاةٍ وربعها.. كان ذلك أحد عشر جزءًا من اثني عشر جزءًا، وأما صاحب العشرين: فلم يخالط إلا بعشرين، فلم يرتفق بغيرها.

والرابع ـ ما حكاه الشيخ أبو حامدٍ، عن أبي علي بن أبي هريرة أيضًا ـ: أنه يجب على صاحب العشرين نصفُ شاةٍ؛ لما ذكرناه، وعلى صاحب الستين شاةٌ؛ لأن له مالًا منفردًا، ومالًا مختلطًا، فغلبت زكاة الانفرادِ؛ لأنها أقوى لكونها مجمعٌ عليها. والخامسُ ـ يحكى عن أبي العباس ـ: أنه يجب على صاحب الستين شاةٌ وسدس شاةٍ؛ لأن حصة الأربعين ثلثا شاةٍ من زكاة الانفراد، وحصة العشرين نصفُ شاةٍ؛ لكونه مخالطًا بها بعشرين، وعلى صاحب العشرين نصفُ شاةٍ. قال ابن الصباغ: وهذا ضعيفٌ؛ لأنه ضم الأربعين إلى العشرين، ولم يضم العشرين إلى الأربعين. والسادس ـ حكاه في " الإبانة " [ق\118] : أنه يجب على صاحب الستين شاةٌ ونصف شاةٍ، وعلى صاحب العشرينَ نصفُ شاةٍ؛ لأن الأربعين منفردةٌ، فجيب فيها شاةٌ، والعشرين مخالطٌ بها بعشرين، فيجبُ فيها نصف شاةٍ، وهذا ضعيفٌ أيضًا؛ لأن مال الرجل الواحد يضم بعضه إلى بعض بحكم الملك وإن تفرقت الأماكنُ به. إذا ثبت هذا: فقد ذكر الشافعي في " الأم " [2/17] نظير هذه المسألة، فقال: (إذا ملك الرجل أربعين شاةً ببلدٍ، وله أربعون ببلدٍ أخرى، فلما مضى له ستةُ أشهرٍ.. باع نصف إحدى الأربعين مشاعًا من رجلٍ.. انقطع حوله فيما باعَ، ولم ينقطع فيما لم يبع، فإن لم يقاسمه حتى حال الحول على البائع من يوم ملك غنمه.. وجبت عليه شاةٌ، وإذا حال الحول على المبتاع من حين البيع.. وجب عليه نصف شاةٍ) . قال المحاملي: والقاضي أبو الطيب: إنما أوجب الشافعي على صاحب الستين شاةً؛ لأن حول الخلطة لا يبنى على حول الانفراد، على قوله الجديد، وقد كان منفردًا أول الحول، وأما صاحب العشرين على هذا القول: ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه ربع شاةٍ؛ لأن ماله لم ينفك عن الخلطة في جميع الحول. والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه يجب عليه نصف شاةٍ) ؛ لأن شريكه لم يرتفق بشركته، فلم يرتفق هو أيضًا بشركته.

فرع: مشاركة جماعة في ستين شاة

وأما على القول القديم، وهو: (أن حول الخلطة يبنى عل حول الانفراد) : فيجب على صاحب الستين ثلاثة أرباع شاةٍ، وعلى صاحب العشرين ربع شاةٍ. [فرع: مشاركة جماعة في ستين شاة] إذا كان لرجل ستون شاةً، فخالط بكل عشرين منها رجلًا له عشرون شاةً، وحالَ الحولُ على الجميع.. ففيه خمسةُ أوجه. أحدُها: يجب عليهم شاةٌ، على صاحب الستين نصفها، وعلى كل واحدٍ من خلطائه سدسُها؛ لأن مال الرجل الواحد ينضم بعضه إلى بعض بحكم الملك، ثم ينضم ذلك إلى خلطائه، فيصير كالمائة والعشرين في مكان واحدٍ، فوجب فيها شاةٌ مقسطةٌ على الأملاك. والثاني: يجب على صاحب الستين نصفُ شاةٍ، وعلى كل واحدٍ من خلطائه نصفُ شاةٍ، وهو قول ابن الحداد، واختيار القاضي أبي الطيب بن سلمة؛ لأن مال الرجل ينضم بعضه إلى بعض بحكم الملك، وهو مخالطٌ بجميعه، فانضم مال خلطائه في حقه؛ لكونه مخالطًا لكل واحد منهم، فصارا كما لو خلط بستين شاةً رجلًا له ستون، وكل واحد من خلطائه لم يخالط إلا بعشرين.. فلم يرتفق بغيرها، ولا يرتفق واحدٌ من خلطائه بالآخرين؛ لأنه لا خلطة بينه وبينهما. والثالث: تجب على صاحب الستين ثلاثةُ أرباع شاةٍ، وعلى كل واحدٍ من خلطائه نصفُ شاةٍ؛ لأن مال صاحب الستين ينضم بعضه إلى بعض بحكم الملك، ولا يمكن ضمه إلى كل واحدٍ من خلطائه، بل ينضم إلى مال واحدٍ منهم، فيصير كأنه مخالطٌ بستين رجلًا له عشرون، فجيب عليه ثلاثة أرباع شاةٍ، وكل واحدٍ من خلطائه لم يخالطه إلا بعشرين، فلم يرتفق بغيرها. والرابع ـ حكاه القاضي أبو الطيب في " شرح المولدات " ـ: أنه يجب على صاحب الستين شاةٌ ونصفُ شاةٍ، وعلى كل واحدٍ من خلطائه نصف شاةٍ؛ لأن كل عشرين من غنمه منقطعة على من لم يخالطه بها، فيجب أن تكون منقطعةً في حقه أيضًا عن الأربعين التي خالط بها الآخرين، فيجبُ في كل أربعين شاةٌ، عليه نصفها.

فرع: خالط غنمه مع اثنين

والخامسُ ـ حكاه الشيخ أبو حامدٍ، والمحاملي، وصاحب " المهذب " ـ: أنه يجب على صاحب الستين شاةٌ، على قول من قال في الأولى: يغلب زكاةُ الانفراد؛ لأنه لا يمكن ضم ماله مع تفرقه إلى أموال خلطائه، فيجعل كأنه منفردٌ بالستين، فيجب عليه فيها شاةٌ، وعلى كل واحدٍ من خلطائه نصفُ شاةٍ. وأما ابن الصباغ: فقال: لا يمكن هذا في هذه المسألة؛ لأنه ليس هاهنا مالٌ منفردٌ، فيغلبُ حكمه. [فرع: خالط غنمه مع اثنين] فرعٌ: [خالط غنمه معاثنين] : وإن كان له أربعون شاةً، فخالط بكل عشرين منها رجلًا له أربعون شاةً: فعلى الوجه الأول في الفروع قبل هذا: تجب عليهم شاةٌ، على كل واحدٍ ثلثها. وعلى قول ابن الحداد: يجب على الذي فرق ماله ثلث شاةٍ، وعلى كل واحدٍ من خلطائه ثلثا شاةٍ. وعلى الوجه الثالث: ينضم ماله بعضه إلى بعض، ثم ينضم إلى أحد خليطيه في حق نفسه، فيجب عليه نصف شاةٍ، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلثا شاةٍ؛ لأنه لا يرتفق إلا بما خولط به. وعلى الوجه الرابع ـ الذي قطع مال الرجل بعضه من بعض لافتراقه في الخلطة ـ: يجب عليه ثلثا شاةٍ، في كل عشرين ثلثها، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلثا شاةٍ. ويأتي على الوجه الخامس الذي حكاه الشيخُ أبو حامد في تغليب الانفراد: يجبُ على كل من فرق ماله شاةٌ، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلثا شاةٍ. [فرع: المشاركة بنصف ما يملك] وإن كان لرجلٍ عشرٌ من الإبل، فخالط بكل خمسٍ منها رجلًا له خمس عشرةَ من الإبل، وبالخمس الأخرى رجلًا له خمسةَ عشرَ:

فعلى الوجه الأول ـ وهو المنصوص ـ: (يجب في الجميع بنت لبون: على صاحب العشر ربعها، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلاثة أثمانها) . وعلى قول ابن الحداد: يجب على صاحب العشر ربع بنت لبون، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلاث شياهٍ. وعلى قول من قطع الخمس عن الخمس الأخرى، قال: يجب على صاحب العشر شاتان، وعلى كل واحدٍ من خلطائه ثلاث شياه، وكذلك: على قول من غلب زكاة الانفراد، وهذا ضعيفٌ. وعلى قول من ضم بعض ماله إلى بعضٍ، وضمه إلى مال أحد خليطيه، قال: يجب على صاحب العشر خمسا بنت مخاض، وعلى كل واحدٍ من خليطيه ثلاث شياهٍ. وإن كانت له عشرٌ من الإبل، فخالط بكل خمسٍ رجلًا له عشرونَ: فعلى الوجه الأول: يجب على الجميع حقةٌ: على صاحب العشر خمسها، وعلى كل واحدٍ من خليطيه خمساها. وعلى قول ابن الحداد: يجب على صاحب العشر خمس حقةٍ، وعلى كل واحدٍ من خليطيه أربعة أخماس ابنة مخاضٍ. وعلى قول من قطع أحد ماليه عن الآخر: يجب على صاحب العشرة خمسا بنت مخاضٍ، وعلى كل واحدٍ من خليطيه أربعةً أخماسِ بنت مخاضٍ.

مسألة: خلطة الأعيان والأوصاف

وعلى قول من ضم مال الرجل الواحد بعضه إلى بعض، وضمه إلى أحد خليطيه: يجب على صاحب العشر ثلثا بنت مخاض، وعلى كل واحدٍ من خليطيه أربعة أخماسِ بنت مخاضٍ. وعلى قول من غلب زكاة الانفراد: يجب على صاحب العشر شاتان، وعلى كل واحدٍ من خليطيه أربعةُ أخماسِ بنت مخاضٍ. [مسألة: خلطة الأعيان والأوصاف] قد ذكرنا: أن الخلطة خلطتان: خلطة أعيان، وخلطة أوصافٍ، وهما سواءٌ في أنه يجب فيهما ما يجب على الواحد. واختلف قول الشافعي إلى ماذا ينصرف إطلاقُ اسم الخلطة في اللغة وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والخليطان يتراجعان بينهما بالسوية» ؟ فقال في القديم: (ينصرف إلى خلطة الأوصاف) . وقال في الجديد: (ينصرف إلى خلطة الأعيان) . إذا ثبت هذا: فالكلام هاهنا في أخذ الساعي الزكاة من المال، وفي التراجع. فإن كانت الخلطة خلطة الأعيان.. أخذ منه، ولا تراجع بينهما إلا في الإبل التي يجب فيها الغنم، فإن الساعي إذا وجد في يد أحدهما خمسًا من الإبل.. أخذ منه شاةً، ويرجع على خليطه. وإن كانت خلطة أوصافٍ، فإن كان الفرض موجودًا في مال أحدهما دون الآخر، أو كان بينهما أربعون شاةً.. فإن الساعي يأخذ الفرض من مال أحدهما، بلا خلافٍ؛ لأنه لا يمكنه غير ذلك، وإن أمكنه أن يأخذ زكاة كل واحدٍ منهما من ماله، بأن كان لكل واحدٍ مائة شاةٍ.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ أن الساعي لا يجوز له أن يأخذ من مال أحدهما إلا شاةً؛ لأنه لا حاجة به إلى أن يأخذ ذلك من مال خليطه.

والثاني ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أنه يجوز له أن يأخذ الكل من مال أحدهما بكل حالٍ؛ لأنه كالمال الواحد. قال الشيخ أبو حامد: وهذا أشبه بمذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والأول أقيسُ. فإذا أخذ الساعي الزكاة من غير زيادةٍ من مالِ أحدهما.. رجع على خليطه من قيمة المأخوذ بقدر ماله من المال الذي وجبت فيه الزكاة عليهما، فإن اتفقا على قيمة المأخوذ.. فلا كلام، وإن اختلفا، فإن كان للمأخوذ منه بينةٌ بقيمة ما أُخذ منه.. عمل بها، وإن لم يكن له بينةٌ.. فالقولُ قول المرجوع عليه مع يمينه؛ لأنه غارمٌ. وإن أخذ الساعي من أحدهما أكثر من الفرض بغير تأويل، بأن أخذ من الأربعين شاتين، أو أخذ شاة ربى، أو ماخضًا، أو فحل الغنم، أو سنًا أكبر من سن الفرض.. يرجع المأخوذ منه على خليطه بحصته من قيمة الواجب، لا من الزيادة، مثل: أن يأخذ منه ابنة لبون مكان ابنة مخاضٍ، فإنه يرجع عليه من قيمة ابنة مخاضٍ؛ لأن الساعي ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه. وهكذا: لو تطوع أحدهما بتسليم ذلك.. لم يرجع على خليطه إلا من قدر الواجب لا غير؛ لأنه متطوعٌ بالزيادة. وإن أخذ الساعي من أحدهما أكثر من الواجب بتأويلٍ، بأن أخذ الكبيرة عن الصغار، أو الصحيحة عن المراض على قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.. رجع المأخوذ منه على خليطه من قيمة ما أخذ منه؛ لئلا يؤدي إلى نقض اجتهاد الإمام. فإن أخذ من أحدهما قيمة الفرض على مذهب أبي حنيفة.. فهل يرجع على خليطه منهما؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه لا يرجع عليه بشيء؛ لأن القيمة لا تجزئ عندنا. والثاني ـ وهو المنصوص في " الأم ": (أنه يرجع عليه بحصته من القيمة) ؛ لأنه أخذه باجتهاده، فأشبه إذا أخذ الكبيرة عن الصغار.

مسألة: فيما تصح الخلطة فيه

[مسألة: فيما تصح الخلطة فيه] ] : وهل تصح الخلطة فيما عدا الماشية من الأموالِ: كالدراهم، والدنانير، وأموال التجارة، والزروع، والثمار؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا تأثير لها في ذلك) . وبه قال مالكٌ. ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقةٌ» . وهذا عامٌ إذا كان لواحدٍ أو لاثنينِ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والخليطان ما اجتمعا في الرعي والفحل والحوض» . فثبت: أن ما لا يوجد فيه ذلك.. لا تؤثر فيه الخلطةُ؛ ولأن الخلطة إنما تصح في جنس المال الذي يرتفق بها رب المال تارةً، ويستضر بها تارةً، وهي الماشية؛ لأنه لو كان بين ثلاثةٍ مائة وعشرون من الغنم، لكل واحدٍ أربعون.. لوجب عليهم شاةٌ وحدةٌ عند الاختلاط، ولو تفرقوا.. لوجب على كل واحدٍ شاةٌ. فهذا وجه ارتفاقهم في الخلطة. وأما وجه استضرارهم: فلو كان بين رجلين أربعون من الغنم.. لوجب عليهما شاةٌ، ولو تفرقا.. لم يجب عليهما شيءٌ. وأما الخلطةُ في غير المواشي: ففيها مضرةٌ على أرباب الأموال بكل حالٍ من غير ارتفاقٍ، وذلك أنه: إذا كان مال كل واحدٍ منهما أقل من نصابٍ، ويبلغان بمجموعهما النصاب.. وجبت عليهما الزكاة عند الخلطة، وإذا افترقا.. لم يجب عليهما الزكاةٌ.

ولو كان مع كل واحدٍ منهما نصابٌ، فاختلطا.. فلا مضرة عليهما في الخلطة، ولا منفعة، فلذلك لم تصح الخلطةُ في غير الماشية. و [الثاني] : قال في الجديد: (تصح الخلطةُ) . وبه قال أحمدُ، وهو الصحيحُ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يفرق بين مجتمعٍ» . وهذا عام في الماشية، وغيرها. ولأن المؤن تخف في الخلطة، وذلك لأن في عروض التجارة يكون دكانهما واحدًا، وميزانهما وحمالهما واحدًا، وكيالهما واحدًا. وكذلك في الزروع والثمار: يكون أكارهما واحدًا، وصعادهما واحدا، وسقاؤهما واحدًا، وما جرى هذا المجرى.. فأثرت الخلطة فيهما، كالمواشي. إذا ثبت هذا: فإن قلنا بالقول القديم: فإن بلغ مال أحدهما نصابًا.. زكاه، وإن لم يبلغ.. لم يجب عليه الزكاة. وإن قلنا بالقول الجديد: فلا خلاف بين أصحابنا أن خلطة الأعيان تصح بها، وهل تصح في خلطة الأوصاف؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تصح؛ لأن الاختلاط لا يحصل. والثاني: يصح، وهو الأصح الصحيح؛ لأن ما صح فيه خلطة الأعيان.. صح فيه خلطة الأوصاف، كالمواشي. والله أعلم وبالله التوفيق

باب زكاة الثمار

[باب زكاة الثمار] تجب الزكاة في ثمرة النخل والكرم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] الآية [البقرة: 267] . والمرادُ بالإنفاق هاهنا: الزكاة؛ لأنه قال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] [البقرة: 267] . وإنفاقُ الخبيث ـ وهو الدون ـ في غير الزكاة يجوز، وروى عتاب بن أسيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الكرم: «يخرص كما يخرص النخل، فتؤدى زكاته زبيبًا، كما تؤدى زكاة النخل تمرًا» . وإنما جعل النخل أصلًا، ورد إليه الكرم؛ لأنه قد كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افتتح خيبر في سنة ستٍّ، وكان بها نخلٌ، و «كان يوجه عبد الله بن رواحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يخرصها عليهم» . وكان خرص النخل عندهم مستفيضًا، ثم فتح الطائف

مسألة: وجوب الزكاة في بعض الثمار

وهوازن سنة ثمانٍ، وكان بها كرمٌ، فأمرهم بخرصها، كما يخرص النخل. [مسألة: وجوب الزكاة في بعض الثمار] ولا تجب الزكاة في التفاح، والسفرجل، والمشمش، والرمان، والتين، والبطيخ، والقثاء، والخيار، والبقول، وطلع الفحال، وما أشبهها مما لا يقتات. وقال أبو حنيفة: (تجب الزكاة في كل ما يقصد بزراعته نماء الأرض، فيجب في جميع ما تنبته الأرض إلا الحطبَ، والحشيشَ، والقصب الفارسي) . دليلنا: ما روى معاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في الخضراوات صدقةٌ» . ولأنه لا يقتات في حال الاختيار.. فلم يجب فيه زكاةٌ، كالحطب، والحشيش. وهل تجب الزكاة في الزيتون؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (تجب فيه الزكاة) . وبه قال مالكٌ، والزهري،

والثوري، والأوزاعي؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} [الأنعام: 99] [الأنعام: 99] . ثم قال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] [الأنعام: 141] . وقد روي ذلك عن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. فإذا قلنا بهذا: لم تجب فيه الزكاة، حتى يبلغ خمسة أوسقٍ، ولا يدخله الخرص؛ لأنه مختلطٌ بورقه، فإن كان من الزيتون الذي لا يجيء منه الزيت، وإنما يؤكل أدمًا، كالبغدادي، فإنه إذا بدا في الصلاح.. أخرج عشره زيتونًا. وإن كان يجيءُ منه الزيت، كالشامي.. قال الشافعي رحمة الله عليه في القديم: (إن أخرج زيتونًا.. جاز؛ لأنه حالة الادخار له، وأحب أن يخرج عشره زيتًا؛ لأنه نهاية ادخاره) . وحكى ابن المرزبان في جواز إخراج الزيتون وجهين. قال الشيخ أبو حامد: وهذا غلطٌ. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تجب فيه الزكاة) . وبه قال ابن أبي ليلى؛ لأنها ثمرةٌ لا تقتات في حال الاختيار، فأشبهت التين. وهل تجب الزكاة في الورس؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (تجب) ؛ لما روي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى بني حفاشٍ بذلك) .

فعلى هذا: تجب الزكاة في قليله وكثيره؛ لأنه لا يوسقُ. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تجب الزكاة) ؛ لأنه لا يقتات في حال الادخار. فإذا قلنا بهذا: فلا زكاة في الزعفران. وإن قلنا بالأول: ففي الزعفران قولان: أحدهما: تجب فيه الزكاة؛ لأنه طيب كالورس. والثاني: لا زكاة فيه؛ لأنه نبتٌ لا ساق له، والورس له ساقٌ. وهل تجب الزكاة في العسل؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (تجب فيه الزكاة) ؛ لما روي: «أن قومًا أتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعشور نحلهم، وحمى لهم واديًا» . و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تجب فيه الزكاة) ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث معاذًا إلى اليمن.. قال: «لا تأخذ العشر إلا من أربعة: من الشعير، والحنطة، والعنب، والنخل» . وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (لا زكاة في العسل) . ولا مخالف له. وهل تجب الزكاة في القرطم، وهو حب العصفر؟ فيه قولان:

مسألة: نصاب الثمار

[الأول] : قال في القديم: (تجب) . وروي ذلك عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فعلى هذا: لا تجب فيه الزكاة حتى يبلغ خمسةَ أوسقٍ، كسائر الحبوب. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه ليس بمقتاتٍ، فأشبه السمسم) . [مسألة: نصاب الثمار] ولا تجب الزكاة في ثمرة النخل والكرم، حتى يبلغ يابسه خمسة أوسق، وبه قال جابرٌ، وابن عمر، ومن الفقهاء: مالكٌ، والأوزاعيٌ، والليث، وأبو يوسف، ومحمدٌ، وأحمدُ رحمة الله عليهم. وقال أبو حنيفة: (تجب الزكاة في كل قليلٍ وكثيرٍ، ولو كانت حبةً واحدةً.. ـ وجب عشرها) . دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقةٌ» . وروى جابرٌ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في نخلٍ ولا كرمٍ حتى تبلغ خمسة أوسقٍ» . إذا ثبت هذا: فالوسقُ: ستون صاعًا، فذلك ثلاثمائة صاعٍ، والصاعُ: أربعة أمداد، والمد: رطلٌ وثلثٌ، فذلك ألف وستمائة رطلٍ بالبغدادي، وهو ثمانمائة منٍّ؛ لما روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في شيءٍ من

فرع: زكاة الثمار التي لا تجفف

الحرث حتى يبلغ خمسة أوسقٍ، والوسق: ستون صاعًا» . وهل ذلك تحديدٌ، أو تقريبٌ؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه تقريبٌ، فلو نقص منه خمسة أرطالٍ.. لم يؤثر؛ لأن الوسق: حمل بعيرٍ، وذلك يزيد وينقص. والثاني: أنه تحديدٌ. قال المحاملي: وهو الصحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والوسق: ستون صاعًا» . فعلم أنه تحديدٌ. فعلى هذا: لو نقص منه شيءٌ قل أو كثر.. لم تجب الزكاةُ. [فرع: زكاة الثمار التي لا تجفف] وإن كان له رطبٌ لم يجئ فيه تمرٌ، أو عنبٌ لم يجئ منه زبيبٌ.. وجبت فيه الزكاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما سقته السماء.. ففيه العشر» . وكيف يعتبر؟ فيه وجهان: أحدهما: يعتبر بنفسه، فإن كان يبلغ يابسه خمسة أوسقٍ.. وجبت فيه الزكاة، وإن كان لا يبلغ.. لم تجب فيه؛ لأن الزكاة تجب فيه، فاعتبر بنفسه. والثاني: يعتبر بغيره، فيقال: لو كان بدل هذه التمرة مما يجفف في العادة.. هل كان يبلغ النصاب؟ فإن كان يبلغ النصاب.. وجبت فيه، وإلا.. فلا تجب؛ لأنه لما لم يمكن أن يعتبر بنفسه.. اعتبر بغيره، كالجناية على الحر التي لا أرش لها مقدرٌ.

مسألة: أنواع التمر

قال ابن الصباغ: فعلى هذا: ينبغي أن يعتبر بأقرب الأرطاب إليه مما يجفف. فإن قيل: فقد قلتم لا يجيء منه تمرٌ ولا زبيبٌ، ثم قلتم: يعتبر بنفسه؟ فالجواب: أنه ما من رطبٍ إلا ويجيءُ منه تمرٌ، وما من عنبٍ إلا ويجيء منه زبيبٌ، وإنما منه ما لا يقصد إلى تجفيفه؛ لقلة ما يأتي منه. [مسألة: أنواع التمر] قال الشافعي: (وثمرُ النخل تختلف، فتثمر النخل، وتجد بتهامة، وهو بنجدٍ بسرٌ وبلحٌ، فيضم بعض ذلك إلى بعض؛ لأنها ثمرة عامٍ وإن كان بينهما الشهر والشهران. وإذا أثمرت في عامٍ قابلٍ.. لم يضمَّ) . وجملةُ ذلك: أن إدراك الثمرة يختلف باختلاف البلاد، فتسرع في البلاد الحارة، وتتأخر في البلاد الباردة. فإن كان له نخيلٌ بتهامة ـ وهي مكة وحواليها ـ ونخيلٌ بنجٍد ـ وهي من ذات عرق إلى حرر المدينة ـ ففيها أربع مسائل: إحداهن: أن يطلعا في وقتٍ واحدٍ، ثم يدركا في وقتٍ واحدٍ، فيضم بعضه إلى بعضٍ؛ لأنهما ثمرة عامٍ واحدٍ. الثانية: أن يطلعا في وقتٍ واحدٍ، ثم يدرك شيءٌ بعد شيءٍ، فيضم بعضه إلى بعضٍ أيضًا؛ لما ذكرناه. الثالثة: أن تطلع التهامية ويبدو صلاحها، ثم تطلع النجدية، فالبغداديون من

فرع: ضم الثمر بعضه إلى بعض

أصحابنا قالوا: يضم بعضها إلى بعضٍ؛ لأنها ثمرة عامٍ واحدٍ، وهذا معنى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن كان بينهما الشهر والشهران) . وحكاها صاحب " الإبانة " [ق\ 136] على وجهين: أحدهما: هذا، وهو الصحيح. والثاني: لا يضم إليها؛ لأن الزكاة قد وجبت في الأولى قبل حدوث الثانية. الرابعة: أن تطلع التهامية ويبدو فيها الصلاح وتقطع، ثم تطلع النجدية، فاختلف أصحابنا البغداديون والخراسانيون. فقال البغداديون: تضم النجدية إلى التهامية؛ لأنهما ثمرة عامٍ واحدٍ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة أن إدراك الثمار لا تتفق في حالةٍ واحدةٍ ووقتٍ واحدٍ. وقال الخراسانيون: لا تضم. [فرع: ضم الثمر بعضه إلى بعض] فإن أطلعت التهامية وبدا فيها الصلاح فجدت، ثم أطلعت النجدية، إما قبل جداد التهامية، أو بعده.. فقد ذكرنا أن التمرتين يضم بعضهما إلى بعضٍ. فإن أطلعت التهامية مرة ثانيةً قبل أن تجد النجدية.. لم يضم هذه الثمرة الثانية في التهامية إلى ثمرتها الأولى ولا إلى النجدية؛ لأن هذه ثمرة عامٍ آخر، وإنما تقدمت لشدة حر البلد. [مسألة: العشر فيما سقي بلا كلفة] ويجب العشر فيما سقي بغير مؤنةٍ ثقيلةٍ، كماء السماء، والسيح، والبعل: وهو العثري، وهو الشجر الذي يشرب الماء بعروقه من ندى الأرض، وكذلك

ما يشرب من الماء الذي يجري إليه من نهرٍ، وإن كثرت المؤنة بجره؛ لأن ذلك ليس بمؤنةٍ للزروع، وإنما هو لإصلاح شرب الأرض فيجري مجرى إحياء الموات. فأما ما سقي بمؤنةٍ ثقيلة، كالنواضح، والدواليب، والغروب.. ففيه نصف العشر. والدليل عليه: ما روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما سقته السماءُ والأنهار.. ففيه العشر، وما سقي بالسواني.. ففيه نصف العشر» . ولأن لخفةِ المؤنة تأثيرًا في الزكاة، ولهذا وجبت الزكاة في السائمة لخفة مؤنتها، ولم تجب في المعلوفة لثقل مؤنتها. وإن سقي نصفه بالسيح، ونصفه بالناضح.. وجب فيه ثلاثة أرباع العشر اعتبارًا بالسقيين. قال الشيخ أبو حامد: والاعتبار بما يعيش به الشجر، فإن عاش بالسيح ثلاثة أشهرٍ، وبالناضح ثلاثة أشهرٍ.. فهما نصفان، وإن سقي بأحدهما أكثر.. ففيه قولان: أحدهما: يعتبر قدرهما. قال الشيخ أبو حامد: وهو القياس؛ لأنه لو سقي بهما نصفين.. لقسطت الزكاة عليهما، فكذلك إذا تفاضلا. والثاني: يعتبر الغالب، فإن كان الغالب السيح.. أخذ منه العشر، وإن كان

الغالب الناضح.. أخذ منه نصف العشر؛ لأن للغلبة تأثيرًا في الأصول، ولهذا إذا اجتمع الماء والمائع الطاهر.. كان الحكم للغالب. وفي كيفية اعتبار الغالب وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\ 137] : أحدهما ـ ولم يذكر في " التعليق " غيره ـ: أن الاعتبار بالزمان الذي يعيش فيه الشجر، لا بعدد السقيات؛ لأنه قد يعيش بالسقية الواحدة ما لا يعيش بالسقيات. والثاني: أن الاعتبار بعدد السقيات، وإليه أومأ الشيخ أبو إسحاق في " المهذب "، حيث قال: يقسط على عدد السقيات. وإن سقي بهما، وجهل قدر كل واحدٍ منهما.. قال أبو العباس: جعلا نصفين، ووجب فيه ثلاثة أرباع العشر؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، فجعل نصفين. فإن كان له حائطان، أحدهما يسقى بالسيح، والآخر بالناضح.. ضم إلى الآخر في إكمال النصاب، وأخرج من المسقي بالسيح العشر، ومن المسقي بالناضح نصف العشر. قال في " الإبانة " [ق\138] : إذا كان يسقى بالسيح، فانقطع، واحتيج إلى سقيه بالناضح، فسقي به.. فهل يثبت له حكم ما سقي بالسيح والناضح؟ فيه وجهان: أحدهما: يثبت له؛ لوجوده. والثاني: لا يثبت له؛ لأنه كان يسقى بالسيح، والحاجة إلى الناضح نادرةٌ، فلم يثبت حكمه. قال: وهما كالوجهين فيمن علف السائمة ساعةً، ثم أعادها، وكالوجهين في الخليطين إذا ميزا المالين ساعةً لا غير، ثم خلطاه. وإن اختلف الساعي ورب المال فيما يُسقى به، أو في قدره.. فالقول قول رب المال مع يمينه، واليمين ـ هاهنا ـ مستحبةٌ؛ لأن دعوى رب المال لا تخالف الظاهر. فإن كان له حائطان، أحدهما يسقى بالسيح، والآخر بالنواضح.. ضم أحدهما

مسألة: لا تجب الزكاة إلا ببدو الصلاح

إلى الآخر، لإكمال النصاب، وأخرج من الذي يسقى بالسيح العشر، ومن المسقي بالناضح نصف العشر، وإن زادت الثمرة على خمسة أوسقٍ.. وجب فيما زاد بحسابه؛ لأنه يتجزأ من غير ضررٍ، فأشبه الأثمان. [مسألة: لا تجب الزكاة إلا ببدو الصلاح] ولا تجب الزكاة في الثمار حتى يبدو الصلاح فيها، وبدوّ الصلاح في النخل: إذا احمر ما يحمر من ثمرتها، أو اصفر ما يصفر منها. قال الشيخ أبو حامدٍ: وذلك حالة كونها بسرًا؛ لأنها تسلم من الآفة والعاهة، مثل البر. وإن كان عنبًا أسود.. فحتى يسود، وإن كان أبيض.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فحتى يتموه) . فمن أصحابنا من قال.. معنى قوله: (يتموه) : يدور فيه ماء الحلاوة، والتموه: مأخوذٌ من الماء. ومنهم من قال: معنى قوله: (يتموه) : تبدو فيه الصفرة؛ لأن الشيء إذا بدا اصفراره.. سمي: متموها، ولهذا يقال: موهت الفضة: إذا صفرت بالذهب. [مسألة: نقص نصاب الزكاة قبل الوجوب] ] : فإذا ملك نصابًا تجب فيه الزكاة من الماشية، أو الدراهم، أو الدنانير، أو الثمار، فنقص نصابها قبل وجوب الزكاة، فإن كان لعذرٍ بأن قضى دينه، أو خفف عن نخله خوفًا عليها.. فإن ذلك ليس بمكروهٍ، ولا تجب عليه الزكاة. وإن قصد بذلك الفرار من الزكاة.. قال الشيخ أبو حامدٍ: كره ذلك ولم يحرم.

مسألة: بدو صلاح الثمرة في ملكه

وإذا حال عليه الحول.. فلا زكاة فيه، وقال مالك، وأحمدٌ: (إذا حال عليها الحول.. وجبت عليه الزكاة) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول» . وهذا لم يحل عليه الحول، فلا زكاة فيه، فلم يمنع من بيعه. [مسألة: بدو صلاح الثمرة في ملكه] إذا ملك الرجل ثمرة لم يبد فيها الصلاح، من غير شرط القطع، ثم بدا فيها الصلاح، وهي في ملكه.. وجبت عليه الزكاة، وذلك بأن يشتري النخل والثمرة، أو يوصى له بالثمرة، أو كانت النخلة له دون الثمرة، فاشترى الثمرة من مالكها من غير شرط القطع في أحد الوجهين، ثم بدا الصلاح بالثمرة، وهي في ملك الثاني.. وجبت عليه الزكاة؛ لأنه جاء وقت الوجوب وهي في ملكه. وأما إذا اشترى ثمرة قبل بدو الصلاح فيها بشرط القطع.. صح البيع، فإن قطعها المشتري قبل بدو الصلاح فيها.. فلا كلام، وإن لم يقطعها المشتري حتى بدا الصلاح فيها.. فقد وجبت فيها الزكاة. فإن اتفقا على قطعها، فإن كان المشتري قد خرصت عليه الثمرة، وضمن نصيب المساكين.. قطعت، وإن لم يخرص عليه.. لم يجز قطعها؛ لأن في ذلك إتلاف حق المساكين، فينفسخ البيع، وترد الثمرة إلى البائع، وتجب عليه الزكاة. فإن قيل: كيف توجبون الزكاة عليه، وبدو الصلاح كان في ملك المشتري؟

قلنا: لأن وجوب القطع كان مستفادًا بالشرط، وإنما تعذر لبدو الصلاح، فصار الفسخ مستفادًا بالشرط، فاستند إلى حال العقد، فكأن العقد ارتفع من أصله لا من وقت الفسخ. وإن اتفقا على تبقية الثمرة على النخل إلى وقت الجداد، فالمشهور من مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن ذلك جائزٌ، ولا يفسخ البيع، وتجب الزكاة على المشتري؛ لأن الحق لهما، وقد رضيا. قال الشيخ أبو حامدٍ: وحكى أبو إسحاق قولًا آخر: أن البيع ينفسخ؛ لأنهما لو اتفقا على التبقية حال العقد.. لبطل البيع، فكذلك إذا وجد هذا الشرط المبطل بعد ذلك، قال: وهذا غلطٌ؛ لأن الشرط المبطل إنما يؤثر إذا قارن العقد، ألا ترى أنه لو اشترى عينًا إلى أجل مجهول.. لم يصح، ولو اشتراها إلى أجل معلوم، ثم بعد لزوم البيع اتفقا على أجلٍ مجهولٍ.. لم يؤثر في العقد فكذلك هاهنا. وإن طلب البائع قطع الثمرة لتخلية نخله، وطلب المشتري تبقيتها إلى الجداد.. فذكر الشيخ أبو حامد والبغداديون من أصحابنا: أن البيع ينفسخ، وترجع الثمرة إلى البائع، فتجب عليه الزكاة؛ لأنه لا يمكن إجبار البائع على هذه التبقية؛ لأن البيع وقع بهذا الشرط، ولا يمكن القطع؛ لأن في ذلك إضرارًا بالمساكين، فلم يبق إلا الفسخ. وحكى في " الإبانة " [ق\140] قولين: أحدهما: ينفسخ البيع؛ لما ذكرناه. والثاني: لا ينفسخ، ويجبر المشتري على القطع، ويؤخذ منه عشر ثمرته مقطوعًا. وهذا ليس بشيءٍ. وإن رضي البائع بترك الثمرة إلى أوان الجداد، وطلب المشتري قطعها.. فحكى الشيخ أبو حامدٍ فيه قولين: أحدهما: يجبر المشتري على التبقية، وهو الصحيح؛ لأن البائع زاده خيرًا، فهو كما لو أسلم إليه طعامًا على صفةٍ، فسلم إليه طعامًا أعلى منه صفةً.

فرع: البيع للذمي قبل بدو الصلاح

قال في " الإبانة " [ق\140] : على هذا: فإن رجع البائع عن الرضا بترك الثمرة.. كان له ذلك؛ لأن رضاه بترك الثمرة إعارةٌ منه للنخل، وللمعير أن يرجع في العارية. والقول الثاني: أن المشتري لا يجبر على التبقية، بل يفسخ العقد؛ لأنه يقول: إنما دخلت في العقد على أن تحصل لي الثمرة في الحال، ولا آمن التلف إذا تركتها. [فرع: البيع للذمي قبل بدو الصلاح] ذكر ابنُ الحداد: إذا باع المسلم نخلًا مثمرًا لم يبد صلحه من ذميٍّ، فبدا صلاحه.. فلا زكاة على واحدٍ منها. فإن وجد الذمي به عيبًا ـ بعد بدو الصلاح ـ فرده بالعيب.. لم تجب الزكاة على البائع؛ لأن وقت الوجوب هو في ملك الذمي، وليس هو من أهل الزكاة. وإن باعه الذمي من مسلم، فبدا الصلاح فيه في ملك المسلم.. فالزكاة على المسلم، فلو رده بعيبٍ.. لم تسقط عنه الزكاة. [مسألة: قطع الثمرة قبل بدو الصلاح] إذا قطع رب المال الثمرة قبل بدو صلاحها.. لم تجب عليه الزكاة؛ لأن ذلك قبل الوجوب. وهل يكره؟ ينظر فيه: فإن كان ذلك لعذرٍ، مثل: أن قطعها ليأكلها، أو ليبيعها، أو ليخفف عن نخله.. لم يكره.. وإن قطعها للفرار من وجوب الزكاة، وكانت تبلغ نصابًا لو بقيت.. كره له ذلك، ولم يحرم.. وقد مضى خلاف مالكٍ، وأحمد فيها. [مسألة: خشي على الثمار التلف] وإن بدا الصلاح في الثمرة، وأصابها عطشٌ، وخاف أن تشرب الثمرة ماء النخلة، فتتلف النخلة، وكان قبل أوان جدادها.. جاز للمالك أن يقطع من الثمرة.. ما تدعو

الحاجة إليه في ذلك.. فإن كان الضر يزول بقطع الثمرة.. قطع البعض منها. وإن كان الضرر لا يزول إلا بقطع جميع الثمرة.. قطع جميعها؛ لأن في ذلك حظًا لرب المال يحفظ أصل نخله، وللمساكين في مستقبل الأحوال. ولا يقطع إلا بمحضر الساعي؛ لأنه نائبٌ عن المساكين، فإذا حضر الساعي قبل القطع، فإن قلنا: إن القسمة فرز الحقين.. فإن الخارص يخرص ما في كل نخله من الرطب، ويفرد حق المساكين في نخلاتٍ بعينها، ويسلمها رب المال إلى الساعي، فإن رأى الساعي الحظ في بيعها وقسمة ثمنها.. فعل، وإن رأى الحظ في قسمتها رطبًا.. قطعها، وقسمها عليهم. وإن قلنا: إن القسمة بيعٌ.. لم يجز قسمتها على رؤوس النخل، فيسلم رب المال عشر الثمرة مشاعًا إلى الساعي. فإن رأى الساعي بيعها وتفرقة ثمنها.. باع عشرها مشاعًا، وفرق الثمن. وإن رأى قسمتها.. سلمها الساعي مشاعًا إلى المساكين. وإن قطعا الثمرة من النخل.. فهل تصح المقاسمة بالثمرة على هذا القول؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول الشيخ أبي إسحاق، وابن أبي هريرة، ولم يذكر في " التعليق " و " المجموع " غيره ـ: أن ذلك يصح بالكيل أو الوزن؛ لأن ذلك استيفاءٌ للزكاة لا معاوضةٌ، ألا ترى أن رب المال لو سلم أكثر مما وجب عليه.. صح. والوجه الثاني ـ وهو اختيار القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق، وابن الصباغ ـ: أنه لا يصح، كما لا يجوز على رؤوس النخل، على هذا القول، فإن قطع رب المال الثمرة ـ عند خوف العطش ـ من غير إذن الإمام أو الساعي.. فقد أساء، ويعزر إن كان عالمًا. وما الذي يؤخذ منه؟ روى المزني عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر " [1، \ 228] : (أنه يؤخذ من ثمن عشرها، أو عشرها مقطوعة) . وظاهر هذا: أنه مخير.

مسألة: الخرص بعد بدو الصلاح

وقال في " الأم " [2/28] : (يأخذ عشرها مقطوعة إن كانت باقية، أو ثمن عشرها إن كان قد استهلكها) . وأراد بالثمن: القيمة. ولما نقله المزني تأويلان: أحدهما: أنه أراد ما فسره في " الأم ". والثاني: أنه أراد: أنه يفعل ما رأى فيه الحظ من أخذ عشرها أو ثمن عشرها. [مسألة: الخرص بعد بدو الصلاح] وإذا بدا الصلاح في ثمرة النخل والكرم، فإن الإمام يبعث من يخرصها، ويستفاد بالخرص جواز التضمين على رب المال. وهل الخرص واجبٌ، أو مستحبٌ؟ قال الصيمري: فيه وجهان: أحدهما: أنه واجب. والثاني: أنه مستحب، وهو المشهور. وقيل: مستحبٌ فيما يدلى، ويجب فيما لم يدل، كنخل الحجاز. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز الخرص، ولا يستفاد به جواز التضمين، وإنما يستفاد بالخرص؛ لئلا يتلفها رب المال أو ينقصها) . دليلنا: ما روى عتاب بن أسيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمر في الكرم أن تخرص كما تخرص النخل» . وروي عن أبي بكر، وعمر: (أنهما أمرا بالخرص) . واختلف أصحابنا في عدد من يخرص. فمنهم من قال: فيه قولان.

أحدهما: لا يجوز أقل من خارصين؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث عبد الله بن رواحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومعه غيره للخرص على أهل خيبر» ، ولأنهما كالمقومين. والثاني: يجوز أن يكون واحدًا، وهو الصحيح؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث عبد الله بن رواحة إلى أهل خيبر خارصًا، وكان يخير اليهود، فيقول: إن شئتم.. فلكم، وإن شئتم.. فعلي» ، ولأنه بمنزلة الحاكم. وحكى الصيمري قولًا ثالثًا ليس بمشهورٍ: إن كان الخرص على صبيٍّ، أو مجنونٍ، أو غائبٍ، فلا بد من اثنين، وإن كان على غيرهم.. جاز خارصٌ واحدٌ. وقال أبو العباس، وأبو سعيد الاصطخري: يجوز خارصٌ واحدٌ، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه. وهل يجوز أن يكون الخارص امرأةً؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وكيفية الخرص: أن يأتي الخارص النخلة، فيطوف بها، ويرى ما فيها من الأعذاق، ويحزر ما عليها من الرطب، وما يجيء من ذلك من الثمر، ثم يجمل جميع ذلك. وقال أبو العباس: وقد يجوز أن يعرف ما في كل نخلةٍ من الرطب، ثم يجمل

رطب جميع النخل، ثم يعرف ما يجيء من ذلك من التمر. قال أصحابنا: ويصح ما قال أبو العباس، إذا كانت نوعًا واحدًا، إما برنيًا، وإما معقليًا، أو غيرهما، فأما إذا كانت النخل أنواعًا: فلا يصح؛ لأن من الرطب ما يكون كثير الماء قليل اللحم والشحم، فإذا جف.. كان تمره قليلًا، كالسكر والهلياث، ومنها ما يكون قليل الماء كثير اللحم والشحم، فإذا جف.. كان ثمره أكثر، كالبرني والمعقلي.. فلم يصح إلا بأن يحزر رطب كل نخلةٍ وما يجيء منه تمرٌ، فإذا خرصت الثمارُ، وعرف الساعي مبلغ حق المساكين منها.. فإن الثمرة تقر في يد رب المال؛ لأنه أمينٌ عليها، ولأن مؤنة تجفيفها عليه، فأقرت في يده. فإن ضمن رب المال حق المساكين.. جاز؛ لحديث عبد الله بن رواحة: «أنه كان يضمن أهل خيبر» ويستفيد بهذا الضمان جواز التصرف فيها: بالأكل، والبيع والهبة، وغير ذلك. قال الشيخُ أبو حامدٍ: ولكن لا يلزم عليه الضمان إلا بعد التصرف؛ لأن ما لا يضمن بالغصب والتسليم.. لم يضمن بالشرط، وإنما يضمن بالإتلاف كالوديعة. فإذا أتلفها أو باعها.. لزمه حق المساكين تمرًا مما خرص عليه، فيستفاد بالخرص التضمين، وبالتضمين التصرف، وبالتصرف لزوم الضمان. فإن لم يخير رب المال أن يضمن.. لم يجبر على ذلك، وتقر الثمرة في يده، ولا يجوز له التصرف في الثمرة بشيء من وجوه التصرفات؛ لأن المال إما أن يكون مرهونًا بالزكاة، والتصرف بالرهن لا يجوز بغير إذن المرتهن، أو يستحق الفقراء جزءًا من المال، فيصير كالمال المشترك، ولا يجوز لأحد الشريكين التصرف بشيءٍ منه.

فإذا جفت الثمرة.. أخذ الساعي حق المساكين بالغًا ما بلغ، وكان الباقي لرب المال، وإن تصرف رب المال هاهنا بشيء من الثمرة بأكلٍ أو بيعٍ.. لزمه زكاة ما أتلفه تمرًا بالخرص، فتكون فائدة الخرص في هذه الحالة لزوم الزكاة فيما يتلفه رب المال. ولو لم تكن خرصت الثمرة، فأتلفها رب المال، أو بعضها.. لزمه زكاة ما أتلفه، وعزر إن كان عالمًا، وإن كان جاهلًا.. لم يعزر، والقول قوله في قدر ما أتلفه. وما الذي يلزمه دفعه؟ قال الشافعي: (عليه عشرها رطبًا) . واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: يلزمه قيمة عشرها رطبًا؛ لأن الرطب لا مثل له. ومنهم من قال: يضمن عشرها رطبًا، كما لو كان له أربعون شاةً، فأتلفها بعد وجوب الزكاة.. لزمه شاةٌ. وتأول كلام الشافعي: إذا أفرد نصيب المساكين، واستقر ملكهم عليه. هكذا ذكره ابن الصباغ. وقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي في " المجموع ": يلزمه ـ في هذه المسألة ـ زكاة ما أتلفه تمرًا، هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وذكر صاحب " الإبانة " [ق\140] : لو أتلف رب المال الثمرة بعد الخرص.. فماذا يجب عليه؟ فيه قولان، بناءً على أن الخرص: عبرةٌ، أو تضمينٌ: فإن قلنا: إنه تضمينٌ.. وجب عليه عشر ما خرص تمرًا؛ لأن الزكاة قد لزمت في ذمته. وإن قلنا.. عبرةٌ.. فعليه قيمة عشر الثمرة يوم أتلفها. فإذا كانت الثمرة رطبًا لا يجيء منه تمرٌ، فأتلفها بعد الخرص.. وجب عليه قيمة عشره رطبًا، على القولين؛ لأنه ليس لهذه الثمرة حالة جفافٍ.

وإن أتلفها رب المال بعد بدو الصلاح، وقبل الخرص، فإن قلنا: الخرص عبرةٌ.. وجب عليه قيمة عشرها يوم أتلفها. وإن قلنا: إنه تضمينٌ.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه قيمة عشرها رطبًا يوم التلف؛ لأن الخرص إنما يكون له حكمٌ إذا وجد، فأما قبله.. فلا حكم له. والثاني: يجب عليه عشره تمرًا؛ لأنه قد أمكنه تركها إلى أن تصير تمرًا. قال صاحب " الإبانة " [ق\140] : وهل له أكل جميع الثمرة بعد الخرص؟ وأراد قبل أن يضمن: إن قلنا: الخرص تضمينٌ.. فله ذلك، والعشر في ذمته. وإن قلنا: إنه عبرةٌ.. فليس له أكل القدر الذي هو حق المساكين. إذا ثبت ما ذكرناه: فقد روى سهل بن أبي حثمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا خرصتم.. فاتركوا لهم الثلث، فإن لم تتركوا لهم الثلث.. فاتركوا لهم الربع» . ولهذا تأويلان: أحدهما ـ وهو تأويل الشافعي ـ: (أنه أراد: إذا خرصت الثمرة، وأقرت أمانةً في يد رب المال، أو ضمنها، ثم جاء الساعي ليأخذ الزكاة.. فيستحب له أن يترك له ثلث

فرع: ادعاء تلف الثمرة بعد الخرص

الزكاة، أو ربعها في يد رب المال؛ ليفرقها على جيرانه؛ لأنهم يتوقعون ذلك منه) . والتأويل الثاني: أن الثمرة إذا خرصت ولم يختر رب المال أن يضمن حق المساكين، وأمسكها أمانة في يده.. فقد قلنا: لا يجوز له أن يتصرف في شيء منها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتركوا لهم الثلث أو الربع» . ليتصرفوا فيه بالأكل والبيع وغيرهما، فإذا جاء وقت أخذ الزكاة.. أخذ منه زكاة ما تصرف فيه بالخرص. [فرع: ادعاء تلف الثمرة بعد الخرص] فإذا ادعى رب المال تلف جميع الثمرة بعد الخرص، فإن ادعى تلفها بأمرٍ ظاهر، كالبرد، والجراد، أو عطش عظيم.. لم يقبل قوله، حتى يقيم البينة على وجود ذلك؛ لأن ذلك مما يمكن إقامة البينة عليه. فإن اتهمه الساعي أنها لم تتلف بذلك، ولم تشهد البينة أنها تلفت بذلك.. حلف رب المال. وإن ادعى رب المال أنها تلفت بأمرٍ خفي، مثل: أن قال: سرقت.. لم يطالب بإقامة البينة على ذلك؛ لأن البينة قد تتعذر هاهنا، بل يحلف رب المال. وهل اليمين في الموضوعين واجبةٌ، أو مستحبة؟ فيه وجهان: أحدهما: أنها واجبةٌ، فإن لم يحلف.. أخذت منه الزكاة، لا بالنكول، ولكن بالوجوب المتقدم. والثاني: أنها مستحبةٌ، فإن لم يحلف.. فلا شيء عليه. وإن ادعى رب المال أنه تلف بعض الثمرة.. فالحكم في التالف كالحكم فيه إذا ادعى تلف الجميع، فإذا حلف.. لم تجب عليه زكاة التالف، وأما الباقي: فإن كان نصابًا أو أكثر.. أخرج زكاته، وإن كان أقل من نصابٍ، فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. فلا زكاة عليه فيه. وإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الضمان.. أخرج زكاة الباقي. وإن قال: أكلت بعضًا، وتلف بعضٌ، وبقي بعضٌ.. فالحكم في التالف على

فرع: الثمرة تخرص وتقر بيد صاحب المال

ما مضى، ويضم ما بقي إلى ما أكل، فإن بلغ نصابًا، زكى الجميع، وإن لم يبلغ نصابًا.. فعلى القولين في إمكان الآداء. [فرع: الثمرة تخرص وتقر بيد صاحب المال] وإن خرصت الثمرة، وأقرت في يد رب المال: إما أمانة أو ضمانًا، وادعى أنه أحصى مكيلتها، وأن الخارص أخطأ في خرصه، فإن ادعى أنه أخطأ في خرصه فيما يجوز لمثله الخطأ، بأن قال: خرص علي عشرة أوسقٍ، فنقص وسقٌ، أو وسقٌ ونصفٌ، وما أشبه ذلك.. فالقول قول رب المال مع يمينه؛ لأن الخرص حزرٌ وتخمينٌ، ويجوز الخطأ في مثل ذلك، فإن حلف.. سقطت عنه زكاة ذلك، وإن نكل.. فعلى الوجهين. فإن ادعى أن الخارص أخطأ في النصف أو الثلث.. لم يقبل؛ لأنه لا يخطئ مثل ذلك في العادة. قال الشيخ أبو حامدٍ: ويقال له: إن شئت أن تدعي دعوى ـ تقبل منك.. فافعل. وإن ادعى غلطًا يسيرًا، يجري بين الكيلين.. فهل يحط عنه؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\141] : أحدهما: يحط عنه؛ لأن ما ادعاه محتملٌ. والثاني: لا يحط؛ لأنه ذلك يجري بين الكيلين، ولعله لو كاله مرة أخرى، لوفى. قال أبو العباس: فأما إذا قال: وجدت الثمرة خمسة أوسقٍ.. قبل قوله مع يمينه؛ لأنه لم يكذب الخارص، ويجوز أن تكون الثمرة قد سرقت، فقبل.

فرع: ادعاء سرقة الثمار

[فرع: ادعاء سرقة الثمار] قال الشافعي: (فإن قال: سرق بعد ما صيرته إلى الجرين، فإن كان بعد ما يبس، وأمكنه أن يؤدي الزكاة إلى الوالي أو إلى أهل السهمان.. فقد ضمن ما أمكنه، ففرط، وإن لم يمكنه.. فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يفرط) . [مسألة: يؤخذ الأوسط من الثمار] قال الشافعي: (ويترك لصاحب الحائط أجود الثمار من الكبيس، والبردي، ولا يؤخذ الجعرور، ولا مصران الفأرة، ولا عذقٌ من حبيق، ويؤخذ وسطٌ من الثمر، إلا أن تكون الثمرة كلها برديًا، فيؤخذ منه) . وجملة ذلك: أنه إذا كان له نخيلٌ، فإذا كان نوعًا واحدًا.. فإنه تؤخذ منه الزكاة، وإن كان أنواعًا، فإن كان أربعة أنواع، أو خمسةً.. أخذ من كل نوع بقسطه؛ لأنه لا يشق. أو كان أنواعًا كثيرة.. ففيه ثلاثة أوجهٍ، حكاها في " الإفصاح ": أحدها ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يؤخذ من الجيد، وهو الكبيس والبردي، ولا من الرديء، وهو مصران الفأرة وعذقٌ من حبيقٍ، ولكن يؤخذ من الجعرور وهو أوسطها؛ لأن الأخذ من كل نوع يشق، فعدل إلى الوسط. والثاني: يؤخذ من كل نوع بقسطه؛ لأنه أعدل. والثالث: يؤخذ من الغالب منها؛ لأنه يشق الأخذ من كل نوعٍ، فأخذ من

مسألة: مات مدين والثمرة لم يبدو صلاحها

الغالب، وهو الأكثر، ولا يؤخذ إلا التمر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكرم: «تؤخذ زكاته زبيبًا، كما تؤخذ زكاة النخل تمرًا» . فإن أخذ الساعي الرطب.. وجب رده إن كان باقيًا، وإن كان تالفًا.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب رد قيمته؛ لأنه لا مثل له. والثاني: يجب رد مثله، وليس بشيء. وإن كانت النخل لا يأتي منها تمرٌ، أو كرمٌ لا يأتي منه زبيبٌ.. أخذ زكاته رطبًا وعنبًا، والكلام فيه كالنخل إذا خاف عليها العطش، وقد مضى ذكره. [مسألة: مات مدين والثمرة لم يبدو صلاحها] إذا مات رجلٌ، وخلف نخلًا، وعليها ثمرةٌ لم يبد صلاحها، وعليه دينٌ يستغرق التركة، فبدا صلاحها قبل بيعها في الدين.. فإن الزكاة تجب فيها على الورثة؛ لأن الدين لا يمنع انتقال الملك إليهم، على مذهب الشافعي، فإن كان لهم مالٌ غير ذلك.. أخرجوا الزكاة منه؛ لأن الوجوب حصل في ملكهم. وإن لم يكن لهم مالٌ غير الثمرة، فإن قلنا: الزكاة تجب في الذمة، والعين مرتهنةٌ بها.. ففيه وجهان: أحدهما ـ ولم يذكر القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره ـ: أن الدين أولى؛ لأنهما قد استويا، والدين أسبق، فقدم. والثاني ـ ذكره ابن الصباغ ـ: أنهما سواءٌ، فإذا استوى حق الله وحق الآدميِّ.. فأيهما أولى بالتقديم؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: حق الله تعالى أولى؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فدين الله أحق أن يقضى» .

مسألة: ورثوا نخلا جاز بيعها

والثاني: حق الآدميِّ أولى؛ لأنه مبنيٌّ على الشح. والثالث: يقسط المال عليهما. وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين.. وجب تقديم الزكاة، ثم يصرف ما بقي من التركة في الدين، ويجب على الورثة أن يغرموا قدر الزكاة للغرماء إذا أيسروا؛ لأنها وجبت عليهم. هذا إذا قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة. فأما إذا قلنا: إن الدين يمنع وجوب الزكاة.. ففيه وجهان: أحدهما: تجب الزكاة ـ هاهنا ـ على الورثة؛ لأن الدين لا يجب على الورثة، وإنما يجب على الميت، والزكاة تجب على الورثة دون الميت. والثاني: لا يجب، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن ضعف ملك الورثة على الثمرة موجودٌ ـ هاهنا ـ وإن كان الدين على الميت؛ لأنهم يجبرون على بيعها لحق الغرماء. وإن مات رجلٌ وخلف نخلًا لا ثمرة عليها، وعليه دينٌ يستغرق قيمتها، ثم أثمرت في يد الورثة، وبدا صلاحها.. فإن الثمرة للورثة، وتجب عليهم الزكاة، ولا يتعلق الدين بها على المذهب، وقال الإصطخري: الدين يمنع انتقال الملك إلى الورثة. فعلى هذا: تحدث الثمرة هاهنا على ملك الميت، ويتعلق بها حق الغرماء. وهذا ليس بشيء. [مسألة: ورثوا نخلًا جاز بيعها] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن ورثوا نخلًا، فاقتسموا بعدما حل بيع ثمرتها، وكان في جيمعها خمسة أوسقٍ.. فعليهم الصدقة؛ لأن أول وقت وجوبها كان وهم

شركاء، ولو اقتسموها قبل أن يحل بيعها.. فلا زكاة على أحدٍ منهم، حتى تبلغ حصته خمسة أوسقٍ) . وجملة ذلك: أنه إذا مات رجلٌ ولا دين عليه، وخلف ابنين، وخلف نخلتين مثمرتين، أو غير مثمرتين، ثم أثمرتا، فإن الثمرة مشتركة بينهما. فإن قلنا: الخلطة لا تصح فيما عدا المواشي، فكل واحدٍ مخاطبٌ بزكاته على الانفراد، إن بلغ نصيبه نصابًا.. زكاه، وإن لم يبلغ.. فلا زكاة عليه، سواءٌ اقتسما أو لم يقتسما. وإن قلنا: تصح الخلطة فيما عدا المواشي، فإن اقتسماها قبل بدو الصلاح.. صحت القسمة، واعتبر نصيب كل واحدٍ بانفراده، فإن بلغ نصابًا.. زكاه، وإلا فلا. وإن اقتسما بعد بدو الصلاح.. فهل تصح القسمة؟ إن قلنا: الزكاة استحقاق جزء من العين.. لم تصح؛ لأن المساكين شركاء في المال، فلا تصح القسمة دونهم. وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، والعين مرهونةٌ بها.. صحت القسمةُ؛ لأن الرهن لا يمنع القسمة. فعلى هذا: إذا جاء الساعي، ووجد المال في أيديهما.. أخذ من كل واحدٍ زكاة نصيبه. وإن وجد المال في يد أحدهما دون الآخر.. أخذ جميع الزكاة مما في يده؛ لأن الزكاة تعلقت بالمال، ثم يرجع المأخوذ منه على صاحبه بزكاة نصيبه. إذا ثبت هذا: فاعترض المزني على الشافعي، وقال: كيف تصح هذه القسمة عند الشافعي، والقسمة بيع عنده، سواءٌ كان قبل بدو الصلاح أو بعده، ولذلك لا يجوز بيع الرطب والجذع بالرطب والجذع؟ فالجواب: أن للشافعي في القسمة قولين:

أحدهما: (أنها إفراز حق) . فيجوز أن يكون أجاب بهذا على هذا القول. والثاني: (أن القسمة بيعٌ) . فيصح القسمة فيها. فعلى هذا: إذا تعاوضا بالدراهم، بأن يشتري أحدهما من صاحبه حصته من الثمرة والجذع بدارهم، ويبيعه كذلك في النخلة الأخرى وثمرتها بمثل تلك الدراهم، ويتقاصا، أو يقول أحدهما لصاحبه: ابتعت منك حصتك من ثمرة هذه النخلة، بحصتي من جذع النخلة الأخرى، وبعتك حصتي من ثمرة تلك النخلة، بحصتك من جذع هذه النخلة، أو يقول أحدهما: ابتعت منك حصتك من ثمرة هذه النخلة بحصتي من جذعها، فتحصل الثمرة لواحدٍ، والجذع لآخر، ثم يبتاع مبتاع الثمرة حصة صاحبه في جذع الأخرى بحصته من ثمرتها، فيصير لكل واحدٍ ثمرةٌ على جذع الآخر، أو تكون إحدى النخلتين لا ثمرة عليها، وقيمتها سواءٌ، فيقول أحدهما: ابتعت منك حصتك من ثمرة هذه النخلة وجذعها، بحصتي من جذع الأخرى.. فيصح. وبالله التوفيق.

باب زكاة الزروع

[باب زكاة الزروع] الأصل في وجوب الزكاة: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] [الأنعام: 141] . ومن السنة: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما سقته السماء.. ففيه العشر» . إذا ثبت هذا: فإن الزكاة لا تجب في الزروع إلا إذا اجتمع فيه أربع صفاتٍ: إحداهن: أن يكون مما يزرعه الآدميون، وليس المراد بذلك: أن يقصدوا إلى زراعة هذا الزرع، وإنما المراد: أن يكون من جنس ما يزرعونه؛ لأن الحب لو سقط من صاحبه عند نقل الغلة، فنبت.. وجبت فيه الزكاة إذا بلغ نصابًا. الصفة الثانية: أن يكون مقتاتًا في حال الاختيار. الثالثة: أن يكون مما ييبس، إذا يبس. الرابعة: أن يكون مما يدخر، وذلك كالحنطة، والشعير، والدخن، والذرة، والجاورس، والأرز، وكذلك القطنية، وهي: اللوبياء، والهرطمان، والعدس، والدجر، والكشد، والبلس، والعتر، والباقلاء، وسميت بذلك؛ لأنها تقطن في البيت. وقال الحسن البصري، وابن سيرين، والشعبي، وابن أبي ليلى، وسفيان، والحسن بن صالح، وابن المبارك، ويحيى بن آدم، وأبو عبيد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: لا تجب الزكاة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وروي ذلك عن أحمد.

مسألة: فيما لا تجب فيه الزكاة من النبات

دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما سقته السماء.. ففيه العشر» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذٍ: «خذ العشر من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر» ، ولأنه حبٌّ يقتات في حال الاختيار، ويدخر، وييبس، فوجبت فيه الزكاة، كالأربعة التي ذكروها. [مسألة: فيما لا تجب فيه الزكاة من النبات] ولا تجب الزكاة في الخلجان، ولا في الكزبرة، ولا في بذر الكتان، ولا في بذر الفجل، ولا في سائر الخضراوات، ولا في حب الحنظل، ولا في (حب الغاسول) ، وهو الأشنان؛ لأنها ليست بقوتٍ. [مسألة: هل تجب الزكاة في قليل الثمار والزروع] وكل زرع وجبت فيه الزكاة.. فلا تجب فيه حتى يبلغ يابسه خمسة أوسقٍ. وقال أبو حنيفة: (تجب في القليل والكثير) . دليلنا: ما روى جابرٌ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في شيءٍ من الحرث حتى يبلغ خمسة أوسقٍ» ، فإذا بلغ.. ففيه الزكاة. قال الشافعي: (والعلس: ضربٌ من الحنطة، إذا ديس.. يبقى على كل حبةٍ منه

مسألة: تكميل الجنس من أنواعه

كمامٌ، ولا يمكن إنقاؤه إلا بأن يدق بالمهراس، أو برحًا خفيفة، ويزعم أهلها: أن بقاءها في كمامها أكثر من بقائها وهي خارجة منه، ويزعمون: أنها إذا بقيت، وأخرجت من كمامها الأسفل، حصل منه النصف، قال: وأخير رب المال بين أن يخرجه من الكمام حتى يصير حبًا، فيكون نصابه خمسة أوسقٍ، أو بين أن يتركها في كمامها، ويكون نصابها عشرة أوسقٍ) . قال الشيخ أبو حامدٍ: وهذا معنى كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا لفظه، والأرز: يدخر في قشره، فنصابه عشرة أوسقٍ لأجل قشره، وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامدٍ قال: وقد قيل: إنه يجيء منه الثلث، فإذا كان في كمامه قدرٌ يجيء منه خمسة أوسقٍ.. وجبت فيه الزكاة. [مسألة: تكميل الجنس من أنواعه] ] : ويضم أنواع الجنس الواحد بعضها إلى بعض في إكمال النصاب، فيضم العلس إلى الحنطة، وتضم الحنطة البيضاء إلى الحنطة السمراء والحمراء، وكذلك تضم الذرة البيضاء إلى الذرة الحمراء، ولا تضم حنطة إلى شعيرٍ، وكذلك القطنيات تضم أنواع الجنس الواحد بعضها إلى بعض، ولا يضم جنسٌ إلى جنسٍ آخر، وهل يضم السلت - وهو حبٌ حامضٌ صغير الحب رقيق القشر - إلى الشعير؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي علي الطبري -: أنه يضم إليه؛ لأنه يشبه الشعير في البرودة. والثاني - وهو المنصوص في " البويطي " -: (أنه لا يضم إليه) ؛ لأنهما

مسألة: اختلاف أوقات الزرع

جنسان. وقال مالكٌ، والحسن، والزهري: (تضم الحنطة إلى الشعير والسلت، وتضم أجناس القطنيات بعضها إلى بعض في إكمال النصاب) . دليلنا: أنهما جنسان لا يجمعهما اسمٌ خاصٌ مشتركٌ، فلم يضم أحدهما إلى الآخر في إكمال النصاب، كالتمر والزبيب، فقولنا: (اسم خاصٌ مشتركٌ) احترازٌ من الاسم العام المشترك، وهو الحب، فإنه يجمع الحبوب كلها، والثمرة تجمع الثمارَ. وقولنا: (مشتركٌ) احترازٌ من الاسم المنفرد، وهو اسم النوع من الجنس، كالمعقلي والبرني من التمر، والشريحي والأبيض في الذرة؛ لأن الأسماء على ثلاثة أضربٍ: اسمٌ عامٌ مشتركٌ، اسمٌ خاص مشتركٌ واسمٌ خاصٌ منفردٌ. فالعام المشترك: هو قولنا: ثمرة أو حبٌ. والخاص المشترك: هو قولنا: تمرٌ؛ لأنه يجمع المعقلي والبرني، أو ذرة، تجمع البيضاء والصفراء والحمراء. والخاصٌ المنفرد: معقليٌ أو شريحيٌ، فإن زاد الزرع على خمسة أوسقٍ بشيء ما.. وجب فيما زاد بحسابه؛ لأنه يتجزأ من غير ضرورة، فوجب في الزائد، كالأثمان، وزكاته العشر فيما سقي بغير مؤونة ثقيلة، ونصف العشر فيما سقي بمؤنة ثقيلة، كما قلنا في الثمار. [مسألة: اختلاف أوقات الزرع] ] : فإن اختلفت أوقات الزرع.. ففي ضم بعضه إلى بعضٍ أقوالٌ: أحدها - وهو اختيار الشيخ أبي حامد -: أن الاعتبار بوقت الحصاد، فكل زرعين حصدا في فصل واحدٍ من خريفٍ أو ربيعٍ أو شتاءٍ أو صيفٍ.. ضم أحدهما إلى الآخر؛ لأن ذلك وقت الوجوب. والثاني: أن الاعتبار بوقت الزراعة، فكل زرعين اتفقت زراعتهما في فصل واحدٍ، وإن كان بينهما أيامٌ كثيرة.. ضم أحدهما إلى الآخر وإن اختلفا في وقت الحصاد؛ لأن الزراعة أصلٌ، والحصاد نتيجتها، فكان اعتبار الأصل أولى.

فرع: زرع الذرة

والثالث: إن اتفق زراعتهما في فصلٍ، وحصادهما في فصلٍ.. ضما، وإن اختلفا في أحدهما.. لم يضما؛ لأنه مالٌ تتعلق الزكاة بعينه، فاعتبر فيه الطرفان، كالماشية، قال الشيخ أبو حامدٍ: وهذا أضعف الأقوال. والرابع: حكى الشيخ أبو حامدٍ: أن أبا إسحاق خرجه، وليس بمنصوص -: أن الاعتبار أن يكونا من زرع السنة، وسنة الزرع: من وقت إمكانه إلى آخر وقت حصاده، وذلك ستة أشهرٍ إلى ثمانية أشهرٍ. قال ابن الصباغ: وهذا أشبهها؛ لأن الثمار يضم بعضها إلى بعضٍ إذا كانت ثمرة عامٍ واحدٍ، فكذلك الزرع، هذا نقل أصحابنا البغداديين. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 136] قولين آخرين غريبين: أحدهما: إن كان إدراكهما جميعًا في سنة واحدة، وليس بينهما اثنا عشر شهرًا بالعربية.. ضما، ولا اعتبار بوقت الزراعة. والثاني: إن حصد أحدهما قبل أن تمضي سنة من وقت حصاد زرع الآخر.. ضما. قال: وهذا بعيدٌ. [فرع: زرع الذرة] قال الشافعي: (والذرة تزرع مرة، فتخرج، فتحصد، ثم تستخلف في بعض المواضع، فتحصد في مرة أخرى، فهو زرعٌ واحدٌ وإن تأخرت حصدته الأخرى، وهكذا بذرُ اليوم وبذر بعد شهرٍ؛ لأنه وقتٌ واحدٌ) . وجملة ذلك: أن الذرة على ضربين:

مسألة: وجوب زكاة الحب بالاشتداد

ضربٌ: لا يستخلف، وضربٌ: يستخلف. فأما ما لا يستخف، وما تفاوت حصاده: إما بأن يسبق نبات بعضه، فأظل الباقي، فمنعه من الشمس، فلم يطل، أو منعه من النبات، فهذا من فروع المسألة الأولى. وأما المستخلف: فمثل أن يحصد، ثم يخرج من ساقه زرعٌ آخر، فسنبل وحصد، فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يضم الأول إلى الثاني على القول الذي يقول: يعتبر حال الزراعة، أو زرعُ سنة واحدة. فأما إذا قلنا بالقولين الآخرين: فلا يضم؛ لأن الزرع لا يراد للبقاء بخلاف الشجر. ومنهم من قال: لا يضم. كما قلنا في النخيل إذا حمل في السنة حملين، وحمل كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أنه أراد: إذا زحم الزرع بعضه بعضًا، فأدرك الزاحم، ثم المزحوم. قال ابن الصباغ: والأول أشبه. [مسألة: وجوب زكاة الحب بالاشتداد] قال الشافعي: (إذا اشتد الحب.. وجبت فيه الزكاة) . قال أبو العباس: أراد به: اشتداد الحب في السنبل، وهو وقت الحصاد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] [الأنعام: 141] . فأوجب الحق يوم حصاده، فثبت أن الحق إنما يجب في الوقت الذي آن حصاده، ولا مدخل للخرص في الزرع؛ لأن الزرع مستورٌ بالأوراق، فلا يمكن حزره. قال الشيخُ أبو حامد: ولأنه لا فائدة في خرص الزرع؛ لأنه لا يجوز التصرف فيه بالبيع؛ لأن بيعه في سنبله لا يجوز، ولا يمكن أكله في سنبله، بخلاف الرطب والعنب.

مسألة: تؤخذ الزكاة بعد الدياس والتنقية

[مسألة: تؤخذ الزكاة بعد الدياس والتنقية] ولا تؤخذ الزكاة إلا بعد التصفية، ومؤونة الدياس، والتصفية على رب المال، وهو قول كافة العلماء. وقال عطاءٌ: تقسط المؤنة على جميع المال. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما سقته السماء.. ففيه العشر» . وهذا يقتضي أن يدفع عشر المال كاملًا. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأخذ العشر: أن يكال لرب المال تسعة، ويأخذ المصدق العاشر، وإن وجب نصف العشر.. كيل لرب المال تسعة عشر مكيالًا، وللمصدق مكيالٌ، وإن وجب ثلاثة أرباع العشر.. كيل لرب المال سبعة وثلاثون مكيالًا، وللمصدق ثلاثة مكاييل) . وإنما بدأ برب المال؛ لأن نصيبه أكثر، أو لأنه إذا لم يقدم نصيبه.. لم يعلم ما للمساكين. قال الشافعي [في " الأم " 2/32] : (ويكال لرب المال والمساكين كيلٌ واحدٌ، ولا يزلزل المكيال، ولا يلتف منه شيءٌ على المكيال ولا يمسحه، وإنما يطرح على رأسه، فما قام عليه، أفرغه؛ لأن الزلزلة والمسح تختلف) . [فرع: لا زكاة فيما يدخر] إذا ملك الرجل خمسة أوسقٍ أو أكثر من الثمار أو الحبوب، فأخرج عنها الزكاة، ثم أمسكها إلى الحول الثاني والثالث.. لم تجب عليه زكاة في الحول الثاني وما بعده، وهو قول كافة العلماء، إلا ما حكي عن الحسن البصري: أنه قال: يزكيه في الحول الثاني وما بعده، كالأثمان.

فرع: لا زكاة على ذمي ومكاتب

دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما سقته السماء.. ففيه العشر» . فمن أوجب في الحول الثاني.. فقد أوجب الخمس، وهذا لا يجوز. ولأن الثمار والزرع غير نامية في الحول الثاني، فلم تجب فيها الزكاة، كالبغال والحمير. [فرع: لا زكاة على ذميٍّ ومكاتب] ولا يجب العشر على ذميٍّ ولا مكاتب. وقال أبو حنيفة: (يجب) . دليلنا: أنه زكاة، فلا تجب على المكاتب والذمي، كزكاة الماشية والأثمان. [مسألة: الزكاة على صاحب الزرع] إذا استأجر أرضًا، فزرعها.. فإن العشر يجب على مالك الزرع عند بدو الصلاح فيه، لا على مالك الأرض. وقال أبو حنيفة: (يجب العشر على مالك الأرض، ولا يجب على مالك الزرع) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] [البقرة: 267] . ومالك الأرض لم يخرج له شيءٌ من الأرض، وإنما هو للمستأجر. ولأنه لا زكاة مالٍ.. فوجبت على مالك المال، كسائر الأموال. [فرع: زكاة الموقوف] ولا تجب الزكاة في الثمرة المحبس أصلها على المساجد والقناطر والمساكين والفقراء. قال الشيخ أبو نصر: وحكى ابن المنذر، عن الشافعي: أن الزكاة تجب في جميع ذلك، قال: وهذا ليس بمعروف عند أصحابنا. دليلنا على أنه لا يجب فيها: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] . وهذا خطابٌ لمن يعقل، فلا تدخل المساجد والقناطر تحته.

مسألة: وجوب الخراج على المشركين

وأما الفقراء والمساكين: فلأنهم غير معينين، فجرى ما يصرف إليهم مجرى ما يصرف إلى المساجد. [مسألة: وجوب الخراج على المشركين] قال الشافعي: (وهكذا نصف العشر، وخراج الأرض) . وجملة ذلك: أن الإمام إذا غزا وغنم أرض المشركين، وأخذها عنوة.. فإنه بالخيار إن شاء.. قسمها بين الغانمين، كما قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرض خيبر، فتكون الأرض عشرية، وإن شاء.. أقرها على ملك المشركين، وضرب عليهم الخراج باسم الجزية، فإذا أسلموا.. سقطت عنهم الجزية، ووجب عليهم العشر. وقال أبو حنيفة: (لا تسقط عنهم الجزية، ولا يجب عليهم العشر) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الجزية» . وهذا مسلمٌ. وأما أرض سواد العراق: وهي ما بين عبادان إلى الموصل طولًا، وما بين القادسية إلى حلوان عرضًا.. فإن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (افتتحها عنوة، وأخذها من كسرى وشيعته، وقسمها بين الغانمين، وبقيت في أيديهم سنتين أو ثلاثًا، ثم خاف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يشتغلوا بعمارتها، فيتعطل الجهاد، أو يشتغلوا بالجهاد، فتخرب الأرض، فرأى من المصلحة أن يسترجعها منهم، فمنهم من طابت نفسه برد ما معه بغير عوضٍ، ومنهم من لم يرد إلا بعوض، وردها على أهلها بعوضٍ يؤخذ منهم كل سنة) . قال الشافعي: (وقفها عمر على المسلمين، ثم أخذها من أهلها) . فعلى هذا: لا يجوز بيعها ولا رهنها. وقال أبو العباس: باعها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من أهلها بشيءٍ يؤخذ منهم كل سنة.

فعلى هذا: يجوز بيعها، وإنما جاز إلى أجلٍ مجهولٍ؛ لأنها معاملة مع الكفار، ألا ترى أن رجلًا لو أبق له عبدٌ، فأراد الجعالة لمن يرده.. فإنه لا بد أن يكون الجعل معلومًا؛ لأنها معاملة بين المسلمين، ولو أن الإمام غزا بلدًا من الكفار، وأراد الجعالة لمن يدله.. لجاز أن يقول: من دلني على القلعة الفلانية.. فله منها جارية، وإن كانت مجهولة؛ لأنها عقدٌ في ملك الكفار. إذا ثبت هذا: فإن هذه الأرض التي فتحها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، يجب فيها الخراج لوقته، والعشر لوقته. وقال أبو حنيفة: (لا يجتمعان، بل يجب الخراج لا غير) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما سقته السماء.. ففيه العشر» .. ولم يفرق. ولأنه حقٌ يتعلق بالمستفاد من غير أرض الخراج.. فوجب أن يتعلق بالمستفاد من أرض الخراج، كالمعدن. إذا ثبت هذا: فإن اشترى الذمي أرضًا خراجية، وقلنا: يصح.. فإنه يؤخذ منه الخراج؛ لأنه إما أجرة أو ثمنٌ، ولا يؤخذ منه العشر، وإن اشترى أرضًا عشرية.. فإنه يصح الشراء، ولا يجب عليه خراجٌ ولا عشرٌ. وقال مالكٌ: (لا يصح شراؤه) . وقال أبو حنيفة: (يصح شراؤه، ويجب عليه الخراج) . وقال أبو يوسف: يجب عليه عشران. دليلنا على مالكٍ: أنها أرضٌ يملكها المسلم بالشراء، فملكها الذمي به، كالخراجية. وعلى أبي حنيفة: أنه مالٌ يتعلق به حق الله تعالى، فإذا ملكه الذمي.. لم يجب عليه شيءٌ، كالماشية. وبالله التوفيق.

باب المبادلة في الماشية وبيع ما وجب فيه

[باب المبادلة في الماشية وبيع ما وجب فيه] الزكاة والصداق والرهن والغنيمة إذا بادل الرجل جنسًا تجب الزكاة في عينه، بجنس تجب الزكاة في عينه.. فإن كل واحدٍ منهما يستأنف الحول بما تجدد ملكه عليه بالمبادلة، سواءٌ كان قد بادل جنسًا بجنسٍ مثله، مثل: أن يبادل إبلًا بإبلٍ، أو غنمًا بغنمٍ، أو بادل جنسًا بجنسٍ آخر، مثل: أن يبادل إبلًا بغنمٍ، وكذلك الدراهم والدنانير، ووافقنا أبو حنيفة في المواشي، وخالفنا في الدراهم والدنانير إذا بادلهما بجنسهما.. فإنه يبني على الحول الأول. ووافقنا مالكٌ إذا بادل جنسًا بغير جنسه.. فإنه يستأنف الحول الثاني، وإن بادل الجنس بمثله، مثل: الغنم بالغنم.. فإنه يبني حول الثاني على حول الأول. دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في المال المستفاد زكاة حتى يحول عليه الحول» .

ولأنه بادل جنسًا تجب الزكاة في عينه، بجنس تجب الزكاة بعينه، فوجب أن يستأنف به الحول، كما لو بادل الجنس بغير جنسه، وفيه احترازٌ من أموال التجارة. إذا ثبت هذا: فإن وجد أحدهما بما صار إليه عيبًا - وتصورهما: فيمن بادل أربعين من الغنم بمثلها مبادلة صحيحة - فإن وجد العيب قبل حؤول الحول من حين المبادلة.. فله أن يرد بالعيب، فإذا رجع إليه ما كان أخرجه من ملكه.. استأنف به الحول من حين الرد بالعيب؛ لأنه تجدد له عليه الملك من حينئذٍ، وإن وجد العيب بعد وجوب الزكاة فيما اشتراه، وقبل أن يخرج الزكاة منها، أو من غيرها.. فليس له الرد بالعيب؛ لأن المساكين، إما أن يكونوا قد استحقوا جزءًا منها، فيصير كمن اشترى عبدًا، فجنى على غيره، ثم وجد به عيبًا.. فليس له رده بالعيب، أو صار المال مرهونًا بحقهم، فهو كمن اشترى عبدًا، فرهنه، ثم وجد به عيبًا.. فليس له رده بالعيب، وهل يرجع بأرش العيب؟ فيه وجهان: أحدهما - ولم يذكر في " التعليق " و " المجموع " غيره -: أنه يرجع بالأرش؛ لأن الرد قد تعذر. والثاني - ولم يذكر ابن الصباغ غيره -: أنه لا يرجع بالأرش؛ لأنه لم يباشره من الرد. وإن وجد العيب بعد أن أخرج الزكاة، فإن أخرج الزكاة من عين المال.. فهل له أن يرد الباقي؟ فيه قولان، بناءً على القولين في تفريق الصفقة:

فإن قلنا: تفرق.. قوم الباقي من الغنم، وقومت الشاة المخرجة، ورجع بحصة ما بقي مما يقابله من غنمه، فإن اختلفا في قيمة التالفة.. ففيه قولان: أحدهما: القول قول المشتري؛ لأنها تلفت في ملكه. والثاني: القول قول البائع؛ لأنه قد ثبت ملكه على ما في يده، فلم ينتزع منه شيءٌ منها إلا برضاه، كالمشتري والشفيع. وإن قلنا: لا تفرق الصفقة.. لم يكن له رد الباقي بالعيب، وهل يرجع بالأرش؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد: يرجع المشتري بأرش المعيب. وقال ابن الصباغ: إن كانت الشاة المخرجة باقية يرجى عودها إليه.. لم يرجع بالأرش؛ لأنه لم ييأس من الرد. وإن كانت تالفة.. كان له الرجوع بالأرش. وإن كان قد أخرج الزكاة من غير المال، فإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالذمة، والعين مرتهنة بها.. فله الرد بالعيب، كما لو اشترى من رجلٍ عَبْدًا، فرهنه، ثم فكه، ثم وجد به عيبًا.. فله أن يرده بالعيب. وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين.. فهل له الرد؟ فيه وجهان، كالوجهين فيمن اشترى عبدًا، ثم زال ملكه عنه، ثم عاد الملك إليه، ثم وجد به عيبًا، فهل له أن يرده؟ فيه وجهان: قال الشيخ أبو حامدٍ: إلا أن الصحيح فيمن اشترى عبدًا: أنه لا رد له؛ لأنه قد استدرك الظلامة، ودلس على غيره، كما دلس عليه. والصحيح في المسألة المبادلة: أن له الرد؛ لأنه لم يستدرك الظلامة، ولم يدلس على غيره، كما دلس عليه، ولأنه إذا اشترى عبدًا، ثم باعه، أو وهبه.. فقد انقطعت علائق الملك بينه وبين البائع، وليس كذلك هاهنا؛ لأن المساكين وإن ملكوا جزءًا من المال، فإن علائق ملكه لم تنقطع عنه؛ لأن له أن يسقط حقهم منه بغير رضاهم، بأن يدفع إليهم من غيره. وإن كانت المبادلة فاسدة.. فإن حول كل واحدٍ منهما لا ينقطع فيما باع؛ لأن

مسألة: بيع ما وجبت فيه الزكاة

ملكه لم يزل، فإذا تم حوله.. وجبت عليه زكاة ماله. فإن قيل: فهلا جعلتموه كالمغصوب والضال؛ لأنه ليس في يده؟ قلنا: الفرق بينهما: أن في المغصوب والضال قد حيل بينه وبين ماله؛ لأنه لا يمكنه التصرف فيه، فلذلك استأنف الحول في أحد القولين، وهاهنا لم يحل بينه وبين ماله، وإنما اعتقد أنه غير مالكٍ لأخذه. قال صاحب " الإبانة " [ق \ 132] : فإن أسامها المشتري بحكم المبادلة الفاسدة، وكانت معلوفة عند مالكها.. فهل تجب الزكاة على مالكها؟ فيه وجهان، كالغاصب. فإذا قلنا: تجب.. فهل يرجع على المشتري بذلك؟ فيه وجهان. فإذا قلنا: يرجع.. فهل يغرم أولًا، ثم يرجع عليه، أو يطالبه ابتداءً بذلك؟ فيه وجهان، بناءً على الحلاق إذا حلق شعر المحرم، ووجبت الفدية.. فهل يغرمها المحرم، ثم يرجع بها على الحلاق، أو لا يغرمها، ولكن يطالب بها الحلاق؟ فيه وجهان. [مسألة: بيع ما وجبت فيه الزكاة] إذا كان في يده نصابٌ من المال، قد وجبت فيه الزكاة: إما من الماشية، أو الثمار، أو الزروع، أو الأثمان، فباع جميعه قبل إخراج الزكاة عنه.. فهل يصح البيع في قدر الزكاة؟ فيه قولان: أحدهما: يصح؛ لأنا إن قلنا: إن الزكاة استحقاق جزء من العين إلا أن علائق ملك رب المال لم تنقطع عنه، وله أن يدفع الزكاة من غير المال.. فجعل بيعه اختيارًا لدفع الزكاة من غيره. وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالذمة، والمال مرهونٌ بها، إلا أنه رهن بغير اختيار المالك.. فلم يمنع صحة البيع، كالبيع في العبد الجاني إذا قلنا: يصح.

والقول الثاني: لا يصح البيع في قدر الزكاة، وهو الأصح؛ لأنا إن قلنا: إن الزكاة استحقاق جزءٍ من المال.. فقد باع ما لا يملكه. وإن قلنا: إن المال مرهونٌ بها.. فبيع المرهون بغير إذن المرتهن لا يصح. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: إن قلنا: إن الزكاة تجب في الذمة.. صح البيع في قدر الزكاة. وإن قلنا: إنها تتعلق بالعين على معنى استحقاق جزء منها.. لم يصح البيع في قدر الزكاة. وإن قلنا: كتعلق الجناية برقبة الجاني.. فهل يصح البيع في قدر الزكاة؟ فيه قولان، كبيع العبد الجاني. إذا ثبت هذا: فكل موضعٍ قلنا: يصح البيع في قدر الزكاة.. ففي الباقي أولى. وإن قلنا: لا يصح البيع في قدر الزكاة.. فهل يبطل في الباقي؟ فيه قولان، بناءً على القولين في تفريق الصفقة: فإذا قلنا: يبطل في الكل.. فلأي معنًى؟ فيه وجهان: أحدهما: لأن الصفقة جمعت حلالًا وحرامًا، فغلب التحريم. فعلى هذا: يبطل البيع في الماشية والثمار والزروع والأثمان. وإن رهن مالًا وجبت فيه الزكاة، أو وهبه.. بطل الرهن والهبة في الجميع. والثاني: يبطل؛ لجهالة ثمن المبيع. فعلى هذا: يبطل بيع الماشية، ولا يبطل بيع الثمرة والحبوب. وإن رهن مالًا وجبت فيه الزكاة، أو وهبه.. لم يبطل الرهن والهبة فيما زاد على قدر الزكاة. فإذا قلنا: يبطل البيع في الجميع.. فسواءٌ أخرج رب المال الزكاة منه، أو من غيره، فإنه لا يصح إلا بعقد بعد إخراج الزكاة. وإذا قلنا: إن البيع باطلٌ في قدر الزكاة، صحيحٌ في الباقي.. كان كالمشتري

بالخيار؛ لتفريق الصفقة عليه، فإن اختار الفسخ.. فلا كلام، وإن لم يختر الفسخ، فبكم يمسك الباقي؟ فيه قولان: أحدهما: بجميع الثمن. والثاني: بحصته. وإن قلنا: إن البيع يصح في قدر الزكاة.. ففي ما سواه أولى، ثم ينظر فيه: فإن أخرج رب المال الزكاة من غير ذلك المال.. استقر البيع، وإن لم يخرج الزكاة من غيره.. فللساعي أن يطالب البائع بالزكاة؛ لأنها وجبت عليه، وله أن يأخذ الزكاة مما في يد المشتري؛ لأن الزكاة وجبت فيه، فإذا أخذها.. بطل البيع فيه، وهل يبطل البيع في الباقي؟ فيه طريقان، كما نقول فيمن باع عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض.. فإن البيع ينفسخ فيه، وهل ينفسخ في الباقي منهما؟ فيه طريقان: من أصحابنا من قال: فيه قولان. ومنهم من قال: لا ينفسخ البيع فيه، قولًا واحدًا. فإذا قلنا: لا يبطل، واختار المشتري الإجازة، فبكم يمسك الباقي؟ اختلف الشيخان فيه: فقال الشيخ أبو حامد: فيه قولان: أحدهما: بجميع الثمن. والثاني: بالحصة. وقال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": يمسكه بحصته من الثمن، قولًا واحدًا. ويأتي ذكره في البيوع بعلله. وإن عزل رب المال قدر الزكاة، وباع الباقي بأن باع من الأربعين من الغنم تسعًا وثلاثين، وأمسك واحدة، فإن قلنا: إنه إذا باع الجميع يصح البيع في قدر الزكاة.. فهاهنا أولى. وإن قلنا: يبطل البيع هناك في قدر الزكاة.. فهاهنا وجهان:

مسألة: دفع الصداق غنما

أحدهما: يصح البيع؛ لأنه قد استثنى قدر الزكاة. والثاني: لا يصح. قال ابن الصباغ: وهو الأقيس؛ لأن الزكاة تتعلق بالجميع على وجه الإشاعة، ولا تتعين المعزولة إلا بالدفع، ألا ترى أنه لو جنى عبده جناية أرشها عشرة، وهو يساوي مائة، فباع منه ربعه أو ثلثه.. فإن البيع لا يصح على القول الذي يقول: لا يصح بيع الجاني، ولأنه لو عزل الزكاة من غيره.. لم يؤثر هذا العزل في البيع؛ لأنه لا يتعين عليه دفع المعزول، فكذلك إذا عزل من المال. قال صاحب " الفروع ": وأصل هذين الوجهين: هل الزكاة شائعة في كل واحدٍ من العدد بقسطه، أو في قدر الفرض لا بعينه؟ فيه وجهان. [مسألة: دفع الصداق غنمًا] ] : إذا أصدق الرجل امرأته أربعين من الغنم معينة.. فإنها تملكها بالعقد، وتجري في الحول، سواءٌ قبضتها أو لم تقبضها، فإن طلقها بعد الدخول.. لم يرجع عليها بشيءٍ، وإن طلقها قبل الدخول، وقبل وجوب الزكاة عليها.. رجع عليها بنصف الصداق، ولا كلام، وإن طلقها قبل الدخول، وبعد وجوب الزكاة على الزوجة: فإن كانت الزوجة قد أخرجت الزكاة من غيرها.. رجع الزوج بنصف الصداق؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] . فإن قيل: هلا قلتم: إنه لا يرجع عليها في قدر الزكاة على القول الذي يقول: إن الفقراء يستحقون جزءًا من المال، فيكون قد خرج من ملكها، ثم رجع إليها، كالأب إذا وهب لابنه عينًا، ثم زالت عن ملكه، ثم رجعت إليه.. لا يرجع بها الأب؟ فالجواب: أن في هبة الأب في هذه وجهين: أحدهما: للأب الرجوع، ولا كلام.

والثاني: لا يرجع، فيكون الفرق بينهما على هذا: أن رجوع الزوج آكد؛ لأنه لا يسقط بتلف العين، بخلاف الأب، فإن رجوعه يسقط بتلف العين. وإن كانت الزوجة قد أخرجت الزكاة من الأربعين.. ففيه ثلاثة أقوالٍ: أحدها: أن الزوج يرجع عليها بنصف الصداق من الباقي، فيرجع عليها بعشرين سهمًا من تسعة وثلاثين سهمًا من هذه الغنم الموجودة بالقيمة. فعلى هذا: لو أتلفت الزوجة نصف الأربعين، ووجد الزوج النصف.. أخذه بالقيمة، ولا يمكن الرجوع بالنصف من العدد بالغنم؛ لأنها تتفاوت. ولو كان ذلك في الطعام.. رجع بنصف جميع الصداق مما وجد بالأجزاء؛ لأن الرجوع إلى القيمة طريقه الاجتهاد، والرجوع إلى العين طريقه النص، فقدم النص على الاجتهاد. والقول الثاني: أن الزوج يرجع بنصف ما بقي بالقيمة وبنصف قيمة الشاة المخرجة، قال ابن الصباغ: وهو الأقيس؛ لأنها لو كانت كلها باقية.. لرجع بنصف الجميع، ولو كانت كلها تالفة.. لرجع بنصف قيمة الجميع، فإذا كان بعضها تالفًا.. رجع بنصف قيمة التالف. والقول الثالث: أن الزوج بالخيار: بين أن يرجع بنصف الجميع من الباقي، وبين أن يرجع بنصف الباقي ونصف قيمة الشاة المخرجة؛ لأن حقه قد يتبعض عليه، فكان له الخيار، كما لو اشترى عبدًا، فقطع أجنبيٌ يده في يد البائع قبل القبض.. فإن المشتري بالخيار: بين أن يفسخ البيع، أو يجيزه ويرجع على الجاني بنصف القيمة. وإن طلقها قبل أن تخرج الزكاة، فإن أخرجتها من غير الأربعين، أو منها.. فالحكم فيه كالحكم فيما مضى. وإن لم تخرجها، وأراد القسمة قبل إخراجها، فإن قلنا: الزكاة استحقاق جزءٍ من

العين.. فهل تصح القسمة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما - ولم يذكر في " التعليق " كـ " المجموع " غيره -: أن القسمة لا تصح؛ لأنه مشتركٌ بين الزوجين وبين المساكين، فلم تصح قسمته بغير رضا المساكين. والثاني: تصح. قال ابن الصباغ: وهو الأقيس؛ لأن لرب المال تعيين حق الفقراء فيما اختار من المال، أو غيره، فلم يمنع من القسمة. وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالذمة، والعين مرهونة بها.. صحت القسمة؛ لأن الرهن لا يمنع من القسمة، كما لو كان بين رجلين مالٌ، فرهناه، ثم اقتسماه.. صحت القسمة. فإن قلنا: القسمة باطلة.. فهو كما لو لم يقتسما. وإن قلنا: إنها صحيحة.. فإن الساعي يطالب الزوجة بالزكاة؛ لأنها وجبت عليها، فإن وجد لها مالًا.. أخذ منه الزكاة، وإن لم يجد لها مالًا.. فله أن يأخذ مما في يد الزوج شاة؛ لأن الزكاة وجبت فيه، فإذا أخذ منه شاة.. فهل تبطل القسمة؟ فيه وجهان: أحدهما: تبطل؛ لأن هذه الشاة استحقت بسبب متقدم على القسمة، فصار كما لو كانت مستحقة حال القسمة. فعلى هذا: يكون كمن أصدق امرأة أربعين شاة، فتلف منها إحدى وعشرين، ثم طلقها قبل الدخول.. فإلى ماذا يرجع الزوج؟ على الأقوال الثلاثة. والوجه الثاني: لا تبطل القسمة؛ لأن الماشية كانت مملوكة لهما عند القسمة، والزكاة كانت دينًا في ذمة الزوجة، وإنما استحق أخذها من الزوج؛ لتعذر أخذها من الزوجة، وذلك متأخرٌ عن القسمة. فعلى هذا: يرجع الزوج على الزوجة بقيمة الشاة المأخوذة منه؛ لأنها أخذت بزكاة واجبة عليها. وإن كان الصداق في ذمة الزوج، فإن كان حيوانًا موصوفًا.. صح، ولكن لا يجب عليها الزكاة عند الحول.

مسألة: زكاة المرهون

وكذلك: إذا أسلم إليه على أربعين شاة موصوفة.. صح، ولم تستحق الزكاة على المسلم عند الحول؛ لأن من شرط وجوب الزكاة في الماشية السوم، ولا يمكن السوم فيما في الذمة. وإن كان من الثمار أو من الحبوب أو العروض.. لم تجب عليها فيه زكاة، فإن كان من الذهب والفضة، فيأتي ذكره في زكاة الذهب والفضة. [مسألة: زكاة المرهون] ] : وإن رهن رجلٌ رجلًا مالًا يجب فيه الزكاة قبل إخراجها.. فهل يصح الرهن في قدر الزكاة؟ فيه قولان، كما قلنا في البيع. فإن قلنا: يصح.. ففيما سوى قدر الزكاة أولى أن يصح، وإن كان الراهن موسرًا.. كلف إخراج الزكاة من غير الرهن، فإن لم يكن له مالٌ غير الرهن.. أخذ الساعي الزكاة من الرهن، فإذا أخذها.. بطل فيها الرهن، وهل يبطل الرهن في الباقي؟ فيه طريقان، كمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض، حكى ذلك ابن الصباغ، ويثبت للمرتهن الخيار في فسخ البيع إن كان الرهن مشروطًا في بيع، سواءٌ قلنا: يبطل الرهن في الباقي، أو لا يبطل؛ لأن النقص قد دخل عليه ببطلان الرهن في المأخوذ. وإن قلن: الرهن يبطل في قدر الزكاة.. فهل يبطل في الباقي؟ فيه قولان، بناءً على تفريق الصفقة: فإن قلنا: تفرق الصفقة.. لم يبطل في الباقي. وإن قلنا: لا نفرق.. فإن قلنا: العلة أن الصفقة الواحدة جمعت حلالًا وحرامًا.. بطل الرهن في الباقي. وإن قلنا: العلة جهالة الثمن.. لم يبطل الرهن في الباقي. فإن كان الرهن غير مشروطٍ في بيعٍ.. لم يؤثر البطلان في الرهن، ولا في بعضه في البيع.

فرع: رهن غنما قبل حلول الزكاة

وإن كان الرهن مشروطًا في بيعٍ.. فهل يبطل البيع لبطلان الرهن؟ فيه قولان، يأتي ذكرهما في (الرهن) . فإن قلنا: يبطل البيع.. فلا كلام. وإن قلنا: لا يبطل.. ثبت للمرتهن الخيار في فسخ البيع؛ لأنه دخل على أن يحصل له رهنٌ، ولم يحصل. [فرع: رهن غنمًا قبل حلول الزكاة] ] : فإن رهنه ماشية أو غيرها من أموال الزكاة قبل وجوب البيع فيها، ثم حال عليها الحول.. وجبت فيه الزكاة؛ لأنه ملك الراهن عليها تامٌ، وإنما هو ناقص التصرف فيها لحق المرتهن، وذلك لا يمنع وجوب الزكاة، كمال الصبي والمجنون. إذا ثبت هذا: فإن كان للراهن مالٌ غير الرهن.. كلف إخراج الزكاة منه؛ لأن ذلك من مؤن الرهن، ومؤن الرهن على الراهن. وإن لم يكن له مالٌ غير الرهن.. فهل يبدأ بإخراج الزكاة، أو بحق المرتهن؟ إن قلنا: إن الزكاة استحقاق جزءٍ من العين.. قدمت الزكاة، ويتعلق حق المرتهن بالباقي؛ لأنها متعلقة بالعين وحدها، ومختصة بها، وحق المرتهن متعلقٌ بالرهن وذمة الراهن، فقدم حق المختص بالعين، كالعبد إذا جنى. وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالذمة، والعين مرتهنة بها.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ. أحدهما - وهو قول أبي علي الطبري في " الإفصاح " -: إنه يستوي حق الله تعالى وحق المرتهن؛ لأن حق كل واحدٍ منهما يتعلق بالذمة، والعين مرتهنة بها، وفيمن يقدم؟ ثلاثة أقوالٍ تقدم ذكرها. والوجه الثاني - وهو قول أصحابنا، ولم يذكر في " التعليق " و " المجموع " غيره -: أن حق المرتهن مقدمٌ على الزكاة؛ لأنه أسبق، ولأن حق المرتهن تعلق بعقد صاحب المال ورضاه، فكان آكد مما تعلق بغير فعله.

مسألة: حصول الحول في وقت خيار البيع

[مسألة: حصول الحول في وقت خيار البيع] ] : إذا باع أربعين من الغنم بشرط خيار الثلاث، فحال الحول على البائع من يوم ملك قبل انقضاء الثلاث أو في خيار المجلس: فإن قلنا: إن المشتري يملك بنفس العقد.. فلا زكاة على واحدٍ منهما؛ لأن حول البائع قد انقطع، ولم يتم الحول للمشتري، فإن فسخا العقد أو أحدهما على هذا القول بعد الحول.. فإن الملك يعود إلى البائع. قال ابن الصباغ: وتجب الزكاة عندي على البائع؛ لأن هذا الفسخ استند إلى العقد بالشرط المذكور فيه. وإن قلنا: إن الملك لا ينتقل إلى المشتري إلا بالعقد وانقضاء الخيار.. فإن الزكاة تجب على البائع؛ لأن الحول حال عليه، وملكه باقٍ. فعلى هذا: إن أخرج الزكاة من غير هذا المال.. استقر البيع، وإن لم يخرجه من غيره.. فإن الساعي يأخذ شاة من المشتري؛ لأن الزكاة وجبت في هذا المال، فإذا أخذها انفسخ فيها البيع. قال ابن الصباغ: وهل ينفسخ البيع في الباقي؟ فيه قولان، في تفريق الصفقة: فإذا قلنا: لا تبطل في الباقي.. ثبت للمشتري الخيار في فسخ البيع. وأما الشيخ أبو حامد، والمحاملي: فلم يذكرا الانفساخ في الباقي، بل قالا: يثبت للمشتري الخيار. وإن قلنا: الملك موقوفٌ.. نظرت: فإن فسخ البيع.. تبينا أن ملك البائع لم يزل، فيجب عليه الزكاة. وإن لم يفسخ حتى مضى زمان الخيار.. تبينا أن ملك البائع زال بنفس العقد، فلا زكاة على واحدٍ منهما.

مسألة: وجوب الزكاة في القيمة

[مسألة: وجوب الزكاة في القيمة] ] : إذا اغتنم المسلمون غنيمة من المشركين، وحازوها، وانقضت الحرب، فإن كان للإمام عذرٌ عن القسمة، بأن يخاف كرة المشركين.. جاز له تأخير القسمة إلى أن يأمن مما خافه. وإن لم يكن له عذرٌ.. قال الشيخ أبو حامد: وجب على الإمام أن يقسمها على الغانمين؛ لأنه حقٌ معجلٌ، فلم يجز تأخيره عن مستحقه، كالوديعة إذا طالب بها صاحبها، وأما وقت ملك الغانمين للغنيمة: فلا يملكها الغانمون ما لم تنقض الحرب، وينهزم العدو، وكذلك: إذا انقضت الحرب، ولم يحرزوا الغنيمة ويجمعوها ويحوزوها. فأما إذا انقضت الحرب، وجمعوا الغنيمة، وحازوها.. فقد ملك الغانمون أن يملكوها. وإنما يقع الملك لهم فيها بأحد شيئين: إما أن يقول كل واحدٍ: قد اخترت نصيبي من هذه الغنيمة، فيملك المختار نصيبه منها مشاعًا. أو بأن يدفع الإمام إلى كل واحد نصيبه، فيقبله، فيملكه، فيكون قبوله اختيارًا للملك. وإنما كان كذلك؛ لأنه لو دفع إلى واحدٍ منهم نصيبه، فرده.. زال حقه من الغنيمة، فثبت: أنه ما ملكه قبل الاختيار، ولأن واحدًا من الغانمين لو أتلف عينًا من الغنيمة قبل الاختيار.. لزمه جميع قيمتها، فثبت: أنه لم يملك شيئًا منها قبل الاختيار، بخلاف الميراث. وأما وجوب الزكاة في الغنيمة: فإن الغانمين إذا جمعوا الغنيمة، وحازوها، ولم يختاروا تملكها.. فإنه لا زكاة عليهم ولو بقيت في أيديهم أحوالًا؛ لأنهم لم يملكوها، وإن اختاروا التملك:

فرع: منح الإمام جماعة من الغنيمة

فإن كانت الغنيمة أصنافًا، مثل: الإبل والبقر والغنم والدراهم والدنانير.. فلا يبتدأ لها حولٌ قبل أن يقسموها؛ لأن للإمام أن يعطي واحدًا صنفًا، والآخر صنفًا آخر، فلم يملك واحدٌ صنفًا بعينه، فلم يجر في الحول، فلم تجب عليه الزكاة، ولأن فيها الخمس، وللإمام أن يعزل الخمس من أي صنفٍ شاء. وإن كانت الغنيمة صنفًا واحدًا تجب فيه الزكاة، كالإبل والبقر أو غيرهما.. فإن ابتداء الحول عليهم من حين الاختيار. فإن اقتسموا قبل الحول.. اعتبر نصيب كل واحدٍ بنفسه، فإن بلغ نصابًا.. وجبت عليه الزكاة عند تمام حوله من وقت الاختيار؛ لأن ملكه مستقرٌ؛ لأنه ليس للإمام أن يسقط حق أحدٍ من هذا المال. وإن نقص نصيبه عن النصاب.. فلا زكاة عليه؛ لأن الخلطة زالت قبل الحول، وإن حال الحول قبل القسمة.. فلا تصح الخلطة مع أهل الخمس، ولا يكمل النصاب بنصيبهم؛ لأنهم غير متعينين، وتصح الخلطة في الأربعة الأخماس. فإن كانت الغنيمة ماشية تجب فيها الزكاة.. زكوه زكاة الخلطة، قولًا واحدًا. وإن كانت ثمارًا أو دراهم أو دنانير.. فهل تصح فيها الخلطة؟ فيه قولان، قد مضى ذكرهما. [فرع: منح الإمام جماعة من الغنيمة] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [2/53] : (فإن عزل الإمام من الغنيمة نصيب قومٍ حضورٍ في صنفٍ، فقبلوه منه.. ملكوه، وجرى في الحول، وإن عزل نصيب قومٍ غيبٍ في صنفٍ.. فلا زكاة عليهم؛ لأن الحاضرين إذا قبلوه.. فقد ملكوه، وتميز نصيبهم في ذلك الصنف، فوجبت عليهم الزكاة، وأما الغائبون: فلا نعلم اختيارهم للملك. وإن عزل الإمام الخمس لأهل الخمس.. فلا زكاة عليهم؛ لأنهم غير متعينين.

وكذلك: إذا عزل الفيء لأهله - وهو ما يؤخذ من المشركين إذا انهزموا أول الحرب - فإنه لا زكاة فيه؛ لأن أهله غير معينين. والله أعلم.

باب زكاة الذهب والفضة

[باب زكاة الذهب والفضة] الأصل في وجوب الزكاة فيهما: قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] [التوبة: 103] . وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] الآية [التوبة: 34] . والكنز المراد بالآية: هو المال الذي لم تؤد زكاته، سواءٌ كان مدفونًا أو غير مدفونٍ، وإنما سمي: كنزًا؛ لأنه منع من إخراج الزكاة منه، كما منعه بدفنه من الأيدي، ويدل عليه: ما روي «عن أم سلمة: أنها قالت: يا رسول الله، إني ألبس أوضاحًا من ذهبٍ، أو كنزٌ هو؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما بلغ أن تؤدي زكاته، فزكي، فليس بكنزٍ، وإن كانت تحت سبع أرضين» . وإنما أرد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الكنز المتوعد عليه في القرآن. وروى أنسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في (كتاب الصدقات) ، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الرقة ربع العشر» . قال أصحابنا: و (الرقة) : الذهب والفضة.

مسألة: الزكاة في غير النقدين

قال: وأجمعت الأمة على وجوب الزكاة فيهما. [مسألة: الزكاة في غير النقدين] ] : ولا تجب الزكاة فيما سواهما من الجواهر، كاللؤلؤ والزبرجد والمرجان والصفر والنحاس، وكذلك لا تجب الزكاة في المسك والعنبر، إذا لم يكن ذلك كله للتجارة، وهو قول عامة العلماء. وقال الحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، وأبو يوسف - رحمة الله عليهم -: يجب في العنبر الخمس. وقال عبد الله بن الحسن العنبري: يجب الخمس في كل ما يستخرج من البحر، كالركاز. دليلنا: ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (لا زكاة في العنبر، إنما هو شيءٌ دسره البحر) .

مسألة: نصاب الذهب والورق

وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (لا زكاة في اللؤلؤ) . ولا مخالف لهما في الصحابة. ولأنه مالٌ مقومٌ مستفادٌ من البحر، فلم تجب فيه الزكاة، كالمسك، وفيه احترازٌ من الذهب والفضة؛ لأنهما قيمة الأشياء. [مسألة: نصاب الذهب والورق] ولا تجب الزكاة في الذهب والفضة إلا في النصاب، ونصاب الذهب عشرون مثقالًا، ونصاب الفضة مائتا درهمٍ. وقال مالكٌ: (إذا نقص عن ذلك حبة أو حبتان، ففيهما الزكاة؛ لأنها تجوز بجواز الوزانة، ومعناه: أنه إذا كان عليه لغريمه عشرون مثقالًا، فحمل إليه عشرون مثقالًا، إلا حبة أو حبتين.. فإنه لا يرد ذلك، وكذلك في مائتي درهم، هكذا ذكره في " الموطأ ".

وحكى الأبهري: أن مذهب مالكٍ: إذا نقصت حبة أو حبتين، في جميع الموازين.. فلا زكاة عليه، وإن نقصت في ميزانٍ دون ميزانٍ.. فعليه الزكاة. وقال عطاءٌ، والزهري: الأصل الورق، والذهب محمولٌ عليه. فإذا كان معه من الذهب ما يبلغ قيمته مائتي درهم.. فعليه الزكاة وإن كان أقل من عشرين مثقالًا. وقال الحسن البصري: لا زكاة في الذهب حتى يبلغ أربعين مثقالًا؛ لئلا يستفتح ما يؤخذ زكاته بالكسر. دليلنا: ما روى عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس فيما دون عشرين مثقالًا من الذهب صدقة، ولا فيما دون مائتي درهمٍ من الورق صدقة» . وهذا حجة على الكل. إذا ثبت هذا: فإنه لا يعتبر العدد، بل إذا ملك عشرين مثقالًا بالوزن: إما تبرًا أو مضروبًا، أو قطعة ذهبٍ.. فإن الزكاة تجب عليه، وكذلك: إذا ملك مائتي درهمٍ بالوزن بهذه الصفة.. فعليه الزكاة، وهو قول كافة العلماء.

وقال المغربي من أهل الظاهر: إذا ملك مائتي درهم عددًا.. فعليه الزكاة سواءٌ كانت صغارًا أو كبارًا، وإن كان معه أقل من مائتي درهم عددًا.. فلا زكاة عليه، وإن كان وزنها أكثر من مائتي درهمٍ. وهذا قولٌ يخالف الإجماع؛ لأن الأمة قد أجمعت قبله على ما ذكرناه. إذا تقرر ما ذكرناه: فإن المثقال لم يختلف في جاهلية ولا إسلامٍ. وأما الدراهم: فقال أبو عبيدٍ القاسم بن سلام: سمعت شيخًا من أهل المعرفة بهذا الشأن يقول: كانت الدراهم في الجاهلية نوعين: كسروية سوداء ثقالًا، في كل درهمٍ منها درهمٌ ودانقان. وطبرية خفافًا، في كل درهم منها أربعة دوانق، فلما كان الإسلام، وكانت الزكاة تجب في مائتي درهمٍ، وأراد بنو أمية ضرب الدراهم، فقالوا: إن ضربنا من الكسروية.. أضررنا بالمساكين، وإن ضربنا من الطبرية.. أضررنا بأرباب الأموال، فجمعوا الدرهمين الكسروي والطبري، فبلغا اثني عشر دانقًا، فضربوا من ذلك درهمين متساويين في كل درهمٍ ستة دوانيق، وفي كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل؛ لأن المثقال لم يختلف. وقيل: إن الذي ضرب الدراهم زياد بن أبيه في أيام معاوية. وقيل: بل هو الحجاج بن يوسف في زمان عبد الملك بن مروان. فالأوقية: أربعون درهمًا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا بلغ مال أحدكم خمس أواقٍ مائتي درهمٍ.. ففيه خمسة دراهم» . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كان مهور أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبناته اثني عشر أوقية ونشًا، أتدرون ما النش؟ قال: قلت: لا، قالت: نصف أوقية: عشرون درهمًا» .

فرع: لا يكمل نصاب ذهب بنصاب فضة

وقال أبو العباس ابن سريج: الدراهم لم تختلف - أيضًا - كالمثقال. قال الشيخ أبو حامدٍ: وهذا غلطٌ؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (مائتا درهمٍ من دراهم الإسلام) . فلولا أنه اختلف بالجاهلية والإسلام.. لما قيده بالإسلام. إذا ثبت هذا: فذكر في " المهذب " في (الزكاة) : ودراهم الإسلام الذي كل أوقية بسبعة مثاقيل. وهذا مخالف لما ذكره الشيخ أبو حامدٍ وغيره. وقد ذكر في " المهذب " - أيضًا - في (الإقرار) : الذي وزن كل عشرة دراهم بسبعة مثاقيل. كما ذكره غيره، فيحتمل ما ذكره: أنه أراد الذي ربع كل أوقية بسبعة مثاقيل، فأسقط الكاتب قوله: ربعٌ، ويحتمل: أن يكون الشيخ أبو إسحاق لم يرد بقوله: الأوقية الشرعية، وإنما أراد: الأوقية المستعملة عند الناس، فإن الناس يسمون عشرة دراهم: أوقية. [فرع: لا يكمل نصاب ذهب بنصاب فضة] ] : ولا يضم الذهب إلى الفضة في إكمال النصاب، بل يعتبر نصاب كل واحدٍ منهما بنفسه. وقال أبو حنيفة: (يضم أحدهما على الآخر بالقيمة) .

مسألة: كمال النصاب من أول الحول وإلى آخره

وقال مالكٌ، وأبو يوسف، ومحمدٌ: (يضم أحدهما إلى الآخر بالأجزاء، فإذا كان معه عشرة مثاقيل ومائة درهمٍ.. وجبت عليه الزكاة) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون عشرين مثقالًا من الذهب صدقة، ولا فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة» . ولم يفرق بين أن يكون معه ما يتم ذلك من الجنس الآخر، أو لا شيء معه. ولأنهما مالان نصابهما مختلفٌ، فلم يضم أحدهما إلى الآخر في إكمال النصاب، كالإبل والبقر. [مسألة: كمال النصاب من أول الحول وإلى آخره] ] : قال الشافعي: (ولا تجب الزكاة في الذهب، حتى يكون عشرين مثقالًا في أول الحول وآخره، فإن نقصت شيئًا، ثم تمت عشرين مثقالًا.. فلا زكاة فيها حتى يستقبل بها حولًا من يوم تمت) . وجملة ذلك: أن المال الذي تجب الزكاة في عينه، ويعتبر فيه الحول، مثل: الذهب والفضة والمواشي، يعتبر وجود النصاب فيه من أول الحول إلى آخره، فإن نقص عن النصاب في أثناء الحول.. انقطع الحول، وبه قال مالكٌ وأحمد. وقال أبو حنيفة: (الاعتبار بالنصاب: كلا طرفي الحول، فإن نقص عن النصاب في أثناء الحول.. لم ينقطع الحول إذا بقي من المال شيءٌ) . بيانه: إذا كان معه أربعون شاة في أول الحول، فهلك الجميع إلا واحدًا في أثناء الحول، ثم ملك في آخر الحول تسعًا وثلاثين، مع الباقية من الأربعين.. وجبت عليه الزكاة عند تمام الحول من حين ملك الأربعين. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول» . وهذا المستفاد لم يحل عليه الحول.

فرع: زكاة النقدين ربع العشر

[فرع: زكاة النقدين ربع العشر] ] : وزكاة الذهب والفضة ربع العشر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الرقة ربع العشر» . ويجب فيما زاد على النصاب بحسابه، وبه قال من الصحابة: علي بن أبي طالب، وابن عمر، ومن الفقهاء: مالكٌ، وابن أبي ليلى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وقال أبو حنيفة: (لا تجب فيما زاد على عشرين مثقالًا شيءٌ حتى تبلغ الزيادة أربعة دنانير، ولا تجب فيما زاد على مائتي درهم شيءٌ حتى تبلغ الزيادة أربعين درهمًا) . دليلنا: ما روى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «هاتوا ربع العشر من الورق من كل أربعين درهمًا درهمٌ، ولا شيء في الورق حتى تبلغ مائتي درهمٍ، فإذا بلغ مائتي درهم.. ففيها خمسة دراهم، فإذا زاد على ذلك.. ففيها بحسابها» ، ولأنها زيادة على نصابٍ في جنسٍ لا ضرر في تبعيضه، فوجب فيما زاد بحسابه، كالحبوب، وفيه احترازٌ من الماشية؛ لأن في تبعيضها ضررًا. [فرع: إذا كانت الدراهم جيدة ورديئة] ] : إذا كان بعض دراهمه جيدة وبعضها رديئة من جهة الجنس، مثل: أن يكون بعضها لينة، وبعضها خشنة.. ضم بعضها إلى بعضٍ في إكمال النصاب، وتخرج الزكاة من كل واحدٍ منها بقسطها، وكذلك: إذا كانت أنواعًا.. أخرج من كل نوع بقسطه. وإن كثرت الأنواع.. فذكر في " المهذب ": أنه يخرج الوسط، كما قلنا في الثمار.

وأما ضرب الدراهم المغشوشة: فيكره ذلك للإمام؛ لأنه ربما غر المسلمون بعضهم بعضًا بها؛ ولأن من عليه عشرة دراهم إذا دفع عنها عشرة دراهم مغشوشة.. لا تبرأ ذمته إذا لم تكن الفضة فيها عشرة دراهم. وأما غير الإمام: فيكره له ضرب الدراهم المغشوشة؛ لما ذكرناه في الإمام، ولأن ضرب الدراهم للإمام، فلا يفتات عليه، وهل يصح الشراء بها؟ فيه وجهان: يأتي ذكرهما. وأما وجوب الزكاة فيها: فإن كانت الفضة فيها أقل من مائتي درهمٍ.. لم تجب فيها الزكاة؛ لأنها أقل من النصاب. وإن كانت الفضة فيها تبلغ مائتي درهم.. وجبت فيها الزكاة، وبه قال مالكٌ، وأحمدُ. وقال أبو حنيفة: (إن كان الغش فيها أقل.. وجبت فيها الزكاة، وإن كان الغش أكثر أو كانا سواءً.. لم تجب) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة» . وهذه دون خمسة أواقٍ. إذا ثبت هذا: فإن كان يعرف قدر الفضة التي فيها.. أخرج عنها الزكاة، وإن كان لا يعرف.. فهو بالخيار بين أن يمسكها؛ ليعرف الفضة، فيخرج منها، أو يخرج الزكاة، ويستظهر، بحيث يعلم أنه لم ينقص عما وجب عليه فيها، فإن كان معه ألف درهمٍ مغشوشة، فأخرج عنها خمسة وعشرين درهمًا فضة.. قال الشافعي: (قبل منه وقد تطوع بالفضل) .

فرع: يخرج زكاته من دراهمه

[فرع: يخرج زكاته من دراهمه] ] : إذا كان معه مائتا درهمٍ جيدة قد وجبت فيها الزكاة، فأخرج عنها خمسة دراهم مغشوشة.. فإنها لا تجزئه. وقال أبو حنيفة: (تجزئه) . وقال محمد بن الحسن: يجزئه ما فيها من الفضة، وعليه أن يخرج الفضل، فيتصدق به. دليلنا: أنه أخرج المغشوش عن الجيد، فلم يجزه، كما لو أخرج مريضة عن الصحاح. إذا ثبت هذا: فهل له أن يسترجعها؟ قال أبو العباس: فيه قولان: أحدهما: ليس له أن يسترجعها، وتكون تطوعًا؛ لأنه أخرج المعيب في حق الله تعالى، لم يكن له استرجاعه، كما لو وجب عليه عتق رقبة سليمة، فأعتق رقبة معيبة. والثاني: له أن يسترجعها، وهو الصحيح؛ لأنه أخرجها عن الزكاة، فإذا لم تقع موقعها.. كان له استرجاعها، كما لو أسلف الزكاة، فتلف ماله. قال ابن الصباغ: وهذا ينبغي إذا دفعها وقال: هذه زكاة هذا المال بعينه، فأما مع الإطلاق، فلا يتوجه الرجوع. فإذا قلنا: له أن يسترجعها، فإن كانت باقية.. أخذها، وإن استهلكها المساكين.. أخرج الفضل. قال أبو العباس: وكيفية معرفة ذلك أن يبتاع بأربعة دراهم فضة جيدة قطعة ذهبٍ، ثم يبتاع بتلك القطعة دراهم مغشوشة، فإن ابتاع بها خمسة مغشوشة.. علمنا أن قيمة التي أخرج أربعة دراهم جيدة، فيخرج درهمًا جيدًا. قال الشيخ أبو حامدٍ: وكنت قد حكيتها عن أبي العباس، بخلاف هذا، وغلطت فيه، والصحيح هذا، فينبغي لمن عقلها أن يضرب عليها.

فرع: مزيج الذهب بفضة

[فرع: مزيج الذهب بفضة] ] : ذكر في " التعليق " و " المجموع ": إذا كانت له فضة ملطخة بذهبٍ، أو ذهبٌ ملطخٌ بفضة، فإن كان رب المال يعلم قدر كل واحدٍ منهما.. رجع إليه، وإن قال: لا أعلم، فإن كان رب المال هو المخرج للزكاة.. نظرت: فإن قال: يغلب على ظني أن الذهب كذا، والفضة كذا.. جاز أن يخرج الزكاة على غالب ظنه؛ لأن ذلك موكولٌ إلى الاجتهاد، فجاز الإخراج به. وإن قال: لا يغلب على ظني، ولكني أخرج الزكاة بالاستظهار، مثل: أن يقول: هذا الذهب المخلوط يجوز أن يكون خمسة عشر دينارًا، أو عشرين دينارًا، ولكني أخرج زكاة خمسة وعشرين دينارًا، أو يتحقق أنها لا تبلغ ذلك، وهذه الفضة يجوز أن تكون مائتي درهمٍ، أو مائتين وخمسين درهمًا، ويتحقق أنها لا تبلغ ثلاثمائة درهمٍ، وأخرج زكاة ثلاثمائة درهمٍ.. جاز ذلك؛ لأنه قد أدى الزكاة وزيادة، وإن لم يفعل ذلك.. ميزهما بالنار. وإن طالبه الإمام بالزكاة، وأراد أن يستوفيها منه: فإن قال رب المال: أنا أعلم قدر كل واحدٍ منهما.. قبل منه؛ لأنه أمينٌ، وإن قال: لا أعلم قدرهما، ولكن قال: يغلب على ظني قدر كل واحدٍ منهما.. لم يقبل منه ذلك. والفرق بينهما وبين التي قبلها: أن رب المال إذا كان هو المخرج.. فإن ذلك موكولٌ إلى اجتهاده، فإذا كان الإمام هو الآخذ للزكاة.. فإن ذلك موكولٌ إلى اجتهاده، ولا يجوز أن يحكم باجتهاد غيره، فإذا ثبت أنه لا يقبل، فإن أعطى رب المال الزكاة على الاستظهار، على ما ذكرناه في الأولى.. جاز، وإن لم يعط على الاستظهار.. ميزهما بالنار. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 142] : ويمكن أن يعلم قدر كل واحدٍ منهما حقيقة من غير تمييزٍ بالنار، بأن يجعل ماءً في إناءٍ، ويطرح فيه من الذهب الخالص مثل وزن المخلوط، فيعلو الماء في الإناء، فيعلم على رأس الماء بعلامة في الإناء، ثم يخرج ذلك الذهب من الماء، ويطرح فيه من الفضة الخالصة مثل وزن المخلوط، فيعلو الماء

مسألة: من عليه دين

في الإناء، فيعلم على رأس الماء، ويزيد على علوه مع الذهب؛ لأن الفضة أضخم جثة من الذهب، فيعلم على رأس الماء في الإناء بعلامة ثانية، ثم يخرج تلك الفضة، ثم يطرح فيه المخلوط، فيزيد علو الماء على علو الماء مع الذهب؛ لما في المخلوط من الفضة، ولا يبلغ علو الماء مع الفضة، لما في المخلوط من الذهب، فيعلم على رأس الماء في الإناء بعلامة ثالثة بين العلامتين الأولتين، ثم يمسح ما بين العلامة الوسطى والعليا، وما بين الوسطى والسفلى، فإن كانت المساحتان سواءً.. فنصف المخلوط ذهبٌ، ونصفه فضة، وإن زاد أحدهما على الثاني.. فبحساب ذلك. [مسألة: من عليه دين] ] : وإن كان له دينٌ.. نظرت: فإن كان غير لازم، كمال الكتابة.. لم تجب عليه فيه زكاة؛ لأن المكاتب يملك إسقاطه بأن يعجز نفسه. فإن كان لازمًا.. فهل تجب فيه الزكاة؟ قال الشافعي في القديم - فيما نقله الزعفراني عنه -: (ولا أعلم في وجوب الزكاة في الدين خبرًا يثبت، وعندي: أن الزكاة لا تجب في الدين؛ لأنه غير مقدورٍ عليه، ولا معينٍ) . وقال في الجديد: (تجب فيه الزكاة) . وهو الأصح؛ لأنه مالٌ يقدر على قبضه، فهو كالوديعة. فإذا قلنا بهذا: وعليه التفريع.. نظرت في الدين: فإن كان حالًا على مليء باذلٍ له أي وقتٍ طولب به.. فهذا يجب على مالكه إخراج الزكاة عنه عند تمام كل حولٍ إن كان نصابًا؛ لأن هذا كالمال المودع. وإن كان الدين على مليءٍ موسرٍ إلا أنه يقر له به في الباطن دون الظاهر، ولا بينة له: فعلى هذا: إذا حال عليه الحول.. وجبت فيه الزكاة، ولكن لا يلزم المالك

فرع: من له مال غائب

إخراجها إلا بعد أن يقبضه، فإذا قبضه.. زكاه لما مضى. وإن كان الدين على مليء جاحدٍ له في الظاهر والباطن، أو على مقرٍ معسرٍ.. فهذا لا يجب عليه إخراج الزكاة عند الحول. فإذا قبضه.. فهل يلزمه أن يزكي عنه لما مضى؟ فيه قولان، كالمال المغصوب. وإن كان له بينة على الدين الذي يجحده المليء، أو يعلمه الحاكم.. قال ابن الصباغ: فالذي يقتضيه المذهب: أنه يجب عليه الزكاة؛ لأنه يقدر على أخذه. وإن كان له دينٌ مؤجلٌ على مليءٍ مقرٍ.. ففيه وجهان: [الأول] : قال أبو إسحاق: هو مملوكٌ له، ولكن لا يملك المطالبة به. فعلى هذا: لا يجب إخراج الزكاة فيه قبل قبضه، وهل تجب الزكاة عليه لما مضى إذا قبضه؟ فيه قولان، كما لو كان على معسر مقرٍّ. و [الثاني] : قال أبوعلي بن أبي هريرة: لا يملكه قبل حلول الأجل؛ لأنه لا يملك المطالبة به. فعلى هذا: إذا قبضه.. استأنف الحول به، ولا يزكيه لما مضى، قولًا واحدًا. والأول أصح؛ لأنه لو أبرأه عنه.. صح إبراؤه. [فرع: من له مال غائب] ] : فإن كان له مالٌ غائبٌ، فإن كان مقدورًا عليه، بأن يكون بعث مالًا بضاعة إلى بلدٍ، وهو يعرف خبره وسلامته ويقدر على التصرف فيه.. فتجب فيه الزكاة عند الحول. وأما وجوب الإخراج قبل أن يرجع إليه: فذكر في " المهذب " و " الشامل ": أنه لا يجب عليه إلا بعد أن يرجع إليه. وظاهر كلام الشيخ أبي حامدٍ في " التعليق ": أنه يجب عليه الإخراج قبل أن يرجع إليه؛ لأنه قال: فكلما حال عليه الحول.. فعليه إخراج الزكاة عنه.

مسألة: زكاة ريع العقار

والمستحب: أن يخرج زكاته في البلد الذي فيه المال، فإن أخرجها في بلد نفسه.. فعلى القولين في نقل الصدقة. وإن كان المال الغائب بحيث لا يعرف موضعه أو يعرف موضعه، ولكنه لا يقدر عليه.. فلا يلزمه إخراج الزكاة عنه قبل أن يرجع إليه، فإذا رجع إليه.. فهل يلزمه أن يزكيه لما مضى؟ فيه قولان، كالمال المغصوب. إذا ثبت هذا: فكل دينٍ يجب عليه إخراج الزكاة عنه قبل قبضه، فإنه يضمه إلى ما كان معه من جنسه؛ لإكمال النصاب، ويلزمه إخراج الزكاة عما معه أيضًا. وكل دينٍ لا يلزمه إخراج الزكاة عنه إلا بعد قبضه، فإن كان معه من جنسه ما لا يتم النصاب إلا بالدين.. فإنه لا يلزمه إخراج الزكاة عما معه قبل أن يقبض الدين، فإذا قبض الدين.. أخرج الزكاة عنه، وعما معه لما مضى. وكل دينٍ لا يجري في الحول إلا بعد قبضه، فإنه لا يتم به نصاب ما معه من جنسه. [مسألة: زكاة ريع العقار] ] : إذا أكرى داره أربع سنين بمائة دينارٍ، وقبضها، وأقامت في يده إلى أن انقضت مدة الإجارة، لم ينفقها.. فلا خلاف على المذهب: أن المكري يملك المائة بنفس العقد.

فإن مضت السنة الأولى: قال الشيخ أبو حامدٍ: فلا خلاف على المذهب: أن الزكاة قد وجبت في المائة، ويلزمه إخراج زكاة خمسة وعشرين منها؛ لأن ملكه قد استقر عليها، وهل يلزمه إخراج زكاة الخمسة والسبعين؟ فيه قولان. وقال القاضي أبو الطيب: القولان في الوجوب في الخمسة والسبعين. قال ابن الصباغ: والصحيح قول الشيخ أبي حامدٍ، وعليه التفريع: أحدهما: يلزمه إخراج الزكاة عن الجميع، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق، وابن الصباغ. ووجهه: أن ملكه قد ثبت على الجميع، وملك التصرف فيه، بدليل: أن الأجرة لو كانت جارية.. ملك وطئها، فأشبه مهر المرأة قبل الدخول. والثاني: لا يلزمه إخراج الزكاة إلا عن القدر الذي استقر ملكه عليه، وهو اختيار الشيخ أبي حامدٍ، والمحاملي. ووجهه: أن ملكه غير مستقرٍّ على ما زاد على أجرة السنة الأولى؛ لأن الدار قد تنهدم، فجيب رد الأجرة، فلم يجب إخراج زكاته، كمال الكتابة، ويفارق الصداق، فإن المرأة تملكه تملكًا تامًا. وإذا طلقها قبل الدخول: فإنما يعود النصف إلى الزوج بمعنًى آخر، وهو الطلاق، لا بالملك المتقدم، فصار كما لو أصدقها شيئًا، ثم اشتراه منها. فعلى هذا: إذا مضت السنة الأولى.. وجب عليه أن يخرج زكاة خمسة وعشرين دينارًا، وهو نصف دينارٍ وثمن دينارٍ؛ لأن ملكه قد استقر عليها، فإذا مضت السنة الثانية، فقد استقر ملكه على خمسة وعشرين ثانية، وعلمنا: أن ملكه قد استقر عليها سنتين. فإن كان قد أخرج زكاة الخمسة والعشرين الأولى في السنة الأولى من غيرها.. زكاها في العام الثاني، وإن أخرج زكاتها منها في العام الأول.. زكى ما بقي منها في العام الثاني. وأما الخمسة والعشرون الثانية: فقد حال عليها حولان:

فإن قلنا: إن الزكاة تجب في الذمة، والدين لا يمنع وجوب الزكاة.. أخرج عنها زكاة حولين، وهو دينارٌ وربعٌ. وإن قلنا: إن الزكاة استحقاق جزءٍ من العين، أو قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة، ولكن لم يكن له مالٌ غيرها.. لزمه زكاتها في الحول الأول، وفي الحول الثاني: يلزمه زكاتها إلا عن قدر الزكاة فيها في الحول الأول، فإنه لا يلزمه زكاة ذلك في الثاني، فإذا مضت السنة الثالثة.. فقد استقر ملكه على خمسة وعشرين ثالثة، وعلمنا: أن ملكه ثابتٌ عليها ثلاث سنين. فأما الخمسون الأولى: فإن كان قد أخرج زكاتها للحولين الأولين منها.. زكى ما بقي منها في الحول الثالث، وإن أخرج زكاتها من غيرها.. زكى جميعها للحول الثالث. وأما الخمسة والعشرون الثالثة: فإن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، والدين لا يمنع وجوب الزكاة.. أخرج عنها زكاة ثلاث سنين، وهو دينارٌ وسبعة أثمان دينارٍ. وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، أو قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة، ولا مال له غيرها.. وجب عليه إخراج الزكاة عنها للعام الأول نصف دينارٍ وثمن دينارٍ، ووجب عليه إخراج الزكاة عنها للعام الثاني، إلا عن قدر ما وجب للأول، فلا يلزمه إخراج زكاته، ووجب عليه إخراج الزكاة عنها للعام الثالث، إلا عن قدر ما وجب للعام الأول والثاني، فلا يلزمه إخراج الزكاة عنه في العام الثالث. فإذا مضت السنة الرابعة.. استقر ملكه على الخمسة والعشرين الرابعة أربع سنين، فإن كان قد أخرج الزكاة عن أجرة الثلاث السنين الأولى من غيرها.. زكى جميعها في العام الرابع، وإن أخرج زكاتها منها.. زكى ما بقي منها في العام الرابع. وأما أجرة السنة الرابعة، فإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالذمة، والدين لا يمنع وجوب الزكاة.. لزمه إخراج الزكاة عن جميعها أربع سنين، وهو ديناران ونصفٌ. وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، أو قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة، ولا مال له غيرها.. زكى جميعها للحول الأول، وزكاها للثاني إلا عن قدر ما وجب للأول،

مسألة: مصوغ الذهب والفضة

وزكاها للثلث إلا عن قدر ما وجب للأول والثاني، وزكاها للعام الرابع إلا عن قدر ما وجب للأول والثاني والثالث. [مسألة: مصوغ الذهب والفضة] ] : وأما المصوغ من الذهب والفضة: فعلى ضربين: مباحٌ، ومحظورٌ. فأما المباح: فهو ما يتخذه الرجل كحلية لنفسه، كالمنطقة المحلاة بالفضة، والقبيعة للسيف، والخاتم من الفضة، وكذلك ما تتخذه المرأة لتلبسه من خلاخل الذهب والفضة والدمالج والمخانق وغير ذلك، فهل تجب فيه الزكاة؟ فيه قولان: أحدهما: تجب فهي الزكاة، وبه قال عمر بن الخطاب، وابن عباسٍ، وابن مسعودٍ، وعبد الله بن عمرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومن الفقهاء: الزهري، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه؛ لما روي: «أن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت تلبس أوضاحًا من ذهبٍ، قالت: فقلت: أكنزٌ هو يا رسول الله؟ قال: " ما بلغ أن يزكى، فزكي، فليس بكنزٍ» . وروي: «أن امرأة من اليمن أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعها ابنتها، وفي يدها

مسكتان غليظتان من ذهبٍ، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " أتؤدين زكاة هذا؟ "، قالت: لا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أيسرك أن يسورك الله بسوارين من نار؟! " فخلعتهما، وألقتهما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: هما لله ولرسوله» . والثاني: لا تجب فيه الزكاة. قال المحاملي: وهو الصحيح، وبه قال ابن عمر وجابرٌ وعائشة، وأختها أسماء، ومن التابعين: الحسن، وابن المسيب والشعبي، ومن الفقهاء: مالكٌ، وأحمد، وإسحاق؛ لما روي: «أن فريعة ابنة أبي أمامة قالت: (حلاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رعاثًا من ذهبٍ، وحلا أختي، وكنا في حجره، فما أخذ منا زكاة حليٍّ قط» .

وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في الحلي» . ولأنه مبتذلٌ في مباحٍ، فلم تجب فيه الزكاة، كالعوامل من البهائم. وأما ما روي من حديث أم سلمة، وحديث المرأة التي أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من اليمن: فيحتمل أن يكون ذلك في الوقت الذي كان لبس الذهب محرمًا على النساء؛ لأنه قد

روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من تطوق بطوقٍ من ذهبٍ.. طوقه الله يوم القيامة بطوقٍ من نارٍ» ، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من تسور بسوارٍ من ذهبٍ.. سوره الله بسوارٍ من نارٍ» . وهذا كان في أول الإسلام. إذا ثبت هذا: فللرجل أن يتخذ الخاتم من الفضة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ خاتمًا من فضة فكان إذا لبسه.. جعل فصه مما يلي كفه» وكان السبب في ذلك أن الأكاسرة كانوا لا يقبلون الكتب إلا مختومة، فاتخذ ذلك ليختم به الكتب، وكتب على الفص ثلاثة أسطرٍ: " محمدٌ "، سطرٌ، و " رسول " سطرٌ، و " الله " سطرٌ؛ فلما توفي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. أخذه أبو بكرٍ، ثم أخذه بعده عمر، ثم أخذه بعده عثمان، ثم وقع في بئرٍ في أيام عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) . وأما تختم الرجل بالذهب: فلا يجوز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التختم بالذهب» .

ويجوز للرجل أن يتخذ قبيعة السيف والسكين من فضة؛ لما روي: «أن سيف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له قبيعة من فضة» . وروي: «أنه كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جملٌ في أنفه برة من فضة، وإنما اتخذ ذلك؛ لأنه يغيظ به المشركين» . ويجوز له أن يحلي المصحف بالفضة، وهل له أن يحليه بالذهب؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: يجوزُ؛ لأن فيه تعظيم القرآن، فأشبه الفضة. والثاني: لا يجوز؛ لأن ذلك حلية للرجل لا للقرآن، والرجل لا يجوز أن يتحلى بالذهب. وأما الشيخ أبو إسحاق: فأوجب الزكاة في حلية المصحف، وهذا يدل على أنها غير مباحة عنده. وهل يجوز للرجل أن يحلي اللجام وثفر الدابة بالفضة؟ فيه وجهان:

أحدهما: يجوز؛ لأن فيه زينة وغيظًا للمشركين وترهيبًا لهم، فشابه حلية السيف. والثاني: لا يجوز؛ لأن ذلك حلية للدابة. ولا يجوز أن يتخذ محبرة من فضة، ولا دواة ولا مقلمة من فضة، لأن ذلك يجري مجرى الأواني من الفضة في البيت. ويجوز للمرأة أن تلبس من حلي الذهب والفضة ما جرت عادة النساء بلبسه، كالخلاخل والدمالج والأساور والمخانق، ولا يجوز أن تحلي ربعتها ولا مرآتها؛ لأن ذلك يجري مجرى الآنية من الذهب والفضة. ولا يجوز للرجل أن يتخذ لنفسه حلي النساء، ولا للمرأة أن تتخذ لنفسها حلي الرجال، كالمنطقة والطوق، فإن اتخذ الرجل حلية النساء؛ ليلبسه نساءه، أو يعيره.. جاز، وكذلك إذا اتخذت المرأة حلي الرجال؛ لتلبسه زوجها، أو ولدها، أو لتعيرها الرجال.. جاز ذلك، وكل ما قلنا لا يجوز استعماله، فتجب فيه الزكاة، قولًا واحدًا، وكل ما جوزنا استعماله، ففي وجوب الزكاة فيه: القولان في الحلي. وإن اتخذ الرجل أو المرأة آنية من ذهبٍ أو فضة.. وجبت فيها الزكاة، قولًا واحدًا، سواءٌ قلنا: يجوز الاتخاذ أو لا يجوز؛ لأن الزكاة إنما تسقط في أحد القولين، إذا كان معدًا لاستعمال مباحٍ، وهذا غير معدٍّ لذلك. وإن اتخذ الرجل حلية يجوز له لبسها، أو اتخذت المرأة حلية يجوز لها لبسها، ونويا القنية بذلك.. وجبت فيها الزكاة، قولًا واحدًا؛ لأنه غير معدٍِّ لاستعمالٍ مباحٍ. فإن اتخذ الرجل منطقة من فضة ثقيلة لا يمكن لبسها، أو اتخذت المرأة حليًا ثقيلًا لا يمكن لبسه.. وجبت فيه الزكاة، قولًا واحدًا؛ لأنه غير معدٍّ لاستعمالٍ مباحٍ.

فرع: تزيين المساجد بالفضة والذهب

[فرع: تزيين المساجد بالفضة والذهب] ] : قال أبو إسحاق المروزي: ولا يجوز تفضيض المساجد، ولا أن يتخذ لها قناديل من ذهبٍ أو فضة، لأن أحدًا من السلف لم يفعل ذلك، فإن فعل ذلك.. ففيه الزكاة، قولًا واحدًا، إلا أن يوقفها على المسجد، فلا يجب فيها الزكاة؛ لأن ملكه زال عنها، ولكن لا يجوز استعمالها. وكذلك: لا يجوز أن يموه سقف بيته بذهبٍ ولا فضة. وقال أبو حنيفة: (يجوز) . دليلنا: أن في ذلك سرفًا وخيلاء، فلم يجز، كالتختم بالذهب. إذا ثبت هذا: فإن كان يمكنه تخليصه، وكان نصابًا، أو لمالكه من جنسه مالٌ إذا ضمه إليه بلغ نصابًا.. وجبت فيه الزكاة، وإن أخرج الزكاة بالاستظهار.. جاز، وإن لم يخرج بالاستظهار، ولم يعلم قدر ما فيها.. ميز بالنار، وإن كان إذا خلص، لم يتخلص منه شيءٌ.. فإنه لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه تالفٌ. قال ابن الصباغ: وذكر الشيخ أبو حامدٍ: إذا كان لا يتخلص، وكان مستهلكًا.. لم يحرم استدامته. [فرع: الزكاة في حلي الخنثى] ] : ذكر القاضي أبو الفتوح: لا يجوز للخنثى المشكل أن يتخذ حلي الرجال، ولا حلي النساء؛ ليستعمله، فإن اتخذ شيئًا من ذلك.. وجبت فيه الزكاة، قولًا واحدًا، إلا أن يتخذه؛ ليلبسه جواريه، أو يعيره. وإن اتخذت امرأة حليًا للكراء.. ففيه طريقان: أحدهما: تجب فيه الزكاة، قولًا واحدًا؛ لأنه معد لطلب النماء، فهو كما لو اشترته للتجارة.

فرع: الزكاة فيما كسر من الحلي

والثاني: أنها على قولين؛ لأن النماء المقصود منه قد فقد، فإن الذي يحصل من الأجرة قليلٌ. قال الصيمري: وهل يجوز إكراء الذهب بالذهب، والفضة بالفضة؟ فيه وجهان. [فرع: الزكاة فيما كسر من الحلي] ] : إذا قلنا: لا تجب الزكاة في الحلي، فانكسر، فإن كان كسرًا لا يصلح حتى تعاد صياغته.. وجبت فيه الزكاة، قولًا واحدًا، إذا قام في يده حولًا بعد الكسر؛ لأنه لا يصلح للاستعمال، فهو كالتبر، وإن انكسر كسرًا لا يمنع من اللبس، كالشق في الخاتم والخلخال.. لم تجب فيه الزكاة؛ لأنه معدٌ لاستعمالٍ مباحٍ، وهذا الشق لا تأثير له. وإن انكسر كسرًا يمنع من لبسه، ولا يحتاج إلى إعادة صياغته من أصلها، بل يكفي فيه اللحام مثل: أن ينقسم نصفين، فإن نوت كنزه دون استعماله.. وجبت فيه الزكاة؛ لأنها لو نوت ذلك قبل الانكسار، لوجبت فيه الزكاة، فبعد الانكسار أولى، وإن نوت إصلاحه.. فلا زكاة فيه؛ لأنه معدٌ لاستعمالٍ مباحٍ. وإن لم تنو به القنية، ولا الإصلاح.. ففيه قولان: الأول: قال في القديم: (تجب فيه الزكاة؛ لأنه لا يمكن لبسه، فهو كما لو تفتت) . والثاني - وهو قوله في " الأم " [2/35] : - (لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه يمكن

فرع: زكاة الحلي المباح

إصلاحه للبس، والظاهر بقاؤه على ما كان من إرصاده للاستعمال) . هكذا ذكره الشيخ أبو حامدٍ وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا. وذكر في " المهذب ": إذا انكسر بحيث لا يمكن لبسه إلا أنه يمكن إصلاحه.. فهل تجب فيه الزكاة؟ فيه قولان من غير تفصيلٍ، ولعله أراد ما ذكروه. [فرع: زكاة الحلي المباح] ] : إذا قلنا: تجب الزكاة في الحلي المباح، فإن كان لامرأة خلخالٌ قيمته ثلاثمائة درهمٍ، ووزنه مائتا درهم.. فإن الزكاة تجب على قدر وزنه، لا على قيمته، فإن سلم رب المال ربع عشره إلى الإمام، أو إلى المساكين مشاعًا.. جاز، فإذا صح تسليمه.. كان الإمام أو المساكين بالخيار: بين أن يبيعوه منه أو من غيره، ثم يفرق ثمنه عليهم. وإن أعطى رب المال خمسة دراهم جيدة، قيمتها سبعة دراهم ونصفٌ، لجودة سكتها وطبعها.. قبل منه؛ لأنه أعطى مثل ما وجب عليه، وإن أراد أن يعطي سبعة دراهم ونصفًا.. لم يجز؛ لأنه يعطي ذلك عوضًا عن خمسة دراهم، وذلك ربًا.. فلم يجز. وإن قال رب المال: أنا أكسره، وأعطي منه خمسة دراهم، أو طلب المساكين ذلك.. لم يجز، وذلك؛ لأن النقص يدخل عليهم، وإن قال رب المال: أنا أكسره وأعطي قطعة ذهبٍ، قيمتها سبعة دراهم ونصفٌ.. ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس -: أنه يجوز؛ لأن هذا موضع ضرورة، لأنه لا يمكن أخذ الزكاة من عينه، ولا من غيره، فدعت الحاجة إلى أن يأخذ بقيمة الزكاة ذهبًا. والثاني - حكاه ابن الصباغ، عن الشيخ أبي حامدٍ، وإليه أشار في " المهذب " -: أنه لا يجوز؛ لأنه لا يمكنه أن يسلم ربع عشره مشاعًا، وإن كان مع رجل إناءً من ذهبٍ أو فضة، وزنه مائتا درهمٍ، وقيمته ثلاثمائة درهمٍ.. فإن استعماله لا يجوز، قولًا واحدًا، وهل يجوز اتخاذه؟ فيه قولان، وقيل: فيه وجهان:

وتجب الزكاة فيه، قولًا واحدًا. وأما كيفية أخذ الزكاة منه، فإن قلنا: إن اتخاذه يجوز.. فالحكم فيه كالحكم في الخلخال، على ما ذكرناه. وإن قلنا: إن اتخاذه لا يجوز، وهو ظاهر المذهب، فإن سلم رب المال ربع عشره مشاعًا.. جاز، وإن أراد أن يكسره، ويسلم الزكاة منه.. جاز؛ لأنه لا قيمة لصنعته، وإن أعطى خمسة دراهم من نوع تلك الفضة، أو أجود منها، قيمتها خمسة دراهم.. جاز؛ لأنه قد أعطى مثل ما وجب عليه، وتلك الصنعة لا قيمة لها، وإن أراد أن يعطي قطعة ذهبٍ قيمتها خمسة دراهم.. لم يجز، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك. ومن أصحابنا من قال: لو أعطى سبعة دراهم ونصفًا.. جاز؛ لأنه يكون متطوعًا بالزيادة على الخمسة. وإنما لا يجوز، إذا أخرج ذلك بالقيمة للصنعة، والصنعة هاهنا لا قيمة لها، فيكون متطوعًا بالزيادة، فهو كما لو وجب عليه وسقٌ، فأعطى وسقين. وبالله التوفيق

باب زكاة مال التجارة

[باب زكاة مال التجارة] قطع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد: (أن الزكاة واجبة في أموال التجارة) . وبه قال عمر، وابن عمر، وجابرٌ، وعائشة، وبه قال الفقهاء السبعة، والثوري، وأبو حنيفة. واختلف قول الشافعي في القديم، فقال فيه: (اختلف الناس في وجوب الزكاة في مال التجارة، فقال بعضهم: لا زكاة فيها، وهو قول ابن عباسٍ، وهو القياس - وبه قال داود - وقال بعضهم: تجب الزكاة فيها بكل حالٍ، وهذا أحب إلينا.. وذهبت طائفة إلى: أنه لا زكاة فيها حتى تنض وتصير دراهم أو دنانير، فإذا نضت أخذ منها زكاة عامٍ واحدٍ، وإليه ذهب عطاءٌ، وربيعة، ومالكٌ) . دليلنا: ما روى أبو ذرٍّ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الإبل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته» . قاله بالزاي المنقوطة، والبز: لا تجب فيه الصدقة إلا إذا كان للتجارة.

وروي عن سمرة بن جندب: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع» . وهذا نصٌّ؛ لأن الذي نعده للبيع هو عروض التجارة. ولأن الأثمان لما كانت على ضربين: منها: ما لا تجب فيه الزكاة، وهو الحلي المعدة لاستعمالٍ مباحٍ. ومنها: ما تجب فيه لزكاة، وهو ما عدا ذلك. والماشية على ضربين: منها: ما لا تجب فيه الزكاة، وهي المعلوفة. ومنه: ما تجب فيه الزكاة، وهي السائمة.

مسألة: المعاوضة شرط للتجارة

وجب - أيضًا - أن تكون العروض على ضربين: منهما: ما لا تجب فيه الزكاة، وهو ما لا يكون للتجارة. ومنها: ما تجب فيه الزكاة، وهو ما أعد للتجارة. ووجه المشابهة بينهما: أنه مالٌ: يطلب فيه النماء، فوجبت فيه الزكاة، كالأثمان والسائمة. [مسألة: المعاوضة شرط للتجارة] ] : ولا يصير العرض للتجارة، إلا بأن يملكه بعقد معاوضة، كالبيع والإجارة، وينوي بالعقد أنه للتجارة، فإن ورثه أو اتهبه، ونوى أنه للتجارة، أو اشتراه ولم ينو به التجارة.. لم يصر للتجارة، وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفة. وقال أحمد، وإسحاق: (تصير للتجارة) . وتابعهما الحسين الكرابيسي من أصحابنا. دليلنا: أن كل ما لم تجب الزكاة فيه من أصله.. لم يصر للزكاة بمجرد النية، كالمعلوفة إذا نوى إسامتها، وفيه احترازٌ من الأثمان. فإن قيل: أليس لو اشترى شاة بنية أنها أضحية.. لم تصر أضحية حتى ينوي بها بعد الشراء؟ قلنا: الفرق بينهما: أن الشراء يوجب الملك، وكونها أضحية توجب زوال الملك، وهما أمران متنافيان، فجرى مجرى من اشترى عبدًا بنية إعتاقه، فإن العتق لا يصح، وليس كذلك إذا اشترى عرضًا ونوى به التجار؛ لأن نية التجارة لا توجب زوال الملك، فلذلك جاز اجتماعهما. فإن نوى بعرض التجارة القنية.. انقطع حول التجارة فيه؛ لأن نية القيمة اقترنت بفعل القنية، وهي الإمساك، فهو كالمسافر إذا نوى الإقامة.

فرع: نية التجارة بالصداق

[فرع: نية التجارة بالصداق] ] : إذا تزوجت امرأة بمالٍ، ونوت عند العقد أنه للتجارة، أو خالع الرجل امرأته بمالٍ، ونوى عند العقد أنه للتجارة.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 144] : أحدهما: أنه يصير للتجارة، وهو طريقة البغداديين من أصحابنا؛ لأنه ملكه بعقد معاوضة، فهو كالمملوك بالبيع. والثاني: لا يصير للتجارة؛ لأن النكاح والخلع ليس المقصود منهما العوض، بدليل: أنه يصح من غير عوضٍ. [فرع: نية التجارة لا يبطلها الفسخ] ] : لو باع عرضًا لا بنية التجارة، ثم فسخ البيع، ونوى بالفسخ التجارة.. لم يصر للتجارة؛ لأن ذلك ليس بتجارة، بل هو منعٌ منها. ولو باع عرضًا بنية التجارة.. صار ما قبضه للتجارة، فلو وجد به عيبًا، ففسخ البيع بنية التجارة.. قال في " الإبانة " [ق \ 144] : لم تبطل التجارة؛ لأن العقد الذي انعقد للتجارة لم يبطل من أصله. [مسألة: شراء ما تجب الزكاة بعينه] ] : إذا اشترى للتجارة ما تجب الزكاة في عينه، كالسائمة من الماشية أو كالنخل والكرم، أو اشترى أرضًا للتجارة، فزرعها، أو كان بها زرعٌ.. نظرت: فإن وجد نصاب إحدى الزكاتين دون الأخرى، كخمسٍ من الإبل لا تساوي مائتي درهمٍ، أو أربع من الإبل تساوي مائتي درهمٍ.. وجبت فيه زكاة ما وجد نصابه؛ لأنه ليس - هاهنا - زكاة تعارضها.

وإن وجد نصابهما.. فلا خلاف أن الزكاتين لا تجبان معًا، وأيهما يجب؟ ينظر فيه: فإن اتفق حولاهما بأن اشترى خمسًا من الإبل للتجارة بعرض للقنية وأسامها، وقومت عند الحول، فبلغت قيمتها نصابًا.. ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (تجب زكاة التجارة) . وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، إلا أن أبا حنيفة يقول في التجارة والزرع كقولنا الجديد. ووجه هذا: حديث سمرة بن جندب حيث قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع» . وهذا معدٌ للبيع، ولأن زكاة التجارة أعم؛ لأنها تجب في الثمرة، والجذع، وفي الأرض، والزرع، ولأنها تزاد بزيادة القيمة، فكان إيجابها آكد للمساكين. و [الثاني] : قال في الجديد: (تجب زكاة العين) . وبه قال مالكٌ، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في خمس من الإبل شاة، وفي أربعين شاة شاة، وفيما سقت السماءُ العشر» . ولم يفرق بين أن يكون للتجارة أو للقنية. ولأن زكاة العين مجمعٌ عليها، بدليل: أن من قال: لا تجب زكاة العين.. يحكم بكفره، وزكاة التجارة مختلفٌ في وجوبها؛ ولهذا لا يكفر من قال: لا تجب. وإن سبق حول إحدى الزكاتين، مثل: أن يكون عنده مائتا درهمٍ أقامت في يده أحد عشر شهرًا، فاشترى بها خمسًا من الإبل، فأسامها.. فإنه إذا مضى شهرٌ.. أتم حول زكاة التجارة. وإن أقامت في يده ستة أشهرٍ، ثم اشترى بها أرضًا فيها نخلٌ للتجارة، فأقامت شهرًا، وبدا فيها الصلاح، وقد سبق حول زكاة العين.. فيه وجهان: أحدهما - وهو قول القاضي أبي حامدٍ -: أنها على قولين، كالأولى؛ لأن

مسألة: اتجر بأربعين شاة

الشافعي لم يفصل، ولأن الشافعي فرض الكلام في الثمرة، ويبعد أن يوافق آخر جزءٍ من حول التجارة أول بدو الصلاح، وبهذا قال أحمد. والوجه الثاني - وهو قول أبي إسحاق المروزي، واختيار القاضي أبي الطيب -: أن التي سبق حولها تقدم، قولًا واحدًا، كما إذا وجد نصاب إحدى الزكاتين، فإنها أولى. إذا ثبتَ هذا: فإنْ قلنا: تُقدَّمُ زكاة التجارة.. قوِّمت الأرض والزرع والجذوع والثمرة، وأخرج ربع العشر. وإن قلنا: تقدم زكاة العين.. أخرج عن خمسٍ من الإبل شاة، وعن أربعين شاة شاة، وأخرج عشر الثمرة أو الزَّرْعِ، وهل تقوم الأرض أو الجذوع؟ فيه قولان حكاهما في " المهذب " و " الشامل "، وحكاهما صاحب " التعليق " و " المجموع " وجهين: أحدهما: تقوم الأرض والجذوع، فإن بلغت القيمة نصابًا.. أخرج عنها زكاة التجارة، وإن لم تبلغ القيمة نصابًا.. لم يخرج شيئًا؛ لأن المخرج زكاة الثمرة، فبقيت الأرض والجذوع، ولا يتأتى فيها إيجاب زكاة العين، فوجبت فيهما زكاة التجارة. والثاني: لا يقومان، ولا يجب فيها شيءٌ؛ لأنا إذا أوجبنا الزكاة في الثمار.. صارت الأرض والنخل، تبعًا لها، كما إذا ملك تسعًا من الإبل، فأخرج عنها شاة، فإن الأربعة تابعة للخمس. [مسألة: اتجر بأربعين شاة] فرعٌ: [اتجر بأربعين شاة] : فإن اشترى أربعين شاة للتجارة، وأسامها، فإن قلنا: تجب زكاة التجارة، فأخرج عنها الزكاة في الحول الأول، فإذا جاء الحول الثاني قومها، فإن بلغت قيمتها نصابًا.. أخرج عنها الزكاة، وإن نقصت عن الأربعين، ولم تبلغ قيمتها نصابًا.. سقطت زكاة التجارة عنها.

فرع: شراء الحلي المباح للتجارة

وإن قلنا: تجب زكاة العين.. أخرج عنها في الحول الأول شاة، فإذا حال الحول الثاني.. لم يجب فيها زكاة العين؛ لأنها ناقصة عن الأربعين، وهل تجب فيها زكاة التجارة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: لا تجب لأنا قد حكمنا بأن زكاة التجارة لا تجب فيها، وإنما تجب فيها زكاة العين، وقد نقص نصابها، فسقطت. والثاني: تجب فيها زكاة التجارة، وهو الصحيح؛ لأنه مالٌ للتجارة، وإنما أسقطنا زكاة التجارة إذا كان هناك ما هو أقوى منها، فإذا سقط الأقوى.. رجع إلى زكاة التجارة، وينبغي على قياس ما قاله الشيخ أبو حامد: إذا أوجبنا فيها زكاة التجارة، فأخرج عنها في الحول الأول، ثم قومناها في الحول الثاني، ولم تبلغ قيمتها نصابًا، ولم تنقص عن الأربعين.. هل يجب فيها زكاة العين على هذين الوجهين؟ الصحيح: أنها تجب. قال الشافعي: (ولو كان مكان النخل غرسٌ لا زكاة فيها.. زكاها زكاة التجارة) . وهذا صحيح كما قال، إذا ملك الرجل غرسًا لا يحمل، كودي النخل أو شجرة مثمرة لا تجب الزكاة في ثمرتها، مثل: التفاح والتين، وإن كان ذلك للتجارة.. زكاه زكاة التجارة، قولًا واحدًا؛ لأنه لم يوجد - هاهنا - زكاة تعارضها. [فرع: شراء الحلي المباح للتجارة] ] : فإن اشترت المرأة حليًا مباحًا للتجارة.. فإن الزكاة تجب فيه، سواءٌ كانت تلبسه أو لا تلبسه، لأن الرجل إذا كان له مالٌ لا تجب فيه الزكاة، وجعله للتجارة.. وجبت فيه الزكاة، فإذا جعل ما تجب فيه الزكاة للتجارة.. أولى أن تجب. فعلى هذا: إن قلنا: إن الحلي المباح لا تجب فيه زكاة العين.. فهاهنا تجب زكاة التجارة، قولًا واحدًا إذا بلغت قيمته نصابًا.

مسألة: شراء عرض التجارة

وإن قلنا: الحلي المباح تجب فيه زكاة العين.. فقد ترادف هاهنا زكاتان، وأيهما تجب؟ فيه قولان، كما مضى. [مسألة: شراء عرض التجارة] ] : إذا اشترى عرضًا للتجارة.. لم يخل: إما أن يشتريه بنقدٍ، أو بعرضٍ آخر: فإن اشتراه بنقدٍ.. نظرت: فإن اشتراه بنصابٍ من الأثمان.. فإنه يبني حول العرض على حول الثمن؛ لأن العرض فرعٌ لأصل تجب فيه الزكاة، فبنى حوله على حوله. وإن اشتراه بدون النصاب من الأثمان.. ففيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها - وهو المذهب -: أن الحول ينعقد عليه من حين الشراء، فإن بلغت قيمته في آخر الحول نصابًا.. أخرج عنه الزكاة، ولا يعتبر وجوب النصاب في أول الحول، ولا في وسطه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول» ، وهذا العرض قد حال عليه الحول، ولأن زكاة التجارة تجب في القيمة، وتقويم العرض في كل ساعة يشق، فاعتبر ذلك آخر الحول. والوجه الثاني - حكاه في " التعليق " و " المجموع " و " المعتمد " عن أبي العباس ابن سريج -: أنه يعتبر وجود النصاب في أول الحول، وفي آخره، ولا يعتبر في وسطه، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه مالٌ نقص عن النصاب، فلم يخرج في الحول، كأربع من الإبل. والثالث - حكاه أبو إسحاق المروزي في " الشرح " -: أنه يعتبر وجود النصاب في جميع السنة، كسائر أموال الزكاة. وحكى صاحب " المهذب " وصاحب " الشامل " هذا الوجه عن أبي العباس.

وإن اشتراه بعرضٍ للقنية.. نظرت: فإن كان العرض من غير أموال الزكاة.. انعقد الحول عليه من حين الشراء. وقال مالكٌ: (لا تجب الزكاة إلا فيما اشترى بالدراهم أو الدنانير) . دليلنا: ما روي عن سمرة بن جندبٍ: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع» . وهذا معدٌ للبيع. ولأنه مالٌ اشترى بنية التجارة، فوجب أن تجب فيه الزكاة، كما لو اشتراه بالدراهم والدنانير. وإن اشترى العرض بنصابٍ من السائمة.. ففيه وجهان: [الأول] : قال أبو سعيدٍ الإصطخري: يبنى حول العرض على حول السائمة؛ لأن الشافعي قال: (لو اشترى عرضًا للتجارة بدراهم أو دنانير، أو بشيء تجب فيه الصدقة من الماشية، وكان إفادة ما اشترى به ذلك العرض من يومه.. لم يقوم العرض حتى يحول عليه الحول من يوم أفاد ثمن العرض) . ولأن الماشية مالٌ تجب الزكاة في عينه، فبني حول العروض على حولها، كالدراهم والدنانير. والوجه الثاني - وهو قول أكثر أصحابنا -: أن ابتداء الحول من يوم الشراء؛ لأنهما مالان نصابهما مختلفٌ، وقدر المخرج منهما مختلفٌ، فلم يبن حول أحدهما على حول الآخر، ويفارق الأثمان، فإن نصابها ونصاب التجارة متفقٌ، وكذلك زكاتهما متفقة. ومن قال بهذا: تأول كلام الشافعي ثلاث تأويلاتٍ: أحدها: أن معنى قوله: (أو ما تجب الصدقة - في عينه - من الماشية) أراد: إذا اشترى ماشية، أو ملكها بأي وجهٍ كان، فاشترى بها عرضًا يوم ملكها؛ لأنه قال: (وكان إفادة ما اشترى به ذلك العرض من يومه) . فإما إذا ملك الماشية، ومضت لها مدة، ثم اشترى بها عرضًا للتجارة.. فإنه يستأنف حول العرض من يوم ملكه.

مسألة: باع عرضا بعرض آخر وكلا للتجارة

والتأويل الثاني: أنها مصورة إذا كان لرجلٍ ماشية سائمة للتجارة، فهل تجب فيها زكاة العين، أو زكاة التجارة؟ فيه قولان. فإذا قلنا: تجب زكاة التجارة، ثم اشترى بها عرضًا للتجارة.. فإنه يبني حول العرض على حول الماشية. والتأويل الثالث: أن المراد بقوله: (حتى يحول الحول من يوم أفاد ثمن العرض) الدراهم والدنانير؛ لأن الشافعي قد يجمع بين مسائل، ثم يعطف بالجواب على بعضها دون بعضً، أو يفرع على بعضها دون بعضٍ. [مسألة: باع عرضًا بعرض آخر وكلًا للتجارة] ] : وإن كان في يده عرضٌ للتجارة، فباعه بعرض التجارة.. بنى حول الثاني على حول الأول؛ لأن الزكاة تجب في القيمة، وقيمة الأول وقيمة الثاني واحدة. وإن كان عنده نصابٌ من الدراهم أو الدنانير، فاشترى به عرضًا للتجارة.. فإن حول العرض يبنى على حول الدراهم والدنانير، ثم لا يخلو: إما أن يبقى عرضًا إلى آخر الحول، أو يبيعه قبل الحول: فإن بقي عرضًا إلى آخر الحول.. فإنه يقوم ويؤدي زكاته مما بلغت قيمته، لا يختلف المذهب في ذلك؛ لأنه يتعذر، ويشق التقويم في كل يومٍ، فاعتبر آخر الحول. وإن باعه قبل الحول.. نظرت. فإن باعه بقدر قيمته، بأن اشترى عرضًا بمائتي درهمٍ، فباعه في أثناء الحول بمائتين.. بنى حول المائتين على حول العرض، كما بنى حول العرض على حول ما اشترى به. وإن باعه بأكثر من قيمته، بأن باعه بثلاثمائة درهمٍ.. زكى المائتين لحولها. وأما المائة الزائدة: فقد نص الشافعي هاهنا: (أنه لا يزكي المائة إلا لحولها) ، وقال في (القراض) : (إذا دفع إلى رجلٍ ألف درهمٍ قراضًا، فاشترى بها سلعة، وباعها بألفين قبل الحول أو بعده.. ففيه قولان:

أحدهما: أن زكاة الألفين على رب المال. والثاني: أن على رب المال رأس المال وحصته من الربح) . وظاهر هذا: أن الربح يزكى لحول الأصل. واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرق: فـ[الأول] : قال أبو العباس: المسألة على اختلاف حالين، فالذي قال: (يزكي المائتين لحولها، والمائة لحولها) أراد: إذا كان قد اشترى سلعة بمائتين تساوي مائتين، ثم باعها قبل الحول بثلاثمائة، والذي قال في (القراض) : (أنه يزكى لحول الأصل) أراد: إذا ظهر الربح يوم الشراء بأن اشترى سلعة بألفٍ تساوي ألفين، فيكون حولهما واحدًا. قال الشيخ أبو حامد: وهذا تأويلٌ صحيحٌ؛ لأن الشافعي قال في " الأم " [2/42] : (إذا رفع إليه ألفًا قراضًا، فاشترى بها عرضًا يساوي ألفين، فباعه قبل الحول أو بعده.. ففيه قولان) . و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: المسألة على قولٍ واحدٍ: أن الربح لا يتبع الأصل في الحول، بل يزكى لحوله، والذي قال في (القراض) ، فإنما قصد به: أن يبين أن الزكاة على رب المال دون العامل، ولم يبين أنه يزكي لحولِ الأصل أو لحول نفسه. و [الطريق الثالث] : من أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وجعل فيهما قولين: أحدهما: أنه يزكي الربح لحول الأصل؛ لأنه نماء مالٍ، فزكي لحول أصله، كالسخال. والثاني: يستأنف الحول في الربح، وهو الأصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول» . ولأنها فائدة ناضة لم تتولد مما عنده، فلم يبن على حوله، كما لو استفاد من غير الربح.

فرع: تبديل السلع أثناء الحول

فإذا قلنا بهذا: فمن أين ابتداء حول الربح؟ فيه وجهان: أحدهما: من حين النض، وهو ظاهر كلام الشافعي؛ لأنه صار متحققًا. والثاني - وهو قول أبي العباس -: من حين ظهر؛ لأنه إذا ظهر، ثم نض.. تحققنا أنه كان موجودًا من حين ظهر. والذي قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أراد: إذا نض الربح حال ما ظهر. [فرع: تبديل السلع أثناء الحول] فرعٌ: [في تبديل السلع أثناء الحول] : قال ابن الحداد: لو أن رجلًا ملك عشرين دينارًا، فاشترى بها سلعة للتجارة حين ملك العشرين، فباعها بعد ستة أشهر بأربعين دينارًا، ثم اشترى بها سلعة للتجارة، فحال الحول من يوم استفاد العشرين الأولى، والسلعة تساوي مائة، فباعها بمائة.. فعليه أن يزكي عن خمسين دينارًا، ثم إذا مضت ستة أشهر.. زكى عن عشرين دينارًا من الخمسين الباقية، ثم إذا حال الحول الثاني.. زكى عن الثلاثين الباقية من الخمسين. قال القاضي أبو الطيب: وهذا فرعه على القول المشهور في الربح، إذا نض قبل الحول.. لم يضم إلى حول الأصل، بل يستأنف به الحول؛ لأن السلعة الأولى التي اشتراها بعشرين لما باعها في نصف الحول بأربعين.. فقد نض الربح، وهو عشرون قبل الحول، فاستأنف به الحول، فلما اشترى بالكل سلعة، ومضت ستة أشهرٍ أخرى، وباعها بمائة.. فقد تم حول الأصل، وهو عشرون، فقسم الربح عليهما وعلى العشرين الربح الذي نض في أثناء الحول، فيتبع العشرين التي هي أصل نصف هذا الربح الثاني، وهو ثلاثون، فزكي لحوله؛ لأنه لم ينض قبل الحول فيها. فإذا مضت ستة أشهرٍ أخرى، تم حول العشرين التي هي ربحٌ أولًا، فيلزمه زكاتها، ولا يضم الثلاثين التي هي ربحها إليها؛ لأنها نضت قبل تمام حولها، فإذا تم الحول الثاني.. تم حول هذه الثلاثين، فيزكيها، ويزكي أيضًا عن الخمسين التي زكاها في العام الأول.

فرع: باع نقدا بنقد

[فرع: باع نقدًا بنقدٍ] ٍ] : وإن كان معه دراهم، فباعها بدراهم أو دنانير، أو كان عنده دنانير، فباعها بدنانير أو دراهم، فإن فعل ذلك لغير التجارة.. انقطع الحول فيما باع، واستأنف الحول فيما تجدد ملكه عليه، وقد مضى الخلاف فيها مع مالكٍ وأبي حنيفة رحمة الله عليهما. وإن فعل ذلك للتجارة، كما يعمل الصيارف.. ففيه وجهان: أحدهما: يبني حول الثاني على حول الأول؛ لأنه إذا بنى حول العرض على حول العرض في التجارة - وإن كان العرض لا تجب الزكاة في عينه - فلأن يبنى ذلك في الدراهم والدنانير في التجارة - والزكاة تجب بعينها - أولى. والثاني: يستأنف الحول فيما تجدد ملكه عليه، وهو ظاهر كلام الشافعي؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مالٍ، حتى يحول عليه الحول» . ولأنه مالٌ تجب الزكاة في عينه، فإذا بادل به بجنسه.. استأنف الحول به، كما لو فعله لغير التجارة. [فرع: التجارة بعرض ستة أشهر] ] : ذكر ابن الصباغ: إذا كان معه مائة درهمٍ، فاشترى بها عرضًا للتجارة، فلما مضت ستة أشهرٍ.. استفاد خمسين درهمًا، فلما تم حول العرض.. كانت قيمته مائة وخمسين درهمًا.. لم تجب الزكاة فيه؛ لأن الخمسين الثانية لم يتم حولها، فهي وإن ضمت إليه في النصاب، فلا تضم في الحول؛ لأنها ليست نماء المال، فإذا تم حول الخمسين.. زكى المائتين. وإن كان معه مائة درهمٍ، فاشترى بها عرضًا للتجارة في أول المحرم، ثم استفاد مائة درهمٍ أول صفرٍ، واشترى بها عرضًا آخر، ثم استفاد مائة في أول ربيعٍ، فاشترى

مسألة: مرور الحول على عروض التجارة

بها عرضًا آخر، فإذا تم حول المائة الأولى، فإن كانت قيمة عرضها نصابًا.. زكاه، وإن كان أقل من نصابٍ.. لم تجب عليه زكاته، فإذا تم حول المائة الثانية.. قوم العرض الذي اشتراه بها، فإذا بلغت قيمته مع الأولى نصابًا.. زكاهما، وإن لم يبلغا نصابًا.. ضمهما إلى العرض الثالث عند تمام حوله، فإن كان الجميع نصابًا.. زكى الكل، وإن نقص عن نصابٍ.. لم تجب فيه زكاة. [مسألة: مرور الحول على عروض التجارة] ] : وإذا حال الحول على عرض التجارة.. وجب تقويمه لإخراج الزكاة. فإن كان قد اشتراه بجنسٍ من الأثمان.. نظرت: فإن اشتراه بنصابٍ من الدراهم أو الدنانير.. فمذهب الشافعي: أنه يقوم بالنقد الذي اشتراه به، سواءٌ كان غالب نقد البلد أو غير نقده. وقال ابن الحداد: يقوم بغالب نقد البلد. حكاه الشيخ أبو حامدٍ؛ لأن الرجل لو أتلف على غيره شيئًا، فإنه يقوم عليه بنقد البد دون ما اشترى به، والصحيح هو الأول؛ لأن العرض فرعٌ لما اشتري به، فإذا أمكن تقويمه بأصله.. كان أولى من تقويمه بغيره، ويخالف المتلف؛ لأنه لا مثل له، فيقوم بنقد البلد. وإن اشترى العرض بدراهم أو دنانير أقل من نصابٍ.. ففيه وجهان: أحدهما: يقوم بما اشتري به، لأنه أصلٌ يمكن التقويم به، فهو كما لو كان نصابًا. والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يقوم بنقد البلد؛ لأنه لا يبني حوله على حوله، فهو كما لو اشتراه بعرضٍ، والأول أصح. وإن اشترى سلعة بمائتي درهمٍ وعشرين دينارًا.. قال صاحب " الإبانة " [ق \ 147] : فإنه يقوم من السلعة ما اشترى بالدراهم بالدراهم، وما اشترى بالدنانير بالدنانير، فإن بلغت قيمة كل واحدٍ منهما نصابًا.. زكاهما.

وكيفية ذلك: أن تقوم الدراهم بالدنانير، وتقوم الدنانير بالدراهم، فإن كان قيمة الدنانير مائة درهمٍ علمنا أن ثلث السلعة مبيعٌ بالدنانير، وثلثيها مبيعٌ بالدراهم. فإن اشتراه بعرض للقنية.. فقد قلنا: إنه يجري في الحول من يوم الشراء، ومضى خلاف مالكٍ فيها. فإذا حال الحول: فإنه يقوم بغالب نقد البلد؛ لأنه لا يمكن تقويمه بما اشتري به. وإن اشتراه بحلي ذهبٍ أو فضة، أو بقطعة ذهبٍ أو فضة.. فالذي يقتضيه المذهب: أنه يقوم بنقد البلد؛ لأن لا يمكن تقويمه بما اشتري به، فأشبه العروض، فإن كان في البلد نقدٌ واحدٌ.. قوم به، وإن كان فيه نقدان أو أكثر.. قوم بالغالب منها، وإن كانت متساوية، فإن كانت قيمة العرض تبلغ بأحدهما نصابًا دون الباقي.. قوم بالذي يبلغ به نصابًا، وإن كان يبلغ بكل واحدٍ منهما نصابًا.. ففيه أربعة أوجه: أحدها - وهو قول أبي إسحاق، وهو الصحيح -: أنه يقوم بما شاء منهما؛ لأنه لا مزية لبعضها على بعضٍ. والثاني: يقوم بأحظها للمساكين، كما نقول: إذا بلغ بأحدهما نصابًا دون الآخر.. قوم به. والثالث: يقوم بالدراهم؛ لأنها أكثر استعمالًا؛ لأنها تشترى بها الأشياء المحقرات. والرابع: يقوم بغالب نقد أقرب البلاد إليه؛ لأن نقود البلد لما تساوت.. صارت كالمعدومة، فعدل إلى نقد أقرب البلاد إليه. إذا ثبت هذا: فإذا قوم العرض، فبلغت قيمته نصابًا، فإن أخرج الزكاة عنه، ثم باع العرض من بعد ذلك بزيادة على ما قوم العرض به.. فلا شيء عليه في هذه الزيادة؛ لأنها حدثت بعد إخراج الزكاة، فيستأنف بها الحول الثاني.

وإن باعها بنقصانٍ.. لم يؤثر ذلك؛ لأن هذا نقصٌ حدث في المال بعد وجوب الزكاة فيه واستقرارها. وإن قوم العرض، ولم يخرج الزكاة عنه حتى باعه، فإن باعه بما قوم به، وهو ثمن مثله، أو بنقصانٍ يتغابن الناس بمثله.. وجب إخراج الزكاة مما بيع به؛ لأن ذلك قيمته. وإن باعه بأقل من قيمته بنقصان لا يتغابن الناس بمثله، مثل: أن باع ما يساوي أربعين بخمسة وثلاثين.. أخذت الزكاة من قيمته، وهو أربعون، دون ما بيع به؛ لأن هذا نقصٌ بتفريطٍ من رب المال. وإن باعه بزيادة، مثل: أن باع ما قومَ بأربعين بخمسين أو بستين.. فعليه أن يخرج الزكاة عن الأربعين، وهل يجب عليه أن يخرج الزكاة عن الزيادة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تجب عليه؛ لأن هذه زيادة حدثت بعد وجوب الزكاة، فلم تجب فيها الزكاة، كالسخال الحادثة بعد الحول. والثاني: يجب إخراج الزكاة عنها؛ لأن هذه الزيادة حدثت في نفس المال، فينبغي أن يخرج الزكاة منها، كما لو كانت له مواش مهازيل حال عليها الحول، فقبل أن يخرج الزكاة سمنت، وحسنت، فإن الزكاة تخرج منها. وإن حال الحول على العرض، فقوم، فلم تبلغ قيمته نصابًا.. لم تجب فيه الزكاة. فإن بلغت قيمته نصابًا قبل الحول الثاني.. ففيه وجهان: [الأول] : قال الشيخ أبو إسحاق: لا زكاة فيه، حتى يحول الحول الثاني، فيقوم حينئذٍ، فإن كانت قيمته نصابًا.. زكاه؛ لأن وقت التقويم وقت حؤول الحول، والحول حال، ولا نصاب معه، فوجب أن يستأنف الحول. و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: إذا بلغت قيمته نصابًا بعد اثني عشر شهرًا.. فذلك وقت حلول حوله؛ لأن حوله حين كمل النصاب، فلا فرق: بين أن تبلغ قيمتها عند مضي اثني عشر شهرًا، أو زيادة على ذلك.

فرع: باع سلعته في الحول

[فرع: باع سلعته في الحول] ] : فإن اشترى سلعة بدراهم، ثم باعها في أثناء الحول بعشرين دينارًا، فحال الحول، والعشرون في يده.. قومت العشرون بالدراهم؛ لأنها أصل لها، فإن بلغت قيمة العشرين نصابًا من الدراهم.. ففيها الزكاة، وإن لم تبلغ قيمتها نصابًا من الدراهم، فإن قلنا بقول أبي علي بن أبي هريرة: إن الحول لا يسقط.. انتظر، فمتى تمت قيمتها نصابًا من الدراهم.. أخرج عنها الزكاة. وإن قلنا بقول أبي إسحاق: وأن الحول الأول يسقط.. فهل ينتقل وجوب الزكاة من نصاب الدراهم إلى نصاب العشرين دينارًا؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 145] : أحدهما: لا ينتقل؛ لأن هذه العشرين صارت بمنزلة العرض، بدليل: أنه يجب تقويمها بالدراهم. والثاني: ينتقل إلى نصاب العشرين؛ لأنها نصابٌ تجب الزكاة في عينها، فكان اعتبارها أولى من اعتبار قيمتها. فإذا قلنا بهذا: فمن أين يحتسب حول العشرين؟ فيه وجهان: أحدهما: من وقت التقويم؛ لأن حول الدراهم إنما يبطل عند التقويم، لنقصانه عن النصاب. والثاني: من وقت ما نضت في يده؛ لأنها في ملكه من ذلك الوقت. [فرع: ابتداء التجارة بنصاب] ] : ذكر في " الإبانة " [ق \ 146] : لو اشترى سلعة بنصابٍ من الدراهم للتجارة، ثم باع السلعة في أثناء الحول بعشرة دنانير.. لم يسقط حكم الحول، وهذه العشرة الدنانير بمنزلة عرض التجارة، فأما إذا باع السلعة في خلال الحول بأقل من نصابٍ من الدراهم، مثل: أن باعها بمائة درهمٍ.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يسقط حكم الحول، كما لو باعها بعشرة دنانير، وكما لو تناقصت قيمة السلعة في أثناء الحول، حتى بلغت مائة.

فرع: شراء شقص من عقار

والثاني: يسقط حكم الحول، فإذا اشترى بالمائة شيئًا آخر.. انعقد حولٌ جديدٌ من وقت ذلك الشراء؛ لأن زكاة التجارة تجب في الدراهم التي هي قيمة العرض، وقد نضت ناقصة عن النصاب، فصار كما لو انعقد الحول على مائتي درهمٍ، فنقصت في أثناء الحول، ويفارق العشرة؛ لأن العشرة لا تجب زكاة التجارة فيها. وأما نقصان القيمة: فلأنه يشق مراعاة الزيادة والنقصان بالقيمة في أثناء الحول، فلم يعتبر. [فرع: شراء شقصٍ من عقار] ] : قال ابن الحداد: لو أن رجلًا اشترى شقصًا من عقارٍ للتجارة بعشرين دينارًا، فحال الحول، وجاء الشفيع، والشقص يساوي مائة دينارٍ.. زكى المشتري عن مائة، وأخذه الشفيع بعشرين؛ لأن الاعتبار في الزكاة بقيمته آخر الحول، وفي الأخذ بالشفعة بالثمن الذي انعقد البيع به، فتحصل الزيادة هاهنا للشفيع. وإن اشترى الشقص بمائة دينارٍ، وحال الحول، وهو يساوي عشرين دينارًا، فجاء الشفيع.. فإن شاء أخذه بمائة دينارٍ، ويجب على المشتري أن يخرج زكاة عشرين لا غير؛ لما ذكرناه. [مسألة: تجارة الأصباغ ونحوها] ] : قال ابن الصباغ: إذا كان يبتاع النيل؛ ليصبغ به الثياب، أو العصفر، أو ما يبقى له عينٌ في المعمول به، مثل: الشحم للجلود وما أشبه ذلك.. فإنه تجب عليه زكاة التجارة؛ لأنه يستحق عوضها بالصبغ، ويجري مجرى العين في بيعها، ولهذا

مسألة: إخراج الزكاة من نقد العرض

جعل أصحابنا المفلس إذا اشترى ثوبًا ونيلًا، ثم صبغه به.. رجعا جميعًا فيه. وإن كان مما لا يكون له عينٌ في المعمول به، كالصابون والأشنان للغسل.. فإن هذا لا تتعلق به الزكاة؛ لأنه لا يقابله بشيء من أجرة العمل. [مسألة: إخراج الزكاة من نقد العرض] ] : إذا قوم العرض.. فما الذي يخرج في الزكاة؟ قال الشافعي في " المختصر " [1/241] و " الأم " [2/40] : (يخرج الزكاة من الذي قوم به) ، يعني: من الدراهم والدنانير. وقال في القديم: فيه قولان: (أحدهما: يخرج ربع العشر من قيمته. والثاني: يقوم، ويجعل ربع العشر في عرضٍ ينتفع به المساكين، ويخرج العرض) . وقال في موضع آخر: (ولا يجوز أن يخرج من مال التجارة إلا الدراهم، أو الدنانير، أو عرضًا بعينه) . واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرقٍ: فـ[الأول] : قال أبو العباس: فيها ثلاثة أقوالٍ: أحدها: يتحتم عليه أن يخرج من قيمته. والثاني: يتحتم عليه أن يخرج عرضًا بقيمة قدر الزكاة. والثالث: أنه بالخيار، وأيهما أخرج.. أجزأه. و [الطريق الثاني] : قال أبو إسحاق: فيه قولان: أحدهما: يتحتم عليه إخراج الزكاة من القيمة. والثاني: أنه بالخيار بين إخراج القيمة أو العرض. و [الطريق الثالث] : قال أبو علي بن أبي هريرة: فيه قولان:

فرع: يخرج القيمة أو العرض

أحدهما: يتحتم عليه إخراج الزكاة من القيمة. والثاني: يتحتم عليه أن يخرج عرضًا بقيمة قدر الزكاة. وحكى الصيمري طريقة رابعة ليست بمشهورة: أن القول القديم: يجب إخراج العين إذا كانت برًا أو شعيرًا، أو ما ينتفع به المساكين، فأما العقار والرقيق: فلا. وأما قوله الجديد: فيخرج القيمة بكل حالٍ. فإذا قلنا: يتحتم عليه إخراج القيمة، قال المحاملي: وهو الصحيح.. فوجهه: أنها مالٌ وجبت فيه الزكاة، فتحتم الإخراج منها، كالدراهم والدنانير. وإذا قلنا: يتحتم عليه إخراج العرض.. فوجهه: حديث سمرة بن جندبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع» . والعرض من الذي يعد للبيع، فوجب أن نخرج الصدقة منه. وإذا قلنا: إنه مخيرٌ.. فوجهه: أن الزكاة تتعلق بهما، فخير بينهما. إذا ثبت هذا: فذكر ابن الصباغ: أن الذي يذهب إليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد: (أن زكاة التجارة تجب بالقيمة) . وبه قال مالكٌ، وأحمد، وقال أبو حنيفة: (تجب في العين) . قال: وهكذا يحكى عن قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم الذي يوجب فيه إخراج العين. دليلنا للأول: أن النصاب معتبرٌ بالقيمة، فتعلق الوجوب فيها. [فرع: يخرج القيمة أو العرض] إذا كان معه مائة درهمٍ، فاشترى بها مائتي قفيزٍ حنطة للتجارة، فحال الحول، وهي تساوي مائتي درهمٍ.. وجبت عليه الزكاة، فإن قلنا: يجب إخراج القيمة..

أخرج خمسة دراهم. وإن قلنا: يجب إخراج العرض.. أخرج خمسة أقفزة. وإن قلنا: إنه مخيرٌ بينهما.. خير بينهما. فإن أخرج أربعة أقفزة قيمتها خمسة دراهم، فإن قلنا: يجب إخراج القيمة.. لم تجزه الأربعة الأقفزة؛ لأنها من غير جنس ما وجب عليه، فيجب عليه إخراج خمسة دراهم، ولا يرجع بالأقفزة؛ لأن الظاهر أنه تطوع بها. وإن قلنا: يجب عليه إخراج العرض.. لزمه إخراج قفيزٍ خامسٍ، ولا شيء له لزيادة قيمة الأربعة؛ لأنه متطوعٌ بذلك. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما. فإن تأخر إخراج الزكاة، فنقصت قيمة الطعام.. نظرت: فإن كان النقصان لسعر السوق بأن رخص الطعام، فصارت قيمته مائة درهمٍ، فإن كان قبل إمكان الأداء.. بنى على إمكان الأداء. فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. فلا زكاة عليه. وإن قلنا: إنه من شرائط الضمان.. لزمه إخراج زكاة ما بقي. وإن قلنا: يلزمه إخراج القيمة.. أخرج درهمين ونصفًا. وإن قلنا: يلزمه إخراج العرض.. أخرج خمسة أقفزة، قيمتها درهمان ونصفٌ. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما. وإن كان النقصان بعد إمكان الأداء: فإن قلنا: يجب عليه إخراج القيمة.. لزمه خمسة دراهم؛ لأنه ضامنٌ للنقصان. وإن قلنا: يجب عليه إخراج العوض.. أخرج خمسة أقفزة منها، ولا يلزمه ضمان نقصان القيمة؛ لأن نقصان السوق لا يلزمه مع بقاء العين. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما. وإن كان نقصان قيمة الطعام، لتغير صفة فيه، فإن كان قبل إمكان الأداء من غير فعله، ولا تفريطه. فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. لم يجب عليه زكاة. وإن قلنا: إنه من شرائط الضمان.. وجبت عليه الزكاة لما بقي. فإن قلنا: يلزمه إخراج

القيمة.. أخرج درهمين ونصفًا. وإن قلنا: يلزمه إخراج العرض.. لزمه أن يخرج خمسة أقفزة منها. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما. فإن كان ذلك بعد إمكان الأداء بغير فعله، أو كان قبله بفعله: فإن قلنا: يجب إخراج القيمة.. أخرج خمسة دراهم. وإن قلنا: يلزمه أخراج العرض.. لزمه أن يخرج خمسة أقفزة منها، وما نقص من قيمتها، وهو درهمان ونصفٌ. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما. وإن زادت قيمة الطعام بعد الحول، وقبل إخراج الزكاة، فبلغت قيمته أربعمائة درهمٍ، فإن كان قبل إمكان الأداء: فإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الوجوب.. وجبت عليه زكاة أربعمائة للحول الأول. فإن قلنا: يجب عليه إخراج القيمة.. أخرج عشرة دراهم. وإن قلنا: يلزمه إخراج العرض.. أخرج خمسة أقفزة قيمتها عشرة دراهم. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما. وإن قلنا: إن إمكان الأداء من شرائط الضمان، أو كانت هذه الزيادة حدثت بعد إمكان الأداء.. فلا يلزمه زكاة الزيادة للحول الأول. وإن قلنا: يلزمه إخراج القيمة.. أخرج خمسة دراهم. وإن قلنا: يلزمه إخراج العرض.. أخرج خمسة أقفزة قيمتها عشرة دراهم؛ لأن هذه الزيادة في ماله وفي مال المساكين. وحكى القاضي أبو الطيب وجهًا آخر: أنه يجب عليه خمسة أقفزة، قيمتها خمسة دراهم؛ لأن هذه الزيادة حدثت بعد وجوب الزكاة، وهي محتسبة في الحول الثاني. قال ابن الصباغ: وهذا لا وجه له؛ لأن على هذا القول المستحق خمسة أقفزة منها، أو مثلها من غيرها بصفتها. وإن قلنا: إنه مخيرٌ.. خير بينهما. فإن تلفت هذه الحنطة بعد إمكان الأداء، ثم زادت قيمتها بعد تلفها، فإن قلنا: يجب إخراج القيمة.. لزمه خمسة دراهم. وإن قلنا: يجب إخراج العرض.. لزمه خمسة أقفزة من مثلها بقيمتها الآن. وإن قلنا: إنه مخيرٌ بينهما.. خير بينهما.

فرع: الحول في مال التجارة

فإن كان عبدًا للتجارة، فأصابه عورٌ، فنقصت قيمته.. فهو كالطعام إذا تغيرت صفته. وإن كان بعينه بياضٌ، فزال، فزادت قيمته.. فهو كالطعام إذا زادت قيمته. [فرع: الحول في مال التجارة] ] : إذا حال الحول على مال التجارة، وقيمته نصابٌ، فباعه رب المال قبل إخراج الزكاة.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: الحكم فيه كحكم من باع المال الذي تجب الزكاة في عينه بعد وجوب الزكاة فيه، وقبل إخراجها. وقد مضى الكلام فيه. ومنهم من قال: يصح البيع هاهنا، قولًا واحدًا. والفرق بينهما: أن الزكاة هاهنا، لا تجب في العين، وإنما تجب في القيمة، والقيمة موجودة في العرض وفي ثمنه، وما تجب الزكاة في عينه يزول بزوال العين بالبيع، فافترقا. [مسألة: يدفع ربح المضاربة] ] : إذا دفع رجلٌ إلى رجلٍ ألف درهمٍ قراضًا، على أن الربح بينهما نصفان، واشترى العامل بها سلعة، فحال الحول وقد صار المال ألفي درهمٍ.. فمتى يملك العامل حصته من الربح؟ فيه قولان: أحدهما: لا يملكه إلا بالمقاسمة. والثاني: يملكه بالظهور.. ويأتي توجيههما.

وأما الكلام في الزكاة: فلا يخلو: إما أن يكونا مسلمين أو كافرين، أو أحدهما مسلمًا والآخر كافرًا. فإن كانا مسلمين، فإن قلنا: إن العامل لا يملك حصته من الربح إلا بالمقاسمة.. فزكاة الجميع على رب المال، فإن كانت السلعة باقية إلى حلول الحول.. فإنها تقوم، ويزكى الجميع لحول الأصل، وإن بيعت في أثناء الحول، ونض الربح.. فهل يضم الربح إلى رأس المال في حوله، أو يستأنف له الحول؟ على ما مضى من الطرق الثلاث. فإن أخرج رب المال الزكاة من غير مال القراض.. جاز، وإن أراد إخراجها من مال القراض.. جاز؛ لأنه ملكه، ومن أين يحتسب؟ فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: يحتسب من الربح. قال في " التعليق ": وهو الأصح، كمؤن المال. والثاني: يحتسب من رأس المال؛ لأن الزكاة دينٌ عليه، وقد ثبت: أن رب المال لو كان عليه دينٌ فقضاه من مال القراض.. لاحتسب من رأس المال، فكذلك هاهنا. فعلى هذا: إذا أخرج منه خمسين درهمًا.. انفسخ القراض فيها، فيبقى رأس المال تسعمائة وخمسين درهمًا. والثالث: يحتسب من كل واحدٍ منهما بحصته؛ لأن الزكاة فيهما. فعلى هذا: يبقى رأس المال تسعمائة وخمسة وسبعين درهمًا. وحكى صاحب " الإبانة " [ق \ 147] وجهًا آخر: إن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين. احتسب من الربح، كمؤن المال. وإن قلنا: تتعلق بالذمة.. احتسب من رأس المال، كما لو قضى منه دينًا عليه في ذمته. وإن قلنا: إن العامل يملك حصته من الربح قبل المقاسمة.. فإن على رب المال زكاة ألف وخمسمائة، فإن بقيت السلعة إلى آخر الحول.. زكى نصيبه من الربح لحول الأصل، وإن نض الربح قبل الحول.. فهل يضم إلى حول الأصل؟ على الطرق الثلاثة.

وإذا أخرج الزكاة من المال.. فمن أين يحتسب؟ على ما مضى من الأوجه. وأما العامل: فلا يضم حول نصيبه إلى حول الأصل؛ لأنه لا يضم مال الرجل إلى مال غيره في الحول، ومن أين ابتداء حوله؟ فيه ثلاثة أوجهٍ، حكاها الشيخ أبو حامدٍ: أحدها: من يوم ظهر الربح ولاح. قال: وهو الأصح؛ لأنه يملك حصته من الربح من حين يظهر. والثاني: ابتداء حوله من حين يقوم المال على رب المال؛ لإخراج الزكاة، لأنه لا يتحقق الربح إلا بذلك. والثالث: ابتداء حوله من حين المقاسمة؛ لأنه لا يستقر ملكه عليه إلا بذلك. فإن قلنا: إن ابتداء حوله من حين الظهور، أو من حين التقويم، فإن كان نصيبه يبلغ نصابًا، أو معه من جنسه ما يبلغ به نصابًا، وهو جارٍ في حوله.. فعليه الزكاة. وإن لم يبلغ نصيبه نصابًا، وليس معه ما يتم به نصابًا.. فهل يضم نصيبه إلى نصيب رب المال في النصاب؟ إن قلنا: إن الخلطة تصح في غير المواشي.. ضم نصيبه إلى نصيب صاحب رأس المال. وإن قلنا: لا تصح المخالطة في غير المواشي.. فلا زكاة عليه. وإن قلنا: إن ابتداء حوله من حين المقاسمة، فإن كان نصيبه يبلغ نصابًا، أو معه ما يبلغ به نصابًا.. زكاه.

وإن لم يبلغ نصابا.. فلا يتأتى هاهنا ضمه إلى نصيب رب المال؛ لأنهما لما اقتسما.. زالت الخلطة. وهل يجب على العامل إخراج زكاة حصته قبل المقاسمة؟ فإن قلنا: إن ابتداء حوله من حين المقاسمة.. لم يجب عليه؛ لأن ماله لم يجر في الحول. وإن قلنا: إن ابتداء حوله من حين ظهور الربح، أو من حين التقويم.. فقال البغداديون من أصحابنا: لا يجب عليه الإخراج؛ لأن هذا المال قد لا يحصل له، فأحسن أحواله: أن يكون كالمال الغائب الذي ترجى سلامته، ويخاف تلفه. وحكى صاحب " الإبانة " [ق \ 148] فيه ثلاث طرقٍ: أحدها: لا يجب عليه، وهو قول القفال؛ لأن ملكه غير مستقرٍّ على الربح، فهو كمال المكاتب. والثاني: أنها على قولين، كالمال المغصوب؛ لأنه لا يقدر على التصرف بهذا المال كيف شاء، فهو كالمال المغصوب. والثالث - وهو قول صاحب " التقريب " -: أن عليه إخراج الزكاة في الحال؛ لأن يده تصل إلى هذا المال، ويملك المقاسمة فيه متى شاء، فهو كدينٍ على مليءٍ مقر، بخلاف المغصوب. فإذا قلنا: لا يجب عليه الإخراج، وأراد أن يخرج الزكاة من غير مال القراض.. جاز. وإن أراد إخراجها من عين مال القراض.. فهل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، ولرب المال منعه من ذلك؛ لأن الربح وقاية لرأس المال. والثاني: يجوز، وهو المنصوص؛ لأن الزكاة وجبت فيه. وإن كانا كافرين.. فلا زكاة عليهما. وإن كان أحدهما مسلمًا، والآخر كافرًا.. نظرت:

فإن كان رب المال مسلمًا، والعامل كافرًا، فإن قلنا: إن زكاة الجميع على رب المال.. وجب عليه إخراج زكاة الجميع على ما مضى. وإن قلنا: إنه لا تجب عليه زكاة نصيب العامل.. فعلى رب المال إخراج زكاة رأس المال، وحصته من الربح، على ما مضى، ولا تجب زكاة نصيب العامل على أحدهما. وإن كان رب المال كافرًا، والعامل مسلمًا، فإن قلنا: إن العامل لا يملك حصته من الربح إلا بالمقاسمة.. لم يجب عليه في هذا المال زكاة قبل المقاسمة. وإن قلنا: يملك العامل حصته بالظهور.. فلا زكاة على المالك في رأس المال وحصته من الربح، وتجب على العامل زكاة حصته. وفي وقت ابتداء حوله وجهان: أحدهما: من يوم الظهور. والثاني: من وقت المقاسمة، ويسقط الوجه الثالث؛ لأن المال لا يقوم هاهنا على رب المال لإخراج الزكاة. فإن أراد العامل أن يخرج زكاة نصيبه من الربح - من المال - قبل المقاسمة.. قال الشيخ أبو حامدٍ: لم يجز، وجهًا واحدًا؛ لأن رب المال يقول: أنا كافرٌ، وأنت تعرف ديني، ودخلت على أن لا تؤخذ الزكاة من مال. والله أعلم، وبالله التوفيق

باب زكاة المعدن والركاز

[باب زكاة المعدن والركاز] سمي المعدن معدنًا؛ لأنه مقام الجواهر، يقال: عدن بالمكان: إذا أقام به، ولهذا سميت {جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72] [التوبة: 72] ؛ لأنها دار الإقامة. والأصل في وجوب الزكاة فيه: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] [البقرة: 267] . والمعدن: مما أخرج من الأرض. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية جلسيها وغوريها» . وأخذ منه الزكاة. سميت: (قبلية) ، نسبة إلى ناحية من نواحي ساحل البحر بينها وبين المدينة مسيرة خمسة أيامٍ. وقوله: (جلسيها) : يعني: نجدتها، ونجدٌ يقال له: جلسٌ. وقوله: (وغوريها) نسبة إلى الغور.

مسألة: زكاة المعدن

وهو إجماعٌ لا خلاف في وجوب الزكاة في المعدن. [مسألة: زكاة المعدن] ] : فإن استخرج الحر المسلم نصابًا من الذهب أو الفضة من معدنٍ في مواتٍ أو في أرض يملكها.. وجبت عليه الزكاة؛ لما ذكرناه، وإن استخرج ذلك مكاتبٌ أو ذمي.. لم يجب عليه شيءٌ. وقال أبو حنيفة: (يجب على المكاتب) . دليلنا: أن ذلك زكاة، فلا تؤخذ من المكاتب والذمي، كزكاة السائمة. وإن وجده في أرضٍ مملوكة لغيره.. فهو ملكٌ لصاحب الأرض تجب عليه زكاته إذا قبضه. وإن اشترى أرضًا، فظهر فيها معدنٌ.. كان مملوكًا له، فإن شاء.. عمله، وإن شاء.. تركه، ولا يتعرض له في ذلك أحدٌ. وإن وجد في المعدن غير الذهب والفضة، كالحديد والرصاص وغيرهما.. لم تجب فيه الزكاة، وبه قال مالكٌ رحمة الله عليه. وقال أبو حنيفة: (تجب في الذهب والفضة، وفي كل ما ينطبع إذا طبع، مثل: الحديد، والرصاص، والصفر، ولا تجب فيما لا ينطبع، مثل: الفيروزج، والزجاج) . وقال أحمد رحمة الله عليه: (تجب في كل ما يُستخرج من الأرض) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في حجرٍ» .

فرع: وجد دون النصاب

ولأنه مقومٌ مستفادٌ من المعدن، فلم يتعلق به حق المعدن، كالفيروزج، والطين الأحمر مع أحمد؛ فإنه وافق في أنه لا شيء فيه. [فرع: وجد دون النصاب] ] : فإن وجد دون النصاب من الذهب أو الفضة.. فلا شيء عليه. وبه قال مالكٌ، وأحمدُ وإسحاق، وهذه طريقة البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 149] : إن قلنا: الواجب فيه ربع العشر.. اعتبر فيه النصاب. وإن قلنا: يجب فيه الخمس.. ففيه قولان: أحدهما: يعتبر النصاب فيه. والثاني: لا يعتبر. وقال أبو حنيفة: (لا يعتبر النصاب فيما يؤخذ من المعدن) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة، وليس فيما دون عشرين دينارًا من الذهب صدقة» . ولم يفرق بين أن يكون من المعدن أو غيره. [فرع: كيفية وجود المعدن] ] : ولا يخلو ما يوجد من المعدن: إما أن يكون مجتمعًا، أو متفرقًا، فإن كان مجتمعًا بأن وجد بدرة واحدة لا غير.. اعتبرت بنفسها، فإن كانت نصابًا.. أخرج

عنها الزكاة، وإن نقصت عن النصاب.. لم يجب فيه شيءٌ، وإن كان متفرقًا.. ففيه ثلاث مسائل: إحداهن: أن يتصل العمل والنيل، فيضم النيل بعضه إلى بعضٍ في إكمال النصاب، واتصال العمل: هو أن يعمل في الوقت الذي جرت العادة بالعمل فيه، واتصال النيل: هو أن لا يحقد المعدن، وحقد المعدن: هو أن لا ينيل شيئًا، تقول العرب: حقد المعدن: إذا لم ينل، وحقدت السماء: إذا انقطع مطرها، وسمي الحقد: حقدًا؛ لأن من حقد على غيره منعه بره. المسألة الثانية: أن ينقطع العمل، ولا ينقطع النيل، ومعنى لم ينقطع النيل، أي: لو عمل، لناله، فإن كان انقطاع العمل لعذرٍ، مثل: إصلاح الآلة، أو هرب العبيد، أو مرضهم.. فإنه إذا عمل بعد زوال العذر.. ضم ما وجده بالعمل الثاني إلى ما وجده بالعمل الأول. وإن كان انقطع العمل لغير عذرٍ، بأن قطع العمل باختياره يومًا أو يومين.. لم يضم ما وجد بالعمل الثاني إلى ما وجده بالعمل الأول، بل يعتبر كل واحدٍ بنفسه؛ لأنه قطعه باختياره.

مسألة: وجد رجلان معدنا

المسألة الثالثة: أن يتصل العمل، وينقطع النيل اليومين والثالث، ثم يعود النيل، ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا يضم ما وجده بعد انقطاع النيل إلى ما وجده قبله) ؛ لأن النيل هو الأصل، فإذا لم يضم ما وجده بعد قطع العمل بغير عذرٍ إلى ما وجده قبله، فلأن لا يضم ما وجده بعد قطع النيل أولى. و [الثاني] : قال في الجديد: (يضم) : وهو الصحيح؛ لأن انقطاع النيل لا صنع له فيه، بخلاف قطع العمل، ولأن العادة أن المعدن لا ينيل على الدوام، وإنما ينيل شيئًا بعد شيءٍ، فلو قلنا: لا يضم.. لأدى ذلك إلى إسقاط الزكاة في المعدن. [مسألة: وجد رجلان معدنًا] ] : إذا وجد رجلان شيئًا من المعدن، فإن وجدا نصابين.. وجبت عليهما الزكاة، وإن وجدا أقل من نصابين، فإن قلنا: تثبت الخلطة في غير المواشي.. زكيا زكاة الخلطة، وإن قلنا: لا تثبت الخلطة في غير الماشية.. فلا زكاة عليهما؛ لأن كل واحدٍ منهما لم يجد نصابًا. [مسألة: زكاة المعدن] ] : الحق الواجب في المعدن زكاة عندنا، وبه قال مالكٌ، وأحمدُ. وقال أبو حنيفة: (ليس بزكاة، ويصرف مصرف الفيء) . وبه قال المزني، وأبو حفص بن الوكيل من أصحابنا. دليلنا: أنه مستفاد من الأرض، فأشبه الزرع. إذا ثبت هذا: فاختلف قول الشافعي في القدر الواجب في المعدن [على ثلاثة أقوالٍ] : [الأول] : قال في " الأم " [2/34] و " الإملاء ": (يجب فيه ربع العشر) . وبه قال أحمد، وإسحاق.

قال الشيخ أبو حامد: وبه يفتى، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الرقة ربع العشر» . والقول الثاني: (يجب فيه الخمس) . وبه قال أبو حنيفة؛ لما رُوي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الركاز الخمس، فقيل له: وما الركاز؟ فقال: " الذهب والفضة اللذان خلقهما الله تعالى في الأرض يوم خلقها» . والقول الثالث: إن وجد بدرة واحدة.. وجب فيها الخمس، وإن وجده بتعبٍ ومؤنة.. وجب فيه ربع العشر؛ لأنه حقٌ يتعلق بالمستفاد من الأرض، فاختلف بخفة المؤنة وثقلها، كالعشر، وهل يعتبر فيه الحول؟ فيه قولان. أحدهما: يعتبر فيه الحول، فإذا تم الحول من حين وجده.. أخرج الزكاة عنه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول» . والثاني - وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم، وهو الصحيح -: (أنه لا يعتبر فيه الحول، بل إذا وجد نصابًا.. أخرج عنه الزكاة في الحال) ؛ لأنه مالٌ مستفادٌ من الأرض، فلم يعتبر فيه الحول، كالحبوب، لأن الحول يراد لتكامل النماء، وهذا قد تكامل نماؤه. وأما الخبر: فمحمولٌ على غير المعدن؛ لأنه لا يتكامل نماؤه إلا بالحول، بخلاف المعدن. هذا نقل الشيخ أبي حامد، وأصحابنا البغداديين، وقال المسعودي

فرع: كمل المعدن نصابا

[في " الإبانة " ق \ 150] : إن قلنا: إن الواجب في المعدن الخمس.. لم يعتبر فيه الحول كالركاز، وإن قلنا: الواجب فيه ربع العشر.. فهل يعتبر الحول؟ فيه قولان. [فرع: كمل المعدن نصابًا] ] : قال ابن الحداد: إذا وجد دينارًا من المعدن، وفي يده مما سوى المعدن تسعة عشر دينارًا.. فإنه يلزمه أن يخرج في الحال ربع عشر الدينار المخرج من المعدن. قال القاضي أبو الطيب: وهذا إذا قلنا: لا يعتبر الحول في المعدن، إلا أن الشافعي نص على هذه المسألة في (الركاز) ، ونقلها ابن الحداد إلى المعدن، ولا فرق بينهما؛ لأنه يعتبر فيهما النصاب ولا يعتبر فيهما الحول، وذلك: أنه إذا وجد من المعدن أقل من نصاب، وعنده نصابٌ من جنسه يجري في الحول.. فإنه يزكي ما وجده من المعدن في الحال، وإذا تم حول النصاب.. زكاه، ويكونان كـ: مالين في يده، تم حول أحدهما دون الآخر. فإن كان الذي عنده أقل من النصاب، وتم النصاب بالذي وجده من المعدن.. فإنه يزكي المأخوذ من المعدن، ويستأنف الحول على الذي بيده من حين تم النصاب، فإذا تم الحول.. زكاه. قال القاضي أبو الطيب: وهذا كرجلٍ معه عشرون دينارًا أحد عشر شهرًا، ثم بادل بتسعة عشر دينارًا منها تسعة عشر دينارًا، وبقي في ملكه دينارٌ، فإذا إذا مضى شهرٌ.. أخرج زكاة الدينار؛ لأن النصاب والحول قد وجدا فيه، ويستأنف الحول للتسعة عشر، ولا ينقطع الحول في الدينار؛ لأنه لم يخل عن نصابٍ في جميع الحول، كما قال الشافعي - فيمن معه أربعون شاة ستة أشهرٍ، ثم باع نصفها مشاعًا من رجلٍ -: (إنَّ

فرع: وقت وجوب زكاة المعدن

الحول لا يبطل في النصف الذي في يده) ؛ لأنه لم يخل من النصاب. قال: وقد غلط بعض أصحابنا فيها، فقال: إذا كان معه تسعة عشر دينارًا، فوجد دينارًا مع آخر الحول أو بعده.. وجب حق المعدن في الدينار، ووجب في التسعة عشر ربع العشر؛ لأن الذي في يده قد حال عليه الحول، والذي وجده في حكم ما حال عليه الحول، فكأنه كان موجودًا في جميع الحول. قال هذا القائل: فأما إذا وجد الدينارَ بعد مضي بعض الحول.. لم يجب عليه شيءٌ في التسعة عشر. قال القاضي: وهذا خطأٌ؛ لأن الحول لا ينعقد على الذهب والفضة، مع نقصانه عن النصاب. وأما قوله: إذا وجده بعد مضي بعض الحول على التسعة عشر فلا شيء منها.. فخلاف نص الشافعي في (الركاز) ، فإنه قال: (لو أخرج زكاة ماله في المحرم، ثم وجد الركاز في صفرٍ، وله مالٌ تجب فيه الزكاة.. كان في الركاز الخمس وإن كان الركاز دينارًا) . [فرع: وقت وجوب زكاة المعدن] ] : ووقت وجوب الزكاة في المأخوذ من المعدن: عند حصوله في يده، وأما وقت إخراجها: فبعد تمييزه وإخلاصه، ومؤنة التمييز والإخلاص في خاص مال رب المال، وقال أبو حنيفة: (المؤنة من المعدن جميعه) . دليلنا: أنها مؤنة للتخليص والتصفية، فكانت على رب المال، كمؤنة تصفية الطعام. إذا ثبت هذا: فإذا دفع رب المال زكاة المعدن إلى الساعي قبل تخليصه.. وجب رده على رب المال؛ لأن تخليصه عليه. فإن كان باقيًا.. وجب رده. فإن اختلفا في المردود، فقال رب المال: ليس هذا الذي دفعته إليك، وقال الساعي: بل هو الذي دفعته إلي، أو اختلفا في قدره.. فالقول قول الساعي مع يمينه؛ لأنه أمينٌ، فإن ميزه

فرع: لا يباع المعدن قبل تخليصه

الساعي.. فإن القدر الذي يحصل منه يجزئ في الزكاة، فإن كان أقل مما يجب عليه.. لزم رب المال دفع التمام، ولا شيء للساعي بعمله؛ لأنه متطوع به. وإن كان المأخوذ تالفًا.. وجب على الساعي قيمته، كما إذا قبض شيئًا بالسوم، فتلف في يده.. وجبت عليه قيمته، فإن كان المدفوع تراب ذهبٍ.. قومه بفضة، وإن كان تراب فضة.. قومه بذهبٍ؛ لئلا يؤدي إلى الربا، فإن اختلفا في قدر القيمة.. فالقول قول الساعي مع يمينه؛ لأنه غارمٌ، ولأنه أمينٌ. [فرع: لا يباع المعدن قبل تخليصه] ] : ولا يجوز بيع تراب المعادن قبل التخليص بذهبٍ ولا فضة ولا بغيرها، وقال مالكٌ: (يجوزُ) . دليلنا: أن المقصود مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يجز بيعه، كتراب الصاغة الذي فيه برادة الذهب والفضة، وقد وافقنا مالكٌ على ذلك. قال أبو إسحاق: وأما إذا باع ترابًا بعد أن ميز، وأُخذ منه الذهب والفضة، ثم وجد فيه فتاتٌ يسيرٌ.. جاز ذلك؛ لأن المقصود منه نفس التراب دون ما فيه، فجاز بيعه. [مسألة: الركاز] وأما الركاز: فهو المال المدفون في الأرض من زمن الجاهلية، واشتقاقه من قولهم: ركز يركز، يقال: ركز الرمح: إذا غرزه في الأرض، والواجب فيه الخمس، سواءٌ أظهره أو كتمه. وقال أبو حنيفة: (هو بالخيار: بين أن يكتمه ولا شيء عليه، وبين أن يظهره ويخرج منه الخمس) .

فرع: وجوب حق الركاز

دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الركاز الخمس» ، وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن رجل وجد كنزًا في خربة؟ فقال: " إن وجدته في قرية مسكونة، أو في طريقٍ ميتاءٍ.. فعرفه حولًا كاملًا، وإن وجدته في خربة جاهلية، أو في قرية غير مسكونة.. ففيه وفي الركاز الخمس» . [فرع: وجوب حق الركاز] ] : ولا يجب حق الركاز إلا على من يجب عليه حق الزكاة، فإن وجده مكاتبٌ أو ذميٌّ.. لم يجب عليه شيءٌ، وحكى ابن المنذر عن مالكٍ، والثوري، وأهل الرأي، وأصحاب العراق، والأوزاعي، ورواه أبو ثورٍ، عن الشافعي: (أنه يجب على الذمي الخمس فيما يجده من الركاز) . وهذا ليس بصحيحٍ؛ لأنه زكاة، فلم تجب على الذمي، كسائر الزكوات. وإن وجدت المرأة أو الصبي ركازًا.. كان لهما. وقال الثوري: لا يكون لهما. دليلنا: أنهما يملكان بجميع أسباب التمليك، فملكا الركاز بالوجود، كالرجل البالغ.

فرع: أحوال وجود الركاز

[فرع: أحوال وجود الركاز] ] إذا وجد ركازًا.. فلا يخلو: إما أن يجده في موضعٍ لم يملك قط، أو في موضعٍ قد ملك: فإن وجده في موضع لم يملك، وهو الموات الذي لم يحيه أحدٌ قط.. فهو ركازٌ، ولا فرق في ذلك بين موات دار الإسلام أو موات دار أهل العهد، أو موات دار أهل الحرب. وقال أبو حنيفة: (إن وجده في موات دار الإسلام، أو موات دار أهل العهد.. فهو ركازٌ يجب فيه الخمس، وإن وجده في موات دار أهل الحرب.. ملكه غنيمة له، ولا يخمس) . وقال مالكٌ: (يكون بين الجيش) . وقال الأوزاعي: (يؤخذ خمسه، والباقي بين الجيش) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الركاز الخمس» . ولم يفرق بين موات دار الإسلام وغيرها. وإن وجده في موضع قد ملك.. نظرت: فإن لم يعرف مالكه، مثل: مواضع عادٍ وقومه.. فالحكم فيه كالحكم فيما وجد في مواتٍ؛ لأن ما لا يعرف مالكه بمنزلة ما لم يملك. وإن وجده في أرض عرف مالكها، فإن كانت في دار الإسلام، أو في دار أهل العهد.. لم يكن ركازًا، ولا يملكه، بل يحفظه إلى أن يجد صاحبه، فإن جاء.. أعطاه، وإلا كان لبيت المال؛ لأنه مالٌ محرزٌ في ملكه، والظاهر: أن صاحبه أحرزه. وإن كان في دار الحرب.. فإنه يكون غنيمة، وبه قال أبو حنيفة. وقال أبو ثورٍ، وأبو يوسف: (ينفرد به الواجد) .

فرع: بناء المشرك على كنز

دليلنا: أنا حكمنا بأن الموضع ملكٌ للمشركين، فالظاهر: أن ما كان فيه، فهو لهم. وإن وجد الرجل في داره أو أرضه ركازًا، فإن قال: هو لي كنت دفنته.. قبل قوله من غير يمينٍ؛ لأن الظاهر أنه له، وإن قال: ليس لي.. قال الشافعي: (فالظاهر أنه ملكٌ لمن أخذ منه تلك الدار) . فإن ورثها من أبيه.. قسم المال بين جميع ورثة الأب، إن ادعوا ذلك، وإن ادعاه بعضهم دون بعضٍ.. دفع إلى من ادعاه نصيبه، ووقف نصيب من لم يدعه. وإن قالوا: ليس بملكٍ لأبينا.. فالظاهر: أنه لمن انتقل منه الدار إلى الأب. فإن لم يدعه أحدٌ ممن ملك هذه الدار.. قال ابن الصباغ: كان ذلك لقطة. وإن اكترى من رجلٍ دارًا، فوجد فيها ركازًا، فادعى كل واحدٍ منهما: أنه له.. قال الشافعي: (فالقول قول المكتري) . وقال المزني: القول قول المكري، وهذا خطأٌ؛ لأن يد المكتري على الدار وما فيها، فكان القول قوله فيما في يده. ولا يحكم بأنه ركازٌ إلا بأن يكون من مال جاهليٍّ، يعلم أن مثله لم يضرب في الإسلام، بأن يكون عليه اسم أحدٍ من ملوك أهل الشرك أو صورة الصلبان، لأن الظاهر أنه لمشركٍ. فأما إذا كان عليه آية من كتاب الله، أو اسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو أحدٌ من خلفاء المسلمين.. فليس بركازٍ، بل هو لقطة يجب تعريفها. [فرع: بناء المشرك على كنز] ] : ذكر في " التعليق ": أن أبا إسحاق المروزي قال: إذا بنى المشرك بناءً، وكنز فيه كنزًا، وبلغته الدعوة، فعاند، ولم يسلم، ثم باد وهلك، فوجدنا ذلك الكنز.. فإنه

فرع: وجد ركازا لا علامة تدل عليه

يكون فيئًا، ولا يكون ركازًا؛ لأن الركاز إنما هو من أموال الجاهلية العادية الذين لم يعرف هل بلغتهم الدعوة، أم لا؟ فأما إذا علم أن الدعوة بلغتهم: كان مالهم فيئًا، خمسه لأهل الخمس، وأربعة أخماسه لمن وجده، وإن لم تبلغهم الدعوة.. فهو موهبة من الله تعالى أباحه لنا، فكان ركازًا. [فرع: وجد ركازًا لا علامة تدل عليه] ] : وإن وجد في الموات ركازًا لا علامة عليه لمسلم أو لمشركٍ، كالأواني من الذهب أو الفضة.. فذكر الشيخان أبو حامدٍ، وأبو إسحاق: أن المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لقطة) ؛ لأنه يحتمل أنه لمسلم، ويحتمل أنه لمشركٍ، والظاهر أنه لقطة. ومن أصحابنا من قال: إنه ركازٌ، وذكر ابن الصباغ: أن هذا قولٌ للشافعي في " الأم " [2/37] ؛ لأن الظاهر منه إذا كان من مواتٍ: أنه ركازٌ. [فرع: وجد غير الذهب والفضة] ] : وإن وجد غير الذهب والفضة.. ففيه قولان: [الأول] : قال في الجديد: (لا تجب فيه الزكاة) . وهو الصحيح؛ لأنه مقومٌ استفيد من الأرض، فلم يجب فيه شيءٌ، كما لو استخرج من المعدن. و [الثاني] : قال في القديم: (يخمس كل ما وجد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الركاز الخمس» . ولم يفرق) . ولا يعتبر الحول فيما يؤخذ من الركاز، قولًا واحدًا، وهو قول كافة العلماء؛ لأنه مستفادٌ من الأرض، فلا يعتبر فيه الحول، كالحبوب والثمار، والفرق بينه وبين ما يؤخذ من المعدن على القول الضعيف: أن ما يؤخذ من المعدن أخذه بتعبٍ ومؤنة، فلهذا اعتبر فيه الحول، وهذا أخذه بغير تعبٍ ولا مؤنة.

مسألة: اعتبارالنصاب في الركاز

[مسألة: اعتبارالنصاب في الركاز] مسألة: [اعتبار النصاب في الركاز] : وهل يعتبر النصاب في الركاز؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا يعتبر فيه النصاب، بل تجب الزكاة في قليله وكثيره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الركاز الخمس» . ولم يفرق) ، ولأنه مال مخموس، فخمس قليله وكثيره، كالغنيمة. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجب إلا في النصاب) . قال الشافعي: (ولو كنت أنا الواجد، لخمست قليله وكثيره) . وهذا القول هو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس فيما دون مائتي درهم شيء، وليس فيما دون عشرين مثقالا من الذهب شيء» . ولم يفرق بين الركاز وغيره، ولأنه حق مصروف إلى أهل الصدقات، فاعتبر فيه النصاب، كسائر الزكوات) . وأما الخبر الأول: فهو عام، وهذا خاص، والخاص يقدم على العام. فعلى هذا: إذا وجد دون النصاب من الذهب أو الفضة، فإن لم يكن معه شيء من جنسه.. لم يجب عليه شيء. وإن كان معه شيء من جنسه.. فلا يخلو: إما أن يكون الذي عنده نصابا أو أقل من النصاب: فإن كان الذي عنده نصابا.. نظرت: فإن وجد الركاز مع حؤول الحول على النصاب.. أخرج الخمس من الركاز، وعن النصاب ربع العشر، نص الشافعي عليه؛ لأن النصاب قد حال عليه الحول، ووجبت فيه الزكاة، والركاز لا يعتبر فيه الحول، فهو كما لو كان موجودا مع النصاب من أول الحول. وإن وجد الركاز بعد حؤول الحول على النصاب الذي عنده.. لزمه أن يخرج الخمس عن الركاز، سواء كان قد زكى النصاب الذي عنده، أو لم يزكه، نص عليه الشافعي أيضا؛ لأن ما معه قد حال عليه الحول، والركاز في حكم ما حال عليه الحول.

قال ابن الصباغ: ولا خلاف بين أصحابنا في هاتين المسألتين. وإن وجد الركاز قبل حؤول الحول على النصاب الذي عنده، مثل: أن يكون عنده مائتا درهم، فأقامت عنده أحد عشر شهرًا، ثم وجد من الركاز مائة درهم.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وأبي إسحاق صاحب " المهذب " -: أنه لا يضم المائة من الركاز إلى ما عنده، بل إذا تم حول النصاب.. زكاه، وإذا تم حول المائة من حين وجدها.. أخرج عنها ربع عشرها؛ لأن النصاب الذي عنده لم يحل عليه الحول، والركاز وإن كان في حكم ما حال عليه الحول، إلا أنه كبعض نصاب حال عليه الحول، فلم تجب فيه عليه زكاة. قال الشيخ أبو حامد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذه ليست بمنصوصة للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولكنه قد نص على مثلها، فقال: (لو استفاد مائة درهم من الركاز، وليس معه مال سواها.. فلا شيء فيها؛ لأنها دون النصاب، فإن وجد بعدها مائة درهم أخرى ركازًا.. لم يجب فيها شيء) . فلم يوجب في الثانية شيئًا؛ لأن الذي معه لم يحل عليه الحول، ولا هو في حكم مال حال عليه الحول. والوجه الثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب في " شرح المولدات "، واختيار ابن الصباغ -: أن المائة تضم إلى النصاب وإن كان قبل الحول، ويخرج الخمس عن المائة، وإذا تم حول النصاب.. أخرج عنه ربع العشر. واحتجا بنص الشافعي في المسألة قبلها، وهو إذا وجد ما دون النصاب بعد حؤول الحول على النصاب.. أنه يلزمه أن يخرج الخمس عن الركاز، وإن كان الحول الثاني لم يتم على ماله، ولا حكم للحول الذي انقضى قبل وجود الركاز، ولأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد قال: (إذا كان ماله دينًا أو غائبًا، عرف الوقت الذي أصاب فيه الركاز، فإن كان ماله الغائب في يد من وكله، أو من عليه الدين مليئًا مقرًا به.. فهو كما لو كان المال في يده ويخرج زكاة الركاز) . ولم يعتبر وجوده في آخر جزء من آخر الحول أو بعده.

وأما المسألة التي احتج بها الشيخ أبو حامد: فقال القاضي: أراد الشافعي: إذا وجد المائة الثانية بعد تلف الأولى، فأما إذا وجد الثانية مع بقاء الأولى.. فإنه يخرج من الثانية خمسها؛ لأن الشافعي قال فيها: (فكان كمال يفيده في وقت، فتمر عليه سنة، ثم يفيد آخر في وقت، فتمر عليه سنة، فليس فيه الزكاة) . وأراد: إذا كان الأول قد خرج عن ملكه، وإلا فإذا كان باقيًا.. وجبت الزكاة في السنة الثانية. هذا إذا كان الذي عنده نصابًا، فإن كان الذي عنده أقل من نصاب، بأن كان عنده مائة درهم، ثم وجد مائة درهم من الركاز، فإن وجدها مع آخر الحول على المائة، أو بعد الحول.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو المنصوص، وهو قول أبي علي الطبري، والشيخ أبي حامد -: (أنه يجب في المائة التي كانت عنده ربع العشر في الحال، ويجب في المائة التي أخذها ركازًا الخمس في الحال) ؛ لأن الذي عنده قد حال عليه الحول، وما وجده في حكم ما حال عليه الحول، فهو كما لو كان في يده مائتا درهم من أول الحول إلى آخره. والوجه الثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب، واختيار ابن الصباغ -: أنه يجب في المائة المأخوذة من الركاز الخمس؛ لأنه لا يعتبر فيها الحول، وقد انضمت إلى المائة الأخرى في النصاب، ولا يجب في المائة التي كانت عنده شيء، حتى يحول عليها الحول من حين تم النصاب؛ لأن الحول لا ينعقد عليها مع نقصانها عن النصاب. والوجه الثالث: أنه لا يجب في المائتين شيء في الحال، بل يستأنف بهما الحول من حين تم النصاب، فإذا تم حولهما.. أخرج عنهما ربع العشر؛ لأن ما دون النصاب لا يجري في الحول. وإن وجد المائة قبل تمام الحول على المائة التي كانت عنده.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق -: أنه لا يجب فيهما في الحال شيء، بل يستأنف الحول عليهما من حين تم النصاب، فإذا حال الحول عليهما.. وجب فيهما ربع العشر. والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ -: أنه يجب في المائة التي

مسألة: إخراج العبد الركاز

وجدها من الركاز الخمس في الحال، ويستأنف الحول في المائة الثانية التي كانت عنده من حين تم النصاب، فإذا تم حولها، أخرج عنها ربع العشر.. ووجههما: ما ذكرناه في المسألة المتقدمة. [مسألة: إخراج العبد الركاز] ] : إذا أمر السيد عبده بإخراج ركاز، أو يعمل في معدن، فوجد مالًا، أو وجده من غير إذن السيد.. كان ملكًا للسيد، وعليه الزكاة فيه إن كان ممن تجب عليه الزكاة. وإن قال له السيد: خذه لنفسك، فإن قلنا: يملك العبد إذا ملك.. فهو للعبد، ولا زكاة على أحدهما فيه. وإن قلنا: لا يملك.. فهو للسيد، وزكاته عليه. وقال الثوري، والأوزاعي، وأبو عبيد: (إذا وجد العبد ركازًا.. أرضخ له منه) . وقال أبو حنيفة، وأبو ثور: (هو له بعد الخمس) . دليلنا: أن كسب العبد ملك للسيد، وذلك من كسبه، فكان للسيد كالصيد. والله أعلم، وبالله التوفيق

باب زكاة الفطر

[باب زكاة الفطر] زكاة الفطر مفروضة، والواجب والمفروض عندنا واحد. وقال أبو حنيفة: (هي واجبة، وليست بمفروضة) ؛ لأن الواجب عنده أقل درجة من المفروض، فالمفروض: ما ثبت بالأخبار المتواترة، كالصلوات الخمس، والواجب: ما ثبت بأخبار الآحاد، مثل: الوتر عنده، وهذا خلاف في التسمية لا غير. وقال الأصم، وابن عُلية، وقوم من أهل البصرة: لا تجب زكاة الفطر. وبه قال أبو الحسين ابن اللبان الفرضي من أصحابنا. دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض زكاة الفطر على الناس في رمضان صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على كل ذكر وأنثى، حر وعبد من المسلمين» . فلنا منه دليلان: أحدهما: قوله: (فرض) بمعنى: ألزم، وحتم، ولا يجوز أن يكون معناه

مسألة: الفطرة على المسلم

قدر؛ لأنه قال: (على الناس) ولو كان المراد التقدير.. لقال: للناس. والثاني: أنه قال: (زكاة) ، والزكاة: لا تكون إلا مفروضة لازمة.. [مسألة: الفطرة على المسلم] ] : قال الشافعي: (ولم يفرضها إلا على المسلمين) . وجملة ذلك: أن من قال من أصحابنا: إن الكفار الأصليين غير مخاطبين بالشرائع.. قال: لا تجب عليهم زكاة الفطر، واحتج بقول الشافعي هاهنا: (إلا على المسلمين) . ومن قال من أصحابنا: إن الكفار الأصليين مخاطبون بالشرائع.. قال زكاة الفطر واجبة عليهم. ونقول: معنى قوله: (إلا على المسلمين) ، أي: فرض الأداء. وإن كان الكافر مرتدًا.. فعلى ما ذكرناه من الأقوال الثلاثة في أول الزكاة. وأمَّا المكاتب: فالمنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في عامة كتبه: (أنه لا تجب زكاة فطرته في ماله ولا على سيده) . وبه قال ابن عمر، وأبو حنيفة. وروى أبو ثور، عن الشافعي: (أن زكاة فطره تجب على سيده) . وبه قال عطاء، ومالك رحمة الله عليهما، وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تجب في كسبه) . وحكاه في " المهذب " وجهًا عن بعض أصحابنا. دليلنا: أن المكاتب ناقص الملك، بدليل: أنه لا تجب عليه زكاة المال، فلم تجب عليه زكاة الفطر؛ كالذمي، والدليل على أنها لا تجب على سيده: أنه معه كالأجنبي، ولهذا يصح البيع بينهما. [فرع: وجوب الفطرة] ] : ولا تجب زكاة الفطر إلا على من فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته ليلة الفطر ويومه ما يؤدى في الفطرة، ولا يعتبر ملك النصاب بعد القوت، وبه قال عطاء، ومالك، وأحمد، وإسحاق.

مسألة: وجوب الفطرة على من تجب عليه النفقة

وقال أبو حنيفة: (لا تجب إلا على من ملك نصابا من الذهب أو الورق أو ما قيمته نصاب) دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس: صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على كل حر وعبد، ذكر وأنثى» . ولم يفرق بين أن يكون واجدا للنصاب أو غير واجد. وإن فضل معه نصف صاع.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه إخراجه، كما لو وجبت عليه رقبة، فلم يجد إلا نصفها. والثاني: يلزمه، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر.. فأتوا منه ما استطعتم» . ولأنه لو ملك نصف عبد.. للزمه نصف فطرته، فكذلك إذا ملك نصف صاع.. لزمه إخراجه. وإن كان معسرا حال الوجوب، ثم أيسر بعد ذلك.. لم يلزمه الإخراج، بل يستحب له. وقال مالك رحمة الله عليه: (يلزمه الإخراج إذا أيسر يوم الفطر) . دليلنا: أنه لم يكن موسرا وقت الوجوب، فلم يلزمه إذا أيسر بعد ذلك، كما لو أيسر بعد يوم الفطر. [مسألة: وجوب الفطرة على من تجب عليه النفقة] ] الفطرة تابعة للنفقة، فمن وجبت نفقته على شخص.. وجبت فطرته عليه، فإن كان له ابن صغير معسر، والأب موسر.. فنفقة الابن وفطرته على الأب، قال أصحابنا: وهذا إجماع.

وإن كان الابن صغيرًا موسرًا.. فنفقته وفطرته في ماله، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف. وقال محمد بن الحسن: نفقته في ماله، وفطرته على أبيه. دليلنا: أن نفقته في ماله، فكانت فطرته في ماله، كالأب. وأما إذا كان له ابن ابن، أو ابن بنت صغير معسر.. لزم الجد نفقته وفطرته. وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه) . دليلنا: أنه يطلق عليه اسم الولد.. فلزم الجد نفقته وفطرته، كولده الصغير من صلبه. وأما الآباء والأجداد والأمهات والجدات: فمن كان منهم فقيرًا زمنًا.. فإن نفقته وفطرته على ابنه، أو ابن ابنه وإن سفل، وإن كان معسرًا صحيحا.. فهل تجب نفقته وفطرته على ابنه؟ فيه طريقان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: أنها على قولين. والثاني: لا يلزمه، قولًا واحدًا، ويأتي توجيه ذلك في (النفقات) . وأما الولد الكبير: فإن كان معسرًا زمنًا.. وجبت نفقته وفطرته على الأب أيضًا، وإن كان معسرًا صحيحا.. بني على الأقوال في وجوبها على الأب الصحيح: فإن قلنا: لا تجب نفقته وفطرته، قولًا واحدًا.. فالابن البالغ الصحيح أولى أن لا تجب نفقته ولا فطرته. وإن قلنا: في الأب قولان.. ففي الولد البالغ الصحيح طريقان: أحدهما: أنها على قولين. والثاني: لا تجب، قولًا واحدًا. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه فطرة من لا ولاية له عليه، فلا تجب على الأولاد فطرة الوالدين، ولا تجب على الأب فطرة الابن البالغ بحال) .

فرع: فطرة زوجة الأب

دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ممن تمونون ". ولم يفرق، وروي عن علي كرم الله وجهه: أنه قال: (من جرت عليك نفقته، فأطعم عنه نصف صاع، من بر، أو صاعًا من تمر أو شعير) . ولا يعرف له مخالف. فإن كان للوالد أو الولد عبد يحتاج إليه للخدمة.. وجبت نفقته وفطرته على من وجبت عليه نفقة مولاه وفطرته؛ لأنه تابع له. وإن كان مستغنيًا عن خدمته.. كانت نفقة مولاه وزكاة فطرهما في قيمته، فيباع منه بقدر ذلك، فإن تعذر بيع جزء منه.. بيع جميعه. [فرع: فطرة زوجة الأب] ] : إذا كان له أب يلزمه نفقته، وللأب زوجة.. فهل يلزم الابن فطرة الزوجة.. فيه وجهان، ذكرهما في " الإبانة " [ق \ 151] : أحدهما: يلزمه كما يلزمه نفقتها. والثاني: لا يلزمه، كما لا يلزم الأب. والأول أصح. وإن كان له ابن تلزمه نفقته، وللابن زوجة.. لم يلزم الأب فطرة الزوجة، كما لا يلزمه نفقتها.

فرع: تطوع النفقة لا يلزم زكاة الفطر

[فرع: تطوع النفقة لا يلزم زكاة الفطر] ] : وإن تطوع رجل على إنسان بالنفقة.. لم يلزمه زكاة فطرته. وقال أحمد رحمة الله عليه: (تلزمه زكاة فطره) . دليلنا: أن من لا تلزمه نفقته، لا تلزمه فطرته، كما لو لم يتطوع عليه، وعكسه من يلزمه نفقته. [فرع: وجوب فطرة العبد والأمة] ] : ويجب عليه فطرة عبده وأمته المسلمين. وقال داود: (لا يجب على السيد، بل يجب على العبد، وعلى السيد أن يتركه ليكتسب ما يؤدي في الفطرة) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على كل حر وعبد» . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق، إلا صدقة الفطر في الرقيق» . فدل على وجوبها على السيد. وروي عن أبي سعيد الخدري: أنه قال: «كنا نؤدي إذ فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زكاة الفطر عن كل حر وعبد، صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط، أو صاعا من زبيب» . فأخبر أنهم كانوا يؤدون عن العبيد، فدل على وجوبها على السيد.

مسألة: زكاة العبيد

وأما الجواب عن قوله: «على كل حر وعبد» : فمن قال من أصحابنا: إن زكاة العبد تجب على السيد.. قال معناه: عن كل حر وعبد، والعرب تستعمل (على) في موضع (عن) . قال الشاعر: إذا رضيت علي بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها وأراد: إذا رضيت عني. ومن قال من أصحابنا: إن الزكاة تجب على العبد، ثم يتحملها السيد.. قال: يحمل هذا على الوجوب على العبد، وأما الأداء: فعلى السيد، بدليل حديث أبي سعيد الخدري. إذا ثبت هذا: فحكم أم الولد والمدبر والمعتق نصفه.. حكم العبد القن؛ لأنه باق على ملكه. [مسألة: زكاة العبيد] ] : قال الشافعي: (ويؤدي عن عبيده الحضور والغيب وإن لم يرج وجوعهم إذا علم حياتهم) . قال الشيخ أبو حامد: إذا غاب له عبد، فأهل شوال، وهو يعلم حياته.. وجبت عليه زكاته، سواء كان آبقا أو غير آبق، وسواء كان يرجو عودته أو لا يرجو؛ لأن الزكاة تجب بسبب الملك، والملك موجود وإن لم يكن فيه منفعة، كالعبد الزمن. وإن لم يعلم حياته.. فظاهر ما قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هاهنا: (أنه لا يجب على السيد) .

وقال في موضع آخر: (يزكي عنهم وإن لم يعلم حياتهم) . فاختلف أصحابنا فيه على طريقين: فمنهم من قال: تجب عليه، قولًا واحدا، ولم يجعل لكلام الشافعي دليل خطاب. ومنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه، كما لا يجب عليه زكاة ماله الغائب الذي لا يعلم سلامته. والثاني: يجب عليه، وهو الصحيح؛ لأن الأصل فيه الحياة، ويخالف زكاة المال، لأنها لا تجب إلا في الأموال النامية، بدليل: أنها لا تجب في البغال والحمير، وهاهنا: تجب الزكاة لأجل الملك، والملك موجود. وهكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وأصحابنا البغداديون. وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أنه إذا أبق له عبد.. فهل تجب زكاة فطرته؟ على طريقين، ولم يفصل بين أن يعلم حياته أو لا يعلم، وهي طريقة المسعودي [في " الإبانة " ق \ 152] . فإذا قلنا: تجب زكاة عبده الغائب الذي لا يعلم حياته.. فهل يجب عليه إخراجها قبل أن يعود إليه؟ ذكر ابن الصباغ في " الشامل ": أن الشيخ أبا حامد حكى عن " الإملاء " قولين: أحدهما: يجب. والثاني: لا يجب حتى يعود إليه كالمال المغصوب.

فرع: زكاة المرهون والمغضوب

قال ابن الصباغ: وهذا يبعد؛ لأن إمكان الأداء شرط في ضمان زكاة المال، والمال الغائب يتعذر فيه الأداء، وزكاة الفطر تجب عما لا يؤدى منه. [فرع: زكاة المرهون والمغضوب] فرع: [تؤدى زكاة المرهون والمغضوب] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويؤدي عمن كان مرهونا أو مغصوبا) . وهذا كما قال: إذا كان له عبد مرهون.. فإنه يجب عليه زكاة فطره؛ لأن ملكه ثابت عليه. وإن كان له عبد مغصوب.. فقال البغداديون من أصحابنا: يجب على السيد زكاة فطره، قولا واحدا؛ لبقاء الملك عليه. وحكى في " الإبانة " [ق \ 152] : أن من أصحابنا من قال: في زكاته قولان، كالمال المغصوب. [فرع: فيما لوملك العبد عبدا] فرع: [فيما لو ملك العبد عبدا] : وإن ملك عبده عبدا، فإن قلنا: إنه يملك.. لم تجب زكاته على السيد، ولا على العبد، وإن قلنا: إن العبد لا يملك.. كانت زكاة فطرهما على السيد. [فرع: زكاة المملوك لاثنين أو أكثر] ] : وإن كان بين اثنين، أو بين جماعة عبد مملوك.. وجب زكاة فطرته على الموالي، على كل مولى بحصته. وقال أبو حنيفة: (لا تجب زكاة العبد المشترك على واحد) . وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجب على كل واحد صاع) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على كل حر وعبد» . ولم يفرق بين أن يكون لواحد أو لأكثر، ولأن نفقته تجب عليهم على قدر أملاكهم، فكذلك زكاة فطرته.

فرع: زكاة المبعض

[فرع: زكاة المبعض] ] : وإن كان نصفه حرا ونصفه عبدا.. وجبت زكاة فطرته عليه وعلى سيده. وقال أبو حنيفة: (لا تجب عليه، ولا على سيده) . وقال مالك رحمة الله عليه: (يجب على السيد نصف فطرته، ولا شيء على العبد) . وقال عبد الملك بن الماجشون؛ يجب على السيد جميع فطرته. دليلنا: ما ذكرناه في التي قبلها. إذا ثبت هذا: فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة.. فإن نصف كسبه له، ونصفه لسيده، وكذلك النفقة والفطرة، فإذا أهل شوال، فإن كان العبد يملك نصف صاع فاضلا عن نصف نفقته ليلة الفطر ويومه.. لزمه إخراجه، وإن لم يملك ذلك فاضلا عن نصف نفقته.. لم يجب عليه شيء، ويخرج المولى نصف صاع عنه. وإن كان بينهما مهايأة.. فإن النفقة والكسب يدخلان فيها. وأما زكاة الفطر: ففيها طريقان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 152] : [الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان. و [الثاني] : منهم من قال: لا يدخل فيها، قولا واحدا، وهي طريقة أصحابنا البغداديين؛ لأن المهايأة معاوضة كسب يوم بكسب يوم، والفطرة حق لله تعالى، فلا تصح المعاوضة عليها. فعلى هذا: إذا أهل شوال في يوم السيد.. فعلى السيد نصف صاع فاضل عن نفقة السيد، وعن جميع نفقة العبد. فإن كان العبد يملك نصف صاع.. لزمه إخراجه وإن لم يفضل عن نفقته؛ لأن نفقته في هذا اليوم على السيد، وإن كان يوم الفطر في حق العبد.. فعلى السيد نصف

فرع: فطرة العبد المقارض

صاع فاضل عن جميع نفقة نفسه ليلة الفطر ويومه لا غير؛ لأن نفقة العبد في هذا اليوم على نفسه، وعلى العبد نصف صاع فاضل عن جميع نفقته ليلة الفطر ويومه. [فرع: فطرة العبد المقارض] ] : وتجب فطرة العبد الذي في يد العامل في القراض. وقال أبو حنيفة: (لا تجب) . دليلنا: أن ملكه ثابت عليه، فهو كما لو كان بيده. وإن كان بيده عبد للتجارة.. وجبت عليه زكاة فطرته، وبه قال مالك رحمة الله عليه. وقال أبو حنيفة: (لا تجب عليه) . دليلنا: أنه شخص من أهل الفطرة، فوجبت زكاة فطرته، كما لو لم يكن للتجارة. [فرع: فطرة الزوجة على زوجها] ] : ويجب على الرجل فطرة زوجته المسلمة، وبه قال مالك رحمة الله عليه. وقال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يجب على الرجل زكاة زوجته) . دليلنا: ما روي في حديث ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ممن تمونون "، ولأن كل معنى يتحمل بالملك والنسب.. جاز أن يتحمل بالزوجية، كالنفقة، أو نقول: لأنه ملك يستحق به النفقة، فجاز أن يستحق به الفطرة، كالملك، وفيه احتراز من عقد الإجارة. وإن كانت الزوجة ممن يخدم مثلها نفسها في العادة.. لم يجب على الزوج أن يخدمها، فإن تطوع وأخدمها بخادم يملكه.. وجبت عليه زكاة فطرته؛ لأنه ملكه،

فرع: لا تجب الفطرة على غير مسلم

وإن كان لها خادم تملكه، وتراضيا على أنه يخدمها.. لم يجب على الزوج فطرته، ولا نفقته. وإن كانت ممن لا تخدم نفسها في العادة.. وجب على الزوج أن يخدمها بخادم، وهو بالخيار: بين أن يشتري خادما ويتركه في خدمتها، وبين أن يكتري لها خادما. وإن كان لها خادم مملوك لها، واتفقا على أنه يخدمها.. جاز، فإن اشترى خادما، وجعله في خدمتها.. وجب عليه فطرته؛ لأنه مملوكه، وإن اكترى لها خادما.. لم يجب عليه فطرته، وإن اتفقا على أن يخدمها مملوكها.. وجب على الزوج نفقته وفطرته. وإن نشزت الزوجة.. لم تجب عليه فطرتها، ولا فطرة خادمها؛ لأن نفقتها تسقط، فسقط ما يتبعها. [فرع: لا تجب الفطرة على غير مسلم] ] : ولا يجب عليه إلا فطرة مسلم، فإن كان لمسلم عبد كافر أو زوجة ذمية.. لم تجب عليه فطرتهما، وكذلك إذا كان له أب كافر، أو ابن كافر، بأن يسلم أحدهما، ويبقى الآخر على الكفر. وقال أبو حنيفة: (تجب عليه فطرة عبده الكافر اعتبارا بحال المؤدي) . فأما الزوجة: فلا تجب عليه فطرتها عنده، مسلمة كانت، أو كافرة. دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أنه قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو شعير على كل ذكر وأنثى، حر وعبد من المسلمين» وقد روي في الخبر: «طهرة للصائم» . والكافر لا طهرة له.

مسألة: يؤدي الفقير بما زاد عن نفقته

فأما إذا كان العبد مسلما والسيد كافرا، مثل: أن يكون للكافر عبد كافر، فأسلم العبد، فقبل أن يزال ملكه عنه أهل شوال.. فهل يجب على السيد فطرته؟ إن قلنا: إن زكاة الفطر تجب على السيد.. لم يجب عليه هاهنا؛ لأنه ليس من أهل الوجوب. وإن قلنا: إن الفطرة تجب على العبد، ثم يتحملها السيد.. وجب على السيد أداؤها هاهنا؛ لأن الوجوب كان على المسلم. [مسألة: يؤدي الفقير بما زاد عن نفقته] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن لم يكن عنده بعد القوت ليومه إلا ما يؤدي عن بعضهم.. أدى عن بعضهم) . وجملة ذلك: أنه إذا فضل عن قوته وقوتهم ليلة الفطر ويومه ما يؤدي عنهم لزمه أن يؤدي عنهم على ما مضى. وإن لم يجد إلا ما يؤدي عن بعضهم.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال بظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وأنه إذا فضل عنده صاع.. أخرجه عمن شاء منهم؛ لأن زكاة الكل واجبة عليه. قال شيخ أبو حامد في " التعليق ": وهذا ظاهر المذهب. ومنهم من قال: يخرجه عنهم جميعا. حكاه في " الإبانة " [ق \ 153] ، وهو غريب. ومن أصحابنا من قال: يجب عليه أن يخرج أولا عن نفسه، ثم هو بالخيار في حق الباقين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول» .

ومن أصحابنا من قال: يجب عليه أن يبدأ بفطرة نفسه، ثم بفطرة الزوجة؛ لأنها تجب بحكم المعاوضة، ثم بابنه الصغير؛ لأن نفقته ثبتت بنص القرآن، ثم بأبيه قبل أمه؛ لأنه لو كان الابن معسرا، لكان الأب ينفق عليه قبل أمه، ثم بأمه قبل الابن الكبير؛ لأن حالها آكد، ثم بالابن الكبير المعسر. ومن أصحابنا من قال: يقدم الابن الكبير المعسر على الأب والأم؛ لأن النص ورد بنفقة الولد. ومن أصحابنا من قال: تقدم الأم على الأب؛ «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي قال: من أبر؟ قال: " أمك "، ثم عاد، فقال: " أمك " ثلاث مرات، ثم قال: ومن؟ قال: أباك» ومن أصحابنا من قال: هما سواء، فيخرج عن أيهما شاء.

فرع: ممن تطلب الفطرة ابتداء

وقال أبو علي بن أبي هريرة: تقدم فطرة الأقارب على فطرة الزوجة؛ لأنه يقدر على إزالة سبب الزوجية بالطلاق، ولا يقدر على إزالة سبب القرابة. ومنهم من قال: تقدم فطرة الزوجة على فطرة نفسه؛ لأنها تجب بحكم المعاوضة. [فرع: ممن تطلب الفطرة ابتداء] ] : ومن وجبت فطرته على غيره.. فهل تجب على المؤدي ابتداء، أو على المؤدى عنه، ثم يتحملها المؤدي؟ فيه وجهان: أحدهما: أنها وجبت على المؤدي ابتداء؛ لأنها تجب في ماله. والثاني: أنها وجبت على المؤدى عنه؛ لأنها تجب لتطهيره، فإن أخرجها المؤدى عنه، مثل: أن تخرج الزوجة فطرتها من مالها، أو الأب أو الابن إذا كانا فقيرين وقت الوجوب، ثم اقترضا أو اكتسبا مالًا بعد الوجوب، وأخرجاه عن زكاة فطرهما، فإن أخرجوا ذلك بإذن المؤدي.. جاز، كما لو أخرج عنه زكاة ماله بإذنه، وإن كان بغير إذنه، فإن قلنا: إنها وجبت على المؤدي ابتداء.. لم يجز، كما لو أخرج عن غيره زكاة ماله بغير إذنه. وإن قلنا: إنها وجبت على المؤدى عنه ابتداء.. جاز. [فرع: موسرة وزوجها معسر] ] : وإن كانت له زوجة موسرة، وهو معسر.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أحببت لها أن تخرجها، ولا يتبين لي أن يجب عليها) ، وقال في موضع آخر بعدها: (إذا زوج السيد أمته بعبد أو مكاتب أو حر معسر.. أن على السيد فطرتها) . واختلف أصحابنا فيها:

مسألة: وقت دفع الفطرة

فمنهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وجعلهما على قولين: أحدهما: لا يجب على الحرة ولا على سيد الأمة، لأن المخاطب بها هو الزوج، فإذا أعسر، وعجز عنها.. لم يجب على غيره. والثاني: يجب عليهما؛ لأن الفطرة كانت في الأصل واجبة على الحرة، وعلى سيد الأمة، وإنما انتقلت عنهما بالزوجية، فإذا لم يكن من انتقلت إليه عنها بالزوجية من أهل التحمل.. عادت إلى من كانت عليه. ومن أصحابنا من قال: يُبنى ذلك على: أن الفطرة وجبت ابتداء على الزوج، أو على الزوجة، ثم يتحمل عنها الزوج، فإن قلنا: إنها وجبت ابتداء على الزوج.. لم يجب على الزوجة ولا على سيد الأمة. وإن قلنا: إنها وجبت على الزوجة.. لم يتحملها الزوج، ووجبت على الزوجة وعلى سيد الأمة؛ لأن الوجوب كان عليهما، والزوج يتحمل، فإذا عجز.. بقي الوجوب في محله. وهذا القول يوافق الأول في الحكم، وإنما خالفه في السبيل؛ لأن الأول يقول: هما قولان أصليان، والثاني يقول: هما مبنيان. وقال أبو إسحاق: بل المسألتان على ظاهرهما، فيجب على السيد، ولا يجب على الحرة الموسرة؛ لأن الحرة يجب عليها تسليم نفسها ليلًا ونهارًا، فانتقلت فطرتها عنها بغير اختيارها، والسيد لا يجب عليه تسليم الأمة ليلًا ونهارًا، وإنما يجب عليه بالليل لا غير، ولا يجب على الزوج نفقتها ولا فطرتها، فإذا تطوع السيد بتسليمها ليلًا ونهارًا.. لم يسقط عنه ما وجب عليه من النفقة والفطرة بذلك. [مسألة: وقت دفع الفطرة] ] : ومتى تجب زكاة الفطر؟ فيه قولان مشهوران: أحدهما - قاله في القديم -: (أنها تجب بطلوع الفجر من يوم الفطر) . وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وأبو ثور، وهي إحدى الروايتين عن مالك رحمة الله عليه؛

لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» . وأراد به: يوم الفطر، فدل على أنه وقت الوجوب. ولما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر من رمضان» . والفطر منه يكون يوم الفطر. ولأنه حق يتعلق بمال مخرج في يوم عيد، فتعلق باليوم، كالأضحية. و [الثاني] : قال في الجديد: (يجب بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان) . وبه قال الثوري، وأحمد، وإسحاق، وهو الرواية الأخرى عن مالك رحمة الله عليه؛ لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث» . فينبغي أن يجب ذلك على من أدرك جزءا من الصوم، ولما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: «فرض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر من رمضان» . والفطر منه إذا غابت الشمس من آخر يوم منه. وحكى المسعودي في [" الإبانة " ق \ 115] قولا ثالثا غريبا: أنه لا تجب إلا بغروب الشمس، وبطلوع الفجر من يوم الفطر. وقال بعض أصحاب مالك: لا تجب إلا بطلوع الشمس من يوم الفطر. وهذا ليس بشيء؛ لما ذكرناه للقولين. فإن تزوج امرأة أو رزق ولدا، أو اشترى رقيقا، فغربت الشمس ليلة الفطر، وهم عنده.. وجبت عليه زكاة فطرهم على القول الجديد.

فرع: تعجيل زكاة الفطر

وإن لم يطلع الفجر وهم عنده، فإن قلنا بقوله القديم.. لم يجب عليه زكاة فطرهم إلا إذا طلع الفجر، وهم عنده وإن لم يكونوا عنده عند غروب الشمس. وإن قلنا بالقول الثالث.. لم تجب عليه زكاة فطرهم، حتى تغرب الشمس ليلة الفطر، ويطلع الفجر من يوم الفطر وهم عنده. وإن دخل عليه الوقت، وهم عنده، فماتوا قبل أن يتمكن من أداء الزكاة عنهم.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تجب عليه زكاة فطرهم، كما لا تجب عليه زكاة المال إذا هلك المال قبل التمكن من أداء زكاته. والثاني: يجب عليه، كما لو ظاهر من امرأته، ووجبت عليه الكفارة، ثم ماتت قبل أن يتمكن من تحصيل الرقبة، فإنها لا تسقط عنه. [فرع: تعجيل زكاة الفطر] ] : ويجوز تقديم زكاة الفطر من أول شهر رمضان، ولا يجوز إخراجها قبل دخول شهر رمضان. وقال أبو حنيفة: (يجوز) . وقال أحمد: (يجوز إخراجها قبل يوم الفطر بيوم أو يومين، ولا يجوز قبل ذلك) . دليلنا: أن الزكاة تتعلق بسببين: الصوم، والإفطار في آخر الشهر، فإذا وجد أحدهما.. جاز تقديمها على الآخر، ولا يجوز قبلهما، كزكاة المال: كما لو أراد أن يخرج زكاة المال قبل أن يملك النصاب. والمستحب: أن يخرجها يوم العيد قبل الصلاة؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بزكاة الفطر أن تخرج قبل خروج الناس إلى الصلاة» .

مسألة: مات بعد إهلال شوال

فإن أخرجها بعد الصلاة يوم العيد وقبل خروج يوم الفطر.. لم يأثم، وإن أخرها عن يوم الفطر.. أثم بذلك، وإذا أخرجها بعد ذلك.. أجزأه. وحُكي عن ابن سيرين، والنخعي: أنهما كانا يرخصان في تأخيرها عن يوم الفطر. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» . وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة.. فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة.. فهي صدقة من الصدقات» . فدل على ما قلناه. [مسألة: مات بعد إهلال شوال] ] : وإذا مات رجل، وخلف عبدًا، ولا دين عليه: فإن مات بعدما أهل شوال.. فإن زكاة فطرهما قد وجبت على السيد، فإن أخرجها الورثة من غيره، أو من أموالهم.. استقر ملكهم على العبد، وإلا بيع جزء من العبد، وأخرجت منه زكاة الفطر. وإن تعذر ذلك.. بيع جميعه، وأُديت زكاة فطرهما منه، وقسم باقي الثمن بين الورثة. وإن مات بعدما أهل شوال، وعليه دين، وله مال سوى العبد.. فإن فطرة السيد، وفطرة العبد، والدين قد وجبت في ذمة السيد. فإن اتسع المال للجميع.. قضى الجميع، وإن ضاق المال.. فإن فطرة السيد، والدين على ثلاثة أقوال: أحدها: تقدم الفطرة؛ لأنها دين لله، فكان أحق بالتقديم. والثاني: يقدم الدين؛ لأنه دين للآدمي، وهو شحيح.

فرع: فطرة العبد الموصى به على من يملكه وقت الوجوب

والثالث: أنهما سواء؛ لتساويهما في الوجوب. وأما فطرة العبد والدين: ففيهما طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: هي كفطرة السيد مع الدين، على هذه الأقوال الثلاثة. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: تقدم فطرة العبد على الدين، قولًا واحدًا؛ لأنها تتعلق بالعين، والدين متعلق بالذمة. قال الشيخ أبو حامد: وهذا غلط؛ لأن فطرة العبد لا تتعلق أيضاُ بالعين، وإنما هي بالذمة. فإن مات السيد قبل أن يهل شوال، وعليه دين: فإن قلنا: إن الدين لا يمنع انتقال الملك إلى الورثة، وهو المذهب.. فإن فطرة العبد تجب على الورثة؛ لأنه ملك لهم، وكونه كالمرهون بالدين لا يمنع وجوب الفطرة، كما لو كان له عبد مرهون. وإن قلنا بقول أبي سعيد الإصطخري، وأن الدين يمنع انتقال الملك إلى الورثة. ففيه وجهان: [الأول] : قال الشيخ أبو حامد: لا تجب زكاة فطرة العبد على أحد؛ لأن الميت لا يجب عليه شيء، ولا تملكه الورثة. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: تجب زكاة فطره في تركة الميت؛ لأنه باق على ملكه. [فرع: فطرة العبد الموصى به على من يملكه وقت الوجوب] ] : إذا أوصى رجل لرجل بعبد يخرج من ثلثه، فأهل شوال، ثم مات الموصى له.. فإن زكاة العبد على الموصي؛ لأنه على ملكه وقت الوجوب، وإن مات الموصي، ثم قبل الموصى له الوصية، ثم أهل شوال.. فإن زكاة العبد على الموصى له؛ لأنه على ملكه وقت الوجوب.

وإن مات الموصي، ثم أهل شوال قبل أن يقبل الموصى له الوصية: فإن قلنا: برواية ابن عبد الحكم، عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الموصى له يملك الموصى به بنفس الموت) .. فإن فطرة العبد على الموصى له، سواء قبل أو لم يقبل؛ لأن الملك قد حصل له؛ لأنه وإن رد الوصية بعد هذا.. فإن الملك يحصل للورثة بنفس الرد. وإن قلنا: إن الملك مراعى في الموصى به.. نظرت: فإن قبل الموصى له بالعبد.. تبينا أنه ملكه بالموت، فيجب عليه زكاة العبد. وإن لم يقبل.. تبينا أن ملكه انتقل إلى الورثة بالموت، فتكون زكاة العبد عليهم. وإن قلنا: إن الموصى له لا يملك إلا بالموت والقبول.. ففيه وجهان حكاهما في " الإبانة " [ق \ 153] : أحدهما - وهو طريقة أصحابنا البغداديين -: أن زكاة العبد تجب في تركة الميت؛ لأنه مبقى على ملكه وقت الوجوب. والثاني: لا يجب على أحد؛ لأن الميت لا يمكن الإيجاب عليه. فإن مات الموصي، ثم أهل شوال، ثم مات الموصى له قبل القبول: فإن قلنا برواية ابن عبد الحكم.. فزكاة العبد في تركة الموصى له. وإن قلنا: إنه مراعى، فإن قبل ورثة الموصى له الوصية.. تبينا أن الملك وقع لمورثهم بموت الموصي، فتكون فطرة العبد في تركة الموصى له، وإن ردوا.. تبينا أن الملك وقع لورثة الموصي بموته، فتكون فطرة العبد عليهم. وإن قلنا: لا يملك إلا بالقبول.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو المشهور -: أنها في تركة الموصي. والثاني: لا تجب على أحد.

فرع: الوصية لرجل بالرقبة ولآخر بالمنفعة

وإن مات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول، ثم أهل شوال: فإن قلنا برواية ابن عبد الحكم.. كانت الفطرة هاهنا على ورثة الموصى له. وإن قلنا: إن الملك مراعى.. نظرت: فإن قبل ورثة الموصى له الوصية ... كانت الفطرة عليهم؛ لأن مورثهم ملك العبد بموت الموصي، ثم مات، وجاء وقت الوجوب وهو في ملكهم. وإن لم يقبلوا، أو ردوا الوصية.. كانت الفطرة على ورثة الموصي. وإن قلنا: إن الملك يحصل بالقبول.. فعلى الوجهين الأولين: أحدهما: تجب في تركة الموصي. والثاني: لا تجب على أحد. [فرع: الوصية لرجل بالرقبة ولآخر بالمنفعة] ] : ذكر الشيخ أبو حامد: أن الشافعي قال في الأم [2/55] : (لو أوصى لرجل برقبة عبد، ولآخر بمنفعته، وقبلا الوصية، ثم أهل شوال.. فإن فطرة العبد على الموصى له بالرقبة؛ لأنها تتعلق بالرقبة، ومالك المنفعة كالمستأجر) . قال ابن الصباغ: وهكذا ينبغي أن تجب النفقة عليه. قلت: وقد حكى في " المهذب " في نفقته ثلاثة أوجه: أحدها: تجب على الموصى له بالرقبة. والثاني: أنها على الموصى له بالمنفعة. والثالث: أنها في كسبه، فينبغي أن تكون زكاة فطره كنفقته. [فرع: فطرة العبد في مدة الخيار] ] : إذا اشترى عبدًا، فأهل شوال في خيار المجلس أو الشرط: فإن قلنا: إن المشتري يملك بنفس العقد.. فإن الفطرة تجب عليه، سواء اختار البيع أو فسخه بعد ذلك.

فرع: وجوب الفطرة على أهل البادية

وإن قلنا: لا يملكه إلا بالعقد، وانقضى الخيار.. كانت الفطرة على البائع، سواء اختار البيع أو فسخه بعد ذلك. وإن قلنا: إن الملك موقوف.. كانت الفطرة موقوفة أيضًا، فإن اختار البيع.. كانت الفطرة على المشتري، وإن فسخاه.. كانت الفطرة على البائع. [فرع: وجوب الفطرة على أهل البادية] ] : زكاة الفطر واجبة على أهل البادية، وروي ذلك عن ابن الزبير. وقال عطاء، والزهري، وربيعة رحمة الله عليهم: لا يجب عليهم. دليلنا: عموم حديث ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ ولأنه مسلم موسر بها.. فوجبت عليه، كأهل القرى. [مسألة: ما يجب في صدقة الفطر] ] : الواجب في الفطرة: صاع من أي جنس كان من الطعام، وروي ذلك عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، والحسن البصري، وأبو العالية، وأبو الشعثاء جابر بن زيد رحمة الله عليهم. وقال أبو حنيفة: (الواجب من البر نصف صاع) ، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وابن الزبير، ومعاوية، وأسماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. واختلفت الرواية فيه عن علي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وقال ابن المنذر: لا يثبت ذلك عن أبي بكر، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وعن أبي حنيفة في الزبيب روايتان: إحداهما: (صاع) . والثانية: (نصف صاع) .

دليلنا: ما روي عن أبي سعيد الخدري: أنه قال: «كنا نخرج إذ فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زكاة الفطر صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط، عن كل صغير وكبير، حر أو مملوك، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية المدينة، فكلم الناس على المنبر، فكان فيما تكلم به أن قال: إني أرى مدين من تمر الشام تعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك، وأنا لا أخرج إلا ذاك» . ولأنها زكاة تتعلق بالحبوب، فاستوى فيها الحنطة والشعير، كالعشر. إذا ثبت هذا: فالصاع: أربعة أمداد، والمد: رطل وثلث بالبغدادي، فصار خمسة أرطال وثلث رطل، وبه قال مالك، وأحمد رحمة الله عليهما. وقال أبو حنيفة: (الصاع: أربعة أمداد، إلا أن المد رطلان، فتصير ثمانية أرطال) . دليلنا: أن الرشيد لما حج.. جمع بين مالك رحمة الله عليه وأبي يوسف، فقال له مالك رحمة الله عليه: كم الصاع؟ فقال: ثمانية أرطال، فأحضر مالك أهل المدينة بصيعانهم، فمنهم من قال: حدثني أبي، عن جدي: أنه قال: دفع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفطرة بهذا الصاع. ومنهم من يقول: حدثتني أمي، عن جدتي: أنها أخرجت الفطرة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا الصاع، فعايروها، فوجدوها خمسة أرطال وثلثًا، فرجع أبو يوسف إلى قول مالك رحمة الله عليه.

مسألة: ما يجزئ من الأصناف في الفطرة

قال ابن الصباغ: والأصل في الطعام الكيل، وإنما قدره العلماء بالوزن، لئلا تختلف المكاييل. ويبطل فيها النقل. [مسألة: ما يجزئ من الأصناف في الفطرة] واختلف أصحابنا في جنس المخرج في زكاة الفطر: فقال عامتهم: لا يجزئه إلا من غالب قوت بلده، وإن كان يقتات دونه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» . وغناهم إنما يحصل بقوت البلد. قال المحاملي: وهذا هو المذهب. ومن أصحابنا من قال: يجوز من كل قوت؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «كنا نخرج صاعا من طعام، أو صاعا من أقط، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من زبيب» . وأهل المدينة لم يكونوا يقتاتون ذلك كله، فدل على أنه يجوز التخيير. وقال أبو عبيد بن حرب: الواجب من غالب قوت المخرج. واختاره الشيخ أبو حامد، قال: لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وأي قوت كان الأغلب على رجل.. أدى منه) ، ولأنه لما وجب عليه أداء ما فضل من قوته.. وجب من غالب قوته. ومن قال بالأول.. قال: أراد الشافعي: إذا كان الرجل يقتات غالب قوت البلد. إذا ثبت هذا: فإن عدل عن قوت البلد، أو عن قوته، إلى قوت غيره، فإن كان الذي عدل إليه أعلى منه.. أجزأه.

فرع: فيمن قوتهم الأقط

وإن كان أدنى.. ففيه قولان: أحدهما: يجزئه، وبه قال أبو حنيفة، وأبو إسحاق المروزي؛ لأن الخبر ورد بالتخيير. والثاني: لا يجزئه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» . والغنى لا يحصل بدون قوت البلد. ومن قال بهذا.. قال: أراد بالخبر: التمر لمن قوته التمر، والبر لمن قوته البر. وقد اختلف في البر والتمر: فقال قوم: البر أفضل. وقال آخرون: بل التمر أفضل. وإن كان في بلد قوتهم أجناس مختلفة، وهي كلها غالبة.. فالأفضل أن يخرج من أفضلها، ومن أيها أخرج.. جاز. وقال أحمد رحمة الله عليه: (لا يجوز إلا من الأجناس الخمسة المنصوص عليها) . دليلنا: أنه قوت معتاد، فأجزأ، كالخمسة المنصوص عليها. [فرع: فيمن قوتهم الأقط] وإن كان في موضع قوتهم الأقط.. فهل يجزئ؟ فيه طريقان: [الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يجزئه. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأقيس؛ لأنه قوت لا تجب فيه الزكاة، فأشبه اللحم.

فرع: فاقد القوت

والثاني: يجزئه. قال: وهو الأشبه بالسنة؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. و [الطريق الثاني] : منهم من قال: يجزئه، قولا واحدا؛ لما ذكرناه. فإذا قلنا: لا يجزئه الأقط.. لم يجزئه إخراج اللبن. وإن قلنا: يجزئه إخراج الأقط.. فهل يجزئه إخراج اللبن؟ قال أصحابنا البغداديون: يجزئه إخراج اللبن مع وجود الأقط، ومع عدمه؛ لأنه أكمل منه، ويجزئه إخراج الجبن؛ لأنه مثله. وذكر المسعودي [في " الإبانة " ق \ 154] : إذا قلنا يجزئه الأقط.. فهل يجزئه اللبن؟ فيه وجهان: أحدهما: يجزئه؛ لما ذكرناه. والثاني: لا يجزئه؛ لأنه يدخر، وأما المصل: فلا يجزئه؛ لأنه لبن منزوع الزبد. [فرع: فاقد القوت] ] : وإن كان في بلد لا قوت فيه.. أخرج من قوت أقرب البلاد إليه، ولا يجوز أن يخرج من جنسين، كما لا يجوز في كفارة اليمين: أن يكسو خمسة، ويطعم خمسة. وإن كان عبد بين شريكين قوتهما مختلف.. ففيه ثلاثة أوجه: [أحدهما] : قال أبو العباس: يخرجان من أدنى القوتين؛ لأنها لا تتبعض. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: يخرج كل واحد منهما نصف صاع من قوته؛ لأنه لا يتبعض ما وجب عليه.

فرع: جواز الحب القديم لا المسوس

و [الثالث] : من أصحابنا من قال: يعتبر قوت العبد أو قوت البلد الذي هو فيه؛ لأن ذلك يجب طهرة له، فاعتبر حاله. [فرع: جواز الحب القديم لا المسوس] ] : ولا يجوز إخراج حب مسوس؛ لأن السوس قد أكل جوفه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن أخرج من طعام قديم لم يتغير طعمه، إلا أن قيمته أقل من قيمة الحديث.. أجزأه؛ لأن القدم ليس بعيب) . ولا يجوز إخراج الدقيق والسويق، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما: (يجوز) . وبه قال أبو القاسم الأنماطي من أصحابنا، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه ناقص المنفعة، فلم يجز، كالخبز. وبالله التوفيق

باب تعجيل الزكاة

[باب تعجيل الزكاة] كل مال وجبت فيه الزكاة بالنصاب والحول، إذا ملك النصاب.. جاز تعجيل الزكاة فيه قبل مضي الحول، وكذلك يجوز تعجيل كفارة اليمين بعد الحلف، وقبل الحنث، وبه قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعطاء، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وقال ربيعة، وداود: (لا يجوز التقديم فيهما) . وقال أبو حنيفة: (يجوز تقديم الزكاة قبل الحول، ولا يجوز تقديم الكفارة قبل الحنث) . وقال مالك: (يجوز تقديم الكفارة، ولا يجوز تقديم الزكاة قبل الحول) . وبه قال أبو عبيد بن حرب. دليلنا: ما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له» .

ولأنه حق مال يجب بسببين يختصان به.. فجاز تقديمه بعد وجود أحد سببيه، ككفارة اليمين عند مالك رحمة الله عليه. فقولنا: (حق مال) احتراز من حقوق الأبدان. وقولنا: (يجب بسببين) احتراز من الحقوق التي تجب بسبب واحد، وهي زكاة الركاز. وقولنا: (يختصان به) احتراز من الحرية والإسلام؛ لأنهما - وإن كانا سببين تجب الزكاة بهما - فلا يختصان بالزكاة؛ لأن ذلك معتبر في غير الزكاة. وهل يجوز تعجيل الزكاة لعامين، أو أكثر؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق يجوز، فلو ملك خمسين شاة، فأخرج منها عشرًا زكاة عشر سنين.. جاز ما لم ينقص عن النصاب؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسلف من العباس زكاة عامين» . وقال بعض أصحابنا: لا يجوز؛ لأنه دفع زكاة قبل انعقاد حولها، فلم تصح، كما لو لم يملك النصاب، ومن قال بهذا.. قال: تأويل الخبر: أنه تسلف منه زكاة

مسألة: تعجيل الزكاة

عامين في وقتين، أو تسلف منه زكاة عامين لمالين، كالماشية والأثمان. وإن ملك مائتي شاة، فعجل عنها وعما يتوالد منها أربع شياه، فتوالدت، وبلغت أربعمائة.. أجزأته زكاة الأمهات، وفي زكاة السخال وجهان: أحدهما: يجزئه؛ لأن السخال جارية في حول الأمهات. والثاني: لا يجزئه. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأشبه؛ لأنه تقديم زكاة قبل وجود النصاب. هذه طرق أصحابنا البغداديين. وقال صاحب " الإبانة " [ق \ 126] : إن قلنا: يجوز تقديم زكاة عامين.. فهاهنا أولى بالجواز. وإن قلنا ثم: لا يجوز.. فهاهنا وجهان. وإن عجل زكاة أربعين شاة، فتوالدت أربعين سخلة، ثم ماتت الأمهات، وبقيت السخال.. فهل تجزئ المخرجة عن السخال؟ فيه وجهان: أحدهما: تجزئ؛ لأنها جارية في حول الأمهات. والثاني: لا تجزئ؛ لأنه عجلها قبل ملكها، مع تعلق الزكاة بعينها، فلم تصح. [مسألة: تعجيل الزكاة] ] : وإن كان معه مائتا درهم للتجارة فعجل عنها زكاة أربعمائة، فحال الحول، وهي أربعمائة درهم.. أجزأه، وجها واحدًا؛ لأن الاعتبار بنصاب زكاة التجارة آخر الحول. وهكذا لو كان عنده أقل من نصاب للتجارة، فعجل عنه زكاة النصاب، فحال الحول، وعنده نصاب.. أجزأه؛ لما ذكرناه. وإن عجل زكاته: فإن المساكين يملكونها بالقبض إلا أنها فيحكم ملك رب

المال، فتكون عند الحول كما لو كانت في يد رب المال، سواء كانت باقية في يد المساكين أو تالفة، وذلك أنه إذا عجل شاة من أربعين شاة، فحال الحول، وفي يده تسع وثلاثون شاة.. فإنا نجعل المخرجة كما لو كانت في يده في حكمين: أحدهما: يتم بها نصاب الأربعين. والثاني: تجزئ عن الزكاة الواجبة عليه عند الحول. وهكذا: إذا كان معه مائة وعشرون شاة، فعجل منها شاة، ثم ولدت شاة سخلة مما عنده قبل الحول.. فإنا نجعل المخرجة كأنها باقية معه، فيكون معه مائة وإحدى وعشرون شاة، فيجب عليه شاتان، فتجزئ المخرجة عن شاة، ويجب عليه أن يخرج شاة ثانية. وهكذا: لو كان معه مائتا شاة، فعجل شاتين منها، ثم ولدت شاة سخلة مما عنده.. فإنه يجب عليه إخراج شاة ثالثة. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (تكون المخرجة كالتالفة، فلا تعد مع المال، بل تجزئ عند الحول عن الزكاة) . مثال ذلك: أنه إذا عجل شاة عن أربعين شاة، فإن حال الحول، وهي تسع وثلاثون.. فإنه لا يجب فيها زكاة، وإن ولدت شاة منها، فكانت أربعين عند الحول.. أجزأت المدفوعة عن الزكاة عند الحول. وكذلك: لو كان معه مائة وعشرون شاة، فعجل منها بشاة، ثم ولدت منها واحدة قبل الحول.. فإن المخرجة لا تضم إلى ما معه، ولا يجب عليه إلا شاة واحدة. وكذلك: إذا عجل عن مائتي شاة شاتين، ثم ولدت واحدة مما عنده.. لم تضم الشاتين المخرجتين إلى ما عنده في النصاب. دليلنا: أن تعجيل الزكاة إنما جاز رفقًا بالمساكين، فلو قلنا: إن المعجلة لا تضم إلى المال، لكان في ذلك ضرر على المساكين، ولأن المخرجة لو لم تكن كالباقية على ملك رب المال.. لما أجزأت عن الواجب عليه عند الحول.

مسألة: رجوع المعجل في زكاته

[مسألة: رجوع المعجل في زكاته] ] : إذا عجل الزكاة عن النصاب قبل الحول، ثم تلف جميع المال أو بعضه قبل الحول.. لم تجب عليه الزكاة؛ لأن وقت الوجوب لا نصاب معه، فإذا كان معه كذلك.. خرج المدفوع عن أن يكون زكاة، وهل يثبت له الرجوع به على المساكين؟ ينظر فيه: فإن قال عند الدفع: هذه زكاتي عجلتها.. كان له الرجوع بها، وإن قال: هذه زكاة مالي أو صدقة مالي.. لم يكن له أن يرجع؛ لأن الظاهر أنها واجبة عليه، فإن قال رب المال: حلفوا المساكين: أنهم لا يعلمون أنها زكاة معجلة.. فهل يحلفون؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحلفون؛ لأن دعوى رب المال تخالف الظاهر، فلم تسمع. والثاني: يحلفون؛ لأن المدفوع إليه لو أقر بما قاله الدافع.. وجب عليه الرد. وأصلهما: إذا رهن رهنًا، ثم أقر بالتسليم، ثم قال: لم أكن سلمت، فحلفوا المرتهن.. فهل يحلف؟ فيه وجهان. وإن كان الذي عجل هو السلطان، أو النائب من قبله، فإن تبين أنها زكاة معجلة.. رجع، وإن لم يبين.. فالمشهور من المذهب: أنه يرجع؛ لأنه لا يسترجعها لنفسه، فلم يتهم. وذكر في " الشامل " وجهًا آخر، عن الشيخ أبي حامد: أنه لا يرجع إلا بالشرط، كرب المال. [فرع: إتلاف النصاب] فرع: [في إتلاف النصاب] : وإن عجل زكاة النصاب، فأتلف رب المال النصاب، أو بعضه قبل الحول.. ففيه وجهان، حكاهما الإصطخري: أحدهما: لا يرجع؛ لأن التلف جاء بتفريطه.

فرع: إرجاع المعجل من الزكاة

والثاني: له أن يرجع؛ لأن سبب الوجوب قد زال، فلا فرق: بين أن يكون بفعله، أو غير فعله. وإن كان معه خمس من الإبل، فعجل زكاتها شاة، فهلكت الإبل قبل الحول، وعنده أربعون من الغنم، فإن أراد أن يجعل الشاة المعجلة عن الغنم.. فأومأ ابن الصباغ إلى وجهين: أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه قد عينها عن مال، فلا تقع عن غيره. والثاني: يجزئه؛ لأنها لم تصر زكاة بعد. [فرع: إرجاع المعجل من الزكاة] فرع: [في إرجاع المعجل من الزكاة] : وإذا ثبت لرب المال الرجوع فيما دفع، فإن كانت العين المدفوعة باقية بحالها.. رجع فيها، وإن كانت ناقصة.. رجع فيها، وهل يضمن المساكين ما نقص من قيمتها؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه لا يضمن) ؛ لأن النقص حدث في ملكه، فلم يضمنه. والثاني: يضمن؛ لأن من ضمن القيمة عند التلف.. ضمن النقص، كالغاصب. وإن كانت العين زائدة.. نظرت: فإن كانت زيادة لا تتميز، كالسمن والكبر.. رجع فيها رب المال مع زيادتها؛ لأنها تابعة لها. وإن كانت زيادة منفصلة، كالولد واللبن.. رجع فيها دون الزيادة؛ لأنها زيادة تميزت في ملكه. وإن كانت العين تالفة، فإن كان لها مثل.. رد مثلها، وإن كانت مما لا مثل لها.. رجع بقيمتها، ومتى تعتبر القيمة؟ فيه وجهان: أحدهما: يوم القبض، وبه قال أحمد رحمة الله عليه؛ لأن ما زاد أو نقص كان في ملكه، فلم يعتبر.

مسألة: تبيين الزكاة المعجلة

والثاني: يوم التلف؛ لأن قبضه للعين كان قبضًا جائزًا، فاعتبرت قيمتها يوم التلف، كالعارية. [مسألة: تبيين الزكاة المعجلة] ] : إذا عجل الزكاة إلى الفقير، فمات الفقير قبل الحول.. خرج عن أن يكون من أهل الزكاة، فإن لم يبين رب المال عند الدفع أنها زكاة معجلة.. لم يرجع عليه بشيء؛ لأن الظاهر أنه متطوع بها، وإن بين أنها المعجلة.. رجع. فالزكاة المعجلة تتردد عندنا بين أن تقع موقع الزكاة، وبين أن تسترد. وقال أبو حنيفة: (لا يسترجعها، وتكون نافلة) . فالزكاة المعجلة عنده تتردد بين أن تقع موقع الزكاة، وبين أن تكون نافلة. دليلنا: أن المدفوع إليه خرج عن أن يكون من أهل الزكاة، فثبت له الاسترجاع. فإذا ثبت له الرجوع.. نظرت: فإن كان المدفوع ذهبًا أو فضة.. ضمه إلى ما عنده في إكمال النصاب؛ لأنه كالباقي على ملكه، بدليل: أنه يجزئ عما وجب عليه عند الحول. وإن كان حيوانًا.. ففيه وجهان: أحدهما: يضم إلى ما عنده في إكمال النصاب؛ لما ذكرناه في الذهب والفضة. والثاني: لا يضم؛ لأن الفقير لما مات.. صار ذلك دينًا في ذمته، والحيوان إذا كان دينًا.. لا تجب فيه الزكاة؛ لأن السوم معتبر فيه، وذلك معدوم فيما في الذمة، بخلاف الذهب والفضة. [مسألة: اغتناء من عجل له الزكاة] ] : وإن عجل زكاته إلى فقير، فاستغنى الفقير المدفوع إليه قبل الحول.. نظرت: فإن استغنى بالذي دفع إليه.. جاز؛ لأنه إنما دفع إليه ليستغني به، ولأنه لو استرجعه منه؛ لعاد فقيرًا، وجاز الدفع إليه من الزكاة، فلا يفيد الاسترجاع.

مسألة: ضمان الوالي للزكاة

وإن استغنى بغير الذي دفع إليه.. لم يجزه المدفوع عن الزكاة؛ لأنه قد خرج عن أن يكون من أهل الزكاة، فإن بين رب المال أنها معجلة.. استرجع منه، وإن لم يبين.. لم يسترجع منه. وإن عجل الزكاة إلى فقير، فاستغنى في أثناء الحول من غير ما دفع إليه، ثم افتقر، فحال الحول، وهو فقير.. ففيه وجهان: أحدهما: يجزئ المدفوع عن الزكاة؛ لأن المدفوع إليه عند الدفع وعند الوجوب من أهل الزكاة، فلا يضر ما بينهما. والثاني: لا يجزئ المدفوع عن الزكاة، ويجوز له الاسترجاع إذا بين أنها معجلة؛ لأن المسكين قد طرأ عليه حال خرج فيها عن أن يكون من أهل الزكاة. قال الشيخ أبو حامد: والأول أشبه بكلام الشافعي. وإن عجل زكاته إلى موسر، فحال الحول، وهو فقير.. لم يجزه المدفوع عن الزكاة؛ لأن تعجيل الزكاة إنما جاز ليرتفق بها المساكين، ولا رفق في تعجيلها إلى موسر.. فلم يجز. [مسألة: ضمان الوالي للزكاة] ] : إذا قبض الوالي الزكاة المعجلة من رب المال، فتلفت في يده قبل تسليمها إلى المسكين.. نظرت: فإن كان أخذها بسؤال رب المال.. تلفت من ضمانه؛ لأن الإمام نائب عنه في الدفع، وعليه أن يخرج الزكاة ثانيًا، فإن كان الإمام قد فرط في حفظها.. وجب عليه ضمان ما قبض لتفريطه، وإن لم يفرط.. فلا ضمان عليه. وإن قبضها الإمام بغير سؤال من رب المال، ولا من المساكين، فتلفت في يده بتفريط أو بغير تفريط.. وجب عليه الضمان. وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه الضمان) . دليلنا: أن أهل الزكاة أهل رشد لا ولاية عليهم، فإذا قبض مالهم بغير إذنهم..

فرع: زكاة الميت تقع عن وارثه

وجب عليه الضمان، كالأب إذا قبض مال ابنه الكبير الذي لا ولاية له عليه، بغير إذنه، فتلف في يده. وإن قبضها الإمام بسؤال المساكين، فتلفت في يده.. تلفت من ضمان المساكين؛ لأن الإمام نائب عنهم، فصار كالوكيل إذا قبض مال موكله، وتلف في يده. فعلى هذا: يجزئ المدفوع عن الزكاة عند الحول، كما لو قبضها المساكين، فتلفت في أيديهم. وإن رأى الإمام بالمساكين حاجة، ورأى من المصلحة أن يتسلف لهم الزكاة، فقبضها، وتلفت في يده بغير تفريط.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو المشهور -: أن عليه الضمان، كما لو لم يكن بهم حاجة. والثاني: لا ضمان عليه؛ لأن حاجتهم بمنزلة ما لو سألوا أن يتسلف لهم. وإن قبضها الوالي بمسألة رب المال والمساكين، وتلفت في يده بغير تفريط.. ففيه وجهان: أحدهما: تتلف من ضمان المساكين، وهو الأصح؛ لأنه قبضها لهم بإذنهم. والثاني: تتلف من ضمان رب المال؛ لأنه أقوى جنبة، بدليل: أنه يملك المنع والدفع. [فرع: زكاة الميت تقع عن وارثه] ] : وإن عجل زكاة ماله، ثم مات في أثناء الحول: فإن قلنا بقوله القديم: (وأن الوارث يبني على حول المورث) .. أجزأتهم المعجلة عند حؤول الحول.

مسألة: تقديم العشور

وإن قلنا بقوله الجديد - وهو الصحيح -: (إن الوارث لا يبني على حول المورث) .. فهل تجزئهم الزكاة المعجلة؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو المنصوص -: (أنها تجزئهم) ؛ لأنهم يقومون مقامه فيما له وما عليه. والثاني: لا تجزئهم؛ لأنه تعجيل زكاة قبل ملك النصاب. فإن قلنا بهذا: فإن كان قد شرط مورثهم أنها زكاة معجلة.. رجعوا بها، وإن لم يشترط ذلك.. لم يرجعوا؛ لأن الظاهر أنها زكاة واجبة عليه، أو صدقة تطوع. وإن قلنا بقوله القديم، أو بالمنصوص على الجديد.. نظرت: فإن كانت حصة كل واحد منهم نصابا.. أجزأت المعجلة عنهم على حسب مواريثهم، سواء اقتسموا قبل الحول، أو لم يقتسموا. وإن كانت حصة كل واحد منهم دون النصاب: فإن اقتسموا المال قبل الحول.. فلا زكاة عليهم، وكان لهم استرجاعها إن بين مورثهم عند الدفع أنها معجلة. وإن لم يقتسموا المال حتى حال الحول: فإن كان المال ماشية.. أجزأتهم المعجلة عند الحول. وإن كان غير الماشية: فإن قلنا: تصح الخلطة في غير الماشية.. وجبت عليهم الزكاة عند الحول، وأجزأتهم المعجلة عند الحول. وإن قلنا: لا تصح الخلطة في غير الماشية.. لم تجب عليهم الزكاة عند الحول، والكلام في الاسترجاع على ما مضى. [مسألة: تقديم العشور] ] : وهل يصح تقديم العشر قبل الوجوب؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أنه لا يصح، وهو اختيار الشيخين: أبي حامد وأبي إسحاق؛ لأن وجوب العشر يتعلق بسبب واحد، وهو اشتداد الحب وبدو الصلاح في الثمرة، فإذا أخرج الزكاة قبل ذلك.. فقد أخرجها قبل وجود سببها.

والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه يصح، واختاره ابن الصباغ؛ لأن زكاته تتعلق بسببين: وجود الزرع، وإدراكه، والإدراك بمنزلة حؤول الحول، فجاز تقديمها عليه، ولأن تعلق الوجوب بالإدراك لا يمنع تقديم الزكاة عليه. ألا ترى أن زكاة الفطر يجوز تقديمها على هلال شوال وإن كان الوجوب متعلقا به. إذا ثبت هذا: فقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: يجوز تقديم العشر عنده إذا صار الزرع قصيلا ظهر فيه السنبل أو لم يظهر، وإذا صار التمر بلحا إذا علم أنه يجيء منه النصاب. وبالله التوفيق

باب قسم الصدقات

[باب قسم الصدقات] والأموال على ضربين: ظاهرة، وباطنة: فأما الباطنة: فهي الدراهم والدنانير، والركاز، وعروض التجارة، فيجوز لرب المال أن يفرق زكاتها بنفسه. قال المحاملي: وهو إجماع، ويجوز أن يوكل من يخرج زكاتها، كما يجوز أن يوكل من يقضي عنه الدين، ويجوز أن يدفعها إلى الإمام؛ لأنه نائب عن أهل الصدقات. وتفرقته بنفسه أفضل من دفعها إلى وكيله؛ لأنه على ثقة من تفرقته بنفسه، وعلى شك من تفرقة الوكيل. وأما الأموال الظاهرة: فهي المواشي، والثمار، والزروع، وزكاة المعدن. وفي زكاة الفطر وجهان: أحدهما: أنها من الأموال الباطنة، فيكون حكمها ما ذكرناه. والثاني: أنها من الأموال الظاهرة، وفي زكاة الأموال الظاهرة قولان: [الأول] : قال في القديم: (يجب دفعها إلى الإمام أو النائب عنه، فإن فرقها بنفسه.. أعاد) . وبه قال مالك، وأبو حنيفة - رحمة الله عليهما - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] الآية [التوبة: 103] ، ولأنه مال للإمام ولاية المطالبة فيه، فوجب دفعه إليه، كالجزية والخراج. و [الثاني] : قال في الجديد: (يجوز لرب المال أن يفرقها بنفسه) . وهو

الصحيح؛ لأنها زكاة، فجاز لرب المال أن يفرقها بنفسه، كالأموال الباطنة. فإذا قلنا بهذا: فهل الأفضل أن يفرق زكاتها وزكاة الأموال الباطنة بنفسه، أو يدفعها إلى الإمام؟ اختلف في ذلك أصحابنا: فمنهم من قال: تفرقته بنفسه أفضل؛ لأنه على يقين من تفرقة نفسه، وعلى شك من تفرقة غيره. ومنهم من قال: دفعها إلى الإمام أفضل، عادلًا كان أو جائرًا؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سيكون بعدي أمور تنكرونها "، فقالوا: ما نصنع؟ فقال: " أدوا حقوقهم، واسألوا الله حقكم» . وروى سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، قال: أتيت سعد بن أبي وقاص، فقلت: عندي مال أريد أن أخرج زكاته، وهؤلاء القوم على ما ترى، فقال: (ادفعها إليهم) فأتيت ابن عمر، وأبا هريرة، وأبا سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فكلهم قال مثل ذلك. ولأن دفعه إلى الإمام يجزئه بلا خلاف، وتفرقته بنفسه مختلف فيه في إجزائه عنه، ولأن الإمام أعرف بحاجة المساكين.

مسألة: بعث السعاة

ومن أصحابنا من قال: إن كان الإمام عادلًا.. فالدفع إليه أفضل؛ لأنه على يقين من أدائه إليه، وإن كان جائرًا.. فتفرقته بنفسه أفضل؛ لأنه ليس على يقين من أدائه. [مسألة: بعث السعاة] مسألة: [في بعث السعاة] : وعلى الإمام أن يبعث السعاة لقبض صدقة الثمار والزروع في الوقت الذي يوافي جداد الثمرة، وحصاد الزرع، ويبعث معهم من يخرص الثمار؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء الراشدين بعده كانوا يبعثون السعاة لقبض الصدقات. ولا يبعث إلا حرًا، عدلًا، فقيهًا؛ لأن العبد والفاسق ليسا من أهل الولاية، والفقيه أعلم بما يأخذ. وهل يجوز أن يكون هاشميًا أو مطلبيًا؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين فيما يأخذه العامل، هل هو أجرة أو زكاة؟ فإن قلنا: إنه زكاة.. لم يجز؛ لأن الزكاة لا تحل لهم. وإن قلنا: إنه أجرة.. جاز، كما يجوز استئجارهم على سائر الأعمال. قال ابن الصباغ: فأما إذا تبرع الهاشمي أو المطلبي لقبض الصدقة من غير عوض يأخذه، أو دفع إليه الإمام الأجرة من بيت المال.. فيجوز أن يكون هاشميا أو مطلبيا وجهًا واحدا. وأما مواليهم: فإن قلنا: يجوز للهاشمي والمطلبي أن يأخذ من الصدقة لكونه عاملا.. فمواليهم أولى بالجواز. وإن قلنا: لا يجوز للهاشمي والمطلبي.. ففي مواليهم وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موالي القوم من أنفسهم» . والثاني: يجوز؛ لأنهم لا يلحقون بشرف مواليهم.

فرع: عطاء جابي الزكاة

[فرع: عطاء جابي الزكاة] ] : وإذا أراد الإمام بعث العامل.. فهو بالخيار بين أن يستأجره بأجرة معلومة، ويعطيه ذلك من الزكاة، وبين أن يجعل له جعلا، فإذا فرغ من العمل.. أعطاه جعله من سهم العامل في الزكاة. ويبعث الإمام العامل لقبض زكاة غير الثمار والزروع في المحرم؛ لما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال في المحرم: (هذا شهر زكاتكم) ، ولأنه أول السنة العربية، فكان البعث فيه أولى. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويستحب أن يخرج قبل المحرم بأيام؛ ليكون مع أول المحرم قد وصل إلى أرباب الأموال، وعرف عدد أهل السهمان، وقدر حاجتهم.. فلا يحتاج أن يشتغل بذلك في المحرم) . وإذا أراد الساعي أن يعد الماشية، فإن كانت تأكل الكلأ، وترد الماء.. فإن الساعي يعدها على الماء؛ لأنه لا يكلف الساعي أن يتبعها المرعى، ولا يكلف رب المال ردها إلى فناء داره، فكان عدها على الماء أولى؛ لأن المشقة تزول عنهما بذلك. وإن كانت الماشية تجتزئ بالحشيش الرطب عن الماء.. فإن الساعي يعدها في المساكن والموضع الذي تروح إليه ليلًا؛ لما روى عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تؤخذ صدقات المسلمين عند مياههم وأفنيتهم» .

وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا جلب، ولا جنب» . فقيل: معنى قوله: " لا جلب " أي: لا يجب على أرباب المواشي جلبها إلى الساعي، حيث كان ليعدها. ومعنى: " لا جنب " أي: لا يبعدونها عنهم. وقيل إنما أراد بذلك في السبق، أي: لا يجلب على خيل السباق، بضرب الشيء اليابس، والصياح يستحث بذلك الفرس، و" لا جنب " أي: لا يكون له جنب في السباق. وأما كيفية العد: فهو أن يضطر الماشية إلى جدار وجبل، حتى لا يكون لها إلا طريق ضيق ما تمر به شاة أو شاتان، ويزجرها من خلفها آخر، وبيد العاد عصا يعدها، حتى يأتي على آخرها. فإن عدها وادعى أنه أخطأ.. أعاد. وإن كان رب المال ثقة، فأخبره بعددها.. جاز قبول قوله. وإن أبدل له رب المال الزكاة.. أخذها منه. والمستحب: أن يدعو له؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] [التوبة: 103] ، أي: ادع لهم. والمستحب: أن يقول: اللهم صل على آل فلان؛ لما روي: «أن أبا أوفى

مسألة: غلول الصدقة

حمل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة ماله، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم صل على آل أبي أوفى» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورا) . وبأي شيء دعا له.. جاز، وإن ترك الدعاء جاز. وقال داود وأهل الظاهر: (يجب الدعاء) . دليلنا: ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم» . ولم يأمره بالدعاء. قال الشيخ أبو حامد: فإن دفع رب المال الصدقة إلى المسكين.. لم يستحب أن يدعو له؛ لأن ذلك إنما يستحب للساعي دون غيره. [مسألة: غلول الصدقة] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن غل صدقته.. عزر إن كان الإمام عدلا، إلا أن يدعي الجهالة، فلا يعزر) . وهذا كما قال: المنع في الزكاة هو أن يمنع من دفعها. و (الغل) في الزكاة: هو أن يخفي رب المال شيئا من ماشيته، حتى لا يراها الساعي، فإن أظهر عليه الساعي، فإن كان رب المال جاهلا بتحريم ذلك، مثل: أن كان حديث عهد بالإسلام.. فإنه يأخذ منه الزكاة، وينهاه ألا يعود إلى ذلك، فإن عاد إليه ثانيا.. عزره.

فرع: جواز توكيل الساعي من يقبض الزكاة

وإن لم يدع الجهالة، أو ادعى ولكن هو ممن لا يخفى عليه ذلك، مثل: أن يكون مجالسا للعلماء، أو نشأ في دار الإسلام، فإن كان الإمام جائرا يأخذ أكثر من حقه، أو يضعها في غير موضعها.. لم يعزره؛ لأن غله بتأويل. فإذا أخذ هذا الإمام الزكاة منه.. فاختلف أصحابنا فيه: فذهب أكثرهم: إلى أنه تسقط عنه الزكاة، وقد نص الشافعي: (أن الخوارج إذا غلبوا وأخذوا الصدقات.. أجزت) . وحكى الجويني عن بعض أصحابنا أنها لا تجزئه وذكر في " الفروع ": هل يسقط الفرض عنه فيما بينه وبين الله عز وجل؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط؛ لأنه لم يزل المتغلبون ومن لا يستحق الإمامة يقبضون الصدقات، فيعتد بها. و [الثاني] : قال: والمذهب: أنها لا تسقط عنه فيما بينه وبين الله في الباطن. وإن كان الإمام عدلا يأخذ قدر الزكاة، ويضعها في مواضعها.. فإنه يأخذ الزكاة من المانع والغال ويعذره على ذلك، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك، وأحمد: (تؤخذ من الزكاة وشطر ماله) . وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم. والصحيح هو الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال حق سوى الزكاة» . ولم يفرق بين أن يغلَّ أو لا يغلَّ. [فرع: جواز توكيل الساعي من يقبض الزكاة] ] : فإذا بلغ الساعي إلى الموضع الذي قصده، فإن كان حول رب المال قد تم: قبض منه الزكاة ودعا له على ما مضى وإن كان لم يتم حوله: سأله هل يختار تعجيلها؟ فإن فعل قبض منه، وإن لم يفعل.. وكل الساعي ثقة يقبض منه الزكاة عند حولها ويفرقها في أهلها، وإن رأى أن يكتبها عليه دينا؛ ليأخذها مع زكاة العام القابل.. جاز؛ لما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخر الزكاة عن الناس عام الرمادة) .

وإن أراد أن يرجع في وقت حلولها ليقبضها.. فعل. وإن اختلف رب المال والساعي.. نظرت: فإن كان قول رب المال لا يخالف الظاهر، بأن قال الساعي: قد حال الحول على مالك، وقال رب المال: لم يحل عليه الحول، أو قال الساعي: كانت ماشيتك نصابا، ثم توالدت بعد النصاب، وقال رب المال: بل تمت نصابًا بتوالدها، أو قال الساعي: هذه السخال توالدت من غنمك، فهي في حولها، وقال رب المال: بل استفدتها من غيرها، وهي منفردة بالحول، أو قال الساعي: هذه السخال ولدت قبل الحول، وقال رب المال: بل ولدت بعد الحول.. فالقول قول رب المال في هذه المسائل مع يمينه، واليمين هاهنا مستحبة، فإن حلف.. سقطت عنه الزكاة، فإن نكل.. لم تجب عليه الزكاة؛ لأن قوله لا يخالف الظاهر، والزكاة مبنية على الرفق والمواساة، فلو أوجبنا فيها اليمين.. خرجت عن حد المواساة. وإن كان قول رب المال يخالف الظاهر، مثل: أن يقول له الساعي: قد مضى على مالك حول، فقال رب المال: كنت قد بعته في أثناء الحول، ثم اشتريته، أو قال: قد أخرجت عنه الزكاة، وقلنا: يجوز له أن يفرق بنفسه.. فالقول قول رب المال مع يمينه، وهل تجب اليمين هاهنا، أو تستحب؟ فيه وجهان: أحدهما: أنها مستحبة؛ لأنها لو كانت واجبة عليه إذا كان قوله يخالف الظاهر.. لوجبت عليه وإن كان قوله لا يخالف الظاهر، كالمودع. فعلى هذا: لا تجب عليه الزكاة، حلف أو لم يحلف. والثانيٍ: أن اليمين واجبة عليه؛ لأن قوله يخالف الظاهر. فعلى هذا: إن حلف.. سقطت عنه الزكاة، وإن لم يحلف.. أُخذت منه الزكاة لا بنكوله، ولكن بالوجوب المتقدم.

فرع: متى يسم الساعي الصدقة

وإن قال رب المال: هذا المال الذي في يدي وديعة، وقال الساعي: بل هو مالك ... ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: أن دعوى رب المال هاهنا تخالف الظاهر، فيحلف، وهل تستحب يمينه أو تجب؟ فيه وجهان. والثاني: أن قوله لا يخالف الظاهر، فيستحب أن يحلف؛ لأن ما في يده قد يكون له، وقد يكون لغيره. والأول أصح؛ لأن الظاهر مما في يده أنه ملكه. [فرع: متى يسم الساعي الصدقة] ] : إذا قبض الساعي الماشية في الزكاة، ولم يؤذن له في تفريقها في الحال ... فالمستحب له أن يسمها. وقال أبو حنيفة: (يكره وسمها) . دليلنا: ما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسم إبل الصدقة» ولأنها تتميز بذلك. إذا ثبت هذا: فموضع وسم الإبل والبقر في أفخاذها، وموضع وسم الغنم في آذانها؛ لأنه موضع يقل فيه الشعر، ويخف فيه الألم، فيكتب في ماشية الزكاة: زكاة، أو صدقة، وفي ماشية الجزية: جزية، أو صغار؛ لأن ذلك أسهل ما يمكن.

وإن أذن الإمام للساعي في تفرقتها ... فرَّقها على أهلها، ولا يجوز له بيعها؛ لأن أهل الزكاة أهل رشد، إذ لا ولاية عليهم، فلم يجز بيع مالهم بغير إذنهم. فإن قبض نصف شاة، ولم يمكن نقلها ... باع ذلك. وهكذا: إن وقف عليه شيء من الماشية، أو خاف أن تؤخذ منه قبل أن يوصلها إلى أهلها، أو إلى الإمام ... جاز له بيعها، ويوصل الثمن؛ لأن ذلك موضع ضرورة. وإن تلف في يده شيء منها ... نظرت: فإن كان بغير تفريط منه ... لم يجب عليه ضمانه، كالوكيل إذا تلف في يده مال موكله بغير تفريط. وإن كان بتفريط بأن قصر في حفظها، أو عرف أهلها، أو أمكنه التفرقة عليهم، فأخر ذلك من غير عذر ... ضمن؛ لأنه فرط في ذلك. وإن لم يبعث الإمام لقبض زكاة الأموال الظاهرة من غير عذر، فإن قلنا: بقوله الجديد: (أن لرب المال أن يفرق زكاتها) ... وجب عليه إيصال ذلك إلى أهله، وإن أخر حتى تلف المال ضمن الزكاة. وإن قلنا: بقوله القديم: (وأنه يجب دفعها إلى الإمام) ... ففيه وجهان: أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يلزمه تفرقتها) ؛ لأن ذلك حق وجب صرفه إلى المساكين، والإمام نائب عنهم، فإذا ترك النائب ... لم يترك من عليه الحق، كالدين. والثاني: لا يجوز له تفرقتها؛ لأن ذلك مال للإمام فيه حق القبض ... فلم يجز لغيره تفرقته، كالجزية والخراج.

مسألة: نية الزكاة عند دفعها

[مسألة: نية الزكاة عند دفعها] ] : ولا يصح أداء الزكاة إلا بالنية، وبه قال عامة الفقهاء. وقال الأوزاعي: (لا يفتقر أداؤها إلى النية، كالدين) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] [البينة: 5] . فأخبر أن العبادة لا تصح إلا بالإخلاص، و (الإخلاص) : إنما هو النية، والزكاة من العبادات. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى» . ولأنها عبادة تتنوع فرضًا ونفلًا، فكان من شرطها النية، كالصلاة، والصوم، والحج. إذا ثبت هذا: فالعبادات التي تفتقر إلى النية على ثلاثة أضرب: ضرب: لا يجوز تقديم النية عليها، ولا تأخيرها عن ابتدائها، وهي: الطهارة، والصلاة، والحج. وضرب: يجوز تقديم النية على ابتدائها، وهو الصوم، وهل يجب تقديمها على طلوع الفجر، أو يجوز بنيته مع طلوع الفجر؟ فيه وجهان، يأتي ذكرهما في (الصوم) . وضرب: اختلف أصحابنا في جواز تقديم النية على ابتدائها، وهي الزكاة، والكفارات - قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الكفارة) : (وينوي مع التكفير أو قبله) والزكاة مثل الكفارة: فمن أصحابنا من قال: يجب أن ينوي حال الدفع، وبه قال أصحاب أبي حنيفة؛ لأنها عبادة يدخل فيها بفعله، فلا يجوز تقديم النية على ابتداء الفعل فيها، كالصلاة، وفيه احتراز من الصوم. وتأول هذا القائل قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أو قبله) : أنه أراد: أن ينوي قبله، ويستديم تلك النية إلى وقت الفعل. ومنهم من قال: يجوز أن تتقدم النية على الدفع؛ لأن التوكيل يجوز في أداء

ذلك، وبنية غير مقارنة لأداء الوكيل، فلو قلنا: لا يجوز تقديم النية.. لأدى إلى إبطال التوكيل فيها. ومحل النية: القلب، فإن نوى بقلبه، وتلفظ بلسانه.. فهو آكد، وإن نوى بقلبه، ولم يتلفظ بلسانه.. أجزأه، وإن تلفظ بلسانه، ولم ينو بقلبه.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\126] : أحدهما: لا يجزئه، كسائر العبادات المفتقرة إلى النية. والثاني: يجزئه؛ لأنها عبادة يجوز فيها النيابة، بخلاف الصوم والصلاة. وأما كيفية النية: فإن نوى أن هذا زكاة مالي، أو صدقة مالي، أو فرض تعلق بمالي، أو هذا واجب علي، أو زكاتي.. أجزأه. وإن نوى أن هذا زكاة.. فذكر المسعودي [في " الإبانة " ق\126] : أنه لا يجزئه. وإن نوى أن هذه صدقة.. لم يجزئه؛ لأن الصدقة قد تكون نفلا، وقد تكون فرضا، فلم تصح بنية مطلقة. وإن تصدق بجميع ماله، ولم ينو بشيء منه الزكاة.. لم يجزئه عن الزكاة. وقال أصحاب أبي حنيفة: يجزئه استحبابا. دليلنا: أنه لم ينو الفرض، فلم يجزه، كما لو صلى مائة ركعة بنية التطوع، فإنها لا تجزئه عن الفرض. وإن تصدق ببعضه.. لم يجزه أيضا، وبه قال أبو يوسف. وقال محمد بن الحسن.. يجزئه عن زكاة ذلك البعض. دليلنا: ما ذكرناه فيما إذا تصدق بالكل. وإن أخرج خمسة دراهم، ونوي بها الزكاة والتطوع.. قال ابن الصباغ: لم يجزه عن الزكاة، وكانت تطوعا، وبه قال محمد بن الحسن. وقال أبو يوسف: يجزئه عن الزكاة. دليلنا: أنه أشرك في النية بين الفرض والنفل، فلم يجزه عن الفرض، كالصلاة.

فرع: دفع زكاة مالين حاضر وغائب

[فرع: دفع زكاة مالين حاضر وغائب] ] : وإن كان له من الدراهم نصاب حاضر، ونصاب غائب، فأخرج خمسة دراهم، ونوى أنها عن الحاضر أو الغائب، أو عن الغائب، إن كان سالما، وإن كان تالفا، فعن الحاضر.. أجزأه؛ لأنه لا يجب عليه تعيين المال المخرج عنه. وإن نوى أنها عن الغائب، إن كان سالما، ولم ينو غير هذا، فإن كان سالما أجزأه. وإن كان تالفا.. قال في " الأم ": (لم يكن له أن يصرفه إلى زكاة غيره) ؛ لأنه عينها لذلك المال، فهو كما لو كان عليه كفارة، فأعتق عبدا عن كفارة أخرى عينها ليست عليه.. فإنها لا تجزئه عن التي عليه. قال في " الأم ": (ولو دفع عشرة دراهم إلى الوالي متطوعا بدفعها، فقال: هذه عن مالي الغائب، فبان تالفا قبل الوجوب، فإن كان قد فرقها الوالي.. لم يرجع عليه بها، وإن كانت في يده رجع عليه بها) . قال ابن الصباغ: وفي هذا نظر؛ لأنه إذا استحق الرجوع بها من الوالي.. استحقه من الفقراء، قال: وهذا محمول إذا شرط ذلك في الدفع. وإن قال: هذه زكاة مالي الغائب، وإن كان سالما، أو تطوع.. لم يجزه عن الفرض وإن كان ماله سالما؛ لأنه لم يخلص النية للفرض. وإن قال: إن كان مالي الغائب سالما.. فهذا عن زكاته، وإن لم يكن سالما.. فهو تطوع، فإن كان المال سالما.. أجزأه؛ لأنه لم يشرك بين النفل والفرض. [فرع: الجزم في النية ضروري] ] : إذا كان له من يرثه، فأخرج خمسة دراهم، وقال: هذه زكاة ما ورثت عنه، إن كان قد مات، أو نافلة، فبان أنه قد مات.. لم يجزه؛ لأنه قد أشرك في النية بين الفرض والنفل، ولأنه بناه على غير أصل؛ لأن الأصل فيه الحياة. وإن قال: هذه زكاة ما ورثت عنه، وكان قد مات.. لم يجزه أيضا؛ لأن الأصل فيه الحياة.

فرع: وجوب نية المزكي ووكيله

ولو باع مال مورثه قبل أن يعلم بموته، فبان أنه كان قد مات.. فهل يصح بيعه؟ فيه قولان: أحدهم - وهو الصحيح -: أنه لا يصح؛ لأنه باع وهو متلاعب. والثاني: يصح؛ لأنه بان أنه باع ما يملكه، والفرق بين الزكاة والبيع على هذا: أن الزكاة تفتقر إلى النية، فلذلك لم يصح، قولا واحدا، والبيع لا يفتقر إلى النية فلذلك صح في أحد القولين. [فرع: وجوب نية المزكي ووكيله] ] : وإن وكل من يؤدي الزكاة عنه.. نظرت: فإن نوى رب المال عند الدفع إلى الوكيل، ونوى الوكيل عند الدفع إلى المساكين.. أجزأه، وإن لم ينو واحد منهما، أو نوى الوكيل دون الموكل.. لم يجزه؛ لأن من عليه الفرض لم ينو، وإن نوى الموكل ولم ينو الوكيل.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يجزئه، قولا واحدا؛ لأن التوكيل لما أجيز هاهنا.. أجزأت النية عند الاستنابة. ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان، بناء على الوجهين في جواز تقديم النية. والصحيح: أنه يجوز تقديمها. قال ابن الصباغ: وإن أذن له أن يؤدي الزكاة عنه من مال الوكيل.. لم يجزه إلا بنية من الوكيل عند الدفع. [فرع: كفاية نية المؤدي] ] : وإن دفع رب المال الزكاة إلى الإمام.. نظرت: فإن نويا جميعا أو نوى رب المال دون الإمام.. أجزأه؛ لأنه قد نوى من وجبت الزكاة عليه. وإن نوى الإمام دون رب المال، أو لم ينو واحد منهما.. ففيه وجهان:

مسألة: الصدقة والعشر والزكاة بمعنى

أحدهما - وهو المنصوص -: (أنها تجزئ عن رب المال) ؛ لأن الإمام لا يأخذ إلا الواجب، فاكتفي بهذا عن النية. والثاني - حكاه القاضي أبو الطيب، واختاره -: أنه لا يجزئه؛ لأن الإمام نائب عن الفقراء، فكما لا يصح الدفع إليهم إلا بالنية من رب المال، فكذلك إذا دفع إلى النائب عنهم. وإن امتنع رب المال من دفع الزكاة، فأخذها الإمام منه قهرًا.. نظرت: فإن نوى الإمام عند الأخذ.. سقطت الزكاة عن رب المال في الظاهر، وهل تسقط عنه فيما بينه وبين الله تعالى؟ فيه وجهان. وإن أخذها الإمام من غير نية منه.. لم يسقط الفرض عن رب المال فيما بينه وبين الله تعالى، وهل يسقط عنه في الظاهر؟ فيه وجهان. حكى ذلك المسعودي [في " الإبانة " ق \ 126] . وإن أخرج ولي اليتيم الزكاة عن اليتيم من ماله بغير نية.. لم يجزه، ووجب على الولي ضمانها؛ لأنه فرط في ذلك. [مسألة: الصدقة والعشر والزكاة بمعنى] ] : قال الصيمري: كان الشافعي في القديم يذهب إلى: أن ما يؤخذ من المواشي يسمى صدقة لا غير، وما يؤخذ من الثمار والزرع يسمى: عشرا، وما يؤخذ من الذهب والورق يسمى: زكاة قال: فراعى ما عليه الناس في التسمية في الغالب، ثم رجع عنه، وقال: (الصدقة زكاة، والزكاة صدقة، والعشر زكاة وصدقة) . إذا ثبت هذا: فإن كان رب المال هو الذي يفرق زكاة ماله بنفسه.. لم يعط العامل شيئا؛ لأنه لا عمل له.

ويجب أن يصرف جميع ما يوقف عليه إلى باقي الأصناف المذكورين في الآية، الموجودين في البلد، وهم: الفقراء، والمساكين، والمؤلفة قلوبهم، والمكاتبون، والغارمون، وفي سبيل الله، وابن السبيل، فإن أخل بصنف منهم.. ضمن نصيبه، وبه قال عمر بن عبد العزيز، والزهري، وعكرمة. وذهبت طائفة: إلى أن ذكر الأصناف في الآية ليس للاستحقاق، وإنما هو على وجه التخيير، فإلى أي صنف منهم دفع.. جاز. ذهب إليه الحسن البصري، وعطاء، والضحاك، وسعيد بن جبير، ومالك، وأبو حنيفة، وروي ذلك

عن حذيفة، وابن عباس، إلا أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: (يدفع إلى أمسهم حاجة) . وقال النخعي: إن كانت قليلة.. جاز دفعها إلى صنف واحد، وإن كانت كثيرة.. وجب صرفها إلى جميع الأصناف. وقال أبو سعيد الإصطخري: يجوز صرف زكاة الفطر إلى ثلاثة من الفقراء أو المساكين أو غيرهم من الاصناف؛ لأنه يشق تفرقتها على جميع الأصناف. وقال المزني، وأبو حفص بن الوكيل: يجوز صرف ما يؤخذ من الركاز إلى أهل الفيء. وهو قول أبي حنيفة. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] [التوبة: 60] . فأضافها إليهم بلام التمليك، وعطف بعضهم على بعض بواو التشريك، فصار كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو. وإن كان الذي يفرق الزكاة هو الإمام.. لم يجز له أن يحرم واحدا من أصناف البلد من زكاة أهل البلد، ولكن له أن يدفع زكاة الرجل الواحد إلى الفقير الواحد، فالإمام في قسم جميع الصدقات كالرجل في قسم زكاة نفسه. فإن أخذ الإمام من رجل زكاته، وكان الدافع مستحقا لأخذ الزكاة، فدفع الإمام

إليه زكاته بعينها.. أجزأه؛ لأن ذمته قد برئت بتسليمها إلى الإمام، وإنما رجعت إليه بسبب آخر. فإن دفع رب المال زكاته إلى الساعي.. عزل الساعي ما يستحقه من الزكاة، ويفرق الباقي على باقي الأصناف إن كان الإمام قد أذن له في ذلك، وإن لم يأذن له الإمام في تفرقتها.. حملها إلى الإمام، فيقسمها على ثمانية أسهم: سهم للعامل، وهو أول ما يبدأ به؛ لأنه يأخذه عوض عمله، وغيره يأخذه مواساة. فإن كان ذلك وفق أجرته.. دفعه إليه، وإن كان أكثر من أجرته.. رد الفضل على باقي الأصناف، وقسمه بينهم. وإن كان أقل من قدر أجرته.. قال الشافعي: (يتمم له من سهم المصالح) . قال: (ولو تمم له من حق سائر الأصناف.. لم يكن به بأس) . واختلف أصحابنا في ذلك: فذهب المزني وغيره من أصحابنا: إلى أنها على قولين: أحدهما: يتمم من حقوق سائر الأصناف؛ لأنه يعمل لهم كالأجير الذي ينقل المال. والثاني: يتمم من سهم المصالح؛ لئلا ينقص كل صنف مما قسم الله له. ومن أصحابنا من قال: ليست على قولين، وإنما الإمام بالخيار: بين أن يتممه من سهم المصالح؛ لأن العامل يشبه الحاكم، وبين أن يتممه من حق سائر الأصناف؛ لأنه يشبه الأجير لهم. ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين: فحيث قال: (يتمم من سهم المصالح) أراد: إذا كان قد فرق على سائر الأصناف، ثم وجد سهم العامل ينقص عن أجرته؛ لأنه يشق استرجاع ذلك منهم. وحيث قال: (يتمم من حق سائر الأصناف) إذا بدأ بدفع سهم العامل قبل الأصناف. ومنهم من قال: بل هي على حالين آخرين:

فرع: جلب الصدقات على أصحاب الأموال

فالذي قال: (يتمم من سهم المصالح) إذا كانت أسهم الأصناف لا تفضل عن حاجتهم. والذي قال: (يتمم من سهم الأصناف) إذا كانت تفضل عن حاجتهم. والصحيح: أنها على قولين. ويعطى العريف والحاشر من سهم العامل؛ لأنهم من جملة العمال، و (العريف) : من يعرف العامل إذا دخل البلد أهل الصدقات إن كان غريبا، و (الحاشر) : الذي يحشرهم إليه، أي: يستدعيهم. وكذلك: إن احتاج العامل أن ينصب من يجبي الصدقات، ويحصي أهل السهمان، وقدر حاجاتهم.. فله أن ينصب من يقوم بذلك؛ لأنه لا يمكنه فعل ذلك كله بنفسه، ويعطيهم من سهمه. [فرع: جلب الصدقات على أصحاب الأموال] ] : ومؤنة إحضار الماشية ليعدها على رب المال؛ لأنها للتمكن من الاسيفاء، وأجرة الحافظ للصدقة وناقلها، وأجرة البيت الذي تكون الصدقة فيه على أهل السهام، ويجوز أن يكون الحافظ والناقل هاشميا أو مطلبيا، وجها واحدا؛ لأنه أجير في الحقيقة.

مسألة: سهم الفقراء

وإن وجب على رب المال دراهم، أو طعام، فاحتيج إلى من يزن ذلك، أو يكيله.. فعلى من تجب أجرته؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: تجب على رب المال؛ لأن ذلك للإيفاء، والإيفاء واجب عليه. و [الثاني] قال أبو إسحاق: تجب على أهل السهمان؛ لئلا يزاد على الفرض الذي أوجبه الله تعالى عليه. فأما أجره من يكيل أو يزن للقسمة بين أهل السهمان: فإنها تجب عليهم، وجها واحدا. فإن قبض العامل الصدقة، فتلفت في يده من غير تفريط.. قال صاحب الفروع: استحق أجرة عمله في بيت المال. [مسألة: سهم الفقراء] ] : وسهم للفقراء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية [التوبة: 60] . و (الفقير) : إذا أطلق اسمه.. تناول الفقير والمسكين، وكذلك: إذا أطلق اسم المسكين.. تناول المسكين والفقير، وإذا جمع بينهما.. كان معنى أحدهما غير معنى الآخر. فأما صفة الفقير: فنقل المزني، عن الشافعي في القديم: (الفقير: الزمن الضعيف الذي لا يسأل الناس) .

وقال في الجديد: (الفقير: هو الذي لا شيء له، زمنا كان أو غير زمن، سواء سأل أو لم يسأل) . فقال البغداديون من أصحابنا: (الفقير) : هو الذي لا شيء له، أو له شيء لا يقع موقعا من كفايته، مثل: أن يحتاج كل يوم إلى عشرة دراهم، وهو يكتسب كل يوم ثلاثة أو أربعة سواء كان صحيحا أو زمنا، وسواء سأل أو لم يسأل، وإنما اختصر الشافعي العبارة عنه في القديم، وبسطها في الجديد؛ لأنه قد يسأل ولا يعطى، وقد يعطى من غير سؤال، وقد يكتسب الزمن، ولا يكتسب الصحيح. وحكى المسعودي [في الإبانة \ ق\ 456] : أن من أصحابنا من قال: هل من شرط الفقير أن يكون متعففا عن السؤال؟ فيه قولان: أحدهما: لا يشترط؛ لما ذكرناه. والثاني: يشترط؛ لأن حال المتعفف أشد. إذا ثبت هذا: فكم يعطى الفقير من الزكاة؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول ابن القاص في " المفتاح " -: أنه يعطى قوت سنة له ولعياله؛ لأن الزكاة تجب في كل سنة، فاعتبر كفايته بها. والثاني - وهو قول سائر أصحابنا وهو المنصوص للشافعي -: (أنه يعطى ما يخرجه من حد الفقر إلى الغنى، وهو ما تحصل به الكفاية على الدوام) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل المسألة إلا لثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابت ماله جائحة، فاجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش، أو قواما من عيش، ورجل أصابته فاقة أو حاجة، حتى يشهد، أو يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: إن به فاقة وحاجة، فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش، أو قواما من عيش، ثم يمسك» . فأجاز له المسألة إلى أن يصيب ما يسده.

وأما قوله: " ثلاثة من قومه " فعلى سبيل الاستظهار لا على سبيل الشرط. فعلى هذا: إذا كان من عادته التعيش بالخمسة، أو بالعشرة.. أعطي ذلك لا غير، وإن كان من البزازين الذين لا يحسنون التجارة إلا بألف أو ألفين.. أعطي ذلك، وإن كان من أهل الضياع.. أعطي ما يشتري به ضيعة تكفيه غلتها على الدوام. فإن عرف لرجل مال، فادعى أنه افتفر.. لم يقبل حتى يقيم البينة؛ لأنه قد عرف

فرع: فيمن له كسب يكفيه

غناه، وإن لم يعرف له مال، وادعى أنه فقير.. قبل قوله، ولا يكلف إقامة البينة؛ لأن الأصل في الناس الفقر، ثم يرزق الله تعالى. [فرع: فيمن له كسب يكفيه] ] : إذا كانت له حرفة يكتسب بها ما يمونه ويمون عياله على الدوام.. فإنها تجري مجرى الغنى في المال في أنه لا تحل له الزكاة، وفي إيجاب نفقة قريبه الفقير المعسر عليه، وفي أنه لا تجب على قريبه الموسر نفقته؛ ولكنها لا تجري مجرى الغنى بالمال لإيجاب الحج عليه، ولا لقضاء الدين عليه. وقال مالك: (يجوز أن يدفع إليه الزكاة، إذا كان فقيرا من المال وإن كان مكتسبا) . وقال أبو حنيفة: (إذا لم يملك نصابا من المال.. جاز أخذ الزكاة) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تحل الصدقة لغني، ولا لقوي مكتسب» ، ولأنه قادر على كفايته على الدوام، فأشبه الغنى بالمال.

مسألة: سهم المساكين

إذا ثبت هذا: وجاء رجل يطلب الزكاة، وادعى أنه لا كسب له، فإن كان شيخا ضعيفا، أو شابا ضعيف البنية.. قبل قوله؛ لأن الظاهر من حاله يشهد له، وإن كان شابا قويا.. فهل يقبل قوله من غير يمين؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقبل؛ لأن الظاهر أنه يقدر على الكسب. والثاني: يقبل؛ لما روي: «أن رجلين سألا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزكاة، فصعد بصره إليهما، ثم صوبه، وقال: " أعطيكما بعد أن أعلمكما: أنه لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب» . ولم يحلفهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والظاهر: أنهما كانا جلدين. [مسألة: سهم المساكين] ] : وسهم للمساكين؛ للآية. والمسكين - عندنا -: أحسن حالا من الفقير، وهو الذي له شيء يقع موقعا من كفايته، ولكن لا يكفيه، مثل: أن يحتاج كل يوم إلى عشرة، وليس عنده إلا ثمانية؟ أو تسعة، وبه قال جماعة من أهل اللغة.

وقال مالك، وأبو حنيفة وأصحابه، ومحمد بن مسلمة، وكثير من الفقهاء، وأهل اللغة: المسكين أمس حاجة من الفقير، وهو بصفة الفقير الذي ذكرناه، واختاره أبو إسحاق المروزي من أصحابنا. دليلنا: أن الله تعالى قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] [التوبة: 60] . فبدأ بالفقراء، والعرب تبدأ بالأهم فالأهم. لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ من الفقر» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كاد الفقر أن يكون كفرا» . وكان يقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين» .

ولأن الفقير من لا ظهر له؛ لأن الفقار هو الظهر، ولهذا سمي سيف علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ذا الفقار؛ لأنه كان له ظهر. إذا ثبت هذا فكم يعطى المسكين؟ على قول أبي العباس بن القاص: يعطى ما يتم به قوت السنة. وعلى المنصوص: (يعطى ما تزول به حاجته، وتحصل به الكفاية على الدوام) . وقال أبو حنيفة (إذا كان مالكا لنصاب من الأثمان.. لم يجز له أخذ الزكاة، وكذلك: إذا كان مالكا لقيمة نصاب، ويفضل عن مسكنه وخادمه.. لم يجز له أخذ الزكاة) . وقال عمر، وعلي، وسعد بن أبي وقاص: (إذا ملك خمسين درهما.. لم تحل له الزكاة) . وهو قول الثوري، وأحمد، وابن المبارك. وقال الحسن: (لا يعطى من الصدقة من له أربعون درهما) .

فرع: دعوى الفقير العيال

دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل المسألة إلا لثلاثة ". فذكر: " أو رجل أصابته فاقة، فحلت له المسألة، حتى يصيب سدادا من عيش، أو قواما من عيش» . ولم يفرق. ولأنه غير قادر على كفاية على الدوام، فأشبه من لا يملك شيئًا. [فرع: دعوى الفقير العيال] ] : وإن ادعى الفقير أو المسكين: أن له عيالا.. فهل يقبل قوله من غير بينة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: يقبل، كما يقبل قوله: إنه غير مكتسب. والثاني: ولم يذكر في " المهذب " غيره: أنه لا يقبل؛ لأنه يمكنه أن يقيم البينة على العيال، بخلاف الاكتساب. [مسألة: سهم المؤلفة] ] : وسهم للمؤلفة، والمؤلفة: صنف من أهل الصدقات؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60] [التوبة: 60] . وإنما سموا مؤلفة؛ لأنهم يتألفون بالعطاء، وتستمال قلوبهم بذلك. وهم ضربان: مسلمون وكفار. فأما الكفار: فضربان: أحدهما: قوم لهم شرف وسؤدد وطاعة في الناس، وحسن نية في الإسلام، فيعطون استمالة لقلوبهم، وترغيبا لهم على الإسلام، كصفوان بن أمية، وعامر بن الطفيل. والضرب الثاني: قوم من الكفار لهم قوة وشوكة، وإذا أعطاهم الإمام مالا.. كفوا

شرهم عن المسلمين وإذا لم يعطهم.. قاتلوا المسلمين، وأضروا بهم، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطي هذين الضربين من خمس الخمس، ولا خلاف أنهم لا يعطون من الزكاة؛ لأنهم كفار، وهل يعطون اليوم من خمس الخمس؟ فيه قولان: أحدهما: يعطون لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أعطاهم، ولأنه قد يوجد المعنى الذي كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطيهم لأجله. والثاني: لا يعطون؛ لأن عمر وعثمان وعليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم يعطوهم، وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إنا لا نعطي على الإسلام شيئا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء.. فليكفر) . وأما إعطاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم: فلأن خمس الخمس كان ملكا له، يفعل فيه ما شاء. وأما مؤلفة المسلمين: فعلى أربعة أضرب: أحدها: قوم لهم شرف وسؤدد، ولهم نظراء من قومهم كفار، إذا أعطوا هؤلاء.. رغب نظراؤهم في الإسلام، مثل: الزبرقان بن بدر، وعدي بن حاتم. والثاني: قوم لهم شرف وطاعة، أسلموا ونياتهم في الإسلام ضعيفة، فيعطون

لتقوى نياتهم، و: «قد أعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، كل واحد منهم مائة من الإبل، وأعطى العباس بن مرداس أقل من مائة، فاستعتب، فتمم له المائة» . فيحتمل ذلك تأويلين: أحدهما: أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظن أن نيته أقوى من نيات أصحابه في الإسلام، فنقصه، فلما استعتب.. بان أنه بخلاف ذلك، فتمم له المائة. والثاني: يحتمل أن يكون العباس خشي أن يلحقه النقص في أعين الناس إذا نقص عن عطية نظرائه، فاستعتب لذلك. وهل يعطى هذان الفريقان بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فيه قولان: أحدهما: لا يعطون؛ لأن الله تعالى قد أعز الإسلام، فأغنى عن التألف بالمال. والثاني: يعطون؛ لأنه قد يوجد المعنى الذي أعطاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأجله. فإذا قلنا: بهذا: فمن أين يعطون؟ فيه قولان: أحدهما: من سهم المؤلفة من الزكاة؛ للآية. والثاني: من سهم المصالح؛ لأن في ذلك مصلحة.

والضرب الثالث: قوم من المسلمين في طرف بلاد الإسلام، ويليهم قوم من الكفار، فإن أعطاهم الإمام مالا.. قاتلوهم ودفعوهم عن المسلمين، وإن لم يعطهم.. لم يقاتلوهم، واحتاج الإمام إلى مؤنة ثقيلة في تجهيز الجيوش إليهم. الضرب الرابع: قوم من المسلمين، ويليهم قوم من المسلمين عليهم صدقات، ولكن لا يؤدونها إلا خوفا ممن يليهم من المسلمين، فإن أعطاهم الإمام شيئا.. جبوا صدقات من يليهم، وأدوها إلى الإمام، وإن لم يعطهم الإمام شيئا.. احتاج الإمام إلى مؤنة ثقيلة ليجهز من يجبيها منهم. فهذان الضربان يعطون بلا خلاف على المذهب، ومن أين يعطون؟ فيه أربعة أقوال: أحدها: من سهم المصالح؛ لأن ذلك مصلحة. والثاني: من سهم المؤلفة في الزكاة؛ للآية. والثالث: من سهم سبيل الله تعالى؛ لأنهم في معنى المجاهدين. والرابع: أنهم يعطون من سهم سبيل الله تعالى ومن سهم المؤلفة؛ لأنهم جمعوا معنى الصنفين. واختلف أصحابنا في هذا القول على ثلاثة أوجه: ف [الأول] : منهم من قال: إنما ذلك إذا قلنا: إن الشخص الواحد إذا جمع سببين من أسباب الصدقات.. أعطي بهما، فأما إذا قلنا: لا يعطى إلا بأحدهما.. لم يعط هؤلاء إلا من سهم أحد الصنفين. و [الثاني] : منهم من قال: يعطون من السهمين على القولين؛ لأن القولين فيمن يأخذ الزكاة لحاجته إلينا. فأما هؤلاء: فإنهم يأخذون لحاجتنا إليهم، فأعطوا منها، قولا واحدا. و [الثالث] : منهم من قال: لم يرد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يجمع لهم من السهمين، وإنما أراد: أن من يقاتل الكفار.. يعطون من سهم سبيل الله، ومن يجبي الصدقات من المسلمين.. يعطون من سهم المؤلفة. هذا مذهبنا.

مسألة: سهم الرقاب

وقال مالك، وأبو حنيفة: (قد سقط سهم المؤلفة، فلا سهم لهم) . دليلنا: الآية، فإن ادعى رجل: أنه من المؤلفة.. فأمرهم ظاهر، ولا يعطى حتى يثبت أنه منهم. [مسألة: سهم الرقاب] ] : وسهم للرقاب؛ للآية. و (الرقاب) : هم المكاتبون، فيعطون من الزكاة ما يؤدونه في الكتابة، وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وسعيد بن جبير، والليث، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه. وذهبت طائفة: إلى أن الرقاب هاهنا العبيد، فيشترى بسهمهم من الصدقات عبيد، ويعتقون. ذهب إليه من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: ابن عباس، ومن التابعين: الحسن، ومن الفقهاء: مالك، وأحمد وأبو عبيد، وأبو ثور رحمة الله عليهم. وقال الزهري: يقسم ذلك نصفين: نصفا يدفع إلى المكاتبين، ونصفا يشترى به عبيد ممن صلى وصام، وقدم إسلامهم، فيعتقون. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] [التوبة: 60] .

فأمر بوضع الصدقة في الرقاب، وهذا إنما يصح على قولنا؛ لأن الصدقة تدفع إليهم، وتوضع فيهم، فأما على قولهم: فإنما تدفع إلى سادتهم لا إليهم. إذا ثبت هذا: فإن كان مع المكاتب ما يفي بمال الكتابة.. لم يعط شيئا من الزكاة؛ لأنه لا حاجة به إليه. وإن لم يكن معه شيء، وقد حل عليه نجم.. أعطي ما يؤدي فيما عليه. وإن لم يكن معه شيء، ولم يحل عليه نجم.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يعطى؛ لأن الدين غير لازم له، فلا حاجة به إلى ما يعطاه. والثاني: يعطى؛ لأن النجم يحل عليه، والأصل: عدم المال معه. فإن دفع من عليه الزكاة إلى السيد بإذن المكاتب.. جاز، وإن دفع إليه بغير إذن المكاتب.. لم يجز، وإن دفع إلى المكاتب بإذن السيد، أو بغير إذنه.. جاز. وإن دفع إلى المكاتب شيء من الزكاة، وأراد أن يصرفه في غير مال الكتابة.. قال ابن الصباغ: منع منه؛ لأن القصد إعتاقه، فلا يحوز له تفويته، فإن أراد المكاتب أن يتجر به؛ ليحصل بذلك الوفاء بما عليه.. لم يمنع منه؛ لأنه يتوصل به إلى أداء ما عليه، فإن دفع إليه شيئا فأعتقه السيد، أو تبرع عليه أجنبي، فأدى عنه، أو عجز نفسه، فإن كان المال باقيا في يد المكاتب.. قال أصحابنا البغداديون: إن لرب المال أن يسترجع منه ما أعطاه؛ لأن المقصود العتق، ولم يحصل، وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\ 457] في ذلك قولين: أحدهما: له أن يسترجع منه؛ لما ذكرناه. والثاني: ليس له أن يسترجع منه؛ لأنه قد كان مستحقا له حين الأخذ. وإن قبض السيد منه ذلك، ثم أعتقه.. فالذي يقتضيه المذهب: أنه لا يسترد من السيد؛ لاحتمال أنه قد كان أعتقه للذي قد قبضه منه، وإن عجزه المولى.. ففيه وجهان:

مسألة: سهم الغارمين

أحدهما: لا يسترد من السيد؛ لأنه كان مستحقا له وقت الأخذ. والثاني: يسترجع منه؛ لأن العتق لم يحصل له. وإن ادعى المكاتب أنه مكاتب، وأنكر السيد: فإن أقام بينة.. حكم له بصحة الكتابة، وأعطي من الزكاة؛ لأنه قد ثبت أنه مكاتب، وإن لم يقم بينة.. حلف السيد، ولم يعط من الزكاة؛ لأنه لم تثبت كتابته، وإن صدقه السيد على الكتابة.. ففيه وجهان: أحدهما يعطى؛ لأن السيد أقر على نفسه، فقبل. والثاني: لا يعطى؛ لاحتمال أن يكون قد واطأ السيد، ليعطى من الزكاة. [مسألة: سهم الغارمين] ] : وسهم للغارمين؛ للآية. والغارمون ضربان: ضرب ادانوا لمصلحة ذات البين، وضرب ادانوا لمصلحة أنفسهم. فأما الذين ادانوا لمصلحة ذات البين: فضربان: [الأول] : ضرب تحملوا مالا في دم مقتول بأن يوجد قتيل بين قريتين، فادعى أولياؤه على أهل قرية: أنهم قتلوه، فأنكروا، فخيف إراقة الدماء والشر بينهم بسببه، فجاء رجل، فتحمل ديته لوليه في ذمته، واستدان من غيره، ودفع إليه، فهذا يجوز

له أخذ الزكاة من سهم الغارمين مع الغنى أو الفقر. فأما إذا دفع من ماله: فليس بغارم؛ لأنه لا يسمى بعد القضاء: غارمًا. والأصل فيه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو العامل عليها، أو غارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين إليه» . فأما إذا تحمل في غير القتل، بل بذهاب المال، قال الشيخ أبو حامد: بأن توجد بهيمة متلفة، فخيف وقوع الفتنة بسببها، فتحمل رجل قيمتها لمالكها، واستدان، ودفع.. فله أن يأخذ من سهم الغارمين مع الفقر، وهل له أن يأخذ منها مع الغنى؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يأخذ؛ لأنه إنما أخذ في الدم؛ لحرمة الدم، وهذا لا يوجد في غيره. والثاني: له أن يأخذ؛ للآية والخبر، ولأنه غرم لإصلاح ذات البين، فأشبه إذا تحمل دية مقتول.

وإن جرى بين اثنين خصومة في مال بدين، فبادر رجل، وضمن ذلك الدين عمن هو عليه بإذنه، فإن كان الضامن والمضمون عنه فقيرين.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 457] : فله أخذ الصدقة. وإن كان المضمون عنه موسرًا.. فليس للضامن أخذ الصدقة، بل يرجع على المضمون عنه. وإن كان المضمون عنه فقيرًا، والضامن موسرًا.. فهل له أخذ الصدقة؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\ 457] . الأصح: له ذلك. و [الضرب الثاني] : أما من غرم لمصلحة نفسه: فإن استدان لطاعة الله، أو مباح.. فله أن يأخذ مع الفقر، وهل له أن يأخذ مع الغنى؟ فيه قولان: أحدهما: لا يأخذ، وهو الصحيح؛ لأنه يأخذ ذلك لحاجته إلينا، فلم يأخذ مع الغنى، كالفقراء والمساكين. والثاني: يأخذ مع الغنى؛ لأنه غارم في غير معصية، فأشبه الغارم لذات البين. وإن استدان لمعصية، فإن كان مقيما على المعصية.. لم يعط، غنيًا كان أو فقيرًا؛ لأن في ذلك إعانة على المعصية، وإن كان قد تاب من المعصية.. لم يعط مع الغنى، وهل يعطى مع الفقر؟ فيه وجهان: أحدهما: يعطى؛ لأنه قد تاب منها.

فرع: ضامن الدية من الغارمين

والثاني: لا يعطى؛ لأنه لا يؤمن أن يعاودها. إذا ثبت هذا: فكل من ذكرناه من الغارمين: أنه يعطى مع الغنى، فإن كان يملك عروضًا بلا نضوض.. فله أخذ الزكاة مع غناه بالعروض، وإن كان يملك نضوضًا.. فهل له أخذ الزكاة مع غناه بالنضوض؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\ 458] : أحدهما: له ذلك، كما له أخذها إذا كان غنيًا بالعروض. والثاني: ليس له ذلك. والفرق بينهما: أنه يحتاج إلى العروض، وهي الأثاث والضياع للتجمل، إذ هي أملاك ظاهرة، فأما النضوض: فلا يحتاج إليها؛ لأن مروءته لا تذهب بذهابها، وهو غني بها، فلزمه قضاء الدين بها. والأول أصح. [فرع: ضامن الدية من الغارمين] ] : قال الصيمري: إذا ضمن الرجل دية مقتول عن قاتل غير معروف.. أُعطي مع الفقر والغنى، وإن ضمن الدية عن قاتل معروف.. أُعطي مع الفقر، ولا يعطى مع الغنى، ولا يعطى الغارم إذا كان الدين مؤجلا قبل حلول الأجل. [فرع: دين الميت من الغارمين] ] : إذا مات رجل، وعليه دين، ولا تركة له.. فهل يجوز قضاؤه من سهم الغارمين؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول الصيمري -: أنه لا يجوز؛ وهو قول النخعي، وأبي حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهم؛ لأن المزكي يحتاج أن يملك المعطى، ولا يمكن هاهنا.

فرع: دين المعسر زكاة

والثاني - وهو قول الشيخ أبي نصر في " المعتمد " -: أنه يجوز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى الغارمين [التوبة: 60] . ولم يفرق بين الحي والميت. ولأنه يجوز التبرع بقضاء دينه فجاز له قضاء دينه من الزكاة، كالحي. [فرع: دين المعسر زكاة] ] : وإن كان لرجل على معسر دين، فأراد من له الدين أن يحتسب بدينه عليه من زكاته.. ففيه وجهان: أحدهما - وبه قال القاضي أبو القاسم الصيمري -: أنه لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما؛ لأن ذمته قد اشتغلت بالزكاة، فلا تبرأ ذمته إلا بأن يقبض ذلك منه. والثاني - وهو قول الشيخ أبي نصر في " المعتمد " - أنه يجوز، وهو قول الحسن البصري، وعطاء؛ لأنه لو دفعه إليه، ثم رده إليه.. جاز، فكذلك إذا لم يقبضه منه، كما لو كانت له عنده وديعة، ودفعها عن الزكاة إليه.. فإنه لا فرق: بين أن يقبضها منه، وبين أن يحتسبها من زكاته من غير إقباض. والأول أظهر. إذا ثبت هذا: فإن دفع الزكاة إلى الفقير بشرط أن يقبضه إياها.. لم يصح الدفع، وإن نويا ذلك بأنفسهما.. لم يضره. [فرع: ادعاء الغرم] ] : وإن جاء رجل، وادعى: أنه غارم، فإن كان لذات البين.. فأمره ظاهر، فلا يقبل حتى يقيم البينة، وإن كان لمصلحة نفسه، فإن أقام البينة على ذلك.. أُعطي، وإن لم يقم البينة، ولكن صدقة من له الدين.. فهل يعطى؟ فيه وجهان، كالوجهين في المكاتب إذا صدقه سيده.

مسألة: سهم سبيل الله

[مسألة: سهم سبيل الله] ] : وسهم في سبيل الله؛ للآية. وسبيل الله - عندنا -: هم المجاهدون الذين يغزون إذا نشطوا، دون المرتزقة المرتبين في ديوان السلطان، وبه قال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما. وقال أحمد: (سبيل الله هو الحج) . دليلنا: أن كل موضع ذكر سبيل الله عز وجل، فإنه يعقل منه المجاهدون، دون الحج، فوجب حمل الآية على ذلك. فإن أراد رجل من المرتزقة المرتبين أن يصير من أهل الصدقات الذين يغزون إذا نشطوا.. جعل منهم. وإن أراد رجل من أهل الصدقات أن يصير من المرتزقة.. لم يعط من الصدقة، وأُعطي من الفيء، ولا حق للمرتزقة في سهم الصدقات؛ لأن أرزاقهم يأخذونها من الفيء. فإن كان رجل منهم عاملًا على الصدقة.. فهل يعطى منها؟ فيه وجهان: [الأول] : إن قلنا: إن ما يأخذه العامل زكاة.. لم يعط. و [الثاني] : إن قلنا: أجرة.. أعطي. وإن احتاج المسلمون إلى من يعينهم في أمر الكفار، ولا مال في بيت المال، وفيه الصدقة.. ففيه قولان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\ 458] : أحدهما: لا يجوز صرف الصدقة إلى المرتزقة؛ لأن أهلها والمرتزقة متغايران.

والثاني: يصرف إليهم من سهم سبيل الله تعالى؛ لأن الله تعالى جعله للغزاة، والمرتزقة غزاة. إذا ثبت هذا: فإن الغازي يُعطى مع الفقر والغنى، وحكى في " المعتمد ": أن أبا حنيفة قال: (لا يأخذ مع الغنى) . وكذلك قال في الغارم لإصلاح ذات البين. دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة» . فذكر: لغارم أو لغاز. ويُعطى الغازي ما يحتاج إليه للسلاح، والفرس، والخادم إن كان فارسًا، وحمولة له تحمله إن كان سفره تقصر فيه الصلاة، وهل يشترى له السلاح والفرس والحمولة، ويدفع إليه، أو يدفع له ثمنه؟ فيه وجهان: أحدهما: - وهو قول المسعودي في " الإبانة " ق\ 459]-: أن الإمام بالخيار: بين أن يشتري له ذلك، ويملكه إياه، وبين ألا يملكه ذلك، بل يسلبه في سبيل الله، وإن شاء استعار له، أو استأجر له. والثاني - وهو قول أبي إسحاق المروزي -: أنه لا يشتريه الإمام، ولكن يُعطي الغازي ما يخصه، ويشتري هو بنفسه. قال القاضي أبو الطيب: وعلى هذا: إن استأذن الإمام الغازي ليشتري له ذلك من الصدقة.. جاز، ويدفع إليه نفقة ذهابه وإقامته في الغزو ورجوعه، وكم يُعطى من النفقة؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\458] : أحدهما: ما زاد على نفقة الحاضر، لأجل السفر؛ لأن نفقة الحاضر تجب في ماله. والثاني: جميع النفقة. قلت: وهذان الوجهان كالوجهين في قدر نفقة عامل القراض، إذا قلنا: تجب له

مسألة: سهم ابن السبيل

النفقة في مال القراض، فإن دفع إلى الغازي مال ولم يغز.. استرجع منه؛ لأنه ليس بغاز. وإن غزا وقتر على نفسه، فرجع ومعه بقية مما دفع إليه.. لم يسترجع منه، كما لو دفع إلى فقير قدر كفايته، فقتر على نفسه حتى حصل فيه فضل.. فإنه لا يسترجع منه. [مسألة: سهم ابن السبيل] ] : وسهم لابن السبيل؛ للآية. و (ابن السبيل) : هو المنشئ للسفر من بلده، أو المجتاز بغير بلده. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 459] : هل يُعطى المجتاز بغير بلده؟ إن قلنا: يجوز نقل الصدقة.. أُعطي، وإلا فلا. وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (ابن السبيل: هو المجتاز) . فأما من ينشئ السفر من بلده: فليس بابن السبيل. دليلنا: أنه مريد لسفر لا معصية فيه، فهو كالمجتاز. إذا ثبت هذا: فإن كان سفره لواجب أو طاعة.. أٌعطى، وإن كان لمعصية.. لم يعط؛ لأن في ذلك إعانة على المعصية، وإن كان لمباح.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يُعطى؛ لأنه غير محتاج إلى هذا السفر. والثاني يُعطى؛ لأنه سفر جائز، فهو كسفر الطاعة. فإن كان منشئًا للسفر من بلده.. نظرت: فإن كان غنيًا.. لم يُعط شيئًا. وإن كان فقيرًا.. أُعطى ما يحتاج إليه لذهابه ورجوعه.

مسألة: تسوية العطاء بين الأصناف

وهل يُعطى نفقة إقامته في البلد الذي يقصده.. نظرت: فإن كانت إقامته أقل من أربعة أيام.. أُعطي؛ لأنه في حكم المسافرين. وإن كانت أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج.. لم يُعط نفقة إقامته من سهم ابن السبيل؛ لأنه قد خرج عن أن يكون مسافرًا. وهل يُعطى للحمولة؟ ينظر فيه: إن كان سفره مما يُقصر فيه الصلاة.. أُعطي للحمولة؛ لأنه يحتاج إليها، وإن كان سفره لا تقصر فيه الصلاة.. لم يعط لها إلا إذا كان عاجزًا عن المشي.. فيعطى لها. وإن كان ابن السبيل مجتازًا.. نظرت: فإن كان معه مال يكفيه.. لم يُعط؛ لأنه غني به، وإن كان لا مال معه، أو معه مال لا يكفيه، ولكن له مال في بلده.. دفع إليه ما يبلغه بلده؛ لأنه محتاج إلى ما يأخذه. وإن احتاج ابن السبيل إلى كسوة في سفره.. أُعطي لها؛ لأنه يحتاج إليها، كالنفقة. فإن دفع إلى ابن السبيل ما يحتاج إليه، فلم يسافر.. استرجع منه. وإن سافر وقتر على نفسه في النفقة، فرجع من سفره، وقد بقي معه بقية مما دفع إليه.. استرجع منه. والفرق بينه وبين الغازي حيث قلنا: إنه لا يسترجع منه: أن الغازي يأخذ ما يأخذه على وجه العوض، وابن السبيل يأخذه لحاجته إليه، وقد زالت حاجته. فإن جاء رجل، وادعى: أنه يريد الغزو أو السفر.. قبل منه، وأعطي؛ لأن ذلك لا يعلم إلا من جهته. [مسألة: تسوية العطاء بين الأصناف] ] : ويجب أن يسوي بين الأصناف، ولا يفضل صنفًا على صنف؛ لأن الله تعالى ساوى بينهم، فما خص الصنف الواحد.. فالمستحب: أنه يعم به جميع الصنف على

فرع: من اجتمع فيه أسباب يعطى بسبب

قدر حاجاتهم إن أمكن، والمستحب: أن يخص قرابته المحتاجين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصدقة على المسلم صدقة، وعلى ذي القرابة صدقة وصلة» . وأقل ما يجزئ: أن يقتصر من كل صنف على ثلاثة منهم. وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يدفع ذلك كله إلى واحد) . دليلنا: أن الله تعالى ذكر ذلك بلفظ الجمع، وأقل الجمع ثلاثة، فلا يجوز الاقتصار على ما دونهم. ويستحب أن يساوي بين الثلاثة من الصنف، فإن فاضل بين الثلاثة.. جاز، فإن دفع نصيب الصنف إلى واحد أو اثنين.. ضمن نصيب من لم يُعطه من الثلاثة، وفي قدر ما يضمنه للواحد قولان: أحدهما: القدر المستحب، وهو الثلث؛ لأنه يستحب دفعه إليه. والثاني: أقل جزء من السهم؛ لأنه لو اقتصر على دفعه في الابتداء.. أجزأه. [فرع: من اجتمع فيه أسباب يعطى بسبب] ] : وإن اجتمع في شخص واحد سببان، وطلب أن يأخذ بهما.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يعطى بهما، ويخير في أيهما يأخذ) . وقال فيمن يجبي الصدقات ممن يليه، ويدفع العدو: (يُعطى من سهم سبيل الله، ومن سهم المؤلفة) .

مسألة: نقل الزكاة

واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق: ف [الأول] : منهم من قال: فيه قولان: أحدهما: يُعطى بهما؛ لأنه جمع معناهما. والثاني: يُعطى بأحدهما؛ لأنه شخص واحد. و [الطريق الثاني] : منهم من قال: يعطى بأحدهما، قولا واحدا، والذي قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن يجبي الصدقات، ويقاتل العدو، فإنما أراد: أن يُعطى من يجبي الصدقة من سهم المؤلفة، ومن يدفع العدو من سهم سبيل الله. و [الطريق الثالث] : منهم من قال: إن كان يستحق بسببين متجانسين، لحاجتنا إليه، أو لحاجته إلينا.. لم يعط بهما، وإنما يعطى بأحدهما، وإن كان يستحق بأحدهما لحاجتنا إليه، وبالآخر لحاجته إلينا أُعطى بهما. والذين يأخذون لحاجتنا إليهم: المؤلفة، والغارمون لإصلاح ذات البين، والعاملون، والغزاة، والباقون يأخذون لحاجتهم إلينا، وهذا كما نقول فيمن اجتمع فيه جهتا فرض في الميراث: فإنه لا يُعطى بهما، كالأخت للأب والأم، فإنها لو كانت أختًا لأب.. لأخذت النصف، ولو كانت أختا لأم.. لأخذت السدس، ولم تعط بهما. ولو اجتمع في شخص جهة فرض، وجهة تعصيب، كالزوج إذا كان ابن عم.. فإنه يُعطى بهما، فكذلك هذا مثله. [مسألة: نقل الزكاة] ] : قال الشافعي: (ولا تخرج الصدقات من بلد، وفيه أهله) . وجملة ذلك: أن من وجبت عليه الزكاة.. فإنه يفرقها في أصناف بلد المال، فإن نقلها عنهم إلى أصناف بلد آخر.. ففيه قولان: أحدهما: يجوز، وهو قول أبي حنيفة، وأبي العالية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الآية [التوبة: 60] . ولم يفرق.

والثاني: لا يجوز، وهو الأصح، وهو قول عمر بن عبد العزيز، ومالك، والثوري رحمة الله عليهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم» . وهكذا: لو أوصى بثلث ماله للمساكين، وأطلق.. فهل يجوز نقلها عن مساكين البلد؟ على هذين القولين: فمنهم من قال: القولان في جواز النقل، فأما الإجزاء: فإنه يجزئه، قولا ً واحدًا. ومنهم من قال: القولان في الإجزاء، وهو الأصح. واختلفوا في الموضع الذي ينقل إليه: فمنهم من قال: القولان إذا نقل عن البلد إلى مسافة تقصر فيها الصلاة، فأما إذا نقل إلى دون ذلك.. فيجوز، قولًا واحدًا؛ لأن ما دون مسافة القصر في حكم الحضر. ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو الأصح. إذا ثبت هذا: وقلنا: لا يجوز النقل.. فلا يخلو المزكي: إما أن يكون حضريًا، أو بدويًا. فإن كان حضريًا، كأهل الأمصار والقرى الذين يستوطنونها على الدوام.. فموضع الصدقة أهل المصر وأهل القرية.

فرع: مكان قسم الزكاة

قال الشيخ أبو حامد: وكذلك إذا كان في سواد البلد من هو من أهله على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. فهو كالحاضر في البلد؛ لأن من كان من الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. فهو من حاضريه. فإن كان البلد واسعًا، كالبصرة ومصر.. قال الصيمري: فليس كلهم جيرانه، بل جيرانه من قرب إليه، واتصل به. وقد اختلف في حد الجوار: فقيل: هم القبيلة. وقيل: هم أهل الدرب. وقيل: هم من يجمعهم المسجد. وقيل: من بينك وبينه أربعون دارًا. قال: ومن أصحابنا من حده بذلك. والصحيح: أنه ليس بتحديد، بل هو على سبيل التقريب، لاختلاف الدور والأماكن. فإن نقل صدقته من جيرانه إلى أقصى طائفة من بلده، إلا أنه لم يفارق البلد.. جاز، قولًا واحدًا. قال الصيمري: ويجوز أن يخرج على قولين، ويجوز أن يقال: إذا قلنا: إذا نقلها إلى بلد آخر أجزأه.. فهاهنا أولى. وإن قلنا ثم: لا يجوز.. فهاهنا وجهان، والصحيح: أنه يجوز، قولا واحدًا. [فرع: مكان قسم الزكاة] ] : قال الشيخ أبو حامد: فإن دخل إلى ذلك البلد قبل تفرقة الزكاة في أهله قوم غرباء، وخالطوهم، ونزلوا البلد نزول استيطان.. شاركوا أهل البلد في تلك الزكاة؛ لأنها لم تقسم في الجوار، وقد صار هؤلاء في الجوار. وإن كان عشر زرع أو ثمرة.. صرف ذلك إلى فقراء البلد الذي فيه الأرض. وإن كان مال تجارة.. صرفت صدقته في فقراء البلد الذي يحول حول التجارة وهو فيه. وإن كان في بادية حينئذ.. صرفت في فقراء أقرب البلاد إلى ذلك الموضع. وإن كان له أربعون من الغنم، في كل بلد عشرون، فأخرج شاة في إحدى البلدين.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (كرهت، وأجزأه) .

فمن أصحابنا من قال: يجوز، قولا واحدا؛ لأنه يشق إخراج الشاة في بلدين. ومنهم من قال: إنما ذلك على القول الذي يجوز نقل الصدقة. فأما على القول الذي يقول: لا يجوز.. فلا يجزئه، قولًا واحدا، وهو الأصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (كرهت، وأجزأه) . فلولا أنه أراد على أحد القولين.. لما قال: (كرهت) . وإن كان من وجبت عليه الزكاة بدويًا.. نظرت: فإن كانوا أهل حلل راتبة لا يظعنون عنها صيفًا ولا شتاء.. فحكمهم حكم أهل البلد؛ لأنهم لم يخالفوهم إلا في الأبنية. وإن كانوا أهل نجعة، وهو الذين إذا أخصب موضع رحلوا إليه، فإذا أجدبت رحلوا عنه.. نظرت: فإن كانت حللهم متفرقة.. اعتبر الجوار بالمال، لا برب المال، وحد الجوار: من كان منهم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة من موضع المال، فهو من أهل صدقة هذا المال المذكور، فيجوز الدفع إليه، قولًا واحدًا. وإن نقلت الصدقة عنهم إلى أبعد منهم.. كانت على الخلاف المذكور في نقل الصدقة عن أهل الحضر.

فرع: وجود بعض الأصناف المستحقة في البلدة

فإن كان معهم مساكين يتنقلون معهم أينما انتقلوا، وهناك قوم من جيرانهم لا يظعنون بظعنهم، وكانوا يقيمون بإقامتهم.. كان من ينتقل بانتقالهم أولى بالصدقة. فإن أعطى الآخرين.. جاز. وإن كانت حللهم مجتمعة، وكل حلة متميزة عن الأخرى.. ففيه وجهان: أحدهما: حكمهم حكم ما لو كانت حللهم متفرقة، على ما ذكرناه؛ لأنهم يجرون مجرى البيوت المتفرقة. والثاني: أن كل حلة منفردة بمنزلة البلد والقرية، فتفرق الصدقة عليهم؛ لأن أهل كل حلة يتميزون عن الحلة الأًخرى، كما يتميز أهل البلد. فإن نقلت الصدقة عنهم.. كان على الخلاف المذكور في نقل الصدقة. [فرع: وجود بعض الأصناف المستحقة في البلدة] ] : وإن وجد في بلد المال بعض الأصناف.. فهل يُغلب حكم البلد، أو حكم الأصناف؟ فيه وجهان: أحدهما: يًُغلب حكم البلد، فيدفع إلى من في البلد من الأصناف جميع الزكاة؛ لأن عدم الشيء في موضعه وإن كان موجودًا في غيره، بمنزلة عدمه أصلًا، كما نقول فيمن عدم الماء في موضعه: فإنه يحوز له التيمم وإن كان موجودًا في غيره. والثاني: يغلب حكم الأصناف، فيدفع إلى أصناف البلد حصتهم، وينقل حصة الباقين إليهم بأقرب البلاد إليه، وهو الأصح؛ لأن استحقاق الأصناف ثابت بنص القرآن، واعتبار البلد ثابت بخبر الواحد والقياس، فكان اعتبار ما ثبت بنص القرآن أولى. فإذا قلنا: يغلب البلد، فنقلها إلى غيرهم.. فهل يضمن؟ فيه قولان، كما في نقل الصدقة. وإذا قلنا: يغلب الصنف، ففرقها في البلد.. ضمن، قولًا واحدًا.

فرع: نقل الزكاة إلى القريب في البلد

[فرع: نقل الزكاة إلى القريب في البلد] فرع: [جواز نقل الزكاة إلى القريب في البلد] : وإذا كان الأجنبي أقرب إلى جواره، وله قريب أبعد منه، ولم يخرج عن البلد.. فالقريب أولى؛ لأنه قد حصل له حق الجوار، وإن كان قريبه في بلد آخر، فنقل الصدقة إليه.. فهل يجزئه؟ فيه قولان، كما لو نقلها إلى أجنبي. [مسألة: قسم الزكاة على الأصناف وفاضل] ] : وإن قسم الزكاة على جميع الأصناف في البلد، فكانت حصة كل صنف وفق حاجته، أو دون حاجته، أو كان نصيب بعض الأصناف وفق حاجته، ونصيب بعضهم دون حاجته.. دفع إلى كل صنف ما يخصه من غير زيادة ولا نقصان؛ لأن كل صنف ملك حصته، فلا ينقص. وإن كان نصيب بعضهم وفق حاجته، ونصيب بعضهم يفضل عن حاجته.. نقل ما فضل عن نصيب الآخرين إلى ذلك الصنف بأقرب البلاد إليه. وإن كان نصيب بعضهم يفضل عن حاجته، ونصيب البعض ينقص عن حاجته: فإن قلنا: المغلب حكم البلد.. نقل الفضل إلى من نقص نصيبه عن حاجته. وإن قلنا: المغلب حكم الأصناف.. نقل الفضل إلى ذلك الصنف في أقرب البلاد إليه. [مسألة: تنقل زكاة الفطر] ] : وإن وجبت عليه زكاة الفطر في بلد، وماله فيه فُرقت في ذلك البلد، فإن نقلها عنه.. كان على الخلاف المذكور في نقل الصدقة، وإن كان ماله في بلد، وهو في بلد آخر.. ففيه وجهان: أحدهما: أن موضع تفرقتها بلد المال، كزكاة المال. الثاني: أن موضع تفرقتها الموضع الذي هو فيه؛ لأن الزكاة تتعلق بعينه.

مسألة: استحقاق أهل السهام

وإن وجبت عليه نفقة قريب وفطرته، وهما في بلدين.. فالذي يقتضي المذهب: أن يُبنى على الوجهين في أنها وجبت على القريب، ثم تحملها عنه المؤدي، أو وجبت على المؤدي. فإن قلنا: وجبت على المؤدى عنه.. كان موضع تفرقتها بلد المؤدى عنه. وإن قلنا: وجبت على المؤدي.. كان موضع تفرقتها بلد المؤدي. [مسألة: استحقاق أهل السهام] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إنما يستحق أهل السهمان سواء العاملين يوم يكون القسم) ، وقال في موضع آخر: (إذا مات واحد منهم بعد وجوب الزكاة.. كان حقه لورثته، سواء كانوا أغنياء أو فقراء) . قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فالذي قال: (يعتبر وقت الوجوب، وإذا مات أحدهم نقل حقه إلى وارثه) أراد: إذا كانت الزكاة وجبت في بلد لقوم معينين، مثل: أن يكون في بلد ثلاثة من صنف لا غير.. فإن نصيب ذلك الصنف يتعين لهم، فلا يتغير بحدوث شيء، فلو كان واحد منهم فقيرًا عند الوجوب، وكان غنيًا وقت التفرقة.. لم يسقط حقه بغناه، وكذلك: إن دخل غريب فقير، واستوطن ذلك البلد بعد الوجوب، وقبل القسمة.. لم يشاركهم، وإن مات واحد من الثلاثة.. كان ما يخصه من السهم لوارثه، غنيًا كان أو فقيرًا. والموضع الذي قال: (يعتبر حال المدفوع إليه وقت القسمة) أراد: إذ وجبت الزكاة لقوم غير معينين، مثل: أن يكون في البلد أكثر من ثلاثة من كل صنف.. فإنها لا تتعين لواحد منهم؛ لأن لرب المال أن يعطي ثلاثة ممن شاء منهم. وإن كان غنيًا وقت الوجوب، وكان فقيرًا وقت القسمة.. أُعطي. وإن كان فقيرًا وقت الوجوب، ثم صار غنيًا وقت القسمة.. لم يعط. وإن دخل غريب قبل تفرقة الزكاة.. كان

مسألة: لا تصح الصدقة للنبي

كالواحد من فقراء البلد. وإن مات واحد من الفقراء قبل القسمة.. لم ينتقل نصيبه إلى وارثه. هذا نقل الشيخ أبي حامد والبغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 461] : لو كان مساكين القرية محصورين، ووجبت زكاة مال، فمات واحد من المساكين قبل وصول الصدقة إليه: فإن قلنا: لا يجوز نقل الصدقة.. دفع نصيبه إلى وارثه، سواء كان وارثه تحل له الصدقة أو لا تحل؛ لأن هذا الميت قد تعين لوجوب صرف بعض الصدقة إليه. وإن قلنا: يجوز نقل الصدقة.. لم يدفع إلى وارثه نصيبه. [مسألة: لا تصح الصدقة للنبي] - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآله] : كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تحل له الصدقة المفروضة؛ لما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى تمرة ملقاة، فقال: " لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة.. لأكلتها» . وأما صدقة التطوع: فقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمتنع منها، وهل كان يمتنع منها تنزيهًا، أو تحريما ً؟ فيه قولان: أحدهما: أنه كان يمتنع منها لأنها محرمة عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة» . ولم يفرق. والثاني: أنها كانت لا تحرم عليه؛ لأن الهدية كانت تحل له، فحلت له صدقة التطوع.

وأما آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب: فكانت الصدقة المفروضة لا تحل لهم، ولا يجزئ دفعها إليهم؛ لما روي: «أن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما - أخذ تمرة من الصدقة، ووضعها في فمه، وهو طفل، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كخٍ كخ، إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة» وإن منعوا حقهم من الخمس.. ففيه وجهان: أحدهما: تحل لهم الصدقة؛ لأنهم إنما حرموا الصدقة المفروضة؛ لما يأخذون من الخمس. والثاني: لا تحل لهم، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة» . ولم يفرق. وفي مواليهم وجهان: أحدهما: لا تحل لهم الصدقة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موالي القوم من أنفسهم» . والثاني: تحل لهم؛ لأنهم لا يلحقون بمواليهم في الشرف. هذا مذهبنا.

فرع: لا حق للإمام في الزكاة

وقال أبو حنيفة: (هذا الحكم يختص ببني هاشم، فأما بنو المطلب: فتحل لهم) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد» ، ولأنه حكم يتعلق بذوي القربى، فاستوى فيه الهاشمي والمطلبي في استحقاق خمس الخمس. [فرع: لا حق للإمام في الزكاة] ] : وأما الإمام: فلا حق له في الزكاة، وإن تولى قسمتها بنفسه.. لم يستحق سهم العامل؛ لأنه يستحق رزقه من بيت المال. والدليل عليه: ما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شرب لبنًا، فقيل له: هو من نعم الصدقة، فاستقاءه) . فإن قيل: فقد استهلكه، فأي فائدة في ذلك؟ قلنا: لأنه كره بقاء ما ليس له في جوفه، خوفًا من أن يتعود الناس ذلك. قال الشيخ أبو حامد: وكذلك: ينبغي لمن أكل طعامًا حرامًا أو شرب خمرًا أن يتقيأه. وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جيء بمسك، فوضع يده على أنفه، فقيل له في

مسألة: لا تدفع الزكاة لكافر

ذلك، فقال: وهل يراد من المسك إلا ريحه؟!) . وهذا نهاية الورع منه - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وأرضاه. [مسألة: لا تدفع الزكاة لكافر] ] : ولا يجوز دفع الزكاة إلى كافر، وروي ذلك عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما. قال الزهري، وابن سيرين: يجوز دفعها إلى المشركين. وقال أبو حنيفة: (يجوز صرف زكاة الفطر خاصة إلى أهل الذمة) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أعلمهم أن عليهم صدقة، توخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم» . وهذا خطاب للمسلمين.

مسألة: دفع الزكاة للوالد ونحوه

[مسألة: دفع الزكاة للوالد ونحوه] مسألة: [لا يجوز دفعها للوالد ونحوه] : إذا كان له والد أو ولد يجب عليه نفقته.. فلا يجوز له أن يعطيه من زكاته من سهم الفقراء والمساكين؛ لأن نفقته واجبة عليه، ويجوز أن يعطيه من سهم الغارمين؛ لأنه لا يجب عليه قضاء دينه، ويجوز أن يدفع إليه من سهم الغزاة مع الغنى والفقر، ولا يجوز له أن يدفع إليه من سهم المؤلفة مع الفقر؛ لأن نفعه يعود إليه. قال أصحابنا المتقدمون: ويجوز أن يعطي ولده ووالده الفقيرين من سهم العامل إذا كانا عاملين. قال القاضي أبو الفتوح: وهذا غير صحيح؛ لأنه لا يتصور أن يعطي الإنسان العامل شيئًا من زكاة ماله. وقال ابن الصباغ: أراد أصحابنا: إذا كان الدافع الإمام فيجوز له أن يعطي ولد رب المال ووالده من سهم العاملين إذا كان عاملًا من زكاة والده أو ولده. وإن كانا من أبناء السبيل فاختلف أصحابنا فيه: فقال المحاملي، وغيره من أصحابنا: لا يجوز أن يعطيه نفقته من زكاته؛ لأن نفقته عليه حاضراَ كان أو مسافرًا، ولكن يعطيه للحمولة؛ لأنه لا يجب عليه حمله. وقال ابن الصباغ، والقاضي أبو الفتوح: لا يعطيه قدر نفقة الحاضر، ويجوز أن يعطيه ما زاد على نفقة الحضر للسفر. قلت: ويحتمل أن يكون في ما زاد على نفقة الحضر وجهان مأخوذان من الوجهين في قدر نفقة العامل في القراض من مال القراض إذا قلنا: تجب فيه. وإن كان هذا القريب مكاتبًا.. فلا تجب عليه نفقته، ويجوز أن يعطيه من سهم الرقاب.

وإن أراد أجنبي أن يعطي هذا القريب الفقير الذي له من تجب عليه نفقته.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\456] : أحدهما: يجوز؛ لأنه لا مال له، ولا كسب، وهذا بصفة من تحل له الصدقة. والثاني: لا يُعطى؛ لأن غناه بقريبه الذي تجب عليه نفقته، بمنزلة غناه بمال نفسه. وإن كان لرجل زوجة فقيرة، وهو غني.. فهل يجوز لغير الزوج أن يعطيها من الزكاة؟ على هذين الوجهين. وإن أراد الزوج أن يعطيها من زكاته لم تخل: إما أن تكون مقيمة، أومسافرة: فإن كانت مقيمة.. لم يجز له أن يعطيها من سهم الفقراء والمساكين؛ لأنها إن كانت تحت طاعته.. فهي مستغنية بوجوب النفقة عليه، وإن كانت ناشزة.. فيمكنها الرجوع إلى طاعته. وإن كانت مسافرة.. نظرت: فإن كانت سافرت مع الزوج بإذنه.. فنفقتها وحمولتها عليه، وإن سافرت معه بغير إذنه.. فنفقتها عليه؛ لأنها في قبضته، ولا تجب عليه حمولتها، ولا يجوز له أن يعطيها للحمولة من زكاته؛ لأنها عاصية بسفرها. هكذا ذكرها في " المجموع ". وذكر الشيح أبو حامد في " التعليق ": يجوز له أن يعطيها من زكاته للحمولة، وإن سافرت وحدها بغير إذنه.. لم يجز له أن يعطيها شيئًا من سهم ابن السبيل؛ لأنها عاصية. قال الشيخ أبو حامد: ويجوز أن يُعطيها من سهم الفقراء والمساكين؛ لموضع حاجتها. وقال ابن الصباغ: يعطيها إذا أرادت الرجوع؛ لأنه طاعة، وإن أرادت السفر.. لم يعطها شيئًا، ويفارق الناشزة إذا كانت حاضرة؛ لأنه يمكنها المعاودة إلى طاعته، وهاهنا: لا يمكنها المعاودة في حال سفرها.

فرع: دفع المرأة زكاتها لزوجها

وإن خرجت وحدها بإذنه.. فهل تسقط نفقتها؟ فيه قولان: ف [الأول] : إن قلنا: تسقط.. جاز أن يعطيها للنفقة والحمولة من الزكاة. و [الثاني] : إن قلنا: لا تسقط.. لم يُعطها للنفقة، ولكن يعطيها للحمولة؛ لأنها لا تجب عليه. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد، وأصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 456] هل للزوج صرف زكاته إلى زوجته الفقيرة؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنها غنية به. والثاني: يجوز؛ لأن نفقتها عليه بمنزلة الأجرة في الإجارة، ولو استأجر أجيرًا فقيرًا.. جاز له صرف زكاته إليه. وإن أراد الزوج أن يُعطي زوجته من سهم الفقراء والمساكين - ولا يتصور أن تكون عاملة؛ لأن المرأة لا تلي العمالة، ولكن يتصور أن تكون مكاتبة وغارمة - فيعطيها من هذين السهمين. [فرع: دفع المرأة زكاتها لزوجها] فرع: [تدفع المرأة زكاتها لزوجها] : وإن كانت الزوجة غنية، والزوج فقيرًا.. فيجوز لها أن تدفع إليه من سهم الفقراء والمساكين، وكذلك: إذا كان من باقي الأصناف. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) . دليلنا: أن النكاح عقد معاوضة، فلم يمنع من دفع الصدقة، كالبيع والإجارة، ولأن بينهما نسبًا لا تجب به نفقته عليها، فجاز لها أن تدفع إليه من زكاتها، كنسب ابن العم.

مسألة: لا تصرف الزكاة إلى الرقيق

[مسألة: لا تصرف الزكاة إلى الرقيق] ] : ولا يجوز صرف الزكاة إلى عبد؛ لأن نفقته على مولاه، ولا يحوز دفعها إلى صبي؛ لأنه لا يصح قبضه، بل يدفعها إلى وليه إن كان الصبي محتاجًا. [مسألة: استرجاع الزكاة] ] : إذا دفع الإمام الزكاة إلى من ظاهره الفقر، فبان غنيا.. استرجع منه إن كان باقيًا، وإن كان تالفًا.. أخذ منه البدل، وصرف إلى فقير. وإن لم يكن له مال.. لم يجب على رب المال أن يخرج الزكاة ثانيًا؛ لأن الزكاة قد سقطت عنه بدفعها إلى الإمام، ولا يجب على الإمام ضمان؛ لأنه أمين غير مفرط؛ لأن حال الغنى يخفى من حال الفقر. وإن كان الذي دفع إليه رب المال.. لم يجزه، فإن بين عند الدفع أنها زكاة.. فله أن يرجع. وإن لم يبين.. لم يرجع؛ لأنه قد يدفع الواجب والتطوع، فلم يرجع إلا بالشرط، بخلاف الإمام، فإن له أن يرجع بكل حال. فإن بين أنها زكاة، ولم يجد للمدفوع إليه مالا، أو لم يبين.. فهل يجب على رب المال أن يخرج الزكاة ثانيًا؟ فيه قولان: أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه دفع الزكاة باجتهاده، فهو كالإمام. والثاني: يلزمه؛ لأن الإمام لا يتمكن من أكثر مما يعلمه، فلم يكن منه تفريط، ورب المال قد كان يمكنه أن يدفع إلى الإمام. فإذا لم يفعل.. لزمه الضمان. ولهذه المسألة نظائر قد ذكرناها في (استقبال القبلة) .

مسألة: لا تسقط الزكاة بالموت

وإن دفع الزكاة إلى من ظنه مسلمًا، فبان كافرا، أو إلى رجل ظنه حرا، فبان مملوكًا، أو إلى من ظنه عاميًا، فبان هاشميًا أو مطلبيًا.. ففيه طريقان: أحدهما - وهو ظاهر النص -: إن كان الدافع هو الإمام.. فلا شيء عليه، قولًا واحدًا، وإن كان رب المال.. ففيه قولان، كالأولى. والطريق الثاني: إن كان الدافع هو رب المال.. لزمه الضمان، قولا واحدًا، وإن كان هو الإمام.. فعلى قولين؛ لأن أمر هؤلاء لا يخفى بحال، بخلاف الفقير. وإن دفع سهم الغازي، أو سهم المؤلفة، أو سهم العامل، إلى من ظنه رجلًا، فبان أنه امرأة أو خنثى.. قال القاضي أبو الفتوح: فيه طريقان، كالتي قبلها. [مسألة: لا تسقط الزكاة بالموت] ] : إذا وجبت عليه الزكاة، ثم مات قبل أن يؤديها.. لم تسقط عنه. وقال أبو حنيفة: (تسقط) . دليلنا: أنه حق مال لزمه في حال الحياة، فلم يسقط بالموت، كدين الآدمي، وفيه احتراز من الصلاة، وممن مات قبل الحول. إذا ثبت هذا: فإن اجتمعت مع دين عليه، فإن اتسعت التركة للجميع.. قضي الجميع. فإن ضاقت التركة.. ففيه ثلاثة أقوال، مضى ذكرها. وبالله التوفيق

باب صدقة التطوع

[باب صدقة التطوع] لا يجوز أن يتصدق بصدقة التطوع إلا بعد الفضل عما يجب عليه، كنفقة نفسه ونفقة عياله ودينه؛ لما روى ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وليبدأ أحدكم بمن يعول» . قال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: معناه: (عن فضل عياله) . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا يقبل الله صدقة رجل، وذو رحمه محتاج» وقال أبو علي الطبري: فيحتمل أن يكون معناه: لا يقبل الله التطوع أصلًا، وعليه فريضة، فيكون فيه دليل على وجوب نفقة ذوي الأرحام، ودليل على أن وجوب الفرض يمنع من قبول النفل، ويحتمل أن يكون معناه: لا يقبلها كقبولها إذا تصدق بها على ذوي الرحم المحتاج، على معنى: «لا إيمان لمن لا أمانة له» ، أي: لا إيمان له كامل.

قال الصيمري: وقد قيل: ما أفلح رجل احتاج أهله إلى غيره. وروي: «أن رجلًا قال: يا رسول الله، عندي دينار، قال: " أنفقه على نفسك ". قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على زوجتك ". قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على ولدك "، قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على خادمك "، فقال: عندي آخر، قال: " أنت أعلم به "، وروي " أنفقه في سبيل الله» . ولأنه إذا كان عليه نفقة واجبة، أو دين، وتصدق بماله.. ربما تعذر عليه القضاء، وكان مرتهنًا به. قال ابن الصباغ: فأما إذا فضل عن كفايته وكفاية من تلزمه نفقته على الدوام، ولا دين عليه.. فإنه يستحب له أن يتصدق بالفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليتصدق الرجل من ديناره، وليتصدق من درهمه، وليتصدق من صاع بره، وليتصدق من صاع تمره» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» .

وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» . وإذا أراد الرجل أن يتصدق بجميع ماله، إذا كان لا عيال له، ولا دين عليه، فإن كان قوي الإيمان، حسن المعرفة بالله والظن، بحيث إذا فعل ذلك، وأصابته شدة حاجة، صبر عليها.. استحب له ذلك، لما روي «عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: حث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصدقة، فقلت في نفسي: لأسبقن أبا بكر غدا إن سبقته يوما، فلما جاء الغد.. جئت بنصف مالي، فوجدت أبا بكر قد سبقني، وقد حمل جميع ماله، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما الذي خلفت لعيالك؟ "، فقال الله ورسوله، فقال لي " ما الذي خلفت لعيالك؟ "، فقلت: شطر مالي، فقلت في نفسي: لا أسبقك في شيء أبدًا، وروي: والله، لا سابقت أبا بكر أبدًا» . وإنما قبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أبي بكر جميع ماله؛ لقوة إيمانه وحسن ظنه بالله تعالى. وإن كان الرجل ممن لا يصبر على الحاجة.. كره له ذلك؛ لما روي: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل البيضة من الذهب، وقال: خذها يا رسول الله صدقة، فوالله ما أصبحت أملك مالًا غيرها، فأخذها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورمى بها إليه، حتى لو أصابته لأوجعته أو لعقرته، وقال: " يأتي أحدكم، فيتصدق بجميع ماله، ثم يجلس يستكف الناس! خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» .

وروى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «دخل رجل المسجد، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس أن يطرحوا ثيابًا، فطرحوا، فأمر له منها بثوبين، ثم حث على الصدقة، فجاء الرجل، فطرح أحد الثوبين، فصاح به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: " خذ ثوبيك» . فيحمل هذا على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنهما لا يصبران كصبر أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. يدل على ذلك: ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «إن لله عبادا لا يصلحهم إلا الغنى، ولو أفقرهم لأطغاهم، وإن لله عبادًا لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغناهم لأطغاهم» . إذا ثبت هذا: فيستحب أن يخص بصدقته قرابته؛ «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لامرأة عبد الله بن مسعود: " زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم» .

قال أبو علي الطبري: ويقصد بصدقته من قرابته أشدهم عداوة له؛ لما فيه من تأليف قلبه، ورده إلى المحبة، ولما فيه من سقوط الرياء، فإن لم يكن له قرابة محتاجون، فالجار القريب إلى داره أولى من البعيد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى خشيت أنه سيورثه» .

قال الصيمري: ولا بأس بصدقة التطوع على المسلم والكافر والذمي والحربي، وإن كان يستحب أن يخص بها خيار الناس، وقد روي: «لا يأكل طعامك إلا مسلم» . ويستحب الإسرار بها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقة السر تطفئ غضب الرب» . قال الصيدلاني: فإن أبداها لا يريد رياء ولا سمعة، ولكن ليقتدى به، فحسن، ولا يستحب التعرض لأخذها؛ لما روي: «أن رجلًا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأعطاه فأسًا،

وقال: " احتطب» . ولا يحل للغني أخذها مظهرًا الفاقة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سأل الناس وهو غني جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح» . وتحل صدقة التطوع لبني هاشم وبني المطلب؛ لما روي عن جعفر بن محمد: أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، فقيل له في ذلك. فقال: (إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة) . وبالله التوفيق

كتاب الصيام

[كتاب الصيام]

كتاب الصيام الصوم في اللغة: هو الإمساك والكف عن كل شيء، يقال لمن سكت ولم يتكلم: صائم، قال الله تعالى في قصة مريم {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] [مريم: 26] . يعني: صمتا. ويقال: صامت الشمس: إذا وقفت للزوال، وصامت الخيل: إذا أمسكت عن السير، قال الشاعر النابغة: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأُخرى تعلك اللجما يعني: خيلا واقفة عن السير، وخيلًا غير واقفة، بل في الحرب. وأما الصوم في الشرع: فهو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع. وهو من الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع بنقصان. والأصل في وجوبه: الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] [البقرة: 183]

ثم بين ما ذلك الصيام؟ فقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] [البقرة: 185] . وأما السنة: فما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان» . وروى طلحة بن عبيد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه في «حديث الأعرابي الذي سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الإسلام ... إلى أن قال: فما افترض الله علي من صوم؟ قال: "شهر رمضان» . وهو إجماع لا اختلاف بين الأُمة في وجوبه. إذا ثبت هذا: فاختلف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم - لم سمي: رمضان؟ فقال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: سمي بذلك؛ لأنه يرمض الذنوب ويحرقها. وحُكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: إنما سمي بذلك؛ لأنه وافق ابتداء الصوم زمنًا حارًا، فكان يرمض فيه الفصيل. يعني: يحترق من شدة الحر.

إذا تقرر ما ذكرناه: فروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا تقولوا: جاء رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: جاء شهر رمضان» . وهذا يقتضي أنه يكره أن يقال: جاء رمضان. ثم روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا.. غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «جاء رمضان الشهر المبارك» . وهذا بخلاف الخبر الأول.

قال أصحابنا: فيحتمل أنه يريد: يكره أن يقال: حاء رمضان من غير قرينة تدل على أنه الشهر، فإن قرنه بقرينة بما يدل على أنه الشهر، من ذكر الصوم، أو الشهر.. لم يكره. واختلف الناس في أول ما فرض الله تعالى من الصوم: فقيل: (إن أول ما فرض الله تعالى من الصيام صوم عاشوراء) وقيل: لم يكن فرضًا، وإنما كان تطوعًا. وحُكي عن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة أمر بصيام ثلاثة أيام من كل شهر» ، وهي الأيام التي قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] [البقرة: 183 - 184] ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان) وكان الناس في أول الإسلام إذا صاموا.. يحل لهم الطعام والشراب والجماع من حين تغيب الشمس إلى أن يصلوا العشاء، أو يناموا، فإن صلوا العشاء، أو ناموا قبل ذلك.. حرم عليهم إلى القابلة، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] الآية [البقرة: 187] . وكانوا في أول الإسلام يخير المطيق منهم للصوم: بين أن يصوم، أو يفطر ويفدي عن كل يوم مدا من طعام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] .

مسألة: شروط وجوب الصوم

ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] [البقرة: 185] وروي عن ابن عباس: (أن قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] إنما نزلت في الشيخ الهم والشيخة الهمة، فأما الشبان الذين يطيقون الصوم: فكان لازمًا لهم) . والصحيح هو الأول. [مسألة: شروط وجوب الصوم] ] : ويتحتم وجوب الصوم على كل مسلم بالغ عاقل طاهرٍ قادر مقيم. فأما الكافر: فإن كان أصليا.. فلا خلاف أنه لا يصح منه في حال كفره، ولا خلاف أنه لا يجب عليه القضاء بعد الإسلام، وهل هو مخاطب به في حال كفره، ويأثم بتركه؟ فيه وجهان لأصحابنا، مضى ذكرهما. وإن كان مرتدًا.. فلا يصح منه في حال الردة، ولكنه يأثم بتركه، وإذا أسلم.. وجب عليه قضاؤه؛ لأنه قد التزم ذلك بالإسلام، فلم يسقط بالردة. وأما الصبي: فلا يجب عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ولأنه عبادة بدنية،

فلم يجب على الصبي كالصلاة، ولا تدخل عليه العدة، فإنها تجب على الصغيرة؛ لأنها ليست من أفعال البدن، وإنما هي مرور الزمان، فإذا بلغ الصبي حد التمييز، وكان يطيق الصوم وجب على الولي أن يأمره بفعله، فإذا قارب البلوغ.. كان له أن يضربه إذا لم يصم، كما قلنا: في الصلاة، فإذا بلغ.. لم يجب عليه قضاء ما تركه في حال الصغر؛ لأن زمان الصغر يطول، فلو أُو لزم بقضائه.. شق وضاق. وأما المجنون: فلا يجب عليه فعله في حال جنونه؛ للخبر، فإن أفاق بعد مضي رمضان.. لم يجب عليه قضاء ما فاته في حال الجنون. وقال مالك، وأحمد رحمة الله عليهما في أحد الروايتين: (يجب عليه قضاؤه) وحكي ذلك عن أبي العباس ابن سريج. وقيل: لا يصح ذلك عن أبي العباس. دليلنا: أنه صوم فات في حال يسقط فيه التكليف؛ لنقص، فلم يجب قضاؤه، كما لو فات في حال الصغر. فقولنا: (لنقص) احتراز من الصوم الفائت في المرض. وإن زال عقله بالإغماء.. لم يجب عليه قضاؤه في الحال؛ لأنه لا يصح منه، وإن أفاق.. وجب عليه القضاء؛ لأن الإغماء ليس بنقص، ولهذا يجوز على الأنبياء، فهو كالمرض. والجنون نقص، ولهذا لا يجوز على الأنبياء، فشابه الصغر والكفر.

وإن أسلم الكافر في أثناء نهار رمضان.. استحب له إمساك بقية النهار؛ لحرمة الوقت، ولا يجب عليه؛ لأنه أفطر بعذر، وهل يجب عليه قضاء هذا النهار؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه لا يجب عليه) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يجب ما قبله» ، ولأنه لم يدرك من الوقت ما يتمكن فيه من فعل الصوم، فهو كمن أدرك من الوقت قدر ركعة، ثم جن. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يلزمه قضاؤه، وهو قول أحمد، وإسحاق، والماجشون؛ لأنه أدرك جزءًا من الوقت ولا يمكن فعل ذلك الجزء من الصوم إلا بصوم يوم، فوجب أن يقضيه بيوم، كما نقول في المحرم إذا وجب عليه في كفارة نصف مد، وأراد الصوم.. فإنه يصوم عنه يومًا وإن أفاق المجنون في أثناء نهار صوم رمضان.. لم يجب عليه إمساك بقية النهار، وهل يلزمه قضاء هذا اليوم؟ فيه وجهان، كالوجهين اللذين ذكرناهما في الكافر. والمنصوص: (أنه لا يلزمه) . وقال أبو حنيفة، والثوري: (يلزمه قضاء ما فاته من الشهر) . قال أبو العباس: وقد حكى المزني هذا في المأثور عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا

يصح عنه، وهو يدل أن الحكاية التي حُكيت عن أبي العباس إذا أفاق بعد شهر.. أنه يلزمه قضاؤه، لا تصح عنه. ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . ولأن الجنون لو دام جميع الشهر.. يسقط قضاؤه، فكذلك إذا دام في بعضه. وإن بلغ الصبي في أثناء شهر رمضان ... نظرت: فإن بلغ بالليل.. لزمه صوم ما بقي منه، وإن بلغ في أثناء النهار، وكان مفطرًا أول النهار.. لم يلزمه إمساك ما بقي من النهار، ولكن يستحب له، وهل يجب عليه قضاؤه؟ فيه وجهان، كالوجهين في الكافر والمجنون. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وأما المسعودي [في " الإبانة "ق\ 160] : فقال: إذا أسلم الكافر، أو أفاق المجنون، أو بلغ الصبي في أثناء نهار شهر رمضان، وكان مفطرًا.. فهل يلزمهم إمساك بقية النهار؟ فيه أربعة أوجه: أحدها: لا يلزمهم ذلك؛ لأن من لم يلزمه الصوم في أول النهار.. لم يلزمه في آخره، كالحائض إذا طهرت، والمسافر إذا قدم وقد أكل. والثاني: يلزمهم إمساك بقية النهار؛ لأنهم صاروا مخاطبين في بعض النهار، فجعل كأنهم خوطبوا في أوله، فيلزمهم التشبه بالصائمين وإن لم يصح صومهم؛ لأنهم لم ينووا الصوم. والثالث: يلزم الكافر دون المجنون والصبي؛ لأن الكافر غير معذور في كفره، وهما معذوران في إفطارهما. والرابع: يلزم الكافر والصبي دون المجنون؛ لأن الصبي والكافر كان يصح صومهما إذا أتيا بشرائطه، دون المجنون؛ فلما لم يفعلا في أوله.. لزمهما التشبه بالصائمين في آخره. وهل يلزمهم قضاء هذا اليوم؟ على هذه الأربعة الأوجه. وإن بلغ الصبي في أثناء نهار شهر رمضان وهو صائم.. ففيه وجهان:

مسألة: صوم الحائض والنفساء

أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يلزمه الإتمام، ولا يجب عليه القضاء) ؛ لأنه صار من أهل الوجوب في أثنائه، فلزمه إتمامه، كما لو دخل في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه. والثاني: يستحب له الإتمام، ويجب عليه القضاء؛ لأنه لم ينو صوم الفرض من أوله. [مسألة: صوم الحائض والنفساء] ] : وأما الحائض والنفساء: فلا يصح صومهما، ولا يجوز لهما أن يمسكا بنية الصوم، فإن فعلتا.. أثمتا؛ لما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حاضت المرأة.. لم تصم، ولم تصل، وذلك نقصان دينها» ، فإذا طهرتا.. وجب عليهما قضاء الصوم؛ لما روي «عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت في الحيض: (كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» . فإن طهرتا في أثناء شهر رمضان.. لم يجب عليهما إمساك بقية النهار.

مسألة: صوم الشيخ العجوز

وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي: (يلزمهما إمساك بقية النهار) . دليلنا: أنهما أفطرتا بعذر، فلم يلزمهما إمساك بقية النهار. [مسألة: صوم الشيخ العجوز] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأما الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة اللذان لا يقدران على الصوم: فيجوز لهما الإفطار) . قال الشيخ أبو حامد: ولم يرد بذلك: أنه لا يمكنهما أن يمسكا يومهما عن الطعام والشراب؛ لأنه ما من أحد إلا ويمكنه هذا، وإنما يريد به: أنهما تلحقهما بذلك المشقة الشديدة، فلكل واحد منهما أن يفطر، وهل يلزمه أن يفدي؟ فيه قولان: أحدهما: لا يلزمه، وبه قال مالك، وأبو ثور؛ لأنه يسقط عنه فرض الصوم، فلم تجب عليه الفدية، كالصبي والمجنون. والثاني: يلزمه، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وأحمد رحمة الله عليهم، إلا أن أبا حنيفة قال: (يطعم عن كل يوم نصف صاع من حنطة، أو صاعًا من تمر) . وقال أحمد رحمة الله عليه: (يطعم مدًا من بر، أو نصف صاع من تمر أو شعير) . وعندنا: يطعم عن كل يوم مدًا من طعام.

ووجهه: أن الناس كانوا مخيرين في أول الإسلام بين أن يصوموا، وبين أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مدًا من طعام، فنسخ ذلك في حق من يطيق الصوم، وبقيت الرخصة في حق من لا يطيقه. وروي هذا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وأما المريض: فإن كان مرضًا لا يرجى زواله، وأجهده الصوم.. فهو كالشيخ الذي يجهده الصوم، وإن كان مرضًا يرجى زواله، فٍإن كان مرضًا يسيرًا لا يشق معه الصوم.. لم يجز له الإفطار وقال داود: (يجوز له الإفطار) . دليلنا: أنه لا يخاف المشقة من الصوم، فلم يجز له الإفطار، كالصحيح. وإن كان يخاف التلف من الصوم، أو زيادة العلة.. جاز له الإفطار، فإذا برئ وجب عليه القضاء. وقال عطاء، وأحمد: (لا يفطر حتى يغلب) . وقال الشعبي: لا يفطر حتى يخشى أو يغلب. وقال الأوزاعي: (إذا خشي على نفسه.. جاز له أن يشرب الماء) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] . وقد ثبت أن المسافر يجوز له أن يفطر وإن لم يكن مغلوبًا، فكذلك هذا مثله، فإن أصبح صائمًا، وهو صحيح، ثم مرض.. جاز له أن يفطر؛ لأن العذر موجود.

مسألة: الصوم في السفر

[مسألة: الصوم في السفر] ] : وأما المسافر: فإن كان سفره لا يبلغ ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمي.. لم يجز له أن يفطر، وإن كان يبلغ ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي في غير معصية.. جاز له أن يفطر؛ للآية. وقال بعض الناس: يجوز له الإفطار في السفر الطويل والقصير. وقال أبو حنيفة: (لا يفطر إلا في سفر يبلغ ثلاثة أيام) . وقد مضى ذكر ذلك في (القصر) . فإن صام المسافر.. صح صومه. وقال أبو هريرة: (لا يصح صومه) . وبه قال داود وأهل الظاهر، والشيعة. دليلنا: ما روي: «أن حمزة بن عمرو الأسلمي: قال: يا رسول الله، أصوم في السفر؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن شئت.. فصم، وإن شئت.. فأفطر» وروي «عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن قال: (سافرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنا من

صام، ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم» . إذا ثبت هذا: فإن كان ممن لا يجهده الصوم.. فالأفضل أن يصوم، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وروي ذلك: عن أنس، وعثمان بن أبي العاص. وقال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: (الفطر أفضل) ، وروي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، وحكاه الطبري في " العدة " وجهًا لبعض أصحابنا. والمشهور من المذهب هو الأول. والدليل عليه: ما روى سلمة بن المحبق: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كانت له حمولة تأوي إلى شبع.. فليصم رمضان حيث أدركه» ولأن من خير بين الصوم والإفطار.. كان الصوم أفضل، كالمتطوع. وإن كان يجهده الصوم.. فالأفضل أن يفطر؛ لما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر

فرع: القضاء في رمضان للمسافر

برجل في سفره تحت ظل شجرة يرش عليه الماء، فسأل عنه، فقالوا: صائم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس من البر الصيام في السفر» . [فرع: القضاء في رمضان للمسافر] ] : فإن صام المسافر في رمضان عن غير رمضان، كالنذر والكفارة والقضاء.. لم يصح صومه، ولم يقع عن رمضان، وبه قال أكثر الفقهاء. وقال أبو حنيفة: (يقع عما نواه) . دليلنا: أنه يخير بين الإفطار والصوم، فلم يصح صومه فيه عن غير رمضان، كالمريض. [فرع: السفر بدخول رمضان] ] : وإن دخل عليه شهر رمضان، وهو مقيم.. جاز له أن يسافر، ولا يتحتم عليه الصوم. وقال أبو مجلز: (إذا حضر شهر رمضان.. فلا يسافرن أحد، فإن كان لا بد.. فليصم إذا سافر) .

فرع: إفطار الصائم في السفر

وقال عبيدة السلماني، وسويد بن غفلة: يتحتم عليه الصوم بقية الشهر. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] معناه: فأفطر فعدة من أيام أخر، ولم يفرق بين أن يسافر في رمضان أو قبله. [فرع: إفطار الصائم في السفر] ] : وإن نوى المسافر الصوم، ثم أراد أن يفطر في أثناء النهار.. ففيه وجهان: أحدهما: يجوز له أن يفطر، كالصحيح إذا أصبح صائمًا، ثم مرض. والثاني - وهو قول الشيخ أبي إسحاق -: أنه لا يجوز له الإفطار في هذا النهار؛ لأنه قد دخل في فرض المقيم، فهو كما لو أحرم المسافر بالصلاة، ونوى الإتمام.. فإنه لا يجوز له قصرها. وإن أصبح صائمًا في الحضر، ثم سافر.. لم يجز له أن يفطر في هذا النهار، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعي. وقال أحمد، وإسحاق، وداود، والمزني: (يجوز له أن يفطر) . واختاره ابن المنذر؛ ل: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج من المدينة عام الفتح حتى أتى كراع الغميم، فأفطر» دليلنا: أن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر، فإذا اجتمعا، غلب حكم الحضر، كالصلاة.

فرع: زوال العذر في أثناء الصوم

وأما الخبر: فإنما أفطر بكراع الغميم في اليوم الثاني؛ لأن بينه وبين المدينة كثيرًا. ولو نوى الحاضر الصوم قبل الفجر، ثم سافر، ولا يدري هل سافر قبل الفجر، أو بعده؟ قال الصيمري: لم يجز له أن يفطر. ولو سافر بعد الفجر، وقبل أن ينوي الصوم.. لزمه إمساك ذلك اليوم؛ لأنه سافر بعد أن تعين عليه الصيام، ولا يجزئه عن الصوم؛ لأنه لم ينوه. [فرع: زوال العذر في أثناء الصوم] ] : إذا قدم المسافر بلده في أثناء نهار رمضان، وهو مفطر، أو برئ المريض، وقد كان أفطر، أو طهرت الحائض أو النفساء.. لم يلزمهم إمساك بقية النهار. وقال أبو حنيفة: يلزمهم إمساك بقية النهار) دليلنا: أن من لم يلزمه الإمساك أول النهار، لا في الظاهر ولا في الباطن.. لم يلزمه إمساك بقيته، كما لو دامت هذه الأعذار. وإن قدم المسافر، أو أقام وهو صائم، أو برئ المريض وهو صائم.. فهل يلزمهما إتمام الصوم؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي على بن أبي هريرة -: أنه لا يلزمهما؛ لأنه أبيح لهما الفطر أول النهار، ظاهرًا أو باطنًا، فأبيح لهما في آخره، كما لو أفطرا. والثاني - وهو قول أبي إسحاق، وهو ظاهر النص -: أنه يلزمهما إتمام الصوم؛ لأنه زال سبب الرخصة قبل الترخص، فهو كما لو استفتح الصلاة في السفر، ثم أقام أو اتصل بدار إقامته. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 160] : الوجهان إذا قدم، ولم ينو الصوم من

فرع: وطء المسافر المفطر

الليل، ولم يفطر. فأما إذا كان قد نوى الصوم من الليل، وقدم قبل أن يأكل.. لزمه إتمام الصوم، وجهًا واحدًا. [فرع: وطء المسافر المفطر] وإن قدم المسافر وهو مفطر، فوجد امرأته قد طهرت من الحيض في ذلك اليوم.. جاز له وطؤها. وقال الأوزاعي: (لا يجوز) . دليلنا: أنه أبيح لهما الإفطار، فلا يحرم وطؤها، كما لو كانا مسافرين. [مسألة: صوم الحامل والمرضع] ] : وإن خافت الحامل والمرضع على أنفسهما.. أفطرتا، وعليهما القضاء، دون الكفارة، كالمريض. وإن خافتا على ولديهما.. أفطرتا، وعليهما القضاء، وفي الفدية ثلاثة أقوال: أحدها - وهو الصحيح -: أن عليهما الكفارة لكل يوم مد من طعام، وبه قال أحمد بن حنبل، إلا أنه يقول: (مد من بر، أو مدان من تمر أو شعير) . والدليل على ما ذكرناه: ما روي عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -

وأرضاهم: أنهما قالا: (الحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما.. أفطرتا، وأطعمتا مكان كل يوم مسكينًا) . ولا يعرف لهما مخالف. والقول الثاني: تجب الفدية على المرضع دون الحامل، وهي إحدى الروايتين عن مالك؛ لأن الحامل أفطرت لمعنى فيها، فهي كالمريض، بخلاف المرضع. والثالث - حكاه أبو علي في " الإفصاح "، وليس بمشهور -: أنه لا يجب على واحدة منهما كفارة، وهو قول الزهري، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة؛ لأنه إفطار لعذر، فلم تجب به الكفارة، كإفطار المريض. وروي عن ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما -: أنهما قالا: (لا تجب عليهما الكفارة دون القضاء) دليلنا: أنه إفطار بعذر يزول، فوجب فيه القضاء، كالمرض.

مسألة: شرط وجوب الصوم

[مسألة: شرط وجوب الصوم] ] : ولا يجب صوم رمضان إلا بدخول الشهر، ودخول الشهر يعلم بأمرين: إما برؤية الهلال، أو باستكمال شعبان ثلاثين يومًا، هذا قول كافة الفقهاء. وقال بعض الناس: يعلم دخوله بذلك، ويعلم بالحساب والنجوم: أن الهلال قد أهل، فيلزمه، وهذا ليس بصحيح، لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم.. فأكملوا العدة ثلاثين يومًا» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة، ولا تفطروا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة ثلاثين» .

فرع: معرفة خطأ بداية رمضان

وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من أتى كاهنا أو عرافا، فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» . وهذا يمنع من الرجوع إلى قول المنجمين. [فرع: معرفة خطأ بداية رمضان] ] : فإن أصبحوا يوم الثلاثين من شعبان وهم يظنون أنه من شعبان، ثم قامت البينة أنه من شهر رمضان.. لزمهم قضاؤه.

فرع: رؤية الهلال نهارا

وقال أبو حنيفة: (إذا نووا الصوم.. أجزأهم) . وبناه على أصله: أن النية تصح من النهار، والكلام عليه يأتي. دليلنا: أنه لم ينوه من الليل، فلم يجزه، وهل يلزمهم إمساك بقية النهار؟ فيه قولان: أحدهما: لا يلزمهم؛ لأنه أبيح لهم الفطر، فلم يجب عليهم الإمساك، كالحائض إذا طهرت. والثاني: يلزمهم، وهو الصحيح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في التعليق غيره؛ لأنه أبيح لهم الفطر بشرط أنه من شعبان، وقد بان أنه من رمضان. فإذا قلنا: بهذا: فهل يكون صوما شرعيًا يثابون عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يكون صومًا شرعيًا، ولا يثابون عليه؛ لأنه لا يعتد به، فهو كما لو أكل عامدًا، ثم أمسك بقية النهار. والثاني: يكون صومًا شرعيًا، ويثابون عليه، وهو الصحيح؛ لأن ذلك حصل بغير تفريط، بخلاف من أكل عامدًا، فإنه مفرط. قال ابن الصباغ: ويجب أن يقال: إن في الإمساك الواجب ثوابًا بكل حال، وإن لم يكن ثواب مثل ثواب الصوم. قال: وحكى الشيخ أبو حامد، عن أبي إسحاق: أنه إذا لم يأكل، ثم أمسك فإنه يكون صائمًا من حين أمسك. قال ابن الصباغ: وهذا لا يجيء على مذهب الشافعي؛ لأنه واجب، فلا يصح بنيته من النهار، ولأنه لا يجزئه عن رمضان، ولا يقع نفلًا في رمضان، قال: وينبغي أن يكون ما قاله أبو إسحاق: أنه إمساك شرعي، يثاب عليه خاصة. [فرع: رؤية الهلال نهارًا] ] : وإن رئي الهلال بالنهار، فهو لليلة المستقبلة، سواء رئي قبل الزوال أو بعده، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.

فرع: اختلاف المطالع

وقال الثوري، وأبو يوسف: إن رئي قبل الزوال.. فهو لليلة الماضية، وإن رئي بعد الزوال.. فهو لليلة المستقبلة، سواء كان في أول الشهر أو في آخره. وقال أحمد: (إن كان في أول الشهر، ورئي قبل الزوال.. فهو للماضية، وإن كان رئي بعد الزوال.. فهو للمستقبلة، وإن كان في آخر الشهر، فإن رئي بعد الزوال فهو للمستقبلة وإن رئي في آخر الشهر ورئي قبل الزوال ... ففيه روايتان: أحدهما: أنه للماضية. والثانية: أنه للمستقبلة. دليلنا: ما روى أبو وائل شقيق بن سلمة: قال) جاءنا كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ونحن بخانقين: أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارًا.. فلا تفطروا حتى تمسوا، إلا أن يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس) . وروي في هذا الخبر (فإذا رأيتم الهلال أول النهار.. فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان ذوا عدل أنهما رأياه بالأمس) . وقد روي ذلك عن علي، وابن مسعود، وأنس، ولا مخالف لهم في ذلك. [فرع: اختلاف المطالع] ] : وإن رأوا الهلال في بلد، ولم يروه في بلد آخر.. نظرت: فإن كانا متقاربين.. وجب الصوم على الجميع، وإن كانا متباعدين.. ففيه وجهان:

أحدهما: وهو قول القاضي أبي الطيب، واختيار الصيمري -: أنه يلزم الجميع الصوم، وهو قول أحمد ابن حنبل، كما لو كان البلدان متقاربين. والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والشيخ أبو إسحاق في" المهذب " غيره -: أنه لا يلزم أهل البلد الذين لم يروه، لما روي «عن كريب: أنه قال: (أرسلتني أم الفضل بنت الحارث من المدينة إلى معاوية بالشام، فقدمت الشام، فقضيت حاجتي بها، واستهل على رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، وذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ قلت: نعم، ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل العدة أو نراه، فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فإذا قلنا: بهذا: ففي اعتبار القرب والبعد وجهان: أحدهما: وهو قول المسعودي [في الإبانة ق\156] والجويني -: أن البعد مسافة القصر فما زاد، والقرب دون ذلك. والثاني - حكاه الصيمري -: إن كان إقليما واحدا.. لزم جميع أهله برؤية بعضهم، وإن كانا إقليمين.. لم يلزم أهل أحدهما برؤية أهل الآخر. وقال ابن الصباغ: إن كانا بلدين لا تختلف المطالع لأجلهما، كبغداد والبصرة.. لزمهم برؤية بعضهم، وإن كانا بلدين تختلف المطالع فيهما، كالعراق

فرع: انتقال المسافر الصائم لبلد آخر

والحجاز، والشام وخراسان، وما أشبه ذلك.. لم يلزم أحدهما برؤية الآخر. وحكاه عن الشيخ أبي حامد. [فرع: انتقال المسافر الصائم لبلد آخر] ] : وإن رأى رجل الهلال في أول رمضان ليلة الجمعة في بلد، فصام ثم سافر إلى بلد بعيد في أثناء الشهر، وأهل ذلك البلد رأوا الهلال ليلة السبت.. قال المسعودي [في الإبانة \ ق\] : فحكمه حكم أهل البلد الذي انتقل إليه، وليس له أن يفطر قبلهم؛ لما روي) أن ابن عباس أمر كريبًا أن لا يفطر إلا بإفطار أهل المدينة) . [مسألة: الشهادة في الصوم] ] : وفي الشهادة التي يثبت بها هلال رمضان قولان: [أحدهما] : قال في البويطي: (لا يقبل فيه إلا شهادة عدلين) . وبه قال مالك، والليث. و [الثاني] : قال في القديم والجديد: (يثبت بشهادة واحد) . وبه قال أحمد بن حنبل، وابن المبارك. وقال أبو حنيفة: (إن كان غيمًا.. قبل فيه شهادة الواحد، وإن كان صحوًا.. لم يقبل فيه شهادة الواحد ولا الاثنين، وإنما يقبل فيه قول الجماعة إذا انتشر واستفاض) . فإذا قلنا: لا يقبل إلا من اثنين.. فوجهه: ما روي عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب: أنه قال: صحبنا أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونقلنا عنهم الأخبار، فكان مما أخبرونا به: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم.. فأكملوا العدة، وإن شهد على رؤيته ذوا عدل.. فصوموا» .

وإذا قلنا: يقبل من واحد.. فوجهه: ما روي عن ابن عمر: أنه قال: «تراءى الناس الهلال مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرأيته، فأخبرته بذلك، فصام، وأمر الناس بالصيام» وروي عن ابن عباس: «أن أعرابيًا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إني رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله. فقال: نعم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قم يا بلال، فناد في الناس أن يصوموا غدًا» إذا ثبت هذا: فإن المسعودي قال [الإبانة \ ق، 115] : لا تعتبر العدالة الباطنة في الشهادة على رؤية الهلال، وتشترط فيه العدالة الظاهرة.

فرع: الشهادة لغير رمضان

[فرع: الشهادة لغير رمضان] ] : فأما هلال شوال وسائر الشهور: فلا يقبل فيه إلا شهادة شاهدين، قولا ً واحدا، وهو قول كافة العلماء، إلا أبا ثور، فإنه قال) يقبل في هلال شوال عدل واحد) . دليلنا: ما روي عن طاووس: أنه قال: دخلت المدينة وبها ابن عباس وابن عمر، فجاء رجل إلى الوالي، فشهد عنده على هلال شهر رمضان، فأرسل إليهما، فقالا «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم بشهادة الواحد، ولا يقبل في الفطر إلا شاهدين» ولأن هذه شهادة يلحق الشاهد فيها التهمة، فكان من شرطها العدد، كسائر الشهادات. [فرع: شهادة غير الذكر] ] : إذا قلنا: تقبل شهادة الواحد في هلال شهر رمضان.. فهل يقبل قول العبد والخنثى والمرأة؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: يقبل كما يقبلون في الإخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والثاني: لا يقبلون، وهو الصحيح؛ لأن طريقه طريق الشهادة، بدليل: أنه لا يقبل من الصبي، ولا من الفرع مع حضور الأصل، وإن كان ذلك مقبولًا في الإخبار. قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون على قول أبي إسحاق: لا يفتقر ذلك إلى سماع الحاكم، بل إذا سمع ذلك ممن يثق به.. وجب عليه الصيام.

فرع: عدم رؤية الهلال آخر رمضان

[فرع: عدم رؤية الهلال آخر رمضان] ] : إذا شهد شاهد واحد برؤيته هلال رمضان، وقلنا: يقبل، فصاموا، وتغيمت السماء في آخر الشهر، ولم يروا الهلال.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو المنصوص، وبه قال أبو حنيفة -: (أنهم يفطرون) . و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يفطرون؛ لأنه إفطار بشاهد واحد، وهذا لا يصح؛ لأن الصوم قد لزمهم، والفطر ثبت على سبيل التبع له، كما نقول في النسب: لا يقبل فيه شهادة النساء. ولو شهد أربع نسوة بالولادة.. ثبت النسب تبعًا للولادة. وإن شهد على هلال رمضان شاهدان، فصاموا، ولم يروا الهلال آخر الشهر، والسماء مصحية.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال ابن الحداد: لا يفطرون؛ لأن عدم الهلال مع الصحو يقين، والحكم بالشاهدين ظن، واليقين يقدم على الظن. و [الثاني] : المنصوص للشافعي: (أنهم يفطرون) ؛ لأن شهادة الاثنين يثبت بها الصوم، فيثبت بها الفطر. [فرع: الصيام بخبر الثقة] ] : قال الشافعي: (وإن عقد رجل على أن غدًا عنده من شهر رمضان في يوم شك، وصام ثم بان أنه من رمضان.. أجزأه) . قال أصحابنا: أراد بذلك: إذا أخبره برؤية الهلال من يثق بخبره من رجل أو امرأة أو عبد، فصدقه، وإن لم يقبل الحاكم شهادتهن فنوى الصوم، فصام، ثم بان أنه من

فرع: وجوب الصوم برؤية الهلال لمن ردت شهادته

شهر رمضان.. أجزأه؛ لأنه نوى الصوم بضرب من الظن، فأما إذا نوى الصوم جزافًا، وبان أنه من شهر رمضان.. لم يجزئه. فأما إذا كان عارفًا بحساب المنازل أن غدًا من شهر رمضان، أو أخبره بذلك من هو من أهل المعرفة بذلك، فصدقه، فنوى الصوم.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجزئه، وهو قول أبي العباس ابن سريج، واختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن ذلك سبب يتعلق به غلبة الظن عنده، فهو كما لو أخبره من يثق بخبره عن مشاهدة. والثاني: أنه لا يجزئه؛ لأن النجوم والحساب لا مدخل لها في العبادات، فلا يتعلق بها حكم منهما. إذا ثبت هذا: فهل يلزمه بذلك الصوم؟ قال ابن الصباغ: أما بالحساب: فلا يختلف أصحابنا أنه لا يجب عليه. وذكر الشيخ أبو إسحاق في المهذب: أن الوجهين في الحساب بالوجوب. وأما إذا أخبره برؤية هلال رمضان من يصدقه، ولم يقبل الحاكم شهادته ... قال ابن الصباغ: فيبنى ذلك على أنه هل يسلك له مسلك الإخبار، أو مسلك الشهادة؟ فإن قلنا: إنه شهادة.. لم يلزمه حتى يثبت عند الحاكم. وإن قلنا: يسلك به مسلك الإخبار.. لزمه إذا صدقه وإن لم يثبت عند الحاكم، ويفترق الحال بين الوجوب وبين جواز الدخول، فيكفي في الدخول ما لا يتعلق به الوجوب، ألا ترى أنه إذا سمع مؤذنًا.. جاز له أن يقلده ويصلي، ولا يلزمه ذلك حتى يعلم دخول الوقت، وكذلك الملتقط إذا ذكرت له العلامات في اللقطة.. جاز له الدفع إليه، ولا يجب عليه إلا ببينة. [فرع: وجوب الصوم برؤية الهلال لمن ردت شهادته] ] : وإن رأى إنسان هلال شهر رمضان وحده، ولم يقبل الحاكم شهادته.. وجب عليه أن يصوم، وإن جامع فيه.. وجبت عليه الكفارة، وبه قال عامة الفقهاء.

مسألة: صوم الأسير

وقال أبو ثور، والحسن، وعطاء، وإسحاق: (لا يلزمه الصوم) . وقال أبو حنيفة (يلزمه الصوم، ولكن إن جامع فيه.. لم تلزمه الكفارة) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوموا لرؤيته» . وهذا قد رأى، ولأنه عنده من شهر رمضان بيقين فلزمه الصوم، وإن جامع فيه.. وجبت عليه الكفارة، كما لو قبل الحاكم شهادته. وإن رأى هلال شوال وحده.. أفطر، ولكنه يستخفي بذلك؛ لئلا يعرض نفسه للتهمة وعقوبة السلطان. وقال مالك، وأحمد: (لا يجوز له أن يفطر) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وأفطروا لرؤيته» . وهذا قد رأى، ولأنه قد تيقن أنه من شوال، فحل له الأكل، كما لو قامت البينة. [مسألة: صوم الأسير] ] : قال الشافعي (وإن اشتبهت الشهور على أسير، فتحرى شهر رمضان، فوافقه أو ما بعده.. أجزأه) . وجملة ذلك: أنه إذا كان أسيرًا في بلاد الشرك، ولم يعلم دخول شهر رمضان، أو كان محبوسًا في مطمورة في بلاد الإسلام، ولم يعلم دخول شهر رمضان، لزمه أن يتحرى؛ لأن عليه فرض الصيام، فلزمه أن يتحرى له. فإذا غلب على ظنه عن أمارة تقوم بنفسه في بعض الأهلة أنه شهر رمضان، فصامه ... نظرت:

فإن بان له أن الشهر الذي صامه كان شهر رمضان.. أجزأه، وبه قال عامة الفقهاء، إلا الحسن بن صالح بن يحيى الكوفي، فإنه قال: عليه الإعادة. دليلنا: أنه أدى العبادة بالاجتهاد، فإذا وافق الفرض. أجزأه، كالقبلة. وإن وافق شهرًا بعد رمضان.. أجزأه؛ لأن بذهاب الشهر قد استقر في ذمته، فأكثر ما فيه: أنه أتى بالقضاء بينية الأداء. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في الإبانة \ ق\ 158] : إذا وافق شهرًا بعد شهر رمضان.. صح، وهل يكون قضاء أم أداء؟ فيه قولان. فإن وافق صوم شهر شوال.. لم يصح صوم يوم الفطر، فإن كان الشهران تامين.. لزمه أن يقضي صوم يوم الفطر، وكذلك إن كانا ناقصين، وإن كان شهر رمضان ناقصًا وشوال تامًا.. لم يلزمه قضاء يوم الفطر، وإن كان شهر رمضان تامًا، وشوال ناقصًا.. كان عليه أن يقضي يومين، يومًا ليوم الفطر، ويومًا لنقصان الهلال. وإن كان الشهر الذي صامه ذا الحجة.. فإن يوم النحر لا يصح صومه، وكذلك: لا يصح صوم أيام التشريق، على الصحيح من المذهب. فإن كان هو ورمضان تامين أو ناقصين.. كان عليه أن يقضي صوم أربعة أيام، وإن كان شهر رمضان تامًا وذو الحجة تامًا.. لم يقض إلا صوم خمسة أيام، وإن كان شهر رمضان ناقصًا، وذو الحجة تامًا.. لم يقض إلا صوم ثلاثة أيام. وإن كان الشهر الذي صامه يصح صوم جميعه، كسائر الشهور، فإن كان شهر رمضان والشهر الذي صامه تامين أو ناقصين. فلا شيء عليه، وإن كان الشهر الذي صامه ناقصا وشهر رمضان تاما.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: يقضي يوما آخر، وهو اختيار القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] . فأوجب على من لم يصم رمضان مثل عدة أيامه. والثاني: لا يلزمه أن يقضي صوم يوم آخر؛ لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين، تامًا كان أو ناقصًا ولهذا يجزئه في نذر صوم شهر.

وذكر ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد ذكر على هذا: إذا صام شهر شوال، وكان هو ورمضان ناقصين. أنه يلزمه قضاء يومين؛ لأنه يلزمه أن يقصي شهرًا بالهلال، أو ثلاثين يوماُ، ولم أجد في التعليق عنه إلا ما ذكرته أولًا. هذا ترتيب أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في الإبانة \ ق\158] : إن كان شهر رمضان تامًا، والشهر الذي صامه بعده ناقصًا: فإن قلنا: إن الصوم بعد رمضان يقع قضاء.. لزمه صوم يوم آخر، وإن قلنا: إنه أداء.. أجزأه؛ لأن شهر رمضان لو كان هو الناقص.. أجزأه. وإن وافق صومه شهرًا قبل شهر رمضان نظرت: فإن بان له هذا قبل شهر رمضان. وجب عليه أن يصوم شهر رمضان. وإن بان له ذلك في أثناء رمضان.. لزمه أن يصوم ما بقي منه، والكلام فيما فات منه على ما يأتي إذا فات جميعه. وإن بان ذلك بعد فوات شهر رمضان. فقد قال الشافعي: (لا يجزئه حتى يوافق شهر رمضان، أو ما بعده) ، ثم قال (ولو قال قائل: يجزئه. كان مذهبًا) فقال أبو إسحاق: لا يجزئه، قولا واحدًا، وقول الشافعي: (ولو قال قائل: يجزئه. كان مذهبًا) لم يخبر عن نفسه، وإنما أخبر به عن غيره. وقال سائر أصحابنا، فيه قولان: أحدهما: يجزئه؛ لأنها عبادة تجب بإفسادها الكفارة، أو تجب في السنة مرة، فإذا أداها قبل وقتها بالاجتهاد.. أجزأه، كالوقوف بعرفة، وفيه احتراز من الصلاة.

مسألة: وجوب النية

والثاني: لا يجزئه، وهو الصحيح، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] [البقرة: 158] . وهذا قد شهده، ولم يصمه، وإنما صام قبله. ولأنه تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء، فهو كما لو صلى قبل الوقت بالاجتهاد، وفيه احتراز من الحج. قال المسعودي [في " الإبانة " ق158] : وأصل القولين فيها: القولان إذا وافق ما بعد شهر رمضان: فإن قلنا: يقع قضاء.. لم يجزه؛ لأن القضاء لا معنى له قبل الأداء. وإن قلنا: أداء؟ أجزأه؛ لأنا نجعل شهر رمضان منقولا إلى ما أداه إليه اجتهاده. هذا إذا غلب على ظنه دخول الشهر بأمارة. فإن لم يغلب على ظنه دخوله بأمارة.. قال ابن الصباغ: حكي أن الشيخ أبا حامد قال: يلزمه أن يصوم على سبيل التخمين، ويقضي، كالمصلي إذا لم تغلب على ظنه القبلة.. فإنه لا يلزمه أن يصلي. [مسألة: وجوب النية] ] : ولا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصيام، واجبًا كان أو تطوعًا، إلا بالنية، وبه قال عامة العلماء. وقال عطاء، ومجاهد، وزفر بن الهذيل: إذا كان الصوم متعينًا، مثل: أن يكون صحيحًا مقيمًا في رمضان.. لم يفتقر إلى النية. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى» . ولم يرد: أن صور الأعمال لا توجد إلا بالنية، وإنما أراد به: لا حكم للأعمال إلا بالنية.

فرع: تبييت النية

إذا ثبت هذا: فإنه يجب أن ينوي لكل يوم نية. وقال مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه: (إذا نوى صوم جميع الشهر في أول ليلة منه.. أجزأه لجميعه) . دليلنا: أن صوم كل يوم عبادة منفردة لا تفسد بفساد ما قبله، ولا بفساد ما بعده، فلم يكفه نية واحدة، كالصلوات، وفيه احتراز من ركعات الصلاة، فإن الصلاة بمجموعها عبادة واحدة، وكل ركعة تفسد بفساد ما قبلها وما بعدها من الركعات، ومن أركان الحج أيضا. [فرع: تبييت النية] ] : ولا يصح صوم شهر رمضان ولا غيره من الصيام الواجب إلا بنية من الليل، وروي ذلك عن ابن عمر وحفصة بنت عمر، وبه قال مالك، وأحمد. وقال أبو حنيفة: (صوم شهر رمضان والنذر المعين يصح بنية من النهار قبل الزوال) . دليلنا: ما روت حفصة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لم يبيت الصيام من الليل.. فلا صيام له " وروي: "من لم يبت الصيام» ، يعني: من لم يقطع. ذكره الهروي.

وروي: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر.. فلا صيام له "، يعني: من لم ينو الصيام. وروي: "من لم يؤرض الصيام» ، ومعناه: يمهده، وسميت الأرض: أرضًا؛ لتمهيدها، وروي: "يفرضه". وهل يجوز بنيته مع طلوع الفجر؟ فيه وجهان: أحدهما: يجزئ؛ لأنه عبادة، فجاز بنية تقارن ابتداءه، كالصلاة، وإنما رخص في تقديمها، للمشقة. والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا -: أنه لا يصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر.. فلا صيام له» ، ولأنا لو قلنا: يجوز بنية مع طلوع

الفجر.. لأدى إلى أن يعرى جزء من الصوم عن النية؛ لأنه لا يعرف الفجر إلا بطلوعه. قال ابن الصباغ: ولأن من أصحابنا من أوجب إمساك جزء من الليل؛ ليكمل له صوم النهار، فوجب تقديم النية على ذلك. إذا ثبت هذا: فالمذهب: أن جميع الليل وقت لنية الصوم. وقال بعض أصحابنا: يجب أن ينوي في النصف الأخير منه، كما نقول في أذان الصبح. وهذا ليس بشيء؛ لحديث حفصة. فإن نوى في أول الليل، ثم جامع، أو أكل، أو شرب، أو انتبه من نومه.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: إذا نوى، ثم نام، ولم ينتبه إلى آخر الليل.. لم يلزمه تجديد النية، وإن انتبه، أو جامع، أو أكل، أو شرب.. لزمه تجديد النية؛ لأن ذلك ينافي النية. و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: لا يلزمه تجديد النية، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] . ولو كان ذلك يمنع صحة النية ... لم يجز الأكل والشرب إلى طلوع الفجر. وقيل: إن أبا إسحاق لم يصح منه هذا، ولم يذكره في شرحه. وقيل: إنه رجع عنه. وإن أصبح شاكًا في النية، أو تيقن النية، وشك: هل نوى قبل الفجر، أو بعده؟ قال الصيمري: لم يجزه. ولو نوى ثم شك: أطلع الفجر، أم لا؟ أجزأه.

مسألة: تعيين النية

[مسألة: تعيين النية] ] : ولا يصح صوم شهر رمضان إلا بتعيين النية، وهو أن ينوي أنه صائم غدًا من شهر رمضان، وهل يفتقر إلى نية الفرض، أو الواجب؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: يفتقر إلى ذلك؛ لأنه قد يقع نفلًا في حق الصبي. و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا يفتقر إلى ذلك؛ لأن صوم شهر رمضان لا يكون في حق البالغ إلا فرضًا. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (لا يفتقر إلى التعيين) . فإن كان حاضرًا في رمضان، فنوى أن يصوم غدًا عن نذر، أو كفارة، أو نافلة.. جاز عن رمضان، وإن نوى أن يصوم مطلقا.. أجزأه عن شهر رمضان أيضا، وإن كان مسافرا، فإن نوى الصوم عن النافلة، أو مطلقا.. أجزأه عن شهر رمضان، وإن نوى أن يصوم عن نذر، أو كفارة.. أجزأه عنهما، وكان عليه أن يقضي عن شهر رمضان. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى» . وهذا لم ينو، ولأن الصوم عبادة يفتقر قضاؤها إلى تعيين النية، فافتقر أداؤها إلى تعيينها، كالصلاة، وعكسه الحج، فإنه لا يفتقر أداؤه ولا قضاؤه إلى تعيين النية. [فرع: نية الصيام لفرض مجهول] ] : قال الصيمري: إذا علم أن عليه صوما واجبا لم يعرفه من شهر رمضان أو نذر، فنوى صوما واجبا.. أجزأه، كمن نسي صلاة من خمس صلوات لم يعرف عينها.. فإنه يصلي الخمس، ولو نوى: أنه يصوم غدا إن شاء زيد، أو عمرو، أو إن نشطت.. لم يجزه. ولو قال: ما كنت صحيحا أو مقيما.. أجزأه. ولو قال: أصوم غدًا إن شاء الله.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو قول القاضي أبي الطيب -: أنه يصح؛ لأن الأمور بمشيئة الله تعالى.

فرع: تحديد النية بيوم وسنة

والثاني - وهو قول الصيمري -: أنه لا يصح؛ لأن قوله: إن شاء الله، يبطل حكم ما اتصل به، كما إذا علق البيع والنكاح والطلاق على مشيئة الله تعالى. والثالث - وهو قول ابن الصباغ -: إن قصد بذلك الشك في فعله.. لم يصح، وإن قصد أن فعل ذلك موقوف على مشيئة الله، وتمكينه، وتوفيقه.. صح صومه؛ لأن ذلك لا يرفع النية. [فرع: تحديد النية بيوم وسنة] ] : إذا قال: أصوم غدا سنة ثلاثين، فكانت سنة إحدى وثلاثين.. فذكر القاضي أبو الطيب في " المجرد ": أنه لا تصح نيته. قال: وإن نوى أن يصوم غدا في هذه السنة يظنها سنة ثلاثين، فكانت سنة إحدى وثلاثين.. صحت نيته. ولو نوى أن يصوم غدا يظنه يوم الاثنين، فكان يوم الثلاثاء.. قال القاضي أبو الطيب: أجزأه. قال ابن الصباغ: ولا فرق عندي في هذه المسائل، وتعيينه العدد، كتعيينه السنة، وينبغي أن يجزئه في الكل. [فرع: نية الحائض] ] : قال الجويني: ولو نوت المرأة الصوم بالليل، وهي حائض، فانقطع دمها قبل طلوع الفجر.. أجزأتها تلك النية. وحكى الشاشي فيها وجها آخر: أنه لا يصح. [فرع: تعيين النية مع الشك] ] : وإن نوى ليلة الثلاثين من شعبان، فقال: أصوم غدا من شهر رمضان أو تطوع، فإن كان من شهر رمضان.. لم تصح، لأنه لم يخلص النية لرمضان، ولأن الأصل أنه من شعبان.

فرع: نية الخروج من الصوم

وإن قال: إن كان غدا من شهر رمضان.. فأنا صائم عن رمضان، وإن لم يكن من شهر رمضان.. فأنا صائم عن تطوع، فكان من شهر رمضان لم يصح، لأن الأصل أنه من شعبان. وإن قال ليلة الثلاثين من شهر رمضان: إن كان غدا من رمضان.. فأنا صائم عن شهر رمضان، وإن لم يكن من شهر رمضان.. فأنا مفطر، فكان من شهر رمضان صح صومه، لأن الأصل أنه من شهر رمضان. وإن قال: إن كان غدا من شهر رمضان.. فأنا صائم عن رمضان أو مفطر، فإن كان من رمضان.. لم يصح صومه، لأنه لم يخلص النية للصوم. وإن كان عليه قضاء يوم من شهر رمضان، فقال في بعض الأيام: أصوم غدا عن قضاء شهر رمضان أو تطوعا.. لم يصح عن القضاء، ووقع تطوعا. وبه قال محمد بن الحسن. وقال أبو يوسف: يقع عن القضاء، لأن التطوع لا يفتقر إلى تعيين النية. دليلنا: أن زمان القضاء يصلح للتطوع، فإذا سقطت نية الفرض بالتشريك.. بقيت نية التطوع، فوقع. [فرع: نية الخروج من الصوم] ] : وإن نوى الصائم الخروج من الصوم.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يبطل؛ لأنها عبادة تجب الكفارة بجنسها، فلا تبطل بنية الخروج منها، كالحج، وفيه احتراز من الصلاة. والثاني: يبطل، وهو الأظهر؛ لأنها عبادة تفتقر إلى تعيين النية، فتبطل منه بنية الخروج منها، كالصلاة، وفيه احتراز من الحج، ولأن الحج لا يخرج منه بما يفسده، والصوم يخرج منه بما يفسده، ومعنى ذلك: أنه إذا أكل في الصوم عامدا، ثم جامع فيه لم تجب عليه الكفارة. وكذلك: إذا جامع في الصوم عامدا، ثم جامع فيه ثانيا.. لم يتعلق بالثاني

مسألة: النية في التطوع

كفارة، والحج إذا جامع فيه وفسد، ثم قتل فيه صيدا، أو جامع ثانيا.. وجبت عليه الكفارة. أما المضي في فاسدهما: فإنه يجب عليه في الحج والصوم. فإذا قلنا: بهذا: فنوى في خلال نهار صوم النذر نقله إلى صوم الكفارة.. لم ينتقل إلى الكفارة، ويبطل صوم النذر، وهل ينتقل إلى التطوع؟ فيه قولان، حكاهما المسعودي [في الإبانة ق\157] بناء على ما لو نوى في حال الصلاة أنه نقلها لصلاة أخرى.. فلا تنتقل إليها، وهل تبطل، أم تبقى نافلة؟ قولان. قال أصحابنا البغداديون: يبطل الصوم والصلاة، ولا يقعان نافلة. [مسألة: النية في التطوع] ] : ولا يصح صوم التطوع إلا بالنية، لما ذكرناه في الفرض، ولكن يصح بنية من النهار، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وروي ذلك عن أبي طلحة من الصحابة. وقال مالك، والمزني، وداود: (لا يصح بنية من النهار) . وروي ذلك عن ابن عمر في الصحابة، وجابر بن زيد من التابعين. دليلنا: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخل

علي، فيقول: "هل من طعام؟ "، فأقول: لا، فيقول: "إني صائم"، وفي بعض الأخبار: أنه قال: "هل من غداء؟ "، فقلت: لا، فقال: "إني إذن صائم» . ولنا من الخبر أدلة: منها: أنه إنما طلب الطعام، لأنه كان مفطرا، فلما لم يجد.. صام. والثاني: أن الظاهر من قوله: "إني صائم" إنما صام؛ لفقد الطعام. والثالث: قوله: "إني إذا صائم"، وهذه اللفظة في لسان العرب موضوعة لاستئناف الشيء وابتدائه في المستقبل. إذا ثبت هذا: فهل يجوز بنية بعد الزوال؟ فيه قولان: أحدهما: يصح؛ لأنه جزء من النهار، فصحت نية التطوع فيه، كما قبل الزوال. والثاني: لا يصح، وهو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن النية لم تصحب معظم النهار، فلم يصح، كما لو نوى مع غروب الشمس. وإذا نوى صوم التطوع من النهار.. فهل يكون صائمًا من أول النهار، ويثاب عليه، أو من وقت النية لا غير. فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، واختيار المسعودي [في " الإبانة "ق\ 157]-: أنه يكون صائمًا من وقت النية لا غير؛ لأن ما قبل النية لم يوجد فيه القصد إلى القربة، فلم يثب عليه. والثاني - وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ -: أنه يكون صائما من أول

مسألة: وقت الصوم

النهار؛ لأن الصوم في اليوم لا يتبعض، فلا يجوز أن يكون مفطرًا في أوله صائما في آخره، وقول الأول: أنه لم يوجد فيه القصد منه على القربة من أول النهار.. فغير صحيح؛ لأنه قد وجد منه القصد في معظم النهار، فجعل في الحكم كأنه قصد القربة من أوله، كما نقول فيمن أدرك الركوع مع الإمام.. فإنه يجعل في الحكم كأنه أدرك الركعة معه من أولها. فإذا قلنا: بهذا: وكان قد أكل قبل نية الصوم.. لم يصح صومه، وجهًا واحدًا. وإذا قلنا: بالأول: وأنه يكون صائمًا من وقت النية، وكان قد أكل في النهار قبل النية.. فهل يصح صومه؟ فيه وجهان، حكاهما في" الإبانة " [ق\157] : أحدهما - وإليه ذهب الشيخ أبو زيد، وأبو العباس ابن سريج - أنه يصح صومه؛ لأنا قد حكمنا بأنه صائم من وقت النية، ولا اعتبار بما قبل ذلك. والثاني: لا يصح صومه، وهو المشهور؛ لأنه وإن لم يحكم بصومه إلا من وقت النية، فلا يمتنع أن يشترط في ذلك تقديم شرط على ذلك، كما أنه إذا أدرك الجمعة.. فجمعته من حين أدرك، ويشترط تقديم الخطبة على ذلك الوقت. [مسألة: وقت الصوم] ] : ويدخل في الصوم بطلوع الفجر الثاني، ويخرج منه بغروب الشمس، وروي ذلك عن عمر وابن عباس.

وروي عن حذيفة: (أنه لما طلع الفجر.. تسحر، ثم صلى) . وروي معنى ذلك عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال مسروق: لم يكونوا يعدون الفجر هذا فجركم، إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق. وحُكي عن الأعمش، وإسحاق: أنهما قالا: يجوز الأكل إلى طلوع الشمس. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] . فإن جامع قبل طلوع الفجر، وأصبح وهو جنب.. صح صومه، وروي ذلك عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وأبي الدرداء، وأبي ذر،

وزيد بن ثابت، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وقال الحسن، وسالم بن عبد الله: يصوم، ويقضي. وروي ذلك عن أبي هريرة. دليلنا: ما روت عائشة، وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح جنبًا من جماع، لا احتلام، ثم يغتسل، ويصوم» وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن أعرابيًا قال: يا رسول الله، إني أصبح جنبًا وأريد الصوم؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأنا أُصبح جنبًا وأريد الصوم، فأغتسل، وأصوم"، فقال: إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي»

فرع: الشك بطلوع الفجر

وإن طهرت الحائض قبل الفجر، وأخرت الغسل حتى أصبحت.. لم يؤثر في صومها. وقال الأوزاعي: (عليها القضاء) . دليلنا: ما ذكرناه في الجنب، فإن طلع عليه الفجر، وفي فمه طعام، فأكله، أو كان مجامعًا، فاستدام، أو تحرك لغير الإخراج.. وجب عليه القضاء. وإن لفظ الطعام، أو أخرج مع طلوع الفجر ... لم يبطل صومه. وقال المزني وزفر: إذا أخرج مع طلوع الفجر.. لزمه القضاء. دليلنا: أن الإخراج ليس بجماع، وإنما هو ترك للجماع، بدليل: أنه لو كان في دار، فحلف لا أقام فيها، فأخذ في الخروج منها.. لم يحنث. [فرع: الشك بطلوع الفجر] ] : إذا شك هل طلع الفجر، أم لا. فالمستحب له: أن لا يأكل؛ لئلا يغرر بالصوم، فإن أكل، ولم يبن له طلوع الفجر.. لم يجب عليه القضاء. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يفسد صومه، وعليه القضاء) . دليلنا: أن الأصل بقاء الليل، وجواز الأكل، فلم يجب عليه القضاء بالشك. وإن شك في غروب الشمس.. لم يحل له أن يأكل فإن أكل، ولم يتبين له أن الشمس كانت قد غربت.. وجب عليه القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار، وتحريم الأكل.

مسألة: الأكل عمدا نهارا

[مسألة: الأكل عمدًا نهارًا] ] : إذا أكل الصائم بالنهار وهو ذاكر للصوم، عالم بالتحريم، مختار.. بطل صومه، وهو إجماع، وإن صب الماء في أنفه، فوصل إلى دماغه.. بطل صومه، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك، والأوزاعي، وداود: (لا يفطر إلا إن وصل إلى جوفه) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيط بن صبرة: «أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا» . فلا يستقصي في المبالغة، فيصير سعوطا، فلولا أن الفطر يتعلق بما يصل منه.. لما نهى عنه. ولأن ما يصل إلى دماغ الإنسان يغذي كما يغذي ما يصل إلى الجوف، فوجب أن يفطر به، كالواصل إلى الجوف. فإن صب الماء في أذنه، فوصل إلى دماغه.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول الشيخ أبي إسحاق، وأبي علي السنجي -: أنه يبطل صومه؛ لأنه وصل إلى دماغه، فهو كالسعوط. والثاني - وهو قول المسعودي [في " الإبانة " ق\ 159]-: أنه لا يبطل صومه؛ لأنه لا ينفذ من الأذن إلى الدماغ، وإنما يصل إليه بالمسام، فهو كما لو وصل الكحل من

مسألة: دخول شيء بأحد السبيلين

العين إلى الحلق، وكما لو دهن جلدة بطنه.. فإن جلده يتشرب، ويتحقق أنه يصل إلى البطن ولا يفطر بذلك، بخلاف ما يصل من الأنف، فإنه يصل بمنفذ. وذكر في " الفروع " إذا دهن بالليل فأحس بالدهن في حلقه بالنهار.. لم يفطر، في قول عامة أصحابنا. وقال ابن القاص: يفطر؛ لأنه يحلب الفم، ويجمع الريق، فيؤدي على النزول إلى الحلق. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الريق لا يفطر الصائم. [مسألة: دخول شيء بأحد السبيلين] ] : وإن احتقن الصائم، أو قطر في إحليله شيئا، أو أدخل فيه ميلا.. أفطر به، سواء وصل إلى المثانة أو لم يصل. وقال الحسن بن صالح، وداود: (لا يفطر بذلك) . وقال أبو حنيفة: (لا يفطر بالتقطير في الإحليل) . وقد حكى الشيخ أبو إسحاق وجها لبعض أصحابنا في التقطير وإدخال الميل بالإحليل: أنه لا يفطر به؛ لأن ما يصل إلى المثانة لا يصل إلى الجوف، فهو كما لو ترك في فمه شيئا. وقال في " الإبانة " [ق\159] : إن وصل إلى المثانة.. أفطر، وجها واحدا، وإن وصل إلى باطن الذكر، ولم يصل إلى المثانة.. ففيه وجهان. والأول هو المذهب؛ لأنه جوف، فتعلق الفطر بالواصل إليه، كالبطن.

مسألة: وصول شيء للجوف

[مسألة: وصول شيء للجوف] ] : وإن كان به جائفة أو آمة، فداواها، فوصل الدواء إلى جوفه أو دماغه.. بطل صومه، سواء كان الدواء رطبا أو يابسا. وقال مالك، وداود: (لا يفطر) . وقال أبو حنيفة: (إن كان الدواء رطبا أفطر، وإن كان يابسا لم يفطر) دليلنا: أنه وصل إلى جوفه باختياره، فهو كالبطن. وإن جرح نفسه، أو جرحه غيره بإذنه، فوصلت السكين إلى دماغه أو جوفه.. أفطر. فقال أبو حنيفة: (إن نفذت الطعنة إلى الجانب الآخر.. أفطر، وإن لم تنفذ لم يفطر) . دليلنا: ما ذكرناه في السعوط والحقنة. وإن طعن فخذه، فوصل إلى العظم، أو لم يصل.. لم يفطر؛ لأن ذلك ليس بجوف. [مسألة: دخول شيء لا يفطر عادة] ] : إذا ابتلع الصائم مالا يؤكل في العادة، مثل الحصى والتراب.. أفطر بذلك. وقال الحسن بن صالح: لا يفطر بذلك. وعن أبي طلحة صاحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه كان يأكل البرد وهو صائم، ويقول:

مسألة: الإفطار بوصول خيط للجوف

(ما هو طعام ولا شراب، وإنما هو بركة من السماء تطهر به بطوننا) . دليلنا: أن الصوم هو الإمساك عن كل ما يصل إلى الجوف، وهذا لم يمسك، ولأنه ذاكر لصومه، وأوصل إلى جوفه ما يمكنه الاحتراز منه، فأفطر، كما لو أكل أو شرب معتادًا. [مسألة: الإفطار بوصول خيط للجوف] ] : لو أخذ بيده خيطًا، وأدخله في حلقة حتى وصل شيء منه إلى جوفه.. أفطر به. وقال أبو حنيفة: (لا يفطر) . وحكى صاحب " العدة ": أن ذلك وجه لبعض أصحابنا. وليس بمشهور؛ لأنه ولو وصل إلى جوفه باختياره مع ذكره للصوم، فهو كما لو ابتلعه جميعه. وإن استاك فدخل إلى جوفه شيء من رطوبة السواك أو خشبه المتشعثة منه.. قال صاحب " الإبانة "ق\ 160] : أفطر بذلك. [مسألة: دخول ما يجري مع الريق للجوف] ] : إذا أصبح الصائم، وكان بين أسنانه من الطعام ما يجري به الريق، فخرج بنفسه وجرى مع الريق، قال الشيخ أبو حامد: أو أخرجه، فجرى مع الريق إلى جوفه بغير اختياره.. لم يفطر؛ لأنه لا يمكنه الاحتراز منه، فعفي عنه، كغربلة الدقيق وغبار الطريق إذا دخل فم الإنسان، ونزل في حلقه.

وأما إذا خرج بنفسه، أو أخرجه وأمكنه أن يرمي به، فلم يفعل، بل ابتلعه وهو ذاكر للصوم.. بطل صومه. وقال أبو حنيفة: (لا يفطر به) . دليلنا: أنه ابتلع طعامًا يمكنه الاحتراز منه باختياره، فهو كما لو أكل بنفسه. وإن نزل الريق إلى حلقه على ما جرت به العادة.. لم يفطر، وهكذا: لو اجتمع الريق في فمه بغير اختياره، مثل: أن يطيل الكلام، فيجتمع لأجله الريق، فابتلعه، أو نزلت نخامة من رأسه إلى جوفه، ولم يمكنه رميها.. لم يفطر بذلك؛ لأنه لا يمكنه الاحتراز عن ذلك. وإن أخرج الريق من فيه إلى يده، وابتلعه، أو أخرج نخامة من صدره أو رأسه وأمكنه رميها، فلم يفعل، وابتلعها.. أفطر بذلك؛ لأنه قد أمكنه الاحتراز منه. وحكى في " العدة " وجهًا آخر: أنه إذا جذب النخامة من رأسه إلى فمه، ثم ازدردها منه.. أنه لا يفطر بذلك. والأول أصح وإن ابتلع ريق غيره.. أفطر بذلك. فإن قيل: فقد روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبلها وهو صائم، ويمص لسانها» قيل: يحتمل أن يكون مص اللسان في غير الصوم، ويحتمل أن لا يبتلع ذلك وإن جمع في فيه ريقًا كثيرًا، ثم ابتلعه.. ففيه وجهان:

مسألة: القيء عمدا

أحدهما: يفطر؛ لأنه قد أمكنه أن لا يجمع في فمه ريقًا كثيرًا، فإذا فعل.. صار كما لو شرب ماء. والثاني: لا يفطر؛ لأنه أوصل إلى جوفه من معدنه، فهو كما لو كان قليلًا. [مسألة: القيء عمدًا] ] : إذا استدعى القيء فتقيأ.. أفطر، ووجب عليه القضاء دون الكفارة، وإن ذرعه القيء.. فلا قضاء عليه، وروي ذلك عن علي، وابن عمر، وزيد بن أرقم، وبه قال أبو حنيفة. وقال عطاء، وأبو ثور: (إذا تقيأ عامدًا.. قضى، وكفر) . وقال أبو ثور: (وإن ذرعه القيء.. قضى، ولا كفارة عليه) .

مسألة: جماع الصائم

وقال ابن عباس، وابن مسعود: (لا يؤثر القيء في الصوم، سواء كان عامدًا أو غلبه) دليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استقاء.. فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء.. فلا قضاء عليه» وروى زيد بن أسلم، عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا يفطر من قاء، أو احتجم، أو احتلم» [مسألة: جماع الصائم] ] : ويحرم على الصائم المباشرة في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] إلى قوله {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] فإن أولج ذكره في الفرج، أو الدبر، وهو ذاكر للصوم، عالم بالتحريم، مختار.. بطل صومه، سواء أنزل أو لم ينزل؛ لأن ذلك ينافي الصوم فأبطله، كالأكل. وإن باشرها فيما دون الفرج، بأن قبل، أو لمس، فإن أنزل.. بطل صومه، وإن

لم ينزل.. لم يبطل صومه؛ لما روي «عن عمر: أنه قال: قبلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله، صنعت اليوم أمرًا عظيما، قبلت وأنا صائم، فقال: "أرأيت لو تمضمضت بالماء وأنت صائم؟ "، قلت: لا بأس به، قال: "فمه» فإن قبلها فأمذى.. لم يفطر. وقال أحمد: (لا يفطر) . دليلنا: أنه خارج لا يوجب الغسل، فإذا انضم إلى المباشرة.. لم يفسد الصوم، كالبول. وإن جامع قبل طلوع الفجر، ثم أنزل بعد طلوعه.. لم يفسد صومه؛ لأنه تولد عن مباشرة مباحة، فلم يجب عليه بذلك شيء، كما لو قطع يد رجل قصاصا، فمات المقتص منه. وإن نظر وتلذذ، فأنزل.. لم يفطر، سواء كرر النظر أو لم يكرره، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (إن أنزل من النظرة الأولى.. أفطر، ولا كفارة عليه، وإن كرر النظر، فأنزل.. أفطر، وقضى , وكفر) . ودليلنا: أنه إفطار عن غير مباشرة، فهو كالاحتلام. وإذا استمنى بكفه، فأنزل.. أفطر، كما لو قبل، فأنزل. وإن حك ذكره لعارض، فأنزل.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري، ويشبه أن يكون ذلك بناء على القولين فيمن سبق الماء إلى حلقه في المضمضة والاستنشاق.

مسألة: الإفطار ناسيا

وإن احتلم في نهار رمضان.. لم يفطر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء، والحجامة، والاحتلام» ، ولأن هذا حصل بغير اختياره، فهو كما لو طارت في حلقه ذبابة، ودخلت جوفه بغير اختياره. [مسألة: الإفطار ناسيًا] ] : وإن أكل، أو شرب، أو جامع ناسيًا.. لم يبطل صومه، وبه قال أبو حنيفة. وقال ربيعة، ومالك: (يفسد صومه، وعليه القضاء في الأكل والجماع) وقال عطاء والأوزاعي والليث يجب القضاء في الجماع دون الأكل. قال أحمد: (يجب في الجماع القضاء والكفارة، ويجب في الأكل القضاء لا غير) . دليلنا: ما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أكل ناسيًا أو شرب ناسيا.. فلا يفطر، فإنما هو رزق رزقه الله» فنص على الأكل والشرب، وقسنا عليه غيره.

فرع: الإيجار لمرض

فإن فعل ذلك وهو جاهل بالتحريم.. لم يبطل صومه؛ لأنه يأثم بذلك، فهو كالناسي. وإن أوجر رجل الطعام في حلقة وهو مكره، أو أكره امرأته وهي صائمة حتى وطئها، أو استدخلت ذكره وهو نائم.. لم يبطل الصوم بشيء من ذلك؛ لأنه حصل بغير اختيار، فهو كما لو ذرعه القيء. وإن أكره الرجل حتى أكل بنفسه، أو أكرهت المرأة حتى مكنت من الوطء.. ففيه قولان: أحدهما: يبطل الصوم؛ لأنه فعل ما ينافي الصوم مع العلم به، لدفع الضرر عنه، فهو كما لو أكل للجوع. والثاني: لا يبطل صومه؛ لأنه وصل إلى جوفه بغير اختياره، فهو كما لو أوجر في حلقه. وإن أكره الرجل حتى وطئ، فإن قلنا: في المرأة: إذا أكرهت حتى مكنت بطل صومها.. فهاهنا أولى، وإن قلنا: في المرأة: لا يبطل صومها.. فهاهنا وجهان. والفرق بينهما: أن الوطء من الرجل لا يكون إلا بالانتشار، وذلك يدل على الشهوة والاختيار. [فرع: الإيجار لمرض] ] : ذكر في " الإبانة " [ق\160\ أ] : لو أغمي عليه، فأوجر دواء.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يفطر؛ لأنه مغلوب لم يقصده. والثاني: يفطر؛ لأنه أوجر عامدًا لمداواته، فهو كما لو مرض وتناول دواء.

فرع: سبق الماء لفم الصائم

[فرع: سبق الماء لفم الصائم] ] : وإن تمضمض، فسبق الماء إلى حلقه، أو استنشق، فوصل الماء إلى دماغه.. ففيه قولان: أحدهما: يبطل صومه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، واختاره المزني، كما لو قبل.. فأنزل. والثاني: لا يفطر، وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق؛ لأنه وصل إلى جوفه بغير اختياره، فهو كما لو طارت ذبابة على حلقه، ودخلت جوفه. واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان إذا لم يبالغ، فأما إذا بالغ: بطل صومه، قولًا واحدًا، وهو اختيار الشيخين أبي حامد وأبي إسحاق، وابن الصباغ. ومنهم من قال: القولان في الحالين. وقال الحسن، والنخعي: إن توضأ للمكتوبة.. لم يفطر، وإن توضأ لنافلة.. أفطر، وروي ذلك عن ابن عباس. دليلنا: أنه شرع المضمضة والاستنشاق في الطهارة للنافلة كما شرعا في الطهارة للفريضة، فاستوى حكمهما.

مسألة: المفطر بالظن الخاطىء

[مسألة: المفطر بالظن الخاطىء] مسألة: [المفطر بالظن الخاطئ] : وإن أكل وهو يظن أن الفجر لم يطلع، وكان قد طلع، أو يظن أن الشمس قد غابت، ولم تكن غابت.. فالمنصوص للشافعي: (أنه يجب القضاء) . وهو قول كافة العلماء. وقال إسحاق بن راهويه، وداود، والحسن، ومجاهد: (لا يجب عليه القضاء) وحكي المسعودي [في " الإبانة ق\ 160] : أن من أصحابنا من قال: إن أكل وهو يظن أن الفجر لم يطلع، وكان قد طلع.. لم يجب عليه القضاء؛ لأن الأصل بقاء الليل، وإن كان هذا الظن في غروب الشمس.. وجب عليه القضاء، واحتجوا: بما روي: أن الناس في زمان عمر ظنوا أن الشمس قد غربت، فأفطروا، ولم تكن قد غربت، فقال عمر: (والله لا نقضي ما تجانفنا فيه لإثم) ، يعني: ما ملنا إليه. دليلنا: أنه تعين له يقين الخطأ فيما يؤمن مثله في القضاء، فهو كما لو صلى يظن أن الشمس قد زالت، ثم بان أنها لم تزل.

مسألة: الفطر بغير الجماع

وما روي عن عمر. وقد روي عنه: أنه قال: (قضاء يوم سهل) فبتعارض الروايتين عنه يسقطان، ويبقى لنا القياس. [مسألة: الفطر بغير الجماع] ] : إذا أفطر بغير الجماع عامداً، عالماً بالتحريم، بأن أكل، أو شرب أو باشر فيما دون الفرج، فأنزل.. وجب عليه القضاء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من استقاء.. فعليه القضاء"، ولأنه إذا وجب القضاء على من أفطر بعذر.. فلأن يجب على غير المعذور أولى، ويجب عليه إمساك بقية النهار؛ لحرمة الوقت، ولكن لا حرمة لهذا الإمساك، فلو جامع فيه.. لم تجب عليه الكفارة. واختلف العلماء فيه، كم يقضي عن كل يوم؟ فمذهبنا: أنه يقضي عن كل يوم يوماً. وقال ربيعة: يقضي عن كل يوم اثني عشر يوماً بعدد شهور السنة.

وقال سعيد بن المسيب: يقضي عن كل يوم شهراً وقال النخعي: يصوم عن كل يوم ثلاثة آلاف يوم. وقال علي وابن مسعود: (لا يقضيه صوم الدهر وإن صامه) دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المجامع في رمضان أن يقضي يوماً مكانه» ، ولأنها

فرع: الفطر لإنقاذ الغريق

عبادة، فاستوى فيها عدد قضائها وعدد أدائها، كالصلاة، ولا يجب عليه الكفارة الكبرى، وهي كفارة الجماع. وقال أبو حنيفة: (تجب الكفارة الكبرى بالجماع التام في نهار شهر رمضان، وهو الوطء في الفرج وبالأكل التام، وهو أن يأكل ما يغتذي به، فإن أكل حصاة أو تراباً.. لم تجب فيه الكفارة) . وقال مالك: (كل إفطار بمعصية، فإنه يوجب الكفارة) . دليلنا: أن غير الجماع سبب لا يجب الحد بجنسه، فلم تجب بالإفطار به الكفارة، كما لو تقيأ عامدا، وإن بلغ ذلك السلطان.. عزره؛ لأنه محرم لا يجب فيه حد ولا كفارة، فثبت فيه التعزيز، كمباشرة الأجنبية فيما دون الفرج، وهل تجب فيه الكفارة الصغرى، وهي: أن يطعم عن كل يوم مداً من طعام؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\164] : أحدهما: يجب عليه؛ لأن عذره ليس بأقوى من عذر المرضع إذا أكلت لأجل ولدها، وتجب الفدية مع القضاء، فكذلك هذا. والثاني: لا تجب، كما لا تجب الكبرى. قال: والأول أصح. [فرع: الفطر لإنقاذ الغريق] ] : قال في " الإبانة " [ق\164] : ولو رأى الصائم من يغرق في الماء، ولا يمكنه تخليصه إلا بأن يفطر ليتقوى.. فله الفطر، ويلزمه القضاء، وهل يلزمه أن يفدي بالمد عن كل يوم؟ فيه وجهان.

مسألة: إنزال الخنثى لا يفطر

[مسألة: إنزال الخنثى لا يفطر] ] : إذا أنزل الخنثى المشكل الماء الدافق في نهار شهر رمضان من آلة الرجال، أو من آلة النساء، لا عن مباشرة، أو رأى الدم من فرج النساء يوما كاملا.. لم يبطل صومه، لاحتمال أن يكون ذلك عضوا زائدا. وإن أنزل الماء الدافق من فرج الرجال عن مباشرة، ورأى الدم من فرج النساء في ذلك اليوم، واستمر به الدم أقل مدة الحيض.. حكم بفطره؛ لأنه إن كان رجلا.. فقد أنزل عن مباشرة، وإن كان امرأة.. فقد حاضت. فإن استمر به الدم بعد ذلك اليوم أياما، ولم ينزل عن مباشرة من آلة الرجال.. لم يبطل الصوم إلا في الأيام التي ينفرد برؤية الدم والإنزال، ولا تجب الكفارة على من حكم ببطلان صومه هاهنا؛ لما ذكرناه على أصلنا. [مسألة: كفارة الوطء] ] : إذا أولج الصائم ذكره في فرج امرأة في نهار رمضان عامدا، عالما بالتحريم، وهو حاضر.. فقد ذكرنا أنه يفسد صومه، وتجب عليه الكفارة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم. وقال النخعي، والشعبي: لا كفارة عليه، وحكي ذلك عن قتادة، وسعيد بن جبير.

فرع: وطء المسافر في الصيام

دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن أعرابيا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، هلكت؟ فقال: "ما شأنك؟! " فقال: وقعت على امرأتي في نهار شهر رمضان، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل تجد رقبة تعتقها؟ " قال: لا، قال: "صم شهرين متتابعين"، فقال: لا أستطيع، قال: "أطعم ستين مسكينا" قال: لا أجده، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اجلس"، فبينما هو جالس إذ أتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرق فيه تمر (والعرق) مكتل ضخم". فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خذ هذا، وتصدق به"، فقال: يا رسول الله، أعلى أهل بيت أفقر منا؟! والذي بعثك بالحق نبيا، ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا، قال: فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت ثناياه، وقال: "أطعمه عيالك» . ولأن الصوم عبادة يدخل في جبرانها المال وهو الشيخ إذ لم يطق الصوم: أطعم، فوجب أن يجب بإفسادها الكفارة، كالحج، ويجب عليه إمساك بقية النهار؛ لأنه غير معذور في ذلك. [فرع: وطء المسافر في الصيام] ] : إذا نوى المسافر الصوم، وقلنا: يجوز له الإفطار في ذلك اليوم فإن أفطر بالجماع مترخصا.. قضى الصوم، ولا كفارة عليه. وقال أحمد: (عليه القضاء والكفارة) دليلنا: أن كل صوم جاز له الإفطار فيه بالأكل جاز بالجماع، كالتطوع. وإن أفطر بالجماع غير مترخص: ففيه وجهان، حكاهما فيه " الإبانة " [ق\163] :

مسألة: الوطء في الدبر

أحدهما: لا يكفر، كالمترخص. والثاني: عليه الكفارة؛ لأنه لما لم يترخص.. صار كمقيم جامع، ألا ترى أن المسافر إذا نوى القصر، فقام بنية الإتمام.. جاز، ولو قام متعمداً من غير نية الإتمام.. بطلت صلاته. [مسألة: الوطء في الدبر] ] : وإن لاط بغلام، أو أتى امرأة في دبرها.. فهو كالوطء في الفرح، وتجب به الكفارة. وقال أبو حنيفة) لا تجب به الكفارة) . دليلنا: أنه فرج يجب بالإيلاج فيه الغسل، فوجب فيه الكفارة، كالقتل. وإن وطئ امرأة ناسياً أو جاهلاً بالتحريم.. فالمشهور من المذهب: أنه لا يجب عليه كفارة شيء. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\162] : أن من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالقولين فيمن وطئ في الحج ناسياً أو جاهلاً؛ لأن كل واحد منهما عبادة يجب بإفسادها الكفارة، والصحيح هو الأول؛ لأنه من محظورات الحج، فاستوى فيه العمد والسهو، وهو كقتل الصيد وإتلاف شجر الحرم والحلق، فجاز أن يلحق به الجماع في أحد القولين، وجميع محظورات الصوم فرق فيها بين العمد والسهو، فكذلك الجماع. [فرع: إتيان الصائم البهيمة] ] : وأما إتيان البهيمة: ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: إن قلنا: يجب به الحد.. أفسد الصوم، وأوجب الكفارة. وإن قلنا: لا يجب به الحد.. لم يفسد الصوم، ولو يوجب الكفارة.

فرع: وطء الخنثى

ومنهم من قال: يفسد الصوم، ويوجب الكفارة، قولاً واحدا؛ لأنه فرج يجب الغسل بالإيلاج فيه، فهو كفرج المرأة. [فرع: وطء الخنثى] ] : وإن أولج الخنثى المشكل ذكره في دبر رجل، أو في فرج امرأة أو دبرها، أو في فرج خنثى مشكل أو دبره.. لم يفطر الخنثى المولج؛ لجواز أن يكون ذكره عضواً زائداً، ويفسد صوم المولج فيه، ولا تجب عليه الكفارة؛ لجواز أن يكون ذكره عضواً زائداً، وإنما يكون كما لو أدخل إصبعه في الفرج أو الدبر، وذلك لا يفسد الصوم. وإن أولج رجل ذكره في دبر خنثى مشكل.. أفطرا، ووجبت الكفارة على كل واحد منهما، إلا أن يكون المولج فيه جارية للمولج، فيكون كزوجته على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وإن أولج الرجل ذكره في فرج خنثى مشكل.. أفطر المولج فيه دون المولج؛ لجواز أن يكون ذلك خلقة زائدة، إلا أن ينزل المولج، فيفطر، وإن أولج الخنثى ذكره في فرج خنثى مثله.. أفطر المولج فيه دون المولج، سواء أنزل المولج أو لم ينزل. وإن أولج خنثيان كل واحد منهما آلته في فرج صاحبه أو في دبره، أو أولج هذا آلته في فرج صاحبه، وأولج الآخر آلته في دبر الآخر.. أفطرا جميعاً، ولا كفارة على واحد منهما. هكذا ذكره القاضي أبو الفتوح. [فرع: وجوب القضاء والكفارة] ] : وهل يجب على المجامع قضاء اليوم الذي وطئ فيه مع الكفارة؟ حكى ابن القاص وابن الصباغ فيه قولين - سواء كفر بالعتق، أو الإطعام، أو الصوم-: أحدهما: لا يجب عليه القضاء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المجامع في نهار رمضان بالكفارة، دون القضاء.

مسألة: خصال الكفارة

والثاني - وهو الصحيح -: أنه يجب عليه القضاء؛ لأنه قد روي في الخبر: «وصم يوماً مكانه» . وقال الأوزاعي: (إن كفر بالعتق أو الإطعام.. قضى يوماً، وإن كفر بالصوم.. لم يقض يوماً) . وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\163] : أن القولين إذا كفر بالصوم، فأما إذا كفر بالعتق أو الإطعام.. قضى يوماً، قولاً واحداً. وليس بشيء. [مسألة: خصال الكفارة] ] : والكفارة الواجبة بإفساد الصوم بالجماع على الترتيب، فيجب عتق رقبة، فإن لم يجد.. فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع.. أطعم ستين مسكيناً، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي. وقال مالك: (هي على التخيير بين العتق، والصيام، والإطعام) . وقال الحسن: هو مخير بين عتق رقبة، أو نحر بدنة، أو إطعام عشرين صاعاً أربعين مسكيناً. دليلنا: ما ذكرناه من حديث أبي هريرة.

وأما صفة الرقبة والصيام والإطعام: فيأتي ذكره في كفارة الظهار إن شاء الله. إذا ثبت هذا: ووطئ الرجل زوجته في نهار رمضان وطئاً يجب به الكفارة.. فعلى من تجب الكفارة؟ ذكر الشيخ أبو حامد: أن في ذلك قولين: أحدهما: تجب على كل واحد منهما كفارة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، واختاره ابن المنذر؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أفطر في رمضان.. فعليه ما على المظاهر» ، يعني: من الكفارة، والزوجة قد أفطرت بالجماع، فوجب أن تكون عليها الكفارة، ولأنها عقوبة تتعلق بالجماع، فاستوى فيها الرجل والمرأة، كحد الزنا، وفيه احتراز من المهر. والثاني: تجب الكفارة على الرجل وحده، وهو الصحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الذي جامع في نهار شهر رمضان بالعتق، فإن لم يجد.. فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع.. أطعم ستين مسكيناً، فدل على أن هذا هو ما يجب بالجماع. فإذا قلنا بهذا: فهل تجب الكفارة عنه وعنها، أو تجب عنه دونها؟ فيه وجهان: وحكاهما ابن الصباغ قولين:

أحدهما: تجب عليه عنه وعنها. وتعلق هذا القائل بقول الشافعي) والكفارة واحدة عنه وعنها) ، ولأنهما اشتركا في المأثم، فاشتركا في الكفارة. والثاني: تجب عليه عنه دونها؛ لأنها حق مال يتعلق بالوطء، فكان على الزوج، كالمهر، وتأول هذا القائل قول الشافعي: أنه أراد: أنها تجزئ عنهما جميعاً. فإن قلنا: يجب على كل واحد منهما كفارة.. اعتبر حال كل واحد منهما بنفسه، فمن كان من أهل العتق.. أعتق، ومن كان من أهل الصيام.. صام، ومن كان من أهل الإطعام.. أطعم. وإن قلنا: تجب الكفارة على الزوج، فإن قلنا: تجب عليه دونها.. اعتبر حاله أيضاً، وإن قلنا: يتحمل عنها.. نظرت: فإن استوى حالهما، فإن كانا من أهل العتق.. أعتق رقبة، وكانت عنهما، والذي يقتضي المذهب: أن ولاءها يكون بينهما؛ لأن العتق فيها وقع عنهما. وإن كانا من أهل الصيام.. صام الزوج عن نفسه شهرين وصامت عن نفسها؛ لأن الصوم لا يتحمل. وإن كانا من أهل الإطعام.. أطعم ستين مسكيناً، وكان ذلك عنهما. وإن اختلف حالهما، فإن كان الزوج أعلى منها، بأن كان من أهل الإعتاق، وهي من أهل الصيام أو من أهل الإطعام، فإن كانت حرة، وأعتق رقبة.. أجزأت عنهما؛ لأن من فرضه الصيام أو الإطعام.. يجزئ عنه العتق، كالحرة المعسرة، وهذا هو المشهور من المذهب. وحكى صاحب " الإبانة " [ق\ 164] وجهاً آخر: أنهما لا يتداخلان إذا كانتا من جنسين. فعلى هذا: إن كانت من أهل الصيام.. صامت عن نفسها. وإن كانت من أهل الإطعام.. أطعم عنها. وليس بشيء. وإن كان الزوج من أهل الصيام، وهي من أهل الإطعام.. صام عن نفسه شهرين، وأطعم عنها ستين مسكيناً، لأن تحمل الإطعام عنها بالصوم لا يجوز. وإن كانت الزوجة أمة والزوج حراً من أهل العتق.. فقد ذكر الشيخ أبو إسحاق في

فرع: وطء المسافر بعد قدومه

" المهذب ": أن إعتاق الزوج يجزئ عنها على القول الذي يقول: إن الأمة تملك المال إذا ملكت، فأما على القول الآخر: فلا يجزئ عنها. وذكر الشيخ أبو حامد، وسائر أصحابنا: أن إعتاق الزوج لا يجزئ عنها؛ لأن العتق يتضمن الولاء، والأمة لا يثبت لها الولاء. وهذا يدل على صحة ما ذكرته قبل هذا في الحرة، إذا أعتق الزوج، وقلنا: إن العتق عنهما.. أن الولاء بينهما. وقد ذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " في المأذون: أن إعتاق العبد في الكفارة لا يصح على القولين؛ لأنه يتضمن الولاء، والعبد ليس من أهل الولاء. وإن كانت الزوجة أعلى حالاً من الزوج، بأن كانت من أهل العتق، وهو من أهل الصيام أو الإطعام.. فإنه يصوم عن نفسه، أو يطعم ويتحمل عنها العتق في ذمته إلى أن يجد؛ لأن العتق إنما يسقط عن المعسر إذا كان عن نفسه، وهذا إنما هو تحمل عن الزوجة، وذلك يجري مجرى مؤنتها، فثبت في ذمته. وإن كانت من أهل الصيام، والزوج من أهل الإطعام.. لم يتحمل عنها الصوم؛ لأنه لا يتحمل، بل تصوم عن نفسها، ويطعم عن نفسه [فرع: وطء المسافر بعد قدومه] فإن قدم الرجل من، سفره وهو مفطر، فإن وجد امرأته صائمة فأخبرته: أنها مفطرة، فوطئها.. أفطرت، فإن قلنا: يجب على كل واحد منهما كفارة.. وجبت الكفارة عليها دونه. وإن قلنا: تجب عليه الكفارة دونها.. لم يجب على واحد منهما كفارة. وإن قلنا: تجب عليه كفارة عنه وعنها.. وجبت الكفارة في مالها؛ لأنها غرته بأنها مفطرة. وإن أخبرته بصومها، فوطئها وهي مطاوعة، فإن قلنا: يجب على كل واحد منهما كفارة.. وجبت عليها الكفارة دونه، وإن قلنا تجب عليه دونها.. لم يجب في هذا الوطء كفارة، وإن قلنا: يتحمل عنها.. لزمه أن يعتق عنها إن كانت من أهل

فرع: وطء المجنون زوجته

الإعتاق، أو يطعم إن كانت من أهل الإطعام، وإن كانت من أهل الصوم.. صامت عن نفسها، وإن أكرهها على الوطء.. لم تفطر هي؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» . ولا يجب في هذا الوطء كفارة على الأقوال كلها؛ لأنه لا يجب عليه الكفارة؛ لكونه مفطراً، ولا يجب بسببها كفارة؛ لأنها مكرهة، وإن أكرهها حتى مكنته من الوطء.. ففيه قولان: أحدهما: حكمهما حكم ما لو كانت مطاوعة. والثاني: حكمهما حكم ما لو كانت مكرهة. وقد مضى دليلهما. [فرع: وطء المجنون زوجته] ] : وإن وطئ المجنون امرأته وهي مطاوعة له.. أفطرت؛ لأنه لا عذر لها، ولا يفطر؛ لأنه معذور. فإن قلنا: يجب على الفاعلين على كل واحد منهما كفارة.. وجب هاهنا على الزوجة في مالها كفارة، ولا يجب على الزوج كفارة؛ لأنه معذور. وإن قلنا: يجب عليه دونها.. لم يجب في هذا الوطء كفارة. وإن قلنا: يتحمل عنها.. فهاهنا وجهان:

مسألة: الجماع في أيام

[أحدهما] : قال أبو إسحاق: تجب الكفارة عنها في مال الزوج؛ لأن وطأه بمنزلة جنايته، وجنايته مضمونة في ماله. و [الثاني] : قال أبو العباس: لا يجب عليه شيء؛ لأن المجنون لا قصد له ولا فعل له. وإن استدخلت المرأة ذكر زوجها وهو نائم.. أفطرت، ولم يفطر الزوج، ولا كفارة عليه. فإن قلنا: لو وطئها مختارين، يجب على كل واحد منهما كفارة، أو تجب عليه عنه وعنها.. وجبت الكفارة هاهنا في مالها دونه؛ لأنه معذور. وإن قلنا هناك: يجب عليه الكفارة عنه دونها.. لم يجب بهذا الوطء كفارة. وإن زنى بامرأة في نهار رمضان.. أفطر. فإن قلنا في الزوجين: يجب على كل واحد منهما كفارة، أو يجب كفارة عليه عنه وعنها.. وجبت هاهنا على كل واحد منهما كفارة؛ لأن التحمل لحق الزوجية، ولا زوجية هاهنا. وإن قلنا: يجب عليه كفارة دونها.. وجبت الكفارة هاهنا على الرجل دون المرأة. [مسألة: الجماع في أيام] ] : وإن جامع في يومين من شهر رمضان أو في أيام.. وجب لكل يوم كفارة، سواء كفر عن الأول أو لم يكفر. وقال أبو حنيفة: (إن وطئ في اليوم الثاني قبل أن يكفر عن الأول.. كفاه لهما كفارة واحدة، وإن كان قد كفر عن الأول.. ففيه روايتان، الصحيح: أن عليه كفارة للثاني) . دليلنا: أنه أفسد صوم يومين من شهر رمضان بالجماع، فلزمه كفارتان، كما لو كانا من شهرين، وإن وطئ في اليوم مرتين.. لزمه للأول كفارة، ولا يلزمه للثاني كفارة.

مسألة: الجماع حال الفجر

وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كفر للأول.. لزمه أن يكفر للثاني، وإن لم يكفر للأول، كفاه كفارة واحدة) . دليلنا: أن الوطء الثاني لم يصادف صوماً، فلم تجب فيه الكفارة. وإن لم ينو الصوم بالليل، وأصبح.. وجب عليه الإمساك لحرمة الوقت، فإن وطئ فيه.. لم تجب عليه الكفارة؛ لأن وطأه لم يصادف صوما. [مسألة: الجماع حال الفجر] ] : وإن طلع الفجر وهو مجامع، فاستدام مع العلم بالفجر.. وجب عليه القضاء والكفارة، وبه قال مالك، وأحمد رحمة الله عليهما. وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه الكفارة) . وبه قال المزني دليلنا: أنه منع صحة صوم يوم من شهر رمضان بجماع تام أثم فيه، فلزمته الكفارة، كما لو وطئ في أثناء النهار. فقولنا: (منع صحة صوم يوم) حتى لا ينازعونا في الوصف؛ لأنا لو قلنا: إنه أفسد صوم يوم.. ربما قالوا: لا نسلم أنه أفسده، وإنما تركه. وقولنا: (بجماع تام) احتراز مما لو باشرها فيما دون الفرج، فأنزل. وقولنا: (أثم فيه) احتراز مما لو ظن أنه ليل، فجامع، ولم يعلم بطلوع الفجر، ثم تبين له بعد النزع أن وطأه صادف النهار.. فإن صومه لا يصح، ويجب عليه القضاء، ولا تجب عليه الكفارة؛ لأن الكفارة تراد لتكفير الإثم، ولا إثم عليه هاهنا. [مسألة: الجماع بعد الأكل ناسيا] ] : ولو أكل ناسيا فظن أنه أفطر بذلك، ثم جامع.. ففيه وجهان: أحدهما: - وهو المنصوص -: (أنه لا كفارة عليه) ؛ لأنه وطئ وهو يعتقد إباحته، فهو كما لو وطئ في وقت يعتقد أنه ليل، فبان أنه نهار، ويجب عليه القضاء.

فرع: الجماع في قضاء رمضان

والثاني - وهو قول القاضي أبو الطيب - إن عليه الكفارة؛ لأن الذي ظنه-وهو كونه مفطرا بأكل الناسي- لا يبيح له الوطء، بخلاف ما لو ظن أنه الليل. وإن أصبح المقيم صائما، ثم سافر، فجامع في ذلك اليوم.. وجبت عليه الكفارة. وقال أبو حنيفة: (لا تجب عليه الكفارة) . دليلنا: أن السفر لا يبيح له الفطر في هذا اليوم، فلا تسقط الكفارة، كالسفر القريب. وإن أصبح الصحيح صائما، ثم مرض وجامع في مرضه.. لم تجب عيه الكفارة؛ لأن المرض يبيح له الفطر. وإن جامع، ثم سافر.. لم تسقط عنه الكفارة؛ لأن السفر لا يبيح له الفطر في هذا اليوم، وإن جامع، ثم جن، أو مرض، أو حاضت المرأة في ذلك اليوم.. فهل تسقط الكفارة عن الرجل إذا جن أو مرض، وعن المرأة إذا حاضت؟ فيه قولان: أحدهما: لا تسقط، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق؛ لأنه معنى طرأ بعد وجوب الكفارة، فلا يسقطها، كالسفر. والثاني: تسقط، وبه قال أبو حنيفة، والثوري؛ لأن اليوم يرتبط بعضه ببعض، فإذا خرج آخره عن أن يكون صائما فيه بالجنون أو الحيض، أو خرج عن أن يكون الصوم فيه مستحقا بالمرض.. خرج أوله عن أن يكون صوما أو مستحقا، فلم تجب فيه الكفارة. [فرع: الجماع في قضاء رمضان] ] : إن وطئ في قضاء شهر رمضان.. لم تجب عليه الكفارة. وقال قتادة: تجب.

فرع: التأويل في حديث الأعرابي

دليلنا: أنه جماع في غير نهار شهر رمضان.. فلم تجب فيه الكفارة، كما لو جامع في يوم النذر. [فرع: التأويل في حديث الأعرابي] مسألة: [التأويل في حديث الأعرابي] : تكلم الشافعي على خبر الأعرابي الذي جامع في نهار شهر رمضان، وأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الشافعي: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خذه فتصدق به " يحتمل تأويلين: أحدهما: أنه ما ملكه إياه، ولكنه تطوع عنه بالتكفير، وأمره بدفعه إلى المساكين، فلما أخبره بحاجته إليه.. أذن له في أن يأكله، ويطعمه عياله، فأفاد هذا التأويل أن التطوع عن الغير بالكفارة بإذنه يجوز. والتأويل الثاني: يحتمل أنه ملكه إياه، وأمره أن يكفر به، فلما أخبره بحاجته.. أذن له في أكله، فأفاد هذا التأويل أن الكفارة لا تجب إلا في الفاضل عن الكفاية. وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أطعمه عيالك» : فيحتمل ثلاث تأويلات: إحداهن: أنه أذن له في إطعامه عياله، وتكون كفارة عنه، فأفاد هذا التأويل أن من تطوع عن غيره بالتكفير.. جاز له أن يصرفه إلى عيال المكفر عنه إذا كانوا محتاجين؛ لأنهم كغيرهم، وإنما لا يجوز ذلك إذا كان الذي يخرجها هو المكفر. والتأويل الثاني: أنه أمره بأن يطعمه عياله، وتكون الكفارة في ذمته إلى أن يجدها. والتأويل الثالث: أنه أمره أن يطعمه عياله، وتسقط عنه الكفارة) فخرج من هذين التأويلين الأخيرين للشافعي فيمن وجبت عليه الكفارة بسبب من جهته لا على سبيل البدل، وذلك ككفارة إفساد الصوم، والحج، وكفارة الظهار، والقتل، واليمين، فعجز عنها.. فيه قولان: أحدهما: لا تسقط عنه وتكون في ذمته إلى أن يجدها، وهو الصحيح؛ لأن

مسألة: صوم المغمى عليه

الأعرابي قد أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعجزه عن التكفير، فأمر له بعرق فيه تمر، وأمره أن يتصدق به، فلو كانت قد سقطت عنه.. لما احتاج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى دفعها إليه، ولأنها كفارة وجبت بسبب من جهته، فلم تسقط بعجزه، كجزاء الصيد، وفيه احتراز من زكاة الفطر، فإنها لم تجب بسبب من جهته. والثاني: أنها تسقط عنه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الأعرابي أن يطعمه عياله، ولم يخبره بأنها في ذمته إلى أن يجدها، ولأنه حق مال يجب لله تعالى لا على وجه البدل، فلم يجب مع العجز، كزكاة الفطر. فقولنا: (حق مال) احتراز من الصوم على الحائض؛ فإنه ثبت في ذمتها. وقولنا: (لله) احتراز من دين الآدمي. وقولنا: (لا على وجه البدل) احتراز من جزاء الصيد. [مسألة: صوم المغمى عليه] ] : إذا نوى الصوم من الليل، فأصبح، ثم أغمي عليه يومين أو ثلاثاً فإن أفاق بعد اليوم الأول.. لا يصح صومه؛ لأنه لم ينو الصوم فيه، وأما اليوم الأول: فقد قال الشافعي في (الصوم) : (إذا أفاق في بعض النهار.. أجزأه) وقال في (الظهار) : (إذا كان مفيقاً في أول النهار.. أجزأه) . وقال في " اختلاف العراقيين ": (إذا حاضت المرأة، أو أغمي عليها.. بطل صومها) . واختلف أصحابنا في ذلك: فقال أبو العباس: فيها ثلاثة أقوال: أحدها: يعتبر أن يكون مفيقاً في أوله لا غير، وهو قول مالك؛ لأن الصوم يفتقر إلى الإفاقة، كما يفتقر إلى النية، والنية معتبرة بأوله، فكذلك الإفاقة. والثاني: تعتبر الإفاقة في جميع النهار، وإذا أغمي عليه في جزء منه.. بطل صومه؛ لأنه معنى إذا طرأ أسقط فرض الصلاة، فأبطل الصوم، كالحيض.

فرع: طروء الجنون في الصيام

والثالث: تعتبر الإفاقة في جزء من النهار، وهو قول أحمد؛ لأنه إفاقة في جزء من النهار، فأجزأه، كما لو كان مفيقاً في أوله. وخرج أبو العباس قولاً رابعاً: أنه يعتبر أن يكون مفيقاً في طرفي النهار لا غير، كما يعتبر في الصلاة النية في أولها وآخرها. وقال أبو العباس: المسألة على قول واحد، وهو أن الإفاقة تعتبر في أوله لا غير، كما قال في (الظهار) ، وأما الذي ذكره في (الصيام) : فإنه أجمله وبين ذلك في الظهار، وأما الذي ذكره في " اختلاف العراقيين "": فإن ذلك راجع إلى الحيض" لأن من عادة الشافعي أن يجمع بين المسائل، ويعطف بالجواب على بعضها. وقال المزني: يصح صومه، وإن لم يفق في جزء من النهار، وهو قول أبي حنيفة، كما إذا نام جميع النهار.. فإن صومه يصح. وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا نام جميع النهار.. لم يصح صومه، كما إذا أغمي عليه جميع النهار. وما قالاه لا يصح؛ لأنه إذا أغمي عليه جميع النهار.. فقد وجدت منه النية، دون الترك، فلم يصح صومه، كما لو انفرد الترك عن النية. وأما النوم: فلا يبطل الصوم؛ لأن النائم مكلف، والمغمى عليه غير مكلف. [فرع: طروء الجنون في الصيام] ] : وإن نوى الصوم، ثم جن أياماً، فإن صوم ما بعد اليوم الأول لا يصح؛ لأنه لم ينو فيه الصوم، وأما صوم اليوم الأول: فحكى صاحب " المهذب " فيه قولين، وصاحب " الإبانة " [ق\ 161] حكاهما وجهين: أحدهما: أنه كالإغماء؛ لأنه يزيل العقل، ويثبت الولاية على المال، فهو كالإغماء. فعلى هذا: يكون على الاختلاف المذكور في الإغماء. والثاني - وهو الصحيح، ولم يذكر في " التعليق " و " الشامل " غيره -: أنه إذا

مسألة: انغماس الصائم في الماء

طرأ الجنون - وإن قل في الصوم- أبطله؛ لأنه يسقط فرض الصلاة، فأبطل الصوم، كالحيض، ولأنه مناف لجميع العبادات، بخلاف الإغماء. [مسألة: انغماس الصائم في الماء] ] : يجوز للصائم أن يصب على رأسه الماء وينغمس فيه، ما لم ينزل إلى حلقه؛ لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح جنباً، ثم يغتسل، ثم يصوم» ويجوز للصائم أن يكتحل، وإن وجد طعمه في حلقه.. لم يفطر، وبه قال أبو حنيفة، والأوزاعي. وقال أحمد، وإسحاق: (يكره له أن يكتحل، وإن وجد طعمه في حلقه.. أفطر) . وحكي عن ابن أبي ليلى، وابن شبرمة: أن الكحل يفطر. دليلنا: ما روى أبو رافع قال: «نزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر، ونزلت معه، فدعا بكحل إثمد، فاكتحل به في شهر رمضان وهو صائم» ، وروى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كره للصائم السعوط، ولم يكره له الكحل»

ولا يستحب للصائم الحجامة؛ لأنها تضعفه، فربما خرج إلى الإفطار وإن احتجم.. لم يفسد صومه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وروي ذلك عن ابن عباس، وأنس، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن أرقم، وأم سلمة، وابن مسعود، والحسن بن علي. وذهبت طائفة إلى: أنه يفطر، وروي ذلك عن أبي هريرة، وعائشة، وهو قول الأوزاعي، وعطاء، والحسن.

مسألة: لعلك للصائم

وقال أحمد، وإسحاق: (يفطر الحاجم والمحجوم) . واختاره ابن المنذر. وعن أحمد في الكفارة روايتان. دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو صائم محرم» ، ولأنه دم خارج من ظاهر البدن، فأشبه دم الفصد. [مسألة: لعلك للصائم] مسألة: [العلك للصائم] قال الشافعي: (وأكره العلك؛ لأنه يحلب الفم) . وجملته: أنه يكره للصائم مضغ العلك والكندر الذي إذا أصابه الماء والريق: اشتد؛ لأنه يجلب ريق الفم ويعطشه، فأما الكندر الذي يتهرى ويتفتت، فلا يجوز له

مسألة: القبلة للصائم

مضغه، فإن نزل شيء من ذلك إلى جوفه.. فطره، وإن نزل ريحه.. لم يفطره؛ لأن ذلك ليس بجسم، ويكره للصائم مضغ الخبز، فإن كان معه صبي يحتاج إلى مضغ الخبز له.. لم يكره؛ لأنه موضع ضرورة، فإن نزل إلى حلقه.. أفطر. [مسألة: القبلة للصائم] ] : ومن حركت القبلة شهوته، وخاف أن ينزل.. كرهت له وقال الشيخ أبو إسحاق والقاضي أبو الطيب: والكراهة كراهة تحريم، وإن لم تحرك شهوته.. لم يكره. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تكره القبلة للصائم بكل حال) وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا تكره له بحال) دليلنا: ما روي عن عائشة أُم المؤمنين: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل، ويباشر بعض نسائه، وهو صائم، وكان أملككم لإربه، فقيل: من هي إلا أنت؟ فضحكت» . وقد روي: (لإربه) - بالكسر-: وهو العضو، ومنه قولهم: (قطعته إرباً إربا) . وروي: (لأربه) - بالفتح -: وهو الحاجة. وروى أبو هريرة: «أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القبلة للصائم؟ فأباحها له، وسأله آخر عنها، فكرهها له» . فيحمل ذلك على: أن الذي كرهها له شاب، والذي أباحها له شيخ.

مسألة: مكروهات الصيام

ولأنه يؤمن الإنزال وإفساد الصوم به في حق الشيخ، والشاب الضعيف، ولا يؤمن ذلك في حق الآخر. [مسألة: مكروهات الصيام] ] : ويكره للصائم اللفظ القبيح، والمشاتمة، والغيبة أكثر مما تكره لغيره، فإن شاتمه غيره، قال: إني صائم؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان أحدكم صائماً.. فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه.. فليقل: إني صائم، إني صائم» وحكى عن بعض الناس: أنه قال: لا يتلفظ به؛ لأنه يكون إظهاراً لعبادته؛ فيكون رياء، وإنما يقول ذلك في نفسه. قال ابن الصباغ: ويمكن أن يحمل هذا على ظاهره، ويتكلم بذلك، ولا يقصد به الرياء، وإنما يقصد به كف الخصومة وإطفاء الشر بينهما، وإن خالف وشاتم.. لم يفطره، وهو قول كافة العلماء إلا الأوزاعي، فإنه قال: (يفطر بذلك) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس يفطرن الصائم» فذكر منها الغيبة والنميمة والكذب.

مسألة: الوصال للصائم

دليلنا: أنه نوع كلام، فلا يفطر به، كسائر أنواع الكلام. وأما الخبر: فالمراد به: أنه يسقط ثوابه، حتى يصير في معنى المفطر، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال لأخيه والإمام يخطب: أنصت.. فلا جمعة له» . ولم يرد: أن صلاته تبطل، وإنما أراد: أن ثوابه يسقط، حتى يصير في معنى من لم يصل. [مسألة: الوصال للصائم] ] : يكره الوصال في الصوم، وهو: ترك الأكل والشرب بالليل، وقد كان مباحاً للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو مكروه في حق غيره، وروي عن ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (أنه كان يواصل) دليلنا: ما روى أنس، قال: «واصل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فواصلوا، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لو أن الشهر مد لي لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم، إني لست مثلكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني» فقيل: معنى هذا:

أني أعطى قوة الطاعمين والشاربين. وقيل: أطعم وأسقى من طعام الجنة، وإنما يقع الإفطار بطعام الدنيا. وقيل: معناه: أن محبة الله تعالى تشغلني عن الطعام والشراب، والحب البالغ قد يمنع من الطعام والشراب، وهل يكره كراهية تنزيه أو تحريم؟ فيه وجهان: [أحدهما] : ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه كراهية تحريم؛ لأنه قال: (فرق الله بين رسوله وبين خلقه في أمور أباحها له، وحظرها عليهم) . وذكر عقيبه حديث الوصال، وكذلك ظاهر الحديث يدل على التحريم. و [الثاني] : من أصحابنا من قال يكره كراهية تنزيه؛ لأنه إنما نهى عنه لأجل المشقة بما يلحقه، وذلك غير متحقق، فلم يتعلق به التحريم. فإن واصل.. كان صومه صحيحاً؛ لأن النهي لا يختص بالصوم، وإن أخر الإفطار، وواصل من سحر إلى سحر.. جاز؛ لما روى ابن المنذر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فأيكم أراد أن يواصل.. فليواصل حتى السحر» .

مسألة: سحور الصائم

[مسألة: سحور الصائم] ] : يستحب للصائم أن يتسحر؛ لما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «استعينوا بنوم النهار على قيام الليل، وبأكل السحور على صيام النهار» وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تسحروا، فإن في السحور بركة» . ويستحب تأخير السحور إذا تحقق بقاء الليل، وتعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس؛ لما روى أنس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسحر هو وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما فرغا.. قام نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة، فقيل لأنس: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية»

وروى سهل بن سعد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تزال أُمتي بخير ما عجلوا الفطر» ، ولأن في ذلك مخالفة لليهود والنصارى؛ لأنهم يؤخرون الفطر، ولأن الفطر يحصل بغروب الشمس، فلا معنى لتأخير الأكل. ويستحب أن يفطر على تمر، فإن لم يجد.. فعلى الماء؛ لما روى سلمان بن عامر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان أحدكم صائماً.. فليفطر على التمر، فإنه بركة، فإن لم يجد.. فعلى الماء، فإنه طهور» وروى أنس قال «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن.. فعلى تمرات، فإن لم تكن.. حسا حسوات من ماء» ويكره للصائم إذا شرب الماء أن يتمضمض ويمج ذلك، ويستحب أن يدعو عند إفطاره، فيقول: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت؛ لما روى أبو هريرة

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو بذلك عند إفطاره) وعن ابن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أنه كان يقول عند إفطاره: (يا واسع المغفرة، اغفر لي) وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أفطر.. قال: " ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى» ويستحب أن يفطر الصائم؛ لما روى زيد بن خالد الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من فطر صائما.. كان له مثل أجره، ولا ينقص من أجر الصائم شيء»

مسألة: قضاء الصوم

[مسألة: قضاء الصوم] إذا كان عليه قضاء من أيام شهر رمضان.. فإن وقت القضاء فيما بينه وبين شهر رمضان الذي بعده، فالمستحب: أن يقضيه في أول ما يمكنه، فإن أخره حتى دخل رمضان آخر، فإن دام عذره بأن كان مسافراً أو مريضا حتى دخل الشهر الثاني.. صام رمضان، ثم يقضي عن الأول بعد رمضان، ولا شيء عليه. وقال ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وقتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: (يطعم ولا يقضي) دليلنا: أنه صوم واجب، فلا يسقط إلى الإطعام مع القدرة على فعله، كالأداء. وإن لم يكن له عذر في التأخير.. فإنه يصوم رمضان، ثم يقضي ما عليه بعده، ويلزمه مع القضاء عن كل يوم مد، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم.

مسألة: استحباب التتابع في القضاء

وقال أبو حنيفة (يقضي، ولا شيء عليه) . دليلنا: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أفطر في رمضان لمرض، ثم لم يقض حتى جاء رمضان آخر.. صام الذي أدرك، ثم قضى وأطعم عن كل يوم مسكيناً» واعتمد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيها على إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأن هذا الخبر فيه ضعف. وروي عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة: أنهم قالوا: (إذا أخر القضاء حتى جاء رمضان آخر.. فعليه الكفارة) . ولا مخالف لهم. وإن أخره سنتين أو ثلاثاً.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب لكل سنة مد، قياسا ًعلى السنة الأولى. والثاني: لا يجب؛ لأن الكفارة وجبت للتأخير فيما بين رمضانين، فلا تجب الفدية بتأخير سنة أخرى. [مسألة: استحباب التتابع في القضاء] ] : والمستحب: أن يقضي ما عليه متتابعاً. وقال الطحاوي: التتابع والتفريق سواء.

دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان عليه صوم من رمضان.. فليسرده ولا يقطعه» ولأن فيه مبادرة إلى أداء الفرض، ولأنه أشبه بالأداء، فإن قضاه متفرقاً.. جاز، وبه قال ابن عباس، وأبو هريرة، وأنس، ومعاذ، وأبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي. وقال علي، وابن عمر، وعائشة: (التتابع واجب) وبه قال الحسن البصري،

فرع: نذر صوم الدهر

وعروة، والنخعي، وداود، إلا أن داود قال: (التتابع ليس بشرط في القضاء) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] . ولم يفرق. وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان عليه شيء من رمضان.. فليصمه إن شاء.. متتابعا، وإن شاء.. متفرقا» . وإن كان عليه قضاء اليوم الأول من شهر رمضان، ونوى القضاء عن اليوم الثاني.. فقد خرج الشيخ أبو إسحاق فيها وجهين: أحدهما: يجزئه؛ لأن تعيين اليوم غير واجب. والثاني: لا يجزئه؛ لأنه نوى غير ما عليه، فهو كما لو كان عليه عتق عن كفارة اليمين، فنوى العتق عن كفارة الظهار. [فرع: نذر صوم الدهر] ] : إذا نذر صوم الدهر، ثم أفطر في رمضان لعذر، وزال العذر.. كان عليه أن يقضي ما أفطر في رمضان؛ لأنه آكد من النذر.

مسألة: القضاء عن الميت

وهل يكون نذره منعقدا في أيام القضاء؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ والطبري في " العدة ": أحدهما: لا يكون منعقدا؛ لأن ترك القضاء إذا كان معصية.. صارت تلك الأيام كشهر رمضان. فعلى هذا: يأتي بقضاء رمضان، ولا يلزمه لأجل النذر شيء. والثاني: يكون النذر فيها منعقدا؛ لأنه كان له أن يصوم فيها عن نذره، فشابهت سائر الأيام. فعلى هذا: إذا قضى شهر رمضان.. هل يلزمه لأجل القضاء شيء؟ قال أبو العباس: يحتمل وجهين: أحدهما: لا يلزمه شيء، كمن أفطر في رمضان بعذر، ودام عذره حتى مات. والثاني: يلزمه الإطعام؛ لأنه كان يقدر على أن يصومه عن النذر. فإذا لم يصمه عنه.. لزمه أن يأتي بفدية عنه، وله أن يخرج الفدية في حياته؛ لأنه قد أيس من القدرة عن الإتيان به، فكان كالشيخ الهم. وهكذا: إذا نذر صوم الدهر، ثم لزمه صوم كفارة.. كان الحكم مثل هذا؛ لأنها تجب عليه شرعاً، وإن كان بسبب من جهته، فكان آكد من النذر الذي يوجبه على نفسه. [مسألة: القضاء عن الميت] ] : إذا كان عليه قضاء من شهر رمضان، فلم يصم حتى مات.. نظرت: فإن دام العذر إلى أن مات.. لم يجب أن يطعم عنه، وبه قال عامة الفقهاء. وقال قتادة، وطاوس: يطعم عنه لكل يوم مسكين.

دليلنا: أنه فرض لم يتمكن من أدائه إلى الموت.. فسقط حكمه، كالحج. وإن مات بعد أن تمكن من قضائه.. ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يصوم عنه وليه) . وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة؛ لما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات وعليه صيام.. صام عنه وليه» ، ولأن الصوم عبادة يدخل في جبرانها المال، فدخلتها النيابة بعد الوفاة، كالحج. فإذا قلنا بهذا: فصام عنه الولي، أو أمر أجنبيا، فصام عنه بأجرة أو بغير أجرة.. جاز، وإن صام عنه أجنبي بغير إذن الولي.. ففيه وجهان، حكاهما في " الفروع ". والمشهور: أنه لا يصح. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يصح أن يصام عنه، بل يطعم عنه الولي لكل يوم مسكينا) . وهو الصحيح؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات

وعليه صيام.. أطعم عنه وليه عن كل يوم مداً لمسكين» ، ولأن الصوم عبادة لا تدخلها النيابة في حال الحياة، فلم تدخلها النيابة بعد الوفاة، كالصلاة، وعكسه الحج. وأما الخبر: فمعناه: فعل عنه وليه ما يقوم مقام الصوم، وهو الإطعام. فإن مات بعد ما أدركه شهر رمضان آخر.. ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه مد واحد، وبه قال مالك؛ لأنه إذا أخرج مدا بدل الصوم.. فقد زال التفريط بالتأخير، فلم يجب لأجله شيء. والثاني - وهو المذهب -: أنه يجب عليه مدان: مد للصوم، ومد للتأخير؛ لأنه قد وجب عليه مد بالتأخير إلى دخول شهر رمضان، فإذا مات.. وجب عليه مد بدل الصوم. قال أبو داود في "سننه ": وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقولن أحدكم: إني صمت رمضان كله، أو قمته كله» ". قال: فلا أدري أكره التزكية؟ أو قال ذلك؛ لأنه لا بد له من نومة أو رقدة. والله أعلم

باب صوم التطوع والأيام التي نهي عن الصيام فيها

[باب صوم التطوع والأيام التي نهي عن الصيام فيها] وليلة القدر يستحب لمن صام رمضان أن يتبعه بست من شوال، والمستحب: أن يصومها متتابعة، فإن صامها متفرقة.. جاز، وبه قال أحمد. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره ذلك؛ خوف أن يلحق بالفريضة) . قال مالك: (ما رأيت أحداً من أهل العلم يصومها) دليلنا: ما روى أبو أيوب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان، وأتبعه بست من شوال.. فكأنما صام الدهر كله» . قال أصحابنا: وهذا صحيح في الحساب؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وصوم شهر رمضان يقوم مقام ثلاثمائة يوم، وهو عشرة أشهر، فإذا صام ستة أيام بعده.. قامت مقام ستين يوماً، وذلك شهران، وذلك كله عدد أيام السنة.

مسألة: صوم عرفة

[مسألة: صوم عرفة] ] : ويستحب لغير الحاج صوم يوم عرفة؛ لما روى أبو قتادة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صوم يوم عاشوراء كفارة سنة، وصوم يوم عرفة كفارة سنتين: سنة قبلها ماضية، وسنة بعدها مستقبلة» قال الصيمري: ومعنى ذلك: أنه يغفر له ذنب ذلك الزمان، أو بمعنى أنه يوفق للعمل الصالح في ذلك الزمان، ولا يستحب ذلك للحاج. وروي عن عائشة، وابن الزبير: أنهما كانا يصومانه. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن أبي العاص، وقال عطاء: أصوم في الشتاء، وأفطر في

الصيف. وقال يحيى الأنصاري: يجب الفطر يوم عرفة. وقال أبو حنيفة (يستحب صيامه، إلا أن يضعف عن الدعاء) . دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة» ، وروت أم الفضل بنت الحارث: «أن ناساً اختلفوا عندها في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة: هل هو صائم، أو مفطر؟ فأرسلت إليه بقدح من لبن، وهو قائم على بعيره بعرفة، فشربه» . ولأن الدعاء في هذا اليوم مستحب، والصوم يضعفه عن الدعاء.. فلم يستحب. ويستحب أن يصوم يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من المحرم، ومن الناس من قال: يوم عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم. دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة، واليهود يعظمون يوم عاشوراء، فقيل لهم في ذلك، فقالوا: هذا هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيماً له، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "نحن أحق بموسى منهم "، فصامه، وأمر الناس بصيامه» .

واليوم الذي ظهر فيه موسى على فرعون: هو يوم العاشر من المحرم، ولا خلاف أنه ليس بواجب في وقتنا. واختلف أصحابنا: هل كان واجبا في أول الإسلام؟ [على قولين] : فـ[الأول] : منهم من قال: إنه لم يكن واجبا، وإنما كان مستحبا؛ لما روي: «أن معاوية قدم إلى المدينة، فخطب الناس، وقال: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ هذا يوم عاشوراء، سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إن الله لم يكتب علينا صيامه، وأنا صائم، فمن شاء.. صام، ومن شاء.. أفطر» . والثاني - وبه قال أبو حنيفة -: (إنه كان واجبا، ثم نسخ) ؛ لما روت عائشة: «أن قريشا كانت تصوم في هذا اليوم، فصامه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمر بصيامه، فلما فرض شهر رمضان.. ترك صيامه» . ويستحب أن يصوم اليوم التاسع من المحرم؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صوموا التاسع والعاشر، ولا تتشبهوا باليهود» . وروي في لفظ آخر: «لئن عشت إلى قابل.. لأصومن التاسع والعاشر» .

ويستحب أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؛ لما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال «وصاني خليلي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر..» . وقالت حفصة أم المؤمنين: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصوم ثلاثة أيام من كل شهر: الاثنين، والخميس، والاثنين من الجمعة الأُخرى» وقالت عائشة: «ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبالي من أي أيام الشهر يصوم» ، أي: هذه الثلاث. وروى أبو ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان صائماً.. فليصم الأيام البيض»

مسألة: صوم الدهر

فقيل هي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر. هذا هو المشهور. وقال الصيمري: وقيل: هي الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر. ويستحب أن يصوم يوم الاثنين والخميس؛ لما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصومهما) ، ويقول: «إن أعمال العباد تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس» ، وكان يقول: «ولدت في يوم الاثنين، وفيه أنزل علي القرآن» [مسألة: صوم الدهر] حال القدرة] ولا يكره صوم الدهر، إذا أفطر في أيام النهي، ولم يخف ضرراً من الصوم، ولو يضيع فيه حقاً عليه. وقال بعض الناس: يكره

وقال أبو يوسف: إنما نهى عن ذلك؛ لأنه يضعفه عن العبادة، ويشبه التبتل الذي نهي عنه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عمن صام الدهر؟ فقال: "لا صام ولا أفطر» . دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام الدهر.. فقد وهب نفسه من الله تعالى» . وأما قوله: «لا صام ولا أفطر» : فيحتمل أنه أراد: إذا لم يفطر في أيام النهي، ويحتمل أن يكون: لأن صائم الدهر يعتاد ذلك، فلا تلحقه المشقة بالصيام، فيكون الصوم والفطر عنده سواء. وإن خاف ضررا يلحقه، أو ضياع حق عليه.. كره له ذلك؛ لما روي: «أن سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جاء يزور أبا الدرداء، فوجد امرأته متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟

مسألة: استحباب إتمام الصيام

فقالت له: إن أخاك لا حاجة له في شيء من الدنيا، فلقيه سلمان، فقال: إن لربك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فصم وأفطر، وصل ونم، وائت أهلك، وأعط كل ذي حق حقه، فذكر ذلك أبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل ذلك» . ولا يجوز للمرأة أن تصوم التطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تصم المرأة وزوجها حاضر إلا بإذنه» . فإن صامت بغير إذنه.. صح صومها، والثواب إلى الله سبحانه وتعالى. [مسألة: استحباب إتمام الصيام] ] : إذا دخل في صوم تطوع، أو صلاة تطوع.. استحب له إتمامهما، فإن خرج منهما.. جاز، سواء كان بعذر أو بغير عذر، ولا قضاء عليه، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وأحمد، وإسحاق.

وقال الأوزاعي وأبو حنيفة) إذا أفسدهما، وخرج منهما قبل إتمامهما.. فعليه القضاء. والمنصوص: أنه لا يجوز له الخروج) ومن أصحابنا من قال: يجوز. وقال مالك: (إن خرج منها بعذر.. فلا قضاء عليه، وإن كان بغير عذر.. فعليه القضاء) دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «دخل علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا رسول الله، خبأنا لك حيساً، فقال: "أما إني كنت أريد الصوم، ولكن قربيه» ، فأكل، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصائم المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام، وإن شاء أفطر» «وروت أم هانئ: قالت: دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فناولني فضل شرابه فشربته، فقلت: يا رسول الله، إني كنت صائمة، وإني كرهت أن أرد سؤرك؟

مسألة: صوم يوم الشك

فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كان قضاء رمضان، فصومي يوماً مكانه، وإن كان تطوعاً، فإن شئت.. فاقضي، وإن شئت.. فلا تقضيه» [مسألة: صوم يوم الشك] ] : ولا يجوز صوم يوم الشك عن شهر رمضان، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي هريرة. وقال أحمد: (إن كانت السماء مصحية.. لم يجز صيامه، وإن كانت متغيمة.. وجب صيامه عن شهر رمضان) . وروي ذلك عن عمر، وابن عمر، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك، ومعاوية، وأبي هريرة، وعائشة، وأسماء ابنة أبي بكر

وقال الحسن، وابن سيرين: إن صام الإمام ... صامت الرعية، وإن لم يصم الإمام.. لم تصم الرعية. دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تستقبلوا الشهر بيوم ولا بيومين، إلا أن يوافق صوماً كان يصومه أحدكم، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم.. فأكملوا العدة ثلاثين يوماً» فإن صامه عن تطوع.. نظرت: فإن وافق عادة له، بأن كان يصوم يوم الاثنين والخميس، فوافق ذلك يوم الشك، أو كان يصوم الدهر.. جاز صومه للخبر، وإن صامه تطوعاً من غير موافقة عادة له.. لم يصح؛ لأنه قربة، فلا يصح بفعل معصية، وإن صامه عن

نذر أو قضاء.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح، لما روي عن عمار بن ياسر: أنه قال: «من صام اليوم الذي يشك فيه أنه من رمضان.. فقد عصى أبا القاسم» . ولم يفرق. والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب الطبري، واختيار الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ -: أنه يصح؛ لأنه إذا جاز أن يصوم فيه تطوعاً له سبب.. كان الفرض أولى، كالوقت الذي نهي عن الصلاة فيه. إذا ثبت هذا: فروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا انتصف شعبان.. فلا صيام حتى يكون رمضان» . واختلف أصحابنا في معناه: فقال الشيخ أبو إسحاق: معناه إذا أراد صوم يوم الشك عن التطوع الذي لا عادة له به، فإن وصله بما قبل النصف.. جاز، وإن وصله بما بعد النصف.. لم يجز.

مسألة: إفراد يوم الجمعة بالصوم

وقال ابن الصباغ: يحتمل أن يكون ليتقوى به المفطر على صوم رمضان؛ لأن دليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتقدموا الشهر بيوم ولا بيومين» يجوز أن يتقدمه بأكثر من ذلك. إذا تقرر هذا: فقال المسعودي [في " الإبانة " ق\157] : يوم الشك هو أن يختلف الناس في هلال رمضان، مثل: "أن يقول العبيد والصبيان: رأينا، فلم نقض بقولهم، فأما إذا لم يختلفوا.. فالشك غير متصور. [مسألة: إفراد يوم الجمعة بالصوم] ] : وهل يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: يكره، إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده. واختاره صاحب " المهذب ". وهو قول الزهري، وأحمد، وإسحاق، وروي ذلك عن أبي هريرة؛ لما روي «عن محمد بن عباد بن جعفر: أنه قال: (رأيت جابر بن عبد الله، وهو يطوف بالبيت، فقلت له: هل نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيام يوم الجمعة؟ فقال: إي ورب هذا البيت» .

مسألة: صوم العيدين

وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على جويرية بنت الحارث يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: "صمت أمس"؟ قالت: لا، قال: "أفتريدين أن تصومي غداً؟ "، قالت: لا، قال: "فأفطري» . وروى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام يوم الجمعة، إلا أن يصوم يوماً قبله أو بعده» ، ولأنه إذا صام يوماً قبله، قوي عليه، فلم يجهده يوم الجمعة. والوجه الثاني: لا يكره، وهو المنصوص في رواية المزني، واختاره ابن الصباغ، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لأنه يوم لا يكره صومه إذا صام قبله أو بعده، فلم يكره إفراده بالصوم، كسائر الأيام، وعكسه الأيام التي نهي عن صيامها. قال ابن الصباغ: وتأول الشافعي هذه الأخبار على من كان الصوم يضعفه ويمنعه من الطاعة، يعني: يوم الجمعة. [مسألة: صوم العيدين] وأما يوم النحر ويوم الفطر: فيحرم صومهما؛ لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام هذين اليومين، أما يوم الأضحى: فتأكلون من لحم نسككم، وأما يوم الفطر: ففطركم عن صيامكم»

مسألة: صوم أيام التمتع

فإن صام فيهما.. لم يصح صومه، وإن نذر صومهما.. لم ينعقد نذره. وقال أبو حنيفة: (يحرم صومهما، وإن نذر صومهما.. انعقد نذره، ولزمه أن يصوم غيرهما، وإن صام فيهما.. أجزأه، وإن صام فيهما عن نذر مطلق.. لم يجزه) . دليلنا: أنه نذر صوماً محرماً، فلم ينعقد نذره، كما لو نذرت المرأة صوم أيام حيضها. [مسألة: صوم أيام التمتع] ] : وهل يصح صوم المتمتع في أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يجوز) لما روي عن ابن عمر، وعائشة: أنهما قالا: (لم يرخص في صوم أيام التشريق، إلا لمتمتع لم يجد الهدي) و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجوز) . وبه قال أبو حنيفة؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام ستة أيام: يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام التشريق، واليوم الذي يشك فيه أنه من شهر رمضان»

فرع: الجود في رمضان وغيره

فإن قلنا بالقول القديم.. فهل يجوز أن يصوم فيها تطوعاً عن غير التمتع؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن كل يوم صح صومه عن التمتع.. صح صومه عن غير التمتع، كسائر الأيام. والثاني: لا يجوز؛ لما ذكرناه عن ابن عمر، وعائشة: (أنه لم يرخص في صومها، إلا لمتمتع لم يجد الهدي) . [فرع: الجود في رمضان وغيره] والجود مستحب في جميع الأوقات لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله جواد يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها» وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

مسألة: فضل ليلة القدر

قال: «الجنة دار الأسخياء» وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا» ويستحب الإكثار من الجود والإفضال في شهر رمضان لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان، فيعرض عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القرآن، فإذا لقيه.. كان أجود من الريح المرسلة بالخير» [مسألة: فضل ليلة القدر] ] : ليلة القدر ليلة شريفة معظمة في الشرع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] [القدر: 1] . قال الشافعي: و (القدر) : الحكم، وسميت: ليلة القدر؛ لأن الله تعالى يقدر

فيها ما يكون في تلك السنة، من خير، ومصيبة، ورزق، وغير ذلك) . والعمل فيها أفضل من العمل في غيرها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] [القدر: 3] . قال الشافعي: (معناه: أن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة قدر) . وروى الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان وقام ليلة القدر.. غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» إذا ثبت هذا: فإن ليلة القدر باقية في شهر رمضان، لم ترفع إلى الآن، وهي في العشر الأواخر منه؛ لما «روى أبو ذر، قال: قلت: يا رسول الله، ليلة القدر رفعت مع الأنبياء، أم هي باقية إلى يوم القيامة؟ قال: "بل هي باقية إلى يوم القيامة"، قال: فقلت: أفي رمضان، أم في غيره؟ فقال: "في شهر رمضان"، فقلت: في العشر الأول، أم الثاني، أم الثالث؟ فقال: "بل في العشر الأواخر» إذا ثبت هذا: فيستحب طلبها في كل ليلة من العشر الأواخر، وهي في الليلة الحادي والعشرين أظهر. ونقل المزني أو ليلة الثالث والعشرين) . وقال المزني: أرى أنها تختلف في كل سنة في العشر الأواخر.

قال ابن عمر: (هي ليلة ثلاث وعشرين) . وذهب أبي بن كعب إلى: (أنها ليلة الخامس والعشرين، أو السابع والعشرين) وقال أبو قلابة: (إنها تتقلب في كل ليلة منها) . وقال مالك: (هي في العشر الأواخر، وليس فيها تعيين) . وقال ابن عباس: (هي ليلة السابع والعشرين) . واحتج: بأن سورة القدر ثلاثون كلمة، وقوله: (هي) تمام السبع والعشرين، فدل على: أنها ليلة السابع والعشرين. دليلنا أنها تطلب في العشر: ما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر»

وروى أبو سعيد الخدري أيضاً: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أريت هذه الليلة، وأردت أن أخبركم، فتلاحى رجلان، فأنسيتها، لكني سجدت صبيحتها في ماء وطين» . قال أبو سعيد: «كان المطر في تلك الليلة، وكان المسجد عليه عريش، فوكف، فمر بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى جبهته أثر الماء والطين صبيحة ليلة إحدى وعشرين» وقال عبد الله بن أنيس: «مر بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين صبيحة ليلة ثلاث وعشرين» وأما قول ابن عباس: فـ (ليلة القدر) هي الكلمة الخامسة، وهي أصرح من قوله: (هي) ، ولا يدل على وجودها فيها. وصفتها: أنها ليلة طلقة، لا حارة ولا باردة، تطلع الشمس في صبيحتها بيضاء، مثل الطشت لا شعاع لها. وروي ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

فرع: تعليق الطلاق ونحوه على ليلة القدر

وأما الدعاء فيها: «فقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يا رسول الله، إن وافقتها.. بم أدعو؟ فقال: "قولي: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني» [فرع: تعليق الطلاق ونحوه على ليلة القدر] ] : إذا قال الرجل: امرأته طالق أو عبده حر ليلة القدر، فإن قال ذلك قبل أن تمضي ليلة من العشر الأواخر.. طلقت المرأة، وعتق العبد الليلة الأخيرة منها، وإن قال ذلك بعد مضي ليلة منها ... لم يقع الطلاق ولا الحرية إلا في مثل تلك الليلة من السنة الثانية، لتيقن حصولها. وبالله التوفيق

كتاب الاعتكاف

[كتاب الاعتكاف]

كتاب الاعتكاف قال الشافعي: (والاعتكاف لزوم المرء شيئا، وحبس نفسه عليه، براً كان أو إثماً) . قال الله تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] [الأعراف: 138] . وقَوْله تَعَالَى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] [الأنبياء: 52] . يقال: عكف يعكف ويعكف بكسر الكاف وضمها في المستقبل. وأما في الشرع: فـ (الاعتكاف) : هو اللبث في المسجد على وجه القربة، وهو اسم منقول من اللغة إلى الشرع بنقصان، وهو عبادة مسنونة لا تجب إلا بالنذر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] . وروى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أراد أن يعتكف.. فليعتكف العشر الأواخر» ، يعني: من شهر رمضان، فعلقه بالإرادة. وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، إلى أن قبضه الله تعالى» .

مسألة: شروط الاعتكاف

[مسألة: شروط الاعتكاف] ولا يصح الاعتكاف إلا من مسلم عاقل. فأما الكافر: فلا يصح اعتكافه، أصلياً كان أو مرتداً، كما لا يصح منه الصلاة ولا الصوم. وأما المجنون والمبرسم: فلا يصح منهما؛ ليسا من أهل العبادات، فلم يصح منهما، كالكافر، ويصح الاعتكاف من الصبي المميز، كما تصح منه الصلاة والصوم. [مسألة: اعتكاف المرأة] ] : ولا يجوز للمرأة أن تعتكف بغير إذن زوجها؛ لأن استمتاعه بها في كل وقت ملك له، فلا يجوز تفويته عليه بغير إذنه. ولا يجوز للعبد أن يعتكف بغير إذن مولاه، لأن منافعه ملك لمولاه، فلا يجوز تفويتها عليه بغير إذنه. فإن اعتكفت المرأة بإذن زوجها، أو العبد بإذن مولاه، وكان تطوعاً.. جاز للزوج وللسيد إخراجهما منه. وقال أبو حنيفة: (للسيد أن يخرج عبده، وليس للزوج أن يخرج زوجته) . وقال مالك: (ليس للزوج إخراج زوجته، ولا للسيد إخراج عبده) .

دليلنا على إخراج الزوجة: ما روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لعائشة وحفصة وزينب أمهات المؤمنين في الاعتكاف، ثم منعهن من ذلك بعد أن دخلن فيه» . ولأن من ملك منع غيره من الاعتكاف، فإذا أذن له في الشروع فيه - وكان تطوعا كان له منعه منه، كما لو لم يشرع فيه. وإن أذن الزوج لزوجته بنذر الاعتكاف، أو أذن السيد لعبده بنذر الاعتكاف، فنذراه.. نظرت: فإن كان غير متعلق بزمان بعينه.. لم يجز لهما أن يدخلا فيه بغير إذن؛ لأنه على التراخي، وحق الزوج والسيد على الفور. وإن كان متعلقاً بزمان بعينه.. جاز لهما أن يدخلا فيه بغير إذن؛ لأنه تعين عليه فعله بالإذن. فإن أذن لأحدهما بالدخول في الاعتكاف في نذر لا يتعلق بزمان بعينه، فدخل فيه.. فهل يجوز له إخراجه منه؟ ينظر فيه: فإن كان الاعتكاف متتابعاً.. لم يجز له إخراجه منه؛ لأنه لا يجوز له إبطال

مسألة: اعتكاف المكاتب

عبادته الواجبة، وقد صح اعتكافه، فلو جوزنا له إخراجه منه.. لبطل ما قد فعله، وذلك لا يجوز، كما نقول في الصلاة المفروضة. وإن كان الاعتكاف غير متتابع.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه وجب بإذنه، ودخل فيه بإذنه، فهو كما لو كان متتابعاً. والثاني: يجوز؛ لأنه يجوز له الخروج منه، فجاز إخراجه منه، كالتطوع، بخلاف المتتابع. [مسألة: اعتكاف المكاتب] ] : ويجوز للمكاتب أن يعتكف بغير إذن مولاه. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) . وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين؛ لأن عليه أن يكتسب، ويحصل النجوم، وذلك يبطل بالاعتكاف، وهذا ليس بشيء؛ لأن منافعه غير مملوكة لسيده فجاز له الاعتكاف بغير إذن السيد، كالحر. وأما من نصفه حر ونصفه مملوك، فإن لم يكن بينه وبين سيده مهايأة.. فلا يجوز له أن يعتكف إلا بإذن سيده، لتعلق حق سيده من كل جزء في اليوم، وإن كان بينهما مهايأه.. جاز له أن يعتكف في اليوم الذي منفعته لنفسه بغير إذن سيده؛ لأنه لا حق لسيده في منفعته فيه، ولا يجوز له أن يعتكف في اليوم الذي منفعته لسيده إلا بإذنه؛ لأن منفعته له. [مسألة: مكان اعتكاف المرأة] ] : ولا يصح اعتكاف المرأة إلا في المسجد، فإن اعتكفت في مسجد بيتها - وهو الذي جعلته لصلاتها من بيتها- ففيه قولان، حكاهما ابن الصباغ، وصاحب " التتمة ":

مسألة: الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة

أحدهما - وهو قوله في الجديد - (أنه لا يصح) . و [الثاني] : قال في القديم: (يصح) . وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه موضع فضيلة صلواتها، فكان موضع اعتكافها، كالمسجد في حق الرجل، والأول أصح؛ لأنه موضع يجوز للجنب اللبث فيه، فلم يصح الاعتكاف فيه، كالصحراء. وأما الرجل: فهل يصح اعتكافه في مسجد بيته الذي جعله لصلاته؟ إذا قلنا في المرأة: لا يصح.. فالرجل أولى ألا يصح، وإن قلنا في المرأة: يصح.. ففي الرجل وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\166] ، الأصح: لا يصح، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه لا يستحب له الاستتار، بخلاف المرأة. قال ابن الصباغ: فأما إذا جعل الرجل أو المرأة في داره مسجداً.. جاز له الاعتكاف فيه، وعلى سطحه؛ لأن السطح من جملة المسجد، ولهذا يمنع الجنب من اللبث فيه. [مسألة: الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة] ] : ويصح الاعتكاف في جميع المساجد وقال علي بن أبي طالب، وحماد: (لا يصح إلا في المسجد الحرام)

فرع: تعيين المسجد للاعتكاف

وقال عطاء: لا يصح إلا في المسجد الحرام، ومسجد المدينة. وقال حذيفة: (لا يصح إلا في المسجد الحرام، أو مسجد المدينة، أو المسجد الأقصى) وقال الزهري: لا يصح إلا في مسجد تقام فيه الجمعة. وحكى الشيخ أبو حامد: أن ذلك قول للشافعي في القديم. وليس بمشهور. وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يصح إلا في مسجد تقام فيه الجماعة) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] . فعم المساجد ولم يخص؛ ولأنه مسجد بني للصلاة، فجاز الاعتكاف فيه، كالمنفق عليه. [فرع: تعيين المسجد للاعتكاف] ] : إذا نذر أن يعتكف في مسجد بعينه غير المساجد الثلاثة.. لم يتعين عليه ذلك المسجد، وجاز له الاعتكاف في غيره من المساجد؛ لأنه لا مزية لبعضها على بعض.

ولو نذر أن يصوم في يوم معين.. لم يجز له أن يصوم في غيره من الأيام، والفرق بينهما: أن النذر مردود إلى أصل الشرع، وقد وجب الصوم بالشرع في زمان بعينه، لا يجوز له في غيره، فكذلك إذا نذره، وليس كذلك الاعتكاف، فإنه لم يجب بأصل الشرع في موضع بعينه. هذه طريقة أصحابنا البغداديين. وحكى الخراسانيون من أصحابنا في المسجد المعين وجهين: أحدهما: لا يتعين عليه، كما لو نذر الصلاة فيه. والثاني: يتعين عليه الاعتكاف بذلك المسجد؛ لأن للمسجد تأثيراً في الاعتكاف، هو: أنه لا يصح إلا في مسجد، فتعين بالنذر، كالصوم بخلاف الصلاة، فإنها تصح في غير مسجد، قال أصحابنا البغداديون: قال ابن القاص: ولا يتعين الاعتكاف في مسجد غير المساجد الثلاثة إلا في موضعين: أحدهما: أن ينذر اعتكافاً متتابعاً، ثم يشرع فيه في مسجد، فلا يجوز له الانتقال إلى غيره؛ لأن خروجه للانتقال يقطعه، وذلك لا يجوز. والثاني: أن ينذر اعتكاف سبعة أيام، وما زاد متتابعاً، فلا يجوز، إلا في المسجد الذي تقام فيه الجمعة. وإن نذر أن يعتكف في المسجد الحرام.. تعين عليه الاعتكاف فيه، ولا يسقط هذا النذر بالاعتكاف بغيره من المساجد؛ لما روي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله، إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أوف بنذرك» ، ولأنه يختص بوقوع النسك فيه، وهو الطواف، فتعين الاعتكاف فيه بالنذر.

مسألة: الاعتكاف بغير صيام

إذا ثبت هذا: فالذي تبين لي أنه لا يسقط النذر إلا بالاعتكاف في الكعبة، أو فيما في الحجر من البيت، دون مسجد مكة، وقد مضى الدليل عليه في استقبال القبلة. وإن نذر اعتكافاً في مسجد المدينة أو المسجد الأقصى، فأراد الاعتكاف عن هذا النذر في المسجد الحرام.. صح لأنه أفضل منهما وإن أراد الاعتكاف عن ذلك في غير ذلك من المساجد.. ففيه قولان: أحدهما: يصح؛ لأنه مسجد لا يجب قصده بالنسك، فلم يتعين بالنذر، كسائر المساجد: المسجد. والثاني: لا يصح، وهو قول أحمد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشد الرحال إلا ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» [مسألة: الاعتكاف بغير صيام] ] : والمستحب: أن يعتكف وهو صائم؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكف العشر الأواخر من رمضان» فإن اعتكف بغير صوم، أو اعتكف بالليل، أو بالأيام التي لا يصح الصوم فيها.. صح اعتكافه، وبه قال في الصحابة علي، وابن مسعود، وفي التابعين الحسن، وفي الفقهاء أحمد، وإسحاق.

وذهبت طائفة إلى: أن من شرط صحة الاعتكاف الصوم، ولا يصح في الأيام التي نهي عن الصوم فيها، ولا بالليل دون النهار، فإن اعتكف وهو صائم، فأفسد صومه.. فسد اعتكافه، ذهب إليه في الصحابة ابن عمر، وابن عباس، وفي الفقهاء مالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، إلا أن أبا حنيفة يقول: (إن ابتدأ الاعتكاف ليلا.. جاز، وكان تبعاً للنهار) دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» وروى ابن عمر: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نذر أن يعتكف ليلة في الجاهلية، فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "أوف بنذرك» . ولو كان الصوم شرطاً فيه.. لم يصح اعتكافه بالليل.

مسألة: الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان

فإن نذر أن يعتكف يوماً بصوم، فاعتكف من غير صوم.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو علي الطبري: يصح اعتكافه، وعليه أن يصوم يوماً آخر، كما لو نذر أن يعتكف مصلياً، أو قارئاً، فاعتكف بغير صلاة ولا قراءة. والثاني: لا يصح اعتكافه، وهو المنصوص؛ لأن الصوم صفة مقصودة بالاعتكاف، فإذا أخل به.. لم يصح اعتكافه، كالتتابع. قال أبو المحاسن من أصحابنا: فإن نذر أن يعتكف شهراً بصوم، فاعتكف شهراً صائماً عن قضاء لم يجزه خلافا لأبي حنيفة. دليلنا: أنه التزم بنذره اعتكافه بصفة وهو أن يكون صائما عن نذره فلم يجزه إذا صامه عن القضاء كما لو اعتكف من غير صوم. وإن نذر أن يعتكف شهر رمضان، فمضى الشهر، ولم يعتكف فيه.. قال الصيدلاني: اعتكف شهراً آخر بغير صوم؛ لأن الصوم لم يلزمه لرمضان من ناحية النذر، لكن من ناحية الشرع. [مسألة: الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان] ] : الأفضل أن يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف فيهن، فإن اعتكف في غيرها من الزمان.. جاز. وليس لأقل الاعتكاف حد عندنا، فإن نذر أن يعتكف، وأطلق.. جاز أن يعتكف ما شاء من الزمان.

قال الصيدلاني: ولا بد من مكث في المسجد، فأما أن يدخل ويخرج فلا يجزئه. وبه قال أحمد. وقال مالك: (لا يصح الاعتكاف أقل من يوم) . وعن أبي حنيفة روايتان: إحداهما: رواها عنه الحسن، كقول مالك. والثانية: رواها محمد في " الأصول "، كقولنا. دليلنا: أنه لبث في مكان مخصوص.. فأجزأ ما يقع عليه الاسم، كالوقوف بعرفة. فإن دخل المسجد، ونوى الاعتكاف، ووقف ساعة، ثم خرج، ثم عاد، ونوى الاعتكاف، ثم خرج، ثم عاد، ونوى الاعتكاف، ووقف ساعة.. صح اعتكافه على المذهب. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\166] وجها آخر: أنه لا يصح؛ لأن عادة الإنسان قد جرت هكذا: يدخل المسجد ساعة، ويخرج أُخرى. والصحيح هو الأول؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اعتكف فواق ناقة.. فكأنما أعتق نسمة»

فرع: نذر الاعتكاف

قال: وأصل الوجهين هاهنا الوجهان فيمن نذر اعتكاف يوم، ففرقه بساعات من أيام. [فرع: نذر الاعتكاف] ] : وإن نذر اعتكاف العشر الأواخر من شهر رمضان، أو أراد أن يعتكف ذلك من غير نذر.. فإنه يدخل فيها قبل غروب الشمس من يوم العشرين من الشهر بلحظة؛ ليستوفي العشر بيقين، وبه قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه. وقال الأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور: (يدخل فيه أول نهار الحادي والعشرين) . دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف العشر الأواسط من شهر رمضان، فلما كان عاماً.. أراد أن يعتكف العشر الأواخر، فصعد المنبر في الليلة التي كان يخرج فيها من اعتكافه، فخطب، وقال: "من أراد أن يعتكف العشر الأواخر معنا.. فليلبث في معتكفه» ولأن كل ليلة حكمها حكم اليوم الذي يليها. إذا ثبت هذا: فإنه يخرج من اعتكافه بآخر جزء من الشهر، تاماً كان الشهر أو ناقصاً؛ لأن العشر اسم لما بين العشرين، وأول الشهر. وإن نذر أن يعتكف عشرة أيام في آخر الشهر.. لزمه أن يدخل فيه قبل طلوع الفجر من يوم الحادي والعشرين بلحظة؛ لأن اليوم اسم لبياض النهار، وإنما يدخل الليل بينهما تبعاً، ويفارق العشر، فإنه اسم لليل والنهار، فإن نقص الشهر.. لزمه أن يعتكف يوماً آخر؛ لأنه عبارة أيام آحاد، بخلاف العشر.

مسألة: النذر المعين

[مسألة: النذر المعين] ] : إذا نذر اعتكاف شهر بعينه.. لزمه أن يعتكف فيه ليلا ونهاراً، تاماً كان أو ناقصاً؛ لأن الشهر ما بين الهلالين، إلا أن ينذر أيام الشهر أو لياليه، فيلزمه ما سماه لا غير، فإن فات.. لزمه قضاؤه. فإن كان قد نذر اعتكافه متتابعاً.. لزمه التتابع في القضاء، وحكى صاحب " الإبانة " [ق\167] وجهاً آخر: أنه لا يلزمه التتابع في القضاء؛ لأن التتابع في الأداء لتعين الوقت، كما لو فاته أيام من رمضان، فإنه لا يلزمه التتابع في قضائها. وهذا ليس بشيء؛ لأن التتابع لزمه بالنذر. وإن أطلق النذر.. جاز أن يقضيه متتابعاً أو متفرقاً. وقال أحمد: (يلزمه أن يقضيه متتابعاً، كالأداء) . دليلنا: أن التتابع في الأداء بحكم الوقت، فإذا فات.. سقط التتابع، كقضاء شهر رمضان. [فرع: تعيين زمن الاعتكاف عن الماضي] ] : وإن نذر اعتكاف شهر رمضان، بأن قال: عليه لله أن يعتكف شهر رمضان في سنة تسع وعشرين، وكان في سنة ثلاثين.. لم يلزمه؛ لأن الاعتكاف في زمان مضى محال. فإن نذر اعتكاف شهر غير معين، فإن اعتكف شهراً بالهلال.. جاز، تاماً كان أو ناقصاً؛ لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين، وإن نذر اعتكاف ثلاثين يوماً.. جاز، فإن شرط التتابع فيها.. لزمه التتابع بالنذر. وإن أطلق، أو قال: متفرقا، فإن اعتكف متتابعاً.. أجزأه، وإن اعتكف متفرقاً.. فالمنصوص: (أنه يصح) . وقال أبو حنيفة: (لا يصح) . وهو قول متخرج لنا، حكاه أبو العباس بن سريج.

فرع: نذر الاعتكاف المقيد بزمن

دليلنا: أنه نذر علقه بمدة مطلقة، فلم يكن من شرطه التتابع، كما لو نذر أن يصوم شهراً.. فإنه يصح أن يأتي به متفرقاً، ووافقنا عليه أبو حنيفة. وإن نذر اعتكاف يوم.. دخل فيه قبل طلوع الفجر بلحظة، وخرج منه بعد غروب الشمس؛ ليستوفي الفرض بيقين، فإن فرقه في ساعات من أيام.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه؛ لأن اليوم اسم لما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس. والثاني: يجزئه، كما لو نذر اعتكاف شهر.. فإنه يجزئه أن يأتي به من أشهر. [فرع: نذر الاعتكاف المقيد بزمن] ] : وإن نذر اعتكاف يومين.. فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنه إن شرط التتابع فيهما، أو نوى ذلك.. لزمه اعتكاف اليومين والليلة التي بينهما، وإن أطلق.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه اعتكاف الليلة التي بينهما؛ لأن اليوم اسم لبياض النهار دون الليل. والثاني: يلزمه أن يعتكف اليومين والليلة التي بينهما؛ لأنه لو شرط التتابع.. لزمه اعتكاف الليلة التي بينهما، والتتابع صفة لا تقتضي الزيادة، فعلم أنها لزمته بإطلاق النذر. وحكى الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " وجها ثالثاً، واختاره: أنه لا يلزمه اعتكاف تلك الليلة، سواء شرط التتابع أو أطلق؛ لأنه لم يتناولها النذر، فلم يلزمه اعتكافها، كالليلة التي قبل اليومين، والليلة التي بعدهما. وقال أبو حنيفة: (إذا نذر اعتكاف يومين.. لزمه أن يعتكف يومين وليلتين) . دليلنا: أن اليوم اسم لبياض النهار، فلا تلزمه الليلة التي بينهما، كسائر الليالي.

مسألة: النية للاعتكاف

وإن نذر اعتكاف ثلاثين يوماً.. فعلى ما قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وإن نذر التتابع أو نواه.. لزمه اعتكاف الأيام والليالي، وجهاً واحداً، وإن أطلق.. لزمه اعتكاف الأيام، وفي الليالي وجهان، وقال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": هل يلزمه اعتكاف الليالي؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يلزمه، كليالي العشر. والثاني: لا يلزمه لأنه لم يسمها. والثالث: إن شرط التتابع.. لزمه اعتكافها، وإن لم يشرط التتابع.. لم يلزمه اعتكافها. [مسألة: النية للاعتكاف] ] : ولا يصح الاعتكاف إلا بالنية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى» ، ولأنها عبادة محضة.. فافتقرت إلى النية، كالصلاة، قال الشيح أبو إسحاق: فإن كان الاعتكاف فرضا.. لزمه تعيين الفرض؛ ليتميز عن التطوع، فإن دخل فيه، ثم نوى الخروج منه.. ففيه وجهان: أحدهما: يبطل، كما لو نوى الخروج من الصلاة. والثاني: لا يبطل؛ لأنه قربة تتعلق بمكان، فلم تبطل بنية الخروج منه، كالحج، وفيه احتراز من الصلاة، فإنها لا تتعلق بمكان. [مسألة: خروج المعتكف بغير عذر] ] : وإن خرج المعتكف من المسجد بغير عذر.. بطل اعتكافه؛ لأن الخروج ينافي الاعتكاف، فأبطله بغير عذر، كما لو أكل الصائم، فإن أخرج بعض بدنه.. لم يبطل اعتكافه؛ لما روت عائشة: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اعتكف.. أدنى إلي رأسه لأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» ، وروي عنها: أنها

مسألة: خروج المعتكف لعذر

قالت: «كنت أغسل رأس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا حائض» . ففي هذا الخبر فوائد: منها: أن إخراج بعض البدن لا يبطل الاعتكاف. ومنها: أن يد الحائض ليست بنجسة. ومنها: أن يد المرأة ليست بعورة؛ لأن المسجد لا يخلو من ناسٍ. ومنها: أن للمعتكف أن يتزين؛ لأن الترجيل من التزين، بخلاف المحرم. ومنها: أن المسجد شرط في الاعتكاف. ومنها: أن الخروج لحاجة الإنسان لا يبطل الاعتكاف. [مسألة: خروج المعتكف لعذر] ] : يجوز للمعتكف أن يخرج إلى منزله للغائط والبول؛ لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فإن كان للمسجد سقاية، أو بذل له صديق له ذلك في بيته.. لم يلزمه قضاء الحاجة فيه، بل له أن يمضي إلى منزله، قال المزني: وإن بعد. قال الشيخ أبو حامد: لا أعرف هذه اللفظة للشافعي، وينبغي أن يراعى بعد لا يتفاحش، فإن كان بعداً يتفاحش.. لم يخرج إليه، وهكذا قال الصيدلاني: إذا كان داره بعيداً.. بطل اعتكافه بالخروج إليه؛ لأن أكثر زمانه في غير الاعتكاف. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\168] وجهاً آخر: أنه لا يبطل، كما لو كان داره قريباً.

مسألة: اعتكاف المؤذن

وإن كان له منزلان، أحدهما أقرب إلى المسجد من الآخر.. فهل له أن يمضي إلى الأبعد لقضاء الحاجة.. فيه وجهان: أحدهما -وهو الأظهر -: أنه لا يجوز؛ لأنه لا حاجة به إليه، فهو كما لو خرج إلى غير الغائط والبول. والثاني: يجوز؛ لأنه خروج لحاجته إلى بيته، فهو كما لو لم يكن له بيت سواه. وهل له أن يخرج إلى البيت للأكل؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي العباس بن سريج، ومالك، وأبي حنيفة -: (ليس له ذلك) ؛ لأنه يمكنه الأكل في المسجد. والثاني: -وهو المنصوص -: (أن له أن يأكل في البيت) ؛ لأن عليه مشقة في الأكل بالمسجد؛ لأن الأكل في المسجد ترك مروءة، وقد يحتاج أن يخفي جنس قوته، وقد يكون في المسجد غيره، فيشق عليه الأكل دونه، وقد لا يكفي الطعام لأكل الجميع، فكان ذلك كله عذرا في جواز الأكل في البيت. [مسألة: اعتكاف المؤذن] ] : وإن كان المعتكف مؤذنا، فصعد المنارة للأذان، فإن كانت المنارة في المسجد أو في رحبة المسجد- و (رحبته) : ما كان مضافا إليه محجرا عليه - جاز، لأن الرحبة من المسجد، وقد نص الشافعي على: (أنه إذا اعتكف في رحبة المسجد.. صح اعتكافه) . قال الشيخ أبو حامد: وهكذا لو لم تكن المنارة في الرحبة، إلا أنها ملصقة بالمسجد، وبابها إلى المسجد.. جاز أن يصعد إليها؛ لأنها من جملة المسجد، وإن كانت المنارة منفصلة عن المسجد ورحبته.. فهل يبطل اعتكافه بالخروج إليها للأذان؟ فيه ثلاثة أقوال:

مسألة: صلاة الجنازة للمعتكف

أحدها: يبطل؛ لأنه خروج إلى ما لا حاجة به إليه. والثاني: لا يبطل، وهو ظاهر النص؛ لأنها بنيت للمسجد وأذانه، فصارت كالملتصقة به. والثالث - حكاه في " المهذب " عن أبي إسحاق المروزي -: إن كان المؤذن ممن ألف الناس صوته.. لم يبطل اعتكافه بالخروج إليها؛ لأن الحاجة تدعو إليه، لإعلام الناس بالوقت، وإن لم يألفوا صوته.. بطل اعتكافه بالخروج إليها؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك. [مسألة: صلاة الجنازة للمعتكف] ] : وإن عرضت صلاة جنازة، فإن كان اعتكافه تطوعاً.. فالأفضل أن يخرج، ويصلي على الجنازة؛ لأنها من فرائض الكفايات، والاعتكاف تطوع، فكانت أولى، وإن كان اعتكافه منذوراً.. لم يخرج لصلاة الجنازة؛ لأنها إن لم تتعين عليه.. فليست بواجبة عليه، وإن تعينت عليه.. قال ابن الصباغ: فيمكنه أن يصلي عليها في المسجد، ولا حاجة به إلى الخروج، فإن خرج.. بطل اعتكافه. وأما الخروج لعيادة المريض: فإن كان اعتكافه تطوعاً.. قال ابن الصباغ في " الشامل ": فقد قال بعض أصحابنا: هي والاعتكاف سواء، فيفعل أيهما شاء، ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " غير هذا. قال ابن الصباغ: وظاهر السنة بخلاف ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يعرج على المريض، وإنما يسأل عنه، ولا يقف، وكان اعتكافه تطوعاً. فإن خرج المعتكف لحاجة الإنسان، فسأل عن المريض في طريقه، ولم يقف.. جاز، ولم يبطل اعتكافه؛ لما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج إلى حاجة الإنسان.. يمر بالمريض، ولا يعرج عليه، بل يسأل عنه، ويمضي»

مسألة: الخروج للجمعة للمعتكف

وروي عن عائشة أيضاً: قالت «من السنة أن لا يعود المعتكف مريضاً، ولا يشيع جنازة، ولا يباشر امرأة، ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة لا بد له منها» وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإن خرج من الاعتكاف لحاجة الإنسان، ثم مر في طريقه بمسجد، واعتكف فيه.. جاز؛ لأن المساجد غير المساجد الثلاثة سواء. [مسألة: الخروج للجمعة للمعتكف] ] : وإن اعتكف في غير الجامع، وحضرت الجمعة.. لزمه الخروج إليها؛ لأنها فرض على الأعيان، فإن كان اعتكافه تطوعاً.. بطل اعتكافه، وإن كان واجباً، فإن كان غير متتابع.. لم يحتسب له مدة مضيه إلى المسجد، فإذا بلغ المسجد.. بنى على الأول. وإن كان متتابعاً.. ففيه قولان حكاهما في " المهذب ". وأكثر أصحابنا يحكيهما وجهين: أحدهما - وهو المشهور -: أنه يبطل اعتكافه؛ لأنه قد كان يمكنه الاحتراز منه، بأن يعتكف في الجامع. والثاني: لا يبطل؛ لأنه خروج لما لا بد له منه، فهو كالخروج لحاجة الإنسان. [فرع: خروج المعتكف من المسجد لأداء الشهادة] ] : وإن خرج لأداء شهادة عليه، فإن لم يتعين عليه حال التحمل والأداء، أو تعين عليه التحمل، ولم يتعين عليه الأداء.. بطل اعتكافه؛ لأنه خروج لما له منه بد، وإن

مسألة: أعذار الخروج للمعتكف

تعين عليه التحمل والأداء.. لم يبطل اعتكافه؛ لأنه خروج لما لا بد له منه، وإن تعين عليه الأداء، ولم يتعين عليه التحمل.. قال الشافعي (خرج من اعتكافه) . وقال في المرأة (إذا وجبت عليها العدة، فخرجت.. لا ينقطع اعتكافها) . فقال أبو العباس: لا فرق بينهما، وخرجهما على قولين: أحدهما: يبطل؛ لأن السبب باختياره. والثاني: لا يبطل؛ لأنه خروج لما لا بد له منه. وحملهما أبو إسحاق على ظاهرهما، وفرق بينهما؛ لأن بالمرأة حاجة إلى النكاح؛ لأنه جهة معاينتها، وليس لهذا المتحمل حاجة إلى التحمل، ولأن التحمل الذي تطوع به، ألجأه إلى الأداء، وأما النكاح: فلم يلجئها إلى الطلاق؛ لأن النكاح لا يقصد به الطلاق، بخلاف التحمل. [مسألة: أعذار الخروج للمعتكف] ] : وإذا مرض المعتكف، فخرج.. نظر فيه: فإن كان مرضا يسيراً، مثل: الحمى الخفيفة، والصداع اليسير، ووجع الضرس.. لم يجز له الخروج، وإن خرج لذلك.. بطل اعتكافه؛ لأنه يمكنه المقام معه في المسجد من غير مشقة. وإن كان مرضاً لا يمكن معه المقام في المسجد؛ كانطلاق الجوف الذي يخاف منه تلويث المسجد، وما أشبهه.. جاز له الخروج؛ لأنه موضع عذر، فإذا برئ.. رجع، وبنى على اعتكافه؛ لأنه مضطر إلى الخروج، فهو كالخروج لحاجة الإنسان. وإن كان مرضاً يمكن معه المقام في المسجد، ولكن بمشقة، مثل: أن يحتاج إلى الفراش والطبيب والمداواة.. جاز له الخروج، وهل يبطل التتابع بذلك؟ قال ابن

مسألة: السكر والردة تبطل الاعتكاف

الصباغ: ظاهر قول الشافعي: (أنه إذا برئ.. بنى) . قال: ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، كالمرض في الشهرين المتتابعين، هل يبطل. وفيه قولان، ولم يذكر الشيح أبو إسحاق في " المهذب " غير هذا. فإن أغمي عليه، فأخرج من المسجد.. لم يبطل اعتكافه، قولا واحدا؛ لأنه أخرج بغير اختياره. [مسألة: السكر والردة تبطل الاعتكاف] ] : قال الشافعي: (وإذا شرب المعتكف، فسكر.. بطل اعتكافه) . وقال: (إذا ارتد المعتكف، ثم أسلم.. بنى على اعتكافه) . واختلف أصحابنا فيهما: فمنهم من قال: لا يبطل الاعتكاف فيهما؛ لأنهما لم يخرجا من المسجد، وما قال الشافعي في السكران أراد: إذا سكر، وأخرج من المسجد، أو أخرج ليقام عليه الحد؛ لأن الذي وجد منه تناول المحرم، وذلك لا يبطل الاعتكاف. ومنهم من قال: يبطل اعتكافه بنفس السكر والردة وإن لم يخرج من المسجد؛ لأن السكران ليس من أهل المقام في المسجد، والمرتد خرج عن أن يكون من أهل العبادات. وقيل: إن مسألة المرتد قرئت على الربيع، فقال: اضربوا عليها؛ لأن الشافعي قال في السكران: (يبطل اعتكافه) . والمرتد أسوأ حالاً منه. ومنهم من حملهما على ظاهرهما، وهو المذهب، فيبطل الاعتكاف بنفس السكر ولا يبطل بنفس الردة؛ لأن السكران ليس من أهل المقام في المسجد، والمرتد من أهل الإقامة في المسجد؛ لأنه يجوز إقراره فيه، ألا ترى: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنزل الكفار في المسجد) ، و: (ربط ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد) ؟

مسألة: حيض المعتكفة

[مسألة: حيض المعتكفة] ] : وإذا حاضت المعتكفة.. خرجت من المسجد؛ لأنه لا يمكنها المقام فيه، فإن كان اعتكافها تطوعا.. بنت عليه إذا طهرت، وهكذا: إذا كان نذرا غير متتابع، وإن كان نذرا متتابعاً.. نظرت في المدة المنذورة: فإن كان مدة لا يمكنها حفظها من الحيض.. لم يبطل التتابع بذلك، كما لو حاضت في صوم الشهرين المتتابعين. وإن كانت مدة يمكنها حفظها من الحيض.. بطل تتابعها، كما لو حاضت في صوم الثلاث المتتابعة. هذا مذهبنا. وحكي عن أبي قلابة: أنه قال: (إذا حاضت المعتكفة.. لم تخرج إلى منزلها، بل تضرب خباءها على باب المسجد، فإذا طهرت.. رجعت إلى المسجد) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد لزمها الخروج من المسجد، فلم يؤثر وقوفها على باب المسجد. [مسألة: إحرام المعتكف بالحج] ] : وإن أحرم المعتكف بالحج.. صح إحرامه، فإن كان الوقت واسعا.. لزمه أن يقعد للاعتكاف، ثم يحج، وإن كان وقت الحج ضيقاً.. لزمه أن يخرج للحج؛ لأن الحج يجب عليه بالشرع، فإذا خرج.. بطل اعتكافه؛ لأن سببه باختياره. [مسألة: انهدام المسجد حال الاعتكاف المنذور] قال في " الأم " [2/90] : (وإذا نذر اعتكافاً، ثم دخل مسجداً، فاعتكف فيه، ثم انهدم المسجد: فإن أمكنه أن يقيم فيه.. أقام حتى يتم اعتكافه، وإن لم يمكنه..

مسألة: خروج المعتكف ناسيا

خرج، فإذا بني المسجد.. عاد، ويتمم اعتكافه) . وجملة ذلك: أنه إذا بقي موضع يمكنه أن يقيم فيه.. أقام فيه، وإن لم يتبق منه موضع يقيم فيه.. خرج منه، وتمم ما بقي من اعتكافه في غيره من المساجد، ولا يبطل بالخروج؛ لأنه لحاجة. وأما قول الشافعي: (فإذا بني المسجد.. عاد، ويتمم) : فتأوله أصحابنا تأويلين: أحدهما: أنه أراد: إذا عين أحد المساجد الثلاثة، وقلنا بتعين مسجد المدينة، والمسجد الأقصى. والتأويل الثاني: إذا نذر اعتكافا غير متتابع، ولا متعلق بزمان بعينه: فإذا انهدم المسجد.. كان بالخيار: إن شاء.. اعتكف في غيره، وإن شاء.. انتظر عمارة المسجد المنهدم. قال الشيخ أبو حامد: ويحتمل تأويلا ثالثاً: وهو أن يكون في موضع ليس فيه إلا مسجد واحد وانهدم. [مسألة: خروج المعتكف ناسيا] وإن خرج المعتكف من المسجد ناسيا أو مكرها.. لم يبطل اعتكافه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» . وإن أكره حتى خرج بنفسه.. فهل يبطل اعتكافه. فيه قولان، كما لو أكره الصائم حتى أكل بنفسه. وإن أخرجه السلطان، فإن أخرجه بغير حق، مثل: أن يطالبه بما ليس عليه، أو يطالبه بما عليه إلا أنه مفلس، أو طلبه ليصادره بغير حق، فهرب منه.. لم يبطل اعتكافه، وإذا عاد.. بنى؛ لأنه خروج بغير اختياره، وإن أخرجه بحق، مثل: أن يكون عليه دين وهو قادر على قضائه، فأخرجه السلطان ليقضيه.. بطل اعتكافه؛ لأنه خرج باختياره؛ لأنه كان يمكنه أن يقضيه في المسجد.

مسألة: رجوع المعتكف بعد زوال العذر

وإن أخرجه ليقيم عليه حداً.. فذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي في " المجموع "، وابن الصباغ في " الشامل ": أنه لا يبطل اعتكافه؛ لأنه مكره على خروجه، أو لأنه مضطر إليه، فهو كالخروج لحاجة الإنسان. وذكر في " المهذب ": إن ثبت بإقراره.. بطل اعتكافه؛ لأنه خروج باختياره، وإن ثبت بالبينة.. ففيه وجهان: أحدهما: يبطل؛ لأنه اختار سببه. والثاني: لا يبطل؛ لأنه لم يشرب، ولم يزن، ولم يسرق ليخرج، فيقام عليه الحد. [مسألة: رجوع المعتكف بعد زوال العذر] وإن خرج المعتكف من المسجد لعذر، ثم رجع بعد زوال العذر.. جاز. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\168] : ولا يحتاج إلى تجديد النية؛ لأن النية الأولى لم تبطل، وإن أقام بعد زوال العذر.. بطل الاعتكاف؛ لأنه تركه من غير عذر، وإذا رجع.. فعليه تجديد نية أخرى؛ لأن الأولى قد بطلت بالإقامة، فإن كان قد نذر اعتكافا غير متتابع في زمان معين، فدخل فيه بنية الاعتكاف، ثم خرج منه لغير حاجة، أو جامع فيه.. فإنه يبطل اعتكافه بذلك، وإذا رجع.. لم يجب عليه تجديد النية؛ لأن الزمان مستحق للاعتكاف، وقد صح دخوله فيه بالنية الأولى. [مسألة: يحرم على المعتكف المباشرة بشهوة] ] : ويحرم على المعتكف المباشرة بشهوة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187]

مسألة: المباشرة بغير شهوة

فإن وطئها في الفرج، ذاكراً للاعتكاف، عالما بالتحريم.. فسد اعتكافه؛ لأن كل عبادة حرم فيها الوطء أبطلها، كالصوم والحج، ولا تجب عليه الكفارة. وقال الحسن، والزهري: تجب عليه الكفارة دليلنا: أنها عبادة لا ينوب فيها المال، فلم يجب بإفسادها كفارة، كالصلاة. وإن قبلها بشهوة، أو وطئها فيما دون الفرج بشهوة.. حرم عليه ذلك كله؛ للآية، وهل يبطل اعتكافه؟ فيه قولان: أحدهما: يبطل؛ للآية، والنهي يقتضي الفساد. والثاني: لا يبطل، وهو الصحيح؛ لأنه عبادة تختص بمكان، فلم تبطل بالمباشرة فيما دون الفرج بشهوة، كالحج. وقال مالك، وأبو حنيفة: (إن أنزل.. بطل اعتكافه، وإن لم ينزل.. لم يبطل، كالصوم) . وبه قال أبو إسحاق المروزي من أصحابنا، وهذا لا يصح؛ لأنا لو قلنا يبطل بالإنزال مع المباشرة.. لساوينا بينه وبين الوطء في الفرج، وهذا لا يجوز، بخلاف الصوم، فإنهما يستويان في الإبطال، وللوطء في الفرج مزية بإيجاب الكفارة. [مسألة: المباشرة بغير شهوة] ] : فإن باشرها بغير شهوة، مثل: أن يعتمد على يدها، أو يقبلها إكراماً لها، فإنه لا يفسد اعتكافه؛ لحديث عائشة: «أنها كانت ترجل شعر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو معتكف» . وإن جامعها في الفرج ناسيا أو جاهلا بالتحريم.. فقد قال البغداديون، وبعض الخراسانيين من أصحابنا: لا يبطل اعتكافه، قولا واحداً. ومن أصحابنا الخرسانيين من قال: في جماع الناسي في الصوم والاعتكاف

مسألة: التزين للمعتكف

قولان، كالحج، والصحيح هو الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» . ويخالف الحج، فإن من محظوراته ما سوي فيه بين العمد والخطأ، وهو: قتل الصيد وحلق الشعر، فجعل الوطء من جملتها، بخلاف الصوم والاعتكاف. [مسألة: التزين للمعتكف] ] : ولا يكره للمعتكف لبس الرفيع من الثياب والطيب. وقال أحمد: (يكره له ذلك) . دليلنا: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكف ولم يغير شيئاً من ملابسه) ، ولأنها عبادة لا يحرم فيها ترجيل الشعر، فلم يحرم فيها الطيب، كالصوم، وفيه احتراز من الحج. ويجوز أن يتزوج ويزوج؛ لأنها عبادة لا يحرم فيها الطيب، فلم يحرم فيها النكاح، كالصوم. ويستحب له دراسة العلم، وتعليمه، وتعليم القرآن. قال أصحابنا: وذلك أفضل من صلاة النافلة. وقال مالك، وأحمد: (لا يستحب له قراءة القرآن، وتدريس العلم، ودرسه، وإنما يشتغل بذكر الله، والتسبيح، والصلاة) . دليلنا: أن القراءة وتدريس العلم قربة وطاعة، فاستحب للمعتكف، كالصلاة والذكر، ويجوز أن يتحدث بما ليس فيه فحش ومعصية؛ لما روي «عن صفية بنت حيي بن أخطب: أنها قالت: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو معتكف في المسجد لأزوره، فقعد معي، وتحدثنا، فلما قمت.. قام معي ليقلبني إلى أهلي، فرآه رجلان من الأنصار،

فأسرعا، فصاح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال "هذه صفية زوجتي"، فقالا: سبحان الله! يا رسول الله، فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا» . وهل يكره البيع والشراء في المسجد؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يكره، ولم يذكر في " التعليق " غيره؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البيع والشراء في المسجد» ، وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد، فقال: "أيها الناشد، غيرك الواجد، إنما بنيت المساجد لذكر الله والصلاة» .

والثاني: لا يكره؛ لأنه كلام مباح، فلم يكره، كالحديث، والأول أصح. قال ابن الصباغ: فإن كان محتاجا إلى شراء قوته، وما لا بد منه.. لم يكره، وإن أكثر من ذلك.. لم يبطل اعتكافه. وقال في القديم: (إن فعل ذلك، والاعتكاف منذور.. رأيت أن يستقبله) . وهذا قول مرجوع عنه. وكذلك تكره الخياطة في المسجد، وما أشبهها، إلا أن يخيط ثوبه وما يحتاج إلى لبسه، فلا يكره. وقال مالك: (إن كانت الخياطة حرفته.. لم يصح اعتكافه؛ لأنه قعد محترفا، لا معتكفا) ؟ دليلنا: أن الاعتكاف: هو اللبث في المسجد بنية القربة، وقد وجد ذلك منه، فهو كما لو كان نائما فيه. ويكره له السباب، والجدال، والخصومة؛ لأن ذلك يكره لغير المعتكف، فالمعتكف أولى، فإن فعل ذلك.. لم يفسد اعتكافه، كما قلنا في الصوم.

فرع: الأكل والحجامة للمعتكف

[فرع: الأكل والحجامة للمعتكف] ] : ويجوز أن يأكل في المسجد، ويضع فيه المائدة؛ لأنها تقي المسجد من أن يتلوث بما يأكله، أو يتناثر فيه شيء من الطعام، فيجتمع عليه الهوام. ويجوز أن يغسل يديه فيه، فإن غسلها في الطست.. فهو أولى. قال ابن الصباغ: وأما الحجامة والفصد في المسجد إذا لم يلوث به المسجد.. فيجوز، والأولى: تركه، فإن أراد الخروج لذلك، فإن كانت الحاجة داعية إلى ذلك، بحيث لا يمكن تأخيرها.. جاز الخروج، وإن أمكن تأخيرها.. لم يجز، فيجري مجرى المرض المحتمل وغير المحتمل. ولا يخرج من المسجد لتجديد الطهارة، وإن توضأ في المسجد.. جاز، وإن توضأ في الطست.. كان أولى. وأما البول في المسجد في إناء: قال ابن الصباغ: فيحتمل أن يجري مجرى الحجامة والفصد، ويحتمل أن يفرق بينهما، بأن ذلك مما يستحقان به، ويستقبح، فينزه المسجد عنه. [مسألة: نذر التبرر للمعتكف] إذا قال: إذا كلمت فلانا، أو: إن كلمته، فلله علي أن أعتكف شهرا، فإن كان

مسألة: نذر التتابع للمعتكف

على وجه التبرر والقربة، مثل: أن كان محتاجا إلى كلامه، فقال: إن كلمته-بمعنى: إن رزقني الله كلامه- فلله علي أن أعتكف شهرا.. فإنه إذا رزق كلامه.. لزمه أن يعتكف؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله.. فليطعه، ومن نذر أن يعصيه.. فلا يعصه» . وإن أراد منع نفسه من كلامه.. فهو نذر لجاج وغضب، فإذا كلمه ... كان بالخيار: بين أن يعتكف شهرا، وبين أن يكفر كفارة يمين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر كفارة يمين» . وهذا معناه. [مسألة: نذر التتابع للمعتكف] ] : إذا نذر اعتكافا متتابعا، وشرط إن عرض له عارض، أو بدت له حاجة، كمرض أو غيره، أو عيادة مريض، أو شهود جنازة، خرج منه.. صح نذره، فإذا عرض له ذلك.. جاز له الخروج له، فإذا قضى حاجته.. رجع، وبنى على اعتكافه) . وقال مالك، والأوزاعي: (لا يجوز الشرط في الاعتكاف) . دليلنا: أنه لا يلزمه بأصل الشرع، وإنما لزمه بنذره فجاز له الشرط فيه، كما لو

مسألة: مما يبطل به الاعتكاف

أوجبه على نفسه متفرقا، وأما إذا نذر صوما أو صلاة، وشرط الخروج منه عند العارض.. ففيه وجهان، حكاهما في " الفروع ": أحدهما - ولم يحك في " التعليق " غيره-: أنه يصح كالاعتكاف. والثاني: لا يصح؛ لأنهما يلزمان في الشرع، بخلاف الاعتكاف. [مسألة: مما يبطل به الاعتكاف] ] : وإذا فعل المعتكف ما يبطله، من الإقامة في البيت بعد قضاء الحاجة، أو الخروج من المسجد لما لا يجوز له الخروج له، فإن كان اعتكافه تطوعا.. لم يبطل ما مضى منه، ولا يلزمه العود إليه؛ لأنه لا يلزمه بالدخول، وإن كان منذورا، فإن لم يشترط التتابع فيه.. لم يبطل ما مضى، فإذا رجع.. بنى على الأول. وإن شرط فيه التتابع.. بطل اعتكافه الأول، وكان عليه الاستئناف. وقال أبو يوسف، ومحمد: لا يبطل حتى تكون إقامته أكثر من نصف يوم. دليلنا: أنه خرج من معتكفه بغير حاجة، فبطل، كما لو أقام أكثر من نصف يوم. [مسألة: قضاء الاعتكاف عن الميت] ] : إذا مات وعليه اعتكاف واجب.. لم يعتكف عنه، ولم يطعم عنه. وقال أبو ثور: (يعتكف عنه) . وروي ذلك عن عائشة، وابن عباس. وقال أبو حنيفة: (يطعم عنه لكل يوم نصف صاع) .

وقد حكي الصيدلاني: أنه يطعم عنه لكل يوم مسكين. ولم أجده لغيره من أصحابنا. دليلنا: أنها عبادة لا يدخلها الجبران بالمال في الحياة.. فلم يدخلها بعد الوفاة، فلا تقضى، كالطهارة والصلاة والله أعلم بالصواب

كتاب الحج

[كتاب الحج]

كتاب الحج والحج في اللغة: هو القصد إلى الشيء المعظم، ومنه قول الشاعر: وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا أي: يقصدون، و (السب) العمامة، ويقال: الحج، بفتح الحاء وكسرها، ويسمى الحج: نسكا، بإسكان السين، فـ (النسك) - بإسكان السين ـ: اسم لكل عبادة، وبضم السين: الذبح، قال الله تعالى: {أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .

و (المنسك) : موضع الذبح، وقد يكون موضع العبادة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] [البقرة: 128] . والأصل في وجوب الحج: الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] ، وقَوْله تَعَالَى لإبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] [الحج: 27] . وروي: «أن إبراهيم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال " يا رب، وأين يبلغ ندائي؟ فقال الله: عليك النداء وعلينا البلاغ، فقيل: إن إبراهيم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ صعد المقام، وقال: يا عباد الله، أجيبوا داعي الله، فأجابه من في أصلاب الرجال، وأرحام النساء» فقيل: إنه لا يحج إلا من أجاب دعوته، - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. ومن أدلة الكتاب أيضا قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] [آل عمران: 97] . قال الشافعي: (قال مجاهد: ومعنى قوله هاهنا {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران: 97] يعني: من إذا حج.. لم يره برا، وإن لم يحج.. لم ير تركه مأثما) . وروي عن عكرمة: أنه قال: لما نزل قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] [آل عمران: 85] .. قالت اليهود: نحن المسلمون، «فأوحى الله إلى نبيه ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: (مرهم بالحج، فأمرهم بالحج، فقالوا: لم يكتب علينا [وأبوا أن يحجوا] فنزل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] » [آل عمران: 97] .

يعني {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران: 97] من أهل الكتاب.. {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] . وأما السنة: فما روى ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان» فذكر منها الحج، وفيه أخبار كثيرة. وأجمع المسلمون: على وجوبه. وقيل: إن أول من حج البيت آدم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما من نبي إلا وحج البيت. والدليل على فضله: ما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء عند الله إلا الجنة» .

مسألة وجوب العمرة

[مسألة وجوب العمرة] وأما العمرة: فهل تجب؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا تجب، ولا أرخص بتركها لمن قدر عليها) . وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وهو قول الشعبي، وروي ذلك عن ابن مسعود من الصحابة؛ لما روى جابر: «أن رجلا سأل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فقال: يا رسول الله، العمرة واجبة؟ فقال: لا، وأن تعتمر خير لك» وروى سراقة بن مالك أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» وأراد: أن وجوبها دخل في وجوب الحج.

ولأنها نسك لا تختص بوقت معين، فلم تكن واجبة بالشرع، كطواف القدوم. و [الثاني] : قال في الجديد: (هي وجبة) . وبه قال من الصحابة: ابن عمر، وابن عباس، وجابر، ومن التابعين: عطاء، وابن المسيب، وسعيد بن جبير. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .

وروي عن ابن عمر، وابن عباس: أنهما كانا يقرآن، (وأقيموا الحج والعمرة لله) ، والقراءة الشاذة تجري مجرى أخبار الآحاد. وروي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: قلت: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ فقال: عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة» ووجه الدلالة منه: أنها سألته عن وجوب الجهاد على النساء؟ فقال: نعم، وفسره بوجوب الحج والعمرة. وروى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «الحج والعمرة فريضتان، لا تبال بأيهما بدأت» . ولأنها عبادة من شرطها الطواف، فجاز أن تكون واجبة بالشرع، كالحج.

وأما الخبر الأول: فغير صحيح؛ لأنه رواية الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف مدلس، وإن صح ... فيحمل على: أن الرجل سأله عن وجوب العمرة في حق نفسه، فعلم النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاله، وأنها لا تجب عليه، بدليل أنه قال له: «وأن تعتمر خير لك» ، ولو كان السؤال على العموم.. لقال: وأن تعتمروا خير لكم. وأما الخبر الثاني: فلا حجة في ظاهره؛ لأنه يقتضي: أن العمرة قد كانت واجبة، ودخل وجوبها في وجوب الحج، وهذا لا يقوله أحد، وإذا كان ذلك كذلك.. كان له تأويلان: أحدهما: أن وقت العمرة دخل في وقت الحج إلى يوم القيامة؛ لأن العرب كانت لا ترى العمرة في أشهر الحج، فأمرهم النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أن يعتمروا في أشهر الحج، وقال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» . والثاني: أنه أراد أن أفعال العمرة دخلت في أفعال الحج، إذا جمع بينهما القران. وأما طواف القدوم: فليس من الأفعال الراتبة في الحج، وإنما هو لتعظيم البيت، فلم يجب كتحية المسجد. إذا ثبت هذا: فإن الحج والعمرة لا يجبان - بالشرع - في العمر إلا مرة واحدة.

مسألة دخول مكة لغير الحج

وقال بعض الناس: يجب في كل سنة. وهذا القائل محجوج بإجماع الأمة، وبما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يخطب فقال: «أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " فقام رجل فقال يا رسول الله، الحج واجب في كل سنة؟ فسكت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، فأعادها ثانيا، فسكت، فأعادها ثالثا، فقال: لو قلت نعم.. لوجب، ولو وجب.. لم تقوموا به» وروي: «أن الأقرع بن حابس قال: يا رسول الله: الحج في الدهر مرة أو أكثر؟ فقال: بل مرة، وما زاد فهو تطوع» . «وروي أنه قيل له: يا رسول الله، أحجنا هذا لعامنا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد» [مسألة دخول مكة لغير الحج] ومن أراد دخول مكة لغير الحج والعمرة ... فهو ينقسم على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يدخلها لقتال، مثال: أن يكون فيها قوم بغاة على الإمام، فيحتاج إلى

قتالهم، أو يدخلها خائفا من ظالم، أو يخاف غريما له يلازمه ويحبسه، ولا يتمكن من أداء حقه، فيجوز له أن يدخلها بغير إحرام؛ لـ «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلها يوم الفتح وعلى رأسه المغفر» ، وهذه صفة من ليس بمحرم. فإن قيل: فهذا كان خاصا له لأنه قال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «مكة حرام، لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار» . فالجواب: أن معناه: أحلت لي ولمن هو في مثل حالي. فإن قيل فعندكم: أنه دخلها مصالحا. قلنا: إنما وقع منه الصلح مع أبي سفيان، ولم يك ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمنا من غدرهم، فلذلك دخلها بغير إحرام. والضرب الثاني: أن يدخلها لتجارة، أو زيارة، أو كان مكيا، فسافر إلى غيرها، ثم رجع إلى وطنه.. ففيه قولان: أحدهما: يستحب له الإحرام، ولا يجب عليه، وبه قال ابن عمر، لما روي: «أن الأقرع بن حابس قال: يا رسول الله، الحج مرة أو أكثر؟ فقال: بل مرة، وما

زاد فهو تطوع» ولأنه داخل إلى مكة لغير نسك، فلم بجب عليه الإحرام، كالحطابين. والثاني ـ هو الأشهر ـ: أنه يجب عليه الإحرام؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار» . والضرب الثالث: أن يدخلها لحاجة تتكرر، كالحطابين، والصيادين، ومن ينقل الميرة، فالمنصوص: (أنه يجوز لهم أن يدخلوها بغير إحرام) . غير أن الشافعي قال: (ينبغي لهم أن يحرموا في كل سنة مرة؛ لكي لا يستخفوا بحرمة الحرم، ولا تلحقهم مشقة في ذلك) . والأول أصح؛ لأن دخولهم يكثر، فلو أوجبنا عليهم الإحرام.. شق وضاق، ولا معنى لوجوبه في وقت دون وقت. وهذا نقل الشيخ أبي حامد. وذكر المسعودي [" في الإبانة " ق \ 180 "] : هل يجب عليهم الإحرام؟ فيه وجهان: فإن قلنا: يجب الإحرام على من يدخلها لزيارة أو تجارة لا تتكرر، فدخلها بغير إحرام.. لم يجب عليه القضاء. وقال أبو حنيفة: (عليه أن يقضي، فإن أتى بباقي سنته بحج أو عمرة.. أجزأه عن القضاء) . دليلنا: حديث الأقرع بن حابس، ولأن الإحرام لدخول مكة مشروع؛ لحرمة المكان، فإذا لم يأت به ... لم يجب قضاؤه، كتحية المسجد. فإن قلنا: تحية المسجد لا تقضى؛ لأنها سنة، والإحرام لدخول مكة واجب: فالجواب: أن تحية المسجد لم يسقط قضاؤها، لكونها سنة؛ لأن المسنونات

فرع دخول البريد مكة

تقضى، ألا ترى أن النوافل الراتبة تقضى، وليست بواجبة، وكذلك التكبيرات في الصلاة والتسبيح، وإنما لم تقض؛ لأنها متعلقة بحرمة المكان. قال ابن الصباغ: وذكر أصحابنا دليلا آخر: وهو أن إيجاب القضاء يؤدي إلى تسلسل القضاء، فإن الدخول الثاني يجب لأجله أيضا إحرام، وما أتى به كان عما تقدم قبله. وقد فرع ابن القاص على هذا الدليل، فقال: لا يجب القضاء إلا في مسألة واحدة، وهو إذا دخل بغير إحرام، ثم صار حطّابا ... فإنه يجب القضاء؛ لأنه لا يتسلسل القضاء. قال ابن الصباغ: وهذا ضعيف؛ لأن الدخول إذا كان بإحرام ... كفاه، سواء كان لأجله أو لأجل غيره، كالصوم في الاعتكاف، قال: وهذا كما قلنا - فيمن أفسد القضاء في الحج ـ: لا يجب عليه قضاءان، وإنما يجب عليه قضاء واحد. والدليل الصحيح: ما تقدم. [فرع دخول البريد مكة] ] . وأما البريد: فإنه يتكرر دخوله، قال ابن الصباغ: فمن أصحابنا من قال: هم مثل الحطّابين، ومنهم من قال: فيه وجهان. [مسألة شروط الحج] ] . ولا يجب الحج والعمرة، إلا على مسلم، بالغ، عاقل، حر، مستطيع. فأما الكافر: فإن كان أصليا: فلا يصح منه؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «أيما أعرابي حج، ثم هاجر ... فعليه حجة الإسلام» وأراد بقوله: " هاجر " أي: أسلم. وهل يأثم بتركه

مسألة حج الصبي

في حال كفره؟ فيه وجهان، بناء على أن الكفار مخاطبون بالشرعيات. وإن كان مرتدا ... لم يصح منه؛ لأن الكفر ينافي العبادات، فلا يصح فعلها معه، كالصلاة والصوم، ولكنه يأثم بتركه في حالة الردة؛ لأنه قد التزم وجوبه بالإسلام، فلا يسقط بالردة. وأما المجنون: فلا يصح منه؛ لأنه ليس من أهل العبادات، ولا يجب عليه؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «رفع القلم عن ثلاثة " فذكر فيه: " وعن المجنون حتى يفيق» . [مسألة حج الصبي] وأما الصبي: فلا يجب عليه الحج؛ للخبر، ولأن الحج من عبادات البدن، فلا يجب عليه، كالصلاة والصوم. ويصح منه، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (لا يصح الحج من الصبي، وإنما يأذن له الولي في الإحرام؛ ليتعلم أفعال الحج، ويجتنب ما يتجنب المحرم، فإن فعل شيئا من ذلك.. فلا فدية عليه) .

دليلنا: ما روى ابن عباس ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـ «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قفل من مكة، فلما بلغ الروحاء.. لقيه ركب، فقال: " من القوم؟ " قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: " رسول الله " فرفعت امرأة صبيا من محفتها، وقالت: يا رسول الله، ألهذا الصبي حج؟ فقال: نعم، ولك أجر» وروي «عن ابن عباس: قال: خرجنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فكنا نحرم عن أنفسنا وعن الصبيان» ولأن الحج عبادة يصح التنفل بها، فصحت من الصبي، كالطهارة. إذا ثبت هذا: فإن كان الصبي مميزا وأحرم بإذن الولي , صح إحرامه، وإن أحرم بغير إذن الوالي ففيه وجهان:

أحدهما: يصح، وهو قول أبي إسحاق؛ لأنه عبادة، فصح إحرامه فيها بغير إذن الولي، كالصلاة والصوم. والثاني لا يصح، وهو الصحيح؛ لأن الحج يتعلق أداؤه بإنفاق المال، والصبي لا يملك إنفاق المال بغير إذن الولي، كالبيع والشراء، بخلاف الصلاة والصوم. وإن كان الصبي غير مميز.. أحرم عنه الولي. قال الشيخ أبو حامد: فينوي الولي أنه جعله محرما، فيصير الصبي محرما بذلك، سواء كان الولي محلا أو محرما، وسواء كان الولي قد حج عن نفسه أو لم يحج، فإنه يصح؛ لأنه لا يحرم هو، وإنما يعقد الإحرام له. وأما الولي الذي يحرم عنه: فذكر الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: إن كان الولي أبا أو جدا.. جاز أن يحرم عنه إن كان غير مميز، ويأذن له في الإحرام إن كان مميزا؛ لأنهما يليان على ماله بغير تولية. فأما غيرهما من العصبات: كالأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم.. فإن لهم حقا في الحضانة، وتعليم الصبي وتأديبه، ولا يملكون التصرف في ماله بأنفسهم إلا بوصية من الأب أو الجد، أو تولية من الحاكم، فإن جعل لهم التصرف بماله.. كان لهم أن يحرموا عنه، أو يأذنوا له في الإحرام، وإن لم يجعل إليهم التصرف بماله..فلهم أن يحرموا عنه بالحج، أو يأذنوا له في الإحرام؟ فيه وجهان: أحدهما: لهم ذلك؛ لأنه لما كان لهم تعليمه وتأديبه والإنفاق على تلك الأشياء من ماله، فكذلك الإحرام بالحج. والثاني: ليس لهم الإحرام عنه، ولا الإذن له بالإحرام، وهو الصحيح؛ لأنهم لا يملكون التصرف في ماله، فلم يكن لهم الإحرام عنه، ولا الإذن بالإحرام كالأجانب، ويخالف النفقة على التأديب والتعليم؛ لأنه نفل، فسومح به. وأما الأم: فإن قلنا بقول أبي سعيد الإصطخري، وأنها تلي على ماله بنفسها.. فلها أن تحرم عنه، وقد احتج الإصطخري بهذا الخبر، حيث قال لها النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «نعم، ولك أجر»

فرع نفقة الصبي في الحج

وإن قلنا بمذهب الشافعي، وأنها لا تلي بنفسها على مال الصبي.. فهي كسائر العصبات: من الإخوة وبينهم، والأعمام وبينهم، وقد ذكرنا حكمهم. وأما الشيخ أبو إسحاق: فذكر في " المهذب " أن الأم تحرم عنه؛ للخبر، ويجوز للأب والجد أن يحرما عنه، قياسا على الأم. قال ابن الصباغ: وليس في الخبر ما يدل على أن الأم أحرمت عنه، ويحتمل أن يكون أحرم عنه وليه، وإنما جعل لها الأجر بحملها له، ومعونتها له على مناسك الحج، والإنفاق عليه. إذا تقرر ما ذكرناه، وصح إحرام الصبي ... فإنه يفعل بنفسه ما يقدر عليه، وما لا يقدر عليه.. يفعله عنه الولي؛ لما روي عن ابن عمر: أنه قال: (كنا نحج بصبياننا، فمن استطاع منهم.. رمى، ومن لم يستطع.. رمي عنه) . [فرع نفقة الصبي في الحج] ] . وأما نفقة الصبي في الحج: قال الشيخ أبو حامد: فلا يختلف المذهب أن القدر الذي يحتاج إليه من النفقة في الحضر يكون في ماله، وما زاد على ذلك لأجل الحج.

مسألة حج العبد

فيه وجهان. وأما القاضي أبو الطيب: فحكاهما قولين، واختار ذلك الشيخ أبو إسحاق صاحب " المهذب " إلا أنه قال: وفي نفقة حج الصبي قولان - ولعله أراد ما زاد لأجل الحج: أحدهما: يتعلق بمال الصبي؛ لأنه يتعلق بمصلحته، فهو كأجرة التعليم. والثاني: في مال الولي، وهو الصحيح؛ لأنه أدخله فيما له منه بد. قال الشيخ أبو حامد: ويفارق أجرة التأديب والتعليم؛ لأن ذلك نفقة يسيرة ولا تجحف بماله، ونفقة الحج كثيرة. ولأن بالصبي حاجة إلى تعلم القرآن الصلاة قبل البلوغ ليتمرن عليه ولا يكسل عن ذلك بعد البلوغ، ولا حاجة به إلى التطوع بالحج. ولأن الصلاة تجب على الفور إذا بلغ، ومن شرط صحتها القراءة، فإذا لم يتعلم القراءة قبل البلوغ.. احتاج إلى أن يتعلمها بعد البلوغ، وإلى أن يتعلمها تفوته الصلاة، بخلاف الحج، فإنه على التراخي. [مسألة حج العبد] وأما العبد: فلا يجب عليه الحج؛ لأن منافعه مستحقة لمولاه، فلم يجب عليه، فإن أحرم بإذن المولى.. صح إحرامه؛ لأنه من أهل العبادات، وإن أحرم بغير إذن المولى.. صح إحرامه، وللمولى أن يحلله منه؛ لأن عليه ضررا في بقائه على الإحرام. وقال داود: (لا يصح إحرامه بغير إذن المولى) . دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «وأيما عبد حج ثم أعتق.. فعليه حجة الإسلام» . ولم

فرع ارتكاب العبد لما يوجب الفدية

يفرق بين أن يحرم بإذن سيده أو بغير إذنه، ولأنها عبادة بدنية، فصحت منه بغير إذن سيده، كصلاة النافلة. فإن إذن له السيد بالإحرام، ثم رجع.. نظرت: فإن رجع قبل أن يحرم العبد، وعلم العبد بذلك.. بطل الإذن، فإن أحرم بعد ذلك.. كان له أن يحلله؛ لأن إذنه الأول قد زال، فصار كما لو لم يأذن له. وإن لم يعلم العبد بالرجوع، حتى أحرم.. ففيه وجهان: أحدهما: حكمه حكم ما لو أحرم بغير إذنه. والثاني: حكمه حكم من أحرم بإذنه، بناء على القولين في الموكل إذا عزل الوكيل، فتصرف الوكيل بعد العزل وقبل العلم به. وإن رجع السيد في الإذن بعد إحرام العبد.. لم يبطل إذنه، ولم يكن له تحليله. وقال أبو حنيفة: (لا تلزمه الإقامة على الإذن، وله تحليله) . دليلنا: أنه عقد لازم، عقده بإذن السيد، فلم يكن للسيد منعه منه، كالنكاح. [فرع ارتكاب العبد لما يوجب الفدية] وإن ارتكب العبد شيئا من محظورات الإحرام، مثل: أن تطيب أو لبس أو قتل صيدا. وجبت الفدية على العبد؛ لأنها وجبت بجنايته، ويجب الصوم عليه؛ لأنه لا يملك المال، وللسيد منعه من الصوم؛ لأنه وجب عليه بغير إذنه. وإن ملكه السيد مالا، وأذن له أن يفتدي به، فإن قلنا: إنه لا يملك المال.. لم يكن له أن يفتدي به، وإن قلنا: إنه يملك المال , ... كان له أن يفتدي به. وإن أذن له في التمتع أو القران، فإن قلنا: إن العبد لا يملك المال إذا ملكه السيد.. ففرضه الصوم، وليس للسيد منعه منه؛ لأنه وجب عليه بإذنه. وإن قلنا: إنه يملكه إذا ملكه السيد.. فهل يلزم السيد أن يدفع إليه المال ليفتدي به؟ فيه قولان: أحدهما: يلزمه؛ لأنه أذن له في سببه.

فرع حج الصبي والعبد باعتبار كمالهما

والثاني: لا يلزمه؛ لأنه أذن له في الإحرام، فلم يلزمه ما يجب بسببه، ألا ترى أن العبد إذا أذن له السيد في النكاح ... فإن النفقة والمهر لا يجبان في مال السيد، وإنما يجبان في كسب العبد. [فرع حج الصبي والعبد باعتبار كمالهما] فإن حج الصبي ثم بلغ بعد الفراغ من الحج، أو حج العبد ثم أعتق بعد الفراغ منه.. لم يجزهما عن حجة الإسلام؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «أيما صبي حج، ثم بلغ.. فعليه حجة أخرى، وأيما أعرابي حج، ثم هاجر ... فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج، ثم أعتق فعليه حجة أخرى» . وإن بلغ الصبي، أو أعتق العبد في الإحرام.. نظرت: فإن كان بعد الوقوف بعرفة، وبعد فوات وقته.. لم يجزئهما عن حجة الإسلام؛ لأن معظم الحج قد فات في حال النقصان، فلم يجزئهما، كما لو أدرك الإمام بعد الركوع.. فإنه لا يحتسب له بتلك الركعة. وإن كان قبل الوقوف بعرفة، أو في حال الوقوف.. أجزأهما عن حجة الإسلام. وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يجزئهما) . ولا يتصور الخلاف مع أبي حنيفة، إلا في العبد، فأما الصبي: فلا يصح إحرامه عنده. دليلنا: أنه وقف بعرفة، وهو كامل في إحرام صحيح، فوجب أن يجزئه عن حجة الإسلام، كما لو كان كاملا حال الإحرام. وإن بلغ الصبي، أو أعتق العبد بعد الوقوف، وقبل فوات وقته، مثل: أن كان

فرع سعي الصبي والعبد قبل كمالهما

ذلك ليلة النحر بالمزدلفة، ولم يرجعا إلى عرفة.. فهل يجزئهما عن حجة الإسلام؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي عباس بن سريج: أن يجزئهما؛ لأنهما كملا في وقت الوقوف، فأجزأ ما تقدم من وقوفهما، كما لو أحرما، ثم كملا. والثاني ـ وهو المنصوص ـ: أنه لا يجزئهما؛ لأنهما لم يقفا بعرفة في حال الكمال، فلم يجز عنهما، كما لو كملا بعد مضي وقت الوقوف. [فرع سعي الصبي والعبد قبل كمالهما] وإن سعى الصبي أو العبد عقيب طواف القدوم، ثم بلغ الصبي أو عتق العبد قبل الوقوف.. فهل يجزئهما ذلك السعي؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 210] : أحدهما - ولم يذكر في " الإفصاح " غيره: أنه لا يجزئ عنهما؛ لأنهما أديا بعض فرائض الحج في حال النقص، فلم يجزئهما، كما لو وقف بعرفة. والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره: أنه يجزئهما؛ لأنهما قد وقفا بعرفة في حال الكمال، فأجزأهما السعي المتقدم، كالإحرام. [مسألة شروط الاستطاعة] ] : وأما غير المستطيع: فلا يجب عليه الحج والعمرة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] [آل عمران: 97] . والمستطيع اثنان: مستطيع ببدنه، ومستطيع بغيره. فأما المستطيع ببدنه: فله شروط: أحدها أن يكون صحيح البدن. الثاني: أن يكون واجدا للزاد والماء بثمن المثل، في المواضع التي جرت العادة بوجوده فيها.

فرع عدم لزوم الحج لغير واجد الزاد

الثالث: أن يكون واجدا لراحلة تصلح لمثله، إن كان بينه وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة. الرابع: أن يكون الطريق آمنًا. الخامس: أن تجتمع هذه الشروط، وقد بقي من الوقت ما يتمكن فيه من الوصول إلى الحج، فإن كان مريضا تلحقه مشقة غير معتادة في الركوب.. لم يلزمه الحج: لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة، أو مرض حابس، أو سلطان جائر، فمات ولم يحج.. فليمت: إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا» . [فرع عدم لزوم الحج لغير واجد الزاد] وإن لم يجد الزاد.. لم يلزمه الحج، وروي ذلك: عن ابن عباس وابن عمر. وقال ابن الزبير، وعكرمة، وعطاء: (الاستطاعة صحة البدن) .

فرع حكم الراحلة

دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن رجلا قال: يا رسول الله، ما السبيل الذي قال الله تعالى؟ قال: الزاد والراحلة» وإن وجد الزاد، ولم يجد الماء.. لم يجب عليه الحج؛ لأن الحاجة إلى الماء أشد وإن وجد الزاد والماء بأكثر من ثمن مثلهما في المواضع التي جرت العادة بوجودهما فيه.. لم يجب عليه الحج؛ لأن وجود الشيء بأكثر من ثمن مثله كعدمه. [فرع حكم الراحلة] ) : وإن لم يجد راحلة، أو وجدها بأكثر من ثمن مثلها أو أجرة مثلها، أو وجد راحلة لا تصلح لمثله، بأن يكون شيخا أو شابا مترفا لا يقدر على الركوب إلا بالمحمل والعمارية ... لم يجب عليه الحج، حتى يجد ذلك. هذا مذهبنا، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه. وقال مالك: (الراحلة ليست بشرط، فإذا كان قادرا على المشي، أو عادته

المشي.. وجب عليه الحج) ، وكذلك لا يعتبر عنده أن يكون مالكا للزاد، بل إذا كان قادرا على تحصيله بصنعة أو سؤال الناس ومن عادته السؤال.. وجب عليه الحج. دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن رجلا قال: يا رسول الله، ما السبيل؟ فقال: الزاد والراحلة» وروى علي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من وجد من الزاد والراحلة ما يبلغه، فلم يحج.. فليمت، إن شاء يهوديا أو نصرانيا» ، وفي بعض الأخبار: «ولا عليه، أن يموت: إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا» . فلما علق الوعيد في ترك الحج على من وجد الزاد والراحلة.. دل على: أن وجودهما شرط في وجوب الحج، ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة، فكان من شرط وجوبها الزاد والراحلة، كالجهاد. فإن وجد الزاد والراحلة لذهابه دون رجوعه، فإن كان له في البلد أهل.. لم يجب عليه الحج، وإن لم يكن له أهل.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه؛ لأن البلاد في حقه سواء. والثاني: لا يجب عليه، وهو الصحيح؛ لأن عليه مشقة في المقام بغير وطنه.

فرع حكم الدائن والمدين في وجوب الحج

[فرع حكم الدائن والمدين في وجوب الحج] ] : وإن كان عليه دين لا يفضل عنه ما يكفيه لحجه.. لم يجب عليه الحج، حالا كان الدين أو مؤجلا، نص عليه في " الإملاء "؛ لأن الحال على الفور، والحج على التراخي. وعليه ضرر في بقاء الدين المؤجل في ذمته، فقدم على الحج. وكذلك لا يجب عليه الحج إلا بعد أن يفضل عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته ما يكفيه للحج؛ لأن النفقة على الفور، والحج على التراخي. وإن كان ماله دينا على غيره، فإن كان حالا على مليء باذل له.. وجب عليه الحج: لأنه قادر على قبضه. وإن كان على مليء جاحد له، ولا بينة له به، أو كان على معسر، أو كان الدين مؤجلا.. لم يجب عليه الحج: لأنه غير قادر على الزاد والراحلة. [فرع بيع المسكن والخادم للحج] ] : ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إذا كان له خادم يخدمه، ومسكن يسكنه، فإن كان، ممن لا يخدم مثله، بل جرت عادته أن يخدم نفسه.. فإن هذا الخادم فضل عن نفقته وكفايته، فإن كان إذا بيع أمكنه أن يحج بثمنه.. لزمه فرض الحج. وإن كان لا يمكنه أن يحج بثمنه.. لم يجب عليه. وإن كان يحتاج إلى خدمته، بأن يكون شيخا لا يقدر على خدمة نفسه، أو كان يقدر ولكن هو من أهل العلم والشرف والمروءات الذين لم تجر عادتهم بأن يخدموا أنفسهم.. نظرت في الخادم والمسكن: فإن كان وافق قدر حاجته.. لم يجب عليه بيعه. وإن كان أكثر مما يحتاج إليه؛ مثل: أن يكون له دار كبيرة الثمن ومثله يسكن دون تلك الدار، أو كان الخادم نفيسا له ثمن كبير؛ لنجابة فيه، ومثله يكتفي بدون

فرع وجوب الحج لمحتاج النكاح

ذلك الخادم.. نظرت في الفضل: فإن كان يكفي للحج.. وجب عليه بيعه، ويشتري ما يحتاج إليه من المسكن والخادم، ويحج بالفضل. وإن كان الفضل لا يكفي الحج.. لم يجب عليه الحج. وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: يجب عليه بيع مسكنه وخادمه وإن كانت حاجته تستغرقه ـ وهو قول أبي حنيفة ـ لأنه يمكنه أن يكتري مسكنا وخادما، كما نقول في زكاة الفطر: إنه يعتبر الفضل عن كفايته يومه. والأول أصح؛ لأن حاجته تستغرق ذلك، فهو بمنزلة من وجبت عليه الكفارة. قال ابن الصباغ: فإن لم يكن معه مسكن ولا خادم، ومعه ما يقوم بهما، فمن قال: يجب عليه أن يبيع المسكن والخادم للحج.. فإنه يقول هاهنا: يحج ولا يشتري المسكن والخادم. ومن قال: لا يجب عليه بيع المسكن والخادم.. قال هاهنا: لا يجب عليه الحج، بل يجوز له أن يشتري بما في يده المسكن والخادم. [فرع وجوب الحج لمحتاج النكاح] ] : ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: إذا كان معه ما يكفيه للحج، واحتاج إلى التزويج به.. وجب عليه الحج، ولا يقدم النكاح على الحج؛ لأنه من الملاذ التي تصبر النفس عنها، ولأن الحج واجب، والنكاح غير واجب، إلا أنه يجوز له تأخير الحج، فإن كان يخشى العنت.. كان تقديم التزويج أولى، وإن كان لا يخاف العنت.. كان تقديم الحج أولى. [فرع بيع البضاعة للحج] إذا كانت له بضاعة يكتسب بها ما يقوته ويقوت عياله إن كان له عيال.. فهل يلزمه صرف البضاعة في الحج؟ فيه وجهان:

فرع الاقتراض للحج

أحدهما: لا يلزمه، وهو قول أبي العباس بن سريج، واختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن في ذلك مضرة وانقطاع المعاش به، وقد قال الشافعي في المفلس: (إنه يترك له ما يتجر به؛ لئلا ينقطع ويحتاج إلى الناس) ، فإذا جاز أن يقطع من ديون الغرماء؛ ويجعل بضاعة للمفلس؛ ليعيش بها.. فلأن لا يلزم الإنسان صرف بضاعته بالحج أولى. والثاني ـ وهو قول سائر أصحابنا، وقول أبي حنيفة ـ: أنه يلزمه الحج؛ لأنه واجد للزاد والراحلة، فوجب عليه الحج. قال الشيخ أبو حامد: ولأنا لو قلنا هذا.. لوجب أن يقول: إن من لا يمكنه أن يتعيش إلا بألف دينار، إذا كان معه ألف دينار.. لا يجب عليه الحج؛ لأنه لا يمكنه أن يتجر بأقل من ذلك، وهذا لا يقوله أحد؛ لأنه واجد لأكثر من الزاد والراحلة. قال المحاملي: وأما ما ذكره الشافعي في المفلس.. فإنما يترك ذلك برضا الغرماء فأما بغير رضاهم.. فلا. قال ابن الصباغ: وهل يعتبر وجود الزاد والراحلة فاضلا عن كفايته على الدوام؟ فيه وجهان، ووجههما ما ذكرناه للوجهين في التي قبلها. [فرع الاقتراض للحج] ] : إذا كان قادرا على أن يستقرض ما يحج به.. لم يجب عليه الحج؛ لأنه غَيْرُ مالك للزاد والراحلة، ولأنه إذا استقرض.. صار ذلك دينا في ذمته، والدين يمنع وجوب الحج عليه. وإن قدر على أن يؤاجر نفسه.. استحب له أن يحج؛ لأنه يتوصل إلى الحج بوجه مباح، ولا يجب عليه؛ لأنه غير مالك للزاد والراحلة. فإن أكرى نفسه، فحضر موضع الحج.. لزمه الحج وإن كان التوصل إليه غير واجب عليه؛ لأنه الآن متمكن من فعل الحج بغير مال.

فرع الاتجار في الحج

وإن غصب مالا فحج به، أو حمولة فركبها وحج.. أثم بذلك، ولزمه ضمان ما غصب، وأجزأه الحج. وقال أحمد: (لا يجزئه) . دليلنا: أن الحج فعل البدن، وقد فعله، فهو كمن ركب المخافة حتى وصل إلى الحج فحج.. فإنه يجزئه. [فرع الاتجار في الحج] ] : إذا خرج الإنسان بنية الحج والتجارة، فحج واتجر.. صح حجه، ويسقط فرضه: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] [البقرة: 198] . قال ابن عباس: يعني: أن تحجوا، وتتجروا. قال الشيخ أبو حامد: فأما الثواب.. فإن ثواب من قصد الحج دون التجارة أكثر ممن قصد الحج والتجارة؛ لأنه قصد القربة دون غيرها، وهذا قصد القربة وغيرها. قال: وحكي في هذا المعنى: أن رجلا من أهل الخير والصلاح حج، فرأى فيما يرى النائم كأن أعمال الحجيج تعرض على الله، فقيل: فلان، فقيل: يكتب حاجا، وقيل: فلان، فقيل: يكتب تاجرا، حتى بلغ إليه، فقيل: يكتب تاجرا، قال:

فرع ركوب البحر للحج

فقمت من نومي، وقلت: ولم، ولست بتاجر؟ فقال: بل حملت معك كبة غزل تبيعها على أهل مكة. فدل على: أن من كانت قربته خالصة لم يشبها بشيء من الدنيا.. فثوابه فيه أكثر. [فرع ركوب البحر للحج] وإن كان الطريق غير آمن، ويحتاج فيه إلى خفارة.. لم يجب عليه الحج؛ لأن في ذلك تغريرا بالنفس والمال. وإن لم يكن له طريق إلا في البحر.. فقد قال الشافعي في " الأم " [2/103] : (لا يبين لي أن أوجب عليه ركوب البحر) . وقال في " الإملاء ": (إذا لم يكن له طريق إلا في البحر.. لا يبين لي أن لا أوجب عليه ركوب البحر للحج) . واختلف أصحابنا فيه على أربع طرق: (الأول) : منهم من قال: فيه قولان: أحدهما: يجب عليه؛ لأنه طريق مسلوك، فأشبه البر. والثاني: لا يجب عليه؛ لأن البحر يخاف فيه الهلاك، فأشبه الطريق المخوف في البر. و [الطريق الثاني] : منهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فحيث قال: (يجب عليه ركوبه) .. إذا كان الغالب منه السلامة. وحيث قال: (لا يجب عليه) .. إذا كان الغالب منه الهلاك، وبهذا قال أبو حنيفة. و [الطريق الثالث] : منهم من قال: بل هي على حالين آخرين:

فحيث قال: (يجب عليه) : إذا كان له عادة في ركوب البحر في معيشته؛ لأنه لا يشق عليه ركوبه: وحيث قال: (لا يجب عليه) ... إذا لم تجر له عادة في ركوب البحر؛ لأنه يشق عليه. و [الطريق الرابع] : منهم من قال: لا يجب عليه ركوبه بحال، سواء كان جريئا على ركوبه وله عادة بذلك، أو غير جريء على ركوبه، كما لا يجب على الشجاع المقاتل الحج، إذا كان على طريقه لصوص يضطر إلى قتالهم، وحيث قال الشافعي: (يجب عليه) .. أراد: إذا كان قد ركب البحر لغير الحج، ودنا من الشط الذي يلي مكة، فحينئذ: يجب عليه الحج. فلو توسط في البحر، مثل أن يكون ما قدامه مثل ما وراءه.. فهل يجب عليه الحج على هذا الطريق؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه؛ لأن ذلك إيجاب لركوب البحر للحج. والثاني: يجب عليه؛ لأن الجهات قد استوت في حقه، فهو كما لو استوت الجهات في الأمن. قال الصيمري: وأما قطع نهر كدجلة.. فيلزمه بلا خلاف. إذا ثبت هذا: فإن قلنا: لا يجب عليه ركوب البحر.. فإنه يستحب للرجال ركوبه؛ لأنهم يتوصلون بذلك إلى إسقاط الفرض عن ذممهم. وهل يستحب للنساء ركوبه؟ فيه قولان، حكاهما في " العدة ": أحدهما: يستحب لهن كما يستحب للرجال. والثاني: لا يستحب؛ لأن المرأة عورة وربما تغرق.. فتنكشف.

فرع حج الأعمى وذوي العاهات

[فرع حج الأعمى وذوي العاهات] ] : إذا وجد الأعمى زادا وراحلة، ومن يقوده ويهديه عند النزول، ومن يركبه وينزله، وكان قادرا على الثبوت على الراحلة من غير مشقة شديدة.. وجب عليه الحج. وكذلك مقطوع اليدين والرجلين. ولا يجوز له أن يستأجر من يحج عنه، وبهذا قال أحمد وأبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة ـ في أصح الروايتين عنه ـ: (يجوز له الاستئجار على الحج، ولا يلزمه الحج بنفسه) . وحكاه الصيمري عن بعض أصحابنا. دليلنا: أنه يتمكن من الثبوت على الراحلة بغير مشقة شديدة، فلزمه الحج بنفسه، كالبصير. [فرع حكم المحرم مع المرأة] وإن كانت امرأة.. فهل يشترط في حقها وجود المحرم معها؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال الخراسانيون من أصحابنا: وجوده شرط - وبه قال أبو حنيفة، والنخعي، وأحمد، وإسحاق - لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم» .

فرع الخنثى المشكل

وقال البغداديون من أصحابنا: وجوده ليس بشرط؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لعدي بن حاتم، وهو يصف استظهار الإسلام إلى أن قال: «حتى لتوشك الظعينة أن تخرج من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالكعبة» . فلو لم يجز ذلك.. لما مدح به الإسلام، ومن قال بهذا.. حمل الخبر الأول إذا كان السفر غير واجب. فإذا قلنا: يشترط وجود المحرم، واجتمع نسوة.. فهل يقمن مقام المحرم؟ فيه وجهان. فإذا قلنا: يقمن مقام المحرم.. فهل يشترط أن يكون معهن، أو مع واحدة منهن محرم لها أو زوج؟ فيه وجهان: أحدهما: يشترط ذلك؛ ليتقوين به، وليتكلم عنهن. والثاني: لا يشترط ذلك؛ لأن أطماع الرجال تنقطع عنهن إذا كثرن وصرن جماعة. [فرع الخنثى المشكل] ] : وأما الخنثى المشكل: فإنه يجب عليه الحج، ويشترط في حقه من المحرم ما يشترط في حق المرأة. فإن كان معه نسوة، فإن كن أخواته، أو أمهاته، أو بنات أخيه، أو بنات أخته، أو عماته، أو خالاته.. جاز ذلك. وإن كن أجنبيات عنه.. لم يجز؛ لأنه لا يجوز له الخلوة بهن.

فرع يشترط للحج إمكان السير

[فرع يشترط للحج إمكان السير] وأما إمكان السير: فهو شرط في وجوب الحج، فإن وجدت فيه هذه الشرائط، ولكن لم يبق من الزمان ما يتمكن فيه من الوصول إلى الحج.. لم يجب عليه الحج. وقال أحمد: (إمكان السير له ليس بشرط في الوجوب، وإنما هو شرط في الأداء) وكذلك أمن الطريق عنده. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] [آل عمران: 97] . وهذا غير مستطيع، ولأنه معنى يتعذر معه فعل الحج، فمنع من وجوبه، كالزاد والراحلة. [مسألة وجوب الحج لمن هو دون مسافة القصر] فأما أهل مكة، ومن كان داره من مكة على مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فإن كان صحيحا يقدر على المشي.. لم يكن من شرط وجوب الحج عليه، وجود الراحلة؛ لأنه ما من أحد إلا ويقدر على قطع مثل هذه المسافة من غير أن يناله مشقة كثيرة، فلم يمنع ذلك من وجوب الحج عليه، كما لا يمنع قطع المسافة من بيته إلى الجامع من وجوب الجمعة عليه. ولأن أهل الآفاق ينالهم من المشقة بالركوب إلى الحج أكثر مما ينال أهل مكة بالمشي إلى الحج، وذلك لا يمنع من وجوب الحج عليهم، فكذلك هذا مثله. وإن كان زمنا.. فلا حج عليه إلا بوجود الراحلة، ولا يجب عليه الحبو؛ لأن المشقة بالحبو في المسافة القريبة أكثر من المشقة بالسير في المسافة البعيدة. وأما الزاد، وما يحتاج إليه من النفقة في أيام شغله بالنسك: فلا بد من وجوده، فإن لم يجد إلا نفقة يوم بيوم، مثل: أن يكون صانعا يكتسب كل يوم ما يقوته إن لم

مسألة أفضلية الركوب للحج

يكن له عيال، أو يقوته ويقوت عياله، ولا يفضل عنه شيء.. فلا يجب عليه الحج؛ لأنه غير واجد للزاد. [مسألة أفضلية الركوب للحج] ] : قال الشافعي: (الركوب في الحج أفضل من المشي فيه) ، ثم قال الشافعي في موضع آخر: (إن أوصى أن يحج عنه ماشيا.. حج عنه ماشيا، ولو نذر الحج ماشيا.. لزمه المشي فيه) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: أن الركوب أفضل؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ حج راكبا» ، ولأنه أعون على قضاء المناسك، كما قلنا: إن الإفطار يوم عرفة للحاج أفضل. والثاني: أن المشي أفضل من الركوب؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (ما آسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا) ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] [الحج: 27] و: (كان الحسين بن علي يمشي في الحج) .

مسألة المستطيع بغيره

ومن أصحابنا من قال: الركوب أفضل، قولا واحدا ـ وهي طريقة البغداديين من أصحابنا ـ لما ذكرناه. وأما نصه في (الوصية) : فلا يدل على أن ذلك الأفضل من مذهبه؛ لأنه يجب عليه في الوصية ما وصى به وإن كان غيره أفضل منه، ألا ترى أنه لو أوصى: أن يتصدق بدرهم.. لم يجزه أن يتصدق عنه بدينار، وإن كان أفضل منه. وأما ما روي عن ابن عباس: ففعل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أولى بالاتباع. [مسألة المستطيع بغيره] وأما المستطيع بغيره: فهو أن يكون معضوبا في بدنه لا يقدر على أن يثبت على مركب إلا بمشقة غير محتملة، أو بلغ من الكبر ما لا يمكنه الاستمساك على المركب، أو كان شابا نضو الخلق لا يستمسك على الراحلة، فإن لم يكن له مال، ولا من يطيعه.. لم يجب عليه الحج؛ للآية. وإن كان له مال يمكنه أن يدفعه إلى من يحج عنه، ولم يجد من يستأجره به.. لم يجب عليه الحج؛ للآية. وإن كان له مال، ووجد من يستأجره بأجرة المثل للحج.. وجب عليه أن يستأجره، فإن فعل ذلك، وإلا.. استقر فرض الحج في ذمته. وبه قال الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق.

وقال مالك: (لا يجب عليه أن يستأجر) . دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن امرأة من خثعم أتت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: " نعم "، قالت: أينفعه ذلك؟ قال: نعم، كما لو كان على أبيك دين، فقضيته عنه.. نفعه» وسئل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن شيخ يجد الاستطاعة؟ فقال: (يجهز من يحج عنه) . ولأنها عبادة يجب عليه بإفسادها الكفارة، فجاز أن يقوم غير فعله مقام فعله فيها، كالصوم إذا عجز عنه.. فإنه يفتدي. وإن لم يكن للمعضوب مال، ولكن له من يطيعه بالحج.. فإنه يجب عليه الحج بذلك. وقال أبو حنيفة وأحمد: (لا يجب عليه الحج بطاعة غيره له) . دليلنا: ما روي «عن أبي رزين العقيلي: أنه قال: قلت: يا رسول الله، إن لي أبا شيخا كبيرا لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن، أفأحج عنه؟ فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: حج عن أبيك واعتمر» ، وروى أبو هريرة: «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن

أمي أسلمت، ولا تكاد أن تثبت على مركب، وإن ربطتها خفت أن تموت، أفأحج عنها؟ فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: حج عن أمك» ، وهذا صيغته صيغة الأمر، والأمر إذا تجرد عن القرائن.. اقتضى الوجوب، فدل على: أنه وجب الحج على المحجوج عنه بوجود من يطيعه، ولهذا أمر المطيع بالحج، ولأنه يمكنه أن يحصل الحج عن نفسه، فلزمه الحج، كما لو قدر على المال. إذا ثبت ما ذكرناه: فإنما نريد بقولنا: (يجب على المعضوب الحج ببذل الطاعة) : وهو أن يكون للمعضوب من يطيعه، ويثق بطاعته إذا أمره بذلك.. فيجب على المعضوب الحج بذلك، سواء بذل له المطيع أو لم يبذل له. وقولنا: (بذل له الطاعة) توسع في الكلام ومجاز فيه؛ لأن الشافعي قال: (متى قدر على من يطيعه في الحج عنه.. لزمه الفرض) . ولا يجب عليه الحج، إلا أن يكون في المطاع ثلاثة شرائط، وفي المطيع ثلاثة شرائط.

فرع وجوب الحج على المطاع

فأما الشرائط في المطاع: فأن يكون لم يحج عن نفسه، وأن يكون ميؤسا من حجه بنفسه بزمانة أو كبر، وأن يكون فقيرا، فأما إذا كان له مال يمكنه أن يستأجر به من يحج عنه.. وجب عليه الحج بماله. وأما الشرائط في المطيع: فأن لا يكون عليه حج واجب: إما فرض أو نذر، وأن يكون المطيع موثوقا بطاعته في أنه يفي بما بذل، فأما إذا كان مشكوكا في طاعته.. فلا يجب عليه؛ لأن العبادة لا تجب بالشك، وأن يكون الباذل ممن يجب عليه الحج بنفسه، بأن تكون الشرائط التسع موجودة فيه. فإن كان فقيرا.. فهل يجب على المطاع الحج إذا كان واثقا بطاعته؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه الحج؛ لأنه واجد لمن يطيعه وإن كان بمشقة، فوجب عليه الحج، كما لو زمن ومعه دراهم لا تقوم بأجرة المثل للحج، فرضي رجل بأن يحج بها عنه. والثاني: لا يلزمه، وهو الصحيح؛ لأن المطاع لو كان فقيرا يقدر على المشي بنفسه، لم يجب عليه الحج.. فلأن لا يجب عليه الحج بقدرة غيره على المشي أولى. [فرع وجوب الحج على المطاع] فإن كان هذا المطيع ولدا للمطاع، أو ولد ولده وإن سفل.. وجب على المطاع الحج بذلك، بلا خلاف على المذهب.

فرع وجود المطيع بلا علم المطاع

وإن كان أخا له، أو ابن أخ، ومن أشبههما من العصبات، أو أجنبيا عنه ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه الحج بطاعته؛ لأن الحج إنما وجب عليه بطاعة الولد؛ لأن ماله كماله؛ بدليل: أن نفقته تجب عليه، ولا يقطع بسرقة ماله، وغير ذلك من الأحكام، وهذا لا يوجد لغير الابن. والثاني: يجب عليه، وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي أطلق ذلك، ولأنه واجد لمن يطيعه في الحج، فأشبه الولد. [فرع وجود المطيع بلا علم المطاع] وإن كان له من يطيعه، وهو لا يعلم به.. فذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أن ذلك بمنزلة أن يكون له مال لا يعلم به، بأن يموت مورثه. ولم يذكر حكمه. قال ابن الصباغ، والطبري في " العدة ": يجري ذلك مجرى من نسي الماء في رحله وتيمم وصلى.. هل يسقط عنه الفرض؟ فيه قولان. [فرع استئذان المطيع] ] : وإذا كان له من يطيعه.. فإنه يجب على المطاع أن يأمره بالحج، وإن استأذنه المطيع بالحج عنه.. وجب عليه أن يأذن له. فإن حج عنه بغير إذنه.. لم يجزه. وإن استأذنه، فلم يأذن له.. فإن الحاكم يأمره بأن يأذن له، فإن لم يفعل، وأقام على الامتناع.. فهل يجوز للحاكم أن يأذن للمطيع بالحج عن المطاع؟ فيه وجهان:

فرع رجوع الباذل ببذله

أحدهما: يجوز للحاكم أن يأذن للمطيع، فإذا حج عن المطاع.. وقع عنه، كما إذا كان عليه زكاة أو دين، وامتنع من أدائه.. فإن الحاكم ينوب عنه في ذلك. والثاني: لا يجوز إذن الحاكم بذلك، وهو الصحيح؛ لأن الحج عن الغير بغير إذنه لا يجوز، فلو جوزنا إذن الحاكم في ذلك.. لوقع الحج عنه بغير إذنه مع إمكانه، فلم يجز، ويخالف الزكاة والدين؛ لأن ذلك يتعلق به حق الآدمي، بخلاف الحج عنه. وإن كان للمعضوب مال، ولم يستأجر من يحج عنه.. فقال البغداديون من أصحابنا: لا ينوب عنه الحاكم في الاستئجار وجها واحدا. والفرق بينه وبين الإذن للمطيع: أن له غرضا في تأخير الاستئجار، بأن ينتفع بماله. وأما المسعودي [في " الإبانة " ق 173] : فحكى فيه وجهين: أحدهما: هذا؛ لأن الحج لا يستأجر عنه؛ لأنه على التراخي. والثاني: يستأجر عنه، قال: وهو الأصح؛ لأن الحج إنما يكون على التراخي في الصحة، فأما إذا زمن.. فقد يضيق وقته، فلم يكن له التأخير. [فرع رجوع الباذل ببذله] وهل يجوز للباذل الرجوع عنه بعد البذل؟ ينظر فيه: فإن كان قد أحرم عن المبذول عنه.. لم يجز له الرجوع؛ لأن الحج يلزم بالشروع فيه. وإن كان لم يحرم عنه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له الرجوع؛ لأنه قد لزم المبذول له الحج ببذله، فلزم الباذل. والثاني: يجوز له الرجوع، وهو الصحيح؛ لأنه لا يجب عليه البذل، فلم يلزمه بالبذل حكم. [فرع وجوب الحج على المطاع بيسار ولده أو ببذل الأجنبي] ] : فإن كان الولد المطيع معضوبا، لا يقدر على الحج عن والده بنفسه، ولكن له مال يمكنه أن يستأجر به من يحج عنه، وبذل له ذلك.. فذكر الشيخ أبو حامد،

مسألة الحج على التراخي

والمحاملي، وابن الصباغ في " التعليق " و " المجموع " و " الشامل ": أنه يجب الحج على المبذول له بذلك وجها واحدا؛ لأنا قد أقمنا المطيع مقام المطاع، وقد ثبت أن اليسار الذي في المطيع لو كان في المطاع.. لوجب عليه الحج به، فكذلك إذا كان فيمن أقمناه مقامه.. وجب عليه الحج بذلك. فأما إذا بذل الولد لوالده المال ليستأجر هو به عن نفسه من يحج عنه، أو كان الوالد صحيحا معسرا فبذل له الولد المال ليحج عن نفسه.. ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه الحج بذلك، كما يلزمه الحج إذا بذل الحج لا بنفسه. والثاني: لا يلزمه، وهو الصحيح؛ لأنه لا يصير قادرا على الحج إلا بعد تملك المال، وتملك المال اكتساب، والاكتساب لا يجب عليه. والفرق بينه وبين بذل الحج بالبدن: أن الإنسان لا يلحقه كثير منة بعمل البدن، وتلحقه المنة العظيمة بقبول قليل المال. وأما إذا بذل له الأجنبي المال؛ ليستأجر به عن نفسه، أو يحج به عن نفسه.. قال صاحب " الفروع ": فإن قلنا في الولد: لا يلزمه.. ففي الأجنبي أولى أن لا يلزمه. وإن قلنا: يلزمه ببذل الولد له ذلك.. ففي الأجنبي وجهان، الصحيح: أنه لا يلزمه؛ لأن مال ولده كماله في النفقة وغيرها، بخلاف مال الأجنبي. [مسألة الحج على التراخي] ] : إذا وجدت شرائط وجوب الحج.. وجب عليه الحج، ويجوز له أداؤه على التراخي. والمستحب له: أن يقدمه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] [البقرة: 148] .

هذا مذهبنا، وبه قال الأوزاعي، والثوري، ومحمد بن الحسن. وقال أبو يوسف: الحج يجب على الفور، فمتى أخر الحج عن أول سنة يمكنه الحج فيها.. أثم، وبه قال مالك، وأحمد، والمزني، وكان الكرخي يقول: هو مذهب أبي حنيفة. وليس بمشهور عنه. واحتجوا بقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من وجد من الزاد والراحلة ما يبلغه الحج، فلم يحج.. فليمت: إن شاء يهوديا، أو نصرانيا» ، فلو كان على التراخي.. لما توعده. دليلنا: ما روي: أن فريضة الحج أنزلت سنة ست من الهجرة، وحكى الطبري وجها آخر: أنه كان واجبا قبل الهجرة، وليس بشيء. وبالإجماع: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لم يحج إلا سنة عشر من الهجرة ومعه مياسير الصحابة، مثل: عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهما، فلو كان الحج على الفور.. لما جاز لهم التأخير مع إمكانه. فإن قيل: إنما أخره النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ إلى سنة عشر؛ لأن المشركين صدوه عن المسجد الحرام، أو كان غير واجد للزاد والراحلة إلى سنة عشر. فالجواب: أن هذا غلط؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أحصر بالحديبية سنة ست، وفيها نزل قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] فخرج إليه سهيل بن عمرو، وصالحه على: أن يرجع إلى المدينة تلك السنة، ثم يرجع إلى مكة العام المقبل، فرجع إلى المدينة، ثم دخل مكة في العام المقبل معتمرا، ولهذا سميت عمرة القضاء، وقد كان يمكنه أن يجعل بدل العمرة الحج.

وأيضا: فإنه قد فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وصارت دار الإسلام وقد بقي بينه وبين الحج مدة قريبة، ولا يكاد يعدم النفقة لتلك المدة، فلم يقم بمكة، بل أمر عليها عتاب بن أسيد، ورجع إلى المدينة، وأمر أبا بكر على الحج سنة تسع، وأردفه بعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وسار بعد ذلك إلى قتال هوازن، فلما فرغ منهم اعتمر من الجعرانة، وقد كان بقي بينه وبين الحج عشرون يوما، فلم يقف بل رجع إلى المدينة، ولم يكن عادما للزاد، لأنه روي: «أنه أهدى في عمرته سبعين

بدنة» فلما كان سنة عشر، حج من المدينة، وحج معه مياسير الصحابة، فدل على: أن الحج على التراخي. وأما الخبر الذي احتجوا به: فلا يدل على أن الحج على الفور؛ لأن من وجد الزاد والراحلة فلم يحج حتى مات.. فهو متوعد، ونحن نقول: إنه يأثم. ولأن التعلق بظاهر الخبر لا يمكن؛ لأنه يقتضي: أن من وجب عليه الحج، وأمكنه الحج، فلم يفعل حتى مات.. إن موته كموت اليهودي والنصراني، ولا يقول بهذا أحد؛ لأن الإنسان لا يكفر بترك الحج، فعلم: أن المراد بالخبر إذا تركه ولم يعتقد وجوبه.. فإنه يموت إن شاء يهوديا أو نصرانيا. إذا ثبت ما ذكرناه: ووجب عليه الحج، فلم يحج حتى مات.. فهل يأثم بذلك؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها ـ حكاه القفال ـ: أنه لا يأثم بذلك؟ لأنا جاوزنا التأخير، فلم يفعل شيئا محظورا. والثاني ـ حكاه ابن الصباغ: إن خاف الكبر والفقر والضعف، فلم يحج حتى مات.. أثم بذلك. وإن اخترمته المنية قبل خوف الفوات.. لم يأثم؛ لأنه لا يمتنع أن يعلق الحكم على غلبة ظنه، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] [البقرة: 180] . وأراد: إذا غلب على ظنه. والثالث ـ وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه يأثم؛ لأنه إنما جاوزنا له التأخير بشرط السلامة، كما جوز للمعلم ضرب الصبي، وللزوج ضرب زوجته بشرط السلامة، فأما إذا أفضى ضربهما إلى التلف.. وجب عليهما الضمان، فكذلك هذا مثله.

مسألة الحج عن الميت

فإذا قلنا بهذا: فمتى يأثم؟ فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه يأثم بتأخيره عن السنة الأخيرة التي فاته الحج بتأخيره عنها؛ لأن الفوات حصل بها. والثاني: يأثم بتأخيره عن السنة الأولى؛ لأنه إنما جوز له التأخير عنها، بشرط أن يفعله بعدها، فإذا لم يفعل.. تبين أنه أثم بتأخيره عنها. والثالث: أنه يأثم لا في وقت بعينه، وإنما يحكم عليه بالموت قبل الحج بالإثم. والرابع: أنه يأثم من حين تبين في نفسه الضعف والكبر؛ لأنه كان من سبيله أن يحج قبل ذلك. فأما إذا دخل عليه وقت الصلاة، وتمكن من فعلها، فلم يصل حتى مات.. فهل يكون عاصيا؟ إن قلنا: لا يكون عاصيا في الحج.. ففي الصلاة أولى أن لا يكون عاصيا. وإن قلنا: يكون عاصيا في الحج.. ففي الصلاة وجهان. والفرق بينهما: أن لوقت الصلاة آخرا معلوما، فلا يكون عاصيا مفرطا بالتأخير إليه، وليس لوقت الحج آخر معلوم؛ لأن آخر وقته العمر، وذلك غير معلوم، فكان من سبيله التعجيل، فإذا لم يفعل.. كان عاصيا. [مسألة الحج عن الميت] ) : إذا وجدت في الإنسان الشرائط التي يجب عليه بها الحج، فمات قبل أن يتمكن من الأداء.. لم يجب عليه القضاء. وحكى الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أن أبا يحيى البلخي قال: يجب القضاء من ماله. وليس بشيء؛ لأنه مات قبل أن يتمكن من أدائه، فلم يجب عليه القضاء، كما لو هلك المال بعد الحول، وقبل التمكن من أداء الزكاة

فإن وجدت فيه الشرائط، وتمكن من فعل الحج، فمات.. لم يسقط عنه الحج، وروي ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة. وقال مالك وأبو حنيفة: (يسقط عنه بموته، ولا يجوز الحج عنه، إلا إذا أوصى، ويكون تطوعا) . دليلنا: «أن المرأة الخثعمية قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: " نعم "، قالت: أو ينفعه ذلك؟ قال: نعم، كما لو كان على أبيك دين، فقضيته.. نفعه» ، فأذن لها بالحج عن أبيها، ولم يسأل عنه: أحي هو أم ميت؟ ولم يفرق بين أن يوصي أو لم يوص، ولأنه شبهه بقضاء الدين، وقضاء الدين يجوز بعد الموت بغير وصية، فكذلك الحج. «وروى ابن عباس: أن امرأة سألته أن يسأل لها رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أن أمها ماتت ولم تحج، فهل يجزئها أن تحج عنها؟ فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: لو كان على أمها دين فقضته عنها.. أما كان يجزئ عنها؟»

مسألة النيابة في الحج

ولأنه حق تدخله النيابة، استقر وجوبه في حال الحياة، فلم يسقط بالموت، كالدين. فقولنا: (تدخله النيابة) احتراز من الصلاة والصوم. وقولنا: (استقر وجوبه في حال الحياة) احتراز منه إذا مات قبل أن يتمكن منه، ومن مال الكتابة؛ لأنه يسقط بموت المكاتب. إذا ثبت هذا: فإن كان له مال.. قضي عنه من رأس المال، وذكر الشافعي في موضع: (أنه لو قيل: إن أوصى بحج.. حج له من الثلث، وإن لم يوص.. لم يحج) . قال صاحب " الإبانة " [ق\ 174] فمن أصحابنا من جعل هذا قولا آخر. ومنهم من قال: يحج عنه من رأس المال قولا واحدا، وهو الصحيح. وحيث قال: (يحج عنه من ثلثه) إنما قاله حكاية لمذهب أبي حنيفة؛ لأنه مذهبه. وإن اجتمع الحج والدين، وضاقت التركة عنهما.. ففيه ثلاثة أقوال، ذكرناها في الزكاة. وإن لم يكن له مال.. لم يجب على وارثه أن يحج عنه، فإن تطوع عنه وارثه جاز، ويكون بالخيار: بين أن يحج عن نفسه بنفسه، أو يستأجر من يحج عنه من ماله، وإذا فعل ذلك.. سقط الفرض عنه، ولا يفتقر إلى إذنه؛ لأنه خرج عن أن يكون من أهل الإذن. [مسألة النيابة في الحج] ] : الحج تدخله النيابة، ويقع الحج عن المحجوج عنه، وهي رواية الأصول عن أبي حنيفة.

فرع مواضع الإنابة في الحج

وروي عنه رواية شاذة، رواها عنه محمد: أن الحج لا يدخله النيابة، وإذا استناب.. وقع الحج عن الحاج، وللمحجوج عنه أجر النفقة. دليلنا: ما ذكرناه من خبر الخثعمية، وخبر ابن عباس، ولأنها عبادة تدخلها الاستنابة، فدخلتها النيابة، كالزكاة. والمراد بقولنا: (الاستنابة) : هو أنه يلزمه أن يدفع المال إلى من يحج عنه. إذا ثبت هذا: فيجوز للرجل أن يحج عن الرجل والمرأة، ويجوز للمرأة أن تحج عن الرجل والمرأة. وقال الحسن بن صالح: يكره أن تحج المرأة عن الرجل. دليلنا: ما ذكرناه من حديث الخثعمية. [فرع مواضع الإنابة في الحج] ] : ويجوز النيابة في حج الفرض في موضعين: أحدهما: في حق الميت: لحديث ابن عباس الذي تقدم. والثاني: في حق من لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة شديدة؛ لما ذكرناه من حديث الخثعمية. فأما إذا أراد الصحيح أن يستأجر من يحج عنه حجا واجبا أو تطوعا، أو أراد إنسان أن يحج عن المعضوب بغير إذنه، أو أراد إنسان أن يحج عن الميت حجا ليس بواجب عليه ولم يوص به.. قال الشيخ أبو حامد: فلا يختلف المذهب: أنه لا يجوز النيابة في هذه المسائل. وقال أبو حنيفة وأحمد: (يجوز للصحيح القادر أن يستنيب في حج التطوع) . دليلنا: أنه قادر على أداء الحج بنفسه، فلم تجزه الاستنابة فيه، كالفرض.

فإذا أراد المعضوب أن يستأجر من يحج عنه تطوعا، أو أوصى الميت أن يحج عنه تطوعا.. فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز، وهو قول أبي حنيفة ومالك، واختيار الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق؛ لأن كل عبادة دخلت النيابة في فرضها.. دخلت النيابة في نفلها، كالزكاة، وعكسه الصلاة والصوم. والثاني: لا يجوز، وهو اختيار المحاملي؛ لأنه من عبادة البدن، وإنما دخلت النيابة في الفرض منه لموضع الضرورة، ولا ضرورة إلى التطوع. ودليل هذا القول: ينكسر بالتيمم. إذا ثبت هذا: فإن قلنا: تجوز النيابة في حج التطوع.. جاز للمعضوب أن يستأجر من يحج عنه حجتين وثلاثا وأكثر، وكذلك تجوز الوصية بحجتين وثلاث وأكثر، ويستحق الأجير الأجرة المسماة. وإن قلنا: لا تجوز النيابة في حج التطوع، فخالف المعضوب واستأجر من يحج عنه أو أوصى بذلك، وحج الأجير عنه.. كانت الإجارة فاسدة، ووقع الحج عن الأجير، ولا يستحق الأجير المسمى قولا واحدا، وهل يستحق أجرة المثل؟ فيه قولان: أحدهما: لا يستحق ذلك؛ لأن الإحرام انعقد له، فلم يستحق أجرة، كما لو استأجر صرورة. والثاني: يستحق أجرة المثل؛ لأنه لم يبذل له منافعه إلا بعوض يحصل له، وقد تلفت عليه تلك المنافع؛ لأنه لم يحصل له بالحج فائدة؛ لأن فرضه لم يسقط به، فاستحق أجره، ولا يحصل له ثواب؛ لأن الثواب إنما يكون على القصد، ولم

فرع استحقاق الأجير أجره بصرفه الإحرام لنفسه

يقصد التطوع عن نفسه، فاستحق أجرة المثل، كما لو غصب من رجل شيئا، واستأجر من ينقله من مكان إلى مكان.. فإن الناقل يستحق عليه الأجرة، ويخالف الصرورة؛ فإن الفرض يسقط عنه، فحصل له الثواب. [فرع استحقاق الأجير أجره بصرفه الإحرام لنفسه] ] : إذا أحرم الأجير عن المستأجر في موضع يصح إحرامه عنه فيه، ثم بعد ذلك صرف الأجير الإحرام إلى نفسه، وأتى بالأفعال معتقدا أنها عن نفسه.. لم ينصرف إليه؛ لأن الإحرام إذا انعقد عن شخص.. لم ينتقل إلى غيره، وهل يستحق الأجرة؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: لا أجرة له؛ لأنه قد اعتقد أن الأفعال لنفسه، فلم يستحق أجرتها على غيره. والثاني: يستحق الأجرة، وهو الصحيح؛ لأن النسك حصل للمحجوج عنه، ولا تأثير لما اعتقده الأجير، كما لو استأجره لبناء، فبناه معتقدا أنه لنفسه. [فرع استنابة المريض] وأما المرض: فضربان: ضرب: خفيف لا يخشى منه التلف، كالصداع، ووجع العين والضرس، وما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز أن يحج الغير عنه فيه بلا خلاف؛ لأنه متمكن منه بنفسه. و [الضرب الثاني] : إن كان المرض مخوفا، فإن كان غير ميؤس من برئه.. لم يجز له أن يستنيب الغير، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (يجوز) . دليلنا: أنه غير ميؤس من حجه بنفسه، فلا يجوز له الاستنابة، كالفقير.

إذا ثبت هذا: فإن خالف، فاستناب عن نفسه من حج عنه.. نظرت: فإن برئ من مرضه.. وجب عليه إعادة الحج بنفسه؛ لأن الأول لم يقع عنه. وإن مات من ذلك المرض أو صار ميؤسا منه.. فهل يجزئه؟ فيه قولان: أحدهما: يجزئه لأنا تبينا أن المريض كان ميؤسا منه، حيث اتصل به الموت. والثاني: لا يجزئه؛ لأنه استناب وهو غير ميؤس منه، فأشبه إذا برئ. فأما إذا كان ميؤسا من برئه.. جاز له أن يستنيب. فإن حج عنه.. نظرت: فإن مات.. فقد أجزأه. وإن برئ من مرضه.. ففيه طريقان: [الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان كالأولى: [أحدهما] إن قلنا ثَمَّ: يجزئه اعتبارا بما آل إليه.. لم يجزئه هاهنا؛ لأنه آل إلى الصحة. و [الثاني] : إن قلنا ثَمَّ: لا يجزئه اعتبارا بحال الاستنابة.. فهاهنا يجزئه؛ لأن حال الاستنابة كان محكوما بإياس البرء منه. [والطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يجزئه قولا واحدا؛ لأنا تبينا أنه لم يكن ميؤسا منه، وإنما أخطأنا في ظننا، فيجب عليه أن يحج بنفسه. فكل موضع قلنا: يصح الحج عن المريض.. استحق الأجير الأجرة المسماة. وكل موضع قلنا: لا يقع الحج عن المريض.. فقد وقع عن الأجير، ولم يستحق الأجرة المسماة، وهل يستحق أجرة المثل؟ فيه قولان، كما قلنا في الأجير، إذا صرف الإحرام إلى نفسه.

فرع الاستنابة عن المجنون

[فرع الاستنابة عن المجنون] ] : الجنون غَيْر ميؤس من زواله، فإذا وجب عليه الحج، ثم جن.. لم يجز أن يستنيب من يحج عنه. قال ابن الصباغ: فإذا استنيب عنه في حال جنونه من يحج عنه، ثم أفاق.. لزمته الإعادة قولا واحدا. فإن مات فيه.. فينبغي أن يكون على القولين، مثل التي قبلها. [مسألة الاستنابة لمن عليه الحج] لا يجوز لمن عليه حجة الإسلام، أو حجة نذر أو قضاء أن يحج عن غيره، وكذلك في العمرة. فإن أحرم عن غيره.. وقع الحج عن الحاج، لا عن المحجوج عنه، وبه قال ابن عباس، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وعن أحمد رواية أخرى: (أنه لا ينعقد عنه، ولا عن غيره) . وقال مالك وأبو حنيفة: (يجوز أن يحج عن غيره، وعليه فرض الحج، أو نذره أو قضاؤه) . وقال الثوري: إن كان قادرا على الحج عن نفسه.. لم يجز أن يحج عن غيره، وإن كان غير قادر لعدم الزاد والراحلة. جاز أن يحج عن غيره. دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلا يلبي عن شبرمة، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " ومن شبرمة؟ " قال: أخ لي، أو قريب لي، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " أحججت عن نفسك؟ " فقال: لا، قال: فحج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة»

ومعنى قوله: «حج عن نفسك» أي: استدم هذا الحج عن نفسك؛ لأن المتلبس بالشيء إذا خوطب بفعله.. فمعناه الاستدامة له، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء: 136] [النساء: 136] أي استديموا الإيمان. وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] [الأحزاب: 1] وأراد استدام التقى؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يفارقه التقى. وقد روي عنه: أنه قال له: «هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة،» وهذا نص. ولأن الإحرام ركن من أركان الحج، فلم يقع فعله عن غيره وعليه فرضه، كطواف الزيارة. ولا يجوز أن يحج العبد عن غيره وإن كان بإذن سيده؛ لأنه لم يحج عن نفسه حجة الإسلام، فلم يصح أن يحج عن غيره، كالصبي والكافر.

فرع إحرام التطوع والنذر لمن عليه حجة الإسلام

[فرع إحرام التطوع والنذر لمن عليه حجة الإسلام] وحكم تسمية الصرورة] : ولا يجوز أن يحرم بتطوع الحج والعمرة وعليه فرضهما، وكذلك لا يجوز أن يحرم بهما عن النذر وعليه فرضهما. فإن أحرم عن النذر، أو عن التطوع وعليه حجة الإسلام.. انصرف إلى فرض حجة الإسلام. وقال مالك وأبو حنيفة: (يجوز أن يتطوع بالحج والعمرة وعليه فرضهما، وكذلك يأتي بالنذر عنهما وعليه فرضهما) . دليلنا: أنه أحرم بالحج وعليه فرضه، فوقع عن الفرض، كما لو أحرم مطلقا. فإن أمر المعضوب من يحج عنه عن التطوع، أو عن النذر، وعليه فرضه.. انعقد عن الفرض؛ لأنه قائم مقامه، وحكمه في نفسه هكذا، فكذلك من يقوم مقامه. قال الشافعي: (وأكره أن يسمى من لم يحج صرورة) ؛ لما روى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال «لا صرورة في الإسلام» وقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المسلم ليس بصرورة» . والكراهية كراهية تنزيه لا تحريم، و (الصرورة) ـ عند العرب ـ: من لم يحج، أومن لم يتزوج، قال النابغة: لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة المتعبد لرنا لبهجتها وحسن حديثها ... ولخاله رشدا وإن لم يرشد

مسألة الاستنابة لحجتين في عام واحد

[مسألة الاستنابة لحجتين في عام واحد] ] : إذا كان على المعضوب حجتان: حجة الإسلام، وحجة نذر، فأحرم عنه رجلان بإذنه، في سنة واحدة.. ففيه وجهان: أحدهما: يجرئه عن حجة الإسلام دون حجة النذر؛ لأنه لا يجوز أن يحج عن نفسه في سنة واحدة حجتين، فكذلك من يقوم مقامه عنه. والثاني: يجزئه عنهما، وهو المنصوص؛ لأنه لا يؤدي إلى وقوع المنذورة قبل حجة الإسلام، بل يقعان معًا. [مسألة وجوب الحج في أشهره] ولا يجوز الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج، وروي ذلك عن ابن عباس، وجابر.

وقال مالك، والثوري، وأبو حنيفة: (يصح إحرامه بالحج، ولكن لا يأتي بشيء، من الأفعال قبل أشهر الحج) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] . وتقدير الآية: وقت إحرام الحج أشهر، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، ولا يجوز أن يكون تقديرها: وقت أفعال الحج أشهر؛ لأن أفعال الحج تقع في يومين أو ثلاثة، فلا تفتقر إلى الأشهر. ولأن الله تعالى قال: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] و (الفرض) : هو النية، فثبت أنه: أراد الإحرام. ولأن الحج عبادة أفعالها مؤقتة، فكان الإحرام به مؤقتا، كالصلاة. ولأن الإحرام ركن من أركان الحج، فكان مؤقتا، كالوقوف والطواف. إذا ثبت هذا: فأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، وبه قال ابن الزبير، وابن مسعود، وإحدى الروايتين عن علي وابن عباس.

فرع الإحرام بالحج في غير وقته

وقال أبو حنيفة: (أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، ويوم النحر) ، فخالفنا في يوم النحر. وقال مالك: (أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وجميع ذي الحجة) وهو قول الشافعي في " الإملاء "، والرواية الأخرى عن علي وابن عباس. والصحيح هو الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] . و (الرفث) : الجماع، والمحرم بالحج يحل له الجماع يوم النحر: لأنه يمكنه أن يطوف ويسعى، ثم يجامع فيه، فثبت أنه: ليس من أشهر الحج؛ ولأن يوم النحر يوم يسن فيه الرمي، فلم يكن من أشهر الحج، كأيام التشريق. وهذا على أبي حنيفة. وعلى مالك: أن أيام ذي الحجة زمان لو اعتمر فيه مضافا إلى حجه.. لم يكن متمتعا، فلم يكن من أشهر الحج، كأيام رمضان، وعكسه: ما قبل يوم النحر. فإن قيل: الأشهر جمع، وأقل الجمع ثلاثة؟ فالجواب: أنه قد يعبر بالجمع عن الاثنين وبعض الثالث، ألا ترى أن الناس يقولون في كتبهم: لثلاث خلون، والمراد به اثنان وبعض الثالثة. [فرع الإحرام بالحج في غير وقته] ] : فإن أحرم بالحج في غير أشهر الحج.. فالمشهور من المذهب - وهو نقل أصحابنا

البغداديين ـ: أن إحرامه ينعقد بعمرة. وحكى المسعودي [في " الإبانة "، ق \ 178 و 179] : أن الشافعي قال في القديم: (يتحلل من فاته الحج بعمل عمرة) . فمن أصحابنا من قال: المراد ـ بنصه هذا في القديم ـ: أن إحرامه لا ينعقد بحج ولا عمرة، ولكن يتحلل كما يتحلل من فاته الحج بعمل عمرة. ومنهم من قال: بل المراد به: إن شاء صرف إحرامه إلى عمرة. والصحيح: أنه ينعقد بعمرة. وقال مالك، والثوري، وأبو حنيفة، وأحمد: (ينعقد إحرامه بالحج، ولكن يكون مكروها) . دليلنا: أن الحج عبادة مؤقتة، فإذا أحرم به في غير وقته.. لم ينعقد إحرامه، وانعقد ما هو من جنسه، كما لو أحرم بالظهر قبل الزوال.. فإن إحرامه ينعقد بنافلة. ولا يصح له الإحرام في الحج في السنة إلا مرة واحدة؛ لأن الوقت يستغرق أفعاله.

مسألة الإحرام بالعمرة في جميع السنة

[مسألة الإحرام بالعمرة في جميع السنة] ] : وأما العمرة: فيجوز فعلها في جميع السنة، ولا يكره فعلها في وقت من السنة. وقال أبو حنيفة: (يكره فعلها في خمسة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق الثلاث) . وقال أبو يوسف: يكره فعلها يوم النحر، وأيام التشريق. دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» ولم يفرق، ولأن كل وقت لم يكره فيه استدامة العمرة.. لم يكره فيه ابتداؤها، كسائر الأوقات. [فرع تكرار العمرة في السنة] ويجوز أن يعتمر في السنة مرتين، وثلاثا، وأكثر. ويستحب الإكثار منها، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (لا يجوز في السنة إلا عمرة واحدة) . وبه قال النخعي، وابن سيرين. دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» ولم يفرق بين أن تكونا في سنة أو سنتين. وروي: «أن عائشة ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ» .

وروي عن علي: (أنه كان يعتمر في كل يوم) ، وعن ابن عمر: (أنه كان يعتمر في كل يوم من أيام ابن الزبير) ، ولأن الحج عبادة تتعين في السنة بوقت، فوجب أن تكون من جنس ما يفعل على التوالي والتكرار، كالصوم، ولأن العمرة إنما سميت عمرة؛ لأنها تفعل في جميع العمر. وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تفعل في موضع عامر. وقيل: لأن العمرة هي القصد في اللغة، وفيها قصد. ويستحب أن يكثر من العمرة في رمضان؛ لما روي: «أن أم معقل الأسدية قالت: يا رسول الله، إني أريد الحج وجملي أعجف، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: اعتمري في رمضان، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة»

فرع الشك في الإحرام بحج أو عمرة

[فرع الشك في الإحرام بحج أو عمرة] وإن أحرم قبل أشهر الحج، ثم شك: هل أحرم بحج أم بعمرة؟ حكم بإحرامه بعمرة، ولا شك فيها. وإن أحرم بالحج، ثم شك في أشهر الحج: هل كان إحرامه قبل أشهر الحج، أو في أشهر الحج؟ قال الصيمري: فهو في حج؛ لأنه على يقين من هذا الزمان، وفي شك من تقدمه. [مسألة التخيير في كيفية أداء الحج والعمرة] ومن أراد الحج والعمرة في سنة واحدة.. فهو بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين أن يفرد، أو يتمتع، أو يقرُِن؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «خرجنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ عام حجة الوداع، فمنا من أهل بالحج، ومنا من أهل بالعمرة، ومنا من أهل بالحج العمرة ... » .

إذا ثبت هذا: فالمشهور من المذهب: أن الإفراد والتمتع أفضل من القران، وفي الإفراد والتمتع قولان: أحدهما: أن الإفراد أفضل. والثاني: أن التمتع أفضل. وقال أبو حنيفة والثوري: (القران أفضل من الإفراد والتمتع) ، واختاره المزني، وأبو إسحاق المروزي، وابن المنذر. وحكى صاحب " الفروع ": أنه قول ثالث للشافعي، ذكره في " أحكام القرآن "، وإنما اختلف في ذلك، لاختلاف الرواية في أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قرن أو تمتع أو أفرد، فمن قال: إن القران أفضل.. احتج بما روى أنس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: لبيك بحجة وعمرة»

وكذلك رواه عمر بن الخطاب وعمران بن الحصين. وإذا قلنا: إن التمتع أفضل ـ وبه قال أحمد بن حنبل ـ فوجهه: ما روي عن علي، وابن عباس، وسعد بن أبي وقاص: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: تمتع بالحج» ، وروي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل على حفصة، فقالت: يا رسول الله، ما بال الناس حلوا من عمرتهم، ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر» .

وروى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت.. لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة» ، فتأسف على ترك التمتع، فعلم أنه أفضل، ولأنه أتى بالعبادتين في وقت شريف، وهو أشهر الحج، فكان أولى. وإذا قلنا: إن الإفراد أفضل.. فإنما نريد به: إذا أتى بالحج، ثم أتى بالعمرة بعده، فأما إذا أتى بالحج دون العمرة.. فالتمتع أفضل. وهذا هو الصحيح. ووجهه: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: خرجنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ في حجة الودع، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " من أراد أن يهل بالحج.. فليفعل، ومن أراد أن يهل بالعمرة.. فليفعل، ومن أراد أن يهل بالحج والعمرة.. فليفعل، وأما أنا: فأهل بالحج»

وروي: «أن رجلا سأل ابن عمر عن حج النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ؟ فقال: (أفرد الحج، ولم يقرن، ولم يتمتع) ثم سأله في العام الثاني؟ فقال: أليس قد سألتني في العام الأول، فأخبرتك؟ فقال: إن أنسا يقول: (إنه قد قرن بين الحج والعمرة) فقال ابن عمر (إن أنسا كان يتولج على النساء، وهن متكشفات لصغره لا يستترن منه، وأنا تحت ناقة النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يمسني لعابها، أسمعه يقول: " لبيك بحج» . وروى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أحرم إحراما موقوفا لا بحج ولا بعمرة، فلما كان بين الصفا والمروة.. انتظر القضاء، فنزل القضاء، وجعل إحرامه حجا) ، وفي بعض الروايات: (أمر بالحج» . وأما أخبار من روى: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان قارنا) ..» فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن من روى الإفراد أعرف بالقصة، وأكثر ضبطا لها؛ لأن عائشة

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زوج النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وهي معه في الليل والنهار، فهي أعرف بأموره، وابن عمر كان بالقرب منه، وتحت ناقته، وجابر بن عبد الله اهتم بنقل المناسك أكثر مما اهتم بها سواهُ، ولهذا وصف: أن إحرام النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان موقوفا، وأنه انتظر القضاء، وأنس كان صغيرا، كما قال ابن عمر. والجواب الثاني: أن نتأولها، فنقول: خبر أنس: أنه سمعه يقول: «لبيك بحجة وعمرة» أي: لبيك بحجة حين كان محرما بالحج، ولبيك بعمرة حين كان محرما بعمرة، فجمع بينهما في الرواية، وهذا كما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ نهى عن استقبال القبلتين» يعني: الكعبة وبيت المقدس، وأراد: أن ذلك كان في وقتين. وأما حديث علي وابن عباس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ تمتع بالحج» .. فنحمله على أنه تمتع بالطيب واللباس والحلاق والنساء بعد الفراغ من الحج وقبل العمرة؛ لأنه يسمى تمتعا. وأما حديث حفصة: فليس على ظاهره؛ لأن أصحاب النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لم يكونوا محرمين بالعمرة، وإنما كانوا محرمين بالحج، فكانوا يكرهون الاعتمار في أشهر الحج، فلما قدم النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ مكة.. أمر من لم يسق الهدي أن يفسخ إحرام الحج، ويتحلل منه بعمل عمرة، فقولها: «حلوا من عمرتهم» تريد: أنهم حلوا من حجتهم بعمل عمرة، وقولها: «وأنت لم تحل من عمرتك» أي: وأنت لم تحل من إحرامك بعمل عمرة. فقال: «لأني لبدت رأسي، وسقت الهدي، وإنما أمرت بفسخ الحج من لم يسق الهدي» ، ولهذا قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت.. لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة» ؛ لأن لا أكون في نسك، وهم في نسك غيره؛ لأن التمتع أفضل، ولأن الإفراد مجمع على إباحته، والتمتع والقران مختلف في إباحتهما. فروي عن عمر وعثمان: (أنهما كرها التمتع) ، وكره سلمان بن ربيعة،

مسألة معنى الإفراد والتمتع والقران وإدخال الحج على العمرة

وزيد بن صوحان القران، فكان ما أجمع عليه أولى من المختلف فيه. [مسألة معنى الإفراد والتمتع والقران وإدخال الحج على العمرة] و (الإفراد) : هو أن يحرم بالحج، وبعد التحلل منه يأتي بعمرة. و (التمتع) : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، وبعد التحلل منها يأتي بالحج في سنته. و (القران) : هو أن يحرم بحجة وعمرة معا. فإن أحرم بعمرة، ثم أدخل الحج في أشهر الحج قبل التلبس بالطواف ... صح ذلك، وكان قارنا؛ لما روي: «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أحرمت بالعمرة، فلما حصلت بسرف حاضت، فدخل عليها النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وهي تبكي، فقال لها النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فأهلي بالحج، واصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت ". وفي رواية أخرى: أنه قال لها: " ارفضي عمرتك، وأهلي

بالحج» ، والمراد بذلك: ارفضي أفعال عمرتك؛ لأن الحيض يمنعها من الطواف دون الإحرام. يدل على ذلك: أنه قال: «طوافك بالبيت، وسعيك بين الصفا والمروة.. يكفيك بحجك وعمرتك» . فأما إذا طاف للعمرة، أو أخذ في الطواف، وأراد أن يدخل عليها الحج.. لم يصح إحرامه بالحج، نص عليه الشافعي، واختلف أصحابنا في علته: فمنهم من قال: العلة فيه: أنه إذا طاف.. فقد أخذ في التحلل، وقرب أن يخرج من عمرته، وإنما يدخل عليها الحج ما دام زمنها تاما. ومنهم من قال: العلة فيه: أنه قد أتى بمعظم العمرة وأكثر أفعالها، فلم يجز إدخال نسك آخر عليها. وإن استلم الركن للطواف ولم يمش خطوة في الطواف.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري: أحدهما: يصح له الإحرام بالحج؛ لأن الاستلام مقدمة للطواف، وليس منه. والثاني: لا يصح؛ لأنه أول أبعاض الطواف.

فرع إدخال الحج على العمرة

[فرع إدخال الحج على العمرة] ] : وإن أحرم بالعمرة في أشهر الحج، أو في غير أشهر الحج، ثم أدخل عليها الحج في غير أشهر الحج.. لم يصر قارنا، وإنما يتعين إحرامه بالعمرة؛ لأن الإحرام بالحج في غير أشهر الحج لا يصح. وإن أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج، وأدخل عليها الحج في أشهر الحج قبل الطواف.. صح ذلك، وكان قارنا قولا واحدا؛ لأن إحرامه في كل واحد منهما في وقته صحيح. [فرع إدخال العمرة على الحج] ] : وإن أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة.. فهل يصح؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يصح ويكون قارنا) . وبه قال أبو حنيفة: لأنه أحد النسكين، فصح إدخال الآخر عليه، كالعمرة. [الثاني] : قال في الجديد: (لا يصح إحرامه بالعمرة) . وبه قال أحمد، وهو الصحيح؛ لأن الحج أقوى من العمرة؛ لأن فيه وقوفا ورميا، فلم يصح إدخال الأضعف عليه وإن صح دخوله على العمرة، كما أن الفراش بالنكاح، لما كان أقوى من الفراش بملك اليمين؛ لأنه يتعلق به أحكام كالطلاق والظهار والإيلاء.. صح أن يدخل فراش النكاح على فراش ملك اليمين، وهو إذا كان تحته أمة يطؤها بملك اليمين ثم تزوج أختها.. فإنه يصح النكاح، ويحرم عليه المملوكة، فإن كان عنده زوجة، ثم ملك أختها.. لم يجز له وطء المملوكة.

إذا ثبت هذا: فإن قلنا بالجديد.. فلا تفريع عليه، وإن قلنا بالقديم.. جاز إدخال العمرة على الحج قبل الوقوف بعرفة. وأما إذا وقف بعرفة، ولم يرم، ولم يطف.. فهل يصح إدخال العمرة هاهنا؟ فيه وجهان مبنيان على التعليلين في أنه لا يصح إدخال الحج على العمرة بعد الطواف: [أحدهما] : فإن قلنا هناك: لا يجوز؛ لأنه قد أتى بمعظم العمرة.. لم يجز هاهنا أيضا؛ لأنه قد أتى بمعظم الحج. و [الثاني] : إن قلنا هناك: لا يجوز؛ لأنه قد أخذ في التحلل.. جاز إدخال العمرة هاهنا على الحج؛ لأنه لا يأخذ في التحلل من الحج إلا بالرمي والطواف. قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز له أن يعتمر وقد بقي عليه شيء من أفعال الحج. فلا يصح له أن يعتمر يوم النحر، ولا في اليوم الأول من أيام التشريق؛ لأن عليه الرمي وهو من أفعال الحج. وأما في اليوم الثاني من أيام التشريق، فإن كان قبل الزوال.. لم يصح؛ لما ذكرناه. وأما بعد الزوال والرمي.. فينظر فيه: فإن نفر وخرج من منى قبل الغروب.. صح له أن يعتمر؛ لأنه بنفره قد سقط عنه رمي يوم الثالث، وإن لم ينفر حتى غابت الشمس.. لزمه رمي يوم الثالث، فلا يجوز له أن يعتمر حتى يرمي في اليوم الثالث.

فرع إدخال الحج على عمرة فاسدة

[فرع إدخال الحج على عمرة فاسدة] ] : وإن أحرم بالعمرة فأفسدها، ثم أدخل عليها الحج.. ففيه وجهان: أحدهما: ينعقد الحج، ويكون فاسدا؛ لأنه إدخال حج على عمرة، فأشبه إذا كانا صحيحين. والثاني: لا ينعقد الحج، وهو الصحيح؛ لأنه لا يجوز أن يقال: إن إحرامه بالحج يقع صحيحا؛ لأنه مقارن لفاسد، ولا يجوز أن يقال: إنه ينعقد ويكون فاسدا؛ لأنه لم يطرأ على إحرامه ما يفسده، ولا يفسد بالوطء قبله، فلم يبق إلا أن يقال: لا ينعقد أصلا. [مسألة جواز التمتع وشروط وجوب الدم] ] : قد ذكرنا أن التمتع جائز، وهو قول كافة أهل العلم، إلا ما روي عن عمر ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـ: (أنه كان ينهى عنه) ، فروي عنه: أنه قال: (متعتان كانتا على عهد رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أنا أنهى عنهما، بل أعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحج) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . فأباح التمتع، وأوجب فيه الهدي.

وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من أراد أن يهل بالحج.. فليفعل، ومن أراد أن يهل بالعمرة.. فليفعل، ومن أراد أن يهل بالحج والعمرة.. فليفعل» . وروي: «أن رجلا سأل ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بالشام: أيجوز التمتع؟ فقال: يجوز، فقال: إن أباك كان ينهى عنه، فقال: أرأيت لو فعل رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ شيئا، ونهى عنه أبي.. أكنت تأخذ بفعل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أو بنهي أبي؟ فقال: بل بفعل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: (تمتع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وتمتعنا معه» قال الشيخ أبو حامد: وما روي عن عمر، فله تأويلان: أحدهما: أنه كان ينهى عن التمتع الذي فعله أصحاب النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، وهو: أن يحرم بالحج، ثم يفسخه إلى عمرة؛ لأن ذلك كان خاصا لهم؛ لأنهم كانوا لا يرون جواز الاعتمار في أشهر الحج، ففسخ النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ حجهم إلى عمرة؛ ليبين لهم جواز الاعتمار في أشهر الحج. والثاني: أن عمر كان ينهى عن التمتع اختيارا منه للإفراد؛ لكي يزيل الإنسان شعره وشعثه في الحج لا في العمرة. إذا ثبت هذا: فإنه يجب على المتمتع دم؛ للآية، وإنما يجب عليه الدم بشروط: الشرط الأول: أن يعتمر في أشهر الحج فإن اعتمر في غير أشهر الحج، ثم حج في أشهره.. لم يلزمه الدم.

وقال طاووس: بل يلزمه الدم. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . فأقام (إِلَى) مقام (في) ؛ لأن حروف الصفات ينوب بعضها مناب بعض، وهذا يقتضي: أن يأتي بالعمرة في أشهر الحج. ولأنه لم يأت بالعمرة في أشهر الحج. فلم يجب عليه الدم، كالمفرد. فإن أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج، وأتى بأفعالها في أشهر الحج ... ففيه قولان: أحدهما: لا دم عليه، وهو قول قتادة، وأحمد، وإسحاق، وروي ذلك عن جابر؛ لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج، فهو كما لو فرغ من العمرة قبل أشهر الحج. والثاني: عليه الدم، وهو قول الحسن، والحكم، وابن شبرمة؛ لأنه أتى بأفعالها في أشهر الحج، فهو كما لو أحرم بها في أشهر الحج. فإن طاف للعمرة في غير أشهر الحج.. قال الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: لا يجب عليه الدم قولا واحدا. وقال القفال: إذا أتى بالحلاق في أشهر الحج وحده، وقلنا: إنه نسك، وأتى بباقي أفعالها في غير أشهر الحج.. فهل يكون متمتعا؟ فيه قولان، كما لو أحرم بها

في غير أشهر الحج، وأتى بباقي أفعالها في أشهر الحج. وهذا يوافق قول مالك، وعطاء، والحسن. دليلنا عليهم: أنه أتى بأفعال العمرة في غير أشهر الحج، فهو كما لو تحلل منها في غير أشهر الحج. فإذا قلنا: يجب عليه الدم.. فلا كلام. وإن قلنا: لا يجب عليه الدم.. فقال أبو العباس بن سريج: إنما لا يجب عليه الدم، إذا مر بالميقات قبل أشهر الحج، فأما إذا مر بالميقات في أشهر الحج.. لزمه الدم؛ لأنه مر بالميقات في أشهر الحج، وهو مريد للحج. والشرط الثاني: أن يحج من سنته، وهل يشترط أن يجمع بين الحج والعمرة في شهر واحد؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال عامة أصحابنا: لا يشترط. و [الثاني] : قال أحمد وأبو علي بن خيران: (يشترط) . فأما إذا اعتمر في سنة، ثم حج في عام آخر.. لم يجب عليه الدم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . ولأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج، فلم يلزمه الدم، كالمفرد. والشرط الثالث: أن لا يعود لإحرام الحج إلى ميقات بلده، فإن عاد إلى ميقات

فرع إحرام المتمتع والتعريف بحاضري المسجد الحرام

بلده، وأحرم منه بالحج.. لم يجب عليه الدم؛ لأنه إنما وجب عليه الدم لأجل ترك الميقات للحج، وهذا لم يتركه. قال الطبري: وهكذا لو لم يرجع إلى ميقات بلده الذي مر به، لكن رجع إلى مثل تلك المسافة من ناحية أخرى، وأحرم بالحج منها.. لم يجب عليه الدم. وذكر صاحب " الإبانة " (ق\187) : أنه إذا سافر بعد عمرته سفرا تقصر فيه الصلاة، ثم حج من سنته.. أنه لا دم عليه. فعلى قياس ما ذكره الطبري، وصاحب " الإبانة ": إذا أحرم الأفقي بالعمرة في أشهر الحج من ميقات بلده، وتحلل منها، ثم خرج إلى مدينة رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأحرم بالحج من ذي الحليفة، ثم حج من سنته.. فإنه لا يجب عليه دم التمتع. قال ابن الصباغ: ذكر الشيخ أبو حامد: أن الشافعي قال في القديم: (إذا مر بالميقات، ولم يحرم بالعمرة منه حتى صار بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فأحرم بالعمرة من هناك.. لم يلزمه دم التمتع) ؛ لأنه صار من حاضري المسجد الحرام، وإنما يجب عليه دم لترك الميقات. [فرع إحرام المتمتع والتعريف بحاضري المسجد الحرام] فرع: [إحرام المتمتع من مكة أو من خارجها والتعريف بحاضري المسجد الحرام] : إذا لم يرد المتمتع العود إلى ميقات بلده.. فإنه يحرم بالحج من مكة، وفي موضع استحباب الإحرام منها قولان، حكاهما في " العدة ":

أحدهما: أن الأفضل أن يطوف بالبيت سبعا، ثم يصلي ركعتي الطواف، ثم يحرم. والثاني: أن الأفضل أن يحرم من جوف منزله، ثم يطوف بالبيت بعد ذلك محرما. فإن أحرم بالحج من مكة، ثم رجع إلى ميقات بلده محرما بالحج قبل التلبس بشيء من أفعال الحج.. فهل يسقط عنه دم التمتع؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط؛ لأنه مر بالميقات محرما بالحج قبل الوقوف، فهو كما لو أحرم منه. والثاني: لا يسقط، وبه قال مالك؛ لأن له ميقاتين يجب عليه الدم بالإحرام من أحدهما فإن أحرم منه.. لم يسقط عنه الدم بالعود إلى الآخر، كما لو عاد بعد الوقوف. وقال أبو حنيفة: (لا يسقط عنه الدم حتى يعود إلى بلده) . دليلنا: أن بلده موضع لا يجب عليه الإحرام منه بابتداء الشرع، فلا يسقط عنه الدم بالعود إليه، كسائر البلاد. وإن خرج من مكة إلى الحل، وأحرم بالحج من هنالك.. فقد ترك ميقاته، فإن عاد إلى مكة محرما قبل الوقوف.. كان كما لو أحرم من مكة. وإن مضى إلى عرفات قبل أن يعود إلى مكة.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال عامة أصحابنا: يجب عليه دمان: دم التمتع، ودم لترك الإحرام من مكة.

و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لا يجب عليه إلا دم واحد؛ لأن دم التمتع إنما وجب لترك الإحرام بالحج من ميقات بلده، ولا فرق بين أن يترك من الميقات مسافة قليلة أو كثيرة، فإنه لا يجب عليه إلا دم واحد. وإن أحرم بالحج من موضع من الحرم خارج مكة، ولم يعد إلى مكة قبل الوقوف.. فهل هو كمن أحرم من مكة؟ قال ابن الصباغ: من أصحابنا من قال: فيه قولان، ومنهم من قال: فيه وجهان: أحدهما: أنه كمن أحرم من مكة؛ لأن مكة والحرم في الحرمة سواء، كما نقول في ذبح الهدي، وتحريم الصيد والشجر. والثاني: أنه كمن أحرم من الحل؛ لأن مكة صارت ميقاتا له، فهو كمن لزمه الإحرام من قرية، فخرج عنها وأحرم. والشرط الرابع: أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . إذا ثبت هذا: في (حاضروا المسجد الحرام) : من كان بالحرم، أو كان في موضع بينه وبين الحرم مسافة لا تقصر فيها الصلاة. وقال ابن عباس: (حاضروا المسجد الحرام: من كان بالحرم خاصة لا غير) وبه قال مجاهد، والثوري.

وقال مالك: (حاضرو المسجد الحرام: أهل مكة، ومن كان بذي طوى لا غير) . وقال أبو حنيفة، ومكحول: (حاضرو المسجد الحرام: من كان داره دون الميقات) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . فكل موضع ذكر الله تعالى المسجد، فإنما أراد به الحرم كله لا المسجد بنفسه، وذلك كقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] [الإسراء: 1] ، وأراد به بيت خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وقَوْله تَعَالَى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح: 25] [الفتح: 25] وأراد به الحرم. وقَوْله تَعَالَى في المشركين: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] [التوبة: 28] . ولا خلاف بين أهل العلم: أنه لا يجوز للمشرك دخول الحرم، وإذا كان كذلك.. فحاضرو الشيء من كان مجاورا له وبالقرب منه، بدليل أنه يقال: فلان بحضرة دار فلان، وإنما يراد به: أنه بالقرب منه، ويقال: فلان بحضرة الأمير، وإنما يراد: بالقرب منه.

مسألة تمتع وقران حاضري المسجد الحرام

[مسألة تمتع وقران حاضري المسجد الحرام] ] : فإن تمتع من كان من حاضري المسجد الحرام، أو قرن ... صح تمتعه وقرانه، ولكن لا يجب عليه دم، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (لا يصح منه تمتع ولا قران، فإن أحرم بهما.. ارتفضت عمرته، فإن أحرم بالحج بعدما فعل شوطا من الطواف للعمرة.. ارتفض حجه) في قول أبي حنيفة، و (ارتفضت عمرته) في قول أبي يوسف ومحمد، (فإن أحرم بعد ما أتى بأكثر الطواف.. مضى فيهما، ولزمه دم جبران) . دليلنا: أن من لا يكره له الإفراد.. لم يكره له التمتع والقران، كالأفقي. [فرع تمتع المكي من خارج مكة] ] : وإن خرج المكي إلى بعض الآفاق لحاجة، ثم رجع وأحرم بالعمرة منها، أو من ميقاتها في أشهر الحج، وحج من عامه.. لم يلزمه الدم. وقال طاووس: يلزمه الدم. دليلنا: أن من لا يلزمه الدم إذا تمتع من بلده.. لم يلزمه الدم وإن تمتع من غير بلده، كما لو لم يحج من سنته. وإن كان مولده ومنشؤه مكة، فانتقل عنها إلى غيرها، ثم عاد إلى مكة متمتعا أو قارنا ... لزمه الدم؛ لأنه خرج بالانتقال عن أن يكون من أهلها. وإن كان من غير حاضري المسجد الحرام، فخرج من بيته يقصد مكة متمتعا ناويا للمقام بمكة بعد فراغه من الحج، فتمتع أو قرن.. لم يسقط عنه الدم؛ لأنه لا يصير مقيما إلا بالنية والفعل.

فرع تعدد المنزل للمتمتع

فإذا استوطنها ثم تمتع بعد ذلك، أو قرن.. فلا دم عليه؛ لأنه صار من حاضري المسجد الحرام. [فرع تعدد المنزل للمتمتع] إذا كان للرجل منزلان، أحدهما من الحرم على مسافة تقتصر فيها الصلاة، والآخر منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فتمتع بالعمرة إلى الحج.. قال الشافعي: (فأحب إلي أن يهرق دما بكل حال، فإن أبى إلا ما يلزمه.. نظر في مقامه: في أي المنزلين أكثر؟ فيكون حكمه حكم ذلك المنزل، فإن استوى مقامه فيهما.. نظر إلى ماله: في أي المنزلين أكثر؟ فيكون الحكم له فإن استويا في ذلك.. نظر إلى بيته في الإقامة بعد فراغه من الحج، فيكون الحكم له) ، فإن استويا في ذلك.. قال أصحابنا: ينظر إلى الموضع الذي أنشأ منه العمرة، فيكون الحكم له. [فرع نية التمتع] وهل يشترط نية التمتع؟ فيه وجهان: أحدهما: أنها ليست بشرط؛ لأن الدم إنما وجب عليه لتركه الإحرام بالحج من

فرع العمرة بعد الحج أو القران من أدنى الحل لنفسه أو عن غيره

ميقات بلده، وهذا المعنى موجود وإن لم ينو التمتع. والثاني: أنها شرط في وجود الدم؛ لأنه جمع بين العبادتين في وقت إحداهما، فافتقرت إلى النية، كالجمع بين الصلاتين. فإذا قلنا بهذا: فهل من شرط هذه النية أن تكون عند الإحرام بالعمرة، أو يكفي أن ينوي ذلك في نية الجمع قبل الفراغ من أفعال العمرة؟ فيه وجهان، بناء على القولين في نية الجمع بين الصلاتين في وقت الأولى. وهل يشترط أن تكون العمرة والحج من شخص واحد؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال عامة أصحابنا: لا يشترط ذلك. و [الثاني] : قال الخضري: يشترط ذلك. والأول أصح. [فرع العمرة بعد الحج أو القران من أدنى الحل لنفسه أو عن غيره] ] : قال الشافعي في القديم: (إذا حج الإنسان عن نفسه من الميقات في أشهر الحج فلما تحلل منه اعتمر عن نفسه من أدنى الحل، أو تمتع أو قرن عن نفسه من الميقات فلما فرغ أحرم بالعمرة عن نفسه من أدنى الحل.. فلا دم عليه في ذلك كله؛ لإحرامه بالعمرة المتأخرة عن الحج من أدنى الحل) . وكذلك لو أفرد عن غيره الحج من الميقات ثم اعتمر عنه من أدنى الحل، أو

تمتع أو قرن عنه من الميقات ثم أحرم عنه بالعمرة من أدنى الحل.. لم يجب عليه غير دم التمتع أو القران؛ لأن عمل الأجير كعمل المستأجر. فأما إذا اعتمر عن نفسه من الميقات ثم حج عن غيره من مكة، أو حج عن نفسه من الميقات ثم اعتمر عن غيره من أدنى الحل.. فعليه الدم في هاتين المسألتين، خلافا لأبي حنيفة. دليلنا: أن الإحرامين إذا كانا عن شخصين.. فإنه يستحق فعلهما جميعا من الميقات، فإذا ترك الميقات لأحدهما.. وجب عليه الدم لأجله، كمن مر بالميقات مريدا للنسك، فلم يحرم منه، وأحرم من دونه، ولم يعد إليه قبل التلبس بنسك. قلت: وعلى قياس هذا: ما يفعل الأجير في وقتنا: أنه يحرم بالعمرة عن المستأجر من الميقات، فإذا تحلل منها أقام يعتمر عن نفسه من أدنى الحل، ثم يحرم

فرع فقد بعض شروط التمتع المعتبرة في وجوب الدم

بالحج عن المستأجر من مكة.. فيجب عليه للعمرة الأولى عن نفسه من أدنى الحل دم؛ لما ذكرناه فيما قبلها، ولا يجب عليه الدم لأجل ما بعدها من العمر؛ لأن المأجور عليه أن يحرم عن نفسه من الميقات بنسك واحد لا غير. [فرع فقد بعض شروط التمتع المعتبرة في وجوب الدم] ] : ذكر الطبري في " العدة ": إذا عدمت بعض الشرائط المعتبرة في وجوب الدم في التمتع. فهل يقع عليه اسم المتمتع؟ اختلف أصحابنا فيه: قال الشيخ أبو حامد: يقع عليه اسم المتمتع، إلا أنه لا يجب عليه الدم، لفقد الشرائط. وقال القفال: لا يسمى متمتعا، وهذه الشرائط معتبرة في استحقاق هذا الاسم. وحكي: أن الشافعي نص على هذا. [مسألة حل محظورات الإحرام لتحلل المتمتع] ] : إذا فرغ المتمتع من أفعال العمرة.. فله أن يتحلل ويتمتع بالطيب واللباس والنساء وغير ذلك، سواء ساق الهدي أو لم يسق، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة، وأحمد: (إن لم يكن معه الهدي.. فله أن يتحلل، وإن كان معه هدي.. لم يجز له أن يتحلل، بل يقيم حتى يحرم بالحج، ثم يتحلل منهما جميعا) . واحتجوا بما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل على حفصة في حجة الوداع، فقالت له: يا رسول الله، ما بال الناس قد حلوا من عمرتهم، ولم تحل من عمرتك؟ فقال:

فرع فسخ الحج إلى العمرة

إني لبدت رأسي، وقلدت هديي.. فلا أحل حتى أنحر» . دليلنا: أنه متمتع أكمل أفعال العمرة، فكان له التحلل، كما لو لم يكن معه هدي. وأما حديث حفصة: فلا حجة فيه؛ لأنه كان مفردا عندنا، وقارنا عندهم، ولم يكن متمتعا، بدليل ما روى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت.. لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة» ومحال أن يكون متمتعا، ويتأسف على العمرة. وأما معنى قول حفصة: «ما بال الناس قد حلوا من عمرتهم، ولم تحل أنت من عمرتك» فمعناه: لم يحل بعمرة، كما حل الناس من حجهم بعمرة؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان قد فسخ الحج على من لم يكن معه هدي من الصحابة؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الاعتمار في أشهر الحج لا يجوز، فأمرهم بالفسخ؛ ليبين لهم الجواز. [فرع فسخ الحج إلى العمرة] ) : ومن أحرم بالحج.. لم يجز له فسخه إلى العمرة، وبه قال عامة الفقهاء. وقال أحمد: (يجوز ذلك لمن لم يكن معه هدي) ، واحتج بما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أحرم هو وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي، إلا النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وطلحة، فأمر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ من لم يكن معه هدي أن يفسخ الحج، ويحرم بالعمرة» . دليلنا: ما «روى بلال بن الحارث، قال: قلت: يا رسول الله، الفسخ لنا خاصة أو لمن بعدنا؟ فقال: بل لنا خاصة» ، ولأنه عبادة لا يخرج منها بالفساد، فلا يخرج منها بالفسخ، كالعمرة.

وأما الحديث المذكور في الفسخ: فأومأ الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في " الأم " [2/109] إلى: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وأصحابه أحرموا إحراما موقوفا، فلما انتظر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ القضاء بين الصفا والمروة.. نزل عليه القضاء: «من ساق الهدي.. فليجعله حجا، ومن لم يسق الهدي.. فليجعله عمرة» ، وروي ذلك عن طاووس. فإن كان على هذا التأويل.. فهو جائز في وقتنا هذا. قال الشيخ أبو حامد: والمشهور في الأخبار خلاف هذا، وأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم هو وأصحابه بالحج، فلما دخل مكة.. فسخ الحج على من لم يكن معه هدي، وأمرهم بالإحرام بالعمرة، وإنما فعل ذلك؛ ليبين جواز الاعتمار في أشهر الحج؛ لأن أهل الجاهلية كانوا لا يرون ذلك، ويقولون: (هو من أفجر الفجور، ويقولون: إذا عفا الأثر، وبرأ الدبر، وانسلخ صفر.. حلت العمرة لمن اعتمر) فأحب النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أن يبين الجواز بأظهر ما يكون، ففسخ عليهم الحج، وإنما خص بالفسخ من لم يكن معه هدي؛ لأنه فرضهم الصوم، ولا ضرر عليهم في الصوم بمكة، ولو فسخها على الذين معهم هدي.. لاحتاجوا إلى ذبح هديهم بمكة، وفي ذلك ضرر؛ لأنهم يحرمون بالحج من مكة، والمتمتع يذبح هديه إذا أحرم بالحج، فكان يصير سنة الذبح بمكة، وفي ذلك ضرر؛ لأنها تتلوث بالدم، فتركهم على إحرامهم لكي يذبحوا بمنى، وتكون سنة الذبح بها، ولا تتلوث مكة بالدم.

مسألة وقت إحرام المتمتع بالحج

فإذا كان على هذا التأويل.. فإن الفسخ يكون خاصا لأصحاب النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، وهذا هو الصحيح؛ لما ذكرناه من حديث بلال بن الحارث. [مسألة وقت إحرام المتمتع بالحج] إذا تحلل المتمتع من عمرته، وكان واجدا للهدي.. فالمستحب له أن يحرم بالحج يوم التروية: وهو اليوم الثامن، فيحرم بعد الزوال متوجها إلى منى. وقال مالك: (يستحب له الإحرام عنه إهلال ذي الحجة) . دليلنا: ما روى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إذا توجهتم إلى منى رائحين.. فأهلوا بالحج» . وإن كان عادما للهدي.. ففرضه الصوم، ويستحب له أن يفرغ من صوم الثالث يوم التروية، ولا يجوز الصوم قبل الإحرام بالحج على ما يأتي بيانه، إن شاء الله تعالى.

مسألة وقت وجوب دم التمتع

[مسألة وقت وجوب دم التمتع] وأما وقت وجوب دم التمتع على من وجدت فيه شرائطه ... فيجب - عندنا - إذا أحرم بالحج، وبه قال أبو حنيفة. وقال عطاء: لا يجب حتى يقف بعرفة. وقال مالك: (لا يجب حتى يرمي جمرة العقبة) ، فاعتبر كمال الحج. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . وهذا قد فعل ذلك؛ لأن ما جعل غاية.. فوجود أوله كاف، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] . ولأن الشرائط توجد بوجود الإحرام بالحج، فتعلق الوجوب فيه. وأما وقت نحره: فالأفضل أن لا يذبح إلا يوم النحر، فإن ذبح بعد الإحرام بالحج، وقبل يوم النحر.. جاز عندنا. وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يجوز) . دليلنا: أنه دم يتعلق بالإحرام، فجاز إخراجه قبل يوم النحر، كدم الطيب واللباس. وإن ذبح بعد الفراغ من العمرة، وقبل الإحرام بالحج.. ففيه قولان، حكاهما أبو علي في " الإفصاح "، وحكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 184] وجهين: أحدهما: لا يجوز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . وما لم يحرم بالحج.. فلم يوجد التمتع. ولأن للهدي عملا يتعلق به عمل البدن، وهو تفرقة الهدي، فلم يجز تقديمه على وجوبه، كالصوم.

مسألة انتقال المتمتع من الهدي إلى الصوم

والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لأنه حق مال يتعلق بأسباب، فإذا وجد شرطها أو أكثرها.. جاز تقديمه على ما بقي منها، كالزكاة بعد ملك النصاب، وقبل الحول، وككفارة اليمين بعد الحلف، وقبل الحنث. وإن أراد أن يذبح بعد الإحرام بالعمرة، وقبل الفراغ منها.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا يجزئه وجها واحدا. وأما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 185] ، فقال: إذا قلنا: يجوز أن يذبح بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج.. فهل يجوز له أن يذبح قبل الفراغ من العمرة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز له؛ لأنه قد وجد بعض أسباب وجوبه، وهو الشروع في العمرة، فصار كما لو ذبح بعد الفراغ من العمرة. والثاني: لا يجزئه، وهو الصحيح؛ لأن أحد سببي الوجوب بكماله - وهو العمرة ـ لم يوجد، فصار كما لو ذبح قبل الإحرام بالعمرة. [مسألة انتقال المتمتع من الهدي إلى الصوم] ] : وإذا كان المتمتع واجدا للهدي في موضعه.. لم يجز له الانتقال إلى الصوم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . فنقله إلى الصوم، بشرط عدم الهدي. وإن كان عادما للهدي في موضعه، وفي بلده.. جاز له الانتقال إلى الصوم،

وهو: صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع؛ للآية، وهكذا إذا كان عادما له في موضع. وإن كان واجدا له في بلده.. كان له أن ينتقل إلى الصوم؛ لأنا لو لم نجوز له الصوم.. فاته الدم والصوم؛ لأن وقت الدم يوم النحر وأيام التشريق، ووقت صوم الثلاث قبل يوم النحر، وبالتأخير يفوتان جميعا. إذا ثبت هذا: فلا يجوز له أن يصوم الثلاث قبل الإحرام بالحج، وروي ذلك عن ابن عمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وقال أبو حنيفة: (يجوز له صوم الثلاث بعد الإحرام بالعمرة، وقبل التحلل منها) ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد. والرواية الأخرى عنه: (يصومها بعد الفراغ منها) وهو قول عطاء. دليلنا: أنه صوم واجب، فلا يجوز تقديمه على وقت وجوبه، كسائر الصوم

فرع لا يفوت صوم الثلاث بفوات عرفة

الواجب، ولأنه وقت لا يجوز فيه فعل المبدل، فلم يجز فيه فعل البدل، كما قبل الإحرام بالعمرة. إذا تقرر ما ذكرناه: وأراد المتمتع أن يصوم الثلاث بعد الإحرام بالحج.. فالأفضل: أن يفرغ منها قبل يوم عرفة؛ لأن الأفضل للحاج أن يكون مفطرا يوم عرفة؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان مفطرا فيه؛ ولأن ذلك أقوى له على الدعاء. وإن صام يوم عرفة منها.. جاز؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «يصوم المتمتع إذا لم يجد الهدي ثلاثة أيام إلى يوم النحر» ، ولا يجوز أن يصوم يوم النحر؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ نهى عن صيامه) . وهل يجوز صوم الثلاث في أيام التشريق؟ فيه قولان، ذكرناهما في الصيام. [فرع لا يفوت صوم الثلاث بفوات عرفة] صوم الثلاث لا يفوت بفوات يوم عرفة. فإن قلنا: يجوز صوم أيام التشريق.. صام فيها، ويكون مؤديا للصوم، لا قاضيا.

وإن قلنا: لا يجوز صوم أيام التشريق.. صام بعدها، ويكون قاضيا. وقال أبو حنيفة: (إذا لم يصم الثلاث قبل يوم النحر.. سقط الصوم، ولم يقض، ولكن استقر عليه الهدي في ذمته، ويلزمه دم آخر؛ لتأخير الصوم عن وقته) . وحكى الشيخ أبو حامد: أن أبا إسحاق خرج قولا آخر: أن الصوم يسقط، ولا يقضى، ولكن يجب في ذمته دم تمتع إلى أن يقدر، وحكاه في، " المجموع " و " الشامل " عن أبي العباس. ووجهه: أن الله تعالى أمر بالهدي مطلقا، وأمر بالصوم عند عدم الهدي مقيدا بوقت، فإذا فات وقت الصوم.. وجب أن يرجع إلى الهدي المطلق.

فرع موت المتمتع قبل التمكن من الصوم

دليلنا - على أبي حنيفة ـ: أنه صوم واجب، فلا يسقط بفوات وقته، كصوم رمضان. ودليلنا - على بطلان القول المخرج ـ: أن الصوم بدل عن الهدي، فإذا فات الصوم.. وجب قضاؤه بالصوم لا بالهدي، ولأنا لو ألزمناه الهدي ... لأدى إلى أن يكون المبدل بدلا، وهذا لا يجوز. [فرع موت المتمتع قبل التمكن من الصوم] ] : فإن أحرم المتمتع بالحج وهو عادم للهدي.. فإن فرضه الصوم، فلو مات قبل أن يتمكن من الصوم.. ففيه قولان: أحدهما: يسقط عنه الصوم، ويهدى عنه من ماله؛ لأن الصوم قد فات بموته، ولا يمكن أن يصام عنه، ويمكن أن يهدى عنه. والثاني: لا يجب عليه الهدي من ماله؛ لأنه لم يجب في حياته، فلم يجب بعد

فرع الصوم بدل عن الهدي وبيان وقته

موته، ولا يصام عنه؛ لأن النيابة في الصوم لا تجوز، ولا يجب أن يطعم عنه؛ لأن الإطعام إنما يجب عن صوم تمكن منه. [فرع الصوم بدل عن الهدي وبيان وقته] ] : ويصوم سبعة أيام إذا رجع، والعشر كلها بدل عن الهدي. وقال أبو حنيفة: (الثلاثة وحدها بدل عن الهدي، وأما السبع: فليست ببدل) . دليلنا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . فعلق وجوبها بعدم الهدي، فكان الجميع بدلا منه، كالثلاثة الأيام. وللشافعي في الرجوع - الذي هو وقت لجواز صوم السبع - قولان: أحدهما - نقله المزني وحرملة ـ: (أنه الرجوع إلى الأهل والوطن) . وهو الصحيح. واختلف أصحابنا: في القول الثاني: فمنهم من قال: هو إذا فرغ من أفعال الحج، وهو قول أبي حنيفة وأحمد. ووجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . والرجوع يجب أن يكون رجوعا عن المذكور، وهو الحج، ولأنه متمتع فرغ من أفعال الحج، فجاز له صوم السبع، كما لو أقام بمكة. ومن أصحابنا من قال: القول الثاني: هو إذا أخذ في السير خارجا من مكة، وبه قال مالك، وهو المذكور في " المهذب "؛ لأن ابتداء الرجوع هو الابتداء بالسير

فرع تأخير صوم الثلاثة عن وقتها وتتابع العشر

من مكة. ووجه - ما نقل المزني وحرملة -: قَوْله تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . ولا يجوز أن يكون المراد به الفراغ من أفعال الحج؛ لأنه لا يصح أن يقال: رجعت عن فعل كذا، ولو أراد ذلك.. لقال: وسبعة إذا فرغتم، وإنما يقال ذلك لمن رجع إلى وطنه. وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت.. لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة، فمن كان معه هدي.. فليهد، ومن لم يكن معه هدي.. فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله» . فإذا قلنا بهذا، فصام السبع قبل أن يرجع إلى وطنه.. لم يجزه. وإذا قلنا: إن الرجوع هو الفراغ من أفعال الحج، أو إذا أخذ في السير، فأخره حتى رجع إلى أهله، ثم صامها.. أجزأه. وإن صامها في ابتداء السير.. أجزأه، وفي الأفضل قولان: أحدهما: أن تقديمه أفضل؛ لأن فعل العبادة في أول وقتها أفضل. والثاني: أن تأخيره إلى الوطن أفضل - وبه قال مالك - ليخرج بذلك من الخلاف. [فرع تأخير صوم الثلاثة عن وقتها وتتابع العشر] ] : إذا أخر صوم الثلاثة إلى أن رجع إلى وطنه، أو إلى أن فرغ من أفعال الحج، أو أخذ في السير.. فقد ذكرنا: أن صوم الثلاثة لا يفوت، على المشهور من المذهب، ولكن يصومها قضاء، وقد اجتمعت عليه مع صوم السبعة الأيام، وهل يجب عليه

التفريق بينهما؟ حكى البغداديون من أصحابنا فيها وجهين، وحكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\186] قولين: أحدهما: لا يجب التفريق بينهما، ويجوز أن يوالي بينهما ـ وبه قال أحمد - لأن التفريق بينهما إنما كان في الأداء لأجل الوقت، وقد فات الوقت، فسقط التفريق، كالتفريق بين الظهر والعصر. والثاني: يجب التفريق بينهما في القضاء، وهو الصحيح؛ لأن التفريق بينهما وجب من حيث الفعل؛ لأنه أمر أن يصوم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع، والرجوع فعل، وما وجب الترتيب فيه من ناحية الفعل.. لم يسقط الترتيب فيه بفوات الوقت، كترتيب أفعال الصلاة. فإذا قلنا بالأول.. صام العشرة، كيف شاء. وإن قلنا بالثاني.. فلا يجب عليه التفريق بين الثلاثة بنفسها، ولا بين السبعة بنفسها، بل: إن شاء صام الثلاثة متتابعا، وإن شاء متفرقا، وكذلك السبعة. وإنما يجب التفريق بين السبعة والثلاثة. قال الشيخ أبو إسحاق صاحب " المهذب ": والفرق بينهما بمقدار ما وجب التفريق بينهما في الأداء. ومعنى هذا: أنه يبنى على أصلين: أحدهما: في صوم أيام التشريق، هل يصح عن المتمتع؟

والثاني: الرجوع المذكور في الآية. وفي كل واحد من الأصلين قولان، مضى بيان ذلك. فإذا قلنا بالقول القديم، وأن صوم أيام التشريق يجوز للمتمتع.. بني على القولين في الرجوع المذكور في الآية. فإن قلنا: إن الرجوع هو الفراغ من أفعال الحج، أو الأخذ في السير.. لم يلزمه هاهنا تفريق؛ لأنه كان يمكنه في الأداء أن يصوم الثلاثة في أيام التشريق، ثم يصوم بعدها السبعة؛ لأنه يفرغ من أفعال الحج في أيام التشريق، ويبتدئ بالسير فيها إلى بلده. وإن قلنا: إن الرجوع هو الرجوع إلى وطنه.. قال أصحابنا: فإنه يفرق بينهما هاهنا بقدر مسافة السفر إلى وطنه؛ لأنه كان يمكنه أن يصوم الثلاثة الأيام في أيام التشريق، ثم يسير إلى وطنه. قلت: وينبغي أن يقال على هذا: يلزمه التفريق بقدر مسافة السفر إلى وطنه إلا يوما؛ لأنه كان يمكنه أن يصوم الثلاث في أيام التشريق، وينفر في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الرمي وطواف الوداع، فيجتمع في اليوم الثالث من أيام التشريق الصوم عن الثلاث، والسفر إلى بلده. وإن قلنا بقوله الجديد، وأن صوم أيام التشريق لا يجوز للمتمتع.. بني على القولين في الرجوع. فإن قلنا: إنه بالفراغ من أفعال الحج أو الابتداء في السير إلى بلده.. لزمه أن يفرق بينهما هاهنا بأربعة أيام؛ لأنه كان يمكنه في الأداء أن يجعل آخر الثلاثة يوم عرفة، ثم يفطر يوم النحر وأيام التشريق ثلاثا، وفيها يفرغ من الحج، أو يبتدئ السير. وإن قلنا: إن الرجوع هو الرجوع إلى وطنه.. لزمه أن يفرق بينهما بأربعة أيام، وقدر مسافة سفره إلى بلده؛ لأن أقل ما يمكنه على هذا أن يجعل آخر الثلاثة يوم عرفة، ثم يفطر يوم النحر وأيام التشريق، ثم يرجع إلى وطنه، وتعتبر مدة السير المعتاد، هكذا ذكر أصحابنا.

قلت: ويحتمل على هذا القول، أن يقال: لا يجب عليه التفريق إلا بثلاثة أيام ومدة سيره إلى وطنه؛ لأنه كان يمكنه في الأداء أن يجعل آخر الثلاثة يوم عرفة، ثم يقف بمنى يوم النحر واليومين الأولين من أيام التشريق، ثم ينفر في النفر الأول، وهو بعد الزوال في اليوم الثاني من أيام التشريق، ويروح إلى مكة ويودع، ثم يبتدئ بالسير إلى بلده آخر الثاني من أيام التشريق. إذا ثبت هذا: فذكر الشافعي في " الإملاء ": (أن أقل ما يفرق بينهما بيوم) ، واختلف أصحابنا: من أي معنى أخذه الشافعي؟ فقال أبو إسحاق: إنما قال الشافعي هذا، إذا قلنا: يجوز صوم أيام التشريق عن الثلاث.. جاز أن يصام فيها كل صوم له سبب؛ لأنه كان يمكنه أن يفرغ من الثلاثة يوم عرفة، ثم يفطر يوم النحر، ثم يصوم أيام التشريق عن السبع. ومنهم من قال: لم يأخذه الشافعي من هذا؛ لأن صوم السبع لا يصح في أيام التشريق؛ لأنا إن قلنا: إن الرجوع هو الفراغ من أفعال الحج.. فلا يمكنه أن يفرغ من أفعاله أول يوم من أيام التشريق، فيكون التفريق بيوم. وإن قلنا: الرجوع هو الرجوع إلى وطنه.. لم يمكنه ذلك إلى أول يوم من أيام التشريق. وإنما قال الشافعي: (يفرق بينهما بيوم) ؛ لأن الله - تعالى - أمر بالتفريق بينهما، وأقله يوم، لا كما ذكره أبو إسحاق. فإن صام العشر متتابعة.. أجزأته الثلاثة الأولى. فإن قلنا: يجب التفريق

فرع موت المتمتع قبل الصوم وبعد التمكن

بيوم ... لم يجزه صوم يوم الرابع، وهل يجزئه ما بعد الرابع؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 186 ـ 187] : أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه إذا صام اليوم الخامس.. كان عنده هو الثاني من السبع، فلم يجزه عن الأول منها، وكذلك ما بعده. والثاني: يجزئه، وهو الصحيح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره، وعليه التفريع. فعلى هذا: يصوم يوما بعد العشر. وإن قلنا: يجب التفريق بينهما بأربعة أيام.. لم يجزه الرابع والخامس والسادس والسابع، ويجزئه الثامن والتاسع والعاشر عن السبع، ثم يصوم أربعة أيام بعد ذلك. وإن قلنا: يفرق بينهما بأربعة أيام، وبمسافة السفر إلى بلده.. قضى صوم السبع إذا مر هذا القدر من الزمان. [فرع موت المتمتع قبل الصوم وبعد التمكن] وإن مات بعدما تمكن من صوم العشرة الأيام، فإن قلنا بقوله القديم: (إن النيابة تدخل في الصوم) .. صام عنه وليه. وإن قلنا بقوله بالجديد: (إن النيابة لا تدخل في الصوم) ، وهو الصحيح.. تُصُدِّقَ عنه عن كل يوم مد من طعام. قال الشيخ أبو إسحاق في " الشرح ": وهذا أولى من قول الشافعي: إنه يتصدق عنه عن كل يوم بدرهم، أو ثلث شاة. يومئ إلى: أن في ذلك ثلاثة أقوال. قال أصحابنا: وهذه الأقوال إنما هي في إتلاف شعره أو ظفره، وليست هاهنا.

مسألة وجود الهدي بعد الشروع بالصيام

[مسألة وجود الهدي بعد الشروع بالصيام] ] : إذا دخل في صوم الثلاث، ثم وجد الهدي.. لم يلزمه الانتقال إليه. وقال أبو حنيفة: (يلزمه الانتقال إليه) ، ووافقنا أبو حنيفة: أنه إذا وجد الهدي بعد صوم الثلاث.. لا يلزمه الانتقال إليه، وإنما يستحب له الانتقال إليه. دليلنا: أن صوم الثلاث لزمه عند عدم الهدي، فلا يلزمه الانتقال إليه بعد الدخول فيه لوجود الهدي، كصوم السبع. فأما إذا أحرم بالحج، وهو عادم للهدي، فقبل أن يدخل في الصوم وجد الهدي.. فهل يلزمه الانتقال إليه؟ يبنى على: أن الاعتبار بالكفارة حال الوجوب، أو حال الأداء، أو أغلظ الحالين، وفي ذلك ثلاثة أقوال، يأتي ذكرها في (الظهار) إن شاء الله تعالى. [مسألة وجوب الدم على القارن] ] : ويجب على القارن دم، وهو شاة، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال الشعبي: عليه بدنة. وقال داود: (لا دم عليه) وحكي: أن ابن داود دخل مكة، فسئل: هل على

القارن دم؟ فقال: لا دم عليه، فجروه برجله، وهذا لشهرة الأمر بينهم في وجوب الدم عليه. دليلنا: ما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من قرن بين الحج والعمرة.. فليهرق دما» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أهدى عن نسائه بقرة وكن قارنات» . وهذا يرد قول الشعبي وداود. قال الشافعي: (والقارن أخف حالا من المتمتع) . قال أصحابنا: فيحتمل أن يكون أراد بهذا ردا على الشعبي، حيث قال: عليه بدنة؛ لأن القارن أحرم بالنسكين من الميقات، والمتمتع أحرم من الميقات بأحد النسكين، ولأن المتمتع إذا فرغ من عمرته، يتمتع بالطيب واللباس والنساء وغير ذلك، والقارن لا يكون له ذلك، فإذا لم يجب على المتمتع بدنة.. فلأن لا يجب على القارن بدنة أولى.

ويحتمل أن يكون أراد بذلك ردا على داود؛ لأن أفعال القارن أخف من أفعال المتمتع؛ لأنه يكتفي بإحرام واحد، وطواف واحد، وسعي واحد. بخلاف المتمتع، فإذا وجب الدم على المتمتع.. فالقارن أولى بالإيجاب عليه. [وبالله التوفيق]

باب المواقيت

[باب المواقيت] وهي خمسة: منها: ذو الحليفة، وهو ميقات أهل المدينة. الثاني: الجحفة، وهو ميقات أهل الشام والمغرب. الثالث: يلملم. وروي: ألملم. وهو ميقات أهل تهامة واليمن. الرابع: قرن المنازل، وهو ميقات نجد اليمن وسائر النجدات. الخامس: ذات عرق، وهو ميقات أهل العراق وجميع أهل المشرق. ولا خلاف: أن المواقيت الأربعة الأولى وقتها رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: «وقت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: " هن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة، ومن كان من دونهن.. فمهله من أهله، وكذلك أهل مكة يهلون منها»

وأما ذات عرق: فاختلف أهل العلم فيه: فقال طاووس: لم يوقته رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وإنما قاسه المسلمون على قرن. قال الشافعي: (ولا أحسبه إلا ما قال طاووس) . ووجهه: ما روي: (أنه قيل لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لم يوقت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل المشرق شيئا؟ فقال: انظروا ما حاذى طريقهم فقيسوه عليه. فقيل: قرن، قال قيسوه على قرن، فقال بعضهم: ذات عرق، وقال بعضهم العقيق، قال: فوقت لهم عمر ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـ ذات عرق) . وقال عطاء: (بل وقت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لأهل المشرق ذات عرق) . ووجهه: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقت لأهل المشرق ذات عرق» ،

«وروى الحارث بن عمرو بن الحارث قال: أتيت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وهو بمنى، وقد أطاف به الناس، وكانت العرب تحبه، وتقول إذا رأته: هذا وجه مبارك، فسمعته وقت لأهل المشرق ذات عرق» وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقت لأهل العراق ذات عرق» . قال الشيخ أبو حامد: وهذا هو الصحيح، ولعل الشافعي لم تبلغه هذه الأخبار. فإن قيل: فأهل المشرق لم يكونوا مسلمين يومئذ. قيل: لأنه قد عرف أنها تفتح وتصير دار إسلام، ولهذا قال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» .

قال الشافعي: (ولو أهل أهل المشرق من العقيق.. كان أحب إلي) ؛ لأنه لم يثبت عنده: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقت لهم ذات عرق، وإنما أخذ قياسا، والعقيق أبعد منه فكان أولى. إذا ثبت هذا: فأبعد المواقيت ذو الحليفة؛ لأنه على عشر مراحل من مكة، وعلى [ستة] أميال من المدينة، وتاليه في البعد الجحفة. وأما المواقيت الثلاثة الأخرى: فهي على مسافة واحدة، بينها وبين مكة ليلتان قاصدتان. وهذه المواقيت لأهلها ولكل من مر عليها من غير أهلها ممن أراد حجا أو عمرة، فإذا جاء الشامي من طريق أهل العراق.. فميقاته ميقات أهل العراق، وكذلك إن جاء العراقي من طريق الشام.. فميقاته ميقاتهم؛ لما ذكرناه من حديث ابن عباس. وإن سلك طريقا لا ميقات فيه.. اجتهد، وأحرم من حذو الميقات الذي يحاذي تلك الطريق؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمر أهل المشرق بذلك. فإن كان في حذو طريقه ميقاتان: أحدهما أبعد من مكة، والآخر أقرب إليها ... فالمستحب له: أن يحرم من حذو أبعدهما من مكة؛ لكي لا يجاوز حذو الميقات بغير إحرام. وإن أحرم من حذو أقربهما إلى مكة.. جاز.

مسألة من داره بين مكة والميقات

[مسألة من داره بين مكة والميقات] ] : ومن كان داره بين مكة وبين الميقات.. فميقاته من قريته، فإن كان يسكن قرية أو محلة.. فالمستحب له: أن يحرم من أبعد طرفيها من مكة، فإن أحرم من أقرب طرفيها إلى مكة.. جاز، هذا مذهبنا. وقال مجاهد: إن كان داره بين مكة والميقات.. أهل من مكة. وقال أبو حنيفة: (يحرم من موضعه، فإن لم يفعل.. لم يدخل الحرم إلا محرما، فإن دخله غير محرم.. خرج من الحرم، وأحرم من حيث شاء) . دليلنا: حديث ابن عباس. [فرع زوال معالم الميقات] ] : إذا كان الميقات قرية، فخربت، وانتقل أهلها عنها.. كان الميقات موضع القرية الأولى وإن انتقل الاسم إلى الثانية، سواء انتقلوا إلى أقرب من الأولى إلى مكة، أو إلى أبعد منها؛ لما روي: أن سعيد بن جبير رأى رجلا يحرم من ذات عرق، فأخذ بيده، وقطع به الوادي حتى بلغ به المقابر، وقال له: أحرم من هاهنا؛ فإن هذه ذات عرق الأولى، وإنما انتقل الناس عنها. [فرع الإحرام من ميقات بعد مجاوزته ميقاتا] ولا يجوز لمن مر بذي الحليفة، وهو مريد للنسك أن يجاوزه بغير إحرام. وقال أبو حنيفة وأبو ثور: (الأولى أن يحرم من ذي الحليفة، فإن ترك الإحرام منها، وأحرم من الجحفة.... جاز ولا دم عليه) ، وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -:

مسألة جواز الإحرام من داره أو ميقاته

(أنها كانت إذا أرادت الحج.. أحرمت به من ذي الحليفة، وإن أرادت العمرة أحرمت بها من الجحفة) . دليلنا: حديث ابن عباس. [مسألة جواز الإحرام من داره أو ميقاته] ] : ومن كان داره فوق الميقات.. جاز له أن يحرم من داره، وجاز له أن يحرم من الميقات، وفي الأفضل قولان: أحدهما: أن الأفضل أن يحرم من بلده ـ وبه قال أبو حنيفة. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . وروي عن عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: (إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك) ولأنه إذا أحرم بهما من داره.. كان أكثر عملا، ولهذا روي عن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أنه قال: «من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بحجة أو عمرة.. غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ووجبت له الجنة»

فرع ترك الإحرام من الميقات ودخول مكة لحاجة

والثاني: أن الأفضل أن يحرم من الميقات؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أحرم من الميقات، ولا يفعل إلا الأفضل، ولأنه أقل تغريرا بالعبادة، ولهذا روي: أنه سئل ابن عباس عن رجلين: أحدهما كثير الطاعة كثير المعصية، والآخر قليل الطاعة قليل المعصية، أيهما أفضل؟ فقال: (السلامة لا يعدلها عندي شيء) . هذه طريقة البغداديين من أصحابنا. وقال القفال: الأفضل أن يحرم من دويرة أهله قولا واحدا، وإنما كره الشافعي للرجل أن يتشبه بالمحرمين، فيتجرد عن ثيابه قبل الإحرام، وقد يفعله بعض الناس. [فرع ترك الإحرام من الميقات ودخول مكة لحاجة] ] : ومن مر على الميقات، فإن كان يريد النسك.. لم يجز له أن يتجاوزه حتى يحرم؛ لما ذكرناه. فإن أراد دخول مكة لحاجة لا تتكرر.. فهل يلزمه الإحرام؟ في قولان، مضى ذكرهما. وإن أراد دخول مكة لحاجة تتكرر، أو أراد دخول موضع دون الحرم.. لم يلزمه الإحرام. فإن بدا له بعد مجاوزته الميقات، وأراد النسك.. لزمه الإحرام من موضعه، كمن داره دون الميقات. وقال أحمد وإسحاق: (يلزمه أن يعود إلى الميقات، ويحرم منه) . دليلنا: أنه مر بالميقات، وهو غير مريد للنسك.. فلم يلزمه الرجوع إليه، كما لو لم يرد النسك بعد ذلك.

فرع تجاوز الميقات من غير إحرام والرجوع إليه

قال الشافعي: (وروي: أن ابن عمر أهل من الفرع) ، والفرع دون الميقات إلى مكة، وله تأويلان: أحدهما: يحتمل أن يكون جاء إلى الفرع في حاجة له، ثم بدا له النسك ... فإن ميقاته مكانه. والثاني: أن ابن عمر كان بمكة، فرجع بنية أن يذهب إلى بيته، فلما بلغ الفرع، بدا له أن يرجع إلى مكة.. فميقاته مكانه؛ لأنه موضع نيته. [فرع تجاوز الميقات من غير إحرام والرجوع إليه] ] : إذا بلغ إلى الميقات وهو مريد للنسك، فلم يحرم منه، وجاوزه.. نظرت: فإن رجع إليه وهو محل، ثم أحرم منه.. فلا دم عليه بلا خلاف. وإن أحرم دون الميقات.. صح إحرامه. وهل يجب عليه الرجوع إليه بعد إحرامه أو قبل إحرامه؟ ينظر فيه: فإن كان له عذر بأن يخاف فوات الحج، أو به مرض شاق، أو يخاف على نفسه أو ماله.. لم يجب عليه الرجوع؛ لوجود العذر، وقد أثم بالمجاوزة، ولا يأثم بترك الرجوع. وإن أمكنه الرجوع.. وجب عليه الرجوع؛ لما روي: (أن ابن عباس كان يرد من جاوز الميقات غير محرم) فإن لم يرجع.. فقد أثم بالمجاوزة وبترك الرجوع. وأما وجوب الدم عليه: فإن لم يرجع أصلا، أو رجع وقد تلبس بالوقوف، أو

بطواف القدوم.. استقر عليه الدم، ولم يسقط عنه. وإن عاد قبل أن يتلبس بشيء من أفعال النسك.. فهل يسقط عنه الدم؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها ـ حكاه ابن الصباغ، والشيخ أبو حامد ـ: أنه لا يسقط عنه الدم ـ وهو قول مالك، وأحمد، وزفر ـ لأنه أحرم دون الميقات، فلم يسقط عنه الدم بالرجوع إليه، كما لو رجع بعدما تلبس بنسك. والثاني ـ حكاه في " الإبانة " [ق\179]-: إن عاد قبل أن يبلغ مسافة القصر من الميقات.. فلا دم عليه؛ لأنه قريب، وإن عاد بعدما بلغ مسافة القصر من الميقات.. لم يسقط عنه الدم؛ لأنه بعيد. والثالث. وهو المشهور.: أنه لا دم عليه؛ لأنه حصل في الميقات محرما، فلم يجب عليه الدم، كما لو أحرم منه. وهل يكون مسيئا بالمجاوزة، إذا عاد إلى الميقات؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ": الظاهر: أنه لا يكون مسيئا؛ لأنه قد حصل فيه محرما. والثاني: يصير مسيئا؛ لأن الإساءة قد حصلت بنفس المجاوزة، فلا تسقط عنه بالعود. وقال أبو حنيفة: (إن عاد إلى الميقات ملبيا.. سقط عنه الدم، وإن لم يلب.. لم يسقط عنه الدم) . وقال عطاء، والحسن، والنخعي: لا شيء على من ترك الإحرام من الميقات. وقال ابن الزبير: (يقضي حجه، ثم يعود إلى الميقات، فيهل منه بعمرة) . وقال سعيد بن جبير: لا حج له

فرع الإحرام من موضع فوق الميقات

دليلنا ـ على أبي حنيفة ـ: أنه عاد إلى الميقات محرما قبل التلبس بنسك، فسقط عنه الدم، كما لو لبى. وعلى الآخرين: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا.. فعليه دم» . [فرع الإحرام من موضع فوق الميقات] ] : ومن نذر الإحرام من موضع فوق الميقات، أو استأجر أجيرا ليحرم من موضع فوق الميقات.. كان حكمه حكم الميقات في حقه في جميع ما ذكرناه؛ لأنه لزمه الإحرام منه، فأشبه ميقات البلد. [فرع دخول مكة من غير إحرام والإحرام من غير ميقاته] ] : سمعت الشريف العثماني - رَحِمَهُ اللَّهُ - من أصحابنا يقول: المدني إذا جاوز ذا الحليفة غير محرم، وهو مريد للنسك، فبلغ مكة من غير إحرام، ثم خرج منها إلى ميقات بلد آخر، مثل ذات عرق أو يلملم أو الجحفة، وأحرم منه.. فإنه لا دم عليه لمجاوزته ذا الحليفة؛ لأنه لا حكم لإرادته النسك لمَّا بلغ مكة غير محرم، فصار كمن دخل مكة غير محرم.. فإنه لا دم عليه.

فرع حكم المار من الميقات من غير المكلفين

[فرع حكم المار من الميقات من غير المكلفين] ] : وإن مر كافر بالميقات، وهو مريد للنسك، فجاوزه، ثم أسلم وأحرم دونه، ولم يعد إليه.. فعليه دم. وقال أبو حنيفة والمزني: (لا دم عليه) . دليلنا: أنه جاوز الميقات مريدا للنسك، وأحرم دونه، ولم يعد إليه، فوجب عليه الدم، كالمسلم. وإن أحرم الصبي أو العبد من الميقات وجاوزه، ثم بلغ الصبي أو أعتق العبد قبل الوقوف بعرفة، أو في حال الوقوف بعرفة.. فقد ذكرنا: أنه يجزئهما عن حجة الإسلام. فإن لم يرجعا إلى الميقات قبل التلبس بنسك.. فهل يجب عليهما الدم؟ طريقان: [أحدهما] : قال أبو الطيب بن سلمة، وأبو سعيد الإصطخري: لا يجب عليهما الدم قولا واحدا؛ لأنهما أتيا بحجة الإسلام من الميقات، فلم يجب عليهما الدم، كما لو كانا كاملين في حال الإحرام. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: فيه قولان ـ ولم يذكر في (المهذب) غير هذا ـ: أحدهما: لا يجب عليهما الدم، وقال القاضي أبو حامد وهو الصحيح؛ لما ذكرناه. والثاني: يجب عليهما الدم؛ لأن الإحرام من الميقات كان نافلة، وإنما وقع الإحرام عن فرضهما من حين كملا، فكأن الإحرام من الميقات لم يكن.

مسألة ميقات المكي

[مسألة ميقات المكي] ] : وأما المكي: فميقاته للحج مكة؛ لما روي في حديث ابن عباس، ثم كذلك أهل مكة يهلون من مكة، فإن خرج من مكة إلى الحل وأحرم بالحج منه.. كان كغير المكي إذا جاوز الميقات وأحرم دونه، وقد بيناه. وإن أحرم من موضع من الحرم خارج مكة.. فهل هو كمكة؟ فيه قولان، وقيل وجهان، وقد مضى ذكرهما. وأما إذا أراد الإحرام بالعمرة.. فميقاته أدنى الحل. والأفضل: أن يحرم من الجعرانة؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمر منها في السنة التي قاتل أهل حنين) . فإن أخطأه ذلك.. فمن التنعيم؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أعمر عائشة منها) . فإن أخطأه ذلك.. فمن الحديبية؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: صلى بها، وأراد المدخل في عمرته منها) . هذا الذي ذكره المزني في " المختصر " [2/51] . وقال الشيخ أبو حامد: والذي يقتضيه المذهب: أن الاعتمار بعد الجعرانة، من الحديبية أفضل من التنعيم؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ نزل بها، وصلى بها، وأراد أن يدخل منها بعمرة) ، ولأنها أبعد من الحرم من التنعيم، وكلما بعد الإنسان.. كان أفضل.

فإن أحرم المكي بالعمرة من مكة.. نظرت: فإن خرج إلى الحل قبل الطواف، ثم رجع وطاف وسعى.. صحت عمرته، ولا شيء عليه؛ لأنه قد زاد خيرا. وإن طاف وسعى قبل أن يخرج إلى الحل.. فقد قال الشيخ أبو حامد، وغيره من أصحابنا البغداديين: يصح إحرامه بالعمرة بلا خلاف، ولكن هل يعتد بطوافه وسعيه؟ فيه قولان: أحدهما: يعتد بهما، ولكن عليه دم لترك الميقات، كغير المكي إذا جاوز الميقات، وأحرم دونه، ولم يعد إليه. فعلى هذا: الحل ليس بشرط في العمرة. والثاني: لا يعتد بالطواف والسعي؛ لأن العمرة نسك من شرطها الطواف، فكان من شرطها الجمع بين الحل والحرم، كالحج. فعلى هذا: يكون باقيا على إحرامه إلى أن يخرج إلى الحل، ثم يرجع ويطوف ويسعى. وأما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 181] فقال هل يصح إحرامه بالعمرة؟ فيه قولان، ووجهه: ما قاله. والله أعلم

باب الإحرام وما يحرم فيه

[باب الإحرام وما يحرم فيه] ينبغي لمن أراد أن يحرم: أن يتجرد عن ثيابه، فيغتسل؛ لما روى زيد بن ثابت «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ تجرد عن ثيابه لإحرامه، واغتسل» . قال الشافعي: (لم أترك الغسل للإحرام قط، ولقد اغتسلت وأنا مريض أخاف من الماء، وما صحبت أحدا أقتدي به ترك الغسل للإحرام) . ويستحب الغسل للرجل والصبي والمرأة والحائض والنفساء؛ لما روى جابر قال: «ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بذي الحليفة، فأمرها النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أن تغتسل وتحرم» ، وروى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «النفساء

فرع الأماكن التي يستحب لها الغسل

والحائض إذا أتتا على المواقيت.. تغتسلان وتحرمان، وتقضيان المناسك كلها، غير الطواف بالبيت» . ولأن الحيض والنفاس لا ينافيان هذه العبادة، فلا يمنعان الاغتسال لها. قال الشافعي: (ومتى حاضت المرأة، أو نفست في الميقات أو قبله، فإن أمكنها أن تقف حتى تطهر فتغتسل وتحرم.. أحببت لها أن تقف لتدخل في الإحرام على أكمل أحوالها، فإن لم يمكنها ذلك.. اغتسلت وأحرمت) ؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أذن لعائشة أن تحرم بالحج وهي حائض» و: «أذن لأسماء بنت عميس أن تحرم وهي نفساء» . إذا ثبت هذا: فإن الغسل للإحرام ليس بواجب. وقال الحسن البصري: إذا نسي الغسل عند إحرامه.. اغتسل إذا ذكره. فإن أراد: أن ذلك مستحب.. فهو وفاق، وإن أراد: أنه واجب.. فالدليل عليه: أنه لو كان واجبا.. لما أمر به من لا يصح منه الغسل، وهو الحائض والنفساء كغسل الجنابة. ولأنه غسل لأمر مستقبل، فلم يكن واجبا، كغسل الجمعة والعيدين. فإن لم يجد الماء.. تيمم؛ لأن التيمم ينوب عن الغسل الواجب، فناب عن المسنون. [فرع الأماكن التي يستحب لها الغسل] ] : قال الشافعي في الجديد: (ويستحب الاغتسال للحج في سبعة مواطن: للإحرام، ولدخول مكة، وللوقوف بعرفة، وللوقوف بالمزدلفة، ولرمي الجمار الثلاث في أيام التشريق، ولا يستحب ذلك لرمي جمرة العقبة؛ لأن الناس لا يجتمعون لها)

مسألة ما يلبسه المحرم

وزاد في القديم ثلاث اغتسالات: (لطواف الزيارة، ولطواف الوداع، وللحلق) ولم يحك الشيخ أبو حامد الغسل للحلق، وإنما حكاه القاضي أبو الطيب. [مسألة ما يلبسه المحرم] ] : فإذا فرغ المريد للإحرام من الاغتسال.. فإنه يلبس إزارا ورداء، ويكشف رأسه، ويخلع خفيه، ويلبس نعلين، لما روى ابن عمر أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين» . والمستحب: أن يكون ثوباه أبيضين؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «خير ثيابك البياض فألبسوها أحياءكم، وكفنوا فيها موتاكم» والمحرم على أكمل أحواله، فاستحب له أفضل الثياب. والجديد أحب إلينا من المغسول، فإن لم يجد جديدا.. لبس مغسولا.

فرع الطيب للمحرم

[فرع الطيب للمحرم] ] : فإذا فرغ من الاغتسال، ولبس الثوبين.. فالمستحب له: أن يتطيب قبل إحرامه، ولا فرق بين أن يتطيب بطيب تبقى عينه أو أثره، كالمسك والغالية والعود، وبين أن يتطيب بطيب لا تبقى عينه أو أثره، وروي ذلك عن ابن عباس، وابن الزبير، وسعد بن أبي وقاص، ومعاوية، وعائشة، وأم حبيبة وهو قول أبي حنيفة وأحمد وأبي يوسف. وحكى صاحب " الفروع " وجها آخر لبعض أصحابنا: أنه لا يتطيب بطيب تبقى عينه. وليس بشيء.

وقال مالك وعطاء: (يكره له أن يتطيب بطيب تبقى رائحته بعد الإحرام) . وروي ذلك عن عمر بن الخطاب. واحتجوا: بما «روى يعلى بن أمية قال: (كنا عند رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجعرانة، فأتاه رجل أعرابي، وعليه مقطعة ـ يعني: جبة وهو متضمخ بالخلوق. وفي بعض الروايات: عليه ردع من زعفران ـ فقال: يا رسول الله أحرمت بعمرة، وعلي هذه وأنا متضمخ بالخلوق، فقال رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " ما كنت تصنع في حجك؟ " قال: كنت أنزع عني هذه المقطعة، وأغسل عني هذا الخلوق، فقال له ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " ما كنت صانعا في حجك.. فاصنعه في عمرتك» . ودليلنا: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (طيبت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، لإحرامه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت» ، وروي عنها: أنها قالت: «رأيت وبيص المسك في مفرق رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بعد ثلاث من إحرامه» . ولأن الطيب معنى يراد للاستدامة والبقاء، فلم يمنع الإحرام من استدامته كالنكاح.

فرع انتشار الطيب بالعرق وتطييب الثوب

وأما حديث يعلى بن أمية: فإنما ذلك لأن الخلوق فيه الزعفران، والرجل ممنوع من لبس المزعفر؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ نهى الرجل عن لبس المزعفر» . قال أبو علي الطبري في " الإفصاح "، والشيخ أبو حامد: ويستوي في النهي عن المزعفر الرجل الحلال والمحرم؛ للخبر المذكور. وأيضا: فإن خبرنا متأخر عن خبر يعلى بن أمية، فكان ناسخا له. [فرع انتشار الطيب بالعرق وتطييب الثوب] ] : فإن تطيب قبل الإحرام، ثم عرق بعد الإحرام، وسال الطيب من موضع من بدنه إلى موضع آخر منه.. ففيه وجهان: أحدهما: عليه الفدية: لأنه حصل الطيب على موضع من بدنه بعد الإحرام بعد أن لم يكن عليه بسبب فعله، فوجبت عليه الفدية به، كما لو طيبه ابتداء. والثاني ـ وهو المذهب ـ: أنه لا فدية عليه: لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كنا إذا أردنا الإحرام.. نضمد جباهنا بالسك المطيب، فإذا عرقت إحدانا، سال ذلك على وجهها.. فيراه رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فلا ينكر عليها» . ولأنه ليس بتطيب من جهته بعد الإحرام، فهو كما لو ثبت مكانه.

مسألة من يستحب له الحناء والطيب

فإن نقل الطيب من موضع في بدنه إلى موضع غيره، أو تعمد مسه، أو نحاه من موضعه ورده إليه.. وجبت عليه الفدية، كما لو تطيب ابتداء. وإن طيب ثوبا ولبسه، ثم أحرم.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها المسعودي [في " الإبانة " ق\191] : أحدها: يجوز، كما لو طيب بدنه. والثاني: لا يجوز؛ لأن الطيب يبقى على الثوب، ولا يستهلك بخلاف البدن. والثالث ـ وهي طريقة أصحابنا البغداديين ـ: إن استدام لبسه.. فلا شيء عليه، كما لو طيب بدنه واستدام الطيب عليه. وإن نزع الثوب في الإحرام، ثم رده.. فعليه الفدية، كما لو ابتدأ الطيب في بدنه أوثيابه. [مسألة من يستحب له الحناء والطيب] ] : وأما المرأة: فإذا أرادت الإحرام.. فيستحب لها أن تختضب بالحناء قبل الإحرام؛ لما روي «عن عبد الله بن دينار: أنه قال: (من السنة أن تختضب المرأة إذا أرادت الإحرام» وإذا قال الصحابي أو التابعي: (من السنة كذا) .. اقتضى سنة رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ.

وأما الخنثى المشكل: فقال القاضي أبو الفتوح في كتاب (الخناثى) : لا يسن له الخضاب للإحرام، كالرجل. ويستحب للمرأة أن تختضب بالحناء في كل وقت إذا كانت ذات زوج؛ لأن هذا زينة وجمال، وقد استحب لها التجمل للزوج. وروي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ مدت إليه امرأة يدها لتبايعه، فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «يد رجل أم يد امرأة؟ " فقالت: بل يد امرأة، فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " ما أدري، فأين الخضاب؟!» . وإن كانت غير ذات زوج، ولم ترد الإحرام.. لم يستحب لها الخضاب، بل يكره لها ذلك؛ لأنه لا زوج لها تتزين له، وربما غرت الناس، فافتتنوا بها. ويستحب للمرأة إذا أرادت الإحرام أن تتطيب، كما يستحب ذلك للرجل؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (خرجنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ إلى مكة، فلما كان عند الإحرام.. ضمدنا جباهنا بالسك، فكنا إذا عرقنا، سال على وجوهنا.. فيراه رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ولا ينكره» . إذا ثبت هذا: فيستحب ذلك للشابة والعجوز. والفرق بينه وبين الجمعة، حيث قلنا: لا يستحب ذلك في حقها إذا أرادت حضور الجمعة؛ لأن موضع حضور الجمعة أضيق؛ لأنها تقعد بالقرب من الرجال، ولهذا لم

مسألة ركعتا الإحرام وأفضلية وقته

يسن للشابة حضور الجمعة، وليس كذلك الإحرام؛ لأن موضعه واسع لا يؤدي إلى اختلاطهن بالرجال، ولهذا لم يفرق في حضوره بين العجوز والشابة. [مسألة ركعتا الإحرام وأفضلية وقته] إذا فرغ المريد للنسك مما ذكرناه.. فالمستحب له: أن يصلي ركعتين، ثم يحرم؛ لما روى ابن عباس، وجابر بن عبد الله: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ صلى بذي الحليفة ركعتين، ثم أحرم» . قال الشيخ أبو حامد: فإن أراد أن يحرم في وقت لا يجوز فيه الصلاة، وهو بعد صلاة الصبح، وقبل طلوع الشمس، أو عند غروبها، وما أشبه ذلك من الأوقات المنهي عنها.. نظرت: فإن أمكنه أن يقف حتى تطلع الشمس، وتحل الصلاة، ثم يصلي ويحرم.. فعل ذلك؛ لأن الركعتين زيادة قربة وطاعة. وإن لم يمكنه ذلك.. فإنه يحرم بغير صلاة؛ لأن ابتداء النافلة في ذلك الوقت لا يجوز. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 78] : ولأن سبب الصلاة متأخر عنها. فإذا فرغ من الركعتين.. فهل الأفضل أن يحرم عقيبهما، أو حتى تنبعث به راحلته، أو يبتدئ بالسير إن كان ماشيا؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (الأفضل أن يحرم عقيب الركعتين) . وبه قال أبو حنيفة.

و [الثاني] : قال في الجديد: (الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته إن كان راكبا، أو إذا ابتدأ بالسير إن كان ماشيا) . وقال مالك: (يحرم إذا أشرف على البيداء) . فإذا قلنا بالقديم.. فوجهه: ما روي «عن سعيد بن جبير: أنه قال: قلت لابن عباس: عجبت من اختلاف أصحاب النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ في إحرامه حين أوجب! فقال بعضهم: أهل حين فرغ من الصلاة، وقال بعضهم: أهل حين انبعثت به راحلته، وقال بعضهم: أهل حين أشرف على البيداء. فقال ابن عباس: (أنا أعلم الناس بذلك: إن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما أتى مسجده بذي الحليفة.. صلى ركعتين، ثم أوجب في مجلسه، فحفظه قوم، وقالوا: أهل حين فرغ من الصلاة، فلما ركب وانبعثت به راحلته.. أهل، فأدركه قوم، وقالوا: أهل حين انبعثت به راحلته، فلما أشرف على البيداء.. أهل، فأدركه قوم، فقالوا: أهل حين أشرف على البيداء» . وإذا قلنا بقوله الجديد.. فوجهه: ما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لم يكن يهل حتى تنبعث به راحلته» ، وهذا نفي وإثبات. وروى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إذا رحتم إلى منى متوجهين.. فأهلوا بالحج» .

فرع انعقاد الإحرام بغير تلبية ولا بد من النية

[فرع انعقاد الإحرام بغير تلبية ولا بد من النية] وينوي الإحرام، ويستحب له أن يلبي، فإن نوى الإحرام، ولم يلب.... انعقد إحرامه. وقال أبو عبد الله الزبيري: لا ينعقد إحرامه إلا بالنية والتلبية. قال في " الإفصاح ": وبه قال ابن خيران. وقال مالك وأبو حنيفة: (لا ينعقد إحرامه إلا بالنية والتلبية، أو بالنية وسوق الهدي) . دليلنا: أنها عبادة لا يجب النطق في آخرها، فلم يجب في أولها، كالصوم والطهارة، وعكسه الصلاة. فإن لبى ولم ينو.. لم ينعقد إحرامه. وقال داود: (ينعقد إحرامه بالتلبية دون النية) ، وحكي أن أبا العباس ابن سريج قال لداود: صف لنا تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرها، فقال له: صرت محرما، فقال: لقد تزببت حصرما. ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى» ، ولأنها عبادة محضة طريقها الأفعال، فلم تصح من غير نية، كالصلاة والصوم. [فرع تعيين النسك بالنية] ] : وله أن يعين ما يحرم به من إفراد أو تمتع أو قران. فإن لبى بحج ونوى عمرة، أو لبى بعمرة ونوى حجا.. انعقد إحرامه بما نواه، لا بما لبى به؛ لأن النسك ينعقد بالنية دون التلبية. وإن أحرم إحراما مطلقا، ولم ينو حجا ولا عمرة ولا قرانا.. صح إحرامه، وكان له أن يصرفه إلى أي وجوه الإحرام شاء.

والدليل عليه: ما روى طاووس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسم حجا ولا عمرة حتى وقف بين الصفا والمروة، ينتظر القضاء.. فأمر أن يهل بالحج» ، وروي: «أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قدم من اليمن، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بم أهللت؟ " قال: قلت: أهللت إهلالا كإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " فأقم على إحرامك "، وفي رواية أخرى: أنه قال: " أما إني سقت الهدي.. فلا أحل حتى أنحر» ، وكذلك روي: أن أبا موسى الأشعري فعل كذلك. وهي الأفضل أن يطلق إحرامه، أو يعين ما أحرم به؟ فيه قولان: أحدهما: أن الإطلاق أفضل؛ لما ذكرناه من حديث طاووس، ولأنه أقل غررا؛ لأنه يصرفه إلى الأسهل. والثاني: أن التعيين أفضل؛ لأن جابرًا روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أحرموا بالحج» وهذا أولى؛ لأن حديث طاووس مرسل، ولأنه يكون عالما بما يدخل به من العبادة.

فرع إطلاق النية في الإحرام

وهل الأفضل أن يذكر ما أحرم به في تلبيته، أو يقتصر على النية فقط؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو المنصوص للشافعي -: أن الأفضل أن لا ينطق بما أحرم به. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: الأفضل أن ينطق بما أحرم به - وبه قال أحمد - لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال - وهو بالعقيق -: " أتاني الليلة آت من عند ربي عز وجل، فقال لي: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: حجة في عمرة» ولأن ذلك أبعد عن النسيان. ووجه الأول: حديث طاووس، وما حكي: أن ابن عمر سمع رجلا يقول: لبيك بحجة، فدفع في صدره، وقال: (هو يعلم ما في نفسك) ، ولأن التلبية ذكر لله تعالى، وتسمية النسك ليست بذكر لله عز وجل، فلم يستحب أن يشوب ذكر الله عز وجل بما ليس بذكر له. [فرع إطلاق النية في الإحرام] فإن أحرم إحراما مطلقا.. فله أن يصرفه إلى الحج، أو العمرة، أو إليهما. فإن طاف، أو وقف بعرفة قبل أن يصرف إحرامه إلى شيء ... لم ينصرف إحرامه بنفس الطواف أو الوقوف، بل لو صرف إحرامه بعد الطواف إلى الحج.. وقع الطواف عن طواف القدوم.

فرع تعليق الإحرام بإحرام الغير

وقال أبو حنيفة: (إذا طاف.. انصرف إحرامه إلى العمرة، وإن وقف بعرفة.. انصرف إلى الحج) . دليلنا: أن نية التعيين شرط، ولم يوجد منه ذلك، فلم يتعين عليه بفعل النسك، كما لو طاف أو وقف قبل الإحرام. [فرع تعليق الإحرام بإحرام الغير] وإن أحرم كإحرام زيد.. صح؛ لما ذكرناه من حديث علي: أنه قال: «أهللت إهلالا كإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -) ، ثم ينظر فيه: فإن كان زيد قد أحرم بنسك معين.. انصرف إحرام هذا الذي علق إحرامه عليه إلى النسك الذي أحرم به زيد. وإن أحرم زيد إحراما موقوفا.. كان إحرام هذا الرجل موقوفا أيضا، ولكل واحد منهما أن يصرف إحرامه إلى ما شاء، ولا يتعين على هذا أن يصرف إحرامه إلى ما صرف زيد إحرامه إليه. وإن أحرم زيد إحراما موقوفا، ثم صرف إحرامه إلى نسك معين، ثم علق رجل إحرامه بإحرام زيد بعد ذلك، فإن قال: أحرمت بإحرام كابتداء إحرام زيد.. انعقد إحرامه موقوفا، وله أن يصرف إحرامه إلى ما شاء، ولا يتعين عليه بما صرف زيد إليه إحرامه. وإن قال: كإحرام زيد الآن.. انعقد إحرامه بما صرف زيد إحرامه إليه. وإن بان أن زيدا لم يحرم.. انعقد إحرام هذا موقوفا؛ لأنه قد عقد الإحرام،

مسألة الإحرام بنسكين متفقين

وإنما علق التعيين على إحرام زيد، فإذا بان أن زيدا لم يحرم.. انعقد إحرام هذا موقوفا. وإن لم يعلم ما أحرم به زيد، بأن مات أو جن أو عاد وتعذر العلم بإحرامه.. فقال البغداديون من أصحابنا: لزمه أن يقرن؛ لأنه اليقين، والفرق بينه وبين من أحرم بنسك معين، ثم نسيه، حيث جوزنا له التحري في أحد القولين؛ لأنه يمكنه أن يتحرى في فعل نفسه، ولا يمكنه ذلك في فعل غيره. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\183] : هي على قولين، كمن شك في تعيين ما أحرم به، على ما يأتي ذكرهما. [مسألة الإحرام بنسكين متفقين] إذا أحرم بحجتين، أو عمرتين، أو أحرم بحجة ثم أدخل عليها حجا، أو أحرم بعمرة ثم أدخل عليها عمرة.. لم ينعقد إحرامه إلا بواحد من النسكين. وقال أبو حنيفة: (ينعقد إحرامه بهما، [ولا يمكنه] المضي فيهما، فترتفض إحداهما) ، واختلفوا متى ترتفض؟. فقال أبو يوسف: تنتقض في الحال. وقال أبو حنيفة ومحمد: (ترتفض إذا أخذ في السير، فلو أحصر مكانه.. تحلل منهما) . دليلنا: أنه لا يمكنه المضي فيهما، فلم يصح الدخول فيهما، قياسا على صوم النذر وصوم رمضان. [فرع الإحرام عن رجلين] فإن استأجره رجلان ليحج عنهما، فأحرم عنهما جميعا.. انعقد الإحرام للأجير؛ لأن الإحرام الواحد لا ينعقد عن اثنين، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فانعقد الإحرام لنفسه دونهما.

مسألة الشك في النسك

وإن أحرم عن أحدهما لا بعينه.. قال ابن الصباغ: انعقد إحرامه، وكان له أن يصرفه إلى أيهما شاء قبل أن يتلبس بشيء من أفعال النسك. وبه قال أبو حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: يقع عن نفسه. دليلنا: أن ما ملك تعيينه في الابتداء.. ملك الإحرام به مطلقا، ثم يعينه، كالإحرام عن نفسه. وإن استأجره رجل ليحج عنه، فأحرم عن المستأجر، وعن نفسه بحج.. انعقد الإحرام بالحج عن نفسه؛ لأن الإحرام انعقد، ولم يصح عن غيره، فوقع عن نفسه، كالصرورة. وإن استأجره رجل ليحج عنه، فأحرم بالعمرة عن نفسه وبالحج عن المستأجر، وقرن بينهما.. فقد قال الشافعي في " المنسك الكبير ": (كان الحج والعمرة عن الأجير؛ لأن الإحرام واحد، فلا يجوز أن يقع عن اثنين، ولا يجوز أن يقع عن غيره مع نيته له عن نفسه) . قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": وقد أومأ الشافعي في القديم إلى: أنهما يقعان على ما نوى، العمرة عن نفسه، والحج عن المستأجر. ومن أصحابنا من قال: يقعان معا عي المستأجر؛ لأن العمرة تتبع الحج، والحج لا يتبعها. والأول أصح. [مسألة الشك في النسك] إذا أحرم بنسك معين، ثم شك بماذا أحرم؟ ففيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (إنه يتحرى، ويبني على ما يغلب على ظنه أنه أحرم به) ؛ لأن هذا اشتباه في شرط من شرائط العبادة، فكان له الاجتهاد فيه، كالإناءين والقبلة.

فعلى هذا: يعمل على ما يغلب على ظنه، والمستحب له: أن يقرن. و [الثاني] : قال في الجديد: (إنه يلزمه أن يقرن) ، وهو الصحيح؛ لأنه شك لحقه في فعله بعد التلبس بالعبادة، فلم يكن له الاجتهاد، وإنما يلزمه اليقين، كمن شك في عدد الركعات، ويخالف الإناءين والقبلة؛ لأن له على ذلك هناك أمارات يرجع إليها عند الاشتباه، وهاهنا لا أمارة له على نفسه يرجع إليها. فعلى هذا: يلزمه أن ينوي القران. ونقل المزني: (أنه يصير قارنا) ، وليس هذا على ظاهره، بل أراد: أنه يلزمه نية القران. وهل يجزئه ما يأتي به عن فرض الحج والعمرة؟ ينظر فيه: فإن طرأ عليه هذا الشك قبل أن يفعل شيئا من المناسك بعد الإحرام، ونوى القران.. أجزأه الحج، بلا خلاف على المذهب؛ لأنه إن كان قد أحرم به.. فقد انعقد، وإن كان قد أحرم بعمرة.. فقد أدخل عليها الحج قبل الطواف، وذلك جائز. وأما العمرة: فإن قلنا: يجوز إدخالها على الحج.. سقط عنه فرض العمرة أيضا ووجب عليه دم القران. وإن قلنا: لا يجوز إدخال العمرة على الحج.. فهل تجزئه: العمرة هاهنا؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق في " الشرح ": تجزئه العمرة أيضا؛ لأن إدخال

العمرة على الحج إنما لا يجوز من غير حاجة، وهاهنا به حاجة إلى إدخالها. فعلى هذا: يجب عليه دم القران أيضا. والثاني - وهو قول عامة أصحابنا، وهو الصحيح -: أنه لا تجزئه العمرة؛ لجواز أن يكون قد أحرم بالحج، والفرض لا يسقط بالشك. فعلى هذا: هل يجب عليه دم القران؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو الصحيح -: أنه لا يجب عليه؛ لأنا لم نحكم له بالقران، والأصل براءة ذمته منه. والثاني: يجب عليه: لجواز أن يكون قارنا. وإن طرأ عليه هذا الشك قبل طواف القدوم، وبعد أن وقف بعرفة، وكان وقت الوقوف باقيا.. فإنه ينوي القران، ويقف بعرفة، ويجزئه الحج، وهذا مراد الشيخ أبي إسحاق في " المهذب " بقوله: إذا نسي بعد الوقوف، وقبل طواف القدوم. وأما العمرة.. فهل يسقط عنه فرضها؟ إن قلنا: يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف.. سقط عنه فرضها، وكان عليه دم القران. وإن قلنا: لا يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف، أو لا يجوز إدخالها عليه أصلا.. لم يسقط عنه فرضها، وفي دم القران وجهان، مضى توجيههما. وإن طرأ عليه هذا الشك بعد الوقوف بعرفة وبعد فوات وقته، وقبل طواف القدوم، ونوى القران.. لم يجزه عن الحج؛ لجواز أنه لم يحرم به إلا وقد فات الوقوف. وأما العمرة: فإن قلنا: لا يجوز إدخالها على الحج أصلا، أو قلنا: يجوز إدخالها عليه قبل الوقوف لا غير، ولا يجوز بعده.. لم تجزه العمرة أيضا. وإن قلنا: يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف.. أجزأته العمرة.

وإن طرأ عليه هذا الشك بعد طواف القدوم، وبعد الوقوف بعرفة.. لم يجزه الحج؛ لجواز أنه لم يحرم به إلا وقد طاف للعمرة. وأما العمرة: فإن قلنا: لا يجوز إدخالها على الحج أصلا، أو قلنا: يجوز إدخالها قبل الوقوف لا غير.. لم تجزه العمرة أيضا. وإن قلنا: يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف.. أجزأته العمرة. وإن طرأ عليه هذا الشك بعد طواف القدوم، وقبل الوقوف بعرفة. فإن قلنا: يجوز إدخال العمرة على الحج، أو نوى القران.. صحت له العمرة، ولا يصح له الحج؛ لأنه لا يجوز له إدخال الحج على العمرة بعد الطواف. وإن قلنا: لا يجوز إدخال العمرة على الحج.. لم يصح له الحج ولا العمرة؛ لأنه يحتمل أنه كان معتمرا، فلا يصح إدخال الحج عليها بعد الطواف، ويحتمل أنه كان حاجا، وإدخال العمرة على الحج لا يجوز. قال ابن الحداد: فإن أراد أن يجزئه الحج.. فإنه لا ينوي القران، ولكن يسعى، بين الصفا والمروة، ويحلق رأسه، ثم يحرم بالحج؛ لأنه إن كان معتمرا.. فهذا وقت الحلاق والتحلل، وإن كان حاجا أو قارنا.. فلا يضره تجديد إحرام آخر. وذكر في " المهذب ": أنه يعيد الطواف. ولا معنى له؛ لأنه قد طاف. وقال أبو زيد المروزي: إن كان الرجل فقيها، وفعل ما قال ابن الحداد باجتهاده.. فلا كلام، وأما إذا استفتى.. فإنا لا نفتي بجواز الحلاق؛ لأنه يحتمل أن يكون محرما بالحج، فلا يجوز له الحلق قبل وقته. قال القاضي أبو الطيب: ويمكن ابن الحداد أن يجيب، فيقول: الحلق يستباح للحاجة إليه، وبه هاهنا حاجة إليه لئلا يلغو عمله، فلا يحتسب له بحجة ولا عمرة. فإذا قلنا بقول ابن الحداد.. وجب عليه دم؛ لأنه إن كان معتمرا.. فعليه دم التمتع، وإن كان حاجا أو قارنا.. فقد حلق في غير وقته.

مسألة أحوال التلبية

ومن أصحابنا من قال: يجب عليه دمان؛ لجواز أن يكون قارنا، فيجب عليه: دم القران، ودم الحلاق. وهذا ليس بشيء؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على دم واحد. [مسألة أحوال التلبية] قال الشافعي: (ويلبي المحرم قائما وقاعدا، وراكبا ونازلا، وجنبا ومتطهرا) . وهذا صحيح؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أهل مهل قط ... إلا بشر، ولا كبر مكبر قط إلا بشر " قيل: يا رسول الله، بالجنة؟ قال: " نعم» ، وروي عن ابن عباس: أنه قال: (التلبية زينة الحج) . وسئل محمد ابن الحنفية عن الجنب يلبي؟ فقال: نعم. ويستحب ذلك للحائض؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة - وقد حاضت وهي محرمة -: " اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت» ، والحاج يلبي، فكذلك الحائض. ويستحب أن يلبي عند اصطدام الرفاق، وعند الإشراف، والهبوط؛ لما روي:

«أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبي إذا رأى ركبا، أو علا أكمة، أو هبط واديا» . ويستحب أن يلبي في أدبار المكتوبة، وفي إقبال الليل والنهار؛ لأنه روي ذلك عن بعض السلف، ولأنه وقت صعود ملائكة النهار، ونزول ملائكة الليل. ويستحب أن يلبي في مسجد مكة، ومسجد الخيف بمنى، ومسجد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بعرفات، وفيما عدا هذا من المساجد قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا يلبي) . و [الثاني] : قال في الجديد: (يلبي) ، وهو الأصح؛ لعموم الأمر بالتلبية ولأنه مسجد بني للجماعة، فاستحب فيه التلبية، كالمساجد الثلاثة. وأما التلبية في حال الطواف: فقال في القديم: (لا يلبي، وإن لبى.. لم يجهر به) لما روي عن ابن عمر: (أنه كان لا يلبي في الطواف) ، وروي عن

سفيان: أنه قال: ما علمت أن أحدا كان يلبي في الطواف إلا عطاء بن السائب، فأخبر: أن هذا إجماع، ولأن للطواف ذكرا يختص به. وقال في " الإملاء ": (وأحب ترك التلبية في الطواف للأثر، فإن لبى.. فلا بأس) . والأثر هو: ما ذكرناه عن ابن عمر وسفيان. وأما التلبية في السعي: فقال الشافعي في " الإملاء ": (فلا بأس أن يلبي المحرم على الصفا والمروة، وبينهما، غير أني أحب له تركها؛ لأن الذي روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوقوف عليهما والتكبير والدعاء، فكذلك بينهما، فأحب له من ذلك ما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير أن أكره التلبية) . وهاتان المسألتان إنما تتصوران في المحرم بالحج، إذا طاف طواف القدوم، وسعى بعده للحج. فأما في طواف الفرض في الحج، أو في طواف العمرة وسعيها.. فلا يتصور له ذلك. ويستحب له رفع الصوت بالتلبية؛ لما روى زيد بن خالد الجهني: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " أتاني جبريل، فقال: يا محمد، مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية؛ فإنها من شعائر الحج» ، وروى أبو بكر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل: أي الحج

مسألة صفة التلبية وما يقول إذا فرغ منها

أفضل؟ فقال: " العج والثج» ، ومعنى (العج) : رفع الصوت بالتلبية، و (الثج) : إسالة دم الهدي، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ: 14] [النبأ: 14] ، وروي: «أن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا لا يبلغون الروحاء.. حتى تبح حلوقهم» يعني: من رفع الصوت في التلبية. وإن كانت امرأة ... لا ترفع صوتها؛ لأنه يخاف الافتتان بها. وإن كان خنثى.. لم يرفع الصوت: لجواز أن يكون امرأة. [مسألة صفة التلبية وما يقول إذا فرغ منها] ] : والتلبية أن يقول: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ؛ لما روى ابن عمر: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلبي هكذا) .

وهل تكره الزيادة على ذلك؟ قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 182] : يكره؛ لما روي: «أن سعد بن أبي وقاص سمع ابنه يلبي ويقول: (لبيك يا ذا المعارج) ، فقال: (يا بني، أما إنه ذو المعارج، ولكنا لم نقل هكذا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وقال الشيخ أبو حامد: وذكر أهل العراق عن الشافعي: (أنه تكره الزيادة على ذلك) وغلطوا، بل لا يكره ذلك، ولا يستحب ذلك؛ لما روي في بعض الأخبار: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في تلبيته: " لبيك حقا حقا، عبودية ورقا» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجتمع عليه الناس، فلما تفرقوا عنه.. أعجبه ذلك، فقال: «لبيك إن

العيش عيش الآخرة» وروي: أن ابن عمر كان يزيد في تلبيته: (لبيك وسعديك والخير بيديك، والرغبة إليك والعمل) ، فدل على: أنه لا يكره الزيادة. إذا ثبت هذا: فيجوز كسر الهمزة من قوله: " إن الحمد " وفتحها، فالكسر على معنى الابتداء وهو أولى، والفتح بمعنى؛ لأن الحمد والنعمة لك. و (التلبية) : مأخوذة من قولهم: ألب بالمكان، إذا لزمه وأقام فيه، ومعناه: أنا مقيم عند طاعتك، وعلى أمرك، غير خارج عن ذلك، ولا شارد عنه، ثم ثنوه للتأكيد. قال الهروي: ومعنى " وسعديك "؛ أي ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة. فإذا فرغ من التلبية ... صلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] [الانشراح: 4] ، يقول: «لا أذكر إلا وتذكر معي» .

فرع التكلم أثناء التلبية وترجمتها

ثم يسأل الله رضوانه والجنة، ويستعيذ برحمته من النار؛ لما روى خزيمة بن ثابت: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسأل الله ذلك بعد التلبية) . [فرع التكلم أثناء التلبية وترجمتها] قال الشافعي: (ولا بأس أن يرد الملبي السلام، ويأمر ببعض حاجته، غير أني لا أحب له أن يأمر بحاجته. ويرد السلام؛ لأن الرد فرض، والتلبية سنة) . قال: (والأعجمي أن أحسن التلبية بالعربية، وإلا.. لبى بها بلسانه) . وقال أبو حنيفة: (يلبي بأي لغة شاء) ، كما قال في التكبير، وقد مضى الدليل عليه في الصلاة. [مسألة حلق الشعر للمحرم] وإذا أحرم.. حرم عليه حلق رأسه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]

[البقرة: 196] . ويحرم عليه حلق شعر البدن. وقال أهل الظاهر: (لا يحرم عليه غير حلق شعر الرأس) . دليلنا: أنه شعر يتنظف به ويترفه، فلم يجز للمحرم حلقه، كشعر الرأس، وتجب به الفدية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . قال ابن عباس: (معنى قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة: 196] أي: برأسه قروح [أو] فيه أذى) ، ومعني الآية: فحلق.. ففدية. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بكعب بن عجرة وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم، وهو يوقد تحت برمة له - والقمل ينحدر من رأسه - فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أتوذيك هوام رأسك يا كعب؟ " فقال: نعم، قال: " احلقه، وانسك شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو تصدق بثلاثة آصع على ستة مساكين» .

فرع حلق المحرم شعر الحلال

[فرع حلق المحرم شعر الحلال] ويجوز للمحرم حلق شعر الحلال، ولا شيء عليه بذلك. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز له ذلك، فإن فعل.. لزمه أن يتصدق بصدقة) . وقال مالك في إحدى الروايتين: (تلزمه الفدية) . ودليلنا: أنه شعر لا يتعلق به حرمة الإحرام، فلم يمنع من إزالته، ولا يجب عليه بإزالته شيء، كشعر البهيمة. [مسألة تقليم الأظافر للمحرم وإبانة أحد أعضائه] ويحرم عليه تقليم شيء من أظفاره؛ لأنه يقع به الترفه والنظافة، وهو مما ينمو، فحرم عليه، كالشعر، وتجب به الفدية قياسا على الشعر. فإن قطع المحرم يده، وعليها شعر وأظفار.. لم تجب عليه الفدية؛ لأن الشعر والظفر تابع لليد، فلا تنفرد بضمان، واليد لا يضمنها بالفدية، كذلك الشعر والظفر، بدليل: أنه لو كانت له زوجة صغيرة، فأرضعتها أمه.. انفسخ النكاح، وضمنت له المهر، ولو قتلتها.. انفسخ النكاح، ولم تضمن المهر. [مسألة غطاء رأس ووجه المحرم] ولا يجوز للرجل المحرم أن يغطي رأسه بمخيط ولا بغير مخيط، ويجوز له أن يغطي وجهه بغير المخيط. وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يجوز له أن يغطي وجهه، فإن فعل.. كان عليه الفدية) .

فرع عصابة المحرم

دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المحرم الذي خر من بعيره فمات: " كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما، ولا تقربوه طيبا، ولا تخمروا رأسه وخمروا وجهه» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المحرم: «لا يلبس عمامة ولا برنسا» ، والعمامة ليست بمخيطة، والبرنس مخيط، ولأن الوجه عضو لا يتعلق النسك بحلق شعره، فوجب أن يجوز للمحرم ستره، كسائر البدن. فإن غطى رأسه ... وجبت فيه الفدية؛ لأنه فعل محرم في الإحرام، فوجبت به الفدية، كحلق الرأس. [فرع عصابة المحرم] وإن عصب رأسه بخيط.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 188] : فلا بأس به؛ لأنه لا يقصد به الستر. وإن تعصب بعصابة.. فعليه الفدية؛ لأنه يقصد بها الستر.

فرع الحمل أو وضع اليد على الرأس للمحرم

[فرع الحمل أو وضع اليد على الرأس للمحرم] ] : وإن حمل المحرم على رأسه مكتلا.. فهل يلزمه الفدية؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق -: أنه لا فدية عليه؛ لأنه لا يقصد به ستر الرأس، وإنما يقصد حمله، فلم يمنع منه، كما لا يمنع المحدث من حمل المصحف في جملة القماش للنقل. والثاني: أن عليه الفدية، وحكى ابن المنذر والشيخ أبو حامد: أن الشافعي نص على هذا. ووجهه: أنه ستر رأسه، فأشبه ما لو طلاه بالطين أو الحناء. وإن ترك المحرم يده على رأسه.. فلا شيء عليه؛ لأن ذلك ليس بتغطية في العادة، ولأنه ستره بما هو متصل به، ولهذا لا يجوز أن يستر عورته بيده. [فرع الطلي بالحناء وغيره للمحرم] وإن طلا رأسه بحناء أو طين أو نورة، فإن كان ثخينا بحيث يمنع النظر إلى الرأس.. وجبت عليه الفدية، كما لو غطاه بثوب. وإن كان رقيقا.. لم تجب عليه الفدية، كما لو غسله بماء وسدر. قال الشافعي: (ولو طلاه بعسل أو لبن.. فلا فدية عليه) . [فرع ما يحرم لبسه للمحرم] ولا يجوز للرجل المحرم ستر بدنه بما عمل على قدره، كالقميص والجبة، ولا بما عمل على قدر عضو من أعضائه، كالسراويل والخفين والساعدين والقفازين،

فرع الجراحة ببدن المحرم أو رأسه

سواء كان معمولا بالخياطة، أو منسوجا على هيئته، أو ملزقا بلزاق؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عما يلبسه المحرم؟ فقال: " لا يلبس قميصا، ولا جبة، ولا عمامة، ولا برنسا، ولا سراويل، ولا خفين، إلا أن لا يجد نعلين.. فليلبس الخفين، وليقطعهما، حتى يكونا أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران» . فإن لبس شيئا مما ذكرناه.. وجبت عليه الفدية؛ لأنه محرم في الإحرام، فتعلقت به الفدية، كحلق الرأس. وإن لبس القباء.. وجبت عليه الفدية، سواء أدخل يديه في الكمين أو لم يدخلهما، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه الفدية إلا إذا أدخل يده في الكمين) . دليلنا: أنه لبس مخيطا على ما جرت العادة بلبسه، فوجبت عليه الفدية، كالقميص ولأن من لبس القباء.. فمن عادته أن يدخل كفيه فيه، ولا يخرج يديه من كميه في غالب الأحوال، ولا يكاد يخرج يده من كميه إلا لحاجة أو ركوب، فجرى مجرى القميص. [فرع الجراحة ببدن المحرم أو رأسه] وإن كان على المحرم جراحة، فشد عليها خرقة، فإن كانت في غير الرأس فلا شيء عليه؛ لأنه لا يمنع من تغطية بدنه بغير المخيط. وإن كانت على الرأس.. لزمته الفدية؛ لأنه يمنع من تغطية رأسه بالمخيط وغيره.

فرع ما يقاس على السراويل وما يصنع بالإزار للمحرم

[فرع ما يقاس على السراويل وما يصنع بالإزار للمحرم] فرع: [ما يقاس على السراويل وما يصنع بالإزار] : والتبان والران كالسراويل؛ لأنه في معناه، فإن شق إزارا وجعل على كل ساق قطعة، وشد كل خرقة على ساق.. لم يجز؛ لأنه كالسراويل. وله أن يعقد إزاره؛ لأنه من مصلحته، ويجوز أن يعقد على الإزار تكة أو خيطا، ويجوز أن يجعل له حجزة ويدخل التكة فيها ويعقده؛ لأن كل هذا من مصلحته، ولا بأس أن يتوشح بالرداء، ويغرز أطرافه في أطراف إزاره. ولا يزره ولا يشوكه، ولا يعقده عليه. قال الشيخ أبو حامد: فإن فعل شيئا من ذلك.. وجبت عليه الفدية. وذكر الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": أنه إذا عقد عليه رداءه.. لم تجب عليه الفدية؛ لأنه ليس بمخيط، فهو كما لو التحف به.

فرع لبس السراويل لفاقد الإزار

[فرع لبس السراويل لفاقد الإزار] إذا لم يجد إزارا.. جاز أن يلبس السراويل، ولا فدية عليه، هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\189] : إذا كان يمكنه فتق السراويل والائتزار به فلبسه قبل الفتق ... كان عليه الفدية. وقال مالك: (لا يجوز له لبسه، فإن فعل.. فعليه الفدية) . وقال أبو حنيفة: (يفتقه ويلبسه، فإن لبسه من غير فتق.. فعليه الفدية) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن لم يجد الإزار.. فليلبس السراويل» . وإن لم يجد الإزار.. لم يجز له لبس القميص؛ لأنه يمكنه لبسه على صفته، كالمئزر، بخلاف السراويل.

فرع لبس المنطقة وما أشبهها للمحرم

فإن لبس السراويل مع عدم الإزار، ثم وجد الإزار.. لزمه خلع السراويل، فإن لم يفعل مع العلم.. وجبت عليه الفدية؛ لأنه إنما جاز له لبس السراويل بشرط عدم الإزار، وقد وجده. [فرع لبس المنطقة وما أشبهها للمحرم] فرع: [لبس المنطقة وما أشبهها] : ويجوز للمحرم أن يلبس المنطقة، ويشدها على وسطه. وأصحابنا يحكون عن مالك: أنه قال: (لا يجوز له ذلك) . وأصحابه يحكون عنه: (أنه يجوز) . دليلنا: ما روي: (أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سئلت عن المحرم يشد الهميان في وسطه؟ فقالت: نعم) . وله أن يتقلد السيف، ويتنكب المصحف؛ لـ: (أن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلوا المسجد متقلدين السيوف، وهم محرمون) .

فرع لبس الخفين عند فقد النعلين للمحرم

[فرع لبس الخفين عند فقد النعلين للمحرم] فرع: [لبس الخفين عند فقد النعلين] : ولا يجوز للمحرم لبس الخفين؛ للخبر، فإن فعل.. وجبت عليه الفدية، قياسا على الحلق. فإن لم يجد نعلين.. جاز له أن يلبس الخفين بعد أن يقطعهما من أسفل الكعبين، ويجعلهما شمشكين. فإن لبسهما قبل القطع مع عدم النعلين.. لزمته الفدية، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال عطاء، وسعيد بن سالم القداح، وأحمد بن حنبل: (لا فدية عليه) . دليلنا: ما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فإن لم يجد نعلين.. فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين» . فإن وجد النعلين.. فهل يجوز له استدامة لبس الخفين المقطوعين؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو المنصوص -: أنه لا يجوز له، كما قلنا في لبس السراويل بعد وجود الإزار. والثاني: يجوز - وبه قال أبو حنيفة - لأنهما في معنى النعلين، بدليل: أنه

فرع إدخال إحدى الرجلين بالخف أو كليهما إلى الساق

لا يجوز المسح عليهما. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الخف المخرق لا يجوز المسح عليه، ولا يجوز للمحرم لبسه. [فرع إدخال إحدى الرجلين بالخف أو كليهما إلى الساق] ذكر الصيمري إذا أدخل الرجلين إلى ساق الخفين، أو أدخل إحدى الرجلين إلى قرار الخف دون الأخرى.. فلا فدية عليه؛ لأنه ليس بلابس الخفين. [مسألة إحرام المرأة] وإذا أحرمت المرأة.. فإنه لا يجب عليها كشف رأسها، ولكن لا يجوز لها تغطية وجهها، ولسنا نريد بذلك أنها تبرزه للناس، وإنما نريد أنها لا تغطيه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إحرام المرأة في وجهها» فدل: على أن حكمه لا يتعلق بالرأس. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى المرأة المحرمة عن النقاب» . ولأن رأسها عورة وكشف العورة لا يجوز.

إذا ثبت هذا: فلها أن تستر من وجهها ما لا يمكنها ستر الرأس إلا به، كما نقول في المتوضئ: إنه يغسل جزءا من رأسه؛ لاستيفاء غسل الوجه. فإن أرادت المرأة أن تستر وجهها عن الناس.. عقدت الثوب على رأسها، وسدلته على وجهها، وجافته عن الوجه بعود حتى لا يقع على وجهها؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن محرمات، فكان إذا مر بنا الركبان وحاذوا بنا.. سدلت إحدانا جلبابها من فوق رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا.. رفعته» . فإن وقع الثوب على وجهها بغير اختيارها، فإن رفعته في الحال.. فلا شيء عليها. وإن أقرته مع القدرة على رفعه، وهي ذاكرة عالمة بالتحريم.. وجبت عليها الفدية. ويجوز لها لبس القميص والسراويل والخفين؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى النساء في إحرامهن عن النقاب والقفازين وما مسه الورس والزعفران، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف» .

فرع تغطية رأس ووجه الخنثى وما يلبسه

وهل يجوز لها لبس القفازين، وهو مخيط يلبس على الكفين بمنزلة الخفين على الرجلين؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز - وبه قال الثوري وأبو حنيفة، وحكي عن سعد بن أبي وقاص - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرم المرأة في وجهها» ، ولأنه عضو يجوز لها ستره بغير المخيط، فجاز لها ستره بالمخيط كرجلها. والثاني: لا يجوز، وبه قال علي، وعمر، وعائشة، وهو الصحيح؛ لحديث ابن عمر، ولأن يدها ليست بعورة منها فيتعلق بها حكم الإحرام، كالوجه. [فرع تغطية رأس ووجه الخنثى وما يلبسه] قال القاضي أبو الفتوح: وإن كان المحرم خنثى مشكلا، فإن غطى رأسه.. لم تجب عليه الفدية؛ لجواز أن تكون امرأة. وإن غطى وجهه.. لم تجب عليه الفدية؛

مسألة حكم استعمال الطيب للمحرم

لجواز أن يكون رجلا. وإن غطاهما جميعا.. وجبت عليه الفدية؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون امرأة أو رجلا. فإن قال: أنا أكشف رأسي ووجهي.. قلنا: في إخلال بالواجب. قال القاضي أبو الفتوح: ولو قيل: يؤمر بكشف الوجه.. كان صحيحا؛ لأنه إن كان رجلا، فكشف الوجه لا يؤثر، ولا هو ممنوع من كشفه. وإن كان امرأة فهو الواجب عليه. قلت: وعلى قياس ما قاله القاضي أبو الفتوح: إذا لبس الخنثى قميصا أو سراويل أو خفا.. لم يجب عليه الفدية: لجواز أن يكون امرأة، ويستحب له أن لا يستر بالقميص والسراويل والخفين: لجواز أن يكون رجلا، ويمكنه أن يستر ذلك من بدنه بغير المخيط. [مسألة حكم استعمال الطيب للمحرم] ويحرم على المحرم استعمال الطيب في ثيابه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس ولا زعفران» ، فنص على الورس والزعفران؛ لينبه على غيرهما؛ لأن غيرهما من الطيب أعلى منهما. ولا يجوز أن يلبس ثوبا مبخرا بالطيب، كالثوب المبخر بالند أو العود. ولا يلبس ثوبا مصبوغا بماء الورد وغيره؛ لأن ذلك كله طيب. ولا يجوز له الجلوس عليه، ولا الاضطجاع؛ لأن ذلك استعمال للطيب، فإن فرش فوقه ثوبا آخر غير مطيب وجلس عليه، فإن كان ذلك الثوب صفيقا.. فلا شيء عليه؛ لأن تلك الرائحة عن ثياب مجاورة.

فرع زوال رائحة الثوب المطيب

وإن كان رقيقا بحيث لا يمنع من مس بشرته المطيب.. كان عليه الفدية؛ لأن وجود ما فوقه كعدمه. وإن كان رقيقا إلا أنه يمنع من مس المطيب.. كره له ذلك، ولا فدية عليه؛ لأنه غير مباشر للطيب. [فرع زوال رائحة الثوب المطيب] وإن انقطعت رائحة الثوب المطيب؛ لطول مكثه بحيث لا تفوح رائحة الطيب، وإن أصابه الماء.. جاز له لبسه، ولا فدية عليه وإن كان لون الطيب ظاهرا؛ لأن الاعتبار في الطيب بالرائحة دون اللون، ألا ترى أن العصفر أشهر لونا من الطيب، ولا شيء فيه؟ وهكذا إن صبغ الثوب المطيب بصبغ غيره، فقطع رائحة الطيب.. جاز له لبسه لما ذكرناه. ولا يجوز له استعمال الطيب في خفه؛ لأنه ملبوس، فأشبه الثوب. فإن فعل شيئا من ذلك، عالما بالتحريم.. وجبت عليه الفدية؛ لأنه محرم في الإحرام، فتعلقت به الفدية، كالحلق. [فرع استعمال الطيب في البدن أو في الأكل والشرب] ولا يجوز له استعمال الطيب في بدنه؛ لأنه إذا لم يجز له لبس الثوب المطيب.. فلأن لا يجوز له تطييب بدنه أولى، وهكذا لا يجوز له أكل الطيب، ولا الاكتحال به، ولا الاستعاط به، ولا الاحتقان به؛ لأن ذلك أكثر من استعماله في ظاهر بدنه.

فإن فعل شيئًا من ذلك عالما بتحريمه.. وجبت به الفدية، قياسا على الحلق وإن جعل الطيب في مأكول أو مشروب.. نظرت: فإن لم يكن له طعم ولا لون، ولا رائحة.. جاز له أكله وشربه؛ لأنه قد صار كالمعدوم. وإن بقي له رائحة.. لم يجز له أكله ولا شربه، فإن فعل.. وجبت عليه الفدية. وقال أبو حنيفة: (إن طبخ.. فلا فدية عليه؛ لأنه قد استحال بالطبخ، وإن لم يطبخ.. فلا كفارة عليه، ولكن يكره؛ لبقاء الرائحة) . دليلنا: أن الترفه به حاصل، فهو كما لو كان متميزًا. وإن بقي لونه دون رائحته.. فذكر الشافعي في موضع من كتبه: (أن فيه الفدية) وذكر في موضع آخر: (أنه لا فدية عليه) واختلف أصحابنا فيه على طريقين: فـ[الأول] : قال أبو إسحاق: لا فدية عليه قولا واحدا؛ لأن المقصود هو الرائحة، وقد ذهبت، وحيث قال: (عليه الفدية) .. أراد: إذا بقيت له رائحة؛ لأن اللون إذا بقي.. فالظاهر أن الرائحة تبقى. و (الثاني) : قال أبو العباس: فيه قولان: أحدهما: يجب عليه الفدية؛ لأن بقاء اللون يدل على بقاء الرائحة. والثاني: لا يجب عليه الفدية؛ لأن مجرد اللون ليس بطيب، كالعصفر. وأما إذا بقي طعم الطيب لا غير.. فذكر ابن الصباغ فيها ثلاث طرق: [الأول] : من أصحابنا من قال: لا فدية عليه قولا واحدا. و [الثاني] : منهم من قال: فيه قولان. و [الثالث] : منهم من قال: تجب الفدية قولا واحدا؛ لأن الطعم لا يخلو من رائحة، بخلاف اللون.

مسألة ما يحرم من النبات للمحرم

[مسألة ما يحرم من النبات للمحرم] النبات على ثلاثة أضرب: ضرب: ينبت للطيب، ويتخذ منه الطيب، وهو الورس، والزعفران، والورد، والكاذي، والياسمين، والصندل، فهذا لا يجوز للمحرم شمه رطبا، ولا يابسا، ولا يلبس ما صبغ به. وفي معناه: الكافور والمسك والعنبر لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نص على الورس والزعفران، ونبه على ما في معناهما، وما هو أعلى منهما) . وقال الصيدلاني: و (العنبر) : نبت ينبت في البحر يبلعه حوت، وأما (الكافور) : فهو صمغ شجرة.. وضرب: لا ينبت للطيب! ولا يتخذ منه الطيب، مثل: الشيح، والقيصوم وشقائق النعمان، والإذخر. وكذلك ما يؤكل منه، كالتفاح، والسفرجل، والأترج، والزنجبيل، والدارصيني، والمصطكي، والفلفل، وما كان

في معناه، فهذا يجوز للمحرم شمه وأكله وصبغ الثوب به؛ لأنه لا ينبت للطيب ولا يتخذ منه الطيب. وضرب: ينبت للطيب، ولا يتخذ منه الطيب، كـ (الريحان الفارسي) : وهو ما لا يبقى ريحه على الماء. والآس، والنرجس واللينوفر، والرياحين كلها، ففيها قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (يجوز للمحرم شمها وصبغ الثوب بها) ، وبه قال عثمان بن عفان، حيث قيل له: أيدخل المحرم البستان؟ قال: (نعم، ويشم الريحان) ، ولأنه نبات لا يتخذ منه الطيب، فأشبه الشيح والقيصوم. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجوز) ، وبه قال ابن عمر، وهو الصحيح؛ لأنه ينبت للطيب، فأشبه الورد.

فرع استعمال العصفر والحناء للمحرم

وأما البنفسج: فقد قال الشافعي: (لا شيء فيه؛ لأنه مربب للدواء) ، واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق: فـ[الأول] : منهم من قال: بظاهر قوله، وأنه لا فدية فيه؛ لأنه لا يراد للطيب وإنما يراد لتربيب الدواء به. و [الثاني] : منهم من قال: هو طيب قولا واحدا، كالورد، وإنما أراد الشافعي: (لا شيء فيه) إذا جف وربب به الدواء؛ لأن معنى الطيب قد زال عنه. و [الثالث] : منهم من قال: فيه قولان، كالريحان الفارسي. واختلف أصحابنا في القرنفل: فذكر الصيمري: أنه طيب كالزعفران. وذكر الصيدلاني: أنه ليس بطيب، بل هو نبت ينبته الأدميون، كالأترج والدارصيني. والأول أظهر. [فرع استعمال العصفر والحناء للمحرم] فرع: [استعمال العصفر والحناء] : والعصفر والحناء ليس واحد منهما بطيب عندنا. وحكى المسعودي [في " الإبانة "، ق \ 190] : أن الشافعي قال: (لو اختضبت امرأة بالحناء، ولفت بيدها خرقة.. فعليها الفدية) .

مسألة الدهن للمحرم

فمنهم من قال: فيه قولان. ومنهم من قال: ليس بطيب قولا واحدا، وإنما القولان في لف الخرقة كالقولين في القفازين. وهذه طريقة البغداديين من أصحابنا. وقال أبو حنيفة: (العصفر والحناء طيبان، فإذا لبس المعصفر، فإذا نفض عليه الحمرة.. فعليه الفدية. وإن لم ينفض عليه الحمرة.. فلا فدية عليه) . دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وليلبسن ما أحببن من معصفر» و «نهاهن عن لبس ما مسه ورس أو زعفران» ، ولو كان المعصفر طيبا.. لما رخص لهن في لبسه وأما الحناء: فروي «أن عائشة وأزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كن يختضبن بالحناء وهن محرمات» ولأنه يقصد منه لونه، فأشبه (المشق) وهو المغرة. [مسألة الدهن للمحرم] وأما الدهن: فعلى ضربين: ضرب: فيه طيب. وضرب: لا طيب فيه. فأما ما فيه طيب: فهو كدهن الورد والزنبق، ودهن البان المنشوش فلا يجوز

للمحرم استعماله في شيء من بدنه ولا شعره؛ لأنه طيب. وأما ما ليس بطيب: كالزيت، والشيرج، واللبان الذي ليس بمنشوش والبنفسج، والزبد، والسمن، فيجوز له استعماله في بدنه ظاهره وباطنه، ولا يجوز له استعماله في رأسه ولحيته. وقال مالك: (إن دهن به ظاهر البدن.. فعليه الفدية، وإن دهن به باطنه.. فلا فدية عليه) . وقال الحسن بن صالح: إذا دهن رأسه ولحيته بما لا طيب فيه.. فلا شيء عليه. وقال أبو حنيفة: (إذا استعمل الزيت أو الشيرج في شيء من رأسه أو بدنه أو لحيته.. فعليه الفدية، إلا أن يداوي به جرحه أو شقوق رجله) . دليلنا: ما روى ابن عمر، وابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دهن بدنه بزيت غير مقتت، وهو محرم» قال أبو عبيد: أي: غير مطيب. وهذا على مالك وأبي حنيفة. وعلى الحسن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الحاج أشعث أغبر) والدهن في الرأس واللحية يزيلهما، فمنع منه.

فرع شم الريح الطيب للمحرم من غيره

فإن دهن رأسه ولحيته بما لا طيب فيه وهو أصلع، أو دهن الأمرد لحييه بذلك فلا شيء عليه؛ لأنه لا يوجد فيه ترجيل الشعر. وإن كان رأسه محلوقا، فدهنه بما لا طيب فيه قبل أن ينبت الشعر ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 190] : أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد، والبغداديين من أصحابنا -: أن عليه الفدية؛ لأن الدهن يحسن نبات الشعر ويزينه، فهو كما لو دهن الشعر. والثاني - وهو قول المزني، واختيار المسعودي [في " الإبانة " ق \ 190] أنه لا شيء عليه، إذ لا شعر عليه. فيزول به شعثه. وإن كان في رأسه شجة، فجعل الدهن في داخلها.. قال الصباغ: فلا شيء عليه. [فرع شم الريح الطيب للمحرم من غيره] وللمحرم أن يجلس عند الكعبة وهي تجمر، وإن كان يشم ريح الطيب؛ لأن ذلك ليس مما يتطيب به الإنسان في العادة. ولا يكره له الجلوس عندها؛ لأن ذلك قربة وله أن يجلس عند العطار، وعند رجل مطيب، ولا شيء عليه في ذلك كله لما ذكرناه، وهل يكره له ذلك؟ ينظر فيه: فإن جلس إليه لحاجة.. لم يكره.

فرع شراء المحرم الطيب

وإن جلس ليشم الطيب.. فحكى الشيخ أبو حامد فيه قولين: أحدهما: لا يكره، كما لا يكره الجلوس عند الكعبة وهي تجمر. والثاني: يكره له ذلك، كما لو أخذ الطيب في صرة فشمه. [فرع شراء المحرم الطيب] ويجوز للمحرم أن يشتري الطيب، كما يجوز له أن يشتري المخيط والجارية. قال الشافعي في " الأم " [2/129] (فإن عقد طيبا، فحمله في خرقة أو غيرها وريحه يظهر منها.. لم يكن عليه فدية، وكرهت له ذلك) . قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من قال: إذا جعل المسك في خرقة، وقصد شمه.. لزمته الفدية، وحمل كلام الشافعي إذا لم يقصد شمه. وهكذا قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 191] : التطيب يقع بإمساك الطيب معه وإن لم يستهلك عينه. ومن قال بالأول.. قال: هذه رائحته عن مجاورة، فأشبه إذا جلس في العطارين. [فرع مس المحرم الطيب] وإذا مس المحرم طيبا.. فلا يخلو: إما أن يكون رطبا أو يابسا. فإن كان يابسا، كالمسك والكافور والذريرة، فإن علق بيده لونه وريحه.. كان عليه الفدية؛ لأن الطيب هكذا يستعمل، فهو كما لو تبخر بالعود.

فرع وجوب إزالة الطيب عن المحرم

فإن بقي في يده الرائحة، دون اللون.. ففيه قولان: أحدهما: لا فدية عليه؛ لأن هذه الرائحة عن مجاورة، فهو كما لو جلس عند الكعبة وهي تجمر. والثاني: عليه الفدية؛ لأن هذه رائحة عن مباشرة، فهو كما لو بقي معه اللون. وإن كان الطيب رطبا، فإن علم أنه رطب، وقصد إلى مسه، فعلق بيده منه.. لزمته الفدية. وإن مسه، وعنده أنه يابس، فكان رطبا، فعلق بيده منه.. ففيه قولان: أحدهما: أن عليه الفدية؛ لأنه مس الطيب عن قصد منه وعلق به، فكان عليه الفدية، كما لو مسه مع العلم برطوبته. والثاني: لا فدية عليه؛ لأن تعلق الطيب بيده كان بغير اختياره، فلم يكن عليه الفدية، كما لو رش عليه ماء ورد بغير اختياره. ولو كان أخشم، فتطيب.. وجبت عليه الفدية؛ لأنه قد وجد منه استعمال الطيب مع العلم بتحريمه وإن لم ينتفع به، فوجبت عليه الفدية، كما لو حلق رأسه ولم يرتفق به. [فرع وجوب إزالة الطيب عن المحرم] وإذا تطيب المحرم.. وجب عليه إزالة الطيب، والمستحب له: أن يأمر محلا بإزالته عنه، حتى لا يباشره بنفسه. فإن أزاله بنفسه ومسه عند الإزالة.. جاز؛ لأن ذلك ليس بتطيب، وإنما هو إزالة. فإن كان معه من الماء ما لا يكفيه لغسل الطيب والطهارة به، فإن لم يمكنه إزالة الطيب بغير الماء.. فإنه يغسل الطيب بالماء، ويتيمم لأن للوضوء بدلا. وإن أمكنه

مسألة عقد النكاح للمحرم

إزالة الطيب بغير ماء.. أزاله به وتوضأ بالماء؛ لأن المقصود إزالة رائحة الطيب، وذلك قد يحصل بغير الماء. وإن كان معه ماء يحتاج إليه لغسل نجاسة عليه، وعليه طيب.. أزال النجاسة بالماء؛ لأن النجاسة تمنع صحة الصلاة، والطيب لا يمنع صحة الحج. [مسألة عقد النكاح للمحرم] ولا يجوز للمحرم أن يتزوج ولا يزوج غيره بالولاية الخاصة، كتزوجه ابنته أو أخته، ولا أن يتوكل للزوج ولا للولي، ولا يزوج المرأة المحرمة. وبه قال من الصحابة: عمر، وعلي، وابن عمر، وزيد بن ثابت. وفي التابعين: سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والزهري. وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يتزوج ويزوج غيره) ، وبه قال الحكم.

دليلنا: ما روى عثمان بن عفان: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ينكح المحرم ولا ينكح، ولا يخطب» .

فرع تزويج الإمام المحرم

ولأنها عبادة تحرم الطيب، فتمنع النكاح، كالعدة، وفيه احتراز من الصوم والاعتكاف. إذا ثبت هذا: فإن عقد المحرم النكاح، أو عقد على المرأة المحرمة النكاح.. كان باطلا ويفرق بينهما بغير طلاق. وقال مالك: (يفرق بينهما بطلقة) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينكح المحرم، ولا ينكح» ، والنهي يقتضي: فساد المنهي عنه، ولأن الطلاق من خصائص أحكام النكاح، فلم يتعلق بالفاسد، كالإيلاء والظهار. [فرع تزويج الإمام المحرم] وهل يجوز للإمام والحاكم المحرمين أن يزوجا بالولاية العامة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لعموم الخبر. والثاني: يجوز؛ لأن الولاية العامة أوسع، بدليل: أن له أن يزوج الكافرة، ولا يملك الرجل المسلم تزويج ابنته الكافرة. ولأن بالناس إلى النكاح حاجة، وفي منع النكاح من الإمام والحاكم إذا كانا محرمين مشقة. [فرع الزواج في الإحرام الفاسد وتوكيل الحلال المحرم] ] : وإن فسد إحرامه.. لم يجز له أن يتزوج فيه، أو يزوج؛ لأن حكم الإحرام الفاسد - فيما يمنع منه - حكم الصحيح.

فرع توكيل المحل قبل إحرامه مثله ليتزوج له والعكس

قال في " الإبانة " [ق \ 196] : إذا وكل حلال محرما ليوكل له محلا، ليتزوج له.. جاز؛ لأنه مستعار بينهما. [فرع توكيل المحل قبل إحرامه مثله ليتزوج له والعكس] وإن وكل محل محلا ليتزوج له امرأة، فأحرم الموكل، وتزوج له الوكيل، فإن اتفق الزوجان أن العقد وقع بعد إحرام الموكل.. حكم بفساد النكاح. وإن اختلفا، فإن كان مع أحدهما بينة: أن العقد وقع بعد إحرام الموكل.. حكم بفساده أيضا. وإن لم تكن بينة.. نظرت: فإن ادعت الزوجة: أن العقد وقع بعد الإحرام، وأنكر الزوج.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الظاهر سلامة العقد مما يفسده. وإن ادعت المرأة صحة العقد، وادعى الزوج فساده.. فالقول قولها مع يمينها؛ لما ذكرناه، ولكن يحكم بانفساخه في الحال؛ لأنه أقر بتحريمها عليه. فإن كان قبل الدخول.. كان لها نصف المهر. وإن كان بعد الدخول.. وجب لها جميعه. وإن لم يدع الزوجان شيئا من ذلك، وشكا: هل كان العقد قبل الإحرام أو بعده؟ قال الشافعي: (فالنكاح صحيح في الظاهر) ؛ لأن العقد قد وقع صحيحا في الظاهر. والأصل أن لا إحرام. قال (غير أني أحب له في الورع أن ينزل عنها بطلقة؛ لجواز أن يكون قد وقع بعد الإحرام؛ لتحل لغيره بيقين) . فأما إذا وكل المحرم محلا ليتزوج له امرأة، فحل المحرم من إحرامه، وتزوج له الوكيل بالوكالة الأولى.. فالنكاح صحيح؛ لأن الاعتبار بحال العقد، وفساد الوكالة لا يوجب فساد العقد، كما لو وكل رجلا في بيع شيء وكالة فاسدة، فباعه.. فإن البيع صحيح. ولو وكل صبي وكيلا في بيع شيء، فلم يبع الوكيل حتى بلغ الصبي، ثم باع.. فالبيع باطل. والفرق بينهما: أن قول الصبي لا حكم له، فلم يتعلق بإذنه جواز التصرف، وليس كذلك هاهنا، فإن الوكالة وإن كانت فاسدة، إلا أن الإذن قائم.

فرع شهادة المحرم في النكاح وخطبة المحرم

[فرع شهادة المحرم في النكاح وخطبة المحرم] فإن كان الزوجان والولي محلين، والشاهدان محرمين.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه لا يصح النكاح؛ لأنه قد روي في بعض الأخبار: «لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يشهد» ، ولأن الشهادة أحد ما ينعقد به النكاح، فمنع منه الإحرام، كالزوجين والولي. و [الثاني]- وهو المنصوص، وبه قال عامه أصحابنا -: أنه يصح، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي وشاهدين» . ولم يفرق في الشاهدين، بين أن يكونا محلين أو محرمين. ولأن الشاهد لا صنع له في النكاح. وأما ما احتجوا به من الخبر: فغير ثابت، وإن صح.. حمل على أنه لا يشهد في نكاح عقده الولي، وهو محرم. قال الشافعي: (وأحب له أن لا يخطب) ؛ لحديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ولا يخطب) فإن خطب.. لم يحرم عليه.

فرع جواز مراجعة المحرم

والفرق بين الإحرام والعدة، حيث حرمنا فيها الخطبة؛ لأنه ربما دعت الخطبة المرأة إلى أن تخبرنا بانقضاء عدتها قبل انقضائها، وهذا مأمون في مسألتنا. [فرع جواز مراجعة المحرم] ويجوز للمحرم أن يراجع زوجته، وبه قال كافة أهل العلم. وقال أحمد: (لا يجوز له أن يراجعها) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . ولم يفرق. ولأن الرجعة عقد لا يفتقر إلى الإشهاد، فلم يمنع منه الإحرام، كالبيع. أو لأنه استباحة بضع يختص به الزوج، فلم يمنع منه الإحرام، كالتكفير في الظهار. [مسألة تحريم الوطء والمباشرة في الإحرام] ] : ويحرم على المحرم الوطء في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] . ومعنى قوله: (فرض) أي: أوجب. قال ابن عباس: (الرفث: الجماع) . وتجب به الكفارة على ما يأتي ذكرها، إن شاء الله تعالى. ويحرم عليه المباشرة فيما دون الفرج بشهوة؛ لأنه إذا حرم عليه عقد النكاح..

مسألة صيد المحرم

فلأن يحرم عليه المباشرة بشهوة - وهي أدعى إلى الوطء في الفرج - أولى، وتجب به الفدية على ما يأتي ذكرها، إن شاء الله تعالى. [مسألة صيد المحرم] ويحرم على المحرم أخذ صيد البر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] [المائدة: 96] . و (الحرم) : جمع حرام، و (الحرام) : هو المحرم. ولقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] [المائدة: 2] فأباح الاصطياد للمحرم، إذا حل، فدل على: أنه كان قبل التحلل محرما عليه. فإن أخذه.. لم يملكه، كما لو غصب مال غيره. فإن كان الصيد مملوكا لآدمي.. وجب عليه رده إلى مالكه. وإن كان مباحا.. وجب عليه أن يرسله في موضع يمتنع فيه عمن يأخذه. ولا يزول عنه الضمان إلا بذلك؛ لأن ما حرم أخذه لحق الغير، إذا أخذه.. وجب رده على مالكه، كالمغصوب. وإن تلف عنده.. وجب عليه الجزاء، كما لو غصب مال غيره وتلف عنده. [فرع هلاك الصيد بإنقاذه] قال الشافعي: (وإن خلص حمامة من فم هرة أو سبع أو شق جدار لحجت فيه أي بغرر أو أصابتها لدغة فسقاها ترياقا أو غيره ليداويها، فماتت.. فلا ضمان عليه؛ لأنه أراد صلاحها ومداواتها. ولو قال قائل: إن عليه الضمان؛ لأنه قد أراد صلاحها، إلا أنها تلفت في يده، فضمها باليد.. كان وجها محتملا) ؛ فحصل فيها قولان.

فرع صيد البحر

[فرع صيد البحر] وإن أخذ المحرم شيئا من صيد البحر.. جاز، ولا جزاء عليه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] [المائدة: 96] . فأحل صيد البحر، ولم يفرق، وخص تحريم صيد البر على المحرم، فدل على أن صيد البحر لا يحرم عليه. [فرع قتل المحرم الصيد] وما حرم على المحرم أخذه من الصيد.. حرم عليه قتله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] . فإن قتله عمدا أو خطأ.. وجب عليه الجزاء، وبه قال عامة الفقهاء. وقال داود: (إن قتله عمدا.. وجب عليه الجزاء، وإن قتله خطأ.. لم يجب عليه) ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد. وقال مجاهد: إن قتله عمدا.. لم يجب عليه الجزاء؛ لأن ذنبه أعظم من أن يكفره الجزاء. وإن قتله خطأ أو ناسيا لإحرامه.. وجب عليه الجزاء. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] . وهذا يسقط قول مجاهد. وعلى داود: ما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الضبع صيد، وفيه كبش إذا أصابه المحرم» ، ولم يفصل. ولأن هذا تكفير يتعلق بالقتل، فاستوى فيه العمد والخطأ، ككفارة القتل.

فرع قتل المحرم للصيد المملوك

[فرع قتل المحرم للصيد المملوك] وإن كان الصيد المقتول مملوكا لآدمي، فقتله ... فعليه القيمة لمالكه، والجزاء للمساكين، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك والمزني: (تجب فيه القيمة دون الجزاء) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] . ولم يفصل بين المملوك والمباح. ولأنه صيد ممنوع من قتله؛ لحرمة الإحرام، فوجب بقتله الجزاء، كغير المملوك. [فرع جرح الصيد وإتلاف بعضه] ويحرم عليه جرح الصيد وإتلاف أجزائه؛ لأن ما منع من إتلافه لحق الغير.. منع من جرحه وإتلاف أجزائه، كالآدمي. فإن جرحه أو أتلف جزءا منه.. وجب عليه الجزاء. وقال مالك وأبو حنيفة وداود: (لا جزاء عليه في جرح الصيد، ولا في قطع عضو منه) . دليلنا: أن الصيد حيوان مضمون بالإتلاف، فوجب أن تكون الجناية عليه مضمونة، قياسا على العبد وسائر الدواب.

فرع تنفير الصيد

[فرع تنفير الصيد] ويحرم عليه تنفير الصيد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة: «لا ينفر صيدها» ، وإذا حرم ذلك في صيد الحرم.. حرم ذلك على المحرم. فإن نفره، فتلف من نفوره، بأن صدمة شيء أو وقع في ماء أو بئر أو أكله في حال نفوره حية أو سبع.. فإن عليه الجزاء؛ لما روي: أن عمر علق رداءه، فوقع عليه طير، فخاف أن ينجسه، فطيره فنهشته حية، فقال: (أنا طردته حتى نهشته الحية، فسأل من كان معه أن يحكموا عليه، فحكموا عليه بشاة) . ولأنه تلف بسبب فعله، فهو كما لو جرحه، فمات. قال الشافعي: (وإن كان راكبا دابة، أو سائقا لها، أو قائدا لها، فأتلفت بفمها أو يديها أو رجلها أو ذنبها صيدا.. فعليه الجزاء) ؛ لأنها في يده، فكانت جنايتها كجنايته. [فرع قتل الصيد وغيره بسبب فعله] قال الشافعي في القديم: (وإن رمى المحرم إلى صيد سهما، فأصابه وأنفذه إلى آخر، فأصابه وقتلهما ... كان عليه جزاؤهما) ؛ لأن الأول قتله عمدا، والثاني قتله خطأ.

فرع الدلالة والإعانة على قتل الصيد

وإن رمى إلى صيد سهما.. فأصابه، فاضطرب الصيد، فوقع على فرخة فقتلها، أو على بيضة فكسرها.. كان عليه ضمان الصيد والفرخ والبيض؛ لأن الصيد قتله بفعله، والفرخ والبيض بسبب فعله. [فرع الدلالة والإعانة على قتل الصيد] ويحرم على المحرم أن يعين على قتل الصيد بدلالة أو إعارة آلة؛ لأن ما منع من إتلافه.. حرمت عليه الإعانة على قتله، كالآدمي. فإن خالف وأعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة.. كان الجزاء على قاتله إن كان محرما، ولا شيء عليه إن كان محلا، ولا يجب على المعين جزاء، سواء كانت الدلالة أو إعارة الآلة مما يستغنى عنهما، بأن يكون الصيد ظاهرا يراه كل أحد، فدل عليه المحرم، أو أعار القاتل سلاحا ومعه مثله. أو كان ما فعله مما لا يستغني عنه القاتل، بأن يكون الصيد مختفيا لم يره غير المحرم، أو أعار القاتل سلاحا وليس مع المستعير ذلك. وبهذا قال مالك. وقال أبو حنيفة في الدلالة الظاهرة وإعارة السلاح الذي يستغنى عنه مثل قولنا. فأما في الدلالة الخفية وإعارة ما لا يستغني عنه القاتل.. فعلى كل واحد منهما جزاء. وقال عطاء ومجاهد وحماد وأحمد: (إن كانا محرمين.. وجب عليهما جزاء واحد، وإن كان القاتل حلالا.. وجب الجزاء على المحرم المعين) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] .

فرع أكل المحرم للصيد

والدال والمعير ليسا بقاتلين للصيد. ولأن ضمان الصيد ضمان نفس، فوجب أن لا يتعلق بالدلالة وإعارة السلاح، كضمان الآدمي. [فرع أكل المحرم للصيد] يجوز للمحرم أكل ما لم يصد له، ولا أعان على قتله. فإن صيد له.. حرم عليه أكله سواء علم به وأمر، أو لم يعلم به ولم يأمر. وكذلك يحرم عليه أكل ما أعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة، سواء دل عليه دلالة ظاهرة أو خفية، وسواء أعاره ما يستغني عنه القاتل أو ما لا يستغني عنه. وقال أبو حنيفة كقولنا فيما صيد له بأمره، أو كان له أثر لا يستغني عنه القاتل. فأما إذا صيد له بغير علمه، أو أعان عليه بدلالة ظاهرة أو إعارة آلة يستغني عنها القاتل.. فيجوز له أكله. وقال بعض الناس: لا يجوز للمحرم أكل الصيد بحال. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصيد حلال لكم، ما لم تصيدوه أو يصد لكم» . وهذا

يبطل قول من قال: لا يحل الصيد بحال وقول أبي حنيفة. وما «روى أبو قتادة قال: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وهم محرمون، وأنا حلال، فرأيت حمارا وحشيا، فسألتهم أن يناولوني رمحا، فلم يفعلوا، وسألتهم أن يناولوني سوطا، فلم يفعلوا، فشددت على دابتي فأخذته، فبعضهم أكل وبعضهم لم يأكل، ثم أخبروا بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " طعمة أطعمكموها الله ". وفي رواية: أنه قال: " هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ " قالوا: لا، فقال: " كلوا ما بقي» ولم يفصل في الإشارة والإعانة. فإن خالف وأكل من لحم ما صيد له، أو أعان على قتله.. فهل يضمن ما أكله بالجزاء؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (يجب عليه الجزاء) ؛ لأن الأكل ممنوع منه، كما أن القتل ممنوع منه، فإذا وجب عليه الجزاء بالقتل.. وجب عليه بالأكل.

فرع أكل ما ذبحه المحرم من الصيد

و [الثاني] : قال في الجديد: (لا جزاء عليه) ، وهو الصحيح؛ لأن كل لحم لو أكله الحلال.. لم يضمنه بالجزاء، فإذا أكله المحرم.. لم يضمنه بالجزاء، كما لو أكل من لحم صيد قتله بنفسه. ولأن الجزاء إنما يجب بإتلاف ما كان ناميا، كالصيد وشجر الحرم، أو ما يكون منه النماء، كالبيض. واللحم ليس بنام ولا يؤول إلى النماء، فهو كالبيض المذر، والشجر اليابس. [فرع أكل ما ذبحه المحرم من الصيد] إذا ذبح المحرم صيدا.. لم يحل له أكله؛ لأنه إذا لم يحل له أكل ما صيد له.. فلأن لا يحل له أكل ما ذبحه أولى، وهل يحل لغيره؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يحل) ؛ لأن كل من حل بذكاته غير الصيد.. حل بذكاته الصيد، كالحلال والذمي، وعكسه المجوسي. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يحل) لأنها ذكاة ممنوع منها، لحق الله تعالى، فلم يبح الأكل، كذكاة المجوسي وفيه احتراز من ذبح شاة الغير بغير إذنه.. فإنه ممنوع منها؛ لحق مالكها. فإن أكل المحرم من لحم ما ذبحه.. فقد فعل محرما، ولا جزاء عليه للأكل. وقال أبو حنيفة: (عليه الجزاء) ، وهو: ضمان قيمة ما أكل. دليلنا: قوله: «الضبع صيد، وفيه كبش إذا أصابه المحرم» ، ولم يفصل بين أن يأكل منه أو لا يأكل، فاقتضى الظاهر: أن هذا جميع ما يلزمه.

فرع تملك المحرم للصيد

[فرع تملك المحرم للصيد] ولا يجوز للمحرم أن يتهب الصيد، ولا يقبل هديته. فإن اتهبه أو قبل الهدية فيه.. لم يملكه؛ لما روى ابن عباس: «أن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمارا وحشيا فرده عليه، وقال: " إنه ليس بنا رد، ولكنا حرم» . وكذلك لا يملك المحرم الصيد بالابتياع؛ لأنه سبب يملك به باختياره، فلم يملك به الصيد، كالهدية. وإن مات للمحرم من يرثه، وفي ملكه صيد.. فهل يرثه المحرم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يدخل في ملك المحرم؛ لأن الإرث أحد أسباب الملك، فلم يملك به المحرم الصيد، كالهدية والبيع. فعلى هذا: يبقى الصيد في حكم ملك الميت، حتى يحل المحرم من إحرامه، فيملكه. والثاني: أنه يملكه؛ لأن الإرث أقوى من الهدية والبيع؛ لأنه يدخل في ملكه بغير اختياره.

قال القاضي أبو الطيب: لا يتصور هذا الوجه إلا إذا قلنا: لا يزول ملكه عن الصيد بالإحرام، وأما إذا قلنا: يزول ملكه.. فلا يرثه. وهذه طريقة أصحابنا البغداديين. وقال القفال: المحرم يملك الصيد بالإرث قولا واحدا، وهل يملكه بالهبة والبيع؟ فيه قولان. كما يملك الكافر العبد المسلم بالإرث قولا واحدا، وهل يملكه بالهبة والبيع؟ فيه قولان. إذا ثبت هذا: فاتهب المحرم صيدا، أو ابتاعه وقبضه، وقلنا: لا يملكه فإن تلف في يده.. قال ابن الصباغ: أو أتلفه متلف.. وجب عليه الجزاء، ولم يجب عليه قيمة الموهوب لمالكه، ووجبت عليه قيمة المبيع. والفرق بينهما: أن الهبة الصحيحة لا تقتضي الضمان، فكذلك الفاسدة، والبيع الصحيح يقتضي الضمان، وكذلك الفاسد. وإن كان الصيد باقيا في يده.. قال الشافعي: (فعليه إرساله) . فمن قال من أصحابنا: إن المحرم يملك الصيد بالهبة والبيع.. تعلق بهذه اللفظة وقال: لولا أنه ملكه.. لما ملك إرساله. ومن قال منهم: لا يملكه.. قال: أراد به إرساله من يده. واختلف من قال: لا يملكه في كيفية الإرسال: فقال الشيخ أبو حامد: يرده إلى يد مالكه ولا يسيبه حتى يتوحش؛ لأن ملك

فرع الإحرام بعد بيع الصيد

الواهب والبائع لم يزل عنه بالهبة والبيع. وقال ابن الصباغ: بل يحمل كلام الشافعي على ظاهره، فيرسله بحيث يتوحش، ويمتنع على من يأخذه. ويرد على مالكه القيمة؛ لأن برده إلى مالكه.. لا يزول عنه ضمان الجزاء، وإنما يسقط عنه ضمان قيمته. فإذا أمكنه الجمع بين الحقين.. لم يسقط أحدهما. فإن قيل: فكيف يسقط حق المالك من الصيد مع بقاء ملكه عليه؟ قيل: لأنه كان السبب؛ لكونه في يد المحرم، وإيجاب إرساله عليه. [فرع الإحرام بعد بيع الصيد] فإن باع المحل صيدا من محل، فأفلس المشتري، وقد أحرم البائع.. لم يكن له أن يرجع فيه، كما لا يجوز له أن يبتاعه. وإن أحرم البائع، ووجد المشتري بالصيد عيبا، وأراد رده، فإن قلنا: إن المحرم يرث الصيد.. جاز للمشتري رده عليه؛ لأنه يدخل في ملكه بغير اختياره، وإن قلنا: لا يرث الصيد.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يرده؛ لأن ذلك حق للمشتري، فلا يسقط بإحرام البائع. والثاني: لا يرده؛ لأنه لا يملك الصيد، فلم يملك رده عليه. فعلى هذا: ما يصنع المشتري؟ فيه وجهان:

فرع الإحرام حال ملك الصيد

[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: يرد البائع عليه الثمن، ويوقف الصيد حتى يتحلل فيرده عليه؛ لأن الذي يتعذر هو رد الصيد دون رد الثمن. و [الثاني] : قال ابن الصباغ: يكون بالخيار: بين أن يقفه حتى يتحلل ويرده، أو يرجع بالأرش؛ لتعذر الرد في الحال؛ لأنه لو ملك المشتري الثمن.. لزال ملكه عن الصيد إلى البائع ولوجب رده عليه. [فرع الإحرام حال ملك الصيد] وإن أحرم وفي ملكه صيد.. ففيه قولان: أحدهما: لا يزول ملكه عنه - وبه قال مالك، وأحمد، وأبو حنيفة - لأنه ملكه، فلا يزول عنه بالإحرام، كالزوجة. ولأن المحل لو أخذ صيدا من الحل، وأدخله الحرم.. لم يزل ملكه عنه بدخوله إلى الحرم، فكذلك بدخوله في الإحرام. والثاني: يزول ملكه عنه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] [المائدة: 96] . ولم يفرق. ولأن الصيد لا يراد للاستدامة والبقاء، فإذا منع المحرم من ابتداء ملكه.. منع من استدامة ملكه، كلبس المخيط، وفيه احتراز من النكاح والطيب؛ لأنه لا ينكح ليطلق، ولا يتطيب ليغسله، وإنما اللباس يلبس وينزعه عند الغسل والنوم. وكذلك الصيد يتملكه ليبيعه أو يهبه أو يذبحه، فهو باللباس أشبه. فإن قلنا: لا يزول ملكه عنه.. فله أن يتصرف فيه بالبيع والهبة وغيرهما، ولا يجوز له قتله، فإن قتله.. وجب عليه الجزاء.

وإن قلنا: يزول ملكه عنه.. وجب عليه إرساله بحيث يمتنع ممن يريد أخذه، فإن تلف في يده.. نظرت: فإن تلف قبل أن يتمكن من إرساله.. فلا جزاء عليه. وإن تلف بعدما تمكن من إرساله.. كان عليه الجزاء؛ لأنه مفرط في إمساكه. وإن أتلفه غيره، فإن كان محلا.. فلا جزاء عليه. وإن كان محرما.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: أن الجزاء على القاتل؛ لأنه صاحب مباشرة، والممسك صاحب سبب، والضمان يتعلق بالمباشرة. والثاني: أن الجزاء عليهما نصفان؛ لأنه وجد من كل واحد منهما معنى يضمن به الصيد، فاشتركا في الضمان، كما لو قتلاه. وإن لم يرسله، حتى حل من إحرامه.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو المنصوص -: أنه يلزمه إرساله؛ لأنه متعد بامتناعه من الإرسال، فلا يزول التعدي إلا بإرساله. والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يعود إلى ملكه؛ لأنه إنما زال ملكه عنه بالإحرام، وقد زال الإحرام، فوجب أن يعود إلى ملكه. فإن قلنا بالمنصوص، فقتله بعد تحلله.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: لا جزاء عليه؛ لأنه محل قتل صيدا في الحل.

مسألة الصيد المتولد بين مأكول وغيره

والثاني - وهو المذهب -: أن عليه الجزاء؛ لأنه قد ضمنه باليد في حال الإحرام، فلم يزل عنه الضمان إلا بالإرسال. هذا مذهبنا. وقد وافقنا أبو حنيفة: أنه لا يزول ملكه عنه بالإحرام، ولكن قال: (إن كان ممسكا له بيده.. لزمه رفع اليد عنه، وإن كان ممسكا له في بيته.. لم يلزمه رفع اليد عنه) ، ففرق بين اليد المشاهدة واليد الحكمية، وعندنا لا فرق بينهما. دليلنا: أن كل ما لا يلزمه إزالة يده الحكمية عنه.. لا يلزمه إزالة اليد المشاهدة عنه، كسائر أملاكه. [مسألة الصيد المتولد بين مأكول وغيره] وإن كان الصيد غير مأكول.. نظرت: فإن كان متولدا بين ما يؤكل وما لا يؤكل كالسبع: المتولد بين الذئب والضبع، والحمار المتولد بين حمار الوحش وحمار الأهل.. وجب الجزاء بقتله، تغليبا لما يجب فيه الجزاء، كما حرم أكله، تغليبا لما لا يحل أكله. قال الشافعي: (وإذا ذبح المحرم دجاجة أهلية.. فلا جزاء عليه، ولو ذبح دجاجة حبشية.. كان عليه الجزاء) .

فرع ذبح ما يؤكل وجزاء ما لا يؤكل

قال الشيخ أبو حامد: أراد بالدجاجة الحبشية التي قد ملكت واستأنست؛ لأنها على أصلها. [فرع ذبح ما يؤكل وجزاء ما لا يؤكل] ] : وإن ذبح المحرم الإبل والبقر والغنم.. جاز، ولا جزاء عليه، بلا خلاف. وأما ما لا يؤكل من الوحش.. فعلى ثلاثة أضرب: ضرب: يجب فيه الجزاء، بلا خلاف، وهو المتولد بين ما يؤكل وما لا يؤكل، وقد مضى ذكره. وضرب: لا يجب فيه الجزاء، بلا خلاف، وهو الحية والعقرب والفأرة وما شاكل ذلك من حشرات الأرض، ومن الطيور: الحدأة وما لا يحل من الغراب، ومن البهائم: كالكلب العقور والذئب. وضرب: اختلف فيه، وهو الأسد والفهد والنمر، ومن الجوارح مثل: الصقر والشاهين.. فهذا لا جزاء فيه عندنا. وقال أبو حنيفة: (يضمن بالجزاء) ، غير أنه قال في السبع: (إنه يضمن بأقل الأمرين: من قيمته أو شاة) . ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس لا جناح على من قتلهن في حل ولا حرم: العقرب، والفأرة، والحدأة، والغراب، والكلب العقور» .

فنبه بكل واحدة من هذه الخمس على ما كان في معناها: فنبه بالعقرب على الحيات؛ لأن الأذى فيهن أكثر، ونبه بالفأرة على الوزغ والقراد والحلم، ونبه بالغراب والحدأة على العقاب والصقر والبازي والشاهين؛ لأن العدوان فيهن أكثر، ونبه بالكلب على الأسد والفهد والنمر؛ لأن العقر والعدو فيهن أكثر.

إذا ثبت هذا: فهل يكره قتل ما لا جزاء فيه؟ ينظر فيه: فإن كان فيه أذى.. جاز لكل واحد قتله، بل هو مندوب إليه، وذلك مثل: السبع والنمر والذئب والكلب العقور وما أشبه ذلك، وكذلك حشرات الأرض، مثل: الحية والعقرب والقراد والحلم، ومن الطيور: الحدأة والغراب. قال الشافعي: (وفي هذا المعنى الزنابير والبراغيث والقمل، غير أن المحرم لا يقتل القمل من رأسه ولحيته، فإن فعل ذلك.. تصدق بشيء لا لأجل القملة، ولكن لأجل إماطة الأذى عن رأسه، وليس ذلك بواجب عليه، وإن قتلها من ثيابه وبدنه.. فلا شيء عليه) . وأما ما ليس بمؤذ، مثل: الخنافس والجعلان وبنات وردان والرخمة.. فالمحل والمحرم فيه سواء، فإن شاء.. قتله، وإن شاء.. تركه، والأولى أن لا يقتله؛ لأنه لا غرض له فيه. قال الشافعي: (وأكره قتل النملة) ؛ لأنه روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلها) فإن قتلها.. فلا شيء عليه؛ لأنها ليست بصيد. هذا مذهبنا.

مسألة إتلاف بيض الصيد

وقال مالك: (لا يجوز للمحرم تقريد بعيره) وروي ذلك عن ابن عمر. وقال سعيد بن المسيب في المحرم إذا قتل قرادا: يتصدق بتمرة أو تمرتين. دليلنا: ما روي عن عمر: (أنه كان يقرد بعيره بالسقيا بالطين الرطيب) . ولأنه يتأذى به، فأشبه الحية. [مسألة إتلاف بيض الصيد] كل صيد وجب على المحرم الجزاء بقتله.. وجب عليه الجزاء بإتلاف بيضه. وبه قال كافة أهل العلم. وقال المزني وداود: (لا يجب فيه الجزاء) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] [المائدة: 94] .

قال مجاهد: ما تناله أيدينا: البيض والفرخ، وما تناله رماحنا: الصيد. وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كسر المحرم بيض نعامة.. فعليه ثمنها» . إذا ثبت هذا: فإن كسر بيض الجراد.. ضمنه؛ لأن الجراد مضمون، فكذلك بيضه. وإن أخذ بيض صيد وتركه تحت الدجاجة.. نظرت: فإن حضنتها تحتها وطارت ونشأت.. فلا شيء عليه، وإن فسدت.. ضمنها. وإن أخذ بيض دجاجة فجعلها تحت الصيد، فلم يقعد الصيد على بيضه، أو قعد عليه ففسد.. فعليه ضمان بيض الصيد؛ لأن الظاهر أنه إنما لم يقعد على بيضه لأجل ما ترك تحته من بيض الدجاج، وكذلك فساده فضمنه. وإن نزا ديك على يعقوبة فباضت، أو نزا يعقوب على دجاجة فباضت.. لم يجز للمحرم كسر ذلك البيض تغليبا للتحريم، وكذلك لا يجوز إتلاف فرخه، فإن أتلفه.. فعليه الجزاء.

فرع كسر المحرم بيض الصيد

[فرع كسر المحرم بيض الصيد] إذا كسر بيضة من بيض الصيد.. لم يجز له أكلها، كما إذا ذبح صيدا.. لم يحل له أكله. قال الشافعي: (ويحل لغيره) . قال الشيخ أبو حامد: هذا على أحد القولين في المحرم إذا ذبح صيدا ... هل يحل لغيره؟ وكذلك الجرادة إذا قتلها المحرم. وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: يحل لغيره قولا واحدا؛ لأن البيض والجراد لا تفتقر إباحته إلى الذكاة، بدليل: أنه لو ابتلع بيضة من غير كسر.. جاز، وكذلك لو ماتت الجرادة حتف أنفها.. حلت، فلم يكن لفعل المحرم تأثير في إباحتها، بخلاف الصيد الذي لا يحل إلا بذكاة. [فرع كسر البيض الفاسد] ] : وإن كسر بيضة مذرة - وهي الفاسدة - فإن كانت بيضة نعامة.. وجب عليه الجزاء؛ لأن لقشرها قيمة. وإن كانت من غير النعامة.. لم يجب عليه الجزاء؛ لأنه لا قيمة لها.

فرع حلب لبن الصيد للمحرم

[فرع حلب لبن الصيد للمحرم] فرع: [حلب لبن الصيد] : وإن حلب لبن صيد.. ضمنه. قال ابن الصباغ: وحكى أصحابنا عن أبي حنيفة: (إن نقص الصيد بذلك.. ضمنه، وإن لم ينقص.. لم يضمنه) . دليلنا: أنه أتلف شيئا من الصيد، فأشبه البيض والريش. [فرع حبس الطائر في الحل وفرخه في الحرم وعكسه] إذا حبس المحل طائرا في الحل وله فرخ في الحرم، حتى مات الطائر والفرخ.. ضمن الفرخ دون الطائر؛ لأنه أتلف الطائر في الحل، وأتلف الفرخ في الحرم بسبب كان منه في الحل، فهو كما لو رماه من الحل. وإن حبس طائرا في الحرم وله فرخ في الحل، فمات الطائر والفرخ.. ضمنهما جميعا؛ لأنه أتلف الطائر في الحرم وأتلف فرخه بسبب كان منه في الحرم، فهو كما لو رماه من الحرم إلى الحل. [مسألة اضطرار المحرم لفعل محظور] مسألة: [اضطرارالمحرم لفعل محظور المحرم لفعل محظور] : كل ما نهي عنه المحرم إذا احتاج إلى فعله، مثل: أن يحتاج إلى اللباس لحر أو برد، أو احتاج إلى الطيب لمرض، أو احتاج إلى حلق الرأس أو قطع الظفر للأذى، أو إلى قتل الصيد للمجاعة.. جاز له فعله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] [الحج: 78] . وفي المنع من هذا عند الحاجة إليه حرج. وتجب عليه الفدية، إلا في لبس السراويل عند عدم الإزار.. فإنه لا فدية عليه، وقد مضى بيانه.

فرع صيال الصيد

والدليل - على وجوب الفدية في هذه الأشياء -: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . وتقدير الآية: فمن كان منكم مريضا فتطيب، أو به أذى من رأسه فحلق شعره ... ففدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. ولحديث كعب بن عجرة الذي تقدم ذكره. [فرع صيال الصيد] وإن صال عليه صيد، فلم يندفع عنه إلا بقتله، فقتله.. لم يجب عليه الجزاء. وقال أبو حنيفة: (عليه الجزاء) . دليلنا: أنه ألجأه إلى قتله، فهو كما لو قتل آدميا دفعا عن نفسه.. فإنه لا شيء عليه. [فرع إيذاء الشعر أو قلم بعض الظفر] وإن نبت شعر في عينيه فقلعه، أو نزل شعر حاجبيه فغطى عينيه فقص المسترسل.. فلا جزاء عليه؛ لأنه ألجأه إلى ذلك، فهو كالصيد إذا صال عليه. فإن قيل: فقد يكثر الشعر على الرأس فيؤذيه ويحميه، فهلا أجزتم تقصيره من غير فدية؟

فرع افتراش الجراد الطريق وإباضة الصيد على الفراش

قلنا: لا نقول ذلك؛ لأن الحمي مضاف إلى الوقت وإن كان الشعر سببا، ألا ترى أن الشعر لا يحمي عليه في زمان البرد. وإن انكسر بعض ظفره فأخذه.. فلا شيء عليه. نص عليه الشافعي في (مختصر الحج) ؛ لأن ذلك يؤذيه، فهو بمنزلة الشعر في عينيه. وإن أزال مع المكسور شيئا من الصحيح.. ضمنه بما يضمن به الظفر؛ لأنه لو أزال بعض الظفر ابتداء.. وجب ضمانه. قال الشافعي: (وإن قلم بعض ظفره ولكنه لم يستوف ما على اليد منه، بل خففه أو أخذ بعضه.. ففيه الفدية، وضمنه بما يضمن جميع الظفر. وهو: مد؛ لأنه لا يتبعض) . قال الشيخ أبو حامد: وينبغي أن يكون الحكم، إذا أخذ بعض شعره، كالحكم في الظفر. [فرع افتراش الجراد الطريق وإباضة الصيد على الفراش] وإن افترش الجراد في الطريق، فلم يجد المحرم سبيلا إلى المشي فيه إلا بقتل الجراد، فمشى فيه وقتل الجراد.. ففيه قولان: أحدهما: لا جزاء عليه؛ لأنه مضطر إلى قتله، فلم يجب عليه الجزاء، كما لو صال عليه صيد فقتله. والثاني: يجب عليه الجزاء. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأشبه؛ لأنه أتلفه لمنفعة نفسه فضمنه، كما لو اضطر إلى أكله فأكله. وإن باض صيد على فراشه فنقله عنه، ولم يحضنه الصيد حتى فسد ... ففيه قولان، كالجراد إذا مشى عليه في الطريق.

مسألة فعل محظور سهوا أو جهلا

[مسألة فعل محظور سهوا أو جهلا] وإن لبس، أو تطيب، أو دهن رأسه أو لحيته ناسيا أو جاهلا بالتحريم ... فلا فدية عليه. وبه قال الثوري وعطاء والزهري. وقال مالك وأبو حنيفة والمزني: (يجب عليه الفدية) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، ولم يرد رفع الفعل؛ لأن الفعل إذا وقع.. لم يرتفع، وإنما أراد رفع حكم الخطأ من الإثم والفدية. «وروى يعلى بن أمية قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجعرانة، فأتاه أعرابي وعليه مقطعة - يعني: جبة مضمخة بالخلوق - فقال: يا رسول الله، أحرمت بعمرة وعلى هذه، فما أصنع؟ فقال: " ما كنت تصنع في حجك؟ " قال: كنت أنزع الجبة وأغسل الصفرة، فقال: " اصنع في عمرتك ما كنت تصنع في حجك» . ولم يأمره بالفدية. فإن ذكر ما فعله ناسيا، أو علم ما فعله جاهلا.. فإنه ينزع عنه اللباس ويزيل عنه الطيب في الحال إذا أمكنه ذلك وإن طال الزمان بنزع الثياب وإزالة الطيب؛ لأن ذلك ترك له. وإن تركه مع إمكانه.. لزمته الفدية قل ذلك أو كثر؛ لأنه كابتدائه للطيب واللباس. وإن تعذر عليه ذلك، بأن كان بيده علة أو كان زمنا، ولا يمكنه نزع الثياب ولا إزالة الطيب، فانتظر من ينزع الثياب عنه ويزيل الطيب.. فلا فدية عليه؛ لأنه كالمكره على استدامته. إذا ثبت هذا: فإنه ينزع عنه الثياب، كما ينزع لباسه في العادة، فإن كان قميصا نزعه من قبل رأسه.

فرع جهل معرفة الطيب

وحكي عن بعض التابعين: أنه قال: يشق [عن] بدنه، ولا ينتظر نزعه من قبل رأسه. دليلنا: ما روى أبو داود: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الأعرابي أن ينزع الجبة، فنزعها من قبل رأسه، ولم ينكر عليه» . [فرع جهل معرفة الطيب] قال المسعودي [في " الإبانة " ق\191] : لو علم أن الطيب محظور، ولكن تطيب بطيب وهو يجهل أنه طيب، أو يظن أنه ليس بطيب فكان طيبا.. فإن عليه الفدية، كما لو أمسك وردا وظن أنه ليس بطيب. [فرع الترفه ناسيا أو جاهلا للمحرم وقتل غير المكلف للصيد] فرع: [الترفه ناسيا أو جاهلا وقتل غير المكلف للصيد] : وإن حلق الشعر، أو قلم الظفر، أو قتل الصيد ناسيا أو جاهلا بالتحريم.. قال الشافعي: (فعليه الفدية) . ولو زال عقله بجنون أو إغماء، وقتل صيدا.. ففيه قولان: أحدهما: أن عليه الفدية؛ لأن ضمان الصيد يجري مجرى حقوق الآدميين. والثاني: لا فدية عليه؛ لأنه إنما منع من قتله للتعبد، والمجنون والمغمى عليه ليسا من أهل التعبد.

فرع الجماع ناسيا أو جاهلا

فمن أصحابنا: من نقل هذين القولين إلى الناسي في إتلاف الشعر والظفر والصيد. ومنهم من قال: بل تجب الفدية على الناسي قولا واحدا؛ لأن المجنون غير مكلف، والناسي مكلف. [فرع الجماع ناسيا أو جاهلا] ] : وإن جامع ناسيا، أو جاهلا بالتحريم.. ففيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (يفسد حجه، ويلزمه الكفارة) - وبه قال مالك، وأبو حنيفة - لأنه سبب يتعلق به وجوب القضاء، فاستوى عمده وسهوه كالفوات. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يفسد حجه، ولا يلزمه الكفارة) . وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . والمراد به: رفع الحكم. ولأنا لو أفسدنا الحج عليه، وأوجبنا عليه القضاء.. لم يؤمن مثل ذلك في القضاء؛ لأن الاحتراز من النسيان لا يمكن، وما كان هذا سبيله.. سقط، كما قلنا في الناس إذا أخطؤوا ووقفوا يوم العاشر أو الثامن بعرفة. [فرع شعر المحرم على سبيل الوديعة أو العارية] ولا يجوز للمحرم ولا للمحل أن يحلقا شعر المحرم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .

والمراد به: لا يحلق بنفسه ولا بغيره، وانصرافه إلى حلقه بغيره أظهر؛ لأن العادة أن الإنسان لا يحلق رأسه بنفسه. إذا ثبت هذا: فإن حلق واحد منهما شعر المحرم.. نظرت: فإن كان بأمره.. وجبت الفدية على المحلوق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكعب بن عجرة: «احلق رأسك، وانسك شاة» ولم يفرق بين أن يحلقه بنفسه، أو بغيره. ولأنه مستحفظ على شعره، أما على سبيل العارية أو الوديعة، فأيهما كان وأتلفه في يده باختياره.. وجب عليه الضمان، ولا يجب على الحالق شيء. وقال أبو حنيفة: (إن كان الحالق محرما.. كان عليه صدقة) . دليلنا: أنه أزال شعره بإذنه، فلم يكن على المزيل شيء، كما لو كان الحالق حلالا. وإن حلقه غيره بغير إذنه، بأن كان نائما أو أكرهه على ذلك.. وجبت الفدية وعلى من تجب؟ فيه طريقان: [الأول] : قال أبو علي بن أبي هريرة: تجب على الحالق قولا واحدا. فإن هرب، أو غاب، أو كان معسرا.. فهل تجب على المحلوق؟ فيه قولان. و [الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق والشيخ أبو حامد وعامة أصحابنا: في الوجوب قولان: أحدهما: يجب على الحالق ولا شيء على المحلوق. وبه قال مالك وأبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . ولأنه شعر زال عنه بغير اختياره، فأشبه إذا مرض وتمعط عنه شعره. ولأنه أمانة عنده، فإذا أتلفه غيره.. كان الضمان على المتلف، كالوديعة. والثاني: يجب على المحلوق، ويرجع بها على الحالق؛ لأن المحلوق هو الذي

ترفه بالحلق، فكانت الفدية عليه. ولأنه شعر زال عن المحرم بفعل آدمي، فكانت الفدية عليه، كما لو حلقه بإذنه. قال الشيخ أبو حامد: وأصل المسألة أن قول الشافعي اختلف في أن شعر المحرم عنده على سبيل الوديعة أو العارية؟ وفيه قولان: أحدهما: أنه كالوديعة. فعلى هذا: إذا تلفا بغير تفريط.. فلا ضمان عليه. والثاني: أنه كالعارية، فإذا تلف بأي وجه كان.. فعليه الضمان. وقال القاضي أبو الطيب: هذا خطأ عندي، وينبغي أن يكون كالوديعة؛ لأن العارية ما أمسكها لمنفعة نفسه، وهذا منفعته في إزالته. ولأنه لو احترق بشرارة وقعت عليه أو تمعط بمرض.. لم يجب عليه ضمانه. قال الشيخ أبو حامد: ولا يلزم على قولنا: إنه على سبيل العارية، إذا تلف بشرارة أو مرض؛ لأن العارية إنما يجب ضمانها على المستعير إذا تلفت بغير فعل المالك وهاهنا إذا زال شعره بالاحتراق أو بالمرض.. فإنما هو بمنزلة من أعار غيره عينا، فأتلفها المالك.. فإنه لا ضمان على المستعير. إذا ثبت ما ذكرناه: فإن قلنا: إن الفدية تجب على الحالق ابتداء.. نظرت: فإن أخرجها.. فلا كلام، وهو مخير في الافتداء بين: الهدي أو الإطعام أو الصيام، وإن لم يخرجها.. فقال عامة أصحابنا: للمحلوق مطالبته بالإخراج؛ لأنه وجب بسببه، وقال ابن الصباغ: ليس له ذلك؛ لأن الوجوب تعلق بالفاعل لحق الله تعالى دون المحلوق. فإن كان الحالق معسرا.. بقيت في ذمته ولا شيء على المحلوق وإن قلنا: إن الفدية تجب على المحلوق، فإن كان الحالق حاضرا قادرا على

الكفارة.. قال الشيخ أبو حامد: وجب عليه أن يفتدي لأنه لا معنى أن نأمر المحلوق بالفدية، ثم يرجع على الحالق. فإن أراد المحلوق هاهنا أن يفتدي.. كان عليه أن يفتدي بالهدي، أو بالإطعام، وأما بالصيام: فلا؛ لأنه يتحمل هذه الفدية بدلا عن غيره، والصوم لا يصح فيه التحمل. وإن غاب الحالق، أو هرب، أو كان حاضرا وهو معسر بالهدي، أو الإطعام.. كان على المحلوق أن يفتدي ليسقط الفرض عن نفسه، وله أن يفتدي: بالهدي أو الإطعام أو الصيام، فإن افتدى بالهدي أو الإطعام.. رجع بأقلهما قيمة، فإن افتدى بالهدي، وكانت قيمة الطعام أقل من قيمة الهدي.. رجع عليه بقيمة الطعام. وإن افتدى بالإطعام، وكانت قيمة الهدي أقل.. رجع عليه بقيمة الهدي؛ لأن الفرض يسقط عنه بأقلهما، فإذا افتدى بالأكثر.. كان كالمتطوع في الزائد، فلم يرجع به. وإن افتدى بالصوم.. فالمذهب: أنه لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه له قيمة للصوم، فيرجع به. ومن أصحابنا من قال: يرجع عليه بثلاثة أمداد؛ لأن صوم كل يوم مقدر بمد. وليس بشيء. وإن حلق رأسه، والمحلوق متيقظ ساكت لم يمنعه.. ففيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: حكمه حكم ما لو أكرهه، فيكون على قولين؛ لأن سكوت المتلف عليه.. لا يوجب ضمان ما يجب له، كما لو خرق رجل ثوبه وهو ساكت. و [الثاني] : منهم من قال: حكمه حكم ما لو أمره.. فتكون الفدية على المحلوق. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأن الشعر عنده إما أن يكون على سبيل الوديعة، أو العارية، وأيهما كان.. فإنه إذا قدر على منع من يتلف ذلك، فلم يفعل.. وجب عليه الضمان.

مسألة اغتسال المحرم والغطس في الماء

[مسألة اغتسال المحرم والغطس في الماء] يجوز للمحرم أن يغسل رأسه وبدنه بالماء، ويدخل الحمام؛ لما روى أبو أيوب الأنصاري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل وهو محرم» . وروي: (أن ابن عباس دخل حماما بالجحفة، وقال: ما يعبأ الله بأوساخنا شيئا) . وأما دلك البدن باليد عند الغسل: فجائز؛ لأنه لا يخشى منه قلع الشعر؛ لأن شعر البدن لا ينقطع بذلك. ولا يكره دلك البدن، وإزالة الوسخ عنه. وقال مالك: (لا يفعل، فإن فعل.. كان عليه صدقة) . دليلنا: حديث ابن عباس، حيث قال: (ما يعبأ الله بأوساخنا شيئا) . وأما دلك شعر الرأس واللحية في الغسل، فإن كان الغسل للتبرد والتنظف. لم يحرك شعره بيده مخافة أن يقطع به الشعر. وإن كان يغتسل للجنابة، أو للحيض، أو للنفاس.. خلل شعره ببطون أنامله، ولا يحركه بأظفاره، ويخلل الماء في أصول شعره تخليلا رفيقا؛ لما روي: أنه «سئل أبو أيوب: كيف اغتسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم؟ وكان أبو أيوب يغتسل، فأمر من يصب الماء على رأسه، ووضع يده على

فرع غسل المحرم رأسه بالمنظفات

رأسه ودلك شعره ببطون أصابعه، وقال: هكذا رأيته يفعل» فإن دلك شعره بيده - إما دلكا رفيقا أو شديدا - وخرج على يده شعر.. فالاحتياط أن يفتدي مخافة أن يكون قد قلعه، ولا يجب عليه شيء حتى يتيقن أنه انقلع بفعله؛ لأن الشعر قد يكون مقلوعا، فإذا مسه خرج. ويجوز للمحرم أن ينزل في الماء ويتغطس فيه: لما روي عن ابن عباس: أنه قال: قال لي عمر بن الخطاب: (تعال حتى أباقيك في الماء: لننظر: أينا أطول نفسا ونحن محرمان. [فرع غسل المحرم رأسه بالمنظفات] ويجوز للمحرم أن يغسل رأسا بالسدر والخطمي، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز، وإذا غسله بالخطمي.. وجبت عليه الفدية) . دليلنا: أن هذا ليس بطيب، ولا يحصل به ترجيل الشعر، فلم يمنع منه المحرم كالماء.

فرع الحجامة والافتصاد للمحرم وحج الأغلف

[فرع الحجامة والافتصاد للمحرم وحج الأغلف] ويجوز للمحرم أن يحتجم، ويفتصد، ويقطع العروق ما لم يقطع الشعر لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم، وهو صائم محرم» وإذا ثبت الاحتجام بالخبر.. جاز الافتصاد قياسا عليه. قال الشافعي: (وكذلك لو استاك فأدمى فمه أو حك بدنه فأدماه.. فلا شيء عليه لأنه أقل من الحجامة. وقال الشافعي: (وإذا حج الرجل وهو أغلف.. صح حجه) ؛ لأن أكثر ما فيه أنه وجب عليه قطع جلدة من بدنه، وذلك لا يمنع صحة الحج، كما لو كان عليه قطع في سرقة أو قصاص. [فرع اكتحال المحرم] وأما الاكتحال بما لا طيب فيه، فإنه كان أبيض كالتوتياء ... فيجوز للمحرم أن يكتحل به لحاجة ولغير حاجة؛ لأنه يقصد به التداوي، ولا يحسن العين، بل يزيدها مرها وقبحا. وإن كان أسود - وهو الإثمد - فإن لم يكن بالمحرم إليه حاجة كره له أن يكتحل به؛ لأنه يحسن العين ويزيل شعثها وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الحاج أشعث أغبر.

فرع نظر المحرم في المرآة

قال الشافعي: (والمرأة في ذلك أشد كراهية من الرجل) ؛ لأن لها بالكحل من الجمال ما ليس للرجل. فإن اكتحل.. فلا فدية عليه؛ لأنه لا يرجل العين. وإن كان المحرم يحتاج إلى الكحل الذي لا طيب فيه لمرض في عينيه.. لم يكره له. لما روي: «أن رجلا اشتكى عينه وهو محرم، فسأل أبان بن عثمان وكان أميرا على الحاج، فقال له: (أضمدها بالصبر؛ فإني سمعت عثمان بن عفان يروي ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وروي: (أن ابن عمر اشتكت عينه وهو محرم، فقطر فيها الصبر) . [فرع نظر المحرم في المرآة] قال في " المعتمد ": لا يكره للمحرم النظر في المرآة. وروي ذلك عن ابن عباس، وفعله أبو هريرة؛ لأنه ليس فيه استمتاع، ولا إزالة شعث، فلم يكره، كالنظر إلى شيء يستحسن.

فرع استظلال المحرم

وقال في " الفروع ": ذكر الشافعي في " الإملاء ": (أنه يكره) - وبه قال مالك وعطاء - لأنه يدعوه إلى التنظف، والمستحب للحاج أن يكون أشعث أغبر، فحصل في الكراهة وجهان، المنصوص: (أنه يكره) . [فرع استظلال المحرم] يجوز للمحرم أن يستظل نازلا تحت سقف بيت وكنيسة وعمارية، وكذلك يجوز راكبا في الكنيسة والعمارية والهودج، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك وأحمد: (يجوز أن يستظل نازلا، ولا يجوز راكبا تحت سقف مثل الكنيسة والعمارية والهودج، ويجوز أن يستظل تحت ثوب) . دليلنا: «أن امرأة رفعت صبيا من هودجها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: ألهذا حج؟ قال: " نعم "، ولك أجر» والهودج مسقف له محالة، ولم ينكر ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروت أم الحصين قالت: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه بلال، وأسامة بن زيد أحدهما آخذ بزمام ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والآخر رافع ثوبه يستره من الشمس، حتى رمى جمرة العقبة» . [فرع كراهة لبس المصبغ وحمل ما يصطاد للمحرم] فرع: [كراهة لبس المصبغ وحمل ما يصطاد] : ويكره للمحرم أن يلبس الثياب المصبغة؛ لما روي: أن عمر رأى على طلحة

ثوبين مصبوغين وهو محرم، فقال: (لا يلبسن أحدكم من هذه الثياب المصبغة في الإحرام شيئا) . ويكره له أن يحمل بازيا، أو كلبا معلما؛ لأنه ينفر به الصيد، وربما قتل صيدا. وينبغي له أن ينزه إحرامه عن الخصومة، والشتم، والكلام القبيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] . قال ابن عباس: (الفسوق: المنابزة بالألقاب، والجدال: المماراة) . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حج لله، فلم يرفث ولم يفسق.. رجع كهيئة ولدته أمه» . وبالله التوفيق.

باب ما يجب بمحظورات الإحرام

[باب ما يجب بمحظورات الإحرام] إذا حلق المحرم جميع رأسه.. وجبت عليه الفدية، وهو مخير بين ثلاثة أشياء: بين أن يذبح شاة، أو يطعم ستة مساكين ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع، أو يصوم ثلاثة أيام. والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] ، فوردت الآية بوجوب ذلك مجملا، وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك في حديث كعب بن عجرة، حيث قال: «احلق رأسك، وانسك شاة، أو طعم ستة مساكين ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع، أو صم ثلاثة أيام» . وإن حلق رأسه ثلاث شعرات.. وجب فيه ما يجب في حلق جميع الرأس وقال أبو حنيفة: (إن حلق ربع رأسه.. وجب عليه الدم، وإن حلق أقل من الربع.. فعليه صدقة) ، ويريدون بالصدقة نصف صاع من طعام. وقال أبو يوسف: لا يجب الدم إلا بحلق النصف. وقال مالك: (إن حلق من رأسه ما أماط عنه الأذى.. فعليه الفدية. وإن حلق منه ما لا يحصل به إماطة الأذى.. فلا فدية عليه) .

وعن أحمد روايتان: أحدهما: مثل قولنا. والثانية: (لا تجب الفدية إلا بحلق أربع شعرات) .. دليلنا: أن الثلاث أقل الجمع، فوجب فيها الدم، قياسا على الربع عند أبي حنيفة، والنصف عند أبي يوسف. وإن حلق من رأسه أقل من ثلاث شعرات.. فهو مضمون. وقال مجاهد وعطاء: ليس بمضمون. دليلنا: أن ما ضمنت جملته.. ضمنت أبعاضه، كالصيد. إذا ثبت هذا: ففيما يجب في الشعرة والشعرتين؟ ثلاثة أقوال: أحدها: يجب في الشعرة ثلث دم، وفي الشعرتين ثلثا دم؛ لأنه لما وجب في الثلاث دم كامل.. وجب فيما دونها بالقسط من ذلك. والثاني: يجب في الشعرة درهم، وفي الشعرتين درهمان؛ لأن تبعيض الحيوان يشق، فقومت الشاة بثلاثة دراهم، نحو قيمتها في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرجع في التقويم إلى النقد، كما يرجع في سائر المقومات. والثالث: يجب في الشعرة مد، وفي الشعرتين مدان؛ لأن التعديل في الشرع، إنما كان في الحيوان بالإطعام، فإذا عدل عن الحيوان في جزاء الصيد إلى غيره.. فكذلك هاهنا، وأقل ما يجب للمسكين مد، فوجب ذلك في أقل الشعر.

فرع تقليم الأظفار للمحرم

وإن حلق شعر رأسه وشعر بدنه في مجلس واحد.. وجبت عليه فدية واحدة وقال أبو القاسم الأنماطي: تجب عليه فديتان؛ لأنهما جنسان، بدليل أن التحلل يقع بشعر الرأس دون شعر البدن. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الشعر كله جنس واحد وإن اختلفا في التحلل، ألا ترى أن شعر الرأس يختلف في المسح في الطهارة ولا يختلف في الفدية. [فرع تقليم الأظفار للمحرم] وإن قلم ثلاثة أظفار فما زاد.. وجب عليه دم. وإن قلم ظفرا، أو ظفرين.. فعلى الأقوال الثلاثة في الشعرة والشعرتين، سواء كان ذلك من يد أو يدين. وقال أبو حنيفة: (إن قلم خمسة أظفار من يد، فعليه دم، وإن قلم أقل من خمسة من يدين فعليه صدقة، وكذلك إن قلم خمسة من يدين فعليه صدقة) . وبه قال أبو يوسف. وقال محمد بن الحسن: إذا قلم خمسة أظفار.. فعليه دم، سواء كان ذلك من يد أو يدين. دليلنا: أنه قطع من أظفاره الممنوع منها لحرمة الإحرام دفعة واحدة ما يقع عليه اسم الجمع المطلق، فوجب عليه الدم، كما لو قلم خمسة أظفار من يد واحدة

مسألة الفدية في فعل المحظور

[مسألة الفدية في فعل المحظور] وإن تطيب، أو لبس المخيط، أو غطى رأسه عامدا.. وجبت عليه الفدية، سواء طيب عضوا كاملا أو بعض عضو، وسواء استدام اللبس يوما كاملا أو بعض يوم، وكذلك إذا ستر جزءا من رأسه زمانا يسيرا أو كثيرا.. فالحكم فيه واحد. وقال أبو حنيفة: (إن طيب عضوا كاملا.. فعليه الفدية. وإن طيب أقل من عضو.. فعليه صدقة: وهي نصف صاع، وإن لبس المخيط يوما كاملا.. فعليه الفدية. وإن لبس أقل من يوم.. فعليه صدقة) . وقد روي عنه: (إن لبس أكثر النهار.. فعليه الفدية. ورجع عنه إلى اليوم - فإن ستر ربع رأسه يوما كاملا.. فعليه الفدية. وإن ستر أقل من الربع أقل من اليوم.. فعليه صدقة) . وقال محمد بن الحسن: إن ستر نصف الرأس يوما. فعليه الفدية. وإن ستر أقل من النصف فعليه صدقة. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . وتقدير الآية: فمن كان منكم مريضًا فلبس أو تطيب.. ففدية. ولم يفرق بين أن يلبس يوما، أو أقل من يوم، فهو على العموم فيما يقع عليه أثم الطيب واللباس. ولأن ما كان مضمونا بالفدية.. تعلقت بعينه، ولا تعتبر فيه الاستدامة، كالوطء. إذا ثبت هذا: فإن الفدية التي تجب في الطيب، أو اللباس، أو تغطية الرأس، أو دهنه، أو دهن اللحية.. هي الفدية التي تجب بحلق الرأس، وهي: شاة، أو إطعام

فرع ارتكاب أكثر من محظور باعتبار المجلس

ستة مساكين ثلاثة آصع، أو صوم ثلاثة أيام؛ لأنه زينة وترفه، فهو كحلق الرأس هذا هو المشهور في المذهب. وحكى أبو علي في " الإفصاح " قولين آخرين: أحدهما: أنه كدم التمتع، فإن لم يجد الهدي.. صام عشرة أيام على ما مضى. والثاني: أنه إذا لم يجد الهدي.. قوم الهدي دراهم، والدراهم طعاما. ثم يصوم عن كل مد يوما. [فرع ارتكاب أكثر من محظور باعتبار المجلس] إذا تطيب، فقبل أن يكفر عن الطيب لبس مخيطا أو غطى رأسه، وكان ذلك في مجلس واحد.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أن عليه فدية واحدة؛ لأنهما نوعا استمتاع، فهو كما لو لبس القميص والعمامة. والثاني - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: إن كان السبب واحدا، مثل: أن تصيبه شجة فيحتاج إلى مداواتها بالطيب وسترها.. فعليه فدية واحدة؛ لأن سببها واحد. وإن كانت أسبابها مختلفة.. فلكل جنس منها فدية؛ لأنها أجناس.

فرع ارتكاب نفس المحظور باعتبار المجلس

الثالث - وهو المذهب -: أنه يجب لكل واحد فدية؛ لأنهما جنسان مختلفان؛ فهو كما لو حلق الشعر، وقلم الظفر. فإن لبس مخيطا مطيبا، أو طلا رأسه بطيب، بحيث غطى بعض الشعر، فإن قلنا: إن الطيب واللباس جنس واحد.. لزمه هاهنا فدية واحدة. وإن قلنا بالمذهب وأنهما جنسان.. فهاهنا وجهان: أحدهما: يلزمه فديتان؛ لأنه حصل اللباس والطيب، أو التغطية والطيب. والثاني: يلزمه فدية واحدة؛ لأن الطيب تابع للثوب أو التغطية. وإن تطيب في مجلس، ولبس المخيط في مجلس آخر.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\193] : لزمه لكل واحد منهما كفارة؛ لافتراق المجلسين. [فرع ارتكاب نفس المحظور باعتبار المجلس] وإن لبس ثم لبس، أو تطيب ثم تطيب.. نظرت: فإن كان ذلك في مجلس واحد، مثل: أن يلبس القميص والسراويل والعمامة في مجلس واحد، أو تطيب بماء الورد والكافور وتبخر بالعود، أو قبل ثم قبل، في مجلس واحد قبل أن يكفر عن الأول.. لزمته كفارة واحدة لكل جنس؛ لأنه كالفعلة الواحدة. وإن كفر للأول.. لزمته للثاني كفارة أخرى؛ لأن الأول استقر حكمه. وإن كان ذلك في مجالس، مثل: أن لبس القميص في مجلس، وتسرول في مجلس آخر، أو تبخر بالعود في مجلس وبالند في مجلس آخر، فإن فعل الثاني بعد

أن كفر عن الأول.. لزمه للثاني كفارة أخرى؛ لأن حكم الأول قد استقر بالتكفير كما لو زنا فحد، ثم زنا.. فإنه يحد للثاني. وإن فعل الثاني قبل أن يكفر من الأول نظرت: فإن كان السبب واحدا، مثل: أن يلبس للبرد فيهما، أو يتطيب لمرض واحد.. ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يجزئه فدية واحدة) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحدود كفارات» والحدود إذا ترادفت تداخلت، فكذلك الكفارة. ولأنها جنس استمتاع متكرر منع المحرم منها، ولم يتخللها تكفير فتداخلت، كما لو اتصل فعلها. و [الثاني] : قال في الجديد: (يلزمه لكل واحد كفارة وهو الصحيح لأنها أفعال متكررة في مجالس يجب لكل واحد منها فدية إذا تفرد، فوجب لكل واحد فدية وإن اجتمع مع غيره، كما لو كفر عن الأول. وإن تكرر الفعلان بسببين مختلفين مثل: أن يلبس بكرة لأجل البرد فينزعه، ثم لبس عشية لأجل الحر.. ففيه طريقان، حكاهما الشيخ أبو حامد: [الأول] : من أصحابنا من قال: يجب عليه فديتان قولا واحدا؛ لأن اختلاف الأسباب يجري مجرى الأجناس. و [الثاني] : منهم من قال: هي على قولين كالأولى، وهو الصحيح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يعتبر اختلاف الأسباب، وإنما اعتبر اختلاف الأجناس. فإذا قلنا: يكفيه للجميع فدية واحدة فارتكب محظورا وأخرج الفدية، ونوى

فرع حلق المحرم شعره في وقت أو أكثر

بإخراجها الفدية عما ارتكبه وعما سيرتكبه من جنسه. فهل يجزئه ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\ 193] : أحدهما: يجزئه، كما يجزئه تقديم إخراج كفارة التمتع قبل وقت وجوبها. والثاني: لا يجزئه؛ لأن في ذلك سببا إلى ارتكاب المحظور، فصار كتقديم كفارة الجماع في رمضان على الجماع. [فرع حلق المحرم شعره في وقت أو أكثر] وإن حلق شعر رأسه.. نظرت: فإن كان في وقت واحد.. لزمه فدية واحدة وإن طال الزمان بفعله، كما لو حلف أن لا يأكل في النهار إلا مرة واحدة، فنصبت المائدة، وجعل يأكل من بكرة إلى الظهر لقمة بعد لقمة.. فإنه لا يحنث وإن كان ذلك في أوقات متفرقة، مثل: أن حلق ثلاث شعرات بكرة، وثلاثا عشية قبل أن يكفر عن الأول. ففيه طريقان: [الأول] : قال الشيخ أبو حامد: يجب لكل حلق كفارة قولا واحدا؛ لأن هذا إتلاف، فلم يتداخل كقتل الصيد. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: هو على قولين كالطيب واللباس، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق في " المهذب ".

مسألة الجماع في الحج

فإن حلق ثلاث شعرات في ثلاثة أوقات.. فعلى ما ذكر الشيخ أبو حامد: يكون فيها ثلاثة أقوال: أحدها: يجب في الجميع دم. والثاني: يجب ثلاثة دراهم. والثالث: يجب ثلاثة أمداد. وعلى ما حكاه القاضي والشيخ أبو إسحاق: إن قلنا: يتداخل.. لزمه دم قولا واحدا. وإن قلنا: لا يتداخل.. ففيه ثلاثة أقوال. وذكر في " الإبانة " [ق \ 192] : إذا نتف ثلاث شعرات من ثلاثة مواضع في وقت واحد.. ففيه وجهان: أحدهما: حكمه حكم ما لو نتفها من موضع واحد، فيلزمه دم واحد. والثاني: حكمه حكم ما لو نتفها في ثلاثة أوقات، فيكون على ما مضى. وإن حلق تسع شعرات في ثلاثة أوقات، في كل وقت ثلاثا.. فعلى ما قال الشيخ أبو حامد: يجب عليه ثلاثة دماء قولا واحدا. وعلى ما حكاه القاضي والشيخ أبو إسحاق: إن قلنا: يتداخل.. لزمه دم واحد، وإن قلنا: لا يتداخل.. لزمه ثلاثة دماء. إذا ثبت هذا: فلا فرق بين أن يحلق الشعر، أو ينتفه، أو يحرقه بالنار، فإن عليه الفدية؛ لأن الفدية وجبت لإزالته عن البدن، وهذا موجود فيه بهذه الأفعال. [مسألة الجماع في الحج] إذا وطئ المحرم بالحج في الفرج عامدا قبل الوقوف بعرفة، أو بعد الوقوف وقبل التحلل الأول ... فسد حجه ووجبت عليه بدنة.

فرع جماع المعتمر قبل التحلل

وقال أبو حنيفة: (إن وطئ قبل الوقوف بعرفة.. فسد حجه، ووجبت عليه شاة، وإن وطئ بعد الوقوف.. لم يفسد حجه ووجبت عليه بدنة) . دليلنا - على فساد الحج -: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] . و (الرفث) : الجماع، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولم يفرق بين أن يكون قبل الوقوف بعرفة أو بعده، ولأنه وطئ في الحج - قبل التحلل ففسد حجه، كالوطء قبل الوقوف. والدليل - على وجوب الكفارة: أن كل عبادة حرمت الوطء، وغيره.. كان للوطء مزية على غيره، كالصوم. والدليل على أنها بدنة -: ما روي عن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: (إذا وطئ امرأته قبل عرفة.. فسد حجه وعليه بدنة) ولا مخالف لهما في الصحابة. ولأن هذا وطء صادف إحراما لم يتحلل منه فوجبت فيه بدنة، كالوطء بعد الوقوف. [فرع جماع المعتمر قبل التحلل] وإن وطئ المعتمر قبل التحلل.. فسدت عمرته، ووجبت عليه بدنة. وقال أبو حنيفة: (إذا وطئ قبل أن يطوف أربعة أشواط.. فسدت عمرته، ووجبت عليه شاة. وإن وطئ بعد أن طاف أربعة أشواط، لم تفسد عمرته وجبت عليه شاة) .

فرع المضي في الحج والعمرة عند فسادهما وعليه القضاء

دليلنا - على وجوب البدنة -: أنها عبادة تشتمل على طواف وسعي فوجب بإفسادها البدنة قياسا على الحج. والدليل - على أنها تفسد بعد طواف أربعة أشواط -: أنه وطئ قبل التحلل من عمرته فأفسدها، كما لو وطئ قبل أربعة أشواط. [فرع المضي في الحج والعمرة عند فسادهما وعليه القضاء] ويجب على من أفسد الحج أو العمرة أن يمضي في فاسدهما، وبه قال كافة أهل العلم إلا داود، فإنه قال: (يخرج منه بالفساد) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] فأمر بإتمامهما، ولم يفرق بين الفاسد والصحيح. ويجب عليه القضاء؛ لما روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس: أنهم قالوا: (يمضي في فاسده، ويقضي من قابل) وهل يجب القضاء على الفور، أو يجوز على التراخي؟ فيه وجهان:

مسألة جواز قضاء المحصر حجه لو فسد في عامه

أحدهما: يجوز على التراخي؛ لأن الأداء على التراخي، فكذلك القضاء. والثاني - وهو المذهب -: أنه يجب على الفور؛ لما روي عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: (يقضي من قابل) ولا مخالف لهما في الصحابة. ولأن هذا القضاء وجب بدلا عن حجة وجب المضي فيها على الفور. فإذا قلنا: يجب على الفور، فلم يحج على الفور.. أثم بالتأخير، ولا يسقط القضاء عن ذمته. [مسألة جواز قضاء المحصر حجه لو فسد في عامه] إذا ثبت هذا: فقال أصحابنا: لا يتأتى القضاء في الحج في السنة التي أفسد فيها الحج إلا في مسألة واحدة، وهو: إذا أفسد حجه قبل وقوفه بعرفة فأحصر، أو أحصر فأفسده.. فله أن يتحلل منه، كما يتحلل من الصحيح. فلو زال الحصر قبل الوقوف بعرفة.. فله أن يحرم بالحج عن القضاء في هذه السنة؛ لأنه قد أمكنه ذلك. فإن قلنا: إن القضاء يجب على الفور.. فإنه يجب عليه هاهنا أن يحرم بالحج عن القضاء؛ لأنه أقرب من العام القابل. [فرع الإحرام بالقضاء] وإذا أراد الإحرام بالقضاء.. فإنه يجب عليه أن يحرم من أبعد المكانين وهما: الميقات الشرعي، أو الموضع الذي أحرم منه بالنسك الذي أفسده.

فرع قضاء الحج بالزوجة التي جامعها فيه

وقال أبو حنيفة: (يقضي الحج من الميقات، ويقضي العمرة من أدنى الحل بكل حال) . دليلنا: أن كل ما لزم الإنسان المضي فيه بالدخول في الإحرام إذا أفسده.. لزمه قضاؤه، كحجة التطوع. فإن سلك طريقا آخر.. لزمه أن يحرم إذا حاذى الموضع الذي لزمه الإحرام منه، كما قلنا فيمن سلك طريقا لا ميقات فيه. [فرع قضاء الحج بالزوجة التي جامعها فيه] قال الشافعي: (ويحج بامرأته) . فمن أصحابنا من احتج بظاهر هذه اللفظة، وقال: يجب على الزوج نفقة زوجته في القضاء، وهو الصحيح؛ لأن هذا مال تعلق بالوطء، فكان على الزوج كالمهر. ومنهم من قال: تجب نفقتها في مالها، كنفقة الأداء. قال القاضي أبو الطيب: وينبغي أن يكون في ثمن الماء الذي تغتسل به المرأة هذان الوجهان. فإذا بلغا إلى الموضع الذي جامعها فيه.. فرق بينهما، وهل هو مستحب أو واجب؟ فيه وجهان:

فرع جماع القارن قبل التحلل

أحدهما: أنه مستحب، وبه قال أبو حنيفة، كما لا يجب التفريق بينهما في غيره من المواضع، ولا في الموضع الذي جامعها فيه في نهار رمضان في نهار القضاء. والثاني: يجب، وبه قال مالك؛ لما روي عن عثمان، وابن عباس: أنهما قالا: (إذا بلغا إلى ذلك الموضع.. فرق بينهما) . ولأنه إذا لم يفرق بينهما.. ربما تذكرا ما جرى بينهما، فدعاهما ذلك إلى مثله. فإذا قلنا بهذا: فلم يفعلا.. أثما بذلك لا غير. [فرع جماع القارن قبل التحلل] وإن وطئ القارن قبل التحلل.. فسد قرانه، ووجب عليه المضي في فاسده والقضاء، ويجب عليه بدنه. وهل يلزمه دم القران؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 194] : أحدهما: لا يجب؛ لأن نسكه لم يصح قرانه.. فلم يجب عليه دم القران. والثاني: يجب عليه دم، وهو قول الشيخ أبي حامد والبغداديين من أصحابنا؛ لأنه قد وجب عليه بالإحرام، فلا يسقط بالوطء. وعليه أن يقضي قارنا، فإن قضى مفردا.. صح؛ لأنه أفضل من القران، ولا يسقط عنه دم القران الواجب بالقضاء؛ لأنه لما أفسد القران.. لزمه أن يقضي بالقران، ومن حكم القران: أنه يجب فيه الدم، فإذا قضى مفردا.. صح، ولم يسقط عنه الدم الذي كان يلزمه في القضاء، هذا مذهبنا.

فرع ترتيب الفدية على المجامع

وقال أبو حنيفة: (إذا وطئ، القارن قبل الطواف والسعي للعمرة.. فسد إحرامه وعليه قضاء الحج والعمرة، وشاة لفساد الحج، وشاة لفساد العمرة، وشاة لفساد القران. وإن وطئ بعد ما طاف أربعة أشواط للعمرة.. لم تفسد عمرته ولزمه شاة، وفسد حجه وعليه شاة، وشاة للقران. وإن وطئ بعد أن طاف وسعى.. فعليه بدنة وشاة) . وبنى ذلك على أصله: أن القارن كالمفرد في الطواف والسعي، وعلى: أن المفسد للنسك يلزمه شاة، وإذا لم يفسد.. فعليه بدنة بالوطء وقد مضى الكلام معه. [فرع ترتيب الفدية على المجامع] قد ذكرنا أن على المجامع في الحج أو العمرة قبل التحلل بدنة، وهل هي على الترتيب، أو على التخيير؟ المنصوص: (أنها تجب على الترتيب) فيجب عليه بدنة، فإن لم يجد البدنة.. أجزأته بقرة، فإن لم يجد البقرة.. أجزأه سبع من الغنم، فإن لم يجد الغنم.. قومت البدنة بمكة بدراهم واشترى بالدراهم طعاما وتصدق به، فإن لم يمكنه ذلك.. صام عن كل مد يوما.

مسألة جماع الصبي غيره في الإحرام

وبهذا قال ابن عباس. وخرج أبو إسحاق قولا آخر: أنه مخير بين البدنة والبقرة والسبع من الغنم. فإن لم يجد واحدا من هذه الثلاثة.. قوم أي الثلاثة شاء بدراهم، واشترى بالدراهم طعاما وتصدق به، فإن لم يجد.. صام عن كل مد يوما. وبه قال ابن عمر، ولأن هذه بدنة وجبت لهتك حرمة الإحرام، فوجب أن يكون على التخيير، كالبدنة الواجبة بقتل النعامة. ووجه المنصوص: أنها كفارة وجبت لإفساد عبادة، فكانت على الترتيب، ككفارة إفساد الصوم، ولأن البقرة دون البدنة، فلا تقوم مقامها. إذا ثبت هذا: فإن الكلام فيمن يجب عليه الكفارة كالكلام في الكفارة في إفساد الصوم على قولين: أحدهما: يجب على كل واحد منهما بدنة. والثاني - وهو الصحيح -: أنه يجب على الزوج بدنة. وهل يجب عليه دونها، أو عنه وعنها؟ فيه وجهان، وقد مضى دليل ذلك في الصوم. [مسألة جماع الصبي غيره في الإحرام] وإن وطئ الصبي في إحرامه قبل التحلل عامدا، فإن قلنا: إن عمد الصبي خطأ

فرع جماع العبد في الإحرام

فهل يفسد حجه؟ على قولين، وإن قلنا: إن عمده عمد.. فسد نسكه؛ لأن من صح إحرامه.. فسد بالوطء كالبالغ، ووجبت الكفارة، وعلى من تجب؟ فيه وجهان وقيل: قولان: أحدهما: تجب في ماله. والثاني: على وليه. وقد مضى ذكرهما. فإن قلنا يفسد حج الصبي بالوطء.. فهل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب؛ لأنه عبادة بدنية، فلم تجب على الصبي كالصوم والصلاة. والثاني: يجب؛ لأن من فسد الحج بوطئه.. وجب عليه القضاء، كالبالغ. فإذا قلنا بهذا: فهل يصح منه القضاء في حال الصغر؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه حج واجب، فلم يصح من الصبي، كحجة الإسلام. والثاني: يصح؛ لأنه يصح منه أداؤه، فصح قضاؤه، كالبالغ. [فرع جماع العبد في الإحرام] ] : وإن وطئ العبد في إحرامه عامدا قبل التحلل.. فسد نسكه بلا خلاف، كالحر، وهل يجب عليه القضاء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه؛ لأنه حج واجب، فلم يجب عليه، كحجة الإسلام. والثاني: يجب عليه، وهو المذهب؛ لأن الحج يجب عليه بالدخول، وهذا بدل عنه. فإذا قلنا بهذا: فهل يصح منه القضاء في حال الرق؟ فيه وجهان كما قلنا في الصبي. فإذا قلنا: يصح منه.. فهل للسيد منعه منه؟ ينظر فيه: فإن دخل في الذي أفسد بغير إذنه.. فله منعه.

مسألة تكرار الجماع قبل التحلل

وإن دخل فيه بإذنه ... فهل له منعه؟ إن قلنا: إن القضاء على التراخي ... فللسيد منعه، وإن قلنا على الفور.. ففيه وجهان: أحدهما: ليس له منعه؛ لأنه قد أذن له في الذي أفسده وهذا من موجب ما أذن فيه. والثاني: له منعه؛ لأنه أذن له في الحج دون الإفساد. فإن أعتق بعد التحلل وقبل القضاء لم يجز له أن يقضي حتى يحج حجة الإسلام. فإن أعتق قبل أن يتحلل من الفاسد ... لزمه أن يقضي وجها واحدا؛ لأنه حر.. وإن كان عتقه قبل الوقوف أو في حال الوقوف.. أجزأه القضاء عن القضاء وعن حجة الإسلام؛ لأن الفاسد لو لم يفسد لأجزأه عن حجة الإسلام، فكذلك ما قام مقامه ... وإن كان عتقه بعد الوقوف في الفاسد لم تجزه حجة القضاء عن حجة الإسلام؛ لأن الفاسد كان لا يجزئه عن حجة الإسلام وإن لم تفسد، فكذلك ما قام مقامه. [مسألة تكرار الجماع قبل التحلل] وإن وطئ الرجل قبل التحلل، ثم وطئ ثانيا ... نظرت: فإن كفر عن الأول قبل الوطء الثاني لزمه أن يكفر عن الثاني قولا واحدا؛ لأن الأول قد استقر حكمه، وفي الكفارة التي تلزمه للثاني قولان: أحدهما: بدنة، كالوطء الأول. والثاني: شاة؛ لأنه وطء لم يفسد به النسك، فهو كما لو وطئ، فيما دون الفرج. وإن كان الوطء الثاني قبل أن يكفر عن الأول فهل يلزمه للثاني كفارة؟ فيه قولان: أحدهما: لا يلزمه كما لو كرر الوطء في يوم واحد من رمضان.. فإنه لا يلزمه لغير الأول كفارة.

فرع الجماع بين التحللين

والثاني: يلزمه لأنه وطئ في إحرام منعقد لأنه لا يخرج من الحج بالإفساد بل لو ارتكب محظورا فيه وجبت عليه فيه الفدية، كالصحيح، بخلاف الصوم. فإذا قلنا بهذا: فهل يلزمه لكل وطء بعد الأول بدنة أو شاة؟ فيه قولان على ما مضى. [فرع الجماع بين التحللين] ] : وإن وطئ بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني فإنه لا يفسد حجة، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك، وأحمد: (يفسد ما بقي من إحرامه، فإذا فرغ منه ... لزمه أن يأتي بعمرة لتكون قضاء عنه) . دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: (من وطئ بعد التحلل.. فحجه تام وعليه ناقة) ، ولا مخالف له ولأنه وطئ بعد التحلل الأول، فلم يفسد حجه، كما لو وطئ بعد التحلل الثاني. إذا ثبت هذا: فإن عليه الكفارة، وما تلك الكفارة؟ فيه قولان: أحدهما: بدنة؛ لقول ابن عباس.

مسألة الوطء في الدبر أو في الفرج بخرقة

والثاني: شاة لأنه وطء لم يفسد به الحج، فهو كالوطء، فيما دون الفرج. وإن أفسد القضاء.. لزمه المضي في فاسده، ولزمته بدنة، ويجزئه قضاء واحد؛ لأن القضاء الذي لزمه إنما يجزئه إذا أتى به على شرائطه، فإذا لم يأت به على شرائطه.. بقي في ذمته. [مسألة الوطء في الدبر أو في الفرج بخرقة] ] : وإن وطئ امرأة في دبرها، أو لاط بغلام، أو أتى بهيمة.. فسد بذلك حجه ووجبت عليه الكفارة. وقال أبو حنيفة: (لا يفسد بذلك حجه، ولا تلزمه الكفارة) . دليلنا: أنه فرج يجب بالإيلاج فيه الغسل وإن لم ينزل، ففسد الحج بالإيلاج فيه كقبل المرأة. وإن لف على ذكره خرقة، ثم أولج في فرج.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الصيمري: أحدها: يفسد به الحج؛ لأنه أولج في فرج، فهو كما لو لم يكن عليه شيء. والثاني: لا يفسد به الحج؛ لأن ذكره لم يباشر فرجها، فهو كما لو أولج في غير الفرج. والثالث - وهو قول أبي الفياض، واختيار القاضي أبي القاسم الصيمري: إن كانت الخرقة رقيقة.. فسد الحج، وإن كانت كثيفة.. لم يفسد؛ لأن الرقيقة وجودها كعدمها، بخلاف الكثيفة.

مسألة مقدمات الجماع حال الإحرام

[مسألة مقدمات الجماع حال الإحرام] وإن قبل أو لمس أو وطئ فيما دون الفرج بشهوة.. لم يفسد بذلك حجه، ووجبت عليه شاة، سواء أنزل أو لم ينزل، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (إن أنزل.. فسد حجه) وهي إحدى الروايتين عن أحمد. دليلنا: ما روي عن ابن عمر وابن عباس: أنهما قالا: (إذا قبل المحرم امرأته فأنزل.. فلا قضاء عليه) ولا مخالف لهما. ولأنه استمتاع لا يجب به الحد، فلم يفسد به الحج، كما لو لم ينزل، وإنما أوجبنا الشاة: لأنه تلذذ به، فوجبت عليه الشاة كالطيب. وإن قبل امرأته وهي قادمة من سفر أو كان مودعا لها، وقال: لم أرد الشهوة.. فلا عليه؛ لأن شاهد الحال يدل عليه. وإن قال: قصدت الشهوة.. فعليه الفدية؛ لأنه قد وجد منه الاستمتاع. وإن قال ما قصدت هذا ولا هذا.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري: أحدهما: عليه الفدية؛ لأنها موضوعة للشهوة. والثاني: لا فدية عليه؛ لأنه لم يقصد به الشهوة. [فرع تكرار نظر المحرم للمرأة ونكاح اليد] وإن كرر النظر إلى امرأة فأنزل.. فلا شيء عليه. وحكى الشيخ أبو نصر صاحب " المعتمد " عن الحسن البصري ومالك وعطاء: أن عليه القضاء من قابل.

مسألة جزاء الصيد ومن يحكم فيه

وعن ابن عباس في الكفارة روايتان: إحداهما: (يلزمه بدنة) . والثانية: (شاة) ، وبه قال سعيد بن جبير، وأحمد، وإسحاق. دليلنا: أنه إنزال عن غير مباشرة، فهو كما لو فكر وأنزل. ولو استمنى بكفه.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\213] . أحدهما: أن عليه شاة؛ لأنه إنزال عن مباشرة، فهو كما لو وطئ دون الفرج. والثاني: لا شيء عليه، لأنه لم يشاركه في هذا غيره، فهو كما لو نظر فأنزل. [مسألة جزاء الصيد ومن يحكم فيه] إذا قتل المحرم صيدا، فإن كان له مثل من النعم من طريق الخلقة.. وجب فيه مثله من النعم. و (النعم) : هي الإبل، والبقر، والغنم. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (الصيد كله مضمون بقيمته) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] . و (الهدي الذي يبلغ الكعبة) : هو النعم دون القيمة. وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الضبع صيد، وفيه كبش إذا أصابه المحرم» فاقتضى هذا: أن الكبش هو جميع ما يجب في الضبع، ولم يفرق بين أن يكون بقيمة الضبع أو أقل. إذا ثبت هذا: فإن كل صيد حكمت الصحابة فيه أو التابعون بأن؛ له مثلا من

النعم.. فإنه يجب ذلك المثل من غير اجتهاد فيه. وقال مالك: (يجب الاجتهاد فيه) . دليلنا: أن الله تعالى قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] . والصحابة كلهم عدول مرضيون، ولأنهم شاهدوا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والوحي وعرفوا التنزيل والتأويل، فكان نظرهم أولى من نظر غيرهم، وذلك مثل: ما روي عن عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن الزبير: (أنهم قضوا في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحش ببقرة) ،

وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعناق. قال ابن الصباغ: و (العناق) : ولد المعز إذا اشتد. وقال الشيخ أبو حامد: (العناق) : السخلة من الضأن. وقضوا: (في اليربوع بجفرة) : وهي ولد المعز إذا امتلأ جوفها من الماء والشجر. قال الشافعي: (وإذا وجب في حمار الوحش بقرة.. ففي بقرة الوحشي بقرة؛ لأنها أقرب إليها) . وعن عثمان: (أنه حكم في أم حبين بحلان) . و (أم حبين) هي: دابة

منتفخة البطن، سميت أم حبين؛ لانتفاخ بطنها، وهي تصغير (حبن) وهو: الذي استسقى وانتفخ بطنه، وأما (الحلان) فهو: الحمل. وقال الأزهري: هو الجدي، وفيه لغة أخرى: حلام بالميم. قال الشاعر: كل قتيل في كليب حلام ... حتى ينال القتل آل همام وعن مجاهد وعطاء: أنهما حكما في الوبر بشاة. قال الشافعي: (إن كان الوبر تأكله العرب.. ففيه جفرة؛ لأنه ليس بأكبر بدنا منها) . وقال ابن الصباغ: (الوبر) هي: دويبة مثل الجرذ، إلا أنه أنبل منها وأكرم، وهي: كحلاء طحلاء من جنس بنات عرس. قال الشافعي: (وفي الثعلب شاة) ؛ لأنه روي ذلك عن بعض التابعين. وأما الوعل: فقال ابن الصباغ: إن فيه بقرة. وحكى الصيمري: أن فيه تيسا. وفي الضب جدي؛ لما روي عن طارق بن شهاب: أنه قال: (خرجنا حجاجا،

فوطئ رجل منا - يقال له: أربد - ضبا، ففرى ظهره، فقدمنا على عمر فسأله، فقال له عمر: احكم يا أربد فيه، فقال: أنت خير مني يا أمير المؤمنين وأعلم. فقال له عمر: إنما أمرتك أن تحكم به، ولم آمرك أن تزكيني. فقال أربد: أرى فيه جديا قد جمع الماء والشجر. فقال عمر: فذلك فيه) . وأما ما لم يحكم فيه الصحابة والتابعون: فإنه يرجع في معرفة مثله من النعم إلى ذوي عدل من المسلمين، فيلحقانه بما هو أقرب إليه من الأجناس الثلاثة. قال الشافعي: (وأحب أن يكونا فقيهين) . وهل يجوز أن يكون أحدهما هو القاتل؟ وإن اشترك اثنان في قتل الصيد.. فهل يجوز أن يحكما على أنفسهما؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز، وهو المنصوص؛ لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث جوز لأربد أن يحكم على نفسه وإن كان قاتلا، وحكم عمر معه بذلك. ولأنه مال يخرج في حق الله سبحانه وتعالى، فجاز أن يكون من وجب عليه أمينا فيه كالزكاة. والثاني: لا يجوز، وبه قال مالك؛ لأنه متلف، ولم يرجع إليه في تقويمه، كقيم المتلفات.

فرع الصيد من صغار الحيوان وفداء الذكر بالأنثى وعكسه

[فرع الصيد من صغار الحيوان وفداء الذكر بالأنثى وعكسه] ويجب في صغار ما له مثل من النعم صغير مثله من النعم. وقال مالك: (يجب في صغار الصيد كبير من مثله من النعم) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] . ومثل الصغير صغير. ولأن ما ضمن باليد والجناية.. اختلف في ضمانه الصغير والكبير، كالعبد والبهيمة. قال الشافعي: (ويفدي الذكر بالذكر والأنثى بالأنثى) . وإن قتل صيدا ذكرا، وأراد أن يفديه بأنثى من مثله.. قال الشافعي: (كان أحب إلي) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنها ليست بمثل له. والثاني: يجوز، كما لو وجب عليه في الزكاة إخراج ذكر، فأخرج أنثى من سنه. وقال القاضي أبو حامد: إن أراد الذبح.. لم يجز؛ لأن لحم الذكر أطيب من لحم الأنثى. وإن أراد التقويم.. جاز؛ لأنها أكثر قيمة. وقال الشيخ أبو حامد: يجوز قولا واحدا؛ لأن لحم الأنثى أرطب من لحم الذكر.

فرع قتل الصيد المعيب

ومنهم من قال: إن كانت الأنثى لم تلد ... قامت مقام الذكر، وإن كانت قد ولدت . فلا. ومنهم من قال: إن قتل ذكرا صغيرا.. جازت الأنثى الصغيرة، وإن قتل ذكرا كبيرا.. لم تجزئ الأنثى الكبيرة. وإن قتل أنثى من الصيد، وأراد أن يفديها بذكر من مثلها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: يجزئه؛ لأن الذكر أكثر لحما من الأنثى. والثاني: لا يجزئه؛ لأن الأنثى أرطب لحما من الذكر، فهي أفضل منه. [فرع قتل الصيد المعيب] وإن قتل صيدا معيبا، ففداه بمعيب من مثله من النعم.. أجزأه، إلا أن يختلف العيبان، مثل: أن يكون الصيد أعور والمثل أعرج.. فلا يجوز. فإن فدى الأعور من اليمين بالأعور من اليسار.. جاز؛ لأن التفاوت يسير. وقال مالك: (إذا قتل صيدا معيبا.. فداه بمثله صحيحا) . دليلنا عليه: ما مضى في الصغار. [فرع صيد الماخض] ذكر الشيخ أبو حامد: أن الشافعي قال: (إذا قتل صيدا ماخضا.. فداه بمثله من النعم ماخضا) .

مسألة التخيير في فدية صيد له مثل وتقويمه

وذكر ابن الصباغ: أن الشافعي قال في " الجامع الكبير ": (أنه يضمنه بقيمة شاة ماخض) . قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: لا يخرج الماخض إلى المساكين؛ لأنها أقل لحما من الحامل، وإنما تجب قيمتها؛ لأن الحمل في الصيد زيادة، وهو كذلك في الشاة، إلا أنه ينقص من لحمها، فأوجبنا القيمة؛ لتحصل الزيادة. قال ابن الصباغ: وليس لهذه المسألة نظير. [مسألة التخيير في فدية صيد له مثل وتقويمه] إذا قتل صيدا له مثل من النعم.. وجب عليه المثل، وهو بالخيار: بين أن يخرج المثل فيذبحه ويفرقه على المساكين، وإن ملكهم إياه مذبوحا.. جاز؛ لأن الذبح واجب عليه. وإن شاء قوم المثل من النعم. لا الصيد نفسه - بدراهم، ثم اشترى بالدراهم طعاما، وتصدق بالطعام على المساكين. وإن شاء صام عن كل مد يوما. وتعتبر قيمة المثل حال ما يعدل إلى التقويم لا حال الإتلاف. هذا مذهبنا. وقال ابن سيرين، والحسن، وزفر، وأحمد - في إحدى الروايتين -: (هو على الترتيب، فإن قدر على المثل.. لم يجز أن يقومه، وإذا قدر على إخراج الطعام.. لم يجز له أن يصوم) . وروي ذلك عن ابن عباس. وقال مالك: (يقوم الصيد لا المثل) .

مسألة جرح الصيد

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] [المائدة: 95] . و (أو) - في الأمر - للتخيير. ودليلنا - على مالك -: أن الذي يخرج هو المثل لا الصيد، فيقوم ما يخرج، لا ما لا يخرج. [مسألة جرح الصيد] وإن جرح صيدا له مثل من النعم، فنقص عشر قيمته.. فالمنصوص: (أنه يجب عليه عشر ثمن مثله) . وقال المزني: عليه عشر مثله. فمن أصحابنا من قال: الصحيح ما قال المزني؛ لأن كل جملة ضمنت بالمثل.. ضمن بعض تلك الجملة ببعض المثل، كالحبوب، وحملوا النص عليه إذا لم يتمكن من عشر مثله. ومنهم من قال: يجب عليه عشر ثمن مثله؛ لأن إيجاب عشر المثل يشق، فعدل عنه إلى قيمته، كما (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عدل في خمس من الإبل عن إيجاب جزء منها إلى إيجاب شاة فيها) . قال الشيخ أبو حامد: ويكون بالخيار - في عشر ثمن المثل - بين أربعة أشياء:

فرع ضرب بطن الصيد الحامل

أن يتصدق على المساكين، أو يشتري به جزءا من مثل ذلك الصيد ويخرجه إلى المساكين، أو يشتري به طعاما ويتصدق به، أو يصوم عن كل مد يوما. وإنما زدنا هنا تخييرا رابعا، بأن يتصدق بالقيمة؛ لأنه يشق عليه الشراء به. [فرع ضرب بطن الصيد الحامل] وإن ضرب بطن صيد حامل.. نظرت: فإن ألقت الولد حيا، ثم ماتا.. ضمن كل واحد منهما بمثله؛ لأن الظاهر أنهما ماتا بجنايته. وإن عاشا جميعا.. فلا شيء عليه. وإن مات أحدهما.. ضمن الميت بمثله. وإن ألقت الجنين ميتا، وعاشت الأم.. قومت الأم ماخضا، ثم قومت حائلا، وكان عليه ما بين القيمتين. وإن ألقت الجنين ميتا، وماتت الأم.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد: يضمن الأم بمثلها من النعم ماخضا، ويدخل أرش النقصان فيه. وقال ابن الصباغ: يضمن ما نقص من قيمتها بوضعه لأجل الولد، ويضمن مثلها بموتها لأجلها. [مسألة الصيد الذي لا مثل له وتقويمه] وإن قتل صيدا لا مثل له من النعم.. وجبت عليه قيمته؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (إذا قتل صيدا لا مثل له من النعم.. فعليه قيمته تهدى إلى مكة) .

ولأنه تعذر إيجاب المثل، فعدل إلى القيمة. إذا ثبت هذا: فمتى تعتبر قيمته؟ المنصوص - للشافعي في أكثر كتبه -: (أنه يقوم يوم إخراج الطعام) . وقال في موضع آخر: (يجب تقويمه يوم قتل الصيد) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: ليست على قولين، بل هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (تعتبر فيه القيمة يوم الانتقال إلى الطعام) إذا كان الصيد مما له مثل. والموضع الذي قال: (تعتبر فيه القيمة يوم القتل) إذا كان الصيد لا مثل له. ومنهم من قال: أما الصيد الذي له مثل.. فلا يختلف المذهب: أن الاعتبار بقيمة المثل يوم الانتقال إلى الطعام، لا يوم قتل الصيد. وأما الصيد الذي لا مثل له.. ففيه قولان: أحدهما: أن الاعتبار بقيمته يوم القتل؛ لأنها حالة الوجوب. والثاني: أن الاعتبار بقيمته يوم إخراج الطعام؛ لأنها حالة أداء الكفارة وإسقاط الفرض عن الذمة، فوجب أن يكون الاعتبار بها دون ما تقدمها. قال الشيخ أبو حامد: والصحيح: هي الطريقة الأولى وأنها على حالين.

فرع جزاء الصيد من الطيور

إذا ثبت هذا: فإنه بالخيار - فيما يجب عليه من القيمة -: بين أن يشتري بها طعاما ويتصدق به، وبين الصوم عن كل مد يوما. [فرع جزاء الصيد من الطيور] وإن كان الصيد طائرا.. نظرت: فإن كان حماما.. وجب في كل حمامة شاة، وسواء في ذلك حمام الحرم والحل. وقال مالك: (في حمامة الحرم شاة، وفي حمامة الحل قيمتها) . دليلنا: ما روي عن عمر، وعثمان، وابن عباس، وابن عمر، ونافع بن عبد الحارث: (أنهم حكموا في الحمامة بشاة) . قال الشافعي: (والحمام: ما عب وهدر) . قال الشيخ أبو حامد:

و (العب) : هو أن يشرب الماء بنفس واحد، و (الهدر) : هو مواصلة الصوت. وأراد به الترجيع، والتغريد، فيدخل في ذلك الحمام المعروف والقمارى والدباس، والفواخت، والعرب تسمي كل مطوق حماما. قال الكسائي: (الحمام) : هو الوحشي و (اليمام) : هو المتسأنس الذي يألف البيت. قال الصيمري: فيجب الجزاء في اليمام والحمام. قال الشيخ أبو حامد: وإنما أوجبنا الشاة في الحمامة؛ اتباعا للصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لا بالقياس. ومن أصحابنا من قال: إنها تشبه الغنم؛ لأنها تعب الماء إذا شربت فهي كالغنم. قال: وليس بشيء. وإن كان الطائر أصغر من الحمام، كالعصافير والقنابر والبلابل والجراد.. ضمنه بقيمته.

فرع كسر بيض المأكول ونتف ريش الطائر

وقال داود: (لا يجب في ذلك شيء) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] . وذلك من جملة الصيد. فنقول: لأنه ممنوع من قتله؛ لحرمة الإحرام.. فوجب بقتله الجزاء، كالحمام. وإن كان الطير أكبر من الحمام، كالبط، والإوز، والكركي، وغيرها من طيور الماء المأكولة.. ففيه قولان: أحدهما: يجب في كل واحد منها شاة؛ لأنها أكبر من الحمام، فإذا وجب في الحمامة شاة.. ففي ما هو أكبر منها أولى. والثاني: تجب قيمتها؛ لأن القياس كان يقتضي: أن يجب في الحمامة قيمتها، وإنما تركنا القياس فيها لإجماع الصحابة، وما سواها لم يجمع الصحابة فيه على شيء، فبقي على ما اقتضاه القياس. [فرع كسر بيض المأكول ونتف ريش الطائر] وإن كسر بيض صيد مأكول.. وجبت قيمته. وقال مالك: (يضمن بعشر ثمن أمه) .

فرع جزاء قتل الجراد

دليلنا: ما روى كعب بن عجرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في بيض النعامة إذا أصابه المحرم.. يفديه بقيمته ". وروي: " بثمنه» . وإن نتف ريش طائر فنبت.. ففيه وجهان: أحدهما: لا شيء فيه. والثاني: عليه ما نقص من قيمته، بناء على القولين فيمن قلع سن غيره، فنبت له مكانه سن أخرى. [فرع جزاء قتل الجراد] ويجب في الجراد قيمته. وقال أبو سعيد الخدري: لا جزاء في الجراد؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجراد من صيد البحر لا جزاء فيه» . دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أنه قال: (في الجرادة تمرة) .

وعن ابن عباس: (أن فيها قبضة من طعام) . ولأنه صيد يعيش جنسه في البر، فضمنه بالجزاء، كسائر الصيود. وأما قوله: «الجراد من صيد البحر؛» فإنما أراد: أن أصله من صيد البحر؛ لأنه يقال: (إن الجراد نثر حوت) ثم يأوي إلى البر ويعيش فيه، وهذا لا يسقط الجزاء فيه، ألا ترى أن البط، والإوز، وسائر طيور الماء فيها الجزاء؟ وإنما يغوص في الماء على ما يأكله، كالآدمي. وقد قيل: إن الخيل كانت متوحشة، ثم أنسها إسماعيل بن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومع هذا فلا يجب فيها الجزاء اعتبارا بحالها الآن. إذا ثبت هذا: قال الشافعي: (وفي الدباء قيمته) ، و (الدباء) : هي الجراد الصغار، وقيمته أقل من قيمة الجراد. وما روي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في تقدير الجزاء في الجراد: فإنما ذلك على طريق القيمة.

مسألة جزاء تكرار الصيد

[مسألة جزاء تكرار الصيد] إذا قتل صيدا بعد صيد.. وجب لكل واحد جزاء. وقال الحسن، ومجاهد، وشريح، وسعيد بن جبير، وقتادة، والنخعي، وداود: (يجب الجزاء بقتل الأول، ولا يجب بالثاني، ولا بالثالث شيء) . وروي ذلك عن ابن عباس. وقال أحمد في رواية عنه: (إن لم يكن كفر عن الأول.. تداخلا وكفاه جزاء واحد، وإن كفر عن الأول.... لزمه للثاني جزاء) . وقال أبو حنيفة: (إن قصد بالقتل رفض الإحرام أو التحلل.. لزمه جزاء واحد، وإن لم يقصد ذلك.. لزمه لكل واحد جزاء) دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] . ولم يفرق بين الأول والثاني، وبين أن يقصد رفض الإحرام أو لم يقصد. ولأنه ضمان متلف، فتكرر بتكرر الإتلاف، كالآدمي. على الفرقة الأولى. وعلى أبي حنيفة: كما لو لم يقصد الرفض.

فرع اشتراك الجماعة في الصيد

[فرع اشتراك الجماعة في الصيد] إذا اشترك جماعة من المحرمين في قتل صيد.. وجب عليهم جزاء واحد. وبهذا قال الزهري، وعطاء، وسليمان بن يسار، وأحمد، وإسحاق. وقال النخعي، والشعبي، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه: (يجب على كل واحد منهم جزاء) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] . ولفظة (من) : يدخل تحتها الواحد والجماعة، فاقتضى ظاهر الآية: أن جنس المحرمين إذا قتلوا صيدا.. فعليهم جزاء مثله. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الضبع صيد، وفيه كبش، إذا أصابه المحرم» واسم المحرم يعم الجنس. ولأنه مقتول واحد، فوجب فيه جزاء واحد، كما لو قتله واحد. وإن اشترك محل ومحرم في قتل صيد.. وجب على المحرم نصف الجزاء؛ لأنه ممن يجب عليه الجزاء، ولا يجب على المحل شيء؛ لأنه ممن لا يجب عليه الجزاء. [فرع إمساك المحرم الصيد وقتل المحل له] وإن أمسك محرم صيدا فقتله محل في يده.. وجب الجزاء على المحرم، وهل يرجع به على المحل القاتل؟ فيه وجهان:

أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد، واختيار ابن الصباغ -: أنه لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه أتلف صيدا يجوز له إتلافه؛ لأنه غير ممنوع منه لحق الله تعالى، ولا لحق المحرم؛ لأنه لم يملكه بالإمساك. والثاني: يرجع عليه، وهو قول القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق؛ لأن القاتل أدخل المحرم في الضمان فرجع عليه، كما لو غصب مالا فأتلفه آخر في يده. وإن قتله محرم مثله.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: يجب الجزاء على القاتل؛ لأنه وجد منه مباشرة، ومن الممسك سبب، وإذا اجتمع السبب والمباشرة.. تعلق الضمان بالمباشرة. والثاني: يجب عليهما جزاء واحد؛ لأنه قد وجد من كل واحد منهما ما يضمن به الصيد لو انفرد به، فإذا اشتركا.. كان عليهما الضمان، كما لو اشتركا في جرحه. وقال القاضي أبو الطيب: يجب الضمان على كل واحد منهما، فإن أخرجه الممسك.. رجع به على القاتل. وإن أخرجه القاتل.. لم يرجع به على الممسك، كما لو غصب شيئا فأتلفه آخر في يده. قال ابن الصباغ: وهذا أقيس عندي؛ لأن ما ذكره الشيخ أبو حامد للوجه الأول ينتقض، بمن غصب شيئا وأتلفه غيره في يده، وما ذكره للثاني لا يستقيم؛ لأن الضمان لا ينقسم على المباشرة والسبب غير الملجئ ليس في شيء من الأصول.

مسألة جناية المحرم على الصيد دون أن يقتله

[مسألة جناية المحرم على الصيد دون أن يقتله] إذا جنى المحرم على صيد، فأزال امتناعه، فإن قتله غيره.. ففيه طريقان: [الأول] : قال أبو العباس: يجب على الجارح أرش ما نقص قولا واحدا، وعلى القاتل جزاؤه مجروحا إن كان محرما، ولا شيء عليه إن كان محلا؛ لأن الأول جارح وليس بقاتل. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: هذا. والثاني: يجب على كل واحد منهما جزاء كامل؛ لأن الأول أزال امتناعه، فصار كما لو قتله، والثاني وجد منه القتل، والأول أصح. وإن اندمل جرح الأول، وبقي الصيد غير ممتنع.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو المذهب.: أنه يلزم الجارح ما نقص؛ لأنه جرح ولم يقتل. فعلى هذا: إن كان الصيد لا مثل له من النعم.. وجب عليه ما نقص من قيمته. وإن كان له مثل.. فهل يجب ما نقص من القيمة، أو جزء من المثل؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. والوجه الثاني: أنه يجب على الجارح جزاؤه كاملا؛ لأنه جعله كالميت.

مسألة قتل القارن للصيد

وإن غاب الصيد ولم يعلم: هل برئ من جراحته، أو مات؟ ففيه وجهان: أحدهما- وهو المذهب -: أن عليه ضمان ما نقص. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: عليه جزاؤه كاملا - وهو قول مالك - لأنه قد صيره غير ممتنع، والظاهر بقاؤه على هذه الحالة. وإن أطعمه وسقاه حتى عاد ممتنعا.. فهل يسقط عنه الضمان؟ فيه وجهان، بناء على القولين فيمن قلع سنا فنبتت مكانها أخرى. فإذا قلنا: لا يسقط عنه الضمان.. فهل يلزمه جزاؤه كاملا، أو ما نقص؟ على الوجهين الأولين. وهل يلزمه قسط الناقص من المثل، أو من القيمة؟ على الوجهين الأولين. [مسألة قتل القارن للصيد] إذا قتل القارن صيدا، أو ارتكب محظورا من محظورات الإحرام ... لزمه جزاء واحد، وكفارة واحدة.

مسألة صيد الحرم

وقال أبو حنيفة: (يلزمه جزاءان وكفارتان) . دليلنا: أنهما حرمتان لو انفردت كل واحدة منهما بالهتك.. لزمه لكل واحدة منهما كفارة، فإذا جمع بينهما في الهتك.. لزمه كفارة واحدة، كالإحرام والحرم. [مسألة صيد الحرم] ويحرم صيد الحرم على المحل والمحرم، فإن قتله محل ... وجب عليه جزاؤه. وبه قال عامة أهل العلم، إلا داود، فإنه قال: (هو ممنوع من تنفيره، فإن قتله محل فلا جزاء عليه) . والدليل - على تحريم ذلك -: ما روي عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله حرم مكة، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها» . والدليل - على وجوب الجزاء فيه -: قَوْله تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] . و (الحرم) : جمع محرم، ومن في الحرم، فإنه يسمى محرما، قال الشاعر: قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... فدعا فلم أر مثله مقتولا فسماه محرما؛ لكونه في حرم المدينة، لا أنه كان محرما بحج أو عمرة. ولأنه صيد ممنوع من قتله؛ لحق الله تعالى ... فوجب بقتله الجزاء، كالمحرم.

فرع إدخال المحل صيدا للحرم

إذا ثبت هذا: فإن قتل المحرم صيدا في الحرم.. لزمه جزاء واحد؛ لأن المقتول واحد. [فرع إدخال المحل صيدا للحرم] وإن اصطاد المحل صيدا في الحل وأدخله إلى الحرم.. جاز له أن يتصرف فيه بجميع التصرفات من الإمساك، والبيع، والهبة، والذبح، والأكل. وقال أبو حنيفة: (إذا أدخله إلى الحرم.. لزمه رفع يده عنه، فإن لم يفعل وتلف في يده أو أتلفه.. كان عليه الجزاء) . دليلنا: أن صيد المدينة يحرم، كصيد مكة، وقد روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للصبي: «يا أبا عمير ما فعل النغير» فأقره على إمساك عصفور كان في يده، ولا يجوز له ذلك إلا من الوجه الذي ذكرناه، بأن يكون ملكه في الحل وأدخله إلى الحرم. لأن كل من جاز له الأمر بالصيد.. جاز له إمساك الصيد، كالمحل، وعكسه المحرم.

فرع الرمي من الحل أو الحرم لصيد وحبس الصيد وله فرخ

فإن ذبح المحل صيدا من صيود الحرم.. لم يحل له أكله، وهل يحل لغيره؟ فيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالمحرم إذا ذبح صيدا. و [الثاني] : منهم من قال: لا يحل لغيره قولا واحدا؛ لأن صيد الحرم محرم على كل أحد، فهو كالحيوان الذي لا يحل أكله. [فرع الرمي من الحل أو الحرم لصيد وحبس الصيد وله فرخ] إذا رمى المحل من الحل إلى صيد في الحرم فقتله. كان عليه الجزاء؛ لأن الصيد في الحرم. وإن رمى من الحرم إلى صيد في الحل فقتله.. كان عليه الجزاء؛ لأن كونه في الحرم يحرم الصيد عليه. وإن رمى من الحل إلى صيد في الحل فقتله.. كان عليه الجزاء؛ لأن كونه في الحرم يحرم الصيد عليه. وإن رمى من الحل إلى صيد في الحل، فاخترق السهم شيئا من الحرم، ثم أصاب الصيد في الحل فقتله.. ففيه وجهان: أحدهما: عليه الجزاء؛ لمرور السهم في الحرم، فهو كما لو كان الرامي في الحرم. والثاني: لا جزاء عليه، وهو المذهب؛ لأن الرامي والصيد في الحل. وإن حبس المحل صيدا في الحل وله فرخ في الحرم، فماتت الأم والفرخ.. ضمن الفرخ دون الأم.

فرع رمي الصيد وهو على غصن وقطع الغصن

وإن حبس صيدا في الحرم وله فرخ في الحل، فماتا.. كان عليه الجزاء فيهما؛ لأن الأم في الحرم، ولأن كونه في الحرم يحرم الصيد عليه. [فرع رمي الصيد وهو على غصن وقطع الغصن] وإن نبتت في الحرم شجرة ولها أغصان في الحل، فوقع صيد على غصنها الخارج إلى الحل، فرماه محل من الحل وقتله..... فلا جزاء عليه؛ لأنه تابع لهواء الحل. ولو قطع الغصن.. كان عليه الجزاء فيه؛ تبعا لأصل الشجرة. وإن كان أصل الشجرة في الحل وأغصانها في الحرم، فوقع طائر على غصن منها في الحرم، فرماه وقتله.. كان عليه الجزاء فيه؛ تبعا لهواء الحرم. ولو قطع الغصن.. فلا جزاء عليه فيه؛ لأنه تابع لأصل الشجرة. [فرع قتل صيد الحرم خطأ أو بكلب] وحكم الصيد بين الحل والحرم] : وإن رمى إلى صيد في الحل، فعدل السهم وأصاب صيدا في الحرم فقتله.. فعليه الجزاء؛ لأن العمد والخطأ في قتل الصيد - عندنا - واحد في وجوب الجزاء. وإن أرسل المحل كلبا وهو في الحل على صيد في الحل، فهرب الصيد منه إلى الحرم وقتله الكلب في الحرم.. فلا جزاء عليه؛ لأن للكلب اختيارا. وإن كان بعض الصيد في الحل، وبعضه في الحرم، فرماه محل من الحل وقتله.. فإنه يكون مضمونا بكل حال.

فرع إرسال الكلب من الحرم على صيد في الحل

وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كانت قوائمه في الحل ورأسه في الحرم يرعى فليس بمضمون. وإن كان بعض قوائمه في الحرم ورأسه في الحل.. فهو مضمون، وهكذا لو كان نائما وقائمه في الحل ورأسه في الحرم.. كان مضمونا. وعللوا: بأنه إذا كانت قوائمه في الحل وهو غير نائم.. فهو مستقر في الحل، وإذا كان نائما.. فليس بمستقر على قوائمه، وإنما الاعتبار بموضعه. دليلنا: أن بعضه في الحرم، فكان مضمونا، كما لو كانت قوائمه في الحرم، أو كان نائما. [فرع إرسال الكلب من الحرم على صيد في الحل] وإن أرسل كلبا من الحرم على صيد في الحل فقتله، أو أرسل كلبا من الحل على صيد في الحرم فقتله.. كان عليه الجزاء فيهما. وقال أبو ثور: (لا جزاء عليه فيهما) .

مسألة الجزاء في صيد الحرم وتخييره كصيد المحرم

دليلنا: أن كون المرسل - أو الصيد في الحرم - يوجب تحريم الصيد فوجب الجزاء بقتله، كما لو كان المرسل والصيد في الحرم. [مسألة الجزاء في صيد الحرم وتخييره كصيد المحرم] وإذا وجب الجزاء في صيد الحرم.. فالحكم فيه كالحكم في الصيد الذي يقتله المحرم في اعتبار المثل، ويكون بالخيار: بين أن يذبح المثل ويفرقه، وبين أن يقومه بدراهم ويشتري بالدراهم طعاما ويتصدق به، وبين أن يصوم عن كل مد يوما. وقال أبو حنيفة: (لا مدخل للصوم في جزاء صيد الحرم) . دليلنا: أنه صيد ممنوع من قتله؛ لحق الله تعالى، فدخل في بدله الصوم، كصيد المحرم.

مسألة قتل الكافر الصيد في الحرم

[مسألة قتل الكافر الصيد في الحرم] ] : وإن دخل كافر إلى الحرم فقتل صيدا.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه الجزاء؛ لأنه ضمان يتعلق بالإتلاف، فاستوى فيه المسلم والكافر، كضمان الأموال. فعلى هذا: لا مدخل للصوم في الجزاء عليه؛ لأنه لا يصح منه. والثاني - وهو قول الشيخ أبي إسحاق ـ: أنه لا جزاء عليه؛ لأن ضمان صيد الحرم لحق الله تعالى، وهو غير ملتزم لحقوق الله تعالى. [مسألة تحريم قطع شجر الحرم] ] : ولا يجوز للمحل ولا للمحرم قطع شجر الحرم، فإن قطعه.. كان عليه الجزاء. وقال مالك وداود وأبو ثور: (هو ممنوع من إتلافه، فإن أتلفه.. فلا جزاء عليه) . وحكى الطبري في " العدة ": أن هذا قول آخر للشافعي وليس بصحيح؛ لأنه ممنوع من إتلافه لحق الله تعالى، فوجب بإتلافه الجزاء، كالصيد، وسواء في ذلك

الشجر الذي أنبته الله، أو أنبته الآدميون ... مما كان أصله في الحرم. ومن أصحابنا من قال: ما أنبته الآدميون.. جاز قطعه. وقال أبو حنيفة: (إن كان من جنس ما ينبته الآدميون.. جاز قطعه. وإن كان مما لا ينبت الآدميون جنسه، فإن أنبته الآدمي.. جاز قطعه. وإن نبت بنفسه.. لم يجز قطعه) . دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لا يعضد شجرها» ولم يفرق. ولأنه شجر نام غير مؤذ نبت أصله في الحرم، فوجب بإتلافه الجزاء، كالشجر الذي أنبته الله. فقولنا: (نام) احتراز من اليابس. وقولنا: (غير مؤذ) احتراز من الشوك. وقولنا: (نبت أصله في الحرم) احتراز ممن قلع شجرة من الحل، فغرسها في الحرم فنبتت، ثم قلعها هو أو غيره.. فلا شيء على قالعها وجها واحدا، كما إذا أدخل صيدا من الحل إلى الحرم.. فإن له ذبحه. ومسألة الوجهين فيما أنبته الآدمي: هو أن يأخذ غصنا من شجر الحرم فينبته في موضع من الحرم. وإن قلع شجرة من الحرم وغرسها في موضع من الحرم فإن نبتت.. لم يجب عليه شيء ولم يؤمر بردها؛ لأن حرمة جميع الحرم واحدة. وإن قلع شجرة من الحرم وأنبتها في موضع من الحل فنبتت.. وجب عليه ردها، فإن لم يفعل.. وجب عليه الجزاء، فإذا ردها، فإن علقت.. فلا شيء

فرع الضمان في قطع غصن أو أخذ ورق من شجر الحرم

عليه، وإن لم تعلق.. فعليه الجزاء؛ لأنها تلفت بسبب منه. وإن قلعها غيره من الحل.. فذكر ابن الصباغ والطبري في " العدة ": أن على القالع الجزاء؛ لأن الاعتبار في الشجر بمنبتها، وقد ثبت لها حكم الحرم، ولهذا يجب عليه ردها إليه، بخلاف ما لو نفر صيدا من الحرم إلى الحل فصاده غيره من الحل.. فلا ضمان عليه؛ لأنه ينتقل من موضع إلى موضع بخلاف الشجر. وذكر المسعودي أيضا [في " الإبانة " ق \ 200] : أنه إذا أخذ غصنا من أغصان شجر الحرم أو نواة فغرسها في موضع.. ثبت لها حرمة الأصل. [فرع الضمان في قطع غصن أو أخذ ورق من شجر الحرم] وإن قطع غصنا من أغصان شجرة بالحرم، فإن لم يعد مثله في مكانه.. كان عليه ضمان ما نقص من قيمتها. وإن عاد مكانه مثله.. فهل يسقط عنه الضمان؟ فيه قولان، كالسن إذا عادت. وهل يجب دفع ما نقص منها من الحيوان أو يجوز دفعه من القيمة؟ فيه وجهان. فأما إذا أخذ الورق من شجر الحرم، والأغصان الصغار للسواك.. فقال الشافعي في القديم: (يجوز ذلك) . وقال في " الإملاء ": (لا يجوز) . قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (يجوز) أراد: إذا لقط الورق بيده، وكسر الأغصان بيده بحيث لم ينل نفس الشجرة أذى.

فرع الجزاء في قطع الشجر

والموضع الذي قال: (لا يجوز) أراد: إذا خبط الشجرة حتى تساقط الورق وتكسرت الأغصان؛ لأن ذلك يضر بالشجرة، ولما روي: (أن ابن عمر رأى رجلا يخبط شجرة في الحرم فانتهره) . [فرع الجزاء في قطع الشجر] شجرة الحرم تضمن بمقدر، فيجب في الشجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة. وقال أبو حنيفة: (يضمنها بقيمتها بكل حال) . دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: (في الشجرة الدوحة بقرة، وفي الجزلة شاة) . قال الشيخ أبو حامد: و (الدوحة) : هي الشجرة الكبيرة التي لها أغصان، و (الجزلة) : الشابة التي لا أغصان لها. [مسألة قطع نبات الحرم من زرع ونحوه] والرعي فيه] : قال ابن الصباغ: الزرع في الحرم يجوز قطعه، لأن الحاجة داعية إليه.

وأما الحشيش ـ غير الإذخر في الحرم - فالمشهور من المذهب ": أنه لا يجوز قطع شيء منه. وحكى أبو علي السنجي في " شرح التلخيص " عن بعض أصحابنا: أنه يجوز له أن يأخذ العلف بيده، كورق الشجر. وحكى في " الفروع ": إنه يجوز أخذ اليسير منه. والأول أصح؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لا يختلى خلاها» ولم يفرق. وأما الإذخر: فيجوز أخذه؛ «لأن العباس قال للنبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: إلا الإذخر لبيوتنا وقبورنا وصياغتنا؟ فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " إلا الإذخر» . فإن جز الحشيش.. نظرت: فإن استخلف مكانه مثله.. سقط عنه الضمان قولا واحدا؛ لأنه يستخلف في العادة، فهو كما لو قلع سن صغير لم يثغر فنبت مكانها مثلها. وإن لم يستخلف ولم يضر أصله.. كان عليه ما نقص من قيمته، وإن جف أصله.. كان عليه قيمته؛ لأنه تلف بسبب منه. ويجوز رعي الدواب فيه. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) . دليلنا: ما روي عن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أنه قال: «ولا يختلى خلاها، إلا رعي الدواب فيه» وروي: «أن ابن عمر رعى حماره في الحرم، فرآه النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ولم ينهه عن ذلك» فدل على جوازه. وأيضا: فإن الناس كانوا من لدن رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ إلى وقتنا

مسألة يحرم إخراج حصباء وتراب الحرم

هذا يحملون الهدايا ويرعونها في الحرم من غير إنكار، ولا نقل: أن أحدا سد أفواهها، فدل الإجماع على ذلك. ويجوز قطع الشوك والعوسج؛ لأنه يؤذي، فلم يمنع من إتلافه كالسبع والذئب. [مسألة يحرم إخراج حصباء وتراب الحرم] ولا يجوز إخراج تراب الحرم وحجارته. وذهب بعض الناس إلى أنه يجوز. دليلنا: ما روي عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر: أنه قال: (دخلنا على صفية بنت شيبة، فأهدت لنا قطعة من الركن إكراما لنا ـ هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " وأبو نصر في " المعتمد " وذكر في " المهذب ": من الصفا - قال: فلما خرجنا مرضنا فقيل لنا: إنه لا يجوز إخراج شيء من الحرم، قال: وكنت أمثلهم فأخذته ورددته إليها فلما رجعت إليهم.. قالوا: ما هو إلا أن رددته فكأنما أنشطنا

فرع إخراج ماء زمزم وإدخال التراب والأحجار من وإلى الحرم

من عقل) فدل على: أنه لا يجوز؛ لأنه أخبر عن بعض أهل العلم: أنهم أمروه برده. [فرع إخراج ماء زمزم وإدخال التراب والأحجار من وإلى الحرم] ويجوز إخراج ماء زمزم من الحرم؛ لما روي: «أن سهيل بن عمرو أهدى إلى النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ راوية من ماء زمزم بالحديبية» . ولأن الماء يستخلف في العادة، بخلاف التراب والأحجار. قال الشيخ أبو إسحاق: ولا يجوز إدخال شيء من تراب الحل وأحجاره إلى الحرم [مسألة الحظر من صيد حرم المدينة] قال الشافعي: (ولا يحرم قتل صيد إلا صيد الحرم، وأكره قتل صيد المدينة) . قال أصحابنا: هذه الكراهة كراهة تحريم.

قال ابن الصباغ: وهذا خلاف ظاهر كلامه، فكأنه يومئ إلى أنه يكره قتل صيد المدينة كراهة تنزيه. وقال أبو حنيفة: (لا يحرم اصطياده ولا قتله) . ودليلنا: ما روى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «حرم إبراهيم مكة، وأنا حرمت المدينة، ما بين لابتيها: لا ينفر صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد» .

فإن قتل صيدا في حرم المدينة.. ففيه قولان: [أحدهما] : قال في الجديد: (يأثم ولا جزاء عليه) ، وهو الصحيح؛ لأنها بقعة يجوز دخولها بغير إحرام، فلم يضمن صيدها، كسائر البقاع. و [الثاني] : قال في القديم: (يسلب القاتل) - وبه قال أحمد بن حنبل - لما روي: «أن سعد بن أبي وقاص رأى رجلا قد اصطاد بالمدينة صيدا فأخذ سلبه، فأتاه موالي ذلك الرجل فسألوه أن يرد عليهم، فقال: لا أرد طعمة أطعمنيها رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ؛ سمعت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يقول: " من وجدتموه يقتل صيدا في حرم المدينة.. فاسلبوه " فإن أردتم ثمنه.. أعطيتكموه» . هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 201] : إذا قلنا بقوله القديم.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب فيه ما يجب بصيد حرم مكة. والثاني: يسلب، وهو المشهور. فإذا قلنا: يسلب.. فإنه يسلب كما يسلب المقتول من الكفار، فيؤخذ جميع ما عليه من الثياب والسلاح والفرس ويترك له ما يستر به عورته. وهل يؤخذ منه المنطقة والهميان والنفقة التي معه؟ فيه وجهان.

مسألة كراهة صيد واد وج

وإلى من يصرف ذلك السلب؟ فيه وجهان: أحدهما: يصرف إلى مساكين المدينة، كما يصرف جزاء صيد مكة إلى مساكين مكة. والثاني: يختص به السالب؛ لما ذكرناه من حديث سعد بن أبي وقاص. [مسألة كراهة صيد واد وج] قال الشافعي: (وأكره قتل صيد وج) . قال أصحابنا: وظاهر هذا: أنه كراهة تحريم؛ لما روى جابر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «وج حرام محرم، لا ينفر صيده، ولا يعضد عضاهه» . فإن قتل صيدا فيه، أو قطع فيه شجرا.. لم يجب فيه الجزاء، ولم يسلب؛ لأنه لم يرو فيه شيء من ذلك، ولا يبلغ حرمة مكة والمدينة. و (وج) : واد في الطائف.

مسألة تصرف سائر الدماء لمساكين الحرم

[مسألة تصرف سائر الدماء لمساكين الحرم] ] : وإذا وجب على المحرم دم لأجل الإحرام، كدم التمتع والقران، ودم الطيب، أو جزاء الصيد.. وجب عليه صرفه إلى مساكين الحرم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] . فإن ذبح الهدي في الحرم وفرقه في الحرم.. فقد فعل ما وجب عليه. وإن ذبحه في الحل وفرقه في الحل.. لم يجزه؛ لأن الله تعالى قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] . وهذا لم يبلع الكعبة. وإن ذبحه في الحرم وفرقه في الحل.. لم يجزه. وقال أبو حنيفة: (يجزئه) دليلنا: أنه أحد مقصودي الهدي، فاختص بالحرم كالذبح. وإن ذبحه في الحل وفرقه في الحرم.. نظرت: فإن أوصله إليهم متغيرا.. لم يجزه؛ لأن المستحق إيصاله إليهم كاملا. وإن أوصله إليهم غير متغير.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق، وحكاهما الشيخ أبو حامد في " التعليق " قولين: أحدهما: لا يجزئه؛ لأن إراقة الدم في الحرم مقصودة، كما أن التفرقة مقصودة، ثم ثبت أنه لو لم يفرق اللحم في الحرم.. لم يجزه، فكذلك الذبح. والثاني: يجزئه؛ لأن المقصد من ذبحه بالحرم إيصال اللحم إليهم غضا طريا وقد وجد ذلك. وإن وجب عليه إطعام ... وجب عليه صرفه إلى مساكين الحرم، قياسا على الهدي. وإن وجب عليه صوم.... جاز له أن يصومه في كل مكان؛ لأنه لا منفعة لأهل الحرم بصومه فيه.

وإن وجب عليه هدي فيه، فأحصر عن الحرم.. جاز له أن يذبحه ويفرقه حيث أحصر؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما أحصره المشركون بالحديبية عن مكة.. نحر فيها هديه، وأمر أصحابه فنحروا فيها» ، وبين الحديبية وبين مكة ثلاثة أميال. ولأنه موضع تحلله فأشبه الحرم. (وبالله التوفيق)

باب صفة الحج والعمرة

[باب صفة الحج والعمرة] لا يكره دخول مكة ليلا. وقال النخعي وإسحاق: الأولى أن يدخلها نهارا. وقال ابن جريج: سألت عطاء: أيجوز للمحرم أن يدخل مكة ليلا؟ فقال: لا؛ لـ: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخلها حين ارتفعت الشمس. دليلنا: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخلها في عمرة الجعرانة ليلا» . إذا ثبت هذا: فيستحب لمن أراد أن يدخل مكة أن يغتسل في طرفها؛ لما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ اغتسل بذي طوى» : وهو بطرف مكة. ولأن الناس يجتمعون الدخول، فسن له الغسل، كالجمعة. ويسن هذا الغسل للطاهر والحائض والنفساء؛ «لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لعائشة، وقد حاضت: " اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» وهذا مما يصنعه الحاج. ويستحب أن يدخل مكة من ثنية كدى من أعلى مكة بالبطحاء، ويخرج من ثنية

كدى من أسفل مكة؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل مكة من الثنية العليا، وخرج من السفلى» . هكذا ذكر عامة أصحابنا على الإطلاق. وذكر المسعودي [في " الإبانة " ق \ 201] : أن ذلك إنما يسن للمدني، ومن جاء من تلك الناحية؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل منها اتفاقا) ، وأيضا: فإنه يشق على من جاء من غير تلك الناحية أن يدور إلى الثنية العليا ليدخل منها. ويسن الدخول من باب بني شيبة: وهو الباب الأعظم لمن جاء من تلك الناحية ومن غيرها؛ لأنه لا يشق عليه أن يدور إليه. فإذا رأى البيت.. فالمستحب: أن يدعو؛ لما روى أبو أمامة: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «تستجاب دعوة المسلم عند رؤيته الكعبة» . قال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: ويستحب أن يرفع يديه في الدعاء عند رؤية البيت؛ لما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواضع: عند رؤية البيت، وعلى الصفا، والمروة، وفي الصلاة، وفي الموقف، وعند الجمرتين» . هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في " التعليق ".

وذكر ابن الصباغ: أن الشافعي قال في " الإملاء ": (لا أكرهه، ولا أستحبه، ولكن إن فعله.. كان حسنا) . وكان مالك لا يرى ذلك لما روي: أنه سئل جابر عن ذلك، فقال: «ما يفعله إلا اليهود وقد حججنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فلم يفعله» . ودليلنا: الخبر الأول؛ لأنه مثبت، وحديث جابر في ذلك ناف، والمثبت أولى من النافي. إذا ثبت هذا: فيستحب أن يقول إذا رأى البيت: " اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وزد من شرفه وعظمه، ممن حجه أو اعتمره، تشريفا وتعظيما وتكريما وبرا " ونقل المزني: (ومهابة) . قال سائر أصحابنا: وهو غلط، بل نص الشافعي في " الأم " [2/144] :

مسألة استحباب الدخول من باب بني شيبة

(وبرا) ، وهو أليق؛ لأن المهابة للبيت، والبر للإنسان؛ لما روى ابن جريج: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان إذا رأى البيت.. رفع يديه، وقال ذلك» . والمستحب: أن يضيف إلى ذلك: (اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام) ، لما روي عن سعيد بن المسيب: أنه كان يقول ذلك. وهو ممن لقي كبار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. [مسألة استحباب الدخول من باب بني شيبة] وطواف القدوم وطواف المرأة ليلا] : ويستحب أن يدخل من باب بني شيبة، ويبتدئ بطواف القدوم؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل مكة عند ارتفاع الضحى، فأناخ راحلته عند باب بني شيبة ودخل منه، فأتى الحجر واستلمه بيده وقبله، ورمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم استلمه بيديه جميعا، ومسح بهما وجهه) ووقف ودعا، وفاضت عيناه بالدموع، ثم التفت فرأى عمر بن الخطاب يبكي، فقال: " يا عمر هاهنا تسكب العبرات» . ولأن طواف القدوم تحية البيت، فاستحب البداية به، كتحية المسجد. فإن اتفق ما هو

فرع شروط الطواف

أهم من الطواف، مثل: أن يدخل وقد أقيمت الجماعة.. بدأ بالجماعة، وكذلك إن كان عليه قضاء فائتة.. بدأ بها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة، أو نسيها.. فليصلها إذا ذكرها؛ فذلك وقتها» . وكذلك إذا خاف فوات وقت فريضة أو سنة مؤكدة.... بدأ بها؛ لأنها تفوت، والطواف لا يفوت. وقال الشافعي: (وإن كانت امرأة ذات حظوة وجمال.. أحببت لها أن تطوف ليلا) . فمن أصحابنا من قال: أراد طواف القدوم، فأما طواف الإفاضة: فإنه يكون يوم النحر، فلا تؤخره. ومنهم من قال: بل أراد طواف الإفاضة، فأما طواف القدوم: فإنه تحية، وإنما يؤتى بالتحية عقيب القدوم، كتحية المسجد، وإذا أخرها.. كانت صلاة مستأنفة لا تحية. إذا ثبت هذا: فإن طواف القدوم سنة، إذا تركه.. لم يجب عليه شيء، هذا هو المشهور. وحكى أبو علي السنجي: إذا قلنا: يجب الدم بترك طواف الوداع.. فهل يجب بترك طواف القدوم؟ فيه قولان، خرجهما بعض الأصحاب: أحدهما: يجب عليه الدم. وهو قول أبي ثور: لأنه يتعلق بحرمة البيت ابتداء، كما يتعلق طواف الوداع بحرمته انتهاء. والثاني: لا يجب عليه شيء، وهو الصحيح؛ لأن هذا تحية، فلم يجب بتركه شيء، كتحية المسجد. [فرع شروط الطواف] ] : لا يصح الطواف إلا بالطهارة عن الحدث والنجس، وستر العورة، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (الطهارة ليست بشرط في الطواف، فإن طاف بغير طهارة ... صح طوافه، ويجبره بالدم) .

دليلنا: ما روت عائشة: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما أراد أن يطوف.. توضأ، ثم طاف» ، وقال: «خذوا عني مناسككم» قلنا: منه دليلان: أحدهما: أن الله تعالى أمر بالطواف مجملا فبين النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كيفية المجمل في الآية، فدل على: أن المراد بالطواف المذكور في الآية هو الطواف بالطهارة. والثاني: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «خذوا عني مناسككم» وهذا أمر بما فعله. وروى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله تعالى أباح فيه النطق، فمن نطق.. فلا ينطق إلا بخير» .

فرع الحدث في الطواف

ولم يرد: أنه صلاة في اللغة، وإنما أراد به: أنه صلاة في الشرع؛ لأنه بعث لبيان الشرع، فإن أراد: أنه يسمى في الشرع صلاة.. فقد أجمعنا: أن الصلاة لا تصح إلا بطهارة، وإن أراد: أن حكمه حكم الصلاة دون التسمية.. فمن حكم الصلاة: أنها لا تصح إلا بطهارة. والدليل - على أن ستر العورة شرط فيه -: ما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا بكر الصديق إلى مكة فنادى: ألا لا يطوفَنَّ بالبيت مشرك ولا عريان» . [فرع الحدث في الطواف] ] : فإن أحدث في أثناء الطواف.. نظرت: فإن كان عامدا.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال القاضي أبو الطيِّب: تبطل طهارته وما مضى من طوافه، كما إذا أحدث في الصلاة عامدا. و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: تبطل طهارته ولا يبطل ما مضى من طوافه، فإن كان الماء قريبا منه.. توضأ وبنى على طوافه، وإن كان الماء بعيدا منه.. فهل يبني على ما مضى من الطواف أو يستأنفه.. فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يستأنف) ؛ لأنه عبادة تتعلق بالبيت، فأبطلها التفريق الكثير، كالصلاة. و [الثاني] : قال في الجديد: (يبني على ما مضى من طوافه) ؛ لأنها عبادة لا يبطلها التفريق القليل، فلم يبطلها التفريق الكثير كالزكاة، وعكسه الصلاة. وإن سبقه الحدث في الطواف فإن قلنا: إذا سبقه الحدث في الصلاة لا تبطل

فرع تيقن الحدث في طواف أحد النسكين ولم يعينه ووطئ بعد العمرة

صلاته.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يتوضأ ويبني على طوافه بكل حال. وإن قلنا: إن صلاته تبطل إذا سبقه الحدث.. كان كما لو تعمد الحدث في الطواف، فإن كان الماء قريبا.. توضأ وبنى، وإن كان بعيدا.. فعلى قولين كما مضى. [فرع تيقن الحدث في طواف أحد النسكين ولم يعينه ووطئ بعد العمرة] ] : قال ابن الحداد: إذا أحرم بالعمرة وطاف لها وسعى وحلق، ثم أحرم بالحج ووقف بعرفة وطاف وسعى، ثم تيقن أنه ترك الطهارة في أحد الطوافين ولم يعرفه بعينه.. فعليه أن يتوضأ، ثم يأتي بطواف وسعى، وعليه دم؛ لأنه إن ترك الطهارة في طواف العمرة.. لم يصح تحلله منها، فلما أحرم بالحج.. صار مدخلا للحج على العمرة قبل طواف، فيصح ويكون قارنا وعليه دم القران، وقد صح طوافه وسعيه للحج. وإن كان ترك الطهارة في طواف الحج.. فقد صح تحلله من العمرة، فلما أحرم بالحج.. صار متمتعا، ولم يصح طوافه للحج ولا سعيه؛ لفقد الطهارة في الطواف، فيلزمه أن يطوف ويسعى؛ ليسقط الفرض عن ذمته بيقين، ويلزمه دم: إما للقران أو للتمتع، ولا يلزمه دم الحلق في العمرة؛ لأنه يشك في وجوبه. فإن كانت بحالها، إلا أنه وطئ بعد فراغه من العمرة فإن قلنا: إن وطء الناسي لا يفسد الحج.. فالحكم فيه كالأولى. وإن قلنا: إنه يفسد.. فيحتمل أنه ترك الطهارة في طواف العمرة، فقد فسدت وعليه بدنة، ولم يصح إحرامه بالحج، على المذهب. ويحتمل أنه ترك الطهارة في طواف الحج.. فقد صحت عمرته، ووجب عليه الطواف والسعي للحج. وإذا احتمل هذين.. لم تجب البدنة للشك في وجوبها، وهل تجب عليه شاة؟ فيه وجهان: أحدهما: تجب؛ لأنها إما أن تجب بالحلاق أو بالتمتع. والثاني: لا تجب: لجواز أن تفسد العمرة، فلم يصح التمتع. والأول أصح.

فرع طلب النية للطواف

قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: ويجب عليه قضاء العمرة؛ لجواز أن يكون أفسدها، ولا يجزئه الحج. قال ابن الصباغ: وعندي أن العمرة إن كانت واجبة عليه.... فلا يجزئه، وإن لم تكن واجبة عليه.. فلا يجب عليه قضاؤها للشك في سبب القضاء. فإن شك: هل طاف محدثا أو متطهرا؟ لم يلزمه شيء؛ لأن الشك في العبادة بعد الفراغ منها لا يؤثر فيها. [فرع طلب النية للطواف] وإذا أراد أن يطوف.. فهل يفتقر إلى النية؟ ينظر فيه: فإن كان الطواف نافلة أو طواف نذر.. افتقر إلى النية وجها واحدا؛ لأنه قربة تتعلق بالبيت فافتقر إلى النية، كالصلاة. وإن كان طواف العمرة أو طواف الإفاضة في الحج.. فهل يفتقر إلى النية؟ فيه وجهان: أحدهما: يفتقر إلى النية؛ لأنه عبادة تفتقر إلى البيت فافتقرت إلى النية، كالصلاة. والثاني: لا يفتقر إلى النية؛ لأن نية الحج والعمرة تأتي عليه كما تأتي على الوقوف. [فرع استحباب الاضطباع لطواف يعقبه سعي] ] : ويستحب لمن أراد أن يطوف للنسك (أن يضطبع) وهو: أن يشتمل بردائه من تحت منكبه الأيمن، ويجعل طرفي الرداء فوق منكبه الأيسر، ويكون المنكب الأيمن

مكشوفا. وهو مأخوذ من (الضبع) وهو: عضد الإنسان، وكان أصله: الاضتباع، فقلبوا التاء طاء. والأصل فيه: ما روى ابن عباس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما قدم مكة وأراد أن يطوف، قعدت له قريش في الحجر؛ لينظروا طوافه وقالوا: إن حمى يثرب قد أنهكتهم.. فاضطبع النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وأمرهم فاضطبعوا، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، وقذفوها على عواتقهم، ورملوا» وذلك لإظهار الجلد والقوة للمشركين. قال الشافعي: (ويترك الاضطباع حتى يكمل سعيه) . قال أصحابنا: فإذا فرغ من الطواف.. حل الاضطباع ليصلي ركعتي الطواف، وغطى منكبه؛ لأن الصلاة موضع خشوع وخضوع، وليست مما يظهر فيها الجلد. فإذا فرغ منها: أعاد الاضطباع للسعي. وقد بين الشافعي ذلك في موضع آخر، وقد روي عنه: (حتى يكمل سبعه) يعني: طوافه.

فرع كون الطواف سبعة أشواط وكراهية تسميته بغير اسمه

[فرع كون الطواف سبعة أشواط وكراهية تسميته بغير اسمه] ] : ولا يجزئه الطواف حتى يطوف سبع طوفات، فإن ترك طوفة أو طوفتين لم يعتد بالطواف حتى يكمل السبع، سواء كان بمكة أو خارجا منها، ولا ينجبر الدم. وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: (إذا طاف أربع طوفات، فإن كان بمكة.. لزمه الطواف وإن خرج منها.. جبره بالدم) . دليلنا: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف بالبيت سبعا» وقال: «خذوا عني مناسككم» فعلم أنه أراد بذلك: بيان الطواف الذي ورد به القرآن مجملا. ولأن الطواف عبادة تفتقر إلى البيت، فلم يجبر الدم بعض أجزائه، كالصلاة. فإن طاف في يوم طوفة، وفي يوم آخر طوفة حتى أكمل السبع.. فهل يجزئه؟ فيه قولان، كالقولين في تفريق الوضوء. فلو طاف بعض طوفة فقطع وطال الزمان، فإن قلنا: يلزمه الاستئناف.. فلا كلام، وإن قلنا: يجوز البناء.. فهاهنا وجهان، حكاهما الصيمري: أحدهما: يستأنف. والثاني: يبني من حيث قطع. قال الشافعي: (وروي عن مجاهد: أنه قال: وأكره أن يقال في الطواف شوط ودور) . وقال الشافعي: (وأكره من ذلك ما كره مجاهد، وإنما يقال: طوفة وطوفتان وثلاث؛ لأن الله تعالى قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] [الحج: 29] , فسماه طوافا) .

فرع الطواف حول البيت والحجروالشاذروان جميعا

[فرع الطواف حول البيت والحجروالشاذروان جميعا] فرع: [الطواف حول البيت والحجر والشاذروان جميعا] : ولا يجزئه الطواف حتى يطوف حول جميع البيت المبني والقدر الذي ترك منه في الحجر. قال الشيخ أبو حامد: وهو ستة أذرع أو سبعة. فإن طاف في الحجر أو على شاذروان الكعبة.. لم يجزه؛ لأن الشاذروان من الدكة السفلى في البيت. وقال أبو حنيفة: (إذا طاف حول البيت وترك الحجر.. جاز) . دليلنا: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أصلي في البيت، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " صلي في الحجر؛ فإنه من البيت» . وروي أيضا: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «يا عائشة لولا حدثان قومك بالكفر.. لنقضت البيت ورددته على قواعد إبراهيم؛ إن قومك لما أرادوا بناء البيت قصرت بهم النفقة فتركوا بعض البيت في الحجر» .

فرع الطواف ماشيا أوراكبا أو محمولا

قال الشيخ أبو حامد: ولم يرد بقوله: (قصرت بهم النفقة) : أنه لم يكن لقريش مال يتمون به بناء الكعبة، وإنما أراد بذلك: أنهم قصرت بهم النفقة الطيبة الحلال؛ وذلك أن قريشا لما أرادت بناء الكعبة جمعت مالا عظيما، فخرج عليهم ثعبان ومنعهم من البناء، فتشاوروا، وقالوا: إن لهذا البيت حرمة، وإن الله طيب، وإنه لا يقبل إلا الطيب من أموالكم، فجمعوا الطيب الحلال من أموالهم، فقصر بناؤهم عن قواعد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فأخرجوا بعض البيت وجعلوه في الحجر. وفي رواية أخرى: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال لعائشة: (إن شئت أريتك القدر الذي أخرجوه من البيت، حتى إن أراد قومك أن يبنوه.. بنوه عليه "، قالت: فأراني نحوا من سبعة أذرع» . [فرع الطواف ماشيا أوراكبا أو محمولا] فرع: [الطواف ماشيا أو راكبا أو محمولا] : والأفضل أن يطوف ماشيا؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف ماشيا في أكثر طوافه. ولأنه إذا طاف راكبا.. زاحم الناس وآذاهم بدابته، ولأنها ربما راثت في الموضع فتنجسه. ولأن القيام في العبادة أفضل من القعود. فإن طاف راكبا.. جاز، سواء كان لعذر أو لغير عذر. وقال مالك وأبو حنيفة: (إن طاف راكبا لعذر.. فلا شيء عليه، وإن كان لغير عذر.. فعليه دم) . دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف بالبيت وبالصفا والمروة راكبا على

فرع ابتداء الطواف واستلام الحجر الأسود وتقبيله وما يقوله

راحلته؛ ليشرف على الناس، وليسألوه» . فبين أنه طاف لذلك. ولأنه فعل من أفعال الحج، فإذا فعله راكبا.. لم يجب عليه الدم، كما لو كان له عذر، أو كما لو وقف بعرفة راكبا. فإن حمل محرم محرما ونويا الطواف، وطاف به.. لم يجزه عنهما، ولمن يكون الطواف؟ فيه قولان: أحدهما: يقع عن المحمول؛ لأن الحامل آلة له، فهو كالراكب. والثاني: يقع عن الحامل. قال ابن الصباغ: وهو الأظهر؛ لأن الفعل وجد منه. وقال أبو حنيفة: (يجزئ عنهما) . دليلنا: أنه طواف واحد، فلا يجزئ عن طوافين، ولا ينتقض بالحامل في عرفة؛ لأن الوقوف لا يعتبر فيه الفعل، وإنما يعتبر فيه الكون هناك، وقد حصل الكون منهما فيها بخلاف الطواف. [فرع ابتداء الطواف واستلام الحجر الأسود وتقبيله وما يقوله] ويبتدئ بالطواف من الركن الذي فيه الحجر الأسود، فإن أتى من وجه الكعبة.. لم يكن طائفا حتى يمر بالحجر الأسود؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ابتدأ الطواف منه، وقال: «خذوا عني مناسككم» وفي محاذاته للحجر ثلاث مسائل:

إحداهن: أن يحاذي جميع الحجر بجميع بدنه، بأن يقف على يمين الحجر مما يلي الشق اليماني، ثم يمر به مستقبلا له، وهذا هو الأكمل. الثانية: أن يحاذي بجميع بدنه بعض الحجر إن أمكنه فيجزئه، ولكن لا يمكن؛ لأن جثة الإنسان أكبر من الحجر، فإن أمكنه.. أجزأه، كما إذا استقبل بجميع بدنه بعض البيت في الصلاة.. فإنه يجزئه. الثالثة: أن يحاذي ببعض بدنه جميع الحجر، مثل: أن يقف حذاء وسط الحجر؛ فإن بعض بدنه يكون خارجا من الحجر.. فهل يجزئه هذا؟ فيه قولان: (الأول) : قال في القديم: (يجزئه) : لأنه حكم يتعلق ببدنه، فاستوى فيه جملة البدن وبعضه كوقوع الحد على بعض البدن. و (الثاني) : قال في الجديد: (لا يجزئه) ؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ استقبل الحجر واستلمه» وظاهر هذا: أنه استقبله بجميع بدنه. ولأن ما وجب فيه محاذاة البيت.. وجب محاذاته بجميع البدن، كالاستقبال في الصلاة؛ فإنه لو استقبل الكعبة في الصلاة ببعض بدنه، بأن يقف بحذاء بعض الأركان.. فإنه لا يجزئه: لأن بعض بدنه يكون خارجا عن الكعبة. فإذا قلنا بهذا: لم تجزه الطوفة الأولى، فإذا طاف الثانية.. احتسبت له أولى؛ لأنه يمر على الحجر بجميع بدنه. فإن طاف وهو واضع يده على جدار الكعبة.. قال المسعودي (في " الإبانة " ق\ 203] : فعلى القولين فيمن حاذى الحجر ببعض بدنه.

إذا ثبت هذا: فروى ابن عباس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قبل الحجر وسجد عليه، ثم قبله وسجد عليه» . قال الشافعي: (وأحب للطائف أن يفعل ذلك إن أمكنه، فإن لم يمكنه ثلاثا.. فعل ما أمكنه منها، فإن لم يمكنه السجود أمكنه منها، فإن لم يمكنه السجود عليه.. اقتصر على التقبيل، وإن لم يمكنه التقبيل بأن يتأذى بغيره أو يؤذي غيره.. استلمه بيده) ؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ استلم الحجر الأسود» . وروى ابن عباس: «أن عمر ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـ انكب على الحجر وقبله، وقال: أما إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت حبيبي رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يقبلك.. ما أقبلك) . وقرأ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] » [الأحزاب: 21] .

ويستحب أن يقبل يده؛ لما روي: «أن ابن عمر استلم الحجر الأسود وقبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يفعله» . وإنما خص الحجر الأسود بالتقبيل: لما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه قال: سمعت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يقول: «الحجر والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة، ولولا أن الله تعالى طمس نورهما.. لأضاءا ما بين المشرق والمغرب» . وروى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «يحشر الحجر الأسود يوم القيامة وله عينان ولسان يشهد لكل من استلمه بحق» . وروي عن ابن عباس: أنه قال: «نزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضا من الثلج، حتى سودته خطايا بني آدم» . قال: فإن لم يمكنه الاستلام.. فإنه يشير إليه

بيده، ولا يشير بالقبلة؛ لأنه قد روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما ازدحم الطواف.. استلم الركن بمحجن بيده» . ولم يشر إليه بالقبلة. وروي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال لعمر: " إنك رجل قوي، فلا تزاحم الناس على الركن، فتمنع الضعيف وتؤذي القوي، ولكن إن خلا لك.. فقبل، وإلا.. فكبر وامض» . قال النبي: و (الاستلام) : مأخوذ من السلام، وهي الحجارة، فإذا مس الحجر بيده.. قيل: استلم، أي: مس السلام، وقيل: إنه مأخوذ من السلام "، أي: أنه يحيي نفسه عن الحجر، إذ ليس الحجر ممن يجيبه، يقال: اختدم: إذا لم يكن له خادم، وإنما خدم نفسه. وحكي عن ابن الأعرابي: أنه قال: هو مهموز ترك همزه، وهو مأخوذ من الملاءمة والموافقة، كما يقال: استلأم كذا استلئامًا: إذا رآه موافقا له وملائما. ويستحب أن يقول عند ابتداء الطواف والاستلام: باسم الله، والله أكبر، اللهم

إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك محمد ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، رواه عبد الله بن السائب عن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ. وروي مثل ذلك عن علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وإن قرأ القرآن في الطواف.. كان حسنا؛ لما روي عن مجاهد: أنه كان يقرأ القرآن في الطواف.

فرع يشترط الترتيب في الطواف ويستحب الدنو منه

وإن قال في طوافه: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. كان مستحبا؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من طاف بالبيت سبعا ولم يتكلم فيه إلا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. كتب له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات» . [فرع يشترط الترتيب في الطواف ويستحب الدنو منه] ] : الترتيب شرط في الطواف، وهو: أن يجعل البيت على يساره، ويمشي على يمينه، فإن مشى على يساره.. لم يجزه. وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: (إذا مشى على يساره، فإن كان بمكة.. أعاد، وإن خرج إلى بلده.. أجزأه وعليه دم) . دليلنا: أن الله تعالى قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] [الحج: 29] . فأمر بالطواف مجملا. وروى جابر وابن عباس: «أن النبي طاف مرتبا، فجعل البيت على يساره، ومشى على يمينه» . وقال: «خذوا عني مناسككم» فكان فعله هذا بيانا لما ورد به القرآن مجملا. وما روي: أن أحدا طاف على خلاف ذلك إلا محمد بن داود، فهموا بقتله لولا

فرع ما يستحب استلامه من الأركان وما يفعله

أنه اختفى بمكة، وهذا يدل على شهرته. ولأنه عبادة تفتقر إلى البيت، فكان الترتيب فيها مستحقا، كالصلاة: ويستحب أن يدنو من البيت؛ لأنه هو المقصود، فكان الدنو منه أفضل، فإن كان هناك زحمة.. لم يستحب له أن يزاحم للدنو من البيت؛ لأنه يؤذي الناس بذلك، فإن تباعد من البيت وطاف ملاصقا لجدار المسجد.. جاز. وإن طاف خارجا من المسجد.. لم يجزه؛ لأن حائط المسجد حائل بينه وبين الكعبة [فرع ما يستحب استلامه من الأركان وما يفعله] ] : فإذا بلغ إلى الركن اليماني.. استلمه بيده وقبل يده ولا يقبله، هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 204] : في كيفية استلام اليماني وتقبيله وجهان: أحدهما: يقبل يده أولا، ثم يضعها عليه، كأنه ينقل القبلة إليه. والثاني: يضع يده على الركن ثم يقبلها، فكأنه ينقل بركته إلى نفسه. وقال مالك: (يستلمه ولا يقبل يده، ولكن يضعها على فيه) . وقال أحمد: (يقبله) . وقال أبو حنيفة: (لا يستلمه، ولا يقبل يده) . دليلنا ـ على استلامه ـ: ما روى ابن عمر: «أن: النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يستلم الحجر الأسود والركن اليماني في كل طوفة، ولا يستلم الآخرين» .

وأما تقبيل اليد: فروي عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري: (أنهم كانوا يتسلمون الركن اليماني ويقبلون أيديهم) ، ولا مخالف لهم. ولأنه ركن بني على قواعد إبراهيم، فسن فيه الاستلام، كالأسود. وأما الركن العراقي والشامي ـ وهما اللذان يليان الحجر ـ: فلا يستلمان ـ عندنا ـ وروي ذلك عن عمر وابن عمر ومعاوية. وروي عن جابر وابن الزبير وأنس وابن عباس: (أنهم كانوا يستلمون الأركان الأربعة) . وروي «عن ابن عباس أو ابن الزبير: (أنه استلم الأركان الأربعة، فقال له معاوية:

ما كان رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال ليس في البيت شيء مهجور» . دليلنا: حديث ابن عمر قال الشافعي: (ليس ترك استلامهما هجرانا لهما؛ لأن الطواف يقع بهما، ألا ترى أن جدران البيت لا تستلم، ولا يقال في ذلك. هجران جدرانه) . إذا ثبت هذا: فيستحب للطائف كلما حاذى الحجر الأسود أن يكبر، ويستحب له أن يستلم الركنين في كل طوفة؛ لحديث ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يستلمهما في كل طوفة» . وروى ابن عباس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يطوف على راحلته، فكلما أتى على الركنين: الأسود واليماني.. أشار بشيء في يده وكبر وقبله» .

مسألة مشروعية الرمل والاضطباع وما يقوله

قال الشافعي: (فإن لم يمكنه الاستلام في كل طوفة.. فالمستحب: أن يستلمهما في كل وتر، وهو الأول والثالث والخامس والسابع؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «إن الله وتر يحب الوتر» . ويستحب أن يدعو بين الركن اليماني والركن الأسود؛ لما روي عن ابن عباس: «أنه قال: (عند الركن اليماني ملك قائم يقول: آمين آمين، فإذا مررتم به.. فقولوا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] [البقرة: 201] » . [مسألة مشروعية الرمل والاضطباع وما يقوله] الرمل هيئة في الطواف، فيستحب لمن طاف الطواف الأول في النسك أن يرمل في الثلاثة الأولى، ويمشي في الأربعة. قال الشافعي: (والرمل: سرعة المشي مع تقارب الخطو، ولا أحب أن يثب من الأرض) ، والدليل على ذلك: ما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما دخل مكة هو وأصحابه، قالت قريش: إن حمى يثرب قد نهكتهم، فجلسوا في الحجر لينظروا طوافهم، فرمل رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ في الثلاثة الأولى، وأمر أصحابنا بذلك " فلما رأوهم قالوا: ما نراهم إلا مثل الغزلان» .

قال المسعودي [في " الإبانة، ق \ 204] : واختلفت الرواية في موضع الرمل: فروى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمل من الحجر إلى الحجر» يعني: حول جميع الكعبة. وروى ابن عباس: «أنه رمل من الحجر الأسود إلى اليماني، ومشى بين الركنين» لأنه كان يقصد إظهار الجلد للمشركين وهم لا يرونه في ذلك الموضع؛ إذ كانوا في الحجر. وقد حكى ابن الصباغ هذه الرواية عن ابن عباس. فإن قيل: فإنما أمر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بالاضطباع والرمل؛ ليري المشركين القوة وقد زال هذا المعنى. فالجواب: أنه روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمل في عمرة الجعرانة» وذلك بعد الفتح، وكذلك رمل في حجته بعد الفتح، فثبت أنه سنة. فان قيل: فإن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف راكبا فكيف يصح هذا؟ قلنا: إنما طاف النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ راكبا في طواف الإفاضة، وطاف ماشيا في طواف القدوم، وسعى بعده، فرمل فيهما. فإن طاف راكبا أو محمولا.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\204] : أحدهما: يحرك دابته في موضع الرمل، ويرمل به الحامل؛ لأنه هيئة في الطواف. والثاني: لا يرمل؛ لأنه يؤذي الناس بذلك.

وأما الشيخ أبو حامد: فحكى في رمل الحامل قولين: [الأول] : قال في الجديد: (يرمل) . و [الثاني] : قال في القديم: (لا يرمل) . فإن أمكن الطائف الدنو من البيت والرمل.. فعل ذلك. وإن لم يمكنه أن يرمل في طوافه بقرب البيت من زحمة الناس ... نظرت: فإن كان إذا وقف ساعة وجد فرجة يرمل بقرب البيت.. وقف ساعة ليقرب من البيت ويرمل، وإن لم يرج بوقوفه إدراك فرجة أو خفة الزحمة.. لم يقف، بل يخرج إلى حاشية الطواف، فيرمل؛ لأن الرمل هيئة في الطواف، والدنو من البيت فضيلة في الطواف، فكان مراعاة الهيئة أولى من مراعاة الفضيلة. فإن كان بحاشية الطواف نساء إذا خرج اختلط بهن.. لم يخرج لئلا يختلط بالنساء؛ لأنه يخاف عليه الافتتان بهن، ولكنه يطوف ويقرب من البيت، ويحرك نفسه أكثر ما يقدر عليه. وإن ترك الرمل في الثلاثة الأولى.. لم يقضه في الأربعة؛ لأنه هيئة، فإذا فات محله.. لم يقض، كالجهر في الركعتين الأولتين، ولأن السنة أن يمشي في الأربعة، فإذا رمل فيها.. خالف السنة من وجهين: ويستحب أن يقول في رمله: اللهم اجعله حجا مبرورا، وذنبا مغفورا، وسعيا مشكورا. ويقول في مشيه: اللهم اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم؛ إنك أنت الأعز الأكرم، اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار؛ لما روى السائب بن يزيد: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال ذلك في طوافه. ويدعو بما أحب من أمر الدين والدنيا.

فرع: الرمل والاضطباع للمرأة وترك الهيئات للرجل

فإذا طاف للقدوم وسعى بعده، فاضطبع ورمل فيهما.. فقد سقط فرض السعي عنه، ولا يعيد الاضطباع والرَّمَل في طواف الزيارة، لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان إذا طاف الطواف الأول.. خب ثلاثا، ومشى أربعا» فدل على: أنه لم يفعله إلا في الأول. وإن طاف للقدوم فاضطبع ورمل فيه، ولكن لم يسع بعده.. فإنه يضطبع ويرمل في طواف الزيارة؛ لأنه يحتاج إلى الاضطباع والرّمل في السعي، ولا يمكنه أن يفعل ذلك في السعي دون الطواف؛ لأن السعي تابع للطواف، فلا يكون التابع أكمل من المتبوع. وإن طاف للقدوم وسعى بعده، ولم يضطبع ولم يرمل فيهما.. فهل يضطبع ويرمل في طواف الزيارة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: يضطبع ويرمل فيه ـ ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره- لئلا تفوته سنة الاضطباع والرمل. والثاني: لا يضطبع ولا يرمل في طواف الزيارة، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق، كما إذا ترك ذلك في الثلاثة الأولى.. فإنه لا يفعله في الأربعة بعدها. [فرع: الرمل والاضطباع للمرأة وترك الهيئات للرجل] فرع: [لم يشرع للمرأة الرمل والاضطباع ولا شيء على الرجل بترك الهيئات] : ولا تضطبع المرأة ولا ترمل؛ لأن معنى ذلك: هو إظهار الجلد، والجلد في أصله لا يوجد فيهن، ولأن ذلك يقدح في سترهن.

فرع الشرب في الطواف وكراهة تغطية الفم

قال القاضي: وكذلك الخنثى لا يفعل ذلك كالمرأة. وإن ترك الرجل الاضطباع والرمل والاستلام والتقبيل والدعاء في الطواف.. جاز، ولا يلزمه بذلك شيء.. وبه قال عامة الفقهاء. وقال الحسن البصري، والثوري، وعبد الملك الماجشون: يجب عليه الدم. دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: (ليس على من ترك الرمل شيء) ولا يقول ذلك إلا توقيفا. ولأن ذلك هيئة، فلم يجب عليه شيء بتركه، كوضع اليمين على الشمال في الصلاة. [فرع الشرب في الطواف وكراهة تغطية الفم] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا بأس بشرب الماء في الطواف، ولا أكرهه بمعنى المأثم، لكني أحب تركه؛ لأن ذلك حسن في الأدب) . وروي: أن ابن عباس: (كان يطوف فاستدعى ماء، فشربه في الطواف) .

مسألة الطواف بلباس محرم وقطعه للصلاة

قال الشيخ أبو حامد: وروي من وجه لا يثبت: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ شرب الماء في الطواف» . قال ابن الصباغ: ويكره لمن طاف بالبيت أن يضع يده على فيه في الطواف؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، وذلك يكره في الصلاة. [مسألة الطواف بلباس محرم وقطعه للصلاة] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الإملاء ": (وإذا طاف المحرم وعليه ثوب لا يحل للمحرم لبسه.. صح طوافه، وكان عليه الفدية) ؛ لأن تحريم اللبس لا يختص بالطواف، وإنما يتعلق بالإحرام، فلم يمنع صحة الطواف. قال الشيخ أبو حامد: وإذا كان على الإنسان طواف واجب فطاف بنية النفل.. كان ذلك عن الواجب عليه؛ لأن الطواف أحد أركان الحج، فإذا فعل من جنسه بنية النفل وعليه فرضه.. كان عن فرضه، كالإحرام بالحج. قال الشافعي: (وإن دخل في الطواف، ثم أقيمت الصلاة.. خرج وصلى، وبنى

مسألة صلاة ركعتي الطواف

على طوافه؛ لأن الجماعة تفوت والطواف لا يفوت، فكان الجمع بينهما أولى) . قال: (وأكره له أن يخرج من الطواف أو السعي إلى صلاة الجنازة إلا أن تكون الجنازة على طريقه، فيصلي عليها من غير أن يعرج إليها، ولو خرج إليها.. لم يكن عليه الاستئناف، بل يبني على ما مضى) . [مسألة صلاة ركعتي الطواف] فإذا فرغ من الطواف.. صلى ركعتين، وهل هما واجبتان أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنهما تجبان، وبه قال أبو حنيفة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] [البقرة: 125] وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. وروى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف راكبا، ثم نزل فصلى ركعتين خلف المقام» فلو كانتا مستحبتين.. لصلاهما رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ على الراحلة. والثاني: أنهما سنة ـ وهو قول مالك ـ لما روى طلحة بن عبيد الله في «حديث الأعرابي الذي سأل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ عن الإسلام، فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " خمس صلوات في اليوم والليلة ". فقال: هل علي غيرها؟ فقال: (لا، إلا أن تطوع» . ولأنها صلاة ذات ركوع وليس لها وقت راتب، فلم تكن واجبة بأصل الشرع، كصلاة الخسوف. فقولنا: (ذات ركوع) احتراز من صلاة الجنازة. وقولنا: (ليس لها وقت راتب) احتراز من سائر الصلوات المفروضات. وقولنا: (بأصل الشرع) احتراز من النذر. ومن قال بهذا.. قال: ليس في الآية ما يدل على إيجاب ركعتي المقام، وإنما

أمرنا بأن نتخذ من المقام مصلى. وأما صلاة النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ على الأرض: فلأن صلاة النافلة على الأرض أفضل. فإذا قلنا: إنهما سنة.. جاز أن يصليهما قاعدا من غير عذر وإذا قلنا: إنهما واجبتان.. فهل يجوز أن يصليهما قاعدا من غير عذر؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري: أحدهما: لا يجوز، كالصلاة الواجبة. والثاني: يجزئ، كالطواف راكبا. واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان في طواف الفرض، في فأما طواف القدوم: فلا يجبان فيه قولا واحدا؛ لأن طواف القدوم نفسه لا يجب، فكذلك ما يتبعه. ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو الصحيح، بمعنى أنه: لا يحكم له بصحة الطواف حتى يأتي بالركعتين؛ لأن النفل يجوز أن يشترط في صحته ما هو فرض، كالطهارة والستارة والقراءة والركوع والسجود. فإن صلى بعد الطواف صلاة فرض، فإن قلنا: إن ركعتي الطواف سنة.. أجزأه ذلك عنهما، كما إذا صلى الفرض عند دخول المسجد.. فإنها تجزئ عن تحية المسجد، وقد روي عن ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من طاف بالبيت أسبوعا، ثم وافق صلاة مكتوبة.. أجزأته عن ركعتي الطواف» . وروي عن ابن عمر: أنه فعل ذلك، ولا مخالف له. وهذا يدل على استحبابهما.

فرع الجمع بين أسابيع الطواف

وإن قلنا: إنهما واجبتان.. لم تقم الفريضة مقامهما؛ لأنهما فريضة، فلا تدخلان في غيرهما، كسائر الفرائض. [فرع الجمع بين أسابيع الطواف] قال الشيخ أبو نصر: لا يكره أن يجمع بين أسابيع من الطواف، ثم يركع لكل واحد منها. وروي ذلك عن عائشة والمسور بن مخرمة. وقال الحسن، والزهري، وعروة، ومالك، وأبو حنيفة: (يكره ذلك) ، وروي ذلك: عن ابن عمر. دليلنا: ما روى السائب بن يزيد عن أمه: أنها قالت: (طفت مع عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثلاثة أسابيع، ثم دخلت الحجر فصلت ست ركعات) . قال الصيمري: إذا طاف أسابيع متصلة، ثم صلى ركعتين.. جاز. قلت: ويحتمل أنه أراد إذا قلنا: إنهما سنة. [فرع صلاة ركعتي الطواف عن الصبي] وموضعها والرجوع بدونها] : إذا طاف بصبي لا يعقل، وصلى ركعتين.. فهل تقعان عن الصبي؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول ابن القاص ـ: أنهما تقعان عن الصبي؛ لأنهما تبع للطواف، ولما دخلت النيابة في الطواف.. دخلت في تبعه. والثاني: تقعان عن الحامل؛ لأنه لا مدخل للنيابة في الصلاة بحال.

فرع يرقى إلى الصفا بعد ركعتي الطواف

وقد قال مالك: (لا يجوز أن يصلي عن الصبي) . دليلنا: ما ذكرناه للوجه الأول. إذا ثبت ما ذكرناه: فإن المستحب: أن يصليهما خلف المقام، ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثانية بعد الفاتحة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما فرغ من الطواف.. نزل، فصلى خلف المقام ركعتين، فقرأ في الأولى منهما: بفاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية: فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد» . فإن صلاهما في غيره من المواضع.. جاز. وقال مالك والثوري: (إن لم يصلهما خلف المقام.. لم يجزه، وعليه دم) . دليلنا: أنها صلاة، فلم تختص بمكان، كسائر الصلوات. فإن لم يصلهما حتى رجع إلى بلده.. قال الشافعي: (صلاهما، وأراق دما) . قال أصحابنا: إراقة الدم مستحبة لا واجبة. [فرع يرقى إلى الصفا بعد ركعتي الطواف] فإذا فرغ الطائف من ركعتي المقام.. فالمستحب له: أن يرجع إلى الحجر الأسود فيستلمه بيده، ويمسح بها وجهه. وإن أراد السعي.. خرج من باب الصفا؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فعل ذلك لما فرغ من ركعتي المقام» .

مسألة وجوب السعي بين الصفا والمروة

[مسألة وجوب السعي بين الصفا والمروة] وكونه بعد طواف] : ثم يسعى بين الصفا والمروة، وهو ركن من أركان الحج والعمرة، إذا تركه.. لم يحل من إحرامه، ولم ينجبر بالدم. وبه قال من الصحابة عائشة. ومن الفقهاء: أحمد، ومالك. وقال أبو حنيفة: (هو واجب وليس بركن، فإن تركه.. جبره بالدم) . وروي ذلك: عن ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وأنس. دليلنا: ما روي «عن صفية بنت شيبة، عن جدتها حبيبة ـ إحدى نساء بني عبد الدارـ: أنها قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين لأنظر إلى رسول الله وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور في وسطه من شدة السعي حتى لأقول: إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول: " اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي» . وهذه اللفظة أبلغ لفظة في كون السعي فرضا.

وأما قول الله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] [البقرة: 158] : فأراد رفع الجناح عنهم في السعي بينهما؛ لأنهم كرهوا ذلك خوفا من التشبه بالمشركين؛ لأنه كان عليهما لهم صنمان: إساف ونائلة، فكانوا يطوفون بينهما، فلما جاء الإسلام تحرج المسلمون من الطواف بينهما.. فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة: 158] الآية [البقرة: 158] وقيل: إن أصل السعي بينهما: أن أم إسماعيل بن إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - سعت من ناحية الصفا إلى ناحية المروة، في طلب الماء لإسماعيل سبع مرات، حتى أنبع الله ماء زمزم، ثم جعل الله تعالى ذلك شرعا. إذا ثبت ما ذكرناه: فإن السعي لا يصح إلا بعد طواف؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما قدم مكة.. طاف للقدوم، وصلى خلف المقام ركعتين، ثم سعى بين الصفا والمروة» . قال الشيخ أبو نصر: ويجوز لمن أحرم بالحج من مكة، إذا طاف للوداع لخروجه إلى منى أن يقدم السعي بعد هذا الطواف.

فرع ترتيب السعي وحسابه

وقال مالك وأحمد وإسحاق: (لا يجوز تقديم السعي لمن أحرم بالحج من مكة، وإنما يجوز ذلك للقادم) . دليلنا: ما روي: (أن ابن عمر كان يفعل ذلك، إذا أحرم من مكة) . وروي: (أن ابن الزبير لما أهل هلال ذي الحجة.. أهل وطاف وسعى وخرج) . وأجاز ذلك القاسم بن محمد. ولأنه: إذا جاز ذلك لمن أحرم من غير مكة.. جاز ذلك لمن أحرم منها. والمستحب: أن يوالي بين الطواف والسعي. قال الشيخ أبو حامد: فإن فرق بينهما بيوم أو شهر أو سنة.. أجزأه؛ لأنهما ركنان في الحج، فلم تجب الموالاة بينهما، كالوقوف والطواف. وهكذا قال القفال، إلا أنه قال: يجوز الفصل بينهما بما شاء من الزمان إلا أن يتخللهما ركن، مثل: أن يطوف للقدوم، ثم يقف بعرفة، ثم يسعى بين الصفا والمروة.. فإنه لا يحتسب له بذلك، لا لوقوع الفصل بينهما؛ ولكن لأن السعي يجب أن يكون تبعا للطواف وهاهنا يكون السعي تبعا للوقوف، فلم يجز. هذا مذهبنا. وقال عطاء وبعض أصحاب الحديث: إذا قدم السعي على الطواف.. جاز. دليلنا: ما ذكرناه من الخبر. [فرع ترتيب السعي وحسابه] الترتيب شرط في السعي، وهو أن يبدأ بالصفا، ويختم بالمروة. وقال عطاء: إن بدأ بالمروة وكان جاهلا.. أجزأه.

فرع الصعود على الصفا والمروة

دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما خرج إلى السعي.. تلا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] [البقرة: 158] . ثم قال: " ابدءوا بما بدأ الله تعالى به " وبدأ بالصفا، حتى فرغ من آخر سعيه على المروة» . فإذا مشى من الصفا إلى المروة.. احتسب له بذلك مرة، فإذا مشى من المروة إلى الصفا.. احتسب له بذلك مرة ثانية، حتى يستوفي المشي بينهما سبع مرات، ويحصل له الوقوف على كل واحد من الصفا والمروة أربع مرات. وحكي: أن أبا بكر الصيرفي وابن خيران قالا: لا يحتسب له بمرة حتى يمشي من الصفا إلى المروة، ثم يرجع إلى الصفا، كالطواف بالبيت لا يحتسب له بمرة حتى يعود إلى الموضع الذي بدأ منه. وهو قول ابن جرير الطبري. والمذهب الأول؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بدأ بالصفا، وفرغ من آخر سعيه بالمروة» . وهذا لا يكون إلا على ما ذكرناه، وما ذكروه من الطواف.. فهو الحجة عليهم؛ لأن الطواف بالبيت لا يمكنه استيفاء الطوفة الواحدة حتى يبلغ من الحجر إلى الحجر، وفي السعي بين الصفا والمروة، إذا مشى من الصفا إلى المروة.. فقد استوفى السعي بينهما، فاحتسب بذلك مرة، كالطواف بالبيت. [فرع الصعود على الصفا والمروة] والدعاء وصفة السعي بينهما] : ويرقى على الصفا، حتى يرى البيت ويستقبله، ويقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، لا إله إلا الله وحده

لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولوكره الكافرون. ويقول ذلك ثلاثا؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال ذلك على الصفا والمروة» . ثم يدعو لنفسه بما أحب من أمر الدين والدنيا؛ لما روي: (أن ابن عمر كان يدعو لنفسه على الصفا والمروة) . فإذا فرغ.. نزل ومشى حتى يبقى بينه وبين الميل الأخضر المعلق في ركن المسجد نحو من ستة أذرع، ثم يسعى سعيا شديدا حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد وحذاء دار العباس، فيقطع السعي الشديد، ويمشي على سجية مشيه حتى يصعد المروة ويستقبل البيت، ويدعو عليها بمثل ما دعا على الصفا، ثم ينزل ويمشي في موضع المشي، ويسعى في موضع السعي؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما نزل من الصفا.. مشى، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي.. سعى سعيا شديدا» وإنما فعل ذلك؛ لأنه كان بحذاء السوق، وقد كانت قريش قعدت له لتنظر إليه كيف يسعى؟ فسعى سعيا شديدا إلى الموضع الذي غاب عنهم، يقصد بذلك تكذيبهم بقولهم: إن محمدا وأصحابنا قد نهكتهم حمى يثرب. فإن ترك السعي الشديد ومشى في الجميع.. جاز؛ لما روي: «أن ابن عمر كان يمشي بينهما، وقال: قد رأيت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يمشي بينهما» .

قال الشيخ أبو إسحاق: ويستحب أن يقول في سعيه: رب اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم؛ إنك أنت الأعز الأكرم؛ لما روي: «أن امرأة من بني نوفل قالت سمعت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يقول ذلك في سعيه» . وأما الشيخ أبو حامد: فذكر: أنه يقول ذلك في الطواف، ولم يذكر في حال السعي ذكرا. فإن سعى راكبا.. جاز، سواء كان لعذر أو لغير عذر، غير أن المستحب: أن يسعى ماشيا. وقال عروة بن الزبير وعائشة: (يكره له أن يسعى راكبا) . وقال أبو ثور: (لا يجزئه، وتلزمه إعادته) .

فرع استحباب الطهارة للسعي وقطعه وسعي المرأة

وقال أبو حنيفة: (يعيد إن كان بمكة، وإن رجع إلى بلده.. أجزأه، وعليه دم) دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف بالبيت على راحلته، وبين الصفا والمروة» . وعن أنس: (أنه كان يطوف بينهما على حمار) . فإن لم يرق على الصفا والمروة.. أجزأه. وقال أبو حفص بن الوكيل: لا يجزئه؛ لأنه لا يمكنه استيفاء ما بينهما إلا بأن يرقى عليهما. والمذهب الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] [البقرة: 158] ، والمراد: السعي بينهما. وروي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كان يقف في حوض في أسفل الصفا، ولا يرقى عليه) ولا مخالف له. وأما استيفاء ما بينهما: فيمكنه ذلك بأن يلصق عقبه بهما، فإن أخل أحد بشيء مما بينهما وإن قل.. لم يجزه. [فرع استحباب الطهارة للسعي وقطعه وسعي المرأة] ] : والمستحب إذا سعى: أن يكون على طهارة؛ لأنه قربة وعبادة، فاستحب أن يكون فيها على طهارة. فإن سعى محدثا أو جنبا أو كانت المرأة حائضا أو نفساء.. صح؛ «لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لعائشة وقد حاضت: " اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت» فخص الطواف بالنهي، فدل على أن فعل الباقي جائز.

مسألة خطب الحج أربع والتعريف بيوم التروية

فإن عرض له عارض في السعي فقطعه وطال الزمان.. استحب له أن يستأنف، فإن بنى عليه.. جاز قولا واحدا، بخلاف الطواف؛ لأنه لا يفتقر إلى الطهارة، فلم يقطعه الفصل الطويل، كالوقوف والرمي. وإن كانت امرأة ذات جمال.. سعت ليلا، خوف الافتتان بها، وتمشي في الجميع، كما قلنا في الطواف. [مسألة خطب الحج أربع والتعريف بيوم التروية] ] : قال الشافعي: (ويخطب الإمام يوم السابع من ذي الحجة بعد الظهر] . وجملة ذلك: أن الخطب في الحج أربع: خطبة يوم السابع بمكة، وخطبة بعرفة، وخطبة بمنى يوم النحر، وخطبة بمنى يوم النفر الأول، وكلها بعد الصلاة إلا خطبة عرفة.. فإنها قبل الصلاة. وقال أحمد: (لا تسن الخطبة يوم السابع) . دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ صلى الظهر بمكة يوم السابع وخطب» . إذا ثبت هذا: فإنه يعلمهم المناسك. قال الشافعي: (وإن كان فقيها.. قال: هل من سائل؟ ويأمرهم بالخروج في يوم التروية ـ وهو اليوم الثامن ـ إلى منى) . قال الصيمري وسمي يوم التروية؛ لأن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أرى إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مناسكه في هذا اليوم.

فرع الرواح إلى منى وما يصنع الإمام والناس حتى وصولهم عرفة

وقيل: لأن آدم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رأى حواء فيه عندما أهبط إلى الأرض. وقيل: لأن الناس يتروون الماء ويحملونه في الروايا إلى منى. وهذا هو المشهور. قال ابن الصباغ: فإن وافق يوم السابع يوم الجمعة.. صلى، ثم خطب بعد الصلاة؛ لما ذكرناه. وإن وافق يوم التروية يوم الجمعة.. أمرهم أن يخرجوا قبل طلوع الفجر؛ لأن الفجر إذا طلع.. لم يجز الخروج إلى سفر، وترك الجمعة في أحد القولين. قال الشافعي: (ولا تصلى الجمعة بمنى، ولا بعرفات إلا أن تحدث فيهما قرية مجتمعة البناء يستوطنها أربعون رجلا) . [فرع الرواح إلى منى وما يصنع الإمام والناس حتى وصولهم عرفة] ] : قال الشافعي: (ويأمرهم بالغدو بكرة إلى منى) . وقال في موضع آخر (يروحون إلى منى) . وليست على قولين، بل هم مخيرون: بين أن يغدوا بكرة، وبين أن يروحوا بعد الزوال، وهذا أولى؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال لأصحابه: «إذا توجهتم إلى منى رائحين.. فأهلوا» . فندبهم إلى الرواح. ويصلون الظهر والعصر والمغرب والعشاء بمنى، ويبيتون بها. قال الشيخ أبو حامد: وهذه البيتوتة بمنى ليست بواجبة ولا بسنة، وإنما هي هيئة إن فعلها.. فقد أحسن، وإن تركها.. فلا شيء عليه. فإذا صلى الإمام الصبح بمنى.. وقف، فإذا طلعت الشمس على ثبير ـ وهو أعلى جبل بمنى ـ سار إلى عرفة، فإذا بلغ إلى وادي عرنة.. نزل بنمرة ـ وهي بعرفة، وليست من عرفة ـ فإذا زالت الشمس سار إلى مسجد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لما

روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ صلى الصبح بمنى، فلما بزغت الشمس.. رحل في أول بزوغها إلى عرفات، فلما بلغ إلى عرفة.. أمر فضربت له قبة من شعر» . وروي: «من أدم حمراء بنمرة، فنزل بها حتى زالت الشمس.. ثم سار إلى المسجد، فجمع بين الظهر والعصر» . فإذا بلغ الإمام مسجد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.. صعد المنبر، فخطب الخطبة الأولى وأوجز، ثم يجلس بعدها بقدر قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثم يقوم إلى الخطبة الثانية، ويبدأ المؤذن بالأذان، ويكون فراغ الإمام من الخطبة الثانية مع فراغ المؤذن من الأذان. وقال أبو حنيفة: (يأمر المؤذن بالأذان، ثم يخطب بعده كالجمعة) . دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما زالت الشمس.. صعد المنبر وخطب الخطبة الأولى، ثم جلس وأمر المؤذن بالأذان، ثم قام فخطب الخطبة الثانية، ثم أمره فأقام الصلاة» . فأخبر: أنه أمر بالأذان بين الخطبتين، فدل على أن هذا هو السنة، هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.

وذكر ابن الصباغ: أنه يأمر بالأذان عند قيامه في الخطبة الثانية، فإذا فرغ الإمام من الخطبتين، فإن كان مسافرا.. فله أن يقصر الظهر والعصر، ويجمع بينهما، وكذلك من بعده من المسافرين. قال الشافعي: (وإذا دخل الحجاج مكة ونووا أن يقيموا بها أربعا.. أتموا الصلاة ولم يقصروا، فإذا خرجوا يوم التروية، ونووا الرواح إلى بلدهم عند الفراغ من نسكهم.. كان لهم أن يقصروا الصلاة؛ لأنهم قد أنشئوا سفرا تقصر فيه الصلاة. وأما أهل مكة ومن فيها من المقيمين: فلا يجوز لهم القصر، وكذلك لا يجوز للإمام إذا كان مقيما القصر، ويتم من خلفه من المسافرين) . وقال مالك: (يجوز القصر للمسافرين بعرفة وأهل مكة ومن بها من المقيمين) واحتج بـ: (أن ابن عمر أتم الصلاة بمكة، وقصر بعرفة) . وأيضا فـ: «إن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قصر بعرفة وكان معه أهل مكة وغيرهم، فلم ينههم عن ذلك» . دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد» وذلك: بين

مسألة دخول النبي صلى الله عليه وسلم عرفة والتعريف بها

مكة إلى عسفان والطائف. وهذا نص، في أنه قد نهاهم عن القصر فيما دون ذلك. وأما ابن عمر: قال الشافعي: (فإنه أتم بمكة؛ لأنه كان مقيما بها، ولما خرج إلى عرفة.. صار على السفر، ونوى أن ينفر إلى المدينة عند الفراغ من نسكه، فلذلك قصر الصلاة) . وأما الجمع بعرفة لأهل مكة ومن كان مقيما بها: فقال الشيخ أبو حامد: إن قلنا: يجوز الجمع في السفر القصير.. جاز لهم الجمع، وإن قلنا: لا يجوز لهم الجمع إلا في السفر الطويل.. لم يجز لهم الجمع، بل يصلون الظهر في وقتها، والعصر في وقتها. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\203] هل الجمع بعرفة لأجل النسك أو لأجل السفر؟ فيه وجهان. وهذا إنما يكون على القول الجديد، الذي يقول: (لا يجوز الجمع في السفر القصير) . فإذا قلنا: إنه للنسك جاز الجمع فيها لأهل مكة وغيرهم، وهو قول القاضي أبي القاسم الصيمري.. وإذا قلنا: إنه للسفر.. اختص بأهل السفر الطويل. وقال أبو حنيفة: (إن صلوا مع الإمام.. جاز لهم الجمع، وإن صلوا منفردين ... لم يجز لهم الجمع) . وهذا غلط؛ لأن كل صلاتين جاز الجمع بينهما مع الإمام وجب أن يجوز الجمع بينهما منفردا، كالصلاتين بالمزدلفة؛ فإن أبا حنيفة وافقنا عليهما. [مسألة دخول النبي صلى الله عليه وسلم عرفة والتعريف بها] مسألة: [دخول النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ عرفة والتعريف بها وما يستحب لها] : فإذا فرغ من الصلاة في مسجد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.. راح إلى الموقف لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما فرغ من الصلاة.. ركب ناقته القصواء، وراح إلى الموقف، ووقف» .

و (الوقوف بعرفة) : ركن من أركان الحج، وهو من أعظم أركانه؛ لأن فوات الحج وإدراكه يتعلق به. والدليل عليه: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «الحج عرفة، فمن أدرك عرفة.. فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفة.. فقد فاته الحج» وروي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف بعرفة» ، وقال: «خذوا عني مناسككم» قال الصيمري: وسميت عرفة؛ لتعريف جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فيها مناسكه. وقيل: لأن آدم عرف فيها حواء. وقيل: لحصول الناس في موضع عال، والعرب تسمي العالي: عرفة وأعرافا. ويستحب الاغتسال للوقوف؛ لأنه موضع يجتمع فيه الناس للعبادة، فسن فيه الاغتسال كالجمعة. و (حد عرفة) : ما بين الجبل المشرف على بطن عرفة إلى الجبال المقابلة يمينا وشمالا.

وأما وادي عرنة، والمسجد: فليس من عرفة. وقال مالك: (هو من عرفة) . دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «عرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة» . وروي: «عرفة كلها موقف إلا وادي عرنة» ". والأفضل أن يقف عند الصخرات السود عند جبل الرحمة؛ لأن آدم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ومن بعده والنبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ والصحابة وقفوا عندها، وإن وقف في أي موضع شاء من عرفة.. صح. قال الشافعي: (وأي موضع خلا بنفسه ... كان أفضل؛ ليتوفر على الدعاء والذكر) . ويستحب أن يكون مستقبل القبلة، لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف مستقبلا القبلة) وقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " خير المجالس ما استقبل به القبلة»

ويستحب للإنسان يوم عرفة أن يكثر من قراءة القرآن والذكر، والصلاة، ويكثر في دعائه قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير؛ لما روى طلحة بن عبيد الله: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيين من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له» . وروي: «أنه كان يكثر في دعائه عشية يوم عرفة: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير» . وسئل سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة؟ فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فقيل له: هذا ثناء، وليس بدعاء، فقال: أما سمعت بقول الشاعر:

فرع زمن الوقوف بعرفة وصفة الواقف بها

إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء ويستحب أن يرفع يديه في الدعاء؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ترفع الأيدي عند الموقفين - يعني - عند عرفة، والمشعر الحرام» . وهل الأفضل أن يكون راكبا؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: أن الراكب والنازل سواء. والثاني: أن الراكب أفضل، وهو الأصح لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقف راكبا» ، ولأنه أقوى على الدعاء، ولهذا: كان الإفطار بعرفة أفضل؛ لأنه أقوى على الدعاء. [فرع زمن الوقوف بعرفة وصفة الواقف بها] ] : وأول وقت الوقوف: إذا زالت الشمس يوم عرفة، وآخره: إذا طلع الفجر الثاني من يوم النحر، وبه قال عامة أهل العلم. وقال أحمد: (جميع يوم عرفة وقت للوقوف) . وقال مالك: (الاعتماد في الوقوف هو الليل، والنهار تبع له، والأفضل أن

يجمع بينهما، فإن وقف بالليل دون النهار.. أجزأه، وإن وقف بالنهار دون الليل.. لم يجزه) . دليلنا ـ على أحمد ـ: ما روي في حديث جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما صلى الصبح بمنى يوم عرفة.. مكث حتى طلعت الشمس، ثم سار إلى نمرة، فضربت له بها قبة من أدم، فنزل بها حتى زالت الشمس، فسار إلى المسجد فخطب وصلى، ثم راح إلى الموقف» ولو كان ما قبل الزوال وقتا للوقوف.. لكان يغدو إليها؛ لأن حصوله في موضع الطاعة والقربة أفضل وأكثر للثواب من نزوله في غيرها. والدليل ـ على مالك ـ: ما روي «عن الحارث بن مضرس: أنه قال: أتيت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وهو بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله أتيت من جبل طيئ أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، ولم أدع حبلا إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " من صلى صلاتنا هذه، وكان قد وقف معنا بعرفة ساعة من ليل أو نهار.. فقد تم حجه، وقضى تفثه» . قال ابن الصباغ: و (الحبل) : هو الواحد من حبال الرمل. وأيضا فـ: (إن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقف الكثير من النهار، والجزء اليسير من الليل) ، فلو كان الليل هو الاعتماد في الوقوف.. لكان يقف أكثر الليل وأقل النهار.

وأما قدر الإجزاء: فإذا حصل بعرفة ـ من حين الزوال إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر ـ لحظة: إما قاعدا أو قائما أو راكبا أو سائرا.. فإنه يجزئه؛ لحديث الحارث بن مضرس. قال الشيخ أبو حامد: وليس مسيره فيها بأكثر من مشي المعتكف في المسجد. ولو اعتكف الرجل في المسجد فلم يجلس، بل لا يزال يمشي في المسجد من أحد طرفيه إلى الآخر.. أجزأه؛ لأن (الاعتكاف) : هو اللبث في المسجد، وقد وجد منه ذلك، فكذلك هذا مثله. وإن وقف بعرفة وهو نائم.. أجزأه؛ لأنه كالمستيقظ في الحكم. وحكى ابن القطان في النائم وجها آخر: أنه لا يصح، وليس بشيء. وإن وقف وهو مغمى عليه أو مجنون.. فالمشهور: أنه لا يجزئه؛ لأنه لو أغمي عليه أو جن جميع نهار يوم من رمضان.. لم يصح صومه، ولو نام جميع نهار رمضان.. صح صومه. وحكى ابن القطان وجها آخر: أنه يصح، وليس بشيء. فإن وقف بعرفة سكران من غير معصية.. فهو كالمغمى عليه، وإن كان سكران بمعصية.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري: أحدهما: لا يجزئه؛ تغليظا عليه. والثاني: يجزئه: لأنه في حكم الصاحي. وإن وقف بعرفة وهو لا يعلم أنها عرفة.. فالمشهور: أنه يصح؛ لحديث الحارث بن مضرس؛ لأنه قال: لم أدع حبلا إلا وقد وقفت عليه ـ فلو كان يعلم عرفة.. لم يحتج إلى الوقوف بغيرها ـ فقال له النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من صلى صلاتنا هذه،

وكان قد وقف معنا بعرفة ساعة من ليل أو نهار.. فقد تم حجه» . ولم يفرق بين أن يكون عرفها أم لا. وحكى ابن القطان وجها آخر عن ابن الوكيل: أنه لا يجزئه ـ وهو قول أبي ثور ـ وليس بشيء. إذا ثبت هذا: فإن الأفضل أن يقف من حين الزوال إلى أن تغرب الشمس من ليلة النحر، ثم يدفع من عرفة؛ لما روى علي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقف بها حتى غابت الشمس، ثم دفع منها» . وروى المسور بن مخرمة: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من عرفة إذا صارت الشمس على رءوس الجبال مثل عمائم الرجال في وجوههم، وإنا لندفع بعد غروب الشمس مخالفة لأهل الشرك والأوثان» .

مسألة الانطلاق إلى المزدلفة وما يصنع بها ومتى يخرج منها

فإن دفع منها قبل غروب الشمس ولم يعد إليها حتى طلع الفجر من يوم النحر أراق دما، وهل هو واجب أو مستحب؟ فيه قولان: أحدهما: أنه واجب، ـ وبه قال أبو حنيفة ـ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقف بعرفة إلى أن غربت الشمس، وقال: «خذوا عني مناسككم» ، وقد قال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا.. فعليه دم» ولأن الوقوف ركن، فإذا لم يأت به على الوجه المشروع، بل أخل ببعضه.. أجزأه، ولزمه الدم، كما لو أحرم دون الميقات. والثاني: أنه مستحب؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ للحارث بن مضرس: «وكان قد وقف معنا ساعة من ليل أو نهار.. فقد تم حجه» وتمامه يقتضي: أن لا دم عليه؛ لأن الدم يراد لجبر النقص. ولأنه وقف في أحد زماني الوقوف، فلم يجب عليه الدم، كما لو وقف بالليل دون النهار. وإن رجع إليها بعد الغروب.. سقط عنه الدم. وقال أبو حنيفة: (لا يسقط) ، وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين. دليلنا: أنه جمع في وقوفه بين الليل والنهار، فسقط عنا الدم، كما لو رجع قبل الغروب ووقف حتى غربت، ثم دفع. [مسألة الانطلاق إلى المزدلفة وما يصنع بها ومتى يخرج منها] ] : فإذا غربت الشمس.. دفع إلى المزدلفة؛ لحديث علي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إليها بعد الغروب» . وسميت مزدلفة بذلك؛ لاجتماع الناس بها، قال الله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء: 64] [الشعراء: 64] ، أي: جمعناهم.

ويمشي عند الازدحام على سجية مشيه؛ لما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يشير إلى الناس بيده ويقول: " على رسلكم " عند الازدحام. فإذا وجد فرجة.. أسرع المشي؛» لما روي: أنه «سئل أسامة بن زيد عن سير رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ من عرفة إلى المزدلفة، فقال: (كان يسير العَنَق، فإذا وجد فرجة نصَّ» يعني: رفع في السير، وظهر فيه، و (النص) : مأخوذ من الرفع؛ لأنه رفع في بيانه إلى أقصى غايته، وسميت المنصة منصة؛ لظهورها وارتفاعها. والمستحب: أن يمر إلى المزدلفة على طريق المأزِمين؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ سلكه) فإن سلك الطريق الآخر.. جاز. فإذا بلغ الإمام المزدلفة.. جمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ جمع بينهما فيها) .

قال في " الإملاء ": (فإن خاف فوت النصف الأول من الليل قبل أن يوافي مزدلفة.. نزل وصلى في أي موضع كان لئلا يفوت وقتها المختار) . فإذا وافى مزدلفة.. قال الشافعي: (صلى قبل حط رحله) ؛ لـ: (أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هكذا فعلوا) . قال الشافعي: (فإن صلى كل واحدة منهما في وقتها.. صح) . وقال أبو حنيفة: (لا يجوز أن يصلي المغرب بعرفة ولا في طريقه، فإن فعل ذلك.. أعادها مع العشاء بمزدلفة) . دليلنا: أن كل صلاتين جاز الجمع بينهما في وقت أحدهما.. جاز فعل كل واحدة منهما في وقتها، كالظهر والعصر بعرفة. قال الشيخ أبو إسحاق: ولأن الجمع رخصة لأجل السفر، فجاز له تركه، وهذا يدل من قوله: (أن الجمع بمزدلفة لأهل السفر الطويل) . فأما أهل مكة والمقيمون بها: فإنما لهم ذلك على القول القديم. ويبيت بها لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بات بها) ، وهذا المبيت ليس بركن في الحج، في قول عامة العلماء. وقال الشعبي والنخعي: هو ركن، فإن تركه.. لم يصح حجه. دليلنا: ما ذكرناه من حديث الحارث بن مضرس. وروي عنه ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أنه قال: «الحج عرفة، فمن أدركها.. فقد أدرك الحج، ومن فاته عرفة.. فقد فاته الحج» . ولأنه مبيت فلم يكن ركنا، كالمبيت بمنى ليلة عرفة.

إذا ثبت أنه ليس بركن.. فقال الشيخ أبو حامد: هل هو سنة، أو هيئة؟ فيه قولان. وسمى ما وجب بتركه الدم سنة مثل الرمي، كالسنن التي يقتضي تركها سجود السهو في الصلاة، وما لا يجب بتركه الدم، كالاضبطاع والرمل هيئة. وأما الشيخ أبو إسحاق: فقال: هل هو واجب أم لا؟ فيه قولان. فإذا قلنا: إنه سنة على عبارة الشيخ أبي حامد، أو واجب على عبارة الشيخ أبي إسحاق.. وجب بتركه الدم. ووجهه: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا.. فعليه دم» . وإذا قلنا: إنه هيئة.. لم يجب بتركه الدم. ووجهه: حديث الحارث بن مضرس، ولأنه مبيت، فلم يجب بتركه الدم، كالمبيت بمنى ليلة عرفة. وفي أي موضع من المزدلفة بات.. أجزأه. قال الشافعي: (وحد مزدلفة: ما بين مأزمي عرفة إلى مأزمي محسر على يمينك وشمالك من تلك المواطن الظواهر، والقوابل والشعاب) . والمأزمان - بوادي محسر ـ ليستا من المزدلفة؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «مزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن محسر» . والمستحب له: أن يبيت بها إلى أن يطلع الفجر الثاني من يوم النحر؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بات بها إلى أن طلع الفجر، وصلى بها الصبح) ، فإذا طلع الفجر.. فالمستحب: أن يصلي الفجر في أول وقتها، وهكذا يستحب في سائر الأيام إلا أن

التغليس في صلاة هذا اليوم أشد استحبابا من سائر الأيام؛ لما روي عن ابن مسعود: أنه قال: «لم يصل رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ صلاة الصبح قبل وقتها إلا صلاة الصبح بجمع ـ يعني: بالمزدلفة ـ فإنه صلاها قبل وقتها» ولم يرد: أنه صلاها قبل طلوع الفجر؛ لأن ذلك لا يجوز، وإنما أراد: أنه صلاها قبل وقتها المعتاد؛ لأنه كان في سائر الأيام لا يصلي الصبح حتى يظهر الفجر ويستبين، وفي ذلك اليوم صلاها مع أول طلوع الفجر. فإذا فرغ من الصلاة.. فالسنة أن يأتي إلى المشعر الحرام، ويقف على (قزح) : وهو جبل بالمزدلفة، وهو المشعر الحرام، ويستقبل القبلة، ويدعو الله تعالى إلى أن يسفر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] [البقرة: 198] . وأقل أحوال الأمر الاستحباب. وأيضا فإن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فعل هكذا. فإذا أسفر.. استحب أن يدفع قبل طلوع الشمس، فإن أخر الدفع حتى طلعت الشمس.. كره؛ لما روى سفيان، عن ابن طاووس، عن أبيه: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس، وقال: " إن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس، ومن المزدلفة بعد طلوعها، وكانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير» فأخر هذه وقدم هذه؛ ليخالف هدينا هدي أهل الأوثان والشرك، و (الهدي) : الطريقة والسمت. وإن خرج من المزدلفة بعد نصف الليل.. فلا شيء عليه؛ لأن الواجب عليه أن يحصل بالمزدلفة في جزء من النصف الثاني من الليل، ولا يجب عليه أن يكون بها في النصف الأول من الليل. وقال أبو حنيفة: (إذا لم يكن بالمزدلفة عند طلوع الفجر.. كان عليه دم) .

فرع أخذ حصى الرمي وصفتها

دليلنا: ما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أمر أم سلمة فأفاضت في النصف الأخير من الليل من المزدلفة» . وروت عائشة: «أن سودة استأذنت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أن تفيض من المزدلفة في النصف الأخير من الليل، وكانت امرأة ثبطة، فأذن لها رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وليتني كنت استأذنته كما استأذنته سودة» . [فرع أخذ حصى الرمي وصفتها] ] : قال الشافعي: (ويأخذ من المزدلفة الحصى للرمي، ويكون بقدر حصى الخذف) . قال الشيخ أبو حامد: وأطلق الشافعي هذا، وإنما أراد أنه يأخذ منها الحصى التي يرمي بها جمرة العقبة، وهي سبع حصيات. قال الصيمري: وقد قال قوم يأخذ منها سبعين حصاة، وهو خلاف السنة؛ لما «روى الفضل بن العباس قال: قال لي النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ غداة يوم النحر وهو على ناقته: " القط

لي سبع حصيات من حصى الخذف " قال: فلقطتهن، فلما وضعتهن في كفه.. قال: " بمثل هذا فارموا " قالها ثلاثا» . ولأنه يستحب له إذا أتى الجمرة أن يبدأ بالرمي تحية لها، فإذا أخذ الحصى من المزدلفة.. لم يشتغل بغير الرمي. ويستحب له أن يلتقطهن وأن لا يكسر الحجارة كما يفعل رعاع الناس؛ لحديث الفضل بن العباس. والمستحب: أن يكون ما يأخذه مثل حصى الحذف؛ لما ذكرناه من حديث الفضل بن العباس. وروي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضا، وإذا رميتم الجمرة.. فارموا بمثل حصى الخذف» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وحصى الخذف: أصغر من الأنملة طولا وعرضا)

فرع صفة المشي في المزدلفة ووادي محسر

ومنهم من قال: بقدر النواة، ومنهم من قال: مثل الباقلاء. قال ابن الصباغ: وهذه المقادير متقاربة، يقال: خذف الحصاة: إذا تركها على رأس سبابته، ووضع إبهامه عليها، وخذف بالحصى: إذا رمى بها. وإن رمى بحجر كبير.. أجزأه؛ لوقوع اسم الحجر عليه، وكره له ذلك؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «إياكم والغلو في الدين» . وإن أخذ الحصى من غير المزدلفة.. أجزأه؛ لأن الاسم يقع عليه. [فرع صفة المشي في المزدلفة ووادي محسر] وإذا دفع من المزدلفة.. فالمستحب: أن يمشي على سجية مشيه. قال الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: فإذا وجد فرجة.. أسرع؛ لما ذكرناه في الدفع من عرفات، ولم يذكر الشيخ أبو حامد ذلك إلا في وادي محسر. فإذا بلغ إلى بطن محسر.. أسرع ـ إن كان ماشيا ـ وحرك دابته ـ إن كان راكبا ـ قدر رمية حجر؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما أتى محسرا.. حرك قليلا، وسلك الطريق الوسطى» . قال الشيخ أبو حامد: وروى العباس بن عبد المطلب: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما دفع من المزدلفة.. كان يسير وعليه السكينة والوقار، فلما هبط وادي محسر.. أوضع» . و (الإيضاع) : هو الإسراع في السير.

وروي: (أن عمر ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـ لما هبط إلى وادي محسر ... حرك راحلته، وأنشأ يقول: تشكو إليك قلقا وضينها ... مخالفا دين النصارى دينها معترضا في بطنها جنينها ) قال الطبري: وقيل: إنما سن الإسراع في وادي محسر؛ لأنه كان موقفا

مسألة أعمال يوم النحر والبدء برمي جمرة العقبة

للنصارى، فخالفهم النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فيما فعلوا. وهذا صحيح يدل عليه قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مخالفا دين النصارى دينها وإن ترك الإسراع.. فلا شيء عليه؛ لأنه لم يترك نسكا. [مسألة أعمال يوم النحر والبدء برمي جمرة العقبة] وإذا أتى إلى منى يوم النحر.. بدأ برمي جمرة العقبة فيرمي بسبع حصيات، وهي أول جمرة يجدها إذا جاء من مكة والرمي: من مناسك الحج: لما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رماها يوم النحر بسبع حصيات) وقال: " خذوا عني مناسككم» . والمستحب: أن لا يرميها حتى تطلع الشمس؛ لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمى جمرة العقبة ضحى يوم النحر» . «وروى ابن عباس قال: قدمني رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ في أغيلمة من بني عبد المطلب على حمرات من المزدلفة، فجعل يلطح أفخاذنا، ويقول: " أبنيي، لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس. وقوله: (أبنيي) : تصغير ابني» .

فإن رمى في النصف الأول من الليل.. لم يصح. وإن رمى في النصف الثاني من الليل.. صح، وبه قال عطاء وعكرمة. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: (يجوز رميها بعد طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، ولا يجوز قبله) . وقال الثوري، والنخعي: لا يجوز رميها قبل طلوع الشمس؛ لحديث ابن عباس. دليلنا: ما روي «عن أم سلمة: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أمرها أن تعجل الإفاضة لترمي، وتوافي صلاة الصبح بمكة، وكان يومها من رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، فأحب أن توافيه وهي حلال» . ولأن بعد نصف الليل وقت للدفع من المزدلفة، فكان وقتا للرمي قياسا على ما بعد الفجر. وحديث ابن عباس نحمله على الاستحباب، بدليل حديث أم سلمة. ويستحب أن يرميها من بطن الوادي، وهو أن يستدبر الكعبة ويستقبل الجمرة؛

فرع متى تقطع التلبية

لما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمى جمرة العقبة وهو مستدبر للكعبة من بطن الوادي» فإن جعل الكعبة على يساره، ومنى على يمينه ورماها.. جاز؛ لما روي: (أن ابن مسعود رمى هكذا) ، وقال: (والذي لا إله إلا غيره، إن هذا هو المقام الذي أنزلت على رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فيه سورة البقرة) . ويستحب أن يرمي راكبا، وأن يكبر مع كل حصاة؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رماها راكبا) ، و: (كان يكبر مع كل حصاة) ، ويرفع يده حتى يرى بياض إبطه. ولأن ذلك أعون للحاج على الرمي. [فرع متى تقطع التلبية] ؟] : ولا يقطع الحاج التلبية إلا مع أول حصاة يرمي بها جمرة العقبة، ويبتدئ بالتكبير، وكذلك المعتمر لا يزال يلبي حتى يفتتح الطواف.

فرع ما يجوز به الرمي

وقال مالك: (لا يلبي الحاج بعد الوقوف، وأما المعتمر: فإن أنشأ العمرة من الميقات.. فإنه يقطع التلبية إذا دخل في الحرم، وإن أحرم بها من أدنى الحل ... قطع التلبية إذا رأى البيت) . دليلنا: ما روى الفضل بن العباس، قال: «كنت رديف رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ من جمع إلى منى، فلم يزل يلبي حتى يرمي جمرة العقبة» . وروى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر الأسود» . وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ اعتمر ثلاث عمر فكان لا يزال يلبي حتى يفتتح الطواف» . [فرع ما يجوز به الرمي] ولا يجوز الرمي إلا بالحجر، فإن رمى بغيره من الكحل والزرنيخ والتوتياء وإن كان مستحجرا، أو رمى بذهب أو فضة.. لم يجزه ذلك، وبه قال مالك وأحمد.

فرع الأماكن التي يكره أخذ الحصى منها

وقال أبو حنيفة: (يجوز الرمي بالحجر وبكل ما كان من جنس الأرض مثل: الكحل والزرنيخ والنورة إلا الذهب والفضة، فإنه لا يجوز الرمي بهما) . وقال داود وأهل الظاهر: (يجوز الرمي بكل شيء حتى لو رمى بعصا وبدمية.. أجزأه) ، واحتجوا: بأن سكينة بنت الحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رمت بست حصيات، فأعوزتها السابعة، فقلعت خاتمها ورمت به) . دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «عليكم بحصى الخذف» وهذا أمر بالحصى، والأمر يقتضي الوجوب. ولأنه لا يقع عليه اسم الحجر، فلم يجزه، كما لو رمى بثوب. وأما ما روي عن سكينة: فلا حجة فيه؛ لأنها تابعية، وفعل التابعي ليس بحجة. على أنه يحتمل أنها رمته لفقير لتتصدق عليه به لا للرمي، أو يجوز أن يكون فيه فص من ياقوت أو عقيق أو فيروزج، وأيها كان.. فهو حجر يجوز الرمي به. [فرع الأماكن التي يكره أخذ الحصى منها] ] : قال الشيخ أبو حامد: ويكره أخذ الحصى من ثلاثة مواضع: أحدها: من الموضع النجس، مثل: الحش وغيره؛ لأن الرمي قربة، فكره بالنجس، ولكيلا يباشر النجاسة بيده. والثاني: من المسجد؛ لأن حصى المسجد قد ثبت لها فضيلة المسجد، وتوقي الأنجاس، فكره إخراجها إلى موضع لا توقى فيه الأنجاس. والثالث: من جمرة، ويومي بها؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (الرمي

قربان فما تقبل منه.. رفع، وما لم يتقبل منه.. ترك) فكره الرمي بما رد، فإن رمى بما قد رمي به.. أجزأه، سواء كان هو الذي رمى به أو غيره. وقال أحمد: (لا يجزئه) . وقال المزني: يجوز أن يرمي بما رمى به غيره، ولا يجوز أن يرمي بما رمى به هو. دليلنا: (أن ابن مسعود أخذ الحصى من الجمرة، ورمى به) ، ولأنه يقع عليه اسم الحجر فأجزأه، كما لو لم يرم به. هذه طريقة البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 208] : إذ رمى بحجر رمى بها غيره أو رمى هو بها في غير هذه الجمرة، أو في هذه الجمرة في غير هذا اليوم.. أجزأه، وإن رمى هو بها في هذه الجمرة في هذا اليوم، ثم أراد رميها بها ثانيا.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجزئه، كما لو عاد إليه الطعام الذي كفر به، فيجزئه أن يعطيه مسكينا آخر. والثاني: لا يجزئه، ولا بد من حصاة أخرى، كما لا يجوز أن يعطي المد الثاني إلا مسكينا ثانيا.

فرع كيفية الرمي وبعض صوره

[فرع كيفية الرمي وبعض صوره] ] : ويجب أن يرمي، فإن أخذ حصاة وتركها في المرمى.. لم يجزه؛ لأنه لم يرم. ويجب أن يرمي واحدة واحدة، فإن رمى بسبع حصيات مرة واحدة.. لم يجزه إلا حصاة واحدة. وقال عطاء: يجزئه ولكن يكبر لكل حصاة تكبيرة. وقال الأصم: يجزئه. وقال الحسن: إن كان جاهلا.. أجزأه. دليلنا: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمى واحدة واحدة» . وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خذوا عني مناسككم» . ولأنه نقل الخلف عن السلف، فثبت: أنه إجماع. وإن رمى حصاة، ثم أتبعها الثانية قبل وقوع الأولى، فإن وقعت الأولى، ثم وقعت الثانية.. أجزأه. وإن وقعت الثانية، ثم وقعت الأولى.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 208] :

أحدهما: لا يجزئه؛ لأن هذا أبلغ من أن يرمي حصاتين دفعة في الجمع. والثاني: يجزئه، وهو الأصح، اعتبارا برميه. وإن رمى حصاة في الهواء فوقعت في المرمى.. لم يجزه؛ لأنه لم يقصد الرمي إلى المرمى. وإن رمى حصاة فوقعت على أخرى، ووقعت الثانية في المرمى.. لم يجزه؛ لأن الثانية حصلت في المرمى بغير قصده. وإن رمى فوقعت على محمل أو عنق بعير أو ثوب، ثم وقعت في المرمى من غير نفض ممن وقعت عليه.. أجزأه؛ لأنها وقعت في المرمى بقصده وفعله، وإن نفضها من وقعت عليه حتى وقعت في المرمى.. لم يجزه. وقال أحمد: (يجزئه) . دليلنا: أنها حصلت في المرمى بغير فعله، فلم يجزه، كما لو وقعت في موضع فأخذها غيره حتى تركها في المرمى. وإن وقعت على محمل أو عنق بعير أو ثوب إنسان، ثم وقعت في المرمى، ولم يدر: هل وقعت في المرمى بنفسها أو بتحريك ممن وقعت عليه؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، وغيره حكاهما وجهين: أحدهما: يجزئه؛ لأن الرمي قد وجد منه وحصلت في المرمى، فالظاهر: أنها حصلت فيه بفعله؛ لأن الأصل عدم فعل غيره في حصولها فيه. . والثاني: لا يجزئه؛ لأنه يشك: هل حصلت بفعله، فيسقط الفرض عنه، أو بغير فعله، فلم يسقط الفرض عنه؟ والأصل بقاء الفرض في ذمته. وإن رمى بحصاة وشك: هل وقعت بالمرمى أم بغيره؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما - وهو قوله القديم ـ: (أنها تجزئه) ؛ لأن الظاهر إذا رمى بها: أنها قد حصلت في المرمى.

مسألة موضع الذبح ووقته

والثاني ـ قاله في الجديد ـ: (أنه لا تجزئه) ؛ لأنه يشك في سقوط الفرض عنه، والأصل بقاؤه في ذمته. وإن رمى بحصاة إلى المرمى فوقعت على مكان أعلى منه، ثم تدحرجت منه ووقعت في المرمى.. ففيه وجهان: أحدهما: يجزئه؛ لأنها حصلت في المرمى بفعله، ولم يوجد من غيره فعل في حصولها فيه. والثاني: لا يجزئه؛ لأنها لم تحصل في المرمى بفعله، وإنما حصلت فيه لعلو الموضع الذي وقعت فيه. [مسألة موضع الذبح ووقته] ] : فإذا فرغ من رمي جمرة العقبة، فإن كان معه هدي.. ذبحه؛ لما روى أنس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما رمى جمرة العقبة يوم النحر.. رجع إلى منزله بمنى، ثم دعا بذبح فذبحه، ثم دعا بالحلاق فأعطاه شقه الأيمن فحلقه، فدفعه إلى أبي طلحة ليفرقه بين الناس، ثم أعطاه شقه الأيسر فحلقه، ثم دفعه إلى أبي طلحة ليفرقه بين الناس» . ويجوز النحر في جميع منى، و (حدها) : ما بين بطن وادي محسر إلى جمرة العقبة: لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «منى وفجاج مكة كلها منحر» .

مسألة الحلق والتقصير

[مسألة الحلق والتقصير] ] : ثم يحلق رأسه؛ لحديث أنس. وإن قصر شعر رأسه.. جاز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] [الفتح: 27] . فذكر الحلق والتقصير، ولم يرتب أحدهما على الآخر، فدل على: أنه مخير بينهما. وروى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أمر أصحابه أن يحلقوا أو يقصروا» والحلق أفضل من التقصير؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] . فذكر الحلق قبل التقصير، والعرب تبدأ بالأهم فالأهم، ولـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلق رأسه ولم يقصر» ولا يفعل إلا الأفضل. وروى ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «رحم الله المحلقين " فقيل: يا رسول الله والمقصرين، فقال: " رحم الله المحلقين " إلى أن قال في الرابعة: " والمقصرين» فدل على: أن الحلاق أفضل.

والمستحب: أن يحلق جميع شعر رأسه، كما فعل النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ. وإن أراد التقصير.. فالمستحب: أن يقصر من جميع شعر رأسه كالحلق، وإن اقتصر على حلق ثلاث شعرات أو تقصيرها.. أجزأه، ولا فرق بين أن يقصر من الشعر الذي يحاذي الرأس أو من الشعر الذي نزل عن حد الرأس.. فإنه يجزئه. وحكى ابن الصباغ وجها آخر: أنه لا يجزئه تقصير ما نزل عن حد الرأس كالمسح. وليس بشيء؛ لأن المقصود تقصير شعر الرأس، وذلك يقع على ما حاذى الرأس وعلى ما نزل عنه، بخلاف المسح: فإن المقصود منه مسح الرأس، وذلك لا يقع على ما نزل عن حد الرأس. هذا مذهبنا. وقال مالك: (لا يجزئه إلا الأكثر) . وقال أبو حنيفة: (لا يجزئه أقل من الربع) . دليلنا: أنه حلق أو قصر من شعر رأسه ما يقع عليه اسم الجمع المطلق، فأجزأه، كالأكثر: على مالك، والربع: على أبي حنيفة. ولا فرق بين أن يحلق بالموسى أو بالنورة، أو يقصره بالجلم أو بأسنانه، أو يقطعه بيده، أو ينتفه.. فإنه يجزئه؛ لأن القصد إزالته، وقد وجد. وإن كان أصلع، فإن كان على رأسه شعرة أو شعرتان أو ثلاث.. وجب عليه إزالة ذلك، وهكذا لو كان على رأسه زغب.. وجب عليه أن يزيل منه ما يقع عليه اسم الجمع المطلق وهو ثلاث.

وإن لم يكن عليه شعر أصلا، بأن حلق ولا شعر عليه، أو كان قد حلق واعتمر من ساعته.. فالمستحب له: أن يمر الموسى على رأسه. قال الشافعي: (وأحب إلي لو أخذ من شعر لحيته أو شاربه، لكي يقطع شيئا من شعره لله تعالى، ولا يجب عليه ذلك) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] [الفتح: 27] . فخص الرأس بالحلق والتقصير، ولا يجب عليه إمرار الموسى على رأسه. وقال أبو حنيفة: (يجب عليه إمرار الموسى على رأسه) . دليلنا: أن الله تعالى أمر بحلق شعر الرأس، وهذا لا شعر على رأسه. فلم يتناوله الأمر. وأما النساء: فلا يحلقن، وإنما يقصرن؛ لما روى ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ليس على النساء حلق، ولكن على النساء التقصير» . ولأن الحلق في النساء مثلة، فلم يؤمرن به.

فرع تلبيد الشعر يوجب حلقه

قال الشافعي: (وأحب أن تجمع ضفائرها، وتأخذ من أطرافها قدر أنملة؛ لتعم الشعر كله، وإن قصرت ثلاث شعرات.. أجزأها كالرجل) . قال ابن الصباغ: ويستحب أن يدفن ما حلق أو قصر من الشعر. [فرع تلبيد الشعر يوجب حلقه] ] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 207] : إذا لبد شعر رأسه.. فهل يكون كمن نذر حلقه فيلزمه حلقه؟ فيه قولان، كما لو قلد الهدي وأشعره.. فهل يلزما نحره؟ فيه قولان، وكما لو وجد هديا مذبوحا مشعرا.. فهل يحل له تناوله؟ فيه قولان. [فرع الحلق نسك وحكم تقديم نسك على آخر] ] : وهل الحلاق نسك يجب عليه فعله ويثاب على فعله، أو استباحة محظور؟ فيه قولان: أحدهما: أنه نسك يثاب على فعله، ويحصل التحلل به، وهو قول مالك وأبي حنيفة، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] [الفتح: 27] . فأثنى الله تعالى على المتنسكين بالحلق والتقصير، فدل على: أنه نسك، إذ لا يستحق الثناء إلا بما يثاب على فعله، ولقول النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «رحم الله المحلقين " قالوا: يا رسول الله والمقصرين، فقال: " رحم الله المحلقين " إلى أن قال في الرابعة: " والمقصرين» ، فلولا أنه نسك.. لما دعا للمحلقين، ولما فاضل بينهما. والثاني: أنه استباحة محظور؛ لأن ما كان محرما بالإحرام لا يكون نسكا، كالطيب واللباس. إذا ثبت هذا: فإن حلق قبل أن يذبح.. جاز، وإن ذبح قبل أن يرمي.. جاز، وإن

حلق قبل أن يرمي، فإن قلنا: إن الحلاق نسك.. جاز. وإن قلنا إنه استباحة محظور.. لم يجز. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إذا قدم الحلاق على الذبح.. لزمه دم إن كان قارنا أو متمتعا، ولا شيء عليه إن كان مفردا) . وقال مالك: (إذا قدم الحلق على الذبح.. فلا شيء عليه، وإن قدمه على الرمي.. وجب عليه الدم) . وقال أحمد: (إذا قدم الحلاق على الذبح أو الرمي، فإن كان ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه، وإن كان عامدا.. ففي وجوب الدم عليه روايتان) . دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بمنى يوم النحر، فقال له: زرت قبل أن أرمي، فقال له: " ارم، ولا حرج "، فقال له آخر: حلقت قبل أن أرمي، فقال: " ارم، ولا حرج "، فقال له آخر: ذبحت قبل أن أرمي، فقال: " ارم، ولا حرج» . «وروى عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وقف بمنى يوم النحر للناس؛ ليسألوه، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر حتى حلقت قبل أن أنحر، فقال: " انحر، ولا حرج "، وجاءه آخر، فقال: يا رسول الله لم أشعر حتى نحرت قبل أن أرمي، فقال: " ارم، ولا حرج ". قال عبد الله: فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر.. إلا قال: " افعل، ولا حرج» .

مسألة خطبة منى يوم النحر

[مسألة خطبة منى يوم النحر] قال الشافعي: (ويخطب الإمام بعد الظهر بمنى يوم النحر) . وهذا كما قال: يستحب للإمام أن يخطب بمنى يوم النحر بعد الظهر، ويعلم الناس ما يحتاجون إليه من الرمي والذبح والحلق والطواف والبيتوتة بمنى ليالي منى، وأن من أراد أن يتعجل في يومين.. فله ذلك، وغير ذلك مما يحتاج إليه. وهذه الخطبة الثالثة من الخطب الأربع المسنونات في الحج. وقال أبو حنيفة: (لا تستحب هذه الخطبة) . دليلنا: ما روى الهرماس بن زياد الباهلي قال: «رأيت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يوم النحر بمنى يخطب على ناقته العضباء» . وروي «عن ابن عباس قال: خطب رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بنا بمنى يوم النحر على ناقته، بعد رميه الجمرة، فقال في خطبته: " إن هذا يوم الحج الأكبر» . ولأن في الناس عالما وجاهلا، وبهم حاجة إلى أن يعرفهم ما يفعلون في يومهم وما بعده من المناسك، فاستحبت الخطبة لأجل ذلك. [مسألة طواف الإفاضة أو الزيارة] ] : وإذا رمى ونحر وحلق.. فإنه يفيض إلى مكة ويطوف بالبيت، وهذا الطواف يسمى: طواف الإفاضة؛ لأنه يفيض من منى إلى مكة، ويسمى: طواف الزيارة؛ لأنه يزور البيت بعد أن فارقه ويعود إلى منى، ويسمى: طواف الفرض؛ لكونه ركنا.

قال القاضي أبو الطيب: ومن الناس من يسميه طواف الصدر، وليس بشيء؛ لأن طواف الصدر إنما هو طواف الوداع. والدليل ـ على ما ذكرناه ـ: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما رمى جمرة العقبة، وذبح، وحلق.. ركب وطاف بالبيت» وهذا الطواف ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] [الحج: 29] . وروي: «أنه قيل له: يا رسول الله إن صفية بنت حيي حاضت، فقال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " عقرى حلقى، أحابستنا هي؟ " فقيل: إنها قد أفاضت، فقال: " فلا إذن» فدل على: أن هذا الطواف لا بد منه. ومعنى قوله: " «عقرى حلقى» " أي: عقرها الله وحلقها، أي: أصابها العقر في حلقها. وأول وقت هذا الطواف: إذا انتصف الليل من ليلة النحر، ولم ينص الشافعي عليه. قال أصحابنا: ولكنه مقيس على الدفع من المزدلفة. وليس لآخره حد ـ عندنا ـ غير أن المستحب: أن يطوف يوم النحر؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ طاف يوم النحر» . وقال أبو حنيفة: (أول وقته: إذا طلع الفجر الثاني يوم النحر، وآخره: اليوم الثاني من أيام التشريق، فإن أخره إلى اليوم الثالث.. وجب عليه دم) .

فرع تغيير النية من الزيارة إلى الوداع

دليلنا: ما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أرسل أم سلمة يوم الفجر فرمت قبل الفجر، ثم أفاضت» ولأنه إذا طاف في اليوم الثالث.. فقد طاف طوافا صحيحا، فلم يجب عليه به دم، كما لو طاف في اليوم الثاني. [فرع تغيير النية من الزيارة إلى الوداع] ] : وإذا لم يطف للزيارة وطاف للوداع.. فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وغيرهما من أصحابنا: أنه يقع عن طواف الزيارة. وقال أحمد: (لا يقع عنه طواف الزيارة، وإنما يقع عما عينه) . دليلنا: أنه ركن من أركان الحج، فلم يفتقر إلى تعيين النية كالإحرام. وهذا من قولهم يدل على: أن الطواف لا يفتقر إلى تعيين النية وجها واحدا، وإنما الوجهان: في أنه هل يجب عليه القصد إلى الطواف؟ وقد مضى توجيههما. [مسألة حل محظورات الإحرام] وإذا رمى وحلق وطاف وسعى.. حل له جميع ما حظر عليه في الإحرام، وهو تسعة أشياء: الطيب، واللباس، وحلق الشعر، وتقليم الأظفار، وقتل الصيد، واللمس بشهوة، والوطء فيما دون الفرج، والوطء في الفرج، وعقد النكاح. ولا يحرم عليه شيء من ذلك لأجل ما بقي عليه من رمي أيام التشريق؛ لأن للحج تحللين، فإذا أتى بهذه الأشياء.. فقد تحلل التحللين جميعا. وأما التحلل الأول: فإن كان قد قدم السعي بعد طواف القدوم: فإن قلنا: إن الحلاق نسك.. فإن التحلل الأول يحصل باثنين من ثلاثة: إما رمي وحلاق، أو طواف وحلاق، أو طواف ورمي. ويحصل له التحلل الثاني بفعل الثالث منها، هذا هو المشهور.

وقال القاضي أبو حامد المروروذي في " الجامع ": يحصل له التحلل الأول على هذا القول بالرمي وحده؛ لأن الشافعي نص في المنسكين: " الأوسط " و " الصغير " على: (أنه يتحلل بالرمي) . وفي هذين الكتابين: (الحلاق نسك) . وإن قلنا: إن الحلاق ليس بنسك.. حصل له التحلل الأول، إما بالرمي أو بالطواف، وحصل له التحلل الثاني بالثاني. وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا دخل وقت الرمي.. حصل له التحلل الأول وإن لم يرم، كما إذا فاته وقت الرمي.. فإنه يحصل له التحلل. وهذا ليس بشيء؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «إذا رميتم وحلقتم.. فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» فعلقه بفعل الرمي لا بدخول وقته. إذا ثبت هذا: فإن بالتحلل الأول.. يحل له اللباس والحلق وتقليم الأظفار قولا واحدا، ولا يحل له الوطء، في الفرج قولا واحدا. وفي عقد النكاح، واللمس بشهوة، والوطء، فيما دون الفرج، وقتل الصيد.. قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا يحل له) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] ، وهذا محرم. ولقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لا ينكح المحرم، ولا ينكح»

فرع التحلل من العمرة

وهذا محرم، ولأن اللمس والقبلة بشهوة من دواعي الجماع، فإذا كان الجماع محرما.. كانت دواعيه محرمة. و [الثاني] : قال في الجديد: (يحل له هذه الأشياء) وهو الصحيح؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إذا رميتم وحلقتم.... فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» . وأما الطيب: ففيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان؛ لأنه من دواعي الجماع، فكان كاللمس.. و [الثاني] : منهم من قال: يحل بالتحلل الأول قولا واحدا كاللباس ـ وهو المنصوص ـ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «طيبت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت» . وإن كان قد أخر السعي إلى ما بعد طواف الزيارة.. فإن التحلل يقف عليه؛ لأنه ركن كالطواف. [فرع التحلل من العمرة] وأما العمرة: فليس لها إلا تحلل واحد. فإن قلنا: إن الحلق نسك.. لم يحصل التحلل منها إلا بالطواف والسعي والحلاق. وإن قلنا: إن الحلق ليس بنسك.. حصل له التحلل منها بالطواف والسعي.

مسألة الرمي في أيام التشريق

[مسألة الرمي في أيام التشريق] ] : فإذا فرغ من طواف الزيارة.. رجع إلى منى وأقام بها ثلاثة أيام بعد يوم النحر ـ وهذه الأيام تسمى: أيام الرمي، والأيام المعدودات، وأيام التشريق. فيرمي كل يوم الجمار الثلاث، كل جمرة بسبع حصيات، ويأخذ لها الحصى من أي موضع شاء، إلا من الموضع النجس، والمسجد، والجمار. فيأتي الجمرة الأولى ـ وهي التي تلي مسجد الخيف ـ فيرميها بسبع حصيات، واحدة بعد واحدة، يكبر مع كل حصاة. فإذا فرغ من رميها.. تقدم عنها وجعلها على يساره، ووقف بحيث لا يناله الحصى، يدعو الله تعالى بقدر قراءة سورة البقرة. ثم يأتي الجمرة الوسطى فيجعلها على يمينه، ويستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات كالأولى، ثم يتجاوزها إلى الثالثة، ويولي ظهره إلى التي رماها، ويستقبل القبلة، ويدعو ويتضرع بقدر قراءة سورة البقرة. ثم يتقدم إلى الجمرة الثالثة، وهي جمرة العقبة فيجعلها على يمينه ويستقبل الكعبة ويرميها بسبع حصيات، وينصرف ولا يقف عندها: لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أفاض يوم النحر بعد الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمار إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية، فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها» وإنما وقف عند الأولى والثانية ولم يقف عند الثالثة؛ لاتساع المكان عند الأوليين، وضيقه عند الثالثة. ويستحب له أن يرفع اليدين في الدعاء عند الجمرتين، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر.

فرع الرمي بعد الزوال

وقال مالك: (لا يرفع) . دليلنا: ما روي: «أن رسول ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كان يرفع يديه لذلك» . وإن ترك الدعاء عند الجمرتين.. فلا شيء عليه. وقال الثوري: يطعم شيئا، وإن أراق دما.. كان أحب إلي. دليلنا: أنه موقف يستحب فيه الدعاء، فلم يجب بتركه شيء كالدعاء بعرفة. ولا يجوز الرمي في هذه الجمار إلا مرتبا: يبدأ بالأولى، ثم بالثانية، ثم بجمرة العقبة، وبه قال أحمد ابن حنبل. وقال أبو حنيفة: (إذا رمى منكسا.. أعاد، فإن لم يفعل.. أجزأه، ولا شيء عليه) . دليلنا: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رماها مرتبا) وقال: " خذوا عني مناسككم» ، ولأنه نسك يتكرر، فكان الترتيب فيه شرطا كالسعي. إذا ثبت هذا: فإن رمى الجمار الثلاث مرتبا ونسي حصاة، ولم يعلم من أي الجمار تركها.. قال الشافعي: (جعلها من الأولى فيرميها بحصاة، ثم يرمي الثانية، والثالثة؛ ليسقط الفرض بيقين) . [فرع الرمي بعد الزوال] ولا يجوز الرمي في هذه الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال. وقال عطاء: إن جهل فرمى قبل الزوال.. أجزأه.

فرع ما يجب بترك

وقال طاووس: إن شاء.. رمى أول النهار ونفر. وقال عكرمة: إن شاء.. رمى أول النهار، ولكن لا ينفر إلا بعد الزوال. وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يرمي في اليوم الثالث قبل الزوال استحبابا) ، وحكي عنه أيضا: أنه قال: (يجوز أن يرمي في اليوم الأول والثاني قبل الزوال أيضا) والمشهور عنه هو الأول. دليلنا: ما روى جابر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رمى جمرة العقبة يوم النحر ضحى، ورمى سائر الأيام بعد ما زالت الشمس» . إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال في " الإملاء ": (يرمي عقيب الزوال قبل الصلاة) ؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «رمى رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ حين زالت الشيء» ويرمي في اليوم الأخير راكبا، وفي اليومين الأولين ماشيا، لأن في اليوم الأخير يتعقب الرمي النفر، فإذا كان راكبا.. مضى عقيب الرمي، كما يرمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا؛ لأنه يوافي من المزدلفة راكبا، وفي اليومين الأولين هو مقيم بمنى، فلم يسن له الركوب. [فرع ما يجب بترك] الرمي والتعريف بيومي القر والنفر الرمي والتعريف بيومي القر والنفر] : إذا ترك رمي اليوم الثالث من أيام التشريق.. سقط الرمي ولم يقض؛ لأنه فات أيام الرمي، والمشهور: أنه يجب عليه دم؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا.. فعليه دم» وحكى أبو إسحاق المروزي في " الشرح ": أن الشافعي قال في موضع من

" الإملاء ": (إن ترك رمي يوم ... فعليه مد وإن ترك رمي يومين.. فعليه مدان، وإن ترك رمي ثلاثة.. فعليه دم) . فعلى هذا: يجب في الحصاة مد إلى رمي يوم. قال: وحكي: أنه يجب درهم في اليوم، أو ثلث دم، وهذا كله ليس بشيء. وإن ترك رمي اليوم الأول إلى الثاني، أو ترك رمي اليوم الثاني إلى الثالث.. ففيه قولان: أحدهما ـ وهو قوله في " الإملاء " ـ: (أن رمي كل يوم مؤقت بيومه) ؛ لأنه رمي يوم من أيام التشريق، فكان محدودا بيومه، كاليوم الثالث. ولأنه لو كان غير محدود.. لجاز تأخير رمي اليوم الأول إلى الثاني. والقول الثاني ـ وهو الأصح المشهور ـ: أن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد، ولا يفوت رمي يوم منها إلا بخروج الأيام الثلاثة؛ لأنه يجوز لرعاء الإبل تأخير رمي يوم إلى ما بعده منها، فلو لم تكن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد.. لما جاز لهم ذلك، بخلاف اليوم الأخير؛ لأنه إذا خرج.. فقد فات وقت الرمي. إذا ثبت هذا: فترك رمي يوم القر ـ وهو اليوم الأول من أيام التشريق ـ حتى غابت الشمس ـ وسمي يوم القر؛ لأن الناس يقرون فيه بمنى ـ فإن قلنا بالصحيح: وأن الأيام الثلاثة كاليوم.. فهل له أن يرمي عن اليوم الأول ليلة النفر، أو في يوم النفر ـ وهو اليوم الثاني من أيام التشريق ـ قبل الزوال؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\209] : أحدهما: ليس له ذلك، حتى تزول الشمس في يوم النفر؛ لأن ذلك وقت للرمي. والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أن له أن يرميه؛ لأن ذلك أقرب إلى وقته

المستحب، فيجعل ليلة النفر تبعا ليوم القر، كليلة يوم النحر تبع ليوم عرفة في الوقوف. وإن لم يرم ليوم القر حتى زالت الشمس في يوم النفر.. فقد تدارك عليه رمي يومين، فإن رمى الجمار الثلاث مرتبا عن اليوم الأول، ثم رماها مرتبا عن اليوم الثاني.. أجزأه. وإن نوى بالرمي الأول عن اليوم الثاني.. فقد ذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: أنه يقع عن رمى اليوم الأول. وذكر في " المهذب " وجهين: أحدهما: هذا. والثاني: لا يجزئه عن أحدهما؛ لأنه لم يرتب. وهكذا إذا ترك رمي اليومين الأولين إلى الثالث.. فالحكم فيه: ما ذكرناه إذا ترك رمي اليوم الأول إلى اليوم الثاني. وإذا أراد أن يرمي رمي يوم النفر الأول في يوم القر.. فهل يجوز؟ قال المسعودي [في " الإبانة " ق\209] : إن قلنا: إنه إذا فاته رمي يوم يقضيه فيما بعده.. فهل يجوز له تعجيل رمي يوم النفر إلى يوم القر؟ فيه وجهان، بناء على أنه إذا رمى الفائت في اليوم الأول في اليوم الثاني.. هل يكون قضاء أو أداء؟ فيه وجهان: فإن قلنا: إنه أداء.. جاز له التعجيل، وكان رمي الأيام الثلاثة كلها عبادة واحدة، فيكون كالرمي في أول الوقت. وإن قلنا: إنه قضاء.. فلا يجوز له التعجيل: لأن القضاء يكون بعد الفوات ولم يفته الرمي بعد. وإن قلنا: إن رمي كل يوم محدود بيومه فترك رمي اليوم الأول إلى الثاني، أو الثاني إلى الثالث.. ففيه ثلاثة أقوال:

فرع ما يجب بترك الرمي

أحدها: يرمي في اليوم الثاني ما ترك في الأول ويريق دما، كما إذا أخر قضاء رمضان حتى دخل شهر رمضان آخر. والثاني: لا يقضيه، ويريق دما، كرمي اليوم الثالث. والثالث: يقضيه، ولا دم عليه، كرعاء الإبل. فعلى هذا: إذا رمى عن اليوم الثاني قبل الأول.. جاز: لأنه قضاء، فلا يجب فيه الترتيب، كالصلوات الفائتة. وإن رمى كل جمرة بأربع عشرة حصاة: سبع عن أمسه، وسبع عن يومه.. أجزأه. وأما إذا ترك رمي يوم النحر.. ففيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: هو كما لو ترك رمي اليوم الأول من أيام التشريق إلى الثاني، فيكون على قولين. و [الثاني] : منهم من قال: يفوت بخروج يومه قولا واحدا؛ لأنه يخالف رمي أيام التشريق في الوقت والعدد. والطريق الأول أصح؛ لأن الشافعي نص على أنه: (إذا فاته رمي يوم النحر حتى غربت الشمس.. كان له أن يرميه في أيام التشريق) . [فرع ما يجب بترك الرمي] ومن ترك رمي الجمار الثلاث في يوم.. لزمه دم؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا ... فعليه دم» . . وإن ترك ثلاث حصيات من الجمرة الأخيرة.... لزمه دم؛ لأن ذلك جمع مطلق هذا هو المشهور. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\210] قولا آخر: أنه لا يجب الدم إلا إذا ترك جمرة العقبة أو إحدى الجمرتين الأوليين.

مسألة الاستنابة في الرمي

وإن ترك حصاة واحدة.. ففيه ثلاثة أقوال، كما لو حلق شعرة. وهذا إنما يتصور إذا ترك حصاة من آخر جمرة من الجمرات؛ لأنه إذا تركها من الأولى أو من الثانية ... لم يعتد له برمي ما بعدها، حتى يكمل ما قبلها. وإن ترك رمي أيام التشريق، فإن قلنا: إن رمي كل يوم مؤقت بيومه ... لزمه ثلاثة دماء. وإن قلنا: إنها كاليوم الواحد.. لزمه دم واحد. وإن ترك رمي يوم النحر وأيام التشريق، فإن قلنا: إن رمي كل يوم مؤقت بيومه لزمه أربعة دماء. وإن قلنا: إن أيام التشريق كاليوم الواحد، فإن قلنا: إن يوم النحر كمثلها.. لزمه دم واحد. وإن قلنا: إنه ليس كمثلها.. لزمه دمان: دم ليوم النحر، ودم لأيام التشريق. [مسألة الاستنابة في الرمي] ] : ومن عجز عن الرمي لمرض.. جاز له أن يستنيب من يرمي عنه بأجرة، أو بغير أجرة، سواء كان المرض ميئوسا من برئه، أو غير ميئوس من برئه. والفرق بينه وبين الحج، حيث قلنا: لا يجوز الاستنابة في الحج حتى ييأس من الحج بنفسه؛ لأن الحج فرض موسع الوقت، والرمي فرض مضيق الوقت، فلو منعناه من الاستنابة فيه.. ربما فات وقته قبل الرمي. قال الشافعي: (فإن أمكنه أن يضع الحصاة في كف من يرمي عنه ... أحببت له أن يفعل ذلك؛ ليكون له في الرمي أثر. فإن لم يفعل.. فلا شيء عليه) . قال الشيخ أبو حامد: فإن كان محبوسا بحق أو بغير حق، لكنه منع من الرمي.. جاز له أن يأمر غيره أن يرمي عنه؛ لأنه غير متمكن من الرمي بنفسه، فهو كالمريض. وإن أغمى عليه قبل الرمي، فإن كان قد أذن لغيره بالرمي عنه.. جاز له أن يرمي

مسألة المبيت بمنى

عنه، وإن كان لم يأذن لغيره في ذلك.. لم يجز أن يرمي عنه. ولا يبطل إذنه بالرمي بالإغماء، كما تبطل الوكالة بالبيع والشراء؛ لأن هذا متعلق بالنسك، وذلك لا يبطل بالإغماء. ألا ترى أن المعضوب إذا أذن في الحج، ثم مات.. لم يبطل إذنه بالموت، ولو أذن له في بيع أو شراء، ثم مات.. بطل إذنه في ذلك. فإن برئ من المرض، أو أطلق من الحبس، أو أفاق من الإغماء، فإن كان لم يرم عنه النائب.. وجب عليه أن يرمي بنفسه؛ لأن المانع قد زال. وإن كان قد رمى عنه.. فالمستحب له: أن يعيد الرمي إن كان وقت الرمي باقيا، ولا يجب عليه ذلك؛ لأن الرمي الفرض قد سقط عنه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا، وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 210] في وجوب إعادة الرمي قولين. [مسألة المبيت بمنى] ويبيت بمنى ليالي الرمي؛ لـ: (أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بات بها) فإن ترك المبيت بها.. فهل يجب عليه بذلك الدم؟ فيه قولان: أحدهما: يجب عليه؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا.. فعليه دم» . والثاني: لا يجب عليه الدم، كما لا يجب الدم بترك المبيت بمنى ليلة عرفة. فإذا قلنا: يجب المبيت، فإن ترك المبيت في الليالي الثلاث.. وجب عليه دم. وإن ترك المبيت ليلة أو ليلتين.. ففيه ثلاثة أقوال، كما لو حلق شعرة أو شعرتين. فإن قيل: لم أوجبتم الدم بترك المبيت ليلة الثالث، وهي مما يجوز له تركها؟

مسألة الرخصة لرعاة الإبل وأهل السقاية ومن يقاس عليهم

قيل: إنما يجوز له تركها إذا بات الليلة الأولى والثانية، فأما من لم يبت الليلة الأولى والثانية: فلا يجوز له ترك المبيت في الليلة الثالثة) . [مسألة الرخصة لرعاة الإبل وأهل السقاية ومن يقاس عليهم] ] : ويجوز لرعاء الإبل وأهل سقاية العباس أن يتركوا المبيت بمنى ليالي الرمي، وأن يرموا يوم النحر جمرة العقبة، ثم يدعوا الرمي يوم القر، ويرموا يوم النفر ما فاتهم في اليوم الأول. قال الطبري في " العدة ": وأهل السقاية، هم الذين يعدون السويق والماء للحجيج بمكة. والأصل فيه: ما روى عاصم بن عدي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، ومن بعد الغد بيومين، ويرمون يوم النفر» . وروى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أرخص للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى؛ من أجل سقايته» . وهل تختص الرخصة لأهل السقاية ممن كان من أهل بيت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:

فرع قضاء المعذورين للرمي

أحدهما: تختص بهم، فإن استعمل عليها غيرهم.. لم يجز لهم ترك المبيت والرمي. وبه قال مالك؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أرخص لأهل السقاية من أهل بيته» . والثاني: يجوز ذلك لمن كان من أهل السقاية منهم ومن غيرهم، وهو المنصوص؛ لأن المعنى الذي أرخص فيه لهم لأجله موجود فيمن استعمل عليها من غيرهم، وأما الخبر: فلا حجة فيه؛ لأن العاملين عليها في زمن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ كانوا من أهل بيته، فلذلك خصهم بالرخصة. فإن أقام الرعاء بمنى حتى غربت الشمس.. لم يجز لهم ترك المبيت في هذه الليلة. وإن أقام أهل السقاية بمنى حتى غربت الشمس.. جاز لهم ترك المبيت؛ لأن الرعي لا يكون إلا بالنهار، والاشتغال بالسقاية موجود ليلا ونهارا. وأما من كان له مال يخاف ضياعه إن بات بمنى، أو كان مريض في غير منى يشق عليه البيتوتة بمنى لأجله، أو أبق له عبد فمضى في طلبه.. فهل يجوز لهم ترك المبيت بمنى لذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لهم ذلك؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ رخص لأهل السقاية ولرعاء الإبل» ولم يرخص لغيرهم. والثاني: يجوز؛ لأنه المعنى الذي رخص لأجله لأهل السقاية والرعاء موجود فيهم. [فرع قضاء المعذورين للرمي] فإن تدارك على أهل السقاية أو الرعاء أو غيرهم من المعذورين رمي يومين.. فهل يجب عليهم الترتيب في الرمي أو يستحب؟ فيه قولان. حكاهما الشيخ أبو حامد، بناء

على أن رمي كل يوم مؤقت بيومه، أو أن جميع أيام التشريق كاليوم الواحد ـ: فإن قلنا: إن رمي كل يوم مؤقت بيومه.. لم يجب الترتيب، وإنما يستحب؛ لأن ما يرميه في اليوم الثاني يكون قضاء، والترتيب في القضاء لا يجب، كما إذا فاتته صلاة الظهر والعصر.. فله أن يقضي العصر أولا ثم الظهر. فعلى هذا: يستحب له أن يرمي أول الجمرات الثلاث مرتبا لأمسه، ثم يرميها مرتبا ليومه، فإن بدأ فرماها ليومه، ثم رماها لأمسه.. جاز، وإن رمى كل جمرة بأربع عشرة حصاة: سبع عن أمسه، وسبع عن يومه.. أجزأه ذلك. وإن قلنا: إن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد.. فإن الرمي في اليوم الثاني عن الفائت في اليوم الأول أداء، لا قضاء، فيكون الترتيب فيها واجبا، فيرمي الجمار الثلاث أولا عن أمسه، ثم يرميها عن يومه، فإن رماها ونواها عن يومه أولا.. لم تجزه عن يومه؛ لأن عليه رمي أمسه، وهل يجزئه ذلك عن أمسه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه عن أمسه؛ لأنه لم ينوه عنه. والثاني ـ وهو المذهب ـ: أنه يجزئه عن أمسه؛ لأن من عليه في الحج فرض ففعل من جنسه بنية غيره.. وقع عن فرضه، كما لو كان عليه طواف الزيارة فطاف بنية النافلة.. فإنه يقع عن طواف الزيارة. فإن كان عليه رمي يوم النحر فرى جمرة العقبة يوم القر بأربع عشرة حصاة: سبع عن أمسه وسبع عن يومه.. أجزأه عن أمسه ولم يجزه عن يومه؛ لأن عليه رمي جمرتين قبلها. وإن نوى بالسبع الأولى عن يومه، وبالثانية عن أمسه.. لم تجزه الأولى عن يومه، وهل تجزئه الثانية عن أمسه؟ على الوجهين الأولين، فإن قلنا: تجزئه الأولى عن أمسه.. لم تجزه الثانية عن يومه؛ لأن عليه رمي جمرتين قبلها. وإن قلنا: لا تجزئه الأولى عن أمسه.. أجزأته السبع الثانية عن؛ لأن الأولى قد سقطت وصار كأن لم يرم لها.

مسألة الخطبة ثاني أيام التشريق والتخيير في النفر

[مسألة الخطبة ثاني أيام التشريق والتخيير في النفر] ] : قال الشافعي: (ويخطب الإمام بعد الظهر يوم الثالث من أيام النحر، وهو يوم النفر الأول) . وهذا كما قال: يستحب للإمام أن يخطب يوم النفر الأول ـ وهو اليوم الثاني من أيام التشريق ـ بعد الظهر بمنى، ويعرف الناس ما بقي عليهم، وأن من أراد التعجيل بالنفر.. فله ذلك، ومن أراد التأخير.. فله ذلك، ويأمرهم أن يختموا حجهم بتقوى الله وطاعته والصدقة، ويودع الحاج، وهي الخطبة الرابعة في الحج. وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (لا تسن هذه الخطبة) . دليلنا: ما «روي عن رجلين من بني بكر: أنهما قالا: (رأينا رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ يخطب بمنى على ناقته أوسط أيام التشريق» . ولأن بالناس حاجة إلى هذه الخطبة؛ ليعلموا مالهم من النفر وما بقي عليهم. إذا ثبت هذا: فإن رمى في اليوم الثاني من أيام التشريق.. فهو بالخيار: بين أن ينفر، ويترك المبيت في الليلة الثالثة، والرمي في اليوم الثالث. وبين أن لا ينفر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] . [البقرة: 203] . فإن قيل: أما قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] : فمفهوم المعنى، وهو: أنه لا إثم عليه في التعجيل، فما معنى قوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] والتأخير فضيلة؟

فرع تعجيل النفر من منى

قلنا: أراد من ترك التعجيل الذي أباحه الله ورخص فيه، وثقل على نفسه، وجلس حتى يرمي اليوم الثالث.. فلا إثم عليه في ترك الرخصة، وقيل: إن الآية وردت على سبب، وهو أن قوما قالوا: لا يجوز التعجيل، وقال آخرون: لا يجوز التأخير، فأنزل الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] . فإن لم ينفر حتى غربت الشمس.. لزمه المبيت والرمي في اليوم الثالث. وقال الحسن البصري: إن لم ينفر حتى دخل وقت العصر.. لم يجز له النفر. وقال أبو حنيفة: (له أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الثالث من أيام التشريق) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] . [البقرة: 203] . و (اليوم) : اسم للنهار، فإذا غربت الشمس.. فقد خرج اليومان. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (من أدركه المساء في اليوم الثاني.. فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس) . [فرع تعجيل النفر من منى] ] : وإن رحل رجل من منى فغربت الشمس وهو راحل قبل انفصاله من منى.. لم يلزمه المقام: لأن عليه مشقة في الحط بعد الترحال. وإن غابت الشمس وهو مشغول

فرع النفر قبل الوقت المشروع

بالتأهب للرحيل.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يلزمه المقام؛ لأنه لم يرحل. والثاني: لا يلزمه؛ لأنه مشغول بالترحال، فهو كما لو كان قد رحل. فأما إذا كان قد رحل منها، ثم رجع إليها سائرا إلى موضع أو زائرا لإنسان، أو نسي شيئا من رحله.. لم يلزمه المقام؛ لأن الرخصة قد حصلت له بالرحيل، فلم يلزمه المقام بعد ذلك، فإن بات بمنى.. لم يلزمه الرمي في اليوم الثالث لأن البيتوتة لم تلزمه. [فرع النفر قبل الوقت المشروع] ] : إذا خرج من منى في اليوم الثاني من أيام التشريق قبل الزوال.. فسمعت الإمام العثماني من أصحابنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: لا يسقط عنه المبيت في الليلة الثالثة، ولا الرمي في اليوم الثاني، واليوم الثالث؛ لأن ذلك إنما يسقط عنه بنفر جائز، وهذا نفر غير جائز، ولأنه لو سقط عنه المبيت في الليلة الثالثة، والرمي في اليوم الثالث إذا نفر في اليوم الثاني قبل الزوال.. لسقط عنه ذلك إذا خرج من منى يوم النحر أو يوم القر، إذ لا فرق بينهما في أنه لا يجوز له النفر فيه. [فرع رح ما بقي من حصى الجمار] فرع: [طرح ما بقي من حصى الجمار] : فإذا نفر في اليوم الثاني وقد بقي معه حصى اليوم الثالث.. قال ابن الصباغ: فإنه يطرحها، أو يدفعها إلى من يرمي بها، فأما ما يفعله الناس من دفنها: فلا أثر فيه. [فرع استحباب النزول في المحصب لمن شاء] وإذا نفر من منى في اليوم الثاني من أيام التشريق، أو في اليوم الثالث.. فالمستحب: أن ينزل بالمحصب ـ وهو الأبطح، وحده: ما بين الجبل المتصل بالمقابر إلى الجبال التي في مقابلته، ويسمى: بالمحصب لاجتماع الحصباء فيه؛ لأنه موضع

منهبط، والسيل يحمل إليه الحصى من الجمار ـ فيصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما نفر من منى.. نزل بالمحصب فصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم هجع هجعة، ثم دخل مكة فطاف بالبيت، ثم خرج ورحل إلى المدينة» . إذا ثبت هذا: فإن النزول فيه ليس بنسك. وقال عمر بن الخطاب: (هو نسك) دليلنا: ما روي «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (المحصب ليس بسنة، وإنما هو منزل نزله رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ـ) . «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (المحصب ليس بشيء، وإنما نزله رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ليكون أسمح لخروجه ... فمن شاء.. فعل ومن شاء.. ترك» .

مسألة وداع البيت الحرام

وروي «عن أبي رافع: أنه قال: (أنا ضربت القبة للنبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بالمحصب، ولم يأمرني به، وكان على رحل رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ـ) فدل على: أن أبا رافع فعله برأيه؛ لمصلحة الخروج إلى المدينة. [مسألة وداع البيت الحرام] ] : قال الشافعي: (وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت، فيودع وينصرف إلى بلده) . وهذا كما قال: إذا فرغ الحاج من الرمي، فإن كان من أهل مكة، أو من غير أهلها وأراد أن يقيم بها.. فليس عليه وداع البيت؛ لأن الوداع يراد لتوديع البيت، وهذا لا يفارق مكة. وإن كان يريد الانصراف.. فعليه أن يطوف بالبيت سبعا، ويصلي بعده ركعتين، سواء كان منزله قريبا من مكة أو بعيدا منها. وقال أبو حنيفة: (لا توديع على من كان بالمواقيت أو دونها) دليلنا: ما «روى ابن عباس: أن الناس كانوا ينصرفون من كل وجه، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» .

وهل هو نسك من مناسك الحج يجب بتركه الدم أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه نسك ويجب بتركه الدم ـ وبه قال أبو حنيفة ـ لما روى الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «لا ينفرن أحد حتى يطوف بالبيت؛ فإنه آخر نسك في الحج» فأخبر: أنه نسك. وقد قال ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من ترك نسكا.. فعليه دم» . والثاني: أنه ليس بنسك، فلا يجب بتركه الدم، وإنما يستحب؛ لأن كل ما لو تركه المكي لم يجب عليه به دم.. أوجب إذا تركه غير المكي أن لا يجب به دم، كالمبيت بمنى ليلة عرفة. ولأنه لو كان يجب به الدم إذا تركه من غير عذر.. لوجب به الدم وإن تركه بعذر، كالرمي.

فرع الوداع يوم النحر

إذا ثبت هذا: فإن طاف للوداع، وصلى ركعتي الطواف وانصرف من غير لبث، أو اشترى زادا في طريقه.. فقد حصل الوداع. وإن حضرت صلاة مكتوبة فصلاها، ثم خرج.. لم يلزمه إعادة الطواف. وقال عطاء: يلزمه؛ ليكون آخر عهده بالبيت. دليلنا: أنه لم يشتغل عن مسيره بعد الطواف بما يتضمن الإقامة، فأجزأه، كما لو اشترى في طريقه شيئا يحتاج إليه. وإن أقام بعد الطواف على زيارة صديق، أو شراء متاع، أو عيادة مريض فيها لبث.. فإنه يعيد طواف الوداع، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يعيد الطواف للإقامة بعده شهرا أو شهرين) دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» ولأنه إذا أقام.. خرج عن أن يكون وداعا، فكان عليه الإعادة. [فرع الوداع يوم النحر] إذا نوى الحاج النفر من منى بعد الرمي، فودع البيت يوم النحر بعد طواف الزيارة والسعي.. فقد اختلف أصحابنا المتأخرون فيها: فقال الشريف العثماني: يجزئه؛ لأن طواف الوداع يراد لمن أراد مفارقة البيت، وهذا قد أراد مفارقته. ومنهم من قال: لا يجزئه ـ وهو ظاهر كلام الشافعي، وظاهر الخبر ـ لأن الشافعي قال: (وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت) فيودع وينصرف إلى بلده.

فرع طواف الوداع إذا نوى الإقامة بمكة

وفي رواية ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ينفرن أحد حتى يطوف بالبيت؛ فإنه آخر نسك في الحج» فمنه دليلان: أما أحدهما: فقوله: «لا ينفرن أحد» ولا يطلق النفر الجائز إلا بعد الرمي والثاني: قوله: «فإنه آخر نسك في الحج» . [فرع طواف الوداع إذا نوى الإقامة بمكة] ] : إذا قدم إلى مكة، فلما فرغ من أفعال الحج، نوى الإقامة بمكة.. فإنه لا وداع عليه وبه قال أبو يوسف. وقال أبو حنيفة: (إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر الأول.. لم يسقط عنه طواف الوداع) . دليلنا: أنه غير مفارق للبيت، فلم يلزمه وداعه، كما لو نوى الإقامة قبل زمان النفر. [فرع رجوع الحاج لطواف الوداع] ] : إذا قلنا: يجب طواف الوداع، فخرج ولم يودع ثم رجع.. نظرت: فإن رجع قبل أن يبلغ مسافة القصر.. لم يستقر عليه الدم؛ لأنه في حكم المقيم. وإذا رجع بعد ما بلغ مسافة القصر من مكة.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\205] ، المشهور: أنه يستقر عليه الدم؛ لأنه قد صار بينه وبين البيت سفر طويل. وقال عطاء: إن عاد بعدما خرج من الحرم.. لم يسقط عنه الدم. وإن عاد قبل أن يخرج من الحرم.. سقط عنه الدم. دليلنا: أن الاعتبار بالقرب والبعد، وذلك يعتبر بما تقصر فيه الصلاة، فلا معنى لاعتبار الحرم.

فرع ليس على المقيم الخارج إلى التنعيم وداع

[فرع ليس على المقيم الخارج إلى التنعيم وداع] ] : ذكر الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": ليس على المقيم الخارج إلى التنعيم وداع. وقال الثوري: إن لم يودع.. فعليه دم. دليلنا: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم، ولم يأمرها بوداع البيت» . فلو كان واجبا.. لأمرها به. ولـ: (أن عليا وابن عمر كانا يعتمران كل يوم مرة مدة مقامهما بمكة ولم ينقل: أنهما كانا يطوفان للوداع) . [فرع وداع الحائض] ويجوز للحائض أن تنفر بلا وداع. وقال عمر وابن عمر وزيد بن ثابت: (عليها أن تقيم حتى تطهر ثم تطوف للوداع) . فأما ابن عمر وزيد بن ثابت: فقد روي عنهما: (أنهما رجعا) .

فرع لا ينتظر الركب الحائض

دليلنا: ما روي: «أن صفية بنت حيي حاضت، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " أحابستنا هي؟ " فقالوا: قد أفاضت، قال: " فلا إذن " ونفر بها، ولم تودع» . فإن نفرت الحائض من غير وداع، ثم طهرت، فإن طهرت قبل أن تفارق بنيان مكة.. عادت واغتسلت وطافت. وإن طهرت بعد أن فارقت بنيان مكة.. لم تعد؛ لأنها إذا لم تفارق البنيان.. لم تصر مسافرة، وإذا فارقته.. فقد صارت مسافرة. فإن قيل: هلا اعتبرتم مسافة القصر، كما يعتبر ذلك فيمن ترك طواف الوداع؟ قيل: الفرق بينهما: أن من ترك الوداع.. فقد ترك واجبا عليه، فلا يسقط عنه بمفارقته البنيان. وإذا كان بينهما مسافة القصر.. فلأنه أنشأ سفرا طويلا، فلذلك لم يجب عليه العود، وهاهنا لم يجب عليها. فإذا أمكنها بعد الانفصال.. عليها، كما لا يجب على المسافر إتمام الصلاة بعد الانفصال من البنيان. [فرع لا ينتظر الركب الحائض] ] : قال الشيخ أبو نصر: لا يحبس الجمال لأجل المرأة الحائض، إذا لم تكن هي طافت طواف الإفاضة، ويقال لها: احملي مكانك مثلك. وقال مالك: (يحبس أقصى ما يحبسها الدم، ثم تستظهر بستة أيام) .

فرع دعاء الخروج من مكة إلى الوطن

دليلنا: أنه تعذر الركوب بمعنى لا يمكنها رفعه عن نفسها، فلم تحبس الجمال لأجله، كما لو مرضت. [فرع دعاء الخروج من مكة إلى الوطن] ] : قال الشافعي في (المختصر الصغير) : (وإذا فرغ من طواف الوداع.. فالمستحب: أن يقف في الملتزم ـ وهو: ما بين الركن الأسود والباب ـ فيدعو ويقول: اللهم إن البيت بيتك، والعبد عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك، وأعنتني على قضاء مناسكك، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، هذا أوان انصرافي، إن أذنت لي غير مستبدل بك، ولا ببيتك، ولا بنبيك ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في بدني، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني) . وزاد أبو حامد في " جامعه ": واجمع لي خير الدنيا والآخرة؛ إنك على كل شيء قادر. وما زاد فحسن؛ لأنه روي عن بعض السلف. [مسألة أركان العمرة] أركان العمرة: الإحرام، والطواف، والسعي. فإن قلنا: إن الحلاق ليس بنسك.. فإنه يتحلل من عمرته إذا فرغ من السعي، فتكون أفعالها ثلاثة أشياء لا غير. وإن قلنا: إن الحلق نسك.. فإنه لا يتحلل منها إلا بالحلاق. فعلى هذا: أفعالها أربعة أشياء.

فرع الطواف والسعي في القران

والدليل ـ على ذلك ـ: ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: خرجنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فمنا من أهل بالحج، ومنا من أهل بالعمرة، ومنا من أهل بالحج والعمرة، وأهل رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بالحج. فأما من أهل بالعمرة: فأحلوا حين طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، وأما من أهل بالحج والعمرة: فلم يحلوا إلا يوم النحر» . [فرع الطواف والسعي في القران] ] : وإن قرن بين الحج والعمرة.. فلا خلاف بين أهل العلم: أنه يكفيه لهما حلاق واحد. وأما الطواف والسعي: فيكفيه ـ عندنا ـ لهما طواف واحد وسعي واحد، غير أنا نستحب له طوافين وسعيين، وبه قال جابر بن عبد الله. ومن التابعين: عطاء وطاووس، ومجاهد والحسن. ومن الفقهاء: ربيعة ومالك. وقال علي وابن مسعود: يجب على القارن طوافان وسعيان، وبه قال أهل

العراق، والنخعي، والشعبي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه. وتفصيل مذهب أبي حنيفة، هو أنه يقول: (على القارن أن يطوف ويسعى لعمرته قبل الوقوف بعرفة، ثم يطوف ويسعى لحجه بعد الوقوف، فإن لم يطف ولم يسع لعمرته حتى وقف بعرفة.. انقضت عمرته، وثبت الحج، فإذا قضى عمرته.. كان عليه دم) . دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من جمع بين الحج والعمرة أجزأه لهما طواف واحد، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا» . وروي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك» . ولأنه يكتفى بحلاق واحد، فاكتفي بطواف واحد وسعي واحد، كالمفرد.

مسألة أركان الحج ومسنوناته وهيئاته

[مسألة أركان الحج ومسنوناته وهيئاته] ] : ذكر الشيخ أبو حامد: أن الحج يشتمل على أركان ومسنونات وهيئات. فالأركان: أربعة: الإحرام، والوقوف بعرفة، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة. فمن ترك ركنا منها.. لم يحل من إحرامه ولم يجبر بالدم. وأما المسنونات ـ وسماها صاحب " المهذب " الشيخ أبو إسحاق: الواجبات ـ فهي: ما لا يؤثر تركها في التحلل، وينجبر بالدم. وهي ستة أشياء: فشيئان لا خلاف فيهما، وهما: الإحرام من الميقات، والرمي. وأربعة أشياء للشافعي في كل واحد منها قولان، وهي: الوقوف بعرفة إلى أن تغرب الشمس، والمبيت بالمزدلفة، والمبيت بمنى ليالي الرمي، وطواف الوداع. وأما الهيئات ـ وسماها الشيخ أبو إسحاق: المسنونات ـ وهي: طواف القدوم، والرمل، والاضطباع، واستلام الركن، وتقبيله، والسعي في موضع السعي، والمشي في موضع المشي، والخطب، والأذكار. فإذا تركها أو ترك شيئا منها ... لم يؤثر تركها بالتحلل، ولم يجب على من تركها دم. [مسألة دخول الكعبة وفضيلة المسجد الحرام على بقية المساجد] ] : قال الشافعي: (وأستحب دخول البيت لكل أحد) ؛ لما روى ابن عباس: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من دخل البيت.. دخل في حسنة، وخرج من سيئة، وخرج مغفورا له» . ويستحب أن يصلي فيه؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف

فرع فضيلة الشرب من ماء زمزم ونبيذ السقاية

صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة صلاة في مسجدي» . [فرع فضيلة الشرب من ماء زمزم ونبيذ السقاية] ] : ويستحب أن يشرب من ماء زمزم ويتضلع منه؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «ماء زمزم لما شرب له» وروى عطاء: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما أفاض. نزع هو لنفسه بدلو مرتين من ماء بئر زمزم، ولم ينزع معه أحد، فشرب منه، ثم أفرغ باقي الدلو في البئر» . قال ابن الصباغ: ويستحب أن يشرب من نبيذ السقاية؛ لما روي: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أتى السقاية ليشرب منها، فقال له العباس: إنه نبيذ، قد خاضت فيه الأيدي، ووقع

مسألة الخروج من مكة

فيه الذباب، ولنا في البيت نبيذ صاف، فقال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: " هات " فشرب منه» . ولا يشرب من النبيذ إلا ما لم يكن مسكرا. [مسألة الخروج من مكة] وإذا خرج من مكة.. استحب له أن يخرج من أسفلها؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دخل من أعلاها، وخرج من أسفلها» . قال أبو عبد الله الزبيري: ويخرج وبصره يتبع البيت حتى يكون آخر عهده به. [فرع أفضلية مكة على المدينة] مكة ـ عندنا ـ أفضل من المدينة. وقال مالك: (المدينة أفضل من مكة) ؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «المدينة خير البقاع» . ولقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «المدينة خير من مكة» . دليلنا: ما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «صلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف

صلاة في غيره، وصلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة، وصلاة في المسجد الأقصى تعدل خمسمائة صلاة» فدل على: أن مكة أفضل. وروي «عن عبد الله بن عدي قال: سمعت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وهو واقف بالحزورة في سوق مكة يقول: " إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليه، والله لولا أني أخرجت منك ما خرجت» . وأما قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «المدينة خير البقاع» فأراد بعد مكة، بدليل ما ذكرناه. وأما قوله: «المدينة خير من مكة» أراد أن أهل المدينة خير من أهل مكة؛ لأنهم آووه ونصروه، وأهل مكة قاتلوه وأخرجوه، ولهذا قال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «كل البلاد فتحت بالسيف إلا المدينة، فإنها فتحت بـ: لا إله إلا الله "، وروي بـ: " القرآن» .

مسألة زيارة القبر الشريف

[مسألة زيارة القبر الشريف] ] : ويستحب زيارة قبر رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ؛ لما روي عن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أنه قال «من حج ولم يزرني.. فقد جفاني» ذكره الشيخ أبو حامد. وروى ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «من زار قبري.. وجبت له الجنة» .

وروي عنه ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «من زارني بعد وفاتي.. فكأنما زارني في حياتي» . وروي عنه ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أنه قال. «من زار قبري.. وجبت له شفاعتي» وحكى العتبي قال: كنت جالسا عند قبر رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ إذ جاء أعرابي فسلم على

النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ ثم قال: يا رسول الله سمعت الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] [النساء: 64] . وقد جئتك مستغفرا من ذنبي، مستشفعا بك إلى ربي، وأنشأ يقول: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيناي، فنمت. فرأيت رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النوم يقول: يا عتبي، الحق الأعرابي وبشره بأن الله قد غفر له. ويستحب لمن زار قبر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: أن يصلي في مسجده: لما ذكرناه من الخبر وبالله التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل

باب الفوات والإحصار

[باب الفوات والإحصار] ومن أحرم بالحج فلم يقف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر.. فقد فاته الحج، وعليه أن يتحلل بعمل عمرة، وهو: الطواف والسعي والحلق، ولا ينقلب ذلك إلى عمرة، ويسقط عنه توابع الحج، وهو: المبيت والرمي، ويجب عليه القضاء وهدي. وبه قال أبو حنيفة إلا في الفدية، فإنه قال: (لا فدية عليه) . وقال أبو يوسف وأحمد: (ينقلب إحرامه عمرة، فيطوف ويسعى ويحلق، ويجزئه عن عمرة الإسلام، ويقضي الحج من قابل) . وعن مالك ثلاث روايات: إحداهن: كقولنا، والثانية: (لا قضاء عليه كالمحصر) ، والثالثة: (يبقى على إحرامه إلى العام القابل) . وقال المزني: يجب عليه أن يأتي بما بقي من أفعال الحج: من المبيت، والرمي. دليلنا: ما روي عن عمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن عباس: أنهم قالوا: (من فاته الحج.. تحلل بالطواف والسعي، وعليه القضاء والهدي من قابل)

ولا مخالف لهم، ولأن الفوات سبب يوجب قضاء الحج، فأوجب الهدي، كالإفساد. وعلى أبي يوسف: أن إحرامه قد انعقد بنسك، فلم ينقلب إلى نسك آخر بتفريط كان منه، كما لو أفسد الحج. وأما الدليل ـ على المزني ـ: فإن المبيت والرمي من توابع الوقوف، وقد سقط الوقوف، فسقطت توابعه. وإن أحرم بالعمرة فقط.. فإنه لا يتصور فواتها؛ لأن الزمان كله وقت لها. وإن كان قارنا بين الحج والعمرة ففاته الوقوف.. فإن العمرة تفوت بفوات الحج؛ لأن ترتيب العمرة يسقط، ويكون حكمها تابعا لحكم الحج. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 213] قولين: أحدهما: هذا، وهو المشهور؛ لأنه إحرام واحد فلا يتبعض. والثاني: لا تفوت العمرة؛ لأنه لا وقت لها. فإذا قلنا بالمشهور.. تحلل بعمل عمرة، وعليه دم للقران ودم للفوات، وعليه أن يقضي قارنا، ثم يخرج شاة ثالثة للقران.

فرع وجوب الدم على المكي وغيره في الفوات

قال الشافعي: (فإن قضاه مفردا.. لم يكن له) . قال الشيخ أبو حامد: أراد: أنه ليس له إسقاط الدم؛ لأن بالفوات قد وجب عليه أن يقضي بالقران، والقران يقتضي وجوب الدم، فإذا أفرد الحج والعمرة.. أجزأه ذلك؛ لأنه أكمل من القران، ولكن لا يسقط عنه دم القران. [فرع وجوب الدم على المكي وغيره في الفوات] ] : المكي وغير المكي سواء في الفوات، وفي وجوب الدم لأجله، بخلاف دم التمتع؛ لأن الفوات يحصل من المكي كما يحصل من غيره، ودم التمتع يجب بترك الميقات، والمكي لا يترك الميقات؛ لأن ميقاته بلده. [فرع الإحرام بالعمرة بأشهر الحج وفواته عليه] ] : فإذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج، فتحلل منها، ثم أحرم بالحج ففاته.. فإن عليه قضاء الحج دون العمرة؛ لأن الحج فات دون العمرة، وعليه دم للتمتع، ودم للفوات. [فرع قضاء الحج الفائت وإخراج الهدي] ] : وهل يجب عليه القضاء على الفور، أو يجوز تأخيره؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب على الفور، ويجوز له تأخيره؛ لأن أصل وجوب الحج يجوز له تأخيره، فكذلك قضاؤه. والثاني: يجب قضاؤه على الفور؛ لما روي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (عليه القضاء من قابل) . ولأن القضاء بدل عما لزمه أداؤه على الفور بالدخول، بخلاف أصل الحج الواجب. وأما الهدي: فهل يخرجه في سنة الفوات، أو في سنة القضاء؟ فيه وجهان: أحدهما: يخرجه في سنة القضاء؛ لما روي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم

فرع الوقوف في عاشر ذي الحجة أو الثامن خطأ

قالوا: (عليه القضاء من قابل والهدي) . ولأن القضاء والمقضي في معنى النسك الواحد؛ لأن الفرض يسقط عنه بالقضاء، فجرى مجرى التمتع، والمتمتع إنما يجب عليه الدم إذا أحرم بالنسك الثاني، وهو الحج. والثاني: أنه يخرجه في سنة الفوات؛ لأنه سبب وجوبه. فإذا قلنا: إنه يخرجه في سنة الفوات.. فهو وقت وجوبه. وإن قلنا: إنه يخرجه في سنة القضاء.. فهل وقت وجوبه عند القضاء، أو عند الفوات وإنما يؤخر إخراجه إلى وقت القضاء؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: أنه يجب عند القضاء؛ لأنه لو وجب قبل ذلك.. لجاز إخراجه. والثاني: أن وقت وجوبه عند الفوات؛ لأنه وقت سببه. [فرع الوقوف في عاشر ذي الحجة أو الثامن خطأ] ] : إذا أخطأ الناس فوقفوا يوم العاشر من ذي الحجة، أو يوم الثامن منه.. أجزأهم ذلك، ولم يجب عليهم القضاء؛ لقول النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «حجكم يوم تحجون» .

ولأنه لا يؤمن مثل ذلك في القضاء. ولأن في إيجاب القضاء مشقة عظيمة وإبطالا للسفر الطويل والمال العظيم، هكذا قال عامة أصحابنا. وذكر ابن الصباغ في موضع من " شامله ": أنهم إذا وقفوا يوم التروية.. لم يجزهم؛ لأن هذا لا يقع فيه الخطأ؛ لأن نسيان العدد لا يتصور من العدد الكثير، فأما العدد القليل: فلا يعذرون في ذلك؛ لأنهم مفرطون، ويأمنون مثل ذلك في القضاء. قلت: ولعل ابن الصباغ أراد: إذا بان لهم أنهم وقفوا يوم الثامن قبل فوات يوم التاسع وليلة النحر. فأما إذا لم يبن لهم ذلك إلا بعد فوات وقت الوقوف.. فيجزئهم الوقوف في اليوم الثامن، لما ذكرناه في الوقوف يوم العاشر.

فرع شهادة الرؤية المتأخرة

[فرع شهادة الرؤية المتأخرة] ] : وإن شهد شاهدان عشية عرفة برؤية الهلال، ولم يبق من النهار والليل ما يمكن الجماعة إتيان عرفة قال ابن الصباغ: وقفوا من الغد، كما قال الشافعي: (إذا شهد شاهدان برؤية الهلال ليلة الحادي عشر، أو بعد الزوال يوم العاشر في زمان لا يمكن فيه اجتماع الناس فإنهم يخرجون من الغد، ويصلون العيد، ويكون ذلك أداء للصلاة لا قضاء) . [فرع المشاهد يعمل بعلمه] ] : وإن شهد برؤية الهلال واحد أو اثنان، فرد الحاكم شهادتهم فإن الشهود يقفون يوم التاسع على حكم رؤيتهم، ويقف الناس يوم العاشر عندهما، فإن وقف الشاهدان مع الناس يوم العاشر ولم يقفا يوم التاسع عندهما لم يجزهما ذلك. وقال محمد بن الحسن: لا يجزئهما إلا إن وقفا مع الناس يوم العاشر، وإن وقفا يوم التاسع وحدهما لم يجزهما. دليلنا: أنهما يتيقنان أن هذا يوم عرفة، فلزمهما الوقوف فيه، كما لو قبل الحاكم شهادتهما. [مسألة الإحصار] ] : ومن أحرم بالحج وأحصره عدو من المشركين، ومنعوه عن النفوذ في طريقه، ولم يكن له طريق سواه جاز له أن يتحلل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الآية [البقرة: 196] . وهذه الآية نزلت في شأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه لـ: (أنهم خرجوا من المدينة سنة ست، وأحرموا بعمرة، ونزلوا الحديبية؛ ليدخلوا مكة فصدتهم قريش عن

ذلك، ومنعتهم الدخول، ثم خرج إليهم سهيل بن عمرو فصالحهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على: أن يرجع ويعود من قابل، فأنزل الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . فتحلل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ورجعوا، ثم أتوا من قابل، وقضوا عمرتهم) ، وإن كان المانع له عدوا من المسلمين جاز له أن يتحلل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الآية. فعم ولم يخص، فالآية وإن كانت واردة على سبب إلا أنها مستقلة بالعموم. وروي: «أن ابن عمر أراد أن يخرج إلى الحج في سنة ابن الزبير، فقيل له: إن صددت فقال: (إن صددت عن البيت صنعت كما صنعنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية» . وإن كان لهم طريق غير هذا الذي منعوا منه، فإن كان مثل طريقهم الذي صدوا عنه لم يكن لهم التحلل؛ لأنهم قادرون على الوصول. وإن كان أطول من طريقهم، فإن لم تكن معهم نفقة تكفيهم لذلك الطريق كان لهم التحلل؛ لأنهم مصدودون عن البيت بغير حق؛ إذ قطع الطريق بغير نفقة لا يمكن، فهو كما لو لم يجدوا طريقا غير التي صدوا عنها. وإن كان معهم نفقة تكفيهم لطريقهم الآخر لم يجز لهم التحلل، ولزمهم سلوك الطريق الآخر، سواء علموا أنهم إذا سلكوا الطريق

مسألة الصد عن الحج وأحكام الصادين

الآخر فاتهم الحج أو لم يفتهم؛ لأن علة جواز التحلل الحصر، لا خوف الفوات، ألا ترى أن من أحرم بالحج في يوم عرفة بالجند يعلم أنه لا يمكنه الوقوف بعرفة؟ ومع هذا فلا يجوز له التحلل لأجله. فإن سلك الطريق البعيد فأدرك الحج فلا كلام، وإن فاته الحج تحلل بعمل عمرة، وهل يلزمه القضاء؟ فيه قولان: أحدهما: عليه القضاء؛ لأنه فاته الحج فلزمه القضاء، كما لو فاته بالنسيان، أو أخطأ الطريق، أو أخطأ العدد. والثاني: لا يلزمه القضاء؛ لأنه غير مفرط في الفوات، فهو كما لو تحلل بالحصر قبل الفوات. [مسألة الصد عن الحج وأحكام الصادين] ] : فإن كان العدو الذي صدهم مسلمين فالأولى أن لا يقاتلوهم، وسواء كان الحاج أقوى أو الصاد لهم؛ لأن التحلل أهون من قتال المسلمين وجرحهم، فإن بذلوا لهم تخلية الطريق بجعل لم يجب عليهم بذل الجعل، وجاز لهم التحلل، سواء كان ما سألوه قليلا أو كثيرا؛ لأنا لو أوجبنا دفع القليل لأوجبنا دفع الكثير إذا كان سببهما واحدا. فإن بذلوا لهم الجعل جاز ولم يكره؛ لأنه لا صغار على المسلمين. وإن كان العدو الذي صدهم مشركين فذكر المسعودي [في " الإبانة " ق \ 211] : إن كان بإزاء كل مسلم مشركان أو أقل لم يجز لهم التحلل، وإن كانوا أكثر جاز لهم التحلل. وقال البغداديون من أصحابنا: لا يجب عليهم قتالهم بحال؛ لأن قتال المشركين

لا يجب على المسلمين إلا إذا بدؤوا بالقتال، أو استنفرهم أهل الثغور إلى قتالهم، وهؤلاء لم يبدؤوا بقتال، وإنما منعوا الطريق فقط. فإن قاتلوهم جاز، وهل الأولى أن يقاتلوهم، أو يتحللوا؟ ينظر فيه: فإن كان في المسلمين قوة، وفي المشركين الصادين لهم ضعف فالأولى أن يقاتلوهم؛ ليجمعوا بين نصرة الإسلام والتوصل إلى قضاء نسكهم، وإن كان في المشركين قوة وفي المسلمين ضعف فالأولى أن لا يقاتلوهم؛ لئلا يلحق الإسلام والمسلمين وهن بغلبة الكفار. وإن بذلوا لهم تخلية الطريق بجعل كره لهم دفعه إليهم؛ لأن في ذلك إجراء صغار على الإسلام. وإن بذلوا لهم الجعل جاز. وإن بذلوا لهم تخلية الطريق بعد المنع، فإن كانوا واثقين بعقدهم غير خائفين من غدرهم لم يجز لهم التحلل؛ لأنهم غير مصدودين. وإن كانوا خائفين من غدرهم جاز لهم التحلل. إذا ثبت أن لهم التحلل، فإن كان الوقت واسعا قال الشافعي: (أحببت لهم أن لا يتحللوا، وينتظروا اليومين والثلاث؛ لأنه ربما زال الحصر وانصرف العدو) . فإن انتظروا ولم ينصرف العدو، أو كان الوقت ضيقا يخشى فيه فوات الحج قال الشافعي: (أحببت له أن يتحلل لئلا يفوته الحج) . فإن تحلل من إحرامه لم يخل: إما أن ينصرف العدو، أو لا ينصرف. فإن لم ينصرف العدو رجع المصدود. وإن انصرف العدو، فإن كان الوقت واسعا بحيث يمكنه أن يجدد الإحرام ويمضي ويدرك الحج فقد استقر وجوب الحج عليه؛ لأنه قد تمكن منه، لكنه بالخيار: إن شاء حج في هذه السنة، وإن شاء أخر وحج في سنة أخرى؛ لأن الحج - عندنا - على التراخي. وإن كان الوقت ضيقا بحيث لا يمكنه أن يلحق الحج سقط عنه الوجوب في هذه السنة. وإن لم يتحلل حتى فاته الحج وجب عليه القضاء بالفوات، فإن كان قد زال

مسألة إحصار المحرم بعمرة

العذر لزمه الوصول إلى مكة، ويتحلل بعمل عمرة، وكان عليه هدي للفوات. وإن لم يزل العدو عن طريقه كان له أن يتحلل، ووجب عليه القضاء وهدي للتحلل وهدي للفوات. [مسألة إحصار المحرم بعمرة] ] : وإن أحرم بالعمرة وأحصر جاز له التحلل. وحكي عن مالك: أنه قال: (لا يجوز له التحلل؛ لأنه لا يخاف فوتها) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . ولم يفرق بين الحج والعمرة، ولـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا محرمين بالعمرة، فلما أحصروا نزلت هذه الآية بشأنهم، فتحللوا) . ولأنا لو ألزمناه البقاء على الإحرام ربما طال الحصر زمانا، فيكون عليه مشقة في البقاء على الإحرام، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني لم أبعث باليهودية، وبالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة» .

فرع إحاطة العدو بالمحرم

وقوله: (لأنه لا يخشى فوتها) لا يفيده، ألا ترى أن من أحرم بالحج في أول أشهر الحج، ثم أحصر يجوز له التحلل وإن كان لا يخاف الفوات حال تحلله. [فرع إحاطة العدو بالمحرم] ] : فإن أحرم وأحاط به العدو من كل جهة، حتى لا يمكنه الخروج عن مكانه فهل يجوز له التحلل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له؛ لأنه لا يستفيد بالتحلل شيئا. والثاني: يجوز له التحلل؛ لأنه يستفيد بذلك بأن ينهزم إلى ناحية بلده، فيكون متخلصا من الإحرام. [مسألة قضاء الحج بسبب الإحصارالعام أو الخاص] مسألة: [قضاء الحج بسبب الإحصار العام أو الخاص] : وإذا أحرم فصد عن الحرم فتحلل، فإن كان الحصر عاما فهل يجب عليه القضاء؟ ينظر فيه: فإن كان في حج قد تقدم وجوبه عليهم فهو باق في ذمتهم إلى أن يأتوا به، وإن كان لم يتقدم وجوبه لم يجب عليهم القضاء؛ لأجل التحلل من الحصر. وبه قال من الصحابة: ابن عباس وابن عمر، ومن الفقهاء: مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: (يجب عليهم القضاء، سواء كان الحج تطوعا أو واجبا) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الآية [البقرة: 196] . فاقتضت الآية: أن هذا جميع موجب الإحصار، ولو كان لهذا موجب آخر وهو القضاء لبينه، ولـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أحصر وأصحابه وتحللوا كان معه ألف وأربعمائة رجل، فلما كان في العام القابل عاد بنفر يسير، ولم يأمر من تخلف عنه

بالقضاء) . ولو كان القضاء واجبا لأمرهم به. فإن قالوا: فقد أعاد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الاعتمار في العام القابل، وسميت عمرة القضاء. قلنا: فعله لها في السنة الثانية لا يدل أنها قضاء عما تحلل عنها في الأولى، بل يجوز؛ لأن الوجوب كان قد استقر عليه، فأدى ما وجب عليه، بدليل: أنه لم يأمر جميع من كان تحلل معه في العام الأول بالقضاء. وأما تسميتها عمرة القضاء: فإن هذه التسمية من أهل النقل، ولا احتجاج بقولهم، ويجوز أن تكون سميت عمرة القضاء؛ لأنه كان قضاء سهيل بن عمرو على العود من قابل، فسميت عمرة القضاء والقضية، لا لأنها قضاء عما تحللوا عنه. وإن كان الحصر خاصا، بأن حبسه القاضي بدين عليه، فإن كان يقدر على قضائه لم يجز له التحلل، فإن تحلل لم يصح. وإن أقام على إحرامه حتى فاته الحج لزمه القضاء قولا واحدا؛ لأنه مفرط بذلك. وإن حبسه السلطان ظلما، أو حبسه القاضي بدين لا يقدر عليه جاز له التحلل، فإذا تحلل فهل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان: أحدهما: لا يلزمه القضاء، كما لا يلزمه في الحصر العام. والثاني: يلزمه؛ لأنه تحلل من الحج قبل وقته بسبب يختص به، فهو كما لو ضل الطريق ففاته الحج.

مسألة الإحصار بعد الوقوف وصد أهل مكة عن الوقوف

[مسألة الإحصار بعد الوقوف وصد أهل مكة عن الوقوف] ] : وإن وقف بعرفة، ثم أحصر عن المزدلفة ومنى وعن الطواف بمكة جاز له أن يتحلل، كما يجوز التحلل قبل الوقوف، فإن تحلل من إحرامه لم يجزه ما قد أتى به عن حجة الإسلام. وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال في " التعليق ": إذا قلنا: إن الأجير إذا مات بعد الإحرام يجوز البناء على فعله، على القول القديم جاز لغيره أن يبني على عمله هاهنا. فإن أمكنه أن يستأجر من يكمل ما بقي عليه من حجه أجزأه. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 211] : فإن تحلل، ثم انكشف العدو فهل له البناء على باقي حجه بعد تحلله؟ فيه قولان، بناء على القولين في جواز البناء على حج الأجير. وإن بقي على إحرامه ولم يتحلل فإن الطواف والسعي لا يفوتان؛ لأنه ليس لهما وقت مقدر يفوتان بفواته، ولكن المبيت بالمزدلفة والرمي يفوتان. فإن فاتا قبل تحلله فهل يجب عليه الدم لترك المبيت بالمزدلفة ومنى؟ على قولين، قد مضى ذكرهما. فإن قلنا: يجب وجب عليه دم للمبيت بالمزدلفة، ودم للمبيت بمنى ليالي الرمي. وهل يجب عليه دم لأجل الرمي أو دمان؟ على الكلام الذي مضى فيه إذا تركه عامدا. وأما حصول التحلل الأول: قال الشيخ أبو حامد: فإن أصحابنا قالوا: فوات وقت الرمي يجري مجرى فعل الرمي في حصول التحلل به. فإن قلنا: إن الحلاق نسك حلق وتحلل به، وبفوات وقت الرمي. وإن قلنا: إن الحلاق ليس بنسك فقد حصل له التحلل بفوات وقت الرمي، ومتى أمكنه الطواف والسعي أتى بهما. فأما إذا أحرم أهل مكة أو المقيمون بها بالحج وصدوا عن عرفة جاز لهم التحلل عندنا. وقال مالك: (لا يجوز لهم التحلل) .

مسألة ما يجب على المحصر بتحلله والتعريف بأنواع الدماء

دليلنا: أنه ممنوع من إكمال نسكه بغير حق فجاز له التحلل، كما لو كان مصدودا عن البيت. ولأنا لو منعناه من التحلل لفاته الحج ولزمه القضاء، وفي ذلك مشقة. فإن تحلل فهل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: لا يجب عليه القضاء؛ لأنه تحلل من نسكه بالحصر العام، فلم يجب عليه القضاء، كما لو كان مصدودا عن البيت. والثاني: أن عليه القضاء؛ لأن المحصر الذي لا قضاء عليه هو المصدود عن البيت، وهذا ليس بمصدود عن البيت، وإنما لم يقدر على الوقوف، فشابه من فاته الوقوف. فإن لم يتحلل حتى فاته الوقوف تحلل بالطواف والسعي والحلق، وعليه هدي للفوات، ووجب عليه القضاء قولا واحدا؛ لأنه فرط في ترك التحلل. [مسألة ما يجب على المحصر بتحلله والتعريف بأنواع الدماء] ] : وإذا أراد المحصر أن يتحلل فعليه أن يهدي شاة، وبه قال أحمد وأبو حنيفة. وقال مالك: (يتحلل، ولا شيء عليه) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . ومعنى الآية: فإن أحصرتم، فأردتم التحلل فما استيسر من الهدي. وروى جابر قال: «أحصرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية، فنحرنا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» .

ولأنه تحلل من نسكه قبل تمامه، فلزمه الهدي، كما لو تحلل بعد الفوات. فإن كان واجدا للهدي فعليه أن يخرجه، فإن كان في الحرم نحر هديه فيه وتحلل. وإن كان في الحل، فإن كان لا يمكنه إيصال الهدي إلى الحرم جاز أن يذبح هديه حيث أحصر، وإن كان يمكنه إيصاله إلى الحرم ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له ذبحه إلا في الحرم؛ لأنه يقدر على إيصاله إلى الحرم، فلزمه نحره فيه، كما لو أحصر فيه. والثاني: أنه بالخيار: بين أن يبعث به إلى الحرم، وبين أن يذبحه حيث أحصر؛ لأنه موضع تحلله، فهو كما لو لم يكن قادرا على إيصاله. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز للمحصر أن ينحر في الحل بحال، بل يلزمه إنفاذ الهدي إلى الحرم، فإذا وصل ونحر حينئذ يتحلل في الحل، فإن تحلل قبل نحر الهدي في الحرم لم يعتد به، وكان عليه الفدية) . دليلنا: ما روى ابن عمر قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه وهم محرمون بالعمرة، فلما بلغ الحديبية صده المشركون ومنعوه، فلما قاضى سهيل بن عمرو أمر أصحابه فنحروا وتحللوا» والحديبية حل، بدليل ما روي عن مجاهد: أنه قال: «نحر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هداياه تحت الشجرة» وهو: الموضع الذي بني مكانها المسجد، وهي الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان، وفيها نزل قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] [الفتح: 18] .

إذا ثبت هذا: فإنه ينحر الهدي، ثم يحلق: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . فأراد بـ: (المحل) : نحر الهدي. ولأن هدي المحصر قد أقيم مقام إكمال الأفعال لغير المحصر، ثم ثبت أن غير المحصر لا يتحلل قبل إكمال الأفعال، فكذلك المحصر لا يتحلل قبل نحر الهدي. ولا بد من نية الخروج من الإحرام أو التحلل منه؛ لأنه يخرج من العبادة قبل إكمالها بعذر، فاحتاج إلى نية الخروج، كالصائم إذا مرض واحتاج إلى الإفطار في أثناء النهار فإنه ينوي الخروج من الصوم ويفطر، كذلك هاهنا. فإن قيل: هدي المحصر عندكم يقوم مقام إكمال الأفعال لغير المحصر، وقد ثبت أن غير المحصر إذا أكمل أفعال النسك تحلل منها بغير نية، فهلا قلتم: لا يحتاج هاهنا إلى نية؟ قلنا: نحن وإن قلنا: إن الهدي يقوم مقام إكمال الأفعال فليس بإكمال؛ لأن من أكمل أفعال النسك فقد أتى بالنسك وسقط به الفرض، فلم يحتج إلى نية الخروج، كالصائم إذا أكمل الصوم إلى الليل فإنه يخرج منه بغير نية، وهاهنا خروج من العبادة قبل إكمالها بعذر، فافتقر إلى النية، كالصائم إذا مرض واحتاج إلى الإفطار بالنهار. ثم يحلق رأسه؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلق رأسه بالحديبية) . فإن قلنا: إن الحلق نسك حصل له التحلل بالهدي والنية والحلق. وإن قلنا: ليس بنسك حصل له التحلل بالهدي والنية لا غير. وإن كان عادما للهدي، بأن لم يكن معه هدي ولا ما يشتري به الهدي، أو كان معه الثمن ولم يجد هديا يشتريه فهل له بدل؟ فيه قولان:

أحدهما: لا بدل له - وبه قال أبو حنيفة - فيكون الهدي في ذمته إلى أن يجده؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . ولم يذكر بدله، ولو كان له بدل عند عدمه لذكره، كما ذكر في هدي المتمتع. والثاني: له بدل - وبه قال أحمد - وهو الصحيح: لأنه هدي يتعلق بالإحرام، فكان له بدل عند عدمه، كهدي التمتع والطيب واللباس وجزاء الصيد، وعدم ذكر بدله لا يمنع قياسه على غيره. فإذا قلنا: لا بدل له فهل له أن يتحلل قبل وجود الهدي؟ فيه قولان: أحدهما: (لا يجوز له أن يتحلل) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . [البقرة: 196] . ولم يفرق بين الواجد والعادم. والثاني: (له أن يتحلل) ؛ لأن المحصر إنما جعل له التحلل ليتخلص من مشقة الإحرام. فلو قلنا: لا يتحلل حتى يجد الهدي لأدى ذلك إلى المشقة العظيمة؛ لأنه ربما تعذر عليه الهدي زمانا طويلا. وإذا قلنا: إن لهدي المحصر بدلا، فما البدل فيه؟ فلذلك ثلاثة أقوال: أحدها: بدله الصيام - وبه قال أحمد - لأنه هدي للتحلل من الإحرام، فكان بدله الصوم، كهدي المتمتع. والثاني: بدله الإطعام؛ لأن الإطعام قيمة للهدي، فإذا عدم الهدي ولم ينص على بدله كان الانتقال إلى قيمته أولى من الانتقال إلى الصوم. والثالث: قال الشيخ أبو حامد - وهو من تخريج أصحابنا -: أنه مخير بين الصيام والإطعام؛ لأنه يتحلل ليترفه بقطع الشعر ولبس الثياب والطيب، فكانت كفارته على التخيير عند عدم الهدي، كفدية الأذى. فإذا قلنا: إن بدله الصيام ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: صوم التمتع، وهو عشرة أيام، وبه قال أحمد، وقد مضى دليله. والثاني: صوم التعديل؛ لأنه اعتبار للهدي بأصله، وهو الإطعام، ثم يصوم عن

كل مد يوما، فكان هذا أولى من اعتباره بغير أصله. والثالث: صوم فدية الأذى، وهو صوم ثلاثة أيام؛ لأنه أشبه به. وإن قلنا: بدله الإطعام ففيه وجهان: أحدهما: إطعام التعديل؛ لأن اعتبار الهدي بأصله. والثاني: إطعام فدية الأذى، وهو ثلاثة آصع لستة مساكين؛ لأنه أشبه به. وإذا قلنا: إنه مخير بين الصيام والإطعام خير بين صوم فدية الأذى وبين إطعامه؛ لأنه أقرب إليه. فإن أوجبنا عليه الإطعام وكان واجدا له أطعم وتحلل، وإن كان عادما له فهل له أن يتحلل قبل وجوده؟ فيه قولان، كالقولين في الهدي إذا قلنا: لا بدل له وإن قلنا: إن بدله الصيام فهل له أن يتحلل قبل الصيام، فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له أن يتحلل حتى يصوم، كما إذا كان واجدا للهدي. والثاني: له أن يتحلل قبل الصوم؛ لأن الصوم لا يمكنه جميعه في الحال، وإنما يأتي به يوما بعد يوم، ويشق عليه البقاء على الإحرام إلى الفراغ منه، بخلاف الهدي والإطعام. إذا ثبت ما ذكرناه: فالدماء المنصوص عليها في القرآن في الحج أربعة: أحدها: دم التمتع، وهو على الترتيب: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . ودم التمتع إنما وجب لترك النسك، وهو ترك الإحرام بالحج من ميقات بلده. فيقاس على هذا الدم والترتيب فيه كل دم وجب لترك النسك، وهي ثمانية دماء: أربعة دماء لم يختلف قول الشافعي في وجوبها، وهي: دم القران، ودم الفوات، ودم من ترك الرمي، ودم من أحرم من دون الميقات. وأربعة دماء اختلف قول الشافعي في وجوبها:

أحدها: إذا دفع من عرفة قبل الغروب، ولم يعد إليها. الثاني: إذا ترك المبيت بالمزدلفة. الثالث: إذا ترك المبيت بمنى ليالي الرمي. الرابع: إذا ترك طواف الوداع. فإذا أوجبنا هذه الدماء كانت كدم التمتع في الترتيب. والثاني - من الدماء المنصوص عليها في القرآن -: دم فدية الأذى، وهو على التخيير؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . والدم المنصوص عليه في هذه الآية هو دم الحلق، عند عامة أصحابنا. وتقدير الآية: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه، فحلق ففدية. وكل دم وجب لأجل الترفه، كقص الأظفار، والطيب، واللباس، واللمس، والقبلة بشهوة، والوطء فيما دون الفرج فهو مقيس على حلق الرأس على التخيير: بين إخراج الشاة، أو إطعام ستة مساكين ثلاثة آصع، أو صوم ثلاثة أيام. وقال أبو إسحاق: دم الطيب واللباس منصوص عليه في الآية، وليس بمقيس على حلق الرأس. وتقدير الآية عنده: فمن كان منكم مريضا، فلبس، أو تطيب، أو به أذى من رأسه، فحلق ففدية: من صيام، أو صدقة، أو نسك. وحكى الشيخ أبو حامد: أن من أصحابنا من قال: دم الطيب، واللباس، واللمس، والقبلة بشهوة، والوطء فيما دون الفرج، على الترتيب: فيجب الدم، فإن لم يجد فالإطعام، فإن لم يجد فصوم التعديل. وقال: وليس هذا بشيء. وأما أبو علي الطبري والمسعودي [في " الإبانة " ق \ 213] : فذكرا له في دم الطيب واللباس قولين:

أحدهما: أنه على التخيير كالدم الواجب بحلق الرأس. والثاني: أنه على الترتيب. واختاره المسعودي [في " الإبانة " ق \ 213]- فيجب الدم، فإن لم يجده قومه دراهم والدراهم طعاما وتصدق على كل مسكين بمد، فإن لم يجد صام عن كل مد يوما. ولم يذكر له دليلا، والأول هو المشهور. والدم الثالث - من الدماء المنصوص عليها في القرآن -: دم جزاء الصيد، وهو على التخيير. وقال أبو ثور: (هو على الترتيب) ، وليس بشيء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] [المائدة: 95] . فخيره بين المثل والإطعام والصيام. قال أصحابنا: وهذا الدم أصل لا فرع له يرد إليه؛ لأن ضمان الصيد يجري مجرى ضمان الأموال، ألا ترى أن جزاء الصيد يختلف باختلاف الصيد في كبره وصغره؟ وليس في الحج دم آخر ضمانه كضمان الأموال حتى يرده إليه. قلت: ولو رد الجزاء في إتلاف شجر الحرم إلى جزاء الصيد كان محتملا؛ لأن ضمانه ضمان الأموال، بدليل: أنه يختلف بصغره وكبره، ولكني لم أجده لأحد من أصحابنا. والدم الرابع - من الدماء المنصوص عليه في القرآن في الحج -: وهو دم الإحصار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . وهذا الدم أصل لا فرع له فيرد إليه، فإن كان واجدا للهدي أخرجه، وإن كان عادما فهل له بدل؟ فيه قولان، مضى ذكرهما.

مسألة إحصار المريض والنصوص التي يجوزالقياس عليها

وأما دم إفساد الحج بالوطء: فمأخوذ من السنة، والمنصوص: (أنه على الترتيب) . وحكى أبو إسحاق قولا آخر: أنه على التخيير، وقد مضى ذكره. [مسألة إحصار المريض والنصوص التي يجوزالقياس عليها] مسألة: [إحصار المريض والنصوص التي يجوز القياس عليها] : وإذا أحرم بالحج فمرض لم يكن له أن يتحلل، سواء كان مرضه قليلا أو كثيرا، فإن أمكنه أن يمضي في طريقه فعل، وإلا أقام حتى يفوته الحج، ثم يتحلل بطواف وسعي، ويقضي. وبه قال ابن عباس وابن عمر، ومن الفقهاء مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: (للمريض أن يتحلل من إحرامه) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] . فظاهر الآية: أن من دخل بهما فعليه إتمامهما بكل حال حتى تقوم دلالة التخصيص، فخص المحصر بالعدو بجواز التحلل بقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وبقي فيما سوى ذلك على الوجوب. وروى ابن عباس وابن الزبير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على ضباعة بنت الزبير، فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج، وإني شاكية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أحرمي واشترطي: أن محلي حيث حبستني» . فلو كان المريض يجوز له أن يتحلل

بالمرض لبين لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك، ولما أمرها بالشرط في ذلك بالإحرام. ولأنه لا يتخلص بالتحلل من إيذاء المرض، فلم يجز له التحلل، كما لو أحرم فضل الطريق. ويخالف التحلل لأجل العدو؛ لأنه يتخلص بالتحلل من أذى العدو ومقاساته، وينصرف إلى أهله ووطنه. وهذا المعنى لا يوجد في المرض فلم يقس عليه؛ لأن ما خصه الله أو رسوله بالذكر ونص فيه على حكم على ثلاثة أضرب: ضرب: لا يعقل معناه، ولا يجوز القياس عليه، وذلك مثل: أعداد الركعات وأوقاتها، ولذلك لم يقس عليها وجوب صلاة سادسة. وضرب: يعقل معناه، ولم يوجد ذلك المعنى في غيره، مثل: المسح على الخفين؛ لأن معناه: أن الحاجة تدعو إلى لبسهما، وتلحق المشقة في نزعهما، وهذا لا يوجد في العمامة والقفازين؛ لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسهما، وإن دعت الحاجة إلى لبسهما فيمكن المسح على الرأس من تحت العمامة. وكذلك التحلل من الإحرام لأجل الإحصار بالعدو عقل معناه، وهو: التخلص من العدو بالتحلل، وهذا المعنى لا يوجد في المرض. وكذلك تحريم الربا في الذهب والفضة عقل معناه، وهو: أنهما قيم الأشياء، ولم يوجد هذا المعنى في غيرهما، فلم يقس عليهما غيرهما من الحديد والرصاص وغير ذلك في تحريم الربا فيه.

مسألة إحرام العبد وتحليله

وضرب: عقل معناه، ووجد ذلك المعنى في غيره، فيجوز القياس عليه، وذلك مثل: ما نص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على تحريم الربا في الحنطة والشعير والتمر والملح. والمعنى المعقول - عندنا -: هو كونه مطعوم جنس، فقسنا عليه: الذرة والأرز وغيرهما من المطعومات. [مسألة إحرام العبد وتحليله] ] : لا يجوز للعبد أن يحرم بالحج أو بالعمرة أو بهما بغير إذن سيده؛ لأن منافعه مستحقة لسيده فلا يجوز تفويتها عليه بغير إذنه. فإن أحرم بغير إذنه فقد ذكرنا: أنه يصح، خلافا لأهل الظاهر. ودليلنا: أنه مكلف فصح إحرامه كما لو أحرم بالصوم بغير إذن سيده. إذا ثبت هذا: فالمستحب للسيد أن يدعه لإتمامه؛ لأنه قربة وطاعة، فإن أراد السيد تحليله منه وإخراجه كان له ذلك؛ لأن منافعه ملك له، فلا يلزمه إتلافها بغير رضاه. فإذا منعه من إتمامه صار كالمحصر، فإن ملكه السيد مالا وقلنا: إنه يملك تحلل بالهدي وإن لم يملكه، أو ملكه وقلنا: إنه لا يملك فهو كالحر المعسر بالهدي إذا أحصر بالعدو، وهل للهدي بدل؟ فيه قولان. فإذا قلنا: له بدل ففي بدله ثلاثة أقوال، على ما مضى. وإذا قلنا: لا بدل له فإن الهدي ثبت في ذمته إلى أن يعتق.

فرع رجوع السيد بإذنه لعبده في الإحرام

وهل له أن يتحلل قبل إخراج الهدي؟ أو إذا قلنا: إن بدله الصوم هل له أن يتحلل قبل الفراغ من الصوم؟ نص الشافعي: أنه على قولين، كالحر المعسر. وقال أبو إسحاق: يتحلل العبد قبل أن يجد الهدي، وقبل أن يصوم قولا واحدا، والفرق بينه وبين الحر المعسر: أن الحر إذا بقي على إحرامه دخل الضرر على نفسه دون غيره، فلذلك جاز أن يبقى على إحرامه، والعبد إذا تركناه على إحرامه دخل الضرر على السيد؛ لأنه لا يمكنه استعماله في ذبح الصيد وعمل الطيب وما أشبهه، ولأن وجود الهدي يقرب من الحر؛ لأنه ممن يملك، ويمكنه أن لا يتحلل حتى يجد الهدي بابتياع أو اتهاب، والعبد يحتاج إلى أن يصبر إلى أن يعتق، ثم يوسر، وفي هذا مشقة. وهذا الحكم في المدبر وأم الولد والمعلق عتقه بصفة. [فرع رجوع السيد بإذنه لعبده في الإحرام] ] : وإن أحرم العبد بإذن المولى وجب عليه أن يمكنه من إتمامه، فإن رجع السيد في الإذن بعد الإحرام لم يكن له تحليله. وقال أبو حنيفة: (له أن يحلله) . دليلنا: أنه عقد لازم بإذن المولى فلم يملك إخراجه منه، كالنكاح. وفيه احتراز: من المضاربة، والشركة، والعارية. وإن رجع السيد في الإذن قبل أن يحرم العبد، فإن علم العبد برجوعه ثم أحرم كان كما لو أحرم بغير إذنه، على ما مضى؛ لأن إذنه الأول قد أبطله قبل الدخول فيه، وإن لم يعلم العبد بالرجوع فأحرم فهل له أن يحلله؟ فيه وجهان، بناء على القولين في بيع الوكيل بعد العزل وقبل علم الوكيل بالعزل.

فرع بيع السيد عبده المحرم

[فرع بيع السيد عبده المحرم] وإن أذن السيد لعبده بالإحرام فأحرم، ثم باعه قبل التحلل صح البيع؛ لأن الإحرام لا يمنع التسليم. فإن علم المشتري بذلك فلا خيار له، وإن لم يعلم فله الخيار في فسخ البيع؛ لأن بقاءه على الإحرام يضر بالمشتري. وقال أبو حنيفة: (لا خيار له؛ لأنه عبده، له أن يحلله، كما لو كان لبائعه) . وقد مضى الدليل عليه. فأما إذا أحرم بغير إذن سيده ثم باعه لم يكن للمشتري الخيار في فسخ البيع، سواء علم بإحرامه أو لم يعلم؛ لأن له أن يحلله كما كان للبائع أن يحلله فقام المشتري مقامه في ذلك. [فرع سفر المكاتب للحج والعمرة] ] : وأما المكاتب: فإذا أراد أن يسافر للحج والعمرة فهل للسيد منعه من ذلك؟ فيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان كالسفر للتجارة. و [الثاني] : منهم من قال: له أن يمنعه من سفر الحج والعمرة قولا واحدا؛ لأن السفر للتجارة يقصد به زيادة المال، وفي سفر الحج إتلاف المال من غير زيادة. [مسألة الحج للزوجة] إذا أرادت الزوجة أن تسافر لحج التطوع أو تحرم به فللزوج منعها منه؛ لأن حقه واجب عليها، فلا يجوز لها تفويته عليه بما ليس بواجب عليها. وإن أرادت أن تسافر

لحجة الإسلام أو تحرم بها فهل للزوج منعها من ذلك؟ فيه قولان حكاهما ابن الصباغ، والمسعودي [في " الإبانة " ق \ 211 و 212] : أحدهما: ليس له منعها من ذلك - وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» . وهذا عام في المسجد الحرام وغيره. ولأنه لا يجوز للزوج منعها من الصلاة المفروضة في أول الوقت وإن كان يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت، فكذلك الحج الواجب. والثاني: له أن يمنعها من ذلك - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره - لما روى الدارقطني بإسناده، عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في امرأة لها زوج ولها مال ولم يأذن لها في الحج، قال: " ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها» . ولأن الحج - عندنا - على التراخي، وحق الزوج على الفور، فكان مقدما، كالعدة تقدم على الحج. ويخالف الصلاة في أول الوقت؛ لأن مدتها يسيرة، فلا يستضر الزوج بذلك، بخلاف الحج. فإن أذن لها الزوج فأحرمت لزمه تمكينها من إتمامه فرضا كان أو تطوعا؛ لأنه يلزم بالدخول. وإن أحرمت بغير إذنه صح إحرامها فرضا كان أو تطوعا، وهل يجوز للزوج أن يمنعها من إتمامه ويطالبها بالتحلل؟ ينظر فيه: فإن كان في حجة الإسلام، فإن قلنا: لا يجوز له منعها من الدخول فيه لم يكن له تحليلها منه. وإن قلنا: له منعها من الدخول فيه فهل له منعها من إتمامه؟ فيه قولان: أحدهما: له أن يحللها منه؛ لأن له منعها من الدخول فيه، فكان له تحليلها كالأمة.

فرع الحج والعمرة وإذن الوالدين

والثاني: ليس له تحليلها؛ لأنه كان له منعها منه ما لم يكن مضيقا عليها، بل هو على التراخي، فأما إذا أحرمت فيه فقد تضيق عليها وتعين عليها. وإن كان الحج تطوعا فقد قال الشافعي: (ومن قال: ليس له أن يحللها من حجة الإسلام إذا أحرمت به يلزمه أن يقول: إذا أحرمت بتطوع لم يكن له أن يحللها منه) . فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان، كحجة الإسلام؛ لأن حجة التطوع تلزمه بالدخول، كحجة الإسلام. ومنهم من قال: له أن يحللها من حج التطوع قولا واحدا - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق في " المهذب " - كما يجوز له أن يحللها من صوم التطوع، وما ذكره الشافعي في حجة التطوع، فإنما ذكره تشنيعا على قول من قال: ليس له منعها من إتمام حجة الإسلام، وتضعيفا له، لا أنه مذهب له في حج التطوع. [فرع الحج والعمرة وإذن الوالدين] ] : فأما إذا أراد أن يسافر للحج أو العمرة وله والدان أو أحدهما، فإن كان لحج واجب: إما حجة الإسلام أو النذر أو قضاء عليه لم يكن لهما ولا لأحدهما منعه منه؛ لأن هذا واجب عليه، وطاعة الوالدين مستحبة مندوب إليها، فلا يجوز له أن يترك الواجب بالمستحب. وإن كان لحج تطوع كان لهما ولكل واحد منهما منعه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا يجاهد معه، فقال: " ألك والدان؟ " فقال: نعم، فقال: " استأذنتهما؟ "، فقال: لا، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ففيهما فجاهد ".

مسألة الإحرام مع الشرط

وفي رواية: تركتهما وهما يبكيان، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارجع إليهما فأضحكهما، كما أبكيتهما» فإذا كان ذلك في الجهاد الذي هو فرض ففي حج التطوع أولى. فإن أحرم بغير إذنهما، أو بغير إذن أحدهما، فإن كان في حج واجب لم يكن لهما تحليله؛ لأنهما لا يجوز لهما منعه من الدخول فيه، فلم يكن لهما منعه من إتمامه. وإن كان لحج تطوع فهل لهما تحليله منه؟ فيه قولان: أحدهما: لهما منعه من إتمامه ومطالبته بالتحلل منه؛ لأن لهما منعه من الدخول فيه، فكذلك من إتمامه، كالسيد مع عبده. والثاني: ليس لهما منعه من إتمامه؛ لأنه صار بالدخول فيه واجبا عليه، فلم يكن لهما منعه من إتمامه كحجة الإسلام، ويفارق السيد مع عبده؛ لأنه يملك رقبته ومنفعته. [مسألة الإحرام مع الشرط] ] : إذا أحرم واشترط في إحرامه التحلل لغرض صحيح، مثل: أن يقول: متى مرضت، أو ضاعت نفقتي، أو ضللت عن الطريق، أو خفت الفوات، أو أخطأت العدد تحللت فهل يجوز هذا الشرط ويتعلق به الحكم؟ قال الشافعي في القديم: (يجوز ذلك) ، وقال في الجديد: (إن صح حديث ضباعة قلت به) واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يصح هذا الشرط، ولا يتعلق به حكم - وبه قال مالك وأبو حنيفة - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] .

ولم يفرق بين أن يشترط أو لا يشترط إلا فيما خصه الدليل. ولأن كل عبادة جاز الخروج منها بالشرط جاز الخروج منها بغير الشرط، كالصوم لما جاز له أن يخرج منه إذا شرط الخروج بالمرض في البلد جاز أن يخرج منه إذا مرض وإن لم يشرط. والصلاة لما لم يجز أن يخرج منها بغير شرط لم يجز أن يخرج منها بالشرط. وكذلك الإحرام قد ثبت أنه: لا يجوز الخروج منه بعذر بغير شرط، فكذلك لا يجوز الخروج منه بشرط. والقول الثاني: أنه يجوز هذا الشرط ويتعلق به الحكم - وهو الصحيح - لما روي: «أن ضباعة بنت الزبير قالت: يا رسول الله إني أريد الحج وإني شاكية، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أحرمي واشترطي أن محلي حيث حبستني» . ولأن الإحرام يجب به النسك كما يجب بالنذر، ثم إذا شرط في النذر أن يصوم إن كان صحيحا حاضرا صح شرطه، فكذلك إذا شرطه في الإحرام. ومنهم من قال: يصح هذا الشرط ويتعلق به الحكم قولا واحدا؛ لأن الشافعي إنما علق القول في الجديد على صحة حديث ضباعة وقد صح. إذا ثبت هذا: قال ابن الصباغ: فإن شرط أن يتحلل بالهدي تحلل به، وإن شرط أنه يتحلل من غير هدي تحلل بغير هدي، وإن شرط أنه إذا مرض صار حلالا، فمرض فالمنصوص: (أنه يصير حلالا) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كسر أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى» ولا يمكن حمل الخبر إلا على هذا. ولأن

مسألة الردة بعد الحج

هذا التحلل مستفاد بالشرط، فوجب أن يكون على حسب الشرط ومقتضاه. ومن أصحابنا من قال: إنه لا بد من التحلل؛ لأن أصل هذا: هو حصر العدو، والمحصر بالعدو لا يخرج من إحرامه إلا بالتحلل، كذلك هذا مثله. قال الشيخ أبو حامد: وإذا وجد الشرط فهل يجب عليه الهدي؟ فيه وجهان: أحدهما: عليه الهدي؛ لأن الأصل في الإحصار هو حصر العدو، والمحصر بالعدو إنما يتحلل بالهدي، فكذلك هذا مثله. والثاني - وهو المنصوص -: أنه لا هدي عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لضباعة: «أحرمي واشترطي أن محلي حيث حبستني» ولم يأمرها بالهدي، وهذا وقت حاجتها إلى البيان، فلما لم يبين علم أنه ليس بواجب. ولأنه إذا شرط التحلل بالعذر فإحرامه لم يتضمن من الأفعال إلا إلى وقت العذر، فإذا وجد ذلك العذر فقد انتهت أفعال نسكه، فخروجه عن الإحرام هو بعد انتهاء أفعال النسك، فجرى مجرى غير المحصر، إذا أكمل أفعال النسك وخرج منها لا هدي عليه، كذلك هذا مثله. ويفارق هذا المحصر بالعدو؛ لأن إحرامه يتضمن أفعال النسك، فإذا تحلل بالحصر لزمه الدم لأجل ما ترك من أفعال النسك. وظاهر كلام صاحب " المهذب ": هو الوجه الأول. فأما إذا شرط في إحرامه: أنه إذا شاء تحلل لم يصح هذا الشرط قولا واحدا؛ لأنه خروج من غير عذر فلم يصح. [مسألة الردة بعد الحج] ] : إذا حج المسلم حجة الإسلام، ثم ارتد عن إسلامه لم يحبط عمله بنفس الردة، بل يكون مراعى، فإن قتل أو مات على الردة حكمنا بانحباط عمله، وإن أسلم لزمه قضاء ما فاته في حال الردة من الصلاة والصيام، وحجه قبل الردة صحيح لا يجب عليه قضاؤه.

وذهب مالك وأبو حنيفة إلى: أن بنفس الردة يحبط عمله، فإذا أسلم لم يجب عليه قضاء الصلوات والصيام وكان عليه قضاء الحج. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] [البقرة: 217] . فأخبر: أن عمله إنما يحبط بالردة والموت عليها. فمن قال: يحبط بنفس الردة فقد خالف نص الآية. ويدل على ذلك «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأقرع بن حابس، حين قال له: الحج في الدهر مرة واحدة أو أكثر يا رسول الله؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بل مرة، وما زاد هو تطوع» . وإن أحرم، ثم ارتد، ثم أسلم ففيه وجهان: أحدهما: يبطل إحرامه؛ لأنه إذا بطل الإسلام الذي هو أصل فلأن يبطل الإحرام الذي هو فرع أولى. والثاني: لا يبطل، كما لا يبطل بالجنون والموت، فيبني عليه. وبالله التوفيق

باب الهدي

[باب الهدي] يستحب للحاج والمعتمر أن يهدي إلى مكة شيئا من بهيمة الأنعام - وهي: الإبل والبقر والغنم - لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى مائة بدنة» وروي: (أنه أهدى مرة غنما) . فإن نذر ذلك وجب عليه؛ لأنه قربة فلزمه بالنذر. فإن كان ما يهديه من الإبل أو البقر فالسنة أن يقلدها ويشعرها. و (التقليد) : هو أن يعلق في رقبتها نعلين. و (الإشعار) : هو أن يشق صفحة سنامها الأيمن بحديدة حتى يدميها ويمسح بالدم على السنام. وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف، إلا أن مالكا وأبا يوسف قالا: (يشعرها في شق صفحة سنامها الأيسر) . وقال سعيد بن جبير: لا يشعر البقر، وبه قال مالك إذا لم يكن لها سنام. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز الإشعار) .

دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنه فأشعرها بصفحة سنامها الأيمن، وسلت عنها الدم بيده، ثم قلدها نعلين، ثم أتى براحلته، فلما قعد عليها واستوت به على البيداء أهل بالحج» . وروى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساق مائة بدنة، فقلدها وأشعرها» . ولأنها ربما ندت واختلطت بمال الغير فتتميز بذلك. ولأن اللص إذا رآها مشعرة تجنب أخذها. وربما عطبت ونحرت فتكون علامة لمن أراد أخذ لحمها. وإن كان الهدي من الغنم فالسنة أن يقلدها في رقابها خرب القرب - وهي: عرى القرب الخلقة اليابسة - ولا يقلدها النعال؛ لأن ذلك يثقلها ولا يشعرها؛ لأنها تضعف عنه، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يقلدها) . دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى غنما مقلدة» . فإن ترك الإشعار والتقليد جاز؛ لأن ذلك يراد للتمييز. وإذا أشعر هديه أو قلده فإنه لا يصير بذلك محرما حتى ينوي الإحرام. وقال ابن عباس: (إذا قلد هديه صار بذلك محرما) .

مسألة جواز الذكر وأفضلية الأنثى والفحل في الهدي

دليلنا: ما روي عن عائشة: أنها قالت: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان يقلدها بيده، وكان لا يجتنب شيئا يجتنبه المحرم» . ولأن هذا متجرد عن نية الإحرام، فلم يصر به محرما، كالاغتسال والتجرد عن المخيط. [مسألة جواز الذكر وأفضلية الأنثى والفحل في الهدي] ] : ويجزئ الذكر والأنثى؛ لأن القصد منه اللحم، والذكر أكثر لحما من الأنثى. ويفارق الزكاة حيث قلنا: لا يجوز الذكر؛ لأن القصد أن يحصل للمساكين الدر والنسل، وهذا لا يوجد في الذكر. قال الشافعي: (والأنثى أحب إلي من الذكر؛ لأنها أطيب لحما وأرطب، والضأن أحب إلي من المعز؛ لأن الضأن أطيب لحما) . قال: (والفحل أحب إلي من الخصي؛ لأن الخصي ناقص) . ولم يرد بـ (الفحل) : المعد للضراب؛ لأن ذلك يهزله ويضره، فلا يكون لحمه طيبا، وإنما يريد: الذي لا ينزو على الإناث. [مسألة التصرف بالهدي ومنعه] ] : فإن كان الهدي تطوعا فهو باق على ملكه، له أن يتصرف فيه بما شاء من وجوه التصرفات؛ لأنه لم يوجد منه إلا نية الصدقة، فهو كما لو نوى أن يتصدق بدرهم بيده، أو يعتق عبدا يملكه.

فرع ركوب الهدي المنذور والانتفاع بلبنه وصوفه

وإن كان الهدي نذرا زال ملكه عنه بالنذر، فلا يجوز له التصرف فيه بالبيع والهبة. وقال أبو حنيفة: (لا يزول ملكه عنه، ويجوز له التصرف فيه بالبيع والهبة وغير ذلك، لكن إن باعه اشترى بثمنه هديا مثله) . دليلنا: ما روى عبد الله بن عمر: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله: إني أهديت نجيبا فأعطيت به ثلاثمائة دينار، أفأبيعه وأبتاع بثمنه بدنا؟ فقال: " لا، انحره» فمنعه من بيعه، وأمره بنحره. فلو جاز البيع لأمره به؛ لأن النجيب دقيق البدن قليل اللحم، والبدنة أكثر لحما منه، وأنفع للمساكين. [فرع ركوب الهدي المنذور والانتفاع بلبنه وصوفه] ] : وإذا نذر هديا فساقه وكان مما يركب، فإن كان غير مضطر إلى ركوبه لم يجز له ركوبه؛ لأن الملك فيه لغيره، فلم يجز له الانتفاع به بغير إذن مالكه. وإن اضطر إلى ركوبه جاز له ركوبه، وله أن يركبه من إعياء وإن نقص منه شيء بالركوب ضمنه. وقال أبو حنيفة: (ليس له أن يركبه) . دليلنا: «ما روى أبو الزبير قال: سألت جابرا عن ركوب الهدي، فقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا» هذا نقل البغداديين من أصحابنا.

وذكر المسعودي [في " الإبانة " ق \ 215] : هل له أن يركبه؟ فيه وجهان، إن كان الركوب لا يضر الهدي. وإن كان الهدي المنذور أنثى فولدت تبعها الولد ونحر معها، سواء حملت به بعد النذر أو كانت حاملا به عند النذر؛ لما روي: أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها، فقال: (لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها، فإذا كان يوم النحر فاذبحها، واذبح ولدها معها) . ولأن الولد نماء الأم، وهي ملك للمساكين فملكوا ولدها. فإن أمكنه سوق الولد مع الأم ساقه، وإن لم يمكنه سوقه حمله على ظهر أمه؛ لما روي: (أن ابن عمر كان يحمل ولد البدنة عليها إلى أن يضحي) . ويسقي الولد لبن أمه، فإن كان اللبن وفق كفاية الولد لم يجز للمهدي شرب شيء منه. وإن فضل عن كفاية الولد شيء، أو مات الولد وبقي اللبن كان للمهدي شربه. فإن قيل: الولد نماء الأم، واللبن نماؤها فكيف جاز للمهدي شرب اللبن دون أكل الولد؟ قلنا: الفرق بينهما من وجوه: أحدها: أن بقاء اللبن في الأم يضر بها، وبقاء الولد لا ضرر فيه عليها. والثاني: أن اللبن يستخلف، فما يتلفه يعود غيره، فدخلت فيه المسامحة. والثالث: أن اللبن لو جمع لفسد وبطلت منفعته، بخلاف الولد. هذا نقل أصحابنا البغداديين.

فرع لا يضمن الهدي بنحره لإحصار ونحوه

وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 215] : من أصحابنا من قال: في اللبن وجهان، كالركوب، وليس بشيء. وقال أبو حنيفة: (ليس له شرب لبنها، وإنما ينضح ضرعها بالماء حتى يجف لبنها) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 33] [الحج: 33] . واللبن من المنافع لحديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. والمستحب: أن يتصدق باللبن؛ ليحصل له القربة بها، وبما يحدث منها. وإن كان على الهدي صوف، فإن كان في تركه مصلحة له، بأن يكون في وقت البرد لم يجزه؛ لأنه ينتفع به الهدي والمساكين. وإن كان في جزه مصلحة، بأن يكون في وقت الحر جزه، والأولى أن يتصدق به، فإن انتفع به المهدي جاز كاللبن. [فرع لا يضمن الهدي بنحره لإحصار ونحوه] ] : إذا قال: لله علي أن أهدي هذه البدنة أو هذه الشاة إلى مكة فساقها، ثم أحصر في الطريق ذبحها حيث أحصر من حل أو حرم لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر هديه بالحديبية) . وهي حل. وإن تلف من غير تفريط لم يجب عليه ضمانه؛ لأنه أمانة

مسألة عطب الهدي ونحره ولمن يحل أكله

في يده، فلم يضمنه من غير تفريط، كالوديعة. وإن أصابه عيب ذبحه ولم يجب عليه بدله؛ لأنه لو هلك جميعه لم يجب عليه بدله فكذلك إذا هلك بعضه. وقال أبو جعفر الأستراباذي من أصحابنا: يجب عليه إبداله سليما. وهو قول أبي حنيفة - وليس بشيء. [مسألة عطب الهدي ونحره ولمن يحل أكله] ] : وإن عطب الهدي وخاف أن يهلك نظرت: فإن كان تطوعا فله ذبحه وأكله وإطعام من شاء منه من غني وفقير، وله ترك ذبحه إلى أن يموت ولا شيء عليه في ذلك لأنه ملكه. وإن كان نذرا معينا نحره وصبغ نعليه بدم جوفه، وضرب به على صفحة سنامه ليعلم أنه هدي، وخلى بينه وبين المساكين؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث مع رجل من أسلم ثماني عشرة بدنة إلى مكة هديا، فقال له الأسلمي: يا رسول الله أرأيت إن زحف منها شيء - يعني: ضعف عن المشي - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " انحرها، واصبغ نعليها بدم جوفها، واضرب بهما على صفحة سنامها، وخل بينها وبين المساكين، ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك منها شيئا» ولأنه هدي صار مصدودا عن الحرم، فوجب نحره في موضع الصد كهدي المحصر.

إذا ثبت هذا: فلا يجوز للمهدي أن يأكل منه؛ لأنه واجب عليه، ولا يجوز لأغنياء رفقته؛ لأن الهدي لا حق فيه للأغنياء. قال ابن الصباغ: وكذلك سائقه وقائده، ولا يختلف المذهب: أنه لا يحل له الأكل منه. وأراد: وإن كان فقيرا؛ لأنه متهم في التقصير بعلفه وسقيه. وهل يجوز لفقراء رفقته أن يأكلوا منه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لحديث ابن عباس، ولأن فقراء الرفقة متهمون في إعطابه طمعا في أكله، فحسم الباب لينحسم طمعهم فيه. والثاني: يجوز؛ لأنهم فقراء، فشابهوا غيرهم. ومن قال بهذا حمل الخبر على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أن تلك الرفقة لا فقير فيها. إذا ثبت هذا: فإن الهدي لا يصير للفقراء مباحا إلا باللفظ، وهو أن يقول: أبحته

فرع إتلاف الهدي بسبب منه

للفقراء والمساكين؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر بدنا له، وقال: " ليقتطع من شاء منكم» وإنما لم يصر مباحا إلا بالقول؛ لأن له أن يخص به من شاء من الفقراء، كما قلنا في الزكاة. فإذا أذن المالك جاز لمن سمع الإذن أو علمه أن يأخذ منه، وأما من لم يسمع الإذن ولا أخبر به فهل يجوز له أن يأخذ منه إذا وجده مذبوحا مشعرا؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: لا يحل له حتى يعلم الإذن لجواز أن يكون تطوعا، أو كان واجبا وأراد أن يخص به بعض الفقراء. والثاني: يحل له وإن لم يعلم الإذن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أمر بهذه العلامة من الدم لهذه العلة، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث الأسلمي لم يأمره أن يخص به قوما دون قوم. وإن أخر ذبحه حتى مات وجب عليه الضمان؛ لأنه فرط بتركه، فلزمه الضمان، كالمودع إذا رأى من يسرق الوديعة فسكت عنه. فإن قيل: أليس لو نذر عتق عبد، فأخر إعتاقه حتى مات لم يجب عليه ضمانه؟ قلنا: الفرق بينهما: أن المستحق للعتق هو العبد وقد تلف، وهاهنا المستحق للهدي هم الفقراء، وهم مجودون. [فرع إتلاف الهدي بسبب منه] ] : وإن أتلف المهدي الهدي لزمه ضمانه؛ لأنه أتلف مال المساكين ويضمنه بأكثر الأمرين: من قيمته أو هدي مثله.

وقال مالك وأبو حنيفة: (يجب عليه قيمته يوم التلف) . دليلنا: أنه لزمه الإراقة والتفرقة وقد فوت الجميع، فلزمه ضمانهما، كما لو أتلف شيئين. فإن كانت القيمة مثل ثمن مثله اشترى بها هديا مثله. وإن كان الثمن أقل من قيمة هدي مثله لزمه أن يشتري مثله. وإن كانت أكثر، فإن أمكنه أن يشتري بها هديين مثله اشترى بها هديين، وإن لم يمكنه اشترى هديا مثله، وفي الفاضل ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يشتري جزءا من حيوان؛ لأن الإراقة مستحقة وقد فوتها، فإذا أمكنه لم يتركها. والثاني: يشتري به اللحم ويتصدق به؛ لأنه أقرب. والثالث - وهو الصحيح -: أنه يتصدق بالقيمة؛ لأن الإراقة تشق، فسقطت فكان إيجاب القيمة أولى من دفع اللحم. وإن أتلفه أجنبي وجبت عليه القيمة يوم التلف لا غير، والفرق بينه وبين المهدي: أن المهدي وجبت عليه الإراقة، وهذا لم تجب عليه الإراقة، فإن أمكنه أن يشتري بالقيمة هديا مثله اشترى بها، وإن رخص الهدي وقت الشراء فأمكنه أن يشتري بالقيمة هديين مثله اشترى بها هديين، وإن أمكنه أن يشتري بها هديا مثله وبقي هناك بقية لا يمكنه أن يشتري بها هديا آخر ففي البقية الأوجه الثلاثة. وهكذا لو لم يمكنه أن يشتري بالقيمة هديا مثله؟ بأن غلا الهدي وقت الشراء فقد ذكرنا: أنه لا يلزمه إلا القيمة فقط، وفيما يصنع بها الأوجه الثلاثة. وإن اشترى هديا ونذر إهداءه، ثم وجد به عيبا لم يكن له رده، كما لو اشترى عبدا وأعتقه، ثم وجد به عيبا. فعلى هذا: يرجع بالأرش كما قلنا في العبد، وفيما يأخذه من الأرش وجهان: [أحدهما] : قال عامة أصحابنا: يصرفه إلى المساكين؛ لأنه بدل عن الجزء الفائت الذي التزمه بالنذر، فإن لم يمكنه أن يشتري به هديا ففيه الأوجه الثلاثة.

مسألة موضع نحر الهدي بأنواعه ووقته

و [الثاني] : قال ابن الصباغ: يكون المشتري أحق به؛ لأن الأرش إنما وجب له؛ لأن عقد البيع اقتضى سلامته وذلك حق للمشتري، وإنما أوجبه وهو في ملكه، فلا يستحق الفقراء ما أوجبه عقد الشراء. ولأن العيب قد لا يؤثر في اللحم، فلا يكون ذلك مؤثرا في المقصود. [مسألة موضع نحر الهدي بأنواعه ووقته] ] : وإذا كان مع المعتمر هدي، فإن كان تطوعا مثل: أن اعتمر في غير أشهر الحج، أو في أشهر الحج لكنه لا يريد الحج من سنته، أو أراده ولكنه من أهل مكة، أو مقيم بها فكل هؤلاء لا دم عليهم. فإذا أراد أن يذبح كان تطوعا، وموضع نحره في الاختيار عند المروة؛ لأنه موضع تحلله، وذلك إذا أكمل السعي. فإن قلنا: إن الحلاق ليس بنسك فقد تحلل من عمرته. وإن قلنا: إن الحلاق نسك لم يتحلل إلا به؛ إلا أن المستحب أن ينحر قبل الحلق، كما أن السنة للحاج: أن ينحر بمنى بعد الرمي وقبل الحلق. وفي أي موضع من مكة والحرم نحر فيه أجزأه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «منى وفجاج مكة كلها منحر» . وإن كان الهدي للتمتع أو للقران فوقت استحباب ذبحه يوم النحر، ووقت جوازه بعد الفراغ من العمرة، وبعد الإحرام بالحج، وهل يجوز ذبحه بعد الفراغ من العمرة، وقبل الإحرام بالحج؟ فيه قولان مضى ذكرهما.

مسألة استحباب الذبح لصاحب الهدي وأجرة الجازر

وإن كان الهدي منذورا نحره يوم النحر وأيام التشريق، فإن أخره عن ذلك نحره بعد ذلك وكان قضاء. وإن أخر التطوع عن يوم النحر وأيام التشريق لم يكن هديا، وإنما يكون شاة لحم. [مسألة استحباب الذبح لصاحب الهدي وأجرة الجازر] وما يفعل باللحم] : والمستحب للإنسان: أن يتولى ذبح هديه بنفسه؛ لأنه قربة، فإن أمر غيره بذلك ممن تصح ذكاته جاز لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر بعض هداياه، وأعطى عليا فنحر ما بقي منها» . فإن دفع الهدي إلى المساكين قبل النحر لم يجزه، لأن النحر مستحق عليه. وإذا نحر الهدي فالمستحب: أن يقسم اللحم بين الفقراء والمساكين؛ ليكون أعظم للأجر، فإن سلمه إليهم مشاعا ليقتسموه بينهم جاز لما روي: أنه «قرب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس بدنات فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، فلما وجبت جنوبها قال: " من شاء فليقتطع» . فإن قيل: أليس النثار عندكم مكروها؟ قلنا: الفرق بينهما: أن النثار لا يزيل ملك صاحبه، وإنما يزول ملك صاحبه عنه إذا أخذ، فربما أخذه من لا يحب صاحبه أن يأخذه، وهاهنا قد زال ملك المهدي عن الهدي، فإذا وقع الذبح، ثم سلمه إليهم فقد سلم إليهم ملكهم، فكان لهم أخذه. ويجب عليه أن يسلم إليهم جميع لحم الهدي وجلده؛ لما «روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (أمرني رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أقوم على بدنه، وأقسم لحمها وجلودها وجلالها في

مسألة ذبح النذر بيد غيرالمهدي

المساكين، ولا أعطي الجازر منها شيئا» فإن كان الجازر فقيرا جاز أن يعطي منه لحق الفقر، وقوله: (ولا أعطي الجازر منها شيئا) أي: لحق الأجرة؛ لأن أجرة الجازر على المهدي. قال الشافعي في القديم: (ويعطي النعال التي قلدها المساكين) . قال أصحابنا: هذا مستحب؛ لأنه ليس من أصل الهدي. فإن لم يفرق اللحم حتى أنتن قال الشافعي: (كان عليه قيمته) . وذكر في (مختصر الحج) : (أن عليه الإعادة) . قال الشيخ أبو حامد: فيها قولان: أحدهما: عليه إعادة الذبح، أو يضمنه بمثله؛ لأنه فرط. والثاني: عليه قيمة اللحم. قال: وهو الصحيح؛ لأن الذبح قد وجد، وإنما بقي إيصال اللحم إلى المساكين، فإن تركه حتى أنتن فقد أتلفه، واللحم لا مثل له، فضمنه بقيمته. وقوله: (عليه الإعادة) أراد: إعادة القيمة وإخراجها إلى المساكين. [مسألة ذبح النذر بيد غيرالمهدي] مسألة: [ذبح النذر بيد غير المهدي] : وإذا نذر هديا معينا فقد ذكرنا: أن المستحب للإنسان أن يذبح هديه بنفسه، فلو ذبحه غيره بغير أمره أجزأ المهدي؛ لأنه مستحق الذبح، فإذا ذبحه غيره وقع الموقع، كرد الوديعة والغصب وإزالة النجاسة. ووجب على الذابح ما بين قيمته حيا ومذبوحا، كما لو ذبح شاة لغيره، فإن أمكن أن يشتري بذلك هديا آخر مثله

مسألة تعيين ذبح بدلا عما وجب عليه في ذمته

اشترى به، وإن لم يمكن كان فيه ثلاثة أوجه مضى ذكرها، هذا نقل البغداديين من أصحابنا، وحكى الخراسانيون فيها قولين آخرين: أحدهما: لا شيء عليه - وبه قال أبو حنيفة - لأن الذبح قد وقع الموقع. والثاني: إن شاء جعلها عن الذابح وأخذ قيمتها وإن شاء أخذها وما نقص من قيمتها. وقال مالك: (لا يجزئ عن المهدي) وقد مضى الدليل عليه. [مسألة تعيين ذبح بدلا عما وجب عليه في ذمته] ] : وإن كان في ذمته هدي، بأن كان قد تمتع أو قرن أو تطيب، فوجبت عليه شاة، فقال: علي لله أن أنحر هذه الشاة عما في ذمتي تعين عليه أن يذبح هذه الشاة عما في ذمته؛ لأنه

لو نذر أن يهديها ابتداء لتعين عليه ذبحها، فإذا نذر أن يذبحها عما في ذمته فالأولى أن يلزمه ذبحها ويزول ملكه عنها، فلا يملك بيعها ولا إبدالها بغيرها، كما لو نذر ذبحها ابتداء. فإن هلكت قبل أن تصل إلى الحرم بتفريط أو غير تفريط، أو حدث بها عيب يمنع الإجزاء رجع الواجب إلى ما في ذمته، ويلزمه أن يذبح شاة صحيحة، كما نقول فيمن عليه دين في ذمته، فأعطى صاحب الدين بدينه عينا، ثم هلكت العين أو أصابها عيب قبل القبض وردها فإن صاحب الدين يرجع إلى دينه في ذمته، ويبطل التعيين في هذه العين. وإن أصاب هذه الشاة المعينة عيب أو هلكت بعدما وصلت إلى الحرم ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول ابن الحداد -: أنها تجزئه، فيذبح المعيبة ويفرقها، ولا يلزمه إبدالها؛ لأنها بلغت محلها. والثاني: لا تجزئه هذه المعيبة، ويلزمه إخراج شاة صحيحة، وهو اختيار القاضي أبي الطيب وابن الصباغ؛ لأن العيب والهلاك أصابها قبل وصولها إلى المساكين، فهو كما لو أصابها ذلك قبل أن تبلغ الحرم. إذا ثبث هذا: فإن قلنا: يجزئه إخراج المعيبة فلا كلام. وإن قلنا: لا يجزئه فهل تعود المعيبة إلى ملكه، أو يلزمه إخراجها مع السليمة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يلزمه - وهو قول أحمد - لأن الفقراء ملكوها بالتعيين.

والثاني: تعود إلى ملكه، وهو الصحيح. فعلى هذا: له أن يأكلها ويبيعها ويطعمها من شاء؛ لأنهم إنما ملكوها في مقابلة ما في ذمته، فإذا أصابها العيب قبل التسليم رجعت إلى ملكه، كما لو قضى عينا بدين في ذمته، ثم أصابها عيب قبل القبض، فردها صاحب الدين فإنها ترجع إلى ملك من عليه الدين. وإن عطب هذا الهدي المعين قبل أن يصل إلى الحرم فنحره عاد الواجب إلى ما في ذمته، وهل يملك المهدي هذا الهدي المنحور؟ على هذين الوجهين وإن ضل هذا الهدي المعين وجب عليه إخراج ما في ذمته، فإن عاد الضال بعد تفرقة الأول لزمه إخراج الضال، وهل يجب ذلك أو يستحب؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يستحب؛ لأن ما في ذمته قد سقط بإخراج الأول. والثاني: يجب: لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها أهدت هديين، فأضلتهما، فبعث إليها ابن الزبير بهديين، فنحرتهما، ثم عاد الضالان، فنحرتهما، وقالت: (هذه سنة الهدي) . ولأنه لم يزل عن صفته الأولى وقد كانوا ملكوه بالتعيين، فلم يزل ملكهم عنه بضلاله.

وإن رجع الضال قبل تفرقة لحم الأول قال ابن الصباغ: لم يلزمه قال ويحتمل أن يقال أيضا: إنه واجب، كما إذا لم يجد ما يتطهر به فصلى، ثم وجد الماء للطهارة. هذا إذا كان الذي عينه مثل الذي في ذمته، فإن كان الذي عينه دون الذي في ذمته، بأن عين شاة معيبة، قال ابن الحداد: لزمه ذبح ما عينه ولم يجزه عما في ذمته، كما إذا كانت عليه كفارة فأعتق عنها عبدا معيبا فإنه يعتق ولا يجزئه عن الكفارة. وإن عين أعلى مما في ذمته، بأن عين بدنة أو بقرة عن شاة في ذمته لزمه نحرها، فإن هلكت قبل وصولها رجع الواجب إلى ما في ذمته، وهل يلزمه إخراج ما كان في ذمته قبل التعيين أو مثل الذي عين؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه إلا مثل الذي كان في ذمته؛ لأن المعين قد بطل بالهلاك، فرجع إلى ما في ذمته. والثاني: يلزمه مثل المعين؛ لأنه أوجب الفضل بتعيينه. وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إن فرط فيه لزمه مثل الذي عين، وإن لم يفرط ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه مثل ما في ذمته. والثاني: مثل الذي عين. قال ابن الصباغ: والأول أصح. وإن نتجت هذه الشاة المعينة فهل يتبعها ولدها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يتبعها، ويكون ملكا للمهدي لأن ملك الفقراء لم يستقر فيها لأنه قد يصيبها عيب، فيعود الملك فيها إلى المهدي.

مسألة لا يشترط خروج الهدي إلى عرفة

والثاني: يتبعها، وهو الصحيح؛ لأنها تعينت بالنذر، فصار كولد التي نذر ذبحها ابتداء، وعدم الاستقرار فيها لا يمنع من استتباع الولد، كالأمة المبيعة إذا ولدت في يد البائع، ثم هلكت. فإذا قلنا بهذا: فهلكت الأم، أو أصابها عيب وقلنا: تعود إلى ملك المهدي فما حكم الولد؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما - وهو الأظهر -: أنه يكون ملكا للفقراء، كما نقول في الأمة المبيعة إذا ولدت في يد البائع ثم هلكت. والثاني: أنه يعود إلى ملك المهدي تبعا لأمه. [مسألة لا يشترط خروج الهدي إلى عرفة] ] : ليس من شرط الهدي إيقافه بعرفات، وروي: (أن ابن عمر كان لا يرى الهدي إلا ما عرف به، ووقف مع الناس، ولا يدفع به حتى يدفع الناس) . وقال سعيد بن جبير: البدن والبقر لا يصلح ما لم يعرف. وقال مالك: (أحب للقارن أن يسوق هديه من حيث يحرم، فإن ابتاعه دون ذلك مما يلي مكة فلا بأس بذلك بعد أن يقفه بعرفات) . وقال في هدي المجامع: (إن لم يكن ساقه، فليشتره بمكة، ثم ليخرجه إلى الحل وليسقه منه إلى مكة، ولينحره بها) . دليلنا: ما روي عن عائشة: أنها قالت: (إن شئت فعرف، وإن شئت فلا تعرف) ولأنه لا يشترط أن يطاف به، فلم يشترط أن يقف به بعرفة.

مسألة الأيام المعدودات والمعلومات

[مسألة الأيام المعدودات والمعلومات] ] : لا يختلف أهل العلم أن الأيام المعدودات هي: أيام التشريق، وهي الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة. وأما الأيام المعلومات: فهي عندنا: العشر الأول من ذي الحجة، وآخرها يوم النحر. وقال مالك: (المعلومات ثلاثة أيام: يوم النحر، ويومان بعده) . فالحادي عشر والثاني عشر عنده من المعلومات ومن المعدودات. وقال أبو حنيفة: (المعلومات ثلاثة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، والحادي عشر) . وقال علي وابن عباس: (المعلومات أربعة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، ويومان بعده) . وفائدة الخلاف: أنه - عندنا - يجوز ذبح الهدايا والضحايا في أيام التشريق كلها.

وعند مالك: لا يجوز في اليوم الثالث. دليلنا: أن الله تعالى ذكر الأيام المعلومات والمعدودات وخالف بينهما في التسمية، واختلاف التسمية يقتضي اختلاف المسميات. ولأن أيام التشريق كلها محل للذبح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنها أيام أكل وشرب وذبح» ، يعني: أيام التشريق. ونقول - في اليومين الأولين من أيام التشريق -: لأنه شرع فيهما رمي الجمار الثلاث، فلم تكن من المعلومات كاليوم الثالث، ونقول في الثالث؛ لأنه شرع فيه الرمي، فكان محلا للذبح، كيوم النحر. فأما قول الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] [الحج: 28] . فلأن المتمتع والقارن لهما الذبح في العشر كلها، ولأنه يجوز سوق الهدي في العشر كلها، وذكر اسم الله تعالى عليها. ولأنه يجوز أن يضاف الشيء إلى جملة، ثم يقع على بعض تلك الجملة، ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح: 15] {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] [نوح: 15 - 16] .

فأضاف القمر إليهن وهو في واحدة منهن، كذلك يجوز أن يضيف الذبح إلى العشر، وهو في العاشر منها لا غيره. والله أعلم، وبالله التوفيق.

باب الأضحية

[باب الأضحية] الأصل في ثبوتها قَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] [الكوثر: 2] . قيل في التفسير: هو النحر بعد صلاة العيد يوم النحر. وقيل: هو وضع اليمين على اليسار تحت النحر في الصلاة. وروى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما» . فـ: (الأقرن) : ما كان له قرنان. وأما (الأملح) : فقال الكسائي وأبو زيد: هو الذي فيه بياض وسواد، والبياض أغلب. وقال ابن الأعرابي: (الأملح) : الأبيض النقي البياض. وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكبش أقرن يطأ في سواد وينظر في سواد، ويبرك في سواد، فأتي به ليضحي به، فقال لها: " يا عائشة هلمي المدية " ثم قال: " اشحذيها بحجر " ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه، وذبحه وقال: " بسم الله، اللهم تقبل من محمد، وآل محمد ومن أمة محمد» .

قال أصحاب الحديث: معنى قولها: «يطأ في سواد، وينظر في سواد، ويبرك في سواد» : لكثرة شحمه ولحمه. وقال أهل اللغة: كانت هذه المواضع منه سودا. إذا ثبت هذا: فالأضحية سنة مؤكدة وليست بواجبة، وروي ذلك: عن أبي بكر وعمر وأبي مسعود البدري وابن مسعود وابن عباس، وابن عمر وبلال وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعطاء وعلقمة والأسود وأحمد وإسحاق. وقال ربيعة والثوري ومالك وأبو حنيفة: (هي واجبة) .

مسألة وقت الأضحية

دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت بالنحر، وهي سنة لكم» وروى ابن عباس أيضا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث كتبت علي ولم تكتب عليكم: النحر، والوتر، وركعتا الفجر» . وقوله: " ولم تكتب عليكم " يشتمل على أنها ما فرضت ولا أوجبت، ولأنها إراقة دم لا تجب على المسافر، فلم تجب على الحاضر، كالعقيقة. [مسألة وقت الأضحية] ] : ويدخل أول وقت الأضحية، إذا مضى بعد دخول وقت صلاة العيد قدر ركعتين وخطبتين، سواء صلى أو لم يصل، واختلف أصحابنا في قدر الصلاة والخطبتين: فمنهم من قال: يعتبر أن يذهب قدر صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ: (قاف) و (اقتربت) ، وقدر خطبتين كاملتين. ومنهم من قال: الاعتبار بأن يذهب قدر ركعتين خفيفتين، وخطبتين خفيفتين. وقال أبو حنيفة: (يدخل وقتها بالفعل، وهو: أن يفعل الإمام الصلاة والخطبة فإن تأخرت صلاة الإمام لم يجز الذبح قبلها، هذا في أهل المصر. فأما أهل

السواد: فوقت الذبح في حقهم طلوع الشمس أو الفجر الثاني من يوم النحر؛ لأنه لا عيد على أهل السواد) . وقال مالك: (يدخل وقتها بصلاة الإمام وخطبته وذبحه، فإن تقدم على هذا لم يصح في أهل الأمصار، وأما أهل السواد: فوقت أهل كل موضع يعتبر بأقرب البلاد إليه) . وقال عطاء: يدخل وقتها من طلوع الشمس من يوم النحر. دليلنا: ما روى البراء بن عازب قال: «خطب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر بعد الصلاة فقال: " من صلى صلاتنا هذه، ونسك نسكنا فقد أصاب سنتنا، ومن نسك قبل صلاتنا فذلك شاة لحم، فليذبح مكانها» . وأراد: من صلى مثل صلاتنا؛ لأن أحدا لا يصلي صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما يصلي مثلها، ولأن كل ما كان وقتا للذبح في أهل المصر كان وقتا للذبح في حق أهل السواد، كما بعد الصلاة. وعكسها دلالة عليهم في أهل السواد، وهو: أن كل ما لم يكن وقتا لذبح أهل الأمصار لم يكن وقتا لأهل السواد، كما قبل طلوع الفجر. ويبقى وقت الذبح إلى أن يذهب أيام التشريق، وقد مضى خلاف مالك فيها. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل أيام التشريق ذبح» .

فرع يكره الذبح ليلا

فإن ذهبت أيام التشريق ولم يذبح، فإن كانت الأضحية تطوعا لم تقع موقعها وتكون شاة لحم، وإن كانت نذرا لزمه أن يضحي، وكانت قضاء لا أداء، وقد مضى ذكرها. [فرع يكره الذبح ليلا] ] : وإن ذبح ليلا كره أضحية كانت أو غير أضحية؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الذبح ليلا» . ولأن الأضحية يتعذر تفريقها ليلا. فإن ذبحها ليلا أجزأه. وقال مالك: (لا يجزئه، بل تكون شاة لحم) . دليلنا: أن الليل زمان يصح فيه الرمي، فصح فيه ذبح الأضحية، كالنهار. [مسألة كراهة حلق شعر المضحي وتقليم أظفاره] ] : ومن دخل عليه عشر ذي الحجة وأراد أن يضحي كره له أن يحلق شعره أو يقلم ظفره حتى يضحي.

وقال أبو حنيفة ومالك: (لا يكره) . دليلنا: ما روت أم سلمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس شيئا من شعره، ولا من بشره» . فإن فعل ذلك لم يحرم. وقال أحمد وإسحاق: (يحرم) . دليلنا: ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يقلدها هو بيده، ثم يبعث بها مع ابن الزبير، ولا يحرم عليه شيئا أحله الله له حتى ينحر الهدي» . فأخبرت: أنه لم يحرم عليه شيء أحله الله تعالى له حتى نحر الهدي. والأضحية كانت واجبة عليه، فإذا دخلت العشر فلا بد أن يريد أن يضحي. ولأنه لا يحرم عليه الطيب واللباس، فلا يحرم عليه حلق الشعر وتقليم الظفر، كما قبل العشر، وأما الخبر: فحمله على الاستحباب.

مسألة جواز الأضحية في كل مكان

[مسألة جواز الأضحية في كل مكان] ] : قال الشافعي: (وإذا ضحى الرجل في بيته وقع الموقع) . وهذا كما قال: تجوز الأضحية في الحل والحرم، بخلاف الهدي، فإنه لا يجوز إلا في الحرم: لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بالمدينة) ، وهو إجماع المسلمين لم يزل الناس يضحون في منازلهم وحيث كانوا من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى وقتنا هذا، من غير أن ينكره منكر، أو يرده راد. وليس كذلك الهدي: لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث بهداياه إلى مكة) ولأن القصد بالهدي سد خلة مساكين الحرم، والقصد بالأضحية سد خلة المساكين حيث كانوا. [مسألة ما يجزئ في الأضحية وسنه] ] : ولا يجوز في الأضحية إلا الأنعام، وهي: الإبل، والبقر، والغنم. فإن ضحى بغيرها من الحيوان المأكول لم يقع موقع الأضحية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] [الحج: 28] . قال أهل التفسير: و (الأنعام) : هي الإبل، والبقر، والغنم. وأما سن ما يضحى به منها: فلا يجزئ إلا الثني من الإبل، والبقر، والمعز والجذع من الضأن. فـ (الثني من الإبل) ما استكمل خمس سنين، و (الثني من البقر والمعز) ما استكمل سنتين، و (الجذع من الضأن) ما استكمل سنة. هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وذكر ابن الصباغ: أنها تجذع لثمانية أشهر، إذا كان بين هرمين، ولستة أشهر أو سبعة، إذا كان بين شابين.

وقال ابن عمر والزهري: (لا يجزئ إلا الثني من الكل) مخالفا في الجذع من الضأن. وقال عطاء والأوزاعي: (يجزئ الجذع من جميع الأجناس) . دليلنا - على ابن عمر والزهري -: ما «روى زيد بن خالد قال: قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أصحابه ضحايا، فأعطاني عتودا جذعا، فرجعت به إليه، فقلت له: يا رسول الله إنه جذع، فقال: " ضح به " فضحيت به» . وروى عقبة بن عامر قال: «كنا نضحي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجذع من الضأن» . «وروى ابن عباس قال: جلبت غنما جذعانا إلى المدينة فكسدت علي، فلقيت أبا هريرة فسألته، فقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " نعم الأضحية الجذع من الضأن "، قال: فانتهبها الناس» .

مسألة الأفضل من النعم وما يستحب في صفتها

وأما الدليل - على الأوزاعي وعطاء -: ما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» وروي عن البراء بن عازب قال: «ضحى أبو بردة بن نيار قبل الصلاة، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " شاتك شاة لحم " قال: فإن عندي جذعة من المعز، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ضح بها، فإنها تجزيك، ولا تجزي أحدا بعدك» هكذا روي بفتح التاء، وهو مأخوذ من قولهم جزى عني الأمر يجزي، ولا همزة فيه، ومعناه: " لا تقضي عن أحد بعدك ". قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 123] [البقرة: 123] . ويجوز الذكر والأنثى، وقد مضى ذلك في الهدي. [مسألة الأفضل من النعم وما يستحب في صفتها] ] : والثني من الإبل أفضل من الثني من البقر، والثني من البقر أفضل من الجذع من الضأن ومن الثني من المعز، والجذع من الضأن أفضل من الثني من المعز، والشاة أفضل من مشاركة سبعة في بدنة أو بقرة. وبه قال أبو حنيفة وأحمد.

وقال مالك: (الجذع من الضأن أفضل من الثني من الإبل والبقر لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أفضل الذبح الجذع من الضأن " ولو علم الله خيرا منها لفدى به إسماعيل» دليلنا: ما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الجمعة: «من راح من الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة» ، فجعل البدنة أفضل مما عداها، وجعل البقرة أفضل من الكبش، فدل على ما قلناه. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الذبح الجذع من الضأن» فأراد من الغنم. كما روي عن أم سلمة: أنها قالت: (لأن أضحي بالجذع من الضان أحب إلي من أن أضحي بالمسنة من المعز) . وأما لون الأضحية: فالمستحب أن يكون أبيض، فإن لم يكن فالأعفر. وهو: الأغبر - فإن لم يكن فالأبلق - وهو: الذي بعضه بياض وبعضه سواد - فإن لم يكن فالأسود؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين أملحين» . وقد قال ثعلب: (الأملح) : هو الأبيض الشديد البياض. وقال ابن عباس: (البيض أحسن) . ولان الأبيض أطيب لحما.

مسألة عيوب الأضحية

ويستحب أن يكون ما يضحى به سمينا؛ لما روي عن ابن عباس في قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] [الحج: 32] : قال: (تعظيمها استسمانها واستحسانها) . ولأن القصد بالأضحية سد الجوعة، فكلما كان سمينا كان أطيب لحما وأكثر. قال الشافعي في " المبسوط ": (وكل ما غلى من الرقاب كان أحب إلي مما رخص؛ لأنه أنفس) . [مسألة عيوب الأضحية] ] : والعيوب في الأضحية ضربان: ضرب: يمنع الإجزاء، وضرب: يكره ولا يمنع الإجزاء فأما (العيوب التي تمنع الإجزاء) : فنص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها على أربعة، وقيس عليها ما كان في معناها، وذلك أن البراء بن عازب روى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام خطيبا وقال: «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها - وروي: البين ظلعها -، والكسير التي لا ينقى "، وروي: " العجفاء التي لا تنقي» .

فنص على العوراء؛ لأن عينها قد ذهبت، وهي عضو مستطاب، وقد قيل: إنها إذا كانت عوراء لا تستوفي المرعى؛ لأنها لا تشاهد المرعى من ناحية عينها العوراء. وإذا لم تجز العوراء فالعمياء أولى أن لا تجوز. ونص على المريضة، قال أصحابنا: وأراد الجرباء؛ لأنه يفسد لحمها، سواء قل أو كثر، والنفس تعاف أكله. ونص على العرجاء، وهي: التي إحدى رجليها ناقصة عن الأخرى، فإن كان عرجا بينا، وهو الذي يمنعها السير مع الغنم والمشاركة في طيب العلف، فتهزل لذلك فلا تجزئ للخبر، وإن كان عرجا يسيرا لا يمنعها ذلك أجزأت. ونص على العجفاء، وهي: المهزولة الشديدة الهزال، والكسير كذلك؛ لأن المقصود بالأضحية اللحم، ولا لحم بها، وإنما هي عظام مجتمعة، وقوله: " لا تنقي " يعني: لا نقي فيها، وهو المخ، يقال: بالخاء والحاء، قال الشاعر: لا يشتكين عملا ما أنقين ... ما دام مخ في سلامى أو عين وروى عقبة بن عتبة قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المصفرة، والمستأصلة والبخقاء، والمشيعة، والكسراء» . فأما (المصفرة) : فهي التي قطعت أذنها حتى يرى صماخها، فلا تجزئ للخبر ولأن الأذن عضو مستطاب. وأما (المستأصلة) : فهي التي كسر قرنها وعضب من أصله، فتكره للخبر، وتجزئ؛ لأنه لا يقدح في لحمها. وأما (البخقاء) : فهي العوراء، وقد مضى ذكرها.

وأما (المشيعة) : فهي التي تتأخر عن الغنم، فإن كان ذلك لهزال أو علة لم تجز؛ لأنها عجفاء، وإن كان ذلك عادة وكسلا أجزأه. وفي التي قطع ضرعها أو أليتها وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ": أحدهما: لا يجوز، كالتي قطعت أذنها. والثاني: يجوز؛ لأن الذكر من المعز لا ألية له ولا ضرع. وأما (العيوب التي لا تمنع الإجزاء وتكره) : فهي أن يضحي بـ (الجلحاء) : وهي التي لم يخلق لها قرن. وبـ (العصماء) : وهي التي انكسر ظاهر قرنها - وهو غلافه - وبقي باطنه، وهو المشاش الأحمر. وبـ (العضباء) : وهي التي انكسر ظاهر القرن وباطنه، فهؤلاء تكره الأضحية بهن وتجزئ. وقال النخعي: لا تجزئ الجلحاء. وقال مالك: (ينظر في العضباء: فإن دمي القرن لم تجزه، وإن لم يدم جاز) دليلنا: حديث البراء بن عازب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أربع لا تجوز في الأضاحي» فدل على: أن ما عداها مما ليس بمعناها يجوز. ولأن عدم القرن لا يؤثر في اللحم، فلم يمنع الإجزاء، كما لو كانت مجزوزة الصوف. ومن العيوب التي لا تمنع الإجزاء وتكره: ما روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «أمرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نستشرف العين والأذن، ولا نضحي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مدابرة، ولا خرقاء، ولا شرقاء» .

فقوله: (نستشرف العين والأذن) أي: نشرف عليهما ونتأملهما. فأما (العوراء) : فقد مضى ذكرها. وأما (المقابلة) : فهي التي قطع من مقدم أذنها شيء وبقي معلقا بها، كالزنمة. وأما (المدابرة) : فهي ما قطع من مؤخر أذنها كذلك. وأما (الخرقاء) : فهي التي تكون أذنها مثقوبة من الكي. وأما (الشرقاء) : فهي المشقوقة الأذن باثنتين، هكذا حكاه أبو عبيد عن الأصمعي، ولم يذكر في " التعليق " و " الشامل " غيره وذكر في " المهذب ": أن (الشرقاء) هي: التي تثقب من الكي أذنها، و (الخرقاء) : هي التي تشق أذنها بالطول عكس ما ذكروه. والبغداديون من أصحابنا قالوا: إن هذه العيوب في الأذن لا تمنع الإجزاء وتكره؛ لأنه لا يؤثر في لحمها ولا ينقصه. وذكر المسعودي [في " الإبانة "] : هل يجزئه؟ فيه وجهان. وإن أبين من أذنها شيء لم تجز وجها واحدا. قال: وكذلك الوجهان في الموسومة التي لم يبن من بدنها شيء.

فرع نذر الضحية بمعيب

[فرع نذر الضحية بمعيب] ] : فإن نذر أن يضحي بحيوان فيه عيب يمنع الإجزاء وجب عليه ذبحه كما لو نذر أن يتصدق بلحمه، ولا يجزئه عن الأضحية للعيب الذي فيه، كما لو أعتق عبدا معيبا عن الكفارة فإنه يعتق ولا يجزئه عن الكفارة. فإن زال العيب عنه قبل أن يضحي به ثم ضحى به سليما لم يجزه عن الأضحية؛ لأن ملكه قد زال عنه بالنذر، وهو في تلك الحال مما لا يجزئ عن الأضحية، فلم يجزه بما يحدث بعده، كما لو أعتق عبدا معيبا عن الكفارة ثم زال العيب فإنه لا يجزئه عن الكفارة. [مسألة استحباب ذبحه أضحيته وحكم النية والاستنابة] مسألة: [استحباب ذبحه أضحيته وحكم النية واستنابة غيره] : يستحب للرجل أن يتولى ذبح هديه وأضحيته؛ لما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين أقرنين أملحين، فوضع رجله على صفاحهما، وسمى وكبر وذبحهما» . وروى نافع عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يذبح أضحيته بالمصلى» . قال نافع: (وكان ابن عمر يفعل ذلك) وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر نساءه أن يلين ذبح هديهن» .

قال الطبري: وينوي في الأضحية المعينة: أنها تذبح عن أضحيته، وهل تحتاج إلى النية عند الذبح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا بد من النية عند الذبح. قال: وهو الأصح؛ لأن تلك النية للتعيين لا للذبح. والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره -: أنه لا يفتقر إلى النية عند الذبح، بل لو أوجب أضحية، فذبحها يعتقدها شاة لحم، أو ذبحها لص وقعت موقعها. قال الطبري: وإن كانت الأضحية غير معينة نوى عند ذبحها. وإن استناب في ذبح هديه أو أضحيته غيره جاز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى مائة بدنة فنحر منها ثلاثا وستين، ثم أعطى عليا فنحر منها ما غبر» أي: ما بقي. والمستحب: أن لا يستنيب في الذبح إلا مسلما؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يذبح هداياكم إلا طاهر» فإن استناب ذميا صح. وقال مالك: (لا تكون أضحية ويحل أكلها) . دليلنا: أن الذمي من أهل الذكاة، فأشبه المسلم. قال الطبري في " العدة ": فعلى هذا: ينوي حين يدفع إلى وكيله، أو حين يذبح الوكيل. فإن فوَّض إلى الوكيل لينوي، فإن كان مسلما صح، وإن كان كافرا لم يجزه تفويض النية إليه، بل ينوي عند الدفع إليه، أو عند ذبحه. والمستحب إذا استناب غيره في الذكاة: أن يشهد الذبح؛ لما روى أبو سعيد

فرع الضحية عن الغير بغير إذنه

الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «يا فاطمة قومي إلى أضحيتك فاشهديها؛ فإنه بأول قطرة تقطر من دمها يغفر لك ما سلف من ذنوبك» . [فرع الضحية عن الغير بغير إذنه] ] : قال الطبري في " العدة ": إذا ضحى عن غيره بغير إذنه لم يجز، وكذلك لو ضحى عن ميت ولم يوص بها لم يجز، وهل يجزئ عن المباشر؟ ينظر فيه: فإن كانت الشاة عينها للأضحية أجزأت عنه؛ لأنه كان عليه ذبحها عن نفسه. وإن كانت غير معينة لم تجزه؛ لأنه لم ينوها. وإن اشترك اثنان في شاة لم تجز؛ لأن أقل ما يجزي عن كل واحد منهما شاة، ولكن لو أشركه في ثواب أضحيته وذبحها عن نفسه جاز، ثم قال: وهذا معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذا عن محمد وأمة محمد» . وإن اشترك اثنان في شاتين مشاعتين أضحية عنهما بينهما فوجهان، حكاهما الطبري في " العدة ":

فرع التوجه حال الذبح إلى القبلة

أحدهما: لا يجزئ؛ لأنه يقع عن كل واحد نصف كل واحدة منهما، فلم يوجد في حقه ذبح شاة كاملة. والثاني: يصح؛ لأن حصة كل واحد منهما شاة. [فرع التوجه حال الذبح إلى القبلة] ] . والمستحب: أن يوجه الذبيحة إلى القبلة أضحية كانت أو غيرها؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين أملحين، فوجههما إلى القبلة، وقرأ: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام: 79] » الآية [الأنعام: 79] ) . وروت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ضحوا وطيبوا بها أنفسكم، فإنه ليس من مسلم يستقبل بذبيحته القبلة إلا كان دمها وقرنها وصوفها حسنات في ميزانه يوم القيامة» . ولأنه إذا لم يكن بد من جهة فجهة القبلة أولى. قال الطبري: وفي كيفية استقبال القبلة بها وجهان: أحدهما: يكون ظهرها إلى دبر القبلة حتى يكون وجهها إلى القبلة. والثاني - وهو الأصح -: أن يكون مذبحها إلى القبلة.

فرع استحباب التسمية عند الذبح

[فرع استحباب التسمية عند الذبح] ] : ويستحب أن يسمي الله تعالى عند الذبح؛ لما روى أنس: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمى وكبر) . فإن ترك التسمية لم يؤثر، وحل أكلها، سواء تركها عامدا أو ناسيا، وبه قال في الصحابة ابن عباس وأبو هريرة، وإليه ذهب عطاء ومالك. وذهب الشعبي وداود وأبو ثور إلى: أن التسمية شرط في الإباحة فمن تركها عامدا أو ناسيا حرم أكلها. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (هي شرط في الإباحة مع الذكر، وليست بشرط مع النسيان) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] إلى أن قال: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] . ولم يفرق بين أن يسمى أو لا يسمى. وروت عائشة: «أن قوما قالوا: يا رسول الله إن قوما من الأعراب حديثو عهد بالجاهلية يأتونا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، أفنأكل منها؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اذكروا اسم الله عليه وكلوا» . ولأن كل ذكر لم يكن شرطا مع

فرع استحباب الصلاة على النبي والدعاء عند الذبح

النسيان لم يكن شرطا مع الذكر، كالتكبيرات سوى تكبيرة الإحرام، وعكسه تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة. [فرع استحباب الصلاة على النبي والدعاء عند الذبح] ] . ويستحب أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع التسمية عند الذبح، وأن يقول: اللهم تقبل مني. وقال أبو حنيفة ومالك: (يكره أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند الذبح، ولا يكره أن يقول: اللهم تقبل مني) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] [الشرح: 4] قيل في التفسير: (لا أذكر إلا وتذكر معي) . وروى عبد الرحمن بن عوف قال: «سجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوقفت أنتظره، فأطال، ثم رفع رأسه، فقال عبد الرحمن: لقد خشيت أن يكون الله قد قبض روحك في سجودك، فقال: " يا عبد الرحمن، لقيني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأخبرني عن الله أنه قال: من صلى عليك مرة صليت بها عليه عشرا، فسجدت لله شكرا» فثبت: أن الصلاة عليه مستحبة بكل حال.

مسألة شراء الأضحية لا يوجبها وما تتعين به وحكم إبدالها

وروت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذبح أضحيته قال: " اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد» وفي رواية جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لما وجه أضحيته إلى القبلة: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا} [الأنعام: 79] » [الأنعام: 79] . وقرأ الآيتين، وقال: «اللهم منك ولك عن محمد وأمته، بسم الله، والله أكبر» ثم ذبح. ولأنه لا خلاف أن رجلا لو مر بمن يذبح، فقال: اللهم تقبل من فلان لم يكره، فأن لا يكره منه هذا أولى. [مسألة شراء الأضحية لا يوجبها وما تتعين به وحكم إبدالها] مسألة: [شراء الأضحية لا يوجبها وبماذا تتعين وما حكم إبدالها؟] : إذا اشترى شاة بنية أنها أضحية ملكها بالشراء، ولم تصر أضحية. وقال مالك وأبو حنيفة: (تصير أضحية بذلك) . دليلنا: أن عقد البيع يوجب الملك، وجعلها أضحية يزيل الملك، والشيء الواحد لا يوجب الملك وزواله في وقت واحد معا، كما لو اشترى شيئا بنية وقفه أو اشترى عبدا بنية عتقه. إذا ثبت هذا: فأراد أن يجعلها أضحية فهل يفتقر إلى القول؟ فيه قولان: [الأول] : قال في الجديد: (لا تصير أضحية إلا بالقول) وهو أن يقول: هذه أضحية، أو جعلتها أضحية؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة، فافتقر إلى القول، كالوقف والعتق. و [الثاني] : قال في القديم: (إذا نوى أنها أضحية صارت أضحية) ؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلد بدنه وأشعرها) . ولم ينقل أنه قال: إنها هدي. والأول أصح؛ لأنه يحتمل أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متطوعا بها، ولم ينذرها، فلذلك لم ينطق، أو يجوز أن يكون قد أوجبها لفظا، ولم ينقله الراوي، أو لم يسمعه أحد. فإذا قلنا بقوله الجديد فلا كلام. وإن قلنا بالقديم: وأنها تصير أضحية أو هديا بالنية ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: تصير هديا أو أضحية بالنية لا غير، كالصوم.

مسألة حكم الأكل من الأضحية والهدي

والثاني: لا تصير حتى يضاف إلى النية التقليد أو الإشعار - وهو المنصوص في القديم - ليوجد منه الأمران: الظاهر والباطن. والثالث: أنها لا تصير هديا أو أضحية إلا بالنية والذبح. إذا تقرر هذا: وتعينت الأضحية زال ملكه عنها، ولم يجز له إبدالها بغيرها. وقال أبو حنيفة ومحمد: (له إبدالها بغيرها) وقد مضى ذكره في (الهدي) . فإن باعها فالبيع باطل. فإن قبضها المشتري وتلفت في يده وجب على البائع الضمان، فإن ضمنها البائع ضمنها بأكثر الأمرين من قيمتها، أو هدي مثلها، وله أن يرجع على المشتري بقدر قيمتها لا غير. وإن ذبحها المشتري قبل وقت الذبح لزمه ما نقص من قيمتها للبائع، ويكون على البائع إكمال ما يشتري به مثلها؛ لأنه كان السبب لها في يد المشتري. وإن ذبحها وقت الذبح أجزأت عن البائع؛ لأنها مستحقة للذبح، وهل يضمن المشتري ما نقص من قيمتها؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ": أحدهما: يضمن؛ لأنه لم يملكها. والثاني: لا يضمن؛ لأنه بالبيع صار كأنه سلطه على ذبحها. وهما بناء على القولين في السيد إذا باع نجوم المكاتب، وقلنا: لا يصح وقبضها المشتري هل يعتق؟ فيه قولان. [مسألة حكم الأكل من الأضحية والهدي] ] : وإذا ذبح الهدي أو الأضحية، فإن كان متطوعا بهما فنقل البغداديون من أصحابنا: أنه يستحب له الأكل منها. وأشار المسعودي [في " الإبانة " ق \ 215] : إلى أن الأكل جائز منها غير مستحب. والأول أصح: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] [الحج: 28] فأمر بالأكل منها، وأقل أحوال الأمر الاستحباب، وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى مائة بدنة، فنحر منها ثلاثا وستين بدنة، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر منها، وأشركه في هديه، ثم أمره فاقتطع من

كل واحدة منها قطعة، ثم أمر به فطبخ في قدر، فأكل من لحمها، وتحسى من مرقها» ، ولا يجب عليه الأكل منها. وحكي عن بعض الناس: أنه قال: يجب عليه الأكل منها لظاهر الأمر. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] [الحج: 36] فجعلها لنا وما هو للإنسان هو مخير: بين أكله، وبين تركه. ولأنه إراقة دم على وجه القربة، فلم يجب الأكل منها كالعقيقة، والآية نحملها على الاستحباب، وفي القدر الذي يستحب له أكله منها قولان: [الأول] : قال في القديم: (يأكل النصف، ويتصدق بالنصف) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] [الحج: 28] . فجعلها بين اثنين. و [الثاني] : قال في الجديد: يأكل الثلث، ويهدي الثلث، ويتصدق بالثلث) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] [الحج: 36] فجعلها بين ثلاثة. فقال مجاهد: (القانع) : هو الجالس في بيته الذي يرضى ويقنع بالقليل، و (المعتر) : هو الذي يسأل. وقال الحسن: (القانع) : هو الذي يسأل، و (المعتر) : هو الذي يعرض بالسؤال، يقال: قنع - بكسر النون - يقنع - بفتحها - قناعة، فهو قنع إذا رضي بقسمه، وقنع - بفتح النون - يقنع - بكسرها - قنوعا، فهو قانع: إذا سأل. قال الشماخ: لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعف من القنوع

أي من السؤال. وقال آخر:. . ... ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعا أي: جاء سائلا. وأما القدر الذي يجوز له الأكل منها ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس ابن سريج، وابن القاص: يجوز أن يأكل جميعها، واحتجا بقول الشافعي في القديم: (فإن أكل الجميع لم يغرم) . ولأنها ذبيحة يجوز له أكل بعضها، فجاز له أكل جميعها، كذبيحة أهله، وعكسه الهدي في الإحرام. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يجوز له أكل جميعها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28] [الحج: 28] فمنها دليلان: أحدهما: قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] و (من) : للتبعيض. والثاني: قَوْله تَعَالَى: {وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28] فأمر بالإطعام منها، والأمر يقتضي الوجوب. ولأن القصد منها إيصال النفع إلى المساكين، وإنما يحصل ذلك لهم بإيصال شيء من اللحم إليهم، فأما بإراقة الدم فقط فلا يحصل فيه إلا تلويث المكان لا غير. فعند أبوي العباس: القربة تحصل بإراقة الدم لا غير. وعند سائر أصحابنا: لا تحصل القربة إلا بإراقة الدم وتفرقة شيء من اللحم.

فإن خالف فأكل الجميع لم يضمن شيئا على قول أبوي العباس، ويضمن على قول غيرهما، وفي القدر الذي يضمنه وجهان: أحدهما: القدر المستحب، وهو النصف على قوله القديم، والثلثان على قوله الجديد. والثاني: يضمن أقل جزء. وهذان الوجهان بناء على القولين فيمن دفع نصيب الفقراء إلى اثنين فإنه يضمن نصيب الثالث، وفي قدره قولان: أحدهما: الثلث. والثاني: أقل جزء يقع عليه الاسم. فإذا قلنا: إنه يضمن، فبماذا يضمن؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو المنصوص -: أنه يضمنه بالقيمة؛ لأن اللحم لا مثل له، وما لا مثل له يضمن بالقيمة، كسائر المتلفات. والثاني: يضمنه بمثله من اللحم؛ لأنه أقرب. والثالث: أنه يشارك بقدر قيمة ذلك بجزء من حيوان، والأول أصح. وإن كان ما يذبحه واجبا عليه نظرت: فإن كان متعلقا بالإحرام لم يجز أن يأكل منه. وقال مالك: (يجوز أن يأكل من الجميع، إلا ما كان إتلافا: كدم الحلق، وتقليم الأظفار، وجزاء الصيد) .

وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يأكل من دم التمتع والقران، لأنه دم نسك لا جبران دون غيرهما) . دليلنا: أنه دم واجب بالشرع، فلم يجز أن يأكل منه، قياسا على دم الإتلاف مع مالك، ومع أبي حنيفة على غير دم التمتع والقران. وإن كان ما ذبحه عليه واجبا بالذر نظرت: فإن كان قد وجب عليه في ذمته دم في الحج، ثم عينه بالنذر في هدي وجب عليه ذبحه، ولم يجز له أن يأكل منه شيئا، لأنه بدل عما لا يجوز الأكل منه. وإن لم يكن معينا عما في ذمته من دم النسك نظرت: فإن كان نذر مجازاة، بأن قال: إن شفى الله مريضي أو قدم غائبي فعلي لله أن أهدي أو أضحي شاة لم يجز له أن يأكل منها؛ لأنه لزمه على وجه المجازاة، فهو كجزاء الصيد. وإن كان بغير مجازاة، بأن يقول ابتداء: علي لله أن أهدي أو أضحي شاة، وقلنا: يلزمه، على المذهب، فهل يجوز له أن يأكل منها؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يجوز؛ لأنه دم واجب، فلم يجر أن يأكل منه، كدم الطيب واللباس. والثاني: يجوز؛ لأنه وجب بفعله، فأشبه الهدي والأضحية المتطوع بهما؛ لأنهما وجبا بفعله. والثالث: حكاه في " المهذب " أنه يجوز له الأكل من الأضحية دون الهدي؛ لأن الأضحية المطلقة في الشرع، وهي المتطوع بها يجوز الأكل منها،

مسألة منع بيع شيء من الأضحية والهدي وحكم الانتفاع بها

وأكثر الهدايا في الشرع لا يجوز الأكل منها فحمل مطلق النذر على ذلك. فإذا قلنا: لا يجوز له الأكل، فخالف وأكل ضمنه، وفيما يضمنه ثلاثة أوجه مضى ذكرها. [مسألة منع بيع شيء من الأضحية والهدي وحكم الانتفاع بها] ] : ولا يجوز بيع شيء من الأضحية والهدي لحما أو جلدا، نذرا كان ذلك أو تطوعا لأنها تعينت بالذبح. وقال عطاء: لا بأس ببيع أهب الأضاحي. وقال الأوزاعي: يجوز بيع جلودها بآلة البيت التي تعار كالقدر والفأس والمنجل والميزان. وقال أبو حنيفة: (يجوز بيع الأضحية وشراؤها، وإذا ذبحها جاز بيع ما شاء منها، ويتصدق بثمنه، فإن باع جلدها بآلة البيت جاز له الانتفاع بذلك) . دليلنا: ما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أقوم على بدنه فأقسم جلودها وجلالها، وأمرني أن لا أعطي الجازر منها شيئا، وقال: " نحن

مسألة جواز اشتراك سبعة في بدنة أو بقرة

نعطيه من عندنا» فأمره بقسمة الجلود، والأمر على الوجوب، وإنما أمره أن لا يعطي الجازر منها؛ لأن أجرة الجازر على المهدي. ولأنه أزال ملكه عنها على وجه القربة، فلم يجز بيعها كالوقف. إذا ثبت هذا: فكل أضحية استحب له الأكل منها فإنه يجوز أن يدخر من لحمها، وينتفع بجلدها، ويتخذ منه الحذاء والسقاء والدلو وغير ذلك؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «دفت دافة من أهل البادية: " ادخروا لثلاث، وتصدقوا بما بقي " فلما كان بعد ذلك قيل: يا رسول الله لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم ويجملون منها الودك ويتخذون منها الأسقية، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وما ذاك؟ " قالوا: نهيت عن ادخار لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: " إنما نهيتكم لأجل الدافة التي دفت عليكم، فكلوا وتصدقوا وادخروا» . ولأنه إذا جاز له أكل أكثر لحمها جاز له الانتفاع بجلدها. [مسألة جواز اشتراك سبعة في بدنة أو بقرة] ] : يجوز أن يشترك سبعة في بدنة أو بقرة في الهدي والأضحية، وسواء كانوا متطوعين أو مفترضين، أو: بعضهم متطوعا وبعضهم مفترضا، وسواء كانوا أهل بيت أو أهل بيوت، وهكذا لو كان بعضهم يريد اللحم وبعضهم يريد القربة، فالكل جائز.

وقال مالك: (لا يجوز اشتراكهم في الهدي الواجب، ويجوز في التطوع) وهكذا قال: (لا يجوز اشتراكهم في الأضحية الواجبة، ويجوز في المتطوع بها إن كانوا آل بيت واحد، وإن كانوا أهل بيوت شتى لم يجز) . وقال أبو حنيفة: (إن كانوا كلهم متقربين جاز، وإن كان بعضهم متقربا وبعضهم يريد اللحم لم يجز) . دليلنا - على مالك -: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر عمن اعتمر من نسائه بقرة» . وروي عن عائشة: أنها قالت «نحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نسائه بدنة ونحن معتمرات» يعني: متمتعات. وروى جابر قال: «أحصرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية، فنحرنا البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» . ولأن ما جاز عن أهل بيت واحد جاز عن أهل بيوت، كالسبع من الغنم. دليلنا - على أبي حنيفة -: أن كل ما جاز اشتراك السبعة فيه إذا كانوا متقربين جاز اشتراكهم فيه وإن كان بعضهم غير متقرب، كالسبع من الغنم. ولأن الاعتبار بنية كل

واحد منهم، ولا يضرهم اختلاف نياتهم، كما إذا كان بعضهم متمتعا، وبعضهم قارنا فإنه يجوز. إذا ثبت هذا: فإذا كانوا كلهم متقربين فنحروا هديهم أو أضحيتهم سلموها إلى المساكين مشاعة بينهم، ويبرؤون بذلك. وإن كان بعضهم متقربا وبعضهم يريد اللحم، فإذا ذبحوها سلم المتقرب نصيبه منها مشاعا إلى المساكين ويبرأ بذلك، ويصيرون شركاء لأهل اللحم، فإن باع أهل اللحم نصيبهم من المساكين أو باع المساكين نصيبهم من أهل اللحم مشاعا جاز. وإن أرادوا القسمة، فإن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين جاز أن يقتسموا اللحم وزنا، وإن قلنا: إن القسمة بيع فهل يجوز قسمته؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس بن القاص: يجوز للضرورة؛ لأنه لا يمكن بيعه. والثاني - وهو قول عامة أصحابنا -: لا يجوز، وهو الصحيح؛ لأنه بيع لحم بلحم رطب، فلم يجز. ولأنه قد يمكن بيعه على ما ذكرناه. فعلى هذا: إن أرادوا التخلص من الربا قسم اللحم سبعة أجزاء إذا كان لسبعة، فيأخذ كل واحد منهم جزءا، فيشتري كل واحد من كل واحد من أصحابه سبع ذلك الجزء بدرهم، ويبيع إلى كل واحد منهم سبع الجزء الذي معه بدرهم، ثم يتقاصون فيما بينهم. والله أعلم، وبالله التوفيق

باب العقيقة

[باب العقيقة] أصل العقيقة في اللغة: هو الشعر الذي يخلق على المولود، وجمعه: أعقة وعقائق. قال امرؤ القيس: أيا هند لا تنكحي بوهة ... عليه عقيقته أحسبا و (البوهة) : الأحمق، يريد أنه من حمقه أنه لم يحلق شعره الذي ولد وهو عليه. و (الأحسب) : الشعر الأحمر الذي يضرب إلى البياض. ثم سمت العرب ما يذبح عن الصبي يوم السابع عند حلق ذلك الشعر عقيقة؛ لأنهم يسمون الشيء باسم سببه، أو ما جاوره، كما سموا المرأة ظعينة، وإنما الظعينة هي الناقة التي تحمل عليها المرأة. إذا ثبت هذا: فالعقيقة سنة مؤكدة، وليست بواجبة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: (ليست بسنة) . وقال الحسن البصري وداود: (هي واجبة) . دليلنا: ما روت أم كرز قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «عن الغلام شاتان

مكافئتان، وعن الجارية شاة» و «لا يضركم ذكرانا كن أم إناثا» . قال أبو داود: وروي: " شاتان مثلان " قال: وهو أصح، و " مكافئتان "، عبارة عن قوله: (مثلان) . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة» . وأدنى حالة الأمر الندب إذا دل الدليل: أنه ليس بواجب. ولأن الإطعام على النكاح سنة، والولد مقصود به، والفرح به أشد، فكان أولى باستحباب الإطعام له. والدليل - على أنها ليست بواجبة -: ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ولد له ولد فأحب أن ينسك عن الغلام شاتين، وعن الجارية شاة فليفعل» فعلقه على المحبة، فدل على: أنه لا يجب. ولأنه إطعام

مسألة للغلام شاتان وللجارية شاة

لحادث سرور، فلم يكن واجبا بالشرع، كالوليمة. قال الشيخ أبو حامد: ولأنه لو كان واجبا لوجب تفرقة لحمها على ذوي الحاجات، كالهدي والكفارات، فلما لم يجب ذلك دل على: أنها لا تجب كشاة اللحم. [مسألة للغلام شاتان وللجارية شاة] والسنة أن يذبح عن الغلام شاتين، وعن الجارية شاة. وقال مالك: (عن كل واحد شاة، رجلا كان أو جارية؟ لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عق عن الحسن والحسين شاة شاة» . دليلنا: ما رويناه عن أم كرز وعائشة وعمرو بن شعيب، وما رووه نحمله على الجواز. [فرع ما يجزئ في العقيقة وما يستحب عند ذبحها] وما يطبخ] : ولا يجزئ إلا الجذعة من الضأن أو الثنية من الإبل والبقر والمعز، سليمة من العيوب؛ لأنها إراقة دم بالشرع، فاعتبر فيه ما ذكرناه، كالأضحية. والمستحب: أن يقول عند الذبح: باسم الله، اللهم منك وإليك، عقيقة فلان لما روت عائشة: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم بذلك) .

مسألة استحباب الأكل من العقيقة ويبعث بمرقها إلى الفقراء

والمستحب: أن تفصل أعضاؤها، ولا تكسر من غير ضرورة؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «السنة شاتان مكافئتان عن الغلام، وعن الجارية شاة تطبخ جدولا، ولا يكسر عظم، ويأكل، ويطعم، ويتصدق منها، وذلك يوم السابع» . ولأن ذلك أول ذبيحة، فاستحب أن لا يكسر تفاؤلا بسلامة أعضائه. ويستحب أن يطبخ منها طبيخ حلو تفاؤلا بحلاوة أخلاقه. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وقيل: يطبخ بالحموضة منه، وقيل: لا يطبخ بالحموضة. [مسألة استحباب الأكل من العقيقة ويبعث بمرقها إلى الفقراء] ] : قال الشيخ أبو إسحاق: ويستحب أن يأكل من لحمها ويهدي ويتصدق؛ لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وقال القفال: لا يتخذ عليها دعوة، بل يطبخ، ويبعث بمرقها إلى الفقراء. [مسألة استحباب العقيقة يوم السابع وما يصنع برأس المولود] ] : والسنة أن يكون ذلك يوم السابع؛ لما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عق عن الحسن والحسين يوم السابع، وسماهما، وأمر أن يماط الأذى عن رؤوسهما» . فإن قدمه

على ذلك أو أخره جاز لأنه وجد بعد سببه. ويستحب أن يحلق رأسه يوم السابع؛ لحديث عائشة، ويكره أن يترك على بعض رأسه الشعر؛ لما روي: عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القزع في الرأس» . ويستحب أن يتصدق بزنة شعره ذهبا أو ورقا؛ لما روي «عن فاطمة: أنها قالت: يا رسول الله أعق عن الحسن؟ فقال: " احلقي رأسه، وتصدقي بزنة شعره فضة» . ويستحب أن يلطخ رأسه بالزعفران، ويكره أن يلطخ رأسه بدم العقيقة. وقال الحسن: يطلى رأسه بدم العقيقة. وقال قتادة: يؤخذ منها صوفة فيستقبل بها أوداجها، ثم توضع على يافوخ المولود حتى يسيل على رأسه مثل الخيط، ثم يغسل رأسه بعد ذلك ويحلق.

مسألة استحباب تحنيك المولود والأذان والتسمية وتهنئة الوالد

دليلنا: ما روى يزيد بن عبد المزني، عن أبيه: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم» . وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة، ويجعلونها على رأس المولود، فنهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، وأمرهم: أن يجعلوا مكانه خلوقا» . قال الشافعي: (ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أميطوا عنه الأذى» والشعر والدم هو الأذى، فكيف ينهى عن الأذى ويأمر به؟) . [مسألة استحباب تحنيك المولود والأذان والتسمية وتهنئة الوالد] ] : ويستحب أن يحنك المولود بشيء حلو؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحنك أولاد الأنصار بالتمر» .

ويستحب أن يهنأ الوالد بالولد. وروي: أن رجلا جاء إلى الحسن وعنده رجل قد رزق مولودا، فقال له: نهنئك الفارس، فقال له الحسن: وما يدريك أفارس هو أم حمار؟ فقال: كيف نقول؟ قال: (قل: بارك الله لك في الموهوب، وشكرت الواهب، وبلغ أشده، ورزقت بره) . ويستحب أن يؤذن في أذن المولود؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، كالأذان في الصلاة» . وروي عن عمر بن عبد العزيز: أنه كان إذا ولد له مولود أخذه في خرقة، ثم أذن في أذنه اليمين، وأقام في أذنه اليسار، وسماه. قال الطبري: ويستحب أن يقرأ في أذنه: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] [آل عمران: 36] .

ويستحب أن يسمي بـ: عبد الله، وعبد الرحمن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن» فإن سماه باسم قبيح غير ذلك الاسم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير اسم عاصية، وقال: " أنت جميلة» . وبالله التوفيق.

باب النذر

[باب النذر] الأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] [الإنسان: 7] . فمدحهم على الوفاء بالنذر. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» إذا ثبت هذا: فإنه لا يصح النذر إلا من مسلم بالغ عاقل، فإن نذر الكافر لم يصح نذره، ولم يلزمه الوفاء به إذا أسلم. ومن أصحابنا من قال: يصح، ويلزمه الوفاء به إذا أسلم؛ لما روي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أوف بنذرك» .

مسألة لا صحة للنذر إلا بالقول

والأول أصح؛ لأنه معنى وضع لإيجاب القربة، فلم يصح من الكافر، كالإحرام بالحج. وأما الخبر: فنحمله على الاستحباب. ولا يصح النذر من الصبي والمجنون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ولأنه إيجاب حق بالقول، فلم يصح من الصبي والمجنون كالضمان. وفيه احتراز من إيجاب الزكاة في ماله، وأرش جنايته، ونفقة أقاربه في ماله. [مسألة لا صحة للنذر إلا بالقول] ] : ولا يصح النذر إلا بالقول، وهو أن يقول: علي لله كذا، أو علي كذا وإن لم يقل لله؛ لأن القربة لا تكون إلا لله. وهذا في غير الهدي والأضحية، وهل يفتقر النذر في الهدي والأضحية إلى القول؟ فيه قولان، مضى ذكرهما في الأضحية. [مسألة لزوم النذر] ] : ويلزم بالنذر جميع الطاعات؛ لما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» فإن نذر أن يزني، أو يشرب الخمر، أو يقتل من لا يجب قتله لم يجب نذره؛ لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وإن نذر أن يذبح ولده أو أباه أو نفسه لم يصح نذره، ولم يلزمه بذلك شيء وبه قال أبو يوسف. وقال أبو حنيفة ومحمد: (إذا نذر أن يذبح عبده أو والده لم يصح، ولم يلزمه شيء، وإن نذر أن يذبح ولده أو نفسه لزمه شاة) .

فرع في نذر صوم يوم محرم أو فعل مباح

وعن أحمد روايتان: أحدهما: (يلزمه ذبح كبش) . والثانية: (تلزمه كفارة يمين) ، وهذه الرواية مذهب سعيد بن جبير، وتعلقوا بما روي عن ابن عباس: أنه قال: (من نذر ذبح ولده فعليه شاة) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملكه ابن آدم» وهذا أولى من قول ابن عباس. [فرع في نذر صوم يوم محرم أو فعل مباح] ] : وإن نذر أن يصوم يوم الفطر أو يوم النحر أو أيام التشريق لم يصح نذره، ولم يلزمه بذلك شيء. وقال أبو حنيفة: (ينعقد نذره، ويلزمه أن يصوم في غير هذه الأيام، فإن صام فيها أجزأه) . دليلنا: أنه نذر صوم وقت لا يصح فيه الصوم بحال، فلم ينعقد نذره، ولم يلزمه لأجله شيء، كما لو نذر صوم الليل. وإن نذرت المرأة صوم أيام حيضها لم ينعقد نذرها، ولم يلزمها لأجله شيء. وقال الربيع: يلزمها كفارة يمين - وهو مذهب أحمد - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر

مسألة نذر التبرر واللجاج

كفارة يمين» قال أصحابنا: وهذا من كيس الربيع. والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر في معصية الله» ، والخبر محمول على نذر اللجاج. وإن نذر فعل شيء من المباحات، كالأكل والشرب والنوم وما أشبهه لم يلزمه بذلك شيء. وقال أحمد: (ينعقد نذره، ويكون بالخيار: بين الوفاء بنذره، وبين كفارة يمين) دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقف في الشمس، ولا يتكلم، ويصوم، فقال: " مروه فليقعد، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه» . [مسألة نذر التبرر واللجاج] ] : وإن نذر طاعة فهو على ضربين: نذر تبرر وقربة، ونذر لجاج وغضب. فأما نذر التبرر والقربة: فينظر فيه: فإن علقه على إصابة خير أو دفع شر، بأن يقول: إن رزقني الله مالا، أو ولدا، أو علما، أو شفى الله مريضي، أو نجاني الله من الحبس وما أشبهه، فعلي لله أن أصوم، أو أتصدق، وما أشبههما من القرب فهذا نذر صحيح، فإن رزقه الله ما رجا، أو دفع عنه ما خاف لزمه الوفاء بما نذره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 76] {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 77]

[التوبة: 75 - 77] فذمهم الله على ترك الوفاء بنذرهم، وعاقبهم على تركه. وروى ابن عباس: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: يا رسول الله إن أمي أو أختي ركبت البحر، فنذرت إن نجاها الله أن تصوم، فماتت قبل أن تصوم، فأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تصوم عنها» . وإن لم يعلق ذلك على شيء، بأن قال ابتداء: علي لله أن أصوم، أو أتصدق فهل يلزمه بذلك شيء؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، وأبي بكر الصيرفي -: أنه لا يلزمه شيء، ولكن يستحب له الوفاء به؛ لأن ما يلزم الإنسان نفسه من الحقوق حقان: حق للآدمي وحق لله، ثم وجدنا أن حق الآدمي يلزم عليه إذا كان بعوض، وهو عقود المعاوضات، وأما ما كان بغير عوض، كالهبة: لا يلزم عليه بالقول من غير قبض، فكذلك حقوق الله تعالى. والوجه الثاني: يلزمه النذر، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» ولم يفرق. ولأنه ألزم نفسه قربة ما، لا على وجه اللجاج والغضب، فلزمه الوفاء به، كما لو نذر أضحية فإنهما وافقا على ذلك. وأما نذر اللجاج والغضب: فبأن ينذر طاعة، ويخرج نذره مخرج اليمين بأن يمنع نفسه من فعل شيء، أو يلزم نفسه شيئا، مثل أن يقول: إن كلمت فلانا فلله علي كذا، ويريد منع نفسه من كلامه، أو يقول: إن فعلت كذا فلله علي كذا، أو إن لم أفعله فمالي صدقة أو في سبيل الله، فإن لم يكن المنذور حجا ولا عمرة فالمشهور

من المذهب: أنه إذا وجد الكلام أو ما علقه فهو بالخيار: بين الوفاء بما نذره، وبين أن يكفر كفارة يمين. وحكى الطبري في " العدة ": أن الشيخ أبا حامد حكى للشافعي قولا آخر: (أنه يلزمه كفارة يمين وله إسقاطها، بأن يفي بما نذر إن كان أكثر من الكفارة، وإن كان أقل لم يكن له ذلك) ، وهو قول عطاء، كما نقول فيمن ملك خمسا من الإبل: إنه يلزمه إخراج شاة، وله إسقاط تلك الشاة بإخراج بعير منها. قال الطبري: وهذا أجري على القياس. وقال أبو حنيفة: (يلزمه الوفاء بما نذر) . وقد قيل: إنه قول ثالث للشافعي، وليس بشيء. دليلنا - للقول الأول -: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف بالمشي، أو بالهدي، أو جعل ماله في سبيل الله، أو في المساكين، أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة يمين» . ولأنه يشبه اليمين من حيث إنه قصد منع نفسه من فعل شيء، أو إلزامها فعل شيء، ويشبه النذر من حيث إنه ألزم نفسه قربة في ذمته، فخير بين موجبيهما، وهذا معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر كفارة يمين» . وإن كان المنذور في اللجاج والغضب حجا أو عمرة، وقلنا بالمشهور: أن المنذور لا يتحتم عليه فعله فهل يتحتم عليه فعل الحج والعمرة، أو يكون مخيرا بين فعلهما وبين كفارة اليمين؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد في " التعليق " قولين:

مسألة حكم النذر بجميع المال وبعتق رقبة

أحدهما: يلزمه الوفاء به ويتحتم عليه؛ لأن الحج لما لزمه بالدخول فيه لزمه بالنذر. والثاني: لا يتحتم عليه فعله، بل له أن يكفر كفارة يمين: لما رويناه في حديث عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف بالمشي فكفارته كفارة يمين» . وأما قول الأول: إن الحج يلزم بالدخول فيبطل عليه بالعتق؟ فإنه يلزمه بالدخول، ثم لا يلزمه في اللجاج والغضب. [مسألة حكم النذر بجميع المال وبعتق رقبة] ] : إذا نذر أن يتصدق بماله لزمه أن يتصدق بجميع ماله. وقال أحمد في إحدى الروايتين: (يلزمه أن يتصدق بثلث ماله) . دليلنا: أن اسم المال يعم جميع المال، فلزمه الوفاء به. فإن نذر عتق رقبة وأطلق قال الشافعي: (فأي رقبة أعتق أجزأه) . فمن أصحابنا من قال: تجزئه أي رقبة كانت صحيحة أو معيبة، مؤمنة كانت أو كافرة، وهو ظاهر النص؛ لأن اسم الرقبة يقع عليها. ومنهم من قال: لا يجزئه إلا عتق رقبة تجزئ في الكفارة؛ لأن مطلق النذر محمول على المعهود في الشرع، وتأول هذا القائل كلام الشافعي أنه أراد: مما يجزئ في الكفارة. [فرع نذر عتق رقبة معينة] ] : وإن نذر أن يعتق رقبة بعينها لزمه إعتاقها، ولا يزول ملكه عنها بنفس النذر، فإن أراد بيعها، أو إبدالها بغيرها لم يجز؛ لأنها تعينت للعتق. وإن تلفت الرقبة أو أتلفها مالكها لم يلزمه إبدالها؛ لأن العتق حق للرقبة، وقد تلفت. وإن أتلفها أجنبي لزمه دفع القيمة إلى المالك، ولا يلزمه صرف ذلك إلى رقبة أخرى؛ لما ذكرناه من المعنى، بخلاف الهدي، فإن الحق فيه للفقراء وهم موجودون.

مسألة لزوم ما سماه وعينه بالنذر وحكم المطلق

[مسألة لزوم ما سماه وعينه بالنذر وحكم المطلق] ] : إذا سمى هديا بعينه، مثل أن يقول: علي لله أن أهدي هذا الثوب أو هذا التمر أو هذه الشاة لزمه ما سماه وعينه، جيدا كان أو رديئا؛ لأنه قد ألزم نفسه ذلك. وإن قال: علي لله أن أهدي وأطلق ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يهدي ما شاء مما يتمول، حتى لو أهدى زبيبة أو تمرة أجزأه) لأنه يقع عليه اسم الهدي لغة وشرعا: أما اللغة: فإنه يقال: أهدى فلان إلى فلان دجاجة أو بيضة. وأما الشرع: فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال في الجمعة: «من راح في الساعة الأولى فكأنما أهدى بدنة - إلى أن قال -: ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما أهدى دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما أهدى بيضة» . و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجزئه إلا هدي من النعم: إما جذع من الضأن، أو ثني من الإبل أو البقر أو المعز) - وبه قال أحمد وأبو حنيفة - لأن إطلاق الهدي في الشرع إنما ينصرف إلى ذلك، بدليل: أن الله تعالى قال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] فأطلق ذلك، والمراد به ما ذكرناه، وكذلك المطلق في النذر. فإن قال: علي لله أن أهدي بقرة أو شاة، فإن قلنا بالقول الأول أجزأه ما يقع عليه اسم البقرة والشاة. وإن قلنا بالثاني لم يجزه إلا ما يجزي في الأضحية. وإن قال: علي لله أن أهدي الهدي لزمه الهدي المعهود في الشرع قولا واحدا؛ لأن الألف واللام للعهد، والعهد في الشرع ذلك.

فرع نذر شاة في ذمته أو عينها وذبح عنها بدنة أو بقرة

[فرع نذر شاة في ذمته أو عينها وذبح عنها بدنة أو بقرة] ] : وإن نذر أن يهدي شاة في ذمته، فإن ذبح شاة كان جميعها واجبا، ولا يجوز له أكل شيء منها، وإن ذبح عنها بدنة أو بقرة أجزأه؛ لأنها تجزئ عن سبع من الغنم، وهل يكون الجميع واجبا؟ فيه وجهان: أحدهما: أن الجميع واجب، فلا يجوز له أكل شيء منها؛ لأنه مخير بينهما، فأيهما فعل كان واجبا. والثاني: أن الواجب سبعها لا غير؛ لأنها تقوم مقام سبع من الغنم. قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا: يلزمه أن يتصدق بسبعها، وله أن يأكل الباقي. وإن نذر أن يهدي شاة بعينها لزمه أن يذبحها، فلو أراد أن يذبح عنها بقرة أو بدنة فالذي يقتضي المذهب: أن ذلك لا يجزئه؛ لأنها قد تعينت للقربة، فلا يجوز العدول عنها إلى غيرها، كما نقول في العتق. [مسألة نذر بدنة وأطلق أو عينها بالنية] ] : قال الشافعي: (ومن نذر بدنة لم يجزه إلا ثني أو ثنية، والخصي يجزي، فإذا لم يجد بدنة فبقرة ثنية، وإذا لم يجد فسبع من الغنم تجزئ ضحايا. وإن كانت نيته على بدنة من الإبل لم يجزه من البقر والغنم إلا بقيمتها) . قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: إذا نذر بدنة فإن أطلق ولم ينو حيوانا بعينه فإنه يخرج بدنة، وهي: الثنية من الإبل التي استكملت خمس سنين، أو ثنيا ذكرا من الإبل، وهو الذي استكمل خمس سنين، ويجزئه الخصي؛ لأنه أرطب لحما وأوفر. فإن لم يجد بدنة أجزأته ثنية من البقر، فإن لم يجد ثنية من البقر أجزأه سبع من الغنم، تجزئ كل واحدة في الأضحية لأن مطلق النذر يحمل على المعهود في الشرع، وقد تقرر في الشرع: أن البقرة تقوم مقام البدنة، وأن السبع من الغنم تقوم مقام البقرة عند عدمها، هذا هو المنصوص.

ومن أصحابنا من خرج وجها آخر: أنه مخير: بين البدنة والبقرة، والسبع من الغنم؛ لأن للشافعي قولا آخر - حكاه أبو إسحاق فيمن لزمه بدنة بالوطء في الحج - (أنه مخير بينها، وبين البقرة، والسبع من الغنم) . وأما صاحب " العدة ": فقال هاهنا: هذا إذا قلنا: إن مطلق النذر يحمل على المعهود في الشرع، فأما إذا قلنا بقوله القديم: (وأنه يجزئه ما يقع عليه الاسم) فلا يجزئه البقرة ولا الغنم هاهنا؛ لأن اسم البدنة من جهة اللسان غير واقع على هذين الجنسين. قلت: وهذا تفصيل حسن. وأما إذا نوى - بقوله: بدنة - البدنة من الإبل فقال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: فإن كانت البدنة موجودة لزمه إخراجها، ولم تجزه البقرة ولا الغنم وجها واحدا؛ لأن نيته قطعت جواز العدول إلى غيرها، فتعينت عليه، وإن كانت البدنة معدومة ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز الانتقال إلى البقرة، بل تكون في ذمته إلى أن يجدها؛ لأنها قد تعينت عليه بالنذر. والثاني - وهو المنصوص -: أنه يجزئه الانتقال إلى البقرة بالقيمة؛ لأنه وإن عين البدنة فإنه يتعين عليه هدي شرعي، والهدي الشرعي له بدل. فعلى هذا: يقابل بين قيمة البدنة وقيمة البقرة، فإن كانت قيمتهما سواء، أو كانت قيمة البقرة أكثر أخرج البقرة وأجزأه. وإن كانت قيمة البقرة أقل لزمه إخراج البقرة ولزمه أن يتصدق على المساكين بفضل قيمة البدنة على البقرة؛ لأنه ألزم نفسه أمرين مقصودين: النحر، وتفرقة اللحم، فلزمه الإتيان بأكثرهما.

مسألة النذر لأفضل بلد أو مطلقا

والفرق بين هذه، وبين التي قبلها حيث لم تعتبر القيمة في الأولى؛ لأنه إذا أطلق البدنة انصرفت إلى الإبل بمعهود الشرع، ومعهود الشرع فيها: أن تقوم البقرة فيها مقامها من غير تقويم. وإذا نوى البدنة من الإبل فقد وجبت بإيجابه، فإذا أعوزته كان عليه أكثر الأمرين: مما يقوم مقامها في الشرع، أو قيمتها، كما نقول فيه - إذا أتلف الهدي المعين -: أن عليه أكثر الأمرين: من قيمته، أو هدي مثله. [مسألة النذر لأفضل بلد أو مطلقا] ] : إذا نذر الهدي للحرم أو لأفضل بلد، أو لأشرف بلد لزمه ذلك بمكة، لأنها أفضل البلاد وأشرفها. وإن نذر الهدي لبلد غيرها وسماها لزمه صرفه إلى البلد التي سماها؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا - مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية - قال: " لصنم " قالت: لا، قال: " لوثن " قالت: له، قال: " أوفي بنذرك» . قال أبو عبيد الهروي: (الصنم) : ما اتخذ آلهة مما له صورة. و (الوثن) : ما اتخذ آلهة مما لا صورة له. وإن قال: لله علي أن أهدي، وأطلق ففيه وجهان: أحدهما: يصرفه حيث شاء من البلاد؛ لأن اسم البلاد يقع عليه. والثاني: لا يجزئه إلا في الحرم، حملا على الهدي المعهود في الشرع.

فرع مؤنة نقل الهدي والنذر من غيرالنعم

ويشبه أن يكون هذان الوجهان مأخوذين من القولين فيمن أطلق نذر الهدي هل يلزمه ما يقع عليه الاسم من تمرة أو زبيبة أو غير ذلك، أو لا يجزئه إلا ما يجزئ من الأنعام في الهدي؟ وفيه قولان، مضى بيانهما. [فرع مؤنة نقل الهدي والنذر من غيرالنعم] فرع: [مؤنة نقل الهدي والنذر من غير النعم] : قال الطبري: وهل يلزمه مؤنة نقل الهدي؟ ينظر فيه: فإن قال: لله علي أن أهدي لزمته مؤنة نقله، وإن قال: جعلته هديا لم يلزمه، بل يباع من ذلك للمؤنة. قال الطبري: وإن نذر حيوانا غير النعم من طائر أو دابة لزمه أن يتصدق به حيا على فقراء مكة. فإن كان الهدي من النعم لزمه أن يذبح ذلك، ويسلمه إليهم بعد الذبح، فإن سلمه إليهم قبل الذبح لم يجزه، كالهدي الواجب بالشرع. [فرع النذر لرتاج لكعبة أو لمسجد بعينه أو مطلقا] فرع: [النذر لرتاج الكعبة أو لمسجد بعينه أو مطلقا] : وإن نذر الهدي لرتاج الكعبة صرف إلى كسوة البيت - وأهل الرتاج: الباب - وهكذا إن نذر ذلك لعمارة مسجد لزمه صرفه فيما عينه له. وإن أطلقه فوجهان: أحدهما: يلزمه صرفه إلى مساكين ذلك البلد؛ لأن الهدي المعهود في الشرع ما يصرف إلى المساكين. والثاني: يصرفه في أي وجه شاء من وجوه القرب في ذلك البلد؛ لأن الاسم يقع عليه. وأصل هذين الوجهين: القولان فيما ينصرف إليه مطلق الهدي. فإن كان ما نذره مما لا يمكنه نقله كالدار والأرض لزمه أن يبيعه ويصرف ثمنه إلى فقراء البلد الذي سماه؛ لما روي: أن امرأة سألت ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -:

مسألة ينحر ويفرق اللحم حيث نذر

أنها نذرت أن تهدي دارا، فقال: (بيعيها، وتصدقي بثمنها على مساكين الحرم) ولأنه لا يمكن نقله، فنقل ثمنه. [مسألة ينحر ويفرق اللحم حيث نذر] ] : قال الشافعي: (ولو نذر أن ينحر بمكة لم يجزه أن ينحر بغيرها، ولو نذر أن ينحر بغيرها لم يجزه إلا حيث نذر؛ لأنه وجب لمساكين ذلك البلد) . وهذا كما قال: لو نذر النحر بمكة والتفرقة فيها لزمه الأمران جميعا بها، وإن نذر النحر بمكة وأطلق لزمه النحر بها، وهل يلزمه تفرقة اللحم بها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه تفرقة اللحم بها، بل يفرقه في أي موضع شاء؛ لأنه نذر فيها أحد مقصودي الهدي، فلم يلزمه الآخر، كما لو نذر التفرقة بها دون النحر. والثاني - وهو المذهب -: أنه يلزمه تفرقة اللحم بها؛ لأنه إذا لزمه النحر بها تعينت التفرقة فيها، كالهدايا الواجبة بالشرع. وإن نذر النحر والتفرقة في بلد غير الحرم لزمه ذلك، وإن نذر النحر بها وأطلق فنقل المزني: (أنه يلزمه) واختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق: يلزمه النحر في ذلك البلد، والتفرقة فيه؛ لأن ذكر النحر يتضمن التفرقة فيه. ومنهم من قال: لا يلزمه النحر ولا التفرقة؛ لأن النحر في غير الحرم لا قربة فيه، فلم يتضمن التفرقة، قال: وأخطأ المزني في نقله؛ لأن الشافعي ذكر في " الأم " [2/231] (إذا نذر أن ينحر في بلد ويفرق اللحم به لزمه) فأسقط المزني قوله: (ويفرق) .

مسألة فيمن نذر صلاة أو ركوعا أو سجودا

[مسألة فيمن نذر صلاة أو ركوعا أو سجودا] ] : إذا نذر أن يصلي أربع ركعات أو غير ذلك لزمه ما سمى. وإن نذر أن يصلي وأطلق ففيه قولان: أحدهما - وهو قوله القديم -: (أنه يلزمه ركعة) ؛ لأن الركعة صلاة شرعية، وهي: الوتر، فلم يلزمه أكثر منها. و [الثاني] : قال في الجديد: (يلزمه ركعتان) - وبه قال أبو حنيفة وأحمد - وهو الصحيح؛ لأن أقل صلاة وجبت في الشرع ركعتان. وإن قال: علي لله ركوع عنه ففيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ": أحدهما: لا يلزمه شيء؛ لأن الركوع بانفراده ليس بقربة. والثاني: يلزمه ركعة تامة حملا على المعهود في الشرع. وإن نذر السجود فالذي يقتضيه المذهب: أنه يلزمه؛ لأن السجود بانفراده قربة، وهو سجود التلاوة، وسجود الشكر. [فرع نذر الصلاة في المساجد الثلاثة أو في غيرها] ] : وإن نذر الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة - وهي: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى - انعقد نذره بالصلاة، ولم تتعين عليه الصلاة في المسجد الذي عينه؛ لأن غير المساجد الثلاثة متساوية في الفضيلة. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن نذر صلاة الفرض في مسجد غير المساجد الثلاثة فانتقل إلى غيره، فإن كان الذي انتقل إليه: الجمع فيه أعظم وأكثر جاز.

وظاهر كلامه يدل على: أنه تلزمه صلاة الفرض في المسجد الذي عينه بالنذر إن كانت فيه جماعة، وله أن يسقط ذلك بأن يصلي مع جماعة أكثر منها. فإن قيل: أليس لو نذر الصوم في يوم بعينه لم يجز له أن يصوم في غيره؟ فكيف جاز إذا نذر الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة أن يصلي في غيره؟ فالجواب: أن النذر مردود إلى أصل الشرع، وقد وجب الصوم بالشرع في زمان بعينه، فلذلك تعين بالنذر، وليس كذلك الصلاة؟ فإنها لم تتعين بالشرع في مكان بعينه، فلذلك لم تتعين بالنذر. وإن نذر أن يصلي في المسجد الحرام لزمه أن يصلي فيه، فإن صلى في غيره لم يجزه عن النذر. وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يصلي في غيره) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في المسجد الحرام: تعدل مائة ألف صلاة في غيره من المساجد» فلا يجوز أن يسقط نذره بالصلاة فيه في غيره. وإن نذر أن يصلي في مسجد المدينة، أو في المسجد الأقصى فهل يتعينان بالنذر؟ فيه قولان: أحدهما: لا يتعينان بالنذر؛ لأنه مسجد لا يجب قصده بالنسك، فلم يتعين بنذر الصلاة فيه، كسائر المساجد. فعلى هذا: يصلي في أي موضع شاء. والثاني: يتعينان؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» . فعلى هذا: إذا نذر الصلاة فيهما فصلى في المسجد الحرام سقط نذره لأن الصلاة فيه أفضل من الصلاة فيهما. فإن صلى في مسجد المدينة ما نذر أن يصلي في المسجد الأقصى أجزأه لما روي: «أن رجلا قال: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صل هاهنا "، فأعادها عليه ثلاثا، وهو يقول

فرع تعليق النذر بمشيئة رجل

" صل هاهنا» ولأن الصلاة فيه أفضل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في المسجد الحرام: تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد، وصلاة في مسجدي هذا: تعدل ألف صلاة، وصلاة في المسجد الأقصى: تعدل خمسمائة صلاة» . [فرع تعليق النذر بمشيئة رجل] ] : قال الطبري: إذا قال: لله علي نذر صلاة أو هدي إن شاء فلان نظر: فإن أراد تعليق عقد النذر على مشيئته لم يصح؛ لأن العقود لا تتعلق بالصفات. وإن أراد به عقد النذر في الحال إلا أنه علق رفعه على مشيئة فلان فلا يكون نذر تبرر، قال: فيخرج على الأقوال الثلاثة المخرجة في نذر اللجاج والغضب. [مسألة صوم يوم بعينه أو مطلقا أو نصفه] ] : وإن نذر الصوم وأطلق لزمه صوم يوم؛ لأن أقل الصوم يوم. وإن نذر صوم يوم بعينه فالمشهور من المذهب: أنه لا يصح أن يصوم عنه يوما قبله؛ لأن الصوم يتعين في زمان يوم بعينه في الشرع، فكذلك في النذر. وقال بعض أصحابنا: يجوز أن يصوم عنه يوما قبله - وبه قال أبو يوسف - وليس بشيء. وإن نذر صوم نصف يوم، أو صوم اليوم الذي هو فيه ولم يكن أكل قبل ذلك ففيه قولان، حكاهما الطبري في " العدة ": أحدهما: لا يلزمه شيء، وهو المشهور؛ لأن ذلك ليس بصوم. والثاني: يلزمه صوم يوم؛ لأن ذلك يتضمن إيجاب صوم يوم بعينه.

فرع نذر الصوم في الحرم

وإن كان قد أكل قبل النذر، فإن قلنا: لا يلزمه إذا لم يأكل فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: يلزمه فهاهنا وجهان. [فرع نذر الصوم في الحرم] ] : ذكر في " العدة ": إذا نذر أن يصوم أو يصلي في الحرم فقال صاحب " التلخيص ": لا يجوز في غيره. وقال أصحابنا: أما الصلاة: فكما قال، وأما الصوم: فلا يختص بالحرم؛ لأن المكان لا حظ له فيه، ألا ترى أن الصوم الذي يجب بدلا عن الهدي لا يختص بالحرم، وإن كان مبدله يختص به. وقال الشيخ أبو زيد: يحتمل ما قاله صاحب " التلخيص "؛ لأن الحرم يختص بأشياء والأول أصح. [مسألة نذر صوم سنة معينة] مسألة: [نذر صيام سنة] . إذا نذر صوم سنة معينة، بأن قال: علي لله أن أصوم سنة كذا، أو: علي أن أصوم من هذا الشهر سنة فإنه يلزمه صوم جميع تلك السنة عن النذر، إلا شهر رمضان والعيدين وأيام التشريق: فأما شهر رمضان: فلأنه يستحق صومه بالشرع، فلا يصوم فيه عن النذر. وأما العيدان: فلأنه لا يصح صومهما بحال. وأما أيام التشريق: فلأنه لا يصح صومها على قوله الجديد، وهو الصحيح. ولا يلزمه قضاء ذلك؛ لأن النذر لم يتناولها. وإن أفطر في غير هذه الأيام نظرت: فإن أفطر لغير عذر أثم بذلك، فإن كان قد شرط فيها التتابع في الصوم فحكى الطبري عن القفال: أنه لا يبطل ما مضى من السنة، فلا يلزمه الاستئناف قياسا على صوم رمضان. والمشهور من المذهب: أنه يلزمه استئناف صوم السنة؛ لأن التتابع لزمه بالشرط، ولا ينقطع التتابع فيها لإفطاره في العيدين وأيام التشريق؛ لأنه لا يمكنه صوم سنة متتابعة وليس فيها هذه الأيام. وإن

لم يشرط التتابع في النذر لزمه قضاء ما أفطر فيها بغير عذر، ولا ينقطع تتابعه؛ لأنه وإن لزمه التتابع في السنة المعينة - وإن لم يشرط ذلك في النذر - إلا أنه تتابع لزمه من ناحية الوقت، فهو كما لو أفطر في رمضان بغير عذر. وإن أفطر فيها بعذر نظرت: فإن كانت امرأة فحاضت أفطرت، ولا تأثم بذلك، ولا ينقطع التتابع به؛ لأنه لا يمكنها صوم السنة عن الحيض، وهل يلزمها قضاء أيام الحيض؟ فيه قولان: أحدهما: لا يلزمها قضاؤها؛ لأن أيام الحيض مستحقة للفطر، فهي كالعيدين وأيام التشريق. والثاني: يلزمها قضاؤها؛ لأن النذر محمول على الشرع، والحائض يلزمها قضاء الصوم بالشرع، وهو رمضان، فكذلك صوم النذر، ولأن أيام الحيض مما يصح فيها صوم غيرها، وإنما أفطرت لمعنى فيها، بخلاف العيدين وأيام التشريق. وإن أفطر في صوم السنة المعينة بالمرض لم يأثم بذلك، فإن لم يشترط التتابع فيها فهل يلزمه قضاء أيام المرض؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الحائض. وإن كان قد شرط التتابع فيها فهل ينقطع تتابعه؟ فيه قولان: أحدهما: ينقطع؛ لأنه أفطر باختياره. والثاني: لا ينقطع؛ لأنه أفطر بعذر، فهو كالحائض. فعلى هذا: هل يلزمه القضاء؟ على وجهين. وإن أفطر بالسفر لم يأثم بذلك، فإن لم يشترط التتابع لم يلزمه الاستئناف، وهل يلزمه قضاء ما أفطر بالسفر؟ فيه وجهان بناء على القولين في الحائض. وإن شرط التتابع، فإن قلنا: ينقطع التتابع بالمرض فبالسفر أولى أن ينقطع، وإن قلنا: لا ينقطع التتابع بالمرض فهل ينقطع بالسفر؟ فيه قولان:

أحدهما: لا ينقطع؛ لأنه أفطر بعذر، فهو كالمريض، فيكون في القضاء على هذا وجهان. والثاني: ينقطع؛ لأن السفر كان باختياره، بخلاف المرض. فإن نذر صوم سنة غير معينة، فإن لم يشترط فيها التتابع جاز أن يصومها متتابعا ومتفرقا، وإن صام اثني عشر شهرا بالأهلة صح، تامة كانت الشهور أو ناقصة، فإن صام شهر شوال لم يصح صومه يوم الفطر، فإن كان الشهر تاما قضى صوم يوم، وإن كان ناقصا قضى صوم يومين. فإذا جاء شهر رمضان صامه عن فرض رمضان، ولا يصح صومه فيه عن النذر؛ لأنه مستحق بالشرع، ويفطر في العيدين وأيام التشريق؛ لأنها مستحقة للفطر، ويلزمه قضاء ذلك؛ لأن فرض النذر تعلق بذمته، فانتقل فيما لم يسلم إلى بدله، كالمسلم فيه إذا رد بالعيب؛ لأنه إذا قال: صوم سنة فيمكن حمل ذلك على سنة ليس فيها شهر رمضان ولا العيدان وأيام التشريق، بخلاف ما لو قال: علي لله صوم سنة كذا فإنها لا تخلو من ذلك. ويجوز أن يقضي صوم ذلك متفرقا ومتتابعا. وإن شرط التتابع في صومها لزمه صومها متتابعا، فإذا صام رمضان عن رمضان وأفطر في العيدين وأيام التشريق، أو أفطرت المرأة بالحيض لم ينقطع تتابعه بذلك؛ لأنه لا يمكنه صوم سنة متتابعة ليس فيها رمضان والعيدان وأيام التشريق، ولا يمكن صونها عن الحيض، ولكن يلزمه قضاء ذلك متتابعا، لأنها قضاء عن صوم متتابع. وإن أفطر بالمرض فهل ينقطع تتابعه؟ فيه قولان - على ما مضى في التي قبلها - فإذا قلنا: لا ينقطع لزمه قضاء أيام الفطر قولا واحدا؛ لما ذكرناه في رمضان وأيام التشريق. وإن أفطر بالسفر فهل ينقطع التتابع؟ يبنى أيضًا على المرض، فإن قلنا في المرض: ينقطع ففي السفر أولى. وإن قلنا في المرض: لا ينقطع ففي السفر قولان: فإذا قلنا: لا ينقطع لزمه قضاء تلك الأيام التي يفطر فيها قولا واحدا؛ لما ذكرناه.

فرع نذر صوم هذه السنة

[فرع نذر صوم هذه السنة] قال الطبري: وإن قال: لله علي صوم هذه السنة لزمه صوم باقي سنة التاريخ؛ لأن التعريف بالألف واللام يقتضي المعهود، وهذا هو المعهود. [مسألة نذر صوم أيام الاثنين] ] : وإن نذر أن يصوم كل اثنين لزمه ذلك، فإذا جاء شهر رمضان صام الأثانين فيه عن رمضان؛ لأنها مستحقة بالشرع، ولا يلزمه قضاؤها؛ لأن النذر لم يتناولها؛ لأنه يعلم أن رمضان لا يخلو من ذلك، وهل يلزمه قضاء ما وافق منها العيدين وأيام التشريق؟ فيه قولان: أحدهما: يلزمه - وهو اختيار المحاملي في " التجريد " - لأنه نذر ما يجوز أن لا يوافق أيام العيد وأيام التشريق، فإذا وافق ذلك لزمه القضاء. والثاني: لا يلزمه القضاء - وهو اختيار المزني، والشيخ أبي حامد، وابن الصباغ - لأن هذه الأيام لا يصح صومها عن النذر، فأشبهت أثانين رمضان. وإن كانت امرأة فحاضت فيها فهل يلزمها قضاء أيام الحيض؟ فيه قولان مضى ذكرهما في المسألة قبلها. قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إلا أن أصح القولين في الحائض: أنه يلزمها القضاء، والأصح في العيدين: أن لا قضاء؛ لأن يوم العيد لا يصح صومه لكل أحد، وأيام الحيض تختص بها المرأة بالفطر وحدها. قال ابن الصباغ: وهذا ضعيف؛ لأن الشرع حرم عليها صوم زمان الحيض، كيوم العيد، فلا فرق بينهما، ولهذا لو نذرت صوم أيام الحيض لم يصح، كما لا يصح إذا نذرت صوم يوم العيد. [فرع من نذر صوم الأثانين وعليه صيام شهرين متتابعين] وعكسه] : وإن نذر صوم يوم الأثانين، ثم لزمه صوم شهرين متتابعين في الكفارة لزمه صوم الشهرين المتتابعين، ثم يقضي صوم الأثانين فيهما؛ لأنه إذا بدأ بصوم الشهرين

مسألة تعليق نذر الصوم بقدوم شخص

أمكنه قضاء الأثانين بعدهما، ولو بدأ بصوم الأثانين لم يمكنه صوم الشهرين فكان الجمع بينهما أولى. وإن لزمه صوم الشهرين في الكفارة أولا، ثم نذر صوم الأثانين لزمه صوم الشهرين، وهل يلزمه قضاء الأثانين فيهما؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه - وهو اختيار المحاملي - لأن صيامهما استحق قبل النذر عن الكفارة، فصار كأثانين رمضان. والثاني: يلزمه القضاء - وهو المنصوص في رواية الربيع - لأنه قد كان يمكنه أن يصوم الأثانين في الشهرين اللذين صامهما عن الكفارة عن النذر. قلت: فوزانه من المسألة: أنه لو نذر صوم شهرين بأعيانهما، ثم نذر صوم كل اثنين فإنه يصوم الشهرين المعينين عند النذر الأول، ولا يلزمه قضاء الأثانين فيهما عن النذر الثاني؛ لأن صومهما قد استحق عن النذر الأول. وإن نذر صوم كل اثنين، ثم نذر صوم شهرين بأعيانهما فإنه يصوم سائر أيام الشهرين غير الأثانين عن النذر الثاني، وأما الأثانين: فإنه يصومها عن النذر الأول، ولا يلزمه قضاؤها عن النذر الثاني؛ لأنها مستحقة للصوم عن النذر الأول، فلم يتناولها الثاني. [مسألة تعليق نذر الصوم بقدوم شخص] وإن نذر صوم اليوم الذي يقدم فيه زيد فهل ينعقد نذره؟ فيه قولان: أحدهما: لا ينعقد نذره - وهو اختيار الشيخ أبي حامد - لأنه لا يمكنه الوفاء به؛ لأنه قد يقدم نهارا، فيكون ما صامه قبل القدوم تطوعا. والثاني: ينعقد نذره - وهو اختيار المزني والقاضي أبي الطيب - لأنه يمكنه أن

يتعرف اليوم الذي يقدم فيه، فينوي الصوم فيه من الليل، فانعقد نذره كما لو نذر صوم يوم مطلق. قال الطبري في " العدة ": واختلف أصحابنا في أصل القولين: فمنهم من قال: أصلهما فيمن نذر صوم نصف يوم هل يصح نذره؟ فيه قولان مضى ذكرهما. ومنهم من قال: أصلهما إذا قدم زيد في خلال النهار هل يتبين أن الصوم كان قد وجب عليه من أول النهار، فيه قولان. قال: وفائدة هذا تظهر فيمن قال: هذا العبد حر يوم يقدم فلان، ثم باع العبد في أول اليوم، ثم قدم فلان بعد البيع، فإن قلنا بالطريقة الأولى صح البيع هاهنا، ولا يلزمه شيء. وإن قلنا بالطريقة الثانية عتق العبد وانفسخ البيع؛ لأنه بان أنه باع حرا، وهذه طريقة ابن الحداد. فإذا قلنا: لا ينعقد نذره فلا كلام. وإن قلنا: ينعقد، فإن كان الغالب عنده أنه يقدم غدا، فنوى الصوم من الليل عن نذره، ثم قدم في أثناء النهار فوجهان: [أحدهما] : قال القفال: لا يصح صومه؛ لأنه لم يقطع النية من الليل؛ لأنه كان يحتمل قدومه ويحتمل عدم قدومه. و (الثاني) : قال الشيخ أبو حامد: يصح صومه؛ لأنه قد أتى بما يمكنه الإتيان به، وتبين أن ما قبل القدوم كان تطوعا، وما بعده فرضا، ولا يمتنع مثل ذلك. ألا ترى أنه يجوز أن يدخل في صوم التطوع، ثم ينذر إتمامه، فيلزم، وإن قدم في يوم وهو مفطر فيه أو صائم فيه عن تطوع لم يجزه ذلك؛ لأنه لا يمكنه أن ينوي الصوم الواجب بعد طلوع الفجر. فإن قدم ليلا لم يلزمه شيء؛ لأن الشرط لم يوجد.

فرع تعليق نذر الصوم بأمس أو قدوم شخص أو بقدوم شخصين

[فرع تعليق نذر الصوم بأمس أو قدوم شخص أو بقدوم شخصين] ] : وإن قال: إن قدم فلان فلله علي أن أصوم أمس يوم قدومه فهل يصح نذره؟ فيه طريقان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح نذره قولا واحدا. و [الثاني] : قال ابن الصباغ: ينبغي أن تكون على قولين، كالتي قبلها. وإن قال: إن قدم زيد فلله علي أن أصوم يوم قدومه، ثم قال: إن قدم عمرو فلله علي أن أصوم أول اثنين بعده، فقدم عمرو قبل الاثنين لزمه أن ينوي الصوم لقدوم عمرو ليلة الاثنين. فإن نوى الصوم ثم قدم زيد يوم الاثنين، وقلنا: يصح نذره فإنه يجب عليه أن يتم صوم هذا اليوم عن نذره لقدوم عمرو؛ لأنه قد نواه، ويستحب له أن يقضيه بيوم آخر؛ لأنه صامه عن نذر وقد استحق بنذر قبله، ويجب عليه أن يصوم يوما آخر لقدوم زيد؛ لأنه لم يمكنه أن ينوي الصيام لذلك. فإن قيل: أليس لو قدم زيد في أثناء يوم من رمضان لم يجب عليه القضاء؟ قلنا: الفرق بينهما: أن أيام رمضان لا يجوز أن تقع عن النذر بحال، وهاهنا قد كان يجوز أن يقع الصوم فيه عن قدوم زيد. فإن قال: إن قدم زيد فلله علي أن أصوم يوما يلي يوم قدومه، وإن قدم عمرو فلله علي أن أصوم أول اثنين بعده، فقدما يوم الأحد لزمه أن يصوم يوم الاثنين عن أول نذر نذره، ويجب عليه أن يقضي عن النذر الثاني يوما آخر؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها. [فرع تعليق نذر الاعتكاف على قدوم شخص] ] : وإن نذر اعتكاف اليوم الذي يقدم فيه فلان صح نذره قولا واحدا؛ لأن الاعتكاف يصح في بعض اليوم، بخلاف الصوم. فإن قدم ليلا لم يلزمه شيء؛ لأنه لم يوجد الشرط. وإن قدم نهارا لزمه اعتكاف بقية اليوم، وهل يلزمه قضاء ما فاته من اليوم؟ وجهان:

مسألة نذر الحج ماشيا

أحدهما: يلزمه، وهو قول المزني، كما قلنا في الصوم. والثاني - وهو المذهب -: أنه لا يلزمه؛ لأنه لم يدخل في النذر، ويفارق الصوم: فإنه لا يصح الصوم في بعض اليوم، فلذلك لزمه القضاء. وإن قدم وهو محبوس أو مريض جاز له ترك الاعتكاف، وهل يلزمه القضاء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقضي؛ لأنه تعذر عليه الاعتكاف حال الوجوب. والثاني - وهو المنصوص -: أنه يلزمه القضاء؛ لأن العبادة الواجبة بالشرع إذا تعذرت بالمرض وجب قضاؤها، فكذلك العبادة الواجبة بالنذر. فإذا قلنا بهذا: فإنه يقضي قدر ما بقي من اليوم بعد القدوم، على المذهب، وعلى قول المزني يلزمه قضاء جميع اليوم. [مسألة نذر الحج ماشيا] ] : وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام انعقد نذره، ولزمه المشي إليه بحج أو عمرة؛ لأن المشي ليس بقربة لله إلا لذلك، فإذا أطلقه حمل على المعهود في الشرع؛ لأن المشي إلى العبادة أفضل، ولهذا روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يركب في عيد ولا جنازة» . فإن قيل: فالمشي في الشرع لا يجب، فكيف لزم بالنذر، قلنا: قد يلزم بالنذر من القرب ما ليس بواجب في الشرع ابتداء، مثل: الاعتكاف والإحرام من دويرة أهله. ومن أين يلزمه المشي؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: يلزمه أن يحرم ويمشي من دويرة أهله؛ لأن إتمام

الحج والعمرة يتعلق بذلك، وإنما أجيز تأخير الإحرام إلى الميقات رخصة، فإذا نذر رجع إلى الأصل. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يجب عليه الإحرام والمشي إلا من الميقات - وبه قال أحمد - لأن المطلق محمول على المعهود في الشرع، والإحرام في الشرع إنما يجب من الميقات. فإن أراد الدخول في الحج فإنه يمشي فيه إلى أن يحل له النساء، وهو بالتحلل الثاني، ولا يلزمه المشي لرمي الجمار الثلاث في أيام التشريق. وإن أراد الدخول بعمرة فإنه يمشي فيها إلى أن يحل له النساء أيضا، وهو إلى أن يفرغ من الحلاق إذا قلنا: إنه نسك، وإن قلنا: إنه ليس بنسك، فإلى الفراغ من السعي. وإن أحرم بالحج، ففاته الوقوف بعرفة فإنه يلزمه القضاء ماشيا؛ لأنه بدل عما لزمه، وهل يلزمه المشي في تمام الفائت؟ فيه قولان: أحدهما: يلزمه؛ لأن ذلك قد لزمه بالإحرام. والثاني: لا يلزمه؛ لأن هذا لا يجزئه عن النذر. وإن لزمه المشي فركب نظرت: فإن كان قادرا على المشي فقد أساء بذلك، وحجه صحيح، وعليه هدي؛ لما روى ابن عباس: «أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام، فأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تركب وتهدي هديا» ولأنه ترفه بترك المشي، فأشبه إذا تطيب أو لبس.

فرع نذر أن يركب إلى المسجد الحرام فمشى أو بغير نسك

وإن كان عاجزا عن المشي جاز له أن يركب؛ لأن الواجب بالشرع يسقط بالعجز عنه فلأن يسقط الواجب بالنذر عند العجز أولى، فإذا ركب فهل يجب عليه دم؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب؛ لأنه لو نذر أن يصلي قائما فعجز كان له أن يصلي قاعدا، ولا شيء عليه، فكذلك هاهنا. والثاني: يجب عليه الهدي؛ لحديث عقبة بن عامر؛ لأنه لا يجوز أن يأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالركوب إلا مع العجز. ولأنه إذا تركه مع القدرة لزمه الدم، وكذلك إذا تركه عاجزا، كسائر المناسك، بخلاف الصلاة فإنه لا يدخلها الجبران بالهدي، والحج يدخله الجبران. هذا نقل الشيخ أبي حامد والبغداديين من أصحابنا. وقال صاحب " الإبانة ": إذا نذر الحج ماشيا فهل يلزمه الحج ماشيا أو يجوز له الركوب؟ فيه قولان، بناء على أن الأفضل أن يحج راكبا أو ماشيا، فإن قلنا: إن الأفضل أن يحج ماشيا لزمه المشي، فإن ركب مع القدرة على المشي فهل يصح حجه؟ فيه قولان. فإن قلنا: يصح فعليه الدم، وإن قلنا: لا يصح فعليه القضاء، ومن أين يمشي؟ ينظر في لفظه: فإن قال: علي لله أن أحج ماشيا أو أحرم ماشيا فمن وقت الإحرام بالحج. وإن قال: علي لله أن أمشي إلى مكة حاجا فمن حين يخرج من بيته. [فرع نذر أن يركب إلى المسجد الحرام فمشى أو بغير نسك] ] : وإن نذر أن يركب إلى بيت الله الحرام فمشى فالمشهور من المذهب: أن عليه الدم: لأنه ترفه بترك مؤنة الركوب. وحكى صاحب " الفروع " وجها آخر: أنه لا دم عليه؛ لأن المشي أشق من الركوب. وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لا حاجا ولا معتمرا فوجهان: أحدهما: لا ينعقد نذره؛ لأن النذر إنما ينعقد إذا أطلق؛ لأنه محمول على عرف

فرع نذر المشي لبيت الله ولم يقل الحرام

الشرع بالقصد إليه بالنسك، فإذا شرطه بغير نسك خرج عن معهود الشرع، فلم يصح نذره. والثاني: يصح نذره، ويلزمه المشي بحج أو عمرة؛ لأن النسك قد لزم بقوله: علي لله أن أمشي إلى بيت الله الحرام، وقوله: (لا حاجا ولا معتمرا) : لغو في الكلام، فوجب إسقاطه. قال الشيخ أبو حامد: يشبه أن يكون هذان الوجهان مأخوذين من القولين فيمن نذر المشي إلى مسجد المدينة أو المسجد الأقصى؛ لأن المشي هناك لا يتضمن النسك كذا هاهنا إذا صرح بترك النسك. قال ابن الصباغ: وهذا البناء لا يستقيم؛ لأنه إذا قلنا: يصح النذر هاهنا يلزمه المشي بالنسك، بخلاف المشي إلى مسجد المدينة أو المسجد الأقصى. [فرع نذر المشي لبيت الله ولم يقل الحرام] ] : إذا نذر المشي إلى بيت الله ولم يقل: الحرام ولا نواه فنقل المزني: (أنه ينعقد نذره) . وقال في " الأم " [2/230] ما يدل على أنه لا يلزمه. قال ابن الصباغ: ففي المسألة قولان، ولكنها مشهورة بالوجهين: أحدهما: لا ينعقد نذره؛ لان المساجد كلها بيوت الله. والثاني: ينعقد نذره، ويلزمه المشي إلى بيت الله الحرام بحج أو عمرة؛ لأن إطلاق بيت الله لا ينصرف إلا إليه. قال المحاملي: والأول أصح. [فرع النذر إلى موضع من الحرم أو إلى عرفة] وإن نذر المشي إلى بقعة من الحرم لزمه المشي إليه بحج أو عمرة. قال الطبري في " العدة ": وسواء قال: علي لله أن أمشي، أو أذهب، أو أسير

فرع نذر المشي لمسجد غير الثلاثة أو لمسجد المدينة والأقصى

أو أنتقل، أو آتي، أو أمضي، فكل ذلك سواء. وذكر المحاملي في " التجريد ": إذا قال: علي لله أن أذهب إلى مكة، أو إلى البيت، أو إلى الحرم فإنه يلزمه الذهاب بنسك، ولكن لا يلزمه المشي، بل إن شاء ذهب راكبا أو ماشيا؛ لأن اسم الذهاب يقع على الجميع. وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه إلا إذا نذر المشي إلى بيت الله، أو إلى مكة، أو إلى الكعبة استحسانا، فإذا نذر المشي إلى بقعة من الحرم غير ذلك فلا يلزمه) . دليلنا: أنه موضع لا يجوز دخوله بغير إحرام، فلزمه النذر بالمشي إليه بالنسك كالبيت. وإن نذر المشي إلى عرفة فالمشهور من المذهب: أنه لا يلزمه بذلك شيء. وحكى صاحب " الفروع ": أن أبا علي بن أبي هريرة قال: يلزمه المشي إليها بنسك؛ لأنها منسك. وليس بشيء؛ لأنه موضع يجوز قصده بغير إحرام، فلم يلزمه المشي إليه بالنذر، كسائر بقاع الحل. وقوله: (إنها منسك) : يبطل بالميقات. [فرع نذر المشي لمسجد غير الثلاثة أو لمسجد المدينة والأقصى] ] : وإن نذر المشي إلى مسجد غير المساجد الثلاثة لم يجب عليه شيء لأنه لا تشد إليه الرحال. وإن نذر المشي إلى مسجد المدينة أو المسجد الأقصى فهل ينعقد نذره؟ فيه قولان وقد مضى توجيههما. فإذا قلنا: لا يصح فلا كلام. وإذا قلنا: يصح النذر فقال ابن الصباغ: فإذا بلغ إليها صلى ركعتين واجبتين؛ لأن القصد بالسعي إليهما القربة بالصلاة فيهما، فتضمن ذلك نذره. وقال الطبري في " العدة ": يصلي فيهما ركعتين، أو يعتكف ساعة حتى تكون قربة.

مسألة نذر الحج السنة

[مسألة نذر الحج السنة] ] : إذا قال: علي لله أن أحج في هذه السنة، فإن وجدت فيه الشرائط المعتبرة لوجوب حجة الإسلام في هذه السنة - وهي: البلوغ والعقل والحرية والإسلام وتخلية الطريق وإمكان السير ووجود الزاد والراحلة - فإن لم يحج استقر الفرض عليه، ولم يسقط عنه الفرض إلا بفعله بعد ذلك. وإن وجدت فيه هذه الشرائط ولكن أحصر حصرا عاما حتى مضت هذه السنة فالمنصوص: (أنه لا يجب عليه القضاء) كما نقول في حجة الإسلام إذا أحرم بها، ولم يكن تمكن منها قبل ذلك، فأحصر حصرا عاما فتحلل فإنه لا قضاء عليه. وحكى الطبري في " العدة ": أن أبا العباس ابن سريج قال: يجب على الناذر القضاء؛ لأنه أمر إذا لم يجب بالشرع فإنه يجب بالنذر، كالمريض لا يجب عليه الحج بالشرع، ولو نذر الحج وجب عليه. فإن أحصر هذا الناذر في هذه السنة حصرا خاصا، بأن مرض أو حبس أو أخطأ الطريق قال المحاملي في " التجريد " والطبري في " العدة ": فإن الفرض يستقر عليه في حجة الإسلام، وفي حجة النذر أيضا، لا لأن الطريق مخلى: وإنما تعذر عليه الحج لمعنى يخصه، فاستقر عليه الفرض، ومتى عدمت الشرائط في هذا الناذر في هذه السنة فقد قلنا: لا يجب عليه، وإن وجدت الشرائط بعد هذه السنة فيه لم يجب عليه؛ لأنه قد نذره في هذه السنة، بخلاف حجة الإسلام. وبالله التوفيق

باب الأطعمة

[باب الأطعمة] الأصل في وجوب إباحة الأطعمة قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] . إذا ثبت هذا: فالحيوان على ضربين: بري، وبحري. فأما البري: فلا يحل النجس منه، مثل: الكلب والخنزير، وكذلك: ما توالد منهما، أو من أحدهما؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] . وقَوْله تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] والكلب من الخبائث. والدليل على ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الكلب خبيث، خبيث ثمنه» . فإن ارتضع جدي من كلبة أو خنزيرة حتى نبت لحمه ففي إباحة لحمه وجهان، حكاهما الشاشي.

ويحل أكل الأنعام - وهي الإبل، والبقر، والغنم - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] [المائدة: 1] . وقَوْله تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] . والأنعام من الطيبات وأجمع المسلمون على إباحة أكلها. ويجوز أكل لحم الخيل، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: (يكره كراهة يتعلق بها الإثم) ، ولا يقول: إنها محرمة. دليلنا: ما روى جابر قال: «ذبحنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر الخيل والبغال والحمير، فنهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل» . ويحرم أكل لحوم الحمر الأهلية، وبه قال جماعة من العلماء. وروي عن ابن عباس: أنه قال: (تحل) . دليلنا: حديث جابر. ويحرم أكل لحوم البغال.

مسألة: أكل الضبع والثعلب وغيرهما

وقال الحسن البصري: يحل. دليلنا: حديث جابر. ويحرم أكل السنور الأهلي؛ لما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل الهر» وفي السنور البري وجهان: أحدهما: لا يحل: للخبر. والثاني: يحل؛ لأن كل حيوان كان منه إنسي ووحشي اختص التحريم بالأهلي، كالحمار. [مسألة: أكل الضبع والثعلب وغيرهما] ] : ويحل أكل الظبي والوعل وبقر الوحش وحمر الوحش لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] وهذه كلها من الطيبات. ويحل أكل الضبع والثعلب.

مسألة: في أكل الأرنب والقنفذ وغيرهما

وقال أبو حنيفة: (لا يحل أكلهما) . وقال مالك: (يكره أكلهما) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] وهما من الطيبات، وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الضبع صيد يؤكل» . [مسألة: في أكل الأرنب والقنفذ وغيرهما] ] : ويحل أكل الأرنب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] والأرنب من الطيبات. ولما روى جابر: «أن غلاما من قومه صاد أرنبا أو اثنين، فذبحهما بمروة، فتعلقهما حتى لقي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكلهما، فأمره بأكلهما» . ويحل أكل اليربوع، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يحل) . دليلنا: أنه من الطيبات، وأوجب عمر فيه الجزاء فدل على أنه صيد يؤكل. ويحل أكل القنفذ. وقال أبو حنيفة وأحمد: (لا يحل) .

فرع: فيما يتقوى بنابه وحكم ابن آوى

دليلنا: ما روي: أن ابن عمر سئل عن أكل القنفذ، فتلا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] [الأنعام: 145] . وهذا فتوى منه بإباحته. ويحل أكل ابن عرس والوبر. و (ابن عرس) : دويبة أصغر من الوبر. وقال أبو حنيفة: (لا يحل واحد منهما) . دليلنا: أنهما مستطابان عند العرب، فحل أكلهما. ويحل أكل الضب، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يحل) . دليلنا: ما روي «عن خالد بن الوليد قال: دخلت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيت ميمونة، فقربت لنا ضبا محنوذا، فأهوى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه بيده، فقال بعض النسوان اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يريد أن يأكل منه، فقيل له: هو ضب، فرفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: " لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه " قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينظر، فلم ينهني» . [فرع: فيما يتقوى بنابه وحكم ابن آوى] ] : ولا يحل أكل ما يتقوى بنابه ويعدو على الناس وعلى البهائم، كالأسد والفهد والنمر والدب والذئب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] وهذه

مسألة: أكل النعامة وغيرها من الطيور

كلها من الخبائث. ولما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» وفي ابن آوى وجهان: أحدهما: يحل؛ لأنه ضعيف الناب، فأشبه الضبع. والثاني: لا يحل؛ لأنه من جنس الكلاب، والعرب لا تستطيبه، ولأنه كريه الرائحة. ولا تحل الحيات والعقارب والفأر والخنافس والوزغ وما أشبهها من حشرات الأرض؛ لأنها من الخبائث. [مسألة: أكل النعامة وغيرها من الطيور] مسألة: [جواز أكل النعامة وغيرها من الطيور وحرمة ما له مخلب] : ويحل أكل النعامة؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قضوا فيها ببدنة إذا قتلها المحرم، فدل على أنها صيد. ويحل الديك والدجاج والحمام والقطا والبط والكركي والعصفور؛ لأن كل هذه مستطابة. ويحل أكل الجراد؛ لما «روى عبد الله بن أبي أوفى قال: (غزوت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبع غزوات ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأكل الجراد ونأكلها معه» . وروي: أن الجراد ذكرت عند عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: (ليت لنا منها قفعة أو قفعتين) . وقال أبو العباس بن القاص، وأبو علي في " الإفصاح ": لا يحل أكل الهدهد،

والخطاف؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلهما) ، وذلك يدل على تحريمهما. ولا يحل أكل ما له مخلب يصطاد به، كالعقاب والصقر والشاهين والباشق؛ لحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ويحرم النسر والرخمة؛ لأنهما مستخبثان. وتحرم الحدأة، والغراب الأبقع، والغراب الأسود الكبير؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس يقتلن في الحل والحرم: الحية، والفأرة، والغراب الأبقع، والحدأة، والكلب العقور» وما أمر بقتله لا يحل أكله. وأما الغراب الذي يسمى الغداف: وهو صغير الجسم، لونه كلون الرماد، وغراب الزرع ففيهما وجهان: أحدهما: لا يحلان؛ لعموم الخبر.

مسألة: أكل ما تولد من حيوان يؤكل وغيره

والثاني: يحلان؛ لأنهما مستطابان يلتقطان الحب، فهما كالحمام. ويحرم الذباب، والنحل، والزنبور، وما أشبهها؛ لأنها مستخبثة. [مسألة: أكل ما تولد من حيوان يؤكل وغيره] مسألة: [لا يؤكل ما تولد من حيوان يؤكل وغيره] : ولا يحل ما تولد بين حيوان يؤكل وحيوان لا يؤكل، كالسمع المتولد بين الضبع والذئب، سواء كان الذكر مما يحل أو الأنثى تغليبا للتحريم. وإن نزا فرس على أتان وحشية، أو نزا حمار وحشي على رمكة قال الشافعي: (كان المتولد بينهما حلالا؛ لأنهما مما يحل أكلهما) . ولو اشتبه ولد حيوان: هل هو متولد من ذكر يحل أم لا يحل؟ قال ابن الصباغ: فالاختيار: أن لا يؤكل، فإن أراد أكله نظر إلى خلقته، فإن كان الذي يحل أكله أولى بخلقته حل. وإن كان الذي لا يحل أكله أولى بخلقته لم يحل. [مسألة: الذي لم يرد فيه تحليل ولا تحريم] ] : وما لم يرد فيه تحليل ولا تحريم ينظر فيه: فإن كان مما تستطيبه العرب فهو حلال. وإن كان مما تستخبثه العرب فهو حرام. وإن استطابه قوم واستخبثه آخرون رجع إلى ما عليه الأكثر. قال الطبري: وإنما يرجع فيه إلى العرب الذين كانوا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من

مسألة: أكل الجلالة

أهل الريف والسعة دون الأجلاف وأهل الضرورة. وإن اتفق في بلاد العجم ما لا يعرفه العرب رجع فيه إلى شبيهه مما يحل ومما لا يحل، فيحكم فيه ما يحكم بشبهه. قال: وإن لم يشبهه شيء ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق، وأبو علي الطبري: يكون حلالا؛ لما روي عن ابن عباس: أنه قال: (بعث الله نبيه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وأنزل عليه كتابه، وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو) . و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يحل؛ لأن أصل الحيوان التحريم، إلا ما ورد الشرع بتحليله. هذا نقل الشيخ أبي حامد. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : ما لم يرد نص بتحريمه فهو حلال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الآية [الأنعام: 145] . [مسألة: أكل الجلالة] مسألة: [كراهة أكل الجلالة] : وأما الجلالة - وهي: البهيمة التي أكثر علفها العذرة، من ناقة وبقرة وشاة ودجاجة - فنقل الشيخ أبو حامد: أنه يكره أكل لحمها ولبنها وبيضها ولا يحرم. وقال القفال: إن لم يتغير لحمها بذلك لم يحرم، وإن تغير لحمها بذلك حتى ظهرت رائحة العذرة فيه لم يحل أكل لحمها ولبنها وبيضها، ولو غسل وطبخ لم يطهر بذلك. واحتج بما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل الجلالة، وعن شرب ألبانها حتى تحبس» وبه قال أحمد.

مسألة: حيوان البحر وما يحل منه والضفدع وغيره

ووجه قول الشيخ أبي حامد: أن ما تأكله البهيمة من الطاهرات ينجس إذا حصل في كرشها فلا يكون غذاؤها إلا بالنجاسة، ولا يؤثر ذلك في إباحة لحمها ولبنها وبيضها، ولأن النجاسة التي تأكلها تنزل في مجاري الطعام ولا تخالط اللحم، وإنما يتغير اللحم بها، وذلك يقتضي الكراهية لا التحريم، كما لو كان معه لحم طري فتركه حتى أنتن فإنه لا يحرم بذلك، هذا هو المشهور. وحكى الشاشي وجها آخر: أن اللحم إذا أنتن لم يحل أكله، وليس بشيء. إذا ثبت هذا: فإن علفت الجلالة علفا طاهرا حتى زالت رائحة بدنها زالت الكراهة عند الشيخ أبي حامد، والتحريم عند القفال. وليس للوقت الذي تعلف فيه العلف الطاهر حد، وإنما الاعتبار بما يعلم في العادة أن رائحة العذرة قد زالت عن لحمها. قال ابن الصباغ: وقد حده بعض أهل العلم: بأن يعلف البعير والبقرة أربعين يوما علفا طاهرا، والشاة سبعة أيام، والدجاجة ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام. وليس ذلك بتقدير، وإنما الاعتبار بما ذكرناه. [مسألة: حيوان البحر وما يحل منه والضفدع وغيره] ] : وأما حيوان البحر: فيحل منه السمك؛ لما روي عن ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد» .

ولا يحل أكل الضفدع لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتله) ولو حل أكله لم ينه عن قتله؛ لأنه لا يتوصل إلى أكله إلا بقتله. وقيل: إنه سم. قال الشيخ أبو حامد: والسرطان مثله لا يحل أكله. قال القاضي أبو الطيب: وكذلك النسناس لا يحل؛ لأنه على خلقة الآدمي. وفيما سوى ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: لا يحل - وهو قول أبي حنيفة - وتعلق هذا القائل بقول الشافعي: (وما رأيت من الميت شيئا يحل إلا الحوت والجراد) . ولما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد» فخص السمك بذلك. والثاني: يحل ما أشبه ما كان حلالا في حيوان البر، فأما ما يشبه ما كان حراما في البر، ككلب الماء وخنزيره: فإنه لا يحل، كما نقول فيما أشكل من حيوان البر: إنه يرد إلى ما أشبهه. والثالث - وهو المنصوص -: (أنه يحل الجميع) ؛ لأن الشافعي سئل عن كلب الماء وخنزيره فقال: (يحل أكله) . قال القاضي أبو الطيب: وأما قوله: (لا يحل من الميت إلا الحوت والجراد) : فجميع حيوان البحر يسمى حوتا وسمكا، والدليل على تحليل الجميع: قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] [المائدة: 96] . ولم يفرق.

مسألة: اعتبار الضرر في تحريم غير الحيوان

[مسألة: اعتبار الضرر في تحريم غير الحيوان] وأما غير الحيوان: فلا يحل منه النجس؛ لأنه من الخبائث، ولا يجوز أكل ما يضر من الطاهر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] [النساء: 29] . ويحل منه ما لا يضر، كالحبوب والفواكه والثمار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] [الأعراف: 157] وهذه كلها من الطيبات، ولأن ذلك إجماع ولا خلاف فيه. [مسألة: جواز أكل الميتة للمضطر] وحكم الدواء النجس] : يجوز للمضطر أكل الميتة والدم والكلب والخنزير وغير ذلك من المحرمات التي لا يتلف بأكلها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] إلى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] . و (الضرورة التي يباح فيها له أكل ذلك) : هي خوف التلف على نفسه، أو يخاف إن لم يأكلها مرضا مخوفا، أو أن يكون ماشيا فيعجز عن المشي إن لم يأكلها أو يعجز عن الركوب إن كان راكبا وينقطع بذلك عن رفقته، أو يكون به داء لا يذهبه إلا أكل النجس، فأما إذا كان به داء يطول ولكنه غير مخوف كحمى الربع فلا يحل له أن يتناول النجس لأجلها، وإن كان به داء لو لم يتناول الدواء النجس امتد وصار مخوفا فهل له أن يتناول الدواء النجس؟ فيه قولان، حكاهما في " العدة ": أحدهما: يحل له، كما لو كان مخوفا.

فرع: وجوب سد الرمق للمضطر

والثاني: لا يحل؛ لأنه في الحال غير مخوف. إذا ثبت هذا: وأنه يجوز للمضطر أكل الميتة فله أن يأكل منها ما يسد به الرمق، وليس له أن يزيد على الشبع. وهل يجوز له أن يشبع منها؟ فيه قولان: أحدهما: له ذلك؛ لأن كل ما جاز له أن يأكل منه ما يسد به الرمق جاز له أن يشبع منه، كالحلال. والثاني: ليس له ذلك - وبه قال أبو حنيفة، وهي إحدى الروايتين عن مالك وأحمد - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] [الأنعام: 119] وبعد سد الرمق هو غير مضطر. وحكى الطبري: أن من أصحابنا من قال: إن كان في بلد لم يجز له أن يشبع؛ لأنه يرجو وجود طعام طاهر، وإن كان في سفر لا يرجو وجود ميتة أخرى ولا طعام طاهر فله أن يشبع. [فرع: وجوب سد الرمق للمضطر] وهل يجب عليه أن يأكل من الميتة ما يسد به الرمق؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه، ويأثم إذا لم يأكل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] [البقرة: 195] وفي ترك الأكل تهلكة.

فرع: بذل ما يفضل عن الحاجة للمضطر

والثاني: لا يجب عليه؛ لأن له غرضا في تركه، وهو أن يجتنب ما حرم عليه، كما يجوز له أن يغمس نفسه في العدو وإن كان يعتقد أنه يقتل. قال القاضي أبو الطيب: والأول أصح. [فرع: بذل ما يفضل عن الحاجة للمضطر] ] : إذا كان مع رجل طعام يفضل عن حاجته، وهناك آخر مضطر إليه على الصفة التي ذكرناها.. وجب على صاحب الطعام بذله للمضطر؛ لما روي: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «أيما رجل مات جوعا في محلة قوم سألهم الله بدمه يوم القيامة» . ولأنه لو رأى من يغرق في ماء أو نار وهو يقدر على تخليصه، وجب عليه تخليصه، فكذلك هاهنا. إذا ثبت هذا: فإن كان مع المضطر عوض عن الطعام.. لم يجب على صاحب الطعام بذل طعامه له إلا بدفع العوض من المضطر؛ لأنا إنما أوجبنا على صاحب الطعام بذل طعامه لدفع الضرر عن المضطر، فلا يجوز أن يدفع عنه الضرر، ويلحق

الضرر بصاحب الطعام. ويجب على المضطر بذل العوض لصاحب الطعام وجها واحدا، بخلاف النجاسة؛ لأن في النجاسة لا يجب عليه ـ في أحد الوجهين ـ ليتجنب المحرم، فهذا لا يوجد هاهنا. فإن بلغ المضطر إلى حالة لا يمكنه دفع العوض ... وجب على صاحب الطعام بذل طعامه قبل الدفع؛ لأن التأخر عن ذلك يفضي إلى قتل المضطر. وإن لم يكن مع المضطر مال.. لزمه أن يلتزم العوض بذمته. وحكي عن بعض الناس: أنه قال: يلزم صاحب الطعام بذل الطعام له بغير عوض، كما لو رأى من يغرق أو يحترق.. فإنه يلزمه أن يخلصه من غير اشتراط عوض. دليلنا: أن الذمة تجري مجرى المال؛ لأن التصرف ينفذ فيها، كما ينفذ في المال، ثم ثبت: أنه لو كان معه مال.. لم يلزمه البذل بغير عوض، كذلك الذمة. وأما تخليص الغريق والمحترق: فإن أمكنه موافقته على أجرته.. لم يلزمه تخليصه إلا بعد أن يبذل شرط العوض، وإن تعذر ذلك.. وجب عليه تخليصه قبل ذلك، وكذلك في الطعام مثله. فإن امتنع صاحب الطعام من بذله بعوض مثله.. فللمضطر أن يكابره على أخذه ويقاتله على ذلك.. فإن قتله صاحب الطعام.. وجب عليه ضمانه بالقصاص إن كان مكافئا له، أو بالدية إن كان غير مكافئ له. وإن قتله المضطر.. لم يجب عليه ضمانه بقصاص ولا دية ولا كفارة؛ لأنه قتله ليدفع عن نفسه. وكم القدر الذي يجب على صاحب الطعام بذله، ويجوز للمضطر مكابرته عليه؟ فيه قولان:

فرع: امتناع المضطر من الطعام إن خاف السم أو المرض

أحدهما: قدر ما يسد به رمقه. والثاني: ما يشبع به، كالقولين في الميتة. فإن طلب صاحب الطعام بطعامه أكثر من عوض المثل ولم يتمكن المضطر من مكابرته على أخذه، أو كان قادرا على ذلك لكنه ترك مكابرته تجنبا لإراقة الدم، فإن أمكنه أن يخادعه ويشتريه منه بشرط باطل.. كان له ذلك، ولا يلزمه إلا قدر قيمته، وإن لم يمكنه ذلك فاشتراه بأكثر من عوض المثل.. ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه ما عقد به؛ لأن العقد خلا مما يفسده. والثاني: لا يلزمه إلا قدر قيمته؛ لأنه كالمكره على ذلك. وإن بذل له الطعام فأكله، ثم اختلفا.. فقال صاحب الطعام: بذلته بعوض، وقال المضطر: بل بذلته بغير عوض.. ففيه قولان، حكاهما في " العدة ": أحدهما: القول قول المضطر مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته منه. والثاني: القول قول صاحب الطعام مع يمينه؛ لأن الظاهر أنه ما يرضى بخروج ملكه من يده إلا بعوض. وإن كان صاحب الطعام مضطرا إلى طعامه.. لم يجب عليه بذله لمضطر آخر إلا أن يكون المضطر الآخر نبيا.. فيجب على صاحب الطعام إيثاره على نفسه؛ لأنه يجب على الإنسان أن يقي نفس النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بنفسه. [فرع: امتناع المضطر من الطعام إن خاف السم أو المرض] فرع: [امتناع المضطر من الطعام إن خاف السم أو زيادة المرض] : قال الشافعي في ذبائح بني إسرائيل: (وإذا اضطر ووجد من يطعمه ويسقيه.. فليس له الامتناع إلا في حالة واحدة، وهو أن يخاف إن أطعمه أو سقاه أن يسمه.. فله

فرع: وجود طعام الغير والميتة

تركه وأكل الميتة، وإن كان مريضا ووجد مع غيره طعاما يضره ويزيد في مرضه.. كان له تركه وأكل الميتة) . [فرع: وجود طعام الغير والميتة] وإن وجد المضطر الميتة وطعام الغير، فإن كان رب الطعام حاضرا فبذله له أو باعه بثمن المثل إما حالا أو مؤجلا.. لم يجز له أكل الميتة؛ لأنه غير مضطر إليها. وإن لم يبذله له، أو بذله بأكثر من ثمن المثل.. نظرت: فإن كان يخاف التلف من مكابرة صاحب الطعام، بأن كان قويا لا يأمن أن يقتله.. عدل إلى الميتة. وإن كان لا يخاف التلف لكون صاحب الطعام ضعيف البنية، أو كان صاحب الطعام غائبا.. ففيه وجهان: أحدهما: يعدل إلى الميتة، ولا يجوز أكل مال الغير ـ وبه قال أحمد ـ لأن إباحة الميتة منصوص عليها في القرآن، وأكل مال الغير بغير اختياره مجتهد فيه، فكان تقديم الميتة أولى. والثاني: يأكل طعام الغير؛ لأنه طاهر، فكان تقديمه أولى. وهل له أن يشبع من مال الغير؟ فيه طريقان، حكاهما في " العدة ": [أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان كالميتة. و [الثاني] : منهم من قال: ليس له أن يشبع من مال الغير قولا واحدا؛ لأن المنع من أكل مال الغير لحق الآدمي، وحقوق الآدمي مبنية على الشح والتضييق. [فرع: وجود الميتة ومال الغير والصيد للمحرم] وإذا وجد المضطر ميتة وصيدا وهو محرم.. ففيه طريقان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: إن قلنا: إنه إذا ذبح الصيد صار ميتة.. أكل

الميتة وترك الصيد. لأنه يلزمه الجزاء. وإن قلنا: لا يصير ميتة.. أكل الصيد؛ لأنه طاهر. و [الثاني] : منهم من قال: إذا قلنا: إنه يصير ميتة ... أكل الميتة. وإن قلنا: لا يكون ميتة.. ففيه قولان. وإن وجد المحرم ميتة ولحم صيد، فإن كان ذبحه محل ... فهو ملك له، فيكون على الوجهين فيمن وجد الميتة وطعام الغير وإن كان ذبحه هو قبل إحرامه، فهو طعامه يأكله ويدع الميتة. وإن كان ذبحه هو بعد إحرامه أو ذبحه محرم غيره، فإن قلنا: إنه لا يصير ميتة فالصيد أولى؛ لأنه طاهر. وإن قلنا: إنه يصير ميتة فوجهان: [أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: هو بالخيار: بين أن يأكل الميتة، وبين أن يأكل من لحم الصيد؛ لأن كل واحد منهما ميتة. و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: أكل الميتة أولى؛ لأنه قد قيل: إن في أكل هذا اللحم الجزاء. وإن وجد ملك الغير وصيدا وهو محرم.. فذكر الطبري في " العدة ": إن قلنا: إن الصيد يصير بالذبح ميتة.. تناول ملك الغير، وإن قلنا: لا يصير ميتة.... ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: يتناول مال الغير؛ لأن في قتل الصيد هتك حرمة. والثاني: أن تناول الصيد أولى؛ لأن المنع منه لحق الله تعالى، وحقوق الله تعالى تقبل المسامحة. والثالث: أنهما سواء. وإن وجد الميتة والصيد وطعام الغير، فإن قلنا: يصير الصيد ميتة.. فمال الغير مع الميتة أولى من الصيد، وأيهما أولى؟ فيه وجهان مضى تعليلهما. وإن قلنا: لا يصير الصيد ميتة.. ففيه قولان: أحدهما: الميتة أولى من الصيد ومال الغير.

فرع: أكل الآدمي أو عضو منه للمضطر

والثاني: هما أولى من الميتة، وأيهما أولى؟ فيه ثلاثة أقوال، وقد مضى ذكرها. [فرع: أكل الآدمي أو عضو منه للمضطر] وإن لم يجد المضطر إلا آدميا محقون الدم: من مسلم أو ذمي أو حربي له أمان.. لم يجز له أن يقتله ليأكله؛ لأنه مثله. فإن كان حربيا لا أمان له، أو مرتدا، أو من وجب قتله بالزنا.. جاز له قتله ليأكله. وإن وجد آدميا ميتا.. جاز له أكله. قال ابن داود: أباح الشافعي أكل لحم الآدمي! فنعارضه: بأنك لم تجعل للنبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ إذا اضطر أن يأكل لحم ميت، بل تتركه حتى يموت؟ وقال أحمد: (لا يأكله) . دليلنا: أن حرمة الحي آكد من حرمة من وجب قتله، أو من الميت، ولأنه لا خلاف: أن قوما لو كانوا في سفينة وخافوا الغرق ومعهم ميت.. جاز لهم طرحه في البحر؛ لتخف السفينة، فكذلك هاهنا. فإن لم يجد المضطر شيئا يسد به رمقه.. فهل يجوز له أن يقطع عضوا من بدنه ليأكله؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: يجوز له ذلك؛ لأنه يجوز له حفظ نفسه بقطع بعضه، كما إذا وقعت به أكلة، فكذلك هاهنا مثله. والثاني: ليس له ذلك؛ لأن الخوف عليه من ذلك أكثر.

فرع: شرب المحرم للضرورة

[فرع: شرب المحرم للضرورة] وإن وجد خمرا وبولا وهو خائف على نفسه من العطش.. فإنه يشرب البول دون الخمر؛ لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أمر العرنيين أن يشربوا أبوال الإبل» . وإن لم يجد غير الخمر واحتاج إليها للعطش أو للتداوي.. ففيه أربعة أوجه: أحدها: لا يجوز شربها بحال؛ لأنها مما يجب الحد بشربها، بخلاف الميتة. والثاني: يجوز شربها؛ لأنه مضطر إلى شربها. فهو كالمكره. والثالث: يجوز شربها للعطش؛ لأنها تروي في الحال، ولا يجوز شربها للتداوي؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» . والرابع: لا يجوز شربها للعطش؛ لأنه يزداد إلهابا، ويجوز التداوي بشرب اليسير منه. [مسألة: الأكل من ثمر الغير للاضطرار] وإن مر ببستان لغيره وهو غير مضطر إليه.. لم يجز له أن يأخذ منه شيئا بغير إذنه. وقال أحمد: (إذا مر ببستان غير محوط وفيه ثمرة رطبة.. جاز له أن يأكل منها

فرع: ضيافة المسلم

في إحدى الروايتين ـ لما روى أبو سعيد: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إذا أتيت على حائط بستان.. فناد صاحبه ثلاثا، فإن أجابك وإلا.. فكل من غير أن تفسد» . ودليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» فإن صح ما رواه أحمد.. حملناه على المضطر، بدليل ما رويناه. [فرع: ضيافة المسلم] ] : وإن استضاف مسلم مسلما، فإن لم يكن به ضرورة.. لم يجب عليه ضيافته، وإنما يستحب. وقال أحمد: (ضيافة المسلمين واجبة لبعضهم على بعض) ؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «ليلة الضيافة واجبة على كل مسلم» .

مسألة: كسب الحجام

دليلنا: أنه غير مضطر إلى طعامه، فلم يجب عليه بذله، كما لو لم يأت إليه، والخبر محمول على الاستحباب، كقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «غسل الجمعة واجب» . [مسألة: كسب الحجام] مسألة: [حل كسب الحجام] : ولا يحرم كسب الحجام على الحر ولا على العبد. وحكي عن بعض أصحاب الحديث: أنه قال: هو حلال للعبد، وحرام على الحر. دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ احتجم وأعطى الحجام أجره» . قال ابن عباس: (ولو كان حراما.. ما أعطاه) . إذا ثبت هذا: فإنه يكره للحر أن يكتسب بالحجامة. قال الشاشي: واختلف أصحابنا في علة كراهته، فمنهم من قال: لأجل مباشرة النجاسة. فعلى هذا: يكره كسب الكناس والزبال والقصاب. وفي الفصاد وجهان: أحدهما: أنه من جملتهم. والثاني ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أنه لا يكره لاقترانه بالطب. وأما كسب الختان: فمكروه، كالحجام. والثاني: أن كراهة الحجامة لدناءتها، وهو ظاهر مذهب الشافعي. فعلى هذا: يكره كسب الدباغ والقمام، وفي كسب الحمامي وجهان، وفي كراهة ذلك للعبد وجهان، الصحيح: لا يكره؛ لأنه دنيء. قال النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «يسعى

بذمتهم أدناهم» وأراد به العبد. واختلفوا في أطيب المكاسب: فمنهم من قال: الزراعة. ومنهم من قال: الصناعة. ومنهم من قال: التجارة، وقال الشاشي: وهو أظهرها، على مذهب الشافعي. وبالله التوفيق.

باب الصيد والذبائح

[باب الصيد والذبائح] . الحيوان على ضربين: ضرب: لا تعتبر في إباحته الذكاة. وضرب: تعتبر في إباحته الذكاة. فأما ما لا يعتبر فيه الذكاة: كالسمك والجراد. فأما السمك: فكل ما قلنا يحل من دواب البحر.. فيحل أكل كل ما مات منه، سواء مات بسبب أو بغير سبب، مثل: أن ضربه إنسان أو حبس عنه الماء حتى مات، أو مات بحر الماء أو ببرده، أو مات حتف أنفه. هذا قولنا، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (إن مات بسبب: إما بضرب أو بحبس الماء عنه.. حل أكله ـ وإن مات ببرد الماء أو بحره.. فهل يحل؛ له فيه روايتان ـ وإن مات حتف أنفه.. لم يحل) . وهذه المسألة هي المشهورة بالسمك الطافي. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} [المائدة: 96] [المائدة:96] . قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (صيده: ما صدناه بأيدينا، وطعامه: ما مات فيه) وهكذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وروى أبو هريرة: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . وروى ابن عمر: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال» . ولأن كل حيوان حل أكله إذا مات بسبب.. حل أكله إذا مات حتف أنفه، كالجراد.

مسألة: لا يضر صيد المجوسي وغيره للسمك

[مسألة: لا يضر صيد المجوسي وغيره للسمك] قال الشافعي: (وسواء أخذ السمك مجوسي أو وثني) ؛ لأنه لا ذكاة له، فيحل الجميع؛ لما روي عن الحسن البصري: أنه قال: (رأيت سبعين رجلا من الصحابة، كلهم يأكلون صيد المجوسي من الحيتان لا يتلجلج في صدورهم شيء من ذلك) . ولأنه لا تعتبر فيه الذكاة، فلا تعتبر فيه صفة من يأخذه. [فرع: أكل ما قطع من السمكة وهي حية] فرع: [ما قطع من السمكة وهي حية] : فإن أخذ بيده سمكة فانقطع في يده منها قطعة، وانفلت الباقي منها حيا ... فهل تحل له تلك القطعة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحل؛ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «ما أبين من حي.. فهو ميت» . والثاني: تحل، وهو المنصوص؛ لأن أكثر ما فيه: أن تلك القطعة ميتة، ولو مات جميع السمكة.. كانت حلالا. فإن قيل: لو رمى صيدا فأبان بعضه وامتنع الباقي.. لم تحل تلك القطعة؟ فالجواب: أن الصيد غير الحوت، إذ لو مات حتف أنفه.. لم يحل أكله، فلذلك لا يحل ما أبين منه، بخلاف السمكة. [فرع: وجود سمكة ببطن أخرى وحكم القلي والروث والدم] ] : وإن أخذ سمكة فوجد في جوفها سمكة أخرى ميتة.. قال في " الأم " 2/198] : (حل أكلهما معا؛ لأن أكثر ما فيها: أن يكون قتلها غير الآدمي، وهي لو ماتت حتف أنفها.. حل أكلها، فبأن تحل إذا كان موتها بسبب أولى) .

مسألة: حل ميت الجراد

وإن ابتلع رجل السمك الصغار حيا قبل أن يموت.. فوجهان: [أحدهما] : قال ابن القاص: يحل؛ لأن قتله بغير الذكاة جائز، وفي ابتلاعه قتله. و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا يحل؛ لأنه يعذبه بذلك، وقد: «نهى النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ عن تعذيب الحيوان» ، قال: وهكذا لا يحل أن يقلي السمك قبل موته، أن يأخذه وهو يضطرب فيطرحه في الزيت المغلي؛ لأنه تعذيب. قال الشيخ أبو حامد: وأما السمك الهازي: وهو السمك الصغار، الذي يقلى ببغداد ولا يخرج ما في جوفه من الرجيع.. فلا يحل أكله ورجيعه فيه؛ لأن رجيعه نجس، فلا يحل أكله. فعند الشيخ أبي حامد: روث السمك نجس وجها واحدا، وفي دمه وجهان. وأما صاحب " الإبانة ": فقال: في روث السمك وجهان، كدمه، أصحهما: أنه ليس بنجس. فعلى هذا: يحل أكله قبل أن يخرج. [مسألة: حل ميت الجراد] وأما الجراد: فيحل من غير ذكاة سواء مات بسبب منه أو بغير سبب منه، وبه قال أبو حنيفة.

مسألة: ذكاة غير السمك والجراد

وقال مالك والأوزاعي: (لا يحل إلا إذا مات بسبب منه) وهي إحدى الروايتين عن أحمد، واعتبر مالك في ذكاتها: قطف رأسها. دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد» ولم يفرق. ولأن كل حيوان حل أكله إذا مات بسبب منه، حل أكله وإن كان بغير سبب منه، كالسمك. [مسألة: ذكاة غير السمك والجراد] ومن هم أهل الذكاة] . وأما غير السمك والجراد من الحيوان، كالأنعام والخيل والصيد.. فلا يحل إلا بذكاة، فإن مات شيء منه حتف أنفه.. لم يحل، وكذلك الطيور التي تعيش تارة في البر، وتارة في البحر، وهي: البط والإوز فلا تحل إلا بذكاة، سواء ماتت في البحر أو في البر: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] وهذه ميتة. إذا ثبت هذا: فقال الشافعي في " الأم " [2/206] : (وأحب أن يكون من يلي الذبح رجلا مسلما بالغا فقيها؛ لأنه أعرف بمحل الذكاة، وبما يذكي به، وبكيفية الذكاة) فإن ذبح مرتد أو وثني أو مجوسي.. لم يحل أكل ما ذبح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] [المائدة: 5] وأراد به الذبائح، وهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب. وإن ذبح يهودي أو نصراني من العجم.. حل أكل ذبيحته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وأراد به الذبائح. ولأن لهم حرمة بفضل كتابهم وشرفه، فحلت ذبائحهم. ولا تحل ذبيحة نصارى العرب، وهم: تنوخ، وبهراء، وبنو وائل. وهو قول عمر وعلي. وقال أبو حنيفة: (يحل لنا أكل ذبائحهم) . دليلنا: أنهم دخلوا في النصرانية بعد التبديل، ولم يعلم: هل دخلوا في دين من بدل، أو في دين من لم يبدل؟ فلما أشكل أمرهم.. حرمت ذبائحهم، كالمجوس.

فرع: ذبيحة المرأة والصبي والأعمى وغيرهم

[فرع: ذبيحة المرأة والصبي والأعمى وغيرهم] فرع: [حل ذبيحة المرأة والصبي والأعمى وغيرهم] : قال الشافعي [" الأم " 2/205] : (وذبح [كل] من أطاق الذبح من امرأة حائض أو صبي من المسلمين أحب إلي من ذبح اليهودي والنصراني) . وهذا كما قال: الأولى أن يكون الذابح رجلا بالغا: لأنه أقوى على الذبح، فإن ذبحت امرأة.. جاز؛ لما روى علقمة، عن عبد الله: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أكل ذبيحة امرأة» . وروى نافع، عن ابن عمر: «أن جارية من آل كعب كانت ترعى غنما لهم، فرأت شاة موتى، فأخذت حجرا فكسرته، وذبحتها به، فذكر ذلك لرسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، فقال تؤكل» . ومن هذا الخبر خمس فوائد:

إحداهن: أن ذكاة النساء جائزة. الثانية: لا فرق بين أن تكون حائضا أو طاهرا، حاملا أو حائلا؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لم يستفصل. . الثالثة: جواز الذبح بالمروة. الرابعة: أن من ذبح شاة غيره بغير إذنه.. وقعت الذكاة موقعها. الخامسة: أن الشاة إذا خيف موتها وفيها حياة مستقرة، فذكيت.. حلت. ويحل أكل ما ذكاه الصبي سواء كان مراهقا أو غير مراهق؛ لما روي عن جابر وابن عباس: أنهما قالا: (تؤكل ذبيحة الصبي) ، ولا مخالف لهما. وأما المجنون والسكران: فتكره ذكاتهما؛ لأنهما ربما أخطآ موضع الذكاة، فإن ذكيا.. حل أكل ذبيحتيهما؛ لأن القصد غير معتبر في الذكاة، كما لو قطع شيئا يظنه خشبة فكان حلق شاة، هذا هو المشهور. وقال القاضي أبو حامد: في ذبيحة الصبي والمجنون قولان، أظهرهما: أنها تحل. قال: وكذلك السكران إذا أسقطنا حكم طلاقه. إذا تقرر هذا: فإن المرأة أولى بالذكاة بعد الرجال البالغين من الصبي؛ لأنها مكلفة، ثم الصبي أولى من اليهودي والنصراني لأنه مسلم، ثم اليهودي والنصراني

مسألة: ما يستحب في المدية وحكم غيرها

أولى من السكران والمجنون؛ لأنه يخاف منهما قتل الحيوان. وتكره ذكاة الأعمى؛ لأنه لا يؤمن أن يخطئ المذبح، فإن ذبح.. جاز؛ لأنه لم يفقد غير النظر، وذلك لا يوجب التحريم. وتحل ذكاة الأخرس؛ لأنه لم يفقد أكثر من نطقه، وذلك لا يوجب التحريم. [مسألة: ما يستحب في المدية وحكم غيرها] ] . المستحب: أن يذبح بسكين حاد لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «إذا ذبحتم.. فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» . إذا ثبت هذا: فيجوز الذبح بكل محدد يتأتى الذبح به: من حديد أو صفر أو خشب أو ليطة. وهي: قشر القصب ـ أو مروة، وهي: الحجارة الحادة. ولا يجوز الذبح بالسن والظفر سواء كانا متصلين أو منفصلين. وقال أبو حنيفة: (لا تجوز الذكاة بهما، لكنه إن خالف وذكى بهما، فإن كانا متصلين.. لم تحصل بهما الذكاة، وإن كانا منفصلين.. حل أكله) . دليلنا: ما روى رافع بن خديج: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه.. فكلوه، إلا ما كان من سن أو ظفر، وسأخبركم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر: فمدى الحبشة» . ولأنه ذبح بعظم فوجب أن لا يبيح كما لو كان متصلا.

مسألة: ما ينحر ويذبح وموضع الذبح وما يقطع منه

[مسألة: ما ينحر ويذبح وموضع الذبح وما يقطع منه] ] : السنة عندنا: أن تنحر الإبل، وأن تذبح البقر والغنم، هذا نقل البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : يتخير في البقر: بين النحر والذبح والأول أشهر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] [الكوثر: 2] . وقال تعالى في قصة موسى وبني إسرائيل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] [البقرة: 67] . قال مجاهد: أمرنا بالنحر، وأمر بنو إسرائيل بالذبح؛ لأن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بعث في قوم مواشيهم الإبل، فسن لهم النحر.. وكانت مواشي بني إسرائيل البقر، فسن لهم الذبح. إذا ثبت هذا: فأراد أن ينحر الإبل.. فالسنة أن ينحرها معقولة وهي قائمة؛ لما روي: «أن ابن عمر رأى رجلا أضجع بدنة، فقال: قياما سنة أبي القاسم ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ» ثم

يأخذ حربة أو سكينا فيغرزها في ثغرة النحر، وهي: الوهدة التي تكون في أعلى الصدر، وأصل العنق. وإذا أراد أن يذبح البقر والغنم.. فالسنة أن يضجعها لـ: «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أضجع الكبشين اللذين ضحى بهما، ووضع رجله على صفاحهما» . وإذا ثبت هذا ـ في الغنم ـ: فالبقرة مثلها: لأنها لما كانت السنة فيها الذبح كالغنم.. كان السنة فيها الإضجاع كالغنم، فإن خالف ونحر البقر والغنم.. أجزأه بلا خلاف؛ لما روى جابر: أنه قال: «أحصرنا مع رسول الله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بالحديبية، فنحرنا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» . وإن ذبح الإبل.. جاز، وحل أكلها. وقال مالك: (لا يحل أكلها) . دليلنا: أن كل ما كان ذكاة للبقر والغنم.. كان ذكاة للإبل، كالنحر. وأما موضع الذبح: فهو أسفل مجامع اللحيين وهو آخر العنق، والكمال فيه: أن يقطع أربعة أشياء: الحلقوم، والمريء، والودجين. فـ (الحلقوم) : مجرى النفس والتنفس من الرئة، و (المريء) : تحت الحلقوم وهو مجرى الطعام والشراب، و (الودجان) ـ قال الشيخ أبو حامد ـ: هما عرقان محيطان بالحلقوم، قال: وكنا نذكر قبل هذا: أنهما محيطان بالمريء، ورأيت أكثر الناس يقولون: هما محيطان بالحلقوم، وأيهما كان.. فقطعهما شرط في الكمال. وأما الإجزاء: فاختلف الناس فيه على أربعة مذاهب. فمذهبنا: أن الإجزاء يحصل بقطع الحلقوم والمريء لا غير. وقال مالك: (قطع الأربعة شرط في الإجزاء) . وقال أبو حنيفة: (قطع أكثر الأربعة شرط في الإجزاء) ، فمن أصحابه من قال: مذهبه: أن قطع الأكثر من كل واحد من الأربعة شرط في الإجزاء وهو الظاهر، وقال أبو يوسف: قطع أكثر الأربعة عددا شرط في الإجزاء.

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] . و (الذكاة) ـ في اللغة ـ: هي الشق والفتح، فإذا قطع الحلقوم والمريء.. فقد شق وفتح. ولأن الودجين قد يسيلان من الحيوان وتبقى الحياة فيه، فلم يكن قطعهما شرطا في الإجزاء كاليد والرجل، بخلاف الحلقوم والمريء. ولأن القصد من الذكاة إخراج الروح من غير تعذيب، وهذا يحصل بقطع الحلقوم والمريء فأجزأه، كقطع الأربعة. ويكره أن يبادر إلى تقطيع الذبيحة أو سلخها قبل خروج روحها وسكونها، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق، فإن الجاهلية كانت تضرب الذبيحة عقيب الذبح بالعصا حتى تخرج روحها) ، و: (نهى عمر عن النخع) . فمعنى قوله: (الأنفس) يعني: الروح، ومعنى: (حتى تزهق) : أي قبل أن يتسارع خروج روحها، يقال: زهقت نفسه إذا خرجت، وزهق فلان بين يدي القوم: إذا أسرع مبادرا. ولأن في ذلك تعذيب الحيوان، فإن خالف وفعل.. حل أكلها؛ لأن الذكاة قد حصلت. وأما نهيه عن النخع: فقال الشافعي: (هو كسر العنق بعد الذبح) . وقال أبو عبيدة: (النخع والفرس) : واحد، وهو أن يبالغ في الذبح إلى أن يبلغ بالذبح بعد قطع الحلقوم والمريء والودجين إلى النخاع، وهو العرق الأبيض في جوف فقر الظهر، وهو: من عجب الذنب إلى الدماغ. قال أبو عبيد: أما (النخع) : فكما قال أبو عبيدة، وأما (الفرس) : فهو الكسر

فرع: ما يسن حال الذبح

يقال: فرست الشيء إذا كسرته، ومنه فريسة الأسد لما دقه وكسره. فإن كسر عنقه بعد الذبح.. كره؛ لنهي عمر، ولم يؤثر في إباحة اللحم؛ لأن ذلك يحصل بعد الذكاة. [فرع: ما يسن حال الذبح] ويستحب أن يستقبل القبلة بالذبيحة، ويسمي الله تعالى، ويصلي على النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، وقد مضى الكلام على ذلك في الأضحية. [فرع: ذبح الحيوان من القفا] وإن ذبح الحيوان من قفاه.. نظرت: فإن كانت فيه حياة مستقرة بعد قطع الرقبة وقبل قطع الحلقوم والمريء.. حل أكله. وإن لم تكن فيه حياة مستقرة.. لم يحل أكله. قال الشيخ أبو حامد: وإنما يعرف هذا بالحركة، فان كانت الحركة قوية قبل قطع الحلقوم والمريء والودجين.. حل أكلها. وإن لم تكن هناك حركة.. لم يحل أكلها. واختلف أصحابنا في علته: فمنهم من قال: لأنه قد وجد فعلان: أحدهما: تتعلق به الإباحة، والآخر: يتعلق به الحظر، فإذا لم نعلم بقاء الحياة المستقرة بالحركة.. حكمنا بالحظر. وعلل أبو إسحاق بأن الظاهر أن الحيوان إذا قطعت رقبته من قفاه: أنه لا تبقى فيه حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء، فإذا كان هذا هو العادة.. علم أنه ما كان بقي فيها حياة مستقرة إذا لم تكن هناك حركة، وأما إذا كانت هناك حركة.. حل أكلها. وقال مالك وأحمد: (لا يحل أكلها) . دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه.. فكلوه» . ولأنها ذكاة حصلت وفيه حياة مستقرة فأباحت، كما لو قطع رجلها ثم ذبحها.

فرع: جرح الحيوان ثم ذبحه

[فرع: جرح الحيوان ثم ذبحه] ] : وإن جرح السبع أو الآدمي الشاة فذبحت.. ففيها ثلاث مسائل: إحداهن: إذا جرحها جراحا قد تموت منه وقد لا تموت منه، فأدركها وفيها حياة مستقرة فذبحها.. حل أكلها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] . ولأن فيها حياة مستقرة فحل أكلها، كما لو لم يكن فيها جراحة. الثانية: إذا جرحها جرحا تموت منه لا محالة، ولكن فيها حياة مستقرة. قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: والحياة المستقرة في هذه المسألة عما يجوز أن تبقى اليوم أو اليومين، ويجوز أن لا تبقى، مثل: أن يشق جوفها وظهرت الأمعاء ولم تنفصل، فإذا أدركها وذكاها.. حل أكلها؛ لحديث الجارية التي كسرت حجرا وذبحت بها شاة، فأمر النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بأكلها. الثالثة: إذا جرحها جرحا لا تبقى معه حياة مستقرة، مثل: أن يشق جوفها، وأبان حشوتها فذبحها.. لم يحل. وهكذا البهيمة إذا كانت مريضة قد أشرفت على الموت لا تحل بالذكاة. وحكى صاحب " الفروع " عن أبي علي بن أبي هريرة: أنه قال: ما دامت البهيمة تضرب بذنبها وتفتح عينيها.. فإنها تحل بالذكاة. وليس بشيء؛ لأن الحياة فيها غير مستقرة، وإنما حركتها حركة مذبوح. وقد نقل المزني المسألة الثانية، وأفتى فيها بجواب الثالثة، ثم قال: وله قول آخر: (أنها تؤكل) فأومأ إلى قولين. وليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين على ما بيناه.

مسألة: الاصطياد بالسباع

[مسألة: الاصطياد بالسباع] يجوز الاصطياد بسباع البهائم التي يمكن أن تعلم الاصطياد: كالكلب والفهد والنمر، وسباع الطير: كالصقر والبازي والباشق والعقاب. وبه قال ربيعة ومالك وأبو حنيفة. وقال ابن عمر ومجاهد: (لا يجوز الاصطياد إلا بالكلب) . وقال الحسن والنخعي وأحمد وإسحاق: (يجوز الاصطياد بجميع ذلك إلا بالكلب الأسود، فإنه لا يجوز) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] . فمعنى قوله: الْجَوَارِحِ أي: الكواسب. قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] [الجاثية: 21] أي: اكتسبوا السيئات. وقال تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] [الأنعام: 60] أي: ما كسبتم. ويقال هو جارحة أهله، أي: كاسب أهله، وإذا كانت الجوارح الكواسب.. فلم يفصل بين كاسب دون كاسب. وأما قوله: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] فالكلاب تقع على سباع البهائم كلها؛ لما روي «أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ دعا على عتبة بن أبي لهب، فقال: " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك يفترسه» فافترسه الأسد. ويجوز أن يكون قوله: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] مأخوذا من التكليب:

وهو تعليم الجارحة للصيد، يقال: فلان يكلب على فلان، أي: يغري عليه. ومن السنة ما روي «عن عدي بن حاتم: أنه قال: سألت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ عن صيد البازي، فقال: " كل مما أمسك عليك» . وروى عدي بن حاتم: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ

مسألة: أحكام تتعلق بإرسال الجارحة

قال: «ما علمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه.. فكل مما أمسك عليك "، قلت: وإن قتل، قال: " إذا قتله ولم يأكل منه شيئا.. فإنما أمسكه عليك» . [مسألة: أحكام تتعلق بإرسال الجارحة] وإن أرسل جارحة غير معلمة على صيد فجرحه، فإن أدركه وفيه حياة مستقرة فذكاه.. حل أكله، وإن أدركه وليس فيه حياة مستقرة.. لم يحل أكله؛ لما روى أبو ثعلبة الخشني: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إذا أرسلت كلبك الذي ليس بمعلم، فإن أدركت ذكاته.. فذكه وكل» . وإن استرسل المعلم بنفسه وجرح صيدا، فإن أدركه وفيه حياة مستقرة فذكاه.. حل أكله، وإن لم يدرك فيه حياة مستقرة.. لم يحل: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] وهذا ما أمسك علينا، وإنما أمسك على نفسه. وإن أرسل من يحل الحيوان بذكاته جارحة معلمة، فقتل الصيد بظفره أو نابه أو منقاره ولم يأكل منه.. حل أكله، لما روى عدي بن حاتم: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ما علمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه.. فكل مما أمسك عليك وإن قتل ولم يأكل منه.. فإنما أمسكه عليك» .

فرع: شروط الجارحة المعلمة

[فرع: شروط الجارحة المعلمة] ] . ولا تكون الجارحة معلمة حتى يكون فيها ثلاثة شرائط: قال الشافعي: (إذا أشلاه.. استشلى) أي: إذا أرسله.. استرسل في طلب الصيد، وإذا زجره.. انزجر، وإذا أمسك الصيد.. لم يأكل منه وخلى بينه وبينه، فإذا كرر منه ذلك.. صار معلما، وحل ما قتله. قال أصحابنا: وليس لتكرر ذلك عدد محصور، وإنما الاعتبار بعرف الناس وعادتهم. وقال أبو حنيفة وأحمد: (إذا تكرر منه ذلك مرتين.. صار معلما) . وقال أبو يوسف ومحمد: (إذا تكرر ذلك منه ثلاثا.. صار معلما) . دليلنا: أن الشرع ورد بذلك مطلقا، فوجب أن يرجع فيه إلى العرف والعادة، كالقبض والتفرق في البيع، وليس في العرف: أن بالمرتين والثلاث يصير معلما؛ لأنه قد يترك الأكل؛ لأنه غير محتاج إليه، وقد يأكل لفرط الجوع، فلا يعلم ذلك حتى يكثر منه. إذا تقرر هذا: فاعترض ابن داود على قول الشافعي: (إذا أشلاه.. استشلى) فقال: يقال: أشلاه إذا دعاه، وأغراه: إذا أرسله. ولهذا قال الشاعر: أشليت عنزي ومسحت قعبي فالجواب: أن من أصحابنا من قال: " إن الشافعي من أهل اللغة؛ لأنه ولد فيها

فرع: التسمية عند إرسال الجارحة

ونشأ. قال الأصمعي: قرأت ديوان الهذليين " على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس الشافعي. فإذا كان الأصمعي على جلالته يأخذ عنه اللغة.. ثبت أنه أصل في اللغة فيكون أشلى من الأضداد، يعبر به عن الإغراء وعن الاستدعاء. ومنهم من قال: الإشلاء عبارة عن الاستدعاء، فكأنه يستدعيه، ثم يرسله، فعبر بالإشلاء عن الإرسال؛ لأنه إليه يؤول؛ لأن العرب تعبر عن الشيء بما يؤول إليه. قال الله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] [يوسف: 36] فعبر بالخمر عن العنب؛ لأنه يؤول إليه. [فرع: التسمية عند إرسال الجارحة] إذا أرسل جارحة على صيد.. فالمستحب له: أن يسمي الله تعالى؛ لما ذكرناه في الخبر، فإن ترك التسمية.. جاز. وقد مضى ذكر الخلاف في التسمية على الذبح في الأضحية، وهكذا الخلاف في ترك التسمية عند إرسال الجارحة. [فرع: إرسال الجارحة ممن لا تحل ذكاته] وصور أخرى] : وإن أرسل من لا تحل ذكاته: من وثني أو مرتد أو مجوسي جارحة معلمة، فقتل الصيد.. لم يحل أكله، سواء كانت الجارحة علمها مسلم أو مجوسي. هذا هو المشهور من المذهب. وحكى الطبري وجها آخر: أنه يحل أكل ما قتلته الجارحة التي أرسلها المجوسي وليس بشيء؛ لأن الجارحة آلة، و (المرسل) : هو المذكي، فلم يحل ما قتله كما لو ذبحه بيده. وإن أرسل المسلم جارحة علمها المجوسي فقتل صيدا.. حل أكله. وبه قال عامة أهل العلم إلا الحسن البصري فإنه قال: لا يحل.

فرع: استرسال الكلب المعلم بنفسه

دليلنا: أن المذكي هو المرسل وهو مسلم، فحل، كما لو أخذ سكينا من مجوسي وذبح بها شاة. وإن أرسل المسلم كلبه المعلم، وأرسل المجوسي كلبه واتفقا على صيد فقتلاه.. لم يحل أكله؛ لأنه اجتمع فيه ما يقتضي الحظر والإباحة، فغلب الحظر، كالمتولد بين الضبع والذئب. وإن أرسل كل واحد كلبه فرد كلب المجوسي الصيد على كلب المسلم وقتله كلب المسلم.. حل أكله. وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يحل) . دليلنا: أن كلب المسلم انفرد بقتله، فلا يؤثر معاونة كلب المجوسي، كما لو رمى المجوسي صيدا فرد به الصيد وأصابه سهم المسلم فقتله. [فرع: استرسال الكلب المعلم بنفسه] وصور أخرى] : إذا استرسل الكلب المعلم بنفسه فزجره صاحبه فانزجر، ثم أشلاه على الصيد - أي: أغراه به ـ فاستشلى وأخذ الصيد وقتله.. حل أكله؛ لأنه قطع استرساله بوقوفه ثم استأنف استرسالا بالإشلاء. فإن لم ينزجر، بل ذهب وصاد وقتل.. لم يحل لأنه صاد باختياره. وإن لم يزجره، ولكن لما استرسل بنفسه أشلاه على الصيد.. نظرت: فإن لم يزدد نشاطا بالإشلاء.. لم يحل ما قتله، وإن ازداد نشاطا وعدوا بالإشلاء، ثم ذهب فقتل صيدا.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ": أحدهما - وهو قول أبي حنيفة -: أنه يحل؛ لأنه لما ازداد نشاطا.. علم أنه قد قطع الأول، واستأنف قصدا آخر بالإشلاء فحل ما قتله، كما لو وقف وقفة ثم أشلاه. ولأن فعل البهيمة وفعل الآدمي إذا اجتمعا.. سقط فعل البهيمة وكان الفعل للآدمي، بدليل: أنه لو رأى كلبا يقصد إنسانا، فأغراه به فازداد نشاطا، ثم جنى على الإنسان.. كان الضمان على من أغراه وأضراه. والوجه الثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ غيره ـ: أنه لا يحل؛ لأن

فرع: إرسال المجنون والصبي والأعمى للكلب

الاسترسال كان باختيار الكلب، وشدة العدو يجوز أن يكون لنشاط حدث له، ويجوز أن يكون اتباعا لاختيار صاحبه، فكان بناؤه على الأول أولى به؛ لأنه لم يفارق اختيار نفسه، ولأنه قد اجتمع أمران: أحدهما: ما يوجب الحظر. والثاني: ما يوجب الإباحة، فغلب ما يوجب الحظر، كما لو أرسله مسلم ومجوسي وقتل الصيد. ويفارق إذا وقف، ثم أشلاه فاسترسل؛ لأن هناك قد قطع اختيار نفسه وهاهنا لم يقطع. وأما قول الأول: إذا طلب الكلب إنسانا، ثم أضراه آخر وجنى عليه.. وجب الضمان على الذي أغراه.. فغير مسلم. وإن أرسل المسلم كلبا على صيد فزجره مجوسي فانزجر، ثم أشلاه فاستشلى وقتل الصيد.. لم يحل ما قتله؛ لأنه قد قطع الاسترسال الأول بوقوفه. وإن لم يزجره المجوسي، بل أشلاه على الصيد، فإن لم يزدد نشاطا في عدوه.. لم يؤثر إشلاء المجوسي، وإن ازداد نشاطا بإشلاء المجوسي، ثم ذهب فقتل الصيد.. فوجهان: أحدهما ـ وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه يحل اعتبارا بفعله الأول، ولم يوجد ما يقطعه. والثاني ـ حكاه القاضي أبو الطيب، وهو قول أبي حنيفة ـ: أنه لا يحل؟ لأنه قد شاركه المجوسي في الإرسال، فلم يحل ما قتله، كما لو أرسلاه معا. وهكذا لو أرسل المجوسي كلبا، فإن زجره المسلم فانزجر ثم أشلاه فاستشلى وقتل الصيد ... حل ما قتله، وإن لم يزجره ولكن أشلاه فازداد في عدوه وقتل الصيد.. فهل يحل ما قتله؟ على الوجهين. [فرع: إرسال المجنون والصبي والأعمى للكلب] وإن أرسل المجنون أو الصبي كلبا على صيد فاسترسل وقتل الصيد، أو رماه فقتله.. فالمشهور: أنه يحل أكله، كما لو ذبح شاة. وحكى الطبري في " العدة " وجها آخر: أنه لا يحل؛ لأنه لا قصد له. وليس

فرع: حل ما قتله الجارح بنابه وغيره

بشيء؛ لأن القصد غير معتبر بالذكاة، بدليل: أنه لو قطع شيئا ظنه خشبة، فبان حلق شاة.. حل أكلها. وإن أرسل الأعمى كلبا على صيد فاسترسل وقتل الصيد.. فوجهان، حكاهما في " العدة ": أحدهما: لا يحل. ولم يذكر ابن الصباغ غيره - لأنه لا يرى الصيد فأشبه إذا استرسل الكلب بنفسه وقتل الصيد. والثاني: يحل؛ لأنه من أهل الذكاة، فحل قتل ما أرسله، كما لو ذبح شاة بيده. [فرع: حل ما قتله الجارح بنابه وغيره] ] : قد ذكرنا: أن الجارحة إذا قتل الصيد بنابه، أو ظفره، أو مخلبه.. فإنه يحل أكله، فأما إذا قتله بشدة صدمته أو بثقله.. فهل يحل أكله؟ فيه قولان: أحدهما: يحل ـ وهو رواية الحسن بن زياد، عن أبي حنيفة - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] ولم يفرق بين ما قتله بجرحه أو بثقله. والثاني: لا يحل ـ وهي رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة ـ لقوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه.. فكل» وهذا لم ينهر الدم، فوجب أن لا يحل، وأما إذا كد الجارحة الصيد حتى أتعبه فمات من التعب.. لم يحل أكله قولا واحدا؛ لأنه مات من غير عقر ولا فعل أوقعه فيه. [فرع: أكل الجارحة من الصيد أو احتساء دمه] قد ذكرنا: أن الجارحة إذا قتل الصيد ولم يأكل منه شيئا.. فإنه يحل. فأما إذا كل منه شيئا، فإن كانت الجارحة من سباع البهائم، كالكلب والفهد والنمر.. نظرت: فإن قتل الصيد، ثم مضى عن الصيد، ثم رجع إليه وأكل منه.. لم يحرم أكله قولا واحدا. وإن أكل منه عقيب قتله.. ففيه قولان: أحدهما: يحل أكله ـ وبه قال ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وسلمان

الفارسي، وهو قول مالك - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ولم يفصل: بين أن يأكل منه، أو لا يأكل منه. وروى أبو ثعلبة الخشني: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه.. فكل وإن كان أكل منه» . ولأن كل عقر كان ذكاة إذا لم يتعقبه أكل.. كان ذكاة وإن تعقبه أكل، كما لو قتله وتركه، ثم عاد وأكل منه. والقول الثاني: لا يحل أكله - وبه قال أبو هريرة وابن عباس، ومن التابعين: الحسن البصري والشعبي والنخعي، ومن الفقهاء: أحمد ـ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] وإذا أكل منه.. فلم يمسكه علينا، وإنما أمسكه على نفسه. ولما روى عدي بن حاتم: أن النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: «ما علمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه.. فكل مما أمسك عليك "، قلت: فإن قتل؟ قال: " إذا قتله ولم يأكل منه شيئا.. فإنما أمسكه عليك» ، فدل على: أنه إذا أكل منه فقد أمسكه على نفسه. وفي رواية الشعبي، «عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فقلت: أرسل كلبي؟ فقال: " إذا سميت.. فكل، وإلا.. فلا تأكل وإن أكل منه.. فلا تأكل منه: فإنما أمسكه على نفسه.» ولأن كل ما كان شرطا في استباحة أكل الصيد في الابتداء.. كان شرطا في الاستدامة، كالإرسال. إذا ثبت هذا: فإن ما قتله قبل الصيد الذي أكل منه لا يحرم قولا واحدا. وقال أبو حنيفة: (يحرم أكل هذا الذي أكل منه، وأكل ما قتله من قبله من الصيد) . دليلنا: أنه لم يوجد في الصيد الأول ما يقتضي الحظر، وإنما وجد في غيره، فلم

مسألة: إدخال الكلب نابه في الصيد

يحرم، كما لو أرسل جارحة على صيد فقتله، ثم استرسل بنفسه على صيد فقتله.. فإن الأول لا يحرم. وإن كانت الجارحة من سباع الطير: كالصقر والبازي والعقاب والباشق، فأكل من الصيد عقيب قتله.. فالمنصوص للشافعي: أنه كالكلب والفهد على قولين. وقال المزني: أكل الطير لا يحرم قولا واحدا ـ وهو قول أبي حنيفة ـ لأنه لا يمكن أن يضرب على الأكل. وقال أبو علي الطبري: إذا قلنا: لا يحرم ما أكل منه الكلب.. فما أكلت منه سباع الطير أولى، وإن قلنا: يحرم ما أكل منه الكلب.. فهل يحرم ما أكل منه الطائر؟ فيه وجهان. والأول أصح؛ لأنه جارحة أكل مما قتله عقيب قتله، فأشبه ما أكل منه الكلب والفهد. وإن شرب الجارحة من دم الصيد.. لم يحرم ذلك قولا واحدا. وحكى ابن المنذر عن النخعي والثوري: أنهما كرها أكل ما احتسى الجارحة دمه. دليلنا: قوله ـ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ: «فإن أكل منه.. فلا تأكل» وهذا لم يأكل منه، ولأن الدم لا يقصده الصائد ولا منفعة له فيه، فلم يمنع الجارحة منه. [مسألة: إدخال الكلب نابه في الصيد] إذا أدخل الكلب نابه أو ظفره في الصيد وجرحه. فهل يحكم بنجاسة ذلك الموضع؟ فيه قولان، حكاهما صاحب " الإبانة ": أحدهما: لا يحكم بنجاسته؛ لأن الله تعالى قال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] ولم يأمره بغسله، ولو كان نجسا.. لأمر بغسله. والثاني ـ وهو الأظهر، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه يحكم بنجاسته؛ لأنه جزء من الكلب، فينجس ما أصابه مع الرطوبة، كالإناء. فإذا قلنا بهذا: فما الحكم في ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه:

" أحدها: يعفى عن غسله! لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] فأباح الأكل ولم يأمر بالغسل، فدل على: أنه لا يجب. ولأنه لو وجب غسل موضع العضة لوجب غسل جميع اللحم؛ لأن الناب يلاقي الدم، والدم مائع متفرق في جميع العروق. والثاني: يجب غسله؛ لأنه موضع نجس بملاقاة الكلب " فأشبه الإناء وأما الآية: فلا حجة فيها؛ لأنه إنما بين الأكل، وأما النجاسة والغسل: فمعلومان من غيرها. وقول الأول: لو وجب غسل موضع العضة، لوجب غسل الجميع.. فغير صحيح؛ لأنه إن عضه بعد الموت.. فلا دم فيه، وإن عضه وهو حي.. فإن الدم يفور ويجري، فلا يرجع إلى عروقه، وعلى أنه لو رجع.. فإنما وجب غسل العضة؛ لأنه لا مشقة في ذلك فوجب، وعليه مشقة في غسل الباقي فسقط. والوجه الثالث ـ حكاه في " الإبانة " -: أنه يجب قطع موضع العض. وليس بشيء. فإذا قلنا: يجب الغسل.. فكم يغسل؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو ظاهر نص الشافعي: أنه يجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب، كما لو أصاب إناء. والثاني ـ حكاه في " الفروع " -: يكفي في غسله مرة؛ لأن ما زاد على ذلك يشق. وإن شئت.. قلت: في المسألة أربعة أوجه: أحدها: لا يجب الغسل. والثاني: يجب غسل موضع العض سبع مرات، إحداهن بالتراب. والثالث: يكفي غسله مرة. والرابع: لا يجزئه الغسل، بل يجب قطع ذلك الموضع.

مسألة: الاصطياد بالجارحة المغصوبة

[مسألة: الاصطياد بالجارحة المغصوبة] ] : وإن غصب جارحة واصطاد بها صيدا.. كان الصيد ملكا للغاصب؛ لأن الصيد مضاف إلى الصائد دون مالك الجارحة. فإن كان الجارحة غير الكلب.. وجب لمالكه أجرة مثله على الغاصب. وإن كان كلبا.. قال الشيخ أبو حامد: لم تجب أجرته قولا واحدا؛ لأن منفعته مباحة له غير مملوكة، فلذلك لم يضمن، بخلاف غيره من البهائم؛ لأن منفعته مملوكة. وقال الشيخ أبو إسحاق: إن قلنا: يجوز إجارته.. وجبت على الغاصب الأجرة، وإن قلنا: لا يجوز إجارته.. لم تجب. [مسألة: القصد لا يعتبر في ملك الصيد بشبكة وغيرها] ) : القصد غير معتبر في ملك الصيد، فلو أخذ صيدا لينظر إليه.. ملكه بذلك. وإن نصب شبكة فوقع فيها صيد.. ملكه بذلك. وإن كان له حوض على شط نهر فدخله حوت، فإن كان الحوض صغيرا بحيث لا يمكنه العود إلى النهر.. ملكه بذلك، وإن كان كبيرا لا يقدر على أخذه إلا بتعب.. لم يملكه بذلك؛ لأنه غير مقدور عليه. [مسألة: صيد الحمام الأهلي والمباح] ] : إذا كان له حمام في برج فتحول منه إلى برج غيره.. لم يملكه الثاني، وكان ملك الأول باقيا عليه؛ لأنه بتحوله عن برج الأول لا يزول ملكه عنه بذلك. وإن كان الحمام مباحا فدخل إلى برج الأول.. لم يملكه بنفس الدخول، ولو أخذه غيره منه أو تحول إلى برج غيره.. لم يكن للأول أن يطالب برده؛ لأنه لا يملكه. فإن أغلق عليه صاحب البرج برجه، أو دخل من كوة إلى بيته فسدها عليه.. نظرت: فإن كان يمكنه أخذه بغير تعب ولا علاج.. ملكه بذلك، فلو انفلت وأخذه غيره.. كان له أخذه منه،

فرع: الصيد المعلم بعلامة

وإن كان لا يمكنه أخذه إلا بتعب وعلاج.. لم يملكه بذلك، فإن انفلت وأخذه غيره.. لم يكن للأول مطالبته برده. وإن دخل قفصا له، فغلق عليه بابه.. ملكه بذلك. فإن توحل في أرضه ظبي أو عشش فيها طائر.. لم يملكه بذلك. وحكى الطبري في (العدة) وجها آخر: أنه يملكه بذلك. [فرع: الصيد المعلم بعلامة] ) : وإن أصاب ضبا مقرطا أو موسما أو به أثر ملك لآدمي.. لم يجز له اصطياده فإن أخذه.. لم يملكه بذلك؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بظبي حاقف فهم أصحابه به فقال: (دعوه حتى يجيء صاحبه» . ولأنه إذا وجد عليه أثر الملك.. فالظاهر أنه لمالكه، فلا يزول ملكه عنه بالانفلات. فإن قيل: يجوز أن يكون قد اصطاده محرم فلم يملكه بذلك.. قلنا: هذا محتمل إلا أن الظاهر خلافه. وهكذا لو وجد طائرا فيه علامة المالك كقص الجناح، أو وجد ما ليس له أصل في الوحش، كالدجاج أو فراخه إذا وجده متوحشا.. لم يجز له أن يملكه؛ لأن الظاهر أنه لمالك. [مسألة: الصيد بالرمي وأنواعه] ) : ويجوز الصيد بالرمي لما «روى أبو ثعلبة الخشني قال: قلت: يا رسول الله إنا نكون في أرض صيد، فيصيب أحدنا بقوسه، ويبعث كلبه المعلم: فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما لا ندرك ذكاته؟ فقال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (ما ردت عليك

فرع: إرسال السهم في الريح وحالات أخرى

قوسك فكل، وما أمسك عليك كلبك المعلم فكل» . فإن رمى الصيد فقتله، فإن كان بما له حد فقتله بحده، كالسهم الذي له نصل أو السكين أو السيف أو السنان أو المروة أو الخشبة الحادة: حل أكله لحديث أبي ثعلبة. وإن أصابه بما لا حد له فقتله كالبندقية أو الدبوس أو الحجر الذي لا حد له.. فإنه لا يحل أكله سواء جرحه بذلك أو لم يجرحه، حتى لو رمى طائرا ببندقية فقطعت حلقومه ومريئه: لم يحل بذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] وهي المضروبة بالحجارة أو بالعصا حتى تموت. ولما «روى عدي بن حاتم قال: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيد المعراض، فقال: " إن قتل بحده: فكل، وإن قتل بعرضه - وروي: بثقله - فلا تأكل فإنه وقيذ» . قال الهروي: (والمعراض) : سهم بلا ريش ولا نصل ويصيب بعرض عوده دون حده. فعلى هذا: إذا رماه بما لا حد له، فإن أدركه وفيه حياة مستقرة فذكاه حل أكله، وإن أدركه وقد مات أو فيه حياة غير مستقرة لم يحل أكله لما ذكرناه. [فرع: إرسال السهم في الريح وحالات أخرى] : إذا أرسل سهمه في ريح عاصفة نحو الصيد، فأطارت الريح السهم فوقع في الصيد فقتله، ولولا الريح ما وصل إليه السهم: حل أكله؛ لأن الإرسال له حكم ولا يتغير حكمه بالريح؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه. وإن وقع السهم على الأرض ثم وثب السهم من الأرض فوقع في الصيد

فرع: رمي الطائر وجرحه

فقتله: فهل يحل؟ فيها وجهان، بناء على القولين فيمن ازدلف سهمه في الأرض ثم أصاب في المناضلة وإن نزع السهم ليرمي فانفلت قبل أن يرسله فقتل صيدا ففيه وجهان حكاهما في (العدة) . [فرع: رمي الطائر وجرحه] ) : وإن رمى طائرا فجرحه ثم وقع على الأرض فوجده ميتا: حل أكله سواء مات في الهواء أو بعدما وقع على الأرض أو لم يعلم كيف مات، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (إذا مات بعدما وقع على الأرض.. لم يحل أكله) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ردت عليك قوسك فكل» ولم يفرق؛ ولأنه صيد سقط عن الإصابة على موضع لا يمكن الاحتراز من سقوطه عليه، فحل، كما لو رمى حمار وحش فوقع على جنبه ومات. وإن وقع هذا الطائر على ماء أو جبل أو شجر فتردى، ثم مات.. نظرت: فإن لم تكن الجراحة موجبة لم يحل أكله، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة: 3] [المائدة: 3] ، وما وقع في الماء فالماء يخنقه وما وقع على جبل أو شجرة فهو من المتردية وروى عدي بن حاتم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا رميت بسهمك فذكرت اسم الله فقتل: فكل، وإن وقع في ماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» . وإن كانت الجراحة قاتلة موجبة، مثل: أن وقع السلاح في حلقه فذبحه أو في لبته فنحره أو في كبده فأبان حشوته فإنه يحل أكله؛ لأنه قد صار كالمذكى فلا يؤثر فيه وقوعه في الماء أو ترديه من الجبل أو الشجرة كما لو ذبح شاة ثم وقعت في ماء أو تردت من جبل أو شجرة.

فرع: قطع الصيد قسمين أو إبانة بعضه قبل قتله

[فرع: قطع الصيد قسمين أو إبانة بعضه قبل قتله] ) : فإن ضرب صيدا فقطعه باثنين فمات: حل أكله جميعا سواء كان قطعه نصفين، أو كان الذي معه الرأس أقل أو أكثر. وقال أبو حنيفة: (إذا كان الذي معه الرأس أكثر.. حل ما معه الرأس دون الثاني) . دليلنا: أن كل عقر كان ذكاة لبعضه.. كان ذكاة لجميعه، كما لو كان مع الرأس أكثر أو أقل. وإن رماه فأبان بعضه وبقي الباقي على الامتناع، ثم رماه فقتله، أو أدركه فذكاه.. حل أكله جميعا إلا ما أبان منه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي.. فهو ميت» . [مسألة: إدراك الصيد وفيه حياة مستقرة] ] : إذا أرسل سهمه أو جارحته على صيد فعقره، ثم أدركه وفيه حياة مستقرة.. ففيه ثلاث مسائل: إحداهن: إذا كان العقر قد صيره في حكم المذبوح، مثل: أن أبان حشوته أو قطع الحلقوم والمريء أو في مقتل كالقلب، وكانت الحياة فيه غير مستقرة فإن أمر السكين على حلقه ليذبحه.. فهو المستحب وإن تركه حتى مات.. حل أكله؛ لأن ذلك العقر ذكاة له فحل أكله، كما لو ذبح دجاجة، فجعلت تنزو. الثانية: إذا كان العقر لم يصيره في حكم المذبوح، بل وجد وفيه حياة مستقرة مما

فرع: غياب الصيد بعد إرسال الكلب أو السهم

يعيش اليوم ونصف اليوم والزمان متسع لذكاته، فإن ذكاه.. حل أكله وإن ترك ذكاته عامدا أو لم تكن معه آلة يذبح بها حتى مات لم يحل أكله لأنه ترك ذكاته مع إمكانها، فلم يحل كما لو تردت شاة من جبل فترك ذكاتها حتى ماتت. الثالثة: إذا أدركه وفيه حياة مستقرة، لكنه مات قبل أن يتسع الزمان لذكاته، أو أدركه ممتنعا فجعل يعدو خلفه فلحقه وقد بقي من حياته زمان لا يتسع لذبحه حل أكله وإن لم يذبحه. وقال أبو حنيفة: (لا يحل) . دليلنا: أنه لم يقدر على ذكاته بوجه لا ينسب فيه إلى التفريط فكان عقره ذكاة له كما لو لم يدركه حيا. [فرع: غياب الصيد بعد إرسال الكلب أو السهم] إذا أرسل كلبا على صيد فغاب عنه الصيد والكلب معا قبل أن يعقره الكلب ثم وجد الصيد قتيلا، قال الشيخ أبو حامد: لم يحل أكله سواء وجد الكلب عليه، أو لم يجده عليه؛ لأنه لا يعلم كيف هلك والأصل التحريم. وإن عقره الكلب أو السهم عقرا صيره في حكم المذبوح قبل أن يغيب عنه ثم غاب عنه فوجده ميتا حل أكله لأنه غاب بعد أن صار مذكى وإن عقره قبل أن يغيب عنه عقرا يجوز أن يموت منه، ويجوز أن لا يموت منه ثم غاب عنه فوجده ميتا.. فنص الشافعي في موضع (أنه يجوز) وقال في (الأم) [2/192] . (القياس: أنه لا يحل أكله إلا أن يكون ورد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خبر، فيسقط كل ما خالفه) ، واختلف أصحابنا فيه على طريقين: فـ[أحدهما] : منهم من قال: يحل قولا واحدا؛ لأن الخبر قد ورد وصح في إباحته، وقد رجع الشافعي عن القياس إلى الخبر.

و (الثاني) : منهم من قال: فيه قولان. وقال أبو حنيفة: (إن أتبعه عقيب الرمي فوجده ميتا.. حل أكله، وإن أخر اتباعه.. لم يحل أكله) . وقال مالك: (إن وجده في يومه.. حل أكله، وإن وجده بعد يومه.. لم يحل أكله) . فإذا قلنا: يحل.. فوجهه: ما روى أبو ثعلبة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رميت الصيد، فأدركته ميتا بعد ذلك وفيه سهمك.. فكله ما لم ينتن» . «وروى عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله إنا نرمي الصيد، فنقتفي أثره اليوم واليومين والثلاث، ثم نجده ميتا فيه سهمه، أنأكله؟ قال: " نعم ما لم ينتن» . ولأنه إذا غاب بعد أن عقره، ثم مضت مدة لا يندمل في مثلها، فوجده ميتا.. فالظاهر: أنه مات من الجرح، فحل أكله. وإذا قلنا: لا يحل أكله - قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح عندي ـ فوجهه: ما روى سعيد بن جبير «عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله إنا أهل صيد، وإن أحدنا يرمي الصيد، فنقتفي أثره اليومين والثلاث، فنجده ميتا وفيه سهمه، أيؤكل؟ فقال: " إذا وجدت فيه أثر سهمك ولم يكن فيه أثر من سبع، وعلمت أن أثر سهمك قتله.. فكل» فأباحه له بشرط أن يعلم أن سهمه قتله، وهذا لا يعلمه إذا

مسألة: صيد الفخ ونحوه

غاب عنه. وروي: أن رجلا سأل ابن عباس: إني أرمي الصيد: فمنه ما أصمي، ومنه ما أنمي؟ فقال: (كل ما أصميت - يعني: ما قتلته وأنت تراه - ودع ما أنميت) يعني: ما قتلته وأنت لا تراه. [مسألة: صيد الفخ ونحوه] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يؤكل ما قتلته الأحبولة كان فيها سلاح أو لم يكن) . وجملة ذلك: أن الأحبولة ما تنصب للصيد، فيتعلق به من حبل أو شبكة أو شرك. يقال: أحبولة وحبالة، وجمع حبالة: حبائل، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «النساء حبائل الشيطان» يعني: مصائده، فإذا وقع في الأحبولة صيد فمات.. لم يحل أكله، لأنه لم يذكه أحد، وإنما قتل الصيد نفسه، ولم يوجد من الصائد غير سبب، فهو كمن لو نصب سكينا، فربضت عليها شاة فقطعت حلقها.

مسألة: إصابة السهم أو الكلب صيدا لا يقصد

[مسألة: إصابة السهم أو الكلب صيدا لا يقصد] ) : وإن أرسل كلبا على صيد بعينه فأصاب غيره فقتله،.. حل أكله لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما ردت عليك قوسك.. فكل» . وإن أرسل كلبا على صيد بعينه فأصاب غيره فقتله، فإن كان في سمته وسننه حل أكله، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (لا يحل) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] [المائدة: 4] . ولأنه لا يمكن تعليمه أخذ صيد بعينه، فسقط اعتباره، كما سقط اعتبار إصابة موضع الذكاة وكما لو أرسله على صيود كبار، فتفرقت عن صيود صغار، فأخذ منها واحدا وقتلها.. فإنه قد سلم أنه يحل. وإن قتل صيدا في غير السمت الذي أرسله فيه.. فهل يحل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحل، لأن للكلب اختيارا، فإذا عدل عن سمت الجهة التي أرسله إليها.. فكأنه قد قطع الإرسال وقصد العدول لنفسه، فلم يحل أكل ما قتله. والثاني: يحل أكله، لأن قصد الكلب أن يصطاد ما هو أهون عليه، فحل كما لو أصابه في الجهة التي أرسله إليها. [مسألة: إرساله الكلب أو رميه السهم وهو لا يرى صيدا] ] : وإن أرسل كلبه وهو لا يرى صيدا فأصاب صيدا وقتله.. لم يحل أكله، وجها واحدا، لأنه لم يرسله على صيد، فهو كما لو استرسل بنفسه وقتل صيدا. وإن رمى إلى الغرض أو إلى السماء وهو لا يرى صيدا، فصادف سهمه في طريقه صيدا فقتله فوجهان:

مسألة: الرمي أو الإرسال لشاخص وظهوره صيدا أو غنما

[أحدهما] : قال أبو إسحاق: يحل، لأن الاعتبار في آلة السلاح أن يقصد به الفعل دون المفعول به، ألا ترى أنه لو قصد قطع خشبة فكانت حلق شاة.. حلت. والثاني: لا يحل، وهو الصحيح، لأنه لم يقصد برميه شيئا، فأشبه إذا نصب أحبولة وفيها حديدة، فوقع فيها صيد، فقتلته تلك الحديدة. [مسألة: الرمي أو الإرسال لشاخص وظهوره صيدا أو غنما] ] : وإن قصد شاخصا يظنه حجرا أو آدميا وكان صيدا فقتله، فمات بالرمي.. حل وجها واحدا. وإن كان بالكلب: فوجهان. قال الطبري: فإن قصد صيدا، فكان غنما فقتله، فإن كان بالكلب لم يحل وجها واحدا وإن كان بالرمي.. فوجهان. وأراد: إذا أصاب الشاة في محل الذكاة فأما في غيره.. فلا يحل وجها واحدا. [مسألة: ذكاة البعير الناد ونحوه] وإن توحش أهلي، كالبعير إذا ند أو تردى في بئر ولم يقدر على ذكاته في الحلق واللبة.. فذكاته حيث أصاب منه، كالوحشي، وبه قال علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس، وهو قول عطاء وطاووس والشعبي، وأبي حنيفة وأصحابه. وقال سعيد بن المسيب وربيعة ومالك: (لا تجوز ذكاته إلا في الحلق واللبة) . دليلنا: ما روى رافع بن خديج: أن بعيرا ند، فرماه رجل بسهم فحبسه الله فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن هذه البهائم لها أوابد كأوابد الوحش فما ند منها.. فاصنعوا به هكذا» . يعني بقوله: " أوابد " يعني: توحشا ونفورا من الإنس.

فرع: ذكاة الجنين

وروي: «أن بعيرا تردى في بئر، فقيل: يا رسول الله أما تصلح الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ فقال: " إنك لو طعنت في فخذها ... لأجزأك» . ولأنه غير مقدور على ذكاته، فكان عقره ذكاته، كالوحشي الممتنع. وإن تأنس الوحشي.. فذكاته في الحلق واللبة، اعتبارا بحاله عند الذكاة. [فرع: ذكاة الجنين] وإن ذكى ما يؤكل لحمه، فوجد في جوفه جنينا ميتا.. حل أكله. وقال أبو حنيفة: (لا يحل له) . دليلنا: ما «روى أبو سعيد قال: قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة وفي بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ فقال: " كلوه إن شئتم؛ فإن ذكاته ذكاة أمه» ولأن الجنين لا يمكن ذكاته فجعلت ذكاة أمه ذكاة له.

مسألة: ملك الصيد بزوال الامتناع

وإن خرج الجنين حيا وتمكن من ذبحه.. لم يحل أكله من غير ذبح. وإن مات من قبل أن يتمكن من ذبحه.. حل أكله. [مسألة: ملك الصيد بزوال الامتناع] وإن رمى رجل صيدا فأصابه ولم يزله من الامتناع.. لم يملكه بذلك، وكان لمن اصطاده. وإن أزال امتناعه.. ملكه بذلك، كما لو أخذه بيده. وإن رماه اثنان فأصاباه معا فأثبتاه أو قتلاه.. كان بينهما نصفين. قال الشافعي: (سواء كان الجرحان سواء، أو أحدهما أكبر من الآخر) ؛ لأن امتناعه أو موته كان بفعلهما، فاشتركا في ملكه. وإن رماه واحد بعد واحد وزال امتناعه ... فهو لمن أثبته منهما. وإن رمياه فوجداه ميتا فاختلفا، فقال كل واحد منهما: أنا أثبته أولا، وأنت رميته بعدي فقتلته، فعليك ضمان قيمته.. فإنه لا يحل أكله، لأنهما قد اتفقا على أنه قتل بعد إثباته، وكل واحد منهما يدعي على صاحبه القيمة.. فالقول قول كل واحد منهما مع يمينه: أنه ما يعلم أن صاحبه أثبته أولا. فإن حلفا جميعا.. برئا، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر.. رددنا اليمين على الحالف، ثم يحلف: لقد قتله الناكل بعد رميه، فيجب له عليه قيمته مجروحا. وإن اتفقا أن أحدهما أصابه أولا، فقال الأول: أنا أثبته، ثم قتلته أنت. وقال الثاني: لم تثبته برميك، وإنما بقي ممتنعا، ثم أثبته أنا وقتلته.. فالقول قول الثاني مع يمينه، لأن الأصل بقاؤه على الامتناع. قال ابن الصباغ: وينبغي إذا اتفقا على عين جراحة الأول أن يفصل، فيقال: إن كان يعلم أنه لا يبقى معها امتناع، كأنها كسرت رجل ما يمتنع بالعدو أو جناح ما يمتنع بالطيران.. فالقول قول الأول بلا يمين. وإن كانت مما يجوز أن يمتنع معها.. فالقول قول الثاني.

فرع: امتناع الصيد بالرجل والجناح معا

[فرع: امتناع الصيد بالرجل والجناح معا] ] : وإن كان الصيد مما يمتنع بالرجل والجناح، كالقبج والدراج فأصابه الأول فكسر رجله، وأصابه الثاني فكسر جناحه.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه بينهما، لأن امتناعه كان بفعلهما. والثاني ـ وهو الأصح ـ: أنه للثاني، لأنه كان ممتنعا بعد إصابة الأول، وإنما زال امتناعه بإصابة الثاني، فكان له. [مسألة: رمي الصيد من اثنين فوجداه ميتا ولم يعلم امتناعه بالأول] ] . وإن رماه الأول ورماه الثاني ووجد ميتا ولم يعلم أن الأول بلغ به أن يكون ممتنعا أو غير ممتنع.. فقال الشافعي في " المختصر ": (جعلناه بينهما نصفين) . وقال في " الأم ": (حل أكله وكان بينهما) . فاعترض معترض على قول الشافعي فيها، وقال: قول الشافعي بحل أكله: لا يجوز؛ لأنه يجوز أن يكون الأول قد أثبته، وأن الثاني قتله، فلا يحل أكله، ويجوز أن لا يكون الأول أثبته، ثم قتله الثاني، فيحل. ومتى اجتمع ما يوجب التحريم والإباحة.. غلب التحريم. وأما قوله: (يكون بينهما) : فلا يجوز أيضا؛ لأنه إن كان الأول أثبته.. فهو له، وإن كان الثاني أثبته.. فهو له، فكيف يكون بينهما؟ واختلف أصحابنا في الجواب عن ذلك على ثلاثة أوجه: فـ[أحدها] منهم من ترك ظاهر كلام الشافعي وأجاب: إلى أن الأمر كما قال هذا السائل، وتأول كلام الشافعي وقال: أما قوله: (إنه يحل أكله) فأراد: إذا عقره

مسألة: وجوب الأرش إذا رمى اثنان صيدا

أحدهما فأثبته، ثم أصابه الثاني في محل الذكاة، فقطع الحلقوم والمريء، أو أثبتاه ولم يصيراه في حكم الممتنع، ثم أدركه أحدهما فذكاه.. فيحل أكله. وأما قول الشافعي: (يكون بينهما) فأراد: إذا كانت يدهما عليه، فلا يعلم من يستحقه منهما، فيقسم بينهما. فأما إذا وجداه ميتا من الجراحتين.. فلا يحل أكله، فإن اتفقا على أن الثاني الذي قتله.. كان عليه القيمة. وإن اختلفا فيه.. حلف كل واحد منهما لصاحبه، كالمسألة التي تقدمت. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: المسألة مفروضة في صيد يمتنع برجله وجناحه كالقبج، فأصاب أحدهما رجله وكسرها، وأصاب الآخر جناحه وكسره ومات.. فقد ذكرنا فيها وجهين. فإن قلنا: إنه بينهما.. فالمسألة مفروضة فيه، وإن قلنا: إنه للثاني.. فلا يعلم الثاني منهما ويدهما عليه، فكان بينهما. وهذا القائل ترك ظاهر كلام الشافعي. و (الثالث) : قال أبو إسحاق: المسألة على ظاهرها، فيحل أكله؛ لأن الأصل بقاؤه على الامتناع إلى أن رماه الثاني، ويكون بينهما؛ لأن يدهما عليه، فإن قيل فقد قلتم: الأصل بقاؤه على الامتناع إلى أن رماه الثاني، فكيف لم تزل بذلك يد الأول؟ قلنا: هذا لا يزال به حكم اليد، ولهذا لو كان عنده شيء يدعيه.. حكم له بذلك وإن كان الأصل عدم الملك، فدل على: أن اليد أقوى من حكم الأصل. [مسألة: وجوب الأرش إذا رمى اثنان صيدا] إذا رمى رجل صيدا فوجأه، بأن قطع الحلقوم والمريء أو ثغرة النحر، أو أصابه في مقتل كالقلب والخاصرة.. فقد ملكه بذلك، ولا يفتقر إلى ذكاة. فإن رماه آخر بعد ذلك.. فإنه لا تأثير للثاني في تحريمه، بل يجب عليه أرش ما نقص إن أحدث به نقصا، بأن خرق جلده أو ما أشبه ذلك. وإن لم يصيره الأول في حكم المذبوح، بل أزال امتناعه فقط.. فقد ملكه بذلك،

فإن رماه آخر.. نظرت: فإن أصابه الثاني في محل الذكاة، بأن قطع حلقومه ومريئه أو ثغرة نحره.. حل أكله، ووجب على الثاني ما بين قيمته مذبوحا ومجروحا، كما لو ذبح لغيره شاة مجروحة. وإن أصابه في غير محل الذكاة.. نظرت: فإن وجأه مثل: أن وقع في قلبه أو خاصرته.. حرم أكله؛ لأنه قتله بعد أن صارت ذكاته في الحلق واللبة، ويجب عليه للأول قيمته مجروحا. وإن لم يوجئه الثاني، بل جرحه جرحا قد يسري إلى نفسه، فإن لم يقدر الأول على ذكاته مثل: أن جاء إليه وقد مات، أو جاء إليه وقد بقي من حياته ما لا يتسع الزمان لذكاته.. حرم أكله، ويجب على الثاني قيمته مجروحا، وإن أدرك الأول ذكاته ولم يذكه حتى مات.. لم يحل أكله: لأنه ترك ذكاته مع إمكانها، وأما الذي يجب على الثاني.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يجب عليه قيمته مجروحا؛ لأن الأول لم يوجد منه أكثر من الرمي الذي ملكه به وترك الذكاة، وهنا لا يسقط ما وجب له على الثاني، كما لو جرح له شاة وترك مالكها ذكاتها حتى ماتت. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يجب على الثاني كمال قيمته مجروحا، وهو المذهب؛ لأن جراحة الأول وإن كانت مباحة إلا أنه لما أدرك ذكاته ولم يفعل.. تبينا أنها وقعت محظورة، وجراحة الثاني محظورة الابتداء، وإذا مات بجراحتين محظورتين.. لم يجب على أحدهما كمال قيمته، كما لو جرح رجل شاة لنفسه، ثم جرحها آخر فماتت من الجراحتين.. فإنه لا يجب على الثاني كمال قيمتها. فإذا قلنا بهذا: قسمت القيمة على قدر الجنايتين: فما خص جراحة الأول.. سقط، وما خص جراحة الثاني.. وجب عليه. فتفرض المسألة في صيد مملوك لرجل، قيمته عشرة دراهم، جرحه رجل جراحة نقص بها من قيمته درهم، ثم جرحه الثاني جراحة نقص بها درهم، ثم مات منهما، ففيه ستة أوجه: أحدها - وهو قول المزني ـ: أنه يجب على كل واحد منهما أرش جنايته، وهو درهم، ثم يجب على كل واحد منهما نصف قيمته بعد الجنايتين، فيجب على كل واحد منهما خمسة؛ لأن كل واحد منهما انفرد بجناية أرشها درهم، فوجب عليه أرش ذلك، ثم مات منها، فوجب قيمته بعد ذلك بينهما. فإن نقص بجناية الأول ثلاثة

دراهم، وبجناية الثاني درهم.. وجب على الأول أرش جنايته ثلاثة دراهم، وعلى الثاني درهم، ثم يقسم ما بقي من قيمته بعد ذلك، وهو ستة بينهما نصفين فيجب على الأول ستة وعلى الثاني أربعة. فإن قيل: فهلا سويتم بينهما في الضمان هاهنا، كما قلتم في الحر إذا قطع رجل يديه، ثم قطع آخر رجله فمات: أن الدية تجب عليهما نصفين؟ قلنا: الفرق بينهما: أن الحر لا تنقص ديته بالجناية عليه، ألا ترى أن رجلا لو قطع يد رجل ورجليه، ثم قتله آخر.. لكان على القاتل ديته كاملة، بخلاف الصيد. والوجه الثاني ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه يدخل نصف أرش جناية كل واحد منهما فيما ضمنه من نفسه؛ لأن الجناية إذا صارت نفسا.. سقط حكم الجناية. وقد أتلف كل واحد منهما نصف نفسه فدخل نصف أرش جنايته في قيمة ذلك النصف ولم يدخل النصف الآخر في أرش جنايته؛ لأن المتلف للنصف الآخر غيره، فيجب هاهنا على الأول نصف قيمته يوم جنى وهو خمسة ونصف أرش جنايته لأجل النصف الذي جنى عليه الثاني، فيكون عليه خمسة دراهم ونصف، ويجب على الثاني نصف قيمته يوم جنى عليه وهو أربعة دراهم ونصف، ونصف أرش جنايته وهو نصف درهم لأجل النصف الذي ضمنه الأول. وإذا ثبت: أن هذا النصف الذي وجب على الثاني لأجل جنايته على النصف الذي ضمنه الأول.. فللأول أن يرجع به على الثاني؛ لأن من جنى على ما دخل في ضمان غيره.. فإن للمضمون عليه مطالبة الجاني بأرش الجناية. فعلى هذا: إن أخذ مالك الصيد من الأول خمسة دراهم ونصف درهم.. لم يأخذ من الثاني غير أربعة دراهم ونصف درهم، وللأول أن يرجع على الثاني بنصف درهم وهو ما وجب عليه بجنايته على النصف الذي ضمنه الأول. وإن أخذ مالك الصيد من الثاني خمسة دراهم.. لم يكن له أن يأخذ من الأول غير خمسة دراهم، ولم يرجع الأول على الثاني بشيء، وهذا كما نقول في رجل غصب من رجل ثوبا قيمته عشرة دراهم، فجنى عليه آخر في يد الغاصب جناية تنقص من قيمته درهما، ثم تلف الثوب في يد الغاصب.. فإن المالك إذا رجع على الغاصب بالعشرة.. رجع الغاصب على

الجاني عليه بدرهم، وإن رجع المالك على الجاني بدرهم.. لم يكن له أن يطالب الغاصب إلا بتسعة، ولم يرجع الغاصب على الجاني بشيء، كذلك هاهنا مثله. فقول أبي إسحاق يوافق قول المزني في قدر منتهى ما يؤخذ من كل واحد منهما وإن خالفه في ترتيب الوجوب ومعناه. فإن نقصت قيمة الصيد بجناية الأول ثلاثة دراهم وبجناية الثاني درهما.. فإن الأول يجب عليه نصف قيمته يوم جنايته عليه وهو خمسة دراهم ونصف أرش جنايته وهو درهم ونصف، فذلك ستة ونصف، ويجب على الثاني نصف قيمته يوم جنايته ثلاثة ونصف، ونصف أرش جنايته نصف درهم، إلا أن هذا النصف الدرهم على الثاني لأجل جنايته على النصف الذي دخل في ضمان الأول. فإن رجع المالك على الأول بستة دراهم ونصف.. فقد استوفى حقه منه بقيمة ما دخل في ضمانه، فيرجع الأول على الثاني بنصف الدرهم الذي وجب على الثاني لأجل ما جنى على ما ضمنه الأول، ولا يرجع المالك على الثاني إلا بثلاثة دراهم ونصف درهم. وإن رجع المالك على الثاني بأربعة دراهم.. رجع على الأول بستة دراهم لا غير، ولا يرجع الأول على الثاني بشيء. والوجه الثالث ـ وهو قول أبي الطيب بن سلمة ـ: أنه يجب على كل واحد منهما نصف قيمته يوم جنايته، ونصف أرش جنايته، كما قال أبو إسحاق، إلا أنه قال: لا يرجع الأول على الثاني بشيء؛ لأن ذلك يؤدي إلى التسوية في قدر ما يجب على كل واحد منهما مع اختلاف قيمة الصيد عند جنايتيهما، ولكن يضم نصف قيمة الصيد يوم جناية الأول وهو خمسة، ونصف أرش جنايته وهو نصف درهم، إلى نصف قيمة الصيد يوم جناية الثاني وهو أربعة ونصف، ونصف أرش جنايته وهو نصف درهم، فذلك كله عشرة ونصف، وتقسم العشرة وهي قيمة الصيد على عشرة ونصف، فما خص خمسة ونصفا.. وجب على الأول، وما خص خمسة.. وجب على الثاني. وكيفية ذلك: أنك تبسط العشرة التي معها النصف أنصافا؛ ليكون النصف معها فتكون عشرين وتضيف إليها النصف الزائد عليها، فتكون إحدى وعشرين، فتجعل ذلك أجزاء الدراهم، ثم تضرب العشرة المقسومة في إحدى وعشرين، فذلك مائتان وعشرة، فاقسمها على إحدى وعشرين، وهي الأنصاف المبسوطة، فيخص كل نصف

عشرة، فتعلم أن الذي يخص صاحب الخمسة والنصف مائة وعشرة؛ لأن عليه أحد عشر نصفا، فاقسمها على إحدى وعشرين، وهي أجزاء الدراهم، فيصبح لك من ذلك خمسة دراهم وخمسة أجزاء من إحدى وعشرين جزءا من درهم، وهو الواجب على الأول. ويخص صاحب الخمسة مائة جزء، من أجزاء الدراهم وهي إحدى وعشرون، فإذا قسمت ذلك على أجزاء الدراهم.. صح لك من ذلك أربعة دراهم وستة عشر جزءا من أجزاء الدراهم وهي إحدى وعشرون، فيجب ذلك على الثاني، فإذا ضممت ما يجب على كل واحد منهما.. كان جميعه عشرة دراهم. والوجه الرابع: أنه يجب على الأول جميع أرش جنايته، وعلى كل واحد منهما نصف قيمته بعد جناية الأول: فيجب على الأول خمسة ونصف إذا نقص بجنايته درهم، وعلى الثاني أربعة ونصف؛ لأن الأول انفرد بالجناية، فوجب عليه أرشها ومات الصيد من سراية جنايته وجناية الثاني. والوجه الخامس: أنه يدخل أرش جناية كل واحد منهما في بدل النصف فيكون على كل واحد منهما نصف قيمته يوم جنايته: فيجب على الأول خمسة دراهم وعلى الثاني أربعة ونصف، ويسقط نصف درهم من قيمته. قال: لأني لم أجد من أوجبه عليه منهما. والوجه السادس: -وهو قول ابن خيران -: أن أرش جناية كل واحد منهما تدخل فيما ضمنه من النفس، فتضم قيمة الصيد عند جناية الأول، وهو عشرة إلى قيمته عند جناية الثاني، وهو تسعة، فذلك تسعة عشر، وتقسم العشرة عليهما، فما خص العشرة.. وجب على الأول، وما خص التسعة.. وجب على الثاني. وكيفية ذلك: أنك تجعل التسعة عشر أجزاء الدراهم، ثم تضرب العشرة في تسعة عشر، فيصبح لك مائة وتسعون، فإذا قسمت المائة والتسعين على تسعة عشر.. خص

فرع: جناية ثلاثة على صيد

كل واحد عشرة، فتعلم: أن الذي يخص العشرة مائة جزء من تسعة عشر جزءا من الدراهم، فإذا قسمت المائة على أجزاء الدراهم.. صح لك خمسة دراهم وخمسة أجزاء من تسعة عشر جزءا من درهم، وهو الذي يجب على الأول. ويخص صاحب التسعة تسعون جزءا، فإذا قسمتها على أجزاء الدراهم.. صح لك من ذلك أربعة دراهم وأربعة عشر جزءا من تسعة عشر جزءا من درهم، وهو الذي يجب على الثاني. فإذا ضممت ما وجب على كل واحد منهما إلى ما وجب على الآخر.. كان الجميع عشرة دراهم، وهذا هو الصحيح. [فرع: جناية ثلاثة على صيد] إذا كان لرجل صيد مملوك قيمته عشرة دراهم، فجنى عليه ثلاثة رجال، فنقص بجناية كل واحد منهم درهمان، ثم مات.. فعلى قول المزني: يجب على كل واحد منهم أرش جنايته درهمان، ثم تقسم الأربعة الباقية من قيمته بعد أرش جنايتهم عليهم أثلاثا، فيجب على كل واحد منهم ثلاثة دراهم وثلث درهم. وعلى قول أبي إسحاق: يجب على الأول ثلث قيمته يوم جنايته وهو ثلاثة دراهم وثلث درهم وثلثا أرش جنايته، وهو درهم وثلث لأجل الثلثين اللذين تلفا من جناية الثاني والثالث، فذلك أربعة وثلثان، ويجب على الثاني ثلث قيمته يوم جنايته وهو درهمان وثلثان، وثلثا أرش جنايته وهو درهم وثلث. فذلك أربعة دراهم، ويجب على الثالث ثلث قيمته يوم جنايته وهو درهمان وثلثا أرش جنايته وهو درهم وثلث. فإن أخذ المالك من الأول أربعة دراهم وثلثي درهم.. رجع الأول على الثاني بثلثي درهم، وعلى الثالث بثلثي درهم، فيعلم: أن الذي حصل عليه ثلاثة دراهم وثلث. ويأخذ المالك من الثاني ثلث قيمة الصيد يوم جنايته وثلث أرش جنايته لأجل ما ضمنه الثالث، وذلك ثلاثة دراهم وثلث، ويرجع الثاني على الثالث بثلثي درهم وهو أرش جناية الثالث على الثلث الذي ضمنه الثاني. ويأخذ المالك من الثالث ثلث قيمته يوم جنايته، وهو درهمان. فيكون منتهى ما خرج من كل واحد منهم ثلاثة دراهم وثلثا لأن الثالث قد دفع إلى الأول ثلثي درهم، وإلى الثاني ثلثي درهم، مع ما دفعه إلى

مسألة: انفلات الصيد من الكلب

المالك، فذلك ثلاثة وثلث. فهذا يوافق قول المزني في قدر منتهى ما يخرج من كل واحد منهم وإن خالفه في الترتيب. وعلى قول أبي الطيب بن سلمة: يضم ما وجب على الأول وهو أربعة وثلثان إلى ما وجب على الثاني وهو أربعة، وإلى ما وجب على الثالث وهو ثلاثة وثلث فذلك اثنا عشر، ويقسم العشرة عليها، فما قابل ما وجب على كل واحد منهم من العشرة.. كان عليه. وعلى الوجه الرابع: يجب على الأول أرش جنايته درهمان، ثم تقسم قيمته بعد جناية الأول بينهم أثلاثا، فتكون على الأول أربعة دراهم وثلثان، وعلى كل واحد من الآخرين درهمان وثلثان. وعلى الوجه الخامس: يجب على كل واحد منهم ثلث قيمته يوم جنايته، فيكون على الأول ثلاثة دراهم وثلث، وعلى الثاني درهمان وثلثان، وعلى الثالث درهمان وينقص من القيمة درهمان. وعلى قول ابن خيران: تضم قيمة الصيد عند جناية كل واحد منهم إلى قيمته عند جناية صاحبيه، وذلك أربعة وعشرون، فتقسم العشرة عليها، فتكون على الأول عشرة أجزاء من أربعة وعشرين جزءا من عشرة دراهم وهي ربع العشرة وسدسها وعلى الثاني ثمانية أجزاء وهي ثلث العشرة، وعلى الثالث ستة أجزاء وهي ربع العشرة. [مسألة: انفلات الصيد من الكلب] ) : إذا أخذ الكلب صيدا ثم انفلت منه.. قال القاضي أبو الطيب في (المجرد) فإن كان قبل أن يدركه صاحبه.. لم يملكه صاحب الكلب بذلك، وإن كان بعدما أدركه صاحبه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يملكه، لأنه لم يحصل في يده ولا أزال عن الامتناع.

والثاني: يملكه؛ لأن الكلب قد أمسكه له وأمكنه أخذه. وإن كان في يده صيد فانفلت الصيد منه.. لم يزل ملكه عنه، سواء كان الصيد طائرا أو غيره، وسواء لحق بالبراري أو لم يلحق، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (إن كان يطير في البلد وحوله.. فهو على ملك من كان بيده، وإن لحق بالبراري وعاد إلى أصل التوحش.. زال ملكه عنه وكان لمن اصطاده) . دليلنا: أنه مال لمسلم فلم يزل ملكه بزوال يده عنه، كالعبد إذا أبق. وفيه احتراز من الحربي إذا قهر على ما بيده، فأما إذا أفلته من هو بيده باختياره.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه يزول ملكه عنه؛ لأنه أزال يده عنه فأشبه ما لو كان معه عبد فأعتقه. والثاني ـ وهو قول أبي إسحاق، واختيار القاضي أبي الطيب ـ: أنه لا يزول ملكه عنه، كما لو كان معه بهيمة فسيبها. والثالث ـ وهو قول أبي علي في " الإفصاح "ـ: إن قصد بذلك التقرب إلى الله في إفلاته وتخليصه.. زال ملكه عنه، وإلا.. لم يزل. وقال المسعودي في [" الإبانة "] : إن قال: أعتقته.. لم يزل ملكه عنه بذلك، وإن قال: أبحته لغيري.. حل لغيره ولا يزول ملكه عنه بذلك. وإن كان معه ماء فصبه، أو غير ذلك من المحقرات فطرحه.. فهل يزول ملكه عنه؟ فيه وجهان، كالوجهين الأولين، حكاهما في " الفروع ". قال الشاشي: والسواقط من الثمار تحت الأشجار إذا لم تكن محرزة وجرت عادة أهلها بإباحتها.. فهل تجري العادة في ذلك مجرى الإذن؟ فيه وجهان، حكاهما عن " كتاب الحاوي ". وبالله التوفيق

كتاب البيوع

[كتاب البيوع]

كتاب البيوع البيع جائز. والأصل في جوازه: الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] [الْبَقَرَةِ: 275] . وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] [الْبَقَرَةِ: 282] . وقَوْله تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] [النِّسَاءِ: 29] . وقَوْله تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] [الْبَقَرَةِ: 282] . والمداينة لا تكون إلا في بيع.

وقَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] [الْبَقَرَةِ: 198] . قال ابن عباس، وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: (نزلت هذه الآية في التجارة في مواسم الحج) . وأما السنة: فروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى فرسا، وجارية، وباع حلسا، وقدحا.

وروي «عن قيس بن أبي غرزة الجهني: أنه قال: كنا نسمى على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السماسرة، فسمانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باسم أحسن منه فقال: "يا معشر التجار، إن البيع يحضره اللغو والحلف، فشوبوه بشيء من الصدقة» . وروي «عن رافع بن خديج: أنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور» و: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجتاز في السوق غدوة وعشيا ينهى عن الشيء بعد الشيء» . وأما الإجماع: فأجمعت الأمة على جوازه.

فروي: (أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان بزازا) ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لو اتجر أهل الجنة.. لم يتجروا إلا في البز» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير تجارتكم البز» . و: (كان أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه يبيع الحنطة والأقط) . و: (كان العباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عطارا) . و: (كان أبو سفيان يبيع الأدم) . و: (ابتاعت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بريرة بمشورة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . إذا ثبت هذا: فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يا تجار، كلكم فجار إلا من أخذ الحق وأعطاه» .

مسألة فيمن يصح تصرفه

وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «إن التجار هم الفجار". فقالوا: أليس قد أحل الله البيع؟ قال: "بلى، ولكنهم يحلفون ويكذبون» . وهذا الذم إنما ينصرف إلى من يحلف ويكذب؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة» . وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب على ظهره، فيأتي، فيبيعه، فيأكل منه ويتصدق.. خير من أن يأتي رجلا أتاه الله من فضله، فيسأله، أعطاه أو منعه» . [مسألة فيمن يصح تصرفه] ] : ولا يصح البيع إلا من بالغ عاقل مختار. فأما الصبي: فلا يصح بيعه، سواء كان بإذن الولي، أو بغير إذنه.

مسألة اشتراط الإيجاب والقبول

وقال أبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما: (يصح بيع الصبي المميز بإذن الولي) . فإن باع بغير إذنه.. كان عند أبي حنيفة موقوفا على إجازة الولي. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . ولأن الصبي غير مكلف، فلم يصح بيعه، كالمجنون، ولا يصح بيع المجنون؛ للخبر. وإن أكره على البيع، فإن كان بغير حق.. لم يصح بيعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما البيع عن تراض» فدل على: أنه لا بيع عن غير تراض. وإن كان بحق، بأن كان عليه حق، وامتنع من أدائه.. فللحاكم أن يكرهه على بيع ما يؤدي به ذلك الحق، فإن أكرهه على البيع.. صح؛ لأنه قول حمل عليه بحق، فصح، كالحربي إذا أكره على كلمة الإسلام. [مسألة اشتراط الإيجاب والقبول] ] : ولا يصح البيع عند عامة أصحاب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلا بالإيجاب والقبول. وقال أبو حنيفة: (التعاطي بيع) .

وحكي عن أبي العباس بن سريج: أنه قال: للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول آخر مثل هذا في الأشياء التافهة، وليس بمشهور عنه. وقال مالك رحمة الله عليه: (يقع البيع بما يعده الناس بيعا) . قال ابن الصباغ: وهذا له وجه جيد. قال: والذي ينبغي أن يعتبر في ذلك: أنهما متى افترقا عن تراض منهم بالمعاوضة.. فقد تم البيع بينهما. وكذلك الحكم في الهدايا والهبة؛ لأن البيع موجود قبل الشرع، وإنما علق الشرع عليه أحكاما، فيجب أن يرجع فيه إلى العرف، كما يرجع في القبض والحرز والإخبار. ولأن المسلمين مجمعون في بيعاتهم على ذلك، ولم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم استعملوا البيع بلفظ البيع، ولو فعلوا ذلك.. لنقل نقلا شائعا، بل نقل: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشكا إليه الحاجة، فقال له: "هل عندك شيء؟ "، فجاءه بقعب وحلس، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من يشتري هذين؟ "، فقال رجل: هما علي بدرهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من يزيد على درهم؟ "، فقال آخر: هما علي بدرهمين، فقال: خذ» وروي «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أنه قال: كنا ندخل السوق، فنبيع الإبل بالدراهم، ونأخذ عنها الدنانير، ونبيع بالدنانير، ونأخذ عنها الدراهم،

فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال: لا بأس إذا تفرقتما، وليس بينكما شيء» ولم يذكر سوى الأخذ. وقد أهدي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحبشة وغيرها، ولم ينقل: أنه أمر فيه بالإيجاب والقبول. قال: ويحكى عن الشيخ أبي حامد: أنه سئل عما يتبايعه الناس؟ فقال: إنه ليس ببيع، ولكنه يسقط عن ذممهم بالتراضي بها. قال: وهذا ليس بمستقيم؛ لأن في البيع الفاسد لا يختلف المذهب: أن لكل واحد من المتبايعين الرجوع على الآخر بما دفعه إليه إن كان باقيا، أو بقيمته إن كان تالفا، وقد حصل التراضي بينهما، وعلى أن إسقاط الحقوق يفتقر إلى اللفظ، فلم يجعل التراضي حال العقد يقوم مقام اللفظ في ذلك، ولم يجعله يقوم مقام اللفظ في المعاوضة. قال ابن الصباغ: وسألت القاضي أبا الطيب عما يفعله الناس من ذلك؟ فقال: هو إباحات وليس بمعاوضات، فقلت له: إذا كان كل واحد منهما يبيح للآخر ما يدفعه إليه، ويستبيحه الآخر من جهة الإباحة.. فما تقول فيمن أعطى قطعة، وأخذ بقلا، فأكله، وعاد يطلب القطعة، فهل له ذلك أم لا؟ فقال: ليس له ذلك، فقلت له: فلو كان ذلك إباحة من كل واحد منهما.. لكان لأحدهما أن يرجع فيما أباحه قبل حصول الإتلاف من المباح له، ألا ترى أنه لو أباح رجلان كل واحد منهما لصاحبه

طعاما، فأكل أحدهما ما أباحه له، ورجع عما أباحه لصاحبه.. كان له ذلك؟ فقال: إنما أباح كل واحد منهما للآخر بسبب إباحة الآخر له، فقلت له: هذا معنى المعاوضة دون الإباحة؛ لأن الإباحة إذا وجدت بعوض.. لم تكن إباحة. والمشهور: أنه لا بد من الإيجاب والقبول؛ لأنه عقد معاوضة، فافتقر إلى الإيجاب والقبول، كالنكاح. إذا ثبت هذا: فالإيجاب أن يقول البائع: بعتك، أو ملكتك بكذا، فيقول المبتاع: ابتعت، أو قبلت، أو اشتريت، أو قد اشتريت، فيصح. فإن قال المشتري: بعني، فقال البائع: قد بعتك.. انعقد البيع وإن لم يقل المشتري: قبلت. وقال أبو حنيفة، وأحمد رحمهما الله: (لا ينعقد) . دليلنا: أن كل عقد انعقد بالإيجاب والقبول.. انعقد بالإيجاب والاستدعاء، كالنكاح. وإن قال المشتري: أتبيعني هذا بكذا؟ فقال البائع: بعتك.. لم ينعقد البيع؛ لأن قوله: (أتبيعني؟) استفهام، وليس باستدعاء، فلم ينعقد به البيع. فإن فصل بين الإيجاب والقبول بزمان طويل، أو نام أحدهما، أو حجر عليه، أو قام من المجلس، ثم قبل.. لم يصح البيع. وإن فصل بينهما بزمان قليل، بأن قال: بعتك داري بألف، فصبر المشتري زمانا قليلا، إلا أنه لم يفارق المجلس، ثم قال: قد اشتريت.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري، المشهور: أنه لا يصح. وإن قال: بعتك داري بألف، فمات المشتري عقيب الإيجاب، وقبل القبول، وكان وارثه حاضرا، فقال الوارث عقيب موت مورثه: قبلت.. ففيه وجهان:

فرع الكتاب لأجل البيع

[أحدهما] : قال الداركي: يصح؛ لأنه لما ورث ماله.. ورث القبول. والثاني: لا يصح، وهو الصحيح؛ لأنه قبول من غير من أوجب له، فلم يصح، كما لو قال لزيد: بعتك، فقال عمرو: قبلت. [فرع الكتاب لأجل البيع] ] : وإن كتب رجل إلى رجل ببيع سلعة، فلما قرأ المشتري البيع قال: قبلت.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه موضع ضرورة. والثاني: لا يصح؛ لأنه قادر على النطق، فلا ينعقد بغيره، كالإيماء في حق الناطق. فإن كان أخرس، فأشار إلى البيع بما يفهم منه، أو كتب.. صح بيعه؛ لأن إشارته وكتابته كنطق غيره. [مسألة ثبات الخيار للمتبايعين] ] : وإذا انعقد البيع.. ثبت لكل واحد من المتبايعين الخيار بين الفسخ والإمضاء، إلى أن يتفرقا أو يتخايرا، وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وابن عمر، وأبو هريرة، وابن عباس، وأبو برزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومن التابعين:

الشعبي، وسعيد بن المسيب، والحسن، وطاوس، وعطاء، والزهري، رحمة الله عليهم، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وقال النخعي، ومالك، وأبو حنيفة: (يلزم البيع بنفس العقد، ولا يثبت خيار المجلس، وإنما يثبت الخيار بالشرط فقط) . دليلنا: ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا عن مكانهما، فإذا تفرقا.. فقد وجب البيع» . وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا عن مكانهما، أو يقول أحدهما للآخر: اختر» .

وروى الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار» . ومعنى قوله: «إلا بيع الخيار» إلا بيعا قطعا فيه خيار المجلس: إما بالتخاير بعد العقد، أو باعه على أنه لا خيار بينهما إذا قلنا: يصح؛ ولأنه عقد قصد به تمليك المال، فلا يلزم بمجرد العقد، كالهبة، وفيه احتراز من النكاح والخلع. إذا ثبت هذا: فالتفرق: هو أن يتفرقا بأبدانهما عن مجلسهما الذي تبايعا فيه وكيفية ذلك مأخوذ مما عد في عادة الناس وعرفهم تفرقا. فإن كانا في دار صغيرة، أو مسجد صغير، أو سفينة صغيرة.. فبأن يخرج أحدهما من الدار، أو المسجد، أو السفينة، أو يصعد السطح. وإن كانا في دار، أو مسجد كبير، أو سفينة كبيرة.. فبأن يقوم أحدهما من ذلك المجلس، ويمشي إلى مجلس آخر، أو يدخل من صحن الدار إلى الصفة، أو من الصفة إلى البيت. وإن كانا في صحراء، أو سوق، أو شارع، أو طريق.. فالذي قال الشافعي

فرع ما لا يضر في الخيار

- رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن أحدهما إذا قام وولى الآخر ظهره.. فقد وقع التفرق) . قال أصحابنا: أراد: إذا قام، وولى ظهره، ومشى خطوتين أو ثلاثا؛ لما روي: (أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما كان إذا أراد أن يجب البيع.. مشى قليلا) . قال أبو سعيد الإصطخري: إنما يحصل التفرق بأن يتفرقا، بحيث إذا كلم أحدهما صاحبه بغير صياح ولا مناداة، بالخطاب المعتاد.. لا يسمع. فإن تبايعا، وقاما جميعا من المجلس، وتسايرا يومهما وليلتهما، أو أكثر بحيث لم يتفرقا.. لم ينقطع خيارهما؛ لما روي: «أن رجلين ترافعا إلى أبي برزة الأسلمي، وكان قد أقاما في مجلس البيع يومهما وليلتهما، ثم ذهبا إليه، فقال: لأقضين بينكما بقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ما أراكما تفرقتما» . قال صاحب " الفروع ": وقيل: لو لم يتفرقا، ولكنهما شرعا في أمر آخر، وأعرضا عن أمر العقد، وطال الفصل.. بطل الخيار. وليس بشيء. [فرع ما لا يضر في الخيار] ] : فإن جعل بينهما ستر من بناء حائط، أو ستارة.. لم ينقطع خيارهما بذلك؛ لأن ذلك لا يحصل به التفرق. وأما التخاير: فإن قال أحدهما: اخترت إمضاء العقد.. انقطع خياره، فإن قال الآخر: اخترت فسخ العقد.. انفسخ العقد. وهكذا: لو اختار أحدهما فسخ العقد.. انفسخ العقد. ولو اختار الآخر إمضاءه بعد ذلك.. لم يؤثر ذلك؛ لأن الخيار لكل واحد منهما، فإذا اختار أحدهما الفسخ.. انفسخ من الجانبين.

فرع الإكراه على التفرق

وإن قال أحدهما للآخر: اختر، فسكت المسئول.. لم ينقطع خياره، وهل ينقطع خيار السائل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا ينقطع، كما لو قال لزوجته: اختاري، فسكتت.. فإن خيار الزوج لا ينقطع في طلاقها. والثاني: ينقطع خياره، وهو المذهب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أو يقول أحدهما للآخر: اختر» . ولأنه لم يقل هذا إلا بعد الرضا منه بالبيع. ويخالف الزوجة، فإنها لم تكن مالكة للخيار، فإذا خيرها، فلم تختر.. بقي الزوج على خياره. [فرع الإكراه على التفرق] ] : قال الشيخ أبو حامد: إذا أكرها على التفرق، ومنعا من التخاير.. لم يبطل خيارهما، وجها واحدا؛ لأنهما قد أكرها عليه، فلم ينقطع خيارهما إلا بالتراضي. وإن أكرها على التفرق، ولم يمنعا من التخاير.. فهل ينقطع خيارهما؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أنه ينقطع خيارهما؛ لأنهما قد قدرا على الفسخ بالقول، فكان سكوتهما رضا منهما بالإمضاء. والثاني - وهو قول عامة أصحابنا، وهو الصحيح -: أنه لا ينقطع خيارهما؛ لأن وجود التفرق مع الإكراه كعدمه، وسكوتهما عن الفسخ لا يسقط الخيار الثابت. وقال القفال: إذا أكرها على التفرق، ولم يمنعا من التخاير.. سقط خيارهما، وجها واحدا. وإن أكرها على التفرق، ومنعا من التخاير.. فهل ينقطع خيارهما؟ فيه وجهان. فإن هرب أحدهما من الآخر.. لزم العقد، وجها واحدا؛ لأنه فارقه باختياره، وليس يقف افتراقهما على تراضيهما جميعا؛ لأنه لما سكت عن الفسخ، وفارق صاحبه.. لزم البيع.

فرع غياب العقل

[فرع غياب العقل] ] : وإن جن أحدهما، أو أغمي عليه قبل التفرق.. لم يبطل خياره. قال ابن الصباغ: فإن كان له ولي.. قام مقامه في اختيار ما هو أحظ له، وإن لم يكن له ولي.. قام الحاكم مقامه. وإن خرس، فإن كانت له إشارة مفهومة أو خط.. قام ذلك مقام لفظه، وإن لم تكن له إشارة مفهومة ولا خط.. كان كالمغمى عليه، ينوب عنه وليه أو الحاكم. [فرع تقدير خيار الموكل والوكيل] إذا اشترى الوكيل شيئا لموكله.. فهل يتقدر الاختيار بمجلس الوكيل، أو الموكل؟ فيه وجهان، المذهب: أنه يتقدر بمجلس الوكيل. فإن مات الوكيل قبل التفرق والتخاير.. فهل ينتقل إلى الموكل؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو المذهب -: أنه ينتقل إليه؛ لأن العقد له. والثاني: لا ينتقل إليه؛ لأن الخيار تعلق بمجلس الوكيل، وليس الموكل وارثا له. [فرع بيعان في مجلس] ] : إذا تبايعا وتقابضا، وتبايعا بالعوض المقبوض بيعا ثانيا قبل التفرق، أو التخاير.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي العباس، وهو المشهور -: أن البيع الثاني صحيح،

فرع تولي الولي طرفي العقد

وينقطع الخيار للأول؛ لأن دخولهما في الثاني رضا منهما بلزوم العقد الأول. والثاني - حكاه ابن الصباغ عن القفال -: أن الثاني لا ينعقد إلا على القول الذي يقول: إن الخيار لا يمنع انتقال الملك. فإذا قلنا: يمنع.. فلا يصح. [فرع تولي الولي طرفي العقد] إذا اشترى الأب أو الجد شيئا من مال ابنه الصغير، أو باعه وتولى طرفي العقد.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدهما - وهو المشهور -: أن خيار المجلس يثبت، ولا يلزم العقد إلا بمفارقة الأب مجلس العقد، أو باختياره للإمضاء؛ لأنه لما قام مقام الابن في العقد.. قام مقامه في خيار المجلس. والثاني - حكاه الطبري في " العدة " -: أنه لا يثبت خيار المجلس؛ لأنه ليس هاهنا أحد يفارقه. والثالث - حكاه أبو علي السنجي في " شرح التلخيص " -: أنه يثبت، ولكن لا يلزم إلا بالاختيار بالقول، ولا يلزم بمفارقته مجلس العقد؛ لأنه لما كان هو العاقد لا غير.. كان كالمتبايعين إذا قاما من مجلسهما إلى مجلس آخر، واصطحبا إلى مكان بعيد.. فلا يبطل خيارهما ما لم يتفرقا، إلا بالتخاير. [مسألة شرط عدم الخيار] ] : إذا شرطا قطع خيار المجلس في حال العقد، مثل أن يقول: بعتك على أن لا يكون بيننا خيار المجلس، فقال المشتري: قبلت.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في

القديم، و" البويطي ": (إن الخيار لا ينقطع) ؛ لأنه قال: (وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار» يحتمل تأويلين: أحدهما - وهو أظهرهما عند أهل اللغة واللسان، وأقواهما بالسنة والقياس -: أن يتخايرا بعد التبايع. والثاني: أن يتخايرا في عقد البيع، ولا أقول هذا، وقولي الأول) . وقال في (الأيمان والنذور) : (إذا قال الرجل لعبده: إذا بعتك.. فأنت حر، فباعه بيعا ليس ببيع خيار.. عتق) . واختلف أصحابنا في ذلك: فقال أبو إسحاق: المسألة على قول واحد، وإن قطع الخيار في حال العقد لا يجوز، والذي قاله في (الأيمان والنذور) : إنما قصد به الرد على مالك وأبى حنيفة؛ لأنهما يقولان: (ليس بين المتبايعين خيار المجلس) . وإذا تم العقد.. لزم البيع، ولم يعتق العبد، إلا إن كان بينهما خيار الشرط، فأراد الشافعي بقوله: (ليس ببيع خيار) أي: خيار الشرط. ومنهم من جعل ذلك قولا آخر للشافعي، فجعل المسألة على قولين، وهو اختيار الشيخ أبي حامد: أحدهما: يصح الشرط؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار» . وهذا استثناء من إثبات، فوجب أن يكون نفيا، ولأن خيار المجلس غرر، فإذا صح البيع معه.. فلأن يصح مع عدمه أولى. والثاني: لا يصح الشرط، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يتخايرا» . والتخاير لا يكون إلا بعد البيع؛ لأنهما قبل تمام العقد لا يقال لهما متبايعان، بدليل: أن من حلف لا يبيع.. لا يحنث إلا بعد الإيجاب والقبول، ولأن هذا خيار يثبت بعد تمام البيع، فلم يجز إسقاطه قبل ذلك، كخيار الشفعة، وفيه احتراز من خيار القبول. فإذا قلنا: إن الشرط جائز.. وقع البيع لازما، ولا خيار.

مسألة العقود التي يثبت بها الخيار

وإذا قلنا: إن الشرط باطل.. فهل يبطل البيع؟ فيه وجهان: أحدهما: يبطل البيع؛ لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، فأبطله، كما لو قال: بعتك على أن لا أسلم المبيع. والثاني: لا يبطل البيع؛ لأنه لا يؤدي إلى جهالة العوض والمعوض، فلم يبطل العقد لأجله. وأما الشيخ أبو إسحاق: فقال: إذا باعه على أن لا خيار بينهما.. ففيه وجهان، وإن شئت قلت: في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: يبطل البيع والشرط. والثاني: يصح البيع والشرط. والثالث: يصح البيع، ويبطل الشرط. إذا ثبت هذا: فقال الرجل لعبده: إن بعتك.. فأنت حر، فباعه بيعا مطلقا.. فإنه يعتق إذا تم الإيجاب والقبول؛ لأنه يثبت له خيار المجلس، وهو يملك إعتاقه، فكذلك إذا وجدت صفة العتق فيه. وإن باعه بيعا شرط فيه قطع خيار المجلس، فإن قلنا: لا يصح البيع.. لم يعتق العبد؛ لأن الصفة لم توجد. وإن قلنا: إن الشرط صحيح، والبيع صحيح.. لم يعتق العبد أيضا؛ لأن البيع يقع من غير خيار. وإن قلنا: الشرط باطل، والبيع صحيح.. عتق العبد، كما لو باعه مطلقا. [مسألة العقود التي يثبت بها الخيار] ] : ويجوز شرط خيار الثلاث في البيوع التي لا ربا فيها؛ لما روي: «أن حبان بن منقذ أصاب رأسه آمة، فثقل لسانه، فكان يغبن في بياعاته، فجاء أهله إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسألوه أن يحجر عليه، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا بايعت.. فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثة أيام» .

إذا ثبت هذا: فذكر أصحابنا العقود التي يثبت فيها الخيار والتي لا يثبت فيها، على ترتيب المزني؛ ليسهل حفظه، فمنها: الصرف والسلم، يثبت فيهما خيار المجلس؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا» . وهذان متبايعان، ولا يثبت فيهما خيار الشرط؛ لأنهما يفتقران إلى القبض في المجلس، فلو أثبتنا فيهما خيار الشرط.. أدى إلى أن يفترقا قبل تمامهما، فلم يصح. وأما الرهن: فلا يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الشرط؛ لأن الراهن بالخيار ما لم يقبض الرهن، والمرتهن له فسخ الرهن متى شاء، فلا معنى لإثبات الخيارين. وكذلك القرض لا يثبت فيه الخياران؛ لأن للمقرض أن يطالب بالقضاء متى شاء، وللمقترض أن يقضي متى شاء، فلا معنى لإثبات الخيارين.

وأما الصلح: فعلى ثلاثة أضرب: صلح هو حطيطة، وصلح بمعنى البيع، وصلح بمعنى الإجارة. فأما صلح الحطيطة: فبأن يدعي عليه ألفا، فيقر له بها، ثم يبرئه من بعضها، ويأخذ منه الباقي، فلا خيار فيه، كالإبراء. وأما صلح البيع: فبأن يعطيه بالألف عينا، فهذا بيع يثبت فيه الخياران، كالبيع. وأما صلح الإجارة: فبأن يملكه منفعة عين من أعيان أمواله بالألف، فهذا كالإجارة على ما يأتي. وأما الحوالة: فلا يثبت فيها خيار الشرط. وفي خيار المجلس وجهان: أحدهما: يثبت؛ لأنها معاوضة في الحقيقة. والثاني: لا يثبت؛ لأنها تجري مجرى الإبراء، بدليل: أنها لا تصح بلفظ البيع، فلم يثبت. وأما الضمان والكفالة بالأبدان: فلا يثبت فيهما الخياران؛ لأن الضامن يدخل فيهما متطوعا مع الرضا بالعين، ولهذا يقال: الكفالة: أولها ندامة، وأوسطها ملامة، وآخرها غرامة. وأما الوكالة والشركة والعارية والوديعة والقراض والجعالة: فلا يثبت فيها الخياران؛ لأنها عقود جائزة، لكل واحد منهما فسخها متى شاء، فلا معنى لإثبات خيار المجلس فيها وخيار الشرط. وأما الشفعة: فلا يثبت فيها خيار الشرط؛ لأنها لا تقف على التراضي. وأما خيار المجلس: فلا يثبت للمشتري؛ لأنه يؤخذ منه الشقص بغير اختياره، وهل يثبت للشفيع؟ فيه وجهان: أحدهما: يثبت له؛ لأن ذلك معاوضة. والثاني: لا يثبت له، كما لا يثبت له خيار الشرط.

وأما المساقاة والإجارة المعقودة على زمان: فلا يثبت فيهما خيار الشرط، وهل يثبت فيهما خيار المجلس؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يثبت فيهما، كما لا يثبت فيهما خيار الشرط. والثاني: يثبت فيهما؛ لأن قدره يسير. وأما الإجارة في الذمة: فمثل: أن يستأجره ليحصل له بناء حائط، أو ليحصل له خياطة ثوب: ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يثبت فيها الخياران؛ لأن الإجارة عقد على ما لم يخلق، وذلك غرر؛ فلا يجوز أن يضاف إليه غرر الخيار. والثاني: يثبتان؛ لأن بمضي المدة لا ينفصل من المعقود عليه شيء. والثالث: يثبت فيها خيار المجلس، ولا يثبت فيها خيار الشرط، كالسلم. وأما الوقف: فلا يثبت فيه الخيار؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة، فلا يثبت فيه الخيار، كالعتق. وأما الهبة: فإنها قبل القبض لا تلزم، وأما بعد القبض: فإن قلنا: لا تقتضي الثواب.. لم يثبت فيها خيار. وإن قلنا: تقتضي الثواب.. فحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: هل يثبت فيها الخياران؟ فيه وجهان: أحدهما: يثبتان؛ لأنها معاوضة، فأشبهت البيع. والثاني: لا يثبتان؛ لأنها وإن كانت معاوضة، فليس القصد منها العوض، فلم يثبت فيها الخيار، كالنكاح.

وقال القاضي أبو الطيب: لا يثبت فيها خيار الشرط، وجها واحدا، وفي خيار المجلس وجهان. وأما الوصية: فلا يثبت فيها الخياران؛ لأن الموصي بالخيار إلى أن يموت، فإذا مات.. سقط خياره، وكان الموصى له بالخيار إن كان معينا إلى أن يقبل، وهل يثبت له الخيار بعد القبول وقبل القبض؟ فيه وجهان. وأما النكاح: فلا خيار فيه؛ لأنه لا يقصد منه العوض. وأما الصداق: فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا يثبت فيه الخيار، ومنهم من قال: يثبت إذا شرط، ونذكر ذلك في النكاح إن شاء الله تعالى. وأما الخلع: فلا يثبت فيه خيار الشرط، وفي خيار المجلس وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يثبت؛ لأنه معاوضة، فإذا فسخ.. بقي الطلاق رجعيا. والثاني: لا يثبت؛ لأن القصد منه الفرقة، دون المال، فأشبه النكاح. وأما الطلاق: فلا يثبت فيه الخيار؛ لأنه إذا وقع لم يرتفع. وأما السبق والرمي: فإن قلنا: إنهما كالجعالة، فهما عقدان جائزان.. فلا يثبت فيهما الخيار. وإن قلنا: إنهما كالإجارة.. فقد مضى حكمها. وأما القسمة: فإن كان فيها رد.. ثبت فيها الخياران؛ لأنها بيع. وإن لم يكن فيها رد، فإن كان الحاكم يقسمها.. فهي قسمة إجبار، فلا خيار فيها وإن اقتسم الشريكان بأنفسهما، فإن قلنا: إنها إقرار الحقين.. فلا خيار فيها، وإن قلنا: إنها بيع.. ثبت فيها الخياران. وأما العتق: فلا خيار فيه؛ لأنه إسقاط حق. وكذلك التدبير لا يثبت فيه الخيار؛ لأنه عتق بشرط. وأما الكتابة: فلا خيار للسيد فيها؛ لأنه يدخل على وجه القربة، ويعلم أنه مغبون من جهة المال، وأما العبد: فله الخيار إلى أن يؤدي المال.

فرع جواز خيار الشرط

[فرع جواز خيار الشرط] ] : وكل عقد صح فيه خيار الشرط.. صح أن يشترطا خيار يوم أو يومين؛ لأنه إذا جاز شرط الخيار في الثلاث.. فلأن يجوز فيما دونها أولى. قال الزبيري: إذا قال: بعتك على أن لي الخيار إلى طلوع الشمس من الغد.. لم يجز، وإن قال: إلى وقت طلوعها.. جاز؛ لأن طلوع الشمس مجهول؛ لأنها قد تتغيم، فلا تطلع وقت طلوعها، ووقت طلوعها لا يتغير، ولو قال إلى غروب الشمس.. جاز؛ لأن الغروب سقوط القرص، ولا مانع من ذلك كما يمنع الغيم من طلوعها. وإن تبايعا بالنهار، وشرطا الخيار إلى الليل، أو تبايعا بالليل، وشرطا الخيار إلى النهار.. لم يدخل الليل والنهار في الخيار. وقال أبو حنيفة: (يدخلان) . دليلنا: أنها مدة ملحقة بالعقد، فلا يدخل حدها في محدودها، كالأجل. [فرع معرفة معنى لا خلابة] ] : إذا قال في بيعه: " لا خلابة "، قال ابن القطان: فإن كانا عالمين بأن ذلك عبارة عن خيار الثلاث.. ثبت، وإن كان البائع عالما بذلك، والمشتري جاهلا به.. فيتحمل وجهين: أحدهما: لا يثبت؛ لأنه ليس في ذلك ذكر الشرط.

فرع لا خيار فوق ثلاث

والثاني: يلزمه، ولا يعذر في جهله، كما إذا بايع محجورا عليه.. لزمه حكم حجره وإن كان جاهلا به. [فرع لا خيار فوق ثلاث] ] : ولا يجوز أن يشترط الخيار أكثر من ثلاثة أيام، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (يجوز أن يشترط من الخيار ما تدعو الحاجة إليه. فإن كان المبيع ثوبا.. جاز أن يشترطا ساعة، ولا يجوز أكثر، وإن كان المبيع قرية أو ضيعة.. جاز أن يشترطا ما تدعو الحاجة إليه من شهر أو أكثر) . وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد: (يجوز شرط الخيار ما شاءا، كالأجل) . دليلنا: ما روي «عن أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: ما أجد لكم أوسع مما جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحبان بن منقذ - إنه كان ضرير البصر - جعل له عهدة ثلاثة أيام، إن رضي.. أخذ، وإن سخط.. ترك» . ولأن الخيار غرر في العقد، وإنما جوز رخصة ولأجل الحاجة، فيجب أن يتقدر بما تدعو الحاجة إليه غالبا، والحاجة لا تدعو إلى أكثر من الثلاث في الغالب؛ لأنه أول حد الكثرة، وآخر حد القلة، ولهذا: «جوز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمهاجر أن يقيم بمكة ثلاثا» .

فرع إسقاط الزائد من الخيار

وأما الدليل على أن الثلاث يجوز شرطها في البيان، وما يتوصل إلى معرفته في أقل من الثلاث: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لحبان بن منقذ: ولك الخيار ثلاثا» ولم يفرق. وإن اشترى شيئا يسرع إليه الفساد قبل انقضاء الثلاث، كالهريسة وما أشبهها، وشرط فيه خيار ثلاثة أيام.. فسمعت الفقيه زيد بن عبد الله اليفاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: يحتمل وجهين: أحدهما: يبطل البيع. والثاني: يصح البيع. وإذا خيف عليها الفساد قبل انقضاء الخيار.. بيعت، وجعل ثمنها قائما مقامها. [فرع إسقاط الزائد من الخيار] ] : إذا شرط الخيار أكثر من ثلاثة أيام.. فسد البيع، وإن أسقط ما زاد على الثلاث.. لم يحكم بصحة العقد، وبه قال زفر. وقال أبو حنيفة: (إذا أسقط ما زاد على الثلاث بعد العقد.. صح البيع) . دليلنا: أن العقد وقع فاسدا، فلم يصح حتى يستأنف العقد، كما لو باع درهما بدرهمين، ثم أسقطا الدرهم الزائد بعد العقد.

فرع جواز اشتراط الخيار لأحدهما

[فرع جواز اشتراط الخيار لأحدهما] ] : ويجوز أن يشترط الخيار لأحدهما دون الآخر، ويجوز أن يشترط لأحدهما ثلاثا، ولأحدهما يوما، أو يومين؛ لأن ذلك يجوز رفقا بهما، فجاز ما تراضيا عليه من ذلك. فإن شرطا الخيار، ثم اختارا إمضاء العقد.. لزم العقد، وانقطع الخيار، كما قلنا في خيار المجلس. [فرع جهالة مدة الخيار] وإن شرطا في البيع خيارا مجهولا.. بطل الشرط والبيع، وبه قال أبو حنيفة. وقال ابن أبي ليلى: الشرط باطل: والبيع صحيح. وقال ابن شبرمة: الشرط صحيح، والبيع صحيح. وقال مالك: (إذا اشترطا الخيار، ولم يقدراه.. صح) . وجعل لهما من الخيار قدر ما يختبر به المبيع في العادة. دليلنا: أنها مدة ملحقة بالعقد، فلم يجز مع الجهل بها، كالأجل. [فرع رضا وخيار الأجنبي] ] : وإن قال: بعتك على رضا فلان.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يسأل، فإن قال: أردت به أن يكون الخيار لي وله على وجه النيابة.. صح، وإن قال: أردت أن الخيار له دوني، وكان ذلك مقدرا بثلاثة أيام فما دونها.. ففيه قولان: أحدهما: لا يصح هذا الشرط؛ لأنه حكم من أحكام العقد، فلم يجز أن يجعل إلى غيرهما، كسائر أحكامه. فعلى هذا: يبطل البيع.

والثاني: يصح الشرط؛ لأن شرط الخيار أجيز هاهنا للأجنبي رفقا بهما للحاجة، وقد تدعو الحاجة إلى شرطه للأجنبي، بأن يكون أعرف بالمتاع المبيع منه. فإذا قلنا بهذا: ثبت الخيار للأجنبي، وهل يثبت للبائع؟ فيه وجهان: أحدهما: يثبت له؛ لأنه إذا ثبت للأجنبي من قبله.. فلأن يثبت له أولى. والثاني: لا يثبت؛ لأن ثبوته بالشرط، ولم يشترطه إلا للأجنبي. فإن باع عبدا، وشرط الخيار للعبد.. قال ابن الصباغ: فهو على القولين، كما لو شرطه للأجنبي. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا قال: بعتك هذه السلعة على أن أستشير فلانا، أو أستأمر فلانا.. لم يكن له أن يرد حتى يقول: قد استأمرت فلانا، فأمرني بالرد) . فمن أصحابنا من قال: هذا على القول الذي يقول: إنه إذا شرط الخيار للأجنبي.. صح، وكان له دون الذي شرط. ومنهم من قال: له أن يرد، ويجيز من غير أن يستأمر فلانا. ولم يذكر الشيخ أبو حامد غير هذا؛ لأن له أن يفسخ من غير ذكر الاستئمار، فلا يسقط بذكر الاستئمار، وتأولوا كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تأويلين: أحدهما: ليس له أن يرد احتياطا حتى يستشيره، ويأمره؛ لأنه ربما كان أعرف منه بالمبتاع. والثاني: ليس له أن يرد، ويقول: استشرت فلانا، فأمرني بالرد، إلا وقد فعل؛ لئلا يكون كاذبا. فإذا قلنا بالأول.. فهل يجوز إطلاق هذا؟ فيه وجهان:

فرع ابتداء مدة الخيار

أحدهما: يجوز إطلاقه، ولا يكون مقدرا، كخيار الرؤية لا يتوقف. والثاني - وهو المنصوص -: أنه لا يجوز إلا مؤقتا ثلاثا، أو ما دونها؛ لأنه خيار شرط. [فرع ابتداء مدة الخيار] ] : وإذا شرطا في البيع خيار الثلاث.. ففي ابتداء مدته وجهان: أحدهما - وهو الصحيح -: أنه من حين العقد؛ لأنه مدة ملحقة بالعقد، فكان ابتداؤها من حين العقد، كالأجل. فعلى هذا: إذا اصطحبا في مجلس العقد أربعة أيام.. كان الخيار لهما في مدة الثلاث بالشرع والشرط، وفيما بعد الثلاث بالشرع، وإن شرطا أن يكون ابتداء الثلاث من حين التفرق.. بطل البيع، وجها واحدا؛ لأن ابتداء الخيار يكون مجهولا. والوجه الثاني: أن ابتداء خيار الشرط من حين التفرق؛ لأن ما قبل ذلك الخيار ثابت فيه بالشرع. فعلى هذا: إذا اصطحبا في مجلس البيع أربعة أيام، ثم افترقا قبل الفسخ أو الإجازة.. فإن في الأربع الخيار ثابت فيها بالشرع، وما بعدها الخيار ثابت فيها بالشرط. فإن اشترطا على هذا أن يكون ابتداء خيار الشرط من حين العقد.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح الشرط والبيع، وهو الصحيح؛ لأن ابتداء الخيار يكون معلوما. والثاني: لا يصح الشرط؛ لأنه يسقط موجب العقد، وهل يبطل البيع؟ فيه وجهان مأخوذان ممن شرط إسقاط خيار المجلس في عقد البيع، وقلنا: لا يصح الشرط.. فهل يبطل البيع؟ فيه وجهان، وقد مضى ذكرهما.

فرع قبض الثمن في زمن الخيار

[فرع قبض الثمن في زمن الخيار] لا يكره نقد الثمن في خيار المجلس، ولا في خيار الشرط، وبه قال أبو حنيفة رحمة الله عليه. وقال مالك: (يكره؛ لأنه يصير في معنى بيع وسلف، ولأنه إذا نقده الثمن، ثم تفاسخا.. صار كأنه أقرضه، فيجتمع بيع وقرض) . دليلنا: أن هذا حكم من أحكام العقد، فجاز في حال الخيار، كالإجارة. فإن باعه على أنه لم ينقده الثمن في ثلاثة أيام فلا بيع بينهما.. فإن هذا ليس بشرط للخيار، بل هو شرط فاسد، ويفسد به البيع. وكذلك: إن قال البائع: بعتك على أني إذا رددت الثمن بعد الثلاث فلا بيع بيننا.. فإن هذا ليس بشرط للخيار، بل هو شرط فاسد يبطل به البيع. وقال أبو حنيفة: (يصح البيع، ويكون في المسألة الأولى إثبات الخيار للمشتري وحده، وفي الثانية إثبات الخيار للبائع وحده) . دليلنا: أنه علق فسخ العقد على شرط، فلم يصح، كما لو علقه بقدوم زيد، ولأنه إذا لم يجز تعليق تمامه على غرر.. لم يجز فسخه على غرر. [فرع فسخ أحدهما الخيار] ] : ومن ثبت له الخيار.. فله أن يفسخ بمحضر من صاحبه وبغيبته. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز بغيبة صاحبه) . دليلنا: أنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا صاحبه، فلم يفتقر إلى حضوره، كالطلاق، وفيه احتراز من الإقالة. فإن كان المبيع جارية، فأعتقها البائع في حال الخيار، أو وطئها، أو باعها، أو وهبها، أو أجرها.. فإن ذلك يكون اختيارا منه لفسخ البيع؛ لأنه يملك الفسخ، فجعل ذلك اختيارا للفسخ.

فرع ركوب الدابة لا يبطل الخيار

وإن أعتقها المشتري.. كان ذلك اختيارا منه لإمضاء البيع. وإن باعها، أو وطئها، أو وهبها، أو أجرها.. فهل يكون ذلك اختيارا منه للإمضاء؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا يكون اختيارا؛ لأن ذلك لا يمنع الرد بالعيب. والثاني - وهو الصحيح -: أنه يكون اختيارا للإمضاء؛ لأن ذلك يفتقر إلى الملك، فكان اختيارا للإمضاء، كالعتق. وإن وطئها المشتري بحضرة البائع، وهو ساكت.. فهل ينقطع خيار البائع بذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: ينقطع خياره بذلك؛ لأن رضاه بذلك اختيار منه للإمضاء. والثاني: لا ينقطع خياره بذلك؛ لأنه لم يوجد منه إلا السكوت، وذلك لا يسقط حقه، كما لو رأى رجلا يحرق ثوبه، وهو ساكت.. فإنه لا يسقط بذلك حقه. وقال الصيمري: فإن قال البائع - في حال الخيار -: لا أبيع حتى تزيدني في الثمن، وقال المشتري: لا أفعل، أو قال المشتري: لا أشتري حتى تنقص لي من الثمن، وقال البائع: لا أفعل.. كان ذلك اختيارا للفسخ. وهكذا: إذا طلب البائع حلول الثمن المؤجل، أو طلب المشتري تأجيل الثمن الحال.. كان ذلك فسخا في حال الخيار. حكاه الصيمري. [فرع ركوب الدابة لا يبطل الخيار] وإن ركب الدابة من له الخيار في حال الخيار.. فهل يبطل خياره؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 236] : أحدهما: يبطل؛ لأن ذلك تصرف يفتقر إلى الملك. والثاني: لا يبطل؛ لأنه يحتمل أنه ركبها للتجربة، فلا يبطل خياره بذلك.

فرع مضي مدة الخيار

[فرع مضي مدة الخيار] وإذا شرطا خيار الثلاث، فمضت الثلاث، ولم يفسخا، ولم يجيزا.. تم العقد، ولزم. وقال مالك: (لا يلزم بمضي مدة الخيار) . دليلنا: أن شرط الخيار ثلاثا يمنع من لزوم حكم العقد، فإذا انقضت.. ثبت موجب العقد، كالأجل إذا انقضى.. ثبت الدين، ولأن ترك الفسخ رضاء بالعقد، فلزمه. [مسألة موت صاحب الخيار] وإذا اشترطا الخيار في البيع، فمات من له الخيار في أثناء الخيار.. انتقل الخيار إلى وارثه، وبه قال مالك. وقال الثوري، وأبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهم: (يبطل خياره بموته) . دليلنا: أنه خيار ثابت في معاوضة محضة، فقام الوارث فيه مقام المورث، كالرد بالعيب. فقولنا: (ثابت) لأنه ليس لأحد أن يدفعه عنه، وفيه احتراز من خيار القبول في البيع، فإن البائع إذا قال: بعتك.. فإن الخيار في القبول قد ثبت للمشتري، ولكن للبائع أن يدفعه قبل القبول، ويقول: قد أبطلت الإيجاب. وقولنا: (في معاوضة محضة) احتراز من المكاتب، فإنه لو مات لم يقم غيره مقامه في خيار الفسخ. إذا ثبت هذا: فإن علم الوارث بالبيع، وبموت مورثه عند موته.. فله الخيار فيما

فرع موت أحد المتعاقدين في المجلس

بقي من مدة الخيار، وإن لم يعلم بهما، أو بأحدهما حتى مضت مدة الخيار.. ففيه وجهان: أحدهما: يثبت له الخيار في قدر ما بقي من مدة الخيار من حين علم؛ لأنه لما انتقل الخيار إلى غير من شرط له بالموت.. وجب أن ينتقل إلى غير الزمان الذي شرط فيه. والثاني: يثبت له الخيار على الفور؛ لأن المدة التي شرط فيها الخيار قد فاتت، فسقطت، وبقي الخيار، فكان على الفور، كالرد بالعيب. [فرع موت أحد المتعاقدين في المجلس] ] : وإن مات المتبايعان، أو أحدهما في مجلس البيع قبل التفرق أو التخاير.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أكثر كتبه: (أن الخيار لا يبطل، وينتقل إلى الوارث) . وقال في (كتاب المكاتب) : (إذا باع المكاتب شيئا، أو اشترى شيئا، ثم مات في مجلس البيع قبل التفرق أو التخاير.. وجب البيع) . وظاهر هذا: أن الخيار يبطل بموته، واختلف أصحابنا فيهما على ثلاث طرق: فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: لا يبطل الخيار في الحر، ولا في المكاتب، قولا واحدا. وقوله في (المكاتب) : (وجب البيع) أراد: أنه لا يبطل البيع، كما تبطل الكتابة، وقصد به الرد على قوم قالوا: يبطل البيع. و [الثاني] : منهم من قال: بل أراد: أنه يبطل الخيار في بيع المكاتب، ولا يبطل في حق غيره على ظاهر النصين. والفرق بينهما: أن السيد ليس بوارث للمكاتب،

وإنما يعود المكاتب رقيقا، فيستحق السيد بحق الملك، فلا ينوب منابه في الخيار بخلاف الحر. و [الثالث] : منهم من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين: أحدهما: يبطل؛ لأنه إذا بطل بالتفرق.. فلأن يبطل بالموت أولى. والثاني: لا يبطل، وهو الصحيح؛ لأن خيار المجلس آكد من خيار الشرط؛ لأنه يثبت بمقتضى العقد، وخيار الشرط لا يثبت إلا بالشرط، فإذا لم يبطل خيار الشرط بالموت.. فلأن لا يبطل خيار المجلس أولى. فعلى هذا: إذا كان الوارث حاضرا في مجلس البيع.. ثبت له الخيار إلى أن يتفرقا عن مجلسهما، أو يتخايرا، وإن كان غائبا عن مجلس البيع، وبلغه موت مورثه والبيع.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو المشهور -: أن له الخيار إلى يفارق مجلسه الذي هو فيه، فإن فارقه قبل أن يفسخ، أو قام الثاني من المتبايعين من مجلسه.. لزم العقد. والثاني - حكاه ابن الصباغ -: أن الخيار للوارث إذا نظر إلى السلعة ليعرف الحظ في الفسخ، أو الإجازة. وإن ورث خيار المجلس جماعة، وكانوا في مجلس واحد، أو مجالس.. نظرت: فإن فارقوا جميعا مجلسهم، أو مجالسهم.. لزم العقد في حقهم. وإن فارقوا مجلسهم، أو مجالسهم إلا واحدا.. لم يلزم العقد؛ لأنه لم يحصل تمام الافتراق؛ لأنهم ينوبون جميعا مناب الميت، فإن اختار واحد الإجازة، واختار الباقون الفسخ.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:

مسألة وقت انتقال الملك في الخيار

أحدهما: يقدم الفسخ، كالمتعاقدين إذا اختار أحدهما الفسخ، والآخر الإجازة. والثاني: لا ينفسخ بقول بعضهم، كما لا يلزم بتفرق بعضهم. وإن اختار بعضهم فسخ نصيبه فيه.. لم يكن له ذلك، كما لو فسخ المورث البيع في بعض المبيع. [مسألة وقت انتقال الملك في الخيار] وفي الوقت الذي ينتقل الملك فيه إلى المشتري في البيع الذي فيه خيار المجلس، أو خيار الشرط، ثلاثة أقوال، سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما: أحدها: أنه لا ينتقل إلا بشرطين: العقد، وانقطاع الخيار؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كل متبايعين فلا بيع بينهما ما لم يتفرقا» . ومعلوم أنه لم يرد به: أنه لا عقد بينهما؛ لأن العقد قد وجد، فعلم أنه أراد: لا حكم للبيع بينهما ما لم يتفرقا، فثبت أن المشتري لم يملك، ولأن البائع لما ملك أن يفسخ مع سلامة الثمن ... دل على أن المشتري لم يملك أصله بأصل القبول. فقولنا: (مع سلامة الثمن) احتراز من البائع إذا وجد بالثمن عيبا. والقول الثاني: أن الملك موقوف مراعى فإن مضت المدة، ولم يفسخا.. تبينا أن المشتري ملك بنفس العقد، وإن فسخا.. تبينا أنه لم يملك، وأن الملك كان للبائع؛ لأنه لا يجوز أن يقال: إن المشتري قد ملك بالعقد؛ لأن للبائع أن يفسخ البيع ويزيله، ولا يجوز أن يقال: إن الملك لم يزل عن البائع؛ لأن سبب زوال الملك هو العقد، وقد وجد، فلم يبق إلا أن نقول إنه موقوف مراعى. قال الشيخ أبو حامد: وهذا أضعف الأقوال.

والقولُ الثالث: أن المِلك ينتقل إلى المشتري بنفس العقد؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من باع عبدًا وله مالٌ.. فمالُه للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع» . فظاهر هذا: أنه إذا اشترطه المبتاع.. كان له بالشرط والعقد، فمن قال: إنه لا يملكه بالعقد الشرط.. فقد خالف ظاهر الخبر، ولأنه معاوضة توجب التمليك، فملك بنفس العقد كالمهر في النكاح، وفيه احترازٌ من الكتابة. قال الشيخ أبو حامد: وهذا أصح الأقوال. وأما صاحبُ " الإبانة " [ق\236] فقال: الصحيحُ: إن كان الخيار لهما.. فالملك موقوف، وإن كان لأحدهما.. فالملك لمن له الخيار. وقال أبو حنيفة: (إن كان الخيار لهما، أو للبائع.. لم يملك المشتري إلا بانقضاء الخيار، فإذا مضى الخيار زال ملك البائع، وملك المشتري بالعقد السابق، وإن كان الخيار للمشتري وحده.. فالمِلك قد زال عن البائع، ولم ينتقل إلى المشتري حتى تمضي مُدة الخيار، فإذا مضت.. ملك المشتري بالعقد السابق) . وتوجيه الأقوال دليل عليه. إذا ثبت هذا: فإن كان المبيع جارية، فأعتقها البائع قبل انقضاء الخيار.. فقد ذكرنا: أنه يكون اختيارًا منه للفسخ، وينفذ عتقه على الأقوال كلها؛ لأنها إن كانت باقية على ملكه.. فقد أعتق ملكه، وإن قلنا: إنها في ملك المشتري، إلا أن البائع يملك الفسخ، فجعل العتق فسخًا.. فينفذ، وإن أعتقها المشتري بغير إذن البائع، فإنه يكون اختيارًا منه للإمضاء، وهل ينفذ عتقه؟ ينظر في البائع:

فإن اختار إجازة البيع بعد عتق المشتري، فإن قلنا: إن المشتري يملك بنفس العقد، أو الملك موقوف.. نفذ عتقه؛ لأنه صادف ملكه. وإن قلنا: إنه لا يملك إلا بشرطين.. لم ينفذ عتقه؛ لأنه أعتق قبل أن يملك. وإن اختار البائع الفسخ بعد عتق المشتري، فإن قلنا: إن المشتري لا يملك إلاَّ بشرطين، أو قلنا: الملك موقوفٌ.. لم ينفذ عتقه؛ لأنه لم يصادف ملكه. وإن قلنا: إنه يملك بنفس العقد.. فالمنصوص وهو قول الأكثرين من أصحابنا: (أنه لا ينفذ عتقه) ؛ لأنه أعتق ما لم يتم ملكه عليه؛ لأنّ للبائع الفسخ، ولأن عتق المشتري إجازةٌ، وفسخ البائع فسخ، وإن وجد من أحدهما الفسخ، ومن الآخر الإجازة.. قدم الفسخ وإن كان متأخرًا. وحكى الشيخ أبو حامد: أن أبا العباس بن سريج قال: ينفذ عتقه، ولم يفصل بين الموسر والمعسر. واختاره الشيخ أبو حامد؛ لأن عتقه صادف ملكه، كما لو أجاز البائع البيع. وأما القاضي أبو الطيب: فقال: إنما ينفذ العتق عند أبي العباس إذا كان المشتري موسرًا، وإن كان معسرًا.. لم ينفذ، ولم يذكر في " المهذب " و" الشامل " عن أبي العباس غير هذا. فإن قلنا بالمنصوص.. أخذ البائع عبده، وإن قلنا بقول أبي العباس.. ففيما يرجع به البائع وجهان: أحدهما: أنه يرجع بقيمة العبد؛ لأن البيع قد انفسخ في العبد، وتعذّر الرجوع إلى عين العبد، فرجع إلى قيمته، كما لو تلف. والثاني: يرجع إلى الثمن، فيكون العتق هاهنا مقرِّرًا للبيع، ومبطلا للفسخ، والأول أظهر. وإن أعتق المشتري العبد بإذن البائع.. نفذ عتقه، وبطل خيارُهما؛ لأنهما قد رضيا بإمضاء البيع.

فرع: شراء من يعتق عليه

[فرعٌ: شراء من يعتق عليه] ] : إذا اشترى من يعتق عليه، كوالده، أو ولده.. فهل يعتق عليه قبل انقضاء الخيار؟ قال ابن الصباغ: يجري ذلك مجرى المشتري إذا اشترى جارية فأعتقها قبل انقضاء الخيار، على التفصيل الذي ذكرناه. [فرعٌ: العتق في الخيار] إذا اشترى عبدًا بأمة، واشترطا الخيار للمشتري وحده، فإن أعتق المشتري الجارية في حال الخيار.. نفذ عتقه، وكان فسخا للبيع، وإن أعتق العبد.. نفذ عتقه، وكان اختيارًا لإمضاء البيع، وإن أعتقهما معًا في حالة واحدة.. لم يعتقا جميعًا. قال القاضي أبو الطيب: وهذه من النوادر في أنه يملك عتق كل واحدٍ منهما على الانفراد، وإذا أعتقهما معًا.. عتق أحدُهُما بعينه. وقال أبو حنيفة: (يعتقان) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لا يملك إعتاق أحدهما بعد الآخر، فلم يملك الجمع بينهما، كعبده وعبد غيره. فإذا ثبت هذا: فأيُّهما يعتق عليه؟ فيه وجهان: أحدُهما ـ وهو قول ابن الحدَّاد، واختيار أكثر أصحابنا ـ أنه يعتق العبد الذي اشتراهُ؛ لأن عِتقه للعبد إمضاءٌ، وعتقه للأمة فسخ. وإذا اجتمع في حق من له الخيار ما يوجب الفسخ والإتمام.. كان الإتمام أولى؛ لأن الإتمام حق عليه لصاحبه، ولأن عتق الأمة يترتب على فسخ البيع، وعتق العبد

فرع: التصرف يلغي الخيار

لا يترتب على واسطة، فإذا كان كذلك.. كان العتق يسبق إلى العبد بلا واسطة قبل الأمة، فعتق، ولم تعتق الأمة. والوجه الثاني ـ ولم يذكر ابن الصبّاغ غيره ـ: أنَّه يعتق عليه ما باع؛ لأن عتقه لما باع فسخ، ولما اشترى إجازة، وإذا اجتمع الفسخ والإجازة.. قدم الفسخ. [فرعٌ: التصرُّف يلغي الخيار] ] : وإن باع البائع المبيع، أو وهبه في مدّة الخيار.. كان ذلك اختيارًا لفسخ البيع الأول، وصحّ بيعه الثاني. وإن باع المشتري، أو وهبه، فإن كان بغير رضا البائع، والخيار لهما، فإن فسخ البائع البيع.. انفسخ البيع الأول، ولم يصح البيع الثاني؛ لأن له حق الفسخ. وإن أجاز البائع البيع، فإن قلنا: إن المشتري لا يملك إلاّ بشرطين.. لم يصح بيعه. وإن قلنا: إنه يملك بنفس العقد أو الملك موقوف.. فهل يصحُّ بيعُهُ؟ فيه وجهان: أحدُهما: يصح بيعه؛ لأنه صادف ملكه. والثاني: لا يصحُّ؛ لأنه باع عينا تعلق بها حق غيره، بغير إذنه.. فلم يصح، كالراهن إذا باع الرهن. وإن باعه المشتري، أو وهبه بإذن البائع.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح بيعه؛ لأنه ابتدأ به قبل أن يتم ملكه عليه. والثاني: يصح بيعه؛ لأن المنع من التصرف لحق البائع، وقد رضي. قال ابن الصبّاغ: وعلى الوجهين جميعًا قد لزم البيع الأول، وسقط الخيار فيه. وإن كان الخيار للمشتري وحده، فباع، أو وهبَ.. قال المسعودي [في " الإبانة " [ق\236] : فيه ثلاثةُ أوجه:

مسألة: وطء الجارية زمن الخيار

أحدها ـ وهو الأصح ـ: أنه يبطل الخيار في الأول، ويصح في الثاني. والثاني: لا يبطل الخيار في الأول، ولا يصح البيع الثاني. والثالث: يبطل الخيار في الأول، ولا يصح في الثاني. [مسألةٌ: وطء الجارية زمن الخيار] ] : وإن كان المبيع جارية، وبينهما الخيار، فأراد أن يطأها البائع في حال الخيار.. لم يمنع من وطئها؛ لأنه يملكها في أحد الأقوال، وعلى القول الذي يقول: لا يملكُها إلا أنه يملك الفسخ، فإذا وطئها.. كان ذلك اختيارًا للفسخ. وإن أراد المشتري وطأها.. لم يجز له ذلك؛ لأنها على ملك البائع في بعض الأقوال، وفي بعضها على ملك المشتري، إلاَّ أنه ملك غير تامّ؛ لأن للبائع أن يزيل ملكه، والوطء لا يجوز إلاَّ في ملك تامّ. قال الصيمري: فإن اشترى زوجته، وأراد وطأها قبل انقضاء الخيار.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لم يحل له ذلك؛ لأنه لا يدري أيطأ بالملك، أم بالزوجية؟) . وحكى الشاشي في " حلية العلماء " وجهًا آخر: أنه يحل له. وليس بشيء. فإن قال لها بعد الشراء، وقبل انقضاء الخيار: أنت طالق، فإن أمضيا العقد، فإن قلنا: إنه يملك بالعقد، أو الملك موقوف.. لم يقع طلاقه. وإن قلنا: إنه لا يملك إلا بشرطين.. وقع طلاقه. وإن فسخا البيع، فإن قلنا: إنه لا يملك إلا بشرطين، أو الملك موقوفٌ.. وقع طلاقه. وإن قلنا: إنه يملك بنفس العقد.. فهل يقع طلاقه؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري.

فرع: وطء الجارية المشتراة

[فرعٌ: وطء الجارية المشتراة] ] : إذا كان المبيع جارية، فوطئها المشتري في حال الخيار، وأحبلها.. تعلق بذلك سبعة أحكام: أربعة غير مبنية على الأقوال، وثلاثة مبنية عليها. فأمَّا الأربعة: فلا يجب على المشترى حدّ؛ لأنه يملكها في بعض الأقوال، وله شُبهة ملك في بعضها، ويكون الولد ثابت النسب منه، لأن الحد إذا لم يجب.. ثبت النسب، ويكون الولد حرًّا؛ لأن الجارية إمّا ملكه أو له فيها شبهة ملك، وهل ينقطع خيارُه بذلك؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. وأمَّا المهر، وقيمة الولد، وكون الجارية أم ولدٍ.. فمبنيَّةٌ على الأقوال، ثم ينظر فيه: فإن أمضى البائع البيع، فإن قلنا: إن المشتري يملك بنفس العقد، أو قلنا: إنّ الملك موقوفٌ.. لم يجب على المشتري المهر، ولا يلزمه قيمة الولد، وتصير الجارية أم ولد، قولاً واحدًا؛ لأن وطأه صادف ملكه. وإن قلنا: إنّ المشتري لا يملك إلا بشرطين.. فقال الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: وجب عليه المهر؛ لأنّه وطئها وهي في ملك غيره. وحكى في " المهذب "، عن أبي إسحاق المروزي: أنه لا يجب عليه المهر على هذا القول. وقال المسعودي [في " الإبانة " [ق\237] : في وجوب المهر على هذا القول وجهان، بناءً على أن الاعتبار في الحال أو المآل، وهل يجب عليه قيمة الولد؟ فيه وجهان بناءً على القولين في الحمل، هل له حكمٌ؟ فإن قلنا: للحمل حكمٌ.. وجبت قمتُه؛ لأنّ العلوق كان في ملك البائع، وإن قلنا: لا حكم له.. لم يجب؛ لأن الوضع في ملك المشتري، ولا تصير الجارية أم ولدٍ له في الحال، وهل تصير أم ولدٍ إذا ملكها؟ فيه قولان، بناءً على القولين فيمن استولد جاريةَ غيره بشبهة.

مسألة: نماء الجارية والبهيمة في الخيار

وإن فسخ البائع البيع، فإن قلنا: إن الملك ينتقل إلى المشتري بشرطين، أو قلنا: إنه موقوف.. وجب عليه المهر؛ لأنّ وطأه صادف ملك البائع، ولا تصير الجارية أم ولدٍ له في الحال، وهل تصير أم ولدٍ له إذا وطئها؟ فيه قولان. وإن قلنا: إن الملك ينتقل إلى المشتري بنفس العقد.. فهل يجب عليه المهر؟ فيه وجهان: أصحهما: أنه لا يجبُ؛ لأن الوطء صادف ملكه. والثاني: يجب؛ لأنها وإن كانت ملكه إلا أن حق البائع متعلق بها، ولا تصير الجارية أم ولد له على المنصوص، فإن ملكها.. صارت أم ولد له، قولاً واحدًا، وعلى قول أبي العباس: تصيرُ أم ولدٍ له في الحال، وهل يجب عليه قيمتها، أو الثمن المسمى؟ فيه وجهان، كما قلنا في العتق. [مسألة: نماء الجارية والبهيمة في الخيار] ] : فإن اشترى جارية، أو بهيمة حاملاً، فولدت في مدة الخيار.. فلمن يكون الولد؟ يبنى ذلك على أصلين. أحدُهُما: الأقوال في انتقال الملك، وقد مضى توجيهها. والثاني: الحمل هل له حكمٌ، أو يأخذ قسطًا من الثمن؟ وفي ذلك قولان: أحدهما: لا حكم له، ولا يأخذ قسطا من الثمن؛ لأنه جزء متصلٌ بها، فلم يأخذ قسطًا من الثمن، كسائر الأعضاء، ولأنه لو قال لجاريته الحامل: يدك حرّة.. لعتقت، وعتق حملها، فدلّ على: أنَّ الحمل كسائر أعضائها. والثاني: له حكمٌ، ويأخذ قسطًا من الثمن، وهو الصحيح؛ لأن ما أخذ قسطًا من الثمن بعد الانفصال.. أخذ قسطًا من الثمن قبل الانفصال، كاللبن، ولأنه لو قال لجاريته الحامل: حملك حر.. لعتق الحمل، ولم تعتق الجارية، ولو كان كعضو منها.. لعتقت الجارية، كما إذا أعتق عضوًا منها.

مسألة: تلف المشترى في مدة الخيار

فإذا قلنا بهذا: فالحمل مع الأم كالعينين المبيعتين، فإن أمضيا البيع.. كانا للمشتري، وإن فسخا البيع.. كانا للبائع. وإن قلنا: لا حكم للحمل، قال الشيخ أبو حامد: فالحكم فيه وفي الكسب واحدٌ، فينظر فيه: فإن أجاز البيع، فإن قلنا: إنّ المشتري يملك بنفس العقد، أو قلنا: إن الملك موقوفٌ.. فالولد والكسب للمشتري؛ لأنّه حدث في ملكه. وإن قلنا: إنه لا يملك إلاَّ بشرطين.. ففيه وجهان: حكاهما ابن الصبّاغ في " الشامل ": أحدهما ـ وهو قول أكثر أصحابنا، ولم يذكر في " التعليق " غيره ـ: أن الولد والكسب للبائع؛ لأنهما حدثا في ملكه. والثاني ـ وهو قول أبي علي الطبري ـ: أنهما للمشتري تبعًا للأم. وليس بشيء. وإن فسخا البيع، فإن قلنا: إن المشتري لا يملك إلاَّ بشرطين، أو قلنا: الملك موقوفٌ.. فالولد والكسبُ للبائع؛ لأنهما حدثا في ملكه. وإن قلنا: ينتقل الملك بنفس العقد.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنهما للبائع؛ لأنَّ عتق المشتري لا ينفذ على هذا. والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنهما للمشتري؛ لأنهما نماء ملكه، ويخالف العتق، فإن العتق لا ينفذ إلاَّ في ملك تامّ، ألا ترى أن المكاتب لا ينفذ عتقه، ويتبعه ولده وإن ضعُف ملكه. [مسألة: تلف المشترى في مدة الخيار] ] : وإن اشترى عينًا بشرط الخيار، فقبضها، ثم تلفت في مدة الخيار.. فحكى القاضي أبو الطيب: أن الشافعي نص في بعض كتبه: (أن البيع ينفسخ، ويجب على المشتري القيمة) . وقال في (الصداق) : (يلزمه الثمن) . قال القاضي أبو

الطيّب: ويحتمل أنّه أراد بالثمن: القيمة، ويحتمل أنّه أراد: إذا كان الخيار للمشتري وحده، وقلنا: يملك بنفس العقد. وذكر الشيخ أبو حامد: أن الخيار لا يسقط، فإن فسخا البيع أو أحدهما.. وجب على المشتري القيمة؛ لأن العين تلفت في يده، وإن أمضيا البيع، أو سكتا حتى انقضى زمان الخيار، فإن قلنا: إنَّ المشتري ملك بالعقد، أو قلنا: الملك موقوفٌ.. فقد تلف المبيع على ملك المشتري، فيستقرُّ عليه الثمن. وإن قلنا: إنّه لا يملك إلاَّ بشرطين.. ففيه وجهان: أحدُهُما ـ وهو قول أكثر أصحابنا ـ: أنّه يجب على المشتري القيمة؛ لأنه تلف في يده، وهو ملك للبائع، فهو كالمقبوض بالسَّوْم إذا تلف في يده. والثاني ـ حكاهُ ابن الصَّباغ عن الشيخ أبي حامد ـ: أنّه يجب عليه الثمن؛ لأنه مسمى ثبت بالعقد، فلم يسقط مع بقاء العقد، ولأن القبض إذا وقع.. استقرَّ به البيع، فلم ينفسخ بهلاك المبيع. فال ابن الصبَّاغ: والأول أصحُّ؛ لأن المبيع إذا تلف في ملك البائع.. لا يجوز أن ينتقل إلى المشتري. وقوله: إنّ العقد يستقرُّ بالقبض، فغيرُ صحيح؛ لأنه لا يستقرّ مع بقاء الخيار. وبالله التوفيق

باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز بيعه

[باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز بيعه] لا يجوز بيع الكلب، سواءٌ كان معلما أو غير معلم، ولا يجب على متلفه قيمته، وبه قال الحسن، وربيعة، وحمّاد، وأحمد رحمة الله عليهم. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجوز بيعه، ويجب على متلفه قيمته) . وقال مالكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يحل بيعه وأخذ ثمنه؛ لأجل النهي، ويجب على متلفه قيمته) . دليلنا: ما روى أبو مسعود البدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحُلوان الكاهن» . وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثمن الخمر ومهر البغي حرام، وثمن الكلب حرام، فإن جاء صاحب الكلب يلتمس ثمنه.. فاملأ كفّيه تُرابًا» .

مسألة: بيع الخمر

وتجوز الوصية به؛ لأن ذلك نقل اليد، واليد تثبت عليه، وهل تصح هبته؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال ابن القاص: تصح هبته. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: لا تصح هبته؛ لأن الهبة تمليك، والكلب غير مملوك. قال: ولعل أبا العباس أراد بالهبة: أنّها تصح على الوجه الذي تصحّ الوصية به؛ لأنه إذا نقلته إلى يد غيره على وجه التبرع.. صح، كما يصح ذلك في الوصية، ولم يكن له الرجوع في ذلك، وهذا معنى الهبة. ولا يجوز بيع الخنزير؛ لما رُوي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الخنزير» . [مسألةٌ: بيع الخمر] ولا يجوز بيع الخمر. وقال أبو حنيفة: (يجوز للمسلم أن يؤكل ذِميًّا في بيعها وشرائها) . دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرّم التجارة في الخمر» . وروى ابن عبّاس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه جبريل، فقال: يا محمد، إنّ الله تعالى لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، ومسقيها» .

وروى جابرُ بن عبد الله: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عام الفتح بمكة: "إن الله ورسوله حرّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام"، فقيل يا رسول الله: أرأيت شُحوم الميتة فإنه يطلى بها السُّفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها؟ فقال: "لا، هو حرام"، ثم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند ذلك: "قاتل الله اليهود، حرِّمت عليهم الشحوم، فجملوها، وباعوها، وأكلوا ثمنها". إن الله إذا حرّم أكل شيء على قوم.. حرّم عليهم ثمنه» إذا ثبت هذا: فإن اقتناء الخمر لا يجوز؛ لما روى أنسٌ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الخمر يصنع خلا، فكرهه، وقال: أهرقها» ، ولأن اقتناء ما لا منفعة فيه سفهٌ، فلم يجز.

فرع: بيع السرجين

[فرعٌ: بيع السرجين] ولا يجوز بيع السرجين. وقال أبو حنيفة: (يجوز) . دليلنا: أنّه نجس العين، فلم يجز بيعه، كلحم الميتة. قال الشيخ أبو إسحاق: ويكره اقتناؤه، وتربية الزرع به؛ لما فيه من مباشرة النجاسة. ولا يجوز بيع العذرة والبول، ولا اقتناؤهما؛ لأنهما نجسا العين، ولا منفعة فيهما، فلم يجز بيعهما، ولا اقتناؤهما، كالخمر. [فرعٌ: اقتناء الكلب] ] : ويجوز اقتناء الكلب للصيد وحفظ الماشية والزرع؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد، أو ماشية أو زرع.. نقص من أجره كل يوم قيراطان» . وهل يجوز اقتناؤه لحفظ الدروب والدكاكين؟ فيه وجهان:

أحدهما: يجوزُ؛ لأنّ الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (لا يجوز اقتناؤه إلا لصاحب حرث، أو صيد، أو ماشية، أو ما كان في معناها) ، ولأنّه اقتناه لحفظ مالٍ، فأشبه الماشية والزرع. والثاني: لا يجوز؛ لأنّ النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خصّ الأشياء الثلاثة، فدلّ على: أنّه لا يجوز اقتناؤه لأجل غيرها. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلبٌ أو صورةٌ» ، ولأنه إذا اقتناه لحفظ البيوت، ربما تتم عليه حيلةٌ، فيكون ذلك سبب تلف ماله، بخلاف الصيد والماشية والزرع، فإنّه لا يتم للمتّخذ له حيلةٌ عليه. وإن اقتناه رجل ليس له زرع ولا ماشية، أو كان غير صائد، لكن إن حصل له زرع أو ماشية حفظهما [به] ، أو ليصطاد به إن أراد ذلك.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ليس بصاحب شيء من ذلك. والثاني: يجوز؛ لأنه اقتناه لذلك، ألا ترى أنّه إذا حصد الزرع.. جاز اقتناؤه لزرع مستقبل، فأما إذا اقتنى كلب صيد، ولا يريد أن يصطاد به.. فذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " فيه وجهين: أحدهما: يجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إلا كلب صيد» . وهذا كلبُ صيد.

مسألة: بيع الحاجات النجسة

والثاني: لا يجوز؛ لأنه اقتناه لغير حاجةٍ ماسّة، فأشبه إذا كان غير ذلك من الكلاب، ومعنى الخبر في قوله: «إلاَّ كلب صيد» ، أي: كلبٌ يصطادٌ به، وأمّا تربية الجرو للصيد، أو الماشية، أو الزرع.. فهل يجوز؟ فيه وجهان: أحدُهما: لا يجوز؛ لأنه ليس بكلب صيد، ولا ماشية، ولا زرع. والثاني: يجوز؛ لأنه يكون لذلك، ولأن تعليمه لذلك. إنما يكون في حال الصغر، فلو قلنا: لا يجوز اقتناؤه لذلك.. لم يمكن اقتناؤه لذلك أصلاً. [مسألة: بيع الحاجات النَّجسة] ] : ويجوز بيع الثوب النجس، والخشبة النجسة، وما أشبه ذلك؛ لأن البيع يتناول العين، والنجاسة فيها من جهة المجاورة، فلا يمنع من بيعها. وأمّا المائع: إذا وقعت فيه نجاسة.. فينظر فيه: فإن كان مائعًا لا يمكن تطهيره، كالخلِّ والدِّبس واللَّبن.. فلا يجوزُ بيعه؛ لأنّها عينٌ نجسةٌ لا يمكن تطهيرها، فلا يجوز بيعها، كالخمر. وإن كان ماء نجسًا.. فإنّه يمكن تطهيره، وهل يجوز بيعه؟ فيه وجهان: أحدُهما: لا يجوز بيعُهُ؛ لأنّه نجسٌ حكمًا، فهو كنجس العين. والثاني: يجوزُ بيعُهُ؛ لأنَّه يمكن تطهيره، فجاز بيعه، كالثوب النجس. وإن كان دُهنًا.. فهل يطهر بالغسل؟ فيه وجهان: [أحدُهما] : قال أبو علي في " الإفصاح ": نص الشافعي على: (أنه لا يجوز بيعه) . ولو أمكن تطهيره.. لجاز بيعه؛ ولأنه لا يمكن عصره. والثاني: يمكن غسله؛ لأنه يمكن مكاثرة الماء عليه، ثم استخراجه من الماء. فإذا قلنا بهذا: فهل يجوز بيعه؟ فيه وجهان، كالماء النجس.

مسألة: الأعيان التي لا منفعة لها

وإذا قلنا: أنه لا يطهر بالغسل.. لم يجز بيعه، وجهًا واحدًا، ولا يجوزُ أكله، ولا الانتفاع به بالبدن، وهل يجوز الانتفاع به بالاستصباح، ودهن السفينة، وما أشبه ذلك؟ فيه وجهان، حكاهُما في " العُدَّة ": أحدُهما: لا يجوز الانتفاع به، كما لا يجوز الانتفاع بجلد الميتة قبل الدّباغ. والثاني: يجوز، وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، كما يجوز الانتفاع بالكلب للصيد، والماشية، والزرع. فعلى هذا: ففي الدُّخان الذي يعلو من ذلك عند الاستصباح وجهان، مضى ذكرهُما في (إزالة النجاسات) . [مسألة: الأعيان التي لا منفعة لها] قد مضى الكلام على الأعيان النجسة، وأمّا الأعيان الطاهرة: فضربان: ضربٌ لا منفعة فيه، وضربٌ فيه منفعةٌ. فأمّا ما لا منفعة فيه: فلا يجوز بيعه، وذلك كالأسد، والذئب، والنمر، والرخم، والحدأة، والنسر، وما لا يجوز أكله من الغراب، وكذلك الفأرة، والحية، والعقرب؛ لأنه لا منفعة فيه، فبذل المال فيه من أكله بالباطل، فإن قيل: فعندكم إنَّ جلود السباع والذئاب تطهر بالدباغ، فهلاَّ جوَّزتم بيعها لذلك؟ قلنا: تلك منفعة غير مقصودة، ألا ترى أنّ الجلد قبل أن يدبغ لا يجوز بيعه؟ فكذلك الحيوان. وهل يجوز بيع دارٍ لا طريق لها، أو بيع بيت من دار لا طريق له؟ فيه وجهان: أحدُهما: لا يجوز؛ لأنّه غير منتفع به. والثاني: يجوز؛ لأنه يمكن أن يحصل له طريقًا. وأما ما فيه منفعة: فعلى ضربين: آدمي، وغير آدمي:

فرع: بيع أم الولد

فأمّا الآدمي: فلا يجوز بيع الحرّ منهُ؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال ربكم: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه قصمته: رجلٌ أعطى بي عهدًا ثم غدر، ورجلٌ باع حُرًّا فأكل ثمنه، ورجلٌ استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يوفّه أجره» ، ولأنه غير مملوك فلم يجز بيعه. [فرعٌ: بيع أم الولد] ] : ولا يجوز بيع أمّ الولد، وبه قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعامّة أهل العلم. وقال داود، والشيعة: (يجوز بيعها) . وروي ذلك عن علي وابن عباس وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.

فرع: جواز بيع المدبر

وحكى الطبري في " العُدّة ": أنّ ذلك قولٌ آخر للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وليس بمشهورٍ عنه. والدليل على أنه لا يجوز بيعها: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع أمهات الأولاد» . فإن حكم حاكمٌ بصحة بيعها.. فهل يجوز نقضه؟ فيه قولان، حكاهما أبو علي السِّنجي في " شرح التلخيص " بناءً على أنّ أهل العصر الثاني إذا أجمعوا على أحد القولين بعد انقراض العصر الأول على الخلاف.. هل تصير المسألة إجماعًا؟ فيه قولان، أصحُّهما: لا تصير إجماعًا. فعلى هذا: ينفذ حكمُهُ ولا يُنقَضُ. والثاني: أنّ المسألة تصيرُ إجماعًا. فعلى هذا: ينقض حكمه. [فرعٌ: جواز بيع المدبر] ويجوز بيع المدبَّر، وروي ذلك عن عائشة أم المؤمنين وعمر بن عبد العزيز.

فرع: بيع المكاتب

وقال مالك: (لا يجوز بيعه) . وقال أبو حنيفة: (إن كان التدبير مقيدًا، بأن يقول: إن متُّ من مرضي هذا فأنت حرّ.. جاز بيعه، وإن كان مطلقًا، بأن يقول: إذا متُّ فأنت حرٌّ.. فإنّه لا يجوزُ بيعه) . دليلُنا: ما روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رجلاً يقال له: أبو مذكور كان له عبدٌ يقال له: يعقوب، فأعتقه عن دبر منه، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فباعه لدين كان عليه، فاشتراه نُعيم بن [عبد الله بن] النحّام) . قال جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهو عبد قبطي مات في أول إمارة ابن الزبير» ويجوز بيع العبد المعلّق عتقه بصفة؛ لأنه ثبت له العتق بقول السيِّد وحَده، فجاز بيعُهُ، كالمدبَّر، وفيه احترازٌ من المكاتب إذا قلنا: لا يجوز بيعه. [فرعٌ: بيع المكاتب] وهل يجوز بيع رقبة المكاتب؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يصح البيع) . فعلى هذا: لا تبطل الكتابة، ولكن إن أدّى المال إلى المشتري.. عتق، وكان الولاء له، وإن عجز ورُقَّ.. كان مملوكًا له، وبه قال عطاءٌ، والنخعي، وأحمد،

لما روي: «أنّ بريرة كاتبها أهلها على سبع أواق من الذهب، تؤديها إليهم في سبع سنين، فجاءت إلى عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تستعينُها، وشكت إليها، وأظهرت العجز، فقالت لها عائشة: إن باعوك.. عددت لهم الثمن عدًّا، فمضت إلى أهلها، فأخبرتهم بذلك، فقالوا: نبيعك على أنّ الولاء لنا، فأخبرت عائشة بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "اشتري، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق"، فاشترتها منهم» ولأن عتق المكاتب غير مستقر، فجاز بيعه، كالمدبر. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يصح بيعه) . وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفة وهو الصحيح؛ لأن الكتابة عقدٌ يمنع السيد من استحقاق كسب المكاتب، وأرش الجناية عليه، فمنع صحة بيعه، كما لو باعه من زيد، ثم باعه من عمرو، وفيه احترازٌ من المدبر، فإنّه يستحق كسبه، وأرش الجناية عليه. وأمّا الخبر: فقد قيل: إن بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عجَّزَت نفسها، وكان بيعُهم لها فسخًا لكتابتها، كما أن البائع إذا باع المبيع في مدة الخيار.. كان فسخًا للأوّل، وصحّ الثاني. ولا يجوز بيع الموقوف، سواءٌ قلنا: إنّه ينتقل الملك فيه إلى الموقوف عليه، أو إلى الله تعالى؛ لأنّه يبطل بذلك حقُّ البطن الثاني.

مسألة: جواز بيع ما ينتفع به

[مسألةٌ: جواز بيع ما ينتفع به] وأمَّا غير الآدمي: مما له منفعة من المأكول والمشروب والملبوس والمشموم.. فيجوز بيعه، وكذلك يجوز بيع ما ينتفع به من الوحوش، مثل: الفهد والظِّباء والغزلان، وما ينتفع به من الطيور للصيد، كالصقور والبزاة والعقبان. قال ابن الصبّاغ: ويجوز بيع ما ينتفع بصوته من الطيور، وبيع القرد؛ لأنه ينتفع به، ولأنه يعلم أشياء فيتعلَّمها، وينتفع بها، ولأنه طاهر منتفع به، فجاز بيعه، كالعبيد والجواري والخيل. [فرعٌ: بيع السنور] ويجوز بيع السنور، وروي ذلك عن ابن عبّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وطاوس، ومجاهد، وجابر بن زيد رحمة الله عليهم: (أنهم كرهوا بيعه) . دليلنا: أنّه حيوان طاهر منتفع به، فجاز بيعه، كالشاة. [فرعٌ: لبن الآدمي] ويجوز بيع لبن الآدميات. وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يجوز) . دليلنا: أنّه طاهر منتفع به، فجاز بيعه، كلبن الشاة.

فرع: جواز بيع رباع مكة

[فرعٌ: جواز بيع رباع مكة] ويجوز بيع رباع مكة، وهبتها، ورهنها، وإجارتها، إلاَّ ما كان موقوفًا منها. وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يجوز) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] [الحشر: 8] فأضافها إليهم، وحقيقة الإضافة تقضي الملك. ولما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نزل مكة.. قيل له: ألا تنزل في رباعك؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وهل ترك لنا عقيل من رباع! ". وفي بعض الروايات: وهل ترك لنا عقيل من ميراث؟!» وأراد: أن أبا طالب مات كافرًا، وكان عقيل وطالب ابنا أبي طالب كافرين، فورثا رباعه، وباعها عقيل، وكان علي وجعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما مسلمين، فلم يرثا منه شيئا، فأضاف الرِّباع إلى عقيل، وحقيقة الإضافة تقتضي الملك، ولو كان بيع رباع مكة لا يصح.. لأبطله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنه إجماع الصحابة ومن بعدهم، فإنهم من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا يتبايعونها، ويؤاجرونها، ولا ينكر عليه منكرٌ، و: (اشترى أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه دارًا بمكة من صفوان بن أمية

فرع: جواز بيع المصحف وكتب الحديث

بأربعة آلاف درهم، وجعلها سجنًا) ، و: (اشترى معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من حكيم بن حزام دارين بمكة، إحداهما بستين ألف درهم، والأخرى بأربعين ألف درهم) ، ولأنها أرضٌ حيّة، لم ترد عليها صدقة مؤبدةٌ.. فجاز بيعها كسائر البلاد. فقولنا: (حية) احتراز من الموات. وقولنا: (لم ترد عليها صدقة مؤبدة) احترازٌ من الوقف. [فرعٌ: جواز بيع المصحف وكتب الحديث] ويجوز بيع المصاحف، وكتب الحديث؛ لما روي: أنه سئل ابن عباس عن بيع المصاحف، فقال: (لا بأس، يأخذون أجور أيديهم) ، ولأنه طاهر منتفع به، فهو كسائر الأموال. قال الصيمري: قيل: إن الثمن يتوجّه إلى الدفتين؛ لأن كلاما لله تعالى لا يباع.

وقيل: ذلك بدلٌ من أجرة النسخ. قال: ويكره بيع المصحف. وقيل: يكره البيع، ولا يكره الشراء. ولا بأس ببيع كتب الطِّب والشعر والنحو. وبيع كتب الشرك باطل، وإحراقها لازم، ويجوز بيع دود القز، وجهًا واحدًا؛ لأنه طاهر منتفع به، وفي بيع بيضه وبيض ما لا يؤكل لحمه، كالصقر والبازي وجهان، بناءً على الوجهين في طهارة مَنِي ما لا يؤكل لحمه. فإن قلنا: إنه طاهرٌ جاز بيعه، وإن قلنا: إنه نجس.. لم يجز بيعه. والله أعلم بالصواب.

باب من نهي عنه من بيع الغرر وغيره

[باب من نهي عنه من بيع الغرر وغيره] ولا يجوز بيع المعدوم، بأن يقول: بعتك ثمرة نخلي التي ستخرج عامًا، أو أعوامًا؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع المعاومة» ، وأراد به: بيع ثمرة النخل أعوامًا، وروي: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع السنين» ، وروي: (أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» . وقال الشيخ أبو حامد: و (الغرر) : هو ما تردَّد بين السلامة والعطب، وليس أحدهما بأولى من الآخر، أو كان الغالب العطب. وفي بيع الثمرة التي لم تخلق غرر؛ لأنه لا يدري إن خرجت.. أتسلم، أم تعطب؟

مسألة: بيع الفضولي

[مسألة: بيع الفضولي] إذا باع مال غيره بغير إذنه، ولا ولاية له عليه، أو اشترى لغيره بغير وكالة، ولا ولاية.. لم يصح، ولم يوقف ذلك على إجازة المالك، ولا على إجازة من اشتري له أو بيع عليه. وقال أبو حنيفة: (إذا باع مال غيره بغير إذنه.. وقف على إجازة المالك، فإن أجازه.. نفذ، وإن ردّه.. بطل. وأما الشراء: فلا يوقف) . وقال مالك رحمة الله عليه: (يوقف البيع والشراء على إجازة المالك، والمشترى له) . وحكى صاحب " الإبانة " [ق\226] : أن ذلك قول الشافعي في القديم. وليس بمشهور. دليلنا: ما روى حكيم بن حزام: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبع ما ليس عندك» . والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، فإن قيل: فدليل الخطاب من الخبر: أنه يجوز بيع ما عنده وإن كان ملكًا لغيره.. قلنا: دليل الخطاب إنما يكون حجة إذا لم يؤد إلى إسقاط النطق، وهذا يؤدي إليه؛ لأن الناس في هذه المسألة قائلان: قائلٌ يقول: إن بيع الموقوف لا يجوز، سواءٌ كان المبيع في يد البائع، أو في يد غيره.

مسألة: البيع قبل القبض

وقائل يقول: يجوز، سواء كان غائبا عنه أو في يده. فمتى قلنا: يجوز بيع مال غيره إذا كان في يده، ويوقف على إجازة مالكه.. اقتضى أن يجوز بيعه وإن كان في يد مالكه؛ لأن أحدًا لم يفرق بينهما، ومتى قلنا بهذا.. سقط النطق، فأسقطنا دليل الخطاب. وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طلاق، ولا عتق، ولا بيع قبل الملك» . ولأنه عقد لغيره عقدًا بغير توكيل ولا ولاية، فلم يصح، كالشراء عند أبي حنيفة، أو نقول: لأنه عقد على ما لا يقدر على تسليمه، فلم يصح، كما لو باعه طائرًا في الهواء. [مسألة: البيع قبل القبض] إذا ملك عينًا بعقد معاوضة، فإن كانت ثمنًا، أو مثمنًا في بيع، أو أجرة في إجارة، أو مهرًا في نكاح، أو عوضًا في خلع، فإن كان طعامًا.. لم يجز له بيعه قبل قبضه بلا خلاف؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتاع طعامًا.. فلا يبعه حتى يستوفيه» . وإن كان غير الطعام.. فاختلف الناس فيه على أربعة مذاهب:

فمذهبنا: أن غير الطعام كالطعام، فلا يجوز بيعه قبل قبضه، فإن باعه.. لم يصحّ، وبه قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ومحمد بن الحسن. وقال مالك: (يجوز بيع ما عدا الطعام قبل القبض) . وقال سعيد بن المسيب، والحسن، وأحمد: (ما كان مكيلا، أو موزونًا، أو معدودًا.. فلا يجوز بيعه قبل القبض، وما عدا ذلك.. يجوز بيعه قبل القبض) ، وهو قول عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (ما لا ينقل، ولا يحول، كالدور والعقار والأرضين والأشجار.. يجوز بيعها قبل القبض، وما ينقل ويحول، كالسلع والدراهم والدنانير.. لا يجوز بيعها قبل القبض) . دليلنا: ما «روى حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله، إني أبيع بيوعا كثيرة، فما يحل لي منها، وما يحرم؟ فقال: إذا بعت بيعا.. فلا تبعه حتى تستوفيه» وهذا عامٌّ في جميع المبيعات. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث عتّاب بن أسيد إلى مكة أميرًا.. قال له: انههم عن بيع ما لم يقبضوا، أو ربح ما لم يضمنوا» .

فرع: جواز التصرف قبل القبض

وروي «عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: ابتعت زيتًا في السوق، فلما استوجبت.. رآني رجلٌ، فأعطاني ربحًا حسنًا، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفتُّ، فإذا زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: لا تبعه حتى تحوزه إلى رحلك، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن تباع السلع حيث تباع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» وهذا عامٌّ في الطعام وغيره. ولأنه مبيع لم يقبضه المبتاع فلم يجز بيعه، كالطعام. [فرعٌ: جواز التصرف قبل القبض] ] : وأما إنكاح الأمة المبيعة قبل القبض.. فيصح؛ لأن النكاح لا يقتضي الضمان، وهل يصح إجازة البيع قبل قبضه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ. ولا يصح كتابة العبد المبيع قبل القبض؛ لأن الكتابة تفتقر إلى تخليته للتصرف، وهل يصح عتقه قبل القبض؟ فيه وجهان: [الأول] : قال ابن خيران: لا يصح؛ لأنه إزالة ملك، فلم يصح في المبيع قبل القبض، كالبيع.

فرع: قبض ثمن المبيع عند تسلمه

و [الثاني]ـ المذهب ـ: أنه يصح؛ لأن للعتق قوة وسراية، بدليل: أنه إذا أعتق شقصًا له في عبدٍ وهو موسر.. عتق الجميع، ولو باع شقصًا له في عبد.. لم ينفذ بيعه في ملك غيره، ولا فيما لم يبع من ملكه فيه. [فرعٌ: قبض ثمن المبيع عند تسلمه] ] : إذا اشترى عينًا بثمن غير مؤجل.. لم يجز للمشتري قبض العين قبل تسليم الثمن؛ لأن العين محبوسة مع البائع إلى أن يستوفي الثمن، فإن خالف المشتري وقبضها بغير إذن البائع.. قال الشيخ أبو حامد: دخلت في ضمان المشتري، ولا يجوز له التصرف فيها؛ لأنه قبض فاسد، وإن اشتراها بثمن مؤجل، أو حال، فسلم الثمن.. فله أن يقبضها بغير إذن البائع، فإذا قبضها.. صح تصرفه بها؛ لأنه لا حق لبائعها فيها. [فرعٌ: البيع مقايضة] ] : لأبي العباس: إذا باع عبدًا بعبد، وقبض أحدهما ما اشترى، ثم باعه قبل أن يقبض صاحبه ما باعه منه.. صح تصرفه في الذي اشتراه؛ لأنه قد قبضه، فإن تلف عبده الذي باعه من صاحبه قبل قبضه.. بطل البيع الأول؛ لتلف المبيع قبل القبض، ولا يبطل الثاني؛ لتعلق حق المشتري الثاني به، ولكن يلزم بائعه قيمته للذي اشتراه منه أولا؛ لأنه تعذر تسليمه إليه، فوجبت قيمته عليه. فإن اشترى من رجل شقصا من دار بعبد، وقبض المشتري الشقص، فأخذه الشفيع بالشفعة، ثم تلف العبد في يد المشتري قبل أن يقبضه بائع الشقص.. انفسخ البيع في العبد، ولم تنفسخ الشفعة، ولا يؤخذ الشقص من يد الشفيع، فيجب على المشتري قيمة الشقص للبائع، ويجب على الشفيع للمشتري قيمة العبد.

فرع: التصرف بالعين في عقد لا عوض فيه

[فرعٌ: التصرف بالعين في عقد لا عوض فيه] ] : إذا ملك عينًا بعقد لا عوض فيه.. نظرت: فإن كان هبة.. فإنه لا يملكها قبل القبض، فلا يصح بيعه لها، ويأتي حكمها إن شاء الله. وإن كانت بوصية.. ملك بيعها قبل القبض؛ لأنه لا يخشى انفساخها. وهكذا: لو ورث شيئًا.. جاز بيعه قبل قبضه؛ لأنه لا يخشى انفساخ ملكه. وإن باع عينًا، وقبضها المشتري، ثم تقايلا في البيع، وأراد البائع بيعها من آخر قبل قبضها.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: يصح البيع؛ لأنه ملكها بغير عوض. وأما المسعودي: فقال: [في " الإبانة " [ق\229] هل يصح بيعها قبل القبض؟ فيه قولان: إن قلنا: إن الإقالة فسخ عقد.. جاز بيعها. وإن قلنا: إن الإقالة بيع.. لم يصح بيعها قبل قبضها. [فرعٌ: الدين في الذمة] وأما الدين في الذمة: فعلى ثلاثة أضرب: [الأول] : دين مستقر لا يخاف انتقاصه، كأرش الجناية، وبدل المتلف، وبدل القرض، فهذا يجوز بيعه ممن عليه، وهل يجوز بيعه من غيره؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ربما جحده. والثاني: يجوز، وهو الأصح، كما يجوز بيعه ممن عليه، ولأن ما جاز بيعه ممن عليه.. جاز بيعه من غيره؛ لأن الظاهر: أنه يقدر على تسليمه من غير جحود.

والضرب الثاني: دين غير مستقر، وهو المسلم فيه، فلا يجوز بيعه ممن عليه، ولا من غيره؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلم في شيء.. فلا يصرفه إلى غيره» ، ولأنه غير مستقر؛ لأن العقد قد ينفسخ بعدم المسلم فيه في أحد القولين، وبالفسخ في الآخر، فلم يجز بيعه قبل القبض، كالعين المبيعة قبل القبض. والضرب الثالث: هو الثمن، أو الأجرة، أو الصداق، أو عوض الخلع في الذمة، فهل يصح بيعه قبل القبض؟ في قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه مملوك بعقد معاوضة، فلم يجز بيعه قبل قبضه، كالمثمن. والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لما روي «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: كنت آتي البقيع، فأبيع الإبل بالدنانير، وآخذ عنها الدراهم، أو بالدراهم، فآخذ عنها الدنانير، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته بذلك، فقال: "لا بأس، إذا تفرّقتما وليس بينكما شيء»

فرع: بيع نجوم الكتابة

ولأن الثمن في الذمة مستقر؛ لأنه لا يخشى انتقاص البيع بهلاكه، فجاز التصرف فيه، كالمبيع بعد القبض. إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في الثمن والمثمن: فقال بعضهم: (الثمن) : هو الدراهم أو الدنانير، و (المثمن) : ما قابله، فإن لم يكن في البيع دراهم ولا دنانير.. فالثمن ما دخلت فيه الباء، والمثمن ما قابله. ومنهم من قال: الثمن ما دخله الباء بكل حال، والمثمن ما قابله. والأول أصح. [فرعٌ: بيع نجوم الكتابة] ] : وهل يجوز بيع نجوم المكاتب قبل قبضها؟ المنصوص عليه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر ": (أنه لا يصح) . وقال أبو إسحاق: أومأ الشافعي في القديم إلى: (أنه يصح بيعها) . قال أصحابنا: لم يذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم إلا جواز بيع رقبته، وليس إذا جاز بيع رقبته.. جاز بيع نجومه؛ لأن الرقبة ملك للسيد، وإنما سقط حق السيد بأداء المال، وهاهنا يملك العبد إسقاط حقه من المال. ووجه ما قال أبو إسحاق على القديم: أن السيد يملك المال في ذمة المكاتب، فجاز بيعه، كسائر أمواله.

فرع: كيفية القبض

[فرعٌ: كيفية القبض] ] : قد ذكرنا: أنه لا يصح بيع المبيع قبل القبض. وإذا ثبت هذا: فإن القبض ـ فيما ينقل ـ النقل، فإن كان المبيع عبدًا.. فقبضه: أن يستدعيه فيجيء، وإن كان بهيمة.. فقبضها: أن يسوقها، فإن أمر العبد بعمل لا ينتقل فيه من موضعه، أو ركب البهيمة ولم تنتقل عن موضعها.. فإن الذي يقتضيه المذهب: أنّه لا يحصل القبض بذلك؛ لأنّه لا يكون بذلك غاصبًا، فكذلك لا يكون بذلك قابضًا في البيع، وإن وطئ الجارية.. فهل يكون قبضًا؟ فيه وجهان: أحدهما ـ المشهور ـ: أنه ليس بقبض؛ لأنه لم ينقلها. والثاني ـ حكاه في " الحاوي " ـ: أنه يحصل به القبض؛ لأن ذلك أبلغ من النقل. وإن كان المبيع ثيابًا، أو خشبًا، أو طعامًا اشتراه جزافًا.. فقبضه: أن ينقله ويحوله من مكان إلى مكان آخر، وإن كان عقارًا أو شجرًا.. فقبضه: التخلية. وقال مالك، أبو حنيفة: (قبض جميع الأشياء بالتخلية) . دليلنا: ما «روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا، فنهانا رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه» ولأن الشرع ورد بالقبض، وليس له حد في اللغة، ولا قدر في الشرع، فوجب الرجوع فيه إلى عرف الناس وعادتهم، كما قلنا في الحرز والإحياء. والعرف عند الناس ما ذكرناه. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وذكر المسعودي [في " الإبانة " [ق\230ـ231] في هذا ثلاث مسائل:

فرع: قبض الوديعة بدل الدين

الأولى: إذا اشترى منه ما ينقل، فوضعه البائع بين يدي المشتري.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يقوم ذلك مقام القبض، كالوديعة إذا وضعها بين يديه.. فلا يكون قبضًا، حتى إن لم يحفظها إلى أن ضاعت.. لم يضمن. والثاني ـ قال: وهو الأصح ـ: أنّه يقوم مقام القبض، بخلاف الوديعة؛ لأن قبولها لا يلزم، وليس كذلك في مسألتنا. [المسألة] الثانية: إذا اشترى دارًا وأمتعة فيها.. فالتخلية في الدار تكون قبضا، وفي الأمتعة وجهان: أحدهما: تكون التخلية قبضًا لها تبعًا للدار. والثاني: يشترط نقلها. [المسألة] الثالثة: إذا اشترى شيئًا في دار البائع، ونقله من زاوية إلى زاوية، فإن أذن له البائع في ذلك.. حصل له القبض في ذلك، وكأن البائع أعاره تلك الزاوية، وإن لم يأذن له في ذلك.. لم يحصل القبض. قال الصيمري: وإن اشترى من رجل صبرة طعام، ثم اشترى العرصة التي تحت الصبرة.. حصل له القبض في الصبرة من غير نقل. [فرعٌ: قبض الوديعة بدل الدين] إذا كان لرجل في ذمة غيره دين مستقر، وعند من له الدين لمن عليه الدين وديعة أو رهن مما ينقل، فباع منه الوديعة أو الرهن بذلك الدين.. فله أن يقبض الوديعة أو الرهن بغير إذن بائعه؛ لأنه قد استحق قبض ذلك، والقبض فيه: هو أن يمضي عليه زمان يمكن فيه القبض، وهل يحتاج إلى نقله من مكانه، أو يكفي فيه مضي الزمان؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ. أحدهما: يحتاج إلى النقل؛ لأنه مما ينقل، ويحول، فلم يحصل قبضه إلا بذلك.

فرع: أخذ مثلا بدلا عن ثمن

والثاني: أنه لا يحتاج إلى ذلك؛ لأن النقل يراد لحصوله في يده، وهو حاصلٌ في يده. وإن باعه الوديعة أو الرهن بثمن في ذمته، ولم يقبضه الثمن.. لم يكن للمودع نقل الوديعة إلا بإذن البائع، فإن قبضها بغير إذنه.. لم تصر مقبوضة قبضًا يملك به التصرف. [فرعٌ: أخذ مثلاً بدلاً عن ثمن] قال الصيمري: إذا باعه طعامًا بثمن إلى أجل، وحل الثمن.. جاز أن يأخذ بالثمن طعامًا أو تمرًا حاضرًا. وإن أراد أن يأخذ عن الدين المؤجل عوضًا، إما عرضًا، أو غيره، قبل حلول الدين.. لم يصح، وأما تقديمه: فيجوز؛ لأنه لا يملك المطالبة به قبل محله، فكأنه أخذ البدل عمّا لا يستحقه، وهكذا ذكره الصيدلاني. [فرعٌ: بيع الصكوك] ] : قال الصيمري: ولا يجوز بيع الصكوك قبل قبضها، وهي: أرزاق الجند، إذا صك السلطان على بيت المال. [مسألة: بيع ما لا يقدر على تسليمه] ] : إذا باع طيرًا في الهواء، فإن كان لا يملكه.. لم يصح بيعه لعلتين:

فرع: استئجار برك السمك

إحداهما: أنه لا يملكه. والثانية: أنه لا يقدر على تسليمه. وإن كان يملكه.. لم يصح بيعه، سواء كان يألف الرجوع أو لا يألفه؛ لأنه لا يقدر على تسليمه في الحال. وإن باعه طيرًا في برج، فإن كان الباب مفتوحًا.. لم يصح بيعه؛ لأن الطير إذا قدر على الطيران لم يقدر على تسليمه في الحال، وإن كان مغلقًا، فإن كان لا يحتاج في أخذه إلى كلفة ومشقة.. جاز بيعه، وإن كان يحتاج إلى ذلك.. لم يجز. وإن باعه سمكةً في بركة عظيمة، يدخل فيها السمك ويخرج، فإن كان لا يملك البركة.. لم يصح بيعه؛ لأنه لا يملك السمكة، ولأنه لا يقدر على تسليمها، وإن كان في بركة صغيرة، يقدر على أخذها من غير كلفة، وكان الماء صافيًا يشاهد السمكة فيه، وكان قد ملكها.. صح بيعه، وإن كان لا يقدر على أخذها إلا بالاصطياد.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يصح بيعها) . قال الشيخ أبو حامد: وخرج أبو العباس وجهًا آخر: أنه يصح. ولا وجه له. [فرعٌ: استئجار برك السمك] ] : قال في " الإملاء ": (ولا يجوز تقييل برك الحيتان ـ يريد: استئجارها ـ لأخذ السمك منها) ؛ لأن العين لا تملك بالإجارة. فإن استأجر بركة ليحبس بها السمك ويأخذها.. قال الشيخ أبو حامد: لا يجوز، لأن الصيد ينحبس فيها بغيرها. وقال ابن الصبّاغ: يجوز؛ لأن البركة يمكن الاصطياد بها، فجاز استئجارها لذلك، كالشبكة. قال: وأمّا قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يجوز تقييل برك الحيتان) أراد: إذا حصل فيها حيتان، فاستأجرها لأخذ ما قد حصل فيها.. فلا يصح؛ لأن الأعيان لا تملك بالإجارة. وأما إذا لم يكن فيها سمكٌ: فإن العقد على منفعة مقصودة، فجاز العقد عليها.

فرع: بيع الناد والفار

وإن استأجر أرضًا للزراعة، فدخل فيها السمك، ثم نضب الماء منها، وبقي السمك.. لم يملكه المستأجر، ولكن يكون أحق به؛ لأن غيره لا يملك التخطي في أرضه، فإن تخطى أجنبي، فأخذه.. ملكه بذلك. [فرعٌ: بيع النادِّ والفارِّ] ِّ] : ولا يجوز بيع الجمل الشارد، والفرس العائر؛ لأنه لا يقدر على تسليمه في الحال، ولا يجوز بيع العبد الآبق، وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أنه باع عبدًا له أبق) ، وقال ابن سيرين: إن عرف موضعه.. جاز بيعه، وإن لم يعرف موضعه.. لم يجز بيعه. دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» . وفي بيع الآبق غرر. ولأنه لا يقدر على تسليمه، فلم يصح بيعه، كالطير في الهواء. فإن رجع الآبق.. لم ينقلب البيع صحيحًا. وقال أبو حنيفة: (ينقلب صحيحًا) . دليلنا: أنه وقع باطلاً، فلم ينقلب صحيحًا، كما لو باع طيرًا في الهواء، ثم وقع الطير في يده.

فرع: بيع الوديعة والعارية

[فرعٌ: بيع الوديعة والعارية] ] : فإن باع عينًا له مودعة، أو معارة عند غيره.. صح بيعها، سواء باعها ممن هي في يده أو من غيره؛ لأنها عينٌ يملكها، مقدورٌ على تسليمها، فصحَّ بيعها، كما لو كانت بيده. وإن كانت له عين مغصوبة عند غيره، فإن باعها من الغاصب.. صح البيع، وإن باعها من غير الغاصب، وقال البائع أو المشتري: أنا قادر على انتزاعها من الغاصب.. صح البيع، فإن قدر على انتزاعها من الغاصب.. نفذ البيع، وإن لم يقدر على انتزاعها.. ثبت للمشتري الخيار في فسخ البيع، وإن كان البائع أو المشتري غير قادرين على انتزاعها من الغاصب.. لم يصح البيع؛ لأنه باع ما لا يقدر على تسليمه، فهو كالطير في الهواء. ويصح إنكاح الأمة المغصوبة ممن يقدر على انتزاعها، وممن لا يقدر على انتزاعها؛ لأن النكاح لا يقتضي الضمان. ويصح إعتاقها؛ لما ذكرناه، ولا يصح كتابتها؛ لأن الكتابة تقتضي التصرف، والمغصوبة ممنوعة من التصرف. ويصح إعتاق العبد الآبق؛ لما ذكرناه. [مسألةٌ: بيع غير المعيَّن] إذا باع عبدًا من عبدين، أو ثلاثة، أو أكثر.. لم يصح. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا باعه عبدًا من عبدين، أو ثلاثة، بشرط خيار ثلاثة أيام.. صح، وإن باعه عبدًا من أربعة أعبد، أو أكثر.. لم يصح) . وقال مالكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا باعه عبدًا من عبيد، أو ثوبًا من ثياب، وكانت كلها متقاربة بالصفة، وشرط الخيار للمشتري.. صحَّ البيع) . دليلنا: أن ذلك مما يختلف فيه الغرض، فلم يصح بيعه من غير تعيين، كما لو باعه عبدًا من أربعة.

مسألة: بيع الغائب

وإن قال: بعتك قفيزًا من هذه الصبرة.. صح البيع؛ لأن الصبرة تتساوى أجزاؤها، فصح بيع بعضها، وإن كان غير معين. [مسألةٌ: بيع الغائب] ولا يجوز بيع العين الغائبة إذا جهل جنسها أو نوعها، بأن يقول: بعتك ما في هذا الجراب، أو بعتك ما في كمي، أو ما في بيتي. وقال أبو حنيفة: (يصح بيع العين الحاضرة المشار إليها وإن كانت غير مشاهدة، ولا يفتقر إلى ذكر الجنس، وإن كانت غائبة.. صح بيعها إذا ذكر الجنس) . دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» . و (الغرر) : ما خفي على الإنسان أمره، وانطوت عليه عاقبته، ولهذا روى عن رؤبة بن العجاج: أنه اشترى ثوبًا من بزَّاز، فقال له: اطوه على غرِّه، أي: على طيِّه. وقالت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في وصف أبيها: (فردٌ نشر الإسلام على غرِّه) ، أي: على طيِّه. وهذا المعنى موجودٌ في بيع ما جهل جنسه أو نوعه. فأما إذا ذكر الجنس والنوع، بأن قال: بعتك الثوب المروي الذي في كمي، أو عبدي الزِّنجي، فإن كان لا يملك عبدًا زنجيًّا غيره.. كفاه، وإن كان يملك عبدًا زنجيًّا غيره، فقال: عبدي الزنجي الذي في داري.. نظرت: فإن كان البائع قد نظر المبيع، ولم يره المشتري.. فلا خلاف بين أصحابنا أنها على قولين: أحدهما: يصح البيع، وبه قال الحسن، والشعبي، والنخعي، والأوزاعي؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اشترى شيئًا لم يره.. فله الخيار إذا رآه» . وروي: (أن عثمان بن عفّان، وطلحة بن عبيد الله رضي الله

عنهما تناقلا بدارين، إحداهما بالمدينة، والأخرى بالكوفة، فقيل لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قد غبنت، فقال: لا أبالي، لي الخيار إذا رأيت، فتحاكما إلى جبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقضى بصحة البيع، وجعل الخيار لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) . ولأنه عقد معاوضة، فلم يفسده عدم الرؤية، كالنكاح. والثاني: لا يصح البيع، وهو قول الحكم، وحمّاد، وهو الصحيح؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» ، ولأنه مبيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد، فلم يصح، كما لو قال: بعتك ثوب خز.. فلا خلاف أنه لا يصح. ومن قال بهذا: قال بحديث أبي هريرة: «من اشترى شيئا لم يره.. فهو بالخيار إذا رآه» . رواه عمر بن إبراهيم بن خالد، وكان كذّابًا. وقيل: رواه مجاهد، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلا.

وإن صح.. فمعنى قوله: "لم يره" أي: حال العقد وكان قد رآه قبل ذلك. وقيل: أراد: "إذا رآه" في أن يعقد عليه بعد الرؤية، وكذلك حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، معناه: لا أبالي، لي الخيار إذا رأيتها متغيرة عما كنت رأيتها. فأما إذا كان البائع والمشتري لم ينظرا جميعًا إلى المبيع: فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان، كالأولى. قال ابن الصباغ: وهو المشهور في المذهب؛ لأنّ حكم البائع حكم المشتري في ذلك. ومنهم من قال: يبطل البيع هاهنا، قولاً واحدًا؛ لأن البائع إذا لم يشاهد المبيع.. فإنما يصفه عن صفة، لا عن مشاهدة، وبيع العين بصفة عن صفة لا يصح، ألا ترى أن الأعمى لا يصح بيعه لما لم يره؛ لأنه يصف المبيع عن صفة، لا عن مشاهدةٍ؟! ولأن البائع إذا كان قد شاهد المبيع، ولم يشاهده المشتري.. قل الغرر، وإذا لم يشاهده واحدٌ منهما.. كثر الغرر. فأمّا إذا كان المشتري قد شاهد المبيع، ولم يشاهده البائع: فمن قال في التي قبلها: إذا لم يشاهده البائع ولا المشتري، إنها على قولين.. فإنه لا يجعل لرؤية البائع تأثيرًا، فيصح البيع هاهنا، قولاً واحدًا. ومن قال في التي قبلها: إن البيع يبطل، قولا واحدا.. جعل لرؤية البائع هاهنا تأثيرًا، فيجعل هذه على قولين. فأمّا إذا قلنا: لا يصح بيع خيار الرؤية.. فلا تفريع عليه، وإذا قلنا: يصح.. فلا بد من ذكر الجنس والنوع، وهل يحتاج إلى ذكر غيرهما من الصفات؟ فيه ثلاثة أوجه:

أحدها ـ وهو قول أبي علي في " الإفصاح " ـ: أنه لا بد من أن يذكر جميع صفاته، كالمسلم فيه. والثاني ـ وهو قول القاضي أبي حامد ـ: أنه لا بد من وصفه بمعظم الصفات، وإن لم يأت بالجميع؛ لأن الاعتماد على الرؤية. والثالث ـ وهو المنصوص ـ: (أنه يكفي ذكر الجنس والنوع) ؛ لأن المعتمد في هذا البيع على الرؤية، لا على الصفة. فإذا قلنا بهذا: فوصف المبيع بصفة المسلم فيه، أو ثبت عند وصفه بخبر التواتر.. ففيه طريقان، حكاهما في " الإبانة " [ق\232] : [الأول] : من أصحابنا من قال: هو كالمرئي، فيصح بيعه، قولا واحدا. و [الثاني] : منهم من قال: هي على قولين، كالأولى. إذا ثبت هذا: فإن وصف له البائع المبيع بصفات، وقلنا: لا بد من ذكرها، أو قلنا: لا يفتقر إلى ذكرها، لكنه قد وصفه بذلك، فوجده المشتري أنقص من تلك الصفة.. ثبت له الخيار؛ لأنه أنقص مما وصف له، فثبت له الخيار، كالمسلم فيه إذا أتى به على خلاف الوصف، وإن وجده على ما وصف له، أو أعلى منها.. فهل يثبت له الخيار؟ فيه وجهان: أحدُهما: لا خيار له، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه وجده على ما وصف له، فلم يثبت له الخيار، كالمسلم فيه. والثاني: يثبت له الخيار، وهو المنصوص عليه؛ لأن هذا البيع يختص باسم بيع خيار الرؤية، بلا خلاف بين أهل العلم، فلم يخل من الخيار. وإذا ثبت له الخيار.. فهل يكون على الفور؟ فيه وجهان: أحدُهما: أنه على الفور، فإن فسخ، وإلا لزمه البيع؛ لأنه خيار يتعلق بمشاهدة المبيع، فكان على الفور، كخيار الردّ بالعيب، فإنه يتعلق بمشاهدة العيب. والثاني: يتقدر بالمجلس بعد الرؤية؛ لأنه خيار ثبت بمقتضى العقد، فكان مقدرًا

بالمجلس، كخيار المجلس. فإن اختار إمضاء البيع قبل الرؤية.. لم يصح؛ لأن الخيار متعلق بالرؤية، ولأنه يؤدي إلى أن يلزمه المبيع، وهو مجهول الصفة، وإن فسخ البيع قبل الرؤية.. صح الفسخ؛ لأن الفسخ يصح في المجهول. وإذا باع ما رآه البائع، ولم يره المشتري.. فهل يثبت الخيار للبائع؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ، والطبري: أحدهما: يثبت له؛ لأنه خيارٌ ثبت بمطلق العقد، فاشترك فيه البائع والمشتري، كخيار المجلس. والثاني: لا يثبت له، وهو المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الصرف) ؛ لأنه أحد المتبايعين، فلا يثبت له خيار الرؤية مع تقدم الرؤية، كالمشتري. وأمّا إذا كان البائع لم يشاهد المبيع، وباع، وقلنا: يصح بيعه.. فهل يثبت له الخيار إذا رأى المبيع؟ فيه وجهان: أحدُهما ـ وهو قول القفّال، وأبي حنيفة ـ: أنه لا يثبت للبائع الخيار؛ لأنا لو أثبتنا له الخيار.. لكنَّا قد أثبتنا له الخيار لتوهم الزيادة، والزيادة في المبيع لا تثبت الخيار، ألا ترى أنه لو باع شيئًا على أنه معيب، فبان أنه غير معيب.. لم يثبت له الخيار، ولو اشترى شيئًا على أنه غير معيب، فبان معيبًا.. ثبت له الخيار؟ ! والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أنه يثبت للبائع الخيار؛ لأنه جاهل بصفة المعقود عليه، فأشبه المشتري، ولأن الخيار لا يتعلق بالزيادة والنقصان، ألا ترى أن المشتري لو قال: هو فوق ما طلبته، ولكن قد اخترت الفسخ.. جاز الفسخ؟! إذا ثبت هذا: فإن كان المشتري قد رآه، دون البائع، وقلنا: يثبت الخيارُ للبائع.. فهل يثبت الخيار للمشتري معه؟ يحتمل الوجهين في ثبوت الخيار للبائع مع تقدم رؤيته له، وقد مضى توجيههما.

فرع: يصح البيع إذا رأى المبيع ولو غاب

[فرعٌ: يصح البيع إذا رأى المبيع ولو غاب] وأما إذا رأيا المبيع، ثم غاب عنهما، وعقدا عليه البيع.. فالمنصوص: (أنه يصح البيع) . وقال أبو القاسم الأنماطي: لا يصح، وهو قول الحكم، وحمّاد؛ لأن الرؤية شرطٌ في صحة العقد، فلم تتقدم على حال العقد، كالشهادة في النكاح. ووجه المنصوص: أن الرؤية إنما تراد؛ ليصير المبيع معلومًا عندهما، وهذا المعنى موجودٌ وإن تقدمت الرؤية على حال العقد، وتخالف الشهادة في النكاح؛ لأنها تراد ليثبت الفراش بالعقد، فلم يجز أن يتقدم على العقد. إذا ثبت هذا: فإن كان المبيع لا ينقص، ولا يتلف على طول الزمان، كالحديد والرصاص والنحاس وما أشبه ذلك، وكانا قد شاهداه، ثم عقدا عليه البيع، ثم شاهداه، فإن كان على صفته الأولى.. فلا خيار للمشتري، وإن كان قد تغير ونقص عما كان عليه.. ثبت للمشتري الخيارُ؛ لأنه ناقص عما كان رآه، وإن اختلفا: هل تغير، أم لا؟ قال الشافعي: (فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن الثمن ينتزع منه، فلا يجوز إلا بقوله) . وإن كان المبيع لا يبقى على طول الزمان، مثل: الهريس والطبيخ والبطيخ، وكان قد مضى من حين المشاهدة إلى حين العقد مدة يتلف فيها.. فالبيع باطل؛ لأنه غرر. وإن مضى عليه مدة قد يتلف فيها وقد لا يتلف، أو كان المبيع حيوانا.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يصح البيع؛ لأنه يجوز أن يكون قد تلف، أو تغير، فصار مجهولاً، وبيع المجهول لا يصح. والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أن البيع صحيح) ؛ لأن الظاهر منه السلامة. [فرعٌ: بيع الغائب الموصوف مضمون] ] : قال الشافعي في (الصرف) : (ولا يجوز له أن يبتاع عينًا غائبة بصفة مضمونة، ولا إلى أجل، ويجوز بالنقد والدين) .

فرع: شراء ما لم يكمل صنعه

وأراد بقوله: (بيع عين غائبة بصفة) : هو أن قول: بعتك عبدي، وصفته كذا وكذا، فإن سلم.. لك ذلك، وإلا.. فلك بدله. فهذا لا يجوز؛ لأن العقد تعلق بعين المبيع. وإذا تلف المبيع قبل القبض.. بطل البيع، فإذا شرط له البدل.. فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد، فأبطله. وأما قوله: (ولا إلى أجل) فأراد: إذا قال: بعتك عبدي على أن أسلمه إليك إلى شهر، فلا يصح؛ لأنه شرط تأخير القبض في العين، فلم يصح. [فرعٌ: شراء ما لم يكمل صنعه] قال في (الصرف) : (إذا ابتاع ثوبًا على منسج حائك، على أن يتمه.. لم يصح البيع) . وهذا كما قال، إذا اشترى ثوبًا من نسَّاج، قد نسج بعضه على أن يتممه.. لم يصح البيع؛ لأن بعضه بيع عين حاضرة، لا خيار له فيها، وبعضه في الذمة مجهولٌ، وإنما هو مقدر بما يحتاج إليه السدى، فلم يصح، فلو كان الغزل الباقي معينًا.. لكان قد شرط معه العمل، فلم يصحّ؛ لأنه سلم في عين، والسلم في عين معينة لا يصح. [مسألة: بيع الأعمى] ] : إذا باع الأعمى عينًا، قد كان رآها قبل العمى، أو اشتراها، فإن كانت العين مما لا يتغير، كالحديد والرصاص.. صح العقد، ويوكل من يقبض له، على الصفة التي قد كان شاهدها عليها، فإن كانت على صفتها الأولى.. فلا خيار له، وإن تغيرت عن صفتها الأولى.. فله الخيار. وإن كانت العين مما يتلف من الوقت الذي شاهدها إلى حين العمى، كالطعام الرطب.. بطل البيع.

مسألة: رؤية بعض المشترى

وإن كان الأعمى لم يشاهد العين المبيعة، بأن كان أكمه: وهو الذي خلق أعمى، أو كان قد خلق بصيرًا، إلاَّ أنه يشاهد العين المبيعة قبل العمى، فإن قلنا: إن بيع خيار الرؤية لا يصح.. لم يصح البيع هاهنا. وإن قلنا: إن بيع خيار الرؤية يصح.. فهل يصح بيع الأعمى وشراؤه؟ في وجهان: أحدهما: يصح، ويوكل من يقبض له المبيع إذا وجده على الصفة المشروطة، ويفوض إليه الفسخ والإجازة إذا رأى. وهكذا: البصير إذا اشترى عينًا غائبةً.. فله أن يوكل من يشاهدها، ويستنيبه في الخيار والقبض. والثاني: لا يصح؛ لأنه لم يشاهد المبيع، ولا يصح التوكيل في هذا الخيار؛ لأن هذا خيار عقد، فلم تصح الاستنابة فيه، كخيار المجلس. وهذا القائل يقول: لا يصح توكيل البصير لغيره في مشاهدة العين المبيعة في بيع خيار الرؤية، والفسخ، والإجارة عند ذلك؛ لهذه العلة. والقائل الأول قال: يجوز. وهذا مذهبنا. وقال مالكٌ، وأبو حنيفة، وأحمد: (يجوز بيع الأعمى وشراؤه، في العين التي لم يرها قبل العمى) . وأثبت له أبو حنيفة الخيار إلى معرفته بالمبيع، إما بأن يجسه أو يذوقه، أو يشمه، أو بأن يوصف له. دليلنا عليهم: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» . وهذا غررٌ؛ لأنه لا يدري ما باع، ولا ما اشترى. [مسألة: رؤية بعض المشترى] ] : إذا رأى بعض المبيع دون بعض، فإن كان لا تختلف أجزاؤه، كالصبرة من الطعام، والجرة من السمن والدبس، إذا رأى رأسها.. صح بيعه؛ لأن أجزاءه متساوية، والظاهر أن باطنه كظاهره. وإن كان مما تختلف أجزاؤه، فإن كان يشق رؤية باطنه، كأساس الدور، والجوز في القشر الأسفل.. صح بيعه؛ لأنه يشق رؤية

فرع: بيع ما دل بعضه على جميعه

باطنه. وإن لم يشق رؤية باطنه، كالثوب المطوي.. ففيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: هي على قولين، كبيع خيار الرؤية، وهو المنصوص للشافعي. و [الثاني] : منهم من قال: يبطل البيع، قولا واحدًا؛ لأن ما رآه لا خيار له فيه، وما لم يره يثبت له فيه الخيار، وذلك لا يجوز في عين واحدة. وهذا غلط، بل يثبت له الخيار في جميعه إذا رأى ما لم يره، ولا يمتنع ثبوت الخيار في جميع المبيع؛ لجهل شيء منه، ألا ترى أنه إذا ابتاع عينًا، وشاهدها إلا موضع العيب، ثم علم بالعيب.. يثبت له الخيار في الجميع؟! [فرعٌ: بيع ما دل بعضه على جميعه] قال الصيمري: وإذا رأى رأس التمر في القوصرة، فاشتراه ـ وهو في القوصرة ـ فالصحيح: أنه يجوز للضرورة، وقيل: هي على قولين. وأما القطن في القفاع والأعدال: ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز إلا بعد الإحاطة بجميعه. قال الصيمري: والأشبه عندي: أنه كالتمر في القوصرة.

مسألة: بيع تراب المعدن الثمين

[مسألة: بيع تراب المعدن الثمين] ] : لا يجوز بيع تراب الصاغة، وتراب المعادن. وقال الحسن، والنخعي، وربيعة، والليث - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يجوز بيع تراب الفضة بالذهب، وبيع تراب الذهب بالفضة) . وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجوز بيع تراب المعدن بما يخالفه بالوزن إن كان ذهبا يدًا بيد، أو بعوض إلى أجل، ولا يجوز بيع تراب الصاغة بحال) . دليلنا: أن المقصود مستور بما لا مصلحة له فيه في العادة، فلم يصح بيعه، كبيع اللحم في الجلد بعد الذبح، وكتراب الصاغة على مالك. [مسألة: بيع البقول في قشرها] وفي جواز بيع الباقلاء في قشره وجهان: [أحدُهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يجوز؛ لأنه يباع في جميع البلدان من غير إنكار. والثاني: لا يجوز، وهو المنصوص؛ لأن الحب قد يكون صغارًا، وقد يكون كبارًا، وقد يكون متغيرًا، وذلك غرر من غير حاجة، فلم يجز. [فرعٌ: بيع المسك] ] : وأما المسك: فهو طاهر، ويجوز بيعه. وقال بعض الناس: هو نجس، ولا يجوز بيعه؛ لأنه ينفصل من حيوان. وقيل: إنه دم.

دليلنا على أنه طاهر: ما روي «عن عائشة أم المؤمنين: أنها قالت: رأيت وبيص المسك في مفرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ثلاث من إحرامه» وروي: أنها قالت: «طيبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأطيب الطيب، وهو المسك» وروي: (أن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمر أن يجعل في حنوطه مسك، وقال: هو بقية حنوط رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . وقولهم: إنه من حيوان، قيل: إن الغزلان تلقيه، كما تلقي الولد، ويلقي الطير البيض، والغزلان مأكولة، وإن كان من حيوان غير مأكول.. فيجوز أن يكون طاهرًا، ألا ترى أن العسل من حيوان غير مأكول، وهو طاهر؟! وأما الدليل على جواز بيعه: فما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أهدى إلى النجاشي أواقي مسك، فلما تزوج بأم سلمة.. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إني أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي مسك، وإنه يموت قبل أن يصل إليه، فإذا ردت علي.. أعطيتك منه". فمات قبل أن يصل إليه، فرُدَّت، فأعطاها منه، وأعطى غيرها من نسائه» .

فرع: بيع الطلع

فإذا جازت هديَّتُهُ.. جاز بيعه، كسائر المملوكات. إذا ثبت هذا: فإن أخرج المسك من فأرته، وباعه.. صح بيعه، وإن فتحها ونظر إلى المسك، وباعه.. صح بيعه، كما قلنا في السمن في الظرف، وإن باع المسك في الفأرة قبل أن يفتحها.. فوجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس: يصح؛ لأن بقاءه فيها له مصلحة؛ لأنها تحفظ عليه رطوبته وذكاء رائحته، فهو بمنزلة بيع الجوز واللوز والرمان في قشره. والثاني: لا يصح، وهو المنصوص؛ لأنه مجهول القدر، مجهول الصفة، فلم يصح، ولأنه يبقى بعد خروجه من وعائه، وتبقى رائحته، فلم يجز بيعه مستورًا بوعائه، كالدر في الصدف، ويخالف الجوز واللوز والرّمان؛ لأنه بعد إخراجه من ظرفه لا يبقى. [فرعٌ: بيع الطلع] ] : وإن أفرد طلع النخل بالبيع على رؤوس النخل بشرط القطع، قبل أن يتشقق، أو بيع مقطوعًا على وجه الأرض.. فهل يصح بيعه؟ فيه وجهان:

فرع: بيع الزروع في السنابل

أحدهما: قال أبو إسحاق: لا يصح؛ لأن المقصود منه مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يصح، كالتمر في الجراب. و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يصح، وهو الصحيح؛ لأن طلع النخل يؤكل ظاهره وباطنه، فهو كالتفاح والكُمَّثرى. [فرعٌ: بيع الزروع في السنابل] ] : وأما السنبل: فإن كان الحب ظاهرًا، قال ابن الصباغ: وذلك كالشعير والذرة.. فيجوز بيعه في سنبله؛ لأنه معلومٌ بالمشاهدة، فهو كبيع الصبرة التي لا يعرف كيلها. وأما الحنطة في سنبلها: قال الشيخ أبو حامد: فإن باع الحنطة دون سنبلها.. لم يصح بيعها، قولاً واحدًا؛ لأن ذلك مجهولٌ. قال الصيمري: وهكذا إذا باع الحنطة في التبن بعد الدياس.. لم يصح، قولا واحدًا؛ لأن ذلك مجهول. وإن باع الحنطة مع سنبلها قبل الدياس.. فهل يصح؟ فيه قولان: قال في القديم: (يجوز) . وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحب حتى يشتد» ، ولأنه مستور بما هو من أصل الخلقة، فأشبه الرُّمان.

مسألة: بيع الصبرة

وقال في الجديد: (لا يصح) ؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» . وهذا غرر لا محالة. ولأنه مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يصح بيعه فيه، كتراب الصاغة. وأما بيع الأرز مع سنبله: فاختلف أصحابنا فيه: فذكر ابن القاص، وأبو علي الطبري: أنه بمنزلة الشعير؛ لأنه يدخر في قشره، وبقاؤه فيه من مصلحته. واختار هذا القاضي أبو الطيب. وقال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": هو كالحنطة. قال ابن الصباغ: وهذا موقوف على العادة في ذلك، والعادة ادّخاره في قشره. [مسألة: بيع الصبرة] إذا قال: بعتك هذه الصبرة.. صح البيع؛ لأنها معلومةٌ بالمشاهدة، ولأن الصبرة تتساوى أجزاؤها، بخلاف ما لو اشترى ثوبًا، رأى أحد جانبيه، أو رآه مطويًّا.. لم يصح بيعه على الأصح؛ لأن الغالب أنه يختلف؛ لأنه قد يكون أحد جانبيه مقصورًا، أو أغلظ، أو أحد طرفيه أعرض. وهل يكره بيع الصبرة جزافًا؟ فيه قولان: أحدهما: لا يكره؛ لأنها معلومةٌ بالمشاهدة. والثاني: يكره؛ لأنه ربما قدرها المشتري بنفسه أكثر من كيلها، وفي ذلك ضرب من الغرر. إذا ثبت هذا: ففيها عشر مسائل. إحداهن: إذا باعها جزافا.. فقد قلنا: يصح البيع وإن لم يذكر كيلها، سواء علم البائع قدر كيلها أو لم يعلم. وقال مالك: (إذا كان البائع يعلم قدر كيلها.. لم يصح بيعها حتى يبينه) .

دليلنا: أنه شاهد المبيع، فلم يفتقر إلى ذكر كيله، كما لو لم يعلمه البائع. الثانية: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، كل قفيز بدرهم.. صح البيع، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة: (يصح البيع في قفيز واحد دون الباقي) . دليلنا: أن ثمن كل قفيز معلوم، وجملتها معلومة بالمشاهدة، فإذا كالها عرف قدر الثمن، فصح، كما لو قال في المرابحة: بعتكه برأس مالي فيه، وهو كذا وكذا، والربح درهمٌ في كل عشرة.. فإنه يصح. الثالثة: إذا قال: بعتك عشرة أقفزة من هذه الصبرة، وهما يعلمان أنها أكثر من ذلك.. صح البيع. وقال داود: (لا يصح) . دليلنا: أنه باع مقدارًا معلومًا من جملة يصح بيعها، فأشبه إذا باع نصفها. وإن اختلفا من أي موضع يعطيه منها فالخيار إلى البائع؛ لأنه أعطاه منها. فإن هلكت الصبرة إلا قدر المبيع.. قال الطبري في " العدة ": لم يجب على البائع تسليم الباقي منها. وقال أبو حنيفة: (يجب عليه) . دليلنا: أن المشتري صار شريكًا للبائع في قدر المبيع، فما تلف منها.. تلف على شركتهما، كما لو ورثا منها عشرة أقفزة، ثم هلكت إلا عشرة أقفزة. الرابعة: إذا قال: بعتك نصف هذه الصبرة أو ثلثها أو ربعها، أو بعتكها إلا ثلثها، أو إلا ربعها.. صح البيع؛ لأن المبيع معلوم. الخامسة: إذا قال: بعتك من هذه الصبرة، كل قفيز بدرهم.. لم يصح البيع؛

لأن مِنْ: للتبعيض، وكلا: للعدد، فيكون ذلك العدد مجهولاً منها، فلم يصح. وكذا: لو قال: بعتك بعض هذه الصبرة.. لم يصح؛ لأن ذلك يقع على القليل والكثير، فلم يصح. السادسة: إذا قال بعتك هذه الصبرة، كل إردب بدرهم، على أن أزيدك إردبًّا.. فالبيع باطل؛ لأنه إن أراد بذلك: زيادة من غير هذه الصبرة، فإن قصد بذلك الهبة.. فقد شرط عقدًا في عقد، وذلك لا يجوز، وإن قصد بذلك أنه مبيع.. فهو مجهولٌ، ولو كان معلومًا.. لم يجز أيضا؛ لأن ذلك يؤدي إلى جهالة بالثمن في التفصيل؛ لأنه إذا زاده إردبًّا بغير ثمن.. فقد صار إردبًّا وشيئًا بدرهم؛ لأن جملة الصبرة لا يعلمان كيلها. وإن أراد: أنه يزيده إردبًّا منها، فكأنه لا يحتسب عليه بثمنه.. فقد فسد؛ للجهالة التي ذكرناها. السابعة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، كل إردب بدرهم، على أن أنقصك إردبًّا، وهما لا يعلمان قدرها.. لم يصح البيع؛ لأن معنى ذلك: على أن أحسب عليك ثم إردب، ولا أدفعه لك، فلم يصح؛ لأنه يكون بيع إردب بدرهم وشيء مجهول، والإردب: مكيالٌ بمصر يسع أربعة وعشرين صاعًا. الثامنة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، كل إردب بدرهم، على أن أزيدك إردبًا، أو أنقصك إردبًا.. فلا يصح البيع؛ لأنه لا يدري، أيزيدُهُ، أم ينقصه؟ التاسعة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، وهي عشرة أرادب، كل إردب بدرهم، على أن أزيدك إردبًّا، فإن أراد بذلك الزيادة من غيرها، وأطلق.. لم يصح لجهالته. وإن أراد به زيادة منها، كأنه لا يحتسب عليه ثمن واحد منها، أو أراد الزيادة من غيرها، وعيَّنه.. صح البيع؛ لأنهما إذا علما جملة الصبرة.. كان ما ينقص من الثمن معلومًا بزيادة الإردب.

فرع: بيع ما تختلف أجزاؤه

العاشرة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة، وهي عشرة أرادب، كل إردب بدرهم، على أن أنقصك إردبًا.. جاز؛ لأنه باعه تسعة أرادب بعشرة دراهم. [فرعٌ: بيع ما تختلف أجزاؤه] ] : إذا باع ما لا يتساوى أجزاؤه، مثل: الأرض والدار والثوب.. ففيه مسائل: منها: إذا قال: بعتك هذه الأرض، أو هذه الدار، أو هذا الثوب بكذا.. صح البيع وإن لم يعلما مبلغ ذرعان ذلك؛ لأنها معلومة بالمشاهدة. وكذلك: إذا قال: بعتك نصف ذلك، أو ربعه.. صح. وإن قال: بعتك جميع ذلك، كل ذراع بدرهم.. صح، وقال أبو حنيفة: (لا يصح في شيء منها، بخلاف الصبرة) . وقد مضى الدليل عليه في الصبرة. وإن قال: بعتك من ذلك، كل ذراع بدرهم.. لم يصح؛ لأن من للتبعيض. وإن قال: بعتك عشرة أذرع منها، وهما لا يعلمان مبلغ ذرعان الأرض والدار والثوب.. لم يصح؛ لأن الأجزاء مختلفة. وإن قال: بعتك عشرة أذرع منها، وهي مائة ذراع.. صح البيع في عشرها. وقال أبو حنيفة: (لا يصح) . دليلنا: أن عشرة من مائة عشرها، ولو قال: بعتك منها عشرها.. صح، وإن قال: بعتك من هاهنا إلى هاهنا، وبين الابتداء والانتهاء، في الأرض، والدار، والثوب الذي لا تنقص قيمته بالقطع.. صح البيع؛ لأنه معلوم. وإن قال: بعتك عشرة من هاهنا، ولم يبين الانتهاء.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأن ابتداءه معلوم، والسمت والجهة التي باع منها معلومان.

فرع: الاستثناء في البيع

والثاني: لا يصح؛ لأن الذرع قد ينتهي إلى موضع، يخالف موضع الابتداء.. فلم يصح. وإن كان الثوب ينقص قيمته بالقطع، فقال: بعتك من هاهنا إلى هاهنا، أو بين الابتداء دون الانتهاء، وقلنا: يصح.. فهل يصح في هذا؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وإليه ذهب ابن القفال في " التقريب " ـ: أن البيع يصح، كما قلنا في الدار والأرض، ولأنه قد رضي بما يدخل على نفسه من الضرر. والثاني ـ حكاه ابن القاصّ في " التلخيص " نصًّا، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره ـ: أنه لا يصح؛ لأنه لا يمكن تسليمه إلا بضرر يلحقهما، بخلاف الأرض والدار. قال ابن القاص: وهكذا إذا باع ذراعًا من أسطوانة من خشب.. فإنه لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى الضرر، وإن كانت من آخر.. جاز. قال ابن الصباغ: وهذا يفتقر إلى أن يشترطا انتهاء الذراع إلى انتهاء آخره، فلا يلحقه الضرر بذلك، فأما إذا كان انتهاؤه إلى بعضها: فإن في كسرها ضررًا. [فرعٌ: الاستثناء في البيع] إذا استثنى معلومًا من مجهول في البيع، مثل: أن يقول: بعتك ثمرة هذا البستان إلا قفيزا منها، أو هذه الصبرة إلا قفيزًا منها، وهما لا يعلمان قفزانها، أو هذه الدار،

أو هذا الثوب إلا ذراعًا منه، وهما لا يعلمان عدد الذرعان.. لم يصح البيع، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك رحمة الله عليه: (يصح البيع) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع المزابنة والمحاقلة والثنيا» ، يعني: الاستثناء. وظاهر هذا: أن الاستثناء لا يجوز في البيع إلا ما قام عليه الدليل، ولأن المبيع غير معلوم بالمشاهدة، ولا بالأجزاء، فلم يصح، كما لو قال: بعتك بعضها. وإن كانا يعلمان مبلغ قفزان الصبرة وذرعان الثوب والدار، فقال: بعتك هذه الصبرة إلا قفيزًا منها، أو هذه الدار، أو هذا الثوب إلا ذراعًا منه.. صح البيع في الدار والصبرة والثوب إلا قدر المستثنى، فإنه غير مبيع. فإن كان مبلغ قفزان الصبرة عشرة.. صح البيع في تسعة أعشار الصبرة. وهكذا في الدار والثوب إذا كانا عشرة أذرع.. صح البيع في تسعة أعشاره. وإن قال: بعتك قفيزًا من هذه الصبرة إلا مكوكًا.. صح البيع؛ لأنّ المكوك دون القفيز، وكل واحد منهما معلوم. وإن قال: بعتك هذه الصبرة بأربعة آلاف درهم إلا ما يخص ألفا، أو إلا بألف.. صح البيع في ثلاثة أرباع الصبرة بثلاثة آلاف درهم؛ لأن هذا معلوم. وإن قال: بعتكها بأربعة آلاف درهم إلا ما يساوي ألفًا.. لم يصح البيع؛ لأن ما يساوي ألفا مجهول.

فرع: فيما يباع بأوعيته

[فرعٌ: فيما يباع بأوعيته] إذا باع سمنًا أو دهنًا في ظرف من زق، أو فخار، وكان مفتوح الرأس.. صح البيع؛ لأنه لا تختلف أجزاؤه، وكذلك إن باع رطلا منه، أو جزءًا معلومًا منه.. صح، كما قلنا في الصبرة. فأما إذا قال: بعتك هذا السمن، كل رطل منه بدرهم، على أن يوزن الظرف معه، ويحتسب له بوزنه، ولا يكون مبيعًا.. فالبيع باطل؛ لأنه شرط في بيع السمن أن يزن معه غيره.. فلم يجز، كما لو قال: بعتك هذا الطعام، كل مكيال بدرهم، على أن أكيل معه شعيرًا. قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون إذا علما وزن السمن والظرف.. أن يجوز، ويكون بمنزلة من يقول: على أن أنقصك إردبًّا، وأحتسب ثمنه عليك؛ لأنهما إذا علما ذلك.. فقد علما قدر الزيادة على ثمن الرّطل. فأمّا إذا قال: بعتك كل رطل بدرهم، على أن يوزن معه الظرف، ثم يحط عنه الظرف.. قال الشيخ أبو حامد: صح لمعنيين: أحدُهما: أنه إذا حطَّ الظرف.. صار كأنه باع كل رطل بدرهم بلا ظرف. والثاني ـ قاله أبو إسحاق ـ: أن الناس يتبايعون هكذا في الغالب، فصح لذلك. فإن قال: بعتك السمن مع ظرفه بعشرة دراهم.. صح البيع؛ لأن السمن متميزٌ عن الظرف، فصحّ، كما لو باع طعامًا مشعورًا.

فرع: بيع النحل في الخلية

فإن قيل: فهلاَّ قلتم: لا يجوز، كما قلتم إذا باع لبنًا مشوبًا بالماء؟ قيل: لا نقول ذلك، والفرق بينهما: أن المقصود هناك اللبن، وهو ممزوجٌ بغيره، وليس كذلك هاهنا؛ لأن المقصود منه السمن، وهو متميز عن غيره. فأمّا إذا قال: بعتك هذا السمن مع الظرف، كلّ رطل بدرهم، فإن كانا يعلمان مبلغ وزن كل واحدٍ منهما.. جاز؛ لأنه لا غرر فيه؛ لأن الظرف هاهنا معلوم. وإن كانا لا يعلمان وزن كلِّ واحدٍ منهما.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يصح البيع؛ لأن المقصود منه السمن، وقدره مجهول. والثاني ـ وهو قول الداركي، واختيار ابن الصباغ ـ: أنه يصح؛ لأنه في التفصيل معلوم، كما لو كان جنسًا واحدًا؛ ولأنه قد رضي بكل رطل من كل واحد منهما بدرهم، فصح، كما لو باع كل رطل من الظرف منفردًا بدرهم. [فرعٌ: بيع النحل في الخلية] وهل يجوز بيع النحل في الكُنْدُوجِ؟ في وجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس بن سريج: يصح؛ لأنه يشاهد عند الدخول والخروج.

مسألة: بيع ما في الأرحام

و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح؛ لأن من النحل ما لا يفارق الكندوج، وقد يكون فيه عسل لا يدرى كم قدره، فإن خرج فرخه، وشوهد جميعه على غصن، أو غيره.. صح بيعه؛ لأنه معلوم مقدور على تسليمه، فصح العقد عليه. [مسألة: بيع ما في الأرحام] ] : ولا يجوز بيع الحمل في البطن؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع المجر» . قال أبو عبيد: هو بيع ما في الأرحام. وقال ابن الأعرابي: (المجر) : الولد الذي في بطن الناقة، والمجر: الربا، والمجر: القمار، والمجر: المحاقلة والمزابنة. وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الملاقيح والمضامين» .

فرع: بيع الملاقيح

قال أبو عبيد: (الملاقيح) : ما في البطون، وهي الأجنة، الواحدة منها ملقوحة، اشتقت من قولهم: لقحت الناقة، ولهذا تسمى الرياح، اللواقح. وأمّا (المضامين) : فهو ماء الفحول، وكانوا يبيعون ما في بطن الناقة، وما يضربه الفحل في عام أو أعوام، وأنشد: إنَّ المضامين التي في الصلب ... ماء الفحول في ظهور الحدب وإنَّما: سميت: مضامين؛ لأن الله تعالى ضمن ما فيه. [فرعٌ: بيع الملاقيح] ] : فإن باع حيوانًا، وشرط أنه حاملٌ.. فهل يصح البيع؟ فيه قولان: إن قلنا: إن الحمل له حكمٌ.. صح البيع. وإن قلنا: لا حكم له.. لم يصح البيع. وإن باعها، وشرط أنها تضع بعد شهر، أو مدة عيَّنها.. قال ابن الصباغ: لم يصح البيع، قولاً واحدًا؛ لأنه شرط ما لا يقدر عليه، فأبطل العقد.

مسألة: بيع اللبون

[مسألة: بيع اللَّبون] وإن باع حيوانًا على أنّها لبون.. صح البيع. وقال أبو حنيفة: (لا يصح) . دليلنا: أنّه يتحقق وجوده في الحيوان، ويأخذ قسطًا من الثمن، فجاز شرطه، بخلاف الحمل. وإن شرط أنها تحلُبُ كل يوم كذا.. فهل يصح البيع؟ فيه وجهان، بناءً على القولين في شرط الحمل. وإن باع اللبن مفردًا في الضرع.. لم يصح البيع. وقال سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يصح. دليلنا: ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع اللبن في الضرع، والصوف على الظهر» . وقد روي هذا الخبر موقوفًا على ابن عبّاس. ولأن اللبن في الضرع مجهول؛ لأن الضرع قد يكون لحيما.

فرع: بيع الشيء وتابعه

وعنده: أن ذلك لبنٌ، وربما مات الحيوان قبل أن يحلب اللبن، فينجس اللبن. قال الشيخ أبو حامد: ولا أعرف في ذلك خلافًا، ولا في بيع الحمل في البطن. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\224] : فإن حلب شيئًا من اللبن.. فهل يجوز بيع الباقي في الضرع؟ فيه وجهان. [فرعٌ: بيع الشيء وتابعه] ] : وإن قال: بعتك هذه الشاة وفيها لبن، أو بعتك هذه الجبة وفيها حشو.. فإن اللبن والحشو يدخلان في البيع بالإطلاق. وإن قال: بعتك هذه الشاة ولبنها، أو هذه الجبة وحشوها.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال ابن الحدَّاد: لا يصح البيع؛ لأن ذلك مجهول، ولا يجوز إفراده بالبيع، فلم يجز شرطه في البيع، كما لو قال: بعتك هذه الجارية وحملها. و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يصح البيع؛ لأنه يدخل في البيع بالإطلاق، فجاز شرطه في البيع، كما لو قال: بعتك هذا الجوز ولبّه، وهذه الرمانة وحبّها. وأما الحمل: فإذا قلنا: للحمل حكمٌ، ويجوز شرطُه في البيع.. جاز أن يقول: بعتك هذه الجارية وحملها. وإن قلنا: لا حكم له، ولا يجوز شرطه في البيع.. فلا يجوز أن يقول: بعتكها وحملها؛ لأنه لا يعلم، ولا يتيقن، بخلاف الحشو، فإنه يتيقن، ولهذا لا بد أن يعلما في البيع ما الحشو. قال القاضي أبو الطيب: وينبغي إذا قال: بعتك هذا الجوز ولبه، وهذه الرمانة وحبّها.. أن يكون على هذا الخلاف أيضًا. [مسألة: بيع الصوف قبل الجزّ] ّ] : ولا يجوز بيع الصوف على ظهر الحيوان، وبه قال أبو حنيفة. وذهب ربيعة، ومالك، والليث: إلى جوازه.

مسألة: البيع صورة بكتابة العقد

دليلنا: ما ذكرناه من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأنه لا يخلو: إما أن يشترط حلقه، أو جزّه. فإن شرط حلقه.. لم يجز؛ لأنه يؤدي إلى تعذيب الحيوان. وإن شرط جزّه.. فالجز يختلف ويتفاوت، وذلك لا يمكن ضبطه، ولأنه قد يوجد في وقت أقل مما يوجد في وقت، وليس له عادة مستقرة، بخلاف الجزة من الرّطبة؛ لأنه لا يخاف تعذيبها، ويمكن استيفاؤها، ولأنه قد يموت الحيوان قبل الجز، فينجس الصوف، على الصحيح من المذهب، بخلاف الجزة من الرطبة، فإنه لا يخاف ذلك. [مسألة: البيع صورة بكتابة العقد] وبيع التلجئة: هو أن يتفقا على أن يظهرا العقد خوفا، أو لغير ذلك، فإنه يلجئه وليس بيع، ثم بعد ذلك يتبايعان، فإذا تبايعا.. صح البيع، ولا يمنعه الاتفاق السابق. وكذلك: إذا اتّفقا أن يتبايعا بألف، ويظهرا ألفين، فتبايعا بألفين فإنّ البيع يلزم بألفين، ولا يؤثر فيه الاتفاق السابق، وهكذا رواه أبو يوسف، عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وروى محمد، عن أبي حنيفة: (أنه لا يصح البيع إلا أن يتفقا على أن الثمن ألف درهم، فيتبايعا بمائة دينار، فيكون الثمن مائة دينار، استحسانًا) . وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمّد؛ لأنه إذا تقدم الاتفاق.. صارا كالهازلين بالعقد. دليلنا: أن الشرط السابق لحالة العقد لا يؤثر فيه، فهو كما لو اتفقا على شرط فاسد، ثم عقدا العقد، فإنه لا يبطل العقد.

مسألة: لا بيع بلا ثمن

[مسألة: لا بيع بلا ثمن] ولا يصح البيع إلاَّ بثمن معلومٌ، إما بالمشاهدة، أو بالوصف؛ لأنه أحد عوضي البيع، فاشترط العلم به، كالمثمن، فإن قال: بعتك بهذا الدينار، وهما يُشاهدانه.. صح البيع. وإن قال: بعتك بالدينار الذي في بيتي، أو في همياني، فإن كانا قد شاهداه.. صح البيع، وإن لم يكونا شاهداه، أو لم يشاهده أحدهما.. فهو كما لو باعه عبدًا لم يشاهداه، أو لم يشاهده أحدهما، على الخلاف في بيع خيار الرؤية. وإن قال: بعتك بدينار في ذمتك، فإن كانا في بلد لا نقد فيه، أو في بلد فيه نقودٌ متفاوتة.. لم يصح البيع؛ لأنه عوض مجهول، وإن كانا في بلد فيه نقد غالب.. صح البيع وحمل عليه؛ لأن الإطلاق ينصرف إليه، وإن كان في بلد في نقود متفقة على حد واحد.. فوجهان، حكاهما الصيمري، أظهرهما: أنه يصح البيع. ولو تعاملا بنقد بلد فيه، ثم لقيه ببلد آخر، ولا يتعامل الناس فيه بذلك النقد، فأعطاه ما عقدا به، فامتنع من له الدين من أخذها.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الصيمري. أحدها ـ وهو الصحيح ـ: أنه يلزمه أخذها؛ لأنه لم يجب عليه له غير ذلك. والثاني: لا يلزمه أخذها، كما لو أعطاه إياها في موضع مخوف. والثالث: إن كان أهل البلد الذي يعطيه إيّاها بها لا يتعاملون بها أصلا.. لم يلزمه أخذها. وإن كانوا يتعاملون بها بوكس.. لزمه أخذها. وإن تبايعا بنقد، ثم حرم السلطان المعاملة به قبل قبضه.. قال الصيمري، والطبري في " العدة ": وجب تسليم ذلك النقد. وقال أحمد: (يلزم تسليم قيمته) .

فرع: البيع بدراهم رديئة

دليلنا: أن المعقود عليه قائم مقدور على تسليمه، فلزمه تسليمه، كما قبل التحريم. [فرعٌ: البيع بدراهم رديئة] ] : إذا قال بعتك بألف درهم مكسرة.. قال الصيمري: فقد قال أكثر أصحابنا: يصح. قال: وأظنهم أجازوا ذلك إذا تقاربت قيم المكسرة، فأما إذا اختلفت قيمتها ـ وهي هكذا في وقتنا مختلفة ـ فلا يصح. قال: وإن قال: بعتك بألف مثلمة أو مثقبة.. لم يجز، إذ لا عادة لها معروفة، وإن قال بعتك بألف صحاح ومكسرة.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه باطل حتى يتبين قدر كل واحد منهما. والثاني: يصح، فيجعل من كل واحد منهما النصف. [فرعٌ: البيع بنقدين] ] : وإن قال: بعتك بدينار إلا درهمًا.. لم يصح البيع؛ لأن قدر الدرهم من الدينار مجهولٌ، بخلاف الإقرار؛ لأنه يصح بالمجهول. هذا هو المشهور. وحكى الصيمري وجهًا آخر: إذا كانا يعلمان قيمة الدينار من الدرهم.. صحّ البيع. وإن قال: بعتك بألف درهم من صرف عشرين درهما بدينار.. لم يصح؛ لأن المسمى هي الدراهم، وهي مجهولةٌ؛ لأن وصف قيمتها لا تصير به معلومة. وإن كان نقد البلد صرف عشرين درهمًا بدينار.. لم يصح أيضًا؛ لأن السعر يختلف، ولا يختص ذلك بنقد البلد. قال ابن الصبّاغ: وكذلك يفعل الناس هكذا الآن، يسمون الدراهم، وإنما

فرع: الشراء بأجزاء الدينار

يتبايعون بالدينار، ويكون كل قدر معلوم من الدراهم عندهم دينارًا، وهذا لا يصح؛ لأن الدراهم لا يعبر بها عن الدنانير حقيقة ولا مجازًا، ولا يصح البيع عندهم بالكناية. [فرعٌ: الشراء بأجزاء الدينار] ] : إذا اشترى رجل من رجل ثوبًا بنصف دينار.. لزمه تسليم نصف دينار شق، ولا يلزمه تسليم نص دينار صحيح، فإن أعطاه دينارًا صحيحًا نصفه عمّا عليه، ونصفه وديعة عنده، وتراضيا على ذلك.. جاز، فإذا تراضيا، فأراد أحدهما قيمته، وأراد الآخر كسره، وامتنع الآخر.. لم يجبر على ذلك؛ لأنها قسمة إضرار، وإن امتنع من له نصف الدينار من قبض الدينار الصحيح.. لم يجبر على قبضه؛ لأن عليه ضررًا في الشركة. فإن باعه ثوبًا آخر بنصف دينار.. لزمه شقا دينار، فإن أعطاه دينارًا صحيحًا عنهما.. فقد زاده خيرًا، فيلزمه قبوله. وإن باعه الثاني بنصف دينار، على أن يسلم إليه عنه وعن الأول دينارًا صحيحًا، فإن كان البيع الثاني بعد إبرام البيع الأول.. بطل الثاني؛ لأنّه شرط ما لا يلزمه في الثاني، ولا يبطل الأول. وإن كان البيع الثاني في حال خيار الأول.. بطل البيعان، على الصحيح من المذهب. قال الصيمري: وإن قال: بعتك هذا الثوب بنصفي دينار.. لزمه تسليم دينار مضروبٍ؛ لأن ذلك عبارة عن دينار. وإن قال: بعتك هذا بنصف دينار وثلث دينار وسدس دينار.. لم يلزمه أن يعطيه دينارًا صحيحًا.

فرع: البيع بنقد مغشوش

[فرعٌ: البيع بنقد مغشوش] ] : وإن باعه أرضًا، أو ثوبًا، أو عرضًا بنقد مغشوش.. نظرت: فإن كان الغش مستهلكًا، وهي الدراهم الزرنيخيّة، التي غِشُّها الزرنيخ والنُّورة ـ ومعنى قولنا: (مستهلكًا) إذا صفيت وسبكت.. لم يكن لغشها قيمة ـ فإن البيع يصح فيها؛ لأن الفضة التي عليها لا تختلط بالغش، وإنما هي مطلية عليه، فصح البيع. وإن كان الغش غير مستهلك ـ وهي الدراهم التي هي مغشوشة بالصفر والنحاس، ودنانير الذهب التي غشّت بالفضة ـ فهل يصح البيع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن المقصود منها غير متميز عما ليس بمقصود، فلم يصح البيع، كما لو شيب اللبن بالماء، وبيع، فإنه لا يصح، ولهذا لم يجوز الشافعي بيع تراب الصاغة وتراب المعادن لهذا المعنى، فكذلك هذا مثله. والثاني: يصح، وهو الأصح؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (من زافت عليه دراهمه.. فليأت بها السوق، وليقل: من يبيعني بها سحق ثوب، أو كذا، أو كذا، ولا يحالف الناس عليها: أنّها جياد) . والسحق من الثياب، الخلق منها؛ ولأن المنع من ذلك يؤدِّي إلى الإضرار؛ لأنه لا يمكنه الانتفاع بها جملةً. قال الصيمري: ولا يثبت هذا النقد في الذمة. وأما بيع بعضها ببعض: فلا يجوز، وجهًا واحدًا، ونحن نذكر ذلك في الربا إن شاء الله

مسألة: بيع المرقوم

فإن تبايعا بها، وقلنا: إنه صحيح، ثم بان أن فضتها يسيرة جدًّا.. فهذا عيب فيه، فله الرد. قال الصيمري: وكان شيخنا أبو الفياض يخرج ذلك على وجهين: أحدهما: لا رد له؛ لأن عيبها معلوم في الأصل. والثاني: له الرد؛ لأنه بان أن غشها أكثر من المعتاد. [مسألة: بيع المرقوم] ] : إذا قال رجلٌ لآخر: بعتك هذه السلعة برقمها، أو مما باع به فلان سلعته، وهما لا يعلمان قدر ذلك وقت العقد.. لم يصح البيع؛ لأنه مجهول. وهذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة " [ق\225] : إذا باعه السلعة برقمها، وهما لا يعلمان قدره، ثم أعلمه إياه في مجلس البيع قبل التفرق.. فهل يصح؟ فيه وجهان، الأصح: أنه لا يصح. وإن اشترى أرضًا، أو ثوبًا بملء كفِّه دراهم أو دنانير، وهما لا يعلمان عددها.. صح البيع. وقال مالكٌ: (لا يصح) . وجوز ذلك في النقرة والتبر والحلي. دليلنا: أنه معلومٌ بالمشاهدة، فصح كالصبرة والنقرة. وإن قال: بعتك هذه الغنم، كل شاة بدينار، وهما لا يعلمان عددها وقت البيع.. صح العقد. وقال داود: (لا يصح) . دليلنا: أن غرر الجهالة بالثمن ينتفي بعد عدها، فصح.

فرع: بيع العربان

[فرعٌ: بيع العربان] ] : و: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع العربان» . قال القتيبي: هو أن يشتري الرجل السلعة، فيدفع درهمًا أو دينارًا، على أنه إن أخذ السلعة بالبيع.. كان المدفوع من الثمن، وإن لم يتم البيع، وردّ السلعة.. كان المدفوع هبة للبائع، ولم يسترجعه منه. قال: ويقال: عربان، وعُربون، وأربان، وأربون، والعامة تقول: عَربون، وهو غير جائز. وقال أحمد: (يصح هذا البيع) . دليلنا: أنه شرط أن يكون للبائع شيء بغير عوض، فلم يصح، كما لو شرطه لأجنبي. [فرعٌ: البيع لاثنين دفعة] إذا كان لرجلٍ عبدٌ، فقال لرجلين: بعتكما هذا العبد بألفٍ، فقالا: قبلنا.. صح البيع؛ لأن الثمن ينقسم على أجزائه، ويكون لكل واحد منهما نصفه بخمسمائة، فإن قال أحدهما: قبلت دون الآخر.. كان له نصف العبد بخمسمائة؛ لأن إيجابه لاثنين بمنزلة العقدين. وإن كان له عبدان، فقال: بعتك يا زيد هذا، وبعتك يا عمرو هذا بألف، فقالا:

فرع: البيع بنقدين غير معينين

قبلنا.. فقد ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن كاتب عبدين على مال واحد قولين: أحدهما: لا يصح؛ لأن العقد الواحد مع الاثنين عقدان، فإذا لم يبين العوض لكل واحد منهما.. كان مجهولاً، فلم يصح. والثاني: يصح، وينقسم العوض عليهما على قدر قيمتيهما. فقال أبو سعيد الإصطخري: هذا في الكتابة، فأما في البيع: فلا يصح، قولا واحدًا؛ لأن الكتابة لا تفسد بفساد العوض، بخلاف البيع، فإنه يفسد بفساد العوض، فلم يصح. وقال العباس: بل هما سواء، فتكون المسألة على قولين، وهو الصحيح؛ لأن الكتابة أيضا تفسد بفساد العوض. فأمّا إذا قال: بعتكما هذين العبدين بألف، فقالا: قبلنا.. صح البيع، قولاً واحدًا، ويكون لكل واحدٍ منهما نصف العبدين بخمسمائة، كما لو باعهما من رجلٍ واحدٍ، فأمَّا إذا قال أحدُهما: قبلتُ نصفهما بخمسمائة.. صحّ؛ لأنه قبل فيما أوجب له. وهكذا: لو قال أحدهما: قبلتُ، وأطلق، ولم يقبل الآخر.. صح البيع للقابل في نصفهما بخمسمائة؛ لأن إطلاق القبول يرجع إلى مطلق الإيجاب. وإن قال أحدهما: قبلت أحد العبدين، أو قبلت هذا بخمسمائة.. لم يجز؛ لأنه أوجب لهما في العبدين نصفين بينهما، فلا يجوز أن يقبل في أكثر مما أوجب له. وإن قال أحدهما: قبلت نصف أحد هذين العبدين، أو نصف هذا بحصته من الألف.. لم يصح؛ لأنه قبل في بعض ما أوجب له فيه، فقد بعض الصفقة، ولأن حصته من الثمن مجهولة. [فرعٌ: البيع بنقدين غير معينين] ] : إذا قال: بعتك هذا العبد بألف مثقال ذهبًا وفضةً، فقال: قبلت.. لم يصح البيع.

مسألة: بيع مجهول القدر

وقال أبو حنيفة: (يصح البيع، ويكون الثمن نصفين منهما) . دليلنا: أن قدر كل واحد منهما مجهول، فلم يصح العقد، كما لو قال: بعضها ذهب، وبعضها فضة. ولا يجوز البيع بثمن مؤجل إلى أجل مجهول؛ لأنه عوض في البيع، فلم يجز إلى أجل مجهول، كالمسلم فيه. [مسألة: بيع مجهول القدر] إذا باع شاة مذبوحة قبل السلخ.. قال الطبري: فلا يختلف المذهب: أنّه لا يصح البيع، سواءٌ باع اللحم والجلد، أو اللحم دون الجلد؛ لأنه إذا باع اللحم دون الجلد فهو مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يصح، كما لو باع ما في تراب المعدن، أو تراب الصاغة. وإن باع اللحم مع الجلد.. فالمقصود منه اللحم دون الجلد، وهو مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، بخلاف الجوز مع اللب، فإنه مستورٌ بما له في مصلحةٌ. وإن سلخ اللحم، وجعله في الجلد، فباعه من غير رؤية.. فهو على الخلاف الذي مضى في بيع خيار الرؤية. إذا ثبت هذا: فإن ابن القاص قال: إذا باع الشواء المسموط، أو السخلة الصغيرة، وهي مذبوحة، قبل سلخها.. فإن ذلك يصح؛ لأن الجلد فيها مأكولٌ، فهو كالدجاجة المذبوحة إذا بيعت في جلدها. قال القفال: وهكذا لو باعها بعد السمط، وقبل الشواء.. فإن ذلك يصح بيعه؛ لأنه من جملة اللحم.

مسألة: تعليق البيع

قال أبو علي السنجي: وكذلك الرؤوس والأكارع المشوية، وغير المشوية، يصح بيعها وعليها جلدها؛ لأنه مأكول. [مسألة: تعليق البيع] ] : ولا يجوز تعليق البيع على شرط مستقبل، بأن يقول: إذا جاء رأس الشهر، أو إذا طلعت الشمس.. فقد بعتك عبدي؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» . وهذا غرر. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أخبرني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الملامسة وبيع المنابذة» . قال أصحابنا: فأما (الملامسة) : فلها ثلاث تأويلات: إحداهنّ: أن يبيعه شيئًا في ظلمةٍ لا يشاهدُهُ، وإنّما يلمسه بيده، ويكون لمسه له كالمشاهدة، ولا خيار له بعد ذلك.. فهذا لا يجوز؛ للخبر، ولأنه مبيعٌ مجهول الصفة.

والثاني: أن يبيعه ثوبًا على أنه إذا لمسه.. فقد وجب البيع ولا خيار له في المجلس فلا يجوز البيع؛ للخبر، ولأنه شرط ينافي مقتضى العقد. والثالث ـ حكاه ابن الصباغ ـ: وهو أن يطرح الثوب على المبتاع، فيلمسه، فإذا لمسه.. فهو عقد الشراء، فلا يصح البيع؛ للخبر، ولأن اللمس لا يكون عقدًا. وأمّا (المنابذة) : فلها تأويلان: أحدهما: أن يقول: أي ثوب نبذت إلي.. فقد اشتريته بمائة، أو أي ثوب نبذت إليك.. فقد بعتكه بمائة، فلا يجوز؛ للخبر، ولأن المبيع مجهول. والثاني: أن يقول: بعتك هذا الثوب، على أنّي متى نبذته إليك.. فقد لزم العقد ولا خيار لك. ولا يجوز بيع الحصاة؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحصاة» . وله ثلاث تأويلات، حكاها الشيخ أبو حامد: إحداهن: أن يقول: أي ثوب رميت عليه حصاة.. فقد بعتكه بمائة، فلا يصح؛ للخبر، ولأن المبيع مجهول. والثاني: أن يقول بعتك هذا الثوب بمائة، على أني متى رميتُ عليك حصاةً.. فقد انقطع خيار المجلس، فلا يصح؛ للخبر، ولأنه شرط ينافي مقتضى العقد. والثالث: أن يقول: بعتك من هذه الأرض من هاهنا إلى الموضع الذي تنتهي إليه حصاة ترميها، أو أرميها فلا يجوز؛ للخبر، ولأنه بيع مجهول. ولا يجوز بيع حبل الحبلة؛ لما روى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع حبل الحبلة» .

قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (هو بيع كان يتبايعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم ينتج الذي في بطنها) . وإلى هذا التفسير ذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال أبو عبيد: هو بيع نتاج النتاج. قال الشيخ أبو حامد: وهذا أظهر في اللغة، والأول أظهر في الخبر، وأيهما كان.. فلا يصح؛ لأن البيع في التفسير الأول إلى أجل مجهول، وفي الثاني بيع معدوم مجهول. ولا يجوز بيعتان في بيعةٍ؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيعتين في بيعة واحدة» . وله تأويلان:

مسألة: تحرم مبايعة من ماله حرام

أحدهما: أن يقول: بعتك عبدي هذا بمائة، على أن تبيعني دارك بمائة، فلا يصح؛ للخبر، ولأنه سلم في عقد، وذلك لا يجوز. والثاني: أن يقول: بعتك عبدي هذا بألف حالة، أو بألفين نسيئة، فلا يصح. وقال ابن سيرين: يلزمه البيع بأكثرهما. وهذا لا يصح؛ لأنه لم يعقد على ثمن معلوم. [مسألة: تحرم مبايعة من ماله حرام] ] : ولا يجوز مبايعة من يعلم أن جميع ماله حرامٌ؛ لما روى أبو مسعود البدري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مهر البغي، وحلوان الكاهن» . و (البغي) : الزانية، قال الله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] [مريم: 28] . وأما (حلوان الكاهن) : فهو ما يعطى الكاهن ويجعل له رشوة على كهانته، يقال منه: حلوت الرجل أحلوه حلوانًا: إذا حبوته بشيء، قال الشاعر: كأني حلوت الشعر يوم مدحتُهُ ... صفا صخرة صماء يبس بلالها فجعل الشعر حلوانًا مثل العطاء.

وأما مبايعة من معه حلال وحرام من مكس أو ربا: قال الشيخ أبو حامد: وكذلك أخذ الجوائز من السلطان، فإن ذلك على ثلاثة أضرب: الأول: أن يشتري منه، أو يأخذ منه ما يعلم أنه حرام، فهذا لا يجوز، ولا يملكه إذا أخذه، ويجب عليه ردُّه إلى مالكه. والثاني: أن يشتري منه، أو يأخذ منه ما يعلم أنه حلالٌ، إما من إرث، أو اتّهاب، أو غير ذلك، فيصح ذلك، ويكون ما يأخذه حلالاً. الثالث: إذا كان يشك في ذلك، أهو من الحلال، أم من الحرام؟ فالأولى أن لا يبايعه، ولا يأخذ منه؛ لما روى النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات.. استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات.. وقع في الحرام، كالرَّاعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإنّ حمى الله محارمه» . وروى الحسنُ بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الخير في الطمأنينة، والشر في الريبة» .

«وروى أبو أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قلت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما المؤمن؟ قال: "المؤمن من سرّته حسنته، وساءته سيئته". قال: قلت: وما الإثم؟ قال: ما حاك به صدرك، فدعه» . وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (دعوا الربا والريبة) . فإن بايعه وأخذ منه.. صح البيع، وحلّ له ما يأخذه منه. وقال مالك رحمة الله عليه: (إذا علم أن أكثر ماله حرام.. لم يجز مبايعته، ولا الأخذ منه، وإن كان الأكثر منه حلالاً.. جاز) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي على شعير

أخذه منه» . وأنه كان يعلم أن اليهود يتصرفون في الخمر والرّبا وغير ذلك. وروي: أن رجلاً سأل ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: إن لي جارًا يُربي، فهل لي أن آخذ منه؟ فقال: (لك مهنؤه، وعليه مأثمه) . وروي: (أن بعض السلاطين وهب من عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثيابًا، قيمتها خمسون ألف درهم فردّها، فشفع إليه.. فقبلها) . ولأن الظاهر مما في يده أنّه ملكه.

فرع: كراهة بيع الشيء لمن يعصي به

قال الشيخ أبو حامد: لأن المشكوك فيه على ثلاثة أضرب: ضربٌ: أصله على الحظر. وضربٌ: أصله على الإباحة. وضربٌ: لا أصل له في الحظر ولا الإباحة. فأمّا الذي أصله على الحظر: مثل: أن يجد شاةً مذبوحة في بلد عبدة الأوثان، أو المجوس، أو في موضع يساوي فيه أهل الشرك والإسلام، فإنه لا يجوز شراؤها، ولا يحل أكلها؛ لأن أصلها على الحظر، وإنما تستباح بالذكاة، ويحتمل أن يكون ذكاها مسلم، ويحتمل أني كون ذكاها مجوسي، أو وثني، وليس أحدهما بأولى من الآخر، والأصل الحظر، وإن وجدها في بلاد الإسلام، أو في موضع أكثر أهله المسلمون.. فيجوز أكلها؛ لأنه يغلب على الظن أنّها ذبيحة مسلم. وأما الذي أصله الإباحة: فهو الماء إذا وجدَه متغيرًا، ولم يعلم بأي شيء تغيره.. فلا يحكم بنجاسته؛ لأن أصله على الإباحة. وأمّا ما لا أصل له في الحظر والإباحة: فهو المال، فمن أكثر ماله حرامٌ، أو تساوى عنده الحلال والحرام.. فيحتمل الذي يؤخذ منه أنه حرامٌ، ويحتمل أنّه حلال، وليس له أصلٌ في الحظر والإباحة، فهذا يكره الأخذ منه، وابتياعه، فإن ابتاعه.. صحّ؛ لأنّ الظاهر أنه ملكه. [فرعٌ: كراهة بيع الشيء لمن يعصي به] ] : ويكره بيع العنب ممن يعصره خمرًا، وبيع السلاح ممن يعصي الله تعالى به؛ لأن فيه إعانة على المعصية، فإن باع منه.. صح البيع؛ لأنه قد لا يعصره خمرًا، وقد لا يعصي الله في السلاح. قال ابن الصبّاغ: وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إذا اعتقد البائع أنه يعصره خمرًا.. فبيعه منه حرامٌ، وإنما يكره إذا كان يشك. قال الشيخ أبو حامد: فإن باعه ليتخذه خمرًا.. فإنه محرمٌ؛ لأنه أعان على

فرع: حرمة بيع العبد المسلم والمصحف لكافر

المعصية، وهو داخل تحت قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله الخمرة، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها» . والبيع جائز، أي: صحيح، فإن باعه على أن يتخذ منه الخمر.. فالبيع باطل. [فرعٌ: حرمة بيع العبد المسلم والمصحف لكافر] ولا يجوز أن يبيع العبد المسلم أو المصحف من الكافر؛ لأنه يعرض المسلم للصغار، والمصحف للابتذال، وكذلك لا يجوز أن تباع منهم كتب السنن والفقه. وحكى الصيمري، عن الشيخ أبي حامد: أنه قال: يجوز أن تباع منهم كتب أبي حنيفة؛ لأنه لا آثار فيها، ولا يجوز أن تباع منهم كتب أصحابه؛ لأنها متضمنة للآثار، فإن باع منهم ما لا يجوز بيعه من ذلك.. فهل ينعقد البيع؟ فيه قولان: أحدهما: لا ينعقد، وبه قال أحمد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] [النساء: 141] ، ولأنه عقد منع منه لحرمة الإسلام، فلم يصح، كتزويج المسلمة من الكافر، وفيه احترازٌ من النجش والبيع على بيع أخيه. والثاني: يصح البيع، وبه قال أبو حنيفة، وهو الأظهر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] [البقرة: 275] ، ولأنه سبب يملك به العبد الكافر، فملك به العبد المسلم، كالإرث. فإن قلنا بهذا: فهل يمكن الكافر من قبضه بنفسه، أو يؤمر بأن يؤكل مسلما، ليقبضه له؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\226] . ولا يقر على ملكه، بل يؤمر بإزالة ملكه عنه؛ لأن في ذلك إذلالا للإسلام.

مسألة: إعتاق الكافر المسلم

فإن باعه من غيره، أو رهنه، أو أعتقه.. قبل منه، وإن رهنه، أو أجره، أو زوجه.. لم يقبل منه ذلك؛ لأن ذلك لا يزيل ملكه عنه، وإن كاتبه.. ففيه قولان: أحدهما: يقبل منه؛ لأن بالكتابة يصير كالخارج عن ملكه. والثاني: لا يقبل منه؛ لأن الكتابة لا تزيل ملكه، فهي كالتزويج. فإذا قلنا: لا ينعقد ابتياع الكافر للعبد المسلم، فوكل المسلم كافرًا ليشتري عبدًا مسلمًا.. ففيه وجهان: [الأول] : قال القاضي أبو الطيب: لا يصح، كما لا يصح أن يكون الكافر وكيلا للمسلم، ليتزوج له مسلمة. و [الثاني] : قال ابن الصباغ: يصح، كما يصح للفاسق أن يكون وكيلا في البيع، وإن لم يصح أن يكون وليًّا للنكاح. وإن اشترى الكافر أباه المسلم، أو ابنه المسلم، فإن قلنا: يصح ابتياعه للمسلم إذا كان أجنبيًّا، لا يعتق عليه.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: لا يصح.. فهاهنا وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه يملك به المسلم، فلم يصح كالأجنبي. والثاني: يصح؛ لأن ملكه لا يستقر عليه، وإنما يعتق عليه بالملك، فيحصل له من الكمال بالحرية، أكثر مما يحصل عليه من الصغار بالملك، فصح، كما إذا قال أعتق عبدك عني.. فإنه يصح العتق، كذلك هاهنا. [مسألةٌ: إعتاق الكافر المسلم] قال ابن الصباغ: إذا قال الكافر لآخر: أعتق عني عبدك المسلم عن كفارتي، فأعتقه عنه.. صح، ويدخل في ملكه، ويخرج منه بالعتق، وإنما جاز ذلك؛ لأن قوله أعتقته عنك ليس بتمليك له، وإنما هو إبطال الرق فيه، وإنّما حصل له الملك فيه حكمًا، كما يملكه بالإرث حكمًا.

مسألة: شراء ما لا يشاهد

[مسألةٌ: شراء ما لا يشاهد] إذا باع قطنًا، واشترط الحب لنفسه، أو باع سمسمًا، واشترط الكسب لنفسه.. فإن البيع باطلٌ؛ لأن المبيع غير مشاهد؛ لأنه إذا باع القطن، واستثنى الحب لنفسه.. فالحب مختلط بالقطن، ولا يشاهد كل القطن. وهكذا: إذا باع السمسم، واستثنى الكسب لنفسه.. فكأنه باع الشيرج، وهو غير مشاهد، فلم يصح البيع، ولأنه لا يخلو: إمّا يسلِّم القطن مع الحب، والسمسم كما هو، أو يمسكه ليحلج القطن، ويستخرج الشيرج، ولا يجوز أن يسلم القطن والسمسم؛ لأنه لا يلزمه تسليم حقه وحق غيره، ولا يجوز أن يمسكه حتى يميز المبيع عمّا ليس بمبيع؛ لأنه يكون في الحقيقة بيعا شرط في تأخير التسليم، وذلك لا يجوز. [فرعٌ: بيع الشاة دون السواقط] وإن قال: بعتك هذه الشاة، إلا سواقطها.. لم يصح، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالكٌ رحمةُ الله عليه: (إن كان في الحضر.. لم يصح، وإن كان في السفر.. صح) . دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الثنيا في البيع» . ولأنه لو باع سواقطها.. لم يصح، فكذلك إذا استثناها. وإن باع بهيمةً حاملاً أو جاريةً بمملوك.. فإن الحمل يدخل في البيع بمطلق العقد، كسائر أجزائها.

فرع: لا يفرق بين الأمة وطفلها

وإن استثنى البائع الحمل، أو استثنى البائع البيضة في الدجاجة المبيعة.. لم يصح البيع؛ لأن ذلك بمنزلة عضو من أعضائها، بدليل: أنه إذا أعتق الجارية الحامل.. عتق الحمل، ولأنا لو قلنا: يجوز.. لم يخل: إمّا أن يؤمر بتسليم الأم مع حملها، أو يؤمر بتسليمها بعد الوضع، فبطل أن يؤمر بتسليمها مع حملها؛ لأنه لا يؤدي إلى أن يلزمه تسليم المبيع وغيره، وبطل ألا يلزمه التسليم إلاَّ بعد الوضع؛ لأن ذلك يؤدي إلى تأخير تسليم المبيع، فإذا بطل القسمان.. ثبت أنّ البيع باطل. وإن اشترى جارية حاملاً بحر.. لم يصح البيع في الجارية؛ لأن الحر لا يصح بيعه، فيصير كأنه استثناه في البيع، فلم يصح. وإن باع جاريةً، أو بهيمة لبونًا، واستثنى البائع لبنها.. قال ابن الصباغ: فيحتمل عندي وجهين: أحدهما: لا يصح البيع؛ لأنه مجهول، فأشبه الكسب، وحب القطن، والحمل، والبيض. والثاني: يصح؛ لأنه يبقيه على ملكه، فالجهالة فيه لا تؤثر، بخلاف الكسب، وحب القطن، والحمل، والبيض، لأن كل واحد من ذلك لا يقدر على تسليمه عقيب العقد، بخلاف اللبن. [فرعٌ: لا يفرق بين الأمة وطفلها] ] : ولا يجوز أن يفرق بين الجارية وبين ولدها المملوك في البيع والهبة، قبل أن يستكمل الولد سبع سنين؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا توله والدةٌ بولدها» . أي: لا يشغل قبلها به.

ولما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من فرّق بين والدة وولدها.. فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» . فإن فرق بينهما بالبيع أو الهبة.. فهل يصح البيع أو الهبة؟ فيه وجهان: المشهور من المذهب: أنه لا يصح؛ لما روى أبو داود في "سننه ": «أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرق بين الأم وولدها، فنهاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، وردّ البيع» . وحكى المسعودي [في " الإبانة " [ق\222] قولاً للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: (أنه يصح البيع) . وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

والأول أصح؛ لأنه تفريق محرم في البيع، فأبطله، كالتفريق بين الجارية وحملها. وهل يجوز التفريق بينهما بعد استكمال الولد سبع سنين، وقبل بلوغه؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لعموم الخبر، ولأنه غير بالغ، فأشبه ما لو لم يستكمل السبع. والثاني: يجوز؛ لأنه مستغن عن الحضانة، فأشبه البالغ. وإن فُرق بين الولد، وبين جدته أم أمه.. فهو كما لو فرق بينه وبين أمه، على ما مضى. وهل يجوز التفريق بينه وبين أبيه؟ فيه وجهان حكاهما الصيمري. وإن فرق بينه وبين أخيه.. جاز. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) . دليلنا: أن القرابة التي بينهما لا تمنع القصاص، فلا تمنع التفريق بينهما في البيع، كابن العم. وقال الشيخ أبو إسحاق في " التعليق " بالخلاف. فإن اشترى جارية وولدها الصغير، ثم تفاسخا البيع في أحدهما.. صح البيع. وأما التفريق بين البهيمة وولدها الصغير بعد استغنائه عن لبنها.. فجائز، وحكى الصيمري فيه وجهين: أحدهما ـ هذا، وهو الأصح ـ: أنه يجوز، كما يجوز له ذبح أحدهما، وذبحهما معًا.

والثاني: لا يصح؛ لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تعذيب الحيوان وفي ذلك تعذيب له. وبالله التوفيق.

باب ما يفسد البيع من الشروط وما لا يفسده

[باب ما يفسد البيع من الشروط وما لا يفسده] الشروط في البيع على أربعة أضرب: أحدها: ما هو من مقتضى العقد، مثل: أن يشرط عليه التسليم، أو خيار المجلس، أو ردّه بالعيب إن كان معيبًا، أو الرجوع بالعهدة إن استحق، وما أشبه ذلك.. فهذا لا يفسد البيع؛ لأن إطلاق العقد يقتضي ثبوت ذلك، فكان شرطه لذلك تأكيدًا لما يقتضيه العقد. الشرط الثاني: ما لا يقتضيه العقد، ولكن فيه مصلحة، كالأجل في الثمن، وخيار الثلاث، والرهن، والضمان، والشهادة. وما أشبه ذلك.. فهذا شرطٌ لا يفسد البيع، ويثبت المشروط؛ لأن في ذلك مصلحة للعقد. الشرط الثالث: أن يبيعه عبدًا بشرط أن يعتقه المشتري، فالمنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في عامة كتبه: (أن الشرط صحيح) . وبه قال مالك رحمة الله عليه، وحكى القاضي أبو حامد في " جامعه ": أن أبا ثور روى عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الشرط باطلٌ، والبيع صحيح) . ومن أصحابنا من قال: القول المخرج للشافعي فيها: (أن الشرط والبيع باطلان) . وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلا أن أبا حنيفة يقول: (إذا قبضه المشتري.. ملكه ملكًا ضعيفًا، فإذا أعتقه.. نفذ عتقه، ويلزمه الثمن) . وقال أبو يوسف، ومحمد: يلزمه القيمة. واحتج من ذهب إلى هذا بما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وشرط» .

ولأنه شرط يمنع كمال التصرف، فمنع صحة البيع، كما لو باعه بشرط ألا يعتقه، أو بشرط أن يبيعه. ووجه المنصوص: ما روي: «أن بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كاتبت على نفسها بسبع أواقي ذهب، في كل سنة أوقية، فجاءت إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تستعينها، فقالت: لا، ولكن إن شئتِ.. عددت لهم مالهم عدَّةً واحدة، على أن يكون ولاؤك لي، فرجعت إليهم، فأخبرتهم، فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فذكرت ذلك لعائشة أم المؤمنين، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اشتريها، واشترطي لهم الولاء، وأعتقيها "، فاشترتها، وأعتقتها، ثم صعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر خطيبًا، فقال: " ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرطه أوثق، والولاء لمن أعتق ". قالت عائشة أم المؤمنين: (فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان زوجها عبدًا فاختارت نفسها، ولو كان حرًّا.. لم يخيِّرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -) .

ووجه الدلالة من هذا الخبر: أن هذا البيع إنما كان بشرط العتق، وقد روي في بعض الأخبار: (أن عائشة اشترت بريرة لتعتقها) . وأيضا فإنها إذا اشترطت الولاء لأهلها.. فإنما يكون ذلك في موضع شرط فيه العتق، ولأن للعتق مزية وغلبة في الأحكام، بدليل: أنه إذا أعتق نصف عبده.. عتق الجميع، ولو أعتق شقصًا له من عبدٍ بينه وبين غيره، وكان موسرًا بقيمة باقية.. عتق باقيه، فلم يفسد البيع بشرطه، بخلاف غيره من العقود. فإن قيل: فبريرة كانت مكاتبة، فكيف جاز بيعها؟ قلنا: على القول القديم

(يجوز بيعها) ، ويكون هذا حجة على صحة البيع للقول القديم، وعلى القول الجديد (لا يصح بيعها) ، فيحمل الخبر على أنها عجزت نفسها عن أداء ما عليها، فعجّزها أهلها، وفسخوا العقد، والفسخ يصح بصريح الفسخ بأن يقول المولى: فسخت الكتابة، ويصح بإزالة الملك بأن يبيعه، أو يهبه، فكأنهم جعلوا بيعهم لها فسخًا لكتابتها. فإن باعه عبدًا بشرط أن يعتقه المشتري، ويكون الولاء للبائع.. فشرط الولاء باطلٌ بلا خلاف على المذهب، وفي البيع قولان: أحدهما: وهو رواية أبي ثور عن الشافعي: (أن البيع صحيح) ؛ لما ذكرناه من حديث عائشة في شراء بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. والثاني ـ وهو المشهور ـ: أن البيع باطلٌ؛ لأنه شرط ليس من مقتضى العقد، ولا من مصلحته، ولم يبن على التغليب، فأبطله، كسائر الشروط الفاسدة. وأمّا تأويل حديث عائشة: فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد إبطال ذلك عليهم، وقطع عادتهم في ذلك، فأمر عائشة: (أن تشترط لهم الولاء) ، ثم أبطله؛ ليكون أبلغ في قطع عادتهم في ذلك، كما أنه أمرهم بالإحرام بالعمرة في أشهر الحج، فلم يحرموا؛ لأنهم كانوا لا يرون جواز ذلك، فأحرموا بالحج، ثم فسخ عليهم إحرامهم بالحجّ، وأمرهم بالإحرام بالعمرة؛ ليبالغ في الزجر والردع عن ذلك عما كانوا يعتقدونه، كذلك هذا مثله، فيكون هذا الشرط خاصًّا لعائشة - رضي الله عنها -؛ لهذا المعنى. قال المزني: ويحتمل أن يكون معنى قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اشترطي لهم الولاء» ؛ أي: اشترطي عليهم الولاء؛ لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] [الإسراء: 7] ، أي: فعليها. وهذا التأويل ليس بصحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبطل شرط الولاء، ولو كانت اشترطت عليهم الولاء لها.. لكان هذا صحيحًا.

فرع: البيع بشرط العتق

[فرعٌ: البيع بشرط العتق] إذا باعه عبدًا بشرط العتق.. نظرت: فإن أعتقه المشتري.. استقرَّ العقد، وإن امتنع من إعتاقه.. ففيه وجهان: أحدهما: يجبر عليه؛ لأنه عتق لزمه، فإذا امتنع منه أجبر عليه، كما لو نذر عتق عبد، ثم امتنع من إعتاقه. والثاني: لا يجبر؛ لأنه قد ملكه، وثبت للبائع الخيار: بين أن يجيز البيع، وبين أن يفسخه، كما لو شرط أن يرهنه بالثمن رهنا، فامتنع من الرهن. وهذان الوجهان بناءً على أن شرط العتق حقٌ للعبد، أو للبائع، وفيه وجهان: فإن قلنا: إنه حق للعبد.. أُجبر عليه. وإن قلنا: إنه حق للبائع.. ثبت له الخيار. فإن رضي البائع بإسقاط العتق.. فعلى الوجهين: إن قلنا: إنه حقٌ للبائع.. يسقط بإسقاطه، وإن قلنا: إنه حق للعبد.. لم يسقط. وإن مات العبد قبل أن يعتقه المشتري.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يستقر البيع، ولا شيء على المشتري غير الثمن؛ لأن العبد تلف على ملكه، ولا يمكن إجباره على عتقه بعد موت العبد. والثاني: أن البائع يأخذ الثمن، وما نقص منه لأجل العتق؛ لأنه إنما باعه بهذا الثمن لأجل العتق، فإذا لم يتم العتق.. رجع إلى ما نقص. فعلى هذا: إن كان قد باعه بخمسين درهما بشرط العتق، ثم مات العبد قبل أن يعتق.. فإنه يقال: كم كانت قيمته لو بيع من غير شرط العتق؟ فإن قيل: في المثل ستون درهمًا.. قيل: فكم قيمته إذا بيع بشرط العتق؟ فإن قيل: أربعة وخمسون درهمًا.. قيل للبائع: فخذ من المشتري مثل تسع الثمن الذي سمي في العقد، وتسع

الخمسين: خمسة دراهم وخمسة أتساع درهم، وهو عشر مبلغ الثمن بعد إضافة هذا إلى الخمسين. والوجه الثالث: أن البائع بالخيار: إن شاء.. أجاز البيع، ولا شيء له، وإن شاء.. فسخه، ورجع بقيمة عبده، كما لو كان العبد باقيًا. وإن باعه عبدًا بشرط أن يعتقه بعد شهر.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يصح؛ لأن ثبوت ذلك بالشرط، فكان على ما شرط. والثاني: لا يصح؛ لأنه عتق يتعلق بالعين، فلم يصح التأجيل فيه، كما لو باعه عبدًا بشرط أن لا يسلمه إليه إلا بعد شهر. وإن باعه عبدًا بشرط أن يعتقه المشتري، فباعه المشتري من آخر بشرط أن يعتقه المشتري الثاني.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح البيع الثاني؛ لثبوت حق العتق فيه، فلم يصح، كما لو نذر عتق عبد بعينه، فباعه. والثاني: يصح؛ لأن المقصود عتق العبد، وذلك يحصل من الثاني، كما يحصل من الأول، فصح، كما لو وكل الأول في إعتاقه. والأول أصح. وإن باعه أمة بشرط أن يعتقها، فأحبلها المشتري.. فهل يجبر على إعتاقها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجبر؛ لأن عتقها قد استحق بالإحبال. والثاني: يجبر، وهو الصحيح؛ لأن استحقاقها للعتق قد استحق قبل الإحبال، فلا يجوز تأخيره إلى وقت موته. وإن باعه دارًا أو أرضًا أو عبدًا، بشرط أن يقفه.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يصح البيع والشرط، قياسًا على العتق. والثاني: يبطلان؛ لأن الوقف لا يبنى على التغليب، فلم يصح البيع بشرطه، كما لو باعه ثوبًا بشرط أن يتصدق به.

الشرط الرابع: أن يبيعه عبدًا على أن لا يعتقه، أو على أن لا يبيعه، أو على أن لا خسارة عليه فيه، ومعنى هذا: أنه متى خسر في ثمنه.. فضمانه على البائع. أو باعه جارية بشرط أن لا يطأها، وما أشبه ذلك.. فالشرط باطلٌ، والبيع باطلٌ، هذا هو المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في عامة كتبه، وبه قال أبو حنيفة. وروى أبو ثور عن الشافعي: (أن الشرط باطلٌ، والبيع صحيح) . وهو قول ابن أبي ليلى، والحسن البصري، والنخعي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. واحتجوا بحديث عائشة في شرائها لبريرة بشرط أن تعتقها، ويكون الولاء لأهلها. وقال ابن سيرين: الشرط صحيح، والبيع صحيح. دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وشرط» . وروي: أن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشترى من امرأته جارية، واشترطت عليه: إنك إن بعتها.. فإنها لي بالثمن، فاستفتى عمر في ذلك، فقال عمر: (لا تقربها وفيها شرط لأحد) . ولأنه شرط لم يبن على التغليب، ولا هو من مصلحة العقد، ولا من مقتضاه، فأبطله، كما لو شرط أن لا يسلم المبيع. فقولنا: (لم يبن على التغليب) احترازٌ ممن شرط إعتاق العبد المبيع؛ لأن العتق بني على التغليب، على ما مضى ذكره. وقولنا: (ولا هو من مصلحة العقد) احترازٌ من شرط الأجل، والرهن والضمان.

فرع: شرط الانتفاع بالمبيع مدة

وقولنا: (ولا من مقتضاه) احترازٌ منه إذا شرط ردّه بالعيب عند وجوده ورجوعه بالعهدة عندما يستحق عليه، وأما حديث عائشة: فقد ذكرنا تأويله. [فرعٌ: شرط الانتفاع بالمبيع مدّة] ] : وإن اشترى دارًا، واشترط سكناها شهرًا، أو عبدًا، واستثنى خدمته مدة معلومة، أو جملا، واشترط أن يركبه إلى موضع معين.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا يصح البيع، وجهًا واحدًا. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\220] : أنها على وجهين: أحدهما: يصح الشرط والبيع، وبه قال أحمد، وإسحاق، والأوزاعي؛ لما «روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (بعت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعيرًا، واشترطت عليه ظهره إلى المدينة» . وروي: (أن عثمان باع دارًا واشترط سُكناها شهرًا) . والثاني: لا يصح البيع، وهو الصحيح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وشرط» . ولأنه شرط لم يبن على التغليب، ولا هو من مصلحة العقد، ولا من مقتضاه، فلم يصح، كما لو شرط أن لا يسلمه المبيع. وأما حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فلأن الشرط وقع بعد العقد وانقضاء الخيار، أو نقول: لم يكن ابتياعًا صحيحًا، وإنما أراد لتناله بركته؛ لما روي «عن جابر رضي الله

مسألة: البيع بشرط فاسد

عنه: أنه قال: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض الغزوات، فلحقني رسول الله، فقال: " ما بال جملك؟ "، فقلت: قد أعيا، فتخلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فزجره، فسبق القافلة، ثم قال: " بكم ابتعته؟ "، فقلت: بثلاثة عشر دينارًا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أتبيعه مني بما ابتعته؟ "، فاستحييت منه، فبعته، فقدمنا المدينة، فرآني خالي، فقال: ما بال جملك؟ فقلت: بعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلامني عليه، فجئت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلمّا رآني.. قال: " أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك وثمنه، فهما لك» . فلمّا قال: " خذ جملك ".. دلّ على أن الجمل كان ملكًا له، لم يزل عنه. وأمَّا حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: فالقياس مقدم عليه. إذا ثبت ما ذكرناه: فإن الشرط الباطل إنما يفسد البيع إذا كان في حال العقد، أو بعد العقد، وقبل انقضاء الخيار على الصحيح من المذهب. وقال أبو علي الطبري: إذا قلنا: إن المبيع ينتقل بنفس العقد.. لم تلحق الشروط بالعقد بعد العقد في حال الخيار. وليس بشيء. وأمّا إذا كان الشرط قبل العقد: فإنه لا يلحق بالعقد إن كان صحيحًا، ولا يبطل به العقد إن كان الشرط فاسدًا. [مسألةٌ: البيع بشرط فاسد] باطل] : وإن اشترى جارية بشرط فاسد.. فقد قلنا: إن البيع باطلٌ، ولا يجب على البائع أن يسلِّمها، ولا يجب على المشتري أن يتسلمها، وإن قبضها المشتري.. لم يملكها، وإن تصرف فيها ببيع، أو عتق.. لم ينفذ تصرفه.

وقال أبو حنيفة: (إذا قبضها المشتري بإذن البائع، وكان قد سمى لها عوضًا له قيمة.. ملكها بالقبض ملكًا ضعيفًا، ولبائعها أن يرجع فيها، فيأخذها مع الزيادة المتصلة والمنفصلة. فإن تصرّف فيها المشتري تصرُّفًا يمنع البائع الرجوع فيها، كالبيع والهبة والعتق والكتابة.. نفذ تصرّفه، وكان للبائع عليه ثمنها. وقيل: قيمتها. وإن اشتراها بما لا قيمة له، كالدم والميتة.. لم يملكها بالقبض) . واحتجُّوا بحديث عائشة في شراء بريرة، وعندهم: أن الشراء كان باطلاً، وإنّما ملكتها بالقبض، ونفذ تصرُّفها فيها بالعتق لذلك. دليلنا: أنه مقبوض عن عقدٍ فاسدٍ.. فلم يملكه به، فوجب أن لا ينفذ به تصرفه، كما لو اشتراها بدم أو ميتة. ولأن الوطء في النكاح الصحيح بمنزلة القبض في البيع الصحيح، بدليل: أنّه يستقر به المسمى في النكاح، والثمن في البيع. ثم ثبت أنه لا يستفيد بالوطء في النكاح الفاسد شيئًا مما يستفيده بالعقد الصحيح من استباحة البضع، والإيلاء، والظهار، والطلاق، فكذلك يجب أن لا يملك بالقبض في البيع الفاسد شيئًا مما يملك بالعقد الصحيح. وأمّا حديث عائشة: فيحتمل أنّها شرطت لهم الولاء قبل العقد، فلذلك لم يبطل البيع، ويحتمل أن القصة كانت خاصّة بعائشة، وأراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك قطع عادتهم في ذلك. فإن قبضها المشتري، فإن كانت باقية بحالها لم تزد ولم تنقص.. لزمه ردُّها، وإن أقامت في يده مدة لها أجرة، فإن كانت صانعة.. لزمه أجرة مثلها صانعة، سواءً استخدمها أو لم يستخدمها؛ لأنه ممسك لها بغير حق، وإن كانت غير صانعة.. لزمه أجرة مثلها غير صانعة. ومن أصحابنا من قال: لا تلزمه أجرتها، كما إذا كان المبيع نخلة.. فإنه لا يلزمه رد أجرتها. قال الشيخ أبو حامد: وهذا غلط؛ لأنه ما من جارية إلا ولها أجرة ومنفعة، بأن

يقول: اسقيني الماء، أو قدِّمي لي الخبز، بخلاف النخلة؛ لأنه ليس لمثلها أجرة، ألا ترى أنه لا يجوز إجارتها، ويجوز إجارة الجارية؟ وإن زادت في يده، فإن كانت الزيادة موجودة لم تتلف.. لزمه رد الجارية، ورد زيادتها، سواء كانت متصلة أو منفصلة؛ لأنها ملك للبائع، وإن تلفت الزيادة، وبقيت الجارية، بأن سمنت في يد المشتري، ثم هزلت، أو تعلمت القرآن أو صنعةً في يده، ثم نسيت ذلك.. لزمه رد الجارية. وهل يلزمه أرش الزيادة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه؛ لأن البائع دخل في البيع ليأخذ بدل العين دون بدل الزيادة. والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه يلزمه أرش الزيادة التي تلفت في يده) ؛ لأنها حدثت في ملك البائع، فكان له بدلُها، وقول الأول: إن البائع لم يدخل في البيع ليأخذ بدل الزيادة يبطل بالأجرة، فإنه لم يدخل في البيع ليأخذها، ومع هذا: فإنه يستحق الأجرة. وإن قبضها المشتري وهي سمينةٌ، فهزلت في يده، أو قبضها وهي تحفظ القرآن، أو تحسن صنعة، فنسيت ذلك في يده.. لزمه رد الجارية، وأرش النقص؛ لأنه ضمن ذلك بالقبض، فلزمه قيمته إذا تلف، كالغاصب، وإن تلفت الجارية في يده.. لزمه قيمتها. وفي قدرها وجهان: أحدهما: يلزم قيمتها يوم تلفها؛ لأنه مأذون له في إمساكها، فلزمه قيمتها يوم التلف، كالعارية. والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يلزمه قيمتها أكثر ما كانت من حين قبضها إلى أن تلفت؛ لأنه قبض مضمون في عين يجب ردّها، فإذا هلكت.. ضمنها بقيمتها أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف، كالمغصوب. فقولنا: (قبضٌ مضمونٌ) احترازٌ من قبض الوديعة وغيرها من الأمانات. وقولنا: (في عين يجبُ ردُّها) احترازٌ من قبض المشتري المبيع، فإنه قبض مضمون بالثمن، إلا أنه لا يجب ردّه، ويخالف العارية، فإن المستعير لو ردّها ناقصة بالاستعمال.. لم يجب عليه شيء، بخلاف هذا.

وإن وطئها المشتري.. لم يجب عليه الحد؛ لأنه يعتقد أنها ملكه، ولأن في الملك اختلافًا، فإن أبا حنيفة يقول: (يملكها بالقبض) وذلك شبهة، فسقط بها الحد، فإن كانت ثيِّبًا.. وجب عليه مهر ثيب؛ لأنها موطوءة لا يملك وطأها، فسقط الحد عن الواطئ للشبهة، فوجب عليه المهر، كما لو وجد امرأةً على فراشه، فظنّها زوجته، فوطئها، فإن كانت بكرًا.. وجب عليه مهر بكر، ووجب عليه أرش الافتضاض مع المهر، فإن قيل: فكيف أوجبتم عليه المهر وقد أذن البائع بوطئها؟ ألا ترى أن الرجل إذا أذن بوطء جاريته.. لم يجب له المهر؟ فالجواب: أنه إنما أذن بوطئها على أنها ملك للمشتري، وهاهنا بان أن الجارية ملك للبائع، والوطء بالشبهة إذا صادف ملك غيره.. أوجب المهر. فإن قيل: هلاَّ قلتم: إنه لا يجب على المشتري أرش البكارة، كما إذا تزوّج امرأةً بكرًا بنكاح فاسدٍ، فافتضّها.. فإنه لا يجب عليه أرش البكارة؟ فالجواب: أن النكاح يتضمن الإذن في الوطء؛ لأنه معقود عليه، والوطء يتضمن إتلاف البكارة، وليس كذلك البيع، فإنه ليس بمعقود على الوطء، ولهذا يجوز له شراء من لا يحل له وطؤها، ولأن الزوجة سلمت نفسها لا على وجه الضمان لبدنها، ولهذا إذا تلفت في يد الزوج.. لم يجب بالإتلاف ديتها بخلاف الأمة المبيعة؛ لأن البيع يقتضي ضمان بدنها. فإن قيل: كيف أوجبتم أرش البكارة مع المهر، ولم يدخل الأرش في المهر؟ فالجواب: أنه إنما وجب الجمع بينهما؛ لأن أرش البكارة وجب بإتلاف ذلك الجزء، والمهر وجب بالاستمتاع، فوجب بدلُهما، ولأن أرش البكارة سبق وجوبه وجوب المهر؛ لأن الافتضاض قد يوجد قبل التقاء الختانين، والمهر لا يجب إلا بالتقائهما، فجرى مجرى من افتضّها بأصبعه، ثم وطئها، إلا أن من افتضّها بأصبعه، ثم وطئها.. يجب عليه أرش البكارة، ومهر ثيّب؛ لأنه لم يستوف اللذة المقصودة بالبكارة، وهاهنا قد وجد منه استيفاء اللذة الكاملة بإزالة البكارة، فوجب عليه مهر بكرٍ، ووجد منه إزالة ذلك الجزء، فوجب عليه بدله.

وإن أحبلها المشتري.. نظرت: فإن وضعت الولد حيًّا.. فإنّ الولد يكون حرًّا؛ لحصول الشبهة، ويلزمه قيمة الولد؛ لأنه أتلف عليه رقّه، ويقوم عليه يوم الوضع؛ لأنه حال الحيلولة بينه وبين البائع لو كان مملوكًا. وإن نقصت الأم بالحمل، أو بالوضع.. لزم المشتري أرش النقص. وإن وضعت الولد ميِّتًا.. لم يجب على المشتري قيمته؛ لأنه لم توجد منه الحيلولة بين البائع وبين هذا الولد. وإن ضرب ضاربٌ بطنها، فألقت من ضربه جنينًا ميتًا.. وجب على الضارب غرّة عبد، أو أمة مقدّرة بنصف عشر دية أبي الجنين، ويجب لمالك الأمة أقل الأمرين من قيمة الولد يوم الولادة، أو الغرة؛ لأن ضمان الضارب له قام مقام خروجه حيًّا، وله أن يطالب بذلك من شاء من الضارب أو المشتري، فإن كانت الغرة أقل.. لم يجب للبائع أكثر منها، وإن كانت القيمة أقل.. كان له قدر القيمة، والباقي لورثة الجنين. فإن سلم المشتري الجارية إلى البائع حاملاً، فولدت في يد البائع.. لزمه ضمان ما نقصت بالولادة؛ لأنها نقصت بسبب فعله. وإن ماتت من الولادة.. لزم المشتري قيمتها؛ لأنها ماتت بسبب كان في يده. وهل تحمل العاقلة عنه قيمتها؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، بناء على القولين في أن العاقلة هل تحمل قيمة العبد في الجناية؟ ويأتي توجيههما في (العاقلة) إن شاء الله تعالى. ولا تصير هذه الجارية أم ولد للمشتري في الحال. وهل تصير أم ولدٍ له إذا ملكها بعد ذلك؟ فيه قولان:

فرع: ما يلزم عن العلم بفساد الشراء

أحدهما: لا تصير أم ولد؛ لأنها علقت منه في غير ملكه. والثاني: تصير أم ولد له؛ لأنها علقت منه بحر. [فرعٌ: ما يلزم عن العلم بفساد الشراء] ] : قال الصيمري: وإذا اشترى عبدًا شراءً فاسدًا، وقبضه، وأنفق عليه مدّة، فإن كان المشتري عالمًا بفساد الشراء.. لم يرجع بما أنفق عليه، وإن لم يعلم.. فهل يرجع على البائع بما أنفق عليه؟ فيه وجهان، بناءً على القولين في رجوع الزوج في المهر على الولي إذا غرّه بحرّية الزوجة. [فرعٌ: تلف ثمن البيع الفاسد بعد القبض] ] : قال أبو العباس: إذا باعه عبدًا بيعًا فاسدًا بثمن، وتقابضا، ثم أتلف البائع الثمن.. وجب على المشتري ردّ العبد، ولم يكن له إمساكه إلى أن يأخذ الثمن. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (له إمساكه، وهو أحق به من سائر الغرماء) . دليلنا: أنه لم يقبض العبد وثيقة، وإنما قبضه على أنه ملكه، فإذا بان خلافه.. وجب ردّه. وبالله التوفيق.

باب تفريق الصفقة

[باب تفريق الصفقة] إذا جمع في البيع بين ما يجوز بيعه وبين ما لا يجوز بيعه؛ بأن باع عبده وحرًّا، أو عبده وعبد غيره.. بطل البيع فيما لا يجوز بيعه، وهو الحر وعبد غيره. وهل يصح بيعه في عبده؟ فيه قولان. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا جمعت الصفقة بين ما هو مالٌ، وبين ما ليس بمال، مثل: أن باع خلاًّ وخمرًا، أو عبدًا وحرًّا، أو شاةً وخنزيرًا.. بطل البيع في الجميع. وإن جمعت الصفقة بين ما هو مالٌ، وما هو في حكم المال، كعبده وأم ولده.. صح البيع في عبده، وبطل في أم ولده. وإن جمعت الصفقة بين مالين، بأن باع عبده وعبد غيره.. لزم البيع في عبده، ووقف البيع في عبد غيره على إجازة مالكه، فإن أجازه.. نفذ، وإن ردّه.. بطل) . ويأتي الدليل عنه. فإذا قلنا: تفرق الصفقة، فيبطل البيع فيما لا يجوز، ويصح فيما يجوز.. فوجهه: أن كل واحد منهما لو أفرده بالعقد.. لثبت له حكمه، فإذا جمع بينهما.. ثبت لكل واحد منهما حكم الانفراد، كما لو باع سيفًا وشقصًا من أرض، ولأنه لمّا لم يجُز أن يقال: يصح البيع فيما لا يجوز بيعه؛ لصحته فيما يجوز بيعه.. لم يجز أن يقال: يبطل البيع فيما يجوز بيعه؛ لبطلانه فيما لا يجوز بيعه، فأجرى حكم كل واحد منهما على ما كان يجري عليه لو أفرده بالبيع.

وإذا قلنا: لا تفرق الصفقة، ويبطل البيع فيهما.. فاختلف أصحابنا في تعليله: فـ[التعليل الأول] : منهم من قال: لأن الصفقة جمعت حلالاً وحرامًا، فغلّب التحريم، كما لو باع درهمًا بدرهمين، أو تزوج بأختين. فعلى هذا: يبطل البيع فيما يتقسّط الثمن فيه على الأجزاء، بأن باع كرين من طعام، أحدهما له، والآخر لغير، أو باع عبدًا يملك بعضه، وفيما يتقسط الثمن فيه على القيمة، بأن باع عبده وعبد غيره، وكذلك إذا رهن ماله ومال غيره، أو وهب ماله ومال غيره، أو أنكح أخته وأجنبية.. فإنه يبطل نكاح الأجنبية، أو نكح مسلمة ومجوسية، أو محلة ومحرمة بعقد.. بطل النكاح. و [التعليل الثاني] : من أصحابنا من قال: إنما يبطل البيع فيهما لجهالة الثمن؛ لأن الثمن يقسط عليهما، فيسقط ما يقابل ما لا يجوز بيعه، ويبقى ما يقابل ما يجوز بيعه، وذلك مجهولٌ حال العقد، فأبطل العقد، كما لو قال: بعتك هذا بحصته من الثمن، أو رأس المال، أو يرفعه وهما لا يعلمان ذلك. قلت: وهذا التعليل إنما يصح إذا قلنا: إنه يأخذ المبيع بحصته من الثمن. فعلى هذا التعليل: لا يبطل البيع فيما يتقسط فيه الثمن على أجزاء المبيع، ولا يبطل الرهن والهبة والنكاح، وإنما يبطل فيما يتقسط الثمن فيه على القيمة. وأما الدليل على أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فنقول: لأن الصفقة جمعت بين ما يجوز بيعه، وبين ما لا يجوز بيعه، فصحّ فيما يجوز، كما لو باع عبده ومكاتبه، أو نقول على الآخر: فوجب أن لا يصح في الكل، كما لو باع حرًّا وعبدًا. إذا ثبت ما ذكرناه: فإن قلنا: إن الصفقة لا تفرق.. رد المبيع، واسترجع الثمن

إن كانا قد تقابضا. وإن قلنا: إن الصفقة تفرق.. فإن المشتري بالخيار: بين أن يفسخ البيع؛ لأن الصفقة تفرقت عليه، وبين أن يجيزه، فإن اختار أن يجيزه.. فبكم يمسك ما صح فيه البيع؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يمسك الجائز بجميع الثمن المسمى؛ لأن عقد البيع إنما يتوجه إلى ما يجوز بيعه، دون ما لا يجوز بيعه، فكأنه لم يذكر في العقد غيره. والثاني: يمسكه بحصته من الثمن، وهو الصحيح؛ لأنه لم يبذل الثمن إلا في مقابلهما، فلا يؤخذ منه جميعه بأحدهما. واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان إذا باع عينين يتقسط الثمن عليهما على قدر قيمتيهما، كالعبدين والثوبين. فأمّا إذا كان المبيع مما يتقسط الثمن على أجزائه، كالكرّين من الطعام، أو عبد بعضه له وبعضه لغيره.. فإنه يمسك الجائز بحصته من الثمن، قولاً واحدًا؛ لأن ما يتقسط الثمن فيه على القيمة يكون ما يخص الجائز مجهول، فدعت الحاجة إلى أن يجب عليه جميع الثمن، بخلاف ما يتقسط الثمن على أجزائه؛ لأن ثمن الجائز معلوم. ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو الصحيح؛ لأن الشافعي نص على القولين في بيع الثمرة بعد بدوّ الصلاح وقبل إخراج الزكاة، والثمرة مما يتقسط الثمن فيها على أجزائها. وإن كان أحد المبيعين غير متقوم، بأن باعه خلاًّ وخمرًا، أو عبدًا وحرًّا، فإن قلنا في التي قبلها: إنّه يمسك الجائز بجميع الثمن.. فكذلك هذا مثله. وإن قلنا: إنه يمسك الجائز بحصته من الثمن.. ففي هذا ثلاثة أوجه: أحدها: يبطل البيع، قولاً واحدًا؛ لأنّ الخمر والحرّ لا قيمة لهما، فلا يمكن تقسيط الثمن عليهما.

فرع: بيع المجهول

والثاني: حكاه في " الإفصاح ": أنه يمسك الجائز بجميع الثمن، قولاً واحدًا؛ لأنّ الخمر والحرّ لما لم يكن لهما قيمةٌ لتقسيط الثمن عليهما.. لم يبق إلا إيجاب جميع الثمن. والثالث ـ حكاه المسعودي [في " الإبانة " [ق\227]ـ: أنه يقدر لو كان متقوّمًا، كم كانت قيمته مع قمية الجائز؟ ويقسم المسمى عليهما على قدر قيمتهما، كما قلنا في الجناية على الحرة التي لا أرش لها مقدّرًا. فإن قلنا: إن المشتري يمسك الجائز بجميع الثمن.. فلا خيار للبائع؛ لأنه لا ضرر عليه. وإن قلنا: إنه يمسك الجائز بحصته من الثمن.. فهل يثبت الخيار للبائع؟ فيه وجهان: أحدهما: يثبت له الخيار؛ لأنه لم يحصل له جميع الثمن، فثبت له الخيارُ، كالمشتري. والثاني: لا خيار له؛ لأنه هو الذي فرّق الصفقة على نفسه، حيث باع ما يجوز بيعه وما لا يجوز. [فرعٌ: بيع المجهول] وإن قال: بعتك هذا العبد وعبدًا آخر مجهولاً بألف.. بطل البيع في المجهول، كما لو باعه منفردًا، وهل يبطل البيع في المعلوم؟ إن قلنا: إن الصفقة لا تفرق.. بطل فيه أيضًا. وإن قلنا: إن الصفقة تفرق، فإن اختار المشتري فسخ البيع في المعلوم.. فلا كلام. وإن اختار إمساكه، فإن قلنا: يمسكه بجميع الألف.. صح. وإن قلنا: يمسكه بالحصة.. بطل البيع أيضا فيه؛ لأنه لا يعلم كم قيمة المجهول ليقسط الثمن عليهما.

فرع: تلف بعض المبيع قبل القبض

[فرعٌ: تلف بعض المبيع قبل القبض] وإن اشترى من رجل عبدين، فتلف أحدهما قبل أن يقبضهما، وبقي الآخر.. فإن البيع ينفسخ في التالف؛ لأنه تعذر التسليم المستحق فيه بالبيع، وهل يبطل البيع في الباقي منهما؟ فيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو باع عبده وعبد غيره؛ لأن الفساد الطارئ بعد العقد، كالفساد المقارن للعقد، بدليل: أن العيب الحادث في يد البائع قبل القبض، كالعيب الموجود في المبيع حال العقد. و [الثاني] : منهم من قال: لا يبطل البيع في الباقي، قولاً واحدًا، لأنّا إنما أبطلنا البيع في عبده إذا باعه مع عبد غيره؛ للجمع بين الحلال والحرام، أو لجهالة ثمن عبده، وهاهنا لا يوجد واحد منهما. وإن اشترى من رجلٍ عبدين، فقبض أحدهما، ثم تلف الآخر قبل أن يقبضه.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\227] : أحدهما: أنها كالأولى على طريقين، كما لو لم يقبض واحدًا منهما. والثاني: لا يبطل البيع في الباقي، قولاً واحدًا؛ لأنه قد تأكد بالقبض. وإن اشترى عبدين، فأبق أحدهما قبل القبض.. لم يبطل البيع في الباقي، قولاً واحدًا؛ لأن البيع لم يبطل في الآبق. إذا ثبت هذا: فاشترى عبدين، وتلف أحدهما قبل القبض، فإن قلنا: إن البيع يبطل في الباقي من العبدين.. فلا كلام. وإن قلنا: لا يبطل فيه.. ثبت للمشتري الخيار؛ لأن الصفقة تفرقت عليه، فإن اختار فسخ البيع.. فلا كلام، وإن اختار إمساك الباقي.. فبكم يمسكه؟ فيه طريقان: أحدهما ـ وهو قول الشيخين: أبي حامد وأبي إسحاق الشيرازي ـ: أنه يمسك الباقي بحصته من الثمن، قولاً واحدًا؛ لأن الثمن هاهنا قابل المبيعين في الابتداء وصحّ فيهما، فإذا تلف أحدهما سقط ما يقابله لا غير. والطريق الثاني ـ وهو قول القاضيين: أبي حامد وأبي الطيب، واختيار ابن الصبّاغ

مسألة: الجمع بين بيع وإجارة

ـ: أنها على قولين؛ لأن العقد إذا انفسخ في التالف.. بقي العقد في الباقي خاصّة فكان بمنزلة ما لو كان ذلك في الابتداء فاسدًا في أحدهما. قال ابن الصبّاغ: وما قال الأول يلزم عليه إذا باع مرهونًا وغير مرهون، أو ماله ومال غيره.. فإن في كل واحد منهما يصح أن يقابله عوض، وإنما لم يقابله؛ لتعلق حق الغير به، وهاهنا وإن قابله فقد زال ذلك بالفسخ بالموت، فجرى مجرى المرهون. فإن قلنا: يأخذه بجميع الثمن.. فلا خيار للبائع. وإن قلنا: يأخذه بالحصة.. فهل يثبت للبائع الخيار عنده؟ فيه وجهان، وقد مضى توجيههما. [مسألة: الجمع بين بيع وإجارة] ] : وإن جمع بين البيع والإجارة، بأن يقول: أجرتك داري هذه شهرًا، وبعتك عبدي هذا بألف، فقال: قبلت.. ففيه قولان: أحدهما: يبطلان؛ لأن أحكام هذين العقدين تختلف، فالبيع يدخله الخيار، ويستقر الملك فيه بالقبض، والإجارة لا يدخلها خيار الثلاث، ولا تستقر عليه الأجرة بقبض العين.. فبطلا. والثاني: لا يبطلان؛ لأن كل واحد منهما لو أفرده بالعقد.. صح، فإذا جمع بينهما.. فليس فيه أكثر من اختلاف الأحكام، فلم يمنع صحة العقد، كما لو باع سيفًا وشقصًا من أرض بألف. فعلى هذا: يقوم العبد وتقوّم منفعة الدار شهرًا، وتقسم الألف عليهما على قدر قيمتيهما. فأمّا إذا قال: بعتك داري، وأجّرتكها شهرًا بألف.. لم يصحّ واحدٌ منهما، قولاً واحدًا؛ لأنَّ بنفس عقد البيع يملك المنفعة، فإذا اشترط أن يملك المنفعة بعوض.. بطل العقد.

وإن قال: بعتك هذه الدار بمائة على أن أؤجرك الأخرى.. بطل البيع، قولاً واحدًا؛ لأن هذا في معنى بيعتين في بيعة. وإن قال: أجرتك هذه الدار بمائة، وبعتك الأخرى بعشرة، فقال المشتري: قبلت.. قال الشيخ أبو حامد: صح العقدان جميعًا؛ لأنه لا تعلق لأحدهما بالآخر. وإن جمع بين البيع والصرف، بأن يقول: بعتك هذا الثوب وهذه الدنانير بهذه الدراهم.. ففيه قولان، ووجههما ما ذكرناه في البيع والإجارة. وإن قال: بعتك هذا الثوب وهذه الدنانير بدنانير أخرى.. بطل البيع، قولاً واحدًا. وإن جمع بين البيع والنكاح، قال الشيخ أبو حامد: وهو أن يقول: زوجتك ابنتي، وبعتك عبدها بألف، وهي صغيرة أو كبيرة، ووكلته على البيع، فقال: قبلت: أو قال: زوجتك أمتي وبعتك عبدي بألف، وهو ممن يحل له نكاح الأمة، فقال: قبلت.. ففيه قولان: أحدهما: يصح البيع والمهر، ويقسم الثمن على قدر قيمة العبد ومهر مثلها، وهذا يمضي في الصغيرة إذا كان ما يخص المهر قدر مهر المثل أو أكثر منه، فأمّا إذا كان أقل من مهر المثل: فلا يصح المهر، قولا واحدًا. والثاني: يبطل البيع والصداق؛ لاختلاف أحكامهما، وأمّا النكاح: فلا يبطل، قولاً واحدًا؛ لأنه لا يفسد بفساد العوض عندنا. وأما إذا جمع بين البيع والكتابة؛ بأن يقول لعبده: بعتك هذا العبد، وكاتبتك على نجمين بألف.. فإن البيع لا يصح، قولاً واحدًا؛ لأنه لا يصح أن يبيع السيد من عبده، وفي الكتابة قولان، بناءً على القولين في تفريق الصفقة. وإن باع عبدين بألف، وشرط الخيار في أحدهما دون الآخر، فإن لم يبين حصة

فرع: اشترى زرعا واشترط حصاده

كل واحد منهما من الألف.. ففيه قولان، كما لو جمع بين البيع والإجارة، وإن بين حصة كل واحد من العبدين من الألف.. ففيه طريقان: [الأول] : قال أبو العباس بن القاص: يصح، قولاً واحدًا؛ لأن علة فساد البيع الجهالة بالثمن لو احتيج إلى توزيع الثمن، فإذا بين حصة كل واحدٍ منهما.. انتفت الجهالة. و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: هي على قولين. وللشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على هذا، فإنه قال: (لو أصدقها ألفًا على أن ترد عليه عبدًا معينًا قيمته ألف، ومهر مثلها ألفٌ.. كان فيها قولان) . قال: وكذلك لو بيّنا حصة كل واحد منهما، فإنها على قولين. [فرعٌ: اشترى زرعًا واشترط حصاده] ولو اشترى زرعًا، واشترط على البائع حصاده.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (كان الشراء فاسدًا) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هي على قولين، كما لو جمع بين البيع والإجارة، وإنما ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أحد القولين. وهذا اختيار ابن الصبّاغ. ومنهم من قال: يبطلان، قولاً واحدًا، لأنه استأجره على حصاده الزرع قبل استقرار ملكه على الزرع، فلم يصح، كما لو استأجر رجلاً ليحصد له زرعًا لا يملكه. ومنهم من قال: إنما لم يصح؛ لأنه اشترط تأخير تسليم الزرع؛ لأنه إذا شرط حصده على البائع.. ففيه تأخير التسليم إلى أن يحصد، فبطل العقد. ومنهم من قال: إنما يبطل؛ لأن قطعه يجب على المشتري، فإذا شرطه على البائع.. فقد شرط شرطًا ينافي مقتضى العقد، فأبطله. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد. وقال أبو علي السنجي: إذا اشترى منه زرعًا واستأجره على حصاده بألف، أو

مسألة: البيع بأقل من القيمة عند الموت

اشترى منه لبنًا واستأجره على طبخه بدرهم، أو اشترى منه حطبًا على ظهر دابّة واستأجره على حمله إلى بيته بدرهم.. ففيه ثلاثة طرق: أحدها: أن الكل على قولين. والثاني: أن جميع هذه العقود باطل، قولاً واحدًا. وهذان الطريقان حكاهما الشيخ أبو حامد. والطريق الثالث: أن الإجارة باطلة في هذه المسائل، قولاً واحدًا، وفي البيع قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة. [مسألة: البيع بأقل من القيمة عند الموت] إذا باع في مرض موته شيئًا بأقل من قيمته، فإنّ القدر الذي نقصه عن القيمة يكون وصية تعتبر من ثلث تركته، وهكذا إذا اشترى في مرض موته شيئًا بأكثر من قيمته، فإن الزيادة وصية. إذا ثبت هذا: فإن باع في مرض موته عبدًا يساوي ثلاثين درهمًا بعشرة دراهم، ومات لا يملك غير ذلك، ولم يجز الورثة محاباته.. فبكم يصح البيع من العبد؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وهو ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال ابن الحداد، وأبو العبّاس بن سريج ـ: أن البيع يصح في ثلثي العبد وقيمته عشرون، بجميع الثمن وهو

عشرةٌ، ويبطل البيع في ثلث العبد وهو عشرة؛ لأنه اجتمع للمشتري معاوضة ومحاباة، فوجب أن يجمع له بينهما، فيكون ثلث العبد مبيعا بالعشرة وقيمته عشرة، ويكون له ثلث العبد وصية وقيمته عشرة، ويبقى مع الورثة ثلث العبد وقيمته عشرة، وجميع الثمن وهو عشرة، فذلك مثلا المحاباة. والوجه الثاني ـ وهو قول ابن القاص، وابن اللَّبّان ـ: أن المشتري لا بد أن يرجع إليه شيء من الثمن ويحصل له مع المحاباة؛ لأن العقد وقع على جميع العبد بجميع العشرة، فإذا رجع إلى ورثة البائع بعض العبد.. وجب أن يرجع إلى المشتري ما يقابل ذلك من الثمن. وفي كيفية معرفة القدر الذي صح فيه البيع من العبد على هذا طرق في الحساب منها: أن يقال: المحاباة وقعت بثلثي العبد وقيمته عشرون، والثلث الذي تنفذ فيه المحاباة عشرة، وذلك نصف المحاباة، فخذ سهم تلك النسبة وهو النصف، وقل: ينفذ البيع في نصف العبد، وقيمته خمسة عشر، بنصف الثمن وهو خمسة، فيجعل كأن المشتري اشترى سدس العبد وقيمته خمسة بخمسة، وبقي له ثلث العبد وقيمته عشرة وصية له، ويبقى مع الورثة نصف العبد وقيمته خمسة عشر، ومن الثمن خمسة، وذلك عشرون، وهما مثلا المحاباة، وقد قابل جميع الثمن جميع أجزاء العبد. وفيه طريق آخر من الحساب: وهو أنك تنزع قدر مال الصحيح وهو عشرةٌ، من مال المريض وهو ثلاثون، ويبقى عشرون، فاضربها في ثلاثة وهو مخرج الثلث، فيكون ستين، فانسب جميع مال المريض وهو ثلاثون، ممّا اجتمع لك من الضرب، فتجد ذلك نصفه، فخذ سهم تلك النسبة وهو النصف، ويقال: ينفذ البيع فيه بما يقابله من الثمن وأجر البيع فيه بمثله من الثمن.

وفيه طريق آخر من الجبر والمقابلة: وهو أنك تلقي من مال المريض ما يقابل الثمن وهو عشرة، ثم تعطي المشتري مما بقي شيئًا بالوصية، وتدفع من الشيء ثلثه لأجل العشرة؛ لأن العشرة من الثلاثين ثلثها، فتبقى الوصية له في ثلثي شيء، ويبقى مع الورثة عشرون إلا ثلثي شيء يعدل مثلي الوصية، وهو شيء وثلث شيء، فإذا جبرت العشرين بثلثي الشيء الذي يقضى به، وزدت ذلك على الشيء والثلث المقابلين.. كانت العشرون تعدل شيئين كاملين، الشيء الواحد نصفها، فخذ سهم تلك النسبة وهو النصف، وأجر البيع فيه من العبد بمثله من الثمن، وإن شئت.. فاقسم الثلاثين على الشيئين، فنصيب كل شيء نصفها، وذلك خمسة عشر، وهو نصفها، فأجر البيع في نصف العبد بنصف الثمن. وإن باع المريض في مرض موته كر حنطة قيمته ثلاثون درهمًا، بكر شعير قيمته عشرةٌ، ومات ولا مال له غيره ولم يجز الورثة.. فهي على الوجهين في العبد. وإن باع المريض في مرض موته كر حنطة جيّدًا يساوي ثلاثين درهمًا، بكر حنطة رديء يساوي عشرة، ومات ولا مال له غيره، ولم تجز الورثة.. فلا يجوز أن يقال: يصح البيع في ثلثي الجيد بجميع الرديء، كما قلنا في العبد في أحد الوجهين؛ لأن ذلك ربا، فيبطل هذا الوجه هاهنا، ولا يصح فيه إلا الوجه الثاني، فيصح البيع في النصف الجيد بنصف الرديء على ما ذكرناه. إذا تقرر هذا: فإنّ المشتري يثبت له الخيار في هذه المسائل في العبد والكر على الوجهين؛ لأن الصفقة تفرقت عليه، وأمّا ورثة البائع: فلا يثبت لهم الخيار وإن انتقضت عليهم الصفقة في الثمن؛ لأن المريض قصد إرفاق المشتري، فلو أثبتنا لهم الخيار.. لبطل مقصود المريض؛ ولأن تنقيص الثمن حصل باختيارهم، فإنهم لو أجازوا البيع.. لما حصل عليهم التنقيص، ولا يجوز أن يثبت لهم الخيار مرة أخرى.

فرع: زيادة قيمة العبد قبل موت سيده المريض

[فرعٌ: زيادة قيمة العبد قبل موت سيّده المريض] ] : وإن باع المريض من مرض موته عبدًا قيمته مائة بخمسين، فزادت قيمته قبل موت سيده حتى بلغت مائتين، ثم مات السيد، ولا يملك غيره، ولم يجز الورثة البيع: فعلى الوجه الأول ـ وهو ظاهر كلام الشافعي: يجوز البيع في نصف العبد بخمسين، وهو قيمته يوم الشراء، ويبقى نصفه وقيمته مائة يوم مات سيده، فيضم إليه الثمن وهو خمسون، فيكون للمشتري من ذلك بالمحاباة شيء وصية، وله بفضل القيمة شيء من غير وصية، فتبقى مع الورثة مائة وخمسون إلا شيئين تعدل مثلي الوصية وهو شيئان، فإذا جبرت.. عدلت المائة والخمسون أربعة أشياء، فإذا قسّمتها على أربعة.. خص كل شيء منها سبعة وثلاثون درهمًا ونصف، وهو الجائز بالمحاباة، وذلك ثلاثة أثمان العبد يوم الشراء، وهو المعتبر من الثلث، إلا أن قيمته يوم مات السيد ضعف ذلك، ولا تحسب عليه زيادة قيمته؛ لأنه من غير الثلث، فإذا ضممت ثلاثة أثمان العبد إلى نصفه للمشتري.. بقي في أيدي ورثة البائع ثمن العبد يوم مات البائع، وقيمته خمسة وعشرون، وجميع الثمن وهو خمسون، فذلك خمسة وسبعون، وذلك مثلا قيمة ثلاثة أثمان العبد يوم الشراء. وعلى الوجه الثاني ـ وهو قول ابن القاص، وابن اللَّبان ـ: يجوز البيع في شيء من العبد بنصف شيء من الثمن، فتكون المحاباة بنصف شيء، ويبطل البيع في عبد إلا شيئًا، وقيمته يوم مات السيد مائتان إلا شيئين، فيضم إليه نصف شيء من الثمن، فيبقى مع الورثة مائتان إلا شيئًا ونصف شيء، تعدل شيئًا كاملاً، وهو مثلا المحاباة، فإذا جبرت المائتين بما نقص منهما، وزدت ذلك على الشيء المقابل لهما.. عدلت المائتان شيئين ونصفا، فأسقط كل شيء نصفين، ليكون النصف معهما، فيكون خمسة أنصاف، فإذا قسمت المائتين على الأنصاف.. خص كل نصف أربعون، فيعلم: أن الشيء الكامل ثمانون، وهو أربعة أخماس العبد يوم الشراء، فيصح البيع

فيه بمثل تلك النسبة من الثمن، وهو أربعون، فيعلم: أن المحاباة نصف شيء، وهو أربعون، ويبقى مع الورثة خمس العبد وقيمته أربعون يوم مات السيد، ومن الثمن أربعون، وهو مثلا المحاباة، وسواءٌ زادت قيمته بالسعر، أو بزيادة البدن، أو بتعلم صنعة. فإن لم تزد قيمة العبد، ولكن نقصت في يد المشتري، فصار يساوي خمسين، ثم مات المريض: فحسابه على ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يقال: للمشتري نصف العبد بالخمسين، ويضم نصفه وقيمته: خمسة وعشرون إلى الثمن، فيصير خمسة وسبعين، للمشتري منها شيء محاباة، يحتسب عليه به شيئين؛ لأن قيمة الشيء يوم قبضه مثلا قيمته الآن، فيبقى للورثة خمسة وسبعون إلا شيئًا تعدل أربعة أشياء، فإذا جبرت.. عدلت الخمسة والسبعون خمسة أشياء، فإذا قسمتها علمت أن الشيء خمسة عشر، وهو ثلاثة أعشار العبد، فيجمع له مع نصفه، فذلك أربعة أخماس العبد بجميع الثمن، ويبقى للورثة خمس العبد وقيمته عشرة، مع الثمن وهو خمسون، فيكون مع الورثة ستون، وهو مثلا قيمة ثلاثة أعشار العبد يوم قبضه المشتري، وهو ثلاثون. وعلى قول ابن القاص، وابن اللَّبان: يجوز البيع في شيء من العبد، بنصف شيء من الثمن، فالمحاباة نصف شيء، ويبطل البيع في عبد إلا شيئًا، وقيمته خمسون إلا نصف شيء، فيضم إليه نصف شيء ثمنًا، فيكمل خمسين، وذلك يعدل شيئًا، فيعلم: أن الشيء خمسون، وذلك نصف قيمة العبد يوم الشراء، فيصح البيع في نصفه بنصف الثمن، وهو خمسة وعشرون، فيجتمع لورثة البائع نصف العبد وقيمته خمسة وعشرون، ونصف الثمن وهو خمسة وعشرون، فذلك خمسون، وهو مثلا نصف الشيء الذي جازت فيه المحاباة. ولو نقصت قيمة العبد في يد المشتري بعد موت سيده.. فالجواب كذلك، ولا خيار للمشتري، فإن كان النقص في السعر لا في البدن.. فله الرد.

فرع: باع عبدا لا يملك سواه وله دين على آخر

ولو نقص في يد البائع، فبلغت قيمته خمسين.. نفذ البيع في جميعه على الوجهين؛ لأن ما نقص في يد البائع غير مضمون على المشتري، فكأنه باعه وحاباه ولم يسلم المحاباة، وكذلك لو بلغت قيمته خمسة وسبعين؛ لأن الثلث يحتمل، وللمشتري الخيارُ إذا كان النقص في يد البائع بالبدن، إلا أن ينقص في السعر، فلا خيار له. [فرعٌ: باع عبدًا لا يملك سواه وله دين على آخر] لو باع في مرض موته عبدًا لا مال له غيره، قيمته ستون درهمًا، بعشرة دراهم حاضرة، وللمريض على آخر تسعون درهما دينا: فعلى ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: للمشتري سدس العبد بالعشرة، وثلثه بالمحاباة، فذلك نصفه، وللورثة نصفه وجميع الثمن، وكلَّما اقتضي من الدين شيء.. ردُّوا قدر ثلث ذلك من العبد على المشتري، حتى يستوفي وصيته. وعلى قول ابن القاص، وابن اللبان: يأخذ المشتري خمسي العبد بخمسي العشرة، وللورثة ثلاثة أخماس العبد مع خمسي الثمن، وكلما اقتضى من الدين شيء.. ردّوا من العبد بقدر خمسي ذلك، وأخذوا من المشتري قسطه من الثمن، فإذا استوفوا الدين.. ردوا باقي العبد، وهل يردون ما أخذوا من كسبه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن اللبان. أحدهما ـ وهو الأصح ـ: أنهم يردون؛ لأنا نتبين أن الملك كان للمشتري من يوم الشراء، وأن الكسب وقع في ملكه. والثاني: لا يردون. [فرعٌ: اشترى عبدًا بجميع ماله] إذا اشترى في مرض موته عبدًا يساوي عشرة، بثلاثين درهمًا في يده لا يملك غيرها، ثم مات، ولم يجز الورثة:

فرع: باع جارية بثلث قيمتها فوطئها المشتري

فعلى ظاهر كلام الشافعيّ: يلزم البيع في جميع العبد بعشرين من الدراهم، ويرد إلى ورثة المشتري من الثلاثين عشرة مع العبد وقيمته عشرة، وذلك مثلا المحاباة. وعلى قول ابن القاصّ، وابن اللبان: يصح البيع في نصف العبد وقيمته خمسة بنصف الثمن وهو خمسة عشر، فيحصل للبائع بالمحاباة عشرة، ويجتمع لورثة المشتري نصف العبد، وقيمته خمسة، ويرجع إليهم نصف الثلاثين وهو خمسة عشر، فذلك عشرون، وهو مثلا المحاباة، ويكون للبائع الخيار هاهنا. وإن كان للمشتري دين تخرج المحاباة به، ولم يجز الورثة: فعلى ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكون البائع بالخيار: إن شاء.. سلم العبد وردّ من الثمن عشرة، وإن شاء.. فسخ البيع. قال ابن سريج: فإن اختار فسخ البيع، ففسخ، ثم اقتضى الدين بعد ذلك.. فلا شيء للبائع. وإن لم يفسخ، ولكن رد العشرة، ثم اقتضى الدين.. رد عليه الورثة العشرة؛ لأنه إذا فسخ.. فكأنه لم يحصل له جميع الثمن، فكان في معنى من اختار فسخ البيع لعيب وجده، فلمّا فسخ.. زال العيب، فإذا لم يفسخ.. كان في معنى من أوصى له بوصية، فخرج يعضها من الثلث، ثم ظهر مالٌ، يخرج جميعها من الثلث. وأمّا على قول ابن القاصّ، وابن اللبان: فيصح البيع في نصف العبد بنصف الثمن، وللورثة نصف العبد ونصف الثلاثين، فإن اقتضى الورثة الدين.. ردّوا نصف الثمن، واسترجعوا نصف العبد. [فرعٌ: باع جارية بثلث قيمتها فوطئها المشتري] وإن باع في مرض موته جارية بعشرة، وقيمتها ثلاثون، ولا مال له غيرها، فوطئها المشتري، ثم مات المريض، ولم يجز الورثة، واختار المشتري الفسخ.. رد الجارية، ولا مهر عليها. وكذلك: إن اختار المشتري إنفاذ البيع.. فإن البيع يصح في ثلثيها في أحد الوجهين، وفي نصفها في الآخر، ولا شيء على المشتري من المهر لما انتقص فيه

فرع: تغير قيمة العبد قبل موت المشتري المريض

البيعُ؛ لأنه وطئها وهي في ملكه، وإنما نقص البيع في بعضها؛ لمعنى طرأ بعد أن ملكها، فهو كما لو اشترى جارية فوطئها، ثم وجد بها عيبًا فردّها.. فإنه لا مهر عليه. وكذلك: لو اشترى المريض في مرض موته جارية قيمتها عشرة دراهم بثلاثين درهمًا بيده، لا يملك غيرها، فوطئها المشتري، ثم مات.. فلا يجب عليه مهر ما انتقص فيه البيع؛ لأنه وطئها في ملكه. [فرعٌ: تغير قيمة العبد قبل موت المشتري المريض] وإن اشترى في مرض موته عبدًا، قيمته عشرة، بثلاثين بيده لا يملك غيرها، فبلغت قيمة العبد قبل موت المشتري عشرين.. فقد وقعت المحاباة بعشرين، فاجعل التركة ثلاثين مع العشرة الزائدة، فيكون ثلثها ثلاثة عشر وثلثا، فيكون للبائع الخيار: بين أن يجيز البيع ويرد ما زاد على الثلث وهو ستة وثلثان، وبين أن يفسخ البيع ويأخذ العبد بزيادته. وهذا على ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعلى قول ابن القاص، وابن اللّبان: يجوز البيع في شيء من العبد، بثلاثة أشياء من الثمن، فتكون المحاباة بشيئين، ويبقى مع الورثة ثلاثون درهمًا إلا ثلاثة أشياء، يضم إليه الشيء المشترى من العبد وقيمته شيئان، فتصير ثلاثين إلا شيئًا تعدل أربعة أشياء. فإذا جبرت.. عدلت خمسة أشياء، الشيء ستةٌ، وهو ثلاثة أخماس العبد يوم الشراء وهو الجائز بالبيع، وقيمته يوم مات المشتري اثنا عشر، بثلاثة أخماس الثمن، وهو ثمانية عشر، فقيمة ما خرج من البائع يوم الشراء ستة بثمانية عشر من الثلاثين، فحصلت المحاباة له باثني عشر، لكن قد صح ما زاد فيه البيع من العبد قبل موت المشتري، فبلغ اثني عشر، وبقي مع ورثته من الثلاثين اثنا عشر، فيجتمع لهم أربعةٌ وعشرون، وذلك مثلا المحاباة. فإن لم تزد قيمة العبد، ولكن نقصت، فبلغت خمسة في يد المريض.. ضمن المريض للبائع ما نقص في يده مما يفسخ فيه البيع؛ لأنه قبضه على بيع. وحسابه أن يقال: يجوز البيع في شيء من العبد، بثلاثة أشياء من الثمن، فيبقى مع الورثة ثلاثون

درهمًا إلا ثلاثة أشياء، ويبطل البيع في عبدٍ إلا شيئًا، وقيمته خمسة إلا نصف شيء، ويبقى خمسة وعشرون إلاّ شيئين، فأخرج النقصان من التركة، وهو خمسة إلا نصف شيء، فيبقى خمسة وعشرون إلا شيئين ونصفا، فضمّه إلى الشيء المشترى وقيمته نصف شيء، فيصير خمسة وعشرين ونصفا إلا شيئين تعدل أربعة أشياء، فإذا جبرت.. عدلت ستة أشياء، الشيء سدس الخمسة والعشرين، وذلك ربع العبد وسدسه يوم الشراء، وهو خمسة أجزاء من اثني عشر جزءًا من العبد، وهو الجائز في البيع، بخمسة عشر جزءًا من الدراهم، فالمحاباة عشرةٌ، فاجعل كل عشرة دراهم اثني عشر جزءًا، فيكون ستّة وثلاثين جزءًا، فثمن الشيء منها خمسة عشر جزءًا يبقى إحدى وعشرون جزءًا، وقد بطل البيع في سبعة أجزاء من العبد، وقد نقصت قيمة ذلك فصار يساوي ثلاثة أجزاء ونصفًا، فأخرج ما نقص من الواحد والعشرين، فيبقى من الدراهم سبعة عشر جزءًا ونصف جزء، فضمه إلى الشيء المشترى وهو خمسة، وقيمة ذلك جزءان ونصف، فذلك عشرون، وهو مثلا المحاباة. وبالله التوفيق

باب الربا

[باب الربا] الربا محرم، والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] [البقرة: 275] . وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] [البقرة: 278] . وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] [البقرة: 275] . و (المس) : الجنون. قال ابن عباس: (وذلك حين يقوم من قبره) .

قال سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يبعث يوم القيامة مجنونًا. وقيل: إنه ما أحل الربا في شريعة قط. قال الله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] [النساء: 161] . وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الكبائر سبعٌ، أوّلها: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا، والفرار من الزحف، ورمي المحصنات، والانقلاب إلى الأعراب بعد هجرة» . وروى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه» .

مسألة: الأصناف الربوية

وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الربا وإن كان كثيرًا، فإنه يصير إلى قل» . إذا ثبت هذا: فالربا في اللغة: هو الزيادة. قال الله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] [الحج: 5] ، أي: زادت. ومنه قولهم: أربى فلانٌ على فلان، أي: زاد عليه. والربا في الشرع يقع على وجهين: على الزيادة، وعلى النسيء، على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. [مسألةٌ: الأصناف الربوية] والأعيان التي ورد النص بتحريم الربا فيها، وأجمع المسلمون على تحريم الربا فيها ستة أشياء: الذهب، والفضة، والبُرّ، والشعير، والتمر، والملح. والدليل عليه: ما روى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البُر بالبُر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والبر بالشعير، والتمر بالملح، كيف شئتم إذا كان يدًا بيد» .

إذا ثبت هذا: فإن هذه الستة الأشياء، لم ينص عليها في تحريم الربا لأعيانها، وإنما نص عليها لمعنى فيها، فمتى وجد ذلك المعنى في غيرها.. حرم فيها الربا. هذا قول عامة العلماء، إلا داود ونفاة القياس، فإنهم قالوا: (إنما نص عليها لأعيانها، ولا يحرم الربا في غيرها) . ودليلنا: أن القياس عندنا حجة، ورد الشرع بالتعبد به، فوجب العمل به، وموضع الكلام في ذلك أصول الفقه. وأيضًا: فإن الله تعالى قال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] [البقرة: 275] . و (الربا) : هو الزيادة، فيقتضي عموم الآية تحريم كل بيع فيه زيادة، إلا ما دلّ الدليل على تخصيصه وجوازه. فإذا ثبت هذا: فإن هذه الأعيان معللة، فالعلة عندنا في الذهب والفضة: أنهما جنس الأثمان غالبًا، وهذه العلة واقفة لا تتعدى إلى غيرهما، وقد أومأ في " الفروع " إلى وجه آخر: أنه يحرم الربا في الفلوس التي هي ثمن الأشياء وقيم المتلفات في بعض البلاد. وليس بشيء؛ لأن ذلك نادر. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (العلة فيهما الوزن في جنس واحد) . وقاس عليهما كل شيء موزون، مثل: الرصاص والحديد. دليلنا: أنه يجوز إسلام الذهب والفضة في الحديد والرصاص والنحاس، ولو جمعتهما علة واحدة في الربا.. لم يجز إسلام أحدهما في الآخر، كما لا يجوز إسلام

الذهب بالفضة، ولأنه لا ربا في معمول الحديد والصفر والنحاس، فلم يكن في تبره الربا، كالطين، وعكسه الذهب والفضة. وأما الأعيان الأربعة وهي: البُر والشعير والتمر والملح.. فلجميعها علة واحدة بالإجماع، كالذهب والفضة لهما علّة واحدة. واختلف في علة هذه الأعيان الأربعة: فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم إلى: (أن العلة فيها كونها مطعومة مكيل جنس، أو مطعومة موزون جنس) . فعلى هذا: العلة ذات ثلاثة أوصاف، وهو قول سعيد بن المسيب، ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل» . والمماثلة لا تكون إلا بالكيل أو الوزن. فعلى هذا: يجوز بيع ما لا يكال ولا يوزن من المطعومات، مثل: التفاح والسفرجل والرمان، بعضه ببعض متفاضلا. وقال في الجديد: (العلة فيها أنها مطعومة جنس) . وهو الصحيح. فعلى هذا: العلة ذات وصفين، فيحرم الربا في كل ما يطعم، قوتًا أو تفكُّها. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (العلة فيها أنها مكيلة جنس، أو موزونة جنس) . فعلى هذا: يجوز عنده بيع تمرة بتمرتين، وبيع كف حنطة بكفين؛ لأن ذلك غير مكيل ولا موزون، ولا يجوز عنده بيع الجص، والنورة، والحديد، والرّصاص بعضه ببعض متفاضلاً؛ لأنه مكيل أو موزون.

وقال مالك رحمة الله عليه: (العلة فيها أنها مكيلة مقتاتة جنس) . فعلى هذا: يحرم الربا عنده فيما كان قوتًا أو يصلح للقوت. وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: العلة فيها: أنها جنس تجب فيه الزكاة. فعلى هذا: لا يجوز عنده بيع ما يجب فيه الزكاة بعضه ببعض متفاضلاً من الحيوان. وقال سعيد بن جبير: العلة فيها: تقارب المنفعة، فكل شيئين تقارب الانتفاع بهما، لا يجوز عنده بيع أحدهما بالآخر متفاضلا، كالتمر بالزبيب، والحنطة بالشعير، والذرة بالجاورس. وقال ابن سيرين: العلة فيها الجنس فقط، فإذا اختلف فيها الجنس.. لم يكن فيها ربا. فأعمّ العلل علّة سعيد بن جبير؛ لأنها تتناول الجنس والجنسين، ثم بعدها: علة ابن سيرين، ثم علتنا في الجديد، ثم: علة أبي حنيفة، ثم: علة مالك، ثم علتنا في القديم، وأبعدها: علة ربيعة. والدليل على بطلان قول ابن سيرين، وابن جبير: ما رُوي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى عبدًا بعبدين» . والدليل على بطلان قولهما، وقول ربيعة: ما روى عبد الله بن عمرٍو: «أن

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يجهز جيشًا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة، يعني: في إبل الصدقة، فكان يأخذ بعيرًا ببعيرين إلى إبل الصدقة» . والإبل تتقارب منفعتها، وهي جنسٌ واحدٌ، وتجب فيها الصدقة. وأمّا الدليل على بطلان قول مالك: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم الربا في الملح» . وليس بقوت، فإن قال: لأنها تصلح القوت.. فليس بصحيح؛ لأن جميع الإدام والنار تصلح القوت، ومعلومٌ أنه لا ربا فيها. وأمّا الدليل على بطلان قول أبي حنيفة ـ وهو وجه قوله الجديد ـ: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل» . وهذا يعم القليل منه والكثير، والطعام اسمٌ لكل مطعوم شرعًا ولغة: أما الشرع: فقوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93] [آل عمران: 93] . وأراد به: سائر المطعومات. وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] [البقرة: 249] . وأراد به: الماء. وقَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] [المائدة: 5] . وأراد به: ذبائحهم، وهو اللحم. وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «مكثنا مع رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمانًا ما لنا طعامٌ إلا الأسودان: الماء والتمر» .

وأما اللغة: فإن الرجل يقول: ما طعمت اليوم شيئًا، إذا لم يأكل شيئًا من المطعومات جملةً. وقال لبيد: لمعفر قهد تنازع شلوه ... غبس كواسب لا يمن طعامها و (المعفر) : ولد الظبية، إذا أرادت أمه فطامه عن الرضاع.. فإنها تقطعه عن الرضاع أيامًا، ثم تعود إلى إرضاعه أيّامًا، ثم تقطعه أيّامًا، ثم تعود إلى إرضاعه أيامًا، ثم تقطعه، تفعل ذلك حتى لا يضر به القطع جملة، فإذا فعلت الظبية هذا، قيل: عفرت ولدها، والولد معفَّر، و (القهد) : من صفات لونه، و (الشلو) : العضو، و (الغبس) : السباع، وقوله: (كواسب) ؛ لأنها تكسب ما تأكله، وما يأكل أولادها، وقوله: (ما يمن طعامها) ، أي: أنها تأخذه بأنفسها، ليس أحدٌ يمن عليها به، و (تنازعها) : تجاذبها لأعضاء ولد الظبية، فسمَّى ذلك: طعامًا لها؛ لأنه مطعومٌ لها. وإذا قلنا بهذا: فإن الربا يحرم في كل ما يطعم قوتًا، وقل ما يكون إلا مكيلاً أو موزونًا، ويحرمُ فيما يطعم تفكُّهًا، وغالبُه: أنه غير مكيل ولا موزون، وفيما يطعم تداويًا، وقد يدخله الكيل والوزن، وقد لا يدخله، وفي الماء وجهان:

فرع: الربا في الأدهان

أحدهما: يحرم فيه الربّا؛ لأنه مطعوم. والثاني: لا ربا فيه؛ لأنه غير متمول في العادة. قال الطبري: ويحرم الربا في الزعفران؛ لأنه مطعوم. وقال الصيمري: ويحرم الربا في اللبان؛ لأنه مطعوم. وفي الزنجبيل وحبّ الكتان وجهان، ولا ربا في العود والمصطكى؛ لأنهما غير مطعومين. قال ابن الصبّاغ: ولا يحرم الربا في النوى؛ لأنه من طعام البهائم، فأشبه القرظ والقضب والحشيش. ويحرم الربا في الطين الأرمنيّ؛ لأنه يخلط في الأدوية لأجل السفوف، ولا يحرم الربا في الطين الخراسانيّ؛ لأنه يؤكل سفهًا، ولهذا روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " يا حميراءُ لا تأكلي الطين، فإنّه يصفر اللون» . وفي ماء الورد وجهان، حكاهما الصيمري. [فرعٌ: الربا في الأدهان] ] : وأما الأدهان: فعلى أربعة أضرب: ضربٌ: يعد للأكل، كالزيت، ودهن الجوز واللوز، ودهن الحبّة والخضراء،

ودهن الفجل، ودهن الخردل، ودهن الصنوبر والشيرج، فهذا يحرم فيه الربا؛ لأنه مطعوم. وقال أبو إسحاق: لا يجوز بيع الشيرج بعضه ببعض؛ لأنه فيه الماء والملح. وهذا ليس بشيء؛ لأنه لا ينزل معه. والضرب الثاني: يراد للتداوي، كدهن اللوز المر، ودهن الخروع، فيجري فيها أيضا الربا؛ لأنها تؤكل للتداوي، فأشبه الهليلج والبليلج. والضرب الثالث: ما يراد للطيب، مثل: دهن البنفسج، ودهن الورد والياسمين والبان والزنبق، ففيه وجهان: أحدهما: لا ربا فيه؛ لأنه غير مأكول. والثاني: فيه الربا، وهو الصحيح؛ لأنه مأكول، وإنما لم يؤكل؛ لأنه ينتفع به بما هو أكثر منه، فجرى مجرى الزعفران، ولأن أصله من السمسم؛ لأن الورد والبنفسج والبان يفرش تحت السمسم ليكسبه رائحته، فإذا جف ذلك.. فرش تحته شيء آخر منه إلا أن يكسبه الرائحة، ثم يعصر السمسم، فهو من السمسم، إلا أن رائحته رائحة هذه الأشجار. فعلى هذا: لا يجوز بيع شيء من هذه الأدهان بالشيرج، ولا بيع نوع منها بنوع آخر متفاضلاً. وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز بيع الدهن المطيب بعضه ببعض متفاضلاً إذا

مسألة: ما لا يوجد فيه علة الربا

اختلف طيبه، وإن كان أصله واحدا. وهذا ليس بصحيح؛ لأنها فروع لأصل واحد فيه الربا، فأشبه الأدقة. والضرب الرابع: من الأدهان ما يراد للاستصباح، وهو البزر، ودهن السمك، ففيه وجهان: أحدهما: يحرم فيه الربا؛ لأنه مأكول، وأصل البزر حب الكتان، وهو مأكول يطرح مع اللحم. والثاني ـ ولم يذكر في " التعليق " غيره ـ: لا يحرم فيه الربا؛ لأنه ليس بمأكول قوتًا، ولا يتداوى به، وإنما يؤكل سفهًا، ويراد للاستصباح، فلم يحرم فيه الربا. [مسألةٌ: ما لا يوجد فيه علة الربا] ] : وما سوى الذهب والفضة والمأكول والمشروب، لا يحرم فيه الربا، فيجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا ونسيئة. ويجوز أن يشتري حيوانًا بحيوانين، سواء أريد بهما الذبح أو لم يرد. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز بيع الجنس الواحد بعضه ببعض إلى أجل، ولا إسلام أحدهما بالآخر، كالثوب بالثوب، والعبد بالعبد) . وقال مالك (لا يجوز بيع حيوانٍ بحيوانين من جنسه، بصفقة يقصد بهما أمر واحد، إما الذبح، وإما غيره) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن يجهز جيشًا، فنفدت الإبل، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة» . وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه باع جملاً إلى أجل بعشرين بعيرًا) . و:

فرع: ربا النسيئة

(باع ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بعيرًا، بأربعة أبعرة) . ولأنه حيوان يجوز بيعه بغير جنسه، فجاز بيعه بجنسه نسيئة وإن تفاضلا، كما لو أريد أحدهما للذبح والآخر للقنية عند ملك. [فرعٌ: ربا النسيئة] ولا يجوز بيع نسيئة بنسيئة، بأن يقول: بعني ثوبًا في ذمتك من صفته كذا وكذا، إلى غرة شهر كذا بدينار في ذمتي مؤجل إلى يوم كذا؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» . قال أبو عبيد: هو بيع النسيئة بالنسيئة،

مسألة: بيع متحد العلة

يقال منه: كلأته كلاءة، أي: استنسأت نسيئة، و (النسيئة) : التأخير، قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] [التوبة: 37] . وهو تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر، ومنه قول الشاعر: وعينه كالكالئ الضِّمار يعني (بعينه) : حاضرة، يقول: فالحاضر من عطيته كالنسيئة. و (الضمار) : الغائب الذي لا يرجى. [مسألةٌ: بيع متحد العلة] وما يحرم فيه الربا لعلة واحدة، إذا أراد بيع بعضه ببعض.. فينظر فيه: فإن كان ذهبًا أو فضة.. نظرت: فإن أراد بيع الجنس بعضه ببعض، كالذهب بالذهب، والفضة بالفضة.. فلا يجوز بيعهما إلاَّ مثلاً بمثل، ولا يجوز التفرق قبل القبض، ولا يجوز إسلام أحدهما بالآخر، ولا بيع أحدهما بالآخر إلى أجل، وإليه ذهب ثلاثة عشر نفسًا من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وبه قال مالك، وأبو حنيفة. وروي عن ابن عباس، وابن الزبير، وزيد بن أرقم، وأسامة بن زيد رضي الله

عنهم: أنهم قالوا: (يجوز بيع الجنس بجنسه متفاضلا، ولا يحرم الربا فيه إلا من جهة النَّساء لا غير) . دليلنا: ما روي في حديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إلا مثلا بمثل» . إذا ثبت هذا: فسواءٌ كانا مصوغين، أو غير مصوغين، أو كان أحدهما مصوغًا أو مضروبًا، والآخر تبرًا.. فإنه لا يجوز بيع الجنس بجنسه متفاضلاً. وإن أراد بيع أحد الجنسين بالآخر، كبيع الذهب بالفضة.. جاز فيهما التفاضل، واشترط التقابض فيهما قبل التفرق. هذا مذهبنا، وبه قال أبو حنيفة. وحكي عن مالك: أنه قال: (يجوز بيع المصوغ والمضروب بالتبر بقيمته من جنسه متفاضلا) . وأصحابه ينكرون ذلك عنه. دليلنا: ما روى الشافعي، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: (أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق، بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن مثل ذلك إلاَّ مثلاً بمثل، فقال معاوية: ما أرى بهذا بأسًا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من هذا؟ أخبره عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، ويخبرني عن رأيه! والله لا ساكنتك بأرض أنت فيها. ثم قدم أبو الدرداء على عمر أمير المؤمنين، فذكر ذلك له، فكتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى معاوية: أن لا يبيع ذلك إلا وزنًا بوزن، مثلاً بمثل) . وروى مجاهد قال: كنت مع ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فجاء صائغ، فقال: يا أبا عبد الرحمن إنِّي أصوغ الذهب، وأبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل من ذلك قدر عمل يدي، فنهاه ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن ذلك، فجعل الصائغ يردد

فرع: الربا في الطعوم

عليه المسألة، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ينهاه عن ذلك، حتى انتهى إلى المسجد، أو إلى دابته يريد أن يركبها، فقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلينا، وعهدنا إليكم) . [فرعٌ: الربا في الطعوم] ] : وأما ما يحرم فيه الربا من المطعومات: فإن باع الشيء بجنسه، كالحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير.. حرم فيه الربا من جهتين: من جهة التفاضل، ومن جهة النَّساء، إذ لا يجوز التفرق قبل القبض. وإن باعه بغير جنسه من المطعومات، كالحنطة بالشعير.. جاز فيه التفاضل، ولكن لا يجوز أن يتفرّقا قبل القبض. وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يتفرّقا قبل القبض، ويجوز شرط خيار الثلاث فيه، سواء باع الحنطة بالحنطة، أو باع الحنطة بالشعير) . دليلنا: ما روى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والبر بالشعير، والتمر بالملح، يدًا بيد، كيف شئتم» . فأجاز بيع الطعام بالطعام، بالشرط الذي أجاز به بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، فلمّا

كان من شرط بيع الذهب بالذهب، والذهب بالورق القبض في المجلس، فكذلك في بيع الطعام بالطعام. وروى عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا هاء وهاء» يحتمل معنيين: أحدهما: أن يأخذ بيد، ويعطي بالأخرى. والثاني: أن لا يفترق المتبايعان من مكانيهما حتى يتقابضا) . وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لطلحة بن عبيد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد صارف مالك بن أوس، وأراد طلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يؤخر القبض عن المجلس، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا تفارقه حتى تعطيه ورقه، أو ترد إليه ذهبه) . وإذا كان هذا تفسيرًا منه للخبر، وهو الراوي له.. دلّ على أن المراد به هذا. إذا ثبت ما ذكرناه: فإن تخايرا قبل التقابض.. بطل الصرف؛ لأن التخاير يقوم مقام التفرق في بطلان خيار المجلس، فقام مقامه في بطلان الصرف قبل القبض، ولو

فرع: في الصرف

وكل من يقبض له، فقبض له الوكيل قبل تفرّق المتبايعين.. صح. ولو قام الموكل قبل أن يقبض الوكيل.. بطل. [فرعٌ: في الصرف] قال الشافعي في (الصرف) : وإذا تصارفا.. فلا بأس أن يطول مقامهما في مجلسهما، ولا بأس أن يصطحبا من مجلسهما إلى غيره ليوفِّيه؛ لأنهما لم يتفرّقا) . قال ابن الصباغ: فإن تعذر عليهما التقابض في المجلس، وأرادا أن يتفرقا.. فإنه يلزمهما أن يتفاسخا العقد بينهما، فإن تفرقا قبل ذلك.. كان ربا، وجرى مجرى بيع أموال الربا بعضها ببعض نسيئة، ولا يغني تفرقهما؛ لأن فساد العقد إنما يكون له شرعًا، كما أن العقد مع التفاضل فاسدٌ، ويأثمان به. وإن قبض كل واحد منهما بعض ما صارف به، ثم تفرقا.. بطل الصرف في قدر ما لم يتقابضا فيه، وهل يبطل الصرف في قدر ما اتفق قبضهما فيه؟ فيه طريقان، بناء على من اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض. [فرعٌ: بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة] وإذا باع ذهبًا بذهب، أو ورقًا بورق.. نظرت: فإن كانا خالصين، لا غش في واحد منهما.. جاز البيع مثلا بمثل، سواء كانا جيِّدين أو رديئين، أو كان أحدهما جيدا من جهة الجنس أو من جهة السكة، والآخر رديئًا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما» . ولم يفرق.

ويجوز أن يبيع منهما ذهبًا بورق على ما مضى. وإن كان فيهما غش أو في أحدهما.. نظرت: فإن كان الغش فيهما غير مستهلك، وهي الدراهم التي غشها له قيمة، كالتي تغش بالصفر والنحاس.. فإنه لا يجوز بيع بعضها ببعض بلا خلاف على المذهب. واختلف أصحابنا في علته: فقال أكثرهم: لا يجوز؛ لأنه بيع فضة وعرض، بفضة وعرض. ومنهم من قال: لا يجوز لهذا المعنى، ولأن المقصود منها الفضة، وهي غير متميزة عمّا ليس بمقصود منها، فلم يصح، كما لا يصح بيع اللبن المشوب بالماء، فإن أراد أن يشتري بهذه الدراهم ثوبًا أو عرضًا، فعلى قول من قال: العلة فيه: أنه فضة وعرض، بفضة وعرض.. يجوز. وعلى قول من قال: العلة فيه: أن المقصود غير متميز.. لا يجوز. وأما إذا أراد أن يشتري بهذه الفضة ذهبًا، فمن قال من أًصحابنا: لا يصح أن يشتري بها عرضا.. فالذهب أولى أن لا يصح شراؤه بها. ومن قال: يجوز شراء العروض بها.. فهل يصح شراء الذهب بها؟ فيه قولان؛ لأنه بيع وصرف. وأما الدنانير التي غشها الفضة: فلا يصح شراء الذهب بها، ولا شراء الفضة بها، وجهًا واحدًا. وهل يصح شراء العرض بها؟ فيه وجهان، الصحيح: أنه يجوز؛ لما ذكرناه. وأما إذا كان الغش مستهلكًا، وهي الدراهم التي غشها الزرنيخ والنُّورة؛ لأنها إذا صفيت لم يكن لغشها قيمة.. فلا يصح بيع بعضها ببعض؛ لأن الغش إن كان فيهما.. فلأنه لا يعلم التساوي بين الغشين، ولا بين الفضتين. وإن كان الغش في أحدهما؛ فلأنه لا يعلم التساوي بين الفضتين. ويجوز شراء السلع والذهب بها، وجهًا واحدًا؛ لأن هذا الغش لا يختلط بالفضة، وإنما الفضة مطليّة عليه.

مسألة: البيع بدينار معين

[مسألة: البيع بدينار معين] إذا قال: بعني هذا الدينار بهذا الدينار، أو هذه السلعة بهذا الدينار.. صح البيع، وتعين تسليم ذلك الدينار المعين، فلو أراد إبداله بغيره.. لم يكن له ذلك، وإن تلف ذلك الدينار المعين قبل القبض.. بطل البيع. وقال أبو حنيفة: (لا تتعين الدنانير والدراهم بالعقد، وإنما يتعينان بالقبض، فإذا اشترى منه بدنانير أو دراهم بأعيانها.. فللمشتري أن يدفع إليه غيرها من مثلها، وإن تلفت قبل القبض.. لم يبطل البيع، بل على المشتري تسليم مثلها) . دليلنا: ما روى عبادةُ بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين» . فذكر التعيين، فلولا أنهما يتعينان بالعقد.. لم يكن لذكره فائدة؛ ولأنه ذكر الذهب والورق والبر والشعير والتمر والملح، ثم شرط التعيين فيها على حد واحد، فلما كان البر والشعير والتمر والملح يتعين بالعقد، فكذلك الذهب والورق، ولأنه عوض مشار إليه، فتعين بالعقد كسائر الأعواض. إذا ثبت هذا: فإن تصارفا دنانير بدنانير، أو دراهم بدراهم، أو دنانير بدراهم، بأعيانها، ثم وجد أحدهما بما صار إليه عيبا، إما قبل التفرق أو بعده: فإن كان العيب من غير جنسها، مثل: أن يخرج رصاصًا أو نحاسًا.. ففيه وجهان، كمن اشترى بغلا، فخرج حمارًا: [الأول]ـ الصحيح ـ: أنه باطل. والثاني: أنه صحيحٌ، ويثبت له الخيار. وإن كان العيب من جنسه، مثل: أن خرجت السكة مضطربة، أو خشنة الأصل، فإن وجد العيب في الجميع.. فهو بالخيار: بين أن يرد المعيب، ويسترجع ما دفع، وبين أن يرضى بالمعيب، وليس له مطالبته ببدله سليمًا؛ لأن العقد وقع على عينه،

فرع: التصارف بالذمة

فلم يكن له المطالبة ببدله، كما لو اشترى عبدًا، فوجده معيبًا. وإن وجد العيب في البعض.. نظرت: فإن كان البيع وقع في دراهم بدنانير.. فهو بالخيار: بين أن يرضى بالمعيب، وبين أن يرد الكل، ويسترجع ما دفع في مقابله. وإن أراد أن يرد المعيب لا غير.. ففيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة: فإن قلنا: لا تفرق الصفقة.. لم يكن له ذلك. وإن قلنا: تفرق.. فله أن يمسك السليم، ويرد المعيب، ويسترجع ما يخصه من الثمن. فإن أراد أن يرد المعيب، ويمسك السليم بكل الثمن.. قال الشيخ أبو حامد: لم يجز؛ لأنه سفه؛ لأنه كان يمكنه أن يمسك المعيب والسليم بكل الثمن، أو يردهما، فلا يجوز أن يمسك السليم وحده بكل الثمن. وإن وقع البيع على دراهم بدراهم بأعيانها، أو دنانير بدنانير بأعيانها، فوجد أحدهما ببعض ما صار إليه عيبًا.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول الشيخ أبي حامد، وغيره من أصحابنا ـ: أنها كالمسألة قبلها في الجنسين. والثاني ـ وهو قول ابن الصبّاغ ـ: أن البيع باطل؛ لأن ذلك يؤدي إلى التفاضل؛ لأنه بالمعيب يأخذ من الثمن أقل مما يأخذ بالسليم، فيكون الباقي متفاضلاً، كمد عجوة ودرهم، بمدَّي عجوة. [فرعٌ: التصارف بالذمة] ] : فأما إذا تصارفا بدراهم أو دنانير في الذمة، مثل: أن كانا في بلد فيه نقد غالب، فقال: بعني دينارًا بدينار.. فإن الإطلاق ينصرف إلى نقد البلد الغالب. وإن كانا في بلد فيه نقود ليس بعضها أغلب من بعض.. فلا يصح ثبوته في الذمة إلا بأن يصفه بما يتميز به عن غيره، ولا يلزم الصرف بينهما حتى يتقابضا قبل التفرق، فإذا تقابضا، ثم

وجد أحدهما بما صار إليه عيبًا، فإن وجده قبل التفرق.. فله أن يطالبه بالبدل، سواء كان العيب من جنسه، أو من غير جنسه؛ لأن العقد وقع على مطلق لا عيب فيه. وإن وجد العيب بعد التفرق، فإن كان العيب من غير جنسه، بأن وجدها رصاصًا أو نحاسًا.. نظرت: فإن وجد ذلك في الكل.. بطل العقد؛ لأن التفرق وجد قبل القبض. وإن وجد ذلك في البعض.. بطل في العقد، وهل يبطل في السليم؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة. فإذا قلنا: يبطل في السليم.. فلا كلام. وإذا قلنا: لا يبطل.. فهو بالخيار: بين أن يفسخ العقد ويسترجع ما دفع، وبين أن يمسكه بحصته مما دفع. وإن وجد العيب من جنسه، بأن خرج النقد مضطرب السكة، أو رديء النوع، فإن وجد العيب بالكل.. فهل له أن يرده، ويطالب بالبدل؟ فيه قولان: أحدهما: ليس له المطالبة بالبدل، ولكنه بالخيار: بين أن يمسك المعيب، وبين أن يرده ويأخذ ما دفع، وهو اختيار المزني؛ لأنا لو جوّزنا له المطالبة بالبدل.. لأدّى إلى جواز القبض في الصرف بعد التفرق. والثاني: له المطالبة بالبدل، وبه قال أبو يوسف، ومحمد؛ لأن ما جاز له إبداله قبل التفرق.. جاز بعده، كالمسلم فيه. وإن وجد العيب بالبعض، فإن قلنا: له أن يستبدل إذا وجد العيب بالجميع.. فله أن يستبدل هاهنا بالمعيب، وليس له رد السليم. وإن قلنا: إذا وجد العيب بالجميع ليس له أن يستبدل.. فهاهنا يكون بالخيار: بين رد السليم والمعيب واسترجاع ما دفع، وبين أن يقر العقد ويرضى بالمعيب.

فرع: تماثل الوزن في النقدين

فإن أراد إمساك السليم ورد المعيب.. ففيه قولان بناء على القولين في تفريق الصفقة. فإن بان له العيب بعد القبض والتفرق، وقد تلف المعيب في يده، فإن كان الصرف في الجنس بمثله.. لم يكن له الرجوع بالأرش؛ لأن ذلك يؤدي إلى التفاضل في البيع، ولكن يفسخ البيع، ويرد مثل الذي قبض إن كان له مثل، أو قيمته إن لم يكن له مثل، ويسترجع ما دفع. وإن كان الصرف في جنس بجنس آخر.. كان له الرجوع بالأرش؛ لأن ذلك لا يؤدي إلى التفاضل. [فرعٌ: تماثل الوزن في النقدين] ولا يجوز أن يشتري شيئًا من الذهب والفضة بجنسهما إلا بمثله وزنًا؛ لأنهما موزونان. قال الشافعي في (الصرف) : (إذا اشترى دينارًا بدينارٍ، وتقابضا، ومضى كل واحدٍ منهما يستعير الدينار الذي قبضه بالوزن.. جاز، وهذا يقتضي أن يكون كل واحد منهما قد عرف وزن الدينار، وصدقه الآخر، وتقابضا على ذلك، وأما إذا جهل وزن الدينار.. لم يجز البيع. فإن وزن أحدهما الدينار الذي أخذه، فنقص.. بطل الصرف؛ لأنه وقع العقد على عوضين متفاضلين) . [فرعٌ: صارف من له عند وديعة] قال في (الصرف) : (فإن كان له عند رجلٍ ديناران وديعةً، فصارفه فيهما، ولم يقر الذي عنده الديناران أنه استهلكهما حتى يكون ضامنًا لهما، ولا أنّهما في يده حين صارفه.. فلا خير في الصرف؛ لأنه غير مضمون ولا حاضر، ويجوز أن يكون قد هلك في ذلك الوقت، فبطل الصرف) . قال أصحابنا: هذا إذا كان لا يعلم بقاؤهما، فأما إذا علم بقاؤهما.. جاز البيع. قال الصيدلاني: وهل يحتاج في قبض الوديعة إلى مضي مدة لتكون مقبوضة؟ فيه وجهان.

فرع: شراء دراهم مكسرة بصحاح

[فرعٌ: شراء دراهم مكسرة بصحاح] إذا كان مع رجل دراهم صحاح، يريد أن يشتري بها مكسرة من جنسها، أكثر وزنًا منها.. لم يجز. فإن باع الصحاح بذهب، ثم قبضه، ثم اشترى بالذهب مكسرة أكثر وزنًا من الصحاح.. جاز ذلك، سواءٌ كان ذلك عادة له أو لم يكن له عادة، وبه قال أبو حنيفة. وحكي عن مالك: أنه قال: (إن فعل ذلك مرة.. جاز، وإن تكرر ذلك منه.. لم يجز) . دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أكل تمر خيبر هكذا؟ " قال: لا والله يا رسول الله، إلا أنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، وابتع بالدراهم جنيبًا» . والجمع من التمر: كل لون لا يعرف اسمه. إذا ثبت هذا: فإن باع الصحاح بالذهب وتقابضا، ثم تفرقا، ثم عاد فاشترى بالذهب مكسرة.. جاز. وكذلك إن تخايرا في البيع الأول، ثم تبايعها. فأما إذا تبايعا قبل التفرق والتخاير: ففيه وجهان:

فرع: حيلة في الصرافة للتخلص من الربا

[أحدهما]ـ قال ابن سريج ـ: يصح؛ لأن دخولهما في العقد الثاني رضًا بإمضاء الأول، فلزم الأول، وصح الثاني. والوجه الثاني ـ ذكره ابن القفال في " التقريب " ـ: أنه لا يصح البيع الثاني إلا على القول الذي يقول: الخيار لا يمنع انتقال الملك، فأما إذا قلنا: يمنع.. لم يصح. والأول أصح. فإن اختار أن يقرضه الصحاح، ويقترض منه المكسرة بقيمتها، ثم يبرئ كل واحد منهما صاحبه.. جاز، وكذلك لو وهب كل واحد منهما صاحبه.. صح. وإن باعه الصحاح بوزنها من المكسرة، ثم وهب له الزائد من المكسرة من غير شرط، ولا جمع بينهما في العقد.. جاز. قال ابن الصباغ: إلا أن ذلك يكره عندي؛ لأن كل ما لا يجوز شرطه في العقد، أو التصريح به، إذا دخل عليه.. كان مكروهًا. [فرعٌ: حيلة في الصرافة للتخلص من الربا] ] : ذكر ابن الصباغ: إذا كان مع رجل دينارٌ يساوي عشرين درهمًا، ومع آخر عشرة دراهم، وأراد أن يشتري الدينار بعشرين درهمًا.. فإنه يشتري نصفه بعشرة دراهم، ويتقابضان، فيقبض الدينار، ويكون نصفه له، ونصفه أمانة بيده، ويسلم إليه الدراهم، ثم يستقرضها، فيكون في ذمته مثلها، ثم يبتاع بها النصف الآخر الذي في يده، فيحصل له الدينار وعليه عشرة دراهم قرضًا، فإن لم يفعل هكذا، ولكنه اشترى الدينار بعشرين درهمًا، وقبضه وسلّم العشرة التي معه، ثم استقرضها وسلّمها عن العشرة الأخرى.. فهل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن القرض يملك بالتصرف، وهذه الدراهم لم يتصرف فيها، وإنما ردّها إليه بحالها، فكان ذلك فسخًا للقرض.

فرع: رده دنانير أوزن

والثاني: يجوز، وهو الأصح؛ لأن هذه الدراهم دفعها قضاء عمّا عليه من الدين، وذلك تصرف، كما إذا اشترى بها النصف الآخر من الدينار.. فإنه يجوز، ويكون صرفا، فكذلك هاهنا. وإن كان معه تسعة عشر درهما، فأراد أن يشتري دينارًا بعشرين درهمًا.. فعلى ما ذكرناه من الاقتراض، فإن اشترى الدينار بعشرين درهما، وسلّم تسعة عشر درهمًا، وأقبضه الدينار، فإنه فارقه قبل تسليم الدرهم الآخر.. قال ابن الصبّاغ: بطل العقد في نصف الدينار. والذي يتبين لي: أنه يبطل البيع في جزء من عشرين جزءًا من الدينار بحصة ما لم يقبض من الدراهم. وهل يبطل في الباقي؟ فيه قولان. فإن أراد الخلاص من ذلك.. تفاسخا العقد قبل التفرق، ثم تبايعا تسعة عشر جزءًا من عشرين جزءًا من الدينار، بتسعة عشر درهمًا، وسلّم الدينار إليه؛ ليكون الجزء له من الدينار. [فرعٌ: ردُّه دنانير أوزن] إذا كان لرجل على رجل آخر عشرة دنانير، فأعطاه عشرة دنانير عددًا، فوزنها، فكانت أحد عشرة دينارًا.. قال ابن الصبّاغ: كان الدينار الباقي عن دينه المقبوض مشاعًا، ويكون مضمونًا على القابض؛ لأنه قبضه على أن يكون بدلاً عن دينه، وما قبضه على سبيل المعاوضة يكون مضمونًا عليه، فإن شاء مالكه.. طالبه بالدينار، وإن شاء.. أخذ عوضه دراهم، وقبضها قبل التفرق، وإن شاء.. أخذ عنه عينًا، وإن شاء.. أسلمه إليه في موصوف.

فرع: حرمة الربا بين مسلم وحربي

وإن كان له عند صيرفي دينار واحد، فأخذ منه دراهم ولم يتبايعا.. كان الدينار له والدراهم عليه، فإن تبارآ.. جاز. وإن اشترى رجل من آخر عشرين درهمًا نقرة بدينار، فقال له رجل: ولِّني نصفها بنصف الثمن.. قال ابن الصباغ: صح، والتولية بيع. وإن قال رجل لرجل اشتر عشرين درهمًا نقرة بدينار لنفسك، وولِّني نصفها بنصف دينار.. لم يصح؛ لأن التولية بيع، ولا يصح البيع من الغائب. وإن قال لصائغ: صغ لي خاتما من فضة، فيه درهم، لأعطيك درهمًا وأجرتك، فصاغه.. فإن هذا ليس بشراء، والخاتم للصائغ؛ لأنه اشترى فضة مجهولة بفضة مجهولة، وتفرقا قبل التقابض، وشرط العمل أيضًا، وذلك كله مفسد للعقد، وله بعد هذا أن يبتاعه بغير جنسه، أو بمثل وزنه من جنسه. [فرعٌ: حرمة الربا بين مسلم وحربي] ] : ويحرم الرّبا في دار الحرب بين المسلم والحربي، كما يحرم بين المسلمين في دار الإسلام، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يبيع المسلم من الحربي درهمًا بدرهمين، ودرهمين بدرهم، وكذلك إذا أسلم رجلان في دار الحرب.. لم يحرم عليهما الربا في دار الحرب) . دليلنا: عموم الأخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تحريم الربا؛ ولأن ما كان ربا في دار الإسلام.. كان ربا في دار الحرب، كالربا بين المسلمين في دار الإسلام. [مسألةٌ: ما يعتبر جنسًا واحدًا] ] : قد ذكرنا: أن الجنس الواحد من أموال الربا يحرم فيه التفاضل والنّساء. إذا ثبت هذا: فإن كل شيئين اتّفقا في الاسم الخاص من أصل الخلقة، فهما جنس واحد، كالتمر البرني والتمر المعقلي، والذرة الشريحي والذرة البيضاء. وكل

فرع: اعتبار الأصل الربوي

شيئين اختلفا في الاسم الخاصّ من أصل الخلقة، كالتمر والزبيب، والذرة والحنطة والشعير، فهما جنسان يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك، وحمّاد، واللّيث: (الحنطة والشعير جنس واحد، لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً) . دليلنا: ما روي من حديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ولكن بيعوا البر بالشعير، يدًا بيد، كيف شئتم» . ولأنهما عينان لا يشتركان في الاسم الخاص، فكانا جنسين، كالحنطة والذرة والدخن. فقولنا: (في الاسم الخاص) احترازٌ من الاسم العامّ؛ لأنهما مطعومان، ويجعهما اسم الحب أيضًا. [فرعٌ: اعتبار الأصل الربوي] وأمّا ما اتخذ من أموال الربا، كالدقيق والخبز والعصير والخلول والأدهان.. ففيها طريقان: [الأول] : ـ المشهور من المذهب ـ أنها معتبرة بأصولها، فإن كانت أصولها أجناسًا.. فهي أجناس. فعلى هذا: دقيق الحنطة ودقيق الشعير جنسان، وخبز البر وخبز الشعير جنسان، وكذلك العصير والخل والدهن. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: هذا، وهو الصحيح.

فرع: بيع أنواع العسل متفاضلا

والثاني: أنّ الأدقة كلّها جنس واحد، وكذلك الأخبار كلها جنس واحد، والأعصار كلها جنس واحد، وكذلك الخلول والأدهان. وليس بشيء؛ لأنها فروع لأصول هي أجناس حرم فيها الربا، فكان أجناسًا، كأصولها. فإذا قلنا بهذا: ففي زيت الزيتون وزيت الفجل قولان: أحدهما: أنها جنس واحد؛ لأن اسم الزيت يجمعهما. والثاني: أنهما جنسان، وهو الصحيح؛ لأنهما فرعان لأصلين مختلفين؛ لأن الزيت إنما سمِّي: زيتًا؛ لأنه متخذ من الزيتون، وزيت الفجل يخالفه في اللون والطعم والرائحة، وإنما سمي: زيتًا؛ لأنه يصلح لبعض ما يصلح له الزيت، وبهذا القدر لا يكونان جنسًا واحدًا. [فرعٌ: بيع أنواع العسل متفاضلاً] قال الشافعي: (ويجوز بيع عسل الطبرزد وعسل القصب، بعسل النحل متفاضلاً) ؛ لأنهما جنسان مختلفان؛ ولأن إطلاق العسل إنما ينصرف إلى عسل النحل. وإنما سمي عسل الطبرزد وعسل القصب: عسلا؛ لحلاوته، فيقال: رجل معسول: إذا كان طيب الكلام، وامرأة معسولة الوجه: إذا كان حسنًا، ومنه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرأة: «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» ، وأراد به: الجماع الذي يقع به الالتذاذ، مأخوذٌ من العسل.

فرع: بيع اللحمان متفاضلا

ولا يجوز بيع عسل الطبرزد، بعسل القصب متفاضلاً؛ لأن أصلهما من القصب، وهل يجوز بيع أحدهما بالآخر متماثلاً، أو بيع بعضه ببعض؟ فيه وجهان، كالسكر، ويأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى. وأما الخضراوات، مثل: الرمان والسفرجل والبقول: إذا قلنا: يحرم فيها الربا.. فهي أجناسٌ، فالسفرجل جنس، والرمان جنس، والهندباء جنس، والنعناع جنس، والجرير جنس، يجوز بيع جنس منها، بجنس آخر متفاضلاً. [فرعٌ: بيع اللحمان متفاضلاً] وأما اللُّحمان: ففيها قولان: أحدهما: أن الجميع جنس واحد؛ لأنه يشملها اسم خاص حين حدث فيه الربا، فكان جنسًا، كأنواع التمر، وأنواع العنب. فقولنا: (اسم خاص) احترازٌ من الثمرة، فإنه اسمٌ لجميع الثمار كلها من العنب والرطب، وكذلك أنواع الحبوب. وقولنا: (حين حدث فيها الربا) احترازٌ من الأخباز والأدمة؛ لأنها أجناس،

ولكن لم يجمعها اسم خاص حين حدث فيها الربا؛ لأن الربا كان ثابتًا في أصولها. فعلى هذا: يكون لحم جميع الأنعام على اختلاف أجناسها، ولحم جميع الصيود البرية جنسًا واحدًا، وهل يدخل فيها لحم السمك؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وهو اختيار أبي إسحاق المروزي، والقاضي أبي الطيب، وابن الصبّاغ ـ: أنه يدخل فيها؛ لأنه يقع عليه اسم اللحم. ولهذا قال الله تعالى: {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12] [فاطر: 12] . والثاني ـ وهو اختيار أبي علي الطبري، والشيخ أبي حامد ـ: أنه لا يدخل في جملتها، بل هو جنس وحده؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم اللحم، وإنما يسمى سمكًا حيًا وميتًا، ولو قال قائل: أكلت لحم السمك.. كان تعسُّفًا في الكلام، وإنما سماه الله تعالى: لحمًا؛ بالإضافة إلى البحر. والقول الثاني: أن اللحمان أجناس، وهو اختيار المزني، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو الصحيح؛ لأنها فروع لأصول هي أجناس، فكانت أجناسًا، كالأدقة والأدهان. فعلى هذا: لحوم الإبل كلها جنس واحد، على اختلاف أنواعها، وكذلك لحم البقر الأهلي، جواميسها وعرابها جنس واحد، ولحم بقر الوحش جنس غيرها، ولحم الضأن والمعز جنس واحد، ولحم الظباء جنس غيرها، وكذلك الطيور والصيود، كل صنف منها جنس، فالعصافير جنس، والوعول جنس، والأرانب جنس، والحمير جنس، والحمام جنس، والفواخت جنس، والقماري جنس.

فرع: أنواع اللحم

وقال الربيع: كل ما عب وهدر جنس واحد. وليس بشيء؛ لأن ما انفرد باسم وصفة.. كان جنسًا. وأما صيد البحر على هذا القول: فقال المسعودي [في " الإبانة " [ق\219] : فإن قلنا: إن الجميع من صيد البحر يسمى: حوتًا، حتّى يحل أكل كلبه وخنزيره.. فالجميع جنس واحد. إن قلنا: لا يسمى: حوتًا، فهو كصيود البر، أجناسٌ وهذا هو الصحيح. [فرعٌ: أنواع اللحم] اللحم الأحمر واللحم الأبيض جنس، والألية جنس، والشحم جنس، والكبد جنس، والطحال جنس، والكلية جنس، وكل واحد من هذه الأجناس يجوز بيعه بالجنس الآخر منها متفاضلاً؛ لأنها مختلفة الأسماء والخلق. [فرعٌ: أنواع الألبان والبيض] وأما الألبان: فاختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: هي على قولين، كاللحمان. ومنهم من قال: هي أجناس، قولاً واحدًا؛ لأنها تتولد من الحيوان، والحيوان أجناسٌ. والأول أصح. وأمّا البيض: فإن قلنا: إن اللحمان أجناس.. فالبيض أجناس. وإن قلنا: اللحمان جنس واحد.. ففي البيض وجهان، حكاهما الصيمري، أصحهما: أنها أجناس.

مسألة: بيع الجنس متفاضلا

[مسألة: بيع الجنس متفاضلا] وما حرم فيه التفاضل.. لا يجوز بيع بعضه ببعض حتى يتساويا في الوزن فيما يوزن، والكيل فيما يكال. وقال بعض الناس: يجوز بيع ما يكال بعضه ببعض حتى يتساويا بالوزن فيما يوزن وزنًا. وقال مالك: (يجوز بيع ما يكال في البادية دون الحضر بالحزر والتخمين) . ووافقنا في الموزونات: أنه لا يجوز. دليلنا: ما روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الصبرة بالصبرة لا يدرى مكيلها» . وروى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب، تبره وعينه، وزنًا بوزن، والفضة بالفضة، تبرها وعينها، وزنًا بوزن، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، كيلا بكيل، فمن زاد أو استزاد.. فقد أربى» . ولم يفرق بين البادية والحضر. و (التبر من الذهب والفضة) : كل ما لم يطبع، والعين منهما ما طبع. ولأنه مطعوم فقد فيه الكيل في الطرفين، فلم يصح، كما لو كان في الحضر، وفيه احترازٌ من العرايا، فإن الكيل فقد فيها في أحد الطرفين.

فرع: بيع الصبرة بالصبرة جزافا

[فرعٌ: بيع الصبرة بالصبرة جزافًا] وإن تبايعا صبرة طعام بصبرة طعام، وهما لا يعلمان كليهما.. لم يصح البيع؛ لما روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الصبرة من الطعام بالصبرة من الطعام» . ولأنهما مجهولتان عندهما حال العقد. قال المسعودي [في " الإبانة " [ق\225] : وإن باع صاع حنطة في ذمته، بصاع حنطة في ذمته، فإن كان في البلد أجناس من الحنطة.. لم يصح البيع؛ لأن المعقود عليه مجهول. وإن كان في البلد جنس واحد من الحنطة.. ففيه وجهان: أحدهما ـ قال: وهو الأقيس ـ: إن الإطلاق ينصرف إلى ذلك الجنس، ويشترط فيه التقابض قبل التفرق، كما قلنا في النقد. ومثل هذا حكى الشيخ أبو حامد، عن أبي إسحاق: إذا كان في بلد يصنع أهلها جنسًا من الثياب لا يخلطها غيرها، والبيع والشراء بها، فاشترى منه ثوبًا في ذمته مطلقًا.. فإن الإطلاق ينصرف إلى ذلك الجنس. والوجه الثاني: لا يصح؛ لأن الحنطة تختلف أنواعها، بخلاف النقد. وإن قال: بعتك هذه الصبرة بهذه الصبرة مثلا بمثل، أو كيلا بكيل، أو قفيزًا بقفيز، وهما جنس واحد، فإن كيلتا قبل التفرق، فخرجتا متساويتين.. صحَّ البيع؛ لأن التساوي كان موجودًا حال العقد. وإن خرجتا متفاضلتين.. ففيه قولان: أحدهما: أن البيع باطل، وهو اختيار الشافعي؛ لأنه بيع جنس مطعوم بجنسه متفاضلاً. والثاني: يصح البيع في القدر الذي تساويا فيه: لأنهما قد شرطا التساوي. فعلى هذا: يكون الذي نقصت صبرته التي باع بالخيار: بين أن يفسخ البيع؛ لأنه دخل في البيع ليأخذ هذه الصبرة بهذه، وبين أن يقر البيع، ويأخذ بإزاء صبرته الناقصة من صبرة الآخر. وإن تقابضا الصبرتين جزافًا، ثم تفرقا.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\231] :

مسألة: اعتبار الكيل والميزان

أحدهما: أن البيع يبطل لوجود التفرق قبل القبض الصحيح. والثاني: يصح؛ لوجود القبض مشاهدة. وإن باعه صبرة حنطة بصبرة شعير، ولم يشرطا الكيل.. صح البيع، ويشترط فيهما القبض قبل التفرق، وسواء خرجتا متساويتين أو متفاضلتين، فإنه يجوز؛ لأن المفاضلة بينهما تجوز. وإن شرطا المساواة فيهما، فإن كيلتا فخرجتا متساويتين.. صح البيع، وإن خرجتا متفاضلتين، فإن رضي من خرجت صبرته التي باع زائدة، بتسليم جميعها.. أقر العقد، ووجب على الآخر قبوله؛ لأنه ملكه بالعقد، وإن لم يرض بذلك، ولكن رضي من خرجت صبرته ناقصة، بأن يأخذ بإزاء صبرته من الزائدة.. أقر العقد. وإن تشاحّا.. فسخ العقد بينهما؛ لأن كل واحد منهما باع صبرته بجميع صبرة الآخر على التساوي، وقد تعذر ذلك، ففسخ العقد بينهما. [مسألة: اعتبار الكيل والميزان] قد ذكرنا: أنه لا يجوز بيع الجنس الواحد بعضه ببعض إلا متماثلاً بالوزن فيما يوزن، وبالكيل فيما يكال، والاعتبار في ذلك فيما كان مكيلا أو موزونًا بمكة والمدينة ومخاليفهما في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة» .

قال أبو عبيد: وقد روي: «المكيال مكيال أهل مكة، والميزان ميزان أهل المدينة» . والأول أشهر، ولم يرد: أنه لا مكيال إلا مكيال أهل مكة، ولا ميزان إلا ميزان أهل المدينة، وإنما أراد: أن الاعتبار بما يكال ويوزن بهما. إذا ثبت هذا: فإن الذهب والورق موزونان، والأربعة الأعيان الأخرى: وهي الحنطة والشعير والملح والتمر مكيلة؛ لما روي في حديث عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب، وزنا بوزن، والفضة بالفضة، وزنا بوزن، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، كيلا بكيل» . وهذا نص. قال الشاشي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن كان الملح قطعا.. ففيه وجهان: أحدهما: يباع بعضه ببعض وزنًا، لأنه لا يمكن كيله. والثاني: يسحق، ويباع بعضه ببعض كيلا، لأن أصله الكيل. وأما غير هذه الأعيان المنصوص عليها في الربا: فنعتبر بعرف الحجاز فيها في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لما ذكرناه من الخبر، ولأنها مقر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ودار هجرته. قال الشيخ أبو حامد: فأما ما حدث من المطعومات بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو ما كان منها على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن بأرض الحجاز.. ففيه وجهان: أحدهما: يعتبر بأشبه الأشياء به في الحجاز في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن كان ما يشبهه مكيلا.. لم يجز بيع بعضه ببعض إلا كيلاً، وإن كان ما يشبهه موزونًا.. لم يجز بيع بعضه ببعض إلا وزنًا، كما قلنا في جزاء الصيد: يعتبر ما لم يحكم فيه الصحابة بأشبه الأشياء به مما حكمت به الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وكذلك ما استطابته العرب..

حل، وما استخبثته حرم.. وما أشكل.. رجع فيه إلى أشبه الأشياء به مما استطابته العرب أو مما استخبثته. والثاني: يعتبر فيه عادة سائر البلاد، فإن كان مكيلا.. لم يبع إلا كيلا، وإن كان موزونًا.. لم يبع إلا وزنًا؛ لأن الشيء إذا لم يكن بد فيه من حد، وما لم يكن محدودًا في الشرع.. رجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، كما قلنا في القبض وإحياء الموات والحرز. فإن اختلف البلاد في كيل ذلك الشيء ووزنه.. اعتبر حكم الغالب فيه. وإن كان مكيلا في بلاد، وموزونًا في بلاد، وليس بعضها بأكثر من بعض.. قال ابن الصباغ: فينبغي أن يعتبر ذلك الشيء بأشبه الأشياء به. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ هذا الوجه: أنه يعتبر عرف البلاد فيه. وأما الشيخ أبو إسحاق: فذكر في " المهذب ": أنه يعتبر البلد الذي فيه البيع ولم يعتبر غيره. وإن كان من المطعومات مما لا يكال ولا يوزن. فإن قلنا بقوله القديم: (وأنه لا يحرم فيه الربا) .. فلا كلام. وإن قلنا بقوله الجديد: (وأنه يحرم فيه الربا) ، فإن أراد بيع الجنس منه بجنس آخر.. جاز بيعه رطبًا ويابسًا، ولا يعتبر فيه كيلٌ ولا وزنٌ؛ لأن الفضل يجوز في بيعه. وإن أراد بيع الجنس منه بجنسه، فإن كان مما ييبس وتبقى منفعته يابسًا، كالخوخ والمشمش والتفاح الجاف وحب الرمان.. جاز بيع بعضه ببعض بعد الجفاف متماثلاً. وإن أراد بيع بعضه ببعض رطبًا.. ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن كل ما فيه الربا لا يجوز بيع بعضه ببعض رطبًا كالرُّطب.

مسألة: مد عجوة ودرهم

والثاني: يجوز؛ لأن معظم منفعة هذه الأشياء في حال رطوبتها، فجاز بيع بعضها ببعض رطبا، كاللبن. فإذا قلنا بهذا: فإن كان المبيع لا يمكن كيله، كالقثاء، والبطيخ، والخيار، وما أشبه ذلك.. بيع وزنًا؛ لأنه أخضر. وإن كان يمكنه كيله، مثل: التفاح، والخوخ الصغار، والتين، وحب الرمان.. ففيه وجهان: أحدهما: يباع بعضه ببعض وزنًا؛ لأنه أخضر. والثاني: يباع كيلا؛ لأن الأشياء الأربعة مكيلة، فكان ردّه إليها أولى. قال الشيخ أبو حامد: والأول أصح. [مسألة: مد عجوة ودرهم] كل جنس حرم فيه الربا، لا يجوز بيع بعضه ببعض، ومع أحدهما، أو معهما، جنس آخر من أموال الربا، أو من غير أموال الربا، كمد عجوة ـ وهو نوع من التمر ـ ودرهم بمدي عجوة، أو بدرهمين، أو كدرهم ومد عجوة بدرهم ومد عجوة، أو كثوب ودرهم بدرهمين، أو كدرهم وثوب بدرهم وثوب. قال الطبري: إلا أن ينص في البيع، فيقول: المد بالمد، والدرهم بالدرهم.. فيصح. وكذلك لا يصح بيع نوعين من أموال الربا مختلفي القيمة، بنوع من ذلك الجنس،

كدرهم صحيح، ودرهم مكسور، بدرهمين صحيحين أو مكسورين، وكمد تمر برني ومد معقلي، وبمدين برنيين أو معقليين، وكذهب ذرة بيضاء وذهب ذرة حمراء، بذهبي ذرة بيضاء أو حمراء. وقال أبو حنيفة: (يجوز البيع في الجميع ـ حتى قال ـ: لو باع قرطاسًا فيه درهم بمائة درهم.. صح) ؛ لأن درهمًا من المائة يقابل الدرهم الذي في القرطاس، والقرطاس يقابل تسعة وتسعين درهمًا، وإن باع قرطاسًا فيه مائة درهم بمائة درهم.. لم يصح؟ لأن القرطاس لا يعرى عن ثمن، وإذا أخذ قسطًا من المائة.. كانت الدراهم التي في القرطاس مبيعة بأقل منها من المائة الأخرى، فلم يجز، وكذا عنده يجوز بيع نوعين من جنس مختلفي القيمة، بنوع منه متفقي القيمة، وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين في النوعين لا غير. دليلنا: ما روي عن فضالة بن عبيد: انه قال: «أتى رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر بقلادة فيها ذهبٌ وخرزٌ، ابتاعها بسبعة دنانير أو بتسعة دنانير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يجوز ذلك حتى تميز بينه وبينه "، وفي رواية أخرى: أنه قال له: " لا يباع مثل ذلك حتى تفصل "، فقال الرجل: يا رسول الله، إنما أردت الحجارة، وفي رواية: إنما ابتعتها للحجارة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا، حتى يميز بينهما» . فمنع من البيع حتى يميز، وأراد التمييز بالعقد، ولم يسأل: هل الذهب الذي في القلادة

مسألة: بيع حنطة خالصة بغير خالصة

يساوي الدنانير، أو أكثر؟ فدلّ على أن الحكم يختلف. ولأن العقد إذا جمع عوضين.. فإن الثمن ينقسم عليهما على قدر قيمتها، بدليل: أن من اشترى سيفًا وشقصًا.. فإن الثمن ينقسم عليهما على قدر قيمتهما. وإن باع درهمًا صحيحًا ودرهمًا مكسورًا، بدرهمين صحيحين أو مكسورين.. فإن الصحيح يأخذ من الصحيحين، أو من المكسورين أكثر من النصف؛ لأن قيمته أكثر من قيمة المكسورين، فيؤدي إلى الربا. وإن باع سيفًا محلّى بفضة، بفضة، أو سيفا محلّى بذهب وفضة، بذهب أو بفضة، أو بذهب وفضة.. لم يجز؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها. وإن باع سيفا محلى بفضة بذهب، أو سيفا محلى بذهب بفضة.. فقد جمع بيعًا وصرفًا، وفيه قولان مضى توجيههما. واختلف لم سمي الصرف صرفا، فقيل: لصرفه عن حكم أكثر أحكام البيع. وقيل: لصرف المسامحة عنه في الزيادة في الجنس والتأخير. وقيل: لأن الشرع أوجب على كل واحد منهما مصارفة صاحبه، أي: مقايضته، فلا يزيد في الجنس الواحد، ولا يؤخره. [مسألة: بيع حنطة خالصة بغير خالصة] ] : ولا يجوز بيع حنطة خالصة، بحنطة فيها شعير أو زؤان: وهو حب أصفر حاد الطرفين، هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في " التعليق ". وقال ابن الصباغ: هو حب دقيق الطرفين غليظ الوسط أسود. وكذلك لا يجوز إذا كان في الحنطة شيلم: وهو حبٌّ أحد طرفيه حادٌّ والآخر غليظ، أو كان فيه عقد التبن، لأن ذلك يأخذ حظًّا من

فرع: بيع العسل ببعضه وفيه شمع

الكيل، فتكون الحنطة مبيعة بأقل منها كيلا، فلم يجز. وهكذا: إذا كان في كل حنطة شعير أو زؤان أو شيلم أو عقد التبن.. فلا يصح بيع إحداهما بالأخرى؛ لأنه لا يعلم التماثل بين الحنطتين. فإن كان في إحدى الحنطتين ترابٌ دقيقٌ يسيرٌ، أو دقاق التبن اليسير.. صح بيع إحداهما بالأخرى. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\220] : وهكذا: لو باع الحنطة بالشعير، وفي الشعير حنيطاتٌ.. صحّ؛ لأن ذلك لا يأخذ حظًّا من الكيل. فأما إذا باع شيئًا موزونًا من أموال الربا بجنسه، وفيهما، أو في أحدهما شيء من التراب اليسير.. لم يصح؛ لأنه يأخذ حظًّا من الوزن. [فرعٌ: بيع العسل ببعضه وفيه شمع] وأما إذا باع عسل النحل بعضه ببعض، وفيهما، أو في أحدهما شمع.. لم يصح البيع؛ لأن ذلك يؤدي إلى التفاضل بين العسلين.. فلم يصح. فإن قيل: فكيف جوّزتم بيع التمر بالتمر وفيهما النوى؟ قلنا: الفرق بينهما أن بقاء النوى في التمر من مصلحته، فلم يكلّف إزالته، لذلك فصح بيعه فيه، بخلاف الشمع، فإنه لا مصلحة للعسل في بقائه فيه، بل ربما كان سببًا لنقصه؛ ولأن الشمع مقصود مع العسل، ولا يجوز بيع ما فيه الربا بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما شيء مقصود، بخلاف النوى، فإنه غير مقصود. [مسألة: بيع الرطب بالمجفف] وما يحرم فيه الربا من الثمار والحبوب.. لا يجوز بيع رطبه بيابسه على الأرض، كبيع الرطب بالتمر، وبيع الزبيب بالعنب، وبه قال سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وسعيد بن المسيب، ومالك، والليث، وأحمد، ومحمد، وإسحاق، وأبو يوسف رحمة الله عليهم.

وقال أبو حنيفة: (يجوز بيع الرطب بالتمر على وجه الأرض كيلا، ويجوز بيع العنب بالزبيب، وبيع الحنطة الجافة بالمبلولة، وبيع كل فاكهة يابسة بالرطب منها) . ووافقه أبو يوسف، ومحمد في الحنطة المبلولة بالجافة. دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمر بالتمر كيلا، وعن بيع الكرم بالزبيب كيلا، وعن بيع الطعام بالزرع كيلا» . والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. وروى سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال «سُئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الرطب بالتمر، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أينقص الرطب إذا يبس؟ " فقالوا: نعم، فقال: " فلا إذن "، وفي رواية: فنهى عن ذلك» . قال الشيخ أبو حامد: ولم يسأل عن نقصانه؛ لأنه لم يعلم ذلك؛ لأن ذلك يعلم بالحس، ويشترك كل واحد بعلمه، وإنما سأل عن ذلك؛ ليبين أنه إنما منع من ذلك؛ لأجل أنه ينقص فيما بعد؛ لئلا يظن ظان أنه نهى عن ذلك لغير هذه العلة، ولأنه جنس فيه الربا بيع منه ما هو على هيئة الادخار، بما هو منه على غير هيئة

فرع: بيع رطب برطب

الادِّخار على وجه يتفاضلان في حال الادخار، فوجب أن لا يجوز أصله بيع الحِنطة بدقيقها، أو بالحنطة المقليَّة. وقولنا: (على وجهٍ يتفاضلان في حال الادخار) احترازٌ من العرية؛ لأنهما على صفةٍ لا يتفاضلان في حال الادخار، وذلك: أن الرُّطب على النخل يخرص، فينظر: كم هو؟ ثم ينقص منه ما ينقص في حال الجفاف، ثم يباع بمثل ذلك تمرًا. [فرعٌ: بيع رطب برطب] وأمَّا بيع رطبة برطبة، فإن كان مما يدخر يابسه، كالرطب والعنب.. فلا يجوز بيع رطبه برطبه. وقال مالكٌ، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وأبو يوسف، والمزني: (يجوز، كما يجوز بيع اللبن باللبن) . دليلنا: ما ذكرناه من حديث سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: " أينقص الرطب إذا يبس؟ "، فقالوا: نعم، قال: " فلا إذن» . فجعل العلة: أن الرطب ينقص فيما بعد، وهذا المعنى موجودٌ في بيع الرطب بالرطب، ولأنهما على غير هيئة الادخار، ولا يُعلم تساويهما في حال الادخار، فلم يجز بيع أحدهما بالآخر، كالحنطة بدقيقها، ويخالف اللبن، فإن معظم منفعته في حال رطوبته، بخلاف الرطب؛ لأن كل شيء يصلح له الرطب فالتمر يصلح له. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولأن الرطب يجف بنفسه، فلهذا منع من بيعه إلا بعد الجفاف، وليس كذلك اللبن، فإنه لا يجف حتى يجفف، ويخلط به غيره) . فإن قيل: علة الخبر تنتقض بالتمر الحديث، بالتمر العتيق، فإن بيع أحدهما بالآخر يجوز وإن كان الحديث ينقص عن العتيق فيما بعد. فالجواب: أن العلة المستنبطة لا يجوز تخصيصها عندنا بحالٍ. وإن من شرط صحتها عندنا أن تكون جارية، فلا توجد إلا ويوجد الحكم معها. وأمّا العلة المنصوص عليها: فهل يجوز تخصيصها؟ فيه وجهان. وهذه علةٌ

منصوص عليها، فمن قال: يجوز تخصيصها.. قال: التمر الحديث مخصوص من هذه العلة، فلا يكون نقصًا لها؛ ولأن الدليل على صحة العلة المستنبطة: جريانها في الأصول، والدلالة على صحة العلة المنصوص عليها: الاسم، وكونها منصوصًا عليها. ومن قال من أصحابنا: العلة المنصوصة لا يجوز تخصيصها أيضًا.. قال: لا يكون نقص التمر الحديث عن العتيق نقضًا لعلتنا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتبر النقصان في الرطب إلى حال التناهي، ولم يعتبر النقصان بعد ذلك، والحديث والعتيق متساويان في حال تناهيهما تمرًا، فلا يعتبر النقص بعد ذلك. وإن كان مما لا يدخر يابسها، كالرمان، والسفرجل، والبقول، والكُرَّاث، والبصل، إذا قلنا بقوله الجديد: (وأنه يحرم فيها الربا) .. فهل يجوز بيع بعضها ببعض؟ فيه قولان، قد مضى ذكرهما: أحدهما: يجوز؛ لأن معظم منفعتها في حال رطوبتها، فهي كاللبن. والثاني: لا يجوز؛ لأنه جنس فيه ربا.. فلم يجز بيع رطبه برطبه، كالرطب بالرطب، والعنب بالعنب. وفي بيع الرطب الذي لا يجيء منه تمر بعضه ببعض في حال رطوبته، وبيع العنب الذي لا يجيء منه زبيب بعضه ببعض في حال رطوبته، طريقان: قال أكثر أصحابنا: لا يجوز بيع ذلك، قولاً واحدًا، كغالبه. وقال أبو العباس: إنها على قولين، كالرمان والسفرجل، لأن معظم منفعتهما في حال رطوبتهما، فكانا كسائر الفواكه التي معظم منفعتها في حال رطوبتها.

فرع: بيع اللحم بجنسه

[فرعٌ: بيع اللحم بجنسه] وإذا أراد بيع اللحم بجنسه، وقلنا: اللحمان جنسٌ واحدٌ، فإن باعه بعد أن جف ويبس.. جاز؛ لأنه حالة ادخاره. فإن أراد بيع بعضه ببعض في حال رطوبته.. ففيه طريقان: [أحدهما] : قال أبو العباس: فيه قولان، كالفواكه الرطبة التي معظم منفعتها في حال رطوبتها. و [ثانيهما] : قال أكثر أصحابنا: لا يجوز، قولاً واحدًا، وهو المنصوص؛ لأن معظم منفعة اللحم ليس في حال رطوبته؛ لأن كل شيء يصلح له اللحم الرطب الطري، صلح له اليابس، إلا أن لذته في حال رطوبته، كالرطب، فإن لذته في حال كونه رطبا. إذا ثبت هذا: فإن باع اللحم بعضه ببعض، وفيهما، أو في أحدهما رطوبة يسيرة.. لم يجز، والفرق بينه وبين التمر ـ حيث جاز بيع بعضه ببعض وإن كان فيهما، أو أحدهما رطوبة ـ: أن اللحم لا يباع بعضه ببعض إلا وزنا، وقليل الرطوبة يؤثر في الوزن، بخلاف التمر، فإنه لا يباع بعضه ببعض إلا كيلا، والرطوبة اليسيرة فيه لا تؤثر في الكيل، ولأن الرطوبة اليسيرة في التمر لا تفسده، والرطوبة اليسيرة في اللحم تفسده في حال الادخار، فإن يبس اللحم، ثم أصابته نداوة.. لم يجز بيع بعضه ببعض حتى يجف ثانيًا؛ لما ذكرنا: أنه يتناقص في الوزن بعد ذلك، وهل يجوز بيع اللحم بعضه ببعض قبل نزع العظم؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، كما يجوز بيع التمر بالتمر، وفيهما النوى. والثاني: لا يجوز، كما لا يجوز بيع العسل بالعسل، وفيهما الشمع.

مسألة: بيع العرايا

[مسألة: بيع العرايا] روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرايا» . فهذا الخبر تلقته الأمة بالقبول، واختلفوا في تأويله: فعندنا: أن العرية: هو أن يشتري القفيزَ الرُّطَبَ على رؤوس النخل بالتمر على الأرض، وكيفية ذلك: أن يحزِر الخارصُ ما على النخلة من الرطب، وكم يجيء من ذلك الرطب من التمر إذا جف، فيباع بمثله من التمر، ولا يتفرقا إلا بعد القبض. فالقبض في التمر: الكيل والتحويل، وفي الرطب على النخل: التخلية بين النخلة وبين مشتري الرطب. هذا مذهبنا. وقال مالك: (العرية: هو أن يهب الرجل لآخر نخلة، فتلزمه الهبة عنده بالعقد من غير قبض، فإذا ملك الموهوب له هذه النخلة وأثمرت، أو كان وهبه ثمرة النخلة لا غير، ثم شق على الواهب دخول الموهوب له إلى حائط الواهب، لأجل نخلته

لا سيما بالحجاز، فإن عادتهم ينتقلون بأهاليهم إلى البساتين.. فيجوز للواهب أن يشتري من الموهوب له ما على تلك النخلة من الرطب بما يجيء منه من التمر، ولا يجوز ذلك لغيرهما) . وقال أبو حنيفة: (العرية: هو أن يهب صاحب البستان ثمرة نخلة بعينها من رجل، ولم يقبضها الموهوب له، فإن الهبة لا تلزم عنده وعندنا إلا بالقبض، فيكره هذا الواهب أن يرجع في هبته، ويخاف ضرر المشاركة إن أقبضه فيقول الواهب للموهوب له: أعطيك بدل هذه الثمرة تمرًا، فسمي هذا: بيعًا على وجه المجاز) . دليلنا: ما روى سهل بن أبي حثمة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع التمر بالتمر، إلا أنه أرخص في العرايا أن تباع الثمر بخرصها تمرًا، يأكلها أهلها رطبًا» . وروى الشافعي، عن مالك رحمهما الله، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى لأبي أحمد، عن أبي هريرة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق» الشك من داود. والاستدلال على مالك: أنه لم يفرق بين الواهب وغيره. وعلى أبي حنيفة: قوله: «نهى عن بيع التمر بالتمر، إلا أنه أرخص في العرايا» . والاستثناء يكون من جنس المستثنى منه، فلما كان المستثنى منه بيعًا، وهو بيع التمر بالتمر.. وجب أن يكون المستثنى بيعًا. وعنده: (أنه ليس ببيع) .

وكذلك: قوله: «أرخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها تمرًا» ، وعنده: (لا يجوز بيع الرطب خرصًا بالتمر بحال) . فإن قيل: العرية في اللغة: هي اسم للعطية، يقال: أعراه كذا: إذا أعطاه، ولهذا قال الشاعر: وليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح يقول: إنا نعريها الناس.. قلنا عن ذلك جوابان: أحدهما: ما قال الأزهري: إن العرية: اسمٌ لنخلةٍ مفردةٍ، سواء كانت للبيع أو للأكل، أو للهبة، وعلى هذا يحمل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في العرية» . وهي النخلة التي يفردها الخارص لرب الحائط ليأكل منها.

والثاني: ما قال بعض أهل اللغة: إن العرية: هي النخلة التي عليها ثمرةٌ أرطبت، سميت: عرية؛ لأن الناس يعرونها لتلتقط الثمرة منها، يقال: عريت الرجل: إذا قصدته لتستميحه. ومنه قول النابغة: أتيتك عاريا خلقا ثيابي ... على عجل تظن بي الظنون إذا ثبت هذا: فإن العرايا تصح للفقراء، بلا خلاف على المذهب، وهل تصح للأغنياء؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز، وهو اختيار المزني، وبه قال أحمد؛ لما روي «عن محمود بن لبيد: (أنه قال: قلت لزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ما عراياكم هذه؟ فسمَّى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن الرطب يأتي، ولا نقد عندهم يبتاعون به رطبا يأكلونه مع الناس، وعندهم فضول من قوتهم من التمر، فرخص لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم، يأكلونها رطبا مع الناس» . والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لما روى سهل بن أبي حثمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع التمر بالتمر، إلا أنه أرخص في العرايا أن تباع بخرصها تمرًا، يأكلها أهلها رطبًا» . ولم يفرق بين الأغنياء والفقراء، ولأن كل بيع جاز للفقراء.. جاز للأغنياء، كسائر المبيعات.

فرع: بيع الرطب على رؤوس النخل بالرطب على الأرض

وأما حديث محمود بن لبيد: فلا حجة فيه أنه لا يجوز للأغنياء؛ لأن المحتاجين كانوا هم السبب، وأما الرخصة: فعامة، كما أن سبب الرمل في الاضطباع كان لإظهار الجلد للمشركين، ثم زال السبب والحكم باق. [فرعٌ: بيع الرطب على رؤوس النخل بالرطب على الأرض] ] : وإن باع رطبا على رؤوس النخل، برطب على الأرض، أو برطب على رؤوس النخل.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجوز، وهو قول ابن خيران؛ لما روى زيد بن ثابت: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرية بالتمر والرطب) . ولم يفرق، وروي: (بالتمر أو الرطب» . والثاني ـ حكاه الشيخ أبو حامد، عن أبي إسحاق ـ: إن كان على رؤوس النخل.. جاز، وإن كان أحدهما على الأرض.. لم يجز؛ لأنهما إذا كانا على رؤوس النخل، فربما يريد أحدهما نوعًا من الرطب غير النوع الذي عنده، فيأكله أيًّامًا من نخله. وإذا كان أحدهما على الأرض.. لا يمكنه أن يأكله أيامًا؛ لأن أكثر ما يبقى رطبا يومًا أو يومين. وأما صاحب " المهذب "، وابن الصباغ: فحكيا قول أبي إسحاق: إن كانا نوعًا واحدًا.. لم يجز. وإن كانا نوعين.. جاز من غير تفصيل. ولعلهما أرادا إذا كان النوعان على رؤوس النخل. والوجه الثالث ـ وهو قول أبي سعيد الإصطخري ـ: أنه لا يجوز بحال؛ لما روي في حديث سهل بن أبي حثمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع تمر النخل بتمر النخل، إلا أنه أرخص في العرايا أن تباع بخرصها تمرًا» .

فرع: بيع المحاقلة والمزابنة

فيجوز بيعها بالتمر خاصة، ولأنه إذا باع الرطب بالتمر.. دخل الخرص في أحد العوضين، فيقل الغرر، وأما إذا باع الرطب بالرطب: دخل الخرص في العوضين، فيكثر الغرر. [فرعٌ: بيع المحاقلة والمزابنة] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المحاقلة والمزابنة» . واختلف في تأويله: فذهب الشافعي إلى: (أن المحاقلة: أن يبيع الرجل الحنطة في سنبلها بحنطة موضوعة على الأرض. والمزابنة: هو أن يبيع الرجل التمر على رؤوس النخل بما زاد على خمسة أوسق من التمر على الأرض) . وذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: (أن المحاقلة: استكراء الأرض ببعض ما يخرج منها. والمزابنة: هو أن يقول الرجل لصاحبه: كم في صبرتك هذه؟ فيقول: أقل من خمسين قفيزًا، فيقول الآخر: بل فيها أكثر من خمسين قفيزًا فيقال لمالكها: اكتل الآن، فإن نقصت عن خمسين قفيزًا.. فعلي تمامها، وإن زادت على الخمسين.. فلي الفضل) . دليلنا: ما روى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المحاقلة والمزابنة» .

فـ (المحاقلة) : أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق من حنطة. و (المزابنة) : أن يبيع التمر على رؤوس النخل بمائة فرق تمرًا. وهذا أشبه باللغة. قال الأزهري: الحقل القراح: المزروع، والحواقل: المزارع. وأما منفعة الأرض: فليست بحقل. والمزابنة: مأخوذة من المدافعة. فكأن المتبايعين إذا وقعا فيها.. تبايعا على غبن، وأراد المغبون أن يفسخ البيع، وأراد الغابن إمضاءه، فتزابنا، أي: تدافعا، واختصما، وإنما تعلق ذلك بالثمرة؛ لأنها مجهولة يجري فيها التغابن. وما ذكره مالك في الصبرة.. فليس بعقد بيع يتناوله النهي، وإنما هو قمار ومخاطرة. إذا ثبت ما ذكرناه: فلا يجوز بيع العرايا فيما زاد على خمسة أوسق بعقد واحد. وهل يصح بيع العرايا في خمسة أوسق؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز، وهو اختيار المزني؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في بيع العرايا: الوسق، والوسقين، والثلاثة، والأربعة» .

وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص من بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق» . وشك داود بن الحصين في الخمسة، فبقي على الحظر. ولأن الخمسة الأوسق في حكم ما زاد، بدليل: أن الزكاة تجب فيها، كما تجب فيما زاد عليها. والقول الثاني: يجوز؛ لما روى سهل بن أبي حثمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرخص في العرايا» . وهذا يتناول الخمسة الأوسق وما زاد، إلا أن الدليل قد دل على أنه لا يصح فيما زاد على خمسة أوسق، فبقي في الخمسة على عموم الخبر. فإذا قلنا بهذا: قال صاحب " التلخيص ": لو اشترى رجلٌ عشرة أوسق من رجلين بعقد.. لم يجز. ولو باع رجلٌ من رجلين عشرة أوسق بعقد.. جاز. فمن أصحابنا من سلم له هذا التفصيل، وفرق بينهما، وهو أنه: إذا اشترى من رجلين عشرة أوسق بعقد.. فقد دخل في ملكه جملة واحدة بعقد واحد عشرة أوسق، فلم يجز. وإذا باع.. لم يخرج من ملكه إلى كل واحد منهما إلا خمسة أوسق، فصار كالمفرد. ومنهم من لم يسلم له هذا، وقال: يصح في الجميع، وهو الأصح؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين، بحكم العقدين من أي جانب كان. وقد ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ ما يوافق هذا الوجه، فقالا: إذا باع رجل تسعة أوسق على رؤوس النخل من رجلين بتسعة أوسق تمرًا في عقد واحد.. جاز. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لا يجوز) . دليلنا: أن بيعه من اثنين يجري مجرى العقدين المنفردين. وكذلك إن باع رجلان تسعة أوسق، من رجل بتسعة أوسق بعقد.. صح؛ لما ذكرناه. وإن باع رجل عشرة أوسق من رجلين.. فعلى القولين، فيمن باع خمسة أوسق بعقد من رجل. وإن باع

فرع: بيع الحائط كله عرية

رجل تسعة عشر وسقا من أربعة رجال بمثلها في عقد.. صح؛ لأنها في حكم أربعة عقود. وهكذا: لو باع اثنان من اثنين تسعة عشر وسقا بمثلها بعقد.. صحّ؛ لأنها في حكم أربعة عقود. وإن باع رجل عشرين وسقا بمثلها من أربعة رجال بعقد واحد.. ففيه قولان، كما لو باع رجل رجلاً كلّ خمسة أوسق. وإن باع رجلان عشرة أوسق من رجل بعقد.. فعلى القولين. وإن باع ثلاثة رجال عشرين وسقا بمثلها من رجلين بعقد، أو باع خمسة رجال عشرين وسقا بمثلها من رجلين بعقد.. فعلى قياس ما ذكره الشيخ أبو حامد: أنه يصح، قولاً واحدًا؛ لأن بيع الثلاثة من اثنين بعقد بحكم ستة عقود، فيصير كما لو باع كل واحد ثلاثة أوسق وثلثا بعقد، وبيع الخمسة من اثنين بحكم عشرة عقود، فيصير كما لو باع كل واحد وسقين بعقد. [فرعٌ: بيع الحائط كله عرية] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويبيع صاحب الحائط لكل من رخص له، وإن أتى على جميع حائطه) . وجملة ذلك: أنه يجوز لصاحب الحائط أن يبيع حائطه كله على وجه العرية، فيبيع من رجل ما دون خمسة أوسق بعقد، أو خمسة أوسق إذا قلنا: يجوز، ثم يبيع صفقة أخرى كذلك منه، أو من غيره حتى يأتي على جميع الحائط. قال القفال: وهذا إذا لم يجب فيه الزكاة، فأما إذا وجبت فيه الزكاة: فقد مضى الكلام فيه في الزكاة. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لا يجوز للرجل أن يبيع أكثر من عرية واحدة) . دليلنا: عموم حديث سهل بن أبي حثمة، ولم يفرق؛ ولأن كل بيع جاز بين المتبايعين مرة.. جاز أن يتكرر، كسائر البيوع.

فرع: العرية في غير الرطب

فإن قيل: هذا يؤدي إلى المزابنة، وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها. فالجواب: أن المزابنة هو العقد الواحد على ما زاد على خمسة أوسق، فإذا لم يوجد ذلك.. لم يكن محرمًا، وإن كان بتفريقه يحصل به ذلك، كما أنه لا يجوز بيع درهم بدرهمين، ومعلوم أنه لو باع درهمًا بذهب، ثم اشترى بالذهب درهمين.. جاز ذلك. [فرعٌ: العرية في غير الرطب] وما جاز من العرايا في الرطب على النخل، بالتمر على الأرض.. جاز في العنب على الشجر، بالزبيب على الأرض. وقال الليث: (لا تجوز العرايا إلا في النخل خاصة) . دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخَّصَ في العرايا» . وهو بيع الرطب بالتمر، والعنب بالزبيب. ولأن العنب ثمرة تجب فيها الزكاة، ويُخرَصُ كما يُخرَصُ التمرُ، فجاز فيه العرايا، كالتمر. وأمّا ما عداهما من الثمار، كالفرسك والمشمش والإنجاص.. فهل

فرع: بيع التمر بالتمر قبل نزع نواه

يجوز بيع رطبها على الشجر باليابس منه فيما دون خمسة أوسق؟ فيه طريقان: أحدهما ـ وهو المشهور ـ: أنها على قولين: أحدهما: لا يجوز؛ لأن هذه الثمار لا يجب فيها الزكاة، ولا يمكن فيها الخرص؛ لاستتارها بالأوراق. والثاني: يجوز؛ لأن الحاجة تدعو إلى الرطب منها، كالرطب والعنب. والطريق الثاني ـ حكاه صاحب " المعتمد " ـ: أنه لا يجوز، قولاً واحدًا؛ لما ذكرناه للقول الأول. [فرعٌ: بيع التمر بالتمر قبل نزع نواه] ] : يجوز بيع التمر بالتمر قبل نزع النوى مثلا بمثل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التمر بالتمر» . ولم يفرق؛ ولأن في بقاء النوى في التمر مصلحة للتمر. وإن باع منه ما نزع نواه، بما لم ينزع نواه.. لم يصح البيع؛ لأنه باع ما هو على هيئة الادخار ـ وهو: ما لم ينزع نواه ـ بما ليس على هيئة الادخار ـ وهو: ما نُزع نواه ـ على وجهٍ يتفاضلان في حال الادخار، فلم يصح، كبيع الرطب بالتمر. فقولنا: (على وجهٍ يتفاضلان في حال الادخار) احترازٌ من بيع الرطب بالتمر في العرايا؛ لأنهما لا يتفاضلان في حال الادخار. وإن باع منه ما نزع نواه، بعضه ببعض.. ففيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لما روى عبادة بن الصامت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح كيلا بكيل» . ولم يفرق بين أن ينزع نواه، أو لم ينزع. والثاني: لا يجوز؛ لأنه إذا نزع عنه النوى.. فقد زال عن هيئة الادخار، فلم يصح بيع بعضه ببعض، كالدقيق بالدقيق؛ ولأنه إذا نزع نواه.. تجافى في المكيال، فلا يتحقق التساوي فيه، فلم يصح.

مسألة: بيع المطبوخ بالنيء

[مسألة: بيع المطبوخ بالنِّيء] قال الشافعي: (ولا يجوز بيع شيء من الجنس الواحد مطبوخًا منه بنِيء بحال إذا كان يدَّخر مطبوخًا) . وهذا كما قال: قد ذكرنا: أن عصير العنب والسفرجل والتفاح والرمان والكُمَّثْرى أجناسٌ، على المشهور من المذهب، فإذا بيع بعض الجنس منها ببعض.. نظرت: فإن كان باع النِّيء منها بالنِّيء منها.. جاز فيهما متماثلا، ولا يجوز متفاضلاً. وإن كان مطبوخًا.. فلا يصح بيعه بالنِّيء منها. ولا يصح بيع المطبوخ منها بالمطبوخ؛ لأن النار دخلت فيه، فيؤدي إلى الجهل بالتماثل. فإن قيل: أليس التمر تجففه الشمس، ويختلف تجفيفها فيه؟ فكيف جاز بيع بعضه ببعض؟ قلنا: لأن تلك حالة ادّخار التمر. والعصير حالة ادخاره قبل طبخه. وإن أراد أن يبيع جنسًا من الأعصار بجنس آخر.. جاز، سواءٌ كانا مطبوخين أو نيئين، أو أحدهما نِيئًا، والآخر مطبوخًا؛ لأنها أجناس، على المشهور من المذهب، فلا يعتبر فيها التساوي. [فرعٌ: بيع اللحم باللحم] ولا يجوز بيع اللحم النِّيء بالمطبوخ، ولا بيع المطبوخ بالمطبوخ. وقال أبو حنيفة: (يجوز بيع النِّيء بالمطبوخ متماثلاً، ولا يجوز بيعه متفاضلاً) . وقال مالكٌ: (يجوز متماثلاً، ومتفاضلاً) .

فرع: بيع العسل بالعسل

دليلُنا: أنه جنس فيه ربا، فلم يجز بيع نيئه بمطبوخه، ولا بيع مطبوخه بمطبوخه، كالتمر بالدبس، والحنطة بسويق الدقيق. [فرعٌ: بيع العسل بالعسل] وأما عسل النحل المصفّى بالشمس: فيجوز بيع بعضه ببعض؛ لأن الشمس لا تعقد أجزاءه، وإنما تذيبه، وتميّزه من الشمع. وإن صُفي بالنار.. فهل يجوز بيع بعضه ببعض؟ حكى صاحب " المهذب " و " الشامل " فيه وجهين: أحدُهما: لا يجوز؛ لأنَّ النار دخلت فيه، وربما عقدت أجزاء بعضه أكثر من بعض. والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لأن نار التصفية ليِّنةٌ، لا تعقدُ الأجزاء، وإنما تميزُهُ من الشمع، فهو كما لو صُفي بالشمس. وقال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إن أغلاه بالنار غليانًا يسيرًا.. جاز بيع بعضه ببعض، وإن كان غليانًا كثيرًا.. لم يجز بيع بعضه ببعض. وهل يجوز بيع السكر بعضه ببعض؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن النار تدخل فيه لعقد الأجزاء ولنقصانه.. فلم يجز بيع بعضه ببعض؛ كالدبس. والثاني: يجوز، وهو الأصح؛ لأن النار تدخله لتصفيته من القصب، لا لعقد الأجزاء، فإذا باع العسل بالعسل، والسكر بالسكر.. فكيف يباعان؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنهما يباعان كيلاً؛ لأن أصلهما الكيل. والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنهما يباعان وزنًا) ؛ لأنه أحصر، ولأن السكر يتجافى في المكيال، وإن دق ليكال.. زال عن هيئة الادخار. وهكذا الوجهان في السمن.

مسألة: بيع الدقيق بالحنطة

[مسألة: بيع الدقيق بالحنطة] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجوز بيع الدقيق بالحنطة) . وهذا كما قال. واختلف أهل العلم في بيع الحنطة بدقيقها: فذهب الشافعي إلى: (أنه لا يجوز بيع الحنطة بدقيقها، لا متماثلاً، ولا متفاضلاً، لا كيلاً، ولا وزنًا) . وبه قال حمَّاد بن أبي سليمان، والثوري، وأبو حنيفة. وذهب مالك، وابن شبرمة إلى: (أنه يجوز بيع الحنطة بدقيقها متماثلاً، كيلا بكيل) . وذهب الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق إلى: (أن ذلك يجوز وزنًا بوزن) . وحكي عن أبي ثور: أنه قال: (يجوز بيع الحنطة بدقيقها متفاضلاً) . وحكي عن الكرابيسيّ: أنه قال: قال أبو عبد الله: (يجوز بيع الحنطة بدقيقها كيلا بكيل) . فجعل أبو الطيب بن سلمة هذا قولا آخر للشافعي. وقال سائر أصحابنا: ليس ذلك بقول للشافعي. ولعل الكرابيسي أراد بذلك مالكًا أو أحمد. ودليلنا: أنه جنس فيه الربا، فلم يجز أن يباع منه ما زال عن هيئة الادخار، بصنعة آدمي بأصله الذي هو على هيئة الادخار، كبيع التمر بنخله. فقولنا: (بصنعة آدمي) احترازٌ من بيع التمر المسوِّس، بغير المُسوِّس، فإن ذلك يجوز، ولأن الدقيق هو الحنطة، وإنما تفرّقت أجزاؤها بالطحن، فإذا بيع بالحنطة كيلا.. أدى إلى التفاضل في حال الادخار؛ لأن الدقيق يتجافى في المكيال،

فرع: بيع مطحون الجنس الواحد

والحنطة ينضم بعضها إلى بعض؛ لأنها شديدة، فإذا طحنت تفرقت، فلو جمع بعضه إلى بعض.. لم يجتمع كخلقة الأصل، فإذا بيع كيلاً.. أدى إلى التفاضل في حال الادخار. [فرعٌ: بيع مطحون الجنس الواحد] ] : وأما بيع دقيق الجنس بعضه ببعض: فالمنصوص: (أنه لا يجوز) . وروى المزني عنه في (المنثور) : (أنه يجوز) . وهو رواية البويطي أيضًا، وبه قال أحمد، ومالك. وقال أبو حنيفة: (يجوز بيع الناعم بالناعم، والخشن، بالخشن، ولا يجوز بيع الخشن بالناعم) . دليلُنا: أن الدقيق هو نفس الطعام، وإنما تفرّقت أجزاؤه بالطحن، وقد لا يتفقان في النعومة والخشونة، فيأخذ الخشن من المكيال أكثر مما يأخذه الناعم، فيؤدّي إلى التفاضل حال الادخار، فلم يجز. [فرعٌ: بيع الحنطة بالسويق] ولا يجوز بيع الحنطة بسويقها؛ لما ذكرناه في الدقيق؛ لأن السويق أسوأ حالاً من الدقيق؛ لأن السويق قد دخله الماء والنار والطحن. ولا يجوز بيع السويق بالسويق. وقال أبو حنيفة فيه: (يجوز) . كما يجوز عنده بيع الدقيق بالدقيق، وقد مضى الدليل عليه في بيع الدقيق بالدقيق. والسويق أسوأُ حالاً من الدقيق على ما ذكرناه.

مسألة: بيع الشيء بما يستخلص منه

ولا يجوز بيع الدقيق بالسويق من جنسه، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة. وروى عنه أبو يوسف روايةً شاذّة: (أنه يجوز) . وقال أبو يوسف، ومالك: (يجوز متماثلاً ومتفاضلاً؛ لأنهما جنسان) . دليلُنا: ما ذكرناه في الدقيق بالدقيق، والسويق أسوأ حالاً من الدقيق على ما بيّناه. ولا يجوز بيع خبز الحنطة بالحنطة، ولا بدقيقها، وبه قال أحمد. وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز متفاضلاً. وهو قياس قول أبي ثور في الحنطة بالدقيق. دليلُنا: أنه فرعٌ لأصل يحرم فيه الربا، فلم يجز بيعه به، كالدقيق بالحنطة. وأما بيع الخبز بمثله من جنسه: فإن كانا رطبين أو أحدهما.. لم يجز. وقال محمد بن الحسن: يجوز بيعهما متماثلين. دليلُنا: أنه جنس في الربا، يباع بعضه ببعض، على وجه يتفاضلان في حال الكمال والادخار.. فلم يجز، كبيع الخبز بالحنطة. وأما إذا كانا يابسين مدْقوقين يمكن كيلُهما.. ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه قد خالطهما الماء والملح والنار، وقد يكثر في أحدهما دون الآخر. والثاني: أنه يجوز؛ لأن ذلك حالة كماله وادخاره، فجاز بيع بعضه ببعض، كالحنطة. [مسألة: بيع الشيء بما يستخلص منه] ولا يجوز بيع السمسم بالشيرج، ولا بيع العنب بعصيره، ولا بخل الخمر، ولا بخل الزبيب؛ لأن فيهما مثل ما يباعان به، وذلك يؤدّي إلى التفاضل. ويجوز بيع خل الخمر بخل الخمر. ويجوز بيع خل الخمر بعصير العنب متساويًّا؛ لأن ذلك حالةُ

فرع: بيع المدقوق بالمدقوق

ادّخاره، فهو كبيع الزبيب بالزبيب. ولا يجوز بيع خل الخمر بخل الزبيب؛ لأن أصلهما واحد، وفي خل الزبيب ماء، وذلك يمنع تماثلهما. ولا يجوز بيع خل الزبيب بخل الزبيب، ولا بيع خل التمر بخل التمر؛ لأنّا إن قلنا: إن في الماء ربا.. لم يجز؛ لمعنيين، وهما: الجهل بتماثل الماءين، والجهل بتماثل الخلين. وإن قلنا: لا ربا في الماء.. لم يجز؛ للجهل بتماثل الخلين. وهل يجوز بيع خل التمر بخل الزبيب؟ إن قلنا: إن في الماء ربا.. لم يجز؛ للجهل بتماثل الماءين. وإن قلنا: لا ربا في الماء.. جاز بيع أحدهما بالآخر متماثلاً ومتفاضلاً؛ لأنهما جنسان، على المشهور من المذهب، وكذلك يجوز بيع خل الخمر وعصير العنب، بخل التمر متفاضلا ومتماثلاً؛ لأنهما جنسان، على المشهور من المذهب. [فرعٌ: بيع المدقوق بالمدقوق] قال المسعودي [في " الإبانة " ق\220] : ولا يجوز بيع السمسم المدقوق بالسمسم المدقوق، كما لا يجوز بيع الدقيق بالدقيق. وأما بيع الشيرج بكسبه - وهو: عصارة السمسم - ففيه وجهان: قال المسعودي [في " الإبانة " ق\220] : يجوز؛ لأنهما جنسان. وقال أكثر أصحابنا: لا يجوز؛ لأنه لا يخلو من أن يبقى فيه شيء من الشيرج. [مسألة: بيع اللبن بلبن في الضرع] ولا يجوز بيع شاةٍ في ضرعها لبن بلبن الغنم؛ لأنه بيع لبن وغنم، بلبن؛

مسألة: بيع اللبن في الضرع بلبن في الضرع

لأن اللَّبن في الضرع يقابله قسط من الثمن، ولهذا إذا اشترى شاةً مصراةً ولم يعلم بها، ثم علم بها، فردّها.. وجب عليه بدل اللبن. وإن باع شاةً في ضرعها لبنٌ، بلبن بقر أو إبل، فإن قلنا: إن الألبان جنس واحد.. لم يَجُزْ، لما ذكرناه. وإن قلنا: إن الألبان أجناس.. جاز البيع، ويشترط التقابض فيهما قبل التفرق؛ لأنهما مطعومان. وإن باع شاةً مذبوحةً في ضرعها لبنٌ، بلبن البقر، فإن كانت غير مسلوخة.. لم يصح البيع؛ لأن بيعها قبل سلخها لا يجوز. وإن كانت قد سلخت، فإن قلنا: إن الألبان جنس.. لم يجز. وإن قلنا: إن الألبان أجناس.. صح البيع، ويشترط قبضهما قبل التفرق. وإن كان لا لبن في ضرع الشاة المذبوحة، فباعها بلبن قبل السلخ.. لم يجز؛ للجهل باللحم، وإن كان بعد السلخ.. صح البيع؛ لأنهما جنسان، ويشترط القبض فيهما قبل التفرق؛ لأنهما مطعومان. وإن كان في ضرع الشاة لبن، فحلبها، ثم باعها بلبن شاةٍ.. قال الشافعي: (صح البيع ولا اعتبار باللبن اليسير الذي لا يحلب في العادة) . [مسألة: بيع اللبن في الضرع بلبن في الضرع] وإن باع شاة في ضرعها لبن، بشاة في ضرعها لبن.. ففيه وجهان: [الأول] : قال أبو الطيب بن سلمة: يصح البيع، كما يصح بيع السمسم بالسمسم

فرع: بيع حليب الجنس

وإن كان في كل واحد منهما شيرج، وكما يصح بيع دار بدار وإن كان في كل واحدة منهما بئر ماء. و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يصح البيع، وهو المنصوص؛ لأن اللبن في الضرع، كاللبن في الإناء، فلم يصح، كما لو باع حيوانًا ولبنًا، بحيوان ولبن. وأمَّا السمسم بالسمسم: فالفرق بينهما: أن الشيرج في السمسم كالمعدوم؛ لأنه لا يؤخذ منه إلا بطحن ومعالجة. واللبن في الضرع يمكن أخذه من غير مشقة شديدة، فهو كاللبن في الإناء. وأمَّا الماء في البئر: فإن قلنا: إن الماء غير مملوك.. لم يكن فيه ربا؛ لأنه لم يتناوله البيع. وإن قلنا: إنه مملوك، فإن قلنا: إن في الماء ربًا.. لم يجز بيع دار بدار، وفي كل واحدة منهما بئر ماء. وإن قلنا: لا ربا في الماء.. جاز. [فرعٌ: بيع حليب الجنس] ويجوز بيع حليب الجنس بعضه ببعض متماثلاً، كما يجوز بيع التمر بالتمر. ويجوز بيع الرائب بالرائب، وهو: اللبن الذي فيه بعض حموضةٍ، كما يجوز بيع تمر غير طيب بتمر غير طيب. ويجوز بيع الحليب بالرائب، كما يجوز بيع تمر طيب بتمر غير طيب. قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز بيع الحليب المغلي بغير المغلي، ولا بيع المغلي بالمغلي؛ لأن النار تعقد أجزاءه. ولا يجوز بيع الحليب المشوب بالماء الخالص، ولا بيع المشوب بالمشوب؛ لأن ذلك يؤدي إلى تفاضل اللبنين. ولا يجوز بيع اللبن بالزبد. قال الشافعي: (لأن الزبد مستخرج من اللبن، فيكون كبيع السمسم بالشيرج) . وقال الشيخ أبو إسحاق: العلة فيه: أن الزبد لا يخلو من لبن، فيكون بيع لبن مع غيره بلبن، والصحيح: التعليل الأول.

ولا يجوز بيع اللبن بالسمن؛ لعلة الشافعي: أن في اللبن سمنًا، ولا يجوز بيعه باللبن المخيض، وهو: لبن منزوع الزبد؛ لأن في اللبن غير المخيض زبده، وقد نزع من المخيض زبده، فهو أنقص من اللبن. ولا يجوز بيع اللبن باللِّبأ، ولا بالمصل، ولا بالأقط، ولا بالشيراز؛ لأن أجزاءها منعقدة بالشمس والنار، فلا يمكن كيلها، ولا يجوز بيعها وزنًا؛ لأن أصل اللبن الكيل. فأما بيع ما يتخذ من اللبن بعضه ببعض: فإن باع السمن بالسمن.. جاز؛ لأنه بلغ حالة ادخاره، والنار دخلته للتمييز، لا لعقد الأجزاء، والمنصوص: (أن أصله الوزن) ؛ لأنه أحصر. وقال أبو إسحاق: يباع كيلاً؛ لأنه أصله. وأما بيع الزبد بالزبد: ففيه وجهان: أحدهما: يجوز، كما يجوز بيع السمن بالسمن. والثاني ـ ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق، والشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره ـ: أنه لا يجوز؛ لأن فيه لبنًا، فيكون بيع لبن وزبد، بلبن وزبد. وأما بيع المخيض بالمخيض: فإذا كان لم يطرح في أحدهما الماء للضرب..

مسألة: بيع اللحم بالحيوان

جاز، كالرائب بالرائب. وإن طرح الماء فيهما، أو في أحدهما.. لم يجز؛ لتفاضل الماءين والمخيضين. وأما بيع المصل بالمصل، والأقط بالأقط، والجبن بالجبن، واللِّبأ باللِّبأ.. فلا يجوز؛ لأن أجزاءها منعقدة، وقد دخلت الإنفحة والملح في الجبن، فيكون بيع لبن وغيره بلبن وغيره. ولا يجوز بيع السمن بالزبد؛ لأن السمن مستخرج من الزبد، فلم يجز بيعه به، كما لا يجوز بيع الشيرج بالسمسم. وأما بيع الزبد بالمخيض: فالمنصوص: (أنه يجوز) ؛ لأن اللبن الذي في الزبد كالمستهلك. وقال أبو إسحاق المروزي، والشيخ أبو حامد: لا يجوز؛ لأن في الزبد شيئًا من اللبن. ولا يجوز بيع المصل بالأقط، ولا بيع الأقط بالجبن ولا باللبأ؛ لأن أجزاءها منعقدة، ويختلف انعقادها. ويجوز بيع السمن بالمخيض؛ لأنه ليس في السمن شيء من المخيض. قال أصحابنا: ويجوز بيع السمن بالمخيض متفاضلا؛ لأنهما جنسان، وهكذا إذا قلنا: يجوز بيع الزبد بالمخيض.. فإنه يجوز متفاضلا؛ لأنهما جنسان. [مسألة: بيع اللحم بالحيوان] إذا باع لحم إبل بإبل، أو لحم غنم بغنم، أو لحم بقر ببقر.. لم يصح البيع، وبه

قال أبو بكر الصديق، والفقهاء السبعة، ومالك، وأحمد. وقال أبو حنيفة: (يجوز بيع اللحم بالحيوان حتى لو باع رطل لحم بحيوان.. جاز) . وبه قال أبو يوسف. وقال محمد: يجوز إذا كان اللحم أكثر من لحم الحيوان حتى تكون الزيادة بإزاء الجلد. دليلنا: ما روى سهل بن سعد الساعدي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع اللحم بالحيوان» . وروى سعيد بن المسيب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحي بالميت» .

ولأنه جنس فيه الربا تبع أصله الذي فيه مثله، فلم يصح، كما لو باع الشيرج بالسمسم، وكان الشيرج أقل من الشيرج الذي في السمسم، أو مثله.. فإن أبا حنيفة قد وافقنا عليه: (أنه لا يجوز) . وأما إذا كان الشيرج أكثر من الشيرج الذي في السمسم: فإنه قال: (يجوز؛ لكون الزيادة بإزاء الكسب) . ودليلنا: أنه باعه بأصله الذي فيه مثله، فلم يجز قياسًا على الذي وافقنا. وأما إذا باع اللحم بحيوان لا يؤكل، كالبغل والحمار.. فهل يصح؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لعموم نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع اللحم بالحيوان. والثاني: يجوز، وبه قال مالك، وأحمد؛ لأن هذا الحيوان لا ربا فيه، فجاز بيعه فيه، كما لو باع اللحم بالثوب. وإن باع لحم جنس من الحيوان بجنس غيره من الحيوان المأكول، كبيع لحم الإبل بالغنم، أو بالبقر، فإن قلنا: إن اللُّحمان جنس واحد.. لم يصح البيع؛ لما ذكرناه. وإن قلنا: إن اللُّحمان أجناس.. ففيه قولان، كما لو باعه بحيوان لا يؤكل: أحدهما: لا يجوز، وبه قال مالك، وأحمد؛ لعموم نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع اللحم بالحيوان. وروى ابن عباس: (أن جزورًا نُحِر على عهد أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فجاء رجل بعناق، فقال: أعطوني بهذه العناق لحمًا، فقال أبو بكر: لا يصلح

فرع: بيع الدجاجة فيها البيض ببيض

هذا) . والجزور لا تنحر بحضرة الخليفة إلا وهناك أماثل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم يخالفه أحد. والثاني: يجوز؛ لأنه باعه بما ليس فيه أصله، فجاز، كما لو باع اللحم بالثوب. فإن باع لحمًا بسمكةٍ حيَّةٍ، أو باع لحم السمك بحيوان.. قال ابن الصباغ: فإن قلنا: إنه من جملة اللُّحمان.. فهو كما لو باع لحم غنم ببقر. وإن قلنا: إنه ليس من جُملة اللُّحمان.. كان فيه قولان، كما لو باع اللحم بحيوان لا يؤكل. [فرعٌ: بيع الدجاجة فيها البيض ببيض] وإن باع دجاجة فيها بيضٌ ببيضِ دجاجةٍ.. لم يجز، قولاً واحدًا؛ لأن ذلك بمنزلة بيع شاةٍ في ضرعها لبنٌ بلبنِ شاةٍ. وبالله التوفيق

باب بيع الأصول والثمار

[باب بيع الأصول والثمار] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -[في " الأم " (3/39) ] : (وكل أرض بيعت، فللمشتري جميع ما فيها من بناء وأصل. و (الأصل) : ما له ثمرة بعد ثمرة من شجر وزرع) . وهذا كما قال إذا بيعت الأرض وفيها بناءٌ أو شجرٌ، فإن قال: بعتك هذه الأرض بحقوقها.. دخل البناء والشجر في البيع؛ لأنه من حقوقها. وإن لم يقل: بحقوقها، ولكن قال: بعتك هذا البستان.. دخلت الأرض والشجر الذي فيها في البيع؛ لأن البستان اسم يجمعهما. وهكذا: إن قال: بعتك هذه الدار.. دخل في البيع الأرض والحيطان والسقوف والأبواب؛ لأن الدار اسم يجمع ذلك كله. وإن لم يقل ذلك، ولكن قال: بعتك هذه الأرض.. فهل يدخل البناء والشجر في البيع.. نص الشافعي في (البيع) : (أنّ ذلك يدخل) . وقال في (الرهن) : (إذا قال: رهنتك هذه الأرض.. لم يدخل البناء والشجر) . واختلف أصحابنا فيهما على ثلاث طرق: فـ[الأول] : قال أبو العباس: لا يدخل فيهما؛ لأن الأرض اسمٌ للعرصة دون ما فيها. وقوله في (البيع) أراد: إذا قال بحقوقها.

مسألة: دخول المرافق في بيع الدار

و [الثاني] : منهم من نقل جوابه في كل واحدةٍ من المسألتين إلى الأخرى، وخرَّجهما على قولين: أحدهما: يدخل فيهما؛ لأن البناء والشجر من حقوق الأرض، فدخل في بيعها بمطلق العقد، كطرقها. والثاني: لا يدخل؛ لأن الأرض اسمٌ للعرصة وحدها. [والثالث] : منهم من حمل المسألتين على ظاهرهما، فقال في (البيع) : (يدخل) بالإطلاق. وفي (الرهن) : (لا يدخل) من غير شرط، وفرَّق بينهما بفرقين: أحدهما: أن البيع عقد قوي يزيل الملك، فتبع فيه البناء والشجر، والرهن عقد ضعيف لا يزيل الملك، فلم يتبع فيه البناء والشجر. والثاني: أنه لما كان النماء الحادث من المبيع بعد العقد للمشتري.. جاز أيضًا أن يتبعها البناء والشجر. ولمَّا كان النماء الحادث من الرهن بعد العقد للراهن.. جاز أن لا يتبعها البناء والشجر. وإن قال: بعتك هذه القرية.. لم تدخل المزارع فيها؛ لأن اسم القرية حقيقة إنما يقع على البيوت والدروب الدائرة عليها، دون المزارع، ولهذا لو حلف لا يدخل قرية، فدخل مزارعها.. لم يحنث. [مسألة: دخول المرافق في بيع الدار] ] : إذا قال: بعتك هذه الدار.. فقد قلنا: إن ذلك يشتمل على الأرض والبناء، ويدخل فيها الأبواب المنصوبة، والسلالم، والرفوف المسمرة، والأوتاد المغروزة،

والجوابي، والأجاجين المدفونة فيها؛ لأن ذلك من مرافقها المتصلة بها، فهي كطرقها. وإن كان فيها سلم أو رف غير مسمر.. لم يدخل في البيع، وكذلك الدلو والحبل والبكرة لا تدخل في البيع؛ لأن ذلك غير متصل بها، ولا هو من مرافق الدار، فلم يدخل فيها، كالمتاع الموضوع في الدار، ويدخل فيه الغلق المستمر، والحجر السفلاني من الرحى إذا كانت مبنية؛ لأن ذلك متصل بالدار. وهل يدخل المفتاح، والحجر الفوقاني من الرحى؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يدخلان؛ لأنهما منفصلان عن الدار، فهما كالدلو والبكرة. والثاني: يدخلان؛ لأنهما وإن كانا منفصلين، إلا أنهما يتعلقان بمنفعة المتصل، فهما كالمتصل. وإن كان حجر الرحى السفلاني غير مبني.. لم يدخل واحد منهما في البيع، وجهًا واحدًا؛ لأنهما منفصلان عنها، فهما كالدلو والبكرة. وإن كان في الدار شجرةٌ، فإن قال: بعتك هذه الدار بحقوقها.. دخلت الشجرة في البيع. وإن لم يقل: بحقوقها.. فهل تدخل الشجرة في البيع؟ على الطرق الثلاث.

وإن كان في الدار بئر ماء.. فإن البئر وما فيها من البناء يدخل في بيع الدار بمطلق العقد. وأما الماء الذي في البئر: فهل هو مملوكٌ؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد ـ: أنه غير مملوك؛ لأن من اشترى دارًا وفيها بئر ماء، فاستقى منه المشتري أيَّامًا الماء، ثم وجد في الدار عيبًا.. كان له ردُّها؛ فلو كان الماء من جملة المبيع.. لم يكن له ردُّها، ولأن من اكترى دارًا وفيها بئر ماء.. كان له أن يشرب منها ويتوضأ؛ ولو كان الماء مملوكًا.. لم يكن للمستأجر الانتفاع به؛ لأن الأعيان لا يصح أن تستباح بالإجارة، بدليل: أن من استأجر أرضًا، وفيها نخلٌ.. لم يجز له أن يأكل من ثمرتها. فعلى هذا: لا يدخل الماء في بيع الدار، غير أن المشتري أحق بالماء لثبوت يده على الدار، وليس لأحد أن يتخطى في ملكه إلى الماء؛ لأنه لا يجوز لأحد دخول ملك غيره بغير إذنه، فإن خالف الغير، وتخطى ملكه، وأخذ من ماء البئر.. ملكه كما قلنا في الطائر إذا عشش في ملكه، أو إذا توحَّل الصيد في أرضه.. فليس لأحد أن يتخطى ملكه لأخذه، فلو خالف، وتخطى، فأخذ الطائر والصيد.. ملكه. والوجه الثاني ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، وهو المنصوص في القديم و " حرملة " ـ: (أن الماء مملوكٌ) ؛ لأنه نماء ملكه، فكان مملوكًا له، كالحشيش والثمرة. قال الشيخ أبو حامد: وهذا ليس بصحيح؛ لأن الماء ليس بنماءٍ للأرض، وإنما هو يجري تحت الأرض، بخلاف الحشيش والثمرة. فإذا قلنا: إنه مملوك.. لم يدخل الماء الموجود حال العقد في البيع بالإطلاق حتى يقول: بعتك الدار والماء الظاهر الذي في البئر؛ لأنه نماء ظاهر، فهو كالطلع المؤَبَّر. فإن لم يشترط دخول الماء الظاهر في البيع.. لم يصح بيع الدار؛ لأن الماء

الظاهر للبائع، وما ينبع بعده يكون ملكًا للمشتري. فإذا لم يشترط دخول الظاهر في البيع.. اختلط الماءان، فينفسخ البيع. وإن أفرد الماء الذي في البئر بالبيع.. لم يصح على الوجهين؛ لأن على قول أبي إسحاق: أن الماء غير مملوك، وما ليس بمملوك.. لا يصح بيعه. وعلى قول أبي علي بن أبي هريرة: هو مملوك، إلاَّ أنه يكون مجهولاً، ولأنه لا يمكن تسليمه؛ لأنه إذا لم يسلمه.. اختلط بالماء الذي ينبع، وهو ملك للبائع. وأمَّا العيون المستنبطة: فإنها مملوكة، وهل يملك الماء الذي فيها؟ على الوجهين. ولا يصح بيع الماء الذي فيها؛ لما ذكرناه في ماء البئر. ولا يصح أن يبيعه كذا وكذا سهمًا من ماء كذا؛ لما ذكرناه. وكذلك: لا يصح أن يقول: بعتك ليلة أو يومًا مِنْ كذا، وكذا يومًا في ماء كذا؛ لأنَّ الزمان لا يصح بيعه، والماء في العيون والآبار لا يصح بيعه؛ لما ذكرناه، ولكن الحيلة فيمن أراد أن يشتري ماء العين أو سهمًا منها: أن يشتري العين نفسها أو سهمًا منها. هكذا ذكر أصحابنا، وعلى قياس ما ذكروا في بيع الدار التي فيها بئر ماء، إذا اشترى العين أو سهمًا منها فيها.. إذا قلنا: إن الماء مملوك.. فيشترط أن يشتري مع العين الماء الظاهر وقت البيع؛ لئلا يختلط ماء المشتري بماء البائع، فينفسخ البيع. ويشترط رؤية الماء وقت عقد البيع؛ لأن البيع فيما لم يره واحدٌ منهما لا يصح، ولا يكفي رؤيتهما المتقدمة قبل البيع؛ لأن ذلك رؤية للماء الحادث وقت الرؤية لا لما يحدث بعده.

فأما الماء الجاري من الأنهار التي ليست بمملوكة، كدجلة والفرات والنيل والسيل الذي يجيء من الموات.. فإنه غير مملوكٍ، فلا يجوز بيعه. فإن أخذ منه إنسان شيئًا بسقاءٍ أو غيره ملكه، وجاز له أن يبيعه. وإن دخل منه شيء إلى أرض رجل.. لم يملكه بذلك، بل يكون أحق به من غيره، كما قلنا في الصيد إذا توحَّل في أرضه. فإن دخل رجلٌ إلى أرض جاره، وأخذ من هذا الماء.. فقد تعدى بدخوله إلى أرض غيره بغير إذنه، ولكنه يملك هذا الماء الذي أخذه. ويأتي على قياس هذا: ما يقع في أرضه من ماء المطر، فإنه لا يملكه ولا يصح بيعه له، وجهًا واحدًا؛ لأنه إنما يملك ماء البئر على قول أبي عليٍّ؛ لأنه نماء أرضه، وهذا ليس بنماء أرضه، وإنما هو أحق به، كما لو توحل في أرضه صيد. إذا ثبت هذا: فروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه نهى عن بيع فضل الماء» . قال الصيمري: فحمل قومٌ ذلك على ظاهره، وأنه لا يصح بيعه على الإطلاق،

تذنيب: في بيع المعدن والركاز مع الأرض

وأجروه مجرى النار والشمس والقمر. وهذا غلط؛ لأنه ملكه، والعمل على بيعه في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإلى وقتنا هذا يباع ويبتاع. وأجمع أصحابنا: أنه لو احتاز رجل ماءً من نهر عظيم، ثم أعاده إليه.. أنه لا يختص بشركةٍ في هذا النهر. وإن أتلف رجلٌ على غيره ماءً.. فهل تلزمه قيمته أو مثله؟ فيه وجهان. [تذنيب: في بيع المعدن والركاز مع الأرض] ] : وأمَّا المعادن في الأرض.. فعلى ضربين: جامدة ومائعة. فأما الجامدة: فهي كمعادن الذهب والفضة والفيروزج، وما أشبه ذلك من النحاس والرصاص، فهذه مملوكةٌ بملك الأرض، وتتبعها في البيع، كأجزائها، إلا أنه إذا كان في الأرض معدن ذهب.. لم يصح بيعها بذهب، وهل يصح بيعها بفضة؟ فيه قولان؛ لأنه بيع وصرف. ويجوز بيعها بغير الذهب والفضة، قولاً واحدًا. وأما المعادن المائعة: فهي كمعادن النفط والقار والمومياء والملح، فعلى قول أبي إسحاق: هو غير مملوكٍ لا يدخل في البيع، ولكن المشتري أحق به، ولا يصح بيع شيء منه إلا بعد حيازته. وعلى قول أبي علي بن أبي هريرة: هو مملوكٌ؛

مسألة: دخول الثمر في بيع النخل

فلا يدخل الظاهر منه في البيع إلا بالشرط، ويجوز أن يبيع منه قدرًا معلومًا. وأما الركاز: فلا يدخل في البيع؛ لأنه مستودع في الأرض، فلم يدخل فيها، ولا يكون للمشتري فيه حقٌّ، سواء كان من ضرب الجاهلية أو الإسلام، فيعرض على البائع، فإن ادَّعى أنه كان دفنه فيها.. فهو له. وإن قال: ليس له.. عرض على من انتقلت الأرض منه إلى البائع إلى أن يدَّعيه مدع، ولا يكون ركازًا؛ لأن الركاز ما وجد في موات. [مسألة: دخول الثمر في بيع النخل] ] : إذا باع نخلاً وعليها ثمرةٌ.. نظرت: فإن شرط أن الثمرة غير مبيعة.. فهي للبائع. وإن شرط أنها للمشتري.. دخلت في البيع. وإن أطلقها البيع نظرت: فإن كانت الثمرة قد أُبرت ـ وهو: أن يتشقق الطلع، أو يُشَقَّقَ ويُجعل فيه شيء من ثمرة الفحول ـ فالثمرة للبائع. وإن لم تؤبر.. فهي للمشتري. هذا مذهبنا، وبه قال مالك، وأحمد. وقال ابن أبي ليلى: الثمرة للمشتري بكل حال. وقال أبو حنيفة: (بل هي للبائع، أبرت أو لم تؤبر) . دليلنا: ما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر..

فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع» . فنطق الخبر دليل على ابن أبي ليلى، ودليل خطابه دليل على أبي حنيفة. وروي: «أن رجلاً ابتاع من رجل نخلا، فاختلفا، فقال المشتري: اشتريت، ثم أبرت، وقال البائع: أبرت، ثم بعت، فاحتكما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثمرة للذي أبر» . ولأنه نماء مستتر في المبيع من أصل الخلقة، فجاز أن يتبع الأصل في البيع، كالحمل. فقولنا: (مستتر في المبيع) احتراز من الثمرة بعد التأبير. وقولنا: (من أصل الخلقة) احتراز من الركاز والأحجار المدفونة في الأرض. أو نقول: لأنه نماء كامنٌ، لظهوره غاية، فكان تابعًا لأصله قبل ظهوره، كالحمل. فقولنا: (نماء كامن) احترازٌ من المؤبر. وقولنا: (لظهوره غاية) احترازٌ من الرمان والموز في قشره. إذا ثبت هذا: فإنه يقال: أبر ـ بالتشديد ـ يؤبر تأبيرًا، وأبر ـ بالتخفيف ـ يأبر أبرًا. وأما الإبار: فبالتخفيف لا غير، ويسمى التأبير: التلقيح، وفيه مصلحة للنخل بإذن الله تعالى. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة وهم يلقحون النخل، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما هذا؟ "، فقالوا: ليحمل، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دعوه، فإن كانت حاملةً.. فإنها

فرع: بيع النخل قبل التأبير

ستحمل "، فتركوه تلك السنة، فلم يحمل نخلهم من تلك السنة إلا الشيص ـ وهو ما لا ينتفع به ـ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارجعوا إلى ما كنتم عليه، فإنكم أعرف بأمور دنياكم، وأنا أعرف بأمور دينكم» . [فرعٌ: بيع النخل قبل التأبير] وإن باع نخلاً وعليها طلع قد تشقق بنفسه، ولم يلقح.. فإن ثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع؛ لأن الثمرة إذا كانت للبائع، إذا شققها الآدمي ولقحها.. فبأن تكون له إذا تشققت بنفسها أولى؛ لأن ذلك من فعل الله تعالى، ولأنها قد خرجت عن أن تكون كامنة. [فرعٌ: بيع فحال النخل] وإن باع فحال النخل وعليه طلع، فإن كان قد تشقق طلعه.. كان ذلك للبائع كطلع الإناث إذا تشقق بنفسه. وإن كان الطلع لم يتشقق.. ففيه وجهان: [الأول] : من أصحابنا من قال: إن الطلع للبائع؛ لأن جميع طلع الفحال مقصود؛ لأنه مأكولٌ، فهو بمنزلة طلع الإناث إذا أبر. والثاني ـ وهو المنصوص للشافعي ـ: (أنه للمشتري) ؛ لأنه طلع لم يتشقق،

فرع: جريان ما مضى بعقود المعاوضات

فدخل في بيع الأصل بالإطلاق، كطلع الإناث. وما قال الأول.. غير صحيح؛ لأن المقصود من طلع الفحال ما في جوفه؛ لأنه يلقح به الإناث، ويؤكل أيضًا، وهو باطنٌ لم يظهر، فلم يتبع الأصل، كطلع الإناث. [فرعٌ: جريان ما مضى بعقود المعاوضات] وكل عقد معاوضة عقد على النخل، مثل: أن يجعل النخل عوضا في الصلح، أو أُجرة في إجارة، أو مهرًا في نكاح، أو عوضا في الخلع، فحكمه حكم البيع، إن كان عليها طلعٌ غير مؤبر.. تبع الأصل. وإن كان مؤبَّرًا.. لم يتبع الأصل. وإن وهب لغيره نخلا وعليها طلعٌ غير مؤبر، أو وهب الأب لابنه نخلا لا طلع عليها، فأطلعت في ملك الابن، ثم رجع الأب في الهبة قبل التأبير.. فهل تتبع الثمرة النخلة فيهما؟ فيه وجهان: أحدهما: تتبعها؛ لأنه أزال ملكه عن الأصل، فتبعته الثمرة، كما لو باع النخلة. والثاني: لا تتبعها؛ لأنه عقد لا عوض فيه، فلم تتبع الأصل، كما لو أصدق امرأته نخلاً لا طلع عليها، فأطلعت في ملكها، ثم طلقها قبل الدخول.. فإنه لا يرجع فيها. [مسألة: تأبير نخلة من حائط] وإذا أطلع الحائط، فأبرت نخلة منه، أو طلعة من نخلة، ثم باع جميع النخل.. نظرت: فإن كان النخل نوعًا واحدًا.. فإن جميع طلع النخل يكون للبائع إذا لم يشترك المشتري دخولها في البيع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من باع نخلا بعد أن تؤبر.. فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع» .

فرع: باع حائطان وأحدهما مؤبر

قال الشيخ أبو حامد: وإذا أبر نخلة واحدة من جماعة نخل، أو طلعة من نخلة.. فإنه يقال: قد أبر الثمرة. ولأنا لو قلنا: إن ما أبر للبائع وما لم يؤبر للمشتري.. أدى إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي، فتبع الباطن من الثمرة الظاهر منها، كما يتبع أساس الدار ظاهرها. وإن كان النخل في الحائط أنواعًا، كالمعقلي، والبرني، والسكر، وغير ذلك، فأبر بعض نوع منها، ثم باع جميع نخل الحائط.. فإن طلع ما لم يؤبر من ذلك النوع يتبع ما أبر منه، ويكون للبائع. وهل يتبعه ما لم يؤبر، وما لم يتشقق من الأنواع الأخرى؟ فيه وجهان: [الأول] : قال أبو علي بن خيران: لا يتبعه؛ لأن النوع الواحد لا يتفاوت إدراكه وتأبيره، بل يتقارب، فيتبع بعضه بعضًا. وأمَّا النوعان: فإن إدراكهما يتفاوت، فلم يتبع أحدهما الآخر. والثاني ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أنه يتبعه، وهو الصحيح؛ لأنا إنما قلنا: إن الذي لم يؤبر يتبع المؤبر؛ لئلا يؤدي إلى الضرر بسوء المشاركة، واختلاف الأيدي، وهذا المعنى موجودٌ في النوعين، كالنوع الواحد. [فرعٌ: باع حائطان وأحدهما مؤبر] وإن كان له حائطان فيهما نخيلٌ أو قطعتان من الأرض وفيهما نخيلٌ، قد أبر أحدهما دون الآخر، ثم باعهما.. فإن المؤبر يكون ثمرته للبائع، والذي لم يؤبر للمشتري. قال الشيخ أبو حامد: وسواءٌ كانا متلاصقين أو غير متلاصقين إذا تميَّز أحدهما عن

فرع: باع حائطا مؤبرا وفيه فحول

الآخر؛ لأن انفراد كل واحدٍ منهما بثمرة حائط لا يؤدِّي إلى الضرر بسوء المشاركة، واختلاف الأيدي. فإن كان له حائط، فأطلع بعضه، فأبر المطلع، أو بعضه، ثم باع جميع نخل الحائط، وأطلع الباقي بعد البيع.. ففيه وجهان: أحدهما: أن المطلع بعد البيع للبائع أيضًا؛ لأن ثمرة هذا العام له بالتأبير. والثاني: أنه للمشتري، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره؛ لأنه حادث في ملكه. وإن أبر بعض الحائط، ثم أفرد الذي لم يؤبر بالبيع.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو الضعيف ـ: أن الثمرة للبائع؛ لأنه قد ثبت لجميع الحائط حكم التأبير بتأبير بعضه. والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أن الثمرة للمشتري؛ لأنا إنما جعلنا ذلك للبائع على سبيل التبع للمؤبر إذا بيع معه، فإذا أفرد بالبيع.. لم يتبع غيره. [فرعٌ: باع حائطًا مؤبرًا وفيه فحول] ] : قال الشافعي: (وإن كان فيها فحول نخل بعد أن تؤبر الإناث.. فثمرتها للبائع) . فاعترض معترض على قول الشافعي: (فحول) ، وقال: لا يقال في اللغة: فحل، ولا فحول، وإنما يقال للواحد: فحال، وللجمع فحاحيل. فالجواب: أن الشافعي من أهل اللغة، فقوله حجة، وقد ورد ذلك في لغة العرب، قال الشاعر: تأبَّري يا خيرة الفسيل ... تأبَّري من حنذٍ فشولي إذ ضن أهل النخل بالفحول

مسألة: بيع القطن قبل انشقاق الجوز

إذا ثبت هذا: فباع حائطًا فيه إناث وفحول، قد أطلع جميعه، فإن لم يتشقق شيء من الطلع.. فإن ثمرة الإناث للمشتري. وأما طلع الفحول: ففيه وجهان: [الأول]ـ المنصوص ـ: (أنها للمشتري) . والثاني: أنها للبائع. وقد مضى ذكرهما. وإن تشقق شيء من طلع الإناث، أو أُبر.. كان الجميع للبائع؛ لأن على قول الشافعي: الفحول كالإناث، وعلى قول ذلك القائل الآخر: إذا أفرده بالبيع.. كان للبائع، فكذلك هاهنا. وإن تشقق شيء من طلع الفحول دون الإناث.. فعلى قول الشافعي: تكون ثمرة الفحول والإناث للبائع، لأن الفحول عنده كالإناث، وعلى قول ذلك القائل الآخر: تكون ثمرة الفحول للبائع، وثمرة الإناث للمشتري؛ لأن ثمرة الفحول للبائع بالظهور، فلا تأثير للتشقق، فلا يتبع أحدهما الآخر. [مسألة: بيع القطن قبل انشقاق الجوز] ] : قال الشافعي: (والكرسف إذا بيع أصله، كالنخل إذا خرج جوزه، ولم يتشقق.. فهو للمشتري، وإذا تشقق.. فهو للبائع) . وهذا كما قال. و (الكرسف) : هو القطن، وهو نوعان: أحدهما: ما يبقى السنتين، والثلاث، وذلك قطن الحجاز والبصرة، وهو مراد الشافعي، وكذلك قطن أبين وتهامة والعراق. وحكم هذا النوع، حكم النخل،

مسألة: شجيرات الورد

فإذا بيعت الأرض وفيها قطن.. كان تابعًا للأرض. وإن بيع القطن دون الأرض.. صحَّ. فإذا بيع القطن مفردًا أو مع الأرض.. نظرت: فإن كان قبل ظهور جوزه، أو بعد ظهوره وقبل تشققه.. فهو للمشتري، كثمرة النخل قبل التشقق والتأبير. وإن كان البيع بعد ظهور جوزه وتشققه أو تشقق بعضه.. فهو للبائع، كثمرة النخل إذا أبرت أو تشققت. والنوع الثاني: وهو ما لا يبقى إلا سنة، وهو قطن خراسان، فهو كالزرع، فإن بيعت الأرض وفيها القطن.. لم يدخل في البيع من غير شرط. وإن بيع القطن دون الأرض.. نظرت: فإن كان حشيشًا لم ينعقد جوزه، أو انعقد وهو حشيش لم يحصل فيه قطن.. جاز بيعه بشرط القطع. وإن بيع مع الأرض.. صحَّ بيعه من غير شرط القطع. وإن كان قد عقد جوزه واستحكم قطنه.. قال الشيخ أبو حامد: فلا يصح بيعه أصلا، لا مفردًا، ولا مع الأرض؛ لأن المقصود منه القطن، وهو مغيب مجهول. قال: وكذلك لا يجوز بيعه وإن تشقق جوزه، كالطعام في سنبله. قال: ولا يجوز بيع جوزه في الأرض أيضًا؛ لأن مقصوده لا يُرى، ولأنه مستورٌ بما لا مصلحة له فيه، فلم يصح بيعه فيه، كالتمر في الجراب. [مسألة: شجيرات الورد] وأما غير النخل والكرسف من الأشجار: فعلى ثلاثة أضرب:

أحدها: ما يقصد منها الورد، وهو على قسمين: أحدهما: ما يخرج ورده في كمام، ثم يتفتح بعد ذلك ويظهر، كالورد، فإذا بيعت الأرض وفيها شجر الورد.. دخل الشجر في بيع الأرض. وإن بيع شجر الورد منفردًا.. صحَّ البيع، وينظر فيه: فإن كان الورد في كمامه لم يتشقق منه شيء.. فهو للمشتري، كطلع النخل إذا لم يتشقق. وإن تشقق، وتقلع، وظهر الورد.. فهل للبائع، إلاَّ أن يشترطه المبتاع، كطلع النخل إذا تشقق. والقسم الثاني: من الورد ما يخرج بارزًا بلا كمام، كالياسمين، فإذا بيع شجره، فإن كان قد ظهر ورده.. فهو للبائع، إلا أن يشترطه المشتري. وإن لم يظهر.. فهو للمشتري. والضرب الثاني: من الأشجار ما يقصد منه الورق، وهو شجر التوت، فإذا بيع أصول التوت.. ففيه وجهان:

أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد ـ: إن كان قد ظهر من الورق شيء.. فهو للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، وإن لم يظهر منه شيء.. فهو للمشتري؛ لأن المقصود من هذا الشجر الورق، فهو كالثمرة من سائر الأشجار. ومن أصحابنا من قال: إنه للمشتري بكل حال؛ لأنه بمنزلة أغصان الشجر؛ لأن للتوت ثمرة تؤكل غير الورق. وإن باع شجر الحناء والجوز والهدس.. فلا نص فيها، فيحتمل أن تكون كالتوت على الوجهين، ويحتمل أن يكون البائع أحق بالورق إذا ظهر، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا ثمرة لهذه الأشجار غير الورق. والضرب الثالث: من الأشجار ما يقصد منه الثمرة، وهو ينقسم أربعة أقسام: [الأول] : قسم تخرج ثمرته ظاهرةً من غير كمام، كالتين والعنب، فإذا بيع الشجر، فإن كانت الثمرة قد ظهرت.. فهي للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع، وإن لم تظهر.. فهي للمشتري؛ لأن الظاهر منها كطلع النخل إذا تشقق، وما لم يظهر منها كقطع النخل قبل التشقق. والقسم الثاني: من الثمار ما يخرج عليه قشرة لا تزال عنه إلا عند الأكل، وهو الرمان والموز، فإذا باع الشجر وقد ظهرت ثمرته.. فإن الثمرة للبائع. وإن لم تظهر.. فهي للمشتري؛ لأن هذه القشرة من مصلحته، وبقاؤه فيها. قال الشافعي: (وإذا تشقق الرمان.. كان ذلك نقصًا فيه) . والقسم الثالث: من الثمار ما يخرج وعليه قشرتان، وهو الجوز واللوز والرانج. فإن باع الشجر وعليه ثمرته، فإن كان قد تشقق عنها القشر الأعلى..

فالثمرة للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع. وإن باع الشجر قبل أن يتشقق عنها القشرة العليا.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو اختيار ابن الصباغ ـ: أنها تكون للبائع؛ لأن الشافعي قال في " الأم " [3/38] : (ومن باع أرضا فيها شجر رمان، أو جوز، أو لوز، أو رانج، أو ما يواريه حائل لا يفارقه بحال إلا عند أكله.. فهو كما وصفت من الثمر البادي بلا كمام؛ ولأن قشره لا يتشقق عنه، فهو كقشر الرمان) . والثاني ـ وهو اختيار الشيخ أبي حامد ـ: أنه للمشتري كطلع النخل إذا لم يتشقق. قال: وأما قول الشافعي: فيحتمل: أنه لم يعلم أن للجوز واللوز قشرتين، أو أراد بالحجاز؛ لأنه لا يكون له بالحجاز إلا قشرة واحدة. والقسم الرابع: من الثمار ما يخرج وعليه نور، ثم يتناثر عنه النور، كالتفاح والمشمش والخوخ، فإن باع الأصل، وقد تناثر النور عن الثمرة.. فإن الثمرة تكون للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع. وإن كان قبل تناثر النور عنها.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو المنصوص في " البويطي "، واختيار القاضيين: أبي حامد، وأبي الطيب ـ: (أن الثمرة للمشتري) ؛ لأن استتار الثمرة بالنور كاستتار ثمرة النخل بالطلع، وتناثر النور عنها كتشقق طلع النخل. والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني ـ: أن الثمرة للبائع؛ لأن الثمرة قد ظهرت، وإنما استترت بالنور، كاستتار ثمرة النخل بعد التأبير بالقشر الأبيض. وقال الشيخ أبو حامد: وقد أومأ الشافعي إلى: (أن العنب لا ورد له) . قال: وعندي: أن له وردًا، ثم ينعقد.

فرع: بيع أصول الثمار

[فرعٌ: بيع أصول الثمار] وإذا باعه أصلاً وقد ظهرت بعض ثمرته.. فإنَّ الظاهر منها يكون للبائع، فإن ظهر باقي ثمرة العام بعد البيع.. فلمن يكون الظاهر بعد العقد؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في التأبير. [مسألة: بيع أرض مختلفة الزرع] وإن باع أرضًا وفيها نبات غير الشجر، فإن كان له أصل يبقى السنتين والثلاث، ويجز مرة بعد أخرى، كالرطبة، وهو القضب، والقضب الفارسي، والنعناع، والهندباء، والبطيخ، والبنفسج، والنرجس.. فإن الأصل يدخل في البيع. فإن كان قد نبت منه شيء حال عقد البيع.. فإن النابت منه يكون للبائع، كالطلع المؤبر. وإن لم يكن نابتًا حال العقد.. فلا حق للبائع فيه، بل ذلك للمشتري، كالطلع الذي لم يؤبر. قال الشيخ أبو حامد: ومن أصحابنا من قال: النرجس يكون للمشتري بكل حال. قال: وهذا كلام من لم يعرف النرجس، وذلك: أن النرجس له أصل يبقى عشرين سنة، وإنما يحول من موضع إلى موضع في كل سبع سنين لمصلحته. وإن باع أرضًا وفيها زرعٌ ظاهرٌ.. نظرت:

فإن كان يجز مرة بعد أخرى.. دخل الأصل في بيع الأرض. وما ظهر حال العقد.. فهو للبائع، وما يظهر بعد العقد.. فهو للمشتري. وكذلك الكراث إذا بيعت الأرض التي هو بها.. فإن أصل الكراث يدخل في البيع، وما كان ظاهرًا حال العقد لا يدخل في البيع إلا بالشرط، ويؤمر البائع بأخذه في الحال؛ لأن الزيادة بعد العقد تكون للمشتري. وإن كان الزرع يؤخذ مرة واحدة، كالحنطة والشعير.. فإنه لا يدخل في بيع الأرض من غير شرط؛ لأن هذا الزرع مودع في الأرض، فهو كالكنز والماس؛ لأنه نماءٌ ظاهرٌ لا يراد للبقاء، فلم يدخل في بيع الأرض من غير شرط، كالطلع المؤبر. وإن قال: بعتك هذه الأرض بحقوقها.. قال الشيخ أبو حامد: فإن الزرع لا يدخل في بيعها؛ لأنه ليس من حقوقها، بخلاف الغراس. إذا ثبت هذا: فإن للبائع أن يبقي هذا الزرع في الأرض إلى أن يستحصد. وقال أبو حنيفة: (يجبر على أخذه في الحال) . دليلنا: هو أن من ابتاع شيئًا مشغولاً بحق البائع.. فإن على البائع أن يأخذ ذلك على الوجه الذي جرت العادة بأخذه، كما لو باعه دارًا فيها طعامٌ للبائع.. فإنه لا يجب عليه نقله إلا على حسب العادة في نقله، ولا يلزم البائع أجرة الأرض إلى وقت الحصاد؛ لأن الأجرة تجب في مقابل منفعة استوفاها بالغصب، أو بالعقد، ولا غصب هاهنا، ولا عقد. فإذا بلغ أوان الحصاد.. فعلى البائع أن يحصد زرعه، فإذا حصده.. نظر فيه: فإن لم يبقى للزرع عروق في الأرض تضر بها، كالحنطة والشعير.. فقد ارتفعت يده، ولا شيء عليه غير ذلك. وإن بقي للزرع عروق تضر بالأرض، كالذرة.. فعلى البائع أن يقلع تلك العروق.

فرع: اشترى أرضا كان رآها

فإن حصد البائع زرعه قبل أوان الحصاد.. لم يكن له أن يبدل مكان زرعه زرعًا آخر؛ لأن المستحق على المشتري تبقيه هذا الزرع لا غير. إذا تقرر ما ذكرناه: فإن أبا إسحاق المروزي قال: إذا باع أرضًا فيها زرع للبائع.. فهل يصح البيع في الأرض؟ على قولين، كبيع الأرض المستأجرة من غير المستأجر؛ لأن الأرض في يد البائع إلى أن يحصد زرعه، كما أن الأرض في يد المستأجر إلى أن يستوفي منفعته. وقال أكثر أصحابنا: يصح البيع في الأرض، قولاً واحدًا؛ لأن يد المستأجر تحول بين المشتري وبين ما اشترى، ويد البائع لا تحول بينه وبين الأرض؛ لأن للمشتري أن يدخل إلى الأرض، ويتصرف بها بما ليس بمزروع فيها بما شاء من وجوه التصرفات التي لا تضر بالزرع، ولأن هذا لو أشبه الأرض المستأجرة.. لوجب أن يبطل البيع، قولاً واحدًا؛ لأن مدة الإجارة معلومة، ومدة بقاء الزرع مجهولة، وهذا لم يقله أحد. وإن باع الزرع والأرض، فإن كان الزرع لا حبَّ فيه.. صح البيع مطلقًا من غير شرط القطع تبعًا للأرض. وإن كان في الزرع حبٌّ، فإن كان حبًّا ظاهرًا، كالشعير والذرة.. صحّ البيع فيهما، وإن كان غير ظاهر، كالحنطة والدخن، فإن قلنا بقوله القديم: (إن بيع الحنطة في سنبلها مع سنبلها يصح) صح البيع فيهما وإن قلنا بقوله الجديد: (لا يصح بيع الحنطة في سنبلها) .. لم يصح البيع في الأرض والحنطة؛ لأنه يكون بيع مجهول ومعلوم. [فرعٌ: اشترى أرضًا كان رآها] إذا اشترى أرضًا غائبة عنه، وكان قد رآها قبل ذلك غير مزروعة، فوجدها مزروعة، أو اشترى نخلا قد رآها قبل الشراء لا طلع عليها، فوجد عليها طلعا

فرع: اشترى أرضا مبذورة

مؤبَّرًا.. قال الشافعي: (فللمشتري الخيار فيهما) ؛ لأنه يفوته زرع تلك السنة في الأرض، وتفوته الثمرة في النخل تلك السنة، فيثبت له الخيار، ولأن ملكه يبقى مشغولا بحق غيره، وذلك نقص عليه، فثبت له الرد. [فرعٌ: اشترى أرضًا مبذورة] وإن اشترى أرضًا مبذورة، فإن كان البذر مما يبقى أصله في الأرض سنتين وثلاثًا، كبذر الكراث وما أشبهها من البقول.. دخل البذر في بيع الأرض. وهكذا: إذا باعه أرضًا وقد بذرَ فيها نوى أو جوزًا.. دخل البذر في بيع الأرض؛ لأنه بذر فيها للبقاء، لا للنقل والتحويل. وإن كان بذر زرع يؤخذ إذا استحصد، ولا يبقى أصله، كبذر الحنطة والشعير والذرة، فإن أطلق البيع، ولم يشترط دخول البذرة في البيع.. صح البيع في الأرض، ولم يدخل البذر في البيع؛ لأنه مودعٌ في الأرض يراد للنقل والتحويل، فهو كالزرع، وعلى المشتري تبقية هذا البذر في أرضه إلى أن يستحصد، كالزرع. فإن علم المشتري بأن الأرض مبذورة.. فلا خيار له. وإن لم يعلم أنها مبذورة.. ثبت له الخيار؛ لأن في بقائه في أرضه ضررًا عليه، فثبت له الخيار لأجل ذلك. وإن قال البائع: أنا آخذ هذا البذر، وأمكنه ذلك في زمان لا يضر بمنافع الأرض.. لم يكن للمشتري الخيار. قال في " الأم " [3/39] : (وكذلك: إن رضي البائع بتركه للمشتري.. فلا خيار له) ؛ لأنه زاده خيرًا بالترك، فلزمه قبوله؛ لأن فيه تصحيح العقد. وإن باعه الأرض مع البذر.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو المذهب ـ: أن البيع في البذر باطل؛ لأنه مجهول. فعلى هذا: إن قلنا: إن الصفة لا تفرق.. بطل، أو قلنا: تفرق، ويأخذ الأرض بحصتها من الثمن.. بطل البيع في الأرض أيضًا. وإن قلنا: يأخذ الأرض بجميع الثمن.. صحَّ البيع فيها، وثبت له الخيار فيها؛ لتفرق الصفقة. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يصح البيع في البذر تبعًا لبيع الأرض. وليس بشيء.

مسألة: باع أصلا وعليه ثمرته

[مسألة: باع أصلاً وعليه ثمرته] ] : إذا باع أصلا وعليه ثمرة لبائع.. لم يكلف البائع قطع ثمرته قبل أوان قطعها. وقال أبو حنيفة: (يجبر على قطعها في الحال) . دليلنا: أن من ابتاع شيئًا مشغولاً بملك البائع.. فإنه لا يجب على البائع أن يأخذ ملكه إلا على الوجه الذي جرت العادة بأخذه فيه، كما لو باع منه دارًا له فيها قماشٌ بالليل.. فإنه لا يلزم البائع نقل قماشه إلا بالنهار، وإن كان في المطر.. لم يكلف البائع نقل متاعه حتى يسكن المطر، ولا يلزمه أن ينقله دفعة واحدة، بل على حسب العادة في نقله، ولم تجر العادة بأن الناس يأخذون ثمارهم قبل أوان جذاذها. إذا ثبت هذا: فإن كان عنبًا.. فإن له أن يبقي ذلك إلى أن ينضج، ويحلو، وتشتد حلاوته. وإن كان تينًا أو تُفاحًا وغيرهما مما يشبههما من الثمار.. فإلى أن ينضج. وإن كان نخلاً.. فإلى أن يُرطبَ، إلا أن يكون نخلاً لا يصير رطبًا، وهو القرش الذي لا يقطع إلا بُسرًا، فإذا اشتدت حلاوته بسرًا.. فعليه أن يأخذه، فإذا بلغ إلى أول حالٍ يؤخذ فيها.. فعليه أن يأخذها. فإن قال البائع: أنا لا آخذها بل أُبقيها؛ لأنه أنفع لها، وأتم لصلاحها.. فليس له ذلك، كما لو باع دارًا وفيها متاعٌ له.. فعليه أن ينقل متاعه عنها، ولو قال: لا أنقله عنها. لأنها أحرز من غيرها.. لم يكن له ذلك، كذلك هاهنا مثله. [مسألة: انقطاع الماء عن الثمر المؤبر] ] : وإن باع نخلاً، وعليها ثمرةٌ مؤبرة، ولم يشترطها المشتري.. فقد ذكرنا: أن الثمرة للبائع، فإن انقطع الماء، فإن كان تبقية الثمرة على النخل لا تضر بالنخل، أو

فرع: شراء شجرة في أرض

تضرُّ بها ضررًا يسيرًا.. فللبائع أن يبقي ثمرته على النخل؛ لأنه وجب بإطلاق العقد، ولا ضرر بذلك على النخل. وإن كان تبقية الثمرة تضر بالنخل.. ففيه قولان: أحدهما: للبائع أن يبقي ثمرته وإن ضر بالنخل؛ لأن ذلك وجب له بإطلاق العقد. والثاني: يلزمه قطع ثمرته؛ لأنه إنما يملك التبقية إذا لم يضر بنخل المشتري، فإذا كان يضر به.. لم يكن له ذلك. وإن احتاجت الثمرة والنخل إلى السقي.. فلكل واحد منهما أن يسقي، وإن منعه الآخر.. أُجبر الممتنع منهما؛ لأنه لا ضرر على أحدهما بالسقي. وإن كان السقي يضر بالثمرة والنخل.. فليس لأحدهما أن يسقي بغير إذن صاحبه لأنه يضر ولا ينفعه ويضر غيره وإن كان السقي ينفع أحدهما دون الآخر، فإن اتفقا على السقي أو على ترك السقي.. جاز؛ لأن الحق لهما. وإن دعا إلى السقي من له فيه منفعة، وامتنع من عليه ضرر في السقي ففيه وجهان: [الأول] : قال أبو إسحاق يفسخ العقد بينهما؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، ففسخ العقد بينهما. و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يجبر الممتنع منها؛ لأنهما دخلا في العقد على ذلك، وكل من أراد السقي.. فأجرة السقي عليه؛ لأن منفعته تعود إليه. فإن اختلفا في قدر السقي، فقال البائع: تسقى في كل عشرة أيام سقية، وقال المشتري: بل في كل عشرين يومًا سقية.. رجع فيها إلى أهل الخبرة بذلك، فما احتيج إليه.. أجبر عليه الآخر إذا قلنا: يجبر. [فرعٌ: شراء شجرة في أرض] ذكر الطبري في " العدة ": إذا اشترى شجرة في أرض.. ملك الشجرة، وله تبقيتها في أرضها إلى أن تستقلع، وهل يكون قرارها داخلاً في البيع؟ فيه وجهان:

مسألة: بيع الثمر قبل صلاحه

أحدهما: أنه داخل في البيع؛ لأن قوامها به، فجرى مجرى أصل الشجرة. فعلى هذا: إذا انقلعت هذه الشجرة.. كان له أن يقيم مقامها في قرارها. والثاني: أنه لا يدخل في البيع؛ لأن اسم الشجرة لا يقع على قرارها. فعلى هذا: إذا انقلعت الشجرة.. كان قرارها ملكًا للبائع. [مسألة: بيع الثمر قبل صلاحه] إذا باع الثمرة على رؤوس الشجر مفردة قبل بدو الصلاح، أو باع زرعًا في أرض قبل بدو الصلاح، فإن شرط في البيع قطع ذلك.. قال الشيخ أبو حامد: صحّ البيع بلا خلاف؛ لأنهما يأمنان بهذا الشرط من الغرر. وإن شرطا تبقية ذلك.. لم يصح البيع بلا خلاف؛ لأن ذلك يؤدي إلى الغرر؛ لأنه لا يدري، هل يسلم ذلك، أم لا؟ وإن أطلقا العقد.. لم يصح البيع عندنا، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة: (يصح البيع، ويأخذ المشتري بقطع ذلك في الحال) . دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها» .

مسألة: بيع الثمار قبل الصلاح من غير شرط القطع

وروى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى تُزهي، قيل: يا رسول الله وما تزهي؟ قال: " حتى تحمر "، ثم قال: " أرأيت لو منع الله الثمرة.. بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟» . وروى أنس أيضًا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد، ونهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها» . وعموم هذا يدل على أنه لا يجوز بشرط القطع ولا بغيره، فقامت الدلالة على جواز البيع بشرط القطع، وهو الإجماع، وبقي الباقي على عموم الخبر، ولأن نقل المبيع إنما يكون على حسب العادة بنقله، بدليل: أنه إذا اشترى متاعا بالليل.. فإنه لا يكلف نقله حتى يصبح، وإذا اشترى طعامًا.. لم يكلف نقله دفعةً واحدةً، بل ينقله شيئًا بعد شيء، وقد جرت العادة أن الثمار لا تنقل إلا بعد بدو الصلاح فيها، وإذا باعه ثمرة أو زرعًا قبل بدو الصلاح فيها من غير شرط القطع.. لم يأمن أن يتلف بعاهة قبل ذلك، وفي ذلك غرر من غير حاجة، فلم يصح. [مسألة: بيع الثمار قبل الصلاح من غير شرط القطع] ] : قال الشافعي في " الرسالة ": (وإن باع الثمار مع الأصول قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع.. صح البيع) ؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من باع نخلاً بعد أن

فرع: يتعين القطع قبل بدو الصلاح

تؤبر.. فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع» . ولأن الشيء قد لا يجوز بيعه مفردًا، ويجوز بيعه مع غيره على وجه التبع، كما قلنا في الحمل في البطن، واللبن في الضرع، وأساس الحيطان. [فرعٌ: يتعين القطع قبل بدو الصلاح] وإن باع الثمرة قبل بدو صلاحها من صاحب النخل من غير شرط القطع، أو باع الزرع قبل بدو صلاحه من صاحب الأرض من غير شرط القطع ـ ويتصور هذا: بأن يبيع الرجل نخلاً وعليها ثمرة مؤبرة ـ أو باع أرضًا وفيها زرعٌ، ولم يشترط المشتري دخول الثمرة والزرع في البيع.. فقد ذكرنا: أن الثمرة والزرع غير مبيعين، ثم باع البائع ذلك من صاحب النخل والأرض، أو أوصى لرجل بثمرة نخله أو بزرع أرضه، ثم مات، وباع صاحب الثمرة ثمرته من مالك النخل، أو باع مالك الزرع زرعه من مالك الأرض قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع.. فهل يصح البيع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح البيع؛ لأنه باع الثمرة والزرع قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع، فلم يصح البيع، كما لو باع ذلك من غير مالك النخل والأرض. والثاني: يصح البيع؛ لأنهما يحصلان لواحد، فهو كما لو اشتراهما دفعةً واحدةً. [فرعٌ: استثناء البائع الثمرة لنفسه] ] : وإن باع الرجل نخلاً وعليها طلعٌ غير مؤبر.. فقد ذكرنا: أن الثمرة تكون للمشتري، فإن استثنى البائع الثمرة لنفسه.. فهل يجوز من غير شرط القطع؟ فيه وجهان:

فرع: بيع نصف الثمر قبل صلاحه

أحدهما: لا يصح، وهو ظاهر النص، كما لو ابتدأ شراءها. فعلى هذا: إذا اشترط التبقية.. بطل البيع. والثاني: يصح البيع؛ لأن ذلك ليس بابتياع، وإنما هو استبقاء لها على ملكه، فلم يفتقر إلى شرط القطع. فعلى هذا: إذا شرط التبقية فيها إلى وقت جذاذها.. صحّ البيع؛ لأن هذا من مقتضى العقد. [فرعٌ: بيع نصف الثمر قبل صلاحه] لو باع نصف ثمرته قبل بدو الصلاح فيها، أو نصف زرعه قبل بدو الصلاح فيه.. قال ابن الحداد: لم يصح البيع؛ لأنه لا يصح قسمة ذلك. فغلطه بعض أصحابنا في العلة، وقال: ليس العلة: أنه لا تصح قسمة ذلك، ألا ترى أنه لا يصح البيع. وإن قلنا: إن القسمة تمييز الحقين؛ لأن نصيبه لا يتميز من نصيب شريكه، ولا يجبر شريك على قلع زرعه، وهذا تعليله في كتاب (الصلح) ، بل العلة: أنه لا يصح قطع نصف الثمرة والزرع مشاعًا. وقال القاضي أبو الطيب: بل الصحيح ما علل به ابن الحداد، وقد نص الشافعي على هذه العلة، فقال: (لو كان بين رجلين زرعٌ، فصالحه أحدهما على نصف الزرع.. لم يجز من قبل أنه لا يجوز أن يقسم الزرع أخضر، لا يجبر شريكه على أن يقطع منه شيئًا) . قال القاضي: وإذا باعه نصف ثمرة أو نصف زرع قبل بدو الصلاح بشرط القطع، فإن قلنا: إن القسمة بيع.. لم يصح هذا البيع؛ لأنه لا تصح قسمته، وإذا لم تصح قسمته.. لم يتأت قطع نصفه. وإن قلنا: إن القسمة تمييز الحقين.. صح البيع؛ لأنه يمكن قطعه كأن يقاسمه في الثمرة أو الزرع، فإذا تميز حقه.. قطعه، فإن قلنا:

فرع: في النخلة المشتركة

لا تصح قسمة الثمرة، فباعه نصف الثمرة أو نصف الزرع بشرط أن يقطع الجميع.. لم يصح البيع؛ لأن البائع لا يجبر على قطع ما لم يبع، فكان هذا الشرط ينافي مقتضى العقد، فأبطله. [فرعٌ: في النخلة المشتركة] وإن كانت نخلة مثمرة بين رجلين، فاشترى أحدهما حق شريكه من جذع النخلة بحقه من الثمرة قبل بدو صلاحها، بشرط أن يقطع جميع الثمرة.. صح البيع؛ لأن المشتري للثمرة يلزمه أن يقطع النصف الذي اشتراه بالشرط، ويلزمه أن يقطع النصف الذي لم يبع بتفريغ الجذع الذي باع، فيجب عليه قطع الجميع بخلاف المسألة قبلها. [فرعٌ: بيع الثمر بعد صلاحه] وإذا باع الثمرة أو الزرع بعد بدو الصلاح فيه، فإن باعه بشرط القطع.. صح البيع بالإجماع؛ لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما؛ ولأنه إذا صح بيعه بشرط القطع قبل بدو الصلاح.. فبعد بدو الصلاح أولى. وإن باعه مطلقًا.. صح بيعه بالإجماع. وعندنا يلزم البائع تبقيته إلى أوان الجذاذ والحصاد. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يلزم المشتري نقله في الحال، كما قال فيمن باع نخلاً وعليه ثمرة مؤبرة. وإن باعه بشرط التبقية إلى وقت الجذاذ.. صح البيع عندنا، وبه قال محمد. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (لا يصح) . دليلنا: أن نقل المبيع لا يجب إلا على ما جرت العادة بنقله، ولم تجر العادة بنقل الثمرة والزرع إلا بعد وقت الجذاذ فيه، فاقتضى الإطلاق ذلك، وكان شرط التبقية بيانًا لما يقتضيه العقد، فلم يمنع صحة البيع له.

فرع: أخر الجذاذ لما بعد بدو الصلاح

إذا ثبت: أن المشتري لا يلزمه نقل ثمرته، ولا زرعه إلا وقت الجذاذ فيه، إما بالإطلاق، أو بشرط التبقية.. فحكمه حكم من باع نخلاً وعليها ثمرةٌ مؤبرة، فيلزمه أن يأخذ ذلك في الحال التي يلزم البائع أخذ ثمرته. فإن احتاجت هذه الثمرة أو الزرع إلى سقي.. وجب على البائع أجرة السقي؛ لأنه يجب عليه التسليم في حال الجذاذ والحصاد، وذلك لا يحصل إلا بالسقي، فلزمه ذلك. [فرعٌ: أخر الجذاذ لما بعد بدو الصلاح] إذا اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فلم يقطعها حتى بدا صلاحها.. لم يبطل البيع. وقال أحمد في أصح الروايتين عنه: (يبطل البيع، وتعود الثمرة بزيادتها إلى البائع) . دليلنا: أن المبيع بحاله، وإنما طرأت عليه زيادة، والزيادة لا تبطل العقد، كما لو اشترى عبدًا صغيرًا، فكبر، أو هزيلا، فسمن. وإن باع ثمرة بعد بدو صلاحها وما يحدث بعد ذلك من الثمرة.. لم يصح البيع في الموجودة ولا في المعدومة. وقال مالك: (يصح في الجميع) . دليلنا: أن هذا غرر، فلم يصح، كما لو باعه المعدومة منفردة. [مسألة: بيان بدو الصلاح] وبدو الصلاح: هو تغير الثمرة باحمرار أو اصفرار إن كانت مما يتغير. وحُكي عن بعض الفقهاء: أنه قال: بدو الصلاح: هو طلوع الثريا؛ لما «روى ابن عمر: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة) . وقيل لابن عمر: متى تنجو من العاهة؟ فقال: طلوع الثريا»

دليلنا: ما «روى أنسٌ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى تُزهي) . قيل: وما تُزهي؟ قال: تحمر» وأما قول ابن عمر: فإنما بين بذلك وقت بدو الصلاح. إذا ثبت هذا: فإن كانت الثمرة رُطَبًا.. فبدو الصلاح فيها أن تصفر أو تحمر؛ وإن كان عنبا أسود.. فبدو صلاحه أن يسود، وإن كان أبيض.. فبأن يتموّه، وهو أن تبدو فيه الحلاوة، ويصفر لونه، وإن كان مما لا يتلون، مثل: التفاح.. فبأن يحلو، ويطيب أكله. قال الشافعي: (وللخربز ـ وهو البطيخ ـ نضج كنضج الرطب، فإذا رأى ذلك.. حل بيع خربزه) . قال: (والقثاء يؤكل صغارًا طيِّبا، فبدو صلاحه أن يتناهى عظمه أو عظم بعضه) . فاعترض ابن داود على الشافعي، وقال: علَّمنا الشافعي: (أن القثاء يؤكل صغارًا) ، وذلك يدرك بالمشاهدات، وقوله: (إنه طيب) يدل على: أنه كان يحب القثاء. قال أصحابنا: فالجواب: أن الشافعي لم يرد هذا، وإنما أراد أن يبين بهذا أن كل ثمرة في الدنيا إذا طاب أكلها.. فقد بدا صلاحها، إلا القثاء، فإنه يؤكل صغارًا طيِّبًا، وليس ذلك بدو صلاحه، وإنما يشترط كبره بحيث يوجد في العادة ويؤكل، ويبلغ إلى الحد الذي لو زاد عليه.. لفسد. والدليل على ما ذكرناه: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد» .

وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه نهى عن بيع الثمرة حتى تُزهيَ) . قيل: وما تُزهي؟ قال: "تصفر» . فنص على العنب والرطب والحب، وقسنا على ذلك غيرها من الثمار، فإذا وجد بدو الصلاح في بعض نوع من جنس ولو كان بسرة واحدة أو عنبة واحدة.. جاز بيع جميع ما في ذلك الحائط من ذلك النوع تبعا لما بدا فيه الصلاح منه. ولأنا لو قلنا: لا يجوز إلا بيع ما بدا فيه الصلاح من ذلك النوع.. لأدى إلى الضرر بسوء المشاركة، واختلاف الأيدي، وهل يجوز بيع ما لم يبدُ فيه الصلاح من نوع آخر من ذلك الجنس في ذلك الحائط معه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن الأنواع من جنس يضم بعضها إلى بعض في إكمال النصاب في الزكاة، فكذلك في البيع. والثاني: لا يجوز؛ لأن النوعين يتباعد إدراكهما، بخلاف النوع الواحد، وقد نص الشافعي في " البويطي ": (إذا كان أحدهما صيفيًّا والآخر شتويًّا.. لا يتبع أحدهما الآخر) . فكذلك هذا مثله. وإن أفرد ما لم يبد فيه الصلاح من ذلك الجنس في ذلك الحائط بالبيع من غير شرط القطع.. فهل يصح؟ فيه وجهان، ذكرناهما في التأبير. ولا يجوز أن يبيع ما لم يبد فيه الصلاح من ذلك الجنس في حائط آخر، ولا ما لم يبد فيه الصلاح من جنس آخر في ذلك الحائط. هذا مذهبنا، وبه قال أحمد. وقال الليث: (إذا بدا الصلاح في بعض الثمار.. كان بدوًّا للصلاح في جميع الثمار) . وقال مالك: (إذا بدا الصلاح في جنس.. كان ذلك بدوًّا للصلاح في ذلك الجنس كله في ذلك البلد، فيجوز بيعه) . دليلنا على الليث: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد» . فاعتبر كل واحد بنفسه.

مسألة: بيع ما مأكوله نابت في بطن الأرض

وعلى مالك: أنه نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، وإذا باع ثمرة البستان الذي لم يبد فيه الصلاح.. فقد باع الثمرة قبل بدو صلاحها. ولأنا إنما جعلنا بدو الصلاح في بعض الجنس في حائط صلاحًا لجميع ذلك الجنس في ذلك الحائط؛ لئلا يؤدي إلى الضرر بسوء المشاركة، واختلاف الأيدي، وهذا المعنى لا يوجد في بستانين، فلم يصح. [مسألة: بيع ما مأكوله نابت في بطن الأرض] قال الشافعي: (وكل ما ينبت تحت الأرض، ويكون مأكوله تحت الأرض، مثل: الجزر والبصل والسلق والكراث، فلا يجوز بيعه إلا بعد قلعه، وهذا كما قال: كل ما كان مأكوله نابتًا في الأرض، مثل: الجزر والبصل والكرَّاث والثوم والفجل.. يجوز أن يبيع ورقه بشرط القطع، فإن بيع بشرط القطع بعد عشرة أيام.. لم يصح البيع؛ لأنه يحدث هناك زيادة لا تتميز، ولا يجوز بيع ما منه تحت الأرض؛ لأنه لا يجوز بيعه بيع خيار الرؤية؛ لأن بيع خيار الرؤية ما إذا نظر إليه المشتري ولم يرضه.. ردَّه على البائع من غير ضرر، وهاهنا لا يمكنه أن ينظر إليه إلا بعد قلعه، ولا يمكنه ردُّه على البائع كما أخذه، ولا يمكنه أيضًا أن يبيعه بيعًا لا خيار له فيه؛ لأن فيه غررًا، فلم يجز. والفرق بين هذا وبين الجوز واللوز وكل ما كان مأكوله في جوفه: أن كون الجوز واللوز في قشره من مصلحته وحافظًا لمنفعته، فلذلك جاز بيعه فيه، وليس كذلك هذه الأشياء النابتة في الأرض؛ لأن بعد بلوغها الحد الذي توجد فيه لا مصلحة لها في بقائها تحت الأرض؛ ولأن الجوز واللوز إذا رآه المشتري استدل على مأكوله؛ لأنه إذا كان الجوز كبيرًا أبيض.. علم أن مأكوله كثير جيد، وإذا كان

مسألة: حدوث ثمرة ثانية بعد شراء الأولى

صغيرًا.. علم أن مأكوله قليل، وليس رؤية الورق في الجزر وما أشبهه يدل على أصله. [مسألة: حدوث ثمرة ثانية بعد شراء الأولى] إذا اشترى ثمرة على الشجرة، ولم يأخذها حتى حدثت ثمرة أخرى ـ قال الشيخ أبو حامد: وهذا يتصور في التين ـ فإن تميزت ثمرة إحداهما عن الأخرى بصغر أو كبر أو لون.. فإن الثمرة الأولى للمشتري، والثانية للبائع. وإن اختلطتا ولم تتميزا، أو لم يتميز بعضها من بعض.. ففيه قولان: أحدهما: أن البيع ينفسخ؛ لأنه قد تعذر القبض المستحق بالعقد، فانفسخ البيع، كما لو اشترى عبدًا، فمات قبل القبض. والثاني: لا ينفسخ البيع، بل يقال للبائع: أتسمح بترك ثمرتك للمشتري؟ فإن سمح.. أُجبر المشتري على قبوله، وإن لم يسمح.. فسخ العقد بينهما؛ لأن المبيع باق، وإنما انضاف إليه ما لا يتميز منه، فلم ينفسخ العقد، كما لو اشترى عبدًا صغيرًا، فكبر، أو هزيلاً، فسمن. وإن اشترى من رجل طعامًا، فاختلط بطعام للبائع، ولم يتميز، فإن كان بعد قبض الطعام.. لم يبطل البيع، قولاً واحدًا؛ لأن العقد قد انبرم بالقبض، بل يكون القول قول من الطعام بيده مع يمينه في قدر حق صاحبه منه. وإن كان ذلك قبل أن يقبض المشتري طعامه.. ففيه قولان، كالمسألة قبلها. وأمّا الثمرة: فلا فرق فيها بين أن يقبضها المشتري، أو لا يقبضها. وقال المزني: بل تكون الثمرة كالطعام، ففرق فيه بين أن يختلط قبل القبض أو بعده، كما قلنا في الطعام. وهذا غلط، لأن المشتري إذا قبض الطعام.. لم يبق بينه وبين البائع علقة، فإذا اختلط المبيع بغيره.. لم يؤثر في البيع، وليس كذلك الثمرة

على الشجر، فإن المشتري وإن قبضها، إلا أن العُلْقَةَ لا تنقطع بينهما؛ لأن على البائع سقيها، ويثبت للمشتري الخيار إذا أصابها العطش، وإذا تلفت.. كانت من ضمان البائع في أحد القولين. وإن اشترى رجل من آخر شجرة عليها ثمرة للبائع، فلم يأخذ البائع ثمرته حتى حدث فيها حمل ثمرة أخرى، واختلطا، ولم يتميزا.. ففيه طريقان: [الطريق الأول] : قال عامة أصحابنا: هي على قولين: أحدهما: ينفسخ البيع. والثاني: لا ينفسخ، بل يقال للبائع: أتسمح بترك ثمرتك للمشتري؟ فإن سمح.. أُجبر المشتري على قبولها، وإن لم يسمح.. قيل للمشتري: أتسمح بترك ثمرتك الحادثة للبائع؟ فإن سمح.. أجبر البائع على قبوله، وإن لم يسمح.. فُسخ العقد بينهما. و [الطريق الثاني] : قال أبو علي بن خيران، وأبو علي الطبري: لا ينفسخ البيع، قولاً واحدًا، بل يقال لهما: إن سمح أحدكما بترك حقه.. أقر البيع، وإن لم يسمح واحدٌ منكما.. فسخ البيع؛ لأن المبيع هو الشجر، ولم يختلط بغيره، وإنما اختلطت الثمرة، فلم ينفسخ البيع في الشجرة، كما لو اشترى دارًا وفيها طعامٌ للبائع وطعام للمشتري، فاختلط أحد الطعامين بالآخر.. فإن البيع لا ينفسخ في الدار، فكذلك هذا مثله. والمنصوص للشافعي هي الطريقة الأولى؛ لأن المقصود بالشجرة هو الثمرة، بخلاف الدار. وإن اشترى جِزَّةً من القصب بشرط القطع، فلم يأخذها المشتري حتى طالت.. فإن الزيادة تكون للبائع، وما الحكم في البيع؟ فيه طريقان: [أولهما] : من أصحابنا من قال: لا ينفسخ البيع، قولاً واحدًا، بل يقال للبائع:

مسألة: الشجر يحمل حملين

إن سمحت بترك حقك للمشتري.. أُجبر المشتري على قبوله، وأُقر العقد، وإن لم تسمح.. فسخ البيع؛ لأن المبيع لم يختلط بغيره، وإنما زاد، فهو كما لو باعه عبدًا صغيرًا، فكبر. و [الثاني] : منهم من قال: بلى هي على قولين: أحدهما: ينفسخ البيع. والثاني: لا ينفسخ، بل يقال للبائع: إن سمحت بترك حقك.. أقر عقد البيع، وإن لم تسمح.. فسخ. وهذه الطريقة أصح؛ لأن زيادة العبد يجبر البائع على تسليمها، وهاهنا لا يجبر. [مسألة: الشجر يحمل حملين] وإن كان له شجرة تحمل حملين ـ قال الشيخ أبو حامد: ولا أعلم ذلك إلا التين. وقيل: الموز ـ فباعه أحد الحملين بعد بدو الصلاح فيه، وهو يعلم أن الحمل الثاني يحدث ويختلط بالحمل الأول، ولا يتميز.. فالبيع باطل. وقال الربيع: فيه قول آخر: أن البيع لا يبطل. ولعله أخذ ذلك ممن باع جزَّةً من الرطبة، فلم يأخذها حتى طالت.. فإنها على قولين: أحدهما: ينفسخ البيع. والثاني: لا ينفسخ، بل يقال للبائع: إن سمحت بترك حقك.. أقر البيع. فأخذه من هذا القول؛ لأنه يعلم أن الرطبة تطول قبل الجز. والصحيح: أن البيع باطل، قولاً واحدًا؛ لأنه باع ما لا يقدر على تسليمه؛ لأن العادة في الثمار أنها لا تؤخذ إلا بعد تكامل الصلاح فيها، بخلاف الجزة من الرُّطْبة، فإنها تجز في الحال، ولا تختلط بغيرها.

فرع: بيع الجوز في قشرتيه

[فرعٌ: بيع الجوز في قشرتيه] ذكر الشيخ أبو حامد: أنه لا يجوز بيع الجوز واللوز، وعليه قشرته العليا على شجرةٍ ولا على الأرض؛ لأنه لا مصلحة له في بقائه فيها، ويجوز بيعه وهو في قشرته السفلى على شجرة وعلى الأرض؛ لأن بقاءه فيها من مصلحته. وذكر ابن الصباغ: هل يجوز بيعها في قشرتهما العليا إذا كانا أخضرين على الشجر؟ فيه وجهان. وإن كان يابسين.. لم يجز، وجهًا واحدًا. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجوز بيعهما في قشرتهما العليا بكل حال) . دليلنا: أنّ المقصود مستور بما لا يدخر فيه.. فلم يصح بيعه فيه، كما لو باع شاةً مذبوحةً قبل السلخ. وبالله التوفيق.

باب المصراة والرد بالعيب

[باب المصرَّاةِ والردِّ بالعيبِ] ِ قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والتصرية: أن تربط أخلاف الناقة أو الشاة، ثم تترك من الحلاب اليومين والثلاث، حتى يجتمع فيها اللبن، فيراه مشتريها كثيرًا، فيزيد في ثمنها لذلك) . و (التصرية) : في اللغة: الجمع، يقال: صرى الماء في الحوض: إذا جمعه، ولهذا سميت: الصُّراة؛ لأنها مجتمع الماء. ويقال: صرى الرجل الماء في صلبه، إذا امتنع من الجماع، قال الشاعر: رأت غلامًا قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان شرته ويسمى أيضا: الحفل، وهو مأخوذ من الجمع أيضًا. يقال: فلان احتفل مالا، أي: جمعه، ومنه يقال: المحفل؛ لأنه مجتمع الناس. إذا ثبت هذا: فإن اشترى الرجل ناقةً أو شاةً أو بقرةً مصراةً، ولم يعلم أنها مصراة، ثم علم أنها مصراة.. ثبت له الخيار بين الإمساك والرد. هذا مذهبنا، وبه قال من الصحابة: ابن مسعود، وابن عمر، وأبو هريرة، وأنس، ومن الفقهاء: مالك، والليث، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، وزفر. وقال أبو حنيفة، ومحمد: (ليس ذلك بعيب، ولا يثبت له الرد لأجله) . وقال داود: (يثبت له الرد في الناقة والشاة، ولا يثبت له الرد في البقرة) .

دليلنا: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك.. فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثًا، فإن رضيها.. أمسكها، وإن سخطها.. ردها وصاعًا من تمر» . وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتاع محفلة.. فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها.. ردَّ معها مثل أو مثلَيْ لبنها قمحًا» . وهذا لفظ يجمع الناقة والشاة والبقرة. ولأن التصرية تدليس بما يختلف به الثمن، فثبت لأجلها الرد، كما لو اشترى جارية قد سود شعرها.. فبان أنه كان أشمط. وإن اتفق أن الشاة لم تحلب يومين أو ثلاثا، فاجتمع في ضرعها لبنٌ من غير قصد

إلى التصرية.. فهل يكون ذلك عيبًا يثبت لأجله الرد للمشتري؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي. وأما الكلام في زمان الخيار: فقد روي في الخبرين: «أنه بالخيار ثلاثة أيام» . واختلف أصحابنا في ذلك: فقال أبو إسحاق: إنما قدر خيار التصرية بالثلاث؛ لأنه لا يمكن معرفة التصرية بما دون الثلاث؛ لأنه إذا حلبها في اليوم الأول.. يجد لبنها كثيرًا، فيظن أنه لبن عادة، ويجوز أن يكون لأجل التصرية، فإذا حلبها في اليوم الثاني، فكان أنقص.. يجوز أن يكون هذا لأجل التصرية، ويجوز أن يكون لاختلاف الأيدي والمكان والعلف، فإن اللبن يختلف لأجل ذلك، فإذا حلبها في اليوم الثالث.. زالت الريبة؛ لأنه إن كان لبنها مثل اللبن في اليوم الأول.. علم أن نقصانه في اليوم الثاني إنما كان لاختلاف اليد أو المكان أو العلف، وأنه لم يكن لعيب التصرية، وإن كان لبنها مثل لبن اليوم الثاني.. علم أن النقصان في الثاني والثالث لأجل التصرية، فإذا مضت الثلاث.. استبانت التصرية، وثبت له الخيار على الفور. فأبو إسحاق يحيل معرفة التصرية والاطلاع عليها من جهة التجربة قبل الثلاث. وقال أبو علي بن أبي هريرة: الثلاث المذكورة في الخبر إنما يثبت له الخيار فيها بالشرط، فمتى شرط خيار الثلاث في البيع، فوجدها مصراة.. ثبت له الخيار في الثلاث، أي وقت شاء منها؛ للخبر. وأما إذا لم يشترط خيار الثلاث، وعلم أنها مصراة.. ثبت له الخيار على الفور؛ لأنه خيار ثبت لنقص، فكان على الفور، كسائر العيوب. فهذا القائل لا يحيل اطلاعه على عيب التصرية قبل الثلاث. وقال القاضي أبو حامدٍ: إذا علم أنها مصراة قبل الثلاث.. فله الخيار إلى تمام الثلاث؛ لظاهر الخبر. وقد نص الشافعي على هذا في " اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ".

وإن اشترى مصرَّاة مع العلم أنها مصراة، بأن أعلمه البائع.. فهل للمشتري الخيار؟ فيه وجهان: أحدهما: لا خيار له؛ لأن البائع أطلعه على العيب، فلم يثبت له الخيار، كما لو باعه سلعة معيبة وأعلمه بعيبها. والثاني: يثبت له الخيار؛ لأن العيب لا يتحققه؛ لأنه يجوز أن يكون انتفاخ الضرع وازدياد اللبن لأجل التصرية، ويجوز أن يكون لا لأجل التصرية، وإنما الزيادة من قبل العلف، ولعله يدوم ولا يتبين له ذلك إلا فيما بعد، فيثبت له الخيار. قال الشيخ أبو حامد: وهذان الوجهان مأخوذان من رجل تزوج امرأةً، فوجدته عِنِّينًا، ففسخت النكاح، ثم تزوج بها ثانيًا فوجدته عنِّينًا، فهل يجوز لها فسخ النكاح لأجل العنة؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (لا خيار لها؛ لأنها قد تزوجته مع العلم بعنته) . و [الثاني] : قال في الجديد: (لها الخيار؛ لأنه قد يكون عنينا في نكاح دون نكاح) . فكان لها الخيار؛ لأنها لم تتحقق عنته في النكاح الثاني. وإن وجدها مصراة، فدام ذلك اللبن، ولم ينقص.. فهل له الخيار؟ فيه وجهان: أحدهما: يثبت له الخيار؛ لأن التدليس كان موجودًا حال العقد، فثبت له الخيار، ولم يسقط بعد ذلك بغير رضاه. والثاني: لا خيار له؛ لأن الخيار إنما يثبت للنقصان، ولا نقص عليه مع دوام اللبن. قال الشيخ أبو حامد: وهذان الوجهان مأخوذان من القولين في الأمة، إذا أعتقت وهي تحت عبد، فقبل أن يفسخ النكاح أعتق العبد: أحدهما: يثبت لها الخيار اعتبارًا بالابتداء. والثاني: لا خيار لها؛ لأنه لا نقص عليها في الانتهاء.

مسألة: ما يلزم مع الرد

[مسألة: ما يلزم مع الردّ] إذا اختار المشتري ردّ المصراة.. لزمه رد بدل اللبن؛ لأن العقد وقع عليه؛ لأنه كان موجودًا حال العقد، ولأنه لا يمكن رد اللبن؛ لأن بعضه كان موجودًا حال العقد وبعضه حدث، ولا يمكن تمييز أحدهما من الآخر، فقدر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدله؛ لقطع المنازعة والخصومة في ذلك. وقد اختلفت الرواية في ذلك: فروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك.. فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثًا، فإن رضيها.. أمسكها، وإن سخطها.. ردَّها وصاعًا من تمر لا سمراء ". وفي رواية عن أبي هريرة: " ردَّها وصاعًا من طعام لا سمراء ". وفي رواية عن أبي هريرة: " ردّها وصاعًا من طعام» .

فرع: في تساوي قيمة الصاع والشاة

وفي رواية ابن عمر: «ردَّها ورد معها مثل أو مثلي لبنها قمحًا» . واختلف أصحابنا في ترتيب هذه الأخبار. فقال أبو إسحاق: الأصل هو التمر؛ لأنه غالب قوت الحجاز، فإن أعطى دونه من دخن أو ذرة.. لم يقبل منه. فحيث روى أبو هريرة: " صاعًا من تمر " هو الأصل. وقوله: " لا سمراء " أي: لا يكلف تسليم السمراء، وهي الحنطة. وحيث روي: " صاعًا من طعام سمراء " أي: إذا سمحت نفسه به. وحيث روى: " صاعًا من طعام " أراد به: التمر؛ لأنه غالب قوت الحجاز. وحيث روى ابن عمر: " مثل لبنها " إذا كان كيله صاعًا. وحيث روى: "مثلي" إذا كان لبنها نصف صاع. وقوله: "قمحًا" إذا كان قيمة ذلك من القمح أكثر من قيمة صاع تمر، فتطوع به. وقال أبو العباس: إنما أراد صاعًا من غالب قوت البلد، فنص على التمر؛ لأنه غالب قوت الحجاز، ونص على البر؛ لأنه غالب قوت بلاد أخرى، فيجب أن يرد في كل بلد من غالب قوتها، كما قلنا في زكاة الفطر. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\241] : هل يتقدر ذلك بالصاع، أو يختلف بقلة اللبن وكثرته؟ فيه وجهان: أحدهما: يتقدر بالصاع؛ للخبر. والثاني: يتوزع التمر على اللبن بالقيمة. وقال ابن أبي ليلى: يجب رد قيمة اللبن. دليلنا عليه: الأخبار التي تقدم ذكرها. [فرع: في تساوي قيمة الصاع والشاة] ] : إذا قلنا: يجب رد التمر، وكان في بلد قيمة صاع تمر مثل قيمة الشاة أو أكثر.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا أوجب عليه صاعًا من تمر إلا إذا كانت قيمة

فرع: ظهور عيب مع التصرية

الصاع من التمر أقل من نصف قيمة الشاة، فأما إذا كانت قيمة صاع تمر مثل نصف قيمة الشاة أو أكثر.. فلا أُوجب عليه صاعًا من تمر، ولكن أوجب عليه قيمة صاع تمر بالحجاز؛ لأنه هو الأصل، كما لو كان لرجل على آخر صاع تمر بالحجاز، ثم طالبه به ببلد آخر يعز فيه التمر.. فإنه لا يلزمه دفع صاع تمر، ولكن يلزمه قيمته بالحجاز، ولأنا لو أوجبنا له صاع تمر.. أدى إلى أن تجتمع له الشاة وقيمتها، وذلك جمع بين البدل والمبدل. والثاني: يجب عليه صاع تمر؛ لأن ذلك ليس ببدل عن الشاة، وإنما هو بدل عن اللبن، كما لو غصب عبدًا وخصاه.. فإنه يلزمه رد العبد ورد قيمته. وإن كان ما حلب من اللبن باقيًا، وأراد المشتري رده دون بدله.. ففيه وجهان: [الأول] : قال أبو إسحاق في " الشرح ": ليس له ذلك؛ لأنه صار بالحلب ناقصًا؛ لأنه تسرع إليه الحموضة. والثاني: له ردُّه؛ لأن هذا النقص كان لاستعلام العيب، فلا يمنع الرد. [فرع: ظهور عيب مع التصرية] إذا اشترى ناقة أو شاةً أبو بقرة مصراة، فرضيها بعيب التصرية، ثم وجد بها عيبًا غير التصرية.. فله ردُّها؛ لأجله، ويلزمه أن يرد معها صاعًا بدل لبن التصرية؛

لأنه كان موجودًا في الضرع يوم البيع. وإن اشتراها وهي غير مصراةٍ، ثم وجد بها عيبًا، فإن كانت حين الشراء محلوبة لا لبن فيها.. كان له ردُّها؛ لأن ما حدث من اللبن في ملكه، لم يدخل في البيع، فلا يمنعه إتلافه من ردها. وإن كان فيها لبن حين الشراء، وقد أتلفه.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو المنصوص للشافعي في القديم ـ: (أنه يردها؛ لأجل العيب، ولا يرد بدل اللبن) . وفرق الشافعي بين هذه وبين المصراة: أن لبن المصراة قد تحقق وجوده حال العقد، فيتناوله العقد، ويقسط عليه الثمن، وغير المصراة لا يتحقق وجوده حال العقد. ومن أصحابنا من فرق بينهما بفرق آخر: وهو أن لبن المصراة مقصود بالابتياع، وقابله قسط من الثمن، فوجب رد بدله، ولبن غير المصراة يسير غير مقصود، فلم يتقسط عليه الثمن، ولم يجب عليه رد بدله. والوجه الثاني: أنه لا يرد بالعيب، وهو اختيار عامة أصحابنا؛ لأنه قد أتلف بعض المبيع، فلم يثبت له الرد، وتأولوا النص عليه إذا باعها وهي محلوبة لا لبن فيها وقت العقد. فإذا قلنا بهذا: وكان ما حلب من اللبن باقيا.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يردها، ويرد اللبن؛ لأن المبيعين موجودان. والثاني: لا يثبت له الرد، إلا أن يرضى البائع؛ لأن اللبن قد نقص بالحلب، ونقص المبيع في يد المشتري يمنع من الرد، ويثبت له الأرش.

مسألة: شراء جارية مصراة

[مسألة: شراء جارية مصراة] وإن اشترى جارية، فوجدها مصراة.. ففيه وجهان: أحدهما: أن التصرية فيها ليس بعيب.. فلا ترد الجارية لأجله؛ لأن لبن الآدميات غير مقصود. فإذا قلنا بهذا: فهل يرجع على البائع بالأرش؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يرجع؛ لأنا قد قلنا: إن التصرية في الآدميات ليس بعيب. والثاني: يرجع بالأرش؛ لأنه لا يمكن رد الجارية من غير رد بدل لبنها؛ لأنه يؤدي إلى إسقاط حق البائع من لبنها، ولا يمكن ردها مع بدل لبنها؛ لأنه ليس للبنها عوض مقصود، ولا يمكن إجبار المشتري على إمساكها بجميع الثمن؛ لأنه لم يبذل الثمن إلا في مقابلهما، فثبت له الرجوع بالأرش. والوجه الثاني: أن التصرية في الجواري عيب، وهو الصحيح؛ لأنه قد يرغب في لبنها لتكون داية، ولأن الجارية إذا كان في ضرعها لبن.. كان ثديها قائمًا، فيكون أحسن منه إذا كان لا لبن فيه؛ لأنه يكون مسترسلا، وذلك قبيح. فإذا قلنا بهذا: فإنه يردها: وهل يرد بدل اللبن؟ فيه وجهان: أحدهما: يرد معها صاعًا، كما قلنا في الشاة والبقرة. والثاني: لا يرد معها شيئًا؛ لأن لبن الجواري غير مقصود في الأعواض. [مسألة: شراء أتان مصراة] وإن اشترى أتانًا، فوجدها مصرَّاة.. ثبت له الرد لأجله؛ لأن لبنها يقصد لتربية الجحش؛ لأنه إذا كان لبنها غزيرًا.. كان جحشها سمينًا، وإذا كان غير غزير.. كان

مسألة: رؤية شعر الجارية لصحة البيع

جحشها غير سمين، وهل يرد بدل اللبن؟ إن قلنا بقول أبي سعيد الإصطخري، وأن لبنها طاهر.. لزمه أن يرد معها صاعًا، كما قلنا في الشاة والبقرة. وإن قلنا بقول الشافعي، وعامّة أصحابنا.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يرد شيئًا، ولا يأخذ شيئًا؛ لأنه لا قيمة للبنها، فلم يلزمه رد بدله، كما لو عرقت الأتان في يده، ثم وجد بها عيبًا.. فإنه يردها، ولا يرد بدل العرق. والثاني ـ حكاه في " المهذب " ـ: أنه لا يردها، ويرجع بالأرش؛ لأنه لا يمكن ردُّها مع بدل اللبن؛ لأنه لا قيمة له، ولا يمكن ردُّها من غير بدل اللبن؛ لأن فيه إسقاط حق البائع من اللبن، ولا يمكن أن يمسكها المشتري بجميع الثمن؛ لأنه لم يبذل الثمن إلا لتسلم له الأتان واللبن، فلم يبق إلا الرجوع بالأرش. وهذا ليس بشيء؛ لأنه لمَّا لم يجز أن يقوم هذا اللبن للبائع.. لم يجز أن يقوم عليه. [مسألة: رؤية شعر الجارية لصحة البيع] ] : وإذا اشترى جارية.. فإن الشراء لا يصح حتى يرى شعرها؛ لأن الشعر مقصود، ويختلف الثمن باختلافه، فإذا اشتراها، ونظر إلى شعرها، فوجده شعرًا جَعْدًا أسود، ثم بان بعد ذلك أنها سبطة، أو بان أنّ شعرها أبيض أو أحمر، وأن شعرها قد كان جعدًا واسْودّ.. ثبت للمشتري الخيار. وقال أبو حنيفة: (لا خيار له في ذلك) . دليلنا: أن هذا تدليس من جهة البائع يختلف به الثمن، ألا ترى أن النساء يسودن شعورهن ويجعدنه ليكتسبن به الجمال والزينة؟ وكذلك إذا اشتراها ووجهها أحمر أو

فرع: ظن بهيمة منتفخة البطن حاملا

أبيض، ثم بان سواد وجهها أو صفرته، وأن البياض أو الحمرة التي كانت فيه، إنما كان فيها بعلاج من البائع.. ثبت له الرد؛ لأن ذلك تدليس بما يختلف به الثمن، فهو كالتصرية. وإن اشترى جارية سبطة الشعر، ثم بان أنها كانت جعدة، وإنما سبط بعلاج، إن أمكن.. فهل للمشتري الخيار؟ فيه وجهان: أحدهما: لا خيار له؛ لأن الجعدة أكمل وأكثر ثمنًا. والثاني: له الخيار؛ لأنه قد يكون له غرض في السبطة. وليس بشيء. [فرع: ظن بهيمة منتفخة البطن حاملاً] لو أرسل على بهيمة الزنابير، فلسعتها حتى انتفخ بطنها، فظن المشتري أنها حامل، ولا حمل بها.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\241] : ثبت له الخيار؛ لأن ذلك تدليس يختلف به الثمن، فهو كالتصرية. فإن علف بهيمته حتى انتفخ بطنها، فظن المشتري أنها حامل، ولا حمل بها.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\241] . أحدهما: يثبت للمشتري الخيار؛ لأن ذلك تدليس يختلف به الثمن، فهو كما لو أرسل عليها الزنابير. والثاني: لا خيار له؛ لأن امتلاء البطن إلى الله تعالى، ولأن علف البهيمة واجبٌ عليه. وإن باعه غلامًا، وعلى الغلام ثوب في أثر حبر أو مدادٍ، فظنه المشتري كاتبًا، وكان غير كاتب.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\241] : أحدهما: للمشتري الخيار؛ لأن ذلك تدليس بما يختلف به الثمن، فهو كالتصرية.

فرع: اختلاف باطن الصبرة عن ظاهرها

والثاني: لا خيار له. ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنه يحتمل أن يكون استعاره له، ولا يتعين عليه أن يلبسه ثوبًا لا أثر عليه. [فرع: اختلاف باطن الصبرة عن ظاهرها] وإن اشترى صبرة، فبان أنها على صخرة، أو بان أن باطنها دون ظاهرها في الجودة.. ثبت له الخيار؛ لأن ذلك تدليس بما يختلف به الثمن. [مسألة: وجوب إعلام المشتري بالعيب] ومن ملك عينا، وعلم بها عيبًا، وأراد بيعها.. وجب عليه أن يعلمه بعيبها، فإن لم يفعل.. أثم بذلك؛ لما روى عقبة بن عامر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا، يعلم به عيبًا، إلا بيَّنه له» . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غشّنا.. فليس منَّا» .

قال الصيمري: وله ثلاث تأويلات: قيل: ليس بتبع لنا. وقيل: ليس على عادتنا. وقيل: ليس على أخلاقنا. وإن علم بالعيب غير البائع.. وجب عليه أن يبين ذلك للمشتري؛ لما «روى أبو سباع، قال: اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع، فأدركني، فقال: أبينوا لك ما بها؟ فقلت: إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردت بها لحمًا، أم أردت بها سَفَرًا؟ فقلت: أردت عليها الحج، فقال: إن برجلها نقبًا، أو قال: بخفِّها ثقبًا، فقال صاحبها: أصلحك الله، لم أفسدت عليّ؟ فقال له واثلة: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "لا يحل لمسلم أن يبيع شيئًا إلا بين ما فيه، ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا بينه» . فإن باع ولم يبين العيب.. صح البيع. وقال داود: (لا يصح) . دليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك.. فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثًا، فإن رضيها.. أمسكها،

مسألة: خيار العيب

وإن سخطها.. ردّها وصاعًا من تمر» . ففي هذا الخبر خمسة أدلة: أحدها: أن التدليس محرم؛ لأنه نهى عن التصرية، وهي تدليس. والثاني: أن التصرية عيب. والثالث: أن بيع المعيب جائز. والرابع: أن الرد بالعيب جائز. والخامس: أنه يجب رد بدل لبن المصراة. [مسألة: خيار العيب] ] : إذا اشترى معيبًا، ولم يعلم بعيبه، ثم علم.. فهو بالخيار: بين أن يرضى به معيبًا، ويقر البيع، وبين أن يرده لأجل العيب؛ لما ذكرناه في خبر المصراة. وإن اشترى شيئًا ولا عيب فيه، ثم حدث به عيبٌ بعد الشراء.. نظرت: فإن كان قبل أن يقبضه المشتري.. ثبت له الرد؛ لأجل ذلك العيب، ولأن المبيع مضمون في يد البائع عليه بالثمن، فكان العيب الحادث فيه في هذا الحال كالعيب الموجود حال العقد. وإن حدث العيب في يد المشتري.. نظرت: فإن لم يستند حدوثه إلى سبب قبل القبض.. لم يكن له الرد، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (عهدة الرقيق ثلاثة أيام إلا في الجذام والبرص والجنون، فإن ذلك إذا ظهر إلى سنة.. ثبت له الخيار) . وقال قتادة: إذا قبض المشتري المبيع، ثم ظهر به عيب في يده في مدة الثلاث.. ثبت له الرد في جميع المبيعات.

مسألة: نوع العيب الذي يرد المبيع لأجله

دليلنا: أن هذا عيب ظهر في يد المشتري يجوز أن يكون حادثا بعد القبض، فلم يثبت لأجله الخيار، كما لو ظهر ذلك بعد الثلاث والسنة. وإن استند حدوثه إلى سبب قبل القبض، بأن كان عبدًا، فسرق في يد البائع، أو قطع يدًا، فقطعت يده في يد المشتري.. ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: يثبت للمشتري الرد؛ لأنه قطع في يده بسبب كان في يد البائع، فصار كما لو قطع في يد البائع. وقال ابن أبي هريرة: لا يثبت له الرد؛ لأن القطع وجد في يد المشتري، فهو كما لو لم يستند إلى سبب قبل القبض. [مسألة: نوع العيب الذي يرد المبيع لأجله] ] : والعيوب التي يرد المبيع لأجلها: كل صفة نقصت بها العين وإن زادت بها القيمة، فإنها عيب، كالخصاء في العبد؛ لأن العقد يقتضي السلامة في الأعضاء. وكل صفة نقصت بها القيمة وإن لم تنقص العين، كالإباق والسرقة في العبد، فإنها عيب. وكذلك كل صفة نقَّصت العين والقيمة، كالعمى والعرج، فإنها عيب. فإن خفي شيء من ذلك.. رُجع إلى أهل الخبرة بذلك الشيء. فإن اشترى عبدًا، فوجده أعرج أو أصم أو أخرس أو مجذومًا أو أبرص أو مجنونًا أو مريضًا أو مقطوع اليد أو الرجل.. ثبت له الرد؛ لأن هذه عاهات يقتضي العقد السلامة منها. [فرع: هل الزنى عيب في العبد] وإن اشترى عبدًا أو أمة، فوجد أحدهما قد كان زنى في يد البائع.. ثبت له الرد. وقال أبو حنيفة: (هو عيب في الجارية؛ لأنها تفسد عليه فراشه، وليس بعيب في العبد) . دليلنا: أن الزنا في العبد ينقص قيمته؛ لأنه ربما زنى في يد المشتري، فأُقيم عليه الحد، وربما أدى ذلك إلى تعطيل منافعه، أو إلى تلفه، فكان عيبًا فيه، كالسرقة.

فرع: ثبوت الرد ببعض العيوب في العبد

وإن اشترى عبدًا، فوجده مخنثًا.. ثبت له الرد؛ لأن ذلك ينقص قيمته؛ لأنه يقام عليه الحد، وربما كان تلفه بذلك. قال الصيمري: فإن وجده عنينا.. ثبت له الرد؛ لأن ذلك ينقص قيمته. [فرع: ثبوت الرد ببعض العيوب في العبد] وإن اشترى عبدًا أو أمة، فوجد أحدهما أبخر.. ثبت له الرد. وقال أبو حنيفة: (هو عيب في الجارية؛ لأنها تؤذيه في الفراش، وليس بعيب في العبد) . دليلنا: أنه قد يحتاج إلى مسارة العبد أو إلى خدمته لصب الماء على يده، وذلك يؤذيه، كما تؤذيه الجارية في الفراش، فكان عيبًا فيه، إن اشترى عبدًا، فوجده غير مختون؛ فإن كان صغيرًا.. لم يثبت له الرد؛ لأنه لا يخاف عليه منه، وإن كان كبيرًا.. ثبت له الرد؛ لأن ذلك ينقص من قيمته؛ لأنه يخاف عليه منه. وإن اشترى جارية، فوجدها غير مختونة.. لم يثبت له الرد، صغيرة كانت أو كبيرة؛ لأن ختانها سليم، لا يخاف عليها منه. وإن اشترى عبدًا أو أمة، فوجده يبول في الفراش، فإن كان صغيرًا.. لم يثبت له الرد؛ لأن بول الصغير معتاد، وإن كان كبيرًا.. ثبت له الرد. وقال أبو حنيفة: (ترد الجارية دون الغلام؛ لأنها تفسد عليه فراشه) . دليلنا: أن الغلام يفسد ثيابه أيضًا، ولأن ذلك لعلة في المثانة.

فرع: تباعد حيض الجارية يثبت الخيار

وإن اشترى جارية، فوجد رائحة فرجها كريهة.. ثبت له الرد؛ لأن ذلك ينقص قيمتها. [فرع: تباعد حيض الجارية يثبت الخيار] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " البويطي ": (وإن اشترى جارية، فتباعد حيضها.. ثبت له الخيار) . قال ابن الصبّاغ: أراد: إذا كان ذلك لعلو السن، فيكون غالب الظن الإياس فيه. وقدره القاضي حسين، فقال: إن كانت دون عشرين سنة.. فعدم الحيض ليس بعيب. وإن كان بعد ذلك.. فهو عيب بها. [فرع: ترك الصلاة عيب] وإن اشترى عبدًا، أو أمةً، فبان أنه يترك الصلاة.. فذكر الصيمري، وصاحب " الحاوي ": أن ذلك عيبٌ؛ لأن ذلك ينقص القيمة؛ لأن ترك الصلاة يوجب القتل. قال الشاشي: وكذلك شرب الخمر، وقذف المحصنات، والكذب، والنميمة.. عيبٌ؛ لأنه ينقص من القيمة. [فرع: عيب الخنثى يرد به] ذكر القاضي في (الخناثى) : إذا اشترى عبدًا، فبان أنه خنثى قد زال إشكاله، وأنه رجل، فإن كان يبول بالفرجين.. فهو عيب؛ لأن ذلك لاسترخاء في المثانة، وهو عيب. وإن كان يبول من فرج الرجال لا غير.. فلا خيار للمشتري؛ لأن هذه خلقة زائدة لا تنقص العين ولا المنفعة ولا القيمة. ولو اشترى جارية، فبان أنها خنثى قد زال إشكالها، وأنها امرأة.. ثبت للمشتري

فرع: عيوب يأباها العقد

الخيار، سواء بالت من الفرجين أو من فرج النساء؛ لأن ذلك ينقص من قيمتها؛ لأن النفس تعاف من مباشرتها. وإن اشترى عبدًا، أو أمة، فبان أنه خنثى لم يزل إشكاله.. ثبت له الخيار؛ لأنه ربما بان بخلاف ما عقد عليه البيع. [فرع: عيوب يأباها العقد] قال الصميري: ولو اشترى عبدًا، فوجده أبله ـ لأنه من حيائه كالأبله أو الغافل، فشبه به مجازًا ـ أو به بهقٌ، أو قروح، أو ثآليل كثيرة، أو حمى كبد، أو نفور الطحال.. فكل ذلك عيوب؛ لأن ذلك عاهات يقتضي العقد السلامة منها. [فرع: كون العبد ولد زنا] ] : وإن اشترى عبدًا، أو جارية، فوجده ولد زنا.. لم يثبت له الرد. وقال أبو حنيفة: (إن كان جارية.. ثبت له الرد، وإن كان عبدًا.. فلا رد له) . دليلنا: أن ما لم يكن عيبًا في العبد.. لم يكن عيبًا في الجارية، كالسن؛ ولأن الأنساب غير معتبرة في المماليك، فلم يكن عيبًا. وإن اشترى جارية، فوجدها مغنية.. لم يكن ذلك عيبًا.

فرع: زواج الأمة والعبد

وقال مالك: (يكون ذلك عيبًا) . دليلنا: أن ذلك لا ينقص من عينها، ولا من قيمتها، بل يزيد في قيمتها، فلم يكن ذلك عيبًا. وإن اشترى جارية، فوجدها مسنة، أو ثيِّبًا.. فليس له الرد؛ لأن ذلك ليس بنقص، وإنما هو عدم فضيلة. وإن اشترى مملوكًا، فوجده وثنيًّا، أو مرتدًّا.. ثبت له الرّد؛ لأنه لا يقر على دينه، ويجب قتله لذلك. وإن وجده يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا.. لم يثبت له الرد. وقال أبو حنيفة: (يثبت له الرد) . دليلنا: أنه مقر على دينه، والإسلام عدم فضيلة، فلم يوجب عدمه الرد، كما لو وجد الجارية ثيِّبًا، أو مسنة. [فرع: زواج الأمة والعبد] وإن اشترى أمة، فوجدها مزوَّجة، أو عبدًا، فوجد له زوجة.. ففيه وجهان: قال ابن الصباغ: يثبت له الرد، وهو قول مالك؛ لأن ذلك ينقص منفعتها، فإنه لا يملك وطء الأمة المزوجة، ولأن كسب العبد مستحق لنفقة زوجته وصداقها، والعقد يقتضي السلامة من ذلك. وقال الشيخ أبو نصر في " المعتمد ": لا يثبت له الرد؛ لأن عدم الاستمتاع لا يثبت له الرد، كما لو وجد الجارية صائمة، أو محرمة. [فرع: حرمة الجارية لرحم أو رضاع] قال ابن الحدّاد: إذا اشترى جارية، فوجدها أخته من الرضاع أو النسب، أو عمته، أو خالته، أو بنت امرأة دخل بها، أو غير ذلك من المحرمات عليه.. لم يثبت له الرد؛ لأن هذا التحريم يخصه، ولا ينقص من عينها، ولا من قيمتها. وإن اشترى أمة، فوجدها معتدة من طلاق أو وفاة، أو محرمة بالحج أو العمرة.. ثبت له الرد؛

فرع: خيار الغبن

لأن ذلك ينقص من قيمتها؛ لأنها محرمة الوطء على كل أحد. وإن وجدها صائمة.. ففيه وجهان، حكاهما الشاشي. ولو اشترى رجل من رجل جارية لها دون الحولين، فأرضعها المشتري من أم البائع، أو ابنته خمس رضعات متفرقات، ثم وجد بها عيبًا.. كان له ردُّها بالعيب، ولا يكون تحريمها على البائع مانعًا من ردِّها عليه، كما أن تحريمها على المشتري ليس بعيب؛ لأن ذلك يخصه. وكذلك: لو باعها من أخته، أو أمه أو ابنته، فأرضعتها، ثم وجدت بها عيبًا، فردتها، أو باعها من ابنه أو أبيه، فوطئها، ثم وجد بها عيبًا.. كان لهم الرد عليه، ولا يكون تحريمها عليه مانعًا من الرد عليه؛ لما ذكرناه. وكذلك: لو كان له أمةٌ صغيرة، فأرضعتها أمه أو ابنته خمس رضعات متفرقات.. حرم عليه وطؤها، ولا يجب على المرضعة قيمتها له؛ لأن ذلك لا ينقص من عينها، ولا من قيمتها في السوق، بخلاف ما لو أرضعت زوجته الصغيرة؛ لأن ذلك يبطل النكاح، وهاهنا لا يبطل ملكه عليها. [فرع: خيار الغبن] إذا تبايع رجلان، فغبن أحدهما صاحبه.. فليس للمغبون خيار، سواء غبن بقليل أو بكثير، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك، وأبو يوسف: (إن كان الغبن بثلث قيمة المبيع، أو دون ذلك.. فلا خيار له، وإن كان الغبن بأكثر من ذلك.. ثبت له الخيار) . وقال أحمد: (إن كان المغبون مسترسلاً غير عارف بالمبيع، ولا هو ممن لو توقف لعرفه، فغبن.. ثبت له الخيار) .

فرع: الرقيق المأذون له بالتجارة

وقال أبو ثور: (إذا غبنه بما لا يتغابن الناس بمثله.. فالبيع باطل) . دليلنا: ما روي: أن «حبان بن منقذ أصابته آمَّةٌ في رأسه، فثقل لسانه، فكان لا يزال يُخْدَعُ في البيع، فأتى أهلُهُ إلى النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: إنه يبتاع ويُغبَن، فاحجُر عليه، فدعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنهاه عن البيع، فقال: لا أصبر عنه. فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن كنت غير تاركه، فمن بايعته.. فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثًا» . فلو كان الغبن يُثبِتُ الخيارَ.. لأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفسخ من غير خيار، بل أمره بشرط الثلاث. ولأن نقصان قيمة السلعة مع سلامة عينها ومنفعتها، لا يمنع لزوم العقد، كما لو غُبِن بالثلث، وكما لو لم يكن مسترسلاً. [فرع: الرقيق المأذون له بالتجارة] ] : وإن اشترى عبدًا، فوجده مأذونًا له في التجارة، وقد ركبته الديون.. لم يثبت له الخيار. وقال مالك: (يثبت له الخيار) . وقال أبو حنيفة: (يبطل البيع) . دليلنا: أن ثبوت الدين في ذمة العبد لا ينقص على المشتري فيه، فلم يثبت له الخيار، ولم يبطل البيع لأجله. [مسألة: رد المبيع المعيب] إذا وجد المشتري بالمبيع عيبًا كان موجودًا به في يد البائع، فإن كان المبيعُ باقيًّا على جهته.. فله أن يرده. هذا مذهبنا، وبه قال عامة أهل العلم. وقال أحمد: (له أن يمسكه ويطالب بالأرش) . دليلنا: حديث المصراة، ولما روي عن عائشة: «أن رجلاً اشترى من رجل غلامًا، فاستغله، ثم وجد به عيبًا، فخاصمه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برده،

فقال: إنه قد استغل غلامي، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "الخراج بالضمان» . ولأن المبتاع دخل في العقد على أن يكون المبيع سليمًا، فإذا كان معيبًا.. لم يسلم له ما أراد، فكان له فسخ العقد. فإن علم بالعيب، فصرح بالرضا به، أو تصرف فيه بالبيع، أو بالهبة، أو ما أشبه ذلك، أعرضه لذلك، أو ركب الدابة لغير الرد، أو استخدم العبد، أو ترك الرد مع إمكانه.. سقط حقه من الرد؛ لأن التصرف بالمبيع، أو تعريضه لذلك يدل على الرضا به؛ ولأن الرد على الفور، وقد أمكنه ذلك، فسقط حقه. قال أبو العباس ابن سريج: فإن ركب الدابة ليردها، أو علفها، أو سقاها في الطريق.. لم يسقط حقه من الرد؛ لأن ذلك لا يدل على الرضا بالمبيع.

فرع: يفسخ عقد البيع بالعيب

قال الشيخ أبو حامد: وكذلك إن كانت بهيمة وبها لبن، فحلبها في طريق الرد.. لم يسقط حقه من الرد؛ لأن ذلك حق له إلى أن يرده. فإن كان على الدابة إكاف، ولم ينزع الإكاف عندما علم بالعيب.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\238] : بطل خياره؛ لأن ذلك استدامة للاستعمال. فلو لم ينزع العذار والنعل عن الدابة.. لم يسقط حقه من الرد؛ لأن الدابة لا يمكنه سوقها إلا بالعذار، وقلع النعل عن الدابة يحدث بها عيبًا. فإن أنعل الدابة وعلم بالعيب، وقلع النعل.. قال الصيدلاني: يسقط حقه من الرد؛ لأنه يضر بها. [فرع: يفسخ عقد البيع بالعيب] وللمشتري أن يفسخ العقد بالعيب من غير حكم الحاكم، ولا رضا البائع، ولا حضوره، سواءٌ كان ذلك قبل القبض أو بعده. وقال أبو حنيفة: (إن كان قبل القبض.. افتقر الفسخ إلى حضور البائع، ولا يفتقر إلى رضاه. وإن كان بعد القبض.. لم يصح الفسخ إلا بحكم الحاكم، أو برضا البائع) . دليلنا: أنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا شخص، فلم يفتقر إلى حضوره، كالطلاق، وفيه احترازٌ من الإقالة. وعلى الفصل الثاني؛ لأنه فسخ بيع بعيب، فلم

فرع: طلب البائع أن يمسك المشتري المعيب بأرش

يفتقر إلى الحاكم، ولا إلى رضا البائع، كما لو كان قبل القبض. فقولنا: (فسخ بيع) احترازٌ من فسخ النكاح بالعيب. وقولنا: (بعيب) احترازٌ من الإقالة، فإنها تفتقر إلى رضاهما. وإن اشترى ثوبًا بجارية، فوجد بالثوب عيبًا، فوطئ الجارية.. ففيه وجهان: أحدُهما: ينفسخ البيع، كما لو وطئها في مدة الخيار. والثاني: لا ينفسخ؛ لأن الملك قد استقر للمشتري، فلا يجوز فسخه إلا بالقبول، فإن زال العيب قبل أن يرد.. ففيه وجهان، بناء على القولين في الأمة إذا أعتقت تحت عبد، فأعتق العبد قبل أن يفسخ النكاح، وقد مضى ذكرهما في المصراة. [فرع: طلب البائع أن يمسك المشتري المعيب بأرش] فإن قال البائع للمشتري: أمسك المبيع، وأنا أعطيك أرش العيب.. لم يجبر المشتري على ذلك؛ لأنه لم يبذل الثمن إلا ليسلم له مبيع سليم. وإن طلب المشتري الأرش من البائع ليمسك المبيع.. لم يجبر البائع على دفعه؛ لأنه لم يرض بتسليم المبيع إلا بجميع الثمن. وإن تراضيا على ذلك.. فهل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول أبي العباس، وأبي حنيفة، ومالك ـ: (إن ذلك يصح) ؛ لأنه خيار سقط إلى المال، وهو إذا حدث عند المشتري عيبٌ آخر، أو كان عبدًا، فأعتقه.. فجاز إسقاطه إلى المال بالتراضي، كخيار القصاص. فقولنا: (خيار سقط إلى المال) احتراز من خيار المجلس، وخيار الثلاث. والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يصح) ؛ لأنه خيار فسخ، فلم يسقط إلى المال، كخيار المجلس، وخيار الشرط.

مسألة: بيع أرض فيها أحجار

فقولنا: (خيار فسخ) احتراز من خيار القصاص. فإذا قلنا بقول أبي العباس.. سقط الرد، ولزم البائع تسليم الأرش. وإن قلنا بالمنصوص.. فهل يسقط خيار المشتري من الرد؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط؛ لأن رضاه بأخذ العوض.. رضًا منه بإمساك المبيع مع العيب. والثاني: لا يسقط، وهو الصحيح؛ لأنه إنما رضي بإسقاط حقه بعوض، ولم يسلم له العوض، فلم يسقط حقه. [مسألة: بيع أرض فيها أحجار] ] : قال الشافعي: (وإن كان في الأرض حجارة مستودعة.. فعلى البائع نقلها، وتسوية الأرض على حالها، ولا يتركها حفرًا) . وجملة ذلك: أنه إذا باعه أرضًا، وفيها أحجارٌ: فإن كانت الأحجار مخلوقة في الأرض.. دخلت في البيع؛ لأنها من أجزاء الأرض. فإن كانت غير مضرة بالأرض بأن لا يصل إليها عروق الزرع والشجر.. لم يثبت للمشتري الخيار؛ لأن ذلك ليس بعيب. وإن كانت تضر بالأرض بأن تمنع عروق الزرع أو الشجر، فإن كان المشتري عالِمًا بالأحجار.. لم يكن له الخيار؛ لأنه دخل على بصيرة. وإن لم يعلم بها.. ثبت له الخيار؛ لأن ذلك عيب. وإن كانت الأحجار مبنية في الأرض مثل طي الآبار، وأساس الحيطان.. فإنها

تدخل في بيع الأرض، كأصول الشجر، وحكمها حكم المخلوقة في الخيار إذا كانت مبنية. وإن كانت الأحجار مستودعة في الأرض.. فإنها لا تدخل في بيع الأرض، كما لو باعه أرضًا وله فيها كنز ذهب أو فضة، أو باعه دارًا وفيها قماش. إذا ثبت: أنها لا تدخل في البيع.. فإن الأحجار للبائع. فإن كانت الأرض بيضاء لا غراس فيها ولا زرع، فإن كان المشتري عالمًا بالأحجار.. فللبائع أن يقلع أحجاره، سواءٌ كان قلعها يضر بالمشتري أو لا يضر به، فلا خيار للمشتري بكل حال؛ لأنه رضي بذلك، وللمشتري أن يطالبه بقلعها إن كانت تضر بأرضه؛ لأنه لا عرف في تبقيتها، ولا حد له، بخلاف الزرع، ولا أجرة للمشتري لأرضه مدة نقل البائع لأحجاره؛ لأنه علم بذلك، فهو كما لو اشترى دارًا فيها قماش للبائع، فنقل البائع قماشه في زمان طويل. وإن كان المشتري غير عالمٍ بالأحجار، أو عالمًا بها غير عالم بضررها.. لم تخل الأحجار من ثلاثة أحوال: إما أن يكون بقاؤها يضر بالأرض، وقلعها لا يضر بها. أو يكون بقاؤها يضر الأرض، وقلعها يضر بها. أو يكون بقاؤها لا يضر بالأرض، وقلعها يضر بها. [الحالة الأولى] : فإن كان بقاؤها يضر بالأرض، بأن تمنع الأحجار عروق الزرع والشجر، ولكن لا يضر قلعها بالأرض، بأن يمكن قلع الأحجار في مدة لا تتعطل فيها منفعة الأرض، كساعة وما أشبهها، وقال البائع: أنا أقلعها.. لم يثبت للمشتري الخيار؛ لأن العيب يزول عن المشتري من غير ضرر عليه، كما لو اكترى دارًا، فانسدت بالوعتها، فقال المؤجر: أنا أفتحها الآن، وكما لو اشترى من رجل عبدًا، فغصب قبل القبض، والبائع يقدر على انتزاعه في الحال.. فإنه لا خيار للمشتري. و [الحالة الثانية] : إن كان بقاء الأحجار يضر بالأرض وقلعها يضر بها؛ بأن كان

لا يمكن قلعها إلا في مدة تتعطل فيها منفعة الأرض ـ وقدر الشيخ أبو حامد ذلك بيوم أو يومين، فأكثر ـ يثبت للمشتري الخيار في البيع، كما لو اشترى أرضًا، فوجدها مزروعة، ولم يعلم ذلك حال العقد، فإن اختار الفسخ.. فلا كلام. وإن اختار الإجازة.. فإنه يجبر بجميع الثمن، ويجبر البائع على نقل الحجارة؛ لأنها ملكه، فإذا نقلها.. لزمه تسوية الأرض؛ لأن ذلك حصل لتخليص ماله، وهل يستحق المشتري على البائع أجرة أرضه مدة نقله الأحجار ينظر فيه: فإن نقلها البائع قبل أن يقبض المشتري الأرض.. فلا أجرة للمشتري على البائع؛ لأن منافعها تلفت قبل التسليم، ومنافع المبيع إذا تلفت في يد البائع قبل التسليم.. لم يكن عليه الضمان. وإن قلعها البائع بعد أن قبضها المشتري.. ففيه وجهان: [الأول] : قال أبو إسحاق: يستحق عليه الأجرة؛ لأن المشتري قد استقر ملكه على المبيع بالقبض، فإذا أتلف منفعته عليه.. وجب عليه بدله، كما لو أتلف البائع جزءًا من المبيع بعد القبض. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا تلزمه الأجرة؛ لأن المشتري لما اختار إجازة البيع.. رضي بتلف المنفعة في زمان النقل، ولأن هذا التعطيل كان بمعنى قارن عقد البيع، فلم يكن عليه أجرة، كما لو باع عبدًا، فوجده المشتري مستأجرًا، فاختارا المشتري الإجازة.. فإنه لا أجرة له. و [الحالة الثالثة] : إن كان بقاء الأحجار لا يضر بالأرض، بأن تكون بعيدة عن وجه الأرض بحيث لا يضر بعروق الشجر والزرع، ولكن قلعها يضر بالأرض، بأن كان لا يمكن قلعها إلا في مدة تتعطل فيها منفعة الأرض.. فإنه يقال للبائع: أترضى بترك الأحجار، أو بقلعها؟ فإن اختارا القلع.. ثبت للمشتري الخيار؛ لأنه تعطل عليه منفعة أرضه، فإن فسخ البيع.. فلا كلام. وإن اختار الإجازة.. فإنه يجبر بجميعِ

الثمن، فإن قلعها البائع قبل أن يقبض المشتري الأرض.. فلا أجرة له على البائع في الأرض مدة نقل الأحجار. وإن قلعها بعد القبض.. فهل يستحق الأجرة على البائع؟ على الوجهين في المسألة قبلها. وإن قال البائع: لا أقلع.. فهل يسقط حقه من الأحجار، ويملكها المشتري؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط حق البائع منها، ويملكها المشتري؛ لأنه رضي بتركها ليلزم البيع، فهو كما لو رضي بترك الثمرة الحادثة إذا اختلطت بالأولى. فعلى هذا: لا خيار للمشتري. وإن أراد البائع أن يطالب بأحجاره بعد ذلك.. لم يكن له. والثاني: لا يسقط حق البائع منها، ولا يملكها المشتري؛ لأنها هبة في عين مجهولةٍ، فلم تصح. فعلى هذا: ما دام البائع مقيما على العفو وترك المطالبة بالقلع.. فلا خيار للمشتري؛ لأنه لا ضرر عليه، ومتى طالب البائع بالقلع.. عاد حق المشتري من الخيار؛ لأن عليه ضررا بالقلع. ومثل هذين الوجهين: لو اشترى دابة، فنعلها ثم وجد بها عيبًا.. فله أن يردها قبل قلع النعل؛ لئلا يحدث بها بالقلع عيبًا، فإذا ردّها مع نعلها.. فهل يكون ذلك تمليكًا للبائع للنعل؟ فيه وجهان: فـ[الأول] : إن قلنا: يكون تمليكًا له، فإن سقطت النعل عن الدابة بعد الردّ.. كانت للبائع. و [الثاني] : إن قلنا: لا يكون تمليكًا له، فإذا سقطت.. كانت للمشتري. وإن كانت في الأرض غراس، أو زرع.. نظرت: فإن اشتراها، وفيها الشجر أو الزرع، وشرط دخول الشجر والزرع في الشراء، وظهر في الأرض أحجارٌ مستودعة.. فإن الأحجار لا تدخل في البيع على ما ذكرنا. وإن كان المشتري عالمًا بالأحجار وبضررها.. فللبائع أن يقلع أحجاره، سواء أضر قلعها أو لم يضر، ولا خيار

للمشتري؛ لأنه دخل على بصيرة. وإن لم يعلم المشتري بالأحجار، ثم علم بعد ذلك.. فلا تخلو الأحجار من أربعة أحوال: إما أن يكون بقاؤها يضر بالأرض أو بالشجر، وقلعها يضر بهما أو بأحدهما. أو يكون لا يضر بقاؤها، ولا يضر قلعها. أو لا يضر بقاؤها، ويضر قلعها. أو لا يضر قلعها، ويضر بقاؤها. [الحالة الأولى] : فإن كان يضر بقاؤها، بأن كانت الأحجار، تصل عروق الشجر والزرع إليها، ويضر قلعها أيضًا.. فللمشتري الخيار؛ للضرر الذي يدخل عليه، فإن فسخ البيع.. فلا كلام، وإن أجاز البيع.. فللبائع أن يأخذ أحجاره؛ لأنها عين ماله، وللمشتري أيضا أن يطالبه بقلعها؛ لأنها تضر به، فإذا قلع أحجاره، بأن قلعها في مدة لا أجرة لمثلها، مثل الساعة.. فلا أجرة للمشتري لأرضه. وإن قلعها في مدة تتعطل منفعة الأرض فيها ـ قال الشيخ أبو حامد: مثل اليوم واليومين ـ فهل للمشتري أن يطالب بأجرة أرضه؟ ينظر فيه: فإن كان قلعها البائع قبل أن يقبضها المشتري.. فلا أجرة عليه. وإن قلعها بعد أن قبضها المشتري.. فعلى الوجهين في المسألة قبلها. وهل للمشتري أن يطالب بأرش النقص الذي يدخل على الشجر بالقلع؟ فيه ثلاث طرق، حكاها الشيخ أبو حامد: [الأول] : من أصحابنا من قال: لا أرش له، سواء كان قبل القبض أو بعد القبض. وهذا قول من قال: لا أجرة له. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: إن قلعها البائع قبل القبض.. فلا أرش عليه. وإن قلعها بعد القبض.. فعليه الأرش، كما قال في الأجرة والطريق. الثالث: إن قلعها بعد القبض.. وجب الأرش، قولاً واحدًا. وإن قلعها قبل

القبض.. ففيه قولان، مخرجان من القولين في جناية البائع على المبيع قبل القبض. فإن قلنا: إنها كجناية الأجنبي.. وجب عليه الأرش. وإن قلنا إنها: كآفة سماوية.. فلا أرش عليه. فإذا قلنا: يجب الأرش ـ وهو المنصوص ـ قوّم الشجر، فيقال: لو لم يكن هناك حجارة تقلع، كم كان يساوي؟ فإن قيل: عشرة.. قيل: فكم قيمته الآن؟ فإن قيل: تسعة.. فإن المشتري يرجع بعشر ثمن الشجر. و [الحالة الثانية] : إن كان بقاء الأحجار لا يضر بالأرض ولا بالشجر، بأن تكون بعيدة عن وجه الأرض، وقلعها لا يضر بالأرض ولا بالشجر، بأن يمكن قلعها في ساعة.. فلا خيار للمشتري؛ لأنه لا ضرر عليه. فإن قلع البائع أحجاره.. فلا كلام. وإن اختار تركها.. فهل يزول ملكه عنها؟ على الوجهين في المسألة قبلها. و [الحالة الثالثة] : إن كان بقاؤها لا يضر بالأرض، بأن تكون بعيدة عن وجه الأرض، وقلعها يضر بالأرض، بأن تتعطل منفعتها مدة القلع، أو بالشجر، بأن كانت الأحجار تحت الشجر.. قيل للبائع: أتسمح بترك الأحجار، أو لا تسمح؟ فإن سمح بها.. فلا خيار للمشتري، وهل يملكها المشتري بذلك؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. فإن قلنا: يملكها المشتري.. لم يكن للبائع أن يطالب بقلعها بعد ذلك، وسقط خيار المشتري. وإن قلنا: لا يملكها المشتري.. فللبائع أن يأخذ أحجاره، فيعود خيار المشتري في فسخ البيع. وإن قال البائع: لا أسمح بتركها.. ثبت للمشتري الخيار، فإن فسخ البيع.. فلا كلام، وإن لم يفسخ، وقلع البائع أحجاره.. فالكلام في الأجرة والأرش على ما مضى. و [الحالة الرابعة] : إن كان بقاؤها يضر بالأرض، وقلعها لا يضر بالشجر ولا بالأرض.. فللمشتري الخيار في فسخ البيع؛ لما يدخل عليه من الضرر ببقاء

مسألة: رد بعض العين المعيبة

الأحجار، فإن فسخ البيع.. فلا كلام، وإن اختار الإجازة.. فللبائع أن يقلع أحجاره؛ لأنها عين ماله، وللمشتري أن يطالبه بذلك؛ ليزول عنه الضرر ببقائها، فإذا قلع.. فلا أجرة عليها، ولا أرش لما نقص. وإن كان الغراس غرسه المشتري، ثم علم بالأحجار، فإن كان لا ضرر على الأرض بهذا الغرس ولا بقلعه.. فهو كما لو اشتراها ولم يغرس بها، على ما مضى من الكلام، فإن اختار الفسخ.. قلع غراسه، ولا كلام، وإن اختار الإجازة.. فالحكم على ما مضى. وإن كان الضرر يدخل على الأرض، إما بغرس المشتري، أو بقلعه لغراسه.. لم يكن له الخيار في فسخ البيع؛ لأنه قد أحدث في الأرض نقصًا. وهل له المطالبة بالأرش؟ إن كان بقاء الأحجار يضر بالأرض.. فله الأرش. وإن كان بقاؤها لا يضر بالأرض، ولكن يضر قلعها، فإن لم يقلع البائع.. فلا أرش له؛ لأنه لم يتحقق العيب. وإن قلع البائع.. فله الأرش؛ لأن العيب قد تحقق. والكلام في وجوب الأجرة، وفي أرش غرسه ما مضى. [مسألة: رد بعض العين المعيبة] إذا اشترى من رجل عينًا صفقة واحدة، ثم وجد بها عيبًا.. فله أن يردها بالعيب، كما تقدم، فإن أراد المشتري أن يرد بعضها دون بعض، فإن رضي البائع بذلك.. صح؛ لأن الحق لهما. وإن لم يرض البائع بذلك.. لم يجبر على ذلك؛ لأنه يدخل عليه ضرر في الشركة. وإن اشترى منه بعض السلعة في عقد، ثم اشترى باقيها في عقد آخر، ثم وجد بها عيبًا كان موجودًا قبل البيع الأول.. فللمشتري الخيار: بين أن يمسك جميع السلعة، وبين أن يرد جميعها بالعيب، وبين أن يرد إحدى الصفقتين، إما الأولى أو الثانية؛ لأنهما عقدان، فلا يتعلق أحدهما بالآخر. وإن أمكن حدوث العيب بعد البيع الأول، وقبل الثاني، وادّعى المشتري: أنه كان موجودًا قبل البيع الأول، وادّعى البائع: أنه حدث بعد الأول.. فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن

الأصل سلامة البيع الأول من العيب. وإن علم المشتري بالعيب عند البيع الأول، ثم عقد البيع الثاني، ثم ظهر على عيب آخر كان موجودًا قبل البيع الأول لم يعلم به.. فهو بالخيار: بين أن يمسك جميع السلعة، وبين أن يرد جميعها، وبين أن يرد إحدى الصفقتين دون الأخرى؛ لأجل العيب الذي لم يعلمه. وإن اشترى رجل من رجل عبدين بعقد، فوجد بأحدهما عيبًا، فإن اختار المشتري أن يردهما جميعًا.. أجبر البائع على قبولهما. وإن أراد المشتري أن يرد المعيب لا غير، فإن رضي البائع بذلك.. جاز؛ لأن الحق لهما. وإن امتنع البائع من قبول المعيب.. ففيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة: فإن قلنا: إن الصفقة تفرق.. رد المعيب، وأمسك السليم، وأجبر البائع على ذلك. وإن قلنا: لا تفرق الصفقة.. لم يكن للمشتري ذلك، وليس له أن يطالب بالأرش؛ لأنه يمكنه رد الجميع. هكذا ذكر عامة أصحابنا، من غير تفصيل. وذكر الشيخ أبو حامد: إن كان ذلك قبل القبض.. لم يجز أن يرد المعيب وحده بلا خلاف. وإن كان بعد القبض.. لم يجز أيضا عندنا. وقال أبو حنيفة: (له رد المعيب، وإمساك السليم، ولو أراد ردّه.. لم يجز، إلا أن يكون المبيع مكيلا، أو موزونًا مما تتساوى أجزاؤه، كالطعام والتمر، فله أن يرد الكل، أو يمسك الكل، فأما أن يرد المعيب دون السليم: فليس له) . دليلنا: أن في رد المعيب تفريقًا للصفقة على البائع، فلم يجبر على ذلك، كما لو كان قبل القبض. قال الشيخ أبو حامد: وإنما مسألة القولين، إذا اشترى عبدين، فوجد بهما عيبًا، فمات أحدهما قبل الرد.. فهل له أن يرد الباقي؟ فإن قلنا: لا تفرق الصفقة.. لم يكن

فرع: اشتريا عبدا فوجداه معيبا

له ذلك إلا برضا البائع. وإن قلنا: إن الصفقة تفرق.. رد الباقي وإن كان بغير رضا البائع. وحكى القاضي أبو الطيب، عن بعض أهل خراسان من أصحابنا: أنه قال: على هذا القول يفسخ العقد فيهما، ثم يرد الباقي وقيمة التالف، ويسترجع الثمن. قال القاضي: وهذا هو السنة؛ لأن في حديث المصراة أمر برد الشاة وقيمة اللبن التالف. قال ابن الصباغ: وهذا مخالف لنص الشافعي، فإنه قال في " اختلاف العراقيين ": (يرجع بحصته من الثمن) . ولأن هذا تلف في يده بالثمن، فلا يرد بالعيب، ولا يضمن بالقيمة. وأما حديث المصراة: فإن ذلك كان لاستعلام العيب، فلم يمنع الرد، بخلاف مسألتنا. [فرع: اشتريا عبدًا فوجداه معيبًا] إذا اشترى رجلان من رجل عبدا صفقة واحدةً، فوجدا به عيبًا، فإن اتّفقا على رد الجميع، أو إمساك الجميع.. جاز ذلك بالإجماع. وإن أراد أحدهما أن يرد نصيبه، وأراد الآخر أن يمسك نصيبه.. جاز ذلك عندنا، وبه قال أبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) . وحكى المسعودي [في " الإبانة "] : أن ذلك قول لنا آخر، وليس مشهور. دليلنا: أنه عقد في أحد طرفيه عاقدان، فكان حكمه حكم العقدين في الرد بالعيب، كما لو كان المشتري واحدًا والبائع اثنين، أو نقول: لأنه رد جميع

ما لزمه ثمنه، فلم يفتقر إلى رد غيره، كما لو قال كل واحد منهما للبائع: بعني نصفه بخمسمائة. فقال البائع: بعتكما. وإن وكل رجلان رجلا يشتري لهما عبدًا من رجل، فاشتراه لهما صفقة واحدة، ثم وجدا به عيبًا، وأراد أحدهما أن يرد دون الآخر. أو كان عبد بين اثنين، فوكل أحدهما الآخر أن يبيع له نصيبه منه مع نصيبه، فباع جميع العبد من رجل صفقة واحدة، ثم وجد به عيبًا، فأراد أن يرد نصيب أحدهما دون الآخر.. ففي المسألتين ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يجوز، وهو قول ابن الحدّاد؛ لأن الصفقة لم يحصل في أحد طرفيها عاقدان. قال القاضي: ويدل على صحة هذا: أن عبدًا لو كان بين اثنين، فغصب غاصب نصيب أحدهما، ثم إن الغاصب والشريك الذي لم يغصب نصيبه باعا العبد من رجل بعقد، فإن قال لهما: بيعاني هذا العبد بألفٍ. فقالا: بعناك.. فإن بيع المالك يصح في نصيبه، قولاً واحدًا؛ لأن ذلك صفقتان. ولو وكل الغاصب المالك، فباع المالك جميع العبد صفقة واحدة، أو وكل الغاصب الشريك الذي لم يغصب نصيبه، فباع جميع العبد صفقة واحدة.. لبطل بيع نصيب المغصوب، وفي نصيب المالك قولان. وهذا يدل على: أن حكم العاقد غير حكم العاقدين، فكذلك في مسألتنا مثله. والوجه الثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني ـ: إن قال وكيل المشتريين في العقد: بعني لفلان وفلان، أو لم يقل ذلك، وصدقه البائع.. فلكل واحد منهما أن يرد عليه نصيبه دون الآخر، وكذلك وكيل البائعين إذا ذكر في العقد: أنه يبيع العبد لهما، أو لم يقل ذلك، ولكن صدقه المشتري.. فله أن يرد نصيب أحدهما دون الآخر؛ لأن الملك لاثنين، فصار كما لو باع لكل واحد منهما، أو اشترى له بعقد

فرع: موت المشتري قبل رد المعيب

منفرد. فأمّا إذا لم يذكر الوكيل: أنه يشتري لاثنين، أو لم يصدقه البائع.. فليس لأحدهما الرد؛ لأن الظاهر أنه عقد الشراء لنفسه. والوجه الثالث ـ حكاه الطبري في " العدة " ـ: إن كان الواحد وكيلا لاثنين في الشراء.. لم يجز لأحدهما أن يرد دون الآخر. وإن كان الواحد وكيلا لاثنين في البيع من واحد.. جاز للمشتري أن يرد نصيب أحدهما دون الآخر، والفرق: أن الوكيل في الشراء يلزمه الشراء عند المخالفة، فكان الاعتبار به، والوكيل في البيع لا يلزمه البيع عند المخالفة، فكان الاعتبار بالموكلين. [فرع: موت المشتري قبل ردّ المعيب] ] : إذا اشترى عينًا، فوجد بها عيبًا، فقبل أن يتمكن من الرد مات المشتري.. فإن خيار الرد ينتقل إلى وارثه؛ لأنه حق لازم يختص بالمبيع، فانتقل بالموت إلى الوارث، كحبس المبيع إلى أن يحضر الثمن، فإن مات وخلف وارثين، فإن اتفقا على الرد، أو على الإجازة.. جاز. وإن أراد أحدهما أن يرد نصيبه، وأراد الآخر أن يمسك نصيبه، فإن رضي البائع بذلك.. جاز. وإن امتنع البائع من قبول نصيب الراد وحده.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\228] . أحدهما: يجبر البائع؛ لأن كل واحد من الوارثين رد جميع ما ملكه، فأُجبر البائع على قبوله، كما لو اشتريا منه صفقة واحدة. والثاني: لا يجبر البائع على قبوله، وهو قول ابن الحداد، وهو المشهور؛ لأن الوارث قائم مقام الموروث، والموروث لم يكن له أن يرد بعض المبيع دون بعض، فكذلك من يقوم مقامه. قال القاضي أبو الطيب: فعلى هذا: يقال للبائع: إما أن تقبل نصفه من الراد،

مسألة: رؤية العيب بعد زيادة المبيع

وإمّا أن تدفع إليه أرش العيب؛ لأنا إنما لم نوجب على البائع قبول البعض؛ لأن الشركة نقص وضرر عليه، فجرى ذلك مجرى العيب الحادث عند المشتري. ولو حدث بالمبيع عيب عند المشتري.. لقيل للبائع: إما أن تقبله معيبًا، وإما أن تدفع الأرش، فكذلك هذا مثله. [مسألة: رؤية العيب بعد زيادة المبيع] ] : إذا وجد المشتري العيب بالمبيع، وقد زاد المبيع في يده.. نظرت: فإن كانت زيادة متصلة بالمبيع، كالسمن والكبر وتعلم القرآن والصنعة.. فإن الزيادة تتبع الأصل في الرد؛ لأنها زيادة لا تتميز عن العين. وإن كانت الزيادة منفصلة عن العين.. نظرت: فإن كانت كسبًا، مثل: أن كان عبدًا، فاستخدمه، أو أجره، أو وجد ركازًا، أو احتشّ، أو اصطاد، أو ما أشبه ذلك.. فإن المشتري إذا رد العبد.. فإن الكسب له، ولا حق للبائع فيه بلا خلاف؛ لما روى الشافعي، قال: (أخبرني من لا أتهم، عن ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف: أنه ابتاع غلامًا، فاستلغه، ثم أصاب به عيبًا، فقضى له عمر بن عبد العزيز برده وغلته) . وفي غير رواية الشافعي: (فقضى له

بردِّه، وقضى عليه برد غلته، فأخبره عروة بن الزبير، عن عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في مثل هذا: أن الخراج بالضمان، فردّ عمر قضاءه، وقضى لمخلد بن خفاف) . قال الشيخ أبو حامد: هكذا رُوي في الخبر، والمزني نقل: وقضى لمخلد بن خفاف برد الخراج. فمن أصحابنا من غلط المزني في الكتابة، وقال: إنما الخبر: (وقضى له بالخراج) . ومنهم من قال: إنما قضى له برد الخراج عليه؛ لأنه حكم به للبائع، فلمّا رُوي له الخبر.. قضى برده على المشتري. و (الخراج) : اسم للغلة التي تحصل من جهة المبيع، يقال للعبد الذي ضُرِب عليه مقدار الكسب في كل يوم: مخارج. ومعنى قوله: «الخراج بالضمان» : أي يكون الخراج لمن لو تلف المبيع.. كان من ضمانه، وهو المشتري هاهنا. فإن قيل: فهلا قلتم: إن خراج المغصوب للغاصب؛ لأن ضمانه عليه؟ فالجواب: أن الخبر لم يرد مطلقًا، وإنما ورد في المبيع مقيّدًا. والفرق بينهما: أن ملك المغصوب للمالك، فكان الخراج له، وهاهنا الملك للمشتري، والحكم تعلق بسببين: الملك والضمان، فلا يجوز أن يتعلق بأحدهما. وإن كان المبيع بهيمة حائلا، فحملت في يد المشتري، فولدت، ثم وجد بها عيبًا، أو كانت لا لبن فيها، فحدث بها لبن، ثم أخذه المشتري، أو كان شجرة لا ثمرة عليها، فأثمرت، ثم وجد بها عيبًا.. فإن الثمرة والولد واللبن للمشتري، وله أن يرد البهيمة والشجرة بالعيب. وقال مالك: (يلزم المشتري أن يرد الولد إن اختار الرد، ولا يلزمه أن يرد الثمرة، بل هي له) .

فرع: رأى العيب في الجارية بعد ولادتها

وقال أبو حنيفة: (حصول هذه الزيادات تبطل حق المشتري من الرد، فيرجع بأرش العيب على البائع) . دليلنا على مالك: ما روي عن عائشة: «أن رجلا ابتاع عبدًا، وبه عيب، ولم يعلمه فلما علم به.. رده بالعيب، فخاصمه البائع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: إنه قد استغله منذ زمان. فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن الغلة بالضمان» . وهذا أعم من «الخراج بالضمان» ؛ لأنه يتناول المنفعة والعين. ولأنه نماء متميز عن المبيع حدث في ملك المشتري، فيجب أن لا يلزمه رده مع المبيع، كثمره الشجرة. ودليلنا على أبي حنيفة: أنه نماء حادث في ملك المشتري، فلم يمنع الرد، كالسمن والكبر والكسب. [فرع: رأى العيب في الجارية بعد ولادتها] وإن كان المبيع جارية حائلا، فحملت من زوج، أو زنا، في يد المشتري، فولدت، ثم وجد بها عيبًا، فإن نقصت الجارية بالولادة.. سقط حق المشتري من الرد، ورجع بالأرش على البائع. وإن لم تنقص بالولادة.. ففيه وجهان: [الأول] : من أصحابنا من قال: يسقط حق المشتري من رد الجارية، ويرجع إلى الأرش؛ لأنه لا يجوز التفريق بينهما. و [الثاني] : قال أكثرهم: لا يسقط حقه من ردها، بل يمسك الولد، ويرد الجارية؛ لأنه نماء متميز حدث في ملك المشتري، فكان له رد الأصل وإمساك النماء، كولد البهيمة.

فرع: العيب بالجارية الثيب

وأما التفريق: فإنه يجوز للحاجة، كما قال الشافعي في (الرهن) : (إذا ولدت الجارية حرًّا.. فإنها تباع دون ولدها) . فأما إذا اشترى البهيمة، أو الجارية، وهي حامل، ثم وجد بها عيبًا، فإن وجد العيب قبل الوضع.. رد الجارية وحملها. وإن ولدت في يد المشتري، ثم وجد العيب، فإن نقصت بالولادة.. سقط حقه من الرد، ورجع بالأرش. وإن لم تنقص بالولادة، فإن قلنا: إن الحمل لا حكم له.. رد الجارية دون الولد، كما لو حدث في ملكه. وإن قلنا: للحمل حكم.. ردها ورد ولدها؛ لأن العقد وقع عليهما. وإن اشتراها، وهي حائل، فحملت في يده، ثم وجد بها عيبًا قبل الوضع.. فذكر الشيخ أبو حامد: أن الحمل عيب؛ لأنه ينقص جمال الجارية ونشاطها، ويمنع من الحمل على البهائم فيما يحمل عليها، وينقص لحم ما يؤكل. فعلى هذا: له المطالبة بالأرش. وذكر ابن الصباغ: إن نقصها الحمل.. ففيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: أن للمشتري إمساكها حتى تضع، ويردها إن لم تنقصها الولادة. وإن لم ينقصها الحمل، أو نقصها، ورضي البائع بقبول الجارية مع النقص.. فلمن يكون الولد؟ إن قلنا: للحمل حكم.. فهو للمشتري. وإن قلنا: لا حكم له.. فهو للبائع. [فرع: العيب بالجارية الثيب] وإن كان المبيع جارية ثيِّبًا، فوطئها المشتري، ثم علم بها عيبًا.. فإنه يردها، ولا يرد معها شيئًا، وبه قال مالك، وعثمان البتّيُّ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد، وروي ذلك عن زيد بن ثابت.

فرع: حدوث عيب عند المشتري

وقال ابن أبي ليلى: يردها ويرد معها مهر مثلها. وروي ذلك عن عمر. وقال الزهري، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (يبطل حقه من الرد، ويرجع بالأرش) . وروي ذلك عن علي بن أبي طالب. دليلنا على ابن أبي ليلى: أنه وطئها وهي في ملكه، فلم يجب عليه بدل الوطء، كأجرة الاستخدام. وعلى أبي حنيفة: أن الوطء معنى لا ينقص من عينها، ولا من قيمتها، ولا يتضمن الرضا بالعيب، فلم يمنع الرد، كما لو كانت زوجته، أو كما لو استخدمها. وإن كان المبيع جارية بكرًا، فافتضها المشتري، ثم وجد بها عيبًا، فأراد ردّها، فإن رضيها البائع.. جاز. وإن لم يرضها.. لم يجبر عليها، ووجب عليه أرش العيب. وقال مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه: (يردها، ويرد معها أرش البكارة) . دليلنا: أن في إذهاب البكارة إتلاف جزء منها، فلم يجبر البائع على قبولها، كما لو اشترى عبدًا، فخصاه، ثم وجد به عيبًا.. فإنه لا يرده، وإن زادت قيمته بذلك. [فرع: حدوث عيب عند المشتري] ] وإن اشترى عينًا، فقبضها، ثم حدث بها عيب عنده، بأن كان عبدًا فعمي، أو كانت أمة فزوجها، أو عبدًا فزوجه، أو كان ثوبًا فقطعه، ثم وجد به عيبًا كان موجودًا

فرع: حصل بالمبيع عيب جديد عند المشتري ثم زال

عند البائع.. لم يكن له أن يرد إلا أن يرضى به البائع، وإن لم يرض به البائع.. فللمشتري أن يطالبه بالأرش. هذا مذهبنا، وبه قال أبو حنيفة. وقال حماد بن أبي سليمان، وأبو ثور: (يرده، ويرد معه أرش العيب الحادث عنده) . وقال مالك، وأحمد: (المشتري بالخيار: إن شاء.. رد المبيع، ورد معه أرش العيب الحادث عنده، وإن شاء.. أمسكه، ورجع بالأرش) . وحكى أبو ثور: (أن ذلك قول الشافعي في القديم) . قال الشيخ أبو حامد: وهذا لا يجيء على أصل الشافعي، ولا نص له به في كتبه. دليلنا: أنه نقص حدث في المبيع في يد المشتري لا لاستعلام العيب، فمنع الرد، كما لو قطع المشتري يده، فإنهم قد وافقونا على ذلك. فقولنا: (لا لاستعلام العيب) احترازٌ من المصراة، ومن العيوب التي لا يتوصل إلى استعلام العيب في المبيع إلا بها، مثل: كسر البطيخ، وما أشبهه. فإن قال المشتري: أرده، وأرد معه أرش العيب.. فإن البائع لا يجبر على قبول ذلك، كما إذا كان العيب عند البائع، فسأل البائع أن يدفع أرش العيب.. فإن المشتري لا يجبر على ذلك. وإن قال البائع: رده إلي مع العيبين، وادفع إلي أرش العيب الحادث عندك.. فهل يجبر المشتري على ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " \ 239] . [فرع: حصل بالمبيع عيب جديد عند المشتري ثم زال] إذا اشترى سلعة، وبها عيب، لم يعلمه المشتري، فقبضها، ثم حدث عنده عيب آخر، ثم ارتفع العيب الذي حدث عنده.. قال الشافعي في " مختصر البويطيّ ": (له الرد) .

فرع: صبغ الثوب ثم وجد العيب

قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: أراد الشافعي: إذا لم يحكم له بالأرش، فأمّا إذا حكم له بالأرش، وقبضه.. فإنه لا يرده. وإن حكم له بالأرش، ولم يقبضه، ثم ارتفع العيب الحادث عنده.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يرد؛ لأن الحكم قد ثبت له بالأرش. والثاني: يرد؛ لأنه لم يستقر الحكم. [فرع: صبغ الثوب ثم وجد العيب] ذكر ابن الصباغ: إذا اشترى ثوبًا، فصبغه، ثم وجد به عيبًا كان عند البائع.. لم يكن له رده مصبوغًا، ويرجع بالأرش، فإن قال البائع: أنا آخذه، وأعطي قيمة الصبغ.. كان له، ولم يكن للمشتري الرجوع بالأرش. وكذلك إذا صبغه، ثم باعه، أو قطعه، ثم باعه.. لم يكن له الرجوع بالأرش؛ لجواز أن يرضى به المشتري مصبوغًا أو مقطوعًا. [فرع: قايض بثوب على عبد فوجده معيبًا] إذا اشترى من رجل عبدًا بألف، ثم أعطاه بالألف ثوبًا، فوجد مشتري العبد به عيبًا فردّه.. فهل له أن يرجع بالألف أو بالثوب؟ فيه وجهان: قال أبو علي الطبري، والشيخ أبو حامد: يرجع بالألف، ولا يرجع بالثوب؛ لأنه ملك الثوب بعقد ثان، فلا ينفسخ بانفساخ الأول. وقال القاضي أبو الطيب: يرجع بالثوب؛ لأنه إنما ملك الثوب بالثمن، فإذا انفسخ البيع.. سقط الثمن عن ذمة المشتري، فانفسخ بيع الثوب به.

مسألة: اشترى عبدا به برص لم يعلمه وعمي عنده

[مسألة: اشترى عبدًا به برص لم يعلمه وعمي عنده] إذا اشترى عبدًا، فقبضه، فعمي، أو عرج، ثم بان أن به برصًا كان موجودًا في يد البائع. لم يعلم به المشتري، إلا بعد حدوث العيب عنده.. فقد قلنا: إنه يرجع بالأرش على البائع. وكيفية ذلك: أن يقال: كم قيمة هذا العبد، وليس به برص ولا عمى؟ فإن قيل مثلا: مائة درهم.. قيل: فكم قيمته وبه البرص، ولا عمى به؟ فإن قيل: ثمانون.. فإن المشتري يرجع على البائع بخمس الثمن، فإن كان قد اشتراه منه بأقل من قيمته، مثل: أن يشتريه منه بخمسين.. قيل له: ارجع بعشرة. وإن كان قد اشتراه بأكثر من قيمته؛ بأن يكون قد اشتراه بمائتين.. قيل له: ارجع بأربعين، ولا يرجع عليه بما نقص من القيمة؛ لأن المبيع مضمون على البائع بالثمن؛ لأنه لو هلك جميعه قبل القبض.. لرجع عليه بجميع الثمن. فإذا تلف بعضه.. ضمنه بجزء من الثمن، كما أن الجزء مضمون بالدية، فكذلك أجزاؤه مضمونة بجزء من الدية. قال الشافعي: (ولأني لو قلت: يرجع على البائع بما نقص من القيمة.. أدى إلى أن يحصل للمشتري الثمن والمثمن؛ لأنه قد يشتري عبدًا بمائة يساوي مائتين، فإذا وجد به عيبًا ينقص نصف قيمته، وقد حدث عنده عيب آخر.. جاز له أخذ الأرش، فيأخذ ما نقص وهو مائة، فيحصل له الثمن والمثمن، وهذا لا يجوز) . ومتى تعتبر قيمته؟ قال الشافعي في موضع: (تعتبر قيمته يوم العقد) . وقال في موضع آخر: (تعتبر قيمته يوم القبض) . قال الشيخ أبو حامد: وليست على قولين، بل هي على اختلاف حالين: فـ[الأول] : حيث قال: (تعتبر قيمته يوم العقد) أراد: إذا كانت قيمته يوم العقد أقل من قيمته يوم القبض؛ لأن هذه زيادة حدثت في ملك المشتري، فهو كنماء متصل، فلو أدخلنا هذه الزيادة في التقويم لدخل الضرر على البائع، وأوجبنا عليه ضمان ما لم يدخل في العقد.

فرع: اشترى إبريق فضة معيبا

و [الثاني] : حيث قال الشافعي: (تعتبر قيمته يوم القبض) أراد: إذا كانت قيمته يوم القبض أقل من يوم العقد؛ لأن هذا النقصان كان من ضمان البائع؛ لأن المبيع متى تلف قبل القبض.. كان من ضمان البائع، فلو قومناه يوم العقد.. دخل النقصان الذي حدث في التقويم، وأخذ بمقداره من البائع. [فرع: اشترى إبريق فضة معيبًا] ] : إذا كان هناك إبريق من فضة وزنه ألف درهم، وقيمته ألفا درهم للصنعة، فاشتراه بألف درهم؛ فوجد به عيبًا، وقد حدث به عنده عيبٌ.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها ـ وهو قول أبي العباس ـ: أنه لا يرجع بالأرش؛ لأن ذلك يؤدي إلى الربا، ولكن يفسخ المشتري العقد، ويسترجع ثمنه، ويدفع قيمة الإبريق معيبًا من الذهب، ولا يرده؛ لأنه لا يمكن رده معيبًا، فجرى ذلك مجرى تلفه. والثاني: وهو قول الشيخ أبو حامد، واختيار القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق ـ: أنه يفسخ العقد، ويسترجع ثمنه، ويرد الإبريق، وأرش العيب الحادث عنده؛ لأن ذلك لا يؤدي إلى الربا، بل يكون بمنزلة المأخوذ على وجه السوم إذا حدث فيه نقص. والثالث ـ حكاه في " المهذب "، عن أبي القاسم الداركيِّ ـ: أنه لا يرد الإبريق، ولكنه يرجع بأرش العيب الموجود عند البائع؛ لأن ما ظهر من الفضل في الرجوع بالأرش لا اعتبار به، بدليل: أنه يجوز الرجوع بالأرش في غير هذا الموضع، ولا يقال: لا يجوز؛ لأنه يصير الثمن مجهولاً.

مسألة: وجده معيبا ثم نقص عنده

[مسألة: وجده معيبًا ثم نقص عنده] ] : وإن وجد المشتري بالمبيع عيبا، وقد نقص المبيع عنده بمعنى لاستعلام العيب، مثل: أن يشتري ما مأكوله في جوفه، مثل: البيض والجوز واللوز والرانج والبطيخ والرمان.. فإنه إذا كسر ذلك.. نظرت: فإن لم يكن لمكسوره قيمة، كبيض الدجاج إذا خرج فاسدًا، أو الرمان إذا خرج أسود.. فإن البيع باطل؛ لأن المبيع لا يصح فيما لا منفعة فيه. وإن كان لفاسده قيمة، كالرمان والبطيخ إذا خرج حامضًا أو مدودًا، أو كبيض النعامة إذا كسرها، فإن لقشرها قيمة.. فينظر فيه: فإن كسر قدرًا لا يتوصل إلى معرفة المبيع إلا به، مثل: أن كسر الجوز واللوز والرانج، فإنه لا يمكن معرفة ما فيه إلا بكسره نصفين، ولا يعلم التدويد في البطيخ والرمان إلا بكسرهما، بل إنه يمكن معرفة الحامض منهما بإدخال مسلَّة فيهما.. فهل يمنعه ذلك من الرد؟ فيه قولان: أحدهما: يمنعه من الرد، وهو اختيار المزني، وقول أبي حنيفة؛ لأنه نقص حدث في يد المبتاع، فمنع الرد، كقطع الثوب. فعلى هذا: يرجع بالأرش على ما مضى. والقول الثاني: أن ذلك لا يمنعه من الرد. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأنه نقص لاستعلام العيب، فلم يمنع الرد، كحلب المصراة. فإذا قلنا بهذا: فهل يرد أرش الكسر؟ فيه قولان. أحدهما: يرد أرش الكسر؛ لأن النقص إذا لم يمنع الرد.. وجب رد الأرش معه، كالمصراة. والثاني: لا يلزمه أن يرد معه شيئًا. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأن

فرع: اشترى ثوبا مطويا كان رآه

هذا النقص حصل لاستعلام العيب، وذلك مستحق للمشتري، فكأن البائع لمّا علم أنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بذلك.. صار كما لو سلطه على ذلك. ولو أذن له في ذلك.. لم يكن عليه أرش، فيصير في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: لا يرد، ويأخذ الأرش. والثاني: يرده، ولا أرش عليه. والثالث: يرده، ويدفع أرش الكسر. فإذا قلنا بهذا: قوم المبيع صحيحًا فاسدًا، وقوم مسكورًا فاسدًا، فيرجع البائع على المشتري بما بين القيمتين؛ لأن المبيع لا يكون مضمونًا على المشتري بالثمن إلا مع صحة البيع، فأما إذا فسخ: صار مضمونًا عليه بالقيمة، فضمن الجزء منه بجزء من القيمة. فأما إذا كسر منه قدرًا يزيد على ما يحتاج إليه لاستعلام العيب.. ففيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: فيها قولان، كالأولى؛ لأنه يشق التمييز بين القدر الذي يحتاج إليه، وبين ما زاد عليه، فسوّى بين الجميع. و [الثاني] : منهم من قال: إن ذلك يمنع الرد، قولاً واحدًا. قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب؛ لأن هذا نقص حدث لا لاستعلام العيب، فهو كقطع الثوب. [فرع: اشترى ثوبًا مطويًا كان رآه] إذا اشترى ثوبًا مطويًّا كان قد رآه، فنشره، ثم وجد به عيبًا.. نظرت: فإن كان من الثياب التي لا ينقصها النشر.. رده.

فرع: وجد الدينار معيبا بعد قطع المشتري الثوب

وإن كان من الثياب التي تنقص بالنشر.. نظرت: فإن نشر منه قدرًا لا يتمكن من معرفته إلا بذلك.. فهو كما كسر من الجوز ما لا يتمكن من معرفته إلا به على الأقوال الثلاثة. وإن نشر منه قدرًا يتمكن من معرفته بأقل منه.. فهو كما لو كسر من الجوز قدرًا يتمكن من معرفته بأقل منه، فيكون على الطريقين. [فرع: وجد الدينار معيبًا بعد قطع المشتري الثوب] إذا اشترى من رجل ثوبًا بدينار معين، فقطع المشتري الثوب، ووجد البائع بالدينار عيبًا.. قال القاضي أبو الطيب في " شرح المولّدات ": كان بائع الثوب بالخيار: إن شاء.. رضي الدينار المعيب، ولا شيء له، وإن شاء.. فسخ البيع، وردّ الدينار، واسترجع ثوبه مقطوعًا، ولا شيء له، كما لو وجد مشتري الثوب به عيبًا قبل أن يقطعه.. فإنه بالخيار: بين أن يرضى بالثوب معيبًا، ولا شيء له، وبين أن يفسخ، ويرجع بجميع الثمن. [مسألة: وجد عيبًا بالعبد بعد خروجه عن ملكه] ] : إذا اشترى عبدًا، فقبضه، ثم مات العبد أو وقفه أو أعتقه أو قتله، ثم علم به عيبًا كان في يد البائع.. فله أن يرجع على البائع بالأرش، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (إذا قتله خاصة.. لم يرجع عليه بالأرش) . دليلنا: أنه عيب لم يرض به، وجده بعد الإياس من الرد، فكان له الرجوع بالأرش، كما لو أعتقه. وإن اشترى عبدًا، فقبضه، فأبق من يديه، ثم علم به عيبًا كان في يد البائع.. نظرت

فرع: بعد بيع عبد لآخر عرفه معيبا

فإن كان العيب الذي كان في يد البائع هو الإباق.. فإنه عيب يستحق به الرد، إلا أنه قد تعذر رده لإباقه من يده، وليس له أن يرجع بالأرش؛ لأنه لم ييأس من الرد. فإن رجع إليه العبد.. رده. وإن هلك مع الإباق.. كان له الرجوع بالأرش. وإن كان به عيب عند البائع مع الإباق.. فالحكم فيها كالأولى. وإن كان لم يأبق عند البائع، بل كان به عيب آخر عنده، ثم أبق في يد المشتري.. فإن الإباق في يد المشتري عيبٌ يمنعه من الرد، ويكون له المطالبة بأرش العيب؛ لأن البائع لا يجبر على قبوله مع عيب الإباق، فيلزمه دفع الأرش، إلا أن يقول البائع: أنا أرضى برده مع الإباق.. فلا يكون للمشتري المطالبة بالأرش. [فرع: بعد بيع عبد لآخر عرفه معيبًا] فإن اشترى عبدًا من رجل، وقبضه، ثم باعه من آخر، ثم علم المشتري الأول به عيبًا كان موجودًا في يد البائع الأول.. قال الشيخ أبو حامد: فعلى قول أبي العباس: للمشتري الأول أن يرجع على البائع الأول بالأرش؛ لأنه غير متمكن من الرد في الحال، فهو كما لو تلف. قال: ولكن نفى ما حكاه أصحابنا عنه. وقال سائر أصحابنا: ليس له أن يرجع بالأرش. واختلفوا في تعليله: فذهب أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا إلى: أن العلة فيه: أنه استدرك الظلامة وغبن كما غبن. ومنهم من قال: العلة: أنه لم ييأس من الرد؛ لأنه قد يرجع إليه، فيرده عليه. واختار هذا الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ. فإن ردّه المشتري الثاني على المشتري الأول.. رده الأول على بائعه؛ لأنه لم يستدرك الظلامة، وأمكنه الرد. وإن حدث عند المشتري الثاني عيبٌ آخر، فرجع على المشتري الأول بأرش العيب.. فهل له أن يرجع على البائع الأول بالأرش؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال ابن الحدّاد: لا يرجع عليه؛ لأنه قد تبرع بدفع الأرش؛ لأنه قد

كان يمكنه أن يطالب برد المبيع عليه، ثم يعرض العبد على البائع الأول، فإن قبله منه.. فلا كلام. وإن لم يقبله منه.. رجع عليه حينئذ بالأرش. و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: له أن يرجع بالأرش؛ لأنه لا يمكنه ذلك إلا بعد أن يسترده من المشتري الثاني، فربما لا يرضى به البائع الأول، فلزمه، فيلحقه بذلك الضرر، ولعل نقصانه كثير، مثل: قطع اليد أو الرجل، والجذام، فلم يبطل حقه بترك القبول لذلك. وإن تلف العبد في يد الثاني، أو وقفه، أو أعتقه، أو حدث به عيب عند الثاني، وأبرأ المشتري الثاني الأول من الأرش، أو رضي به.. فهل للمشتري الأول أن يطالب البائع الأول بالأرش؟ إن قلنا: إن العلة: أنه استدرك الظلامة.. لم يرجع هاهنا. وإن قلنا: إن العلة: أنه لم ييأس من الرد.. رجع هاهنا؛ لأنه قد يئس من الرد. وإن رجع إلى المشتري الأول ببيع أو هبة أو إرث، وهو على حاله.. فهل له أن يرده على البائع الأول؟ إن قلنا: إن العلة: أنه استدرك الظلامة.. لم يكن له رده. وإن قلنا: إن العلة: أنه لم ييأس من الرد.. كان له رده؛ لأنه قد أمكنه الرد. وإن لم يعلم بالعيب حتى وهبه من غيره، وأقبضه.. نظرت: فإن كانت هبة تقتضي الثواب.. فهي كالبيع، وقد بيناه. وإن كانت هبة لا تقتضي الثواب.. فلا يختلف أصحابنا: أنه لا يرجع بالأرش؛ لأنه لم ييأس من الرد. قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على ضعف قول من قال: العلة: أنه استدرك الظلامة، وأنه غبن كما غبن؛ لأنه هاهنا لم يستدرك الظلامة، ولم يغبن، ومع هذا فلا يرجع بالأرش. فأما إذا اشترى عبدًا، فقبضه، ثم باع نصفه من آخر، وعلم أن به عيبًا كان موجودًا

في يد البائع.. فهل له أن يرد النصف الذي بقي في يده؟ فيه طريقان، حكاهما أبو علي السنجي: [الأول] : أن من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة. والطريق الثاني ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يملك رده، قولاً واحدًا؛ لأن الشركة نقص، فلا يجبر البائع عليها. فإذا قلنا بهذا: فهل يملك المشتري المطالبة بالأرش؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب: أحدهما: له المطالبة بالأرش؛ لأن الرد قد تعذر في الحال. والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا مطالبة له بالأرش) ؛ لأنه لم ييأس من الرد. وإن حدث بالعبد عيب آخر عند المشتري الثاني.. فله أن يرجع بالأرش على المشتري الأول، وللأول أن يرجع بالأرش على الذي باعه. وإن اشترى عبدين، ثم باع أحدهما، ثم علم بأحدهما عيبًا بعد البيع.. نظرت: فإن كان العيب بالمبيع.. لم يكن له أن يطالب بالأرش، كما لو اشتراه وحده، ثم باعه ثم اطلع على عيب فيه. وإن باع السليم، وبقي عنده المعيب، فأراد ردّه. ففيه طريقان: [الأول] : قال الشيخ أبو حامد: ليس له ردّه؛ لأنه قد يرجو رجوع المبيع، فيرد الجميع. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: فيه قولان، بناءً على القولين في تفريق الصفقة: فإذا قلنا: يجوز التفريق.. رد المبيع المعيب. وإذا قلنا: لا يجوز التفريق.. لم يرده. وهل له أن يطالب بالأرش على هذا؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب:

أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (ليس له أن يرجع بالأرش) ؛ لأنه لم ييأس من رجوع المبيع إليه. والثاني: يرجع بالأرش؛ لأن الرد قد تعذر في الحال. فإن تلف السليم في يد المشتري الثاني، أو تلف في يد المشتري الأول، أو كان العبدان معيبين، فتلف أحدهما في يده أو وقفه أو أعتقه، ثم علم بالعيب بهما.. فهل له أن يرد الباقي؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، بناء على القولين في تفريق الصفقة: فإذا قلنا: يجوز التفريق.. رد الموجود، ورجع بأرش العيب في الميت، أو المعتق، أو الموقوف. وإن قلنا: لا يجوز التفريق.. رجع بأرش العيب فيهما؛ لأنه أيس من الرد. وكل موضع قلنا: يرد الباقي.. فإن الثمن يقسم على قيمة التالف، وقيمة الباقي، فما قابل قيمة الباقي من الثمن.. رجع به المشتري على البائع، وما قابل قيمة التالف.. لم يرجع به. فإن اختلفا في قيمة التالف.. فقال البائع: قيمته مائة، وقال المشتري: قيمته خمسون.. ففيه قولان: أحدهما ـ وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق ـ: أن القول قول البائع؛ لأنه ملك جميع الثمن، فلا يزال ملكه، إلا على القدر الذي يقر به، كما إذا اختلف الشفيع والمشتري في ثمن الشقص.. فإن القول قول المشتري. والثاني: أن القول قول المشتري؛ لأنه يغرم، ويؤخذ منه الثمن. وهكذا: إذا قلنا: لا تفرق الصفقة.. فإنه يرجع بالأرش. فإذا اختلفا في قيمة

فرع: باع عبدا ثم اشتراه فوجده معيبا

التالف لأجل الأرش، أو حدث عيب آخر، وأراد أن يأخذ الأرش، واختلفا في قيمة التالف.. فمن القول قوله؟ فيه قولان. [فرع: باع عبدًا ثم اشتراه فوجده معيبًا] إذا اشترى زيد من عمرٍو عبدًا، فقبضه، ثم اشتراه عمرو من زيد، ثم اطلع على عيب فيه كان في يد عمرو قبل أن يشتريه منه زيد.. نظرت: فإن كان عمرو عالمًا بالعيب قبل أن يبيعه، أو حين اشتراه.. لم يكن له أن يرده على زيد؛ لأنه دخل في الشراء على بصيرة، ولا يجوز لزيد أن يطالبه بالأرش؛ لأنه قد استدرك الظلامة، أو لأنه لم ييأس من رده، فإن حدث بالعبد عيبٌ في يد عمرو.. لم يكن له أيضًا أن يرجع بالأرش على زيد؛ لأنه دخل في الشراء على بصيرة، ولم يكن لزيد أن يطالبه بالأرش؛ لأن قد استدرك الظلامة، أو لأنه لم ييأس من الرد. وإن كان عمروٌ غير عالم بالعيب حين باعه، ولا حين اشتراه من زيد.. نظرت: فإن كان زيدٌ عالمًا بالعيب قبل أن يشتريه من عمرو، أو علم به بعد أن اشتراه من عمرو، فرضي به، أو ترك ردّه مع الإمكان.. فلعمرٍو أن يرده على زيد. وإن لم يعلما جميعًا به إلا بعد أن حصل في ملك عمرو.. فهل لعمرو أن يرده على زيد؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه إذا رده على زيد.. رده زيد عليه. والثاني ـ وهو الصحيح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أن لعمرو أن يرده على زيد، ثم لزيد أن يرده على عمرو؛ لأن الثمنين قد يختلفان، فيكون له في ذلك غرض، وليس لزيد أن يطالب عمْرًا بشيء قبل أن يرده عليه؛ لأنه قد استدرك الظلامة، أو لأنه لم ييأس من الرد. فإن حدث في العبد عيب آخر عند عمرو، فإن رجع عمرو على زيد بالأرش..

فرع: اشترى عبدا ثم طالب البائع إقالته

فلزيد أن يرجع عليه أيضًا بالأرش، ويرجع كل واحد منهما من الثمن الذي ملك به، وإن أبرأ عمرو زيدًا من الأرش.. فهل لزيد أن يرجع عليه بالأرش؟ قال الشيخ أبو حامد: إن قلنا: العلة في بيعه إلى الأجنبي: أنه لا يرجع عليه بالأرش؛ لأنه قد استدرك الظلامة.. لم يرجع هاهنا. وإن قلنا: العلة هناك: أنه لم ييأس من الرد.. رجع هاهنا؛ لأنه قد أيس من الرد. فإن اشترى زيد من عمرو عبدًا، ثم باعه زيد من خالد، ثم اشتراه زيد من خالد، ثم اطلع زيد على عيب كان فيه وهو في يد عمرو، فإن قلنا بالأولى: لا يرده عمرو على زيد.. فإن زيدًا هاهنا يرده على عمرو. وإن قلنا بالصحيح في الأولى، وأنه يرده عليه.. فعلى من يرده زيد هاهنا؟ فيه وجهان: أحدهما: يرده على خالد؛ لأنه منه ملكه. والثاني: يرده على عمرو؛ لأن حدوث العيب كان بيده. [فرع: اشترى عبدًا ثم طالب البائع إقالته] قال القاضي أبو الطيب: إذا اشترى رجل من رجل عبدًا، ثم استقاله، فأقاله، ورجع العبد إلى البائع، فوجد به البائع عيبًا حدث في ملك المشتري.. كان للبائع ردّه على المشتري، ورفع الإقالة؛ لأنه يلحقه ضرر بإمساكه مع العيب؛ لأنه ربما كان الثمن الذي رده خيرًا له من العبد، فكان له إزالة الضرر برده واسترجاع الثمن، كالمشتري إذا وجد بالمبيع عيبًا.. فإن له رده واسترجاع الثمن من البائع. [فرع: إسلاف حنطة بعبد ثم ظهر عيبه] ذكر القاضي أبو الطيب في " شرح المولدات ": إذا أسلم رجل عبدًا في حنطة أو تمر، فقبض المسلم إليه العبد، فأعتقه، ثم وجد بالعبد عيبًا، فإن عفا المسلم إليه عن حقه.. وجب عليه تسليم جميع المسلم فيه، وإن لم يعف.. يرجع بالأرش. وكيفية ذلك: أن يقوم العبد صحيحًا، ثم يقوم معيبًا، وينظر ما بين القيمتين،

مسألة: فوات الوصف المرغب

فإن نقصه العيب العشر من قيمته.. سقط عن ذمة المسلم إليه عشر المسلم فيه، وكذلك إن نقصه العيب أقل أو أكثر.. سقط عن ذمته مثل تلك النسبة من المسلم فيه؛ لأن المسلم فيه هو ثمن العبد، وهل ينتقض العقد في الباقي من المسلم فيه؟ حكى في ذلك طريقين: [الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما إذا باع ما يملك وما لا يملك. و [الثاني] : منهم من قال: لا ينتقض، قولاً واحدًا. [مسألة: فوات الوصف المرغب] إذا باع عبدًا بشرط أنه كاتب، أو على أنه يحسن صنعة، فبان أنه ليس بكاتب، أو أنه لا يحسن تلك الصنعة.. ثبت للمشتري الخيار؛ لأنه أنقص مما شرط. وإن اشتراه بشرط أنه خصي، فبان فحلا.. ثبت له الخيار؛ لأن الخصي أكثر قيمة من الفحل. وإن اشتراه بشرط أنه فحل، فبان خصيًّا.. ثبت له الخيار؛ لأن الخصي أنقص خلقة وأقل بطشًا وقوة. وإن اشتراه بشرط أنه مسلم؛ فبان كافرًا.. ثبت له الخيار؛ لأن المسلم أفضل من الكافر. وإن اشتراه بشرط أنه كافرٌ، فبان مسلمًا.. ثبت له الخيار. وقال أبو حنيفة، والمزني: (لا خيار له؛ لأن المسلم أفضل من الكافر) . وهذا ليس بصحيح؛ لأن المسلم وإن كان أفضل من الكافر في الدين، إلا أن الكافر أكثر ثمنًا؛ لأنه يرغب في شرائه المسلم والكافر، والمسلم لا يرغب في شرائه إلا المسلم. وإن اشترى جارية على أنها بكر، فبانت ثيِّبًا.. ثبت له الخيار؛ لأن البكر أكثر ثمنًا. وإن اشتراها على أنها ثيب، فبانت بكرًا.. ففيه وجهان: أحدهما: يثبت له الخيار؛ لأنه قد تكون الثيب أحب إليه من البكر؛ لأنه قد يكون ضعيفا لا يقدر على وطء البكر. والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه لا خيار له، لأن البكر أكثر ثمنًا، ولا اعتبار بما عنده.

فرع: نقص قدر المبيع

وإن قال: بعني هذا العبد، فباعه، فبان أنه جارية، أو قال: بعني هذا الحمار، فباعه، فبان بغلا.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح البيع؛ لأن عقد البيع وقع على عين موجودة، ويثبت للمشتري الخيار؛ لأنه خلاف المشروط. والثاني: لا يصح البيع، وهو المنصوص؛ لأن العقد وقع على جنس، فلا ينعقد في غيره. [فرع: نقص قدر المبيع] إذا قال: بعتك هذه الصبرة على أنها مائة قفيز، فبان أنها دون المائة.. فالمشتري بالخيار.. بين أن يفسخ البيع؛ لأنه أنقص من المشروط، وبين أن يأخذ الموجود من الصبرة بحصته من الثمن. وإن بان أنها أكثر من المائة.. أخذ المشتري المائة بجميع الثمن، وترك الزيادة؛ لأنه يمكن رد الزائد من غير ضرر. وإن قال: بعتك هذا الثوب، أو هذه الأرض، على أنها عشرة أذرع، فبانت تسعة أذرع.. فالمشتري بالخيار: بين أن يفسخ البيع؛ لأنه أنقص مما شرط، وبين أن يجيز البيع، وبكم يجيز؟ فيه وجهان: أحدهما ـ حكاه القاضي أبو الطيب في " المجرد " ـ: أنه يمسك التسعة بحصتها من ثمن العشر، كما قلنا في الصبرة من الحنطة. والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يمسكها بجميع الثمن؛ لأن الحنطة تتساوى أجزاؤها، فكان ما فقد مثل ما وجد، وليس كذلك الثوب والأرض، فإن أجزاءهما لا تتساوى، فلم يكن ما فقد مثل ما وجد. وإن بان الثوب أو الأرض أحد عشر ذراعًا.. فحكى الشيخ أبو حامد: أن فيها قولين، وحكاهما الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ وجهين: أحدهما: أن البيع صحيح، ويكون البائع بالخيار: بين أن يسلم جميع الثوب

مسألة: بيع العبد الجاني

والأرض، ويجبر المشتري على قبوله، وبين أن يفسخ البيع؛ لأن الزيادة فيهما نقصان في حق البائع، فثبت له الخيار، كما أن الثوب إذا وجد دون العشرة.. فإنه نقصان في حق المشتري، ويثبت له الخيار، ولا يمكن أن يجعل ذراعًا منه للبائع، كما قلنا في الصبرة؛ لأن ذلك مختلف، ولأن قطعه يؤدِّي إلى نقصان قيمة الثوب، والشركة نقص عليهما. والثاني: أن البيع باطل؛ لأنه لا يمكن إجبار البائع على تسليم ما زاد على العشرة، ولا يمكن إجبار المشتري على أخذ العشرة؛ لأنه يقول: اشتريت الثوب كله. والأول أصح. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\224] : وإن قال بعني هذا القطيع من الغنم، على أنه ثلاثون، فبان تسعًا وعشرين، أو إحدى وثلاثين.. ففيه قولان: أحدهما: يصح في الثلاثين إذا كان زائدًا، وفي التسع والعشرين إذا كان ناقصًا، بحصته من الثمن. والثاني: لا يصح البيع. [مسألة: بيع العبد الجاني] قال الشافعي: (ولو باع عبده، وقد جنى.. ففيه قولان: أحدهما: أن البيع جائز، كما يكون العتق جائزًا، وعلى السيد الأقل من قيمته أو أرش جنايته. والثاني: أن البيع مفسوخ) . وهذا كما قال: إذا باع عبده، وقد جنى.. فهل يصح البيع؟ فيه قولان: أحدهما: يصح البيع، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، واختاره المزني؛ لأن الجناية إن كانت عمدًا.. فهذا عبدٌ يرجى سلامته، ويخاف تلفه، فلم يمنع ذلك من بيعه، كالمريض. وإن كانت خطأً.. فلم يتعلق المال برقبته برضا السيد، فلم يمنع صحة البيع، كما لو باع ما فضل عن قدر الزكاة من ماله.

والقول الثاني: لا يصح البيع، وهو اختيار الشافعي؛ لأنه حق لآدمي تعلق برقبة العبد، فمنع صحة البيع، كالرهن، بل حق الجناية آكد؛ لأنها تقدم على الرهن. إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في موضع القولين على ثلاث طرق: فـ[أوَّلها] : منهم من قال: القولان في الحالين سواءٌ كانت الجناية عمدًا أو خطأً؛ لأن القصاص حق آدمي، فهو كالمال، ولأنه يسقط إلى المال. و [ثانيها] : منهم من قال: القولان إذا كانت الجناية عمدًا، فأمَّا إذا كانت خطأً.. فلا يصح البيع، قولاً واحدًا؛ لأنه تعلق برقبته مال، فهو كالمرهون. وهذا القائل يقول: أصل هذا: ما الموجب بقتل العمد؟ فيه قولان: أحدهما: القود فقط. فعلى هذا: يجوز بيعه، كالمرتد. والثاني: أن موجبه أحد الأمرين: إما القصاص، وإما الدية، فلا يجوز بيعه، كالمرهون. و [ثالثها] : منهم من قال: القولان إذا كانت الجناية خطأً، فأما إذا كانت عمدًا صحَّ البيع، قولاً واحدًا؛ لأنه يخاف هلاكه بالقصاص، فهو كالمرتد والمريض. قال الشيخ أبو حامد: وهذه الطريقة أصح؛ لأن الشافعي قال: (فيه قولان، أحدهما: البيع جائز، وعلى السيد الأقل من قيمته أو أرش جنايته، وإنما يكون هذا على السيد في جناية خطأً) . فأما في جناية العمد: فإن للمجني عليه القصاص. إذا ثبت هذا: فإن قلنا: إن البيع باطلٌ.. فإنه يرد العبد ويسترجع الثمن. وإن قلنا: إن البيع صحيحٌ.. نظرت: فإن كانت الجناية خطأً أو عمدًا، فعفا المجنيُّ عليه على المال.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو ظاهر النص ـ: أن البائع يلزمه الفداء؛ لأن الشافعي قال: (البيع

جائزٌ، وعلى السيد الأقل من قيمته، أو أرش جنايته) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه كان مخيرًا بين أن يفدي، وبين أن لا يفدي، فإذا باع.. فقد زال ملكه عنه، فكان اختيارًا منه للفداء، كما لو أتلفه السيد. فعلى هذا: لا يلزم السيد إلا أقل الأمرين من قيمة العبد أو أرش الجناية؛ لأنه لا يمكن بيعه. وإن أعسر المولى بالفداء.. فسخ البيع؛ لأن حق المجني عليه سابق لحق المشتري، فإذا تعذر إمضاؤهما قدم السابق. والوجه الثاني: أنه لا يتعين عليه الفداء، بل هو بالخيار: بين أن يفديه، وبين أن لا يفديه؛ لأن العبد لم يتلف بالبيع. فعلى هذا: إن فداه.. استقرّ البيع، وإن لم يفده.. فسخ البيع. إذا اختار أن يفديه على هذا.. فبكم يفديه؟ فيه قولان: أحدهما: بأقل الأمرين من قيمته، أو أرش الجناية. والثاني: يلزمه أرش الجناية بالغًا ما بلغ؛ لأنه يمكن هاهنا بيعه. وإن كانت الجناية عمدًا، واختار المجنيّ عليه القصاص.. نظرت: فإن كانت الجناية قتلا، فقتله وليّ المجني عليه، فإن كان قبل أن يقبضه المشتري.. انفسخ البيع، كما لو مات. وإن قتله بعد أن قبضه المشتري.. نظرت: فإن لم يعلم المشتري بجنايته حتى قتل في يده.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول أبي العباس ابن سريج، وأبي عليّ بن أبي هريرة ـ: أن تعلق القتل برقبة العبد بمنزلة العيب الموجود في يد البائع؛ لأنه لو كان بمنزلة الاستقحاق.. لم يصح بيعه، فإذا كان عيبًا، وتلف في يد المشتري.. رجع على البائع بالأرش،

فيقوم وهو جان، ويقوم وهو غير جان، وينظر ما بين القيمتين، ويرجع في مثل تلك النسبة من الثمن. والوجه الثاني ـ وهو قول أبي إسحاق، وهو المنصوص ـ: (أن تعلق القتل برقبة العبد بمنزلة الاستحقاق) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه تلف بسبب كان في يد البائع، فصار كما لو غصب عبدًا، فباعه. فعلى هذا: يرجع المشتري بجميع الثمن، ويجب تكفينه ودفنه على البائع، وهذا كما لو غصب عبدًا، فجنى العبد على غيره في يد الغاصب، ثم ردّه الغاصب على المالك، فاقتص من العبد في يد المالك، بالجناية التي جناها في يد الغاصب.. فإنه يجب على الغاصب قيمته. وأما إذا كان المشتري عالمًا بالجناية حين الشراء، أو علم بها بعد الشراء، فلم يرده حتى قتل في يده، فإن قلنا بقول أبي العباس، وأبي علي بن أبي هريرة في المسألة قبلها.. لم يرجع بشيء، كما لو اشترى عبدًا مريضًا، فعلم بمرضه، فقبضه، ثم مات في يده. وإن قلنا بقول أبي إسحاق، وبالمنصوص.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق ـ: أن المشتري يرجع بجميع الثمن؛ لأنه إذا قتل.. بان أنه تعلق القتل برقبته، كالاستحقاق، ولو اشترى عبدًا مستحقُا.. فإن للمشتري أن يرجع بالثمن، سواءٌ علم بالاستحقاق عند الشراء، أو لم يعلم، فكذلك هاهنا. والوجه الثاني ـ وهو قول القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ ـ: أنه لا يرجع المشتري بشيء؛ لأن الشافعي قال: (لو اشتراه عالمًا به.. صح البيع، ولا خيار له، فصار كالعيب إذا علم به) .

وإن اشترى عبدًا مرتدًّا.. صح البيع، قولاً واحدًا؛ لأن الردة لا تزيل ملك مالكه عنه، وإنما يخشى هلاكه بالقتل، ويرجى سلامته بالإسلام، فيصح بيعه، كالمريض، فإن كان المشتري عالمًا بردته.. لم يثبت له الخيار، كما لو اشترى عبدًا مريضًا، وهو عالمٌ بمرضه. فإن لم يعلم بردته، ثم علم قبل أن يقتل.. ثبت له الخيار في فسخ البيع؛ لأنه عيب. فإن قتل في يد المشتري.. نظرت: فإن لم يعلم بردته حتى قتل.. فعلى منصوص الشافعي، وقول أبي إسحاق: يرجع بجميع الثمن، وبه قال ابن الحداد. وعلى قول أبي العباس، وأبي علي بن أبي هريرة: يرجع بأرش العيب، وبه قال القاضي أبو الطيب. وإن كان المشتري عالمًا بردته قبل أن يقتل، فإن قلنا بقول أبي العباس، وأبي علي بن أبي هريرة: لم يرجع هاهنا بشيء. وإن قلنا بالمنصوص.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: يرجع بجميع الثمن. و [ثانيهما] : قال القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ: لا يرجع بشيء. وفرع القاضي أبو الطيب على أصله مسائل منها: إذا اشترى عبدًا سارقًا.. صحّ الشراء، فإن علم بسرقته.. فلا خيار له، وإن قطع في يد المشتري.. لم يرجع بشيء. وإن لم يعلم بسرقته حتى قطع.. فعلى المنصوص، وقول أبي إسحاق، وابن الحداد: يثبت له الخيار: إن شاء.. فسخ البيع ورده مقطوعًا، وإن شاء.. أجازه، ولا شيء له. وعلى قول أبي العباس، وأبي عليّ: ليس له الرد، ولكن يرجع بأرش العيب. قال: وإن اشترى عينًا بها عيب في يد البائع، ولم يعلم به المشتري، فقبض المشتري المبيع، فزاد العيب في يد المشتري.. فعلى قول أبي إسحاق، وابن الحداد: تصير الزيادة كأنها حصلت في يد البائع، فيكون للمشتري الخيار. وإن مات

مسألة: البيع بشرط البراءة من العيب

من الزيادة.. انفسخ البيع، ورجع بالثمن. وعلى قول أبي العباس، وابن أبي هريرة: لا يفسخ البيع بزيادة العيب، ولكن يرجع بالأرش، وكذلك إن تلف المبيع في يده من الزيادة.. رجع بالأرش. قال القاضي: وكذلك: إذا اشترى جارية حاملاً لم يعلم بحملها حتى ماتت من الولادة.. فعلى قول أبي إسحاق، وابن الحداد: ينفسخ البيع، ويرجع بالثمن. وعلى قول أبي العباس، وأبي علي: لا ينفسخ البيع، ولكن يرجع بالأرش. وأما إذا قتل العبد غيره في المحاربة.. نظرت: فإن تاب قبل القدرة عليه.. فهو بمنزلة القاتل في غير المحاربة، وقد بينّاه. وإن لم يتب، وقدر عليه.. فهل يصح بيعه؟ فيه طريقان: [الأول] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح بيعه، قولاً واحدًا؛ لأنه لا منفعة فيه إذ قتله محتم. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: هو كما لو قتل في غير المحاربة، فيكون في بيعه قولان؛ لأن فيه منفعة، وهو أن يعتقه المشتري: فإذا قلنا: يجوز بيع العبد الجاني.. جاز عتقه. وإن قلنا: لا يجوز بيعه.. فهل يجوز عتقه؟ فيه ثلاثة أقوال، كعتق العبد المرهون، ويأتي بيان ذلك في (الرهن) إن شاء الله تعالى. [مسألة: البيع بشرط البراءة من العيب] إذا باعه شيئا بشرط البراءة من العيوب.. فاختلف أصحابنا فيه [على وجهين] . فـ[الوجه الأول] : ذهب أبو سعيد الإصطخري إلى: أن في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يبرأ من كل عيب، باطنًا كان أو ظاهرًا، علم به البائع أو لم يعلم به،

وبه قال أبو حنيفة، وأبو ثور؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون عند شروطهم» . وهذا شرط قد شرطاه، فوجب الوفاء به. وروت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن رجلين من الأنصار اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مواريث بينهما قد درست، فقال لهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "استهما، وتوخيا الحق، وليحل كل واحد منكما صاحبه» . فدل على: أن البراءة من المجهول صحيحة.

ولأنه عيب رضي به المشتري، فصار كما لو أعلمه به. والقول الثاني: أنه لا يبرأ من شيء من العيوب، وهو قول شريح، وعطاء، وطاوس، والحسن، وأحمد، وإسحاق؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نهى عن بيع الغرر» . وفي البيع بهذا الشرط غرر؛ لأن المشتري لا يدري كم ينقص العيب من قيمة المبيع، ولأنه شرط يرتفق به أحد المتعاقدين، فلم يصح مجهولاً، كشرط الرهن المجهول، والأجل المجهول، وفيه احترازٌ من خيار المجلس والشرط، فإنه يرتفق به المتعاقدان. والقول الثالث ـ وهو الصحيح ـ: أنه يبرأ من عيب واحد، وهو العيب الباطن في الحيوان الذي لم يعلم به البائع، ولا يبرأ مما سواه، وهو قول مالك؛ لما روي: (أن ابن عمر باع غلامًا له من زيد بن ثابت بثمانمائة درهم بشرط البراءة من كل عيب، فأصاب به زيدٌ عيبًا، فأراد رده، فأتى ابن عمر، فتحاكما إلى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال عثمان بن عفان لابن عمر: أتحلف أنك لم تعلم بعيب فيه؟ فأبى ابن عمر أن يحلف، وقبل الغلام، فباعه بألف درهم، وقيل: بألف وخمسمائة درهم) . ووجه الدليل من هذا: أن عثمان قال: (أتحلف أنك لم تعلم بعيب به؟) . فدل على: أنه إنما يبرأ من العيب إذا لم يعلم به، وأمّا إذا علم بالعيب: لم تصح البراءة منه، ولم ينكر ذلك منكر من الصحابة.

قال الشافعي: (ولأن الحيوان يغتذي بالصحة والسقم، وتحول طبائعه، وقل ما يبرأ من عيب يخفى أو يظهر) . ومعناه: أن الحيوان يعتلف في حال الصحة والسقم، ولا يمكن معرفة عيبه، فكانت به حاجة إلى البراءة من العيوب الباطنة التي لم يعلم بها، وجاز ذلك، كما جاز بيع المنافع قبل أن تخلق للحاجة، ولم يجز بيع الحيوان قبل أن يخلق؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك. فعلى قول أبي سعيد في غير الحيوان من الثياب وغيرها قولان: أحدهما: لا يبرأ من عيب فيها. والثاني: يبرأ من كل عيب فيها، ويسقط القول الثالث. و [الوجه الثاني] : من أصحابنا من قال: المسألة على قول واحد، وهو: أنه يبرأ من العيب الباطن في الحيوان الذي لا يعلم به البائع، ولا يبرأ من العيب الباطن فيه الذي يعلم به البائع، ولا من العيوب الظاهرة فيه علم بها البائع أو لم يعلم ولا يبرأ من شيء من العيوب في غير الحيوان، باطنة كانت أو ظاهرة، علم بها البائع أو لم يعلم، وكذلك ما مأكوله في جوفه، مثل: الجوز واللوز والرمان، حكمه حكم الثياب، والفرق بينه وبين الحيوان: ما أشار إليه الشافعي: أن الغالب في الحيوان وجود العيب في باطنه، بخلاف ما مأكوله في جوفه، فإن الأكثر في جوفه السلامة. فإذا قلنا: إن البيع بهذا الشرط صحيح، فحدث به عيب عند البائع بعد البيع، وقبل القبض.. لم يبرأ منه. وقال أبو يوسف: يبرأ منه. دليلنا: أنه إسقاط حق قبل ثبوته، فلم يصح، كما لو أبرأه مما يستحب عليه. وإذا قلنا: إن شرط البراءة لا يصح.. فهل يصح البيع؟ فيه وجهان: أحدهما: أن البيع صحيح، ويثبت للمشتري الخيار إذا وجد العيب؛ لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حكم بصحة البيع.

والثاني ـ وهو اختيار الشيخ أبي حامد ـ: أن البيع باطلٌ؛ لأنه شرط فاسد قارن عقد البيع، فأبطله، كسائر الشروط الفاسدة، ولأن البائع أسقط جزءًا من الثمن لأجل هذا الشرط، فإذا سقط هذا الشرط.. وجب أن يرجع إلى ما أسقطه من الثمن لأجله، وذلك مجهول، والمجهول إذا أضيف إلى معلوم.. صار الجميع مجهولاً، والجهل بالثمن يبطل البيع. وبالله التوفيق

باب بيع المرابحة

[باب بيع المرابحة] إذا باع سلعة بثمن إلى أجل، ثم اشتراها البائع قبل قبض الثمن بأقل من ذلك الثمن.. جاز وكذلك إذا باعها بثمن نقدًا، واشتراها بأكثر منه إلى أجل.. جاز، سواءٌ كان قد قبض الثمن أو لم يقبض، وكذلك إذا باعها بثمن إلى أجل.. جاز أن يشتريها بالثمن، إلى أكثر منه. وروي ذلك عن ابن عمر، وزيد بن أرقم، وقال الأوزاعي، ومالك، وأبو حنيفة، وأحمد: (لا يجوز أن يشتريها بأقل مما باعها قبل قبض الثمن) . وروي ذلك عن ابن عبّاس، وعائشة، إلا أن أبا حنيفة يقول: (إن باعها منه بعوض أقل من ذلك الثمن.. جاز، فأما إذا اشتراها له وكيله بأقل من ذلك الثمن.. جاز، وإن اشتراها له ولده أو والده بأقل من ذلك الثمن.. لم يجز، وإن

اشتراها إلى أجل.. لم يجز أن يبيعها إلى أجل أكثر منه) . واحتجوا بما روي: «أن امرأة قالت لعائشة: يا أم المؤمنين، إني بعت غلامًا من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم، فقالت لها عائشة: (بئس ما بعت، وبئس ما ابتعت، أخبري زيد بن أرقم: أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلا أن يتوب» . ولا تقول ذلك إلا توقيفًا. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبع ما ليس عندك» . وهذا قد باع ما عنده. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اختلفت هذه الأجناس.. فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد» . ولأن كل سلعة لم يتقدر ثمنها مع غير بائعها.. لم يتقدر مع بائعها، كما لو قبض الثمن.

مسألة: البيع مرابحة

وأمّا الحديث: فلو كان عند عائشة شيء فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذكرته، على أنه يحمل على أنها أنكرت شراءه إلى العطاء؛ لأنه أجل مجهول. [مسألةٌ: البيع مرابحة] ] : وإذا اشترى شيئًا.. جاز أن يبيعه مرابحة، وهو أن يقول: اشتريت هذه السلعة بمائة درهم، وقد بعتكها بمائة درهم وربح درهم في كل عشرة، أو لكل عشرة، وبه قال عامّة أهل العلم. وقال الشيخ أبو إسحاق: وكان ابن مسعود لا يرى بأسًا بـ (دَهْ يُازْدَهْ) ، و (دَهْ دَوَازْدَهْ) . ومعنى هذا: أنه كان لا يرى بأسًا أن يبيع ما اشتراه بعشرة، بإحدى عشرة وباثني عشرة؛ لأن (دَهْ) ـ في لغة الفرس ـ: عشرة، و (يُازْدَهْ) : إحدى عشر، و (دَوَازْدَهْ) : اثنا عشر. وروي عن ابن عبّاس، وابن عمر: أنهما قالا: (يكره هذا البيع) . وقال إسحاق ابن راهويه: لا يصح. دليلنا: أن رأس المال معلومٌ، والربح معلوم، فصح، كما لو قال: بعتك بمائة وعشرة، وأما ما روي عن ابن عبّاس، وابن عمر: فيحتمل أنهما كرها ذلك؛ لما فيه من تحمل الأمانة وأدائها.

فرع: بيع بعض ما اشتراه مرابحة

[فرع: بيع بعض ما اشتراه مرابحة] ويجوز أن يبيع بعض ما اشتراه مرابحة، فإن كان ممّا ينقسم الثمن فيه على الأجزاء؛ كالعين الواحدة، أو مما تستوي أجزاؤه، كذوات الأمثال.. فإن الثمن ينقسم فيه على الأجزاء، فإن أراد بيع نصفه.. أجيز بنصف الثمن، وإن كان ثلثه أو ربعه.. فكذلك، وإن كان مما ينقسم الثمن فيه على الأجزاء، فإن أراد بيع نصفه.. أُجيز بنصف الثمن فيه على القيمة، بأن اشترى عبدين أو ثوبين أو ما أشبههما، فإذا أراد بيع أحدهما مرابحة.. لم يصح حتى يقوِّم المبيعين، ويقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما، ثم يبيع ما يريد بيعه منهما بحصّته من الثمن. وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يجوز بيع المرابحة فيما ينقسم الثمن فيه على قيمته، ويجوز فيما تتساوى أجزاؤه، كالمكيل والموزون والمعدود المتساوي) . دليلنا: أن الثمن ينقسم على قدر القيمتين، ألا ترى أنه لو اشترى سيفًا وشقصًا.. فإن الشفيع يأخذ الشقص بحصّته من الثمن، فكذلك هاهنا مثله؟ [مسألةٌ: معرفة الثمن تصحح المرابحة] ولا يصح بيع المرابحة إلا أن يكون رأس المال معلومًا والربح معلومًا، فإن قال: بعتُكَ برأس مالي، أو بما اشتريت وربح درهم لكلِّ عشرةٍ، وهما لا يعلمان رأس مالِه فيه ولا ما اشترى به.. لم يصح الشراء. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\242] وجهًا آخر: إن أعلمه برأس ماله في المجلس.. صح، وبه قال أبو حنيفة، وهذا لا يصح؛ لأن الثمن مجهول عند أحدهما حال العقد، فلم يصح بذكره بعد ذلك في المجلس، كما لو باعه ما لا يملك، ثم ملَّكَه في المجلس، فإن كان الربح مجهولاً حال العقد، مثل أن يقول: بعتك بمائة وربح ما شئت أو ما يستوي عليه.. لم يصح؛ لأنه غير معلوم حال العقد، فلم يصح.

فرع: الإخبار بما لزم به العقد

[فرع: الإخبار بما لزم به العقد] ولا يخبر إلا بالثمن الذي لزم به العقد، فإن اشتراه بثمن، ولم يلحقا به زيادة ولا نقصانًا.. أجيز بذلك الثمن، وإن ألحقا به زيادةً أو نقصانًا.. نظرت: فإن كان ذلك قبل لزوم البيع، إما في خيار المجلس أو في خيار الشرط، فإن ذلك يلحق بالعقد، ويخبر به في بيع المرابحة، وهذا قول عامّة أصحابنا، إلا أبا عليّ الطبريّ، فإنه قال: إذا قلنا: إن المشتري يملك المبيع بنفس العقد.. فإن ذلك لا يلحق بالعقد. وليس بشيء؛ لأن المبيع وإن انتقل بالعقد، إلا أن الملك لم يستقر، ولهذا يجوز لكل واحدٍ منهما أن ينفرد بفسخ العقد، وإن ألحقا بالعقد زيادةً، أو حطّا بعض الثمن بعد الخيار.. لم يلحق بالعقد، وكان ذلك هبة، فإن أراد بيعه مرابحة.. أخبر بما وقع به العقد. وقال أبو حنيفة: (يلحق بالعقد، ويخبر به في المرابحة) . دليلنا: أنه حط بعد لزوم العقد.. فلم يلحق به، كما لو حط جميع الثمن. [فرع: بيع التولية] وتجوز التولية والشركة في البيع. فـ (التولية) : أن يشتري عينًا بثمن، ثم يقول المشتري لغيره: اشتريت هذه السلعة بكذا، وقد وليتُكها برأس مالها، فإذا قال الآخر: قبلت.. لزم الشراء برأس المال. و (الشركة) : أن يقول: اشتريتها بكذا، وقد أشركتك بنصفها، فإذا قبل.. لزم البيع عليه بنصف السلعة بنصف الثمن. إذا ثبت هذا: واشترى سلعة بثمن، ثم ولاَّها غيرَه أو أشرك غيرَه في الثمن فيها،

فرع: ما يقول في المرابحة إذا تعلق بها من المؤونة

ثم حطَّ الثمن عن المشتري الأول.. قال الطبري في " العدة ": فإن الحط يلحق بالمولى والمشرَك؛ لأن التولية والشركة تختص بالثمن، فلحق الثاني ما لحق الأول، ولو باعه المشتري الأول بلفظ البيع، ثم حطَّ الثمن عن المشتري الأول.. لم يلحق المشتري الثاني حطٌّ. قال: وهذا اختلافٌ يحصل باختلاف اللفظ، كما يقول في المرابحة: إذا كذب في رأس المال.. ثبت للمشتري الخيارُ، ولو باعه مساومةً وكذب في رأس المال.. لم يثبت للمشتري الخيار. [فرع: ما يقول في المرابحة إذا تعلّق بها من المؤونة] وإذا اشترى سلعةً بثمن، وأراد بيعها مرابحةً، فإن كان لم يلزمه عليها مؤونةٌ ولا عملٌ عليها.. فلهُ أَنْ يخبرَ بأحد خمسةِ ألفاظٍ، إمَّا أن يقول: اشتريتها بكذا، أو يقول: رأس مالي فيها كذا، أو يقول: قامت عليّ بكذا، أو تقوَّم عليّ بكذا، أو يقول: هيَ عليّ بكذا؛ لأنه صادق في ذلك كلِّه، وإن لزمه عليها مؤونة بأن يكون قد اشترى ثوبًا بعشرة، واستأجر من قصره أو طرَّزه بثلاثة دراهم، فلا يجوز أن يقول: اشتريتُهُ بثلاثة عشر؛ لأنه يكون كاذبًا، ويصح أن يقول: قام عليَّ بثلاثة عشر، أو هو عليَّ بثلاثة عشر، وهل يصح أن يقول: رأس مالي فيه ثلاثة عشر؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصحُّ؛ لأن حقيقة رأس المال ما وزنه ثمنًا، والذي وُزِنَ ثمنًا عشرةٌ. و [ثانيهما] : قال القاضي أبو الطيب: يصح، واختاره ابن الصَّباغ، لأن رأس المال عبارةٌ عمَّا يطلبُ به الربح والنفقة والثمن في ذلك سواءً، فإن عمل فيه بنفسه ما يساوي ثلاثةً، فإنَّه لا يضمُّه إلى رأس المال ويخبر به؛ لأنه لا يستحق بعمله على نفسه أجرةً، وكذلك إذا تطوَّع غيره بالعمل فيه، إلاَّ أنه يمكنه أن يقول: اشتريته بكذا، وعملت فيه عملاً أجرتُهُ كذا، فلي ذلك، وقد بعتكه بذلك وبربح كذا، فيصح ذلك.

فرع: أخذ أرش عيب وحدث عيب وأراد بيعه مرابحة

[فرع: أخذ أرش عيب وحدث عيب وأراد بيعه مرابحة] وإن اشترى عبدًا بمائة، فوجد به عيبًا، وقد حدث به عنده عيب آخر، فرجع بأرش العيب عشرة، فأراد أن يبيعه مرابحة.. فإنه يجب أن يحط ما أخذه أرشًا من الثمن، فيقول: هو عليَّ، أو يقوَّم عليَّ بتسعين، أو رأس مالي فيه تسعون، ولا يجوز أن يقول: اشتريته بتسعين؛ لأنه كذب، ولا يقول: اشتريته بمائة، ولا رأس مالي فيه مائة؛ لأن الأرش استرجاع جزءٍ من الثمن. فإن جنى هذا العبد جناية، ففداه السيد بشيء.. لم يضمّه إلى رأس المال، وهكذا إذا مرض، فداواه، وأنفق عليه؛ لأن ذلك لاستبقاء ملكه، ويخالف القصارة والخياطة والصبغ؛ لأن في هذه المواضع له أثر في العين. وإن جنى جانٍ على هذا العبد، فأخذ منه الأرش.. فهل يلزمه أن يحط ما أخذه من رأس المال؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه أن يحط ذلك، كما لا يضم إلى رأس ماله ما فداه به. والثاني: يلزمه أن يحط ذلك من الثمن؛ لأنه بذل جزءًا منه، فلزمه أن يحطه من الثمن، كأرش العيب. [فرع: بيع نماء المرابحة] وإن اشترى شجرة لا ثمرة عليها، فأثمرت في يده، أو بهيمة حائلاً، فحملت في يده وولدت، أو لا لبن بها، فحدث بها لبنٌ فحلبه، أو عبدًا فاستخدمه، ثم أراد بيع ذلك مرابحة.. فإنه يخبر بجميع الثمن الذي اشتراه به، ولا يحط منه لأجل هذا النماء شيئًا؛ لأن هذا نماء حادث في ملكه، فكان له، هذا هو المشهور. وذكر الصيمري: أنه إذا اشترى عبدًا، فاستخدمه، أو أجّره.. لزمه الإخبار

فرع: بيع ما أسلم فيه مرابحة

بذلك، ولا وجه له، وإن كانت الشجرة مثمرة وقت الشراء، أو كان في البهيمة لبنٌ أو صوفٌ وقت الشراء، فأخذ الثمرة واللبن والصوف.. لزمه أن يحط من الثمن بحصة ما أخذ؛ لأن الثمن قابل الجميع. وإن كانت بهيمة أو جارية حاملاً وقت الشراء، فولدت في يده، ثم أراد بيعها: فإن قلنا: إن الحمل له حكم.. فهو كاللبن والثمرة. وإن قلنا: لا حكم له.. لم يحط من الثمن لأجله شيء. [فرع: بيع ما أسلم فيه مرابحة] إذا أسلم في ثوبين بصفة واحدة، فقبضهما، وأراد بيع أحدهما مرابحة.. قال ابن الصبّاغ: فإنه يخبر بحصته من الثمن، وهو النصف. وبه قال أبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يبيعه مرابحة) . دليلنا: أن الثمن وقع عليهما بالسويّة؛ لأن الصفة متساوية في الذمة، فهو كشراء القفيزين، فإن حصل في أحدهما نقصان عن الصفة.. فذلك نقصان جارٍ مجرى العيب الحادث بعد الشراء، فلا يمنع من بيع المرابحة. [فرع: إخبار من اشترى مؤجلاً وباع مرابحة] وإن اشترى بثمن مؤجّل.. لم يخبر بثمن مطلق، وفيه وجهٌ آخر حكاه المسعودي [في " الإبانة " ق\254] : أنه لا يلزمه أن يبين الأجل. والأول أصح؛ لأن الأجل يأخذ جزءًا من الثمن. فعلى هذا: يكون للمشتري الخيار؛ لأنه دلّس عليه بما يأخذ جزءًا من الثمن، فثبت له الخيار، كما لو دلّس عليه بعيب. وقال أبو حنيفة: (إن كان المبيع باقيًا.. كان له الخيار: إن شاء.. أمسكه، وإن شاء.. ردَّه، وإن كان تالفًا.. لزمه الثمن) . وقال شريح، وابن سيرين، والأوزاعي: (يلزم البيع، ويثبت في ذمته الثمن مؤجلاً) .

فرع: إخبار المرابح عن الشراء الأخير

وقال أحمد، وإسحاق: (إن كان المبيع باقيًا، فإن شاء.. أمسك ذلك إلى الأجل، وإن كان تالفًا.. حبس من الثمن بقدر الأجل الذي كان للبائع) . دليلنا: ما مضى، ولأن الذمم لا تتماثل، فربما كانت ذمة المشتري الثاني دون ذمة الأول. [فرع: إخبار المرابح عن الشراء الأخير] إذا اشترى شيئًا بمائة، ثم باعه بخمسين، ثم اشتراه بأربعين، فأراد بيعه مرابحة.. أخبر بالأربعين؛ لأنه هو العقد الذي ملك به، وإن اشتراه بمائة، ثم باعه بمائة وخمسين، ثم اشتراه بمائة.. أخبر بمائة، ولا يحط ما ربح في العقد الأول. وقال أبو حنيفة: (يلزمه أن يحط ما ربح، فيخبر بخمسين) . وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\242] : أنه قول ابن سريج. دليلنا: أن الثمن في البيع الذي يلي بيع المرابحة هو المائة، فجاز أن يخبر به، كما لو لم يربح في الأول. وإن اشترى شيئًا بعشرة، ثم واطأ غلامه الحر وهو الوكيل، فباعه منه، ثم اشتراه بعشرين، وأخبر بالعشرين في بيع المرابحة.. صح الشراء والإخبار، ولكن يكره له ذلك؛ لأنه لو صرّح به في العقد.. لأبطل العقد، فإذا قصده.. كُرِهَ، فإن علم المشتري بذلك.. فهل يثبت للمشتري الخيار؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو إسحاق: لا يثبت له الخيار؛ لأن شراءه من غلامه صحيح. و [ثانيهما] : قال ابن الصباغ: يثبت له الخيار؛ لأن هذا ضرب من التدليس، والتدليس محرم في الشرع، فأثبت الخيار.

فرع: اشترى من ابنه ليبيع مرابحة

[فرع: اشترى من ابنه ليبيع مرابحة] إذا اشترى شيئًا من ابنه أو أبيه أو مكاتبه.. جاز أن يبيعه مرابحة، ولا يلزمه أن يبين ممن اشتراه، وبه قال أبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يجوز حتى يبين ممن اشتراه) . دليلنا: أنه أخبر بما اشتراه به صحيحًا.. فجاز بيعه، كما لو اشتراه من أجنبي. وإن اشترى شيئًا بمائة، فاستغلاه، فأخبر بأنه اشتراه بتسعين.. قال الشيخ أبو نصر: فالبيع صحيح، وقد أساء بالكذب. وقال إسحاق بن راهويه: ليس هذا كذبًا إذا كانت إرادته: أنها قامت عليه بتسعين. دليلنا: أنه أخبر بخلاف ما اشترى به، فلا يصح بالنيّة أنها قامت عليه بتسعين؛ لأنها ما قامت عليه إلا بالمائة، والنيّة لا تغيّر موجب اللفظ. [مسألةٌ: بعتكها وربحٌ بقدر العشر] وإن اشترى سلعة بمائة، فقال: بعتكها برأس مالها، وهو مائة وربح درهم لكل عشرة، أو في كل عشرة، أو ربح دَهْ يازْدَهْ.. فإن الربح عشرةٌ، والثمن مائة، ولزِم عليه مائة وعشرة. [فرع: البيع محاططة] ويجوز البيع مواضعةً ومخاسرةً؛ لأنه ثمن معلوم، فجاز البيع به كالمرابحة. فإذا قال: رأس مالي مائة، وقد بعتك برأس مالي ووضيعة دَهْ يازْدَهْ، أو مخاسرةِ دهْ يازدهْ، فالثمن أحدٌ وتسعون درهمًا إلا جُزءًا من أحد عشر جُزءًا من درهم، وبه قال أبو حنيفة. وحكي عن أبي يوسف، ومحمد بن الحسن: أنهما قالا: الوضيعة عشرةٌ. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\242] : أنه وجهٌ لبعض أصحابنا.

مسألة: خطأ البائع بالثمن

دليلنا: أن الحط يعتبر من الربح، وقد ثبت: أنه لو قال: يربح دهْ يازدهْ.. لزيد على كل عشرة درهم، فيكون أحد عشرة، فيجب أن يحط ذلك الربح، وهو: أن يحط من كل أحد عشر درهمًا درهمٌ، فإذا حطّ من تسعة وتسعين درهمًا تسعة دراهم.. حطّ من الدرهم الباقي جزءًا من أحد عشر جزءًا. وإن قال: بعتك برأس مالي ووضيعة درهم من كل عشرة.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أن الثمن أحد وتسعون درهمًا إلا جزءًا من أحد عشر جزءًا من درهم؛ لأن الوضيعة معتبرة من الربح. ولو باع بربح درهم في كل عشرة.. لكان الربح عشرة، وكان الربح جُزءًا من أحد عشر جزءًا، فإذا باع بالوضيعة.. وجب أن يحط من المائة جزءًا من أحد عشر جزءًا منها. والثاني ـ وهو قول أبي ثور، واختيار القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق، وابن الصبّاغ ـ: أن الثمن تسعون؛ لأن المائة عشر عشرات، فإذا وضع من كل عشرة دراهم درهمًا بقي تسعون. قال ابن الصّباغ: فأما إذا قال بوضيعة درهم لكل عشرة: فإن الثمن يكون أحدًا وتسعين درهمًا إلا جزءًا من أحد عشر جزءًا من درهم. [مسألةٌ: خطأ البائع بالثمن] إذا قال: رأس مالي في هذه السلعة مائة، وقد بعتكها برأس مالها وربح درهم على كل عشرة أو في كل عشرة، ثم قال البائع: أخطأت، بل كان رأس مالي فيها تسعين، أو قامت البينة بذلك.. فالمنصوص: (أن البيع صحيح) . وقال مالك: (البيع باطل) . وحكاه القاضي أبو حامد وجهًا لبعض أصحابنا؛ لأن هذا كان مجهولاً عند العقد، وليس بشيء؛ لأن سقوط جزء من الثمن ضرب من التدليس لا يبطل البيع ولا يوجب كونه مجهولاً كأرش العيب، ولأنا لا نسقطه في أحد القولين.

إذا ثبت هذا: فكم الثمن الذي وقع به البيع؟ فيه قولان: أحدهما: أنه مائة وعشرة، وهو قول أبي حنيفة، ومحمد؛ لأنه هو المسمى في العقد، وإنما بان فيه تدليس وخيانة، وذلك يوجب الخيار دون الحط، كما لو دلّس البائع بعيب. والثاني: أن الثمن تسعة وتسعون درهمًا، وهو قول ابن أبي ليلى، وأبي يوسف، وأحمد، وهو الصحيح؛ لأنه باعه برأس المال وقدر له من الربح، وإنما أخبر بأكثر من ذلك، فوجب حط الزيادة، كالشفعة والتولية. فإذا قلنا: إن الثمن مائة وعشرة.. فلا خيار للبائع، وللمشتري الخيار: بين الإجازة والفسخ؛ لأنه دخل في العقد على أن يأخذ برأس المال، وهذا أكثر منه. وإذا قلنا: إن الثمن تسعة وتسعون.. فهل يثبت للمشتري الخيار؟ نقل المزنيّ و" حرملة ": (أنّ له الخيار) . وذكر الشافعيّ في " اختلاف العراقيين ": (أنه لا خيار له) . وإن كانت السلعة قائمة.. فاختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق: فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: في المسألة قولان، سواءٌ ثبت ذلك بالبينة أو بإقرار البائع، وسواءٌ كانت السلعة قائمة أو تالفة. هكذا قال الشيخ أبو حامد: أحدهما: يثبت له الخيار؛ لأنه قد يكون له غرض في شرائها بمائة وعشرة بأن يكون قد حلف: ليشترين عبدًا بمائة وعشرة، أو أوصى إليه أن يشتري عبدًا بهذا الثمن ويعتقه، فإذا بان بدون ذلك.. ثبت له الخيار، ولأنه إن علم ذلك بإقرار البائع.. فلا يؤمن أن يكون الثمن دونه، وأنه قد خان، وإن علمت خيانته بالبينة.. فلعل الباطن بخلاف الظاهر، وأن الثمن دونه. والثاني: لا خيار له، وهو قول ابن أبي ليلى، وأبي يوسف؛ لأنه قد كان رضي بها بمائة وعشرة، فإذا حصلت بدون ذلك.. فقد حصلت له فائدة، فلم يثبت له الخيار، كما لو أمر وكيله أن يبيع عبده بمائة فباعه بمائة وعشرة. و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: هي على حالين:

فحيث قال: (للمشتري الخيار) أراد: إذا كانت السلعة قائمة يمكنه فسخ البيع؛ لأنه يزيل ضررًا عن نفسه ولا يلحق ضررًا بالبائع. وحيث قال: (لا خيار له) أراد: إذا كانت السلعة تالفةً؛ لأنه يزيل ضررًا عن نفسه ويلحقه بالبائع، فلم يجز. و [الطريق الثالث] : من أصحابنا من قال: إن ثبتت خيانة البائع بإقراره.. فلا خيار للمشتري، قولاً واحدًا؛ لأن ذلك يدل على أمانته، وإن ثبت ذلك بالبينة.. فهل يثبت للمشتري الخيار؟ فيه قولان. قال الشيخ أبو حامد: ولعل هذا أسد الطرق. إذا ثبت هذا: فإن قلنا: للمشتري الخيار، ففسخ البيع.. فلا كلام. وإن قلنا: لا خيار له، أو قلنا: له الخيار، فاختار الإجازة.. فهل يثبت للبائع الخيار؟ قال أكثر أصحابنا: فيه وجهان، وحكاهما القاضي أبو الطيب قولين: أحدهما: لا خيار له؛ لأنه رضي ببيعه برأس المال وقدر له من الربح، وقد بان أن هذا هو رأس المال وقدره من الربح. والثاني: له الخيار؛ لأنه دخل في العقد على أن يأخذ بمائة وعشرة، فإذا نقص عن ذلك.. ثبت له الخيار. إذا ثبت هذا: فإن الشيخ أبا إسحاق في " المهذب " أومأ إلى: أن العين إذا كانت تالفةً.. أن البيع يلزم بتسعة وتسعين، قولاً واحدًا، ولا خيار له؛ لأن إثبات الخيار له يؤدي إلى الضرر بالبائع، وهذا مخالفٌ لما تقدم من كلام الشيخ أبي حامد. وذكر ابن الصبّاغ: أنها إذا كانت تالفةً، وقلنا: إنه يأخذ بمائة وعشرة.. فإن خياره لا يسقط، بل يكون بمنزلة المعيب إذا تلف في يده، وعلم بعيبه.. فيرجع بقدر الخيانة، كما يرجع بأرش العيب.

مسألة: تغير قول البائع بقدر الثمن

[مسألةٌ: تغير قول البائع بقدر الثمن] ] : إذا أخبر: أن رأس المال مائة، فباع برأس ماله وربح درهم في كل عشرة، ثم قال البائع: أخطأت، وإنما كان الثمن مائة وعشرة، والربح يكون أحد عشر.. لم يقبل منه؛ لأن هذا رجوع عن إقرار تعلق به حق المشتري، فلم يقبل، كما لو أقرّ له بدين، ثم رجع عنه، فإن أقام بيِّنَة على ذلك.. لم تُسمع؛ لأنه قد كذّبها بإقراره السابق، فإن قال البائع: المشتري يعلم أني صادق، فحلّفوه: أنه ما يعلم.. فهل يلزمه أن يحلف؟ فيه طريقان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: إن تضمّن قوله تكذيب نفسه، مثل: أن يقول: ابتعته بنفسي.. لم يحلف المشتري؛ لأن إقراره يكذبه، وإن لم يتضمن قوله تكذيب نفسه، بأن يقول: ابتاعه وكيلي، وكنت أظن أنه ابتاعه بمائة، وقد بان لي أنه ابتاعه بمائة وعشرة.. حلف المشتري؛ لأن إقراره لم يتقدم بتكذيب نفسه. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يبنى على القولين في يمين المدَّعي مع نكول المدَّعى عليه. فإن قلنا: إنها كالبينة.. لم تعرض اليمين على المشتري. وإن قلنا: إنها كإقرار المدّعى عليه.. عرضت اليمين على المشتري؛ لأن البائع هاهنا هو المدعي، والمشتري مدَّعى عليه، فإذا عرضنا اليمين على المشتري.. فربما نكل عن اليمين فردت على البائع، فيكون يمينه بمنزلة بينة يقيمها، وقد قلنا: إن بيِّنته لا تقبل، فكذلك ما يقوم مقامها. وإن قلنا: إن يمينه بمنزلة إقرار المشتري.. عرضت اليمين على المشتري؛ لجواز أن ينكل، فيحلف البائع، فيكون كإقرار المشتري، وإقراره مقبول. قال ابن الصباغ: وهذا أصح. فإذا قلنا: لا يحلف المشتري.. فلا كلام، وإن قلنا: إنه يحلف.. فإنه يحلف: أنه ما يعلم أن البائع اشتراها بمائة وعشرة؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره، فحلف

على نفي العلم. فإن حلف.. انصرف البائع، وإن نكل.. رُدَّت اليمين على البائع، فيحلف على القطع: أنه اشتراها بمائة وعشرة؛ لأنه يحلف على فعل نفسه، فإذا حلف.. صار الثمن مائة وأحدًا وعشرين، ويثبت للمشتري الخيار بين الفسخ والإجازة؛ لأنه دخل على أن يكون الثمن مائة وعشرة، فإذا لزمه الأكثر من ذلك.. ثبت له الخيار. وبالله التوفيق

باب النجش والبيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادي

[باب النجش والبيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادي] باب النجش والبيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادي وتلقي الركبان والتسعير والاحتكار قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والنجش خديعة، وليس من أخلاق أهل الدين) . وجملة ذلك: أن النجش حرام، وهو: أن يزيد الرجل في ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها، فيراه المشتري، فيظن أنها تساوي ذلك. والدليل على تحريمه: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن النجش» .

وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا» . ولأن هذا خديعة ومكر، فكان حرامًا. فإن اغتر رجل بمن ينجش، فاشترى.. كان الشراء صحيحًا، وقال مالك: (يكون باطلاً) لأجل النهي. دليلنا: أن النهي لمعنى في غير المبيع، وإنما هو للخديعة، فلم يمنع صحة البيع. وهل يثبت للمشتري الخيار إذا علم؟ ينظر فيه: فإن لم يكن النجش بمواطأة من البائع.. فلا خيار للمشتري؛ لأنه لم يوجد من جهة البائع تدليس، وإن كان النجش بمواطأة من البائع.. فهل يثبت للمشتري الخيار؟ فيه وجهان: [أولهما] : قال أبو إسحاق: يثبت له الخيار؛ لأن ذلك تدليس من جهة البائع، فأشبه التصرية. والثاني: لا يثبت له الخيار، وهو ظاهر النص؛ لأنه ليس فيه أكثر من الغبن،

مسألة: مما نهي عنه من البيع

وذلك لا يثبت الخيار؛ لأن التفريط جاء من قبل المشتري، حيث اشترى ما لا يعرف قيمته، فأمّا إذا قال البائع: أُعطيت بهذه السلعة كذا، فصدّقه المشتري، فاشتراها بذلك، ثم بان أنه كاذب في ذلك.. فإن البيع صحيح. قال ابن الصبّاغ: وينبغي أن يكون في إثبات الخيار للمشتري هذان الوجهان. [مسألةٌ: مما نهي عنه من البيع] قال الشافعي: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبع بعضكم على بيع بعض» . وجملة ذلك: أن الرجلين إذا تبايعا عينًا وبينهما خيار مجلس أو خيار شرط، فجاء رجل إلى المشتري، فقال: أنا أبيعك مثل هذه السلعة بدون ثمنها الذي اشتريتها به، أو أبيعك خيرًا منها بمثل ثمنها.. فهذا حرامٌ لا يحل؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبع بعضكم على بيع بعض» . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبع أحدكم على بيع أخيه» ، ولأن هذا إضرار وإفساد فلم يحل.

مسألة: السوم على سوم آخر

وهكذا: إذا قال للبائع في مدة الخيار: افسخ البيع وأنا أشتريها منك بأكثر من هذا الثمن.. فإن هذا محرمٌ؛ لأن فيه معنى نهي النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن فسخ ـ المشتري في الأولى، أو البائع في الثانية ـ البيع، وبايع الثاني.. صحَّ؛ لأن النهي كان لا لمعنًى في البيع.. فلم يمنع جواز البيع. [مسألةٌ: السوم على سوم آخر] وأمّا السوم على سوم أخيه: ففيه ثلاث مسائل: إحداهن: أن يسأل رجل رجلاً أن يبيعه سلعة، فيرده البائع، ولا يؤخذ منه ما يدل على الرِّضا بالبيع، فلا يحرم على غيره أن يسأله أن يبيعه إياها؛ لأنه لا ضرر على الأول بذلك. الثانية: إذا أجابه البائع إلى البيع، بأن يصرح بالرضا بالبيع، أو يأذن لوكيله أن يعقد له، فيأتي آخر إلى البائع، فيقول: أنا أشتريها منك بأكثر من ذلك الثمن أو بأجود منه.. فهذا الفعل محرّم؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يخطبن أحدكم على خطبة أخيه، ولا يسومن أحدكم على سوم أخيه» ، ولأن فيه إضرارًا بالأول.

الثالثة: أن لا يصرح البائع بالرضا بالبيع من الأول، ولكن وجد منه ما يدل عليه، بأن يقول: أنا أشاور على ذلك، وما أشبهه، فهل يحرم على غيره أن يدخل على سومه؟ فيه وجهان، بناءً على القولين في الدخول على خطبة غيره إذا وجد من الوليّ التعريض بالإجابة: [أحدهما] : قال في القديم: (يحرم) ؛ لأن في إفسادًا لما تقارب بينهما. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يحرم) ؛ لأنه لم يوجد منه الرِّضا بذلك. هذا إذا سام على سوم أخيه. فأمّا إذا استام على سوم أخيه، مثل: أن قال البائع: أبيعكها بمائة، وقال المشتري: بل أشتريها بتسعين، فيجيء إنسان إلى المشتري، فيقول له: أنا أبيعك مثل هذه السلعة بما قلت أو دونه.. ففيه المسائل الثلاث، إن لم يوجد من المشتري ما يدل على ركونه إلى قول البائع.. فلا يحرم، وإن وجد منه الرضا بقول البائع.. فيحرم، وإن وجد منه التعريض بالرّضا بذلك.. فهل يحرم؟ فيه وجهان. إذا ثبت هذا: فإن سام، أو استام، واشترى، أو باع.. صحّ ذلك؛ لأن النهي لمعنًى في غير المبيع، فلم يمنع صحة البيع. فأمّا إذا عرضت السلعة في حال النداء: لم يحرم على من أراد أن يشتريها الزيادة في ثمنها؛ لما روى أنس: «أن رجلاً من الأنصار أصابه جوعٌ وجهدٌ، فشكا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما لك شيءٌ؟ " قال: بلى، حلسٌ وقدَحٌ، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اذهب، فأت بهما"، فأتى بهما، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من يشتريهما؟ "، فقال رجلٌ: أنا أشتريهما بدرهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من يزيد على درهم " فقال آخر: أنا أشتريهما بدرهمين، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هما لك بدرهمين» ، ولأن هذا لا يؤدي إلى الإفساد؛ لأنه لا يقصد بالنداء رجلاً

مسألة: بيع حاضر لباد

بعينه، وإنما يطلب استكثار الثمن. و (الحلس) : كل شيء ولي ظهر البعير تحت القتب أو لازمه ولم يفارقه. [مسألةٌ: بيع حاضر لباد] ويحرم أن يبيع الحاضر للبادي، وهو: أن يقدم البادي إلى القرية أو البلد بمتاع فيجيء إليه الحاضر في البلد، فيقول: لا تبعْه، فأنا أبيعه لك، وأزيد لك في ثمنه؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» . وروى أنسٌ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبعْ حاضرٌ لباد، وإن كان أباه أو أخاه» . وروى طاوس، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبعْ حاضرٌ لباد» . قال طاوس: قلت لابن عباس: ما معنى: «لا يبعْ حاضرٌ لبادٍ» ؟ قال: لا يكون له سمسارًا.

إذا ثبت هذا: فإنما يحرم ذلك بشروط: أحدها: أن يكون البادي إنما حمل المتاع للبيع، فأمّا إذا حمله لغير البيع: فلا يحرم ذلك على الحاضر. الشرط الثاني: أن يكون البادي عازمًا على البيع في الحال، ولا يريد التربص به، فأمّا إذا كان البادي يريد التربص ببيعه.. لم يحرم ذلك على الحاضر. الثالث: أن يأتي الحاضر إلى البادي، ويسأله ذلك، فأما إذا جاء البادي إلى الحاضر وسأله أن يبيع له.. لم يحرم عليه ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استنصح أحدكم.. فلينصح» ، ولأنا لو منعنا الحاضر من البيع في ذلك.. أدّى ذلك إلى الإضرار

مسألة: تلقي الركبان

بصاحب المتاع، وربّما أدّى ذلك إلى انقطاع الجلب؛ لأن كل أحد لا يقدر على البيع بنفسه. الشرط الرابع: أن يكون في الناس حاجة إلى ذلك المتاع، والبلد ضيق، فإذا بيع ذلك لمتاع فيه.. اتسع فيه أهل البلد، فأمّا إذا لم يكن على أهل البلد في بيع الحاضر مضرّة، بأن يكون البلد كبيرًا، لا ضرر عليهم في حبس المتاع عنه.. ففيه وجهان: أحدهما: يحرم على الحاضر البيع له؛ لعموم الخبر. والثاني: لا يحرم عليه؛ لأنه لا مضرة على أهل البلد بذلك. إذا ثبت هذا: فكل موضع وجدت فيه هذه الشرائط، وباع الحاضر فيها للبادي.. صحّ البيع؛ لأن النهي لا يعود إلى معنًى في المبيع، فلم يمنع صحّة البيع. [مسألةٌ: تلقي الركبان] قال الشافعي: (قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تتلقّوا الركبان للبيع» . وهذا كما قال: لا يحل تلقي الركبان للبيع، وهو: أن يسمع بقدوم قافلة إلى البلد ومعها متاع فيتلقاها، ويخبرهم بكساد متاعهم، وهم لا يعرفون سعر متاعهم في البلد؛ لبعدهم، فيغرُّهم، ويشتري منهم بدون سعر البلد؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن تلقِّي الجلب، فإن تلقّاها متلقٍّ.. فصاحبها بالخيار إذا ورد السوق» ، وروى ابن

فرع: الخروج لغير التلقي

عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تتلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق» ، ولأن فيه إضرارًا بأهل السلع؛ لأن أهل البادية قد لا يعرفون سعر السوق، فيغرهم، فإن خالف وتلقّاهم، واشترى منهم.. صحّ الشراء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أثبت للبائع الخيار، فلولا أنّ البيع صحيح.. لما أثبت له الخيار؛ ولأنه ليس فيه أكثر من الغرور والتدليس، وذلك لا يمنع صحّة البيع، كالتصرية، فإذا قدم البائع السوق.. نظرت: فإن كان المشتري قد اشترى منهم بدون سعر البلد ثبت للبائع الخيار؛ لما ذكرناه في الخبر. وإن اشترى منهم بسعر السوق أو أكثر.. ففيه وجهان: أحدهما: يثبت للبائع الخيار؛ للخبر. والثاني: لا خيار له؛ لأن المشتري ما غرّه، ولا دلّس عليه. إذا ثبت هذا: فكم قدر مدة الخيار؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصبّاغ: أحدهما: ثلاثة أيام؛ لأنه خيار تدليس، فأشبه خيار المصرّاة. والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه على الفور؛ لأنه خيار لغير استعلام العيب، فكان على الفور، كخيار الثلاث، ويخالف المصراة، فهي لاستعلام العيب؛ لأنه قد لا يطلع على التصرية بدون الثلاث. [فرعٌ: الخروج لغير التلقي] وإن خرج لحاجة غير التلقّي، فوافى القافلة.. فهل يجوز له أن يشتري منهم؟ فيه وجهان:

مسألة: في التسعير

أحدهما: يجوز؛ لأنه لم يقصد التلقي. والثاني: لا يجوز. قال ابن الصباغ: وهو الصحيح؛ لأن المعنى الذي نهي عن التلقي لأجله موجود. وإن خرج، وتلقى القافلة، وباع عليهم المتاع.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصبّاغ: أحدهما: لا يجوز، كما لا يجوز أن يشتري منهم، ولأن في ذلك اختصاصًا به دون أهل البلد. والثاني: يجوز؛ لأن النهي تعلّق بالشراء دون البيع. [مسألةٌ: في التسعير] التسعير عندنا محرّم، وهو: أن يأمر الوالي أهل الأسواق أن لا يبيعوا أمتعتهم إلا بسعر كذا وكذا، سواء كان في بيع الطعام أو في غيره، وسواء كان في حال الرخص أو في حال الغلاء. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن كان في البلد قحطٌ وجدوبةٌ.. فهل يجوز للسلطان التسعير؟ فيه وجهان. وقال مالك: (يجوز للسلطان التسعير بكل حال) . دليلنا: ما روى أنس قال: «غلا السعر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: يا رسول الله، غلا السعر، فسعِّر لنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإنِّي لأرجو أن ألقى الله، وليس أحدٌ يطلبني بمظلمة في دم أو مال» .

مسألة: احتكار الطعام

ولأن الناس مسلطون على أملاكهم، فلا يجوز أن يؤخذ منهم إلا برضائهم، ما لم يكن حالة ضرورة. قال أبو إسحاق المروزي: إنما منع الشافعي من تسعير الطعام إذا كان يجلب إلى البلد، فأمّا إذا كان البلد لا يجلب إليه الطعام، بل يزرع فيها، ويكون عند التناء فيها.. فيجوز للإمام أن يسعر عليهم إذا رأى في ذلك مصلحة. قال الشيخ أبو حامد: وهذا غلط، بل الكل محرّمٌ؛ لأن ذلك يؤدي إلى الغلاء؛ لأن أصحابها يمتنعون من بيعها. [مسألةٌ: احتكار الطعام] ويحرم احتكار الطعام، وهو: أن يشتري الإنسان من الطعام ما لا يحتاج إليه في حال ضيقه وغلائه على الناس، فيحبسه عنهم ليزداد في ثمنه، ومن أصحابنا من قال: هو مكروهٌ، وليس بمحرّم. والأول أصح؛ لما روى أبو أمامة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يُحتكرَ الطعام» .

وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من احتكر الطعام أربعين ليلة.. فقد برئ من الله، وبرئ الله منه» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الجالب مرزوق، والمحتكر ملعونٌ» . وروي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج يومًا مع أصحابه، فرأى طعامًا كثيرًا قد أُلقي على باب مكة، فقال: ما هذا الطعام؟ فقالوا: أُجلب إلينا، فقال: بارك الله فيه، وفيمن جلبه، قيل له: فإنه قد احتكر، قال: ومن احتكره؟ فقالوا: فلان، مولى عثمان، وفلان مولاك، فأرسل إليهما، فجاءا، فقال لهما: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين؟ قالا: نشتري بأموالنا ونبيع، فقال عمر: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "من احتكر على المسلمين طعامهم.. لم يمت حتى يضربه الله بالجذام أو الإفلاس» .

قال الراوي: فأمّا مولى عثمان: فباعه، وقال: والله لا أحتكره أبدًا، وأمّا مولى عمر: فلم يبعه، فرأيته مجذومًا مخدوشًا. فأمّا إذا جلب الرجل الطعام من بلد إلى بلد، أو اشتراه في وقت رخصه، أو جاءه من ضيعته فحبسه عن الناس.. فإن ذلك ليس باحتكار، إلا أن يكون بالناس ضرورة، وعنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله سنةً، فيجب عليه بيع الفضل، فإن لم يفعل أجبره السلطان على ذلك؛ لأن في ذلك نفعًا للناس من غير ضرورةٍ عليه، ولا يحرم عليه احتكار غير الأقوات؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن احتكار الطعام» ، فخص الطعام، فدّل على: أن احتكار غيره يجوز، ولأنه لا ضرر في احتكار غير الأقوات، فلم يحرم. وبالله التوفيق

باب اختلاف المتبايعين وهلاك المبيع

[باب اختلاف المتبايعين وهلاك المبيع] إذا اختلف المتبايعان في قدر ثمن السلعة، بأن قال المشتري: اشتريتها منك بألفٍ، وقال البائع: بل بعتكها بألفين، ولا بينة لواحد منهما.. فإنهما يتحالفان، وسواءٌ كانت السلعة باقية أو تالفةً في يد المشتري، وبه قال محمد، وأحمد رحمة الله عليهما في إحدى الروايتين. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (إن كانت السلعة باقية.. تحالفا، وإن كانت تالفةً في يد المبتاع.. فالقول قوله مع يمينه) . وهي الرواية الأخرى عن أحمد، وعن مالك ثلاث روايات: إحداهن: مثل قولنا. والثانية: مثل قول أبي حنيفة. والثالثة: إن كان ذلك قبل القبض.. تحالفا، وإن كان بعض القبض.. فالقول قول المشتري. وقال زفر، وأبو ثور: (القول قول المبتاع بكل حالٍ) . دليلنا: ما روى ابن عبّاس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البيِّنة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» .

مسألة: اختلاف المتعاقدين

والبائع هاهنا يدّعي أنه عقد البيع بألفين، وينكر أنه عقده بألف، والمشتري يدّعي أنه عقده بألف، وينكر أنه عقده بألفين، وإذا كان كل واحد منهما مدّعيًا ومدّعى عليه.. وجب أن يكون على كل واحد منهما اليمين، كما لو ادّعى أحدهما على صاحبه عبدًا، وادّعى المدعى عليه على المدّعي جارية، ولأنهما اختلفا في العقد القائم بينهما، وليس معهما بيِّنة، فتحالفا، كما لو كانت السلعة قائمة مع أبي حنيفة، وكما لو كان قبل القبض مع مالك. [مسألةٌ: اختلاف المتعاقدين] ] : وإن اختلفا في قدر المبيع، بأن قال: المشتري بعتني هذين العبدين بألف، وقال البائع: بل بعتك أحدهما، وهو هذا بألف، أو اختلفا في شرط الخيار، أو في قدره، أو في الأجل، أو في قدره، أو في الرهن، أو في قدره، أو قال البائع: بعتك بثمن بشرط أن تضمن لي فلانًا، فأنكر المشتري ذلك، أو ادّعى المشتري أن البائع شرط له أن يضمن له فلانًا بالعهدة، وأنكر البائع ذلك.. فمذهبنا: أنهما يتحالفان في ذلك كله.

مسألة: تحالف المختلفين

وقال أبو حنيفة، وأحمد: (لا يتحالفان، بل القول قول من ينفيه مع يمينه) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليمين على المدعى عليه» ، ولأنهما اختلفا في صفة العقد القائم بينهما، ولا بينة، فتحالفا، كما لو اختلفا في الثمن. [مسألةٌ: تحالف المختلفين] ] : وإذا أرادا التحالف.. فإن الشافعي قال هاهنا: (يبدأ بيمين البائع) . وهكذا قال في (السَّلَم) : (يبدأ بيمين المسلَم إليه) . وهو بائعٌ في الحقيقة. وقال في (المكاتب) : (إذا أراد اختلفا يبدأ بيمين السيد) . وهو بائعٌ في الحقيقة، وقال في (الصداق) : (إذا اختلف الزوجان في الصداق يُبدأُ بيمين الزوج) . والزوج كالمشتري، وهذا مخالف لما قبله. وقال في (الدعوى والبينات) : (إن بدأ بيمين البائع.. خير المشتري، وإن بدأ بيمين المشتري.. خير البائع) . وهذا يدل على: أنه بالخيار في البداية. واختلف أصحابنا في ذلك على طريقين: فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يبدأ بيمين البائع، وبه قال أحمد؛ لما روى ابن مسعود: أنّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اختلف البيِّعان.. فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار» .

فبدأ بالبائع أولاً، ولأن جنبته أقوى بعد التحالف؛ لأنهما إذا تحالفا.. رجع المبيع إلى ملكه، فكانت البداية به أولى. والثاني: يبدأ بيمين المشتري، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن جنبته أقوى قبل التحالف؛ لأن المبيع على ملكه، فكانت البداية به أولى، كما لو ادّعى رجل دارًا في يد آخر. والثالث: أنهما سواءٌ، فيبدأ بأيهما شاء؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر؛ لأن السلعة يعود ملكها بعد التحالف إلى البائع، وكذا الثمن يعود ملكه إلى المشتري، فلم يكن لأحدهما على الآخر مزية، كما لو كان في يدهما دارٌ، فادّعى كل واحد منهما ملك جميعها.. فإنهما يتحالفان، ويبدأ الحاكم بيمين من شاء منهما. قال الشيخ أبو حامد: وهذا القول أقيس، والأول هو ظاهر المذهب. و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: المسألة على قول واحد، وإنه يبدأ بيمين البائع، وكذلك في السلم والكتابة، وفي الصداق يبدأ بيمين الزوج؛ لأنهما إذا تحالفا في الصداق.. فإنّ ملك البضع يكون للزوج بعد التحالف، كما أن ملك المبيع يعود إلى البائع بعد التحالف، فأمّا ما ذكره في (الدعوى والبينات) : قال الشيخ أبو حامدٍ: فله تأويلان. أحدُهما: أنّ الشافعي لم يذكر أن هذا مذهبًا له، وإنّما بيّن أن هذا مما يسوّغ فيه الاجتهاد، وإن حاكمًا لو حكم بأنه يبدأ بيمين البائع أو بيمين المبتاع.. نفذ حكمه، ولم ينقض، فأما مذهبه: فيبدأ بيمين البائع. والتأويل الثاني: أنّ الشافعي إنما قصد بهذا أن يبين أن قولنا: إنه يبدأ بيمين البائع، ليس على وجه الشرط، ولكن على سبيل الاستحباب، ولو بدأ بيمين المبتاع.. صحّ، ووقعت موقعها.

فرع: التحالف على كل بالنفي والإثبات

[فرعٌ: التحالف على كل بالنفي والإثبات] وإذا أرادا التحالف.. فإنّ كلّ واحدٍ منهما يحلف على النفي والإثبات؛ لأن كل واحدٍ منهما مدّع ومنكرٌ لما ادّعي عليه، وهل يحلف كل واحد منهما يمينين، أو يمينًا واحدةً؟ ظاهر ما قال الشافعي هاهنا: أنه يحلف يمينًا واحدةً يجمع فيها بين النفي والإثبات، وقال في (التداعي) : (إذا كانت دارًا في أيديهما، فادّعى كل واحد منهما جميع الدار لنفسه.. فإن كل واحد منهما يحلف على النفي، فيحلف أحدهما: أنك لا تستحق شيئًا من نصيبي، ثم يحلف الآخر كذلك، فإذا حلفا جميعًا على النفي.. حلف كل واحدٍ منهما على الإثبات) . فمن أصحابنا من نقل هذا الجواب إلى البيع، فجعل في البيع قولين: أحدهما: يحتاج أن يحلف كل واحد منهما يمينين؛ لأن كل واحد منهما يدّعي عقدًا وينكرُ عقدًا، فافتقر إلى يمينين، ولأنهما إذا حلف كل واحدٍ منهما يمينًا.. حلف البائع على الإثبات، قبل نكول المشتري، فلم يجز. والثاني: يكفي أن يحلف كل واحد منهما يمينًا؛ لأنه أقرب إلى فصل الحكم قال الشيخ أبو حامد: ولم يختلفوا أن مسألة التداعي في الدار على قول واحد، فإن كل واحدٍ منهما يحلف يمينين. وقال ابن الصباغ: على هذا الطريق فيها قولان. ومن أصحابنا من أجراهما على ظاهرهما، وقال: يحلف كل واحد منهما في التداعي بملك الدار يمينين؛ لأن يد كل واحد منهما ثابتة على نصف الدار، فلو قلنا: إن أحدهما يحلف يمينًا واحدةً: أنّ صاحبه لا يستحق شيئًا من نصيبه.. فإنه يستحق نصيب صاحبه، لكُنَّا قد حلّفناه على إثبات ما بيد غيره قبل نكول صاحب اليد، وهذا لا يجوز. وفي البيع يكفي كل واحد منهما أن يحلف يمينًا واحدةً؛ لأن كل واحد منهما لا يحلف على إثبات ما بيد غيره، وإنما يحلف على صفة عقد تضمّن نفيًا وإثباتًا، وجاز أن يحلف على الإثبات قبل نكول الآخر؛ لأن النفي تابع للإثبات،

ولأن الحادثة واحدة وهي البيع، فإثبات قول أحد الخصمين نفيٌ لقول الآخر، فجاز الجمع بينهما، وهل يقدم الإثبات على النفي في اليمين أو اليمينين؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يبدأ بالإثبات قبل النفي، كما يبدأ في اللعان بالإثبات قبل النفي. و [الثاني] : قال عامّة أصحابنا: يبدأ بيمين النفي قبل الإثبات، وهو الصحيح؛ لأن الأصل في الأيمان إنما هو البداية بالنفي، وهو يمين المدّعى عليه، ولا تكون اليمين على الإثبات إلا عند نكول المدَّعى عليه، أو على سبيل التبع للنفي، بخلاف اللِّعان، فإنه لا نفي فيه، وإنما هو إثبات. إذا ثبت هذا: فإن قلنا: يحلف كل واحد منهما يمينًا واحدة.. فإن البائع يحلف يمينًا: ما بعتكها بألف، ولقد بعتكها بألفين، فإذا حلف البائع.. قيل للمشتري: أنت بالخيار: بين أن تأخذ السلعة بألفين، أو تحلف، فإن اختار أن يأخذها بألفين.. أُقرّ العقد، وإن اختار أن يحلف.. حلف: أنه ما اشتراها بألفين، ولقد اشتراها بألف، فإذا حلف فقد تحالفا، وهذا معنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اختلف البيِّعان.. فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار» . وإن قلنا: يحلف كل واحدٍ منهما يمينًا.. فإن البائع يحلف يمينًا: أنه ما باعها بألفٍ، فإذا حلف.. قيل للمشتري: أتختار أن تأخذ السلعة بألفين، أو تحلف؟ فإن لم يحلف، واختار أخذها بألفين.. لزمه البيع بألفين، وإن اختار أن يحلف.. حلف: أنه ما اشتراها بألفين، ثم يحلف البائع: لقد باعها منه بألفين، ثم يحلف المشتري: لقد اشتراها منه بألفٍ، ويصيران متحالفين، فإن نكل المشتري عن يمين النفي.. حلف البائع: على الإثبات، ولزم المشتري ما حلف عليه البائع، وإن نكل المشتري عن يمين الإثبات.. لزمه ما حلف عليه البائع.

مسألة: أيفسخ العقد بالتحالف

[مسألةٌ: أيفسخ العقد بالتحالف] وإذا تحالفا لم يبق إلاَّ الفسخ للعقد؛ لأنه لا يمكن إمضاؤه بعد التحالف، وهل ينفسخ بنفس التحالف، أو يفتقر على الفسخ؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: ينفسخ بنفس التحالف، كما ينفسخ النكاح باللعان؛ ولأن بالتحالف صار الثمن مجهولاً، والبيع لا يثبت مع جهالة الثمن. والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا ينفسخ إلاَّ بالفسخ) ؛ لأن العقد وقع صحيحًا في الباطن، فتداعيهما وتعارضهما باليمين لا يوجب فسخه، كما لو أقام كل واحد منهما بيِّنةً.. فإن البيع لا ينفسخ، وإن كانت التهمة منتفية عن البينة.. فلأن لا ينفسخ بأيمانهما والتهمة غير منتفية عنهما أولى. فإذا قلنا: إن البيع ينفسخ بالتحالف.. فإن المبيع يرد إلى البائع، فلو أراد المشتري أن يمسكه بما حلف عليه البائع أو رضي البائع بتسليمه بما حلف عليه المشتري.. لم يصح ذلك إلا بعقد جديد. وإن قلنا بالمنصوص، وأنه لا ينفسخ بالتحالف.. فإنه يقال للمشتري: أترضى أن تمسك المبيع بما حلف عليه البائع، فإن رضي بذلك.. أجبر البائع على تسليمه بذلك؛ لأنه أقر أنه باعه بذلك، وإن لم يرض المشتري بإمساكه بما حلف عليه البائع.. قيل للبائع: أترضى أن تسلِّمَهُ بما حلف عليه المشتري، فإن رضي بذلك.. أُجبر المشتري على ذلك؛ لأنه أقر أنه ابتاعه بذلك، وإن لم يرض واحدٌ منهما.. فُسخَ العقد، وفيمن يفسخه وجهان: أحدهما: لا يفسخه إلا الحاكم؛ لأنه فسخ مجتهد فيه، فافتقر إلى فسخ الحاكم، كفسخ النكاح بالعنة والإعسار بالنفقة، وفيه احترازٌ من الرد بالعيب. والثاني: يفسخه من شاء منهما؛ لأن النقص قد دخل على كل واحد منهما؛ لأن البائع يقول: بعته بألفين، ولم يسلم إليّ إلاَّ ألفٌ، والمشتري يقول: أنا أستحق المبيع بألفٍ، والبائع يطلب منِّي ألفين، فكان لكلِّ واحدٍ منهما أن ينفرد بالفسخ، كما

لو اشترى عبدًا بثوب، ووجد كل واحد منهما بما اشتراه عيبًا، فإذا فسخ البيع بينهما بعد التحالف أو انفسخ.. فهل ينفسخ طاهرًا وباطنًا، أو ينفسخ في الظاهر دون الباطن؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ينفسخ ظاهرًا وباطنًا، كما ينفسخ النكاح باللِّعان ظاهرًا وباطنًا، وكما ينفسخ البيع بالرد بالعيب. والثاني: ينفسخ في الظاهر دون الباطن؛ لأن سبب الفسخ الجهالة بالثمن، والثمن إنما هو مجهول في الظاهر دون الباطن، فكذلك الفسخ. والثالث: إن كان البائع ظالمًا.. فإن الفسخ يقع في الظاهر دون الباطن؛ لأنه يمكنه تسليم المبيع واستيفاء ما وقع به العقد، فإذا امتنع من ذلك.. كان عاصيًا، فلم يقع الفسخ لذلك، وإن كان البائع مظلومًا.. انفسخ البيع ظاهرًا وباطنًا؛ لأنه لا يمكنه الوصول إلى حقّه، فانفسخ البيع ظاهرًا وباطنًا، كما لو باع من رجل عينًا، وأفلس المشتري بالثمن، وحجر عليه قبل أن يقبض البائع ثمنه، واختار الرجوع إلى عين ماله. فإذا قلنا بالوجه الأول، وأن البيع ينفسخ ظاهرًا وباطنًا، أو كان البائع مظلومًا على الوجه الثالث.. فإن المبيع يعود إلى ملك البائع، كما لو ملكه بعقد وتصرف فيه بجميع وجوه التصرفات، وإن كان المبيع جارية.. ملك وطأها. وإن قلنا بالوجه الثاني، وأن البيع ينفسخ في الظاهر دون الباطن، أو كان البائع ظالمًا على الوجه الثالث.. فإن البائع إذا أخذ المبيع.. لم يملكه في الباطن، وإن كانت جارية لم يملك وطأها؛ لأنها ملك غيره. والوجه الثالث: يتصرف بين الأولين في التفريع، فكلُّ موضع قلنا: ينفسخ البيع في الظاهر دون الباطن.. نظر فيه: فإن كان البائع ظالمًا.. لزمه ردُّ المبيع على المشتري. وإن كان مظلومًا.. حل له أخذه، ويكون كمن له على غيره دين، وامتنع من أدائه، ووجد له شيئًا من ماله من غير جنس حقِّه.. فله أخذه، ولا يملكه بالأخذ،

فرع: إذا تلفت السلعة في يد البائع فهي من ضمانه

ولكن يباع منه بقدر حقِّه، وهل يملك بيعه بنفسه، أو لا يصح بيعه إلا بالحاكم؟ فيه وجهان: يأتي بيانهما، الصحيح: أنه يملك بيعه بنفسه، فإن باعه بنفسه، أو باعه الحاكم، فإن كان ثمنه فوق حقِّه.. أخذه، وإن كان أنقص من حقِّه.. فله أن يستوفي حقّه من مال المشتري، وإن كان أكثر من حقِّه.. ردّ الفضل على المشتري. [فرعٌ: إذا تلفت السلعة في يد البائع فهي من ضمانه] ] : وإن تلفت العين في يدي البائع.. تلفت من ضمانه.. وإن تحالفا بعد هلاك السلعة في يد المشتري، وفسخ العقد، أو انفسخ.. وجب على المشتري ردُّ قيمة السلعة، ومتى تعتبر القيمة؟ فيه وجهان: أحدهما: أكثر ما كانت من يوم قبضها المشتري إلى أن تلفت. والثاني: تعتبر قيمتها يوم التلف، كالوجهين في قيمة المبيع المقبوض في البيع الفاسد، فإن زادت القيمة على قدر ما يدَّعيه البائع من الثمن.. ففيه وجهان: [الأول] : قال أبو علي بن خيران: لا يجب تسليم الزيادة إليه؛ لأنه لا يدّعيها. و [الثاني] : قال عامّة أصحابنا: يجب تسليم ذلك، وهو المذهب؛ لأن بالفسخ سقط اعتبار الثمن. وإن اختلفا في قيمة السلعة.. فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه غارم. وإن اختلفا في قدر ما قبضه البائع من الثمن.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القبض إلا فيما أقرّ به. [فرعٌ: اختلف المتبايعان بعد وطء الثيب] إذا اشترى جاريةً ثيبًا، فوطئها، ثمّ اختلف المتبايعان في ثمنها.. تحالفا وترادًّا على ما تقدم بيانه، ولا يجب على المشتري مهرُها؛ لأنه وطئها وهي في ملكه، كما

فرع: الحلف من غير استحلاف

إذا وطئها ووجد بها عيبًا فردَّها، وإن كنت بكرًا، فافتضَّها، ثم اختلفا في الثمن، وتحالفا.. ردَّ الجارية وأرش النقص بالافتضاض دون المهر؛ لأن الافتضاض إتلاف جزء ينقص قيمتها، ولو كانت تالفةً.. لردّ قيمتها، فكذلك إذا تلف جزء منها. قال ابن الحداد: وكذلك: إذا زوّج المشتري الجارية، ثم اختلف المتبايعان في الثمن وتحالفا.. فإن عقد البيع ينفسخ، ولكن لا ينفسخ عقد النكاح؛ لأنه عقدٌ لازمٌ، ولكن يرد الأمة المزوجة إلى البائع، وعلى المشتري ما بين قيمتها خاليةً من الزوج وبين قيمتها مزوجة. وهكذا: إذا أعتقها المشتري، أو وقفها، أو باعها، أو وهبها من غيره.. فإنهما إذا تحالفا.. ردّ المشتري قيمتها، كما لو تلفت. وإن تحالفا بعد ما أجّرها.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\250] : فإنه يردُّها وأرش ما نقصت بالإجارة، وإن كسب العبد المبيع، أو كانت بهيمة، فولدت ولدًا في يد المشتري، أو شجرة، فأثمرت، ثم اختلفا، وتحالفا.. فإنه يرد المبيع، ويمسك الزيادة المنفصلة، كما قلنا في المردود بالعيب. [فرعٌ: الحلف من غير استحلاف] وإن باعه عبدًا، فقال البائع: بعتكه بألفين، وقال المشتري: بل اشتريته بألف.. فحلف كل واحد منهما بحريته: إنه لصادق فيما قال.. فإنهما يتحالفان على ما مضى، فإذا تحالفا، وانفسخ البيع، أو فسخه الحاكم، أو أحدهما.. قال ابن الحدَّاد: فإن العبد يعتق على البائع؛ لأنه مقر: بأن المشتري حانث في يمينه، وأن العبد قد صار حرًّا؛ لأنه حنث والعبد في ملكه. وإن حلف البائع: أنه ما باعه بألف ولقد باعه بألفين، ورضي المشتري بأن يمسك العبد بالألفين.. لم يعتق عليه العبد؛ لأنه وإن أقر بحنث البائع في يمينه، إلا أنه حنث بها والعبد في ملك المشتري، وإن وجد المشتري بعد ذلك به عيبًا، فردّه على البائع.. عتق على البائع بإقراره السابق؛ لأنه متى رجع إليه زال حقّ الغير عنه، فلزمه حكم إقراره السابق، وكذلك لو رجع إليه بهبةٍ أو بيعٍ أو إرثٍ أو إقالةٍ.. لزمه حكم إقراره السابق.

مسألة: موت المتبايعين

[مسألة: موت المتبايعين] ] : وإن مات المتبايعان، فاختلف ورثتهما.. تحالفوا. وقال أبو حنيفة: (إن كان المبيع باقيًا في يد ورثة البائع.. تحالفوا، وإن كان المبيع في يد ورثة المبتاع.. لم يتحالفوا، وكان القول قول ورثة المبتاع) . دليلنا: أنها يمين في المال توجّهت على الموروث، فقام الوارث فيها مقامة، كما لو كان المبيع في يد ورثة البائع. وإن كان المبيع بين وكيلين، واختلفا في قدر الثمن.. ففيه وجهان، حكاهما في " المهذب " [1/293] : أحدهما: يتحالفان؛ لأنهما عاقدان، فتحالفا، كالمالكين. والثاني: لا يتحالفان؛ لأن اليمين تعرض ليخاف الظالم منهما، فيرجع [والوكيل إذا أقر، ثم رجع.. لم يقبل رجوعه، فلا تثبت اليمين في حقِّه] ؛ لأن التحالف بالإقرار، ولا يقبل إقرار الوكيل على موكِّله. [مسألة: اختلفا بالبيع أو الهبة] إذا انتقل عبدٌ من يد رجل إلى آخر، ثم اختلفا، فقال من انتقل من يده العبد: بعتكه بمائة، وقال من بيده العبد: بل وهبتنيه.. ففيه وجهان: [الأول] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق\250] : يتحالفان. قال الطبري في " العدة ": لم يرد: أنهم يتحالفان كتحالف المتبايعين على النفي والإثبات، بل يحلف كل واحدٍ منهما على نفي دعوى صاحبه دون إثبات دعواه. و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: يحلف البائع: أنه باعه وما وهبه؛ لأنهما قد اتفقا على زوال الملك عن مالكه، فكان القول قوله في صفة الانتقال عنه؛ لأنه أعلم بذلك.

وإن اختلفا في عين المبيع، بأن قال البائع: بعتك هذا العبد بألف، وقال المشتري: بل اشتريت هذه الجارية بألف.. ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد: أنهما لا يتحالفان على النفي والإثبات، بل يحلف البائع: أنه ما باعه الجارية، ويحلف المشتري: أنه ما اشترى العبد؛ لأن التحالف على النفي والإثبات إنما يكون إذا اختلفا في عقد، وهذان عقدان، ولأن التحالف يكون مع اتفاقهما على انتقال الملك إلى المشتري، وهاهنا لم يتفقا على أنه يملك أحدهما. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: ذكر ابن الحداد: إذا اختلفا في الصداق، فقالت: مهرتني أمّي، وقال الزوج: بل مهرتك أباك.. أنهما يتحالفان.. قال القاضي: ولا يختلف أصحابنا في مسألة الصداق، فكذلك في البيع؛ لأن كل واحد منهما مدّع ومدّعى عليه، فتحالفا، كما لو اختلفا في قدر المبيع. وأمّا انتقال الملك: فإنهما قد اعترفا بثبوت ملك الثمن للبائع أيضًا. فإن قلنا بقول القاضي.. نظرت: فإن حلفا على النفي والإثبات، وانفسخ العقد، أو فسخ.. أخذ البائع العبد أو الجارية، ورجع المشتري إلى الثمن إن كان قد دفعه. وإن حلف البائع وحده ونكل المشتري، أو حلف المشتري ونكل البائع.. فهو كما لو أقام الحالف منهما البينة، على ما يأتي ذكره. وإن قلنا بقول الشيخ أبي حامد.. فإن البائع إذا حلف: أنه ما باع الجارية، فإن كانت في يد المشتري.. أخذها البائع، وإن حلف المشتري: أنه ما اشترى العبد قال ابن الصباغ: فإن كان العبد.. في يد المشتري.. لم يأخذه البائع؛ لأنه يقرّ أنه له، وإن كان في يد البائع.. لم يلزم المشتري قبضه. قال ابن الصبّاغ: وله أخذه عندي ليستوفي منه الثمن الذي قبضه البائع منه.

مسألة: الخلاف في شرط يفسد البيع

وإن أقام كل واحد منهما بيِّنة بما ادّعاه.. فإن بينة المشتري يحكم بها، ويأخذ المشتري الجارية. وأمّا البائع إذا أقام بينة بأنه باعه العبد.. نظرت: فإن كان العبد في يد المشتري.. لم ينتزع من يده، كمن بيده دارٌ أقر بها لإنسان، ولم يصادقه المقر له.. فإن الدار لا تنزع من يد المقر. وإن كان العبد في يد البائع.. ففيه وجهان: أحدهما: يجبر المشتري على قبضه؛ لأن البينة قد شهدت له بملكه، بخلاف من أقر بدار لمن لا يدّعيها؛ لأن البينة هاهنا قد شهدت بحق له وحق عليه. والثاني: لا يجبر على قبضه؛ لأنه لا يدّعي ملكه. فعلى هذا: ينزع من يد البائع، ويسلم إلى الحاكم ليحفظه إلى أن يدّعيه المشتري أو ورثته. وإن رأى أن يؤاجره وينفق عليه من أجرته.. فعل. وإن رأى أن يبيعه ويمسك ثمنه إلى أن يدعيه المشتري.. فعل. [مسألة: الخلاف في شرط يفسد البيع] ] : إذا اختلفا في شرط يفسد البيع، بأن قال البائع: بعتكه بشرط خيار ثلاثة أيام، وقال المشتري: بل اشتريته بخيار أربعة أيام، أو قال: بعتكَه بدراهم، فقال: بل اشتريته بخمرٍ أو خنزيرٍ.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وابن الصبّاغ ـ أن القول قول من يدّعي صحة العقد؛ لأن الأصل عدم ما يفسده، وقد نص الشافعي في " البويطي ": (فيمن أسلم إلى أجل في طعام، واختلفا، فقال المسلم إليه: إنه بشرط الخيار، وأنكر المسلم ذلك: أن القول قول المسلم مع يمينه) . وهذا نص أن القول قول من ينفي الشرط المفسد. والثاني: أن القول قول من يدعي فساد العقد، وهو اختيار صاحب " التقريب "؛ لأن الأصل عدم العقد.

فرع: الاختلاف في الصرف بعد التفرق

وقال القاضي أبو الطيب: أصل هذين الوجهين مأخوذ من القولين فيمن أقر أنه تكفل ببدن رجل على أنه بالخيار، فأنكر المكفول له شرط الخيار. وقال القفّال: أصلهما مأخوذ من القولين فيمن أقرّ لغيره بحق، ثم وصله بما يسقطه. قلت: وهما أصلٌ واحدٌ. قال الشيخ أبو حامد: فإن قال: بعتك هذه العين بشرط البراءة من العيوب، وأنكر المشتري هذا الشرط.. فإن قلنا: إن البيع صحيح والشرط صحيح.. فإنهما يتحالفان على النفي والإثبات على ما مضى. وإن قلنا: إن الشرط والبيع باطلان.. فالقول قول من ينكر الشرط؛ لأن الظاهر من العقد الصحة. وإن قلنا: لا يصح الشرط ويصح العقد.. ولم يفد هذا الاختلاف شيئًا، ولا يمين على أحدهما. [فرعٌ: الاختلاف في الصرف بعد التفرق] وإن اختلفا في الصرف بعد التفرق، فقال أحدهما: تفرقنا قبل القبض، وقال الآخر: تفرّقنا بعد القبض.. ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قول من يدّعي التفرق قبل القبض مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القبض وعدم صحة العقد. والثاني: أن القول قول من يدّعي التفرق بعد القبض مع يمينه؛ لأن الظاهر صحة العقد، والأصل عدم ما يفسده. وإن افترقا، فقال أحدهما: تفرّقنا عن تراض، وقال الآخر: تفرّقنا بعد الفسخ.. ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قول من يدّعي التفرق عن التراضي؛ لأن الأصل صحة العقد. والثاني: أن القول قول من يدّعي الفسخ؛ لأن الأصل عدم العقد.

مسألة: ادعاء عيب كان موجودا

[مسألة: ادعاء عيب كان موجودًا] ] : إذا اشترى عبدًا، ووجد فيه عيبًا، فادّعى المشتري أنه كان موجودًا بالعبد في يد البائع، وقال البائع: بل حدث عندك.. ففيه ثلاث مسائل: إحداهن: إذا كان لا يمكن حدوثه في يد المشتري، مثل: أن يوجد للعبد أصبع زائدة تضر بالعبد، أو شجة مندملة وللشراء وقتٌ لا يندمل مثل تلك الجراحة فيه.. فالقول قول المشتري هاهنا بغير يمين. الثانية: إذا كان العيب مما لا يمكن حدوثه في يد البائع، مثل: أن يقيم العبد في يد المشتري سنة أو شهرًا، فيأتي وبه شجّة طريّة.. فالقول قول البائع هاهنا بغير يمين. الثالثة: إذا كان العيب مما يمكن حدوثه في يد كلِّ واحد منهما، مثل: أن يشتري منه ثوبًا، فقبضه، فأقام، فوجد فيه خرقًا أو مرفوءًا.. فإن البائع إذا أنكر ذلك.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل سلامة المبيع حال العقد، وعدم العيب فيه. إذا ثبت هذا: فكيف يحلف؟ ينظر في البائع: فإن أجاب: بأنك لا تستحق عليّ ردّه بالعيب.. فإنه يحلف كذا، ولا يكلَّف أن يحلف: لقد باعه بريئًا من العيب؛ لأن المشتري قد يشتري المعيب مع علمه به أو يرضى به.. فيسقط حقه من الرد، وقد لا يكون للبائع على ذلك بينةٌ، فلم يكلف اليمين إلا على ما أجاب به.

فرع: الاختلاف في رد المبيع بالعيب

وإن قال البائع: بعته بريئًا من العيب.. فهل يكلف أن يحلف على ذلك، أو يجوز أن يحلف: أنه لا يستحق عليه ردّه بالعيب؟ فيه وجهان: أحدهما: يكفيه أن يحلف: أنه ما يستحق عليه ردّه بالعيب؛ لأن ذلك أعمّ. والثاني: يلزمه أن يحلف على ما أجاب؛ ليكون موافقًا لجوابه. إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (يحلف البائع: لقد باعه إيّاه بريئًا من العيب) . وقال المزني: ينبغي أن يحلف: أنه أقبضه إياه بريئًا من العيب، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن المشتري يستحق الرد بما يحدث من العيب في يد البائع قبل القبض. قال أصحابنا: أراد الشافعي: إذا ادّعى المشتري أنه باعه إيّاه وبه هذا العيب، فإنّه يحلف على حسب دعوى المشتري، فأمّا إذا قال المشتري: أقبضتنيه وبه هذا العيب، وكان حدوثه قبل القبض، أو قال: سلمته إليَّ معيبًا، ولا أدري متى حدث.. فإنه يجب على البائع أن يحلف: أنه أقبضه إياه بريئًا من العيب، ويحلف على البت والقطع؛ لأنه يحلف على فعل نفسه. [فرعٌ: الاختلاف في ردّ المبيع بالعيب] وإن اختلفا في المردود بالعيب أنه المبيع أو غيره.. نظرت: فإن تعلق العقد بعينه مثل: أن يشتري منه عبدًا بعينه بدراهم بأعيانها، فجاء مشتري العبد بعبد، وقال: هذا العبد هو الذي اشتريته منك وهو معيب، وقال البائع: العبد الذي بعتك غير هذا.. فالقول قول البائع مع يمينه. وهكذا: إذا ردّ البائع الدراهم التي وقع البيع على عينها، وقال: هي معيبة، فقال المشتري: الدراهم التي اشتريت بها منك غير هذه.. فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن الأصل صحة العقد وسلامة المبيع من العيب. وإن كان المبيع في الذمة مثل: أن يسلم رجل إلى رجل على عبدٍ، فقبض المُسلِمُ

فرع: الاختلاف في عدد المشترى

من المسلم إليه عبدًا، ثم جاءه بعبد، فقال: هذا العبد الذي سلّمت إليّ وهو معيبٌ، بخلاف ما وقع عليه عقد السلم، وقال المسلم إليه: العبد الذي سلّمت إليك غير هذا العبد، ولا عيب به.. فالقول قول المسلم مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء العبد في ذمة المسلم إليه حتى يثبت تسليم عبدٍ على الصفات المذكورة في السلم. وهكذا: إذا باعه عينًا بدراهم في ذمته، فقبضها البائع، ثم ردّ البائع دراهم، وقال: هي التي سلّمت إليّ وهي معيبة، وقال المشتري: بل التي سلّمت إليك غير هذه الدراهم وهي سليمة.. فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن المشتري يدّعي أنه قد أقبض البائع ما وجب عليه، والبائع منكرٌ، والأصل بقاؤها في ذمّته، وهكذا ذكر القاضي أبو الطيب في " شرح المولَّدات "، وذكر الشيخ أبو إسحاق في " التنبيه " في العبد المسلم فيه: أن القول قول المسلم إليه مع يمينه. [فرعٌ: الاختلاف في عدد المشترى] وإن اشترى منه عشرة أقفزة من صُبرة، فاكتالها المشتري من البائع، ثم قال المشتري: إنها تسعة، وقال البائع: بل هي عشرة.. ففيه قولان: أحدهما: القول قول المشتري مع يمينه؛ لأن البائع يدّعي القبض، والمشتري ينكره، والأصل عدم القبض وعدم الإيفاء. والثاني: أن القول قول البائع مع يمينه. قال القاضي أبو الطيب: وهو الصحيح؛ لأنهما قد اتَّفقا على القبض والمشتري يدَّعي الخطأ فيه، فكان عليه البيِّنة، كما لو قبض المشتري المبيع، وادّعى به عيبًا كان موجودًا في يد البائع.. فإن القول قول البائع مع يمينه. قال الشيخ أبو حامد: وهكذا: إذا أسلم إليه في طعام كيلاً، ثم جاء المسلم إليه وكاله على المسلم وقبضه كيلا، ثم ادّعى المسلم [إليه] نقصانًا.. ففيه قولان، وتعليلهما ما ذكرناه.

مسألة: اختلفا في بداية التسليم لأن الثمن في الذمة

[مسألة: اختلفا في بداية التسليم لأن الثمن في الذمة] إذا اشترى سلعة بثمن في ذمته، فقال البائع: لا أسلم السلعة حتى أقبض الثمن، وقال المشتري: لا أسلِّم الثمن حتى أقبض السلعة.. فاختلف أصحابنا فيها على طريقين: فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيها ثلاثة أقوال مشهورة: أحدها: أن الحاكم يجبر البائع على إحضار السلعة وتسليمها إلى عدلٍ، ويجبر المشتري على إحضار الثمن وتسليمه إلى عدل، أو يأخذهما الحاكم، ثم يسلِّم السلعة إلى المشتري والثمن إلى البائع، ويجوز البداية بأيِّهما شاء؛ لأنه قد وجب الإقباض على كل واحد منهما، فإذا تمانعا.. أُجبرا، كما لو كان لأحدهما على صاحبه دنانير وعليه له دراهم. والثاني: لا يجبر واحد منهما، ولا يتعرض لهما، بل أيُّهما تطوع، فسلَّم ما عليه.. أجبر الآخر على تسليم ما عليه، ويمنعهما من التخاصم؛ لأن كل واحدٍ منهما قادرٌ على استيفاء حقِّه، بأن يتطوع بتسليم ما عليه، فإذا لم يفعل.. فالتفريط جاء من جهته، فلم يتعرض له، كما لو ادّعى على غيره دينًا، فنكلَ المدَّعى عليه عن اليمين، فردت على المدعي، فنكلَ عنها. والقول الثالث ـ وهو اختيار الشافعي، وهو الصحيح ـ: (أن البائع يجبر على تسليم السلعة، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن) ؛ لأن تسليم السلعة يتعلق به استقرار العقد، فكان تقديمه أولى، ولأن حق المشتري متعلق بالعين، وحق البائع

متعلق بالذمة، والمتعلق بالعين أقوى من المتعلق بالذمة، كما لو كان له عبدٌ، فجنى على غيره وفي ذمة السيد دين.. فإن حق الجناية يقدّم؛ لتعلقه بعين العبد. والقول الرابع ـ حكاه المسعودي [في " الإبانة " ق\249] ، وهو قول مالك، وأبي حنيفة ـ: (أن المشتري يجبر على إحضار الثمن، ثم يجبر البائع على إحضار السلعة عكس ما اختاره الشافعي؛ لأن حق المشتري قد تعين بعين، وحقّ البائع لم يتعين بشيء، ومن شأن المتبايعين أن يتساويا، فأجبر المشتري على الإقباض ليتساويا. و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: المسألة على قولٍ واحدٍ، وهو: أن البائع يجبر على تسليم السلعة، ثم يجبر المشتري عل تسليم الثمن. وقال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح عندي، وما سواه من الأقوال، فإنّما حكاه الشافعي عن غيره، ولم يختر لنفسه مذهبًا إلا هذا. فإن قلنا بالصحيح، فسلّم البائع السلعة: فإن كان المشتري موسرًا.. نظرت: فإن كان الثمن حاضرًا معه في المجلس أُجبر على تسليمه. وإن كان الثمن غائبًا عنه في دكّانه أو في داره.. حجر عليه في المبيع وفي سائر أمواله حتى يسلِّم الثمن؛ لأنه لا يؤمن أن يتصرف في ماله فيما يضر بالبائع، وإن كان مالُه غائبًا عن البلد.. نظرت: فإن كان بينه وبين ماله مسافة تقصر فيها الصلاة.. لم يلزم البائع أن يصبر إلى أن

يحضر المال؛ لأن عليه مشقة في ذلك، بل يثبت له الخيار في فسخ البيع، فإن فسخ البيع.. استرجع السلعة. وإن اختار أن يصبر إلى أن يحضر.. حجر الحاكم على المشتري في المبيع وفي سائر أمواله إلى أن يحضر الثمن؛ لئلا يتصرف في ماله بما يضر بالبائع. وإن كان بينه وبين ماله مسافةٌ لا تقصر في مثلها الصلاة.. ففيه وجهان: أحدهما: حكمها حكم ما لو كان في مسافة تقصر في مثلها الصلاة.. فيثبت للبائع الخيار في فسخ البيع؛ لأنه يخاف الهلاك على مال المشتري فيما قرب، كما يخاف عليه فيما بعد. والثاني: حكمها حكم ما لو كان ماله في داره أو دكّانه.. فلا يثبت للبائع الخيار في فسخ البيع؛ لأنه في حكم الحاضر، ولكن يحجر على المشتري في المبيع وفي سائر أمواله إلى أن يحضر الثمن. وإن كان المشتري معسرًا بالثمن.. ففيه وجهان: [أحدهما]ـ المنصوص للشافعي ـ: (أن البائع بالخيار: بين أن يفسخ البيع، ويرجع إلى السلعة، فيأخذها، وبين أن يصبر بالثمن، ويقر البيع) ؛ لأنه تعذّر عليه الثمن بالإعسار، فثبت له الخيار في فسخ البيع، كالمفلس. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يثبت له فسخ البيع، بل تباع السلعة، فإن كان ثمنها وفق حقّه.. سُلِّم إليه، وإن كان أكثر.. كانت الزيادة للمشتري؛ لأنه يمكن إيفاء حقِّه بذلك، وإن اشترى سعلة بثمن معين.. ففيه قولان: أحدهما: لا يجبر واحدٌ منهما، بل يقال: أيُّكما تطوّع بتسليم ما عليه.. أجبر الآخر. والثاني: يجبرهما الحاكم جميعًا، ويجوز البداية بمن شاء منهما، ووجههما ما تقدم، ويسقط القول الثالث: أنه يجبر البائع أوّلاً؛ لأن حق كل واحد منهما هاهنا متعلق بالعين.

مسألة: لا يجبر البائع على التسليم ما لم يقبض كامل الثمن

[مسألة: لا يجبر البائع على التسليم ما لم يقبض كامل الثمن] ] : وإن اشترى رجل من رجل عينًا، فسلّم المشتري نصف الثمن.. فهل يجب تسليم ما في مقابلته من العين إليه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجبر البائع على تسليم شيء من العين، كما لو رهنه عينًا بدين، فسلّم الراهن بعض الدين.. فإنه لا ينفكُّ شيءٌ من الرهن. والثاني: يجبر البائع على تسليم نصف العين؛ لأن الثمن عوَضٌ عن العين، فإذا سلَّم المشتري بعض الثمن.. وجب تسليم ما في مقابلته، بخلاف الرهن، فإنه ليس بعوض عن الدين، وإنما هو وثيقة به. [فرعٌ: دفع ذمة أحد الشريكين لا يلزم لهما تسليم العين] ] : وإن اشترى رجلان من رجل عينًا بثمن في ذمّتهما، فسلّم أحدهما نصف الثمن إلى البائع.. فعلى البائع أن يسلم إليه نصف العين، وإن سلّم أحدهما إليه جميع الثمن.. بريء شريكه ممَّا عليه من الثمن، ولم يسلِّم نصيب الشريك الذي لم يدفع الثمن إلى الناقد، بل إلى المالك. وقال أبو حنيفة: (إذا سلَّم أحدهما نصف الثمن.. لم يجبر البائع على تسليم شيء من المبيع إليه، وإن سلّم جميع الثمن إليه.. وجب عليه تسليم جميع المبيع إلى الدافع) . دليلنا على الفصل الأول: أنّه سلّم ما عليه من الثمن.. فوجب عليه أن يسلِّم إليه ما استحقّ من المبيع، كما لو كان منفردًا بالشراء. وعلى الفصل الثاني: أنّه تبرّع بدفع الثمن.. فلم يدفع إليه جميع المبيع، كما لو تبرّع بدفع الثمن أجنبيٌّ غير الشريك.

مسألة: تلف المبيع قبل القبض

[مسألة: تلف المبيع قبل القبض] يفسخه] : إذا تلف المبيع في يد البائع قبل أن يقبضه المشتري بآفة سماوية.. انفسخ البيع ورجع المشتري إلى الثمن إن كان قد دفعه، سواءٌ كان البائع عرضه على المشتري فلم يقبل أو كان المشتري قد سأل ذلك ومنعه البائع، فإنّه يتلف من ضمان البائع، وبه قال الشعبيُّ، وربيعة، وأبو حنيفة، وأصحابه. وقال مالك: (إن كان المبيع عبدًا، فتلف في يد البائع قبل القبض، أو قفيزًا من صبرة، فتلفت الصبرة.. كان ذلك من ضمان البائع) . كقولنا. وإن كان غيرهما من المبيعات، وتلف في يد البائع.. فإنها تتلف من ضمان المشتري، ولا ينفسخ البيع ثم ينظر: فإن لم يطلب المشتري ذلك، أو كان البائع قد عرضها على المشتري، فلم يقبضها حتّى تلفت.. فلا شيء على البائع، كالوديعة إذا تلفت في يده. وإن كان المشتري، قد دفع الثمن وطالب بالسلعة المبيعة، فلم يفعل البائع.. وجب على البائع قيمتها، كالغاصب. وإن كان المشتري لم يدفع الثمن وطالب بالسلعة، فقال البائع: لا أسلِّمُها حتى أقبض الثمن، ثم تلفت السلعة في يده.. كان كالرهن إذا تلف في يد المرتهن، وحكم الرهن عنده إذا هلك في يد المرتهن.. ينظر فيه: فإن كان هلاكه بأمر ظاهر.. فهو من ضمان الراهن. وإن كان بأمر خفيٍّ.. فهو من ضمان المرتهن. وممَّن قال: بأن المبيع يتلف من ضمان المشتري قبل القبض: أحمد، وأبو ثور. ولكن التفصيل في قدر الضمان لمالك.

فرع: تلف الثمن قبل قبض السلعة

وقال النخعي، وابن سيرين: إن سأل المشتري القبض، فامتنع البائع من إقباضه حتى هلك المبيع.. كان من ضمان البائع، وإن لم يسأل المشتري ذلك.. فهو من ضمان المشتري. دليلنا: أنه قبض مستحق بعقد البيع، فإذا تعذّر.. انفسخ البيع، كما لو تصارفا وتفرّقا قبل القبض. فقولنا: (بعقد البيع) احترازٌ من الصداق، إذا تلف قبل القبض.. فإنّ النكاح لا يبطل؛ لأنه مبيع تلف قبل القبض، فوجب أن يكون من ضمان البائع، كما لو كان عبدًا أو قفيزًا من صُبرةٍ، فتلف في يد البائع عند مالك. [فرعٌ: تلف الثمن قبل قبض السلعة] وإن اشترى سلعة بثمن معين، فتلف الثمن في يد المشتري قبل القبض.. بطل البيع. وقال أبو حنيفة: (لا يبطل) . وهذا بناء على أصله: أنّ الثمن لا يتعيّن، وقد مضى الكلام معه، ولأنه مبيع تلف قبل القبض.. فانفسخ، كالحيوان. [فرعٌ: ما حصل ونما في ملك البائع] فإن كان المبيع نخلةً لا ثمرة عليها، فأثمرت في يد البائع، فجُدّت، ثم تلفت النخلة في يد البائع، أو بهيمة حائلاً، فحملت في يد البائع، فولدت، ثم تلفت البهيمة، أو كان المبيع عبدًا، فاكتسب في يد البائع، ثم تلف العبد قبل القبض.. فإن

فرع: إقالة البائع المشتري وتلف المبيع قبل قبضه

الثمرة، والولد، والكسب يكون ملكًا للمشتري؛ لأنه نماءُ ملكه، وينفسخ البيع، فيرجع المشتري بجميع الثمن إن كان قد دفعه؛ لما ذكرناه. فإن قيل: فقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخراج بالضمان» . وإذا كان الخراج هاهنا للمشتري.. فيجب أن يكون تلف المبيع من ضمانه؟ فالجواب: أن الخبر دليل على: أن كل موضع يكون الضمان على المشتري، فإن الخراج يكون له؛ لأنه علّق استحقاق الخراج على الضمان، فلا يكون الخبر دليلاً على: أن كل موضع كان الخراج له، وجب أن يكون الضمان عليه؛ لأنه لم يقل: الضمان بالخراج، كما أنه إذا قال: كل نبي صالح.. لم يكن كل صالح نبيًّا؛ لأن الصلاح علق على النبوّة، ولم يعلِّق النبوة على الصلاح. وإن تلفت هذه الثمرة في يد البائع، فإن كان المشتري قد طالب بها، وامتنع البائع من تسليمها.. كان عليه ضمانها، وإن لم يطالب بها المشتري.. لم يجب على البائع ضمانها؛ لأنها أمانة في يده. وحكى القاضي أبو الطيب وجهًا آخر: أن الثمرة والولد والكسب للبائع؛ لأن المبيع لمّا انتقص قبل استقراره.. صار بمنزلة ما لو لم يوجد. وهذا ليس بشيء. وهكذا: لو اشترى جارية، فوطئها المشتري في يد البائع، ثم تلفت قبل القبض.. فإنّ البيع يبطل، وهل يلزم المبتاع المهر؟ على هذين الوجهين. [فرعٌ: إقالة البائع المشتري وتلف المبيع قبل قبضه] ] : إذا اشترى عبدًا، فقبضه، ثمّ أقال البائع المشتري، وتلف العبد في يد المشتري قبل أن يقبضه البائع.. بنى ذلك على الإقالة، وفيها قولان:

فرع: وطء البائع الجارية قبل تسليمها

أحدُهما ـ وهو قوله الجديد، وهو الصحيح ـ: (أن الإقالة فسخ للعقد) ؛ لأنها مأخوذة من إقالة العثرة، وترك المطالبة بحكمها والإضراب عنها، وهذا يقتضي أن تكون الإقالة: ترك المبيع لاستئناف عقد. فعلى هذا: يلزم المشتري قيمة العبد، فإن زادت قيمته بعد القبض.. لزمه قيمته يوم قبضه، ولا يلزمه ضمان الزيادة؛ لأنها زيادة حصلت للمشتري، ولا حقّ للبائع فيها. والقول الثاني ـ قاله في القديم ـ: (أن الإقالة بيع) ، وهو قول مالك؛ لأنها لو كانت فسخًا؛ لصحت الإقالة في المبيع وإن كان تالفًا. فعلى هذا: إذا تلف العبد في يد المشتري قبل أن يقبضه البائع.. بطلت الإقالة، وعاد البيع الأول صحيحًا، ويكون المبيع تالفًا من ضمان المشتري. قال القاضي أبو الطيب: والصحيح هو الأول. وأمّا الإقالة في المبيع بعد تلفه: فقد نص الشافعي على صحتها، كما تصح مع وجوده. فإذا قلنا: إنّ الإقالة فسخٌ.. فهل ينفسخ العقد من أصله، أو من وقت الفسخ؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\252] . وفائدة ذلك: إذا اكتسب العبد كسبًا بعد البيع، ثم فسخ العقد، فإن قلنا: إن الفسخ يرفع العقد من أصله.. كان الكسب للبائع. وإن قلنا: إن الفسخ رفعٌ للعقد من يوم الفسخ.. كان الكسب للمشتري، وهذا أصح. [فرعٌ: وطء البائع الجارية قبل تسليمها] وإن اشترى رجلٌ جارية، فوطئها البائع قبل أن يقبضها المشتري، ثم تلفت قبل

فرع: نقص المبيع في يد البائع

القبض.. وجب على البائع مهر المثل للمشتري؛ لأنه وطء في ملك غيره، ويبطل البيع فيها؛ لما تقدم من ذكره. وإن وطئها المشتري في يد البائع، ثم ماتت في يد البائع بعد هذا الوطء.. قال القاضي أبو الطيب: فإن هذا الوطء لا يكون قبضًا لها، فيبطل البيع فيها؛ لأنها تلفت قبل القبض، وينظر فيها: فإن كانت ثيِّبًا.. فلا شيء على المشتري؛ لأنها كانت ملكه وقت الوطء. وإن كانت بكرًا، فافتضّها.. فلا مهر عليه، ولكن يجب عليه بقدر أرش الافتضاض من الثمن؛ لأنه أتلف جزءًا منها، ولو أتلفها.. لضمنها بالثمن، فإذا أتلف جزءًا منها.. ضمنه بجزء من الثمن. [فرعٌ: نقص المبيع في يد البائع] وإن اشترى رجلٌ من رجلٍ عبدًا، فذهبت يدُهُ أو عينه في يد البائع بآكلةٍ.. ثبت للمشتري الخيار للعيب الحادث قبل القبض، فإن فسخ البيع.. فلا كلام، وإن لم يفسخه مع العلم به.. لزمه جميع الثمن؛ لأن الثمن لا ينقسم على الأعضاء، ولهذا لو قال: بعتك رأس هذا العبد أو يدَهُ.. لم يصحّ البيع. [فرعٌ: تلف المبيع بيد آخر قبل تسليمه] وإن تلف المبيع في يد البائع قبل القبض بفعل أجنبيّ، بأن كان عبدًا، فقتله.. فالمشهور من المذهب: أن المسألة على قولين: أحدهما: ينفسخ البيع؛ لأنه تعذر التسليم المستحق بالعقد، فانفسخ العقد، كما لو تلف بآفة سماوية.

فرع: تلف المبيع بفعل البائع

فعلى هذا: يرجع المشتري على البائع بالثمن، ويرجع البائع على الأجنبي بقيمة العبد. والثاني: لا ينفسخ، بل يثبت للمشتري الخيار: بين أن يفسخ العقد ـ لأن ذلك أكثر من حدوث العيب فيه ـ ويرجع على البائع بالثمن، ويرجع البائع على الأجنبي بالقيمة، وبين أن يجيز البيع، ويرجع على الأجنبي بالقيمة؛ لأن القيمة قائمة مقام العبد، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وحكى الطبري في " العدة ": أن أبا العباس قال: لا ينفسخ البيع، قولاً واحدًا، وإنّما يثبت للمشتري الخيار. وإن قطع الأجنبيّ يده في يد البائع، ولم يمت منه.. لم ينفسخ البيع، قولاً واحدًا؛ لأن عين العبد باقية، ولكن يثبت للمشتري الخيار بين الفسخ والإجازة؛ لأن ذلك عيب، فإن فسخ البيع.. رجع البائع على الأجنبي بنصف قيمة عبده، وإن أجاز المشتري البيع.. رجع المشتري على الأجنبي بنصف قيمة العبد. وإن قطع رجل يد عبدٍ لغيره، ثم باعه سيِّدُهُ، فقبضه المشتري، ثم مات من ذلك القطع.. قال الطبري في " العدة ": ضمن القطع للمشتري، ولم يبيِّن الطبري القدر الذي يجب للمشتري. والذي تبين لي فيها: أن العبد يقوَّم الشراء، ويضم ذلك إلى نصف قيمته يوم القطع، وتقسم القيمة عليهما، فما قابل نصف القيمة يوم القطع.. وجب للبائع؛ لأن ذلك وجب في ملكه، وما قابل القيمة يوم الشراء.. وجب للمشتري؛ لأن القاطع لا يجب عليه أكثر من القيمة. وقال أبو حنيفة: (لا يجب للمشتري شيء) . دليلنا: أنه تلف في ملكه من قطع الأجنبي، فأشبه إذا اشترى عبدًا، فقطع الأجنبي يده، فمات. [فرعٌ: تلف المبيع بفعل البائع] ] : وإن تلف المبيع قبل القبض بفعل البائع، بأن كان عبدًا، فقتله.. ففيه طريقان:

فرع: قبض المشتري الجارية بغير رضا البائع وقبل دفع ثمنها

[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: ينفسخ البيع، قولاً واحدًا، لأنه فات التسليم المستحق بالعقد، فانفسخ العقد، كما لو تلف بآفةٍ سماويةٍ. و [الثاني] : قال أبو العباس: فيه قولان: أحدهما: هذا. والثاني: لا ينفسخ البيع، بل يثبت للمشتري الخيار: بين أن يفسخ البيع، وبين أن يجيزه، ويرجع على البائع بالقيمة. فإن قطع البائع يده، واندملت.. فعلى قول عامة أصحابنا: المشتري بالخيار: بين أن يفسخ البيع، وبين أن يجيزه بجميع الثمن، كما لو ذهبت يده بآكلة. وعلى قول أبي العبّاس: المشتري بالخيار: بين أن يفسخ البيع، وبين أن يجيزه، ويرجع على البائع بنصف القيمة، كما لو قطعه أجنبي. [فرعٌ: قبض المشتري الجارية بغير رضا البائع وقبل دفع ثمنها] ] : فإن قبض المشتري الجارية المبيعة من البائع بغير اختياره قبل دفع الثمن، فوطئها المشتري، ثم طالب البائع بردِّها إليه إلى أن يقبض الثمن.. وجب ردُّها إليه، فإذا ردت إليه، ثم تلفت في يده.. انفسخ البيع؛ لأن القبض قد زال بردِّها إلى البائع، ولا مهر على المشتري؛ لأنه وطئها في ملكه. وعلى الوجه الذي حكاه القاضي أبو الطيب: يجب عليه المهر؛ لأنه لمَّا انفسخ البيع.. صار كما لو لم يوجد. وليس بشيء. ولو ماتت الجارية في يد المشتري قبل ردِّها إلى البائع.. استقر عليه الثمن، وكان تلفُها من ضمان المشتري، وإن قطع البائع يدها وهي في يد المشتري، وماتت من القطع.. لم ينفسخ البيع، بل يجب على البائع قيمتها، ويجب على المشتري جميع الثمن.

فرع: تلف المبيع بفعل المشتري قبل قبضه

وقال أبو حنيفة: (ينفسخ البيع) . دليلنا: أن قبض المشتري لا يرتفع بجناية البائع على المبيع في يده، فصار كما لو قبضها بعد دفع الثمن، أو كما لو قبضها بإذن البائع. [فرعٌ: تلف المبيع بفعل المشتري قبل قبضه] ] : وإن تلف المبيع في يد البائع بفعل المشتري؛ بأن كان عبدًا، فقتله.. فالمشهور من المذهب: أن البيع لا ينفسخ، ويستقر عليه الثمن؛ لأن إتلافه له قبض، فهو كما لو كان عبدًا، فأعتقه. وحكى الطبريُّ في " العدّة " وجهًا آخر: أنّ البيع ينفسخ فيرجع البائع عليه بالقيمة، ويرجع هو عليه بالثمن. وهذا ليس بشيء. فإن قطع المشتري يده وهو في يد البائع.. لم يثبت له الخيار في فسخ البيع؛ لأنه نقص بفعله، فإن اندملت جراحة اليد التي قطعها المشتري، ثم مات العبد في يد البائع قبل القبض.. انفسخ البيع؛ لأنه فات التسليم المستحق بالعقد، فانفسخ البيع، كما لو تلف بآفة سماوية، ويجب على المشتري ضمان اليد التي قطعها، ولا يجب عليه ضمانها بنصف القيمة؛ لأن العبد مضمون على المشتري بالثمن، فكذلك أجزاؤه، ولكن يضمنها بجزء من الثمن، وفي قدر ذلك وجهان: [الأول] : قال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " [1/295] : يقوَّم العبد مع اليد، ثم يقوَّم بلا يد فيرجع البائع على المشتري بما نقص من الثمن. ومعنى ذلك: إن كانت قميته مع اليد عشرين، وقيمته بغير يد عشرة.. رجع بنصف الثمن، وإن كنت قيمته مع اليد ثلاثين، وقيمته بلا يد عشرين.. رجع عليه بثلث الثمن.

مسألة: تلف الثمرة على الأرض كغيرها

و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب في " شرح المولَّدات ": يرجع عليه لقطع اليد بنصف الثمن؛ لأنه لو قتله.. لرجع عليه بجميع الثمن، فإذا قطع يده.. رجع عليه بنصف الثمن؛ لأن اليد من الحر مضمونة بنصف بدل النفس، فكذلك اليد من العبد مضمونة بنصف بدل لنفسه، ولا يقال: إن الثمن ينقسم على الأعضاء، ولكن يقال: جميع بدل العبد، إلاَّ أنّ اليد مضمونةٌ بنصف بدل النفس، كما أنّ دية الحر لا يقال: إنها مقابلة لأطرافه، وإنما هي مقابلةٌ لجميع بدنه، ثم لو قطع يده.. لوجب فيها نصف ديته، كذلك هاهنا. قال القاضي أبو الطيب: فعلى هذا: إذا قطع المشتري يدي العبد، واندملتا، ثم مات في يد البائع قبل التسليم.. لم ينفسخ البيع، ويجب على المشتري جميع الثمن؛ لما ذكرناه. [مسألةٌ: تلف الثمرة على الأرض كغيرها] ] : وإن اشترى منه ثمرةً على الأرض، فتلفت قبل القبض.. فهي كغير الثمرة على ما مضى، وكذلك: إذا اشترى منه ثمرة على الشجر، فتلفت قبل التخلية.. فهي كغير الثمرة على ما مضى. وإن اشترى منه ثمرة على الشجر بعد بدوِّ الصلاح فيها، وخلاَّ البائع بينه وبين الثمرة، فتلفت بآفةٍ سماويّة قبل أوان جدادها.. ففيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (تتلف من ضمان البائع، فإن تلف جميعها.. انفسخ البيع، ووجب ردُّ الثمن) . و [ثانيهما] : قال في الجديد: (تتلف من ضمان المشتري) . وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح. وقال مالك: (إذا أذهبت الجائحة دون الثلث.. كان ذلك من ضمان

المشتري، وإن أذهبت الثلث فما زاد.. كان من ضمان البائع) . وقال أحمد: (إذا ذهبت بآفة سماويّة.. كان من ضمان البائع، وإن ذهبت بسرقة أو نهب.. كان من ضمان المشتري) . فإذا قلنا بقوله القديم: فوجهه: ما رواه الشافعي، عن سفيان بن عيينة، [عن حميد بن قيس] ، عن سليمان بن عتيق، عن جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع السنين، وأمر بوضع الجوائح» . وروى أبو الزبير، عن جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو باع أحدكم من أخيه ثمرًا، فأصابته جائحة.. فلا يأخذ من ثمنها شيئًا، بمَ يأخذ مال أخيه بغير حقٍّ؟!» ، ولأنه لو انقطع الماء ولم يكن البائع سقى الثمرة.. كان

المشتري بالخيار بين الفسخ والإجازة؛ لأن على البائع سقيها، فلو كانت التخلية قبضًا.. لوجب أن لا يثبت له الخيار بانقطاع الماء بعد القبض؛ لأن العيب إذا حدث بعد القبض.. لم يوجب الخيار. وأمّا الدليل على صحة قوله الجديد: فما روى أنسٌ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى تُزهيَ، قيل: ما تُزِهيَ؟ قال: " حتى تَحْمَرّ» ، ثم قال: «أرأيت إن منع الله الثمرة.. فبِمَ يأخذ أحدكم مال أخيه؟» . فمنع من بيع الثمرة حتى تشتد، وأخبر: أن الثمرة لو تلفت.. فبأي شيء كان يأخذ أحدكم العوض الذي بإزائها؟! فلولا أنّ الثمرة إذا تلفت كانت من ضمان المشتري بالتلف.. لما كان لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟!» معنى ولا فائدة وهو لا يستحق الأخذ. وأيضًا روت عائشة: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: إن ابني اشترى ثمرة من فلان، فأذهبتها الجائحة، فسأله أن يضع عنه، فتألّى أن لا يفعل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تألّى فلان أن لا يفعل خيرًا!!» . فلو كان ذلك واجبًا لأجبره عليه، ولأن التخلية

فرع: التلف بغير آفة سماوية

تسليمٌ يستفيد بها المشتري التصرف في الثمرة.. فوجب أن يكون قبضًا يدخل به في ضمان المشتري، كالنقل فيما ينقل. وأما الجواب عن حديث سفيان: فقال الشافعيُّ: (وهَّنهُ سفيان) ، أي: ضعَّفه؛ لأنه لم يذكره، ثم ذكره. وأمّا ثبوت خيار المشتري بالعطش: فإنّ أبا عليّ الطبريّ قال: إنّما يثبت له الخيار على القول القديم، فأمّا على القول الجديد: فلا يثبت. فعلى هذا: لا نسلِّم ذلك، وقال أبو إسحاق: يثبت له الخيار على القولين؛ لأن العقد اقتضى أن يكون سقيُ الثمرة على البائع، كما اقتضى تركها على الأصول إلى أوان الجذاذ، فإذا عجز عن تسليمها في حال كمالها.. ثبت للمشتري الخيار. [فرعٌ: التلف بغير آفة سماوية] وإن تلفت الثمرة قبل القبض بفعل آدمي من نهب أو سرقة.. ففيه طريقان: [أحدهما] : قال ابن الصبّاغ: هي كما لو تلفت بآفة سماويّة، وهل تتلف من ضمان البائع بعد التخلية؟ على قولين. و [ثانيهما] : قال الشيخ أبو حامد: تتلف من ضمان المشتري بعد التخلية، قولاً واحدًا.

فرع: ترك الجداد والنقل بعد إمكانه

وإن اشترى ثمرة بشرط القطع، فتلفت بعد التخلية.. ففيه ثلاث طرق: [أحدها] : قال القفال: تتلفت من ضمان المشتري، قولاً واحدًا؛ لأنه لمّا لم يجب على البائع سقيُها.. لم تتلف من ضمانه. و [ثانيها] : حكى أبو عليّ السِّنجيُّ عن بعض أصحابنا: أنه قال: تتلف من ضمان البائع، قولاً واحدًا؛ لأن المشتري اشتراها على أن يكون القبض فيها هو القطع والنقل، فإذا هلكت قبل ذلك.. كانت من ضمان البائع، كما لو باعه طعامًا، فلم ينقله حتى تلف. و [ثالثها] : من أصحابنا من قال: هي على قولين، ولم يذكر ابن الصبَّاغ غير هذا، كما لو اشتراها مطلقًا. [فرعٌ: ترك الجداد والنقل بعد إمكانه] ] : فإذا بلغت الثمار وقت الجذاذ وأمكن المشتري نقلها، فلم يفعل حتى تلفت بجائحة.. ففيه طريقان: [الطريق الأول] : قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: تتلف من ضمان المشتري، قولاً واحدًا؛ لأنها إذا بلغت وقت الجذاذ.. وجب عليه النقل، فإذا لم يفعل.. كان مفرِّطًا، فكان هلاكها من ضمانه. و [ثانيهما] : قال ابن الصبَّاغ: إن قلنا إذا تلفت قبل أوان الجذاذ: إنّها تتلف من ضمان المشتري.. فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: تتلف من ضمان البائع.. فهاهنا قولان: أحدهما: يكون تلفها من ضمان البائع؛ لأن الآفة أصابتها قبل نقلها، فأشبه إذا أصابتها قبل أوان الجذاذ. والثاني: تتلف من ضمان المشتري؛ لأنه مفرِّطٌ في ترك الجذاذ. فإن هلك بعض الثمرة بعد التخلية، فإن قلنا بالقول القديم: فإن البيع ينفسخ في

التالف، وهل ينفسخ في الباقي من الثمرة؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما في تفريق الصفقة. فإذا قلنا: ينفسخ.. فلا كلام. وإن قلنا: لا ينفسخ.. فينبغي أن يثبت للمشتري الخيار في فسخ البيع في الباقي؛ لأن الصفقة تفرَّقت عليه، فإن لم يختر الفسخ.. فإنَّ المشتري يسترجع من الثمن بقدر التالف، فإن اختلفا في قدر التالف، فقال المشتري: تلف نصف الثمرة، وقال البائع: بل تلف ثلثها.. فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن اليمين قد لزمت في الظاهر، فلا يسقط منه إلاَّ ما يقرُّ به البائع، ولأن الأصل عدم الهلاك، إلاَّ في القدر الذي يقرُّ به البائع. وبالله التوفيق

باب السلم

[باب السَّلَم] السَّلَم جائزٌ. والأصل في جوازه: الكتاب، والسنَّة، والقياس. أمَّا الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] . قال ابن عبَّاس: (أشهد أنّ السلف المضمون في الذمة إلى أجل مسمًّى قد أحلَّه الله في كتابه، وأذن فيه، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ} [البقرة: 282] الآية [البقرة: 282] ) . وأمَّا السنَّة: فروى الشافعيُّ بإسناده عن ابن عبَّاس: أنه قال: «قدم النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وهم يسلفون في التمر السنة ـ وربما قال: السنتين والثلاث ـ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أسلف.. فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» .

مسألة: فيما يشترط في سلم الأعمى

و (السلف) : يقع على القرض، وعلى السلم، وهو أن يسلف عوضًا حاضرًا في عوض موصوف في الذمة. والمراد بالخبر هو السلم؛ لأن القرض يثبت بمثله حالاً، ولا يحتاج إلى تعيين وتقدير وأجل. وأمَّا القياس: فلأن البيع يشتمل على ثمن ومثمن، فإذا جاز أن يثبت الثمن في الذمة.. جاز أن يثبت المثمن في الذمّة، ولأن بالناس حاجة إلى جواز السلم؛ لأن أرباب الثمار قد يحتاجون إلى ما ينفقون على تكميل ثمارهم، وربما أعوزتهم النفقة، فجوِّز لهم السلم؛ ليرتفقوا بذلك، ويرتفق به المسلم في الاسترخاص. فإن قيل: فقد رُوي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع ما ليس عنده) ، و: عن بيع السنين» ؟ فالجواب: أن المراد بالخبر: أن يبيع عينًا ليست عنده، أو يبيع ثمرة نخلةٍ سنين. فأمَّا إذا كان ذلك في الذمة: لم يدخل في النهي؛ لما ذكرناه في إذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مسألةٌ: فيما يشترط في سلم الأعمى] ] : ولا يصح السلم إلاَّ ممن يصح منه البيع؛ لأنه بيع في الحقيقة. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح السلم من الأعمى) .

مسألة: صيغة عقد السلم

قال المُزنيُّ: يشبه أن يكون أراد الشافعي ـ لمعرفتي بلفظه ـ: الأعمى الذي عرف الألوان قبل أن يعمى، فأمَّا من خلق أعمى: فلا معرفة له بالأعيان، فهو في معنى من اشترى ما يعرف طعمه ويجهل لونه، فلا يصح. واختلف أصحابنا في ذلك: فصوَّب المُزنيَّ أبو العبَّاس، وأبو عليّ بن أبي هريرة، وقالا: لا يصح السلم من الأكمه؛ لأن السلم يقع فيه على مجهول، وذلك لا يجوز. وقال أبو إسحاق، وعامَّة أصحابنا: أخطأ المُزني، بل يصح السلم من الأكمه؛ لأنه المعتمد فيه على الصفات، والأكمه والأعمى في باب الصفات واحد. قالوا: ولو لم يجز السلم من الأكمه؛ لأنه لم يشاهد الأعيان والألوان.. لم يجز للبصير أن يسلم في شيء لم يشاهده. ولم يقل أحدٌ: إنه لا يجوز لأهل بغداد أن يسلموا في الموز؛ لأنهم لم يشاهدوه، ولا لأهل خراسان السَّلَم في الرُّطب؛ لأنهم لم يشاهدوه، بل متى عرفوا أوصافه.. جاز السلم عليه وإن لم يشاهدوه، كذلك هذا مثله. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد. فإذا قلنا بهذا: فإنما يصح السلم منه إذا كان رأس المال موصوفًا في الذمة، ثم يعين في المجلس، ويقبض، وهل يصح قبضه بنفسه، أو يوكِّل من يقبض له؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ". فأمَّا إن كان رأس المال مغيَّبًا: فإنه لا يصح السلم فيه ولا عليه؛ لأنه لا يعرفه. [مسألةٌ: صيغة عقد السلم] مسألةٌ: [صيغة عقده] : وينعقد السلم بلفظ السلم والسلف، بأن يقول: أسلمت إليك هذا الدينار، أو أسلفتك هذا الدينار بكذا وكذا؛ لأنه قد ثبت لهما عرف الشرع والاستعمال، وهل ينعقد السلم بلفظ البيع، بأن يقول: بعني ثوبًا في ذمتك، من صفته كذا وكذا بهذا الدينار؟ فيه وجهان:

مسألة: خيار المجلس والشرط في السلم

أحدهما: لا يكون سَلَمًا؛ لأن السلم غير البيع، فلم ينعقد بلفظه. فعلى هذا: يكون بيعًا، ولا يشترط فيه إلاّ قبض الدينار في المجلس، ويثبت فيه خيار الشرط. والثاني: ينعقد سَلَمًا. فعلى هذا: لا يصح السلم حتى يقبض الدينار قبل أن يتفرَّقا، ولا يثبت فيه خيار الشرط؛ لأن السلم نوع بيع يقتضي قبض العوض في المجلس، فانعقد بلفظ البيع، كالصرف. ومعنى هذا: أن الصرف ينعقد بلفظ البيع، وبلفظ الصرف، فكذلك السلم ينعقد بلفظ البيع، وبلفظ السلم، والمعنى الجامع بينهما: أنه يشترط قبض العوض فيهما في المجلس. [مسألةٌ: خيار المجلس والشرط في السلم] ] : وإذا انقعد السلم.. ثبت لكل واحد منهما خيار المجلس إلى أن يفترقا، أو يتخايرا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقل أحدهما للآخر: اختر» . وهذان متبايعان. ولا يثبت فيه خيار الشرط؛ لأنه لا يجوز أن يتفرّقا قبل تمامه، ولهذا اشترط فيه قبض رأس المال في المجلس، فلم يثبت فيه خيار الشرط، كالصّرف. [مسألةٌ: جواز السلم مؤجّلاً وحالاًّ] ًّ] : يجوز السلم مؤجّلاً؛ للآية والخبر. ويجوز السلم حالاًّ عندنا. وقال مالكٌ، والأوزاعيُّ، وأبو حنيفة: (لا يصح السلم في الحال، والأجل شرط في صحته) . واختلفوا في أقل الأجل: فقال مالك: (أقلُّه ما له موقعٌ، كالشهر، وما زاد) . وقال الأوزاعي: (أقلُّه ثلاثة أيام) . واختلف أصحاب أبي حنيفة: فمنهم من قال: أقلُّه ساعةٌ. ومنهم من قال: أقلُّه ثلاثة أيّامٍ.

فرع: جواز السلم في المعدوم والموجود

دليلنا: أنه نوع معاوضة محضة، فصح معجلاً، كالبيع. وفيه احترازٌ من الكتابة؛ لأنه ليس المقصود منها العوض، وإنَّما المقصود منها تكميل أحكام العبد بالحرية. ولأن السلم إذا صح مع ذكر الأجل ـ وهو نوعٌ من الغرر؛ لأنه ربما ينقطع المسلم فيه، وربما لا ينقطع، وربما أمكن التسليم، وربما لم يمكن ـ فلأن يصح مع فقده أولى. ولا تدخل عليه الكتابة؛ لأن الغرر فيها في فقد الأجل؛ لأنه يحل العوض فيها عقيب العقد، ولا يقدر على تسليمه؛ لأن ما بيده لمولاه، فيكون فيه غرر، فإذا كاتبه إلى نجمين.. يجوز أن يملك إلى حين المحل ما يؤدِّي، فانتفى عنه الغرر بذكر الأجل. [فرعٌ: جواز السلم في المعدوم والموجود] ] : ويجوز السلم في المعدوم إذا كان مأمون الانقطاع عند المحل وإن كان منقطعًا حال العقد أو ما بعده، إلا أن يكون المسلم حالاًّ.. فيعتبر وجوده حال العقد. هذا مذهبُنا، وبه قال مالكٌ، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق. وقال الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (من شرط السلم، أن يكون المسلم فيه موجودًا من حين العقد إلى حين المحل) . دليلنا: ما روى ابن عبّاس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة، وهم يسلفون في التمر السنة والسنتين والثلاث، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من أسلف.. فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» . ولا محالة أنه يكون منقطعًا في بعض الأوقات، ولأنه وقتٌ لم يكن محلاًّ للسلم عقدًا، فلم يكن وجوده فيه شرطًا، كما قبل العقد. فقولنا: (عقدًا) احترازٌ من المسلم إليه إذا مات.. فإنه يكون وقتًا لمحل السلم، لكن بغير العقد.

مسألة: السلم في العروض والنقد

ويجوز السلم في الموجود؛ لأنه إذا جاز السلم في المعدوم.. فلأن يجوز في الموجود أولى. [مسألةٌ: السلم في العروض والنقد] ] : ويجوز أن يسلم في الثياب وغيرها من العروض، وفي الدراهم والدنانير على المشهور من المذهب. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\257] وجهًا آخر: أنه لا يصح. وليس بشيء؛ لأنه مالٌ يجوز بيعه، ويضبط بالصفة، فجاز السلم فيه، كالثمار. فأمَّا إسلام الدراهم بالدراهم أو بالدنانير: فإن كان مؤجّلاً.. لم يجز؛ لأن الأجل لا يدخل في بيع أحدهما بالآخر. وإن كان حالاًّ.. ففيه وجهان: [الأول] : قال القاضي أبو الطيب: يصح، ويشترط قبضهما في المجلس؛ لأن السلم أحد نوعي البيع، فانعقد به الصرف، كلفظة البيع. و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح؛ لأن لفظ السلم يقتضي تقديم أحد العوضين، واستحقاق قبضه دون الآخر، والصرف يقتضي تسليم العوضين في المجلس، فتضادَّت أحكامهما، فلم يصح. [فرعٌ: ما يجوز فيه السلم] ] : كلُّ حيوان جاز بيعه، وضبطه بالصفة، كالرقيق والأنعام والخيل والبغال والحمير.. جاز السلم عليه، وبه قال من الصحابة: عليٌّ، وابن عمر، وابن عبّاس، ومن التابعين: سعيد بن المسيِّب، والحسن البصريُّ، والنَّخعيُّ، ومن الفقهاء: مالك وأحمد. وذهبت طائفة إلى: أنه لا يجوز السلم في الحيوان بحالٍ. وذهب إليه من الصحابة: ابن مسعود، ومن الفقهاء: الأوزاعيّ، وأبو حنيفة، وأصحابه. دليلنا: ما روى عبد الله بن عمرو قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أجهز جيشًا،

وليس عندنا ظهرٌ، فأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أبتاع البعير بالبعيرين والأبعرة، إلى خروج المصدِّق» . وهذه صفة السلم في الحيوان. قال الشافعي: (ولأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرض في الديات الإبل، فلولا أنّها تثبت في الذمة.. لم يفرضها فيها) . ولأن الحيوان يضبط بالصفة، بدليل ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تصف المرأةُ المرأةَ لزوجها؛ كأنه ينظر إليها» . فجعل الصفة بمنزلة الرؤية في حصول العلم بها، وإذا كان الحيوان يمكن ضبطه بالصفات.. جاز السلم فيه، كغيره من الأموال. ويجوز السلم في الزيت والحنطة؛ لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال: «كنّا نسلف ـ ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فينا ـ في الزبيب، والزيت، والحنطة» .

مسألة: السلم في النبال والنشاب

ويجوز السلم في كل مال يجوز بيعه، ويضبط بالصفة، كالثياب والأخشاب والأحجار والحديد والرّصاص والصُّفر وغير ذلك؛ لأنه مالٌ يجوز بيعه، ويضبط بالصفة، فجاز السلم فيه، كالحنطة والتمر والزيت. [مسألةٌ: السلم في النبال والنشاب] ] : قال الشافعيُّ في " المختصر ": (لا يجوز السلم في النبل) . وقال في " الأم " [3/110] : (يجوز السلم في النُّشّاب) . قال الشيخ أبو حامد: والنَّبل على ثلاثة أضرب. أحدُها: أن يكون قد نحت ورُيِّش ونُصِّل، فهذا لا يجوز السلم فيه؛ لأنه لا يقدر على ضبطه بصفة؛ لأنه دقيق الطرفين غليظ الوسط، وذلك لا يضبط، ولأن فيه خشبًا وحديدًا وعقبا وريشا وغرا وذلك لا يمكن ضبط كل واحد منها، ولأن ريش النسر نجس. الضرب الثاني: ما نحت وفوِّق لا غير، فهذا لا يجوز السلم فيه أيضًا؛ لأنه لا يضبط بالصفة؛ لما ذكرناه.

فرع: السلم في الجواهر والجلود والورق وغيرها

والضرب الثالث: ما شق خشبه، ولم ينحت، فهذا يجوز السلم فيه؛ لأنه يمكن ضبطه، وهذا الذي أراده الشافعي بما ذكره في " الأم ". قال ابن الصبّاغ: ويجوز السلم فيها وزنًا. وقال أبو علي في " الإفصاح ": إن أمكن أن يقدر عرضها وطولها.. جاز السلم فيها عددًا. [فرعٌ: السلم في الجواهر والجلود والورق وغيرها] ] : ولا يجوز السلم في شيء من الجواهر: من لؤلؤ، وزبرجد، وياقوت، وعقيق، وفيروزج؛ لأن كبر أجسامها ووزنها وصفاتها مقصودٌ، وأثمانها تختلف لذلك. وذلك لا يضبط بالصفة. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\256] : إن أريدت للزينة. لم يجز السلم فيها؛ لما ذكرناه. وإن أريدت للسحق والدواء.. جاز السلم فيها. وأمّا الجلود والرق: فنقل البغداديون من أصحابنا: أنه لا يجوز السلم فيها؛ لأنه لا يمكن ضبط صفتها، لأن جلد الوركين ثخين قوي، وجلد الصدر ثخين رخو، وجلد الظهر رقيق ضعيف، ولأنه لا يمكن ذرعه؛ لاختلاف أطرافه، ولأنه لا يمكن ضبط ذلك بالوزن؛ لأن الجلدين قد يتفقان في الوزن، ويختلفان في القيمة؛ لسعة أحدهما بالخفة، وضيق الآخر بالثقل. وكذلك: لا يجوز السلم في النِّعال والخفاف والشمشك؛ لما ذكرناه في الجلد، ولأن في الخفاف والشِّمشك أخلاطًا، وذلك لا يضبط. ونقل المسعودي [في " الإبانة " ق\255] : أن السلم يجوز في الجلود إذا ذكر

فرع: السلم في العقار والأرض والأشجار

الجنس، والطول، والعرض. وقال [في " الإبانة " ق\256] : وكذلك يجوز السلم في الخف والنعل، إذا كانت طاقاته معلومة. وحكى الصيمري: أن أبا العبّاس ابن سريج أجاز السلم في الخفاف والنعال. وبه قال أبو حنيفة. ويجوز السلم في الورق؛ لأنه يمكن ضبط وصفه. قال الصيمري: والوزن فيه أحوط. ولا يجوز السلم في الظهور والكتب المقروءة، إلاَّ أن تضبط. هكذا ذكر الصيمري. [فرعٌ: السلم في العقار والأرض والأشجار] ] : ولا يجوز السلم في الدُّور، والأرض، والأشجار؛ لأنه لا بد من ذكر البقعة فيه، والثمن مختلف باختلاف البقاع، وإذا ذكرت البقعة.. كانت معينة، والسلم في المعين لا يجوز. [مسألةٌ: السلم فيما عملت به النار] ] : ولا يجوز السلم فيها علمت فيه النار، كالخبز والشوى؛ لأن عمل النار فيها يختلف. فأما اللِّبَأُ: فإن طبخ بالشمس.. جاز فيه السلم. وإن طبخ في النار.. ففيه وجهان: [الأول] : قال الشيخ أبو حامد: لا يجوز؛ لأن عمل النَّار فيه يختلف. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يصح؛ لأن ناره ليِّنة. قال ابن الصباغ: والأول أقيس. وكل موضع صح السلم فيه.. فإنه يصفه بصفات اللبن على ما يأتي ذكره. ويذكر لونه؛ لأن لونه يختلف، ولا يحتاج إلى ذكر اللون في اللبن؛ لأنه لا يختلف. ولا يصح السلم في اللِّبأ إلا وزنًا؛ لأنه لا يمكن كيله.

مسألة: السلم في أخلاط

[مسألةٌ: السلم في أخلاط] ] : ولا يجوز السلم فيما يجمع أجناسًا مقصودةً لا تتميَّز، كالغالية، والند، والعود المُطَرّى، والهريسة، والقوس العجميّ؛ لأن فيه الخشب والعظم والعصب. ولا يجوز السلم في جميع ذلك؛ لأنه لا يقدر على صفة كل خلط منها، وهو مقصود. ولا يجوز السلم فيما خلط فيه ما ليس بمقصود، ولا مصحلة له فيه، كاللبن المخيض: الذي طرح فيه الماء، والحنطة التي فيها الزؤان؛ لأنَّ ذلك يمنع من ضبط صفة المقصود. ويجوز السلم في الجبن وفيه الإنفحة، ويجوز السلم في السمك وفيه الملح؛ لأن المقصود هو الجبن والسمك، وإنما تطرح فيه الإنفحة والملح لمصلحته. وهل يجوز السلم في خل التمر والزبيب؟ فيه وجهان:

فرع: السلم في الثوب المصبوغ

[الأول] : قال الصيمري في " الإيضاح ": لا يجوز؛ لأن فيه الماء، فهو كالمخيض. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: يجوز؛ لأن الماء هو عماده، وبه يكون خلاًّ بخلاف المخيض، فإنه لا مصلحة له في الماء، فيصير اللَّبن به مجهولاً. وأمَّا السلم على خل العنب: فيجوز؛ لأنه لا يخالطه غيره، ويمكن وصفه. ويجوز السلم في الأدهان المطيَّبة؛ لأن الطيب لا يختلط بها، وإنما تعبق به رائحته. [فرعٌ: السلم في الثوب المصبوغ] ] : وإن أسلم في ثوب صبغ غزله، ثم نسج.. صحّ. وإن كان في ثوب نسج، ثم صبغ.. ففيه وجهان: [الأول] : قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: لا يجوز؛ لأنه سلم في ثوب وصبغ مجهول. و [الثاني] : قال صاحب " الحاوي ": يجوز، كما يجوز فيما صبغ غزله، ثم نسج. قال الشاشيُ: وهذا أصح. قال الشيخ أبو حامد: إذا قال: أسلمت إليك في ثوب مصبوغ.. لم يجز؛ لأن السلم في الصبغ لا يجوز. وإن قال: أسلمت إليك في ثوب مقصور.. جاز؛ لأن القصارة صفة للثوب، والصبغ عين. ولو قال: أسلمت إليك في ثوب على أن تقصره.. لم يجز؛ لأنه سلم في ثوب وصبغة، والصبغة مجهولة. قال الشيخ أبو حامد: وإن أسلم في ثوب نسج، ثمّ نقش بالإبرة بعد النسج.. جاز

فرع: السلم في الرؤوس المأكولة

السلم. وكذلك: يجوز السلم فيما كان لحمته إبريسما وسُداه قطنًا؛ لأن المختلط وإن كان مقصودًا، إلا أنه متميز. وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": لا يجوز السلم فيما عمل فيه من غير غزله، كالقرقوبي؛ لأن ذلك لا يضبط. ولعله أراد المقرقب بالإبرة، فإن كان هذا مراده.. حصل فيها وجهان. قال: واختلف أصحابنا في السلم في الثوب المعمول من غزلين: فمنهم من قال: لا يجوز؛ لأنهما جنسان مقصودان لا يتميز أحدهما من الآخر، فأشبه الغالية. ومنهم من قال: يجوز؛ لأنهما جنسان يعرف قدر كلِّ واحدٍ منهما. [فرعٌ: السلم في الرؤوس المأكولة] ] : وهل يجوز السلم في رؤوس ما يؤكل لحمه، غير المشوية والمطبوخة؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز، وبه قال مالك؛ لأن السلم يجوز في اللحم، وهو عظم ولحم، فكذلك في الرؤوس؛ لأنها لحمٌ وعظمٌ. والثاني: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لأنه لا يجوز السلم إلا فيما كان جميعه مقصودًا، كالسمن والعسل وغيرهما، أو فيما كان أكثره مقصودًا، كالتمر والبطِّيخ والرُّمان. وأمّا الرؤوس: فليست كلُّها مقصودة، ولا أكثرها مقصودًا؛ لأن أكثره العظم، وهو غير مقصود، فلم يصحّ السلم فيه. وأمّا الأكارع: فقد ذكر القاضي أبو الطيب: أنه لا يجوز السلم فيها. قال ابن الصبَّاغ: وعندي أنها على قولين، كالرؤوس.

مسألة: السلم في الطير والجراد

فإذا قلنا: يجوز السلم فيها.. فلا يجوز عددًا ولا كيلاً؛ لأن ذلك يختلف، وإنما يجوز السلم فيها وزنًا. [مسألةٌ: السَّلَم في الطير والجراد] ] : وهل يجوز السلم في الطير؟ قال الشيخ أبو إسحاق: لا يجوز؛ لأنه لا يضبط بالسن، ولا يعرف قدره بالذرع. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\255] : يجوز إذا ضبطها بالوصف. وأمّا السَّلَم على الجراد: فذكر الصيمري: أنه يجوز السلم فيه حيًّا وميِّتًا، ولا يجوز السلم فيه مشويًّا ولا مطبوخًا. قلت: وهذا محمول على أنه أراد في الزمان الذي يوجد فيه غالبًا. [فرعٌ: السلم في الجارية وولدها] ] : ولا يجوز أن يُسْلِمَ في جارية وولدها؛ لأنه لا بد من وصفها، ووصف ولدها، ويتعذر وجود جارية لها ولد على ما وصفهما. قال الشافعي: (وإذا أسلف في جارية وولد، ولم يقل ولدها.. جاز) ؛ لأنه أسلم في كبير وصغير. ولو شرط في العبد: أنه خبّاز، وفي الجارية: أنّها ماشطة.. جاز، وكان له أدنى ما يقع عليه الاسم. وإن أسلم في جارية عوّادة أو مغنية.. لم يجُز؛ لأنه أسلم فيما لا يجوز أن يعقد عليه. وإن أسلم في جارية يهودية أو نصرانية.. قال الصيمري: صح السلم. والفرق بينهما: أن ذلك تقر عليه. ولو عقد عليها بعينها، وشرطا: أنّها كذلك.. جاز العقد دون السلم؛ لأنه صفة في الذمة.

فرع: السلم في الترياق والراوند

ولو أسلم في عبد سارق، أو زان، أو قاذف.. قال الصيمري: فالصحيح جوازه، بخلاف المغنية؛ لأن تلك صناعة محظورة، وهذه أمور تحدث، فأشبهت العمى. وإن أسلم في جارية حامل.. ففيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: لا يصح، قولاً واحدًا؛ لأن الولد مجهول غير متحقق، فلم يجز السلم عليه. و [الطريق الثاني] : منهم من قال: فيه قولان: [أحدهما] : إن قلنا: إن الحمل لا حكم له.. لم يجز السلم فيها. و [الثاني] : إن قلنا: للحمل حكم.. جاز السلم فيها. وهذه طريقة الشيخ أبي حامد. قال ابن الصّباغ: والأول أصح. [فرعٌ: السلم في الترياق والراوند] ] : قال الشافعي: (ولا خير في شراء شيء خالطه لحوم الحيَّات من الترياق) . وجملة ذلك: أن لحوم الحيّات نجسة، والترياق يخالطه لحوم الأفاعي، فلا يجوز بيعه. ويخالطه أيضًا لبن الأتان، وهو نجس على المنصوص، فلم يجز السلم فيه لذلك، ولأنه أخلاط. فأمَّا السُّم: فإن كان من لحوم الحيات.. فهو نجس، ولا يجوز بيعه. وإن كان من نبات الأرض، فإن كان يقتل قليله وكثيره.. لم يجز بيعه؛ لأنه لا منفعة فيه. وإن كان يقتل كثيره، ويتداوى بيسيره.. جاز بيعه، والسَّلم فيه.

مسألة: السلم فيما يوجد ويؤمن انقطاعه عند المحل

وقال القاضي أبو الطيب: يجوز بيع قليله، ولا يجوز بيع كثيره. قال ابن الصبّاغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأنه إذا جاز بيع قليله.. جاز بيع جنسه؛ لأن فيه منفعة في الجملة. ويجوز بيع الراوند والسلم فيه؛ لأن فيه منفعة، وهو أنه يستعمل في الأدوية وإن كان يستعمل في النبيذ، وهذا هو الصحيح. وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يجوز بيعه. وهذا ليس بشيء. [مسألةٌ: السلم فيما يوجد ويؤمن انقطاعه عند المحل] ] : لا يجوز السلم إلاَّ في شيء عامّ الوجود، مأمون الانقطاع وقت المحل. فإن أسلم في الصيد في بلد لا يجود فيها الصيد إلاَّ نادرًا، أو في بلد يكثر فيها الصيد، إلاَّ أنه جعل المحل فيه وقتًا لا يوجد فيه غالبًا، أو أسلم في الرُّطب وجعل محل السلم زمانًا يكون فيه أول الرطب أو آخره، فيوجد فيه نادرًا.. لم يصحّ السلم؛ لأن ذلك غرر فلم يصح. وكذلك: إذا أسلم في ثمرة نخلة بعينها، أو حائط بعينه.. لم يصح السلم؛ لما رُوي: «أن يهوديًّا قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك يا محمد، أن تبيعني تمرًا معلومًا إلى أجل معلوم من حائط بني فلان؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يا يهودي، ولكن أبيعك تمرًا معلومًا إلى كذا وكذا من الأجل» .

مسألة: شرط المسلم فيه

[مسألةٌ: شرط المسلم فيه] ] : وإذا أسلم في شيء.. فمن شرطه أن يكون المسلم فيه موصوفًا معلومًا بالصفة؛ لحديث ابن عبّاس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» . فذكر الكيل، والوزن، والأجل؛ لينبه بذلك على غيره من الصفات، ولأنه إذا لم يكن معلومًا بالصفة.. أدَّى إلى الجهل بما يطالب به. قال الشافعي: (ويكون معلومًا عند غيرهما، حتى لو تنازعا فيه.. أمكن الرجوع إلى الشاهدين) . قال القفال: إنما قال ذلك على سبيل الاحتياط، فإن أسلم في مكيل.. ذكر مكيالاً معتادًا عند العامة. وإن كان في موزون.. ذكر ميزانًا معتادًا عند الناس. قال الشيخ أبو حامد: يعني صنجة معتادة، حتى لا يخاف انقطاع ذلك. وإن كان أسلم في مذروع ذكر ذراعًا معتادًا عند الناس. قال الصيمري: يكون الذراع من الحديد أو الخشب، لا ذراع اليد؛ لأن ذلك يختلف. فإن علّق ذلك على مكيال بعينه، لم يعرفا له عيارًا، أو رطلاً بعينه، لم يعرفا عياره.. لم يصح السلم؛ لأنه لا يؤمن أن يتلف ذلك المعيَّن قبل المحل. قال الشافعي: (ولو قال: أسلمت إليك في مثل هذا الثوب.. لم يصح السلم؛ لأنه ربّما لا يبقى ذلك الثوب إلى المحل) . وقال في (الصداق) : (ولو أصدقها ملء

فرع: السلم في الفاكهة

هذه الجرة خلاًّ.. لم يصح؛ لأنها ربما انكسرت قبل حصول الخل) . وإن أسلم فيما يكال بالوزن.. جاز؛ لأنه أحصر. وإن أسلم فيما يوزن بالكيل، وهو مما يمكن كيله.. جاز؛ لأنه يصير به معلومًا، بخلاف البيع في الربا. [فرعٌ: السلم في الفاكهة] ] : ويجوز السلم في البطيخ والقثاء والخيار والرُّمان والسفرجل والكمثرى والخوخ والبيض وزنًا، ولا يجوز عددًا، ولا كيلاً؛ لأن ذلك يختلف. وأمّا التين: فيجوز السلم فيه كيلاً ووزنًا؛ لأن ذلك يمكن فيه. وأمّا الجوز واللَّوز: فلا يجوز السلم فيها عددًا، ولكن يجوز وزنًا، وهل يجوز كيلا؟ فيه وجهان: [الأول] : قال أبو إسحاق: يجوز كيلا؛ لأنه يمكن كيله. و [الثاني]ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يجوز؛ لأنه يتجافى في المكيال) . وقال أبو حنيفة: (يجوز السلم في البيض والجوز واللوز عددًا؛ لأن التفاوت بين ذلك بالعدد فيه قليلٌ) . وهذا لا يصح؛ لأن ذلك يختلف ويتباين ويتفاوت، فلم يصح السلم فيه بالعدد، كالرُّمان والبطيخ. ويجوز السلم في البقول، كالكرَّاث والبصل والنَّعناع والهندباء، ولا يجوز السلم فيه حزمًا؛ لأن ذلك يختلف. ولا يصح السلم فيها إلا وزنًا. قال الشافعي في " الأم " [3/113] : (ويجوز السلم في قصب السكر، إذا ضبط بما يعرف به، ولا يقبل أعلاه الذي لا حلاوة فيه، ويقطع مجامع عروقه من أسفله، ويطرح ما عليه من القشور، ولا يجوز السلم فيه إلا وزنًا؛ لأنه لا يمكن غيره. وكذلك يجوز السلم على القصب، والقصيل وكلِّ ما تنبت الأرض، ولا يجوز السلم فيه إلاَّ وزنًا) .

مسألة: السلم في التمر

[مسألةٌ: السلم في التمر] ] : وإذا أسلم في التمر.. فلا بد من ذكر سبعة أشياء: الجنس: وهو قوله: تمر. والنوع: وهو أن يقول: برنيٌّ، أو معقليٌّ، أو صيحانيٌّ. واللون: وهو أن يقول: أحمر، أو أسود؛ لأن النوع الواحد قد يختلف لونه. ويذكر دقاق الحب، أو كبار الحب. ويذكر البلد؛ لأن ما يشرب من الماء العذب يكون أعذب مما يشرب من المالح. جيدٌ، أو رديءٌ. حديثٌ، أو عتيقٌ، وإن قال: عتيق عام أو عامين.. كان آكد. وقال أصحاب أبي حنيفة: يذكر الجنس، والنَّوع، والجودة لا غير. دليلنا: أنه يختلف باختلاف ما ذكرناه، فلم يكن بدٌّ من ذكره، كالجنس والنَّوع. وإن أسلم في الرطب.. ذكر جميع صفات التمر، إلاَّ العتيق، فإن الرُّطب لا يكون عتيقًا. [فرعٌ: السلم في البُرِّ] وإن أسلم في الحنطة.. وصفها بستة أوصاف: الجنس، فيقول: حنطة. والنوع، وذلك بذكر البلد. واللون، فيقول: سمراء، أو بيضاء. صغار الحب، أو كباره. جيِّدٌ، أو رديءٌ. حديثٌ، أو عتيقٌ. قال الشافعي [في " الأم " 3/91] : (ويصفه بالدقة، والحدارة) . و (الدقة) : أن يكون الحب دقيقًا، فيكن دقيقه قليلا، ولكن خبزه أكثر؛ لأنه يشرب الماء. و (الحدارة) : امتلاء الحب؛ لأن دقيقه أكثر، وخبزه أقل. قال ابن الصبّاغ: وأمّا العلس: فلا يصح السلم فيها؛ لاختلاف الأكمام،

فرع: السلم في الذرة

وتغيب الحب. وكذلك لا يجوز السلم في الأرز؛ لما ذكرناه في العلس. وأمّا السلم على الدقيق: فالمنصوص: (أنه يجوز) ؛ لأنه يصفه بالنعومة، والخشونة. وقال أبو القاسم الداركي: لا يجوز؛ لأنه لا يمكن ضبط صفته. وليس بشيء. قال الشافعي: (فإن أسلم في طعام على أن يطحنه.. لم يجز) ؛ لأنه سلم في طعام وصنعةٍ. وإن شرط على أن يعطيه عن الطعام دقيقًا مثل مكيله.. لم يصح؛ لأنه شرط أن يعطيه أقل من حقه؛ لأن مكيله حنطة أكثر من مكيله دقيقًا. [فرعٌ: السلم في الذرة] وإن أسلم في الذرة.. فإنّها توصف بستة أوصاف: فيذكر الجنس، وهو أن يقول: ذرة. والنوع، فيقول: شريحيٌّ، أو أبيض، أو حدارٍ. والبلد الذي زرعت فيه؛ لأن ذلك يختلف. ويصف الحبّ، فيقول: كبار الحب، أو صغار، جيّد، أو رديء، حديث، أو عتيق. وأمّا اللون: فيحتمل أن لا يفتقر إليه؛ لأن ذكر النوع يشتمل عليه. وإن أسلم إليه في أجود الطعام.. لم يجز؛ لأنّا لا يمكننا أن نجبر المسلم على قبوله؛ لأنه ما من طعام يأتي به المسلم إليه، ويقول: هذا الذي أسلمت إليك فيه، إلا ويقول المسلم: أسلمت في أجود منه، فلم يصح السلم فيه؛ لذلك. وإن أسلم إليه في أردأ الطعام.. ففيه قولان: أحدهما: لا يصح، كما لا يصح في الأجود. والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأنه أي طعام أتى به المسلم إليه.. فإن المسلم يجبر على قبوله؛ لأنه وإن كان غيره أردأ منه، إلاَّ أنَّ المسلم إليه قد تطوع بزيادة لا تتميز، فلزمه قبوله.

فرع: السلم في العسل

[فرعٌ: السلم في العسل] ] : وإن أسلم في العسل.. قال: عسل من رعي كذا؛ لأن النحل يقع على الكمّون والصعتر فيكون دواء، وقد يقع على أنوار الفاكهة، قال الشيخ أبو حامد: فيكون داءً. ويذكر اللون، فيقول: أبيض، أو أحمر، أو أصفر. ويذكر الوقت، فيقول: خريفي، أو ربيعي، أو صيفي؛ لأنه يختلف باختلاف الأوقات. ويقول: جيِّدٌ، أو رديءٌ. قال الشافعي: (فإن قال: عسل مصفّى.. كان أَولى. وإن لم يذكر ذلك.. جاز) ؛ لأن العسل اسم للمصفى. فإن جاءه بعسل مصفًّى من الشمع بالشمس، أو بنار ليِّنة تجري مجرى الشمس.. لزم المسلم قبوله، وإن صُفِّي بنار شديدة.. لم يجبر المسلم على قبوله؛ لأن هذا نقص فيه. وإن أتى به رقيقًا، فإن كانت رقَّته لشدة الحر، أو تأثير الهواء.. أُجبر المسلم على قبوله. وإن كانت رقته أصلية.. لم يجبر على قبوله؛ لأن هذا عيب فيه. [فرعٌ: السلم في الشمع] ] : قال الصيمري: ويجوز السلم في الشمع مصبوبًا، وغير مصبوب. [مسألة: السلم في القن] ] : قال الشافعي: (وإن كان ما أسلم فيه رقيقًا.. قال: عبدٌ نوبيٌّ خماسيٌّ، أو سداسيٌّ، أو محتلمٌ) . وهذا كما قال: إذا أسلم في الرقيق.. احتاج إلى ستة أوصاف:

النوع، فيقول: حبشيٌّ، أو زنجيٌّ، أو روميٌّ، أو تركيٌّ. واللون إن كان يختلف لون النوع، كالأبيض، والأصفر، والأسود. وإن كان النوع الواحد يختلف.. فهل يحتاج إلى ذكر الأنواع منه؟ فيه قولان، ذكرهما الشافعي في (الإبل) . ويذكر أنه ذكر أو أنثى. ويذكر السن، فيقول: بالغ، أو غير بالغ، ابن ثمان سنين، أو عشر. ويرجع في بلوغه إليه. وأمّا السن: فإن كان مولَّدًا.. رجع إلى من ربّاه. وإن كان جلبيًّا.. رجع إلى أهل الخبرة من النَّخَّاسين. ويذكر القامة، فيقول: خماسيٌّ، أو سداسيٌّ. فـ (الخماسيُّ) : ما كان طوله خمسة أشبار، و (السداسيُّ) : ما كان طوله ستة أشبار، وهو دون قامة الرجل، فإن قامة الرجل سبعة أشبار. ويقول: جيد، أو رديء. فإن كان عبدًا.. فالمستحب: أن يجليه، فيقول: أزج الحاجبين، أدعج العينين، وما أشبه ذلك، ولا يجب ذلك. وإن كانت جارية.. فهل يجب أن يذكر أنها ثيب، أو بكر؟ فيه وجهان: [الأول] : قال الشيخ أبو حامد: لا يجب ذلك، ولم يذكرها الشافعي، وإنّما يستحب؛ لأن الثمن لا يختلف بذلك اختلافًا متباينًا. و [الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب "، والصيمري: يجب؛ لأن الثمن يختلف بذلك. والمستحب: أن يصفها بأنها جعدة أوسبطة، ولا يجب ذلك؛ لأن الثمن لا يختلف باختلافه اختلافًا متباينًا. قيل للشيخ أبي حامد: فإذا كان بيع الجارية لا يصح حتى يشاهد شعرها.. فهلاَّ

فرع: السلم في الإبل والخيل والغنم

كان وصفه في السلم شرطًا؟ فقال: ليس كل ما تشترط رؤيته في بيع العين يشترط وصفه في بيع السلم. وإن قال: عبد أعور، أو أعمى، أو مقطوع اليد.. جاز. قال الصيمري: وإن أسلم في جارية ذات زوج، أو عبدٍ ذي زوجة.. جاز؛ لأن ذلك يوجد غالبًا. وإن أسلم جاريةً صغيرةً في جاريةٍ كبيرةٍ.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا يجوز؛ لأن الصغيرة ربّما كانت كبيرة في المحل، فيأتي بها، فيجبر على قبولها، فيكون قد أخذ جارية ووطئها، ثم ردّها فيصير في معنى من استقرض جارية. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يجوز؛ لأنه حيوان يجوز السلم فيه، فجاز إسلام بعضه ببعض، كالإبل. وما قاله الأول.. لا يصح؛ لأنه قد يشتري جارية، فيطؤها، ثم يجد بها عيبًا، فيردُّها، ولا يجري مجرى الاستقراض. فإذا قلنا بهذا: فجاء بالصغيرة وقد كبرت، وصارت بصفة المسلم فيها.. فهل يجبر المسلم على قبولها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجبر؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون الثمن والمثمن واحدًا، وهذا لا يجوز. والثاني: يجبر؛ لأن الثمن هو الذي يسلّم إليه، والمثمن هو الموصوف في الذمة، وهذه المدفوعة تقع عمَّا في الذمة. [فرعٌ: السلم في الإبل والخيل والغنم] ] : وإن أسلم في الإبل.. احتاج إلى خمسة شرائط: النوع، فيقول: من نتاج بني فلان. والسن، فيقول: بنت مخاض، أو بنت لبون، أو حقة. ذكر، أو أنثى. جيِّدٌ، أو رديء. أحمر، أو أصفر، أو أبيض، أو أسود.

فإن كان نتاج بني فلان يختلف.. فهل يحتاج إلى ذكر ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: لا يحتاج إلى ذلك؛ لأن النِّتاج الواحد يتقارب ولا يختلف. والثاني ـ قاله ابن الصَّباغ، وهو الأقيس ـ: أنه لا بد من ذكره؛ لأن الأنواع مقصودةٌ، وهي: المهرية، والأرحبية، والمجيدية، فوجب ذكرها. إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (يقول: غير مودن، نقيٌّ من العيوب، سبط الخلق، مجفر الجنبين) . فـ (المودن) : الناقص الخلق. وقوله: (سبط الخلق) يعني: مديده. (مجفر الجنبين) يعني: ممتلئ الجوف، منتفخ الخواصر. ولا يختلف أصحابنا: أن ذلك تأكيد، وقد قال في " الأم " 3/84] : (وأحب إلي أن يقول: نقيٌّ من العيوب. وإن لم يقله.. لم يكن عيبًا) . وهذا يدل على ما قلناه. وإن أسلم في الخيل.. ذكر فيها صفات الإبل، فإن ذكر شيته كالبلقة، والتحجيل، والغرة.. جاز. وإن لم يذكر ذلك.. جاز، وكان له البهيم، وهو لونٌ واحدٌ؛ لأنه إذا قال: أدهم أو أشقر أو أبيض.. اقتضى ذلك لونًا واحدًا. وأمّا البغال والحمير: فلا نتاج لها، فيصفها وينسبها إلى بلادها، ويذكر اللون، والسن، والذكورية، والأنوثية، والجودة، والرَّداءة. وأمَّا الغنم: فيذكر في السلم عليها: الجنس، فيقول: شاةٌ. والنوع، فيقول:

مسألة: السلم في الثياب والورق

ضأنٌ، أو معزٌ من غنم بلد كذا. ويذكر السن. والذكر أو الأنثى. واللون. والجودة أو الرَّداءة. فإن أسلم في شاة لبون.. ففيها قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه سلم في شاة، ولبن مجهول. والثاني: يجوز، ويكون ذلك شرطًا يتميز به، ولا يكون سلمًا في لبن؛ لأنه لا يلزمه تسليمها وبها لبن، بل له أن يحلبها، ثم يسلمها. [مسألة: السلم في الثياب والورق] ] : وإن أسلم في الثياب.. احتاج إلى ذكر الجنس، فيقول: كتّان، أو قطن. والنوع، فيقول: بغداديٌّ، أو رازيٌّ، أو بصريٌّ في الكتان. وإن كان قطنًا.. قال: هرويٌّ، أو مرويٌ. ويذكر الطول والعرض، والدقة والغلظ، والصَّفاقة أو الرقة؛ لأنه قد يكون غليظًا رقيقًا، وقد يكون غليظًا صفيقًا، فالصفاقة بخلاف الغلظ. ويذكر جيِّدًا، أو رديئًا. خشنًا، أو ناعمًا. وإن لم يذكر الجنس، وذكر النوع.. كان كافيًا. وإن أسلم في ثوب، فذكر أنه مقصور، أو خام.. جاز. وإن أطلق.. سلَّم إليه ما شاء منهما. وإذا أسلم في الثوب، وضبطه بهذه الصفات، وشرط معها وزنًا معلومًا.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصحُّ؛ لأنه لا يكاد يتفق ثوبٌ على هذه الصفات المشروطة مع وزن معلوم. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يصح، وقد نص الشافعي على: (أنه إذا أسلم في آنية، وذكر لها وزنًا معلومًا.. صحّ) .

فرع: السلم في المعدن والأواني والعلوق

وإن أسلم في ثوب لبيس.. لم يصح؛ لأنه يختلف ولا ينضبط. قال الصيمري: ويجوز السلم في القمص والسراويلات، إذا ضبطت بالطول، والعرض، والضيق، والسعة. وإن أسلم في ورق.. وصفه بالنوع، فيقول: طلحيٌّ، أو زيديٌّ، أو نعمانيٌّ. والطول والعرض، [فيقول] : دقيق، أو غليظ. صفيق، أو رقيق. جيّد، أو رديء. ويذكر اللون، فيقول: أبيض، أو أصفر، أو أحمر. وإن ذكر الوزن مع ذلك.. احتمل الوجهين في الثوب. [فرعٌ: السلم في المعدن والأواني والعلوق] وإن أسلم في النُّحاس والرصاص والحديد.. ذكر الجنس، فيقول: رصاص، أو نحاس. والنوع، فيضيف ذلك إلى البلد. ناعمٌ، أو خشنٌ. جيدٌ، أو رديءٌ. ويذكر اللون إن كان يختلف. وإن كان حديدًا.. ذكر مع ذلك ذكرًا أو أنثى؛ لأن الذكر منه أكثر ثمنًا؛ لأنه أحدُّ وأمضى. وأمّا الأواني المتخذة منها: فإن استوى وسطه وطرفاه، كالسطل، والطست.. جاز بعد أن يذكر سعة معروفة من الطول والتدوير والعمق. وإن كان مما يختلف، كالأباريق، والقماقم، والمسارج.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يجوز، كما لا يجوز السلم في النبل المعمول. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يجوز؛ لأن الشافعي نص في " الأم " على صحة السلم على القمقم، ولأنه يمكن وصفه ولا يختلف اختلافًا متباينًا.

مسألة: السلم في اللحم والشحم

وإن اشترط وزنه.. كان أولى. وإن لم يشرط وزنه.. جاز. نصّ عليه الشافعي. قال الصيمري: وإن أسلم في علوق الذهب والفضة.. قال: مصمت أو مجوف. فأما المحشوُّ منها: فلا يصح السلم فيها. [مسألة: السلم في اللحم والشحم] ويصح السلم على اللحم. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز) . دليلنا: أنه يمكن ضبط صفاته، فجاز السلم عليه، كالثمار. إذا ثبت هذا: فإنه يذكر في السلم عليه سبعة شرائط: فيذكر الجنس، فيقول: هو لحم بقر، أو إبل، أو غنم. والنوع، فإن كان من البقر.. قال: لحم بقر أهلي، أو جواميس، أو عراب، أو بقر الوحش. وإن كان من الغنم.. قال: ضأن، أو ماعز. والسن، فيقول: صغير، أو كبير. فإن كان صغيرًا.. قال: فطيم، أو رضيع. وإن كان كبيرًا.. قال: جذع، أو ثنيُّ. ويقول: ذكرٌ، أو أنثى، فإن كان ذكرًا.. قال: خصيّ أو فحل. سمين، أو مهزول، ولا يقول: أعجف؛ لأن العجف عيب، وهو: أن يصيبه هزال من عيب، وذلك لا يعلم قدره. ويقول: راع أو معلوف؛ لأن لحم الراعية أطيب. ويذكر الموضع الذي يؤخذ منه، فيقول: من لحم الرقبة، أو الكتف، أو الجنب، أو الفخذ؛ لأن كل ما قرب من الماء.. كان أطيب، ولحم الفخذ أدون؛ لأنه أبعد من الماء.

فرع: السلم على لحم الصيد بأنواعه

فإذا ثبت هذا: فإن اللحم يسلمه إليه مع العظام؛ لأن اللحم يذكر مع العظام، فأشبه النوى في التمر، ولأن العظم يلتزق باللحم ويتصل به أكثر من اتّصال النوى بالتمر. فإن تطوع المسلم إليه، وأخرج العظم منه.. جاز. وإن أسلم في الشحم.. ذكر فيه صفات اللحم، وذكر أنه من شحم البطن، أو غيره. ويجوز السلم على الأليات بالوزن. [فرعٌ: السلم على لحم الصيد بأنواعه] وإن أسلم على لحم صيد في بلد يوجد فيه غالبًا.. ذكر النوع، فيقول: غزالٌ، أو ظبيٌ، أو وعلٌ. ذكرٌ، أو أنثى. ولا يقول: خصيٌّ، أو فحلٌ؛ لأن لا يكون إلاَّ فحلاً. والسنّ، فيقول: صغير، أو كبير، فإن كان صغيرًا.. قال: فطيم، أو رضيع؛ لأن لحم الرضيع أطيب وأرطب. ويذكر السمن، أو الهزال. جيّدًا، أو رديئًا. والموضع الذي يُعطى منه. قال الشيخ أبو حامد: ويذكر الآلة التي يصطاد بها؛ لأنها إذا صيدت بالأحبولة.. كان لحمها أطيب من لحم ما صيد بالسهم. ويقال: إن ما صيد بالكلب أطيب ممّا صيد بالفهد؛ لأن فم الكلب مفتوحٌ أبدًا، فنكهته أطيب، وفا الفهد منطبق، فنكهته كريهة. وقال ابن الصبَّاغ: إن كان اللحم يختلف بذلك اختلافًا متباينًا.. وجب ذكره. وإن كان اختلافًا يسيرًا.. لم يجب ذكره. فأمّا لحم الطيور: فيذكر النوع، فيقول: حمامٌ، أو عصافير، أو قنابر. سمينٌ، أومهزول. جيِّدٌ، أو رديءٌ. ولا يمكن معرفة الذكر والأنثى منه، فإن

فرع: السلم في السمن واللبن

اختلف فيهما وأمكن معرفته.. وجب ذكره. ويذكر الصغير والكبير، ولا يذكر السن؛ لأنه لا يعرف. فإن كان الطير كبيرًا.. ذكر الموضع الذي يعطى منه، ولا يلزمه أن يقبل فيه الرأس والرِّجل؛ لأنهما عظمان، وإنما أسلم في اللحم. وإن كان لحم سمك.. ذكر النوع، والصغر والكبر، والجودة أو الرداءة. وإن كان كبيرًا.. ذكر الموضع الذي يعطى منه، ولا يجوز أن يعطي في الوزن الذنب والرأس. [فرعٌ: السلم في السمن واللبن] ] : وإذا أسلم في السمن.. فإنه يقول: سمن بقر، أو ضأن، أو معز. قال الشافعي: (فإن كان بمكة.. قال: سمن ضأن نجدية أو تهامية؛ لأنهما يختلفان في الطعم واللون والثمن. ويذكر اللون، فيقول: أبيض أو أصفر. ويقول: جيد أو رديء) . قال الشيخ أبو حامد: ويذكر ما ترعى الماشية. وأمَّا الحديث أو العتيق: ففيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح السلم على العتيق منها؛ لأنه معيب، ولا يُدرى قدر عيبه وتناهي نقصانه. قال الشافعي: (لأنه يصلح للجراح، فإذا أسلم في السمن.. لم يلزمه أن يقبل إلا الحديث) . و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: العتيق الذي تغيَّر لا يدخل فيه؛ لأنه معيب، وليس كل عتيق متغيِّرًا، فلا بد أن يقول: حديث أو عتيق إن كان يختلف. ويسلم فيه وزنًا، ويجوز كيلا إذا لم يكن جامدًا يتجافى في المكيال. ويجوز السلم في الزبد، ويصفه بصفات السمن، ويزيد فيه وصفا، فيقول: زبد يومه، أو أمسه؛ لأنه يختلف بذلك. فإن جاءه بزبد فيه رقة.. نظرت:

فرع: السلم في الجبن

فإن كان لشدة حر الزمان.. لزم المسلم قبوله. وإن كان لرقة في الأصل.. لم يلزمه قبوله؛ لأنه عيب فيه. ولا يجوز السلم فيه إلا وزنًا. وإن أسلم في اللبن.. وصفه بالنوع، فيقول: لبن بقر أو ضأن أو معز، جيدٌ أو رديءٌ، ويذكر ما ترعى الماشية. وقال ابن الصبّاغ: ويقول: معلوفة أو راعية، ولا يحتاج إلى ذكر الحليب؛ لأنه لا يصح السلم فيه إلا في الحليب، فأمّا الحامض منه.. فلا يصح السلم فيه؛ لأنه معيب. قال الشافعي: (فإن أسلم في حليب يوم أو يومين.. جاز) . قال ابنُ الصبَّاغ: ذكر ذلك تأكيدًا لا شرطًا. وقال الشيخ أبو حامد: إن كان ببلدٍ يبقى اللبن حليبًا يومًا أو يومين.. جاز أن يسلم في حليب يومين. قال الشافعي: (وأقل حدِّ الحليب: أن تقل حلاوته، وإذا قلت حلاوته.. خرج عن أن يكون حليبًا) . قال الشيخ أبو حامد: ويجوز السلم فيه كيلا ووزنًا، فإن أسلم فيه كيلا.. لم يكله حتى تسكن رغوته؛ لأنها تؤثر في الكيل. وإن أسلم فيه وزنًا، فإن قال أهل الخبرة: إن كان لتلك الرغوة في الوزن أثر.. لم يوزن حتى تسكن. وإن قالوا: لا تأثير لها.. وزن كما هو. [فرعٌ: السلم في الجبن] ] : ويجوز السلم في الجبن، ويصفه بصفات اللبن، ويذكر مع ذلك البلد؛ لأنه يختلف، ويذكر: أنه رطب، أو يابس. فإن أسلم في رطب، فإنه إذا أخرج، وترك

فرع: السلم في الصوف والوبر

على موضع حتى نزل منه الماء، وبقي كالخاثر.. لزم المسلم قبوله. وإن أسلم في اليابس.. لزمه أن يقبل أدنى ما يتناوله اسم اليبس، وقد مضى ذكر اللِّبَأ. [فرعٌ: السلم في الصوف والوبر] ويجوز السلم في الصوف، فيذكر سبعة أوصاف: فيقول: صوف غنم بلد كذا؛ لأنه يختلف باختلاف البُلدان. ويذكر اللون، فيقول: أبيض أو أسود أو أحمر. ويقول: طويل أو قصير؛ لأن الطويل خير من القصير. ويقول: جيد أو رديء. ويقول: صوف إناث أو ذكور؛ لأن صوف الإناث أنعم. ويذكر الزمان: خريفي أو ربيعي؛ لأن صوف الخريف أنظف؛ لأنه عقيب الصيف، وصوف الربيع رديء. قال الشافعي: (ويقول: نقي خالص من الشوك والبعر، مغسول) . قال أصحابنا: وهذا احتياط، فإن لم يذكر ذلك.. جاز؛ لأنه يجب دفعه كذلك. قال الشافعي: (وكذلك الوبر والشعر، يجوز السلم فيهما، ويصفهما بصفات الصوف، ولا يجوز السلم في ذلك إلا وزنًا) . [فرعٌ: السلم في القطن] ] : ويجوز السلم في (الكرسف) : وهو القطن، ويذكر فيه ستة أوصاف: فيقول: قطن تهامة أو أبين. ويذكر اللون، فيقول: أبيض أو أسمر. ويقول:

فرع: السلم في الحرير

ليِّنٌ أو خشنٌ. جيّد أو رديء. ويقول: طويل الشعر أو قصيره؛ لأن ذلك يختلف. فإن شرط منزوع الحب.. جاز، ولزمه ذلك. وإن أطلق.. كان عليه أن يأخذه بحبه؛ لأن الحب فيه بمنزلة النوى في التمر. فإن اختلف قديمه وحديثه.. ذكره. فإن أعطاه رطبا.. لم يلزمه قبوله؛ لأن الإطلاق يقتضي قطنًا جافًّا. فإن أسلم في القطن في جوزه.. لم يصح؛ لأنه مستور بما لا مصلحة له فيه، ولأنه لا يجوز بيعه في جوزه، فلم يصح السلم عليه فيه، بخلاف الجوز واللوز؛ لأنه مستور بما له فيه مصلحة. وإن أسلم في غزله.. لزمه وصفه بصفات القطن، إلا الطول والقصر، فلا يذكره. ويذكر فيه غليظ، أو دقيق. [فرعٌ: السلم في الحرير] ] : وإن أسلم في الإبريسم.. ذكر نوعه، فيقول: إبريسم خوارزمي أو بغذاذي، أو غير ذلك من البلاد، ويذكر لونه فيقول: أبيض أو أصفر أو أحمر، جيد أو رديء. ويقول: طويل أو أقصير، دقيق أو غليظ. وإن أسلم في القز، فإن كان فيه الدود.. لم يصح، حيًّا كان أو ميتًا؛ لأنه إن كان حيًّا.. فلا مصلحة في تركه فيه. وإن كان ميتا.. فلا يجوز بيعه. والقز وزنه مجهول. وإن كان قد خرج منه الدود.. جاز السلم فيه؛ لأنه يمكن وزنه. [فرعٌ: السلم في الخشب] ] : وإن أراد أن يسلم على الخشب.. فالخشب على ثلاثة أضرب:

ضرب: يراد للبناء، فإذا أسلم فيه.. ذكر نوعه، فيقول: خشبه من ساج أو صنوبر أو غلب، ويذكر لونه أبيض أو أحمر أو أصفر أو أسود، رطب أو يابس، ويذكر طوله وعرضه، أو دوره وسمكه. ويقول: جيد أو رديء. وإن ذكر مع ذلك الوزن.. جاز، وجهًا واحدًا، بخلاف الثوب؛ لأن النساج لا يمكنه أن ينسج ثوبا بصفات معلومة من غزل مقدر إلا نادرا، بخلاف الخشب، فإنه إذا أراد وزنه.. أمكن أخذ شيء منه. وإن لم يذكر الوزن.. جاز. ولا يلزم المسلم أن يأخذ ما فيه عقد؛ لأن ذلك عيب. ويجب دفعه ذلك إليه من طرفه إلى طرفه بالعرض والسمك والدور الذي شرطه. وإن كان أحد طرفيه أدق.. لم يجبر على قبوله. وإن كان أحد طرفيه أغلظ.. قال ابن الصباغ: فقد زاده خيرًا. الضرب الثاني ـ من الخشب ـ: ما يراد للقسي، فيذكر لونه ونوعه، ويقول: جيد أو رديء، رطب أو يابس، جبلي أو سهلي؛ لأنه يختلف؛ لأن الجبلي أقوى. فإن كان للقِسيِّ العربية.. ذكر الطول والعرض. وإن كان للقسي العجمية.. لم يحتج إلى ذكر الطول والعرض؛ لأنه يكون قطعًا صغارًا، أو يكون موزونًا. والضرب الثالث: ما يراد للوقود، فيذكر نوعه، ويقول: خوطٌ قرضٌ أو عسق صغارًا أو كبارًا أو وسطًا، رطبٌ أو يابسٌ، جيدٌ أو رديء. ولا يذكر اللون؛ لأن ليس بمقصود. ويذكر وزنه.

فرع: السلم في الأحجار والآجر

[فرعٌ: السلم في الأحجار والآجرِّ] ِّ] : ويجوز السلم في الأحجار، وهي على ثلاثة أضرب: ضرب: يراد للأرحية، فيصفها بالنوع، فيقول: من حجار بلد كذا وكذا، ويذكر اللون والدور والثخن، جيد أو رديء. فإن شرط وزنه.. جاز. فإذا أراد وزنه، فإن أمكن وزنه بالقبان.. وزنه به. وإن لم يمكن وزنه بذلك.. وزنه بالسفينة، فيترك فيها، وينظر إلى أي حدٍّ تغوص في الماء، ثم توضع مكانه أحجار صغار أو رمل، حتى تغوص السفينة إلى ذلك الحد الذي غاصت فيه مع الحجر، ثم تخرج، ويزنها، فيعرف أن ذلك وزن ذلك الحجر. والضرب الثاني ـ من الأحجار ـ: ما يراد للبناء، فيذكر نوعها بإضافتها إلى البلد، وطولها وعرضها ولونها، ويقول: جيد أو رديء، ويقول: صغار أو كبار. والضرب الثالث: أحجار تراد للأبنية، فيذكر نوعها بذكر بلدها، ويذكر لونها، جيدًا أو رديئًا، ويذكر طولها وعرضها وسمكها وتدويرها. وإن ذكر الوزن.. جاز. وإن لم يذكر.. لم يفسد. ويجوز السلم في الآجر، ويذكر طوله وعرضه والدور والثخن. ويجوز السلم في اللبن، ويصفه بما ذكرناه. قال ابن الصباغ: وإن شرط في اللبن أن يطبخه.. لم يجز؛ لأنه قد يفسد.

فرع: السلم في أنواع الطيب

[فرعٌ: السلم في أنواع الطيب] ] : ويجوز السلم في المسك والعنبر والكافور. قال الشافعي: (وأخبرني عدلٌ ممن أثق بخبره: أن العنبر نباتٌ يخلقه الله في البحر، ومنه: الأشهب والأخضر والأبيض) . فيذكر لونه، وإن كان يختلف باختلاف البلاد.. قال: عنبر بلد كذا، جيد أو رديء، ويذكر قطعة وزنها كذا إن كان يوجد قطعة وزنها ذلك. فإن شرط قطعة.. لم يجبر على قبول قطعتين. وإن أطلق ذلك.. كان له أن يعطيه صغارًا أو كبارًا. وأما العود: فلا بد من ذكر نوعه بإضافته إلى البلد، ويرجع في صفات كل ما لا يعرفه المتعاقدان إلى أهل الخبرة به. [مسألة: في بيان الأجل] وإن أسلم في مؤجل.. وجب بيان الأجل؛ لحديث ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلف.. فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» ، ولأن الأجل إذا كان مجهولاً.. تعذرت المطالبة والقبض، فيبطل المقصود، فلم يصح. إذا ثبت هذا: فـ (الأجل المعلوم) : أن يسلم إلى شهر من شهور العرب، أو شهور الروم، أو الفرس، ويكون ذلك معلومًا عندهما. وكذلك: إذا أسلم إلى عيد الفطر أو الأضحى، أو أسلم إلى النيروز أو المهرجان، وهما عيدان من أعياد اليهود

فرع: السلم إلى وقت مجهول

معروفان عند المسلمين واليهود.. فإن ذلك يصح إذا كان المتعاقدان يعرفان ذلك. وإن كانا لا يعلمان ذلك.. لم يصح؛ لأن الاعتبار بهما. وإن أسلم إلى النفر الأول أو الثاني.. جاز، وذلك لأهل مكة؛ لأنه معروف عندهم، وهل يجوز لغيرهم؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي عن " الحاوي "، قال: والأصح: إن كانا يعرفان وقت ذلك.. صح. وإن أسلم إلى (يوم القر) : وهو يوم الحادي عشر من ذي الحجة.. قال الشاشي: فهل يصح لأهل مكة؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح، كما لو أسلم إلى يوم النفر. والثاني: لا يصح؛ لأنه لا يعرفه إلا خواصهم. وإن أسلم إلى جمادى أو ربيع، ولم يبين أنه الأول أو الثاني.. ففيه وجهان: أحدهما: من أصحابنا من قال: لا يصح؛ لأنه مجهول. والثاني ـ وهو المذهب ـ: أنه يصح؛ لأن الشافعي قال: (وإذا أسلم إلى النفر وأطلق.. صح، وحمل على النفر الأول) وإذا أسلم إلى عقب شهر كذا.. قال في (الإفصاح) : لم يصح؛ لأن عقب الشهر يقع على بقية الشهر، وعلى أول الشهر الذي بعده، وذلك مجهول، فلم يصح. [فرعٌ: السلم إلى وقت مجهول] وإن أسلم إلى عطاء السلطان الجند.. لم يجز؛ لأنه يختلف. فإن قال: إلى وقت العطاء، وكان له وقت معلوم.. صحّ. وإن قال: إلى الحصاد، أو الموسم، أو إلى قدوم الحاجّ، أو إلى الشتاء، أو إلى الصيف.. لم يجز، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك، وأبو ثور: (يصح السلم إلى العطاء، والحصاد، والدياس) .

فرع: وقت حلول الأجل لو أسلمه إلى يوم كذا

دليلنا: ما روي عن ابن عبَّاس: أنه قال: (لا تبايعوا إلى الحصاد والدياس، ولا تبايعوا إلاّ إلى أجل معلوم) . ولأن ذلك يتقدم ويتأخر، فلم يصح، كما لو قال: إلى مجيء المطر. وإن أسلم إلى عيد من أعياد اليهود والنصارى، كالشعانين، وعيد الفطير.. قال الشافعي: (لم يصح؛ لأن هذا لا يعرفه المسلمون، ولأنهم يقدمونه ويؤخرونه على حساب لهم) . وقال أبو إسحاق: إن علم المسلمون منه مثل ما يعلمونه.. جاز أن يجعلوه أجلاً في السلم. [فرعٌ: وقت حلول الأجل لو أسلمه إلى يوم كذا] إذا قال: أسلمت إليك إلى يوم كذا.. كان المحل إذا طلع الفجر من ذلك اليوم. وإن قال: إلى ليلة كذا.. كان المحل إذا غربت الشمس من اليوم الذي قبل تلك

فرع: أسلم إلى عدة شهور ولم يعين

الليلة. وإن قال: إلى شهر كذا، أو رأس شهر كذا أو غرته أو أوله.. كان المحل إذا غربت الشمس من آخر يوم من الشهر الذي قبل هذا الشهر؛ لأن اليوم اسم لبياض النهار، والشهر يشتمل على الليل والنهار. وإن قال: محله من يوم كذا، أو في شهر كذا، أو محله يوم كذا أو شهر كذا.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يصح، ويتعلق بأوله ـ وبه قال أبو حنيفة ـ كما لو قال لها: أنت طالق في يوم كذا.. فإنه يتعلق بأوله. والثاني ـ وبه قال عامّة أصحابنا ـ: أنه لا يصح؛ لأنه يقع على جميع أجزاء اليوم والشهر، وذلك مجهول، فلم يصح. والفرق بين الطلاق والسلم: أن الطلاق يصح أن يعلق بالمجهول والغرر، بخلاف العقود. قال ابن الصباغ: وهذا الفرق ليس بصحيح عندي؛ لأنه لو كان مجهولاً.. لوجب أن يصح ولا يتعلق بأوله، بل يتعلق بوقت منه يقف على بيانه، فإذا فات جميعه.. وقع، فلمّا تعلق بأوله.. اقتضى ذلك: أن الإطلاق يقتضيه. وإن قال: أسلمت إليك في كذا، بأن تسلمه إلي من هذا اليوم إلى رأس الشهر.. لم يصح؛ لأنه لا يدري أي يوم يطالبه به، ولا كم يطالبه به، في كل يوم. [فرعٌ: أسلم إلى عدة شهور ولم يعين] ] : إذا قال: أسلمت إليك إلى خمسة أشهر أو ستة أشهر.. انصرف ذلك إلى الشهور العربية، والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] [البقرة: 189] . فجعلها علمًا للمواقيت، فانصر الإطلاق إليها. فإن كان حين العقد أول الشهر لم يمض جزء منه.. اعتبر الجميع بالأهلة، تامة كانت الشهور أو ناقصة؛ لأن الاعتبار بما بين الهلالين. وإن كان حين العقد قد مضى جزء من الشهر..عد ما بقي من هذا الشهر من الأيام، ثم اعتبر ما بعده من الشهور بالأهلة، تامة كانت أو ناقصة، وتمم الشهر الأول بعد ذلك بالعدد. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وابن الصباغ.

فرع: أسلم وشرط الحلول أو زاد أو نقص في الأجل

وذكر في " المهذب ": إن كان العقد في الليلة التي رؤي فيها الهلال.. اعتبر الجميع بالأهلة. وإن كان العقد في أثناء الشهر.. اعتبر الشهر الأول بالعدد، وما بعده بالأهلة. [فرعٌ: أسلم وشرط الحلول أو زاد أو نقص في الأجل] ] : وإن أسلم في شيء وشرط: أنه حال.. صح. وإن أطلق.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح السلم؛ لأن العقد يقع على مجهول؛ لأنه لم يذكر الحلول ولا التأجيل. والثاني: يصح ويكون حالاًّ؛ لأن ما جاز حالاًّ ومؤجلاً.. حمل إطلاقه على الحال، كالثمن في البيع. وفيه احترازٌ من الكتابة؛ لأنها لا تصح حالة، وإذا أطلق العقد.. لم يصح. وإن أسلم في شيء، وشرط: أنه حالٌّ، ثم اتفقا على تأجيله، أو أسلم على مؤجل، ثم اتفقا على حلوله، أو زادا في الأجل أو نقصا منه، فإن كان ذلك بعد التفرق.. لم يلحق بالعقد. وقال أبو حنيفة: (يلحق بالعقد) . وإن كان قبل التفرق.. لحق بالعقد. وقال أبو عليّ الطبري: إذا قلنا: إن الملك ينتقل إلى المشتري بنفس العقد.. لم يلحق بالعقد. وقد مضى ذكر هذا في (المرابحة) . [فرعٌ: أسلم في جنسين إلى أجل أو العكس] ] : إذا أسلم إليه شيئًا في جنس إلى أجلين أو آجال، أو أسلم إليه شيئًا في جنسين إلى أجل، مثل: أن قال: أسلمت إليك هذا الدينار في كذا وكذا رطل لحم، وتدفع إليّ كل يوم منه رطلا، أو قال: أسلمت إليك هذا الدينار بخسمة أذهاب بر، وخمسة أذهاب ذرة.. ففيه قولان:

مسألة: موضع التسليم

أحدهما: لا يصح ـ وهو ضعيف ـ لأن ما يقابل أبعدهما أجلا من رأس المال أقل مما يقابل أقربهما أجلا، وما يقابل أحد الجنسين أقل مما يقابل الآخر، وذلك مجهول، فلم يصح. وهذا القول بناء على أن رأس المال يجب أن يكون معلومًا. والثاني: يصح السلم ـ وبه قال مالك، وهو الأصح ـ لأن كل بيع جاز إلى أجل واحد.. جاز إلى أجلين، كبيع الأعيان ـ وفيه احتراز من الكتابة ـ أو كل بيع جاز على جنسين في عقدين.. جاز عليهما في عقد واحد، كبيع الأعيان. [مسألةٌ: موضع التسليم] ] : وأمّا بيان موضع القبض: فهل يشترط ذلك في صحة السلم؟ قال في " الأم ": (لا بدّ من ذكره) . وقال في موضع: (يستحب) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هي على حالين: فحيث قال: (لا بدّ من ذكره) أراد: إذا كان السلم في موضع لا يصلح للتسليم. قال الشيخ أبو حامد: وذلك كالصحراء أو البادية. وحيث قال: (يستحب) أراد: إذا كان السلم في بلد أو مصر. والفرق بينهما: أن الصحراء والبادية لا تصلح للتسليم، فيكون موضع التسليم مجهولاً، فلم يصح، والبلد والمصر يصلح للتسليم. فإذا أطلق العقد.. حمل على موضع العقد، كما إذا أطلق العقد في موضع فيه نقد غالب. ومنهم من قال: إن كان السلم في الصحراء.. وجب بيان موضع التسليم، قولاً واحدًا. وإن كان في مصر.. ففيه قولان:

مسألة: قبض المال في المجلس

أحدهما: لا يفتقر إلى ذكره، كبيع العين بنقد مطلق، في موضع فيه نقد غالب. والثاني: يفتقر إلى ذكره، كما إذا كان في الصحراء. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": إذا كان السلم في موضع يصلح للتسليم.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يفتقر إلى ذكر موضع القبض؛ لأن الغرض يختلف باختلافه. والثاني: لا يفتقر إلى ذكره، كبيع الأعيان. والثالث: إن كان لحمل المسلم فيه مؤنة.. وجب بيان موضع التسليم، وإن لم يكن لحمله مؤنة.. لم يجب ـ وهذا قول ابن القاص، واختيار القاضي أبي الطيب، وبه قال أبو حنيفة ـ لأن الثمن يختلف باختلاف ما لحمله مؤنة، ولا يختلف بما ليس لحمله مؤنة. [مسألةٌ: قبض المال في المجلس] ] : ولا يجوز تأخير قبض رأس مال السلم عن المجلس، فإن تفرقا قبل ذلك.. بطل العقد، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد. وقال مالك: (إن تأخر قبضه بعد افتراقهما يومًا أو يومين أو ثلاثًا.. لم يبطل، وإن تأخر أكثر من ذلك.. بطل) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلف.. فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» . و (الاستسلاف) : عبارة عن التعجيل، فظاهر الخبر: أن ذلك شرط في العقد. ولأن السلم مشتق من (الإسلام) : وهو التسليم، فوجب أن يختص بمعنًى يضاهي الاسم. ولأن من شرط أحد العوضين في السلم: أن يكون في الذمة، فلو جاز تأخير الآخر عن المجلس.. لصار في معنى بيع الدين بالدين؛ لأن رأس المال قد يكون موصوفًا

فرع: رأس مال السلم بالذمة أو معين

في الذمة، فإذا جوزنا تأخيره عن المجلس.. كان في معنى بيع الكالئ بالكالئ، فلم يجز. إذا ثبت هذا: فإن الشيخ أبا حامد قال: البيوع على ثلاثة أضرب: بيع خالص، وسلم خالص، وبيع معناه معنى السلم ولفظه لفظ البيع. فأمَّا (البيع الخالص) : فأن يبيع ثوبًا، أو سلعة معينة بثمن في الذمة، أو بثمن معين، فلا يشترط قبض شيء منهما في الملجس؛ لما ذكرناه. وأمّا (السلم الخالص) : فهو أن يقول: أسلمت إليك كذا، في ثوب صفته كذا، فمن شرطه قبض رأس مال السلم في المجلس؛ لما ذكرناه. وأمّا (السلم بلفظ البيع) : فهو أن يقول: اشتريت منك ثوبًا صفته كذا وكذا، بشيء يذكره، فهذا لفظه لفظ البيع، ومعناه معنى السلم، فهل يراعى معنى اللفظ، ولا يشترط فيه قبض رأس المال في المجلس؟ أو يراعى معناه: وهو السلم، ولا بد من قبض رأس المال في المجلس؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في أوّل الباب. [فرعٌ: رأس مال السلم بالذمة أو معين] ] : إذا كان رأس مال السلم عرضًا في الذمة.. فيجب ذكر صفاته؛ لأنه عوض في الذمة غير معلوم بالعرف، فوجب ذكر صفاته، كالمسلم فيه. فإن كان رأس المال نقدًا مطلقًا في الذمة، فإن كانا في بلدٍ فيه نقد غالب.. انصرف الإطلاق إليه، كما نقول في بيع الأعيان. وإن كانا في بلد فيه نقودٌ ليس بها نقدٌ غالبٌ.. لم يصح السلم حتى يبيِّنا واحدًا منها، كما قلنا في بيع الأعيان.

فرع: وجد رأس المال معيبا بعد التفرق

وإن كان رأس المال معيَّنًا.. فهل يفتقر إلى معرفة قدره وصفاته؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز أن يكون جزافًا، ولا بد من ذكر صفاته؛ لأنه أحد العوضين في السلم، فلم يجز أن يكون جزافًا، ولا غير معلوم الصفة، كالعوض الآخر، وهو المسلم فيه، ولأن عقد السلم لا يقع منبرمًا، وإنما يقع مراعى، وربما انفسخ العقد، فيحتاج أن يرجع المسلم إلى رأس المال، فإذا كان جزافًا، أو غير معلوم الصفة.. لم يمكنه الرجوع إليه. فعلى هذا: لا يجوز أن يكون رأس المال ما لا يصح السلم فيه، كاللؤلؤ والزبرجد، أو ما عملت فيه النار، كالخبز والشواء. والقول الثاني: يصح السلم وإن كان رأس المال جزافًا، ولا يفتقر إلى ذكر صفاته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلف.. فليسلف في كيل معلوم» . ولم يفرق بين أن يكون رأس المال معلومًا موصوفًا، أو جزافًا غير موصوف. ولأنها عين يتناولها العقد بالإشارة إليها، فاستغني عن معرفة قدرها وصفتها، كالبيع. فعلى هذا: يجوز أن يكون رأس المال ما لا يصح السلم فيه. [فرعٌ: وجد رأس المال معيبًا بعد التفرق] إذا قبض المسلم إليه رأس المال، فوجده معيبًا بعد التفرق، فإن كان العيب من غير جنس رأس المال، مثل: أن يسلم إليه دراهم، فوجدها رصاصًا أو نحاسًا.. بطل السلم؛ لأنهما تفرّقا قبل قبض رأس المال. وإن كان العيب من جنسه، مثل: أن وجد الدراهم مضطربة السكة، أو كانت فضتها خشنة.. نظرت: فإن كان العقد وقع على عينها.. فالمسلم إليه بالخيار: بين أن يرضى بها، وبين أن يردّها أو يفسخ العقد. ولا يمكنه أن يطالب ببدلها؛ لأن العقد وقع على عينها. وإن كان العقد وقع على دراهم في الذمة، ثم عين تلك الدراهم عنها.. فهل له أن يطالب ببدلها بعد التفرق؟ فيه قولان، قد مضى ذكرهما في (الصرف) .

فرع: الاختلاف في قبض القيمة

[فرعٌ: الاختلاف في قبض القيمة] ] : إذا أسلم إلى رجل دراهم في شيء، فحصلت الدراهم في يد المسلم إليه، ثم اختلفا، فقال المسلم: أقبضتك هذه الدراهم بعد التفرق، وأقام على ذلك بينة، وقال المسلم إليه: بل أقبضتنيها قبل التفرق، وأقام على ذلك بينة.. قال أبو العباس: فبينة المسلم إليه أولى؛ لأنها مثبتة، والأخرى نافية، والمثبتة أولى. وكذلك: لو كانت الدراهم في يد المسلم، فقال المسلم إليه: أقبضتني في المجلس، وأودعتها عندك، أو غصبتني عليها، وأقام على ذلك بينة، وقال المسلم: ما أقبضتك، وأقام على ذلك بينة.. فبينة المسلم إليه أولى؛ لأن بينته مثبتة. والله أعلم، وبالله التوفيق

باب تسليم المسلم فيه

[باب تسليم المسلم فيه] إذا حل دين السلم.. وجب على المسلم إليه تسليم المسلم فيه على ما اقتضاه العقد، فإن كان المسلم فيه تمرًا.. قال الشافعي: (فليس على المسلم أن يأخذه إلا جافًّا) . قال أصحابنا: ولم يرد بهذا: أن يكون مشمَّسًا، وإنما أراد به: إذا بلغ إلى حالة الادخار، وعليه أن يأخذه، وهو: إذا وقع عليه اسم الجفاف، وإن لم يتناه جفافه. وإن كان المسلم فيه رطبا.. لزمه ما يقع عليه اسم الرطب، ولا يلزمه أن يقبل بُسرًا، ولا مذنَّبًا، ولا منصَّفًا، ولا مشدَّخًا. فأمَّا (المذنَّب) : فهو الذي أرطب في أذنابه لا غير. وأمّا (المنصَّف) : فهو الذي نصفه بسر، ونصفه رطب. وأمّا (المشدَّخ) : فذكر الشيخ أبو حامد: أن المشدخ هو الذي ضرب بالخشب، حتى صار رطبا، فلا يلزمه قبوله؛ لأنه لا يتناوله اسم الرطب. وإن تناوله.. فيكون رطبًا مفتوتًا. وقيل: إنهم يشمِّسون البسر، ثم يلدكونه بكساء صوف غليظ، وما أشبهه، فيصير طعمه طعم الرطب، يفعلون ذلك؛ استعجالاً لأكل الرطب من البسر قبل الإرطاب. ولعل الشيخ أبا حامد أراد: أنهم يضربون البسر بالخشب؛ ليصير طعمه طعم الرطب. وإن كان المسلم فيه طعامًا.. لزمه أن يدفع إليه طعامًا نقيًّا من الشعير، والزُّؤان، وعقد التبن؛ لأن هذه الأشياء تنقصه عن الكيل والوزن. وإن كان فيه قليل تراب أو شيء من دُقاق التبن.. نظرت:

مسألة: قبض المسلم فيه والزيادة أو النقصان عليه

فإن أسلم فيه كيلا.. لزمه قبوله؛ لأن ذلك لا يؤثر في الكيل. وإن أسلم فيه وزنًا.. لم يلزمه قبوله؛ لأن ذلك يؤثر في الوزن، فيكون المقبوض دون حقه. [مسألةٌ: قبض المسلم فيه والزيادة أو النقصان عليه] ] : إذا أسلم إليه في شيء، فأتى المسلم إليه بالمسلم فيه.. لم يخل من ثلاثة أحوال: إما أن يأتيه بالمسلم فيه على الصفة المشروطة، أو يأتي بأدنى منه، أو يأتي بأعلى منه. فـ[أحدها] : إن أتاه على صفة المسلم فيه، بأن أسلم إليه بطعام جيد، فأتاه بطعام يقع عليه اسم الجيد وإن كان غيره أجود منه.. لزمه أن يقبله. و [ثانيها] : إن أتى به أردأ من المسلم فيه، بأن أتاه بطعام رديء.. لم يلزمه قبوله؛ لأنه دون ما شرط. وإن قال المسلم إليه: خذ هذا، وأعطيك عن الجودة عوضًا.. لم يصح؛ لأنه بيع صفة، والصفة لا تفرد بالبيع، ولأنه بيع جزء من المسلم فيه قبل القبض. و [ثالثها] : إن أتاه بأعلى من المسلم فيه.. فلا تخلو الزيادة من أربعة أحوال: إما أن تكون زيادة في الصفة، أو في العدد، أو في الجنس، أو في النوع. فـ[أحدها] : إن كانت الزيادة في الصفة، مثل: أن يسلم إليه في طعام رديء، فجاءه بطعام جيد، فإن رضي المسلم إليه بتسليمه عمّا في ذمته.. لزم المسلم قبوله؛ لأنها زيادة لا تتميز، فإذا رضي المسلم إليه بتسليمها.. لزم المسلم قبولها، كما لو أصدق امرأته عينًا، فزادت في يدها زيادة لا تتميّز، ثم طلقها قبل الدخول، ورضيت المرأة بتسليم نصف العين مع زيادتها.. فإن الزوج يلزمه قبولها. وإن لم يتطوع المسلم إليه بتسليمها، بل طلب عن الجودة عوضًا.. لم يصح؛ لأن الجودة صفة، فلا يجوز إفرادها في العقد.

و [ثانيها] : إن كانت الزيادة في العدد، مثل: أن يسلم إليه بخمسة أذهاب حنطة، فجاءه بعشرة أذهاب حنطة.. لم يلزم المسلم قبول ما زاد على الخمسة؛ لأن ذلك ابتداءً هبة، فلم يجبر على قبولها. و [ثالثها] : إن كانت الزيادة في الجنس، مثل: أن يسلم إليه على ذرة، فأعطاه عن الذرة حنطة.. لم يلزمه قبول ذلك، فإن قبله.. لم يصح؛ لما رواه أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلف في شيء.. فلا يصرفه إلى غيره» . و [رابعها] : إن كانت الزيادة في النوع، مثل: أن يسلم إليه على ذرة حمراء، فجاءه عنها بذرة بيضاء.. فحكى الشيخ أبو حامد فيه وجهين: أحدهما: يلزم المسلم قبوله. وهذا القائل يدعي: أن هذا ظاهر مذهب الشافعي؛ لأنه قال: (وأصل ما يلزم المسلم قبول ما سلف فيه، هو أن يأتيه به من جنسه) . وهذا قد أتى به من جنسه. ولأنه قد أعطاه من جنس حقِّه، وفيه زيادةٌ لا تتميز، فأشبه ما لو أسلم في نوع رديء، فأعطاه من ذلك النوع جيِّدًا.. فإنه يلزمه قبوله. والثاني: لا يلزمه قبول؛ لأنه لم يأت به على الصفة التي اشترط عليه، فلا يلزمه قبوله، كما لو أتاه بجنس آخر.

فرع: كيفية استعمال المكيال

وهذا القائل يقول: يجوز أن يقبل؛ لأنه من جنس حقه. وقال القاضي أبو الطيب: الوجهان في الجواز، فأما الوجوب: فلا يجب عليه قبوله، وجهًا واحدًا. وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق في " المهذب ". وإن أسلم إليه في ذرة بيضاء، فجاءه عنها بذرة حمراء.. فلا يلزمه قبولها، وجهًا واحدًا، وهل يجوز له قبولُها؟ يحتمل أن تكون على الوجهين في المسألة قبلها. [فرعٌ: كيفية استعمال المكيال] ] : إذا أسلم إليه في مكيل.. قال الشافعي: (فليس له أن يدق المكيال، ولا أن يزلزله، ولا أن يكنف بيديه على رأسه؛ لأن هذه زيادة في الكيل. ولكن له ما حمله المكيال، وهو أن يكال برأسه) . وهذا صحيح، كما قال: (ليس له أن يدق رأسه، ولا أن يزلزله، ولا أن يكنف بيديه على رأسه؛ لأن هذا زيادةٌ في الكيل، ولكن له ما حمله المكيال، وهو أن يكال برأسه) . [فرعٌ: تقديم التسليم عن الوقت المعين أو بعده] ] : وإن أسلم إليه في شيء إلى محل، فجاءه به المسلم إليه قبل المحل، فامتنع المسلم من قبضه، فإن كان المسلم فيه مما يلحقه التغير والتلف إلى وقت المحل، بأن كان لحمًا أو رطبًا أو سائر الفواكه الرطبة.. لم يلزم المسلم قبوله؛ لأن له غرضًا في تأخيره، بأن يحتاج إلى أكله أو طعامه في ذلك الوقت. وكذلك: إن كان المسلم فيه حيوانًا.. لم يلزمه قبوله قبل المحل؛ لأنه يخاف عليه التلف، ويحتاج إلى العلف إلى ذلك الوقت. وإن كان لا يخاف عليه التغيُّر ولا التلف، ولكن يحتاج إلى مكان يحفظه فيه،

يلزمه عليه مؤنة، كالحنطة والقطن.. لم يلزمه قبوله؛ لأن عليه ضررًا في المؤنة في حفظه إلى وقت المحل. فإن كان لا يحتاج إلى مؤنة في حفظه، كالحديد الرصاص والنحاس الذي يستعمل، فإن كان الوقت مخوفًا..لم يلزمه قبوله؛ لأنه يخاف عليه التلف إلى وقت المحل. وإن كان الوقت آمنًا.. لزمه قبوله؛ لأنه لا ضرر عليه في قبوله. فإن لم يقبله.. قبله الحاكم وحفظه؛ لما رُوي: (أن أنس بن مالك كاتب عبدًا له على مال، فجاءه العبد بالمال قبل المحل، فلم يقبله منه أنس، فأتى به العبد عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأخذ المال منه، وتركه في بيت المال، وقال للعبد: قد عتقت) . وإن سأل المسلِم المسلَم إليه: أن يقدِّم له المسلَم فيه قبل المحل.. لم يلزم المسلَم إليه تقديمه؛ لأن ذلك يبطل فائدة التأجيل. وإن قال المسلم إليه: انتقص لي من الدين؛ لأقدمه لك، ففعل.. لم يصح القبض؛ لأنه بيع أجل، والأجل لا يفرد بالبيع. فإن جاء المسلم إليه المسلم بالمسلم فيه، بعد حلول الدين على صفته، فامتنع المسلم من قبضه.. قال له الحاكم: إما أن تقبضه، أو تبرِّئ المسلم إليه منه. وسواء كان للمسلم غرض في الامتناع أو لا غرض له؛ لأن للمسلم إليه غرضًا في الدفع، وهو أن يبرأ مما عليه من الحق، وقد حل الحق. وإن لم يفعل المسلم ذلك.. قبضه الحاكم عنه، وبريء المسلم إليه؛ لأن الحاكم ينوب عن الممتنع، ولا يملك الحاكم الإبراء؛ لأنه لا نظر للمسلم في الإبراء عنه، وله حظٌّ في حفظ ماله.

فرع: عدم الالتزام بشروط السلم

[فرعٌ: عدم الالتزام بشروط السلم] ] : إذا تعين موضع التسليم، بإطلاق العقد أو بالشرط، فجاءه به في غير ذلك الموضع.. لم يجبر المسلم على قبوله؛ لأنه يفوت عليه غرضه في ذلك الموضع. فإن بذل له أجرة حمله إلى ذلك الموضع.. لم يلزمه قبوله، ولم يجز له أخذ الأجرة؛ لأن بدل العوض عن المسلم فيه لا يجوز، فكذلك في تسليمه في موضع. وإن جعله نائبًا عنه في حمله إلى ذلك الموضع.. لم يكن المسلم قابضًا له، بل يفتقر إلى تسليمه إيّاه في الموضع المعين، أو في غيره إذا رضي المسلم بذلك. وإن أسلم إليه في شيء كيلا، فأعطاه إيّاه وزنًا، أو أسلم إليه فيه وزنًا، فأعطاه كيلا.. لم يصح القبض؛ لأن الكيل والوزن يختلفان؛ لأن الوزين يقل كيله ويكثر وزنه، والخفيف يقل وزنه ويكثر كيله. [مسألةٌ: لا اعتبار بكيل المسلَم إليه] ] : قال الشافعي: (ولو أعطاه طعامًا، فصدَّقه في كيله.. لم يجز، فإن قبضه.. فالقول قول القابض مع يمينه) . وجملة ذلك: أنه إذا كان له في ذمة رجل طعام مكيل، أو اشترى منه عشرة أقفزةٍ من صبرةٍ بعينِها، فسلَّم إليه من عليه الطعام طعامًا من غير كيل، وأخبره بكيله، فصدقه على كيله، أو لم يصدقه.. لم يجز له قبضه بغير كيل؛ لأن المستحق عليه القبض بالكيل، فإذا قبضه من غير كيل.. لم يصح القبض. فإن كان الطعام باقيًا.. ردّه على البائع، ثم يكيله على المسلم، فإن كان وفق حقه.. فلا كلام، وإن كان دون حقه.. استوفى منه حقَّه، وإن كان أكثر من حقِّه.. كان الفضل للمسلم إليه. فإن تلف الطعام في يد القابض قبل أن يكال عليه.. تلف من ضمانه؛ لأنه قبضه لنفسه، فإن اتَّفقا على قدره.. فلا كلام، وإن اختلفا في قدره، فادّعى القابض: أنه كان دون حقه، وادّعى مالك الطعام: أنه قدر حقه وأكثر.. فالقول قول القابض مع يمينه،

سواء ادعى نقصانًا قليلاً كان أو كثيرًا ـ نصَّ عليه الشافعيُّ في (الصرف) ـ لأن الأصل عدم القبض وبقاء الحق، فلا يبرأ من عليه الحق، إلا من القدر الذي يقر به القابض. فإن قيل: كيف سمعت دعوى القابض في النقصان، وقد قال الشافعي في المسألة: (فصدقه في كيله) ؟ قال أصحابنا: لم يُرد الشافعي: أنه اعترف بصحة الكيل، وإنما هو قبول قول المخبر، وحمل قوله على الصدق، فإن بان له أنه بخلافه.. سمعت دعواه. قال الشيخ أبو حامد: إذا ثبت هذا: فإنه يكون قبضًا فاسدًا، فإن المسلم إذا قبضه وكان قدر حقِّه وزيادة عليه.. فإنه يملك بقدر حقه بالقبض، وينتقل الضمان إليه، وتبرأ ذمة البائع عنه. وهل يجوز للقابض التصرف فيه؟ نظرت: فإن أراد أن يتصرف في الجميع.. لم يجز؛ لأن للبائع فيه تعلقًا؛ لأنه ربما إذا كيل يخرج زيادة على قدر ما يستحق القابض، فلم يصح تصرفه في الجميع. فإن أراد أن يبيع منه قدر ما يتحقق أنه يخصه، بأن باع نصف قفيز منه، وله قفيز.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: يصح؛ لأن ذلك الشيء في ملكه، وانتقل الضمان إليه، ويعلم أنه قدر حقه، فجاز بيعه فيه. و [الثاني] : قال أبو عليِّ بن أبي هريرة: لا يصح بيعه، وهو المنصوص في (الصرف) ، ولأن العلقة باقية بينه وبين البائع. قال فيه: (لأن ماله غير متميِّز عن مال البائع، فلم يصح بيعه فيه) .

مسألة: لا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه

[مسألةٌ: لا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه] ] : قال الشافعي في " الأم " [3/61] : (ولو أسلم في طعام، وباع طعامًا آخر، فأحضر المشتري منه أكياله من بائعه، وقال: أكتاله لك.. لم يجز؛ لأنه بيع الطعام قبل القبض) . واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة: فمنهم من قال: صورتها: أن يسلم زيدٌ إلى عمرٍو في طعام، فلمَّا حل الأجل.. باع زيد الطعام الذي له في ذمة عمرو من خالد قبل قبضه، فإن هذا لا يصح؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلف في شيء.. فلا يصرفه إلى غيره» ، ولأن بيع الطعام المشترى قبل القبض لا يصح وإن كان مُعيَّنًا، فلأن لا يصح بيع المسلم فيه قبل القبض أولى. قال: وتعليله يدل عليه؛ لأنه قال: (لأنه بيع الطعام قبل القبض) . قال: وقول الشافعي: (وباع طعامًا آخر) يريد: باع ذلك الطعام من آخر. وقال أكثر أصحابنا: ما ذكره هذا القائل صحيح في الفقه، ولكن ليس هذا صورة المسألة التي ذكرها الشافعي، وإنما صورتها: أن يكون لزيد طعام في ذمة عمرو سَلَمٌ، وفي ذمة زيد لخالد طعام سلم، فقال زيد لخالد: أحضر أكيال ما لي عند عمرو لأكتاله لك.. فإنه لا يصح؛ لما روى جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الطعام، حتى يجري فيه الصاعان» .

والدليل على أن هذا مراده فيما ذكر: أنه قال: (وباع طعامًا آخر) . ولو أراد بيع ذلك الطعام.. لقال: وباع ذلك الطعام آخر. ولأنه قال بعدها: (ولو قال: أكتاله لنفسي، وخذه بالكيل.. لم يجز) . ولو كان قد باعه الطعام قبل القبض.. لم يكن لحضوره واكتياله لنفسه معنًى. قالوا: وأمّا تعليله: فإنما أراد: أن هذا مثل بيع الطعام قبل القبض؛ لأنه لا يضمنه قبل أن يقبضه، كما لا يجوز بيعه قبل قبضه. إذا ثبت هذا: ففيه خمس مسائل: إحداهن: أن يقول زيد لخالد: احضر معي حتى أكتاله لك، فاكتاله زيد لخالد من عمرو، فلا يصح القبض لخالد، وجهًا واحدًا؛ لحديث جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الطعام، حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري» . وهذا لم يجر فيه الصاعان، ولأنه لا يستحق على عمرٍو شيئًا، فلم يصح القبض له منه. وهل يصح القبض لزيد من عمرو؟ فيه وجهان، بناء على القولين في السيد، إذا باع نجوم المكاتب ـ وقلنا: لا يصح القبض ـ فقبض المشتري النجوم.. فهل يعتق المكاتب؟ فيه وجهان: أحدهما: إن قلنا: يصح قبض زيد لنفسه.. كاله لخالد مرة ثانية. و [الثاني] : إن قلنا: لا يصح قبض زيد لنفسه.. رد الطعام إلى عمرو؛ ليكيله لزيد، ثم يكيله زيد لخالد.

وإن اختلف زيدٌ وعمرٌو في المقبوض.. فالقول قول زيد مع يمينه. وإنما يقبل قوله مع اليمين، إذا كان ما يدّعيه محتملاً، فأمّا إذا ادّعى تفاوتًا كثيرًا: لم يقبل قوله؛ لأن هذا القدر لا يتفاوت. وهكذا: لو اختلف زيد وخالد فيما قبض خالد.. فالقول قول خالد مع يمينه إذا كان ما يدّعيه تفاوتًا يسيرًا، وإن كان تفاوتًا كثيرًا.. لم يقبل قوله؛ لأن مثل ذلك لا يتفاوت. المسألة الثانية: أن يقول زيد لخالد: اذهب، فاكتل الطعام لنفسك من عمرو، ففعل، فإن قبض خالد لنفسه لا يصح، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا شيء له في ذمة عمرو. وهل يصح قبض خالد من عمرو لزيد؟ على الوجهين. المسألة الثالثة: أن يقول زيد لخالد: احضر معي حتى أكتاله من عمرو لنفسي، ثم تأخذه بذلك الكيل، فحضر، فاكتاله زيد لنفسه، ثم سلّمه زيد إلى خالد جزافًا من غير كيل، صح قبض زيد لنفسه؛ لأنه قبضه لنفسه قبضًا صحيحًا، ولا يصح قبض خالد من زيد؛ لأنه قبضه من غير كيل. المسألة الرابعة: إذا اكتاله زيد لنفسه من عمرو، ثم كاله زيد لخالد مرة ثانية.. صح القبضان؛ لأن الطعام قد جرى فيه الصاعان. المسألة الخامسة: أن يكتاله زيد لنفسه من عمرو، ثم يسلمه إلى خالد عمّا عليه له وهو في المكيال، فإن قبض زيد لنفسه من عمرو صحيح، وهل يصح قبض خالد من زيد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لحديث جابر: (أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الطعام، حتى يجري فيه الصاعان» . وهذا يقتضي كيلا بعد كيل. والثاني: يصح؛ لأن استدامة الكيل بمنزلة ابتدائه، بدليل: أنه لو أسلم إليه بذهب طعام، فابتدأ المسلم إليه وكاله للمسلم.. صح، ولو كال الطعام بالذهب عند السلم، فسلمه إليه.. صح، فكذلك هاهنا مثله.

مسألة: دفع المسلم إليه بدلا إلى المسلم دراهم

[مسألةٌ: دفع المسلم إليه بدلاً إلى المسلم دراهم] ] : وإن كان لزيد في ذمة عمرو طعام من سلم، فدفع عمرو إلى زيد دراهم، وقال اشتر بها لنفسك طعامًا، مثل الطعام الذي لك عليَّ، ففعل.. لم يجز؛ لأن الدراهم ملك لعمرو، فلا يجوز أن يكون عوضها ملكًا لزيد. فإن اشترى زيد الطعام بعين الدراهم.. لم يصح الشراء، وإن اشترى زيدٌ الطعام بدراهم في ذمته، ثم سلَّم تلك الدراهم عمّا في ذمّته.. صح الشراء لنفسه، ولا تبرأ ذمته بتسليم تلك الدراهم؛ لأنه لا يملكها، وعليه ضمانها. وإن قال عمرٌو لزيد: اشتر بها لي طعامًا، واقبضه لنفسك.. فإن الشراء يصح لعمرو؛ لأنه اشتراه له، ولا يصح القبض لزيد؛ لأنه لا يصح أن يكون قابضًا لنفسه من نفسه. وهل يصح القبض لعمرٍو؟ فيه وجهان، كالوجهين في المسألة قبلها. وإن قال: اشتره لي واقبضه لي، ثم اقبضه لنفسك، أو خذه بذلك الكيل لنفسك.. فإن الشراء والقبض يصح لعمرو، ولا يصح القبض لزيد؛ لأنه لا يجوز أن يقبض لنفسه من نفسه. [فرعٌ: إحالة صاحب القرض على من له سلم] وإن كان لزيد في ذمة عمرو طعام من جهة القرض، ولخالد في ذمة زيد طعام من جهة السَّلَم، فأحال زيد خالدًا بالطعام الذي له عليه على عمرو.. لم تصح الحوالة؛ لأن خالدًا يبيع طعامه الذي له على زيد من السلم بالطعام الذي لزيد من جهة القرض، وقد بيّنّا: أن بيع المسلم فيه قبل القبض لا يصح، فالفساد هاهنا من جهة خالد. وإن كان الطعامان من السلم.. لم تصح الحوالة؛ لما ذكرناه، والفساد هاهنا من الطرفين. وإن كان الطعامان من جهة القرض.. فهل تصح الحوالة بهما؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:

فرع: الشركة والتولية في السلم

أحدهما: يصح ـ وهو الصحيح ـ لأن بيع القرض يصح قبل القبض، وكل واحد منهما قرض، ولأن كل واحدٍ منهما مستقر في الذمة، فجاز أن يعتاض من ذمة إلى ذمة، بخلاف السلم. والثاني: لا تصح؛ لأن الحوالة لو صحّت في الطعام، إذا كان من جهة القرض.. لصحَّت وإن كان من جهة البيع، كالدراهم والدنانير لمّا جازت الحوالة بهما إذا كانا من جهة القرض.. جازت أيضًا إذا كانا من جهة البيع. فلمّا لم تجز الحوالة بالطعام إذا كان من جهة البيع.. لم تصح إذا كانت من جهة القرض. [فرعٌ: الشركة والتولية في السلم] ] : لا تجوز الشركة والتولية في المسلم فيه قبل القبض. و (الشركة) : أن يقول المسلم لغيره: أشركتك في نصف المسلم فيه بنصف الثمن، فيكون ذلك بيعًا لنصف المسلم فيه. و (التولية) : أن يقول وليتكه بجميع الثمن، أو ولّيتك نصفه بنصف الثمن. وقال مالك: (تجوز) . دليلنا: أنها معاوضة في المسلم فيه قبل قبضه، فلم يجز، كما لو كان بلفظ البيع. [فرعٌ: مسائل بالقضاء المشروط في المسلم فيه] ] : ذكر الشافعي في (الصرف) أربع مسائل: إحداهن: لو كان في ذمة رجل لغيره طعام، فسأل من عليه الطعام من له الطعام:

مسألة: وجود عيب بالمسلم فيه بعد القبض

أن يبيعه طعامًا، بشرط أن يقضيه ما له عليه منه، فباعه منه بهذا الشرط.. فالبيع باطل؛ لأن هذا شرط ينافي مقتضى العقد، فأبطله. الثانية: إذا باع منه طعامًا مطلقًا، ونيتُهما أن يقضيه منه.. صح البيع؛ لأنه بيع مطلق. الثالثة: أن يقول من له الطعام لمن عليه: اقضني ما لي عليك على أن أبيعكه، فقضاه.. صح القبض؛ لأن هذا قبض مستحق عليه، فإذا قضاه.. وقع عن المقبوض. والقابض بالخيار: بين أن يبيعه منه أو لا يبيعه؛ لأن هذا وعدٌ وعده، فكان بالخيار في الوفاء به. الرابعة: أن يقول من له الطعام: اقضني أكثر مما أستحقه أو أجود منه، بشرط أن أبيعه منك، فقضاه كذلك.. لم يصح القبض؛ لأن هذا غير مستحق عليه، فكان قبضًا فاسدًا. قال الشيخ أبو حامد: فيجب عليه أن يرد الزيادة، وإن قضاه من غير جنس حقه.. ردّه وأخذ قدر حقه من جنسه، ثم إن شاء باعه منه، وإن شاء لم يبعه. [مسألةٌ: وجود عيب بالمسلم فيه بعد القبض] ] : إذا قبض المسِلم المسلَم فيه، فوجد به عيبًا.. فهو بالخيار: بين أن يرضى به معيبًا، وبين أن يرده ويطالب بالمسلَم فيه سليمًا؛ لأن إطلاق العقد يقتضي السليم. فإذا أخذ المعيب ورده.. رجع في الذي له في ذمة المسلَم إليه. وإن حدث عند المسلِم بالمقبوض عيب آخر.. فله أن يطالب بأرش العيب الموجود قبل القبض، إلا أن يرضى المسلَم إليه بأخذه معيبًا.. فلا يثبت للمسلم المطالبة بالأرش. وقال أبو حنيفة: (ليس للمسلم المطالبة بالأرش؛ لأن رجوعه بالأرش أخذ عوض عن الجزء الفائت، وبيع المسلَم فيه قبل القبض لا يجوز) . دليلنا: أنه عوض يجوز ردُّه بالعيب، فإذا سقط الرد بحدوث عيب.. ثبت له

مسألة: فقد المسلم فيه عند حلول لأجل

الرجوع بالأرش، كبيع الأعيان. وأمَّا قوله: (إن الرجوع بالأرش أخذ عوض عن الجزء الفائت، وبيع المسلم فيه لا يجوز قبل القبض) فغير صحيح؛ لأن بيع المبيع المعيَّن قبل القبض لا يصح، وقد جاز أخذ الأرش عنه. ولأن ذلك فسخ العقد في الجزء الفائت، وليس ببيع، ولهذا يكون بحسب الثمن المسمى في العقد. [مسألةٌ: فقد المسلم فيه عند حلول لأجل] مسألةٌ: [فقد المسلم فيه عند حلول الأجل] : إذا أسلم في شيء مؤجّل إلى وقت، الغالب وجود المسلم فيه في ذلك الوقت، فجاء ذلك الوقت، ولم يوجد ذلك الشيء ـ كالثمرة إذا انقطعت ـ وتعذر القبض حتى نفد ذلك الشيء المسلم فيه.. ففيه قولان: أحدهما: ينفسخ السلم؛ لأن المعقود عليه قد تعذر تسليمه، فانفسخ العقد، كما لو اشترى منه قفيزًا من صبرة، فتلفت الصبرة قبل القبض. ولأنه لو أسلم إليه في ثمرة بلدٍ بعينه، كبغداد.. صح السلم، ولم يكن للمسلَم إليه أن يدفع إليه من ثمرة غير بغداد. وكذلك: إذا أسلم إليه في ثمرة عام.. لم يكن له أن يدفع إليه من ثمرة غير ذلك العام. والقول الثاني: لا ينفسخ السَّلم، ولكن يثبت للمسلم الخيار: بين أن يفسخ العقد، وبين أن لا يفسخ ويصبر إلى أن يوجد المسلم فيه، وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لأن المعقود عليه في الذمة لم يتلف، بدليل: أنه لو أسلم إليه في الرطب من ثمرة عامين، فقدم المسلم إليه في العام الأول ما يجب فيه في العام الثاني.. جاز. وإن انقطع بعض المسلم فيه، ووجد البعض: فإن قلنا: إن السلم ينفسخ إذا عدم جميع المسلم فيه.. انفسخ السلم هاهنا في القدر المفقود من المسلم فيه. وهل ينفسخ في الموجود منه؟ فيه طريقان، كما قلنا فيمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض:

مسألة: الإقالة فسخ

[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان. و [الطريق الثاني] : منهم من قال: لا ينفسخ، قولاً واحدًا. فإذا قلنا: ينفسخ.. فلا كلام. وإذا قلنا: لا ينفسخ.. ثبت للمسلم الخيار في الفسخ؛ لأن الصفقة تفرّقت عليه. فإن فسخ.. فلا كلام، وإن لم يفسخ.. أخذ الموجود، وهل يأخذه بجميع الثمن أو بحصته؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، وابن الصبّاغ. قلت: وعلى قياس ما ذكر في " المهذب " هناك: أنه يأخذه هاهنا بحصّته من (الثمن) : وهو رأس مال السلم، قولاً واحدًا. فإذا قلنا: يأخذه بجميع الثمن.. فلا خيار للمسلم إليه. وإن قلنا: يأخذه بحصته.. فهل للمسلم إليه الخيار؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصبّاغ. وإن قلنا: إن المسلم فيه إذا انقطع جميعه لا ينفسخ السلم، بل يثبت للمسلم الخيار.. ثبت له أيضًا هاهنا الخيار ليأخذ بعض حقه. فإذا اختار أن يفسخ السلم في المفقود والموجود.. جاز؛ لتفرق حقِّه عليه. وإن اختار أن يفسخ السلم في المفقود، ويقره في الموجود.. فهل له ذلك؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة. فإن قلنا: يجوز، ففسخ السلم في المفقود.. فبكم يأخذ الموجود؟ على ما مضى. [مسألةٌ: الإقالة فسخ] ] : الإقالة فسخ، وليست ببيع، على المشهور من المذهب، سواء كان قبل القبض أو بعده، وبه قال أبو حنيفة، إلاَّ أنه يقول: (هي بيع في حق غير المتعاقدين، فتثبت بها الشفعة) . وقال أبو يوسف: إن كان قبل القبض.. فهو فسخ، وإن كان بعد القبض.. فهي بيع.

وقال مالك: (هي بيع بكل حال) . وحكى القاضي أبو الطيب: أنه القول القديم للشافعي. وأمَّا الشيخ أبو حامد: فحكاه وجهًا لبعض أصحابنا. دليلنا: أن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع، فكان فسخًا، كالردِّ بالعيب. إذا ثبت هذا: فإن أسلم رجل إلى غيره شيئًا في شيء، ثم تقايلا في عقد السلم.. صحّ ـ وقد وافَقَنا مالك على ذلك ـ وهذا من أوضح دليل على: أن الإقالة فسخ؛ لأنها لو كان بيعًا.. لما صحَّ في المسلَم فيه قبل القبض، كما لا يصح بيعُهُ. وإن أقاله في بعض المسلم فيه.. صح في القدر الذي أقاله. وقال ابن أبي ليلى: تكون إقالة في الجميع. وقال ربيعة، ومالك، والليث: (لا يصح) . دليلنا: أن الإقالة مندوبٌ إليها، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أقال نادمًا في بيع.. أقاله الله نفسه يوم القيامة» . وما جاز في جميع المبيع.. جاز في بعضه، كالإبراء والإنظار. وإن أقاله بأكثر من الثمن، أو بأقل منه، أو بجنس آخر.. لم تصح الإقالة. وقال أبو حنيفة: (تصح الإقالة، ويجب ردُّ الثمن المسمى في العقد) . دليلنا: أن المسلم أو المشتري لم يسقط حقه من المبيع، إلاَّ بشرط العوض الذي شرطه، فإذا لم يصح له العوض.. لم تصح له الإقالة، كما لو اشترى منه داره بألف، بشرط أن يبيعه غلامه بألف.

فرع: ضمان المسلم فيه والصلح عليه

[فرع: ضمان المسلم فيه والصلح عليه] ] : وإن ضمن ضامن عن المسلم إليه المسلم فيه، ثم إن الضامن صالح المسلم عمَّا في ذمة المسلم إليه، بمثل رأس مال السلم.. لم يصح الصلح؛ لأن الضامن لا يملك المسلم فيه فيتعوض عنه. فأمّا إذا صالحَ المسلِمُ المسلَمُ إليه، بمثل رأس مال السلم.. قال أبو العبّاس: صح الصلح، وكان إقالةً؛ لأن (الإقالة) هو: أن يسترد ما دفع، ويعطي ما أخذ، وهذا مثله. [فرع: فسخ عقد السلم] ] : وإذا انفسخ عقد السلم بالفسخ أو الانفساخ.. سقط المسلم فيه عن ذمة المسلم إليه، ورجع المسلم إلى رأس مال السلم، فإن كان باقيًا.. أخذه، وإن كان تالفًا.. رجع إلى مثله إن كان له مثل، وإن كان لا مثل له.. رجع إلى قيمته. وإن أراد أن يسلمه في شيء آخر.. لم يجز؛ لأنه بيع دين بدين. وإن أراد أن يأخذ عنه عوضًا.. نظرت: فإن كان رأس المال من أموال الرّبا.. نظرت: فإن أراد أن يأخذ منه ما هو من جنسه.. جاز أن يأخذ ما هو مثله، ولم يجز أن يأخذ أكثر منه ولا أقل منه، ولا يصح أن يتفرَّقا قبل قبضه. وإن أراد أن يأخذ عنه من غير جنسه، إلا أنه جمعتهما علَّة واحدة في الربا، كالدراهم والدنانير.. جاز أن يأخذ أكثر منه وأقل منه، إلا أنه لا يصح أن يتفرقا قبل قبض العوض، كما قلنا في البيع. وإن أراد أن يأخذ منه عوضًا ليس من أموال الربا، كالثياب والدواب، أو كان رأس المال من غير أموال الرّبا.. صح ذلك أيضًا. وهل يشترط فيه القبض قبل التفرق؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يشترط ذلك؛ لئلا يتفرّقا والعوض والمعوَّض في ضمان واحد.

والثاني: لا يشترط ذلك، كما لو اشترى أحدهما بالآخر. وإن اختلفا في قدر رأس مال السلم.. فالقول قول المسلم إليه مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به. وإن اختلفا في قدر المسلم فيه، أو في الأجل أو في قدره.. تحالفا. وإن اتَّفقا على الأجل، واختلفا في انقضائه، فادّعى المسلم انقضاء الأجل، وادَّعى المسلم إليه بقاءه.. فالقول قول المسلم إليه مع يمينه؛ لأن الأصل بقاؤه. والله أعلم

باب القرض

[باب القرض] الإقراض مستحب، وفعل من أفعال البر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة: 2] . وفي الإقراض إعانةٌ على البر. وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا.. كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر.. يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم.. ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» . والقرض مما تفرج به الكرب.

مسألة: أركان القرض وشروطه

وقد رُوي عن ابن عبّاس، وابن مسعود، وأبي الدرداء: أنهم قالوا: (لئن نقرض مرتين.. أحب إلينا من أن نتصدق مرة) . وقال بعضهم: إنما كان القرض خيرًا من الصدقة؛ لأن الصدقة قد تدفع إلى من هو غنيٌّ عنها، ولا يسأل إنسان القرض إلا وهو محتاج إليه. [مسألة: أركان القرض وشروطه] ] : ولا يصح القرض إلاَّ من جائز التصرف في المال؛ لأنه عقد على المال، فلم يصح إلا جائز التصرف فيه، كالبيع. ولا يصح إلاَّ بالإيجاب والقبول؛ لأنه تمليك

مسألة: الخيار في القرض وفسخه

آدميٍّ، فافتقر إلى الإيجاب والقبول، كالبيع والهبة، وفيه احترازٌ من العتق. وينعقد بلفظ القرض والسلف؛ لأنه قد ثبت له عرف الاستعمال. وسمي القرض: قرضًا؛ لأنه قطع له من ماله قطعة، ومن قطع منه شيئًا.. فقد قرضه. وينعقد بما يؤدي معنى ذلك، فإن قال: ملَّكتك هذا، على أن ترد عليَّ بدلَه.. كان قرضًا، وإن قال: ملَّكتك هذا، ولم يذكر البدل.. فهو هبة. وإن اختلفا فيه.. فالقول قول الموهوب له؛ لأن الظاهر معه. قال الشيخ أبو إسحاق: فإن قال: أقرضتك ألفا، وقبل، وتفرقا، ثم دفع إليه إلفا، فإن لم يطل الفصل.. جاز؛ لأن الظاهر أنه قصد الإيجاب. وإن طال الفصل.. لم يجز حتى يعيد لفظ القرض؛ لأنه لا يمكنه البناء على العقد مع طول الفصل. [مسألة: الخيار في القرض وفسخه] ] : ولا يثبت في القرض خيار المجلس، ولا خيار الشرط؛ لأن الخيار يراد للفسخ، وكل واحد منهم يملك أن يفسخ القرض متى شاء، فلا معنى لإثبات الخيار. ولو أقرضه شيئًا إلى أجل.. لم يلزم الأجل، وكان حالاًّ. وهكذا: لو كان له عنده ثمن حالٌّ فأجَّله، أو كان مؤجَّلاً فزاد في أجله.. لم يلزم ذلك. وقال مالك - رحمة الله عليه -: (يدخل الأجل في ابتداء القرض، بأن يقرضه إلى أجل، ويدخل في انتهائه، بأن يقرضه حالاًّ، ثم يؤجِّله له، فيتأجَّلَ) . ووافقنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الأجل لا يدخل في القرض، وأمّا الثمن الحالُّ: فيتأجل بالتأجيل) . دليلنا على مالك: أن الأجل يقتضي جزءًا من العوَض، والقرض لا يحتمل الزيادة والنقصان في عوضه، فلم يجز شرط الأجل فيه. وأمّا الدليل على أبي حنيفة: فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل شرط ليس في كتاب الله.. فهو باطل» ، وتأجيل الحق الحالِّ ليس في كتاب الله تعالى، فكان باطلاً، ولأنه حقٌّ مستقرٌّ فلم يتأجَّل بالتأجيل، كالقرض.

فرع: يصح الرهن في القرض

وقولنا: (مستقرٌّ) احترازٌ من الثمن في مدة الخيار؛ ولأنه إنظار تبرَّع به، فلم يلزمه، كالمرأة إذا وجدت زوجها عِنِّينًا، فأجَّلَته، ثم رجعت عن ذلك.. فإن لها ذلك. [فرعٌ: يصح الرهن في القرض] ] : ويجوز شرط الرهن في القرض؛ لـ: «أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رهن درعه على شعير استقرضه من يهودي» . ويجوز عقد القرض بشرط الضمين فيه، وبشرط أن يقر عند الحاكم، أو يشهد؛ لأنه وثيقة فيه، فجاز شرطه فيه، كالرهن. [مسألةٌ: ما تملك به العين المستقرضة] ] : ومتى يملك المستقرض العين التي استقرضها؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يملكها إلاَّ بالتصرُّف بالبيع أو الهبة أو بأن يتلفها أو تتلف في يده؛ لأن للمقرض أن يرجع في العين، وللمستقرض أن يردّها. ولو ملكها المستقرض بالقبض.. لم يملك واحدٌ منهما فسخ ذلك. فعلى هذا: إن استقرض حيوانًا.. كانت نفقته على المقرض إلى أن يتلفه المستقرض. وإن استقرض أباه.. لم يعتق عليه بالقبض. و [الثاني] : منهم من قال: يملكها المستقرض بالقبض. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأنه بالقبض يملك التصرف فيها في جميع الوجوه، فلو لم يملكها بالقبض.. لما ملك التصرف فيها بما فيه حظٌّ، وبما لا حظَّ فيه. وأمَّا الرجوع في العين المقرضة: فلا خلاف بين أصحابنا: أنَّ للمستقرض أن

فرع: يملك الضيف الطعام

يردَّها على المقرض، وأمَّّا المقرض: فهل له أن يرجع فيها وهي في يد المستقرض؟ من أصحابنا من قال: إن قلنا: إنَّ المستقرض ملكها بالقبض.. لم يكن للمقرض أن يرجع فيها بغير رضا المستقرض، وإن قلنا: إنَّ المستقرض لا يملكها إلاَّ بالتصرُّف.. فللمقرض أن يرجع فيها. ومنهم من قال: للمقرض أن يرجع فيها بكل حال، وهو المنصوص، ولا يكون جواز رجوع المقرض فيها مانعًا من ثبوت الملك للمستقرض فيها قبل التصرُّف، ألا ترى أن الأب إذا وهب لابنه شيئًا، وأقبضه إيَّاه.. فإن الابن قد ملكه، وللأب أن يرجع فيه؟ وكذلك: إذا اشترى كل واحد سلعة بسلعة، ثم وجد كل واحدٍ منهما بما صار إليه عيبًا.. فإن لكل واحد منهما أن يرجع في سلعته وإن كانت ملكًا للآخر. ويبطل بما لو تصرَّف هذا المستقرض بالعين المستقرضة، ثم رجعت إليه.. فإن للمقرض أن يرجع فيها، ولا يدلُّ ذلك على: أنَّ المستقرض لم يكن مالكًا للعين وقت التصرُّف فيها. فعلى هذا: إذا اقترض حيوانًا، وقبضه.. كانت نفقته على المستقرض. وإن اقترض أباه، وقبضه.. صحَّ، وعتق عليه. [فرعٌ: يملك الضيف الطعام] واختلف أصحابنا فيمن قدَّم إلى غير طعامًا، وأباح له أكله.. متى يملكه المقدَّم إليه؟ فـ[الأول] : منهم من قال: يملكه بالتناول، فإذا أخذ لقمة بيده.. ملكها، كما إذا وهبه شيئًا، وأقبضه إيَّاه. فعلى هذا: لو أراد المقدِّم أن يسترجعها منه بعد أن أخذها بيده.. لم يكن له ذلك. و [الثاني] : منهم من قال: يملكه بتركه في الفم. فعلى هذا: للمقدِّم أن يرجع فيه ما لم يتركه المقدِّم إليه في فيهِ.

مسألة: ما يصح قرضه

و [الثالث] : منهم من قال: لا يملكه إلا بالبلع. و [الرابع] : حكاه في " المهذب ": أنه لا يملكه بالأكل، بل يأكله وهو على ملك صاحبه. فإذا قلنا: إن المقدم إليه ملكه بأخذه باليد، أو بتركه في الفم.. فهل له أن يبيحه لغيره، أو يتصرف فيه بغير ذلك؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال عامَّة أصحابنا: لا يجوز له ذلك، لأنه أباح له انتفاعًا صحيحًا مخصوصًا، فلا يجوز له أن ينتفع به لغيره، كما لو أعاره ثوبًا.. لم يكن له أن يعيره غيره. و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب: له أن يفعل به ما شاء من وجوه التصرفات، مثل: البيع، والهبة لغيره؛ لأنه يملكه، فهو كما لو وهبه شيئًا وأقبضه إيّاه. قال ابن الصبّاغ: وهذا الذي قالاه لا يجيءُ على أصولهما؛ لأن من شرط الهبة عندهما القبول والإيجاب والإذن بالقبض، إلاَّ أن يتضمَّنها العتق لقوَّته، ولم يوجد ذلك هاهنا. ولأن الإذن بالتناول إنَّما تضمَّن إباحة الأكل، فلا يصح أن يحصل به الملك، ولو كان ذلك صحيحًا.. لجاز له تناول جميع الذي قدم إليه، وينصرف به إلى بيته. وكذلك: إذا قلنا: بتركه في فيه.. فإنه لم يحصل الأكل المأذون فيه، وإنَّما يملكه بالبلع. وقال: وعندي: أنَّ بالبلع يبطل معنى الملك فيه، ويصير كالتالف. قال: والأوجه في ذلك: أن يكون إذنًا في الإتلاف لا تمليك فيه. [مسألةٌ: ما يصح قرضه] ] : ويصح القرض في كل عين يصح بيعها، وتضبط صفتها، كما قلنا في السلم. وأمّا ما لا يضبط بالصفة، كالجواهر وما عملت فيه النار.. فهل يصح قرضها؟ فيه وجهان، بناءً على الوجهين فيما يجب ردُّه بالقرض فيما لا مثل له:

فرع: قرض الدراهم المزيفة

فإن قلنا: يجب ردُّ القيمة.. جاز قرض هذه الأشياء. وإن قلنا: يجب ردُّ المثل فيها.. لم يجز قرضها، ويأتي توجيههما. [فرعٌ: قرض الدراهم المزيفة] ] : قال الصيمري: ولا يجوز قرض الدراهم المزيفة، ولا الزرنيخية، ولا المحمول عليها ولو تعامل بها الناس. فلو أقرضه دراهم أو دنانير، ثم حرمت.. لم يكن له إلاَّ ما أقرض. وقيل: قيمتها يوم حرمت. ولا يصح القرض إلاَّ في مال معلوم، فإن أقرضه دراهم غير معلومة الوزن، أو طعامًا غير معلوم الكيل.. لم يصحَّ؛ لأنه إذا لم يعلم قدر ذلك.. لم يمكنه القضاء. [مسألة: قرض الجواري] ] : ويجوز قرض غير الجواري من الحيوان، كالعبيد والأنعام، وغيرهما ممَّا يصح بيعها، ويضبط وصفها. وقال أبو حنيفة: (لا يصح قرضها) . وبنى ذلك على أصله: أن السلم لا يصح فيها. دليلنا: ما «روى أبو رافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسلف من أعرابي بَكْرًا، فقدمت عليه إبلٌ من إبل الصدقة، فأمرني أن أقضيه، فقلت: لم أجِد في الإبل إلا جملاً خيارًا رباعيًّا، فقال: " اقضه إيّاه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً» .

مسألة: في البيع والسلف

ولأن ما صحَّ أن يثبت في الذمة مهرًا.. صحَّ أن يثبت فيها قرضًا، كالثياب. فأمَّا استقراض الجواري: فيجوز ذلك لمن لا يحل له وطؤها بنسب أو رضاع أو مصاهرة، كغيرها من الحيوان، ولا يجوز لمن يحل له وطؤها. وقال المزني، وابن داود، وابن جرير الطبري: يجوز. وحكى الطبري عن بعض أصحابنا الخراسانيِّين: أنه يجوز قرضها، ولا يحل للمستقرض وطؤها. دليلنا: أنَّه عقد إرفاق لا يلزم كل واحد من المتعاقدين، فلم يملك به الاستمتاع، كالعارية. فقولنا: (عقد إرفاق لا يلزم كل واحد من المتعاقدين، فلم يملك به الاستمتاع) احترازٌ من البيع إذا اشترى جارية بجارية، ثم وجد كل واحد منهما بما صار إليه عيبًا.. فإن لكل واحد منهما أن يطأ جاريته، وليس بعقد إرفاق. ولا ينتقض بالرجل إذا وهب لابنه جارية؛ لأن الهبة تلزم من جهة الموهوب، ولا تلزم من جهة الواهب. [مسألةٌ: في البيع والسلف] ] : ولا يجوز بيع وسلف، وهو أن يقول: بعتك هذه الدار بمائة على أن تقرضني خمسين؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع وسلف، وعن بيعتين في بيعة، وعن ربح ما لم يضمن، وبيع ما ليس عنده» . ولا يجوز أن يقرضه دراهم على أن يعطيه بدلها في بلد أخرى، ولا أن يكتب له بها سفتجة، فيأمن خطر الطريق ومؤنة الحمل. وكذلك: لا يجوز أن يقرضه شيئًا

بشرط أن يرد عليه خيرًا منه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قرض جرَّ منفعة» . فإن أقرضه شيئًا بشرط أن يرد عليه أكثر منه.. نظرتَ: فإن كان ذلك من أموال الرِّبا، بأن أقرضه درهمًا، بشرط أن يرد عليه درهمين، أو أقرضه ذهب طعام بشرط أن يرد عليه ذهبي طعام.. لم يجز؛ لما رويَ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل قرض جر منفعة.. فهو حرام» ، ولأن هذا ربًا، فلم يجز، كالبيع.

فرع: رد القرض وزيادة من غير شرط

وإن كان ذلك في غير أموال الربا، كالثياب والحيوان.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: يجوز؛ لما روى «عبد الله بن عمرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: (أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أُجهِّزَ جيشًا، فنفدت الإبل، فأمرني أن آخذ بعيرًا ببعيرين إلى أجل» . وهذا استسلافٌ. والثاني: لا يجوز، وهو المذهب؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل قرض جرّ منفعة.. فهو حرام» ، ولأن هذا زيادة لا يقابلها عوض، فلم تصح، كما لو باعه داره بمائة على أن يعطيه مائة وعشرة، ولأنه لو اشترط زيادة في الجودة.. لم يصح، فلأن لا يجوز اشتراط الزيادة في العدد أولى. وأمَّا الخبر: فهو واردٌ في السلم، بدليل: أنه قال: (كنت آخذ البعير بالبعيرين إلى أجل) . والقرض لا يدخله الأجل. وإن أقرضه شيئًا بشرط أن يرد عليه دون ما أقرضه.. ففيه وجهان، حكاهما في " المهذَّب ": أحدهما: لا يجوز؛ لأن مقتضى القرض ردُّ المثل، فإذا شرط النقصان عمّا أقرضه.. فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد، فلم يجز، كما لو شرط الزيادة. والثاني: يجوز؛ لأن القرض جُعل رفقًا بالمستقرض، فشرط الزيادة يخرج القرض عن موضوعه، فلم يجز، وشرط النقصان لا يخرجه عن موضوعه، فجاز. [فرعٌ: رد القرض وزيادة من غير شرط] ] : وإن اقترض رجلٌ من غيره درهمًا، فردَّ عليه درهمين أو درهمًا أجود من درهمه، أو باع منه داره، أو كتب له بدرهمه سَفْتَجَةً إلى بلدٍ آخر من غير شرط، ولا جرت للمقرض عادة بذلك.. جاز. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك في أموال الرِّبا، ويجوز في غيرها. وهذا ليس بصحيح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقترض نصف صاع، فرد صاعًا، واقترض

فرع: الإقراض بشرط فاسد

صاعًا، فردَّ صاعين» ، واقترض من الأعرابي بكرًا، فردَّ عليه أجود منه، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خيار الناس أحسنهم قضاء» ، «وقال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (كان لي عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دين، فقضاني، وزادني» ، ولأنه متطوع بالزيادة، فجاز، كما لو وصله بها. وكذلك: لو اقترض رجل شيئًا، وردَّ أنقص ممَّا أخذ، وطابت نفس المقرض بذلك.. جاز، كما لو أعطى الزيادة وطابت نفس المقترض بذلك. وإن كان الرجل معروفًا أنه إذا أُقرض.. ردّ أكثر ممَّا اقترض، أو أجود منه.. فهل يجوز إقراضه مطلقًا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصحُّ إقراضه إلاَّ بشرط أن يرد عليه مثل ما أخذه؛ لأن ما علم بالعرف، كالمعروف بالشرط. والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يجوز إقراضه من غير شرط؛ لأن الزيادة مندوبٌ إليها في القضاء، فلا يمنع من جواز القرض، وأمّا ما كان معروفًا من جهة العرف: فلا يمنع جواز الإقراض، ألا ترى أنه لو جرت عادة رجل أنه إذا اشترى من إنسان تمرًا أطعمه منه، أو أطعم البائع من غيره.. لم يصر ذلك بمنزلة المشروط في بطلان البيع منه. [فرعٌ: الإقراض بشرط فاسد] ] : وإن أقرضه شيئًا بشرط فاسد، بأن أقرضه إلى أجل، أو أقرضه درهمًا بدرهمين. .

مسألة: يرد القرض بمثله

بطل الشرط؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل شرط ليس في كتاب الله.. فهو باطل» وهل يبطل القرض؟ فيه وجهان: أحدهما: يبطل. فعلى هذا: لا يملكه المقترض؛ لأن القرض إنما وقع بهذا الشرط، فإذا بطل الشرط.. بطل القرض، كالبيع بشرط فاسد. والثاني: لا يبطل؛ لأن القرض عقد إرفاق، فلم يبطل بالشرط الفاسد، بخلاف البيع. [مسألة: يرد القرض بمثله] وإذا اقترض شيئًا له مثل، كالحبوب والأدهان والدراهم والدنانير.. وجب على المستقرض ردُّ مثلها؛ لأنه أقرب إليه. وإن اقترض منه ما لا مثل له، كالثياب والحيوان.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب ردُّ قيمته، وهو اختيار الشيخ أبي حامد، ولم يذكر غيره؛ لأنه مضمون بالقيمة في الإتلاف، فكذلك في القرض. والثاني: يضمنه بمثله في الصورة والخِلْقة، وهو اختيار القاضي أبي الطيب الطبري؛ لحديث أبي رافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث: (أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقضي البكر بالبكر) ، ولأن طريق القرض الرِّفق، فسومح فيه بذلك، ألا ترى أنه يجوز فيه النسيئة فيما فيه الرِّبا، ولا يجوز ذلك في البيع، بخلاف المتلف، فإنه متعدٍّ، فأوجبت عليه القيمة؛ لأنها أخص؟ قال ابن الصبّاغ: فإن قلنا: تجب القيمة، فإن قلنا: إنه يملك ذلك بالقبض.. وجبت القيمة حين القبض. وإن قلنا: إنه لا يملك إلا بالتصرف.. وجبت عليه القيمة أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التصرف. وإن اختلفا في قدر القيمة، أو في صفة المثل.. فالقول قول المستقرض مع يمينه؛ لأنه غارمٌ.

فرع: إقراض الخبز

[فرعٌ: إقراض الخبز] ] : وأمَّا إقراض الخبز: فإن قلنا: يجوز قرض ما لا يضبط بالوصف، كالجواهر.. جاز قرض الخبز. وإن قلنا: لا يجوز قرض ما لا يضبط بالوصف.. ففي قرض الخبز وجهان: أحدهما: لا يجوز ـ وبه قال أبو حنيفة ـ كغيره مما لا يضبط بالوصف. والثاني: يجوز، قال ابن الصبّاغ: لإجماع أهل الأعصار على ذلك، فإنهم يقترضون الخبز. فإذا قلنا: يجوز اقتراضه، فإن قلنا: يجب فيما لا مثل له رد مثله في الصورة.. رد مثل الخبز وزنًا. وإن قلنا: يجب ردُّ القيمة فيما لا مثل له.. رد قيمة الخبز. فعلى هذا: إن شرط أن يرد مثل الخبز.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنَّ الرفق باقتراض الخبز لا يحصل إلاَّ بذلك. والثاني: لا يصح، كما لا يجوز بيع الخبز بالخبز. [مسألة: إعادة القرض في غير مكان تسلمه] وجواز أخذ قيمته] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الصرف) : (وإذا أقرضه طعامًا بمصر، فلقيه بمكة، فطالبه به.. لم يكن له ذلك) ؛ لأن عليه ضررًا في نقل الطعام من مصر إلى مكة، ولأن الطعام بمكة أكثر قيمة. وإن طالبه المستقرض بأخذه.. لم يلزم المقرض أخذه؛ لأن عليه مؤنة في حمله إلى مصر، فإن تراضيا على ذلك.. جاز؛ لأن الحق لهما، وإن طالب المقرض المستقرضَ بقيمة طعامه بمكة.. أُجبر المقترض على دفع قيمة الطعام؛ لأن الطعام بمكة كالمعدوم، وما له مثلٌ إذا عُدِم.. وجب قيمتُهُ. قال الشيخ أبو حامد: ويأخذ قيمة الطعام بمصر لا بمكََّّةَ في يوم المطالبة؛ لأنه إنما وجب عليه دفع القيمة يوم المطالبة.

فرع: دفع بدل القرض التالف

وهكذا: إن غصب منه طعامًا بمصر، أو أسلم إليه في طعام بمصر، فلقيه بمكة.. كان الحكم فيه كالحكم في القرض، إلاَّ في أخذ القيمة، فإنَّه لا يجوز أخذ القيمة عن المسلم فيه، ويجوز أخذ القيمة عن المغصوب، إلاَّ أنَّ الغاصب إذا دفع قيمة الطعام بمكة، وكان الطعام باقيًا.. لم يملكه الغاصب، بل إذا رجع إلى مصر.. ردَّ الطعام الذي غصبه، واسترجع القيمة، فأمَّا إذا كان في ذمَّته له دراهم أو دنانير من قرض أو غصب أو سلم بمصر، فطالبه بقضائها في مكة.. وجب عليه القضاء؛ لأنه ليس لنقلها مؤنة، فلم تختلف باختلاف البلدان. [فرعٌ: دفع بدل القرض التالف] ] : فإن اقترض من رجل شيئًا، وقبضه، وتصرف فيه، أو أتلفه، ثم أراد أن يعطيه عن بدل القرض عوضًا.. جاز؛ لأنه مستقر في الذمة لا يخشى انتقاصه بهلاكه، فجاز تصرفه فيه قبل القبض، كالمبيع بعد القبض، بخلاف المسلم فيه، فإنه غير مستقر؛ لأنه يخشى انتقاصه بهلاكه، وحكمه في اعتبار القبض حكم ما يأخذه عوضًا عن رأس مال السَّلم بعد الفسخ، وقد مضى بيانه. وإن كانت العين المقترضة باقية في يد المقترض.. فإنه لا يجوز أخذ العوض عنها؛ لأنَّا إن قلنا: إنَّ المقترض قد ملكها بالقبض.. فلا يجوز أخذ العوض؛ لأن ملك المقرض قد زال عن العين، ولم يستقرَّ بدلها في ذمة المقترض؛ لأن للمقرض أن يرجع في العين. وإن قلنا: إنَّ المقترض لا يملك العين إلاَّ بالتصرف.. لم يجز للمقرض أخذ بدل العين؛ لأن ملكه عليها ضعيف بتسليط المقترض عليه. هكذا ذكره ابن الصبّاغ. والله أعلم وبالله التوفيق

كتاب الرهن

[كتاب الرهن] الرهن ـ في اللغة ـ: مأخوذ من الثبوت والدوام، تقول العرب: رهن الشيء: إذا ثبت. والنعمة الراهنة هي الثابتة الدائمة. يقال: رهنت الشيء، فهو مرهون. ولا يقال: أرهنت، إلا في شاذ اللغة. وأما في الشرع: فهو جعل المال وثيقة على الدين، ليُستوفى منه الدين عند تعذره ممن عليه، وهو جائز. والأصل في جوازه: الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] . وهذا أمر على سبيل الإرشاد، لا على سبيل الوجوب. وأما السنة: فما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الرهن محلوب ومركوب» .

وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» . وغير ذلك من الأخبار. وأما الإجماع: فلا خلاف بين الفقهاء في جوازه. إذا ثبت هذا: فيجوز أخذ الرهن في السفر؛ للآية، ويجوز أخذه في الحضر، وهو قول كافة الفقهاء، إلا ما حكي عن مجاهد وداود: أنهما قالا: (لا يجوز أخذ الرهن في الحضر) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقترض من أبي الشحم اليهودي ثلاثين صاعا من

شعير لأهله بعدما عاد من تبوك بالمدينة، ورهن عنده درعه، وكانت قيمتها أربعمائة درهم» . ففي هذا الخبر فوائد: منها: جواز الرهن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رهن. منها: جواز الرهن في الحضر؛ لأن ذلك كان بالمدينة، وكانت موطن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومنها: أنه يجوز معاملة من في ماله حرام وحلال إذا لم يعلم عين الحلال والحرام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل اليهودي، ومعلوم أن اليهود يستحلون ثمن الخمر ويربون. ومنها: أن الرهن لا ينفسخ بموت الراهن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مات ودرعه مرهونة. ومنها: أن الإبراء يصح وإن لم يقبل المبرأ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعدل عن معاملة مياسير الصحابة، مثل: عثمان، وعبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما-؛ لأنه

مسألة: فيما يشترط في الراهن

كان يعلم أنه لو استقرض منهم.. أبرءوه. فلو كانت البراءة لا تصح إلى بقبول المبرأ.. لكان لا يقبل البراءة منهم، فعدل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليهودي الذي يعلم أنه يطالبه بحقه. ولأنه وثيقة تجوز في السفر فجازت في الحضر، كالضمان، والشهادة. [مسألة: فيما يشترط في الراهن] ولا يصح الرهن إلا من جائز التصرف في المال. فأما الصبي والمجنون والمحجور عليه: فلا يصح منه الرهن؛ لأنه عقد على المال، فلم يصح منهم، كالبيع. [مسألة: ما يصح الرهن به] ويصح الرهن بكل حق لازم في الذمة، كدين السلم، وبدل القرض، وثمن المبيعات، وقيم المتلفات، والأجرة، والمهر، وعوض الخلع، والأرش على الجاني. وأما الدية على العاقلة: فإن كان قبل حلول الحول.. لم تصح؛ لأنه لم يجب عليهم شيء. وإن كان بعد حلول الحول.. صح. قال الشيخ أبو حامد: وحكي عن بعض الناس: أنه قال: لا يصح الرهن إلا في دين السلم، وهو خلاف الإجماع. والدليل على صحة ما ذهبنا إليه: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] [البقرة: 282 ـ 283] .

وقد يكون الدين في الذمة ثمنا، وقد يكون فيها مثمنا، ولأنه حق ثابت في الذمة، فجاز أخذ الرهن به، كالسلم، ويجوز أخذ الرهن بالدين الحال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رهن درعه في بدل القرض، وهو حال. ولا يصح الرهن بدين الكتابة. وقال أبو حنيفة: (يصح) دليلنا: أنه وثيقة يستوفى منها الحق، فلم يصح في دين الكتابة، كالضمان، ولأن الرهن إنما جعل لكي يستوفي منه من له الحق إذا امتنع من عليه الحق، وهذا لا يمكن في الكتابة؛ لأن للمكاتب أن يعجز نفسه أي وقت شاء، ويسقط ما عليه، فلا معنى للرهن به. وأما الرهن بمال الجعالة، بأن يقول رجل: من رد عبدي الآبق.. فله الدينار: فإن رده رجل.. استحق الدينار، وصح أخذ الرهن به، وهل يصح أخذ الرهن به قبل الرد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح، وهو اختيار أبي علي الطبري، والقاضي أبي الطيب؛ لأنه حق غير لازم، فهو كـ: مال الكتابة. والثاني: يصح؛ لأنه يؤول إلى اللزوم، فهو كالثمن في البيع مدة الخيار. وأما مال السبق والرمي: فإن كان بعد العمل.. صح أخذ الرهن به، وإن كان قبل العمل، فإن قلنا: إنه كالإجارة.. صح أخذ الرهن به. وإن قلنا: إنه كالجعالة.. فعلى الوجهين في مال الجعالة. وأما العمل في الإجارة: فهل يصح أخذ الرهن به؟ ينظر فيه: فإن كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه.. لم يصح أخذ الرهن به؛ لأنه لا يمكن استيفاء عمله من الرهن. وإن كانت الإجارة على تحصيل عمل في ذمته.. صح أخذ الرهن به؛ لأنه يمكن استيفاء العمل من الرهن، بأن يباع الرهن، ويستأجر بثمنه منه من يعمل.

فرع: لا يؤخذ الرهن على الأعيان المضمونة

[فرع: لا يؤخذ الرهن على الأعيان المضمونة] ولا يصح أخذ الرهن بالثمن، والأجرة، والصداق، وعوض الخلع، إذا كان معينا، ولا بالعين المغصوبة، ولا المعارة، ولا بالعين المأخوذة على وجه السوم. وقال أبو حنيفة: (كل عين كانت مضمونة بنفسها.. جاز أخذ الرهن بها) . وأراد بذلك: أن ما كان مضمونا بمثله أو قيمته.. جاز أخذ الرهن به؛ لأن المبيع لا يجوز أخذ الرهن به؛ لأنه مضمون عليه بفساد العقد، ويجوز عنده أخذ الرهن بالمهر، وعوض الخلع؛ لأنه يضمن بمثله أو قيمته. دليلنا: أن قبل هلاك العين في يده لم يثبت في ذمته دين، فلا يصح أخذ الرهن به، كالمبيع. [مسألة: عقد الرهن على الدين اللازم] ويجوز عقد الرهن بعد ثبوت الدين، مثل: أن يقرضه شيئا، أو يسلم إليه في شيء، فيرهنه بذلك؛ لأنه وثيقة بالحق بعد لزومه، فصح، كالشهادة، والضمان. ويجوز شرط الرهن مع ثبوت الحق، بأن يقول: بعتك هذا بدينار في ذمتك، بشرط أن ترهنني به كذا، أو أقرضتك هذا، بشرط أن ترهنني كذا؛ لأن الحاجة تدعو إلى شرطه في العقد، فإذا شرط هذا الشرط.. لم يجب على المشتري الرهن، أي: لا يجبر عليه، ولكن متى امتنع منه.. ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع. ولا يجوز عقد الرهن قبل ثبوت الحق، مثل: أن يقول: رهنتك هذا على عشرة دراهم تقرضنيها، أو على عشرة أبتاع بها منك. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يصح) . دليلنا: أنه وثيقة بحق، فلم يجز أن يتقدم عليها، كالشهادة، بأن يقول: اشهدوا أن له علي ألفا اقترضتها منه عدًّا.

فرع: لا يؤخذ الرهن قبل معرفة قيمة المأخوذ

[فرع: لا يؤخذ الرهن قبل معرفة قيمة المأخوذ] وإن ثقلت السفينة بقوم في البحر، وخافوا الغرق، فقال رجل لغيره: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، فإن كان المتاع غير معلوم القيمة.. لم يصح أخذ الرهن به قبل الإلقاء؛ لأنه رهن بدين قبل وجوبه، وهل يصح الضمان به؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري. وإن عرف قدر المتاع وقيمته ... ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الصيمري: أحدها: لا يصح الرهن به ولا الضمان. وهذا هو المشهور؛ لأن القيمة لا تجب قبل الإلقاء. والثاني: يصحان. والثالث: يصح الضمان، ولا يصح الرهن. وأما إذا ألقاه في البحر: وجبت القيمة في ذمة المستدعي، ويصح أخذ الرهن به والضمان؛ لأنه دين واجب. [مسألة: الرهن عقد غير لازم] ولا يلزم الرهن من جهة المرتهن بحال، بل متى شاء.. فسخه؛ لأنه عقد لحظه، فجاز له إسقاطه متى شاء، كالإبراء من الدين. فأما من جهة الراهن: فلا يلزم قبل القبض، سواء كان مشروطا في عقد أو غير مشروط، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (يلزم من جهة الراهن بالإيجاب والقبول، فمتى رهن شيئا.. أجبر على إقباضه) . وكذلك قال في الهبة. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] [البقرة: 283]

فرع: الإذن في قبض المرهون به

فوصف الرهن بالقبض، فدل على أنه لا يكون رهنا إلا بالقبض، كما أنه وصف الرقبة المعتقة بالإيمان. ثم لا يصح عن الكفارة إلا عتق رقبة مؤمنة، ولأنه عقد إرفاق من شرطه القبول، فكان من شرطه القبض، كالقرض. فقولنا: (عقد إرفاق) احتراز من البيع، فإنه عقد معاوضة. وقولنا: (من شرطه القبول) احتراز من الوقف. إذا ثبت هذا: فالعقود على ثلاثة أضرب: ضرب لازم من الطرفين، كالبيع، والحوالة، والإجارة، والنكاح، والخلع. وضرب جائز من الطرفين، كالوكالة، والشركة، والمضاربة، والرهن قبل القبض. وضرب لازم من أحد الطرفين جائز من الآخر، كالرهن بعد القبض، والضمان، والكتابة. [فرع: الإذن في قبض المرهون به] وإن عقد الرهن على عين في يد الراهن.. لم يجز للمرتهن قبضها إلى بإذن الراهن؛ لأن للراهن أن يفسخ الرهن قبل القبض، فلم يجز للمرتهن إسقاط حقه من ذلك بغير إذنه. فإن كانت العين المرهونة في يد المرتهن وديعة أو عارية.. فإن الرهن يصح؛ لأنه إذا صح عقد الرهن على ما في يد الراهن.. فلأن يصح على ما في يد المرتهن للراهن أولى. أما القبض فيها: فنص الشافعي هاهنا: (أنها تصير مقبوضة عن الرهن إذا أذن الراهن في قبضها، ومضت مدة يمكنه فيها أن يقبض) . وقال في كتاب (الإقرار والمواهب) : (إذا وهب له عينا في يد الموهوب له، فقبلها تمت الهبة، ولم يعتبر الإذن في القبض) . واختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق: [أحدها] : من قال: لا يلزم واحد منهما إلا بالقبض، ولا يصح قبضهما إلا

بالإذن. وما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الهبة) فأراد: إذا أذن وأضمر ذلك، وصرح به في الرهن. و [ثانيها] : منهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين: أحدهما: لا يفتقر واحد منهما إلى الإذن؛ لأن إقراره له بيده بعد عقد الرهن والهبة، بمنزلة الإذن بالقبض، ولأنه لما لم يفتقر إلى نقل مستأنف.. لم يفتقر إلى إذن. والثاني: يفتقر إلى الإذن فيهما. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الصحيح؛ لأنه قبض يلزم به عقد غير لازم، فلم يحصل إلا بالإذن، كما لو كانت العين في يد الراهن. و [الطريق الثالث] : منهم من حمل المسألتين على ظاهرهما، فقال في الهبة: لا تفتقر إلى الإذن بالقبض فيها. وفي الرهن: لا بد من الإذن بالقبض فيه؛ لأن الهبة عقد قوي يزيل الملك، فلم تفتقر إلى الإذن فيها، والرهن عقد ضعيف لا يزيل الملك، فافتقر إلى الإذن بالقبض فيه. إذا ثبت هذا: فرهنه ما عنده.. فإنه لا يحتاج إلى أن ينقله، بلا خلاف على المذهب، وهل يحتاج إلى الإذن بالقبض؟ على الطرق المذكورة. وسواء قلنا: يفتقر إلى الإذن بالقبض، أو لا يفتقر إلى الإذن، فلا بد من مضي مدة يتأتى فيها القبض في مثله: إن كان مما ينقل، فبمضي زمان يمكنه نقله. وإن كان مما يخلى بينه وبينه.. فبمضي زمان يمكنه فيه التخلية. قال الشيخ أبو حامد: وحكي عن حرملة نفسه: أنه قال: لا يحتاج إلى مضي مدة، بل يكفيه العقد والإذن إذا قلنا: إنه شرط، أو العقد لا غير إذا قلنا: إن الإذن ليس بشرط؛ لأن يده ثابتة عليه، فلا معنى لاعتبار زمان ابتداء القبض. وهذا غلط؛ لأن القبض لا يحصل إلا بالفعل أو بالإمكان، ولم يوجد واحد منهما. قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا: إن كان المرهون معه في المجلس أو بقربه،

وهو يراه أو يعلم به.. فإن القبض فيه هو مضي مدة، لو قبضه فيها.. أمكنه. وإن كان الرهن في صندوق وهو في البيت، ويتحقق كونه فيه.. فقبضه أن تمضي مدة، لو أراد أن يقوم إلى الصندوق ويقبضه.. أمكنه. وإن كان الرهن غائبا عن المجلس، بأن يكون في البيت والمرتهن في المسجد أو السوق.. فنقل المزني عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يصير مقبوضا حتى يصير المرتهن إلى منزله، والرهن فيه) . فقال أبو إسحاق: هذا فيما يزول بنفسه، مثل العبد والبهيمة، وأما ما لا يزول بنفسه، كالثوب، والدار.. فلا يحتاج إلى أن يصير إلى منزله، بل يكفي أن يأتي عليه زمان يمكنه القبض فيه. قال القاضي أبو الطيب: وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على مثل ذلك في " الأم " [3/125] ؛ لأن ما يزول بنفسه لا يعلم مكانه، فلا يمكن تقدير زمان يمكن فيه القبض، وما لا يزول بنفسه، فالظاهر بقاؤه في مكانه. وأما الشيخ أبو حامد: فقال: غلط أبو إسحاق، فقد نص الشافعي في " الأم " على: (أنه لا فرق بين الحيوان وغيره) ؛ لأنه يجوز أن يحدث على غير الحيوان التلف من سرقة أو حريق أو غرق، فهو بمنزلة الحيوان. وحكى في " المهذب ": أن من أصحابنا من قال: إن أخبره ثقة: بأنه باق على صفته، ومضى زمان يتأتى فيه القبض.. صار مقبوضا، كما لو رآه وكيله، ومضى زمان يتأتى فيه القبض. وليس بشيء؛ لأنه يجوز أن يكون قد تلف بعد رؤية الثقة. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -[في " الأم " (3/125) ] : (ولا يكون القبض إلا ما حضره المرتهن، أو وكيله) . قال أصحابنا: وهذا الكلام يحتمل تأويلين: أحدهما: أن هذه مسألة مبتدأة، أي: أن القبض لا يحصل في الرهن إلا أن يقبضه المرتهن أو وكيله. فقصد بهذا بيان جواز الوكالة في القبض؛ لأن القبض هو نقله من يد الراهن إلى يد المرتهن، وهذا لا يوجد إلا بحضور المرتهن، أو وكيله. وقد فرع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذا في " الأم " [3/124] : (أن المرتهن لو وكل

فرع: رهن المغصوب

الراهن في قبض الرهن له من نفسه.. لم يصح؛ لأنه لا يجوز أن يكون وكيلا لغيره على نفسه في القبض) . والتأويل الثاني: أن هذا عطف على المسألة المتقدمة، إذا رهنه وديعة عنده غائبة عنه، فلا تكون مقبوضة حتى يرجع المرتهن أو وكيله، ويشاهدها. قالوا: وهذا أشبه؛ لأنه اعتبر مجرد الحضور لا غير، وإنما يكفي ذلك فيما كان عنده. فأما ما كان في يد الراهن: فلا بد من النقل فيه. [فرع: رهن المغصوب] وإن غصب عينا، ثم رهنها المغصوب منه عند الغاصب.. صح الرهن، فإذا أذن الراهن للمرتهن في قبض الرهن، ومضت مدة يتأتى فيها القبض.. صار مقبوضا عن الرهن. ولا يزول عن الغاصب ضمان الغصب إلا بأن يسلمه إلى المغصوب منه، أو بأن يبرئه المغصوب منه عن الضمان في أحد الوجهين. وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، والمزني - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى: (يزول ضمان الغصب عن المرتهن) . دليلنا: أنه لم يتخلل بين الغصب والرهن أكثر من عقد الرهن وقبضه، والرهن لا ينافي الغصب؛ لأنهما قد يجتمعان، بأن يرتهن عينا ويتعدى فيها. فإن ارتهن عارية في يده وأذن له في قبضها عن الرهن.. صح، وكان له الانتفاع بها؛ لأن الرهن لا ينافي ذلك، ويكون ضمان العارية باقيا عليه، فإن منعه المعير من الانتفاع.. فهل يزول عن المستعير الضمان؟ فيه وجهان: أحدهما: يزول عنه؛ لأنها خرجت عن أن تكون عارية. والثاني: لا يزول عنه الضمان؛ لأن يده لم تزل. وإن أودعها المعير عند المستعير، أو المغصوب منه عند الغاصب.. فهل يزول عنه الضمان؟ فيه وجهان:

فرع: كيفية القبض

أحدهما: لا يزول عنه الضمان، لبقاء يده. والثاني: يزول؛ لأن الإيداع ينافي الغصب والعارية. [فرع: كيفية القبض] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والقبض في العبد والثوب وما يحول: أن يأخذه مرتهنه من يد راهنه، وقبض ما لا يحول من أرض أو دار: أن يسلمه بلا حائل) . وهذا كما قال: القبض في الرهن كالقبض في البيع. فإذا رهنه ما ينقل، مثل: الدراهم، والدنانير، والثياب.. فقبضها أن يتناولها، وينقلها من مكان إلى مكان. وكذلك: إذا رهنه عبدا أو بهيمة.. فقبض العبد أن يأخذه بيده، وينقله من مكان إلى مكان، وفي البهيمة أن يقودها أو يسوقها من مكان إلى مكان. وإن رهنه صبرة جزافا.. فقبضها أن ينقلها من مكان إلى مكان، وإن رهنه مكيلا من صبرة فقبضه بالكيل. وإن رهنه ما لا ينقل، كالأرض، والدار، والدكان.. فالقبض فيها أن يزيل الراهن يده عنها، بأن يخرج منها، ويسلمها إلى المرتهن، ولا حائل بينه وبينها. فإن رهنه دارا، فخلى بينه وبينها وهما فيها، ثم خرج الراهن.. صح القبض. وقال أبو حنيفة: (لا يصح حتى يخلي بينه وبينها بعد خروجه منها؛ لأنه إذا كان في الدار.. فيده عليها، فلا تصح التخلية) . وهذا ليس بصحيح؛ لأن التخلية تحصل بقوله، وبرفع يده عنها، ألا ترى أن بخروجه من الدار لا تزول يده عنها، وبدخوله إلى دار غيره لا تثبت يده عليها؟ ولأنه بخروجه عنها محقق لقوله، فلا معنى لإعادة التخلية. هكذا ذكره ابن الصباغ. قال: وإن خلى بينه وبين الدار، وفيها قماش للراهن.. صح التسليم في الدار. وقال أبو حنيفة: (لا يصح التسليم في الدار؛ لأنها مشغولة بملك الراهن) . وكذلك يقول: (إذا رهنه دابة عليها حمل للراهن، وسلم الجميع إليه.. لم يصح قبض الدابة، ولو رهنه الحمل دون الدابة، أو معها، وسلمها إليه.. صح القبض) . وكذلك يقول في قماش الدار. وهذا ليس بصحيح؛ لأن كل ما كان قبضا في البيع..

فرع: جوازالتوكيل في قبض الرهن

كان قبضا في الرهن، كالحمل، وقد قال: (إذا رهنه سرج دابة ولجامها، وسلمها بذلك.. لم يصح القبض فيه؛ لأنه تابع للدابة) . وهذا ينقض ما ذكره في الحمل. وقوله: (إنه تابع) فيبطل به إذا باع الدابة.. فإن السرج لا يدخل فيه، وعلى أن الدابة في يده، وكذلك ما تبعها. [فرع: جوازالتوكيل في قبض الرهن] فرع: [جواز التوكيل في قبض الرهن] : قال الصيمري: ولو قال الراهن للمرتهن: وكل عني رجلا ليقبضك أو ليقبض وكيلك عني.. جاز. ولو أمر الراهن وكيله ليقبض المرتهن، فأقبض وكيله.. جاز. [فرع: الإقرار بقبض الرهن] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والإقرار بقبض الرهن جائز، إلا فيما لا يمكن في مثله) . وهذا كما قال: إذا أقر الراهن بالإقباض إقرارا مطلقا، وصدقه المرتهن على ذلك.. حكم بصحة ذلك؛ لأنه يمكن صدقهما، وإن علقا ذلك بزمان لا يمكن صدقهما فيه، مثل: أن يقرا بأنهما تراهنا دارا ببغداد، وتقابضاها اليوم وهما بمكة.. فإن هذا لا يمكن ولا يثبت، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا أقر الرجل أن زوجته أمه من الرضاع أو ابنته، فإن كان سنه مثل سنها.. لم يقبل، ولم ينفسخ النكاح، وإن أمكن صدقه.. قبل، وحكم بانفساخ النكاح) . فإن عقد على عين رهنا وإجارة، ثم أذن له في قبضها عنهما، أو عن الرهن، فقبضها صارت مقبوضة عنهما؛ لأن الإجارة لا تفتقر إلى الإذن بالقبض، والرهن يفتقر. وإن أذن له في قبضها عن الإجارة.. صارت مقبوضة عن الإجارة دون الرهن؛ لأنه لم يأذن له في القبض عن الرهن.

مسألة: رجوع الراهن عن الإذن قبل القبض

[مسألة: رجوع الراهن عن الإذن قبل القبض] وإن رهنه عينا، وأذن له بقبضها، فقبل أن يقبضها المرتهن رجع الراهن عن الإذن.. لم يكن للمرتهن قبضها؛ لأنه إنما يقبضها بإذن الراهن، وقد بطل إذنه برجوعه. وإن رهنه شيئا، ثم جن الراهن، أو أغمي عليه، أو أفلس، أو حجر عليه.. لم يصح إقباض الراهن، ولا يكون للمرتهن قبضه؛ لأنه لا يصح قبضه إلا بإذن الراهن، وقد خرج عن أن يكون من أهل الإذن. وكذلك: إذا أذن له في القبض، فقبل أن يقبض طرأ على الراهن الجنون، أو الإغماء، أو الحجر.. بطل إذنه لذلك، ولا يبطل الرهن بذلك. وقال أبو إسحاق: يبطل الرهن بذلك؛ لأن الرهن قبل القبض من العقود الجائزة، فيبطل بهذه الأشياء، كالوكالة والشركة. والمذهب الأول؛ لأن الرهن يؤول إلى اللزوم، فهو كالبيع بشرط الخيار. وقيل: إن أبا إسحاق رجع عن هذا. إذا ثبت ما ذكرناه: فإن الولي عن المجنون والمغمى عليه ينظر: فإن كان الحظ بإقباض الرهن، مثل: أن يكون شرطاه في بيع يستضر بفسخه أو ما أشبه ذلك.. أقبضه عنهما. وإن كان الحظ في تركه.. لم يقبضه. وإن كان للمحجور عليه غرماء غير المرتهن.. قال ابن الصباغ: لم يجز للحاكم تسليم الرهن إلى من رهنه عنده قبل الحجر؛ لأنه ليس له أن يبتدئ عقد الرهن في هذه الحالة، فكذلك تسليم الرهن.

فرع: تصرف الراهن قبل الإقباض يبطله

[فرع: تصرف الراهن قبل الإقباض يبطله] ] : وإن رهن عند غيره رهنا، ثم تصرف فيه الراهن قبل القبض.. نظرت: فإن باعه، أو أصدقه، أو جعله عوضا في خلع، أو وهبه وأقبضه، أو رهنه وأقبضه، أو كان عبدا فأعتقه، أو كاتبه.. بطل الرهن؛ لأنه يملك فسخ الرهن قبل القبض، فجعلت هذه التصرفات اختيارا منه للفسخ، وإن كانت أمة فزوجها، أو عبدا فزوجه.. لم يبطل الرهن؛ لأن التزويج لا ينافي الرهن. ولهذا يصح رهن الأمة المزوجة والعبد المزوج. وإن أجر الرهن، فإن قلنا: يجوز بيع المستأجر.. لم ينفسخ الرهن بالإجارة، وإن قلنا: لا يجوز بيع المستأجر، فإن كانت مدة الإجارة تنقضي قبل حلول الدين لم ينفسخ الرهن، وإن كان الدين يحل قبل انقضاء مدة الإجارة.. انفسخ الرهن بها. وإن دبر الراهن العبد المرهون.. فالمنصوص: (أن الرهن ينفسخ) . قال الربيع: وفيه قول آخر: (أنه لا ينفسخ) ؛ لأن تدبيره لا يمنع من بيعه. والأول أصح؛ لأن موجب التدبير هو العتق، وهو ينافي الرهن. قال أصحابنا: وما حكاه الربيع.. فهو من تخريجه. وأما إذا رهنه الراهن من آخر ولم يقبضه، أو وهبه ولم يقبضه.. كان ذلك إبطالا للرهن الأول، على المشهور من المذهب؛ لأن موجبه ينافي الرهن وعلى تخريج الربيع لا يكون رجوعا في الرهن. [فرع: استدامة القبض] استدامة القبض في الرهن ليس بشرط في الرهن. وقال مالك، وأبو حنيفة: (استدامة القبض شرط فيه) .

فرع: خرس الراهن

دليلنا: أنه عقد يعتبر فيه القبض، فلم تكن استدامته شرطا، كالهبة مع أبي حنيفة، والقرض مع مالك رحمة الله عليهما. [فرع: خرس الراهن] إذا رهن شيئا ثم خرس الراهن قبل الإذن بالقبض، فإن كانت له إشارة مفهومة، وأذن بالقبض بالإشارة.. جاز للمرتهن قبضه؛ لأن إشارته كعبارة الناطق، وإن لم تكن له إشارة مفهومة.. لم يكن للمرتهن قبض الرهن؛ لعدم الإذن من الراهن. وإن رهنه وأذن له بالقبض، ثم خرس الراهن قبل القبض.. قال ابن الصباغ: فينبغي أن ينظر: فإن كانت للراهن إشارة مفهومة أو كتابة.. لم يبطل إذنه. وإن لم يكن له شيء من ذلك.. بطل إذنه، كالمغمى عليه والمجنون. [مسألة: موت أحد المتراهنين] وإن عقد الرهن، ثم مات أحد المتراهنين قبل القبض.. فقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الرهن لا ينفسخ بموت المرتهن، بل الراهن بالخيار: بين أن يقبض ورثة المرتهن، أولا يقبضهم) . وحكى الداركي: أن الشافعي قال في موضع آخر: (إن الرهن ينفسخ بموت الراهن قبل التسليم) . واختلف أصحابنا في المسألة على ثلاثة طرق: فـ[الطريق الأول] : منهم من نقل جوابه في كل واحدةٍ منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين: أحدهما: ينفسخ بموت أحدهما؛ لأنه عقد جائز، فبطل بالموت، كالوكالة والشركة. والثاني: لا ينفسخ بموت واحدٍ منهما؛ لأنه عقد يؤول إلى اللزوم، فلم ينفسخ بالموت، كالبيع بشرط الخيار.

مسألة: امتناع الراهن من الإقباض

و [الطريق الثاني] : منهم من قال: ينفسخ بموت الراهن، ولا ينفسخ بموت المرتهن؛ لأن بموت المرتهن لا يحل الدين المؤجل عليه، وبموت الراهن يحل الدين المؤجل عليه، فإن كان عليه دين غير دين المرتهن.. كان للمرتهن أسوة الغرماء، ولا يجوز للورثة تخصيص المرتهن بالرهن، وإن لم يكن عليه دين غير المرهون به.. فقد تعلق الدين بجميع التركة، فلا وجه لتسليم الرهن به، وليس كذلك المرتهن، فإن ماله من الدين لا يحل بموته، فالحاجة باقية إلى الاستيثاق بالرهن. و [الطريق الثالث] : من أصحابنا من قال: لا يبطل الرهن بموت واحد منهما، قولا واحدا؛ لأن الرهن إذا لم ينفسخ بموت المرتهن، والعقد لا يلزم من جهته بحال.. فلأن لا يبطل بموت الراهن ـ والعقد قد لزم من جهته بعد القبض ـ أولى. وأنكر الشيخ أبو حامد ما حكاه الداركي، وقال: بل كلام الشافعي يدل على: أن الرهن لا ينفسخ بموت الراهن؛ لأنه قال في " الأم ": (وإذا رهن عند رجل شيئا، ثم مات الراهن قبل أن يقبض الرهن، فإن كان عليه دين.. كان له أسوة الغرماء، وإن لم يكن عليه دين.. فوارثه بالخيار: بين أن يقبض الرهن المرتهن، أو يمنعه) . وإن مات أحدهما بعد القبض.. لم ينفسخ الرهن بلا خلاف، ويقوم وارث كل واحد منهما مقامه؛ لأن الرهن لازم من جهة الراهن، والعقد اللازم لا يبطل بالموت، كالبيع والإجارة. [مسألة: امتناع الراهن من الإقباض] إذا امتنع الراهن من الإقباض، أو انفسخ عقد الرهن قبل القبض.. نظرت: فإن كان الرهن غير مشروط في العقد.. بقي الدين بغير رهن، ولا خيار للمرتهن. وإن كان الرهن مشروطا في بيع.. ثبت للبائع الخيار: بين فسخ البيع، وبين إمضائه؛ لأنه دخل في البيع بشرط الوثيقة، ولم تسلم له الوثيقة، فثبت له الخيار.

مسألة: لزوم الرهن بالإقباض

[مسألة: لزوم الرهن بالإقباض] وإذا أقبض الراهن الرهن.. لزم من جهته، فلا يملك فسخه. قال ابن الصباغ: وهو إجماع لا خلاف فيه، ولأنه يراد للوثيقة، فلو جاز له الفسخ.. لم يحصل بذلك وثيقة، وإذا قبض الرهن.. فإنه يكون وثيقة بالدين، وبكل جزء منه. فإذا رهنه عبدين بألف، وقبضهما المرتهن، ثم تلف أحدهما.. كان الباقي رهنا بجميع الألف، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما روي عنه في الأصول. وروي عنه في " الزيادات ": (أن الدين يتقسط على الرهن) . دليلنا: أنه مال محبوس بحق، فوجب أن يكون محبوسا بالحق، وبكل جزء منه، كما لو مات وخلف تركة ودينا عليه.. فإن التركة محبوسة بالدين، وبكل جزء منه، ولأن وثيقة بحق، فكان وثيقة بالحق، وبكل جزء منه، كالشهادة، والضمان. فإذا قضى الراهن الدين، أو أبرأه منه المرتهن، والرهن في يد المرتهن.. بقي في يده أمانة. وقال أبو حنيفة: (إن قضاه الراهن.. كان الرهن مضمونا على المرتهن، وإن أبرأه المرتهن، أو وهبه، ثم تلف الرهن في يده.. لم يضمنه استحسانا؛ لأن البراءة والرهن لا تقتضي الضمان) . وهذا مناقضة منه؛ لأن القبض المضمون عنده لم يزل، ولم يبرئه منه.

فرع: أسلم بطعام وأخذ رهنا

[فرع: أسلم بطعام وأخذ رهنا] وإن أسلم في طعام، فأخذ به رهنا، ثم تقايلا عقد السلم.. برئ المسلم إليه من الطعام، ووجب عليه رد رأس مال المسلم، وبطل الرهن؛ لأن الدين الذي ارتهن به قد سقط، ولا يكون له حبس الرهن، إلا أنه يأخذ رأس المال؛ لأنه لم يرهنه به. وإن اقترض منه ألفا، ورهنه بها رهنا، ثم أخذ المقرض بالألف عينا.. سقطت الألف عن ذمة المقترض، وبطل الرهن، فإن تلفت العين في يد المقترض قبل أن يقبضها المقرض.. انفسخ القضاء، وعاد القرض والرهن؛ لأنه متعلق به، وقد عاد. قال الشيخ أبو حامد: وإن باع من رجل كر طعام بألف درهم إلى أجل، وأخذ بالثمن رهنا، فإذا حل الأجل، أو كان حالا.. فللبائع أن يأخذ منه بدل الثمن دنانير، فإذا أخذها.. انفسخ الرهن، وإن تفرقا قبل القبض.. بطل القضاء، وعاد الثمن إلى ذمة المشتري، ويعود الرهن؛ لأن الرهن من حق ذلك الثمن، فسقط بسقوطه، فإذا عاد الثمن.. عاد بحقه. وإن ابتاع منه مائة دينار بألف درهم في ذمته، ودفع عن الدراهم رهنا.. صح، فإن تقابضا في المجلس.. صح الصرف، وانفك الرهن، وإن تفرقا من غير قبض.. بطل الصرف والرهن.

فرع: لرهن من اثنين

[فرع: لرهن من اثنين] فرع: [الرهن من اثنين] : وإن كان لرجل على رجلين دين، فرهناه ملكا بينهما مشاعا.. جاز، كما لو باعا ذلك منه، فإذا قضاه أحدهما ما عليه له، أو أبرأ المرتهن أحدهما.. انفك نصف الرهن؛ لأن الصفقة إذا حصل في أحد شطريها عاقدان.. فهما عقدان، فلا يقف الفكاك في أحدهما على الفكاك في الآخر، فإن طلب من انفك نصيبه القسمة.. نظرت: فإن كان الرهن مما لا تتساوى أجزاؤه، كالثياب، والحيوان، أو كانا دارين، فأراد من انفك نصيبه أن يجعل كل دار بينهما.. لم يجز ذلك من غير إذن المرتهن؛ لأن ذلك مناقلة، والرهن يمنع من ذلك. وإن كان الرهن مما تتساوى أجزاؤه، كالطعام.. فله المطالبة بقسمته؛ لأنه لا ضرر على المرتهن بذلك، وهكذا: إذا كانت الأرض متساوية الأجزاء.. فهي كالطعام. وإن كان الرهن مما تنقص قيمته بالقسمة، كالحجرة الواحدة إذا أراد قسمتها نصفين.. فهل للمرتهن أن يمتنع؟ فيه وجهان: أحدهما: له أن يمتنع؛ لأن الضرر يدخل عليه بذلك. والثاني: ليس له أن يمتنع؛ لأن المرتهن عنده النصف، فلا يملك الاعتراض على المالك فيما لا حق له فيه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 262] : إن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين.. جازت القسمة، وإن قلنا: إنها بيع.. لم تجز. وإن رهن رجل ملكا له عند رجلين بدين لهما عليه، فقضى أحدهما دينه، أو أبرأه أحدهما عن دينه.. انفك نصف الرهن؛ لأن في أحد شطري الصفقة عاقدين، فهما كالعقدين، والحكم في القسمة ما مضى.

مسألة: العيب في الرهن

[مسألة: العيب في الرهن] وإذا قبض المرتهن الرهن، ثم وجد به عيبا كان موجودا في يد الراهن.. نظرت: فإن كان الرهن غير مشروط في عقد البيع.. فلا خيار للمرتهن في فسخ البيع؛ لأن الراهن متطوع بالرهن. وإن كان الرهن مشروطا في عقد البيع.. ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع؛ لأنه لم يسلم له الشرط. وإن لم يعلم بالعيب حتى هلك الرهن عنده، أو حدث عنده به عيب.. لم يثبت له الخيار؛ لأنه لا يمكنه رد الرهن كما أخذ، ولا يثبت له أرش العيب، كما يثبت للمشتري أرش العيب، والفرق بينهما: أن المبيع يجبر البائع على إقباضه، فأجبر على دفع الأرش، والراهن لا يجبر على إقباض الرهن، فلم يجبر على دفع الأرش، ولأن المبيع لو تلف جميعه في يد البائع قبل التسليم.. لوجب عليه ضمانه بالثمن، وهاهنا لو تلف الرهن في يد الراهن قبل التسليم.. لم يجب عليه بدله، فلم يجب عليه بدل جزء منه، ولأنا لو قلنا: لا أرش للمشتري.. لأسقطنا حقه، وهاهنا لا يسقط حق المرتهن؛ لأن حقه في ذمة الراهن. قال الشيخ أبو حامد: فلو باعه شيئا بشرط أن يرهنه عبدين، فرهنهما عنده، وأقبضه أحدهما دون الآخر، وتلف عند المرتهن، وامتنع الراهن من إقباض الثاني، أو تلف في يد الراهن.. لم يكن للمرتهن الخيار في فسخ البيع؛ لأنه لا يمكن رد العبد الذي قبض، فيمضي البيع بلا رهن. وبالله التوفيق

باب ما يجوز رهنه وما لا يجوز

[باب ما يجوز رهنه وما لا يجوز] كل ما لا يجوز بيعه، كالكلب، والخنزير، وما أشبههما.. لا يجوز رهنه؛ لأن الرهن يراد ليستوفى الحق من ثمنه، وهذا لا يوجد فيما لا يجوز بيعه. [مسألة: رهن شيء رطب يقبل التجفيف] وإن رهنه شيئا رطبا يسرع إليه الفساد، فإن كان مما يمكن تجفيفه كالرطب والعنب.. صح رهنه، ووجب على الراهن مؤنة تجفيفه، كما يجب عليه مؤنة حفظه، وعلف الحيوان، وإن كان مما لا يمكن تجفيفه، كالبقل، والبطيخ، والهريس.. نظرت: فإن رهنه بحق حال، أو بمؤجل يحل قبل فساده.. صح الرهن؛ لأنه يمكن استيفاء الحق من ثمنه. وإن رهنه بدين مؤجل يفسد قبل حلول الدين.. نظرت: فإن شرط المرتهن على الراهن بيع الرهن عند خوف الفساد؛ ليكون ثمنه رهنا.. صح الرهن؛ لأن الغرض يحصل بذلك. وإن شرط الراهن أن لا يباع إلا بعد حلول الحق.. لم يصح الرهن؛ لأنه يتلف، ولا يحصل المقصود، وإن أطلقا ذلك.. ففيه قولان: أحدهما: يصح الرهن، فإذا خيف عليه الفساد.. بيع، وجعل ثمنه رهنا؛ لأن العقد يبنى على عرف الناس، وفي عرفهم: أن المالك لا يترك من ماله ما يخاف عليه الفساد ليفسد. والثاني: لا يصح الرهن، وهو الصحيح؛ لأنه لا يمكن إجبار الراهن على إزالة ملكه قبل حلول الدين، فإذا كان كذلك.. فلا يمكن استيفاء الحق من ثمنه، فلم يصح رهنه، كأم الولد.

مسألة: رهن العبد المعلق عتقه على صفة

[مسألة: رهن العبد المعلق عتقه على صفة] وإن علق عتق عبده على صفة، ثم رهنه.. ففيه ثلاث مسائل: الأولى: إذا قال: إذا جاء رأس الشهر.. فأنت حر، ثم رهنه بحق حال، أو بمؤجل يحل قبل مجيء رأس الشهر.. فيصح الرهن، قولا واحدا؛ لأنه يمكن استيفاء الحق من ثمنه. الثانية: أن يرهنه بحق مؤجل توجد الصفة قبله، فقد قال عامة أصحابنا: لا يصح، قولا واحدا. وقال أبو علي الطبري: فيه قولان، كرهن ما يسرع إليه الفساد. والصحيح هو الأول؛ لأن الطعام الرطب، الظاهر من جهة الراهن بيعه إذا خيف عليه الفساد وجعل ثمنه رهنا، والظاهر ممن علق عتق عبده على صفة: أنه أراد إيقاع العتق بذلك. الثالثة: إذا علق عتقه على صفة يجوز أن توجد قبل حلول الدين، ويجوز أن يحل الدين قبلها، بأن يقول: إذا قدم زيد.. فأنت حر. أو إذا دخلت الدار، أو كلمت زيدا.. فأنت حر.. فهل يصح رهنه هاهنا بعد ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: يصح الرهن؛ لأن وقوع العتق قبل محل الدين مشكوك فيه. والثاني: لا يصح؛ لأن الصفة قد توجد قبل محل الدين، فيبطل الرهن، وذلك غرر من غير حاجة، فلم يجز. هذا قول عامة أصحابنا. وقال أبو علي في " الإفصاح ": لا يصح رهنه، قولا واحدا، لأنه عقد الرهن على غرر. [مسألة: رهن عبده بعد تدبيره] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو دبره، ثم رهنه.. كان الرهن مفسوخا) . وجملة ذلك: أنه إذا قال لعبده: إذا مت.. فأنت حر، ثم رهنه بعد ذلك.. فاختلف أصحابنا في صحة الرهن على ثلاث طرق:

فـ[أحدها] : منهم من قال: إن قلنا: إن التدبير وصية.. صح الرهن، وبطل التدبير؛ لأن الوصية يجوز الرجوع فيها بالقول، فجعل الرهن رجوعا. وإن قلنا: إن التدبير عتق بصفة.. لم يصح الرهن؛ لأنه لا يصح الرجوع فيه إلا بتصرف يزيل الملك. قال: وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (كان الرهن مفسوخا) أراد على هذا القول. و [الثاني] : منهم من قال: لا يصح الرهن، قولا واحدا، وعليه يدل ظاهر قوله في " الأم " [3/140] ؛ لأنه قال: (إذا دبر عبده، ثم رهنه.. كان الرهن مفسوخا. ولو قال: كنت رجعت عن التدبير قبل الرهن.. فهل يصح الرهن؟ فيه قولان) . وهذا نص في أنه لا يصح الرهن قبل الرجوع، قولا واحدا، ولأنا وإن قلنا: إن التدبير وصية، إلا أنه أقوى من الوصية، بدليل: أنه يتنجز بالموت من غير قبول، بخلاف الوصية. و [الثالث] : منهم من قال: يصح الرهن، قولا واحدا، ولا يبطل التدبير؛ لأن الشافعي قال: (كل ما جاز بيعه.. جاز رهنه) . والمدبر يجوز بيعه، قولا واحدا، فكذلك رهنه. قال ابن الصباغ: والطريقة الأولى أصح، والثانية ظاهر كلامه، والثالثة مخالفة للنص والقياس. فإذا قلنا بالطريقة الأولى، وأن الرهن يصح إذا قلنا: إن التدبير وصية.. فإن التدبير يبطل، وهو اختيار المزني. فإن قضى الحق من غيره.. فلا كلام، ولم يعتق العبد بالموت إلا بتدبير ثان أو عتق، وإن لم يقضه من غيره.. بيع العبد في الدين. وإن قلنا بالطريقة الثانية، وأن الرهن لا يصح.. فالعبد على تدبيره. وإن قلنا بالطريقة الثالثة، وأن الرهن صحيح، والتدبير صحيح ... نظرت: فإن حل الحق، وقضى الحق من غير الرهن.. بقي العبد على تدبيره. وإن لم يقضه من غيره.. قيل له: أترجع في التدبير؟ فإن اختار الرجوع فيه

فرع: رهن العبد ثم دبره

ورجع.. بيع العبد في الدين، وإن لم يختر الرجوع فيه، فإن كان له مال غير العبد.. أجبر على قضاء الدين منه، وبقي العبد على التدبير، وإن لم يكن له مال غيره.. ففيه وجهان: [الأول] : من أصحابنا من قال: يحكم بفساد الرهن؛ لأنا إنما صححنا الرهن رجاء أن يرجع في التدبير، فيباع. وتأول هذا القائل قول الشافعي: (كان الرهن مفسوخا) على هذا الموضع. و [الثاني] : منهم من قال: يباع في الدين، وهو الصحيح؛ لأنا إذا حكمنا بصحة الرهن.. لم يتعقبه الفساد بامتناع الراهن، ومن حكم الرهن أن يباع في الدين. [فرع: رهن العبد ثم دبره] وإن رهن عبده، ثم دبره، فإن دبره قبل أن يقبضه.. كان فسخا للرهن، على المنصوص، وعلى تخريج الربيع لا يكون فسخا، وقد مضى ذكره. وإن أقبضه، ثم دبره.. قال الشافعي: (أوقفت التدبير، فإن حل الحق، وقضى الدين من غير الرهن.. خرج العبد من الرهن، وكان مدبرا. وإن لم يقضه من غيره، فإن باعه.. صح، وبطل التدبير. وإن لم يختر الرجوع في التدبير، فإن كان له مال غيره.. أجبر على قضائه منه، وبقي العبد على التدبير. وإن لم يكن له مال غير العبد.. بيع في الدين، وبطل التدبير. وإن مات الراهن قبل قضاء الدين.. فقد حل الدين بموته، فإن خلف تركة تفي بالدين غير العبد.. قضي الدين منها، وعتق العبد من ثلث ما يبقى. وإن لم يكن له مال غيره، فإن كان الدين يستغرق قيمة العبد.. بيع العبد في الدين، وإن كانت قيمته أكثر من الدين.. بيع منه بقدر الدين، وعتق ثلث ما يبقى منه بالتدبير، وإن أجاز الورثة عتق باقيه.. نفذ) .

مسألة: رهن قسط من مشاع

[مسألة: رهن قسط من مشاع] وما صح رهنه.. صح رهن جزء منه مشاعا، سواء كان مما ينقسم، كالدور والأرضين، أو مما لا ينقسم، كالجواهر، وسواء رهنه من شريكه أو من غيره، وبه قال مالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وعثمان البتي. وقال أبو حنيفة: (لا يصح رهن المشاع من غير شريكه) . وفي رهنه من شريكه روايتان، وإن طرأت الإشاعة على الرهن، بأن يبيع بعضه بإذن المرتهن.. فهل يبطل الرهن؟ فيه روايتان عنه. دليلنا: أن المشاع يصح بيعه، فصح رهنه، كالمفرد، ولأن كل من جاز له أن يرتهن المفرد.. جاز له أن يرتهن المشاع. أصله إذا ارتهن رجلان من رجل شيئا؛ لأن الرهن مشاع بين المرتهنين. وإن كان بين رجلين دار فيها بيوت، فرهن أحدهما نصيبه من بيت، من غير شريكه، فإن كان بإذن شريكه.. صح الرهن، وإن كان بغير إذنه.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح، كما يصح بيعه. والثاني: لا يصح؛ لأن في ذلك ضررا على شريكه؛ لأنهما قد يقتسمان، فيقع هذا البيت في حق شريكه، فيكون قد رهن ملك غيره بغير إذنه، بخلاف البيع، فإنه إذا باعه.. زال ملكه فيه، ولا يملك المقاسمة على ما باع. إذا ثبت هذا: ورهن شقصا مشاعا في عين بينه وبين غيره، فإن كان مما لا ينقل.. فإن الراهن يخلي بينه وبين المرتهن، سواء حضر الشريك أو لم يحضر. وإن كان مما ينقل، كالجواهر، والعبيد، وما أشبههما.. فإن القبض لا يحصل فيها إلا بالنقل، ولا يمكنه تناولها إلا بإذن الشريك، فإن رضي الشريك.. تناولها، وإن امتنع، فإن رضي المرتهن أن تكون في يد الشريك.. جاز، وناب عنه في القبض. وإن تنازعا.. فإن الحاكم ينصب عدلا يكون في يده لهما، وإن كان مما له منفعة.. أجره عليهما.

مسألة: لا يرهن إلا ما يملك

[مسألة: لا يرهن إلا ما يملك] ولا يجوز رهن مال الغير من غير إذنه؛ لأنه لا يقدر على تسليمه، فهو كما لو رهنه سمكة في البحر. وإن كان في يده مال لمن يرثه، فباعه، أو رهنه قبل أن يعلم بموته، ثم بان أنه كان قد مات قبل البيع والرهن.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يصح) ؛ لأنه باع ورهن ما لا يعتقده ملكه، فكان متلاعبا في ذلك.. فلم يصح. والثاني: يصح؛ لأنه بان أنه ملكه. وهكذا: لو وكل رجلا يشتري له عبدا بعينه، فباعه الموكل، أو رهنه قبل أن يعلم بالشراء، أو قال: بعتك هذا العبد إن كان لي، فبان أنه كان له، أو كان له مال في صندوق، وكان قد رآه المرتهن، فرهنه، أو باعه وهو لا يتحقق كونه فيه، ثم بان أنه كان فيه.. قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذين الوجهين: المنصوص: (أنه لا يصح) . [فرع: رهن منفعة كسكنى دار] وإن رهنه سكنى دار.. لم يصح؛ لأن الدين إن كان مؤجلا.. فالمنافع تتلف إلى وقت الحلول، وإن كان الدين حالا.. لم يحصل الاستيثاق؛ لأنه كلما مضى جزء.. فات، والرهن لا يلزم إلا بالقبض، والقبض لا يمكن في السكنى إلا بإتلافه، فكأنه رهنه ما لا يمكنه إقباضه. فإن قال: أردت به: إن أجرتها تكون الأجرة رهنا.. لم يصح أيضا؛ لأنه لا يدري بكم يؤاجرها، فكان باطلا. [مسألة: رهن المشتري قبل القبض] ] : وإن اشترى عينا، فرهنها قبل أن يقبضها، فإن كان قبل أن يدفع الثمن.. لم يصح الرهن؛ لأنها مرهونة بالثمن، وكذلك إن رهنها بثمنها.. لم يصح؛ لأنها قد صارت مرهونة به، وإن نقد الثمن، ثم رهنها.. ففيه وجهان:

مسألة: بيع الدين ورهنه

أحدهما: لا يصح؛ لأن عقد الرهن يفتقر إلى القبض، فلم يصح في المبيع قبل القبض، كما لو باعه، وفيه احتراز من العتق والتزويج. والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأن الرهن لا يقتضي الضمان على المرتهن، فصح فيما لم يدخل في ضمانه، بخلاف البيع. [مسألة: بيع الدين ورهنه] وفي بيع الدين المستقر، وهبته، ورهنه من غير من هو عليه.. ثلاثة أوجه: أحدها: لا يصح واحد منها؛ لأنه غير مقدور على تسليمه، فلم يصح، كالسمك في الماء. والثاني: يصح الجميع منها، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الذمم تجري مجرى الأعيان، ألا ترى أنه يصح أن يشتري بثمن في ذمته ويبيع فيها، كما يجوز أن يشتري الأعيان ويبيعها، إلا أن البيع لا يفتقر لزومه إلى القبض، وفي الهبة والرهن لا يلزمان من غير قبض، كما قلنا في الأعيان. والثالث: أن البيع والهبة يصحان ويلزمان من غير قبض، ولا يصح الرهن؛ لأن البيع والهبة تمليك، فجرى مجرى الحوالة، بخلاف الرهن. [مسألة: رهن الرهن عند آخر] وإن رهن عبدا عند رجل، وأقبضه إياه، فقبضه، ثم رهنه الراهن عند آخر من غير إذن الأول.. لم يصح الرهن الثاني؛ لأن ما يستحق بعقد لازم لا يجوز أن يعقد عليه مثله من غير إذن من له الحق، كما لو باع عينا من زيد، ولزم البيع، ثم باعها من عمرو. فقولنا: (بعقد لازم) احتراز من الرهن قبل القبض، ومن إعارة ما أعاره. وقولنا: (لا يجوز أن يعقد عليه مثله) احتراز من عقد الإجارة على الرهن، فإنه يصح بغير إذن المرتهن.

وقولنا: (من غير إذن من له الحق) احتراز من المرتهن؛ لأن المرتهن لو أذن في رهنه من غيره.. صح. وإن رهن رجلا عبدا بألف درهم، ثم رهنه غيره بألف أخرى.. ففيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (يصح) . وبه قال مالك، وأبو يوسف، والمزني لأنه لما جاز أن يزيده في الحق الواحد رهنا آخر.. جاز أيضا أن يرهن الرهن الواحد بحق آخر، ولأن الرهن وثيقة، كالضمان، فلما جاز أن يضمن عن غيره حقا، ثم يضمن عنه حقا.. جاز في الرهن مثله. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يصح) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه رهن لازم بدين، فلم يجز رهنه بدين آخر، كما لو رهنه عند غيره، وفيه احتراز من رهنه قبل القبض. فعلى هذا: إن أراد أن يرهنه بألفين.. فسخ الأول، ثم يرهنه بالألفين. فإن رهنه بألف، ثم رهنه بألف آخر، وأقر أنه رهنه بالألفين.. كان الإقرار صحيحا في الظاهر والباطن على القديم، وأما على الجديد: فيكون رهنا بالألفين حكما ظاهرا، وأما في الباطن: فيكون مرهونا بألف. فإن ادعى المقر: أنه رهنه بألف، ثم رهنه بألف، وادعى المقر له: أنه رهنه بهما معا.. فالقول قول المقر له مع يمينه؛ لأن الظاهر صحة الإقرار. وإن شهد شاهدان على عقد الرهنين، ثم أرادا أن يقيما الشهادة، فإن كانا يعتقدان صحة القول الجديد.. شهدا أنه رهنه بألف، ثم رهنه بألف. وإن كانا يعتقدان صحة القول القديم.. ففيه وجهان: أحدهما: يجوز أن يشهدا أنه رهنه بألفين، ويطلقا ذلك؛ لأنهما يعتقدان صحة ما يشهدان به. والثاني: لا يجوز أن يشهدا إلا على ما وقع عليه العقدان؛ لأن الاجتهاد في ذلك إلى الحاكم.

فرع: جناية العبد المرهون بقدر الرهن

[فرع: جناية العبد المرهون بقدر الرهن] وإن رهن عبده عند رجل بألف درهم، ثم جنى العبد على آخر جناية أرشها ألف، فلم يفده الراهن، واختار المرتهن أن يفديه، وشرط على الراهن بدله، وأنه يكون مرهونا بما يفديه به وبالألف الأولى.. فقد قال الشافعي: (صح ذلك) . فمن أصحابنا من قال: هذا على القول القديم، فأما على الجديد: فلا يصح أيضا. ومنهم من قال: يصح ذلك على القولين، وقد نص الشافعي عليه في الجديد؛ لأن في ذلك مصلحة للراهن في حفظ ماله، وللمرتهن حظ في حفظ وثيقته. [مسألة: رهن أرض الخراج] قال الشافعي: (وإن رهنه أرضا من أرض الخراج.. فالرهن مفسوخ؛ لأنها غير مملوكة) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا: فقال أبو سعيد الإصطخري: أراد الشافعي بذلك سواد العراق، وذلك: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - افتتحها، وأخرجها من أيدي المجوس، وقسمها بين الناس، فاستغلوها سنتين أو ثلاثا، ثم رأى أنهم قد اشتغلوا بالأرض عن الجهاد، فسألهم أن يردوا عليه، فمنهم من طابت نفسه بالرد بغير عوض، ومنهم من لم تطب نفسه إلا بعوض، ثم وقفها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على المسلمين، وأجرها ممن هي في يده على كل نوع من الغلات أجرة معلومة لا إلى غاية) . فعلى هذا: لا يجوز بيعها، ولا رهنها، وهذا ظاهر النص. وقال أبو العباس بن سريج: لما استرد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الأرض من المسلمين..

باعها ممن هي في يده، وجعل ثمنها هو الخراج الذي يؤخذ منهم، فيجوز بيعها ورهنها؛ لأن الناس من وقت عمر إلى يومنا هذا يبيعونها ويبتاعونها من غير منكر. وأما قول الشافعي: فمحمول عليه ما إذا أوقف الإمام أرضا، وضرب عليها الخراج. فإن قيل: فهذا الذي قلتموه في فعل عمر من التأويلين جميعا لا يصح على مذهب الشافعي ولا غيره؛ لأن الإجارة لا تجوز إلى مدة غير معلومة ولا بأجرة غير معلومة، وكذلك البيع لا يجوز إلا إلى أجل غير معلوم، ولا بثمن غير معلوم؟ فالجواب: أن هذا إنما لا يصح إذا كانت المعاملة في أموال المسلمين، فأما إذا كانت في أملاك المشركين.. فيصح، ألا ترى أن رجلا لو قال: من جاء بعبدي الآبق.. فله عبد أو ثوب، وهما غير موصوفين.. لم يكن هذا جعلا صحيحا، ولو قال الإمام: من دلنا على القلعة الفلانية.. فله منها جارية.. لكان جعلا صحيحا، ولهذا: «نفل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البداءة الربع، وفي القفول الثلث» . وهذا مجهول، لكنه صح؛ لأنه معاملة في أموال المشركين.

فرع: رهن بناء الخراج

[فرع: رهن بناء الخراج] فإن كان في أرض الخراج بناء أو غراس، فإن كان محدثا في أرض الخراج من غيرها.. صح بيعه ورهنه مفردا، وإن باعه، أو رهنه مع أرض الخراج، وقلنا: لا يصح بيعها ورهنها.. بطل في الأرض، وهل يصح في البناء والغراس؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة، وقد مضى ذكر ذلك. وإن كان البناء والغراس من أرض الخراج.. لم يصح بيعه ورهنه. [فرع: تأدية المرتهن الخراج تطوع] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن أدى عنه الخراج.. كان متطوعا لا يرجع به، إلا أن يكون دفع بأمره، فيرجع) . وهذا كما قال: إذا رهن أرضا من أرض الخراج، أو أجرها.. فإن الخراج الذي يجب في الأرض، يجب على راهن الأرض الذي رهنها أو أجرها، فإن دفع المرتهن أو المستأجر الخراج الواجب فيها.. نظرت: فإن كان بغير أمر من وجب عليه، أو قضى الدين عن غيره بغير إذنه.. لم يرجع عليه بشيء. وقال مالك رحمة الله عليه: (يرجع عليه) . دليلنا: أنه متطوع بالدفع عنه، فلم يرجع عليه بشيء، كما لو وهبه شيئا. وإن قضى بإذنه، وشر ط عليه البدل.. رجع عليه بالبدل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم» . وإن قضى عنه بأمره، ولم يشترط عليه الرجوع بالبدل.. ففيه وجهان:

مسألة: رهن العبد الجاني

أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق، واختيار القاضي أبي الطيب، والشيخ أبي حامد ـ: أنه يرجع عليه، لأن إذنه بذلك يقتضي الرجوع، فهو كما لو شرط عليه البدل. والثاني: لا يرجع عليه بشيء، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو دفع ثوبا إلى قصار، فقصره.. لا أجرة له؛ لأنه لم يشترطها له، ولأنه لم يشترط الرجوع عليه بشيء، فلم يرجع عليه بشيء، كما لو وهبه شيئا) . [مسألة: رهن العبد الجاني] وفي رهن العبد الجاني قولان، وفي موضع القولين ثلاث طرق، مضى ذكر ذلك في البيع. ولا يجوز رهن ما لا يقدر على تسليمه، كالطير الطائر، والعبد الآبق، ولا رهن عبد من عبيد، كما لا يجوز بيع ذلك. [فرع: الرهن لا يجوز إلا بمعلوم] إذا قال: رهنتك هذا الحق بما فيه، أو هذا البيت بما فيه، أو هذا الجراب بما فيه، أو هذه الخريطة بما فيها.. فنص الشافعي في " الأم " [3/143] : (أن الرهن لا يصح بما في هذه الأشياء) . قال الشيخ أبو حامد: وهل يصح الرهن في الحق والبيت والجراب والخريطة؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة. وإن قال: رهنتك هذا الحق دون ما فيه، أو هذا البيت دون ما فيه، أو هذا الجراب دون ما فيه، أو هذه الخريطة دون ما فيها.. صح الرهن في هذه الأشياء دون

مسألة: رهن النخل المؤبر

ما فيها. وإن قال: رهنتك هذا الحق، أو هذا البيت، أو هذا الجراب، أو هذه الخريطة، ولم يقل: دون ما فيه، ولا بما فيه.. فنص الشافعي: (أن الرهن يصح في الحق والبيت والجراب، ولا يصح في الخريطة) ؛ لأن الحق والبيت والجراب لها قيمة تقصد في العادة، والخريطة ليس لها قيمة مقصودة في العادة، وإنما المقصود ما فيها. قال الشيخ أبو حامد: ولأصحابنا في هذا تخليط، ومنصوص الشافعي ما ذكرته. وأما ابن الصباغ: فقال: قال أصحابنا: فلو كانت الخريطة مما يقصد؛ لأنها ديباج أو شيء له قيمة.. كانت كالحق، ولو كان الحق لا قيمة له.. كان كالخريطة. [مسألة: رهن النخل المؤبر] ] : إذا رهنه نخلا وعليها طلع مؤبر، ولم يرهنه الثمرة.. صح الرهن في النخل دون الثمرة؛ لأنه لو باعه نخلا عليها طلع مؤبر، ولم يشترط دخوله في البيع.. لم يدخل، فكذلك الرهن. وإن كان عليها طلع غير مؤبر، ولم يشترط دخوله في الرهن، ولا خروجه من الرهن.. فهل يدخل الطلع في الرهن؟ المنصوص: (أنه لا يدخل) . قال الربيع: قول آخر: (أنه يدخل، كالبيع) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: يدخل في الرهن، كما قلنا في البيع. والثاني: لا يدخل ـ وهو الصحيح ـ كما لا تدخل الثمرة الحادثة بعد الرهن. ومنهم من قال: لا يدخل، قولا واحدا، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لما ذكرناه. وقال أبو حنيفة: (تدخل الثمرة في الرهن بكل حال، بخلاف قوله في البيع) . وهذا ليس بصحيح؛ لأن البيع أقوى من الرهن، فإذا لم تدخل الثمرة في البيع.. فلأن لا تدخل في الرهن أولى.

وإن قال: رهنتك النخل والثمرة.. صح، سواء كان قبل التأبير أو بعده، كما قلنا في البيع، ثم ينظر فيه: فإن رهن ذلك بحق حال أو بمؤجل يحل قبل إدراك الثمرة، أو مع إداركها.. صح ذلك؛ لأنه يمكن استيفاء الحق منها. وإن كان بحق مؤجل لا يحل إلا بعد إدراك الثمرة.. نظرت في الثمرة: فإن كانت مما يمكن استصلاحها وتجفيفها، كالتمر والزبيب.. صح ذلك، ولزم الراهن مؤنة تجفيفها. وإن كانت ثمرة لا يمكن تجفيفها، كالتفاح والكمثرى.. فمن أصحابنا من قال: فيه قولان، كما قلنا في رهن ما يسرع إليه الفساد. ومنهم من قال: يصح الرهن، قولا واحدا؛ لأن الثمرة تابعة للأصول، فصح رهنها، كما يجوز بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها مع الأصول، ولا يجوز بيعها مفردة. فإذا قلنا: يبطل الرهن في الثمرة.. فهل يبطل في الأصول؟ يبنى على القولين نفي تفريق الصفقة، وقد مضى ذكره. وإن رهنه الثمرة مفردة، فإن كان بعد بدو صلاحها.. فهو بمنزلة رهن الأشياء الرطبة، وقد مضى ذكره. وإن كان قبل بدو صلاحها، فسواء كانت قد أبرت أو لم تؤبر، فإن كان الدين حالا، وشرط القطع.. صح الرهن، كما يصح البيع، وإن لم يشترط القطع.. ففيه قولان: أحدهما: لا يصح الرهن، كما لا يصح البيع. والثاني: يصح الرهن؛ لأن رهنه بالدين الحال يوجب الطع، فصار كما لو شرط القطع. وإن رهنها بدين مؤجل، فإن كان بشرط القطع.. قال ابن الصباغ: كان بمنزلة

مسألة: رهن شجرة ذات حملين بحملها الأول

رهن البقول والفواكه. قال: وأصحابنا أطلقوا جواز ذلك. وإن رهنها مطلقا.. ففيه ثلاثة أقوال: أحدهما: لا يصح الرهن، كما لا يصح البيع. والثاني: يصح؛ لأن البيع إنما لم يصح؛ لما فيه من الغرر، وليس في الرهن غرر، ولأنه يتلف ـ إن تلف ـ من مال صاحبه. والثالث ـ نقله المزني ـ: إن شرط القطع حال المحل.. صح، وإن أطلق.. لم يصح؛ لأن إطلاقه يقتضي بقاءه إلى وقت الجذاذ، وذلك تأخير الدين عن محله. هذا ترتيب ابن الصباغ. وأما الشيخ أبو حامد: فذكر أنها على القولين الأولين، سواء شرط القطع أو لم يشرط. [مسألة: رهن شجرة ذات حملين بحملها الأول] إذا كانت له شجرة تحمل في السنة حملين، كالتين والباذنجان والقثاء والخيار، فرهن الشجرة والحمل الأول، أو رهن الحمل الأول مفردا.. نظرت: فإن كان بحق حال، أو بمؤجل يحل قبل حدوث الثمرة الثانية.. صح الرهن، وكذلك: إن رهنه بحق مؤجل لا يحل إلا بعد حدوث الثانية، إلا أنهما اشترطا: أنه إذا خيف اختلاط الثانية بالأولى.. قطعت الأولى، أو كانت الثانية إذا اختلطت بالأولى تميزت عنها ... فإن الرهن صحيح؛ لأن الرهن لا يختلط بغيره. وإن رهنه بحق مؤجل، لا يحل إلا بعد حدوث الثانية، ولا تتميز إحداهما عن الأخرى.. فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أن الرهن لا يصح؛ لأنه لا يمكن استيفاء الحق من الرهن؛ لأنه يختلط الرهن بغيره، ولا يتميز، فيصير مجهولا. وذكر في " المهذب ": أنها على قولين: أحدهما: لا يصح الرهن؛ لما ذكرناه. والثاني: يصح؛ لأنه يمكن الفصل عند الاختلاط، بأن يسمح الراهن بترك ثمرته

فرع: سقي الشجر المرهون

للمرتهن، أو ينظر: كم كان المرهون؟ فيحلف عليه، فلم يحكم ببطلان الرهن. قال الشيخ أبو حامد: فإذا رهنه بحق حال، فتوانى في قطع الثمرة الأولى حتى حدثت الثانية، واختلطت، ولم تتميز.. ففيه قولان: أحدهما: يبطل الرهن؛ لأن الرهن قد صار مجهولا؛ لاختلاطه بما ليس برهن. والثاني: لا يبطل؛ لأنه كان معلوما عند العقد، وعند حلول الحق، فلا يبطل بالجهالة الحادثة. فإذا قلنا: يبطل.. فلا كلام. وإذا قلنا: لا يبطل.. قيل للراهن: أتسمح بترك الثمرة الثانية لتكون رهنا؟ فإن سمح.. فلا كلام، وإن لم يسمح، فإن اتفقا على قدر الأولى.. فلا كلام، وإن اختلفا في قدر الأولى.. فالقول قول الراهن مع يمينه في قدر الأولى، سواء كانت الثمرة في يده أو في يد المرتهن. وقال المزني: إن كانت الثمرة في يد المرتهن.. فالقول قوله مع يمينه. وهذا غلط؛ لأنهما اتفقا على أن الحادثة ملك الراهن، وإنما يختلفان في قدر المرهون منهما، فكان القول قول الراهن مع يمينه؛ لأنه مدعى عليه. [فرع: سقي الشجر المرهون] وإذا رهنه ثمرة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فعلى الراهن سقيها وصلاحها وجذاذها وتشميسها، كما تكون عليه نفقة العبد) . وقال في موضع آخر: (ليس عليه تشميسها) . قال أصحابنا: ليس التشميس على قولين، وإنما هو على اختلاف حالين: فالموضوع الذي قال: (عليه التشميس) إذا بلغت الثمرة أوان الجذاذ قبل حلول الحق، والذي قال: (ليس عليه التشميس) إذا كان الحق قد حل مع تكامل صلاح الثمرة؛ لأنها تباع في الحق، وليس لأحدهما أن يطالب بقطعها قبل أوان قطعها، إلا

مسألة: رهن جارية لها ولد

برضا الآخر؛ لأن على كل واحد منهما ضررا بقطعها قبل أوان قطعها، فلم يجز ذلك من غير رضاهما. [مسألة: رهن جارية لها ولد] وإذا رهن الجارية ولها ولد صغير من زوج أو زنا، ولم يرهن الولد معها.. صح الرهن؛ لأن الرهن لا يزيل الملك، فلا يكون فيه تفرقة بينهما، فإذا حل الحق، فإن قضى الراهن الدين من غير الرهن.. انفسخ الرهن، وإن لم يقضه، وكان الولد صغيرا يومئذ.. بيعت الجارية والولد؛ لأنه لا يجوز التفرقة بينهما، ويقسم الثمن على قدر قيمتهما، فما قابل الأم.. تعلق به حق المرتهن، وما قابل الولد.. تعلق به حق الراهن. قال الشيخ أبو حامد: وكيفية ذلك: أن يقال: كم قيمة هذه الجارية ولها ولد دون ولدها؛ لأنها إذا كانت ذات ولد كانت قيمتها أنقص؟ فإن قيل: قيمتها ـ مثلا ـ مائة.. قيل: فكم قيمة ولدها؟ فإن قيل: خمسون.. تعلق حق المرتهن بثلثي ثمنهما، وللراهن ثلث ثمنهما، وهذا إذا علم المرتهن بولدها حال الرهن أو بعده ورضي به، وإن لم يعلم بالولد، ثم علم.. ثبت له الخيار في فسخ البيع المشروط به الرهن. وأما إذا رهنه جارية حائلا، ثم حملت في يد المرتهن من زوج أو زنا.. فإن الولد خارج من الرهن، فإذا أراد البيع.. بيعت الجارية وولدها الصغير، ويكون للمرتهن حصتها من الثمن، وللراهن حصة الولد، وكيفية التقسيط: أن يقال: كم قيمة هذه الجارية خالية من الولد؟ ثم يقوم الولد، ويقسم الثمن على قدر قيمتها. والفرق بينهما: أن المرتهن رضي في الأولى أن تكون الجارية التي لها ولد صغير رهنا، وهاهنا لم يرض بكونها لها ولد صغير رهنا، وهذا كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا

مسألة: رهن المصحف ونحوه لكافر

رهن أرضا، فحدث فيها نخل وشجر، إذا بيعت الأرض والشجر برضاهما.. فإن الأرض تقوم بيضاء لا شجر فيها) . [مسألة: رهن المصحف ونحوه لكافر] ] : وهل يجوز رهن المصحف وكتب الحديث والفقه والعبد المسلم من الكافر؟ فيه طريقان: [الأول] : قال أبو إسحاق، والقاضي أبو حامد: فيه قولان: أحدهما: لا يصح. والثاني: يصح، ويوضع ذلك على يد مسلم، كما قلنا في بيع ذلك منه. و [الطريق الثاني] : قال أبو علي في " الإفصاح ": يصح الرهن، قولا واحدا، ويوضع على يد مسلم؛ لأن الكافر لا يملك الرهن، بخلاف البيع. [مسألة: شرطا شيئا في الرهن] وإذا شرط المتراهنان في الرهن شرطا.. نظرت: فإن كان شرطا يقتضيه الرهن، مثل: أن يشترطا أن يباع في الدين عند حلول الأجل، أو على أن يباع بثمن المثل، أو على أن منفعته للراهن.. صح الشرط والرهن؛ لأن العقد يقتضي ذلك، فكان هذا الشرط تأكيدا. وإن كان شرطا لا يقتضيه العقد.. فلا يخلو: إما أن يكون نقصانا في حق المرتهن، أو زيادة في حقه: فإن كان نقصانا في حقه، مثل: أن يكون رهنه رهنا على أن لا يباع في الدين، أو على أن لا يباع إلا بأكثر من ثمن مثله، أو على أن لا يباع إلا بما يرضى به الراهن.. فالشرط باطل؛ لأنه ينافي مقتضى عقد الرهن، ويبطل الرهن بذلك؛ لأنه يمنع مقصود الرهن. وإن كان الشرط زيادة في حق المرتهن، مثل: أن يرهنه شيئا بشرط أن يباع قبل

فرع: البيع بنقد ومنفعة مجهولة

محل الحق، أو على أن يباع بأي ثمن كان وإن كان أقل من ثمن مثله.. فالشرط باطل؛ لأنه ينافي مقتضى الرهن، وهل يبطل الرهن؟ فيه قولان: أحدهما: يبطل الرهن، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأنه شرط فاسد قارن عقد الرهن، فأبطله، كما لو كان نقصانا في حق المرتهن. والثاني: لا يبطل؛ لأن المقصود من الرهن الوثيقة، وهذه الشروط لا تقدح في الوثيقة، لأنها زيادة في حق المرتهن، بخلاف الشروط التي تقتضي نقصانا في حق المرتهن. فإذا قلنا: إن الرهن باطل بهذه الشروط، أو شرطا نقصانا في حق المرتهن.. نظرت: فإن كان الرهن غير مشروط في البيع.. بقي الدين بغير رهن. وإن شرطا ذلك في البيع، بأن قال: بعتك عبدي هذا بألف على أن ترهنني دارك هذه بالألف، على أن لا تباع الدار في الدين.. فهل يبطل البيع؟ فيه قولان: أحدهما: لا يبطل البيع؛ لأن البيع ينعقد منفردا عن الرهن، فلم يبطل البيع ببطلان الرهن، كالصداق في النكاح؛ لأنه قد يتزوجها بغير صداق، ثم يفرض لها صداقا بعد ذلك، ثم لا يفسد النكاح لفساد الصداق وإن قارنه، فكذلك الرهن مع البيع. والثاني: يبطل البيع، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه شرط فاسد قارن عقد البيع، فأفسده، كما لو باعه شيئا بشرط أن لا يسلمه. [فرع: البيع بنقد ومنفعة مجهولة] إذا قال لغيره: بعني عبدك هذا بألف، على أن أرهنك به داري هذه، وتكون منفعة الدار لك، فإن كانت منفعة الدار مجهولة.. كان الرهن والبيع باطلين، قولا

فرع: البيع بثمن ومنفعة

واحدا؛ لأنه باعه العبد بألف وبمنفعة الدار مدة غير معلومة، والبيع بثمن مجهول باطل. وإن كانت منفعة الدار معلومة.. قال القاضي أبو الطيب: هذه صفقة جمعت بيعا وإجارة، فهل يصحان؟ فيه قولان. وقال الشيخ أبو حامد: شرط منفعة الدار للمرتهن باطل؛ لأنه ينافي مقتضاه، وهل يبطل به الرهن؟ فيه قولان؛ لأنه زيادة في حق المرتهن. فإذا قلنا: إنه باطل.. فهل يبطل البيع؟ فيه قولان. فإذا قلنا: إن الرهن صحيح، أو قلنا: إنه باطل، ولا يبطل البيع.. ثبت للبائع الخيار في فسخ لا بيع؛ لأنه لم يسلم له ما شرط، وهذا ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وإن قال لغيره: بعني عبدك هذا بألف، على أن تكون داري رهنا به، ومنفعتها أيضا رهنا به.. فإن المنفعة لا تكون رهنا؛ لأنها مجهولة، ولأنه لا يمكن إقباضها. فإذا بطل رهن المنفعة.. فهل يبطل الرهن في أصل الدار؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة. فإذا قلنا: إن الرهن لا يفسد في أصل الدار.. لم يفسد البيع، ولكن يثبت للبائع الخيار؛ لأنه لم يسلم له جميع الرهن. وإن قلنا: يفسد في أصل الدار.. فهل يبطل البيع؟ فيه قولان. [فرع: البيع بثمن ومنفعة] وإن كان لرجل على آخر ألف بغير رهن، فقال من عليه الألف لمن له الألف: بعني عبدك هذا بألف، على أن أعطيك داري رهنا بها وبالألف الذي لك علي بغير رهن، فقال: بعتك.. كان البيع باطلا؛ لأن ثمن العبد مجهول؛ لأنه باعه بألف ومنفعة أخرى، وهو أن يعطيه رهنا بالألف التي لا رهن بها، ولأنه بيعتان في بيعة.

فرع: القرض بشرط رهن ومنفعته

[فرع: القرض بشرط رهن ومنفعته] إذا قال لغيره: أقرضني ألف درهم، على أن أعطيك عبدي هذا رهنا، وتكون منفعته لك، فأقرضه.. فالقرض باطل؛ لأنه قرض جر منفعة، وهكذا: لو كان عليه ألف بغير رهن، فقال له: أقرضني ألفا، على أن أعطيك عبدي هذا رهنا بها وبالألف التي لا رهن بها، فأقرضه.. فالقرض فاسد؛ لأنه قرض جر منفعة، والرهن باطل فيهما؛ لأن الرهن إنما يصح بالدين، ولا دين له في ذمته. وإن قال: أقرضني ألفا، على أن أرهنك داري به، وتكون منفعتها رهنا بها أيضا.. لم يصح شرط رهن المنفعة؛ لأنها مجهولة، ولأنه لا يمكن إقباضها. فإذا ثبت: أنه لا يصح هذا الشرط.. فإنه زيادة في حق المرتهن، وهل يبطل بها الرهن؟ فيه قولان. [فرع: التطوع بالرهن للدين المستقر] إذا كان له دين مستقر في ذمته، فتطوع بالرهن به، فقال: رهنتك هذه النخلة، على أن ما تثمر يكون داخلا في الرهن، أو هذه الماشية، على أن ما تنتج داخل في الرهن.. فهل يصح الرهن في الثمرة والنتاج؟ فيه قولان: أحدهما: يصح الرهن فيهما؛ لأنهما متولدان من الرهن، فجاز أن يكونا رهنا معا. والثاني: لا يصح الرهن فيهما، وهو الصحيح؛ لأنه رهن معدوم ومجهول. فعلى هذا: هل يبطل الرهن في النخلة والماشية؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة. وإن قال: بعتك عبدي هذا بألف، على أن ترهنني نخلتك هذه، على أن ما تثمر داخل في الرهن، فإن قلنا: يصح الرهن في الثمرة.. صح البيع. وإن قلنا: لا يصح

فرع: الإقراض بشرط الرهن ونمائه

الرهن في الثمرة، فإن قلنا: لا يبطل الرهن في النخلة.. لم يبطل البيع في العبد، ولكن يثبت لبائعه الخيار؛ لأنه لم يسلم له جميع الرهن المشروط. وإن قلنا: يبطل الرهن في النخلة.. فهل يبطل البيع في العبد؟ فيه قولان، فإن قلنا: لا يبطل.. ثبت للبائع الخيار؛ لأنه لم يسلم له جميع الرهن المشروط، فتحصل في هذه المسألة أربعة أقوال: أحدها: يصح الرهن في الكل، ويصح البيع. والثاني: يبطل الرهن والبيع. والثالث: يصح الرهن في النخلة لا غير، ويصح البيع، وللبائع الخيار. والرابع: أن الرهن باطل، والبيع صحيح، وللبائع الخيار. [فرع: الإقراض بشرط الرهن ونمائه] قال ابن الصباغ: إذا أقرضه ألفا برهن، وشرط أن يكون نماء الرهن داخلا فيه.. فالشرط باطل في أشهر القولين، وهل يفسد الرهن؟ فيه قولان؛ لأنه زيادة في حق المرتهن، وأما القرض: فهو صحيح؛ لأنه لم يجر منفعة، وإنما الشرط زيادة في الاستيثاق، ولم يثبت. [فرع: اشترط ضمان الرهن] على المرتهن] : ولو رهنه شيئا، وشرط على المرتهن ضمان الرهن.. فإن الرهن غير مضمون عليه، على ما يأتي بيانه، ويكون هذا شرطا فاسدا؛ لأنه يخالف مقتضاه، وهل يفسد الرهن بهذا الشرط؟ من أصحابنا من قال: يفسد، قولا واحدا؛ لأن ذلك نقصان في حق المرتهن. وقال أبو علي في " الإفصاح ": وهل يبطل الرهن؟ فيه قولان، لأن شرط الضمان يجري مجرى الحقوق الزائدة في الرهن؛ لأنه لم ينقص حق المرتهن. قال ابن الصباغ: والأول أصح.

فرع: شراء سلعة بشرط جعلها رهنا بالثمن عند البائع

[فرع: شراء سلعة بشرط جعلها رهنا بالثمن عند البائع] إذا اشترى سلعة بشرط أن يجعلها رهنا بالثمن.. فالرهن باطل؛ لأنه رهن ما لا يملك، والبيع باطل؛ لأنه في معنى من باع عينا، واستثنى منفعتها، فكان باطلا، ولأن هذا شرط يمنع كمال تصرف المشتري، ولأن من اشترى شيئا.. فله أن يبيعه ويهبه، والرهن يمنع ذلك، فأبطل البيع، سواء شرطا أن يسلمها البائع إلى المشتري، ثم يرهنها منه، أو لم يشرط تسليمها إليه، فالحكم واحد؛ لما ذكرناه. وإن كان لرجل على آخر دين إلى أجل، فقال من عليه الدين: رهنتك عبدي هذا بدينك؛ لتزيدني في الأجل.. لم يثبت الأجل المزيد؛ لأن التأجيل لا يلحق بالدين، والرهن باطل؛ لأنه جعله في مقابلة الأجل، وإذا لم يسلم له الأجل.. لم يصح الرهن. [مسألة: باعه بشرط رهن مشاهد] إذا باعه شيئا بثمن في ذمته، على أن يرهنه بالثمن رهنا معلوما بالمشاهدة، أو بالصفة.. صح البيع والرهن؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك. فإن شرط رهنا بعينه، ثم أراد الراهن أن يرهنه غير ذلك المعين.. لم يلزم البائع قبوله، سواء كانت قيمته مثل قيمة المعين أو أكثر؛ لأنه قد تعين بالشرط. وإن قال: بعتك عبدي بمائة درهم، على أن ترهنني بها رهنا غير معين، ولا موصوف.. لم يصح هذا الشرط. وقال مالك رحمة الله عليه: (يصح، ويرجع فيه إلى العادة فيما يرهن بمثل ذلك الثمن) . دليلنا: أنه رهن مجهول، فلم يصح، كما لو قال: رهنتك ما في كمي. [فرع: شرط وضع الرهن عند عدل أو المرتهن] ] : وإذا شرطا في البيع رهن عبد معلوم، أو موصوف.. نظرت: فإن شرطا أن يكون الرهن على يد عدل.. جاز.

وإن شرطا أن يكون على يد المرتهن.. صح؛ لأن الحق لهما، فجاز ما اتفقا عليه من ذلك. وإن أطلقا ذلك.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: أن الرهن باطل؛ لأن كون الرهن في يد أحدهما ليس بأولى من الآخر، فإذا لم يذكر ذلك.. بطل الرهن. والثاني: يصح الرهن، ويدفع إلى الحاكم؛ ليجعله على يد عدل إن اختلفا فيمن يكون عنده. وإن كان الرهن جارية، ولم يشرطا كونها عند أحد.. قال الشيخ أبو حامد: صح الرهن، وجها واحدا، وجعلت على يد امرأة ثقة؛ لأنه ليس لها جهة توضع فيه غير هذا، بخلاف غير الجارية، فإن شرطا أن تكون هذه الجارية عند المرتهن، أو عند عدل.. نظرت: فإن كان محرما لها.. جاز ذلك. قال القاضي أبو الفتوح: وكذلك: إن كانت صغيرة لا يشتهى مثلها.. جاز تسليمها إلى المرتهن، أو العدل؛ لأنه لا يخشى عليها منه. وإن كانت كبيرة، واشترطا وضعها على يد المرتهن أو العدل، وليس بذي محرم لها، فإن كانت له زوجة أو جارية، قال الشيخ أبو حامد: أو في داره نساء تكون هذه المرهونة معهن.. جاز تركها معه؛ لأنه لا يخشى عليها أن يخلو بها. فإن لم تكن له زوجة ولا جارية.. لم يجز وضعها على يده، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان» ، فإذا شرطا ذلك.. بطل الشرط، ولم يبطل الرهن؛ لأن هذا الشرط لا يؤثر في الرهن.

فرع: رهن الخنثى

[فرع: رهن الخنثى] ] : وإن كان الرهن خنثى مشكلا.. قال القاضي: فإن كان صغيرا.. جاز أن يكون على يد المرتهن، وعلى يد العدل، وعلى يد امرأة ثقة. وإن كان كبيرا.. وضع على يد ذي رحم محرم له، رجلا كان أو امرأة، ولا يوضع على يد أجنبي ولا أجنبية، فإن كان المرتهن محرما له، أو كان عنده محرم له.. جاز أن يجعل على يده، فإن أطلقا من يكون عنده.. صح؛ لأنه لا جهة لوضعه إلا واحدة، وهو المحرم، رجلا كان أو امرأة. [فرع: وضعا الرهن عند عدل، ثم أنكر العدل] وإذا اتفق المرتهنان على وضع الرهن على يد عدل، ثم أقرا أن العدل قد قبض الرهن، وأنكر العدل ذلك.. لزم الرهن؛ لأن الحق لهما دون العدل، فإن رجع أحدهما وصدق العدل أنه لم يقبضه.. لم يقبل رجوعه عنه؛ لأن إقراره السابق يكذبه. وإن أقر الراهن والعدل بالقبض، وأنكر المرتهن.. فالقول قول المرتهن؛ لأن الأصل عدم القبض، ولا يقبل قول العدل عليه؛ لأنه يشهد على فعل نفسه. هذا مذهبنا. وإن قبض العدل الرهن بإذن المرتهن.. صح، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال ابن أبي ليلى: لا يصح توكيل العدل في القبض. دليلنا: أن من اشترى شيئا.. صح أن يوكل في قبضه، فكذلك في الرهن. [فرع: يجوز نقل الرهن من يد عدل إلى مثله برضاهما] وإذا حصل الرهن عند العدل باتفاق المتراهنين، فإن نقلاه إلى عدل غيره.. جاز.

فرع: وضعا الرهن بيد عبد وأذنا له بالتصرف

وإن أراد أحدهما أن ينقله إلى غيره.. لم يجز من غير رضا الآخر؛ لأنه حصل في يده برضاهما، فلا يخرج عن يده إلا برضاهما. وإن دعا أحدهما إلى نقله، وامتنع الآخر.. رفع إلى الحاكم، فإن كان العدل ثقة لم ينقل عنه. وإن تغير حاله.. نقله الحاكم إلى عدل آخر. وهكذا: إن كان الرهن عند المرتهن، فمات، أو اختل بجناية، أو أفلس، أو حجر عليه ـ هكذا ذكر الشيخ أبو حامد ـ واختلف ورثته والراهن فيمن يكون الرهن عنده، أو مات العدل، أو اختل، واختلف المتراهنان فيمن يكون الرهن عنده.. رفع الأمر إلى الحاكم ليجعله عند عدل؛ لأن ذلك أقطع للخصومة. [فرع: وضعا الرهن بيد عبد وأذنا له بالتصرف] إذا وضعا الرهن على يد عبد، ووكلاه في بيعه.. قال أبو العباس: لا يجوز للعبد حفظه ولا بيعه، سواء جعلا له جعلا أو لم يجعلا له على ذلك؛ لأن منفعة العبد ملك لمولاه، فلا يجوز له بذلها بغير إذن سيده. وإن جعلا الرهن على يد مكاتب، ووكلاه في بيعه، فإن كان بجعل.. جاز، وإن كان بغير جعل.. لم يجز؛ لأن المكاتب لا يملك بذل منافعه بغير عوض. وإن جعلا الرهن على يد صبي مراهق، وقبضه.. لم يصح قبضه؛ لأنه لا حكم لقبضه. قال الشيخ أبو حامد: فصرح أبو العباس: أن قبض الصبي لا يصح، ولم يتعرض لصحة قبض العبد والمكاتب، وإنما ذكر حفظهما، ولكن يصح قبضهما؛ لأنهما مكلفان، وإنما لا يجوز لهما الحفظ والبيع؛ لأنه بذل منفعة بغير إذن السيد. [فرع: رد العدل الرهن على المتراهنين] فإذا أراد العدل رد الرهن على المتراهنين، فإن كانا حاضرين.. رده عليهما، ويجب عليهما قبوله؛ لأنه أمين متطوع، ولا يلزمه المقام على ذلك. فإن امتنعا من

أخذه.. رفع الأمر إلى الحاكم، ليجبرهما على تسلمه، فإن رده العدل على الحاكم قبل أن يرده عليهما.. ضمن العدل، وضمن الحاكم؛ لأنه لا ولاية للحاكم على غير ممتنع. وكذلك: إن أودعه العدل عند ثقة.. ضمنا جميعا. فإن امتنعا، ولم يكن حاكم، فتركه العدل عند ثقة.. قال ابن الصباغ: جاز. وإن امتنع أحدهما، فدفعه إلى الآخر.. ضمن. وإن كانا غائبين، فإن كان للعدل عذر، مثل: أن يريد سفرا، أو به مرض يخاف منه، أو عجز عن حفظه.. دفعه إلى الحاكم، وقبضه الحاكم منه، أو نصب عدلا ليكون عنده. وإن لم يكن هناك حاكم.. جاز أن يدفعه إلى ثقة. وإن دفعه إلى ثقة مع وجود الحاكم.. ففيه وجهان، نذكرهما في (الوديعة) إن شاء الله تعالى. وإن لم يكن له عذر في الرد، فإن كانت غيبتهما إلى مسافة تقصر فيها الصلاة.. قبضه الحاكم منه، أو نصب عدلا ليقبضه؛ لأن للحاكم أن يقضي عليهما فيما لزمهما من الحقوق. قال ابن الصباغ: وإن لم يجد حاكما.. أودعه عند ثقة. وإن كانت غيبتهما إلى مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. فهو كما لو كانا حاضرين، فإن كان أحدهما حاضرا والآخر غائبا.. لم يجز تسليمه إلى الحاضر، وكان كما لو كانا غائبين. فإن رد على أحدهما في موضع لا يجوز له الرد إليه.. قال الشيخ أبو حامد: ضمن للآخر قيمته. وذكر المسعودي [في " الإبانة " ق\ 268] : إن رده على الراهن.. ضمن للمرتهن الأقل من قيمة الرهن، أو قدر الدين الذي رهن به. وإن رده على المرتهن ضمن للراهن قيمته. وهذا التفصيل حسن. قال ابن الصباغ: فإن غصب المرتهن الرهن من العدل.. وجب عليه رده إليه، فإذا رده إليه.. زال الضمان عنه. ولو كان الرهن في يد المرتهن، فتعدى فيه، ثم زال التعدي.. لم يزل عنه الضمان؛ لأن الاستئمان قد بطل، فلم يعد بفعله.

فرع: رهنا عند عدلين وأراد أحدهما تفويض حفظه للآخر

[فرع: رهنا عند عدلين وأراد أحدهما تفويض حفظه للآخر] إذا تركا الرهن على يد عدلين.. فهل لأحدهما أن يفوض حفظ جميعه إلى الآخر؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن المتراهنين.. لم يرضيا إلا بأمانتهما جميعا، فهو كما لو أوصى إلى رجلين، فليس لأحدهما أن ينفرد بالتصرف. فعلى هذا: عليهما أن يحفظا الرهن في حرز يدهما عليه، إما بملك، أو عارية، أو إجارة. وإن سلم أحدهما جميعه إلى الآخر.. ضمن نصفه. والثاني: يجوز؛ لأن عليهما مشقة في الاجتماع على حفظه، فإن كان مما لا ينقسم، كالعبد.. جاز لأحدهما أن يسلمه إلى الآخر. وإن كان مما ينقسم، فاقتسما.. فهل لأحدهما أن يسلم إلى الآخر ما حصل بيده بعد القسمة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه لو سلم إليه ذلك قبل القسمة.. صح، فكذلك بعد القسمة. والثاني: لا يجوز لأنهما لما اقتسما.. صار كما لو قسمه المتراهنان بينهما. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كان مما لا ينقسم.. جاز لكل واحد منهما إمساك جميعه، وإن كان مما ينقسم.. لم يجز، ويقتسمانه) . دليلنا: أن المالك لم يرضَ إلا بأمانتهما، فلم يكن لأحدهما أن ينفرد بحفظ جميعه، كالوصيين. [فرع: توكيل العدل ببيع الرهن وقت محله] إذا وضعا الرهن على يد عدل، ووكلاه في بيعه عند محل الحق.. صح التوكيل، ولا يكون هذا تعليق وكالة على شرط، وإنما هو تعليق التصرف.

فرع: وكالة العدل في بيع الرهن إذا حل الأجل

قال ابن الصباغ: فإذا حل الحق.. لم يجز للعدل أن يبيعه حتى يستأذن المرتهن؛ لأن البيع لحقه، فإذا لم يطالب به.. لم يجز بيعه فإذا أذن المرتهن بذلك فهل يحتاج إلى استئذان الراهن ليجدد له الإذن؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا بد من استئذانه كما يفتقر إلى تجديد إذن المرتهن، ولأنه قد يكون له غرض في أن يقضي الحق من غيره. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا يفتقر إلى استئذانه؛ لأن إذنه الأول كافٍ، ويفارق المرتهن؛ لأن البيع يفتقر إلى مطالبته بالحق، وأما غرض الراهن: فلا اعتبار به؛ لأنه ما لم يغير الإذن الأول، فهو راضٍٍ به. وإن عزل الراهن العدل.. انعزل، ولم يجز له البيع، وبه قال أحمد رحمة الله عليه. وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (لا ينعزل) . دليلنا: أن الوكالة عقد جائز، فانعزل بعزله، كسائر الوكالات. وإن عزله المرتهن.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: ينعزل؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولكل واحد منهما منعه من البيع) ، ولأنه أحد المتراهنين، فملك عزل العدل، كالراهن. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا ينعزل؛ لأن العدل وكيل الراهن، فلم ينفسخ بعزل غيره، وتأول كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه أراد: أن لكل واحد منهما منعه من البيع؛ لأن للمرتهن أن يمنعه من البيع؛ لأن البيع إنما يستحق بمطالبته، فإذا لم يطالب به، ومنع منه ... لم يجز، فأما أن يكون فسخا: فلا. [فرع: وكالة العدل في بيع الرهن إذا حل الأجل] إذا رهن شيئا، وشرط أن يكون في يد عدل، ووكل العدل في بيعه، فحل الحق قبل أن يقبض الرهن.. فذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أنه لا يجوز للعدل بيع الرهن؛ لأنه وكله ببيعه رهنا، وهذا رهن لم يلزم؛ لأنه لم يقبض، اللهم إلا أن يقبضه الآن، فيكون له بيعه.

فرع: وضع اثنان رهنا عند مسلم أو غيره

وذكر الطبري في " العدة ": إن وكله في بيعه رهنا.. لم يكن له بيعه؛ لأنه لا يصير رهنا إلا بالقبض. وإن كان الإذن في بيعه مطلقا.. كان له أن يبيعه؛ لأن للوكيل بيع الشيء وهو في يد الموكل. [فرع: وضع اثنان رهنا عند مسلم أو غيره] إذا تراهن الذميان رهنا، وجعلاه على يد مسلم.. جاز. وإن تراهن المسلمان، أو المسلم والذمي، أو الذميان، وجعلاه على يد ذمي.. جاز؛ لأن الذمي يصح أن يكون وكيلا في البيع. فإن اقترض مسلم من ذمي دراهم، ورهنه بها خمرا، وجعلاه على يد ذمي، ووكلاه في بيعه، فباعه.. لم يصح بيعه؛ لأنه بيع خمر على مسلم. وإن اقترض ذمي من ذمي دراهم، ورهنه بها خمرا، وجعلاه على يد مسلم، ووكلاه في بيعه، فباعه.. لم يصح؛ لأنه بيع الخمر من مسلم. وإن اقترض ذمي من مسلم دراهم، ورهنه بها خمرا، وجعلاه على يد ذمي، ووكلاه في بيعه، فباعه.. فهل يجبر المسلم على قبض حقه منه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجبر؛ لأنه ثمن الخمر، وثمن الخمر محرم على المسلم. والثاني: يجبر، فيقال له: إما أن تأخذه، وإما أن تبرئ من قدره من الدين؛ لأن أهل الذمة إذا تقابضوا في ثمن الخمر، وما أشبهه من العقود الفاسدة.. أقروا عليها، وصار ذلك مالا من أموالهم. [فرع: يضمن العدل ثمن الرهن للراهن] إذا وكل العدل في بيع الرهن، فباعه، وقبض الثمن.. فإن الثمن يكون في يده من ضمان الراهن إلى أن يسلمه إلى المرتهن، وبه قال أحمد رحمة الله عليه. وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (هو من ضمان المرتهن) .

دليلنا: أن العدل وكيل للراهن في البيع، والثمن ملكه، فكان من ضمانه، كالموكل في غير الرهن. فإن تلف الثمن في يده، وخرج المبيع مستحقا، فعلى من يرجع المشتري؟ ينظر في العدل: فإن أطلق البيع، ولم يذكر: أنه يبيع على الراهن.. رجع المشتري على العدل؛ لأن الظاهر أنه باع مال نفسه، فلزمه الضمان بحكم الظاهر. وإن ذكر حال البيع: أنه يبيع على الراهن، أو صدقه المشتري على ذلك فإن المشتري يرجع بالعهدة على الراهن دون العدل؛ لأن العقد له. وإن قبض العدل الثمن، وسلمه إلى المرتهن، ثم وجد المشتري بالرهن عيبا، فإن أقام البينة على العيب، بأن لم يذكر العدل: أنه يبيع للراهن.. فإن المشتري يرجع بالثمن على العدل، ويرجع العدل على الراهن؛ لأنه وكيله، ولا يسترجع الثمن من المرتهن؛ لأن الرهن لما بيع.. حصل ثمنه للراهن وملكه، فإذا دفع إلى المرتهن.. فقد قضى دينه بملكه، فزال ملك الراهن عنه. فإن لم يكن للعدل ولا للراهن مال غير الرهن.. بيع، وقضي حق المشتري من ثمنه، وما بقي.. كان للمشتري دينا على العدل، وللعدل على الراهن. فإن لم يكن مع المشتري بينة بالعيب، فإن كان العيب مما لا يمكن حدوثه عند المشتري.. فهو كما لو قامت البينة أنه كان موجودا به وقت البيع. وإن كان مما يمكن حدوثه عند المشتري، فإن صدقه العدل والراهن أنه كان موجودا به وقت البيع.. فهو كما لو قامت البينة أنه كان موجودا وقت البيع، فالحكم فيه كما ذكرناه. وإن كذباه.. حلف له العدل: لقد باعه إياه بريئا من هذا العيب، فإن لم يحلف، ونكل، فحلف المشتري.. رجع على العدل بالثمن، ولا يرجع العدل بالثمن على الراهن؛ لأنه كان يمكنه أن يحلف. وإن كان العدل قد قال وقت البيع: إنه يبيع للراهن.. رجع المشتري على الراهن دون العدل.

مسألة: لا يبيع المرتهن الرهن إلا بحضور الراهن

[مسألة: لا يبيع المرتهن الرهن إلا بحضور الراهن] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو شرط المرتهن إذا حل الحق: أن يبيعه لنفسه.. لم يجز أن يبيع إلا أن يحضر رب الرهن، فإن امتنع.. أمر الحاكم ببيعه) . وجملة ذلك: أنه إذا رهنه رهنا، وشرطا في عقد الرهن: أن المرتهن يبيع الراهن.. فهذا شرط فاسد، وهل يبطل الرهن؟ فيه قولان؛ لأنه زيادة في حق المرتهن، وقد مضى ذكر مثل ذلك. فأما إذا رهنه رهنا صحيحا، وأقبضه إياه، فلما حل الحق.. وكل الراهن المرتهن ببيع الرهن.. لم تصح الوكالة. وإذا باع المرتهن.. كان البيع باطلا، وبه قال أحمد رحمة الله عليه. وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (يصح التوكيل، والبيع) . دليلنا: أنه توكيل يجتمع فيه غرضان متضادان، وذلك: أن الراهن يريد التأني في البيع للاستقصاء في الثمن، والمرتهن يريد الاستعجال في البيع ليستوفي دينه، فلم يجز، كما لو وكله ببيع الشيء من نفسه. فإن كان الراهن حاضرا.. فهل يصح بيع المرتهن بإذنه؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح البيع، وهو ظاهر النص، فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (إلا أن يحضر رب الرهن) ، ولأنه إذا كان حاضرا، فسمع تقدير الثمن.. انتفت التهمة من المرتهن، فصح بيعه.

الثاني ـ وهو اختيار الطبري في " العدة " ـ: أنه لا يصح البيع؛ لأنه توكيل فيما يتعلق به حقه فلم يصح، كما لو كان غائبا، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إلا أن يحضر رب الرهن) معناه: فيبيعه بنفسه، ألا ترى أنه قال: (فإن امتنع.. أمره الحاكم ببيعه) ؟ فإن قيل: هلا قلتم: يصح البيع وإن كانت الوكالة فاسدة، كما قلتم في سائر الوكالات الفاسدة؟ فالجواب: أن الوكالة الفاسدة إنما يصح البيع فيها؛ لأن الفساد غير راجع إلى الإذن، وإنما هو راجع إلى معنى في العوض، وهاهنا الفساد راجع إلى الإذن نفسه، فهو كما لو وكله أن يبيع من نفسه.. فباع. وبالله التوفيق

باب ما يدخل في الرهن وما لا يدخل وما يملكه الراهن وما لا يملكه

[باب ما يدخل في الرهن وما لا يدخل وما يملكه الراهن وما لا يملكه] باب ما يدخل في الرهن وما لا يدخل وما يملكه الراهن وما لا يملكه إذا رهنه أرضا وفيها بناء أو شجر، فإن شرط دخول ذلك في الرهن، أو قال: رهنتكها بحقوقها.. دخل البناء والشجر في الرهن مع الأرض، وهكذا: إن قال: رهنتك هذا البستان أو هذه الدار.. دخل الشجر والبناء في الرهن. فإن قال: رهنتك هذه الأرض، وأطلق.. فهل يدخل البناء والشجر في الرهن؟ فيه ثلاث طرق، ذكرناها في البيع. وإن باعه شجرة، أو رهنها منه.. صح البيع والرهن في الشجرة، وهل يدخل قرارها في البيع والرهن؟ ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أن قرارها لا يدخل في الرهن، وجها واحدا، وهل يدخل في البيع؟ فيه وجهان. وذكر الطبري في " العدة ": أن البيع والرهن على وجهين: أحدهما: لا يدخل؛ لأن المسمى في العقد هو الشجر، وهذا ليس بشجر. فعلى هذا: إذا انقطعت الشجرة.. لم يكن للمشتري أن يغرس مكانها غيرها. والثاني: يدخل قرار الشجرة؛ لأن قوام الشجرة به، فهو كعروق الشجرة تحت الأرض. فعلى هذا: إذا انقطعت هذه الشجرة.. كان للمشتري أن يغرس مكانها. وأما البياض الذي بين الشجر: فلا يدخل في البيع والرهن، وجها واحدا؛ لأن العقد إنما يتناول الشجر. [مسألة: زيادة الرهن] وأما نماء الرهن: فضربان: موجود حال الرهن، وحادث بعد الرهن. فأما الموجود حال الرهن: فإن كان ثمرة.. فقد مضى ذكرها. واختلف أصحابنا

في ورق التوت وأغصان الخلاف والآس: فمنهم من قال: هو كالورق والأغصان من سائر الأشجار، فيدخل في الرهن. ومنهم من قال: هو كالثمار من سائر الأشجار. وقد مضى ذكرها. وإن رهنه ماشية، وفيها لبن أو صوف.. فالمنصوص: (أنه لا يدخل في الرهن) . وقال الربيع: في الصوف قول آخر: (أنه يدخل) . فمن أصحابنا من قال: في الصوف قولان. ومنهم من قال: لا يدخل، قولا واحدا. وما ذكره الربيع: من تخريجه. وأما النماء الحادث بعد الرهن: كالولد، والثمرة، واللبن، وسائر منافعه.. فاختلف أهل العلم فيه: فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: (أنه ملك للراهن، وأنه لا يدخل في الرهن، وللراهن أن ينتفع بالرهن) . وقال قوم من أصحاب الحديث: نماء الرهن ومنافعه ملك لمن ينفق عليه، فإن كان الراهن هو الذي ينفق عليه.. ملكه. وإن كان المرتهن هو الذي ينفق عليه.. فالنماء ملك له. وقال أحمد رحمة الله عليه: (لبن الرهن ملك للمرتهن، فله حلبه وشربه) . وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الثمرة والولد واللبن الحادث بعد الرهن ملك للراهن، إلا أنه يدخل في الرهن) . وقال أيضا: (ليس للراهن ولا للمرتهن أن ينتفع بالرهن، بل تترك المنافع تتلف) .

وقال مالك رحمة الله عليه: (الولد الحادث يكون رهنا ـ كقول أبي حنيفة ـ وأما الثمرة: فلا تكون رهنا) . كقولنا. دليلنا على أصحاب الحديث، وعلى أحمد رحمة الله عليه: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يغلق الرهن من راهنه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» . فمن قال: إنه ملك للمرتهن.. فقد خالف نص الخبر. وروى الشعبي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من رهن دابة.. فعليه نفقتها، وله ظهرها ونتاجها» . وهذا نص، ولأن الرهن ملك للراهن، فكان نماؤه ملكا له، كما لو لم يكن مرهونا. وعلى أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ما روى الأعمش، عن أبي هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الرهن محلوب ومركوب» . وبالإجماع بيننا وبين أبي حنيفة: أنه لم يرد: أنه محلوب ومركوب للمرتهن، فثبت: أنه محلوب ومركوب للراهن. وأيضا: فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن من راهنه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» . و (الغنم) : هو النماء، فمن قال: إنه رهن.. فقد خالف الخبر، ولأن الرهن عقد لا يزيل الملك عن الرقبة، فلم يسر إلى الولد، كالإجارة، ولأن الرهن حق تعلق بالرقبة ليستوفي من ثمنها، فلم يسر إلى الولد، كالأرش في الجناية، وذلك: أن الجارية إذا جنت.. تعلق حق الجناية برقبتها، وإذا أتت بولد.. لم يسر أرش الجناية إلى ولدها. إذا ثبت: أن منافع الرهن ملك للراهن.. فله أن يستوفيها على وجه لا ضرر فيه على المرتهن، فإن كان الرهن عبدا أو دابة.. فله أن يعيره ثقة، وله أن يؤاجره من ثقة

إلى مدة تنقضي قبل حلول الحق، وهل له أن يستخدمه بنفسه، أو يركب البهيمة بنفسه؟ قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (له ذلك) . وقال في موضع: (ليس له ذلك) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يجوز، لأنه لا يؤمن أن يجحده. والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لأنه لما جاز أن يستوفيه بغيره.. جاز أن يستوفيه بنفسه، كغير الرهن. ومنهم من قال: إن كان الراهن ثقة.. جاز له أن يستوفيه بنفسه وإن كان غير ثقة لم يجز أن يستوفي بنفسه لأن الثقة يؤمن منه أن يجحد، وغير الثقة لا يؤمن منه أن يجحد. وحمل القولين على هذين الحالين. والصحيح الطريق الأول. إذا ثبت هذا: فإنما له أن يعير الرهن، ويؤاجره، ويستوفي ذلك بنفسه، بحيث لا يخرجه عن سلطان المرتهن، وهو أن يفعل ذلك كله في بلدة المرتهن، بحيث يرده إلى المرتهن أو إلى العدل بالليل، فأما أن يؤاجره للمسافرة به، أو يسافر هو به.. فلا يجوز؛ لأن ذلك يخرج الرهن عن سلطان المرتهن. وإن كان الرهن دارا.. فله أن يؤاجرها، ويعيرها، وهل له أن يسكنها بنفسه؟ على الطريقين، إلا أن لساكنها أن يسكنها ليلا ونهارا. والفرق بين الدار والعبد والدابة: أن سكنى الدار تتصل ليلا ونهارا، وخدمة العبد، وركوب الدابة وتحميلها لا يتصل، وإنما يكون بالنهار. وإن كان الرهن ثوبا.. لم يجز للراهن لبسه بنفسه، ولا له أن يؤاجره، ولا يعيره؛ لأن ذلك يؤدي إلى إتلافه. وإن كان الرهن جارية.. لم يكن للراهن تزويجها، وكذلك لا يجوز له تزويج العبد المرهون. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجوز تزويجهما) .

دليلنا: أن التزويج ينقص قيمتهما. وهل يجوز له وطء الجارية المرهونة؟ ينظر فيه: فإن كانت ممن يحبل مثلها.. لم يجز له ذلك؛ لأن ذلك يؤدي إلى الإضرار بالمرتهن بأن تحبل، فتتلف. وله أن يؤاجرها ويعيرها للخدمة، وهل له أن يستخدمها بنفسه؟ إن قلنا: لا يجوز له استخدام العبد بنفسه.. فهذه الجارية أولى. وإن قلنا: له أن يستخدم العبد بنفسه.. قال أصحابنا: فليس له أن يستخدم هذه الجارية، قولا واحدا؛ لأنه لا يؤمن أن يخلو فيها فيطأها. والذي يبين لي: أنها إذا كانت ممن لا يحل له وطؤها، كامرأة من ذوات محارمه.. أنه يجوز له أن يستخدمها؛ لأن ذلك مأمون في حقه. وإن كانت الجارية صغيرة.. فهل له أن يطأها؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: يجوز له أن يطأها؛ لأنه يؤمن أن يحبلها. و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا يجوز له؛ لأن الإحبال والحيض قد يختلف بالنساء، فقد يسرع إلى بعضهن لقوتها وسمنها، ويتأخر عن البعض، فحسمنا الباب. فإن قلنا بهذا: لم يجز له استخدامها بنفسه؛ لأنه لا يؤمن أن يطأها. وإن قلنا بقول أبي إسحاق.. فهي كالعبد إذا أراد أن يستخدمه بنفسه. وإن كان الرهن أرضا، فأراد الراهن أن يزرع فيها.. نظرت: فإن كان زرعا يضر بها.. لم يكن له ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا إضرار»

وإن كان لا يضر بالأرض.. نظرت: فإن كان يحصد قبل حلول الدين.. لم يمنع منه. وإن كان لا يحصد إلا بعد حلول الدين.. فالمنصوص: (أنه ليس له ذلك) . وقال الربيع فيه قول آخر: (أن له ذلك) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه ينقص قيمة الأرض عند حلول الدين. والثاني: له ذلك؛ لأن الزرع قد يمكن نقله من غير ضرر. قال الشيخ أبو حامد: ليس له أن يزرع ذلك، قولا واحدا، وما حكاه الربيع من كيسه.

وإن أراد الراهن أن يغرس في الأرض المرهونة، أو يبني فيها.. لم يكن له ذلك؛ لأن ذلك ينقص قيمتها، فإن خالف، وغرس، وبنى.. لم يقلع؛ لأنه قد يقضى الدين من غير الأرض، وربما وفت قيمة الأرض بالدين، فلا يجوز الإضرار به لضرر متوهم في الثاني. فإذا حل الدين وفي الأرض ما غرسه الراهن، أو حمل إليها السيل غراسا له، فنبت له، فإن قضى الراهن الدين من غير الأرض.. فلا كلام. وإن لم يقضه من غير الأرض.. نظرت: فإن كانت قيمة الأرض وحدها تفي بالدين.. بيعت الأرض في الدين، ويبقى الغراس والبناء على ملك الراهن. وإن كانت قيمة الأرض وحدها لا تفي بالدين.. نظرت: فإن لم تنقص قيمتها لأجل الغراس والبناء.. بيعت الأرض وحدها، وقضي الدين من ثمنها. وإن كانت قيمة الأرض قد نقصت لأجل الغراس والبناء، بأن كانت قيمتها وهي بيضاء مائة، فصارت قيمة الأرض وحدها بعد الغراس ثمانين، نظرت: فإن كان الراهن غير محجور عليه.. فهو بالخيار: بين أن يقلع غراسه وبناءه، ويسوي الأرض كما كانت، وتباع في حق المرتهن، وبين أن يبيع الأرض والغراس والبناء، ويسلم إلى المرتهن قيمة الأرض بيضاء وهي مائة؛ لأن قيمتها نقصت بفعله. وإن كان الراهن محجورا عليه.. نظرت: فإن لم تزد قيمة الأرض والغراس، بأن كانت قيمة الأرض بيضاء مائة، وقيمة الغراس خمسين، فصارت قيمتهما جميعا مائة وخمسين.. بيعا جميعا، ودفع إلى المرتهن قيمة الأرض، وإلى سائر الغرماء قيمة الغراس.

فرع: الانتفاع بالرهن

وإن نقصت قيمة الأرض بالغراس، بأن صارت قيمتها جميعا مائة وثلاثين.. لم يجز للراهن قلع الغراس؛ لأنه تعلق به حق الغرماء، ولكن تباع الأرض والغراس، ويدفع إلى المرتهن قيمة الأرض بيضاء وهي مائة، وإلى سائر الغرماء ثلاثون. وإن كانت قيمة الأرض بيضاء مائة، وقيمة الغراس منفردا خمسين، فإذا جمع بينهما، صارت قيمتهما مائتين.. فقد حدثت الزيادة فيهما، فيتعلق حق المرتهن بثلثي الخمسين الزائدة، وللراهن ثلثها. وإن ترك في أرضه نوى، ثم رهنها، ثم نبتت نخلا، فإن علم المرتهن بذلك.. فلا خيار له؛ لأنه رضي بارتهان أرض ذات نخل، ولا يكون النخل داخلا في الرهن، فإذا حل الحق، وبيعت الأرض.. كان للمرتهن قيمة الأرض بيضاء ذات نخل. وإن لم يعلم بها، ثم علم.. كان له الخيار، فإن فسخ.. فلا كلام، وإن لم يفسخ.. كان الحكم ما ذكرناه. [فرع: الانتفاع بالرهن] وإن أراد الراهن أن يؤجر الرهن إلى مدة لا تنقضي إلا بعد محل الدين: فإن قلنا: لا يجوز بيع المستأجر.. لم يكن له ذلك؛ لأن ذلك يمنع من بيعه. وإن قلنا: يجوز بيع المستأجر.. ففيه طريقان: [أحدهما] : قال عامة أصحابنا: لا يجوز له ذلك؛ لأن ذلك ينقص من قيمته عند البيع. و [الثاني] : قال أبو علي الطبري: فيه قولان، كالقولين في زراعة ما لا يحصد، إلا بعد محل الدين.

فرع: رهن فحل الضراب

[فرع: رهن فحل الضراب] وإن كان الرهن فحلا، فأراد الراهن أن ينزيه على بهائمه، أو بهائم غيره.. قال الشافعي: (جاز؛ لأن هذا منفعة، ولا ينقص به كثيرا) . وإن كان أتانا، وأراد أن ينزي عليها الفحل، فإن كانت تلد قبل حلول الدين، أو مع حلول الدين.. جاز؛ لأنه استيفاء منفعة لا ضرر على المرتهن بها. وإن كانت لا تضع إلا بعد حلول الدين.. فإن قلنا: لا حكم للحمل.. كان له ذلك؛ لأن الحق إذا حل وهي حامل.. صح بيعها، وحملها يدخل في البيع. وإن قلنا: للحمل حكم.. لم يكن له ذلك؛ لأن الحمل لا يدخل في الرهن، ولا يمكن بيعها دون الحمل. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " من غير تفصيل. وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " وابن الصباغ: أن القولين إذا كان الحمل يظهر بها قبل حلول الدين، فأما إذا كان الحمل لا يظهر بها قبل محل الدين.. جاز؛ لأنه يمكن بيعها في الدين. ولعل الشيخ أبا حامد أراد بإطلاقه هذا. [مسألة: تصرف المرتهن بما فيه منفعة] ويملك الراهن التصرف في عين الرهن بما لا ضرر فيه على المرتهن، كحجامة العبد وفصده؛ لأنه إصلاح لماله، ولا ضرر فيه على المرتهن. وإن مرض، فأراد مداواته بدواء لا ضرر فيه، وإنما يرجى نفعه.. لم يكن للمرتهن منعه، ولا يجبر على ذلك؛ لأن الشفاء قد يأتي من غير دواء. وإن أراد الراهن أن يقطع شيئا من بدنه، فإن كان في قطعه منفعة، وفي ترك قطعه خوف عليه، مثل: الآكلة إذا كانت في يده.. فإن للراهن أن يقطع ذلك بغير إذن المرتهن؛ لأن في قطع ذلك مصلحة من غير خوف؛ لأنه لحم ميت، [و] لا يحس

بلحم ميت. وإن كان يخاف من قطعه، ويخاف من تركه.. ففيه وجهان: أحدهما ـ ولم يذكر الشيخان غيره ـ: أنه لا يجوز إلا بإذن الراهن والمرتهن؛ لأنه يخاف عليه من قطعه، فلم يجز، كما لو لم يخف عليه من تركه. والثاني ـ حكاه ابن الصباغ عن أبي علي الطبري ـ: أن له أن يفعله، إلا أن يخاف منه التلف غالبا، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن المنفعة بذلك إذا كانت هي الغالبة.. كان فيه صلاح، كالمتيقن. وإن كانت به سلعة أو أصبع زائدة أو ضرس زائد، وأراد قطعه.. قال الشيخ أبو حامد: لم يكن له قطعه وإن تراضيا؛ لأنه لا يخاف من تركه، ويخاف من قطعه، ولهذا: لو أراد الحر قطع ذلك من نفسه.. لم يكن له ذلك. وقال ابن الصباغ: هذا مما لا يخاف من قطعه غالبا، فيكون على الوجهين. وإن كان العبد صغيرا، وأراد الراهن أن يختنه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (له ذلك؛ لأنه سنة، وزيادة) . وأطلق هذا. قال أصحابنا: ينظر فيه: فإن كان الحق حالا أو مؤجلا بحيث يحل قبل أن يبرأ.. لم يكن له أن يختنه؛ لأنه بالختان يتغير لونه وسجيته. وإن كان الختان يبرأ قبل حلول الحق.. كان له ذلك؛ لأنه سنة، ويزيد في قيمة العبد. وإن كان الرهن دابة، فاحتاجت إلى التوديج، وهو: فتح عرقين عريضين عن يمين ثغرة النحر ويسارها يسميان: الوريدين، أو إلى التبزيغ وهو: فتح

فرع: رهن الماشية

الرهصة، و (التبزيغ) : الشق. ولهذا يقال: بزغت الشمس: إذا طلعت.. فللراهن أن يفعل ذلك بغير إذن المرتهن؛ لأن فيه مصلحة من غير ضرر. وإن أراد المرتهن أن يفعل شيئا من هذا بغير إذن الراهن.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فكل ما كان فيه مصلحة، ولا يتضمن المضرة أصلا.. جاز أن يفعله، مثل: تدهين الماشية الجرباء بالقطران، وغير ذلك مما فيه منفعة من غير مضرة. وأما ما كان فيه منفعة، وقد يضر أيضا؛ كالفصد والحجامة وشرب الدواء وغير ذلك فكل هذا قد ينفع وقد يضر أيضا؛ لأنه قد لا يوافق.. فليس له ذلك. وللراهن أن يفعل ما يتضمن المنفعة والضرر من هذه الأشياء بغير إذن المرتهن، بخلاف المرتهن، فإنه لا يفعل شيئا من ذلك إلا بإذن الراهن) . قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": وهذه المسألة غريبة. [فرع: رهن الماشية] إذا كان الرهن ماشية.. فللراهن أن يرعى ماشيته، وليس للمرتهن منعه من ذلك؛ لأنها تأوي بالليل إلى يد الموضوعة على يده. وإن أراد الراهن أن ينتجع بها، وهو: أن يحملها إلى غير ذلك الموضع ليطلب الكلأ، فإن اتفقا عليه.. جاز. وإن امتنع أحدهما.. نظرت:

فرع: رتهن نخلا فله تأبيرها

فإن كان الموضع مخصبا كما كان.. لم يجبر الممتنع؛ لأن المرتهن يقول: إنما ارتهنتها في هذه البلد، فليس لك أن تنقلها منه إلى بلد آخر بغير ضرورة. وإن كان الموضع مجدبا، فإن اتفقا على النجعة والمكان.. جاز؛ لأن الحق لهما، وقد رضيا. وإن اتفقا على النجعة، واختلفا في المكان، قال الشيخ أبو حامد: وكان المكانان متساويين في الخصب والأمن.. قدم قول الراهن؛ لأنه هو المالك للرقبة. وإن اختلفا في النجعة.. أجبر الممتنع منهما من النجعة عليها؛ لأن المرتهن إن كان هو الممتنع.. قيل له: ليس لك ذلك؛ لأنك تضر بالماشية، فإما أن تخرج معها، أو ترضى بعدل من قبلك تأوي إليه، وإلا نصب الحاكم عدلا من قبله عليها. وإن كان الممتنع هو الراهن.. قيل له: ليس لك ذلك؛ لأنك تضر بالمرتهن، فإما أن تخرج معها، أو توكل من يأخذ رسلها، وهو: لبنها، ويرعاها، ويحفظها. [فرع: رتهن نخلا فله تأبيرها] فرع: [ارتهن نخلا فله تأبيرها] : وإن كان الرهن نخلا، فأطلعت.. كان للراهن تأبيرها من غير إذن المرتهن؛ لأن ذلك مصلحة لماله من غير ضرر، وما يحصل من السعف الذي يقطع كل سنة، أو الليف.. فهو للراهن، لا يدخل في الرهن؛ لأنه يقطع في كل سنة، فهو كالثمرة. فإن قيل: هذا قد تناوله عقد الرهن، وليس بحادث؟

فرع: المرتهن يحول المساقي

فالجواب: أن ما يحدث من السعف يقوم مقامه، فصار هذا بمنزلة المنفعة خارجا عن الأصول. فإن خرجت الفسلان في أصل النخل.. قال ابن الصباغ: فعندي: أن ذلك يكون للراهن، لا حق للمرتهن فيه؛ لأنه يخرج عن الأصول، فهو كالولد. فإن ازدحمت النخل أو الشجر، فأراد الراهن أن يحول بعضها إلى بعض أرض الرهن، وكان في تحويلها مصلحة للباقي.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (كان له ذلك) ؛ لأن النخل إذا ازدحمت قتل بعضها بعضا، فإن حولها، فنبتت.. كانت رهنا. وإن جف منها شيء.. كانت أخشابها رهنا، وإن لم يكن في أرض الرهن ما يمكن تحويلها إليه، وأراد الراهن قطع بعضها، وفي ذلك زيادة للباقي.. كان للراهن أن يفعل ذلك بغير إذن المرتهن، كما قلنا في التحويل، فإذا قطعت.. كانت أخشابها رهنا. وإن أراد الراهن تحويل بعضها إلى أرض غير الأرض المرهونة، أو أراد تحويل جميعها إلى الأرض المرهونة، أو قطع جميعها.. لم يكن له ذلك؛ لأن ذلك ضرر من غير منفعة. [فرع: المرتهن يحول المساقي] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن أراد الراهن تحويل المساقي، فإن كان يضر بالرهن.. لم يكن له ذلك) . قال الشيخ أبو حامد: والمساقي، جمع: مسقى، وهو: الإجانة التي تكون حول النخل، يقف الماء فيها ليشربه النخل، فإذا أراد أن يحولها الراهن من جانب إلى جانب، فإن لم يكن فيه ضرر على النخل.. جاز له ذلك. وإن كان فيه ضرر على النخل.. لم يجز له ذلك.

مسألة: أزال مالك الرهن ملكه عنه

قال الشيخ أبو حامد: فأما المرتهن إذا أراد أن يفعل ذلك.. لم يكن له؛ لأنه يتصرف في ملك الراهن، ولا يجوز له التصرف في ملك غيره، وليس هذا كتدهين الجرباء من الماشية بالدهن والقطران؛ لأن في التدهين بذلك منفعة من غير مضرة، فوزانه من النخل: إن احتاج إلى سقي.. فللمرتهن أن يسقي النخل بغير إذن الراهن؛ لأن فيه منفعة من غير مضرة. [مسألة: أزال مالك الرهن ملكه عنه] وإن أزال الراهن ملكه عن الرهن بغير إذن المرتهن.. نظرت: فإن كان ببيع، أو هبة، وما أشبههما من التصرفات.. لم يصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا إضرار» . وفي هذه التصرفات إضرار على المرتهن، ولأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير يبطل به حق المرتهن من الوثيقة، فلم يصح من الراهن بغير إذن المرتهن، كالفسخ. فقولنا: (لا يسري إلى ملك الغير) احتراز من العتق. وقولنا: (يبطل به حق المرتهن من الوثيقة) احتراز من إجارته وإعارته للانتفاع به. وقولنا: (بغير إذن المرتهن) احتراز منه إذا أذن. وإن كان الرهن رقيقا، فأعتقه الراهن بغير إذن المرتهن.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (إن كان موسرا.. نفذ عتقه، وإن كان معسرا.. فعلى قولين) . وقال في القديم: (قال عطاء: لا ينفذ عتقه، موسرا كان أو معسرا) . ولهذا وجه. ثم قال: (قال بعض أصحابنا: ينفذ إن كان موسرا، ولا ينفذ إن كان

معسرا) . واختلف أصحابنا في ترتيب المذهب فيها: فقال أبو علي الطبري، وابن القطان: في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: ينفذ إعتاقه، موسرا كان أو معسرا. والثاني: لا ينفذ إعتاقه، موسرا كان أو معسرا. والثالث: إن كان موسرا.. نفذ، وإن كان معسرا.. لم ينفذ. وهذه الطريقة اختيار الشيخ أبي إسحاق، وابن الصباغ. وقال أبو إسحاق المروزي: القولان في الموسر، وأما المعسر: فمرتب على الموسر، فإن قلنا: إن عتق الموسر لا ينفذ.. فالمعسر أولى أن لا ينفذ عتقه. وإن قلنا: عتق الموسر ينفذ.. ففي عتق المعسر قولان. وقال الشيخ أبو حامد: في عتق الموسر والمعسر قولان، وما حكاه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الفرق بين الموسر والمعسر.. فإنما حكى قول غيره، ولم يختره لنفسه. قال: وترتيب أبي إسحاق ليس بشيء. قال الشيخ أبو حامد: إلا أن الصحيح من القولين في الموسر: أن عتقه ينفذ، والصحيح من القولين في المعسر: أنه لا ينفذ عتقه. فإذا قلنا: إن عتقه يصح موسرا كان أو معسرا، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما.. فوجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طلاق إلا في نكاح، ولا عتق إلا فيما يملكه ابن آدم» وهذا يملكه، ولأن الرهن محبوس على استيفاء حق، فجاز أن

يلحقه عتق المالك، كالمشتري إذا أعتق العبد المبيع في يد البائع قبل أن ينقد الثمن، ولأن الرهن عقد لا يزيل الملك، فلم يمنع صحة العتق، كالإجارة والنكاح، وفيه احتراز من البيع والهبة. فعلى هذا: إن كان موسرا.. أخذت من الراهن قيمة الرهن عند الحكم بعتقه، وجعلت رهنا مكانه، ولا يفتقر إلى تجديد عقد الرهن على القيمة؛ لأنها قائمة مقام الرهن. وإن كان معسرا.. وجبت القيمة في ذمته، فإن أيسر قبل محل الدين.. أخذت منه القيمة، وجعلت رهنا، إلا أن يختار تعجيل الدين، فله ذلك. وإن لم يؤسر إلا بعد محل الدين.. طولب بقضاء الدين. ومتى يحكم بالعتق؟ فيه طريقان: [الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يعتق بلفظ الإعتاق. والثاني: لا يعتق إلى بدفع القيمة. والثالث: أنه موقوف، فإن دفع القيمة.. علمنا أنه قد كان عتق بلفظ الإعتاق، وإن لم يدفع القيمة.. علمنا أنه لم يعتق، كما لو أعتق الموسر شقصا له من عبد.. فإن نصيب شريكه يعتق عليه، ومتى يعتق؟ على هذه الأقوال. و [الطريق الثاني] : منهم من قال: يعتق بلفظ العتق، قولا واحدا، وهو الصحيح؛ لأنه لو كان كعتق الشقص.. لم ينفذ عتق المعسر، كما لا يعتق نصيب الشريك من المعسر. وإذا قلنا: لا ينفذ إعتاقه موسرا كان أو معسرا.. فوجهه: أن العتق معنى تبطل به الوثيقة من غير الرهن، فلم يصح من الراهن بنفسه، كالبيع، ولأن حق المرتهن متعلق بمحلين: ذمة الراهن، وعين الرهن. ولو أراد الراهن أن يحول الحق من ذمته إلى ذمة غيره.. لم يصح بغير رضا المرتهن، وكذلك إذا أراد تحويل حقه من عين الرهن إلى غيره. فعلى هذا: يكون الرهن بحاله. وإذا حل الحق، وبيع العبد في الدين.. صح البيع.

مسألة: جواز رهن الجارية الموطوءة

وإن قضى الراهن الدين من غير الرهن، أو أبرأه المرتهن، أو بيع في الدين، ثم رجع إلى الراهن ببيع، أو هبة، أو إرث.. فهل ينفذ عتقه الأول؟ فيه وجهان: أحدهما: ينفذ، وبه قال مالك رحمة الله عليه، لأنا إنما لم نحكم بصحته؛ لحق المرتهن، وقد زال حق المرتهن، فوجب أن يحكم بصحته، كالإحبال. والثاني وهو المذهب: أنه لا ينفذ؛ لأنه عتق لم يصح حال الإعتاق، فلم يصح فيما بعد، كالمحجور عليه إذا أعتق عبده، ثم فك عنه الحجر، ويخالف الإحبال فإنه أقوى، ولهذا نفذ إحبال المجنون، ولم ينفذ عتقه. وإذا قلنا: ينفذ إعتاق الموسر، ولا ينفذ إعتاق المعسر.. فوجهه: أنه عتق في ملكه يبطل به حق الغير، فاختلف فيه الموسر والمعسر، كالعتق في العبد المشترك، ولأنه لا ضرر على المرتهن في إعتاق الموسر، فصح، وعليه ضرر في إعتاق المعسر، فلم يصح، كما قلنا في العبد المأذون له في التجارة، إذا كان في يده عبد، فأعتقه سيد المأذون، فإن كان لا يدن على المأذون له.. نفذ عتق السيد في العبد، وإن كان عليه دين.. لم ينفذ. فعلى هذا: إن كان الراهن موسرا.. أخذت منه القيمة، وجعلت رهنا، وتعتبر القيمة وقت العتق. ومتى يعتق؟ الذي يقتضي المذهب: أنه على الأقوال الثلاثة في عتق نصيب الشريك. وإن كان المعتق معسرا.. فالرهن بحاله، فإن أيسر قبل محل الدين، أو قضى الدين عنه أجنبي، أو أبرأه المرتهن، أو بيع العبد في الدين، ثم رجع إلى الراهن ببيع، أو هبة، أو إرث.. فهل يعتق عليه بإعتاقه الأول؟ ينبغي أن يكون على الوجهين إذ قلنا: لا ينفذ عتقه بحال. [مسألة: جواز رهن الجارية الموطوءة] وإن كان له جارية، فوطئها، ثم رهنها.. صح الرهن؛ لأن الأصل عدم الحمل، فلم يمنع صحة الرهن. وهكذا: لو رهنها، ثم وطئها، ثم أقبضها عن الرهن.. صح الإقباض؛ لأن الرهن قبل القبض غير لازم، فهو كما لو وطئها، ثم رهنها. فإن ولدت بعد الإقباض.. نظرت:

فإن ولدت لدون ستة أشهر من وقت الوطء.. لم يلحق الولد بالراهن، ولم يبطل الرهن في الأم؛ لأنها لم تصر أم ولد له، وكان الولد مملوكا. وإن وضعت الولد لستة أشهر من وقت الوطء.. نظرت: فإن اعترف الراهن عند تسليمها: أنه كان قد وطئها، ولم يستبرئها.. صارت أم ولد له، وثبت نسب الولد منه، ويبطل الرهن فيها؛ لأنه بان أنه رهنها بعد أن صارت أم ولد. وهل يثبت للمرتهن الخيار في البيع إن كان رهنها مشروطا في البيع؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: لا خيار له. وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد؛ لأنه قبضها مع الرضا بالوطء، فصار بمنزلة رضاه بالعيب. والثاني ـ ذكره الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وهو قول ابن الصباغ ـ: أن له الخيار؛ لأنه باع بشرط أن يتسلم رهنا صحيحا، ولم يسلم له ذلك، ولأنا إذا جعلنا الأصل عدم الحمل، وصححنا عقد الرهن.. لم يكن رضا المرتهن بقبض الموطوءة رضا بالحمل، فثبت له الخيار. وإن وضعته لأكثر من ستة أشهر، ولأربع سنين فما دونها من وقت الوطء.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق\263-264] : أحدهما ـ وهو قول البغداديين من أصحابنا ـ: أنها كالأولى؛ لأنا نتبين أن الولد كان موجودا وقت الإقباض، فيلحق النسب بالراهن، وتصير أم ولد له، ويبطل الرهن. والثاني: لا يبطل الرهن؛ لأن النسب يثبت بالاحتمال، ولا يبطل الرهن بالاحتمال. وإن وضعت الولد لأكثر من أربع سنين من وقت الوطء.. لم يلحق نسبه بالراهن، ولم تصر الجارية أم ولد له، ولا يبطل الرهن، لأنا نعلم أن هذا الولد حدث من وطء بعد الرهن. وإن ولدت لستة أشهر من وقت الإقباض، فقال الراهن عند ذلك: كنت وطئتها قبل الإقباض.. فهل يقبل قوله؟ فيه قولان، كما لو رهن عبدا، وأقبضه، ثم أقر

فرع: لا يحل وطء الراهن الجارية إلا بإذن المرتهن

الراهن: أن العبد كان جنى خطأ على غيره قبل الرهن، وصدقه المقر له، وأنكر المرتهن، ويأتي توجيههما إن شاء الله تعالى. [فرع: لا يحل وطء الراهن الجارية إلا بإذن المرتهن] ] . فأما إذا رهن جارية، فأقبضها.. فلا يحل له وطؤها بغير إذن المرتهن؛ لأن فيه ضررا على المرتهن؛ لأنها ربما حبلت، فتموت منه، أو تنقص قيمتها. فإن خالف، ووطئ.. فلا حد عليه؛ لأن وطأه صادف ملكه، ولا مهر عليه؛ لأن غير الراهن لو وطئها بشبهة، أو أكرهها.. لكان المهر للراهن، فإن وطئها الراهن.. لم يجب عليه مهر لنفسه. فإن أفضاها، أو كانت بكرا، فافتضها.. وجبت عليه قيمتها بالإفضاء، وأرش ما نقصها الافتضاض؛ لأن ذلك بدل عن جزء منها، ويكون الراهن بالخيار: إن شاء.. جعل ذلك قصاصا من الحق إن كان لم يحل، وإن شاء.. جعله رهنا معها إلى أن يحل الحق. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أظن أن عاقلا يجعل ذلك رهنا) ، فيكون أمانة؛ لأنه يمكنه أن يجعله قصاصا من الحق. وإن حبلت من هذا الوطء.. انعقد الولد حرا، وثبت نسبه من الراهن. وهل تصير الجارية أم ولد، ويبطل الرهن؟ قال عامة أصحابنا: هو كما لو أعتقها الراهن بعد الإقباض بغير إذن المرتهن على الأقوال المذكورة في العتق. وقال أبو إسحاق المروزي: إن قلنا: ينفذ عتقه.. نفذ إحباله. وإن قلنا: لا ينفذ عتقه.. فهل ينفذ إحباله؟ فيه وجهان؛ لأن الإحبال أقوى؛ لأنه ينفذ من المجنون، ولا ينفذ عتقه. والأول أصح. فإن قلنا: ينفذ إحباله، وتصير أم ولد.. فالحكم فيه، كالحكم إذا قلنا: يصح عتقه على ما مضى.

وإن قلنا: لا ينفذ إحباله، ولا تصير أم ولد.. فإنما نريد بذلك: أنها لا تصير أم ولد للراهن في حق المرتهن، ولا يبطل به الرهن. قال الشيخ أبو حامد: وإن أراد الراهن أن يهبها من المرتهن.. لم تصح الهبة. فعلى هذا: يكون الولد حرا ثابت النسب من الراهن، فما دامت حاملا لا يجوز بيعها؛ لأنها حامل بحر، ولا يجوز بيعها واستثناء الولد عن البيع، كما لا يجوز استثناء بعض أعضائها، ولا يجوز بيعها مع الولد؛ لأن الحر لا يصح بيعه. فإن ماتت من الولادة.. وجب على الراهن قيمتها؛ لأنها هلكت بسبب من جهته تعدى به، فلزمه ضمانها، كما لو جرحها، فماتت منها، ومتى تعتبر قيمتها؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: تعتبر قيمتها حين وطئها؛ لأنه حين الجناية، كما لو جرحها، وماتت.. فإن قيمتها تعتبر يوم جرحها. والثاني: تعتبر قيمتها أكثر ما كانت من حين وطئها إلى أن ماتت، كما لو غصب جارية، وأقامت في يده، ثم ماتت. والثالث ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أن قيمتها تعتبر حين ماتت؛ لأن التلف حصل به. وحكي: أن أبا علي ألزم إذا جرحها، فسرى إلى نفسها، فالتزم ذلك، وقال: يجب قيمتها يوم موتها. قال أصحابنا: وهذا خطأ، بل تعتبر قيمتها يوم الجراحة، وإن لم تمت، ولكن نقصت قيمتها بالولادة.. لزم الراهن أرش النقص، فإن شاء.. جعل ذلك رهنا، وإن شاء.. جعله قصاصا من الحق. وإن ولدت.. فلا يجوز بيعها قبل أن تسقي الولد اللبأ؛ لأن الولد لا يعيش إلا به، فإذا سقته اللبأ.. نظرت: فإن لم توجد له مرضعة.. لم يجز بيعها حتى تفطمه؛ لأن ذلك يؤدي إلى تلفه. وإن وجد من ترضعه غيرها.. جاز بيعها بحق المرتهن. فإن قيل: كيف جاز التفريق بينها وبين الولد؟ قيل: إنما لا يجوز التفريق بينهما إذا كان يمكن الجمع بينهما في البيع، وهاهنا لا يجوز بيع الولد، فلذلك فرق بينهما.

مسألة: وقف الرهن بغير إذن المرتهن

فإن كان الدين يستغرق قيمتها.. جاز بيع جميعها. وإن كان الدين أقل من قيمتها.. بيع منها بقدر الدين، إلا إن لم يوجد من يشتري بعضها، فتباع جميعها للضرورة، فيدفع إلى المرتهن حقه، والباقي من ثمنها للراهن. وإن بيع بعضها بدين المرتهن. انفك الباقي منها من الرهن، وكان ما بيع منها مملوكا للمشتري، وما انفك أم ولد للراهن. فإن مات الراهن.. عتق عليه ما انفك فيه الرهن، ولم يقوم عليه الباقي وإن كانت له تركة؛ لأنه عتق على الميت، والميت لا مال له؛ لأن بالموت صار ماله لورثته. وإن رجع هذا المبيع إلى الراهن بهبة، أو بيع، أو إرث، أو بيع جميعها، ثم رجعت إليه، أو أبرأه المرتهن عن دينه.. ثبت لها حكم الاستيلاد، وعتقت على الراهن بموته على هذا القول. وقال المزني: لا يثبت لها حكم الاستيلاد على هذا، كما قلنا فيه: إذا أعتقها، وقلنا: لا ينفذ عتقه، ثم رجعت إليه. وهذا ليس بشيء؛ لأنا إنما حكمنا بأن إحباله لم ينفذ في حق المرتهن لا غير، بدليل: أنه لو وهبها من المرتهن.. لم تصح هبته. فإذا زال حق المرتهن.. ثبت لها حكم الاستيلاد، كما لو قال رجل: العبد الذي في يد فلان حر.. فإنه لا يعتق على من هو بيده، ثم ملكه الشاهد له بذلك.. لعتق عليه.. ويفارق الإحبال العتق؛ لأن الإحبال فعل له تأثير لا يمكن رفعه إذا وقع، والعتق قول، فإذا بطل في الحال.. لم يصح فيما بعد؛ لأن الإحبال يصح من المجنون والسفيه، ولا يصح عتقهما. [مسألة: وقف الرهن بغير إذن المرتهن] ] : وإن وقف الراهن الرهن بعد القبض بغير إذن المرتهن.. ففيه وجهان، حكاهما في " المهذب ": أحدهما: انه كالعتق، فيكون على الأقوال؛ لأنه حق لله تعالى لا يصح إسقاطه بعد ثبوته، فصار كالعتق.

مسألة: إحبال الراهن الجارية بإذن المرتهن

فقولنا: (لأنه حق لله) احتراز من البيع والهبة. وقولنا: (لا يصح إسقاطه بعد ثبوته) احتراز من التدبير، فإنه إذا رهن عبدا، وأقبضه، ثم دبره.. لم يحكم ببطلان التدبير. والوجه الثاني: أن الوقف لا يصح؛ لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير، فلم يصح من الراهن بنفسه، كالبيع، والهبة. فقولنا: (لا يسري إلى ملك الغير) احتراز من العتق. [مسألة: إحبال الراهن الجارية بإذن المرتهن] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو أحبلها الراهن، أو أعتقها بإذن المرتهن.. خرجت من الرهن) . وهذا كما قال: إذا رهنه جارية، وأقبضه إياها، ثم إن المرتهن أذن للراهن بعتقها فأعتقها.. صح ذلك، قولا واحدا، وكذلك: إذا أذن له بوطئها.. جاز له وطؤها؛ لأن المنع من ذلك لحق المرتهن، فإذا أذن له فيه.. زال المنع. فإن حبلت من الوطء المأذون فيه.. صارت أم ولد للراهن، وخرجت من الرهن، قولا واحدا؛ لأن ذلك ينافي الرهن، فإذا أذن فيه المرتهن.. صار كما لو أذن له في فسخ الرهن، ولو أذن له في الفسخ، ففسخ.. انفسخ الرهن. فإن قيل: إنما أذن في الوطء دون الإحبال؟ فالجواب: أنه وإن لم يأذن في الإحبال، إلا أن الإحبال من مقتضى إذنه، مع أن الواطئ لا يقدر على الإحبال، وإنما الإحبال من الله سبحانه وتعالى، ولم يفعل الواطئ أكثر مما أذن له فيه، فإذا أحبلها الراهن، أو أعتقها بإذن المرتهن.. لم يجب عليه قيمتها؛ لأن الإتلاف حصل بإذن المرتهن، فصار كما لو أذن له في قتلها، فقتلها.. فإنه لا قيمة للمرتهن على الراهن. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (وإن أذن المرتهن للراهن في ضرب الجارية المرهونة، فضربها الراهن، فماتت من الضرب.. انفسخ الرهن، ولم يجب على الراهن قيمتها) ؛ لأنه أذن له في الضرب إذنا طلقا، فأي ضرب ضربها.. فإنه مأذون

فرع: اختلاف المتراهنين في إلحاق الولد

فيه، وما تولد من المأذون فيه.. فلا شيء عليه لأجله. فإن قيل: أليس قد أذن للإمام في الضرب في التعزير، وللزوج أن يضرب زوجته، وللمعلم أن يضرب الصبي، ثم إذا أدى ضرب واحد منهم إلى التلف.. كان عليه الضمان؟ قلنا: الفرق بين هؤلاء والراهن: أن هؤلاء إنما أبيح لهم الضرب على وجه التأديب بشرط السلامة، فإن أدى ضربهم إلى التلف.. كان عليهم الضمان؛ لأنه غير مأذون فيه، وليس كذلك الراهن، فإن الإذن له وقع مطلقا، فأي ضرب ضربه.. فهو مأذون له فيه. قال ابن الصباغ: إلا أن يكون الإذن في تأديبه، أو تضمنه إذنه، فيشترط فيه حينئذ السلامة عندي، كما قلنا في الضرب الشرعي. [فرع: اختلاف المتراهنين في إلحاق الولد] وإذا أذن المرتهن للراهن في وطء الجارية المرهونة، فأتت بولد، ثم اختلفا فيه، فقال الراهن: هذا الولد مني، وقال المرتهن: هذا الولد من زوج أو زنا.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فالقول قول الراهن) . قال أصحابنا: وأراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن القول قول الراهن إذا أقر المرتهن بأربعة أشياء: أحدها: أن يقر أنه قد أذن له بالوطء. الثاني: أن يقر أن الراهن قد وطئها. الثالث: أن يقر أن هذا الولد ولدته هذه الجارية.

مسألة: وطء المرتهن الجارية المرهونة

الرابع: أن يقر بأنه قد مضى من حين الوطء أقل مدة الوضع. فإذا أقر المرتهن بهذه الأربعة الأشياء.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (فالقول قول الراهن بلا يمين؛ لأنه إذا اعترف بوطء جاريته.. صارت فراشا له، فإذا أتت بولد يمكن أن يكون منه.. لحقه نسبه. ولو ادعى أنه ليس منه.. لم يقبل قوله، فلا معنى لاستحلافه) . وأما إذا قال المرتهن: لم آذن بالوطء. أو قال: أذنت لك به، ولم تُطأ.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم ذلك، وبقاء الوثيقة. وهكذا: لو أنكر مضي مدة الحمل.. فالقول قول المرتهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم مضيها. وكذلك: إذا قال: هذا الولد لم تلده الجارية.. فعلى الراهن البينة أنها ولدته، فإذا لم تقم بينة على ذلك.. حلف المرتهن؛ لأن الأصل عدم ولادتها له. [مسألة: وطء المرتهن الجارية المرهونة] وأما المرتهن إذا وطئ الجارية المرهونة، فإن كان بغير إذن الراهن، فإن كان عالما بالتحريم.. وجب عليه الحد؛ لأنه لا شبهة له فيها؛ لأن عقد الرهن عقد استيثاق بالعين، ولا مدخل لذلك في إباحة الوطء، ولأن الحد لا يسقط بالوطء المحرم إلا لأحد ثلاثة أشياء: [أولها] : إما لشبهة عقد، بأن يتزوجها بغير ولي أو لا شهود؛ لاختلاف العلماء في صحته. [ثانيها] : أو لشبهة في الموطوءة، بأن يطأ جارية ابنه، أو الجارية المشتركة بينه وبين غيره.

[ثالثها] : أو لشبهة في الفعل، بأن يطأ امرأة يظنها جاريته أو امرأته. وليس هاهنا واحد من ذلك. فإن أولدها.. فالولد مملوك للراهن، ولا يثبت نسبه من المرتهن. وأما المهر: فإن أكرهها على الوطء، أو كانت نائمة، فوطئها.. فعليه المهر؛ لأنه وطء يسقط به الحد عن الموطوءة، فلم يعر من وطئها في نكاح فاسد. وإن طاوعته على الوطء.. فالمنصوص: (أنه لا مهر عليه) . ومن أصحابنا من قال: فيه قول مخرج: أنه يجب عليه المهر؛ لأن المهر حق للسيد، فلا يصح بذل الجارية له، كأجرة منافعها. والأول أصح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مهر البغي» . و (البغي) : الزانية. وهذه زانية. وإن ادعى الجهالة بتحريمه، فإن لم يحتمل صدقه، بأن يكون ناشئا في أمصار المسلمين.. لم يقبل قوله في ذلك؛ لأن الظاهر ممن نشأ بين المسلمين أنه لا يخفى عليه ذلك، فيكون حكمه حكم الأولى. وإن احتمل صدقه، بأن يكون قريب العهد بالإسلام، أو كان مسلما ناشئا في بادية بعيدة من المسلمين.. لم يجب عليه الحد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادرؤوا الحدود بالشبهات» .

وروي: أن عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه زوج جارية له من راع، فزنت، فأتى بها إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فقال لها عمر: (يا لكعاء زنيت؟ فقال: من مرغوش بدرهمين، فقال أمير المؤمنين عمر لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: ما تقول في هذا؟ فقال: قد اعترفت، عليها الحد. ثم قال لعبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: ما تقول؟ قال: أقول: كما قال أخي علي، فقال

لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: ما تقول؟ قال: أراها تستهل به، كأنها لا تعلم، وإنما الحد على من علم. فدرأ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه عنها الحد) . قال الشيخ أبو حامد: بعض أهل الحديث قالوا: هو مرغوش بالشين. قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهو بالسين. قال: فسألت عنه جماعة من أهل اللغة، فلم يعرفوه، إلا فلانا قال: هو اسم طير. وأما المهر: فإن أكرهها المرتهن.. فعليه المهر. وإن طاوعته، فإن كانت جاهلة أيضا.. فعليه المهر. وإن كانت عالمة بالتحريم.. فالمنصوص: (أنه لا مهر عليه) . وعلى القول المخرج.. عليه المهر. وإن أولدها.. فالولد حر ثابت النسب من المرتهن، وعليه قيمته يوم يسقط. وأما إذا وطئها المرتهن بإذن الراهن.. فإن عامة العلماء قالوا: لا يحل له الوطء، إلا عطاء، فإنه قال: يحل له الوطء. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\264 و 265] : وهل يكون قول عطاء شبهة يسقط به عنه الحد مع العلم بالتحريم؟ فيه وجهان.

وذكر القاضي أبو الطيب: أن الإذن شبهة في حق العامة يحتمل صدقهم معه في دعوى الجهالة؛ لأن إذن المالك قد يعتقد به قوم جواز الوطء. وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": إذا كان المرتهن عالما بأن إذن الراهن لا يبيح له الوطء.. فالحكم فيه كالحكم فيه إذا وطئها بغير إذن، إلا في شيء واحد، وهو أنه إذا وطئها بغير إذنه، وكانت مكرهة على الوطء، أو نائمة.. وجب هناك المهر، قولا واحدا، وهاهنا على قولين. وإن كان المرتهن جاهلا لا يعلم أن ذلك لا يجوز.. فلا حد عليه، والولد حر ثابت النسب منه. وأما المهر: فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنها إذا طاوعته.. فلا مهر عليه، قولا واحدا؛ لأن إذن المالك للمنفعة وجد، فهي كالحرة المطاوعة. وإن كانت مكرهة، أو نائمة.. فهل يجب المهر؟ فيه قولان. وأما الشيخ أبو إسحاق: فأطلق القولين: أحدهما: يجب عليه المهر؛ لأنه وطء في غير ملك يسقط به الحد عن الموطوءة، فوجب به المهر وإن حصل به الرضا، كالوطء في النكاح الفاسد بغير مهر. والثاني: لا يجب، لأن هذا الوطء يتعلق به حق الله تعالى، وحق الآدمي، سقط حق الآدمي بإذنه، كما لو أذن له في قتل عبده، أو أذن له في قتل صيده، وهو محرم. فإنه لا يجب عليه قيمة العبد والصيد وإن وجبت الكفارة والجزاء. وأما قيمة الولد.. فقد قال الشافعي رحمة الله تعالى عليه: (تجب قيمته يوم خرج حيا) . فمن أصحابنا من قال: في قيمة الولد قولان، كالمهر، وإنما نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أحدهما. ومنهم من قال: تجب قيمة الولد، قولا واحدا. قال الشيخ أبو حامد: والفرق بينهما: أن المهر بدل عن الوطء، وقد وقع الإذن في الوطء صريحا، فسقط بدله، وليس كذلك الولد؛ لأنه وإن كان من متضمن

مسألة: توكيل الراهن للمرتهن ثم رجوعه

الوطء، فليس ببدل عنه؛ لأن الوطء قد يكون ولا ولد منه، ولم يقع الإذن فيه. فلم يسقط بدله. قال القاضي أبو الطيب: وهذا الفرق ليس بصحيح؛ لأنه لو أذن له في قطع أصبع منه، فقطعها، فسرت إلى أخرى.. لم يضمن واحدة منهما. قال ابن الصباغ: ويمكن أن يقال: لأن إذنه لم يفسد حرية الولد، وإنما شبهة الوطء أتلفت رق الولد، فضمنه بقيمته؛ لأن ذلك ليس بمتولد من المأذون فيه. [مسألة: توكيل الراهن للمرتهن ثم رجوعه] وإن أذن المرتهن للراهن في العتق، فأعتق، أو في الهبة والإقباض، فوهب وأقبض، ثم رجع عن الإذن بعد العتق والهبة.. لم يبطل العتق والهبة؛ لأنهما قد صحا. وإن رجع المرتهن عن الإذن قبل العتق والهبة، ثم أعتق الراهن، أو وهب بعد علمه بالرجوع عن الإذن.. لم يصح العتق والهبة؛ لأن بالرجوع يسقط الإذن، فصار كما لو لم يأذن، وإن أعتق أو وهب بعد الرجوع، وقبل علمه به.. فهل يصح العتق والهبة؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الوكيل إذا باع بعد العزل، وقبل علمه به. وإن اختلفا: فقال المرتهن: أعتقت بعد رجوعي. وقال الراهن: بل أعتقت قبل رجوعك.. قال ابن الصباغ: فالقول قول المرتهن؛ لأن الأصل بقاء الرهن. [فرع: إذن المرتهن للراهن في بيع الرهن] وإن أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن، فباعه.. نظرت: فإن كان بعد حلول الدين، فباع.. صح البيع، وتعلق حق المرتهن بالثمن؛ لأن مقتضى الرهن أن يستوفي الحق من ثمنه بعد حلوله، ولأن بيع الرهن بعد حلول الدين حق للمرتهن يستحقه على الراهن، بدليل: أن الراهن لو امتنع عن ذلك.. أجبر عليه، فإذا كان مستحقا.. فقد أذن فيما استحق.

وإن كان الدين مؤجلا، فإن كان الإذن من المرتهن مطلقا، فباع الراهن.. صح البيع، وانفسخ الرهن، ولم يتعلق حق المرتهن بالثمن، وبه قال أبو يوسف. قال أبو حنيفة، ومحمد رحمهما الله: (يكون الثمن رهنا إلى أن يحل الحق) . دليلنا: أنه تصرف في عين الرهن لا يستحقه المرتهن، فإذا أذن فيه المرتهن.. سقط حقه من الوثيقة، كالعتق. فقولنا: (في عين الرهن) احتراز من العقد على منافع الرهن. وقولنا: (لا يستحقه المرتهن) احتراز من البيع بعد حلول الحق. قال في " الأم " [3/128] : (فإن قال المرتهن: إني أردت بإطلاق الإذن أن يكون الثمن رهنا مكانه.. لم يلتفت إلى قوله، وحمل إذنه على الإطلاق، ولا تؤثر الإرادة فيه) .. وإن أذن له في البيع، بشرط أن يكون الثمن رهنا، فباعه. ففيه قولان: أحدهما: أن البيع صحيح، ويكون ثمنه رهنا، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، والمزني رحمة الله عليهم؛ لأنه لو أذن له في البيع، بشرط أن يرهنه عينا أخرى مكان هذا الرهن.. لصح ذلك، فكذلك إذا اشترط كون الثمن رهنا، ولأنه لو أذن له بعد المحل بالبيع، بشرط أن يكون الثمن رهنا إلى أن يوفيه الحق.. جاز، فكذلك إذا شرط ذلك قبل المحل. والقول الثاني: أن البيع لا يصح؛ لأنه بيع بشرط مجهول؛ لأن الذي يباع به الرهن من الثمن مجهول، فلم يصح، كما لو أذن له في البيع، بشرط أن يرهنه عينا مجهولة. وإن أذن له في البيع، بشرط أن يعجل له حقه، فباعه.. فالمنصوص: (أن البيع باطل) . وقال أبو حنيفة، وأحمد، والمزني رحمة الله عليهم: (يصح، ويكون ثمنه رهنا، ولا يجب التعجيل) .

مسألة: مؤنة الرهن على الراهن

وقال أبو إسحاق: إذا قلنا في المسألة قبلها إذا أذن له بشرط أن يكون الثمن رهنا: إن ذلك يصح.. كان هاهنا مثله. دليلنا: أنه أذن له بشرط، فإذا لم يثبت له الشرط.. لم يصح الإذن، كما لو شرط في البيع شرطا لم يثبت.. فإن البيع لا يصح. وإن اختلف الراهن والمرتهن: فقال المرتهن: أذنت لك بشرط أن تعطيني حقي. وقال الراهن: بل أذنت لي مطلقا.. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: فالقول قول المرتهن؛ لأنهما لو اختلفا في أصل الإذن.. لكان القول قول المرتهن، فكذلك إذا اختلفا في صفته، ولأن الأصل صحة الرهن، والراهن يدعي ما يزيله ويبطله، فلم يقبل قوله. [مسألة: مؤنة الرهن على الراهن] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وعليه مؤنة رهونه، ومن مات من رقيقه.. فعليه كفنه) . وهذا كما قال: يجب على الراهن ما يحتاج إليه الرهن من نفقة وكسوة وعلف. وإن كان عبدا فمات.. فإن عليه كفنه ومؤنة تجهيزه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه، له غنمه، وعليه غرمه» . وهذا من غرمه ولما روى الشعبي، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من رهن دابة.. فعليه نفقتها، وله ظهرها وحملها» ، ولأنه ملكه، فوجب أن تكون نفقته عليه، كما لو لم يكن مرهونا، وإن كان الرهن مما يحتاج إلى موضع يكون فيه، مثل: أن يكون حيوانا يحتاج إلى إصطبل، أو متاعا يحتاج إلى بيت يكون فيه عند العدل.. فإن ذلك يكون على الراهن، وكذلك أجرة حافظه على الراهن. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجب ذلك على المرتهن) .

مسألة: جناية العبد المرهون

دليلنا: أن ذلك من مؤنة الرهن، فكان على الراهن، كالنفقة. فإن كان الراهن حاضرا.. كلف أن يكتري موضعا لذلك. وإن امتنع من ذلك.. أخذ الحاكم لذلك من ماله. وإن كان معسرا، فإن أنفق المرتهن بغير إذنه.. كان متطوعا. وإن أنفق بإذن الراهن ليرجع به عليه.. رجع به عليه إذا أيسر. وإن أنفق بإذنه ليكون دينا عليه، ويكون الرهن رهنا به وبالدين.. ففيه طريقان، كالعبد إذا جنى وفداه المرتهن بإذن الراهن ليكون دينا عليه، ويكون العبد مرهونا به وبالدين. وإن كان الراهن غائبا.. رفع الأمر إلى الحاكم، فإن كان للراهن مال.. أنفق عليه من ماله، وإن لم يكن له مال، فإن أنفق المرتهن بإذن الحاكم.. رجع به على الراهن، وإن أنفق عليه بغير إذن الحاكم مع القدرة عليه.. كان متطوعا، ولم يرجع. وإن لم يقدر على إذن الحاكم، فأنفق.. فهل يرجع بما أنفق؟ فيه وجهان، كما نقول في الجمال إذا هرب وأنفق المكتري. فإن جني على الرهن، واحتاج إلى مداواة.. كانت المداواة على الراهن، وكذلك إن أبق.. فأجرة من يرده على الراهن. وقال أبو حنيفة: (إن كانت قيمة الرهن كقدر الدين.. فالمداواة على المرتهن، وإن كانت قيمة الرهن أكثر من الدين.. فأجرة المداواة على الراهن والمرتهن بالقسط على المرتهن بقدر حقه، والزيادة على الراهن) . وكذا قال في أجرة من يرده: (تكون بقدر الأمانة على الراهن، وبقدر الضمان على المرتهن) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه، له غنمه، وعليه غرمه» . وهذا من غرمه، ولأنه من مؤنة الرهن، فكان على المالك، كالنفقة، والكسوة. وإن مرض الرهن واحتاج إلى دواء.. فإن الراهن لا يجبر عليه؛ لأنه لا يتحقق أنه سبب لبقائه، وقد يبرأ بغير علاج، بخلاف النفقة عليه؛ لأنه لا يبقى من غير نفقة. [مسألة: جناية العبد المرهون] وإن جنى العبد المرهون.. لم يخل: إما أن يجني على أجنبي، أو على سيده، أو على من يرثه سيده، أو على عبد سيده.

فإن جنى على أجنبي أو أتلف له مالا.. تعلق حق الجناية وغرم المال في رقبته، وكان مقدما على حق المرتهن؛ لأن حق المجني عليه يقدم على حق المالك، فلأن يقدم على حق المرتهن أولى، ولأن أرش الجناية تعلق برقبة العبد بغير اختيار المجني عليه، وحق المرتهن تعلق برقبة العبد باختيار المرتهن، والحق المتعلق بغير اختيار من له الحق آكد من الحق الذي يثبت له اختياره، كالميراث، والبيع، ألا ترى أن ما ملكه بالميراث.. ملكه بغير اختياره؟ فلذلك لم يلحقه الفسخ، وما ملكه بالبيع.. ملكه باختياره؟ فلذلك يلحقه الفسخ. إذا ثبت هذا: فإن كانت الجناية عمدا على النفس، فاقتص منه الولي.. بطل الرهن. وإن كانت عمدا فيما دون النفس، واقتص منه المجني عليه.. بقي الرهن في الباقي. وإن كانت الجناية خطأ، أو عمد خطأ، أو عمدا، وعفا المجني عليه على مال، فإن لم يختر السيد أن يفديه.. بيع العبد في الجناية إن كان الأرش يستغرق قيمته، وإن كان الأرش لا يستغرق قيمته.. بيع منه بقدر أرش الجناية، وكان الباقي منه رهنا. إلا أن يتعذر بيع بعضه فيباع جميعه، ويكون ما بقي من الثمن عن قدر الأرش رهنا، وإن فداه السيد أو أجنبي، أو أبرأه المجني عليه من حقه.. كان العبد رهنا؛ لأن الجناية لم تبطل الرهن، وإنما قدم الأرش على حق المرتهن، فإذا سقط حق المجني عليه.. بقي الرهن كما كان، كما قلنا في حق المرتهن والمالك. وإن فداه المرتهن بغير إذن الراهن.. لم يرجع عليه بما فداه به. وإن فداه بإذنه ليرجع به عليه.. رجع به عليه. وإن فداه بإذنه، ولم يشترط الرجوع.. فهل يرجع به عليه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في الجراح. وإن فداه على أن يرجع بما فداه به، ويكون العبد رهنا به وبالدين الأول، ورضي السيد بذلك.. رجع على السيد بما فداه به، وهل يكون العبد رهنا بما فداه به؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا جنى العبد المرهون.. كان ضمان الجناية على المرتهن، فإن فداه..كان العبد مرهونا كما لو كان، ولا يرجع بالفداء. وإن بيع في الجناية، أو فداه السيد.. سقط دين المرتهن إن كان قدر الفداء أو دونه) . وبنى هذا على أصله: أن الرهن مضمون على المرتهن، فتكون جنايته مضمونة عليه،

كالغصب. والكلام معه في ذلك يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وإن جنى العبد المرهون على سيده: فإن كانت على ما دون النفس.. نظرت: فإن كانت الجناية عمدا.. فللسيد أن يقتص منه بها إن كانت مما يثبت بها القصاص؛ لأن القصاص جعل للزجر، والعبد أحق بالزجر عن سيده. ولا يلزم قطع العبد بسرقة مال سيده؛ لأن القطع إنما يجب بسرقة مال لا شبهة له فيه، وللعبد شبهة في مال سيده. فإن أراد السيد أن يعفو عنه على مال.. فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى: (أنه لا يثبت له المال) . وقال أبو العباس: يثبت له المال، ويستفيد به ببيعه في أرش الجناية وإخراجه من الرهن؛ لأن كل من ثبت له القصاص على شخص.. ثبت له العفو عنه على مال، كغير السيد. ووجه المذهب: أن السيد لا يثبت له على عبده مال ابتداء. ولهذا لو أتلف له مالا.. لم يثبت له في ذمته بدله. ودليل أبي العباس يبطل بعبده الذي ليس بمرهون. وإن جنى على سيده خطأ فيما دون النفس.. كانت هدرا على مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعلى قول أبي العباس يتعلق الأرش برقبته. وإن جنى العبد المرهون على من يرثه سيده: إما على أبيه، أو ابنه، أو مكاتبه.. نظرت: فإن كانت الجناية عمدا فيما دون النفس.. فللمجني عليه أن يقتص منه. وإن كانت خطأ، أو عمدا وعفا المجني عليه على مال.. ثبت المال للمجني عليه؛ لأنه أجنبي منه. وإن مات المجني عليه قبل القصاص، والجناية عمدا، وكانت الجناية على النفس، وكان وارثه هو السيد، أو عجز المكاتب.. فللسيد أن يقتص منه أيضا. وإن كانت الجناية خطأ أو عمدا وأراد السيد العفو عنه على مال.. فقد قال الشيخ أبو حامد: يثبت له المال على عبده، كما كان يثبت لموروثه؛ لأن الاستدامة أقوى من

الابتداء، فجاز أن يثبت له على ملكه المال في الاستدامة دون الابتداء. وقال القفال: يبنى على وقت وجوب الدية، وفيها قولان: أحدهما: تجب بعد موت المقتول في ملك الورثة؛ لأنها بدل نفسه، فلا تجب في حياته. فعلى هذا: لا يثبت للسيد المال، كما لو أتلف له مالا. والثاني: تجب في آخر جزء من أجزاء حياة المقتول، ثم تنتقل إلى ورثته؛ لأنه يقضى منها دينه، وينفذ منها وصاياه. فعلى هذا: هل يثبت للسيد المال؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين فيمن جنى عليه عبد غيره، ثم ملكه المجني عليه.. فهل يستدام عليه وجوب الأرش؟ فيه وجهان. وإن قتل العبد المرهون سيده عمدا.. فلوارثه أن يقتص منه، كما كان للسيد أن يقتص منه. فإن أراد الوارث أن يعفو عنه على مال، أو كانت الجناية خطأ.. فهل يثبت لهم المال؟ ذكر الشيخان، أبو حامد، وأبو إسحاق: أنها على قولين: أحدهما: لا يثبت للوارث المال؛ لأن الوارث قائم مقام السيد، فلما لم يثبت للسيد المال في هذه الجناية.. لم يثبت لمن يقوم مقامه. والثاني: يثبت للوارث المال؛ لأنه يأخذ المال عن جناية حصلت في غير ملكه، فصار كما لو جنى على من يرثه السيد. وقال أبو علي بن أبي هريرة: هذان القولان مبنيان على وقت وجوب الدية: فإن قلنا: إنها وجبت في آخر جزء من أجزاء حياة المقتول.. لم تثبت الدية للوارث؛ لأنها وجبت لسيده. وإن قلنا: إنها وجبت بعد موته في ملك الورثة.. ثبتت الدية للوارث؛ لأنها تثبت لغير مولاه بالجناية. وهذه طريقة القفال. قال ابن الصباغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأنها إذا وجبت بعد موت السيد، فقد وجبت لهم على ملكهم، بل القولان أصل بأنفسهما غير مبنيين على غيرهما.

أصحهما: أنه لا يثبت المال للوارث. وإن جنى العبد المرهون على عبد لسيده: فإن كان العبد المجني عليه غير مرهون.. فهو كما لو جنى على سيده، فإن كانت الجناية عمدا.. فللسيد أن يقتص منه، إلا أن يكون المقتول ابن القاتل، فلا يقتص منه بابنه. وإن كانت الجناية خطأ، أو عمدا وأراد السيد العفو عنه على مال.. لم يثبت له المال على قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويثبت له على قول أبي العباس. وإن كان العبد المقتول مرهونا.. نظرت: فإن كان مرهونا عند مرتهن آخر، فإن كانت الجناية عمدا.. فللسيد أن يقتص من القاتل، إلا أن يكون المقتول ابن القاتل، فلا قصاص له، إذا اقتص السيد.. بطل الرهنان. وإن كانت الجناية خطأ، أو عمدا وعفا السيد على مال.. ثبت المال لأجل المرتهن الذي عبده المقتول، لا لأجل السيد؛ لأن السيد لو قتل هذا العبد.. لثبت عليه المال، فإذا قتله عبده.. كان أولى أن يثبت عليه المال. وإن عفا السيد عنه عن جناية العمد على غير مال، أو مطلقا.. فإن قلنا: إن موجب قتل العمد القود لا غير.. لم يثبت له المال. وإن قلنا: إن موجبه القود، أو الدية.. ثبتت قيمة العبد المقتول في رقبة القاتل؛ لأن العفو عنها إبراء، ولا يصح إبراء السيد منها؛ لأجل حق المرتهن للمقتول. فإذا تعلقت قيمة المقتول في رقبة القاتل، فإن كانت قيمة القاتل أكثر من قيمة المقتول.. بيع من القاتل بقدر قيمة المقتول، وجعل ذلك رهنا عند مرتهن المقتول، وكان الباقي من رقبة القاتل رهنا عند مرتهنه، وإن لم يمكن بيع بعضه.. بيع جميعه، وكان قدر قيمة المقتول من ثمن القاتل رهنا عند مرتهن المقتول، وما زاد على ذلك مرهونا عند مرتهن القاتل. وإن كانت قيمة القاتل مثل قيمة المقتول، أو أقل.. ففيه وجهان: أحدهما: ينقل القاتل إلى يد مرتهن المقتول رهنا، وينفك من رهن مرتهنه؛ لأنه لا فائدة في بيعه.

والثاني: يباع؛ لأنه ربما رغب فيه راغب، فاشتراه بأكثر من قدر قيمة المقتول، فتكون الزيادة على قدر قيمة المقتول رهنا عند مرتهن القاتل. وإن كان العبدان القاتل والمقتول مرهونين عند رجل واحد، فإن كانت الجناية عمدا. فللمولى أن يقتص منه، فإن اقتص.. بطل الرهنان. وإن كانت خطأ، أو عمدا وعفا عنه على مال.. نظرت: فإن رهنا بحق واحد.. كانت الجناية هدرا؛ لأن جميع الدين متعلق برقبة كل واحد منهما، فإذا قتل أحدهما.. بقي الحق متعلقا بالآخر. وإن كان كل واحد منهما مرهونا بحق منفرد.. نظرت: فإن كان أحدهما مرهونا بحق معجل، والآخر مرهونا بحق مؤجل.. بيع القاتل بكل حال؛ لأنه إن كان دين المقتول معجلا.. بيع القاتل ليستوفي دينه المعجل، وما بقي منه.. كان رهنا بدينه المؤجل. وإن كان دين القاتل معجلا.. يبع ليستوفي منه المعجل، وما بقي.. كان مرهونا بدين المقتول. وإن اتفق الدينان بالحلول والتأجيل.. ففيه ثلاث مسائل: إحداهن: أن تكون قيمتهما سواء، والحقان سواء، مثل: أن يكون قيمة كل واحد منهما مائة، وكل واحد منهما مرهونا بمثل ما رهن به الآخر، أو من جنس قيمته، مثل قيمة ما رهن به الآخر، فإن الجناية هاهنا هدر؛ لأنه لا فائدة في بيعه ولا في نقله. قال أبو إسحاق: إلا أن يكون الدين الذي رهن به المقتول أصح وأثبت من دين القاتل، مثل: أن يكون دين المقتول مستقرا، ودين القاتل عوض شيء يرد بعيب، أو صداقا قبل الدخول.. ففيه وجهان: أحدهما: ينقل إليه؛ لأن في نقله غرضا للمرتهن. والثاني: لا ينقل؛ لأنهما سواء في الحال.

فرع: إقرار العبد المرهون جائز

فإذا قلنا: ينقل.. فهل يباع وينقل ثمنه، أو ينقل العبد من غير بيع؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. المسألة الثانية: أن يختلف الحقان، وتتفق القيمتان، بأن كانت قيمة كل واحد منهما مائة، وأحدهما مرهون بمائتين، والآخر مرهون بمائة، فإن كان ما رهن به القاتل أكثر.. لم ينقل؛ لأنه لا فائدة في نقله، وإن كان ما رهن به المقتول أكثر.. نقل؛ لأن في نقله فائدة، وهو: أن يصير مرهونا بأكثر مما هو مرهون به، وهل يباع وينقل ثمنه، أو ينقل من غير بيع؟ على الوجهين. المسألة الثالثة: أن يتفق الحقان، وتختلف القيمتان، بأن يكون كل واحد منهما مرهونا بمائة، وقيمة أحدهما مائة، وقيمة الآخر مائتان، فإن كانت قيمة المقتول أكثر.. لم ينقل القاتل؛ لأنه مرهون بمائة، وإذا نقل كان مرهونا بمائة، فلا فائدة في ذلك. وإن كانت قيمة القاتل أكثر.. بيع منه بقدر قيمة المقتول؛ ليكون رهنا بدين المقتول، ويبقى نصفه رهنا بدينه. قال ابن الصباغ: وإن اتفقا على تبقيته ونقل الدين إليه.. صار مرهونا بالدينين معا. [فرع: إقرار العبد المرهون جائز] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإقرار العبد المرهون فيما فيه قصاص جائز، كالبينة، وما ليس فيه قصاص.. فباطل) . وهذا كما قال: إذا أقر العبد على نفسه بجناية عمد توجب القصاص.. قبل إقراره مرهونا كان أو غير مرهون؛ لأنه لا يتهم في ذلك، ويكون المجني عليه بالخيار: بين أن يقتص منه، وبين أن يعفو على مال، فيكون كما لو قامت عليه البينة على ما مضى. وإن أقر المولى عليه بذلك.. لم يصح إقراره؛ لأنه يقبل فيه إقرار العبد، فلم يقبل فيه إقرار السيد، كإقراره عليه بالزنا. وإن أقر العبد بجناية الخطأ، أو بإتلاف المال.. لم يقبل في حق السيد؛ لأنه متهم

مسألة: أمر السيد عبده المرهون بجناية

في ذلك، وليكون الغرم متعلقا بذمته، فإن أعتق وأيسر.. طولب به؛ لأنا إنما منعنا من قبول إقراره في حق السيد، وقد زال حق السيد، فثبت إقراره، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وما ليس فيه قصاص.. فباطل) ، يعني: في حق سيده. وإن أقر المولى عليه بجناية الخطأ، أو بإتلاف المال.. صح إقراراه؛ لأنه لما لم يصح إقرار العبد به.. صح إقرار المولى به، كجناية العمد، لما لم يقبل فيه إقرار السيد.. صح فيه إقرار العبد، ولأنه لا تهمة على السيد في ذلك. [مسألة: أمر السيد عبده المرهون بجناية] وإن أمر السيد عبده بالجناية على غيره، فجنى عليه، فإن كان العبد بالغا عاقلا، أو مراهقا مميزا يعلم أن طاعة المولى لا تجوز في المحرمات.. نظرت: فإن لم يكرهه السيد على القتل.. فحكمه حكم ما لو جنى بغير أمره، إلا القصاص، فإنه لا يجب على من لم يبلغ، ولا يلحق السيد بذلك إلا الإثم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعان على قتل امرئ مسلم، ولو بشطر كلمة.. جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله» . وإن أكرهه المولى على القتل.. وجب على السيد القود إن كانت الجناية عمدا، والمجني عليه ممن يستحق القود على المولى، أو الدية إن عفا عنه، كما لو جنى

السيد عليه بيده، وهل يجب القود على العبد إن كان بالغا عاقلا؟ فيه قولان. فإن قلنا: يجب عليه القود.. كان الولي بالخيار: بين أن يقتلهما، وبين أن يقتل السيد، ويستحق نصف الدية في رقبة العبد، أو يقتل العبد، ويستحق في ذمة السيد نصف الدية، وبين أن يعفو عنهما على مال، فيستحق في ذمة السيد نصف الدية، وفي رقبة العبد نصفها. وإن قلنا: لا يجب القود على العبد.. تعلق برقبته نصف دية المقتول، ثم الولي بالخيار: بين أن يقتل السيد، وبين أن يعفو عنه على مال، ويستحق في ذمته نصف الدية. وإن كان العبد صغيرا غير مميز، أو أعجميا غير عارف بأحكام المسلمين، يعتقد أن طاقة المولى تجوز في المحرمات.. فإن الجاني هو السيد؛ لأن العبد كالآلة له، فإن كان السيد موسرا.. أخذ منه الأرش، وإن كان معسرا.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن كان العبد صبيا، أو أعجميا، فبيع في الجناية.. كلف السيد أن يأتي بمثل قيمته تكون رهنا مكانه) . واختلف أصحابنا في هذا: فمنهم من قال: أراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بذلك: إن كانت الجناية توجب المال، وكان السيد معسرا.. فإن العبد يباع في الجناية، ثم إذا أيسر السيد.. أخذت منه قيمة العبد، وجعلت رهنا مكانه؛ لأن السيد وإن كان هو الجاني، إلا أن العبد هو الذي باشر الجناية، فبيع فيها عند تعذر أخذ الأرش من السيد. ومنهم من قال: لا يباع العبد، وهو المذهب؛ لأن الجاني هو السيد، والعبد آلة له، فلم يبع فيها، كما لو رهن سيفا، فقتل به إنسانا.. [لما] وجب بيعه؛ لأنه باشر الجناية ليبع فيها وإن كان السيد موسرا. وأما ما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فله تأويلان: أحدهما: أن تكون البينة قد شهدت على العبد أنه جنى، فقال السيد: أنا أمرته

مسألة: الجناية على القن المرهون

بذلك، فأنكر المجني عليه الأمر، فإن قول السيد لا يقبل في حق المجني عليه، ويباع العبد في الجناية، ويقبل إقرار السيد في حق المرتهن، فيجب عليه القيمة. والثاني: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (فبيع في الجناية) . وليس هذا أمرا منه بالبيع له، وإنما أراد: إذا باعه الحاكم باجتهاده؛ لأن ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد. [مسألة: الجناية على القن المرهون] وإن جني على العبد المرهون.. فالخصم في ذلك الراهن؛ لأنه هو المالك للرقبة، وإنما للمرتهن حق الوثيقة، فإن أراد المرتهن حضور الخصومة.. كان له ذلك؛ لأنه حقه، يتعلق فيما يقضى به على الجاني. إذا ثبت هذا: فادعى الراهن على رجل أنه قتل عبده المرهون، فأنكر، ولا بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل عن اليمين.. حلف الراهن؛ لأنه هو المالك، فإن نكل الراهن.. فهل ترد اليمين على المرتهن؟ فيه قولان، بناء على القولين في المفلس إذا نكل عن اليمين، فهل ترد على الغرماء؟ وفيه قولان: أحدهما: لا ترد اليمين على المرتهن؛ لأنه غير المدعي. والثاني: ترد؛ لأن حقه يتعلق فيما يقضى به على الجاني. وسواء كانت الجناية عمدا أو خطأ.. فإن المرتهن يحلف على أحد القولين؛ لأن العمد قد سقط إلى المال. وإن أقر الجاني، أو قامت عليه البينة، أو حلف الراهن، أو المرتهن في أحد القولين.. نظرت: فإن كانت الجناية توجب القود.. فللمولى أن يقتص، وله أن يعفو على المال، فإن اقتص.. بطل الرهن، وليس للمرتهن مطالبة المولى بالعفو على المال؛ لأن

القصاص حق له. فإن عفا على مال تعلق حق المرتهن به؛ لأنه بدل عن الرقبة. وإن عفا مطلقا، أو عفا على غير مال، فإن قلنا: إن موجب العمد القود لا غير، وإنما يثبت المال بالشرط في العفو.. صح عفوه، والثمن للمرتهن. وإن قلنا: إن موجب العمد أحد الأمرين.. ثبت المال على الجاني، وتعلق به حق المرتهن. وإن قال الراهن: لا أقتص ولا أعفو.. فهل للمرتهن أن يطالب بإجباره على أحدهما؟ فيه طريقان: [أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: للمرتهن أن يطالب بإجباره على أحدهما؛ لأن له حقا في المال. و [الثاني] : قال أبو القاسم الداركي: فيه قولان: [أحدهما] : إن قلنا: إن الواجب بقتل العمد القود لا غير.. لم يكن للمرتهن مطالبته بإجباره؛ لأنه إذا ملك إسقاطه.. فلأن يملك تأخيره أولى. و [الثاني] : إن قلنا: إن الواجب بقتل العمد أحد الأمرين.. كان له المطالبة بإجباره على أحدهما؛ لأن له حقا في أحدهما، فأجبر على تعيينهما. فإن عفا الراهن على مال، أو كانت الجناية خطأ، أو كان الجاني عليه ممن لا يقتص منه له، كالحر.. ثبت المال. وإن أسقط المرتهن حقه من الوثيقة.. سقط، كما يسقط حقه بإسقاطه مع بقاء الرهن. وإن أبرأ المرتهن الجاني من الأرش.. لم يصح إبراؤه؛ لأنه لا يملك ما أبرأه عنه، وهل يبطل حقه من الوثيقة لهذا الإبراء؟ فيه وجهان، حكاهما في " المهذب ": أحدهما: يبطل؛ لأن ذلك يتضمن إسقاط حقه من الوثيقة. والثاني: لا يبطل؛ لأن إبراءه لم يصح، فلم يصح ما تضمنه الإبراء. وإن أبرأ الراهن الجاني من الأرش.. لم يصح إبراؤه لتعلق حق المرتهن به. فإن قضى الدين من غير الرهن، أو أبرأه المرتهن من الدين، أو أسقط حقه من

فرع: رهن جارية حاملة

الوثيقة.. فهل يحكم بصحة إبراء الراهن من الأرش؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحكم بصحته؛ لأنه وقع باطلا، فلا تتعقبه الصحة. والثاني: يحكم بصحته؛ لأن المنع من صحته لحق المرتهن، وقد زال حق المرتهن، فحكم بصحته. وليس بشيء. فإن أراد الراهن أن يصالح الجاني عن الأرش بعوض بغير رضا المرتهن.. لم يصح الصلح؛ لتعلق حق المرتهن بالأرش، فإن أذن المرتهن بالصلح على حيوان.. صح الصلح، ويكون الحيوان رهنا، فإن كان له ظهر أو لبن أو نماء.. كان ذلك للراهن، كأصل الرهن. [فرع: رهن جارية حاملة] وإن كان الرهن جارية حاملا، فضربها ضارب، فأسقطت جنينا ميتا.. وجب على الضارب عشر قيمة الأم، ويكون خارجا من الرهن؛ لأنه بدل عن الولد، والولد خارج من الرهن. وإن نقصت قيمة الجارية بالولادة.. لم يجب لأجل النقص شيء؛ لأنه يدخل في بدل الجنين. وإن حصل بها أثر من الضرب نقصت به قيمتها.. وجب على الضارب أرش ذلك، ويكون رهنا. وإن كان الرهن بهيمة، فضربها ضارب، فأسقطت جنينا ميتا.. وجب عليه ما نقص من قيمة الأم بذلك؛ لأن الجنين إنما يضمن ببدل مقدر من الآدميات، ويكون ذلك رهنا؛ لأنه بدل عن جزء من الأم. وإن أسقطت البهيمة بالضرب جنينا حيا، ثم مات.. ففيه قولان: أحدهما: تجب قيمة الولد حيا؛ لأنه يمكن تقويمه، ولا يكون رهنا؛ لأن الولد غير داخل في الرهن، فكذلك بدله. والثاني: يجب أكثر الأمرين من قيمة الولد، أو ما نقص من قيمة الأم بالإسقاط؛ لأنه وجد سبب ضمان كل واحد منهما، ولم يجتمعا؛ لأن النقصان كان سببه انفصال

مسألة: الجناية على الرهن

الولد الذي تعلق به ضمانه، فسقط أحدهما عند ثبوت الآخر؛ لأنه لا يتميز كل واحد منهما عن الآخر، ويتعذر معرفته، فإن كانت قيمة الولد أكثر.. كان خارجا من الرهن، وإن كان ما نقص من قيمة الأم أكثر.. كان رهنا. [مسألة: الجناية على الرهن] فإن جنى على الرهن، ولم يعرف الجاني، فجاء رجل، فقال: أنا قتلته، فإن كذبه الراهن والمرتهن.. لم يكن لهما مطالبته بشيء؛ لأنه يعترف لمن كذبه. وإن صدقاه.. كان كما لو قامت عليه البينة في جميع ما ذكرناه، إلا إذا كانت الجناية خطأ.. فإن العاقلة لا تحملها، قولا واحدا؛ لأن العاقلة لا تحمل ما يثبت باعتراف الجاني. وإن صدقه الراهن، وكذبه المرتهن.. سقط حق المرتهن مما يجب على المقر، فيأخذ الراهن القيمة من المقر، ولا يكون رهنا؛ لأن المرتهن أسقط حقه عنها بتكذيبه. وإن صدقه المرتهن دون الراهن.. تعلق حق المرتهن بالأرش، فإذا حل الحق، ولم يقضه الراهن. استوفى حقه من القيمة. وإن قضاه الراهن، أو أبرأ المرتهن الراهن من الدين أو الوثيقة.. ردت القيمة إلى المقر؛ لأن الراهن أسقط حقه منها بتكذيبه. [مسألة: جواز رهن العصير] إذا رهنه عصيرا.. صح رهنه؛ لأنه يتمول في العادة، فجاز رهنه، كالثياب، ولأن أكثر ما فيه أنه يخشى تلفه، بأن يصير خمرا، وينفسخ الرهن فيه، وذلك لا يمنع صحة الرهن به، كالحيوان يجوز رهنه وإن جاز أن يموت. فإذا رهنه عصيرا، فاستحال خلا، أو ما لا يسكر كثيره.. فالرهن فيه بحاله؛ لأنه تغير إلى حالة لا تخرجه عن كونه مالا، فلم تخرجه من الرهن، كما لو رهنه عبدا شابا، فصار شيخا. وإن استحال خمرا.. زال ملك الراهن عنه، وبطل الرهن فيه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: (لا يزول ملك الراهن عنه، ولا يبطل الرهن به) ؛ لأنه يجوز أن يصير له قيمة.

دليلنا: أن كونه خمرا يمنع صحة التصرف فيه، والضمان على متلفه، فبطل به الملك والرهن، كموت الشاة. إذا ثبت هذا: فإنه يجب إراقته، فإن أتلف.. فلا كلام، ولا خيار للمرتهن في البيع إن كان شرط رهنه فيه إذا كان انقلابه بيده؛ لأن التلف حصل بيده. وإن استحال الخمر خلا بنفسه من غير معالجة.. عاد الملك فيه للراهن بلا خلاف، وعاد الرهن فيه للمرتهن؛ لأنا إنما حكمنا بزوال ملك الراهن عنه، وبطلان الرهن بحدوث الشدة المطربة، وقد زالت تلك الشدة من غير نجاسة خلفتها، فوجب أن يعود إلى الملك السابق كما كان. فإن قيل: أليس العقد إذا بطل.. لم يصح حتى يبتدأ، والرهن قد بطل، فكيف عاد من غير تجديد عقد؟ فالجواب: أنا إنما نقول ذلك، إذا وقع العقد فاسدا، فأما إذا وقع العقد صحيحا، ثم طرأ عليه أمر أخرجه عن حكم العقد، فإنه إذا زال ذلك المعنى.. عاد العقد صحيحا، كما نقول في زوجة الكافر إذا أسلمت، فإن وطأها يحرم عليه، فإذا أسلم الزوج قبل انقضاء العدة.. عاد العقد كما كان، وكذلك إذا ارتد الزوجان أو أحدهما. فإن استحال الخمر خلا بصنعة آدمي.. لم يطهر بذلك، بل تزول الخمرية عنه، ويكون خلا نجسا لا يحل شربه، ولا يعود ملك الراهن فيه، ولا الرهن. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يكون طاهرا يحل شربه، والرهن فيه بحاله) . دليلنا: ما «روى أبو طلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزل تحريم الخمر.. قلت: يا رسول الله، إن عندي خمرا لأيتام ورثوه، فقال: "أرقه"، قلت: أفلا أخلله؟ قال: "لا» . فنهاه عن التخليل. وظاهر هذا يقتضي التحريم. فإن كان مع رجل خمر فأراقه، فأخذه آخر، فصار في يده خلا، أو وهبه لغيره، فصار في يد الموهوب له خلا.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: يكون لمن أراقه؛ لأنه يعود إلى الملك

فرع: رهنه عصيرا فاستحال قبل قبضه خمرا

السابق، والملك للمريق، فهو كما لو غصب من رجل خمرا، فصار في يده خلا. والثاني: يكون ملكا لمن هو بيده؛ لأنه إذا أراقه صاحبه، فقد رفع يده عنه، فإذا جمعه الآخر.. صارت له يد عليه. والأول أصح. [فرع: رهنه عصيرا فاستحال قبل قبضه خمرا] قال ابن الصباغ: إذا رهنه عصيرا، فصار في يد الراهن قبل القبض خمرا.. بطل الرهن فإن عاد خلا.. لم يعد الرهن، ويخالف إذا كان بعد القبض؛ لأن الرهن قد لزم، وقد صار مانعا للملك. وكذلك: إذا اشترى عصيرا، فصار خمرا في يد البائع، وعاد خلا.. فسد العقد، ولم يعد لملك المشتري بعوده خلا. والفرق بينه وبين الرهن: أن الرهن عاد تبعا لملك الراهن، وهاهنا يعود ملك البائع لعدم العقد. [فرع: رهن الشاة فماتت] وإن رهن عند رجل شاة، وأقبضه إياها، فماتت.. زال ملك الراهن، وبطل الرهن فيها؛ لأنها خرجت عن أن تكون مالا، فإن أخذ الراهن جلدها، فدبغه.. عاد ملكه على الجلد بلا خلاف، وهل يعود رهنا؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال ابن خيران: يعود رهنا، كالخمر إذا تخللت. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا يعود رهنا؛ لأن الملك إنما عاد بمعالجة ومعنى أحدثه، بخلاف الخمر. وسئل أبو إسحاق عن رجل ماتت له شاة، فجاء آخر، فأخذ جلدها، فدبغه؟ فقال: إن لم يطرحها مالكها.. فالجلد لمالك الشاة دون الدابغ؛ لأن الملك وإن عاد بمعنى أحدثه الدابغ، إلا أن يد المالك كانت مقرة على الجلد، وجوز له استصلاحه، فإذا غصبه غاصب، ودبغه.. لم تنقل يد المالك، كما لو كان

مسألة: تلف الرهن بيد المرتهن

له جرو كلب يريد تعليمه الصيد، فغصبه إنسان، وعلمه.. فإن المغصوب منه أحق به؛ لأن يده كانت مقرة عليه. قال: فأما إذا طرح صاحب الشاة شاته على المزبلة، فأخذ رجل جلدها ودبغه.. ملكه؛ لأن المالك قد أزال يده عنها. قيل له: أليس من تحجر مواتا كان أحق بإحيائها من غيره، ثم جاء آخر، فأحياها..ملكها؟ فقال: الفرق بينهما: أن من تحجر على شيء من الموات.. فقد صار أولى به، بمعنى أثره فيه، وهو التحجر، ويده ضعيفة لا تستند إلى ملك، فإذا وجد سبب الملك، وهو الإحياء. بطلت يده. وليس كذلك من ماتت له شاة؛ لأن يده مقرة عليها بالملك. [مسألة: تلف الرهن بيد المرتهن] إذا قبض المرتهن الرهن، فهلك في يده من غير تفريط.. لم يلزمه ضمانه، ولا يسقط من دينه شيء، وبه قال الأوزاعي، وعطاء، وأحمد، وأبو عبيد رحمة الله عليهم، وهم أحد الروايتين عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وذهب الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إلى: (أن الرهن مضمون على المرتهن بأقل الأمرين من قيمته، أو قدر الدين، فإذا هلك، فإن كان الدين مائة، وقيمة الرهن تسعين.. ضمنه بتسعين، وبقي له من دينه عشرة. وإن كان الدين تسعين، وقيمة الرهن مائة، فهلك الرهن.. سقط جميع دينه، ولا يرجع الراهن عليه بشيء، وإن تساويا.. سقط الدين) . وروي ذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

وذهب إسحاق بن راهويه إلى: أن الرهن مضمون على المرتهن بكمال قيمته، ثم يتردان. وهي الرواية الثانية عن أمير المؤمنين علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه. وذهب الشعبي والحسن البصري رحمة الله عليهما إلى: أن الرهن إذا هلك في يد المرتهن.. سقط جميع دينه، سواء كانت قيمته أكثر من قدر الدين، أو أقل، أو كانا متساويين. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن هلك الرهن هلاكا ظاهرا، مثل: أن كان عبدا فمات، أو دارا فانهدمت. فهو غير مضمون على المرتهن. وإن هلك هلاكا خفيا، مثل: أن يدعي المرتهن أنه هلك.. فهو مضمون عليه) . كما قال إسحاق بن راهويه. دليلنا: ما روى سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يغلق الرهن من راهنه الذي رهنه، له غنمه، وعليه غرمه» . فلنا من الخبر ثلاثة أدلة:

أحدها: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» وله ثلاث تأويلات: أحدها: لا يكون للمرتهن بحقه إذا حل الحق، بل إذا قضاه من غيره.. انفك. التأويل الثاني: أن لا يسقط الحق بتلفه. التأويل الثالث: أي لا ينغلق حتى لا يكون للراهن فكه عن الرهن، بل له فكه، بأن يقضي الدين. فإن قيل: فهذا حجة عليكم؛ لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» ، أي: لا يهلك بغير عوض، قال الشاعر، وهو زهير: وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا يعني: ارتهن قلبه الحب يوم الوداع، فأمسى وقد غلق الرهن، أي: قد هلك بغير عوض. قلنا: هذا غلط؛ لأن القلب لا يهلك، وإنما معناه: أن القلب صار رهنا بحبها، وقد انغلق انغلاقا لا ينفك.

فرع: الرهن أمانة عند المرتهن

الدلالة الثانية من الخبر: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه» ، يعني: من ضمانه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وهذه أبلغ كلمة للعرب في أنهم إذا قالوا: هذا الشيء من فلان.. يريدون من ضمانه) . الدلالة الثالثة من الخبر: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «له غنمه، وعليه غرمه» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وغرمه: هلاكا وعطبه) ، ولأنه مقبوض عن عقد لو كان فاسدا.. لم يضمن، فوجب إذا كان صحيحا، ألا يضمن. أصله الوديعة، ومال المضاربة، والوكالة، والشركة، وعكسه المقبوض عن البيع، والقرض. [فرع: الرهن أمانة عند المرتهن] إذا سقط حق المرتهن بإبراء أو قضاء.. كان الرهن عنده أمانة؛ لأنه كان عنده أمانة ووثيقة، فإذا سقطت الوثيقة.. بقيت الأمانة. قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: ولا يلزمه رده عليه حتى يطالبه به؛ لأنه بمنزلة الوديعة، ويفارق: إذا أطارت الريح ثوبا لغيره إلى داره، أو دخلت شاة لغيره إلى داره.. فإنه يلزمه إعلامه؛ لأنه لم يرض بكونه في يده. قال ابن الصباغ: وينبغي إذا أبرأه المرتهن، ولم يعلم الراهن بذلك أن يعلمه بالبراءة، أو يرده عليه؛ لأنه لم يرض بتركه عنده، إلا على سبيل الوثيقة، ويفارق: إذا علم به؛ لأنه قد رضي بتركه في يده. [فرع: رهن مغصوبا فتلف عند المرتهن] وإذا غصب رجل من رجل عينا، فرهنها عند آخر، وأقبضها للمرتهن، فأتلفها المرتهن، أو تلفت عنده بغير تفريط، فإن كان عالما بأنها مغصوبة.. فللمغصوب منه

فرع: اشتراط أخذ الرهن عند الدفع وتركه عند عدمه

أن يرجع بقيمتها على الغاصب أو المرتهن؛ لأن كل واحد منهما يجب عليه الضمان، فإن رجع على الغاصب.. رجع الغاصب على المرتهن؛ لأنه أتلفها، أو لأنه كان عالما بغضبها، فيستقر عليه الضمان؛ لحصول التلف في يده. وإن رجع المغصوب منه على المرتهن.. لم يرجع المرتهن على الراهن؛ لأن الضمان استقر عليه. وإن كان المرتهن غير عالم بكونها مغصوبة، وتلفت عنده من غير تفريط.. فللمغصوب منه أن يرجع على الغاصب؛ لأنه أخذها من مالكها متعديا، وهل للمالك أن يرجع على المرتهن؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يرجع عليه؛ لأنه أخذها على وجه الأمانة. والثاني: يرجع عليه؛ لأنه أخذها من يد ضامنة. فإذا قلنا: يرجع على المرتهن.. فهل للمرتهن أن يرجع بما ضمنه على الراهن؟ قال أبو العباس: لا يرجع؛ لأنه تلف في يده، فاستقر الضمان عليه، وفيه وجه آخر، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره: أنه يرجع عليه؛ لأن المرتهن أمين، فلا يضمن بغير تعد، فيكون تلف الرهن من ضمان الراهن، ويرجع بالقيمة عليه؛ لأنه غره. فإن بدا المغصوب منه، فضمن الراهن.. فهل يرجع الراهن على المرتهن؟ إن قلنا بقول أبي العباس - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا ضمن المغصوب منه المرتهن أنه لا يرجع على الراهن.. رجع الراهن هاهنا على المرتهن. وإن قلنا بما ذكره الشيخ أبو حامد رحمة الله عليه، وأن المرتهن يرجع على الراهن.. لم يرجع الراهن هاهنا. [فرع: اشتراط أخذ الرهن عند الدفع وتركه عند عدمه] قال في " الأم ": (وإن رهنه على أنه إذا دفع الحق وقضاه، أخذ الرهن، وإن لم يقضه، كان له بدينه.. فالرهن والبيع فاسدان) . وهذا صحيح، أما الرهن: فبطل؛ لأنه مؤقت بمحل الدين، ومن شأنه أن يكون مطلقا. وأما البيع: فبطل؛ لأنه

متعلق بزمان مستقبل. فيكون هذا الرهن في يد المرتهن إلى أن يحل الحق غير مضمون عليه؛ لأنه مقبوض عن رهن فاسد، وحكم المقبوض في الضمان عن العقد الفاسد كالمقبوض عن العقد الصحيح، فإن تلف الرهن.. لم يضمن، وإذا حل الحق..كان مضمونا على المرتهن؛ لأنه مقبوض عن بيع فاسد، فضمنه، كالمقبوض عن بيع صحيح. فعلى هذا: إذا تلف في يده.. لزمه ضمانه، سواء فرط فيه، أو لم يفرط. فإن كان الرهن أرضا، فغرس فيها المرتهن، فإن كان غرسه قبل حلول الحق.. قلع غرسه؛ لأنه متعد بغرسه. وإن غرسه بعد حلول الحق.. فقد غرس بإذن الراهن؛ لأن البيع وإن كان فاسدا، فقد تضمن الإذن في التصرف. قال ابن الصباغ: فيكون الراهن مخيرا بين أن يقر غرسه، أو يدفع إليه قيمته، أو يجبره على قلعه ويضمن ما نقص. وبالله التوفيق

باب اختلاف المتراهنين

[باب اختلاف المتراهنين] إذا ادعى رجل على رجل أنه رهنه عينا بدين له عليه، فقال: ما رهنتكها. ولا بينة.. فالقول قول من عليه الدين مع يمينه أنه ما رهنه؛ لأن الأصل عدم الرهن. وإن اختلفا في عين الرهن، فادعى المرتهن أنه ارتهن منه هذا العبد، وقال الراهن: ما رهنتك هذا العبد، وإنما رهنتك الجارية.. حلف الراهن أنه ما رهنه العبد. وخرج العبد عن أن يكون رهنا بيمين الراهن، وخرجت الجارية عن أن تكون رهنا بإنكار المرتهن لها. وإن اختلفا في قدر الرهن، مثل: أن يقول المرتهن: رهنتني هذين العبدين بمائة، وقال الراهن: بل رهنتك أحدهما بمائة، أو اختلفا في قدر الدين المرهون به، مثل: أن يقول المرتهن: رهنتني هذا العبد بمائة لي عليك، وقال الراهن: بل رهنتكه بخمسين منها. فالقول قول الراهن مع يمينه في المسألتين، وبه قال أبو حنيفة وأحمد رحمهما الله تعالى. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (القول قول من الظاهر معه، فإن كان العبد الذي أقر الراهن برهنه في المسألة الأولى يساوي مائة أو دونها، ويرهن مثله بمائة فالقول قول الراهن. وإن كان لا يساوي مائة، ولا يرهن مثله بمائة في العادة.. فالقول قول المرتهن، وكذلك في الثانية القول قول المرتهن في قدر الدين إن كانت قيمة العبد مائة. وإن كانت قيمته أكثر من المائة.. فالقول قول الراهن مع يمينه) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» . وهذا الراهن منكر فيهما، ولأنهما لو اختلفا في أصل العقد.. لكان القول قول الراهن، فكذلك إذا اختلفا في قدر المعقود عليه.

مسألة: رهن أرضا واختلفا على وجود نخل فيها

وإن كان له عليه ألف مؤجلة، وألف معجلة، فرهنه عبدا بألف، ثم اختلفا: فقال المرتهن: رهنتنيه بالألف الحال. وقال الراهن: بل رهنتكه بالألف المؤجل.. فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها. [مسألة: رهن أرضا واختلفا على وجود نخل فيها] وإن رهنه أرضا، ووجد فيها نخلا أو شجرا، فقال المرتهن: كان هذا موجودا وقت الرهن، فهو داخل في الرهن، وقال الراهن: بل حدث بعد الرهن، فهو خارج من الرهن، فإن كان ما قاله المرتهن غير ممكن، مثل: أن يكون النخل صغارا، وقد عقد الرهن من مدة بعيدة لا يجوز أن يكون هذا النخل موجودا وقت العقد.. فالقول قول الراهن من غير يمين؛ لأنه لا يمكن صدق المرتهن. وإن كان ما قاله الراهن غير ممكن، وما قاله المرتهن ممكنا، مثل: أن يكون لعقد الرهن مدة لا يجوز أن يحدث هذا النخل بعدها، مثل: أن يكون النخيل كبارا، ومدة الرهن شهر، أو ما أشبهه.. فالقول قول المرتهن بلا يمين؛ لأن ما يقوله الراهن مستحيل غير ممكن، فلم يقبل قوله. وإن كان يمكن صدق كل واحد منهما، مثل: أن يكون هذا النخيل يمكن أن يكون موجودا حال العقد، ويمكن أن يحدث بعده.. قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فالقول قول الراهن مع يمينه) . وقال المزني: القول قول المرتهن؛ لأنه في يده. والمذهب الأول؛ لأن المرتهن قد اعترف للراهن بملك النخل، وصار يدعي عليه عقد الرهن، والراهن منكر ذلك، فكان القول قول الراهن، كما لو ادعى عليه عقد الرهن في النخل منفردا عن الأرض. وأما اليد: فلا يرجح بها في دعوى العقد، وإنما يرجح بها في دعوى الملك. فإذا حلف الراهن.. نظرت: فإن كان الرهن في القرض، أو كان متطوعا به في الثمن غير مشروط في البيع..

مسألة: اختلفا على أي عقد كان الرهن

بقي الرهن في الأرض ولا كلام. وإن كان الرهن مشروطا في عقد البيع.. فإن هذا الاختلاف يوجب التحالف، وقد حلف الراهن، وخرج النخل عن الرهن، فإن رضي المرتهن بذلك.. فلا كلام، وإن لم يرض.. حلف المرتهن: أن النخل كان داخلا في عقد الرهن، وهل ينفسخ البيع والرهن بنفس التحالف، أو بالفسخ؟ على الوجهين في التحالف. فإن قلنا: لا ينفسخ، فتطوع الراهن بتسليم النخل رهنا.. لم يكن للمرتهن فسخ البيع. [مسألة: اختلفا على أي عقد كان الرهن] وإن رهنه عبدا، فاختلفا، فقال الراهن: رهنته بمائة بعقد، ثم زادني مائة أخرى، فعقدت له الرهن بها على العبد قبل فسخ العقد الأول، وقلنا: لا يجوز ذلك، وقال المرتهن: بل ارتهنته مائة بالمائتين بعقد واحد.. ففيه وجهان: أحدهما: القول قول الراهن مع يمينه؛ لأنهما لو اختلفا في أصل العقد.. لكان القول قوله، فكذلك إذا اختلفا في صفته. والثاني: القول قول المرتهن مع يمينه؛ لأنهما اتفقا على عقد الرهن، والراهن يدعي معنى يقتضي بطلانه، والأصل عدم ما يبطله. [فرع: إقرار الراهن بعبد للمرتهن بألف] إذا قال رجل لغيره: هذا العبد الذي في يدي هو لك، رهنتنيه بألف لي عليك، فقال المقر له: هذا العبد وديعة عندك لي، وإنما رهنتك بألف عليّ لك عبدا آخر، فقتلته، وأنا أستحق عليك قيمته.. فالقول المقر له مع يمينه: أنه ما رهنه هذا العبد. أو القول قول المقر مع يمينه: أنه ما قتل له عبدا، ولا شيء له عليه من القيمة؛ لأن الأصل براءة ذمته. وأما المقر له بالعبد.. فعليه الألف؛ لأنه مقر بوجوبها.

فرع: اختلف الراهن والمرتهن على مقدار الرهن

[فرع: اختلف الراهن والمرتهن على مقدار الرهن] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (إذا قال الرجل لغيره: رهنتك عبدي هذا بألف درهم لك علي، فقال المرتهن: بل رهنتنيه وزيدا بألفي درهم، ألف درهم لي، وألف درهم لزيد، وادعى زيد ذلك.. فالقول قول الراهن: أنه ما رهن زيدا شيئا، فإذا حلف.. كان العبد رهنا عند الذي أقر له به) . قال الشيخ أبو حامد: وهذا لا يجيء على أصل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المالك أقر للمرتهن برهن جميع العبد، وهو لا يدعي إلا رهن نصفه، وإنما ادعى زيد نصفه، وقد حلف له المالك، فوجب أن لا يبقى عند المقر له إلا نصف العبد مرهونا. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فأما إذا قال لغيره: رهنتك عبدي هذا بألف درهم لك علي، فقال المرتهن: هذا الألف الذي أقررت أنه لي رهنتني به هذا العبد هو لي ولزيد.. قبل ذلك؛ لأنه إقرار في حق نفسه، فقبل، فيكون الألف بينه وبين زيد) . وقال الشيخ أبو حامد: ولم يذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حكم الرهن هاهنا، ولكن يكون العبد رهنا بالألف؛ لأن المرتهن اعترف بالألف الذي ارتهن به أنه له ولغيره، فقبل إقراره في ذلك، كما لو كان له ألف برهن، فقال: هذا الألف لزيد.. كان له الألف بالرهن، كذلك هذا مثله. [مسألة: إرسال شخص برهن] ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في باب (الرسالة) من " الأم " [3/155] أربع مسائل: الأولى: إذا دفع رجل ثوبا، وأرسله ليرهنه له عند رجل، فرهنه له، ثم اختلف الراهن والمرتهن، فقال المرتهن: أذنت له ليرهنه عندي بعشرين، وقد أعطيته العشرين، ورهنني الثوب بها. فقال المرسل: ما أمرته أن يأخذ إلا عشرة ويرهن بها، فإن صدق الرسول الراهن المرسل.. فالقول قول الرسول، فيحلف: إنه

مسألة: اختلفا في كون الرهن قرضا أو بيعا

ما رهنه إلا بعشرة، ولا يمين على المرسل؛ لأن الرسول هو الذي باشر العقد. قال ابن الصباغ: وعندي: أن المرتهن إذا ادعى على المرسل: أنه أذن له في ذلك، وقبض منه عشرين بإذنه.. أن له أن يحلفه؛ لأن المرسل لو أقر بذلك.. لزمه ما قاله، فإذا أنكره.. حلف. المسألة الثانية: إذا صدق الرسول المرتهن.. فالقول قول المرسل: أنه لم يأذن له في رهنه بعشرين، ولم يلزم المرسل إلا عشرة لا غير، ويلزم الرسول عشرة؛ لأنه أقر بقبض العشرين. قال ابن الصباغ: وعندي: أن المرتهن إذا صدق الرسول أن الراهن أذن له في ذلك.. لم يكن له الرجوع على الرسول؛ لأنه يقر أن الذي ظلمه هو المرسل. المسألة الثالثة: إذا دفع إليه ثوبا وعبدا، وأمره أن يرهن أحدهما عند رجل بشيء يأخذه له منه، فرهن الرسول العبد، ثم قال المرسل: إنما أذنت لك برهن الثوب، وأما العبد: فوديعة، وقال الرسول أو المرتهن: إنما أذنت في رهن العبد.. حلف المرسل: إنه ما أذن له برهن البعد، وخرج العبد عن الرهن بيمينه، وخرج الثوب عن الرهن؛ لأنه لم يرهن. المسألة الرابعة: إذا قال المرسل: أمرتك برهن الثوب، ونهيتك عن رهن العبد. وأقام على ذلك بينة، وأقام الرسول بينة أنه أذن له في رهن العبد. فبينة الرسول أولى؛ لأنه يحتمل أن يكون قد أذن له في رهن العبد، ثم نهاه عن رهنه، فلا يصح رهنه، ويحتمل أن يكون قد أذن له في رهن الثوب، ونهاه عن رهن العبد، ثم أذن له في رهن العبد، فيصح، وإذا احتمل هذا وهذا، فقد وجد من الرسول عقد الرهن على العبد، والظاهر أنه عقد صحيح.. فلا يحكم ببطلانه لأمر محتمل) . [مسألة: اختلفا في كون الرهن قرضا أو بيعا] إذا كان في يد رجل عبد لغيره، فقال من بيده العبد للمالك: رهنتني هذا العبد بألف هي لي عليك قرضا، وقال المالك: بل بعتكه بألف هي لي عليك ثمنا.. حلف

مسألة: اختلفا على عين أنها رهن أو إجارة

السيد: أنه ما رهنه العبد؛ لأن الأصل عدم الرهن، ويحلف من بيده العبد: أنه ما اشتراه؛ لأن الأصل عدم الشراء، ويبطل العقدان، ويسقط المالان، ويرد العبد إلى سيده. وإن قال من بيده العبد: رهنتني هذا العبد بألف أقبضتكها. وقال السيد: بل رهنتكه بألف لم أقبضها.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القبض، فإذا حلف. بطل الرهن؛ لأن الرهن إنما يكون على حق في الذمة. وإن قال من بيده العبد: بعتنيه بألف، وقال السيد: بل رهنتكه بألف.. حلف السيد: إنه ما باعه العبد، فإذا حلف.. خرج العبد من يد من هو بيده؛ لأن البيع زال بيمين السيد، وبطل الرهن؛ لأن المالك يقر له به، والمرتهن ينكره، ومتى أنكر المرتهن الرهن.. زال الرهن. قال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب "، والمحاملي في " المجموع ": فإن قال السيد: رهنتكه بألف قبضتها منك قرضا، وقال الذي بيده العبد: بل بعتنيه بألف قبضتها مني ثمنا.. حلف كل واحد منهما على نفي ما ادعي عليه؛ لأن الأصل عدم العقد. وعلى السيد الألف؛ لأنه مقر بوجوبها. قلت: والذي يقتضي القياس عندي: أنه لا يمين على الذي بيده العبد؛ لأنه ما ارتهن العبد؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها. [مسألة: اختلفا على عين أنها رهن أو إجارة] وإن رهنه عينا فوجدت في يد المرتهن، فقال المرتهن للراهن: قبضتها بإذنك رهنا. وقال الراهن: لم آذن لك في قبضها، وإنما غصبتنيها، أو أجرتها منك، فقبضتها عن الإجارة. فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن. وإن اتفقا على الرهن والإذن والقبض، ولكن قال الراهن: رجعت في الإذن قبل أن تقبض، وقال المرتهن: لم ترجع، ولم تقم بينة على الرجوع.. فالقول قول المرتهن مع يمينه: أنه ما يعلم أنه رجع؛ لأن الأصل عدم الرجوع. وإن اتفقا على الرهن والإذن، واختلفا في القبض: فقال الراهن: لم تقبض،

فرع: رجوع الراهن عن إقباض العين للمرتهن

وقال المرتهن: بل قبضت.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (القول قول الراهن) . وقال في موضع: (القول قول المرتهن) . قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، فإن كانت العين في يد الراهن.. فالقول قول الراهن؛ لأن الأصل عدم القبض. والذي يقتضي المذهب عندي: أنه يحلف أنه ما يعلم أنه قبض؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره. وإن كانت العين في يد المرتهن.. حلف: إنه قبض؛ لأن الظاهر أنه قبض بحق. [فرع: رجوع الراهن عن إقباض العين للمرتهن] وإن أقر أنه رهن عند غيره عينا، وأقبضه إياها، ثم قال الراهن للمرتهن: لم تكن قبضتها، وأراد منعه من القبض.. لم يقبل رجوعه عن إقراره بالقبض؛ لأن إقراره لازم. فإن قال الراهن للمرتهن: احلف: أنك قبضتها.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أحلفته) . واختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق: إن كان المرهون غائبا، فقال: أقررت بالقبض؛ لأن وكيلي أخبرني: أنه أقبضه، ثم بان لي أنه لم يقبضه.. أحلف المرتهن؛ لأنه لا يكذب نفسه، وإنما يدعي أمرا محتملا. فأما إذا كان الرهن حاضرا، وأقر أنه أقبضه بنفسه، ثم رجع، وقال: لم يقبض.. لم تسمع منه دعواه، ولم يحلف المرتهن؛ لأنه يكذب نفسه. وقال أبو علي بن خيران، وعامة أصحابنا: يحلف المرتهن بكل حال، وهو ظاهر النص. أما مع غيبة الرهن: فلما ذكر الشيخ أبو إسحاق. وأما مع حضوره: فلأنه قد يستنيب غيره بالإقباض، فيخبره: بأن المرتهن قد قبض، ثم تبين له أنه قد خان في إخباره، وأيضا فإنه قد يعده بالإقباض، فيقر له به قبل فعله، فكانت دعواه محتملة. قالوا: وهكذا: لو أن رجلا أقر: بأنه اقترض من رجل ألفا، ثم قال بعد ذلك: لم

مسألة: البيع بشرط أن يرهن عصيرا

أقبضها، وإنما وعدني أن يقرضني، فأقررت به، ثم لم يفعل.. لم يحلف، واستحلف المقرض؛ لأنه لا يكذب نفسه. فأما إذا شهد شاهدان: بأنه رهنه عبده وأقبضه، ثم ادعى أنه لم يقبضه، وطلب يمين المرتهن.. لم تسمع دعواه، ولم يحلف المقر له؛ لأن في ذلك قدحا في البينة. [مسألة: البيع بشرط أن يرهن عصيرا] إذا باعه شيئا بشرط أن يرهنه عصيرا، فرهنه العصير، وقبضه المرتهن، فوجده خمرا، فقال المرتهن: أقبضتنيه خمرا، فلي الخيار في فسخ البيع. وقال الراهن: بل صار خمرا بعد أن صار في يدك، فلا خيار لك.. ففيه قولان: أحدهما: أن القول قول المرتهن مع يمينه، وهو قول أبي حنيفة، والمزني؛ لأن الراهن يدعي قبضا صحيحا، والأصل عدمه. والثاني: أن القول قول الراهن، وهو الصحيح؛ لأنهما قد اتفقا على العقد والتسليم، واختلفا في تغيير صفته، والأصل عدم التغيير وبقاء صفته، كما لو باعه شيئا وقبضه، فوجد به عيبا في يد المشتري يمكن حدوثه بيده.. فإن القول قول البائع. وإن قال المرتهن: رهنتنيه وهو خمر. وقال الراهن: رهنتكه، وهو عصير، وقبضته عصيرا، وإنما صار خمرا في يدك.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو علي بن أبي هريرة: القول قول المرتهن، قولا واحدا؛ لأنه لا ينكر أصل العقد. وقال سائر أصحابنا: هي على قولين كالتي قبلها. وهو المنصوص في " مختصر المزني ". [فرع: رهن عبدا ملفوفا] وإن رهنه عبدا، وأقبضه إياه ملفوفا في ثوب، فوجد ميتا، فقال المرتهن: أقبضتنيه ميتا. وقال الراهن: أقبضتكه حيا، ثم مات عندك.. ففيه طريقان:

مسألة: رهنا عبدا على مائتي دينار

[أحدهما] : قال عامة أصحابنا: هي على قولين، كالعصير. و [الثاني] : قال أبو علي الطبري: القول قول المرتهن، قولا واحدا. والصحيح هو الأول؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها. [مسألة: رهنا عبدا على مائتي دينار] إذا كان لرجلين على رجل مائتا دينار، لكل واحد منهما مائة، وله عبد، فادعى عليه كل واحد منهما أنه رهن عنده العبد، وأقبضه إياه، ولا بينة لهما، فإن كذبهما.. حلف لكل واحد منهما يمينا؛ لأن الأصل عدم الرهن، سواء كان العبد في أيديهما، أو في يده؛ لأن اليد لا يرجح بها في العقد. وإن صدق أحدهما، وكذب الآخر.. حكم بالرهن للمصدق، وسواء كان العبد في يد المصدق أو المكذب، وهل يحلف الراهن للمكذب؟ فيه قولان، بناء على من أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو، هل يغرم لعمرو قيمته؟ فيه قولان: فإن قلنا: يغرم.. حلف هاهنا؛ لجواز أن يخاف اليمين، فيقر للمكذب، فتثبت له القيمة. وإن قلنا: لا يغرم.. لم يحلف؛ لأنه لو أقر له بعد الإقرار الأول.. لم يحكم له بشيء، فلا فائدة في تحليفه. وإن أقر لهما بالرهن والتسليم، فادعى كل واحد منهما أنه هو السابق بالرهن والتسليم.. رجع إلى الراهن، فإن قال: لا أعلم السابق منكما بذلك، فإن صدقاه أنه لا يعلم، ولا بينة لهما.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (أن الرهن ينفسخ) ؛ لأنهما قد استويا في ذلك، والبيان من جهته قد تعذر، فحكم بانفساخ العقدين، كما نقول في المرأة إذا زوجها وليان لها من رجلين، وتعذر معرفة السابق منهما، وكذلك الجمعتان. والثاني: يقسم بينهما؛ لأنه يمكن قسمته بينهما، ويمكن أن يكون رهن عند كل واحد منهما نصفه.

وإن كذباه، وقالا: بل هو يعلم السابق من العقدين والتسليم فيه.. فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم العلم. قال الشيخ أبو حامد: فيحلف لكل واحد منهما يمينا: أنه لا يعلم أنه السابق، فإذا حلف لهما.. كانت على وجهين، مضى ذكرهما: المنصوص: (أنه ينفسخ العقدان) . والثاني: يقسم بينهما. وإن نكل عن اليمين.. عرضنا اليمين عليهما، فإن حلف كل واحد منهما: أن الراهن يعلم أنه هو السابق.. قال ابن الصباغ: كانت على الوجهين الأولين: المنصوص: (أن الرهنين ينفسخان) . والثاني: يقسم بينهما. وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر.. حكم بالرهن للحالف دون الآخر. وإن اعترف الراهن أنه يعلم السابق منهما، وقال: هذا هو السابق، لم يخل: إما أن يكون الرهن في يد الراهن، أو في يد أجنبي، أو في يد أحد المرتهنين، أو في يدهما، فإن كان الرهن في يد الراهن، أو في يد أجنبي، أو في يد المقر له بالسبق.. حكم بالرهن للمقر له؛ لأنه اجتمع له اليد والإقرار، وهل يحلف الراهن للآخر؟ فيه قولان، وحكاهما الشيخ أبو حامد وجهين: المنصوص: (أنه لا يحلف له؛ لأنه لو أقر للثاني.. لم ينزع الرهن من يد المقر له، فلا معنى لاستحلافه) . والثاني: يحلف له؛ لأنه ربما خاف من اليمين، فأقر للثاني، فتؤخذ منه القيمة، فتكون رهنا مكانه. فإذا قلنا: لا يمين عليه.. فلا كلام. وإن قلنا: عليه اليمين.. نظرت: فإن حلف للثاني.. انصرف. وإن خاف من اليمين، فأقر للثاني أنه رهنه أولا، وأقبضه.. لم يقبل هذا الإقرار في حق المقر له أولا بانتزاع الرهن منه، ولكن تؤخذ من المقر قيمة الرهن، وتجعل

رهنا عند الثاني المقر له؛ لأنه حال بينه وبينه بإقراره المتقدم. وإن نكل عن اليمين.. ردت على الثاني، فإن لم يحلف.. قلنا له: اذهب فلا حق لك. وإن حلف، فإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة.. انتزع الرهن من يد الأول، وسلم إلى الثاني. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: إلا أن أصحابنا لم يفرعوا على هذا القول، وهذا يدل على ضعفه. وإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالإقرار.. فذكر في " المهذب " هاهنا ثلاثة أوجه: أحدها ـ ولم يذكر في " التعليق " و " الشامل " غيره ـ: أن الرهن لا ينزع من يد الأول، ويلزم المقر أن يدفع قيمته إلى الثاني المقر له ليكون رهنا عنده؛ لأنه حال بينه وبينه بإقراره الأول. والثاني: يجعل بينهما؛ لأنهما استويا في الإقرار، ويجوز أن يكون مرهونا عندهما، فجعل بينهما. والثالث: ينفسخ الرهن؛ لأنه أقر لهما، وجهل السابق منهما. وإن كان الرهن في يد الذي لم يقر له.. فقد حصل لأحدهما الإقرار، وللآخر اليد، وفيه قولان: أحدهما: أن صاحب اليد أولى، فيكون القول قوله مع يمينه: أنه السابق، كما لو قال: بعت هذا العبد من أحدهما، وكان في يد أحدهما.. فالقول قوله مع يمينه. والثاني: أن القول قول الراهن: أن الآخر هو السابق؛ لأنه إذا اعترف أن السابق هو الآخر.. فهو يقر أنه لم يرهن ممن بيده شيئا، ومن بيده يدعي ذلك، فيكون كما لو ادعى عليه أنه رهنه. فإذا قلنا بهذا: فهل يحلف الراهن لمن هو بيده؟ على القولين فيمن أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو، على ما مضى من التفريع. وإن كان الرهن في يد المرتهنين.. فقد اجتمع لأحدهما اليد والإقرار في النصف،

مسألة: رهن عبدا أو أقبضه

فيكون أحق به، وهل يحلف للآخر عليه؟ على القولين. وأما النصف الذي في يد الآخر: فهل اليد أقوى، أو الإقرار؟ على القولين الأولين. فإن قلنا: إن اليد أقوى.. حلف من هو في يده عليه، وكان رهنا بينهما، وهل يحلف المقر لمن لم يقر له على النصف الذي بيد المقر له؟ على القولين. وإن قلنا: الإقرار أولى.. انتزع العبد، فجعل رهنا للمقر له، وهل يحلف للآخر على جميعه؟ على القولين فيمن أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو والمنصوص هاهنا: (أنه لا يحلف) . [مسألة: رهن عبدا أو أقبضه] إذا رهن عند رجل عبدا، وأقبضه إياه، ثم أقر الراهن أنه جنى قبل الرهن على غيره جناية توجب المال، أو أتلف عليه مالا، فإن لم يصدقه المقر له.. لم يحكم بصحة الإقرار؛ لأنه أقر لمن لا يدعيه. وإن صدقه المقر له، فإن صدقهما المرتهن.. حكم بصحة الإقرار، وكان للمرتهن الخيار في فسخ البيع إن كان مشروطا فيه، وإن كذبهما المرتهن.. ففيه قولان: أحدهما ـ وهو الضعيف ـ: أن القول قول الراهن؛ لأنه غير متهم في هذا الإقرار؛ لأن المجني عليه يأخذ الأرش، ويبقى حق المرتهن في ذمة الراهن، فلا تهمة عليه فيه، وكل من أقر بما لا تهمة عليه فيه.. قبل، كالزوجة إذا أقرت بقتل العمد.. فإنه يقبل إقرارها، ولأنه لو أجر عبده، ثم أقر أنه جنى قبل الإجارة.. قبل إقراره، فكذلك في الرهن مثله. والقول الثاني: أن القول قول المرتهن، وهو قول أبي حنيفة، والمزني، وهو الصحيح؛ لأنه معنى يبطل حق الوثيقة من عين الرهن، فلم يملكه الراهن، كما لو باعه، ولأنه متهم؛ لأنه ربما واطأ المقر له ليبطل الوثيقة، ويأخذ العبد، ويخالف

الإجارة، فإن الإجارة عقد على المنفعة، ويمكن استيفاء المنفعة منه، ثم يباع في الجناية. فإن لم يقر بأنه جنى، ولكن أقر بعد الرهن والإقباض أنه كان غصب هذا العبد، أو باعه، أو أعتقه قبل الرهن، وأنكر المرتهن ذلك.. قال الشيخ أبو حامد: ففيه قولان، كما لو أقر أنه كان جنى. وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يكون في الإقرار بالعتق قول ثالث: إن كان موسرا.. نفذ إقراره، وإن كان معسرا.. لم ينفذ إقراره، ويجري الإقرار به مجرى الإعتاق. فأما إذا باع عبدا، ثم أقر أنه كان جنى قبل البيع، أو كان أعتقه، أو غصبه، أو باعه من غيره.. لم يقبل في حق المشتري، قولا واحدا؛ لأن البيع يزيل ملكه. وإن كاتب عبدا، ثم أقر أنه كان جنى قبل ذلك.. لم يقبل أيضا إقراره، قولا واحدا؛ لأن المكاتب بمنزلة من زال ملكه عنه؛ لأن أرش الجناية عليه لا يرجع إليه وإن كاتبه، ثم أقر أنه كان أعتقه، أو باعه قبل ذلك.. قال الشيخ أبو حامد: عتق في الحال، وسقط المال عنه؛ لأن إقراره بذلك إبراء منه له من مال المكاتبة. إذا ثبت هذا: رجعنا إلى الرهن، فإن قلنا: القول قول الراهن.. فهل يحتاج أن يحلف؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان. وقال الشيخ أبو حامد: هما وجهان: أحدهما: أن عليه اليمين، وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وهو المنصوص؛ لأن ما قاله يحتمل الصدق والكذب، فلم يكن بد من اليمين، كما لو ادعى دارا في يد غيره، فأنكر.. فلا بد من يمين المنكر؛ لأنه يمكن صدقه وكذبه. فعلى هذا: إذا حلف.. فإنه يحلف على البت والقطع؛ لأنها يمين إثبات. والثاني: أنه لا يمين عليه، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه لو رجع عن هذا الإقرار.. لم يقبل رجوعه، فلا معنى لعرض اليمين عليه. فإذا قلنا: عليه اليمين، فحلف، أو قلنا: لا يمين عليه، فإن كانت قيمة العبد بقدر أرش الجناية أو أقل.. بيع العبد لأجل الأرش، ولا كلام. وإن كان أرش الجناية أقل من قيمة العبد، فإن قلنا: إن رهن العبد الجاني صحيح.. بيع منه بقدر أرش

الجناية، وكان الباقي منه رهنا. وإن لم يمكن بيع بعضه إلا ببيع جميعه.. بيع جميعه، وكان ما فضل من ثمنه عن أرش الجناية رهنا. وإن قلنا: إن رهن الجاني باطل.. بطل في قدر أرش الجناية، وهل يبطل فيما زاد على الأرش؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه باطل، فيكون للراهن مطلقا؛ لأن تعلق الأرش بالرقبة وإن قل يبطل الرهن. والثاني: لا يبطل الرهن فيما يفضل عن أرش الجناية؛ لأن ما زاد على أرش الجناية لا يدعيه المجني عليه، فلم يحكم ببطلان الرهن فيه، كما لو لم يدع المجني عليه الجناية.. فإنه لا يحكم ببطلان الرهن. فإن اختار السيد أن يفديه، إذا قلنا: القول قوله.. فبكم يفديه؟ فيه قولان: أحدهما: بأقل الأمرين من قيمته، أو أرش الجناية. والثاني: بأرش الجناية بالغا ما بلغ، أو يسلمه للبائع، كما لو ثبتت جنايته بالبينة، أو كان غير مرهون. وإذا قلنا: إن القول قول المرتهن.. فإن عليه اليمين، قولا واحدا؛ لأنه لو اعترف بالجناية.. لصح اعترافه. فعلى هذا: يحلف: أنه ما يعلم أنه جنى؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره. فإن حلف المرتهن.. بقي الرهن في العبد بحاله، وهل يلزم الراهن أن يغرم للمجني عليه؟ فيه قولان: أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه قد فعل ما يلزمه في الشرع، وهو الإقرار، فإذا منع الشرع من قبول إقراره.. لم يلزمه ضمان. فعلى هذا: إذا رجع العبد إليه، بأن فكه من الرهن، أو أبرئ من الدين، أو بيع في الدين، فرجع إليه ببيع، أو هبة، أو إرث.. تعلق الأرش برقبته؛ لأنا إنما منعنا من نفوذ إقراره بحق المرتهن، وقد زال.

والقول الثاني: يلزمه أن يغرم؛ لأنه منع من بيعه لأرش الجناية بعقد الرهن، فصار كما لو قتل عبده، ثم أقر أنه كان جنى.. فإنه يلزمه الغرم للمجني عليه.. ولا فرق بين أن يعلم بالجناية عند عقد الرهن، أو لا يعلم؛ لأن حقوق الآدميين تضمن بالعمد والخطأ. فإذا قلنا بهذا: فكم يلزمه أن يغرم؟ فيه طريقان: [الطريق الأول] : قال أبو إسحاق: فيه قولان: أحدهما: أقل الأمرين من قيمته، أو أرش الجناية. والثاني: أرش الجناية بالغا ما بلغ، كالمسألة قبلها. و [الطريق الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يلزمه أقل الأمرين، قولا واحدا، وهو المنصوص؛ لأنه لا يمكن البيع هاهنا، فهو كأم الولد. قال ابن الصباغ: ويمكن من قال بالطريق الأول أن يجيب عن هذا: بأن هذا منع من بيعه بالرهن بعد أن كان يمكن بيعه بالجناية، وأم الولد منع من بيعها قبل الجناية. فإن نكل المرتهن عن اليمين.. فعلى من ترد اليمين؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (أنها ترد على المجني عليه) ؛ لأن الأرش له، فحلف لإثباته. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: ترد على الراهن؛ لأنه هو المالك للرهن، والخصومة بينه وبينه فيه. فإذا قلنا: ترد اليمين على المجني عليه، فنكل.. فهل ترد على الراهن؟ فيه قولان. وإن قلنا: ترد على الراهن، فنكل.. فهل ترد على المجني عليه؟ فيه قولان، بناء على القولين في المفلس إذا أقام شاهدا على حق له على غيره، ولم يلحف معه.. فهل يحلف الغرماء معه؟ فيه قولان.

فرع: عتق الجارية المرهونة

[فرع: عتق الجارية المرهونة] ولو أعتق الراهن الجارية المرهونة بعد الرهن والإقباض، أو أحبلها، وادعى أن المرتهن أذن له في ذلك، فأنكر، ولا بينة.. فالقول قول المرتهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن. فإن نكل عن اليمين.. ردت على الراهن، فإن نكل.. فهل ترد على الجارية؟ فيه طريقان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على القولين في غرماء المفلس. و [الثاني] : منهم من قال: ترد عليها اليمين، قولا واحدا، وهو المنصوص؛ لأنها تثبت لنفسها حقا، وهو العتق والاستيلاد، بخلاف غرماء المفلس، فإنهم يثبتون الحق لغيرهم. فإن حلف الراهن أو الجارية، فإذا قلنا: يحلفا.. ثبت العتق والاستيلاد، وبطل الرهن، قولا واحدا. وإن لم يحلف واحد منهما.. فهو كما لو أعتقها، أو أحبلها بغير إذن المرتهن، وقد مضى. [مسألة: قضاه أحد الدينين أحدهما رهن] وإن كان لرجل على رجل مائتا درهم، مائة برهن، ومائة بغير رهن، فقضاه مائة، ثم اختلفا: فقال الراهن: قضيتكها عن المائة التي بها الرهن، وقال المرتهن: بل أقبضتنيها عن المائة التي لا رهن بها، فإن اختلفا في اللفظ، بأن قال الراهن: أنا قلت: هي عن المائة المرهون بها، وقال المرتهن: بل قلت: هي عن المائة التي لا رهن بها.. فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لأنه أعلم بقوله. وهكذا: إذا اتفقا أنه لم يتلفظ، وإنما اختلفا في نيته.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بما نوى. وإن اتفقا أنه لم يتلفظ ولم ينو، ولكن قال الراهن: أريد أن أجعلها عن المائة التي بها الرهن، وقال المرتهن: بل تكون عن التي لا رهن بها، وكان هذا بعد القضاء.. ففيه وجهان:

فرع: إبراء المرتهن الراهن عن بعض الرهن

[أحدهما] : قال أبو إسحاق: للراهن أن يجعلها عما شاء، كما إذا طلق إحدى نسائه بغير عينها.. فله أن يصرفه إلى أيتهن شاء. و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يصرف إليهما نصفين؛ لأنهما متساويان في الوجوب، فصرفت إليهما. [فرع: إبراء المرتهن الراهن عن بعض الرهن] فإن كانت المسألة بحالها، وأبرأه المرتهن عن مائة، ثم اختلفا: فقال الراهن: أبرأتني عن المائة التي بها الرهن، وقال المرتهن: بل أبرأتك عن المائة التي لا رهن بها، فإن اختلفا في لفظ المرتهن أو في نيته.. فالقول قوله مع يمينه؛ لما ذكرناه في التي قبلها. وإن اتفقا على أنه لم يتلفظ ولم ينو.. فعلى الوجهين في الأولى: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: للمرتهن أن يصرفه إلى التي لا رهن بها. و [الثاني] : قال أبو علي: ينصرف إليهما نصفين. [مسألة: هلاك الرهن بيد المرتهن] وإن كان الرهن على يد المرتهن، وادعى هلاكه من غير تفريط.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أمين، فكان القول قوله في الهلاك، كالمودع. وإن ادعى رده، فأنكره الراهن فقد قال البغداديون من أصحابنا: لا يقبل قوله من غير بينة، بل القول قول الراهن.. مع يمينه؛ لأنه قبض العين لمنفعة نفسه، فلم يقبل قوله في الرد، كالمستأجر. وحكى أبو علي السنجي: أن الخراسانيين من أصحابنا قالوا: يقبل قوله مع يمينه، كما يقبل قوله في الهلاك، كالمودع. [مسألة: أذنا في بيع الرهن عند المحل بدراهم أو دنانير] ] : وإن جعلا الرهن على يد عدل، وأذنا له في بيعه عند المحل، ثم اختلفا فيما يباع به. فقال أحدهما: بع بالدنانير، وقال الآخر: بع بالدراهم.. فإن الشيخ أبا حامد

وابن الصباغ قالا: لا يبيع بقول كل واحد منهما؛ لأن لكل واحد منهما حقا تعلق به، فلم يكن قبول قول أحدهما بأولى من الآخر، ولكن يرفع الأمر إلى الحاكم، وهو المنصوص في " المختصر "، فيأمره الحاكم بالبيع بنقد البلد، وسواء كان نقد البلد مما طلب أحدهما أو مما لم يطلبه أحدهما فإن كان الدين من نقد البلد.. صرف الثمن إليه، وإن كان من غير نقد البلد.. اشتري له بما بيع به الرهن جنس حقه. وإن كان ما قال كل واحد منهما من نقد البلد، أو كان في البلد نقدان غير ما قالا، فإن كان أحدهما أغلب في الاستعمال من الآخر.. أمره الحاكم أن يبيع بالغالب. وإن كانا متساويين، فإن كان البيع بأحدهما أحظ لهما. باع بالأحظ لهما. وإن كانا متساويين في الحظ، فإن كان أحدهما من جنس حق المرتهن.. باع به؛ لأن ذلك أسهل، وإن كان الدين من غيرهما.. باع بما هو أسهل صرفا إلى جنس الدين، وأقرب إليه. فإن استويا في ذلك.. عين له الحاكم أحدهما، فباع به. وذكر القاضي أبو الطيب في " المجرد ": أنه إذا قال الراهن: بعه بالدراهم، وقال المرتهن: بعه بالدنانير، وكانت الدراهم قدر حق المرتهن.. باعه بالدراهم؛ لأنه لا غرض للمرتهن في الدنانير. ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أنه يرفع إلى الحاكم، ولعله أراد ذلك بإطلاقه. والله أعلم

باب التفليس

[باب التفليس] الفلس - في اللغة -: مأخوذ من الفلوس وهو أخس مال الرجل الذي يتبايع به، كأنه إذا أفلس.. منع من التصرف في ماله إلا من الشيء التافه. وهو - في الشرع - اسم لمن عليه ديون لا يفي ماله بها. [مسألة: مطالبة المدين عند حلول الأجل] ] : إذا كان على الرجل دين، فلا يخلو: إما أن يكون مؤجلا، أو حالا. فإن كان مؤجلا.. لم تجز مطالبته به قبل حلول الأجل؛ لأن ذلك يسقط فائدة التأجيل، فإن أراد أن يسافر قبل محل الدين سفرا يزيد على الأجل..نظرت: فإن كان لغير الجهاد.. لم يكن للغريم منعه، ولا مطالبته بأن يقيم له كفيلا بدينه، ولا أن يعطيه رهنا. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويقال له: حقك حيث وضعته) ، يعني: أنك رضيت حال العقد أن يكون مالُكَ عليه بلا رهن ولا ضمين. وحكى أصحابنا، عن مالك رحمة الله عليه: أنه قال: (له مطالبته بالكفيل، أو الرهن) .

دليلنا: أنه ليس له مطالبته بالحق، فلم يكن له مطالبته بالكفيل أو الرهن، كما لو لم يرد السفر. وإن كان السفر للجهاد.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: له منعه من السفر إلى أن يقيم له كفيلا أو يعطيه رهنا بدينه؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولا يجاهد إلا بإذن أهل الدين) . ولم يفرق بين الحال والمؤجل، ولأن المجاهد يعرض نفسه للقتل طلبا للشهادة، فلم يكن بد من إقامة الكفيل؛ ليستوفي صاحب الدين دينه منه. و [الثاني] : منهم من قال: لا يلزمه ذلك؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وإذا أراد الذي عليه الدين إلى أجل السفر، وأراد غريمه منعه؛ لبعد سفره وقرب أجله.. لم يكن له منعه) . ولم يفرق بين سفر الجهاد وغيره، لأنه لم يحل الدين، فلم يملك المطالبة بذلك، كما لو كان السفر لغير الجهاد. وإن كان الدين حالا، فإن كان معسرا.. لم يجز مطالبته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] [البقرة: 280] . ولا يجوز لغريمه ملازمته، وبه قال مالك رحمة الله عليه. وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: (ليس للغريم مطالبته، ولكن له ملازمته، فيسير معه حيث سار، ويجلس معه حيث جلس، إلا أنه لا يمنعه من الاكتساب، وإذا رجع إلى داره، فإن أذن لغريمه بالدخول معه.. دخل معه؛ وإن لم يأذن له بالدخول.. كان للغريم منعه من الدخول) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . فأمر بإنظار المعسر، فمن قال: إنه يلازمه.. فقد خالف ظاهر الآية. وروي: «أن رجلا ابتاع ثمرة، فأصيب بها، فكثر دينه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تصدقوا عليه". فتصدقوا عليه، فلم يف بما عليه. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغرمائه:

خذوا ما وجدتم، ما لكم غيره» وهذا نص. ولأن كل من لا مطالبة له عليه.. لم تجز ملازمته، كما لو كان الدين مؤجلا. وإن كان من عليه الدين يحسن صنعة.. لم يجبر على الاكتساب بها ليحصل ما يقضي به الدين، بل إن اكتسب، وحصل معه مال يفضل عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته.. قضى به الدين، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم. وقال أحمد، وإسحاق: (يجبر على الاكتساب لقضاء الدين) . وبه قال عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعبيد الله بن الحسن العنبري، وسوار القاضي. دليلنا: الخبر في الرجل الذي ابتاع الثمرة، فأمر النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غرماءه أن يأخذوا ما معه، وقال: «خذوا ما وجدتم، ما لكم غيره» . ولم يأمره بالاكتساب لهم، ولأن هذا إجبار على الاكتساب، فلم يجب ذلك، كما لا يجبر على قبول الهبة والوصية، وكذلك: لو تزوج امرأة بمهر كثير.. لم يجبر على طلاقها قبل الدخول ليرجع إليه نصفه. فإن كان موسرا.. جازت مطالبته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] [البقرة: 280] . فأوجب إنظار المعسر، فدل على: أن الموسر لا يجب إنظاره، فإن لم يقضه.. أمره الحاكم بالقضاء، فإن لم يفعل، فإن كان له مال ظاهر.. باع الحاكم عليه ماله، وقضى الغريم، وإن قضى الحاكم الغريم شيئا من مال من عليه الدين.. جاز، وبه قال مالك، وأبو يوسف، ومحمد.

وقال أبو حنيفة: (لا يجوز للحاكم أن يبيع عليه ماله، ولكن يحبسه حتى يقضي الدين بنفسه) . دليلنا: ما روي: (أن أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صعد المنبر، وقال: ألا إن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال: سابق الحاج - وروي: سبق الحاج - فادان معرضا، فأصبح وقد رين به، فمن كان له ذلك عليه دين.. فليحضر غدا، فإنا بائعوا ماله، وقاسموه بين غرمائه) . وروي: (فمن كان له عليه دين.. فليغد بالغداة، فلينقسم ماله بينهم بالحصص) . وهذا بمجمع من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولم ينكر عليه أحد، فدل على: أنه إجماع. وقوله: (فادان معرضا) أي: أنه يتعرض الناس، فيستدين ممن أمكنه، ويشترى به الإبل الجياد، ويروح في الحج، ويسبق الحاج. وقوله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (فأصبح وقد رين به) يقال: رين بالرجل: إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه، ولا قبل له به، ويقال لما عليك وعلاك: وقد ران بك، وران عليك، قال الله تعالى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] .

قال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب. وإن امتنع من عليه الدين من القضاء، وكتم ماله.. عزره الحاكم، وحبسه إلى أن يظهر ماله. والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لي الواجد يحل عقوبته وعرضه» . و (اللي) : المطل، يقال: لواه غريمه بدينه يلويه ليا وليانا. قال الشاعر: تطيلين لياني وأنت ملية ... وأحسن يا ذات الوشاح التقضايا وقوله: (الواجد) يعني: الغني. وهذا كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم» وقوله: (يحل عرضه) لم يرد به: أنه يقذفه، ويطعن في نسبه، وإنما يقول: يا ظالم، يا متعد. وقوله: (عقوبته) يعني: حبسه وتعزيره، وهو كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لصاحب الحق اليد واللسان» . وأراد باليد: الملازمة، وباللسان: أن يقول: يا ظالم، يا مطال.

وروي: «أن رجلا كان له على رجل دين، فترافعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمره بملازمته، ثم إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر به، فقال: أحسن إلى أسيرك» فسماه: أسيرا. وروي: «أن كعب بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان له على رجل دين، فلازمه في مسجد بني حدرد، قال: فارتفعت أصواتنا، فسمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصواتنا، فقال لي: يا كعب، أحسن إلى أسيرك، خذ الشطر، ودع الشطر» فأقره على ملازمته، وهذا محمول على أن من عليه الدين كان له مال، فكتمه، وأما إذا لم يكن لمن عليه الدين مال ظاهر، وقال: أنا معسر، وكذبه الغريم.. نظرت: فإن حصل عليه الدين بمعاوضة، مثل بيع، أو سلم، أو قرض، أو ثبت عليه الدين عن جناية، أو مهر، لكن قد عرف له قبل ذلك مال.. لم تقبل دعواه أنه معسر؛ لأنه قد ثبت ملكه للمال، والأصل بقاؤه، فلا يقبل قوله في الإعسار، بل يحبسه الحاكم. فإن قال: غريمي يعلم أني معسر، أو أن مالي هلك، فإن صدقه الغريم على ذلك.. خلي من الحبس، وإن كذبه.. حلف الغريم: أنه ما يعلم أنه معسر، أو أنه ما يعلم أن ماله هلك، وحبس من عليه الدين، فإن أراد أن يقيم البينة على تلف ماله.. قبلت شهادة عدلين، سواء كانا من أهل الخبرة بباطنه أو لم يكونا؛

لأن كل أحد يدرك التلف، فإن طلب الغريم يمينه مع ذلك.. لم يحلف؛ لأن في ذلك تكذيبا للشهود. وإن أراد أن يقيم البينة على الإعسار.. لم يقبل إذا لم يكونا من أهل الخبرة الباطنة بحاله؛ لأن ملكه على المال قد ثبت، فلا يقبل على الإعسار شهادة من لم يكن من أهل الخبرة الباطنة بحاله، وإن كانت البينة من أهل الخبرة الباطنة بأمره.. سمعت. وقال مالك رحمة الله عليه: (لا تسمع؛ لأنها شهادة على النفي، فلم تقبل) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لقبيصة بن المخارق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: "لا تحل المسألة إلا لثلاثة: رجل تحمل بحمالة، فحلت له المسألة حتى يؤديها، ثم يمسك، ورجل أصابته فاقة وحاجة حتى شهد أو تكلم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه أن به حاجة، فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش أو قواما» . وما ذكروه من أنها شهادة على النفي، غير صحيح؛ لأنها وإن كانت تتضمن النفي، فهي تثبت حالا يظهر، ويقف عليها الشاهد، كما لو شهد أن لا وارث له غير هذا. إذا ثبت هذا: فإن البينة تسمع في الحال، ويخلى. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا تسمع في الحال، ويحبس من عليه الدين شهرين) في رواية (الأصول) . وقال الطحاوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحبس شهرا، وروي: ثلاثة أشهر، وروي: أربعة أشهر، حتى يغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له مال لأظهره. وهذا ليس بصحيح؛ لأن كل بينة جاز سماعها بعد مدة.. جاز سماعها في الحال، كسائر البينات، وكم

عدد البينة التي يقبل سماعها في الإعسار؟ قال البغداديون من أصحابنا: تقبل فيه شهادة ذكرين عدلين، كشهادة التلف. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 275] : لا يقبل أقل من ثلاثة رجال، ويحلف معهم. ولعله يحتج بخبر قبيصة بن المخارق في عددهم. فإن أقام البينة على الإعسار، فقال الغريم: له مال باطن لا تعلم به البينة، فطلب يمينه على ذلك.. ففيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه أن يحلف، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن فيه تكذيبا للشهود. والثاني: يجب عليه أن يحلف، فإن لم يحلف.. حبس، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره؛ لأنه يجوز أن يكون له مال باطن خفي على البينة، وقد يكون للأب مال لا يعلم به ابنه، وقد يكون لأحد الزوجين مال لا يعلم به الآخر. وإن ثبت عليه الدين في غير معاوضة، مثل: أن جنى على غيره، أو أتلف عليه مالا، ولم يعلم له قبل ذلك مال، وادعى أنه معسر.. فالقول قوله مع يمينه أنه معسر؛ لأن الأصل الفقر حتى يعلم اليسار. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لابني خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: لا تيأسا من رزق الله ما اهتزت رؤوسكما، فإن ابن آدم خلق أحمر ليس عليه قشر إلا قشرتاه، ثم يرزقه الله عز وجل»

فإذا حلف، ثم ظهر له غريم آخر.. قال الصيمري: لم يحلف له ثانيا؛ لأنه قد ثبت إعساره باليمين الأولى. وإن كان في يده مال، فقال: هو لزيد وديعة، أو مضاربة، فإن كان المقر له غائبا.. حلف من عليه الدين، وسقطت عنه المطالبة؛ لأن الأصل العسرة، وما ذكره ممكن. وإن كان المقر له حاضرا.. رجع إليه، فإن كذبه.. قسم المال بين الغرماء، وإن صدقه.. حكم به للمقر له، فإن طلب الغريم يمين المقر له أنه صادق في إقراره.. فهل يجب إحلافه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب إحلافه؛ لأنه لو رجع عن إقراره.. لم يقبل، فلا معنى لإحلافه. والثاني: أنه يجب إحلافه، فإن لم يحلف.. حبس؛ لجواز أن يكون قد واطأ المقر له على ذلك. فإن طلب الغريم يمين المقر له أن المال له. قال ابن الصباغ: فعندي: أنه يحلف؛ لأنه لو أكذب المقر. ثبت المال للغرماء، فإذا صدقه.. حلف. إذا ثبت هذا: فكل موضع حكمنا بإعساره بالبينة أو بيمينه.. فإنه لا يحبس، وكل موضع لم نحكم بإعساره.. وجب حبسه، ولا غاية للحبس عندنا، بل يحبس حتى يكشف عنه ثلاثا أو أربعا، فمتى ثبت إعساره.. خلي، ولا تغفل المسألة عنه. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية (الأصول) : (يحبس أربعة أشهر) . وقال في موضع: (ثلاثة أشهر) . وقال في موضع: (أربعين يوما) . وقال في موضع: (يحبس شهرا) . قال أصحابه: ليس هذا على سبيل التحديد، وإنما هو على قدر حال المفلس، فإن كان ممن لا يعلم بحاله إلا بحبس أربعة أشهر.. حبس قدر ذلك، وكذلك إذا كان لا يعلم بحاله إلا بحبس ثلاثة أشهر.. حبس قدر ذلك. دليلنا: أنه لا سبيل إلى العلم بحاله من طريق القطع، وإنما يعلم بحاله من طريق الظاهر، وذلك يعلم بحبس ثلاثة أيام أو أربعة وما أشبه ذلك.

فرع: حاجة السجين إلى من يخدمه

وإذا حبسه الغريم. فليس له منعه في الحبس من النوم والأكل، وفي نفقته في الحبس وجهان، حكاهما الصيمري في " الإيضاح ": [أحدهما]- وهو المذهب -: أنها في مال نفسه. والثاني: أنها على الغريم، فإن كان المحبوس ذا صنعة.. فقد قال الصيمري: قد قيل: يمكن منها؛ لأنه يقضي بما يحصل منها دينه. وقيل: يمنع منها إذا علم أن ذلك يراخي أمره، ولا معصية عليه بترك الجمعة والجماعة إن كان معسرا. قال الصيمري: وقيل: يلزمه استئذان الغريم عند ذلك حتى يمنعه، فيسقط عنه الحضور. [فرع: حاجة السجين إلى من يخدمه] فإن مرض في الحبس، ولم يجد من يخدمه في الحبس.. أخرج. وإن وجد من يخدمه في الحبس.. فهل يجب إخراجه؟ فيه وجهان، حكاهما الصيدلاني. وإن جن في الحبس.. أخرج. وإذا حبس بقول جماعة من الغرماء.. لم يكن لواحد منهم أن يخرجه حتى يجتمعوا على إخراجه. وإن حبس بطلب غريم، ثم حضر غريم آخر، فطلب أن يخرج ليدعي عليه.. أحضر، فإذا ثبت له عليه حق، وطلب أن يحبس له.. حبس، ولا يجوز إخراجه إلا باجتماعهما. وإن ثبت إعساره.. أخرجه الحاكم من غير إذن الغريم. قال الصيدلاني: وإذا لم يكن للمفلس مال.. فهل له أن يحلف: أنه لا حق عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: له أن يحلف، وينوي أن ليس عليه اليوم حق يلزمه الخروج إليه منه. والثاني: ليس له أن يحلف؛ لأن الحاكم إذا كان عادلا.. لا يحبسه إلا بعد الكشف عن حاله.

مسألة: ثبوت الديون مجلبة للحجر

[مسألة: ثبوت الديون مجلبة للحجر] ] : وإذا ثبتت الديون على رجل إما بالبينة، أو باعترافه، أو بأيمان المدعين عند نكوله، وسأل الغرماء الحاكم أن يحجر عليه.. نظر الحاكم في ماله: فإن كان يفي بما عليه من الدين.. لم يحجر عليه، بل يأمره بقضاء الدين، فإن امتنع.. باع عليه الحاكم ماله، وقضى أصحاب الديون، خلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد مضت هذه المسألة، وهل تقوم الأعيان التي عليه أثمانها؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: لا يقومها؛ لأن لأربابها الرجوع فيها، فلا تحتسب أثمانها عليه، فلم يقومها عليه مع ماله. والثاني: يقومها؛ لأن أصحابها بالخيار: بين أن يرجعوا فيها، وبين أن لا يرجعوا فيها، ويطالبوه بالثمن. وإن قوم ماله، فوجدوه لا يفي بديونه.. لم يحجر الحاكم عليه قبل سؤال الغرماء ذلك؛ لأنه لا ولاية له عليه في ذلك. وإن سأل الغرماء أو بعضهم الحاكم الحجر عليه بعد ذلك.. حجر عليه، وباع عليه ماله، وبه قال مالك رحمة الله عليه، ومحمد، وأبو يوسف رحمهما الله. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يحجر عليه، ولا يبيع عليه ماله، بل يحبسه حتى يقضي ما عليه) . دليلنا: ما وري: «أن معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ركبه الدين على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكلم غرماؤه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحجر عليه، وباع عليه ماله حتى قام معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بغير شيء) .

وفي رواية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلع ماله لهم» يعني: لغرمائه، وهذا يحتمل تأويلين: أحدهما: أن ماله لم يف بالدين، فحجر عليه، فيكون معنى قوله: (خلع) أي: حجر عليه. والثاني: أن معنى قوله: (خلع ماله لهم) أي: باع ماله لهم. وروى أبو سعيد الخدري: «أن رجلا أصيب في ثمار ابتاعها، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تصدقوا عليه". فلم يف بما عليه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذوا ماله، ليس لكم إلا ذلك» ولم يرد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خذوا ماله " أي: انتهبوا ماله، وإنما أراد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذوه بالحصص. وأبو حنيفة يقول: (ليس لهم أن يأخذوه إلا أن يعطيهم إياه) . وهذا يخالف الخبر. وإن كان له مال يفي بدينه، إلا أن أمارات الفلس ظهرت به، بأن كان ماله بإزاء دينه، ولا وجه لنفقته إلا مما بيده، أو كان له وجه كسب إلا أن قدر النفقة أكثر مما يحصل له بالكسب.. فهل للحاكم أن يحجر عليه إذا سأله الغرماء ذلك؟ حكى الشيخ أبو إسحاق في ذلك قولين، وحكاهما الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ وجهين: أحدهما: لا يجوز الحجر عليه، بل يأمره الحاكم بقضاء الدين على ما بيناه؛ لأن الحجر إنما يكون على المفلس، وهذا ليس بمفلس.

مسألة: الإشهاد على الحجر

والثاني: يحجر عليه؛ لأن الظاهر من حاله أن ماله يعجز عن ديونه، والحجر يجوز بالظاهر، ألا ترى أن السفيه يجوز الحجر عليه؛ لأن الظاهر منه التبذير وإن كان يجوز ألا يبذر؟ [مسألة: الإشهاد على الحجر] وإذا حجر الحاكم عليه.. فالمستحب: أن يشهد على الحجر، ويأمر مناديا فينادي في البلد: ألا إن الحاكم قد حجر على فلان بن فلان؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك.. اغتر الناس به، فيعاملونه، فيؤدي إلى الإضرار بهم، فإذا عاملوه بعد علمهم بالحجر.. فقد دخلوا على بصيرة، ولأن هذا الحاكم ربما مات أو عزل، فولي غيره، فإذا أشهد الأول على الحجر.. أمضاه الثاني، ولا يحتاج إلى ابتداء حجر عليه. [فرع: الحجر للإفلاس يعلق الديون بماله] وإذا حجر الحاكم على المفلس.. تعلقت ديون الغرماء بماله، ومنع من التصرف بماله. وقال أبو حنيفة: (لا تتعلق الديون بماله، ولا يمنع من التصرف بماله، بل يحبسه الحاكم حتى يقضي ما عليه من الدين) . دليلنا: ما روي: «أن معاذ بن جبل ركبته الديون على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غرماؤه، فلم يزد على أن خلع ماله لهم» وأقل ما يقتضي الخلع: أنه منعه من التصرف بماله. وروى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رجلا أصيب بثمار ابتاعها، فلم يف ماله بدينه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذوا ماله، ليس لكم إلا ذلك» وفي إذنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم بأخذ ماله.. منع من التصرف فيه. وإذا تصرف المفلس بعد الحجر.. نظرت: فإن تصرف في ذمته، بأن اقترض، أو اشترى شيئا بثمن في ذمته، أو أسلم إليه في

شيء.. صح ذلك؛ لأن الحجر عليه في أعيان ماله، فأما ذمته.. فلا حجر عليه بها لأنه لا ضرر على الغرماء فيما يثبت عليه بذمته.. ومن باعه شيئا أو أقرضه بعد الحجر.. لم يشارك الغرماء بماله؛ لأنه إن علم بالحجر.. فقد دخل على بصيرة. وإن لم يعلم به.. فقد فرط في ترك السؤال عنه، وهل تقسم الأعيان التي اشتراها بثمن في ذمته بعد الحجر بين الغرماء الأولين، أو يكون بائعوها أحق بها؟ فيه وجهان، يأتي ذكرهما في موضعهما. وإن تصرف المفلس بشيء من أعيان ماله بأن باع، أو وهب، أو أقرض، أو أعتق.. فهل يصح تصرفه بها؟ فيه قولان: أحدهما: أن تصرفه موقوف، فإن كان فيما بقي من ماله وفاء بدينه.. نفذ تصرفه، وإن لم يكن فيه وفاء بدينه.. لم ينفذ تصرفه، وهو أضعف القولين؛ لأن من صح ابتياعه في ذمته.. صح بيعه لأعيان ماله، كغير المفلس؛ ولأنه حجر عليه لحق الغير، فكان تصرفه صحيحا موقوفا، كالحجر على المريض، وفيه احتراز من تصرف المحجور عليه للسفه. والقول الثاني: أن تصرفه باطل، وهو قول ابن أبي ليلي، والثوري، ومالك رحمة الله عليهم، واختيار المزني، وهو الصحيح؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فلم يصح تصرفه فيه، كالسفيه، ولأن كل ما تعلق بماله حق الغير.. وجب أن يكون ممنوعا من التصرف فيه، كالرهن لا يصح تصرف الراهن به. فإذا قلنا: إن تصرفه باطل في أعيان ماله.. رد جميع ما باع أو وهب أو أعتق، وقسم ماله بين الغرماء، فإن وفي ماله بدينه، بأن زادت قيمته، أو أبرئ من بعض دينه، وفضل ما كان تصرف فيه عن الدين.. لم يحكم بصحة تصرفه الأول؛ لأنه وقع باطلا. فعلى هذا القول: إن باع عينا من أعيان ماله من غريمه بدينه الذي له عليه.. فهل يصح؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ":

مسألة: إفلاس أحد المتبايعين بالخيار

[أحدهما] : قال صاحب " التلخيص ": يصح؛ لأن الحجر عليه للدين، فبيعه بذلك الدين يوجب سقوطه. والثاني: لا يصح، وهو قول الشيخ أبي زيد؛ لأن الحجر على المفلس ليس مقصورا على هذا الغريم؛ لأنه ربما ظهر له غريم آخر. وإن قلنا: إن تصرفه صحيح موقوف.. قسم ماله بين غرمائه، فإن وفى ماله بدينه غير الذي تصرف فيه.. نفذ تصرفه. وإن لم يف ماله إلا بنقض جميع ما تصرف فيه.. نقض جميع ما تصرف فيه. وإن لم يف ماله بدينه، إلا ببعض الأعيان التي تصرف فيها.. نقض منها شيء بعد شيء. وما الذي ينقض أولا؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: ينقض الأضعف، فالأضعف وإن كان متقدما في التصرف. فعلي هذا: تنقض الهبة أولا؛ لأنها أضعف؛ لأنه لا عوض فيها، ثم البيع بعدها؛ لأنه يلحقه الفسخ. قال ابن الصباغ: ثم العتق، ثم الوقف. والذي يقتضي القياس عندي على هذا: أن الوقف ينقض أولا قبل العتق؛ لأن العتق من الوقف، بدليل: أنه يسري إلى ملك الغير، والوقف لا يسري إلى ملك الغير. والوجه الثاني: وهو قول صاحب " المهذب ": أنه ينقض من تصرفه الآخر، فالآخر، عتقا كان أو غيره، كما قلنا في تبرعات المريض المنجزة إذا عجز عنها الثلث.. فإنه ينقض الآخر فالآخر. [مسألة: إفلاس أحد المتبايعين بالخيار] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو تبايعا بالخيار ثلاثا، ففلسا أو أحدهما.. فلكل واحد منهما إجازة البيع، ورده دون الغرماء؛ لأنه ليس بمستحدث) . وهذا كما

قال: إذا تبايع رجلان، وبينهما خيار الثلاث، أو خيار المجلس، ثم حجر عليهما، أو على أحدهما بالإفلاس قبل انقضاء الخيار. ومعنى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ففلسا) أي: حجر عليهما، وحكم عليهما بالإفلاس. وقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة على طرق: فمنهم من حملها على ظاهرها، وقال: لكل واحد منهما أن يفسخ البيع، وله أن يجيز، سواء كان الحظ فيما فعله من ذلك، أو في غيره؛ لأن الحجر إنما يمنع تصرفه في المستقبل لا فيما مضى، ولأن المفلس لا يجبر على الاكتساب، فلو قلنا: يلزمه أن يفعل ما فيه الحظ.. لألزمناه الاكتساب. وقال أبو إسحاق: إن كان الحظ في الفسخ.. لزمه أن يفسخ، وإن أجاز.. لم تصح إجازته، وإن كان الحظ في الإجازة.. لزمه أن يجيز، وإن فسخ.. لم يصح الفسخ؛ لأن الحجر يقتضي طلب الحظ، فلم يفعل إلا ما فيه الحظ، كما لو باع بشرط الخيار، ثم جن، فإن الولي لا يفعل إلا ما فيه الحظ. وتأول كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذا. ومنهم من قال: يبنى ذلك على وقت انتقال الملك إلى المشتري، وتصورها في البائع إذا باع بشرط الخيار، وأفلس البائع، فإن قلنا: إن الملك انتقل إلى المشتري بنفس العقد.. فللبائع أن يجيز البيع وإن كان الحظ في الفسخ، وله أن يفسخ وإن كان الحظ في الإجازة. وإن قلنا: إن البيع لا ينتقل إلا بشرطين، أو قلنا: إنه موقوف.. فليس له أن يفعل إلا ما فيه الحظ على القولين. قال ابن الصباغ: والطريقة الأولى أسد عند أصحابنا؛ لأن التصرف من المحجور عليه لا تنفذ، سواء كان فيه الحظ، أو لم يكن. وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " طريقة رابعة، وقال: الصحيح عندي: أنه لا يملك فسخ العقد، ولا إجازته بعد الحجر عليه بكل حال؛ لأن عندنا ينقطع تصرفه بالحجر عليه، بدلالة أنه إذا باع شيئا، ثم حجر عليه قبل قبض الثمن.. لم يكن له

مسألة: هبة المحجور عليه بثواب

قبضه، اللهم إلا أن يكون الإمام أمر من يقوم بأمره، وينظر في مصالحه، فرأى الحظ له في الفسخ، فإنه يفعل. [مسألة: هبة المحجور عليه بثواب] وإن وهب لغيره قبل الحجر هبة تقتضي الثواب، ثم حجر على الواهب، وقلنا: إن الثواب مقدر بما يرضى به الواهب.. فله أن يرضى بالقليل والكثير؛ لأنا لو ألزمناه طلب الفضل.. لألزمناه الاكتساب، وذلك لا يلزمه. [مسألة: تعلق الدين المقر به في ذمة المحجور عليه] وإذا أقر المحجور عليه بدين لزمه قبل الحجر، وصادقه المقر له، وكذبه الغرماء.. تعلق الدين بذمته، قولا واحدا، وهل يقبل إقراراه في حق الغرماء ليشاركهم المقر له؟ فيه قولان: أحدهما: أنه لا يقبل في حقهم، ولا يشاركهم؛ لأنه مال تعلق به حق الغير، فلم يقبل إقرار من عليه الحق في ذلك المال، كالراهن إذا أقر بدين لم يبطل به حق المرتهن، ولأنه لا يؤمن أن يواطئ المفلس من يقر له بالدين ليشارك الغرماء، ثم يسلمه إلى المفلس. والقول الثاني: أن إقراره مقبول في حق الغرماء، فيشاركهم المقر له، وهو الصحيح؛ لأنه حق يثبت بسبب منسوب إلى ما قبل الحجر، فوجب أن يشارك صاحب الحق بحقه الغرماء، كما لو ثبت حقه بالبينة، ولأن المريض لو أقر لرجل بدين لزمه في حال الصحة. لشارك من أقر له في حال المرض، فكذلك هذا المفلس لو أقر بدين قبل الحجر ليشارك الغرماء. وكذلك: إذا أقر بدين بعد الحجر، وإضافة إلى ما قبل الحجر، يكون كما لو أقر به قبل الحجر. وإن كان في يد المفلس عين، وقال: هذه العين عارية عندي لفلان، أو غصبتها منه، أو أودعنيها.. فهل يقبل إقراراه في حق الغرماء؟ على القولين:

فرع: جحود المفلس دينا في ذمته

أحدهما: لا يقبل، فإن لم يف مال المفلس بدينه إلا ببيع تلك العين.. بيعت، وفرق ثمنها على الغرماء، وكان دينا على المفلس. والقول الثاني - وهو الصحيح -: أنه يقبل إقراره فيها على الغرماء، وتسلم العين إلى المقر له. قال الشيخ أبو حامد: وقد شنع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على القول الأول، وقال: (من قال بهذا، أدى إلى أن القصار إذا أفلس، وعنده ثياب لقوم، فأقر أن هذا الثوب لفلان، وهذا لفلان.. فلا يقبل منه، وكذلك الصباغ والصائغ إذا أفلس، فأقر بمتاع لأقوام بأعيانهم.. أن لا يقبل، وهذا لا سبيل إليه، وكذلك لو قال: عندي عبد آبق، ولم يقبل قوله، فبيع العبد.. رجع بعهدته على المفلس، فيكون قد رجع عليه بعهدة عبد أقر أنه آبق، وباعه بهذا الشرط، وهذا لا سبيل إليه؛ لأنه إبطال لأصول الشرع، فلذلك قلنا: يقبل إقراره) . [فرع: جحود المفلس دينا في ذمته] وإن ادعى رجل على المفلس بدين في ذمته، أو عين في يده، فجحده، فإن أقام المدعي بينة.. شارك الغرماء بالدين، وأخذ العين، وإن لم يقم البينة.. فالقول قول المفلس مع يمينه، فإن حلف له.. انصرف المدعي، وإن نكل المفلس عن اليمين، فحلف المدعي.. فهل يشارك الغرماء في الدين، ويأخذ العين؟ فيه طريقان: [أحدهما] : قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: إن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة.. شارك الغرماء بالدين، وأخذ العين. وإن قلنا: إنه كالإقرار.. كان على القولين الأولين في إقرار المفلس. [الثاني] : قال ابن الصباغ: يشارك الغرماء، قولا واحدا، كما لو ثبت ذلك بالبينة.

مسألة: جناية المحجور عليه

[مسألة: جناية المحجور عليه] وإن جنى المحجور عليه على غيره، أو أتلف عليه مالا.. شارك المجني عليه والمتلف عليه الغرماء؛ لأن ذلك ثبت بغير رضا من له الحق. وإن كان له عبد، فجنى على غيره.. قدم حق المجني عليه في رقبة العبد على سائر الغرماء؛ لأن حقه يختص بعين هذا العبد، فقدم على غيره، كما قلنا في الرهن. وإن جني على المفلس جناية خطأ.. تعلق حق الغرماء بالأرش؛ لأن الأرش مال له، فتعلق به حق الغرماء، كسائر أمواله. وإن جني عليه جناية عمد توجب القصاص.. فالمفلس بالخيار: بين أن يقتص، وبين أن يعفو، وليس للغرماء أن يطالبوه بالعفو على مال؛ لأن ذلك اكتساب للمال، وذلك لا يلزمه، ولأنا لو ألزمناه ذلك.. لصار ذلك ذريعة إلى الجناية عليه ثانيا وثالثا، فلم يلزمه. فإن عفا على مال.. تعلق به حق الغرماء، وإن عفا مطلقا فإن قلنا إن موجب العمد القود لا غير.. لم يجب المال، وإن قلنا: إن موجبه أحد الأمرين.. ثبت المال، وتعلق به حق الغرماء، وإن عفا على غير مال، فإن قلنا: إن موجب العمد القود لا غير.. صح عفوه ولم يجب المال، وإن قلنا: إن موجبه أحد الأمرين.. فذكر في " التعليق " و " الشامل ": أن المال يثبت، وتتعلق به حقوق الغرماء، ولا يصح عفوه عنه. [مسألة: ادعاء المفلس دينا] وإن ادعى المفلس على غيره بدين، أو عين، وأنكره المدعى عليه، فأقام المفلس شاهدا، فإن حلف معه.. استحق ما ادعاه، وقسم على الغرماء لأنه ملك له وإن لم يحلف فهل يحلف الغرماء. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر ": (لا يحلف الغرماء) . وقال: (إذا مات، وخلف ورثة وعليه دين، وله دين على آخر له به شاهد، ولم يحلف الورثة.. هل يحلف الغرماء؟ على قولين) . فمن أصحابنا من قال: المسألتان على قولين.

فرع: الديون المؤجلة لا توجب الحجر

ومنهم من قال: لا يحلف غرماء المفلس، قولا واحدا، وفي غرماء الميت قولان، والفرق بينهما: أن المفلس يرجى أن يحلف، فلم يحلف غرماؤه، والميت لا يرجى أن يحلف، فحلف غرماؤه. والصحيح: أنهما على قولين: أحدهما: يحلفون؛ لأن حقوقهم تتعلق بما يثبت للمفلس، فكان لهم أن يحلفوا، كالورثة، ولأن الإنسان قد يحلف لإثبات المال لغيره، كما تقول في الوكيل إذا خالفه العاقد له.. فإن الوكيل يحلف، ويثبت المال للموكل، كذلك هذا مثله. والثاني: لا يحلفون، وهو الصحيح؛ لأنهم يثبتون بأيمانه ملكا لغيرهم، لتتعلق به حقوقهم بعد ثبوته، وهذا لا يجوز، كما لا تحلف الزوجة لإثبات مال لزوجها وإن كان إذا ثبت تعلقت به نفقتها، ولا يشبه الورثة؛ لأنهم يثبتون الملك لأنفسهم بأيمانهم، وأما الوكيل: فإنما حلف؛ لأن اليمين متعلقة بالعقد، فلما كان هو العاقد توجهت اليمين عليه. فإن ادعى المفلس على غيره بدين أو عين، ولا بينة له.. فالقول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين.. ردت على المفلس، فإن حلف.. ثبت له المال، وقسم على الغرماء، وإن لم يحلف المفلس.. فهل يحلف غرماؤه؟ قال ابن الصباغ: هي على قولين، كاليمين مع الشاهد، وإذا حلفوا.. فإن المال الثابت بأيمانهم يقسم بينهم على قدر ديونهم. [فرع: الديون المؤجلة لا توجب الحجر] وإن كان على رجل ديون مؤجلة.. فليس لغرمائه أن يسألوا الحاكم أن يحجر عليه؛ لأجل ديونهم وإن كان ماله أقل من ديونهم؛ لأنهم لا حق لهم قبل محل الأجل. وإن كان عليه ديون حاله وديون مؤجله، فرفع أصحاب الديون الحالة أمره إلى الحاكم، فنظر إلى ما عليه من الديون الحالة وإلى ما معه من المال، فوجد ماله لا يفي بالديون الحالة، فحجر عليه لمسألتهم.. فهل تحل عليه الديون المؤجلة؟ فيه قولان:

مسألة: نفقة المحجور عليه

أحدهما: تحل، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الديون تتعلق بالمال بالحجر، فأسقط الحجر الأجل، كالموت. والثاني: لا تحل، وهو اختيار المزني، وهو الأصح؛ لأنه دين مؤجل على حي، فلم يحل قبل أجله، كما لو لم يحجر عليه، ويفارق الميت؛ لأن ذمته خربت، وهذا له ذمة صحيحة. [مسألة: نفقة المحجور عليه] وإذا حجر الحاكم على المفلس، ومنعه من التصرف في ماله.. فمن أين تكون نفقته إلى أن يبيع ماله ويقسمه على الغرماء؟ ينظر فيه: فإن كان له كسب.. كانت نفقته في كسبه. وإن لم يكن له كسب.. فإن على الحاكم أن يدفع إليه نفقته من ماله؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل الذي جاءه بالدينار: أبدأ بنفسك، ثم بمن تعول» فأمره أن يبدأ بنفسه على من يعول، ومعلوم أن فيمن يعول من تجب نفقته، وتكون دينا عليه، وهي الزوجة، فعلم أن نفقته مقدمة على الدين، ويكون طعامه على ما جرت به عادته، ويدفع إليه نفقة يوم بيوم، وآخرها اليوم الذي يقسم فيه الحاكم ماله، فيدفع إليه نفقة ذلك اليوم؛ لأن النفقة تجب في أوله، ويترك له ما يحتاج إليه من الكسوة؛ لأنه لا بد له أن يتصرف، فلو قلنا: إنه لا يكتسب.. لامتنع الناس من معاملته، ويترك له من الكسوة ما يكفيه على ما جرت به عادته. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يكفيه قميص وسراويل، ورداء إن كان ممن يتردى، وحذاء لرجله، هذا إذا كان في الصيف، وإن كان في الشتاء.. زيد على القميص جبة

فرع: يترك للمحجور عليه نفقة عياله

محشوة، وخف بدل النعل. وإن كان ممن عادته أن يتطيلس.. دفع إليه الطيلسان، وأما جنس ثيابه: فمعتبر بحاله، فإن كان ممن عادته لبس السرب والدبيقي.. ترك له ذلك. وإن كانت عادته أن يلبس من غليظ القطن أو الكتان.. لم يزد على ذلك، وإن كان ممن يلبس المتوسط من الثياب.. ترك له ذلك) . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإذا كان له ثياب غوال.. بيعت) . قال أصحابنا: أراد: إذا كان من عوام الناس، وله ثياب غالية جرت العادة أن يلبسها ذوو الأقدار، ونبل التجار.. بيعت، ويشترى له ثياب جرت العادة أن يلبسها مثله في العادة، ويصرف الباقي من ثمنها إلى الغرماء. [فرع: يترك للمحجور عليه نفقة عياله] وإن كان للمفلس من تلزمه نفقته، كالزوجة والوالدين والمولودين.. ترك لهم ما يحتاجون إليه من نفقة وكسوة، كما قلنا في المفلس؛ لأنهم يجرون مجرى نفسه؛ لأن الأقارب يعتقون عليه إذا ملكهم، كما يعتق نفسه إذا ملكها، ونفقة الزوجة آكد من نفقة الأقارب؛ لأنها تجب بحكم المعاوضة.

فرع: مؤنة تجهيز المحجور عليه

[فرع: مؤنة تجهيز المحجور عليه] ] : وإن مات المفلس.. كانت مؤنة تجهيزة وكفنه من ماله؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدمت إليه جنازة ليصلي عليها، فقال: (هل على صاحبكم من دين؟ "، فقالوا: نعم. فقال: صلوا على صاحبكم» ولا محالة أنه كان قد كفن، فعلم أن الكفن مقدم على حقوق الغرماء؛ لأنه لم يتعرض له. وإن مات له من تلزمه نفقته، فإن كانت له زوجة.. فهل يجب كفنها ومؤنة تجهيزها عليه، أو في مالها؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في (الجنائز) . وإن كان من الوالدين أو المولودين.. وجب مؤنة تجهيزه وكفنه على المفلس، ويقدم ذلك على الغرماء، كما قلنا في المفلس نفسه. وكم القدر الذي يجب في الكفن في حق المفلس وقرابته؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد: أحدها: ثوب واحد. والثاني: ما جرت به العادة في الكفن، من ثوب أو ثوبين أو ثلاثة. و [الثالث] : قال أبو إسحاق: ما يستر العورة لا غير. [فرع: يباع دار وخادم المحجور عليه] وإن كان للمفلس دار يسكنها، أو خادم يخدمه.. بيعا عليه، وصرف ثمنهما إلى غرمائه؛ لأنه يمكنه أن يكتري دارا يسكنها، وخادما يخدمه، وقد جرت العادة أن الناس يكترون الدور والخدم، بخلاف الثياب، فإن العادة لم تجر باكترائها، ولأن أكثر ما فيه إذا بيع داره أو خادمه، أنه بيع من ماله ما هو من تمام كفايته، وهذا لا يمتنع، ألا ترى أنه لو كان له عقار يأتيه منها كفايته.. فإنها تباع بالدين وإن كانت من تمام كفايته؟

مسألة: حضور الخصمين عند إرادة الحاكم بيع مال المفلس

[مسألة: حضور الخصمين عند إرادة الحاكم بيع مال المفلس] وإذا أراد الحاكم بيع مال المفلس أو الرهن.. فالمستحب: أن يحضر المفلس والراهن؛ لأنه أعرف بقيمة أمواله وأثمانها التي اشتراها بها، ولأنه إذا حضر.. احتاط أكثر مما يحتاط غيره، ويستحب أن يحضر الغرماء؛ لأنه ربما كان فيهم من يبتاع شيئا من مال المفلس، فيكثر المبتاعون، فيكون أوفر للثمن، ولأنه ربما وقع غبن في بيع شيء يسهو الحاكم عنه، فاستدركه. فإن باع الحاكم ماله بغير حضور المفلس والغرماء.. صح البيع؛ لأن المفلس لا تصرف له، والغرماء لا ملك لهم. [فرع: يطلب الدلال لعرض السلع] وإذا أراد الحاكم بيع مال المفلس.. فلا بد من دلال، وهو: من ينادي على المتاع فيمن يزيد. ويستحب أن يقول الحاكم للمفلس والغرماء: ارتضوا برجل ينادي على بيع المتاع؛ لأنهم أعرف بمن يصلح لذلك الأمر، ولأن في ذلك تطييبا لأنفسهم. فإن لم يستأذنهم الحاكم في ذلك، ونصب مناديا من قبله.. جاز؛ لأن المفلس قد انقطع تصرفه، والغرماء لا ملك لهم. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يقبل إلا ثقة) . وفي بعض نسخ المزني: (ولا يقبل إلا من ثقة) . فمن نقل: (ولا يقبل إلا ثقة) فمعناه: إذا نصب المفلس والغرماء من ينادي على ثمن المتاع.. لم يقبله الحاكم إلا أن يكون ثقة. والفرق بين هذا وبين الرهن: إذا اتفق المتراهنان على وضع الرهن على يد من ليس بثقة.. لم يعترض الحاكم عليهما؛ لأن الحق في الرهن للمتراهنين لا يتعداهما، وهاهنا النظر للحاكم؛ لأنه ربما ظهر غريم آخر. وأما من نقل: (ولا يقبل إلا من ثقة) فمعناه: إذا نودي على مال المفلس فزاد

فرع: تباع كل سلعة في محالها

في ثمنه إنسان، فإنه لا تقبل الزيادة إلا من ثقة؛ مخافة أن يزيد، فيتركها، فيفسدها، فإن تطوع الدلال بالنداء من غير أجره.. لم يستأجر الحاكم من ينادي؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك، فإن لم يوجد من يتطوع بذلك.. استؤجر بأقل ما يوجد، فإن كان في بيت المال فضل أعطي الأجير الأجرة منه؛ لأن في ذلك مصلحة، فهو كأجرة الكيال والوزان في الأسواق. وإن لم يكن في بيت المال فضل.. استؤجر من مال المفلس لذلك؛ لأن العمل له. قال أبو علي في " الإفصاح ": وأما أجرة النقاد: فعلى الغريم، لا على المفلس، فإن اختار المفلس رجلا ينادي على المتاع، واختار الغرماء غيره.. نظر الحاكم فيهما: فإن كان أحدهما ثقة دون الآخر.. أقر الثقة منهما، وإن كانا ثقتين، فإن كان أحدهما متطوعا دون الآخر.. أقر المتطوع دون الآخر؛ لأنه أوفر عليهم، فإن كانا متطوعين.. ضم أحدهما إلى الآخر؛ لأن ذلك أحوط، وإن كانا غير متطوعين.. اختار أوثقهما وأعرفهما. [فرع: تباع كل سلعة في محالها] ويباع كل شيء من الأمتعة في سوقه، فتباع الكتب في سوق الوراقين، ويباع البز في سوق البزازين، والطعام في سوق الطعام، وما أشبه ذلك؛ لأن الشيء إنما يطلب في سوقه، فإن باع شيئا بثمن مثله الذي يباع به في سوقه، في غير سوقه.. صح البيع؛ لأن الغرض حصول ثمن مثله، ويبدأ ببيع ما يسرع إليه الفساد من مال المفلس، كاللحم الطري، والبطيخ، والهريس، وما أشبه ذلك؛ لأنه إذا لم يبع.. تلف بالفساد، أو نقصت قيمته، ثم بيع بعده الحيوان؛ لأنه معرض للتلف، ويحتاج إلى المؤنة في بقائه، ثم يبيع بعده سائر الأمتعة التي تحول وتنقل، كالثياب وغيرها؛ لأن اليد تنالها ويخاف عليها، ثم يبيع بعد ذلك العقار، لأنه لا يخاف عليه الهلاك.

فرع: يباع متاع المفلس بنقد البلد

وجميع أمواله تباع في حال النداء، وفيمن يزيد في سوقها في وقت قيام ذلك السوق، إلا العقار، فإنه لا ينادى عليه، وإنما يؤمر الدلال بعرضه؛ لأن العادة قد جرت إذا بيع العقار على أيدي الدلالين.. كان أعز له، وأكثر لثمنه، ويخالف السلع، فإن النداء عليها يجلب الزبون، ولأن من يشتري ذلك لا ينحصر، وأما العقار: فإن الدلالين يعرفون من يشتريه، فيعرضونه عليه، والنداء يخلفه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن كان بقرب ذلك البلد قوم يشترون العقار في بلد المفلس.. أنفذ إليهم، وأعلمهم بذلك ليحضروا، فيشتروا، فيتوفر الثمن على المفلس) . [فرع: يباع متاع المفلس بنقد البلد] ] : ويباع مال المفلس بنقد البلد وإن كان من غير جنس حق الغرماء؛ لأنه أوفر، فإن كان حق الغرماء من نقد البلد.. دفعه إليهم، وإن كان حقهم من غير نقد البلد، فإن كان حقهم ثبت من غير جهة السلم.. دفع إليهم عوضه إن رضوا بذلك، وإن لم يرضوا.. اشترى لهم جنس حقوقهم. وإن كان حقهم ثبت من جهة السلم.. لم يجز أخذ العوض عن ذلك، وإنما يشتري لهم حقهم. [فرع: بيع ما رهنه المفلس] وإن كان في مال المفلس رهن.. بدئ ببيعه؛ لأن حق المرتهن يختص بالعين، وحقوق الغرماء لا تختص بالعين، ولأنه ربما زاد ثمن الرهن على حق المرتهن، فتفرق الزيادة على سائر الغرماء، وربما نقص ثمنه عن حق المرتهن، فيضرب مع الغرماء بما بقي له، فاحتيج إلى تقديم بيعه لذلك.

فرع: يدفع ثمن متاع المفلس لغريمه

وإن كان هناك عبد جنى على غيره.. قدم بيعه أيضا؛ لأن حقه يختص بعين العبد، ولأنه ربما زاد ثمنه على قدر الأرش، فتفرق الزيادة على سائر الغرماء، ولا يجيء في هذا أن يقال: إن نقص ثمنه.. ضرب المجني عليه بما نقص مع الغرماء؛ لأنه ليس للمجني عليه أكثر من العبد الجاني. [فرع: يدفع ثمن متاع المفلس لغريمه] وإذا بيع شيء من مال المفلس، فإن كان دينه لواحد.. فإنه يدفع كلما باع شيئا وقبض ثمنه إلى الغريم؛ لأنه لا حاجة به إلى التأخير. وإن كان الدين لجماعة.. نظرت: فإن بيع جميع ماله دفعة واحدة.. قبض ثمنه وفرقه على الغرماء بالحصص على قدر ديونهم. وإن لم يمكن بيع ماله إلا شيئا بعد شيء.. نظرت فيما باع به أولا: فإن كان ثمنه كثيرا يمكن قسمته على الغرماء.. قسم بينهم؛ لأنه لا حاجة به إلى التأخير. وإن كان قليلا تتعذر قسمته، أو يكون القسم منه نزرا.. أخرت قسمته، فإن وجد الحاكم ثقة مليئا.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أقرضه إياه حالا) . فإذا تكامل بيع المال.. أخذه من الذي أقرضه إياه، وقسمه بين الغرماء، ويكون ذلك أولى من إيداعه؛ لأن القرض مضمون على المقترض، والوديعة أمانة يخاف تلفها. فإن لم يجد ثقة مليئا يقرضه إياه. أودعه عند ثقة. فإن قيل: فلم قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يقرضه حالا) ، والقرض عنده لا يكون إلا حالا؟ فقال أكثر أصحابنا: وصف القرض بذلك؛ لأنه شرط، وقصد بذلك الرد على مالك رحمة الله عليه، حيث قال: (يصح القرض مؤجلا) .

فرع: طلب الحاكم إقالة البيع لمصلحة المفلس

وقال بعض أصحابنا: أراد حالا - بغير تشديد - يعني: يقرضه في الحال. وهذا ليس بشيء. فإن قيل: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إنه لا يجوز إقراض مال اليتيم إلا في حال الضرورة، وهو أن يكون في بحر، ومعه مال اليتيم، ويخاف عليه الغرق، أو يخاف عليه النهب أو الحريق، ولا يقرضه في غير ذلك، وإنما يودعه) ، فما الفرق بينه وبين المفلس؟ قلنا: الفرق بينهما: أن مال الصبي معد لمصلحة تظهر له من شراء عقار أو تجارة، وقرضه قد يتعذر معه المبادرة إلى ذلك، ومال المفلس معد للغرماء خاصة، فافترقا. [فرع: طلب الحاكم إقالة البيع لمصلحة المفلس] وإذا باع الحاكم مال المفلس، وانصرم البيع بالتفرق، وانقضى الخيار، ثم جاء رجل إلى الحاكم، وزاده في الثمن.. استحب للحاكم أن يسأل المشتري الإقالة لطلب الفضل، فإن أقاله المشتري.. باع الحاكم من المطالب بالزيادة، وإن لم يفعل المشتري.. لم يجبر على ذلك؛ لأن البيع قد لزم. [فرع: توكيل الحاكم أمينا يبيع متاع المفلس] وإذا نصب الحاكم أمينا لبيع مال المفلس وقبض ثمنه، فباع شيئا من مال المفلس وقبض ثمنه، ثم تلف في يده من غير تفريط.. تلف من ضمان المفلس؛ لأن العدل أمين له، وإن باع العدل شيئا من مال المفلس، وقبض ثمنه، ثم إن رجلا ادعى على

المشتري أن العين التي اشتراها ملكه، وأقام على ذلك بينة.. أخذها من يد المشتري، فإن كان الثمن باقيا في يد العدل.. رجع به المشتري، وإن كان المال قد تلف في يد العدل بغير تفريط.. رجع المشتري بالعهدة في مال المفلس، ووافقنا أبو حنيفة في هذا، وخالفنا في العدل - إذا تلف الرهن في يده، وفي الوكيل والوصي إذا تلف المال في أيديهم بغير تفريط -: (أن الضمان يجب عليهم) . فنقيس تلك المسائل على هذه، ونقول: لأنه باع مال الغير، فإذا تلف في يده من غير تفريط.. لم يضمن، قياسا على أمين الحاكم في مال المفلس. وهل يقدم المشتري على سائر الغرماء، أو يكون أسوتهم؟ نقل المزني: (أنه يقدم عليهم) . ونقل الربيع: (أنه يكون أسوة لهم) . واختلف أصحابنا فيه على طريقين: فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدها: أنه يقدم عليهم؛ لأن في ذلك مصلحة لمال المفلس؛ لأن المشترين إذا علموا أنهم يقدمون في الثمن إذا كان استحق ما اشتروه.. رغبوا في الشراء، فكثر المشترون، وزادت الأثمان، وإذا علموا أنهم لا يقدمون.. تجنبوا الشراء خوفا من الاستحقاق، فتقل الأثمان. والثاني: لا يقدم، بل يكون أسوة الغرماء؛ لأنه حق تعلق بذمة المفلس بغير اختيار من له الحق، فكان أسوة الغرماء، كما لو جنى على رجل. ومنهم من قال: هي على حالين: فالموضع الذي قال: (يقدم على الغرماء) أراد به: إذا لم يكن الغرماء اقتسموا المال. والموضع الذي قال: (يكون أسوتهم) أراد به: إذا كان بعد القسمة في حجر ثان، مثل: أن قسم المال بين الغرماء، ثم استحق شيء من أعيان ماله، ثم حجر عليه ثانيا.. فإن المشتري يكون أسوة الغرماء؛ لأن حقه ثبت في ذمته قبل الحجر، كسائر الغرماء. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد هذا التفصيل على هذا الطريق.

مسألة: وجد ماله عند المفلس على صفته

وأما صاحب " المهذب ": فقال: إن لم ينفك عنه الحجر.. قدم؛ لأن فيه مصلحة له، وإن فك عنه الحجر.. كان كسائر الغرماء. ولم يذكر الحجر الثاني. [مسألة: وجد ماله عند المفلس على صفته] مسألة: [من وجد ماله عند المفلس على صفته] : وإن كان في الغرماء من باع شيئا من المفلس قبل الإفلاس، ولم يقبض الثمن، ووجد عين ماله على صفته خاليا عن حق غيره.. فالبائع بالخيار: بين أن يضرب مع الغرماء بالثمن، وبين أن يرجع في عين ماله.. وبه قال في الصحابة: عثمان، وعلي وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة، ومن التابعين: عروة بن الزبير، ومن الفقهاء: أحمد، وإسحاق، ومالك رحمة الله عليهم. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز للبائع أن يرجع في عين ماله) . وبه قال الحسن، والنخعي، وابن شبرمة. دليلنا: ما «ورى عمر بن خلدة الزرقي - قاضي المدينة - قال: أتينا أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في صاحب لنا أفلس، فقال: هذا الذي قضى به محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيما رجل مات، أو أفلس.. فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه»

فرع: شراء سلعة وهو لا يجد ثمنها يكون مفلسا

وفي رواية أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل باع متاعا على رجل، ثم أفلس المبتاع، ثم وجد البائع متاعه بعينه.. فصاحب المتاع أحق به دون الغرماء» . وهذا نص في موضع الخلاف. ولأنه نوع معاوضة يلحقه الفسخ ينتقل به حق المعاوض من عين إلى ذمة، فجاز له الرجوع إلى العين عند خراب الذمة، كالمكاتب إذا عجز عن المال. [فرع: شراء سلعة وهو لا يجد ثمنها يكون مفلسا] وإن اشترى رجل سلعة بثمن في ذمته، وكانت قيمة السلعة مثل الثمن أو أكثر، ولا يملك المشتري غير هذه السلعة، ولا دين عليه غير هذا الثمن.. فهل يجعل هذا المشتري مفلسا، فيكون للبائع الرجوع إلى عين ماله؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإفصاح ": أحدهما: يكون مفلسا، فيكون البائع بالخيار: بين أن يرجع في عين ماله، وبين أن يضرب مع الغرماء بالثمن. والثاني: لا يكون مفلسا، ولكن تباع السلعة، ويعطى منها حقه، والباقي للمشتري.

فرع: ظهور علامة الإفلاس بعد البيع

[فرع: ظهور علامة الإفلاس بعد البيع] وإن كان ماله يفي بدينه، ولكن ظهرت فيه أمارات الفلس، وقلنا: يجوز الحجر عليه، فحجر عليه.. فهل يجوز لمن باع منه شيئا، ولم يقبض ثمنه، ووجد عين ماله أن يرجع إلى عين ماله؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: له أن يرجع إلى عين ماله؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما رجل باع متاعا على رجل، ثم أفلس المبتاع، فوجد البائع ماله بعينه.. فهو أحق به من سائر الغرماء» . وهذا قد أفلس، ولأنه محجر عليه لحق الغرماء، فجاز لمن وجد عين ماله الرجوع إليه، كما لو كان ماله أقل من دينه. والثاني: ليس له الرجوع إلى عين ماله؛ لأنه إنما جعل للبائع الرجوع إلى عين ماله في المواضع التي لا يتمكنون من الوصول إلى كمال حقوقهم، وهذا يتمكن من أخذ جميع ماله، فلم يكن له الرجوع إلى عين ماله. [فرع: يفسخ البيع للمفلس من غير إذن الحاكم] وهل يصح فسخ البائع من غير إذن الحاكم؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا يصح إلا بإذن الحاكم؛ لأنه فسخ مختلف فيه، فلم يصح إلا بالحاكم، كفسخ النكاح بالإعسار بالنفقة. والثاني: يصح بغير إذن الحاكم؛ لأنه فسخ ثبت بنص السنة، فهو كفسخ نكاح المعتقة تحت عبد. فإن حكم حاكم بالمنع من الفسخ.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح حكمه؛ لأنه مختلف فيه. والثاني: لا يصح؛ لأنه حكم مخالف لنص السنة. وهل يشترط أن يكون الفسخ على الفور، أو يجوز على التراخي؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز على التراخي؛ لأنه خيار لا يسقط إلى بدل، فجاز على التراخي، كرجوع الأب فيما وهب لابنه، وفيه احتراز من الرد بالعيب؛ لأنه قد سقط إلى بدل، وهو الأرش.

فرع: رهن المبيع بيد المفلس

والثاني: يشترط أن يكون على الفور؛ لأنه خيار لنقص في العوض، فكان على الفور، كالرد بالعيب، وفيه احتراز من رجوع الأب في هبته لابنه. [فرع: رهن المبيع بيد المفلس] وإذا رهن البائع المبيع في يد المفلس عند ثبوت الرجوع له.. فهل يجعل رهنه فسخا للبيع؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ في الرهن. وإن وطئ البائع الجارية المبيعة.. فهل يجعل وطؤه فسخا للبيع؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون فسخا، كما لو باع جارية، ثم وطئها في مدة الخيار. والثاني: لا يكون فسخا؛ لأن الملك مستقر للمشتري، فلا يجوز رفعه إلا بالقول. [فرع: لا يجبر البائع على ترك العين] ] : وإذا بذل الغرماء للبائع جميع ثمنه على أن لا يرجع بالعين المبيعة.. لم يجبر على ذلك، وجاز له الرجوع إلى عين ماله. وقال مالك: (لا يجوز له الرجوع إلى عين ماله) . دليلنا: الخبر، ولم يفرق، ولأنه تبرع بالحق غير من عليه الحق، فلم يلزم من ثبت له الفسخ إسقاط حقه من الفسخ، كالزوج إذا أعسر بالنفقة، فجاء أجنبي، فبذل لها النفقة لتترك الفسخ.. فإنه لا يلزمها ذلك. [مسألة: شراء المفلس وقت الحجر] وإن باعه بعد الإفلاس، وهو إذا اشترى عينا بعد أن حجر عليه بثمن في ذمته، فقد ذكرنا أن شراءه صحيح، وهل يثبت للبائع الرجوع إلى عين ماله؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يثبت له الرجوع إلى عين ماله؛ لأنه باعه مع العلم بخراب ذمته، فلم يثبت له الفسخ، كما لو اشترى سلعة معيبة مع العلم بعيبها.

مسألة: باع عينا لمفلس وأخذ جزء ثمنها

والثاني: يثبت له الفسخ، كما لو تزوجت امرأة بفقير مع العلم بحاله.. فإن لها أن تفسخ النكاح إذا أعسر بالنفقة. [مسألة: باع عينا لمفلس وأخذ جزء ثمنها] وإن باع من رجل عينا بمائة، أو عينين بمائة، فقبض البائع من الثمن خمسين، والعين المبيعة باقية، أو العينان باقيتان، سواء كانت قيمتهما مختلفة أو متساوية.. فهل للبائع أن يرجع من المبيع بقدر ما بقي من الثمن؟ حكى ابن الصباغ فيه قولين: قال في القديم: (يسقط حق البائع من الرجوع إلى العين، ويضرب مع الغرماء بالثمن) . وحكى الشيخ أبو حامد: أن هذا مذهب مالك رحمة الله عليه، ولم يحكه عن القديم. وقال ابن الصباغ: مذهب مالك: أن البائع إذا قبض شيئا من الثمن، والعين باقية.. كان بالخيار: بين أن يرد ما قبض من الثمن، ويرجع في العين المبيعة، وبين أن لا يرجع في العين، ويضارب مع الغرماء فيما بقي. ووجه القول القديم: ما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل باع بيعا، فأفلس المشتري، فإن كان البائع لم يقبض من ثمنه شيئا.. فهو أحق به، وإن قبض من ثمنه شيئا.. فهو أسوة الغرماء» . ولأن في رجوعه في بعض العين تبعيضا للصفقة على المشتري، وإضرارا به، فلم يكن ذلك للبائع. وقال في الجديد: (يثبت له الرجوع بحصة ما بقي من الثمن) . وهو الصحيح؛ لأنه سبب يرجع به العاقد إلى جميع العين، فجاز أن يرجع به إلى بعضها، كالفرقة قبل الدخول، وذلك: أن الزوج يرجع تارة بجميع الصداق، وهو إذا ارتدت الزوجة، أو وجد أحدهما بالآخر عيبا، وتارة بالنصف، وهو إذا طلقها قبل الدخول.

وأما الخبر: فهو مرسل؛ لأن أبا بكر بن عبد الرحمن ليس بصحابي، وإن صح.. فمعنى قوله: «فهو أسوة الغرماء» : إذا رضي بذلك. وإن باعه عبدين متساويي القيمة بمائة، فقبض البائع من الثمن خمسين، وتلف أحد العبدين، وأفلس المشتري، فإن اختار البائع أن يضرب مع الغرماء بالثمن الذي بقي له.. فلا كلام، وإن اختار الرجوع إلى عين ماله على القول الجديد.. فبكم يرجع؟ قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هاهنا: (يرجع في العبد الباقي بما بقي من الثمن) . وقال في (الصداق) : (إذا أصدقها عبدين، فتلف أحدهما، وطلقها قبل الدخول.. أنها على قولين: أحدهما: يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة التالف. والثاني: أنه بالخيار: بين أن يأخذ نصف الموجود، ونصف قيمة التالف، وبين أن يترك الموجود، ويأخذ نصف قيمتهما) . وقال في (الزكاة) : (إذا أصدقها خمسا من الإبل، فحال عليها الحول، فباعت منها بقدر شاة، وأخرجتها، ثم طلقها قبل الدخول.. كان له أن يأخذ بعيرين ونصفا، فحصل في الصداق ثلاثة أقوال: أحدها: يأخذ نصف الصداق من الباقي - وهذا موافق لما قاله في المفلس -. والثاني: يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة التالف. والثالث: أنه بالخيار: بين أن يأخذ الموجود بنصف الصداق، وبين أن يترك الموجود، ويأخذ نصف قيمتهما) . واختلف أصحابنا في مسألة المفلس: فمنهم من قال: في المفلس أيضا قولان: أحدهما: يأخذ الباقي من العبدين بما بقي له من الثمن، ويكون النصف الذي أخذ حصة التالف؛ لأنه لما جاز للبائع أخذ جميع المبيع إذا وجده كله.. جاز له أخذ بعضه إذا تعذر الكل، كما قلنا في الشفيع.

مسألة: وجود ماله مرهونا

والثاني: يأخذ نصف الموجود بنصف ما بقي له، ويضرب مع الغرماء بنصفه؛ لأنه إذا باع عبدين متساويي القيمة بمائة.. فقد باع كل واحد منهما بخمسين، فإذا قبض خمسين من مائة.. فقد قبضها من ثمنها، بدليل: أنهما لو كانا قائمين. لرجع في نصفهما، فإذا تلف أحدهما.. رجع في نصف الباقي بنصف ما بقي، وضرب مع الغرماء بحصة ما تلف من الذي لم يقبضه. قال هذا القائل: ولا يجيء هاهنا القول الثالث في الصداق، وهو أن يترك الموجود، ويأخذ نصف قيمتهما؛ لأن ذمة الزوجة مليئة، وذمة المفلس خربة، فلا يمكن ترك الشيء كله، والرجوع إلى القيمة؛ لأنه لا يصل إليها. ومن أصحابنا من حمل المسألتين على ظاهرهما، فقال: في الصداق ثلاثة أقوال، وفي المفلس يأخذ البائع العبد الباقي بما بقي له من الثمن، قولا واحدا، والفرق بينهما: أنا إذا قلنا في الصداق: يأخذ الزوج نصف الموجود ونصف قيمة التالف.. فلا ضرر عليه؛ لأنه يصل إلى حقه؛ لأن ذمة الزوجة مليئة، وفي المفلس لو قلنا: يأخذ البائع نصف الباقي بنصف ما بقي، ويضرب مع الغرماء بنصف ما بقي له.. لم يأمن أن لا يصل إلى كمال حقه؛ لأن ذمة المفلس خربة. [مسألة: وجود ماله مرهونا] وإن وجد البائع عين ماله مرهونة عند آخر.. لم يكن له أن يرجع فيها؛ لأن المشتري قد عقد على ما اشتراه عقدا منع نفسه من التصرف فيه، فلم يكن لبائعه الرجوع فيه، كما لو باعها المشتري أو وهبها. إذا ثبت هذا: فإن حق المرتهن مقدم على حق البائع؛ لأنه أسبق، فإن كان الدين المرهون به مثل قيمة الرهن أو أكثر.. بيعت العين في حق المرتهن، ولا كلام. وإن كان الدين المرهون به أقل من قيمة الرهن بيع من الرهن بقدر دين المرتهن، وكان للبائع أن يرجع في الباقي منها؛ لأنه لا حق لأحد فيما بقي منها، وإن لم يمكن بيع بعض الرهن بحق المرتهن إلا ببيع جميع الرهن، فبيع جميع الرهن وقضي حق المرتهن من ثمن الرهن، وبقي من الثمن بعضه.. فالذي يقتضي المذهب: أن البائع لا يكون

مسألة: إفلاس مشتري الشفعة

أحق بالباقي من الثمن، بل يصرف ذلك إلى جميع الغرماء؛ لأن حقه يختص بالعين دون ثمنها. [مسألة: إفلاس مشتري الشفعة] وإذا اشترى رجل من رجل شقصا من دار أو أرض، فثبتت فيه الشفعة، فأفلس المشتري، وحجر عليه قبل أن يأخذ الشفيع.. فهل البائع أحق بالشقص، أم الشفيع؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الشفيع أحق، ويكون الثمن بين الغرماء؛ لأن حق الشفيع أسبق؛ لأن حقه ثبت بالبيع، وحق البائع ثبت بالحجر، فقدم السابق. والثاني: أن البائع أحق بالشقص؛ لأنه إذا رجع في الشقص.. زال الضرر عنه وعن الشفيع؛ لأنه عاد كما كان قبل البيع، ولم تتجدد شركة غيره. قال الشيخ أبو حامد: وهذا مدخول؛ لأن من باع شقصا، فثبتت له فيه الشفعة، ثم استقاله البائع، فأقاله قبل أن يأخذ الشفيع.. فإن البائع عاد للشفيع شريكا كما كان، ومع ذلك له الأخذ بالشفعة. والوجه الثالث: أن الشفيع أولى بالشقص، ويؤخذ منه الثمن، ثم يسلم إلى البائع دون سائر الغرماء؛ لأن في ذلك جمعا بين الحقين، وإزالة الضرر عنهما. [فرع: بيع الصيد من المحرم] وإن باعه صيدا، فأحرم البائع، وأفلس المشتري.. لم يكن للبائع أن يرجع في الصيد، كما لا يجوز أن يبتاعه. [مسألة: الدين المؤجل لا يحل بالحجر] ] : وإن اشترى رجل أعيانا بأثمان مؤجلة، فحجر على المشتري لديون حالة عليه، وكانت الأعيان التي اشتراها بالمؤجل باقية في يده لم يتعلق بها حق غيره، فإن قلنا:

إن الدين المؤجل لا يحل بالحجر.. فما الحكم في الأعيان التي اشتراها بالأثمان المؤجلة؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو المنصوص، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره -: (أنها تباع، وتفرق أثمانها على أصحاب الديون الحالة) ؛ لأنها حقوق حالة، فقدمت على الديون المؤجلة، وتبقى الديون المؤجلة في ذمته إلى الأجل، فإذا أيسر.. طالبوه بها، وإلا كانت في ذمته إلى أن يوسر. والوجه الثاني - حكاه في " المهذب " -: أنها لا تباع، بل توقف إلى أن تحل الديون المؤجلة، فيخير بائعوها بين فسخ البيع فيها، أو الترك. قال: وإليه أشار في " الإملاء "؛ لأن بالحجر تعلقت الديون بماله، فصار المبيع كالمرهون في حقه بدين مؤجل، فلم يبع في الديون الحالة. وأما إذا قلنا: إن الديون المؤجلة تحل بالحجر.. فما الحكم في الأعيان المشتراة بها؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها صاحب " التعليق ": أحدها - وهو قول أبي إسحاق -: إن تلك الأعيان لا تباع في حق أصحاب الديون المعجلة، ولا تسلم إلى بائعها أيضا، بل توقف، فإذا قسم ماله.. فك عنه الحجر إلا في تلك الأعيان، فإن الحجر باق عليه فيها إلى أن يحل الأجل، فإن قضى أصحاب الديون المؤجلة حقوقهم، وإلا أخذوها. والوجه الثاني: أن أصحاب الديون المعجلة يضربون بديونهم مع أصحاب الديون المؤجلة، فما يخص أصحاب الديون المؤجلة من المال يعزل لهم، ويفك الحجر عن المفلس، ويتصرف فيه، وفي الأعيان المبيعة بالأثمان المؤجلة.. يتصرف فيها أيضا إلى أن يحل الأجل، فإن قضاهم ديونهم، وإلا أعيد عليه الحجر. والثالث - وهو قول الشيخ أبي حامد -: إن أصحاب الديون المؤجلة يساوون أصحاب الديون المعجلة، فمن كان له عين مال.. رجع في عين ماله، وأخذها،

مسألة: اشترى بدين وباع ثم أفلس

ومن لم يكن له عين مال باقية.. ضارب الغرماء بحصته، فما خصه من المال.. أخذه، وتصرف فيه، كما لو مات وعليه ديون مؤجلة. [مسألة: اشترى بدين وباع ثم أفلس] وإن اشترى عينا بثمن في ذمته، فباعها من غيره، أو وهبها منه، وأقبضها، ثم أفلس المشتري.. لم يكن للبائع إلا الضرب مع الغرماء؛ لأنها خارجة عن ملك المشتري، فهو كما لو تلف. وإن رجعت إلى ملك المشتري بإرث، أو هبة، أو وصية، ثم أفلس.. فهل يرجع البائع بها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يرجع؛ لأن هذا الملك انتقل إليه من غير البائع. والثاني: للبائع أن يرجع فيها؛ لأنه وجد عين ماله خاليا عن حق غيره، فهو كما لو لم يخرج عن ملك المشتري. فإذا قلنا بهذا الوجه، وكان المشتري قد اشتراها ممن هي في يده بثمن في ذمته، فأفلس الثمنين، وحجر عليه.. فأي البائعين أحق بالعين؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها المسعودي [في " الإبانة " ق \ 271] : أحدها: البائع الأول أحق بها؛ لأن حقه أسبق. والثاني: أن البائع الثاني أحق بها؛ لأنه أقرب. والثالث: أنهما سواء؛ لأنهما متساويان في سبب الاستحقاق. [مسألة: وجود المبيع أو بعضه عند المفلس] ] : هذا الذي ذكرناه إذا وجد البائع العين المبيعة بحالها لم تنقص ولم تزد، فأما إذا وجدها ناقصة: فلا يخلو: إما أن يكون نقصان جزء ينقسم عليه الثمن ويصح إفراده بالبيع، أو نقصان جزء لا ينقسم عليه الثمن ولا يصح إفراده بالبيع.

فإن كان نقصان جزء ينقسم عليه الثمن، بأن باعه عبدين بثمن، فقبضهما المشتري، فتلف أحدهما، وأفلس قبل أن يقبض البائع الثمن.. أو كان ثوبا فتلف بعضه أو نخلة مثمرة مؤبرة فتلفت الثمرة قبل أن يقبض البائع الثمن فالبائع بالخيار: بين أن يترك ما بقي من المبيع، ويضرب بجميع الثمن مع الغرماء، وبين أن يرجع فيما بقي من المبيع بحصته من الثمن، ويضرب مع الغرماء بحصة ما تلف من المبيع من الثمن، سواء تلف بآفة سماوية، أو بفعل المشتري، أو بفعل أجنبي، فالحكم واحد في رجوع البائع، وإنما كان كذلك؛ لأن البائع يستحق المبيع في يد المفلس بالثمن، كما يستحق المشتري المبيع في يد البائع بالثمن، ثم المشتري إذا وجد بعض المبيع في يد البائع.. كان له أن يأخذه بحصته من الثمن، فكذلك هذا مثله. فإن كان المبيع عبدين أو ثوبين، وتلف أحدهما، وأراد تقسيط الثمن عليهما.. قوم كل واحد منهما بانفراده، وقسم الثمن المسمى على قيمتهما، فما قابل التالف.. ضرب به مع الغرماء، وما قابل الباقي.. رجع في الباقي منهما بما قابله. وإن باعه نخلة عليها ثمرة مؤبرة، واشترط المشتري دخول الثمرة في البيع، ثم أتلف المشتري الثمرة، أو تلفت، وأفلس، واختار البائع الرجوع في النخلة.. فإنه يرجع فيها بحصتها من الثمن، ويضرب مع الغرماء بما يقابل الثمرة من الثمن. وحكى المحاملي عن بعض أصحابنا: أنه يرجع في النخلة بجميع الثمن. وليس بشيء. فإذا أراد أن يرجع في النخلة بحصتها من الثمن.. قال صاحب " المهذب ": فكيفية ذلك: أن يقوم النخلة مع الثمرة، ثم يقوم النخلة من غير ثمرة، ويرجع بما بينهما من الثمن. وأما الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ فقالا: تقوم النخلة منفردة. فإن قيل: قيمتها تسعون.. قومت الثمرة منفردة، فإن قيل: قيمتها عشرة.. علمنا أن قيمة الثمرة العشر، فيعلم أن الذي يقابل الثمرة عشر الثمن المسمى، فيضرب به مع الغرماء، ويأخذ النخلة بتسعة أعشار الثمن.

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وتقوم يوم قبضها) . قال أصحابنا: وليس هذا على إطلاقه، وإنما تقوم بأقل الأمرين من يوم العقد، أو يوم القبض؛ لأن القيمة إن كانت يوم العقد أقل.. قومت وقت العقد؛ لأن الزيادة حدثت في ملك المفلس، فلا يكون للبائع فيها حق. وإن كانت القيمة يوم القبض أقل.. قومت يوم القبض؛ لأن ما نقص في يد البائع كان مضمونا عليه، فلا يرجع البائع على المفلس بما نقص في يده. وإن اشتري منه نخلة عليها طلع غير مؤبر.. فإن الطلع يدخل في البيع، فإن أتلف المشتري الثمرة أو تلفت في يده، وأفلس، فأختار البائع الرجوع في النخلة.. فهل يضرب مع الغرماء بحصة الثمرة من الثمن، أو يرجع في النخلة بجميع الثمن؟ فيه وجهان: أحدهما: يضرب مع الغرماء بحصة الثمرة من الثمن؛ لأنها ثمرة يجوز إفرادها بالعقد، فرجع بحصتها من الثمن، كما لو كانت مؤبرة. فعلى هذا: كيفية التقسيط على ما مضى في المؤبرة. والثاني: لا يضرب بحصة الثمرة، مع الغرماء، بل يأخذ النخلة بجميع الثمن، أو يضرب به مع الغرماء؛ لأن الطلع غير المؤبر يجري مجرى جزء من أجزاء النخلة، بدليل: أنها تدخل في العقد بالإطلاق، فصارت كالسعف. ولو أفلس، وقد تلف شيء من السعف.. لم يضرب بحصتها من الثمن، فكذلك هذا مثله. وأصل هذا: هل للطلع قبل التأبير نماء متميز، أو غير متميز؟ فيه وجهان. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد. وإن كان النقصان مما لا ينقسم عليه الثمن، بأن كان المبيع عبدا صحيحا، فصار أعور العين أو مقطوع اليد، أو ثوبا صحيحا، فوجده البائع مخروقا، أو دارا ذهب تأليفها في يد المشتري فإن اختار البائع أن يضرب مع الغرماء بالثمن ... فلا كلام، وإن اختار أن يرجع بعين ماله..نظرت:

فرع: وجد البائع المفلس قد أجر المباع

فإن لم يجب في مقابلة ما ذهب أرش، بأن ذهب ذلك بآفة سماوية، أو بفعل المشتري.. فإن البائع يرجع في المبيع ناقصا بجميع الثمن، كما قلنا فيمن أشترى عبدا، فذهبت عينه أو يده بآفة سماوية في يد البائع، فإن المشتري إذا اختار إجازة البيع.. أخذه بجميع الثمن. وإن وجب للنقصان أرش، بأن ذهب ذلك بفعل أجنبي.. فإن البائع يرجع في العين بحصتها من الثمن، فيضرب مع الغرماء بحصة ما تلف من العين المبيعة من الثمن ويرجع المشتري على الأجنبي بالأرش، وإنما كان كذلك؛ لأن الأرش الذي يأخذه المشتري من الأجنبي بدل عن الجزء الفائت من المبيع، ولو كان ذلك الجزء موجودا.. لرجع به البائع، فإذا كان معدوما.. رجع بما قابله من الثمن. فإن قيل: هلا قلتم: إن البائع يأخذ ذلك الأرش؟ قلنا: لا نقول ذلك؛ لأن البائع لا يستحق الأرش، وإنما يستحق ما قابل ذلك الجزء من الثمن، كما أن الأجنبي لو أتلف جميع المبيع.. لم يرجع البائع بما وجب على الجاني من القيمة، وإنما يرجع بالثمن. وبيان ما يرجع به، أن يقال: كم قيمة هذه العين قبل الجناية عليها؟ فإن قيل: مائة.. قيل: فكم قيمتها بعد الجناية عليها؟ فإن قيل: تسعون.. علمنا أن النقص عشر القيمة، فيضرب البائع مع الغرماء بعشر الثمن. فأما المفلس: فيرجع على الجاني بالأرش، فإن كان المبيع من غير الرقيق.. رجع بما نقص من قيمته بالجناية، وإن كان من الرقيق.. نظر إلى ما أتلفه منه، فإن كان مضمونا من الحر بالدية.. كان مضمونا من العبد بالقيمة، وإن كان مضمونا من الحر بالحكومة.. كان مضمونا من العبد بما نقص من القيمة، ويكون ذلك للغرماء، سواء كان أكثر مما رجع به البائع أو أقل منه. [فرع: وجد البائع المفلس قد أجر المباع] ) وإن وجد البائع المبيع وقد أجره المشتري، ولم تنقض مدة الإجارة، واختار البائع الرجوع في العين.. كان له ذلك، واستوفى المستأجر مدة إجارته، ولا يأخذ البائع الأجرة ولا شيئا منها؛ لأن المبتاع ملك ذلك بالعقد، فصار ذلك كالعيب، وهكذا:

مسألة: وجد البائع عين ماله ناميا

إذا كان المبيع عبدا أو جارية، فزوجها المبتاع، واختار الرجوع في عين ماله.. كان له ذلك، والنكاح بحاله، ولا شيء له من مهر الأمة. وإن دبره المبتاع، أو أوصى بعتقه، أو علق عتقه بصفة.. كان للبائع الرجوع، وانفسخت هذه التصرفات. وإن كاتبه المبتاع.. لم يكن للبائع الرجوع فيه؛ لأنه عقد لازم من جهة المشتري، فإن عجز العبد نفسه.. كان للبائع أن يرجع فيه، كما إذا رهن المبتاع العين المبيعة، ثم زال حق المرتهن عنها. [مسألة: وجد البائع عين ماله ناميا] ) وإن وجد البائع عين ماله زائدة.. نظرت: فإن كانت الزيادة غير متميزة، كالسمن والكبر وما أشبههما، فاختار البائع الرجوع في العين.. رجع فيها مع زيادتها؛ لأنها زيادة لا تتميز، فتبعت الأصل في الرجوع بها، كالرد بالعيب. [فرع: بيع النخل مؤبرة وغير مؤبرة] ) : فإن باعه نخلا عليها طلع مؤبر، واشترط المشتري دخول الثمرة في البيع، فأدركت الثمرة في يد المشتري وجدها وجففها، ثم أفلس، والجميع في ملكه، لم يتعلق به حق غيره.. فإن للبائع أن يرجع في النخل والثمرة وإن كان مجففا؛ لأن هذه الزيادة غير متميزة، فهي كسمن الجارية. وإن باعة نخلا عليها طلع غير مؤبر، فأبرها المشتري، ثم أفلس.. فهل للبائع الرجوع فيها؟ قال المسعودي (في (الإبانة) ق \ 272) : فعلى قولين، بناء على أن الثمرة هل تعلم قبل التأبير؟ وفيه قولان. قلت: ويشبه أن تكون على طريقة أصحابنا البغداديين على وجهين، بناء على أن الثمرة قبل التأبير نماء متميز، أو غير متميز، وقد مضى ذكرهما. وإن باعه أرضا، وفيها بذر مودع فيها، واشترط دخول البذر في البيع.. فهل

يصح بيع البذر؟ قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان. وغيره من أصحابنا قال: هما وجهان، وقد مضى ذلك في البيوع. فإذا قلنا: يصح البيع في البذر، فأفلس المشتري، فإن كان قبل أن يخرج البذر عن الأرض.. رجع البائع في الأرض وفي البذر، ولا كلام، وإن أفلس بعد أن صار البذر زرعا.. فإنه يرجع في الأرض، وهل يرجع في الزرع، أو يضرب بحصة البذر من الثمن مع الغرماء؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: يرجع في الأرض وحدها، ويضرب مع الغرماء بثمن البذر؛ لأن البائع إنما يرجع بعين ماله إذا كانت باقية بحالها، وهذا الزرع خلقه الله تعالى، ولم يكن موجودا حال البيع. والثاني: يرجع في الزرع مع الأرض، وهو المنصوص؛ لأن هذا الزرع عين البذر، وإنما حوله الله تعالى من حالة إلى حالة، فرجع به، كالودي إذا صار نخلا. وإن اشترى منه أرضا فيها زرع أخضر، واشترط دخول الزرع في البيع.. صح البيع، قولا واحدا، فإن أفلس المشتري بعد ما استحصد الزرع، واشتد حبه، أو كان قد حصده وذراه ونقاه.. فهل للبائع أن يرجع في الأرض مع هذا الزرع؟ قال عامة أصحابنا: فيه وجهان، كالتي قبلها. وقال الشيخ أبو حامد: إن قلنا بالمنصوص في التي قبلها.. فللبائع أن يرجع هاهنا فيهما، وإن قلنا بالوجه الثاني لبعض أصحابنا فيها.. فهاهنا وجهان: أحدهما: لا يرجع؛ لما مضى.

فرع: الزيادة المتميزة في يد المفلس

والثاني: يرجع؛ لأنه عين ماله، وإنما تغيرت صفتها، فزادت. قال: وهكذا لو تغير الزرع من خضرة إلى صفرة. وإن باعة أرضا فيها نوى مدفونة، واشترط دخول النوى في البيع.. ففيه وجهان، المذهب: أنه يدخل. فإن أفلس المشتري، وقد صار النوى نخلا.. فهل يرجع البائع فيها مع النخل؟ فيه وجهان، كالبذر إذا صار زرعا. وإن اشترى منه بيضا، فحضنه تحت دجاجة حتى صار فرخا، ثم أفلس المشتري.. فهل يرجع البائع في الفراخ؟ فيه وجهان، كالبذر إذ صار زرعا، وتعليلهما ما ذكرناه. [فرع: الزيادة المتميزة في يد المفلس] ) : وإن كانت الزيادة متميزة، كاللبن، وولد البهيمة. رجع البائع في العين المبيعة دون الزيادة؛ لأنها زيادة متميزة، فلم تتبع الأصل في الرد، كما قلنا في الرد بالعيب. وإن كان المبيع أرضا فارغة، فزرعها المشتري، أو نخلا لا ثمرة عليها، فأثمرت في يد المشتري وأبرت، ثم أفلس المشتري، واختار البائع الرجوع في عين ماله.. فإنه يرجع في الأرض دون الزرع، وفي النخل دون الثمرة؛ لأنها زيادة متميزة حدثت في ملك المشتري، فلم يكن للبائع فيها حق. إذا ثبت هذا: فليس للبائع أن يطالب المشتري والغرماء بحصاد الزرع، ولا بجذاذ الثمرة قبل وقتها؛ لأن المشتري زرع في أرضه، فليس بظالم، والثمرة أطلعت في ملكه، فهو كما لو باع أرضا وفيها زرع، أو نخلا وعليها طلع.. فإنه لا يجبر على قطع ذلك قبل أوانه، ولا تجب للبائع أجرة الأرض ولا النخل إلى أوان الحصاد والجذاذ، كما لا يجب ذلك للمشتري على البائع إذا اشترى أرضا وفيها زرع، أو نخلا عليها طلع، ثم ينظر في المفلس والغرماء: فإن اتفقوا على قطع الثمرة والزرع قبل أوان

فرع: باعه نخلا لم يطلع وأفلس

قطعهما.. جاز؛ لأن الحق لهم، وإن اتفقوا على تركه إلى وقت الحصاد والجذاذ.. جاز، وإن دعا بعضهم إلى القطع قبل أوانه، ودعا بعضهم إلى تركه.. ففيه وجهان: أحدهما - وبه قال عامة أصحابنا، وهو المذهب -: أنه يجاب قول من دعا إلى القطع؛ لأن الغرماء إن كانوا هم الطالبين للقطع.. أجيبوا؛ لأنهم يقولون: حقوقنا معجلة، فلا يجب علينا التأخير. وإن كان المفلس هو الطالب للقطع.. أجيب؛ لأنه يستفيد بذلك إبراء ذمته، ولأن في التبقية غررا؛ لأنه قد يتلف، فأجيب من دعا إلى القطع. والوجه الثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يفعل ما فيه الحظ من القطع، أو التبقية. قال ابن الصباغ: وهذا لا بأس به؛ لأنه قد يكون من الثمرة والزرع ماله قيمة تافهة، أو ما لا قيمة له، والظاهر سلامته، ولهذا يجوز أن يزرع للصغير المولى عليه. [فرع: باعه نخلا لم يطلع وأفلس] ) : وإن باعه نخلا لا ثمرة عليها، فأطلعت في يد المشتري، وأفلس قبل التأبير.. فهل للبائع أن يرجع في الثمرة مع النخل؟ فيه قولان: أحدهما - رواه المزني -: (أنه يرجع في الثمرة مع النخل) ؛ لأنه لو باعه نخلة؛ عليها طلع غير مؤبرة.. تبعت الثمرة النخلة في البيع، فتبعتها أيضا في الفسخ، كالسمن في الجارية. والثاني - رواه الربيع - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يرجع في الثمرة) ؛ لأنه يصح إفرادها بالبيع، فلم يتبع النخلة في الفسخ، كالطلع المؤبر، ويفارق البيع؛ لأنه زال ملكه عن النخلة باختياره، وهاهنا زال بغير اختياره.

قال أصحابنا: فكل موضع زال ملك المالك عن أصل النخلة، وعليها طلع غير مؤبر باختيار المالك، وكان زوال ملكه عنها بعوض.. فإن الثمرة تتبع الأصل، وذلك كالبيع، والصلح، والأجرة في الإجارة، والصداق، والخلع، وما أشبه ذلك. وكل موضع زال ملكه عن أصل النخلة بغير اختياره، فهل تتبع الثمرة الأصل؟ فيه قولان، وذلك مثل مسألتنا هذه في المفلس، ومثل: أن يشتري نخلة لا ثمرة عليها بثمن معين، فتطلع النخلة في يد المشتري، ثم يجد البائع في الثمن عيبا، فيرده قبل التأبير، فهل يرجع البائع في الثمرة مع النخلة؟ على قولين. وكذلك: إذا اشترى شقصا في أرض فيها نخل، وأطلعت النخل في يد المشتري، ثم علم الشفيع قبل التأبير، فشفع.. فهل يأخذ الثمرة مع النخل؟ على هذين القولين. وكذلك: كل موضوع زال ملكه عن الأصل إلى غيره باختياره بغير عوض، فهل يتبع الطلع الذي ليس بمؤبر الأصل؟ فيه قولان أيضا، وذلك مثل: أن يهب الرجل لغيره نخلة عليها طلع غير مؤبر. وكذلك: إذا زال ملكه عن الأصل بغير عوض بغير اختياره أيضا، مثل: أن يهب الأب لابنه نخلة، فأطلعت في يد الابن، ورجع الأب فيها قبل التأبير، فهل تتبع الثمرة الأصل؟ فيه قولان. إذا ثبت هذا: فإن باعه نخلة لا ثمرة عليها، فأطلعت في يد المشتري، وأفلس قبل أن تؤبر الثمرة، فرجع البائع في عين ماله: فإن قلنا: إن الثمرة لا تتبع النخلة في الفسخ.. كانت الثمرة للمفلس، فإن اتفق المفلس والغرماء على تبقيتها إلى أوان جذاذها.. كان لهم ذلك، وليس لبائع النخلة أن يطالبهم بقطعها قبل ذلك، ولا بأجرة نخلته؛ لأنها حدثت في ملك مالكها، وإن اتفقوا على قطعها.. جاز، وإن دعا بعضهم إلى قطعها، وبعضهم إلى تبقيتها؟ ففيه وجهان:

(أحدهما) : قال عامة أصحابنا: يجاب من دعا إلى قطعها. و (الثاني) : قال أبو إسحاق: يفعل ما فيه الأحوط، وقد مضى دليل الوجهين. وإن قلنا: إن الثمرة تكون لبائع النخل، فلم يرجع البائع حتى أبرت النخل.. كانت الثمرة للمفلس والغرماء، قولا واحدا؛ لأنها قد صارت بمنزلة نماء متميز، والحكم في قطعها وتبقيتها على ما مضى. فإن قال بائع النخل: قد كنت رجعت فيها قبل التأبير، فإن صدقه المفلس والغرماء على ذلك، أو كذبوه وأقام على ذلك بينة.. حكم له بالثمرة، وإن كذبه المفلس والغرماء ولا بينة.. فالقول قول المفلس مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الرجوع، فإذا حلف المفلس.. كانت الثمرة ملكا له، وقسمت على الغرماء، وإن نكل عن اليمين.. فهل يحلف الغرماء؟ فيه قولان، مضى ذكرهما. فإذا قلنا: يحلفون، فحلفوا.. قسمت الثمرة بينهم، وإن نكلوا، أو قلنا: لا يحلفون.. عرضت اليمين على البائع، فإن حلف.. ثبت ملك الطلع له، وإن نكل ... قال ابن الصباغ: سقط حقه، وكانت الثمرة للمفلس، وقسمت بين الغرماء. وإن صدق الغرماء البائع، وكذبوا المفلس.. نظرت في الغرماء: فإن كان فيهم عدلان، فشهدا للبائع: أنه رجع قبل التأبير.. قبلت شهادتهما له، وحكم بالثمرة للبائع؛ لأنهما لا يجران إلى أنفسهما بهذه الشهادة نفعا، ولا يدفعان بها ضررا، وكذلك إن كان فيهم عدل واحد، وحلف معه البائع.. حكم له بالثمرة. وإن كانوا فساقا، أو لم تقبل شهادتهم للبائع لسبب من الأسباب المانعة.. فالقول قول المفلس مع يمينه. قلت: والذي يقتضيه المذهب: أنه يحلف ما يعلم أن البائع رجع فيها قبل التأبير، وكذلك الغرماء إذا حلفوا؛ لأنه يحلف على نفي فعل الغير، فإن حلف المفلس.. ملك الثمرة، فإن لم يختر دفع الثمرة إلى الغرماء، ولا بيعها لهم.. لم يجبر على

ذلك، ولا لهم أن يطالبوه بذلك، لأنهم يقرون أنها ملك للبائع دون المفلس، ولكن يصرف إليهم سائر أمواله، ويفك عنه الحجر، ويتصرف في الثمرة كيف شاء، وإن اختار المفلس دفع الثمرة إلى الغرماء.. فهل يجبر الغرماء على قبولها؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو المذهب، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره -: أنهم يجبرون، فيقال لهم: إما أن تقبلوها، أو تبرئوه من قدرها من دينكم، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (المكاتب) إذا حمل إلى سيده مالا عن كتابته، فقال للسيد: هو حرام: (إنه يلزمه أن يأخذه، أو يبرئه من قدره مما له عليه) . والثاني: لا يلزمهم ذلك، وذلك لأنهم يقرون أن المفلس لا يملك ذلك، ويفارق سيد المكاتب؛ لأنه يريد الإضرار بالعبد، ورده إلى الرق، فلم يقبل منه، ولا ضرر على المفلس في ذلك. فإذا قلنا بالأول، وقال الغرماء: نحن لا نأخذ الثمرة، ولكنا نفك الحجر عنه، وتؤخر حقوقنا.. فهل للمفلس الامتناع؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في (الإبانة) ق \ 272] . فإن اختار الغرماء أن يبرئوا المفلس من قدر الثمرة من الدين، فأبرؤوه من ذلك.. فلا كلام. وإن لم يختاروا أن يبرئوه، فإن كان دينهم من جنس الثمرة.. وجب عليهم أخذها، وكذلك إذا لم يكن دينهم من جنس الثمرة، واختاروا أخذ الثمرة عن دينهم، فإن كان دينهم من غير السلم.. جاز، وبرئت ذمة المفلس من ذلك، فإذا أخذوا ذلك.. لم يملكوه، ولكن يلزمهم رد ذلك إلى البائع؛ لأنهم قد أقروا أنها ملكه، وإنما لم يقبل إقرارهم لحق المفلس، فإذا زال حقه.. لزمهم حكم إقرارهم الأول، كما لو شهد رجلان على رجل: أنه أعتق عبده، فلم تقبل شهادتهما عليه، ثم انتقل العبد إليهما، أو إلى أحدهما بإرث أو بيع.. فإنه يعتق عليهما بالإقرار السابق. وإن كانت حقوقهم من غير جنس الثمرة.. فإنه لا يلزمهم قبول الثمرة بعينها، ولكن تباع الثمرة، ويدفع إليهم الثمن. قال ابن الصباغ: ولا حق للبائع في الثمن.

وإن صدق بعض الغرماء البائع، وكذبه بعضهم مع المفلس، فإن كان فيمن صدق البائع عدلان، فشهدا له، أو عدل، وحلف مع شهادته له.. حكم للبائع بالثمرة، ولا كلام، وإن لم يكن فيهم من تقبل شهادته له.. فإن القول قول المفلس مع يمينه؛ لما ذكرناه، فإذا حلف.. ملك الثمرة، فإن أراد قسمة الثمرة على من صدقة دون من كذبه.. جاز، وإن اختار قسمتها على الجميع.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يدفعها إلى الذين صدقوه، دون الذين كذبوه) . واختلف أصحابنا فيها على وجهين: فـ (الوجه الأول) : قال أبو إسحاق: هي كالأولى، وإن للمفلس أن يفرق ذلك على الجميع، أو يبرئه من كذبه على ما يخصه من الثمرة من الدين؛ لما ذكرناه في التي قبلها، وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.. فمعناه: إذا رضي المفلس أن يفرقه فيمن صدقة، دون من كذبه. و (الوجه الثاني) : منهم من قال: لا يجبر من كذبه على قبض شيء من الثمرة، ولا الإبراء عن شيء من دينه، وجها واحدا، بخلاف الأولى؛ لأن مع تكذيب جماعتهم له به حاجة إلى قضاء دينه، فأجبروا على أخذه، وفي مسألتنا يمكنه دفعه إلى المصدقين له دون المكذبين له. فإذا قلنا بالأول: لزم المصدقين للبائع أن يدفعوا ما خصهم من الثمرة إليه، ولا يلزم المكذبين له، والذي يقتضي المذهب: أن البائع لو سأل من كذبه من الغرماء أن يحلف له: أنه ما يعلم أنه رجع قبل التأبير.. لزم المكذب أن يحلف؛ لأنه لو خاف من اليمين، فأقر.. لزمه إقراره، هذا إذا كان المفلس مكذبا للبائع،.. فأما إذا كان المفلس مصدقا للبائع أنه رجع قبل التأبير.. وقال الغرماء: بل رجع بعد التأبير.. فهل يقبل إقرار المفلس؟ فيه قولان، كالقولين فيه إذا قال: هذه العين غصبتها من فلان، أو ابتعتها منه بثمن في ذمتي.. فهل يقبل في العين؟ قولان. فإذا قلنا: يقبل.. كانت الثمرة للبائع، ولا كلام. وإذا قلنا: لا يقبل فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يحلف الغرماء للبائع: أنه ما رجع قبل التأبير) .

مسألة: باع جارية حائلا فحبلت فردها

فمن أصحابنا من قال: فيها قولان، كما إذا ادعى المفلس مالا، وأقام شاهدا، ولم يحلف معه.. فهل يحلف غرماؤه؟ فيه قولان، وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هاهنا.. فهو أحدهما. و [الثاني] : منهم من قال: يحلفون هاهنا، قولا واحدا، وهناك على قولين؛ لأن هناك توجهت اليمين على غيرهم، ثم نقلت إليهم، وهاهنا توجهت عليهم ابتداء. [مسألة: باع جارية حائلا فحبلت فردها] وإن باع من رجل جارية حائلا، فحبلت في يد المشتري من زوج أو زنا، فأفلس المشتري بعد أن وضعت الجارية.. فللبائع أن يرجع في الجارية؛ لأنها عين ماله، ولا حق له في الولد؛ لأنه نماء متميز، ولكن لا يجوز التفريق بينها وبين ولدها إذا كان صغيرا، فإن قال بائع الجارية: أنا أدفع قيمة الولد وأتملكه مع الأم. كان له ذلك، وإن قال: لا أدفع قيمة الولد.. بيعت الجارية والولد، وقسم الثمن عليهما، فما قابل الجارية من الثمن.. كان لبائعها، وما قابل الولد من الثمن.. كان لسائر الغرماء. قال الشيخ أبو حامد: وكيفية التقسيط: أن تقوم الجارية ذات ولد، ثم يقوم الولد، ويضم قيمة أحدهما إلى الآخر، ويقسم الثمن عليهما، فإن قيل مثلا: قيمة الجارية تسعون، وقيمة الولد عشرة.. كان لبائع الجارية تسعة أعشار الثمن، وللغرماء عشر الثمن، وإنما قومت الجارية ذات ولد؛ لأنها ناقصة لأجل الولد، وقد استحق الرجوع فيها في حال نقصها. هذا هو المذهب. ومن أصحابنا من قال: يقال للبائع: إما أن تدفع قيمة الولد.. فتتملكه مع الأم، وإلا فلا رجوع لك في الأم، بل تضرب مع الغرماء في الثمن.. وليس بشيء؛ لأنه قد وجد عين ماله خاليا عن حق غيره. وإن أفلس المشتري قبل أن تضع الجارية: فإن قلنا: لا حكم للحمل.. كان لبائع الجارية أن يرجع فيها وفي حملها؛ لأنه زيادة متصلة. وإن قلنا: للحمل حكم.. قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: له أن يرجع

فرع: باع حاملا فأسقطت وأفلس المشتري

في الجارية دون الحمل، فإذا وضعت الجارية.. فالحكم في البيع والتقسيط على ما مضى. وقال ابن الصباغ: ليس له أن يرجع في الأم؛ لأن الحمل كالزيادة المنفصلة، ولا يمكن الرجوع في الأم دون الحمل. وأما إذا باعها حاملا، فأفلس المشتري وهي حامل.. فللبائع أن يرجع فيها وفي حملها. وإن أفلس بعد الوضع، فإن قلنا: للحمل حكم.. رجع في الجارية وفي الولد. وإن قلنا: لا حكم للحمل.. رجع في الأم دون الولد، ولا يفرق بينهما، فإن دفع قيمة الولد ليتملكه.. جاز، وإن لم يدفع قيمته.. بيعت الجارية والولد، وقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، والتقسيط على ما مضى. والحكم في الحيوان الحائل والحامل حكم الجارية إلا في شيء واحد، وهو أن البهيمة يجوز التفريق بينها وبين ولدها الصغير. [فرع: باع حاملا فأسقطت وأفلس المشتري] وإن باع من رجل جارية حاملا، فقبضها المشتري، وأسقطت جنينا في يده، ثم أفلس.. فللبائع أن يرجع في الجارية. فإن قلنا: لا حكم للحمل.. رجع في الجارية، ولا شيء له لأجل السقط. وإن قلنا: للحمل حكم.. رجع في الجارية، وضرب مع الغرماء بما يقابل السقط من الثمن، كما لو باع شيئين بثمن، ثم تلف أحدهما في يد المشتري، ثم أفلس، فللبائع الرجوع في الموجود، والضرب مع الغرماء بثمن المفقود. [مسألة: التصرف بالمشتري كاستعماله] إذا اشترى منه حنطة فطحنها، أو ثوبا خاما فقصره، أو خاطه بخيوط من الثوب، أو غزلا فنسجه، فأفلس المشتري.. فللبائع أن يرجع في الدقيق، والثوب المقصور، والمخيط، والغزل المنسوج، بلا خلاف على المذهب؛ لأنه وجد عين ماله خاليا عن

حق غيره، فإن لم تزد قيمة الحنطة والثوب بذلك.. فلا شيء للمفلس؛ لأن العمل قد استهلك، فإن كان المفلس قد عمل ذلك بنفسه.. سقط عمله، وإن استأجر من عمل ذلك، ولم يدفع الأجرة.. لم يكن للأجير أن يشارك بائع الثوب بشيء، وإنما يضرب مع باقي الغرماء فيما عدا الثوب من مال المفلس؛ لأن عمله لم يظهر له قيمة، وهكذا الحكم إذا نقصت قيمة الحنطة والثوب بذلك، واختار البائع الرجوع فيه.. فلا شيء له لأجل النقصان؛ لأن المفلس نقص ماله بيده، فإذا اختار البائع الرجوع.. لم يكن له شيء لأجل النقصان، كما لو وجد العبد مريضا.. فلا شيء للمفلس، ولا يشارك الأجير بائع الثوب بشيء؛ لأن عمله قد استهلك، ولكن يضرب مع الغرماء بأجرته. فأما إذا زادت قيمة الحنطة والثوب بذلك: ففيه قولان: أحدهما: يرجع البائع بالثوب والدقيق، ولا يشاركه المفلس بشيء، وهو اختيار المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المشتري لم يضف إلى المبيع عينا، وإنما فرق بالطحن أجزاء مجتمعة، وأزال بالقصارة وسخ الثوب، فلم يشارك البائع بذلك، كما لو اشترى حيوانا مهزولا، فسمن في يده. والثاني: أن هذه الآثار تجري مجرى الأعيان، فيشارك المفلس البائع بقدر الزيادة، وهو الصحيح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وبه أقول؛ لأنها زيادة من فعل المشتري حصلت في المبيع، فكان له أن يشاركه، كما لو صبغ الثوب) ، ولأن الطحن والقصارة أجريت مجرى الأعيان، بدليل: أن للطحان والقصار والخياط والنساج أن يمسك هذه الأعيان المعمول فيها، إلى أن يستوفي الأجرة، فأجريت مجرى الأعيان فيما ذكرناه. إذا ثبت هذا: فإن قلنا بالقول الأول، واختار البائع الرجوع في عين ماله.. رجع فيها بزيادتها، فإن كان المفلس قد استأجر من عمل ذلك، ولم يستوف الأجير أجرته.. لم يكن للأجير أن يشارك بائع العين بشيء، بل يضرب مع الغرماء بقدر أجرته. وإن قلنا بما اختاره الشافعي، وأن هذه الآثار تجري مجرى الأعيان، فإن كان المفلس تولى العمل بنفسه، أو استعان من عمل ذلك بغير أجرة، أو استأجر من عمل

فرع: باعه غلاما فتعلم علما أو صنعة

ذلك بأجرة، وقد وفى الأجير أجرته.. فإنه يشارك البائع بقدر ما زادت العين بالعمل، مثل: أن كان الثوب يساوي قبل القصارة عشرة، فصار مقصورا يساوي خمسة عشر، فللمفلس في الثوب خمسة. قال ابن الصباغ: فإن اختار بائع الثوب أن يدفع الخمسة.. أجبر المفلس والغرماء على قبولها، كما إذا غرس المشتري في الأرض المبيعة، أو بنى.. فلبائع الأرض أن يدفع قيمة الغراس أو البناء، ويتملكه مع الأرض، وإن لم يختر بائع الثوب أن يدفع ذلك.. بيع الثوب وكان ثلثا الثمن للبائع، والثلث للمفلس، وإن كان المفلس قد استأجر من عمل ذلك، ولم يدفع إليه شيئا من الأجرة.. تعلق حق الأجير بالزيادة؛ لأنا قد جعلناها كالعين، فإن كانت الزيادة قدر أجرته، بأن كان قد استأجره بخمسة دراهم.. اختص الأجير بالزيادة، ويشارك البائع بها، وإن كانت الزيادة أكثر من أجرته، بأن كانت أجرته خمسة، والزيادة عشرة.. كانت الزيادة على قدر الأجرة للمفلس، تصرف إلى باقي الغرماء، وإن كانت الزيادة أقل من الأجرة، بأن كانت قيمة الثوب قبل القصارة عشرة، فصارت قيمته مقصورا اثني عشر، وأجرة القصار خمسة.. فإن الأجير يشارك بائع الثوب بدرهمين، ويضرب مع الغرماء بثلاثة دراهم. [فرع: باعه غلاما فتعلم علما أو صنعة] وإن اشترى غلاما، فعلمه صنعة مباحة، أو علمه القرآن، ثم أفلس المشتري، وقد زادت قيمة العبد بذلك.. فاختلف أصحابنا في ذلك: فقال صاحب " التلخيص ": هي على قولين، كالقصارة؛ لأنه يجوز الاستئجار على ذلك، فهو كالقصارة، والنساجة. وقال الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: ليس كالقصارة، ولا يشارك المفلس البائع للزيادة قولا واحدا؛ لأنه لا يحصل بفعله، وإنما إليه التلقين، وليس إليه الحفظ، وإنما هو إلى الله تعالى؛ لأنه قد يلقنه، فلا يتلقن، فهو كالسمن في

مسألة: باع ثوبا فصبغه المشتري

البهيمة؛ لأنه قد يعلفها لتسمن، فلا تسمن، بخلاف القصارة والنساجة والطحن؛ لأنها حدثت بفعل مضاف إلى المبتاع؛ لأنه لا يوجد منه هذه الأفعال، إلا وتحدث هذه الآثار، ولا تنفك منها. [مسألة: باع ثوبا فصبغه المشتري] وإن اشترى ثوبا من رجل بعشرة دراهم في ذمته، ومن آخر صبغا بخمسة دراهم في ذمته، وصبغ به الثوب، وأفلس المشتري قبل أن يدفع الثمنين، واختار البائعان الرجوع في عين مالهما، فإن لم تزد قيمتهما، ولم تنقص، بأن صار الثوب مصبوغا يساوي خمسة عشر.. صارا شريكين على قدر مالهما. قال أبو علي السنجي: واختلف أصحابنا في تنزيله: فمنهم من قال: يكون ثلثا الثوب وثلثا الصبغ لبائع الثوب، وثلثهما لبائع الصبغ؛ لأن مال كل واحد منهما لا يتميز عن مال صاحبه، فيصيران شريكين، كما لو اشترى زيتا، فخلطه بمثله، فلو تلف نصف الثوب.. كان النصف الباقي بينهما. منهم من قال: جميع الثوب لبائعه، وجميع الصبغ لبائعه، كما لو اشترى أرضا من رجل، وغرسا من آخر، وغرسه فيها، وكره بائع الغرس القلع. فإن نقصت قيمتها، فصارت قيمة الثوب مصبوغا اثني عشر.. فإن النقص يضاف إلى جنبه الصبغ؛ لأن أجزاءه تتفرق وتنقص، والثوب بحاله، ولأن الصبغ هو الوارد على الثوب، فالظاهر أنه نقص بالورود. فعلي هذا: لصاحب الثوب أن يرجع في ثوبه، فإذا بيع.. دفع إليه من ثمنه عشرة، وأما صاحب الصبغ - إذا اختار الرجوع إليه - ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول الشيخ أبي إسحاق في " المهذب "، وابن الصباغ -: أنه يشارك بائع الثوب بدرهمين، ويضرب مع الغرماء بثلاثة دراهم؛ لأنه نقص بفعل المفلس والثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد، وصاحب " الفروع "، والصيدلاني -: إنه

يقال له: قد وجدت عين مالك ناقصة، فأنت بالخيار: بين أن ترجع فيها ناقصة القيمة، ولا شيء لك.. فيكون له سدس قيمة الثوب لا غير، وبين أن تضرب مع الغرماء بثمن صبغك، وهو خمسة، كما قلنا فيمن باع ثوبا، فلبسه المشتري، فوجده البائع ناقصا بالاستعمال.. فإنه يرجع فيه، ولا شيء له. فإن زادت قيمتهما، فصار الثوب يساوي عشرين، فإن قلنا: إن الزيادة بالصنعة كالآثار، ولا حكم لها.. لم يكن المفلس شريكا لبائع الثوب وبائع الصبغ بشيء، بل الزيادة لهما، لصاحب الثوب ثلثاها، ولصاحب الصبغ ثلثها. وإن قلنا: الزيادة بالصنعة كالزيادة بالعين، وهو الصحيح.. كانت الزيادة للمفلس، فيكون المفلس شريكا لهما في الربع، فإذا بيع الثوب بعشرين.. كان لبائع الثوب عشرة، ولبائع الصبغ خمسة، وللمفلس خمسة تصرف إلى باقي الغرماء. فإن زادت قيمة الثوب بعد ذلك فصار يساوي مصبوغا أربعين، بعد أن كان يساوي مصبوغا عشرين.. قال ابن الحداد: أضعف لكل واحد منهما ماله، فيكون لبائع الثوب عشرون، ولبائع الصبغ عشرة، وللمفلس عشرة. وإن بلغت قيمة الثوب لما صبغ أربعين.. فإن لصاحب الثوب ربع الثمن، عشرة، ولصاحب الصبغ ثمن الثمن، خمسة، وللمفلس خمسة أثمانه، وهو خمسة وعشرون. وإن اشترى الثوب من رجل بعشرة، واشترى منه صبغا بخمسة، وصبغ به الثوب، فأفلس المشتري، فإن لم تنقص قيمتهما بعد الصبغ ولم تزد، بأن صار الثوب بعد الصبغ يساوي خمسة عشر، واختار البائع الرجوع فيهما.. رجع فيهما ولا كلام، وإن نقصت قيمتهما، فصار الثوب بعد الصبغ يساوي اثني عشر، واختار الرجوع فيهما.. فهل يضرب مع الغرماء بثلثه؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: لا يضرب معهم بشيء، بل يأخذ الثوب ناقصا، إن اختاره بغير شيء. و [الثاني] : قال ابن الصباغ: يضرب مع الغرماء بثلثه. وهو قياس قول صاحب " المهذب " في الأولى.

فإن زادت قيمتهما، فصار الثوب مصبوغا يساوي عشرين، فإن قلنا: إن الزيادة بالعمل لا حكم لها.. رجع البائع في الثوب بزيادته، ولا شيء للمفلس، وإن قلنا: إن الزيادة بالعمل كالعين.. كان للبائع خمسة عشر، وللمفلس خمسة. وإن اشترى من رجل ثوبا بعشرة، وصبغه بصبغ من عنده يساوي خمسة، فإن لم تنقص قيمتهما ولم تزد، بأن صار الثوب مصبوغا يساوي خمسة عشر.. فإن المشتري يصير شريكا للبائع بالثلث، وفي كيفية اشتراكهما، الوجهان المحكيان في المسألة الأولى عن أبي علي السنجي. وإن نقصت قيمتهما، فصار الثوب مصبوغا يساوي اثني عشر.. فإن النقصان ينصرف إلى الصبغ؛ لأن الظاهر أنه حصل بوروده، فيشاركه المفلس بسدس الثمن، ولبائع الثوب خمسة أسداسه. وإن زادت قيمتهما، فصار يساوي عشرين، فإن قلنا: إن الزيادة بالعمل لا حكم لها.. فإن الزيادة بينهما على قدر مالهما، لبائع الثوب ثلثاها، وللمفلس ثلثها، وإن قلنا: إن الزيادة بالعمل كالعين.. فإن الزيادة كلها للمفلس، فيكون لبائع الثوب نصف الثمن، وللمفلس النصف. وإن اشترى من رجل صبغا بخمسة، وصبغ به ثوبا لنفسه يساوي عشرة.. فلبائع الصبغ أن يرجع في صبغه، فإن رجع.. نظرت: فإن لم تنقص قيمتهما ولم تزد، بأن كان الثوب بعد الصبغ يساوي خمسة عشر.. فإن البائع يكون شريكا للمفلس بالثلث، وفي كيفية اشتراكهما، الوجهان المحكيان عن السنجي. وإن نقصت قيمتهما، فصار الثوب يساوي اثني عشر بعد الصبغ.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: يشارك البائع المفلس بدرهمين، وهو سدس ثمن الثوب، ولا شيء له غير ذلك.

مسألة: اشترى أرضا بثمن مؤجل وغرسها ثم أفلس

و [الثاني] : قال ابن الصباغ: يشارك البائع المفلس بسدس ثمن الثوب، ويضرب مع الغرماء بثلاثة دراهم. وإن زادت قيمتهما، فصار الثوب مصبوغا يساوي عشرين، فإن قلنا: إن الزيادة بالعمل لا حكم لها.. كانت الزيادة بينهما على قدر مالهما، للبائع ثلثها، وللمفلس ثلثاها، وإن قلنا: إنها كالعين.. كانت الزيادة جميعها للمفلس، فيكون الثمن بينهما، للبائع، وللمفلس خمسة عشر. [مسألة: اشترى أرضا بثمن مؤجل وغرسها ثم أفلس] إذا اشترى رجل من رجل أرضا بثمن في ذمته، فغرسها بغراس من عنده، أو بنى فيها بناء بآلة من عنده، ثم أفلس قبل دفع الثمن، وأراد البائع الرجوع في أرضه، فإن اتفق المفلس والغرماء على قلع الغراس، أو البناء من الأرض.. جاز لهم ذلك؛ لأن الحق لهم، ولبائع الأرض أن يرجع فيها؛ لأنها عين ماله لم يتعلق بها حق غيره، فإذا رجع البائع فيها، ثم قلعوا البناء والغراس.. لزمهم تسوية الأرض، وأرش ما نقص إن حصل بها لأجل القلع؛ لأن ذلك حصل لتخليص ملكهم، فهو كما لو دخل فصيل إلى دار رجل، ولم يخرج إلا بنقض الباب.. فلرب الفصيل نقض الباب، وإخراج فصيله، وعليه إصلاح الباب، ويكون ذلك مقدما على حق سائر الغرماء. فإن قيل: أليس قد قلتم: إن البائع إذا وجد عين ماله ناقصة، فرجع فيها.. فإنه لا شيء له؟ قلنا: الفرق بينهما: أن النقص هناك حصل في ملك المشتري، فلم يضمنه إلا

فيما يتقسط عليه الثمن، وهاهنا حدث النقص بعد رجوع البائع في أرضه، والنقص حصل لتخليص ملكهم، فضمنوه. وإن لم يرض المفلس والغرماء بقلع الغراس والبناء.. لم يكن لبائع الأرض إجبارهم على ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» . وهذا ليس بظالم؛ لأنه غرسه في ملكه. وإذا ثبت: أنهم لا يجبرون.. فإن بذل البائع قيمة الغراس والبناء ليتملكه مع الأرض، أو قال: أنا أقلع ذلك، وأضمن أرش ما دخل بالقلع من النقص.. أجبر المفلس والغرماء على قبول ذلك، وكان لبائع الأرض الرجوع فيها؛ لأن الضرر يزول عن الجميع بذلك. وإن قال بائع الأرض: أرجع فيها، وأقر الغراس والبناء، وآخذ أجرة الأرض.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 272] : كان له ذلك. وإن امتنع المفلس والغرماء من القلع، وامتنع بائع الأرض من بذل قيمة الغراس والبناء وأرش ما حصل بالقلع.. فهل له أن يرجع في أرضه؟

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (له أن يرجع فيها) . وقال في موضع: (يسقط حقه من الرجوع فيها) . واختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: فيها قولان: أحدهما: للبائع أن يرجع في أرضه وإن لم يدفع قيمة الغراس والبناء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فصاحب المتاع أحق بمتاعه، إذا وجده بعينه» . ولم يفرق، ولأن أكثر ما فيه أنه وجد ملكه مشغولا بملك غيره، وذلك لا يسقط حقه من الرجوع، كما لو باع ثوبا، فصبغه المشتري بصبغ من عنده. والثاني: ليس له الرجوع في أرضه؛ لأن الأرض قد صارت مشغولة بملك غيره، فسقط حقه من الرجوع فيها، كما لو اشترى من رجل مسامير، وسمر فيها بابا، ثم أفلس.. فإنه ليس لبائع المسامير أن يرجع فيها، ولأن رجوع البائع في عين ماله إنما جعل له لإزالة الضرر عنه، فلو جوزنا له الرجوع هاهنا.. لأزلنا عنه الضرر، وألحقناه بالمفلس والغرماء؛ لأنه لا يبقى لهم طريق إلى غراسهم وبنائهم. ومنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على حالين: فالموضع الذي قال: (يرجع في أرضه، ولا يدفع قيمة الغراس والبناء) إذا كانت قيمة الأرض أكثر من قيمة الغراس والبناء؛ لأن الغراس والبناء تابع للأرض. والموضع الذي قال فيه: (لا يرجع في الأرض) إذا كانت قيمة الغراس والبناء أكثر من قيمة الأرض؛ لأن الأرض تكون تابعة للغراس والبناء. والصحيح: أنها على قولين؛ لأن بائع الأرض لو بذل قيمة الغراس والبناء.. لكان له الرجوع في أرضه، سواء كانت قيمة الأرض أكثر من قيمة الغراس والبناء أو أقل. فإذا قلنا: ليس له الرجوع في أرضه.. فلا كلام، وإن قلنا: له الرجوع في أرضه وإن لم يدفع قيمة الغراس والبناء، فرجع فيها.. نظرت:

فإن اتفق الغرماء والمفلس والبائع على بيع الأرض والغراس والبناء.. بيعا، وقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما، وكيفية ذلك: أن يقال: كم قيمة الأرض مفردة ذات غراس وبناء؟ فإن قيل: خمسون.. قيل: وكم قيمة الغراس والبناء مفردا؟ فإن قيل: خمسون.. كان الثمن نصفين، لبائع الأرض النصف، وللغرماء وللمفلس النصف، وإنما قومت الأرض ذات بناء وغراس، لأن قيمتها أنقص، وقد استحق الرجوع فيها ناقصة. وإن امتنع البائع من بيع الأرض.. ففيه قولان: أحدهما: يجبر على بيعها مع الغراس والبناء، ويقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما، على ما ذكرناه من التقسيط؛ لأن الحاجة تدعو إلى البيع لقضاء الدين، فبيع الجميع، كما لو كان المبيع ثوبا، فصبغه المفلس بصبغ من عنده، فرجع بائع الثوب فيه، وامتنع من دفع قيمة الصبغ.. فإن الثوب يباع مع الصبغ، وكذلك إذا كان المبيع جارية، فولدت في يد المشتري، ورجع بائع الجارية فيها.. فإنها تباع مع الولد. والثاني: لا يجبر البائع على بيع أرضه، وهو المشهور؛ لأنه يمكن إفراد الغراس والبناء بالبيع، فلم يجبر البائع على بيع أرضه، بخلاف الصبغ، فإنه لا يمكن إفراده بالبيع، وكذلك ولد الجارية إنما وجب بيعه؛ لأنه لا يجوز التفريق بينها وبين ولدها الصغير. وحكى الشيخ أبو حامد: أن من أصحابنا من قال: تؤجر الأرض والغراس، ثم يكون ما قابل الأرض من الأجرة لبائعها، وما قابل الشجر من الأجرة للمفلس والغرماء. قال الشيخ أبو حامد: وهذا خطأ؛ لأن إجارة الشجر لا تجوز، ولهذا لو غصب شجرة، وأقامت في يده.. لم يجب عليه أجرتها.

فرع: اشترى أرضا ثم غراسا في ذمته فأفلس

[فرع: اشترى أرضا ثم غراسا في ذمته فأفلس] ] : وإن اشترى من رجل أرضا بثمن في ذمته، ومن آخر غراسا في ذمته، فغرسه في الأرض، ثم أفلس قبل تسليم الثمنين.. فلكل واحد من البائعين الرجوع في عين ماله، فإذا رجعا.. نظرت: فإن أراد صاحب الغراس قلع غراسه.. كان له ذلك، ولم يكن لبائع الأرض، منعه منه، فإذا قلعه.. كان عليه تسوية الأرض، وأرش ما نقص إن حصل بها؛ لأن ذلك حصل لتخليص ملكه. وإن أراد صاحب الأرض قلع الغراس، ويضمن أرش النقص، أو بذل قيمة الغراس ليتملكه مع الأرض.. كان له ذلك؛ لأنه متصل بملكه، فكان له إسقاط حقه منه بدفع قيمته. وإن أراد صاحب الأرض قلع الغراس من غير ضمان.. فهل يجبر بائع الغراس على ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه ليس بعرق ظالم، ولأنه لو كان باقيا على ملك المفلس.. لم يكن لصاحب الأرض أن يطالبه بقلعه من غير ضمان، فكذلك من انتقل إليه منه. والثاني: له ذلك؛ لأنه إنما ابتاع منه الغراس مقلوعا، فكان عليه أن يأخذه مقلوعا، ويفارق المفلس؛ لأنه غرسه في ملكه، فثبت حقه في ذلك. [فرع: استلف حبا فزرعه، ثم ماء فسقاه فأفلس] قال ابن الصباغ: إذا اشترى من رجل حبا، فزرعه في أرضه، ومن آخر ماء، فسقاه به، فنبت، وأفلس.. فإنهما يضربان بثمن الماء والحب مع الغرماء، ولا يرجعان بالزرع؛ لأن عين مالهما غير موجودة فيه، فهو كما لو اشترى طعاما، فأطعمه عبده حتى كبر.. فإنه لا حق له في العبد، ولأن نصيب الماء غير معلوم لأحد من الخلق. قلت: وقد مضى في البذر وجه آخر: أنه يرجع فيه، فيحتمل أن يكون ابن الصباغ اختار أحدهما.

مسألة: استدان زيتا وخلطه بزيته وأفلس

[مسألة: استدان زيتا وخلطه بزيته وأفلس] وإذا ابتاع شيئا من ذوات الأمثال، فخلطه بجنسه، ولم يتميز.. ففيه ثلاث مسائل: إحداهن: أن يخلطه بمثله، مثل: أن يشتري صاعا من زيت يساوي أربعة دراهم، فخلطه بصاع من زيته يساوي أربعة دراهم، وأفلس المشتري قبل دفع الثمن.. فللبائع أن يرجع في عين ماله؛ لأن عين ماله موجودة من جهة الحكم، فإن طلب البائع قسمة الزيت.. أجبر المفلس والغرماء على القسمة، كما لو ورث جماعة زيتا، وطلب واحد منهم قسمته.. فإنه يقسم، ويجبر الممتنع منهم. وإن طلب البائع بيع الزيت، وقسمة ثمنه.. فهل يجبر المفلس على ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجبر على البيع؛ لأن البائع يمكنه الوصول إلى حقه من جهة القسمة، فلم يكن له المطالبة بالبيع، كما لو ورث جماعة زيتا، وطلب واحد منهم البيع، فإن شركاءه لا يجبرون على البيع. والثاني: يجبر المفلس على البيع؛ لأن بالقسمة لا يصل إلى عين ماله، وربما كان له غرض في أن لا يأكل من زيت المشتري. المسألة الثانية: إذا خلطه بزيت أجود من زيته، بأن اشترى صاعا من زيت يساوي درهمين، فخلطه بصاع من زيته يساوي أربعة دراهم.. فهل للبائع أن يرجع في عين ماله؟ فيه قولان: أحدهما: له أن يرجع، وهو اختيار المزني؛ لأنه ليس له فيه أكثر من أنه وجد عين ماله مختلطة بمال المفلس، وذلك لا يمنع الرجوع، كما لو اشترى ثوبا، فصبغه بصبغ من عنده.. فإن لبائع الثوب أن يرجع فيه. والثاني: ليس له أن يرجع في عين ماله. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وهو أصح، وبه أقول) ؛ لأنه لا يجوز له الرجوع بمثل

مكيلته؛ لأن ذلك أكثر قيمة من عين ماله، ولا بقيمة صاعه؛ لأن ذلك أنقص من حقه. فإذا قلنا بهذا: ضرب مع الغرماء بالثمن. وإذا قلنا بالأول: فكيف يرجع؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ. وأما الشيخ أبو حامد: فحكاهما وجهين: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، واختيار ابن الصباغ -: أنه يباع الزيتان، ويأخذ قيمة ثلثي صاع، وهو درهمان؛ لأنا لو قلنا: له الرجوع في ثلثي صاع.. لكان ذلك ربا. والثاني - وهو اختيار الشيخ أبي حامد، قال: وهو المنصوص -: (أنه يرجع في ثلثي صاع) ؛ لأنه ليس ببيع، وإنما وضع ذلك عن مكيله زيتا. المسألة الثالثة: إذا خلطه بأردأ من زيته، بأن اشترى صاعا من زيت يساوي أربعة دراهم، فخلطه بصاع من زيته يساوي درهمين.. فللبائع أن يرجع في عين ماله، قولا واحدا؛ لأن عين ماله موجودة من طريق الحكم، فإن رضي البائع بأخذ صاع منه.. أجبر المفلس على ذلك؛ لأنه أنقص من حقه، وإن لم يرض البائع بذلك.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد: أحدها: ليس له إلا صاع منه؛ لأنه وجد عين ماله ناقصة، فإذا اختار الرجوع فيه.. لم يكن له غيره، كما لو كان المبيع ثوبا، فلبسه المشتري ونقص. والثاني - وهو قول أبي إسحاق، ولم يذكر ابن الصباغ غيره -: أن الصاعين يباعان، وتدفع إلى البائع قيمة صاعه، وهو أربعة دراهم، كما قال في المسألة قبلها؛ لأنه إن أخذ مثل كيل زيته.. كان أنقص من حقه، وإن أخذ أكثر من مكيلة زيته.. كان ربا. والثالث - حكاه ابن المرزبان -: أن له أن يأخذ منه صاعا وثلث صاع بقيمة صاع من زيته، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المسألة قبلها: (أنه يأخذ ثلثي صاع) . والأول أصح.

فرع: استدان عنبا أو رطبا فخلطه بمثله ثم أفلس

[فرع: استدان عنبا أو رطبا فخلطه بمثله ثم أفلس] ] : وإن اشترى عنبا، فخلطه بعنب له، أو رطبا، فخلطه برطب له، ثم أفلس.. فهل للبائع أن يرجع في عين ماله؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه لا يمكن إفراده إلا بالقسمة، وقسمة ذلك بيع، وبيع بعضه ببعض لا يجوز. والثاني: يجوز؛ لأنه يمكنه إفراز حق ذلك بالوزن والكيل. قال الشيخ أبو حامد: وعندي: أن هذين القولين مأخوذان من القسمة، هل هي بيع، أو إفراز حق؟ فإن قلنا: إنها بيع.. لم يجز له الرجوع. فعلى هذا: يضرب مع الغرماء بالثمن. وإن قلنا: إنها إفراز حق.. فله الرجوع، وكيفية الرجوع على ما مضى في المسائل الثلاث: إذا خلطه بمثله، أو بأجود منه، أو بأردأ منه. [مسألة: إفلاس المسلِم قبل قبض المسلَم] إذا أسلم رجل إلى غيره في شيء على صفة، ثم أفلس المسلم قبل أن يأخذ المسلم فيه، فإن أراد المسلم أن يأخذ المسلَم فيه بدون الصفة التي أسلَمَ فيها.. لم يجز من غير رضا الغرماء؛ لأن حقوقهم تعلقت بماله، وإن رضي المفلس والغرماء بذلك.. جاز؛ لأن الحق لهم، ولا يخرج عنهم إلا برضاهم. فإن قيل: ما الفرق بين هذا، وبين المكاتب إذا أذن له سيده في أن يبرأ عن الدين.. أنه لا يصح إبراؤه في أحد القولين؟ قلنا: الفرق بينهما على هذا القول: أن المفلس كامل الملك إلا أنه منع من

التصرف في ماله لتعلق حق الغير في ماله، فإذا أذن له ذلك الغير في التصرف بماله.. صح تصرفه، كالمرتهن إذا أذن للراهن، وليس كذلك المكاتب، فإن المنع لنقصان ملكه، فإذا أذن له سيده.. لم يتكامل ملكه بذلك. وإن كان المفلس هو المسلم إليه، فحجر عليه قبل أن يقبض المسلم المسلم فيه، فإن كان رأس المال باقيا.. كان للمسلم أن يفسخ عقد السلم، ويرجع في رأس ماله، كما قلنا فيمن باع عينا من رجل، فأفلس المشتري. وإن كان رأس المال تالفا.. فللمسلم أن يضرب مع الغرماء بالمسلم فيه، فإن كان المسلم فيه موجودا في مال المسلم إليه.. أخذ ما يخصه من ماله منه، وإن كان معدوما.. اشترى له بما يخصه من ماله من جنس المسلم فيه؛ لأن أخذ العوض عن المسلم فيه لا يجوز. وقال أبو إسحاق: المسلم بالخيار: بين أن يقيم على العقد، ويضرب مع الغرماء بقدر المسلم فيه، وبين أن يفسخ العقد، ويضرب مع الغرماء برأس مال السلم، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن أسلم في شيء، فانقطع -: (فله أن يفسخ العقد، ويرجع إلى رأس مال السلم) . والمنصوص: (أنه لا يملك فسخ العقد، بل يضرب بقدر المسلم فيه، كما أن البائع إذا وجد المبيع تالفا.. ليس له أن يفسخ البيع، ويضرب مع الغرماء بقيمة العين المبيعة) . ويفارق إذا انقطع المسلم فيه؛ لأن له غرضا في الفسخ، وهو: أنه يرجع برأس ماله في الحال، وعليه مشقة في التأخير إلى وجود المسلم فيه. إذا ثبت هذا: فضرب مع الغرماء بقيمة المسلم فيه، وعزل له ما يخصه ليشتري له المسلم فيه، بأن أسلم في مائة ذهب ذرة، وكانت قيمة ذلك عند القسمة عشرين دينارا، فعزل له ذلك، فرخص السعر، حتى صارت المائة قبل الابتياع له تساوي عشرة.. اشترى له مائة ذهب بعشرة، وقسمت العشرة الباقية على باقي الغرماء إن بقي لهم من دينهم شيء، أو ردت على المفلس إن استوفى أصحاب الديون ديونهم. وإن غلا الطعام عند الابتياع، فصارت المائة تساوي أربعين دينارا.. اشترى له بالعشرين المعزولة خمسين ذهبا.

مسألة: اكترى بذمته أرضا فأفلس

قال الشيخ أبو حامد: ويكون الباقي في ذمة المسلم إليه. وقال ابن الصباغ: يرجع على الغرماء بما يخصهم من ذلك؛ لأنه قد بان أن حقه ضعف ما حاص به؛ لأن حقه في المسلم فيه دون القيمة. [مسألة: اكترى بذمته أرضا فأفلس] وإن اكترى من رجل أرضا بأجرة في ذمته، فأفلس المتكري بالأجرة قبل دفعها، فإن كان بعد استيفاء مدة الإجارة.. ضرب المكري بالأجرة مع الغرماء. وإن كان قبل أن يمضي شيء من مدة الإجارة.. فالمكري بالخيار: بين أن يضرب مع الغرماء بالأجرة، ويقر العقد، وبين أن يفسخ عقد الإجارة، ويرجع إلى منفعة أرضه، لأن المنفعة كالعين المبيعة، فجاز له الرجوع إليها. وإن كان بعد مضي شيء من مدة الإجارة.. فالمكري بالخيار: بين أن يقر العقد، ويضرب مع الغرماء بالأجرة، وبين أن يفسخ عقد الإجارة فيما بقي من المدة، ويضرب مع الغرماء بأجرة ما مضى، كما نقول فيمن باع عبدين بثمن، فتلف أحدهما في يد المشتري، وبقي الآخر. إذا ثبت هذا: فإن اختار فسخ عقد الإجارة، وفي الأرض زرع، فإن كان قد استحصد.. فله أن يطالب المفلس والغرماء بحصاده، وتفريغ الأرض. وإن كان الزرع لم يستحصد، فإن اتفق المفلس والغرماء على قطعه.. جاز، سواء كانت له قيمة أو لم تكن، ولا يعترض عليهم الحاكم؛ لأن الحق لهم، وإن اتفقوا على تركه، وبذلوا للمكري أجرة مثل الأرض إلى الحصاد.. لزمه قبول ذلك، ولم تكن له مطالبتهم بقلعه، لأنه ليس بعرق ظالم. وإن امتنع المفلس والغرماء من بذل الأجرة.. كان للمكري مطالبتهم بقلعه؛ لأنا قد جوزنا له الرجوع إلى عين ماله، وعين ماله هو المنفعة، فلا يجوز تفويتها عليه بغير عوض، بخلاف ما لو باع أرضا وزرعها المشتري، وأفلس، ثم رجع بائع الأرض

فيها.. فإنه يلزمه تبقية الزرع فيها إلى الحصاد بغير أجرة؛ لأن المعقود عليه في البيع هو العين، والمنفعة تابعة لا يقابلها عوض، وإنما دخل المشتري في العقد على أن تكون له بغير عوض، وفي الإجارة: المعقود عليه هو المنفعة، فلا يجوز استيفاؤها بغير عوض. وإن اختلف المفلس والغرماء: فقال بعضهم: يقلع. وقال بعضهم: بل يبقى إلى الحصاد، فإن كان الزرع لا قيمة له، كالزرع أول ما يخرج.. قدم قول من دعا إلى التبقية؛ لأن من دعا إلى القلع.. دعا إلى الإتلاف، فلم يجب إلى ذلك، وإن كان للزرع قيمة، كالقصيل.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: يفعل ما فيه الأحظ؛ لأن الحجر يقتضي طلب الحظ. و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: إنه يجاب قول من دعا إلى القلع، وقد مضى دليلهما. فإن قيل: فما الفرق بين هذا، وبين من ابتاع أرضا وغرسها، ثم أفلس المبتاع، وأخذ البائع عين ماله، وهو الأرض، وصار الغراس للمفلس والغرماء، فقال بعضهم: يقلع، وقال بعضهم: يبقى، فإنه يقدم قول من قال: يبقى؟. قلنا: الفرق بينهما على هذا الوجه: أن من دعا إلى قلع الغراس.. يريد الإضرار بغيره؛ لأن بيع الغراس في الأرض أكثر لثمنه، فلم يجب قول من دعا إلى قلعه، وليس كذلك في الزرع، فإن من دعا إلى القلع.. فيه منفعة من غير ضرر؛ لأن الزرع إذا بقي قد يسلم، وقد لا يسلم. إذا ثبت هذا: فإن اتفقوا على تبقية الزرع إلى الحصاد، واحتاج إلى سقي ومؤنة، فإن اتفق الغرماء والمفلس على أن ينفقوا عليه من مال المفلس الذي لم يقسم.. ففيه وجهان:

فرع: اكترى مركبا لينقل بضاعة فأفلس

أحدهما: لا ينفق منه؛ لأن حصول هذا الزرع مظنون، فلا يتلف عليه مال موجود. والثاني - وهو المذهب -: أنه ينفق عليه منه؛ لأن ذلك من مصلحة المال، ويقصد به تنمية المال في العادة. وإن دعا الغرماء المفلس إلى أن ينفق عليه، وأبى المفلس ذلك.. لم يجبر عليه؛ لأنه لا يجب عليه تنمية المال للغرماء. فإن تطوع الغرماء أو بعضهم بالإنفاق عليه من غير إذن المفلس والحاكم.. لم يرجعوا بما أنفقوا عليه، لأنهم متطوعون به. وإن أنفق بعضهم بإذن المفلس والحاكم على أن يرجع على المفلس بما أنفق.. جاز ذلك، وكان له ذلك دينا في ذمة المفلس لا يشارك به الغرماء؛ لأنه وجب عليه بعد الحجر. وإن أنفق عليه بعض الغرماء، بإذن باقي الغرماء، على أن يرجع عليهم.. رجع عليهم بما أنفق من مالهم. [فرع: اكترى مركبا لينقل بضاعة فأفلس] قال في " الأم " [3/183] : (ولو اكترى ظهرا ليحمل له طعاما إلى بلد من البلدان، فحمله، وأفلس المكتري قبل دفع الأجرة.. ضرب المكري مع الغرماء بالأجرة، فإن أفلس قبل أن يصل إلى البلد.. نظرت: فإن كان الموضع الذي بلغ إليه آمنا.. كان له فسخ الإجارة فيما بقي من المسافة، ويضع الطعام عند الحاكم) . قال ابن الصباغ: وإن وضعه على يد عدل بغير إذن الحاكم.. ففيه وجهان، كالمودع إذا أراد السفر، فأودع الوديعة بغير إذن الحاكم.. فهل يضمن؟ فيه وجهان. وإن كان الموضع مخوفا.. لزمه حمل الطعام إلى الموضع الذي أكراه لحمله إليه، أو إلى موضع دونه يأمن عليه فيه. قال في " الأم ": (وإن اكترى من رجل ظهرا بعينه ليركبه إلى بلد، فأفلس المكري.. كان المكتري أحق بالظهر؛ لأنه استحق منفعته بعقد الإجارة قبل الحجر) .

مسألة: بعد قسم مال المفلس يحجر عليه

وإن اكترى منه ظهرا في ذمته، فأفلس المكري.. فإن المكتري يضرب مع الغرماء بقيمة المنفعة إن كان لم يستوف شيئا منها، أو بقيمة ما بقي منها إن استوفى بعضها؛ لأن حقه متعلق بذمته، فهو كما لو باعه عينا بثمن في ذمته. فإن كان ما يخصه من مال المفلس لا يبلغ ما اكترى به، وكانت الأجرة باقية.. فللمكتري أن يفسخ الإجارة، ويرجع إلى عين ماله إن كان لم يستوف شيئا من المنفعة، أو إلى بعضها إن كان قد استوفى شيئا من المنفعة؛ لأن الأجرة كالعين المبيعة. [مسألة: بعد قسم مال المفلس يحجر عليه] إذا قسم مال المفلس بين غرمائه.. ففي حجره وجهان: أحدهما: يزول عنه من غير حكم الحاكم؛ لأن الحجر عليه كان لأجل المال، وقد زال المال، فزال الحجر بزواله، كما أن المجنون محجور عليه بالجنون، فإن زال الجنون.. زال الحجر. والثاني: لا يزول الحجر إلا بحكم الحاكم؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فلم يزل إلا بحكمه، كالحجر على السفيه. [مسألة: مات وعليه ديون] ] : ومن مات وعليه ديون.. تعلقت ديون الغرماء بماله، وبه قال عثمان، وعلي، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم. وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا تتعلق بماله) . دليلنا عليهما: ما ذكرناه في المفلس. فإن مات وله على غيره دين إلى أجل، وعليه دين إلى أجل.. فإن الدين الذي له إلى أجل لا يحل بموته، وأما الدين الذي عليه إلى أجل.. فإنه يحل عليه بموته، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم.

فرع: تصرف الوارث قبل قضاء الدين

وذهب الحسن البصري، وعمرو بن دينار إلى: أنه لا يحل ما عليه بموته. دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مات الرجل وله دين إلى أجل، وعليه دين إلى أجل.. فالذي عليه حال، والذي له إلى أجله» . ولأنه لا وجه لبقاء تأجيله؛ لأنه لا يخلو: إما أن يبقى في ذمة الميت، أو في ذمة الورثة، أو متعلقا بأعيان المال، فبطل أن يبقى مؤجلا في ذمة الميت؛ لأن ذمته خربة، وبطل أن يقال: يبقى في ذمة الورثة؛ لأن صاحب الدين لم يرض بذممهم. ولأنه لو تعلق بذممهم إذا كان للميت مال.. لتعلق بذممهم وإن لم يكن للميت مال، وبطل أن يقال: يبقى مؤجلا متعلقا بأعيان ماله؛ لأن ذلك إضرار بصاحب الدين؛ لأن أعيان المال ربما تلفت، وإضرار بالميت؛ لأن ذمته لا تبرأ حتى يقضى عنه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نفس المؤمن مرتهنة بدينه، حتى يقضى عنه» . فإذا بطلت هذه الأقسام.. لم يبق إلا القول بحلوله. [فرع: تصرف الوارث قبل قضاء الدين] فإن تصرف الوارث في التركة أو بعضها قبل قضاء الدين.. فهل يصح تصرفه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح، سواء بقي من التركة ما يفي بالدين أو لا يفي؛ لأن مال الميت تعلق به ما عليه من الدين، فلم يصح تصرف الوارث فيه، كالراهن إذا تصرف في عين الرهن قبل قضاء الدين. والثاني: يصح تصرفه؛ لأنه حق تعلق بالمال من غير رضا المالك، فلم يمنع صحة التصرف، كتصرف المريض في ماله.

فرع: وجد أحد غرماء الميت ماله بعينه

فإذا قلنا بهذا: فإن قضى الدين.. نفذ تصرفه، وإن لم يقض الدين.. لم ينفذ تصرفه؛ لأنا إنما صححنا التصرف تصحيحا موقوفا على قضاء الدين، كما صححنا تصرف المريض بماله تصرفا موقوفا. فإن باع عبدا، ثم مات البائع، ووجد المشتري بالعبد الذي اشتراه عيبا، فرده، فإن كان الثمن باقيا بعينه. استرجعه، وإن كان تالفا.. رجع المشتري بالثمن في تركة الميت، فإن كان الوارث قد تصرف بالتركة قبل ذلك، أو كان حفر الرجل بئرا في طريق المسلمين ومات، وتصرف وارثه بتركته، ثم وقع في تلك البئر بهيمة أو رجل.. وجب ضمان ذلك في تركة الميت، وهل يصح تصرف الوارث قبل ذلك؟ إن قلنا في المسألة قبلها: إنه يصح تصرفه.. فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: لا يصح.. ففي هذه وجهان: أحدهما: يصح تصرفه؛ لأنه تصرف في مال له، لم يتعلق به حق أحد. والثاني: لا يصح؛ لأنا تبينا أنه تصرف والدين متعلق بالتركة. [فرع: وجد أحد غرماء الميت ماله بعينه] ] : وإن كان في غرماء الميت من باع منه عينا، ووجد عين ماله، ولم يقبض ثمنها، فإن كانت التركة لا تفي بالدين.. فللبائع أن يرجع في عين ماله. وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يرجع فيها، بل يضرب مع الغرماء بدينه) . دليلنا: ما «روى عمر بن خلدة الزرقي قاضي المدينة، قال: أتينا أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في صاحب لنا أفلس، فقال: هذا الذي قضى فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيما رجل مات، أو أفلس.. فصاحب المتاع أحق بمتاعه، إذا وجده بعينه» وهذا نص في موضع الخلاف. وإن كان ماله يفي بالدين.. ففيه وجهان:

مسألة: وجد غريم بعد قسم مال الميت أو المفلس

[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: للبائع أن يرجع بعين ماله؛ لحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه لم يفرق. والثاني: ليس له أن يرجع بعين ماله، وهو المذهب؛ لأن ماله يفي بدينه، فلم يكن للبائع الرجوع بعين ماله، كما لو كان حيا، وأما الخبر: فمحمول عليه إذا مات مفلسا، مع أنه قد روى فيه أبو بكر النيسابوري بإسناده عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وإن خلف وفاء.. فهو أسوة الغرماء» . فيكون حجة لنا. [مسألة: وجد غريم بعد قسم مال الميت أو المفلس] ] : إذا قسم مال الميت، أو مال المفلس بين غرمائه، ثم ظهر له غريم آخر له دين كان مستحقا دينه قبل الحجر.. رجع الغريم على سائر الغرماء بما يخصه. وقال مالك: (يرجع غريم الميت، ولا يرجع غريم المفلس) . دليلنا: أن الحاكم إنما فرق في غرمائه، وعنده أنه لا غريم له سواهم، فإذا ظهر غيرهم.. نقض الحكم، كالحاكم إذا حكم بحكم، ثم وجد النص بخلافه. ولأنه لما كان لغريم الميت أن يرجع على الباقين.. كان لغريم المفلس مثله. [فرع: فك الحجر عنه وادعى آخرون كسبه مالا بعد الحجر] ] : وإن فك الحجر عن المفلس، وبقي عليه دين، فادعى غرماؤه أنه قد استفاد مالا بعد الحجر.. سأله الحاكم عن ذلك، فإن أنكر، ولا بينة لهم.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء العسرة. فإن ثبت له مال إما بالبينة أو بإقراره وطلب الغرماء الحجر عليه.. نظر الحاكم فيه وفيما عليه من الدين، فإن كان يفي بالدين.. لم يحجر عليه، بل يأمره بقضاء الدين، وإن كان أقل.. حجر عليه، وقسم ماله بين الغرماء.

مسألة: المكتري أحق الغرماء بالمنفعة

وإن تجدد عليه دين بعد الحجر الأول، ثم ظهر له مال، فإن بان أن المال كان موجودا قبل فك الحجر الأول عنه.. قال الجويني: اختص به الغرماء الأولون دون الآخرين؛ لأن المال كان موجودا تحت الحجر الأول، وإن اكتسب هذا المال بعد فك الحجر الأول.. اشترك به الغرماء الأولون والآخرون على قدر ديونهم. وقال مالك: (يختص به الغرماء الآخرون) . دليلنا: أن حقوقهم مستوية في الثبوت في الذمة حال الحجر، فأشبه غرماء الحجر الأول [مسألة: المكتري أحق الغرماء بالمنفعة] وإن أكرى داره أو عبده من رجل مدة، ثم أفلس المكري قبل انقضاء المدة.. فإن المكتري أحق بالمنفعة من الغرماء؛ لأنه قد ملك المنفعة بعقد الإجارة قبل الحجر، فكان أحق بها، كما لو باع شيئا من ماله، ثم أفلس، فإن أراد المكتري فسخ الإجارة.. لم يكن له ذلك؛ لأن الفسخ إنما يكون في الموضع الذي يدخل عليه الضرر ولا يصل إلى كمال حقه، وهاهنا يصل إلى كمال حقه، فلم يكن له الفسخ. فإن انهدمت الدار، أو مات العبد قبل انقضاء مدة الإجارة.. انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة، فإن كانت الأجرة لم تقبض.. سقط منها بقسط ما بقي من المدة، وإن كانت قد قبضت، فإن كانت باقية.. رجع منها بما يخص ما بقي من المدة، وإن كانت تالفة.. تعلق ذلك بذمة المفلس، ثم ينظر فيه: فإن كان ذلك قبل قسمة مال المفلس.. شاركهم المكتري، وضرب معهم بأجرة ما بقي. وإن كان ذلك بعد القسمة.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يشاركهم؛ لأن حق المكتري كان متعلقا بالمنفعة، فلما تلفت العين المكراة.. عاد حقه إلى ذمة المفلس بعد القسمة، فلم يشارك الغرماء، كما لو استدان بعد الحجر.

والثاني: يشاركهم، وهو الصحيح؛ لأن سبب وجوبه كان قبل الحجر، فشاركهم، كما لو انهدمت الدار، ومات العبد قبل القسمة، ويخالف إذا استدان بعد الحجر، فإن ذلك لم يستند إلى سبب قبل الحجر، فلذلك لم يشاركهم. والله أعلم

باب الحجر

[باب الحجر] الحجر - في اللغة -: المنع والحظر والتضييق. قال الله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22] [الفرقان: 22] ، أي: حراما محرما. وقَوْله تَعَالَى {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5] [الفجر: 5] ، أي: لذي عقل، وسمى العقل: حجرا؛ لأنه يمنع صاحبه من فعل القبيح، وسمي حجر البيت: حجرا؛ لأنه يمنع من الطواف فيه. وكذلك هو في الشرع، وإنما سمي: المحجور عليه؛ لأنه ممنوع من التصرف بماله، والمحجور عليهم ثمانية: خمسة حجر عليهم لحق غيرهم، وثلاثة حجر عليهم لحق أنفسهم: فأما الخمسة المحجور عليهم لحق غيرهم: فالمفلس حجر عليه لحق الغرماء، والمريض لحق الورثة، والعبد القن، والمكاتب لحق السيد، والمرتد لحق المسلمين. وأما الثلاثة المحجور عليهم لحق أنفسهم: فالصبي، والمجنون، والسفيه، وهذا موضع ذكرهم. والأصل في ثبوت الحجر على الصبي: قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] [النساء: 6] . و (الابتلاء) : الاختبار. قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] [الملك: 2] ، أي:

مسألة: الولاية للأب إن كان عدلا

ليختبركم. و (اليتيم) : من مات أبوه، وهو دون البلوغ. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد الحلم» . وقَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] [النساء: 6] ، أراد به: البلوغ، فعبر عنه به؛ لأنه يشتهي عند البلوغ. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] [النساء: 6] . أي: علمتم منهم رشدا، فوضع الإيناس موضع العلم، كما وضع الإيناس موضع الرؤية في قَوْله تَعَالَى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29] [القصص: 29] ، أي: رأى. قال الشافعي: (فلما علق الله تعالى دفع المال إلى اليتيم بالبلوغ وإيناس الرشد.. علمنا أنه قبل البلوغ ممنوع من ماله، محجور عليه فيه) . والدليل على ثبوت الحجر على السفيه والصبي والمجنون أيضا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] . والسفيه يجمع المبذر بماله، والمحجور عليه لصغر. والضعيف يجمع الشيخ الكبير الفاني، والصغير والمجنون، فأخبر الله تعالى: أن هؤلاء ينوب عنهم أولياؤهم فيما لهم وعليهم، فدل على ثبوت الحجر عليهم. [مسألة: الولاية للأب إن كان عدلا] إذا ملك الصبي مالا.. فإن الذي ينظر في ماله أبوه إذا كان عدلا، فإن عدم الأب، أو كان ممن لا يصلح للنظر.. كان النظر إلى الجد أب الأب إذا كان عدلا؛ لأنها ولاية في حق الصغير، فقدم الأب والجد فيها على غيرهما، كولاية النكاح، فإن مات الأب وأوصى إلى رجل بالنظر في مال الابن، وهناك جد يصلح للنظر.. ففيه وجهان: المذهب: أنه لا تصح الوصية إليه، بل النظر إلى الجد. والثاني - حكاه في " الإبانة " [ق \ 275] ، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن النظر

مسألة: لا يحق للناظرالتصرف بمال القاصر

إلى الوصي؛ لأنه قائم مقام الأب) . وليس بشيء؛ لأن الجد يستحق الولاية بالشرع، فكان أحق من الوصي. فإن لم يكن أب ولا جد. نظر الوصي من قبلهما، فإن لم يكونا ولا وصيهما.. فهل تستحق الأم النظر؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: تستحق النظر في مال ولدها؛ لأنها أحد الأبوين، فاستحقت النظر في مال الولد، كالأب. والثاني - وهو المذهب -: أنه لا ولاية لها، بل النظر إلى السلطان؛ لأنها ولاية بالشرع، فلم تستحقها الأم، كولاية النكاح، ولأن قرابة الأم لا تتضمن تعصيبا، فلم تتضمن ولاية، كقرابة الخال. فإذا قلنا بقول الإصطخري.. فهل يستحق أبوها وأمها الولاية عند عدمها؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري. [مسألة: لا يحق للناظرالتصرف بمال القاصر] مسألة: [لا يحق للناظر التصرف بمال القاصر] : ولا يجوز للناظر في مال الصبي أن يعتق منه عليه، ولا أن يكاتب، ولا أن يهب، ولا أن يحابي في البيع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] [الأنعام: 152] . وليس في شيء من هذه الأشياء أحسن. [فرع: الاتجار بمال اليتيم ونحوه] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب أن يتجر الوصي بأموال من يلي عليه، ولا ضمان عليه) . وجملة ذلك: أنه يجوز للناظر في مال الصبي أن يتجر في ماله، سواء كان الناظر له أبا، أو جدا، أو وصيا، أو أمينا من قبل الحاكم؛ لما روى عبد الله بن عمرو

مسألة: جواز شراء العقار للقاصر

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ولي يتيما، وله مال.. فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة» ، ولأن ذلك أحظ للمولى عليه؛ لتكون نفقته من الربح، كما يفعل البالغون؛ هكذا قال عامة أصحابنا، إلا الصيمري، فإنه قال: لا يتجر له في هذا الزمان؛ لفساده وجور السلطان على التجار، بل يشتري له الأرض، أو ما فيه منفعة، فإن اتجر له.. لم يتجر له إلا في طريق مأمون، ولا يتجر له في البحر؛ لأنه مخوف. فإن قيل: فقد روي: (أن عائشة أم المؤمنين أبضعت أموال بني محمد بن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في البحر) . قلنا: يحتمل أن يكون ذلك في موضع مأمون قريب من الساحل، أو يحتمل أنها فعلت ذلك وجعلت ضمانه على نفسها إن هلك. قال الصيمري: ولا يبيع له إلا بالحال، أو بالدين على ملي ثقة. [مسألة: جواز شراء العقار للقاصر] ويجوز أن يبتاع له العقار؛ لأنه أقل غررا من التجارة، ولأنه ينتفع بغلته مع بقاء أصله. قال أبو علي في " الإفصاح ": ولا يشتريه إلا من ثقة أمين يؤمن جحوده في

فرع: ما يباع فيه عقار الصبي

التالي، وحيلته في إفساد البيع، ولا يبتاعه في موضع قد أشرف على الهلاك بزيادة ماء، أو فتنة بين طائفتين؛ لأن في ذلك تغريرا بماله، ويجوز له أن يبنى له العقار إن احتاج إليه، إلا أن يكون الشراء أحظ له، فيشتري له ذلك. وإذا احتاج إلى البناء.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (بنى له بالآجر والطين، ولا يبني له باللبن والجص؛ لأن اللبن يهلك، والآجر يبقى، والجص يلتزق بالآجر، فربما احتيج إلى نقض شيء من الآجر فلا يتخلص من الجص، ولأن الجص يجحف به، والطين لا يجحف به) . قلت: وهذا في البلاد التي يعز فيها وجود الحجارة، فإن كان في بلد يوجد فيها الأحجار.. كانت أولى من الآجر؛ لأنها أكثر بقاء، وأقل مونة. [فرع: ما يباع فيه عقار الصبي] وإن ملك الصبي عقارا.. لم يبع عليه إلا في موضعين: أحدهما: أن يكون به حاجة إليه، للنفقة والكسوة، وليس له غيره، ولا تفي غلته بذلك، ولا يجد من يقرضه، فيجوز بيعه. والثاني: أن يكون له في بيعه غبطة، وهو أن تكون له شركة مع غيره، أو بجوار غيره، فيبذل له الغير بذلك أكثر من قيمته، ويؤخذ له مثل ذلك بأقل مما باع به،

فيجوز له بيع العقار عليه لذلك، إذا كان له عقار قد أشرف على الهلاك بالغرق، أو بالخراب، أو بالفتنة.. فيجوز له بيعه عليه؛ لأن النظر له في ذلك البيع. فإذا باع الأب أو الجد عليه عقارا، فرفع ذلك إلى الحاكم، وسأله إمضاءه، والإسجال له عليه.. أمضاه وأسجل له عليه؛ لأن الظاهر من حالهما أنهما لا يبيعان له إلا فيما له فيه حظ، وهل يحتاج الحاكم إلى ثبوت عدالتهما عنده؟ قال ابن الصباغ: سمعت القاضي أبا الطيب يقول: فيه وجهان: أحدهما: لا يحتاج إلى ذلك، بل يكتفى بالعدالة الظاهرة، كما قلنا في شهود النكاح. والثاني: يحتاج إلى ذلك لثبوت ولايتهما عنده، كما يحتاج إلى ثبوت عدالة الشهود عنده. وأما إذا رفع الوصي، أو أمين الحاكم البيع إليه، وسأل الإسجال على بيعه وإمضاءه.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو المشهور -: أنه لا يمضى ذلك حتى تقوم عنده البينة على الحظ أن الغبطة له؛ لأن غير الأب والجد تلحقه التهمة، فلم يقبل قوله من غير بينة، بخلاف الأب والجد. والثاني - ذكره القاضي أبو الطيب في " المجرد " -: أنه يقبل قولهما من غير بينة، كالأب والجد. قال ابن الصباغ: وهذا له عندي وجه؛ لأنه إذا جاز لهما التجارة في ماله، فيبيعان ويشتريان، ولا يعترض الحاكم عليهما.. جاز أيضا في العقار. فإن بلغ الصبي وادعى أن الأب أو الجد باع عليه عقاره من غير غبطة ولا حاجة، فإن أقام بينة على ما ادعاه.. حكم له به، وإن لم يقم بينة.. فالقول قول الأب أو الجد مع يمينه.

فرع: يع شقص الصبي

وإن باع غير الأب أو الجد عليه، كالوصي وأمين الحاكم، فلما بلغ الصبي، ادعى أنه باع عليه من غير غبطة ولا ضرورة، فإن أقام بينة.. حكم له، وإن لم يقم بينة.. لم يقبل قول الوصي والأمين من غير بينة؛ لأن التهمة تلحقه، ولهذا لا يجوز له أن يشتري مال المولى عليه من نفسه، فلم يقبل قوله من غير بينة، بخلاف الأب والجد. [فرع: يع شقص الصبي] فرع: [بيع شقص الصبي] : وإن بيع شقص في شركة الصبي، فإن كان للصبي حظ في الأخذ، بأن كان له مال يريد أن يشتري له به عقارا.. أخذ له بالشفعة، وإن كان الحظ له بالترك، بأن كان لا مال له يريد أن يشتري له به، أو كان ذلك في موضع قد أشرف على الهلاك، أو بيع بأكثر من قيمته.. لم يأخذه له بالشفعة. فإن أخذ له الولي في موضع يرى له الحظ في الأخذ، فبلغ الصبي، وأراد أن يرد ما أخذ له الولي.. لم يملك ذلك؛ لأن ما فعله الولي مما فيه الحظ.. لا يملك الصبي بعد بلوغه رده. وإن ترك الولي الأخذ له في موضع رأى الحظ له في الترك، فأراد الصبي بعد بلوغه أن يأخذه.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: له ذلك؛ لأنه بعد بلوغه يملك التصرف فيما له فيه حظ، وفيما لا حظ له فيه. و [الثاني]- المنصوص -: (أنه ليس له ذلك) ؛ لأن الولي قد اختار الترك بحسن نظره، فلم يكن له نقض ذلك، كما لو أخذ له، والحظ في الأخذ.. فإنه لا يملك الصبي بعد البلوغ الرد. فإن ادعى بعد البلوغ أن الولي أخذ، والحظ في الترك، أو ترك، والحظ في الأخذ، فإن أقام بينة على ذلك.. حكم له به، وإن لم يقم بينة، فإن كان الولي أبا أو جدا.. فالقول قولهما مع يمينهما، وإن كان غيرهما من الأولياء.. لم يقبل قوله من غير بينة؛ لما ذكرناه من الفرق قبل هذا.

مسألة: يبع مال المحجور نسيئة

[مسألة: يبع مال المحجور نسيئة] مسألة: [لا يبع مال المحجور نسيئة] : ولا يبيع ماله بنسيئة من غير غبطة، فإن كانت له سلعة يريد بيعها، وهي تساوي مائة نقدا، ومائة وعشرين نسيئة، فإن باعها بمائة نسيئة.. لم يصح بيعها، سواء أخذ بها رهنا أو لم يأخذ؛ لأن ذلك دون ثمن المثل، وإن باعها بمائة نقدا، وبعشرين نسيئة، وأخذ بالعشرين رهنا.. جاز؛ لأنه قد زاده خيرا، وإن باعها بمائة وعشرين نسيئة، ولم يأخذ بها رهنا.. لم يجز له؛ لأنه غرر بماله، وإن باعها بمائة وعشرين نسيئة، وأخذ بالجميع رهنا.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن في ذلك تغريرا بالمال، وقد يتلف الرهن. والثاني: يصح، وهو قول أبي إسحاق، وأكثر أصحابنا؛ لأنه مأمور بالتجارة، وطلب الربح، ولا يمكنه إلا بذلك. فعلى هذا: يشترط أن يكون المشتري ثقة مليئا؛ لأنه إذا لم يكن ثقة.. ربما رهنه ما لا يملكه، وإذا لم يكن مليئا.. فربما تلف الرهن، فلا يمكن استيفاء الحق منه، ويشترط أن يكون الرهن يفي بالدين، أو أكثر منه؛ لأنه ربما أفلس، أو تلف ما في يده، فإذا لم يمكن استيفاء الحق من الرهن.. كان وجود الرهن كعدمه. وهل يشترط الإشهاد مع ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري. [فرع: لا يرهن مال الصبي] قال الصيمري: ولا يجوز أن يشتري له متاعا بالدين، ويرهن من ماله؛ لأن الدين مضمون، والرهن أمانة، فإن فعل.. كان ضامنا. [مسألة: يسافر بمال الصغير] مسألة: [لا يسافر بمال الصغير] : ولا يجوز أن يسافر بماله من غير ضرورة؛ لأن في ذلك تغريرا بالمال، وقد روي: (أن المسافر ومتاعه وماله على قلة) . قلت: أي: على هلاك، فإن دعت

مسألة: إيداع مال الصغير عند الضرورة

إليه ضرورة، بأن خاف من نهب، أو غرق، أو حريق.. جاز أن يسافر به إلى حيث يأمن عليه؛ لأن ذلك موضع ضرورة. [مسألة: إيداع مال الصغير عند الضرورة] مسألة: [جواز إيداع مال الصغير عند الضرورة] . فإن خاف على ماله من نهب، أو غرق، أو حريق، ولم يقدر الولي على المسافرة به، أو أراد الولي السفر إلى موضع لا يمكنه نقل المال إليه، أو يحتاج في نقله إلى مؤنة مجحفة.. جاز أن يودعه، أو يقرضه في هذه الأحوال، فإن قدر على الإيداع دون الإقراض.. أودعه ثقة، وإن قدر على الإقراض دون الإيداع.. أقرضه ثقة مليئا، وأشهد عليه؛ لأن غير الثقة يجحد، وغير المليء لا يمكن أخذ الحق منه، فإن رأى الحظ في أخذ الرهن.. أخذه، وإن رأى الحظ في ترك الرهن.. لم يأخذه، بأن يكون الموضع مخوفا، أو كان الولي ممن يرى سقوط الحق بتلف الرهن؛ لأنه لا حظ له في أخذ الرهن مع ذلك، وإن قدر على الإقراض والإيداع.. فالإقراض أولى؛ لأنه مضمون ببدل، والوديعة غير مضمونة، فإن أودع مع القدرة على الإقراض.. ففيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن كل واحد منهما يجوز، فخير بينهما. والثاني: لا يجوز؛ لأن الإقراض أحظ له، فإذا ترك الأحظ.. ضمن. [فرع: الاقتراض لليتيم عند الحاجة] فأما الاقتراض له.. فيجوز إذا دعت إلى ذلك حاجة للنفقة عليه، أو الكسوة، أو النفقة على عقاره المستهدم، إذا كان له مال غائب يتوقع وروده، أو ثمرة ينتظرها تفي بذلك، وإن لم يكن له شيء ينتظر.. فلا حظ له في الاقتراض، بل يبيع عليه شيئا من أصوله ويصرفه في نفقته. قال ابن الصباغ: وينبغي إذا لم يجد من يقرضه، ووجد من يبيعه شيئا بنسيئة،

مسألة: الإنفاق على القاصر

وكان أحظ له من بيع أصوله.. أن يجوز له أن يشتريه له، ويرهن شيئا من ماله، وكذلك إذا اقترض له، ورهن شيئا من ماله.. جاز، ولكن لا يرهن إلا عند ثقة. [مسألة: الإنفاق على القاصر] ] : وينفق عليه ويكسوه من غير إسراف، ولا إقتار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] [الفرقان: 67] . وإن كان الصبي مكتسبا.. قال أبو إسحاق المروزي: أجبره الولي على الاكتساب لنفقته، وحفظ عليه ماله؛ لأن ذلك أحظ له. [فرع: خلط نفقة الوصي والموصى له] فإن رأى الولي أن الحظ للمولى عليه بخلط نفقته مع نفقته، بأن كان إذا خلط دقيقه بدقيقه.. كان أرفق به في المؤنة، وأكثر له في الخبز.. جاز له الخلط؛ لما روي: أنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] [النساء: 10] .. تجنب أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليتامى، وأفردوهم عنهم، فنزل قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] [البقرة: 220] ، أي لضيق عليكم؛ لأن (العنت) : الضيق.

فرع: اختلاف الوصي والموصى له عند الرشد

وإن كان الحظ له في إفراده.. لم تجز الخلطة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] [الأنعام: 152] . [فرع: اختلاف الوصي والموصى له عند الرشد] فإن بلغ الصبي، واختلف هو والولي في قدر نفقته، فإن كان الولي أبا أو جدا، فإن ادعى أنه أنفق زيادة على النفقة بالمعروف.. لزمهما ضمان تلك الزيادة؛ لأنه مفرط، وإن ادعيا النفقة بالمعروف.. فالقول قولهما مع أيمانهما؛ لأنهما غير متهمين. وأما إذا كان الولي غيرهما، كالوصي، وأمين الحاكم، وادعيا النفقة بالمعروف.. فهل يقبل قولهما من غير بينة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقبل قولهما من غير بينة، كما لا يقبل ذلك منهما في دعوى بيع العقار. والثاني: يقبل قولهما مع أيمانهما. قال ابن الصباغ: وهو الأصح؛ لأن إقامة البينة على ذلك تتعذر، بخلاف البيع، فإنه لا يتعذر عليه إقامة البينة. [مسألة: بيع الوصي متاعا للموصى له] ويجوز للأب والجد أن يبيعا مالهما من الصبي، ويشتريا ماله بأنفسهما إذا رأيا الحظ له في ذلك؛ لأنهما لا يتهمان في ذلك. قال الصيمري: فيحتاج أن يقول: قد اشتريت هذا لنفسي من ابني بكذا، وبعت ذلك عليه، فيجمع بين لفظ البيع والشراء. قال: وغلط بعض أصحابنا، فقال: تكفيه النية في ذلك من غير قول؛ لأنه لا يخاطب نفسه. وليس بشيء؛ لأنا قد أقمناه مقام المشتري في لفظ الشراء، ومقام البائع في لفظ البيع. ولو احتاج إلى قرض، فأقرضه أبوه أو جده، وأخذ من ماله رهنا.. قال الصيمري: ففيه وجهان:

مسألة: أكل الولي من مال اليتيم

الأصح: أنه يجوز، إلا أن يكون أقرضه متطوعا، ثم أحب أن يأخذ بعد ذلك منه رهنا، فلا يكون له. وأما غير الأب والجد من الأولياء، كالوصي، وأمين الحاكم.. فلا يجوز أن يبيع ماله من الصبي ويتولى طرفي العقد، ولا يجوز أن يشتري ماله بنفسه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يشتر الوصي من مال اليتيم» ، ولأن غير الأب والجد يتهم في ذلك، فلم يجز. [مسألة: أكل الولي من مال اليتيم] وإن أراد الولي أن يأكل من مال المولى عليه، فإن كان الولي غنيا.. لم يجز له أن يأكل منه، وإن كان فقيرا ويقطعه العمل على مال المولى عليه من الكسب لنفسه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فله أن يأخذ من ماله أقل الأمرين من كفايته، أو أجرة عمله) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] [النساء: 6] . فمعني قَوْله تَعَالَى: {وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] ، أي: لا تأكلوا أموال اليتامى مبادرة لئلا يكبروا، فيأخذوها، ولأنه يستحق ذلك بالعمل والحاجة. هكذا ذكر عامة أصحابنا. وذكر في " المهذب ": أنه إذا كان فقيرا.. جاز له الأكل من غير تفصيل. ولعله أراد بإطلاقه ما ذكر غيره. وهل يضمن الولي ما أكله بالبدل؟ فيه قولان: أحدهما: يجب عليه ضمانه في ذمته؛ لأنه استباحه للحاجة من مال غيره، فوجب عليه قضاؤه، كمن اضطر إلى طعام غيره.

مسألة: متى يفك الحجر عن الصبي

والثاني: لا يجب عليه ضمانه؛ لأن الله تعالى أباح له الأكل، ولم يوجب الضمان، ولأن ذلك استحقه بعمله في ماله، فلم يلزمه رد بدله، كالمستأجر. [مسألة: متى يفك الحجر عن الصبي] ولا يفك الحجر عن الصبي حتى يبلغ، ويؤنس منه الرشد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] [النساء: 6] . فأمر بدفع أموالهم إليهم بشرطين: أحدهما: البلوغ، وعبر عنه ببلوغهم النكاح؛ لأنه يشتهي بالبلوغ. والثاني: إيناس الرشد، والمراد بالإيناس: العلم بالرشد، كما قال تعالى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29] [القصص: 29] وأراد به: الرؤية إذا ثبت هذا: فإن البلوغ يحصل بأحد خمسة أشياء، ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء، وهي الإنزال، والسن، والإنبات، واثنتان تختص بهما النساء دون الرجال، وهما: الحيض والحمل. فأما الإنزال: فمتى خرج منه المني، وهو الماء الأبيض الدافق الذي يخلق منه الولد في الجماع، أو في النوم، أو اليقظة.. فهو بلوغ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] [النور: 59] . فلما أمر الأطفال بالاستئذان إذا احتلموا.. دل على أنهم قد بلغوا؛ لأن قبل ذلك لم يكونوا يستأذنون. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم» . وروي «عن عطية القرظي: أنه قال: عرضنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمن كان محتلما، أو نبتت عانته.. قتل» فلو لم يكن بالغا.. لما قتل.

قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 276] : وهل يكون الاحتلام من الصبية بلوغا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يكون بلوغا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وعن الصبي حتى يحتلم» . فخص الصبي بالاحتلام. والثاني - وهو طريقة أصحابنا البغداديين -: أنه بلوغ؛ لما «روت أم سليم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، فقالت أم المؤمنين عائشة: فضحت النساء، أويكون ذلك؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فيم الشبه؟ إذا رأت ذلك.. فلتغتسل» فأمرها بالاغتسال، فثبت أنها مكلفة. وأما السن: فهو أن يستكمل الرجل أو المرأة خمس عشرة سنة. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 276] وجها لبعض أصحابنا: أن البلوغ يحصل بالطعن في أول سنه الخمس عشرة سنة. والأول أصح، وبه قال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يبلغ الغلام إلا لتسع عشرة سنة) . وهي رواية محمد عنه، وهو الصحيح. وفي رواية الحسن اللؤلؤي عنه: (إذا بلغ ثماني عشرة سنة، وأما الجارية: فتبلغ إذا بلغت سبع عشرة سنة) .

وقال مالك، وداود: (ليس للسن حد في البلوغ) . دليلنا: ما «روى ابن عمر قال: (عرضت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام بدر، وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فردني، وعرضت عليه عام أحد، وأنا ابن أربع عشر سنة، فردني، وعرضت عليه عام الخندق، وأنا ابن خمس عشر سنة، فأجازني في المقاتلة» ولا يجاز في المقاتلة إلا بالغ، فدل على ما قلناه. وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استكمل الغلام خمس عشرة سنة.. كتب ما له وما عليه، وأخذت منه الحدود» . وأما الإنبات: فهو نبات الشعر القوي الذي يحتاج إلى الموسى، لا الزغب الأصفر حول الذكر، وحول الفرج، ولا يختلف المذهب: أنه إذا نبت ذلك للكافر..

حكم ببلوغه، وهل هو بلوغ فيه، أو دلالة على البلوغ؟ فيه قولان: أحدهما: أنه بلوغ في نفسه؛ لأن ما حكم به بالبلوغ.. كان بلوغا في نفسه، كالاحتلام. والثاني: أنه ليس ببلوغ في نفسه، وإنما هو دلالة على البلوغ؛ لأن العادة جرت أنه لا يظهر إلا في وقت البلوغ. فإذا قلنا: إنه بلوغ في حق الكافر.. كان بلوغا في حق المسلم؛ لأن ما كان بلوغا في حق الكافر.. كان بلوغا في حق المسلم، كالاحتلام. وإذا قلنا: إنه ليس ببلوغ في حق الكافر، وإنما هو دلالة على البلوغ.. فهل يجعل ذلك دلالة في حق المسلم؟ منهم من قال: فيه وجهان، ومنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: أنه دلالة على بلوغه؛ لأن ما كان دلالة على البلوغ في حق الكافر.. كان دلالة وعلما على البلوغ في حق المسلم، كالحمل. والثاني: أنه لا يكون دلالة على بلوغ المسلم؛ لأنه يمكن الرجوع إلى معرفة سن المسلم؛ لأنه مولود بين المسلمين، ولا يمكن ذلك في سن الكافر، فلذلك جعل الإنبات علما على بلوغه، ولأن الإنبات قد يستدعى بالدواء قبل أوانه، فالمسلم قد يتهم بأنه قد يعالج نفسه للإنبات؛ لأنه يستفيد بذلك زوال الحجر عنه، وكمال تصرفه، وقبول شهادته، والكافر لا يتهم بذلك؛ لأنه لا يستفيد بذلك إلا وجوب القتل، وضرب الجزية. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الإنبات لا يكون بلوغا، ولا دلالة على البلوغ في حق المسلم والكافر) . دليلنا: ما «روى عطية القرظي: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في بني قريظة، فحكم بسبي ذراريهم، ونسائهم، وقسم أموالهم، وقتل من جرت عليه الموسى، فأمر أن يكشف عن مؤتزريهم، فمن أنبت منهم.. فهو من المقاتلة، ومن لم ينبت.. فهو من الذراري، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد حكمت

فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» ، يعني سبع سماوات، الواحدة منها: رقيع. قال الصيمري: وكيف يعرف الإنبات؟ قيل: يدفع إليهم شمع أو طين رطب يلزقونه على الموضع. وقيل: يلمس ذلك من فوق ثوب ناعم. وقيل: يكشف حالا بعد حال، وهو الصحيح؛ لأن سعدا أمر بكشف بني قريظة. وأما خضرة الشارب، ونزول العارضين، ونبات اللحية، وخشونة الحلق، وقوة الكلام، وانفراج مقدم الأنف، ونهود الثديين.. فليس شيء من ذلك بلوغا؛ لأنه قد يتقدم على البلوغ، وقد يتأخر عنه. وأما الحيض: فهو بلوغ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة امرأة تحيض إلا بخمار» . فجعلها مكلفة بوجود الحيض، فدل على أنه بلوغ. وأما الحمل: فإنه ليس ببلوغ في نفسه، وإنما هو دلالة على البلوغ، فإذا حملت المرأة.. علمنا أنها قد خرج منها المني؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] [الطارق: 6-7] . قيل في التفسير: يخرج ماء الرجل من صلبه، وماء المرأة من صدرها، ولقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] [الإنسان: 2] ، يعني: أخلاطا، فإذا وضعت المرأة الحمل.. حكمنا بأنها قد بلغت قبل الوضع بستة

فرع: بلوغ الخنثى

أشهر إن كانت ذات زوج، أو سيد؛ لأن ذلك أقل مدة الحمل، وإن كانت مطلقة فأتت بولد، يلحق الزوج.. حكمنا أنها كانت بالغة قبل الطلاق. [فرع: بلوغ الخنثى] وأما الخنثى المشكل: فإذا استكمل خمس عشرة سنة، أو نبت له الشعر الخشن على عانته.. حكم ببلوغه؛ لأنه يستوي في ذلك الرجل والمرأة، وإن حمل زال إشكاله وبان أنه امرأة، وحكم بأنه بالغ قبل الوضع بستة أشهر، وإن خرج المني منه من أحد الفرجين.. لم يحكم ببلوغه؛ لجواز أن يكون خرج من الفرج الزائد، وإن خرج منه الدم من فرج النساء.. لم يحكم ببلوغه؛ لجواز أن يكون رجلا، وهذا عضو زائد، وإن خرج منه المني من الفرجين.. حكم ببلوغه؛ لأن خروج المني من فروج الرجال والنساء بلوغ. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن حاض وأمنى.. لم يبلغ) . واختلف أصحابنا فيه: فقال الصيمري: إذا حاض من فرج النساء، وأمنى من فرج الرجال.. لم يحكم ببلوغه. وقال الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: يحكم ببلوغه؛ لأنه إن كان رجلا.. فقد احتلم، وإن كانت امرأة.. فقد حاضت، وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فله تأويلان: أحدهما: أنه أراد: إذا أمنى وحاض من فرج واحد. والثاني: أنه أراد: حاض أو أمنى. فإن قيل: هلا جعلتم خروج المني منه من أحد الفرجين دليلا على بلوغه، كما جعلتم خروج البول دليلا على ذكوريته، أو أنوثيته؟

مسألة: الإيناس بالرشد

فالجواب: أن البول لا يخرج إلا من الفرج المعتاد، والمني قد يخرج من المعتاد وغيره. [مسألة: الإيناس بالرشد] وأما إيناس الرشد: فهو إصلاح الدين والمال. (فإصلاح الدين) : أن لا يرتكب من المعاصي ما ترد به شهادته. وأما (إصلاح المال) : أن لا يكون مبذرا. وقال مالك، وأبو حنيفة: (إذا بلغ الرجل مصلحا لماله.. دفع إليه ماله وإن كان مفسدا لدينه) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] [النساء: 6] . قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (الرشد: العقل، والحلم، والوقار) . والحلم والوقار لا يكون إلا لمن كان مصلحا لماله ودينه، وكذا روي عن الحسن في تفسيرها: أنه قال: وإصلاح في ماله، إصلاح في دينه، ولأن إفساده لدينه يمنع رشده، والثقة في حفظ ماله، كما أن الفسق في الدين يمنع من قبول قوله وإن عرف منه الصدق في القول. إذا ثبت هذا: فبلغ غير مصلح لماله ولدينه.. فإنه يستدام عليه الحجر وإن صار شيخا. وبه قال مالك، وأبو يوسف، ومحمد رحمة الله عليهم. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا بلغ غير مصلح لماله.. لم يدفع إليه ماله، لكن إن تصرف فيه ببيع أو عتق أو غيره.. نفذ تصرفه، فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة.. انفك عنه الحجر، ودفع إليه ماله وإن كان مفسدا لدينه وماله؛ لأنه قد آن له أن يصير جَدا؛ لأنه قد يبلغ باثنتي عشرة سنة، فيتزوج، ويولد له، ويبلغ ولده باثنتي عشرة سنة، ويولد له. قال: وأنا أستحيي أن أمنع الجد ماله) .

فرع: اختبار البائع

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] [النساء: 6] . فأمر بدفع المال إليهم بالبلوغ، وبإيناس الرشد، وقد بينا الرشد ما هو. وهذا لم يؤنس منه الرشد، فلم يفك عنه الحجر، ولم يدفع إليه ماله، كما لو كان ابن أربع وعشرين سنة. وأما قوله: (إنه قد آن له أن يصير جدا) فلا اعتبار لكونه جدا، ألا ترى أن المجنون يستدام عليه الحجر ما دام مجنونا وإن كان جدا؟ إذا ثبت هذا: فإنه ينظر بماله من كان ينظر فيه قبل البلوغ؛ لأنه حجر ثبت عليه من غير حاكم، فكان إلى الناظر فيه قبل البلوغ، كالنظر في مال الصغير. [فرع: اختبار البائع] وأما إصلاح المال: فلا يعلم إلا بالاختبار، وفي وقت الاختبار وجهان: أحدهما: لا يصح إلا بعد البلوغ؛ لأن الاختبار: أن يدفع إليه المال ليبيع ويشتري فيه وينفقه، وهذا لا يصح إلا بعد البلوغ، وأما قبل ذلك: فهو محجور عليه للصغر. والثاني: يصح قبل البلوغ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] [النساء: 6] . وهذا يقتضي أن يكون الاختبار قبل بلوغ الاختبار، ولأن تأخير النكاح إلى البلوغ يؤدي إلى الحجر على رشيد؛ لأنه قد يبلغ مصلحا لماله ودينه، فلو قلنا: إن الاختبار لا يجوز إلا بعد البلوغ.. لاستديم الحجر على رشيد، ومنع من ماله؛ لأنه لا يدفع إليه، إلا بعد الاختبار. فإذا قلنا بهذا: فكيف يختبر بالبيع والشراء؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يأمره الولي أن يساوم في السلع، ويقرر الثمن، ولا يتولى العقد؛ لأن عقد الصبي لا يصح، ولكن يعقد الولي. و [الثاني] : منهم من قال: يشتري الولي سلعة، ويدعها بيد البائع، ويواطئه على بيعها من الصبي، فإن اشتراها منه بثمنها.. عرف رشده.

و [الثالث] : منهم من قال: يجوز عقد الصبي؛ لأنه موضع ضرورة، وأما كيفية الاختبار: فإن كان من أولاد التجار والسوقة الذين يخرجون إلى السوق.. فاختباره: أن يدفع إليه شيء من ماله ليبيع ويشتري في السوق، فإن كان ضابطا حازما في البيع والشراء.. علم رشده، وإن كان يغبن بما لا يتغابن الناس بمثله.. فهو غير رشيد. وإن كان من أولاد الملوك والكبار والنبلاء والتناء الذين يصانون عن الأسواق.. قال الشيخ أبو حامد: واختبارهم أصعب من الأول، واختبار الواحد منهم: أن يدفع إليه شيء من المال، ويجعل إليه نفقة الدار مدة شهر، وما أشبهه، للخبز والماء والملح واللحم، فإن كان ضابطا حافظا يحسن إنفاق ذلك.. علم رشده، وإن كان غير ضابط.. لم يعلم رشده. قال الصيدلاني: وولد التناء يختبر بالزراعة، هذا إذا كان المختبر غلاما، فإن كان امرأة.. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: لا تختبر بالبيع ولا الشراء؛ لأن العادة جرت أنها لا تباشر ذلك، وإنما تختبر البنت بأن يدفع إليها شيئا من المال، ويجعل نساء ثقات يشرفن على فعلها، وتؤمر بإنفاق ذلك في الخبز والماء والملح واللحم، كما يختبر من يصان عن الأسواق من الرجال، ويضاف إلى هذا شراء القطن والغزل؛ لأن هذا من عمل النساء. وقال الصيمري: إن كانت متبذلة تعامل التجار والصناع.. اختبرت بالبيع والشراء أيضا. قال الصيمري: ولا يعلم رشده حتى يتكرر ذلك منه التكرر الذي يؤمن أن يكون ذلك اتفاقا. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 277] : ولا يضمن الولي المال الذي يدفعه إليه للاختبار؛ لأن ذلك موضع حاجة إليه.

فرع: بلغت راشدة

[فرع: بلغت راشدة] إذا بلغت المرأة مصلحة لمالها ودينها.. فك عنها الحجر، ودفع إليها مالها، سواء تزوجت أو لم تتزوج، وكان لها التصرف بجميع مالها بغير إذن زوجها، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال مالك: (لا ينفك عنها الحجر حتى تتزوج، ويدخل بها، وإذا تزوجت.. لم يجز لها أن تتصرف بأكثر من ثلث مالها بغير معاوضة إلا بإذن زوجها) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب في العيد، فلما فرغ من خطبته.. أتى النساء، فوعظهن، وقال: تصدقن ولو من حليكن» ، فتصدقن بحليهن. فلو كان لا ينفذ تصرفهن بغير إذن أزواجهن.. لما أمرهن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصدقة، ولا محالة أنه كان فيهن من لها زوج، ومن لا زوج لها. ولأنها حرة بالغة رشيدة، فلم تمنع من مالها، كما لو تزوجت. [مسألة: الرشد يفك الحجر] وإذا بلغ مصلحا لماله ودينه.. فك عنه الحجر، وهل يفتقر فكه إلى الحاكم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يفتقر إلى الحاكم؛ لأنه حجر لم يفتقر ثبوته إلى الحاكم، فلم يفتقر فكه إلى الحاكم، كالحجر على المجنون، وفيه احتراز من الحجر على السفيه. والثاني: لا ينفك إلا بحكم الحاكم؛ لأنه يفتقر إلى نظر واجتهاد، فافتقر إلى الحاكم، كالحجر على السفيه. هذا هو المشهور.

مسألة: رشد فرفع الحجر ثم فسد

وقال الصيمري: إن كان الناظر في ماله هو الأب أو الجد.. لم يفتقر إلى الحاكم، وإن كان الناظر فيه أمين الحاكم.. لم ينفك إلا بالحاكم، وإن كان الناظر فيه هو الحاكم.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يفتقر فكه إلى الحاكم، كما لو كان الناظر في ماله هو الأب أو الجد. والثاني: يفتقر إلى الحاكم، كما لو كان الناظر فيه أمين الحاكم. [مسألة: رشد فرفع الحجر ثم فسد] ] : إذا بلغ الصبي مصلحا لماله ودينه، ففك عنه الحجر، ودفع إليه ماله، ثم صار مفسدا لدينه وماله، أو لماله.. فإنه يعاد عليه الحجر بلا خلاف على المذهب. أما إفساد الدين: فمعروف، وأما إفساد المال: قال الشيخ أبو حامد: فيكون بأحد أمرين: [أحدهما] : إما بأن ينفقه في المعاصي، مثل: الزنا، وشرب الخمر، وغير ذلك. والثاني: أن ينفقه في ما لا مصلحة له فيه، ولا غرض، مثل: أن يشتري ما يساوي درهما بمائة درهم، فأما إذا أكل الطيبات، أو لبس الناعم من الثياب، أو أنفق على الفقهاء والفقراء والصوفية.. فهذا ليس فيه إفساد المال. وأما إذا عاد مفسدا لدينه، وهو مصلح لماله.. فهل يعاد عليه الحجر؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس: يعاد عليه الحجر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] . فأثبت

الولاية على السفيه، وهذا سفيه، ولأنه معنى لو قارن البلوغ.. لمنع من فك الحجر عنه، فإذا طرأ بعد فك الحجر عنه.. اقتضى إعادة الحجر عليه، كالتبذير. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا يعاد عليه الحجر؛ لأن الحجر يراد لحفظ ماله، فإن كان مصلحا لماله.. لم يعد عليه الحجر، ويخالف إذا قارن إفساد الدين البلوغ؛ لأن الحجر إذا ثبت.. لم يزل عنه إلا بأمر قوي، فكذلك إذا فك عنه الحجر.. لم يعد عليه إلا بأمر قوي. هذا مذهبنا. وأما إذا عاد مفسدا لماله ودينه: أعيد عليه الحجر، وبه قال عثمان، وعلي، والزبير، وابن الزبير، وعبد الله بن جعفر، وعائشة أم المؤمنين رضي الله

عنهم، وفي التابعين: شريح، وعطاء، وفي الفقهاء: مالك، وأهل المدينة، وأهل الشام، وأبو يوسف، ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يعاد عليه الحجر إذا سلم إليه ماله بعد خمس وعشرين سنة، سواء وجد منه إفساد المال والدين أو أحدهما) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والسفيه: هو المفسد لماله ودينه، والضعيف: هو الصبي والشيخ الفاني، والذي لا يستطيع أن يمل: هو المجنون، والسفيه: اسم ذم يتناول المبذر. فأما قَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة: 142] [البقرة: 142] .. فأراد: اليهود والنصارى، وقيل أراد المنافقين. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] [النساء: 5] . قيل: أراد به النساء، وقيل: أراد به المبذرين. وقوله جل وعز: {أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ، أي: أموالهم، كقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] [البقرة: 188] ، أي: أموال بعضكم) . ويدل على ما ذكرناه: ما روي: «أن حبان بن منقذ أصابه في عقدته ضعف، فأتي أهله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسألوه أن يحجر عليه، فقال له

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تبع"، فقال: إني لا أصبر، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من بايعته.. فقل: لا خلابة، ولي الخيار ثلاثا» فلو كان الحجر لا يجوز على البالغ، لأنكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم سؤالهم، وإنما لم يجبهم إلى الحجر عليه؛ لأنه يحتمل أن الذي كان يغبن به مما يتغابن الناس بمثله. ويدل على ما ذكرناه: إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، وهو ما روى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر: (أنه اشترى أرضا سبخة بستين ألف درهم، وغبن فيها، فلقي عثمان عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فقال له: لم لا تحجر على ابن أخيك - وفي بعض الأخبار: أن عثمان قال: ما يسرني أن تكون لي بنعلي - ففزع عبد الله بن جعفر من ذلك، ومضى إلى الزبير، فأعلمه بذلك، فقال الزبير: أنا شريكك فيها، فأتى علي عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال له: احجر على عبد الله بن جعفر، فقال: كيف أحجر على من شريكه الزبير؟ !) . وإنما قال هذا في الزبير؛ لأنه كان معروفا بجودة التجارة والتبصر فيها، فدل على: أن الحجر جائز عندهم. وروي: (أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت تنفق نفقة كثيرة، فقال ابن الزبير: لتنتهين عائشة، أو لأحجرن عليها، فبلغها ذلك، فحلفت أن لا تكلمه، فأتاها ابن الزبير، فاعتذر إليها، فكفرت عن يمينها وكلمته) . فلم ينكر عليه أحد. ونقول:

فرع: لا حجر على شحيح

عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بالغة رشيدة، فكيف يحجر عليها؟! ولأن كل معنى لو قارن البلوغ.. منع من تسليم المال إليه، فإذا طرأ بعد البلوغ اقتضى إعادة الحجر عليه، كالمجنون. [فرع: لا حجر على شحيح] وأما الشحيح على نفسه جدا مع يساره: فهل يحجر عليه؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري، الصحيح: أنه لا يحجر عليه. [فرع: يعاد الحجر على السفيه بأمر الحاكم] وإذا صار مبذرا بعد فك الحجر عنه.. فإنه لا يعيد الحجر عليه إلا الحاكم، وبه قال أبو يوسف. وقال محمد: يصير بذلك محجورا عليه. وهو وجه لبعض أصحابنا الخراسانيين. دليلنا: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه سأل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أن يحجر على عبد الله بن جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) ، فدل على: أنه لا يصير محجورا عليه إلا بالحاكم. ولأن الحجر بالتبذير مختلف فيه، فافتقر إلى الحاكم، كمدة العنة لا تثبت إلا بالحاكم؛ لموضع الاختلاف فيه. وإذا حجر عليه.. لم ينظر في ماله إلا الحاكم؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فكان هو الناظر، كالحجر على المفلس، ويستحب أن يشهد الحاكم على ذلك، ويأمر مناديا: ألا إن الحاكم حجر على فلان؛ لئلا يغتر الناس بمعاملته.

فرع: بطلان البيع والشراء وقت الحجر

[فرع: بطلان البيع والشراء وقت الحجر] ] : وإذا باع أو اشترى بعد الحجر.. كان ذلك باطلا، فإن حصل له في يد غيره مال.. استرجعه الحاكم إن كان باقيا، أو استرجع بدله إن كان تالفا، وإن حصل في يده مال لغيره ببيع أو غيره.. استرده الحاكم منه، ورده على مالكه، وإن باعه غيره شيئا، أو أقرضه إياه، ثم تلف في يده، أو أتلفه.. فإنه لا يجب عليه ضمانه، سواء علم بحجره أو لم يعلم؛ لأنه إن علم بحجره.. فقد دخل على بصيرة، وإن لم يعلم فيه.. فقد فرط حيث بايع من لا يعلم حاله. ولا يلزمه ذلك إذا فك عنه الحجر؛ لأن الحجر عليه لحفظ ماله، فلو ألزمناه ذلك بعد الحجر.. لبطل معنى الحجر، وهذا في ظاهر الحكم. وهل يلزمه ضمانه فيما بينه وبين الله تعالى؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإفصاح ": أحدهما: يلزمه ذلك، وبه قال الصيدلاني، والعثماني؛ لأن الحجر لا يبيح له مال غيره. والثاني: لا يلزمه. قال في " الإفصاح ": وهو الأصح. وإن غصب من غيره عينا، فتلفت في يده، أو أتلفها في يده أو في يد مالكها.. وجب عليه ضمانها؛ لأن السفيه أحسن حالا من الصبي والمجنون؛ لأنه مكلف، ثم ثبت أن الصبي والمجنون إذا أتلفا على غيرهما مالا.. وجب عليهما الضمان، فكذلك هذا مثله. وإن أودعه رجل عينا، فأتلفها.. فهل يجب عليه الضمان؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه ضمانها؛ لأن صاحبها عرضها للإتلاف بتسليمها إليه. والثاني: يجب عليه الضمان؛ لأن مالكها لم يرض بإتلافها؛ فأشبه إذا غصبه إياها، أو أتلفها. وإن تلفت في يده بغير تفريط.. لم يلزمه ضمانها؛ لأن غير المحجور عليه لا يلزمه ذلك، فالمحجور عليه أولى.

فرع: صحة طلاق ومخالعة السفيه

وإن أقر لغيره بعين في يده أو دين في ذمته.. لم يلزمه ذلك في الحال، ولا بعد فك الحجر؛ لأنا لو قبلنا إقراره.. لبطلت فائدة الحجر، والحجر يقتضي حفظ ماله. [فرع: صحة طلاق ومخالعة السفيه] وإن طلق السفيه، أو خالع.. صح طلاقه، وخلعه، إلا أن المرأة لا تسلم المال إليه، بل تسلمه إلى وليه، فإن سلمته إليه، فتلف في يده، أو أتلفه.. وجب عليها ضمانه، كما قلنا في البيع. ولو أذن ولي السفيه للمرأة بتسليم المال إلى السفيه، فسلمته إليه.. فهل تبرأ؟ فيه وجهان: أحدهما: تبرأ، كما لو سلمت المرأة المال إلى العبد بإذن سيده. والثاني: لا تبرأ؛ لأنه ليس من أهل القبض. هذا مذهبنا، وبه قال عامة أهل العلم. وقال ابن أبي ليلى، والنخعي، وأبو يوسف: لا يصح طلاقه وخلعه. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] . ولم يفرق بين السفيه وغيره، ولأنه يستفيد بالطلاق، فإنه إن كان قبل الدخول.. رجع إليه نصف المهر، وإن كان بعد الدخول.. سقطت عنه النفقة والكسوة والمصالح، ويحصل ذلك له بالخلع وما بذلت له. [فرع: نكاح المحجور عليه] ولا يصح نكاحه بغير إذن الولي؛ لأن النكاح يتضمن وجوب المال، فلم يصح بغير إذن الولي. وإن احتاج إلى النكاح.. فالولي بالخيار: إن شاء.. زوجه بنفسه، وتولى العقد، وإن شاء.. أذن له ليعقد بنفسه؛ لأنه عاقل مكلف، وإنما حجرنا عليه لحفظ ماله، بخلاف الصبي. وهل له أن يأذن له في النكاح مطلقا، أو يفتقر إلى تعيين المرأة، أو تقدير المهر؟ فيه وجهان:

فرع: إذن الولي للسفيه

أحدهما: يجوز له أن يأذن له مطلقا، كما يجوز للسيد أن يطلق الإذن لعبده في ذلك. والثاني: لا يجوز حتى يعين له الولي المرأة، أو القبيلة والمهر؛ لأنه ربما تزوج بامرأة شريفة يستغرق مهرها ماله، بخلاف العبد، فإنه لا يزوج الشريفة، وأيضا فإن المهر في كسبه، فلا يؤدي إلى إخراج شيء من مال السيد. وإن تزوج السفيه بغير إذن الولي، ودخل بها.. فما الذي يلزمه؟ قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 275] : فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا يلزمه شيء، كما لو اشترى شيئا بغير إذن وليه وأتلفه. والثاني: يلزمه مهر المثل، كما لو جنى على غيره. والثالث: يلزمه أقل شيء يستباح به البضع؛ لأنه لا يستباح بالإباحة. وأما البغداديون من أصحابنا: فقالوا: هي على وجهين: أحدهما: لا يلزمه شيء. والثاني: يلزمه مهر المثل. [فرع: إذن الولي للسفيه] وإن أذن له الولي في البيع والشراء، فباع أو اشترى.. فهل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح، كما يصح النكاح إذا أذن له فيه. والثاني: لا يصح؛ لأن البيع والشراء يختلف حكمه ساعة، فساعة؛ لأنه قد يزيد سعر الأسواق وينقص، فافتقر إلى عقد الولي، ولأن البيع والشراء يتضمن المال لا غير، وهو محجور عليه في المال، بخلاف النكاح.

فرع: حلف وحج المحجور عليه

[فرع: حلف وحج المحجور عليه] وإن حلف.. انعقدت يمينه، فإن حنث كفر بالصوم، ولا يكفر بالمال؛ لأنه محجور عليه في المال. وإن أحرم بالحج.. صح إحرامه؛ لأنه من أهل التكليف، فإن كان فرضا.. لم يمنع من إتمامه، وأنفق عليه من ماله ما يحتاج إليه، وإن كان تطوعا، فإن كانت نفقته على إتمامه لا تزيد على نفقة الحضر.. لم يجز تحليله، وإن كانت تزيد على نفقة الحضر، فإن كان له كسب، وقال: أنا أتمم النفقة بالكسب.. لم يحلل، وإن لم يكن له كسب.. حلله الولي، ويصير كالمحصر، فيتحلل بالصوم دون الهدي؛ لأنه محجور عليه في المال. [فرع: قبول استلحاق المحجور عليه] وإن أقر بنسب يلحقه في الظاهر.. ثبت النسب؛ لأن ذلك لا يتضمن إتلاف مال، وإن أقر بنسب من تلزمه نفقته.. لم ينفق عليه من ماله، بل ينفق عليه من بيت المال. وإن وجب له القصاص.. فله أن يقتص؛ لأن القصد منه التشفي، وإن عفا عنه على مال.. كان له، وإن عفا عنه مطلقا، أو على غير مال، فإن قلنا: إن الواجب القصاص لا غير.. صح عفوه. وإن قلنا: إن الواجب أحد الأمرين.. لم يصح عفوه عن المال. وإن أقر بجانية العمد.. صح إقراره؛ لأنه غير متهم في ذلك، فإن أراد المقر له العفو على المال.. قال الطبري: فإن قلنا: إن موجب العمد القود.. ثبت المال؛ لأن الذي ثبت بإقراره هو القتل أو القطع دون المال، وإن قلنا: إن موجبه أحد الأمرين.. فهل يثبت المال؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان، كالعبد إذا أقر بالسرقة.. فإنه يقبل في القطع، وهل يقبل في المال؟ فيه قولان. ومنهم من قال: له أخذ المال، قولا واحدا؛ لأن الواجب أحدهما لا بعينه، وكل واحد منهما بدل عن الآخر، وتعلقهما بسبب واحد، وأما السرقة: ففيها حكمان:

فرع: الحجر على المرتد

أحدهما: القطع لله تعالى. والآخر: للآدمي، فجاز ثبوت أحدهما دون الآخر، ولهذا: لو شهد رجل وامرأتان على السرقة.. ثبت المال دون القطع، ولو شهدا على القتل لم يثبت. وإن دبر السفيه، أو أوصى.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان، كالصبي. ومنهم من قال: يصح، قولا واحدا. قال الطبري: وهو الصحيح؛ لأن الصغير لا حكم لقوله، ولا يصح شيء من إقراره، بخلاف السفيه، فإنه يصح إقراره بالنسب. [فرع: الحجر على المرتد] المرتد إذا قلنا: إن ملكه باق على حاله.. فإنه محجور عليه فيه.. وهل يفتقر إلى حجر الحاكم؟ فيه قولان. فإذا زالت الردة.. فإنه لا ينفك الحجر عنه إلا بحكم الحاكم؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فلم يزل من غير حكمه. والله أعلم

كتاب الصلح

[كتاب الصلح]

كتاب الصلح الأصل في جواز الصلح: الكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] . فأمر الله تعالى بالصلح بين المؤمنين. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] [النساء: 128] .

وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] [النساء: 128] . فدلت هذه الآيات على جواز الصلح. وأما السنة: فروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا» . وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على جوازه. إذا ثبت هذا: فإن الصلح فرع على غيره، وهو ينقسم إلى خمسة أقسام: [أحدها] : قسم هو فرع على البيع، وهو: أن يدعي عليه عينا في يده، فيقر له بها، فيصالحه من ذلك على عين أو دين.. فهذا حكمه حكم ما لو اشترى منه عينا بعين أخرى، أو بدين، فيعتبر فيه ما يعتبر في البيع من الربا، ويبطل بما يبطل فيه البيع من الغرر، ويثبت فيه ما يثبت في البيع من الخيار؛ لأن ذلك بيع بلفظ الصلح. وإن ادعى عليه دينا في ذمته، فأقر له به، ثم صالحه منه على دين في ذمته، وتفرقا قبل القبض.. لم يصح الصلح فيه، كما لا يصح في بيع الدين بالدين. وإن صالحه من دين على عين، وقبض العين قبل التفرق.. صح الصلح، إذا كان الدين مما يصح

أخذ العوض عنه، وإن افترقا عن المجلس قبل قبض العين.. فهل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنهما افترقا، والعوض والمعوض في ضمان واحد، فلم يصح، كما لو صالحه من دين على دين، وتفرقا قبل القبض. والثاني: يصح، كما يصح في بيع العين بالدين. القسم الثاني: صلح هو فرع على الإجارة، وهو: أن يدعي عليه عينا في يده، أو دينا في ذمته، فيقر له به، ثم يصالحه من ذلك على سكنى داره شهرا، أو خدمة عبده مدة معلومة، فيصح ذلك، ويملك المقر ما ادعى عليه به، ويملك المقر له منفعة الدار أو العبد، كما لو استأجر منه ذلك، ويشترط فيه ما يشترط في الإجارة على ما يأتي بيانها في موضعها إن شاء الله تعالى. القسم الثالث: صلح هو فرع على الإبراء والحطيطة، وهو: أن يدعي عليه ألفا في ذمته، فيقر له بها، فيصالحه على بعضها. قال الشيخ أبو حامد: فهذا ينقسم قسمين: أحدهما: أن يقول الذي عليه الحق لمن له الحق: أدفع إليك خمسمائة، بشرط أن تسقط عني الخمسمائة الأخرى. أو يقول صاحب الحق: ادفع إلي خمسمائة، على أن أسقط عنك الخمسمائة الأخرى.. فهذا لا يجوز، فإذا فعلا ذلك.. كان باطلا، وكان لصاحب الألف المقر له أن يطالب بالخمسمائة الأخرى، لأنه دفع إليه بعض حقه، وشرط شرطا لا يلزمه، فسقط الشرط، ووجب الألف بالإقرار. القسم الثاني: أن يقول: أدفع إليك خمسمائة، وتبرئني من خمسمائة. أو يقول الذي له الحق: ادفع إلي خمسمائة، وقد أبرأتك من الخمسمائة الأخرى.. فإن

هذا يجوز إذا لم يدخل فيه حرف الشرط، وهو قوله: على أن تبرئني، أو بشرط أن تبرئني؛ لأنه كان له حق، فأخذ بعضه، وأبرأ من البعض. وقال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": وإن صالحه من ألف على خمسمائة.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح، كما لو باع ألفا بخمسمائة. والثاني: يصح؛ لأنه لما عقد بلفظ الصلح.. صار كأنه قال: أبرأتك من خمسمائة، وأعطني خمسمائة. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 277] : إذا ادعى عليه ألف درهم حالة، فأقر له بها، ثم صالحه عنها، على خمسمائة مؤجلة.. صح الصلح، ولا يلزم الأجل. وإن ادعى عليه ألف درهم مؤجلة، فأقر له بها، ثم صالحه عنها على خمسمائة حالة.. لم يصح الصلح؛ لأنه جعل الخمسمائة التي تركها عوضا للحلول، وذلك لا يجوز أخذ العوض عليه. وإن ادعى عليه ألف درهم صحاحا، فأقر له بها، ثم صالحه على خمسمائة مكسرة.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 277] : صح الصلح، ولا يلزمه أخذ المكسرة، بل يجب له خمسمائة صحاح؛ لأن الصحة صفة، فلا يصح الإبراء منها. ولو ادعى عليه ألف درهم مكسرة، فأقر له بها، ثم صالحه عنها على خمسمائة صحاح.. لم يصح الصلح؛ لأنه أبرأ من خمسمائة، بشرط حصول الصحة في الباقي، ولا تجوز المعاوضة على الصفة. القسم الرابع: صلح هو فرع على الهبة، وهو: أن يدعي عليه دارا، فيقر له بها، فقال المقر: أدفع إليك نصفها، على أن تهبني نصفها، أو قال المقر له: ادفع إلي نصفها على أن أهبك النصف الآخر.. فهذا الصلح باطل؛ لما ذكرناه في الإبراء. وإن

مسألة: الصلح عن الموروث

قال المقر له: ادفع إلي نصفها، ووهبتك النصف الآخر.. صحت الهبة؛ لأنها هبة مجردة غير معلقة على شرط، وإن كان بلفظ الصلح، بأن قال المقر للمقر له: صالحني من هذه الدار بنصفها.. فذكر في " المهذب ": أنها على وجهين: أحدهما: لا يصح؛ لأنه باع ماله بماله. والثاني - ولم يذكر ابن الصباغ غيره -: أنه يصح؛ لأنه لما عقد بلفظ الصلح.. صار كما لو قال: ادفع إلي نصفها، ووهبتك النصف الثاني. القسم الخامس: صلح هو فرع على العارية، بأن يدعي عليه دارا في يده، فأقر له بها، ثم قال المقر له للمقر: صالحني عن هذه الدار بسكناها سنة، فقال المقر: صالحتك.. صح الصلح، ويكون كأن المقر له أعار المقر أن يسكنها سنة. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 278] : وللمقر له أن يرجع في عاريته. وذكر في " المهذب ": أنها على وجهين: أحدهما: هذا. والثاني: لا يصح؛ لأنه ابتاع داره بمنفعتها. [مسألة: الصلح عن الموروث] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن صالح رجل أخاه عن موروثه، فإن عرفا ما صالحه عليه بشيء يجوز في البيع.. جاز) . وهذا كما قال: إذا ورث الرجلان من أبيهما، أو أخيهما مالا، فصالح أحدهما الآخر عن نصيبه، فإن هذا فرع للبيع، فإذا شاهدا التركة، وعرفا العوض.. صح الصلح، كما لو اشتراه بلفظ الشراء. [فرع: المصالحة على غير جنس] وإن صالحه عن الدراهم على دنانير، أو عن الدنانير على دراهم.. فإن ذلك صرف، ويشترط فيه قبض العوض في المجلس، كما قلنا في (الصرف) .

فرع: المصالحة عما أتلفه

[فرع: المصالحة عما أتلفه] ] : إذا أتلف عليه ثوبا، أو حيوانا قيمته دينار، فأقر له به، ثم صالحه من ذلك على أكثر منه.. لم يصح الصلح. وقال أبو حنيفة: (يصح الصلح) . دليلنا: أن الواجب في ذمته قيمة المتلف، فلم يصح الصلح على أكثر منه، كما لو غصب منه دينارا، ثم صالحه على أكثر منه. وإن صالحه عن قيمة الحيوان بعوض، وجعله مؤجلا.. لم يتأجل العوض، ولم يصح الصلح. وقال أبو حنيفة: (يصح) . دليلنا: أن الواجب هو دين حال في ذمته، فإذا كان العوض عنه مؤجلا.. كان بيع الدين بالدين، وذلك لا يجوز. وإن ادعى عليه مالا مجهولا، فأقر له به، وصالحه عليه بعوض.. لم يصح الصلح. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح) . دليلنا: أن ذلك معاوضة، ولهذا يثبت بالشقص فيه الشفعة، فلم يصح في المجهول، كالبيع. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإذا ادعى رجل على رجل شيئا مجملا، فأقر له به، ثم صالحه عنه على شيء.. صح الصلح) . قال الشيخ أبو حامد: أراد إذا كان المعقود عليه معلوما فيما بين المتعاقدين.. صح وإن لم يسمياه، كما إذا قال: بعت منك الشيء الذي أعرفه أنا وأنت بكذا وكذا، فقال: أبتعت.. فإنه يصح. [مسألة: الصلح على ما كان أنكره] ] : وإن ادعى عليه عينا في يده، أو دينا في ذمته، فأنكره المدعى عليه، ثم صالحه على عين، أو دين في ذمته.. لم يصح الصلح بلا خلاف على المذهب؛ لأنه ابتاع ملكه.

وإن ادعى عليه ألف درهم في ذمته، فأنكره، ثم صالحه على خمسمائة منها، وقلنا: يصح صلح الحطيطة. فهل يصح هذا الصلح؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 278] : أحدهما: لا يصح الصلح؛ لأنه صلح على الإنكار، فلم يصح، كما لو ادعى عليه عينا في يده، فأنكره والثاني: يصح، والفرق بينهما: أن في صلح المعاوضة نحتاج إلى ثبوت العوضين برضا المتعاقدين، وليس العين المدعى بها ثابتة للمدعي حتى يأخذ عليها عوضا، وهاهنا هو إبراء، فلا يحتاج إلى رضا صاحبه. هذا مذهبنا. وإن الصلح على الإنكار لا يصح. وقال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يصح الصلح على الإنكار) . وقال ابن أبي ليلى: إن أنكره.. لم يصح الصلح، وإن سكت.. صح الصلح. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] [البقرة: 188] . والصلح على الإنكار من أكل المال بالباطل؛ لأن من ادعى على غيره دارا في يده، وأنكر ذلك المدعى عليه، ثم صالحه عنها بعوض.. فقد ابتاع ماله بماله، وهذا لا يجوز. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال بن الحارث: يا بلال، اعلم أن الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا، أو أحل حراما» وهذا المدعي لا يخلو: إما أن يكون كاذبا، أو صادقا، فإن كان كاذبا.. فهذا الصلح الذي يصالح به يحل له ما هو حرام عليه، وإن كان صادقا.. فإنه يستحق جميع ما يدعيه، فإذا أخذ بعضه بالصلح.. فالصلح يحرم عليه الباقي الذي كان حلالا له، فوجب أن لا يجوز. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد؛ لأن البيع لا يجوز مع الإنكار، وهو أن يدعي عينا في يد غيره، فينكره، فيبيعها من غيره.. فإن البيع لا يصح، فكذلك الصلح

فرع: صالحه على عوض بدلا عن عين ثم اختلفا

إذا ثبت هذا: فادعي على رجل ألفا في ذمته، فأنكره عنها، ثم إن المدعى أبرأه منها.. صحت البراءة، وهل يشترط في صحة البراءة القبول؟ على وجهين يأتي ذكرهما فيما بعد إن شاء الله تعالى، وإنما صحت البراءة على الإنكار؛ لأنها ليست بمعاوضة. وإن ادعى عليه ألفا في ذمته، فأنكره عنها، ثم صالحه على بعضها، وقبض ذلك، وأبرأه عن الحق الذي عليه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فالصلح باطل، والإبراء لا يلزم) . فأما الصلح: فيبطل؛ لأنه صلح على إنكار، وعلى المصالح رد ما أخذه، وأما البراءة: فلا تلزمه؛ لأنه إنما أبرأه براءة قبض واستيفاء، وهو أن يسلم له ما أخذه، فإذا لم يسلم له ذلك.. لم تلزمه البراءة، هذا إذا لم يعلم المدعي بفساد الصلح، فأما إذا علم بفساد الصلح، فأبرأ.. صحت براءته) . وهذا كما نقول في رجل: اشترى عبدا شراء فاسدا، فقال البائع للمشتري: أعتق هذا العبد، ولم يعلم البائع بفساد البيع، فأعتقه.. قال الشيخ أبو حامد: لم يصح العتق؛ لأن البائع لم يأمره بإعتاقه عن نفسه، وإنما أمره أن يعتقه بظن أنه قد ملكه بالشراء، وإن علم البائع بفساد البيع، فأمر المشتري بإعتاقه، فأعقته.. صح العتق. وإن ادعى عليه ألفا في ذمته، فأقر له بها، فصالحه عنها صلح حطيطة، وأبرأه على خمسمائة، فإن قبض منها خمسمائة، وأبرأه عن الباقي، ثم خرجت الخمسمائة التي قبضها مستحقة.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يرجع عليه بالخمسمائة التي أخذها، والإبراء صحيح؛ لأنه لم يبرئه ليسلم له ما قبض، بل أبرأه عن حق هو مقر له به، والإبراء صادق حقه المقر به، فنفذ ذلك، ولم يتعلق بسلامة ما قبضه، وعدم سلامته. [فرع: صالحه على عوض بدلا عن عين ثم اختلفا] إذا ادعى عليه عينا، فصالحه منها على عوض، ثم اختلفا، فقال المدعي: إنما صالحت منها على الإنكار، فالصلح باطل، ولي الرجوع إلى أصل الخصومة، وقال

فرع: صحة التوكيل في الصلح

المدعى عليه: لا، بل كنت أقررت لك بها أولا، ثم أنكرت، ثم صالحت منها.. قال الشيخ أبو حامد: فالقول قول المدعي؛ لأن الأصل هو الصلح على الإنكار الذي قد عرف إلى أن تقوم البينة بإقراره بها قبل ذلك. [فرع: صحة التوكيل في الصلح] وإن ادعى رجل على رجل حقا، فأنكر، فجاء أجنبي إلى المدعي، وقال: أنت صادق في دعواك، فصالحني عليه.. فلا يخلو: إما أن يكون المدعى دينا، أو عينا: فإن كان المدعى دينا.. نظرت: فإن صالحه عن المدعى عليه.. صح الصلح؛ لأنه إن كان أذن له في ذلك، فهو وكيله، والتوكيل في الصلح جائز، وإن لم يوكله.. فقد قضى عن غيره دينا، ويجوز للإنسان أن يقضي عن الغير دينه بغير إذنه، فإذا أخذ المدعي المال.. ملكه، وانقطعت دعواه. وهل للأجنبي أن يرجع على المدعى عليه بما دفع؟ ينظر فيه: فإن صالح عنه بإذنه، ودفع بإذنه.. رجع عليه. وإن صالح بغير إذنه، ودفع بغير إذنه، أو صالح بإذنه، ودفع بغير إذنه.. لم يرجع عليه بشيء؛ لأنه متطوع بالدفع. وإن صالح الأجنبي ليكون الدين له.. فإن الشيخ أبا إسحاق قال: هل يصح الصلح؟ فيه وجهان، بناء على جواز بيع الدين من غير من هو عليه. وقال ابن الصباغ: لا يصح، وجها واحدا. وإليه أشار الشيخ أبو حامد؛ لأن الوجهين في بيع الدين مع الإقرار، فأما مع الإنكار: فلا يصح، وجها واحدا، كبيع العين المغصوبة ممن لا يقدر على قبضها. وإن كان المدعى عينا، فإن صالح عن المدعى عليه، بأن يقول للمدعي: المدعى عليه مقر لك بها في الباطن، وقد وكلني في مصالحتك، فصالحه عنه.. صح

الصلح؛ لأن الاعتبار بالمتعاقدين، وقد اتفقا على ما يجوز العقد عليه، فإذا صالحه.. ملك المدعي ما يأخذه، وانقطع حقه من العين، وهل يملك المدعى عليه العين المدعى بها؟ ينظر فيه: فإن كان قد وكل الأجنبي.. ملك العين، وإن كان الأجنبي قد دفع العوض من مال نفسه بإذن المدعى عليه.. رجع عليه، وإن دفع بغير إذنه.. لم يرجع عليه؛ لأنه متطوع؛ لأنه إنما أذن له في العقد دون الدفع. وإن كان المدعى عليه لم يوكل الأجنبي في الصلح.. فهل يملك العين؟ فيه وجهان: [أحدهما]- المنصوص -: (أنه لا يملكها) . و [الثاني] : حكى أبو علي في " الإفصاح ": أنه يملكها، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا اشترى رجل أرضا وبناها مسجدا، وجاء رجل، فادعاها، فإن صدقه.. لزمه قيمتها، وإن كذبه، فجاء رجل من جيران المسجد، فصالحه.. صح الصلح؛ لأنه بذل مالا على وجه البر) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لا يجوز أن يملك غيره بغير ولاية، ولا وكالة. فعلى هذا: يكون الصلح باطلا في الباطن، صحيحا في الظاهر. وأما المسألة المذكورة في المسجد: فلا تشبه هذه؛ لأن الواجب على المدعى عليه القيمة؛ لأنه قد وقفها، ويجوز الصلح عما في ذمة غيره بغير إذنه. وإن قال الأجنبي للمدعي: المدعى عليه منكر ذلك، ولكن صالحني عما ادعيت لتكون العين له.. فهل يصح الصلح؟ قال المسعودي ["في الإبانة " ق \ 278] : فيه وجهان.

فرع: ترد العين المصالح عليها إذا كانت معيبة

وأما إذا قال الأجنبي: أنت صادق في دعواك، فصالحني لتكون هذه العين لي، فإني قادر على انتزاعها منه.. فيصح الصلح، كما يصح أن يبتاع شيئا في يد غاصب، فإن قدر الأجنبي على انتزاعها منه.. استقر الصلح، وإن لم يقدر على انتزاعها.. كان له الخيار في فسخ الصلح، كمن ابتاع عينا في يد غاصب ولم يقدر على انتزاعها. إذا ثبت هذا: فإن كان المدعى عليه قد وكل الأجنبي في أن يصالح عنه.. فهل يصح هذا التوكيل وهذا الصلح فيما بينه وبين الله تعالى؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال أبو العباس: لا يجوز له الإنكار؛ لأنه كاذب، إلا أنه يجوز له بعد ذلك أن يوكل ليصالح عنه على ما ذكرناه. وقال أبو إسحاق: لا يجوز له ذلك، بل يلزمه الإقرار به لصاحبه، ولا يجوز له الوكالة للمصالحة عنه إذا غصب العين، أو اشتراها من غاصب وهو يعلم ذلك. فأما إذا مات أبواه، أو من يرثه، وخلف هذه العين له، فجاء رجل، فادعاها، وأنكره، ولا يعلم صدقه، وخاف من اليمين، وخاف إن أقر بها للمدعي أن يأخذها.. فيجوز له أن يوكل الأجنبي في الصلح على ما بيناه؛ لتزول عنه الشبهة. [فرع: ترد العين المصالح عليها إذا كانت معيبة] إذا صالح الأجنبي عن المدعى عليه بعوض بعينه، فوجد المدعي بالعوض الذي قبضه من الأجنبي عيبا.. كان له رده بالعيب، ولا يرجع ببدله عليه، ولكن ينفسخ عقد الصلح، ويرجع إلى خصومة المدعى عليه، وكذلك إذا خرج العوض مستحقا، كما لو ابتاع من رجل عينا، فوجد فيها عيبا، فردها، أو خرجت مستحقة.. فإنه لا يطالبه ببدلها.. وإن صالحه على دراهم، أو دنانير في ذمته، ثم سلم إليه دراهم، أو دنانير، فوجد بها عيبا، فردها، أو خرجت مستحقة.. فله أن يطالبه ببدلها، كما قلنا في البيع.

فرع: إقرار المدعى عليه ليس صلحا

[فرع: إقرار المدعى عليه ليس صلحا] ] : وإن ادعى عينا في يد رجل، فأنكرها المدعى عليه، فقال المدعي: أعطيك ألف درهم، وأقر لي بها، ففعل.. لم يكن صلحا، ولم تلزم الألف، وبذله حرام، وأخذه حرام، وهل يكون إقرارا؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ". [مسألة: احتمال الصلح المعاوضة وقطع الخصومة يكون إقرارا] ] : إذا ادعى رجل على رجل دينا في ذمته، أو عينا في يده، فأنكره المدعى عليه، ثم قال: صالحني عن ذلك بعوض. لم يكن ذلك إقرارا من المدعى عليه؛ لأن الصلح قد يراد به المعاوضة، وقد يراد قطع الخصومة والدعوى، فإذا احتملهما.. لم نجعله إقرارا. وإن قال المدعى عليه للمدعي: بعني هذه العين، أو ملكني إياها.. فحكى الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ في ذلك وجهين: أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه لا يكون إقرارا؛ لأن الصلح والبيع بمعنى واحد، فإذا لم يكن قوله: صالحني، إقرارا.. فكذلك قوله: بعني. والثاني: يكون إقرارا. وهو قول القاضي أبي الطيب، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن قوله: بعني وملكني، يتضمن الإقرار له بالملك. [مسألة: جواز اتخاذ الروشن] ] : إذا أخرج جناحا أو روشنا إلى شارع نافذ.. نظرت: فإن كان لا يضر بالمسلمين.. جاز، ولا يمنع من ذلك، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد رحمة الله عليهم.

وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (له إخراجه إلا أن يمنعه المسلمون أو واحد منهم، فإذا منعه رجل من المسلمين.. لم يجز له إخراجه، فإن أخرجه.. قلع) . دليلنا: ما روي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مر بميزاب للعباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقطر عليه، فأمر بقلعه، فخرج إليه العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: قلعت ميزابا ركبه رسول الله بيده، فقال عمر: والله لا يصعد من ينصبه إلا على ظهري، فصعد العباس على ظهره ونصبه» . فإذا ثبت هذا في الميزاب.. ثبت في الروشن مثله؛ لأن الميزاب خشبة واحدة، والروشن خشب، ولا فرق بين الجميع، ولأن الناس يخرجون الرواشن من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا من غير إنكار، فدل على أنه إجماع، ولأنه ارتفاق بما لم يتعين عليه ملك أحد من غير إضرار، فجاز كما لو مشى في الطريق. إذا ثبت هذا: وأخرج جناحا أو روشنا في شارع نافذ.. فإنه لا يملك ذلك المكان، وإنما يكون أحق به؛ لسبقه إليه، فإن انهدم روشنه أو هدمه، فبادره من يجاذبه، فمد خشبة تمنعه من إعادة الأول.. لم يكن للأول منعه من ذلك؛ لأن الأول

فرع: حرمة الصلح على إشراع الروشن

كان أحق به؛ لسبقه إليه، فإذا زال روشنه.. سقط حقه، وكان لمن سبق إليه، كما نقول في المرور في الطريق، وإن أخرج من يجاذبه روشنا تحت روشن الأول.. جاز، ولم يكن للأول منعه من ذلك؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك. وإن أراد الثاني أن يخرج روشنا فوق روشن الأول.. قال ابن الصباغ: فإن كان الثاني عاليا لا يضر بالمار فوق روشن الأول.. جاز، وإن كان يضر بالمار فوق روشن الأول.. منع من ذلك، كما لو أخرج روشنا يضر بالمارة في الشارع، فإنه يمنع من ذلك. [فرع: حرمة الصلح على إشراع الروشن] ] : فإن صالحه الإمام، أو أحد من المسلمين على هذا الجناح الذي لا يضر بعوض. لم يصح الصلح؛ لأن الهواء تابع للقرار، فلا يجوز أن يفرد بالعقد، ولأن ذلك حق لمن سبق إليه، فلم يجز أن يؤخذ منه عليه عوض، كما لا يجوز أن يؤخذ منه عوض على المرور في الطريق. [فرع: لا يجوز إشراع جناح يضر بالمارة] وإن أراد إخراج روشن أو جناح إلى شارع نافذ يضر بالمارة فيه.. لم يجز، فإن فعل. قلع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا إضرار» ، ولأنه ليس له الانتفاع بالعرصة بما فيه ضرر على المسلمين، بأن يبني فيها دكة، فكذلك ليس له الانتفاع بالهواء بما يضر به عليهم، فإن صالحه الإمام، أو بعض الرعية على ذلك بعوض.. لم يصح الصلح؛ لأنه إفراد للهواء بالعقد، ولأن في ذلك إضرارا بالمسلمين، وليس للإمام أن يفعل ما فيه ضرر عليهم.

فرع: تعتبر حاجة المارين

[فرع: تعتبر حاجة المارين] وأما كيفية الضرر: فإن ذلك معتبر بالعادة في ذلك الشارع، فإن كان شارعا لا تمر فيه القوافل والجيوش والركبان.. فيشترط أن يكون الجناح عاليا بحيث يمر الماشي تحته منتصبا فإن كان الشارع تمر فيه الجيوش والقوافل والركبان.. اشترط أن يكون الجناح عاليا بحيث يمر فيه الراكب على الدابة، وفي الكنيسة منتصبا. وقال أبو عبيد بن حربوية: يشترط أن يمر الفارس تحته ورمحه منصوب بيده؛ لأن الفرسان قد يزدحمون، فيحتاجون إلى نصب الرماح. وهذا ليس بصحيح؛ لأنه يمكنه أن يحط رمحه على كتفه، ولأن الرمح لا غاية لطوله. وإن أظلم الطريق بهذا الجناح أو الروشن.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال ابن الصباغ: يجوز ذلك؛ لأن ظلمة الطريق لا تمنع من المرور فيه، ولأنه لا يذهب الضوء جملة. و [الثاني] : قال الصيدلاني: لا يجوز؛ لأن ذلك يضر بالمار فيه، فهو كما لو لم يمكنه المشي منتصبا. [مسألة: لا يرتفق بهواء الجار إلا بإذنه] وإن أراد أن يخرج جناحا أو روشنا فوق دار غيره، أو شارع جاره بغير إذنه.. لم يجز؛ لأنه لا يملك الارتفاق بقرار أرض جاره إلا بإذنه، فكذلك الارتفاق بهواء أرض جاره، فإن صالحه صاحب الدار أو الشارع على ذلك بعوض.. لم يصح؛ لأنه لا يجوز إفراد الهواء بالعقد.

مسألة: إذن المعنيين بالروشن جائز

[مسألة: إذن المعنيين بالروشن جائز] ] : وإن أراد أن يخرج جناحا، أو روشنا إلى درب غير نافذ، وله طريق في هذا الدرب، فإن كان يضر بالمارة.. لم يجز من غير إذن أهل الدرب، كما لا يجوز إخراج جناح يضر إلى شارع نافذ، فإن أذن أهل الدرب له بإخراج جناح يضر بهم.. جاز؛ لأن الحق لقوم معينين، فإذا أذنوا بذلك.. صح. وإن أراد أن يخرج إليه جناحا أو روشنا لا يضر بهم بغير إذنهم.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: يجوز؛ لأنه يجوز له الارتفاق في الأرض بالعبور فيها، فجاز له إخراج الجناح إليها، كما نقول في الشارع النافذ، فإن أراد أهل الدرب أن يصالحوه على ذلك بعوض.. لم يصح الصلح؛ لما ذكرناه في الشارع النافذ. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: لا يجوز له ذلك بغير إذنهم؛ لأنه مملوك لقوم معينين، فلم يجز له إخراج الجناح إليه بغير إذنهم، كدرب الجار، فإن صالحه أهل الدرب على شيء.. لم يصح الصلح؛ لما ذكرناه في درب الجار. [مسألة: إشراع الساباط] ] : وإن أراد أن يعمل ساباطا على جدار جاره، وصفته: أن يكون له جدار، وبحذائه جدار لجاره، وبينهما شارع، فيمد جذوعا من جداره إلى جدار جاره.. فلا يجوز له ذلك إلا بإذن جاره؛ لأنه حمل على ملك غيره بغير إذنه من غير ضرورة، فلم يجز، كما لو أراد أن يحمل على بهيمة غيره بغير إذنه. وقولنا: (من غير ضرورة) احتراز من التسقيف على الحائط الرابع لجاره على ما يأتي بيانه.

فإن صالحه على ذلك على عوض.. صح الصلح، ولا بد أن تكون الأخشاب معلومة، إما بالمشاهدة، أو بالصفة، فيقول: صالحني على أن أضع هذه الأخشاب بكذا. قال الشيخ أبو حامد: وهكذا إن قال: خذ مني مالا وأقر أن لي حقا في أن أضع على جدارك جذوعي هذه، أو يصفها، فإن أقر له بذلك، وأخذ العوض.. جاز. فإن أراد أن يبني عليها.. ذكر طول البناء وعرضه، وما يبني به؛ لأن الغرض يختلف بذلك. فإن أطلقا ذلك ولم يقدراه بمدة.. كان ذلك بيعا لمغارز الأجذاع، وإن قدرا ذلك بمدة.. كان ذلك إجارة تنقضي بانقضاء المدة. هكذا ذكر الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق، والقاضي أبو الطيب. وقال ابن الصباغ: لا يكون ذلك بيعا بحال؛ لأن البيع ما يتناول الأعيان، وهذا الصلح على وضع الخشب لا يملك به الواضع شيئا من الحائط الذي يضع عليه؛ لأنه لو كان بيعا.. لملك جميع الحائط، ولكان إذا استهدم.. ملك أخذ آلته، وهذا لا يقوله أحد. قال: فإن قيل: إنما يكون بيعا لموضع الوضع خاصة.. قيل: لا يصح ذلك؛ لأن موضع الوضع مجمل في بقية الحائط الذي لغيره، وتلك منفعة استحقها، وإذا بطل أن يكون بيعا.. كان ذلك إجارة بكل حال. قال: فإن قيل: فكيف تجوز الإجارة إلى مدة غير معلومة؟ فالجواب: أن المنفعة يجوز أن يقع العقد عليها في موضع الحاجة غير مقدرة،

مسألة: لا يجوزاستعمال حائط الجار

كما يقع عقد النكاح على منفعة غير مقدرة، والحاجة تدعو إلى ذلك؛ لأن الخشب وما أشبهه ربما يراد للتأييد ويضر به التقدير، بخلاف سائر الإجارات، ولأن سائر الأعيان لو جوزنا فيها عقد الإجارة على التأبيد.. بطل فيها معنى الملك، وهاهنا وضع الخشب على الحائط لا يمنع مالكه أن ينتفع به منفعة مقصودة. والأول أصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " المختصر ": (ولو اشترى علو بيت على أن يبني على جدارنه، ويسكن على سطحه.. أجزت ذلك إذا سميا منتهى البنيان؛ لأنه ليس كالأرض في احتمال ما يبنى عليها) . إذا ثبت هذا: فإن أقر صاحب الحائط لصاحب الخشب: أن له حق الوضع على جداره.. لزم ذلك في الحكم، فإن تقدمه صلح.. لزم ظاهرا وباطنا، وإن لم يتقدمه صلح.. لزم في الظاهر دون الباطن. [مسألة: لا يجوزاستعمال حائط الجار] مسألة: [لا يجوز استعمال حائط الجار] : ولا يجوز أن يفتح كوة، ولا يتد وتدا في حائط الجار، ولا في الحائط المشترك بينه وبين غيره من غير إذن؛ لأن ذلك يضعف الحائط. ولا يجوز أن يبني عليه من غير إذن، كما لا يجوز أن يحمل على بهيمة غيره بغير إذنه. [فرع: إحداث مجرى أو مسيل في أرض أو سطح الجار] ] : (ولا يجوز أن يجري الماء في أرض غيره، ولا على سطحه بغير إذنه) . هذا قوله الجديد. وقال في القديم: (إذا ساق رجل عينا أو بئرا، فلزمته مؤنة، ودعته الضرورة إلى إجرائه في ملك غيره، ولم يكن على المجرى في ملكه ضرر بين.. فقد قال بعض

أصحابنا: يجبر عليه) . فأومأ إلى أنه يجبر؛ لما روي: (أن الضحاك، ومحمد بن مسلمة اختلفا في خليج، أراد الضحاك أن يجريه في أرض محمد بن مسلمة، فامتنع منه، فترافعا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: والله لأمرّنه ولو على بطنك) . والأول هو المشهور من المذهب؛ لأنه حمل على ملك غيره، فلم يجز من غير إذنه، كالحمل على بهيمته. وأما الخبر: فيحتمل أنه كان له رسم وأجرى الماء في أرضه، فامتنع منه، فلذلك أجبره أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ذلك. فإن ادعى على رجل مالا، فأقر به، ثم قال: صالحني منه، على أن أعطيك مسيل ماء في ملكي.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن بينا الموضع وقدر الطول والعرض.. صح؛ لأن ذلك بيع لموضع من أرضه، ولا يحتاجان أن يبينا عمقه؛ لأنه إذا ملك الموضع.. كان له النزول إلى تخومه) . وهل يملك المدعي هواء الساقية؟ فيه وجهان، حكاهما الصيدلاني: أحدهما: يملكه تبعا للأرض. والثاني: لا يملكه. فعلى هذا: لا يمنع مالك الأرض من البناء فوق المسيل. قال ابن الصباغ: وإن صالحه على أن يجري الماء في ساقية في أرض المصالح..

مسألة: إمكان الانتفاع بجدار الجار

قال في " الأم " [3/202] : (فإن هذا إجارة تفتقر إلى تقدير المدة) . قال أصحابنا: وإنما يصح إذا كانت الساقية محفورة، فأما إذا لم تكن محفورة.. لم يجز؛ لأنه لا يمكن للمستأجر إجراء الماء إلا بالحفر، وليس له الحفر في ملك غيره، ولأن ذلك إجارة لساقية غير موجودة، فإن حفر الساقية وصالحه.. جاز. وإن كانت الأرض في يد المقر بإجارة.. جاز له أن يصالحه على إجراء الماء في ساقية فيها محفورة مدة معلومة؛ لأنها لا تجاوز مدة إجارته، وإن لم تكن الساقية محفورة.. لم يجز أن يصالحه على ذلك؛ لأنه لا يجوز له إحداث ساقية في أرض في يده بإجارة، وكذلك إذا كانت الأرض وقفا عليه.. جاز أن يصالح على إجراء الماء في ساقية محفورة مدة معلومة، وإن أراد أن يحفر ساقية.. لم يكن له ذلك؛ لأنه لا يملكها، وإنما له أن يستوفي منفعتها، كالأرض المستأجرة. وإن صالحه على إجراء الماء على سطحه.. جاز إذا كان السطح الذي يجري ماؤه عليه معلوما؛ لأن الماء يختلف بكبر السطح وصغره. قال ابن الصباغ: ولا يحتاج إلى ذكر المدة، ويكون ذلك فرعا للإجارة؛ لأن ذلك لا يستوفي به منافع السطح، بخلاف الساقية، فإنه يستوفي منفعتها، فكانت مدتها مقدرة، ولأنهما يختلفان أيضا، فإن الماء الذي يجري في الساقية لا يحتاج إلى تقدير؛ لأنه لا يجري فيها أكثر من ملئها، ويحتاج إلى ذكر السطح الذي يجري فيه؛ لأنه يجري فيه القليل والكثير. وإن صالحه على أن يسقي زرعه، أو ماشيته من مائه سقية، أو سقيتين.. لم يصح؛ لأن القدر من الماء الذي يسقي به الزرع والماشية مجهول، فإن صالحه على ربع العين، أو ثلثها.. صح، كما قلنا في البيع. [مسألة: إمكان الانتفاع بجدار الجار] ] : وإذا أراد الرجل أن يضع أجذاعه على حائط جاره، أو حائط مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه، فإن كانت به إلى ذلك حاجة، مثل: أن يكون له براح من الأرض ويحيط

بالبراح له ثلاثة جدر، ولجاره أو لشريكه جدار رابع، وأراد صاحب الثلاثة الجدر التسقيف.. فهل يجبر صاحب الجدار الرابع على تمكينه من ذلك؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (يجبر إذا كان ما يضعه لا يضر بالحائط ضررا بينا) . وبه قال أحمد. ووجهه: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره» ، وروي: «لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبه في جداره» . فنكس القوم رؤوسهم، فقال أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمينها بين أظهركم. يعني: معرضين عن هذه السنة.

فإذا قلنا بهذا: فلم يبذل الجار له.. أجبره الإمام. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجبر الجار على ذلك) . وهو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه "، ولأنه انتفاع بملك غيره من غير ضرورة، فلم يجز من غير إذنه، كزراعة أرضه، والبناء في أرضه. وأما الخبر: فله تأويلان.

الأول: أنه محمول على الاستحباب. والثاني: أن معناه: إذا أراد الرجل أن يضع خشبه على جدار نفسه لإخراج روشن أو جناح إلى شارع نافذ، فليس لجاره المحاذي له أن يمنعه من ذلك؛ لأنه قال: " لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره ". فالكناية ترجع إلى أقرب مذكور، وهو الجار. فإذا قلنا بالأول، وأراد الجار أن يصالحه بمال يأخذه.. لم يكن له ذلك؛ لأن ما وجب عليه بذله.. لم يجز له أن يأخذ عنه عوضا. وإن قلنا بالثاني، وأراد الصلح على ذلك بعوض.. جاز، كما قلنا في الساباط. فأما إذا أراد أن يبني على الحائط، أو يضع عليه خشبا تضر به ضررا بينا، أو له جدار آخر يمكنه أن يسقف عليه.. لم يجبر الجار، قولا واحدا. فإذا قلنا بقوله الجديد، فأعاره صاحب الحائط الحائط، فوضع الخشب عليه.. لم يكن لصاحب الحائط أن يطالبه بقلعه؛ لأن إذنه يقتضي البقاء على التأبيد، فإن قلع المستعير خشبه، أو سقطت.. فهل له أن يعيد مثلها؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأنه قد استحق دوام بقائها. والثاني: ليس له أن يعيد مثلها بغير إذن مالك الحائط، وهو الصحيح؛ لأن السقف إذا سقط.. فلا ضرر على المستعير في الرجوع. وإن أراد صاحب الحائط هدم حائطه، فإن لم يكن مستهدما.. لم يكن له ذلك؛ لأن المستعير قد استحق تبقية خشبه عليه، وإن كان مستهدما.. فله ذلك، وعلى صاحب الخشب نقلها، فإذا أعاد صاحب الحائط حائطه، فإن بناه بآلة أخرى.. لم يكن لصاحب الخشب إعادة خشبه بغير إذن؛ لأن هذا الحائط غير الأول، وإن بناه بآلته الأولى.. فهل له أن يعيد خشبه بغير إذن؟ على الوجهين الأولين. فإن صالحه بمال ليضع أخشابه على جدار جاره - في قوله الجديد - أو قلنا: يجبر الجار على تمكينه من وضعها - على القديم - فصالح صاحب الجدار مالك الخشب ليضع على جداره الخشب.. صح الصلح؛ لأن ما صح بيعه.. صح انتفاعه، كسائر الأموال.

مسألة: الهواء تابع للقرار

[مسألة: الهواء تابع للقرار] ] : وإن كانت له شجرة في ملكه، فانتشرت أغصانها فوق ملك جاره.. فللجار أن يطالب مالك الشجرة بإزالة ما انتشر فوق ملكه؛ لأن الهواء تابع للقرار، وليس له أن ينتفع بقرار أرض جاره بغير إذنه، فكذلك هواء أرض جاره، فإن لم يزل مالك الشجرة ذلك.. فللجار أن يزيل ذلك عن هواء أرضه بغير إذن الحاكم، كما لو دخلت بهيمة لغيره إلى أرضه، فله أن يخرجها بنفسه، ثم ينظر فيه: فإن كان ما انتشر في ملكه لينا يمكنه أن يزيل ذلك عن ملكه من غير قطع.. لواه عن ملكه، فإن قطعه.. لزمه أرش ما نقصت الشجرة بذلك؛ لأنه متعد بالقطع. وإن كان يابسا لا يمكنه إزالة ذلك عن ملكه إلا بقطعه.. فله أن يقطع ذلك، ولا ضمان عليه. وإن أراد الجار أن يصالح مالك الشجرة بعوض ليقر ذلك في هواء أرضه، فإن كان غير معتمد على حائط.. لم يجز؛ لأنه أفرد الهواء بالعقد إن كان يابسا، وإن كان رطبا.. لم يجز أيضا لهذه العلة، ولأنه يزيد في كل وقت. وإن كان الغصن معتمدا على حائط الجار، فإن كان رطبا.. لم يجز؛ لأنه يزيد في كل وقت، وإن كان يابسا.. صح الصلح، كما لو صالحه على وضع خشبه على حائطه. [فرع: لا يجبر من ارتفعت داره على وضع سترة] ] : إذا كان سطح داره أعلى من سطح دار جاره.. لم يجبر من علا سطحه على بناء سترة. وقال أحمد: (يجبر من علا سطحه على بناء سترة؛ لأنه إذا صعد سطحه.. أشرف على دار جاره، والإنسان ممنوع من الانتفاع بملكه على وجه يستضر به غيره، كما لا يجوز أن يدق في ملكه ما يهتز به حائط جاره) .

فرع: حرية التصرف في الملك

دليلنا: أنه حاجز بين ملكيهما، فلا يجبر أحدهما على سترة، كالأسفل. وما ذكره، فغير صحيح؛ لأن الأعلى ليس له أن يشرف على الأسفل، وإنما يستضر الأسفل بالإشراف عليه دون انتفاعه بملكه، ويخالف الدق؛ لأنه يضر بملك جاره. [فرع: حرية التصرف في الملك] ونحوه] : ويجوز للإنسان أن يبني حماما بين الدور، ويتخذ دكان خبز بين العطارين. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يجوز له ذلك) في إحدى الروايتين عنه، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. دليلنا: أنه تصرف في ملكه الذي يختص به، ولم يتعلق به حق غيره، فلم يمنع منه، كما لو طبخ في داره أو خبز.. فإنه لا يمنع من ذلك لئلا يلحق جاره الدخان. [فرع: جواز فتح نافذة مشرفة] ] : قال الشيخ أبو حامد: يجوز للإنسان أن يفتح في داره كوة مشرفة على جاره، وعلى حريمه، ولا يكون للجار منعه؛ لأنه لو أراد رفع جميع الحائط.. لم يمنع منه، فإذا رفع بعضه.. لم يمنع. [مسألة: وضع باب على الشارع النافذ] ] : إذا كان لرجل دار لها طريق في درب غير نافذ، وظهرها إلى شارع نافذ.. جاز له أن يفتح بابا إلى الشارع النافذ؛ لأنه يملك الاستطراق في الشارع النافذ. فإن قيل: في ذلك إضرار بأهل الدرب؛ لأنه يجعله نافذا.. فالجواب: أن النافذ هو داره، وليس لأحد أن يستطرق داره بغير إذنه.

فرع: جواز التصرف في الملك

وإن كان باب داره إلى الشارع النافذ، وظهرها إلى درب ليس بنافذ، فإن أراد أن يفتح إلى الدرب كوة، أو شباكا.. لم يمنع منه، وكذلك إن أراد أن يرفع جداره إلى الدرب غير النافذ.. جاز؛ لأنه يتصرف في ملكه بما لا ضرر فيه على غيره. وإن أراد أن يفتح إلى الدرب بابا ليستطرق فيه.. لم يكن له الاستطراق؛ لأنه لا حق له في الاستطراق فيه. وإن أراد أن يفتح إليه بابا، وينصب عليه بابا، ويسمره، أو لا يسمره، وقال: لا أدخل فيه، ولا أخرج.. ففيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن ذلك دلالة على الاستطراق، فكان لأهل الدرب منعه من ذلك. والثاني: له ذلك، وهو الصحيح؛ لأنه لو رفع جميع حائطه.. لم يكن لأهل الدرب منعه، فكذلك إذا رفع بعضه، وإذا أراد الاستطراق على دربهم.. منعوه. [فرع: جواز التصرف في الملك] ] : وإن كان لرجل داران، وباب كل واحدة منهما إلى زقاق غير نافذ، وظهر كل واحدة منهما إلى ظهر الأخرى، فإن أراد صاحب الدارين رفع الحائط بينهما، وجعلهما دارا واحدة.. جاز. وإن أراد أن يفتح من أحدهما بابا إلى الأخرى، ليدخل من كل واحدة من الدارين إلى الأخرى، ويدخل من كل واحد من الدربين إلى كل واحدة من الدارين.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: لا يجوز؛ لأنه يجعل لكل واحدة من الدارين طريقا إلى كل واحد من الدربين، ويجعل الدربين كالدرب الواحد، ولأنه يثبت الشفعة في دور كل واحد من الدربين لأهل الدرب الآخر، في قول من يثبت الشفعة في الدار لاشتراكهما في الطريق، وهذا لا يجوز. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يجوز؛ لأن له أن يرفع الحائط كله، فكان له أن يفتح فيه بابا.

فرع: غيير محل الباب إلى أول الدرب المشترك

[فرع: غيير محل الباب إلى أول الدرب المشترك] فرع: [تغيير محل الباب إلى أول الدرب المشترك] : إذا كان لرجلين داران في زقاق غير نافذ، وباب دار أحدهما قريب من أول الدرب، ولداره فناء يمتد إلى آخر الدرب، وباب دار الآخر في وسط الدرب، فإن أراد من باب داره قريب من أول الدرب أن يقدم بابه إلى أول الدرب.. جاز؛ لأنه يترك بعض ما كان له من الاستطراق، وإن أراد أن يؤخر بابه إلى داخل الدرب الذي فناء داره هناك.. ففيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأن فناء داره يمتد، فكان له تأخير بابه إلى هنالك، ولأن له يدا في الدرب، فكان الجميع في يدهما. والثاني: ليس له ذلك، وهو الصحيح؛ لأنه يريد أن يجعل لنفسه الاستطراق في موضع لم يكن له، بدليل: أنه لو أراد أن يتخطى إلى داخل الدرب.. منع منه. وإن أراد من باب داره في وسط الدرب أن يقدم بابه.. قال الشيخ أبو حامد: فإن أراد أن يقدمه إلى الموضع الذي لا فناء لصاحبه فيه.. كان له ذلك، وجها واحدا، وإن أراد أن يقدمه إلى الموضع الذي لصحابه هناك فناء.. فهل له ذلك؟ يبنى على الوجهين الأولين: فإن قلنا: ليس لمن باب داره في أول الدرب أن يؤخر بابه.. فلمن باب داره في وسط الدرب أن يقدم بابه، وهو الصحيح. وإن قلنا: لمن باب داره في أول الدرب أن يؤخر بابه إلى وسط الدرب.. فليس لمن باب داره في وسطه، أن يقدم بابه إلى فناء دار جاره. وقال ابن الصباغ: ينبغي له أن يقدم بابه في فنائه إلى فناء صاحبه، وجها واحدا؛ لأنه إنما يفتح الباب في فناء نفسه، ولا حق له فيما جاوز ذلك.

مسألة: انهدام جدار بين جارين

[مسألة: انهدام جدار بين جارين] ] : إذا كان بينهما حائط مشترك، فانهدم، أو هدماه، فدعا أحدهما صاحبه إلى بنائه، وامتنع الآخر.. فهل يجبر الممتنع؟ فيه قولان، وهكذا لو كان بينهما نهر، فطم، أو بئر، فاجتمع فيها الطين.. فهل يجبر الممتنع من كسحها على ذلك؟ فيه قولان. وقال أبو حنيفة: (لا يجبر الممتنع على بناء الحائط، ويجبر على كسح النهر والبئر) . وعندنا: الجميع على قولين: [أحدهما] : قال في القديم: (يجبر الممتنع منهما) . وبه قال مالك رحمة الله عليه، واختاره ابن الصباغ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر، ولا إضرار» ، وإذا لم نجبر الممتنع.. أضررنا بشريكه، ولأنه إنفاق على ملك مشترك؛ لإزالة الضرر، فأجبر الممتنع منهما، كالإنفاق على العبد المشترك. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجبر الممتنع) ؛ لأنه إنفاق على ملك لو انفرد بملكه.. لم يجبر عليه، فإذا كان مشاركا لغيره.. لم يجبر عليه، كما لو كان بينهما براح من الأرض لا بناء عليه، فدعا أحدهما الآخر إلى البناء، فامتنع الآخر.. فإنه لا يجبر، وكما لو كان بينهما أرض مشتركة، فدعا أحدهما الآخر إلى زراعتها، فامتنع.. فإنه لا يجبر، وعكس ذلك العبد، لما لزم صاحبه الإنفاق عليه عند الانفراد بملكه.. أجبر على الإنفاق عليه إذا شارك غيره. وأما الخبر: فلا حجة فيه؛ لأنا لو أجبرنا الشريك.. لأضررنا به، و: (الضرر لا يزال بالضرر) . فإذا قلنا بقوله القديم، وطالب الشريك شريكه بالبناء.. لزمه الإنفاق معه بقسط

ما يملك من الحائط، فإن امتنع.. أجبره الحاكم، فإن كان له مال.. أخذ الحاكم منه، وأنفق عليه ما يخصه، وإن كان معسرا.. اقترض له الحاكم من الشريك، أو من غيره. وإن بناه الشريك بإذن الممتنع، أو بإذن الحاكم.. كان الحائط ملكا بينهما كما كان، ويرجع الذي بناه على شريكه بحصته من النفقة، وإن بناه بغير إذن شريكه، ولا إذن الحاكم.. لم يرجع بما أنفق؛ لأنه متطوع بالإنفاق، ثم ينظر: فإن بنى الحائط بآلته الأولى.. كان ملكا بينهما كما كان؛ لأن المنفق إنما أنفق على التأليف، وذلك أثر لا عين يملكها، وإن أراد الذي بناه نقضه.. لم يكن له ذلك؛ لأن الحائط ملك لهما، وإن بناه بآلة أخرى.. كان الحائط للذي بناه، وله أن يمنع شريكه من الارتفاق به، فإن أراد الذي بناه نقضه.. كان له ذلك؛ لأنه منفرد بملكه. فإن قال له الممتنع: لا تنقض، وأنا أدفع ما يخصني من النفقة.. أجبر الذي بناه على التبقية؛ لأنه لما أجبر الشريك على البناء.. أجبر الذي بنى على التبقية ببذل النفقة. وإن كان بينهما نهر أو بئر، وأنفق أحدهما بغير إذن شريكه، وغير إذن الحاكم.. فإنه لا يرجع بما أنفق، وليس له أن يمنع شريكه من نصيبه من الماء؛ لأن الماء ينبع في ملكيهما، وليس له إلا نقل الطين، وذلك أثر لا عين، بخلاف الحائط. وإن قلنا بقوله الجديد.. لم يجبر الممتنع منهما، فإن أراد أحدهما بناءه.. لم يكن للآخر منعه من ذلك؛ لأنه يزول به الضرر عن الثاني. فإن بناه بآلته.. كان الحائط ملكا لهما كما كان، فلو أراد الذي بناه أن ينقضه.. لم يكن له ذلك؛ لأن الحائط ملكهما، فهو كما لو لم ينفرد ببنائه، وإن بناه بآلة له.. فهو ملك للذي بناه، وله أن يمنع شريكه من الارتفاق به، فإن أراد الذي بناه أن ينقضه.. كان له ذلك؛ لأنه ملك له ينفرد به. فإن قال له الممتنع: لا تنقض، وأنا أدفع إليك ما يخصني من النفقة.. لم يجبر الذي بناه على التبقية؛ لأنه لما لم يجبر على البناء في الابتداء.. لم يجبر على التبقية في الانتهاء.. فإن طالب الشريك الممتنع بنقضه.. لم يكن له ذلك، إلا أن

فرع: في الصلح لا يصح ترك الحق بغير عوض

يكون له رسم خشب، فيقول له: إما أن تأخذ مني ما يخصني من النفقة، وتمكنني من وضع خشبي، أو تقلع حائطك لنبنيه جميعا، فيكون له ذلك؛ لأنه ليس للذي بنى إبطال رسوم شريكه هذا إذا انهدم أو هدماه من غير شرط البناء، فأما إذا هدماه على أن يبنيه أحدهما، أو هما، أو هدمه أحدهما متعديا.. قال الشافعي: (أجبرته على البناء) . واختلف أصحابنا فيه. فمنهم من قال: هي على قولين، كما لو هدماه من غير شرط، والذي نص عليه الشافعي إنما هو على القول القديم، وهو اختيار المحاملي؛ لأن الحائط لا يضمن بالمثل. ومنهم من قال: يجبر عليه، قولا واحدا. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأن الشافعي نص على ذلك في الجديد، ولأنه هدمه بهذا الشرط، فلزمه الوفاء به. [فرع: في الصلح لا يصح ترك الحق بغير عوض] ] : وإن كان هذا الحائط بينهما نصفين، فهدماه، أو انهدم، ثم اصطلحا على أن يبنياه، وينفقا عليه بالسوية، ويكون لأحدهما ثلث الحائط، وللآخر ثلثاه، ويحمل عليه كل واحد منهما ما شاء.. فلا يصح هذا الصلح؛ لأن الصلح هو: أن يترك بعض حقه بعوض، وهاهنا قد ترك أحدهما لصاحبه سدس الحائط بغير عوض، فلم يصح، كما لو ادعى على رجل دارا، فأقر له بها، ثم صالحه المدعي منها على سكناها.. فلا يصح؛ لأنه ملكه الدار والمنفعة، ثم مصالحته على منفعتها ترك حق له بلا عوض، كذلك هاهنا مثله، ولأن هذا شرط فاسد؛ لأن كل واحد منهما شرط أن يحمل عليه ما شاء، والحائط لا يحمل ما شاء، فلم يصح، كما لو صالحه على أن يبني على حائطه ما يشاء.. فإنه لا يصح؛ لأن ذلك مجهول

فرع: الجدران المشتركة علوا وسفلا

وإن اصطلحا على أن يبنياه، وينفق عليه أحدهما ثلث النفقة، وينفق عليه الآخر ثلثي النفقة، ويحمل على الحائط خشبا معلومة.. فقد قال الشيخ أبو حامد في درسه أولا: يصح الصلح؛ لأنه لما زاد في الإنفاق.. ترك الآخر بعض حقه بعوض. وقال في درسه ثانية: لا يصح هذا الصلح؛ لأن النفقة التي تزيد على نفقة حقه مجهولة، والصلح على عوض مجهول لا يصح، ولأنه صلح على ما ليس بموجود؛ لأن الحائط وقت العقد معدوم. [فرع: الجدران المشتركة علوا وسفلا] ] : وإن كان حيطان العلو لرجل، وحيطان السفل لآخر والسقف بينهما، فانهدم الجميع.. فليس لصاحب السفل أن يجبر صاحب العلو على البناء، قولا واحدا؛ لأن حيطان السفل لصاحب السفل، فلا يجبر غيره على بنائها، وهل لصاحب العلو المطالبة بإجبار صاحب السفل على بناء السفل؟ على القولين في الحائط. فإن قلنا بقوله القديم.. أجبر الحاكم صاحب السفل على البناء، وإن لم يكن له مال.. اقترض عليه من صاحب العلو، أو من غيره، وبنى له سفله، وكان ذلك دينا في ذمته إلى أن يوسر، وهكذا إذا بنى صاحب العلو حيطان السفل بإذن صاحب السفل، أو بإذن الحاكم، جاز، وكانت حيطان السفل لصاحب السفل، ولصاحب العلو أن يرجع بما أنفقه على حيطان السفل على صاحب السفل، ثم يعيد علوه كما كان، وإن أراد صاحب العلو أن يبني السفل من غير إذن الحاكم، وغير إذن صاحب السفل.. لم يمنع من ذلك؛ لأنه يستحق الحمل على حيطان السفل، ولا يرجع بما أنفق عليها؛ لأنه متطوع. فإن بنى صاحب العلو السفل بآلته.. كان ملكا لصاحب السفل كما كان، وليس لصاحب العلو نقضها، ولكن يعيد علوه عليها. وإن بناه بآلة أخرى.. كانت الحيطان ملكا لصاحب العلو، وليس لصاحب السفل أن يضع عليها شيئا، ولا يتد فيها وتدا، ولكن له أن يسكن في قرار السفل؛ لأن ذلك قرار ملكه، فإن أراد صاحب العلو نقض ذلك.. كان له ذلك؛ لأنه ملكه. وإن بذل

مسألة: اصطلحا على بناء معلوم فوق البيت

له صاحب السفل ما أنفق، ولا ينقص.. لم يجبر صاحب العلو على التبقية؛ لأنه لا يجبر على البناء في الابتداء، فلم يجبر على التبقية في الانتهاء. [مسألة: اصطلحا على بناء معلوم فوق البيت] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو ادعى على رجل بيتا في يده، فاصطلحا بعد الإقرار على أن يكون لأحدهما سطحه، والبناء على جدرانه بناء معلوما.. جاز) . واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة: فقال أبو العباس ابن سريج: صورتها: أن يدعي رجل على رجل دارا، في يده علوها وسفلها، فيقر له بها، ثم اصطلحا على أن يكون السفل والعلو للمقر له، ويبني المقر على العلو بناء معلوما.. فيصح الصلح، ويكون ذلك فرعا للعارية، وليس ذلك بصلح معاوضة؛ لأن صلح المعاوضة إسقاط بعض حقه بعوض، وهذا ترك بعض حقه بلا عوض؛ لأنه ملك العلو والسفل بالإقرار، ثم ترك المقر له للمقر العلو بغير عوض، فيكون عارية له الرجوع فيها قبل البناء، وليس له الرجوع بعد البناء، كما قال الشافعي: (إذا ادعى على رجل دارا، فأقر له بها، ثم صالحه منها على سكناها.. فلا يكون صلحا، وإنما يكون عارية) . ومنهم من قال: صورتها: أن يدعي رجل على رجل سفل بيت عليه علو، ويقر: أن العلو للمدعى عليه، فيقر المدعى عليه للمدعي بالسفل، ثم اصطلحا على أن يكون السفل للمدعى عليه، على أن المدعي يبني على العلو غرفة معلومة البناء.. فيصح. قال الشيخ أبو حامد: وهذا أصح التأويلين. وقال ابن الصباغ: الأول أشبه بكلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. [مسألة: صالح أحد رجلين على دار ملكاها بجهتين] ] : إذا ادعى رجل دارا في يد رجلين، فأقر له أحدهما بنصفها، وأنكر الآخر، وحلف له، فصالح المقر المدعي عن نصف الدار على عوض، وصار ذلك النصف

مسألة: إقرار بعض الورثة بحق لآخر

للمقر.. فهل لشريكه المنكر أن يأخذ ذلك بالشفعة؟ قال الشيخ أبو حامد: إن كانا ملكا بجهتين مختلفتين، مثل: أن كان أحدهما ورث ما بيده، والآخر ابتاع ما بيده.. فللشريك المنكر الشفعة؛ لأن الجهتين إذا اختلفتا.. أمكن أن يكون نصيب أحدهما مستحقا، فيدعيه صاحبه، فيعطيه، ثم يملكه بالصلح، فتثبت فيه الشفعة، وإن اتفقت جهة تمليكهما، كالإرث، أو الابتياع.. ففيه وجهان: أحدهما: ليس للمنكر الأخذ بالشفعة؛ لأنه يقر بأن أخاه أقر بنصف الدار بغير حق، ولم يملكه بالصلح، وهذا يمنعه من المطالبة بالشفعة. والثاني: له المطالبة بالشفعة، وهو الصحيح؛ لأنه قد حكم بنصفها للمقر له، وحكم بأنه انتقل ذلك إلى المقر بالصلح، مع أنه يحتمل أن يكون قد انتقل إليه نصيب المقر من غير أن يعلم الآخر. وأما ترتيب ابن الصباغ فيها: فقال: إن كان إنكار المنكر مطلقا، كأن أنكر ما ادعاه.. فله الأخذ بالشفعة، وإن قال: هذه الدار لنا، ورثناها عن أبينا.. فهل له الأخذ بالشفعة؟ فيه وجهان. [مسألة: إقرار بعض الورثة بحق لآخر] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإذا أقر أحد الورثة في دار في أيديهم بحق لرجل، ثم صالحه منه على شيء بعينه.. فالصلح جائز، والوارث المقر متطوع، ولا يرجع على إخوته بشيء) . واختلف أصحابنا في صورتها: فمنهم من قال: صورتها: أن يدعي رجل على جماعة ورثة لرجل دارا في أيديهم، كان أبوهم غصبه إياها، فأقر له أحدهم بذلك، وقال: صدقت في دعواك، وقد وكلني شركائي على مصالحتك بشيء معلوم، فحكم هذا في حق شركائه حكم الأجنبي إذا صالح عن المدعى عليه على عين مع الإنكار على ما مضى. وقال أبو علي الطبري: تأويلها: أن يدعي رجل على جماعة ورثة دينا على

مسألة: المصالحة على دراهم بدل الزرع

مورثهم، وأن هذه الدار رهنها عنده بالدين، فيقر له أحدهم بصحة دعواه، ويصالحه عن ذلك بشيء، فحكمه حكم الأجنبي إذا صالح عن المدعى عليه بالدين مع إنكاره. قال: لأن الشافعي قال: (وأقر أحد الورثة في دار في أيديهم بحق) ، ولو أقر بالدار.. لقال: أقر بالدار. وإنما أراد رهن الدار، وأيهما كان.. فقد مضى حكمه. قال الشيخ أبو حامد: والتأويل الأول أصح، وقد بين الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذلك في " الأم " [3/198 - 199] . [مسألة: المصالحة على دراهم بدل الزرع] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو ادعى رجل على رجل زرعا في الأرض، فصالحه من ذلك على دراهم.. فجائز) . وهذا كما قال: إذا ادعى رجل على رجل زرعا في أرض، فأقر له به، فصالحه عنه بعوض: فإن كان بشرط القطع.. صح الصلح، فإن كانت الأرض للمقر.. كان له تبقية الزرع؛ لأن الزرع له، والأرض له. فإن قيل: هلا كان للمدعي إجباره على القطع؛ لأن له غرضا في ذلك، وهو أنه ربما أصابته جائحة، فرفعه إلى حاكم يرى إيجاب وضع الجوائح، فيضمنه ذلك؟ قال ابن الصباغ: فالجواب: أن ذلك إنما يكون إذا لم يشرط القطع، فأما مع شرط القطع، فلا يضمن البائع الجوائح. وإن صالحه من غير شرط القطع، فإن كانت الأرض لغير المقر.. لم يصح الصلح، وإن كانت الأرض للمقر.. فهل يصح الصلح؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في البيع. وإن كان الزرع بين رجلين، فادعى عليهما رجل به، فأقر له أحدهما بنصفه،

فرع: المصالحة على نصف الأرض بنصف الزرع

وصالحه منه على عوض، فإن كانت الأرض لغير المقر.. لم يصح الصلح، سواء كان مطلقا أو بشرط القطع؛ لأنه إن كان مطلقا.. فلا يصح؛ لأنه زرع أخضر، فلا يصح بيعه من غير شرط القطع، وإن كان بشرط القطع.. لم يصح أيضا؛ لأن نصيبه لا يتميز عن نصيب شريكه، فلا يجبر شريكه على قلع زرعه. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وقد مضى ذكرها في البيوع. وذكر القاضي أبو الطيب: أن ذلك ينبني على القولين في القسمة، هل هي بيع، أو إفراز حق؟ وإن كانت الأرض للمقر، فإن قلنا: إن من اشترى زرعا في أرضه، يصح من غير شرط القطع.. صح الصلح هاهنا، وإن قلنا: لا يصح أن يشتري زرعا في أرضه إلا بشرط القطع.. لم يصح الصلح هاهنا. [فرع: المصالحة على نصف الأرض بنصف الزرع] ] : قال ابن الصباغ: وإن ادعى على رجل زرعا في أرضه، فأقر له بنصفه، ثم صالحه منه على نصفه على نصف الأرض.. لم يجز؛ لأن من شرط بيع الزرع قطعه، وذلك لا يمكن في المشاع، وإن صالحه منه على جميع الأرض بشرط القطع على أن يسلم إليه الأرض فارغة.. صح؛ لأن قطع جميع الزرع واجب، نصفه بحكم الصلح، والباقي لتفريغ الأرض، فأمكن القطع، وجرى مجرى من اشترى أرضا فيها زرع، وشرط تفريغ الأرض.. فإنه يجوز، كذلك هاهنا. وإن أقر له بجميع الزرع، وصالحه من نصفه على نصف الأرض؛ ليكون الزرع والأرض بينهما نصفين، وشرطا القطع في الجميع، فإن كان الزرع زرع في الأرض بغير حق.. جاز الصلح؛ لأن الزرع يجب قطع جميعه، وإن كان الزرع زرع بحق.. لم يصح الصلح؛ لأنه لا يمكن قطع الجميع. وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أن أصحابنا قالوا: إذا كان له زرع في أرض غيره، فصالح صاحب الزرع صاحب الأرض من نصف الزرع على نصف الأرض بشرط القطع.. جاز؛ لأن نصف الزرع قد استحق قطعه بالشرط، والنصف الآخر قد استحق أيضا قطعه؛ لأنه يحتاج إلى تفريغ الأرض لتسليمها، فوجب أن

يفرغها. قال: وهذا ضعيف، أما النصف: فقد استحق قطعه، وأما النصف الآخر: فلا يحتاج إلى قطعه؛ لأنه يمكن تسليم الأرض وفيها زرع. قال ابن الصباغ: ولأن باقي الزرع ليس بمبيع.. فلا يصح شرط قطعه في العقد، ويفارق ما ذكرناه إذا أقر بنصف الزرع، وصالحه على جميع الأرض؛ لأنه شرط تفريغ جميع المبيع. وبالله التوفيق

كتاب الحوالة

[كتاب الحوالة]

كتاب الحوالة الحوالة: نقل حق من ذمة إلى ذمة، مشتقة من قولهم: حولت الشيء من موضع إلى موضع: إذا نقلته إليه. والأصل في جوازها: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم على مليء.. فليحتل» ، وروي: «وإذا اتبع أحدكم على مليء.. فليتبع» . والمراد به الحوالة.

مسألة: الحوالة ثابتة للحق المستقر في الذمة

وأجمع المسلمون على جوازها، ولا تتم إلا بثلاثة أنفس: محيل، وهو: من يحيل بما عليه، ومحتال، وهو: من يحتال بما له من الحق، ومحال عليه، وهو: من ينتقل حق المحتال إليه. [مسألة: الحوالة ثابتة للحق المستقر في الذمة] ) : وتجوز الحوالة بعوض القرض، وبدل المتلف؛ لأنه حق ثابت مستقر في الذمة، فجازت الحوالة به كبيعه. قال الشيخ أبو حامد: وتجوز الحوالة بثمن المبيع؛ لأنه دين مستقر. وهل تجوز الحوالة بالثمن في مدة الخيار؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما - وهو قول القاضي أبي حامد -: أنه لا تصح الحوالة به؛ لأنه ليس بثابت. والثاني: تصح؛ لأنه يئول إلى اللزوم، ولا تجوز الحوالة بالمبيع قبل القبض؛ لأنه غير مستقر؛ لأنه قد يتلف فيبطل البيع فيه.

فرع: عدم صحة الحوالة بمال غير مستقر

[فرع: عدم صحة الحوالة بمال غير مستقر] ] : ولا تجوز الحوالة بدين السلم، ولا عليه، لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلم في شيء.. فلا يصرفه إلى غيره» . وأما المكاتب إذا حصلت عليه ديون لغير سيده من المعاملة، وله ديون.. جاز له أن يحيل بعض غرمائه على بعض، وجاز لغرمائه أن يحيلوا عليه بما لهم في ذمته؛ لأن الحق ثابت في ذمته، وأما ما في ذمته من مال الكتابة: فلا يجوز لسيده أن يحيل به عليه؛ لأنه غير مستقر؛ لأن له أن يعجز نفسه متى شاء، فلا معنى للحوالة به، وإن أراد المكاتب أن يحيل سيده بمال الكتابة الذي عليه على غريم المكاتب.. قال ابن الصباغ: صحت الحوالة. واشترط صاحب " المجموع " أن يكون النجم قد حل؛ لأنه بمنزلة أن يقضيه ذلك من يده. وإن كان لسيده عليه مال من جهة المعاملة.. فهل يجوز للسيد أن يحيل غريما له عليه؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري: أحدهما: يصح، ولم يذكر ابن الصباغ غيره؛ لأنه دين لازم. والثاني: لا يصح؛ لأنه قد يعجز نفسه، فيسقط ما في ذمته لسيده من دين المعاملة وغيرها؛ لأن السيد لا يثبت له المال على عبده. قال الصيمري: وإن أحاله رجل على عبده، فإن كان مأذونا له في التجارة جاز، وإن كان غير مأذون له ... ففيه وجهان، الأصح: لا تصح الحوالة. [مسألة: صحة الحوالة بالنقد المعلوم] ] : تجوز الحوالة بالدراهم، والدنانير، وبما له مثل، كالطعام والأدهان؛ لأن القصد من الحوالة إيفاء الغريم حقه من غير زيادة ولا نقصان، وذلك يحصل بما ذكرناه.

مسألة: كون الحقين متجانسين

وهل تصح الحوالة بما لا مثل مما يضبط بالصفة، كالثياب، والحيوان، والعروض التي يصح السلم عليها؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه مال ثابت في الذمة مستقر، فصحت الحوالة به، كالدراهم والدنانير. والثاني: لا يصح؛ لأن المثل فيه لا ينحصر، ولهذا لا يضمن بمثله في الإتلاف. فإذا قلنا بهذا: لم تجز الحوالة بإبل الدية، وإذا قلنا بالأول.. فهل تصح الحوالة بإبل الدية؟ فيه وجهان، مخرَّجان من القولين للشافعي: (إذا جنت امرأة على رجل موضحة، فتزوجها على خمس من الإبل في ذمتها له أرش جنايتها عليه) ، وكذلك قال في (الصلح) : (إذا كان له في ذمته أرش جناية، خمس من الإبل، فصالح عنها) .. فهل يصح؟ فيه قولان: أحدهما: (يصح) ؛ لأنه دين مستقر في الذمة معلوم العدد والسن. والثاني: (لا يصح) ، وهو الصحيح؛ لأنها مجهولة الصفة؛ لأنه لا يتعين على من وجبت عليه أن يسلمها من لون مخصوص. [مسألة: كون الحقين متجانسين] ) : ولا تصح الحوالة إلا إذا كان الحقان من جنس واحد، فإن كان عليه لرجل دنانير، فأحاله بها على رجل له عليه دراهم، أو أحال من له عليه حنطة على من له عليه شعير، أو ذرة.. لم تصح الحوالة؛ لأن موضوع الحوالة: أنها لا تفتقر إلى رضا المحال عليه، فلو صححناها بغير جنس الحق.. لاشترط فيها رضاه؛ لأنه لا يجيز على تسليم غير الجنس الذي عليه، ولأن الحوالة تجري مجرى المقاصة؛ لأن المحيل يسقط

فرع: يحال الدين الحال على الحال، والمؤجل على المؤجل

ما في ذمته بما له في ذمة المحال عليه، ثم المقاصة لا تصح في جنس بجنس آخر، فكذلك الحوالة. ولا تصح الحوالة إلا إن كان الحقان من نوع لجنس واحد؛ لما ذكرناه في الجنس، فإن كان له على رجل ألف درهم صحاح، فأحاله بها على من له عليه ألف درهم مكسرة، أو كان بالعكس من ذلك.. لم تصح الحوالة؛ لأن الحوالة في الحقيقة بيع دين بدين، وبيع الدراهم بالدراهم صرف من شرطه القبض في المجلس، إلا أنه جوز تأخير القبض في الحوالة؛ لأنه عقد إرفاق ومعروف، فإذا دخل فيه الفضل.. صار بيعا وتجارة، وبيع الدين بالدين لا يجوز، ألا ترى أن القرض في الحقيقة صرف؛ لأنه يعطي درهما بدرهم، ولكن جوزنا تأخير القبض فيه؛ لأنه إرفاق؟ ولو قال: أقرضتك هذه الدراهم المكسرة لترد علي صحاحا.. لم يصح. فكذلك هذا مثله. [فرع: يحال الدين الحال على الحال، والمؤجل على المؤجل] ] : وإن أحاله بدين حال على رجل له عليه دين حال، أو بدين مؤجل على دين مؤجل، وهما متساويان في الأجل.. صح، وإن أحاله بدين حال عليه على دين مؤجل له.. لم يصح؛ لأن الحال لا يتأجل عندنا، ولأن المحتال قد نقص من حقه، وهو أن دينه كان معجلا، فجعله مؤجلا، لينقل حقه من ذمة إلى ذمة، فلم يصح، كما لو كان له دين مؤجل، فقال: من عليه الدين لمن له الدين: انقص من دينك، لأقدم لك دينك قبل حلوله.. فإن هذا لا يصح. وإن كان عليه لرجل دين مؤجل، فأحاله به على دين له حال.. فهل تصح الحوالة؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 282] : أحدهما: تصح؛ لأنه يمكنه تعجيل المؤجل. والثاني: لا تصح، وهو قول البغداديين من أصحابنا؛ لأن المحيل قد زاد المحتال في حقه، لينقل حقه من ذمته إلى ذمة غيره، فلم يصح، كما لو كان له عليه ألف حال، فزاده فيه ليجعله مؤجلا.

فرع: الإحالة على مدين وضامن

[فرع: الإحالة على مدين وضامن] ] : وإن كان لرجل على رجلين ألف درهم، على كل واحد منهما خمسمائة، وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه، فأحاله أحدهما على الآخر بألف؛ برئت ذمتهما مما له عليهما، وإن أحال عليهما رجلا له عليه ألف ليأخذ من كل واحد منهما خمسمائة.. صح، وإن أحاله عليهما، على أن يطالب من شاء منهما بالألف.. فهل تصح الحوالة؟ فيه وجهان، حكاهما أبو العباس: أحدهما: تصح الحوالة، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأن المحتال لا يأخذ إلا قدر حقه؛ لأن الزيادة إنما تكون في القدر، أو الصفة، ألا ترى أنه يجوز أن يحيل على من هو أملى منه؟ والثاني: لا تصح الحوالة، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه يستفيد بهذه الحوالة زيادة في المطالبة؛ لأنه كان يطالب واحدا، فصار يطالب اثنين، ولأن الحوالة بيع، فإذا كان الحق على اثنين.. كان المقبوض منه منهما مجهولا، فلم تصح. قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا الوجه: لا تصح الحوالة بدين فيه ضمان، أو رهن. وقال ابن الصباغ: ينبغي أن لا تصح الحوالة بدين لا رهن به على دين به رهن، وجها واحدا؛ لأن الرهن عقد وقع له، فلا يقبل النقل إلى غيره، بخلاف الذي له على الضامن؛ لأنه يقبل النقل. ولهذا لو أحاله عليه وحده.. جاز. [مسألة: الإحالة على من لا حق له عنده] ] : إذا كان لرجل على رجل حق، فأحاله على من لا حق له عليه، فإن لم يقبل المحال عليه الحوالة.. لم تصح الحوالة، ولم تبرأ ذمة المحيل؛ لأنه لا يستحق شيئا على المحال عليه، وإن قبل المحال عليه الحوالة.. فهل تصح الحوالة؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا تصح، وهو قول أكثر أصحابنا، وهو ظاهر كلام المزني: لأن الحوالة معاوضة، فإذا كان لا يملك شيئا في ذمة المحال عليه.. لم تصح، كما لو اشترى شاة حية بشاة ميتة، ولأنه لو أحاله على من له عليه دين غير لازم، أو غير مستقر، أو مخالف لصفة دينه.. لم تصح الحوالة، فلأن لا تصح الحوالة على من لا دين له عليه أولى. والثاني: تصح الحوالة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -؛ لأن المحال عليه إذا قبل الحوالة.. صار كأنه قال لصاحب الحق: أسقط عنه حقك، أو أبرئه، وعلي عوضه، ولو قال ذلك.. للزمه؛ لأنه استدعاء إتلاف ملك بعوض، فكذلك هذا مثله. فإذا قلنا بهذا: فللمحال عليه أن يطالب المحيل بتخليصه. كما يطالب الضامن المضمون عنه بتخليصه، فإن وزن المحال عليه الحق، فإن كان يغير إذن المحيل.. لم يرجع على المحيل بشيء؛ لأنه متطوع، وإن وزن بإذنه.. رجع عليه، وإن أبرأ المحتال المحال عليه.. برئ، ولا يرجع المحال عليه على المحيل بشيء؛ لأنه لم يغرم شيئا، والذي يقتضي المذهب: أن المحتال لا يرجع على المحيل بشيء؛ لأن ذمته قد برئت بالحوالة على هذا، وإن قبض المحتال الحق من المحال عليه بإذن المحيل، ثم وهبه المحتال للمحال عليه.. فهل يرجع المحال عليه على المحيل بشيء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه لم يغرم شيئا؛ لأن ما دفع.. رجع إليه. والثاني: يرجع عليه، وهو المذهب؛ لأنه قد غرم، وإنما عاد إليه بسبب آخر. وإن كان عليه دين مؤجل، فأحاله على رجل لا شيء له عليه، وقبل المحال عليه الحوالة، وقلنا: تصح، فإن قضاه المحال عليه الحق في محله بإذن المحيل..

مسألة: صحة الحوالة برضا المحتال

رجع عليه، وإن قضاه قبل حلول الحق.. لم يرجع على المحيل قبل محل الدين؛ لأنه متطوع بالتقديم. فإن اختلف المحيل والمحال عليه، فقال المحال عليه: أحلت علي، ولا حق لك علي، وأنا أستحق الرجوع عليك؛ لأني قضيت بإذنك. وقال المحيل: بل أحلت بحق لي عليك.. فالقول قول المحال عليه مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الدين. [مسألة: صحة الحوالة برضا المحتال] ] : ولا تصح الحوالة إلا برضا المحتال، وبه قال كافة أهل العلم. وقال داود، وأهل الظاهر: (لا يعتبر رضاه، إذا كان المحال عليه مليئا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أحيل أحدكم على مليء.. فليحتل» . وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب) . دليلنا: أن الحق قد تعلق بذمة المحيل، فلا يملك نقله إلى غير ذمته بغير رضا من له الحق، كما لو تعلق الحق بعين.. فليس له أن ينقله إلى عين أخرى بغير رضا من له الحق. وأما الخبر: فمحمول على الاستحباب. وأما المحيل: فإن البغداديين من أصحابنا قالوا: يعتبر رضاه؛ لأن الحق عليه، فلا تتعين عليه جهة قضائه، كما لو كان له دراهم في كيسه.. فليس لصاحب الحق أن يطالب بإجباره على أن يقضيه حقه من كيس معين. وأما الخراسانيون: فقالوا: هل يعتبر رضا المحيل؟ فيه وجهان، وصورتها: أن يقول المحال عليه لرجل: أحلتك على نفسي بالحق الذي لك على فلان. فإذا قال: قبلت.. فهل يصح؟ على الوجهين، بناء على الوجهين فيما لو قال: ضمنت عنه بشرط أن يبرئه. وعندي: أن هذين الوجهين إنما يتصوران في المحال عليه إذا لم يكن عليه حق للمحيل، وقلنا: تصح الحوالة على من لا حق عليه برضاه، فأما إذا كان للمحيل على المحال عليه حق.. فلا يصح بغير رضا المحيل، وجها واحدا.

مسألة: الحوالة بيع أو رفق

وأما رضا المحال عليه إذا كان عليه حق للمحيل.. فهل يعتبر في صحة الحوالة رضاه؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول ابن القاص، وأبي سعيد الإصطخري -: أن الحوالة لا تصح إلا برضاه، وهو قول الزهري؛ لأنه أحد من تتم به الحوالة، فاعتبر رضاه، كالمحيل والمحتال. والثاني - وهو المذهب -: أن الحوالة تصح من غير رضاه؛ لأن المحيل أقام المحتال مقامه في القبض، فلم يعتبر رضا من عليه الحق، كما لو وكل من له الحق وكيلا في القبض.. فإنه لا يعتبر رضا من عليه الحق. [مسألة: الحوالة بيع أو رفق] ] : قال الشيخ أبو حامد: واختلف أصحابنا في الحوالة، هل هي بيع، أو رفق؟ على وجهين: فـ[الأول] : منهم من قال: إنها رفق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا أحيل أحدكم على مليء.. فليحتل» . فندب إلى الحوالة، والبيع مباح لا مندوب إليه، وإنما المندوب إليه الرفق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القرض: «قرض درهم خير من صدقته» ، ولأن الحوالة لو كانت بيعا لدخل فيها الفضل، ولما صحت بالدين. و [الوجه الثاني] : منهم من قال: إن الحوالة بيع، إلا أن البيع ضربان: ضرب بلفظ البيع، فيدخله الربح والفضل والمغابنة، وضرب منه بغير لفظه، فيكون القصد

مسألة: انتقال الدين بالحوالة

منه الرفق، فلا يدخله الفضل والمغابنة، ولأنها تقتضي التمليك، كالبيع؛ لأن المحيل يملك المحتال ما له في ذمة المحال عليه، إلا أنهما اختلفا في الاسم ليعرف به المطلوب من كل واحد منهما. فإذا قلنا: إنها رفق.. لم يدخلها خيار المجلس، كالقرض، وإذا قلنا: إنها بيع.. دخلها خيار المجلس، كالصرف، وأما خيار الثلاث: فلا يدخلها بالإجماع، وعندي: أن الوجهين في الحوالة على من لا حق له عليه برضا المحال عليه مأخوذان من هذا، فإذا قلنا: إن الحوالة رفق. صحت، وإذا قلنا: إنها بيع.. لم تصح. [مسألة: انتقال الدين بالحوالة] ] : إذا أحال بالحق.. انتقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وبرئت ذمة المحيل، وهو قول كافة العلماء. وقال زفر: لا ينتقل الحق من ذمة المحيل، وإنما يكون له مطالبة أيهما شاء، كالضمان. دليلنا: أن الحوالة مشتقة من تحويل الحق، والضمان مشتق من ضم ذمة إلى ذمة، فيجب أن يعطى كل لفظ ما يقتضيه. إذا ثبت: أن الحق انتقل من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.. فإن الحق لا يعود إلى ذمة المحيل بإفلاس المحال عليه، ولا بموته، ولا بجحوده ويمينه، وبه قال مالك، والليث، وأحمد، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وقال أبو حنيفة: (يرجع إليه في حالين: إذا مات المحال عليه مفلسا، وإذا جحد الحق وحلف) .

وقال محمد، وأبو يوسف: يرجع إليه في هذين الحالين، وفي حالة ثالثة: إذا أفلس المحال عليه وحجر عليه. وقال الحكم: يرجع إليه في حالة واحدة: إذا مات المحال عليه مفلسا. وأيس من الوصول إلى حقه. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء.. فليتبع» . قال الشافعي: (فلما ندب المحتال إلى اتباع المحال عليه، بشرط أن يكون المحال عليه مليئا.. علم أن الحق يتحول عن المحيل إلى ذمة المحال عليه تحولا يمنع المحتال من الرجوع إلى المحيل، إذ لو كان له الرجوع إليه.. لم يكن بفقد هذا الشرط عليه ضرر) . قال أصحابنا: ولأن عموم الخبر يدل على: أنه يتبع أبدا وإن مات مفلسا. أو جحده فحلف. وروي: أن أبا سعيد بن المسيب كان له على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حق، فسأله أن يحيله به على رجل، فأحاله به عليه، فمات المحال عليه. فعاد أبو سعيد يسأل عليا حقه، فقال له علي: (اخترت علينا غيرنا، أبعدك الله) . فثبت أنه إجماع؛ لأنه لم ينكر على علي أحد من الصحابة، ولأنه لا يخلو: إما أن يكون بالحوالة سقط حقه من ذمة المحيل، أو لم يسقط، فإن لم يسقط حقه عنه.. كان له الرجوع عليه، سواء مات المحال عليه، أو لم يمت، وسواء أفلس أو لم يفلس، وإن كان قد سقط حقه عنه، فكيف يرجع بالإعسار والجحود؟! لأن الحوالة كالقبض للحق، فلم يرجع على المحيل، كما لو قبض عن حقه عوضا، فتلف في يده.

فرع: تصح الإحالة بعد القبض

[فرع: تصح الإحالة بعد القبض] ] : إذا كان عليه دين لرجل، فأحاله على من له عليه دين، ثم إن المحيل قضى المحتال.. صح القضاء، ولا يرجع المحيل على المحال عليه بشيء إذا قضى بغير إذنه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: (يكون له الرجوع عليه) . دليلنا: أن الحوالة قد صحت، وإنما تبرع بالقضاء عنه، فلم يرجع عليه بشيء، ولأنه لا يملك إبطال الحوالة، فكان بدفعه متبرعا، كما لو قضى عنه أجنبي. [فرع: الإحالة على مجهول الحال] ] : وإن أحال على رجل، ولم يشترط أنه مليء، أو معسر، فبان أنه معسر.. لم يرجع المحتال على المحيل، سواء علم بإعساره أو لم يعلم، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (إذا لم يعلم بإعساره.. كان له الرجوع على المحيل) . دليلنا: أن الإعسار لو حدث بعد الحوالة، وقبل القبض.. لم يثبت للمحتال الخيار، فكذلك إذا ثبت أنه معسر حال العقد. وأما إذا أحاله على رجل بشرط أنه مليء.. قال الشيخ أبو حامد: فإن قال: أحلتك على فلان الموسر، أو فلان، وهو موسر، فقبل الحوالة، ثم بان أنه معسر.. فقد روى المزني عن الشافعي: (أن المحتال لا يرجع على المحيل أبدا، سواء كان المحال عليه غنيا أو فقيرا، أفلس أو مات معدما، غره أو لم يغره) . واختلف أصحابنا فيه: فقال أبو العباس: له أن يرجع على المحيل، كما لو باعه سلعة بشرط أنها سليمة من العيب، فبانت بخلافها. قال: وما نقله المزني.. فلا أعرفه للشافعي في شيء من كتبه.

مسألة: لا تبطل الحوالة بعد قبضها إن وجد عيبا

وقال أكثر أصحابنا: ليس له أن يرجع عليه، كما نقله المزني؛ لأن الإعسار لو كان عيبا في الحوالة.. لثبت له فيه الخيار من غير شرط، كالعيب في المبيع، ولأن التفريط في البيع من جهة البائع، حيث لم يبين العيب في سلعته، فإذا لم يبين.. ثبت للمشتري الخيار، والتفريط هاهنا من جهة المحتال، حيث لم يختبر حال المحال عليه، ولأن نفس السلعة حق للمشتري، فإذا وجدها ناقصة.. كان له الرجوع إلى الثمن، وليس كذلك ذمة المحال عليه؛ لأنها ليست نفس حق المحتال، وإنما هي محل لحقه، فوجود الإعسار بذمة المحال عليه ليس بنقصان في حقه، وإنما يتأخر حقه، ألا ترى أنه قد يتوصل إلى حقه من هذه الذمة الخربة بأن يوسر، أو يستدين، فيقضيه حقه، بخلاف المبيع إذا وجده معيبا؟ [مسألة: لا تبطل الحوالة بعد قبضها إن وجد عيبا] ] : وإن اشترى رجل من رجل عبدا بألف، ثم أحال المشتري البائع بالألف على رجل عليه للمشتري ألف، ثم وجد المشتري بالعبد عيبا، فرده، فإن رده بعد أن قبض البائع مال الحوالة.. انفسخ البيع، ولم تبطل الحوالة بلا خلاف على المذهب، بل قد برئت ذمة المحال عليه، ويرجع المشتري على البائع بالثمن، وإن رده قبل قبض البائع مال الحوالة.. فقد ذكر المزني في " المختصر ": (أن الحوالة باطلة) . وقال في " الجامع الكبير ": (الحوالة ثابتة) . واختلف أصحابنا فيها على أربع طرق: فـ[الطريق الأولى] : قال أبو إسحاق، وأبو علي بن أبي هريرة: تبطل الحوالة، كما ذكر في " المختصر "؛ لأن الحوالة وقعت بالثمن، فإذا رد العبد بالعيب.. انفسخ البيع، وسقط الثمن، فبطلت الحوالة. و [الطريق الثانية] : قال أبو علي في " الإفصاح ": لا تبطل الحوالة، كما ذكر في " الجامع "؛ لأن الحوالة كالقبض، فلم تبطل برد المبيع، كما لو قبض المحتال مال الحوالة، ثم وجد المشتري بالعبد عيبا، فرده، ولأن المبتاع دفع إلى البائع بدل ما له في ذمته، وعاوضه بما في ذمة المحال عليه، فإذا انفسخ العقد الأول.. لم ينفسخ

فرع: تصح الحوالة مهرا

الثاني، كما لو أعطاه بالثمن ثوبا، وسلمه إليه، ثم وجد بالعبد عيبا، فرده.. فإن العقد لا ينفسخ في الثوب. و [الطريق الثالثة] : منهم من قال: هي على حالين: فـ[الأول] : حيث قال: (الحوالة باطلة) أراد: إذا رد العبد قبل أن يقبض البائع مال الحوالة. و [الثاني] : حيث قال: (الحوالة لا تبطل) أراد: إذا رد العبد بعد أن يقبض البائع مال الحوالة. و [الطريق الرابعة] : منهم من قال: بل هي على حالين آخرين: فـ[الأول] : حيث قال: (تبطل الحوالة) أراد: إذا ادعى المشتري وجود العيب، وعزاه إلى حال العقد، فصدقه البائع؛ لأن الحوالة تمت بهما جميعا، فانحلت بهما. و [الثاني] : حيث قال: (لا تبطل) أراد: إذا ادعى المشتري أن العيب كان موجودا حال العقد، وقال البائع: بل حدث في يدك. وكان مما يمكن حدوثه، فلم يحلف البائع، وحلف المشتري.. فإن الحوالة لا تنفسخ؛ لأن الحوالة تمت بهما، فلا تنفسخ بأحدهما. هذا إذا كان الرد بعد مدة الخيار، فأما إذا كان الرد في مدة الخيار: فإن البيع ينفسخ، والحوالة تبطل، وجها واحدا، سواء كان قبل القبض، أو بعده؛ لأن البيع لا يلزم قبل انقضاء الخيار، وإذا لم يلزم البيع.. لم تلزم الحوالة؛ لأنها متعلقة بالثمن. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وهذا يدل من قوله: إن الحوالة بالثمن في مدة الخيار تصح. وقد مضى فيه وجهان. [فرع: تصح الحوالة مهرا] ] : وإن أحال الزوج زوجته بالمهر، ثم ارتدت قبل الدخول، أو وجد أحدهما بالآخر عيبا، ففسخ النكاح، فإن كان ذلك بعد أن قبضت المرأة مال الحوالة.. لم تبطل الحوالة، وإن كان ذلك قبل القبض.. فعلى الخلاف المذكور في البيع.

فرع: لا يضر العيب بالمشترى حوالة

[فرع: لا يضر العيب بالمشترى حوالة] ] : وإن أحال البائع رجلا بالثمن على المشتري، ثم وجد المشتري بالعبد عيبا، فرده.. لم تنفسخ الحوالة، وجها واحدا؛ لأنه تعلق بالحوالة، حق غير المتعاقدين، وهو الأجنبي، فلم يبطل حقه بغير رضاه، وهكذا لو أحالت الزوجة بمهرها على الزوج رجلا، ثم ارتدت قبل الدخول.. لم تبطل الحوالة؛ لأنه تعلق بالحوالة حق أجنبي، وهو المحتال، فلا تبطل من غير رضاه. [مسألة: الحوالة لا تصحح العقد الفاسد] ] : ولو اشترى رجل من رجل عبدا بألف، ثم أحال البائع رجلا له عليه ألف على المشتري، ثم تصادق البائع والمشتري: أن العبد كان حرا وقت البيع، فإن صدقهما المحتال على حرية العبد وقت البيع، وأن الحوالة وقعت بالثمن.. حكم ببطلان الحوالة، وكان للمحتال أن يطالب البائع بما له عليه؛ لأن الحوالة وقعت بالثمن وقد صدقهما أنه لا ثمن للبائع على المشتري. وإن كذبهما المحتال، ولم يكن هناك بينة.. فالقول قول المحتال مع يمينه؛ لأن الحوالة تمت بالمحيل والمحتال، فلا تنحل إلا بهما، كما أن البيع لما تم بالبائع والمشتري.. لا ينفسخ البيع إلا بهما، ولأنه قد تعلق بالثمن حق غير المتبايعين، فلا يبطل حقه بقول المتبايعين، كما لو اشترى عبدا، فقبضه، وباعه من آخر، ثم اتفق المتبايعان الأولان أن العبد كان حرا.. فإنهما لا يقبلان على المبتاع الثاني، فإذا حلف المحتال.. قبض المال من المشتري، وهل يرجع المشتري على البائع بذلك؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال صاحب " الفروع ": يرجع عليه؛ لأن المشتري قضى عن البائع دينه بإذنه، فرجع عليه. و [الثاني] : قال الطبري في " العدة ": لا يرجع عليه؛ لأن المشتري يقر أن

مسألة: الحوالة في القبض توكيل

المحتال ظلمه بأخذ ذلك منه، فلا يرجع به على غير من ظلمه. وإن أقام البائع أو المشتري بينة.. فهل تسمع؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو إسحاق: لا تسمع؛ لأنهما كذبا البينة بدخولهما في البيع. [والثاني] : قال الشيخ أبو حامد، وصاحب " الفروع ": إن شهدت البينة بأن العبد حر الأصل، وأن الحوالة وقعت بالثمن، أو شهدت بأنه حر الأصل، وأقر المحتال بأن الحوالة وقعت بالثمن. بطلت الحوالة؛ لأنه إذا ثبت أنه حر.. تبينا أنه لم يتعلق بذمة المشتري شيء، فحكم ببطلان الحوالة. وإن أقام العبد بينة بحريته.. قال ابن الصباغ: ثبتت حريته وبطلت الحوالة، ولم يذكر له وجها، والذي يقتضي المذهب: أن الحوالة لا تبطل بذلك؛ لأن العبد يحكم بحريته بتصادق البائع والمشتري، ولا تبطل الحوالة بذلك، فكذلك إذا أقام العبد بينة، ولأن المتبايعين إذا كانا مقرين بحريته، فلا حاجة لنا إلى إقامة البينة، فلا تبطل الحوالة بإقامته للبينة. وإن صدقهما المحتال أنه كان حرا، وادعى أن الحوالة وقعت بغير الثمن، وقالا: بل وقعت بالثمن، أو أقاما البينة أن العبد كان حرا، ولم تذكر البينة أن الحوالة وقعت بالثمن.. فالقول قول المحتال مع يمينه؛ لأنهما يدعيان ما يفسدها، والأصل صحتها. قال الشيخ أبو حامد: ويحلف على العلم. [مسألة: الحوالة في القبض توكيل] ] : قال أبو العباس: إذا كان لرجل عند رجل ألف، فقال من له الدين لرجل لا شيء عليه له: أحلتك على فلان بألف.. فهذا توكيل منه في القبض، وليس بحوالة؛ لأن الحوالة إنما تكون لمن له حق، ولا حق للمحتال عليه هاهنا، فثبت أن ذلك توكيل. وإن كان لزيد على عمرو ألف درهم، ولعمرو على خالد ألف درهم، واختلف

زيد وعمرو، فقال زيد لعمرو: أحلني بالألف التي عليك لي بالألف التي لك على خالد - بلفظ الحوالة - وقال عمرو: بل وكلتك أن تقبضها لي منه - بلفظ الوكالة - فالقول قول عمرو؛ لأنهما اختلفا في لفظه، وهو أعلم بلفظه، ولأنه قد ثبت استحقاق عمرو للألف في ذمة خالد، وزيد يدعي أن ملكها قد انتقل إليه بالحوالة، والأصل بقاء ملك عمرو عليها، وعدم ملك زيد. وإن قال عمرو لزيد: أحلتك على خالد بالألف التي لي عليه، فقبل زيد، ثم اختلفا: فقال عمرو: وكلتك لتقبضها لي منه، ومعنى قولي: أحلتك، أي: سلطتك عليه. وقال زيد: بل أحلتني عليه بديني الذي لي عليك.. فاختلف أصحابنا [على وجهين] : فـ[الوجه الأول] : قال المزني: القول قول المحيل، وهو عمرو، وبه قال الشيخ أبو حامد، والطبري، وأبو إسحاق، وأبو العباس، وأكثر أصحابنا، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنهما قد اتفقا على ملك عمرو للألف التي في ذمة خالد، واختلفا في انتقالها إلى زيد؛ وهو المحتال، فكان القول قول عمرو؛ لأن الأصل بقاء ملكه عليها وإن كان الظاهر مع زيد، كما لو كان لرجل عبد في يد آخر، فادعى من هو في يده أن مالكه وهبه منه، وقال المالك، بل أعرتكه.. فالقول قول المالك، وكما لو كانت دار في يد رجل، فادعى رجل أنه ورثها من أبيه، أو ابتاعها، وأقام على ذلك بينة، وادعى من هي بيده أنها ملكه.. فإنه يحكم بها لصاحب البينة؛ لأنه قد عرف له أصل ملك، وإن كان الظاهر مع صاحب اليد. والوجه الثاني - حكاه الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ، عن أبي العباس -: أن القول قول زيد، وهو المحتال؛ لأن اسم الحوالة موضوع لتحويل الحق من ذمة إلى ذمة، فكان اللفظ يشهد له، كما لو تنازعا دارا وهي في يد أحدهما.. فالقول قوله. والأول أظهر. فإذا قلنا: إن القول قول المحيل، فحلف.. ثبتت الوكالة له، فإن كان زيد قد قبض الحق من خالد.. فقد برئت ذمة خالد؛ لأنه دفع دفعا مأذونا فيه، إما من جهة الحوالة أو الوكالة. فإن كان الحق باقيا في يد القابض.. لزمه دفعه إلى المحيل

بظاهر الحكم؛ لأنه قد أثبت بيمينه: أنه وكيله، فإذا رده عليه.. فهل للمحتال أن يرجع بحقه على المحيل؟ فيه وجهان: أحدهما: يرجع، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأنه إن كان وكيلا.. فحقه باق في ذمة المحيل، وإن كان محتالا.. فقد أخذ منه المحيل ما كان أخذه، وذلك ظلم منه، فرجع عليه به؛ لأنه واجب عليه بقولهما. والثاني: لا يرجع عليه في ظاهر الحكم، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأنه يقر أنه قبض حقه من المحال عليه، ولكن يرجع عليه فيما بينه وبين الله تعالى، فإن كان قادرا على أخذ حقه من المحيل من غير هذا المقبوض.. لم يحل له إمساك هذا المقبوض؛ لأن من عليه حق لغيره.. فله أن يقبضه من أي جهة شاء، وإن كان لا يقدر على أخذ حقه منه.. حل له إمساك هذا المقبوض فيما بينه وبين الله تعالى، وإن كان المقبوض قد تلف في يد القابض، فإن تلف في يده بتفريط منه، أو أتلفه.. فقد وجب عليه مثل حقه في ظاهر الحكم، ويتقاصان، وإن تلف في يده بغير تفريط.. فلا تراجع بينهما؛ لأن المحيل يقول: تلف مالي في يد وكيلي على وجه الأمانة، فلا شيء عليه لي، ولكن عندي له ألف لا يدعيها، والقابض يقول: تلف مالي في يدي، فلم يرجع أحدهما على الآخر بشيء، كما لو تزوج امرأة بألف، وسلمها إليها، ثم طلقها، فقال: طلقتك بعد الدخول، فلي الرجعة، وعليك العدة، ولا رجوع لي عليك بشيء من المهر، وقالت المرأة: بل طلقتني قبل الدخول، فلا عدة علي، ولا رجعة لك، ولك الرجوع علي بنصف المهر.. فالقول قولها مع يمينها، فإذا حلفت.. فلا رجعة له، ولا عدة عليها، ولا رجوع له عليها. وأما إذا كان المحتال لم يقبض الحق.. فللمحيل مطالبة المحال عليه بحقه؛ لأنه قد أثبت بيمينه وكالة المحتال. قال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: وقد انعزل عن الوكالة بإنكاره لها. وقال الشيخ أبو حامد: للموكل أن يعزله. وهذا يدل من قوله: على أنه لم ينعزل بالإنكار.

فإذا قبض المحيل الحق من المحال عليه.. فهل للمحتال أن يرجع على المحيل بحقه؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: يرجع؛ لأنا قد حكمنا بأنه وكيل. والثاني: لا يرجع على المحيل؛ لأنه يقول: حقي في ذمة المحال عليه. والمحيل قد أخذه ظلما. فلا يستحق الرجوع عليه بشيء. وعندي: أنه لا يرجع عليه هاهنا، وجها واحدا؛ لأنه يقر أن حقه في ذمة المحال عليه لم يتعين فيما قبضه المحيل من المحال عليه، بخلاف ما لو قبض المحتال. ثم أخذه منه المحيل.. فإنه يقر أن حقه قد تعين فيما قبضه، مع أنه قد قيل للشيخ أبي حامد: فإن وجد المُحيل للمحال عليه مالا.. هل يحل له أخذه فيما بينه وبين الله تعالى؟ فقال: يحل له؛ لأنه يقول: حقي في ذمته. وهذا يدل على ما ذكرته. وإن قلنا: القول قول المحتال، فحلف فحكمه حكم الحوالة الصحيحة. أن يقبض حقه من المحال عليه؛ وإن كان قد قبضه.. فقد برئت ذمة المحال عليه. وإذ اتفقا أن المحيل قال: أحلتك بالحق الذي علي لك على فلان، ثم قال للمحيل: أردت بذلك: الوكالة، وقال المحتال: بل أحلتني.. فالقول قول المحتال، وجها واحدا؛ لأن ذلك لا يحتمل إلا تحويل الحق، وإن قال: أحلتك على فلان بما لي عليه، ثم قال المحيل: أردت بذلك: أحلتك بدينك الذي لك علي عليه، وقال المحتال: بل وكلتني بذلك لأقبضه لك، وحقي باق في ذمتك.. فعلى قول المحيل ومن تابعه: القول قول المحتال؛ لأن المحيل قد أقر بثبوت الحق له في ذمته، ويدعي انتقال ذلك عن ذمته، والأصل بقاؤه في ذمته. وعلى قول من خالف المزني فيها من أصحابنا: القول قول المحيل؛ لأن اللفظ يشهد له. فإن قلنا: القول قول المحتال، فحلف.. ثبت أنه وكيل، فإن كان قد قبض الحق من المحال عليه.. فقد برئت ذمته؛ لأنه دفع مأذون فيه، فإن كان ما قبضه باقيا.. قال له الحاكم: أنت تدعي على المحيل ألفا، وفي يدك ألف، فخذه بحقك، وإن

كان تالفا، فإن كان تلفه بتفريط منه.. ثبت ذلك في ذمته للمحيل، وله مثل ذلك، فيتقاصان، وإن تلف بغير تفريط منه.. لم يلزمه ضمانه؛ لأنه وكيل تلف المال في يده بغير تفريط، وللمحتال أن يرجع بحقه على المحيل، فإذا رجع عليه.. قال الشيخ أبو حامد: حل للمحيل أن يأخذ من مال المحتال مثل ما أخذه منه فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يقول: قد أحلته بحقه، وما أخذه مني بعد ذلك أخذه ظلما.. وإن كان المحتال لم يقبض الحق من المحال عليه.. فله أن يرجع بحقه على المحيل؛ لأنه قد أثبت بيمنه أنه وكيل للمحيل، وله أن يعزل نفسه عن الوكالة، فإذا أخذ حقه من المحيل.. فهل للمحيل أن يرجع على المحال عليه بشيء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه قد أقر: أنه لا شيء له في ذمته، بل ذلك للمحتال. والثاني: له أن يرجع عليه؛ لأن المحتال إن كان صادقا.. فإن الذي في ذمة المحال عليه للمحيل، وإن كان المحتال كاذبا.. فقد استحق المحيل على المحتال ما أخذه منه ظلما، وللمحتال حق على المحال عليه يمكنه أخذه عن حقه. فإذا قلنا: يرجع عليه.. فالذي يقتضي المذهب: أنه يرجع عليه بأقل الأمرين مما أخذه منه المحتال، أو الدين الذي على المحال عليه؛ لأنه إن أعطى المحتال أكثر من حقه.. لم يستحق الرجوع على المحال عليه بأكثر مما عنده، وإن كان أعطى المحتال أقل من حقه.. فهو يقر أن جميع ما على المحال عليه للمحتال، وإنما يرجع من ماله بالقدر الذي أخذ منه، وما زاد عليه يقر به للمحتال. وإن قلنا: القول قول المحيل، فحلف.. برئ من دين المحتال، وكان للمحتال مطالبة المحال عليه، إما بحكم الحوالة، أو الوكالة، فإذا أخذ منه المال.. أمسكه بحقه؛ لأن المحيل يقول: هو له بحق الحوالة. والمحتال يقول: هو للمحيل، ولي عليه مثله. وهو غير قادر على حقه من جهة المحيل، فكان له أخذه.

مسألة: تصديق المحال يوجب دفع المال

[مسألة: تصديق المحال يوجب دفع المال] ] : إذا كان لزيد على عمرو ألف درهم، ولخالد على زيد ألف درهم، فجاء خالد إلى عمرو، وقال: قد أحالني زيد بالألف التي عليك له، فإن صدقه.. وجب عليه دفع المال إليه، ثم ينظر في زيد: فإن صدقه.. فلا كلام، وإن كذبه.. كان القول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحوالة، فإذا حلف.. رجع زيد بالألف على عمرو، ولا يرجع خالد على زيد بشيء؛ لأنه إن كان قد قبض حقه من عمرو.. فقد استوفاه، وإن لم يقبضه.. فله أن يطالبه بحقه؛ لأنهما متصادقان على الحوالة. وإن كذب عمرو خالدا، ولا بينة.. فالقول قول عمرو مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحوالة، فإذا حلف.. سقطت دعوى خالد، ولم يكن لخالد الرجوع على زيد بشيء؛ لأنه يقر أن ذمته قد برئت من حقه، ثم ينظر في زيد: فإن كان كذب خالدا.. كان له مطالبة عمرو بدينه، وإن صدق خالدا.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال عامة أصحابنا: يبرأ عمرو من دين زيد؛ لأنه قد أقر بذلك. و [الثاني] : قال ابن الصباغ: إذا قلنا: ليس من شرط الحوالة رضا المحال عليه.. فإن الحوالة تثبت بتصادق المحيل والمحتال. [فرع: الحوالة على غائب] ] : إذا كان لرجل على رجل ألف درهم، فطالبه بها، فقال من عليه الدين: قد أحلت بها علي فلانا الغائب، وأنكر المحيل.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحوالة، فإن أقام من عليه الدين بينة بالحوالة.. قال ابن الصباغ: سمعت البينة لإسقاط حق المحيل عنه، ولا يثبت بها الحق للغائب؛ لأن الغائب لا يقضى له بالبينة، فإذا قدم الغائب، وادعى فإنما يدعي على المحال عليه دون المحيل، وهو مقر له بذلك، فلا يحتاج إلى إقامة البينة. ولو ادعى رجل على رجل أنه أحاله على فلان الغائب، وأنكر المدعى عليه..

فالقول قوله مع يمينه، وإن أقام المدعي بينة.. ثبت في حقه وحق الغائب؛ لأن البينة يقضى بها على الغائب، فإن شهد للمحتال ابناه.. لم تقبل شهادتهما؛ لأنهما يشهدان لأبيهما، وإن شهد له ابنا المحال عليه، أو أبناء المحيل.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على أبيهما ... وبالله التوفيق

كتاب الضمان

[كتاب الضمان]

كتاب الضمان الأصل في جواز الضمان: الكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] [يوسف: 72] . قال ابن عباس: (الزعيم: الكفيل) . وأما السنة: فروى أبو أمامة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يوم فتح مكة، فقال: " ألا إن

مسألة: ضمان دين الميت

الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، ولا تنفق امرأة شيئا من بيتها إلا بإذن زوجها، والعارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم» و (الزعيم) : الضمين، فلولا أن الضمان يلزمه إذا ضمن.. لم يجعله غارما. وروى قبيصة بن المخارق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل الصدقة إلا لثلاثة " فذكر: " رجلا تحمل بحمالة، فحلت له المسألة حتى يؤديها، ثم يمسك» . فأباح له الصدقة حتى يؤدي، فدل على: أن الحمالة قد لزمته. وأما الإجماع: فإن أحدا من العلماء لم يخالف في صحة الضمان، وإن اختلفوا في فروع منه. إذا ثبت هذا: فإنه يقال: زعيم، وضمين، وحميل، وكفيل، وقبيل بمعنى واحد. [مسألة: ضمان دين الميت] ] : يصح ضمان الدين عن الميت، سواء خلف وفاء لدينه أو لم يخلف، وبه قال مالك، وأبو يوسف، ومحمد.

وقال الثوري، وأبو حنيفة: (لا يصح الضمان عن الميت إذا لم يخلف وفاء لماله، أو بضمان ضامن) . دليلنا: ما روى أبو هريرة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤتى بالمتوفى وعليه دين، فيقول " هل خلف لدينه قضاء؟ " - وروي: " وفاء " - فإن قيل له: لم يخلف وفاء.. قال للمسلمين: " صلوا عليه "، فلما فتح الله عليه الفتوح.. قال: " من خلف مالا.. فلورثته، ومن خلف دينا.. فعلي قضاؤه» . فضمن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القضاء. «وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: مات منا رجل، فغسلناه، وحنطناه، وكفناه، فأتينا به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلنا له: صل عليه، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هل عليه دين؟ "، فقلنا: نعم، ديناران.. فقال: صلوا على صاحبكم "، وانصرف، فتحملها أبو قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وقال: هما علي يا رسول الله، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حق الغريم عليك، والميت منه بريء؟ "، فقال: نعم، فصلى عليه» .

وروى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحضرت جنازة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هل عليه دين؟ " فقالوا: درهمان، فقال " صلوا على صاحبكم " فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وأنا لهما ضامن، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " جزاك الله عن الإسلام خيرا، وفك رهانك كما فككت رهان أخيك "، فصلى عليه» . فموضع الدليل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز الضمان عن الميت، ولم يسأل: هل خلف وفاء، أم لا؟ ولأنه لم يكن يمتنع من الصلاة إلا على من مات وعليه دين، ولم يخلف وفاء، بدليل حديث أبي هريرة، وإنما كان امتناعه في أول الإسلام؛ لأن صلاته رحمة، والدين يحجب عن ذلك، بدليل ما روي «عن أنس: أنه قال: من استطاع منكم أن يموت وليس عليه دين.. فليفعل، فإني شهدت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد أتي بجنازة، فقالوا: صل عليها، فقال: " أليس عليه دين؟ "، فقالوا: بلى، فقال: " ما تنفعكم صلاتي عليه، وهو مرتهن في قبره، فإن ضمنه أحدكم.. قمت، فصليت عليه، وكانت صلاتي تنفعه» ، ولأن كل من صح الضمان عنه إذا كان له وفاء بما عليه، صح الضمان عنه، وإذا لم يكن له وفاء كالحي.

فرع: ألفاظ الضمان

[فرع: ألفاظ الضمان] ] : قال الطبري: لو قال: تكفلت لك بما لك على فلان.. صح، وإن قال: أنا به قبيل.. لم يكن صريحا في الضمان في أحد الوجهين، خلافا لأبي حنيفة؛ لأن القبيل بمعنى: قابل، كالسميع بمعنى: سامع، وإيجاب الضمان لا يكون موقوفا على قبوله، فلم يصح، وإن قال: إلي دين فلان.. لم يكن صريحا في الضمان في أحد الوجهين، خلافا لأبي حنيفة. دليلنا: أنه يحتمل قوله: إلي، بمعنى: أزن عنه، ويحتمل: مرجعه إلي لحق استحقه. ولو قال: خل عن فلان، والدين الذي عليه لك عندي.. لم يكن صريحا في الضمان، خلافا لأبي حنيفة؛ لأن كلمة (عندي) تستعمل في غير مضمون، كقولهم: الوزير عند الأمير. [مسألة: أهلية الضمان] ] : ويصح الضمان من كل جائز التصرف في المال، فأما الصبي، والمجنون، والسفيه: فلا يصح ضمان واحد منهم؛ لأنه إيجاب مال بعقد، فلم يصح منهم، كالبيع. فقولنا: (بعقد) احتراز من إيجاب المال عليه بالجناية، ومن نفقة قريبه، ومن الزكاة. وأما المحجور عليه للإفلاس: فيصح ضمانه؛ لأنه إيجاب مال في الذمة في العقد، فصح من المفلس، كالشراء بثمن في ذمته. ويصح الضمان من المرأة الجائزة التصرف. وقال مالك: (لا يصح، إلا أن يكون بإذن زوجها) . دليلنا: أن كل من لزمه الثمن في البيع، والأجرة في الإجارة.. صح ضمانه، كالرجل.

فرع: الضمان بغير الكلام

[فرع: الضمان بغير الكلام] ] : ولا يصح الضمان من المبرسم الذي لا يعقل؛ لأنه لا حكم لكلامه، فأما الأخرس: فإن لم يكن له إشارة مفهومة أو كتابة معقولة.. لم يصح ضمانه، وإن كانت له إشارة مفهومة، وكتابة معقولة ... صح ضمانه؛ لأنه حصل مع الكتابة إشارة مفهومة أنه قصد بها الضمان، وإن انفردت إشارته المفهومة بالضمان.. صح، وإن انفردت الكتابة في الضمان عن إشارة يفهم بها أنه قصد الضمان.. قال ابن الصباغ: لم يصح الضمان؛ لأن الكتابة قد تكون عبثا، أو تجربة القلم، أو حكاية الخط، فلم يلزمه الضمان بمجردها. [مسألة: ضمان العبد] ] : وإن ضمن العبد دينا لغير سيده، فإن كان غير مأذون له في التجارة.. نظرت: فإن كان بغير إذن سيده.. فهل يصح ضمانه؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح ضمانه؛ لأنه مكلف، له قول صحيح، وإنما منع من التصرف فيما فيه ضرر على السيد، ولا ضرر على السيد في ضمانه، فهو كما لو أقر لغيره بمال. فعلى هذا: يثبت في ذمته إلى أن يعتق. والثاني: لا يصح، وهو الصحيح؛ لأنه إثبات مال لآدمي بعقد، فلم يصح من العبد بغير إذن سيده، كالمهر. فقولنا: (لآدمي) احتراز من النذر. وقولنا: (بعقد) احتراز من الإقرار؛ لأنه إخبار، ومن الجناية على غير سيده. وإن ضمن بإذن السيد.. صح؛ لأن المنع منه لحق السيد، وقد أذن فيه، فإن أذن له أن يؤديه من كسبه.. قضاه منه، وإن أطلق الإذن.. ففيه وجهان: أحدهما: يقضيه من كسبه، كما لو أذن له سيده في النكاح.. فإن المهر والنفقة يقضيان من كسبه.

والثاني: لا يقضيان من كسبه، ولكن يتبع به إذا عتق؛ لأن السيد إنما أذن في الضمان دون القضاء.. فتعلق ذلك بذمة العبد؛ لأنها محل الضمان، ويفارق المهر النفقة، فإنهما يجبان عوضا عن الاستمتاع المعجل، فكان ما في مقابلتهما معجلا. وحكى أبو علي السنجي وجها آخر: أنه يتعلق برقبته، وليس بشيء. وإن كان العبد مأذونا له في التجارة، فلا يخلو: إما أن يضمن بإذن السيد أو بغير إذنه. فإن كان ضمن بغير إذنه.. نظرت: فإن قال: ضمنت لك حتى أؤدي من هذا المال.. لم يصح الضمان؛ لأن السيد إنما أذن له في التجارة فيما ينمي المال، لا فيما يتلفه. وإن ضمن له مطلقا.. فهل يصح ضمانه؟ على الوجهين في غير المأذون. فإذا قلنا: لا يصح.. فلا كلام، وإن قلنا: يصح.. فإنه لا يجوز له أن يقضي مما في يده من مال التجارة، ولكن يثبت في ذمته إلى أن يعتق - وإن ضمن بإذن السيد.. صح الضمان، فإن كان إذن السيد بالضمان مطلقا، فمن أين يقضي العبد دين الضمان؟ فيه وجهان: أحدهما: من كسبه، أو مما في يده للتجارة. والثاني: يثبت في ذمته إلى أن يعتق. وإن أذن له السيد بالضمان في المال الذي في يده فقال: ضمنت لك حقك الذي لك على فلان حتى أؤدي من المال في يدي.. صح الضمان، ولزمه أن يؤدي من المال الذي في يده للتجارة؛ لأن المنع منه لأجل السيد، وقد أذن، فجاز. فأما إذا قال الحر: ضمنت لك دينك على فلان في هذا المال.. لم يصح الضمان، والفرق بينهما: أن العبد ضمن الحق في ذمته. وإنما علق الأداء في مال بعينه، والحر لم يضمن الحق في ذمته، وإنما ضمنه في المال بعينه، فوزانه أن يقول الحر: ضمنت لك دينك على فلان، وأزنه من هذا المال فيصح الضمان، فإن كان على المأذون له دين يستغرق ما بيده، ثم أذن له السيد بالضمان والقضاء مما في

فرع: الضمان عن العبد

يده من مال التجارة، أو قلنا: يلزمه القضاء منه على أحد الوجهين.. فهل يشارك المضمون له الغرماء؟ فيه وجهان: أحدهما: يشاركهم؛ لأن المال للسيد، وقد أذن بالقضاء منه، إما بصريح القول، أو من جهة الحكم. والثاني: لا يشاركهم؛ لأن حقوق أصحاب الديون متعلقة بما في يده، فصار ذلك كالمرهون بحقوقهم، ألا ترى أن السيد لو أراد أخذ ذلك قبل قضاء الغرماء.. لم يكن له ذلك؟ [فرع: الضمان عن العبد] ] : وإن كان في ذمة العبد دين، فضمن عنه ضامن.. صح الضمان؛ لأن الدين الذي في ذمته لازم، وإنما لا يطالب به لعجزه في حال رقه، فصح الضمان عنه، كالدين على المعسر. قال الصيمري: لو ثبت على عبده دين بالمعاملة، فضمنه عنه سيده.. صح ضمانه، كالأجنبي. [فرع: ضمان المكاتب] ] : وأما إذا ضمن المكاتب دينا على غيره، فإن كان بغير إذن السيد.. فهل يصح؟ فيه وجهان، كما قلنا في العبد القن. فإن قلنا: لا يصح.. فلا كلام، وإن قلنا: يصح.. كان ذلك في ذمته إلى أن يعتق. وإن ضمن بإذن سيده، فإن قلنا: يجوز للمكاتب أن يهب شيئا من ماله بإذن سيده.. صار كالعبد المأذون له إذا ضمن بإذن سيده على ما مضى، وإن قلنا: لا يجوز للمكاتب أن يهب شيئا لغيره بغير إذن سيده.. فالذي يقتضي المذهب: أن يصح الضمان، ويتبع به إذا عتق، ولا يقضي من المال الذي بيده قبل أداء الكتابة.

مسألة: لا يشترط رضا المضمون عنه

[مسألة: لا يشترط رضا المضمون عنه] ] : يصح الضمان من غير رضا المضمون عنه؛ لأن عليا وأبا قتادة ضمنا عن الميتين بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والميت لا يمكن رضاه، ولأنه لما جاز له أن يقضي الدين بغير إذنه.. جاز أن يضمن عنه الدين بغير إذنه. وأما المضمون له: فهل يعتبر رضاه، فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو علي الطبري: يعتبر رضاه. وبه قال أبو حنيفة، ومحمد، إلا في مسألة واحدة، وهو إذا قال المريض لبعض ورثته: اضمن عني دينا لفلان الغائب، فضمن عنه بغير إذن المضمون له، وإن لم يسم الدين استحسانا؛ لأنه إثبات مال لآدمي، فلم يصح إلا برضاه، أو من ينوب عنه، كالبيع له، والشراء. فقولنا: (لآدمي) احتراز من النذر. و [الثاني] : قال أبو العباس: يصح من غير رضاه. ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، وبه قال أبو يوسف؛ لأن عليا وأبا قتادة ضمنا الدين بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يعتبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رضا المضمون له، ولأن الضمان وثيقة بالحق، فلم يفتقر إلى رضا من له الوثيقة، كما لو أشهد من عليه الدين بنفسه.. صحت الشهادة، وإن لم يرض المشهود له. وأما معرفة الضامن لعين المضمون له والمضمون عنه، فهل يفتقر إلى ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يفتقر إلى معرفة عين واحد منهما، وإنما يضمن بالاسم والنسب، ووجهه: أن عليا وأبا قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ضمنا، ولم يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل يعرفان عين المضمون له والمضمون عنه، أم لا؟ ولو كان الحكم يختلف بذلك.. لبيَّنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأن الواجب أداء الحق، فلا حاجة إلى معرفة ما سوى ذلك. والثاني: أنه لا يصح حتى يعرف الضامن عينهما؛ لأن معاملته مع المضمون له،

مسألة: البيع بشرط الضمين

فلا بد له من معرفته؛ ليعلم هل هو سهل الاقتضاء، أم شديد الاقتضاء؟ وقد تبرع عن المضمون عنه، فلا بد من معرفته بعينه؛ ليعلم هل هو أهل أن يسدى إليه الجميل، أم لا؟ والثالث: أنه يفتقر إلى معرفة عين المضمون له؛ لأن معاملته معه، ولا يفتقر إلى معرفة المضمون عنه؛ لأنه لا معاملة بينه وبينه. قال المحاملي: فإذا قلنا بهذا افتقر إلى قبوله، فإن قبل.. لزم الضمان، وإن رد.. بطل، وإن رجع الضامن قبل قبول المضمون له.. صح رجوعه. [مسألة: البيع بشرط الضمين] ] : وإن باع رجل من غيره عبدا بثمن في ذمته، بشرط أن يضمن له بالثمن ضامن معين.. صح البيع والشرط؛ لأن الحاجة تدعو إلى شرط الضمين في عقد البيع، فإن لم يضمن له الضمين المعين.. ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع؛ لأنه إنما دخل في البيع بهذا الشرط، فإذا لم يف له المشتري بالشرط.. ثبت للبائع الخيار. وإن أتاه المشتري بضمين غير الضمين المعين.. لم يلزم البائع قبوله، بل يثبت له الخيار وإن كان الذي جاءه به أملأ من المعين؛ لأنه قد يكون له غرض في ضمان المعين. وإن شرط في البيع أن يضمن له بالثمن ثقة.. لم يصح الشرط، وبطل البيع؛ لأن الثقات يتفاوتون، وإذا كان الشرط مجهولا.. بطل البيع.

فرع: البيع بشرط الشهود

[فرع: البيع بشرط الشهود] ] : وإن باعه سلعة بثمن، بشرط أن يُشهد له شاهدين.. جاز من غير تعيين، وكان عليه أن يُشهد له شاهدين عدلين؛ لأن الأغراض لا تختلف باختلاف الشهود، فإذا لم يشهد له.. ثبت لصاحبه الخيار في فسخ البيع، وإن باعه بشرط أن يُشهد له شاهدين معينين، فأشهد له شاهدين عدلين غير المعينين.. فهل يسقط خيار الآخر؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزم الآخر قبول ذلك، بل يثبت له الخيار في فسخ البيع، كما قلنا في الضمين المعين. والثاني: يلزم قبول ذلك، ولا خيار له؛ لأنه لا غرض له في أعيان الشهود إذا حصلت العدالة. ولهذا قلنا: لا بد في شرط الضمين من تعيينه، وفي الشهادة يجوز شرط شاهدين عدلين وإن كانا غير معينين، والذي يقتضي المذهب: أن هذا الشرط في الشهادة يصح أن يكون وثيقة لكل واحد من المتبايعين، ويثبت لكل واحد منهما الخيار إذا شرط ذلك على الآخر، ولم يف الآخر له بذلك؛ لأن للبائع غرضا في الاستيثاق بالشهادة خوفا أن يستحق عليه الثمن، فيرجع به، وللمشتري غرض في الاستيثاق بالشهادة خوفا أن يستحق عليه المبيع، فيرجع بالثمن على البائع. [مسألة: فيما له مصير إلى اللزوم] ] : قال المزني: وكذلك كل ضامن في دين، وكفالة بدين، وأجرة ... إلى آخر الفصل. قال أصحابنا: الحقوق على أربعة أضرب: أحدها: حق لازم مستقر، كالثمن في الذمة بعد قبض المبيع، والأجرة في الذمة بعد انقضاء الإجارة، ومال الجعالة بعد العمل، والمهر بعد الدخول، وعوض

القرض، وقيم المتلفات، فهذا يصح ضمانه؛ لأنه دين لازم مستقر. الضرب الثاني: دين لازم غير مستقر، كالمهر قبل الدخول، وثمن المبيع قبل قبض المبيع، والأجرة قبل انقضاء الإجارة، ودين السلم، فهذا يصح ضمانه أيضا. وقال أحمد في إحدى الروايتين: (لا يصح ضمان المسلم فيه؛ لأنه يؤدي إلى استيفاء المسلم فيه من غير المسلم عليه، فهو كالحوالة) . ودليلنا: أنه دين لازم، فصح ضمانه، كالمهر بعد الدخول. الضرب الثالث: دين ليس بلازم، ولا يئول إلى اللزوم، وهو دين الكتابة، فلا يصح ضمانه؛ لأن المكاتب يملك إسقاطه، بأن يعجز نفسه، فلا معنى لضمانه، ولأن ذمة الضامن فرع لذمة المضمون عنه، فإذا لم يلزم الأصل.. لم يلزم الفرع، ومن حكم الضمان أن يكون لازما. وإن كان على المكاتب دين لأجنبي.. صح ضمانه؛ لأنه دين لازم عليه، وإن كان عليه لسيده دين من جهة غير جهة الكتابة.. فهل يصح ضمانه؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح ضمانه؛ لأنه يجبر على أدائه. والثاني: لا يصح ضمانه؛ لأنه قد يعجز نفسه، فيسقط ما في ذمته لسيده. وأصلهما الوجهان، هل يستدام ثبوت الدين في ذمته لسيده بعد أن يصير ملكا له؟ فيه وجهان. فإن قلنا: يستدام ثبوته.. صح ضمانه. وإن قلنا: لا يستدام ثبوته.. لم يصح ضمانه. الضرب الرابع: دين غير لازم، إلا أنه يئول إلى اللزوم، وهو مال الجعالة قبل العمل، بأن يقول: من رد عبدي.. فله دينار، فإذا ضمن عنه غيره ذلك قبل رد العبد.. هل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] [يوسف: 72] . فضمن المنادي مال الجعالة، وحمل البعير معلوم. والثاني: لا يصح؛ لأنه دين غير لازم، فلا يصح ضمانه، كمال الكتابة.

فرع: ضمان مال السبق والرمي

ومن قال بهذا.. قال: لم يضمن المنادي، وإنما أخبر عن الملك: أنه بذل لمن رده حمل البعير، وأن الملك قال: (وأنا به زعيم) . وأما ضمان ثمن المبيع في مدة الخيار: فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه وجهان، كمال الجعالة قبل العمل. ومنهم من قال: يصح ضمانه، وجها واحدا؛ لأنه يئول إلى اللزوم، ولأن الثمن قد لزم، وإنما له إسقاطه بالفسخ، بخلاف مال الجعالة، فإنه لا يلزم بحال. [فرع: ضمان مال السبق والرمي] ] : وأما مال السبق والرمي بعد العمل: فيصح ضمانه؛ لأنه دين لازم مستقر، فهو كالمهر بعد الدخول، وأما قبل العمل: فإن كان المخرج للسبق أحدهما، أو أجنبيا.. فهل يصح ضمانه؟ فيه وجهان، كمال الجعالة، وإن كان مال السبق منهما، وبينهما محلل، فإن قلنا: إن ذلك كالإجارة.. صح ضمانه كضمان الأجرة قبل انقضاء مدة الإجارة، وإن قلنا: إنها كالجعالة.. كان في ضمان المال عنهما، أو عن أحدهما وجهان كمال الجعالة. [فرع: ضمان أرش الجناية] ] : وأما أرش الجناية والدية: فإن كان دراهم، أو دنانير، مثل: أن جنى على عبد، أو كانت الإبل معدومة، فأوجبنا قيمتها وكانت معلومة، أو قلنا: يجب ألف مثقال، أو اثنا عشر ألف درهم.. صح ضمانها، فإن كان الواجب الإبل.. فهل يصح ضمانها، فيه وجهان بناء على القولين في جواز بيعها.

فرع: ضمان نفقة الزوجة

[فرع: ضمان نفقة الزوجة] ] : وأما ضمان نفقة الزوجة: فإن ضمن عنه نفقة مدة قد مضت.. صح ضمانها؛ لأنه دين لازم مستقر، فهي كالمهر بعد الدخول، وإن ضمن عنه نفقة يومه الذي هو فيه.. صح أيضا؛ لأنه دين لازم، فصح ضمانه وإن كان غير مستقر، كضمان المهر قبل الدخول. وإن ضمن عنه نفقة مدة مستقبلة معلومة.. فهل يصح؟ فيه قولان؛ بناء على أن النفقة تجب بالعقد، أو بالعقد والتمكين من الاستمتاع: فقال في القديم: (تجب بالعقد، وإنما يجب استيفاؤها يوما بيوم) . فعلى هذا: يصح أن يضمن نفقة مدة معلومة، ولكن لا يضمن إلا نفقة المعسر، وإن كان الزوج وقت الضمان موسرا؛ لأن نفقة المعسر متحققة، وما زاد على ذلك مشكوك فيه. وقال في الجديد: (لا تجب النفقة إلا بالعقد، والتمكين من الاستمتاع) . فعلى هذا: لا يصح أن يضمن نفقة مدة مستقبلة بحال. [مسألة: لا يضمن مجهول] ] : ولا يصح ضمان مال مجهول، وهو أن يقول: ضمنت لك ما تستحقه على فلان من الدين، وهو لا يعلم قدره، وكذلك لا يصح ضمان ما لم يجب، وهو أن يقول: ضمن لك ما تداين فلانا. وبه قال الليث، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري، وأحمد. وقال مالك، وأبو حنيفة: (تصح ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب) . قال أبو العباس - وهو قول الشافعي في القديم -: (يصح ضمان نفقة الزوجة

فرع: ضمان معلوم جملة مجهول قدرا

مدة مستقبلة) . وهذا ضمان ما لم يجب، وضمان مجهول. وهذه طريقة الخراسانيين: أنها على قولين. قال الشيخ أبو حامد: وأبى سائر أصحابنا ذلك، وقالوا: لا يصح ضمانهما. قولا واحدا. وما قاله الشافعي في القديم: (يصح ضمان نفقة الزوجة مدة مستقبلة) .. فإنما أجازه؛ لأن النفقة تجب على هذا بالعقد. فقد ضمن ما وجب. ولا يصح منها إلا ضمان شيء مقدر، وليس بمجهول. ودليلنا - على أنه لا يصح ضمانهما -: أنه إثبات مال في الذمة بعقد لازم. فلم يصح مع جهله، ولا قبل ثبوته، كالثمن في البيع، والمهر في النكاح. فقولنا: (في الذمة) احتراز ممن غصب من رجل شيئا مجهولا. وقولنا: (بعقد) احتراز ممن أتلف على غيره مالا، أو وطئ امرأة بعقد فاسد. فإن ذلك يثبت في ذمته مالا، وإن كان لا يعلم قدره. [فرع: ضمان معلوم جملة مجهول قدرا] قال في " الإبانة " [ق \ 283] : فلو جهل مقدار الدين، إلا أنه قال: ضمنت لك من درهم إلى عشرة، وقلنا: لا يصح ضمان المجهول.. فهل يصح هذا؟ فيه قولان: أحدهما - قال، وهو الأشهر -: يصح؛ لأن جملة ما ضمن معلومة. والثاني - وهو الأقيس -: أنه لا يصح؛ لأن مقدار الحق مجهول. [فرع: ضمان ما يعطي الوكيل] ] : وأما إذا قال الرجل لغيره: ضمنت لك ما تعطي وكيلي، وما يأخذ منك. فإنه يلزمه ذلك؛ لأن ذلك لا من جهة الضمان، ولكن من جهة التوكيل، وذلك أن يد الوكيل يد الموكل.

مسألة: تعليق الضمان

[مسألة: تعليق الضمان] ] : ولا يصح تعليق الضمان على شرط، بأن يقول: إذا جاء رأس الشهر.. فقد ضمنت لك دينك على فلان. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 283] : أن أبا حنيفة قال: (يصح) . دليلنا: أنه إيجاب مال لآدمي بعقد، فلم يصح تعليقه على شرط، كالبيع. فقولنا: (لآدمي) احتراز من النذر. وقولنا: (يعقد) احتراز من وجوب نفقة القريب والزوجة، فإنه متعلق بشروط. [فرع: ضمان متاع غير موصوف] ] : إذا قال رجل لغيره في البحر عند تموجه، وخوف الغرق: ألق متاعك في البحر، وعلي ضمانه، فألقاه.. وجب على المستدعي ضمانه. وقال أبو ثور: (لا يجب) ؛ لأنه ضمان ما لم يجب. دليلنا: أنه استدعاء إتلاف ملك بعوض لغرض صحيح، فصح، كما لو قال: طلق امرأتك بمائة درهم علي. وإن قال رجل لغيره: بع عبدك من زيد بألف، وعلي لك خمسمائة. فباعه، قال الصيدلاني: وقاله في العقد.. فهل يصلح البيع؟ فيه وجهان لأبي العباس: أحدهما: يصح البيع، ويستحق البائع على المشتري خمسمائة، وعلى المستدعي للبيع خمسمائة؛ لأنه مال بذله في مقابله إزالة ملكه، فصح، كما لو قال: ألق متاعك في البحر، وعلي ضمانه. أو طلق امرأتك، وعلي لك ألف. والثاني: لا يصح البيع، ولا يستحق على الباذل شيء؛ لأن الثمن يجب أن يكون جميعه على المشتري، فإذا شرط أن يكون بعضه على غيره.. لم يصح.

مسألة: صحة ضمان الدين المعجل بمؤجل

قال صاحب " الفروع " فأما إذا قال: بع عبدك من فلان بألف، على أن أزن منه خمسمائة.. جاز، وينظر: فإن ضمن قبل البيع.. لم يلزمه؛ لأنه ضمان قبل الوجوب، فإن ضمنه بعده.. لزمه. [مسألة: صحة ضمان الدين المعجل بمؤجل] وإن كان لرجل على غيره دين حال، فضمنه عنه ضامن إلى أجل معلوم.. صح الضمان، وكان الدين معجلا على المضمون عنه، مؤجلا على الضامن؛ لأن الضمان رفق ومعروف، فكان على حسب الشرط، وكذلك إذا كان الدين مؤجلا إلى شهر، فضمنه عنه ضامن مؤجلا إلى شهرين.. كان مؤجلا على المضمون عنه إلى شهر، وعلى الضامن إلى شهرين. فإن قيل: فعندكم الدين الحال لا يتأجل، فكيف يتأجل هذا على الضامن؟ فالجواب: أن الدين لم يثبت على الضامن حالا، وإنما يثبت عليه مؤجلا، والدين يتأجل في ابتداء ثبوته. وإن كان الدين على رجل مؤجلا، فضمنه عنه ضامن حالا كان، أو مؤجلا على من هو عليه إلى شهرين، فضمنه عنه ضامن إلى شهر.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها المحاملي، وابن الصباغ: أحدها: يصح الضمان، ويلزم الضامن تعجيل الدين دون المضمون عنه؛ لأنه ضمن له دينا بعقد، فكان على حسب ما ضمنه، كما لو ضمن المعجل مؤجلا. والثاني: لا يصح الضمان؛ لأن الضامن فرع للمضمون عنه، فلا يجوز أن يستحق مطالبة الضامن دون المضمون عنه. والثالث: يصح الضمان، ولا يلزمه التعجيل، كأصله. إذا ثبت هذا: فضمن الحال مؤجلا، فمات الضامن.. حل عليه الدين، ووجب دفع ذلك من تركته، ولم يكن لورثته الرجوع على المضمون عنه حتى يحل الأجل.

مسألة: لا خيار في الضمان

وقال زفر: يرجعون عليه في الحال. دليلنا: أن المضمون عنه لم يأذن في الضمان عنه إلا إلى أجل، فلا يستحق الرجوع عليه في الحال. وإن مات المضمون عنه، وكان الدين مؤجلا عليهما.. حل الدين في تركة المضمون عنه، فإن اختار المضمون له الرجوع على الضامن.. لم يطالبه قبل حلول الأجل، وإن اختار المطالبة من تركة المضمون عنه.. كان له ذلك في الحال. [مسألة: لا خيار في الضمان] لا يجوز شرط الخيار في الضمان، فإذا شرط فيه.. أبطله. وقال أبو حنيفة: (يصح الضمان، ويبطل الشرط) . دليلنا: أن الخيار يراد لطلب الحظ، والضامن يعلم أنه مغبون من جهة المال، لا من جهة الثواب، ولهذا يقال: الكفالة أولها ندامة، وأوسطها ملامة، وآخرها غرامة. وإذا ثبت: أنه لا وجه لشرط الخيار فيه.. قلنا: عقد لا يدخله خيار الشرط، فأبطله، كالصرف والسلم. [مسألة: الضمان بشرط فاسد] ويبطل الضمان بالشروط الفاسدة؛ لأنه عقد يبطل بجهالة المال، فبطل بالشروط الفاسدة، كالبيع، وفيه احتراز من الوصية. فإن قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم، على أن يضمن لي فلان بها عليك، على أنه بالخيار.. فهذا شرط يفسد الضمان، وهل يفسد البيع في العبد بذلك؟ فيه قولان، كالقولين فيمن شرط رهنا فاسدا في بيع، وقد مضى توجيههما في الرهن.

مسألة: براءة ذمة المضمون عنه بالضمان

[مسألة: براءة ذمة المضمون عنه بالضمان] وإذا ضمن عن غيره دينا.. تعلق الدين بذمة الضامن، ولا يبرأ المضمون عنه بالضمان، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم. وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وداود، وأبو ثور: (يبرأ المضمون عنه بالضمان، ويتحول الحق إلى ذمة الضامن) . واحتجوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي قتادة: «حق الغريم عليك، والميت منه بريء؟ "، فقال: نعم» . وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «فك الله رهانك، كما فككت رهان أخيك» . ودليلنا: ما «روى جابر في الرجل الذي ضمن عنه أبو قتادة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقي أبا قتادة بعد ذلك بيوم، فقال له: " ما فعل الديناران؟ "، فقال: إنما مات بالأمس. ثم جاءه أبو قتادة من الغد، وقال: قد قضيتهما يا رسول الله، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الآن بردت عليه جلده» فلو كان قد تحول الدين عن المضمون عنه بالضمان.. لكان قد برد جلده بالضمان، ولأن الضمان وثيقة بدين، فلم يتحول إلى الوثيقة. ويسقط عن الذمة، كالرهن والشهادة. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي قتادة: «والميت منه بريء» يريد به: من الرجوع في تركته، وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: «فك الله رهانك، كما فككت رهان أخيك» أراد به: لامتناعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصلاة عليه لأجل ما عليه من الدين. فلما ضمنهما عنه.. فك رهانه بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن صلاته رحمة. إذا ثبت هذا: فيجوز للمضمون له مطالبة من شاء من الضامن والمضمون منه.. قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال مالك رحمة الله عليه: (لا يطالب الضامن، إلا إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه) . دليلنا: أن الحق متعلق بذمة كل واحد منهما، فكان له مطالبة كل واحد منهما كالضامنين.

فرع: يصح ضمان الضامن

[فرع: يصح ضمان الضامن] فإن ضمن عن الضامن ضامن أجنبي.. صح الضمان؛ لأنه دين لازم عليه، فصح كالضمان الأول، وإن ضمن عن الضامن المضمون عنه.. لم يصح ضمانه؛ لأن الضمان يستفاد به حق المطالبة، ولا فائدة في هذا الضمان؛ لأن الحق ثابت في ذمته قبل الضمان، ولأن الضامن فرع، والمضمون عنه أصل، فلا يجوز أن ينقلب الأصل فرعا، والفرع أصلا. [مسألة: الضمان من غير إذن] ] : إذا ضمن عن غيره دينا بغير إذنه.. لم يكن للضامن مطالبة المضمون عنه بتخليص ذمته؛ لأنه لم يدخل فيه بإذنه، فلم يلزمه تخليصه. وإن ضمن عنه بإذنه، فإن طالب المضمون له الضامن بالحق.. كان للضامن أن يطالب المضمون عنه بتخليصه؛ لأنه دخل في الضمان بإذنه، وإن لم يطالب المضمون له الضامن.. فهل للضامن أن يطالب المضمون عنه؟ قال الشيخ أبو حامد: نظرت: فإن قال: أعطني المال الذي ضمنته عنك ليكون عندي حتى إذا طالبني المضمون له أعطيته ذلك.. لم يكن له ذلك لأنه لم يغرم. وإن قال: خلصني من حق المضمون له، وفك ذمتي من حقه كما أوقعتني فيه، فهل له ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأنه لزمه هذا الحق من جهته وبأمره، فكان له مطالبته بتخليصه، كما لو استعار عبدا ليرهنه، فرهنه.. فللمعير أن يطالب المستعير بقضاء الدين، وفك العبد. والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه إذا لم يطالبه المضمون له.. فلا ضرر عليه في كون الحق في ذمته، فلم يكن له مطالبته بذلك، ويفارق العبد المرهون؛ لأن على المولى ضررا في كون العبد مرهونا.

قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 285] : وأصل هذين الوجهين ما قال ابن سريج: هل ينعقد بين الضامن والمضمون عنه حكم بنفس الضمان؟ على قولين، ولهذا خمس فوائد: إحداهن: هذه المسألة المتقدمة. الثانية: إذا دفع المضمون عنه إلى الضامن مال الضمانة عوضا عما سيغرم.. فهل يملكه الضامن؟ فيه وجهان: أحدهما: يملكه؛ لأن الرجوع يتعلق بسببي الضمان والغرم، وقد وجد أحدهما، فجاز تقديمه على الآخر، كإخراج الزكاة بعد النصاب وقبل الحول. فعلى هذا: إن قضى الحق.. استقر ملكه على ما قبض، وإن أبرئ من الدين قبل القضاء.. وجب رد ما أخذ. والوجه الثاني: أنه لا يملك ما قبض؛ لأنه أخذه بدلا عما يجب في الثاني، فلا يملكه، كما لو دفع إليه شيء عن بيع لم يعقد. فعلى هذا: يجب رده، وإن تلف.. ضمنه؛ لأنه قبضه على وجه البدل، فضمنه، كالمقبوض بسوم البيع. المسألة الثالثة: لو أبرأ الضامن المضمون عما سيغرم.. هل يصح؟ على الوجهين. الرابعة: لو ضمن الضامن من ضامن عن المضمون عنه.. هل يصح؟ فيه وجهان. وعلى قياس هذا: إذا رهن المضمون عنه الضامن بما ضمن عنه.. هل يصح؟ على الوجهين.

مسألة: براءة الضامن إذا قبض المضمون

الخامسة: لو ضمن في الابتداء، بشرط أن يعطيه المضمون عنه ضامنا معينا بما ضمن.. هل يصح؟ على الوجهين. وعلى قياس هذا: إذا ضمن عنه بإذنه بشرط أن يرهنه رهنا معلوما.. هل يصح؟ على الوجهين. [مسألة: براءة الضامن إذا قبض المضمون] ] : إذا قبض المضمون له الحق من المضمون عنه.. برئ الضامن؛ لأن الضمان وثيقة بالحق. فانحلت باستيفاء الحق، كما لو استوفى المرتهن الحق من غير الرهن. وإن قبض الحق من الضامن.. برئ المضمون عنه؛ لأنه قبض الحق من الوثيقة، فبرئ من عليه الحق، كالمرتهن إذا استوفى حقه من ثمن الرهن. وإن أبرأ المضمون له المضمون عنه.. برئ المضمون عنه، وبرئ الضامن؛ لأن المضمون عنه أصل، والضامن فرع، فإذا برئ الأصل.. برئ الفرع، وإن أبرأ الضامن.. برئ الضامن، ولم يبرأ المضمون عنه، كالمرتهن إذا أسقط حقه من الرهن.. فإن الراهن لا يبرأ. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 285] : وإن قال المضمون له للضامن: وهبت الحق منك، أو تصدقت به عليك.. كان ذلك إبراء منه للضامن. وقال أبو حنيفة: (يكون كما لو استوفى منه الحق) . دليلنا: أن الاستيفاء منه هو أن يغرم الضامن، ولم يغرم شيئا. [فرع: ضمان الضامن جائز وإن تسلسل] ] : وإن ضمن عن الضامن ضامن، ثم ضمن عن الضامن الثاني ثالث، ثم رابع عن الثالث.. صح ذلك، فإذا قبض المضمون له حقه من أحدهم.. برئ الجميع منهم؛ لأنه قد استوفى حقه، وإن أبرأ المضمون له المضمون عنه أولا.. برئوا جميعا، وإن

مسألة: قضاء الضامن الحق

أبرأ أحد الضمناء.. برئ، وبرئ فرعه، وفرع فرعه، ولا يبرأ أصله؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها. [مسألة: قضاء الضامن الحق] ] : وإذا قضى الضامن الحق.. فهل يرجع على المضمون عنه؟ فيه أربع مسائل: إحداهن: إن ضمن بإذنه، وقضى بإذنه.. فإنه يرجع عليه، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة، ومحمد: (إن قال: اضمن عني هذا الدين، أو انقد عني.. رجع عليه وإن قال: اضمن هذا الدين، أو انقده ولم يقل عني: لم يرجع عليه، إلا أن يكون بينهما خلطة، مثل: أن يكون يودع أحدهما الآخر. أو يستقرض أحدهما من الآخر، أو يكون ذا قرابة منه، أو زوجية، فالاستحسان: أن يرجع عليه) . دليلنا: أنه ضمن عنه بأمره، وقضى عنه بأمره، فرجع عليه، كما لو قال: اضمن عني، أو كان بينهما قرابة. الثانية: أن يضمن عنه بغير أمره، ويقضي عنه بغير إذنه، فإنه لا يرجع عليه، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك، وأحمد: (له أن يرجع) . دليلنا: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يصلي على من عليه دين) . وقد ضمن علي وأبو قتادة عن الميتين بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير إذنهما، فصلى عليهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو كان للضامن أن يرجع على المضمون عنه إذا ضمن بغير إذنه.. لما صلى عليهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي قتادة: «الآن بردت عليه جلده» . فلو كان إذا قضى عنه يستحق عليه الرجوع.. لم يبرد عليه جلده.

ولأنه ضمن عنه بغير إذنه، وقضى عنه بغير أمره، فلم يرجع عليه، كما لو علف دوابه، أو أطعم عبيده. الثالثة: إذا ضمن بغير إذنه، وقضى بإذنه.. فهل يرجع عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يرجع عليه، وهو المذهب؛ لأنه لزمه بغير إذنه، وأمره بالقضاء انصرف إلى ما وجب عليه بالضمان. والثاني: يرجع عليه؛ لأنه أدى عنه بأمره، فرجع عليه، كما لو ضمن عنه بإذنه. وأصل هذين الوجهين: من قال لغيره: اقض عني ديني، وقضى عنه.. فهل له أن يرجع عليه؟ فيه وجهان. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 286] ، والصيمري: إلا أن الأصح هاهنا: أن يرجع، والأصح في الأولى: أن لا يرجع، والفرق بينهما: أن في الضمان وجب في ذمته بغير إذنه، وفي القضاء لم يتعلق الحق بذمته، بل حصل القضاء بإذنه. وإن قال: اقض الدين، ولم يقل عني، فإن قلنا في التي قبلها: لا يرجع عليه.. فهاهنا أولى أن لا يرجع عليه. وإن قلنا هناك: يرجع.. فهاهنا فيه وجهان، حكاهما الصيمري، الصحيح أنه لا يرجع. وإن قال: اقض عني ديني لترجع علي، فقضى عنه.. رجع عليه، وجها واحدا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون عند شروطهم» . وإن قال: اقض عن فلان دينه، فقضى عنه.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 286] : لم يرجع عليه، وجها واحدا؛ لأنه لا غرض له في ذلك. المسألة الرابعة: إذا ضمن عنه بأمره، وقضى بغير إذنه.. فهل له أن يرجع عليه؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد: أحدها: يرجع عليه، وهو المذهب؛ لأنه دين لزمه بإذنه، فرجع عليه، كما لو ضمن بإذنه، وقضى بإذنه. والثاني: لا يرجع عليه؛ لأنه أسقط الدين عنه بغير إذنه، فلم يرجع عليه، كما لو ضمن بغير إذنه، وقضى بغير إذنه.

فرع: القبض من أحد المدينين المتضامنين

والثالث - وهو قول أبي إسحاق -: إن كان الضامن مضطرا إلى القضاء، مثل: أن يطالبه المضمون له، والمضمون عنه غائب أو حاضر معسر. فقضى المضمون له.. رجع الضامن؛ لأنه مضطر إلى القضاء، وإن كان غير مضطر إلى القضاء، مثل: أن كان المضمون عنه حاضرا موسرا يمكنه أن يطالبه بتخليصه من الضمان، فقضى.. لم يرجع؛ لأنه متطوع بالأداء. وكل موضع يثبت للضامن الرجوع على المضمون عنه، فأحال الضامن المضمون له بالحق على من له عليه دين، فإنه يرجع على المضمون عنه في المحال؛ لأن الحوالة كالقبض، وإن أحاله على من لا حق له عليه، وقبل المحال عليه، وقلنا: يصح.. برئ الضامن والمضمون عنه، ولا يرجع الضامن على المضمون عنه بشيء في الحال؛ لأنه لم يغرم شيئا، فإن قبض المحتال من المحال عليه، ورجع الحال عليه على الضامن.. رجع الضامن على المضمون عنه، وإن أبرأ المحتال المحال عليه من مال الحوالة.. لم يرجع المحال عليه على المحيل، وهو الضامن بشيء، ولم يرجع الضامن على المضمون عنه؛ لأنه لم يغرم واحد منهما شيئا، وإن قبض المحتال الحق من المحال عليه، ثم وهبه منه، أو قبض المضمون له الحق من الضامن، ثم وهبه منه.. فهل لهما الرجوع؟ فيه وجهان، بناء على القولين في المرأة إذا وهبت صداقها من الزوج، ثم طلقها قبل الدخول. [فرع: القبض من أحد المدينين المتضامنين] وإن كان لرجل على رجلين ألف درهم، على كل واحد منهما خمسمائة، وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه.. فلمن له الدين أن يطالب بالألف من شاء منهما جميعا، فإن قبض من أحدهما ألفا.. برئا جميعا، وكان للدافع أن يرجع على صاحبه بخمسمائة إن ضمن بإذنه، وقضى بإذنه. وإن قبض من أحدهما خمسمائة، فإن قال الدافع: خذها عن التي لك علي أصلا.. لم يرجع الدافع على صاحبه بشيء، وإن قال: خذها عن التي ضمنت.. برئا عنها، وكان رجوعه على صاحبه على ما مضى، وإن دفعها إليه وأطلق، فاختلف

فرع: دفع الضامن الصحاح بدل المكسرة

الدافع والقابض، فقال الدافع: دفعتها وعينتها عن التي ضمنتها، أو نويتها عنها، وقال المضمون له: بل عينتها، أو نويتها عن التي هي أصل عليك.. فالقول قول الدافع مع يمينه؛ لأنه أعلم بقوله ونيته، وإن اتفقا أنه لم يعينها عن أحدهما، ولا نواها، ثم اختلفا في جهة صرفها.. ففيه وجهان: أحدهما: يصرف إليهما نصفين. والثاني: للدافع أن يصرفها إلى أيهما شاء، وقد مضى دليل الوجهين في الرهن. وإن أبرأه المضمون له عن خمسمائة واختلفا فيما وقعت عليه البراءة.. ففي هذه المسائل: القول قول المضمون له، فيما أبرأ عنه إذا اختلفا في تعيينه، أو نيته. وإن أطلق.. ففيه وجهان: أحدهما: ينصرف إليهما. والثاني: يعينه المضمون له فيما شاء. [فرع: دفع الضامن الصحاح بدل المكسرة] إذا ضمن عن غيره ألف درهم مكسرة، فدفع إليه ألف درهم صحاحا في موضع ثبت له الرجوع على المضمون عنه.. فإنه لا يرجع عليه بالصحاح؛ لأنه تطوع بتسليمها، وإنما يرجع بالمكسرة. وإن ضمن عنه ألف درهم صحاحا، فدفع ألفا مكسرة.. لم يرجع إلا بالمكسرة؛ لأنه لم يغرم غيرها. وإن صالح الضامن عن الألف على ثوب.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو المشهور -: أنه يرجع على المضمون عنه بأقل الأمرين من قيمة الثوب، أو الألف؛ لأنه إن كان قيمة الثوب أقل.. لم يرجع بما زاد عليه؛ لأنه لم يغرم غير ذلك. وإن كانت قيمة الثوب أكثر من الألف.. لم يرجع بما زاد على الألف؛ لأنه متطوع بالزيادة عليه. والوجه الثاني - حكاه المسعودي [في " الإبانة " ق \ 286] ، والشيخ أبو نصرـ: أنه

فرع: ضمان ذمي لذمي عن مسلم

يرجع بالألف بكل حال، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، كما لو اشترى شقصا بألف، ثم أعطاه عن الألف ثوبا يساوي خمسمائة.. فإن المشتري يرجع على الشفيع بألف، وأما إذا صالح الضامن المضمون له عن الألف على خمسمائة، وقلنا يصح.. فإن الضامن والمضمون عنه يسقط عنهما الألف، كما لو أخذ بالألف ثوبا يساوي خمسمائة. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 286] : ولا يرجع الضامن على المضمون عنه إلا بخمسمائة، وجها واحدا؛ لأنه لم يغرم غيرها. [فرع: ضمان ذمي لذمي عن مسلم] ] : وإن كان على مسلم لذمي ألف درهم، فضمن عنه ذمي، ثم إن الضامن صالح المضمون له عن الدين الذي ضمنه على المسلم على خمر أو خنزير.. فهل يصح الصلح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح، ولا يبرأ واحد منهما عن حق المضمون له؛ لأنه متصل بحق المسلم. والثاني: يصح؛ لأن المعاملة بين ذميين. فإذا قلنا بهذا: فبماذا يرجع الضامن على المسلم؟ إن قلنا: إنه إذا صالحه على ثوب يرجع عليه بأقل الأمرين.. لم يرجع هاهنا بشيء، وإن قلنا: يرجع عليه بالألف.. رجع هاهنا بها أيضا. [فرع: تعجيل الضامن الدفع] ] : وإن ضمن عن غيره دينا مؤجلا بإذنه، ثم إن الضامن عجل الدين للمضمون له قبل أجله.. لم يرجع على المضمون عنه قبل حلول الأجل؛ لأنه تطوع بالتعجيل. وإن ضمن رجل صداق امرأة، فأداه إليها الضامن، فارتدت قبل الدخول.. سقط مهرها.

فرع: إنكار المضمون له القبض يقبل مع يمينه

قال المسعودي: [في " الإبانة " ق \ 286] : وترد المرأة ما قبضت من الصداق إلى الزوج، ثم ترده إلى الضامن. [فرع: إنكار المضمون له القبض يقبل مع يمينه] ] : إذا ضمن رجل عن غيره ألف درهم بإذنه، ثم ادعى الضامن أنه دفعها إلى المضمون له، وأنكر المضمون له ذلك، ولم تكن هناك بينة.. فالقول قول المضمون له مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القبض، فإذا حلف.. كان له أن يطالب أيهما شاء؛ لأن حقه ثابت في ذمتهما، فإن أخذ الألف من المضمون عنه.. برئت ذمته، وذمة الضامن، وهل للضامن أن يرجع بالألف الأولى على المضمون عنه؟ لا يخلو: إما أن يكون دفع بغير محضر المضمون عنه، أو بمحضره: فإن دفع بغير محضره، فلا يخلو: إما أن يشهد على الدفع أو لم يشهد، فإن لم يشهد على الدفع، نظرت في المضمون عنه: فإن صدق الضامن أنه دفع.. فهل له الرجوع عليه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما - وهو قول علي بن أبي هريرة -: أنه يرجع عليه؛ لأنه قد صدقه أنه أبرأ ذمته بدفع الألف، فكان له الرجوع عليه، كما لو كان دفع بحضرته. والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه لا يرجع عليه بشيء، وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنه يقول: وإن دفعت، فلم تدفع دفعا يبرئني من حقه؛ لأنك لم تسقط بذلك عني المطالبة، فلم تستحق علي بذلك رجوعا، ويخالف إذا كان بحضرته، فإن المفرط هو المضمون عنه. وإن كذبه المضمون عنه.. فهل عليه اليمين؟ إن قلنا: لو صدقه كان له الرجوع.. كان على المضمون عنه أن يحلف: أنه ما يعلم أنه دفع.

وإن قلنا: لو صدقه لا رجوع له عليه.. فلا يمين عليه. وإن اختار المضمون له أن يرجع على الضامن، فرجع عليه.. برئت ذمة المضمون عنه والضامن، وهل للضامن أن يرجع على المضمون عنه إذا صدقه في دفع الأولى؟ إن قولنا بقول أبي علي بن أبي هريرة: إن للضامن أن يرجع بالأولى على المضمون عنه إذا رجع المضمون له على المضمون عنه.. رجع الضامن هاهنا بالألف الأولى على المضمون عنه، ولا يرجع عليه بالثانية؛ لأنه يعترف أنه وزنها ظلما. فلا يرجع على غير من ظلمه. وإن قلنا بالمشهور: إنه لا يرجع عليه بشيء في الأولى.. فهل يرجع هاهنا بشيء؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: لا يرجع عليه بشيء، أما الأولى: فقد مضى الدليل عليها، وأما الثانية: فلا يرجع بها؛ لأنه يعترف أن المضمون له ظلمه بأخذها، فلا يرجع بها على غير من ظلمه. والثاني: يرجع عليه، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنه قد أبرأ المضمون عنه بدفعه عنه ظاهرا وباطنا، فكان له الرجوع عليه، كما لو دفع بالبينة. فإذا قلنا بهذا: فبأيتهما يرجع؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو قول القاضي أبي حامد -: أنه يرجع عليه بالثانية؛ لأن المطالبة عن المضمون عنه سقطت بها في الظاهر. والثاني: يرجع بالأولى؛ لأن براءة الذمة حصلت بها في الباطن. والثالث - وهو قول ابن الصباغ -: أنه يرجع بأقلهما؛ لأنه إن كان قد ادعى أنه دفع في المرة الأولى ثوبا قيمته دون الألف، وفي الثانية دفع الألف.. فقد أقر بأن الثانية ظلمه بها المضمون له، فلا يرجع بها على غير من ظلمه، وإن كان يدعي أنه دفع في المرة الأولى ألف درهم، وفي المرة الثانية ثوبا قيمته دون الألف.. لم يرجع إلا بقيمة الثوب؛ لأنه لو لم يدفعه.. لم يستحق الرجوع بالأولى، فلم يستحق إلا قيمة الثوب. فإن كان الضامن حين دفع الأولى بغير محضر المضمون عنه قد أشهد على الدفع، فإن كانت البينة قائمة.. حكم بها على المضمون له، ولم تقبل يمينه، ويكون

للضامن أن يرجع على المضمون عنه، وإن كانت البينة غير قائمة، فصدقه المضمون عنه أنه قد دفع، وأشهد.. نظرت: فإن كان قد أشهد شاهدين عدلين، إلا أنهما غابا، أو ماتا، أو فسقا.. فإن المضمون له إذا حلف.. كان له أن يرجع على أيهما شاء، فإن رجع على المضمون عنه.. كان للضامن أن يرجع أيضا على المضمون عنه بالألف التي قد دفع عنه؛ لأنه قد اعترف أنه دفع عنه دفعا يبرئه، ولا صنع له في تعذر الشهادة، وإن رجع المضمون له على الضامن.. لم يرجع بالثانية؛ لأنه ظلمه بها، وإنما يرجع بالأولى؛ لما ذكرناه. وإن أشهد شاهدين عبدين، أو كافرين، أو فاسقين ظاهري الفسق.. فهو كما لو لم يشهد، هل له أن يرجع على المضمون عنه؟ على الوجهين إذا صدقه على الدفع، ولم يشهد على ما مضى في الأولى من التفريع. وإن أشهد شاهدين ظاهرهما العدالة، ثم بان أنهما كانا فاسقين.. ففيه وجهان: أحدهما: يرجع الضامن على المضمون عنه؛ لأنه لم يفرط في الإشهاد، وليس عليه المعرفة في الباطن. فعلى هذا: حكمه حكم ما لو أشهد عدلين، ثم ماتا. والثاني: حكمه حكم ما لو لم يُشهد؛ لأنه أشهد من لا تثبت الحقوق بشهادته، فأشبه العبدين. وإن أشهد شاهدا واحدا عدلا، فإن كان موجودا.. حلف معه، وكان كما لو أشهد عدلين، وحكم بشهادتهما، وإن كان ميتا، أو غائبا، أو طرأ عليه الفسق.. ففيه وجهان: أحدهما: حكمه حكم ما لو أشهد عدلين ثم فسقا؛ لأنه دفع بحجة، وإنما عدمت، كالشاهدين. والثاني: حكمه حكم ما لو لم يُشهد؛ لأنه فرط حيث اقتصر على بينة مختلف في قبولها، فهو كما لو لم يُشهد. وأما إذا دفع الضامن الألف الأولى بمحضر من المضمون عنه، فإن أشهد على

الدفع، فإن كانت البينة قائمة.. أقامها وحكم بها، وإن كانت غير قائمة.. فعلى ما مضى، وإن لم يشهد، فحلف المضمون له.. رجع على من شاء منهما، وهل للضامن أن يرجع على المضمون عنه؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: حكمه حكم ما لو لم يشهد، وكان الدفع بغيبة المضمون عنه على ما مضى؛ لأنه فرط في ترك الإشهاد، فصار كما لو دفع في غيبة المضمون عنه. والثاني - وهو المنصوص - (أنه يرجع عليه) ؛ لأن المفرط في ترك الإشهاد هو المضمون عنه. وإن ادعى الضامن أنه دفع الحق إلى المضمون له، فأنكر ذلك المضمون له والمضمون عنه، ولم تكن هناك بينة.. فالقول قول المضمون له، فإن لم يحلف.. ردت اليمين على الضامن، فإن حلف.. بنينا على القولين في يمين المدعي مع نكول المدعى عليه: فإن قلنا: إنه كالبينة.. برئ الضامن والمضمون عنه من دين المضمون له، وكان للضامن أن يرجع على المضمون عنه. وإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كإقرار المدعى عليه.. فهو كما لو صدق المضمون له الضامن على الدفع، وأنكر المضمون عنه الدفع فإنه لا مطالبة للمضمون له على أحدهما؛ لأنه قد أقر باستيفاء حقه، وهل للضامن أن يرجع على المضمون عنه؟ فيه وجهان لأبي العباس: أحدهما: القول قول المضمون عنه مع يمينه، ولا يرجع الضامن عليه بشيء؛ لأن الضامن يدعي القضاء ليرجع، فلم يقبل لأن الأصل عدمه، والمضمون له يشهد على فعل نفسه، فلم يقبل. والثاني: يرجع الضامن على المضمون عنه؛ لأن قبض المضمون له يثبت مرة بالبينة، ومرة بالإقرار، ولو ثبت القبض بالبينة.. لرجع عليه، فكذلك إذا ثبت بالإقرار.

مسألة: الضمان في مرض الموت

[مسألة: الضمان في مرض الموت] ] : إذا ضمن الرجل في مرض موته عن غيره دينا.. فإن ذلك معتبر من ثلث ماله؛ لأنه تبرع، فهو كما لو وهب لغيره مالا. إذا ثبت هذا: فإذا ضمن رجل في مرض موته عن غيره تسعين درهما بإذنه، ومات الضامن، وخلف تسعين درهما لا غير، ومات المضمون عنه، ولا يملك غير خمسة وأربعين درهما، فإن طالب المضمون له بحقه في تركة الضامن، وقع في هذه المسألة دور، والعمل فيه أن نقول: يذهب بالضمان من التسعين شيء، ولكنه يرجع إليهم نصف شيء؛ لأن ما خلفه المضمون عنه مثل نصف تركة الضامن فيعلم أنه ما ذهب عنهم بالضمان إلا نصف شيء، ويجب أن تكون هذه التسعون إلا نصف شيء الباقية معهم تعدل شيئا كاملا، مثلي ما ذهب عنهم بالضمان، فاجبر التسعين بنصف الشيء الناقص عنها، ثم رده على الشيء الكامل، فيكون تسعون تعدل شيئا ونصف شيء، الشيء ثلثاها، وهو ستون، فيأخذ المضمون له ستين من تركة الضامن، ويستحق ورثة الضامن الرجوع في تركة المضمون عنه بها؛ لأن الضمان بإذنه، ويبقى للمضمون له من دينه ثلاثون، فيرجع بها في تركة المضمون عنه، وتركته أقل من ذلك، فيقتسم المضمون له وورثة الضامن الخمسة والأربعين على قدر حقيهما، فيكون لورثة الضامن ثلثاها، وهو ثلاثون، وللمضمون له ثلثها، وهو خمسة عشر، فيجتمع لورثة الضامن ستون، وخرج منهم بالضمان ثلاثون، وقد بقي معهم مثلا ما خرج منهم. فإذا تقرر هذا: وعرف ما يستحقه المضمون له من تركة الضامن بالعمل.. فهو بالخيار: إن شاء.. فعل ما ذكرناه، وإن شاء.. رجع على ورثة المضمون عنه بجميع تركته، وهو خمسة وأربعون، ورجع من تركة الضامن بثلثها، وهو ثلاثون، وإن

مسألة: ادعى بيع عبد لحاضر وغائب وكلاهما ضامن

شاء.. أخذ من ورثة الضامن خمسة وسبعين، ورجع ورثة الضامن بجميع تركة المضمون عنه. فإن كانت بحالها، إلا أن المضمون عنه خلف ثلاثين درهما لا غير.. فالعمل فيه: أن يخرج من التسعين شيء بالضمان، ويرجع إليهم ثلث شيء؛ لأن تركة المضمون عنه ثلث تركة الضامن، فيبقى مع ورثة الضامن تسعون إلا ثلثي شيء، تعدل شيئا وثلث شيء، فإذا جبرت التسعين.. عدلت شيئين، الشيء: نصفها، وهو خمسة وأربعون، فيأخذها من تركة الضامن، ويرجع المضمون له، وورثة الضامن في تركة المضمون عنه بنصفين؛ لاستواء حقيهما، فيرجع إلى ورثة الضامن خمسة عشر، فيجتمع لهم ستون، وخرج منهم ثلاثون، ويجتمع للمضمون له ستون، ويسقط من دينه ثلاثون، فإن شاء.. فعل ما ذكرناه، وإن شاء.. أخذ الستين كلها من تركة الضامن، ورجع ورثة الضامن بجميع تركة المضمون عنه، وإن شاء المضمون له.. أخذ جميع تركة المضمون عنه وهو ثلاثون، وأخذ من تركة الضامن ثلثها، وهو ثلاثون، ويبقى لهم ستون مثلا ما خرج منهم. فإذا خلف المضمون عنه ستين. فإن المضمون له لا ينقص من دينه شيء هاهنا، والعمل فيه على قياس ما مضى. [مسألة: ادعى بيع عبد لحاضر وغائب وكلاهما ضامن] إذا ادعى رجل على رجل حاضر أنه ابتاع منه هو ورجل غائب عبدا بألف درهم، على كل واحد منهما خمسمائة درهم، وقبضاه، وكل واحد منهما ضامن ما على صاحبه، فإن أقر الحاضر بذلك.. لزمه أن يدفع إلى المدعي ألفا، فإذا قدم الغائب، فإن صدق الحاضر.. رجع عليه الحاضر بما قضى عنه، وهو خمسمائة، وإن كذبه.. فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف.. سقط حق الحاضر. وإن أنكر الحاضر المدعي، فإن لم يكن للمدعي بينة.. فالقول قول الحاضر مع يمينه، فإذا حلف.. سقطت عنه المطالبة. فإذا قدم الغائب، فادعى عليه البائع، فإن أنكره.. حلف له أيضا، ولا كلام،

وإن أقر له بما ادعاه عليه.. لزم القادم الخمسمائة التي أقر أنه اشترى هو بها، وهل تلزمه الخمسمائة التي أقر أن شريكه اشترى بها، وضمن هو عليه؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: لا تلزمه؛ لأنا قد حكمنا بسقوطها عن الحاضر بيمينه. و [الثاني] : قال ابن الصباغ: تلزم القادم؛ لأن اليمين لم تبرئه من الثمن، وإنما تسقط عنه المطالبة في الظاهر، فإذا أقر أنه الضامن.. لزمه، ولهذا لو أقام بينة عليه بعد يمينه.. لزمه الثمن، ولزم الضامن، فثبت أن الحق لم يسقط عن الحاضر وعن الغائب. وإن أقام المدعي بينة على الحاضر بأنهما اشتريا منه العبد بألف، وقبضاه، وضمن كل واحد منهما عن صاحبه الخمسمائة.. فللمدعي أن يطالب الحاضر بجميع الألف؛ لأن البينة قد شهدت عليه بذلك، وهل للحاضر أن يرجع بنصفها على الغائب إذا قدم؟ نقل المزني: (أنه يرجع بالنصف على الغائب) . واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: لا يرجع عليه بشيء. ولم يذكر ابن الصباغ غيره؛ لأنه منكر لما شهدت عليه البينة، مقر أن المدعي ظالم له، فلا يرجع على غير من ظلمه. ومن قال بهذا.. تأول ما نقله المزني تأويلات: أحدها: يحتمل أن يكون الحاضر صدق المدعي فيما ادعاه، غير أن المدعي قال: وأنا أقيم البينة أيضا، فأقامها، فيرجع هاهنا؛ لأنه ليس فيه تكذيب البينة. الثاني: أن يكون الحاضر لم يقر، ولم ينكر، بل سكت، فأقام عليه المدعي البيئة، فليس فيه تكذيب. الثالث: أن يكون الحاضر أنكر شراء نفسه، ولم يتعرض لشراء شريكه، فقامت عليه البينة.

الرابع: أن يكون الحاضر أنكر شراءه، وشراء شريكه، وضمانهما، إلا أن الحاضر لما قامت عليه البينة، وأخذ منه المدعي الألف ظلما.. ثبت له على الغائب خمسمائة بالبينة، وقد أخذ المدعي من الحاضر خمسمائة ظلما، فيكون للحاضر أن يأخذ ما ثبت للمدعي على الغائب. ومن أصحابنا من وافق المزني، وقال: يرجع الحاضر على الغائب بخمسمائة وإن أنكر الشراء والضمان؛ لأنه يقول: كان عندي إشكال في ذلك، وقد كشفت هذه البينة هذا الإشكال وأزالته، فهو كمن اشترى شيئا، وادعى عليه آخر بأنه له، وأنكر المشتري ذلك، وأقام المدعي بينة، وانتزعه من يده.. فإن له أن يرجع على البائع بالثمن، ولا يقال: إن بإقراره أن المدعي ظالم يسقط حقه من الرجوع. وقال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": ينظر في الحاضر: فإن تقدم منه تكذيب البينة، مثل: أن قال لمن ادعى عليه. لم نبتع منك شيئا، ولا تستحق علينا شيئا، ثم قامت البينة بذلك.. فإنه لا يرجع على صاحبه بشيء؛ لأنه قد كذب البينة بما شهدت، وأن هذا المدعي ظالم. قيل له: فإن قدم الغائب، واعترف بصدق المدعي.. فقال: لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه يقر له بما لا يدعيه. وإن لم يتقدم منه تكذيب البينة، مثل: أن قال: ما لك عندي شيء.. فإنه يرجع على صاحبه بخمسمائة؛ لأنه ضمن عنه بإذنه، ودفع عنه. قلت: ولعل صاحب الوجه الأول لا يخالف تفصيل الشيخ أبي حامد في جواب الحاضر، وأن الحكم يختلف باختلاف جوابه، كما ذكره.

مسألة: ضمان العهدة

[مسألة: ضمان العهدة] ] : ويصح ضمان العهدة على المنصوص، وهو أن يشتري رجل عينا بثمن في ذمته، فيضمن رجل عن البائع الثمن إن خرج مستحقا. وخرج أبو العباس ابن سريج قولا آخر: أنه لا يصح، وبه قال ابن القاص؛ لأنه ضمان ما لم يجب، ولأنه ضمان مجهول؛ لأنه لا يعلم هل يستحق المبيع، أو بعضه؟ والصحيح أنه يصح؛ لأن الحاجة تدعو إلى الوثيقة على البائع، والوثائق ثلاث: الرهن، والشهادة، والضمان: فالرهن لا يمكن؛ لأن البائع لا يعطيه مع المبيع رهنا، والشهادة لا تفيد؛ لأن البائع قد يفلس، فلا تفيد الشهادة، فلم يبق ما يستوثق المشتري به غير الضمان. وأما قوله: (إنه ضمان ما لم يجب ضمان، وضمان مجهول) فغير صحيح؛ لأنه إن لم يكن المبيع مستحقا.. فلا ضمان أصلا، وإن كان مستحقا.. فقد ضمن الحق بعد وجوبه، وإنما صح الضمان هاهنا مع جهالة ما يستحقه المشتري؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك. وقال أبو يوسف: إذا ضمن له العهدة.. كان ضامنا لكتاب الابتياع.. وهذا ليس بصحيح؛ لأن العرف قد صار في ضمان العهدة عبارة عن الدرك وضمان الثمن، فانصرف الإطلاق إليه. فإذا قلنا: يصح ضمان العهدة.. صح بعد قبض الثمن، وجها واحدا؛ لأنه ضمان الحق بعد وجوبه، وهل يصح ضمانه قبل أن يقبض البائع الثمن؟ فيه وجهان:

أحدهما: يصح؛ لأن الحاجة تدعو إلى هذا الضمان قبل قبض الثمن، كما تدعو إليه بعد قبضه. والثاني - ولم يذكر ابن الصباغ غيره -: أنه لا يصح؛ لأنه ضمان الحق قبل وجوبه، فلم يصح. قال ابن الصباغ: وألفاظه أن يقول: ضمنت عهدته، أو ثمنه، أو دركه، أو يقول للمشتري: ضمنت خلاصك منه، أو يقول: متى خرج المبيع مستحقا.. فقد ضمنت لك الثمن، فإن قال: ضمنت لك خلاص المبيع.. لم يصح؛ لأنه لا يقدر على ذلك متى خرج مستحقا. قال ابن سريج: لا يضمن درك المبيع إلا أحمق. إذا ثبت هذا: فإن المزني نقل في (الإقرار) : (ولو ضمن له عهدة دار اشتراها، أو خلاصها، فاستحقت.. رجع بالثمن على الضامن إن شاء، والخلاص: المال يسلم إليه) . فتأول أصحابنا ذلك تأولين: أحدهما: أنه أراد: خلاصك منها؛ لأن خلاصه إذا كان متعلقا بها.. جاز إضافته إليها، كما يضاف المصدر إلى الفاعل، والمفعول به. والثاني: أنه أراد: وخلاصها، وقد جاءت (أو) بمعنى: الواو. قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] [الصافات: 147] ، وقال: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] [الإنسان: 24] . فأما ما يكتب في الوثائق: ضمن فلان بن فلان البائع لفلان بن فلان المشتري قيمة ما أحدث في المبيع من بناء أو غراس، وغير ذلك إذا خرج مستحقا.. قال أصحابنا: فإن هذا ضمان باطل بلا خلاف على المذهب؛ لأنه ضمان ما لم يجب، وضمان مجهول. فإن قيد ذلك، بأن قال: من درهم إلى ألف.. لم يصح؛ لأنه ضمان ما لم يجب. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح ضمان هذا مع العهدة) . بناء على أصله في ضمان ما لم يجب، وقد مضى ذكره.

فرع: استحقاق البيع يوجب ضمان العهدة

فإن ضمن خلاص المبيع، أو ضمن قيمة ما يحدث في المبيع من بناء أو غراس، فإن كان في غير عقد البيع.. نظرت: فإن أفرد ذلك عن ضمان العهدة.. لم يبطل البيع، ولا ضمان العهدة، بل يبطل ضمان خلاص المبيع، وضمان ما يحدث فيه من بناء أو غراس. وإن قرنه مع ضمان العهدة.. بطل ضمان خلاص المبيع، وما يحدث فيه، وهل يبطل ضمان العهدة؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة. وإن شرط ذلك في البيع، بأن قال: يعني هذه الأرض بمائة دينار، بشرط أن يضمن لي فلان وخلاصها، وقيمة ما أحدثته فيها من بناء أو غراس إن استحقت، فقال: بعتك، أو كان هذا الشرط في زمان الخيار.. فسد البيع؛ لأنه بيع بشرط فاسد. قال الشيخ أبو حامد: ويجيء فيه قول آخر: أنه لا يبطل البيع إذا شرط ضمان قيمة ما يحدث في الأرض كما قلنا فيمن شرط رهنا فاسدا في البيع. والأول أصح. [فرع: استحقاق البيع يوجب ضمان العهدة] ] : إذا ضمن رجل لرجل العهدة، فاستحق جميع المبيع على المضمون له، وقد دفع الثمن إلى البائع.. فالمشتري بالخيار: إن شاء طالب البائع بالثمن، وإن شاء طالب به الضامن. وإن خرج بعضه مستحقا.. بطل البيع فيما خرج منه مستحقا وكان للمشتري أن يطالب الضامن بثمن القدر الذي خرج منه مستحقا، وهل يبطل البيع في الباقي؟ فيه وجهان: فإذا قلنا يبطل البيع فيه، أو قلنا: لا يبطل، إلا أن المشتري اختار فسخ البيع فيه.. فهل للمشتري أن يرجع بثمن ذلك القدر على الضامن؟ فيه وجهان:

فرع: ضمان العهدة في المبيع الباطل

أحدهما: يرجع به عليه؛ لأنه ثبت له بسبب الاستحقاق. والثاني: لا يرجع به عليه؛ لأن لم يضمن إلا ثمن ما استحق، وهذا ثمن ما لم يستحق، وإنما بطل البيع فيه؛ لئلا تفرق الصفقة، أو لفسخ المشتري. وإن وجد المشتري بالمبيع عيبا، فرده.. فهل له أن يطالب الضامن بالثمن؟ قال أصحابنا: إن قال الضامن: ضمنت لك درك ما يلحقك في المبيع، أو ضمنت لك درك المبيع، وكل عيب تجده فيه.. فله أن يرجع بالثمن على الضامن، وجها واحدا، وكذلك: إن حدث عند المشتري عيب، وقد وجد به عيبا.. فله أن يرجع بالأرش على الضامن؛ لأن ضمانه يقتضي ذلك. وإن ضمن درك البيع، أو عهدته لا غير.. فهل له أن يرجع بالثمن على الضامن إذا وجد به عيبا، أو بالأرش إن حدث عنده عيب آخر؟ فيه وجهان: أحدهما: يرجع عليه بالثمن؛ لأن الثمن؛ رجع إليه لمعنى قارن عقد البيع بتفريط من البائع، فرجع به على الضامن، كما لو استحق المبيع. والثاني: لا يرجع به عليه، بل يرجع به على البائع، وهو قول المزني، وأبي العباس؛ لأنه زال ملكه عن المبيع بغير الاستحقاق، فلم يرجع بالثمن على الضامن، كما لو كان المبيع شقصا، فأخذه الشفيع. [فرع: ضمان العهدة في المبيع الباطل] ] : وإن ضمن العهدة، فبان أن البيع كان باطلا بغير الاستحقاق.. فهل للمشتري أن يرجع بالثمن على الضامن؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة " [ق \ 283] : أحدهما: يرجع به عليه؛ لأنه رجع إليه الثمن لمعنى قارن عقد البيع، فصار كما لو استحق. والثاني: لا يرجع عليه به؛ لأنه يمكنه إن يمسك العين المبيعة إلى أن يسترجع ما دفع من الثمن، فلم يرجع به على الضامن، بخلاف ما لو استحق المبيع. وإن تلف المبيع في يد البائع قبل القبض، أو فسخ البيع، أو كان شقصا، فأخذه

فرع: ضمان نقصان الثمن

الشفيع بالشفعة.. فإن المشتري لا يرجع بالثمن على الضامن؛ لأن الثمن رجع إليه لمعنى حادث بعد العقد، ولم يضمن الضامن إلا الثمن عند استحقاق المبيع. [فرع: ضمان نقصان الثمن] ] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 283 و284] : لو اشترى رجل شيئا بثمن، وسلمه، وضمن رجل للبائع نقصان الوزن، أو رداءة الثمن، فخرج الثمن نقصا، أو رديئا، أو معيبا.. فله أن يطالب الضامن بما نقص من الثمن، وله أن يرد الرديء والمعيب على المشتري، ويطالب الضامن بالثمن، هكذا ذكر. قلت: والذي يقتضي المذهب: أنه لا يطالبه ببدل الثمن إلا إذا كان الثمن في الذمة، ثم عينه، فضمن ضامن له رداءة المعين، فأما إذا كان الثمن معينا، فوجده رديئا أو معيبا، فرده.. لم يطالب ببدله، بل يطالب بالمبيع. [مسألة: كفالة الأبدان] ] : وهل تصح الكفالة بالبدن؟ المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أكثر كتبه: (أنها صحيحة) . وقال في (الدعوى والبينات) : (كفالة الوجه عندي ضعيفة) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: تصح الكفالة بالبدن، قولا واحدا، وقوله في (الدعوى

والبينات) : (ضعيفة) يريد في القياس، وهو قوي في الأثر. وذهب المزني، وأبو إسحاق إلى: أن المسألة على قولين: أحدهما: لا تصح؛ لأنه كفالة بعين، فلم تصح، كالكفالة بالزوجة، وبدن الشاهد، ولأنه ضمان عين في الذمة بعقد، فلم تصح، كما لو أسلم في ثمرة نخلة بعينها. فقولنا: (ضمان عين) احتراز من ضمان الدين، فإنه يصح. وقولنا: (في الذمة) احتراز من البائع، فإنه يضمن العين المبيعة في يده، لا في ذمته، ولو تلفت قبل القبض.. لم يضمنها في ذمته. وقولنا: (بعقد) احتراز من الغاصب، فإنه يضمن العين المغصوبة في يده، وفي ذمته. والقول الثاني: أن الكفالة بالبدن صحيحة، وهو قول شريح، والشعبي، ومالك، وأبي حنيفة، والليث بن سعد، وعبيد الله بن الحسن، وأحمد رحمة الله عليهم، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 78] [يوسف: 78] . ولما روي: أن رجلا جاء إلى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: إني مررت بباب عبد الله بن النواحة، فسمعته يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن مسيلمة رسول الله، فكذبت سمعي، وكففت فرسي حتى سمعت أصحابه في المسجد يضجون بذلك، فأرسل إليه عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فحضر، واعترف بذلك، فقال له عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أليس كنت تقرأ القرآن؟ فقال: كنت أتقيكم به. فأمر به، فقتل، ثم شاور أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بقية أصحابه، فأشار بعضهم بقتلهم، وأشار بعضهم بأن يستتابوا، ويتكفل بعضهم عشائرهم، فاستتابهم، فتابوا، وكفلهم عشائرهم. فدل على: أن الكفالة بالبدن كانت شائعة عند الصحابة

فرع: كفالة من عليه حد

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، إذ لم ينكر عليه أحد من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ذلك وإن لم يكن هذا الموضع موضعا تصح فيه الكفالة بالبدن؛ لأنه لم يتوجه عليهم حق، إلا أنه فعله استظهارا عليهم. فإذا قلنا: لا تصح الكفالة بالبدن.. فلا تفريع عليه. وإذ قلنا: تصح.. فإنما تصح الكفالة ببدن كل من يلزمه الحضور إلى مجلس الحكم بدين؛ لأنه دين لازم، فصحت الكفالة ببدن من عليه الحق. كالدين. [فرع: كفالة من عليه حد] ] : وأما الكفالة ببدن من عليه حد: فإن كان لله تعالى، كحد الزنا، وحد شرب الخمر، وما أشبههما.. لم تصح لمعنيين: أحدهما: أنه لما لم تصح الكفالة بما عليه من الحق.. لم تصح الكفالة ببدن من عليه. والثاني: لا؛ لأن الكفالة وثيقة، وحدود الله لا يستوثق لها؛ لأنها تسقط بالشبهات. وإن كان الحد للآدمي، كحد القذف، والقصاص.. فهل تصح الكفالة ببدن من عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تصح؛ لأنه لا تصح الكفالة بما عليه من الحق، فلم تصح الكفالة ببدنه، كمن عليه حد الزنا. والثاني: تصح الكفالة ببدنه؛ لأن عليه حقا لآدمي، فصحت الكفالة ببدنه، كما لو كان له عليه دين.

فرع: كفالة المكاتب

[فرع: كفالة المكاتب] ] : وإن تكفل ببدن مكاتب لسيده لأجل مال الكتابة.. لم تصح؛ لأن الحق الذي عليه غير لازم له، فلم تصح الكفالة ببدنه. قال ابن الصباغ: وإن تكفل ببدن صبي أو مجنون.. صحت الكفالة؛ لأن الحق يجب عليهما، وقد يحتاج عليهما، وقد يحتاج إلى إحضارهما للشهادة عليهما للإتلاف. وإن رهن رجل شيئا، ولم يسلمه، فتكفل رجل عيه بتسليمه.. لم يصح؛ لأن تسليمه غير لازم له، فلم تصح الكفالة به. وإن ادعى على رجل حقا، فأنكره.. جازت الكفالة ببدنه؛ لأن عليه حق الحضور، والكفالة واقعة على إحضاره. [فرع: طلب الكفالة لآخر] ] : إذ قال رجل لرجل: تكفل بفلان لفلان، ففعل.. كانت الكفالة لازمة على الذي باشر الكفالة، دون الآمر؛ لأن المتكفل فعل ذلك باختباره، والآمر بذلك حث على المعروف، وهكذا في الضمان مثله. [مسألة: كفالة من عليه دين] ] : إذا تكفل ببدن رجل لرجل له عليه دين، فمات المكفول به.. بطلت الكفالة.. ولم يلزم الكفيل ما كان على المكفول به من الدين، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك، وأبو العباس ابن سريج: (يلزم الكفيل ما كان على المكفول به من الدين للمكفول له؛ لأن الكفالة وثيقة بالحق، فإذا تعذر الحق من جهة من عليه الدين.. استوفى من الوثيقة، كالرهن) . دليلنا: أنه تكفل ببدنه لا بدينه، فلم يلزمه ما عليه من الدين، كما لو غاب، ويفارق الرهن؛ لأنه علق به الدين، فاستوفى منه، وهاهنا لم يتكفل إلا بإحضاره، وقد تعذر إحضاره بموته.

فرع: تكفل بدن رجل وإلا دفع الحق

فإذا قلنا بالمذهب: صحت الكفالة ببدن من عليه دين مجهول عند الكفيل. وإذا قلنا بقول أبي العباس.. لم تصح الكفالة ببدن من عليه دين مجهول عند الكفيل. [فرع: تكفل بدن رجل وإلا دفع الحق] ] : فإن تكفل ببدن رجل، وشرط أنه متى لم يحضره، فعليه الحق الذي عليه، أو قال: علي كذا وكذا.. لم تصح الكفالة، ولم يجب عليه المال المضمون به، وبه قال محمد. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (إن لم يحضره.. وجب عليه المال) . دليلنا: أن هذا حضر، فلم يجز تعليق الضمان عليه، كما لو قال: إن جاء المطر.. فأنا ضامن ببدنه. وإن قال: تكفلت لك ببدن زيد، على أني إن جئت به، وإلا فأنا كفيل لك ببدن عمرو.. لم يصح؛ لأنه لم يلتزم إحضار أحدهما، فصار كما لو تكفل بأحدهما لا بعينه. وإن تكفل ببدن رجل بشرط الخيار.. لم تصح الكفالة. وقال أبو حنيفة: (يفسد الشرط، وتصح الكفالة) . دليلنا: أنه عقد لا يجوز فيه شرط الخيار، فإذا شرط فيه الخيار.. أبطله، كالصرف. ولو أقر رجل، فقال: إنما تكفلت لك ببدن فلان على أن لي الخيار.. ففيه قولان: أحدهما: يقبل إقراره في الجميع، فيحكم ببطلان الكفالة، كما لو قال: له علي ألف درهم إلا خمسمائة. والثاني: يقبل إقراره في الكفالة، ولا يقبل في أنه كان بشرط الخيار؛ لأنه وصل إقراره بما يسقطه، فلم يصح، كما لو قال: له علي ألف درهم إلا ألف درهم.

مسألة: كفالة البدن حالا ومؤجلا

[مسألة: كفالة البدن حالا ومؤجلا] ] : وإن تكفل ببدن رجل.. نظرت: فإن شرط إحضاره حالا.. لزمه إحضاره في الحال، كما لو تكفل بدين حال، وإن تكفل ببدنه، وأطلق.. اقتضى ذلك إحضاره في الحال، كما قلنا فيمن باع بثمن، وأطلق.. فإن ذلك يقتضي الحلول، وإن تكفل ببدنه إلى أجل معلوم.. صحت الكفالة، ولا يلزمه إحضاره قبل ذلك، كما إذا ضمن الدين إلى أجل معلوم. وإن تكفل ببدنه إلى أجل مجهول.. فهل تصح؟ فيه وجهان: أحدهما: تصح، كما تصح العارية إلى أجل مجهول. والثاني: لا تصح، وهو الصحيح؛ لأنه إثبات حق في الذمة لآدمي، فلم تصح إلى أجل مجهول، كضمان المال، وتخالف العارية، فإنها لا تلزم، ولهذا لو أعاره إلى مدة.. كان له الرجوع فيها قبل انقضائها، ولو تكفل له بدينه إلى أجل معلوم.. لم يكن له المطالبة به قبل حلول الأجل، ولأن العارية تجوز من غير تعيين، ولهذا لو قال: أعرتك أحد هذين الثوبين.. جاز، ولو قال: تكفلت لك ببدن أحد هذين الرجلين.. لم يجز.

مسألة: الكفالة بشرط التسليم بموضع

[مسألة: الكفالة بشرط التسليم بموضع] ] : تجوز الكفالة ببدن رجل ليسلمه في موضع معين، كما يصح السلم بشرط أن يسلم المسلم فيه في موضع معين، وتجوز الكفالة ببدن رجل وإن لم يذكر موضع التسليم. فعلى هذا: يسلمه في موضع العقد، كما تصح الكفالة بالبدن حالا ومؤجلا، وإذا أطلق.. اقتضى الحلول. فإذا تكفل له ببدن رجل ليسلمه إليه في بلد معين، فسلمه إليه في غير ذلك البلد.. لم يلزم المكفول له قبوله؛ لأن عليه مشقة في تسليمه في غير ذلك البلد، وقد يكون له غرض في تسلمه في عين ذلك البلد، وإن تكفل له ببدنه ليسلمه في موضع معين من البلد، بأن يقول: في مجلس القاضي أو في مسجده، فسلمه إليه في ذلك البلد، في غير ذلك الموضع المعين.. فهل يلزمه قبوله؟ فيه وجهان لأبي العباس: أحدهما: لا يلزمه قبوله، كما لو تسلمه في غير ذلك البلد. والثاني: يلزمه قبوله؛ لأن العادة أنه لا مؤنة عليه في نقله من موضع في البلد إلى موضع فيه. [مسألة: الكفالة بإذن المكفول به] ] : إذا تكفل رجل ببدن رجل بإذن المكفول به.. صحت الكفالة، فإذا سأل المكفول له الكفيل إحضار المكفول به.. وجب على الكفيل أن يحضره، ووجب على المكفول به أن يحضر؛ لأنه تكفل به بإذنه، وإن لم يطالبه المكفول له، فقال الكفيل للمكفول به: أحضر معي لأردك إلى المكفول له لتبرئ ذمتي من الكفالة.. كان عليه أن يحضر معه؛ لأنه قد تعلق عليه إحضاره بأمره، فلزمه تخليصه منه، كما لو أعاره عبده ليرهنه، فرهنه.. فلصاحبه أن يطالبه بفكه. وإن تكفل رجل لرجل ببدن رجل بغير إذن المكفول به.. فهل تصح؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال عامة أصحابنا: لا تصح؛ لأن المقصود بالكفالة بالبدن إحضار

مسألة: كفالة بعض البدن ككله

المكفول به عند المطالبة، فإذا كان ذلك بغير إذنه.. لم يلزمه الحضور معه، فلا تفيد الكفالة شيئا. فعلى هذا: إذا تكفل ببدن صبي، أو مجنون.. لم يصح ذلك إلا بإذن وليه؛ لأن الصبي والمجنون لا إذن لهما. و [الثاني] قال أبو العباس: تصح الكفالة بالبدن من غير إذن المكفول به. كما يصح الضمان عليه بالدين من غير إذنه. قال أبو العباس: فعلى هذا: إذا قال المكفول له للكفيل: أحضر المكفول به.. وجب على الكفيل أن يطالب المكفول به بالحضور. فإذا طالبه.. وجب على المكفول به الحضور من غير جهة الكفالة، ولكن لأن صاحب الحق قد وكل الكفيل بإحضاره. وإن قال المكفول له للكفيل: اخرج إلي من كفالتك، أو رد علي كفالتي.. فهل يلزم المكفول به الحضور؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه؛ لأن ذلك يتضمن الإذن في إحضاره، فهو كما لو وكله بإحضاره. والثاني: لا يلزمه الحضور؛ لأنه إنما طالبه بما عليه من الإحضار. قال أبو العباس: فعلى هذا: للمكفول له حبس الكفيل. قال ابن الصباغ: وهذا يدل عندي على فساد ما قاله؛ لأنه يحبس على ما لا يقدر عليه. [مسألة: كفالة بعض البدن ككله] ] : إذا تكفل بعضو رجل، كيده، أو رجله، أو رأسه، أو بجزء مشاع منه، كنصفه، أو ثلثه، أو ربعه.. ففيه ثلاثة أوجه:

مسألة: الإحضار قبل الأجل

أحدها: تصح؛ لأنه لا يمكن تسليم نصفه، أو ثلثه إلا بتسليم جميع البدن، ولا تسلم إليه اليد والرجل، إلا على هيئتها عند الكفالة، وذلك لا يمكن إلا بتسليم جميعه. والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب، وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد -: أنه لا تصح؛ لأن ما لا يسري إذا خص به عضو، أو جزء مشاع.. لم يصح، كالبيع منه، والإجارة، والوصية، وفيه احتراز من العتق، والطلاق. والثالث: إن تكفل بما لا يبقى البدن إلا به، كالرأس، والقلب، والكبد، والنصف، والثلث.. صح؛ لأنه لا يمكن تسليم ذلك إلا بتسليم جميع البدن، وإن تكفل بما يبقى البدن دونه، كاليد، والرجل.. لم يصح؛ لأنه قد تقطع منه، ويبقى البدن، ولا فائدة في تسليمه وحده. [مسألة: الإحضار قبل الأجل] ] : إذا تكفل ببدن رجل ليحضره إلى أجل، فأحضره الكفيل قبل الأجل، فإن قبل المكفول له.. برئ الكفيل، وإن امتنع المكفول له من القبول.. نظرت: فإن كان عليه في قبوله ضرر بأن يكونه حقه مؤجلا، أو كان حقه حالا إلا أن له به بينة غائبة.. فإنه لا يلزمه قبوله؛ لأن عليه ضررا في قبوله. وإن لم يكن عليه في قبوله ضرر، مثل: أن يكون حقه حالا، وبينته حاضرة.. لزمه قبوله. لأنه لا ضرر عليه في قبوله، فإن امتنع من تسلمه.. قال الشيخ أبو حامد: رفعه الكفيل إلى الحاكم، وسلمه إليه ليبرأ، وإن لم يجد حاكما.. أحضر شاهدين يشهدان بتسليمه، أو امتناع المكفول له. وذكر القاضي أبو الطيب: أنه يشهد على امتناعه رجلين. قال ابن الصباغ: وهذا أقيس؛ لأن مع وجود صاحب الحق لا يلزمه دفعه إلى من ينوب عنه، من حاكم، أو غيره. وإن أحضره الكفيل، وهناك يد سلطان لا يقدر عليه، يمنع منه.. لم يبرأ الكفيل

فرع: يلزم إحضار المكفول من دار الحرب أو الحبس

بذلك؛ لأن المستحق تسليمه من غير حائل، وإن سلمه، وهو في حبس الحاكم.. لزمه أن يتسلمه؛ لأن حبس الحاكم لا يمنعه من استيفاء حقه، فإن كان حقه قد ثبت عليه بالبينة، أو بالإقرار.. حبسه الحاكم به، وبالحق الذي كان محبوسا به، وإن لم يكن حقه قد ثبت عليه، فطلب إحضاره.. فإن الحاكم يحضره ليحكم بينهما، فإن ثبت له عليه حق، وطلب حبسه.. فإن الحاكم يحبسه به وبالحق الأول، فإذا سقط حق أحدهم.. لم يجز تخليته إلا بعد سقوط حق الآخر. وإن جاء المكفول به إلى المكفول له، وسلم نفسه إليه.. برئ الكفيل، كما يبرأ الضامن إذا دفع المضمون عنه مال الضمانة. [فرع: يلزم إحضار المكفول من دار الحرب أو الحبس] ] : إذا تكفل ببدن رجل، ثم ارتد المكفول به، ولحق بدار الحرب، أو حبس بحق.. لزم الكفيل إحضاره، فيخرج إلى دار الحرب لإحضاره، والمحبوس يمكنه أن يقضي عنه الحق، ويطلق من الحبس. [فرع: يحبس الكفيل إذا غاب المكفول به] ] : وإن غاب المكفول به.. نظرت: فإن كان غيبته إلى موضع معلوم.. فعلى الكفيل أن يحضره، فإذا مضت مدة يمكنه فيها الذهاب إليه، والمجيء به، ولم يأت به.. حبسه الحاكم. هذا قولنا. وقال ابن شبرمة: يحبس في الحال؛ لأن حقه قد توجه عليه. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الحق، وإن كان قد حل، فإنه يعتبر فيه إمكان التسليم، وإنما يجب عليه إحضار الغائب عند إمكان ذلك. وإن كان غائبا غيبة منقطعة لا يعلم مكانه.. لم يطالب الكفيل بإحضاره، ولم يحبس؛ لأنه لا يمكن المطالبة برده. فلم يطالب به، كمن عليه دين هو معسر به.. فإنه لا يطالب به.

فرع: كفالة المكفول له وتبرئة الكفيل

وإن أبرأ المكفول له المكفول به من الحق.. برئ المكفول به، وبرئ الكفيل؛ لأنه فرع له، فإذا برئ الأصل.. برئ الفرع. وإن أبرأ الكفيل.. برئ الكفيل، ولم يبرأ المكفول به، كما قلنا في المضمون له إذا أبرأ الضامن. [فرع: كفالة المكفول له وتبرئة الكفيل] ] : إذا تكفل ببدن رجل، ثم جاء رجل إلى المكفول له، وقال: تكفلت لك ببدن فلان المكفول به على أن تبرئ فلانا الكفيل.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس: تصح كفالة الثاني، ويبرأ الأول؛ لأن الثاني قد حول الكفالة إلى نفسه، فبرئ الأول، كما لو كان له حق فاحتال به على آخر. و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب: لا تصح الكفالة الثانية، ولا يبرأ الأول؛ لأن الكفالة والضمان لا تحول الحق، فكفالة الثاني لا تبرئ الأول من كفالته، وإذا لم يبرأ الأول.. فلم يتكفل له الثاني إلا بهذا الشرط، وإذا لم يصح الشرط.. لم تصح الكفالة. [فرع: تكفل لرجلين فرده على أحدهما لم يبرأ الآخر] ] : وإن تكفل رجل ببدن رجل لرجلين بعقد، فرده على أحدهما.. برئ من حقه، ولم يبرأ من حق الآخر حتى يرده عليه؛ لأن العقد مع اثنين بمنزلة العقدين، فهو كما لو تكفل لكل واحد منهما بعقد منفرد. وإن تكفل رجلان لرجل ببدن رجل، فأحضره أحدهما إلى المكفول له.. برئ الذي أحضره، وهل يبرأ الكفيل الآخر؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول المزني، والشيخ أبي إسحاق -: أنه يبرأ كما لو ضمن رجلان لرجل دينا على رجل، فأداه أحدهما.. فإن الآخر يبرأ. والثاني - وهو قول أبي العباس، والشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب، وابن الصباغ -: أنه لا يبرأ الآخر؛ لأن الحق باق لم يسقط، والكفيلان وثيقتان، فلا تنفك

فرع: إبراء المكفول له الكفيل

إحدى الوثيقتين بانفكاك الأخرى، كما لو كان الحق مرهونا، فانفك أحدهما مع بقاء الحق.. فإنه لا ينفك الباقي منهما، ويفارق إذا قضى أحد الضامنين المال المضمون به.. فإن الحق هناك قد سقط، فانفكت الوثيقة، وهاهنا الحق لم يسقط. [فرع: إبراء المكفول له الكفيل] ] : إذا تكفل رجل لرجل ببدن رجل، فقال المكفول له: ما لي قبل المكفول به حق.. قال أبو العباس: ففيه وجهان: أحدهما: يبرأ المكفول به مما عليه، وتبطل الكفالة؛ لأن قوله: (لا حق لي قبله) نفي في نكرة، فاقتضى العموم. والثاني: يرجع إليه، فإن قال: أردت به: لا شيء لي عليه.. بطلت الكفالة، وبرئ المكفول به، وإن قال: أردت به: لا حق لي عليه من عارية أو وديعة، وصدقه الكفيل والمكفول به.. قبل قوله، وإن كذباه أو أحدهما.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بنيته. وإن قال: لا حق لي في ذمته، ولا في يده.. برئا جميعا. قيل للشيخ أبي حامد: فإذا كان لرجل على رجل دين، فقال: لا حق لي قبله.. فقال: هو على هذين الوجهين. [فرع: تعاد الكفالة بعد الإبراء] وإن تكفل رجل ببدن رجل لرجل، فأبرأ المكفول له الكفيل، ثم رآه ملازما له، فقال له: خل عنه وأنا على ما كنت عليه من الكفالة. أو على مثل ما كنت عليه.. قال أبو العباس: صحت كفالته؛ لأنه إما أن يكون هذا إخبارا عن كفالته، أو إقرارا به، أو ابتداء كفالة في الحال، وأيها كانت.. وجب أن تصح.

فرع: كفالة بدن الكفيل

[فرع: كفالة بدن الكفيل] ] : وإن تكفل رجل ببدن رجل، ثم تكفل آخر ببدن الكفيل.. صح؛ لأنه تكفل بمن عليه حق لازم، فكذلك لو تكفل ثالث بالثاني، ورابع بالثالث.. فيصح الجميع، فإن حضر المكفول به الأول بعينه، أو أحضره الكفيل.. برئ جميع الكفلاء، وإن مات المكفول به الذي عليه الدين.. برئ الكفلاء على المذهب، فإن مات الكفيل الأول.. برئ جميع الكفلاء، وإن مات الكفيل الثاني.. برئ الثالث والرابع، وإن مات الثالث.. برئ الرابع، ولم يبرأ الأولان، وإن مات الرابع.. بطلت كفالته وحده، وحكم البراءة حكم الموت. [مسألة: الاختلاف في تكليف الضامن] ] : وإذا ضمن عن رجل دينا، ثم اختلفا، فقال الضامن: ضمنت وأنا صبي، وقال المضمون له: بل ضمنت وأنت بالغ، فإن أقام المضمون له بينة أنه ضمن وهو بالغ.. حكم بصحة الضمان، وإن لم تكن بينة.. فالقول قول الضامن؛ لأن الأصل عدم البلوغ. وإن قال الضامن: ضمنت وأنا مجنون، وقال المضمون له: بل ضمنت وأنت عاقل، فإن أقام المضمون له بينة أنه ضمن له وهو عاقل.. حكم له بصحة الضمان، وإن لم تكن له بينة، فإن لم يعرف للضامن حال جنون.. فالقول قول المضمون له مع يمينه؛ لأن الأصل صحة الضامن، وإن عرف له حال جنون.. فالقول قول الضامن مع يمينه؛ لأنه يحتمل أنه ضمن في حال الجنون، ويحتمل أنه ضمن في حال الإفاقة، والأصل براءة ذمته.

فرع: اختلفا في إبراء الضمان

[فرع: اختلفا في إبراء الضمان] ] : وإن ادعى الضامن أن المضمون له أبرأه عن ضمانه، وأنكر المضمون له البراءة، فأحضر الضامن شاهدين أحدهما المضمون عنه.. قال الصيمري: فإن لم يأمره بالضمان عنه.. قبلت شهادته، وإن أمره بالضمان عنه.. لم تقبل شهادته. [فرع: إنكار الضامن وبينة المضمون] ] : وإن ادعى على رجل أنه ضمن له دينا على رجل غائب معين، وأنكر الضامن، وأحضر المضمون له بينة تشهد بالضمان، فإن بين قدر المال المضمون به، وشهدت معه البينة بذلك.. حكم بها. وإن ادعى الضمان بمال معلوم، والمضمون عنه مجهول، وشهدت له بذلك بينة.. فهل تسمع بينته؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تسمع هذه البينة، ولا يحكم له على الضامن بشيء؛ لأن الذي عليه الحق إذا كان مجهولا.. لم يثبت حقه، وإذا لم يثبت على الأصل.. لم يثبت على الضامن. والثاني: يحكم له على الضامن؛ لأن البينة قد قامت عليه بذلك، ألا ترى أنها لو شهدت بأن له عليه ألفا من جهة الضمان.. سمعت، فكذلك هذا مثله. [فرع: إيفاء الضامن بغير إذن] ] : إذا ضمن الرجل لغيره دينا، وقضاه، وادعى الضامن على المضمون عنه: أنه ضمن بإذنه وقضى بإذنه ليرجع عليه، وأنكر المضمون عنه الإذن، فإن أقام الضامن بذلك بينة.. حكم له بالرجوع على المضمون عنه، وإن لم يقم بينة.. فالقول قول المضمون عنه مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن. [فرع: تعارض القولين ولا بينة بين الكفيل وبين المكفول له] فرع: [تعارض القولين ولا بينة] : فإن قال: تكفلت لك ببدن فلان مؤجلا، فقال المكفول له: بل تكفلت به

فرع: لا يبرأ الكفيل إلا ببينة أو يمين

معجلا، وأقام كل واحد منهما شاهدا واحدا بما قال.. ففيه وجهان، حكاهما الصيدلاني: أحدهما: لا يلزمه إلا مؤجلا؛ لأنه لم يقر بغيره. والثاني: يحلف كل واحد منهما مع شاهده، ويتعارضان، ويسقطان، ويبقى الضمان معجلا. [فرع: لا يبرأ الكفيل إلا ببينة أو يمين] ] : إذا ادعى الكفيل: أن المكفول له برئ من الحق، وأن الكفالة قد سقطت، وأنكر ذلك المكفول له، ولم تكن بينة.. فالقول قول المكفول له مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء الحق له، فإذا حلف.. ثبتت الكفالة له، وإن نكل، فحلف الكفيل.. برئ الكفيل، ولا يبرأ المكفول به من الحق؛ لأنه لا يبرأ بيمين غيره. وإن قال الكفيل: تكفلت به، ولا حق لك عليه.. فالقول قول المكفول له؛ لأن الظاهر صحة الكفالة، وهل يحلف؟ قال أبو العباس: فيه وجهان: أحدهما: لا يحلف؛ لأن دعوى الكفيل تخالف ظاهر قوله. والثاني: يحلف؛ لأن ما يدعيه الكفيل ممكن، فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل.. ردت اليمين على الكفيل؛ لأنه يجوز أن يعلم أنه لا حق للمكفول له بإقراره. وبالله التوفيق

كتاب الشركة

[كتاب الشركة]

كتاب الشركة الأصل في جواز الشركة: الكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] الآية [الأنفال: 41] . فجعل الخمس مشتركا بين أهل الخمس، وجعل أربعة أخماس الغنيمة مشتركة بين الغانمين. وقَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] [النساء: 11] ، فجعل الميراث مشتركا بين الأولاد. وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الآية [التوبة: 60] . فجعل الصدقة مشتركة بين أهل الأصناف. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24] [ص: 24] . (والخلطاء) : هم الشركاء. وأما السنة: فما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان له شريك في ربع، أو

حائط.. فلا يبعه حتى يؤذن شريكه، فإن رضي أخذ، وإن كره ترك» . وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يد الله مع الشريكين ما لم يتخاونا» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يقول الله عز وجل: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه.. خرجت من بينهما» . قال الشيخ أبو حامد: يعني: خرجت البركة.

وروي: «أن السائب قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شريكي، فلما كان بعد المبعث.. أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله، كنت شريكي، فكنت خير شريك، كنت لا تداري ولا تماري» يعنى: لا تخالف ولا تنازع، من قَوْله تَعَالَى: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: 72] [البقرة: 72] ، يعنى: اختلفتم وتنازعتم. وأما الإجماع: فإن أحدا من العلماء لم يخالف في جوازها. إذا ثبت هذا: فإن الشركة تنقسم على ستة أقسام: شركة في الأعيان والمنافع، وشركة في الأعيان دون المنافع، وشركة في المنافع دون الأعيان، وشركة في المنافع المباحة، وشركة في حقوق الأبدان، وشركة في حقوق الأموال.

مسألة: مشاركة غير المسلم

فأما [الأولى]- شركة المنافع والأعيان -: فهو: أن يكون بين الرجلين، أو بين الجماعة أرض أو عبيد أو بهائم ملكوها بالإرث، أو بالبيع، أو بالهبة مشاعا. وأما [الثانية]- شركة الأعيان دون المنافع -: فمثل: أن يوصي رجل لرجل بمنفعة عبده، أو داره، فيموت، ويخلف جماعة ورثة.. فإن رقبة العبد والدار تكون موروثة للورثة دون المنفعة. وأما [الثالثة]- الشركة في المنافع دون الأعيان -: فمثل: أن يوصي بمنفعة عبده لجماعة، أو يستأجر جماعة عبدا. وأما الوقف على جماعة: فإن قلنا: إن ملك الرقبة إلى الله.. كانت الشركة بينهم في المنافع دون الأعيان، وإن قلنا: إن الملك ينتقل إليهم.. كانت الشركة بينهم في المنافع والأعيان. وأما [الرابعة]- الشركة في المنافع المباحة - فمثل: أن يموت رجل وله ورثة جماعة، ويخلف كلب صيد، أو كلب، ماشية أو زرع.. فإن المنفعة مشتركة بينهم. وأما [الخامسة]- الشركة في حقوق الأبدان -: فهو: أن يرث جماعة قصاصا، أو حد قذف. وأما [السادسة]- الشركة في حقوق الأموال -: فهو: أن يرث جماعة الشفعة، أو الرد بالعيب، أو خيار الشرط، أو حقوق الرهن، ومرافق الطرق. [مسألة: مشاركة غير المسلم] ] : تجوز الشركة في التجارة؛ لما روي: «أن البراء بن عازب، وزيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، كانا شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمرهما، وقال: " ما كان بنقد.. فأجيزوه، وما كان بنسيئة فردوه» .

مسألة: الشركة في العروض

ويكره للمسلم أن يشارك الكافر، سواء كان المسلم هو المتصرف، أو الكافر، أو هما. وقال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن كان المسلم هو المتصرف.. لم يكره، وإن كان الكافر هو المتصرف، أو هما.. كره. دليلنا: ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (أكره أن يشارك المسلم اليهودي والنصراني) . ولا مخالف له. ولأنهم لا يمتنعون من الربا، ومن بيع الخمور، ولا يؤمن أن يكون ماله الذي عقد عليه الشركة من ذلك، فكره. فإن عقد الشركة معه.. صح؛ لأن الظاهر مما هو بأيديهم أنه ملكهم، و (قد «اقترض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يهودي شعيرا، ورهنه درعه» . [مسألة: الشركة في العروض] قال المزني: والذي يشبه قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لا تجوز الشركة في العروض، ولا فيما يرجع في حال المفاصلة إلى القيم؛ لتغير القيم. وجملة ذلك: أن عقد الشركة يصح على الدراهم والدنانير؛ لأنهما قيم المتلفات، وثمن الأشياء غالبا، وبهما تعرف قيم الأموال، وما يزيد فيها من الأرباح، وأما غير النقود: فضربان: ضرب لا مثل له، وضرب له مثل. فأما ما لا مثل له، كالثياب، والحيوان، وما أشبههما: فلا يصح عقد الشركة عليهما، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (يصح عقد الشركة عليها، ويكون رأس المال فيها قيمتها) .

دليلنا: أن موضوع الشركة على أن لا ينفرد أحد الشريكين بربح مال أحدهما، وهذه الشركة تفضي إلى ذلك؛ لأنه قد تزيد قيمة عرض أحدهما، ولا تزيد من قيمة عرض الآخر، فيشاركه من لم تزد قيمة عرضه عند المفاصلة، وهذا لا سبيل إليه، فإن كان لكل واحد منهما عبد يساوي مائة، وأرادا الشركة.. باع أحدهما نصف عبده بنصف عبد صاحبه، ثم يتقاصان، ويأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف، وإن كانت قيمة أحدهما مائتين، وقيمة الآخر مائة.. باع من قيمة عبده مائتان ثلث عبده بثلثي عبد الآخر، وإن شاءا.. باع كل واحد منهما من صاحبه بعض عرضه بثمن في ذمته، ثم تقاصا، وإن شاءا.. اشتريا عرضا من رجل بثمن في ذمتهما، ثم دفعا عرضيهما عما في ذمتهما. وأما ما له مثل، كالحبوب، والأدهان: فهل يصح عقد الشركة فيها؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، وهو ظاهر ما نقله المزني؛ لأنه قال: ولا فيما يرجع حال المفاصلة إلى القيم. وما له مثل.. لا يرجع إلى قيمته، ولأنهما مالان إذا خلطا.. لم يتميز أحدهما عن الآخر، فصح عقد الشركة عليهما، كالدراهم، والدنانير. والثاني: لا يجوز؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " البويطي ": (ولا تجوز الشركة في العروض) . وما له مثل من العروض، ولأنها شركة على عروض، فلم تصح، كالثياب، والحيوان. قال أبو إسحاق في " الشرح ": فإذا قلنا: تصح الشركة فيها، فإن كانت قيمتهما سواء.. أخذ كل واحد منهما مثل سلعته يوم المفاصلة، واقتسما ما بقي من الربح، وإن كانت قيمتهما مختلفة، مثل: أن كانت حنطة أحدهما جيدة، وحنطة الآخر مسوسة.. كان لكل واحد منهما قيمة حنطته يوم عقد الشركة، واقتسما ما بقي من الربح.

فرع: اشتركا في سبيكتي فضة

[فرع: اشتركا في سبيكتي فضة] ] : قال الشيخ أبو حامد: فإن أخرج كل واحد منهما نقرة فضة، واشتركا فيها، فإن كانتا على صفة لا تتميزان بعد الخلط.. لم يصح عقد الشركة؛ لمعنى واحد، وهو أن كل واحد منهما يرجع عند المفاصلة إلى القيمة، فأشبه العروض، وإن كانتا متميزتين بعد الخلط.. لم يصح؛ لما ذكرناه، ولأنهما مالان لا يختلطان، فشابه العبيد والثياب. [مسألة: أنواع الشركة] ] : والشركة أربعة: شركة العنان، وشركة الأبدان، وشركة المفاوضة، وشركة الوجوه، ولا يصح من هذه الشركة عندنا، إلا شركة العنان، وهو: أن يخرج كل واحد منهما مالا من جنس مال الآخر، وعلى صفته، ويخلطا المالين، ولا خلاف في صحة هذه الشركة، واختلف الناس لم سميت شركة العنان: فقيل: سميت شركة العنان؛ لظهورها، وهو أنهما ظاهرا بإخراج المالين، يقال عن الشيء إذا ظهر، ومنه قول امرئ القيس: فعن لنا سرب كأن نعاجه ... عذارى دوار في ملاء مذيل وقيل: سميت: عنانا؛ لاشتراكهما فيما يعن من الربح، أي: فيما يفضل من الربح، يقال عن الشيء إذا عرض.

مسألة: في صحة الشركة

وقيل: سميت: عنانا، من المعاننة، وهي المعارضة، فكل واحد من الشريكين عارض شريكه بمثل ماله. وقيل: سميت بذلك، مأخوذا من عنان دابتي الرهان؛ لأن الفارسين إذا استبقا.. تساوى عنانا فرسيهما، كذلك هذه الشركة من شأنها أن يتساوى الشريكان فيها في المال والربح. وقيل: سميت: شركة العنان، مأخوذا من عنان فرسي الرهان، لجهة أخرى؛ لأن الإنسان يحبس نفسه في الشركة من التصرف بالمال في سائر الجهات، إلا عن الجهة التي يتفق عليها الشريكان، كما أن الإنسان يحبس الدابة إذا ركبها بالعنان عن السير إلى سائر الجهات، إلا عن الجهة التي يريدها. وقال أبو بكر الرازي: سميت بذلك، مأخوذا من العنان؛ لأن الإنسان يأخذ عنان الدابة بإحدى يديه، ويحبسه عليها، ويده الأخرى مرسلة، يتصرف بها كيف شاء، كذلك هذه الشركة كل واحد من الشريكين بعض ماله مقصور عن التصرف فيه من جهة الشركة، وبعض ماله يتصرف فيه كيف شاء. [مسألة: في صحة الشركة] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والشركة الصحيحة: أن يخرج كل واحد من الشريكين دنانير، مثل دنانير صاحبه، ويخلطاها، فيكونا شريكين) . وجملة ذلك: أن من شرط صحة شركة العنان، أن يكون مالهما المشترك بينهما من جنس واحد، وسكة واحدة، فإن كان مال أحدهما دراهم، ومال الآخر دنانير، أو كان مال أحدهما ملكية، ومال الآخر مشرقية أو مغربية، أو كان مال أحدهما

صحاحا، ومال الآخر مكسرا.. لم تصح شركة العنان. وقال أبو حنيفة: (تصح) . دليلنا: أنهما مالان مختلفان، فوجب أن لا ينعقد عليهما عقد الشركة، كما لو كان مال أحدهما حنطة، ومال الآخر شعيرا. فإن خالفا، وأخرج أحدهما عشرة دنانير، والآخر عشرة دراهم، وخلطا ذلك، وابتاعا به متاعا.. فإن ذلك يكون ملكا لهما على قدر مالهما، فإن كان نقد البلد دنانير.. قومت الدراهم، فإن كانت قيمتها خمسة دنانير.. كان لصاحب الدنانير ثلثا المتاع، ولصاحب الدراهم ثلثه، وكذلك يقسم الربح والخسران بينهما، وإن كان نقد البلد من غير جنس ما أخرجاه.. قوم ما أخرج كل واحد منهما بنقد البلد، فإن تساويا.. كان ذلك بينهما نصفين، وإن تفاضلا.. كان الحكم في ملك المتاع لهما كذلك. ولا تصح الشركة حتى يخلطا المالين، ثم يقولا: تشاركنا، أو اشتركنا، فإن عقدا الشركة قبل خلط المالين.. لم تصح. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تصح الشركة وإن لم يخلطا المالين، بل مال كل واحد منهما بيده يتصرف فيه كيف شاء، ويشتركان في الربح) . وقال مالك رحمة الله عليه: (من شرط صحة عقد الشركة أن تكون أيديهما على المالين أو يد وكيلهما وإن لم يكونا مخلوطين) . دليلنا: أنهما مالان يتميز أحدهما عن الآخر، فلم تصح الشركة عليهما، كما لو كانا حنطة وشعيرا، أو كما لو لم تكن أيديهما على المالين، ولأنا لو صححنا عقد الشركة قبل الخلط ... لأدى إلى أن يأخذ أحدهما ربح مال الآخر؛ لأنه قد يربح بمال أحدهما دون الآخر. وهل من شرط صحة هذه الشركة أن يتساويا في قدر ماليهما؟ فيه وجهان:

فرع: التصرف بمال الشركة

[أحدهما] : قال أبو القاسم الأنماطي: لا تصح حتى يتساويا في قدر ماليهما، فإن كان مال أحدهما عشرة دنانير، ومال الآخر خمسة.. لم تصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - شرط أن يخرج أحدهما مثل ما يخرج الآخر، ولأنهما إذا تفاضلا في المال.. فلا بد أن يتفاضلا في الربح؛ لأن الربح على قدر المالين، فلم يجز أن يتفاضلا في الربح مع تساويهما في العمل، كما لا يجوز أن يتساويا في المال، ويتفاضلا في الربح مع تساويهما في العمل، فكذلك هاهنا. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: تصح الشركة وإن كانا متفاضلين في المالين؛ لأن المقصود في الشركة أن يشتركا في ربح ماليهما، وذلك يمكن مع تفاضل المالين، كما يمكن تساويهما، وما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.. فأراد به المثل من جهة الجنس والسكة، لا من جهة القدر، وأما اعتبار الربح بالعمل: فغير صحيح؛ لأن عمل الشريكين في مال الشركة لا تأثير له؛ لأنه تابع، وقد يعمل أحدهما في مال الشركة أكثر من عمل الآخر مع استوائهما في المال، وقد يعمل أحدهما في مال الشركة، وحده من غير شرط في العقد، ويصح ذلك كله، ولا يؤثر في الربح. [فرع: التصرف بمال الشركة] ] : وإذا عقدا الشركة على مال لهما نصفين.. فإن كل واحد منهما يملك التصرف في نصف المال مشاعا من غير إذن شريكه؛ لأنه ملكه، وهل له أن يتصرف في النصف الآخر من غير إذن شريكه؟ فيه وجهان؛ حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 288] : أحدهما: يملك ذلك، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن هذا مقتضى عقد الشركة، فلم يحتج إلى إذن الآخر، كما لو عقد القراض على مال له. والثاني - وهو طريقة البغداديين من أصحابنا -: أنه لا يملك ذلك من غير إذن شريكه؛ لأن المقصود من الشركة هو أن يشتركا في ربح ماليهما، وذلك يقتضي التوكيل من كل واحد منهما لصاحبه.

فرع: قسمة الربح والخسران على قدر المالين

إذا ثبت هذا: فإن أذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف بنصيبه.. تصرف كل واحد منهما بجميع مال الشركة، وإن أذن أحدهما لصاحبه دون الآخر.. صح تصرف المأذون له في جميع المال، ولا يتصرف من لم يؤذن له إلا في نصفه مشاعا، ولا يتجر المأذون له في نصيب شريكه إلا في النوع المأذون له فيه من الأمتعة، سواء كان يعم وجوده أو لا يعم وجوده؛ لأن ذلك توكيل، وللإنسان أن يوكل غيره يشتري له نوعا من الأمتعة وإن لم يكن عام الوجود، بخلاف القراض، فإن المقصود منه الربح، وذلك لا يحصل إلا في الإذن بالتجارة فيما يعم وجوده. قال ابن الصباغ: وإن أذن له أن يتجر في جميع التجارات.. جاز ذلك أيضا، ولا يبيع المأذون له نصيب شريكه إلا بنقد البلد حالا بثمن المثل، كما نقول في الوكيل. [فرع: قسمة الربح والخسران على قدر المالين] ] : وإذا اشترك الرجلان، وتصرفا، فإن ربحا.. قسم الربح بينهما أو الخسران على قدر المالين، سواء شرطا ذلك في العقد أو أطلقا؛ لأن هذا مقتضى الشركة، وإن شرطا التفاضل في الربح أو الخسران مع تساوي المالين، أو شرطا التساوي في الربح أو الخسران مع تفاضل المالين.. لم يصح هذا الشرط. وقال أبو حنيفة: (يصح) . دليلنا: أنه شرط ينافي مقتضى الشركة، فلم يصح كما لو شرطا الربح لأحدهما فإن تصرفا مع هذا الشرط.. صح تصرفهما؛ لأن الشرط لا يسقط الإذن، فإن ربحا أو خسرا.. قسم الربح والخسران على قدر ماليهما؛ لأنه مستفاد بمالهما، فكان على قدرهما، كما لو كان بينهما نخيل، فأثمرت، ويرجع كل واحد منهما على صاحبه بأجرة عمله في ماله؛ لأنه إنما عمل بشرط، ولم يسلم له الشرط. [فرع: طلب العامل في الشركة أجرة عمله] ] : إذا كان بين رجلين ثلاثة آلاف درهم، لأحدهما ألف، وللآخر ألفان، وعقدا الشركة على أن يكون الربح بينهما نصفين، فإن شرط صاحب الألفين على نفسه شيئا من العمل.. كانت الشركة فاسدة، فإذا عملا.. قسم الربح والخسران بينهما على قدر

ماليهما، ويرجع كل واحد على صاحبه بأجرة عمله في ماله. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الشركة فاسدة، ولا يرجع أحدهما على الآخر بأجرة عمله في ماله) . دليلنا: أنه عقد يُبتغى به الربح في ثاني الحال، فإذا كان فاسدا.. استحق أجرة عمله فيه، كالقراض. فإن عمل صاحب الألفين على مال الشركة عملا أجرته ثلاثمائة، وعمل صاحب الألف على مال الشركة عملا أجرته مائة وخمسون.. فإن كل واحد منهما يستحق على شريكه مائة، فيتقاصان. وإن عمل صاحب الألف على مال الشركة عملا أجرته ثلاثمائة، وعمل صاحب الألفين على مال الشركة عملا أجرته مائة وخمسون.. فإن صاحب الألف يستحق على صاحب الألفين مائتين، ويستحق عليه صاحب الألفين خمسين، فيقاصه بها، ويبقى لصاحب الألف على صاحب الألفين مائة وخمسون. وإن عمل كل واحد منهما على مال الشركة عملا أجرته مائة وخمسون.. فإن صاحب الألف يستحق على صاحب الألفين مائة، ويستحق صاحب الألفين عليه خمسين، فيقاصه بها، ويبقى لصاحب الألف على صاحب الألفين خمسون. وإن شرط صاحب الألفين جميع العلم على صاحب الألف، وشرط له نصف

فرع: عمل الشريك من غير اشتراط عوض تبرع

الربح.. فإن هذه الشركة صحيحة، وقراض صحيح؛ لأن صاحب الألف يستحق ثلث الربح بالشركة؛ لأن له ثلاث المال، ولصاحب الألفين ثلثا الربح، فلما شرط جميع العمل على صاحب الألف، وشرط له نصف الربح.. فقد شرط لعمله سدس الربح، فجاز، كما لو قارضه على سدس الربح. فإن قيل: كيف صح عقد القراض على مال مشاع؟ قلنا: إنما صح؛ لأن الإشاعة مع العامل، فلا يتعذر تصرفه، وإنما لا يصح إذا كانت الإشاعة في رأس المال مع غيره؛ لأنه لا يتمكن من التصرف. [فرع: عمل الشريك من غير اشتراط عوض تبرع] ] : وإن كان بين رجلين ألفا درهم، لكل منهما ألف، فأذن أحدهما لصاحبه أن يعمل في ذلك، ويكون الربح بينهما نصفين.. فإن هذا ليس بشركة ولا قراض؛ لأن مقتضى الشركة: أن يشتركا في العمل والربح، ومقتضى القراض: أن للعامل نصيبا من الربح، ولم يشترط له هاهنا شيئا. إذا ثبت هذا: فعمل، وربح.. كان الربح بينهما نصفين؛ لأنه نماء مالهما. قال ابن الصباغ: ولا يستحق العامل بعمله في مال شريكه أجرة؛ لأنه لم يشترط لنفسه عوضا، فكان عمله تبرعا. [مسألة: شركة الأبدان] ] : وأما شركة الأبدان: فهي أن يعقد خياطان أو صباغان على أن ما كسب كل واحد منهما يكون بينهما.. في شركة باطلة، سواء اتفقت صنعتاهما، أو اختلفتا. قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من قال: للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول آخر: (أن هذه الشركة جائزة) ؛ لأنه قال: (لو أقر أحد الشريكين على صاحبه بمال.. لم يقبل، سواء كانا شريكين في المال أو العمل) .

مسألة: شركة المفاوضة

وقال أكثرهم: ليس بقول له؛ لأن ذلك لا يتضمن صحة الشركة. وقال أبو حنيفة: (تصح الشركة فيما يضمن بالعقد، كالصنائع كلها، مثل: الخياطة، والصباغة، سواء اتفقتا أو اختلفتا، فأما ما لا يضمن بالعقد، كالاصطياد، والاحتطاب، والاحتشاش، والاغتنام؛ فلا يصح عقد الشركة عليه) . وقال مالك: (تصح الشركة إذا اتفقت صنعتاهما، ولا تصح إذا اختلفتا) . وقال أحمد: (تصح شركة الأبدان في الصنع كلها، وفي جميع الأشياء المباحة، كالاصطياد والاحتشاش، والاغتنام) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الغرر» . وفي الشركة غرر؛ لأنه لا يدرى كم يكسب كل واحد منهما، ولأنهما عقدا الشركة على أن يدخل كل واحد منهما في كسب صاحبه، فلم يصح، كما لو اشتركا فيما يكتسبان بالاصطياد، والاحتشاش، ولأنهما عقدا الشركة على منافع أعيان متميزة، فلم يصح، كما لو اشتركا في الغنم على أن يكون الدر والنسل بينهما، فإن عملا، وكسبا.. اختص كل واحد منهما بأجرة عمله؛ لأنه بدل عمله، فاختص به. [مسألة: شركة المفاوضة] ] : وأما شركة المفاوضة: فهي باطلة عندنا، وصفتها: أن يشترطا أن يكون ما يملكان من المال بينهما، وأن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الآخر بغصب، أو بيع، أو ضمان. قال الشافعي في " اختلاف العراقيين ": (لا أعلم في الدنيا شيئا باطلا إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة، ولا أعلم القمار إلا هذا، أو قُل منه) .

وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي: (شركة المفاوضة صحيحة) ، إلا أن أبا حنيفة يقول: (من شرط صحتها: أن يخرج كل واحد منهما جميع ما يملكه من الذهب والفضة، حتى لو أن أحدهما استثنى مما يملكه درهما.. لم تصح الشركة، ويكون مال أحدهما مثل مال صاحبه، ويكونا حرين بالغين مسلمين، ولا تصح بين مسلم وذمي، ولا بين ذميين، ولا بين حر وعبد، فإذا وجدت هذه الشركة.. تضمنت الوكالة والكفالة. فأما الوكالة: فهو أن يشارك كل واحد منهما صاحبه في الكسب، وفيما يوهب له، وفي الكنز الذي يجده، وفي جميع ما يكسبه، إلا الاصطياد والاحتشاش، فإنهما ينفردان به، وأما الميراث: فإنهما لا يشتركان فيه، فإذا ورث أحدهما.. نظر فيه: فإن كان عرضا.. لم يصر للشركة. وإن كان ذهبا أو فضة، فما لم يقبضه.. فالشركة بحالها، وإن قبضه.. بطلت الشركة؛ لأنه قد صار ماله أكثر من مال الآخر. وأما الكفالة: فإن كل ما يلزم أحدهما بإقرار، أو غصب، أو ضمان، أو عهدة.. فإن صاحبه يشاركه فيه، إلا أرش الجناية) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الغرر» . وهذا غرر، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. ولأنها شركة لا تصح مع المفاضلة، فلم تصح مع المساواة، كالشركة في العروض، وعكسه شركة العنان. ولأنهما عقدا الشركة على أن يشارك كل واحد منهما الآخر فيما يختص بسببه. فلم يصح، كما لو عقدا الشركة على ما يملكان بالإرث، أو نقول: شركة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الآخر بعدوانه، فلم يصح، كما لو عقدا الشركة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على كل واحد منهما بالجناية.

مسألة: شركة الوجوه

إذا ثبت هذا: فإن كسبا.. اختص كل واحد منهما بملك ما كسبه، ووجب عليه ضمان ما أتلفه أو غصبه؛ لأن وجود هذا العقد بمنزلة عدمه. [مسألة: شركة الوجوه] ] : وأما شركة الوجوه: فهي باطلة عندنا، وهي: أن يتفقا على أن يشتري كل واحد منهما بوجهه، ويكون ذلك شركة بينهما وإن لم يذكر شريكه عند الشراء، ولا نواه. وقال أبو حنيفة: (تصح) . دليلنا: أن ما يشتريه كل واحد منهما ملك له، فلا يشاركه غيره فيه، فإن أذن أحدهما لصاحبه أن يشتري له عينا معينة، أو موصوفة، وبين له الثمن، فاشترى له، ونواه عند الشراء.. كان ذلك للآمر. [فرع: شركة الأزواد في السفر] ] : حكى الصيمري: أن الشافعي قال: (شركة الأزواد في السفر سنة، فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وليس من باب الربا بسبيل، فيخلط هذا طعامه

مسألة: صورة شركة غير صحيحة

بطعام غيره جنسا، وجنسين، وأقل، وأكثر، ويأكلان، ولا ربا في ذلك، ونحو هذا اشتراك الجيش في الطعام في دار الحرب) . [مسألة: صورة شركة غير صحيحة] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " البويطي ": (إذا اشترك أربعة أنفس في الزراعة، فأخرج أحدهم البذر، ومن الثاني الأرض، ومن الثالث الفدان، يعني: البقر الذي يعمل عليه، والرابع يعمل، على أن يكون الزرع بينهم.. فإن هذا عقد فاسد؛ لأنه ليس بشركة، ولا قراض، ولا إجارة لأن الشركة لا تصح حتى يخلط الشركاء أموالهم، وهاهنا أموالهم متميزة، وفي القراض يرجع رب المال إلى رأس ماله عند المفاصلة، وهاهنا لا يمكن، والإجارة تفتقر إلى أجرة معلومة، وعمل معلوم) . فإذا ثبت هذا كانت الغلة كلها لمالك البذر؛ لأنها عين ماله زادت، وعليه لصاحب الأرض ولصاحب الفدان أجرة مثل ما لهم، وللعامل أجرة مثل ما عمل عليه؛ لأن كل واحد منهم دخل في العقد ليكون له شيء من الغلة، ولم يسلم لهم ذلك، وقد تلفت منافعهم، فكان لهم بدلها. [فرع: اشترك في عمل وأعيان غير متكافئة] ] : قال في " البويطي ": (فإن اشترك أربعة، فأخرج أحدهم بغلا، والآخر حجر الرحى، ومن الآخر البيت، ومن الرابع العمل على أن يكون ما حصل من الأجرة بينهم، على ما شرطوه.. فإن هذه معاملة فاسدة؛ لأنها ليست بشركة، ولا قراض، ولا إجارة؛ لما بيناه في المسألة قبلها) . قال الشافعي: (فإذا أصابوا شيئا.. جعل لكل واحد منهم أجرة مثله، وجعل كرأس ماله، وقسم ما حصل بينهم على قدره) .

فقال أبو العباس: في هذا مسألتان: إحداهما: إذا جاء رجل، فاستأجر من كل واحد منهم ما له ليطحنوا له؛ طعاما معلوما، بأجرة معلومة بينهم، بأن يقول لصاحب البيت: استأجرت منك هذا البيت، ومن هذا الحجر، ومن هذا البغل، ومن هذا نفسه؛ لتطحنوا لي كذا وكذا من الحنطة، بكذا وكذا درهما، فقالوا: قبلنا الإجارة.. فهل يصح هذا العقد؟ فيه قولان، كالقولين في أربعة أنفس لهم أربعة أعبد باعوهم بثمن واحد، وكالقولين فيمن تزوج أربعة نسوة بمهر واحد، أو خالعته بعوض واحد. فإذا قلنا: لا يصح.. استحق كل واحد منهم إذا طحنوا أجرة مثل ما له على صاحب الطعام. وإن قلنا: يصح.. نظر كم أجرة مثل كل واحد منهم، وقسم المسمى بينهم على قدر أجور مثلهم. ولو استأجر من كل واحد ملكه بأجرة معلومة على عمل معلوم، أو مدة معلومة بعقد منفرد.. صح ذلك، قولا واحدا، واستحق كل واحد منهم ما يسمى له. المسألة الثانية: إذا استأجرهم في الذمة، مثل أن يقول: أستأجركم لتحصلوا لي طحن هذا الطعام بمائة.. صحت الإجارة، قولا واحدا، ووجب على كل واحد منهم ربع العمل، واستحق ربع المسمى من غير تقسيط، فإذا طحنوا.. استحقوا المسمى أرباعا، وكان لكل واحد منهم أن يرجع على شركائه بثلاثة أرباع عمله، فيرجع صاحب البغل على شركائه بثلاثة أرباع أجرة بغله، وكذلك صاحب البيت، والرحى، والعامل؛ لأن كل واحد منهم يستحق عليه ربع العمل، وقد عمل الجميع، فسقط الربع لأجل ما استحق عليه، ويرجع على شركائه بما لم يستحق عليه. فإن قال: استأجرتكم لتطحنوا لي هذا الطعام بمائة، فقالوا: قبلنا.. فذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أنها على قولين، كالمسألة الأولى. وذكر المحاملي،

فرع: في المعاملات الفاسدة

وابن الصباغ: أنها تصح، قولا واحدا، كالمسألة الثانية. فإن قال لرجل منهم: استأجرتك لتحصل لي طحن هذا الطعام بمائة، فقال: قبلت: الإجارة لي ولأصحابي، أو نوى ذلك، وكانوا قد أذنوا له في ذلك.. فالإجارة صحيحة، والمسمى بينهم أرباع، فإذا طحنوا.. رجع كل واحد منهم بثلاثة أرباع أجرة ما له على شركائه، وإن لم ينو أنه يقبل له ولأصحابه.. لزمه العمل بنفسه، فإذا طحن الطعام بالآلة التي بينه وبين شركائه.. استحق المسمى، وكان عليه أجرة مثل آلاتهم. [فرع: في المعاملات الفاسدة] ] : قال في " البويطي " (وإذا اشترك ثلاثة: من أحدهم البغل، ومن الآخر الراوية، ومن الثالث العمل على أن يستقي الماء ويكون ما رزق الله بينهم.. فإن هذه معاملة فاسدة؛ لأنها ليست بشركة، ولا قراض، ولا إجارة؛ لما بيناه) . فإذا استقى الماء، وباعه، وحصل منه ثمن.. فقد قال الشافعي في موضع: (يكون ثمن الماء كله للعامل، وعليه أجرة مثل البغل والراوية) . وقال في موضع: (يكون ثمن الماء بينهم مقسطا عليهم على قدر أجور أمثالهم) . واختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (يكون ثمن الماء كله للسقاء، وعليه أجرة مثل البغل والراوية) إذ كان الماء ملكا له، مثل: أن يأخذ الماء من بركة له، أو من ماء ينبع في ملكه؛ لأن الماء ملكه، فكان ثمنه ملكا له، وعليه أجرة البغل والراوية؛ لأنه استوفى منفعتهما على عوض، ولم يسلم لهما العوض. والموضع الذي قال: (يكون ثمن الماء بينهم) إذا كان الماء مباحا؛ لأن الثمن حصل بالعمل، والبغل، والراوية. ومنهم من قال: إن كان الماء ملكا للسقاء.. فالثمن كله له، وعليه أجرة البغل والراوية؛ لما ذكرناه، وإن كان الماء مباحا.. ففيه قولان:

مسألة: اشتركا في عبد فوجداه معيبا

أحدهما: أن الثمن كله للسقاء؛ لأن الماء يملك بالحيازة، ولم توجد الحيازة إلا منه، وعليه أجرة مثل البغل والراوية؛ لأنهم دخلوا على أن يكون لهم قسط من ثمن الماء، فإذا لم يحصل ذلك لهم.. استحقوا أجرة المثل. والقول الثاني: أن ثمن الماء بينهم؛ لأنه لم يتناول الماء لنفسه، وإنما تناوله ليكون بينهم، فكان بينهم، فصار كالوكيل لهم. قال ابن الصباغ: وهكذا: لو اصطاد له، ولغيره، فهل لغيره منه شيء؟ فيه وجهان، بناء على هذه المسألة. فإذا قلنا: يكون الماء بينهم: ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد في " التعليق " -: أنه يقسم بينهم بالتقسيط على قدر أجور أمثالهم، وحكي: أن الشافعي نص على ذلك. والثاني - حكاه ابن الصباغ عن الشافعي -: (أنه يكون بينهم أثلاثا، ويرجع صاحب البغل بثلثي أجرته على صاحبيه، ويرجع صاحب الراوية بثلثي أجرته على صاحبيه، ويرجع السقاء على صاحبيه بثلثي أجرته) . وأما صاحب " المهذب ": فذكر أنه يكون بينهم أثلاثا، وأطلق. فإن استأجرهم غيرهم ليستقوا له ماء.. قال أبو العباس: ففيه مسألتان، كما ذكر في الطحن إن استأجرهم إجارة معينة بأجرة واحدة.. ففيه قولان، وإن استأجرهم في ذممهم.. صح، قولا واحدا. [مسألة: اشتركا في عبد فوجداه معيبا] ] : وإن اشترى الشريكان عبدا، فوجدا به عيبا، فإن اتفقا على رده أو إمساكه.. فلا كلام، وإن أراد أحدهما الرد، وأراد الآخر الإمساك، فإن كانا قد عقدا جميعا عقد البيع.. فلأحدهما أن يرد نصيبه دون نصيب شريكه.

مسألة: الشريك أمين

وقال أبو حنيفة: (ليس لأحدهما أن يرد دون شريكه) . وقد مضى ذكرها في البيوع. وإن تولى أحدهما عقد البيع له ولشريكه، فإن كان لم يذكر: أنه يشتري له ولشريكه، ثم قال بعد ذلك: كنت اشتريت لي ولشريكي.. لم يقبل قوله على البائع؛ لأن الظاهر أنه اشترى لنفسه، وإن كان قد ذكر في الشراء: أنه لنفسه ولشريكه.. فهل له أن يرد حصته دون شريكه؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: له ذلك؛ لأن البائع قد علم أن الصفقة لنفسين، فصار كما لو اشتريا شيئا بأنفسهما. والثاني: ليس له الرد؛ لأنه وإن ذكر أنه يشتري له ولشريكه.. فحكم العقد له، ألا ترى أنه لو اشترى عبدا، فقال: اشتريته لزيد، فقال زيد: ما أذنت له.. كان الشراء لازما للمشتري؟ فأما إذا باع الرجل عبدا، ثم قال: كان بيني وبين فلان، فإن باعه مطلقا، ثم قال بعد ذلك: إنه بينه وبين غيره.. لم يقبل قوله على المشتري؛ لأن الظاهر أنه باع ملكه. قال الشيخ أبو حامد: فيحلف المشتري: أنه لا يعلم ذلك. فإن أقام الشريك بينة: أنه بينه وبينه.. حكم له بذلك، فإن كان قد أذن له بالبيع.. صح، وإن لم يأذن له.. كان القول قوله: أنه ما أذن له؛ لأن الأصل عدم الإذن. فإن ذكر البائع حين البيع: أنه بينه وبين شريكه.. قبل قوله؛ لأنه مقر على نفسه في ملكه، فإن أقر الشريك: أنه أذن له في البيع.. نفذ البيع، وإن لم يقر بالإذن، ولا بينة عليه.. حلف أنه ما أذن له، وبطل البيع؛ لأن الأصل عدم الإذن. [مسألة: الشريك أمين] ] : والشريك أمين فيما في يده من مال الشركة، فإن تلف في يده شيء منه من غير تفريط.. لم يجب عليه ضمانه؛ لأنه نائب عن شريكه في الحفظ، فكان الهالك في

فرع: لا تسمع دعوى خيانة الشريك

يده كالهالك في يد المالك. وإن ادعى الهلاك بسبب ظاهر.. لم يقبل قوله حتى يقيم البينة على السبب الظاهر؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليه، فإن شهدت البينة بالسبب، وبهلاك المال فيه.. فلا كلام، وإن شهدت البينة بالسبب، ولم تذكر هلاك المال.. فالقول قول الشريك مع يمينه: أنه هلك بذلك. وإن ادعى الهلاك بسبب غير ظاهر.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على الهلاك. [فرع: لا تسمع دعوى خيانة الشريك] ] : وإن ادعى أحد الشريكين على الآخر خيانة.. لم تسمع دعواه حتى يبين قدر الخيانة، فإذا بينها، فأنكرها الآخر ولا بينة على منكر الخيانة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الخيانة. وإن اشترى أحد الشريكين شيئا فيه ربح، فقال شريكه: اشتريته شركة بيننا، وقال المشتري: بل اشتريته لنفسي، أو اشترى شيئا فيه خسارة، فقال المشتري: اشتريته شركة بيننا، وقال الآخر: بل اشتريته لنفسك.. فالقول قول المشتري مع يمينه في المسألتين؛ لأنه أعرف بفعله. [فرع: شراء الشريك بما لا يتغابن بمثله] ] : وإن أذن كل واحد من الشريكين لصاحبه بالتصرف، فاشترى أحدهما شيئا للشركة بأكثر من ثمن المثل بما لا يتغابن الناس بمثله، فإن اشترى ذلك بثمن في ذمته.. لزم المشتري جميع ما اشتراه، ولا يلزم شريكه ذلك؛ لأن الإذن يقتضي الشراء بثمن المثل، فإن نقد الثمن من مال الشركة.. ضمن نصيب شريكه بذلك؛ لأنه تعدى بذلك. وإن اشتراه بعين مال الشركة.. لم يصح الشراء في نصيب الشريك؛ لأن العقد تعلق بعين المال، وهل يبطل في نصيب المشتري؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.

فرع: رفع يد أحد الشريكين غصب

فإذا قلنا.. يبطل فهما على شركتهما كما كانا. وإن قلنا: يصح الشراء في نصيبه.. انفسخت الشركة بينهما في قدر الثمن؛ لأن حقه من الثمن قد صار للبائع؛ فيكون البائع شريك شريكه بقدر الثمن، ويكون هو شريك البائع في السلعة. وإن باع أحد الشريكين شيئا من مال الشركة بأقل من ثمن المثل بما لا يتغابن الناس بمثله.. بطل البيع في نصيب شريكه؛ لأن مطلق الإذن يقتضي البيع بثمن المثل، وهل يبطل البيع في نصيب البائع؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة. فإذا قلنا: يبطل البيع في نصيب البائع.. فهما على الشركة كما كانا. وإن قلنا: لا يبطل.. بطلت الشركة بينهما في المبيع؛ لأن حصته منه صارت للمشتري بالابتياع، فيكون المشتري شريك شريكه. قال أبو إسحاق: ولا يضمن البائع نصيب شريكه ما لم يسلمه؛ لأن ذلك موضع اجتهاد لوجود الاختلاف فيه. ولو أودع رجل عند رجل عينا، فباعها المودع.. فإنه يضمن ذلك بنفس البيع وإن لم يسلم؛ لأن المودع لا يجوز له البيع بالإجماع، واستضعف الشيخ أبو حامد هذا، وقال: هو متعد بالبيع، فلا فرق بين أن يكون مختلفا فيه، أو مجمعا عليه، ألا ترى أنه إذا سلم.. ضمن وإن كان مختلفا فيه؟ [فرع: رفع يد أحد الشريكين غصب] ] : وإن كان عبد بين اثنين، فجاء رجل أجنبي، وأزال يد أحد الشريكين عن العبد.. صار غاصبا لحصته من العبد وإن كان مشاعا؛ لأن الغصب هو إزالة اليد، وذلك يوجد في المشاع، كما يوجد في المقسوم، ألا ترى أن رجلين لو كان بينهما دار، فجاء

مسألة: يمين المدعي مع نكول المدعى عليه بمنزلة إقرار المدعى عليه

رجل، وأخرج أحدهما من الدار، وقعد فيه مكانه.. كان غاصبا لحصته من الدار؟ هكذا ذكر الشيخ أبو حامد. فإن باع الغاصب والشريك الذي لم يغصب منه العبد من رجل صفقة واحدة.. فإن الشافعي قال: (يصح البيع في نصيب المالك، ويبطل فيما باعه الغاصب) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هي على قولين، بناء على القولين في تفريق الصفقة. ومنهم من قال: يصح البيع في نصيب المالك، قولا واحدا؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين، فلا يفسد أحدهما بفساد الآخر. وإن وكل الشريك الذي لم يغصب منه الغاصب في بيع نصيبه، فباع جميع العبد صفقة واحدة، فإن باع وأطلق، ولم يذكر الشريك الموكل: لم يصح البيع في نصيب المغصوب منه، وهل يصح البيع في نصيب الموكل؟ فيه قولان. وإن ذكر الغاصب في البيع: أنه وكيل في بيع نصفه.. لم يصح بيع نصيب المغصوب منه، وهل يصح البيع في نصيب الموكل؟ على الطريقين في المسألة قبلها؛ لأنه بمنزلة العقدين. وإن غصب الشريك نصيب شريكه، فباع العبد صفقة واحدة.. بطل البيع في نصيب المغصوب منه، وهل يبطل في نصيبه؟ فيه قولان. [مسألة: يمين المدعي مع نكول المدعى عليه بمنزلة إقرار المدعى عليه] ] : وإن كان عبد بين اثنين نصفين، فأذن أحدهما لصاحبه ببيع نصيبه منه، وقبض ثمنه، أو قلنا: إنه يملك القبض بمقتضى الوكالة في البيع، فباع العبد من رجل بألف، ثم أقر الشريك الذي لم يبع.. أن البائع قبض الألف من المشتري، وادعى ذلك المشتري، وأنكر البائع.. فإن المشتري يبرأ من نصب الشريك الذي لم يبع؛ لأنه اعترف أنه سلم ما يستحقه عليه من الثمن إلى شريكه بإذنه، ثم تبقى الخصومة بين الشريكين، وبين البائع والمشتري. فإن تحاكم البائع والمشتري، فإن أقام المشتري بينة شاهدين، أو شاهدا

وامرأتين: بأنه قد سلم إليه الألف.. حكم على البائع أنه قد قبض الألف، وبرئ المشتري منها، ولزم البائع بذلك تسليم خمسمائة إلى الذي لم يبع، وإن لم يكن مع المشتري من يشهد له غير الشريك الذي لم يبع.. فإن شهادته في نصيبه لا تقبل على البائع، وهل تقبل شهادته في نصيب البائع؟ فيه قولان. فإن قلنا: إنها تقبل حلف معه المشتري، وبرئ من حصة البائع. وإن قلنا: لا تقبل، أو كان فاسقا.. فالقول قول البائع مع يمينه: أنه ما قبض الألف ولا شيئا منها؛ لأن الأصل عدم القبض، فإذا حلف.. أخذ منه خمسمائة، ولا يشاركه الذي لم يبع فيها؛ لأنه لما أقر أن البائع قد قبض الألف.. اعترف ببراءة ذمة المشتري من الثمن، وأن ما يأخذه الآن ظلم، فلا يشاركه فيه، وإن نكل البائع عن اليمين.. حلف المشتري أنه قد سلم إليه الألف، وبرئ من الألف، ولا يستحق الشريك الذي لم يبع على البائع بيمين المشتري شيئا، سواء قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه بمنزلة إقرار المدعى عليه، أو بمنزلة إقامة البينة عليه؛ لأنا إنما نجعل ذلك في حق المتحالفين، لا في حق غيرهما. وهكذا: لو أقام المشتري شاهدا واحدا، وحلف معه.. فإنه يبرأ من الألف، ولا يرجع الذي لم يبع على البائع بشيء إلا إن حلف مع الشاهد، بخلاف ما لو أقام المشتري بينة.. فإنه يحكم بها للمشتري، وللذي لم يبع. وإن بدأ الشريكان، فتحاكما، فإن كان للشريك الذي لم يبع بينة: أن البائع قبض الألف، فأقامها.. حكم بها على البائع للمشتري، وللذي لم يبع، وإن لم تكن له بينة غير المشتري.. لم تقبل شهادة المشتري، قولا واحدا؛ لأنه يشهد على فعل نفسه، فيحلف البائع: أنه لم يقبض الألف ولا شيئا منها، ويسقط حق الذي لم يبع من كل جهة. وإن نكل البائع عن اليمين، فرد اليمين على الذي لم يبع، فحلف.. استحق الرجوع على البائع بخمسمائة، ولا يثبت به حق المشتري على البائع، سواء قلنا: إن يمين الذي لم يبع بمنزلة إقرار البائع، أو بمنزلة إقامة البينة عليه؛ لأن ذلك إنما يحكم به في حق المتحالفين، لا في حق غيرهما، ولأن اليمين حجة في حق الحالف

لا تدخلها النيابة، فلم يثبت بيمينه حق غيره، بخلاف البينة. هكذا ذكر عامة أصحابنا. وذكر أبو علي السنجي وجها واحدا لبعض أصحابنا: أنه يثبت باليمين والنكول جميع الثمن على البائع في هذه، وفي التي قبلها، وهو إذا حلف المشتري مع نكول البائع، كما قلنا في البينة. وليس بشيء. وإن ادعى البائع: أن الذي لم يبع قبض الألف من المشتري، وادعى المشتري ذلك، وأنكر ذلك الذي لم يبع.. فلا يخلو من أربعة أقسام: إما أن يكون كل واحد منهما مأذونا له في القبض، أو كان الذي لم يبع مأذونا له في القبض وحده، أو كان كل واحد منهما غير مأذون له في القبض، أو كان البائع مأذونا له في القبض وحده. فإن كان كل واحد منهما قد أذن لصاحبه بالقبض، أو كان البائع قد أذن للذي لم يبع بقبض نصيبه وحده.. فإن المشتري يبرأ من نصيب البائع من الثمن؛ لأنه أقر أنه دفع حقه إلى وكيله، فيكون الفقه في هذه المسألة كالفقه في التي قبله، إلا أن البائع هاهنا يكون كالذي لم يبع في التي قبلها، والذي لم يبع هاهنا كالبائع في التي قبلها على ما ذكرنا حرفا بحرف. وإن كان كل واحد منهما غير مأذون له في القبض.. فإن بإقرار البائع: أن الذي لم يبع قبض الألف، لا تبرأ ذمة المشتري من شيء من الثمن؛ لأن البائع أقر بتسليم حصته من الألف إلى غير وكليه، والذي لم يبع أنكر القبض، فيأخذ البائع حقه من الثمن من غير يمين، وتبقى الخصومة بين الذي لم يبع، وبين المشتري، فإن طالب الذي لم يبع المشتري بحقه من الثمن، فإن كان مع المشتري بينة.. حكم له بها على الذي لم يبع، وإن لم تكن معه بينة غير البائع، وهو عدل.. حلف معه، وحكم ببراءة ذمة المشتري من نصيب الذي لم يبع، قولا واحدا، والفرق بين هذه وبين المسائل المتقدمة: أن هناك ردت شهادته في البعض للتهمة، وهاهنا لم ترد شهادته في شيء أصلا، وإن لم يكن البائع عدلا، أو كان ممن لا تقبل شهادته للمشتري بأن يكون والده، أو ولده، أو كان ممن لا تقبل شهادته على الذي لم يبع، بأن كان عدوا له..

فالقول قول الذي لم يبع مع يمينه: أنه لم يقبض الألف ولا شيئا منه، فإن حلف.. أخذ حقه من الثمن، وإن نكل.. حلف المشتري، وبرئ من حق الذي لم يبع. وأما إذا كان البائع قد أذن له الذي لم يبع بقبض حقه، أو قلنا: إن الإذن في البيع يقتضي قبض الثمن، ولم يأذن البائع للذي لم يقبض حقه من الثمن.. فإن بإقرار البائع لا تبرأ ذمة المشتري من نصيب البائع من الثمن؛ لأنه يقر: أنه دفع ذلك إلى غير وكيله، وأما نصيب الذي لم يبع.. فإن المزني نقل: (أن المشتري يبرأ من نصف الثمن بإقرار البائع: أن شريكه قد قبض؛ لأنه في ذلك أمين) . فمن أصحابنا من خطأه في النقل، وقالوا: هذا مذهب أهل العراق، وإن إقرار الوكيل يقبل على الموكل، فيحتمل أن يكون الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر ذلك. قال: (وبه قال محمد) . فظن المزني أنه أراد بذلك نفسه، ولم يرد الشافعي به إلا محمد بن الحسن. ومن أصحابنا من اعتذر للمزني، وقال: معنى قوله: (يبرأ المشتري من نصف الثمن) يريد به في حق البائع، فإن البائع كان له المطالبة بجميع الألف، فلما أقر أن شريكه قبض الألف.. سقطت مطالبته بالنصف. إذا ثبت هذا: وأن المشتري لا يبرأ من شيء من الثمن..فإن البائع يأخذ منه خمسمائة من غير يمين، فإذا قبض ذلك.. فهل للذي لم يبع أن يشارك البائع بما قبضه؟ نقل المزني: (أن له أن يشاركه فيما قبضه) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لأن الذي لم يبع يقول: قد أخذ البائع خمسمائة من المشتري بحق مشاع بيني وبينه. وقول البائع: إنه أخذه لنفسه، لا يقبل على الذي لم يبع؛ لأن المال إذا كان مشاعا بين اثنين، فقبض أحدهما منه شيئا، ثم قال: قبضته لنفسي.. لم يقبل. وقال أبو العباس، وأبو إسحاق، وعامة أصحابنا: لا يشاركه فيما قبض؛ لأن البائع لما أقر: أن الذي لم يبع قد قبض الثمن.. تضمن ذلك عزل نفسه من الوكالة؛ لأنه لم يبق ما يتوكل فيه. فإن قلنا يقول المزني.. كان الذي لم يبع بالخيار: بين أن يطالب المشتري بخمس

مائة، وبين أن يأخذ من البائع مائتين وخمسين، ومن المشتري مائتين وخمسين، فإذا أخذ من البائع مائتين وخمسين.. لم يكن للبائع أن يرجع بها على المشتري؛ لأنه يقول: إن الذي لم يبع ظلمه بها، فلا يرجع بها على غير من ظلمه. وإن قلنا بقول أبي العباس، ومن تابعه.. لم يكن للذي لم يبع أن يشارك البائع بشيء مما أخذ، بل له أن يطالب المشتري بحقه من الثمن، وهو خمسمائة، فإذا طالب الذي لم يبع المشتري، فإن كان مع المشتري بينة على الذي لم يبع: أنه قبض منه الألف.. برئ من نصيبه من الثمن، وكان له أن يرجع عليه بخمسمائة؛ لأنه قبض منه ألفا، ولا يستحق عليه إلا خمسمائة وإن لم يكن مع المشتري من يشهد له بقبض الذي لم يبع الألف غير البائع، وكان عدلا.. فهل تقبل شهادته؟ إن قلنا بقول أبي العباس: إن الذي لم يبع لا يشارك البائع فيما قبض.. قبلت شهادته عليه، فيحلف معه المشتري، وتبرأ ذمته من حقه من الثمن، ويرجع عليه بخمسمائة؛ لأنه لا يدفع بشهادته عن نفسه ضررا، ولا يجر بها إلى نفسه نفعا. وإن قلنا بقول المزني، ومن تابعه: إن الذي لم يبع لم يشارك البائع فيما قبض.. لم تقبل شهادته؛ لأنه يدفع بها عن نفسه ضررا، وهو حق الرجوع عليه بنصف ما قبض؛ لأنه إذا ثبت: أنه قد استوفى الخمسمائة من المشتري.. لم يشارك البائع في شيء مما قبض. فإن قلنا: لا تقبل شهادته عليه، أو كان ممن لا تقبل شهادته لمعنى غير هذا..فالقول قول الذي لم يبع مع يمينه: أنه لم يقبض الألف ولا شيئا منه، فإذا حلف.. استحق الرجوع بحصته من الثمن على ما مضى، وإن نكل عن اليمين، فحلف المشتري: أنه قد قبض منه الألف.. برئ من حصته من الثمن ورجع عليه بما زاد على حقه.

فرع: قبول أحد الشريكين بالبيع والتلف

[فرع: قبول أحد الشريكين بالبيع والتلف] ] : وإن أقر أحد الشريكين: أنه باع، وقبض الثمن، وتلف في يده وهو مأذون له، فأنكر شريكه البيع، أو القبض.. فهل يقبل قول المأذون له؟ فيه قولان، نذكرهما في (الوكالة) إن شاء الله تعالى. [مسألة: عزل الشريك نفسه عن التصرف لا يمنعه من التصرف بنصيبه مشاعا] ] : إذا اشتركا، وأذن كل واحد منهما لصاحبه بالتصرف، ثم عزل أحدهما صاحبه عن التصرف في نصيبه، أو عزل أحدهما نفسه عن التصرف في نصيب شريكه.. كانت الشركة باقية، إلا أن المعزول لا يتصرف إلا في نصيب نفسه مشاعا، ولا ينعزل الآخر عن التصرف في نصيب صاحبه ما لم يعزله صاحبه، أو يعزل نفسه؛ لأن تصرف كل واحد منهما في نصيب شريكه بالإذن، فإذا عزله المالك، أو عزل نفسه.. انعزل. وإن عزل كل واحد منهما صاحبه، أو قال أحدهما: عزلت نفسي عن التصرف في نصيب شريكي، وعزلته عن التصرف في نصيبي.. انعزل كل واحد منهما عن التصرف في نصيب شريكه، ولا تبطل الشركة بذلك. فإن قال أحدهما: فسخت الشركة.. انعزل كل واحد منهما عن التصرف في نصيب شريكه؛ لأن ذلك يقتضي العزل من الجانبين، ولا يبطل الاشتراك، فإن اتفقا على القسمة.. قسما، وإن اتفقا على البيع، أو التبقية.. كان لهما ذلك، وإن دعا أحدهما إلى البيع، والآخر إلى القسمة.. أجيب من دعا إلى القسمة، كالمال الموروث بين الورثة. وإن جن أحدهما، أو أغمي عليه.. انفسخت الشركة، وانعزل كل واحد منهما عن التصرف في نصيب شريكه؛ لأن الإذن عقد جائز، فبطل بالجنون، والإغماء، كالوكالة.

فرع: موت أحد الشريكين

[فرع: موت أحد الشريكين] ] : وإن مات أحدهما.. انفسخت الشركة، وانعزل الباقي منهما عن التصرف في نصيب الآخر؛ لأن الإذن عقد جائز، فبطل بالموت، كالوكالة. إذا ثبت هذا: فإن لم يكن على الميت دين، ولا أوصى بشيء، فإن كان الوارث بالغا رشيدا.. فله أن يقيم على الشركة بأن يأذن للآخر في التصرف، ويأذن الشريك له، وله أن يقاسم؛ لأن الحق لهما، فكان لهما أن يفعلا ما شاءا. قال أبو إسحاق: غير أن الأولى أن يقاسم؛ لأنه ربما كان هناك دين، أو وصية لم يعلم بها الوارث. وللوارث إذا كان بالغا رشيدا أن يقاسم وإن كان الحظ في الشركة، وله أن يقيم على الشركة وإن كان الحظ في القسمة؛ لأن الحق له، وهو رشيد. وإن كان الوارث مولى عليه.. كان النظر في مال المولى عليه إلى وليه فإن كان الحظ في الشركة.. لم يجز له أن يقاسم، وإن كان الحظ في القسمة.. لم يجز له أن يقيم على الشركة؛ لأن الناظر في مال المولى عليه لا ينفذ تصرفه فيه، إلا فيما له فيه حظ، وسواء كان المال نقدا أو عرضا.. فإن الشركة تجوز؛ لأن الشركة إنما لا تجوز ابتداء على العروض، وهذا استدامة للشركة، وليس بابتداء عقد. وإن مات وعليه دين.. لم يجز للوارث أن يأذن في التصرف بمال الشركة؛ لأن الدين يتعلق بجميع المال، فهو كالمرهون، فإن قضى الدين من غير مال الشركة.. كان كما لو مات ولا دين عليه، وهكذا إن قضى الدين ببعض مال الشركة.. كان كما لو مات ولا دين، وللوارث أن يأذن له في التصرف فيما بقي. وإن وصى بثلث ماله، أو بشيء من مال الشركة، فإن كانت الوصية لمعين.. كان الموصى له شريكا كالوارث، وله أن يفعل ما يفعل الوارث، وإن كانت الوصية لغير معين.. لم يجز للوصي الإذن للشريك في التصرف؛ لأنه قد وجب دفعه إليهم، بل

يعزل نصيبهم، ويفرقه عليهم، فإن كان قد أوصى بثلث ماله، فأعطى الوارث ثلث الموصى لهم من غير ذلك المال مثله.. لم يجز ذلك؛ لأن الموصى لهم قد استحقوا ثلث ذلك المال بعينه، فلا يجوز أن يعطوه من غيره. والله أعلم، وبالله التوفيق

كتاب الوكالة

[كتاب الوكالة]

كتاب الوكالة الأصل في جواز الوكالة: الكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} [الكهف: 19] الآية [الكهف: 19] . وقَوْله تَعَالَى: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي} [يوسف: 93] [يوسف: 93] . وهذا وكالة. وأما السنة: «فروى جابر، قال: أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسلمت عليه، وقلت له: إني أريد الخروج إلى خيبر، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا لقيت وكيلي بخيبر.. فخذ منه خمسة عشر وسقا من تمر، فإن ابتغى منك آية.. فضع يدك على ترقوته» يعني: إن طلب منك أمارة: فأخبر أن له وكيلا.

وروى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل عمرو بن أمية الضمري في قبول نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب» ، و: «وكل أبا رافع في قبول نكاح ميمونة» ، و: «وكل

عروة البارقي في شراء شاة» ، و: «وكل حكيم بن حزام في شراء شاة» . وأجمعت الأمة على جواز التوكيل، ولأن بالناس حاجة إلى التوكيل؛ لأن من الناس من لا يتمكن من فعل ما يحتاج، إما لقلة معرفته بذلك، أو لكثرته، أو تنزهه عن ذلك، فجاز التوكيل فيه. إذا ثبت هذا: فإن العبادات التي لا مدخل للمال فيها لا يجوز التوكيل فيها، فمنها: الطهارة لا تجوز الوكالة فيها بأن يتطهر أحد عن أحد؛ لأنها عبادة محضة

لا تتعلق بالمال، ولكن له أن يوكل من يقرب إليه الماء، ويصبه عليه، ويوكل من يطهر ثوبه وبدنه من النجاسة. وأما الصلاة: فلا تصح النيابة فيها إلا في ركعتي الطواف على سبيل التبع للحج. وأما الزكاة والكفارات كلها: فتجوز الوكالة في أدائها من مال الآمر والمأمور، وقد مضى ذلك في الزكاة. وأما الصوم: فلا تدخله النيابة في حال الحياة، وفيما بعد الموت قولان، مضى ذكرهما في الصوم. وأما الاعتكاف: فلا تدخله النيابة بحال. وأما الحج: فتدخله النيابة، وقد مضى ذكره. قال ابن الصباغ: ولا يصح التوكيل في النذور. ويجوز التوكيل في البيع والشراء؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إلى حكيم بن حزام دينارا ليبتاع له شاة للأضحية، فابتاع به شاة، وأعطي بها ربحا، فباعها بدينارين، ثم اشترى شاة بدينار، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه شاة ودينار، فأمره أن يتصدق بالدينار، ويضحي بالشاة» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى عروة البارقي دينارا ليشتري به أضحية، فابتاع شاتين بدينار، ثم باع إحداهما بدينار، وأتاه بشاة ودينار، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بارك الله لك في صفقة يمينك» ، يعني: في الربح. فكان لو اشترى ترابا لربح فيه. وتجوز الوكالة في عقد الرهن، وقبضه، وإقباضه، ولا تتصور الوكالة في التفليس، ويجوز للحاكم أن يوكل من يتولى الحجر، ويصح التوكيل في الصلح، والحوالة، والضمان، والشركة، والوكالة، والعارية، ولا يصح التوكيل في الغصب، فإن فعل.. كان الغاصب هو الوكيل؛ لأنه فعل محرم، فلا تدخله النيابة، وتصح الوكالة في طلب الشفعة، وأخذها، وفي القراض، والمساقاة، والإجارة، والهبة، والوقف. قال ابن الصباغ: وأما الالتقاط، والاغتنام.. فلا يصح التوكيل فيه، فإذا أمره،

مسألة: التوكيل في الخصومة

فالتقطه.. كان أحق به من الآمر.. وينبغي أن يكون كالاصطياد على قولين. وأما الميراث: فلا نيابة فيه إلا في قسمته وقبضه. وتصح الوكالة في الوصايا، والودائع، وقسم الفيء والغنيمة، ويصح التوكيل في النكاح من الزوج؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل عمرو بن أمية ليقبل له نكاح أم حبيبة» ، و «وكل أبا رافع ليقبل له نكاح ميمونة» . ويصح التوكيل في الطلاق والخلع، ولا يصح في القسم؛ لأنه متعلق بيد الزوج، ولا يصح في الظهار، والإيلاء، والأيمان، وفي الرجعة وجهان: أحدهما: لا يجوز، كما لا يجوز في الإيلاء، والظهار. والثاني: يصح، وهو الصحيح، كما قلنا في عقد النكاح. وهل يصح التوكيل في تملك المباحات، كالاصطياد، والاحتشاش، وإحياء الموات، واستقاء الماء؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز، كما يجوز في البيع والهبة. والثاني: لا يجوز، كما لا يجوز في الاغتنام. ويصح التوكيل في العتق، والتدبير، والكتابة، كما قلنا في البيع والهبة، ولا يصح التوكيل في العدد، والرضاع، والاستيلاد، لأن ذلك متعلق بالبدن. [مسألة: التوكيل في الخصومة] ] : وتجوز الوكالة في إثبات الأموال، والخصومة فيها؛ لما روي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكل عقيل بن أبي طالب، وقال: ما قضي له.. فلي، وما قضي عليه.. فعلي) .

قال الشافعي: (ولا أحسبه كان يوكله إلا عند عمر بن الخطاب، ولعله عند أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ووكل علي عبد الله بن جعفر عند عثمان، فقبل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذلك) . ولأن الإنسان قد يدعي حقا، أو يدعى عليه بحق، ولا يحسن الخصومة في ذلك، أو يكره أن يتولى ذلك بنفسه، فجاز أن يوكل فيه. وتجوز الوكالة من غير رضا الخصم، سواء كان الموكل حاضرا، أو غائبا، صحيحا كان أو مريضا، رجلا كان أو امرأة. وقال أبو حنيفة: (لا يصح التوكيل في الخصومة من غير رضا الخصم إلا في ثلاث مسائل: إحداهن: أن يكون الموكل غائبا. الثانية: أن يكون مريضا. الثالثة: أن يكون امرأة مخدرة. ولا يلزم الخصم إجابة الوكيل إلا في هذه الثلاثة المواضع) . ودليلنا: ما روي: (أن طلحة بن عبيد الله نازع علي بن أبي طالب في قفيز أخذه في أرضه في زمان عثمان، فوكل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عبد الله بن جعفر، وقال علي: إن الخصومات يتقحمها الشيطان، وإني أكره أن أحضرها) ، وروي: أنه قال: (إن للخصومات قحما) ، يعني: مهالك، ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك. ولأنه

فرع: الوكالة في إثبات الحدود

توكيل في حقه، فلم يكن من شرط لزومه رضا الموكل عليه، كما لو وكله في استيفاء حق له على غيره، ولأنه توكيل، فصح من غير رضا الخصم، كما لو كان الموكل غائبا، أو مريضا، أو امرأة غير برزة. [فرع: الوكالة في إثبات الحدود] ويجوز التوكيل في تثبيت القصاص، وحد القذف، وبه قال عامة العلماء. وقال أبو يوسف: لا يصح. دليلنا: أنه حق لأدمي، فجاز التوكيل في تثبيته، كالدين. ولا يصح التوكيل في تثبيت حدود الله، كحد الزنا، والشرب، والسرقة؛ لأن الحق فيها لله، وقد أمر بسترها، ودرئها. ويجوز التوكيل في استيفاء الأموال؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث العمال لقبض الصدقات والجزية» . ويصح التوكيل لاستيفاء حدود الله؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أنيسا لاستيفاء حد

الزنا» ، و: (وكل عثمان عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بإقامة حد الشرب على الوليد بن عقبة) . ويجوز للوكيل أن يستوفي القصاص لموكله، وحد القذف بحضور الموكل؛ لأن الإنسان قد يكون له قصاص، أو حد قذف، ولا يحسن استيفاءه، فجاز له التوكيل في استيفائه، وهل يجوز استيفاؤه من غير حضور الموكل؟ قال الشافعي في (الوكالة) : (لا يستوفي) . وقال في (الجنايات) : (لو وكله في استيفاء القصاص، فتنحى به الوكيل، ثم عفا عنه الموكل، وضرب الوكيل عنقه.. فهل يجب عليه الضمان؟ فيه قولان) . وهذا يدل على جواز التوكيل في الاستيفاء مع غيبة الموكل. واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرق: أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب الطبري ـ أنه يجوز، قولا واحدا؛ لأن كل ما جاز استيفاؤه بحضرة الموكل.. جاز بغيبته، كسائر الحقوق، وما قال في (الوكالة) .. محمول على الاستحباب. و [الثاني] : منهم من قال: لا يجوز، قولا واحدا. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه إذا غاب الموكل احتمل أن يكون عنده شبهة في سقوط القصاص، بأن يكون قد عفا، وما قال في (الجنايات) .. فمحمول على أنه يتنحى به عن مجلسه؛ لئلا يترشش عليه الدم، ولم يغب عن عينه. و [الثالث] : منهم من قال: فيه قولان:

مسألة: التوكيل في الإبرام والحل للعقود

أحدهما: يجوز. والثاني: لا يجوز. ووجههما ما ذكرناه. [مسألة: التوكيل في الإبرام والحل للعقود] مسألة: [التوكيل في الإبرام والحل] : ويصح التوكيل في فسخ العقود، كما يصح في عقدها، ويصح التوكيل في الإبراء من الحقوق والديون، كما يصح في إثباتها. إذا ثبت هذا: فإنه لا يبرأ إلا من القدر الذي يأذن له فيه الموكل؛ لأنه إنما يستفاد ذلك من قبله، فلا يجوز إلا ما أذن له فيه. [فرع: الوكالة في الإقرار] ] : وإن وكله بالإقرار.. فهل يصح التوكيل؟ فيه وجهان مشهوران: أحدهما: لا يصح؛ لأنه إخبار عن حق، فلم يصح التوكيل فيه، كالشهادة. والثاني: يصح، كما لو قال: أخبره عني: أن له علي ألفا. والوجه الثالث ـ حكاه أبو علي السنجي ـ: إن وكله بالإقرار بحق معين.. صح التوكيل، وإن وكله بالإقرار بحق مجهول.. لم يصح. فإذا قلنا: لا يصح التوكيل فيه.. فهل يكون التوكيل إقرارا من الموكل؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون إقرارا منه؛ لأنه لم يوكله بذلك إلا وهو واجب عليه. والثاني: لا يكون إقرارا منه، كما لا يكون التوكيل في الإبراء إبراء، ولا في البيع بيعا. فإذا قلنا: يصح التوكيل فيه.. لم يلزم على الموكل شيء حتى يقر عنه الوكيل. فإذا قلنا بهذا، أو قلنا: يكون التوكيل إقرارا من الموكل.. نظرت: فإن وكله بأن يقر عنه بحق معلوم.. أقر عنه بذلك.

مسألة: صحة التصرف تصحح الوكالة نيابة

وإن وكله أن يقر عنه بمال، أو بشيء.. أقر عنه بذلك، ورجع إلى الموكل في بيان ذلك. فأما إذا قال الموكل: أقر له عني، وسكت، فقال الوكيل: أقررت لك عن موكلي.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: يكون كما لو قال: أقر له عني بشيء.. فيرجع إلى بيان الموكل فيه؛ لأن قوله: أقر له عني، لا يحتمل إلا ذلك. والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه لا يلزم الموكل بذلك حق؛ لأنه لم يأمره أن يقر له بشيء معلوم، ولا مجهول، فلم يلزمه شيء، كما لو قال الرجل لغيره: أنا أقر لك، أو أنا مقر لك.. فإنه لا يلزمه بذلك مال، بل يحتمل: أقر له عني بالعلم، أو بالفضل، أو بالشجاعة، والأصل براءة ذمته من المال، فلم يلزمه بالشك. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا. وذكر الشيخ أبو إسحاق: إذا قلنا: يصح التوكيل بالإقرار.. لم يجز حتى يتبين جنس ما يقر به، وقدر ما يقر به. وهذا موافق للوجه الذي حكاه السنجي. [مسألة: صحة التصرف تصحح الوكالة نيابة] ] : قال الشافعي: (والتوكيل من كل موكل، من رجل، أو امرأة) الفصل إلى آخره. وجملة ذلك: أن من صح تصرفه في شيء تدخله النيابة.. جاز أن يوكل فيه غيره، كالحُرّ الرشيد، والحرة الرشيدة، والحر الفاسق، والحرة الفاسقة، والمسلم، والكافر فيما يملكون من التصرف، وكذلك المكاتب يجوز له أن يوكل غيره في البيع والشراء. وأما من لا يملك التصرف في شيء بنفسه: فلا يجوز له أن يوكل غيره فيه، فلا يصح للصبي، والمجنون، والمحجور عليه لسفه أن يوكل غيره في بيع ماله؛ لأنه إذا لم يملك ذلك بنفسه.. فلأن لا يملك غيره ذلك من جهته أولى، إلا أن المحجور عليه يملك أن يوكل غيره في طلاق امرأته، وفي خلعها.

فرع: من فقد التصرف لا يصح أن يتوكل

وأما المحجور عليه للفلس: فلا يصح أن يوكل غيره في بيع أعيان ماله، ويجوز أن يوكل من يشتري له بثمن في ذمته؛ لأنه يملك ذلك بنفسه، فملك التوكيل فيه. وأما الرجل الفاسق: فلا يصح أن يوكل من يزوج ابنته، أو أخته إذا قلنا: ليس بولي لها؛ لأنه لا يملك ذلك بنفسه، وكذلك إذا وكلت المرأة غيرها أن يزوجها.. لم يصح ذلك؛ لأنها لا تملك أن تعقد النكاح على نفسها، فلا يصح توكيلها فيه. وأما العبد المأذون له في التجارة والوكيل لغيره: فلا يجوز لهما التوكيل فيما أذن لهما فيه إلا بالإذن؛ لأنهما لا يملكان تصرفهما إلا بإذن، فكذلك توكيلهما لغيرهما. وأما الأب والجد: فيجوز لهما أن يوكلا من يزوج ابنتهما البكر بغير إذنها؛ لأنهما يملكان ذلك بأنفسهما، وهل لغيرهما من الأولياء، كالأخ، والعم، إذا أذن لهما في النكاح أن يوكلا فيه غيرهما من غير إذن المرأة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه ولي في النكاح، فجاز له التوكيل فيه، كالأب، والجد. والثاني: لا يجوز؛ لأنهما لا يملكان العقد إلا بإذنها، فكذلك الوكالة. [فرع: من فقد التصرف لا يصح أن يتوكل] ] : ومن لا يملك التصرف في شيء في حق نفسه لنقص فيه.. لا يصح أن يتوكل فيه لغيره، كالمرأة لا تتوكل لغيرها في إيجاب النكاح، ولا في قبوله، وكالصبي، والمجنون في جميع العقود؛ لأنه إذا لم يملك ذلك في حق نفسه.. فلأن لا يملك ذلك في حق غيره أولى. وأما المحجور عليه لسفه: فلا يصح أن يوكل في البيع والشراء، ويصح أن يوكل في الطلاق، والخلع، والقصاص اعتبارا بتصرفه في ذلك في حق نفسه. وأما المحجور عليه للفلس: فالذي يقتضي المذهب: أنه يصح لغيره أن يوكله في التصرف في أعيان المال، وفي الذمة؛ لأن المنع من تصرفه في أعيان ماله لأجل حقوق غرمائه، وهذا لا يوجد في تصرفه في أعيان مال غيره. وأما من يملك التصرف في شيء تدخله النيابة في حق نفسه: فيجوز أن يتوكل فيه

لغيره، إلا في أربع مسائل، اختلف أصحابنا فيها: منها: الفاسق يجوز أن يقبل النكاح لنفسه، وهل يصح أن يتوكل لغيره في قبول النكاح؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما - ولم يذكر في " المهذب " غيره -: أنه يصح، كما يصح ذلك في حق نفسه. والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي غيره - أنه لا يصح، ولم يذكرا له وجها. الثانية: هل يصح للفاسق أن يتوكل في إيجاب النكاح إذا قلنا: إنه ليس بولي؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه موجب للنكاح، فلم يصح أن يكون فاسقا، كالولي. والثاني: يصح؛ لأنه ليس بولي، وإنما الولي الموكل، وهو عدل. الثالثة: يجوز للعبد أن يقبل النكاح لنفسه بغير إذن سيده، ولا يجوز أن يقبل النكاح لغيره بغير إذن سيده، وجها واحدا. وهل يصح أن يتوكل لغيره في قبول النكاح بإذن سيده؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح، كما يصح ذلك في حق نفسه. والثاني: لا يصح؛ لأنه إنما جاز قبوله لنفسه لحاجته إلى ذلك، ولا حاجة به إلى قبول النكاح لغيره. والذي يقتضي المذهب: أنه لا يصح أن يتوكل في إيجاب النكاح وإن كان بإذن السيد، وجها واحدا، لأنه ليس من أهل إيجاب النكاح بحال من الأحوال، ولو قيل: إنه كتوكيل الفاسق في الإيجاب.. كان محتملا. الرابعة: يجوز للرجل أن يوكل زوجته في طلاقها، وهل يصح توكيلها في طلاق غيرها؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح، كما يصح في طلاق نفسها.

فرع: وكالة ذمي في شراء خمر لمسلم

والثاني: لا يصح؛ لأنه إنما صح توكيلها في طلاق نفسها للحاجة، ولا حاجة بنا إلى توكيلها في طلاق غيرها. [فرع: وكالة ذمي في شراء خمر لمسلم] ] : وإن وكل المسلم ذميا في شراء خمر.. لم يصح، وإذا اشترى له الذمي.. لم يصح الشراء للمسلم. وقال أبو حنيفة: (يصح ذلك للمسلم) . دليلنا: أن كل ما لا يجوز أن يعقد عليه المسلم لنفسه.. لا يجوز أن يوكل فيه الذمي، كالعقد على المجوسية. وإن وكل المسلم ذميا ليقبل له النكاح على ذمية.. صح؛ لأن الذمي يملك قبول نكاحها لنفسه، فصح توكيله فيها. وإن وكله المسلم ليقبل له نكاح مسلمة.. لم يصح؛ لأنه لا يملك قبول نكاحها لنفسه، فلم يصح أن يتوكل فيه لغيره. [مسألة: شرط الوكالة إيجاب وقبول] ولا تصح الوكالة إلا بالإيجاب والقبول؛ لأنه عقد يتعلق به حق كل واحد منهما. فافتقر إلى الإيجاب والقبول، كالبيع، والهبة، والإجارة، وفيه احتراز من الطلاق، والعتاق، ويصح القبول على الفور بلا خلاف، وهل يصح القبول على التراخي؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال القاضي أبو حامد: لا يصح؛ لأنه عقد في حال الحياة يفتقر إلى القبول، فاشترط أن يكون القبول فيه على الفور، كالبيع، وفيه احتراز من الوصية، والعتق. والثاني ـ وهو المشهورـ: أنه يصح. قال الشيخ أبو حامد: ووجهه: أن الوكالة تصح بالمعلوم، والمجهول،

فرع: صفة القبول في الوكالة

والمعدوم، والموجود، وذلك: أنه وكله في إثبات حق بعينه، أو خصومة شخص بعينه.. جاز، ولو وكله باستيفاء جميع حقوقه، وإثباتها، وخصوماته، وما وجب له، وما يستجد فيما بعد.. جاز، وكل ما يصح في المعلوم، والمجهول.. كان القبول فيه على التراخي، كالوصية. قال الصيمري: فإذا كتب إلى رجل: أنه وكله في شيء، فوصل إليه الكتاب فقرأه، وقبله.. صح، وإن فارق المجلس ولم يقبل.. لم يجز أن يقبل فيما بعد. [فرع: صفة القبول في الوكالة] فرع: [صفة القبول] : ويصح القبول، وهو أن يقول: قبلت الوكالة. ويصح القبول بالفعل، وهو أن يتصرف فيما وكل فيه؛ لأنه إذن في التصرف، فصح القبول فيه بالقول، والفعل، كما لو أذن في أكل طعامه. [مسألة: الوكالة في التصرف المعلوم] ] : ولا تصح الوكالة إلا في تصرف معلوم، فإن قال: وكلتك في كل قليل وكثير.. لم يصح، وبه قال عامة العلماء. وقال ابن أبي ليلى: يصح، ويملك بذلك كل شيء؛ لعموم لفظ الموكل.. وهذا ليس بصحيح؛ لأن في ذلك غررا عظيما وضررا كثيرا؛ لأنه يطلق نساءه، ويتزوج له أربع نسوة بالمهور الكثيرة، ويعتق عبيده، ويتصدق بأمواله، أو يهبها لغيره، ويقر عليه بما ليس عنده، وفي ذلك غرر، وربما أقر عليه بجناية العمد، وفي ذلك غرر، وقد: «نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الغرر» . وإن قال: بع جميع أملاكي، أو أعتق جميع عبيدي، أو اقبض جميع ديوني، أو جميع ودائعي.. صح؛ لأن ذلك غير مجهول. هذا هو المشهور. وذكر أبو المحاسن: إذا وكله في قبض ديونه.. لم يصح حتى يبين به؛ لأنه مبهم، فلم يصح التوكيل فيه، كما لو قال: وكلتك في كل قليل وكثير.

فرع: لا تصح الوكالة بمجهول

قال الشيخ أبو حامد: ولو قال: وكلتك ببياعاتي.. كانت الوكالة فاسدة؛ لأن هذا مجهول؛ لأنه قد يبتاع له القليل والكثير. قال الشيخ أبو إسحاق: وإن قال: بع ما شئت من أموالي، أو اقبض ما شئت من ديوني.. جاز؛ لأنه إذا عرف ماله ودينه.. عرف أقصى ما يبيع ويقبض، فيقل الغرر. وذكر ابن الصباغ: إذا قال: بع ما تراه من مالي.. لم يجز، ولو قال: بع ما تراه من عبيدي.. جاز. ولم يذكر له وجها. قال أبو المحاسن: ولو قال: أنت وكيلي لتقبض ديني، ولا دين له، ثم ثبت له دين.. فهل له قبضه؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه وكله فيما ليس له، فلم يصح أن يكون وكيلا فيما يكون بعده، كما لو وكله بالصلح، ولا شيء له ولا عليه، ثم وجب. والثاني ـ وهو قول أبي حنيفة ـ: يصح؛ لأن الوكالة تجوز في المعدوم. [فرع: لا تصح الوكالة بمجهول] ] : وإن قال: وكلتك على أن تشتري لي حيوانا بمائة.. لم يصح؛ لأن ذلك وكالة بمجهول؛ لأن الحيوان يقع على أشياء كثيرة. وهكذا: إن قال: وكلتك أن تشتري لي ثوبا.. لم يصح، وإن قال: وكلتك أن تشتري لي عبدا بمائة.. لم يصح؛ لأن العبيد أجناس، ولم يبين واحد منها. وإن قال: وكلتك أن تشتري لي عبدا تركيا بمائة.. جاز؛ لأنه قد ذكر النوع، والثمن، وإن قال: وكلتك أن تشتري لي عبدا تركيا، أو حبشيا، أو ثوبا هرويا، أو مرويا، ولم يقدر الثمن.. ففيه وجهان:

فرع: توكيل شخص غير معين

أحدهما: لا يصح حتى يصف العبد بصفاته المقصودة، ويذكر طول الثوب وعرضه، وصفاته، أو رقته ليصير معلوما. والثاني ـ وهو قول أبي العباس ـ: يصح؛ لأن مع ذكر النوع يقل الغرر، ويحمل ذلك على أغلاها ثمنا. [فرع: توكيل شخص غير معين] وإن قال لرجلين: أيكما باع عبدي، فجائز.. لم يجز لأحدهما أن يبعيه. وقال أبو حنيفة: (إذا باعه أحدهما.. صح) . دليلنا: أن التوكيل يبطل بإبهام الوكيل، فلم يصح، كما لو قال: وكلت أحد أولاد فلان. وإن قال لرجل: بع هذا الرجل، أو هذا العبد.. لم يجز له أن يبيع أحدهما، خلافا لأبي حنيفة. دليلنا: أنه شك في المبيع، فلم يصح، كما لو قال: بعتك هذا، أو هذا. وإن قال: وكلتك أن تشترى لي أمة تركية بمائة أطؤها، فاشترى له من يحرم عليه وطؤها، كذوات محارمه، أو أخت امرأته.. لم يلزم الموكل؛ لأنه اشترى له غير مأذون له فيه، وإن اشترى له أخت أمة، ليس له وطؤها.. قال أبو المحاسن: فلا يلزم الموكل. وقال أبو حنيفة: (يلزمه) . دليلنا: أنه لا يحل له وطؤها، فلم تلزمه، كأخت امرأته.

فرع: وكله أن يتزوج له

[فرع: وكله أن يتزوج له] ] : وإن وكله أن يتزوج له امرأة عينها.. صح، وإن وكله أن يتزوج له من شاء.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال القاضي أبو حامد: يجوز لعموم إذنه. و [الثاني] : قال أبو العباس: لا يجوز؛ لأن الأغراض تختلف، فلا يجوز حتى توصف. قال الصيمري فلو وكله أن يتزوج له امرأة من العرب، فتزوج له امرأة من قريش.. صح، وإن وكله أن يتزوج له من قريش، فتزوج له من العرب.. لم يصح، وإن وكله أن يتزوج له من الأنصار، فتزوج له من الأوس، أو الخزرج،.. جاز، وإن قال: امرأة من الأوس، فتزوجها من الخزرج.. لم يصح. وإن وكله في خصومة كل من يخاصمه.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح، وهو قول الشيخ أبي حامد، وقد مضى ذكره؛ لأن الخصومة معلومة. والثاني: لا يصح؛ لأنها تقل وتكثر، فيكثر الغرر. [مسألة: تعليق الوكالة] ] : لا يجوز تعليق الوكالة على شرط مستقبل، مثل: أن يقول: إذا جاء رأس الشهر.. فقد وكلتك ببيع عبدي. وقال أبو حنيفة: (يصح) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهز جيش مؤتة، وقال: "الأمير عليكم زيد، فإن قتل.. فجعفر، فإن قتل.. فعبد الله بن رواحة، فإن مات.. ففلان» . فعلق تصرفهم على شرط، فدل على

جوازه، ولأنه إذن في التصرف، فجاز تعليقه على شرط مستقبل، كما لو قال: إذا جاء رأس الشهر.. فقد أبحت لك طعامي، أو أمرتك أن تأكل من طعامي. ودليلنا: أنه عقد يملك به التصرف في حال الحياة لم يبن على التغليب، والسراية، فلم يجز تعليقه على شرط، كالبيع ويخالف التأمير، والإباحة، فإنهما لا تؤثر فيهما الجهالة، بخلاف الوكالة، ولأن الملك من الله تعالى ومن الرسول يجوز أن يتعلق على شرط، ولا يدل على أن الأمر فيما بينا كذلك، ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة: 231] [البقرة: 231] ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضا ميتة.. فهي له» ، ولو

مسألة: الوكيل لا يوكل إلا بإذن

قال رجل منا: إذا جاء رأس الشهر، فقد وهبتك هذا.. لم يصح؟ إذا ثبت هذا: فإن قولنا: يجوز تعليق الوكالة بشرط، فإن وكله بتصرف يجعل على شرط، فوجد الشرط، وتصرف الوكيل.. صح تصرفه، واستحق المسمى. وإن قلنا بالمذهب، وإن الوكالة لا يجوز تعليقها بشرط، فوجد الشرط، وتصرف الوكيل.. قال الشيخ أبو حامد: ليس له أن يتصرف، فإن تصرف.. صح تصرفه ولا يستحق المسمى، وإنما يستحق أجرة المثل؛ لأن التصرف مأذون فيه، وإنما الفساد وقع في الوكالة. قال ابن الصباغ: وهذا يبعد؛ لأنه لو لم يستبح التصرف.. لم يصح منه. فلما صح منه التصرف، ثبت أنه استباحه بالإذن. قال الشيخ أبو إسحاق: فإن عقد الوكالة في الحال، وعلق التصرف على شرط، بأن قال: وكلتك أن تبيع عبدي بعد شهر.. صح؛ لأنه لم يعلق الوكالة على شرط. وإنما علق التصرف على شرط.، فلم يمنع صحة التوكيل. [مسألة: الوكيل لا يوكل إلا بإذن] ] : قال الشافعي: (وليس للوكيل أن يوكل إلا أن يجعل ذلك إليه الموكل) . وجملة ذلك: أنه إذا وكله في تصرف، فإن أذن له أن يوكل.. جاز له أن يوكل؛ لأنه قد أذن له في ذلك، ثم ينظر فيه:

فإن قال الموكل: توكل عني.. فهما وكيلان للموكل لا تبطل وكالة أحدهما ببطلان وكالة الآخر. وإن قال: توكل عني فلانا.. وكله، أمينا كان أو غير أمين؛ لأنه قد قطع اجتهاده بالتعيين، وإن لم يعين له من يوكله.. لم يوكل عنه إلا أمينا؛ لأنه لا نظر للموكل في توكيل غير الأمين. وإن قال: توكل عن نفسك.. فإن الثاني وكيل الوكيل، فإن عزل الوكيل الأول، أو مات الأول.. انعزل الثاني؛ لأنه فرع له، فإذا بطلت وكالة الأصل.. بطلت وكالة الفرع، فإن عين له من يوكله.. وكله، خائنا كان أو أمينا، وإن أطلق.. لم يوكل إلا أمينا، فإن صار الثاني بعد ذلك خائنا.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: للوكيل أن يعزله؛ لأنه لا نظر للموكل في استعمال من ليس بأمين. والثاني: ليس له أن يعزله؛ لأنه إنما جعل إليه التوكيل، ولم يجعل إليه العزل. وإن وكله، ولم يأذن له في التوكيل.. نظرت: فإن كان ما وكل فيه مما يتولاه الوكيل بنفسه في العادة، ويقدر عليه.. لم يصح توكيله فيه؛ لأن الموكل إنما رضي باجتهاده ونظره، دون اجتهاد غيره ونظره. فإن قيل: أليس الوصي يجوز له أن يوكل وإن لم يأذن له الموصي في التوكيل؟ قلنا: إنما جاز ذلك للوصي؛ لأنه يتصرف بولاية، بدليل: أنه يتصرف فيما لم ينص له على التصرف فيه، والوكيل لا يتصرف إلا فيما نص له عليه. وإن وكله في تصرف يتولاه بنفسه، ويقدر عليه، وقال له الموكل: اصنع فيه ما شئت.. فهل له أن يوكل غيره؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول أبي حنيفة ـ: أنه يصح توكيله فيه؛ لعموم قوله: أصنع فيه ما شئت.

فرع: توكيل اثنين والإذن لهما

والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يصح توكيله فيه) ؛ لأن قوله: اصنع فيه ما شئت، يحتمل على ما شئت من التوكيل، ويحتمل ما شئت من التصرف في المال الذي يقتضيه إذن الموكل، فلا يجوز له التوكيل بأمر محتمل، بدليل: أنه لا يملك أن يهبه لغيره. وإن كان ما وكل فيه مما لا يتولاه بنفسه، كعمل لا يحسنه، أو عمل يترفع عنه..فله أن يوكل فيه غيره؛ لأن توكيله فيما لا يحسنه أو فيما يترفع عنه إذن له في التوكيل فيه من طريق العرف. هذه طريقة أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: إذا وكله فيما لا يتولاه بنفسه.. فهل له أن يوكل غيره؟ فيه وجهان. وإن وكله في تصرف لا يقدر على جميعه بنفسه.. فله أن يوكل فيما لا يقدر عليه منه؛ لأن ذلك مأذون له في التوكيل فيه من طريق العرف، وهل له أن يوكل في جميعه، أو في شيء مما يقدر عليه بنفسه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن الوكالة اقتضت جواز التوكيل فيه، فجازت في جميعه. كما لو أذن له في التوكيل بلفظه. والثاني: لا يجوز؛ لأن التوكيل إنما جاز له فيما تدعوه الحاجة إليه، ولا حاجة إلى التوكيل فيما يقدر عليه. [فرع: توكيل اثنين والإذن لهما] ] : وإن وكل وكيلين في تصرف، كالبيع، والإجارة، وما أشبههما.. نظرت: فإن صرح بأن لكل واحد منهما التصرف على الانفراد.. كان لهما التصرف بالاجتماع والانفراد؛ لأنه قد أذن لهما بذلك. وإن قال: وكلتكما على الاجتماع، أو وكلتكما في كذا، أو أطلق.. لم يكن لأحدهما أن ينفرد بالتصرف؛ لأنه لم يرض بنظر واحد منهما، فإن غاب، أحدهما أو مات.. لم يكن للحاكم أن يقيم آخر مقام الآخر؛ لأن الموكل لم يرض بنظر غيره،

مسألة: وكله بأن يخاصم ويثبت حقه

وإن حضر أحد الوكيلين عند الحاكم، والآخر غائب، وادعى الحاضر الوكالة له وللغائب، وأقام على ذلك بينة.. قال ابن الصباغ: سمعها الحاكم، وحكم بثبوت الوكالة لهما، ولم يكن للحاضر أن يتصرف حتى يحضر الغائب، فإذا حضر الغائب.. لم يحتج إلى إعادة البينة؛ لأن الحاكم قد سمعها، فإن قيل: هذا حكم للغائب؟ قلنا: إنما جاز ذلك تبعا لحق الحاضر، كما يجوز أن يحكم في الوقف لأهل البطن الثاني تبعا لأهل البطن الأول. وإن وكلهما في حفظ ماله، فإن كان مما لا ينقسم.. جعلاه في حرز لهما، وإن كان مما ينقسم.. فهل لهما أن يقسماه؟ فيه وجهان، وقد مضى ذلك في الرهن. وإن وكل اثنين في طلاق امرأته على الاجتماع.. لم يكن لأحدهما أن ينفرد به. وقال أبو حنيفة: (لأحدهما أن ينفرد به) . دليلنا: أنه تصرف فوضه إلى اثنين، فلم يكن لأحدهما أن ينفرد به، كالبيع. [مسألة: وكله بأن يخاصم ويثبت حقه] ] : إذا قال: وكلتك أن تخاصم عني وتثبت حقوقي، ولا تقر عني، ولا تصالح ولا تبرئ.. فله أن يخاصم، ويثبت الحقوق، ولا يملك الإقرار عنه، ولا الصلح، ولا الإبراء بلا خلاف؛ لأنه قد نهاه عن ذلك. وإن قال: وكلتك في الخصومة، وتثبيت الحقوق..فلا يملك الإبراء، ولا الصلح، ولا الإقرار عن موكله عندنا، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، وزفر. وقال أبو حنيفة، ومحمد: (إذا أقر الوكيل أن الموكل قد قبض الحق الذي وكله فيه في مجلس الحكم.. قبل إقراره عليه، وإن أقر عليه في غير مجلس الحكم.. لم يقبل إقراره عليه) . وقال أبو يوسف: يقبل إقراره عليه في مجلس الحكم وفي غيره. دليلنا: أن التوكيل في الخصومة يقتضي إثبات الحق، والإقرار بقبضه يقتضي إسقاطه، وهو ضد الإثبات، ومن وكل في شيء.. لم يصر وكيلا في ضده، ألا ترى

فرع: الموكل بإثبات الحق لا ينقبض

أنه لو وكله في النكاح.. لم يملك الطلاق؟ ولأنه إقرار على موكله، فلم يقبل، كما لو أقر عليه في غير مجلس الحكم، أو نقول: معنى يقطع الخصومة، فلم يملكه الوكيل بمطلق الوكالة بالخصومة، كالإقرار، والصلح. [فرع: الموكل بإثبات الحق لا ينقبض] وإن وكل رجلا في تثبيت حقه على غيره، فثبته.. لم يكن له قبض الحق؛ لأن الوكالة بالتثبيت لا تقتضي القبض، وإن وكله في قبض حق له من غيره، فجحده من عليه الحق.. فهل للوكيل أن يثبته، ويقيم عليه البينة، ويستحلف المدعى عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن تثبيت الحق طريق إلى القبض ومن أسبابه، فاستفاده بالإذن بالقبض. والثاني: ليس له ذلك، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وروي أيضا عن أبي حنيفة؛ لأن الإذن بالقبض ليس بإذن الخصومة؛ لأنه قد يكون أمينا في القبض، ولا يحسن الخصومة. وإن وكله في قبض عين له من رجل، فجحدها من هي في يده.. قال ابن الصباغ: فالذي يقتضي المذهب: أن الوكيل هل يملك الخصومة فيها؟ على الوجهين. وقال أبو حنيفة: (لا يملك؛ لأنه وكيل في النقل لا في الإثبات، كنقل الزوجة) . ووجه ما قلناه: أن القبض في العين كالقبض في الدين، فإذا جاز له الخصومة في الدين بالوكالة بالقبض، فكذلك بالعين، ويخالف نقل الزوجة، فإن ذلك ليس بقبض، وإن وكله ببيع داره، أو بقسمة نصيب منه، أو طلب الشفعة، فجحد من هو في يده.. فقد قال بعض أصحابنا: إنه لا يملك تثبيتها. قال ابن الصباغ: وعندي أنها على الوجهين في الدين.

فرع: الموكل في البيع يسلم المباع

[فرع: الموكل في البيع يسلم المباع] ] : وإن وكل رجلا في بيع سلعة.. كان للوكيل تسليمها؛ لأن التوكيل في البيع يقتضي التسليم، ولا يملك الوكيل الإبراء من الثمن؛ لأن ذلك لا تقتضيه الوكالة، فإن أبرأ الوكيل المشتري من الثمن.. لم يصح إبراؤه. وقال أبو حنيفة: (يصح إبراؤه، ويضمنه للموكل) . دليلنا: أن الوكالة بالبيع توكيل في إثبات الثمن، والبراءة إسقاط له، فلم تصح، كما لو وكله في قبض دينه.. فإنه لا يصح إبراؤه منه، وهل يملك الوكيل في البيع قبض الثمن؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له قبض الثمن؛ لأنه قد يرضاه للبيع، ولا يرضاه للقبض. والثاني: له ذلك؛ لأن موجب البيع قبض الثمن وتسليم المبيع. فإذا قلنا بهذا: لم يكن له أن يسلم المبيع إلا بعد أن يقبض الثمن فإن سلمه، ولم يقبض الثمن.. ضمنه إذا كان الثمن حالا، فإن قلنا: ليس له قبض الثمن.. كان له تسليم المبيع من غير أن يقبض الثمن، ولا يضمن الثمن بإعسار المشتري. قال ابن الصباغ: وكذلك إذا وكله بالشراء.. فإنه يسلم الثمن، وهل يتسلم المبيع؟ على الوجهين. قال: إلا أن أصح الوجهين: أنه إذا اقتضت الوكالة التسليم.. اقتضت التسلم. وإن وكله بالبيع وقبض الثمن، أو قلنا: له أن يقبض الثمن بمقتضى الوكالة في البيع.. فللوكيل والموكل أن يطالبا المشتري بالثمن، وأيهما قبض الثمن.. صح قبضه وبرئ منه المشتري. وقال أبو حنيفة: (ليس للموكل المطالبة بالثمن) . دليلنا: أن الموكل يصح قبضه للثمن، فجازت مطالبته به كسائر ديونه التي لم يوكل غيره بها.

فرع: وكله في شراء فيمتلك الخصومة

[فرع: وكله في شراء فيمتلك الخصومة] ] : وإن وكله في شراء عبد بثمن، فاشتراه، وسلم الثمن، ثم استحق العبد.. فهل يملك الوكيل الخصومة في درك الثمن؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يملك ذلك؛ لأنه قد يرضاه للشراء، ولا يرضاه للخصومة. والثاني: له ذلك لأنه؛ من أحكام العقد. [مسألة: وكله في شيء معين] ] : وإن وكله في بيع عبده يوم الجمعة.. لم يملك الوكيل بيعه يوم الخميس، ولا يوم السبت؛ لأن إذنه في البيع يوم الجمعة لا يتناول ما قبله ولا ما بعده، وهكذا إذا وكله في إعتاق عبده بيوم مخصوص.. لم يجز له إعتاقه قبل ذلك اليوم ولا بعده. وقال أبو حنيفة: (يصح إعتاقه بعده) . ودليلنا: أن التوكيل مؤقت في إعتاقه، فلم يجز تغييره، كما لو أعتقه قبل الوقت المعين له، وحكى ابن الصباغ: أن الداركي قال: إذا وكله في طلاق امرأته يوم الجمعة، فطلقها يوم الخميس.. لم يقع طلاقه، ولو طلقها يوم السبت.. وقع طلاقه؛ لأنه إذا طلقها يوم الجمعة تكون مطلقة يوم السبت، بخلاف الخميس، وإن وكله في بيع سلعة بسوق معين، فباعها الوكيل في غيره، فإن كان الثمن في السوق المعين أكثر، أو النقد فيه أجود.. لم يصح البيع؛ لأن ذلك غير مأذون فيهن وإن كان الثمن فيهما واحدا، والنقد واحدا.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه لما نص له عليه دل على غرض قصده من يمين وغيرها، فلم يجز مخالفته. والثاني ـ وهو المشهور ـ: أنه يصح؛ لأن المقصود فيهما واحد.

فرع: وكل من يقبض الدين

وإن وكله في البيع من زيد، فباع من عمرو.. لم يصح؛ لأنه قصد تخصيصه بالملك بخلاف السوق، فإن المقصود منه الثمن، وذلك يحصل من المعين وغيره. قال المسعودي [في " الإبانة " ق 290] : ولو وكله أن يزوج ابنته من زيد فزوجها من وكيل زيد.. صح النكاح، ولو وكله أن يبيع عبده من زيد فباعه من وكيل زيد.. لم يصح البيع، والفرق بينهما: أن النكاح لا يقبل نقل الملك، والشراء يقبل نقل الملك، ولهذا يقول وكيل النكاح: زوج موكلي، ولا يقول زوجني لموكلي، وفي البيع يصح أن يقول: بعني لموكلي. [فرع: وكل من يقبض الدين] ] : وإن وكل رجلا ليقبض له دينه، فمات من عليه الدين.. فهل للوكيل أن يقبض من وارثه؟ نظرت: فإن قال الموكل: وكلتك تقبض حقي من فلان، أو خذ مالي من فلان.. لم يكن له أن يقبض من وارثه؛ لأنه قد لا يرضى أن يكون ماله عنده، ويرضى أن يكون عند وارثه، فلا يكون التوكيل في القبض منه إذنا في التوكيل بالقبض من وارثه. وإن قال: وكلتك في قبض حقي على فلان.. كان له القبض من وارثه؛ لأنه قصد أخذ ماله، وذلك يتناول الأخذ منه ومن وارثه. وإن وكل رجلا في قبض دينه من فلان، فوكل من عليه الدين رجلا بتسليم ما عليه.. كان للوكيل القبض منه؛ لأن دفعه بإذنه بمنزلة دفعه. [مسألة: الوكالة بالبيع إلى أجل معين] ] : إذا قال: وكلتك ببيع عبدي بثمن إلى العطاء، أو إلى الحصاد.. فهذه وكالة فاسدة فإن باعه الوكيل كما أمر.. لم يصح؛ لأن الشرع لم يأذن فيه، وإن باعه بيعا صحيحا.. لم يصح البيع، وبه قال أبو يوسف. وقال أبو حنيفة (يصح) .

مسألة: شراء المتصرف في أموال الغير لنفسه

دليلنا: أنه توكيل في عقد فاسد، فلم يملك به العقد الصحيح، كما لو وكله بالبيع بخمر أو خنزير، فباعه بدراهم.. فإنه لا يصح، وقد وافق أبو حنيفة على هذا. [مسألة: شراء المتصرف في أموال الغير لنفسه] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يجوز للوكيل والوصي أن يشتري من نفسه) وجملة ذلك: أن المتصرفين في أموال غيرهم ستة: الأب، والجد، ووصيهما، والحاكم، وأمينه، والوكيل وقد اختلف الناس هل يجوز لهم أن يشتروا من أنفسهم، ويبيعوا؟ على أربعة مذاهب: ف [الأول] : ذهب الشافعي إلى: (أنه يجوز للأب والجد أن يبيعا من نفسه مال ابنه الصغير ويشتري له من نفسه، وقد مضى ذكر ذلك، ولا يجوز لغيرهما) . و [الثاني] : قال مالك، وأبو حنيفة: (يجوز للأب والجد، ووصيهما) . و [الثالث] : قال الأوزاعي: (يجوز ذلك للجميع) . وحكى أصحاب مالك ذلك عنه. و [الرابع] قال زفر: لا يجوز ذلك لواحد منهم. دليلنا: أن غير الأب والجد تلحقهم التهمة، ويتنافى الغرضان في بيعهم من أنفسهم، فلم يصح. إذا ثبت هذا: فإنه لا يجوز للوكيل أن يشتري مال موكله لابنه الصغير، ولا لمن يلي عليه بوصية، أو وكالة؛ لأنه بيع من نفسه، وهل يصح بيعه من ابنه الكبير، أو أبيه، أو أمه، أو مكاتبه؟ فيه وجهان: أحدهما يصح؛ لأن القابل غيره. والثاني: لا يصح: لأنه تلحقه التهمة في ذلك، ولهذا لا تقبل شهادته لواحد منهم. وإن باع من عبده المأذون له.. لم يصح؛ لأن ذلك بيع من نفسه، وإن من

زوجته، أو أحد قرابته غير الوالدين والمولودين.. صح البيع، وجها واحدا؛ لأنه لا تلحقه في ذلك تهمة. وإن وكله أن يبيع من نفسه.. ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس: يصح البيع، كما يصح أن يوكل المرأة في طلاقها. و [الثاني] : قال سائر أصحابنا لا يصح؛ لأنه يجتمع فيه غرضان متضادان، الاستقصاء للموكل في الثمن والاسترخاص لنفسه، ويخالف الطلاق، فإنه يصح بالزوج وحده. وقال الطبري: وكذلك إذا وكله أن يهب لنفسه أو يبرئ نفسه.. فعلى الوجهين. قال المحاملي: وكذلك إذا زوج نفسه من ابنة عمه بإذنها، أو كاتب العبد نفسه على نجمين بإذن سيده.. فعلى الوجهين. وإن وكله في إبراء غرمائه من دينه، وكان الوكيل من غرمائه.. لم يكن له أن يبرئ نفسه، وجها واحدا. وإن وكله في تفرقة ثلثه على الفقراء والمساكين.. لم يكن له أن يصرف على نفسه من ذلك شيئا وإن كان فقيرا؛ لأنه مخاطب في أن يخاطب غيره، فلا يدخل في خطاب غيره، كما قلنا فيه إذا وكله في البيع وأطلق.. فليس له أن يبيع من نفسه. وإن وكله بالبيع من ابنه الكبير أو أحد والديه أو مكاتبه.. صح ذلك، وجها واحدا، لأن التهمة انتفت عنه، وإن وكله أن يبيع من عبده المأذون له.. احتمل أن يكون على الوجهين إذا وكله أن يبيع من نفسه؛ لأن البيع له. وإن وكله عمرو أن يشتري له عبدا من زيد، ووكله زيد في بيعه من عمرو.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال ابن الصباغ: فيه وجهان، كما لو وكله أن يبيع من نفسه.

فرع: توكيل عبد غيره في شراء

وقال الشيخان، أبو حامد وأبو إسحاق: لا يصح ذلك، وجها واحدا لتضاد الغرضين؛ لأن عليه الاستقصاء للبائع بالثمن، والاسترخاص للمشتري. وإن وكل رجلا في خصومة رجل، ووكله الآخر في خصومته.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأن الحكمان لا يتضادان؛ لأن الخصومة هو أن يذكر حجة كل واحد منهما، ويعرضها على الحاكم، وذلك ممكن من الواحد. والثاني: لا يصح؛ لأن على الوكيل أن يحتال في إبطال حجة من وكل في إبطال خصومته والقدح فيها، وتصحيح حجة موكله، وهذا مما يجتمع فيه غرضان متضادان، فلم يصح. [فرع: توكيل عبد غيره في شراء] ] : وإن وكل رجل عبدا لغيره، ليشتري له نفسه، أو عبدا غيره من سيده.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح، كما لو وكله أن يشتري له من غير سيده. والثاني: لا يصح؛ لأن يده كيد سيده، فلم يصح، كما لو وكل السيد نفسه. قال ابن الصباغ: فإذا قلنا لا يصح.. فلا كلام، وإن قلنا يصح، فإن ذكر العبد في الشراء: أنه يشتري لغيره في العقد.. كان للذي سماه، وإن أطلق وادعى أنه اشترى لغيره، فإن صدقه السيد.. كان له مطالبة الموكل بالثمن، وإن كذبه، وقال: بل اشتريت لنفسك.. حلف السيد: أنه لا يعلم أنه اشتراه لغيره؛ لأن الظاهر أنه اشتراه لنفسه، ويعتق، ويطالبه بالثمن. والذي يقتضي المذهب: أنه لا يعتق إذا صدق الموكل العبد أنه وكله في الشراء، أو أنه اشترى له.

مسألة: توكيل العبد في شراء سلعة موصوفة

[مسألة: توكيل العبد في شراء سلعة موصوفة] وإن وكله أن يشتري له سلعة موصوفة، مثل: أن يقول: ابتع لي عبدا حبشيا أو زنجيا أو ثوبا هرويا أو مرويا.. لم يجز له أن يبتاع معيبا من ذلك. وقال أبو حنيفة: (يجوز؛ لعموم أمره، كما يجوز ذلك للعامل في القراض) . دليلنا: أن إطلاق البيع يقتضي السلامة من العيب، كما إذا باع سلعة، فوجدها المشتري معيبة.. فله ردها، ويخالف العامل في القراض؛ لأن المقصود هناك شراء ما يربح فيه، وقد يكون الربح في شراء المعيب، بخلاف ما يشتريه لغير القراض، فإن المقصود به القنية، والمعيب لا يقتنى. إذا ثبت هذا فإن اشترى الوكيل معيبا مع علمه أنه معيب.. لم يصح الشراء للموكل؛ لأنه خالف مقصود إذنه. وإن اشتراه ولم يعلم أنه معيب، ثم علم أنه معيب.. صح الشراء للموكل، فإن علم الموكل به ورضي به معيبا.. لم يجز للوكيل رده؛ لأن الملك للموكل، وقد رضيه معيبا، وإن لم يعلم به الموكل.. فللوكيل أن يرده بالعيب؛ لأن حكم العقد يتعلق به، بدليل: أن حق القبول له، فكان له رد المعيب كما لو اشتراه لنفسه، ولأن كون المبيع معيبا أدخل على موكله ظلامة، فكان له رفعها، فإذا أراد الوكيل الرد، فقال له البائع: لا ترد حتى تستأذن الموكل فلعله يرضى بالعيب، فإن لم يرضه قبلته منك.. لم يلزم الوكيل تأخير الرد؛ لأنه حق تعجل له فلم يلزمه تأخيره، فإن أخر الوكيل الرد بهذا الشرط فهل يسقط حقه في الرد؟ ففيه وجهان: أحدهما: يسقط لأنه ترك الرد مع إمكانه. والثاني: لا يسقط؛ لأنه إنما أخر الرد بشرط. فإن قال البائع للوكيل: لا ترد فلعل موكلك قد بلغه الشراء والعيب ورضي به.. فالقول قول الوكيل من غير يمين لأن البائع لم يضع عليه شيئا، وإن قال البائع: قد علم الموكل ورضي به فإن أقام البينة بذلك.. لم يكن للوكيل الرد؛ لأن الملك

للموكل، وقد رضي به، وإن لم يكن مع البائع بينة وادعى أن الوكيل يعلم ذلك.. فالقول قول الوكيل مع يمينه؛ لأن الأصل عدم رضى البائع، ويحلف الوكيل: أنه لا يعلم أن الموكل قد علم ذلك ورضيه، ولا يحلف على القطع؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره. فإذا رد الوكيل، ثم حضر الموكل، وقال: قد كنت علمت بالشراء والعيب، ورضيت به، فإن صدقه البائع على ذلك أو كذبه، وأقام الموكل على ذلك بينة.. لم يقع رد الوكيل موقعه، وكان للموكل استرجاع المبيع؛ لأن رد الوكيل إنما يصح إذا لم يرض به الموكل، وقد ثبت رضاه. وإن رضي به الوكيل معيبا، أو ترك الرد مع إمكانه.. سقط حقه من الرد؛ لأن رد المبيع إذا كان معيبا.. إنما يكون على الفور، فإن حضر الموكل ورضي به معيبا، أو أقر: أنه كان قد علم به ورضيه، أو قامت به بينة عليه.. استقر البيع وإن لم يرض به الموكل.. نظرت في الوكيل: فإن ذكر في الشراء: أنه يشتري لموكله، أو نوى: أنه يشتري له، وصدقه البائع على ذلك.. ثبت للموكل الرد؛ لأن الملك له. وإن لم يذكره الوكيل في الشراء، ولا صدقه البائع أنه نواه.. فالقول قول البائع مع يمينه أنه لا يعلم أن الوكيل ذكر الموكل في الشراء ولا نوى الشراء له؛ لأن الظاهر أن الوكيل اشتراه لنفسه، فإذا حلف البائع.. انقطعت الخصومة بينه، وبين الوكيل، وتبقى الخصومة بين الوكيل والموكل، وهل تلزم السلعة الوكيل، أو الموكل؟ ذكر الشيخ أبو حامد أن السلعة تلزم الموكل. وذكر في المهذب: أنها على وجهين: أحدهما: وهو المنصوص: (أنها تلزم الوكيل) . والثاني: تلزم الموكل. والذي تبين لي: أن الشيخ أبا حامد أراد بذلك: إذا تصادق الوكيل والموكل: أن الشراء وقع بعين مال الموكل، وأن الشيخ أبا إسحاق أراد: إذا تصادقا أن الشراء

وقع بثمن في ذمة الوكيل؛ لأنه قال: المنصوص: (أن السلعة تلزم الوكيل) لأنه ابتاع في الذمة ما لم يأذن له فيه، ومن أصحابنا من قال: تلزم الموكل؛ لأن العقد وقع له، وقد تعذر الرد بتفريط الوكيل. فإذا قلنا: إن السلعة تلزم الوكيل.. لزمه أن يغرم للموكل ما سلم إليه من الثمن بالغا ما بلغ. وإن قلنا: إن السلعة تلزم الموكل.. لزم الوكيل أن يغرم له: الأرش؛ لأنه دخل النقص على الموكل بتفريط الوكيل، وفي قدره وجهان: أحدهما: تقوم السلعة صحيحة، ثم تقوم معيبة، فإن نقصها العيب العشر من قيمتها.. رجع عليه بعشر الثمن، كما قلنا في الرد بالعيب. و [الثاني] : قال أبو يحيى البلخي: ينظر كم قيمة السلعة وكم الثمن الذي دفعه الموكل؟ فإن كانا سواء، أو قيمة السلعة أكثر.. لم يرجع عليه بشيء، وإن كانت قيمة السلعة تسعين، والثمن مائة.. رجع عليه بعشرة؛ كما قلنا في شاهدين شهدا على رجل: أنه اشترى عبدا بمائة، فحكم عليه الحاكم، وألزمه الثمن، ثم رجعا عن الشهادة، فإن المشتري يرجع عليهما بما نقص من قيمة العبد عن الثمن وهو المائة. والأول أصح؛ لأنه عيب فات الرد به من غير رضاه، فرجع عليه بما ذكرناه، كما لو اشترى عينا فوجد بها عيبا بعد أن حدث بها عيب بيده، ويخالف الشاهدين؛ لأنهما لم يفوتا على المشتري الرد بالعيب، وإنما غرماه الثمن. وإن وكل رجل رجلا ليشتري له سلعة بعينها من رجل، فاشتراها، ووجد بها الوكيل عيبا لم يعلم به الموكل.. فهل للوكيل أن يردها؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأن حكم العقد به يتعلق، فكان له الرد، كما لو وكله في ابتياع سلعة موصوفة. فعلى هذا: حكمها حكم السلعة الموصوفة، وقد مضى. والثاني: ليس له الرد؛ لأنه قطع اجتهاده بتعيينها. والأول هو المنصوص.

مسألة: وكل ببيع عبد فباع بعضه

[مسألة: وكل ببيع عبد فباع بعضه] ] : وإن وكله ببيع عبد، فباع الوكيل بعضه.. نظرت: فإن لم يقدر الموكل الثمن، أو قدر له الثمن، فباع بعضه بأقل من الثمن المقدر.. لم يصح البيع. وقال أبو حنيفة: (يصح البيع) . دليلنا: أنه بيع غير مأذون فيه؛ لأن على الموكل ضررا في الشركة في العبد. وإن قال له: بع جميع العبد بمائة، فباع بعضه بالمائة.. صح البيع؛ لأنه بيع مأذون فيه من طريق العرف؛ لأن من يرضى ببيع العبد بمائة يرضى ببيع بعضه بمائة، إلا أن يكون قال: بعه من فلان بمائة، فباع بعضه منه بمائة.. لم يصح؛ لأن الموكل قصد تخصيص المشتري المعين بجميع العبد بالثمن المقدر، فلا تجوز مخالفته. [فرع: وكل بشراء عبد فباع بعضه] ] : وإن قال: اشتر لي عبدا موصوفا، أو معينا، فاشترى له بعضه.. لم يصح الشراء في حق الموكل؛ لأن عليه ضررا في الشركة في العبد. وإن وكله أن يشتري له عبدا بثوب، فاشترى له العبد بنصف الثوب، صح البيع؛ لأنه زاده خيرا؛ لأن من يرضى العبد بثوب يرضاه بنصف الثوب. وإن وكله في بيع أعبد، أو شراء أعبد.. نظرت: فإن أطلق الإذن.. جاز أن يبيع الأعبد ويشتريهم صفقة واحدة، وجاز في صفقات؛ لأن الإذن مطلق، ولا ضرر عليه في ذلك. وإن وكله: أن يشتري له عبدين صفقة واحدة، فإن اشتراهما من رجل واحد.. صح الشراء للموكل؛ لأنه لم يخالف إذنه، وإن اشتراهما من رجل أو رجلين في صفقتين.. لم يصح الشراء للموكل؛ لأنه خالف إذنه؛ لأنه قد يكون له غرض في أن يبتاعا له صفقة، وإن اشترى عبدين مشتركين بين رجلين في صفقة واحدة.. فقد

مسألة: يلزم الوكيل البيع بنقد البلد

قال أبو العباس: يصح الشراء للموكل؛ لأنه ابتاعهما صفقة واحدة، فهو كما لو كانا لرجل واحد. وقال الشيخ أبو حامد: لا يصح الشراء للموكل؛ لأن عقد الواحد مع اثنين في حكم العقدين، فلم يصح، كما لو اشتراهما من رجلين في صفقتين. وإن ابتاع الوكيل العبدين من رجلين، لكل واحد عبد في صفقة واحدة منهما.. فقد قال أبو العباس: لا يصح الابتياع للموكل في قول من يجيز هذا البيع وفي قول من لا يجيزه؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي في " المجموع "، وقال ابن الصباغ: إن قلنا: إن الرجل إذا ابتاع ذلك لنفسه، لا يصح الشراء له.. لم يصح الشراء هاهنا للموكل، ولا للوكيل، وإن قلنا هناك: يصح.. فهل يصح الشراء هاهنا للموكل؟ على الوجهين في الوكيل إذا اشترى عبدين من رجلين شركة بينهما صفقة واحدة. [مسألة: يلزم الوكيل البيع بنقد البلد] ] : وإذا وكله في بيع سلعة، أو شرائها، وأطلق.. لم يجز له أن يبيع ويشتري بغير نقد البلد، وبه قال مالك، ومحمد، وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يبيع بغير نقد البلد) . فخالفنا أبو حنيفة في البيع ووافقنا في الشراء. دليلنا: أنه عاوض بما ليس من غالب نقد البلد، فلم يصح مع الإطلاق، كما لو باع المنافع، ولأن إطلاق البيع والشراء يرجع إلى نقد البلد، كما نقول فيمن باع بثمن مطلق. إذا ثبت هذا: فإن لم يكن في البلد إلا نقد واحد.. باع الوكيل به واشترى، وإن كان في البلد نقدان، فإن كان أحدهما أغلب في المعاملة.. باع الوكيل به واشترى، وإن كانا غالبين.. عقد بالأنفع للموكل؛ لأنه مأمور بالنصح له، فإن استويا في النفع.. عقد بما شاء منهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.

مسألة: وكله بالشراء من مال بعينه

وإن وكله أن يبيع ويشتري بنقد معين.. لم يجز له أن يعقد بغيره، كما لو وكله في شراء عبد.. لا يجوز له أن يشتري جارية. [مسألة: وكله بالشراء من مال بعينه] ] : إذا دفع إلى رجل مالا، وأمره أن يشتري له بعينه عبدا، فاشترى له عبدا بثمن في الذمة.. لم يصح الشراء للموكل؛ لأنه إنما وكله في التصرف في ذلك المال المعين لا في غيره، ولأن للموكل غرضا في أن لا يشتري له إلا بعين ذلك المال؛ لأنه إن سلم ذلك المال.. سلم له المبيع، وإن تلف قبل القبض.. بطل البيع، ولم يلزمه شيء في ذمته، وإذا اشترى له الوكيل بثمن في الذمة.. لزمه الثمن، تلف المال أو لم يتلف، وفي ذلك ضرر عليه لم يرض به. وإن وكله أن يشتري له عبدا بثمن في الذمة، وبنقد من المال الذي دفعه إليه. فإن فعل الوكيل ما أمره فيه من ذلك.. صح الشراء للموكل، وإن خالف فاشترى له العبد بعين المال.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح الشراء للموكل؛ لأنه أقل غررا من أن يبتاع له بثمن في الذمة لأنه يلزمه الثمن مع بقاء المال المعين، ولا يلزمه إذا تلف قبل القبض. والثاني: لا يصح الشراء، وهو الصحيح؛ لأنه خالف إذنه؛ لأنه أمره بعقد يلزم مع بقاء المال المدفوع، ومع تلفه، فعقد عقدا يلزم مع بقائه، ولا يلزم مع تلفه، فلم يصح. وإن دفع إليه مالا، وأمره أن يشتري له به عبدا، ولم يقل: بعينه، ولا في الذمة.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:

مسألة: شراء الوكيل بثمن في الذمة

أحدهما: أن مقتضى ذلك الشراء بعين المال؛ لأنه لما دفع إليه المال، وأمره بالشراء.. كان الظاهر أنه أمره بالشراء بعينه. فعلى هذا: إذا اشترى له بثمن في الذمة.. لم يلزم الموكل. والثاني: أنه لا يقتضي الشراء بعين المال، ولا في الذمة، فيجوز له أن يشتري بعين المال، ويجوز له أن يشتري بثمن في الذمة، وينقد الثمن من المال؛ لأن الأمر مطلق. [مسألة: شراء الوكيل بثمن في الذمة] ] : إذا وكله أن يشتري له سلعة، ولم يدفع إليه الثمن، فاشترى له بثمن في الذمة.. ففي أي ذمة يتعلق الثمن؟ فيه ثلاثة أوجه لأبي العباس: أحدهما ـ وهو الصحيح ـ: أن الثمن يجب للبائع في ذمة الموكل، ويكون الوكيل ضامنا على الموكل بالثمن؛ لأن الموكل ينتقل إليه ملك المثمن، فكان عليه الثمن، كما لو قبل العقد لنفسه، والوكيل لما تولى العقد.. فقد دخل على أن المطالبة عليه، فصار ضامنا للثمن. فعلى هذا: للبائع أن يطالب أيهما شاء بالثمن، فإذا قبضه من أحدهما.. برئا من حقه، وإن أبرأ الموكل.. برئ الوكيل، وإن أبرأ الوكيل.. برئ وحده، ولم يبرأ الموكل، وإن أخذ الحق من الوكيل.. رجع الوكيل على الموكل؛ لأنه لزمه بإذنه، وإن أخذ الحق من الموكل.. لم يرجع الموكل به على الوكيل. والوجه الثاني: أن الثمن يجب للبائع في ذمة الوكيل؛ لأنه هو الذي قبل العقد، ولا يكون للبائع مطالبة الموكل بشيء؛ لأنه ما قبل منه العقد، إلا أن الوكيل ثبت له في ذمة الموكل مثل ما ثبت في ذمته للبائع؛ لأنه التزم ذلك بإذنه. فعلى هذا: للوكيل أن يطالب الموكل وإن لم يطالبه البائع، وإن أبرأ البائع الوكيل.. لم يبرأ الموكل، وإن أبرأ الوكيل الموكل.. برئ. والوجه الثالث: أن الثمن يجب للبائع في ذمة الوكيل، ولا يثبت في ذمة الموكل

فرع: للموكل الخيار ما لم ينقد الوكيل الثمن

للبائع ولا للوكيل شيء؛ لأن الذي باشر العقد هو الوكيل، فكان الثمن عليه، كما لو عقد لنفسه. فعلى هذا: للبائع مطالبة الوكيل بالثمن دون الموكل، فإذا دفع الوكيل الثمن إلى البائع.. رجع به على الموكل؛ لأنه وجب عليه بإذنه، وإن أبرأ البائع الوكيل.. لم يرجع على الموكل بشيء، كما قلنا فيمن أحال غيره بحق على من لا حق له عليه. وفرع أبو العباس على هذا الوجه: إذا قال الرجل لغيره: بع عبدك هذا من زيد بألف في ذمتي، فباعه.. صح البيع، ولزم الثمن الآمر دون المشتري. والأول أصح؛ لأنه لا يجوز أن يملك المثمن ولا يملك عليه الثمن، ولا أن يثبت الثمن لغير من ملك من جهته المثمن. [فرع: للموكل الخيار ما لم ينقد الوكيل الثمن] ] : فإن دفع إليه ألف درهم، وأمره أن يشتري له عبدا بألف درهم في الذمة. وينقد الألف فيه، فابتاع الوكيل العبد بألف في الذمة، فجاء لينقد الألف، فوجده البائع معيبا.. فالبائع بالخيار: بين أن يقبضه معيبا، وبين أن لا يقبضه، فإن قبضه.. فلا كلام، وإن لم يقبضه.. كان له المطالبة بألف سليمة. وإن تلفت هذه الألف في يد الوكيل قبل أن يقبضها البائع.. تلفت من مال الموكل، ولا شيء على الوكيل؛ لأنه أمانة في يده قبل أن يدفعها، وإن قبضها البائع، ثم وجدها معيبة.. كان له ردها، والمطالبة بألف سليمة، فإذا رده البائع على الوكيل.. قال المحاملي: فإن اختار الوكيل إمساكه معيبا، ويعطي البائع من عنده ألفا سليمة.. فعل، وإن اختار رده للموكل، ليرده له سليما، ليدفعه إلى البائع..

فعل، فإن قبضه الوكيل من البائع، ليرده على الموكل، فتلف في يده من غير تفريط.. فهل يجب على الوكيل ضمانه؟ إن قلنا: إن الثمن وجب للبائع في ذمة الموكل دون ذمة الوكيل، وإنما الوكيل واسطة.. كان تلف هذا الألف من ضمان الموكل؛ لأنه أمانة في يد الوكيل. وإن قلنا: إن الثمن وجب للبائع في ذمة الوكيل دون ذمة الموكل، وللوكيل مثل ذلك الثمن في ذمة الموكل.. كان تلف الألف من ضمان الوكيل؛ لأن الموكل لما دفع إليه الألف ليدفعه إلى البائع.. فقد دفع إليه مالا ليسقط به الثمن الذي في ذمة نفسه عما لزمه من جهته، فلما لم يدفعه.. فهو أمانة في يده، فإذا دفعه.. ضمنه حينئذ؛ لأنه صرفه بدين في ذمته، فهو كما لو أودعه وديعة، وقال له: إن احتجت إليها، فأنفقها، فما لم ينفقها.. فهي أمانة في يده، فإذا أنفقها.. ضمنها، كذلك هذا إذا دفعها.. ضمنها، فإذا ردها البائع عليه.. عادت إلى ضمانه الأول. فعلى هذا: إذا دفع الوكيل إلى البائع ألفا سليما.. كان للوكيل على الموكل ألف سليم؛ لأنه وجب عليه بإذنه، وللموكل عليه ألف معيب، فإن وجد الوكيل مثل المعيبة.. ردها على الموكل، وأخذ منه ألفا سليما، وإن لم يجد مثلها.. دفع إليه قيمتها، ولا يرجع عليه بالأرش؛ لأنه ربا. فإن دفع إليه درهم ليشتري له بعينها عبدا، فاشترى له عبدا بعينها، ثم وجد بها البائع عيبا، فإن كان العيب من غير جنسها، بأن خرجت رصاصا أو نحاسا.. فالبيع باطل، لأن العقد وقع على الدراهم، وليست هذه بدراهم، وإن كان العيب من جنسها، بأن خرجت الدراهم مضطربة السكة، أو ناقصة الوزن.. فالبيع صحيح، ولكن يثبت للبائع الخيار: بين أن يمسكها، وبين أن يردها، فإن أمسكها.. فلا كلام، وإن ردها.. بطل البيع؛ لأن الثمن المعين إذا رد.. بطل البيع؛ لأنه لا يملك المطالبة ببدله، فإن تلفت الدراهم في يد الوكيل قبل أن يردها إلى الموكل من غير تفريط.. لم يجب عليه ضمانها؛ لأنها أمانة في يده بكل حال.

مسألة: وكله بالبيع عاجلا فباعه مؤجلا

[مسألة: وكله بالبيع عاجلا فباعه مؤجلا] ] : وإن وكله أن يبيع له سلعة بثمن حال.. لم يجز أن يبيعها بثمن مؤجل؛ لأنه خلاف إذنه. وإن وكله ببيعها، وأطلق.. لم يجز أن يبيعها بثمن مؤجل، فإن باعها بذلك.. بطل البيع، وبه قال مالك، وأبو ثور. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: (يجوز أن يبيعها مؤجلا ولو إلى ثلاثمائة سنة) . دليلنا: أن الإطلاق يقتضي الحلول، كما لو قال: بعتك هذه السلعة بدينار. فإن الثمن يكون حالا. وإن وكله أن يبيع بثمن إلى أجل مقدر.. لم يجز له أن يبيع إلى أجل أكثر منه؛ لأنه خلاف إذنه، وإن أذن له في البيع إلى أجل، ولم يقدر الأجل.. ففيه أربعة أوجه: أحدها ـ وهو الأصح ـ: أنه لا يصح التوكيل؛ لأن الآجال تختلف، وذلك غرر من غير حاجة، فلم يصح كما لو قال: بعتك بألف إلى أجل. والثاني: يصح التوكيل، ويبيع إلى ما جرت به العادة في التأجيل بالثمن في مثل تلك السلعة، فإن لم يكن فيه عرف.. باع بأنفع ما يقدر عليه؛ لأنه مأمور بالنصح لموكله. والثالث: يصح البيع إلى أي أجل شاء الوكيل؛ لعموم إذن الموكل. والرابع: يبيع إلى سنة، ولا يبيع إلى أكثر منها؛ لأن الآجال المقدرة بالشرع إلى سنة، وهو مثل الجزية والدية.

فرع: باع الوكيل السلعة المؤجلة القيمة بثمن حال

[فرع: باع الوكيل السلعة المؤجلة القيمة بثمن حال] ] : وإن وكله في بيع سلعة إلى أجل معلوم، فباعها بثمن حال، فإن باعها بأقل من الثمن الذي يباع به إلى الأجل.. لم يصح البيع؛ أنه باع بدون الثمن المأذون فيه، وإن باعها حالا بالثمن الذي يباع به الأجل، فإن كانت في وقت لا يؤمن أن يسرق الثمن، أو ينهب إلى الأجل.. لم يصح البيع؛ لأن في ذلك ضررا عليه لم يرض به، وإن كان الوقت مأمونا..ففيه وجهان: أحدهما: يصح البيع؛ لأنه باعه بالثمن المأذون فيه، وزاده بالحلول خيرا، فصح. والثاني: لا يصح؛ لأنه قد يكون له غرض في كون الثمن في ذمة مليء إلى وقت الأجل؛ لأنه قد يحتاج إليه في ذلك الوقت، وإذا حصل في يده ربما أنفقه. [فرع: وكله بالشراء بثمن حال] ] : وإن وكله أن يشتري له شيئا بثمن حال، فاشتراه له بثمن إلى أجل، فإن لم يقدر له الموكل الثمن.. لم يصح الشراء في حق الموكل؛ لأنه ما من ثمن يمكنه أن يشتري تلك السلعة به نقدا إلا ويشتريها إلى أجل بأكثر منه، وإذا كان كذلك.. فقد اشتراها بأكثر من الثمن المأذون فيه، فلم يصح. وإن قدر له الثمن، فإن ابتاعها بأكثر من المقدر.. لم يصح في حق الموكل؛ لأنه اشتراها له بأكثر مما أذن له فيه، وإن ابتاعها بالثمن المقدر، أو بأقل منه.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه قد اشتراها له بالثمن المأذون له فيه، وزاده التأجيل خيرا. والثاني: لا يصح في حق الموكل؛ لأنه قد فوت عليه غرضه؛ لأنه قد لا يقدر على الثمن عند الأجل، ويقدر عليه في الحال. قال ابن الصباغ: وهذا إنما يتصور في الأشياء التي لا يجبر صاحبها إذا كانت

مسألة: لا يعطي الوكيل الخيار

مؤجلة أن يأخذها في الحال، وأما إذا كانت مما يجبر على قبضها، بأن لا يحتاج في حفظها إلى مؤنة، ولا تكون مخوفا.. فإنه يجوز؛ لأنه يمكنه أن يعجل الثمن وإن كان مؤجلا، فيحصل الغرض. [مسألة: لا يعطي الوكيل الخيار] ] : وإذا وكله في البيع.. لم يجز له أن يشترط الخيار للمشتري، وإن وكله في الشراء.. لم يجز له أن يشرط الخيار للبائع؛ لأن الإطلاق يقتضي العقد من غير شرط الخيار، وإن شرط الوكيل فيهما الخيار للموكل، أو لنفسه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن الإطلاق يقتضي العقد من غير شرط الخيار. والثاني: يصح؛ لأن فيه احتياطا. [مسألة: لا يبيع الوكيل بأقل من ثمن المثل] ] : ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بدون ثمن المثل مما لا يتغابن الناس في مثله من غير إذن، ولا للوكيل في الشراء أن يشتري بأكثر من ثمن المثل مما لا يتغابن الناس بمثله من غير إذن، وبه قال مالك، وأبو ثور، وأبو يوسف، ومحمد، ووافقنا أبو حنيفة في الشراء وخالفنا في البيع، فقال: (للوكيل في البيع أن يبيع بدون ثمن المثل) . دليلنا: أنه توكيل في معاوضة مطلقة، فوجب أن يقتضي ثمن المثل، كالشراء. قال صاحب " الفروع ": وإن قال: بع هذه السلعة بثمن مثلها وأقل منه وأكثر، عاجلا وآجلا، بنقد البلد وغير نقد البلد.. جاز للوكيل أن يبيع كيف شاء؛ لعموم الإذن، فإن باع الوكيل بثمن المثل، أو بنقصان يتغابن الناس بمثله، فجاء إنسان،

فزاده في الثمن، فإن كان بعد انقضاء الخيار.. لم يكن لهذه الزيادة حكم، فإن فسخ.. فلا يصح فسخه؛ لأن البيع قد لزم، وإن كان قبل انقضاء الخيار.. قال الشافعي: (فعليه أن يفسخ البيع مع الأول، ويقبل الزيادة، فإن لم يفعل.. كان البيع مردودا) . ومن أصحابنا من قال: لا يفسخ البيع الأول؛ لأنه قد صح، ويجوز أن لا يثبت الزائد على الزيادة وهذا خلاف النص؛ لأن حال الخيار كحال العقد، بدليل: أنه يجوز للمتبايعين الزيادة في الثمن والنقصان منه في حال الخيار، كما يجوز في حال العقد، ولو حضر من يطلب الزيادة حال العقد.. لم يجز البيع بأقل منها فكذلك في حال الخيار، وقول من قال: إنه قد لا يثبت الزائد على الزيادة، غير صحيح؛ لأن الظاهر أنه يثبت عليها. وإن باع الوكيل بأقل من ثمن المثل مما يتغابن الناس بمثله، أو اشترى بأكثر من ثمن المثل مما يتغابن الناس بمثله.. صح؛ لأن ذلك لا يمكن الاحتراز منه لأهل البصر في التجارة. قال الشافعي: (والغبن قد يقل ويكثر على حسب المبيع، فما كان من الجواهر، والمواشي، والرقيق.. فقد يغبن فيه أكثر ما يغبن في الطعام وما أشبهه؛ لأن الجواهر والمواشي، والرقيق ليس له ثمن معلوم، بل يتفاوت ثمنه، فيقع فيه الغبن أكثر من الطعام) . فعلى هذا: إذا اشترى الوكيل شيئا، أو باعه، عرض على أهل البصر بذلك الشيء، فإن قالوا: هذا مما يغبن الناس فيه بمثله في العادة.. كان عقده صحيحا، وإن قالوا: غبن بما لا يغبن الناس بمثله في العادة.. كان العقد باطلا، فإن كان ذلك في الشراء.. نظرت: فإن كان العقد بعين مال الموكل، فإن ذكر حين الشراء: أنه يشتري لموكله، أو

نواه، وصدقه البائع.. فالعقد باطل؛ لأنه عقد على مال الموكل ما لم يأذن فيه، وإن لم يذكر حين الشراء: أنه يشتري للموكل، ولا صدقه البائع أنه نواه.. قال الشيخ أبو حامد: كان الشراء للوكيل، وكان عليه غرم الثمن الذي دفعه للموكل. وإن كان بثمن في الذمة.. لم يصح الشراء في حق الموكل؛ لأنه يشتري له بثمن غير مأذون له فيه نطقا، ولا عرفا. وإن كان في البيع، بأن وكل في بيع عين، ثمن مثلها عشرة، ويتغابن الناس في مثلها بدرهم، فباعها بثمانية.. لم يصح البيع، فإن كانت العين قائمة.. أخذها الموكل، وإن كانت في يد المشتري.. فللمالك أن يطالب بردها من شاء منهما. وإن قبضها المشتري، وتلفت في يده.. فللموكل أن يضمن المشتري؛ لأنه قبض ما لم يكن له قبضه، وله أن يضمن الوكيل؛ لأنه أقبض ما لم يكن له إقباضه، فإن اختار تضمين المشتري.. ضمنه عشرة؛ لأن التلف حصل بيده، فاستقر الضمان عليه، وإن اختار تضمين الوكيل.. فكم يضمنه؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يضمنه العشرة؛ لأنه تعدى بإقباضها، فضمنها بكمال قيمتها، كالغاصب. والثاني: يضمنه تسعة؛ لأنه لو باعها بذلك.. لصح بيعه، ويضمن المشتري تمام القيمة، وهو درهم. والثالث ـ حكاه في " المهذب " ـ: أنه يضمنه درهما لا غير؛ لأنه لم يفرط إلا فيه، ويضمن المشتري تسعة. ولم يحك الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غير القولين الأولين، والقول الأول أصح؛ لأن المشتري لو اشتراه بتسعة.. لصح شراؤه، ومع هذا يضمن جميع القيمة، وما يضمنه الوكيل.. يرجع به على المشتري؛ لأن التلف حصل بيده، وما يضمنه المشتري.. لا يرجع به على الوكيل.

فرع: لا يخالف الوكيل القيمة المحددة

[فرع: لا يخالف الوكيل القيمة المحددة] ] : وإن قال له: بع هذا العبد بألف درهم.. لم يجز أن يبيع بأقل منه وإن كان ثمن المثل؛ لأن بيع الوكيل مستفاد من قبل الموكل، فلا يجوز له مخالفته. وإن باعه بألفي درهم، فإن كان الموكل قد عين له من يبيع منه.. لم يصح؛ لأنه قصد تمليكه إياه بألف درهم، فلا يجوز له مخالفته، وإن لم يعين له من يبيع منه.. صح البيع؛ لأن الإذن ضربان: إذن مستفاد نطقا، وإذن مستفاد عرفا، وفي العرف: أن من يرضى ببيع عبده بألف يرضى بيعه بألفين. وإن قال: بع بألف، ولا تبع بما زاد.. لم يصح أن يبيعه بأكثر من الألف؛ لأن النطق أبطل حكم العرف. وإن قال: بعه بمائة درهم، فباعه بمائة درهم ودينار.. قال ابن الصباغ: صح البيع، وجها واحدا؛ لأنه باع بالمأذون فيه وزيادة من جنس الثمن. وإن باعه بمائة درهم وثوب.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه باعه بمائة وزيادة، فصح كما لو باعه بمائة درهم ودينار. والثاني: لا يصح؛ لأنه باعه بغير جنس الأثمان. فإن قلنا: يصح بيعه.. فلا كلام، وإن قلنا: يبطل.. بطل البيع فيما يقابل الثوب من العبد، وهل يبطل البيع فيما يقابل الدراهم؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة: فإذا قلنا: لا تفرق.. بطل البيع في الكل، ولا كلام. وإن قلنا: تفرق.. قوم الثوب والدراهم، فإن كانا سواء.. بطل البيع في نصف العبد، ولا خيار للموكل؛ لأنه رضي ببيع جميعه بمائة، فإذا تناول ذلك نصفه.. فقد زاده خيرا، وهل يكون للمشترى الخيار؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: له الخيار: لأن الصفقة تبعضت عليه. والثاني: لا خيار له؛ لأنه رضي بذلك.

فرع: باع الوكيل نصف عبد بالثمن المعين

والأول أصح؛ لأن الاعتبار بمقتضى العقد، والعقد اقتضى أن يكون العبد صفقة واحدة. [فرع: باع الوكيل نصف عبد بالثمن المعين] ] : وإن وكله في بيع عبد بألف، ولم يعين من يبيع منه، فباع الوكيل نصفه بألف.. صح البيع؛ لأن ذلك معلوم من جهة العرف، وإن باعه نصفه بدون الألف.. لم يصح؛ لأنه ربما لم يمكنه أن يبيع باقيه بتمام الألف. وإن وكله في بيع ثلاثة أعبد له بألف، ولم يعين له من يبيع منه، فباع منهم واحدا بتسعمائة.. لم يصح؛ لأنه قد لا يشتري الآخران بمائة، وإن باع واحدا منهم بألف.. صح؛ لأن ذلك مأذون فيه من جهة العرف، وهل يصح بيعه للآخرين بعد ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: لا يصح؛ لأن المقصود هو الألف، وقد حصل. والثاني: يصح؛ لأنه قد أذن له ببيع الجميع، فلا يسقط إذنه ببيع بعضهم. [فرع: صحة الشراء بالمعين] ] : وإن وكله أن يشتري له عبدا بعينه بمائة دينار، فاشتراه له بمائة دينار.. صح الشراء للموكل؛ لأنه امتثل أمره نطقا وعرفا، وإن اشتراه بتسعين دينارا، أو أقل منها.. قال أصحابنا: صح الشراء للموكل؛ لأنه مأذون فيه من جهة العرف؛ لأن من يرضى بمائة.. يرضى بما دونها. والذي يقتضي المذهب: أن هذا إنما يصح إذا لم يعرف الموكل سيد العبد، فأما إذا عرفه، أو قال: اشتر لي من فلان عبده بمائة دينار، فاشتراه له بأقل منها.. لم يصح في حق الموكل؛ لأنه قصد محاباته بالثمن، فلا يجوز مخالفته، كما لو قال: بع

فرع: الشراء بأزيد مما عين الموكل

عبدي من فلان بمائة، فباعه بمائة وعشرة.. فإنه لا يصح. وإن قال: اشتر لي هذا العبد بمائة دينار فاشتراه له بمائة درهم.. لم يصح في حق الموكل؛ لأنه خالف النطق والعرف؛ لأن العرف يقتضي اختصاص الجنس المأذون فيه وإن كان غيره أحط منه وأخف. وإن قال: اشتره بمائة دينار، ولا تشتره بأقل منها، فاشتراه بأقل منها.. لم يصح في حق الموكل؛ لأن النطق أبطل حكم العرف. وإن قال: اشتره بمائة درهم، ولا تشتره بخمسين درهما.. فله أن يشتريه بمائة؛ لأنه مأذون فيه نطقا، وله أن يشتريه بما دون المائة وفوق الخمسين؛ لأنه مأذون فيه عرفا، وليس له أن يشتريه بالخمسين؛ لأنه غير مأذون فيه نطقا، وهل له أن يشتريه بما دون الخمسين؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح ذلك للموكل؛ لأنه مأذون فيه عرفا، وإنما خرج الخمسون بالنهي، فبقي غيرها على العرف. والثاني: لا يصح في حق الموكل؛ لأنه غير مأذون فيه عرفا؛ لأنه إنما نهى عن الخمسين ليكون غاية في التقليل، وما دونها أقل منها، فلا يجوز مخالفة نهيه. [فرع: الشراء بأزيد مما عين الموكل] ] : وإن قال: اشتر لي هذا العبد بمائة درهم، فاشتراه له بمائة درهم وعشرة.. لم يلزم الموكل. وقال أبو العباس: يلزم العبد الموكل بمائة، والعشرة على الوكيل؛ لأنه متبرع بها. والأول أصح؛ لأنه زاد على الثمن المأذون فيه، فلم يلزم الموكل، كما لو وكله أن يشتري له عبدا، وأطلق، فاشترى له بأكثر من ثمن المثل، ولأنه لو قال: بع هذا

فرع: لزوم شراء الوكيل إذا كانت الشروط مستوفاة وزيادة

العبد بمائة درهم، فباعه بتسعين درهما ... لم يجز أن يقال: يصح البيع بالتسعين ويلزم الوكيل عشرة، فإذ لم يصح ذلك في البيع.. لم يصح في الشراء. [فرع: لزوم شراء الوكيل إذا كانت الشروط مستوفاة وزيادة] قال أبو العباس: إن قال: اشتر لي عبدا حبشيا أو روميا، خماسيا أو سداسيا بمائة، فاشترى له عبدا بتلك الصفة بمائة.. لزم الموكل؛ لأنه مأذون فيه نطقا، وإن ابتاعه على تلك الصفة بدون المائة.. لزم الموكل؛ لأنه مأذون فيه عرفا، وإن كان العبد لا يساوي مائة.. لم يلزم الموكل؛ لأنه إنما أذن له في ابتياع عبد بتلك الصفة يساوي مائة، فإذا ابتاع بأقل من مائة ولا يساوي مائة.. لم يتضمنه إذنه نطقا، ولا عرفا، وإن اشترى له عبدا بمائتين، وهو يساوي ذلك.. لم يلزم الموكل؛ لأنه غير مأذون فيه نطقا، ولا عرفا. [فرع: من وكل في السلم بنوع لا يبدله] ] : قال أبو العباس: إذا دفع إلى وكيله دراهم، وقال: أسلفها لي في طعام، أو في الطعام.. أسلفها في الحنطة، فإن أسلفها في الشعير.. لم يصح؛ لأن إطلاق اسم الطعام.. في العرف ينصرف إلى الحنطة دون غيرها وإن كان الطعام اسما للكل في اللغة، إلا أن الاعتبار في العرف دون العموم، ألا ترى أنه لو قال: اشتر لي خبزا.. انصرف ذلك إلى الخبز المعتاد في موضعه، حتى إن كان في العراق.. لم يجز أن يشتري له خبز الأرز؟ هكذا ذكر عامة أصحابنا. وقال أبو المحاسن: إذا قال: اشتر لي بها الطعام.. لم يصح التوكيل خلافا لأبي حنيفة.

فرع: جواز أن يسلم له بما في ذمته

دليلنا: أن التوكيل بشراء الطعام على الإجمال والإبهام لا يصح، كما لو لم يذكر الثمن، ولم يدفعه، فإن كان قد وكله أن يسلفها في طعام إلى أجل، فأسلفها في طعام حال، فإن لم يقدر له قدر الطعام المسلم فيه.. لم يصح السلم؛ لأنه ما من شيء يسلم فيه المسلم إلى أجل بدرهم إلا إذا أسلف فيه حالا يسلف فيه أكثر من الدرهم، وإن قدر له الطعام المسلم فيه إلى الأجل، فأسلف في ذلك القدر حالا.. فهل يصح؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. فإذا حل السلم، وكان قد أذن له في القبض، أو قلنا: له أن يقبض بمقتضى الوكالة بالسلم، فقبضه الوكيل.. صح قبضه. فإن أبرأ الوكيل المسلم إليه من الطعام، فإن كان قد ذكر له الوكيل المسلم له في السلم، أو نواه وصدقه المسلم إليه.. لم يصح إبراؤه؛ لأنه لا يصح إبراء الوكيل من مال الموكل، وإن لم يذكره في السلم، ولا صدقه المسلم إليه أنه نواه.. فالظاهر أن السلم للوكيل، ويصح إبراؤه، ويضمن الوكيل للموكل مثل الطعام؛ لأنه حال بينه وبين طعامه بالبراءة، فصار كما لو قبضه وأتلفه. [فرع: جواز أن يسلم له بما في ذمته] ] : قال أبو العباس: إذا قال رجل لغيره: أسلف لي مائة درهم في طعام، وانقد المائة من مال عليك في ذمتك، ففعل الوكيل.. ذلك جاز، وكان الطعام للموكل، وبرئت ذمة الوكيل من القدر الذي دفع من الدراهم في السلم؛ لأنه دفع تلك المائة بإذن الموكل، فهو كما لو أمره بدفعه إلى وكيله، فدفعه. قال أبو العباس: ولو قال: أسلف لي مائة درهم في طعام، وانقد المائة من عندك لتكون لك علي قرضا، ففعل ذلك.. جاز؛ لأنه يجوز للإنسان أن يبتاع شيئا لغيره بمال نفسه بعوض يستحقه عليه، كما إذا قال لغيره: أعتق عبدك عن كفارتي وعلي قيمته، فأعتقه عنه..صح، ولزمته القيمة. قال الشيخ أبو حامد: وهاتان المسألتان سهو من أبي العباس، ومذهب الشافعي:

فرع: اشترى بدينار شاتين قيمة إحداهما دينار

(أنه لا يجوز أن يشتري لغيره شيئا بماله) ، وإنما فرعه على مذهب أبي حنيفة، وتأويل المسألة الأولى: أن يقول: أسلف لي مائة درهم في كر من طعام ـ ولا يعينه بالدين ـ ثم يأذن له أن يسلم الدين الذي عليه عنها، فيبرأ. وتأويل الثانية: أن يقول: أسلف لي مائة درهم في ذمتي في كر من طعام، فإذا فعل.. قال: اقض عني المائة لأدفع إليك عوضها. قال ابن الصباغ: وعندي: أن الذي أراد أبو العباس: أن يسلم هكذا، ولا يحتاج إلى ما شرط من تأخير الإذن، ويجوز له أن يدفع الثمن من عنده، أو يدفع الدين الذي عليه؛ لأن التصرف من الوكيل يجوز تعليقه بالشرط، قال: وكذلك إذا قال: اشتر به عبدا، سواء عينه، أو لم يعينه، وبه قال أبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة: (إن عين العبد.. جاز، وإن لم يعينه.. لم يجز) . دليلنا: أنه دفع بإذنه، فأشبه إذا عين. [فرع: اشترى بدينار شاتين قيمة إحداهما دينار] ] : وإن دفع إلى رجل دينارا، ووكله أن يشتري له شاة بدينار، فاشترى له شاتين بدينار، فإن كانت كل واحدة لا تساوي دينارا.. لم يصح الشراء في حق الموكل؛ لأنه خالف الإذن النطقي والعرفي؛ لأن من رضي شاة بدينار لا يرضى بما دونها. وإن كانت واحدة منهما تساوي دينارا، فإن اشتراهما في الذمة.. ففيه قولان: أحدهما: أن الملك فيهما للموكل، وهو الصحيح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إلى عروة البارقي دينارا، وأمره أن يشتري له شاة أضحية، فاشترى له شاتين، فلقيه رجل، فاشترى منه شاة بدينار، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشاة ودينار، فقال: "بارك الله لك في صفقة يمينك» فكان لو اشترى ترابا لربح فيه. فأقره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك فدل على

جوازه، ولأنه مأذون فيه من طريق العرف؛ لأن من يرضى بشاة تساوي دينارا بدينار.. يرضى بشاتين تساوي كل واحدة منهما دينارا بدينار. فإذا قلنا بهذا: فباع الوكيل إحداهما.. فهل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لحديث عروة البارقي، ولأنه قد بلغه مقصودة، فصح كما لو اشترى له شاة تساوي دينارا بنصف دينار، فأتاه بشاة ونصف دينار. والثاني: لا يصح؛ لأنه باع مال غيره بغير إذنه، فلم يصح، كما لو اشترى له شاة بدينار، فباعها بدينارين، وحديث عروة يتأول على: أنه كان وكيلا مطلقا. والقول الثاني: إن الملك انتقل إلى الموكل في إحداهما، وإلى الوكيل في الأخرى، ووجهه من حديث عروة البارقي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز بيعه في إحداهما) . فلولا أن عروة قد ملك إحداهما.. لما صح بيعه فيها، إذ لو ملكهما النبي صلى الله عيه وسلم.. لما صح بيع عروة لإحداهما بغير إذنه، ولأن الموكل أذن له في ابتياع شاة، فملكها، ولم يأذن له في ابتياع الأخرى، فلم يملكها. فإذا قلنا بهذا: كان الموكل بالخيار: بين أن يأخذ إحداهما بنصف دينار، ويرجع على الوكيل بنصف دينار، وبين أن يأخذهما جميعا بالدينار؛ لأنه إذا جاز للشفيع أن ينتزع ملك المشتري بالثمن بغير اختياره لاشتراكهما في الملك.. فلأن يجوز للموكل أن ينتزع ملك الوكيل الذي أضاف ابتياعه والعقد فيه إليه أولى وأحرى. وأما إذا كانت إحدى الشاتين تساوي دينارا، والأخرى لا تساوي دينارا.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: لا يصح الشراء في حق الموكل في واحدة منهما؛ لأنه أذن له في شراء شاة تساوي دينارا، فلا يقع له غيرها. والثاني: يصح، وهو الأقيس، ولم يذكر في " المجموع " و" الفروع " غير هذا؛ لأنه قد وجد المأذون فيه، وزيادة. فإن قلنا: إنهما للموكل، فباع الوكيل التي تساوي دينارا.. لم يصح بيعه لها،

مسألة: شراء الوكيل يجعل السلعة للموكل

وجها واحدا؛ لأنه لا يحصل للموكل غرضه، وإن باع التي لا تساوي دينارا.. فهل يصح بيعه؟ على الوجهين الأولين. وإن قلنا: إن للوكيل إحداهما.. كان له التي لا تساوي دينارا بحصتها من الدينار، وللموكل الخيار في أخذها، كما مضى. وإن ابتاع الشاتين التي تساوي كل واحدة دينارا بعين دينار الموكل، فإن قلنا: إن الجميع للموكل.. صح البيع فيهما له، والحكم فيهما ما مضى، وإن قلنا: إن الملك في إحداهما للوكيل.. صح البيع في إحداهما، ويبطل في الأخرى؛ لأنه لا يجوز أن يصح له الابتياع بعين مال غيره. [مسألة: شراء الوكيل يجعل السلعة للموكل] ] : إذا وكل رجلا في شراء سلعة، فاشتراها الوكيل للموكل.. دخلت في ملك الموكل. وقال أبو حنيفة: (تدخل في ملك الوكيل أولا، ثم تنتقل منه إلى الموكل) . دليلنا: أنه قبل العقد لغيره، فإذا صح قبوله له.. لم يملكه الوكيل، كما لو قبل له النكاح، وقد وافقنا على النكاح، ولأنه لو وكله في بيع السلعة، فباعها.. لم يملكها الوكيل، وكذلك إذا وكله في شرائها.. لا يملكها الوكيل أيضا. [فرع: وكله في شراء جارية معينة فخالفه] ] : وإن وكله أن يشتري له جارية معينة، فاشترى له غيرها، أو أذن له أن يشتريها بثمن مقدر، فاشتراها بأكثر منه، أو بغير جنسه.. فإن الشراء لا يصح في حق الموكل؛ لأنه يخالف الإذن النطقي والعرفي، وهل يصح الشراء للوكيل؟ ينظر فيه: فإن اشترى بعين مال الموكل، فإن ذكر: أنه يشتري لموكله في العقد، أو لم يذكر الموكل، ولكن صدقه البائع أن المال للموكل، أو قامت البينة على ذلك.. لم يصح

مسألة: إشهاد الوكيل على الإقباض

الشراء في حق الوكيل؛ لأنه لا يجوز أن يبتاع لنفسه بعين مال غيره، وإن لم يذكر الوكيل الموكل في العقد، فادعى البائع أن الوكيل اشترى لنفسه بمال نفسه.. فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن الظاهر مما في يد الإنسان أنه يملكه، ويحكم بصحة الشراء للوكيل، ويغرم الوكيل للموكل ما دفع من عين ماله؛ لأنه ضمنه بذلك. وإن كان قد اشترى بثمن في الذمة، فإن لم يذكر الموكل في الشراء.. انعقد الشراء للوكيل؛ لأنه اشترى لغيره ما لم يؤذن له فيه، فانعقد له كما لو لم يوكله، وإن ذكر في العقد: أنه يشتريه للموكل.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح في حق الوكيل؛ لأن البائع أوجبه للموكل، فإذا لم يلزمه.. لم يصح، كما لو وكله أن يتزوج له امرأة، فتزوج له غيرها. والثاني ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أن الشراء يصح للوكيل، وهو الصحيح؛ لأنه اشترى في الذمة لغيره ما لم يأذن له فيه، فانعقد في حق الوكيل، كما لو لم يذكر الموكل، ويخالف النكاح؛ لأن القصد أعيان الزوجين، ولهذا يشترط أن يقبل النكاح باسم الزوج، والقصد بالبيع الثمن، ولهذا يصح أن يقبل الوكيل البيع لموكله وإن لم يسمه. [مسألة: إشهاد الوكيل على الإقباض] وإن وكله في قضاء دين عليه.. لزم الوكيل أن يشهد على القضاء؛ لأنه مأمور بالنصح له فيما وكل فيه، ومن النصح له أن يشهد، فإذا ادعى الوكيل أنه قد قضى الغريم، فإن صدقه الغريم.. فلا كلام، وإن كذبه، ولم تكن هناك بينة حاضرة.. فالقول قول الغريم مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القضاء، ولا يقبل قول الوكيل على الغريم؛ لأن الوكيل ليس بأمين للغريم، فلا يقبل قوله عليه، كالوصي إذا ادعى دفع المال إلى اليتيم، ولأن يد الوكيل كيد الموكل، ولو ادعى الموكل على الغريم أنه قضاه.. لم يقبل قوله عليه، فكذلك الوكيل.

فرع: الإشهاد عند الإيداع

فإذا حلف الغريم.. أخذ حقه من الموكل؛ لأن حقه عليه، وتبقى الخصومة بين الوكيل والموكل، فإن كان الوكيل قد دفع إلى الغريم بغيبة الموكل.. نظرت: فإن دفع من غير إشهاد.. ضمن ما دفع؛ لأنه فرط في ذلك. وإن كان قد أشهد على الدفع شاهدين عدلين، ثم ماتا، أو فسقا، وصدقه الموكل على ذلك.. لم يلزمه الضمان؛ لأنه غير مفرط. وإن أشهد على الدفع شاهدين لا تقبل شهادتهما، فإن كان ما ترد به شهادتهما أمرا ظاهرا، بأن كانا كافرين، أو عبدين، أو فاسقين ظاهري الفسق.. كان كما لو لم يكن أشهد، ويلزمه الضمان، وإن كان فسقهما خفيا لا يعرفه إلا الحاكم مع البحث ... ففيه وجهان، مضى ذكرهما في (الضمان) . وإن أشهد شاهدا واحدا، فإن كان حاضرا.. حلف معه الوكيل. وثبت الدفع. وإن كان غائبا، أو ميتا، أو كان عدلا لكنه فسق.. ففيه وجهان.. ذكرناهما في (الضمان) أيضا. وإن كان الوكيل قد دفع إلى الغريم بحضرة الموكل، ولم يشهد.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه الضمان؛ لأنه دفع؛ دفع دفعا لا يبرئ، فلزمه الضمان، كما لو دفع بغيبة الموكل، ولأن سبب الضمان هو ترك الإشهاد، فلا يسقط حكمه بحضور الموكل، كما لو أتلف مال رجل بحضرته. والثاني: لا يلزم الوكيل الضمان؛ لأن الوكيل إنما يلزمه الإشهاد بغيبة الموكل، فأما إذا حضر: فالاحتياط في الإشهاد إليه، فإذا لم يفعل.. كان هو المفرط، فلا يضمن غيره ماله بتفريط نفسه. [فرع: الإشهاد عند الإيداع] ] : وإن وكله: أن يودع ماله عند غيره.. فهل يجب على الوكيل الإشهاد على الدفع للمودع؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه، كما قلنا في قضاء الدين.

مسألة: إدعاء الوكالة تثبت مع الشاهدين

والثاني: لا يلزمه؛ لأنه لا فائدة في الإشهاد؛ لأن القول قول المودع في التلف والرد. فإن ادعى الوكيل أنه قد دفع الوديعة إلى المودع، فأنكر المودع.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإيداع، ولا يقبل قول الوكيل عليه؛ لأنه لم يأتمنه، فإذا حلف المودع.. انقطعت الخصومة عنه، وتبقى الخصومة بين الموكل والوكيل. فإن كان الوكيل قد أشهد على الإيداع، أو اعترف له الموكل بذلك.. فلا ضمان عليه؛ لأنه غير مفرط، وإن لم يشهد على الإيداع، فإن كان قد دفع الوديعة بغيبة الموكل، فإن قلنا: يلزمه الإشهاد على الدفع.. لزمه الضمان؛ لأنه فرط في ترك الإشهاد، وإن قلنا: لا يلزمه الإشهاد.. فلا ضمان عليه، وإن كان قد دفع الوديعة بحضرة الموكل من غير إشهاد، فإن قلنا: لا يلزمه الإشهاد.. فلا ضمان عليه وإن قلنا: يلزمه الإشهاد فهل يلزمه الضمان هاهنا؟ فيه وجهان، كما قلنا في قضاء الدين. [مسألة: إدعاء الوكالة تثبت مع الشاهدين] ] : إذا كان عند رجل لآخر حق، إما عين في يده، أو دين في ذمته، فجاء رجل إلى من عليه الحق، فقال: قد وكلني فلان بقبض حقه منك، وأقام الوكيل على ذلك شاهدين.. ثبتت وكالته، واستحق المطالبة، فإن قال من عليه الحق: كذب الشاهدان، والوكيل يعلم أنهما شهدا علي بالزور، فإن حلفه: أنه لا يعلم ذلك.. لم يلزمه أن يحلف؛ لأن هذا طعن على البينة العادلة. فإن قال: قد قبض الموكل حقه، أو أبرأني منه.. لم يقبل قوله؛ لأن الأصل عدم ذلك، فإن ادعى أن الوكيل يعلم ذلك وطلب يمينه.. حلف الوكيل: أنه لا يعلم ذلك؛ لأنه يحلف على نفي فعل الغير، فإن قال للوكيل: أخر القبض حتى يحضر الموكل.. لم يلزمه التأخير؛ لأنه قد ثبت له تعجيل القبض، فلا يلزمه تأخيره فإذا قبض الوكيل الحق، ثم حضر الموكل، وطالبه.. كان لمن عليه الحق أن يستحلف الموكل أنه ما قبض الحق، ولا أبرأه منه، فإن حلف.. فلا كلام، وإن أقر بالقبض،

أو نكل وحلف من عليه الحق.. استرجع ما قبضه الوكيل، فإن قال من عليه الحق للموكل: احلف: أن شهودك شهدوا بحق علي.. لم يلزمه أن يحلف؛ لأن في ذلك طعنا على البينة. وإن لم يقم البينة على وكالته.. نظرت فيمن عليه الحق: فإن صدق الوكيل فيما ادعى.. جاز له الدفع إليه، ولا يجب عليه. وقال المزني: يجب عليه الدفع إليه. وقال أبو حنيفة: (إن كان الحق دينا.. وجب عليه دفعه إليه، وإن كان عينا ـ فعنه روايتان، أشهرهما ـ: أنه لا يجب عليه الدفع إليه) . دليلنا: أن إقراره بالوكالة لا يتضمن براءته بدفعه إليه، فلم يلزمه الدفع، كما لو كان الحق عينا، ولأنه دفع لا يبرأ به من عليه الحق إذا أنكر الموكل الوكالة، فلم يلزمه الدفع، كما لو كان عليه دين بشهادة، فطولب به من غير إشهاد. إذا ثبت هذا: فإن دفع من عليه الحق إلى الوكيل، ثم حضر الموكل، فإن صدقه على الوكالة.. فقد برئ الدافع، وصح القبض، وإن أنكر الوكالة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الوكالة، فإذا حلف.. نظرت: فإن كان الحق عينا، فإن كانت قائمة.. كان له أن يطالب بها من شاء من الدافع والقابض؛ لأن الدافع دفع ما لم يكن له دفعه، والقابض قبض ما ليس له قبضه. فإذا طالب الدافع.. كان للدافع أن يطالب القابض بردها إليه. وإن كانت العين تالفة.. كان له أن يطالب بقيمتها من شاء منهما، كما لو كانت قائمة، فإذا رجع على أحدهما بقيمتهما.. لم يكن للمرجوع عليه أن يرجع على الآخر؛ لأن كل واحد منهما يقول ظلمني الموكل برجوعه علي، فلا يكون له الرجوع على غير من ظلمه. قال ابن الصباغ: وإن أتلفها القابض، أو تلفت عنده بتفريط، فرجع الموكل على الدافع.. فينبغي أن يرجع الدافع على القابض؛ لأنه وإن كان يقر أنه قبضه قبضا

صحيحا، وأن الضمان على القابض للموكل دونه.. فإنه يقول: ظلمني بالرجوع علي، ولكن له قيمة العين على القابض، فكان له أخذ حقه الذي ظلمه به من الذي يملكه على الوكيل. فإن كان الحق دينا.. فلمن له الحق أن يرجع بدينه على الدافع، وجها واحدا؛ لأن الحق له ثابت في ذمته، وهل له أن يرجع على القابض؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: له أن يرجع عليه؛ لأنه مقر بأنه قد قبض الحق له. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: ليس له الرجوع عليه، وهو الصحيح؛ لأن حق صاحب الدين في ذمة من عليه الدين لم يتعين في المقبوض. فإن قلنا بقول أبي إسحاق، وقبض من له الدين الحق من الوكيل.. برئ الدافع والوكيل. وإن قلنا: لا يجوز له الرجوع عليه، أو قلنا: يجوز، واختار الرجوع على من عليه الحق، فإن كان المال باقيا في يد الوكيل.. فلمن عليه الدين أن يرجع به على الوكيل؛ لأن من عليه الدين يقول: قد ظلمني برجوعه علي، ولكن هذا المال له، فلي أخذه بما ظلمني. وإن كان المال قد تلف في يد الوكيل بغير تفريط.. لم يرجع الدافع على الوكيل لأنه مقر بأنه أمين تلف المال في يده بغير تفريط وإن أتلفه الوكيل، أو فرط في تلفه.. قال ابن الصباغ: فللدافع أن يرجع عليه؛ لأنه ظلمه بالخروج. وهو يستحق في ذمة الوكيل قدر ما أتلفه، فكان له أخذه بدلا عما ظلمه به. وإن لم يصدق من عليه الدين الوكيل في الوكالة.. فالقول قوله من غير يمين. وقال أبو حنيفة، والمزني: (يجب عليه أن يحلف) . وقد مضى الدليل عليهما. قال ابن الصباغ: الذي يجيء على أصلنا: أنه لا تسمع دعوى الوكيل على من عليه الدين؛ لأن الوكيل في الخصومة لا يصح أن يدعي قبل ثبوت وكالته.

فرع: ثبوت دعوى الوكالة بشاهدين

[فرع: ثبوت دعوى الوكالة بشاهدين] ] : إذا ادعى الوكالة، وأقام شاهدين ذكرين.. ثبتت وكالته، وإن أقام شاهدا وامرأتين، أو شاهدا وأراد أن يحلف معه، أو أربع نسوة.. لم تثبت وكالته بذلك؛ لأن ذلك ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ومما يطلع عليه الرجال، فإن شهد له رجل: أنه وكله، وشهد الآخر: أنه وكله، ثم عزله.. لم تثبت وكالته؛ لأنه لم يبق معه إلا شاهدا؛ لأن الآخر لم يثبت وكالته في الحال. وإن شهدا له بالوكالة، فحكم الحاكم بوكالته، ثم قال أحدهما: قد عزله، أو كان قد عزله.. لم يحكم ببطلان الوكالة؛ لأنه إن كان ذلك رجوعا عن الشهادة.. لم يقبل؛ لأن الرجوع عن الشهادة بعد الحكم لا يقبل، وإن كان ذلك ابتداء شهادة بالعزل بعد الوكالة.. لم يقبل؛ لأن العزل لا يثبت بشهادة واحد، وإن قالا: عزله بعد الحكم، فإن كان ذلك رجوعا.. لم يقبلا، وإن كان ابتداء شهادة بالعزل.. قبلت شهادتهما؛ لأن العزل يثبت بشاهدين. وإن شهدا له بالوكالة، ثم قال أحدهما ـ قبل الحكم بثبوت الوكالة ـ: قد عزله، أو كان قد عزله.. ففيه وجهان: أحدهما: يحكم بثبوت الوكالة؛ لأن هذا ليس برجوع، وإنما هو إثبات للعزل، والعزل لا يثبت بواحد. والثاني: لا يحكم بها، وهو الصحيح؛ لأنه لم يقم على شهادته إلى أن يقضي الحاكم بصحة الوكالة، فهو كما لو ذكر العزل مضافا إلى الشهادة. وإن شهد أحدهما: أنه وكله يوم الخميس، وشهد الآخر: أنه يوم الجمعة، أو شهد أحدهما: أنه وكله بالعربية، وشهد الآخر أنه وكله بالفارسية.. لم تثبت الوكالة؛ لأنها شهادة على فعلين.. وإن شهد أحدهما: أنه أقر يوم الخميس أنه وكله، وشهد الآخر: أنه أقر يوم الجمعة أنه وكله، أو شهد أحدهما: أنه أقر بالعربية أنه وكله، وشهد الآخر على إقراره بالفارسية أنه وكله ثبتت الوكالة؛ لأن الإقرارين إخباران عن عقد واحد.

فرع: ادعى الوكالة وشهد له بها

وإن شهد أحدهما: أنه قال: وكلتك، وشهد الآخر: أنه قال: أذنت لك في التصرف، أو شهد أحدهما: أنه قال له جعلتك وكيلا، وشهد الآخر: أنه قال: جعلتك جريا، أو شهد أحدهما: أنه جعله وكيله، وشهد الآخر: أنه جعله وصيه، أو شهد أحدهما: أنه قال: وكلتك، وشهد الآخر: أنه قال: أوصيت إليك في حال الحياة.. لم تثبت الوكالة في هذه المسائل كلها؛ لأنهما شهادتان على فعلين. وإن شهد أحدهما.. أنه وكله، وشهد الآخر: أنه أذن له في التصرف، أو شهد أحدهما: أنه جعله وكيلا، وشهد الآخر: أنه جعله متصرفا.. ثبتت الوكالة؛ لأنهما لم يحكيا لفظ الموكل، وإنما عبرا عن التوكيل بلفظهما، واختلاف لفظهما لا يؤثر إذا اتفق معناه، وهكذا لو شهد أحدهما: أنه أقر عنده أنه وكله، وشهد الآخر: أنه أقر عنده أنه وكله، أو شهد أحدهما: أنه أقر عنده أنه وكله، وشهد الآخر: أنه أقر عنده أنه أوصى إليه في حال الحياة.. ثبتت الوكالة؛ لأنهما إخباران عن عقد. [فرع: ادعى الوكالة وشهد له بها] ] : وإن ادعى الوكالة وشهد له بها شاهدان، أحدهما ابن الآخر.. قبلت شهادتهما؛ لأن القرابة تمنع إذا كانت بين الشاهد والمشهود له، فأما إذا كانت بين الشاهدين.. فلا تؤثر. وإن شهد بالوكالة ابنا الوكيل، أو أبواه، أو أبوه وابنه.. لم يحكم بشهادتهما؛ لأنهما يثبتان له التصرف، فلم يقبلا، كما لو شهدا له بمال، وإن شهد له بالوكالة أبو الموكل، أو ابناه.. فذكر الشيخ أبو حامد: أنهما لا يقبلان؛ لأنهما يثبتان بذلك التصرف عن الموكل، فهي شهادة له.

فرع: شهادة الابنين بعزل وكيل الأب

قال ابن الصباغ: وفيه نظر؛ لأن هذه الوكالة ثبتت بقول الموكل، ويستحق الوكيل بذلك المطالبة بالحق، وما يثبت بقوله.. يثبت بشهادة قرابته عليه، كالإقرار، فأما إذا ادعى الوكالة، فأنكر الموكل، فشهد عليه ابناه، أو أبواه.. ثبتت الوكالة، وأمضى تصرفه؛ لأن ذلك شهادة عليه، وهكذا: إذا أنكر من عليه الحق وكالة الوكيل، فشهد بها ابنا من عليه الحق، أو أبواه.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما يشهدان عليه. [فرع: شهادة الابنين بعزل وكيل الأب] وإذا ثبتت وكالة رجل بالبينة بقبض حق عليه غيره، ثم جاء ابنا الموكل، فشهدا: أن أباهما قد عزل الوكيل، فإن صدقهما الوكيل.. انعزل، ولم ينفذ تصرفه؛ لأنه اعترف بعزل نفسه، وإن كذبهما.. قيل لمن عليه الحق: أتدعي العزل؟ فإن قال: نعم.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على أبيهما، وإن لم يدع العزل..لم تبطل الوكالة. وكان له قبض الحق، فإن حضر الموكل، وادعى العزل، وشهد له ابناه.. لم يحكم بشهادتهما؛ لأنهما يشهدان لأبيهما. [فرع: رفع دعوى على وكيل حاضر والأصيل غائب] وإن ادعى على رجل غائب مالا في يد وكيل له حاضر، وأقام عليه البينة، وحلفه الحاكم، ثم حضر الغائب، وأنكر الوكالة، وادعى العزل قبل الدعوى، وأقام على ذلك بينة.. لم يؤثر ذلك في الحكم؛ لأن الحكم على الغائب لا يفتقر عندنا إلى حضور الوكيل. وإن حضر رجل عند الحاكم، فوكل عنده رجلا في خصوماته، فإن كان الموكل حاضرا.. لم يفتقر إلى معرفة اسمه ونسبه، وإن غاب الموكل، فإن كان الحاكم يعرف الموكل باسمه ونسبه.. صح للوكيل أن يخاصم، وإن كان لا يعرف اسمه ونسبه.. لم

فرع: شهادة رجلين أن فلانا وكيل لغائب

تصح خصومة الوكيل، إلا أن يقر الخصم أن الذي وكله هو فلان بن فلان؛ لأن الحق عليه. [فرع: شهادة رجلين أن فلانا وكيل لغائب] ] : إذا شهد رجلان: بأن فلانا الغائب وكل عمرا في كذا، فإن قال عمرو: صدقا.. ثبتت وكالته، وإن قال عمرو: أنا لا أعلم أنه وكلني، ولكن أنا أطالب بالحق.. صحت وكالته؛ لأن وكالته ثبتت بالبينة، وقوله: (لا أعلم) أي: أني ما سمعت، وقوله: (أنا أطالب) قبول للوكالة، وإن قال: لا أدري أنه وكلني، أو لا أعلم وسكت.. قال أبو العباس: قيل له: قد شهد لك بالوكالة اثنان، أتصدقهما، أم تكذبهما؟ فإن صدقهما.. ثبتت وكالته، وإن كذبهما.. لم تثبت وكالته. وإن شهد رجل: أن زيدا وكل عمرا ببيع هذا العبد، وشهد آخر: أنه وكله وخالدا ببيعه.. لم تثبت وكالة واحد منهما؛ لأن أحدهما شهد لعمرو بالتصرف منفردا، وشهد له الآخر بالتصرف مع غيره، فلا يتصرف بنفسه؛ لما ذكرناه، ولا يتصرف مع خالد؛ لأنه لم يشهد لهما غير واحد. وإن شهد له شاهد: أنه وكله في بيع هذا العبد، وشهد الآخر: أنه وكله في بيع هذا العبد وهذه الجارية.. ثبتت وكالته في العبد؛ لأنهما اتفقا عليها، ولا تثبت في الجارية؛ لأنه لم يشهد بها غير واحد. وإن شهد أحدهما: أنه وكله في بيع عبده، وأطلق، وشهد الآخر: أنه وكله في بيعه، وقال: لا تبعه حتى تستأمرني.. لم تثبت وكالته في بيعه؛ لأنها شهادة مختلفة. [فرع: ادعاء رجل على مدين موت صاحب الحق وأنه وارثه] ] : إذا كان على رجل دين لآخر، أو عين في يده، فجاء آخر، وقال: قد مات صاحب الحق، وأنا وارثه، لا وارث له غيري، فإن صدقه من عليه الحق.. لزمه الدفع إليه؛ لأنه اعترف له بملك الحق، وإن كذبه، وأقام المدعي بينة.. حكم له بذلك، وإن لم يقم بينة.. فالقول قول من عليه الحق مع يمينه؛ لأن الأصل

مسألة: فسخ الوكالة

بقاء من له الحق، فيحلف: أنه لا يعلم أن صاحب الحق قد مات، أو لا يعلم أنه لا وارث له سواه؛ لأنه يمين على نفي فعل غيره. وإن جاء إلى من عليه الحق والدين لغيره، وقال قد أحالني صاحب الحق عليك، فإن صدقه من عليه الدين.. فهل يلزمه الدفع إليه؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه؛ لأنه قد اعترف له بملك الدين، فصار كما لو اعترف أن صاحب الحق مات، وأن هذا وارثه. والثاني: لا يلزمه؛ لأنه وإن صدقه.. فإن هذا الدفع لا يبرأ به؛ لأنه ربما أنكر من له الحق الحوالة وحلف، فصار كما لو صدقه أنه وكيله في القبض. وإن كذبه من عليه الحق، فإن أقام المحتال بينة.. حكم له بالحق، ولزم المحال عليه الدفع إذا قلنا: إن رضا المحال عليه ليس بشرط، وإن لم تكن بينة.. فهل تلزمه اليمين؟ إن قلنا: لو صدقه لزمه الدفع إليه.. لزمه أن يحلف؛ لجواز أن يخاف اليمين، فيصدقه. وإن قلنا: لا يلزمه الدفع، وإن صدقه.. لا تلزمه اليمين؛ لأنه لو صدقه.. لم يلزمه الدفع، فلا فائدة في اليمين. [مسألة: فسخ الوكالة] وإذا وكل غيره في تصرف.. كان لكل واحد منهما أن يفسخ الوكالة؛ لأنه إذن في التصرف، فجاز لكل واحد منهما إبطاله، كالإذن في أكل طعامه. إذا ثبت هذا: فالعقود على أربعة أضرب: [أحدها] : ضرب لازم من الطرفين: كالبيع، والصرف: والسلم، والإجارة، والخلع، وفي النكاح وجهان:

أشهرهما: أنه لازم من الطرفين. والثاني: أنه لازم من جهة الزوجة، جائز من جهة الزوج؛ لأنه يملك رفعه. والأول أصح؛ لأنه لا يملك فسحة، وإنما يملك قطعه وإزالة ملكه عنه، كما يملك الرجل عتق عبده. والضرب الثاني: جائز من الطرفين، وهو الوكالة، والشركة، والقراض، والرهن قبل القبض، والجعالة، فلكل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ. والضرب الثالث: لازم من أحد الطرفين جائز من الآخر، وهو الكتابة، والرهن بعد القبض. والضرب الرابع: اختلف قول الشافعي فيه، وهو السبق، والرمي، على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. إذا ثبت هذا: فالفسخ أن يقول أحدهما: فسخت الوكالة، أو أبطلتها، أو نفضتها: أو يقول الموكل: عزلتك، أو صرفتك عنها، أو أزلتك عنها، أو يقول الوكيل: عزلت نفسي أو صرفتها عني، أو أزلتها. وإذا عزل الوكيل نفسه عن الوكالة.. انعزل، سواء كان بحضور الموكل وعلمه، أو بغير حضوره وعلمه. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز للوكيل أن يعزل نفسه إلا بحضور الموكل وعلمه، فأما بغير حضوره وعلمه.. فلا يجوز) . دليلنا: أنه قطع عقد لا يفتقر إلى رضا الغير، فلم يفتقر إلى حضور ذلك الغير، كالطلاق، ولأن الوكالة عقد جائز، فجاز لأحدهما فسخها بغير حضور الآخر، كالشركة، والقراض. وأما الموكل إذا عزل الوكيل عن الوكالة، فإن عزله بحضرته أو بغيبته إلا أنه علم بالعزل قبل التصرف.. انعزل، ولم يصح تصرفه، وإن عزله ولم يعلم بعزله، فتصرف.. فهل ينعزل؟ فيه قولان، ومن أصحابنا من يقول: هما وجهان:

فرع: انفساخ الوكالة بموت أحد طرفيها

أحدهما: لا ينعزل، ويصح تصرفه، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن تصرف الوكيل عن إذن، فلم ينقطع لمجرد المنع من غير علم بالمنع، كما إذا أمر الله تعالى بفعل شيء، ثم نهى عنه. والثاني: ينعزل، فلا يصح تصرفه، وهو الصحيح؛ لأنه قطع عقد لا يفتقر إلى رضا الغائب، فلم يفتقر إلى علمه، كالطلاق، ولأن العزل معنى يفسخ الوكالة إذا علمه الوكيل، فوجب أن يفسخه وإن لم يعلمه الوكيل، كجنون الموكل. [فرع: انفساخ الوكالة بموت أحد طرفيها] ] وإن وكله في تصرف، ثم ماتا أو أحدهما قبل التصرف، أو جنا أو أحدهما، أو أغمي عليهما أو على أحدهما. بطلت الوكالة؛ لأنه قد خرج عن أن يكون من أهل التصرف، فبطلت الوكالة بذلك. وإن حجر عليهما، أو على أحدهما للسفه. بطلت الوكالة فيما لا يصح تصرفه فيه مع السفه، كالبيع، والهبة، وغيرهما، ولا تبطل الوكالة فيما يملكه مع السفه، كالطلاق، والخلع، وطلب القصاص. وإن كان الحجر للفلس. بطل توكيله في بيع أعيان ماله؛ لبطلان تصرفه فيه، وفي هبتها، ولم يبطل في التصرف في ذمته، ولا في الطلاق، والخلع، وطلب القصاص. وإن فسقا أو أحدهما، فإن كان تصرفا يشترط فيه العدالة.. بطل، وإن كان لا يشترط فيه العدالة.. لم يبطل. [فرع: تعذر التصرف يبطل الوكالة] ] وإن وكله في بيع عبد، ثم باعه الموكل، أو أعتقه، أو وكله في نقل زوجته فطلقها.. بطلت الوكالة لتعذر التصرف.

فرع: الردة لا تؤثر في الوكالة

[فرع: الردة لا تؤثر في الوكالة] ] وإن وكل مسلم مسلما، ثم ارتد الوكيل.. لم تبطل وكالته، وكذلك إذا وكل المسلم مرتدا.. صحت وكالته، قولا واحدا؛ لأن ردته لا تؤثر في تصرفه، وإنما تؤثر في ماله. فأما إذا ارتد الموكل: فهل يبطل توكليه؟ فيه ثلاثة أقوال، بناء على زوال ملكه بالردة. أحدها: يزول ملكه، فتبطل وكالته. والثاني: لا يزول ملكه، فلا تبطل وكالته. والثالث: أن ملكه موقوف؛ فإن رجع إلى الإسلام.. لم يزل ملكه، فلا تبطل وكالته، وإن مات على الردة، أو قتل عليها.. زال ملكه بالردة، فبطلت وكالته، وهكذا إذا وكل المرتد مسلما.. فهل تصح وكالته؟ على هذه الأقوال الثلاثة. [فرع: الطلاق لا يبطل وكالة الزوجين لأحدهما] ] وإذا وكل أحد الزوجين الآخر في البيع والشراء وما أشبههما ... صح؛ لأنها نيابة، فصحت بين الزوجين، كالأجنبيين، فإن طلق الزوج زوجته.. لم تبطل الوكالة؛ لأن زوال النكاح لا يمنع ابتداء الوكالة، فلم يمنع استدامتها. فإن وكل السيد عبده بتصرف، ثم أعتقه، أو باعه..ففيه وجهان لأبي العباس: أحدهما: لا ينعزل؛ كما لو وكل زوجته، ثم طلقها. الثاني: ينعزل، لأن ذلك ليس بتوكيل في الحقيقة، وإنما هو استخدام بحق الملك، فإذا زال الملك.. بطل الاستخدام، وإن أمر السيد عبده أن يتوكل لغيره، فتوكل له ثم أعتقه السيد، أو باعه.. فهل تبطل وكالته؟ من أصحابنا من قال: فيه وجهان، كالأولى.

مسألة: ضمان الوكلاء ونحوهم

ومنهم من قال: لا تبطل وجها واحدا؛ لأنه وإن كان من جهة السيد أمر، فهي وكالة في الحقيقة من جهة الموكل. وإن قال السيد لعبده: إن شئت فتوكل له، وإن شئت فلا تتوكل له، فتوكل له، ثم أعتقه السيد، أو باعه.. لم تبطل الوكالة، وجها واحدا؛ لأن السيد لم يأمره، وإنما خيره، فصار ذلك وكالة في الحقيقة. [مسألة: ضمان الوكلاء ونحوهم] ] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا ضمان على الوكلاء، ولا على الأوصياء، ولا على المودعين، ولا المقارضين، إلا أن يتعدوا، فيضمنوا) . وجملة ذلك: أن الأيدي ثلاث: يد أمانة، ويد ضامنة، ويد اختلف قول الشافعي فيها. فأما (يد الأمانة) : فهي يد الحاكم، وأمين الحاكم، والوصي، والمرتهن، والوكيل، والمودع، والمقارض، والشريك، والمساقي، والمستأجر؛ لأنهم يمسكون العين لمنفعة مالكها، وبالناس إلى ذلك حاجة، فلو قلنا: إن عليهم الضمان.. لامتنع الناس من قبول ذلك. وأما (اليد الضامنة) : فيد المستعير، والغاصب، والمساوم، ومن أخذ الشيء ببيع فاسد. وأما (اليد التي اختلف قول الشافعي فيها) : فيد الأجير المشترك، ويأتي بيان ذلك في (الإجارة) . إذا ثبت هذا: فإن دفع إليه سلعة، ووكله في بيعها، وقبض ثمنها، فتلفت العين في يده، أو قبض ثمنها، فتلف في يده من غير تفريط.. لم يجب عليه الضمان؛ لأن يد الوكيل كيد الموكل، فكان الهالك في يده كالهالك في يد موكله.

فرع: تأخر الوكيل برد ما وكل به

[فرع: تأخر الوكيل برد ما وكل به] ] إذا طالب الموكل برد ما بيده.. وجب عليه رده عليه على حسب إمكانه، فإن أخر الرد.. نظرت: فإن كان لعذر.. لم يصر بذلك ضامنا.. قال أبو إسحاق: والعذر: مثل أن يكون قد خرج ليصلي صلاة الجماعة، فأخر ليفرغ من الصلاة، أو كان يبيع ويشتري في السوق، فقال حتى أرجع إلى البيت، أو كان مريضا، فقال: لا أحب أن يتولى إخراجها غيري، لأني قد أحرزتها، أو كان محبوسا، فقال: حتى أخلى أو كان في الحمام، أو يأكل الخبز، فقال حتى أفرغ، أو كان في وقت نومه، أو كان يحفظ مالا لا يخشى ضياعه، أو ملازما لغريم له، لأنه غير مفرط بذلك. قال: وكذلك إذا طالبه به، فقال: هو في الصندوق، وقد ضاع المفتاح.. فإنه لا يجبر على كسر القفل، بل يؤخر حتى يجد المفتاح، أو يصلح غيره؛ لأنه غير مفرط. وإن أخر الرد لغير عذر، أو أخره لعذر ولكن زال العذر ولم يشتغل بالرد.. ضمن؛ لأنه مفرط بذلك، وإذا طالبه بالرد، فمنعه من غير عذر.. ضمنها، سواء تلف قبل أن يمضي زمان إمكان الرد، أو لم يمض؛ لأنه صار ضامنا بالمنع من غير عذر فإن ادعى الوكيل أنه قد كان تلف قبل المطالبة برده، أو قال: كنت رددته.. لم يقبل قوله؛ لأنه صار مكذبا لنفسه ضامنا في الظاهر، فإن أقام على ذلك بينه.. فهل تسمع؟ فيه وجهان: أحدهما: تسمع، كما لو صدقه الموكل على ذلك. والثاني: لا تسمع، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه قوله يكذب بينته، ويخالف إذا صدقه الموكل؛ لأنه يقر ببراءته، فلم يستحق مطالبته. وأما إذا طالبه برده، فأمتنع الوكيل من رده، وعنده أن الشيء باق، ثم بان أنه كان تالفا.. فهل يلزمه الضمان؟ فيه وجهان:

فرع: استخدام الوكيل ما وكل به

أحدهما: يلزمه الضمان؛ لأنه لما منعه.. تبينا أنه كان ممسكا له على نفسه. والثاني: لا ضمان عليه؛ وهو الأصح؛ لأن التعدي وجد بعد التلف. [فرع: استخدام الوكيل ما وكل به] ] : وإذا دفع إليه ثوبا ليبيعه، فلبسه الوكيل، أو دفع إليه دابة ليبيعها، فركبها. صار ضامنا بذلك، وهل تبطل وكالته؟ فيه وجهان: أحدهما: تبطل وكالته، فلا يصح بيعه؛ لأنه عقد أمانة، فبطل بالخيانة كالوديعة. والثاني: لا تبطل وكالته، فيصح بيعه؛ لأن الوكالة تضمنت الأمانة والتصرف، فإذا بطلت الأمانة بالخيانة.. بقي التصرف، كالرهن يقتضي الوثيقة والأمانة، فإذا تعدى في الرهن. بطلت الأمانة، وبقيت الوثيقة، وتخالف الوديعة، فإنها مجرد أمانة لا غير. فإذا قلنا بهذا، وباع الوكيل.. فمتى يبرأ من الضمان؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما - ويقول عامة أصحابنا -: أنه لا يبرأ إلا بتسليم المبيع إلى المشتري.. لأنه لو تلف في يده قبل التسليم إلى المشتري، لانفسخ البيع وعاد إلى ملك الموكل، فكان مضمونا عليه. والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب -: أن بنفس البيع يزول عنه الضمان؛ لأنه صار ملكا للمشتري، فإذا قبض الثمن.. صار أمانة في يده؛ لأنه قبضه بإذن الموكل. ولم يوجد منه التعدي فيه. فإن وجد المشتري بالبيع عيبا، فرده على الوكيل.. قال ابن الصباغ: فعندي أنه يعود مضمونا عليه؛ لأن المشتري ما قبضه للموكل، وإنما قبضه لنفسه، فزال الضمان بذلك، فإذا فسخ العقد.. انفسخ القبض، وعاد الضمان كما كان.

فرع: ضمان الوكيل بالتعدي

[فرع: ضمان الوكيل بالتعدي] ] فإن دفع إليه دراهم، ووكله ليشتري له بعينها سلعة، فتعدى الوكيل فيها.. صار ضامنا لها، فإن اشتراها بها بعد ذلك للموكل.. فهل يصح؟ على الوجهين في المسألة قبلها، فإذا قلنا: يصح.. فمتى يزول عنه ضمانها؟ على الوجهين. وإن أمره يشتري بثمن في الذمة وينقد الثمن منها، فتعدي الوكيل فيها بأن ترك حفظها، ثم اشترى بعد ذلك في الذمة للموكل.. صح الشراء له، وجها واحدا؛ لأنه لم يتعد فيما تناوله العقد، فإذا نقد الدراهم.. برئ من ضمانها. وإن استقرض الوكيل الدراهم، وأتلفها.. بطلت وكالته، وجها واحدا؛ لأنه إن كان قد أمره أن يشتري بعينه.. فقد تعذر ذلك بتلفها، فجرى مجرى من وكل في بيع عبد فمات، وإن كان أمره أن يشتري في الذمة وينقد الثمن منها.. فإنه إنما أمره بالتصرف في تلك الدراهم، فإذا تلتفت.. لم يملك الشراء. [فرع: تلف الثمن في يد الوكيل من غير تفريط] ] : وإن وكله في بيع سلعة وقبض ثمنها، فباعها، وقبض ثمنها، وتلف في يده من غير تفريط، واستحق المبيع.. رجع المشتري بالعهدة على الموكل دون الوكيل. وقال أبو حنيفة: (يرجع بالعهدة على الوكيل) . دليلنا: أن البيع للموكل، فكانت العهدة عليه، كما لو باع بنفسه، ولأن الوكيل نائب في العقد، فلا يرجع بالعهدة عليه، كالولي، والحاكم، وأمين الحاكم. [مسألة: القول قول الموكل] ] : إذا أدعى رجل على آخر أنه وكله في تصرف، وأنكر الموكل.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الوكالة.

وإن قال: وكلتني أن أبيع لك الجارية، فقال: بل وكلتك أن تبيع لي العبد.. فالقول قول الموكل مع يمينه؛ لأنه لما كان القول قوله في أصل الوكالة.. كان القول قوله في صفتها. وإن وكل رجلا في بيع عين، فباعها الوكيل بثمن إلى أجل، فقال الموكل: إنما أذنت لك في بيعها بثمن حال، أو ببيع مطلق، فإن صدقه الوكيل والمشتري على ذلك.. حكم ببطلان البيع، فإن كانت العين قائمة.. أخذها الموكل، فإن كانت العين في يد المشتري.. كان له أن يطالب بردها من شاء منهما؛ وإن كانت العين قد تلفت في يد المشتري.. رجع الموكل ببدلها على من شاء منهما؛ لأن الوكيل دفع ما لم يكن له دفعه، والمشتري قبض ما لم يكن له قبضه، فإن رجع على الوكيل.. كان للوكيل أن يرجع على المشتري، وإن رجع على المشتري.. لم يرجع المشتري على الوكيل؛ لأن التلف حصل في يد المشتري، فاستقر الضمان عليه. وإن كذباه، وقالا: إنما أذنت ببيعها إلى أجل.. فالقول قول الموكل مع يمينه؛ لأنه لما كان القول قوله في أصل الوكالة.. كان القول قوله في صفتها، فإذا حلف، وكانت السلعة قائمة.. أخذها، وإن تلفت في يد المشتري.. رجع بقيمتها على من شاء منهما، فإن رجع على المشتري.. لم يرجع المشتري على الوكيل؛ لأن التلف حصل بيده. قال ابن الصباغ: إلا أن يكون الوكيل قد قبض منه الثمن، فيرجع به عليه؛ لأنه لم يسلم له المبيع. وإن رجع على الوكيل. قال ابن الصباغ: لم يرجع الوكيل على المشتري في الحال بشيء؛ لأنه يقر: أنه ظلمه بالرجوع عليه، فإذا حصل الأجل.. كان للوكيل أن يرجع عليه بأقل الأمرين من القيمة، أو الثمن المسمى؛ لأن القيمة إن كانت أقل.. فإن الوكيل يقر له بجميع الثمن، ولا يدعي عليه إلا القيمة، وإن كان الثمن أقل.. لم يرجع على المشتري بأكثر منه؛ لأنه يدعي أن الموكل ظلمه بأخذ الزيادة.

فرع: لا يقبل قول الوكيل على الموكل

وإن صدقه أحدهما، وكذبه الآخر، فإن أراد الرجوع على المصدق.. رجع عليه بغير يمين، وإن أراد أن يرجع على المكذب.. لم يرجع عليه حتى يحلف، فيرجع عليه، كما هو الحال في تكذيبهما. [فرع: لا يقبل قول الوكيل على الموكل] ] : وإن اتفقا على الوكالة، واختلفا في التصرف، فادعى الوكيل أنه قد باع العين التي وكل في بيعها، وادعاه المشتري، وقال الموكل: لم تبعها. أو قال الوكيل: قد بعت، وقبضت الثمن، وتلف الثمن في يدي، وادعاه المشتري، وقال الموكل: لم يقبضه.. ففيه قولان: أحدهما: لا يقبل قول الوكيل على موكله، بل القول قول الموكل؛ لأن الوكيل يقر بحق موكله، فلم يقبل، كما لو أقر بدين عليه، أو أبرأه من حق. والثاني: يقبل إقرار الوكيل، وبه قال أبو حنيفة، واختاره القاضي أبو الطيب؛ لأنه يملك البيع والقبض، فقبل إقراره فيه، كما يقبل إقرار أبي البكر بنكاحها، إلا أن أبا حنيفة ناقض في مسألة، وقال: (إذا وكله أن يتزوج له امرأة، فأقر الوكيل: أنه تزوجها له، وادعت المرأة ذلك، وأنكر الموكل. لم يقبل قول الوكيل؛ لأنه يمكنه إقامة البينة على النكاح؛ لأنه لا يعقد حتى يحضر شاهدين) . فإذا قلنا: يقبل قول الوكيل، فأقر بقبض الثمن من المشتري، وأنه تلف في يده، وحلف الوكيل، ثم خرج المبيع مستحقا، فرجع المشتري على الوكيل بالثمن.. قال أبو العباس: لم يكن للوكيل أن يرجع على موكله؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يستحق الرجوع عليه بقوله ويمينه، فهو كما لو باع شيئا، ثم اختلفا في عيبه، فحلف البائع، فلو وجد به عيبا قديما، فرده به.. فليس للبائع أن يطالبه بأرش العيب الذي حلف على حدوثه في يد المشتري، بل يكون القول قول المشتري.

فرع: اختلاف قول الموكل والوكيل

قال ابن الصباغ: وفي رجوع الوكيل على موكله في هذه نظر؛ لأنه يثبت بيمينه قبضه للثمن وتلفه، فأما الرجوع: فإنما يثبت له بسبب آخر، وهو أنه نائب عنه في البيع وهذا كما نقول في النسب: إنه لا يثبت بشهادة النساء، وإذا أثبتن الولادة في الفراش.. ثبت النسب. [فرع: اختلاف قول الموكل والوكيل] ] : وإن وكله أن يشتري له عبدا بثمن معين، أو بثمن في الذمة، فاشتراه، ثم قال الوكيل: اشتريته بألف، وصدقه البائع، وقال الموكل: بل اشتريته بخمسمائة. ولا بينة. قال ابن الصباغ: فهي على القولين. ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي إلا: أن القول قول الموكل. وقال أبو حنيفة: (إن كان الشراء في الذمة.. فالقول قول الموكل، وإن كان الشراء بعين مال الموكل.. فالقول قول الوكيل؛ لأن الثمن إذا كان في الذمة.. كان الموكل غارما، والقول قول الغارم، وإذا كان الثمن معينا.. فإن الغارم هو الوكيل؛ لأنه يريد المطالبة برد ما زاد على خمسمائة) . دليلنا: أنه يملك الشراء، فملك الإقرار بكيفيته، كالأب في تزويج ابنته البكر، وما ذكروه من الفرق.. فغير صحيح؛ لأن في الموضعين الغرم على الموكل. [فرع: ثبوت قول الوكيل مع البينة] ] : إذا وكله أن يشتري له جارية، فاشتراها الوكيل بعشرين، ثم اختلفا، فقال الوكيل: أمرتني أن اشتريها لك بعشرين، وقد اشتريتها لك بذلك. وقال الموكل: بل أمرتك أن تشتريها لي بعشرة، فاشتريتها بعشرين فلا يلزمني الشراء، فإن كان مع الوكيل بينة أنه أذن له بذلك، فأقامها.. حكم له بذلك، ولزم الموكل الثمن، وإن لم يكن مع الوكيل بينة. فالقول قول الموكل مع يمينه: أنه ما أمره أن يشتري له إلا بعشرة؛ لأنهما لو اختلفا في أصل إذنه.. لكان القول قوله، فكذلك إذا اختلفا في صفة إذنه.

فإذا حلف الموكل.. برئ من الابتياع، وتبقى الخصومة بين الوكيل والبائع، فإن كان الوكيل قد اشترى الجارية بعين مال الموكل، وذكر في العقد: أنه يبتاع لموكله بعين ماله.. حكم بفساد البيع؛ لأن الموكل لم يثبت إذنه بذلك، وإن لم يذكر في العقد أنه ابتاع لموكله بعين ماله، إلا أن البائع صدقه على ذلك.. حكم بفساد البيع؛ لما ذكرناه. وإن كذبه البائع، فقال ما اشتريتها لغيرك بعين ماله، وإنما اشتريتها لنفسك بمالك.. حكم للبائع؛ لأن الظاهر أنه اشترى لنفسه، ويحلف البائع: أنه لا يعلم أنه اشتراها لغيره بمال موكله؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره، فإذا حلف.. مضى البيع، وغرم الوكيل لموكله ما دفع من ماله. وإن كان الوكيل قد اشترى الجارية بثمن في الذمة، فإن لم يذكر في العقد: أنه يشتريها للموكل.. لزم الشراء على الوكيل؛ لأنه اشترى لغيره في الذمة ما لم يأذن له فيه، وإن ذكر الوكيل في الشراء: أنه يشتريها لموكله، فإن اعترف البائع أنها للموكل.. كان الشراء باطلا، وإن قال البائع: ذكرت أنك تبتاع للموكل في العقد، ولكن ما ابتعتها إلا لنفسك.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح الشراء للوكيل. والثاني لا يصح وقد مضى ذكرهما. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " وقال المحاملي: إذا اشترى في الذمة، وذكر أنه يشتريها للموكل: فعلى الوجهين، سواء صدقه البائع على ذلك أو كذبه. فكل موضع قلنا: البيع باطل.. فلا تفريع عليه، وكل موضع قلنا: البيع فيه صحيح.. فإن الجارية تكون ملكا للوكيل، وهل يملكها ظاهرا وباطنا، أو في الظاهر دون الباطن؟ ينظر فيه: فإن كان الوكيل كاذبا في إذن الموكل له في ابتياعها بعشرين.. فإنه يملكها ظاهرا وباطنا؛ لأن البيع وقع له.

وإن كان الوكيل صادقا في أن الموكل أذن له في ابتياعها بعشرين.. فإن الوكيل يملكها في الظاهر، وفي الباطن هي ملك للموكل، فلا يحل له وطؤها؛ لأنها ملك غيره. قال المزني، والشافعي: (يستحب في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالموكل، ويقول له: إن كنت أمرته أن يشتريها بعشرين.. فبعه إياها بعشرين، فإذا قبل الوكيل.. حل له وطؤها) . فإن قال الموكل للوكيل: بعتك هذه الجارية بعشرين، أو وليتكها بعشرين، فقال الوكيل: قبلت.. ملكها ظاهرا وباطنا، وإن قال الموكل: إن كنت أمرتك أن تشتريها بعشرين.. فقد بعتكها بعشرين وأو وليتكها بعشرين، فقال الوكيل: قبلت.. فهل يملكها في الباطن؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يملكها بذلك في الباطن؛ لأنه بيع معلق على شرط، فلم يصح، كما قال: إذا جاء رأس الشهر.. فقد بعتكها بعشرين. قال: والمزني إنما حكى كلام الحاكم لا كلام الموكل. و [الثاني] : منهم من قال: يصح ويملكها في الباطن بذلك؛ لأنه شرط يقتضيه الإيجاب؛ لأنه لا يصح أن يبيعه إلا إن كان قد أذن له، وكل أمر يعلمان وقوعه.. فلا يضر شرطه، كما لو اتفقا أن هذا الشيء ملكه، فقال: إن كان هذا ملكي.. فقد بعتكه، فيصح. قال ابن الصباغ: وعندي أن الموكل لا يقال له: قل: قد بعتكها مطلقا؛ لأنه يؤدي إلى تكذيب قوله، والإقرار منه بالملك، فإن لم يفعل الموكل ذلك.. لم يجبر على ذلك؛ لأنه قد ثبتت بيمينه براءته. فعلى هذا: ما يصح أن يصنع الوكيل بالجارية؟ فيه وجهان. أحدهما: يملكها ظاهرا وباطنا؛ لأنا قد حكمنا بفسخ العقد في حكم الموكل،

مسألة: تلف العين بيد الوكيل يثبته البينة أو اليمين

فكانت ملكا للوكيل، كما لو باع رجل جارية من غيره، فأفلس المشتري بالثمن، وحجر عليه، فرجع البائع إلى جاريته. فعلى هذا: يحل له وطؤها، واستخدامها، وبيعها، وهبتها من غيره. والثاني: لا يملكها في الباطن، ويكون كمن له على غيره حق، فامتنع من أدائه، ووجد شيئا من ماله من غير جنس حقه؛ لأن الوكيل يقر: أنه لم يملكها. فعلى هذا: لا يحل له وطؤها، ولا استخدامها، ولا هبتها من غيره، ولكن يباع منها بقدر ما دفع من الثمن، ومن الذي يتولى بيعها؟ فيه وجهان، يأتي ذكرهما إن شاء الله. فإن كان ثمنها قدر حقه.. أخذه، وإن كان أقل.. كان له أن يستوفي الباقي من مال الموكل، وإن كان أكثر من حقه. أخذ قدر حقه، وأمسك الباقي للموكل في يده إلى أن يدعيه. [مسألة: تلف العين بيد الوكيل يثبته البينة أو اليمين] وإن ادعى الوكيل أن العين التي في يده لموكله تلفت من غير تفريط، وأنكر الموكل تلفها، فإن ادعى تلفها بسبب ظاهر.. لم يقبل قوله حتى يقيم البينة على السبب الظاهر؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليه، فإذا أقام البينة على السبب الظاهر، أو ادعى تلفها بسبب خفي.. فالقول قوله مع يمينه: أنها تلفت؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على تلفها. فقبل قوله في ذلك. [فرع: إنكار الموكل رد العين] ] : وإن ادعى الوكيل أنه رد العين إلى موكله، وأنكر ذلك الموكل، فإن كانت الوكالة بغير جعل.. فالقول قول الوكيل مع يمينه؛ لأنه قبض العين لمنفعة مالكها، فقبل قوله في ردها، كالمودع، وإن كانت الوكالة بجعل، بأن يقول: وكلتك ببيع هذه السلعة، ولك الجعل درهم، فإذا باعها.. استحق الدرهم، فإن اختلفا في رد العين، أو رد

مسألة: يطلب الإشهاد

ثمنها إلى الموكل، فادعاه الوكيل، وأنكره الموكل.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يقبل قول الوكيل؛ لأنه قبض العين لمنفعة نفسه، فلم يقبل قوله في ردها، كالمرتهن، والمستعير. الثاني: يقبل قول الوكيل مع يمينه؛ لأنه لا منفعة له في العين، وإنما منفعته بالجعل. [مسألة: يطلب الإشهاد] ] إذا كان لرجل عند رجل حق، فطالبه به، فقال من عليه الحق: لا أسلمه إليك حتى تشهد على نفسك بالقبض.. فهل له ذلك؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال أكثرهم: ينظر في ذلك: فإن كان من عنده الحق يقبل قوله في الرد، كالوكيل بغير جعل، والمودع أو الوكيل بجعل، والمقارض، والأجير المشترك، إذا قلنا: يقبل قولهم في الرد.. لم يكن له أن يمتنع لأجل الإشهاد؛ لأنه لا ضرر عليهم أن لا يشهد صاحب الحق؛ لأن قولهم مقبول في الرد، فإذا امتنعوا من الرد.. ضمنوا. وإن كان من عنده الحق لا يقبل قوله في الرد، كالمرتهن، والمستعير، والغاصب أو الوكيل بجعل، والمقارض، والأجير المشترك، إذا قلنا: لا يقبل قولهم في الرد، فإن كان لا بينة لصاحب الحق عليهم.. لم يكن لهم الامتناع لأجل الإشهاد؛ لأنه يمكنه أن يحلف: أنه لا يستحقه عليه، وإن كان لصاحب الحق به بينة.. كان لهم الامتناع من التسليم إلى أن يشهد صاحب الحق بقبضه؛ لأنه لا يؤمن أن يطالبه بحقه بعد أخذه له، يقيم البينة، ولا يقبل قوله في الرد، فيلزمه غرمه. وقال أبو على بن أبي هريرة: له أن يمتنع من الرد إلى أن يشهد صاحب الحق بقبضه

في جميع هذه المسائل كلها؛ لأن له غرضا في ذلك، وهو سقوط اليمين عنه، وعادة الأمناء التحرز من الأيمان. قال ابن الصباغ: وهذا لا بأس به عندي إذا كان الإشهاد ممكنا لا يؤدي إلى تأخير الحق فأما إذا أدى إلى تأخير الحق لتعذر الإشهاد.. فعلى التفصيل الذي مضى. وبالله التوفيق للصواب

كتاب الوديعة

[كتاب الوديعة]

كتاب الوديعة الوديعة، مشتقة من السكون، فكأنها ساكنة عند المودع، مستقرة، وقيل: إنها مشتقة من الدعة، فكأنها في دعة عند المودع. والأصل في الوديعة: الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] [النساء:58] . وقَوْله تَعَالَى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] . وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] [آل عمران:75] فدل على: أن للأمانة أصلا في الشرع. وأما السنة: فما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» ، أي: لا تقابله بخيانة.

وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا.. كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت عنده ودائع بمكة، فلما أراد أن يهاجر.. تركها عند أم أيمن، وخلف عليا ليردها على أهلها» . وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على جواز الإيداع.

مسألة: أهلية المودع

إذا ثبت هذا: فالناس في قبول الودائع على ثلاثة أضرب: ضرب يعلم من نفسه القدرة على حفظها، ويأمن من نفسه الخيانة فيها، ولا يخاف التلف عليها إن لم يقبلها، فهذا يستحب له قبولها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة:2] . ولا يجب عليه قبولها؛ لأنه لا ضرورة به تدعو إلى ذلك. وضرب يجب عليه قبولها، وهو أن يأتي رجل بمال ليودعه في مكان عند رجل، وليس هناك من يصلح لحفظها إلا هو، وهو يعلم أنه إن لم يقبل ذلك منه.. هلك المال، فيجب عليه القبول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمة مال المؤمن كحرمة دمه» . فلو خاف على دمه، وقدر على الدفع عنه.. لوجب عليه ذلك، وكذلك ماله، فإن لم يقبلها.. أثم؛ لما ذكرناه، ولا يضمن المال إن تلف؛ لأنه لم يوجد منه تعد، فهو كما لو قدر على الدفع عن نفس غيره، ولم يدفع عنه حتى قتل. وضرب يكره له القبول، وهو من يعلم من حال نفسه العجز عن حفظ الوديعة، أو لا يأمن من نفسه الخيانة فيها؛ لأنه يغرر بمال غيره، ويعرض نفسه للضمان، فإن قبلها.. لم يجب عليه الضمان إلا بالتعدي. [مسألة: أهلية المودع] ] : ولا يصح الإيداع إلا من جائز التصرف في المال، فإن أودعه صبي أو سفيه مالا.. لم يجز له قبول ذلك منه؛ لأنه لا يملك حفظ المال بنفسه، فلا يملك أن يملك ذلك غيره، فإن أخذه منه.. ضمنه، ولا يبرأ إلا بتسليمه إلى الناظر في ماله؛ لأن قبضه

مسألة: كفاءة المودع

كان غير جائز، فكان مضمونا عليه، فإن خاف المودع إن لم يقبل ذلك منه تلف، أو أتلفه الصبي، أو السفيه، فأخذه بِنِيَّةِ أن يسلمه إلى الناظر في أملاكه، فتلف في يد القابض قبل رده إلى الولي من غير تفريط.. فهل يجب عليه الضمان؟ فيه وجهان مأخوذان من القولين في المحرم إذا خلص صيدا من سبع، فهلك في يده. [مسألة: كفاءة المودع] ولا يصح الإيداع إلا عند جائز التصرف في المال، فإن أودع صبيا، أو مجنونا.. لم يصح؛ لأنهما ليسا من أهل حفظ الأموال، فإن تلفت الوديعة عندهما من غير تفريط.. لم يجب عليهما الضمان؛ لأنه إذا لم يجب الضمان في هذه الحالة على من صح الإيداع عنده.. فلأن لا يجب على من لم يصح الإيداع عنده أولى. وإن تلفت الوديعة عندهما بتفريط منهما في حفظها، ولم يباشرا إتلافها.. لم يجب عليهما الضمان؛ لأنهما لم يلزمهما حفظها، فيلزمهما الضمان عند التفريط، وإن أتلفاها بأنفسهما.. فهل يجب عليهما الضمان؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليهما الضمان؛ لأن مالكها مكنهما من إتلافها، فهو كما لو باعهما مالا، أو أقرضهما وأقبضهما إياه، فأتلفاه. والثاني: يجب عليهما الضمان؛ لأنه لم يسلطهما على الإتلاف، وإنما أمرهما بالحفظ. [فرع: أودع عند عبد غيره] ] : وإن أودع ماله عند عبد غيره.. قال الشيخ أبو حامد: صح الإيداع؛ لأنه مكلف، فإن فرط في حفظه حتى تلف، أو أتلفه العبد.. وجب عليه الضمان.

مسألة: صيغة عقد الوديعة

فإن قلنا: إن الصبي إذا أتلف ما أودع عنده ضمنه.. كان الضمان هاهنا في رقبة العبد. وإن قلنا هناك: لا ضمان على الصبي.. كان الضمان هاهنا في ذمة العبد إلى أن يعتق. قال الطبري: وإن أودعه العبد شيئا، فقبضه.. فعلى من يرده المودع؟ فيه وجهان، حكاهما سهل: أحدهما: أنه بالخيار: إن شاء.. رده على العبد، وإن شاء.. رده على سيده. والثاني - وهو مذهب أبي حنيفة -: أنه يرده على العبد دون السيد. [مسألة: صيغة عقد الوديعة] ] : ولا تنعقد الوديعة إلا بالإيجاب بالقول، والقبول بالقول أو الفعل، كما قلنا في الوكالة. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 441] : ولا يلزم المودع حفظ الوديعة حتى يقبضها، والوديعة من العقود الجائزة، لكل واحد منهما أن يفسخها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أد الأمانة إلى من ائتمنك» ، ولأن (أد) : ملكها لصاحبها، والمودع متطوع بالحفظ، فكان لكل واحد منهما فسخها متى شاء، فإن مات أحدهما، أو أغمي عليه، أو جن، أو حجر عليه لسفه.. انفسخت الوديعة؛ لأنها عقد جائز، فانفسخت بما ذكرناه، كالوكالة. فإن حدث ذلك بالمالك.. فعلى المودع رد الوديعة إلى الوارث، أو إلى الولي، فإن أمسكها بعد تمكنه من الرد.. ضمنها؛ لأنا قد حكمنا بانفساخ الوديعة، وإن حدث ذلك للمودع.. فعلى وارثه أو وليه رد الوديعة؛ لأن مالكها لم يرض بأمانة غير المودع.

مسألة: يد المودع يد أمانة

[مسألة: يد المودع يد أمانة] ] : والوديعة أمانة في يد المودع، فإن تلفت في يده بغير تفريط منه.. لم يجب عليه الضمان؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على المستودع - غير المغل - ضمان» وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، ولا مخالف لهم من الصحابة، ولأنه لو وجب على المودع الضمان من غير تفريط.. لامتنع الناس من قبولها، فيؤدي ذلك إلى الضرر بالمودعين. فإن شرط المودع الضمان على المودع.. لم يجب عليه الضمان بذلك، وهو قول كافة العلماء، إلا عبيد الله بن الحسن العنبري، فإنه قال: عليه الضمان. وهذا

مسألة: في الحرز

غير صحيح؛ لما ذكرناه من الخبر، فلم يفرق بين أن يشترط الضمان، أو لا يشترط، ولأن ما كان أصله الأمانة.. لم يصر مضمونا بالشرط، كالمضمون لا يصير أمانة بالشرط. وإن أودعه جارية، أو بهيمة، فولدت عنده.. كان الولد أمانة؛ لأنه لم يوجد منه ما يقتضي الضمان، وهل يلزم المودع إعلام المالك بالولد؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه ذلك، كما لو ألقت الريح إلى بيته ثوبا. والثاني: لا يلزمه ذلك، بل له إمساكه؛ لأنه لما أودعه الأم.. كان إيداعا لها ولما يحدث منها. [مسألة: في الحرز] ] : وإذا أودعه وديعة.. فلا يخلو: أما أن يطلق المودع الحرز، أو يعين له الحرز. فإن أطلق المودع الحرز.. فعلى المودع أن يحفظها في حرز مثلها، كداره ودكانه؛ لأن الإطلاق يقتضي حرز المثل، فإن تركها المودع في بيت، ثم نقلها منه إلى ما هو أحرز منه، أو إلى ما هو دونه، إلا أن الجميع حرز مثلها.. فلا ضمان عليه؛ لأنه تركها في حرز مثلها. قال الشيخ أبو حامد: وهكذا: لو تركها المودع في جيبه أو كمه، أو أمسكها معه وهو يتطرق في طرقات البلد.. لم يضمن؛ لأن ذلك حرز لها بكون يده عليها. فإن تركها في حرز دون حرز مثلها.. ضمنها؛ لأن إطلاق الإيداع حرز مثلها، فإذا تركها فيما هو دونه.. صار متعديا، فضمن. وإن عين له المودع الحرز، بأن قال: أودعتك لتحفظها في هذا البيت فإن حفظها المودع في ذلك البيت، ولم ينقلها منه.. فلا كلام، وإن نقلها المودع منه إلى غيره، أو أحرزها في غيره.. نظرت:

فإن لم ينهه المودع عن النقل، فإذا كان البيت الذي أحرزها فيه ابتداء دون البيت المعين في الحرز.. ضمنها المودع وإن كان حرزا لمثلها؛ لأن المودع لم يرض بما دونه، وإن كان مثله، أو أحرز منه.. لم يضمن؛ لأن من رضي حرزا.. رضي بمثله وبأعلى منه. وإن قال: احفظها في هذا البيت ولا تنقلها منه، فنقلها عنه.. نظرت: فإن نقلها إلى ما هو دونه.. ضمنها؛ لأنه لم يرض بدون ذلك البيت. وإن نقلها إلى مثله، أو إلى ما هو أحرز منه، فإن نقلها لغير خوف عليها.. فهل يضمن؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يضمن؛ لأنه نقلها إلى مثل الحرز المعين،، أو إلى ما هو أحرز منه، فهو كما لو لم ينهه عن النقل. و [الثاني] قال أبو إسحاق: يضمن، وهو ظاهر المذهب؛ لأنه قطع اجتهاده بالتعيين، فخالفه بالنقل. وإن خاف عليها التلف في الحرز المعين من نهب، أو غزو، أو حريق.. فقد قال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: جاز له نقلها؛ لأنه موضع عذر، فلا يضمن بالنقل، حتى تلفت.. فهل يجب عليه الضمان؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يضمن؛ لأنه ممتثل لأمره فيما فعل. والثاني: يضمن؛ لأنه غرر بها، حيث ترك نقلها مع الخوف عليها. وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": إذا كان النهي عن النقل مطلقا، وخاف عليها.. لزمه نقلها، وجها واحدا، فإن لم ينقلها حتى تلفت.. لزمه الضمان، وإنما الوجهان إذا قال: لا تنقلها وإن خفت عليها الهلاك.

فرع: مخالفة المودع لمصلحة الوديعة

[فرع: مخالفة المودع لمصلحة الوديعة] وإن أودعه وديعة في صندوق، وقال: لا تقفل عليها، فأقفل عليها، أو لا تقفل عليها قفلين، فاقفل عليها قفلين، أو قال: لا تطرح ثيابك فوق الصندوق، فخالفه في ذلك، أو قال: لا ترقد عليها، فرقد عليها.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو المذهب - أنه لا ضمان عليه؛ لأنه زاده خيرا. والثاني - وهو قول مالك - (أنه يضمن) ؛ لأن ذلك يغري السارق بها. وإن قال: احفظها في هذا البيت، ولا تدخل غيرك إليها، فأدخل جماعة إليها، فإن سرقها واحد من الذين أدخلهم عليها، أو دلوا عليها من سرقها.. وجب على المودع الضمان؛ لأن تلفها حصل بالوجه المنهي عنه، وإن تلفت بسبب من غير الداخلين عليها، بأن انهدم عليها البيت، أو سرقها غيرهم، ولم يدل عليها أحد منهم.. لم يجب على المودع الضمان؛ لأن تلفها لم يحصل من الوجه المنهي عنه. [فرع: مخالفة الحرز المعين إلى غيره] ] : إذا دفع إليه وديعة، وهو في البيت، وقال: أحرزها في هذا البيت، ولا تجمع بها، فربطها في ثوبه، وخرج بها ... ضمن؛ لأنه نقلها عن الحرز المعين إلى ما هو دونه؛ لأن البيت أحرز من حملها في الطرقات بالثوب، وإن شدها على عضده وخرج بها، فإن جعلها مما يلي أضلاعه.. لم يضمنها؛ لأن ذلك أحرز من البيت، وإن جعلها خارج عضده.. ضمنها؛ لأن البيت أحرز من ذلك. وإن دفع إليه وديعة في السوق، وقال: أحرزها في البيت، ولا تربطها في ثيابك.. قال الشافعي: (فإنه لا بد له من ربطها في ثيابه إلى أن يوصلها إلى البيت، فإن حملها في الحال إلى البيت.. لم يضمن، فإن تلفت في الطريق، أو على باب

مسألة: وضع الوديعة في غير حرز

الدار، أو تعوق لتعسر الغلق.. لم يضمن؛ لأنه غير مفرط، وإن توانى في حملها إلى بيته.. ضمن؛ لأنه تعدى بذلك) . قال الشيخ أبو حامد: فإن تركها في دكانه - وهو حرز مثلها - إلى أن يرجع إلى داره بالعشي، أو أكثر.. لم يضمن؛ لأنه مثل البيت في الحرز. [مسألة: وضع الوديعة في غير حرز] ] : وإن أودعه شيئا، فتركه المودع في يده، أو ربطه في كمه، أو تركه في جيبه وكان مزرّرا، أو كان الفتح ضيقا.. لم يضمن؛ لأن ذلك كله حرز لما ترك فيه، وإن وضعه في كمه من غير ربط، فإن كان هذا الشيء خفيفا لا يحس به إذا سقط، كالدرهم، والدينار.. ضمن؛ لأن ذلك ليس بحرز له، وإن كان ثقيلا يحس به إذا سقط، كالثوب، وما أشبهه.. لم يضمن؛ لأن ذلك حرز له. وإن تركه في جيبه والفتح واسع غير مزرر.. ضمنه؛ لأن اليد تناله. [فرع: شرط عليه وضع الوديعة في كمه] ] : وإن دفع إليه وديعة، وقال: اربطها في كمك، فتركها في يده.. فقد روى المزني: (أنه لا يضمن) . وقال في " الأم ": (إذا قال: أحرزها في كمك، فأحرزها في يده.. ضمنها، فإن غولب عليها، فأخذت من يده.. لم يضمن) . قال الشيخ أبو حامد: والربط هاهنا: عبارة عن الجعل. واختلف أصحابنا فيها على ثلاثة طرق: فـ[الأول] : منهم من قال: فيه قولان:

أحدهما: لا يضمن؛ لأن اليد أحرز من الكم؛ لأن الطرار يمكنه أن يبط الكم، ولا يمكنه ذلك في الكف. والثاني: يضمن، لأن الكم أحرز من اليد؛ لأنه قد يسهو فيرسل يده، فيسقط ما كان بها، وإذا ترك شيئا في الكم.. فإذا سقط.. أحس به. و [الطريق الثاني] : قال أبو إسحاق: ليست على قولين، بل هي على حالين: فحيث قال: (لا يضمن) أراد: إذا ربطها في الكم، وقبض عليها بيده لأنه زاده خيرا. وحيث قال: (يضمن) أراد: إذا تركها في يده من غير أن يربطها في الكم؛ لأن الكم أحرز. وقال الشيخ أبو حامد: هي على حالين آخرين: فحيث قال: (لا يضمن) أراد: إذا خاف عليها في كمه الاستلاب، فتركها في يده. وحيث قال: (يضمن) أراد: إذا تركها في يده من غير خوف. و [الطريق الثالث] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 443) ] : إن كان تلفها بانتزاع الغاصب من يده.. لم يضمن؛ لأن الكف أحرز في هذه الحالة، وإن كان التلف بأن نام، أو غفل، فأرسل كفه فسقطت ضمن؛ لأن الربط في الكم أحرز في هذه الحالة. وإن أودعه وديعة، وقال: أمسكها في يدك، فربطها في كمه.. فعلى الطريقة الأولى: يكون هاهنا على قولين، وعلى الطريقين الآخرين: الكم أحرز هاهنا.

فرع: أودعه خاتما ليضعه في خنصره

وإن أمره أن يتركها في كمه، فتركها في جيبه.. لم يضمن؛ لأنه أحرز من الكم، وإن أمره أن يتركها في جيبه، فتركها في كمه.. ضمن؛ لأن الكم دون الجيب في الحرز. [فرع: أودعه خاتما ليضعه في خنصره] ] : وإن أودعه خاتما، وقال: البسها في خنصرك، فلبسها في البنصر، واتسع الخاتم للبنصر.. لم يضمن؛ لأن الخاتم فيها أحفظ، وإن لم يتسع الخاتم للبنصر، فانكسر.. ضمنها؛ لأنه تعدى بذلك، وإن قال: البسها في البنصر، فلبسها في الخنصر.. ضمنها؛ لأن الخنصر أدق. [مسألة: أودعه وديعة في السفر] ] : وإن أودعه وديعة في السفر.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 441] فللمودع أن يسافر بها؛ لأن الإيداع في السفر يقتضي السفر بها. وإن أودع حاضرا، وأراد المودع السفر، فإن وجد المالك، أو وكيله المطلق أو المقيد بقبض ودائعه.. ردها إليه؛ لأن الوديعة عقد جائز، فكان له فسخها متى شاء، وإن لم يكن المودع ولا وكيله في البلد، أو كان في البلد، إلا أنه لا يقدر على الوصول إليه، بأن كان محبوسا، وهناك حاكم.. دفعها المودع إليه، كما لو أرادت المرأة أن تتزوج ووليها غائب، فإذا لم يكن حاكم في البلد.. دفعها إلى أمين؛ لما روي) «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت عنده ودائع بمكة، فلما أراد الهجرة.. أودعها أم أيمن، وخلف عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليردها» . فإن دفعها إلى الحاكم، أو الأمين مع قدرته على المالك، أو وكيله.. ضمنها، كما لو زوج الحاكم المرأة مع وجود وليها، وفيه وجه آخر: أنه لا يضمن إذا دفعها إلى الحاكم؛ لأن الحاكم يقوم مقام المالك، ويده كيده. وليس بشيء. فإن دفعها إلى أمين مع وجود الحاكم.. فقد قال الشافعي: (فإذا سافر بها، فأودعها أمينا يودعه ماله.. لم يضمن) . واختلف أصحابنا فيه:

فقال أبو إسحاق: لا يضمن؛ لأن الشافعي لم يفرق. وبه قال مالك؛ وأبو حنيفة، واختاره الشيخ أبو حامد؛ لأنه أودعها أمينا لعذر السفر، فهو كما لو كان الحاكم معدوما في البلد. وقال أبو سعيد الإصطخري، وأبو علي بن خيران: يجب عليه الضمان؛ لأن الشافعي قال في (الرهن) : (وإذا وضع الرهن على يدي عدل، ثم غاب المتراهنان، أو أحدهما، وأراد العدل السفر.. دفعه إلى الحاكم) . فدل على: أن الدفع إلى غيره لا يجوز، ولأن أمانة الحاكم مقطوع بها، وأمانة الأمين مجتهد فيها، فلم يجز ترك المقطوع به إلى المجتهد فيه، كما لا يجوز ترك النص إلى القياس. ومن قال بالأول.. حمل نص الشافعي في (الرهن) إذا تشاح المتراهنان في العدل.. فإنهما يرفعانه إلى الحاكم ليضعه عند عدل. وإن خالف، وسافر بها، فإن لم يكن به ضرورة إلى السفر.. ضمنها، سواء كان السفر طويلا أو قصيرا، وسواء كان الطريق آمنا أو مخوفا. وقال أبو حنيفة: (إذا كان الطريق آمنا: لم يضمن، إلا أن يكون قد نهاه عن السفر) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لأنه يكون كنقل الوديعة من محلة في البلد إلى محلة فيها. وهذا غلط؛ لأن أمن السفر غير موثوق به، فقد يحدث الخوف في الطريق، بخلاف محال البلد. وإن دعته إلى السفر ضرورة بأن هجم على البلد فتنة، أو حريق، أو غرق، ولم يجد من يأمن عليها من ذلك عنده.. قال الشيخ أبو حامد: فله أن يسافر بها، ولا يضمن وإن كان الطريق مخوفا؛ لأن هذا موضع ضرورة؛ لأنه لا يتمكن من شيء غير ذلك. وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " [1/363] : إذا أراد السفر ولم يجد

فرع: نقل الوديعة

المالك، ولا وكيله، ولا الحاكم، ولا الأمين.. لزمه أن يسافر بها؛ لأن السفر في هذه الحال أحوط.. ولعله أراد: إذا خاف في البلد، كما قال الشيخ أبو حامد. [فرع: نقل الوديعة] ] : وإن أودع وديعة وهو في قرية، فانتقل منها إلى قرية أخرى، ونقل الوديعة معه، فإن اتصل بناء إحدى القريتين بالأخرى.. نظرت: فإن كانت القرية الثانية مثل الأولى في الأمن، أو أعلى منها.. لم يضمن، كما لو نقل الوديعة من بيت في دار إلى بيت فيه مثله. وإن كانت الثانية دون الأولى في الأمن.. ضمنها؛ لأن الظاهر ممن أودع غيره وهو في قرية أو محلة، أنه رضي بها حرزا دون غيرها. وإن كانت القريتان منفصلتين، فإن كان الطريق بينهما مخوفا، أو الثانية دون الأولى في الأمن.. ضمنها المودع؛ لأنه غرر بالوديعة، وإن كان الطريق آمنا، والثانية كالأولى في الأمن. ففيه وجهان: أحدهما: لا يضمن، كما لو نقل الوديعة من دار في البلد إلى دار أخرى فيه. والثاني: يضمن، وهو المذهب؛ لأن أمن السفر غير موثوق به. [فرع: دفن الوديعة] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن دفن الوديعة في منزله، ولم يعلم بها أحدا يأتمنه على ماله، ثم سافر، فهلكت.. ضمن) . وهذا كما قال: إذا أراد السفر، فدفن الوديعة، فإن دفنها في برية.. ضمنها؛ لأنه عرضها للهلاك؛ لأن ما في البرية غير محفوظ، وإن دفنها في منزله، فإن لم يعلم بالوديعة أحدا.. ضمنها؛ لأنه غرر بها؛ لأنه لا يؤمن أن يموت، فتضيع الوديعة، وربما حدث في الموضع حريق، أو غرق، فتلهك الوديعة بذلك، وإن أعلم بها غيره.. نظرت: فإن أعلم بها فاسقا.. ضمنها؛ لأنه زاد في التغرير بها.

فرع: ترك الوديعة في بيت المال

وإن أعلم بها أمينا، فإن كان غير ساكن في تلك الدار.. ضمنها؛ لأنه لم يودعه، إذا لم يقبضه إياها، وإن كان ساكنا في تلك الدار، ولم يقدر على المالك، أو وكيله، أو الحاكم.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يضمن؛ لأن الشافعي قال: (إن لم يعلم بها أحدا.. ضمن) . فدل على: أنه إذا أعلم أمينا.. لم يضمن، ولأنه يجوز له إيداعها عند أمين في هذه الحالة، وهذا إيداع. والثاني: يضمن؛ لأن هذا إعلام، وليس بإيداع؛ لأن الإيداع هو: أن يسلمها إليه، فتصير مقبوضة، وهذا لم يقبضه إياها. قال الشيخ أبو حامد: وهذا ضعيف؛ لأنه إن كان ساكنا في الموضع، وأعلمه بالوديعة.. فقد أودعه إياها. [فرع: ترك الوديعة في بيت المال] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (إذا سافر المودع، فترك الوديعة في بيت المال.. ضمن) . واختلف أصحابنا في تأويلها: فمنهم من قال: أراد: إذا كان قادرا على المالك، أو وكيله؛ لأنه لا يجوز له إيداعها مع وجود أحدهما. ومنهم من قال: أراد: إذا لم يقدر على المالك، ولا وكيله، ولم يودعها عند الإمام، ولكن وضعها في بيت المال، فيضمن؛ لأنه ما أودعها عند أحد. وأيهما أراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.. فهو صحيح في الفقه. [مسألة: مرض المودع كالسفر] ] : وإن كانت عنده وديعة، فمرض مرضا خاف على نفسه منه.. فهو كما لو أراد السفر؛ لأنه لا يمكنه حفظ الوديعة بنفسه مع الموت، فيجب عليه ردها إلى المالك، أو وكيله إن وجدهما، فإن كانا غائبين.. فعليه أن يظهر الوديعة، وهو أن يشهد

عليها، أو يسلمها إلى الحاكم، أو إلى الأمين، فإن سلمها إلى الحاكم مع وجود المالك، أو وكيله.. ضمنها؛ لأنه لا ولاية له عليه. ومن أصحابنا من قال: لا يضمن؛ لأن الحاكم يقوم مقامه، ويده كيده. قال الشيخ أبو حامد: وهذا ضعيف، فإن لم يشهد على الوديعة، ولم يوص بها ومات.. ضمنها؛ لأنه غرر بها؛ لأن الظاهر مما في يده أنه ملكه. وإن مات، فوجد بخطه أن الكيس الفلاني لفلان، أو وجد على الكيس اسم رجل.. لم يحكم له به؛ لأنه قد يودعه غيره شيئا، ثم يتملكه، أو يشتري كيسا عليه اسم رجل. وإن ادعى رجل أن هذه العين وديعة لي أودعتها الميت، وأقام على ذلك شاهدين.. قال الشيخ أبو حامد: حلف معهما، وحكم له بالوديعة. وإن قال: عندي لفلان وديعة، ووصفها بصفة، أو قامت بينة بذلك، أو أقر الورثة بذلك، فمات ولم توجد تلك الوديعة.. فقد قال الشافعي: (ضمنت في مال الميت، ويحاص بها الغرماء) . واختلف أصحابنا فيها على ثلاثة أوجه: فـ[الأول] : قال أبو إسحاق: أراد: إذا قال ذلك عند الوفاة، وقرب الموت؛ لأن الظاهر أنه أتلفها، فيكون قوله: عندي، عبارة عن قوله: علي، فأما إذا قال في صحته: أودعني فلان وديعة، ووصفها، ومات ولم توجد.. لم يجب عليه الضمان؛ لجواز أن تكون تلفت بعد ذلك بغير تفريط، ففرق بين طول المدة، وقصرها. و [الوجه الثاني] : منهم من قال: إن مات، ووجد في ماله من جنس تلك الوديعة، واشتبه ماله بالوديعة.. فعليه الضمان؛ لأنه فرط، إذ لم يبينها بيانا يزول به الإشكال، وإن لم يكن في ماله من جنس الوديعة.. لم يجب عليه الضمان؛ لجواز أن تكون قد تلفت من غير تفريط.

مسألة: إيداع الوديعة عند آخر

و [الوجه الثالث] : منهم من قال: لا يجب عليه الضمان، وهو المذهب؛ لأن الأصل براءة ذمته من الضمان، وحمل النص عليه إن عرف أن عنده وديعة ببينة، أو إقرار الورثة، ومات ولم يوص بها. [مسألة: إيداع الوديعة عند آخر] ] : إذا أودع الوديعة عند غيره من غير ضرورة.. ضمنها، سواء أودعها الحاكم، أو زوجته، أو غلامه. وحكى ابن الصباغ وجها آخر: أنه إذا أودعها الحاكم مع غيبة المالك، أو وكيله من غير ضرورة.. لم يضمن. وقال أبو العباس: إنما يضمنها إذا سلمها إلى الذي أودعها إياه لينفرد بتدبيرها، فأما إذا استعان به في سلتها، أو في إغلاق الباب، أو في فتحه، أو في الإتيان بها إليه، بحيث لا تغيب عن نظر المودع.. فلا ضمان عليه، وهذا كما نقول فيمن أودع بهيمة.. فليس عليه أن يعلفها ويسقيها بنفسه، بل إذا تقدم بذلك إلى خادمه، أو سائسه.. جاز، ولا يضمن. هذا مذهبنا. وقال مالك: (إن أودعها زوجته.. لم يضمن، وإن أودعها غيرها، من عبده، أو غيره.. ضمنها) . وقال أبو حنيفة: (إن أودعها من يعوله، وينفق عليه، مثل زوجته، أو خادمه أو امرأة في داره يعولها.. فلا ضمان عليه) . ودليلنا: أنه أودع الوديعة من لم يأتمنه المودع، فضمنها، كما لو أودعها أجنبيا. فإن هلكت الوديعة عند المودع الثاني من غير تفريط منه.. فللمالك أن يضمن إن شاء منهما؛ لأنهما متعديان؛ فإن ضمنها للمودع الثاني.. نظرت في الثاني:

مسألة: خلط مال الوديعة بماله

فإن علم الحال.. لم يرجع بما ضمنه على الأول؛ لأنه رضي بوجوب الضمان على نفسه. وإن لم يعلم.. فهل له أن يرجع على الأول؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يرجع؛ لأنها هلكت عنده، فاستقر الضمان عليه. والثاني: يرجع عليه؛ لأنه غره، ولم يدخل معه ليضمن، وإنما دخل معه على أنها أمانة. وإن رجع المالك على المودع الأول، فإن كان الثاني قد علم أنها وديعة أودعت عنده من غير ضرورة. رجع الأول عليه؛ لأن الثاني رضي بوجوب الضمان عليه، وقد وجد الهلاك في يده، فاستقر الضمان عليه، وإن لم يعلم بالحال.. فهل للأول أن يرجع عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: يرجع عليه؛ لأن الهلاك كان في يده. والثاني: لا يرجع عليه؛ لأنه لم يدخل معه على أن يكون ضامنا. [مسألة: خلط مال الوديعة بماله] ] : إذا أودعه دراهم، فخلطها مع دنانير.. قال الشافعي: (لا يضمن؛ لأنهما لا يختلطان، إلا أن ينصح الدراهم، فيلزمه أرش النقص، كما لو أخذ جزءا من الدراهم، فيلزمه ضمان ما أخذ دون الباقي) . وإن خلطها بدراهم له، أو أودعه شيئا من ذوات الأمثال، فخلطه بمثله من ماله.. لزمه الضمان، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (لا يلزمه الضمان؛ لأنه خلطه بمثله) . وهذا غلط؛ لأنه خلطه بما لا يتميز عنه من ماله بغير إذن المالك، فلزمه الضمان، كما لو خلطها بأردأ منها.

فرع: أعطاه دراهم ليحفظها في محفظته

وإن خلطها بمثلها من مال المودع.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يضمن؛ لأن الجميع له. والثاني: يضمن؛ لأنه لم يرض باختلاطهما. [فرع: أعطاه دراهم ليحفظها في محفظته] ] : وإن قال: أودعتك هذه الدراهم لتحفظها في خريطتك هذه، فنقلها المودع إلى خريطة غيرها، فإن كانت الثانية دون الأولى في الحرز.. ضمنها، وإن كانت مثلها، أو أحرز منها.. لم يضمن، كما قلنا في البيت، وإن أودعه دراهم في خريطة للمودع، فنقلها المودع إلى خريطة أخرى، فإن كانت الخريطة مختومة، أو مشدودة، فحل ختمها، أو حل شدها.. ضمنها؛ لأنه تعدى بحل الختم والشد، وإن كانت غير مختومة، ولا مشدودة. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\442 - 443] : أحدهما: يضمن، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنه ليس له تفتيش الوديعة من غير حاجة، فصار كما لو نقض الختم. والثاني: لا يضمن؛ لأنه أودعه خريطة دراهم، فكان له أن يحفظ كل واحد منهما في بيت، كما لو أودعه خريطتين. [فرع: أودعه دراهم في كيس] ] : وإن أودعه عشرة دراهم في كيس مشدود، أو مختوم، فحل الختم أو الشد، أو خرق موضعا من الكيس تحت الشد.. ضمن الكيس وما فيه وإن لم يأخذ منه شيئا؛ لأنه قد تعدى بهتك الحرز، وإن خرق ما فوق الشد من الكيس.. لم يلزمه الضمان في الدراهم؛ لأن حرزها ما تحت الشد، ولكن يلزمه ضمان أرش الكيس بالخرق.

مسألة: النفقة على البهيمة المودعة

وإن أودعه الدراهم في شيء مكشوف، فأخذ المودع منها درهما من غير أن يحصل منه تعد في الباقي.. فإنه يضمن الدراهم؛ لأنه تعدى بأخذه، فإن لم ينفقه، بل رده بعينه على الدراهم، فإن كان ذلك الدرهم متميزا عن باقي الدراهم.. لزمه ضمانه، ولا يلزمه ضمان الباقي؛ لأنه إنما تعدى به دون غيره، وإن كان غير متميز عن باقي الدراهم.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يضمن إلا ذلك الدرهم) ؛ لأنه لم يوجد منه فعل فيما عداه. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\443] : فعلى هذا: يضمن عشر الدراهم. والثاني ـ وهو قول الربيع ـ: أنه يضمن الجميع؛ لأنه خلط المضمون بغيره، ولم يتميز، فضمن الجميع. وإن أنفق الدرهم، ورد بدله إلى الدراهم، فإن كان المردود متميزا عن الباقي.. لم يضمن باقي الدراهم؛ لأنه لم يتعد بها، وإن لم يتميز المخلوط عن باقي الدراهم.. ضمن جميع الدراهم، خلافا لمالك، وقد مضى. ودليلنا: أنه خلط ماله بمال المودع، ولم يتميزا، فضمنه. [مسألة: النفقة على البهيمة المودعة] ] : إذا أودعه بهيمة، أو غيرها من الحيوان.. ففيها ثلاث مسائل: إحداهن: أن يأمره بعلفها وسقيها، فيجب على المودع أن يعلفها ويسقيها؛ لأن للبهيمة حرمتين: حرمة بنفسها، بدليل: أن من ملك بهيمة.. يجب عليه علفها وسقيها، وحرمة لمالكها، وقد اجتمعتا. فإذا علفها وسقاها.. رجع على المالك بما أنفق عليها؛ لأنه أخرجها بإذنه، فإن اختلفا في قدر النفقة، فإن ادعى المودع أنه أنفق أكثر من قدر النفقة بالمعروف.. لم يرجع بالزيادة؛ لأنه متطوع به. وإن ادعى المودع النفقة بالمعروف، وادعى المالك أنه أنفق دون ذلك.. فالقول قول المودع مع يمينه؛ لأنه أمين، فقبل قوله في ذلك مع يمينه. وإن اختلفا في قدر المدة التي أنفق فيها..

فالقول قول المالك مع يمينه في قدرها؛ لأن المودع يمكنه إقامة البينة عليها. المسألة الثانية: أن يودعه إياها، ولم يأمره بالعلف والسقي، ولا نهاه عن ذلك، فيلزم المودع أن يعلفها ويسقيها. وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه ذلك) . دليلنا: أن للبهيمة المودعة حرمة لمالكها، وحرمة بنفسها، بدليل ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اطلعت على النار ليلة عرج بي إلى السماء، فرأيت امرأة تعذب، فقلت: ما بالها؟ فقيل: إنها ربطت هرة لها، فلم تطعمها، ولم تسقها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، فهي تعذب لأجل ذلك» . فإذا سكت المودع.. لم يسقط بذلك حق البهيمة. إذا ثبت هذا: فإن المودع يرفع الأمر إلى الحاكم، ثم ينظر الحاكم الحظ لصاحبها، فإن أراد أن يبيعها كلها، ويحفظ ثمنها لصاحبها.. فعل، وإن أراد أن يبيع جزءا منها للإنفاق على باقيها، أو يؤجرها وينفق الأجرة عليها.. فعل، وإن رأى أن يقترض على المالك من المودع، أو من غيره.. فعل، فإن اقترض من غير المودع، وأمر المودع بإنفاق ذلك.. جاز، وإن اقترض من المودع، فقبضه منه، ثم رده إليه، وأمره بإنفاق ذلك.. جاز، وإن أمره بالإنفاق عليها قرضا على المالك.. فهل يجوز ذلك؟ فيه وجهان، بناء على القولين في نفقة الحمال في الإجارة، فإذا قلنا: يجوز.. فهل يقدر له الحاكم قدر النفقة، أو يكله إلى اجتهاده؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ. وإن أنفق عليها المودع من غير إذن الحاكم، فإن كان قادرا على الحاكم.. لم يرجع بما أنفق؛ لأنه متطوع، وإن لم يقدر على الحاكم، فإن لم ينو الرجوع، ولم يشهد.. لم يرجع؛ لأن الظاهر أنه متطوع، وإن أشهد على الإنفاق ليرجع ـ قال ابن

الصباغ: أو نوى الرجوع ـ فهل له أن يرجع؟ فيه وجهان: أحدهما: يرجع؛ لأنه موضع ضرورة. والثاني: لا يرجع؛ لأنه لا ولاية له عليه. ولعل ابن الصباغ أقام نية الرجوع مقام الإشهاد عند تعذر الإشهاد. قال أبو إسحاق المروزي: فإذا قلنا: له أن يرجع بما أنفق بنفسه.. فله أن يبيع البهيمة ويحفظ ثمنها لمالكها، أو يبيع جزءا منها، أو يؤجرها مما يرى المصلحة في ذلك؛ لأنا قد أقمناه مقام الحاكم في ذلك. فإن اختلفا في قدر النفقة، أو في قدر المدة.. فالحكم فيها كالحكم في المسألة قبلها، فإن ترك المودع النفقة على البهيمة في هاتين المسألتين حتى تلفت.. نظرت: فإن ترك علفها وسقيها مدة الغالب أن البهيمة تموت فيها من عدم العلف والسقي.. وجب عليه ضمانها؛ لأن الظاهر أنها ماتت من الجوع والعطش. وإن تركها مدة قريبة الغالب أنها لا تموت فيها من ترك العلف والسقي.. لم يجب عليه ضمانها؛ لأن الظاهر أنها لم تمت من منع العلف والسقي فيها. وإن أودعه بهيمة جائعة، ولم يعلم بها المودع، فأخر علفها وسقيها مدة لا يموت مثلها من منع العلف والسقي، فماتت، ولولا الجوع السابق لم تمت.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق 442] : أحدهما: يجب عليه الضمان؛ لأنها ماتت بإجاعته لها، فصار كما لو لم تكن جائعة. والثاني: لا يجب عليه الضمان؛ لأنها ماتت بالجوع السابق، وتأخيره لا حكم له بانفراده. المسألة الثالثة: إذا أودعه بهيمة، وقال له: لا تعلفها ولا تسقها.. فلا خلاف على المذهب: أنه يجب عليه علفها وسقيها؛ لأن للبهيمة حرمتين: حرمة مالكها، وحرمة لها بنفسها على ما مضى، فإذا أسقط المالك حقه.. بقي حق البهيمة. فعلى هذا: الحكم في الإنفاق عليها والرجوع حكم المودع إذا لم يأمره ولم ينهه،

فإن ترك المودع علفها وسقيها مدة تموت فيها في الغالب من عدم العلف والسقي.. أثم المودع والمودع؛ لما ذكرناه، وهل يجب على المودع ضمانها؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يلزمه الضمان؛ لأنه منهي عن ترك العلف والسقي لحق الله تعالى، فإذا تركهما، فتلفت بذلك.. لزمه الضمان. و [الثاني] : قال أبو العباس: لا يلزمه الضمان. وهو الأصح؛ لأن ضمان القيمة يجب للمالك، وقد أذن بما يوجب التلف، فلم تجب له القيمة، كما لو قال: اقتل عبدي، فقتله، أو احبسه عن الطعام والشراب إلى أن يموت، ففعل إلى أن مات.. فلا يجب عليه القيمة. إذا ثبت ما ذكرناه ـ من وجوب العلف في هذه المسائل ـ: فإن علفها المودع، وسقاها بنفسه في منزله.. فهو النهاية في الاحتفاظ، وإن أمر بذلك خادمه أو غيره.. جاز، ولا ضمان عليه. واختلف أصحابنا في تعليله: فقال أكثرهم: لأن العادة جرت في علف البهائم وسقيها هكذا. وقال أبو العباس: لأنه لم يخرجها من يده ونظره، وإنما استعان بغيره، كما قال: إذا استعان بزوجته، أو خادمه على حفظ الوديعة.. فلا ضمان عليه. وإن علفها، أو سقاها خارج المنزل، فإن كان المنزل ضيقا لا يتمكن من العلف فيه والسقي.. جاز، ولا ضمان عليه؛ لأنه موضع ضرورة، وإن كان يمكنه أن يفعل ذلك في منزله.. قال الشافعي: (فعليه الضمان) . واختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق: إن كان خارج المنزل آمنا.. فلا ضمان عليه؛ لأن ذلك يجري مجرى منزله، وقد جرت العادة بعلف البهائم والسقي خارج المنزل إذا كان آمنا، وحمل النص عليه إذا كان خارج المنزل مخوفا. وقال أبو سعيد الإصطخري: يجب عليه الضمان بكل حال؛ لأنه أخرج الوديعة من حرزها لغير عذر، فلزمه الضمان.

مسألة: إخراج الوديعة من الحرز بغير إذن المالك

قال الشيخ أبو حامد: والمذهب الأول؛ لأن خارج المنزل حرز، كالمنزل، فهو كما لو نقل الوديعة من بيت إلى بيت. [مسألة: إخراج الوديعة من الحرز بغير إذن المالك] ] : إذا أخرج المودع الوديعة من حرزها بغير إذن مالكها.. نظرت: فإن أخرجها لمصلحتها، بأن دعت الحاجة إلى تجفيف الثياب في الشمس أو الرياح، أو تقليب الكتب.. لم يضمنها بذلك؛ لأن ذلك واجب عليه. وإن أخرج الوديعة لينتفع بها.. ضمنها بنفس الإخراج وإن لم ينتفع بها. وقال أبو حنيفة: (لا يضمنها ما لم ينتفع بها) . دليلنا: أنه تناول الوديعة لمنفعة نفسه بغير إذن مالكها، فضمنها، كما لو انتفع بها. وإن نوى أن يخرج الوديعة لينتفع بها، أو نوى أن لا يردها على مالكها.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها ـ هو المذهب ـ: أنه لا يضمنها بذلك؛ لأنه لم يوجد منه فعل فيها على وجه التعدي، فلم يضمنها، كما لو نوى أن يغصب مال غيره. والثاني ـ ويحكى عن أبي العباس ـ: أنه يضمنها بمجرد النية، كما يضمن اللقطة إذا نوى تملكها. والثالث ـ حكاه في " المهذب " عن القاضي أبي حامد ـ: إن نوى أن لا يردها.. ضمنها بمجرد النية؛ لأنه صار ممسكا لها على نفسه، وإن نوى أن ينتفع بها.. لم يضمنها بمجرد النية؛ لأنه لا يصير ممسكا لها بذلك على نفسه. ولا يجوز للمودع أن يقترض الوديعة. وقال مالك: (يجوز له أن يقترضها؛ لأن كونها في ذمته أحفظ للمالك) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» .

فرع: زوال الضمان عن المودع

فإن كان عنده وديعة، وخاف عليها التغير، ولم يجد صاحبها ولا وكيله.. فهل يجوز له أن يبيعها ويحفظ ثمنها، أو يقرضها غيره؟ فيه وجهان خراسانيان. [فرع: زوال الضمان عن المودع] إذا تعدى المودع في الوديعة.. لزمه ضمانها، ولا يبرأ من الضمان إلا بتسليمها إلى المودع، أو إلى وكيله. وقال مالك، وأبو حنيفة: (إذا ردها إلى حرزها.. زال عنه الضمان) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى يؤديه» . ولأنها وديعة مضمونة، فلم يزل عنه الضمان بفعله، كما لو جحد الوديعة، ثم اعترف بها، أو منعها، ثم بذلها. فإن قال المالك: أودعتكها، من غير أن يقبضها، أو قال: أبرأتك من الضمان.. ففيه وجهان: أحدهما: يزول عنه الضمان؛ لأن الضمان لحق المالك، وقد أسقط حقه. والثاني: لا يزول عنه الضمان، وهو المذهب؛ لأن الإبراء إنما يكون من حق في الذمة، ولا حق له في ذمته. [مسألة: الإكراه على أخذ الوديعة] ] : قال الشافعي: (وإن أكرهه رجل على أخذها.. لم يضمن) . واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة: فمنهم من قال: صورتها: هو أن يكره رجل المالك على أخذها، فأخذها، فلا يضمنها إذا تلفت؛ لأنه لو تسلمها باختياره لا يضمن، فبأن لا يضمنها إذا أخذها مكرها أولى.

مسألة: رد الوديعة بطلب المالك

ومنهم من قال: صورتها: أن يكره أجنبي المودع على أخذها منه، وهذا هو الصحيح. فعلى هذا: ينظر في الذي أكرهه: فإن كان يقدر على دفعه.. لزمه دفعه عنها، فإذا لم يفعل.. لزمه الضمان؛ لأن معنى قوله: (أودعتكها) أي: استحفظتكها، وعليه أن يحفظها ما أمكنه، فإذا لم يفعل.. لزمه الضمان. وإن كان الذي أكرهه لا يقدر على دفعه، ويخاف على نفسه منه.. لم يلزمه دفعه، ثم ينظر: فإن أخذها المكره بنفسه من غير مباشرة من المودع في دفعها.. لم يلزمه الضمان. وإن أكرهه حتى سلمها بيده إليه.. فهل يجب على المودع الضمان؟ فيه قولان، بناء على القولين فيمن أكره، فأكل وهو صائم، أو حلف لا يدخل دارا، فأكره حتى دخلها بنفسه. [مسألة: رد الوديعة بطلب المالك] ] : وإذا طالب المودع برد الوديعة.. وجب على المودع الرد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] [النساء: 58] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» . فإن أخر ردها من غير عذر ضمنها، وإن أخر ردها لعذر.. لم يضمنها. قال في " الفروع ": وليس على المودع إيصالها إلى المالك، بل عليه التخلية بينه وبينها لا غير، والأخذ على المالك. وإن طالب المودع المالك بأخذ وديعته.. وجب على المالك أخذها؛ لأن قبول الوديعة ليس بواجب عليه، فكذلك استدامة حفظها.

مسألة: إنكار الوديعة

[مسألة: إنكار الوديعة] ] : وإن ادعى على رجل أنه أودعه وديعة معلومة، فقال المدعى عليه: ما أودعتني، ولا بينة للمدعي.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» . ولأن الأصل عدم الإيداع. [فرع: الاختلاف في تلف الوديعة وسببه] ] : وإن أمره بحفظ الوديعة في مكان، فنقلها عنه، فتلفت، فقال المودع: نقلتها خشية سيل، أو حريق، أو نهب عسكر، وأنكره المالك.. لم يقبل قول المودع حتى يقيم البينة على وجود ذلك السبب؛ لأنه لا يتعذر عليه إقامة البينة عليه، فإن كان قد صدقه المالك على تلفها.. فلا كلام، وإن ادعى المالك أنها لم تتلف.. فالقول قول المودع مع يمينه: أنها تلفت؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على التلف، فقبل قوله فيه مع اليمين. وإن ادعى المودع أن الوديعة قد تلفت، فأنكر المودع، فإن ادعى تلفها بسبب ظاهر، كالسيل، والعسكر، والنهب، والحريق.. لم يقبل قوله حتى يقيم البينة على وجود ذلك السبب؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليه، فإن شهدت بالسبب وبالتلف.. فلا كلام، وإن شهدت البينة بالسبب الظاهر، ولم تشهد بالتلف.. فالقول قول المودع مع يمينه: أنها تلفت بذلك؛ لأنه يتعذر إقامة البينة على تلفها. وإن ادعى تلفها بسبب غير ظاهر، بأن قال: سرقت، أو ضاعت.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أمين، فقبل قوله مع اليمين. وهذا كما نقول فيمن قال لامرأته: إن ولدت.. فأنت طالق، فادعت أنها ولدت.. لم يقبل قولها من غير بينة، ولو قال: إذا حضت.. فأنت طالق، فادعت أنها حاضت.. قبل قولها مع يمينها؛ لما ذكرناه من الفرق.

مسألة: إنكار رد الوديعة

[مسألة: إنكار رد الوديعة] ] : وإن ادعى المودع أنه رد الوديعة على المالك، وأنكر المالك، ولا بينة على الرد.. فالقول قول المودع مع يمينه؛ لأنه مؤتمن على حفظ الوديعة لمالكها، ولاحظ للمودع فيها، فقبل قوله في ردها، بخلاف ما لو ادعى المرتهن رد الرهن.. فإنه لا يقبل قوله؛ لأنه قبض الرهن لحظ نفسه وهو الاستيثاق لحقه. وإن قال المودع للمالك: أمرتني بدفع الوديعة إلى فلان، فدفعتها إليه، فقال المالك: أمرتك بدفعها إليه، إلا أنك لم تدفعها إليه.. فلا يقبل قول المودع في الدفع إليه. وقال أبو حنيفة: (يقبل قوله في الدفع إليه، كما لو ادعى دفعها إلى مالكها) . دليلنا: أنه ادعى دفع الوديعة إلى من لم يأتمنه عليها، فلم يقبل قوله في الدفع إليه، كالوصي إذا ادعى دفع المال إلى اليتيم. فإن قال المودع: أحلفوا لي المالك: أنه لا يعلم أني دفعتها إلى الذي أمرني بالدفع إليه.. نظر فيه: فإن كان قد أمره أن يقضي بالوديعة دينا على المالك، ولم يشهد المودع على الدفع.. لم يلزم المالك أن يحلف، ولزم المودع الضمان، سواء صدقه المالك على الدفع أو لم يصدقه؛ لأنه إنما أمره بدفع يبرئه، وهو لا يبرئه إلا مع الإشهاد، فإذا دفع من غير إشهاد.. لزمه الضمان، وإن كان قد أمره أن يدفع الوديعة إلى الثاني وديعة.. فهل يلزم المالك أن يحلف؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين في أنه هل يلزم الوكيل الإشهاد على الإيداع؟ فإن قلنا: لا يلزمه.. لزم المالك أن يحلف هاهنا. وإن قلنا: يلزمه الإشهاد.. لم يلزم المالك أن يحلف هاهنا. وإن أنكر المالك الإذن.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن، ثم ينظر في المدفوع إليه، فإن أنكر القبض.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القبض، ويستقر الضمان على المودع.

فرع: تصديق المودع البينة على الوديعة

وإن أقر المدفوع إليه بالقبض، وكان حاضرا.. نظرت: فإن كان دفعها وديعة، وكانت باقية في يد الثاني.. أخذها المالك. وإن كان دفعها عن دين للثاني على المالك.. انتزعت من يد الثاني؛ لأن قول المودع غير مقبول على المالك، وله أن يقضي ما عليه من الدين من أي جهة شاء، وإن كانت تالفة.. فللمالك أن يضمن أيهما شاء؛ لأن كل واحد منهما قد وجد منه التعدي بها، وأيهما رجع عليه.. لم يكن للمرجوع عليه أن يرجع على الآخر بما ضمنه؛ لأنه رجوع على غير من ظلمه. وإن كان الثاني غائبا.. رجع المالك على الأول؛ لأنه لا يجد من يرجع عليه غيره، فإذا رجع الغائب، فإن كانت الوديعة باقية.. أخذها الأول، وردها على المالك، واسترجع ما دفع، وإن كانت تالفة.. فقد استقر عليه الضمان، فلا يرجع على الثاني بشيء؛ لأنه رجوع على غير من ظلمه. [فرع: تصديق المودع البينة على الوديعة] ] : وإن ادعى عليه أنه أودعه، فقال: ما أودعتني، فأقام المدعي البينة بالإيداع، فقال المودع: صدقت البينة، أودعني، ولكنها تلفت من غير تفريط، أو رددتها.. لم يقبل قوله؛ لأنه صار خائنا، ضامنا، فإن أقام البينة على التلف، أو الرد.. ففيه وجهان: أحدهما: يزول عنه الضمان، كما لو صدقه المدعي على ذلك. الثاني: لا يزول عنه الضمان؛ لأنه كذب بينته بإنكاره الإيداع. وإن قال عند الإنكار: ما لك عندي، أو لا تستحق علي شيئا.. صح الجواب، فإن أقام المدعي بينة على الإيداع، فقال المودع: صدقت البينة، لكنها تلفت، أو رددتها.. قبل قوله مع يمينه، وإن أقام البينة على ذلك.. سمعت، وجها واحدا. والفرق بينهما: أن قوله: ما لك عندي شيء، لا يكذب إنكاره ولا بينته؛ لأنها إذا تلفت بغير تفريط، أو ردها عليه.. فلا شيء له عليه.

فرع: ادعاء اثنين على آخر وديعة

[فرع: ادعاء اثنين على آخر وديعة] ] : وإن كانت في يد رجل عين فادعاها عليه رجلان أنها وديعة لهما، وكل واحد منهما ادعى جميعها، ولا بينة لهما.. نظرت: فإن أنكرهما.. حلف لكل واحد منهما يمينا، وإن أقر بها لأحدهما بعينه.. سلمت إلى المقر له، وهل يجب على المقر أن يحلف للمدعي الثاني؟ فيه وجهان، بناء على من كان بيده دار، فقال: هي لزيد، لا بل هي لعمرو.. فإنها تسلم لزيد، وهل يغرم لعمرو شيئا؟ فيه قولان. فإن قلنا: لا يغرم لعمرو.. لم يحلف للثاني؛ لأنه لو أقر له.. لم يغرم له شيئا. وإن قلنا: يلزمه الغرم لعمرو.. لزمه أن يحلف هاهنا للثاني؛ لجواز أن ينكل عن اليمين، فيقر له، فيغرم. فإذا قلنا بهذا.. نظرت: فإن حلف للثاني.. انصرف عنه، وله أن يدعي بعينه على المقر له بكل حال، وإن أقر بها المقر للثاني.. لزمه أن يغرم له قيمتها. وإن نكل المقر عن اليمين للثاني.. ردت اليمين على الثاني، فإن نكل عن اليمين.. انقطع حقه عن المقر، وإن حلف.. قال المحاملي: فإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعي عليه تحل محل البينة.. سلمت العين إلى الثاني. قال: ولكنه ضعيف، فلا تفريع عليه، وإن قلنا: تحل محل الإقرار.. قال أبو العباس: ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: توقف العين لهما، إلى أن يصطلحا عليها؛ لأن حكم الثاني قد قوي بيمينه. والثاني: تقسم بينهما، كما لو أقر لهما بها دفعة واحدة.

والثالث: تقر العين في يد الأول؛ لأن ملكه قد استقر، ويغرم المقر للثاني القيمة؛ لأنه حال بينه وبين حقه بإقراره الأول. وإن قال المدعى عليه: هي لكما.. قسمت بينهما نصفين، وكان الحكم في النصف الآخر حكم ما لو أقر بها لأحدهما. وإن قال: هي لأحدكما، ولا أدري من هو منكما.. قال الشافعي: (قيل لهما: أتدعيان عينا غير هذه العين؟ فإن قالا: لا.. قيل لهما: أتدعيان علمه من المالك منكما؟ فإن قالا: لا.. فلا يمين على المودع؛ لأنهما اعترفا بجهله للمالك) . وماذا يصنع بالعين؟ فيه قولان: أحدهما: تنقل من المقر إلى عدل ينصبه الحاكم؛ لأنه قد أقر: أنه ليس بمالك لها، وأنها لأحدهما، ولا يمكن دفعها إليهما، ولا إلى أحدهما، ولا تقر في يده؛ لأن مالكها لم يرض بأن تبقى عنده. والثاني: تبقى في يده أمانة؛ لأنه لا معنى لانتزاعها من هذا العدل، ووضعها عند عدل آخر. قال الشيخ أبو حامد: قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (قيل لهما: أتدعيان غير هذه العين) لا معنى له؛ لأنه قد عرف ذلك بأصل الدعوى، فإن ادعيا أنه يعلم المالك منهما.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بنفسه. فإن عرضت عليه اليمين، واختار أن يحلف.. حلف لهما يمينا واحدة. وقال أبو حنيفة: (يحلف لهما يمينين) . دليلنا: أنه يحلف على جهالته للمالك، فإذا ثبت جهله في أحدهما.. ثبت في حق الآخر، إذ ليس يحلف على نفي ملك بعينه، فإذا حلف لهما.. كان الحكم في العين على قولين، كما لو اعترفا بجهله للمالك، وإن نكل عن اليمين.. ردت اليمين عليهما، فإن حلفا.. ففيه قولان:

أحدهما: توقف العين لهما إلى أن يصطلحا، والثاني: تقسم بينهما. وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر.. قضي له بها، كما لو أقر له بها. هذا نقل الشيخ أبي حامد. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 442] : إذا حلف: أنه لا يعلم المالك منهما.. برئ، فإن حلفا.. قسمت الوديعة بينهما، وأخذ كل واحد منهما مع نصف الوديعة نصف قيمة الوديعة من المودع؛ لأن كل واحد منهما قد أثبت بيمينه جميع العين له، ولم يصل إليه إلا نصفها، فوجب تمليكها بالقيمة. وأما إذا قال: غصبت هذه العين من أحدكما، ولا أدري من غصبتها منه.. فلا بد أن يحلف لكل واحد منهما يمينا على القطع: أنه لم يغصبها منه، فإذا حلف لأحدهما.. تعين المغصوب للثاني، ولا يحلف له، حكاه المسعودي [في " الإبانة " ق 443] . وبالله التوفيق

كتاب العارية

[كتاب العارية]

كتاب العارية العارية: إباحة الانتفاع بعين من الأعيان. قال ابن الصباغ: وهي مشتقة من عار الشيء: إذا ذهب، ومنه قيل للغلام البطال: عيار. والأصل في ثبوتها: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.

أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة: 2] . وفي العارية إعانة. وقَوْله تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6]] (6) {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] [الماعون: 4 - 7] . قال ابن مسعود: (الماعون: إعارة الدلو، والقدر، والميزان) . وروى عن علي، وابن عمر: (أن الماعون الزكاة) . وأما السنة: فروى أبو أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث، والعارية مؤداة، والمنحة مردودة والزعيم غارم» . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من صاحب إبل ولا بقر لم يؤد حقها، إلا بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر ـ وروى: قرق ـ تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، كلما فني أولاها.. عادت إليه أخراها". فقيل: يا رسول الله. وما حقها؟ قال: "إعارة دلوها، ومنحة لبنها يوم وردها، وإطراق فحلها» . والقرق: المستوي. قال الشاعر:

مسألة: شرط أهلية الإعارة

كأن أيديهن بالقاع القرق ... أيدي جوار يتعاطين الورق و (القرقر) : مثله. وروى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار من صفوان بن أمية يوم حنين أدراعا، فقال: أغصبا يا محمد؟ فقال: "بل عارية مضمونة مؤداة» . وأجمع المسلمون على جواز العارية. وأما القياس: فلأنه لما جاز هبة الأعيان.. جاز هبة منافعها. [مسألة: شرط أهلية الإعارة] ] : ولا تصح الإعارة إلا من جائز التصرف في المال، كما لا تصح هبة الأعيان إلا من جائز التصرف في المال، ولا تصح العارية إلا في كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها، كالدور، والأرض، والفحل للضراب، والسلاح، وما أشبه ذلك؛ لأن الخبر ورد

فرع: ما يعار من الحيوان

بإعارة الدلو، والفحل، والدروع، وهذه الأشياء يمكن الانتفاع بها مع بقاء أعيانها، وقسنا عليها أمثالها. وهل تصح إعارة الدراهم والدنانير ليجمل بها الدكان؟ فيه وجهان، بناء على جواز إجارتها لذلك. وفي جواز إعارة ذوات الأمثال، كالطعام، والدهن، وما أشبهه لغير إتلافها وجهان. فأما ما لا ينتفع به إلا بإتلاف لعينه، كاستعارة الهربس، والعصيد للأكل.. فلا يجوز ذلك؛ لأن ذلك لا يمكن الانتفاع به إلا بإتلاف عينه في الحال، وذلك خارج عن مقتضى حكم العارية. [فرع: ما يعار من الحيوان] ] : ويجوز إعارة الحيوان للخدمة، وللركوب، وما أشبهه، كما يجوز إجارته لذلك، ويجوز إعارة الكلب للصيد، كما يجوز إعارة الفحل للضراب، ولا يجوز إعارة الجارية للوطء؛ لأن الوطء لا يكون إلا في ملك أو نكاح. قال الشيخ أبو إسحاق: ولا يجوز إعارة جارية ذات جمال لغير محرم لها للخدمة؛ لأنه لا يؤمن أن يخلو بها، فيواقعها. وذكر في " الفروع "، والصيدلاني: أنه يكره إعارتها، فإن كانت كبيرة، أو صغيرة، أو قبيحة.. جاز إعارتها؛ لأنه يؤمن مواقعتها. ولا يجوز إعارة العبد المسلم من الكافر؛ لأنه لا يجوز له استخدامه. ويكره أن يستعير أحد أبويه للخدمة؛ لأنه يكره له استخدامه. [فرع: ليست المنحة إعارة] قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز استعارة الشاة ليحلبها، ولا إعارة الأشجار لأخذ ثمرتها، كما لا يجوز إجارتها لذلك.

وقال القاضي أبو الطيب: يجوز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم» ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من منح منحة ورق أو هدى زقاقا، أو سقى لبنا.. كان له كعدل رقبة، أو نسمة» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من منح منحة وكوفا.. فله كذا وكذا» . و (الوكوف) : غزيرة اللبن. قال أبو عبيد: وللعرب أربعة أسماء تضعها موضع اسم العارية، وهي: المنحة. والعرية، والإفقار، والإخبال. فـ (المنحة) : أن يمنح الرجل الرجل ناقة أو شاة: فيحتلبها زمانا، ثم يردها. و (العرية) : أن يعري الرجل الرجل ثمرة نخلة من نخيله، فيكون له الثمر عامه ذلك. و (الإفقار) : أن يعطيه دابته، فيركبها ما أحب في سفر، أو حضر، ثم يردها عليه. و (الإخبال) : أن يعطيه ناقته، فيركبها، ويجتز وبرها، ثم يردها. قال ابن الصباغ: ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف، بل يكون إباحة للبن وثمر الشجر؛ لأن الإباحة تصح في الأعيان. ولا يجوز للمحرم أن يستعير صيدا، كما لا يجوز له تملكه، فإن خالف واستعاره، وتلف في يده.. لزمه الجزاء لحق الله تعالى، والقيمة لمالكه. وإن استعار

مسألة: صيغة العارية

محل من محرم صيدا، فإن قلنا: إن ملك المحرم لا يزول عن الصيد.. جاز، ويضمنه بالقيمة، وإن قلنا: يزول ملكه عنه بالإحرام.. فقد وجب عليه إرساله، فإذا دفعه إلى المحل.. لم يسقط عنه بذلك ما وجب عليه من الإرسال، ولا يضمنه المستعير بالقيمة للمعير؛ لأنه ليس بملك له، ولا بالجزاء؛ لأنه مأذون له في إتلافه، فإن تلف الصيد في يد المستعير.. وجب على المحرم الجزاء. قال الشيخ أبو حامد: وإن أودع محل صيدا عند محرم، فتلف في يده لم.. يلزمه الجزاء؛ لأنه لم يمسكه لنفسه، وإنما أمسكه للمالك. [مسألة: صيغة العارية] ] : ولا تنعقد العارية إلا بالإيجاب والقبول كما نقول في هبة الأعيان، وتصح بالقول من أحدهما والفعل من الآخر، بأن يقول: أعرني، فيسلمها إليه المالك، أو يقول المالك: أعرتك، فيقبضها الآخر، كما نقول في إباحة الطعام. [مسألة: يد المستعير يد ضمان] ] : قال الشافعي: (وكل عارية مضمونة على المستعير وإن تلف من غير تفريط) . وهذا كما قال: إذا قبض المستعير العين المستعارة، فتلف في يده.. فهل يجب عليه ضمانها؟ اختلف الناس فيها على خمسة مذاهب: فـ[الأول [: ذهب الشافعي إلى: أنها مضمونة على المستعير، سواء تلفت بتفريط أو بغير تفريط، وسواء شرط ضمانها أو أطلق. وروي ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة، وبه قال عطاء وأحمد، وإسحاق.

و [المذهب الثاني] : قال ربيعة: العارية مضمونة على المستعير، إلا أن تكون حيوانا، فيموت، فلا ضمان عليه. و [المذهب الثالث] : قال مالك، وعثمان البتي: (العارية مضمونة على المستعير، إلا أن يكون حيوانا، فلا يضمنه بحال سواء مات حتف أنفه، أو تلف تحت يد المستعير من غير تفريط بنهب، أو غيره) . و [المذهب الرابع] : قال قتادة، وعبيد الله بن الحسن العنبري: إن شرط ضمانها ... كانت مضمونة على المستعير، وإن لم يشرط.. كانت أمانة في يده. و [المذهب الخامس] : قال شريح، والنخعي، والحسن البصري، والثورى، والأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه: (العارية أمانة في يد المستعير لا يضمنها إلا إذا فرط في تلفها) . دليلنا: ما روى سمرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «على اليد ما أخذت» وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار من صفوان بن أمية في شركه ثلاثين درعا ـ وقيل: مائة درع ـ يوم حنين، فقال: (أغصبا) أي: أهذا الذي استعرته مني لو منعتك إياه لم تغصبني عليه فقال: لا» فمعنى قول صفوان: (أغصبا) أي: أهذا الذي استعرته مني لو منعنك إياه لم تغصبني عليه؟ فقال: "لا". وروى أنس: «أن امرأة من نساء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعارت قصعة، فذهبت، فأمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغرمها» .

ولأنه مال لغيره أخذه لمنفعة نفسه لا على وجه الوثيقة، فضمنه، كالمغصوب. فقولنا: (مال لغيره) احتراز ممن أخذ مال نفسه من غيره، فإنه غير مضمون عليه. وقولنا: (لمنفعة نفسه) احتراز من الوديعة، فإن المنفعة فيها للمالك. وقولنا: (لا على وجه الوثيقة) احتراز من المرتهن إذا قبض الرهن. ولأنها عين مضمونة بالرد، فكانت مضمونة بالتلف، كالمغصوب. فقولنا (مضمونة بالرد) أي: أنه يجب عليه مؤنة الرد، وفيه احتراز من الوديعة والرهن، فإنه لا يجب عليه مؤنة الرد، بل عليه أن يخلي بينه وبين العين لا غير، وكذلك العين المستأجرة في أحد الوجهين. إذا تقرر هذا: فإن استعار عينا. فاستعملها استعمالا مأذونا فيه، فردها وقد نقص شيء من أجزائها، بأن كان ثوبا، فرده، وقد رق ونقصت قيمته بذلك.. لم يجب عليه ضمان ما نقص؛ لأن الإذن في استعماله تضمن الإذن في إتلاف ذلك منه. وإن هلكت العين المستعارة، أو أتلفها قبل الاستعمال.. وجب عليه ضمانها، فأما إذا استعملها، فنقصت قيمتها بالاستعمال ثم تلفت، فإن كانت من غير ذوات الأمثال..وجب عليه قيمتها، ومتى تقوم عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه قيمتها أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف، كالمغصوب. فعلى هذا: تكون الأجزاء التالفة بالاستعمال تابعة للعين، إن سقط عنه ضمان العين بردها.. سقط عنه ضمان الأجزاء، وإن وجب عليه ضمان العين بتلفها.. وجب عليه ضمان الأجزاء التالفة بالاستعمال.

فرع: نتاج العارية

والثاني: وهو المذهب ـ: أنه يجب عليه قيمتها يوم تلفها؛ لأنا لو قومناها عليه أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف.. أدى إلى أن تجب عليه قيمة الأجزاء التالفة بالاستعمال، وهذا لا يجوز. وإن استعار منه ثوبا ليلبسه، فلبسه حتى خلق، ولم يبق منه خيط.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس: يلزمه ضمان الأجزاء؛ لأن كل عين ضمن أصلها، ضمن أجزاءها، كالمغصوب. و [الثاني [: قال الشيخ أبو حامد، وسائر أصحابنا: لا يجب عليه الضمان؛ لأنه أتلفه إتلافا مأذونا فيه، فهو كما لو أذن له في أكل طعامه، فأكله. وإن استعار منه شيئا له مثل، وتلف في يده بغير الاستعمال.. قال الشيخ أبو إسحاق: فإن قلنا: إن فيما لا مثل له تجب قيمته أكثر ما كانت.. ضمنه هاهنا بمثله، وإن قلنا فيما لا مثل له: تجب قيمته يوم التلف.. ضمن هذا بقيمته يوم التلف. [فرع: نتاج العارية] ] : وإن ولدت العارية عنده.. فهل يكون ولدها مضمونا عليه؟ فيه وجهان، كولد الوديعة، وقد مضى. [فرع: إعارة العين غير مملوكة] ] : وإن استأجر عينا، فأعارها غيره، فتلفت عنده من غير تفريط.. فذكر بعض أصحابنا: أنه لا يجب على واحد منهما ضمانها؛ لأن العين المستأجرة لا تضمن بالتلف من غير تفريط. وإن غصب رجل من رجل عينا، وأعارها غيره، فاستعملها المستعير، وتلفت عنه.. فللمالك الخيار: بين أن يرجع على الغاصب بقيمتها أكثر ما كانت من حين غصبها إلى أن تلفت، وبأجرة منافعها؛ لأنه تعدى بغصبها، وبين أن يرجع على

المستعير بقيمتها أكثر من حين قبضها إلى أن تلفت في يده، وبأجرة منافعها. فإن علم المستعير بالغصب.. لم يرجع لما غرمه على الغاصب، قولا واحدا؛ لأن التلف حصل في يده. وأما إذا لم يعلم المستعير بالغصب.. نظرت: فإن استعمل العين المغصوبة مدة، فنقصت أجزاؤها، وأقام المالك بينة عليها.. فإنه ينتزعها، وهو بالخيار: بين أن يرجع على الغاصب بأجرة منافعها من حين غصبها منه، إلى أن أخذها من المستعير، وبأرش ما نقصت، وبين أن يرجع على المستعير بأجرتها من حين قبضها، وبأرش ما نقصت في يده؛ لأنه قد وجد التعدي من كل واحد منهما فيها. فإن رجع على المستعير في ذلك.. فهل للمستعير أن يرجع بما غرمه على الغاصب؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (له أن يرجع عليه) . وبه قال أحمد؛ لأنه غره، وأدخله في العارية على أن لا يضمن الأجزاء والأجرة. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يرجع عليه) . وهو الصحيح؛ لأن التلف كان في يده. وإن اختار المالك الرجوع على الغاصب بذلك فهل للغاصب أن يرجع على المستعير بأرش ما نقصت في يده وبالأجرة مدة إقامتها في يده. إن قلنا بقوله في القديم في الأولى: لو رجع المالك على المستعير رجع المستعير على الغاصب.. لم يرجع الغاصب هاهنا على المستعير. وإن قلنا بقوله الجديد: إن المستعير لا يرجع على الغاصب.. رجع الغاصب هاهنا على المستعير. وأما إذا تلف في يد المستعير.. فللمالك أن يرجع بها على أيهما شاء بقيمتها أكثر

مسألة: لا يشترط تعيين مدة الإعارة

ما كانت من حين قبضها، وبأجرة منافعها، فإن كانت قيمتها يوم التلف أكثر، واختار المالك الرجوع على المستعير بالقيمة، وبالأجرة.. فإن المستعير لا يرجع على الغاصب بقيمتها، قولا واحدا؛ لأنه دخل في العارية على أن تكون مضمونة عليه، وهل يرجع المستعير على الغاصب بما غرم من الأجرة؟ على القولين، الصحيح: لا يرجع. وإن رجع المالك على الغاصب بهما.. رجع الغاصب على المستعير بالقيمة، قولا واحدا، وهل يرجع عليه بالأجرة مدة إقامتها في يده؟ فيه قولان، الصحيح: يرجع عليه. وإن كانت قيمة العين يوم قبضها المستعير أكثر، فنقصت بالاستعمال، ثم تلفت في يده، فإن قلنا: إن المستعير يجب عليه قيمة العين أكثر ما كانت من حين قبضها إلى أن تلفت.. فهو كما لو كانت قيمتها يوم التلف أكثر، وإن قلنا بالمذهب، وإنه لا يجب على المستعير إلا قيمتها يوم التلف.. فإن المالك إذا اختار الرجوع على المستعير.. فإنه يرجع عليه بقيمتها أكثر ما كانت من حين قبضها إلى أن تلفت، وأما قدر قيمتها يوم التلف.. فلا يرجع بها المستعير على الغاصب، قولا واحدا، وأما ما زاد على ذلك من القيمة التي غرمها، وأجرة منافعها.. فهل له أن يرجع بما غرمه من ذلك الغاصب؟ فيه قولان، الصحيح: لا يرجع. وإن رجع المالك بذلك على الغاصب.. فإن الغاصب يرجع على المستعير بقدر قيمتها يوم التلف، قولا واحدا، وهل يرجع عليه بالأجرة، وبأرش الأجزاء التالفة في يده بالاستعمال؟ فيه قولان، الصحيح: يرجع عليه. [مسألة: لا يشترط تعيين مدة الإعارة] ] : وتجوز الإعارة مدة معلومة، ومدة مجهولة؛ لأن العارية عطية لا عوض فيها، فصحت في المعلوم والمجهول، كإباحة الطعام، والوصية، وفيه احتراز من الإجارة.

مسألة: استعمال عين العارية

إذا ثبت هذا: فللمعير أن يرجع في العارية متى شاء، سواء كانت العارية مطلقة، أو مؤقتة وإن لم تنقض المدة، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد. وقال مالك: (إذا أعاره مدة مؤقتة.. لم يجز له أن يرجع فيها قبل انقضاء المدة، وإن أعاره مدة مجهولة.. لزمه تركه مدة ينتفع بها في مثلها) . وبنى مالك ذلك على أصله: أن الهبة تلزم بالعقد من غير قبض. دليلنا: أن المنافع المستقبلة لم تحصل في يده، فكان للمعير الرجوع فيها، كما لو لم يقبض العين، ويجوز للمستعير أن يرد العارية متى شاء؛ لأنه ملك الانتفاع بالإباحة، فكان له ردها متى شاء، كما لو أباح له أكل طعامه. وإن مات المعير، أو جن، أو أغمي عليه، أو حجر عليه للسفه.. انفسخت العارية؛ لأنها عقد جائز، فبطلت بما ذكرناه، كسائر العقود الجائزة. وإن مات المستعير.. انفسخت العارية؛ لأن الإذن بالانتفاع إنما كان للمستعير دون وراثه، وإذا انفسخت العارية.. وجب على المستعير ردها، ومؤنة الرد عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث صفوان: «عارية مضمونة مؤداة» . فوصف العارية بذلك، فدل على: أن ذلك مقتضى حكمها، فإن ردها المستعير إلى المالك، أو إلى وكيله.. برئ من الضمان. وإن ردها إلى ملك المعير، بأن استعار دابة فردها إلى إصطبل المالك..لم يبرأ بذلك. وقال أبو حنيفة: (يبرأ بذلك) . دليلنا: أنه لم يردها إلى المالك، ولا إلى وكيله، فلم يبرأ بذلك، كما لو غصب مائة عينا، أو سرقها، فردها إلى ملكه.. فإنه لا يبرأ بلا خلاف. [مسألة: استعمال عين العارية] ] : ومن استعار عينا.. فله أن يستوفي منفعتها بنفسه، وبوكيله؛ لأنه نائب عنه، وإن استعار دابة لتركبها امرأته زينب.. فهل له أن يركبها عمرة؟ ينظر فيه: فإن كانت عمرة أثقل منها.. لم يكن له ذلك؛ لأن ذلك انتفاع غير مأذون فيه.

فرع: تأجير وإعارة العارية

وإن كانت عمرة مثلها، أو أخف منها.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري: أحدهما: يجوز، وبه قال أبو حنيفة، كما قلنا في الإجارة. والثاني: لا يجوز؛ لأنه انتفاع غير مأذون فيه، فلم يجز، كما لو كانت أثقل منها. وإن استعار دابة ليركبها إلى بلد، فركبها إلى تلك البلد، وجاوز بها إلى بلد أخرى، فقبل أن يجاوز بها البلد المأذون له بالركوب إليه هي مضمونة عليه ضمان العارية، ولا أجرة عليه لذلك، فإذا جاوز بها.. صارت من حين المجاورة مضمونة عليه ضمان الغاصب، ويجب عليه أرش ما نقصت بعد ذلك، وأجرة منافعها، فإن ماتت.. وجب عليه قيمتها أكثر ما كانت حين المجازوة؛ لأنه صار متعديا بالمجاوزة، فإن رجع بها إلى البلد المأذون بالركوب إليه.. لم يزل عنه الضمان. وقال أبو حنيفة: (يزول عنه الضمان) . دليلنا: أنها صارت مضمونة عليه، فلم يبرأ بالرد إلى غير يد المالك، أو وكيله، كالمغصوب. [فرع: تأجير وإعارة العارية] ] : وإن استعار عينا مدة، فأجرها المستعير تلك المدة.. لم تصح الإجارة؛ لأن الإجارة معاوضة، فلا تصح إلا فيما يملكه، والمستعير لا يملك المنافع، وإنما هي ملك لمالك العين، وقد أباح له إتلافها، فلا يملك أن يملك ذلك غيره. وإن أعارها المستعير غيره.. فهل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه لما جاز أن يؤاجر ما استأجره.. جاز أن يعير ما استعاره.

فرع: إنفاق المستعير على الحيوان

والثاني: لا يجوز، وبه قال أحمد، وهو الصحيح؛ لأن المالك أباح للمستعير الانتفاع، فلا يملك المستعير أن يبيح ذلك لغيره، كما لو أباح له طعاما.. فليس للمباح له أن يبيحه لغيره، ويخالف المستأجر، فإنه يملك المنافع، فلذلك جاز أن يملكها غيره، كمن اشترى شيئا.. فله أن يتصرف فيه بما شاء. [فرع: إنفاق المستعير على الحيوان] ] : قال الصيمري: وإذا استعار حيوانا.. فإن نفقته مدة العارية على المعير؛ لأنه ملكه والنفقة تجب على مالك الرقبة دون مالك المنفعة، كما نقول في الإجارة. فعلى هذا: إذا استعار حيوانا، فإن أذن المعير للمستعير بالإنفاق عليه، فأنفق عليه.. رجع عليه بما أنفقه؛ لأنه أخرجه بإذنه، وإن لم يأذن له في الإنفاق عليه.. فللمستعير أن يرفع ذلك إلى الحاكم، لينفق عليه من مال المعير إن كان له مال، أو يبيع جزءا من الحيوان المعار، أو يقترض عليه من غير المستعير، أو من المستعير، كما قلنا في الوديعة. [مسألة: إعارة الأرض] ] : ويجوز إعارة الأرض للزراعة، وللبناء، وللغراس؛ لأنه يجوز أن يملك منفعة الأرض لذلك بالإجارة، فاستباحها بالإعارة، كمنفعة العبد والدار، فإن قال: أعرتك هذه الأرض لتنتفع بها.. جاز له أن يزرع فيها ويغرس ويبني؛ لأن الإذن فيها مطلق، فاستباح الجميع. وإن أعاره الأرض ليزرع فيها، وأطلق.. كان له أن يزرع أي زرع شاء؛ لأن الإذن مطلق، وإن قال: لتزرع الحنطة.. فله أن يزرع الحنطة والشعير؛ لأن ضرر الشعير أقل من ضرر الحنطة في الأرض، وإن قال: لتزرع فيها الشعير.. قال الشيخ أبو حامد: فليس له أن يزرع الحنطة؛ لأنها أكثر ضررا في الأرض من الشعير.. ولا يجوز أن يغرس في الأرض، ولا يبني فيها؛ لأنهما أعظم ضررا في الأرض من الزراعة.

فرع: الرجوع عن الأرض المعارة للبناء

وإن استعار أرضا ليبني فيها، أو يغرس.. كان له أن يزرع فيها. وحكى في " المهذب " وجها آخر: أنه إذا استعارها للبناء.. لم يكن له أن يزرع فيها؛ لأن الزراعة فيها ترخي الأرض. وليس بشيء؛ لأن ضرر البناء والغراس في الأرض أكثر من ضرر الزرع، فإذا زرعها.. فقد استوفي بعض ما أذن له فيه، فجاز، وإن استعارها للبناء.. فهل له أن يغرس فيها؟ أو استعارها للغراس.. فهل له أن يبني فيها؟ وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأن ضررهما فيا لأرض سواء؛ لأن الأرض تحفر لهما، ويراد كل واحد منهما للتأبيد. والثاني: ليس له ذلك؛ لأن ضررهما يختلف في الأرض؛ لأن ضرر الغراس لانتشار عروقه في باطن الأرض، ولا يمنع من الزراعة في ظاهرها، وضرر البناء في ظاهر الأرض دون باطنها؛ لأنه يكون في موضع واحد، ويمنع الزراعة في الأرض. [فرع: الرجوع عن الأرض المعارة للبناء] ] : وإن أعاره أرضا ليبني فيها، أو تغرس، فبنى فيها، أو غرس، ثم رجع المعير عن العارية، أو كانت العارية مقدرة بمدة.. فليس للمستعير أن يبني ويغرس فيها بعد الرجوع، ولا بعد انقضاء المدة؛ لأنه إنما ملك ذلك بالإذن، وقد زال الإذن، فإن غرس بعد ذلك.. كان كما لو غصبها، فغرس فيها، أو بنى، على ما سيأتي في (الغصب) وأما ما غرس وبنى قبل الرجوع، وقبل انقضاء المدة.. فهل يلزمه قلعه؟ ينظر فيه: فإن شرط المعير على المستعير قلع البناء والغراس عند الرجوع، أو عند انقضاء المدة.. لزمه قلعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم» . وإذا قلع.. لم يكن له أن يطالب المعير بما نقص البناء والغراس بالقلع، ولا المعير أن يطالبه بتسوية الأرض من آثار القلع؛ لأن كل واحد منهما قد رضي على نفسه بما يدخل عليه من الضرر بذلك لما شرط القلع.

وإن لم يشرط عليه القلع.. نظرت: فإن كانت قيمة الغراس والبناء لا تنقص بالقلع.. لزم المستعير أن يقلع؛ لأنه يمكن رد الأرض المعارة فارغة من غير إضرار بالمستعير وهل يلزمه تسوية الأرض؟ يحتمل أن يكون على وجهين يأتي ذكرهما. وإن نقصت قيمة الغراس والبناء بالقلع، فإن اختار المستعير أن يقلعه.. كان له ذلك، ولا يمنعه المعير منه؛ لأنه عين ماله، وهل يلزم المستعير تسوية الأرض؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه ذلك؛ لأنه لما أذن له بالغراس والبناء.. تضمن ذلك الرضا بحفر الأرض عند القلع؛ لأنه يعلم أن له أن يقلع. والثاني: يلزمه ذلك؛ لأن ذلك حصل برضا المستعير، بدليل: أنه لو امتنع من القلع.. لم يجبر عليه. وإن لم يختر المستعير القلع.. كان المعير بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين أن يبذل قيمة الغراس والبناء قائما ويتملكه، أو يقلعه ويدفع أرش ما نقص بالقلع، أو يطالبه بأجرة الأرض؛ لأن الضرر يزول عن المستعير بذلك. فإن بذل المستعير قيمة الأرض ليتملكها مع الغراس والبناء.. لم يجبر المعير على ذلك لأن الأرض لا تتبع الغراس والبناء، بدليل: أنه لو باعه غراسا، أو بناء في الأرض.. لم تدخل الأرض في البيع، والبناء والغراس يتبعان الأرض، بدليل: أنه لو باعه أرضا فيها بناء، أو غراس.. دخلا في البيع. فإن طلب المعير أجرة الأرض من المستعير، فامتنع المستعير من بذل الأجرة.. فهل يلزمه قلع البناء والغراس؟ فيه وجهان، حكاهما في " المهذب ": أحدهما: لا يلزمه؛ لأن الإعارة تقتضي الانتفاع من غير ضمان. والثاني: يلزمه؛ لأن بعد الرجوع لا يجوز له الانتفاع من غير أجرة.

وإن لم يبذل المعير قيمة الغراس والبناء، ولا أرش النقص، ولا رضي بالأجرة، وطالب بقلع الغراس والبناء.. لم يجبر المستعير على القلع، سواء كانت الإعارة مطلقة أو مقيدة بمدة. وقال أبو حنيفة: (إن كانت الإعارة مطلقة.. فله مطالبته بقلعه أي وقت شاء، ولا ضمان على المعير، وإن كانت مقيدة.. فليس له مطالبته بالقلع قبل انقضاء المدة من غير ضمان) دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» . وهذا غير ظالم، فوجب أن يكون له حق. ولأنه غرس مأذون فيه، ولم يشرط عليه القلع، فلم يلزمه القلع من غير عوض، كما لو كانت العارية مؤقتة. إذا ثبت هذا: ولم يبذل المعير العوض، ولا رضي المستعير بالقلع.. فإن الغراس يقر في الأرض، فإن اتفقا على البيع.. بيعا، ويقسم الثمن بينهما على قيمة الغراس والأرض، فيقوم الغراس قائما وهو في غير ملك الغارس، ثم تقوم الأرض وفيها الغراس، ولا يكون الغراس داخلا، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، وإن امتنعا من البيع.. أقر الغراس، ويقال لهما: انصرفا، فلا حكم لكما عندنا حتى تصطلحا على شيء، وللمعير أن يدخل إلى أرضه، ويغرس، ويزرع في بياضها، ويستظل تحت غرس المستعير؛ لأنه ملكه، ولكن لا يستند إلى جذوع غرس المستعير، وإن أراد بيع أرضه من المستعير وغيره.. كان له ذلك؛ لأنهما ملكه. وأما المستعير: فإن أراد دخول الأرض للتفرج والاستراحة.. لم يكن له ذلك؛ لأن الأرض للمعير، وقد رجع في عاريتها، وإن أراد دخولها لسقي الشجر، وأخذ الثمرة، وإصلاحها.. ففيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن المعير قد رجع في عارية الأرض، ولم يبق للمستعير إلا إقرار الغراس في مواضعه، فلم يكن له التخطي في ملك غيره.

فرع: قلع المستعير الغراس

والثاني: له ذلك، وهو الصحيح؛ لأن الإعارة للغراس تقتضي التأبيد، ولا يحصل التأبيد فيها إلا بالسقي، والإصلاح. وإن باع المستعير غراسه من مالك الأرض.. صح بيعه، وجها واحدا، وإن باعه من غيره.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن ملكه عليه غير مستقر؛ لأن للمعير أن يبذل قيمته ويتملكه، فلم يصح بيعه من غيره. والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأنه باع ملكه، وجواز انتزاعه لا يمنع صحة البيع، كما لو اشترى شقصا فيه شفعة، فباعه. [فرع: قلع المستعير الغراس] ] : إذا أذن في غراس شجرة، فغرسها، فانقلعت.. فهل له أن يعيد غرسها في موضعها من غير إذن؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن الإذن اختص بالأولى. والثاني: له ذلك؛ لأن الإذن قائم ما لم يرجع عنه. [فرع: حمل السيل الحب إلى أرض الجار] إذا كان لرجل حب حنطة أو شعير، أو جوز، أو لوز، أو نوى، أو شجر، فحمله السيل أو الريح إلى أرض غيره، فنبت.. فإنه يكون ملكا لصاحب الحب؛ لأنه عين ماله، وإنما زاد، فصار كما لو كان له بيض فحضنته دجاجة لغيره، وفرخ. فإن أراد صاحب الشجر قلعه من أرض غيره.. كان له ذلك، ولزمه تسوية ما حصل في الأرض من الحفر؛ لأنه حصل لتخليص ملكه، فهو كما لو كان له فصيل،

فرع: طلب المعير الأرض قبل الحصاد

فدخل إلى دار غيره، وكبر، ولم يقدر على إخراجه إلا بنقض الباب.. فإنه ينقض الباب لإخراج فصيله، وعليه إصلاح الباب. وإن طالب صاحب الأرض صاحب الشجر بقلعه من غير ضمان.. ففيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن مالك الشجر غير مفرط في إنباته بأرض غيره، فصار كما لو استعار منه أرضا، فغرس فيها. فعلى هذا يكون: حكمه حكم العارية في ضمان العوض، وهو أن مالك الأرض بالخيار: بين أن يبذل لمالك الشجر قيمته فيتملكه، أو يقلعه ويضمن أرش ما نقص بالقلع، أو يقره في الأرض ويطالبه بأجرة أرضه. والثاني: أن مالك الشجر يجبر على قلعه، ولا يلزم مالك الأرض له عوض، وهو الصحيح؛ لأنه حصل في الأرض بغير اختيار مالك الأرض، فصار كما لو انتشرت أغصان شجرته إلى هواء أرض غيره، فإذا قلع الشجر.. لزمه تسوية الأرض؛ لأن ذلك حصل لتخليص ملكه. [فرع: طلب المعير الأرض قبل الحصاد] ] : وإن أعاره أرضا ليزرع فيها، فزرع فيها، فرجع المعير في الأرض قبل أن يبلغ الزرع وقت الحصاد.. ففيه وجهان: أحدهما: حكمه حكم الغراس فيما ذكرناه، من التبقية، والقلع، والأرش. والثاني: أنه يجبر المعير على تبقيته إلى الحصاد بأجرة المثل؛ لأن له وقتا ينتهي إليه.. بخلاف الغراس. [مسألة: استعار الجدار ليثبت فيه خشبه] ] : إذا استعار منه حائطا ليضع عليه الخشب في التسقيف.. جاز؛ لأنه ليس فيه أكثر من أنه يراد للبقاء، فجازت العارية له، كاستعارة الأرض للغراس والبناء، فإن رجع المعير في العارية قبل وضع الجذوع.. صح الرجوع؛ لأنه لا ضرر على المستعير في الرجوع.

قال ابن الصباغ: وهكذا: إذا رجع بعد وضع الجذوع وقبل البناء عليها.. صح الرجوع، ووجب، على المستعير رفعها؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك. وإن وضع الجذوع، وبنى عليه، ثم رجع المعير.. فهل له أن يطالبه بقلعها، ويضمن له أرش ما يدخل عليه من النقص؟ فيه وجهان، حكاهما المحاملي: أحدهما ـ قال في " الفروع ": وبه الفتوى ـ: أن ذلك كما قلنا فيمن أعار غيره أرضا للبناء أو الغراس، فبنى فيها، أو غرس. والثاني ـ وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره ـ: ليس له ذلك؛ لأنه إذا قلعها.. انقلع ما في ملك المستعير، وليس له أن يقلع شيئا من ملك المستعير بضمان القيمة، بخلاف الغراس، فإن قال المعير: أنا أدفع قيمة الأجذاع وأتملكها.. لم يكن له ذلك، والفرق بينهما وبين الغراس: أنه إذا دفع قيمة الغراس.. انتفع به؛ لأنه في ملكه، وهاهنا لا ينتفع بما يدفع عنه القيمة، وهو أطراف الأجذاع؛ لأن أطرافها الأخرى في ملك المستعير. قال الصيدلاني: وإن استعار من جاره حائطين، فوضع عليهما خشب ساباط.. فللمعير أن يرجع بشرط أن يضمن النقص؛ لأن الحائطين له، فلا ضرر على المستعير بذلك، بخلاف ما إذا كان أحد الحائطين للمستعير. فإن انهدم الحائط المعار.. قال ابن الصباغ: فإن بناه المعير بغير آلته الأولى.. لم يكن للمستعير رد الأخشاب عليه بغير إذنه، وإن بناه بآلته الأولى.. ففيه وجهان: أحدهما: له أن يعيد خشبه بغير إذنه، لأن العارية تقتضي التأبيد. والثاني: ليس له أن يعيدها بغير إذنه، وهو الصحيح؛ لأنه إنما لم يكن له الرجوع قبل الانهدام؛ لأن على المستعير الضرر بذلك، وهاهنا لا ضرر عليه.

فرع: جهل كيفية وضع الجذور على الحائط

وذكر الشيخ أبو حامد، والمحاملي الوجهين: إذا انهدم الحائط فأعيد، من غير تفصيل. قال المحاملي: وكذلك إذا هدمه صاحبه. وهكذا الوجهان: إذا سقطت الجذوع ولم تنكسر.. فهل له إعادتها بغير إذنه؟ على الوجهين، وإن انكسرت تلك الأجذاع.. فذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": ليس له إعادة مثلها، وذكر ابن الصباغ: أنها على الوجهين الأولين. [فرع: جهل كيفية وضع الجذور على الحائط] ] : وإن وجدت أجذاع لرجل على حائط غيره، أو شجرة في أرض غيره، ولم يعرف سبب ذلك.. لم يكن له المطالبة بقلع ذلك؛ لأن الظاهر أنها وضعت بملك، وإن انقلعت، أو قلعها.. كان له إعادة مثل ذلك، وجها واحدا، وقد ذكرناه. [فرع: استعارة أرض لدفن أو حفر بئر] ] : وإن أعار أرضه لدفن ميت، فدفن فيها.. لم يكن له المطالبة بإخراجه؛ لأن الميت لا يحول، ولأن في ذلك هتكا لحرمته. وإن استعار منه أرضا ليحفر فيها بئرا، أو مدفنا.. صحت العارية؛ لأنها منفعة تملك بالإجارة، فاستباحها بالإعارة، كسائر المنافع. فإذا نبع الماء.. جاز له أخذه؛ لأن الماء يستباح بالإباحة؛ فإن رجع المعير في العارية بعد الحفر.. فهل يصح رجوعه؟ لا أعرف فيها نصا، والذي يقتضي المذهب: أنه يبن على القولين في العمل من المفلس، هل هو كالعين، أو ليس كالعين؟ فإنه قلنا: إنه كالعين.. لم يملك الرجوع إلا بشرط أن يضمن له قيمة عمله. وإن قلنا: إنه ليس كالعين.. كان له الرجوع من غير ضمان قيمة العمل.

مسألة: استعار شيئا ليرهنه

[مسألة: استعار شيئا ليرهنه] ] : إذا استعار من رجل عبدا ليرهنه بدين عليه، فرهنه.. ففيه قولان: أحدهما: أن حكمه حكم العارية، وليس بضمان؛ لأنه قبض ملك غيره بإذنه لينفرد بمنفعته، فكان عارية، كما لو استعاره للخدمة، ولأن الضمان: ما تعلق به الحق بذمة الضامن، وهاهنا لم يتعلق بذمة مالك العبد حق، فلم يكن ضمانا. والقول الثاني: أن حكمه حكم الضمان، وهو اختيار الشاشي، وهو الأصح؛ لأن العارية ما أفادت المنفعة للمستعير، وهاهنا منفعة العبد للسيد، فثبت أنه ضمان، ولأن أعيان الأموال تحل محل الذمم بدلالة جواز التصرف فيها، كجوازه في الذمة، فلما جاز أن يضمن الإنسان حقا في ذمته.. جاز أن يضمنه في عين ماله. إذا ثبت هذا: فإن قلنا: إن حكمه حكم العارية.. فهل يصح عقد الرهن عليه؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس: لا يصح الرهن؛ لأن العارية عقد جائز، والرهن عقد لازم، فلا يجوز أن يستباح بالعقد الجائز العقد اللازم. و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: يصح الرهن، وهو الصحيح؛ لأنه عارية غير لازمة؛ لأن للمعير أن يطالبه بفكه أي وقت شاء، ولأن العارية قد تكون لازمة، وهو إذا أعاره حائطا ليضع عليه جذعا، فوضعه، وبنى عليه. فإذا قلنا بهذا: فرجع مالك العبد عن العارية، فإن كان قبل الرهن، أو بعد الرهن وقبل أن يقبضه المرتهن.. صح رجوعه، ولا يصح رهنه ولا قبضه بعد ذلك؛ لأن العارية قد بطلت بالرجوع، وإن رجع بعد الرهن والإقباض..لم ينفسخ الرهن؛ لأنه قد لزم بالقبض، ولا يفتقر على هذا القول إلى تعيين قدر الدين وجنسه ومحله عند العارية؛ لأن العارية تصح لمنفعة مطلقة ومقيدة، إلا أنه إن ذكر جنس الدين، وحلوله، أو أجله.. لم يجز أن يرهنه بغير ذلك الجنس، ولا أن يرهنه، بخلاف

فرع: أعاره عبدا ليرهنه بدين حال

ما عينه عند العارية، من الحلول، أو التأجيل؛ لأنه أذن له في انتفاع مخصوص، فلم يجز له أن ينتفع به في غير ذلك، ولأنه قد يكون على المالك ضرر في المخالفة، وهو أنه إذا أذن له ليرهنه في الدراهم، فرهنه بالدنانير.. فربما كانت الدراهم أسهل في القضاء، وإن أذن له ليرهنه بدين حال، فرهنه بمؤجل.. فلأن المالك لم يرض بأن يحال بينه وبين عبده إلى الأجل، وإن أذن له ليرهنه بدين مؤجل، فرهنه بدين حال.. فربما لا يجد الراهن الدين حالا، فيباع العبد بالدين، فيؤدي ذلك إلى إضرار بمالك العبد لم يرض به. وإن أذن له ليرهنه بمائة درهم، فرهنه بخمسين درهما.. صح؛ لأن الخمسين تناولها الإذن، وإن رهنه بمائتين.. ففيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: هل يصح رهنه بالمائة المأذون فيها؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة. و [الثاني] : منهم من قال: لا يصح رهنه بها، قولا واحدا، وهو المنصوص؛ لأنه خالفه في إذنه، فلم يصح تصرفه، كما لو قال لوكيله: بع هذا العبد، فباعه مع عبد آخر للموكل.. فلا يصح بيع واحد منهما. وإن قلنا: إن حكمه حكم الضمان.. لم يصح حتى يبين جنس الدين وقدره ومحله عند العارية؛ لأن الضمان لا يصح في غير معلوم، فإن أذن له ليرهنه بدين مقدر من جنس إلى أجل مقدر، أو حال.. لم يجز رهنه بغير ذلك، إلا أن يرهنه بأقل من القدر المأذون فيه، بأن يأذن له في أن يرهنه بمائة درهم، فيرهنه بخمسين درهما، فيصح؛ لما ذكرناه. [فرع: أعاره عبدا ليرهنه بدين حال] ] : وإن أذن له ليرهنه بدين حال، فرهنه به.. فللسيد مطالبته بفكاكه على القولين؛ لأنا إن قلنا: إنه عارية.. فللمعير أن يرجع متى شاء، وإن قلنا: إنه ضمان.. فله مطالبته بتخليص عبده؛ لئلا يباع، وإن أذن له ليرهنه بدين مؤجل، فرهنه به.. فهل له مطالبته بفكاكه قبل الحلول؟

إن قلنا: إنه عارية ... فله مطالبته؛ لأن للمعير أن يرجع في العارية المؤقتة قبل انقضائها. وإن قلنا: إنه ضمان.. لم يكن له المطالبة بفكاكه قبل الأجل، كما لو ضمن عنه دينا إلى أجل.. فليس له مطالبة المضمون عنه بتخليصه قبل الأجل. إذا ثبت هذا: فإن قضى الراهن الدين من ماله انفك الرهن، ووجب عليه رده إلى مالكه، وإن لم يقض الدين وحل الأجل ولم يكن معه ما يقضي به الدين.. بيع العبد في الدين، وبماذا يرجع السيد على المستعير؟ ينظر فيه: فإن بيع العبد بقيمته.. رجع عليه السيد بقدر قيمته، أو بالدين؛ لأنا إن قلنا: إنه عارية.. فالعارية تضمن بقيمتها، وإن قلنا: إنه ضمان.. فالضامن يرجع بالدين الذي غرمه. وإن بيع بأقل من قيمته مما يتغابن الناس بمثله، فإن قلنا: إنه عارية.. رجع عليه بكمال قيمته؛ لأن العارية مضمونة بقيمتها، وإن قلنا: إنه ضمان.. رجع السيد بالثمن الذي بيع به العبد؛ لأنه هو القدر الذي غرمه. فإن بيع بأكثر من قيمته، فإن قلنا: إنه ضمان.. رجع السيد بالثمن الذي بيع به، وإن قلنا: إنه عارية.. ففيه وجهان: [أحدهما [: قال عامة أصحابنا: يرجع عليه بقيمته لا غير؛ لأن العارية مضمونة بقيمتها. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يرجع عليه بجميع ما بيع به وحكى ذلك ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن ثمن العبد ملك لصاحبه، ولهذا لو أسقط المرتهن حقه من الرهن.. كان جميع الثمن للسيد. وإن أراد المالك بيع العبد.. قال الطبري: فإن قلنا: إنه عارية.. فله ذلك، وإن قلنا: إنه ضمان.. فليس له ذلك.

فرع: تلف العارية في يد المرتهن

[فرع: تلف العارية في يد المرتهن] ] : وإن تلف العبد في يد المرتهن بغير تفريط منه، أو جنى، فبيع في الجناية، فإن قلنا: إنه ضمان.. لم يرجع السيد على المستعير بشيء؛ لأنه لم يقض عنه شيئا، وإن قلنا: إنه عارية.. رجع السيد على المستعير بقيمة العبد. [فرع: قضاء سيد العبد الدين] ] : فإن قضى سيد العبد الدين عن المستعير.. صح قضاؤه؛ لأنه يجوز أن يقضي عن غير دينه، وينفك الرهن، كما لو قضاه الراهن، فإن قضاه بغير إذن الراهن. لم يرجع عليه بشيء؛ لأنه متطوع بالتفضل عنه، وإن قضاه بإذنه.. كان له أن يرجع عليه؛ لأنه ضمن بإذنه، وقضى بإذنه، فإن كان الحق مؤجلا، فاستأذنه السيد في قضائه وتعجيله، فقضاه عنه معجلا.. كان له أن يرجع في الحال، فإن اختلفا في الإذن.. فالقول قول الرهن؛ لأن الأصل عدم الإذن، فإن شهد المرتهن للسيد في إذن الراهن.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (قبلت شهادته؛ لأنه لا يجر بهذه الشهادة إلى نفسه نفعا، ولا يدفع بها ضررا) [مسألة: رهن العبد بما أذن فيه عند رجلين العبد المستعار] مسألة: [رهن العبد بما أذن فيه عند رجلين] : إذا استعار من رجل عبدا ليرهنه بمائة دينار، فرهنه عند رجلين، عند كل واحد منهما نصفه بخمسين، بعقد واحد.. صح، فإن قضى أحدهما خمسين..انفك نصف العبد؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين. وهكذا: إذا استعار رجلان من رجل عبدا ليرهناه بمائة، فرهناه عند رجل بمائة بعقد واحد، فقضاه أحدهما خمسين.. انفك نصف العبد؛ لم ذكرناه.

مسألة: اختلاف راكب الدابة وصاحبها

وإن استعار رجل من رجلين عبدا بينهما نصفين، ليرهنه بمائة دينار، فرهنه عند رجل بمائة دينار، فدفع إليه خمسين لينفك نصيب أحدهما.. ففيه قولان: أحدهما: لا ينفك منه شيء لأن الراهن واحد، والمرتهن واحد، والحق واحد.. فلم ينفك بعضه بقضاء بعض الدين، كما لو استعاره من واحد. والثاني: ينفك نصف؛ لأن كل واحد منهما لم يأذن في رهن نصيبه إلا بخمسين. فإذا قلنا بهذا: نظر في المرتهن: فإن علم أن العبد لسيدين.. فلا خيار له في البيع إن كان الرهن مشروطا في بيع؛ لأنه دخل على بصيرة. وإن لم يعلم فهل له الخيار في البيع؟ قال أبو العباس: فيه وجهان: أحدهما: لا خيار له؛ لأنه حصل له رهن جميع العبد، وإنما انفك بعضه بالقضاء بعد ذلك. والثاني: له الخيار؛ لأنه دخل في البيع على أن لا ينفك شيء من الرهن إلا بقضاء جميع الدين، ولم يحصل له ذلك. [مسألة: اختلاف راكب الدابة وصاحبها] ] : إذا دفع إلى رجل دابة، فركبها، ثم اختلفا: فقال مالك الدابة: أكريتكها إلى موضع كذا، بكذا وكذا، وقال الراكب: بل أعرتنيها.. فلا يخلو: إما أن تكون الدابة باقية، أو تالفة. فإن كانت باقية.. نظرت: فإن كان اختلافهما عقيب الدفع قبل أن تمضي مدة لمثلها أجرة.. فالقول قول الراكب مع يمنيه: إنه ما استأجرها، بلا خلاف؛ لأن مالك الدابة يدعي على الراكب عقد الإجارة، والأصل عدمها، فيحلف الراكب، وترد الدابة. وإن كان اختلافهما بعد أن مضى زمان لمثلها أجرة.. فقد قال الشافعي في " المختصر، "3/33] ، و" الأم " [3/218] : (القول قول الراكب مع يمينه) ، وقال

في (المزارعة) [من " الأم " 3/247] : (إذا دفع رجل إلى آخر أرضا، فزرعها، ثم اختلفا: فقال المالك: أكريتكها بكذا، وقال من بيده الأرض: بل أعرتنيها.. فالقول قول مالك الأرض) . واختلف أصحابنا في المسألتين على طريقين: فـ[الأول] : منهم من حملهما على ظاهرهما، وقال: إذا اختلفا في الدابة فالقول قول الراكب، وإذا اختلفا في الأرض.. فالقول قول مالك الأرض، وفرق بينهما: بأن العادة قد جرت بأن الناس يعيرون دوابهم للركوب، فكان القول قول الراكب؛ لأن الظاهر معه، ولم تجر العادة أن الناس يعيرون أراضيهم للزراعة، وإنما يكرونها، فكان القول قول المالك؛ لأن؛ الظاهر معه. و [الطريق الثاني] : منهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين، وبه قال عامة أصحابنا، وهو الصحيح: أحدهما: أن القول قول المالك، وهو قول مالك، واختيار المزني؛ لأن المنافع تجري مجرى الأعيان: بدليل: أنه يصح العقد عليها، وتضمن بالغصب، وتصح الوصية بها، كالأعيان، ثم لو اختلفا في عين الدابة والأرض: فقال من هي بيده: وهبتنيها، وقال المالك: بل بعتكها.. فالقول قول المالك، فكذلك هذا مثله. والثاني: أن القول قول الراكب، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنهما قد اتفقا على: أن المنافع تلفت في يد الراكب وملكه، وصار المالك يدعي عليه عوض المنافع، وهو منكر، فكان القول قول المنكر كما لو كان في يده دار، وأقر غيره له بها، وادعى عليه أنه باعها منه، وأنكر من بيده الدار البيع.. فالقول قوله مع يمينه، ويخالف إذا اختلفا في هبة الدار وبيعها؛ لأن هناك اتفقا على: أن الملك لمن انتقلت منه، واختلفا في كيفية خروجه منه، فكان القول قول المالك في كيفية خروجه منه، وهاهنا المنفعة قد حكم أنها قد حدثت في ملك الراكب ويده، وادعى عليه المالك عوضا الأصل عدمه. فإن قلنا: القول قول مالك.. نظرت: فإن حلف.. استحق الأجرة، وأي أجرة يستحق؟ فيه وجهان:

أحدهما: الأجرة المسماة التي ادعاها؛ لأنه قد حلف عليها. والثاني: يستحق أجرة المثل، وهو المنصوص في " الأم " [3 218] ؛ لأنهما لو اتفقا على عقد الإجارة، واختلفا في قدر الأجرة.. لم يستحق المسمى، فبأن لا يستحق المسمى، ولم يتفقا على قدر الإجارة أولى. ويحتمل أن يكون فيها وجه ثالث: وهو أنه يستحق أقل الأمرين، من المسمى، أو أجرة المثل؛ لأنه إن كان المسمى أكثر.. لم يستحق الزيادة عليه؛ لأنه لا يجوز أن يستحق ذلك بدعواه أو يمينه، وإن كانت أجرة المثل أكثر.. لم يستحق الزيادة على المسمى؛ لأنه لا يدعيها. فإن نكل المالك عن اليمين.. لم يحلف الراكب يمين الرد، وأنه أعاره إياه؛ لأنه لا يدعي شيئا، فيحلف عليه. قال الطبري في " العدة ": فإن أراد المالك استحلاف الراكب: أنه ما أستأجرها منه.. كان له ذلك، كما لو ادعى على رجل دينا، وأقام شاهدا واحدا.. فإن له أن يحلف مع شاهده، وله أن لا يحلف مع شاهده، ويستحلف خصمه: أنه لا يستحق عليه الدين، كذلك هذا مثله. وإن قلنا: القول قول الراكب.. نظرت: فإن حلف: إنه ما استأجرها.. سقطت عنه المطالبة. وإن نكل عن اليمين.. ردت على المالك، فإن حلف.. فقد قال عامة أصحابنا: استحق الأجرة المسماة التي ادعاها، وجها واحدا؛ لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه تحل محل إقرار المدعى عليه، أو محل البينة عليه، وأيهما كان.. فإن المسمى يثبت به. وقال المحاملي: فيما يستحقه من الأجرة الوجهان الأولان. وإن اختلفا بعد تلف الدابة.. نظرت: فإن تلفت عقيب الدفع قبل أن تمضي مدة لمثلها أجرة، فإن المالك ادعى عقد

فرع: اختلفا على إعارة أو إجارة

الإجارة ـ ولو صح عقدها.. لانفسخت بموت الدابة عقيب الدفع ـ فلا تصح دعواه للأجرة؛ لأن الراكب يقر له بقيمة الدابة، وهو لا يدعيها. قال الشيخ أبو حامد: فيقال لمالك الدابة: قد أقر لك بقيمة الدابة، فإن شئت.. فصدقه أنك أعرته الدابة، وخذ قيمتها منه، وإن لم تصدقه.. فلا شيء لك. وإن تلفت الدابة بعد أن مضت مدة لمثلها أجرة.. فإن المالك يدعي أجرة ما مضى، ولا يدعي القيمة، والراكب ينكر الأجرة، ويقر له بالقيمة، واختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: ينظر فيه: فإن كانت الأجرة والقيمة سواء.. فإن الحاكم يأخذ ذلك من الراكب، ويدفعه إلى المالك من غير يمين؛ لأنهما قد اتفقا على استحقاق مالك الدابة لذلك، وإن اختلفا في سببه، فإن كانت القيمة أكثر من الأجرة.. ألزمه الحاكم دفع قدر الأجرة، وقيل للمالك: أنت لا تدعي الزيادة على قدر الأجرة، فإن أردت أن تستحقه.. فأقر أنك أعرته، ولم تؤاجره، وإن كانت الأجرة أكثر من القيمة.. ألزمه الحاكم أن يدفع إليه قدر القيمة، وكان الحكم في الزيادة على الطريقين إذا كانت الدابة باقية. ومنهم من قال: يسقط إقراره بالقيمة؛ لأنه أقر بها لمن لا يدعيها، والمالك يدعي الأجرة، والراكب ينكر، ومن القول قوله؟ على الطريقين إذا كانت الدابة باقية. [فرع: اختلفا على إعارة أو إجارة] ] : وإن كان اختلافهما بعكس الأولى، بأن يقول الراكب: أجرتنيها إلى موضع كذا بكذا، وقال المالك: بل أعرتكها، فإن كانت الدابة باقية.. نظرت: فإن اختلفا عقيب الدفع قبل أن تمضي مدة لمثلها أجرة.. فالقول قول المالك مع يمينه: أنه ما أجره؛ لأن الأصل عدم الإجارة، فيحلف، ويأخذ دابته.

فرع: اختلفا في أنه اغتصب أو استعار

وإن اختلفا بعد مضي مدة الإجارة.. فلا معنى لهذا الاختلاف؛ لأنهما اتفقا على وجوب ردها، فيأخذ المالك دابته من غير يمين، غير أن الراكب يقر للمالك بالأجرة، وهو لا يدعيها، فلا يستحقها إلا بالتصديق. وإن اختلفا بعد مضي بعض مدة الإجارة.. فالقول قول المالك مع يمينه: أنه ما أجره، فإذا حلف.. أخذ دابته، ولا يستحق، المالك أجرة ما مضى؛ لأنه لا يدعيها. وإن كانت الدابة تالفة، فإن تلفت عقيب الدفع قبل أن تمضي مدة لمثلها أجرة.. فإن المالك يدعي أنها عارية؛ ليستحق قيمتها، والراكب ينكر العارية.. فالقول قول المالك، قولا واحدا؛ لأن الاختلاف هاهنا في العين لا في المنفعة، والعين قد قبضها الراكب، والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمان؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» . وإن كان الاختلاف بعد مضي المدة.. فإن الراكب يقر له بالأجرة، والمالك يدعي القيمة فإن كانت القيمة بقدر الأجرة.. فمن أصحابنا من قال: يدفع إليه من غير يمين؛ لأنهما اتفقا: أن المالك يستحق ذلك، ومنهم من قال: لا تثبت الأجرة؛ لأنه لا يدعيها، ولكن يحلف المالك على القيمة، وهكذا الوجهان لو كانت القيمة أقل، هل يستحقها المالك من غير يمين؟ وإن كانت القيمة أكثر.. لم يستحق المالك ما زاد على الأجرة حتى يحلف، وهل يستحق قدر الأجرة من غير أن يحلف؟ على الوجهين. [فرع: اختلفا في أنه اغتصب أو استعار] ] : وإن قال الراكب: أعرتنيها، وقال المالك: بل غصبتنيها فلا يخلو إما أن تكون الدابة باقية، أو تالفة.

فإن كانت باقية.. نظرت: فإن كان الاختلاف عقيب الدفع قبل أن تمضي مدة لمثلها أجرة.. ردت على صاحبها، ولا كلام، سواء كانت غصبا أو عارية. وإن كان بعد مضي مدة لمثلها أجرة.. فنقل المزني هاهنا: (أن القول قول المستعير) . واختلف أصحابنا فيها على أربعة طرق: فمنهم من قال: هي على الطريقين في الدابة والأرض: أحدهما: الفرق بين الدابة والأرض. والثانية: أنهما على قولين؛ لأن الاختلاف فيهما واحد وهو أن المالك يدعي الأجرة، والمتصرف ينكرها، فهي كالأولى. و [الطريقة الثالثة] : منهم من قال: القول قول المالك، قولا واحدا، وما رواه المزني غلط، والفرق بينهما: أن في تلك المسألة اتفقا على: أن المنافع تلفت على ملك المتصرف، وادعى عليه المالك عوضها، فلذلك كان القول قول المتصرف في أحد القولين؛ لأن الأصل براءة ذمته، وهاهنا لم يقر المالك للمتصرف بالمنفعة، وإنما المتصرف ادعى ملكها، والأصل بقاء المنافع على ملك المالك. و [الطريقة الرابعة] : قال الشيخ أبو حامد: الصحيح ما رواه المزني، وقد نص عليه الشافعي في " الأم " [3 218] : لأن المنافع قد تلفت، وليست ملكا قائما، والمالك يدعي عليه عوضها، والأصل براءة ذمته، ولأن الظاهر من اليد أنها بحق، ومدعي الغصب يدعي خلاف الظاهر، فكان القول قول صاحب اليد. وإن كانت الدابة تالفة، فإن كان اختلافهما قبل مضي شيء من المدة.. فإن القيمة تجب على الراكب بلا يمين؛ لأنهما متفقان على: أن المالك يستحقها، وإن كان بعد مضي مدة لمثلها أجرة.. فالكلام على الأجرة على ما مضى، وأما القيمة: فإن كانت قيمتها من حين قبضها إلى أن تلفت سواء، أو كانت قيمتها يوم التلف أكثر.. وجبت عليه القيمة من غير يمين، وإن كانت قيمتها يوم التلف أقل من يوم القبض، فإن قلنا: إن العارية إذا تلفت وجبت قيمتها أكثر ما كانت من حين القبض.. وجبت قيمتها هاهنا

فرع: اختلفا على أنه استأجر أو اغتصب

أكثر ما كانت من غير يمين، وإن قلنا: يجب قيمتها يوم التلف.. وجب عليه قدر قيمتها يوم التلف من غير يمين، وما زاد على ذلك على الطرق. [فرع: اختلفا على أنه استأجر أو اغتصب] ] : وإن قال المالك: غصبتنيها، وقال الراكب: بل أجرتنيها إلى موضع كذا بكذا.. فلا يخلو: إما أن تكون الدابة باقية، أو تالفة. فإن كانت باقية، فإن كان الاختلاف قبل مضي شيء من المدة.. فالقول قول المالك مع يمينه؛ لأنه يدعي عليه عقد الإجارة، والأصل عدمه، فيحلف؛ ويأخذ دابته، وإن كان بعد مضي مدة الإجارة، فإن كان ما يقر به الراكب من الأجرة المسماة مثل أجرة مثلها، أو أكثر من أجرة المثل.. استحق المالك قدر المسماة من غير يمين؛ لأنهما متفقان على استحقاق المالك له، وإن كانت أجرة المثل التي يدعيها الملك أكثر من المسماة، أو كانت البهيمة قد نقصت بالركوب، فمن القول قوله؟ يحتمل أن يكون على الطرق في المسألة قبلها؛ لأنهما سواء، وذلك: أن الراكب يدعي أنه استوفى منفعتها بملك صحيح، وهو الإجارة، كما أنه في الأولى يدعي أنه استوفاها بملك صحيح وهو الإعارة والمالك يدعي أنه استوفى ذلك فيها بغير ملك. وإن كانت العين تالفة، فإن تلفت قبل أن يمضي شيء من المدة.. فإن المالك يدعي القيمة، والراكب ينكرها ولا يقر له بأجرة، فمن القول قوله؟ على الطرق المخرجة فيها إذا كانت العين باقية بعد مضي المدة، وإن مضت مدة لمثلها أجرة، ثم تلفت، فإن كان ما يقر به الراكب من المسمى مثل أجرة المثل، أو أقل.. فإن المالك يستحق ذلك من غير يمين؛ لأنهما متفقان على استحقاق المالك له، ثم المالك يدعي القيمة، والراكب ينكرها، فمن القول قوله؟ على الطرق المخرجة فيها. وهكذا: إن كانت أجرة المثل أكثر من المسمى.. في الزيادة الطرق المخرجة، وإن كانت المسماة أكثر من أجرة المثل.. استحق قدر أجرة المثل من غير يمين؛

لاتفاقهما على استحقاق المالك له، وهل يستحق الزيادة عليه من جهة القيمة التي يعيها من غير يمين؟ فيه وجهان: أحدهما: يستحق ذلك من غير يمين؛ لاتفاقهما على استحقاق المالك له. والثاني: يبطل إقرار الراكب بما زاد من المسمى على أجرة المثل؛ لأنه أقر بذلك لم لا يدعيه. وبالله التوفيق

كتاب الغصب

[كتاب الغصب] الغصب محرم، والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] [النساء: 29] . وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] [النساء: 10] . وقَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] الآية [المائدة: 38] . والسرقة من الغصب. ومن السنة: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ـ في خطبته في حجة الوداع ـ: «ألا إن دماءكم

وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» . ومعنى ذلك: دماء بعضكم على بعض، وأموال بعضكم على بعض. وروى عبد الله بن السائب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يأخذن أحدكم مال أخيه لاعبا، ولا جادا، فمن أخذ عصا أخيه.. فليردها» . وروى سمرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «على اليد ما أخذت حتى ترده "، وروي: " حتى تؤديه» . وروى يعلى بن مرة الثقفي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أخذ أرضا بغير حقها.. كلف أن يحمل ترابها إلى المحشر» .

وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أخذ شبرا من الأرض بغير حقها.. طوقه من سبع أرضين يوم القيامة» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال بحلال، أو حرام» . وأجمعت الأمة على تحريم الغصب، قال الصيمري: ومن غصب شيئا، واعتقد إباحته.. كفر بذلك، وإن اعتقد تحريمه.. فسق بفعله، ولم تقبل شهادته. إذا ثبت هذا: فإن الغصب يصح في الأموال المنقولة، بأن يقبضها كما يقبضها في البيع، وفي العقار، بأن يزيل يد مالكه عنه، ويصير في يده، وبه قال مالك، ومحمد.

مسألة: يرد المغصوب

وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (لا يصح الغصب في العقار؛ لأنه لا يتأتى فيه النقل) . دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غصب شبرا من الأرض.. طوقه من سبع أرضين يوم القيامة» . ولأن ما جاز أن يضمن بالقبض في البيع.. جاز أن يضمن بالغصب، كالمنقول. [مسألة: يرد المغصوب] ومن غصب مال غيره.. وجب عليه رده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فمن أخذ عصا أخيه.. فليردها» . فإن كان الغاصب من أهل الضمان في حق المغصوب منه.. فإن المغصوب يكون في ضمان الغاصب إلى أن يرده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى ترد» . وإن لم يكن من أهل الضمان في حق المغصوب منه، بأن يغصب الحربي مال المسلم، أو يغصب العبد مال سيده.. فإنه يكون غاصبا يأثم بذلك، ويجب عليه رده، ولا يكون مضمونا عليه، ولو تلف في يده.. لم يجب عليه ضمانه، كما لو أتلف عليه مالا. وكيفية الرد الذي يبرأ به الغاصب من الضمان: أن ينظر في المغصوب: فإن كان مما ينقل.. فبأن ينقله المالك، أو وكيله.

مسألة: ما غصب وله أجرة

وإن كان مما لا ينقل.. فبأن يرفع الغاصب يده عنه، ويعلم الملك أنه قد تخلى عنه، فإذا مضت مدة يمكن فيها القبض ... برئ الغاصب من الضمان. وهكذا: لو لم يعلمه الغاصب، لكن وضع المالك يده على عقاره، ورفع الغاصب يده عنها، ولم يمنع المالك منه.. فإنه يبرأ بذلك. [مسألة: ما غصب وله أجرة] مسألة: [في ما غصب وله أجرة] : ومن غصب عينا لغيره، وهو من أهل الضمان في حقه، وأقامت في يده مدة لمثلها أجرة، فإن كان لمثل تلك العين منفعة تملك بالإجارة، كسكنى الدار، وزراعة الأرض، وخدمة العبد، والجارية، وما أشبه ذلك.. وجب على الغاصب أجرة مثلها لتلك المدة، سواء انتفع بها أو لم ينتفع بها. وإن كانت المنفعة لا تستباح بالإجارة، كمنفعة وطء الجارية.. لم يجب عليه ضمانها؛ لأن الغصب لا يمنع المالك من المعاوضة على بضعها، وهو عقد النكاح، ويمنعه من إجارتها. هذا مذهبنا، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه ضمان أجرة المنافع بحال) . دليلنا: أن ما صح أن يملك بالمسمى في العقد الصحيح، وبالمثل في العقد الفاسد، وهو مما يطلب بعقد المغابنة.. ضمن بالغصب، كالأعيان. فقولنا: (وهو مما يطلب بعقد المغابنة) احتراز من منفعة الاستمتاع. [مسألة: يرد المغصوب وإن نقصت قيمته] وإذا غصب عينا لغيره.. فلا يخلو: إما أن تكون العين باقية بحالها، أو تالفة. فإن كانت باقية.. فقد ذكرنا: أنه يجب عليه الرد للخبر، فإن نقصت قيمتها من حين الغصب إلى حين الرد لكسادها، لا لنقص حدث فيها.. فإنه لا يجب على

الغاصب ضمان ما نقص من قيمتها، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وكافة العلماء، إلا أبا ثور، فإنه قال: (يجب عليه ردها، ورد ما نقص من قيمتها لرخصها) . دليلنا: أنه رد العين، ولم ينقص منها عين، ولا أثر.. فلم يجب عليه ضمان شيء من قيمتها، كما لو لم تنقص قيمتها في السوق. وإن كانت العين تالفة.. فلا يخلو: إما أن تكون من غير ذوات الأمثال، أو من ذوات الأمثال. فإن كانت من غير ذوات الأمثال، وهو مما لا تتساوى أجزاؤه، ولا صفاته، كالثياب، والحيوان، والأخشاب، وما أشبهها.. وجب على الغاصب قيمته، وهو قول كافة العلماء، إلا ما حكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري: أنه قال: يجب عليه مثله من طريق الضرورة؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية، صنعت طعاما، فبعثت به إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخذني الأفكل، فكسرت الإناء، فقلت: يا رسول الله، ما كفارة ما صنعت؟ فقال: (إناء مثل الإناء، وطعام مثل الطعام» . و (الأفكل) : الرعدة من الغيرة. دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق شركا له في عبد.. قوم عليه نصيب شريكه» . فأمر بتقويم نصيب الشريك، وهو متلف بالعتق، ولم يأمره بمثله من عبد. ولأن الأشياء التي لا تتساوى أجزاؤها، لا يمكن إيجاب المثل فيها لاختلافها،

فكانت القيمة أولى، وأما الخبر: فمحمول على أنه علم أنها ترضى بذلك. وتجب قيمة المغصوب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى أن تلف؛ لأنه غاصب له في جميع تلك المدة، وتجب قيمته من نقد البلد التي تلف فيها المغصوب؛ لأنه موضع الضمان. إذا ثبت هذا: فلا يخلو الذي لا مثل له: إما أن يكون حيوانا، أو غير حيوان. فإن كان غير الحيوان.. نظرت: فإن كان ذهبا، أو فضة، فإن كانت فيه صنعة.. نظرت: فإن كانت صنعته مباحة، كالخلاخل، والدمالج، وغير ذلك مما يجوز استعماله، فإن كان نقد البلد من غير جنسه، أو من جنسه ولا يزيد وزن القيمة عليه وجب عليه قيمته، وإن كان نقد البلد من جنسه ويزيد وزن قيمته على وزنه.. ففيه وجهان: أحدهما: يقوم بجنس آخر؛ لأن ضمانه بنقد البلد يؤدي إلى الربا. والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يقوم بنقد البلد؛ لأن الزيادة على وزنه لأجل الصنعة، وللصنعة قيمة، ولهذا لو أتلف متلف الصنعة.. لزمه قيمتها. وإن كانت صنعة محرمة؛ كأواني الذهب والفضة، فإن قلنا: يجوز اتخاذها.. كانت كالصنعة المباحة، وإن قلنا: لا يجوز اتخاذها.. لم تضمن قيمة الصنعة. وإن لم يكن فيه صنعة، كالنقرة، والسبيكة.. فاختلف أصحابنا فيها: فقال الشيخ أبو حامد: هي من ذوات الأمثال.

فرع: غصب الحر والعبد

وقال عامة أصحابنا: ليست من ذوات الأمثال؛ لأن أجزاءها تختلف. فعلى هذا: ينظر فيه: فإن كان نقد البلد من غير جنسها، أو من جنسها، ولا يزيد وزن قيمتها على وزنها.. ضمنها بقيمتها. وإن كان نقد البلد من جنسها، ويزيد وزن قيمتها على وزنها.. ضمنها بجنس آخر؛ لأن ضمانها بأكثر من وزنها من جنسها رباً. وأما الدراهم والدنانير التي ليست بمغشوشة: فإنها من ذوات الأمثال؛ لأن أجزاءها متساوية. وإن خرق له ثوباً، أو كسر له ظرفا.. وجب عليه أرش ما نقص بذلك. وقال أبو حنيفة: (إن كان الأرش قليلاً.. فكما قلنا، وإن كان كثيراً.. فمالكه بالخيار: بين أن يسلمه إلى الجاني عليه، ويطالبه بجميع قيمته، وبين أن يمسكه، ويطالبه بالأرش) . دليلنا: أنها جناية على مال أرشها دون قيمتها، فلم يكن له المطالبة بجميع قيمتها، كما لو كان الأرش قليلاً. [فرع: غصب الحر والعبد] وأما الحيوان: فضربان: آدمي، وغير آدمي. فأما الآدمي: فضربان: حر، وعبد. فأما الحر: فإنه لا يضمن باليد، صغيراً كان أو كبيراً، وإنما يضمن بالجناية، على ما نذكره في (الجنايات) إن شاء الله تعالى. وأما العبد: فيضمن بالغصب والجناية، فإذا غصب عبداً.. ضمنه، صغيراً كان أو كبيراً؛ لأنه مال، فضمن بالغصب، كسائر الأموال، فإن مات في يده.. وجبت عليه

قيمته بالغة ما بلغت؛ لأنه ليس من ذوات الأمثال، فضمنه بالقيمة، كما لو أعتق شقصا له من عبد وهو موسر بقيمة الباقي. وإن تلف في يده جزء من أجزائه.. نظرت: فإن لم يكن له أرش مقدر، كالبكارة، والسمن، وما أشبه ذلك.. رده وما نقص من قيمته. وإن كان له أرش مقدر، كاليد، والرجل، وما أشبههما، فإن ذهب ذلك بغير جناية، بأن ذهبت يده بآفة سماوية.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه يرده ونصف قيمته؛ لأن ما ضمن ببدل مقدر في الإتلاف.. ضمن به بالغصب، كالنفس. والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يرده وما نقص من قيمته بذهاب اليد، أو العين؛ لأن ضمانه باليد ضمان المال، ولهذا لا يجب به القصاص ولا الكفارة إذا مات، فيضمنه بما نقص، كسائر الأموال. وإن غصب عبداً، فقطع يده، أو قلع عينه.. فقد اجتمع هاهنا الغصب والجناية، فإن قلنا بالوجه الأول.. رد العبد ونصف قيمته، وإن قلنا بالثاني ... رد العبد وأكثر الأمرين من نصف القيمة، أو ما نقصت قيمته بذلك؛ لأنه اجتمع فيه الأمران. وحكى المسعودي [في (الإبانة) ق\ 304] قولا آخر: أن جراحات العبد، وأطرافه كلها مضمونة بما نقص من قيمته. وليس بمشهور. وقال مالك: (جميع أطراف العبد والجراحات في بدنه مضمونة بما نقص من قيمته، إلا المنقلة، والمأمومة) . ودليلنا: أن ما ضمن ببدل مقدر من دية الحر.. ضمن بمثل ذلك من قيمة العبد، كالنفس.

فرع: زيادة قيمة العبد المغصوب

وإن غصب عبداً، فقطع يديه.. فإنه يرده، والكلام فيما يجب عليه كما ذكرناه في اليد، إلا أن اليدين تضمنان بجميع القيمة. وقال أبو حنيفة: (المالك بالخيار: بين أن يسلم العبد إلى الغاصب، ويطالبه بجميع قيمته، وبين أن يمسكه، ولا شيء له) . دليلنا: أنه جنى على ملك غيره جناية مضمونة، فكان له المطالبة بالأرش مع إمساك ملكه، كما لو قطع يداً واحدة. وإن غصب أم ولد.. ضمنها بالغصب، وكان حكمها حكم غيرها من الجواري. وقال أبو حنيفة: (لا تضمن باليد) . دليلنا: أنها تضمن بالجناية، فضمنت باليد، كالأمة القنة. [فرع: زيادة قيمة العبد المغصوب] ] . وإن غصب عبداً يساوي مائة، فزادت قيمته، فصار يساوي ألفا، ثم قطع يده.. لزمه رده وخمسمائة؛ لأن زيادة السوق مع التلف مضمونة. وأما غير الآدمي، كالبهيمة إذا غصبها، فإن تلفت في يده، أو أتلفها.. وجبت عليه قيمتها، وإن تلف عضو من أعضائها بيده، أو أتلفه.. وجب عليه رد البهيمة وما نقص من قيمتها. هذا مذهبنا، وبه قال مالك، إلا أنه قال: (إذا قطع ذنب حمار القاضي ... لزمه جميع قيمته) . وقال أبو حنيفة: (إن كانت البهيمة مما لها ظهر بلا لحم، كالبغل، والحمار، أو مما لها لحم بلا ظهر، كالغنم ـ فمثل قولنا ـ وإن كان لها لحم وظهر، كالخيل، والإبل، والبقر.. فإنه إذا غصبها، وقلع عينيها.. ردها ونصف قيمتها، وإن قلع إحدى عينيها.. ردها وربع قيمتها) .

فرع: غصب ما له مثل فتلف

دليلنا على مالك: أنه جناية على عضو من بهيمة، فضمن ما نقص من قيمتها، كقطع ذنب حمار الشرطي. وعلى أبي حنيفة: أنه جناية على عضو بهيمة، فلم يضمنها ببدل مقدر، كما لو قطع يدها أو رجلها. [فرع: غصب ما له مثل فتلف] وإن غصب شيئا له مثل، فتلف في يده، أو أتلفه.. ضمنه بمثله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] [البقرة: 194] . ولأن المثلية تعلم من طريق المشاهدة، والقيمة تعلم بغلبة الظن والاجتهاد، فقدم إيجاب المثل على القيمة، كما نقدم النص على الاجتهاد. قال القاضي أبو الطيب: وما له مثل، هو ما جمع ثلاثة أوصاف: أحدها: أن يكون مكيلا، أو موزونا. الثاني: أن يكون مما يضبط بالصفة. الثالث: أن يجوز بيع بعضه ببعض، وذلك كالدراهم، والدنانير، والحبوب، والأدهان، والتمر، والزبيب، والملح. قال الشيخ أبو حامد: والقطن من ذوات الأمثال؛ لأن أجزاءه تتساوى، ولا تختلف في العادة. قال الصيمري: والغزل، والرصاص، والنحاس، والحديد من ذوات الأمثال، واللبن من ذوات الأمثال، وما طبخ وتعقدت أجزاؤه لا مثل له؛ لأنه لا يجوز بيع بعضه ببعض، وكذلك الجواهر واللؤلؤ لا مثل له؛ لأنه لا يضبط بالصفة، والحيوان والثياب ليست من ذوات الأمثال؛ لأنها ليست بمكيلة، ولا موزونة.

فرع: أتلف مغصوبا نتج مما لا مثل له

[فرع: أتلف مغصوبا نتج مما لا مثل له] ] : فإن غصب منه ما له مثل، واتخذ منه ما لا مثل له، وتلف، كالتمر إذا اتخذ منه الخل بالماء، والحنطة إذا جعلها دقيقا، وقلنا: لا يجوز بيع بعضه ببعض.. فقد قال الشيخ أبو إسحاق: لزمه مثل التمر، والحنطة؛ لأنه أقرب إلى المغصوب. قلت: وينبغي أن يلزمه أكثر الأمرين من مثل الأصل، أو قيمة الخل أو الدقيق؛ لأن كل واحد منهما عين ماله. وإن غصب منه ما لا مثل له، واتخذ منه ما له مثل، مثل أن يغصب منه رطبا، ويجعله تمراً، فيتلف.. قال الشيخ أبو إسحاق: لزمه مثل التمر؛ لأنه أقرب من قيمة المغصوب. قلت: وينبغي أن ينظر إلى قيمة الرطب: فإن كانت قيمته أكثر من قيمة التمر.. لزمه أن يدفع مع التمر ما نقص من قيمة الرطب؛ لأنه نقص في يده. وإن غصب منه ما له مثل، واتخذ منه ما له مثل وتلف، بأن يغصب منه سمسماً، ويتخذ منه شيرجا فتلف.. فهو بالخيار: بين أن يطالبه بأي المثلين شاء؛ لأن كل واحد منهما عين ماله، فإن كانت قيمتهما سواء.. فلا كلام، وإن كانت قيمة الشيرج أكثر، واختار المالك الشيرج.. فلا شيء للغاصب لزيادة قيمته بعمله؛ لأنه تعدى به، وإن كانت قيمة الشيرج أقل، فإن اختار المالك المطالبة بمثل السمسم.. فلا شيء له لنقصان قيمته؛ لأنه قد وصل إلى جميع حقه، وإن اختار المطالبة بمثل الشيرج.. فينبغي أن يكون له المطالبة بما نقصت قيمة الشيرج عن قيمة السمسم؛ لأنه نقص بفعله.

فرع: أتلف مغصوبا له مثل

[فرع: أتلف مغصوبا له مثل] وإن غصب منه ما له مثل، وأتلفه، ولم يوجد المثل، فإن قال المغصوب منه: أنا أصبر إلى أن يوجد المثل.. كان له ذلك؛ لأن الحق له، وإن قال: لا أصبر.. كان له أن يطالب بالقيمة؛ لأنه إذا لم يجود المثل.. صار كما لو لم يكن له مثل، ومتى تعتبر قيمته؟ فيه أربعة أوجه: أحدها ـ وهو قول أبي إسحاق المروزي ـ: أنها تجب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف؛ لأنه لما أتلفه، ولم يوجد له مثل.. صار كالذي لا مثل له. والثاني ـ وهو قول القاضي أبي الطيب ـ: أن قيمته تعتبر حين حكم الحاكم بها؛ لأن الواجب في الذمة هو المثل، بدليل: أنه لو صبر إلى وجود المثل.. لم يجبر على أخذ القيمة، فإذا تعذر المثل.. اعتبرت قيمته وقت الحكم بها. والثالث ـ وهو قول أبي علي الطبري ـ: أنها تجب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التقويم؛ لأن الواجب في الذمة هو المثل، فلما تعذر.. اعتبرت قيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التقويم، كما تعتبر قيمة ما لا مثل له أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف. والرابع ـ وهو قول ابن القاص ـ: أن قيمته تعتبر يوم حكم الحاكم بها، إلا أن يكون المثل مما ينقطع، مثل عصير العنب، فتعتبر قيمته يوم الانقطاع؛ لأن بالانقطاع سقط المثل، ووجبت قيمته، والذي لا ينقطع ـ وإنما يتعذر في موضع دون موضع ـ لا يسقط فيه المثل، فاعتبرت قيمته يوم المحاكمة. وإن وجد المثل بأكثر من قيمته.. فهل يلزمه شراؤه؟ فيه وجهان، خرجهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: لا يلزمه شراؤه؛ لأن وجود الشيء بأكثر من قيمته بمنزلة المعدوم، كما قلنا في الرقبة في الكفارة.

مسألة: خروج المغصوب من يد الغاصب

والثاني: يلزمه، كما لو لم يقدر على رد العين المغصوبة إلا بأكثر من قيمتها.. فإنه يلزمه تخليصها. وإذا دفع الغاصب قيمة المثل، ثم وجد المثل بعد ذلك.. فهل له أن يسترد القيمة، ويدفع المثل؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في (الإبانة) ق\ 306] : أحدهما: ليس له؛ لأن ذمته قد برئت منه بدفع القيمة. والثاني: له ذلك، كما لو ذهبت العين المغصوبة، فدفع قيمتها، ثم قدر على ردها. [مسألة: خروج المغصوب من يد الغاصب] ] : وإن غصب من رجل عينا، فخرجت من يده، وتعذر عليه ردها، بأن كان عبداً، فأبق، أو بهيمة، فضلت.. فللمغصوب منه مطالبة الغاصب بقيمتها؛ لأنه حال بينه وبين ماله، فصار كما لو تلفت بيده. قال الشيخ أبو حامد: وهذا إجماع، فإذا قبض المغصوب منه القيمة.. ملكها؛ لأنها بدل عين ماله، ومن شرط البدل أن يقوم مقام المبدل، فلما كان المبدل ملكا له.. فكذلك البدل. هذا نقل الشيخ أبي حامد. وحكى سهل: أن القفال قال: لا يملك المغصوب منه القيمة، بل ينتفع بها وهي على ملك الغاصب؛ لأن ملكه لا يزول عن العين المغصوبة، فلا يجمع له ملك البدل والمبدل، والأول هو المشهور. إذا ثبت هذا: فإن الغاصب لا يملك العين المغصوبة بدفعه لقيمتها، بل إذا رجعت العين المغصوبة.. وجب عليه ردها، واسترجع ما دفع من القيمة. وقال أبو حنيفة: (إذا دفع الغاصب القيمة.. ملك العين المغصوبة، وزال ملك المغصوب عنها، ثم ينظر فيه:

فإن اتفقا على قدر قيمتها، أو قامت بينة بقدر قيمتها.. استقر ملك الغاصب عليها. وإن اختلفا في قدر قيمتها.. فالقول قول الغاصب مع يمينه في قدرها، فإذا حلف، ودفع القيمة بيمينه، ثم ظهرت العين المغصوبة، فإن كانت قيمتها مثل ما غرم أو أقل.. استقر ملكه عليها، وإن كانت أكثر.. كان المغصوب منه بالخيار: بين أن يقر حكم المعاوضة ويمسك القيمة، وبين أن يفسخ ويسترجع العين المغصوبة، ويرد ما أخذ من القيمة) . دليلنا: أنه غرم ما تعذر عليه رده بخروجه من يده، فوجب أن لا يملك به العين المغصوبة، كما لو غصب منه مدبرا، أو أم ولده، فأبقا. فقولنا: (بخروجه من يده) احتراز ممن غصب زيتا، فخلطه بزيت له، فغرم له زيته.. فإنه يملك ما بقي في يديه من زيته؛ لأنه لا يمكن تمييزه منه بحال، وممن أعتق شقصا له من عبد وهو موسر؛ لأن نصيب الشريك كالمستهلك، ولأن العين المغصوبة في هذه الحالة لا يصح للمالك بيعها من الغاصب، ولا من غيره، فلم يملكها الغاصب بدفعه لقيمتها، كما لو أتلف لغيره عينا، فدفع قيمتها.. فإنه لا يملكها، ولأن المغصوب منه أخذ البدل لأجل تعذر رد العين، لا لأجل المعاوضة، إذ لو كانت معاوضة.. لثبت فيها خيار المجلس، والثلاث، والشفعة، ولكان إذا لم يرجع المغصوب إلى الغاصب.. أن يرجع الغاصب على المغصوب منه بما دفع إليه، كما لو باع المغصوب منه العين المغصوبة ممن يقدر على انتزاعها من الغاصب. إذا ثبت هذا: فإن العين إذا رجعت.. أخذها المغصوب منه بزيادتها المتصلة والمنفصلة كما لو كانت باقية في يد الغاصب. وإن كان لمثلها أجرة.. فله أن يطالبه بأجرتها من حين غصبها إلى أن يأخذ قيمتها، بلا خلاف على المذهب، وهل له مطالبته بأجرتها من حين قبض قيمتها إلى أن قبض العين؟ فيه وجهان:

مسألة: تغيير صفة المغصوب

أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه أخذ القيمة بدلا عن انتفاعه بالعين، فلم يستحق لأجل منفعتها أجرة. والثاني: له ذلك، وهو الصحيح؛ لأن الأجرة إنما لزمته؛ لأنه حال بينه وبين ملكه بغير حق، وهذا المعنى موجود بعد أخذ القيمة. ويسترجع الغاصب القيمة التي دفعها إن كانت باقية، وإن كان للقيمة زيادة منفصلة، بأن دفع عن القيمة حيوانا، فنتج في يد المغصوب منه، أو شجرة، فأثمرت.. رجع الغاصب إلى الأصل دون النتاج والثمرة؛ لأنها زيادة متميزة حدثت في ملك المغصوب منه، فملكها، كما نقول في الرد بالعيب، وإن كانت الزيادة متصلة، بأن سمن الحيوان، أو طالت الشجرة.. رجع فيها مع زيادتها، كما قلنا في الرد بالعيب، وإن ظهر على المغصوب منه دين يستغرق ماله.. كان الغاصب أحق بما دفع من القيمة دون الغرماء؛ لأنها عين ماله، وإن تلف ما دفع الغاصب من القيمة في يد المغصوب منه.. رجع الغاصب إلى مثله إن كان له مثل، وإلى قيمته إن لم يكن له مثل. [مسألة: تغيير صفة المغصوب] ] . وإن غصب شيئاً، فغيره عن صفته، بأن كان حنطة، فطحنها، أو دقيقاً، فخبزه، أو شاة فذبحها.. فإن ملك المغصوب منه لا يزول عنه، ويلزم الغاصب أن يرده ناقصا وما نقص من قيمته. ومن أصحابنا من قال: للمغصوب منه أن يترك الدقيق للغاصب، ويطالبه بمثل الحنطة؛ لأنها أقرب إلى حقه من الدقيق. والأول أصح؛ لأن عين ماله باقية، فلا يملك المطالبة بغيرها، كالشاة إذا ذبحها. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إذا تغير اسم المغصوب، ومنفعته المقصودة بفعل الغاصب.. ملكه الغاصب، وضمن قيمته للمغصوب منه، وذلك كالحنطة إذا طحنها؛ لأن اسمها

قد زال؛ لأنها لا تصلح للزراعة، ولا للهريس، وهكذا: إذا كان دقيقاً، فخبزه، أو كان المغصوب شاة، فذبحها وشواها، أو نقرة، فطبعها دراهم.. فإنه يملك ذلك كله، إلا أنه يكره له التصرف فيه قبل دفع القيمة إلى مالكه) . وحكى ابن جرير، عن أبي حنيفة: أنه قال: (إذا دخل لص دار رجل، ولصاحب الدار فيه حنطة ورحى، فأخذ اللص من الطعام، وطحنه في الرحى.. فإنه يملك الدقيق، فإن جاء صاحب الطعام، وأراد أخذه منه.. كان له منعه ودفعه، فإذا لم يمتنع صاحب الدار عن اللص إلا بالقتل، فقتله اللص.. فلا شيء عليه) . واحتج بما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زار قوما من الأنصار في دارهم، فقدموا إليه شاة مشوية، فتناول منها لقمة، فجعل يلوكها ولا يسوغها، فقال: (إن هذه الشاة لتخبرني: أنها أخذت بغير حق) . قالوا: نعم يا رسول الله، طلبنا في السوق، فلم نجد، فأخذنا شاة لبعض جيراننا، ونحن نرضيهم عن ثمنها، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (أطعموها الأسرى» . وهذا يدل على: أن حق أصحابها قد انقطع عنها، إذ لم يأمرهم بردها إليهم. ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» . ولأنه مغصوب، غيره الغاصب بفعل تعدى به، فلم يملكه به، كما لو غصب شاة، وذبحها، ولم يشوها. وأما الخبر: فتأويله: أن الأسرى كانوا مضطرين، فأمرهم بدفعها إليهم؛ لأن أصحابها كانوا غير موجودين، ويخاف فسادها قبل وصولها إليهم.

فرع: تأثر المغصوب بالبلل

[فرع: تأثر المغصوب بالبلل] ] . وإن غصب حنطة، فبلها بالماء، أو تركها في موضع ندي، فعفنت.. نظرت: فإن كان قد استقر نقصانها، بأن جففها، وعلم أنها لا تنقص بعد ذلك.. لزمه ردها وأرش ما نقصت عنده؛ لأنها نقصت بفعله. وإن لم يستقر نقصانها، بأن يزداد كل يوم فالمنصوص في (الأم) : (أن للمغصوب منه مثل مكيلتها) . وقال الربيع: فيه قول آخر: (أنه يأخذها، وما نقص من قيمتها) . واختلف أصحابنا فيها على طريقين: فـ ـ[الأول] : قال أبو العباس ابن سريج: يلزم الغاصب مثل مكيلتها من مثلها، قولا واحداً؛ لأن النقص غير مستقر؛ لأنه يتزايد كل يوم. و [الطريق الثاني] : منهم من قال: فيه قولان: أحدهما: يلزم الغاصب مثل مكيلتها من مثلها؛ لما ذكرناه. والثاني: يرد الطعام المبلول وما نقص من قيمته في الحال، وفيما بعد؛ لأنه وجد عين ماله، فرجع إليه، كالشاة إذا ذبحت. فأما إذا عفن الطعام في يد الغاصب لطول المكث.. فقال الشيخ أبو حامد: هو كالطعام الذي بله على ما مضى. وقال القاضي أبو الطيب: يجب على الغاصب رد الطعام الذي غصبه وإن كان عفنا وأرش ما نقص، قولاً واحداً، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن العفن ليس من فعله، فلا يضمن ما تولد منه، بخلاف البلل، فإن قيل: فالعفن مضمون عليه لوجوده في

فرع: خلط الدراهم المغصوبة

يده، كالبلل الذي حصل بفعله، فكان ما تولد منهما سواء في الضمان، ألا ترى أنه لو ابتل بماء المطر، أو بله غيره.. كان كما لو بله بنفسه؟ فالجواب على هذا: أن يقال: النقص الذي حصل بالبلل إذا زاد وكثر.. فإنما حصل متولدا منه، فأما العفن: فإنما يزيد ببقائه، أو بمكثه في يده، كما أن الأول حصل بذلك، لا أن بعضه يولد بعضا، فافترقا. [فرع: خلط الدراهم المغصوبة] وإن غصب من رجل ألف درهم، ومن آخر ألفا أخرى، وخلطهما، ولم يتميزا.. صارا شريكين في ذلك. وقال أبو حنيفة: (يملكها الغاصب، ويجب عليه لكل واحد منهما مثل دراهمه) . وبناه على أصله في تغيير المغصوب. دليلنا: أن هذا فعل تغير به المغصوب على وجه التعدي، فلا يملكه، كما لو ذبح الشاة. [مسألة: نقص المغصوب شيئاً له بدل] وإن غصب عبدا، فخصاه، وبرئ، فزادت قيمته بذلك، أو لم تنقص قيمته.. لزمه رد العبد ورد قيمته؛ لأن الأنثيين مضمونتان من الحر بالدية، ومن العبد بالقيمة. وإن غصب جارية سمينة سمنا مفرطا، فخف سمنها في يده، ولم تنقص قيمتها بذلك، أو زادت قيمتها بذلك.. لزمه رد الجارية، ولا يلزمه معها شيء؛ لأن السمن مضمون بما نقص من قيمتها، ولم ينقص منها شيء، بخلاف التي قبلها؛ لأن للأنثيين بدلا مقدرا.

فرع: تغيير صفة المغصوب

[فرع: تغيير صفة المغصوب] إذا غصب من رجل صاعا من زيت أو دهن غيره، فأغلاه على النار، فإن لم ينقص شيء من مكيلته، ولا من قيمته بالإغلاء.. رده، ولا شيء عليه؛ لأنه لم يتلف شيئاً من ماله. وإن نقص من مكيلته وقيمته، بأن كانت قيمة الصاع قبل الإغلاء أربعة دراهم، فعاد بعد الإغلاء إلى نصف صاع قيمته درهم.. لزمه نصف صاع من مثله؛ لأنه أتلف عليه عينه، ولزمه درهم أرش نقص الباقي؛ لأنه نقص بفعله. وإن نقصت قيمته دون مكيلته، بأن تغير طعمه، أو ريحه بالإغلاء وهو صاع، إلا أنه صار يساوي درهمين.. لزمه رده ورد درهمين؛ لأن قيمته نقصت بفعله. وإن نقصت مكيلته دون قيمته، بأن عاد بعد الإغلاء إلى نصف صاع، وقيمته أربعة دراهم كما كانت قبل الإغلاء.. لزمه أن يرد نصف الصاع الذي قد بقي، ونصف صاع من مثله قبل الإغلاء؛ لأنه تلف بفعله. وحكى المسعودي [في (الإبانة) ق\ 305] وجها آخر: أن النقص ينجبر بزيادة قيمة الباقي. والأول أصح؛ لأنه زاد بعمل الغاصب، وذلك أثر لا عين له فيه. وإن غصب صاعا من عصير يساوي أربعة دراهم، فأغلاه بالنار، فإن لم تنقص قيمته، ولا مكيلته.. رده ولا شيء عليه، كما قلنا في الزيت. وإن نقصت قيمته دون مكيلته، بأن صار يساوي درهمين.. لزمه رده ورد درهمين؛ لأنه نقص بفعله. وإن عاد إلى نصف صاع، وقيمته أربعة دراهم كقيمته قبل الإغلاء، فإن قلنا: بالوجه الذي حكاه المسعودي في الزيت: أنه يرد ما بقي، ولا شيء عليه.. فهاهنا يرد مثله، وإن قلنا بالأصح بالزيت.. فهاهنا وجهان: أحدهما ـ وهو قول أبي علي الطبري ـ: أنه يلزمه رد ما بقي، ويلزمه نصف صاع عصير، كما قلنا في الزيت.

فرع: اغتصب أنواع طعام فطبخها

والثاني ـ وهو قول أبي العباس، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في (التعليق) غيره ـ: أنه يرد ما بقي من العصير، ولا شيء عليه. والفرق بينهما: أن الزيت لا يخالطه شيء، فإذا نقصت مكيلته.. فقد نقص جزء من عين ماله، وله قيمة، فلزمه رد مثله، وليس كذلك العصير، فإنه لا ينقص بالإغلاء شيء من أجزائه، وإنما يذهب الماء الذي فيه، وذلك لا قيمة له، وأما أجزاؤه: فهي باقية، وإنما انعقدت، ولهذا تزيد حلاوته، فلم يلزمه شيء. [فرع: اغتصب أنواع طعام فطبخها] ] : وإن غصب من رجل عسلا، وسمناً، ودقيقاً، فعمله خبيصاً، فإن لم تزد قيمة الجميع، ولم تنقص.. أخذه المغصوب منه، ولا شيء للغاصب؛ لأنه لم يتلف شيئا من ماله، وإن زادت قيمة ذلك.. أخذه المغصوب منه، ولا شيء للغاصب؛ لأنه زاد بأثر لا عين له فيه، فيشارك بها، وإن نقصت قيمته.. أخذه المغصوب منه وما نقص من قيمته؛ لأنه نقص بفعل الغاصب. [فرع: اغتصب فضة فسكها] وإن غصب من رجل نقرة، وضربها دراهم، فإن لم تنقص قيمتها بذلك، ولا وزنها.. ردها، ولا شيء عليه؛ لأنه لم يتلف شيء من ماله. وإن نقص وزنها، ولم تنقص قيمتها.. لزمه رد ما بقي، ورد قيمة ما نقص، ولا شيء للغاصب بزيادة الباقي؛ لأنه زاد بأثر لا عين له فيه. وإن نقص من قيمتها ووزنها.. لزمه قيمة ما نقص وزنه، وأرش ما نقص من الباقي؛ لأنه نقص بفعله.

مسألة: غصب ثوبا فشقه

وإن نقص من قيمتها، ولم ينقص وزنها.. لزمه ردها وما نقص من قيمتها؛ لأنه نقص بفعله. إذا ثبت هذا: فإن أراد الغاصب سبك هذه الدراهم، وإعادتها نقرة كما كانت، وامتنع المغصوب منه من ذلك.. قال ابن الصباغ: فإن كان للغاصب غرض في ذلك بأن كانت أنقص من عيار السلطان، أو سكتها مخالفة لسكة السلطان.. كان للغاصب إعادتها؛ لأن له غرضاً، وهو خوف غضب السلطان؛ لأن الضرب إليه، وإن لم يكن له غرض في ذلك.. لم يكن له المطالبة بذلك. [مسألة: غصب ثوباً فشقه] ] : وإن غصب من رجل ثوبا، فشقه نصفين، فإن كان من الثياب التي لا تنقص قيمتها بالشق.. رد النصفين، ولا شيء عليه؛ لأن ما فعله لم يحصل به نقص، وإن كان من الثياب التي تنقص قيمتها بالشق.. رد النصفين وأرش ما نقص بالشق؛ لأنهما نقصا بفعله. فإن تلف أحد النصفين بيده، ونقصت قيمة النصف الباقي، بأن كان الثوب يساوي قبل الشق منه درهم، فصار النصف الباقي يساوي أربعين درهما.. لزمه قيمة التالف، وهو خمسون درهما، وما نقص من قيمة الباقي، وهو عشرة؛ لأنه نقص بجنايته عليه، فإن صارت قيمة هذا النصف الباقي ستين بعد أن كانت أربعين، ثم تلف.. قال الشيخ أبو حامد: لزمه قيمة النصف الأول، وهو خمسون، وأرش ما نقص من قيمة النصف الثاني، وهو عشرة، وقيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى أن تلف، وهو ستون؛ لأن العشرة الأولى نقصت بجنايته عليه، ثم حدثت زيادة في قيمته، فكانت مضمونة عليه.

فرع: تلف أحد الخفين بيد الغاصب

[فرع: تلف أحد الخفين بيد الغاصب] وإن كان لرجل زوج خف يساوي عشرة دراهم، وكل واحد منهما يساوي منفردا درهمين، فغصب رجل أحدهما، فأتلفه، أو تلف في يده.. فكم يضمن؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يلزمه إلا درهمان؛ لأنه لم يحصل في يد الغاصب إلا ما قيمته درهمان، فلا يلزمه أكثر منه. والثاني ـ حكاه القاضي أبو الطيب ـ: لا يلزمه إلا خمسة دراهم؛ لأن الغصب إنما وجد منه في الذي أخذه، وكانت قيمته حين الغصب خمسة دراهم، فنقصت قيمته ثلاثة بإفراده عن صاحبه، وتلف وقيمته درهمان، فلزمه ذلك، فأما الذي لم يغصبه: فلا صنع له فيه. والثالث ـ وهو قول أبي العباس، وعامة أصحابنا، وهو الصحيح ـ: أنه يلزمه ثمانية دراهم؛ لأن النقص دخل عليهما بتفريقه بينهما، فلزمه ضمان الجميع، كما لو قطع كم قميص لرجل.. فإنه يلزمه ما نقص من قيمة القميص بذلك، وما قال الأولان من أن الغصب لم يوجد إلا بأحد الخفين.. يبطل بمن قطع أصبع رجل، فشلت إلى جنبها أخرى، فإنه يلزمه ضمانهما وإن لم يوجد منه الفعل إلا بإحداهما، وبرجلين بينهما عبد نصفين، فأعتق أحدهما نصيبه منه، وهو موسر، وقيمة نصيب الشريك الذي لم يعتق قبل إعتاق شريكه مائة، وبعد إعتاقه تسعون ... فإنه يلزم المعتق مائة. فإن قيل: أليس العبد لو كان إذا بيع جملة يساوي ثلاثمائة درهم، وإذا بيع كل نصف منه منفردا يساوي مائة، فأعتق أحدهما نصيبه، وهو موسر.. لزمه مائة، ولا يلزمه مائة وخمسون، فيكون النقصان الحادث بإفراد أحد النصفين عن الآخر غير مضمون عليه، فهلا كان في الخف مثله؟

مسألة: استعمال مغصوب له أجرة

قال القاضي أبو الطيب: فالفرق بينهما: أن مالك نصف العبد لا يملكه إلا ناقص القيمة؛ لأنه لا يملك بيع نصيب شريكه، وليس كذلك الخفان، فإن صاحبهما يملك بيعهما، واستيفاء جميع العشرة من ثمنهما، وإنما النقصان حصل بفعل الغاصب، فإن كانا بحالهما، ودخل سارق إلى حرز مالك الخفين، فسرق أحدهما.. ففي قدر الضمان ما ذكرناه، ولا يختلف أصحابنا: أنه لا يجب عليه القطع؛ لأن ما ضمنه مما زاد على درهمين.. إنما ضمنه في ذمته؛ لأجل التفريق بينهما، وما ضمنه في ذمته.. لا يجب به القطع عليه، كما لو دخل حرز الرجل، وأتلف عليه مالا. [مسألة: استعمال مغصوب له أجرة] وإن غصب ثوباً، فلبسه مدة لمثلها أجرة، فنقصت أجزاؤه باللبس.. لزمه رد الثوب، وما الذي يرد معه؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: يلزمه أكثر الأمرين من أرش ما نقص من قيمته، أو قدر الأجرة؛ لأن الأجرة تجب لأجل المنفعة، والنقص حصل بالانتفاع، فلم يجب الأمران، كما لو استأجر ثوباً، ولبسه، ونقصت أجزاؤه باللبس. والثاني ـ وهو الصحيح ـ: يجب عليه أرش ما نقص، والأجرة؛ لأن الأرش وجب لحصول النقصان، بدليل: أنه لو نقص بغير استعمال.. لوجب عليه الأرش، والأجرة وجبت لأجل الاستعمال، بدليل: أن الأجرة تجب إذا قام في يده مدة لمثلها أجرة وإن لم يستعمله، وقد وجد الأمران، فلزمه ضمانهما. [فرع: رتفاع ثمن المتاع المغصوب ثم نقصه] فرع: [ارتفاع ثمن المتاع المغصوب ثم نقصه] : وإن غصب قميصاً قيمته عشرة دراهم، فلبسه وأبلاه حتى صارت قيمته خمسة دراهم، ثم زاد السعر، فصار باللبس يساوي عشرة.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال ابن الحداد: يقوم، وليس بلبيس في هذا الوقت، ثم يقوم لبيساً، فيلزمه ما بين القيمتين.

مسألة: غصب سمينة فهزلت

فعلى هذا: يلزمه أن يدفع مع القميص عشرة؛ لأنه لو كان غير لبيس في هذه الحالة.. لكانت قيمته عشرين، وقيمته الآن عشرة، فلزمه عشرة. والثاني ـ وهو قول أكثر أصحابنا، قال القاضي أبو الطيب: وهو الصحيح ـ: أنه يلزمه أن يرد مع القميص خمسة لا غير؛ لأن ذلك هو القدر الذي تلف باللبس، وزيادة السعر بعد تلف الأجزاء لا اعتبار بها، كما لو غصب قميصاً قيمته عشرة، فتلف، ثم زاد السعر، فصار القميص يساوي عشرين.. فإنه لا يلزمه إلا عشرة، فكذلك هذا مثله. وإن غصب قميصا يساوي عشرة، فزاد السعر، فصار يساوي عشرين، فلبسه وأبلاه حتى صار يساوي عشرة.. لزمه رده، ويرد معه عشرة؛ لأن زيادة السعر مضمونة مع التلف. وإن غصبه، وهو يساوي عشرة، فلبسه وأبلاه حتى صار يساوي خمسة، ثم نقص السعر، فصار جديده يساوي خمسة، ولبيسه يساوي درهمين ونصفا.. لزمه رد ما بقي من القميص، ولزمه أن يرد معه خمسة، وهي قيمة ما تلف في يده، ولا اعتبار بالنقصان الذي حدث بعد تلف الأجزاء. [مسألة: غصب سمينة فهزلت] ] : إذا غصب جارية سمينة، ثم هزلت في يده.. ردها، وأرش ما نقص بالهزال في يده بلا خلاف، وقد مضى. فأما إذا غصب جارية مهزولة، فسمنت في يده، ثم هزلت، أو تعلمت في يده قرآنا، أو علما، أو شعرا، أو صنعة، فزادت قيمتها بذلك، فسمنت، فنقصت قيمتها بذلك.. ردها، ولزمه أرش ما نقصت، وبه قال أحمد. وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يجب عليه أرش ما نقصت، إلا أن يطالبه بردها في حال زيادتها، فلا يردها) .

فرع: غصب هزيلة فسمنت

دليلنا: أنها زيادة في العين المغصوبة، فضمنها الغاصب، كما لو طالب بردها، فلم يردها، ولأن استدامة الغصب كابتدائه، والغاصب في كل حال مأمور برد العين المغصوبة، فإذا لم يردها.. كان بمنزلة المبتدئ للغصب. فعلى هذا: إذا غصبها وهي تساوي مائة، فسمنت في يده، وبلغت قيمتها ألفا، ثم هزلت، وعادت قيمتها إلى مائة.. لزمه ردها، ويرد معها تسعمائة؛ لأجل نقص السمن، فإن كانت بحالها، فسمنت، فبلغت قيمتها ألفا، وتعلمت صنعة، فبلغت قيمتها ألفين، ثم هزلت، ونسيت الصنعة، فعادت قيمتها إلى مائة.. فإنه يردها، ويرد معها ألفا وتسعمائة، فإن بلغت بالسمن ألفاً، فهزلت، وعادت قيمتها إلى مائة، ثم تعلمت صنعة، فبلغت ألفا، ثم نسيتها، فعادت إلى مائة.. ردها، وألفا وثمانمائة؛ لأنها نقصت بالهزال تسعمائة، وبنسيان الصنعة تسعمائة. وإن غصبها وهي تساوي مائة، فزاد السعر، فصارت تساوي ألفا، ثم نقص السعر، فصارت تساوي مائة، ثم سمنت، فصارت تساوي ألفا، ثم هزلت، فصارت تساوي مائة.. لزمه ردها وتسعمائة، وهو قيمة السمن، لا زيادة السوق، فلو ماتت الجارية في هذه الحالة.. لزمه ألف وتسعمائة؛ لأنه أكثر ما كانت قيمتها من حين الغصب إلى حين التلف مع غرم السمن. وإن غصبها وقيمتها مائة، فزاد السعر، فصارت تساوي ألفا، ثم نقص السعر، فصارت تساوي مائة، ثم ماتت الجارية.. لزمه قيمتها ألف، وهو أكثر ما كانت قيمتها من حين الغصب إلى حين التلف، وإن زادت ونقصت مراراً، ولا تجاوز الزيادة ألفا، ثم ماتت.. لم يلزمه أكثر من ألف؛ لأن ذلك أكثر ما كانت قيمتها. [فرع: غصب هزيلة فسمنت] وإن غصبها وقيمتها مائة، فسمنت في يده حتى بلغت قيمتها ألفا، ثم هزلت، فعادت قيمتها إلى مائة، ثم سمنت، فعادت قيمتها إلى ألف.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أنه يردها، ولا شيء عليه؛ لأنه زال

ما أوجب الضمان، فهو كما لو جنى على عين، فابيضت، ثم زال البياض. والثاني ـ وهو قول أبي سعيد الإصطخري، وهو الصحيح ـ: أنه يردها، ويرد معها تسعمائة؛ لأن السمن الثاني غير الأول، فلا يسقط به عنه ما وجب عليه بنقصانها بذهاب الأول، كما لو غصبها وهي مهزولة تساوي مائة، فسمنت حتى بلغت ألفا، ثم هزلت حتى عادت إلى مائة، ثم تعلمت صنعة، فعادت قيمتها ألفا.. فإنه لا يسقط عنه ما نقصت بالهزال. وإن غصبها وقيمتها مائة، فسمنت في يده وبلغت قيمتها ألفا، ثم هزلت، وعادت قيمتها إلى مائة، ثم سمنت، فعادت إلى ألف، ثم هزلت، فعادت إلى مائة.. فعلى الوجه الأول: يردها، ويرد معها تسعمائة لا غير، وعلى الوجه الثاني: يردها، ويرد معها ألفا وثمانمائة. قال القاضي أبو الطيب: وهذان الوجهان مأخوذان من القولين فيمن قلع سن من قد ثغر، ثم عادت، ففي أحد القولين لا يلزمه الأرش، وفي الثاني يلزمه. وإن غصب جارية قيمتها مائة، فتعلمت في يده سورة من القرآن، أو شعراً، أو صنعة، فبلغت قيمتها ألفاً، ثم نسيت ذلك، فعادت قيمتها إلى مائة، ثم تعلمت ما كانت نسيته، فعادت قيمتها ألفا.. فقد قال الشيخ أبو حامد: هي كالسمن، فتكون على الوجهين. وقال ابن القاص، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ: يسقط عنه الضمان، وجها واحداً؛ لأن القول في السمن الثاني: أنه غير الأول، له وجه، وأما القرآن المحفوظ ثانياً، أو الشعر، أو الصنعة.. فهو الأول؛ لأنها تعود إلى العلم الذي كانت تعلمه أولا.

فرع: ضمان الحامل المغتصبة

[فرع: ضمان الحامل المغتصبة] وإن غصب جارية حاملاً.. ضمنها، وضمن ولدها، وكذلك إن غصبها حائلا، فحملت في يده، ثم تلف الولد في يده.. ضمنه، وبه قال أحمد. وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يضمن الولد) . دليلنا: أن كل سبب يضمن به الولد إذا كان منفصلا.. جاز أن يضمن به إذا كان متصلا، كالإحرام، ولأن الولد نماء ليس له، حصل في يده من أصل مضمون متعد به، فلزمه ضمانه، كولد الصيد في يد المحرم. إذا ثبت هذا: فإن ألقت الأم الولد حياً، ثم مات.. لزمه قيمته أكثر ما كانت من حين الوضع إلى أن مات، وإن ألقته ميتاً.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو ظاهر النص ـ: أنه يجب عليه قيمته يوم الوضع لو كان حياً؛ لأنه ضمنه باليد قبل ظهوره، فضمنه بتلفه، كأمه. والثاني ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه لا يجب عليه ضمانه؛ لأنه إنما يقوم عليه عند الحيلولة بينه وبين مالكه، وهو حال الوضع، ولا قيمة له في تلك الحال، فلم يجب عليه الضمان. [فرع: يضمن نقص المغتصب] ] : وإن غصب جارية ناهدة الثديين، فسقط ثدياها في يده، فنقصت قيمتها بذلك، أو غصب غلاما أمرد، فنبتت لحيته، أو كانت لحيته سوداء، فابيضت، فنقصت قيمته بذلك.. ضمن أرش النقص؛ لأنه نقص بسبب كان بيده، فلزمه ضمانه.

مسألة: ضمان غاصب العبد

[مسألة: ضمان غاصب العبد] ] : وإن غصب من رجل عبداً، فجنى حر على هذا العبد.. نظرت: فإن قتله.. وجبت قيمته للمغصوب منه، وله أن يرجع بها على الغاصب، أو على الجاني، غير أنه إن رجع على الجاني.. رجع عليه بقيمته يوم جنى عليه، وإن رجع بها على الغاصب.. رجع عليه بقيمته أكثر ما كانت من يوم غصبه إلى أن قتل، فإن رجع على الجاني.. لم يرجع الجاني على الغاصب، وإن رجع على الغاصب.. رجع الغاصب على الجاني بقيمته يوم الجناية؛ لأن التلف حصل بفعله، فاستقر الضمان عليه. وإن قطع الجاني يده.. وجب على الغاصب أكثر الأمرين من نصف قيمته، أو ما نقص بالقطع؛ لأن الجناية عليه، وهو في ضمانه كجنايته عليه، فاجتمع عليه ضمان اليد، والجناية، وأما الجاني: فلا يجب إليه إلا نصف قيمته يوم الجناية؛ لأنه لم يوجد منه غير الجناية من غير غصب، وللمالك أن يرجع على أيهما شاء، فإن اختار الرجوع على الجاني، وكانت نصف قيمته أكثر مما نقص بالجناية.. رجع عليه بنصف قيمته، ولا يرجع الجاني ولا المالك على الغاصب بشيء، وإن كان نصف القيمة أقل مما نقص بالجناية.. رجع المالك على الغاصب بما زاد على نصف قيمته، وإن اختار المالك الرجوع على الغاصب.. رجع الغاصب على الجاني بقدر نصف قيمة العبد؛ لأنه أتلفه، فاستقر الضمان عليه. [فرع: جناية عبد على عبد] مغصوبمغصوب] : وإن جنى على العبد المغصوب عبد لآخر.. نظرت: فإن قتله عمداً.. فالمالك بالخيار: بين أن يقتص من العبد القاتل، وبين أن يعفو. فإن اقتص منه.. فقد استوفى حقه، ولا يرجع على الغاصب بشيء. وإن عفا على مال، أو كانت الجناية خطأ.. فله أن يطالب الغاصب؛ لأنه ضمنه

مسألة: ضمان جناية العبد المغصوب

باليد، وله أن يطالب بحقه من رقبة العبد القاتل، غير أنه إن طالب الغاصب.. فله أن يطالبه بقيمة عبده أكثر ما كانت من حين غصبه إلى أن قتل، وإن طالب بحقه من رقبة القاتل.. فبأن يطالب سيده بأقل الأمرين من قيمة المقتول، أو قيمة القاتل، على الصحيح من القولين؛ لأنه لا يستحق عليه أكثر من ذلك. فإن طالب الغاصب بقيمة عبده، فإن كانت قيمة القاتل أكثر من قيمة المقتول، أو مثلها.. فللغاصب أن يطالب بذلك من قيمة القاتل، وإن كانت قيمة المقتول أكثر.. لم يطالب الغاصب سيد القاتل إلا بقدر قيمة القاتل، على الصحيح من القولين. وإن اختار مالك العبد مطالبة سيد القاتل، فإن كانت قيمة المقتول أقل من قيمة القاتل، وأخذ المالك قيمة عبده.. فقد استوفى حقه، ولا يرجع المغصوب منه ولا سيد القاتل على الغاصب بشيء، وإن كانت قيمة المقتول أكثر من قيمة القاتل.. لم يرجع عليه المغصوب منه إلا بقدر قيمة القاتل، على الصحيح من القولين، ثم يستوفي المغصوب منه تمام قيمة عبده من الغاصب؛ لأنه ضمنه باليد. [مسألة: ضمان جناية العبد المغصوب] ] : وإن غصب عبدا، فجنى العبد وهو في يد الغاصب على حر، أو عبد.. نظرت: فإن قتله عمداً.. فولي المجني عليه بالخيار: بين أن يقتص، وبين أن يعفو على مال، فإن قتله.. كان للمغصوب منه أن يرجع على الغاصب بقيمة عبده أكثر ما كانت من حين الغصب إلى أن قتل؛ لأنه تلف بسبب كان في يده، فلزمه ضمانه، وإن عفا عنه على مال.. تعلق ذلك برقبته، وكان على الغاصب أن يفديه بأقل الأمرين من أرش الجناية، أو قيمة العبد القاتل؛ لأن تعلق الأرش برقبته نقصان حدث في العبد بيده، فضمنه؛ لأنه ضامن للعبد ولنقصانه.

فرع: جناية عبد مغصوب أو مودع بقدر قيمته

وإن جنى على ما دون النفس، بأن قطع يد غيره، فإن كانت عمداً، واختار المجني عليه القصاص، فاقتص منه.. وجب على الغاصب ضمان اليد. قال الشيخ أبو إسحاق: وفي قدر ما يضمنه وجهان: أحدهما: أرش الجناية. والثاني: ما نقص من قيمته بذلك. وقال ابن الصباغ: يجب عليه ما نقص من قيمته بذلك، ولا يجب عليه الأرش، وجهاً واحداً؛ لأن اليد ذهبت بسبب غير مضمون، فأشبه إذا سقطت بأكلة. وإن عفا عنه على مال، أو كانت الجناية خطأ.. كان على الغاصب أقل الأمرين من قيمة العبد المغصوب، أو أرش الجناية. [فرع: جناية عبد مغصوب أو مودع بقدر قيمته] فإن جنى العبد المغصوب في يد الغاصب على رجل جناية أرشها قدر قيمته، أو أكثر منها، ثم مات العبد في يد الغاصب.. فللمغصوب منه أن يرجع على الغاصب بقيمه عبده، فإذا أخذها.. فللمجني عليه أن يطالب السيد بأرش جنايته؛ لأنها كانت متعلقة برقبة العبد، والقيمة بدل عن الرقبة، فإذا أخذ ولي الجناية الأرش من السيد.. قال ابن الحداد: فللسيد أن يرجع بذلك على الغاصب؛ لأن الأرش الذي أخذه المجني عليه من السيد استحقه بسبب كان في يد الغاصب، فكان من ضمانه. ولو كان العبد وديعة عند رجل، فجنى على آخر جناية تستغرق قيمته، ثم إن المودع قتل العبد.. فللسيد أن يرجع على المودع بقيمة عبده، فإذا أخذها.. فللمجني عليه أن يطالب السيد بأرش جنايته؛ لأن القيمة بدل الرقبة، فإذا أخذ المجني عليه الأرش من السيد.. لم يكن للسيد أن يرجع بذلك على المودع؛ لأن العبد جنى، وهو غير مضمون عليه، بخلاف الأولى.

وإن جنى العبد وهو يد سيده على رجل جناية تستغرق قيمته، ثم غصبه غاصب، فجنى على آخر جناية تستغرق قيمته، فاسترد العبد من الغاصب، وطلب المجني عليهما الفداء، فسلم العبد للبيع، وبيع.. فإن ثمنه يقسم بين المجني عليهما نصفين؛ لتساوي حقيهما، وللسيد أن يرجع على الغاصب بالنصف الذي أخذه المجني عليه في يد الغاصب؛ لأنه انتزع من السيد بسبب كان في يد الغاصب، فلزمه ضمانه، فإذا أخذه السيد من الغاصب.. قال ابن الحداد: فللمجني عليه الأول أن يأخذه من السيد دون المجني عليه الثاني. قال القاضي أبو الطيب: ووجهه: أن حق المجني عليه الأول تعلق بجميع الرقبة، وحق المجني عليه ثانياً لم يتعلق إلا بالنصف. قال ابن الصباغ: وما ذكره القاضي لا معنى له؛ لأن حق الثاني تعلق أيضاً بجميع الرقبة، ألا ترى أن الأول لو أبرأه.. لاستحق الثاني جميع القيمة؟ قال: وإنما وجه ذلك عندي: أن الذي يأخذه السيد من الغاصب إنما هو عوض عما أخذه منه المجني عليه الثاني، فلا يتعلق به حقه، ويتعلق به حق الأول؛ لأنه بدل عن قيمة الجاني لا يزاحم فيه. وإذا أخذه الأول من السيد.. لم يكن للسيد أن يرجع به على الغاصب؛ لأن استحقاقه بجناية كانت في يده لا في يد الغاصب، وهكذا: لو مات العبد في يد الغاصب.. وجبت عليه قيمته، وتقسم القيمة بين المجني عليهما، ويرجع المغصوب منه على الغاصب بنصف القيمة التي أخذها منه المجني عليه الثاني، ويكون ذلك للمجني عليه الأول دون الثاني، ولا يرجع السيد بذلك على الغاصب؛ لما ذكرناه. ولو جنى العبد المغصوب في يد الغاصب على رجل، ثم قتل هذا العبد عبداً آخر عمداً.. فلسيد العبد المغصوب أن يقتص من العبد الذي قتل عبده، وليس للمجني عليه أن يمنعه من ذلك، كما قلنا في العبد المرهون إذا قتل، فإن عفا على مال، أو كانت الجناية خطأ.. تعلق حق المجني عليه بقيمة العبد؛ لأنها قائمة مقامه، فإذا أخذ

فرع: قتل العبد المغصوب الغاصب

المجني عليه أرشه من القيمة.. كان لسيد المغصوب أن يرجع بذلك على الغاصب؛ لما ذكرناه، وإن أراد السيد أن يعفو على غير مال، فإن قلنا: إن موجب قتل العمد القود لا غير.. كان له ذلك، وإن قلنا: إن موجبه أحد الأمرين من القود أو المال.. سقط القصاص، ولم يسقط المال؛ لأن حق المجني عليه تعلق به. [فرع: قتل العبد المغصوب الغاصب] ] : وإن غصب رجل عبداً، فوثب العبد على الغاصب، فقتله، ثم هرب إلى سيده، فإن كانت الجناية عمداً.. قال الصيمري: فإن عفا ورثة الغاصب عن القصاص والدية.. سقط الضمان عن الغاصب في المال، وإن قتلوه.. فعليهم قيمة العبد وكأنهم لم يسلموه، وكذلك لو طالبوا بالدية من رقبته. وإن قتل العبد المغصوب سيده وهو في يد الغاصب.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: للورثة أن يقتصوا منه، فإذا قتلوه.. استحقوا قيمته على الغاصب.. وبه قال أبو حنيفة؛ لأن جناية العبد المغصوب على الغاصب. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: تكون الجناية هدراً؛ لأن ملك السيد ثابت عليه حال الجناية، فكانت جنايته عليه هدراً، كما قبل الغصب. [مسألة: غصب مالاً واتجر بذمته] وإن غصب من رجل دراهم أو دنانير، فاتجر في ذمته، ونقد الدراهم والدنانير، وربح.. ففيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (يكون الربح للمغصوب منه؛ لأنه نماء ماله، فهو كثمرة الشجرة، ولأنا لو جعلنا ذلك ملكا للغاصب.. لأدى ذلك إلى ارتفاق الغاصب

مسألة: غصب عبدا فاصطاد

بمال المغصوب منه بغير إذنه، فجعل ذلك ملكا للمغصوب منه بغير إذنه؛ لينحسم الباب) . و [الثاني] : قال في الجديد: (هو ملك للغاصب؛ لأن ذلك ليس بمتولد من مال المغصوب منه، وإنما هو نماء ملك الغاصب، فهو كما لو غصب من رجل أرضا، وزرع فيها زرعاً) . [مسألة: غصب عبداً فاصطاد] وإن غصب من رجل عبدا، فاصطاد العبد صيدا في يد الغاصب.. كان الصيد ملكاً للمغصوب منه؛ لأن يد العبد كيد مولاه. قال الصيمري: ولا يضمن الغاصب الصيد إلا أن يحول بين العبد وبين الصيد، وهل يجب على الغاصب أجرة العبد في المدة التي اصطاد فيها؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه أجرته؛ لأنه حال بين سيده وبين منافعه. والثاني: لا يجب عليه؛ لأن المنافع في هذه المدة صارت للمولى. وإن أكره الغاصب العبد على الاصطياد، فاصطاد.. فهل يكون الصيد ملكا لمولى العبد؟ فيه وجهان حكاهما الصيمري. [فرع: غصب آلة الصيد يوجب أجرتها] ] : وإن غصب من رجل شبكته، أو شركه، أو سفينة، أو قوساً، فاصطاد بها.. فالصيد للغاصب؛ لأنه لا صنع للآلة، ويجب على الغاصب أجرة الآلة؛ لأنه حال بين مالكها وبينها.

مسألة: غصب أرضا أو بذرا، فالنتاج للمغصوب منه

وإن غصب منه جارحة معلمة، فأرسلها على صيد، فأخذته.. ففيه وجهان: أحدهما: أن الصيد للغاصب؛ لأنه هو المرسل للجارحة، فكان الصيد له، كما قلنا في الشبكة. فعلى هذا: يجب عليه أجرة الجارحة إن كان يجوز استئجارها، كالفهد. والثاني: أن الصيد للمغصوب منه؛ لأن للجارحة فعلا في أخذ الصيد، فكان الصيد لمالكها، كالعبد، بخلاف الشبكة، فإنه لا فعل لها في أخذ الصيد. فعلى هذا: هل يجب للمغصوب منه أجرة الجارحة مدة اصطيادها؟ على الوجهين في العبد. [مسألة: غصب أرضا أو بذراً، فالنتاج للمغصوب منه] ] : إذا غصب من رجل بذراً، فبذره في أرضه، أو بأرض المغصوب منه.. فجميع ما خرج منه ملك للمغصوب منه. وحكى المسعودي [في (الإبانة) ق\ 313] وجهاً آخر: أنه للغاصب، وعليه مثل البذر. والأول أصح؛ لأن هذا عين مال المغصوب منه، فهو كالعبد الصغير إذا كبر، وهكذا الوجهان إذا غصب بيضاً، فصار فراخاً.. فالصحيح: أنه للمغصوب منه؛ لما ذكرناه، فإن نقص الزرع عن البذر، أو قيمة الفراخ عن قيمة البيض.. فعلى الغاصب ضمان النقص؛ لأنه نقص حدث في يده، فضمنه.

فرع: غصب عصيرا فانقلب حمرا

[فرع: غصب عصيراً فانقلب حمراً] ً] : وإن غصب من رجل عصيراً، فصار في يده خمراً.. لزمه ضمان العصير بمثله؛ لأنه تلف بيده بانقلابه خمراً، فإن انقلب الخمر بيده خلا.. لزمه رد الخل على المغصوب منه. وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه رده، بل قد ملكه بالانقلاب بيده) . دليلنا: أن الخل عين مال المغصوب منه، وإنما تغيرت صفته، فهو كالودي إذا صار نخلا. إذا ثبت هذا: فهل يلزمه مع رد الخل ضمان العصير؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: يلزمه أن يرد مع الخل مثل العصير؛ لأنه قد لزمه ذلك بانقلابه خمراً، وإنما رجع الملك فيه إلى المغصوب منه بمعنى آخر، فلا يسقط عن الغاصب ما وجب عليه بانقلابه خمراً، كما قلنا في الجارية إذا سمنت في يد الغاصب، ثم هزلت، ثم سمنت. و [الثاني] : منهم من قال: لا يجب عليه مثل العصير، وهو الصحيح؛ لأنه عين ماله وإنما تغيرت أوصافه. فعلى هذا: إن كانت قيمة الخل مثل قيمة العصير، أو أكثر.. فلا شيء عليه، وإن كانت قيمة الخل أقل من قيمة العصير.. لزم الغاصب ما بين القيمتين؛ لأن ذلك نقص بفعل حصل في يده. [مسألة: يضمن الغاصب النقص ولا شيء له في الزيادة] ] . وإن غصب من رجل ثوبا، فقصره، أو قطنا، فغزله، أو غزلا، فنسجه، أو ذهبا، فصاغه حليا.. لزمه رد ذلك على حالته؛ لأنه عين مال المغصوب منه، فإن نقصت قيمته بذلك.. لزم الغاصب ضمان ما نقص؛ لأنها نقصت بفعله، وإن زادت

فرع: يطالب الغاصب بإزالة التزاويق

قيمتها بفعله.. فلا شيء للغاصب بفعله؛ لأنها زادت بأثر لا عين له فيها. وأن غصب منه خشبة، فشقها ألواحاً.. لزمه رد الألواح؛ لأنها عين مال المغصوب منه، فإن نقصت عن قيمة الخشبة.. لزمه ضمان النقصان، وإن زادت.. فلا شيء له؛ لما ذكرناه، وإن سمر الألواح أبواباً، فإن لم يدخل الغاصب فيها شيئا من ماله، بأن سمرها ببعضها.. فإنه يردها مسمرة وأرش نقصها إن نقصت، ولا شيء له إن زادت، وإن سمرها الغاصب بمسامير من ماله.. فإن اختار قلع مساميره.. كان له ذلك؛ لأنها عين ماله، ولكن يضمن ما نقص من قيمتها بعد قلع المسامير؛ لأن المغصوب منه قد ملكها حال كونها أبوابا، فإذا أزالها عن ذلك.. لزمه الضمان، كما لو غصب غزلا، فنسجه تكة، ثم نقضها. فعلى هذا: إن كانت قيمة الأبواب وهي مسمرة مائة.. قيل: فكم قيمة الأبواب منها؟ وكم قيمة المسامير؟ فإن قيل: قيمة الأبواب تسعون، وقيمة المسامير عشرة.. نظرت: فإن نقصت الأبواب بعد تفصيلها عن التسعين.. ضمن ما نقصت عنها. فإن بذل الغاصب المسامير للمغصوب منه ... فهل يجبر على قبولها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجبر؛ لأنها عين مال الغاصب، فلا يجبر المغصوب على قبول هبته، كسائر أمواله. والثاني: يجبر على قبولها، وهو المنصوص؛ لأنها متصلة بماله، فلزمه قبولها، كقصارة الثوب. [فرع: يطالب الغاصب بإزالة التزاويق] وإن غصب من رجل داراً، فزوقها الغاصب بزاووق من عنده، أو جصصها بجص من عنده، فإن طالب مالك الدار الغاصب بقلع ذلك.. لزم الغاصب قلعه؛ لأن الغاصب شغل ملك المغصوب بملكه، فلزمه إزالته، فإذا قلعه.. نظرت:

فرع: يضمن الغاصب والمستعير

فإن كانت قيمة الدار قبل التزويق كقيمتها بعد قلع التزاويق.. لم يلزم الغاصب شيء؛ لأنها لم تنقص بالقلع.. وإن كانت قيمة الدار نقصت بالحك، فصارت قيمتها بعد الحك أقل من قيمتها قبل التزويق.. لزم الغاصب ما بين القيمتين؛ لأنه نقص بفعله. وإن طلب الغاصب قلع تزاويقه.. فقد قال البغداديون من أصحابنا: له قلعه، سواء كان لتزاويقه قيمة بعد القلع أو لم يكن؛ لأنه عين ماله، فكان له أخذه. وقال المسعودي [في (الإبانة) ق\313] : إن كان له عين.. فله قلعه، وإن لم يكن له عين.. فليس له قلعة، فإذا قلعه.. نظرت: فإن نقصت قيمة الدار بعد القلع عن قيمتها قبل التزاويق.. لزم الغاصب ما بينهما؛ لأنه نقص بفعله. وإن وهب الغاصب الزاووق والجص لمالك الدار.. فهل يجبر على قبوله؟ فيه وجهان: أحدهما: يجبر على قبوله؛ لأن ذلك غير متميز عن ماله، فهو كقصارة الثوب. والثاني: لا يجبر؛ لأنها أعيان ماله، فلا يجبر على قبولها، كالقماش في الدار. [فرع: يضمن الغاصب والمستعير] قيمة المغصوب عند الكسرقيمة المغصوب عند الكسر] : وإن غصب من رجل جوهرة زجاج تساوي درهماً، فاتخذ منها قدحاً يساوي عشرة دراهم، فانكسر القدح، فرده إلى مالكه مكسوراً، وقيمته درهم.. لزمه مع رده تسعة دراهم، وإن أعاره قدحاً يساوي عشرة، ثم انكسر مرة ثانية، فرجعت قيمته إلى درهم، ثم صنعه قدحاً يساوي عشرة.. فقال صاحب (التلخيص) : يرد القدح، ويرد معه ثمانية عشر درهماً.

مسألة: اختلاط زيت بمثله أو بأجود منه

قال الطبري: إن كانت الصنعة الثانية غير الصنعة الأولى.. فلا يختلف أصحابنا في أنه يرده وثمانية عشر درهماً؛ لأن الضمان استقر عليه بالكسر الأول، فإذا أعاره.. فهو مال آخر للمغصوب منه في يده، فلا ينجبر به ذلك النقص، وإن أعاد مثل ذلك القدح في القدر والصنعة، ورده صحيحاً.. فهل يغرم معه شيئاً؟ فيه وجهان، كما قلنا في السمن في الجارية. [مسألة: اختلاط زيت بمثله أو بأجود منه] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن كان زيتاً، فخلطه بمثله، أو خير منه، فإن شاء.. أعطاه من هذا مكيلته، وإن شاء.. أعطاه مثل زيته) . وجملة ذلك: أنه إذا غصب منه زيتاً، أو غيره من ذوات الأمثال، فخلطه بجنسه من ماله.. نظرت: فإن خلطه بأجود منه، بأن غصب منه صاعاً من زيت يساوي درهمين، فخلطه بصاع له من زيت يساوي أربعة دراهم، فإن بذل الغاصب للمغصوب منه صاعاً منه.. أجبر المغصوب منه على قبوله؛ لأنه دفع إليه بعض ما غصبه منه وشيئاً من جنسه، وهو خير مما غصب منه، فأجبر على قبوله، وإن طلب المغصوب منه صاعاً منه، وامتنع الغاصب.. فقد نص الشافعي هاهنا: (أن الخيار إلى الغاصب) ، ونص في (التفليس) : (إذا اشترى منه صاعاً من زيت، وخلطه بأجود منه من جنسه.. على قولين: أحدهما: أنهما يكونان شريكين، وهذا خلاف نصه في (الغصب) . والثاني: أنه يضرب مع الغرماء بالثمن. فجعله على هذا كالمستهلك، كما قال في (الغصب) . واختلف أصحابنا فيها: فمنهم من نقل جواب القولين إلى الغصب، وقال: في الغصب أيضاً قولان: أحدهما: أنه يصير كالمستهلك؛ لأنه تعذر عليه الوصول إلى ماله.

فعلى هذا: يعطيه الغاصب مثل زيته من غير هذا المختلط. والثاني: يصيران شريكين في هذا المختلط؛ لأن عين ماله اختلط بجنسه، فصارا شريكين، كما لو اشتريا صاعين بينهما. فعلى هذا: يباع الزيتان، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، فيكون للغاصب ثلثا الثمن، وللمغصوب منه الثلث، فإن طلب المغصوب منه أن يأخذ من هذا الزيت المختلط ثلثي صاع، وهو ما قيمته منه قيمة صاعه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه يأخذ بعض صاع عن صاع، وذلك رباً. والثاني: يجوز؛ لأنه يأخذ بعض حقه، ويترك البعض باختياره، وليس ذلك برباً؛ لأن الربا في المعاوضات، وليس ذلك بمعاوضة. ومنهم من قال: يصير في الغصب كالمستهلك، قولاً واحداً، وفرقوا بينه وبين التفليس؛ لأن في التفليس لا يمكن الغريم الرجوع إلى كمال حقه إذا ضارب مع الغرماء، فجعل شريكاً، وهاهنا يمكنه أن يرجع في بدله، وهو كمال حقه. وإن خلطه بمثله، بأن غصب منه صاعاً من زيت يساوي درهمين، فخلطه بصاع له من زيت يساوي درهمين، فإن بذل الغاصب صاعاً منه.. أجبر المغصوب منه على قبوله؛ لأن بعضه عين ماله، وبعضه مال الغاصب، وهو مثله، فأجبر على قبوله، وإن طلب المغصوب منه صاعاً منه، وامتنع الغاصب من ذلك، بل أراد أن يعطيه صاعاً من غيره.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو العباس، وأبو إسحاق: يجبر الغاصب على أن يدفع إليه صاعاً منه؛ لأن فيه بعض عين ماله، فلا يلزمه الانتقال إلى بدله، كما لو غصب منه صاعاً، وتلف بعضه. ومنهم من قال: لا يجبر الغاصب على دفع صاع منه، وهو المنصوص هاهنا في (الأم) [3/226] ؛ لأن عين مال المغصوب منه غير متميز من مال الغاصب، فصار كالمستهلك. وإن خلطه بأردأ منه، بأن غصب منه صاعاً يساوي أربعة دراهم، فخلطه بصاع

فرع: خلط زيت بشيرج

يساوي درهمين، فإن تراضيا على أن يأخذ المغصوب منه صاعاً منه.. جاز؛ لأنه يأخذ منه صاعاً دون حقه برضاه. فإن بذل الغاصب صاعاً منه، وطلب المغصوب منه مثل زيته.. يجبر على دفع صاع من مثل زيته من غيره. وإن طلب المغصوب منه صاعاً منه، وامتنع الغاصب.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال عامة أصحابنا: يجبر الغاصب على ذلك؛ لأنه رضي بأخذ حقه ناقصاً. و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لا يجبر الغاصب؛ لأن حقه قد تعلق بذمته حين صار زيته كالمستهلك. وإن بذل الغاصب صاعاً منه، وطلب المغصوب منه صاعاً من مثله زيته من غيره.. فالمنصوص: (أن الغاصب يجبر على دفع صاع من مثل زيته الذي غصب منه من غير هذا؛ لأن زيته صار كالمستهلك) . ومن أصحابنا من قال: يباع الزيتان، ويقسم ثمنه بينهما على قدر قيمة زيتيهما، كما قال إذا خلطه بأجود منه. وليس بشيء. [فرع: خلط زيت بشيرج] وإن غصب منه زيتاً، وخلطه بغير جنسه مما لا يمكن تمييزه منه، بأن خلطه بالبان أو بالشيرج.. فإن تراضيا على أن يأخذ المغصوب منه مثل مكيلة زيته منه.. جاز؛ لأن الحق لهما، وإن امتنع أحدهما.. لم يجبر؛ لأن الغاصب لا يجبر على دفع غير ما وجب عليه، والمغصوب منه لا يجبر على أخذ غير ما وجب له.

فعلى هذا: يجبر الغاصب على دفع زيت مثل الذي غصبه؛ لأن هذا صار كالمستهلك. ومن أصحابنا من قال: يباعان هاهنا، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، كما قال في المسألتين قبلها. وإن خلط الزيت بالماء، فإن أمكن تخليصه منه من غير أن يفسده في الحال ولا في الثاني.. كلف الغاصب تخليصه، وعليه مؤنة التخليص؛ لأنه يمكنه الرجوع إلى عين ماله، وإن كان إذا خلصه ينقصه نقصاناً مستقراً.. لزمه تخليصه، ورده، ورد ما نقص من قيمته، وإن كان نقصانه غير مستقر.. فالمنصوص: (أن الغاصب يلزمه أن يدفع مثله من جنسه؛ لأن هذا صار كالمستهلك) . وقال الربيع: فيه قول آخر: (أنه يلزمه تخليصه، ويرده وأرش ما نقص في الحال وفيما بعد، كما لو غصب عبداً، فقطع يده) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما: يلزم المغصوب منه أن يأخذه وأرش ما نقص؛ لأن عين ماله موجودة متميزة، فلا يملك الرجوع ببدلها. والثاني: لا يلزمه؛ لأن نقصانه غير مستقر، بل يتزايد، فصار كالمستهلك. ومنهم من قال: هي على قول واحد، وأنه يأخذ مثله من غيره؛ لما ذكرناه، وما ذكره الربيع من تخريجه.

فرع: خلط الدقيق بالدقيق

[فرع: خلط الدقيق بالدقيق] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن خلط دقيقاً بدقيق.. فكالزيت) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: للدقيق مثل. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو ظاهر النص؛ لأن تفاوته في النعومة والخشونة ليس بأكثر من تفاوت الحنطة بصغر الحب وكبره. فعلى هذا: حكمه حكم الزيت إذا خلط بالزيت، على ما مضى. وقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا: لا مثل له؛ لأنه يتفاوت تفاوتاً كبيراً، وقول الشافعي: (إنه كالزيت) أراد: في أنه يرجع إلى بدله، كما يرجع إلى بدل الزيت إذا تلف، لا أنه يرجع إلى مثله. فعلى هذا: إذا أراد قسمته بينهما.. نظرت: فإن اختلفت قيمتهما.. لم تجز قسمته؛ لأن قيمتهما مختلفة، فلو جوزناها.. كان فيه تفاضل وربا. وإن استوت قيمتهما، فإن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين.. جازت قسمته، كما يجوز قسمة الرطب على هذا القول. وإن قلنا: إن القسمة بيع.. لم يجز قسمته، كما لا يجوز بيع بعضه ببعض. وحكى الكرابيسي عنه: (أنه يجوز) . ولا يعرف ذلك للشافعي في شيء من كتبه. ومن أصحابنا من قال: يباع الدقيقان، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتيهما بكل حال، كما قال في المسائل قبلها. [فرع: خلط حنطة بحنطة] وإن غصب منه حنطة، فخلطها بحنطة له.. ففي ذلك مسائل كالتي ذكرناها في الزيت. فإذا خلطها بحنطة أجود منها، أو مثلها، أو دونها.. فالحكم فيها كالحكم في الزيت، وإن خلطها بما يمكن تمييزها منه، مثل: أن يخلط حنطة بيضاء بحنطة

مسألة: يلزم الغاصب تفريغ ملك غيره

سمراء، أو حمراء، أو شعير، أو ذرة.. فعلى الغاصب تمييزها وتخليصها وإن لحقه بذلك مؤنة ومشقة، كما لو غصب ساجاً، وبنى عليه. قال ابن الصباغ: وإن لم يتميز جميعه.. وجب عليه تمييز ما أمكن، وكان الباقي بمنزلة اختلاط الزيت بما لا يتميز عنه. [مسألة: يلزم الغاصب تفريغ ملك غيره] وإن غصب أرضاً، فغرس فيها، أو بنى، فدعا مالك الأرض إلى قلع الغراس أو البناء.. لزم الغاصب قلعه؛ لما روي: «أن رجلاً غصب أرضاً، فغرس فيها نخيلاً، فرفع ذلك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقلع النخيل) . قال الراوي: (فلقد رأيتها والفؤوس تعمل في أصولها، وإنها لنخيل عم» ، يعني: طوالاً، ولهذا يقال للمرأة الطويلة: عميمة. وروى سعيد بن زيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس لعرق ظالم حق» ، بكسر العين، وسكون الراء. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وكل ما وضع في الأرض للتأبيد.. فإنه يسمى: عرقا. والعروق أربعة: عرقان ظاهران، وهما: الغراس والبناء، وعرقان باطنان، وهما: (البئر والنهر) . ولأنه شغل ملك غيره بغير إذنه، فلزمه تفريغها، كما لو جعل فيها قماشاً.

فرع: للمالك طلب قلع الغراس إن كان له غرض آخر

إذا ثبت هذا: وقلع الغراس، أو البناء.. فقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وغيرهما: عليه تسوية الأرض، وأرش نقص إن دخل على الأرض بالقلع، وأجرة مثلها؛ لأن ذلك حصل بعدوانه. وذكر في (المهذب) : أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في (الغصب) : (يلزمه ما تنقص الأرض) ، وقال في (البيع) : (إذا قلع الأحجار المستودعة في الأرض.. عليه تسوية الأرض) . فمن أصحابنا من قال: هي على قولين: أحدهما: يلزمه أرش النقص؛ لأنها نقصت بفعله. والثاني: يلزمه تسوية الأرض؛ لأن جبران النقص بالمثل أولى من جبرانه بالقيمة. ومنهم من قال: يلزمه في الغصب أرش ما نقصت، وفي البيع يلزمه التسوية؛ لأن الغاصب متعد، فغلظ عليه بالقيمة؛ لأنها أوفى، والبائع غير متعد، فلم يلزمه أكثر من التسوية. [فرع: للمالك طلب قلع الغراس إن كان له غرض آخر] ] : وإن غصب من رجل أرضاً، وغراساً، فغرسه في الأرض، فطالب مالك الأرض الغاصب بقلع الغراس عن الأرض، فإن كان له غرض في القلع، بأن كان لا يريد غرس تلك الأرض.. أخذ الغاصب بقلع الغراس؛ لأنه لا يجوز تفويت غرض المالك، وإن لم يكن لمالك الأرض غرض في القلع، بأن كان يريد غرس تلك الأرض.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يؤخذ الغاصب بقلع الغراس، لأن ذلك عبث وسفه. والثاني: يؤخذ بذلك؛ لأن الإنسان محكم في ملكه.

فرع: يلزم الغاصب أجرة الأرض وقلع زرعها وبدل نقصها

[فرع: يلزم الغاصب أجرة الأرض وقلع زرعها وبدل نقصها] ] : وإن غصب أرضاً، وزرع فيها.. لزمه قلع الزرع، وأجرة الأرض، وأرش ما نقص إن حصل بها. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ليس لصاحب الأرض قلع الزرع، بل هو بالخيار: بين أن يدفع البذر والنفقة، ويملك الزرع، وبين أن يقره في الأرض إلى أوان الحصاد، ويطالب بأجرة أرضه) . دليلنا: أنه شغل ملك غيره بغير إذنه، فلزمه قلعه، كالغراس. [مسألة: غصب أرضاً وحفر فيها بئراً] ً] : وإن غصب من رجل أرضاً، وحفر فيها بئراً، أو نهراً، فإن طالبه المغصوب منه برد التراب إلى البئر وطمها.. لزم الغاصب ذلك؛ لأنه نقل التراب من ملكه، فكان له مطالبته بإعادته، وإن طلب الغاصب أن يعيد التراب، فامتنع المغصوب منه.. أجبر المغصوب منه على إعادته. وقال المزني [في (المختصر) 3/40-41] : لا يجبر، كما لو غصب منه غزلاً، ونسجه ثوباً. وهذا غلط؛ لأن الغاصب إن كان قد نقل التراب إلى ملك نفسه.. فله غرض برده، وهو تفريغ ملك نفسه، فإن كان قد نقله إلى ملك غيره، أو إلى طريق المسلمين.. فله غرض في رده، وهو تفريغ ملك الغير، وإزالة الضرر عن طريق المسلمين، وإن كان قد نقله إلى ملك المغصوب منه.. فله غرض في ذلك، وهو أن يسقط عنه ضمان من يقع في البئر، فإذا طم البئر.. نظرت: فإن نقصت قيمة الأرض بعد الطم عن قيمتها قبل الحفر.. لزمه ما بين القيمتين؛ لأنها نقصت بفعله. وإن لم تنقص قيمتها.. لم يلزمه أرش النقص.

فإن قال المغصوب منه للغاصب: قد أبرأتك من ضمان من يقع فيها.. فهل يبرأ من ضمان من يقع فيها؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يبرأ؛ لأن الضمان بالحفر حق للغير.. فلا يصح إبراء المغصوب منه، ولأن هذا أبرأه مما لا يجب، فلم يصح. فعلى هذا: للغاصب طم البئر بكل حال. والثاني: أنه يبرأ، وهو قول أبي حنيفة، قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأن الضمان يلزمه بوجود التعدي، فزال عنه برضا المالك، كما لو حفر بإذنه. قال ابن الصباغ: وهكذا: ينبغي إذا لم يتلفظ بالإبراء، وإنما منعه من طمها؛ لأنه يتضمن رضاه بذلك. فعلى هذا: ليس له أن يطم التراب إن كان قد وضعه في ملك المغصوب منه، وإن كان قد وضعه في ملك نفسه، أو في ملك غيره.. رده. وإن غصب أرضاً، ثم كشط ترابها.. جاز للمغصوب منه أن يطالبه برده، وإعادة الأرض كما كانت، فإذا رده، فإن نقصت قيمة الأرض بعد ذلك عن قيمتها قبل الكشط.. لزمه ما بين القيمتين، وإن أراد الغاصب رده، وامتنع المغصوب منه، فإن كان الغاصب قد نقل التراب إلى ملك نفسه، أو إلى ملك غيره، أو إلى طريق المسلمين، أو إلى ملك المغصوب منه، ونقصت قيمة الأرض بنقل التراب إلى ملك المغصوب منه، ويرجو بإعادته زوال النقص.. فللغاصب رده؛ لأن له غرضاً في رده، وهو تفريغ ما نقل إليه التراب، أو زوال النقص، وإن كان نقل التراب إلى ملك المغصوب منه، ولم تنقص قيمة الأرض.. لم يكن له ذلك؛ لأنه لا فائدة له في ذلك. وإن خرق ثوباً، وطلب الغاصب أن يرفأه.. قال المسعودي [في (الإبانة) ق\ 314] : لم يجبر المالك على تمكينه من ذلك؛ لأنه لا يعود إلى حالته الأولى.

مسألة: غصبه ثوبا وصبغا

[مسألة: غصبه ثوباً وصبغا] ] : وإن غصب من رجل ثوباً وصبغاً، فصبغه به.. لزم الغاصب أن يرد الثوب مصبوغاً؛ لأنهما عين ماله، فإن لم تنقص قيمة الثوب والصبغ، بأن كانت قيمة الثوب قبل الصبغ عشرة، وقيمة الصبغ خمسة، فصارت قيمتهما بعد الصبغ خمسة عشر.. فلا شيء على الغاصب؛ لأنه لم يتلف شيئاً من مال المغصوب منه، وإن زادت قيمتهما، فصارت عشرين.. فلا شيء للغاصب؛ لأن الزيادة حصلت بأثر من الغاصب لا بعين ماله، وإن نقصت قيمتهما، فصارت عشرة.. لزم الغاصب مع ردهما خمسة؛ لأنهما نقصا بفعله، إلا أن يعلم أن ذلك النقصان لنقصان سعر الثياب، أو الصبغ، فلا يلزمه شيء؛ لأن نقصان السعر لا يضمنه الغاصب مع رد العين. [مسألة: غصب ثوباً ثم صبغه من ماله] ] : وإن غصب من رجل ثوباً، فصبغه بصبغ من عنده.. قال الشيخ أبو حامد: فإن الغاصب يكون شريكاً لصاحب الثوب؛ لأن الصبغ عين مال الغاصب، فإذا خلطه بمال المغصوب منه.. صار شريكاً له، كما لو غصب منه طعاماً، فخلطه بطعام له. إذا ثبت هذا: فلا يخلو حالهما من ثلاثة أحوال: إما أن لا تزيد قيمتهما ولا تنقص، وإما أن تزيد قيمتهما، وإما أن تنقص قيمتهما. فالحالة الأولى: إن لم تزد قيمتهما ولم تنقص، بأن كانت قيمة الثوب قبل الصبغ عشرة، وقيمة الصبغ عشرة، وقيمتهما بعد الصبغ عشرين.. فإن الغاصب هاهنا يكون شريكاً له في النصف، فيكون فيه سبع مسائل: إحداهن: أن يتفقا على بيعهما، فإذا بيعا.. قسم الثمن بينهما نصفين. الثانية: إذا تراضيا على ترك الثوب بحاله، ويكونان شريكين.. جاز. الثالثة: أن يطلب الغاصب قلع صبغه.. فله ذلك، ويجبر المغصوب منه على تمكينه من ذلك؛ لأن الصبغ عين مال الغاصب، فكان له أخذه كما لو غصب

أرضاً، وغرس فيها، فله قلعه، إلا أن الثوب إن نقصت قيمته بقلع الصبغ.. لزم الغاصب ما نقصت قيمته؛ لأنه نقص بسبب من جهته. الرابعة: إذا طلب المغصوب منه أن يقلع الغاصب صبغه من ثوبه، فإن رضي الغاصب بذلك.. فلا كلام، وإن امتنع الغاصب.. فهل يجبر؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول ابن خيران، وأبي إسحاق ـ: أنه يجبر، كما لو غصب أرضاً، وغرس فيها. والثاني ـ وهو قول أبي العباس، وعامة أصحابنا ـ: أنه لا يجبر الغاصب، لأن الصبغ يهلك بالاستخراج، بخلاف النخل، مع أن الثوب لا يعود كما كان قبل الصباغ، بخلاف الأرض، ولأن الغراس لم يستقر ضرره؛ لأن عروقه وأغصانه تزيد، بخلاف الصبغ. الخامسة: إذا بذل المغصوب منه قيمة الصبغ، ليتملكه مع الثوب، فإن رضي الغاصب بذلك.. جاز، وإن امتنع الغاصب، بل أراد القلع.. لم يجبر الغاصب على قبول القيمة. وقال أبو حنيفة: (صاحب الثوب بالخيار: بين أن يعطيه قيمة الصبغ، ويأخذه مع الثوب، ويجبر الغاصب على قبوله، وبين أن يسلم الثوب إلى الغاصب، ويطالبه بقيمته) ، بناء على أصله: إذا جنى الغاصب على العين المغصوبة جناية أذهب بها منفعتها المقصودة، وقد مضى ذلك. السادسة: إذا أراد الغاصب البيع، وامتنع صاحب الثوب.. فهل يجبر على البيع؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: يجبر؛ ليصل الغاصب إلى ثمن صبغه، كما يجبر الغاصب على البيع ليصل رب الثوب إلى ثمن ثوبه. والثاني: لا يجبر؛ لأنه متعد، فلم يستحق بتعديه إزالة ملك رب الثوب عن ثوبه.

السابعة: إذا وهب الغاصب الصبغ من مالك الثوب.. فهل يجبر على قبوله؟ فيه وجهان: أحدهما: يجبر؛ لأن الصبغ متصل بماله، فأجبر على قبوله، كالسمن في الجارية. والثاني: لا يجبر؛ لأنه عين يمكن إفرادها، فلم يجبر على قبوله، كالأعيان المنفردة. الحالة الثانية: أن تزيد القيمة، بأن صار الثوب يساوي بعد الصبغ ثلاثين: قال ابن الصباغ: فإن كانت تلك الزيادة لزيادة سعر السوق في الثياب.. كانت الزيادة لصاحب الثوب، وإن كانت الزيادة بسعر السوق في الصبغ.. كانت للغاصب، وإن كانت بالعمل.. كانت بينهما؛ لأن مالهما زاد بعمل الغاصب، وكل زيادة حصلت في المغصوب بأثر من الغاصب.. فإنها تكون ملكاً للمغصوب منه. وذكر الشيخ أبو حامد: أن الزيادة بينهما نصفين، من غير تفصيل. فعلى هذا: يكون فيه المسائل السبعة التي ذكرناها، إلا أن هاهنا إن اختار الغاصب قلع صبغه.. فله قلعه بشرط أن يضمن لصاحب الثوب ما نقص عن قيمة الثوب في هذه الحالة، وهو خمسة عشر؛ لأن الثوب زاد في ملك صاحبه، فصار مالكاً له ولزيادته، فيلزم الغاصب ما نقص من قيمته في هذه الحالة. الحالة الثالثة: أن تنقص القيمة، قال ابن الصباغ: فينظر: فإن كان لنقصان سعر الثياب.. كان ذلك من قيمة الثوب، وإن كان لنقصان قيمة الصبغ، أو كان لأجل الصبغ.. كان على صاحب الصبغ أرش ما نقص من قيمة الثوب؛ لأنه تعدى بالصبغ؛ لأن الصبغ يتبدد في الثوب.

فرع: غصب ثوبا وصبغه بصبغ مغصوب

وإن كان الصبغ لم يتبدد في الثوب، وكان النقصان منه، فإن كان النقص ببعض قيمة الصبغ، بأن صار الثوب وهو مصبوغ يساوي خمسة عشر.. فإن الغاصب يصير شريكاً بالثلث، وفيه المسائل التي ذكرناها. وإن نقص جميع قيمة الصبغ حتى صار الثوب وهو مصبوغ يساوي عشرة.. فإن الشافعي قال: (يقال للغاصب هاهنا: عين مالك قد استهلك، فإن شئت تركته، ولا شيء عليك ولا لك، فلا شيء عليه؛ لأن قيمة الثوب لم تنقص، ولا شيء له؛ لأن عين ماله قد استهلك، وإن اخترت أن تقلعه على أن عليك ما نقص الثوب عن العشرة.. كان لك ذلك) . قال الشيخ أبو حامد: ويجيء إذا طالب المغصوب منه الغاصب بقلع الصبغ.. لزمه على أحد الوجهين، ولا يجيء هاهنا دفع قيمة الصبغ، ولا هبة الصبغ؛ لأنه لا قيمة له، ولا يستحق الغاصب شيئاً من الثوب؛ لأن صبغه قد تلف، فإن صارت قيمة الثوب ثمانية دراهم.. قال الشيخ أبو حامد: قيل للغاصب: قد استهلك عين مالك، ونقص قيمة الثوب بفعلك، فأنت بالخيار: بين أن تترك الثوب مصبوغاً، وعليك ما نقص من قيمته، وهو درهمان، أو تقلع الصبغ، وعليك ضمان ما ينقص من قيمة الثوب؛ لأن الصبغ عين ماله. [فرع: غصب ثوباً وصبغه بصبغ مغصوب] ] : وإن غصب من رجل ثوباً، ومن آخر صبغاً، وصبغ به الثوب.. نظرت: فإن كانت القيمتان بحالهما.. كان شريكين في ذلك. قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون إذا قلنا: إن الصبغ إذا كان للغاصب، أجبرناه على قلعه.. أن يكون هاهنا لصاحب الثوب قلعه، وما ينقص يكون على الغاصب. وإن كانت القيمة قد زادت.. كانت الزيادة بينهما، وإن نقصت، فإن كان لنقصان سعر الثياب.. كانت على صاحب الثوب، وإن كان للعمل.. كانت من صاحب الصبغ، ويرجع على الغاصب بها؛ لأن الصبغ يتبدد، والثوب بحاله.

مسألة: غصب خشبة وبنى عليها

[مسألة: غصب خشبة وبنى عليها] ] : إذا غصب ساجة، أو خشبة، فبنى عليها، فإن عفنت الساجة، أو الخشبة.. لم يلزمه ردها؛ لأنها صارت كالمستهلكة، ويرد قيمتها؛ لأنه لما تعذر ردها.. وجبت عليه قيمتها، كما لو أتلفها، وإن كانت باقية.. لزم الغاصب قلعها وردها على مالكها، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه ردها إذا كانت مغيبة في البناء) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يأخذ أحدكم مال أخيه جاداً، ولا لاعباً، ومن أخذ عصا أخيه.. فليردها» . فنص على العصا؛ لينبه بها على ما سواها. ولأنها عين مغصوبة يمكن ردها، فوجب ردها، كما لو لم يبن عليها. [فرع: غصب خيطاً وخاط به] ] : وإن غصب منه خيطاً، فخاط به.. نظرت: فإن بلي الخيط.. لم يلزمه رده؛ لأنه صار كالمستهلك، وتجب قيمته. وإن كان باقياً.. نظرت: فإن كان قد خاط به الثوب.. فتقت الخياطة، ورد عليه الخيط؛ لأنه عين مال المغصوب منه، فإن كان قد نقص.. لزمه أرش النقص. وإن خاط به جرح حيوان، فإن كان لا حرمة له، كالكلب العقور والخنزير والمرتد.. نزع الخيط وإن خيف على الحيوان الهلاك؛ لأن أكثر ما في نزعه تلف الحيوان، وقد ورد الشرع بإتلافه، وإن كان الحيوان له حرمة.. نظرت:

فإن كان لا يؤكل لحمه، كالعبيد، والبغال، والحمير، فإن كان يخاف عليه التلف بقلع الخيط.. لم يقلع؛ لأن للحيوان حرمتين: حرمة لمالكه، وحرمة لله تعالى، ولهذا لو احتاج إلى أخذ هذا الخيط ليخيط به جرحه، أو جرح حيوان له من بغل أو حمار، ولم يكن في ملكه.. كان له أخذه بغير إذن مالكه، فإذا خاط به.. لم يلزمه نزعه، ويجب عليه قيمته. وإن كان يخاف من نزع الخيط الزيادة في العلة، وإبطاء البرء، وحدوث الشين.. فهل هو كخوف التلف؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الجريح إذا خاف ذلك من استعمال الماء. وإن كان لا يخاف من نزع الخيط التلف، ولا إبطاء البرء.. وجب نزع الخيط؛ لأنه مقدور على رده من غير ضرر. وإن كان قد خاط به جرح حيوان يؤكل لحمه، فإن لم يخف التلف من نزعه.. وجب نزعه، وإن كان يخاف التلف من نزعه.. ففيه قولان: أحدهما: يجب نزعه؛ لأنه يجوز ذبحه. والثاني: لا يجوز؛ لأن له حرمة بنفسه، وقد: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذبح الحيوان لغير مأكلة» . فإن مات الحيوان الذي خيف من نزع الخيط منه التلف.. فهل يقلع؟

مسألة: غصب لوحا وأدخله سفينة

قال المسعودي [في (الإبانة) ق\313] : إن كان غير الآدمي.. قلع، وإن كان آدمياً.. ففيه وجهان. [مسألة: غصب لوحاً وأدخله سفينة] ] : وإن غصب لوحاً، وأدخله في سفينة، فإن كانت السفينة في الجفاف، أو في موضع من البحر بقرب الشط.. قدمت إلى الشط، وقلع اللوح، ورد على صاحبه؛ لأنه يمكن رده على مالكه بغير ضرورة. وإن كانت السفينة في لجة البحر.. نظرت: فإن كان اللوح في أعلى السفينة بحيث لا يخاف الغرق في قلعه.. وجب قلعه. وإن كان في أسفلها بحيث إذا قلع خيف الغرق.. نظرت: فإن كان في السفينة حيوان له حرمة: آدمي، أو غير آدمي.. لم يجز قلعه، سواء كان للغاصب أو لغيره؛ لأن الحيوان إن كان لغير الغاصب.. فله حرمتان: حرمة لمالكه، وحرمة لله تعالى، وإن كان الحيوان للغاصب.. فله حرمة لله تعالى، فلا يجوز هتكها. وإن كان فيها مال غير الحيوان، فإن كان لغير الغاصب.. لم يجز قلعه لحرمة مالكه، وإن لم يكن فيها إلا مال الغاصب، أو لم يكن فيها مال، إلا أنه يخاف على السفينة أن تغرق إذا قلع اللوح.. فهل يقلع؟ فيه وجهان: أحدهما: يقلع، كما يقلع البناء لرد الساجة، والخشبة. والثاني: لا يقلع، وهو الأصح؛ لأنه يمكن رده مع سلامة مال الغاصب، وهو إذا دخلت الشط، بخلاف الساجة والبناء. وكل موضع قلنا: لا يجب قلعه.. فللمالك أن يطالب بقيمة اللوح إلى أن يأخذ لوحه، كما قلنا فيمن غصب عبداً، وأبق منه فإذا قلع اللوح، وسلم إلى مالكه.. رد ما أخذه من قيمته.

مسألة: غصب جوهرة فابتلعتها بهيمته

وإن اختلطت السفينة التي فيها اللوح بسفن للغاصب، ولم تتميز.. ففيه وجهان، حكاهما في (المهذب) : أحدهما: يقلع جميع السفن، كما يقلع جميع السفينة. والثاني: لا يقلع؛ لأنه إتلاف ما لم يتعين فيه التعدي. [مسألة: غصب جوهرة فابتلعتها بهيمته] ] : إذا غصب جوهرة، فابتلعتها بهيمة له، فإن كانت بهيمة لا تؤكل.. لم يجز شق بطنها لإخراج الجوهرة؛ لأن قتلها لا يجوز، ويلزم الغاصب قيمة الجوهرة، فإن خرجت الجوهرة من البهيمة.. وجب ردها إلى مالكها، وأرش نقصها إن نقصت بالابتلاع، ووجب على المغصوب منه رد ما أخذ من القيمة، وإن كانت لمثلها أجرة.. فهل تجب أجرتها له من حين أخذ القيمة إلى أن رجعت إليه الجوهرة؟ فيه وجهان، كما قلنا فيمن غصب عبداً، فأبق منه. وإن كانت البهيمة مأكولة.. فهل يجب ذبحها، ورد الجوهرة؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الخيط إذا خيط به جرح حيوان مأكول اللحم وخيف من نزعه تلف الحيوان. [فرع: إتلاف بهيمته مال غيره] ] : وإن كانت له بهيمة، فأتلفت مالاً لغيره، فإن لم تكن يد صاحبها عليها.. لم يجب على مالكها الضمان؛ لأن مالك البهيمة لا يلزمه حفظها نهاراً، فلا يلزمه ضمان ما أتلفته، وإن أتلفت شيئاً وهي تحت يد إما سائقها، أو قائدها، أو راكبها.. لزمه ضمان ما أتلفت؛ لأنها إذا كانت تحت يده.. كانت جنايتها كجنايته، فإن أتلفته بيدها، أو رجلها، أو نابها.. ضمنه بمثله إن كان له مثل، أو بقيمته إن لم يكن له

فرع: ابتاع شاة فأكلت ثمنها

مثل، وإن ابتلعته، فإن كان مما يتلف بالابتلاع، كالطعام.. كان كما لو أتلفته بيدها، أو رجلها، وإن كان مما لا يتلف بالابتلاع، كالجواهر، واللؤلؤ.. فهو كما لو غصب جوهرة، وابتلعتها بهيمة على ما مضى. [فرع: ابتاع شاة فأكلت ثمنها] ] : فأما إذا ابتاع شاة بثمن، فأكلت الشاة ثمنها.. لم يخل: إما أن يكون الثمن معيناً، أو غير معين. فإن كان معيناً.. نظرت: فإن أكلته قبل أن يقبضه البائع.. بطل البيع؛ لأن الثمن المعين إذا تلف قبل القبض.. بطل البيع، فإن كانت يد المبتاع على الشاة حين أكلت ذلك، أو لا يد لأحد عليها.. لم يرجع المبتاع ببدل ثمنه على أحد، وإن كانت يد البائع على البهيمة.. لزمه ضمان ذلك للمبتاع، فإن كان مما يتلف بالابتلاع.. ضمنه بمثله إن كان له مثل، أو بقيمته إن لم يكن له مثل، وإن كان مما لا يتلف بالابتلاع، كالدراهم، والدنانير، فإن كانت البهيمة غير مأكولة اللحم.. لم يجز شق بطنها، بل يجب عليه ضمانه، وإن كانت مأكولة اللحم.. فهل يجب ذبحها لإخراجه؟ على القولين. وإن كان ذلك بعد قبض الثمن.. لم يبطل البيع، بل يكون الثمن على ملك البائع، والبهيمة على ملك المشتري، فإن كانت يد البائع على البهيمة حين أكلت ذلك، أو لا يد لأحد عليها.. فلا شيء له، وإن كانت يد المشتري عليها حين الأكل.. وجب عليه ضمان الثمن، والكلام في الضمان على ما مضى. وإن كان الثمن غير معين، بأن اشتراها بثمن في ذمته، ثم عزل المشتري مثل الثمن من ماله ليسلمه إلى البائع، فأكلته البهيمة.. فإن البيع لا يبطل بذلك، ويكون الثمن تالفاً على ملك المشتري، فإن كانت البهيمة في يد المشتري، حين الأكل، أو لا يد لأحد عليها.. فلا يرجع على أحد، وإن كانت يد البائع على البهيمة.. وجب عليه ضمانه؛ لأن من يده على بهيمة.. يجب عليه ضمان ما أتلفته وإن لم تكن ملكاً له، كمن استعار بهيمة، أو غصبها، أو استأجرها.

فرع: إدخال البهيمة رأسها في قدر وتعسر إخراجه

[فرع: إدخال البهيمة رأسها في قدر وتعسر إخراجه] ] : وإن أدخلت بهيمة رأسها في قدر باقلائي، ولم يمكن إخراج رأسها إلا بكسر القدر، أو بذبح البهيمة، فإن كانت يد صاحب البهيمة عليها حين أدخلت رأسها.. لزمه الضمان؛ لأنه كان يلزمه حفظها. فعلى هذا: إن كانت البهيمة غير مأكولة اللحم.. كسر القدر، ولزمه ما نقص من قيمته؛ لأنه كسر لتخليص ملكه، وإن كانت مأكولة اللحم.. فهل يكسر القدر، أو تذبح البهيمة؟ فيه وجهان، بناء على القولين في البهيمة المأكولة إذا خيط جرحها بخيط مغصوب. وإن لم تكن يد صاحبها عليها.. نظرت: فإن فرط صاحب القدر، بأن ترك قدره على الطريق، فجاءت البهيمة، ولا يد لأحد عليها، فأدخلت رأسها فيه.. لم يكن على مالك البهيمة الضمان؛ لأن مالك القدر فرط. فعلى هذا: يكسر القدر، ويخرج رأس البهيمة، ولا شيء على مالك البهيمة. وإن لم يفرط صاحب القدر، بأن كان القدر محرزاً في دكانه، أو داره، فجاءت البهيمة، فأدخلت رأسها فيه.. كسر القدر لإخراج رأس البهيمة، ووجب على مالك البهيمة ما نقص من قيمته؛ لأن ذلك فعل لتخليص ملكه.

فرع: أدخل فصيلا غصبه إلى داره فكبر

[فرع: أدخل فصيلاً غصبه إلى داره فكبر] ] : إذا غصب من رجل فصيلاً، وأدخله الغاصب إلى داره، فكبر، ولم يمكن إخراجه إلا بهدم الباب.. هدم الباب، وأخرج الفصيل، ولا شيء على مالك الفصيل؛ لأن التفريط حصل من الغاصب. وإن أدخله صاحب الفصيل إلى دار غيره، أو انفلت الفصيل بنفسه، ودخل الدار.. نقض الباب، وأخرج الفصيل، ووجب على مالك الفصيل ما يلزم على إصلاحه من المؤنة؛ لأن ذلك حصل لتخليص ملكه، وكذلك لو اشترى من رجل داراً، وله فيها مال لا يمكن إخراجه إلا بنقض الباب، كالصندوق الكبير، والحب الكبير.. هدم الباب لإخراج ذلك، ووجب على البائع إصلاح الباب كما كان؛ لأن الهدم حصل لتخليص ملكه. [فرع: طرح ديناراً غصبه في محبرته] ] : وإن غصب من رجل ديناراً، وطرحه الغاصب في محبرته، ولم يمكن إخراجه إلا بكسر المحبرة.. كسرت المحبرة، ورد الدينار، ولا يجب ضمان المحبرة؛ لأن التفريط جاء من مالكها. إن طرح مالك الدينار ديناره في محبرة غيره، أو وقع الدينار فيها من طاق، أو غيره بغير تفريط من أحدهما.. كسرت المحبرة، وأخرج الدينار، ووجب على مالك الدينار ما نقصت بالكسر؛ لأنها كسرت لتخليص ملكه. وإن رضي مالك الدينار بترك ديناره فيها.. فلا كلام. قال ابن الصباغ: وينبغي إذا ضمن صاحب المحبرة بدل

فرع: أسند خشبه على جدار فسقط

الدينار إذا لم يغصب الدينار.. أن لا يجب كسر محبرته؛ لأنه قد زال الضرر عن مالك الدينار، وصاحب المحبرة غير مفرط في ذلك. [فرع: أسند خشبه على جدار فسقط] ] : قال ابن القاص: لو أن رجلاً كان يحمل خشباً، فاستراح إلى جدار، فأسنده، فوقع على إنسان، أو شيء، فأتلفه، فإن كان الجدار لغيره، فأسنده إليه بغير إذنه.. ضمن الجدار وما يسقط عليه، وإن كان الجدار له، فإن سقط في حال وضعه.. ضمن ما يسقط عليه، وإن لم يسقط في الحال، وإنما سقط بعد ساعة.. فلا ضمان عليه. قال أصحابنا: هذا صحيح، إذا كان الجدار لغيره فأسند إليه بغير إذنه.. فيجب عليه ضمان ما وقع عليه، سواء وقع في الحال أو بعد ساعة؛ لأنه متعد بذلك، وإن كان الجدار له، وسقط في الحال.. ضمن ما وقع عليه، كما لو رمى حجراً، فأتلف بها إنساناً، أو مالاً لغيره، وإن وقف، ثم سقط.. فلا يضمن ما سقط عليه؛ لأنه غير متعد، كما لو حفر في ملكه بئراً، فوقع فيها إنسان. قال أبو علي السنجي: إلا إن مال الجدار إلى هواء الشارع بوضع الخشب، فوقف مائلاً، ثم سقط على إنسان، أو مال.. فيجب عليه ضمانه؛ لأنه إذا مال إلى هواء الشارع.. لزمه إزالته عن هواء الشارع، فإذا لم يفعل.. صار متعدياً، فضمن ما وقع عليه. [فرع: احتكت راحلته بجدار فسقط] ، وحفر بئر في الحرم] : قال الطبري: فإن كان رجل يحمل حطباً على حمار، فاحتك الحمار بجدار رجل، فأسقطه.. كان على سائق الحمار الضمان؛ لأن عليه أن يحفظه من إتلاف مال الغير. وهكذا: لو تعلقت خشبة منه بثوب رجل على الطريق، فخرقته، فإن كان صاحب

فرع: دخل دارا بغير إذن مالكها فإنه يضمن ما فيها

الثوب لما تعلقت به الخشبة وقف، ولم يجذب ثوبه.. وجب الضمان على سائق الحمار؛ لأن التلف حصل منه، وإن لم يقف صاحب الثوب، بل مشى، وجبذ ثوبه، فانخرق الثوب بمشيه، وبمشي الحمار.. وجب على سائق الحمار ضمان نصف الأرش، وسقط النصف؛ لأنه انخرق بفعلهما. قال ابن القاص: إذا حفر في ملكه بئراً في الحرم، فهلك بها إنسان.. لم يضمنه، وإن هلك بها صيد.. فحكى الربيع عن الشافعي: (أنه يضمنه) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من سلم له ذلك؛ لأن حرمة الحرم باقية في ملكه، فجاز له التصرف فيه بشرط السلامة، كما لو نصب شبكة، أو رمى سهماً في ملكه في الحرم، فقتل به صيداً.. فإنه يجب عليه ضمانه. ومنهم من قال: لا يضمن الصيد؛ لأن كل ما لا يضمن به الآدمي ومال الغير.. لم يضمن به الصيد، كما لو حفر بئراً في ملكه في غير الحرم. وأولوا نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على: أنه اضطر الصيد إلى الوقوع في البئر. قال الشيخ أبو زيد: ولعله أجاب على قول من يقول: الحرم لا يملك، فكأنه حفر في أرض غيره. [فرع: دخل داراً بغير إذن مالكها فإنه يضمن ما فيها] ] : قال ابن الصباغ: إذا دخل دار غيره بغير إذنه، فإن كان صاحبها فيها.. لم يضمنها؛ لأن يد صاحبها عليها، فلم تثبت يد الدخل عليها، وإن كان صاحبها ليس هو فيها.. ضمنها، وكذلك: إذا دخل داراً يظنها داره، وهي لغيره، ولم يكن صاحبها فيها.. ضمنها؛ لأن يده تثبت عليها. وإن غصب داراً، وفيها أمتعة.. فهل يكون غاصباً للأمتعة قبل نقلها؟ فيه وجهان، حكاهما أبو المحاسن: أحدهما: أنه لا يكون غاصباً لها؛ لأن ما ينقل لا يضمن إلا بالنقل.

فرع: غصب فحلا وأنزاه على بهائمه

والثاني: يكون غاصباً لها تبعاً للدار. وإن رأى دابة واقفة، وليس معها صاحبها، فركبها، ولم تمش به.. قال القاضي أبو الطيب في (المجرد) : لا أعرف فيها شيئاً لأصحابنا، وعندي: أنه لا يضمنها؛ لأنا نعتبر الغصب بالقبض في العقود، ولا يصير قابضاً للدابة حتى ينقلها، فإذا نقلها من موضعها.. ضمنها. [فرع: غصب فحلاً وأنزاه على بهائمه] ] : وإن غصب من رجل فحلاً، فأنزاه على بهائمه، فنتجت.. فإن الأولاد تكون ملكاً للغاصب؛ لأن الولد يتبع الأم في الملك، كما نقول فيمن زوج أمته، فأولدت، ويلزمه أن يرد الفحل، فإن نقص منه شيء بالإنزاء.. لزمه ضمانه؛ لأنه نقص بعدوانه، وأما الأجرة: فإن قلنا: يجوز استئجار الفحل للضراب.. لزمه أجرته، وإن قلنا: لا يجوز، وهو الصحيح.. لم يلزمه. وإن غصب غنماً إناثاً، فأنزى عليها فحله، فنتجت.. فإن الولد يكون ملكاً للمغصوب منه؛ لأن الولد تابع للأم في الملك، فإن نقصت قيمتها بالولادة.. لزمه ضمان ذلك، فإن أخذ منها لبناً، أو صوفاً.. قال الشافعي: (ضمن اللبن بمثله، والصوف بمثله إن كان له مثل، وإن لم يكن له مثل.. رد قيمته) . فقال ابن الصباغ: الصوف له مثل. وقال الشيخ أبو حامد: إن كان للصوف نوع معلوم.. ضمنه بمثله إن كان له مثل، وإن لم يكن له نوع، ولا مثل له.. فيضمنه بقيمته. قال: والصحيح: أنه لا مثل له. [مسألة: غصب جارية فوطئها] ] : وإن غصب من رجل جارية، فوطئها، فلا يخلو: إما أن يكون الغاصب والجارية جاهلين بالتحريم، أو عالمين بالتحريم، أو أحدهما عالم والآخر جاهل.

فإن كانا جاهلين بتحريم الوطء، بأن يكونا قريبي العهد بالإسلام، أو متربيين ببادية بعيدة من المسلمين.. لم يجب عليهما الحد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرءوا الحدود بالشبهات» . ويجب على الغاصب مهر المثل؛ لأنه وطء سقط فيه الحد عن الموطوءة، فوجب به المهر، كوطء الشبهة، فإن كانت بكراً.. وجب عليه مع المهر أرش الافتضاض؛ لأنه بدل جزء منها، فلزمه ضمانه، وإن حبلت من هذا الوطء.. كان الولد حراً؛ لأنه ولد عن وطء شبهة، ويجب على الغاصب قيمته يوم الولادة؛ لأنه حالت الحيلولة بينه، وبين سيد الأمة، ولأنه لا يمكن تقويمه قبل ذلك، فإن خرج هذا الولد ميتاً.. لم يجب على الغاصب قيمته؛ لأنه لم يعلم حياته قبل ذلك، ولأن القيمة إنما وجبت؛ لأنه حال بين الولد وسيد الأمة، ولا حيلولة هاهنا، فإن ضرب أجنبي بطن هذه الجارية، فألقت ولداً ميتاً.. وجب عليه غرة عبد أو أمة؛ لأنه جنين حر؛ لأن الظاهر أنه مات من الضرب، وتكون هذه الغرة مقدرة بنصف عشر دية أبيه. قال الشيخ أبو حامد: يجب لولي الأمة عشر قيمة الأمة؛ لأن هذا الجنين لو كان مملوكاً.. كان مضموناً بعشر قيمة أمه. فعلى هذا: ينظر في الغرة التي أخذت من الجاني، فإن كانت مثل عشر قيمة الأمة.. أخذها مالك الأمة، وقد استوفى حقه، وإن كان عشر قيمة الأم أقل من الغرة.. أخذ السيد منها عشر قيمة الأمة، والباقي منها للأب، وهو الغاصب، وإن كان عشر قيمة الأمة أكثر من الغرة.. كان على الغاصب تمام عشر قيمة الأمة؛ لأنه هو الذي أتلفه على السيد باعتقاده. وقال المسعودي [في (الإبانة) ق\ 312] ، والطبري في (العدة) : يجب للسيد على

الغاصب أكثر الأمرين من الغرة أو عشر قيمة الأمة؛ لأنه بدل الجنين. وإن ضربها الغاصب، فألقت الجنين من ضربه.. فعلى ما قال الشيخ أبو حامد: يجب عليه لمالك الجارية عشر قيمة الأمة، وعلى قياس ما قاله المسعودي: يجب عليه أكثر الأمرين من عشر قيمة الأمة أو نصف عشر ديته. وأما إذا كانا عالمين بالتحريم، ولم يكرهها على الوطء. فهما زانيان، فيجب عليهما الحد، والمنصوص: (أنه لا مهر لها) ، ومن أصحابنا من قال: يجب المهر؛ لأنه حق للسيد، فلا يسقط ببذل الأمة. والأول أصح؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مهر البغي» ، وهي الزانية. وإن كانت بكراً.. وجب عليه أرش البكارة ونقصان الولادة، لأنها نقصت بسبب منه، فإن حبلت.. كان الولد مملوكاً، ولا يلحقه نسبه، فإن خرج حياً.. أخذه السيد، وإن خرج ميتاً.. فنقل المزني: (أنه يجب عليه قيمته) . وقال أبو إسحاق: لا يجب عليه شيء، كما لو كان حراً، وانفصل ميتاً. وتأول ما نقله المزني على: أنه خرج حياً، ثم مات. ومن أصحابنا من قال: يجب عليه قيمته؛ لأنه مملوك، وقد ثبتت يد الغاصب عليه بثبوتها على الأم، ويفارق إذا كان حراً؛ لأن الحر لا تثبت عليه اليد. وإن ضرب ضارب بطنها، فألقته ميتاً.. وجب عليه عشر قيمة أمه، وللسيد أن يرجع بها على من شاء من الضارب، أو الغاصب، فإن رجع بها على الغاصب ... رجع بها الغاصب على الضارب؛ لأن الضمان استقر عليه، وإن رجع بها على الضارب.. لم يرجع بها الضارب على الغاصب. وإن كان الغاصب جاهلاً، والأمة عالمة بتحريم الوطء.. وجب الحد عليها دونه، وكان الولد حراً، ولحقه نسبه، وهل يجب المهر؟ إن أكرهها.. وجب، وإن لم يكرهها.. فعلى الوجهين، الصحيح: لا يجب. وإن كان الغاصب عالماً بالتحريم، وهي جاهلة.. وجب عليه الحد دونها، ووجب عليه المهر، وكان الولد مملوكاً.

فرع: غصب جارية وباعها فوطئها المشتري

وإن ردها الغاصب وهي حامل، فماتت في يد سيدها من الحمل.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري: أحدهما: يجب عليه قيمتها؛ لأنها ماتت بسبب منه. والثاني: لا يجب؛ لأنها ماتت بمرض حادث، وهو الطلق، فهو كما لو غصبها حبلى، وردها حبلى. وإن كانت في يد رجل جارية، فأولدها، فجاء آخر، وادعاها، وأقام عليها بينة. قضي له بها، وكان عليه ردها، وأجرة مثلها، وأرش نقصانها بالولادة، ولا يلزمه الحد. قال الطبري: ولا يكون الولد رقيقاً، ولكن يلزم الواطئ المهر وقيمة الولد؛ لأن البينة توجب أن تكون اليد عليها للمدعي، ولا يمنع أن يكون الملك عليها للمدعى عليه في الباطن، فلم يحكم برق الولد بالشك. [فرع: غصب جارية وباعها فوطئها المشتري] ] : وإن غصب رجل جارية، ثم باعها من آخر، وقبضها، ووطئها المشتري.. فالبيع باطل. قال ابن الصباغ: وحكى القاضي أبو حامد: أن الشافعي قال في موضع: (يكون البيع موقوفاً على إذن المغصوب منه) . ورجع عنه. إذا ثبت هذا: فإن المشتري إذا وطئها، وحبلت عنده، وولدت من وطئه، ثم ماتت.. فالحكم في وطئه حكم وطء الغاصب، على ما مضى، إلا أن الغاصب إذا وطئ، وادعى أنه جاهل بالتحريم.. فإنه لا يقبل منه إلا بالشروط التي ذكرناها، وهاهنا المشتري إذا ادعى الجهل بالتحريم.. قبل منه؛ لأنه يعتقد أن الغاصب باع ملكه، وأنه يطأ ملك نفسه، إلا إن علم أنها مغصوبة، وأن وطأها حرام فلا شبهة له مع ذلك. وكل ما وجب على الغاصب قبل تسليمه الجارية إلى المشتري من مهر، وأجرة، وأرش نقص.. يطالب به المالك الغاصب، ولا يطالب به المشتري؛ لأن ذلك وجب

على الغاصب دون المشتري، وكل ما وجب على المشتري من مهر، وأجرة، وأرش نقص، وقيمة ولد، وقيمة العين إن تلفت.. فالمغصوب منه بالخيار: بين أن يطالب المشتري بذلك؛ لأن يده ثبتت عليه، وبين أن يطالب به الغاصب؛ لأنه هو السبب لثبوت يد المشتري عليها، فإن كان المشتري عالماً بأن الجارية مغصوبة.. لم يرجع بما ضمنه للمغصوب منه على الغاصب، ويرجع الغاصب بما ضمنه للمغصوب منه من ذلك على المشتري؛ لأن المشتري غاصب في الحقيقة، إلا أنه يرجع بالثمن الذي دفعه بكل حال؛ لأن الشراء لم يصح، وإن لم يعلم المشتري بالغصب، واختار المالك تضمين المشتري.. فهل يرجع المشتري بما ضمنه على الغاصب؟ ينظر فيما ضمنه: فإن التزم ضمانه بالثمن، كقيمة الجارية، وبدل أجزائها إن تلفت، وأرش بكارتها.. فإنه لا يرجع بها المشتري على الغاصب، قولاً واحداً؛ لأنه دخل مع الغاصب على أن تكون مضمونة عليه بالثمن، فإذا ضمنها.. لم يرجع بها على غيره. وإن لم يلتزم ضمانه بالثمن، نظرت: فإن لم يحصل له في مقابلته منفعة، بأن ولدت ولداً منه، فلزمه قيمته، أو ولدت ولداً مملوكاً، فمات في يده، أو سمنت في يده، ثم هزلت، أو تعلمت صنعة معه، ثم نسيتها، فغرمه المالك ذلك.. فللمشتري أن يرجع بذلك على الغاصب، قولاً واحداً؛ لأنه لم يلتزم ضمان ذلك في البيع، ولا حصل له في مقابلته منفعة. وإن حصل له في مقابلته منفعة، كالمهر، والأجرة.. ففيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (يرجع به عليه؛ لأنه غره، ودخل معه في العقد على أن يتلفه بغير عوض) . و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يرجع به عليه؛ لأنه حصل له في مقابلته منفعة) . وإن اختار السيد أن يرجع على الغاصب بذلك.. فهل للغاصب أن يرجع به على المشتري؟ فكل ما لا يرجع به المشتري على الغاصب.. فللغاصب أن يرجع به على

فرع: حدوث عيب بمغصوب عند مشتريه

المشتري إذا ضمنه، وكل ما يرجع به المشتري على الغاصب.. لا يرجع به الغاصب على المشتري. فعلى هذا: للغاصب أن يرجع على المشتري بقيمة الجارية، وبدل أجزائها، وأرش بكارتها، قولاً واحداً، وليس له أن يرجع عليه بقيمة الولد ونقصان ما حدث في يد المشتري من السمن والصنعة، قولاً واحداً، وهل له أن يرجع عليه بالمهر وبأجرة المنفعة؟ فيه قولان: [أحدهما] : قوله في القديم: (لا يرجع عليه) . و [الثاني] : قوله في الجديد: (يرجع عليه) . [فرع: حدوث عيب بمغصوب عند مشتريه] ] : قال الشيخ أبو حامد: فإن غصب ثوباً، وباعه من آخر، وحدث به عيب عند المشتري.. فإن المالك يأخذ ثوبه، ويرجع بأرش العيب على من شاء منهما، فإن رجع على المشتري.. لم يرجع به المشتري على البائع؛ لأنه دخل على أنه مضمون عليه بأجزائه، وإذا ضمن أجزاءه.. لم يرجع به على أحد، وإن رجع به على الغاصب.. رجع به الغاصب على المشتري؛ لما ذكرناه. [فرع: باع جارية مغصوبة فوطئها المشتري مراراً] ً] : وإن غصب جارية، وباعها من رجل، ووطئها المشتري مراراً، وهي مكرهة، أو جاهلة.. قال المسعودي [في (الإبانة) ق\311] : فإن علم بعدما وطئها أنها مغصوبة، ثم عاد إلى وطئها.. لزمه بكل وطء مهر، وإن لم يعلم.. ففيه وجهان: الأصح: أنه يجب مهر واحد؛ لأن الشبهة واحدة. والثاني: يجب لكل وطء مهر.

فرع: باع دارا مغصوبة فهدمها المشتري وبناها

[فرع: باع داراً مغصوبة فهدمها المشتري وبناها] ] : وإن غصب داراً، فباعها الغاصب من آخر فنقضها المشتري، وبناها بآلة أخرى.. فللمالك أن يطالب المشتري بنقض بنائه؛ لأن العرصة ملك له، ويجب على المشتري للمالك أرش ما نقصت قيمتها بالنقض، وهو أن تقوم الدار قبل النقض، ثم تقوم العرصة والآلة إن كانت باقية، ويرجع عليه بما بينهما من القيمة. وأما الأجرة: فإنه يطالبه بأجرة مثل داره من حين حصلت في يده إلى أن نقضت، ويطالبه بأجرة العرصة بعد النقض؛ لأن البناء الثاني للمشتري، ولا يطالبه بأجرته، وأما ما يرجع المشتري به على الغاصب إذا لم يعلم بالغصب.. فإنه لا يرجع عليه بأرش النقض؛ لأنه حصل بفعله، وهل يرجع عليه بالأجرة؟ على القولين. قال الشافعي: (ويرجع بأرش ما نقض من بنيانه الجديد؛ لأنه لم يحصل له في مقابلته عوض، فيرجع به كقيمة الولد) . [فرع: غصب عيناً وأجرها أو أودعها أو وكل ببيعها فتلفت] ] : وإن غصب عيناً، وأجرها من غيره، وتلفت عنده، ولم يعلم المستأجر أنها مغصوبة.. فللمالك أن يرجع بقيمتها، وأجرتها من حين حصلت في يد المستأجر على أيهما شاء، كما قلنا في التي قبلها، فإن رجع على المستأجر بالأجرة.. لم يرجع بها المستأجر على الغاصب؛ لأنه دخل في العقد على أن يضمن المنفعة بالعوض، وإن رجع عليه المالك بقيمتها.. كان للمستأجر أن يرجع بها على الغاصب، قولاً واحداً؛ لأنه دخل معه في العقد على أن لا يضمن العين، ولا حصل له في مقابلة ما غرم منفعة. وإن أودع الغاصب العين المغصوبة، أو دفعها إلى آخر ليبيعها له، فأقامها في يده مدة، وتلفت عنده، ولم يعلم أنها مغصوبة.. فللمغصوب منه أن يرجع على المودع

فرع: غصب شاة فذبحها

والوكيل بأجرتها وقيمتها. هكذا ذكره ابن الصباغ. ويحتمل وجها آخر: أنه لا يرجع عليهما، ولا على المستأجر؛ لأنهم دخلوا على الأمانة، فإذا رجع على المودع، والوكيل.. فلهما أن يرجعا على الغاصب بذلك؛ لأنهما دخلا على أن [لا] يضمنا ذلك، ولا حصل لهما منفعة عما ضمنا. [فرع: غصب شاة فذبحها] وإن غصب شاة، فاستدعى قصابا، فذبحها بأجرة، أو بغير أجرة.. فإن المالك يأخذ شاته مذبوحة وما بين قيمتيها مذبوحة وحية، وله أن يطالب بذلك من شاء من الذابح، أو الغاصب، فإن ضمن الغاصب.. لم يرجع الغاصب على الذابح؛ لأن الذابح لم يذبح لنفسه، وإنما ذبحها للغاصب، وإن ضمن المالك الذابح.. رجع الذابح على الغاصب؛ لأن الذبح كان له. هكذا قال عامة أصحابنا. والذي يقتضي المذهب: أنها مفروضة في الذابح إذا لم يعلم أنها مغصوبة، فأما إذا علم أنها مغصوبة ثم ذبحها.. فإنه لا يرجع بما غرم على الغاصب، وللغاصب أن يرجع عليه بما غرم؛ لأنه غاصب في الحقيقة. [مسألة: الاستكراه على الوطء] ] : قال الشافعي: (وإن استكره رجل حرة أو أمة، فوطئها.. وجب عليه الحد والمهر) . وقال أبو حنيفة: (يجب عليه الحد دون المهر) . دليلنا: أن كل ما كان مضمونا بالبدل في العقد.. جاز أن يكون مضمونا بالبدل في الاستكراه والغصب، كالعين. قال الطبري: فإن زنا بصبية لا يشتهى مثلها، أو أزال بكارتها بالإصبع. وجب عليه أرش البكارة دون المهر. وقال أبو حنيفة: (يجب المهر فيهما) . ومن أصحابنا من قال - فيمن زنا بصغيرة لا تشتهى -: يجب المهر.

فرع: ادعاء غصب العبد المباع

دليلنا: أنه لم يوجد الإيلاج في الفرج، ولا العقد، فأشبه إذا ضرب على ظاهر فرجها، فأزال البكارة. [فرع: ادعاء غصب العبد المباع] ] : وإن اشترى رجل من رجل عبداً، ثم ادعى آخر أن البائع غصب منه العبد: فإن صدقه البائع والمشتري.. حكم ببطلان البيع، وسلم العبد إليه. وإن صدقه البائع، وكذبه المشتري.. لم يقبل إقرار البائع في حق المشتري؛ لأن العبد قد صار ملكا له في الظاهر، وللمدعي إحلاف المشتري، فإن كان البائع قد قبض الثمن.. فليس للمشتري المطالبة به؛ لأنه لا يدعيه، وإن كان لم يقبضه.. لم يكن له قبضه؛ لأنه يقر أنه لا يستحقه، وهل يلزم البائع أن يغرم للمدعي قيمة العبد؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على القولين فيمن أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو. ومنهم من قال: يلزمه أن يغرم، قولا واحداً؛ لأنه قد حصل للبائع عوضه، وهو الثمن. فإن صدقه المشتري، وكذبه البائع.. لزم المشتري تسليم العبد إلى المقر له؛ لأنه أقر بما في يده، فقبل إقراره، ولا يلزم البائع رد الثمن على المشتري إن كان قد قبضه، وإن لم يقبضه.. فله أن يطالبه به؛ لأن الظاهر أنه باع ملكه. وإن كذباه.. فالقول قول المشتري مع يمينه، قولاً واحد؛ لأنه لو أقر به قبل

فرع: الإقرار بغصب المبيع في مدة الخيار

إقراره، وأما البائع: فإن قلنا: لو أقر به لزمه أن يغرم قيمته.. لزمه أن يحلف؛ لجواز أن ينكل عن اليمين، فيقر. وإن قلنا: لا يلزمه الغرم.. لم تلزمه اليمين. وإن كان المشتري قد أعتقه، فإن صدقه البائع والمدعي.. لم يقبل إقرارهما في رق العبد؛ لأنه قد صار حرا في الظاهر، وهكذا: لو صدقه.. العبد أيضاً.. لم يحكم برقه؛ لأن حق الحرية فيه يتعلق بها حق الله تعالى، ولهذا لو شهد شاهدان للعبد بالعتق.. سمعت شهادتهما وإن اتفق السيد والعبد على الرق. إذا ثبت هذا: فإن للسيد أن يرجع بقيمة عبده على من شاء من البائع أو المشتري، غير أنه إن رجع على البائع.. رجع عليه بأكثر ما كانت قيمة عبده من حين غصبه إلى حين العتق، وإن رجع على المشتري.. رجع عليه بأكثر ما كانت قيمته من حين قبضه إلى أن أعتقه، ولا يرجع المشتري على البائع بما غرم؛ لأنه أتلفه، ويرجع البائع على المشتري بما غرم من قيمته من حين قبضه المشتري إلى أن أعتقه. وإن مات العبد وفي يده مال، ولا وارث له.. كان المال للذي أقر له برقه؛ لأن قولهما لم يثبت في العتق؛ لثبوت حق الله تعالى، وأما المال: فلا حق لسواهما فيه، فقبل إقرارهما فيه، فإن أقام المدعي بينة.. حكم له برق العبد، وحكم ببطلان العتق. [فرع: الإقرار بغصب المبيع في مدة الخيار] ] : قال ابن الصباغ: إذا باع عبدا بشرط الخيار، ثم أقر البائع في حال الخيار أنه غصبه من رجل، وصدقه المقر له، وكذبه المشتري.. حكم بصحة إقرار البائع؛ لأنه يملك الفسخ، فقبل إقراره بما يفسخ البيع.

فرع: ادعى بيع ما لا يملك وأنه ملكه بعد

[فرع: ادعى بيع ما لا يملك وأنه ملكه بعد] ] : إذا باع رجل من رجل عينا، ثم ادعى البائع أنه باع ما لا يملكه، وأنه الآن ملكه، فأقام بينة بما ادعاه.. نظرت: فإن قال البائع حين البيع: بعتك هذه العين وهي ملكي، أو أقر أنه يملك الثمن.. لم تسمع دعواه، ولا بينته؛ لأنه كذبه بإقراره السابق. وإن قال: بعتك، وأطلق.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (سمعت دعواه وبينته؛ لأنه قد يبيع ملكه وغير ملكه) . [مسألة: غصب طعاما وأطعمه آخر] ] : وإن غصب من رجل طعاماً، وأطعمه آخر.. فللمالك أن يضمن الآكل؛ لأنه أتلفه، وله أن يضمن الغاصب؛ لأنه غصبه، ولأنه هو السبب لإتلاف الآكل له. فإن ضمن المالك الآكل.. فإنه يضمنه بقيمته أكثر ما كانت من حين قبضه إلى حين أتلفه، وهل للآكل أن يرجع على الغاصب بما ضمنه؟ إن علم الآكل أنه مغصوب بقول الغاصب أو غيره.. لم يرجع عليه بما غرم؛ لأن إتلافه له رضا بوجوب الضمان عليه، وإن لم يعلم الآكل أنه مغصوب.. فهل يرجع الآكل بما غرمه عليه؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (يرجع عليه؛ لأنه غره، وأطعمه إياه على أن لا يضمن) . و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يرجع عليه) . وهو الأصح؛ لأن التلف حصل بيده، فلم يرجع بما ضمنه على غيره. فإن اختار المالك تضمين الغاصب.. فإنه يضمنه قيمة الطعام أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف، وهل للغاصب أن يرجع على الآكل بقيمة الطعام من حين قبضه إلى أن أتلفه؟

فرع: غصب طعاما وأطعمه مالكه

إن علم الآكل أنه مغصوب.. رجع عليه الغاصب، قولا واحداً؛ لأنه رضي بوجوب الضمان عليه، وإن لم يعلم الآكل أنه مغصوب، فإن قال الغاصب: كله، فهو لي، أو ملكي.. لم يرجع على الآكل، قولاً واحداً؛ لأنه أقر بأن المدعي ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه، وإن قدمه إليه وهو ساكت.. فهل يرجع عليه؟ على القولين: قال في القديم: (لا يرجع عليه) . وفي الجديد: (يرجع عليه) . وإن قال ـ لما قدمه إليه ـ: وهبت لك هذا الطعام.. قال الشيخ أبو حامد: لم يرجع عليه، قولاً واحدا؛ لأن تحت قوله: وهبت لك هذا الطعام، أنه ملكه، وأنه يملكه إياه بلا عوض، وأن المدعي له ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه. وقال ابن الصباغ: هي على قولين، كما لو قدمه إليه، ولم يقل شيئاً. [فرع: غصب طعاماً وأطعمه مالكه] ] : وإن غصب طعاماً، وأطعمه الغاصب المغصوب منه، فإن علم المغصوب منه أنه طعامه، ثم أكله.. برئ الغاصب من ضمانه؛ لأنه أتلف ماله، وإن لم يعلم أنه طعامه.. ففيه قولان، وحكاهما الشيخ أبو حامد وجهين: أحدهما: يبرأ الغاصب من ضمانه، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه أتلف مال نفسه، فهو كما لو علم أنه طعامه. والثاني: لا يبرأ؛ لأنه لم يرده إليه ردا تاماً؛ لأنه يأكله على أنه لغيره. [مسألة: غصب عينا ورهنها المالك فتلفت] ] : وإن غصب من رجل عيناً، ثم رهنها الغاصب عند المالك، أو أودعه إياها، أو أجرها منه، وتلفت عنده، فإن علم المالك أنها له قبل التلف.. برئ الغاصب من الضمان؛ لأن المالك قد رجع إليه ماله، وإن لم يعلم المالك.. ففيه قولان:

فرع: غصب عينا فرهنها المالك عنده

أحدهما: يبرأ الغاصب؛ لأن العين قد رجعت إلى يد مالكها. والثاني: لا يبرأ؛ لأنها لم ترجع إليه على أنها ملكه. وإن باعها الغاصب من المالك.. برئ الغاصب من ضمانها، سواء علم المالك أنها له أو لم يعلم؛ لأنه قد رضي بوجوب ضمانها عليه. وإن وهبها الغاصب من المالك، وسلمها إليه، وأتلفها، ولم يعلم أنها له، فإن قلنا: إن الغاصب يبرأ إذا قدم إليه الطعام، فأكله، ولم يعلم أنه له.. فهاهنا أولى أن يبرأ، وإن قلنا في الطعام: لا يبرأ.. فهاهنا وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: لا يبرأ الغاصب؛ لأنه لا يعلم أنها له، فهو كما لو أباحها له. والثاني: يبرأ الغاصب؛ لأنه قد سلمها إليه تسليما تاماً، بخلاف الإباحة. [فرع: غصب عينا فرهنها المالك عنده] ] : وإن غصب عيناً، فرهنها المالك عند الغاصب، وأذن له بقبضها، فقبضها.. صارت رهناً، ولا يبرأ الغاصب من ضمانها إلا بتسليمها إلى المالك أو وكيله، وبه قال الثوري. وقال مالك، وأحمد، وأبو حنيفة، والمزني: (يزول عنه الغصب؛ لأنه أذن له في إمساكها، فزال عنه الضمان، كما لو أودعها إياه) . ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى ترده» . وهذا ليس بردٍّ. ولأن الرهن لا ينافي الضمان، كما لو رهنه عينا، وتعدى بها المرتهن. وأما الوديعة، ففيها وجهان، وإن سلمنا.. فلأنها تنافي ضمان الغصب؛ لأنه متى تعدى فيها.. خرجت عن أن تكون وديعة، بخلاف الرهن.

فرع: غصب عبدا فقتله سيده أو وقفه

[فرع: غصب عبدا فقتله سيده أو وقفه] ] : ولو قتل السيد عبده في يد الغاصب.. برئ الغاصب من ضمانه. ولو قال الغاصب للمغصوب منه: اقتله، فقتله، ولم يعلم أنه عبده.. فهل يبرأ الغاصب من ضمانه؟ فيه وجهان، وهذان الوجهان كما لو قال: اعتقه، فعتقه، ولم يعلم أنه له. ولو أبرأ الغاصب من الضمان.. فهل يبرأ؟ فيه وجهان. وإن وقفه السيد على أمر عام، كالقناطر، والمساجد.. قال الصيمري: سقط الضمان على الغاصب للسيد، وصار الضمان للقيم. [مسألة: حبس حرا فمات] وإن حبس رجل حراً، ومات عنده من غير أن يمنعه الطعام والشراب.. فلا يجب عليه ضمانه، كبيراً كان أو صغيراً؛ لأن الحر لا تثبت عليه اليد. وإن أقام في يده مدة لمثلها أجرة، فإن استوفى الغاصب منافعه.. وجب عليه أجرته؛ لأنه أتلف عليه منافعه، فهو كما لو أتلف عليه ماله، وإن لم يستوفها الغاصب.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه أجرته؛ لأن ما ضمن بالبدل في العقد الصحيح.. ضمن بالبدل في الغصب، كالمال. والثاني: لا يجب عليه شيء؛ لأن منافعه تلفت تحت يده. [فرع: غصب كلباً منتفعاً به] ] : وإن غصب كلباً فيه منفعة.. وجب عليه رده إلى مالكه؛ لأنه يجوز الانتفاع به، فإن مات.. لم يجب عليه قيمته؛ لأنه لا قيمة له. وإن أقام في يده مدة لمثلها أجرة.. فذكر الشيخ أبو إسحاق في (الغصب) : هل تجب أجرته على الغاصب؟ فيه

مسألة: غصب خمرا أو خنزيرا

وجهان، بناء على جواز استئجاره. وذكر في (الإجارة) : أن منفعته لا تضمن بالغصب. ولم يذكر الشيخ أبو حامد إلا وجهاً واحداً: أنه لا تضمن منفعته بالغصب. [مسألة: غصب خمراً أو خنزيرا] ] : إذا غصب من ذمي خمراً.. قال الشيخ أبو إسحاق: لزمه ردها عليه. وعلى قياس قوله: إذا غصب منه خنزيراً.. لزمه رده عليه؛ لأنه مقر على شرب الخمر، وأكل الخنزير. وإن غصب الخمر من مسلم.. فهل يلزمه ردها عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه ردها إليه؛ لأنه ربما أطفأ بها ناراً أو بل بها تراباً. والثاني: لا يجب ردها إليه، بل يجب إراقتها؛ لما روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا طلحة بإراقة خمر اليتامى» . وإن تلفت الخمر عنده، أو الخنزير، أو أتلفهما.. لم يجب عليه ضمانهما، سواء كانا لمسلم أو ذمي. وقال أبو حنيفة: (إن كانا لذمي.. وجب عليه ضمانهما، فإن أتلفهما مسلم.. وجبت عليه قيمتهما، وإن أتلفهما ذمي.. وجب عليه مثل الخمر، وقيمة الخنزير) . دليلنا: أن كل ما لم يكن مضمونا بحق المسلم.. لم يكن مضمونا بحق الذمي، كالميتة، والدم. وعكسه: أن كل ما كان مضموناً في حق الذمي.. كان مضموناً في حق المسلم، كالثياب.

فرع: ألقى شاة ميتة فأخذ رجل جلدها

فإن صارت الخمر عند الغاصب خلا.. لزمه رده إلى من غصبه منه؛ لأنه عاد مالاً. [فرع: ألقى شاة ميتة فأخذ رجل جلدها] ] : وذكر الشيخ أبو حامد: إذا ماتت لرجل شاة، فطرحها على المزبلة، فأخذ رجل جلدها، ودبغه.. ملكه، وإن غصبه منه غاصب.. لزمه رده عليه، فإن دبغه.. ففيه وجهان: أحدهما: أن الملك للمغصوب منه، فلا يزول بالتعدي، كما لو غصب منه جرو كلب يريد تعليمه، فعلمه الغاصب.. فإن الملك فيه للمغصوب منه، وهو كما لو غصب منه خمراً، فاستحالت خلا في يد الغاصب. والثاني: يكون ملكا للغاصب؛ لأن الملك فيه عاد بفعل الغاصب، بخلاف الخمر. [مسألة: فصل مزماراً أو صليباً من غير كسر] ] : وإن فصل رجل مزماراً، أو صليب نصراني من غير كسر.. لم يجب عليه ضمان؛ لأن تالفه لا قيمة له، فإن كسره، فإن كان يصلح لمنفعة مباحة بعد التفصيل.. وجب عليه ما نقص من قيمته بالكسر؛ لأنه أتلف ما له قيمة، وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة بعد التفصيل.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه أتلف ما لا منفعة فيه.

مسألة: فتح قفص طائر فهرب

[مسألة: فتح قفص طائر فهرب] ] : إذا فتح قفصا عن طائر، أو حل رباط دابة، فخرجا.. نظرت: فإن هيجهما عقيب الفتح والحل حتى خرجا.. ضمنهما؛ لأنه ألجأهما إلى الخروج، وإن لم يهيجهما إلى الخروج، بل وقفا ساعة لم يخرجا، ثم خرجا.. لم يجب عليه الضمان، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (يجب عليه الضمان) . دليلنا: أن الطائر والدابة لهما اختيار، بدليل: أنهما يتوقيان المكاره، وقد وجد منهما مباشرة، ومن الفاتح سبب، فتعلق الضمان بالمباشرة، كما لو حفر رجل بئراً، فطرح رجل نفسه فيها. وإن لم يهيجهما إلى الخروج، ولا وقفا، بل خرجا عقيب الفتح.. فقد حكى القاضي أبو الطيب عن بعض أصحابنا: إن كان أهاجهما الدنو منهما، أو فتح القفص، أو حل الشكال. وجب عليه الضمان، إذ لا فرق بين أن يهيجهما بنفسه، أو يحصل ذلك بفعله، وإن لم يوجد شيء من ذلك.. فلا ضمان عليه. وأكثر أصحابنا قالوا: هي على قولين: أحدهما: لا يجب عليه الضمان، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه وجد منه سبب لا يلجئ، فهو كما لو وقفا، ثم خرجا. والثاني: يجب عليه الضمان، وبه قال مالك؛ لأن خروجه عقيب حله، فالظاهر أن الحل هو الذي ألجأه إلى الخروج، كما لو هيجه. وإن فتح رجل باب آخر، أو هدم حائطه، فدخل آخر، فأخذ المال.. وجب الضمان على الآخذ دون الفاتح؛ لأن الفاتح صاحب سبب، والآخذ مباشر، فتعلق الضمان بالمباشر، كما لو حفر رجل بئراً وطرح فيها آخر رجلاً.

مسألة: هيج طائرا لغيره وقع على جداره

وإن فتح رجل باب رجل، فخرجت بهائمه، وأكلت زرع رجل.. لم يجب الضمان على الفاتح؛ لما ذكرناه، وإن كان الفاتح هو المالك للبهائم.. وجب عليه الضمان؛ لأنه يجب عليه حفظ بهائمه عن زرع غيره. [مسألة: هيج طائراً لغيره وقع على جداره] ] : وإن وقع طائر لغيره على جداره، فهيجه، فطار.. لم يضمنه؛ لأنه كان ممتنعاً قبل ذلك. وإن مر في هواء داره، فرماه، فأتلفه.. وجب عليه الضمان؛ لأنه لا يملك منعه من المرور فيه. [مسألة: حل زقا فيه مائع فخرج] ] : فإن حل زقاً لغيره فيه مائع، أو راوية فيها ماء، فخرج المائع.. ففيه ثلاث مسائل: إحداهن: أن يخرج عقيب الحل، فيجب عليه الضمان؛ لأن خروجه كان بفعله. الثانية: أن لا يخرج عقيب الحل، بل وقف، إلا أنه خرج منه شيء، فابتل الموضع الذي كان مشدوداً فخرج، أو ثقل أحد جانبيه ومال، فسقط وخرج ما فيه، ضمنه؛ لأنه خرج بسراية فعله، فهو كما لو جرح حيواناً، فسرت الجراحة إلى نفسه ومات. الثالثة: أن يكون الزق منصوباً، ولا يميل بالحل، ووقف ساعة، ثم سقط بريح، أو بتحرك إنسان أو دابة، أو بزلزلة الأرض، قال ابن الصباغ: أو لم يعلم كيف سقط وذهب ما فيه، فلا يجب على الفاتح الضمان؛ لأنه لم يوجد الخروج بفعله، ولا بسبب فعله، فهو كما لو حفر بئراً، ووقع فيها إنسان.

فرع: حل زقا فيه جامد فذوبه آخر

وإن كان الذي في الزق جامداً، فذاب بالشمس وخرج، فإن كان الزق على صفة لو كان فيه مائع لم يخرج، بأن كان منصوباً.. فلا ضمان عليه؛ لأن الخروج لم يكن بفعله؛ وإنما كان بإذابة الشمس له، وإن كان الزق على صفة لو كان ما فيه مائعاً لخرج عقيب الحل.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يضمن؛ لأن خروجه كان بإذابة الشمس لا بحله. والثاني: يضمن، وهو الصحيح؛ لأن خروجه إنما كان بفعله؛ لأن الشمس إنما أذابته، وذلك لا يوجب الخروج لولا الفتح، فهو كما لو جرح رجلاً، فأصابه الحر أو البرد، وسرت الجراحة إلى نفسه، فمات.. فإن الضمان عليه. [فرع: حل زقا فيه جامد فذوبه آخر] ] : وإن حل زقا فيه جامد، وقرب إليه آخر ناراً، فذاب وخرج.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب على واحد منهما ضمان؛ لأن الخروج لم يحصل بالحل، ولا باشر صاحب النار الإتلاف، فهو كما لو نقب رجل حرزاً، وسرق منه آخر.. فإنه لا قطع على واحد منهما. والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي إسحاق ـ: أن الضمان يجب على من أدنى النار؛ لأن التلف حصل به. [فرع: فتح زقا فنكسه آخر فخرج ما فيه] ] : وإن فتح رجل زقا مستعلي الرأس فيه مائع، فخرج منه شيء، ثم جاء آخر، فنكسه حتى خرج جميع ما فيه.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: أن ما خرج قبل التنكيس.. يجب ضمانه على الذي حل، وما خرج بعد التنكيس.. يجب ضمانه عليهما نصفين؛ لأنه خرج بفعلهما. والثاني: أن ما خرج قبل التنكيس.. على الذي حل، وما خرج بعد التنكيس.. يجب على الذي نكسه، كما لو جرح رجل رجلاً، وذبحه آخر.

مسألة: حل رباط سفينة فغرقت

[مسألة: حل رباط سفينة فغرقت] ] : وإن حل رباط سفينة، فغرقت، فإن غرقت في الحال.. ضمنها؛ لأن غرقها حصل بفعله. فإن وقفت، ثم غرقت، فإن كان غرقها بسبب حادث، كهبوب ريح، أو ما أشبهه.. لم يضمن؛ لأنها غرقت بغير فعله، وإن غرقت من غير سبب.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يضمن، كالزق إذا ثبت بعد حله، ثم سقط. والثاني: يضمن؛ لأن الماء أحد المتلفات. [مسألة: أوقد ناراً في ملكه فأحرقت دار جاره] ] : إذا أوقد في ملكه ناراً، فطارت منها شرارة إلى دار جاره، فأحرقته.. نظرت: فإن كان بتفريط من الموقد، بأن أوقد ناراً عظيمة لا تحتملها داره في العادة، أو أوقد في يوم ريح شديد.. وجب عليه الضمان؛ لأن الظاهر من اليوم ذي الريح أن النار تطير إلى دار جاره، والظاهر ممن أوقد في ملكه شيئاً لا يحتمله ملكه أن النار تطير إلى ملك غيره. وإن أوقد ناراً يحتملها ملكه مع سكون الريح.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه غير مفرط فيما صنع، فهو كما لو حفر بئراً في ملكه، فوقع فيها إنسان. قال الطبري: وإن أوقد ناراً في ملكه في وقت سكون الريح، فهبت ريح، فأطارت شرارة منها إلى دار جاره، فأحرقتها.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه غير مفرط. قال ابن الصباغ: وإن كان لجاره شجرة، فأوقد في ملك نفسه ناراً، فجفت تلك الشجرة.. ضمنها؛ لأنه مفرط في ذلك؛ لأن ذلك لا يحصل بما جرت العادة فيه من النار المستعملة.

فرع: سقى أرضه فطغى الماء على أرض جاره

قال الطبري: وإن كانت أرضه متصلة بأرض جاره، وحرق أرضه، فأحرقت أرض جاره، ضمنها. [فرع: سقى أرضه فطغى الماء على أرض جاره] ] : وإن سقى أرضه، فتعدى الماء إلى أرض جاره، فغرقها، أو أفسد زرعها.. نظرت: فإن كان مفرطاً، بأن ساق إلى أرضه ماء كثيراً لا تحتمله أرضه، أو أرسل إليها ماء قليلاً، إلا أنه لا حاجز بين أرضه وأرض جاره.. وجب عليه الضمان؛ لأن الظاهر أن أرض جاره تغرق بذلك. وإن كان ما ساقه من الماء تحتمله أرضه.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه غير متعد. قال أصحابنا: وهكذا: لو كان في أرضه جحر فأر، فإن لم يعلم به، وقد ساق إلى أرضه من الماء ما تحتمله أرضه، فانصب الماء في الجحر إلى أرض جاره وأفسدها.. فلا ضمان عليه؛ لأنه غير متعد بذلك. [مسألة: ألقت الريح ثوباً في داره] ] : وإن ألقت الريح في داره ثوباً.. لزمه حفظه؛ لأنه صار أمانة في يده، فصار كاللقطة، فإن عرف صاحبه.. لزمه إعلامه، فإن لم يفعل.. لزمه الضمان؛ لأنه صار ممسكاً له بغير إذن صاحبه، فصار كالغاصب. قال الصيمري: ولو أطارته الريح من داره قبل أن يعلم به.. فلا ضمان عليه، ولو علم به ولم يقبضه حتى أطارته الريح.. فأصح الوجهين: أنه لا ضمان عليه. وإن وقع في داره طائر لغيره.. لم يلزمه إمساكه وتعريف صاحبه به؛ لأنه يتحفظ بنفسه.

مسألة: نقل المغصوب إلى غير بلد صاحبه

وإن دخل إلى برجه، فأغلق عليه الباب، فإن نوى إمساكه لنفسه.. ضمنه، وإن لم ينو إمساكه لنفسه.. لم يضمنه؛ لأنه يملك التصرف في برجه. [مسألة: نقل المغصوب إلى غير بلد صاحبه] ] : إذا غصب منه شيئاً ببلد، ونقله الغاصب إلى بلد أخرى.. كان للمغصوب منه أن يطالب الغاصب بنقله إلى البلد الذي غصبه منه فيه. وإن غصب منه شيئاً ببلد، فلقيه المغصوب منه ببلد أخرى، فطالبه به في تلك البلد، فإن لم يكن للعين المغصوبة مؤنة في النقل، كالدراهم، والدنانير.. لزم الغاصب دفعها إليه في البلد الأخرى، وإن كان لنقله مؤنة، كالطعام، وما أشبهه، فإن كانت قيمة الطعام في البلدين سواء، أو كانت قيمته في البلد الثاني أقل.. فللمغصوب منه أن يطالبه به في البلد الثاني؛ لأنه لا ضرر على الغاصب بذلك، وإن كانت قيمته في البلد الثاني أكثر.. كان المغصوب منه بالخيار: بين أن يصبر إلى أن يرجع إلى البلد الأول؛ وبين أن يطالبه بقيمته بما يساوي في البلد الذي غصبه منه فيه؛ لأنه لا يجوز أن يلزم الغاصب أكثر مما غصبه. قال البغداديون من أصحابنا: ولا يملك الغاصب العين المغصوبة، فإذا رجعا إلى البلد الأولى.. لزم الغاصب تسليم العين إلى المغصوب منه، واسترجع ما دفع من القيمة. وقال المسعودي [في (الإبانة) ق\ 307] : هل له أن يسترد القيمة، ويدفع إليه العين؟ فيه وجهان. [مسألة: إشهاد اثنين على الغصب] ] : إذا ادعى على رجل أنه غصب منه عيناً، وأنكر المدعى عليه، وأقام المدعي شاهدين يشهد أحدهما: أنه غصبها من يوم الخميس، وشهد الآخر: أنه غصبها منه

فرع: حلف بالطلاق أنه لم يغصب

يوم الجمعة.. لم يتم الغصب بشهادتهما؛ لأنهما شهدا على فعلين، وللمدعي أن يحلف مع أيهما شاء، ويستحق. وإن شهد أحدهما: أنه أقر عنده: أنه غصب من فلان، وكان غصبه يوم الخميس، وشهد الآخر: أنه أقر عنده: أنه غصبه منه، وكان غصبه يوم الجمعة.. لم يثبت الغصب بشهادتهما، وللمدعي أن يحلف مع أيهما شاء. وإن شهد أحدهما: أنه أقر عنده يوم الخميس: أنه غصب هذا الشيء من فلان، وشهد الآخر: أنه أقر عنده يوم الجمعة: أنه غصب هذا الشيء من فلان.. قال الشيخ أبو حامد: فظاهر ما قال الشافعي في (الأم) [3/223] : أنه لا يحكم بشهادتهما. قال: إلا أن أصحابنا كلهم قالوا: يحكم بشهادتهما؛ لأنهما اتفقا على الإقرار بغصب واحد، وإنما اختلف تاريخ وقت الإقرار، وكلام الشافعي يرجع إلى المسألة قبلها. [فرع: حلف بالطلاق أنه لم يغصب] ] : فإن ادعى على رجل أنه غصب منه عينا، فحلف المدعى عليه بطلاق امرأته: أنه ما غصبها منه، فأقام المدعي شاهداً وحلف معه، أو شاهداً وامرأتين بما ادعاه.. ثبت الغصب، ولم يحكم بطلاق امرأته؛ لأن الغصب يثبت بالشاهد واليمين، وبالشاهد والمرأتين، والطلاق لا يثبت بذلك. [مسألة: اتفقا على الغصب واختلفا في التلف] ] : وإن اتفقا على غصب عين، واختلفا في بقائها، فقال الغاصب: قد تلفت، وقال المغصوب منه: لم تتلف.. فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على التلف، وهل يستحق المغصوب [منه] بدلها؟ فيه وجهان:

مسألة: اتفقا على التلف واختلفا في القيمة

أحدهما: لا يستحق بدلها؛ لأنه لا يدعي ذلك. والثاني: يستحق؛ لأنه لما تعذر رجوعه إلى العين بيمين الغاصب.. رجع إلى بدلها، كالعبد المغصوب إذا هرب. [مسألة: اتفقا على التلف واختلفا في القيمة] ] : وإن اتفقا على تلف العين المغصوبة، واختلفا في قيمتها، فقال المغصوب منه: قيمتها مائة، وقال الغاصب: قيمتها خمسون، فإن أقام المغصوب منه شاهدين قد شاهدا العين المغصوبة، وقالا: قيمتها مائة.. حكم للمغصوب منه بذلك. وإن لم يشهدا أن قيمتها مائة، ولكنهما وصفاها بصفة، فعلم أن ما كان بتلك الصفة من جنس تلك العين كانت قيمتها مائة.. لم يحكم بأن قيمتها مائة؛ لأن ذلك يختلف؛ ولأنه قد يكون بها عيب ينقص قيمتها. وإن لم يكن مع المغصوب بينة.. فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» . والغاصب هاهنا منكر. ولأنه غارم، والأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به. قال الطبري: وإنما يقبل قول الغاصب مع يمينه إذا كان ما ذكره محتملاً، فأما إذا كان ما ذكره محالاً، مثل أن يقول: قيمة الجارية التي تلفت عندي درهم، فلا يقبل قوله؛ لأنه يقطع بكذبه. فإن أقام الغاصب بينة: أن قيمة العين كانت خمسين، فقال المغصوب منه: بل كانت قيمتها مائة.. قال المسعودي [في (الإبانة) ق\309] : فالقول قول الغاصب في الزيادة؛ لأن الأصل عدمها. [مسألة: الاختلاف في نقص كان في العين] ] : وإن اختلفا في نقص كان في العين المغصوبة، بأن غصب منه عبداً ومات في يده، فقال الغاصب: كان سارقاً، فقيمته عشرة، وقال المغصوب منه: لم يكن سارقاً، فقيمته عشرون.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخان، أبو حامد، وأبو إسحاق:

أحدهما: أن القول قول الغاصب؛ لأن الأصل براءة ذمته. والثاني ـ وهو اختيار الشيخ أبي حامد ـ: أن القول قول المغصوب منه؛ لأن الأصل سلامته. وذكر ابن الصباغ: إذا قال المغصوب منه: كانت العين سليمة، وقال الغاصب: كان بها داء.. ففيه طريقان: [الطريق الأولى] : من أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: القول قول الغاصب. والثاني: القول قول المغصوب منه؛ لما ذكرناه. و [الطريق الثانية] : منهم من قال: القول قول المغصوب منه، قولاً واحداً؛ لأن الأصل سلامته. قال ابن الصباغ: وإذا غصب منه عبداً، فكان في يد الغاصب أعور، فقال الغاصب: هكذا غصبته، وقال المغصوب منه: إنما اعورَّ عندك.. فالقول قول الغاصب؛ لأنه غارم، ولأن الظاهر أن هذه صفة العبد لم تتغير، وإن كان بعد تلف العبد.. فالقول قول المغصوب منه؛ لأن الأصل سلامته، ويخالف الحي؛ لأنه قد شوهد بهذه الصفة، بخلاف الميت. وأما المسعودي: فقال [في (الإبانة) ق\ 309] : إذا كان العبد أقطع اليد، فقال الغاصب: لم تخلق له يد، وقال المغصوب منه: بل خلقت، ولكن قطعت في يدك.. فالظاهر من المذهب: أن القول قول الغاصب؛ لأن الأصل أنها لم تخلق له يد. وفيها قول آخر: أن القول قول المالك؛ لأن الظاهر أنها خلقت له. وإن اتفقا على: أنها خلقت له يد، ولكن قال المغصوب منه: قطعت في يدك، وقال الغاصب: غصبته وقد قطعت.. فالظاهر: أن القول قول المالك؛ لأن الأصل عدم القطع. وفيه قول آخر: أن القول قول الغاصب؛ لأن الأصل براءة ذمته.

فرع: الاختلاف في صفة تزيد قيمة العبد

[فرع: الاختلاف في صفة تزيد قيمة العبد] ] : وإن قال المغصوب منه: كان العبد كاتباً، وقال الغاصب: لم يكن كاتباً.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: القول قول المغصوب منه؛ لأنه أعرف بصفة ملكه. والثاني: القول قول الغاصب، وهو الصحيح؛ لأن الأصل عدم الكتابة. وإن غصب منه عبداً، فقال الغاصب: رددته حياً، ومات في يدك، وقال المغصوب منه: بل مات في يدك. وأقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه.. تعارضت البينتان، وسقطتا، وضمن الغاصب قيمة العبد؛ لأن الأصل بقاء العبد عنده حتى يثبت رده. وقال أبو يوسف: بينة المالك أولى؛ لأن الأصل الغصب. وقال محمد: بينة الغاصب أولى؛ لأن الأصل براءة ذمته. دليلنا: أن كل واحدة من البينتين تعارض الأخرى، فإحداهما تثبت موته في يد غير اليد التي تثبت الأخرى الموت فيها، فتعارضتا، وسقطتا. [فرع: الاختلاف في عين المغصوب] ] : وإن اختلفا في العين المغصوبة، فقال: غصبت مني عبداً، وقال: بل غصبت منه جارية.. قال أبو إسحاق المروزي: فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه لما كان القول قوله في القيمة.. فكذلك في الجنس مثله. وإن قال: غصبت مني طعاماً حديثاً، وقال: بل غصبت منك طعاماً عتيقاً.. فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الحديث، ويلزمه أن يدفع إليه العتيق؛ لأنه أنقص من حقه.

مسألة: الاختلاف في انقلاب الخمر المغصوب خلا

[مسألة: الاختلاف في انقلاب الخمر المغصوب خلا] ] : وإن غصب منه خمراً، وادعى المغصوب منه أنه انقلب خلا، وأنكر الغاصب الانقلاب.. فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الانقلاب. [مسألة: الاختلاف في ثوب العبد المغصوب] ] : وإن اختلف الغاصب والمغصوب منه في الثياب التي على العبد المغصوب.. فالقول قول الغاصب؛ لأن يده ثابتة عليها، وعلى العبد. [مسألة: غصب المغصوب من الغاصب] ] : ولو غصب المغصوب من الغاصب غاصب ثانٍ.. قال أبو المحاسن: لم يبرأ الثاني بتسليمه إلى الغاصب الأول. وقال أبو حنيفة: (يبرأ) . دليلنا: أنه سلمه إلى غير المالك، فلا يبرأ، كما لو اجتمعا على غصبه. إذا ثبت هذا: فلا يكون للغاصب الأول خصومة في انتزاعه من الثاني. وقال أبو حنيفة: (له ذلك) . وبه قال بعض أصحابنا. دليلنا: أن الغاصب الأول ليس بمالك، فلا يملك انتزاعه، كالأجنبي. ولو أقر: أنه غصب من رجل خاتماً، ثم ادعى المقر أن فصه له.. فهل يقبل؟ فيه وجهان: أحدهما: يقبل؛ لأن اسم الخاتم يقع عليه من غير فص.

والثاني: لا يقبل، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن الفص من جملة الخاتم، فلا يقبل قوله فيه من بعد الإقرار، كما لو ادعى شيئاً من الخاتم. وإن أقر: أنه غصب منه أرضاً، ثم قال: أما الشجر الذي فيها: فهو لي.. فهل يقبل؟ فيه وجهان. ولو قال رجل: غصبنا من فلان ألف درهم، ثم قال: كنا عشرة.. فقد قال محمد بن الحسن: لا يصدق، ويلزمه الكل. وقال زفر: يقبل قوله مع يمينه، وبه قال بعض أصحابنا؛ لأن ما قاله محتمل، والأصل براءة ذمته. وبالله التوفيق.

كتاب الشفعة

[كتاب الشفعة]

كتاب الشفعة الشفعة مشتقة من الشفع، وهو الاثنان؛ لأن الشفيع يضم إلى ملكه ملك المشتري. وقيل: إنها مشتقة من الشفاعة؛ لأن الشفيع يأخذها بلين ورفق، فكأنه مستشفع، إذ المشتري ليس بظالم. والشفعة من أمر الإسلام، ولم تكن في الجاهلية. والأصل في ثبوتها: ما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود.. فلا شفعة» . وروى البخاري بإسناده عن جابر بن عبد الله: أنه قال: «إنما جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق.. فلا شفعة» . وفي رواية مسلم بن الحجاج عن جابر: أنه قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة في كل مشترك لم يقسم، ربع، أو حائط، لا يحل له أن يبيعه حتى يؤذن شريكه، فإن شاء.. أخذ، وإن شاء.. ترك، فإن باعه، ولم يؤذنه.. فهو أحق به» . و (الربع) : اسم للدار مع بنائها، و (الحائط) : اسم للبستان مع غراسه. إذا ثبت هذا: فالأشياء في الشفعة على ثلاثة أضرب: ضرب ثبتت فيه الشفعة، سواء بيع منفرداً، أو مع غيره، وضرب لا تثبت فيه الشفعة بحال، وضرب تثبت فيه الشفعة تبعاً لغيره، ولا تثبت فيه الشفعة إذا بيع منفرداً. فأما الضرب الأول ـ وهو ما تثبت فيه الشفعة إذا بيع منفرداً، أو مع غيره ـ: فهو

العراص، مثل: عرصة الأرض، والدار، فإذا باع أحد الشريكين نصيبه فيها.. ثبتت لشريكه الشفعة فيه، وهو قول عامة العلماء، إلا الأصم، فإنه قال: لا تثبت الشفعة بحال؛ لأن في ذلك إضراراً بأرباب الأملاك؛ لأن المشتري متى علم بأنه يؤخذ منه.. لم يرغب بالشراء، فيؤدي ذلك إلى الضرر بالبائع، وربما تقاعد شريكه عن الشراء منه. ودليلنا عليه: ما ذكرناه من الأخبار، وما ذكره.. فغير صحيح؛ لأنا نشاهد الأشقاص تشترى مع علم المشتري باستحقاق الشفعة عليه. وأما الضرب الثاني ـ وهو ما لا تثبت فيه الشفعة بحال ـ: فهو كل ما ينقل ويحول، مثل: الطعام، والثياب، والعبيد، فإذا باع أحد الشريكين نصيبه في ذلك.. لم تثبت لشريكه فيه الشفعة، وبه قال عامة أهل العلم. وقال مالك: (تثبت الشفعة في جميع ذلك) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق.. فلا شفعة» . وهذا لا يتناول ما ينتقل. وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا شفعة إلا في ربع، أو حائط» . فنفى الشفعة عن غيرهما. وأما الضرب الثالث ـ وهو ما تثبت فيه الشفعة تبعا لغيره ـ: فهو الغراس، والبناء في الأرض، فإن باع أحد الشريكين نصيبه فيه منفردا عن الأرض.. لم تثبت فيه الشفعة؛ لأنه منقول، فلم تثبت فيه الشفعة، كالثياب، والعبيد. وإن باع أحد الشريكين نصيبه في البناء والغراس مع نصيب من الأرض.. ثبتت فيه الشفعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة في كل ربع، أو حائط» . و (الربع) : هو الدار ببنائها، و (الحائط) : هو البستان بأشجاره، ولأن البناء والغراس يرادان للبقاء والتأبيد، فتثبت فيهما الشفعة، كالأرض.

مسألة: باع شقص أرض وفيها زرع أو ثمر

وإن باع أحد الشريكين نصيبه من الشجر مع نصيبه من قراره بالأرض دون ما يتخلل الشجر من بياض الأرض.. ففيه وجهان: أحدهما: تثبت فيه الشفعة؛ لأنه باع نصيبه من الشجر مع قراره من الأرض، فهو كما لو باع ذلك مع نصيبه من بياض الأرض. والثاني: لا تثبت فيه الشفعة؛ لأن قرارها تابع لها، فلا يصير الشجر تابعاً له. وإن كان هناك دار سفلها لواحد، وعلوها مشترك بين جماعة، فباع أحد الشركاء في العلو نصيبه فيه، فإن كان السقف لصاحب السفل.. لم تثبت الشفعة في النصيب المبيع في العلو؛ لأنه بناء منفرد، وإن كان السقف لأهل العلو.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تثبت فيه الشفعة؛ لأنه بناء لا يتبع أرضا. والثاني: تثبت فيه الشفعة؛ لأن السقف يؤوى إليه، فهو كالعرصة. [مسألة: باع شقص أرض وفيها زرع أو ثمر] ] : وإن باع شقصاً له من أرض وفيه زرع، فباع نصيبه من الزرع مع الأرض، أو كان فيها شجر وعليه ثمرة ظاهرة، فباع نصيبه من الشجر والثمرة مع الأرض.. لم تثبت الشفعة في الزرع والثمرة. وقال مالك، وأبو حنيفة: (تثبت فيه الشفعة تبعاً للأرض) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة في كل ربع، أو حائط» . فأثبت الشفعة فيهما، فدل على: أنها لا تثبت لغيرهما. ولأنه لا يتبع الأصل في البيع بالإطلاق، فلم تثبت فيه الشفعة، كما لو باع أرضا وفيها طعام مستودع. وإن كان في الشقص نخيل بيع مع الشقص وعليه ثمرة غير مؤبرة.. فهل تؤخذ الثمرة بالشفعة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تؤخذ؛ لأنه منقول، فلم يستحق أخذه بالشفعة، كالزرع، والثمرة الظاهرة.

مسألة: لا شفعة إلا للشريك

والثاني: يؤخذ بالشفعة؛ لأنه يدخل في بيع أصل الأرض بالإطلاق، فاستحق بالشفعة، كالنخل. فإذا قلنا بهذا: فتأخر الأخذ بغيبة الشفيع، فجاء وقد أبرت النخل.. فهل يأخذها الشفيع؟ فيه وجهان: أحدهما: يأخذها؛ لأنه قد استحق أخذها حال البيع، فلم يسقط ذلك من غير رضاه بالتأبير. والثاني: لا يأخذها؛ لأنه إنما يأخذها ما دامت الثمرة تابعة للشجرة والأرض، فإذا ظهرت.. خرجت عن ذلك. فإذا قلنا بهذا: فهل يحط من الثمن شيء لأجل الثمرة؟ فيه وجهان: أحدهما: يحط؛ لأن الثمن قابل الجميع. والثاني: لا يحط؛ لأن هذا كنقص حدث بالمبيع. قال أبو علي السنجي: وهذا بناء على أن الطلع هل له قسط من الثمن؟ على قولين، كالحمل. [مسألة: لا شفعة إلا للشريك] ولا تثبت الشفعة عندنا إلا للشريك، ولا تثبت للجار، وبه قال عمر، وعثمان، وعلي من الصحابة، ومن التابعين: ابن المسيب، وسليمان بن يسار، وعمر بن

عبد العزيز، ومن الفقهاء: ربيعة، ومالك، والأوزاعي، وعبيد الله بن الحسن، وأحمد، وإسحاق. وذهبت طائفة إلى: أن الشفعة تستحق بالشركة، وتستحق بالجوار، وذهب إليه ابن سيرين، وابن أبي ليلى، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، ويفصل مذهب أبي حنيفة فيها: (أن الرجل إذا باع داراً، فإن كان له فيها شريك.. كان أحق بالشفعة من الجار، وإن لم يكن له فيها شريك، فإن كانت في درب غير نافذ.. فالجار المشارك له في الطريق أحق من الجار الذي لا يشاركه في الطريق، وإن كان له جاران يشاركانه في الطريق.. فهما أحق، وإن عفا الجار الذي إلى جنبه عن الشفعة.. استحق جاره الذي يليه الشفعة إلى آخر الدرب ولو كان بينهما ألف ذراع، وأما إذا كان الزقاق نافذاً.. استحق الجار الملاصق له الشفعة، فإن عفا.. لم يستحق الذي يلي العافي الشفعة؛ لأنه ليس بجار للبائع، وإنما هو جار جاره) . وحكي عن أبي العباس ابن سريج: أنه قال: تثبت الشفعة في الدار لمن يشاركه في الطريق بالدرب المشترك. وهذا كله غير صحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق.. فلا شفعة» . فأثبت جنس الشفعة فيما لم يقسم، ونفاها عن المقسوم. إذ ثبت هذا: فإن حكم حاكم بالشفعة للجار.. فهل ينقض حكمه؟ فيه وجهان، حكاهما الصيدلاني: أحدها: ينقض؛ لأنه مخالف للنص.

مسألة: فيما يقسم بين الشريكين

والثاني: لا ينقض، وهو الأصح؛ لأنه حكم بما يسوغ فيه الاجتهاد. [مسألة: فيما يقسم بين الشريكين] ] : ولا تجب الشفعة إلا فيما تجب قسمته بين الشريكين عند الطلب، وهو بحيث إذا قسم لم تنقص قيمة حصة كل واحد منهما بعد القسمة عن قيمته قبل القسمة، فأما ما لا تجب قسمته عند الطلب، وهو ما ينقص قيمة نصيب كل واحد منهما.. فلا يثبت فيه الشفعة، وبه قال عثمان بن عفان، ومن الفقهاء ربيعة، وإحدى الروايتين عن مالك. وقال أبو حنيفة، والثوري، وأبو العباس ابن سريج: (تثبت فيه الشفعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة في كل شرك، ربع، أو حائط» . ولم يفرق) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق.. فلا شفعة» . فأثبت جنس الشفعة فيما لم يقسم، يعني: ما لم يفعل فيه القسمة. وهذا إنما يكون فيما تجب قسمته عند الطلب، ولأن الشفعة إنما ثبتت لما يلحق الشريك من الضرر بالمقاسمة، وذلك لا يوجد فيما لا تجب قسمته. إذا ثبت هذا: فذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (البئر، والحمام، والرحى) . قال أصحابنا: وإذا كان بينهما بئر، فباع أحدهما نصيبه فيها.. فهل تثبت فيها الشفعة؟ ينظر فيها: فإن كان معها بياض من الأرض بينهما، وكانا إذا قسما، كانت البئر لواحد، والبياض لواحد، وكانت قيمة نصيب كل واحد منهما بعد القسمة كقيمته قبل القسمة.. ثبتت فيها الشفعة.

فرع: الشفعة في طريق غير نافذة

وإن كانت البئر لا بياض معها، فإن كانت كبيرة، بحيث إذا قسمت بينهما حصل لكل واحد منهما بئر منها، ينتفع بها.. ثبتت فيها الشفعة، وإن كانت بئراً صغيرة، بحيث إذا قسمت بينهما لم يحصل لكل واحد منهما بئر مفردة.. لم تثبت فيها الشفعة. وأما الحمام: فإن كان حماما كثير البيوت، بحيث إذا قسم بينهما حصل لكل واحد منهما ما يصلح حماماً، ولم تنقص قيمة نصيب كل واحد منهما بعد القسمة عن قيمته قبل القسمة.. ثبتت فيه الشفعة، وإن كان لا يحصل له ذلك.. لم تثبت فيه الشفعة. وأما الرحى: فإن كان فيه حجران، ولكل واحد منهما ماء، بحيث إذا قسم حصل لكل واحد منهما رحى.. ثبتت فيه الشفعة، وإن كان رحى واحدة.. لم تثبت فيه الشفعة؛ لأنه إذا قسم نقصت قيمة نصيب كل واحد منهما بذلك. [فرع: الشفعة في طريق غير نافذة] ] : وإن باع رجل داره، وكان طريقها في زقاق نافذ.. فإن الشفعة لا تثبت في الطريق؛ لأن الزقاق النافذ غير مملوك، والشفعة إنما تثبت في المملوك، وإن كان طريقها في زقاق غير نافذ، وقال: بعتك داري مع نصيبي في الطريق، أو قال: بحقوقها.. فإن نصيبه في الطريق يدخل في البيع، ولا تثبت الشفعة في الدار، وقال ابن سريج: تثبت فيها. وقد مضى ذكره. وأما الطريق: فهل تثبت فيه الشفعة؟ ينظر فيه: فإن كان طريقاً ضيقاً، بحيث إذا قسم لم يصب كل واحد منهما طريقا.. لم تثبت فيه الشفعة؛ لأنه نصيب لا يحتمل القسمة.

مسألة: ثبوت الشفعة بالشقص المملوك

وإن كان الطريق واسعاً، بحيث إذا قسم أصاب كل واحد طريقاً.. نظرت: فإن كان للدار المبيعة طريق آخر من درب نافذ، أو غير نافذ، أو يمكن أن يفتح لها بابا إلى زقاق نافذ.. ثبتت الشفعة في الطريق؛ لأنها أرض تحتمل القسمة. وإن كان لا طريق للدار المبيعة سوى هذا الطريق.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: تثبت فيه الشفعة؛ لأنها أرض مشاعة تحتمل القسمة، فتثبت فيها الشفعة، كالدار. والثاني: تثبت فيها الشفعة، ولكن يكون لمشتري الدار المرور فيها إلى الدار؛ لأن الضرر يزول عنهما بذلك. والثالث ـ وهو الصحيح ـ أنه لا تثبت فيه الشفعة؛ لأن الشفعة لإزالة الضرر، فلو أثبتنا الشفعة هاهنا.. لأضررنا بالمشتري؛ لأن داره تبقى من غير طريق. وما قاله الأول فاسد؛ لما ذكرناه، وما قاله الثاني أيضا فاسد؛ لأن الملك إذا انتقل إلى الشفيع.. لم يستحق عليه الاستطراق في ملكه، وهذا الحكم إذا كان الطريق بحيث إذا قسم.. أصاب كل واحد مقدار طريقه لا زيادة عليه، فأما إذا كان نصيبه زيادة على ذلك.. فإن الزيادة على قدر الطريق فيها الشفعة، وجها واحداً، وفي قدر الطريق الأوجه الثلاثة. [مسألة: ثبوت الشفعة بالشقص المملوك] ] : تثبت الشفعة بالشقص المملوك بالبيع؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وإن باعه.. فهو أحق به» . وبه قال عامة العلماء، إلا الأصم، وقد مضى الدليل عليه.

فرع: إرث الشفعة

وتثبت الشفعة بكل ما ملك الشقص فيه بعقد معاوضة، بأن يكون عوضاً في الصلح، أو أجرة في الإجارة، أو مهراً في النكاح، أو عوضاً في الخلع. وقال أبو حنيفة: (لا تثبت الشفعة إلا فيما ملك بالبيع وحده) . دليلنا: أنه ملك بعقد معاوضة، فثبتت فيه الشفعة، كالبيع. [فرع: إرث الشفعة] ] : فإن مات رجل، وخلف شقصاً.. لم يستحق على وارثه فيه الشفعة، وهذا إجماع لا خلاف فيه. وإن أوصى رجل لرجل بشقص، أو وهبه له هبة لا تقتضي الثواب ... لم تثبت فيه الشفعة. وقال ابن أبي ليلى: تثبت فيه الشفعة بقيمة الشقص. وهي إحدى الروايتين عن مالك. دليلنا: أنه ملكه بغير عقد معاوضة، فلم تثبت فيه الشفعة، كما لو ملكه بالإرث. وإن وهب له شقصاً بعوض معلوم.. كان بيعا، وتثبت فيه الشفعة، سواء تقابضا أو لم يتقابضا، وبه قال زفر. وقال أبو حنيفة وسائر أصحابه: (لا تثبت فيه الشفعة حتى يتقابضا؛ لأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض) .

فرع: الإقالة ترفع الشفعة

دليلنا: أنه ملكه بعقد معاوضة، فلم يعتبر في ثبوت الشفعة فيه القبض، كالبيع، وأما الهبة: فقد صرفناها عن مقتضاها بشرط العوض فيها. وإن وهب لمن هو أعلى منه شقصاً، فإن قلنا: إنها تقتضي الثواب.. ثبتت فيه الشفعة، وإن قلنا: لا تقتضي الثواب.. لم تثبت فيه الشفعة. [فرع: الإقالة ترفع الشفعة] وإن اشترى رجل شقصاً، فعفا الشفيع عن الشفعة فيه، ثم استقال البائع المشتري في الشقص، فأقاله.. فقال البغداديون من أصحابنا: لا تثبت فيه الشفعة؛ لأنه لم يرجع إليه بعوض. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه قولان، بناء على أن الإقالة ابتداء عقد، أو فسخ عقد. فإن عفا الشفيع عن الشفعة، ثم إن المشتري ولاه رجلاً.. ثبتت للشفيع فيه الشفعة؛ لأن التولية بيع برأس المال. [فرع: تعليق حق الشفعة] ] : قال في (الأم) : (وإن قال لأم ولده: إن خدمت ورثتي شهراً.. فلك بهذا الشهر الشقص، فخدمتهم.. استحقت الشقص) . وهل تثبت فيه الشفعة؟ فيه وجهان: أحدهما: تثبت؛ لأنها ملكته ببدل، وهو الخدمة، فهو كما لو استأجر به غيرها على الخدمة. والثاني: لا تثبت؛ لأنها ملكته بالوصية، بدليل: أنه يعتبر من الثلث. وإن دفع المكاتب إلى سيده شقصاً عن كتابته.. كان للشفيع أن يأخذه بالشفعة؛

فرع: الدين على الميت الشفيع يمنع انتقال الشقص لوارثه

لأنه مملوك بعوض، وإن غاب الشفيع، أو لم يعلم حتى عجز المكاتب ورجع إلى الرق.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تثبت فيه الشفعة؛ لأنه صار بالعجز مملوكاً للسيد بحق الملك. والثاني: تثبت فيه الشفعة؛ لأن الشفعة قد ثبتت فيه حال ما قبضه السيد، فلا تسقط بالعجز. [فرع: الدين على الميت الشفيع يمنع انتقال الشقص لوارثه] ) : قال ابن الحداد: إذا ملك الرجل شقصاً في دار أو أرض، فمات وعليه دين يحيط بتركته، فباع شريكه الشقص.. كان للوارث أن يأخذه بالشفعة؛ لأن الدين لا يمنع انتقال الملك إلى الوارث، والشقص ملك للوارث عند بيع شريكه. وقال أبو حنيفة، وأبو سعيد الإصطخري: (الدين يمنع انتقال الملك إلى الوارث) . فعلى هذا: لا يستحق الوارث الأخذ بالشفعة. وليس بشيء. ولو مات رجل، وله دار، وعليه دين يحيط ببعضها، فبيع بعض الدار بالدين، أو أوصى بأن يباع بعض الدار، ويصرف ثمنه في بعض وصاياه، فبيع بعضها.. قال ابن الحداد: لم يكن للورثة أن يأخذوا ما بيع منها بالشفعة؛ لأن البيع يقع عليهم، فلا يستحقون فيه الشفعة. قال القاضي أبو الطيب: ولم يختلف أصحابنا في هذه، فأما إذا كان لرجل ربع دار، ولابنه ثلاثة أرباعها، فمات الأب وعليه دين يحيط بربع الدار، فبيع بالدين.. قال ابن الحداد: فللابن أن يأخذ الربع بالشفعة هاهنا؛ لأن الشقص بيع بسبب مستحق على الميت في حال حياته، فكأن الأب باشر بيعه في حال حياته، والابن شريك له في حال حياته، فاستحق الشفعة به عليه، كما لو باع الأب ذلك بنفسه. وخالفه أكثر أصحابنا، وقالوا: لا شفعة للابن؛ لأن الابن يملك ربع الدار الذي خلفه أبوه، والدين لا يمنع انتقال الملك إلى الوارث عندنا، ومن بيع عليه بعض

فرع: سقوط الشفعة بإبراء الشفيع أو إذنه

ملكه.. لم يستحق أخذه بالشفعة، كما لو غاب رجل، وله دار، وعليه دين، فباع الحاكم بعض داره بدينه، ثم قدم.. فليس له أخذ ما بيع من داره بالشفعة، فكذلك هاهنا مثله. [فرع: سقوط الشفعة بإبراء الشفيع أو إذنه] ] : إذا أذن الشفيع في البيع، أو أبرأ من الشفعة قبل تمام البيع.. لم تسقط شفعته، به قال أكثر أصحابنا. وقال عثمان البتي: تسقط شفعته، واحتج بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء.. أخذ، وإن شاء.. ترك، وإن باع ولم يؤذنه.. فهو أحق» . ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، ربع، أو حائط» . ولم يفرق. ولأنه إسقاط حق قبل ثبوته، فلم يسقط، كما لو أبرأه من دين قبل ثبوته. وأما الخبر: فأراد به العرض عليه ليبتاع ذلك إن أراد، فتخف بذلك المؤنة على الشريك. [مسألة: بيع شقص في دار نصفها وقف] ] : إذا كان نصف الدار وقفا على رجل، ونصفها طلقا، فباع صاحب الطلق نصيبه.. فهل تثبت فيه الشفعة لصاحب الوقف؟ إن قلنا: إن الملك ينتقل في الوقف إلى الله.. لم يستحق الموقوف عليه الشفعة في الطلق؛ لأن الشفعة لا تستحق إلا بالملك.

مسألة: باع أحد الشريكين نصيبه بشرط الخيار

وإن قلنا: إن الملك في الوقف ينتقل إلى الموقوف عليه.. فهل يستحق أخذ الطلق بالشفعة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: أنه يستحق؛ لأنه يلحقه الضرر في ماله من جهة الشريك، فاستحق أخذه بالشفعة، كمالك الطلق. والثاني ـ ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه لا يستحق؛ لأن الوقف لما لم يستحق أخذه بالشفعة.. لم يستحق الأخذ به بالشفعة. [مسألة: باع أحد الشريكين نصيبه بشرط الخيار] ] . وإن كانت دار بين اثنين، فباع أحدهما نصيبه بشرط الخيار، فإن كان الخيار لهما، أو للبائع.. لم يكن للشفيع أن يأخذه بالشفعة قبل انقضاء الخيار؛ لأن ذلك يؤدي إلى قطع الخيار للبائع. وإن كان الخيار للمشتري وحده، وقلنا: إن الملك موقوف، أو لا ينتقل إلى المشتري إلا بانقضاء الخيار.. لم يكن للشفيع الأخذ بالشفعة قبل انقضاء الخيار؛ لأن الملك لم يحصل للمشتري، وإن قلنا: إن الملك ينتقل إلى المشتري بنفس العقد.. فهل يستحق الشفيع الأخذ بالشفعة قبل انقضاء الخيار؟ فيه قولان: أحدهما: لا يستحق، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي؛ لأنه بيع فيه خيار، فلم يستحق الشفيع الأخذ قبل انقضاء الخيار، كما لو كان الخيار للبائع، ولأن المشتري شرط الخيار لغرض قصده، وفي أخذ الشفيع قبل انقضاء الخيار تفويت لغرض المشتري، فلم يجز. والثاني ـ وهو اختيار الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق ـ: أنه يستحق؛ لأنه إذا ملك الأخذ بعد استقرار حق المشتري بانقضاء الخيار.. فلأن يملك قبل ذلك أولى، ولأن المشتري لو وجد بالشقص عيباً، فأراد رده.. كان للشفيع أن يأخذه، ويبطل ما ثبت للمشتري من الرد، فكذلك هذا مثله.

فرع: باع الشريك نصيبه قبل انقضاء مدة الخيار

[فرع: باع الشريك نصيبه قبل انقضاء مدة الخيار] ] : وإن كان بين رجلين دار، فباع أحدهما نصيبه فيه بشرط الخيار له وللمشتري، أو له وحده، ثم باع الشريك الثاني نصيبه منها بغير خيار قبل انقضاء الخيار في البيع الأول.. لم يكن للبائع الثاني شفعة؛ لأن ملكه قد زال، ولا تثبت للمشتري فيه شفعة أيضاً؛ لأنه ملكه بعد البيع الأول، ولمن تثبت الشفعة في الشقص الثاني؟ يبنى على الأقوال: إلى من ينتقل المبيع في حال الخيار؟ فإن قلنا: إن الملك فيه للبائع.. كانت الشفعة فيه للبائع؛ لأن ملك الشقص له في هذه الحالة. فعلى هذا: إذا انقضى الخيار، ولم يفسخ العقد.. فإن الشقص المبيع أولاً لمشتريه، والشقص المبيع ثانياً لبائع الشقص الأول؛ لأنه ملك أخذه بالبيع الثاني، فلا يسقط بعد ذلك. وإن قلنا: إن الملك في الشقص الأول انتقل إلى المشتري بالعقد.. فإن الشفعة في الشقص الثاني لمشتري الأول، فإن فسخ البيع بعد ذلك في الذي اشتراه.. لم يسقط حقه من الشفعة في الثاني؛ لما ذكرناه. وإن قلنا: إن الملك في الشقص الأول موقوف على انقضاء الخيار.. كانت الشفعة في الشقص الثاني أيضاً موقوفة، فإن فسخا البيع.. كانت الشفعة لبائع الأول، وإن لم يفسخا.. كانت للمشتري. [مسألة: ثبوت الشفعة للمسلم وغيره] ] : وتثبت الشفعة للمسلم على الذمي، وللذمي على الذمي؛ لعموم الأخبار، ولا خلاف في ذلك، وتثبت الشفعة للذمي على المسلم، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.

فرع: اشترى شقصا فيه شفعة فارتد

وقال الشعبي، وأحمد، والحسن بن صالح: (لا تثبت له) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، ربع، أو حائط» . ولم يفرق، ولأنه خيار يثبت لإزالة الضرر عن المال، فثبت للذمي على المسلم، كخيار الرد بالعيب، وفيه احتراز من خيار القصاص. إذا ثبت هذا: فإن اشترى ذمي من ذمي شقصاً بخمر، أو خنزير، والشفيع ذمي، فإن رفع ذلك إلى الحاكم قبل التقابض في الثمن بالبيع.. حكم الحاكم بإبطال البيع، وإبطال الشفعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] [المائدة: 49] . وإن رفع إلى الحاكم بعد التقابض في البيع، والأخذ في الشفعة.. لم يحكم بإبطال البيع، ولا بإبطال الشفعة؛ لأنه لا يحكم ببطلان ما استقر من عقودهم، كالنكاح بعد الدخول. وإن رفع إليه بعد التقابض بالبيع، وقبل الأخذ بالشفعة.. لم يحكم بإبطال البيع، ولكن يحكم بإبطال الشفعة. وقال أبو حنيفة: (تثبت الشفعة، فإن كانت لمسلم.. أخذ بقيمة الخمر، وإن كانت لذمي.. أخذ بمثلها) . وبناه على أصله: أن الخمر لأهل الذمة مال. ودليلنا: أن البيع وقع بثمن حرام، فلم تثبت فيه الشفعة، كالميتة، والدم. [فرع: اشترى شقصاً فيه شفعة فارتد] ] : إذا اشترى رجل شقصاً فيه شفعة، فارتد المشتري قبل أن يأخذ الشفيع.. فللشفيع أن يأخذ الشقص بالشفعة، سواء كان المشتري باقياً على ردته، أو مات، أو قتل بالردة؛ لأنه ليس فيه أكثر من زوال ملكه بموته إلى المسلمين، وهذا لا يسقط حق الشفيع، كما لو مات المشتري، وانتقل ماله إلى المسلمين بالإرث. وهكذا: لو ارتد الشفيع قبل الأخذ، فمات أو قتل بالردة قبل الأخذ.. فإن شفعته لا تبطل بذلك، بل ينتقل النظر فيها إلى الإمام، فإن رأى المصلحة للمسلمين في أخذه بالشفعة.. أخذه، ودفع الثمن من بيت المال، وإن رأى الحظ في الترك.. لم

فرع: بيع شقص في شركة المفلس

يأخذه؛ لأن المال انتقل إليهم، وهكذا: لو مات الشفيع، ولا وارث له غير المسلمين.. كان الحكم فيه ما ذكرناه. [فرع: بيع شقص في شركة المفلس] ] : إذا بيع شقص في شركة المفلس.. كان له الأخذ بالشفعة، والعفو عنه، وليس للغرماء الاعتراض عليه؛ لأنه إن أراد الترك.. لم يجبر على الأخذ؛ لأنه إجبار على التملك، فلم يجز، وإن أراد الأخذ.. لم يجبر على الترك؛ لأنه يأخذه بثمن في ذمته. ويجوز للمكاتب الأخذ بالشفعة، والترك، وليس للسيد الاعتراض عليه؛ لأن التصرف يقع له دون السيد، وأما العبد المأذون له في التجارة: فإن أخذ بالشفعة.. جاز؛ لأنه مأذون له في الشراء، وإن عفا.. كان للسيد إبطال عفوه؛ لأن الحق للسيد، فلا يملك العبد إسقاطه. [فرع: ثبوت الشفعة في بيع شقص يتيم لآخر] ] : وإن كان في حجره أيتام لهم عقار مشترك بينهم، فباع على أحدهم نصيبه منه لحاجته.. كان له أن يأخذ ذلك بالشفعة للآخرين إذا رأى لهم الحظ في ذلك؛ لأن له ولاية عليهم. وإن كان وصياً على يتيم، وبينهما عقار، فباع الوصي على اليتيم نصيبه فيه.. فهل للوصي أخذ ما باع على اليتيم بالشفعة لنفسه؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال ابن الحداد: لا يجوز؛ لأن الوصي متهم في أنه لم يستقص في ثمن الشقص ليتملكه، فلم يجز له الأخذ. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يجوز له أخذه بالشفعة. وبه قال ابن القفال؛

فرع: خلف حملا ومالا وشقصا لوصي فيستحق الشفعة

لأنه يمكن نفي التهمة عنه، بأن يرجع فيه إلى تثمين ثقتين من أهل الخبرة بالشقص، فإن قيل: إنه بيع بثمن مثله.. استحق الأخذ؛ لأن البيع قد صح، وإن قيل: إنه بيع بأقل من ثمن مثله.. لم يصح البيع، ولم يستحق الأخذ. والأول أصح؛ لأن التهمة تلحقه مع ذلك في أنه ترك الزيادة على ثمن المثل مع إمكانها، فإن رفع الوصي الأمر إلى الحاكم، فأمر الحاكم من قرر ثمن الشقص، فباع به.. استحق الوصي الأخذ بالشفعة لنفسه، وجهاً واحداً؛ لأن التهمة منتفية عنه هاهنا، وإن كان الناظر في أمر الصغير أباً أو جداً، فباع عليه شقصا له فيه شفعة.. استحق الشفعة عليه، وجهاً واحداً؛ لأن التهمة منتفية عنهما في حقه، بدليل: أنه يصح أن يشتري ماله لنفسه، ويبيع منه، بخلاف الوصي. وإن اشترى الوصي لليتيم شقصاً للوصي فيه الشفعة.. فهل له أن يأخذه بالشفعة منه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه يلزم الصبي العهدة في الشقص، ولا حظ له في ذلك. والثاني ـ وهو قول ابن الحداد، والقاضي أبي الطيب ـ: له ذلك؛ لأنه لا تهمة عليه في ذلك. [فرع: خلف حملاً ومالاً وشقصاً لوصي فيستحق الشفعة] ] : وإن مات رجل، وخلف مالاً وحملاً، وأوصى إلى رجل بالنظر في ماله، والقيام في الحمل، وله شقص، فباع شريكه.. قال أبو العباس ابن سريج: لم يكن للوصي أن يأخذ بالشفعة للحمل؛ لأن الحمل قد لا يكون، فلا يستحق الأخذ له،

مسألة: ضمان الشفيع عهدة الشقص

وقد يكون موجوداً إلا أنه يجوز أن يكون رجلاً، فيستحق أخذ الجميع، وقد يكون أنثى، فلا تستحق له أخذ الجميع، فلم يجز الأخذ لمن يشك في استحقاقه. [مسألة: ضمان الشفيع عهدة الشقص] ] : إذا باع شقصاً، فضمن الشفيع للمشتري عهدة الشقص، أو ضمن للبائع الثمن على المشتري، أو شرط البائع أو المشتري الخيار للشفيع، وقلنا: يصح، فاختار إمضاء البيع.. فإن له الأخذ بالشفعة. وقال محمد بن الحسن، وأهل العراق: لا شفعة له؛ لأن البيع تم به. ودليلنا: أن أكثر ما فيه أن الشفيع رضي بالبيع، وذلك لا يسقط حقه من الشفعة، كما لو قال الشفيع للمشتري: رضيت أن تشتري ولا آخذ منك بالشفعة. [فرع: توكيل رجل الشفيع في البيع] ] : وإن كانت الدار بين رجلين، فوكل رجل أحد الشريكين أن يبتاع له نصيب شريكه، فابتاعه له.. فله أن يأخذ ما ابتاع لموكله بالشفعة. وقال محمد بن الحسن، وأهل العراق: ليس له أخذه بالشفعة. دليلنا: أنه لم يوجد منه أكثر من الرضا بالشراء، وذلك لا يسقط الشفعة. وإن وكل أحد الشريكين صاحبه ليبيع له نصيبه، فباعه.. فهل للبائع أن يأخذ بالشفعة؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس: له أخذه، ولا تبطل شفعته؛ لأنه تولى أحد طرفي العقد، فلم تبطل شفعته، كما لو توكل بالشراء. و [الثاني] : قال ابن الحداد: تبطل شفعته؛ لأن التهمة تلحقه في إرخاص الشقص، أو ترك أخذ الزيادة على ثمن المثل ليتملكه. وإن كانت الدار بينهما نصفين، فقال أحدهما لصاحبه: وكلتك أن تبيع نصف نصيبي من الدار، وقال: إن أردت أن تبيع نصف نصيبك معه.. فافعل، فباع الوكيل

فرع: ثبوت الشفعة للعامل في القراض

نصف الدار، ربعها عن نفسه، وربعها عن موكله بثمن معلوم.. صح البيع؛ لأن ما يقابل نصيب كل واحد منهما من الثمن معلوم، وللموكل أن يأخذ نصيب الوكيل بالشفعة؛ لأنه لم يوجد منه أكثر من الرضا ببيعه، وذلك لا يسقط حقه من الشفعة، وليس له أن يأخذ ما بيع عليه؛ لأن الإنسان لا يأخذ بالشفعة ما بيع عليه، وهل للوكيل أن يأخذ بالشفعة الربع الذي باعه عن موكله؟ على وجهين كالأولى: أحدهما: له ذلك؛ لأنه يأخذ ذلك من المشتري لا من نفسه. والثاني: ليس له ذلك، وهو الصحيح؛ لأنه متهم في إرخاصه ليأخذه، ولأنه لما لم يملك أن يبتاعه من نفسه.. لم يملك أخذه بالشفعة. [فرع: ثبوت الشفعة للعامل في القراض] ] : وإذا اشترى العامل في القراض بعض دار بمال القراض، ثم بيع الباقي.. كان للعامل أخذه بالشفعة للقراض، فإن لم يأخذه.. كان لرب المال أن يأخذه بالشفعة؛ لأن ما اشتراه بمال القراض.. ملكه. وإن اشترى العامل بمال القراض شقصا من دار، ولرب المال فيه شفعة.. فهل له أن يأخذه بالشفعة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: له ذلك؛ لأن مال المضاربة كالمنفرد عن ملكه؛ لتعلق حق الغير به، وهو العامل، ويجوز أن يثبت له على ملكه حق لأجل حق الغير، كما ثبت له على عبده المرهون حق الجناية. والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يتملك ملكه، ويخالف الجناية؛ لأنها ليست تمليكاً. وذكر أبو العباس وجهاً ثالثاً: أن له أخذه بحكم فسخ المضاربة. قال ابن الصباغ: وهذا ليس من الشفعة.

مسألة: يأخذ الشفيع الشقص بالثمن المستقر في العقد

فإذا ما اشترى العامل في القراض شقصاً من دار، وللعامل فيه شفعة.. فهل له أخذه بالشفعة؟ قال ابن الصباغ: إن كان في المال ربح، وقلنا: يملكه بالظهور.. فهل له أخذه بالشفعة؟ على الوجهين في رب المال، وإن لم يكن في المال ربح، أو كان فيه ربح، وقلنا: لا يملكه بالظهور، فلا شفعة له، وجهاً واحداً. قلت: والذي يقتضي المذهب: أنه إذا لم يكن فيه ربح، أو كان فيه، وقلنا: لا يملكه بالظهور.. أن له أخذه بالشفعة، وجهاً واحداً، كما لو كانت دار بين شريكين، فأذن رجل لأحدهما أن يبتاع له نصيب شريكه، فإن للوكيل أن يأخذ ما اشتراه بالشفعة لنفسه. إذا ثبت هذا: فإن ملك أربعة رجال داراً أرباعاً بينهم، ثم قارض واحد منهم أحد شركائه على مال، فاشترى العامل بمال القراض نصيب أحد شريكيهما، وعفا المتقارضان والشريك الرابع عن أخذ ذلك بالشفعة، ثم اشترى العامل بمال القراض نصيب الشريك الرابع.. قال أبو العباس: فإن الشفعة في هذا الربع الرابع تكون بين رب المال والعامل ومال القراض، أثلاثاً بينهم؛ لأن كل واحد منهم ينفرد بملك ربع الدار، ويملكان ربعها بمال القراض، فقسم الربع المبيع بينهم أثلاثا. على ذلك حكاها الشيخ أبو حامد. [مسألة: يأخذ الشفيع الشقص بالثمن المستقر في العقد] ] : إذا اشترى رجل شقصاً فيه شفعة، واختار الشفيع الأخذ.. فإنه يأخذه بالثمن الذي استقر عليه العقد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث جابر: «فإن باعه.. فشريكه أحق به بالثمن» . فإن كان الشفيع قد شاهد الشقص، وعلم قدر الثمن، وقال: اخترت أخذه بالثمن

الذي تم به العقد.. قال ابن الصباغ: صح الأخذ وإن لم يختر المشتري، ولا حضر؛ لأنه يستحق أخذه بغير اختياره، فلم يفتقر إلى حضوره، ولا يفتقر إلى حكم الحاكم بذلك؛ لأن استحقاق الشفيع ثابت بالنص والإجماع. وإن كان الشفيع لم يشاهد الشقص.. فهل يصح أخذه بالشفعة؟ إن قلنا: إن بيع خيار الرؤية لا يصح.. لم يصح أخذه، كما لا يصح ابتياعه له. وإن قلنا: يصح بيع خيار الرؤية.. فهل يصح أخذه له قبل رؤيته؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال القاضي أبو الطيب: فيه وجهان، بناء على أن الشفيع هل يثبت له خيار المجلس في الشفعة؟ وفيه وجهان يأتي ذكرهما. فإن قلنا: يثبت له فيها خيار المجلس.. ثبت له فيها خيار الرؤية. وإن قلنا: لا يثبت له خيار المجلس.. لم يثبت له فيها خيار الرؤية. وقال أبو العباس ابن سريج: لا يثبت له فيها خيار الرؤية، قولاً واحد؛ لأن خيار الرؤية إنما يثبت للمشتري على أحد القولين؛ لأن البيع يثبت برضا البائع، وهاهنا يؤخذ الشقص من المشتري بغير رضاه، فلا يثبت فيها خيار الرؤية. وإن كان الشفيع لم يعلم قدر الثمن.. فذكر ابن الصباغ، والطبري: أن أخذه لا يصح، ولا يسقط حقه من الشفعة إذا أخر طلبها إلى أن يعلم قدر الثمن؛ لأن ذلك يملك بعوض، فلا يصح مع الجهالة بالعوض، كالبيع. وذكر الشيخ أبو حامد في (التعليق) : إذا قال الشفيع: بكم ابتعت؟ أو بكم الثمن؟ بطلت شفعته؛ لأنه قد كان يمكنه أن يقول مكان ذلك: قد أخذت بالثمن الذي ابتعت به، فلما لم يفعل.. كان تاركاً للمطالبة بالشفعة مع تمكنه منها، وهذا يدل من قوله: إن الأخذ يصح مع جهالة الشفيع بقدر الثمن. إذا ثبت هذا: فقال ابن الصباغ: وإذا اختار الشفيع على ما ذكرناه.. ملك الشقص بذلك، ولا يلزم المشتري تسليم الشقص إليه حتى يسلم إليه الثمن، فإن كان الثمن موجوداً.. سلمه الشفيع إليه، وإن تعذر الثمن عليه في الحال.. أجلنا الشفيع ثلاثاً،

فرع: اشترى شقصا فيه شفعة وسيفا

فإن أحضر الثمن، وإلا فسخ عليه الحاكم الأخذ، ورده إلى المشتري، وإنما أجل ثلاثاً؛ لأن تحصيل الثمن في الحال يتعذر عليه في غالب العادة، وعدم اعتبار ذلك يؤدي إلى إسقاط الشفعة، والإضرار بالشفيع، فأجل الثلاث؛ لأنها مدة قريبة، ولا ضرر على المشتري بذلك. قال الشيخ أبو حامد: وهكذا: لو هرب الشفيع بعد الأخذ.. جاز للحاكم فسخ الأخذ، ورده إلى المشتري، فإن قيل: أليس في البيع لو هرب المشتري أو أخر الدفع.. لم يفسخ الحاكم البيع؟ فهلا قلتم هاهنا مثله؟ قال: فالجواب: أن البيع حصل باختيارهما، فلذلك لم يكن للحاكم فسخه عليهما، وهاهنا أخذه الشفيع بغير اختيار المشتري لإزالة الضرر عن نفسه، فإذا كان ذلك إضراراً بالمشتري رفعه الحاكم قال: وقد قال أصحابنا: إذا أفلس الشفيع بعد أخذه الشقص.. فإن المشتري بالخيار: بين أن يضرب بالثمن مع الغرماء، وبين أن يرجع في الشقص إذا أفلس المشتري. وقال أبو حنيفة وأصحابه: (لا يأخذ الشفيع بالشفعة حتى يحضر الثمن، ولا يملكه حتى يحكم له الحاكم، ولا يحكم له الحاكم حتى يحضر الثمن) . وقال محمد بن الحسن: يؤجله الحاكم يومين، أو ثلاثاً، ولا يأخذه إلا بحكم الحاكم، أو رضا المشتري. ودليلنا: أن الأخذ بالشفعة يملك بالعوض، فلا يوقف على إحضار العوض، كالبيع. [فرع: اشترى شقصاً فيه شفعة وسيفاً] ً] : وإن اشترى شقصاً فيه شفعة، وسيفاً بثمن واحد.. ثبتت الشفعة بالشقص دون السيف، وقسم الثمن بينهما على قدر قيمتيها، ولا يثبت للمشتري الخيار في البيع، لتفرق الصفقة عليه بذلك؛ لأنه رضي بذلك على نفسه. هذا هو المشهور من المذهب، وبه قال أبو حنيفة.

فرع: مضي خيار شراء الشقص مع زيادة الثمن

قال المسعودي [في (الإبانة) ق\ 316] : وقد قيل: لا تثبت الشفعة في الشقص لتفرق الصفقة على المشتري. وقال مالك: (تثبت الشفعة في الشقص، والسيف، ويأخذهما الشفيع بالثمن) . ودليلنا: أن السيف لا شفعة فيه، ولا هو تابع لما تثبت فيه الشفعة، فلم يجز أخذه بالشفعة، كما لو أفرده بالبيع. [فرع: مضي خيار شراء الشقص مع زيادة الثمن] ] : إذا اشترى شقصاً بثمن، وانقضى الخيار، ثم ألحقا بالثمن زيادة.. لم تلحق بالعقد، ولا يملكها البائع، إلا أن تكون بعقد الهبة بشروطها، ولا يستحقها المشتري على الشفيع؛ لأنه تطوع بذلك، وهكذا: إن نقص عنه البائع بعض الثمن.. كان ذلك إبراء، ولا يسقط عن الشفيع؛ لأن العقد قد انبرم. وقال أبو حنيفة: (يلحقان بالعقد، إلا أن الشفيع لا يثبت في حقه إلا النقصان دون الزيادة) . ودليلنا: أن ذلك تغيير بعد استقرار العقد، فلم يثبت في حق الشفيع، كالزيادة وإن ألحقا بالثمن زيادة، أو نقصا منه شيئاً في حال الخيار.. فقد قال عامة أصحابنا: إن ذلك يلحق بالعقد، ويأخذ الشفيع به. وقال أبو علي الطبري: هذا إذا قلنا: إن الملك لا ينتقل إلى المشتري، إلا بشرطين، أو قلنا: إنه موقوف، فأما إذا قلنا: إنه يملك بالعقد.. فلا يلحق ذلك بالعقد. وهذا ليس بشيء. قال المسعودي [في (الإبانة) ق\317] : فإن حط جميع الثمن في حال الخيار.. ففيه وجهان: أحدهما: يبطل البيع؛ لأنه يكون بيعاً بلا ثمن.

مسألة: نقصان الشقص في يد المشتري

فعلى هذا: لا تثبت الشفعة. والثاني: لا يبطل البيع، كالإبراء، ففرق بين الحط، والإبراء. فعلى هذا: هل يكون بيعاً، أو هبة؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يكون بيعاً، فتثبت فيه الشفعة. والثاني: يكون هبة، فلا تثبت فيه الشفعة. [مسألة: نقصان الشقص في يد المشتري] ] : وإن اشترى شقصاً فيه شفعة، فنقص الشقص في يد المشتري قبل أن يأخذه الشفيع، بأن كان داراً، فانهدم، أو حرق، واختار الشفيع الأخذ.. فنقل المزني: (أنه بالخيار: بين أن يأخذ بجميع الثمن، وبين أن يترك) . ونص الشافعي في القديم، وفي مواضع من كتبه الجديدة: (أنه يأخذه بحصته من الثمن) . واختلف أصحابنا فيها على خمس طرق: فـ[الأول] : منهم من قال: فيها قولان ـ وهو الصحيح: أحدهما: يأخذه بجميع الثمن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن باعه.. فشريكه أحق به بالثمن» . ولم يفرق. والثاني: يأخذه بالحصة، وهو الصحيح؛ لأنه أخذ بعض ما يتناوله العقد، وأخذه بحصته من الثمن، كما لو اشترى سيفاً وشقصاً.. فإن الشفيع يأخذ الشقص بحصته، وهذه علة الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. واختلف أصحاب هذا الطريق، إذا كان هناك أخشاب، أو أحجار منفصلة عن الدار باقية.. هل يستحقها الشفيع؟ فمنهم من قال: لا يستحقها؛ لأن ذلك منفصل عنها حال أخذه بالشفعة، فلم يستحقها، كما لو اشترى داراً، وقد كان انفصل عنها أحجار وأخشاب.

ومنهم من قال: يستحقها الشفيع، وهو الصحيح؛ لأن استحقاقه للشفعة حال البيع، وقد كان متصلا بها، فلم يسقط حقه بانفصاله عنها، كما لو اشترى داراً، فانهدمت قبل أن يقبضها. و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: ليست على قولين، وإنما يأخذها بالحصة، قولا واحداً؛ للعلة التي ذكرها الشافعي. وتأول هذا القائل ما نقله المزني على: أنه أراد به: إذا استهدم الدار، ولم تنهدم، بأن انشق الحائط، وما أشبهه، وهذا القائل يقول: إذا كان هناك أحجار وأخشاب منفصلة.. فإن الشفيع لا يستحق أخذها. و [الطريق الثالث] : منهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: يأخذه بجميع الثمن، إذا انهدمت الدار، ولم يذهب من أجزائها شيء.. فإنه يأخذ ما بقي من البناء، وما انفصل من الأحجار والأخشاب، بجميع الثمن. والموضوع الذي قال: يأخذه بالحصة، إذا انهدمت الدار، وذهب شيء من أجزاء الأحجار والأخشاب؛ لأن الثمن يقابل الأعيان، ولا يقابل التالف. و [الطريق الرابع] : منهم من قال: هي على حالين آخرين: فالموضع الذي قال: يأخذه بجميع الثمن، إذا كانت العرصة باقية، ولا يضره ذهاب التالف من أجزاء الأحجار والأخشاب. والموضع الذي قال: يأخذه بالحصة، أراد: إذا ذهب شيء من أجزاء العرصة؛ لأن العرصة هي الأصل، والأحجار والأخشاب تابعة لها، ولهذا لم تثبت الشفعة فيهما، إلا تبعا للعرصة، فكان الحكم للمتبوع دون التابع. و [الطريق الخامس] : منهم من قال: هي على حالين آخرين:

مسألة: اشترى شقصا بمؤجل

فالموضع الذي قال: يأخذه بجميع الثمن، إذا ذهب بآفة سماوية. والموضوع الذي قال: يأخذ بالحصة، إذا ذهب بفعل آدمي، إما البائع، أو المشتري، أو الأجنبي؛ لأنه إذا ذهب بآفة سماوية.. لم يحصل للمشتري بدل ذلك، وإذا ذهب بفعل آدمي.. حصل له عوضه. وهذا الطريق مذهب أبي حنيفة. قال أصحابنا: وهذا الطريق وإن كان صحيحاً في الفقه، إلا أنه خلاف نص الشافعي في القديم؛ لأنه قال فيه: (يأخذه بالحصة، سواء كان نقصه بفعل المشتري، أو بفعل أجنبي، أو بآفة سماوية) . [مسألة: اشترى شقصاً بمؤجل] ] : وإن اشترى شقصا بمائة درهم مؤجلة إلى سنة.. فقيه ثلاثة أقوال: أحدها ـ قاله في القديم، وبه قال مالك ـ: (إن الشفيع يأخذه بمائة مؤجلة) ، إلا أن مالكا قال: (إن كان الشفيع ثقة، وإلا أقام للمشتري ثقة يكون الثمن في ذمته؛ لأن الشفيع تابع للمشتري في قدر الثمن وصفته، فكان تابعاً له في التأجيل) . فعلى هذا: إن مات المشتري قبل حلول الأجل.. حل الدين عليه؛ لأن الأجل جعل رفقا بمن عليه الدين، والرفق هاهنا للميت في تخليص ذمته، ولا يحل ذلك على الشفيع؛ لعدم المعنى الذي ذكرناه في المشتري، وإن مات الشفيع.. حل عليه الدين للمشتري، ولا يلزم المشتري تعجيل الثمن للبائع؛ لما ذكرناه. والقول الثاني ـ ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (كتاب الشروط) ـ: (أن الشفيع يأخذ الشقص بسلعة تساوي مائة درهم إلى سنة) ؛ لأنه لا يجوز أن يأخذه بمائة مؤجلة؛ لأن الذمم لا تتساوى، ولا يجوز أن يطالب بمائة حالة؛ لأن ذلك أكثر مما لزم المشتري، فإذا تعذر هذان القسمان.. لم يبق إلا أن يأخذه بسلعة تساوي مائة إلى الأجل.

مسألة: باع شقصا في مرض موته

والقول الثالث ـ ذكره الشافعي في الجديد، وهو الصحيح ـ: (أن الشفيع بالخيار: بين أن يعجل المائة، ويأخذ الشقص، وبين أن يصبر، ويترك الشقص في يد المشتري إلى أن يحل الأجل، فيأخذ بالمائة) ؛ لأنه لا يجوز أن يأخذ بمائة مؤجلة؛ لأن الذمم لا تتماثل، ولا يجوز أن يأخذ بسلعة تساوي مائة إلى الأجل؛ لأن الشفيع لا يأخذ بغير جنس الثمن، فإذا بطل هذان القسمان.. لم يبق إلا أن يجبر على ما ذكرناه. فإن مات المشتري قبل حلول الأجل.. حل الثمن في تركته، ولم يحل على الشفيع، بل هو بالخيار على ما ذكرناه، وإن لم يمت المشتري، ولكن باع الشقص قبل حلول الأجل.. صح البيع؛ لأنه ملكه، والشفيع بالخيار: بين أن يأخذ بالبيع الثاني، وبين أن يفسخ الثاني، ويأخذ بالأول. [مسألة: باع شقصاً في مرض موته] ] : إذا باع رجل في مرض موته شقصا له من دار بثمن مثله من وارثه.. صح البيع، سواء كان الشفيع وارثاً أو غير وارث، ولا يعترض عليه في ذلك، وبه قال أبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يصح بيعه؛ لأنه محجور عليه في حقه، فصار كبيع الصبي) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه محجور عليه في حقه بالشرع، كما يحجر عليه في حق الأجنبي فيما زاد على الثلث، فأما البيع منه بثمن المثل: فغير محجور عليه في حقه. وإن حاباه، بأن باع منه شقصاً يساوي ألفين بألف.. فالورثة بالخيار مع المحاباة هاهنا، سواء احتملها الثلث أو لم يحتملها الثلث، فإن أجازوها.. أخذها الشفيع، وإن لم يجيزوها.. فإن البيع يصح في نصف الشقص بألف، ويرجع إلى الورثة نصف الشقص، فإن اختار الشفيع أخذ نصف الشقص بالألف.. أخذه، ولم يكن للمشتري فسخ البيع؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك، وإن لم يختر الشفيع أخذه.. كان للمشتري الخيار؛ لأن الصفقة تفرقت عليه.

وإن كان المشتري أجنبياً، وكان هناك محاباة تخرج من الثلث، فإن كان الشفيع أجنبياً.. كان له أخذ جميع الشقص بالألف؛ لأن الشفيع يأخذ جميع ما حصل للمشتري بالذي ملك به، وإن كان الشفيع وارثا.. ففيه خمسة أوجه؛ أربعة لأبي العباس، والخامس خرجه أصحابنا: أحدها: أن البيع صحيح، ولا يستحق الشفيع إلا نصف الشقص بالألف، ويبقى النصف للمشتري بغير ثمن؛ لأن المحاباة تصح للأجنبي، ولا تصح للوارث، فلو دفعنا جميع الشقص إلى الشفيع.. لحصلت المحاباة للوارث، وهذا لا يجوز، فصار كأنه باع منه النصف بألف، ووهب منه النصف. والوجه الثاني: أن البيع يصح في نصف الشقص بألف، ويأخذه الشفيع، ويبطل البيع في نصفه، فيرجع إلى ورثة الميت؛ لأنا لا يمكننا أن ندفع جميع الشقص إلى الشفيع؛ لأن في ذلك إثبات المحاباة للوارث، وهذا لا يصح، ولا يمكننا أن نقول: يأخذ نصف الشقص بالألف؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يلزم الشفيع أكثر مما لزم المشتري، وهذا لا يجوز، فلم يبق إلا ما قلناه. والوجه الثالث: أن البيع يبطل في الجميع؛ لأنه لا يمكن تصحيح البيع في الشقص، ودفع المحاباة إلى الوارث؛ لأن ذلك لا يجوز، ولا يمكن أن يدفع إلى الوارث نصف الشقص بجميع الثمن؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يلزم الشفيع أكثر مما لزم المشتري، وهذا لا يجوز، ولا يمكن إبطال البيع في النصف الذي تعلقت به المحاباة فقط؛ لأن تعلق البيع في النصف الذي حصلت به المحاباة كتعلقه بالآخر، فلم يبق إلا الحكم بإبطال البيع في الجميع. والوجه الرابع ـ وهو اختيار الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق ـ: أن البيع يصح في جميع الشقص بالألف، ويستحق الشفيع أخذ جميعه بالألف؛ لأن الاعتبار بالمحاباة لمن حصلت له، لا بمن تؤول إليه المحاباة، والذي حصلت له المحاباة هو

مسألة: شراء الشقص بما له مثل

المشتري، فهو كما لو أوصى لأجنبي بشيء، ولوارث الموصي على الموصى له دين، والموصى له محجور عليه.. فإن يعلم أن الوصية تؤول إلى وارث الموصي، ولا يحكم بإبطال الوصية لهذا المعنى، فكذلك هذا مثله. والوجه الخامس ـ الذي خرجه أصحابنا ـ: أن البيع يصح في جميع الشقص بالألف، وتسقط الشفعة، وهو قول أبي حنيفة، واختيار ابن الصباغ؛ لأنا إذا أثبتنا الشفعة.. أدى إلى إبطال البيع، وإذا بطل البيع.. بطلت الشفعة، وما أدى ثبوته إلى سقوطه، وسقوط غيره.. وجب إسقاطه، ويفارق الوصية لمن عليه دين لوارث الموصي؛ لأن استحقاقه للأخذ إنما هو بدينه لا من جهة الوصية، وهذا استحقاقه من جهة الوصية. [مسألة: شراء الشقص بما له مثل] ] : وإن اشترى الشقص بعرض.. نظرت: فإن كان له مثل، كالحبوب، والأدهان.. أخذ الشفيع بمثله؛ لأنه من ذوات الأمثال، فأشبه الأثمان. وإن اشتراه بما لا مثل له، بأن اشتراه بعبد، أو ثوب، وما أشبهه.. فإن الشفيع يأخذ الشقص بقيمة العرض الذي اشترى به، وبه قال عامة أهل العلم. وقال الحسن البصري، وسوار القاضي: لا تثبت الشفعة هاهنا. دليلنا: أنه أحد نوعي الثمن، فجاز أن تثبت فيه الشفعة، كذوات الأمثال. إذا ثبت هذا: فأي وقت تعتبر فيه قيمة العرض؟ فيه وجهان:

فرع: اشترى شقصا بعين فتلفت

أحدهما ـ وهو قول أكثر أصحابنا ـ: أنها تعتبر وقت البيع؛ لأنه وقت الاستحقاق، ولا اعتبار بما حدث بعد ذلك من زيادة، أو نقصان. والثاني ـ وهو قول أبي العباس، ولم يذكر في (الفروع) غيره ـ: أنها تعتبر حين استقرار العقد، وهو عند انقضاء الخيار، كما يعتبر قدر الثمن في تلك الحال. وقال مالك: (يأخذه الشفيع بقيمة العرض يوم المحاكمة) . وهذا ليس بصحيح؛ لأن ذلك ليس بوقت لاستحقاقه للشفعة، وإنما الاعتبار بوقت الاستحقاق، كما لو أتلف عليه عرضاً.. فإن قيمته تعتبر وقت الإتلاف ـ لأنه وقت الاستحقاق ـ لا وقت المحاكمة. [فرع: اشترى شقصاً بعين فتلفت] ] : وإن اشترى شقصا بعين، فتلفت قبل القبض.. بطل البيع، وبطلت الشفعة؛ لأن الشفعة فرع للبيع، فإذا بطل الأصل.. بطل الفرع، وهكذا: لو اشترى شقصاً بعرض، فاستحق العرض.. بطلت الشفعة؛ لما ذكرناه. [فرع: اشترى شقصاً بعبد فوجد به عيباً] ً] : وإن اشترى شقصاً بعبد، فوجد بائع الشقص بالعبد عيباً، فلا يخلو: إما أن يكون ذلك بعد أخذ الشفيع الشقص من المشتري، أو قبل أن يأخذه. فإن كان ذلك بعد أن أخذ الشفيع الشقص.. فلبائع الشقص أن يرد العبد على المشتري؛ لأنه ملكه منه بعقد معاوضة، فكان له رده بالعيب، فإذا رده عليه.. لم يكن للمشتري أن يسترجع الشقص من الشفيع؛ لأن الشفيع قد ملكه بالأخذ، فلم يجز إبطال ملكه، كما لو باعه للمشتري، ثم وجد بائعه بالثمن عيباً. فعلى هذا: يرجع بائع الشقص على المشتري بقيمة الشقص؛ لأنه تعذر عليه الرجوع إلى عين الشقص، فرجع عليه بقيمته، كما لو غصب شيئاً، فتلف في يده. إذا ثبت هذا: وقد أخذ المشتري من الشفيع قيمة العبد.. فهل يثبت التراجع بين

الشفيع والمشتري بما بين قيمة الشقص وقيمة العبد إن كان بينهما اختلاف؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تراجع بينهما؛ لأن الشفيع قد أخذ الشقص بالثمن الذي استقر عليه العقد، وهو قيمة العبد، ولا يتغير ذلك لما حدث من الرد. والثاني: يتراجعان؛ لأن الشفيع يأخذ الشقص بما استقر على المشتري والذي استقر عليه الآن، وهو قيمة الشقص. فعلى هذا: يقابل بين القيمتين، فإن كانت قيمة الشقص أكثر من قيمة العبد.. رجع المشتري على الشفيع بما زاد على قيمة العبد، وإن كانت قيمة العبد أكثر من قيمة الشقص.. استرجع الشفيع من المشتري ما زاد من قيمة العبد على قيمة الشقص، فإن عاد الشقص إلى المشتري ببيع، أو هبة، أو إرث.. لم يكن للبائع أن يرد القيمة ويطالب بالشقص؛ لأن ملك البائع والمشتري قد زال عن الشقص، بخلاف المغصوب إذا ضل عن الغاصب؛ لأن ملك المغصوب منه لم يزل. وإن وجد بائع الشقص بالعبد عيباً قبل أن يأخذ الشفيع الشقص.. فأيهما أحق بالشقص؟ فيه وجهان: أحدهما: أن البائع أحق به؛ لأن الشفعة تثبت لإزالة الضرر عن الشفيع، وفي إثباتها هاهنا إضرار بالبائع، والضرر لا يزال بالضرر. والثاني: أن الشفيع أحق بالشقص؛ لأن حقه سابق؛ لأنه ثبت بالبيع. فعلى هذا: يرجع بائع الشقص على المشتري بقيمة الشقص، وهل يأخذ الشفيع الشقص بقيمته، أو بقيمة العبد؟ على الوجهين المذكورين في التراجع. وإن وجد بائع الشقص بالعبد عيباً، وقد حدث عنده فيه عيب آخر.. فلا يجبر المشتري على قبول العبد لأجل العيب الحادث عند بائع الشقص، ولكن يرجع بائع

فرع: الشقص يكون مهرا وعوض خلع وأجره

الشقص على المشتري بأرش العيب، وهل يرجع المشتري على الشفيع بشيء؟ قال أصحابنا: ينظر فيه: فإن كان الشفيع قد دفع إلى المشتري قيمة العبد سليما. فلا يرجع عليه بشيء؛ لأنه قد أخذ منه قيمته سليما، فدخل في جملة ذلك أرش العيب. وإن كان قومه عليه معيبا.. فهل يرجع عليه بشيء فيه وجهان: أحدهما: لا يرجع عليه؛ لأنه استحقه بما سمي في العقد. والثاني: يرجع عليه؛ لأن الثمن استقر على المشتري بالعبد والأرش. قال ابن الصباغ: وينبغي أن يرجع هاهنا، وجها واحدا بخلاف ما تقدم من قيمة الشقص؛ لأن العقد اقتضى أن يكون العبد سليما، فما دفع إلا ما اقتضاه العقد، بخلاف قيمة الشقص، ولهذا لو كان دفع قيمة عبد سليم.. لم يكن للشفيع أن يرجع عليه بقدر قيمة العبد، فثبت أن ذلك مستحق على الشفيع. قلت: والذي يقتضي المذهب: أن قيمة الشقص إذا كانت أكثر من قيمة العبد، وأخذ الشفيع بقيمته سليما.. أن حكمه حكم ما لو أخذ الشقص بقيمته معيبا؛ لأن البائع إنما يرجع على المشتري بالأرش بجزء من قيمة الشقص، فحينئذ يستقر عليه الشقص بأكثر من قيمة العبد، وهل يكون له الرجوع بالفضل؟ على ما مضى من الوجهين. [فرع: الشقص يكون مهرا وعوض خلع وأجره] قد ذكرنا: أن الشقص إذا جعل مهرا في نكاح، أو عوضا في خلع، أو أجرة في إجارة.. فإن الشفعة تثبت فيه، ومضى خلاف أبي حنيفة فيها. إذا ثبت هذا: فإن الشفيع يأخذه، ويلزمه أن يدفع إلى المرأة مهر مثلها إذا كان صداقا، ويدفع إلى الزوج مهر مثل المرأة التي خالعته عليه، ويدفع إلى المؤاجر أجرة مثل المنفعة التي جعل الشقص أجرة عنها.

فرع: أمهر شقصا فيه شفعة

وقال مالك: (يلزمه قيمة الشقص) . ودليلنا: أن المنفعة لا مثل لها، فأخذ الشفيع بقيمتها، كالثوب، والعبد. وإن جعل الشقص متعة في طلاق امرأة.. فيأخذ الشفيع بمتعة مثلها، لا بمهر مثلها؛ لأن الواجب المتعة لا المهر. [فرع: أمهر شقصا فيه شفعة] إذا أصدق الرجل امرأته شقصا فيه شفعة، ثم طلقها قبل الدخول، فإن طلقها بعد ما أخذ الشفيع الشقص.. فإن الزوج لا يستحق الرجوع في نصف الشقص؛ لأن ملك المرأة قد زال عنه، ولكن يرجع الزوج على زوجته بنصف قيمة الشقص، كما لو كان الشقص تالفا. إذا ثبت هذا: فإنه يرجع عليها بقيمة نصف الشقص أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض؛ لأن القيمة إن كانت أقل وقت العقد، ثم زادت.. فالزيادة حدثت في ملكها، فلا يرجع الزوج عليها بها، وإن كانت قيمته وقت العقد أكثر، ثم نقصت.. فالنقصان مضمون عليه، فلا يرجع عليها بما هو مضمون عليه. ولم يذكر أصحابنا التراجع بين الزوجة والشفيع. قلت: والذي يقتضي المذهب: أن الزوجة قد أخذت من الشفيع مهر مثلها، وقد دفعت إلى الزوج نصف قيمة الشقص، فإن كان بين نصف مهر المثل وبين نصف قيمة الشقص فضل.. فهل يثبت بينهما التراجع فيه؟ يحتمل أن تكون على الوجهين، كما قلنا في العبد المعيب. وإن عفا الشفيع عن الشفعة، ثم طلقها الزوج قبل الدخول.. رجع الزوج بنصف الشقص؛ لأن حق الشفيع قد سقط عنه. وإن طلقها الزوج قبل الدخول، وقبل علم الشفيع بالنكاح.. ففيه وجهان:

مسألة: اشترى شقصا فيه الشفعة

أحدهما: أن الزوج أولى بالرجوع، فيرجع بنصف الشقص، ويأخذ الشفيع النصف بنصف مهر المثل؛ لأن حق الزوج ثبت بنص القرآن، وهو قَوْله تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، وحق الشفيع ثبت بأخبار الآحاد، والاجتهاد. والثاني - وهو المنصوص -: (أن الشفيع أحق) ؛ لأن حقه أسبق؛ لأنه ثبت بعقد النكاح، وحق الزوج ثبت بالطلاق، ولأن حق الشفيع ثبت أيضا بالإجماع، وما ثبت بالإجماع.. كالثابت بنص الكتاب، ومع هذا ترجيح، وهو أنا إذا دفعنا الشقص إلى الشفيع.. لم يسقط حق الزوج؛ لأنه يرجع إلى قيمة الشقص، فإذا دفعناه إلى الزوج.. أسقطنا حق الشفيع، فكان هذا أولى. [مسألة: اشترى شقصا فيه الشفعة] إذا اشترى رجل شقصا فيه شفعة.. فلا يخلو: إما أن يعلم الشفيع بالبيع، أو لم يعلم. فإن لم يعلم، مثل: أن كان غائبا، أو كتم عنه.. لم تسقط شفعته وإن طال الزمان؛ لأن هذا خيار لإزالة الضرر، فلا يسقط بالجهل به، كما لو اشترى شيئا معيبا، ولم يعلم بالعيب إلا بعد زمان طويل. وهكذا: لو علم بالبيع، ولم يعلم من المشتري، أو لم يعلم جنس الثمن، أو قدره.. لم تسقط شفعته؛ لأنه لا يعلم القدر من الثمن الذي يدفعه، ولأن له غرضا في العلم بعين المشتري؛ لأنه قد لا يرضى بشركة رجل، ويرضى بشركة غيره. وإن علم بالبيع، وقدر الثمن، والمشتري.. فلا يخلو: إما أن يكون له عذر، أو لا يكون له عذر. فإن لم يكن له عذر، وطالب بالشفعة على الفور.. صح ذلك، وإن أخر الطلب عن الفور.. فهل تسقط شفعته؟ فيه أربعة أقوال: أحدها - قاله في القديم - (أن له الخيار على التأبيد لا يسقط إلا بالعفو، أو بما

يدل على الترك، بأن يقول للمشتري: قاسمني، أو بعني، وليس للمشتري أن يرفعه إلى الحاكم ليجبره على الأخذ، أو الترك) . ووجهه: قول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن باعه، ولم يؤذنه.. فشريكه أحق» . ولم يفرق. ولأنه استيفاء حق له، فجاز له تأخيره إلى أي وقت شاء، كالقصاص. والقول الثاني - قاله في القديم أيضا -: (أنه على التراخي لا يسقط إلا بصريح العفو، أو بما يدل عليه) ، إلا أن للمشتري أن يرفعه إلى الحاكم ليجبره على الأخذ، أو الترك؛ لأنا لو قلنا: إنه على الفور.. أضررنا بالشفيع؛ لأن الحظ له أن يؤخر لينظر: هل الحظ في الأخذ، أو الترك؟ ولو قلنا: إنه على التأبيد.. أضررنا بالمشتري؛ لأنه لا يغرس في أرضه، ولا يبني مخافة أن ينتزع ذلك منه، فجعل له الخيار إلى أن يرفعه المشتري إلى الحاكم. والقول الثالث - قاله الشافعي في (سير) " حرملة " -: (أن للشفيع الخيار إلى ثلاثة أيام) ، لأنه لا يمكن أن يجعل له الخيار على التأبيد، ولا على الفور؛ لما بيناه، ولا بد من فصل بينهما، وقدر ذلك بثلاثة أيام؛ لأنها مدة قريبة؛ لأنها آخر حد القلة، وأول حد الكثرة، والضرر يزول عنهما بذلك. والرابع - قاله في الجديد -: (أن خياره على الفور) . فإذا أخر الطلب من غير عذر.. سقطت شفعته، وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة لمن واثبها» ، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الشفعة كنشطة العقال، إن قيدت.. ثبتت، وإن تركت فاللوم على من تركها» . ولأنه خيار لإزالة الضرر عن المال

فكان على الفور، كخيار الرد بالعيب، وفيه احتراز من خيار القصاص. فإذا قلنا بهذا، وعليه التفريع: فمعنى قولنا: (على الفور) هو أن يطالبه على حسب ما جرت العادة به، لا على أسرع ما يمكن، حتى لو أمكنه أن يطرد مركوبه، أو يسرع في السير، فلم يفعل.. أن تبطل شفعته؛ لأن هذا لا يقوله أحد، ولكن على حسب العادة، فإن علم ذلك بالليل.. فليس عليه أن يطالبه، حتى يصبح؛ لأن العادة في الليل الإيواء والسكن دون المطالبة بالحقوق، وكذلك: إن علم وهو جائع أو عطشان.. لم يكن عليه أن يطالب حتى يفرغ من الأكل والشرب، وكذلك: إن علم به وهو في الحمام.. لم يكن عليه أن يطالب حتى يخرج منه، وكذلك: إن كان يريد الصلاة.. فله أن يتطهر، ويلبس الثوب، ويؤذن، ويأتي بسنن الصلاة وهيآتها، ولا تبطل شفعته بذلك؛ لأن العادة جرت بتقديم هذه الحوائج على غيرها، وكذلك: إذا أخره لإغلاق الباب، وحفظ المال، وتحصيل المركوب إن كانت عادته الركوب، أو كانت المسافة بعيدة؛ لأن العادة جرت بتقديم ذلك، وإذا لقي المشتري، وقال: السلام عليكم، أخذت الشقص أو الشفعة بالثمن الذي اشتريت به.. صح ذلك، ولا تبطل شفعته بالسلام؛ لأن السلام قبل الكلام سنة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من بدأ بالكلام قبل السلام.. فلا تجيبوه» .

وإن قال: بارك الله لك في صفقة يمينك.. لم تبطل شفعته بذلك؛ لأن ذلك يتصل بالسلام، ولأنه إذا بورك في الصفقة.. انتفع الشفيع بها؛ لأنه يأخذ من الصفقة المباركة، فلم تبطل شفعته بذلك. وإن سأله بعد السلام عن حاله، وما أشبه ذلك.. بطلت شفعته؛ لأنه ترك الأخذ بالشفعة مع القدرة عليها، فبطلت. وإن قال الشفيع للمشتري: هبني، أو بعني الشقص، وما أشبه ذلك.. بطلت شفعته؛ لأنه عدل عن المطالبة بالشفعة، إلى أن يتملكه بجهة أخرى. وإن قال المشتري للشفيع: صالحني عما وجب لك من الشفعة بدينار، فقال الشفيع: صالحتك.. لم يصح الصلح، ولا يملك الشفيع العوض، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (يصح) .

فرع: لا تتوقف المطالبة بالشقص على التسليم

دليلنا: أنه خيار تملك، فلا يصح بدل العوض فيه، كخيار الثلاث، وهل تسقط الشفعة؟ فيه وجهان: أحدهما: تسقط؛ لأنه لما عدل عن الشفعة إلى العوض.. كان ذلك رضا بإسقاطها. والثاني: لا تسقط وهو الصحيح؛ لأنه عدل عن الشفعة إلى عوض، فإذا لم يصح له العوض.. رجع إلى شفعته، كما لو باع له عينا بثمن لا يصح. [فرع: لا تتوقف المطالبة بالشقص على التسليم] قال الشافعي: (وإن كان بينهما دار بمكة، فحصلا بمصر، فباع أحدهما نصيبه منها، وعلم شريكه، فلقي الشفيع المشتري، فلم يشفع عليه حتى رجعا إلى مكة، فشفع عليه.. لم يكن له ذلك؛ لأنه أخر الأخذ من غير عذر، فإن قال: إنما أخرت المطالبة لأستيقن بقاء الدار، ولأقبض الشقص.. لم يقبل منه ذلك؛ لأن الأصل بقاؤها، ولأن المطالبة بالشفعة لا توقف على تسليم الشقص) . فرع: [نقد دنانير لأجل الشقص فكانت مستحقة] : وإن خرجت الدنانير التي دفعها الشفيع مستحقة. نظرت: فإن شفع بدنانير في ذمته، مثل: أن قال: أخذت الشفعة بالثمن الذي اشتريت به، أو أخذت الشقص على الثمن الذي اشتريت به، ثم نقد الدنانير إلى المشتري، فبان أنها مستحقة.. فقد ملك الشفيع الشقص بالثمن الذي في ذمته، فإذا استحق ما نقده.. لم تبطل شفعته، بل يلزمه أن ينقد دنانير يملكها، كما لو اشترى عينا بثمن في ذمته، ثم نقد عما في ذمته بدنانير، فاستحقت.. فإن الشراء لا يبطل. وإن شفع بعين الدنانير، مثل: أن قال: أخذت الشفعة أو الشقص بهذه الدنانير ثم استحقت.. فهل تبطل شفعته؟ فيه وجهان: أحدهما: تبطل؛ لأنه لما أخذ الشفعة بدنانير لا يملكها صار كأنه ترك أخذ الشقص مع القدرة عليها.

والثاني: لا تبطل، وهو ظاهر ما نقله المزني؛ لأنه استحق أخذ الشفعة بمثل الثمن الذي وقع به العقد في ذمته، فإذا عين عن ذلك ما لا يملكه. بطل حكم التعيين، ولم تبطل الشفعة، كما لو اشترى شيئا بدنانير في ذمته، ثم نقد عنها ما لا يملكه. فإن كان للشفيع عذر.. فالعذر ثلاثة أشياء: مرض، أو حبس، أو غيبة. فإن كان مرضا.. نظرت: فإن كان مرضا يسيرا كالصداع اليسير، وما أشبهه.. فحكمه حكم الصحيح. وإن كان مرضا كبيرا لا يتمكن معه من السير، فإن لم يمكنه التوكيل.. لم تسقط شفعته؛ لأنه غير قادر على المطالبة، وإن أمكنه التوكيل، فلم يوكل.. فهل تسقط شفعته؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو المذهب -: أن شفعته تسقط؛ لأنه أخر المطالبة مع القدرة عليها، فهو كالصحيح. والثاني: لا تسقط شفعته؛ لأنه قد يكون له غرض بترك التوكيل، بأن يطالب بنفسه؛ لأنه أقوم بذلك، أو يخاف الضرر من التوكيل بأن لا يوجد من يتوكل له إلا بعوض فإن وجد بغير عوض احتاج إلى التزام منه أو يخاف أن يقر عليه الوكيل بما يسقط حقه، ثم يرفع ذلك إلى حاكم يحكم بصحة إقرار الوكيل على الموكل. والوجه الثالث: إن وجد من يتطوع بالوكالة بغير عوض، فلم يوكل.. سقطت شفعته؛ لأنه لا ضرر عليه بذلك، وإن لم يجد من يتوكل عنه إلا بعوض.. لم تسقط شفعته بترك توكيله؛ لأن عليه ضررا بذلك. وإن علم بالبيع وهو محبوس، فإن كان محبوسا بغير حق، بأن حبسه السلطان مصادرة ليأخذ منه شيئا بغير حق، أو حبس بدين عليه، وهو معسر.. فحكمه حكم

المريض: إن لم يقدر على التوكيل.. لم تسقط شفعته، وإن قدر على التوكيل، فلم يوكل.. فعلى الأوجه الثلاثة في المريض، وإن كان محبوسا بحق، بأن حبس بدين عليه يقدر على أدائه، فإن وكل من يطلب بالشفعة.. جاز، وإن لم يوكل.. بطلت شفعته، وجها واحدا؛ لأنه ترك المطالبة مع القدرة عليها. وإن عجز المريض أو المحبوس بغير حق عن المطالبة بنفسه، وعن التوكيل - إذا قلنا: يجب عليه - إلا أنه قدر على الإشهاد، فلم يشهد.. فهل تسقط شفعته؟ فيه قولان، حكاهما في " المهذب ": أحدهما: تسقط شفعته؛ لأن الترك قد يكون للزهد في الشفعة، وقد يكون للعجز، وقد قدر على أن يبين ذلك بالإشهاد، فإذا لم يفعل.. بطلت شفعته. والثاني: لا تسقط؛ لأن عذره في الترك ظاهر، فلم يحتج معه إلى الإشهاد. وإن بلغه البيع وهو غائب في بلد أو سفر، فإن سار عقيب ذلك، أو وكل من يطالب بالشفعة، وأشهد: أنه يسير هو أو وكيله لطلب الشفعة.. لم تسقط شفعته؛ لأنه لم يترك الطلب، وإن لم يمكنه أن يسير بنفسه، ولا أن يسير وكيله؛ لخوف الطريق، أو لعدم الرفيق، وأشهد: أنه على شفعته.. فهو على شفعته؛ لأنه غير مفرط، فإن لم يمكنه المسير، وأمكنه التوكيل، فلم يوكل.. فهل تسقط شفعته؟ على الأوجه الثلاثة في المريض، وإن لم يمكنه السير، ولا التوكيل - إذا قلنا: يجب - وقدر على الإشهاد، فلم يشهد: أنه على حقه من الشفعة.. فهل تسقط شفعته؟ على القولين اللذين حكاهما في " المهذب ". وإن أمكنه السير، فسار.. فهل يلزمه الإشهاد: أنه يسير لطلب الشفعة؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: يلزمه ذلك، فإن لم يفعل بطلت شفعته؛ لأنه يحتمل أن يكون سيره لطلب الشفعة، ويحتمل أن يكون لتجارة، أو غيرها، وقد قدر على أن يبين ذلك بالإشهاد، فإذا لم يفعل.. كان مفرطا. والثاني - وهو الصحيح -: أنه لا يلزمه ذلك، ولا تبطل به شفعته؛ لأن الظاهر من

فرع: عدم رفع الأمر للحاكم لا يثبت الشفعة

حاله لما سار عقيب السماع أنه سار لطلب الشفعة، ولأن له أن يسير بنفسه، وله أن يوكل، ثم ثبت أنه لو سير الوكيل لم يلزم الوكيل الإشهاد، فكذلك الموكل. قال المحاملي: إذا قلنا: يجب الإشهاد، فاختلفا، فقال الشفيع: أشهدت وسرت، وقال المشتري: لم تشهد، أو قلنا: لا يجب الإشهاد، فقال الشفيع: سرت عقيب السماع، وقال المشتري: لم تسر عقيب السماع.. فالقول قول الشفيع مع يمينه؛ لأن هذا اختلاف في فعله، وهو أعلم به. [فرع: عدم رفع الأمر للحاكم لا يثبت الشفعة] ذكر الطبري في " العدة ": أن أبا العباس قال: إذا وجبت له الشفعة، فجاء إلى الحاكم، وقال: أنا مطالب بحقي.. كان على شفعته وإن كان متمكنا من المجيء إلى المشتري، فإن ترك المجيء إلى الحاكم وإلى المشتري مع تمكنه منهما، وأشهد على نفسه: أنه يطالب بالشفعة.. بطلت شفعته بذلك؛ لأنه تركها مع القدرة عليها. [مسألة: اعتبار تصديق المخبر] إذا أخر الشفيع المطالبة على الفور، ثم قال: أخرت؛ لأني لم أصدق الذي أخبرني بالبيع.. نظرت: فإن كان قد أخبره بذلك رجلان عدلان، أو رجل وامرأتان عدول، أو ما فوق ذلك.. سقطت شفعته؛ لأنه قد أخبره من قوله حجة في الشرع. وإن أخبره صبي، أو فاسق، أو كافر.. لم تسقط شفعته؛ لأن قول هؤلاء ليس بحجة في الشرع. وإن أخبره رجل عدل.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تسقط شفعته؛ لأن قول الواحد لا تقوم به البينة، فهو كما لو أخبره صبي أو فاسق. والثاني: تسقط شفعته؛ لأن قول الواحد حجة في الشرع مع اليمين. وإن أخبره عبد أو امرأة.. فاختلف أصحابنا فيها:

مسألة: إظهار غلاء الشقص ليترك الشفعة

فذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أنها على وجهين، كالحر العدل. وذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنه لا تسقط شفعته، وجها واحدا، كالصبي، والفاسق. [مسألة: إظهار غلاء الشقص ليترك الشفعة] إذا أظهر المشتري أنه اشترى الشقص بألف درهم، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشترى بدون ألف درهم.. فهو على شفعته؛ لأنه يحتمل أن يكون ترك الشفعة؛ لأجل غلاء الشقص، أو لأنه لا يقدر على الألف، فإذا بان أن الثمن دونه.. لم تسقط شفعته. وهكذا: لو قال: اشتريت ربع الدار بمائة فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشترى نصفها بمائة.. فهو على شفعته؛ لأنه قد لا يرضى بربع الدار بمائة، ويرضى نصفها بمائة، وإن قال: اشتريت الشقص بمائة، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه بألف أو قال اشتريت الشقص بمائة فعفا الشفيع فبان أنه اشترى نصفه بمائة.. سقطت شفعته؛ لأن ما بان أغلظ على الشفيع مما أظهر له المشتري. وإن قال: اشتريت الشقص بالدراهم، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه بالدنانير، أو قال: اشتريت بالدنانير، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه بالدراهم.. فهو على شفعته، سواء كانت قيمة ما اشترى به أكثر من قيمة ما أظهر الشراء به أو أقل، وبه قال زفر. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: (إن كانت قيمتها سواء، أو قيمة ما بان أنه اشترى به أكثر.. سقطت شفعته، وإن كان قيمة ما أظهر أكثر مما بان أنه اشترى به.. لم تسقط شفعته) . دليلنا: أنه قد يكون له غرض في ذلك، وهو أنه لا يملك ما أظهر الشراء به. وإن أظهر المشتري أنه اشترى نصف الدار بمائة، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشترى ربعها بخمسين، أو أظهر أنه اشترى الربع بخمسين، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشترى نصف الدار بمائة.. لم تسقط شفعته؛ لأنه قد يكون له غرض في أخذ القليل دون الكثير، أو في أخذ الكثير دون القليل.

فرع: إظهار الشراء لنفسه أو لغيره

[فرع: إظهار الشراء لنفسه أو لغيره] وإن قال المشتري: اشتريت الشقص لنفسي، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه لغيره أو قال: اشتريته لغيري فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه لنفسه.. لم تبطل شفعته؛ لأنه قد يرضى مشاركة أحد الرجلين، ولا يرضى مشاركة الآخر. وإن اشترى الشقص اثنان، فبلغ الشفيع أنه اشتراه أحدهما، فعفا، ثم بان أنهما اشترياه.. قال أبو العباس: فله أن يأخذ منهما، أو من واحد منهما، ويترك الآخر؛ لأنه إنما ترك الشفعة لأحدهما على أنه اشترى الجميع، فإذا بان أنه اشترى البعض.. ثبتت له الشفعة عليه، وأما الآخر: فلم يترك له الشفعة. [فرع: العفو عن الشفعة] قال الطبري في " العدة ": وإذا عفا الشفيع عن الشفعة، بأن قال: عفوت عن الشقص، أو سلمته، أو نزلت عنه.. فقد قال الشافعي في " اختلاف العراقيين ": (له الخيار ما لم يفارق مجلسه؛ لأن هذا يجري مجرى البيع، فثبت فيه خيار المجلس، كالبيع) . وخرج أبو العباس قولا آخر: أنه لا خيار له، كما لا يثبت له في الإبراء والإسقاط خيار. قال ابن الصباغ: وإذا وجبت له الشفعة، وقضى بها القاضي، والشقص في يد البائع، فدفع الثمن إلى المشتري، فقال البائع للشفيع: أقلني، فأقاله.. لم تصح الإقالة؛ لأن الإقالة تصح بين المتبايعين، وليس الشفيع مالكا من جهته، فإن باعه منه قبل القبض.. لم يصح، كما لا يصح أن يبيع ما ابتاع قبل القبض.

مسألة: باع أحد الشريكين الدار ولم يعلم الآخر وباع نصيبه

[مسألة: باع أحد الشريكين الدار ولم يعلم الآخر وباع نصيبه] وإن كانت الدار بين رجلين، فباع أحدهما نصيبه فيها.. ثبت لشريكه فيه الشفعة، فإن باع الشفيع نصيبه فيها قبل أن يعلم بالشراء.. فهل تسقط شفعته؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تسقط شفعته منها؛ لأنه استحق الشفعة ببيع شريكه، وملكه حينئذ باق على الشقص، فلم تسقط شفعته بزوال ملكه. والثاني - وهو قول أبي العباس -: أن شفعته تسقط؛ لأن سبب استحقاقه للشفعة وجود ملكه، وقد زال ملكه، فوجب أن يسقط استحقاقه للشفعة. فإذا قلنا بهذا: فباع الشفيع بعض حقه.. ففيه وجهان، خرجهما أبو العباس: أحدهما: لا تسقط شفعته؛ لأن الشفعة تستحق بقليل الملك وكثيره، وقد بقي له ملك فاستحق به الشفعة، كما لو بيع شيء من ملكه. والثاني: تسقط شفعته؛ لأن الشفعة يستحقها بجميع ملكه، فإذا باع بعضه.. سقط ما يقابله، فإذا سقط البعض.. سقط الجميع، كما لو عفا عن بعض شفعته. [مسألة: أخذ بعض الشفعة] وإن وجبت له الشفعة في الشقص، فأراد أن يأخذ بعضه.. لم يكن له ذلك؛ لأن في ذلك تفريقا للصفقة على المشتري، فإن قال: عفوت عن أخذ نصف الشقص.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها المسعودي [في " الإبانة " ق\ 319] : أحدهما - وهو قول البغداديين من أصحابنا -: أن شفعته تسقط في الجميع، كما لو عفا عن بعض حقه من القصاص. والثاني: لا يسقط شيء من شفعته. والثالث: يسقط حقه من نصف الشقص، وله أخذ الباقي إذا رضي المشتري بذلك.

فرع: شراء شقصين من أرضين

[فرع: شراء شقصين من أرضين] وإن اشترى رجل شقصين من أرضين بعقد من رجل، فإن كان لكل شقص شفيع.. فكل واحد من الشفيعين بالخيار: بين أن يأخذ شقصه بالشفعة، وبين أن لا يأخذ؛ لأن كل واحد منهما لا يملك أن يأخذ ما في غير شركته، فإن كان الشفيع فيهما واحدا.. فهو بالخيار: بين أن يأخذهما جميعا، أو يتركهما جميعا، فإن أراد أن يأخذ أحدهما دون الآخر.. فهل له ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه يبعض ما وجب له، فلم يكن له ذلك، كما لو ثبتت له الشفعة في شقص، فأراد أن يأخذ بعضه، ويترك بعضه. والثاني: له ذلك، وهو الأصح؛ لأنه لا ضرر على المشتري بذلك؛ لأن الشقص الآخر يبقى له، ولا تبعيض عليه بالشقص. فإن كانت الدار بين رجلين، فباع أحدهما نصيبه من رجلين بعقد واحد.. فالشفيع بالخيار: بين أن يأخذ ما حصل للمشتريين، وبين أن يأخذ ما حصل لأحدهما دون الآخر؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين. وإن كانت الدار بين ثلاثة شركاء، فباع اثنان نصيبهما من رجل.. فللشريك الثالث أن يأخذ من المشتري جميع ما اشتراه من شريكيه، وله أن يأخذ منه ما اشتراه من أحدهما دون الآخر؛ لما ذكرناه من: أن حكم عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين. وإن كانت الدار بين ثلاثة شركاء فباع اثنان نصيبهما من اثنين، كل واحد باع نصيبه منهما بعقد أو عقدين.. فهذا في حكم أربعة عقود، والشفيع في ذلك بين ست اختيارات، إن شاء.. أخذ ما حصل للمشتريين. وإن شاء.. تركهما. وإن شاء.. أخذ ما حصل لأحدهما، وترك الآخر. وإن شاء.. أخذ نصف ما حصل لكل واحد منهما. وإن شاء.. أخذ ما حصل لأحدهما ونصف ما حصل للآخر. وإن شاء.. أخذ نصف ما حصل لأحدهما، ولم يأخذ من الآخر شيئا.

فرع: بيع أحد الشريكين نصيبه من رجل بعقدين قبل علم الشفيع

[فرع: بيع أحد الشريكين نصيبه من رجل بعقدين قبل علم الشفيع] وإن كانت الدار بين رجلين، فباع أحدهما بعض نصيبه من رجل بعقد، ثم باع منه الباقي بعقد آخر، ثم علم شريكه.. فللشفيع أن يأخذ المبيع أولا وثانيا. وله أن يأخذ أحدهما دون الآخر؛ لأن لكل واحد من العقدين حكم نفسه، فإن أخذ الأول.. لم يكن للمشتري أن يشاركه فيه؛ لأن الشفيع استحق الشفعة في الأول قبل وجود ملكه للثاني. وإن عفا عن الأول، وأخذ الثاني.. كان للمشتري أن يشارك الشفيع في الثاني؛ لأنهما شفيعان عند شراء الثاني. وقال أبو حنيفة: (ليس للشفيع أن يأخذ جميع النصيبين المبيعين، وإنما له أن يأخذ الأول، ونصف الثاني) . قال ابن الصباغ: وحكي هذا عن بعض أصحابنا، ووجهه: أن ملكه ثبت على الأول، فإذا اشترى الثاني.. كان شريكا بالنصيب الثاني. ودليلنا: أن ملكه على الأول لم يستقر؛ لأن للشفيع أخذه، فلا يستحق به الشفعة، كما لو ارتهن بعضه، واشترى الباقي. وإن كانت الدار بين رجلين، فباع أحدهما نصيبه من ثلاثة رجال صفقة واحدة.. كان في حكم ثلاثة عقود، فلشريكه أن يأخذ من الثلاثة، وله أن يأخذ من اثنين أو من واحد، وليس لأحد الثلاثة إذا عفا الشفيع عن الأخذ منه أن يشاركه في الشفعة فيما يأخذ من الآخرين؛ لأن ملكه لم يسبق ملك المشفوع عليهما، وإن باع أحد الرجلين نصيبه من ثلاثة رجال في ثلاثة عقود عقدا بعد عقد، فللشفيع أن يأخذ نصيب جميع المشترين، وله أن يأخذ من بعضهم، فإن أخذ من الأول، وعفا عن الآخرين.. لم يشاركاه؛ لأن ملكهما حادث بعد ثبوت الشفعة، وإن عفا عن الأول، وأخذ من الآخرين.. شاركه الأول، وكذلك: إن عفا عن الأول والثاني، وأخذ من الثالث.. شاركه الأول والثاني في الثالث، وكذلك: لو عفا عن الثلاثة.. كان للأول أن يأخذ

مسألة: وجود أكثر من شفيع للشقص

من الثاني والثالث، وإن عفا الأول عن الثاني.. كان للأول والثاني أن يأخذا من الثالث. [مسألة: وجود أكثر من شفيع للشقص] وإن كان للشقص شفعاء.. كانت الشفعة لجميعهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن باع، ولم يؤذن شريكه.. فشريكه أحق به بالثمن» . وكل واحد منهم شريك. وإن كانت أنصباء الشفعاء متساوية.. قسم الشقص المبيع بينهم بالسوية، وإن تفاضلت أنصباؤهم.. ففيه قولان: أحدهما: أنه يقسم بينهم على عدد الرؤوس، وبه قال الشعبي، والنخعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو حنيفة وأصحابه، واختاره المزني؛ لأن كل واحد منهم لو انفرد بالشركة.. لأخذ الجميع وإن قل نصيبه، وإن اشتركوا.. تساووا في الأخذ، كالاثنين في الميراث، ولأن الشفعة لو كانت تستحق على قدر الملك.. لوجب أن يأخذ بقدر الملك حتى لو كان لرجل خمسة أسداس دار، ولرجل سدسها، ثم باع صاحب الخمسة الأسداس نصيبه.. لم يستحق صاحب السدس غير سدس ما بيع بقدر ملكه، وهذا لا يقوله أحد، فثبت أنها تستحق على العدد لا على قدر الملك، ولأنه لو كان عبد بين ثلاثة، لواحد النصف، وللآخر الثلث، وللآخر السدس، فأعتق صاحب النصف والسدس نصيبهما في حالة واحدة.. لقوم الثلث عليهما بالسوية، فكذلك هاهنا مثله. والقول الثاني: أن الشفعة تقسم على قدر الملك، وبه قال الحسن البصري، وابن المسيب، وعطاء، ومالك، وأحمد، وإسحاق. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأنه حق مستفاد بالملك، فقسط على قدر الملك، كغلة العبد، وثمرة النخلة، وما قاله الأول.. منتقض بالفرسان والرجالة

فرع: بيع أحد الشركاء نصيبه من أجنبي ثم حضر الشفعاء تباعا

في الغنيمة، فإن كل واحد منهم لو انفرد بالغنيمة.. لاستحق جميعها، فإذا اشتركوا.. تفاضلوا. إذا ثبت هذا: فإن حضر جميع الشفعاء، واختاروا الأخذ.. فلا كلام، وإن عفا بعضهم عن حقه من الشفعة.. كان جميع الشقص لمن لم يعف، فإن أراد من لم يعف أن يأخذ بقدر نصيبه.. لم يكن له ذلك؛ لأن في ذلك تبعيض الصفقة على المشتري، وإضرارا به، فلم يجز. وإن قال بعضهم: جعلت حقي من الشفعة لفلان.. سقط حقه من الشفعة، وكان لباقي الشفعاء؛ لأن ذلك عفو، وليس بهبة. [فرع: بيع أحد الشركاء نصيبه من أجنبي ثم حضر الشفعاء تباعا] فإن كانت الدار بين أربعة أنفس، فباع أحدهم نصيبه من أجنبي، وحضر أحد الشفعاء الثلاثة.. فله أخذ جميع الشقص؛ لأن في أخذه البعض إضرارا بالمشتري، ولأن الظاهر أنه لا شفيع للشقص غيره؛ لأن الآخرين لا يعلم هل يطالبان بالشفعة، أم لا؟ فإذا قدم الشفيع الثاني.. أخذ من الأول نصف الشقص؛ لأنه ليس هاهنا شفيع مطالب سواهما، فإذا قدم الثالث.. أخذ من كل واحد من الأولين ثلث ما بيده من الشقص المبيع؛ لأن ذلك قدر ما يستحقه كل واحد منهم عند الاجتماع، فإن عفا الشفيعان الآخران.. استقر ملك الأول على ملك جميع الشقص، فإن قال الشفيع الأول: لا آخذ جميع الشقص، وإنما آخذ منه الثلث.. لم يكن له ذلك؛ لأن في ذلك تبعيض الصفقة على المشتري، وهل تبطل شفعته بذلك؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: تبطل شفعته؛ لأنه أمكنه أخذ الجميع، فإذا لم يفعل.. بطلت شفعته، كما لو وجبت له الشفعة وحده في شقص، فقال: لا آخذ إلا بعضه. فعلى هذا: إذا قدم الشفيعان الآخران، فإن اختارا أخذ جميع الشقص.. كان لهما ذلك، وإن اختارا الترك.. سقطت شفعة الجميع، فإن اختار أحدهما أخذ جميع الشقص، واختار الآخر الترك.. كان لهما ذلك. والوجه الثاني - وهو قول أبي العباس، وأبي إسحاق -: أن شفعة الأول لا تبطل

وهو الصحيح؛ لأن له عذرا في ترك أخذ الجميع، وهو أن لا يأخذ ما يؤخذ منه، فلم تسقط بذلك شفعته، كما لو أظهر له المشتري أن الثمن كثير، فترك الأخذ، ثم بان له أن الثمن دونه.. فإن شفعته لا تبطل؛ لأنه أخر الأخذ لعذر. فعلى هذا: إذا قدم الشفيعان الآخران، وطالبا بالشفعة.. قسم الشقص بينهما أثلاثا، فإن عفوا عن الشفعة.. فهل للأول أن يأخذ نصيبيهما؟ قال أبو إسحاق: ينظر في الأول، فإن قال: أنا مطالب بالشفعة في الكل، ولكن إنما آخذ حصتي، وأتوقف في حصة شريكي؛ لأنظر ما يكون منهما.. فله أخذ نصيبيهما؛ لأنه لم يعف عن الشفعة. وإن قال: لا أطالب إلا بحصتي، وقد عفوت عما زاد عن ذلك.. بطلت شفعته في نصيب شريكيه، وهو ثلثا الشقص، وله أخذ ثلث الشقص لا غير. فإن أخذ الشفيع الأول جميع الشقص من المشتري، ثم قدم الشفيع الثاني.. فقد قلنا: إنه إذا اختار الشفعة.. أخذ نصف الشقص من الأول، وإن لم يختر ذلك، ولكن قال: لا آخذ إلا ثلث الشقص.. فذكر الشيخ أبو حامد: أن أبا العباس قال: له ذلك إذا رضي الشفيع الأول؛ لأنه يترك بعض حقه، ولا يشبه هذا الشفيع الأول؛ لأن في أخذه لبعض الشقص تبعيضا للصفقة على المشتري. وأما ابن الصباغ: فلم يحك عنه رضا الشفيع الأول. قال: وفي ذلك نظر؛ لأنه يريد أن يأخذ بعض ما يخصه، وليس له ذلك. إذا ثبت هذا: فإن أخذ الثاني ثلث الشقص من الأول، وهو سهمان من ستة أسهم، ثم قدم الشفيع الثالث.. فإنه يأخذ من الشفيع الثاني ثلث ما أخذ من الأول، وهو ثلثا سهم من ستة من الشقص؛ لأنه يستحق ثلث ما أخذه من الشقص، فلا يسقط حقه منه بما تركه في يد الأول، ثم يضم ما أخذه الثالث من الثاني

إلى ما بقي في يد الأول من الشقص، وذلك كله أربعة أسهم وثلثا سهم، فيقسم ذلك بينهما نصفين، لكل واحد منهما سهمان وثلث. قال الشيخ أبو حامد: ووجه ذلك عندي: أن الشفيع الثالث يستحق أن يأخذ من كل واحد من الأولين ثلث ما بيده من الشقص، وقد أخذ من الثاني ثلث ما بيده منه، وهو ثلثا سهم، وقد بقي في يد الأول من الشقص أربعة أسهم، فثلاثة منها هي التي يستقر ملكه عليها بعد قدوم الثاني، إذ لو أخذ الثاني جميع ما يستحقه على الأول.. لأخذ ثلاثة أسهم، وبقي مع الأول ثلاثة، فللثالث ثلث الثلاثة، وهو سهم، وأما السهم الرابع الذي سامح به الأول.. فإن الثالث كان يستحق أخذ ثلثه من الثاني لو أخذه، فإذا لم يأخذه الثاني.. كان للثالث أن يأخذ ثلثه حيث وجده، ويبقى في يد الأول ثلثا السهم الرابع [الذي] سامحه به الثاني، ويأخذ الثالث نصف ذلك. قال ابن الصباغ: ووجه ذلك عندي: أن الثالث يقول للأول: نحن سواء في الاستحقاق، ولم يترك واحد منا شيئا من حقه، فنجمع ما معنا، ونقسمه. إذا تقرر هذا: فالشقص المأخوذ بالشفعة، وهو ستة أسهم تضرب في ثلاثة، فذلك ثمانية عشر سهما للقادم الأول سهم وثلث، في ثلاثة: فذلك أربعة، وللقادم الثاني سهمان وثلث، في ثلاثة: فذلك سبعة، وللشفيع الأول سبعة.

قال أبو العباس: فإن كان هناك شفيع رابع، والمسألة بحالها، فقدم الرابع.. فإنه يأخذ من الشفيع الثاني ربع ما بيده من الشقص، وهو سهم من أربعة أسهم، ثم يضمه إلى ما حصل للأول والثالث، وهو أربعة عشر، فيصير خمسة عشر سهما، ويقسم ذلك بينهم أثلاثا، لكل واحد خمسة أسهم. فإن قدم الرابع، ولم يجد غير الشفيع الذي حصل له أربعة أسهم.. قال أبو العباس: فيحتمل وجهين: أحدهما: أنه يأخذ نصف ما حصل له؛ لأنه يقول: لست أجد شفيعا سواك، فأنا وأنت شفيعان بما حصل بيننا، فاقتسمناه نصفين. والثاني: يأخذ ربع ما حصل له؛ لأنهم أربعة شفعاء، فاستحق أن يأخذ من كل واحد ربع ما حصل له. قال ابن الصباغ: فإن قدم الشفيع الثالث، ووجد أحد الشفيعين الأولين حاضرا، والآخر غائبا، فإن قضى القاضي للثالث أن يأخذ من الغائب الثلث.. كان له أن يأخذ منه الثلث، ومن الحاضر الثلث، وإن لم يقض له القاضي على الغائب.. فكم يأخذ من الحاضر؟ فيه وجهان: أحدهما: يأخذ منه الثلث؛ لأنه قدر ما يستحقه مما في يده. والثاني: يأخذ منه نصف ما بيده؛ لأن أحدهما إذا كان غائبا.. صار كأنهما الشفيعان لا غير، فيقتسمان بينهما بالسوية.

فرع: زيادة الشقص في يد الشفيع ورجوع الشفعاء

فإن حضر الغائب، وغاب هذا الحاضر، فإن كان أخذ من الحاضر ثلث ما بيده.. أخذ من الذي كان غائبا ثلث ما بيده أيضا، وإن كان أخذ من الحاضر نصف ما بيده.. أخذ من هذا سدس ما بيده، فيتم بذلك نصيبه، وتصح قسمة ذلك من ثمانية وأربعين، فالمبيع اثنا عشر سهما، أخذ كل واحد منهما ستة، فإن أخذ من أحدهما سهمين.. أخذ من الثاني سهمين، وإن أخذ من الأول ثلاثة.. أخذ من الثاني سهما ليتم له ثلث السهم المبيع. [فرع: زيادة الشقص في يد الشفيع ورجوع الشفعاء] فإن أخذ الشفيع الأول الشقص من المشتري، وجاء الشفيعان الآخران، وقد زاد الشقص في يد الأول، فإن كانت زيادة لا تتميز؛ كالشجر إذا طال وامتلأ.. فإن الشفيعين إذا اختارا الأخذ أخذا الشجر بزيادته؛ لأنها زيادة لا تتميز فتبعت الأصل كالرد بالعيب، وإن كانت زيادة تتميز، كالشجر إذا أثمر.. فإن الثمرة تكون للأول؛ لأنها زيادة متميزة حدثت في يد الأول، فكانت له، كما قلنا في الرد بالعيب. وإن أخذ الشفيعان الآخران الشقص من الشفيع الأول، فاستحق الشقص.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: يرجع الشفعاء الثلاثة كلهم بالعهدة على المشتري؛ لأنهم استحقوا الشفعة عليه، والأول نائب عن الآخرين في الأخذ منه. والوجه الثاني - حكاه القاضي أبو الطيب في " المجرد " -: أن الشفيع الثاني يرجع بالعهدة على الشفيع الأول، ويرجع الثالث بالعهدة على الأول والثاني، ويرجع الأول على المشتري اعتبارا بما أخذ منه كل واحد منهم. والأول هو المشهور.

فرع: للشفيع الغائب أخذ جميع الشقص إذا قدم وكان الحاضر رده بالعيب

[فرع: للشفيع الغائب أخذ جميع الشقص إذا قدم وكان الحاضر رده بالعيب] وإن أخذ الشفيع الحاضر جميع الشقص من المشتري، فوجد به عيبا، فرده، ثم قدم الشفيعان الآخران، أو أحدهما.. كان للقادم فسخ الرد بالعيب، وأخذ جميع الشقص. وقال أبو حنيفة، ومحمد: (ليس للقادم بعد الأول أن يأخذ إلا قدر حصته من الشقص) . دليلنا: أن الشفيع الأول أسقط حقه من الشقص بالرد بالعيب، فكان للقادم بعده أخذ جميع الشقص، كما لو عفا الأول عن الشفعة.. فإن للثاني أن يأخذ جميع الشقص. [مسألة: للشريك الثالث الشفعة إذا باع أحد شريكيه نصيبه من الآخر] وإن كانت دار بين ثلاثة رجال، فباع أحدهم نصيبه من أحد شريكيه.. ثبت للشريك الثالث الشفعة، وهل له أن يأخذ جميع الشقص، أو يقسم بينه وبين الشريك المشتري؟ روى المزني: (أنه يقسم بينه وبين الشريك المشتري) . وبه قال عامة أصحابنا، وبه قال مالك، وأبو حنيفة. وحكي عن أبي العباس بن سريج: أن له أخذ جميع الشقص. وهو قول عثمان البتي، والحسن البصري. وقيل: لا يصح هذا عن أبي العباس. ووجه هذا: أنا لو قلنا: يقتسمان الشقص.. لكان للإنسان أن يأخذ الشفعة من نفسه، وهذا لا يجوز. والأول أصح؛ لأن المشتري شريك في الشقص، فلم يأخذ الآخر جميع الشقص، كما لو باع الشريك من أجنبي، وما قاله أبو العباس: إنه لا يأخذ الشفعة من نفسه.. غير صحيح؛ لأنه لا يأخذ بالشفعة من نفسه، وإنما لا يقدم الآخر عليه؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.

مسألة: تثبت الشفعة لابن الابن مع أخيه بعد موت الأب ووجود العم

فإذا قلنا بقول أبي العباس.. كان الشفيع بالخيار: بين أن يأخذ جميع الشقص، أو يترك، فإن قال: آخذ بعض الشقص دون بعض.. لم يكن له ذلك؛ لأنه ليس هاهنا شفيع غيره. وإن قلنا بقول عامة أصحابنا.. فإن اتفق الشفيع والمشتري على أن يقتسما الشقص بينهما.. جاز، وإن لم يختر الشفيع أن يأخذ.. لم يجبر على الأخذ، ولزم ذلك المشتري، فإن رضي المشتري أن يأخذ الشفيع جميع الشقص.. لم يلزم الشفيع ذلك؛ لأن الشفعة إنما وجبت له في نصف الشقص، فلا يلزمه أكثر من ذلك. فإن قيل: المشتري والشريك شفيعان في الشقص، فإذا رضي المشتري بترك حقه.. لم يجز للآخر أن يأخذ البعض، كما لو كان المشتري أجنبيا. فالجواب: أن الشفيعين إذا كان المشتري أجنبيا.. لم يملكا شيئا، وإنما ملكا أن يملكا بالاختيار، فإن أسقط أحدهما حقه.. صار كأنه لا شفيع إلا الثاني، وهاهنا قد حصل الملك للمشتري، فإذا ترك ذلك بعد حصول الملك له.. لم يلزم الآخر الأخذ، كما لو اختار الشفيعان الأخذ، ثم ترك أحدهما حقه.. فلا يلزم الآخر أخذه. [مسألة: تثبت الشفعة لابن الابن مع أخيه بعد موت الأب ووجود العم] وإن مات رجل، وخلف دارا وابنين، فمات أحد الابنين، وخلف ابنين، فباع أحد ولدي الابن نصيبه في الدار.. ثبت لأخيه الشفعة، قولا واحدا، وهل تثبت للعم مع ابن أخيه؟ فيه قولان: أحدهما: الشفعة للأخ دون العم، وبه قال مالك؛ لأن الأخ أخص بشركة البائع لاشتراكهما في سبب الملك، بدليل: أن البينة لو قامت: أن أباهما غصب نصف الدار.. لأخذ نصيبيهما. ولو قسمت الدار نصفين.. لكان نصيب الأخوين جزءا، ونصيب العم جزءا. والثاني: أن الأخ والعم يشتركان بالشفعة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، والمزني، وهو الصحيح؛ لأنهما شريكان في الدار حال ثبوت الشفعة

فكانت الشفعة بينهما، كما لو ملك الثلاثة بسبب واحد، وما ذكره الأول من أن ملك الأخ أخص.. فلا اعتبار به، وإنما الاعتبار بوجود الملك حال الشفعة، وما ذكره من القسمة.. فغير صحيح؛ لأن ذلك إنما يقسم - كما ذكر - إذا رضي الأخوان، ولو طلب أحد الأخوين أن يفرد نصيبه مع عمه. لكان له ذلك، وإن طلب كل واحد منهما أن يفرد نصيبه.. قسمت الدار أربعة أجزاء: للعم جزءان، ولكل أخ جزء. فإن قلنا: إن الشفعة للأخ، فإن اختار أخذ الشقص.. فلا كلام، وإن عفا عن الشفعة.. فهل يستحقها العم؟ فيه وجهان، خرجهما أبو العباس: أحدهما: لا يستحقها؛ لأن من لم يستحق الشفعة حال البيع.. لم يستحقها عند عفو الشفيع، كالجار المقاسم. والثاني: يستحقها؛ لأنه شريك حال البيع، وإنما قدم عليه الأخ بقرب نسبه، فإذا أسقط الأخ حقه استحقها العم كما لو قتل رجل رجلين عمدا أحدهما بعد الآخر فإن القصاص عليه للأول، فإذا عفا ولي الأول عن القصاص.. ثبت القصاص للثاني. وإن قلنا: إن الشفعة بين الأخ والعم.. فهل يقتسمان الشقص المبيع نصفين، أو على قدر الملكين؟ على قولين، مضى ذكرهما. وفرع أبو العباس على هذا ثلاث مسائل: الأولى: إذا كانت الدار بين ثلاثة رجال، فباع أحدهم نصيبه من رجلين، فعفا شريكاه عن الشفعة، ثم باع أحد المشتريين نصيبه من الدار.. فهل تكون الشفعة لشريكه الذي اشترى معه وحده، أو يشاركه فيها الشريكان الأولان؟ على القولين. المسألة الثانية: إذا مات رجل، وخلف ابنتين، وأختين لأب، وخلف دارا، فورثت الابنتان ثلثيه، وورثت الأختان ثلثه، فباعت إحدى الابنتين نصيبها في الدار.. قال أبو العباس: فيه طريقان: أحدهما: أنها على قولين، كالتي قلبها؛ لاختلاف سبب الملك.

مسألة: تصرف المشتري بالشقص قبل علم الشفيع

والثاني: أن الشفعة بين الابنة والأختين، قولا واحدا؛ لأن السبب واحد، وهو الإرث. المسألة الثالثة: إذا مات رجل، وخلف ثلاثة أولاد وخلف دارا، فمات أحد الأولاد، وخلف ابنين، فباع أحد العمين نصيبه في الدار.. فهل يكون أخو البائع أحق بالشفعة، أو يشاركه فيها ابنا أخيه؟ فيه طريقان: أحدهما: أنها على قولين. والثاني: أنهم يشتركون فيها، قولا واحدا؛ لأن ابني الميت الثاني يقومان مقام أبيهما، ولو كان أبوهما باقيا.. لشارك أخاه بالشفعة، بخلاف ما لو باع أحد ولدي الابن؛ لأن العمين لا يقومان مقام أخيهما، وإنما يقومان مقام أبيهما. [مسألة: تصرف المشتري بالشقص قبل علم الشفيع] إذا اشترى رجل شقصا فيه شفعة، فلم يعلم الشفيع بالشراء حتى تصرف المشتري بالشقص. نظرت: فإن تصرف فيه تصرفا لا تستحق فيه الشفعة، بأن وهبه من غيره، أو أجره.. فللشفيع أن يفسخ تصرفه، ويأخذه بالشفعة؛ لأن استحقاقه للشفعة سابق لتصرف المشتري، وهكذا: لو وجد به المشتري عيبا، فرده بالعيب، ثم علم الشفيع.. فله أن يفسخ ذلك، ويأخذه بالشفعة؛ لأن حقه سابق للفسخ. وإن وقفه المشتري.. ففيه وجهان: (أحدهما) : قال الماسرجسي: يصح الوقف، وتبطل الشفعة؛ لأن الشفعة إنما ثبتت في المملوك، والوقف غير مملوك، فبطلت فيه الشفعة. والثاني - وهو قول عامة أصحابنا، وهو الصحيح -: أن للشفيع أن يبطل الوقف، ويأخذ الشفعة، كما تبطل الهبة؛ لأن استحقاقه للشفعة سابق لوقف المشتري. وإن تصرف المشتري فيه تصرفا تثبت فيه الشفعة، بأن باعه، أو جعله مهرا في نكاح أو عوضا في خلع، أو أجرة في إجارة.. فالشفيع بالخيار: بين أن يفسخ

فرع: موت المشتري بعد أن أوصى بالشقص

التصرف الثاني، ويأخذ بالشفعة بالتصرف الأول، وبين أن يقر العقد الأول، ويأخذ بالشفعة بالتصرف الثاني؛ لأنه يستحق الشفعة بكل واحد منهما، فخير بينهما، فإن اختلف المشتري والبائع في الثمن، فتحالفا، وفسخ البيع ورجع الشقص إلى البائع فللشفيع أن يأخذ الشقص بالثمن الذي حلف عليه البائع؛ لأن البائع أقر للمشتري بالملك بالثمن الذي حلف هو عليه، وللشفيع بالشفعة به فإذا رد المشتري إقراره بذلك.. بقي حق الشفيع، فكان له الأخذ به. [فرع: موت المشتري بعد أن أوصى بالشقص] فقدم الشفيع فيقدم] : وإن اشترى شقصا فيه شفعة، ثم أوصى به المشتري ومات، فحضر الشفيع والموصى له يطالبان بالشقص ... قدم الشفيع؛ لأن حقه سابق؛ لأنه يثبت بالشراء، فإذا أخذ الشفيع الشقص بالثمن.. كان الثمن للورثة دون الموصى له؛ لأنه إنما وصى له بالشقص دون الثمن. [فرع: دار لثلاثة: لواحد نصف وللباقيين لكل ربع فباع أحدهما حصته] وإن كان دار بين ثلاثة شركاء: لواحد نصفها، ولكل واحد من الآخرين ربعها، فاشترى صاحب النصف من أحد الشريكين ربع الدار، والشريك الثالث غائب، ثم باع الشريك المشتري ربع الدار - وهو ثلث ما بيده من الدار - من رجل، فقدم الشريك الغائب.. فله أن يطالب بالشفعة في البيع الأول، ويعفو عن الثاني، وله أن يطالب بالشفعة في البيع الثاني، ويعفو عن الأول، وله أن يطالب بالشفعة في البيع الأول والثاني. فإن اختار أن يطالب بالشفعة في البيع الأول، ويعفو عن الثاني، وإن قلنا بالمذهب: إن المشتري إذا كان أحد الشريكين لا يستحق الشفيع الآخر جميع الشقص، فإن قلنا: إن الشقص يقسم بين الشفعاء على الرؤوس فإن الشفيع القادم يستحق نصف الربع المبيع وهو الثمن إلا أن هذا الثمن قد حصل ثلثه في يد المشتري الثاني؛ لأنه اشترى ثلث ما بيد الأول، وثلثا الثمن باق في يد الشريك

المشتري، فيكون للشفيع أن يأخذ ذلك حيث وجده، وأقل عدد يخرج منه ثلث الثمن: أربعة وعشرون، فمع صاحب النصف اثنا عشر، ومع المشتري منه ستة، ومع الشفيع ستة، فيأخذ الشفيع من صاحب النصف سهمين، ويبقى معه عشرة، ويأخذ من المشتري سهما يفسخ فيه البيع، ويبقى معه خمسة، فيجتمع مع الشفيع تسعة. وإن قلنا: إن الشفعة تقسم على قدر الأملاك.. فإن لصاحب النصف ثلثي الربع الذي اشتراه، ولشريكه ثلثه، وأقل عدد يخرج منه ثلثا الربع: اثنا عشر، للمشتري ثلثا الربع وهو سهمان، وللشفيع ثلث الربع وهو سهم، وفي يد الشريك المشتري من هذا السهم ثلثاه، وفي يد المشتري منه ثلثه، فاضرب اثني عشر في ثلاثة.. تصبح ستة وثلاثين: لصاحب النصف ستة في ثلاثة.. فذلك ثمانية عشر، وللمشتري منه ثلاثة في ثلاثة.. فذلك تسعة، وللشفيع بحق الملك ثلاثة في ثلاثة.. فذلك تسعة، ويأخذ بحق الشفعة ثلث الربع وهو ثلاثة أسهم ثلثاها من صاحب النصف وهو سهمان، فيبقى معه ستة عشر، وثلثها وهو سهم من المشتري الثاني، فيبقى معه ثمانية، ويصير مع الشفيع اثنا عشر سهما

مسألة: البناء أو الغرس في الشفعة بعد المقاسمة

وإن طلب الشفيع بحقه من الشفعة في البيع الثاني، وعفا عن الأول.. أخذ جميع الربع من المشتري الثاني، فصار له نصف الدار، ولشريكه نصفها. وإن طلب بحقه من الشفعة في البيعين الأول والثاني.. أخذ جميع الربع الذي بيد المشتري الثاني، وكم يأخذ من صاحب النصف؟ إن قلنا: إن الشفعة تقسم على عدد الرؤوس.. أخذ منه ثلثي ثمن الدار، وهو سهمان من أربعة وعشرين سهما من الدار. وإن قلنا: إن الشفعة تقسم على قدر الأملاك.. أخذ منه سهمين من ستة وثلاثين سهما من الدار. [مسألة: البناء أو الغرس في الشفعة بعد المقاسمة] قال الشافعي: (ولو قاسم وبنى.. قيل للشفيع: إن شئت.. فخذ بالثمن وقيمة البناء اليوم، أو دع) . وجملة ذلك: أن الشافعي ذكر: أن المشتري إذا قاسم وميز نصيبه، فبنى فيه أو غرس، ثم طالبه الشفيع بالشفعة. فاعترض المزني وغيره على الشافعي، وقالوا: كيف تصح المقاسمة مع بقاء الشفعة؟ فقال أصحابنا: يتصور ذلك في أربع مسائل: إحداهن: أن يظهر له المشتري أنه اشترى الشقص بثمن كثير، فترك الشفيع الشفعة

وقاسم المشتري، فبنى المشتري أو غرس، ثم بان للشفيع أن الثمن دون ذلك، فإن شفعته لا تبطل. الثانية: أن يظهر له أنه اتهب الشقص، فقاسمه الشريك، فبنى أو غرس، ثم بان له أنه اشترى. الثالثة: إذا وكل وهو في السفر من يطالب بالشفعة، فرأى الوكيل أن الحظ في ترك الشفعة، فترك وقاسم الوكيل - وقد وكله على ذلك - فقدم الشفيع، وبان أن الحظ له في الأخذ بالشفعة. أو كان هذا في الشفعة على المولى عليه، ورأى الولي ترك الشفعة، فقاسم، وبنى المشتري أو غرس، ثم زال الحجر عن المولى عليه، وأقام البينة: أن الحظ كان له أن يأخذ الولي. الرابعة: إذا كان الشفيع غائبا، فجاء المشتري إلى الحاكم، وسأله: أن يقسم بينه وبين الغائب، فأمر الحاكم من قاسم عن الغائب، فبنى المشتري أو غرس، وقدم الشفيع. إذا ثبت ما ذكرناه: فإن الشفيع إذا اختار الأخذ بالشفعة، فإن البناء أو الغراس للمشتري؛ لأنه عين ملكه، لم يدخل في الشراء. فإن اختار المشتري قلع البناء والغراس.. كان له ذلك، لأنه ملكه، ولا يلزمه تسوية الأرض؛ لأنه غير متعد بذلك، فإن اختار الشفيع أخذ الشقص ناقصا بجميع الثمن.. فلا كلام، وإلا.. فلا شفعة له. وإن لم يختر المشتري قلع البناء أو الغراس.. كان الشفيع بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين أن يترك أخذ الشفعة. وبين أن يأخذ الشقص بالشفعة، ويتملك معه البناء أو

فرع: ادعاء عمل البناء في الشفعة

الغراس بقيمته في هذه الحالة. وبين أن يأخذ الشقص بالثمن، ويجبر المشتري على قلع البناء أو الغراس، ويضمن له ما نقص بالقلع؛ لأن الضرر يزول عنهما بذلك. فإن أراد الشفيع إجبار المشتري على قلع البناء أو الغراس، ولا يضمن له شيئا.. لم يجبر المشتري على ذلك، وبه قال النخعي، ومالك، وأحمد، وإسحاق. وقال الثوري، وأبو حنيفة، والمزني: (يجبر المشتري على قلعه من غير ضمان عوض) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» . وهذا ليس بظالم. ولأنه بنى أو غرس في ملكه الذي يملك بيعه، فلم يجبر على قلعه من غير ضمان، كما لو غرس في أرض له، لا شفعة فيها لغيره. [فرع: ادعاء عمل البناء في الشفعة] إذا ادعى المشتري: أن هذا البناء أحدثه بعد الشراء، وقال الشفيع: بل كان موجودا عند البيع.. قال أبو العباس: فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن ذلك ملكه، والشفيع يريد تملكه عليه، فكان القول فيه قول المالك. [مسألة: شراء شقص فيه شجر] إذا اشترى رجل شقصا من أرض فيها نخل أو شجر.. فقد ذكرنا: أنه يدخل في البيع بالشرط، أو بالإطلاق على المذهب، وتثبت فيه الشفعة تبعا للأرض، فإن جاء الشفيع، وقد زاد ذلك في يد المشتري، فإن كانت زيادة غير متميزة، بأن طال الشجر وامتلأ.. فإن الشفيع يأخذ الشجر بزيادته؛ لأنها زيادة لا تتميز، فتبعت الأصل، كالرد بالعيب. وإن كانت الزيادة ثمرة.. نظرت: فإن كانت الثمرة ظاهرة، بأن كانت ثمرة نخل قد أبرت.. فإن الثمرة للمشتري؛ لأنها ثمرة ظاهرة حدثت في ملكه. وإن كانت غير ظاهرة، بأن كانت الثمرة غير مؤبرة.. ففيه قولان:

مسألة: تؤخذ الشفعة قهرا

[أحدهما] : قال في القديم: (للشفيع أن يأخذها؛ لأنها ثمرة غير ظاهرة، فهي كالشجر إذا طال) . و [الثاني] : قال في الجديد: (ليس للشفيع أن يأخذها؛ لأنه نماء تميز عن أصله وظهر، فهو كالطلع المؤبر) . [مسألة: تؤخذ الشفعة قهرا] إذا وجبت له الشفعة في شقص.. فله أخذه من غير حاكم ولا رضا المشتري، وقد مضى الخلاف فيها لأبي حنيفة، والدليل عليه. فإن كان المشتري قد قبض الشقص من البائع.. فللشفيع أن يأخذ الشقص منه، ولا خلاف أنه لا خيار للمشتري في ذلك؛ لأنه يؤخذ منه بغير رضاه، وأما الشفيع: فلا يثبت له خيار الثلاث؛ لأن ذلك يثبت بالشرط برضا المتعاقدين، والشقص يؤخذ من المشتري بغير رضاه، ولكن هل يثبت للشفيع خيار المجلس بعد عقد الشفعة؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في (البيع) . وإن كان المشتري لم يقبض الشقص من البائع.. وجب على المشتري تسلمه من البائع، وتسليمه إلى الشفيع، فإن غاب المشتري أو امتنع من القبض.. قال ابن الصباغ: أقام الحاكم من يستلمه للمشتري، ويسلمه إلى الشفيع، فإن حكم الحاكم بتسليمه على البائع إلى الشفيع، فتسلمه منه الشفيع.. كان كما لو تسلمه المشتري، وسلمه إلى الشفيع. وإن قال الشفيع: لا أقبضه إلا من المشتري.. ففيه وجهان لأبي العباس: أحدهما: له ذلك؛ لأن الشفيع بمنزلة المشتري من المشتري، فيلزمه أن يسلم بعد قبضه. وعلى هذا: فالحاكم يكلف المشتري تسلمه، وتسليمه إلى الشفيع. والثاني: يأخذه الشفيع من يد البائع، فلا يكلف المشتري قبضه؛ لأن الشقص حق للشفيع، فحيث وجده.. أخذه. ولأن يد الشفيع كيد المشتري؛ لأنه استحق قبض

فرع: وجود عيب بالشقص بعد أخذه بالشفعة

ذلك من جهته، فهو كما لو وكل وكيلا في القبض، ألا ترى أنه إذا قال: أعتق عبدك عن ظهاري، فأعتقه.. صح، وكان المأمور كالقابض له؟ وأما الشيخ أبو إسحاق فقال: هل يجوز للشفيع أن يأخذ الشقص من يد البائع؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه قد استحقه. والثاني: لا يجوز، بل يجبر المشتري على قبضه ليأخذه الشفيع منه؛ لأنه إذا أخذه الشفيع من البائع.. فات التسليم المستحق بالبيع، فلا يثبت الشفعة. [فرع: وجود عيب بالشقص بعد أخذه بالشفعة] ] : وإذا قبض الشفيع الشقص، ثم وجد به عيبا، فإن لم يعلم به المشتري، ولا الشفيع.. فللشفيع أن يرده على المشتري، وللمشتري أن يرده على البائع؛ لأن مقتضى العقدين سلامته من العيب. وإن علم به المشتري، ولم يعلم به الشفيع، ثم علم به.. فللشفيع أن يرده على المشتري، وليس للمشتري أن يرده على البائع؛ لأن المشتري.. قد رضي به والشفيع لم يرض به وإن علم به الشفيع ورضي به ولم يعلم به المشتري.. فليس لواحد منهما أن يرده؛ أما الشفيع: فلأنه رضي به، وأما المشتري: فلأنه لا يرد ما ليس بيده. [فرع: استحقاق الشقص بعد أخذه بالشفعة] فإن أخذ الشفيع الشقص، ودفع الثمن، فخرج الشقص مستحقا.. فإن الشفيع يرجع بالعهدة على المشتري سواء أخذ الشقص من يد المشتري أو من يد البائع، ثم يرجع المشتري بالعهدة على البائع، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، وأحمد. وقال ابن أبي ليلى: تجب عهدة الشفيع على البائع بكل حال.

مسألة: وجدت الشفعة فمات قبل العلم

وقال محمد: إن أخذ الشفيع الشقص من يد المشتري.. رجع بالعهدة عليه، وإن أخذه من البائع.. رجع بالعهدة عليه. دليلنا: أن الشفعة مستحقة على المشتري، فكان له الرجوع بالعهدة عليه كما لو قبضه منه، أو كما لو اشتراه منه. [مسألة: وجدت الشفعة فمات قبل العلم] ] : إذا ثبت له الشفعة في شقص، فمات قبل أن يعلم بالشراء، أو قبل أن يتمكن من الأخذ.. انتقل ذلك إلى وارثه، وبه قال مالك، وعبيد الله بن الحسن العنبري. وذهب الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد إلى: أن الشفعة تبطل بالموت. دليلنا: أنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال، فانتقل إلى الوارث، كخيار الرد بالعيب. فقولنا: (ثابت) احتراز من خيار القبول، وخيار الإقالة؛ وهو أن البائع لو قال لرجل: بعتك، فقبل أن يقول المشتري: قبلت، مات. أو قال أحد المتبايعين للآخر: أقلتك، فقبل أن يقول: قبلت، مات.. لم ينتقل ذلك إلى وارثه. وقولنا: (لدفع الضرر عن المال) احتراز من خيار اللعان؛ لأنه لدفع الضرر عن النسب، فلو نفى نسب ولد، وقبل أن يلاعن مات.. لم يقم وارثه مقامه في اللعان. إذا ثبت هذا: فروى المزني: أن الشافعي قال: (ولورثة الميت أن يأخذوا ما كان يأخذه أبوهم بينهم على العدد، وامرأته وابنه في ذلك سواء) . واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: في كيفية قسمة الشقص - الذي ثبتت له فيه الشفعة، ثم مات بين ورثته - قولان: أحدهما: على قدر فروضهم.

فرع: عفو أحد الورثة عن حقه بالشفعة

والثاني: على عدد الرؤوس، فيكون ما نقله المزني هاهنا هو أحد القولين: (أنها تقسم على عدد الرؤوس) . وقال أكثر أصحابنا: يقسم الشقص بين الورثة على قدر فروضهم، قولا واحدا؛ لأنهم لم يستحقوا الشفعة بالملك، وإنما استحقوها بالإرث عن الميت، وهم متفاضلون في الميراث عنه، وما نقله المزني لا يعرف. ومنهم من تأول ما نقله المزني، فقال: قوله: (على العدد) بمعنى: أن الجماعة يستحقون ذلك، وقوله: (سواء) أراد: في أصل الاستحقاق. [فرع: عفو أحد الورثة عن حقه بالشفعة] فإن ثبتت له الشفعة في شقص، ثم مات وخلف ابنين، فعفا أحدهما عن حقه من الشفعة.. ففيه وجهان: أحدهما: تسقط الشفعة في الشقص؛ لأنهما يقومان مقام أبيهما، فلو عفا أبوهما عن بعض الشقص.. أسقطت الشفعة في جميع الشقص، فكذلك إذا عفا من يقوم مقامه. والثاني: تسقط شفعة العافي، ويكون لأخيه أن يأخذ جميع الشقص؛ لأنها شفعة ثبتت لاثنين، فإذا عفا أحدهما عن حقه.. ثبتت الشفعة للآخر في جميع الشقص، كالشريكين، ويفارق الموروث، فإنها تثبت لواحد، فإذا عفا عن بعضها.. سقط الجميع. [فرع: عفو أحد الشفيعين عن حقه] إذا كان للشقص شفيعان، فعفا أحدهما عن حقه منها، ثم مات الآخر قبل أن يتمكن من الأخذ، والعافي وارثه.. قال ابن الحداد: فللعافي أن يأخذ جميع الشقص؛ لأنه وإن عفا أول مرة، فإنما يأخذ الآن الشقص من وجه غير الوجه الذي عفا عنه، وهو بإرثه عن شريكه.

مسألة: باع ثلاثة حصتهم من دار وبقي الرابع

فهو كما لو قتل رجل أباه عمدا، فعفي عنه، وقد كان قتل هذا القاتل ابن أخ العافي، فمات أب المقتول، والعافي وارثه. وكما لو كان لمورثهما على رجل دين، فأقاما شاهدا واحدا، فنكل أحدهما عن اليمين، ومات الآخر، وهذا وارثه.. كان للوارث أن يحلف مع الشاهد، ويستحق نصيب أخيه دون نصيب نفسه؛ لأنه أبطل حقه بنكوله، بخلاف الشفعة؛ لأنها لا تتبعض، والدين يتبعض. [مسألة: باع ثلاثة حصتهم من دار وبقي الرابع] إذا كانت الدار بين أربعة أنفس، لكل واحد منهم ربعها، فباع ثلاثة منهم أملاكهم من ثلاثة أنفس، كل واحد باع ملكه إلى واحد بعقد في وقت واحد.. فللشفيع - وهو الشريك الرابع الذي لم يبع - أن يأخذ أيضا من شركائه كلهم بالشفعة، وله أن يأخذ بعضها دون بعض؛ لأنه لا شفيع هاهنا غيره، فإن عفا عن البعض، وأخذ البعض.. فليس لمن عفا عنه أن يشاركه فيما يأخذ؛ لأن المشترين ملكوا في وقت واحد. وإن باع أحدهم نصيبه من رجل، ثم باع آخر نصيبه من ذلك الرجل، ثم باع ثالث نصيبه من ذلك الرجل.. قال الشيخ أبو حامد: فللشريك الرابع الذي لم يبع أن يأخذ من المشتري جميع الأنصباء؛ لأنه لا شفيع سواه، وله أن يأخذ البعض دون البعض، فإن اختار أخذ الكل دفعة واحدة.. فلا كلام، وإن أخذ الأول، ولم يعلم بالثاني، ثم علم به، وأخذه.. جاز، ولم يشاركه المشتري بالأول؛ لأن ملكه الذي يستحق به الشفعة قد زال بأخذ الشريك له، وليس له مشاركته بالثالث؛ لأن ملكه تجدد عليه بعد ثبوت الشفعة في الثاني.

مسألة: ادعاء أحد الشريكين الشفعة

وهكذا: إن أخذ الأول والثاني دفعة، ولم يعلم بالثالث، ثم علم بالثالث، وأخذه.. لم يشاركه المشتري بالثالث لأجل ملكه الأول والثاني؛ لأن ملكه قد زال عنهما. وإن عفا عن الأول، وأخذ الثاني.. قال أبو العباس: فللمشتري أن يقاسم الشفيع بالربع الثاني، فيكون بينهما نصفين؛ لأجل بالربع الأول. قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على: أن ما حكاه أصحابنا عن أبي العباس - أنه قال: إذا كان المشتري شريكا.. لا يقاسمه الشفيع -: أنه لا أصل له. وهكذا: إن عفا عن الأول والثالث، وأخذ الثاني؛ لأن ملكه على الثالث تجدد بعد ثبوت الشفعة في الثاني. وإن عفا عن الأول والثاني، وأخذ الثالث.. فإن المشتري يقاسمه في الثالث؛ لأجل ملكه للأول والثاني. فإن قلنا: إن الشفعة تقسم على عدد الرؤوس.. اقتسم الثالث نصفين وإن قلنا إنها تقسم على قدر الأملاك.. كان للمشتري ثلث الربع الثالث، وللشفيع ثلثاه. [مسألة: ادعاء أحد الشريكين الشفعة] إذا كانت دار بين شريكين، فادعى أحدهما على شريكه: أنه ابتاع نصيبه بثمن معلوم بعد أن ملك هو نصيبه، وأنه يستحق أخذه بالشفعة، وأنكر المدعى عليه، بأن قال: ما ابتعته، وإنما اتهبته، أو ورثته، أو اشتريته، ولا يستحق على الشفعة.. فإن أقام المدعي بينة بما ادعاه.. ثبتت له الشفعة، وإن لم يكن معه بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» . وكيف يحلف؟ ينظر فيه: فإن أجاب بأنه لا يستحق عليه الشفعة.. فإنه يحلف إنه لا يستحق عليه الشفعة

ولا يكلف أن يحلف: أنه ما ابتاع؛ لأنه قد يبتاع ويستحق شريكه الشفعة، ثم يعفو ويسقط حقه، فإذا حلفناه: أنه ما ابتاع.. ظلمناه، وقد تقدم البينة على عفو الشريك. وإن أجاب بأنه ما ابتاع.. فهل يجب عليه أن يحلف: أنه ما ابتاع، أو يجوز له أن يحلف: أنه لا يستحق عليه الشفعة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز له أن يحلفه: أنه لا يستحق عليه الشفعة؛ لأنه لو أجاب بذلك لكفاه، فكذلك في اليمين. والثاني: يجب عليه أن يحلف: أنه ما ابتاع؛ لأنه لما أجاب بذلك.. علمنا أنه يمكنه الحلف عليه. فإن حلف المدعى عليه.. لم تثبت الشفعة للمدعي، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين.. حلف المدعي، واستحق الأخذ بالشفعة، وفي الثمن ثلاثة أوجه: أحدها: يقال للمدعى عليه: قد أقر لك بالثمن، فإما أن تأخذه منه، أو تبرئه منه، كما قال الشافعي في (المكاتب) : (إذا حمل إلى سيده نجما، فقال السيد: هو مغصوب.. فإن الحاكم يقول له: إما أن تأخذه، وإما أن تبرئه منه) . والوجه الثاني: أن الثمن يقر في يد المدعي؛ لأنه أقر به لمن لا يدعيه، كمن أقر لرجل بدار لا يدعيها. والثالث: أن الحاكم يأخذ الثمن ويحفظه إلى أن يدعيه واحد منهما؛ لأن من هو بيده.. نفى أن يكون ملكا له، ومن أقر له به.. لا يدعيه، فيحفظه الحاكم إلى أن يدعيه أحدهما. فإن قال المدعى عليه: اشتريته لفلان.. نظرت: فإن كان المقر له حاضرا.. سئل، فإن صدقه.. كان الشراء له، والشفعة عليه، وإن كذبه.. قال ابن الصباغ: كان الشراء للذي اشتراه، وأخذ منه بالشفعة.

وإن كان المقر له غائبا.. أخذه الحاكم من المقر، ودفعه إلى الشفيع، وكان القادم على حجته إذا قدم؛ لأنا إذا وقفنا الأمر بالشفعة إلى حضور المقر له.. كان في ذلك إسقاط الشفعة؛ لأن كل مشتر يمكنه أن يدعي: أنه اشتراه لغائب. وإن قال: اشتريته لابني الصغير، أو لطفل له عليه ولاية.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: لا تثب الشفعة؛ لأن الملك يثبت للطفل، ولا تثبت الشفعة بإقرار الولي؛ لأن في ذلك إيجاب حق في مال الصغير بإقرار الولي. والثاني: تثبت الشفعة؛ لأنه يملك الشراء له، فصح إقراره فيه، كما يصح في حق نفسه. وإن قال المدعى عليه: هذا الشقص لفلان الغائب، أو لفلان الصغير.. قال ابن الصباغ: لم يكن للشفيع الشفعة إلى أن يقدم الغائب، ويبلغ الصغير، فيطالبهما بذلك، ولا يسأل عن سبب ملك الغائب والصغير؛ لأن إقراره بعد ذلك إقرار في ملك الغير، فلم يقبل، ويخالف إذا أقر بالشراء لهما ابتداء؛ لأن الملك يثبت لهما بذلك الإقرار، فيثبت جميعه. فإن قال المدعى عليه للمدعي: ليس لك ملك في الدار.. فعلى مدعي الشفعة أن يقيم البينة: أنه يملك شقصا في الدار، وبه قال أبو حنيفة، ومحمد. وقال أبو يوسف: إذا كان في يده شيء من الدار.. استحق به الشفعة؛ لأن الظاهر مما في يده أنه ملكه. دليلنا: أن الملك لا يثبت بمجرد اليد، وإذا لم يثبت الملك المستحق به الشفعة.. لم تثبت الشفعة، فإن أراد المدعي: أن يحلف المدعى عليه: أنه لا يعلم له شركة في الدار.. كان على المدعى عليه أن يحلف: أنه لا يعلم أن له ملكا في الدار؛ لجواز أن يخاف من اليمين، فيقر، وإن نكل عن اليمين.. حلف المدعي: أن له ملكا في الدار، وثبتت شفعته.

فرع: ادعاء أحد الشريكين ابتياع نصيب الغائب المودع

[فرع: ادعاء أحد الشريكين ابتياع نصيب الغائب المودع] وإن كانت دار في يد رجلين، نصفها ملك لأحدهما، ونصفها الآخر لغائب، وهو في يد الآخر وديعة، فادعى المالك على المودع: أنه ابتاع النصف من الذي أودعه إياه، وأنه يستحق أخذه بالشفعة، وقال المدعى عليه: ما ابتعته، وإنما هو وديعة، فإن لم يكن للمدعي بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، وإن كان مع المدعي بينة، فأقامها.. ثبتت الشفعة. وإن أقام كل واحد منهما بينة بما ذكره.. قال المزني: قضيت له بالشفعة؛ لأن الإيداع لا ينافي البيع؛ لأنه يمكن أن يكون أودعه أولا، ثم ابتاعه منه. فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه إنما يمكن إذا كانت البينتان مطلقتين، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة، أو كانتا مؤرختين وبينة الوديعة متقدمة، فأما إذا كانتا مؤرختين وتاريخ البيع سابق.. كان متنافيا. قال أصحابنا: لا تتنافيان أيضا؛ لجواز أن يكون البائع غصبها بعد البيع، ثم ردها بلفظ الإيداع، أو ردها مطلقا، فظن الشاهدان أنها وديعة. قال الشيخ أبو حامد: ويحتمل أن يكون البائع أمسك الشقص على استيفاء الثمن، ثم أودعه المشتري، فصح إيداعه، ولا يكون ذلك إقباضا عن البيع، ألا ترى أنه لو تلف كان من ضمان البائع؟ قال المزني في (الجامع الكبير) : ولو أقام الشفيع البينة بالشراء، وأقام من بيده الشقص البينة: أنه ورثها.. تعارضت البينتان؛ لأن الشراء ينافي الميراث، فتكون على قولين: أحدهما: تسقطان. والثاني: تستعملان، على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. قال أبو العباس: فإن شهدت بينة الإيداع: أنه أودعه ما هو يملكه، وبينة الشراء مطلقة.. كانت بينة الإيداع أولى؛ لأنها صرحت بالملك، ويراسل الغائب، فإن

فرع: ادعاء الوكيل شراء شقص موكله

قال: هي وديعة.. بطلت بينة الشراء بالملك، وإن قال: لا ملك لي فيها.. قضي ببينة الشراء. قال ابن الصباغ: وهذا ينبغي إذا كانت بينة الإيداع متأخرة، فإن صرحت بينة الشراء بالملك، وأطلقت بينة الإيداع.. فبينة الشراء أولى. [فرع: ادعاء الوكيل شراء شقص موكله] إذا كانت الدار بين اثنين، وأحدهما غائب، ونصيبه في يد وكيله، فقال الوكيل: قد اشتريته منه.. فهل للحاضر أخذه منه بالشفعة؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن إقرار الوكيل لا يقبل في حق موكله، فيكتب الحاكم إلى البلد الذي فيه الموكل، فيسأله عن ذلك. والثاني: له أخذه بالشفعة، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه أقر بحق له مما في يده، ويذكر الحاكم ذلك في السجل، وينتظر الغائب، فإن قدم وصدقه.. فلا كلام، وإن أنكر، فإن قامت عليه بينة.. بطل إنكاره، وإن لم تقم عليه بينة.. حلف: أنه ما باعه، ويرد عليه النصيب، وأجرة مثله، وأرش نقص إن حدث به، وله أن يرجع به على الوكيل، أو على الشفيع. فإن رجع على الشفيع.. لم يرجع به الشفيع على الوكيل؛ لأن التلف حصل بيده، وفيه وجه آخر: أنه يرجع عليه؛ لأنه غره. وإن رجع على الوكيل.. رجع به الوكيل على الشفيع. [مسألة: ادعاء كل من الشريكين ابتياع نصيب شريكه] إذا كانت دار بين رجلين، فادعى كل واحد منهما على شريكه: أنه ابتاع حصته، وأنه يستحق عليه أخذه بالشفعة.. رجع إلى أيهما سبق ملكه إليهما، متى ملكا

فإن قالا: ملكناها في وقت واحد.. قلنا: لا شفعة لأحدكما على الآخر؛ لأن الشفعة تثبت بملك سابق، وإن قالا: ملكناها في وقتين، وادعى كل واحد منهما: أن ملكه هو السابق.. فلا يخلو: إما أن يكون مع أحدهما بينة دون الآخر، أو مع كل واحد منهما بينة، أو لا بينة مع أحدهما. فإن كان مع أحدهما بينة تشهد له بأن ملكه سابق، وأن الآخر ملكه متأخر، ولم يكن مع الآخر بينة.. قضي بالشفعة للذي شهدت له البينة: أن ملكه سابق. وإن كان مع كل واحد منهما بينة.. فإن كانتا مؤرختين تأريخا واحدا، مثل: أن تشهد بينة كل واحد منهما: أنه اشترى نصيبه في وقت معين من يوم معلوم.. لم يستحق أحدهما على الآخر شفعة؛ لأن الشفعة تستحق بالملك السابق، ولم يثبت أن ملك أحدهما سابق. وإن شهدت بينه أحدهما: أنه اشترى نصيبه في رمضان، وشهدت بينة الآخر: أنه اشترى نصيبه في شوال ثبتت الشفعة للمشتري في رمضان في الشقص المشترى في شوال. وإن كانت بينة أحدهما مطلقة، والأخرى مؤرخة.. فهو كما لو لم تكن بينة. وإن كانتا متعارضتين، مثل: أن شهدت بينة كل واحد منهما، بأن ملكه سابق لملك الآخر.. ففيهما قولان: أحدهما: تتعارضان وتسقطان، ويصير كما لو لم يكن لأحدهما بينة. والثاني: تستعملان، وفي الاستعمال ثلاثة أقوال: أحدها: يقرع بينهما. فعلى هذا: من خرجت له القرعة.. ثبتت له الشفعة. والثاني: يوقفان، فتوقف الشفعة هاهنا على ما يبين. والثالث: يقسم بينهما، فإن كان نصيباهما متساويين.. فلا فائدة في القسمة، وإن كانا مختلفين، مثل: أن كان لأحدهما الثلث، وللآخر الثلثان.. قسمت الدار بينهما نصفين.

مسألة: اختلاف الشفيع والمشتري في الثمن

وإن لم تكن لأحدهما بينة، فإن ترافعا إلى الحاكم، وسبق أحدهما بالدعوى.. لزم المدعى عليه الإجابة، فإذا أنكره.. فالقول قول المنكر مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على المنكر» . وإن قال المدعى عليه قبل إجابته عن دعوى المدعي: أنا استحق عليك الشفعة.. قيل له: قد سبقك بالدعوى، فأجب أولا عن دعواه، ثم ادع عليه إن شئت، فإن حلف المدعى عليه، ثم ادعى على المدعي: أنه يستحق أخذ نصيبه بالشفعة.. فتجاب دعواه، ثم القول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لما ذكرناه. وإن أقر المدعى عليه أولا بالشفعة للمدعي، أو نكل المدعى عليه عن اليمين، وحلف المدعي الأول.. ثبتت له الشفعة في نصيب المدعى عليه، فإن أخذه بالشفعة، ثم أراد المدعى عليه أولا أن يدعي على المدعي: أنه يستحق أخذ نصيبه بالشفعة.. لم تصح دعواه؛ لأنه لم يبق له ملك يستحق به الشفعة. [مسألة: اختلاف الشفيع والمشتري في الثمن] ] : وإن اختلف الشفيع والمشتري في الثمن، فقال المشتري: اشتريته بألف، وقال الشفيع: بل اشتريته بخمسمائة، فإن كان مع أحدهما بينة.. قضي له بها، ولم يسمع قول الآخر، ويقبل في ذلك شهادة رجلين، وشهادة رجل وامرأتين، وشهادة رجل ويمين المدعي؛ لأنها بينة على المال، ولا تقبل في ذلك شهادة البائع؛ لأنه إن شهد للمشتري.. لم يقبل؛ لأنه يشهد في حق نفسه، ولأنه يريد إثبات الثمن لنفسه، وإن شهد للشفيع.. لم يقبل؛ لأنه يثبت لنفسه منفعة؛ لأنه ينقض بذلك الدرك عن نفسه إن خرج الشقص مستحقا. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في (الإبانة) ] : إذا شهد البائع للشفيع، فإن كان قبل قبض الثمن.. قبلت شهادته، وإن كان بعد قبض الثمن.. لم تقبل.

فرع: اختلفا في قيمة الشقص فيحلف

وإن أقام كل واحد منهما بينة بما ذكره.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني -: أن بينة المشتري تقدم، كما تقدم بينة الداخل على بينة الخارج. والثاني - وهو قول القاضي أبي حامد، واختيار ابن الصباغ -: أنهما يتعارضان؛ لأن بينة الداخل إنما تقدم إذا تنازعا اليد، وهاهنا تنازعا فيما وقع عليه العقد، ولا مزية لإحداهما على الأخرى، فتعارضتا. قال: فعلى هذا: تسقطان ويصيران كما لو لم يكن مع واحد منهما بينة. قال: ومن أصحابنا من قال: يقرع بينهما، وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه قولان، يأتي ذكرهما في موضعهما. وإن لم يكن مع أحدهما بينة.. فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن هذا اختلاف في قوله، وهو أعلم به، ولأن الملك قد ثبت له، والشفيع يريد انتزاعه منه، فلم ينتزع منه إلا بما يقر به. [فرع: اختلفا في قيمة الشقص فيحلف] فإن قال المشتري: اشتريت الشقص بألف، فقال الشفيع: لا أعلم هل اشتريته بألف، أو أقل.. فهل للشفيع أن يحلف المشتري؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له أن يحلفه حتى يصرح: أنه أقل من ألف؛ لأن اليمين لا تجب بالشك. والثاني: له أن يحلفه؛ لأن المشتري لا يملك ما ادعاه بمجرد الدعوى. فإن قال المشتري: اشتريته بألف، فقال الشفيع: لم تشتره بألف، وإنما اشتريته بدون الألف.. فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه أعلم بالعقد، فإن نكل عن اليمين، وردت اليمين على الشفيع.. لم يحلف حتى يتبين قدر الثمن.

فرع: قبول قول مشتري الشقص مع يمينه

[فرع: قبول قول مشتري الشقص مع يمينه] ] : وإن طالب الشفيع بالشفعة، فقال المشتري: لا أعلم قدر الثمن الذي اشتريت به، وادعى الشفيع: أنه يعرفه.. قال الشافعي: (فالقول قول المشتري مع يمينه، فإذا حلف.. سقطت الشفعة) . وبه قال عامة أصحابنا. وقال أبو العباس: يقال للمشتري: إما أن تذكر قدر الثمن، وإلا.. جعلناك ناكلا، ورددنا اليمين على الشفيع؛ ليحلف على مبلغ الثمن، ويستحق أخذ الشقص بما حلف عليه، كما لو ادعى رجل على رجل ألف درهم، فقال المدعى عليه: لا أدري قدر ما لك علي.. فإنه يقال له: إما أن تبين قدر ما له عليك، وإلا جعلناك ناكلا، ورددنا اليمين على المدعي، فحلف واستحق. وهذا ليس بصحيح؛ لأن المشتري قد يكون صادقا بأن يشتري بثمن معلوم، وينسى قدره، وقد يشتري بثمن جزاف، فيكون البيع صحيحا، فإذا حلف المشتري.. كان الثمن مجهولا في حق الشفيع، ولم يصح أخذه للشفعة به. ويخالف ما ذكره أبو العباس؛ لأن هناك لم يجب عن الدعوى؛ فلذلك أمرناه بالإجابة عنها، وإلا.. جعلناه ناكلا. وهاهنا قد أجاب المشتري عن الدعوى؛ لأن الشفيع ادعى الشراء، وأنه يستحق أخذه بالشفعة، وقد أقر له المشتري بذلك، إلا أنه ادعى الجهالة بقدر الثمن، وقد يمكن صدقه. وإذا لم يعلم قدر الثمن لم تثبت له الشفعة. فوازنه من هذه المسألة: أن يقول المشتري: لا أعرف أني اشتريت الشقص، أو لا أعرف أن لك الشفعة.. فيقال له هاهنا: أجب عن الدعوى، وإلا.. جعلناك ناكلا.

فرع: اختلفا في قيمة العرض بدل الشقص

[فرع: اختلفا في قيمة العرض بدل الشقص] وإن اشترى الشقص بعرض، وتلف العرض، واختلفا في قيمته.. فالقول قول المشتري مع يمينه في قدر قيمته؛ لأن الشقص ملك له.. فلا ينتزع إلا بما يقر به. [مسألة: قبول قول المشتري] وإن أقر المشتري: أنه اشترى الشقص بألف، فأخذ منه الشفيع بالألف، ثم قال البائع: إنما بعته إياه بألفين.. وصادقه المشتري على ذلك، أو أنكره وأقام عليه البائع البينة بذلك.. لزم الألفان على المشتري، ولا يلزم ذلك على الشفيع. وقال أبو حنيفة: (إذا قامت البينة بذلك.. لزم ذلك على الشفيع) . دليلنا: أن المشتري إذا أقر: أنه اشتراه بألف.. تعلق بذلك حق الشفيع، فإذا رجع المشتري.. لم يقبل في حق الشفيع، كما لو أقر له بحق، ثم رجع عنه. وأما البينة: فلأنه تقدم إقراره بتكذيبها، ولأنه يعترف أن البينة ظلمته، فلا يرجع على غير من ظلمه. [فرع: قبول قول البينة والشهادة على عفو الشفعة] وإن ادعى المشتري على الشفيع: أنه عفا عن الشفعة، وأنكر الشفيع، فإن كان هناك بينة.. حكم بها، ويقبل في ذلك شهادة رجلين، ورجل وامرأتين، ورجل ويمين؛ لأن المقصود به المال، وإن لم تكن بينة.. فالقول قول الشفيع مع يمينه؛ لأن الأصل عدم العفو. فإن شهد عليه البائع بالعفو.. فحكى ابن الصباغ عن ابن القفال: أنه قال: إن شهد بذلك قبل قبض الثمن من المشتري.. لم تقبل شهادته؛ لأنه يجر بهذه الشهادة

فرع: قبول شهادة بعض الشركاء لأجنبي بعفو شريكهم عن الشفعة

إلى نفسه نفعا، وهو أن يفلس المشتري، فيرجع الشقص إليه، وإن كان بعد أن قبض الثمن من المشتري.. قبلت شهادته؛ لأنه لا يجر بها إلى نفسه نفعا، ولا يدفع بها ضررا. وإن شهد السيد على مكاتبه بالعفو عن الشفعة.. قبلت شهادته؛ لأن ذلك شهادة عليه. وإن شهد بالشراء فيما لمكاتبه فيه الشفعة.. قال القاضي أبو الطيب في (المجرد) : قبلت شهادته. [فرع: قبول شهادة بعض الشركاء لأجنبي بعفو شريكهم عن الشفعة] وإن كانت دار بين أربعة، فباع أحدهم نصيبه من أجنبي، فادعى المشتري على أحدهم: أنه عفا عن الشفعة، وشهد عليه شريكاه بالعفو، فإن كانا قد عفوا عن الشفعة.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما لا يجران بها إلى أنفسهما نفعا، ولا يدفعان عن أنفسهما بها ضررا، وإن كانا لم يعفوا.. لم تقبل شهادتهما؛ لأنهما يجران إلى أنفسهما استحقاق جميع الشقص. [فرع: القول قول ورثة المشتري مع أيمانهما] ذكر ابن الحداد: إذا ثبتت له الشفعة في شقص، فمات قبل أن يتمكن من الأخذ، وله وارثان، فادعى المشتري: أنهما قد عفوا عن الشفعة، ولا بينة له.. فالقول قولهما مع أيمانهما، فإن حلفا.. سقطت دعوى المشتري، وأخذا الشقص بالشفعة. وإن نكلا عن اليمين.. حلف المشتري، وسقطت شفعتهما. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر.. لم يحلف المشتري مع نكول الناكل منهما؛ لأنه لا يستفيد بيمينه شيئا؛ لأنه إذا ثبت بيمينه عفو الناكل.. أخذ الحالف جميع الشقص، فلا معنى ليمين المشتري. فعلى هذا: يرجع إلى الشريك الحالف، فإن صدق شريكه أنه لم يعف.. كانت الشفعة بينهما. وإن ادعى أن شريكه قد عفا.. حلف يمينا بالله: أن شريكه قد عفا، وأخذ جميع الشقص، وإن لم يحلف الشريك الحالف على عفو شريكه.. كان الناكل

مسألة: ثبوت حق الشفعة بالبينة واليمين

على حقه من الشفعة؛ لأن الشفعة قد ثبتت له، ولا يثبت عفوه إلا ببينة، أو إقرار منه، أو بيمين المدعي مع نكول الشفيع، فإذا لم يوجد شيء من ذلك.. كان على حقه من الشفعة، كما لو ادعى على رجل مالا، فاعترف به المدعى عليه، وادعى على المقر له: أنه أبرأه منه.. فالقول قول المقر له مع يمينه: أنه لم يبرئه، فإن حلف.. ثبت الحق، ولم تثبت البراءة، وإن نكل المقر له عن اليمين ردت اليمين على المقر المدعي للبراءة فإن حلف ثبتت البراءة وإن لم يحلف.. وجب عليه ما أقر به فكذلك هاهنا مثله. [مسألة: ثبوت حق الشفعة بالبينة واليمين] إذا كانت دار بين رجلين، فادعى أحدهما: أنه باع نصيبه من زيد ولم يقبض منه الثمن، وصدقه شريكه، وأنكر زيد الشراء، فإن كان مع البائع بينة بالبيع.. وجب على زيد تسليم الثمن، وأخذ الشفيع الشقص منه بالشفعة. وإن لم يكن مع البائع بينة.. فالقول قول زيد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الشراء، وهل تثبت للشريك الشفعة؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال المزني، وأكثر أصحابنا: تثبت له الشفعة. وهو قول أبي حنيفة، وأحمد. ومن أصحابنا من قال: لا تثبت له الشفعة. وحكي ذلك عن أبي العباس، وهو قول مالك. ووجهه: أن الشفعة فرع على البيع، فإذا لم يثبت البيع.. لم تثبت الشفعة. والأول أصح؛ لأن البائع أقر للمشتري بالشراء، وللشفيع بالشفعة، فإذا بطل حق المشتري برده.. لم يبطل حق الشفيع، كما لو أقر لاثنين بحق، فكذبه أحدهم، وصدقه الآخر. فإن قلنا: لا تثبت الشفعة.. فللبائع مخاصمة المشتري، وعرض اليمين عليه، فإن حلف.. سقطت الدعوى، وإن نكل.. حلف البائع. قال ابن الصباغ: ويثبت البيع والشفعة.

وإن قلنا: تثبت الشفعة.. نظر في البائع: فإن رضي بتسليم الشقص إلى الشفيع، وأخذ الثمن منه.. جاز، وكانت العهدة للشفيع في الشقص على البائع؛ لأنه منه أخذه، وإليه دفع الثمن. وإن اختار البائع أن يطالب المشتري بقبض المبيع، وتسليم الثمن.. فهل له ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه يحصل له الثمن من الشفيع، فلا معنى لمخاصمته للمشتري. فعلى هذا: يسلم الشقص إلى الشفيع، ويؤخذ منه الثمن، وتكون العهدة للشفيع على البائع. فإن قيل: أليس لو ادعى على رجل دينا، فقال له رجل: أنا أدفع إليك الدين الذي تدعيه عليه، ولا تخاصمه، لم يلزمه قبوله؟ فلما الفرق على هذا؟ قال ابن الصباغ: فالفرق بينهما: أن عليه منة في قبول الدين من غير من هو عليه، بخلاف هذا. والوجه الثاني: أن للبائع مخاصمة المشتري؛ لأنه قد يكون المشتري أسهل في المعاملة عند الرجوع بالعهدة. فعلى هذا: لو حلف المشتري.. سقطت دعوى البائع عنه، ودفع الشقص إلى الشفيع، وأخذ منه الثمن، وكانت العهدة عليه للشفيع. وإن نكل المشتري عن اليمين.. حلف البائع: لقد باعه إياه، وثبت الشراء والشفعة، ولزم المشتري تسليم الثمن إلى البائع، وكانت العهدة للمشتري على البائع، والعهدة للشفيع على المشتري. فإن كانت بحالها، فادعى البائع: أنه باع منه نصيبه، وقبض منه الثمن، وأنكر المشتري ذلك، وصدق الشفيع البائع.. فهل تثبت الشفعة هاهنا؟

مسألة: في بيان ما يمنع الشفيع من أخذ الشقص بالشفعة

من قال من أصحابنا في المسألة قبلها: لا تثبت الشفعة.. فهاهنا أولى أن لا تثبت. ومن قال منهم في التي قبلها: تثبت الشفعة.. اختلفوا في هذه: فذهب أكثرهم إلى: أن الشفعة لا تثبت هاهنا؛ لأنا لو قلنا: إنها تثبت.. لأدى إلى أن يأخذها الشفيع بغير عوض؛ لأنه لا يمكن دفع الثمن إلى المشتري؛ لأنه ينكر الشراء، ولا إلى البائع؛ لأنه قد أقر بالاستيفاء، فلم يبق إلا القول بأن الشفعة لا تثبت. ومنهم من قال: تثبت الشفعة هاهنا؛ للمعنى الذي ذكرناه في المسألة قبلها. فإذا قلنا بهذا: فما الذي يصنع بالثمن؟ فيه ثلاثة أوجه، مضى ذكرها: أحدها: يقال للمشتري: إما أن تأخذه، وإما أن تبرئ منه. والثاني: يقبضه الحاكم، ويحفظه إلى أن يدعيه أحدهما. والثالث: يترك في ذمة الشفيع. [مسألة: في بيان ما يمنع الشفيع من أخذ الشقص بالشفعة] وذلك في مواضع: أحدها: أن يشتري رجل من رجل شقصا يساوي مائة بألف، ثم يأخذ البائع من المشتري عوضا يساوي مائة، فربما لا يرضى الشفيع أن يأخذ شقصا يساوي مائة بألف، إلا أن الغرر هاهنا على المشتري. الموضع الثاني: أن يشتري بائع الشقص ممن يريد أن يبيع منه الشقص جارية تساوي مائة بألف، ثم يعطيه عن الألف الشقص، وهو يساوي مائة، فإن أراد الشفيع أن يشفع.. لزمه الألف، إلا أن الغرر هاهنا على بائع الشقص.

الموضع الثالث: أن يشتري منه شقصا يساوي مائة بألف، فيقبض منه مائة ويتفرقا، ويبرئه عن تسعمائة، وفي هذا غرر على المشتري. الموضوع الرابع: إذا كان الشقص يساوي مائة، بأن يهب منه مالك الشقص نصفه، ويقبضه إياه، ثم يبيعه نصفه بمائة، فإن اختار الشفيع الشفعة.. أخذ نصف الشقص بمائة، وشاركه الموهوب أيضا بما وقعت فيه الهبة. الموضع الخامس: أن يهب منه الشقص، ويهب منه الثمن. الموضع السادس أن يشتريه بثمن جزاف شاهده، بأن يشتريه بملء كفيه دارهم، ولا يعلم عددها، فالبيع صحيح. فإذا طالبه الشفيع بالشفعة.. حلف المشتري: أنه لا يعلم قدر الثمن، ولم تثبت الشفعة على قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وبالله التوفيق

كتاب القراض

[كتاب القراض]

كتاب القراض القراض والمضاربة: اسمان لمعنى واحد، وهو أن يدفع ماله إلى رجل ليتجر به، ويكون الربح بينهما على ما يشترطانه، ورأس المال لرب المال، وأهل الحجاز يسمون هذا العقد: قراضا. واختلف في اشتقاقه: فقيل: إنه مشتق من القرض، وهو القطع، يقال: قرضت الطريق، أي: قطعتها، وقرض الفأر الثوب، أي: قطعه، فكأن رب المال اقتطع للعامل قطعة من ماله، أو قطع له قطعة من الربح.

وقيل: إنه مشتق من المساواة، ويقال: تقارض الشاعران: إذا ساوى كل واحد منهما الآخر بشعره في المدح أو الذم. وحكي عن أبي الدرداء: أنه قال: (قارض الناس ما قارضوك، فإن تركتهم لم يتركوك) . يريد: ساوهم. فالمتقارضان متساويان؛ لأن أحدهما يبذل المال، والآخر يتصرف فيه، ويحتمل أن يكون ذلك لاشتراكهما في الربح. فالمقارض - بكسر الراء -: هو رب المال، و - بفتحها -: هو العامل. وأما المضاربة: فاشتقاقها من الضرب بالمال، أو التقليب، وقيل: هو من ضرب كل واحد منهما في الربح بسهم، فالمضارب - بكسر الراء -: هو العامل؛ لأنه هو الذي يضرب في المال، ولم يشتق لرب المال منه اسم. إذا ثبت هذا: فالقراض جائز، والأصل فيه: إجماع الصحابة، روي ذلك عن

عثمان، وعلي، وابن مسعود، وحكيم بن حزام. وروى الشافعي: (أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب خرجا في جيش إلى العراق، فتسلفا من أبي موسى الأشعري - وهو عامل لعمر - مالا، فابتاعا به متاعا، وقدما به المدينة، فباعاه وربحا، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أكل الجيش أسلف كما أسلفكما؟ قالا: لا. فقال عمر: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه. فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله، وقال: يا أمير المؤمنين، لو هلك المال.. ضمناه، فلم لا يكون ربحه لنا؟ فقال رجل: يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراضا؟ فقال: قد جعلته قراضا، فأخذ منهما رأس المال، ونصف الربح) . فدل على أن القراض كان مستفيضا في الصحابة. فإن قيل: إذا تسلفا المال من أبي موسى.. فكيف تحتجون بذلك على القراض؟

قلنا: موضع الحجة منه، قول الرجل لعمر: لو جعلته قراضا؟ ولم ينكر عليه عمر ولا غيره القراض. فإن قيل: فإذا كانا قد تسلفا ذلك من أبي موسى وابتاعا به متاعا.. فقد ملكا المال وربحه.. فكيف ساغ لعمر أن يجعله قراضا، ويأخذ منهما نصف الربح؟ فتأول أصحابنا ذلك ثلاث تأويلات: أحدها - وهو تأويل أبي العباس -: أن أبا موسى كان قد اجتمع عنده مال لبيت المال، وأراد أن ينفذه إلى المدينة، فخاف عليه حرز الطريق، فأقرضهما ذلك المال ليكون في ذمتهما أحوط لبيت المال، وقد ملكا المال وربحه، إلا أن عمر أراد أن ينفع المسلمين، فاستدعاهما، واستطاب أنفسهما في نصف الربح. وللعامل أن يفعل كفعل أبي موسى إذا خاف على المال. و (الثاني) : من أصحابنا من قال: كان الطريق آمنا، وإنما أقرضهما أبو موسى ليتقرب به إلى قلب عمر، فلما تصرفا في المال وربحا.. كان ذلك الربح كله ملكا للمسلمين، واستحقا أجرة المثل، وبلغت أجرتهما نصف الربح، ولهذا روي عن عمر: أنه قال: (كأني بأبي موسى وهو يقول: ابنا أمير المؤمنين) . و (الثالث) : قال أبو إسحاق: كان أبو موسى أقرضها ذلك المال، ثم قارضهما بعد ذلك، فخلطا الربح الذي حصل منه، فاستطاب عمر أنفسهما عن نصف الربح. والأول أصح؛ لأن الدراهم والدنانير لا يجوز إجارتهما للتجارة، فجوز عقد القراض عليهما، كالنخل لما لم يجز إجارتها لتستغل.. جاز عقد المساقاة عليها، والأرض لما جازت إجارتها لتستغل.. لم تجز عقد المخابرة عليها.

مسألة: القراض في أنواع المال

[مسألة: القراض في أنواع المال] ويجوز القراض على الدراهم والدنانير، قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع لا خلاف فيه بين أهل العلم، فأما ما سواهما من الأموال مما له مثل، كالحبوب والأدهان، أو مما لا مثل له، كالثياب والعبيد.. فلا يجوز عقد القراض عليها، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وعامة أهل العلم. وقال الأوزاعي، وابن أبي ليلي: (يجوز القراض على ذلك كله، فإن كان المال له مثل.. رد العامل مثله، وإن لم يكن له مثل.. رد قيمته) . دليلنا: أن القراض موضوع على أن يأخذ رب المال رأس المال، ويشتركا في الربح، ولا يشارك العامل رب المال في رأس المال، ولا يستبد رب المال برأس المال والربح، والقراض على العروض يفضي إلى ذلك؛ لأنه إذا قارضه على ما له مثل، كأن يقارضه على كر طعام يساوي مائة درهم، فقد يتصرف فيه، فيبلغ المال ألفا، فإذا تفاضلا.. فقد يغلو الطعام، فلا يؤخذ الكر إلا بالألف، فيستبد رب المال في جميع الربح، وقد تكون قيمة الكر يوم القراض ألفا، فيبيعه العامل بألف، ولا يتصرف فيه، ثم يتفاضلان، وقد رخص الطعام، فصار الكر بمائة، فيشتري له العامل الكر بمائة، ويشاركه بتسعمائة، وهى من رأس المال. وإن قارضه على ما لا مثل له، وتفاضلا.. احتاج أن يرد قيمته، فإن شرطا أن ترد قيمته يوم المفاضلة.. كان باطلا من وجهين: أحدهما: أن قيمته يومئذ مجهولة، والقراض على المجهول لا يجوز. والثاني: أنه يفضي إلى الفساد الذي ذكرناه في ذوات الأمثال. وإن اشترطا أن ترد قيمته يوم القراض.. أفضى أيضا إلى الفساد؛ لأنه قد يدفعه وقيمته مائة، فيتركه في يده، فتزيد قيمته، فتبلغ ألفا، ثم يبيع، ويتفاضلان، فيدفع إليه مائة، ويشاركه العامل بالباقي، ويشاركه برأس المال. وقد يدفعه وقيمته ألف،

فرع: صحة المضاربة بمعلوم على النصف

فيبقى ذلك في يده، فتنقص قيمته، فتصير مائة، ثم يتصرف ويبيع، فيبلغ المال ألفا، فإذا تفاضلا. احتاج أن يدفع إليه جميع ذلك، فيستبد رب المال بالربح، وما نافى العقد.. أبطله، بخلاف الدراهم والدنانير، فإنهما وإن كانت قيمتهما تزيد وتنقص، إلا أنهما لا يقومان بغيرهما. هذا نقل البغداديين. وقال المسعودي [في (الإبانة) ق\ 320] : هل يصح القراض على ذوات الأمثال؟ فيه وجهان. [فرع: صحة المضاربة بمعلوم على النصف] قال الطبري: ولو قال: خذ ما شئت من مالي مضاربة بيننا على النصف، فأخذ الدراهم.. صح تصرفه فيه، ولا يكون قراضا، خلافا لأبي حنيفة. دليلنا: أن العقد وقع على غير معين ولا معلوم، فهو كما لو قال: على ما ورثت من أبي، وإن أخذ شيئا من العروض، فتصرف فيها.. فهل يصح تصرفه بها؟ فيه وجهان. قال الطبري: ولو قال: خذ هذه الألف مضاربة على النصف، فأخذه ولم يتكلم.. لم تصح المضاربة، خلافا لأبي حنيفة. دليلنا: أنه لم يوجد من أحدهما لفظ في عقد المضاربة، وهو من أهله، كما لو لم يتكلم رب المال. [فرع: بطلان القراض بمغشوش] ] : ولا يجوز القراض على دراهم ولا دنانير مغشوشة، سواء كان الغش أقل من الذهب والفضة أو أكثر. وقال أبو حنيفة: (إن كان الغش أكثر.. لم يصح، وإن كان أقل.. صح) . دليلنا: أنه نقد مغشوش، فلم يصح القراض عليه، كما لو كان الغش أكثر.

فرع: القراض بغير المال

[فرع: القراض بغير المال] وإن قارضه على سبيكة.. لم يصح القراض، كما لا يصح القراض على العروض. وإن قارضه على فلوس.. لم يصح القراض، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف. وقال محمد: القياس أن لا يجوز إلا أني أجوزه استحسانا. دليلنا: أن الفلوس ليست بنقد غالب، فلم يصح القراض عليها، كالثياب. فإن دفع إلى رجل غزلا، وقال: انسجه على أن تبيعه، وتدفع إلي قيمة الغزل، ويكون الباقي بيننا.. لم يصح؛ لأن القراض موضوع على أن يتصرف العامل في رقبة المال وعينه، وهاهنا لم يمكنه من التصرف في رقبة المال وعينه، وإنما يتصرف في منفعته، فلم يصح، ولأنه قد تزيد قيمة الغزل وقد تنقص، فيفضي إلى الفساد الذي ذكرناه في القراض على العروض، فإن نسج العامل الغزل.. كان الثوب ملكا لصاحب الغزل، وعليه للعامل أجرة عمله؛ لأنه عمل ليسلم له المشروط، ولم يسلم له، فاستحق أجره عمله. وإن دفع إليه شبكة، وقال: اصطد بها، وما رزق الله من صيد كان بيننا.. لم يصح القراض؛ لما ذكرناه: من أن مقتضى القراض أن يتصرف العامل في رقبة رأس المال، وإنما يتصرف هاهنا في منفعته. فعلى هذا: إذا اصطاد العامل صيدا.. كان الصيد ملكا له؛ لأنه حصل بفعله، وعليه أجرة مثل الشبكة لمالكها؛ لأنه بذلك منفعتها بعوض، ولم يسلم له، فاستحق أجرتها. وإن دفع إلى رجل بهيمة، وقال: أكرها، وما حصل من ذلك كان بيننا.. لم

مسألة: يشترط في القراض معرفة قدر المال

يصح القراض؛ لما ذكرناه في الشبكة، فإن أكراها العامل.. كان الكراء لمالك البهيمة، وعلى مالك البهيمة أجرة مثل العامل، والفرق بين الشبكة والبهيمة: أن عمل العامل على البهيمة تابع لعمل البهيمة، فكانت الأجرة لمالكها، والعمل على الشبكة للعامل، والشبكة تبع للعامل. فإن دفع إليه ثوبا، وقال: بعه، فإذا نض ثمنه فقد قارضتك عليه.. لم يصح القراض، وقال أبو حنيفة: (يصح) . دليلنا: أنه قراض معلق على شرط، فلم يصح، ولأن ما يباع به الثوب من الثمن مجهول، والمجهول لا يصح. وإن قال: قارضتك على الدين الذي لي على فلان، فاقبضه، وتصرف به.. لم يصح، فإن فعل الأجير ذلك.. كان له أجرة المثل؛ لأنه عمل بعوض، ولم يسلم له العوض، وأما قدر الأجرة: فقال المسعودي [في (الإبانة) ق \ 320] : ينظر فيه: فإن قال: قارضتك عليه لتقبض وتتصرف.. فله أجرة المثل للتقاضي والقبض والتصرف. وإن قال: إذا قبضت، فقد قارضتك.. فليس له إلا أجرة مثل التصرف. [مسألة: يشترط في القراض معرفة قدر المال] ولا يصح القراض إلا على مال معلوم، فإن قارضه على دراهم جزاف لا يعلمان عددها ووزنها.. لم يصح. وقال أبو حنيفة: (يصح، فإن اتفقا على قدر رأس المال، وإلا كان القول قول العامل) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الغرر» ، وفي القراض على مال لا يعرفان قدره غرر؛ لأنه لا يدري إلى ماذا يرجع رب المال عند المفاضلة.

فرع: تعيين مال القراض

[فرع: تعيين مال القراض] وإن قدم إليه ألف دينار ومائة درهم، وقال: قارضتك على أحدهما.. لم يصح القراض؛ لأن ذلك يمنع صحة العقد، فلم يصح، كما لو باعه أحد العبدين. وإن دفع إليه كيسين في كل واحد منهما مائة درهم، وقال: قارضتك على أحدهما، وأودعتك الآخر.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنهما متساويان. والثاني: لا يصح كما لا يصح مثل ذلك في البيع. وإن كان عنده له دراهم وديعة، فقارضه عليها.. صح، كما لو دفع إليه مالا وقارضه عليه. وإن كان غصب منه دراهم وقارضه عليها.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه مقبوض من تحت يده، فصح، كالوديعة. والثاني: لا يصح؛ لأن مال الغصب مضمون عليه، ومال القراض أمانة عنده، وهما متنافيان. والأول أصح؛ لأن هذا يبطل بمن رهن الغاصب العين المغصوبة، فإذا قلنا: يصح، واشترى العامل به شيئا، وسلم المغصوب إلى البائع.. برئ من الضمان؛ لأنه سلمه بإذن مالكه. [فرع: المقارضة في مال القاصر] فرع: [يجوز للولي المقارضة في مال القاصر] : يجوز لولي الطفل والمجنون، كالأب، والجد، والوصي، والحاكم الأمين من قبله، أن يقارض على مال الصغير؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة» .

مسألة: شرط بيان حصة كل من العامل وصاحب رأس المال من الربح

وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قارض على مال اليتيم) ، ولأن عقد القراض يطلب به نماء المال.. فجاز للولي فعله، كالبيع. [مسألة: شرط بيان حصة كل من العامل وصاحب رأس المال من الربح] ولا يصح القراض إلا بشرط أن يبينا الربح؛ لأنه هو المقصود بالقراض. فإن قارضه على مال، على أن يكون الربح بينهما نصفين.. صح ذلك؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساقى أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع» . والقراض بمعنى المساقاة، فإن قال: قارضتك على أن يكون الربح بيننا.. ففيه وجهان: (أحدهما) : من أصحابنا من قال: لا يصح؛ لأن ذلك مجهول؛ لأنه لا يعلم هل يكون الربح بينهما أثلاثا، أو نصفين فلم يصح. و [الثاني] : قال أبو العباس: يصح، ويكون الربح بينهما نصفين، وهو الصحيح؛ لأن الإضافة تقتضي التسوية، فهو كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو. وإن قال: قارضتك على هذا المال، على أن لي نصف الربح، وسكت عما للعامل.. ففيه وجهان: (أحدهما) : قال أبو العباس: لا يصح؛ لأن الربح كله لرب المال، وإنما يملك العامل شيئا منه بالشرط ولم يشرط له شيئا. و (الثاني) : من أصحابنا من قال: يصح، ويكون الربح بينهما نصفين؛ لأن مقتضى القراض أن الربح لهما، فإذا شرط رب المال لنفسه نصف الربح.. كان الباقي للعامل.

والأول أصح؛ لأن المزني نقل عن الشافعي في (المساقاة) : (إذا قال: خذ هذا مساقاة، على أن لي النصف.. لم يصح) . وإن قال رب المال: قارضتك على أن لك نصف الربح.. ففيه وجهان: (أحدهما) : من أصحابنا من قال: لا يصح؛ لأنه لم يبين ما لنفسه. و (الثاني) : قال أبو العباس: يصح، ويكون الربح بينهما نصفين. وهو الصحيح؛ لأن الربح كله لرب المال بحق الملك، وإنما العامل يملك شيئا منه بالشرط، فإذا شرط للعامل بعضه.. كان الباقي لرب المال. فعلى هذا: إذا قال: قارضتك على أن لك ثلث الربح، ولي النصف، وسكت عن السدس.. كان لرب المال ثلثا المال، وللعامل ثلثه. قال أبو العباس: وإن دفع إليه ألفا، وقال: خذ هذا قراضا على النصف، أو على الثلث، أو على غير ذلك.. صح، وكان ذلك تقديرا لنصيب العامل؛ لأن الظاهر أن الشرط له؛ لأن رب المال يستحقه بالملك، والعامل يستحقه بالشرط، فإن اختلفا، فقال العامل: شرطته لي، وقال رب المال: شرطت ذلك لنفسي.. كان القول قول رب المال مع يمينه؛ لأن الظاهر معه. وإن قال: قارضتك على أن لك شركة في الربح أو شركا فيه.. لم يصح. وقال محمد بن الحسن: يكون له نصف الربح. وقال أصحاب مالك: يكون له مضاربة المثل. دليلنا: أن ذلك مجهول؛ لأن الشرك يقع على القليل والكثير، فلم يصح، كما لو قال: على أن لك سهما في الربح.

فرع: تعيين مقدار الربح لكل

[فرع: تعيين مقدار الربح لكل] ] : وإن قال: قارضتك على هذا المال، على أن لك ثلث الربح، وما بقي من الربح في من الثلث، ولك الثلثان.. صح، فيكون للعامل سبعة أتساع الربح، ولرب المال تسعاه. وإن دفع رجل إلى رجلين مالا، وقال: قارضتكما عليه، على أن يكون لي نصف الربح، ولكما النصف.. صح؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين، فهو كما لو أن رب المال عقد مع واحد القراض، على أن الربح بينهما نصفين.. لصح، ويكون نصف الربح بين العاملين نصفين؛ لأن الإضافة تقتضي التسوية. وإن قال: قارضتكما على أن يكون لي نصف الربح، والنصف الآخر لأحدكما منه الثلث، وللآخر الثلثان.. صح، وحمل على ما شرط. وإن دفع رجلان إلى رجل ألف درهم بينهما نصفين، وشرطا أن له نصف الربح، ولهما نصف الربح بينهما نصفين.. صح ذلك، وإن شرطا أن له نصف الربح، والنصف الآخر لأحدهما ثلثه، وللآخر ثلثاه.. لم يصح؛ لأنهما متساويان في المال، فلا يجوز شرط تفاضلهما فيما بقي لهما من الربح، وإن قالا: قارضناك على أن يكون لك نصف الربح، تستحق ثلثه من نصيب عمرو، وثلثيه من نصيب زيد، ويكون لعمرو ثلثا النصف الآخر، ولزيد ثلثه.. صح ذلك؛ لأن عمرا شرط له ثلث نصيبه، وشرط له زيد ثلثي نصيبه، فصح، وإن قالا: على أن لك نصف الربح، ثلثه من نصيب عمرو، وثلثاه من نصيب زيد، ثم يكون النصف الآخر بين زيد وعمرو نصفين.. لم يصح. وقال أبو حنيفة، وأبو ثور: (يصح) .

فرع: يدفع الربح على المالين المتساويين سواء

دليلنا: أن هذا شرط ينافي مقتضى العقد؛ لأنهما شرطا أن يأخذ أحد ربي المال من نصيب الآخر من الربح بعضه.. فلم يصح، كما لو شرطا أن يكون النصف الآخر لأحدهما. [فرع: يدفع الربح على المالين المتساويين سواء] إذا دفع إليه ألفا، وقال: ضم إليه ألفا من عندك واعمل عليهما، على أن يكون لي ثلثا الربح ولك ثلثه، أو على أن يكون لك ثلثا الربح ولي ثلثه.. لم يصح؛ لأنه إن شرط لنفسه الأكثر.. لم يصح؛ لأنهما متساويان في المال، وذلك يقتضي تساويهما في الربح، ثم شرط عليه العمل، ونقصه من الربح.. فلم يصح وإن شرط للعامل أكثر.. فسد أيضا لأن الشركة إذا وقعت على المال.. كان الربح مقسطا على قدر المالين، والعمل تابع، والمال هاهنا غير متفاضل، فلا يجوز تفاضلهما في الربح. فإن دفع إليه ألفين، وقال: ضم إليها ألفا من عندك، فتكون ألفان شركة بيننا، والألف الأخرى قارضتك عليها بنصف الربح.. جاز؛ لأن أكثر ما فيه أن المال الذي للقراض مشاع، وإذا لم تمنعه الإشاعة من التصرف.. صح القراض. [فرع: قارضه بشرط أن يدفع بقدر ماله بضاعة] قال في (الأم) [3/236] : (إذا دفع إليه ألفا قراضا على أن يعمل فيها بالنصف، وشرط عليه أن يدفع إليه ألفا أخرى بضاعة.. لم يصح القراض) ؛ لأن معنى البضاعة: أن يعمل عليها لصاحبها بغير عوض له، وهذا لا يلزمه، وإذا لم يلزم العامل ذلك.. لم يستحق العامل ما بذل له من الربح؛ لأنه لم يبذل ذلك إلا بهذا الشرط. فأما إذا قال: قارضتك على هذه الألف بالنصف، واستعملتك على أن تعمل لي على هذه الألف بضاعة.. صح القراض؛ لأنه لم يجعله شرطا.

فرع: قارضه بشرط ربح نصف المال له

[فرع: قارضه بشرط ربح نصف المال له] قال أبو العباس: إذا قال: قارضتك على هذه الألف، على أن لك ربح نصفها.. لم يجز القراض. وقال أبو ثور، وأبو حنيفة: (يصح) ، كما لو قال: على أن لك نصف ربحها. والأول أصح؛ لأنه جعل للعامل ربح بعض المال، فلم يصح، كما لو دفع إليه ألفين، وقارضه عليهما، وجعل للعامل ربح أحدهما، ويخالف إذا جعل له نصف الربح، لأنه لا يؤدي إلى إفراده بربح شيء من المال، وإن قارضه على ما قارض به فلان عامله، فإن علما قدر ما شرط للعامل من الربح.. صح القراض؛ لأنهما أشارا إلى معلوم عندهما، فهو كما لو صرحا بذكره، وإن كانا لا يعلمان ذلك أو أحدهما.. كان القراض فاسدا؛ لأنه قراض على شيء مجهول بينهما. [فرع: اشتراط ربح درهم لأحدهما] ] : إذا دفع إليه ألفا قراضا، وشرط العامل أن ينفرد بدرهم من الربح، والباقي من الربح بينهما.. لم يصح؛ لأنه قد لا يربح إلا ذلك الدرهم، ومن مقتضى القراض أن الربح بينهما، وهكذا: لو شرط أن لرب المال درهما من الربح، والباقي بينهما لم يصح؛ لما ذكرناه، وهكذا: لو شرطا على أن للعامل درهما من الربح، والباقي لرب المال.. لم يصح؛ لما ذكرناه. وأن قارضه على أنه إذا اشترى عبدا أو دابة بصفة كذا وكذا، أخذ رب المال برأس ماله، والباقي بينهما.. لم يصح؛ لأنه قد لا يكون في المال ربح إلا ذلك الموصوف، وهكذا: لو قال: قارضتك على أن أرتفق بمال القراض، بأن يقول: إذا اشتريت دابة ركبتها، وإذا اشتريت دارا سكنتها.. لم يصح القراض؛ لأنه قد لا يكون في المال ربح إلا تلك المنفعة، فلا يجوز أن يختص بها أحدهما.

مسألة: شرط الربح للعامل

[مسألة: شرط الربح للعامل] إذا دفع إليه ألفا، وقال: قارضتك على هذا، على أن يكون الربح كله لك.. قال أبو العباس: كان قراضا فاسدا، فإذا عمل العامل وربح.. كان الربح كله لرب المال؛ لأنه نماء ماله وللعامل أجرة المثال؛ لأنه عمل على عوض، ولم يسلم له، فكان له أجرة المثل، ووافقنا أبو حنيفة على هذا. وإن قال: قارضتك على هذا، على أن يكون الربح كله لي.. قال أبو العباس: كان قراضا فاسدا، فإذا عمل العامل وربح.. كان الربح كله لرب المال، واستحق العامل أجرة مثله. وقال أبو حنيفة: (إذا عمل العامل في هذه.. كان بضاعة، وكان الربح كله لرب المال، ولا أجرة للعامل) . وبه قال بعض أصحابنا. ودليلنا: أن مقتضى القراض أن يكون الربح بينهما، فإذا شرطه لأحدهما.. فقد شرط ما ينافي مقتضاه، وإذا بطل العقد.. وجب للعامل أجرة المثل، كالأولى. وإن دفع إليه ألفا، وقال: اعمل عليه والربح كله لك.. قال أبو العباس: كان ذلك قرضا؛ لأنه لم يذكر اسم القراض ولا معناه، وإن قال: اعمل عليه والربح كله لي.. قال أبو العباس: كان ذلك بضاعة، فيكون الربح كله لرب المال، ولا شيء للعامل؛ لأن هذه صفة البضاعة. قال: والأصل في هذا: أن كل لفظة كانت موضوعة لعقد من العقود خاصة فيه، فإنها إذا أطلقت.. حلمت عليه، وإن عقبت بما ينافي ذلك العقد.. فسد العقد، وكل لفظة كانت محتملة لنوعين من العقود فأكثر، فإذا ذكرت، ثم عقبت بما يقتضيه أحد تلك العقود.. حملت على بيان ذلك العقد، وبيان هذا: أن قوله: قارضتك، لفظة موضوعة لنوع من العقود، وهو العقد الذي يشترك فيه العامل ورب المال في الربح، فإذا أطلقت.. حملت على ذلك، وإن عقبت بما ينافي ذلك، بأن يقول: الربح كله لي أو كله لك فسد القراض، وكذلك قوله: بعتك بلا ثمن، يكون بيعا فاسدا، وقوله: خذ هذا المال واعمل عليه، لفظة مشتركة بين القراض والقرض والبضاعة،

فرع: تغيير مقدار ربح العامل

فإذا أطلق.. لم يكن حملها على أحد أنواع العقود المذكورة بأولى من البعض، فإن عقبها بشرط يقتضيه أحد هذه العقود.. حلمت عليه، فإذا قال: اعمل عليه على أن يكون الربح بيننا.. كان قراضا. وإن قال: اعمل عليه على أن يكون الربح كله لك.. كان قرضا. وإن قال: اعمل عليه على أن يكون الربح كله لي.. كان بضاعة. وكذا إذا قال: ملكتك هذا، إن قال بعوض.. كان بيعا، وإن لم يذكر العوض.. كان هبة. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد. وقال المسعودي [في (الإبانة) ق \ 321] : لو قال: قارضتك على أن يكون الربح كله لك.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه قرض، وبه قال أبو حنيفة. والثاني: أنه قراض فاسد. وإن قال: قارضتك على أن يكون الربح كله لي.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه بضاعة. والثاني: أنه قراض فاسد. وإن قال: أبضعتك على أن جميع الربح لك.. ففيه وجهان، وكذا لو قال: بعتك هذا الثوب، ولم يذكر الثمن.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه بيع فاسد. والثاني: ليس ببيع، ولا مضمون. [فرع: تغيير مقدار ربح العامل] قال في (العدة) : لو شرط للعامل نصف الربح، ثم بعد أيام رده إلى ثلث الربح أو ربعه.. لم يجز ما لم يفسخا العقد الأول، ويجددا عقدا آخر، خلافا لأبي حنيفة رحمة الله عليه.

مسألة: فسخ القراض

دليلنا: أن عقد المضاربة الصحيحة لا يقبل تغيير المشروط من الربح، فلم يصح، كما لو انفرد به أحدهما. [مسألة: فسخ القراض] مسألة: [القراض يجوز فسخه] : القراض من العقود الجائزة لكل واحد منهما أن يفسخه متى شاء؛ لأنه عقد يتضمن تصرف العامل في رقبة المال بإذن رب المال، فكان جائزا، كالوكالة. إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجوز القراض إلى مدة من المدد) . قال أصحابنا: وفي ذلك مسائل: إحداهن: أن يقول: قارضتك إلى سنة، فإذا مضت فلا تبع، ولا تشتر.. فيبطل القراض بهذا الشرط؛ لأن عقد القراض يجوز مطلقا، فبطل بالتوقيت، كالبيع والنكاح، ولأن القصد من القراض أن يتصرف العامل في المال للربح، وقد لا يحصل الربح إلا في البيع بعد السنة. الثانية: أن يقول: قارضتك سنة على أني لا أمنعك فيها من البيع والشراء.. بطل القراض؛ لأن عقد القراض عقد جائر، فلا يجوز أن يشترط لزومه على رب المال. الثالثة: إذا قال: قارضتك على هذا سنة، فإذا مضت منعتك من الشراء دون البيع.. فالمذهب أن القراض صحيح؛ لأنه يملك منعه من الشراء متى شاء، فإذا شرط ذلك.. فقد شرط ما يقتضيه العقد، فلم يؤثر. وحكي عن أبي إسحاق المروزي: أنه قال: يفسد القراض؛ لأنه عقد عقدا، وشرط قطعه، فبطل، كما لو تزوج امرأة على أن يطلقها. وليس بشيء. الرابعة: إذا قال: قارضتك سنة وأطلق. ففيه وجهان، حكاهما أبو علي السنجي: أحدهما: لا يبطل؛ لأن له عزله بعد العقد متى شاء. والثاني: يبطل، وهو الصحيح؛ لأن تقييده بالسنة يقتضي منعا بعده من البيع والشراء.

مسألة: قارضه وجعل غلامه معه وشرط الربح أثلاثا

[مسألة: قارضه وجعل غلامه معه وشرط الربح أثلاثا] قال الشافعي رحمة الله عليه: (ولو قارضه فجعل معه رب المال غلامه، وشرط أن يكون الربح بينه وبين العامل والغلام أثلاثا.. فجائز) . قال أصحابنا: وفي ذلك مسألتان: إحداهما: أن يقول: قارضتك على هذا على أن لك ثلث الربح، ولي ثلث الربح، ولعبدي ثلث الربح، ولم يشترط على عبده شيئا من العمل في المال.. فيصح ذلك وجها واحدا؛ لأن ما شرطه رب المال لعبده هو لرب المال، فكأنه شرط لنفسه ثلثي الربح وللعامل الثلث. الثانية: أن يشترط لعبده شيئا من الربح، ويشترط أن يعمل العبد مع العامل فاختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: لا يصح؛ لأن عمل العبد كعمل سيده، فإذا لم يجز أن يشترط رب المال على نفسه شيئا من العمل.. فكذلك لا يجوز أن يشترطه على عبده، وحمل هذا القائل كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أنه أراد: إذا لم يشترط رب المال على عبده شيئا من العمل. وقال أبو العباس، وأبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: يجوز أن يشترط رب المال أن يعمل عبده مع العامل، ولا يبطل القراض بذلك، وهو ظاهر النص هاهنا وقد نص الشافعي رحمة الله عليه في (المساقاة) أيضا: (إذا ساقاه على نخل، وشرط رب المال أن يعمل غلامه مع العامل صح) ، ولأن غلامه ماله، فجاز أن يجعل تابعا لماله بخلاف عمل رب المال بنفسه. قال أبو العباس: فعلى هذا: إذا دفع إليه مالا وحمارا، أو بغلا ليحمل عليه مال القراض، أو كيسا ليجعل فيه مال القراض.. جاز. [فرع: شرط أن يكون ربح المال لصاحبه وعامله وآخر] وإن شرط رب المال لنفسه ثلث الربح، ولزوجته أو لغلامه الحر، أو الأجنبي ثلث الربح، وللعامل الثلث، فإن شرط رب المال على زوجته وغلامه الحر أو الأجنبي

مسألة: شرط المقارض على العامل البيع من رجل بعينه

العمل مع العامل.. جاز، كما لو قارض اثنين. وإن لم يشرط عليهم العمل.. لم يصح؛ لأنه شرط الربح لغير نفسه وغير العامل، وإن قال: قارضتك على هذا، على أن لك نصف الربح، ولي نصف الربح، على أن يعطي هو غلامه أو زوجته من النصف الذي له نصفه.. جاز ذلك؛ لأنه شرط النصف لنفسه، ثم شرط على نفسه شرطا لم يلزمه، فصح، ولم يؤثر في العقد، كما قال الشافعي رحمة الله عليه في من تزوج امرأة وأصدقها ألفا، على أن يعطي هو أباها ألفا.. لا يصح؛ لأنه شرط صداقا لغير الزوجة، ولو أصدقها ألفين على أن تعطي هي أباها ألفا.. صح، وتكون المرأة بالخيار: بين أن تعطي أباها ألفا، أو لا تعطيه. قال ابن الصباغ: وإن قال رب المال: قارضتك على أن لك ثلثي الربح، على أن تعطي امرأتك نصفه.. فقال القاضي أبو حامد: إن أوجب ذلك عليه.. كان ذلك قراضا فاسدا، وإن لم يوجب ذلك عليه.. صح، كما قال الشافعي رحمة الله عليه فيمن أصدق امرأته ألفين، على أن تعطي هي أباها ألفا: (أن الصداق صحيح، وتكون بالخيار: إن شاءت.. أعطت أباها، وإن شاءت.. لم تعطه) . [مسألة: شرط المقارض على العامل البيع من رجل بعينه] إذا قارضه وشرط عليه أن لا يبيع أو لا يشتري إلا من رجل بعينه.. فالمنصوص: (أن القراض لا يصح) . وحكى القاضي أبو الطيب عن الماسرجسي: أنه قال: إذا كان الرجل بيعا تجلب إليه الأمتعة، ولا تنقطع عنه في العادة.. جاز أن يعينه ليبتاع منه. وليس بشيء؛ لأنه قد لا يبيع منه ذلك الرجل ولا يشتري منه إلا ما يكون فيه الربح، وقد يغيب عنه ذلك الرجل، أو يفلس، أو يموت، وذلك يمنع مقصود عقد القراض، فلم يصح. وإن قارضه على أن لا يشتري إلا سلعة معينة، أو جنسا لا يعم وجوده في ذلك

فرع: قارضه على شيء له غلة

الوقت، كالصيد في موضع لا يوجد فيه غالبا.. لم يصح عقد القراض؛ لأن المقصود من القراض طلب الربح، وذلك لا يحصل إلا بأن يمكن العامل من التصرف التام. قال الشيخ أبو حامد: والتصرف التام يحصل بأن يقول: قارضتك، فابتع ممن شئت، وبع ممن شئت، وابتع ما شئت، أو يقول: اتجر في الجنس الفلاني، وكان مما يعم وجوده في الشتاء والصيف، كالثياب، والطعام. وقال الشيخ أبو إسحاق المروزي: وهكذا: إذا قارضه على أن يتجر في جنس يعم وجوده في بعض الأوقات دون بعض، كالرطب، والعنب.. فيصح ذلك؛ لأنه يعم وجوده في وقته، فتمكن التجارة فيه. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز إلا أن يقول: فإذا انقطع.. فاتجر فيما شئت، أو في جنس يعم وجوده في الشتاء والصيف، وليس بشيء. فإن قيل: فقد قلتم لا يجوز أن يقارضه إلى مدة والقراض على ما ينقطع قراض إلى مدة؟ قلنا الفرق بينهما: أنه إذا قارضه إلى مدة.. فقد تنقطع المدة وبيده أعيان لا ربح فيها إلا ببيعها، فإذا منعه من بيعها.. تعذر المقصود، وليس كذلك إذا قارضه إلى مدة ما يوجد في وقت دون وقت؛ لأنه يتجر فيه ما دام موجودا، فيبيعه ويشتريه، فإذا انقطع ذلك.. انقطع ابتياعه، وأمكنه بيع ما في يده، فيحصل المقصود. [فرع: قارضه على شيء له غلة] ولو قارضه على أن يشتري مستغلات يكون أصلها موقوفا، وغلتها بينهما، كالنخل، والدواب، والأرض.. لم يصح القراض؛ لأن عقد القراض موضوع على أن يتصرف العامل في رقبة المال، وهذا قد شرط منعه من ذلك، فلم يصح.

فرع: تخيير المقارض العامل بنصف المال لنوع خاص

[فرع: تخيير المقارض العامل بنصف المال لنوع خاص] قال المزني: إذا دفع إليه ألف درهم، وقال: ابتع بها هرويا أو مرويا بالنصف كان فاسدا؛ لأنه لم يبين، ولا خلاف بين أصحابنا أن القراض فاسد، واختلفوا في تعليله: فقال أكثرهم: إنما فسد؛ لأن القراض يقتضي أن يكون العامل مأذونا له في البيع والشراء، وهاهنا إنما أذن له في الابتياع دون البيع. وقال أبو إسحاق: إنما فسد؛ لأن رب المال لم يبين أن النصف الذي من الربح للعامل، أو لنفسه. وقال أبو العباس: لا يفسد بذلك؛ لأن الشرط إذا أطلق.. انصرف إلى العامل، وقد مضى ذكره، وإنما فسد.. للمعنى الأول. ومنهم من قال: إنما فسد؛ لأن الهروي والمروي جنس لا يعم وجوده. وقال أبو علي بن أبي هريرة: إنما فسد؛ لأنه لم يعين أحد الجنسين. والأول أصح؛ لأن ما قاله أبو إسحاق قد مضى فساده، ومن قال: إن الهروي والمروي لا يعم وجوده.. غير صحيح؛ لأن الهروي والمروي لا يعدم وجوده في بلدة، وما قاله ابن أبي هريرة.. غير صحيح؛ لأنه يجوز أن يخيره فيما يشتريه. إذا ثبت هذا فإن اشترى العامل وربح.. كان الشراء والربح لرب المال، وللعامل أجرة المثل؛ لأنه عمل ذلك بإذنه بعوض، ولم يسلم له.. فاستحق أجرة المثل. وقال الطبري: وليس للعامل أن يبيعه؛ لأنه لم يؤذن له فيه. [فرع: إطلاق يد العامل لا يصح في محرم] إذا قارضه، وقال له: اتجر فيما شئت.. لم يجز للعامل أن يشتري الخمر، سواء كان العامل مسلما أو ذميا.

فرع: قارض على التجارة بجنس فلا يغيره

وقال أبو حنيفة: (إذا كان العامل ذميا.. جاز له أن يشتري الخمر ويبيعها؛ لأنها مال عنده، ويشاركه رب المال في الربح وإن كان مسلما) . وبنى ذلك على أصله: أن الملك يدخل في ملك الوكيل، ثم ينتقل إلى ملك الموكل. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله حرم الكلب، وحرم ثمنه، وحرم الخنزير، وحرم ثمنه، وحرم الخمر، وحرم ثمنه» . فإذا اشترى الذمي الخمر، ونقد الثمن فيه.. فهل يضمنه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يضمنه؛ لأن رب المال فوض الاجتهاد إليه، وعنده: إن التجارة في الخمر ونقد الثمن فيه جائز، فلا يكون متعديا. والثاني - وهو الصحيح -: أنه يكون ضامنا؛ لأنه لا يكون له نقد الثمن مع الحكم ببطلان البيع، فإذا فعل ذلك.. كان ضامنا. وإن اشترى العامل أم ولد، ولم يعلم بها.. قال المسعودي [في (الإبانة) ق \ 322] : فلا ضمان عليه؛ لأنه لا يعرف أم الولد. وإن اشترى العامل المسلم خمرا لم يعلم به ونقد الثمن من مال القراض.. فهل يضمن؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في (الإبانة) ] . أحدهما: لا يضمن، كما لا يضمن ما صرفه في ثمن أم الولد. والثاني: يضمن؛ لأنه كان يمكنه أن يذوقه، فإذا لم يفعل.. ضمنه. [فرع: قارض على التجارة بجنس فلا يغيره] قد ذكرنا: أن رب المال يقول: قارضتك على أن تتجر فيما شئت، أو على أن تتجر في جنس كذا، وهو مما يعم وجوده، فإذا أذن له في جنس.. لم يجز له أن يتجر في غيره؛ لأن تصرفه مقصور على إذن رب المال.

مسألة: ما يقوم به العامل في القراض

فإذا قال له: اتجر في الثياب والبز.. فهل يجوز على الإطلاق؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) . فإذا قلنا: يجوز.. دخل فيه ما يلبس من القطن والإبريسم والكتان والصوف، وهل يدخل فيه الثياب المخيطة؟ فيه وجهان، ذكرهما الطبري في (العدة) ، ولا يدخل فيه القطن؛ لأنه لا يقع عليه اسم البز، وهل تدخل فيه الأكسية البرزكانية؟ فيه وجهان: أحدهما: تدخل فيه؛ لأنها تلبس، فهي كالثياب. والثاني: لا تدخل؛ لأنها لا تدخل في إطلاق اسم البز. وإن قال: على أن تتجر في الرقيق.. فهل يجوز أن يشتري أشقاصا من الرقيق؟ فيه وجهان، حكاهما في (العدة) . وإن قال: على أن تتجر في الطعام.. لم يدخل فيه الدقيق والشعير والذرة، لأن إطلاق اسم الطعام إنما ينصرف على الحنطة. [مسألة: ما يقوم به العامل في القراض] ] : ويتولى العامل من الأعمال في مال القراض ما جرت به العادة للعامل أن يتولاه منه، كالبيع والشراء، وطي الثياب ونشرها، وحمل ما خف من المتاع؛ لأن العادة جرت بأن يتولى ذلك الرفيع والوضيع، فإن استأجر لذلك.. كانت الأجرة من ماله، ولا يلزمه أن يتولى ما لم تجر العادة أن يتولاه العامل، كحمل الأمتعة الثقيلة، بل يستأجر لها من مال القراض من يتولاها، فإن عمل ذلك بنفسه.. فلا أجرة له بذلك؛ لأنه متبرع بذلك، وإن غصب المال أو سرق.. فهل يملك المخاصمة على ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن عقد القراض يقتضي التجارة دون الخصومة.

مسألة: مقارضة عامل القراض عاملا آخر

والثاني: له ذلك؛ لأن عقد القراض يقتضي حفظ المال، وهذا من حفظ المال. [مسألة: مقارضة عامل القراض عاملا آخر] إذا قارض العامل في القراض عاملا آخر.. نظرت: فإن كان ذلك بإذن رب المال، ولم يشرط العامل الأول لنفسه شيئا من الربح، بل شرط الربح بين رب المال والعامل على ما أذن له فيه.. صح القراض، وكان العامل الأول وكيلا لرب المال في عقد القراض، وإن شرط العامل الأول لنفسه شيئا من الربح، بأن شرط أن ربح المال بينهم أثلاث.. لم يصح القراض؛ لأنه شرط الربح لغير رب المال، أو لغير العامل. فعلى هذا: إذا عمل الثاني.. كان الربح كله لرب المال، وللعامل الثاني أجرة علمه. وإن قارض العامل الأول عاملا آخر بغير إذن رب المال.. لم يصح القراض؛ لأن رب المال إنما رضي باجتهاد الأول دون اجتهاد غيره. فعلى هذا: إذا تصرف العامل الثاني في المال.. رد المال إلى بيت المال ولا كلام، وإن حصل في المال ربح.. بنينا على من غصب شيئا، أو أودع شيئا، فتصرف فيه وربح، لمن يكون الربح؟ فيه قولان: (الأول) : قال في القديم: (يكون ذلك للمغصوب منه؛ لأنا لو جعلنا ذلك ملكا للغاصب.. كان ذلك ذريعة إلى غصب الأموال والتجارة فيها لتحصيل الأرباح، وأدى إلى خفر الأمانات والودائع، فجعل ذلك لرب المال؛ لحق المال، وليحسم الباب. و (الثاني) : قال في الجديد: (يكون الربح للغاصب) . وهو الصحيح؛ لأنه إن

اشترى بعين مال الغاصب.. فالشراء باطل، فلا يتصور الربح، وإن اشترى بثمن في ذمته، ونقد المال المغصوب في الثمن.. فقد ملك السلعة، ولزمه الثمن في ذمته، فإذا نقد الثمن من المال المغصوب.. فقد تعدى بذلك، ولا تبرأ ذمته من الثمن، فإذا حصل ثمن السلعة.. فقد حصل ثمن ملكه. واختلف أصحابنا في مأخذ هذين القولين: فمنهم من قال: إنما ذكر الشافعي رحمة الله عليه هذا في القديم؛ لأنه كان يذهب في القديم إلى جواز البيع الموقوف. وهذه طريقة القفال والخراسانيين من أصحابنا. وقال أبو العباس، وأبو إسحاق رحمهما الله، وأكثر أصحابنا: لا يعرف للشافعي جواز البيع الموقوف في قديم ولا جديد، وإنما ذهب إلى هذا في القديم للمصلحة، كما ذكرناه. إذا ثبت هذا: فإن قلنا هاهنا بقوله القديم وأن الربح للمغصوب منه.. فإن لرب المال هاهنا نصف الربح إذا كان قد قارض الأول على نصف الربح، وأما النصف الثاني: فقال المزني: يكون بين العاملين نصفين، واختلف أصحابنا في ذلك على أربعة أوجه: أحدها: أن الحكم فيها كما قال المزني، وأن العامل الثاني يأخذ ربع الربح، ولا شيء له غير ذلك؛ لأن الأول قارض الثاني على أن ما رزق الله من الربح.. بينهما، والذي رزقهما الله من الربح هو النصف، وأما النصف الآخر: فهو مستحق لرب المال. والثاني: أن العامل الثاني يستحق ربع الربح، ويأخذ مع ربع الربح نصف أجرة مثله؛ لأنه دخل على أن يأخذ نصف ما رزق الله من ربح، والربح يقع على ما زاد على رأس المال، ولم يحصل له إلا نصف المشروط، فوجب أن يرجع بنصف أجرة مثله.

والثالث: وهو قول المسعودي [في (الإبانة) : ق \ 223] : إن قال الأول للثاني: قارضتك أو اعمل لي على أن لك نصف الربح.. استحق هاهنا مع ربع الربح نصف أجرة المثل، كما قال صاحب الوجه الثاني، وإن قال: قارضتك أو اعمل على ما رزق الله تعالى بيننا.. فله ربع الربح من غير شيء معه، كما قال صاحب الوجه الأول. والرابع: وهو قول ابن الصباغ: أن نصف الربح لا يقسم بين العاملين، بل يكون للعامل الأول؛ لأن المضاربة فاسدة، والشرط لا يثبت مع الفاسد، فيرجع العامل الثاني على العامل الأول بجميع أجرة مثله؛ لأنه غره. وأما إذا قلنا بالقول الجديد، وأن ربح المال المغصوب للغاصب، وكان العامل الثاني قد اشترى في الذمة، ونقد الثمن من مال القراض وربح.. فلمن يكون الربح؟ قال المزني: يكون الربح هاهنا للعامل الأول، وللعامل الثاني أجرة عمله، واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من خطأ المزني، وقال: يكون الربح هاهنا للعامل الثاني؛ لأنه هو المتصرف هاهنا، فكان الربح له كالغاصب. ومنهم من وافق المزني، وقال: يكون الربح هاهنا للأول؛ لأن الثاني هاهنا تصرف للأول، فكان الربح له، ويجب للثاني أجرة مثله، بخلاف الغاصب له، فإنه تصرف لنفسه، وأما الضمان: فإن كان المال باقيا.. فللمالك أن يطالب برده من شاء منهما، وإن كان تالفا.. فله أن يطالب به من شاء من العاملين، فإن طالب الأول.. لم يرجع الأول على الثاني؛ لأنه دخل معه على الأمانة، وإن رجع به على الثاني.. فهل يرجع الثاني على الأول؟ فيه قولان. (الأول) : قال في القديم: (يرجع عليه) ؛ لأنه غره. و (الثاني) : قال في الجديد: (لا يرجع عليه) ؛ لأن التلف حصل بيده.

فرع: قارضه على أن نصف الربح للمال

[فرع: قارضه على أن نصف الربح للمال] قال الطبري: فإن دفع العامل المال إلى رب المال، وقال: قارضتك على هذا المال على أن يكون لك نصف الربح الذي شرطته لي.. لم يصح، ويبطل به عقد القراض، خلافا لأبي حنيفة. [فرع: لا يشتري المقارض من مال القراض] ] : لا يجوز لرب المال أن يشتري من المال الذي في يد العامل للقراض؛ لأن المال له، فلا يجوز أن يشتري منه، كما لا يجوز أن يشتري من وكيله. وإن كان لرجل غلامان في القراض مع كل واحد منهما مال منفرد به.. فهل يجوز لكل واحد منهما أن يشتري من الآخر؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) . ويجوز للسيد أن يشتري من مكاتبه؛ لأنه معه كالأجنبي، وهل يجوز للسيد أن يشتري من عبده المأذون له؟ ينظر فيه: فإن لم يكن على المأذون له دين.. لم يجز للسيد أن يشتري منه؛ لأن ما في يده ملكه. وإن كان عليه دين معاملة.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: يصح؛ لأن حقوق الغرماء قد تعلقت بما في يد العبد، فصار كالمستحق لهم، فصار كما لو اشترى منهم. والثاني: لا يصح؛ لأن تعلق حق الغرماء به لا يخرجه عن ملكه.

مسألة: شراء عامل القراض عبدا

[مسألة: شراء عامل القراض عبدا] ] : وإذا دفع إليه ألف درهم قراضا، فاشترى العامل عبدا بألف درهم للقراض صح، فإن اشترى عبدا آخر بألف للقراض.. لم يصح للقراض؛ لأن رأس المال ألف، وقد استحق تسلميه للأول، فإن اشترى الثاني بعين الألف.. لم يصح؛ لأنه اشترى بمال غيره ما لم يؤذن له فيه، وإن اشترى الثاني بألف في الذمة.. لزم الشراء للعامل، والثمن عليه؛ لأنه اشترى لغيره ما لم يأذن فيه، فلزمه. قال المسعودي [في (الإبانة) ق \ 223] : فإن أقبض الألف في البيع الثاني.. انفسخ البيع الأول إذا وقع الشراء الأول بعينها. قلت: ويحتمل أنه أراد: إذا تلفت قبل أن يقبضها البائع الأول. [مسألة: إطلاق يد العامل والإذن له وعدمهما] وإن دفع إلى رجل مالا قراضا.. فلا يخلو: إما أن يطلق رب المال الإذن، أو يقيده. فإن أطلق.. لم يجز للعامل أن يبيع إلا بنقد البلد، ولا يبتاع إلا بنقد البلد، ولا يبيع إلى أجل، ولا يبتاع إلى أجل؛ لأنه يتصرف في مال غيره بغير إذنه، فاقتضى الإطلاق، وذلك كالوكيل، ولأن المقصود بالقراض طلب الربح فإذا باع أو ابتاع إلى أجل.. كان منافيا للمقصود، ولأنه إذا باع إلى أجل.. أخرج السلعة من يده، وربما لم يحصل له الثمن، فإذا ابتاع إلى أجل.. فإنه ابتاع بفضل. قال الشيخ أبو حامد: فإن قال له: بع نقدا أو نسيئة، واشتر نقدا أو نسيئة.. جاز له أن يفعل ما شاء من ذلك؛ لأن رب المال قد أذن له في ذلك. قال في (الأم) : (فإن قال له: تصرف كيف شئت، وافعل ما ترى.. كان كالمطلق) . قال الطبري: وإن قال: قارضتك على أن لا تبيع إلا بالنسيئة.. فهل يبطل؟ فيه وجهان:

فرع: صحة شراء المعيب للقراض

أحدهما: يصح، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه مأذون فيه. والثاني: لا يصح؛ لأنه مقارضة على خلاف معهودها، وفيه خطر على المال، فإذا قلنا: يصح.. فهل يصح بيعه بالنقد؟ فيه وجهان: [فرع: صحة شراء المعيب للقراض] وإن اشترى العامل شيئا معيبا.. صح شراؤه للقراض، ولو وكله بشراء سلعة معينة موصوفة.. لم يكن له أن يشتري سلعة معيبة، فإن اشتراها معيبة.. لم يصح، والفرق بينهما: أن القصد بالقراض طلب الربح، وقد يحصل الربح بطلب المعيب، والقصد في شراء السلعة الموصوفة الاقتناء، ولا يقتنى إلا السليم. وإن اشترى العامل شيئا ظنه سليما، فبان أنه معيب.. فللعامل أن يفعل ما رأى فيه الحظ من الرد والإمساك؛ لأنه قائم مقام رب المال، وإن حضر رب المال والعامل، فإن اتفقا على الرد أو الإمساك.. فلا كلام وإن اختلفا، فدعا أحدها إلى الإمساك والآخر إلى الرد.. نظر الحاكم إلى ما فيه الحظ من ذلك، فقدم قول من دعا إليه؛ لأن المقصود طلب الربح، ولكل واحد منهما حق متعلق به، فقدم ما فيه المصلحة لهما. [مسألة: شراء من يعتق على رب المال بإذنه] ] : وإن اشترى العامل من يعتق على رب المال.. نظرت: فإن كان بإذن رب المال.. صح الشراء، وعتق على رب المال، كما لو اشتراه بنفسه، فإن اشتراه بجميع مال القراض.. بطل القراض؛ لأنه اشتراه بإذن رب المال،

فرع: شراء زوج المضاربة

وعتق عليه، فهو كما لو أتلفه رب المال، فإن لم يكن في المال ربح.. فلا شيء للعامل؛ لأن العامل في القراض صحيح لا يستحق شيئا إذا لم يكن في المال ربح، وإن كان في المال ربح.. رجع العامل على رب المال بقدر حصته من الربح؛ لأنه أتلف ذلك، فلزمه ضمانه، وإن اشتراه ببعض مال القراض، فإن كان الثمن مثل رأس المال.. انفسخ القراض في رأس المال، ويكون ما بقي من الربح بينهما، وإن كان أقل من رأس المال.. انفسخ العقد، ورد الثمن ويكون ما بقي من رأس المال على القراض والربح بينهما وإن كان الثمن أكثر من رأس المال انفسخ القراض في جميع رأس المال وبعض الربح ويقتسمان ما بقي من الربح، ثم يرجع العامل على رب المال بقدر حصته من الربح الذي حصل في ثمن العبد؛ لأنه تلف في حقه. هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في (التعليق) . وذكر القاضي أبو الطيب في (المجرد) : إذا كان الثمن جميع ما بيده، وكان بعضه ربحا، وقلنا: العامل حصته بالظهور، ولم يعلم العامل أن الذي اشتراه له يعتق على رب المال.. لم يعتق في قدر نصيبه، إلا أن يكون له مال آخر، فيقوم عليه. وإن اشتراه العامل بغير إذن رب المال.. لم يصح الشراء في حق رب المال؛ لأن المقصود بالقراض شراء ما يربح فيه، وهذا لا يوجد في شراء من يعتق على رب المال. فإن اشترى بعين مال القراض.. لم يصح الشراء في حق العامل أيضا، وإن اشتراه بثمن في الذمة.. صح الشراء في حق العامل. [فرع: شراء زوج المضاربة] وإن كان رب المال امرأة ولها زوج عبد، فاشتراه عاملها في القراض، فإن اشتراه بإذنها.. صح شراؤه للقراض، وينفسخ نكاحها، كما لو اشترته بنفسها، وإن اشتراه بغير إذنها بعين مال القراض.. فهل يصح شراؤه للقراض؟ فيه وجهان:

مسألة: ما يجب على عامل القراض وما لا يجوز له فعله

أحدهما: يصح الشراء، وينفسخ به النكاح، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن الربح يحصل بشرائه، فصح، فهو كما لو لم يكن لها زوج، أو كما لو أذنت في شرائه. والثاني: لا يصح، وهو المنصوص؛ لأن إذنها يقتضي شراء ما لها فيه حظ ومنفعة، وشراء زوجها يضرها؛ لأنه ينفسخ نكاحها، ويسقط به حقها من الكسوة والنفقة، فهو كما لو اشترى لها من يعتق عليها وإن اشتراه بثمن في ذمته فإن قلنا: يصح شراؤه للقراض إن اشتراه بعين مال القراض.. صح أيضا هاهنا. وإن قلنا هناك: لا يصح للقراض.. فإنه يصح في حق العامل وحده، كما قلنا في العامل إذا اشترى من يعتق على رب المال بغير إذنه، بثمن في ذمته. [مسألة: ما يجب على عامل القراض وما لا يجوز له فعله] مسألة: [ما يجب على العامل تجاه مال القراض وما لا يجوز له فعله] : وإذا قارضه على مال؛ ليتجر به في الحضر.. فقد ذكرنا: أنه يتولى بنفسه ما جرت العادة أن يتولاه العامل بنفسه، ولا يستحق لذلك عوضا، وليس عليه أن يتولى من الأعمال ما لم تجر عادة العامل أن يتولاه بنفسه، مثل: النداء على المتاع، وحمله إلى الخانات، وله أن يستأجر من يعمل ذلك من مال القراض. ولا يستحق أن ينفق على نفسه من مال القراض، ولا يكتسي منه بلا خلاف؛ لأنه إنما يستحق الجزء المشروط له من الربح دون غيره. ولا يسافر بالمال من غير إذن رب المال. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجوز إذا كان الطريق آمنا) . دليلنا: أن السفر فيه تغرير بالمال؛ لأنه يعرض فيه الخوف والفساد، فلم يملكه العامل من غير إذن رب المال، كما لو كان الطريق مخوفا. وإن أذن له رب المال أن يسافر بالمال.. جاز له أن يسافر به؛ لأن المنع منه لحقه، وقد رضي به، وإذا سافر به.. فعليه أن يتولى من الأعمال ما جرت العادة أن يتولاه العامل في السفر، مثل: حفظ المتاع، والنوم عليه، وليس عليه أن يتولى من

الأعمال ما لم تجر العادة أن يتولاه العامل، مثل: رفع الأحمال، وحطها، وما أشبه ذلك، بل يستأجر من مال القراض من يتولاها. وهل تجب للعامل النفقة في السفر من مال القراض، مثل: المأكول، والمشروب، وما يحتاج إليه من المركوب والملبوس؟ نقل المزني في (المختصر) [3/62] : (أن له النفقة بالمعروف) ، وقال في (البويطي) : (ليس له ذلك إلا بإذن رب المال) . وقال المزني في (الجامع الكبير) : حفظت عن الشافعي: (أن القراض لا يصح حتى يشرط العامل لنفسه نفقة معلومة في كل يوم، وثمن ما يلبسه للعمل) . واختلف أصحابنا في ذلك على طريقين. فـ (الأول) : قال بعض أصحابنا: لا يستحق العامل ذلك، قولا واحدا، لأن ذلك إنفاق على نفسه، فلم يستحقه العامل في السفر، كما لو كان في الحضر، وتأولوا ما نقله المزني في (المختصر) : على النفقة على الأعمال التي لا يتولاها العامل بنفسه. و (الطريق الثاني) : منهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما: لا يستحق ذلك؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن ينفرد العامل بجميع الربح، لأنه قد يحتاج إلى جميع الربح للنفقة. والثاني: يستحق ذلك، وهو قول مالك؛ لأن سفره لأجل المال، فكانت نفقته فيه، ولأنا لو قلنا: إنه ينفق على نفسه من ماله.. لأدى إلى أن لا يحصل له شيء من الربح؛ لأنه قد ينفق جميع نصيبه من الربح، وربما لا يربح، فيغرم النفقة. فإذا قلنا: لا نفقة له.. فلا كلام، وإذا قلنا: يستحق النفقة.. فالذي يقتضي المذهب: أنه لا يستحق النفقة.. إلا في الربح؛ لأن مقتضى القراض رد رأس المال. وكم يستحق من النفقة؟ فيه وجهان:

فرع: سافر مقارضا وبمال له فالنفقة محصصة

أحدهما: جميع النفقة؛ لأن يسافر لأجل المال، فكانت جميع نفقته فيه. والثاني: أنه يستحق ما زاد لأجل السفر على نفقة الحضر؛ لأن ذلك هو القدر الذي لزمه لأجل السفر. وهل يفتقر إلى تقدير النفقة؟ فيه قولان: (الأول) : قال في (البويطي) : (يفتقر إلى تقدير النفقة في عقد القراض) ؛ لأنه جزء يستحقه العامل من مال القراض، فكان مقدرا، كحصته من الربح. والثاني: لا يفتقر، وهو الأصح؛ لأن الأسفار تختلف، فيقل الإنفاق فيها ويكثر، وذلك لا يمكن تقديره، بخلاف حصة العامل من الربح، قال أبو العباس، وأبو إسحاق: يضعف التقدير جدا. [فرع: سافر مقارضا وبمال له فالنفقة محصصة] ] : فإن سافر العامل في مال القراض، وبمال له.. كانت النفقة محصصة على المالين. قال أبو علي في (الإفصاح) : وإنما تحصص النفقة على المالين إذا كان ماله مما يقصد له السفر، فأما إذا كان يسيرا: فلا حكم له، وتكون النفقة والمؤن كلها في مال القراض، وكذلك: إن سافر بمال له ومالين منفردين لمقارضين له.. كانت نفقته محصصة على قدر الأموال فيها؛ لأن سفره لأجلها، فقسمت نفقته عليها. وإن دفع إليه مالا قراضا، وأذن له في السفر فيه إلى بلد، فلقيه رب المال في تلك البلد التي سافر إليها، وقد نض المال، فأخذه رب المال، وأراد العامل الرجوع إلى بلده.. فهل يجب على رب المال نفقة الرجوع؟ فيه قولان: أحدهما: يجب له ذلك؛ لأنه استحق نفقة ذهابه ورجوعه بمقتضى القراض، فلم تسقط نفقة رجوعه باسترجاع المال.

فرع: موت المقارض والعامل في السفر

والثاني: لا يستحق؛ لأن عقد القراض قد انفسخ، فلا يستحق بعد ذلك نفقة، كما لو مات العامل، فإنه لا يستحق الكفن في مال القراض. [فرع: موت المقارض والعامل في السفر] يمنعه النفقة] : ذكر الطبري: لو مات رب المال والعامل في السفر.. فليس له أن ينفق من مال المقارضة ذاهبا ولا راجعا في أحد الوجهين، خلافا لأبي حنيفة؛ لأن المال قد صار للورثة، فافتقر إلى إذنهم. [مسألة: وقت استحقاق العامل الربح] ] : إذا قارضه قراضا صحيحا، وحصل في المال ربح.. فمتى يملك العامل ما شرط له حصة من الربح؟ فيه قولان: أحدهما: وهو قول مالك، والمزني: (أنه لا يملكه إلا بالمقاسمة) ؛ لأن العامل لو ملك شيئا من المال قبل القسمة.. لكان شريكا لرب المال، حتى لو تلف شيء من المال.. لكن محسوبا من المالين، فلما كان التالف محسوبا من الربح.. دل على: أنه لم يملك شيئا من المال. والثاني: أنه يملك حصته من الربح بالظهور، وهو قول أبي حنيفة. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأن العامل إنما يملك فسخ القراض بالمطالبة بحقه من الربح، ومن ملك مطالبة شريكه بقسمة ما بينهما.. دل على: أنه يملك حصته بالظهور، كالمال بين الشريكين. [مسألة: لا يقسم الربح إلا برضا المتعاقدين] فإن طلب أحد المتقارضين قسمة الربح بينهما مع بقاء عقد القراض، وامتنع الآخر.. لم يجبر الممتنع؛ لأن لكل واحد منهما غرضا في الامتناع؛ لأن رب المال يقول: الربح وقاية لرأس المال، والعامل يقول: لا آمن أن أخسر، فأحتاج إلى رد

فرع: اقتسما الربح قبل نهاية المضاربة

ما أخذته، فإن اتفقا على قسمة الربح مع بقاء عقد القراض.. صح؛ لأن الحق لهما، فإن حصل بعد ذلك في المال خسران، وكان للعامل نصف الربح، وقد أخذه.. كان على العامل أقل الأمرين من نصف الخسران، أو رد جميع ما أخذ؛ لأن الربح والخسران حصلا في عقد واحد، فجبر أحدهما بالآخر. [فرع: اقتسما الربح قبل نهاية المضاربة] ] : إذا دفع إليه ألفا، فاتجر بها، فصارت ألفين، فاقتسما الربح بينهما وتفاصلا، ثم تلف الأصل في يد العامل من غير تفريط.. فلا شيء عليه. وقال أبو حنيفة: (عليه أن يرد ما أخذ من الربح) . دليلنا: أنهما اقتسما الفضل والأصل حاصل، فصحت القسمة، وترك أصل المال في يده أمانة، فهو كما لو استرده، ثم دفعه إليه، فتلف. [فرع: نقص مال المضاربة ثم زاد فكيف يقتسمان الربح] إن دفع رجل إلى رجل مائة درهم قراضا، فاتجر العامل فيها، فخسر عشرة وبقي في يده تسعون درهما، فأخذ رب المال عشرة منها، ثم اتجر العامل بالثمانين، فبلغت مائة وخمسين درها.. فإن رأس المال يكون هاهنا تسعة وثمانين درهما إلا تُسع درهم، وما زاد على ذلك ربح يقتسمانه على ما شرطاه بينهما؛ لأن رأس المال كان مائة، فلما خسر عشرة.. بقي في يد العامل تسعون. ولو أخذ رب المال جميع التسعين.. انفسخ القراض فيها وفي العشرة التي خسرها العامل، فلما أخذ رب المال عشرة لا غير.. انفسخ القراض فيها وفي قسطها من الخسران، والعشرة المأخوذة هي تُسع التسعين، وقسطها من الخسران درهم وتسع درهم؛ لأنك إذا قسمت العشرة على تسعين أصاب كل عشرة درهم وتُسع درهم، فاحتجت أن تسقط ما خص العشرة المأخوذة وما خصها من الخسران من رأس المال،

فرع: أخذ المقارض نصف رأس المال واتجار العامل بالباقي

وهو مائة، فيبقى تسعة وثمانون درهما إلا تُسع درهم، ويكون الباقي من المائة هو رأس المال، وما زاد على ذلك ربح. فإن كانت بحالها وخسر العامل من المائة عشرين درهما، ثم أخذ رب المال من الباقي عشرين درهما، ثم اتجر العامل فيما بقي، وهو ستون، فبلغ مائة وخمسين.. فإن رأس المال هاهنا يكون خمسة وسبعين، وما زاد فهو ربح؛ لأنه لما خسر عشرين وبقي ثمانون، فأخذ رب المال عشرين منها، وذلك ربعها، فسقطت هي وما قابلها من الخسران من رأس المال، والذي قابلها من الخسران خمسة؛ لأن العشرين - التي هي خسران - مقسومة على الثمانين.. فكأنه أخذ من المائة خمسة وعشرين، وتبقى خمسة وسبعون، هي رأس المال. وإن كانت هي بحالها، غير أن العامل خسر من المائة عشرين، ثم أخذ رب المال من الثمانين أربعين، ثم اتجر العامل فبلغت ستين.. فإن رأس المال يكون خمسين؛ لأنه لما أخذ من الثمانين نصفها.. انفسخ القراض فيها وفيما يخصها من الخسران، وهو عشرة، فكأنه أخذ خمسين من مائة. وهكذا: لو خسر العامل من المائة عشرة، وبقي في يده تسعون، فأخذ رب المال منها خمسة وأربعين، ثم اتجر العامل وربح.. فإن رأس المال يكون خمسين، وما زاد فهو ربح؛ لأنه لما أخذ من التسعين نصفها.. انفسخ فيها القراض وفيما يخصها من الخسران، وهو خمسة، فكأنه أخذ خمسين من مائة، فلما اتجر العامل وربح.. كان رأس المال ما بقي بعد المأخوذ. [فرع: أخذ المقارض نصف رأس المال واتجار العامل بالباقي] فرع: [أخذ المقارض نصف رأس المال بعد الربح ثم اتجر العامل بالباقي] : فإن دفع إليه مائة درهم قراضا، على أن الربح بينهما نصفان، فاتجر العامل فيها فبلغت مائة وستين درهما منها، فأخذ رب المال ثمانين درهما منها، ثم اتجر العامل في الباقي، فخسر حتى بلغت عشرين.. فإن العامل يرد العشرين التي بقيت في يده إلى

فرع: قارضه على ألف وأضافه ألفا أخرى والربح بينهما

رب المال، ويأخذ من رب المال خمسة عشر درهما من الثمانين التي قبضها، وإنما كان كذلك؛ لأن المال لما بلغ مائة وستين درهما، فإن خمسة أثمان المال - وهو مائة هو رأس المال، وثلاثة أثمانه - وهو ستون - ربح، فلما أخذ رب المال الثمانين من المالين.. كان خمسة أثمانه - وهو خمسون درهما - من رأس المال، وثلاثة أثمانه - وهو ثلاثون - من الربح.. لا يجبر به الخسران؛ لأن المأخوذ قد انفسخت فيه المضاربة، فكان للعامل نصف ذلك الربح، وهو خمسة عشر. وأن كانت بحالها، فاتجر العامل في المائة، فبلغت مائة وخمسين درهما، ثم أخذ رب المال خمسين درهما منها، وبقي في يد العامل مائة، فاتجر فيها، فعادت إلى خمسين.. فإن العامل يرد الخمسين التي في يده إلى رب المال، ويأخذ من الخمسين التي أخذها رب المال سدسها؛ لأن ثلثي الخمسين المأخوذة رأس المال، وثلثها ربح، وللعامل نصف الربح. وإن ربح العامل في المائة عشرين، فأخذ رب المال منها ستين، ثم اتجر العامل في الستين الباقية، فخسر، فعادت إلى أربعين أو أقل.. فإنه يرد ما بقي في يده إلى رب المال، ويأخذ من رب المال نصف سدس الستين، وهو خمسة؛ للمعنى الذي ذكرناه. [فرع: قارضه على ألف وأضافه ألفا أخرى والربح بينهما] وإن دفع إليه ألفا قراضا، على أن الربح بينهما نصفان، ثم دفع إليه ألفا قراضا، على أن يضمها إلى الأولى، ويعمل عليهما، ويكون الربح بينهما نصفين.. قال الشافعي: (فإن قارضه على الثانية قبل أن يتصرف في الأولى.. صح القراض فيهما، وإن قارضه على الثانية بعد أن تصرف في الأولى.. لم يصح القراض على الثانية) . ووجهه: أنه عقد معه قراضين على كل واحد من الألفين قراضا، ومن شأن العقدين أن لا يبنى أحدهما على الآخر في الربح والخسران، فإذا كان قد تصرف في الأولى.. فربما حصل فيه ربح أو خسران، فإذا ضم الثانية إليها.. جبر الخسران في الأولى بالثانية، فلم يصح، وإذا لم يكن تصرف في الأولى.. فإنه لا يفضي إلى أن

فرع: شراء عامل القراض من يعتق عليه

يجبر خسران إحداهما في الأخرى، بل إن حصل خسران.. فهو فيهما، وإن حصل ربح.. فهو فيهما، وإن تصرف في الأولى ونضت.. فقال القاضي أبو الطيب في (المجرد) : جاز ضم الثانية إليها؛ لأنه قد أمن المعنى الذي ذكرناه، وصار كأنه لم يتصرف في الأولى. [فرع: شراء عامل القراض من يعتق عليه] وإن اشترى العامل من يعتق عليه، كابنه وأبيه، بمال القراض بغير إذن رب المال.. نظرت: فإن لم يكن في المال ربح حال ما اشتراه.. صح شراؤه؛ لأنه لا ضرر على رب المال بذلك؛ لأنه يمكن بيعه، فإن ظهر في المال ربح فلا كلام، وإن كان في المال ربح قبل أن يبتاع العبد، فإن قلنا: إن العامل لا يملك حصته من الربح إلا بالقسمة.. لم يعتق الأب ولا شيء منه؛ لأن العامل لا يملك منه شيئا، فإن اقتسما الربح، وحصل في نصيب العامل.. عتق عليه، وإن حصل في نصيب رب المال لم يعتق عليه، وإن حصل بينهما.. عتق على العامل نصيبه منه، وقوم عليه نصيب رب المال فيه إن كان العامل موسرا بقيمة نصيب رب المال. وإن قلنا: إن العامل يملك حصته من الربح بالظهور.. فهل يعتق عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يعتق عليه؛ لأن ملكه عليه غير تام قبل القسمة؛ لأن الربح قبل القسمة وقاية لرأس المال، وإنما يتم ملكه بالقسمة. فعلى هذا: حكمه حكم ما ذكرناه إذا قلنا: لا يملك حصته من الربح إلا بالقسمة. والوجه الثاني: يعتق عليه؛ لأنه ملكه، فعتق عليه، كما لو اشترى العامل من يعتق على رب المال بإذنه. فعلى هذا: إن كان العامل يملك من الربح بقدر قيمته.. عتق عليه جميعه، ولا كلام، وإن كان لا يملك من الربح إلا بقدر بعض قيمته.. عتق عليه ذلك القدر، وقوم

مسألة: يد عامل القراض يد أمانة

عليه نصيب رب المال فيه إن كان العامل موسرا به، وإن لم يكن له مال آخر.. عتق منه بقدر نصيب العامل لا غير. وأما إذا اشتراه وفي المال ربح حين الشراء: فإن قلنا: إن العامل لا يملك حصته من الربح إلا بالمقاسمة، أو قلنا: إنه يملك حصته من الربح بالظهور، وقلنا - بأحد الوجهين في المسألة قبلها - على هذا القول: إنه لا يعتق عليه.. صح شراؤه هاهنا؛ لأنه لا ضرر على رب المال بذلك. وإن قلنا: يملك حصته من المال بالظهور، وقلنا - بأحد الوجهين في المسألة قبلها - على هذا القول: إنه يعتق عليه حصته منه.. فهل يصح الشراء هاهنا؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يصح؛ لأنهما شريكان في المال، وأحد الشريكين إذا اشترى من يعتق عليه.. صح شراؤه. فعلى هذا: إن كان العامل يملك من الربح قدر قيمته يوم الشراء.. عتق عليه، وإن كان لا يملك من الربح إلا أقل من قيمته، فإن كان موسرا بقيمة الباقي.. عتق عليه، وإن كان معسرا بقيمة باقيه.. عتق عليه بقيمة قدر ما ملك من الربح من رقبته، ورق الباقي. والوجه الثاني: لا يصح الشراء؛ لأن ذلك يؤدي إلى تنجز حق العامل قبل رب المال، ولأنه إذا عتق بعضه، ولم يكن موسرا بقيمة الباقي.. نقصت قيمة الباقي، واستضر رب المال بذلك، والعامل لا يملك تصرف تصرفا فيه ضرر على رب المال. [مسألة: يد عامل القراض يد أمانة] والعامل أمين على مال القراض، لا يضمن شيئا منه إلا بالتعدي؛ لأن رب المال ائتمنه عليه، فهو كالمودع.

فرع: إذا فرط العامل بمال القراض

[فرع: إذا فرط العامل بمال القراض] ضمنه] : فإن خلط العامل مال القراض بمال له، ولم يتميزا.. صار ضامنا له؛ لأنه تعدى بذلك فضمنه كالمودع. قال الشيخ أبو حامد: وإن أخذ العامل من رب المال ما ليس يمكنه القيام فيه والتصرف، فتصرف فيه وتلف، أو تلف بعضه.. لزمه ضمانه؛ لأنه كان يمكنه أن لا يأخذ إلا ما يمكنه القيام بحفظه والتصرف فيه، فإذا أخذ أكثر من ذلك.. صار مفرطا فيه، فضمنه. [فرع: قارضه بألفي درهم فتلف أحدهما] فيحسب من الربح أو رأس المال] : وإن دفع رجل إلى رجل آخر ألفي درهم قراضا، فتلف أحدهما.. نظرت فيه: فإن تلف في يد العامل قبل أن يتصرف.. انفسخ القراض فيها، وكان رأس المال الألف الأخرى لا غير، وجها واحدا؛ لأنها تلفت وهي باقية بعينها، فهي كما لو تلفت قبل أن يقبضها العامل. وإن تصرف العامل بالألفين، واشترى بهما وباع، ونض المال، ثم تلف منه ألف.. فإن التالف يكون من الربح، وجها واحدا؛ لأن الربح وقاية لرأس المال، فكان محسوبا منه. وإن اشترى بكل واحد من الألفين عبدا، فتلف أحدهما.. ففيه وجهان: أحدهما: أن التالف من رأس المال، فيكون رأس المال ألفا لا غير؛ لأن العبدين بدل الألفين، ولو تلف أحد الألفين.. لكان محسوبا من رأس المال، فكذلك إذا تلف ما هو بدل عنه. والثاني: أن التالف يحسب من الربح. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح

فرع: اشترى عبد فتلف مال القراض قبل تسليم ثمنه

ويكون رأس المال ألفين؛ لأنه تلف بعد أن تصرف فيه، فكان محسوبا من الربح، كما لو باع العبد، وتلف ثمنه. [فرع: اشترى عبد فتلف مال القراض قبل تسليم ثمنه] وإن دفع إلى رجل ألف درهم قراضا، فاشترى العامل عبدا للقراض، فتلف الألف قبل أن يسلمه إلى بائع العبد.. نظرت: فإن كان العامل اشترى العبد بعين الألف.. بطل بيع العبد، وانفسخ القراض؛ لأن تلف الثمن المعين قبل القبض يبطل به البيع. وإن اشترى العبد بثمن في ذمته.. نظرت: فإن كان تلف الألف قبل الشراء.. فإن القراض ينفسخ في الألف، ويلزم العامل ثمن العبد الذي اشتراه، وجها واحدا؛ لأنه اشتراه بعد انفساخ القراض، فلزمه الثمن. وإن تلف الألف بعد الشراء.. ففيه وجهان: أحدهما: أن الألف تلزم العامل؛ لأن إذن رب المال إنما تضمن التصرف في قدر المال الذي دفعه إليه في القراض، ولم يضمن أن يلزمه أكثر منه. والثاني: أن الألف تلزم رب المال؛ لأن العامل اشترى العبد لرب المال؛ لأن إذنه له تضمن الشراء بعين المال وبثمن في الذمة، كرجل وكل وكيلا ليشتري له عبدا بثمن في ذمته، فسلم إليه ألفا لينقدها في الثمن، فاشترى له عبدا بألف في ذمته، ثم تلف الألف قبل أن يسلمه، فإن الموكل يلزمه ثمن العبد. فإذا قلنا بهذا: ففي قدر رأس المال الوجهان في المسألة قبلها: أحدهما: أن رأس المال الألفان الأول والثاني. والوجه الثاني: أن رأس المال الألف الثاني لا غير. فروع ثلاثة - ذكرها أبو العباس -:

الأول: [اشترى بمال القراض عبدا فقتله عبد آخر عمدا] : إذا اشترى العامل عبدا بمال القراض، فقتله عبد آخر عمدا.. نظرت: فإن لم يظهر في المال ربح حين القتل.. فالحق في ذلك لرب المال، فإن اقتص من العبد القاتل.. جاز، وإن عفا عنه على غير مال.. صح، وانفسخ القراض في قدر قيمة العبد المقتول، وإن عفا عنه على مال.. صح، وكان القراض ثابتا في المال الذي عفا عنه؛ لأنه بدل عن العبد، فإن كان ذلك المال مثل قيمة العبد المقتول، أو دونه.. كان ذلك لرب المال، وإن كان أكثر من قيمة المقتول.. كان قدر قيمة المقتول لرب المال، وما زاد على ذلك ربح بينهما. وإن كان قد ظهر في المال ربح حين القتل.. فالحق فيه لرب المال والعامل، وهما بالخيار، فإن تراضيا على القصاص.. اقتصا، وإن عفوا على مال أو على غير مال.. صح، وإن عفا أحدهما عن القصاص.. صح عفوه، ولم يكن للآخر أن يقتص؛ لأن العامل يملك حصته من الربح في أحد القولين، وفي الآخر قد تعلق له فيه حق. الفرع الثاني: [اشترى العامل بمال القراض جارية، لم يجز له وطؤها] : إذا اشترى العامل جارية للقراض.. لم يجز له وطؤها؛ لأنه إن لم يظهر في المال ربح.. فهي ملك لرب المال، ولا يجوز له وطء جارية غيره، وإن ظهر في المال ربح، فإن قلنا: إنه لا يملك شيئا من الربح إلا بالقسمة.. فهي جارية غيره، وإن قلنا: إنه يملكه بالظهور.. فهي جارية مشتركة بينهما، ولا يجوز لأحد الشريكين وطء الجارية المشتركة. ولا يجوز لرب المال وطؤها؛ لأنه إن كان في المال ربح، وقلنا: يملك العامل حصته بالظهور.. فهي مشتركة بينهما، وإن قلنا: لا يملكه إلا بالقسمة، أو لم يظهر في المال ربح.. فهي معرضة لكي يحصل فيها ربح، فيتعلق بها حق العامل، والوطء ينقصها، وربما أحبلها.

فرع: اشترى عبدا للقراض فأراد أحدهما أن يكاتبه دون الآخر

إذا ثبت هذا: فإن أذن رب المال للعامل في وطئها.. لم يجز؛ لأن الوطء لا يستباح بالإباحة، وإن أذن العامل لرب المال في وطئها، فإن كان قد ظهر في المال ربح، وقلنا: إنه يملك حصته منه بالظهور.. لم يجز؛ لما ذكرناه، وإن قلنا: لا يملكه إلا بالقسمة، أو لم يظهر في المال ربح.. جاز لرب المال وطؤها، كما لو أذن المرتهن للراهن في وطء الجارية المرهونة. الفرع الثالث: [جارية القراض لا تزوج] : إذا اشترى العامل جارية للقراض، فأراد أحدهما أن يزوجها دون الآخر.. لم يجز؛ لما ذكرناه في الوطء، فإن تراضيا على ذلك.. جاز؛ لأن الحق لهما، ولو اشترى العبد المأذون له في التجارة جارية، وأراد السيد تزويجها، فإن لم يكن على المأذون له دين.. جاز ذلك بغير رضا المأذون له؛ لأن الملك فيها للسيد دونه، وإن كان على المأذون له دين.. لم يجز للسيد، لأن حقوق الغرماء تعلقت بها. [فرع: اشترى عبدا للقراض فأراد أحدهما أن يكاتبه دون الآخر] فرع: [اشترى عبدا للقراض، لم يجز لأحدهما مكاتبته دون الآخر] : قال الشافعي: (إذا اشترى العامل عبدا للقراض، فاراد أحدهما أن يكاتبه دون الآخر.. لم يجز؛ لأن الكتابة إتلاف، فإن اتفقا على كتابته.. جاز، ثم ينظر فيه: فإن كان العبد يساوي ألفا، ولا ربح في المال، وكاتباه على ألف فأداه.. عتق، وكانت الألف لرب المال، والولاء له، ولا حق للعامل فيه؛ لأنه لم يحصل في المال فضل. وإن كاتباه على ألفين - وكان الربح بينهما نصفين - فأدى العبد ذلك.. عتق عليهما، وكان لرب المال ألف درهم رأس ماله، والألف الثانية بينهما نصفان، فيكون الولاء بينهما: لرب المال ثلاثة أرباع الولاء، وللعامل ربع الولاء) .

فرع: اشترى جارية للمقارض الأول، ثم للثاني، فاشتبهتا

[فرع: اشترى جارية للمقارض الأول، ثم للثاني، فاشتبهتا] إذا قارض رجل رجلا على مال، ثم قارض رجل آخر العامل على مال آخر.. صح القراض الثاني. وقال أحمد: (لا يصح الثاني إذا كان فيه ضرر على الأول) . دليلنا: أن هذا عقد جائز، فلا يمنع العقد مع المعقود معه، كالوكالة. إذا ثبت هذا: فإن اشترى العامل للأول جارية بمائة، ثم اشترى للثاني جارية بمائة، واشتبهتا، ولم تتميزا.. ففيه قولان: أحدهما: أن الجاريتين تكونان للعامل، سواء كان فيها ربح أو خسران، وعليه قيمتهما لربي المالين؛ لأن اختلاطهما بسبب منه، فصار كما لو أتلفهما. هكذا ذكر الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق. وذكر ابن الصباغ: أن عليه - على هذا القول - ضمان المالين، وأراد: المالين اللذين اشترى بهما الجاريتين. والقول الثاني: أن ربي المالين يكونان شريكين في الجاريتين، كما لو اختلط لرجلين كيسان. فعلى هذا: تباع الجاريتان، فإن كان ثمنهما قدر رأس مالهما.. اقتسمه ربَّا المالين، وإن كان فيه ربح.. قاسمهما العامل بحسب شرطه مع كل واحد منهما، وإن كان فيه خسران.. كان ضمانه على العامل؛ لأنه حصل بتفريطه. قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر عندي؛ لأن المفرط لا يضمن نقصان السوق، كالغاصب. [فرع: جنى عبد المضاربة على غيره] فله الفدية من مال المضاربة] : قال الطبري: لو جنى عبد المضاربة على غيره.. كان للمضارب أن يفديه من مال المضاربة في أحد الوجهين؛ لأنه من صلاحه، فهو كالنفقة، خلافا لأبي حنيفة، ولو

مسألة: يفسخ القراض أحد المتعاقدين

أراد العامل أن يبيع العبد في أرش الجناية.. قال سهل: ليس ذلك؛ لأن له ملك المنفعة دون الرقبة، كالمستعير. قال الطبري: وإن اشترى العامل عبدا بألف، وهو يساويه، ثم رجعت قيمته إلى خمسمائة، ثم قتل رجلا وله ابنان، فعفا أحدهما عن القصاص، فباع رب المال نصفه بحق الابن الثاني.. تعلق بالنصف الثاني رأس المال بخمسمائة في أحد القولين؛ لأن الذاهب في حكم المستهلك، ويستحيل أن يتفقا على المضاربة، ففي الحقيقة: الذي بقي على المضاربة نصف العبد، فيكون على المضاربة بنصف مال المضاربة، حتى إن زادت.. كانت الزيادة ربحا بينهما. [مسألة: يفسخ القراض أحد المتعاقدين] ] : قد ذكرنا: أن عقد القراض غير لازم، ولكل واحد منهما أن يفسخه متى شاء، كالوكالة، فإذا فسخاه، أو فسخه أحدهما.. انفسخ، وليس للعامل أن يشتري بعد ذلك شيئا بمال القراض؛ لأنه إنما اشترى مع بقاء القراض وقد انفسخ. وأما البيع: فينظر فيه: فإن كان المال ناضا من جنس رأس المال.. أخذ رب المال من رأس ماله، فإن كان هناك ربح.. اقتسماه، وإن لم يكن هناك ربح.. فلا شيء للعامل؛ لأنه لا يستحق في العمل بالعقد الصحيح في القراض إلا ما شرط له من الربح، ولا ربح هاهنا. وإن كان المال عرضا أو نقدا من غير جنس رأس المال، فإن اتفقا على بيعه.. باعه العامل، فإن لم يكن فيه ربح.. أخذ رب المال رأس ماله ولا شيء للعامل، وإن كان فيه ربح.. اقتسما الربح، وإن اتفقا على أن يأخذ رب المال منه بقيمة رأس ماله، ويقتسما ما بقي من العرض.. جاز؛ لأن الحق لهما. وإن طلب العامل البيع، وامتنع رب المال.. فقال البغداديون من أصحابنا: يجبر رب المال على البيع، سواء ظهر فيه ربح أو لم يظهر، لأن حقه من الربح إنما يظهر بذلك.

وقال المسعودي [في (الإبانة) ق \ 322] : إن ظهر فيه ربح.. فللعامل بيعه، وإن لم يظهر فيه ربح.. ففيه وجهان: أحدهما: ليس للعامل البيع؛ لأنه لا حق له فيه. والثاني: له بيعه؛ لأنه يرجو الربح بالبيع، فإن قال رب المال: لا تبع العرض، ولكن يقوم، وينظر ما فيه من الربح، وادفع إلى العامل نصيبه منه.. قال الشيخ أبو حامد: فليس للعامل أن يبيع؛ لأنه إنما يبيع ليحصل له حقه من الربح، فإذا دفع إليه رب المال ذلك.. فقد حصل حقه، وزال الضرر عنه، فلا حاجة به إلى البيع، كما قلنا فيمن استعار أرضا، فغرس فيها، ثم رجع المعير في العارية.. فليس له المطالبة بقلع الغراس؛ لأن في ذلك ضررا على المستعير، فإن دفع المعير قيمة الغراس ليتملكه، أو قال: اقلعه، وادفع أرش نقصه.. كان له ذلك؛ لأن الضرر يزول عن المستعير. وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن ذلك مبني على القولين متى يملك العامل حصته من الربح؟ فإن قيل: يملكه بالظهور.. لم يجبر على أخذ قيمة حصته من العرض، كما لو كان بينهما عرض مشترك، فبذل أحدهما للآخر قيمة حقه منه، وإن قلنا: لا يملكه إلا بالقسمة.. ففيه وجهان، بناء على القولين في العبد الجاني إذا امتنع المولى من بيعه، وبذلك قيمته للمجني عليه: أحدهما: لا يجبر على بيعه؛ لأن البيع لحقه، وقد بذل له حقه. والثاني: يجبر؛ لأنه ربما زايد قيمته مزايد، فاشتراه بأكثر من قيمته، فإن أخذ رب المال العرض بقيمته، ثم زادت قيمته، وظهر فيه ربح وهو في يد رب المال.. فهل يتعلق حق العامل به؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في (الإبانة) ق \ 322] . وإن طلب رب المال بيع العرض، وامتنع العامل من بيعه، وقال: خذه، وقد تركت حقي من الربح ولا أبيع العرض، فإن رضي رب المال بذلك.. جاز، وإن

فرع: فسخا القراض وهناك دين

طالبه بالبيع.. فذكر الشيخ أبو إسحاق: أن ذلك مبني على القولين في العامل متى يملك حصته من الربح؟ فإن قلنا: يملكه بالظهور.. لم يجبر رب المال على القبول؛ لأن قبول الهبة لا يجب، وإن قلنا: إنه لا يملك حصته إلا بالقسمة.. ففيه وجهان وقال ابن الصباغ: فيه وجهان، سواء كان فيه ربح أو لم يكن، وسواء قلنا: يملكه بالظهور أو بالقسمة: أحدهما: لا يجبر العامل على البيع؛ لأن البيع لحقه، وقد رضي بإسقاطه. والثاني: يجبر؛ ليصل رب المال إلى رأس ماله. [فرع: فسخا القراض وهناك دين] فإن فسخا القراض أو أحدهما، وكان هناك دين من مال القراض.. وجب على العامل أن يتقاضاه، سواء كان في المال ربح أو لم يكن فيه ربح. وقال أبو حنيفة: (إن كان فيه ربح.. كان على العامل أن يتقاضاه، وإن لم يكن فيه ربح.. لم يكن عليه أن يتقاضاه) . كما لا يلزم الوكيل أن يتقاضى الدين إذا عزل. ودليلنا: أن المضاربة تقتضي رد رأس المال على صفته، والديون لا تجري مجرى الناض.. فلزمه أن يستنضه، كما يلزمه بيع العروض، بخلاف الوكيل، فإنه لا يلزمه بيع العروض. [مسألة: موت المقارض] قال الشافعي: (وإن مات رب المال.. صار رأس مال القراض لوارثه، فإن رضي.. ترك المقارض على قراضه، وإلا.. فقد انفسخ القراض، وإن مات العامل.. لم يكن لوارثه أن يعمل مكانه) . وجمله ذلك: أنه إذا مات أحد المتقارضين.. انفسخ عقد القراض؛ لأنه عقد جائز، فيبطل بالموت، كالوكالة.

إذا ثبت هذا: فإن كان الميت رب المال.. فقد انتقل ماله إلى وارثه، فإن اختارا أن يقيما على الفسخ، فإن كان المال ناضا من جنس رأس المال.. أخذ رب المال رأس ماله، واقتسما الربح إن كان هناك ربح، وإن كان المال عرضا.. فللعامل المطالبة ببيعه، وهل لرب المال المطالبة ببيعه؟ على ما ذكرناه إذا فسخا القراض والمال عرض، وهل يتولى العامل بيع العرض بنفسه؟ فيه وجهان: قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: له ذلك؛ لأن انفساخ القراض بالموت كانفساخه بالفسخ وقد بينا: أن له أن يبيعه إذا فسخا، فكذلك إذا مات رب المال. وقال ابن الصباغ: لا يلزم ورثة رب المال تمكينه من الانفراد بالبيع، بل يرفع ذلك إلى الحاكم ليأمر ببيعه؛ لأن الوارث لا يلزمه حكم ائتمان مورثه، ولهذا لو كان لمورثهم وديعة، فمات ولم يعلموا بها، ولا أعلمهم المودع.. ضمنها المودع. وإن أراد وارث رب المال والعامل أن يعقدا قراضا.. نظرت: فإن كان المال ناضا.. جاز؛ لأنه إن لم يكن فيه ربح.. فهو عقد لقراض على دراهم أو دنانير ينفرد الوارث بملكها، وإن كان فيه ربح أيضا.. جاز وإن كان ذلك العقد على مال مشاع؛ لأن الشريك هو العامل، وذلك لا يمنعه من التصرف، كما لو كان بينهما ألف، فقارض أحدهما الآخر.. فإنه يصح. إذا ثبت هذا: فإن القراض يفتقر إلى تجديد عقد؛ لأن العقد الأول قد بطل بالموت. قال الشيخ أبو حامد: وقول الشافعي: (فإن رضي.. ترك العامل على قراضه) لم يرد: أنه يتركه على العقد الأول، وإنما أراد: أنه يستأنف معه العقد ثانيا. وقول الشافعي: (وإلا.. فقد انفسخ القراض) لم يرد: أنه ينفسخ في هذه الحالة؛ لأنه انفسخ بالموت، وإنما أراد به: أنه يقيم على الفسخ الأول. وإن كان المال عرضا، وأراد وارث رب المال والعامل استئناف عقد القراض عليه.. فهل يصح؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق المروزي: يصح، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن الشافعي لم يفرق

بين أن يكون المال ناضا، أو عرضا، ولأن هذا ليس بابتداء قراض على العرض، وإنما هو بناء على قراض رب المال، ولأنا إنما منعنا القراض على غير الدراهم والدنانير؛ لأنه يحتاج عند المفاصلة إلى رد المثل، أو رد القيمة، وذلك يختلف باختلاف الأوقات، وهذا غير موجود في مسألتنا؛ لأن رأس المال هاهنا غير العرض. ومن أصحابنا من قال: لا يصح، وهو اختيار الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق؛ لأن القراض الأول قد بطل بالموت، وهذا عقد قراض على العرض، فلم يصح، كما لو عقده على عرض قد اشتراه الوارث. وما قاله أبو إسحاق ينكسر في المتقارضين إذا فسخا عقد القراض والمال عروض، ثم أرادا عقد القراض ثانيا على ملك العروض.. فإنه لا يصح وإن كان بناء على القراض الأول، ويمكن هاهنا أيضا رد رأس المال الذي عقدا عليه أولا. وإن كان الميت هو العامل.. فقد ذكرنا: أن القراض ينفسخ بموته. فإن كان المال ناضا.. أخذ رب المال رأس ماله، وإن كان هناك ربح.. أقتسمه رب المال ووارث العامل، وإن كان المال عرضا.. بيع؛ ليظهر الربح فيه لوارث العامل، وليس لوارث العامل أن يبيعه إلا أن يأذن رب المال؛ لأن رب المال إنما رضي باجتهاد العامل دون ورثته، فإن لم يتفقا على من يبيعه.. رفع إلى الحاكم ليأمر ببيعه. وإن أجاز رب المال ابتداء عقد القراض مع وارث العامل، فإن كان المال ناضا.. فقال البغداديون من أصحابنا: جاز، سواء كان في المال ربح أو لم يكن فيه ربح، كما قلنا في رب المال إذا مات. وقال المسعودي [في (الإبانة) : ق \ 323] : إن كان في المال ربح.. لم يجز؛ لأنه شريك، وإن لم يكن فيه ربح جاز، فإن كان فيه خسران فشرط أن يجبر الخسران بتصرفه.. لم يجز، وإن كان المال عرضا.. لم يجز عقد القراض عليه، وجها واحدا

فرع: مال المضاربة في التركة كالوديعة

والفرق بين هذه والتي قبلها على قول أبي إسحاق: أن رب المال إذا مات بقي ماله الذي عقد عليه، ووارثه قد قام مقامه، فبنى القراض على الأصل الذي كان لمورثه، وهو موجود، وليس كذلك إذا مات العامل؛ لأنه إنما كان منه العمل، وإذا مات.. انقطع، وبطل عمله، فلم يبق له شيء موجود يبني عليه وارثه. [فرع: مال المضاربة في التركة كالوديعة] إذا مات العامل، ولم يعرف مال المضاربة بعينه.. كان بمنزلة من مات وعنده وديعة لغيره، ولم تعرف في ماله، وقد مضى ذكرها. [فرع: فقد الأهلية يفسخ العقد] وإن جن أحد المتقارضين، أو أغمي عليه.. انفسخ القراض؛ لأنه عقد جائز، فبطل بالجنون والإغماء، كالموت، فإذا أفاقا، وأرادا عقد القراض ثانيا.. فالذي يقتضي المذهب: أن حكمه حكم ما لو انفسخ القراض بموت رب المال على ما مضى. [مسألة: القراض في مرض الموت بأكثر من أجرة المثل] إذا قارض الرجل في مرض موته رجلا على أكثر من أجرة مثله.. صح، ولم يعتبر ما زاد على أجرة مثله من الثلث؛ لأنه إنما يعتبر من الثلث ما يخرجه المريض من ماله، ولم يخرج هاهنا شيئا من ماله؛ لأن الربح ليس من ماله، وإنما يحصل بكسب العامل، فإن مات وعليه ديون.. قدم حق العامل على ديون الغرماء؛ لأن حقه تعلق بعين المال. [مسألة: ينفذ تصرف العامل ولو وجد شرط فاسد] إذا دفع إلى رجل مالا قراضا، وشرط فيه شرطا فاسدا، وتصرف العامل فيه.. نفذ تصرفه؛ لأن رب المال قد أذن له في التصرف، وإنما شرط في العقد شرطا

فرع: المقارضة بالدين

يفسده، وفساد الشرط لا يقدح في الإذن، فإذا كان الإذن باقيا.. صح تصرفه كما لو أذن له في التصرف من غير عوض. فإن قيل: ما الفرق بين هذا، وبين من باع بيعا بثمن فاسد.. أن البيع لا يصح؟ قلنا: الفرق بينهما: أن البيع مشتمل على ثمن ومثمن، وأحدهما لا ينفك عن الآخر، فإذا بطل أحدهما.. بطل الآخر، ففسد العقد، وليس كذلك الإذن بالتصرف على عوض، فإن أحدهما قد ينفك عن الآخر، فإذا فسد الشرط.. لم يؤثر في الإذن، فإن حصل في المال ربح.. كان الربح لرب المال؛ لأنه نماء ماله، ولا شيء للعامل فيه، ويستحق أجرة المثل، سواء حصل في المال ربح أو لم يحصل. ومن أصحابنا من قال: إن رضي العامل على أن يعمل بغير عوض، بأن قال: قارضتك على أن الربح كله لي.. لم يستحق العامل شيئا. وليس بشيء. وقال مالك: (إن لم يحصل في المال ربح لم يستحق العامل أجرة) . ودليلنا: أنه عمل في قراض فاسد، فاستحق أجرة المثل، كما لو لم يرض إلا بعوض، وكما لو حصل في المال ربح. [فرع: المقارضة بالدين] إذا كان لرجل على رجل دين، فقال له: أعزل المال الذي لي عليك، وقد قارضتك عليه.. لم يصح القراض؛ لأن الإنسان لا يصح قبضه دين غيره من نفسه، ولأنه قراض على صفة، فلم يصح، كما لو دفع إليه ثوبا، وقال: بعه، وإذا بعته.. فقد قارضتك على ثمنه. إذا ثبت هذا: فإن عزل من عليه الدين قدر الدين من ماله، واشترى بعينه شيئا.. كان ذلك ملكا لمن عليه الدين؛ لأنه اشتراه بعين ماله، وإن اشترى شيئا بثمن في ذمته بنية القراض، ونقد الثمن من الذي عزله.. ففيه وجهان:

فرع: دعوى العامل رد مال القراض وإنكار المقارض

أحدهما: أن الشراء يقع لمن له الدين، وتبرأ ذمه المشتري من الدين بتسليمه إلى البائع؛ لأنه سلمه إليه بإذنه، ويكون الربح كله له، ويجب عليه للعامل أجرة مثله. والثاني - وهو المذهب -: أن الشراء لمن عليه الدين، ولا تبرأ ذمته من الدين، ولا أجرة له؛ لأنه لا يصح أن يشتري شيئا بنية القراض؛ إلا إذا كان في يده مال القراض، وليس في يده مال للقراض؛ لأنا بينا أن قبضه من نفسه لا يصح. مسألة: [قبول قول العامل في دعوى التلف] : إذا ادعى العامل تلف مال القراض، وأنكر رب المال، ولا بينة.. فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأن يتصرف في مال غيره بإذنه، فقبل قوله في التلف، كالوكيل. [فرع: دعوى العامل رد مال القراض وإنكار المقارض] وإن ادعى من بيده مال القراض لغيره: أنه رده على مالكه، وأنكر المالك.. ففيه ثلاث مسائل: إحداهن: إن قبض العين لمنفعة المالك، ولا منفعة للقابض فيها، وهو المودع والوكيل بغير جعل.. فقبل قول القابض مع يمينه في الرد، وجها واحدا؛ لأنه لا منفعة للقابض، وإنما المنفعة للمالك، ولأن يد القابض كيد المالك، بدليل: أنه يملك انتزاعها من يده متى شاء. الثانية: إذا كانت المنفعة في العين للقابض دون المالك، وهو المرتهن والمستعير والمستأجر.. فلا يقبل قول القابض في الرد، وجها واحدا؛ لأن المنفعة فيها للقابض، ولأن يده ليست كيد المالك. الثالثة: إذا كانت المنفعة في العين للقابض والمالك، وهو: العامل في

فرع: اختلاف المقارض وعامله على نسبة الربح

القراض، والوكيل بجعل، والأجير المشترك، إذا قلنا: ليس بضامن.. فهل يقبل قوله مع يمينه في الرد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقبل لأنه قبض العين لمنفعة نفسه، فهو كالمستعير. والثاني: يقبل قوله مع يمينه، وهو الأصح؛ لأن معظم المنفعة فيها للمالك، فهو كالمودع، ولأن المالك يملك انتزاعها من يده متى شاء، فهو كالوكيل بغير جعل. [فرع: اختلاف المقارض وعامله على نسبة الربح] وإن قال العامل: شرطت لي نصف الربح، وقال رب المال: بل شرطت لك ثلث الربح.. تحالفا؛ لأنهما اختلفا في صفة العقد، كالمتبايعين، فإذا حلفا.. كانا كالمتبايعين إذا تحالفا، وهل ينفسخ العقد بنفس التحالف، أو بالفسخ؟ على ما مضى. وإذا انفسخ العقد، أو فسخه أحدهما.. وجب للعامل أجرة المثل فيما عمل. [فرع: اختلفا في قدر رأس المال ولا بينة] ] : وإن اختلفا في قدر رأس المال، فقال العامل: رأس المال مائة، وقال رب المال: بل رأس المال مائتان، ولا بينة.. فالقول قول العامل مع يمينه، وحكى الشيخ أبو إسحاق وجها آخر: إن كان في المال ربح.. تحالفا، والأول أصح؛ لأن الاختلاف فيما قبضه العامل، والأصل عدم القبض إلا فيما أقر به، ولأن المال في يد العامل، ورب المال يدعي جميعه، والعامل لا يقر له إلا ببعضه.. فكان القول قول صاحب اليد. [فرع: اختلاف العاملين والمقارض على رأس المال بعد المضاربة] وإن دفع رجل إلى رجلين مالا قراضا، على أن له النصف من الربح، والنصف الآخر بينهما نصفان، فتصرفا، فبلغ المال ثلاثة آلاف، فقال رب المال: رأس المال

فرع: اختلاف العامل والمقارض في المشتري

ألفا، والربح ألف، فصدقه أحد العاملين على ذلك، وكذبه العامل الآخر، فقال: بل رأس المال ألف، والربح ألفان، ولا بينة هاهنا.. فإن القول قول المكذب مع يمينه: أن رأس المال ألف، فإذا حلف.. أخذ خمسمائة، وبقي ألفان وخمسمائة، والعامل المصدق قد وافق رب المال على ما ادعاه، فأخذ رب المال ألفين رأس ماله، وما غصب من مال القراض.. فإنه يكون محسوبا من الربح. فإذا ثبت هذا: فإن رب المال والعامل المصدق يقولان: الربح ألف لا غير، وقد أخذ العامل الحالف منه خمسمائة، فنصفها - وهو مائتان وخمسون - لرب المال، والنصف الآخر بين العاملين، فالحالف يستحق مما أخذ مائة وخمسة وعشرين، والمصدق يستحق منها مثل ذلك نصيبه، وقد بقي من الربح في يد رب المال والمصدق خمسمائة، فلرب المال نصفها - مائتان وخمسون - ولكل واحد من العاملين مائة وخمسة وعشرون، فيكون الحالف قد غصب رب المال والمصدق ثلاثمائة وخمسة وسبعين، لرب المال ثلثها، وللعامل ثلثها، وقد وجد له من جنس حقهما مائة وخمسة وعشرون، فيقسمانها على قدر حقيهما، لرب المال ثلثاها وهو ثلاثة وثمانون وثلث درهم، وللعامل ثلثها، وهو أحد وأربعون وثلثا درهم، فيحصل لرب المال - من الخمسمائة التي بقيت من الربح معهما - ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث، ويحصل للعامل مائة وستة وستون وثلثان. [فرع: اختلاف العامل والمقارض في المشتري] ] : فإن اشترى العامل عبدا، فظهر فيه ربح، فقال رب المال: اشتريته للقراض، وقال العامل: بل اشتريته لنفسي، ولا بينة.. فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأن العبد في يده، فكان القول قول فيه، ولأنه قد يشتريه لنفسه، وقد يشتريه للقراض، ولا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالنية، وهو أعلم بنيته. فإن أقام رب المال بينة: أن العامل اشتراه بمال القراض.. ففيه وجهان:

فرع: اختلفا في النهي عن شراء عبد

أحدهما: أنه يحكم به للقراض؛ لأن الظاهر مما اشتراه بمال القراض أنه للقراض. والثاني: أنه لا يحكم به للقراض، بل القول قول العامل مع يمينه؛ لأنه قد يشتريه بمال القراض على وجه التعدي، فلا يحكم به للقراض؛ لبطلان البيع فيه. وإن اشترى العامل عبدا، فظهر فيه خسران، فقال العامل: اشتريته للقراض، وقال رب المال: بل اشتريته لنفسك.. فالمنصوص هاهنا: (أن القول قول العامل مع يمينه؛ لأنه أعلم بنيته) . وحكى أبو العباس - إذا اختلف الوكيل والموكل في بيع عين أو شرائها.. فقال الموكل: ما بعتها، أو ما اشتريتها، وقال الوكيل: بل بعتها أو اشتريتها - عن الشافعي قولين: أحدهما: (القول قول الوكيل) . والثاني: (القول قول الموكل) . واختلف أصحابنا في القراض: فمنهم من قال: فيها قولان، كما قلنا في الوكيل والموكل. وقال أكثرهم: بل القول قول العامل في القراض، قولا واحدا. والفرق بينهما: أن الوكيل والموكل يختلفان في أصل البيع والشراء، فكان القول قول الموكل؛ لأن الأصل عدم ذلك، وهاهنا اتفقا على أصل الشراء، وإنما اختلفا في نية العامل، وهو أعلم بنيته. [فرع: اختلفا في النهي عن شراء عبد] وإن اشترى العامل عبدا، فقال رب المال: كنت نهيتك عن شرائه، وأنكر العامل النهي.. فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأن الأصل عدم النهي، ويكون العبد في القراض.

فرع: استقراض العامل لإكمال مال المقرض

[فرع: استقراض العامل لإكمال مال المقرض] قال الشافعي في " أمالي حرملة ": (وإذا دفع إلى رجل إلى مائة درهم قراضا، فتصرف فيها، فخسر خمسين، فقال لصديق له: أقرضني خمسين لأضمها إلى ما معي؛ ليرى ذلك رب المال ولا ينزعها مني، فإذا ترك المال في يدي.. رددت الخمسين إليك، فأقرضه خمسين، وأضافها إلى الخمسين التي بقيت معه، فلما حمل المال إلى رب المال.. أخذ رب المال المائة، وفسخ القراض، فادعى المقرض: أن له في المال خمسين أقرضه إياها، وأنه يستحق أخذها، وأقام على ذلك بينة.. لم يكن له أخذ الخمسين؛ لأن المستقرض ملكها، وزال ملكه عنها إلى رب المال، فصار بمنزلة ما لو تلفت في يده، ويكون حق المقرض في ذمة العامل) . [فرع: تراجع العامل عن قوله ربحت] فإن قال العامل: ربحت في المال ألفا، ثم قال بعد ذلك: غلطت، فظننت أني ربحت ذلك، ثم نظرت في الحساب، فلم أكن ربحت، أو قال: أظهرت ذلك خوفا من أن ينتزع المال من يدي.. لم يقبل رجوعه؛ لأنه تعلق بذلك حق رب المال، فلم يسقط برجوعه، كما لو أقر لغيره بدين، ثم رجع عنه. فإن قال: قد كان حصل في المال ربح، ثم تلف.. قبل قوله؛ لأنه أمين، فقبل قوله في التلف. قال أبو علي في (الإفصاح) : وإنما يقبل قوله هاهنا في الخسران إذا كان قد تصرف فيه بعد ذلك، وإن لم يتصرف وكان السعر بحاله.. لم يصدق. [فرع: اختلفا في المال قرضا أو قراضا] قال الطبري في (العدة) : وإن دفع إلى رجل مالا، فتلف في يده، ثم اختلفا، فقال رب المال: دفعته قرضا، وقال القابض: بل أخذت قراضا، وأقام كل واحد بينة.. فبينة العامل أولى في أحد الوجهين، خلافا لأبي حنيفة.

وقال الطبري: ولو قارضه على نقد، ثم تصرف العامل فيه، ثم أبطل ذلك النقد.. فالظاهر من المذهب: أنهما متى أرادا المفاصلة.. أنه يرد مثل النقد الذي عقدا عليه القراض، ثم يقتسمان الباقي. وقال بعض أصحابنا: يرد من النقد الحادث. حكاه أبو علي السنجي، والأول أصح. وبالله التوفيق.

باب العبد المأذون له

[باب العبد المأذون له] لا يجوز للعبد أن يتجر بغير إذن مولاه؛ لأن منافعه مستحقة لمولاه، فلا يجوز إبطالها عليه بغير إذنه، فإن رآه المولى يتجر، فسكت عنه، ولم يأمره، ولم ينهه، لم يصر مأذونا له في التجارة. وقال أبو حنيفة: (يصير مأذونا له) . دليلنا: أنه تصرف يفتقر إلى الإذن.. فلم يقم السكوت مقامه، كما لو باع الراهن الرهن والمرتهن ساكت.

وإن باع العبد شيئا بغير إذن مولاه.. لم يصح؛ لأنه مال لسيده، فلم يصح بيعه بغير إذنه، كمال الأجنبي. وإن اشترى العبد شيئا في ذمته، أو اقترض شيئا.. فهل يصح؟ فيه وجهان: (الأول) : قال أبو إسحاق، وأبو سعيد الإصطخري: لا يصح؛ لأنه عقد معاوضة، فلم يصح من العبد بغير إذن سيده، كالنكاح. و (الثاني) : قال أبو علي بن أبي هريرة، وغيره: يصح؛ لأنه محجور عليه لحق غيره، فصح تصرفه بثمن في ذمته، كالمفلس، وفيه احتراز من السفيه. فإذا قلنا: يصح الشراء والقراض.. قال ابن الصباغ: فللبائع والمقرض الرجوع فيه إذا كان في يد العبد؛ لأنه قد تحقق إعساره، وإن كان قد تلف في يده.. رجع عليه بالثمن وعوض القرض إذا أعتق وأيسر، وإن كان السيد قد قبضه.. فقد ملكه، وليس للبائع والمقرض الرجوع فيه؛ لأن السيد أخذ ذلك، وله أخذه، فسقط حق البائع والمقرض، كما يسقط حق البائع ببيع المبيع ورهنه، ويكون للبائع أو المقرض العوض في ذمة العبد إلى أن يعتق ويوسر. وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن المبيع يدخل في ملك السيد، فإن علم البائع برقه.. لم يطالبه بشيء حتى يعتق، وإن لم يعلم برقه، ثم علم.. فهو بالخيار: بين أن يصبر إلى أن يعتق، وبين أن يفسخ البيع، ويرجع إلى عين ماله، ولم يفرق: بين أن يقبضه السيد من العبد، أو لم يقبضه. وإن قلنا: إن الشراء والقرض فاسدان.. فإن البائع والمقرض يرجعان في العين إذا كانت باقية، سواء كانت في يد العبد أو في يد السيد؛ لأن ملكهما باق عليها. وإن كانت تالفة، فإن تلفت في يد العبد قبل أن يقبضها السيد.. رجع عليه البائع والمقرض ببدلها إذا عتق وأيسر، وإن قبضها السيد.. فالبائع والمقرض بالخيار: بين أن يرجع على السيد ببدلها في الحال، وبين أن يصبر إلى أن يعتق العبد ويوسر، فيرجع عليه.

مسألة: اتجار العبد بإذن مولاه

[مسألة: اتجار العبد بإذن مولاه] وإن اتجر العبد بإذن المولى.. صح؛ لأن المنع منه لحق المولى، فزال بإذنه، فإن حصل عليه ديون في المعاملة، فإن كان في يده مال.. قضيت منه الديون، وإن لم يكن في يده شيء.. فإن الديون تكون في ذمته تتبع به إذا عتق وأيسر، ولا تتعلق برقبته ولا بذمة السيد، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (يباع العبد فيه إذا طالب الغرماء ببيعه) . وقال أحمد: (تتعلق بذمة السيد) . ودليلنا على أبي حنيفة: أن دين ثبت على العبد برضا من له الدين، فوجب أن لا يتعلق برقبته، كما لو استقرض بغير إذن سيده. وليلنا على أحمد: أن السيد لا يضمن عن عبده، وإنما أذن له في التجارة، وهذا لا يوجب ثبوت ذلك في ذمة السيد، كالمرتهن إذا أذن للراهن بالتصرف في الرهن. [مسألة: يتصرف العبد بما أذن له فيه] ولا يتصرف العبد المأذون له إلا على حسب ما أذن له فيه سيده، فإن دفع إليه مالا، وقال له: اتجر فيه.. كان له أن يبيعه، ويشتري بثمنه. وإن أذن له: في التجارة مطلقا.. فهل يصح؟ فيه وجهان، حكاهما في (العدة) : أحدهما: يصح؛ لعموم إذنه. والثاني: لا يصح، وهو اختيار أبي طاهر؛ لأن الإطلاق مجهول، فلم يصح، كالوكالة. وإن أذن له أن يتجر بذمته.. فهل يصح؟ فيه وجهان، الصحيح: أنه يصح. وإن أذن له في التجارة في صنف من المال.. لم يتجر في غيره.

فرع: تصرف العبد في مال التجارة غير مطلق

وقال أبو حنيفة: (يجوز) . دليلنا: أنه تصرف مستفاد بالإذن من جهة الآدمي، فكان مقصورا على ما أذن فيه، كالمضارب، وفيه احتراز من الصبي إذا بلغ، فإنه تصرف مستفاد بالشرع. وإن أذن له في التجارة.. لم يملك أن يؤاجر ما اشتراه للتجارة، ولا أن يؤاجر نفسه، ومن أصحابنا من قال: له أن يؤاجر الأعيان التي اشتراها للتجارة. وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يؤاجر نفسه) . والأول أصح؛ لأن المأذون فيه هو التجارة، والإجارة ليست من التجارة. وعلى قول أبي حنيفة: إنه عقد على نفسه، فلا يملكه بالإذن في التجارة، كالبيع، والنكاح. [فرع: تصرف العبد في مال التجارة غير مطلق] ولا يبيع بدون ثمن المثل، ولا بنسيئة، ولا بغير نقد البلد، ولا يسافر بالمال من غير إذن السيد؛ لأن تصرفه لغيره بإذنه، فهو كالوكيل، ولا يجوز له أن يتخذ دعوة، ولا يهب بغير إذن سيده. وقال أبو حنيفة: (يجوز ذلك) . دليلنا: أنه تبرع بمال مولاه من غير إذنه، فلم يصح، كمال سيده الذي في يده. [فرع: ادعاء العبد الإذن بالتجارة دون بينة] ] : إذا زعم العبد: أن سيده أذن له في التجارة.. فليس لأحد معاملته حتى يعلم الإذن. وقال أبو حنيفة: (يجوز) . دليلنا: أن الأصل عدم الإذن، كالراهن إذا ادعى: أن المرتهن أذن له في بيع الرهن.

فرع: إباق العبد لا يبطل الإذن له

وإن زعم العبد: أن سيده قد حجر عليه، وقال السيد: لم أحجر عليه.. لم يصح تصرف العبد. وقال أبو حنيفة: (يصح) . دليلنا: أن الاعتبار بالمتعاقدين، والعبد يزعم: أنه لا يصح عقده، فهو كما لو قال: أبيعك هذه العين وإن كنت لا أملكها. [فرع: إباق العبد لا يبطل الإذن له] إذا أبق العبد المأذون له في التجارة.. لم يبطل إذن سيده له. وقال أبو حنيفة: (يبطل) . دليلنا: أن الإباق معنى لا يمنع من ابتداء الإذن في التجارة، فلم يمنع استدامته، كما لو غصب أو حبس بدين عليه. [فرع: شراء العبد المأذون من يعتق على سيده] ] : وإن اشترى العبد المأذون له في التجارة من يعتق على سيده، كوالده، أو ولده.. نظرت: فإن كان السيد قد نهاه عن شرائه.. لم يصح شراؤه، قولا واحدا، سواء كان عليه دين أو لم يكن؛ لأنه يملك التصرف بإذنه، فلا يملك ما نهاه عنه. وإن أذن له السيد في شرائه.. صح شراؤه، كما لو اشتراه السيد بنفسه. فإن لم يكن على المأذون له دين.. عتق عليه، وإن كان عليه دين.. فهل يعتق عليه؟ فيه قولان: أحدهما: لا يعتق عليه؛ لأن حقوق الغرماء تعلقت بماله، فصار كالمستحق لهم. والثاني: يعتق عليه، ويغرم السيد قيمته للغرماء إن كان موسرا بها؛ لأنه ملكه، فعتق عليه، وإن كان معسرا بها.. لم يعتق عليه؛ لأن عتقه يؤدي إلى الإضرار بالغرماء.

وإن اشتراه العبد بغير إذن سيده من غير أن ينهاه عنه.. فهل يصح؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصح، وهو الصحيح؛ لأن إذن السيد تضمن شراء ما فيه حظ ويمكنه التجارة فيه، ولا يتناول من يعتق عليه، كالعامل في القراض إذا اشترى من يعتق على رب المال. والثاني: يصح الشراء؛ لأن الشراء لا يصح من العبد بنفسه وإنما يشتري بإذن سيده، فإذا أذن له في الشراء.. تناول شراء كل ما يملكه السيد بنفسه، ويفارق العامل في القراض، فإن يصح له أن يشتريه لنفسه، ويصح لرب المال، فلم يصح في حق رب المال إلا ما تضمنه إذنه. فإذا قلنا بهذا: فإن لم يكن على المأذون له دين.. عتق العبد، وإن كان عليه دين.. فهل يعتق العبد؟ قال الشيخ أبو حامد: ينظر فيه. فإن كان السيد معسرا.. لم يعتق، قولا واحدا. وإن كان موسرا بقيمته.. فهل يعتق؟ فيه قولان، كالمرهون. فإذا قلنا: يعتق.. غرم السيد قيمته للغرماء. وأما ابن الصباغ: فقال: إذا كان على المأذون له دين.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يبطل الشراء؛ لأن الدين يمنع من عتقه، فكان بطلان العقد أحسن. والثاني: يصح الشراء، ولا يعتق. والثالث: يعتق عليه، وتكون ديون الغرماء في ذمة السيد. وقال أبو حنيفة: (إن لم يكن دفع إليه المال وإنما أذن له في التجارة.. صح الشراء، وعتق على مولاه، وإن كان دفع إليه مالا.. لم يصح الشراء ورد على مولاه) . دليلنا: أنه إذن مطلق في الشراء، فلم يتناول من يعتق على الآذن، كما لو دفع إليه مالا.

مسألة: اكتساب العبد ملك لسيده إلا ما ملكه إياه

[مسألة: اكتساب العبد ملك لسيده إلا ما ملكه إياه] إذا اكتسب العبد مالا، بأن احتش أو اصطاد، أو عمل في معدن، فأخذ منه مالا، أو اتهب مالا، أو أُوصي له به، فقبله.. فإن العبد لا يملكه ما لم يملكه السيد، بلا خلاف على المذهب، وإنما يدخل ذلك في ملك السيد. وقال مالك: (يدخل في ملك العبد، وللسيد أن ينتزعه منه، فإن عتق قبل ينتزعه منه.. استقر ملك العبد عليه) . وبه قال داود، وأهل الظاهر، وإسحاق، وهي إحدى الروايتين عن أحمد، ويأتي الدليل عليهم. فأما إذا ملكه السيد مالا.. فهل يملكه؟ فيه قولان: (الأول) : قال في القديم: (يملكه) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعتق عبدا وله مال.. فمال العبد له، إلا أن يستثنيه السيد، فيكون له» . وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من باع عبدا وله مال.. فماله للبائع، إلا أن يشترطه

المبتاع» . فأضاف إليه المال، وحقيقة الإضافة تقتضي الملك إذا كانت الإضافة إلى من هو من أهل الملك، ولأنه آدمي حي، فملك المال، كالحر. و (الثاني) : قال في الجديد: (لا يملك) . وبه قال أبو حنيفة، والثوري، والرواية الأخرى عن أحمد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] (النحل: 75) . فنفى قدرته على شيء، فلو قلنا: إنه يملك.. لأثبتنا له قدرة على ما يملك، ولأنه سبب يملك به المال، فلم يملك به العبد، كالإرث. وأما الخبر الأول: فلا يعرف. وأما الثاني: ففيه دليل على: أنه لا يملك؛ لأنه قال: (فماله للبائع) . فلو ملكه العبد.. لما جعله للبائع، فدل على: أن إضافة الملك إليه إنما هي إضافة مجاز، لا أنها إضافة تقتضي الملك. إذا ثبت هذا: فإن للقولين فوائد. منها: إذا ملكه السيد نصابا من المال، فإن قلنا بقوله الجديد.. فالزكاة فيه على السيد؛ لأن ملكه لم يزل عنه. وإن قلنا بالقديم.. لم تجب الزكاة فيه على السيد؛ لأنه قد زال ملكه عنه، ولا على العبد؛ لأن ملكه ضعيف. ومنها: إذا ملكه السيد جارية، قلنا بالجديد.. لم يجز للعبد وطؤها؛ لأنه لا يملكها. وإن قلنا بالقديم، فإن أذن له السيد في وطئها.. جاز له وطؤها، وإن لم يأذن له في وطئها.. لم يجز له وطؤها. ومنها: إذا وجبت على العبد كفارة، فإن قلنا بالجديد.. لم يجز له أن يكفر بالإطعام ولا بالكسوة؛ لأنه لا يملك ذلك، بل يكفر بالصوم. وإن قلنا بالقديم.. جاز له أن يكفر بالإطعام والكسوة، ولا يكفر بالعتق بكل حال؛ لأن العتق يتضمن الولاء، والعبد ليس ممن يثبت له الولاء.

ومنها: إذا ملكه السيد مالا، ثم باعه وماله، فإن قلنا بقوله الجديد.. لم يصح البيع حتى يكون ماله معلوما عند المتبايعين؛ لأنهما مالان مبيعان. فإن كان ماله دراهم، فباع العبد وماله بدراهم، أو كان ماله دنانير، فباعه وماله بدنانير.. لم يصح البيع؛ لأن ذلك ربا، وإن كان ماله دنانير، فباع العبد وماله بدراهم، أو كان ماله دراهم، فباع العبد وماله بدنانير.. فعلى القولين فيمن جمع بين بيع وصرف. وإن قلنا بقوله القديم، واشترط المبتاع ماله.. صح البيع فيهما وإن كان المال مجهولا عندهما، أو عند أحدهما؛ للخبر. واختلف أصحابنا في تعليله: فمنهم من قال: إنما صح ذلك؛ لأن البيع ينصرف إلى العبد، وأما ماله.. فهو تابع له، فلم تؤثر الجهالة فيه، كما لا تؤثر الجهالة في طي الآبار، وأساس الحيطان، وسقوف البيوت، إلا أنه إذا باع العبد بدراهم، وكان ماله دراهم، أو باعه بدنانير، وكان ماله دنانير.. لم يصح البيع على هذا التعليل؛ لأن الربا يحرم في التابع، كما يحرم في المتبوع. ومنهم من قال: إنما يصح البيع فيهم وإن كان ماله مجهولا؛ لأن ماله غير مبيع، بل يبقى على ملك العبد. فعلى هذا: يصح أن يبيع العبد وماله إن كان دراهم بدراهم، وإن كان دنانير بدنانير، وهذا التعليل هو الأصح؛ لأن الشافعي قال في القديم: (وعاب علينا بعض الناس، فقال: إنكم تجوزون أن يشتري عبدا ومعه ألفا درهم بألف درهم، فيقبض المشتري الثمن بأحد الألفين، ويسلم له العبد والألف الآخر) ، فالتزم الشافعي السؤال، وتكلم عليه، فدل على: أن ذلك يصح على القديم، وهذا لا يستقيم إلا على هذه العلة.

فرع: اشتراط المبتاع ومال العبد

[فرع: اشتراط المبتاع ومال العبد] إذا اشترى عبدا، وله مال، وقلنا: يملكه العبد، فاشترطه المبتاع مع العبد.. كان للمشتري أن ينتزع المال منه، فإن انتزعه منه، وأتلفه، ثم وجد بالعبد عيبا.. لم يكن له رده. وقال داود: (يرد العبد وحده) . وهذا ليس بصحيح؛ لأن العبد إذا كان ذا مال تكون قيمته أكثر، فتلف المال ينقص من قيمته، فلم يجز رده مع ذلك. والله أعلم.

كتاب المساقاة

[كتاب المساقاة]

كتاب المساقاة تجوز المساقاة على النخل، وهي: أن يدفع الرجل نخله إلى رجل ليعمل عليها، وتكون الثمرة بينهما على ما يشترطان. وإنما سيمت بذلك؛ لأن أكثر عمل أهل الحجاز على النخل السقي من الآبار، فسميت بذلك. وممن قال بصحة المساقاة: أبو بكر، وعمر، وسعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وأبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة وزفر: (لا تصح المساقاة) .

دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال: «افتتح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر على أن له الأرض وكل صفراء أو بيضاء - يعني: الذهب والفضة - فقالوا: نحن أعلم بالأرض منكم، فأعطونا على أن لنا النصف، ولكم النصف، فأعطاهم، فلما كان وقت الثمرة.. بعث إليهم عبد الله بن رواحة ليحزر الثمرة، فحزرها عليهم، فقالوا: يا ابن رواحة، أكثرت علينا، فقال: إن شئتم.. فلكم، وضمنتم نصيب المسلمين، وإن شئتم.. فلي، وأضمن لكم نصيبكم، فقالوا: هذا هو الحق، وبه قامت السماوات» . وروي: «أن عبد الله بن رواحة خرص عليهم أربعين ألف وسق، فكان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها عشرون ألفا، ولهم عشرون ألفا» . وروى ابن عمر: (أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساقى أهل خيبر على تلك الأصول بالشطر) . وتجوز المساقاة على الكرم، وقال داود: (لا تجوز المساقاة على الكرم) . دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من النخل والشجر» .

ولأن الكرم شجر تجب الزكاة في ثمرته، فجازت المساقاة عليه، كالنخل. وإن دفع إليه وديا مقلوعا، وقال: اغرسه، وقد ساقيتك عليه.. لم يصح؛ لأنها مساقاة بصفة، ولأن المساقاة إنما تصح على أصل ثابت وهذا خشب. وإن كان مغروسا وقد علق، فساقاه على مدة يحمل إليه.. صح؛ لأنه بالعمل عليه يحصل الثمر، كما يحصل بالعمل على النخل. و (الودي) - بكسر الدال وتشديد الياء -: هو فسيل النخل. وكذلك: تصح المساقاة على صغار الكرم إذا غرس وعلق إلى وقت يحمل فيه. ولا تجوز المساقاة على البقول، والقصب الفارسي، والبطيخ، والقثاء، والتوت الذكر الذي ثمرته الورق؛ لأنها كالزرع، فلم تجز المساقاة عليها، كما لا تجوز المخابرة على الزرع. وهل تصح المساقاة على سائر الأشجار المثمرة، كالتين، والتفاح، والمشمش، والرمان، والسفرجل، والتوت الشامي؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يصح) . وهو قول مالك، وأبي يوسف، ومحمد؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من النخل والشجر» . و (الشجر) : اسم لكل شجرة مثمرة، ولأنها أشجار مثمرة، فصحت المساقاة عليها، كالنخل والكرم. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يصح) ؛ لأنها أشجار لم تجب في نمائها الزكاة، فلم تصح المساقاة عليها، كالخلاف، والقصب الفارسي. وأما الخبر: فمحمول على الشجر الذي كان بخيبر، ولم يكن بها غير النخل والكرم. وهل تصح المساقاة على الثمرة الظاهرة؟ ينظر فيها: فإن كان قد بدا الصلاح فيها.. لم تصح المساقاة عليها، قولا واحدا؛ لأنها قد

مسألة: تعيين حائط المساقاة شرط

استغنت عن عمل يكون فيه زيادتها وتنميتها. وإن ظهرت ولم يبد فيها الصلاح.. فهل تصح المساقاة عليها؟ فيه قولان: قال في " الأم " [3/238] : (تصح) . وبه قال مالك؛ لأنه إذا جازت المساقاة عليها قبل ظهورها.. فبعد ظهورها أولى. وقال في "البويطي ": (لا يصح) ؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من ثمر وزرع» . فذكر على ما يخرج لا على ما خرج، ولأن الثمرة إذا خرجت.. فقد حصل المقصود، فصار ذلك بمثابة أن يقارضه على المال بعد ظهور الربح. هذا نقل بعض أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 325] : إذا ظهرت الثمرة ولم يبد فيها الصلاح.. صحت المساقاة فيها، وجها واحدا، وإن ظهرت وبدا فيها الصلاح.. فهل تصح المساقاة عليها؟ فيه وجهان. [مسألة: تعيين حائط المساقاة شرط] وإن قال: ساقيتك على أحد هذين الحائطين.. لم يصح، كما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين. وإن ساقاه على حائط له معين، إلا أن العامل لم يره.. فقد اختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: فيها قولان، كما لو اشترى عبدا معيبا لم يره. ومنهم من قال: لا يصح، قولا واحدا؛ لأن المساقاة معقودة على الغرر، فلا يجوز أن يضاف إليها الغرر بعدم الرؤية. [مسألة: تأقيت المساقاة شرط] ولا تصح المساقاة إلى مدة معلومة؛ لأنها عقد لازم، فلو جاز عقدها إلى غير مدة.. لاستحقها العامل على الدوام، وهذا حكم الأملاك. إذا ثبت هذا: فإن ساقاه على نخل أو ودي إلى مدة يحمل فيها بحكم الغالب..

صح؛ لأن أكثر ما فيه أن العمل كثير، والنصيب قليل، وذلك لا يمنع صحة العقد، كما لو ساقاه على جزء من ألف جزء من الثمرة، فإن حملت النخل.. استحق العامل ما شرط له، وإن لم تحمل لآفة.. لم يستحق العامل شيئا؛ لأن في العقد الصحيح لا يستحق غير ما شرط له. وإن ساقاه إلى مدة لا تحمل فيها في العادة، مثل: أن كانت تحمل إلى خمس سنين، فساقاه إلى أربع سنين.. لم تصح؛ لأن المقصود في المساقاة أن يشتركا في الثمرة، وذلك غير موجود في هذه المساقاة. فإن عمل العامل.. فهل يستحق الأجرة؟ قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 326] : إن كان العامل لا يعلم أنها تحمل لأوان تلك المدة.. استحق الأجرة، وجها واحدا، وإن كان يعلم أنها لا تحمل.. ففيه وجهان: قال المزني، وعامة أصحابنا: لا يستحق؛ لأنه دخل على أنه لا يأخذ في مقابلة عمله أجرة، فصار متطوعا بالعمل. وقال أبو العباس: يستحق أجرة المثل؛ لأن عقد المساقاة يقتضي عوضا، فلا يجوز أن يخلو من العوض، كالوطء في النكاح. وإن ساقاه إلى مدة قد تحمل فيها وقد لا تحمل، وليس أحدهما بأولى من الآخر.. ففيه وجهان: أحدهما: تصح المساقاة؛ لأنه ساقاه إلى مدة قد تحمل فيها، فصح، كما لو ساقاه إلى مدة قد تحمل فيها في الغالب. فعلى هذا: إذا عمل العامل، فإن حمل النخل.. استحق العامل ما شرط له من الثمرة، وإن لم يحمل.. فلا أجرة له؛ لأن العقد صحيح، فلا يستحق غير ما شرط له.

فرع: مدة عقد المساقاة

والثاني: لا تصح المساقاة؛ لأن المساقاة إنما تصح إلى مدة تحمل فيها في الغالب، وهذه المدة لا تحمل فيها في الغالب. فعلى هذا: إذا عمل.. استحق أجرة المثل، وجها واحدا؛ لأنه لم يرض أن يعمل إلا بعوض. [فرع: مدة عقد المساقاة] قال الشافعي: (وتجوز المساقاة سنة) ، وقال في (الإجارة) في موضع: (لا تجوز الإجارة أكثر من سنة) ، وقال في موضع: (يجوز أن يؤاجر عبده وداره ثلاثين سنة) ، وقال في (الدعوى والبينات) : (يجوز ما شاءَا) . ولا يختلف أصحابنا في أن المساقاة والإجارة في ذلك واحدة، واختلفوا في أكثر مدتهما [على وجهين] : فـ[الأول] : منهم من قال: في المسألتين ثلاثة أقوال: أحدهما: لا تجوز أكثر من سنة؛ لأنهما عقدان على غرر، فكان القياس يقتضي أن لا يصحا، وإنما حكم بصحتهما للحاجة، والحاجة لا تدعو إلى أكثر من سنة؛ لأن منافع الأعيان تتكامل فيها. والثاني: تجوز ثلاثين سنة، ولا يجوز أكثر منها؛ لأنها مدة كثيرة، ولأنها نصف العمر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» . فالأشياء لا تبقى على حالة واحدة أكثر منها.

والثالث: يجوز العقد على كل عين ما بقيت، وبه قال أكثر أهل العلم، وهو الصحيح. قال الشيخ أبو حامد: فإن كان عبدًا.. جازت إجارته ستين سنة، وإن كانت دابة.. فمن خمس عشرة سنة إلى عشرين سنة، وإن كانت دارًا.. فما بين مائة سنة ومائة وخمسين، وإن كانت أرضًا.. فخمسمائة سنة وأكثر، كما يصح أن يبيعه بثمن مؤجل إلى ذلك الوقت. و [الوجه الثاني] : منهم من قال: المسألة على قولين: أحدهما: لا تجوز أكثر من سنة. والثاني: تجوز ما بقيت العين. فأما الثلاثون: فإنما ذكرها الشافعي على سبيل التكثير، لا على سبيل التحديد. إذا ثبت هذا: فإن ساقاه على نخل سنة بنصف ثمرتها، أو أجره عينًا لسنة بأجرة معلومة.. لم يجب ذكر قسط كل شهر من العوض المشروط؛ لأن شهور السنة لا تختلف. وإن أجره عينًا سنتين بعوض، وقلنا: يصح.. فهل يحتاج إلى أن يبين قسط كل سنة من ذلك العوض؟ فيه قولان: أحدهما - وهو اختيار المسعودي [في " الإبانة " ق \ 327] : أنه لا يفتقر إلى ذلك، كما إذا اشترى منه أعيانًا بثمن واحد، فإنه لا يفتقر إلى تبيين قسط كل عين منها. والثاني: يفتقر، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأن عقد الإجارة معرض للفسخ بتلف المعقود عليه، فإذا أطلق الأجرة لجميع المدة.. ربما لحقها فسخ، فاحتيج إلى

فرع: حدوث الثمرة بعد انقضاء مدة المساقاة

تقسيط الأجرة على المدة، وذلك يشق ويتعذر، فشرط ذلك في عقد الإجارة؛ ليستغني عن ذلك. وإن ساقاه على أصول سنتين.. فهل يجب ذكر قسط كل سنة؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالإجارة. ومنهم من قال: يجب ذكره، قولًا واحدًا؛ لأن الثمار تختلف باختلاف السنين. [فرع: حدوث الثمرة بعد انقضاء مدة المساقاة] وإن ساقاه عشر سنين، فانقضت العشر، ثم أطلعت الثمرة.. فلا حق للعامل فيها؛ لأنها حادثة بعد انقضاء المدة، وإن أطلعت في آخر العشر.. ملك العامل جزءًا منها؛ لأنها حدثت قبل انقضاء المدة. [مسألة: حصة عامل المساقاة تجب من الثمرة] ] : ولا تصح المساقاة إلا أن يشترط للعامل جزءًا معلومًا من الثمرة، كالنصف والثلث وما أشبههما؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج من النخل والشجر» ، ولأن المقصود من المساقاة على أن يقتسم رب المال والعامل الثمرة، فإذا لم يعلم ما للعامل.. لم يمكنهما القسمة. فإن قال: ساقيتك على هذه النخل، على أن لك نصيبًا من ثمرتها، أو قسطًا، أو جزءًا.. لم يصح؛ لأن ذلك مجهول؛ لأنه يقع على القليل والكثير. وإن قال: ساقيتك على أن لك نصف الثمرة، وسكت عن الباقي.. صح ذلك، وجهًا واحدًا؛ لأن جميع الثمرة لرب المال، فإذا شرط للعامل نصفها.. بقي الباقي على ملكه. وإن قال: ساقيتك على أن لي نصف الثمرة، وسكت عما للعامل.. فقد قال المزني، وعامة أصحابنا: لا تصح المساقاة؛ لأن جميع الثمرة لرب المال، وإنما يستحق العامل بعضها بالشرط، ولم يشرط له شيئًا. وحكي عن أبي العباس: أنه

فرع: تعليق مساقاة على مساقاة

قال: يصح، ويكون الباقي للعامل؛ لأن قوله: ساقيتك.. يقتضي اشتراكهما في الثمرة، فإذا شرط لنفسه شيئًا من الثمرة.. بقي الباقي للعامل. والأول أصح. فإذا قلنا بالأول: فعمل العامل.. فهل يستحق أجرة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يستحق؛ لأنه رضي أن يعمل بغير عوض. والثاني: يستحق أجرة المثل؛ لأن المساقاة تقتضي العوض. وإن قال: ساقيتك على هذه النخيل، على أن الثمرة كلها لي.. لم يستحق العامل شيئًا من الثمرة؛ لأنه لم يشترط له منها شيئًا، فإن عمل الأجير.. فهل يستحق أجرة؟ على الوجهين. وإن قال: ساقيتك على أن الثمرة كلها لك.. لم يصح؛ لأن هذا شرط ينافي مقتضى المساقاة، فإن عمل الأجير.. استحق أجرة المثل، وجهًا واحدًا؛ لأنه لم يرض بغير عوض. وإن قال رب النخيل لرجل: اعمل لي على هذه النخلة، والثمرة كلها لي.. قال الشيخ أبو حامد: فإن ذلك كالبضاعة، فتكون الثمرة كلها لرب النخيل. وإن قال له: خذ هذه النخيل، واعمل عليها، والثمرة كلها لك.. قال الشيخ أبو حامد: فإن ذلك يكون قرضًا للنخيل، كما لو قال: اعمل لي على هذه الدراهم، والربح كله لك. ولعل الشيخ أبا حامد أراد: أن النخيل تكون مقبوضة بحكم القرض الفاسد؛ لأن اقتراض النخيل لا يصح، واقتراض الثمرة على النخل لا يصح، والذي يقتضي المذهب: أنه أباح له ثمرة النخل؛ لأن الإباحة تصح في الموجود والمعدوم، والمعلوم والمجهول. [فرع: تعليق مساقاة على مساقاة] وإن قال: ساقيتك على هذا البستان بالنصف، على أن أساقيك على البستان الآخر بالثلث.. لم يصح؛ لأنه في معنى بيعتين في بيعة.

فرع: المساقاة على نصف أنواع الثمر

وإن كان بين رجلين نخل، فقالا: ساقيناك على أن لك نصف الثمرة.. صح، ويكون النصف الآخر بينهما على قدر أملاكهما، وسواء عرف العامل نصيب كل واحد منهما أو لم يعرفه؛ لأن نصيبه معلوم، وهو النصف من نصيب كل واحد منهما، فصح، كما لو قالا له: بعناك هذه الدار بألف.. فإنه يصح وإن لم يعلم قدر نصيب كل واحد منهما. وإن شرطا له النصف من نصيب أحدهما، والثلث من نصيب الآخر، فإن عرف العامل نصيب كل واحد منهما.. صح؛ لأنه عوض معلوم، وإن لم يعرف ذلك.. لم يصح؛ لأنه مجهول. فإن ساقى رجل رجلين على نخل له، وقال: ساقيتكما على أن لكما نصف الثمرة بينكما.. صح، ويكون النصف بينهما نصفين؛ لأن الإضافة تقتضي التسوية، وإن قال: ساقيتكما على أن لهذا نصف الثمرة، وللآخر سدس الثمرة.. صح ذلك؛ لأن ذلك عوض معلوم. [فرع: المساقاة على نصف أنواع الثمر] ] : وإن كان لرجل بستان فيه أنواع من النخيل، وساقى رجلًا على أن له نصف الثمرة.. صح، وإن لم يعرف كل نوع فيه؛ لأن ذلك عوض معلوم، وإن قال: على أن لك من النوع الفلاني النصف، ومن الفلاني الثلث، ومن الفلاني السدس، فإن عرف العامل ورب المال قدر كل واحد من الأنواع.. صح؛ لأن لكل واحد منهما سهمًا معلومًا، وإن لم يعلما ذلك، أو أحدهما.. لم يصح؛ لأن نصيب كل واحد منهما يقل ويكثر. [فرع: ساقاه سنين على أن لكل سنة حصة ونصيبًا خاصًا] فإن ساقاه ثلاث سنين، على أن للعامل في السنة الأولى نصف الثمرة، وفي السنة الثانية ثلث الثمرة، وفي السنة الثالثة سدس الثمرة.. ففيه طريقان:

فرع: مساقاة أحد الشريكين الآخر

[الطريق الأول] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يصح ذلك، قولًا واحدًا، كما لو ساقاه على أنواع، وجعل له من كل نوع نصيبًا معلومًا وإن اختلف الأنصباء وهما يعلمان الأنواع. و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو أسلم دينارًا على قفيز حنطة، وقفيز شعير. وإن ساقاه على أن له صاعًا من الثمرة، والباقي لرب المال، أو للعامل ثمرة نخلة أو نخلات بعينها.. لم يصح؛ لأنه قد لا يحمل في البستان إلا ما اشترطه للعامل، فيؤدي إلى أن يستبد العامل بجميع الثمرة، أو قد لا يحمل النخل التي عينها للعامل، فيستضر العامل. [فرع: مساقاة أحد الشريكين الآخر] ] : وإن كانت نخل بين الثمرة رجلين نصفين، فقال أحدهما للآخر: ساقيتك على هذه النخل، على أن لك ثلثي الثمرة ولي الثلث.. صح؛ لأنه شرط للعامل ثلث نصيبه بالعمل؛ لأن العامل يستحق نصف الثمرة بحق الملك، فصح، فهو كما لو قال: ساقيتك على نصيبي، على أن لك ثلث نصيبي من الثمرة. وإن قال: ساقيتك على أن لك نصف الثمرة.. لم يصح؛ لأنه لم يشرط للعامل شيئًا من الثمرة بحق العمل. وإن قال: ساقيتك على أن لك ثلث الثمرة ولي الثلثين.. لم يصح؛ لأنه لم يشرط للعامل شيئًا من ثمرته بحق العمل، ولأنه شرط أن يأخذ من نصيب الآخر سهمًا بغير عوض، وذلك لا يجوز. فإن عمل العامل في هاتين المسألتين.. فهل يستحق أجرة المثل؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. فإن كانت بحالها، وساقى أحدهما صاحبه على أن يعملا جميعًا في النخل، ويكون لأحدهما ثلث الثمرة، وللآخر الثلثان.. لم يصح؛ لأن مقتضى المساقاة أن

فرع: المساقاة على عوض مجهول

يكون من أحدهما المال، ومن الآخر العمل، وهاهنا من كل واحد منهما مال وعمل، فإن عملا.. كانت الثمرة بينهما نصفين بحق الملك، فإن تساويا في العمل.. لم يرجع أحدهما على الآخر بشيء، وإن عمل من شرط له الثلثان أكثر.. رجع على شريكه بفضل عمله في ماله؛ لأنه لم يعمل على مال شريكه إلا بعوض، ولم يسلم له، وإن كان عمل الآخر أكثر.. فهل يستحق أجرة الزيادة؟ على الوجهين للمزني وأبي العباس. [فرع: المساقاة على عوض مجهول] وإن قال: ساقيتك على هذه النخل، على أنك إن سقيتها بماء سماء أو سيح - وهو السيل - فلك ثلث الثمرة، وإن سقيتها بنضح - وهو الغرب - فلك نصف الثمرة.. لم يصح؛ لأنه عوض مجهول؛ لأنه لا يدري: أيسقيها بالسيح، أو بالنضح؟ وإن ساقاه على فسيل نخل، على أن له نصف الفسيل، ونصف الثمرة.. لم يصح؛ لأن مقتضى المساقاة أن يكون الأصل لرب المال، والثمرة بينهما، فإذا شرط للعامل شيئًا من الأصل، كان ذلك ينافي مقتضاها.. فلم يصح. [فرع: اشتراط ما لا يصح شرعًا في المساقاة] فرع: [اشتراط ما لا يصح شرعًا] : وإن ساقاه عشر سنين، وشرط له ثمرة سنة الإحدى عشرة.. لم يصح؛ لأنه شرط له ثمرة سنة لا يستحق عليه فيها عملًا، وإن شرط له ثمرة السنة العاشرة.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه شرط عليه عملًا في مدة تثمر فيها، ولا يستحق شيئًا من ثمرتها. والثاني: يصح، كما يصح أن يعمل في جميع السنة وإن كانت الثمرة في بعضها.

مسألة: صيغ المساقاة

[مسألة: صيغ المساقاة] وتنعقد المساقاة بلفظ المساقاة؛ لأنه لفظ وضع لها، وتنعقد بما يؤدي معناها، بأن يقول: اعمل على هذه النخيل ولك نصف ثمرتها، وقال المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 325] : وكذلك إذا قال: تعهد نخلي، أو اسق نخلي ولك نصف ثمرتها.. صح؛ لأنه يؤدي عن معنى المساقاة. وإن قال: ساقيتك على هذه النخل، على أن لك نصف ثمرتها عوضًا عن عملك، أو أجرة عن عملك.. صح؛ لأن ما يأخذه العامل في الحقيقة هو عوض وأجرة عن عمله، فلا يضره ذكره. فرع: [المساقاة بلفظ الاستئجار] : وإن قال: استأجرتك على أن تعمل على هذه النخل بنصف ما يخرج من ثمرتها.. لم يصح؛ لأن الإجارة تفتقر إلى أن تكون الأجرة معلومة القدر، والأجرة هاهنا مجهولة القدر، فلم يصح. وإن كانت الثمرة قد ظهرت، فاستأجره ليعمل له على نخيله، أو ليبني له بيته، أو يخيط له ثوبه بتلك الثمرة أو ببعضها.. نظرت: فإن كان قد بدا فيها الصلاح، فاستأجره ليعمل على النخل، أو يبني له، أو يخيط له، أو غير ذلك، ببعض الثمرة أو بجميعها.. صح من غير شرط القطع؛ لأن بيعها في هذه الحالة يصح من غير شرط القطع، فصح أن يكون عوضًا في الإجارة. وإن لم يبد صلاحها، فإن استأجره بجميعها بشطر القطع.. صح، كما يصح بيعها، وإن لم يشترط قطعها.. لم يصح، كما لا يصح بيعها. وإن استأجره ببعضها.. لم يصح، سواء شرط القطع فيها أو لم يشترطه؛ لأنه إن لم يشترط القطع.. لم يصح، كما لا يصح بيعها بغير شرط القطع، وإن شرط القطع.. أيضًا لم يصح؛ لأنها مشاعة بينه وبين شريكه، فلا يمكنه قطع نصيبه إلا مع قطع نصيب شريكه، فلم يصح.

فرع: لا خيار في عقد المساقاة

[فرع: لا خيار في عقد المساقاة] ولا يثبت في المساقاة خيار الثلاث، وفي خيار المجلس وجهان، وقد مضى ذلك في البيع، فإذا انعقدت المساقاة.. كانت لازمة من الطرفين؛ لأنها تفتقر إلى مدة معلومة، فكانت لازمة، كالإجارة، وعكسها القراض، والشركة، والوكالة، لما لم تفتقر إلى مدة.. كانت جائزة. [مسألة: ما يشترط على عامل المساقاة] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وكل ما فيه مستزاد في الثمرة من إصلاح الماء وطريقه، وتصريف الجريد، وإبار النخل، وقطع الحشيش المضر بالنخل ونحوه.. جاز شرطه على العامل، فأما سد الحظار: فليس فيه مستزاد وإصلاح في الثمرة، فلا يجوز شرطه على العامل) . وهذا كما قال: كل عمل كان فيه زيادة الثمرة ونماؤها، فهو على العامل، وذلك مثل: (تلقيح النخل) : وهو تأبيرها، و (تصريف الجريد) : وهو قطع السعف اليابس، وتمييله على جانب؛ لتتدلى الثمرة، وقطع الحشيش المضر بالنخل،

وإصلاح (أجاجينها) التي يقف الماء فيها في أصولها، و (إصلاح الماء) : وهو فتح الساقية، وإصلاح طريقه، وإدارة الدولاب. وأما جذاذ الثمرة: ففيه وجهان، حكاهما في " المهذب ": أحدهما: لا يجب على العامل؛ لأن ذلك يحتاج إليه بعد تكامل النماء في الثمرة. والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره -: أنه يجب على العامل؛ لأن ذلك من مصلحة الثمرة. قال الشيخ أبو حامد: وكذلك (المنجل) الذي يقطع به الشوك من السعف على العامل. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: وعلى العامل إصلاح الجرين، وحمل الثمرة إلى الجرين، وتجفيفها إن كانت مما يجفف؛ لأن ذلك من مصلحة الثمرة. وأما حفظ الثمرة على النخل وفي الجرين: ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد، والمسعودي [في " الإبانة " ق \ 327]-: أنه لا يجب على العامل، وهو المنصوص. والثاني - وهو قول ابن الصباغ، والصيمري -: أن ذلك يجب على العامل. وأما الأعمال التي فيها حفظ الأصل: فهي على رب النخل. قال الشافعي: (وذلك مثل: سد الحظار، وهي: الحيطان التي تكون حول البستان؛ ليمنع من الدخول إليها، وكذلك: حفر الآبار والأنهار، وكذلك: الدولاب والبقر التي يدار عليها، والكش الذي يلقح به؛ لأن هذه الأشياء يحتاج إليها لحفظ الأصل) . فإن شرط شيئًا من الأعمال التي تجب على العامل على رب المال، أو ما يكون

مسألة: شرط عمل رب المال في المساقاة

على رب المال على العامل.. بطلت المساقاة؛ لأن ذلك شرط ينافي مقتضاها، فأبطلها، هذا هو المشهور. وقال القاضي أبو الطيب في " المجرد ": كسح الأنهار، والبقر التي يدار عليها الدولاب لا يتعلق بصلاح الأصول والثمرة، ويكون ذلك على من شرط أنه يكون عليه، وحكي عن أبي إسحاق: أنه قال: إذا أهملا ذلك، ولم يشترطاه على أحدهما.. لم تصح المساقاة. والأول أصح. [مسألة: شرط عمل رب المال في المساقاة] يفسدها] : وإن ساقاه على نخل، وشرط العامل أن يعمل معه رب المال بعض الأعمال التي تلزم العامل.. لم تصح المساقاة؛ لأن موضوع المساقاة: أن يكون العمل من العامل، والمال من رب المال، فإذا شرط شيئًا من عمل العامل على رب المال.. فقد شرط ما ينافي مقتضى المساقاة، فأبطلها. وإن شرط العامل على رب المال أن يعمل معه غلمان رب المال.. فالمنصوص: (أنه يصح) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا يصح؛ لأن غلمان رب المال كرب المال، بدليل: أنه يحكم للسيد بما في يد عبده، فلما لم يجز أن يشترط العامل العمل على رب النخل.. فكذلك لا يجوز أن يشترط عمل غلمانه، وحمل هذا القائل نص الشافعي على أنه أراد: إذا شرط العامل على رب النخل عمل غلمانه في الأعمال التي تلزم رب المال، مثل: سد الحظار، وما أشبهها. ومنهم من قال: يصح، قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب؛ لأن غلمان رب المال مال له، فإذا دفعهم ليعملوا مع العامل.. فكأنه ضم ماله إلى ماله، فهو كما لو ضم إليه نخلًا أخرى، وساقاه عليها، ولأن رب المال يلزمه بإطلاق المساقاة عمل، مثل: سد الحظار، وحفر الآبار، فجاز أن يلزم غلمانه بالشرط، بخلاف رب

فرع: نفقة غلمان صاحب النخل

المال؛ لأنه لا يجوز أن يكون تابعًا لماله، والغلمان ماله، فجاز أن يكونوا تابعين لماله. فإذا قلنا بهذا: فلا بد أن يكون الغلمان معلومين، إما بالتعيين، أو بالوصف، ويكون الغلمان تحت تدبير العامل في العمل، فيلقحون متى شاء، ويسقون متى شاء؛ لأن الغلمان تبع له. ولا يجوز أن يشترط عملهم إلا في النخل الذي لسيدهم، فإن شرط أن يعملوا في نخل للعامل، أو يعملوا له عملًا غير ذلك.. لم يصح؛ لأن العامل في المساقاة إنما يستحق جزءًا من الثمرة بعمله على النخل، ولا يستحق شيئًا آخر. فإذا شرط أن يعمل الغلمان في نخل له.. فقد شرط أن يأخذ شيئًا من الثمرة، وشيئًا آخر من غيرها.. فلم يصح. [فرع: نفقة غلمان صاحب النخل] وأما نفقة الغلمان: فإن شرط أنها على سيدهم.. صح، وكانت عليه، وإن شرط أنها على العامل.. صح، وكانت عليه؛ لأنهم يعملون فيما يلزم كل واحد منهما، فجاز أن يشترط نفقتهم على كل واحد منهما، فإن شرطاها على العامل.. فليس من شرط ذلك تقديرها. وقال محمد بن الحسن: لا يجوز حتى يقدرها. دليلنا: أنه لو وجب ذكر مقدارها.. لوجب ذكر صفتها. وإن أطلقا نفقة الغلمان، ولم يشترطاها على أحدهما.. ففيه ثلاثة أوجه، ذكرها في " المهذب ": أحدها - ولم يذكر في " التعليق " و" الشامل " غيره -: أنها على المالك؛ لأنه يملكهم، فكانت نفقتهم عليه بحق الملك.

فرع: شرط أجرة عمال العامل من الثمرة مفسد للمساقاة

والثاني: أنها على العامل؛ لأن العمل مستحق عليه، فكانت نفقتهم عليه. والثالث: أنها في الثمرة؛ لأنهم يعملونها، فكانت نفقتهم فيها. [فرع: شرط أجرة عمال العامل من الثمرة مفسد للمساقاة] إذا ساقى رجلًا على نخل، وشرط العامل أن أجرة من يستأجره من الأجراء ليعملوا معه تكون من الثمرة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فالمساقاة فاسدة) . واختلف أصحابنا في تعليله: فقال أبو إسحاق: إنما لم تصح؛ لأن الإجارة لا تصح إلا بأجرة معلومة، إما معينة، أو في الذمة، وهاهنا الأجرة مجهولة. ومنهم من قال: إنما فسدت؛ لأن العمل مستحق على العامل، وأجرة من يعمل عليه، فإذا شرط أجرة من يعمل ذلك من الثمرة.. فقد شرط لنفسه جزءًا من الثمرة ينفرد به، فلم تصح، كما لو شرط لنفسه صاعًا من الثمرة والباقي بينهما. ويفارق: إذا شرط غلمان رب المال يعملون معه، وتكون نفقتهم على رب النخل؛ لأن هذا ضم ماله إلى ماله. وقال القفال: إن شرط أن يكون أجرة الأجراء من الثمرة.. لم تصح؛ لأن ذلك مجهول، وإن قالا: ثلث الثمرة يكون مصروفًا إلى أجرة الأجراء، والباقي بيننا، أو قال رب النخل: لك ثلث الثمرة، وللأجير الذي تستأجره ثلث الثمرة، ولي ثلثها.. صح ذلك، كما لو قال: على أن للعامل ثلثي الثمرة. [مسألة: وقت ملك العامل حصة المساقاة] إذا ساقاه على نخل، وظهرت الثمرة.. فمتى يملك العامل حصته منها؟ اختلف أصحابنا فيه:

فرع: المساقاة في أرض خراجية

فمنهم من قال: فيه قولان، كالعامل في القراض: أحدهما: أن العامل لا يملك حصته منها إلا بالقسمة. فعلى هذا: تجب زكاة الجميع على رب النخل. والثاني: يملك حصته منها بالظهور. فعلى هذا: إن بلغ نصيب كل واحد منهما نصابًا.. وجبت عليه زكاة نصيبه، وإن كان لا يبلغ النصاب إلا جميع الثمرة، فإن قلنا: تصح الخلطة فيما عدا المواشي.. وجب عليهما الزكاة، وإن قلنا: لا تصح الخلطة في غير المواشي.. لم تجب الزكاة على من نقص نصيبه عن النصاب. ومنهم من قال: يملك العامل حصته من الثمرة بالظهور، قولًا واحدًا، وهو الصحيح؛ لأن نصيب العامل في المساقاة لم يحتمل وقاية لرأس المال، بخلاف القراض، فإن الربح كله وقاية لرأس المال، فلذلك لم يملك العامل شيئًا منه قبل القسمة في أحد القولين. [فرع: المساقاة في أرض خراجية] وإن ساقى رجل رجلًا على نخل في أرض خراجية.. فإن الخراج يجب على رب الأرض؛ لأن الخراج حق يؤخذ عن رقبة الأرض، ولا حق للعامل في رقبة الأرض. [مسألة: اتهم العامل فأنكر فيصدق بيمينه] إذا ادعى رب النخل على العامل خيانة أو سرقة، وبين الدعوى، وأنكر العامل، ولا بينة لرب النخل.. فالقول قول العامل مع يمينه؛ لأنه أمين، فكان القول قوله. فإذا حلف.. سقطت دعوى رب المال، وكان العامل على عمله.

مسألة: ساقى رجلا فهرب

وإن قامت البينة على سرقته، أو خيانته، أو أقر بذلك، أو نكل عن اليمين، فحلف رب النخل.. فقد قال المزني في " المختصر ": (يكتري على العامل أمينًا يعمل مكانه) . وقال في " الجامع ": (يكتري أمينا يعمل معه) . قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (ينزع النخل من يده، ويكتري عليه من يقوم مقامه) إذا كان العامل باطشًا، لا يمكن حفظ الثمرة منه.. يضم أمين إليه. والموضع الذي قال: (يكتري أمينًا يعمل معه) إذا كان ضعيفًا في السرقة، ويمكن حفظ الثمرة منه.. يضم أمين إليه. إذ ثبت هذا: فإن أجرة الأمين هاهنا على العامل؛ لأن ذلك من تمام حفظ الثمرة، وحفظها عليه. [مسألة: ساقى رجلًا فهرب] وإن ساقى رجل رجلًا مساقاة صحيحة، فهرب العامل، وترك العمل.. فإن المساقاة لا تنفسخ؛ لأنها عقد لازم، فإذا كان لا يملك فسخها بقوله.. فلأن لا تنفسخ بهربه أولى. إذا ثبت هذا: فإن رب النخل يمضي إلى الحاكم، ويثبت عنده عقد المساقاة، فإذا ثبت العقد عنده.. طلب الحاكم العامل، فإن وجده.. أجبره على العمل؛ لأنه مستحق عليه. وإن لم يجده، فإن وجد له مالًا.. اكترى من ماله من يعمل عنه؛ لأن ذلك قد لزمه، وإن لم يجد له مالًا، فإن كان في بيت المال مال.. أقرضه منه، واكترى عليه من يعمل عنه. فإذا حصلت الثمرة.. اقتضى منه ما أقرضه، وحفظ الفضل له، وإن لم يحصل من الثمرة ما يقضي به ما اقترض له.. كان ذلك دينًا في ذمته

إلى أن يجده. وإن لم يكن في بيت المال مال، أو كان فيه مال لكنه يحتاج إليه لما هو أهم منه.. اقترض عليه من رجل من الرعية إن وجد، فإن لم يجد، ووجد من يستأجره بأجرة مؤجلة إلى وقت إدراك الثمرة.. فعل ذلك. وإن لم يجد شيئًا من ذلك.. سأل رب النخل أن يقرضه عليه، فيقبضه منه، ويستأجر به من يعمل عنه. وهل يجوز للحاكم أن يأمر رب المال أن ينفق على العمل قرضًا على العامل؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، كما يجوز له أن يستقرض من غيره له. والثاني: لا يجوز؛ لأن رب النخل لا يصح له أن يكون قابضًا من نفسه. وإن لم يجد الحاكم من يستقرض منه، ولا أقرضه رب النخل له.. نظرت: فإن كانت الثمرة لم تظهر.. فلرب النخل أن يفسخ المساقاة؛ لأن العمل قد تعذر من جهة العامل، ومن جهة من يقوم مقامه، فكان ذلك كالعيب. وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يفسخ، ولكن يطلب الحاكم عاملًا آخر يساقيه عن العامل. قال أصحابنا: فهذا ليس بصحيح؛ لأن المساقاة تكون بين صاحب الأصول وبين العامل، فأما أن تكون بين العامل وعامل آخر: فلا تصح. فإذا فسخ رب النخيل المساقاة، فإن كان العامل لم يعمل شيئًا.. فلا شيء له، وإن كان قد عمل.. استحق أجرة ما عمله على رب النخل، وكانت الثمرة إذا ظهرت.. لرب النخل. وإن كان ذلك بعد ظهور الثمرة.. قال أصحابنا: فإنها تكون مشتركة بينهما. فإن كان قد بدا صلاحها.. باع الحاكم من نصيب العامل لأجرة ما بقي من العمل، واستأجر عنه من يعمل ذلك، وإن احتاج إلى بيع جميعه.. باعه، ويجوز بيعها مطلقًا من غير شرط القطع. وإن كان لم يبد صلاحها، فإن رضي رب المال أن يبيع نصيبه منها.. بيع الجميع

بشرط القطع، وقسم الثمن بينهما، وحفظ نصيب العامل، وإن لم يرض رب النخيل بيع نصيبه منها. فإنه لا يصح بيع نصيب العامل من غير رب النخل، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا يصح بيعه إلا بشرط القطع، وذلك لا يمكن مع الإشاعة. وهل يصح بيعه، أو بيع بعضه من رب النخل؟ فيه وجهان، ومضى ذكرهما في البيع. فإن قلنا: يصح، واختار رب النخيل أن يشتري بعض نصيب العامل، أو جميعه ليتم العمل بثمنه.. فعل. وإن لم يختر رب النخل أن يشتري، أو قلنا: لا يصح، قلنا لرب النخيل: انصرف، فلا حكم لك عندنا. وإن لم يرفع رب النخيل الأمر إلى الحاكم، بل أنفق على من يعمل على ماله.. نظرت: فإن كان قادرًا على الحاكم.. لم يرجع بشيء على العامل؛ لأنه متطوع، فإذا ظهرت الثمرة.. كانت مشتركة بينه وبين العامل. وإن كان غير قادر على الحاكم، فإن أنفق ولم يشهد على الإنفاق، أو أشهد ولم يشرط الرجوع.. لم يرجع بما أنفق؛ لأنه متطوع. وإن أشهد على الإنفاق شاهدين، قال ابن الصباغ: وشرط الرجوع به.. فهل يرجع به؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يرجع؛ لأنه لا يلي على العامل. والثاني: يرجع، وهو الأصح؛ لأنه موضع ضرورة. هذا ترتيب البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 328] : إذا لم يجد حاكمًا، فأنفق بنفسه.. فهل يرجع به؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يرجع، كما لو وجد حاكمًا، فأنفق من غير إذنه. والثاني: يرجع؛ لأنه معذور، ولا سبيل له إلى غير ما فعل. والثالث: إن أشهد.. رجع، وإن لم يشهد.. لم يرجع.

مسألة: موت أحد متعاقدي المساقاة

[مسألة: موت أحد متعاقدي المساقاة] وإن ماتا، أو مات أحدهما قبل المفاصلة.. لم تنفسخ المساقاة؛ لأنها عقد لازم، فلا تبطل بالموت، كالبيع، والإجارة. إذا ثبت هذا: فإن مات رب المال.. فإن العامل على عمله، فإن حصلت الثمرة.. قاسم العامل ورثة رب النخيل، كما كان يقاسم رب النخيل. وإن مات العامل، فإن اختار وارثه أن يتم العمل.. جاز، وإن امتنع من العمل.. لم يجبر عليه. وحكى القاضي أبو حامد وجهًا آخر: أنه يجبر؛ لأنه الوارث يقوم مقام مورثه. والأول أصح؛ لأن الوارث لا يلزمه حق لزم الموروث، إلا ما كان يمكنه دفعه من مال الموروث. إذا ثبت هذا: فإن الأمر يرفع إلى الحاكم، فإن وجد للعامل مالًا.. اكترى منه من يتم العمل، وإن لم يجد له مالًا.. لم يجز للحاكم أن يقترض عليه لتمام العمل؛ لأنه لا ذمة هاهنا للميت، بخلاف الحي إذا هرب.. فإن له ذمة. فإن كانت الثمرة لم تظهر.. فلرب النخيل أن يفسخ المساقاة، على ما ذكرناه في هرب العامل. وإن ظهرت الثمرة.. فهي مشتركة بين رب النخيل وورثة العامل، والحكم في بيعها حكم العامل إذا هرب وقد ظهرت الثمرة، على ما مضى. [فرع: ساقى في مرض موته بأكثر من المثل] وإن ساقى رجل رجلًا في مرض موته على أكثر من أجرة مثله.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: لا تعتبر الزيادة على أجرة المثل من الثلث، كما قلنا فيمن قارض رجلًا في مرض موته على أكثر من أجرة مثله. والثاني: تعتبر الزيادة من الثلث؛ لأن الزيادة حادثة للنخل، وهي مال له،

مسألة: سلم النخل فادعى غصبها

بخلاف الربح، فإنه ليس بحادث من أصل ماله، وإنما يحصل بتقليب العامل وتصرفه. [مسألة: سلم النخل فادعى غصبها] إذا سلم رجل إلى رجل نخلًا، وساقاه عليها بنصف الثمرة، أو بثلثها، فعمل عليها العامل، وحصلت الثمرة، ثم جاء رجل، وادعى: أن النخيل له، وأن المساقي غصبها منه، وأقام على ذلك بينة.. حكم له بالنخيل والثمرة؛ لأنها نماء ماله. فإن كانت الثمرة باقية.. أخذها المالك، ولا يستحق العامل شيئًا منها؛ لأنها مساقاة فاسدة، ولا يستحق أجرة على رب النخيل؛ لأنه عمل على النخيل بغير إذنه، ولكن يرجع على الغاصب بأجرة عمله؛ لأنه استعمله فيها، فاستحق عليه الأجرة، كمن غصب نقرة، فاستأجر رجلًا على ضربها دراهم، فإن كان الغاصب والعامل قد اقتسما الثمرة وأتلفاها.. فللمالك أن يضمن الغاصب جميع الثمرة؛ لأنه حال بينه وبين الأصول، فضمن الأصول وما يتولد منها. فإن أخذ منه المالك جميع الثمرة.. كان للغاصب أن يرجع على العامل بما أخذ من الثمرة؛ لأنه أخذه بعقد باطل، ويرجع العامل على الغاصب بأجرة عمله. وإن اختار المالك أن يضمن العامل.. فله أن يضمنه نصيبه الذي قبضه لنفسه؛ لأنه أخذه عوض عمله، ولم يصح أخذه، فكان للمالك الرجوع عليه فيه، ويرجع العامل على الغاصب بأجره عمله. وهل للمالك أن يرجع على العامل بجميع الثمرة؟ فيه وجهان: [الوجه الأول] : من أصحابنا من قال: له أن يرجع عليه بجميع الثمرة؛ لأن يده قد ثبتت على جميع الثمرة مشاهدة بغير حق، فرجع عليه بجميعها، كما لو غصب رجل مالًا، وقارض عليه آخر، وتلف في يده.. فإن للمالك أن يضمن أيهما شاء بالجميع. والوجه الثاني - وهو ظاهر قول المزني -: أنه لا يرجع عليه بالجميع، بل بما أخذه

مسألة: اختلفا في نسبة المساقاة فيتحالفا

في نصيبه؛ لأن العامل لم تثبت يده على الثمرة، وإنما اليد فيها للغاصب، ويد العامل ثابتة على الغاصب، بدليل: أن - على قول الشافعي - ليس على العامل حفظ الثمرة، ولو شرط عليه ذلك.. لبطل العقد، بخلاف مال القراض، فإن يده قد ثبتت عليه، بدليل: أنه يجب عليه حفظه. فإذا قلنا: يرجع عليه بنصف الثمرة.. رجع المالك على الغاصب بالنصف الثاني، ولا يرجع العامل على الغاصب بالنصف الذي تلف في يده، ولكن يرجع بأجرة عمله. وإن قلنا: يرجع المالك على العامل بجميع الثمرة.. رجع العامل على الغاصب بنصف الثمرة الذي تلف في يده؛ لأنه أتلفه، ويرجع عليه بأجرة عمله أيضًا. [مسألة: اختلفا في نسبة المساقاة فيتحالفا] وإن ساقى رجل رجلًا، ثم اختلفا: فقال العامل: شرطت لي نصف الثمرة، وقال رب النخل: بل شرطت لك الثلث، ولا بينة لواحد منهما.. فإنهما يتحالفان. وقال مالك: (إذا اختلفا بعد العمل.. فالقول قول العامل إذا أتى بما يثبته) . دليلنا: أنهما متعاقدان اختلفا في صفة العقد، فتحالفا، كالمتبايعين قبل القبض، وكالمساقاة قبل العمل. إذا ثبت هذا: فإن حلفا جميعًا.. كانت الثمرة كلها لرب النخل، وللعامل أجرة عمله، وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر.. ثبت ما قال الحالف، فإن أقام أحدهما بينة.. حكم لصاحب البينة، وإن أقام كل واحد منهما بينة، وأشارتا إلى عقدٍ واحدٍ في وقتٍ واحدٍ.. تعارضت البينتان، وفيهما قولان: أحدهما: تسقطان، وهو الصحيح. فعلى هذا: يتحالفان. والثاني: تستعملان، وفي الاستعمال ثلاثة أقوال:

فرع: ساقى رجلان رجلا، فادعى نصف الثمرة

أحدهما: القسمة. والثاني: الوقف. والثالث: القرعة. قال عامة أصحابنا: ولا يجوز الوقف هاهنا؛ لأن العقود لا توقف، ولا تجوز القسمة؛ لأن العقد لا ينقسم، ولا يجيء هاهنا إلا القرعة. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 328] : وجهًا آخر: أنه يجيء فيه القسمة، فيقسم السدس الذي يتنازعان فيه بينهما نصفين. والأول أصح. [فرع: ساقى رجلان رجلًا، فادعى نصف الثمرة] ] : وإن ساقى رجلان رجلًا على نخيل بينهما، فقال العامل: شرطتما لي نصف الثمرة، فصدقه أحدهما، وقال الآخر: بل شرطنا لك الثلث.. لزم المقر أن يقسم للعامل نصف نصيبه، ثم ينظر فيه: فإن شهد على شريكه: أنه شرط للعامل النصف، وكان عدلًا.. حلف معه العامل، وثبت للعامل النصف في نصيب الآخر؛ لأنه مال، والمال يثبت بشاهد ويمين. وإن لم يكن عدلًا، أو لم يشهد على شريكه.. فإن العامل والمنكر يتحالفان، فإذا تحالفا.. انفسخ العقد بينهما، وكان جميع نصيب المنكر من الثمرة له، وعليه للعامل أجرة عمله في نصيبه؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين. وبالله التوفيق

باب المزارعة

[باب المزارعة] المزارعة والمخابرة عند أكثر أصحابنا: اسمان لمعنى واحد، وهو: أن يدفع إلى رجل أرضًا له ليزرعها، وتكون الغلة بينهما على ما يشترطان. ومن أصحابنا من قال: المزارعة: أن تكون الأرض والبذر من واحدٍ، والعمل من واحدٍ، وتكون الغلة بينهما. والمخابرة: أن تكون الأرض من واحدٍ، ومن الآخر البذر والعمل، ويكون لرب الأرض شيء مشروط من الثمرة، وهي مشتقة من الخبار، وهي: الأرض اللينة. وقيل: اشتقاقها من الخبير: وهو الأكار، يقال: خابرته مخابرةً، وآكرته مؤاكرةً. إذا ثبت هذا: فإن دفع رجل إلى رجل أرضًا ليزرعها، على أن يكون لرب الأرض أو للعامل زرع موضع بعينه، مثل: أن يقول: زارعتك على هذه الأرض، على أن لك ما ينبت على السواقي وما أشبه ذلك، والباقي لي.. فهذا باطل بالإجماع؛ لأنه قد

لا يزرع الموضع الذي عينه، وقد لا يزرع سواه، فينفرد أحدهما بجميع الغلة، وذلك غرر من غير حاجة، فلم يصح. وإن زارعه على جزء مشاع من الغلة، مثل: أن يقول: زارعتك على هذه الأرض، على أن لك نصف زرعها أو ثلثه - وهي أرض بيضاء لا شجر فيها - فهذا باطل عندنا، سواء كان البذر من مالك الأرض أو من العامل، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، ومالك، وأبو حنيفة. وذهب جماعة من أهل العلم إلى: أن ذلك صحيح لازم، وروي ذلك عن علي، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، ومعاذ بن جبل. وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمد. وقال أحمد: (إن كان البذر من رب الأرض.. جاز، وإن كان من العامل.. لم يجز) . دليلنا: ما روي عن ابن عمر: أنه قال: (كنا نخابر ولا نرى في ذلك بأسًا حتى أخبرنا رافع بن خديج: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المزارعة، فتركناها لقول رافع) . وروى ثابت بن الضحاك: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المزارعة» . وروى جابر، ورافع بن خديج: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كانت لأحدكم أرض.. فليزرعها، أو ليمنحها أخاه، ولا يكرها بثلث، ولا بربع، ولا بطعام مسمى» .

مسألة: كيفية تصحيح المخابرة

وأراد: لا يكرها بثلث ما يخرج منها ولا بربعه، ولا بطعام مسمى مما يخرج منها. ولأنه زارعه على أرض ينفرد ببعض ما يخرج منها، فلم يصح، كما لو زارعه على أن له ما ينبت على السواقي. إذا ثبت هذا: فإن زارع على أرضه رجلًا، فعمل الأجير.. كان باطلًا. فإن كان البذر من مالك الأرض.. كانت الغلة كلها له؛ لأنها عين ماله، ويكون عليه للعامل أجرة مثل عمله وبقره وآلته؛ لأنه دخل في العمل ليستحق جزءًا من الغلة، ولم يحصل له ذلك، فكان له أجرة عمله. وإن كان البذر من العامل.. كانت الغلة كلها للعامل، ووجب عليه لصاحب الأرض أجرة أرضه في مثل تلك المدة، ولا يستحق العامل أجرة عمله وبقره وآلته؛ لأن عمله حصل له. وإن كان البذر بينهما نصفين.. كانت الغلة بينهما نصفين، ووجب للعامل نصف أجرة مثله، ونصف أجرة بقره وآلته على رب الأرض، ووجب لصاحب الأرض نصف أجرة أرضه على العامل. [مسألة: كيفية تصحيح المخابرة] فإن أرادا الحيلة في تصحيح المخابرة، وكون الغلة بينهما.. فيصح ذلك من وجوه: [الأول] : منها: أن يعير صاحب الأرض العامل نصف أرضه أو ثلثها، ويعمل

مسألة: المزارعة تبعا للمساقاة

العامل جميع الأرض، ويبذرا الأرض منهما، فتكون الغلة بينهما، ولا يرجع أحدهما على الآخر بشيء؛ لأن كل واحد منهما متطوع. و [الثاني] منها: أن يكتري العامل نصف الأرض أو ربعها بدراهم في ذمته، ثم يستأجر صاحب الأرض العامل على عمل نصف الأرض، أو ثلاثة أرباعها، بمثل تلك الدراهم في ذمته، ثم يتقاصا، ويبذرا الأرض بينهما. و [الثالث] منها: أن يكري صاحب الأرض العامل نصف أرضه بعمله وعمل بقره على نصيبه، ويبذرا الأرض منهما. و [الرابع] منها: أن يكري صاحب الأرض العامل نصف أرضه بنصف عمله، ونصف عمل بقره وآلته، مدة معلومة، ويكون البذر منهما. فإن أراد أن يكون البذر من مالك الأرض.. فإنه يقول: اكتريت منك نصف منفعة بدنك وآلتك على العمل في هذه الأرض بنصف هذا البذر، وبنصف منفعة أرضي، مدة معلومة. وإن أراد أن يكون البذر من العامل.. فإن رب الأرض يقول: أكريتك نصف منفعة أرضي مدة معلومة بنصف عمل بدنك وآلتك فيها، وبنصف هذا البذر. إلا أن هاتين المسألتين تكونان بيعًا وإجارة، وفي ذلك قولان. [مسألة: المزارعة تبعًا للمساقاة] وأما إذا كان له نخيل أو كرم، وبين النخل والكرم أرض بيضاء، لا يمكن سقي النخل والكرم إلا بسقي الأرض البيضاء التي بينه.. نظرت: فإن كانت الأرض البيضاء قليلًا، والنخيل أكثر منها.. جاز أن يساقيه على النخيل، ويزارعه على الأرض التي بينها؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرعٍ» ، ولأن الحاجة تدعو إلى جواز

هذه المزارعة؛ لأنه لا يمكن سقي النخيل إلا بسقي الأرض التي بينها. فلو قلنا: لا يجوز المزارعة عليها.. للزم على العامل عمل لا يستحق به عوضًا. إذا ثبت هذا: فإن قال: ساقيتك على النخيل أو الكرم، وزارعتك على الأرض التي بينها بالنصف.. جاز. وإن قال: عاملتك على النخيل والأرض بالنصف.. جاز؛ لأن لفظ المعاملة يشملهما. وإن قال: ساقيتك على النخيل والأرض بالنصف.. لم يصح في الأرض؛ لأن المساقاة لا تتناول البياض، وهل تبطل المساقاة في النخيل؟ فيه قولان، بناء على تفريق الصفقة. وإن قال: ساقيتك على النخيل بثلث ثمرتها، وزارعتك على الأرض التي بينها بنصف ما يخرج منها.. فهل يصح؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: لا يصح؛ لأن المزارعة إنما جازت هاهنا تبعًا للنخل، فإذا فاصل بينهما في العوض.. لم يتبع أحدهما الآخر. والثاني: يصح، وهو الصحيح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وابن الصباغ غيره، كما لو ساقاه على بستان فيه أنواع من الثمرة، وجعل له من كل نوع نصيبًا، وفاضل بين الأنصباء. وإن عقد المزارعة، ثم عقد المساقاة.. لم تصح المزارعة؛ لأنها إنما أجيزت تبعًا للمساقاة، فلا تتقدم على المساقاة. وإن عقد المساقاة على النخل، ثم عقد المزارعة على الأرض.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تصح المزارعة؛ لأنها إنما أجيزت تبعًا للمساقاة على النخيل، فإذا أفردها بالعقد.. لم تصح، كما لو باع الثمرة قبل بدو الصلاح، من غير شرط القطع منفردة عن الشجر. والثاني: تصح؛ لأنا إنما جوزنا المزارعة؛ لأنه لا يمكن سقي النخيل إلا بسقي ما بينها من الأرض، وهذا المعنى موجود وإن عقدت المزارعة بعد المساقاة.

وإن كان بياض الأرض الذي بين النخيل أكثر من النخيل.. فهل تصح المزارعة عليه تبعًا للنخيل؟ فيه وجهان: أحدهما: تصح؛ لما ذكرناه من المعنى، وهو: أنه لا يمكنه سقي النخيل إلا بسقي ما بينها من الأرض. والثاني: لا تصح؛ لأن المزارعة إنما صحت تبعًا للنخيل، والكثير لا يتبع القليل، وإنما القليل يتبع الكثير. إذا ثبت هذا: فكل موضع صححنا فيه المزارعة، فإن البذر يكون من رب الأرض، ويكون من العامل العمل، كالنخل في المساقاة. وبالله التوفيق

كتاب الإجارة

[كتاب الإجارة]

كتاب الإجارة وهي مشتقة من الأجر، وهو الثواب. تقول: أجرك الله، أي: أثابك الله، فكأن الأجرة عوض عمله، كما أن الثواب عوض عمله. إذا ثبت هذا: فيجوز عقد الإجارة على المنافع المباحة، مثل: أن يؤاجر نفسه أو عبده للخدمة، أو داره للسكنى، وما أشبه ذلك، وبه قال عامة أهل العلم. وقال عبد الرحمن الأصم، والقاساني: لا تصح الإجارة؛ لأنها غرر. ودليلنا: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو لم يكن في الإجارة إلا هذا.. لكفى) . وذلك:

أن الله تعالى ذكر: أن المطلقة إذا أرضعت ولد زوجها.. فإنه يعطيا أجرها، والأجرة لا تكون إلا في إجارة، والرضاع غرر؛ لأن اللبن قد يقل وقد يكثر، وقد يكون الصبي يشرب من اللبن قليلًا، وقد يشرب من اللبن كثيرًا، وقد أجازه الله تعالى. ويدل على صحتها: قَوْله تَعَالَى - في قصة موسى وشعيب -: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26] {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] [القصص: 26 - 27] . فلولا أن الإجارة كانت جائزة في شرعهم.. لما قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26] ، ولأنكر عليها شعيب، وأيضًا فإنه قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] . فجعل المنفعة مهرًا. وقَوْله تَعَالَى - في قصة الخضر وموسى -: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] [الكهف: 77] . وأما السنة: فروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استأجر أجيرًا.. فليبين له الأجرة» .

وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال ربكم: ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى فيّ عهدًا ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى عمله ولم يوفه أجرته» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر استأجر رجلًا خريتًا عالمًا بالهداية» . والخريت: الدليل. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وأعطى الحجام أجرته» . وأما الإجماع: فروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: (أنه أجر نفسه

مسألة: لا أجرة على المنفعة المحرمة

ليهودي يستقي له الماء؛ كل دلو بتمرة) . وروي: أن ابن عمر، وابن عباس قالا في قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] [البقرة: 198] : (هو أن يحج الرجل ويؤاجر نفسه) . وروي: (أن عبد الرحمن بن عوف استأجر أرضًا، فبقيت في يده إلى أن مات، فقال أهله: كنا نرى أنها له حتى وصى بها، وذكر: أن عليه شيئًا من أجرتها) . وما روي خلاف ذلك عن أحدٍ من الصحابة. وأما القياس: فلأن المنافع كالأعيان، فلما جاز عقد البيع على الأعيان.. جاز عقد الإجارة على المنافع. [مسألة: لا أجرة على المنفعة المحرمة] ] : ولا تجوز الإجارة على المنافع المحرمة، مثل: أن يستأجر رجلًا ليحمل له خمرًا لغير الإراقة.

فرع: الإجارة لما فيه نفع

وقال أبو حنيفة: (يصح) . دليلنا: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لعن الله الخمرة وحاملها» . وإذا كان حملها محرمًا.. قلنا: منفعتها محرمة، فلم يجز أخذ العوض عليها، كالميتة، والدم. وإن استأجره على حمل خمر لإراقتها.. قال ابن الصباغ: صحت الإجارة؛ لأن إراقتها واجبة. [فرع: الإجارة لما فيه نفع] ذكر الصيدلاني: أن الشافعي قال في " حرملة ": (يجوز الاستئجار على كنس الخلاء؛ لأنها تقع على منفعة وإن كان بإخراج نجاسة، فصحت كالحجامة) . قال الشافعي: (وإن استأجره لطرح بهيمة ماتت بجلدها.. لم تصح الإجارة؛ لأن جلدها لا يجوز أن يكون ثمنًا، فلم يجز أن يكون أجرة، فإن رافعه إلى الحاكم، فإن كان قبل العمل.. فلا شيء له، وإن كان بعد العمل.. استحق أجرة المثل؛ لأنه عمل بعوض لم يسلم له) . فإن كان الأجير قد سلخ الجلد.. قال ابن الصباغ: رده إليه؛ لأن يد مالك الشاة مقرة عليه، وله استصلاحه. [فرع: استئجار الكلاب] وهل يجوز استئجار الكلاب المعلمة؟ فيه وجهان: من أصحابنا من قال: يجوز؛ لأن منفعتها مباحة، فجاز استئجارها، كسائر المنافع المباحة. ومنهم من قال: لا يجوز، وهو الصحيح؛ لأنها منفعة غير مملوكة، وإنما أبيحت للحاجة، كالميتة للمضطر. والدليل على أنها غير مملوكةٍ: أنها لا تضمن بالغصب، وكل منفعة لا تضمن بالغصب، لا يصح الاستئجار عليها.

فرع: لا يستأجر الفحل للضراب

فإن استأجر بيتا ليتخذه بيت نارٍ، أو كنيسة، أو ليبيع فيه الخمر.. لم تصح الإجارة. وبه قال أبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة: (يصح) . دليلنا: أنه فعل محظور، فلا يجوز الاستئجار عليه، كما لو استأجر امرأة ليزني بها. وإن استأجر دارًا أو بيتًا ليتخذه مسجدًا ليصلي فيه.. صحت الإجارة، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (لا يصح عقد الإجارة بذلك؛ لأن فعل الصلاة لا يجوز استحقاقه بعقد الإجارة بحال، فلا تجوز الإجارة له، كما لو استأجر امرأة ليزني بها) . وهذا غير صحيح؛ لأن ذلك فعل جائز، فجاز الاستئجار له، كالخياطة. وما ذكروه.. فلا يصح؛ لأن الصلاة لا تدخلها النيابة، فلا ينتفع بها المستأجر، بخلاف المسجد، ويفارق الزنا، فإنه فعل محظور. [فرع: لا يستأجر الفحل للضراب] ] : ولا تجوز إجارة الفحل للضراب، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (يجوز) وبه قال أبو علي بن أبي هريرة من أصحابنا، لأنها منفعة تستباح بالإعارة، فاستبيحت بالإجارة، كسائر المنافع. والأول أصح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن عسب الفحل» ، وبعضهم يرويه: (عن ثمن عسب الفحل) . وقد اختلف في العسب: فقال الأموي، وأبو عبيدٍ [في " غريب الحديث " 1/154] : هو الكراء الذي يؤخذ على ضراب الفحل، يقال: عسبت الرجل أعسبه عسبًا: إذا أعطيته الكراء على ذلك، وعلى هذا تحمل رواية من روى: (ثمن عسب الفحل) ، أي: عن كراء الفحل. وقال بعض أهل اللغة: العسب: هو الضراب نفسه؛ لقول الشاعر، وذكر قومًا أسروا له عبدًا، فرماهم به:

فرع: استئجار الأموال

فلولا عسبه لتركتموه ... وشر منيحةٍ عسب معار ويروى: فلولا عسبه لرددتموه ... وشر منيحةٍ هنه معار وعلى هذا تحمل رواية من روى: (عن ثمن عسب الفحل) ، ولأن ذلك لا يقدر على تسليمه؛ لأنه متعلق باختيار الفحل وشهوته. فإن استعار من رجل فحلًا، وأعطاه هدية أو كرامة.. جاز لمالك الفحل قبولها. وقال أحمد: (لا يجوز؛ لأن ما منع من أخذ الأجرة عليه.. لا يجوز قبول الهدية لأجله، كمهر البغي، وحلوان الكاهن) . دليلنا: أنه هدية لأجل منفعة مباحة، فجاز أخذها، كالهدية للحجام، وأما البغي والكهانة: فهما شيئان محظوران، فلم يجز أخذ الهدية لأجلهما. [فرع: استئجار الأموال] ولا يجوز استئجار الدراهم والدنانير ليتجر بها؛ لأنه لا يمكن التجارة بها إلا بإتلافها، والإجارة لا تصح إلا في عين يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها. وهل تصح إجارتها ليجمل بها الدكان، ويتركها التاجر في يده، ويقلبها ليأمنه الناس ويعاملوه؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنها منفعة مباحة يمكن استيفاؤها مع بقاء العين، فهي كسائر المنافع.

فرع: استئجار البستان للثمرة

والثاني - وهو الصحيح -: لا تصح؛ لأنها منفعة لا تضمن بالغصب، فلم يصح الاستئجار عليها كوطء الأمة، وما ذكره الأول.. يبطل بالطعام، فإن الطعام يتجمل به الحناط بتركه في دكانه ليعامله الناس، ومع هذا فلا يصح إجارته لذلك. وهل يصح استئجار الطعام ليعاير به الكيال والمكاييل؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري. [فرع: استئجار البستان للثمرة] وإن استأجر بستانًا لأخذ ثمرته، أو استأجر موضعًا ليرعى فيه.. لم يصح؛ لأن الثمرة والمراعي أعيان، فلا تستباح بعقد الإجارة. وإن استأجر بستانًا لينظر إليه.. لم يصح؛ لأنه يملك النظر إليه من غير إذن صاحبه، فبذل المال في ذلك سفه، فلم يصح. وإن استأجر أشجارًا ليجفف عليها الثياب، أو ليشد عليها حبلًا يجفف عليه الثياب.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنها منفعة غير مقصودة. والثاني: يصح؛ لأنها منفعة مباحة، فهي كسائر المنافع. قال الشيخ أبو إسحاق: وكذلك الوجهان فيمن استأجر شجرًا للاستظلال به، ولعله أراد: إذا كان قعود المستظل في ملك صاحب الشجر، فأما إذا كان قعوده في ملكه، أو في موضع مباح، بأن يكون الشجر يجاوره بملكه، أو بموضع مباح، وظلها فيه.. فلا يصح استئجاره لذلك، وجهًا واحدًا؛ لأنه يملك القعود في ظلها من غير إذن صاحب الشجرة، وبذل المال فيه من أكل المال بالباطل. ولو قيل: إذا كان قعود المستظل في ملك صاحب الشجرة.. صحت الإجارة، وجهًا واحدًا، كما لو استأجر منه بيتًا ليستظل فيه.. لم يكن بعيدًا. وإن استأجر حبلًا ليجفف عليه الثياب.. قال ابن الصباغ: صح ذلك، وجهًا واحدًا؛ لأن ذلك منفعة مقصودة منه.

فرع: استئجار الكتب

[فرع: استئجار الكتب] ] : وإن استأجر كتابًا فيه قرآن، أو فقه، أو طب، أو شعر مباح، وما أشبه ذلك ليقرأ فيه.. صح. وقال أبو حنيفة: (لا يصح، كما لا يصح أن يستأجر سقف بيت فيه تصاوير لينظر إليها) . دليلنا: أن هذا منفعة مباحة، فجاز عقد الإجارة عليها، كلبس القميص، وأما النظر إلى السقف والتصاوير: فليس بمقصود. قال ابن الصباغ: وإن كان النظر إلى السقف شيئًا مقصودًا مباحًا.. جاز استئجاره لذلك أيضًا. [فرع: استئجار حائط لأجل وضع خشبه] فإن استأجر حائطًا ليضع عليه خشبًا معلومة، مدة معلومة.. صح. وقال أبو حنيفة: (لا يصح) . دليلنا أن هذه منفعة مقصودة مقدور على استيفائها، فصحت الإجارة عليها؛ كما لو استأجر سطحًا لينام عليه، أو ثوبًا ليلبسه. [فرع: الاستئجار لاستيفاء القصاص] وإن استأجر رجلًا يستوفي له القصاص في الطرف، أو في النفس.. صح. وقال أبو حنيفة: (لا يصح في النفس؛ لأن عدد الضرب مجهول) . دليلنا: أن هذا حق يجوز التوكيل في استيفائه، فجاز عقد الإجارة عليه، كالقصاص في الطرف، وتكون الأجرة هي على المقتص منه.

فرع: الاستئجار للبيع والشراء

وقال أبو حنيفة: (هي تكون على المقتص له) . دليلنا: أنها أجرة تجب لإيفاء حق، فكانت على الموفي، كأجرة الكيال والوزان، وذلك: أنه إذا باع عشرة أقفزة من صبرة، أو عشرة أرطال من ظرف سمن.. فإن الكيل يجب على البائع، وأجرة الكيال عليه. وإن باعه صبرة، أو سمنًا في ظرفٍ، فأراد المشتري أن يعرف كيلها، أو وزنه.. فإن أجرة الكيال والوزان عليه. وكذلك: أجرة النقاد إن باعه بدنانير معينة.. فأجرة ناقد الدنانير على البائع. وإن باعه بدنانير في الذمة.. فأجرة ناقدها للقبض على المشتري؛ لأن الإيفاء واجب عليه. [فرع: الاستئجار للبيع والشراء] إذا استأجر رجلًا ليبيع له ثوبًا بعينه.. صحت الإجارة، وإن استأجره ليشتري له ثوبًا بعينه.. قال ابن الصباغ: لم تصح الإجارة عندي. والفرق بينهما: أن البيع في العادة ممكن؛ لأنه لا ينتفي الراغب فيه أصلًا، وأما الشراء بشيء معين: فلا يكون إلا من واحدٍ، وقد يبيع، وقد لا يبيع، فلا يمكن تحصيل العمل بحكم الظاهر. وإن استأجره لشراء شيء، ووصفه، ولم يعينه.. جاز؛ لأن الظاهر أنه يمكنه شراؤه. [فرع: استئجار الكافر المسلم] وإن استأجر الكافر مسلمًا.. نظرت: فإن استأجره لعمل في ذمته.. صح؛ لأنه لا صغار عليه في ذلك. وإن استأجره لعمل مقدر، في زمان معلوم.. ففيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناءً على القولين في جواز شراء الكافر للمسلم؛ لأن في ذلك استيلاء عليه وصغارًا، كالملك.

مسألة: من يملك الإجارة وبم تنعقد؟

و [الثاني] : منهم من قال: يصح، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن ذلك عمل في مقابلة عوض، فأشبه العمل في ذمته، ويخالف الملك؛ لأنه يقتضي تسلطا واستدامة ملكه عليه. [مسألة: من يملك الإجارة وبم تنعقد؟] ولا تصح الإجارة إلا من جائز التصرف في المال؛ لأنه تصرف في المال، فهو كالبيع. وتنعقد الإجارة بلفظ الإجارة؛ لأنه لفظ موضوع له، وهل تنعقد بلفظ البيع؟ فيه وجهان: أحدهما: تنعقد؛ لأنه تمليك يتقسط العوض فيه على المعوض، فانعقد بلفظ البيع، كالصرف ينعقد بلفظ البيع، وفيه احتراز من النكاح، فإنه لا ينعقد بلفظ البيع؛ لأنه لا يتقسط العوض فيه على المعوض. والثاني: لا ينعقد؛ لأن البيع يخالف الإجارة في الاسم والحكم، فلم تنعقد الإجارة بلفظه، كالنكاح. وإذا عقدت الإجارة على عين.. فاختلف أصحابنا فيما يتناوله عقد الإجارة: فقال أبو إسحاق: إن العقد يتناول العين، ولهذا يقول: أجرتك داري. وقال أكثر أصحابنا: إن العقد يتناول المنفعة دون العين، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لأن الأجرة في مقابلة المنفعة. ولهذا: إذا قبض المستأجر العين.. ضمن المنفعة دون العين، وما كان العوض في مقابلته.. فهو المعقود عليه، وقوله: (أجرتك داري) معناه: منفعة داري، ولو قال: أجرتك منفعة داري.. صح. إذا ثبت هذا: فإن منافع العين المستأجرة تحدث على ملك المستأجر. وقال أبو حنيفة: (المنفعة تحدث على ملك المؤاجر، ولا يملكها المستأجر بالعقد) .

مسألة: الإجارة على الأعمال والأعيان

ودليلنا: أن منافع الأعيان كالأعيان الموجودة، بدليل: أنه يجوز العقد عليها، كما يجوز العقد على الأعيان الموجودة، وإذا صح العقد عليها.. فقد انتقلت إلى ملك المستأجر، فكانت حادثة على ملكه، كمنافع أعيان ماله. [مسألة: الإجارة على الأعمال والأعيان] يصح عقد الإجارة على الأعمال والأعيان، فأما عقدها على الأعمال: فينقسم قسمين: أحدهما: إجارة على عمل معين، مثل: أن يقول: استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب.. فيلزمه أن يخيطه بنفسه. والثاني: على عمل في الذمة، مثل: أن يقول: استأجرتك على أن يحصل لي خياطة هذا الثوب، فيجوز أن يخيطه بنفسه، ويجوز أن يستأجر غيره، أو يستعينه عل خياطته؛ لأن المنافع كالأعيان، فلما جاز عقد البيع على عين معينة، وعلى عين موصوفة في الذمة، فكذلك الإجارة. وأما عقد الإجارة على الأعيان: فالأعيان تنقسم قسمين: عقارًا، وغير عقار. فأما غير العقار: فيصح عقد الإجارة فيها على عين معينة، مثل: أن يقول: أجرني عبدك هذا، أو جملك هذا، فيملك المستأجر منفعة تلك العين المعينة، كما لو اشتراه. ويصح عقد الإجارة على عين موصوفة في الذمة، مثل: أن يقول أجرني عبدًا، أو جملًا في ذمتك، ويصفه، ويصف ما يكتري له، كما يصح أن يسلم إليه في عبد أو جمل في ذمته، فإن قال: أجرني عبدك الفلاني، ولم يكن المستأجر رآه.. فهل يصح؟ فيه قولان، بناء على القولين في بيع عين معينة لم يرها المشتري. وأما العقار، كالدور، والأرض: فيصح عقد الإجارة عليها، ولكن لا يصح إلا على عقار معين، مثل: أن يقول: أجرني دارك هذه، أو أرضك هذه، فإن قال: أجرني دارًا، أو أرضًا في ذمتك.. لم يصح؛ لأن العقار لا يثبت في الذمة، ولهذا لا يصح السلم عليه، فكذلك الإجارة.

فرع: ما جاز الإجارة على كله جازت على بعضه

[فرع: ما جاز الإجارة على كله جازت على بعضه] ] : وكل عين جاز عقد الإجارة عليها، إما معينة أو في الذمة.. جاز عقد الإجارة على جزء مشاع منها، سواء استأجرها الشريك أو غيره، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة، وزفر: (لا يجوز إجارة المشاع إلا من الشريك) . وقال أبو يوسف، ومحمد: لا تجوز إجارة المشاع بحال. دليلنا على أبي حنيفة: أن كل عقد ملك أن يعقده مع شريكه.. جاز أن يعقده مع غير شريكه، كالبيع. وعلى أبي يوسف، ومحمد: أنها منفعة يتعلق بها عقد الإجارة، فإذا جاز بيع أصلها.. جاز عقد الإجارة على تلك المنفعة، كالدار إذا كانت مقصودة، ولأن الدار إذا كانت لنفسين، فأجراها معًا من واحد.. جاز، ونحن نعلم أن كل واحد منهما قد أجر نصفه مشاعًا، كذلك إذا أجر أحد الشريكين. [مسألة: جواز إجارة الأرض بكل عين أو منفعة] يجوز إجارة الأرض للزراعة بكل ما جاز أن يكون ثمنًا في البيع، سواء كان مما تنبته الأرض كالحبوب، أو مما لا تنبته الأرض، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال الحسن البصري، وطاووس: لا تجوز إجارة الأرض بحال، بعد أن وافقانا على جواز إجارة الدور والدكاكين. وقال مالك: (لا تجوز إجارة الأرض بما تنبته من الحبوب، كالحنطة، والشعير، والذرة) . واحتج بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا بطعام مسمى» . دليلنا على الحسن، وطاووس: ما ذكرناه من الأخبار في أول الباب.

مسألة: استأجر أرضا لا ماء فيها

وعلى مالك: أن ما جاز أن يكترى بالذهب والفضة.. جاز بما تنبته الأرض، كالدور، والدكاكين. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ولا بطعام مسمى» فأراد: مما يخرج من تلك الأرض، وخرج النهي على عرف أهل البلد ذلك الوقت؛ لأنهم كانوا يكرون الأرض بما يخرج على السواقي والجداول، أو بربع ما يخرج منها، أو بثلثه، أو بشيء مسمى مما يخرج منها، فنهاهم عن ذلك. إذا ثبت هذا: فإن اكترى أرضًا للزراعة أو للغراس.. نظرت: فإن كان لها ماء دائم لا ينقطع في العادة، مثل: أن تكون تشرب من دجلة أو الفرات، أو كان لها نهر أو بئر، أو كان لها بركة قد جمع فيها ماء من الأمطار يكفيها، أو كانت الأرض (بعلًا) وهي: الأرض التي فيها نداوة تكتفي بها.. صحت إجارتها للزرع والغراس؛ لأنه يمكنه زراعتها مع ذلك، فصح، كما لو باعه عبدًا يملكه. [مسألة: استأجر أرضًا لا ماء فيها] قال الشافعي: (فإذا تكارى الأرض التي لا ماء لها، وإنما تسقى بنطف سماء أو سيل إن جاء.. فلا يصح كراؤها إلا على أن يكريه إياها أرضًا بيضاء لا ماء لها، يصنع بها المكتري ما شاء في سنته، إلا أنه لا يبني ولا يغرس، فإذا وقع على هذا.. صح الكراء، ولزمه، زرع أو لم يزرع. فإن أكراه إياها على أن يزرعها، ولم يقل: أرضا بيضاء لا ماء لها، وهما يعلمان أنها لا تزرع إلا بمطر أو سيل يحدث.. فالكراء فاسد) . قال أصحابنا: وإذا اكترى أرضًا ليس لها ماء قائم، وإنما تزرع على سيل نادر إن جاء، أو بالأمطار الكثيرة، ولا تكتفي بالمطر المعتاد والنطف.. ففيها ثلاث مسائل: إحداهن: أن يكتري هذه الأرض للزراعة.. فلا يصح؛ لأن اعتماد الزرع على السقي، فإذا لم يكن لها ماء قائم لا ينقطع في العادة.. لم يتمكن من استيفاء المنفعة،

إذ السيل النادر مظنون، والمطر الكثير قد يقل؛ لأن العادة قد جرت أن الكثير قد يقل، فلم يصح، كما لو أكراه أرضًا لا يملكها. الثانية: أن يقول: أجرتك هذه الأرض، وهي أرض بيضاء لا ماء لها، ولا يقول: للزراعة.. قال الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: فتصح الإجارة؛ لأن الأرض قد تكترى للزرع وغيره، بأن يقعد فيها، أو يؤوي إليها بهائمه، أو يطرح فيها طعامًا أو حطبًا. وقال الصيمري: لا تصح هذه الإجارة حتى يقول: أجرتكها أرضًا بيضاء لا ماء لها، تصنع بها أنت بلا ماء لنفسك ما شئت، ولا يستغنيان بقولهما: لا ماء لها، فإن لم يقولا جميع ذلك.. بطل؛ لأن الظاهر عند الإطلاق - ولا ماء لها - أن رب الأرض ربما تكلف سوق الماء إليها. إذا ثبت هذا: فيجوز له أن يزرع هذه الأرض مدة الإجارة، ويحفر فيها بئرًا للسقي؛ لأن الزرع من منافع تلك الأرض، وله طم البئر، وله تركها إذا رضي مالك الأرض بتركها. وليس له الغرس فيها، ولا البناء؛ لأنهما يرادان للبقاء، والمكري لم يدخل على أن يبقى في أرضه شيء بعد مدة الإجارة. الثالثة: أن يقول: أجرتك هذه الأرض، ولم يقل: للزراعة، ولا أنها أرض بيضاء، فهل تصح الإجارة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تصح؛ لأن الأرض إنما تراد للزرع في العادة والغالب، ولو شرط الزراعة.. كان باطلًا، فكذلك إذا أطلق. والثاني: ينظر فيها: فإن كانت بحيث لا يمكن أن يساق إليها ماء من نهر لارتفاعها، ولا يتأتى فيها بئر يحفر لصلابتها أو لقلة الماء فيها.. صح الكراء؛ لأن عمله بذلك بمنزلة ما لو شرط أنها أرض بيضاء.

وإن كانت بحيث يمكن أن يساق إليها الماء من نهر، أو يحفر فيها بئر ماء.. لم يصح الكراء؛ لأن المكتري يجوز أن يعتقد أن لها ماء، أو أن المكري يحصل لها الماء، وأنه يكتريها للزراعة، وذلك متعذر في العادة، فلم يصح. قال الشيخ أبو حامد: وقد ذكرها أبو إسحاق المروزي في " الشرح "، وسها في كلمة، فقال: فيها وجهان، أحدهما: لا يصح إذا شرط زرعها. وجميع أصحابنا قالوا: إذا شرط زرعها.. لم يصح، وجهًا واحدًا، وإنما الوجهان عند الإطلاق. وإن كانت الأرض مما يكتفي زرعها بالمطر القليل.. قال الشيخ أبو حامد: صحت إجارتها للزرع؛ لأن الله تعالى ما أجرى العادة بقطع الأمطار جملة، وإنما أجرى العادة بأن المطر قد يقل، فلذلك قلنا: لا تصح إجارة الأرض للزرع التي لا يكتفي زرعها إلا بالمطر الكثير. وإن كانت الأرض لا تشرب إلا من زيادة نهرٍ، فإن كانت زيادته نادرةً، فإن اكتراها للزراعة بعد زيادة الماء.. صح؛ لأن الانتفاع بها ممكن، وما يتخوف في ثاني الحال من نقص يؤثر بالزرع.. لا يؤثر، كمن اشترى عبدًا، فإنه يصح وإن كان يتخوف موته أو إباقه. وإن اكتراها للزراعة قبل زيادة الماء.. لم يصح؛ لأنه قد يزيد، وقد لا يزيد، وذلك ضر مظنون، فلم يصح. فإن اكتراها على أنها ارض بيضاء لا ماء لها، ولم يقل: للزراعة.. صح، كما قلنا في الأرض التي لا ماء لها. وإن اكتراها، ولم يقل: إنها أرض بيضاء لا ماء لها، ولا أنه يكتريها للزراعة.. لم يصح، وجهًا واحدًا؛ لأن لها ماءً بحالٍ؛ لأنه يمكن أن يسقي من النهر بالدواليب وإن كانت عالية. فإن كانت الزيادة معتادةً.. صحت إجارتها للزراعة قبل وجود الزيادة، فكذلك

فرع: استأجر أرضا مغمورة بالماء

تصح إجارة أرض البصرة التي تشرب من المد للزرع؛ لأن ذلك معتاد لا يختلف؛ لأن الماء يمد كل يوم مرتين. قال ابن الصباغ: وكذلك تصح إجارة الأرض التي تشرب بالمطر المعتاد للزرع قبل مجيء المطر، ولعله أراد الأرض التي تكتفي بالمطر القليل، كما ذكره الشيخ أبو حامد. [فرع: استأجر أرضًا مغمورة بالماء] وإن استأجر أرضًا وفيها ماء، فإن كان الماء كدرًا لا ترى معه الأرض، ولم يكن رأى الأرض قبل ذلك.. لم يصح، على الصحيح من القولين؛ لأنه لا يجوز عقد الكراء على عين لم يشاهدها، وإن كان قد رأى الأرض قبل ذلك، أو كان الماء صافيًا ورأى الأرض وفيها الماء.. نظرت: فإن استأجرها لزرع يصلح مع قيام الماء فيها، كالأرز، وما أشبهه.. صحت الإجارة؛ لأنه يمكنه الانتفاع بها عقيب العقد. وإن استأجرها لزرع لا يصلح مع قيام الماء فيه، كالحنطة، والشعير، والذرة، فإن كان فيها موضع يمكن فتحه وخروج الماء منها، وتزرع بعد ذلك.. صحت إجارتها؛ لأنه يمكن زراعتها. وإن لم يكن فيها موضع يمكن فتحه وخروج الماء، ويعلم أن الماء لا ينحسر عنها بالشمس والريح.. لم تصح إجارتها للزرع؛ لأنه لا يتمكن من زراعتها. وإن كان يعلم في العادة أن الماء ينحسر عنها بطلوع الشمس وهبوب الريح.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: لا يصح؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بها في الحال.

فرع: خوف غرق الأرض لا يمنع الإجارة

والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره -: أنه يصح، وهو الصحيح؛ لأنه يعلم بحكم العادة إمكان زراعتها، وكون الماء فيها هو من عمارتها، فلا يمنع زراعتها وقت الزراعة. وليس من شرط الإجارة حصول الانتفاع بها في جميع مدتها، ألا ترى أنه يجوز أن يستأجر الأرض للزراعة سنتين، والزراعة لا تكون إلا في بعضهما. [فرع: خوف غرق الأرض لا يمنع الإجارة] قال في " الأم " [3/247] : إذا كانت الأرض على صفة يمكن زرعها، إلا أنه يخاف عليها الغرق، وقد تغرق، وقد لا تغرق.. جازت إجارتها؛ لأن الظاهر عدم الغرق، والأصل السلامة. [فرع: الاستئجار لتعليم سورة كريمة] ] : وإن استأجر رجلًا على تحصيل تعليم سورة من القرآن، والأجير لا يحفظها.. صحت الإجارة؛ لأنه يمكنه تحصيل تعليمه، بأن يستأجر من يحفظها ليعلمه. وإن استأجره ليعلمه سورة، والأجير لا يحفظها.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تصح؛ لأنه عقد على منفعة معينة لا يقدر عليها، فهو كما لو أجر عبد غيره. والثاني: تصح؛ لأنه يمكنه أن يتعلم من غيره ويعلمه. [مسألة: الاستئجار على منفعة معلومة] ولا تصح الإجارة إلا على منفعة معلومة القدر؛ لأن المنافع كالأعيان، فلما لم يجز العقد على الأعيان مع الجهل بها.. فكذلك العقد على المنافع. إذا ثبت هذا: فإن المنافع تنقسم ثلاثة أقسام: [الأول] منها: ما لا يتقدر إلا بالمدة.

و [الثاني] منها: ما لا يتقدر إلا بالعمل. و [الثالث] منها: ما يتقدر بالمدة أو بالعمل. فأما ما لا يتقدر إلا بالمدة: فإجارة العقار كله، كالأرض، والدور، والحوانيت؛ لأنه ليس للعقار عمل معلوم، فلم يتقدر العقد على منفعته إلا بالمدة، وكذلك: الاستئجار لتطيين السطوح والحيطان وتجصيصها لا تتقدر معرفته إلا بالزمان، فيقول: استأجرتك لتطين لي شهرًا، أو تجصص لي شهرًا؛ لأنه لا يمكن تقدير العمل فيه؛ لأن بعضه يكون رقيقًا، وبعضه يكون ثخينًا؛ لاختلاف أرض السطح والحائط، وكذلك: الإجارة على الرضاع لا تقدر المنفعة فيها إلا بالزمان؛ لأنه لا يمكن تقدير اللبن الذي يشبع به الصبي. وأما ما لا تتقدر المنفعة فيه إلا بالعمل: فمثل أن يقول: استأجرتك لتبيع لي هذا الثوب أو لتخيطه، أو استأجرتك لتحج عني، أو عن فلان، أو لتقبض لي من فلان شيئًا، وما أشبه ذلك؛ لأنه لا يمكن تقدير المنفعة فيها بالمدة. وأما ما تتقدر المنفعة فيه بالعمل أو بالمدة: قال الشيخ أبو حامد: فمثل أن يقول: أجرني دابتك هذه لأركبها إلى موضع كذا، أو أجرني عبدك هذا ليخيط لي هذا الثوب، أو أجرني عبدك هذا ليخدمني شهرًا، أو ليخيط لي شهرًا، أو ليبني لي شهرًا، أو أجرني هذا الجمل لأركبه شهرًا أو سنة.. فيصح ذلك؛ لأن المنفعة معلومة لكل واحدٍ منهما. فرع: [استأجره ليخيط ثوبًا في يوم] : وإن قال: أجرني عبدك ليخيط لي هذا الثوب يومًا.. لم يصح، وبه قال أبو حنيفة. وقال أبو يوسف، ومحمد: يصح.

فرع: شرط مدة الإيجار أن تكون مقدرة

دليلنا: أن تصحيحها يؤدي إلى التناقض؛ لأنه قد يفرغ من الخياطة في بعض اليوم، فإن طولب بالعمل في بقية اليوم.. أخل بشرط العمل، وإن لم يطالب بالعمل.. أخل بشرط المدة، وإن قال: استأجرتك لتحصل لي خياطة خمسة أيام.. قال القاضي أبو الطيب: لم يصح؛ لأن المنفعة مجهولة؛ لأن الخياطين تختلف أعمالهم، وإنما تصح الإجارة، بأن يقول: استأجرتك لتخيط لي خمسة أيام، أو لتخيط هذا الثوب، أو لتحصل لي خياطة هذا الثوب؛ لأن المنفعة في ذلك كله معلومة. [فرع: شرط مدة الإيجار أن تكون مقدرة] وما قدر من الإجارة بالمدة: فمن شرط المدة أن تكون معلومة الابتداء والانتهاء، فيقول: أجرني دارك هذه مدة شهر من هذا الوقت، أو من الآن، فإن قال: شهرًا أو سنة، ولم يقل من الآن، أو من هذا الوقت.. لم تصح. وقال مالك، وأبو حنيفة: (إذا أطلق.. اقتضى أن يكون أولها عقيب العقد) . دليلنا: أن المعقود عليه هو الشهر، وذلك غير معلوم، بل يجوز أن يكون هذا الشهر أو غيره، فلم تصح، كما لو قال: بعتك عبدًا. إذا ثبت هذا: فإن من شرط المدة أن تكون متصلة بالعقد، فإن قال: أجرتك داري شهر رجب، وهو في جمادى.. لم تصح الإجارة. وقال أبو حنيفة: (تصح) . دليلنا: أن الإجارة عقد بنفسها يتقسط العوض فيها على المعوض، فإذا عقدت على معنى ينافي الشروع في قبضها عقيب العقد.. لم تصح، كما لو باعه عبدًا آبقًا، أو مغصوبًا. فقولنا: (يتقسط العوض فيها على المعوض) احتراز من نكاح الصغيرة، فإنه

فرع: الإجارة المطلقة بأجرة معينة

يصح، وإن كان لا يتأتى القبض فيها عقيب العقد الأول. أو نقول: لأن عقد الإجارة معاوضة محضة، فبطل فيما لا يتأتى فيه القبض عقيب العقد، كالبيع. ولا يبطل ببيع العين الغائبة، فإن قبضها يكون في موضعها. وإن استأجر من رجل عينًا شهر شعبان، ثم استأجرها منه شهر رمضان قبل انقضاء شعبان.. فهل تصح الإجارة في شهر رمضان؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تصح؛ لأن مدة إجارة العقد الثاني لم تتصل بوقت العقد، فلم تصح، كما لو كانت العين في إجارة غيره في شعبان، فأجرها من الثاني قبل انقضاء إجارة الأول. والثاني: تصح، وهو المنصوص؛ لأن العين في يد المستأجر، ولا حائل بينه وبينها، فصار كما لو جمع في الإجارة بين الشهرين. [فرع: الإجارة المطلقة بأجرة معينة] وإن قال: أجرتك داري كل شهر بدينار، ولم يبين عدد الشهور.. لم تصح الإجارة. ومن أصحابنا من قال: فيه قول آخر: أنه تصح في الشهر الأول بدينار، وتبطل فيما زاد عليه، وهو قول أبي حنيفة، واختيار أبي سعيد الإصطخري، إلا أن أبا حنيفة قال: (لكل واحد منهما أن يفسخ الإجارة عند انقضاء الشهر، فإذا لم يفعلا حتى مضى يوم من الشهر الثاني.. فليس لواحد منهما أن يفسخ) . وقال مالك: (الإجارة صحيحة، وكلما مضى شهر.. استحق دينارًا، إلا أنها غير لازمة) . دليلنا: أن قوله: (كل شهر) لا نهاية له، وإذا كانت مدة الإجارة مجهولة.. لم تصح، كما لو قال: أجرتك زمانًا، ولأن الشهر الأول وإن كان معلومًا، إلا أنه

أضيف إلى مجهول، والمعلوم إذا أضيف إلى مجهول.. صار الجميع مجهولًا، فصار كما لو قال: أجرتك داري هذه ودار أخرى بمائة. وإن قال: أجرتك داري هذه سنة من هذا الوقت، فإن قال: سنة عددية، أو سنة بالأيام.. كانت الإجارة ثلاثمائة وستين يومًا، وإن قال: سنة هلالية.. كانت الإجارة اثني عشر شهرًا، تمت الشهور أو نقصت. فإن عقد الإجارة في آخر جزء من الشهر.. اعتبر جميع شهور السنة بالأهلة، وإن عقد الإجارة بعد أن مضى جزء من الشهر، أو بقي منه جزء بعد العقد.. اعتبر ما بقي من هذا الشهر، وعد بعده أحد عشر شهرا بالأهلة، وتمم الشهر الأول بالعدد بعد الأحد عشر. فإن قال: أجرتك سنة وأطلق، ولم يقل: عددية ولا هلالية.. انصرف ذلك إلى الهلالية؛ لأنها هي السنة المعهودة في الشرع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] [البقرة: 189] . وإن أجره سنة شمسية، أو رومية، أو فارسية.. فذكر الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وابن الصباغ: أن الإجارة لا تصح؛ لأن هذه السنة تزيد على السنة الهلالية، وتلك الزيادة غير معلومة، بل تختلف، فإنها سنة تكون: ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا وربع يوم، وسنة تكون: ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا ونصف يوم، وسنة تكون: ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا وثلاثة أرباع يوم، إلا أن تكون هذه الزيادة معلومة عند المتعاقدين، فتصح الإجارة. فإن جهلا ذلك أو أحدهما.. لم تصح. وأما الشيخ أبو إسحاق: فقال: إذا أجره سنة شمسية.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تصح؛ لأنه على حساب النسيء فيه أيام، والنسيء حرام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] [التوبة: 37] . وأراد بقوله: (النسيء) ما ذكروه من التقدم والتأخر لأجل الزيادة والنقصان في السنة؛ لأن النسيء المذكور في الآية: أن العرب كانت تؤخر تحريم المحرم إلى صفر. والثاني: تصح؛ لأن مدة الإجارة معلومة، فهو كالنيروز، والمهرجان.

فرع: شرط بيان جنس الانتفاع بالمؤجر

[فرع: شرط بيان جنس الانتفاع بالمؤجر] إذا قال: أكريتك هذه الأرض، وأطلق، ولم يبين جنس الانتفاع بها.. لم يصح؛ لأن الأرض تكرى للزرع، وللغراس، وللبناء، فإذا لم يبين واحدًا منها.. لم يصح، وإن قال: أكريتكها لتزرع فيها زرع كذا.. صح، وإن قال: أجرتكها لتزرعها ما شئت، أو لتزرعها أضر الزرع.. صحت الإجارة؛ لأن أي زرع زرعه.. فهو مأذون له فيه، وإن قال: لتزرعها، وأطلق.. ففيه وجهان: [الأول] : قال أبو العباس: لا يصح؛ لأن الزروع يختلف ضررها في الأرض. والثاني - وهو المذهب -: أنه يصح؛ لأن الإطلاق يعم الزروع، وقد ثبت أنه لو قال: لتزرعها ما شئت، أو لتزرعها أضر الزروع.. صح، فإذا أطلق.. حمل على العموم. وإن أراد أن يغرسها أو يبني فيها.. لم يكن له ذلك؛ لأن ضررهما أكثر من ضرر الزرع. [فرع: أجرة الأرض للغراس] ] : فإن قال: أجرتك هذه الأرض لتغرسها الغرس الفلاني.. صح، وإن قال: لتغرسها ما شئت، أو لتغرسها أضر الغروس.. صح، وإن قال: لتغرسها، وأطلق.. ففيه وجهان، كالزرع، الأصح: أنه يجوز. فرع: [استأجر أرضًا للغراس فزرعها] : وإذا استأجر أرضًا للغراس.. فله أن يزرع فيها؛ لأن ضرر الزرع أقل من ضرر الغراس. فرع: [أجره ليزرع وليغرس ولم يبين] : إذا قال: أكريتك هذه الأرض، فازرعها أو اغرسها، أو قال: فازرعها أو اغرسها ما شئت.. قال الشافعي: (فالكراء جائز) . وقال المزني: الأشبه - بقوله -:

مسألة: إكراء البهائم

لا يجوز؛ لأنه عقد على زرع وغرس ولم يبين قدر كل واحد منهما، فكان مجهولًا. واختلف أصحابنا في تأويلها: فقال أبو العباس، وأبو إسحاق: ليس تأويلها ما ذكره المزني، وإنما تأويلها: أنه اكتراها ليغرسها كلها إن شاء، أو ليزرعها كلها إن شاء؛ لأنه إذا اكتراها للغراس.. فقد استفاد به الزرع؛ لأنه أقل ضررًا، فإذا ذكره كان تأكيدًا. فأما إذا أراد زرع بعضها وغرس بعضها.. لم يصح؛ لما ذكره المزني. وقال أبو الطيب بن سلمة: بل الإجارة صحيحة؛ لأنه إذا استأجر على أن يزرع ويغرس.. فقد استأجرها للأمرين معًا، فكذلك إذا استأجرها على أن يزرع أو يغرس.. صح، ويكون له زرع نصفها وغرس نصفها؛ لأن الإضافة تقتضي التسوية، كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو. والأول أصح؛ لأن الشافعي قد قال في " الأم ": (إذا قال: أجرتك هذه الأرض لتغرس بعضها، وتزرع بعضها.. لم يصح) . [مسألة: إكراء البهائم] مسألة: [جواز إكراء البهائم] : قال الشافعي: (وإكراء الإبل جائز) . وجملة ذلك: أن إكراء الإبل والخيل والبغال والحمير والبقر جائز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] [النحل: 8] . ولم يفرق بين المملوك والمكترى، وقَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] [البقرة: 198] . قال ابن عباس: (أراد بذلك: ليس عليكم جناح أن تحجوا وتكروا جمالكم) . وهذا إجماع لا خلاف فيه. إذا ثبت هذا: فإن البهائم تكرى، لا سيما للركوب والحمل عليها والعمل،

فإن أراد أن يكتري بهيمة للركوب.. جاز أن يكتري بهيمة معينة، وجاز أن يكتري بهيمة موصوفة في الذمة. (فالمعينة) : أن يقول: أكرني هذا الجمل، أو هذا الفرس. و (الموصوفة) : أن يقول: أكرني جملًا، أو دابة، أو بغلًا، أو حمارًا، ويذكر النوع والذكورية، والأنوثية؛ لأن الغرض يختلف بذلك؛ لأن الأنثى أسهل في الركوب من الذكر. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ. وذكر الشيخ أبو إسحاق: إذا كان في الجنس الواحد نوعان مختلفان في السير.. فهل يجب ذكر بيانه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب ذكره؛ لأن سيرهما يتفاوت. والثاني: لا يجب؛ لأن التفاوت يقل. ولا بد أن يكون الراكب معلومًا، ولا يكون معلومًا إلا بالمشاهدة. وقال أصحاب مالك: يجوز الإطلاق في ذلك؛ لأن أجسام الناس متقاربة في الغالب. وهذا غير صحيح؛ لأن الناس مختلفون في الطول والثقل، ويتفاوتون تفاوتًا لا يمكن ضبطه بالوصف. وأما ما يوطأ به المركوب: فإن أطلق ذلك، ولم يذكره.. وجب له أن يوطأ بما جرت العادة أن يوطأ بمثله، فإن كان المركوب فرسًا.. وطأه بالسرج واللجام، وإن كان بغلًا أو حمارًا.. وطأه بالإكاف والبرذعة، وإن كان جملًا.. وطأه بالقتب والزاملة. وإن ذكر محملًا أو كنيسة.. كان له أن يركب به، ولا بد أن يكون المحمل معلومًا، ويصير معلومًا بالمشاهدة، وهل يصير معلومًا بالوصف؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو إسحاق: أحدها: يصير معلومًا بالوصف، كما قلنا في السرج والقتب.

فرع: يذكر المكاري ما يصطحبه المسافر من حاجات وأمتعة

والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أن محامل بغداد وخوارزم وكنائسهم تصير معلومة بالوصف؛ لأنها خفيفة لا تختلف في العادة، وأما محامل خراسان وكنائسها: فلا تصير معلومة بالوصف؛ لأنها ثقال تختلف في العادة. والثالث - وهو الصحيح -: أنها لا تضبط بالوصف؛ لأنها تختلف اختلافًا متباينًا، ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ الوجه الأول. وقال ابن الصباغ: ولا بد أن يقول: يكون المحمل مغطى أو مكشوفًا؛ لأن الغرض يختلف فيه، ولا عرف فيه، فإذا ذكر: أنه مغطى.. فهل يصح أن يطلق الغطاء؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري، المشهور: أنه يصح؛ لأن ما يغطى به لا يختلف اختلافًا متباينًا، فيغطيه بلبد، أو نطع، أو خرقٍ. فإن شرط شيئًا.. تعين ما شرط، وله أن يغطي بمثله وأخف منه. وهل يشترط بيان ما يوطأ به فوق المحمل؟ فيه وجهان، وأصحهما: أنه لا يجب، ويحمل على ما جرت به العادة. [فرع: يذكر المكاري ما يصطحبه المسافر من حاجات وأمتعة] وأما المعاليق التي يحتاج إليها في السفر، مثل: القدر والدلو والحبل والقربة والركوة، فإن ذكرها المكتري وكانت معلومة، إما بالمشاهدة، أو بالوصف.. صح، وإن أطلق، وقال: وتحمل المعاليق.. فهل يصح؟ قال الشافعي: (الكراء فاسد) . قال: (ومن الناس من قال: هو جائز استحسانًا، ويحمل على العرف) . واختلف أصحابنا فيها:

فرع: ليس للراكب اصطحاب ما لا يعتاد

فمنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه مختلف، فلا بد من بيانه. والثاني: يصح، ويحمل على العرف، وهو الوسط؛ لأنه لا يتفاوت، فهو كغطاء المحمل والكنيسة. ومنهم من قال: لا يصح، قولًا واحدًا؛ لأن الشافعي لا يقول بالاستحسان. [فرع: ليس للراكب اصطحاب ما لا يعتاد] قال الصيدلاني: فإذا اكترى دابة تركب بسرج ولجام.. لم يكن للمكتري أن يعلق عليه المعاليق، كالسفرة، والسطيحة، والقربة؛ لأنه خلاف العادة. فرع: [اشتراط المسافة أو قدر وقتها] : وأما قدر السير ووقته: فإن شرط أن يركبها كل يوم شيئًا معلومًا، إما فرسخين، أو ثلاثة مما تقدر أن تمشي فيه مثل تلك البهيمة.. صح العقد، وحملا عليه. قال القاضي أبو الطيب: إلا أن يكون ذلك الطريق مخوفًا، فلا يجوز تقدير السير فيه؛ لأن السير ليس إلى اختيارهما. وإن لم يشرطا سيرًا مقدرًا في كل يوم، فإن كان لتلك الطريق منازل معروفة، وجرت العادة بالمسير فيه بزمان مخصوص من ليل أو نهارٍ.. صح العقد، وحملا على ما جرت به العادة في تلك الطريق، كما قلنا فيمن باع بدينار وأطلق، في بلدٍ فيه نقد متعارف. وإن لم يكن لتلك الطريق منازل معروفة، ولا وقت يمشي فيه.. لم يصح العقد مع

فرع: مكان النزول للمكتري يحمل على العرف

الإطلاق، كما قلنا فيمن باع بدينار وأطلق، في بلد لا نقد فيه غالب. قال أبو إسحاق المروزي: إذا أكرى إلى مكة في زماننا.. فلا بد أن يذكر المراحل؛ لأن السير في هذا الزمان سير لا تطيقه الحمولة. [فرع: مكان النزول للمكتري يحمل على العرف] وإن كان العرف في تلك الطريق النزول في بلدة، فإن اتفقا على موضع النزول في البلد.. جاز، وإن اختلفا: فقال المكتري: ننزل وسط البلد؛ لأنه أحفظ للمتاع، وقال المكري: بل ننزل في طرف البلد؛ لأنه أقرب لرعي الإبل، أو قال أحدهما: ننزل في هذا الجانب، وقال الآخر: بل ننزل في الجانب الآخر.. حمل الأمر على ما جرت به العادة في نزول القوافل في تلك البلد. فرع: [تعيين مكان النزول] : قال الطبري: فإذا استأجر بهيمة ليركبها من بغداد إلى البصرة، وكان منزله في البصرة، فإن قال: إلى طرف البصرة، أو إلى منزلي فيها.. صح العقد، وحملا على ذلك، وإن أطلقا.. فهل تصح الإجارة؟ فيه وجهان. فإذا قلنا: تصح.. فهل تنتهي الإجارة إذا بلغ إلى طرف البصرة، أو لا تنتهي حتى يبلغ منزل المكتري؟ فيه وجهان. [مسألة: اكترى مركبة لحمولته] فأما إذا أراد أن يكتري الحمولة للحمولة، و (الحمولة) - بضم الحاء -: الشيء الذي يحمل. و (الحمولة) - بفتح الحاء -: البهيمة التي تحمل. قال الله تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142] [الأنعام: 142] . قال أهل التفسير: (الحمولة) : الكبار، و (الفرش) : الصغار. إذا ثبت هذا: فإن اكترى ظهرًا للحمولة، فلا يفتقر إلى ذكر جنس الظهر، ولا

إلى نوعه، بل يقول: أكرني ظهر بهيمة لتحمل لي كذا وكذا، إلى موضع كذا وكذا، فيصح؛ لأنه لا غرض في معرفة جنس الظهر ونوعه؛ لأن الغرض تحصيل حمل المتاع، فعلى أي بهيمة حمله المكري من جمل، أو بغل، أو حمارٍ.. فقد حصل المقصود، بخلاف اكتراء البهيمة للركوب؛ لأن الغرض يختلف باختلاف البهيمة، فلذلك لم يكن بد من بيان البهيمة. وأما المتاع المحمول: فلا بد من معرفة جنسه، أنه طعام، أو حديد، أو قطن؛ لأن تعب البهيمة يختلف باختلافه وإن استوى في القدر؛ لأن الحديد وما أشبهه يقع على موضع واحدٍ من الظهر، ولا يأخذ جميع الظهر، والقطن وما أشبهه يقع على جميع الظهر، وتدخل فيه الريح، ففي كل واحدٍ منهما ثقل من وجهٍ، وخفة من وجهٍ، فلذلك وجب بيانه. ولا بد من معرفة قدره، فإن كان المتاع مشاهدًا.. وجب عليه بيانه، وإن قال: أكرني ظهرًا على حمل هذا القطن، أو على حمل هذه الصبرة.. صح وإن لم يعرفا وزن القطن، ولا كيل الصبرة، كما قلنا في البيع. وإن لم يشاهده، ولكن وصفه بالوزن أو بالكيل.. صح؛ لأنه يصير معلومًا بذلك. وأما الظروف التي فيها المتاع: فإن كانت معلومة بالمشاهدة.. جاز، وإن لم تكن مشاهدة، فإن كان المتاع موصوفًا بالوزن.. لم يفتقر إلى معرفة جنس الظرف؛ لأنها تكون من جملة الوزن، وإن كان المتاع معلومًا بالكيل.. فلا بد من معرفة ظرفه، إما بالمشاهدة، أو بالوصف؛ لأنه يختلف بالثقل والخفة. قال الشافعي: (إلا أن يكون من الغرائر الجبلية، فيجوز أن يطلق؛ لأنها لا تختلف اختلافًا متباينًا، فكان تسميتها كافيًا) . قال ابن الصباغ: ويذكر المدة التي يحمل فيها، والموضع الذي يحمل إليه، كما قلنا في الركوب

فرع: اكترى البهيمة ليحمل عليها ما لا تطيقه

قال الطبري: وإذا استأجره ليحمل له متاعًا إلى بلد، فبلغ به طرف ذلك البلد.. فللمكري حط المتاع هناك. وقال أبو حنيفة: (يلزمه أن يبلغ به إلى منزل المكتري في ذلك البلد) . دليلنا: أن المعقود عليه هو الحمل إلى البلد، واسم البلد يقع على طرفه. [فرع: اكترى البهيمة ليحمل عليها ما لا تطيقه] وإن اكترى منه بهيمة ليحمل عليها متاعًا لا تقدر عليه البهيمة، أو ليحمل عليها ما شاء.. لم يصح؛ لأن حملها لما لا تقدر عليه يؤدي إلى قتلها، وقوله: (ما شاء) يدخل فيه ما يقتلها، وقتلها لا يجوز. فرع: [اكتراء البهيمة لإدارة الرحى] : وإن اكترى دابة لإدارة الرحى.. فلا بد أن تكون البهيمة معلومة، إما بالمشاهدة، أو بالصفة، ولا بد أن يعلم الحجر بالمشاهدة لا بالصفة؛ لأن عمل البهيمة يختلف فيه بثقله وخفته. ولا بد من تقدير الطحن، إما بالزمان، بأن يقول: يومًا أو يومين، أو بالعمل، بأن يقول: لطحن قفيز أو قفيزين. وإن استأجر بهيمة لإدارة الدولاب.. فلا بد أن تكون البهيمة معلومة بالمشاهدة، أو بالصفة، ولا بد أن يعلم الدولاب؛ لأن تعب البهيمة يختلف باختلافه، ولا يعلم إلا بالمشاهدة؛ لأنه يختلف ولا يضبط بالصفة، ويقدر ذلك بالزمان؛ لأنه لا يصير معلومًا إلا بذلك. وإن اكتراها ليسقي عليها بالغروب.. فلا بد من معرفة الغرب؛ لأنه يختلف، ويقدر ذلك بالزمان أو بعدد الغروب، ولا يجوز أن يقدر بسقي الأرض مشاهدة ولا موصوفة؛ لأن ما تروى به الأرض من الماء مجهول.

فرع: [استئجار بهيمة للحرث] : وإن استأجر ظهرًا للحرث.. فلا بد من معرفة الظهر بالمشاهدة أو بالوصف، ولا بد أن يشاهد رب البهيمة الأرض المحروثة؛ لأن تعب البهيمة يختلف باختلاف صلابة الأرض ورخاوتها، وذلك لا يضبط بالوصف، ويصح تقدير المنفعة هاهنا بالعمل، بأن يقول: أجرني هذا الظهر لأحرث عليه هذه الأرض، أو نصف الأرض. وإن استأجره ليحرث هذه الأرض.. صح، ولا يفتقر إلى بيان جنس الظهر؛ لأن المقصود حرث تلك الأرض، فيصح وإن لم يذكر جنس الظهر، كما قلنا في حمل المتاع. وهل يصح أن يكتري ظهرًا مشاهدًا أو موصوفًا على أن يحرث عليه مدة معلومة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: لا يصح؛ لأنه مجهول. والثاني: يصح، وهو الأصح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره؛ لأن المنفعة تصير معلومة بذلك. وإن اكترى ظهرًا غير مشاهد ولا موصوف ليحرث عليه مدة.. لم يصح، وجهًا واحدًا؛ لأن ذلك يختلف. فرع: [اكتراء الظهر للدياس أو الجارحة للصيد] : ويجوز أن يستأجر الظهر على دياس الزرع، فإن كان على دياس زرع معين.. لم يفتقر إلى ذكر جنس الظهر؛ لأن المقصود دياسه، فهو كحمل المتاع. وإن كان على دياس مدة.. لم يصح حتى يعلم الظهر، إما بالمشاهدة، أو بالوصف.

مسألة: الاستئجار لرعي الأغنام

ويجوز أن يستأجر جارحة الصيد، ولا يصح حتى يعلم الجارحة، إما بالمشاهدة، أو بالوصف؛ لأن الجوارح تختلف، ولا بد من ذكر جنس الصيد الذي ترسل عليه الجارحة؛ لأن لكل صيد تأثيرًا في إتعاب الجارحة. [مسألة: الاستئجار لرعي الأغنام] وإن استأجره ليرعى له غنمًا معينة.. تعين العقد بها، فإن تلفت قبل انقضاء مدة الإجارة.. قال ابن الصباغ: فإن أصحابنا قالوا: تنفسخ الإجارة، ولا يكون للمستأجر إبدالها، وإن تلف بعضها.. انفسخ خفيه العقد، وإن توالدت.. لم يلزمه أن يرعى أولادها. قال ابن الصباغ: وعندي أنه إذا عين الغنم.. جاز له إبدالها، كما إذا استأجر دابة ليركبها.. جاز له أن يركبها مثله. وإن استأجره ليرعى له الغنم مدة وأطلق.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -: أنه لا يصح؛ لأن لكل قدر من الغنم تأثيرًا في إتعاب الراعي. والثاني - وهو قول ابن الصباغ -: أنه يصح، ويرعى له ما جرت العادة أن يرعى الواحد من رعاة الغنم، فإذا تلف شيء منها.. أبدله، وإذا توالدت.. رعى أولادها؛ لأن العادة جرت بأن الأولاد تتبع الأمهات في الرعي. [فرع: استئجار كحال للعين] وإن استأجر كحالا ليكحل له عينه.. جاز له؛ لأنه عمل جائز يمكن تسليمه، ويقدره بالمدة، فإن قدره بالبرء.. لم يجز؛ لأنه لا يعلم متى يبرأ. ولا يجب الكحل على الكحال؛ لأن الأعيان لا تستحق بالإجارة، فإن شرط الكحل على الكحال.. ففيه وجهان:

مسألة: استئجار امرأة للرضاع والحضانة

أحدهما: يجوز؛ لأن العادة جرت به عليه، ولأنه يشق على العليل تحصيل الدواء، فجوز ذلك، كالرضاع. والثاني: أن الإجارة باطلة، وهو الأصح؛ لأن ذلك في معنى بيعتين في بيعة فإن اشترى منه الكحل، واستأجره على الكحل في عقد واحد.. فقد جمع بين بيع وإجارة، وفي ذلك قولان، مضى ذكرهما. وإن استأجره ليصبغ له ثوبًا بصبغ من عند الصباغ، أو ليكتب له كتابًا بحبر من الكاتب، فإن قلنا: يجوز اشترط الكحل على الكحال.. صح هاهنا أيضًا. وإن قلنا هناك: لا يصح.. فهاهنا وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لما ذكرناه في الكحل. والثاني: يصح؛ لأنه بيع للصبغ والحبر والعمل، والكتاب فيه تسليم الصبغ والحبر؛ لأنه مقدر بذلك. [مسألة: استئجار امرأة للرضاع والحضانة] ] : وإن استأجر امرأة على إرضاع صبي.. صحت الإجارة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى في المطلقات: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] . والأجرة لا تكون إلا في إجارة. فإن استأجرها على الحضانة، وهي حفظ الصبي، وتربيته، ودهنه، وكحله، وغسل خرقه، وتنظيفه.. لزمها ذلك دون الإرضاع. وإن استأجرها على إرضاعه وحضانته.. لزمها ذلك. واختلف أصحابنا هل المقصود الحضانة، واللبن تبع، أو المقصود اللبن والحضانة تبع؟ فمنهم من قال: المقصود هو اللبن، والحضانة تبع؛ لأن الله تعالى قال:

{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} [الطلاق: 6] . فذكر الإرضاع، ولم يذكر الحضانة، والإرضاع إنما ينصرف إلى اللبن دون الحضانة. ومنهم من قال: المقصود الحضانة، واللبن تبع، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأن اللبن عين، والأعيان لا تستباح بعقد الإجارة متبوعًا، وإنما تستباح على وجه التبع لغيرها، ألا ترى أن من استأجر بئرًا ليشرب منها.. لم يصح، وإن استأجر دارًا وفيها بئر ماء.. جاز أن يستقي منها تبعًا للدار؟ وأما الآية: فلأن الرضاع يشتمل على حضانة ولبن، فما قابل الحضانة منها.. كان أجرة، وما قابل اللبن.. كان ثمنًا؛ لأن الأعيان لا تستباح بالإجارة، وقول الله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 25] [النساء: 25] . تغليب للأكثر منهما؛ لأن من شأن العرب إذا جمعت بين شيئين أن تغلب الأكثر، فعلم أن الحضانة هي المقصودة. وإن استأجرها على الإرضاع، ولم يذكر الحضانة.. فهل يلزمها الحضانة؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمها ذلك؛ لأن العادة جارية بأن المرضعة تتولى ذلك. والثاني: لا يلزمها؛ لأن المذكور في العقد هو الإرضاع، وذلك لا يتناول أكثر من سقي اللبن. إذا ثبت هذا: فمن شرط صحة الإجارة على الإرضاع: أن يعلم الصبي، ولا يصير معلومًا إلا بالمشاهدة؛ لأنه لا يضبط بالوصفِ، وتقدر المنفعة فيها بالمدة؛ لأن تقديرها بالعمل لا يمكن. ولا تصح الإجارة حتى يشترط أنها ترضعه في بيتها، أو في بيت أبي الصبي؛ لأن الغرض يختلف بذلك؛ لأن للأب غرضًا في أن ترضعه في بيته، لكي يشرف على ولده، ولها غرض في أن ترضعه في بيتها؛ لأنه أسهل لها، ولكي لا تبتذل في القعود في بيوت الناس. فإن استأجرها الأب بأجرة من مال الصبي.. جاز؛ لأن نفقته في ماله. وإن استأجرها الأب بأجرة في ذمته.. قال الشيخ أبو حامد: صح، ولزم الأب

فرع: تأجير المتزوجة نفسها للإرضاع

الأجرة؛ لأن الصبي إن لم يكن له مال.. فنفقته على الأب، وإن كان له مال.. فقد تطوع الأب بالأجرة من ماله، وما تطوع به الإنسان بعقد.. لزمه. [فرع: تأجير المتزوجة نفسها للإرضاع] إذا كان للمرأة زوج، فأجرت نفسها للإرضاع بإذن الزوج.. صحت الإجارة ولزمت؛ لأن الحق لهما، وإن أجرت نفسها للإرضاع بغير إذنه.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: تصح؛ لأن العقد يتناول محلًا غير المحل الذي يتناوله عقد النكاح؛ لأنه لا يملك خدمتها ولا إرضاعها. والثاني: لا يصح؛ لأنه يستحق الاستمتاع بها في كل وقت، وفي تصحيح عقد الإرضاع عليها ما يمنعه من الاستمتاع بها. فإذا قلنا: لا تصح.. فلا كلام، وإن قلنا: تصح.. فللزوج فسخ الإجارة؛ لأنها تعوق استمتاعه. وإن أجرت نفسها للإرضاع، ثم تزوجت.. لم يكن للزوج فسخ هذه الإجارة؛ لأنها سابقة لحقه، وإن أجرت نفسها، ثم أقرت: أنها قد كانت تزوجت برجل قبل الإجارة، وصدقها الزوج.. ثبتت الزوجية بينهما، ولم يكن للزوج فسخ هذه الإجارة؛ لأن الإجارة قد لزمت في الظاهر، فلا يقبل قولها فيما يؤدي إلى فسخها. وكل موضع لزمت فيه الإجارة، ولم يكن للزوج فسخها.. فهل يمنع الزوج من وطئها؟ فيه وجهان: قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 330] : يمنع من وطئها، وهو قول أحمد؛ لأنه لا يؤمن أن تحبل، فينقص اللبن. وقال الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: لا يمنع الزوج من وطئها؛ لأن

فرع: استئجار المرأة العبد لخدمة الخلوة

استمتاعه بها حق له متحقق، وجواز الحبل من الوطء أمر مظنون، فلم يسقط حقه المتحقق بأمر المظنون. فعلى هذا: ليس للزوج أن يطأها في وقت إرضاع الصبي، وإنما يطؤها إذا نام الصبي، أو إذا روي باللبن. [فرع: استئجار المرأة العبد لخدمة الخلوة] ] : قال الطبري في " العدة ": إذا استأجرت امرأة عبدًا لخدمة الخلوة.. لم تصح الإجارة. وقال أبو حنيفة: (تصح الإجارة، والخدمة حرام) . وكذلك: لو استأجر حرة أجنبية منه لخدمة الخلوة.. لم تصح الإجارة. وفي الأمة وجهان. وقال أبو حنيفة: (تصح) . دليلنا: أن الإجارة وقعت لخدمة خاصة، وهي ممتنعة؛ لكونها محرمة، فلم يصح العقد كمن استأجر شيئًا لا منفعة فيه. [مسألة: الاستئجار لحفر بئر ونحوه] وإن استأجر رجلًا ليحفر له بئرًا أو نهرًا.. صح، ولا بد من تقدير العمل. قال ابن الصباغ: وذلك يحصل بأمرين، إما بأن يقدره بالمدة، بأن يستأجره ليحفر له شهرًا أو شهرين، أو بالعمل، فإن كانت بئرًا.. ذكر قدر عمقها، وقدر دورها. وإن كان نهرًا.. ذكر طوله وعرضه وعمقه. قال ابن الصباغ: فإن كانت الإجارة على أن يحفر له مدة.. لم يفتقر إلى معرفة

الأرض التي يحفر فيها، وإن كانت على أن يحفر له أذرعًا معلومة.. فلا بد من مشاهدة الأرض التي يحفر فيها؛ لأنها تختلف بالصلابة والرخاوة، وإن استأجره على أن يحفر له أذرعًا معلومة.. فعلى الحافر أن يخرج التراب الذي يحصل بالحفر؛ لأنه لا يمكنه أن يحفر إلا بإخراج تراب ما حفر، فإن تهور شيء من تراب ما حفره من جانبي البئر.. لم يلزم الحافر إخراج ذلك، بل على المستأجر أن يخرج ذلك؛ لأنه سقط من ملكه، ولم يتضمنه عقد الإجارة، فهو كما لو سقط في البئر بهيمة لمالك البئر. فإن حفر الأجير، فوصل إلى حجر في البئر يمكنه حفرها.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: يلزمه حفرها إذا أمكنه وإن شق عليه؛ لأنه قد التزم الحفر بالعقد. و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لا يلزمه حفرها؛ لأنها مخالفة لما شاهد من الأرض. وإن وصل إلى حجر لا يمكنه حفرها، أو نبع فيها ماء لا يمكنه معه الحفر وقد بقي من الذرعان التي استأجره عليها بعضها.. انفسخت الإجارة فيما بقي، وهل ينفسخ فيما مضى؟ فيه طريقان، كما قلنا فيمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض. فإذا قلنا: ينفسخ فيما مضى.. سقط المسمى، ووجب للأجير أجرة المثل فيما قد عمل. وإذا قلنا: لا ينفسخ.. ثبت لكل واحد منهما الخيار في الفسخ لأجل ما بقي، فإن فسخا، أو فسخ أحدهما.. سقط المسمى، ووجب للأجير أجرة المثل لما قد عمل. وإن لم يفسخ واحد منهما.. قال ابن الصباغ: وجب للأجير من المسمى بقدر ما عمل، ولا يقسط ذلك على عدد الأذرع؛ لأن ذلك يختلف، لأن أعلى البئر أسهل في نقل التراب، ولكن يقال: كم أجرة ما قد عمل؟ وكم أجرة ما بقي؟ ويقسم المسمى عليهما.

فرع: الاستئجار لحفر القبر

[فرع: الاستئجار لحفر القبر] ] : وإن استأجره لحفر قبر.. فليس عليه رد التراب إلى القبر بعد وضع الميت فيه. وقال أبو حنيفة: (عليه ذلك) . دليلنا: أن المعقود عليه هو الحفر، وقد وجد ذلك، فلا يلزمه غيره. [فرع: الاستئجار على البناء] ويجوز الاستئجار على البناء، ويجوز تقدير ذلك بالزمان، بأن يقول: استأجرتك لتبني لي يومًا أو شهرًا بآجر، أو أحجار، أو طين، أو لبن. ويجوز تقديره بالعمل، بأن يقول: لتبني لي حائطًا بآجر، أو حجر، أو طين، أو لبن، ويذكر طوله وعرضه وسمكه. ويجوز أن يستأجره ليضرب له اللبن، ويقدره بالمدة أو بالعمل، فإن قدره بالعمل.. ذكر عدد اللبن، ويذكر طولها وعرضها وسمكها. قال ابن الصباغ: فإن كان القالب معلومًا.. جاز أن يطلق، كما إذا كان المكيال معلومًا معروفًا.. جاز إطلاقه في السلم. وإن قال: بهذا القالب.. قال القاضي أبو الطيب: صح، وقال ابن الصباغ: في هذا نظر، وينبغي أن لا يصح، كما لو علق السلم على مكيال بعينه. ولا بد أن يذكر موضع الضرب؛ لأنه يختلف بقرب الماء منه وبعده؛ لأن نقل الماء والتراب على الأجير.

فرع: استئجار الحمام

[فرع: استئجار الحمام] إذا استأجر حمامًا.. صحت الإجارة؛ لأنه يمكنه الانتفاع به مع بقاء عينه، فهو كالدور. إذا ثبت هذا: فلا بد أن يشاهد المستأجر بيوت الحمام؛ لأن الغرض يختلف باختلاف صغيرها وكبيرها، ولا بد أن يشاهد القدر؛ لأن الغرض يختلف باختلاف صغيرها وكبيرها، ويشاهد بئر الحمام؛ لأن البئر إذا كانت عميقة وبعيدة من الحمام.. كانت أكثر مؤنة من القريبة القليلة العمق، ويشاهد موضع الوقود، ومطرح الرماد، والموضع الذي يستنقع فيه الماء إذا خرج من الحمام؛ لأنه إذا كان بعيدًا عميقًا.. ذهب الماء سريعًا، وإذا كان قريبًا من الحمام غير عميق.. امتلأ ترابًا. وكذلك: إذا أراد أن يشتري حمامًا.. فلا يصح حتى يشاهد جميع هذه المواضع؛ لما ذكرناها. [فرع: الاستئجار ليعلمه سورة ما من القرآن] وإن استأجره على أن يعلمه سورة من القرآن.. لم تصح حتى يعينا السورة؛ لأن السور تختلف، وإن استأجره ليعلمه عشر آيات من سورة بعينها.. فهل يصح من غير أن يعين آيات منها؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المرأة التي له وهبت نفسها - لرجل: (ما تحفظ من القرآن؟) قال: سورة البقرة والتي تليها، قال: (قم فعلمها عشرين آية، وهي امرأتك» .

والثاني: لا يصح؛ لأن الأعشار تختلف. وأما الخبر: فقد روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «زوجتكها بما معك من القرآن» . وإن صح الخبر.. حملناه على: أنه عقد له النكاح بتعليم عشرين آية معينة، وإنما أعاد ذكر ذلك.. حكاية لما وقع عليه العقد، بدليل: أن قوله: «قم فعلمها عشرين آية، وهي امرأتك» ليس بنكاح. وهل تفتقر صحة الإجارة على تعليم القرآن إلى أن يعين الحرف الذي يعلمه إياه، كحرف نافع، أو ابن كثير، أو غيرهما؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يفتقر إليه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل: «زوجتكها بما معك من القرآن» . ولم يفرق، ولأن هذه الحروف كلها مأثورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منزلة عليه، فجاز أن يعلمه ما شاء منها، كما لو اشترى منه قفيزًا من صبرة.. فإن له أن يدفع إليه القفيز من أي جانب شاء منها. والثاني: لا تصح الإجارة حتى يبين الحرف؛ لأن بعض القراءات أشد من بعض، وبعضها أكثر من بعض.

قال الشيخ أبو حامد: وقيل: إن قراءة ابن كثير أكثر من قراءة غيره، وإذا كان كذلك، وكان الإطلاق مجهولًا.. فلم تصح. فرع: [نسيان المستأجر ما تعلمه أو بعضه] : وإن استأجره على أن يعلمه سورة أو آيات معلومة، فإن علمه ثلاث آيات، ثم نسيها المستأجر.. لم يلزم الأجير إعادة التعليم، وجهًا واحدًا. وإن علمه بعض آية، فنسيها المستأجر قبل أن يفرغ من تعليم باقيها.. لزم الأجير إعادة تعليمها، وجهًا واحدًا؛ لأن بعض الآية لا يقع به الإعجاز. وإن علمه آية أو آيتين، فنسي.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يكون المستأجر قابضًا، فيلزم الأجير إعادة التعليم؛ لأن الإعجاز لا يقع بأقل من ثلاث آيات؛ لأنه قدر به سورة قصيرة. والثاني: يكون المستأجر قابضًا؛ لأن الآية من جنس الإعجاز، فأشبهت الثلاث. فرع: [الاستئجار مدة لتعليم القرآن] : وإن استأجره ليعلم ابنه الصغير القرآن مدة معلومة.. صحت الإجارة. وهل تدخل الجمع في المدة من غير أن يستثنيها؟ سمعت شيخنا الإمام زيد بن عبد الله اليفاعي رحمة الله عليه يقول: يحتمل أن تكون على وجهين مأخوذين من الوجهين، فيمن استأجر ظهرًا ليركبه في طريق، وقد جرت العادة بأن ينزل الراكب في بعض تلك الطريق للرواح عن الدابة، هل يلزم المكتري ذلك بالإطلاق؟

مسألة: الاستئجار لأحد المناسك

[مسألة: الاستئجار لأحد المناسك] ] : وإن استأجره للحج والعمرة.. لم تصح حتى يبين أنه إفراد، أو تمتع، أو قران؛ لأن الغرض يختلف باختلاف ذلك. وهل تفتقر صحة الإجارة إلى أن يبين موضع الإحرام؟ ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (أن ذلك شرط) ، وذكر في موضع آخر: (أن ذلك ليس بشرط) . واختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق: فـ[الطريق الأول] : ذهب أكثرهم إلى: أنها على قولين: أحدهما: أن ذلك شرط؛ لأن الغرض يختلف باختلاف الميقات، وتختلف الأجرة باختلاف المواقيت. والثاني: أن ذلك ليس بشرط؛ لأن له عرفًا في الشرع، وهو ميقات البلد، فانصرف إليه الإطلاق، كمن باع بنقد مطلق في بلد فيه نقد غالب. و [الطريق الثاني] : منهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فحيث قال: (يشترط ذكر موضع الإحرام) إذا كان للبلد ميقاتان مختلفان. وحيث قال: (لا يشترط) أراد: إذا لم يكن للبلد إلا ميقات واحد. و [الطريق الثالث] : منهم من قال: هي على حالين آخرين: فحيث قال: (يشترط) إذا كان الحج عن حي؛ لأن له اختيارًا يرجع إليه. وحيث قال: (لا يشترط) إذا كان المحجوج عنه ميتًا؛ لأنه لا يمكن الرجوع إلى اختياره. إذا ثبت هذا: فإن قلنا: لا يشترط بيان موضع الإحرام، فإن شرط على الأجير أن يحرم من موضع، إما من الميقات، أو قبله.. لزمه ذلك. وإن أطلق.. لزمه الإحرام من ميقات ذلك البلد. وإن قلنا: يشترط بيان موضع الإحرام، فإن عين الميقات أو قبله.. لزمه أن يحرم

مسألة: إجارة الحلي

منه، وإن عين له دون الميقات.. لم يصح؛ لأنه يمر على الميقات وهو مريد للنسك بلا إحرام، وإن أطلق.. كانت الإجارة فاسدة. فإن أحرم الأجير عن المستأجر.. انعقد الإحرام عن المستأجر؛ لأنه فعله عنه بإذنه، فوقع عنه وإن كان العقد فاسدًا، كما لو وكله وكالة فاسدة ليشتري له عينًا، فاشتراها له.. فإن الملك فيها للموكل. [مسألة: إجارة الحلي] ولا تصح الإجارة إلا بأجرة معلومة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استأجر أجيرًا.. فليبين له أجرته» ، ولأن عقد يقصد به العوض، فلم يصح من غير ذكر العوض، كالبيع، وفيه احتراز من النكاح؛ لأنه لا يقصد به العوض. ويجوز أن يستأجر حلي الذهب بالذهب والفضة، وحلي الفضة بالفضة والذهب. قال الصيمري: ومن أصحابنا من توقف في إجارة حلي الذهب بالذهب، وحلي الفضة بالفضة. وليس بصحيح؛ لأن المعقود عليه هو منفعة الذهب لا عين الذهب، فلم يكن فيه ربًا. [فرع: استئجار منفعة عين بمنفعة عين أخرى] ويجوز أن يستأجر منفعة عين بمنفعة عين أخرى، سواء كانت من جنسها أو من غير جنسها. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز أن تكون المنفعتان من جنس، بأن يستأجر دارًا بمنفعة دار أخرى، فإن كانتا مختلفتين، بأن يستأجر منفعة عبد بمنفعة دار.. صح) .

فرع: الاستئجار لحمولة معينة

ودليلنا: أنهما منفعتان يجوز إجارتهما، فجاز أن يستأجر إحداهما بالأخرى، كما لو كانتا مختلفتين. إذا ثبت هذا: فلا تصح الإجارة إلا بأجرة معلومة القدر؛ لما ذكرناه من الخبر، ولأنه عقد معاوضة.. فلم يصح بعوض مجهول، كالبيع. فإن استأجر أجيرًا كل يوم بطعام معلوم، من بر، أو ذرة، أو شعير، أو غير ذلك مما يجوز السلم فيه.. صح؛ لأنه عوض يجوز أن يكون ثمنًا في البيع، فجاز أن يكون عوضًا في الإجارة، كالدراهم والدنانير. وإن استأجره بطعامه الذي يأكله كل يوم وكسوته.. لم تصح الإجارة، وبه قال أبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة: (يجوز ذلك في إجارة المرضعة وحدها) . وقال مالك، وأحمد: (يجوز ذلك في كل أجير) . دليلنا: أن هذا عوض في عقد.. فلم يجز أن يكون مجهولًا، كالبيع. وعلى أبي حنيفة: أن كل ما لا يجوز أن يكون أجرة في غير الرضاع.. لا يجوز أن يكون أجرة في الرضاع، كالدراهم المجهولة. فإن قالوا: فقد قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] . إلى أن قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] . قلنا: المراد بهذا: بيان نفقة الزوجة، فنص على وجوب نفقتها في حالة الإرضاع؛ لينبه على وجوبها في كل حالٍ؛ لأنها إذا وجبت مع تشاغلها بالإرضاع، فمع عدم التشاغل أولى. [فرع: الاستئجار لحمولة معينة] ] : فإن قال: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة بعشرة دراهم.. صح، كما لو اشتراها بعشرة دراهم. وإن قال: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة، كل قفيز بدرهم.. صحت

الإجارة؛ لأن جملة الصبرة معلومة، وأجزاء الأجرة معلومة، بخلاف ما لو قال: أجرتك هذه الدار: كل شهر بدرهم.. فإنه لا يصح؛ لأنه ليس للشهور غاية تنتهي إليها، ولقفزان الصبرة حد يعلم بالتفصيل. وإن قال: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة كل عشرة أقفزة بعشرة دراهم، وما زاد فبحساب ذلك.. صحت الإجارة؛ لأن أجزاء الأجرة قد علمت، وأن كل قفيز في مقابله درهم، وما زاد بحساب ذلك، فهو كما لو قال: لتحمل لي هذه الصبرة كل قفيز بدرهم، فإن قال: استأجرتك لتحمل لي من هذه الصبرة كل قفيز بدرهم.. لم تصح؛ لأن (من) للتبعيض، ولا يدري كم يحمل منها؟ إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو اكترى حمل مكيلة، وما زاد فبحسابه.. فهو في المكيلة جائز، وفي الزيادة فاسد، وله أجرة مثله) . واختلف أصحابنا في تأويلها. فقال أبو إسحاق المروزي: تأويلها: هو أن يقول: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة كل قفيز بدرهم، وتحمل لي صبرة أخرى - لم يشاهدها الأجير - بهذا الحساب، أي: ما زاد على الصبرة المشاهدة فبحسابها.. فتصح الإجارة في المشاهدة، وتبطل في التي لم يرها، ولا يكون في الحاضرة قولان؛ لأنهما صفقتان، فلا تبطل إحداهما لبطلان الأخرى. ولو قال: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة والصبرة الأخرى كل قفيز بدرهم.. لبطل العقد في الغائبة، وفي الحاضرة قولان. ومنهم من قال: تأويلها: أن يقول: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة - وهي عشرة أقفزة - كل قفيز بدرهم، وما زاد فبحساب ذلك.. فتصح في العشرة؛ لأنها متحققة، ولا تصح في الزيادة؛ لأنها مبهمة الوجود. ومنهم من قال: تأويلها: أن تكون له صبرة حاضرة، فقال: استأجرتك لتحمل هذه الصبرة كل قفيز بدرهم، فإن قدم لي طعام فحملته فبحساب ذلك.. فتصح في

فرع: الاستئجار للطحن أو للرعي بجزء من كل

الصبرة وما يحمله بعد ذلك، فقد وعده بأن تكون أجرته مثل ذلك، فلا يؤثر في العقد، ولا يلزمه الوعد. ومنهم من قال: تأويلها: أن يقول: استأجرتك لتحمل لي هذه الصبرة كل عشرة أقفزة بعشرة دراهم، وما زاد فبحساب ذلك.. فيجوز في العشرة، ولا يجوز فيما زاد عليها. وهذا غير صحيح؛ لأنا قد قلنا: إن هذا عقد صحيح. [فرع: الاستئجار للطحن أو للرعي بجزء من كل] قال أبو علي في " الإفصاح ": إذا استأجره ليطحن له حنطة بربعها.. لم يصح. وإن استأجره ليطحن له ثلاثة أرباعها بربعها.. صح. قلت: وعلى قياس ما قال أبو علي الطبري: إذا استأجره ليرعى له بهيمة مدة معلومة بربعها.. لم تصح الإجارة، وإن استأجره ليرعى له ثلاثة أرباعها بربعها.. صحت الإجارة. فإن قيل: كيف يتصور له أن يرعى ثلاثة أرباعها؛ لأنه لا يتأتى له ذلك إلا برعي جميعها؟ فالجواب: أنه لا يمتنع مثل ذلك في الإجارة، ألا ترى أنه يجوز له أن يستأجر نصف ظهر ليركبه، وإن كان لا يتصور إلا بركوب جميعه، وإنما يملك منفعة نصفه، ثم يتهايآن؟ وكذلك: لو كان بين رجلين بهيمة.. جاز لأحدهما أن يستأجر غيره على رعي نصيبه منها، ثم يكون القيام بها واجبًا على الأجير والمالك الآخر. [فرع: استئجار الشريك] فرع: [جواز استئجار الشريك] : قال الطبري: وإن كان بين رجلين حنطة مشتركة بينهما.. جاز لأحدهما أن يستأجر الآخر على طحن نصيبه منها، أو على حمله إلى موضع آخر.

فرع: الاستئجار على جزاف

وقال أبو حنيفة: (لا يصح) . دليلنا: أن ما تقبل جنبيته الإجارة.. صح عقدها على ما هو منفعة؛ لأن منفعة الشريك كمنفعة الدابة. [فرع: الاستئجار على جزاف] إذا كانت الإجارة مشاهدة، إلا أنها جزاف لا يعرفان قدرها، مثل: أن يستأجره بصبرة طعام لا يعلمان كيلها، أو بملء كفه دراهم قد شاهداها ولم يعلما عددها.. فهل يصح؟ ينظر فيه: فإن كانت الإجارة على منفعة في الذمة.. ففيه قولان، كما قلنا فيمن أسلم دراهم جزافا على طعام أو غيره. وإن كانت الإجارة على منفعة معينة، مثل: أن يستأجر بهيمة ليركبها إلى بلد، أو استأجره ليخيط له بها ثوبًا.. ففيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان؛ لأن الإجارة عقد على معدوم، فهي كالسلم. و [الثاني] : منهم من قال: يصح، قولًا واحدًا؛ لأن المنافع أجريت مجرى الأعيان؛ لأنها متعلقة بعين حاضرة، والسلم يتعلق بموجود ومعدوم. [فرع: الإجارة على منفعة] وما عقد من الإجارة على منفعة معينة، مثل: أن يقول: أجرني هذا الجمل لأركبه شهرًا، أو لأركبه إلى موضع كذا، أو أجرني عبدك هذا ليخيط لي هذا الثوب، أو ليخيطه بكذا وكذا.. فيصح أن تكون الأجرة في هذه الإجارة معينة، وفي الذمة.

(فالمعينة) : أن يقول: بهذا الدينار، أو بهذه الدراهم.. فيجوز قبض الدينار في المجلس، وبعد التفرق منه. والتي (في الذمة) : بأن يقول: بعشرة دراهم في ذمتي؛ لأن ذلك بمنزلة بيع العين بثمن معين، وبثمن في الذمة، فإذا كانت الأجرة في هذه الإجارة في الذمة.. نظرت: فإن شرطا تعجيلها.. وجب تعجيلها، وإن شرطا تأجيلها.. كانت مؤجلة، وإن أطلقا ذلك.. كانت معجلة، ووجب تسليمها. وقال أبو حنيفة: (إذا أطلقا ذلك.. فالقياس يقتضي: أن المكتري كلما قبض جزءًا من المنفعة.. وجب عليه تسليم ما في مقابله من الأجرة، ولكن يشق ذلك) . فعلى هذا: يجب كلما مضى يوم من المدة.. وجب تسليم ما في مقابلته من الأجرة، واحتج بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف رشحه» ، وروي: (عرقه) . ودليلنا: أنه عقد لو شرط فيه تعجيل العوض.. كان معجلا، فاقتضى إطلاقه تعجيل العوض، كالبيع. وقولنا: (لو شرط فيه تعجيل العوض.. كان معجلًا) احتراز من القراض والكتابة، فإن القراض لو شرط فيه تعجيل العوض.. لم يتعجل، ولو شرط في الكتابة تعجيل العوض.. لبطلت. وأما الخبر: فنحمله على إذا شرط تعجيل الأجرة، بأن يستأجره يومًا، ويشترط تأجيل الأجرة إلى آخر اليوم، وعلى أن الأجير قد يعرق بابتداء العمل. فإن قبض المستأجر العين التي استأجرها، واستوفى المنفعة منها، أو عمل الأجير العمل الذي استؤجر عليه.. استقرت الأجرة، كما قلنا فيمن اشترى عينًا وقبضها.. فإن الثمن يستقر عليه.

فرع: الانتفاع بعين مستأجرة بأجرة فاسدة

وإن قبض المستأجر العين المستأجرة، ومضى زمان يمكنه أن يستوفي منها منفعته ولم يستوفها، أو جاء المؤاجر بالعين المؤاجرة وعرضها على المستأجر فلم يقبضها، ومضى زمان قد كان يمكنه استيفاء المنفعة فيه.. استقر على المستأجر المسمى. وقال أبو حنيفة: (لا يستقر عليه حتى يستوفي المنفعة) . دليلنا: أنه مكنه من الاستيفاء.. فوجب عليه البدل، كالمبيع إذا تلف في يد المشتري. [فرع: الانتفاع بعين مستأجرة بأجرة فاسدة] فإن استأجر عينًا إجارة فاسدة وقبضها، فإن انتفع بها المستأجر.. وجب عليه أجرة المثل، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (يجب عليه أقل الأمرين من المسمى، أو أجرة المثل) . دليلنا: أن ما ضمن بالمسمى في العقد الصحيح.. ضمن بجميع القيمة في العقد الفاسد، كبيع الأعيان. وإن لم ينتفع بها المستأجر.. وجبت عليه أجرة المثل، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه شيء) . دليلنا: أن كل ما لو تلف تحت يده بعقد صحيح ضمنه.. وجب أن يضمنه إذا تلف تحت يده بعقد فاسد، كالأعيان في البيع، وعكسه الأعيان في الهبة، فإنها لما لم يضمنها إذا تلفت تحت يده بهبة صحيحة.. لم يضمنها إذا تلفت تحت يده بهبة فاسدة. إذا ثبت هذا فإن الشيخ أبا إسحاق ذكر في " المهذب ": إذا استأجر عينًا إجارة

مسألة: ما يستأجر في الذمة يدفع حالا

صحيحة، وقبضها، ومضى زمان يمكنه فيه الاستيفاء.. استقر عليه المسمى. وإن عرضت عليه العين المستأجرة، ومضى زمان يمكنه الاستيفاء.. استقرت الأجرة. ثم قال بعد هذا: فإن كان هذا في إجارة فاسدة.. استقرت عليه أجرة المثل. قلت: والذي يقتضي المذهب: أن هذه المسألة في الإجارة الفاسدة إنما تكون معطوفة على الأولى، وهو إذا قبض العين، لا على الثانية، وهو إذا عرض عليه العين؛ لأن الأجرة إنما تستقر عليه لأحد أمرين: إما أن يكون العقد صحيحًا، أو يتمكن من استيفاء المنفعة، أو بأن تتلف المنفعة تحت يده، ولم يوجد هاهنا أحدهما. [مسألة: ما يستأجر في الذمة يدفع حالًا] وما عقد من الإجارة على منفعة في الذمة.. فيجوز أن تكون المنفعة حالة، ولا يجوز أن تكون المنفعة مؤجلة، مثل: أن يقول: استأجرتك على تعجيل خياطة هذا الثوب حالًا. ويجوز أن تكون المنفعة مؤجلة، مثل: أن يقول: استأجرتك على تحصيل خياطة هذا الثوب إلى أول شهر كذا؛ لأن المنفعة في الذمة كالمسلم فيه، والمسلم فيه يصح أن يكون حالًا مؤجلًا، وإن أطلق ذلك.. اقتضى الحلول، كما قلنا في السلم إذا لم يذكره مؤجلًا. وتنعقد هذه الإجارة بلفظ السلم، فيقول: أسلمت إليك دينارًا في ذمتي، أو هذا الدينار بمنفعة ظهر من صفته كذا وكذا؛ لأركبه إلى بلد كذا وكذا، وتنعقد بلفظ الإجارة، بأن يقول: أجرني ظهرًا من صفته كذا وكذا؛ لأركبه إلى موضع كذا. وسئل الشيخ أبو حامد عمن قال: استأجرت منك ظهرًا في ذمتك، من صفته كذا وكذا؛ لأركبه شهرًا، أتسلمه إلى الشهر الفلاني غير متصل بالعقد؟ فتوقف، وقال: أنا أنظر فيه، فقال بعض أصحابه: عندي أنه يجوز؛ لأن المنفعة في هذه

فرع: استيفاء المنفعة يوجب المسمى من الأجرة

الإجارة يصح أن تتقدر بالمدة وبالعمل، فلما جاز أن تتقدر بالعمل.. جاز أن تتقدر بالمدة، ولا يجوز أن تكون الأجرة هاهنا مؤجلة؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الكالئ بالكالئ» . و (الكالئ بالكالئ) : هو بيع النسيئة بالنسيئة، ولأن هذه الإجارة في معنى المسلم فيه، ورأس مال السلم لا يصح أن يكون مؤجلًا. وهل يشترط هاهنا قبض الأجرة في المجلس قبل أن يتفرقا؟ ينظر فيه: فإن عقد الإجارة بلفظ السلم.. اشترط قبض الأجرة قبل أن يتفرقا، كما قلنا في السلم. وإن عقد بلفظ الإجارة.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يشترط قبضه في المجلس قبل التفرق اعتبارًا باللفظ. والثاني: يشترط قبضه قبل التفرق، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق اعتبارًا بالمعنى، ومثل هذين الوجهين الوجهان في قبض رأس مال السلم في المجلس إذا عقد السلم بلفظ البيع، وقد مضى ذكرهما. [فرع: استيفاء المنفعة يوجب المسمى من الأجرة] فإن استأجر منه ظهرًا في ذمته ليركبه إلى بلد، أو ليركبه شهرًا، فأحضر المؤاجر ظهرًا، وقبضه المستأجر، وركبه إلى تلك البلد، أو إلى مثلها، أو ركبه شهرًا.. استقر عليه المسمى؛ لأنه استوفى المعقود عليه. وإن لم يركبه، وأمسكه في يده زمانا يمكنه استيفاء المعقود عليه.. فالذي يقتضي المذهب: أن الأجرة تستقر، ويلزمه أن يرد الظهر؛ لأن منفعة الظهر تلفت تحت يده، فهو كما لو استوفاها. وإن عرض المؤاجر الظهر على المستأجر، فامتنع من قبضه.. فالذي يقتضي المذهب: أن المؤاجر يرفع الأمر إلى الحاكم ليقبض له الظهر منه، فإن ركبه المستأجر، وإلا.. أجره الحاكم له، كما قلنا فيمن أسلم إلى رجل في شيء فأحضر المسلم إليه المسلم فيه، فامتنع المسلم من قبضه.

فرع: الاستئجار على تحصيل الحج

[فرع: الاستئجار على تحصيل الحج] ] : وإن استأجره على تحصيل حج.. جاز أن يكون على حج في هذه السنة، وجاز أن يكون على حج في سنة بعدها، كما قلنا في الإجارة على الأعمال في الذمة. فإن عين الحج في سنة، فمضت تلك السنة، ولم يحج الأجير.. لم تنفسخ الإجارة؛ لأن هذه السنة محلها، ولم يتعين بها، فصار بمنزلة تأخير الدين عن محله. وهل للمستأجر الخيار في فسخ الإجارة؟ قال أبو إسحاق المروزي: إن كانت الإجارة عن ميت.. لم يكن للمستأجر فسخ الإجارة؛ لأنه لا يمكنه التصرف في الأجرة، ولا بد من استئجار غيره. قال الشيخ أبو حامد: إلا أن يخشى إفلاس الأجير.. فيرفعه الوصي إلى الحاكم؛ ليفسخ الإجارة عليه، ويسترد منه الأجرة. فإن قيل: هلا قلتم: يجوز فسخ الإجارة عليه، ويسترد منه الأجرة هاهنا؛ لأنه ربما استأجر غيره بأقل منه؟ قيل: هذا أمر مظنون، فلا ينفسخ العقد لأمر مظنون. وإن كانت الإجارة عن حي.. جاز له فسخ الإجارة؛ لأن له أن يتصرف في الأجرة. [فرع: لا يعقد الإجارة على منفعة مؤجلة] وما عقد من الإجارة على منفعة معينة.. لا يجوز مؤجلا، مثل: أن يقول: أكرني هذا الظهر لأركبه إلى موضع كذا، تسلمه إلى أول الشهر الفلاني منفصلا عن العقد.. فإن ذلك لا يصح، كما نقول فيمن باع عينًا، واشترط تأخير قبضها عن حال العقد.. فإن ذلك لا يصح. وإن استأجره ليحج بنفسه، فإن كان في الحرم.. لم تصح هذه الإجارة إلا في أشهر الحج، ليمكنه الشروع في الحج عقيب العقد، وإن كان في غير الحرم.. جاز عقدها قبل أشهر الحج بقدر مدة يمكنه الوصول فيها إلى الميقات أول أشهر الحج، وهكذا:

مسألة: استئجار بعض منفعة

إن استأجره ليحج ماشيًا، وكان المشاة يخرجون قبل ذلك.. جاز العقد قبل ذلك للحاجة. [مسألة: استئجار بعض منفعة] ] : ويجوز أن يكتري جملًا معينًا ليركبه عقبة في الطريق، وتكون منفعته في باقي الطريق لمالكه، ويجوز أن يكتري الرجلان من رجل جملًا معينًا يتعاقبان عليه في الطريق. وقال المزني: لا تصح هذه الإجارة في الجمل المعين، إلا أن يكون الظهر موصوفًا في الذمة فتصح؛ لأن الإجارة المعينة لا يدخلها الأجل، وإذا ركب أحدهما بعد الآخر.. لم تتصل منفعة الثاني بالعقد، فلم تصح. والأول هو المنصوص؛ لأن ملك كل واحد منهما مقارن للعقد، وإنما يتأخر حق أحدهما لأجل القسمة، وذلك لا يمنع صحة العقد، كما لو ابتاع رجلان صبرة بينهما. إذا ثبت هذا: فإن كان لتلك الطريق عادة فيما يركب كل واحد من المتعاقدين، مثل: أن يركب أحدهما يومًا، والآخر يومًا، أو يركب أحدهما أميالًا معروفة، والآخر مثله.. حملا على ذلك. وإن طلب أحدهما أن يركب ثلاثة أيام، ويركب الآخر ثلاثة أيام.. قال الشافعي: (لم يكن له ذلك) ؛ لأن في ذلك إضرارًا على الماشي وعلى المركوب، ولأن الإنسان إذا ركب وهو غير تعب.. خف على المركوب، وإذا ركب وهو بعد كلال وتعب.. وقع على المركوب كالميت، فأتعب المركوب.

مسألة: لزوم عقد الإيجار

وإن لم يكن في تلك الطريق عادة فيما يركبه المتعاقبان.. لم يصح العقد حتى يبينا ما يركبه كل واحد منهما. قال الشيخ أبو حامد: ولو اتفقا على: أن يركب كل واحد منهما ثلاثة أيام بثلاثة أيام.. لم يجز؛ لما فيه من الضرر على المركوب وغيره. وأما من يبدأ بالركوب منهما: فإن اتفقا عليه.. فلا كلام، وإلا.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. [مسألة: لزوم عقد الإيجار] وإذا تم عقد الإجارة.. فإنه يكون لازمًا، وليس لأحدهما أن يفسخه من غير عيب يجده، وبه قال مالك، والثوري. وقال أبو حنيفة: (لا يلزم من جهة المكتري، فمتى حدث له عذر فيما استأجر له، مثل: أن يستأجر دكانًا للبز فيحترق بزه، أو يذهب رأس ماله، أو يفلس، أو اكترى جمالًا للحج فبدا له منع الحج، أو مرض، أو اكترى دارًا في بلد ليسكنها، فخرج من تلك البلد، وما أشبه ذلك.. فله فسخ الإجارة) . دليلنا: أنه عقد معاوضة محضة لازم من أحد الطرفين، فكان لازمًا من الطرف الآخر، كالبيع. فقولنا: (عقد معاوضة) احتراز من الرهن. وقولنا: (محضة) احتراز من الكتابة. وقولنا: (لازم من أحد الطرفين) احتراز من القراض. والله أعلم وبالله التوفيق.

باب ما يلزم المتكاريين وما يجوز لهما

[باب ما يلزم المتكاريين وما يجوز لهما] إذا اكترى ظهرًا للركوب.. كان ما يحتاج إليه للتمكن من الركوب على المكري، مثل: السرج واللجام للفرس، والإكاف للبغل، والبرذعة للحمار، والخطام للجمل، والبرة التي في أنفه، والحزام، والقتب، والحقيبة تحت القتب؛ لأن كون الظهر عريًا يتأذى الإنسان بركوبه. ولا يمشي الجمل بغير زمام، ويتصعب الفرس بغير لجام. وما يحتاج إليه للوطاء والترفه.. فهو على المكتري، كالمحمل، والكنيسة، والغطاء الذي فوقهما، والمضربة التي تكون تحت الكنيسة؛ لئلا تتحرك الكنيسة. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: وكذلك: الحبل الذي يشد به أحد المحملين إلى الآخر، والحبل الذي يشد به المحمل على الجمل، فهو على المكتري؛ لأنهما من آلة المحمل. قالا: وأما شد أحد المحملين إلى الآخر: فاختلف أصحابنا فيه: فـ[الأول] : منهم من قال: إنه على المكتري؛ لأن ذلك من تمام المحمل وإصلاحه للركوب، فهو كتأليف المحمل. والثاني: إنه على المكري، وهو الأصح؛ لأنه يراد للتمكن من الركوب، فهو كشد المحمل على الجمل.

فرع: لوازم المؤجر تابعة له

وأما صاحب " المهذب ": فحكى الوجهين فيما يشد به أحد المحملين إلى الآخر، يعني: الحبل. [فرع: لوازم المؤجر تابعة له] وإذا أكراه دارًا، أو دكانًا.. فعلى المكري تسليم المفتاح إلى المكتري؛ لأنه لا يتمكن من الانتفاع بالدار إلا بالمفتاح، إذ به يفتحها، فهو كالباب عليها. وكل ما ذكرنا: أنه على المكري إذا تلف في يد المكتري من غير تفريط منه.. لم يضمنه، ويجب على المكري إبداله، كما لو انكسر جذع من الدار. [فرع: تجهيز الدابة وأجرة دليل الطريق والسائق] وعلى المكري رفع المحمل والكنيسة إلى ظهر الجمل، وشدهما عليه بالحبل، وحطهما؛ لأنه لا يتواصل إلى الركوب إلا بشد ذلك عليه، ولأن العادة جرت أن الجمال يتولى ذلك. وأما أجرة دليل الطريق: فإن كانت الإجارة على تحصيل الراكب أو المتاع في بلد.. فإن ذلك على المكري؛ لأن عليه تحصيل ذلك، وهذا من جملة التحصيل. قال الشيخ أبو حامد: وهكذا إن استأجر منه جملًا ليحمله عليه إلى مكة أو غيرها من المواضع.. فإن أجرة الدليل على المكري؛ لأن عليه أن يحمله إلى ذلك الموضع. وإن كانت الإجارة على ظهر بعينه يسلمه إليه.. فإن أجرة الدليل على المكتري؛ لأنه ليس على المكري أكثر من تسليم الظهر، وقد فعل.

وأما سائق الظهر وقائده: فذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه على المكري من غير تفصيل. وذكر الشيخ أبو حامد، والمحاملي: أنه كأجرة الدليل على ما مضى. فرع: [ما يجب على الجمال أن يفعله لأجل الراكب] : وكل ما لا يمكن الراكب فعله على الجمل والحاجة داعية إليه.. فعلى الجمال أن يوقف الجمل حتى ينزل الراكب، ويفعله على الأرض، وذلك كالغائط، والبول، والطهارة؛ لأنه لا يمكنه فعل ذلك على الظهر، ويصلي الفرض على الأرض؛ لأنه لا يصح فعلها على الظهر. قال الشافعي: (وليس للجمال أن يستعجله في الصلاة، ولا للراكب أن يطول الصلاة، بل تكون خفيفة في تمام) . وكل ما يمكن الراكب أن يفعله على الظهر، مثل: الأكل، والشرب، وصلاة النفل.. فلا يلزم الجمال أن يوقف له الجمل لأجله؛ لأنه يمكنه فعل ذلك وهو راكب. وعلى الجمال أن يبرك الجمل للمرأة عند ركوبها ونزولها؛ لأن العادة جرت أنهن يركبن وينزلن والجمل بارك، فحمل مطلق العقد عليه، ولأن المرأة عورة، فلا يؤمن إذا ركبت أو نزلت والجمل قائم أن ينكشف شيء من عورتها. وأما الرجل: فإنه يركب وينزل والجمل قائم؛ لأن العادة جرت بذلك، إلا أن يكون الرجل زمنًا، أو شيخًا ضعيفًا، أو سمينًا لا يمكنه ذلك مع قيام الجمل، أو كان مريضًا.. فيلزم الجمال أن يبرك له الجمل؛ لأنه لا يقدر على ذلك من قيام. فإن أكرى رجلًا صحيحًا، ثم مرض.. فعليه أن يبرك له الجمل، وإن أكراه وهو مريض، فبرئ.. لم يلزمه أن يبرك له الجمل اعتبارًا بحالة الركوب لا بحالة العقد.

فرع: عدم الإضرار بالمؤجر شرط في استعماله

[فرع: عدم الإضرار بالمؤجر شرط في استعماله] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن اختلفا في الرحلة.. رحل لا مكبوبًا ولا مستلقيًا) . واختلف أصحابنا في صورته: فقال أبو إسحاق: (المكبوب) : أن يضيق قيد المحمل من مؤخر البعير، ويوسع قيد المحمل من مقدم البعير، و (المستلقي) : أن يوسع مؤخره، ويضيق مقدمه. فالمكبوب أسهل على الجمل، والمستلقي أسهل على الراكب. ومنهم من قال: (المكبوب) : أن يضيق قيد المحمل من المقدم والمؤخر، و (المستلقي) : أن يوسعهما. وأي التأويلين كان.. فإن لا يجاب الجمال ولا الراكب إليه، بل يفعل ما جرت العادة به، مما لا يضر بالمركوب ولا بالراكب. قال ابن الصباغ: وكذلك: إذا اختلفا في جلوس الراكب.. رجع فيه إلى العادة. ومن طلب منهما مفارقة القافلة، إما بالحث، أو بالتقصير.. لم يلتفت إليه إلا برضا الآخر بذلك. [فرع: ما يجب في إكراء دار للسكنى] وإن أكراه دارًا للسكنى.. فعلى المكري تسليم الدار فارغة الحش من الأذى؛ لأنه من مؤن التمكين، فإن امتلأ في يد المكتري.. فعلى من تجب مؤنة إخراجه؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه على المكري؛ لأن التمكين من الانتفاع يتعلق بذلك. والثاني: أنه على المكتري؛ لأنه هو الذي شغله بذلك.

مسألة: نفقة المركوب على المكري

قال المسعودي [في " الإبانة: ق \ 335] : وعلى هذين الوجهين إخراج رماد الحمام المستأجر، وتنقية الحوض الذي يخرج إليه الغسالة. وعلى المكري تسوية الدعامة في الدار، وإصلاح المغلاق، وتطيين السطح، وإن تكسر شيء من الخشب.. فعليه إبداله؛ لأن المكتري لا يمكن من الانتفاع إلا بذلك. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 335] : وأما نصب باب جديد، أو إحداث ميزاب، فينظر فيه: فإن لم يمكن الانتفاع بالدار حسب ما كان يمكن وقت العقد إلا بنصب ذلك.. فعلى المكري ذلك، وإلا.. فلا. [مسألة: نفقة المركوب على المكري] وعلى المكري علف الظهر وسقيه؛ لأن التمكين من الانتفاع عليه، ولا يمكن الانتفاع به إلا بذلك. فإن هرب الجمال.. فلا يخلو: إما أن يهرب بجماله، أو يهرب بنفسه ويترك جماله. فإن هرب بجماله.. نظرت: فإن كانت الإجارة على ظهر في الذمة.. لم تنفسخ الإجارة بهرب الجمال؛ لأن المعقود عليه في الذمة لم يتلف. فإن رفع المستأجر الأمر إلى الحاكم، وأثبت الإجارة عنده.. فإن الحاكم ينظر: فإن وجد للمكري مالًا استأجر منه للمستأجر ظهرًا؛ لأن المنفعة في ذمته، فإذا تعذرت من جهته.. قام الحاكم مقامه، كما لو كان في ذمته لغيره دين، فهرب.. فإن الحاكم يقضي الدين من ماله.

فإن لم يجد له مالًا.. اقترض عليه من بيت المال، أو من رجل من الرعية ما يكتري به الظهر، وإن لم يكن في بيت المال ما يقرضه، ولم يجد من يقرضه من الرعية، فإن اختار المكتري أن يقرضه، فقبض الحاكم المال منه، واكترى له به، أو فوض ذلك إلى أمين.. جاز، كما لو اقترض له من غيره، وإن أمر الحاكم المكتري ليكتري لنفسه من ماله، ويكون ذلك قرضًا على المكري.. قال الشيخ أبو حامد: فإن الشافعي قال في " البويطي ": (لا يجوز ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يكون وكيلًا لغيره في القبض من نفسه) . وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 333] في ذلك وجهين. فإن تعذر عليه الاقتراض.. فالمكتري بالخيار: بين أن يقيم على الإجارة إلى أن يجد المكري، فيطالبه بما عليه، وبين أن يفسخ الإجارة، وتكون الأجرة دينًا له في ذمة المكري؛ لأن المعقود عليه تعذر، فثبت له الخيار، كما لو أفلس المشتري. وإن كانت الإجارة على أجمال بأعيانها.. لم يكن للحاكم أن يكتري له غيرها؛ لأن الإجارة وقعت على عينها، فلا يجوز إبدالها بغيرها، كما لو باعه عينًا، فهرب بها، ويكون المكتري هاهنا بالخيار: بين أن يفسخ الإجارة؛ لأنه استحق المنفعة معجلة وقد تأخرت، فثبت له الخيار، وبين أن يصبر إلى أن يجد الجمال، فيستوفي حقه. فإن اختار فسخ الإجارة.. نظرت: فإن كان قد استوفى بعض المنفعة.. انفسخت الإجارة فيما بقي، وهل تنفسخ فيما مضى؟ فيه طريقان، كما قلنا فيمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض. فإن قلنا: تنفسخ في الجميع.. رجع بجميع المسمى إن كان قد دفعه، ووجبت عليه أجرة المثل لما قد استوفاه، فيقاصه الحاكم. وإن قلنا: تنفسخ في الباقي.. كان له الخيار فيما مضى، فإن اختار الفسخ.. فهو

كما لو قلنا: تنفسخ في الجميع، وإن اختار الإمضاء.. رجع بقسط ما بقي من المسمى. وإن كان لم يستوف شيئًا من المنفعة.. انفسخ العقد في الجميع. فإن كان قد سلم المسمى، وأقام البينة على ذلك عند الحاكم.. نظر الحاكم: فإن وجد للمكري مالًا.. دفع إلى المكتري ما سلمه من مال المكري. وإن لم يجد له مالا.. كان ذلك دينا في ذمة المكري للمكتري إلى أن يجده، ولا يقترضه الحاكم هاهنا للمكتري؛ لأن الدين في ذمة المكتري، فإذا اقترض له من غيره.. كان ذلك دينًا في ذمته، فلا يحصل في ذلك فائدة، ويفارق المنفعة؛ لأنها من غير جنس المال المقترض، ولأن المنفعة تفوت بتأخيرها. وإن لم يختر المكتري الفسخ.. نظرت: فإن كانت الإجارة على مدة، بأن اكترى منه الجمال ليركبها شهرًا.. فإنه كلما مضى جزء من الشهر.. انفسخ من الإجارة بقدره، فإن مضى الشهر قبل أن يرجع الجمال.. انفسخت الإجارة، وكان الحكم فيها كما لو فسخ المستأجر. وإن كانت الإجارة على عمل، مثل: أن يستأجر الجمال ليركبها إلى موضع كذا.. لم تنفسخ الإجارة، ولكن متى وجد المستأجر الجمال التي اكتراها.. استوفى منفعته منها. فأما إذا هرب الجمال وترك الجمال في يد المكتري.. فإن الجمال قد هرب من حقين: أحدهما: النفقة على الجمال بالعلف والسقي. والثاني: القيام رفع الأحمال وحطها. فإن رفع المستأجر الأمر إلى الحاكم.. نظر الحاكم:

فإن وجد للجمال مالًا.. أخذ منه ما يحتاج إليه لنفقة الجمال، وللقيام برفع الحمال وحطها، وسوق الظهر وقوده. إن لم يجد له مالًا غير الجمال، فإن كان فيها فضل على ما يحتاج إليه المكتري.. باع الحاكم منها بقدر ما يحتاج إليه لذلك، وإن لم يكن فيها فضل.. اقترض عليه الحاكم من بيت المال إن كان فيه فضل، أو من رجل من الرعية. وإن أراد أن يقترض من المكتري.. نظرت: فإن قبض منه المال ودفعه إليه، أو إلى رجل من أهل القافلة لينفقه على الجمال، أو استأجر من يرفع الأحمال ويحطها.. جاز ذلك. وإن أمر الحاكم المكتري لينفق من ماله على ذلك قرضًا على الجمال.. فهل يصح؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصح؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون مقبول القول فيما يستحقه على غيره. والثاني: يصح، وهو الأصح؛ لأنه موضع ضرورة؛ لأن إقامة أمين في ذلك يشق ويتعذر؛ لأنه يحتاج إلى الخروج معها وإلى الإنفاق في الطريق، فجاز له ذلك؛ لأن الحاكم قد لا يجد غيره. ولا بد للجمال من علف وسقي. فإذا قلنا بهذا: واختلف الجمال والمكتري في قدر ما أنفق عليها، فإن كان الحاكم قد قدر له ما ينفق عليها كل يوم، فادعى: أنه أنفق ذلك، وخالفه المكري.. فالقول قول المكتري فيه؛ لأن الحاكم قد قدر له ذلك، وهو أمين. وقوله: إنه أنفق ذلك، مقبول، وإن كان الحاكم لم يقدر له ما ينفق كل يوم، وإنما أذن له في الإنفاق، فإن كان ما يدعيه النفقة بالمعروف.. فالقول قول

المكتري مع يمينه: أنه أنفق ذلك. وإن ادعى أكثر من ذلك.. لم يقبل قوله في الزيادة؛ لأنه متطوع بها. فإذا بلغ المكتري إلى الموضع الذي اكترى إليه.. فقد استوفى حقه، ويبيع الحاكم شيئًا من الجمال بقدر دين المكتري، ويقضيه إياه، فإن رأى الحاكم أن يبقي باقيها إلى أن يعود صاحبها، ويبيع منها شيئًا لينفق عليها.. جاز، وإن رأى أن يبيع باقيها، ويحفظ ثمنها على صاحبها.. جاز. وإن أنفق المكتري بغير إذن الحاكم، فإن قدر على الحاكم ولم يستأذنه.. لم يرجع بشيء؛ لأنه متطوع، وإن لم يقدر على الحاكم، فإن أنفق من غير إشهاد، ولا شرط الرجوع.. لم يرجع بشيء؛ لأنه متطوع، وإن أشهد شاهدين: أنه أنفق ليرجع به على الجمال.. ففيه وجهان: أحدهما: يرجع؛ لأنه موضع ضرورة. والثاني: لا يرجع؛ لأنه لم ينفق بإذن من له الإذن، فلا يرجع به. وإن لم يجد من يشهده.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يرجع؛ لما ذكرناه إذا أشهد مع وجود الحاكم. والثاني: يرجع؛ لأن الجمال قد علم أنه لا بد للجمال من القيام بالعلف والسقي. هذا نقل البغداديين. وقال المسعودي [في الإبانة " ق \ 333] : إذا لم يجد قاضيًا، فأنفق.. فهل يرجع به؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يرجع به. والثاني: لا يرجع به. والثالث: إن أشهد.. رجع به، وإن لم يشهد.. لم يرجع به.

مسألة: استيفاء مدة المأجور

[مسألة: استيفاء مدة المأجور] ] : إذا استأجر عينًا على عمل، فاستوفاه، أو استأجرها مدة، فمضت تلك المدة وهي في يده.. فهل يلزم المكتري ردها؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه، وهو ظاهر النص، وبه قال مالك؛ لأنه قبضها لاستيفاء ما وجب له، فإذا انقضت الإجارة.. كان ممسكًا لها بغير إذن مالكها، فلزمه ردها، كالعارية، وكما لو أطارت الريح ثوبًا إلى بيته، وعرف مالكه.. فإن عليه رده إليه. فعلى هذا: إن كان لردها مؤنة.. لزمته تلك المؤنة. فإن تمكن من ردها، فلم يردها حتى مضت مدة، ثم تلفت.. لزمه أجرة المثل لتلك المدة، ولزمه قيمتها. والوجه الثاني: لا يلزمه ردها، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها أمانة في يده، فلا يجب عليه ردها إلا بالمطالبة، كالوديعة، وتقدير الإجارة بالمدة لا يخرجها عن أن تكون أمانة بعد المدة، كما لو قال: أودعتك هذا شهرًا.. فإنه في الشهر بعده أمانة. فعلى هذا: إذا مضت مدة بعد استيفاء منفعته.. لم يلزمه لها أجرة، إلا إن استوفى منفعته منها، فتكون مؤنة الرد على المؤاجر. فإن استأجر عينًا، وشرط المؤاجر: أن على المستأجر ردها بعد انقضاء الإجارة، فإن قلنا: يلزمه الرد من غير شرط.. كان هذا الشرط تأكيدًا، وإن قلنا: لا يلزمه الرد.. ففيه وجهان: [الأول] : قال القاضي أبو الطيب في " المجرد ": يلزمه الرد؛ لأنه دخل في العقد على ذلك. و [الثاني] : قال ابن الصباغ: تبطل الإجارة؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الإجارة.

مسألة: هيئة سكنى الدار

[مسألة: هيئة سكنى الدار] إذا استأجر دارًا للسكنى.. فليس من شرطه أن يفسر السكنى؛ لأنه لا يمكن ضبطها بالوصف. فعلى هذا: له أن يسكنها بنفسه وبغيره، وله أن يترك فيها الأمتعة التي لا تدق سقوفها، ولا يترك فيها السرجين؛ لأنه يفسدها. وهل له أن يطرح فيها ما يسرع إليه الفساد؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن الفأر ينقب الحائط لأجله. والثاني: له ذلك؛ لأن ذلك متعارف في السكنى. ولا يسكنها الحدادين والقصارين؛ لأن ذلك يوهن الجدران فيها. وإن استأجر دارًا ليسكنها وحده، فتزوج.. قال أبو حنيفة وصاحباه: (فله أن يسكنها معه) . وقال أبو ثور: (ليس له أن يسكنها معه) . قال الصيمري: وهو القياس. [فرع: استئجار القميص] وإن استأجر قميصًا ليلبسه.. فله أن يلبسه ليلًا ونهارا إذا كان مستيقظًا، وإن أراد أن ينام فيه.. نظرت: فإن كان ليلًا.. لم يجز؛ لأن ذلك غير متعارف. وإن كان نهارًا.. قال الصيمري: فإن كان ساعة أو ساعتين.. جاز؛ لأن ذلك متعارف، وإن نام فيه أكثر النهار.. لم يجز؛ لأن ذلك غير متعارف. وليس له أن

فرع: اشتراط النزول في الطريق

يتزر به؛ لأن ذلك غير متعارف في لبس القميص، وهل له أن يرتدي به؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك، كما قلنا في الاتزار به. والثاني: له ذلك؛ لأنه أخف من اللبس. وإن استأجره ليلبسه ثلاثة أيام ولم يذكر الليالي.. فهل تدخل الليالي؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة "، الأصح: تدخل. وإن استأجره يومًا كاملًا.. فوقته من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. فإن قال: يومًا، وأطلق.. قال الصيمري: كان ذلك من وقته إلى مثله من الغد. وإن استأجره نهار يوم.. فوجهان، حكاهما الصيمري: أحدهما: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. والثاني: من طلوع الشمس إلى غروبها. [فرع: اشتراط النزول في الطريق] وإن اكترى ظهرًا ليركبه إلى بلد، فإن شرط المكري: أنه ينزل للرواح عن الدابة، أو شرط المكتري: أنه لا ينزل للرواح عنها.. حملا على ما شرطا، وإن أطلقا ذلك وقد جرت عادة الناس في النزول عن الدواب في تلك الطريق للرواح عليها، فإن كان الراكب مريضًا، أو امرأة، أو شيخًا زمنًا.. لم يلزمه النزول، وإن كان رجلًا صحيحًا.. ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه النزول؛ لأن العرف قد جرى بذلك، فصار كالمشروط. والثاني: لا يلزمه؛ لأنه عقد الإجارة على جميع المسافة، وفي إيجاب النزول إخلال ببعض ما عقد عليه، فلم يجب.

فرع: استئجار مركب مسافة معينة

[فرع: استئجار مركب مسافة معينة] وإن استأجر ظهرًا ليركبه إلى مكة.. لم يكن له أن يحج عليه؛ لأن ذلك أكثر، وإن استأجره ليحج عليه.. فله أن يركبه من مكة إلى عرفات، ومن عرفة إلى المزدلفة، ثم إلى منى، ثم إلى مكة للطواف والسعي، وله أن يطوف عليه ويسعى، وهل له أن يركبه من مكة إلى منى؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأنه من تمام الحج. والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه قد حل من الإحرام. [مسألة: استئجار مركب لأجل نقل بضاعة] وإن اكترى ظهرًا ليحمل عليه أرطالًا من الزاد إلى بلد، فإن سرق الزاد، أو تلف بغير الأكل.. فله إبداله، وإن نقص الزاد بالأكل المعتاد.. فهل له إبداله؟ فيه قولان: أحدهما: له إبداله، كما لو اكترى ظهرًا ليحمل عليه ثيابًا إلى بلد، فباع في الطريق بعضها.. فله أن يبدل مكان ما باع غيرها، ولأنه لا خلاف أنه إذا اكتراه ليحمل له الماء.. فإن له أن يبدل مكان ما فني منه، فكذلك الزاد. والثاني: ليس له إبداله؛ لأن العادة جرت أن الزاد لا يبقى في جميع مسافة الطريق، وإنما ينقص بالأكل، فحمل ذلك على العرف. وقال أبو إسحاق: القولان إذا كان الزاد من أول الطريق إلى آخره بسعر واحد، لا يزيد ولا ينقص، فأما إذا كان الزاد في موضع من الطريق غاليًا، وفي موضع رخيصًا.. فله أن يبدله مكان ما أكله، قولًا واحدًا؛ لأن له غرضًا إذا اختلف سعره أن لا يشتري من موضع واحد.

مسألة: لا يمنع من ضرب الدابة المعتاد

[مسألة: لا يمنع من ضرب الدابة المعتاد] وإن استأجر دابة.. فله أن يضربها الضرب المعتاد للمشي؛ لما روي عن جابر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى منه جملًا، وحمله عليه إلى المدينة، وكان يضربه بالعصا» . وله أن يكبحها باللجام، وهو: أن يجبذ لجامها بالعنان حتى يلوي رأسها، ويرده إليه؛ لأن ذلك متعارف. [مسألة: استأجره لمنفعة فله أن يفوت بعضها] وإن استأجر عينًا لمنفعة معينة.. فله أن يستوفي تلك المنفعة، أو مثلها، أو دونها، مثل: أن يستأجر دابة ليركبها في طريق إلى بلد، فله أن يركبها في مثل تلك الطريق في الأمن والسهولة والحزونة القدر، وكذلك: لو استأجرها ليركبها في طريق حزن.. فله أن يركبها في طريق سهل لا يزيد عليه في القدر، وكذلك: لو استأجرها ليركبها بنفسه.. فله أن يركبها من هو في مثل حاله في الطول والقصر والهزال والسمن، وليس له أن يستوفي أكثر من المنفعة التي استأجر عليها، كما قلنا فيمن استأجر أرضًا للغراس.. فله أن يزرعها، ولو استأجرها للزرع.. لم يغرس فيها. ولو اكترى دابة بعينها، فأراد المكري أن يعطيه غيرها.. لم يلزم المكتري قبولها. والفرق بينهما: أن المعقود عليه منفعة الدابة، فلم يكن له أن يدفع إليه غيرها، كما لو باع منه دابة، وأراد أن يعطيه غيرها. وليس كذلك الراكب، فإنه هو المستوفي، فجاز أن يستوفي بنفسه وبغيره، كما لو كان له دين على غيره.. فإن له أن يستوفيه بنفسه، وله أن يوكل من يستوفيه.

فرع: ما اكتراه له لا يغيره

[فرع: ما اكتراه له لا يغيره] فإن اكترى ظهرًا ليحمل عليه القطن. لم يكن له أن يحمل عليه الحديد، وإن اكتراه ليحمل عليه الحديد.. لم يكن له أن يحمل عليه القطن؛ لأن في كل واحد منهما ضررًا على الظهر، وارتفاقًا له ليس في الآخر مثله. وإن اكتراه ليركبه بالسرج.. لم يركبه من غير سرج؛ لأنه أضر به، وإن اكتراه ليركبه من غير سرج. لم يكن له أن يركبه بسرج؛ لأنه أثقل عليه. وإن اكتراه ليركبه.. لم يحمل عليه المتاع، وإن اكتراه ليحمل عليه المتاع.. لم يكن له أن يركبه؛ لأنهما لا يتساويان. [فرع: الاستئجار للسكن والإسكان] وإن أكراه دارًا ليسكنها ويسكن بها من شاء.. فله أن يسكنها القصارين، والحدادين، وأضر من سكن؛ لأنه مأذون فيه. وإن قال: على أن تسكنها بنفسك، أو أطلق.. فله أن يسكنها بنفسه، وله أن يسكنها من هو في مثل حاله، ولا يسكنها من هو أضر منه، كالحدادين، والقصارين. وإن أجره إياها على أن يسكنها بنفسه، ولا يسكنها مثله، ولا من هو دونه، أو أجره بهيمة ليركبها في طريق، ولا يركبها في مثله ولا دونه، ولا يركبها من هو مثله، أو دونه.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا تصح الإجارة؛ لأنه شرط ينافي مقتضاها. والثاني: الإجارة صحيحة والشرط باطل؛ لأنه لا ضرر على المؤاجر بذلك، فبقيت الإجارة على مقتضاها. والثالث: أن الإجارة جائزة، والشرط صحيح؛ لأن المستأجر لم يملك المنفعة إلا من جهة المؤاجر، فلم يملك غير ما ملكه إياه.

مسألة: المستأجر يؤجر المؤجر وغيره

[مسألة: المستأجر يؤجر المؤجر وغيره] إذا استأجر عينًا وقبضها.. فله أن يؤاجرها من المؤاجر، ومن غيره. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز أن يؤاجرها من المؤاجر) . دليلنا: أن كل ما جاز العقد عليه مع غير العاقد.. جاز مع العاقد، كما لو اشترى عينًا وقبضها. ولأن على قول من قال من أصحابنا: عقد الإجارة وقع على العين، وقد قبض العين، وعلى قول من قال: إنها وقعت على المنفعة، فإن المنفعة قد صارت في حكم المقبوض. ولأنه قد أمكنه استيفاؤها، فصار كما لو اشترى عينًا فقبضها، وإن كان لم يقبضها. فإن أجرها من غير المكري.. فهل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن المنفعة في محلها تحل محل الأعيان، بدليل: أنها تضمن بالعقد الصحيح بالمسمى، وبالفاسد بالمثل، كبيع الأعيان، وقد ثبت أنه لو ابتاع عينًا لم يجز له أن يبيعها قبل أن يقبضها، فكذلك هذا مثله. والثاني: يجوز، وهو قول أبي العباس؛ لأن قبض العين في الإجارة لا تأثير له في قبض المنفعة، ألا ترى أنه إذا استأجر دارًا، فقبضها، وانهدمت قبل استيفاء المنفعة.. انفسخت الإجارة، كما لو انهدمت قبل القبض؟ والأول أصح. وإن أجرها المستأجر من المؤاجر قبل القبض، فإن قلنا: يصح أن يؤاجرها من غيره.. فمنه أولى أن يصح، وإن قلنا: لا يصح أن يؤاجرها من غير المؤاجر.. فهل يصح أن يؤاجرها من المؤاجر؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لما ذكرناه في الأجنبي. والثاني: يصح؛ لأنها في قبضته. والأول أصح؛ لأن هذا يبطل بمن اشترى عينًا وباعها من بائعها قبل القبض. إذا ثبت هذا: فيجوز أن يؤاجرها بمثل ما استأجرها به، وبأقل منه، وبأكثر منه.

مسألة: زرع ما لا يستحصد قبل مضي مدة الإجارة

وقال أبو حنيفة: (لا يجوز أن يؤاجرها بأكثر منه إلا أن يكون قد أحدث فيها عمارة) . دليلنا: أن كل ما جاز أن يؤاجره بمثل ما استأجره.. جاز أن يؤاجره بأكثر منه، كما لو أحدث فيها عمارة. [مسألة: زرع ما لا يستحصد قبل مضي مدة الإجارة] إذا اكترى أرضًا مدة ليزرعها، وأطلق.. فقد مضى في ذلك وجهان، الأصح: أن الإجارة صحيحة. إذا ثبت هذا: فإن أراد المستأجر أن يزرع فيها زرعًا لا يستحصد في مثل تلك المدة.. فهل للمكري أن يمنعه؟ فيه وجهان: [الأول] : قال الشيخ أبو إسحاق: لا يمنع منه؛ لأنه يستحق الزراعة إلى أن تنقضي المدة، فلا يجوز منعه منه قبل انقضائها، ولأنه لا خلاف أنه إذا سبق وزرع.. لم يجبر على قلعه قبل انقضاء المدة، فلم يمنع من زراعته. و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: يمنع من زراعته؛ لأنه متعد بذلك؛ لأنه لا يستحق منفعة الأرض أكثر من المدة المقدرة، وإذا أراد أن يزرع ما لا يستحصد فيها.. فربما رأى حاكم تبقية الزرع إلى أن يحصد، فيؤدي ذلك إلى الضرر بصاحب الأرض. فإن بادر وزرع، أو قلنا بالأول: إنه لا يمنع.. لم يكن لصاحب الأرض مطالبته بقلعه قبل انقضاء المدة؛ لأنه ملك منفعة الأرض فيها، فإذا انقضت المدة.. فله أن يطالبه بنقله؛ لأنه لا يفيد تقدير الإجارة بالمدة إلا ذلك، فإن اتفقا على تركه بعارية أو أجرة.. جاز؛ لأن الحق لهما.

فرع: مضت المدة والزرع لم يستحصد

[فرع: مضت المدة والزرع لم يستحصد] وإن اكترى أرضًا مدة ليزرعها، فزرعها، وانقضت المدة والزرع لم يستحصد.. فلا يخلو: إما أن يكون استأجرها لزرع مطلق، أو لزرع معين. فإن كان استأجرها لزرع مطلق، وقلنا: يصح، فإن لم يستحصد لتفريط من المكتري، بأن زرع في الأرض زرعًا لا يستحصد في مثل تلك المدة، أو كان مما يستحصد فيها إلا أنه أخر زراعته.. فللمكري أن يطالبه بنقله عند انقضاء المدة؛ لأنه لا يفيد تقدير الإجارة بالمدة إلا تفريغ العين المستأجرة، فإن اتفقا على ترك الزرع إلى الحصاد بإعارة أو إجارة.. جاز. وإن لم يستحصد بغير تفريط منه، بأن اشتد البرد، أو قل المطر.. ففيه وجهان: أحدهما: يجبر المكتري على نقل الزرع؛ لأنه فرط، أو كان يمكنه أن يستظهر بالزيادة في مدة الإجارة. فعلى هذا: إن اتفقا على تركه بإجارة أو إعارة إلى الحصاد.. جاز. والثاني: لا يجبر على نقله، وهو الصحيح؛ لأنه لا صنيع له في تأخر الزرع، وقد زرع ما يجوز له زرعه، وما قاله الأول.. غير صحيح؛ لأنه لا فائدة في أن يكتري أكثر مما جرت العادة بأن يدرك الزرع فيه في الغالب؛ لأن فيه تضييع الأجرة، و: «قد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إضاعة المال» . فعلى هذا: يجب للمكري أجرة المثل لما زاد على مدة الإجارة؛ لأنه لا يجوز الإضرار به في تعطيل منفعة أرضه بغير عوض. وإن كان استأجر الأرض لزرع معين لا يستحصد في مثل تلك المدة.. نظرت: فإن شرط عليه قلعه عند انقضاء المدة.. فالإجارة صحيحة؛ لأن له غرضًا في

فرع: يلزم المكتري قلع ما بقي بعد الحصاد

قلعه، فإذا انقضت المدة.. أخذ بقلعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم» ، وإن اتفقا على تركه بإجارة أو إعارة.. جاز. وإن شرطا تبقية الزرع فيها إلى أن يستحصد.. فالإجارة باطلة؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الإجارة، فأبطلها، وله أن يمنعه من الزراعة، فإن بادر المكتري، فزرعها قبل المنع.. لم يجبر على نقله؛ لأنه زرع مأذون فيه، ويجب للمكري أجره المثل؛ لأنه استوفى منفعة أرضه بعقد باطل. وإن أطلقا ولم يشرطا القلع ولا التبقية.. فإن الإجارة صحيحة؛ لأن الانتفاع بالزرع في تلك المدة ممكن، وهل يجبر على نقله عند انقضاء المدة؟ فيه وجهان: [الأول] : قال أبو إسحاق: يجبر؛ لأنه لا يفيد تقدير الإجارة بالمدة إلا ذلك، فإن تراضيا على تركه بإجارة أو إعارة.. جاز. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يجبر؛ لأن المكري لما أجره أرضه مدة لزرع لا يستحصد فيها.. فقد رضي بتركه فيها؛ لأن العادة جرت أن الزرع لا يحصد إلا بعد أن يستحصد. فعلى هذا: يجب للمكري أجرة مثل أرضه؛ لما زاد على مدة الإجارة. [فرع: يلزم المكتري قلع ما بقي بعد الحصاد] ] : وإذا اكترى أرضًا للزراعة، فزرعها، وحصد زرعه.. فإنه يلزم المكتري قلع ما بقي في الأرض من قصب الزرع وعروقه؛ لأنه عين ماله، فلزمه إزالته عن أرض الغير. [مسألة: غرس زرع بعد انقضاء المدة] وقبلها] : وإن اكترى أرضًا مدة للغراس.. فليس له أن يغرس بعد انقضاء المدة؛ لزوال العقد، فإن غرس شيئًا بعد المدة.. أخذ بقلعه؛ لأنه غرس غير مأذون فيه، وأما ما غرسه قبل انقضاء المدة: فينظر فيه:

فإن كان قد شرط قلعه بعد انقضاء المدة.. أخذ بقلعه؛ لأنه دخل في العقد على ذلك، ولا يجب على المكري غرامة ما نقص الغراس بالقلع، ولا على المكتري تسوية حفر الأرض، ولا أرش نقصها بالقلع؛ لأنهما رضيا بذلك. فإن قيل: هلا قلتم: إن شرط القلع يبطل هذه الإجارة؛ لأن إطلاقها يقتضي التبقية، وكل عقد صح مطلقًا بطل بالتوقيت، كالنكاح؟ قلنا: التبقية بعد المدة ليست من مقتضى العقد، فلذلك لم يبطل العقد إذا شرط ما يخالف مقتضاه، وإنما التبقية من مقتضى الإذن، فلذلك شرط القلع لم يؤثر في العقد. وإن لم يشرطا القلع، ولكن أطلقا أو شرطا التبقية.. فالحكم فيهما واحد. فإن لم يختر المكتري القلع.. لم يجبر على قلعه من غير عوض. وقال أبو حنيفة، والمزني: (يجبر على قلعه من غير عوض) . وقال مالك: (المكري بالخيار: بين أن يطالب بالقلع من غير ضمان، أو يدفع قيمته ليكون له، أو يبقيه في الأرض، ويكونا شريكين) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» . وهذا ليس بظالم، فوجب أن يكون له حق، ولأن كل من اكترى ملكًا لغيره.. فإن تفريغه على حسب العادة، والعادة في الشجر أنه يراد للتأبيد، ولا ينقل حتى يجف وييبس. إذا ثبت هذا: فإن اختار المكري أن يقلع غراسه.. كان له ذلك؛ لأنه عين ماله، فملك نقله إلى حيث شاء، وهل يلزمه تسوية حفر الأرض، وأرش نقص إن حدث بها لأجل القلع؟ ينظر فيه: فإن قلعه بعد انقضاء مدة الإجارة.. لزمه ذلك. واختلف أصحابنا في تعليله:

فمنهم من قال: لأنه قلع غراسه من ملك الغير بغير إذنه، فهو كالغاصب. ومنهم من زاد وصفًا آخر، فقال: لأنه قلعه من أرض غيره بغير إذنه، ولا يد له عليها. وإن كان ذلك قبل انقضاء المدة، فمن قال بالتعليل الأول.. فإنه قال: يجب عليه تسوية الأرض وأرش النقص، ومن قال بالثاني.. قال: لا يجب عليه هاهنا شيء. والأول أصح. وإن لم يختر المكتري القلع.. فالمكري هاهنا بالخيار بين ثلاثة أشياء: [الأول] : بين أن يعطي المكتري قيمة غراسه، ويتملكه مع أرضه. قال الشافعي: (وإن كانت عليه ثمرة.. أعطاه قيمة الثمرة أيضًا؛ لأنها ملك لصاحب الغراس) . فلما جاز أن يعطيه قيمة الشجرة ويملكها.. فكذلك الثمرة. و [الثاني] : بين أن يقلع الغراس، ويضمن ما نقص بالقلع، فيقال: كم قيمته وهو ثابت؟ فإن قيل: مائة.. قيل: فكم قيمته وهو مقلوع؟ فإن قيل: خمسون.. دفع إليه خمسين، وقلع. و [الثالث] : بين أن يقر الغراس في الأرض، ويطالبه بأجرة مثلها؛ لأن الضرر يزول عنهما بذلك. فإن اختار إقراره بالأجرة، ثم بدا للمكري، وبذل قيمته ليتملكه، أو بذل أرش نقصه ليقلعه.. كان له ذلك.. وكذلك لو اختار المكتري قلع غراسه بعد أن كان قد رضي ببذل الأجرة.. كان له ذلك. فإن باع صاحب الغراس غراسه من صاحب الأرض.. صح بيعه، وإن باعه من غيره.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن ملكه غير مستقر؛ لأن لصاحب الأرض أن يبذل قيمته ليتملكه. والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأن ملكه ثابت عليه في الحال، واستحقاق المكري إزالة ملكه عنه لا يمنع صحة البيع، كما لو باع ما فيه الشفعة.

فرع: غرس أرضا في إجارة فاسدة

[فرع: غرس أرضًا في إجارة فاسدة] فإن اكترى أرضًا كراء فاسدًا، فغرس فيها أو بنى.. كان الحكم في قلع ذلك أو إقراره حكم ما ذكرناه في الإجارة الصحيحة؛ لأنه مأذون فيه. وبالله التوفيق

باب ما يوجب فسخ الإجارة

[باب ما يوجب فسخ الإجارة] إذا وجد المستأجر بالعين التي استأجرها عيبًا لم يعلم به، تنقص به المنفعة، بأن وجد الظهر أعرج، أو وجد العبد المستأجر للخدمة أجذم، أو أبرص، أو انقطع الماء في البئر في الدار المستأجرة، وما أشبه ذلك.. فله أن يرد العين بالعيب؛ لأن إطلاق العقد يقتضي السلامة من العيب، فثبت له الرد لأجله، كما لو اشترى عينًا، فوجد بها عيبًا، وكذلك: إذا حدث العيب في العين المستأجرة في يد المستأجر.. فله أن يردها؛ لأن العين في يد المستأجر كالعين في يد المؤاجر، فإذا ثبت له الرد فيما كان موجودًا في يد المؤاجر.. فكذلك بما أحدث في يد المستأجر. وإن اكترى أرضًا للزراعة فزرعها، فأفسد الماء أو الجراد زرعه، أو اكترى دكانًا ليبيع فيه البز، فاحترق بزه.. لم يكن له أن يفسخ الإجارة؛ لأن المنفعة لم تهلك، وإنما هلك مال المستأجر. وأما إذا جاء سيل فغرق الأرض المستأجرة، أو زاد نهر فغرقها.. قال الشيخ أبو حامد: فإن كان السيل والماء ينفصل عنها بعد يوم أو يومين، أو بعد مدة لا تفوت بها الزراعة.. فإن الإجارة لا تنفسخ؛ لأن المنفعة لم تهلك، وإنما عارضها عارض، إلا أن له خيار الفسخ؛ لأن المنفعة تأخرت، فهو كإباق العبد المستأجر، وإن كان الماء بحيث لا يزول عنها، فإن كان ذلك عقيب عقد الإجارة.. انفسخت الإجارة؛ لأن المنفعة قد تلفت، ويسترد المستأجر المسمى إن كان قد دفعه، وإن كان قد مضى من زمان الإجارة مدة لها أجرة.. انفسخ العقد فيما بقي من مدة الإجارة، وهل ينفسخ فيما مضى منها؟ على الطريقين فيمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض. فإذا قلنا: تنفسخ في الجميع.. وجبت عليه أجرة المثل؛ لما مضى من المدة. وإن قلنا: تنفسخ في الباقي لا غير.. ثبت للمستأجر الخيار فيما مضى من المدة؛

فرع: رد العين المستأجرة بالعيب

لأن الصفقة تفرقت عليه، فإن فسخ العقد فيها.. كان كما لو قلنا: ينفسخ، وإن لم يفسخ.. قسم المسمى على أجرة المثل لما مضى، وأجره المثل لما بقي من المدة. وإن استأجر دارا فتشعثت: لزم المكري إصلاحها، فإن أصلحها.. فلا كلام، وإن لم يصلحها.. فللمستأجر الخيار في فسخ الإجارة؛ لأن ذلك عيب بها. وإن لم تفسخ حتى مضت مدة الإجارة.. فهل يلزمه جميع الأجرة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه جميع الأجرة؛ لأنه لم يستوف جميع المنفعة، فهو كما لو سكنها بعض المدة، فانهدمت. فعلى هذا: يقال: كم أجرة مثل هذه الدار قبل التشعث؟ فإن قيل: عشرون.. قيل: فكم أجرة مثلها وهي متشعثة؟ فإن قيل: خمسة عشر.. سقط عنه من المسمى ربعه إن وجد التشعث في ابتداء مدة الإجارة، وإن وجد بعد مضي بعض المدة، بأن مضى من المدة نصفها.. رجع بثمن الأجرة. والوجه الثاني: يلزمه جميع الأجرة المسماة؛ لأنه رضي بسكناها ناقصة، فلزمه جميع المسمى، كما لو اشترى عبدًا، فوجد به عيبًا ولم يرده. [فرع: رد العين المستأجرة بالعيب] ومتى رد العين المستأجرة بالعيب، فإن كانت الإجارة وقعت على عينها.. لم يكن له أن يطالب ببدلها، كما لو اشترى عبدًا، فوجد به عيبًا فرده.. فإنه لا يطالبه ببدله. فإن ردها بالعيب قبل أن يمضي شيء من المدة.. انفسخ العقد، ورجع بجميع المسمى، وإن كان ذلك بعد أن مضى شيء من المدة.. انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة، وهل تنفسخ فيما مضى؟ على الطريقين. وإن كانت الإجارة على عين في الذمة.. لم تنفسخ الإجارة برد العين، بل له أن يطالب ببدلها سليمة، كما لو أسلم إليه على شيء، فدفعه إليه، فوجد به عيبًا.

مسألة: استأجر دابة فماتت

[مسألة: استأجر دابة فماتت] وإن استأجر من رجل عبدًا، فمات قبل قبض العبد، أو بهيمة بعينها، فماتت، فإن كان ذلك قبل أن يقبضها المستأجر.. انفسخت الإجارة، كما لو اشترى عبدًا، فمات قبل القبض. وإن قبضه المستأجر واستوفى المنفعة، ثم مات العبد، أو البهيمة.. لم يؤثر ذلك في الإجارة؛ لأنه قد استوفى المنفعة. وإن مات بعد أن قبضه المستأجر، وقبل أن يمضي شيء من مدة الإجارة.. انفسخت الإجارة، وبه قال كافة الفقهاء، إلا أبا ثور، فإنه قال: (لا تنفسخ، كما لو اشترى عبدًا، فقبضه، ثم مات في يده) . وهذا خطأ؛ لأن المعقود عليه هو المنفعة، وقد تلفت قبل القبض، فانفسخت الإجارة، كما لو مات قبل القبض. وإن مات العبد بعد أن استوفى المستأجر بعض المنفعة وبقي البعض.. انفسخت الإجارة فيما بقي، وهل تنفسخ فيما مضى؟ على الطريقين. [مسألة: استأجر دارًا فهدمت] وإن استأجر دارًا للسكنى فانهدمت.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تنفسخ الإجارة) ، وقال فيمن أجر أرضًا للزراعة، فانقطع ماؤها: (فإن الإجارة لا تنفسخ، ولكن يثبت للمستأجر الخيار في فسخ الإجارة) . فمن أصحابنا من قال: فيهما قولان: أحدهما: تنفسخ فيهما الإجارة؛ لأن المنفعة المعقود عليها قد تلفت، فهو كما لو مات العبد المستأجر.

فرع: غصب العين المستأجرة

والثاني: لا تنفسخ الإجارة فيهما؛ لأن المنفعة فيهما لم تتلف، وإنما نقصت المدة، فهو كما لو تشعثت الدار المستأجرة. ومنهم من حملهما على ظاهرهما، فقال: تنفسخ الإجارة في الدار، ولا تنفسخ في الأرض؛ لأن الدار غير باقية بعدم الانهدام، والأرض باقية بعد انقطاع الماء. [فرع: غصب العين المستأجرة] وإن غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر.. نظرت: فإن كانت الإجارة على منفعة في الذمة.. لم تنفسخ الإجارة، فيطالب المستأجر المؤاجر بإقامة عين غيرها مقامها؛ لأن المعقود عليه في ذمته. وإن كانت الإجارة على منفعة تلك العين.. نظرت: فإن غصبها أجنبي.. فللمستأجر فسخ الإجارة؛ لأنه تأخر حقه، فإن فسخ.. فلا كلام، وإن لم يفسخ، فإن كانت الإجارة على عمل.. لم تنفسخ، بل متى وجد العين المستأجرة.. استوفى منفعته منها، وإن كانت الإجارة على مدة، فمضت المدة.. فهو كما لو اشترى عينًا، فأتلفها أجنبي قبل القبض. وإن غصبها المؤاجر وكانت على مدة، فمضت قبل أن يفسخ المستأجر الإجارة.. فعلى الطريقين في العين المبيعة إذا أتلفها البائع قبل القبض. [مسألة: استكرى مرضعة فماتت] وإن استأجر امرأة للإرضاع، فماتت المرأة، فإن كان قبل أن يمضى شيء من المدة.. انفسخت الإجارة، وإن كان بعد أن مضى شيء من المدة وبقي البعض.. انفسخت الإجارة فيما بقي، وهل تنفسخ فيما مضى؟ فيه طريقان. وإن مات الصبي قبل أن يمضي شيء من المدة.. ففيه قولان:

فرع: استنكف عن استئجار الطبيب

أحدهما: لا تنفسخ الإجارة بموته؛ لأنه مستوفى به، فلا تبطل الإجارة بموته، كالراكب. والثاني: تنفسخ، وهو المشهور؛ لأن العقد وقع على إيقاع الفعل فيه، وقد تعذر ذلك بموته، فانفسخت الإجارة، كما لو استأجره لخياطة ثوب، فتلف الثوب. فإذا قلنا بالأول.. أقيم غير الصبي مقامه، إن تراضيا على ذلك.. جاز، وإن تشاحا.. فسخ العقد. فرع: [قذف الطفل لبن المرضع] : وإن استأجر امرأة على إرضاع صبي، فصار يقذف من لبنها.. قال الصيمري: فللمستأجر أن يفسخ الإجارة؛ لأنه عيب فيها. [فرع: استنكف عن استئجار الطبيب] وإن استأجر رجلًا ليقلع له ضرسًا ألمًا، فبرئ، أو ليكحل له عينًا عليلة، فبرئت قبل الكحال.. فهو كما لو مات الصبي الذي استؤجر على إرضاعه على ما مضى؛ لأنه لا يجوز قلع ضرس لا ألم فيه، ولا كحل عين لا علة بها. وإن لم يبرأ، ولكن امتنع المستأجر من القلع أو الكحل.. قال ابن الصباغ: فإنه لا يجبر عليه؛ لأن الأجير إذا بذل العمل ومكن منه.. وجب على المستأجر دفع الأجرة. وقال القاضي أبو الطيب في " المجرد ": عندي أنها لا تستقر، حتى إن هذا الضرس لو انقلع.. لانفسخت الإجارة، ووجب رد الأجرة، كما قلنا في النكاح إذا مكنت الزوجة من نفسها ولم يطأها، ويفارق إذا حبس الدابة مدة المسافة.. فإن الأجرة تجب عليه؛ لأن المنافع تلفت تحت يده.

مسألة: موت الأجير في الحج

[مسألة: موت الأجير في الحج] ] : وإن مات الأجير في الحج بعد قطع المسافة وقبل الإحرام.. نظرت: فإن كانت الإجارة على حج في الذمة.. لم تنفسخ الإجارة؛ لأن المعقود عليه يمكن استيفاؤه بعد موته، ولا يستحق الأجير لما قطع من المسافة شيئًا من الأجرة. وإن كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه.. بطلت الإجارة؛ لأن المعقود عليه عمل الأجير بنفسه، وقد فات ذلك بموته. وهل يستحق الأجير هاهنا شيئًا من الأجرة؟ المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يستحق شيئًا من الأجرة) . واستفتي أبو بكر الصيرفي وأبو سعيد الإصطخري عام القرامطة، وقد أحصر الناس قبل الإحرام، فأفتيا: أن للأجراء بقدر ما قطعوا من المسافة من الأجرة؛ لأن هذه المسافة لا بد منها، ولا يتوصل إلى النسك إلا بقطعها، فوجبت لها الأجرة. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الأجرة إنما يقابل المقصود بها، وهي الأفعال الواقعة على المستأجر، فأما السبب: فلا يقابله، كما إذا استأجره ليبني له، أو ليخبز له، فقرب آلة البناء وآلة الخبز، فمات قبل البناء والخبز. فأما إذا مات الأجير بعد ما أتى بجميع أركان الحج، وبقي عليه الرمي والمبيت.. فقد سقط الحج عن المحجوج عنه، ويلزم الأجير الجبران بالدم لما بقي عليه، وهل يلزمه أن يرد شيئًا من الأجرة؟ فيه طريقان:

من أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يرد شيئًا؛ لأنه قد جبر ما تركه بالدم، فصار كما لو لم يترك شيئًا. والثاني: يرد؛ لأنه فعل بعض ما استؤجر عليه، فصار كما لو استأجره ليبني له عشرة أذرع.. فبنى له تسعة. ومنهم من قال: يرد، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه. وأما الدم: فإنه وجب على الأجير لحق الله تعالى دون حق المستأجر. وإن مات الأجير بعد الإحرام وقبل أن يأتي بالوقوف في الحج، أو بالطواف والسعي.. فهل يستحق هاهنا شيئًا من الأجرة؟ إن قلنا بقول الصيرفي وأبي سعيد الإصطخري: إنه يستحق شيئًا من الأجرة إذا مات بعد قطع المسافة وقبل الإحرام.. فهاهنا أولى أن يستحق. وإن قلنا بالمنصوص: (إنه لا يستحق هناك شيئًا) .. فهل يستحق الأجير هاهنا من الأجرة؟ فيه قولان: أحدهما: لا يستحق شيئًا من الأجرة؛ لأن ما أتى به لا يسقط به عن المستأجر الفرض، فلم يستحق له أجرة، كما لو استأجر رجل رجلًا ليرد عليه عبده الآبق، فرده إلى بعض الطريق، ثم هرب منه. والثاني: يستحق شيئًا من الأجرة؛ لأنه قد عمل بعض ما استؤجر عليه، فصار كما لو استأجره ليبني له عشرة أذرع.. فبنى له تسعة. فإذا قلنا بهذا: فكم يستحق من الأجرة؟ اختلف أصحابنا فيه على طريقين: فـ[الأول] : ذهب أكثرهم إلى: أنها على قولين: أحدهما: يقسط على قطع المسافة والعمل، وإن كان لو انفرد قطع المسافة.. لم يستحق له شيئًا؛ لأنه هاهنا تابع للعمل. ويجوز أن يتناول العقد شيئًا على وجه التبع وإن لم يفرد، كأساس الحيطان، وطي الآبار، يصح بيعه تبعًا لغيره، ولا يصح بيعه وحده.

والثاني: يقسط على العمل وحده؛ لأنه المقصود، بخلاف قطع المسافة، فإنه لو قابلها بشيء من العوض بعد العمل.. لقابلها قبل العمل. و [الثاني] : قال أبو العباس: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (تتقسط الأجرة على العمل خاصة) إذا استأجره ليحصل له حجة، ولم يعين المسير من بلده. والموضع الذي قال: (تتقسط الأجرة على قطع المسافة والعمل) إذا استأجره ليحصل له حجة من بلده. إذا ثبت هذا: فهل يجوز البناء على عمل الأجير؟ فيه قولان: قال في القديم: (يجوز) ؛ لأنه عمل تدخله النيابة، فجاز البناء عليه، كسائر الأعمال. وقال في الجديد: (لا يجوز) . وهو الصحيح؛ لأنه عبادة يفسد أولها بفساد آخرها، فلا يتأدى بنفسين، كالصوم، والصلاة، وفيه احتراز من تفرقة الزكاة. فإن قلنا بقوله الجديد، فإن كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه.. بطلت بموته، فإن كان وقت الوقوف باقيًا.. استأجر المستأجر من يحرم عنه بالحج، وإن كانت الإجارة في الذمة.. لم تبطل الإجارة بموت الأجير، ويستأجر ورثة الأجير من يستأنف الإحرام عن المستأجر. وإن فات وقت الوقوف.. تأخر الحج إلى السنة الثانية، فإن كانت الإجارة عن حي.. فله أن يفسخ الإجارة، ويسترجع الأجرة، وإن كانت عن ميت.. لم يكن للوصي أن يفسخ الإجارة؛ لأن الحي يستفيد بالفسخ التصرف في الأجرة، وهذا لا يوجد في الإجارة عن الميت. وإن قلنا بقوله القديم، فإن كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه.. بطلت بموته، ويكون الذي يتولى الاستئجار لمن يتم هو المستأجر، وإن كانت الإجارة على حج في الذمة.. لم تبطل بموته، ويكون الذي يتولى الاستئجار لمن يتم هو وارث الأجير. وأما ما يحرم به الأجير الثاني: فينظر فيه:

مسألة: أجر عبده ثم أعتقه

فإن كان وقت الوقوف باقيًا.. فإن الثاني يحرم بالحج من مكانه، ولا يجب الدم؛ لأنه بنى على إحرام الأول. وإن كان قد فات وقت الوقوف بعد وقوف الأول.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يحرم بالعمرة، ويطوف ويسعى؛ لأنه لا يجوز أن يحرم بالحج في غير أشهر الحج، ولا يأتي بالرمي والمبيت؛ لأنه ليس في العمرة رمي ولا مبيت. والثاني - حكاه الشيخ أبو حامد -: أنه يحرم إحرامًا مطلقًا لا ينوي به حجًا ولا عمرة. والثالث - وهو ظاهر قول الشافعي -: أنه يحرم بالحج؛ لأنه بنى على إحرام الأول. قال أصحابنا: وجميع هذه الأوجه ضعيفة؛ لأن: على قول أبي إسحاق: يحرم بالعمرة، ويطوف عنها ويسعى، ثم يقع ذلك عما عليه من طواف الحج وسعيه، وهذا لا يجوز. وعلى قول الثاني: الإحرام المطلق لا بد من صرفه إلى حج أو عمرة. وعلى قول الثالث: يحرم بالحج في غير أشهر الحج، وهذا لا يجوز. وضعفها يدل على ضعف القول القديم الذي تفرعت عليه. [مسألة: أجر عبده ثم أعتقه] وإن أجر عبده، ثم أعتقه قبل انقضاء مدة الإجارة.. صح عتقه؛ لأن الإجارة عقد على المنفعة، فلم يمنع صحة العتق، كما لو زوج أمته، ثم أعتقها، ولأنه إذا صح عتق العبد المغصوب.. فلأن يصح عتق العبد المستأجر أولى، وهل يرجع العبد على سيده بأجرة المدة بعد العتق؟ فيه قولان: قال في القديم: (يرجع عليه بأجرة المثل لمدة الإجارة بعد العتق) ؛ لأنه فوت

مسألة: استئجار عين وموت أحد المتكاريين

عليه بالإجارة ما كان يملكه من منفعة نفسه بعد العتق، فوجب عليه بدلها، كما لو أكرهه على العمل. وقال في الجديد: (لا يرجع عليه بشيء) . وهو الصحيح؛ لأنه تصرف في منافعه تصرفًا كان له، فإذا طرأت الحرية.. لم يملك الرجوع عليه بشيء، كما لو زوج أمته، ثم أعتقها. فإذا قلنا بقوله القديم.. كانت نفقة العبد على نفسه بعد العتق. وإن قلنا بقوله الجديد.. ففيه وجهان: أحدهما: تجب نفقته على المولى؛ لأنه كالباقي على ملكه، بدليل: أنه ملك بدل منفعته. والثاني: تجب في بيت المال؛ لأنه لا يمكن إيجابها على المولى؛ لأنه قد زال عن ملكه. ولا على نفسه؛ لأنه لا يقدر عليها مدة الإجارة. فإذا قلنا: تجب على المولى.. ففي قدرها وجهان: أحدهما: تجب عليه نفقته بالغة ما بلغت، لأن من وجبت عليه نفقة شخص بالملك.. وجبت بالغة ما بلغت، كالعبد المملوك. والثاني: يجب عليه أقل الأمرين من نفقته، أو قدر أجرة مثله؛ لأنها إنما وجبت عليه؛ لاستحقاقه بدل منفعته بعد العتق، فلا يجب عليه أكثر من بدل المنفعة. [مسألة: استئجار عين وموت أحد المتكاريين] إذا استأجر من رجل عينًا، أو استأجره على منفعة، فمات أحد المتكاريين أو ماتا قبل استيفاء المنفعة.. لم تبطل الإجارة، وبه قال عثمان البتي، ومالك، وأحمد، وإسحاق. ويقال أبو حنيفة، والثوري، والليث: (تبطل بموت أحدهما) . دليلنا: أنه عقد لازم، فلا يبطل بموت العاقد، كالبيع.

مسألة: بيع المؤجر لغير المستأجر قبل استيفاء الزمن

[مسألة: بيع المؤجر لغير المستأجر قبل استيفاء الزمن] ] : وإن أجر داره، ثم باعها من غير المستأجر قبل انقضاء مدة الإجارة.. فهل يصح البيع؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصح البيع؛ لأن البائع لا يمكنه تسليمه إلى المشتري، فلم يصح كالمغصوب. والثاني: يصح البيع، فإن كان المشتري عالمًا بكونه مستأجرًا.. فلا خيار له. وإن لم يعلم.. فله الخيار، وبه قال مالك، وهو الأصح؛ لأن الإجارة عقد على المنفعة، فلم تمنع صحة البيع، كما لو زوج أمته، ثم باعها. وقال أبو حنيفة: (البيع موقوف على إجازة المستأجر، فإن أجازه.. صح، وإن رده.. بطل) . بناء على أصله في البيع الموقوف، وقد مضى. [فرع: أكرى عينًا ثم باعها من المستأجر] وإن أكرى عينًا وباعها من المكتري قبل أن يستوفي المنفعة.. صح البيع، قولًا واحدًا؛ لأنه ليس هاهنا يد تحول بينه وبين العين المبيعة، وهل تنفسخ الإجارة؟ فيه وجهان: أحدهما: تنفسخ، وهو اختيار ابن الحداد؛ لأن الإجارة عقد على منفعة الرقبة، فإذا ملك الرقبة.. بطل العقد على منفعتها، كما لو تزوج أمة، ثم اشتراها. والثاني: لا تنفسخ الإجارة، وهو قول الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق؛ لأنه ملك المنفعة بعقد، والرقبة بعقد، لم يتنافيا، كما لو اشترى الثمرة، ثم اشترى الأصل، ولأن الموصى له بالمنفعة لو أجر منفعته من مالك الرقبة.. لاجتمع للمستأجر ملك الرقبة والمنفعة، ولم تبطل الإجارة، فكذلك هذا مثله، ولأنه لو أجر عينًا من رجل، ثم استأجرها المكري من المكتري.. لصح أن يجتمع له ملك الرقبة والمنفعة، فكذلك هذا مثله.

فرع: استأجر من أبيه فمات فورثه

فإذا قلنا بهذا: فتلفت العين قبل انقضاء مدة الإجارة.. لم يبطل البيع؛ لأن المبيع هلك في يد المبتاع، ولكن تبطل الإجارة فيما بقي من المدة، وهل تبطل فيما مضى؟ على طريقين، مضى ذكرهما. فإذا قلنا: تبطل.. فهل يرجع المكتري بأجرة المدة بعد البيع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يرجع، وهو قول ابن الحداد؛ لأن الإجارة انفسخت لمعنى من جهة المستأجر، فلم يرجع بشيء، كالمرأة إذا ارتدت قبل الدخول. والثاني: يرجع بأجرة المدة بعد البيع، وهو قول أكثر أصحابنا؛ لأن الإجارة انفسخت قبل انقضاء مدتها، فرجع بأجرة ما بقي، كما لو تقايلا. وإن استأجر رجل من أبيه دارًا، فمات الأب قبل انقضاء الإجارة.. فهل تنفسخ الإجارة؟ على الوجهين الأولين. فإن مات الأب وعليه دين يحيط بالتركة، فإن قلنا: إن الإجارة لا تنفسخ.. فإن الأجرة تؤخذ من الابن، وتقسم على أصحاب الديون، ولا تباع الدار حتى يستوفي الابن منفعته. وإن قلنا: إن الإجارة تنفسخ.. فإن أجرة ما بقي من المدة بعد الموت لا تؤخذ من الابن إن كان لم يدفعها، وتؤخذ الدار في الحال، وتباع لحق أصحاب الديون. وإن كان الابن قد دفع جميع الأجرة إلى الأب.. قال ابن الحداد: رجع الابن هاهنا بأجرة ما بقي من المدة؛ لأنه لا صنع له في انفساخ الإجارة، بخلاف الشراء. [فرع: استأجر من أبيه فمات فورثه] وإن استأجر رجل من أبيه دارًا مدة معلومة، وسلم الأجرة إلى الأب، فمات الأب قبل انقضاء الإجارة ولا دين عليه، وخلف ابنين أحدهما هذا المكتري، فإن قلنا: لا تنفسخ الإجارة إذا مات الأب ولا وارث له غير المكتري.. لم تنفسخ الإجارة هاهنا في شيء من الدار، ولا يرجع الابن المكتري هاهنا على أخيه بشيء. وإن قلنا هناك: تنفسخ الإجارة.. فإن الإجارة لا تنفسخ هاهنا في نصف الدار الذي ورثه الابن غير

فرع: استأجر دارا وقبل مضي المدة اشتراها

المكتري، ولكن تنفسخ الإجارة في نصفه الذي ورثه الابن المكتري، وهل يرجع الابن المكتري على أخيه بشيء من الأجرة؟ قال ابن الحداد: يرجع عليه بربع أجرة الدار في المدة التي بقيت من الإجارة بعد موت الأب، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن الإجارة لما انفسخت في نصف الدار.. استحق الابن الرجوع في أجرة ما انفسخت فيه الإجارة، وذلك دين تعلق بتركة الميت، فكان على الابن غير المكتري نصف ذلك بقسطه من الميراث، ألا ترى أن الأجرة التي سلمها الابن لو كانت باقية.. لكانت بينهما نصفين؟ فإذا كانت تالفة.. وجب أن يأخذ من الذي أخذ أخوه من التركة بقسط ما انفسخت فيه الإجارة. ومن أصحابنا من قال: لا يرجع على أخيه بشيء؛ لأن الذي انفسخت فيه الإجارة هو النصف الذي ورثه المكتري، فلا يجوز أن يرجع على أخيه بشيء. قال ابن الصباغ: وما قاله ابن الحداد.. غير صحيح؛ لأنه إذا جعل ما انفسخ فيه العقد من الأجرة بينهما.. فقد ملك المكتري بميراثه نصف الدار بمنفعته. وورث الآخر نصف الدار مسلوب المنفعة. قال: والأولى في ذلك أن يقوم نصيب المكتري بمنفعته، ويقوم نصيب غير المكتري مسلوب المنفعة، ويكون لغير المكتري من التركة ما بين القيمتين، ويكون للمكتري نصف المسمى فيما بقي من المدة من التركة. [فرع: استأجر دارًا وقبل مضي المدة اشتراها] ] : فإن اكترى رجل من رجل دارًا مدة، ثم اشتراها المكتري قبل انقضاء مدة الإجارة، ثم وجد بها عيبًا يرد به المبيع، فردها المشتري، وفسخ البيع، فإن قلنا: الإجارة لا تنفسخ إذا ملك المكتري العين.. فإنه يستوفي ما بقي له من الإجارة بعد الرد بالعيب، وإن قلنا بقول ابن الحداد: إن الإجارة تنفسخ إذا ملك المكتري العين.. فإن الإجارة لا تعود بالرد بالعيب؛ لأن الإجارة انفسخت حين ملكها بالشراء، فلا تعود الإجارة بالرد بالعيب إلا بعقد جديد.

فرع: وجد المكتري في العين عيبا بعد بيعها من آخر

[فرع: وجد المكتري في العين عيبًا بعد بيعها من آخر] وإن اكترى رجل من رجل عينًا مدة، ثم باعها المكري من غير المكتري قبل انقضاء المدة، وقلنا: يصح البيع، فوجد المكتري بالعين عيبًا فردها.. فلمن تكون منفعة العين فيما بقي من مدة الإجارة؟ فيه وجهان: [الأول] : قال ابن الحداد: تكون للمشتري؛ لأن المنفعة تابعة للرقبة، وإنما استحقها المكتري بعقد، فإذا زال حقه.. عادت إلى مالك العين، كما نقول فيمن زوج أمته من رجل، ثم باعها من آخر، ثم طلقها الزوج، فإن منفعة البضع تكون للمشتري. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: بل تكون المنفعة فيما بقي من مدة الإجارة للمكري؛ لأن المشتري ملك العين مسلوبة المنفعة تلك المدة، فلا يجوز أن يرجع إليه ما لم يملكه، ولأن المكري يستحق عوض المنفعة على المكتري تلك المدة، فإذا سقط العوض.. عاد المعوض إليه. قال القاضي أبو الطيب: فعلى قول من خالف ابن الحداد: يجوز أن يبيع الرجل داره، ويستثنى منفعته مدة معلومة، وعلى قوله فيها: لا يصح. [مسألة: أجر الموقوف له العين الموقوفة] إذا أجر الموقوف عليه العين الموقوفة عليه مدة.. فهل تصح الإجارة؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 334] : أحدهما: لا تصح الإجارة؛ لأنه لا يملك العين، وإنما يملك منفعتها مدة حياته، ولعله يموت قبل مضي مدة الإجارة، فلم تصح الإجارة، كما لو استعار عينًا من غيره مدة، وأجرها. والثاني: يصح، وهو قول البغداديين من أصحابنا، وهو المشهور؛ لأن منفعة الوقف الآن حق له، فجاز له العقد عليها، كما لو استأجر عينًا، ثم أجرها.

وهذان الوجهان إنما هما إذا جعل الواقف النظر للموقوف عليه، أو لم يجعل الواقف النظر إلى أحد، وقلنا: إن النظر فيه يكون للموقوف عليه. فأما إذا جعل الواقف النظر في الوقف على أهل البطون إلى رجل، فأجر الوقف عليهم مدة.. صحت الإجارة، وإذا مات أهل البطن الأول.. استحق أهل البطن الثاني أجرة العين من حين انتقال الوقف إليهم، ولا تبطل الإجارة بموت أهل البطن الأول، وجهًا واحدًا. وأما إذا كان النظر في الوقف للموقوف عليه، فأجر الوقف مدة، وقلنا: تصح، ثم مات الموقوف عليه قبل انقضاء مدة الإجارة.. فهل تبطل الإجارة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تبطل، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأنه أجر عينًا ملك عقد الإجارة عليها، فلم تبطل بموته، كما لو أجر عينًا يملكها مدة، ثم مات قبل انقضاء المدة. والثاني: تبطل بموت الموقوف عليه الأول؛ لأن منافع الوقف بعد موت الأول حق للثاني، فلا ينفذ عقده عليها من غير إذن ولا ولاية. ويفارق إذا أجر ملكه ثم مات؛ لأن الوارث يملك من جهة المورث، وقد زال ملك المورث عن المنفعة، والموقوف عليه الثاني يملك من جهة الواقف، فلا ينفذ عقد الأول. فإذا قلنا: لا تبطل الإجارة، فإن كان ما يخص البطن الثاني من الأجرة على المكتري لم يقبضه منه الأول.. أخذه منه الثاني، وإن كان الأول قد قبضه من المكتري.. رجع الموقوف عليه الثاني بذلك في تركة الأول؛ لأنه لما لزم الثاني عقد الأول.. لزمه قبضه. وإذا قلنا: تبطل الإجارة فيما بقي من المدة.. فهل تبطل فيما مضى؟ فيه طريقان:

فرع: بلوغ الصبي يؤثر في الإجارة

فـ[الأول] : إذا قلنا: تبطل.. كان للموقوف عليه الأول أجرة المثل؛ لما مضى. و [الثاني] : إن قلنا: لا تبطل.. ثبت للمكتري وورثة الأول الخيار في فسخ عقد الإجارة، فإن فسخاه أو أحدهما.. كان لورثة الأول أجرة المثل فيما مضى، وإن لم يفسخه واحد منهما.. كان لهم بقسط ما مضى من المدة من المسمى. [فرع: بلوغ الصبي يؤثر في الإجارة] وإن أجر رجل صبيًا له عليه ولاية، أو أجر ماله مدة، ثم بلغ الصبي قبل انقضاء المدة.. فهل تنفسخ الإجارة؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا تنفسخ، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأنه عقده في حال ولايته عليه، فصار كما لو زوجه، ثم بلغ. ومنهم من قال: تنفسخ؛ لأنه بان بالبلوغ أن تصرف الولي عليه إلى هذا الوقت. ومنهم من قال: ينظر فيما عقد عليه الولي من المدة: فإن تحقق أن الصبي يبلغ قبل انقضائها، مثل: أن يكون له أربع عشرة سنة، فأجره سنتين.. فإنه لا يصح في السنة الأخيرة؛ لأنه يتحقق أنه يبلغ بخمس عشرة سنة، وهل يصح في الأولى؟ على قولين في تفريق الصفقة. وإن كانت مدة لا يتحقق بلوغه فيها، مثل: أن يؤجره وله أربع عشرة سنة، فبلغ فيها بالاحتلام.. لم تنفسخ الإجارة، وكانت لازمة له. قال ابن الصباغ: وعندي: أن الوجهين الأولين إنما هما إذا كانت مدة الإجارة لا يتحقق بلوغه فيها، وأما إذا كان يتحقق بلوغه فيها.. فلا يلزم بعقد الولي؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يعقد على منافعه طول عمره، ويفارق النكاح؛ لأن النكاح لا يمكن تقدير مدة فيه. وبالله التوفيق

باب تضمين المستأجر والأجير

[باب تضمين المستأجر والأجير] إذا استأجر عينًا لمنفعة فقبضها، فتلفت في يده مدة الإجارة من غير فعله.. لم يلزمه ضمانها؛ لأنه قبضها لمنفعة يستحقها، فهو كما لو اشترى ثمرة نخلة، فتلفت النخلة حال أخذه الثمرة، وإن تلفت بفعله.. نظرت: فإن كان فعلًا جائزًا، كضرب البهيمة المعتاد للمشي، وكبحها المعتاد باللجام.. لم يلزمه ضمانها، وبه قال أبو يوسف. وقال أبو حنيفة: (يلزمه ضمانها، كما لو ضرب زوجته فماتت) . دليلنا: أن الضرب والكبح المعتاد معنى تضمنه عقد الإجارة، فلم يكن موجبًا للضمان، كالركوب، ويخالف ضرب الزوجة، فإنه كان يمكنه تخويفها وزجرها بالكلام، بخلاف الدابة. وإن كان فعلًا غير جائز، بأن ضربها ضربا غير معتاد، أو كبحها كبحًا غير معتاد، فماتت.. لزمه ضمانها؛ لأنه متعد بذلك، فلزمه ضمانها كما لو ذبحها. مسألة: [استأجر ظهرًا مسافة فزاد عليها] : وإن اكترى ظهرًا ليركبه من الجند إلى عدن، فركبه إلى عدن، ثم ركبه من عدن إلى أبين.. فإن عليه الأجرة المسماة إلى عدن؛ لأنه ملك ذلك عليه، وعليه

أجرة المثل بركوبه من عدن إلى أبين. وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه أجرة المثل لما زاد) . بناء على أصله: أن المنافع لا تضمن بالغصب. وقد مضى ذلك. وقال مالك: (إذا جاوز بها إلى مسافة بعيدة، مثل: أن اكتراها من بغداد إلى واسط، فركبها إلى البصرة.. فصحابها بالخيار: بين أن يطالبه بأجرة المثل، وبين أن يطالبه بقيمتها يوم التعدي) . دليلنا [على أبي حنيفة] : أنه استوفى أكثر مما استحقه، فهو كما لو اشترى من رجل عشرة أقفزة فقبض منه خمسة عشر قفيزًا. وعلى مالك: لأن العين قائمة، فلا يطالب بقيمتها، كما لو كانت المسافة قريبة. وأما وجوب ضمان الظهر على المكتري: فإنه يضمنه من حين جاوز من عدن إلى أبين؛ لأنه تعدى بالمجاوزة، فإن رده من أبين إلى عدن.. فإنه لا يزول عنه الضمان حتى يرده إلى يد مالكه أو وكيله، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، وفرَّقا بينها وبين الوديعة بأنه إذا تعدى فيها، وردها إلى الحرز.. زال عنه الضمان؛ لأن الوديعة مأذون في إمساكها، والظهر غير مأذون له في إمساكه بعد العود. وقال محمد، وزفر: يزول عنه الضمان في الإجارة إذا رده إلى الموضع الذي اكترى إليه، كما قالوا في الوديعة إذا ردها إلى الحرز. دليلنا: أنه ضمنها بالتعدي، فلا يزول الضمان عنه بالرد إلى المكان، كما لو غصب عينًا، وردها إلى المكان الذي غصبها منه. وإن مات الظهر.. نظرت:

فإن مات في المسافة التي استأجر إليها.. لم يلزمه ضمانه؛ لأنه أمانة في يده. وإن مات بعد أن جاوز به المكان الذي استأجر إليه.. نظرت: فإن كان صاحبها معها، بأن كانا لما بلغا إلى عدن جاوز بها المستأجر إلى أبين وصاحبها ساكت يسير معها.. فإن المكتري لا يضمنها باليد؛ لأن يد صاحبها عليها؛ لأنه لم تزل يده عنها، فهو كما لو سرق الرجل جملًا وعليه خز.. فإنه لا يضمنه. فإن نزل المستأجر عن الدابة، وتلفت بعد نزوله عنها، أو مضى بها صاحبها لسقيها، فتلتف في يده.. لم يجب على المكتري الضمان؛ لأنها تلفت في يد صاحبها. وإن تلفت والمكتري راكب عليها.. فالظاهر أنها تلفت من فعلين: أحدهما: لا يوجب الضمان، وهو ركوبه لها إلى المكان الذي اكترى إليه. والثاني: يوجب الضمان، وهو ركوبه لها بعد المجاوزة، فيلزمه الضمان، وفي قدر ما يلزمه قولان: أحدهما: يلزمه نصف قيمته؛ لأن الظهر تلف من جائز وغير جائز، فلزمه نصف قيمتها، كما لو جرحه مالكه، وجرحه المكتري، ومات. والثاني: تسقط القيمة على المسافتين، فما قابل المسافة التي اكترى إليها.. لا تجب عليه، وما قابل المسافة التي تعدى بها.. تجب عليه؛ لأنه يمكن التقسيط للقيمة عليهما. وأصل هذه المسألة: إذا أمر الإمام الجلاد أن يجلد رجلًا ثمانين جلدة في القذف، فجلده إحدى وثمانين، فمات المجلود.. فكم يضمن الجلاد؟ على قولين: أحدهما: نصف الدية. والثاني: جزءًا من إحدى وثمانين جزءًا من الدية.

فرع: اكتريا ظهرا فركب ثالث

وسئل الشيخ أبو حامد عمن سخر رجلًا مع بهيمته، فتلفت البهيمة في يد صاحبها؟ فقال: لا يضمنها الغاصب؛ لأنها في يد صاحبها. وأما إذا لم يكن المكري مع الظهر، فتلف الظهر في يد المكتري بعد أن جاوز به المكان الذي اكترى إليه.. فإنه يلزمه جميع قيمته أكثر ما كانت من حين جاوز به إلى أن تلف؛ لأنه تعدى بذلك، وقد تلف في يده، فهو كالغاصب. [فرع: اكتريا ظهرًا فركب ثالث] وإن اكترى رجلان ظهرًا ليركباه، فركباه، وارتدف معهما ثالث بغير إذن، فتلف الظهر.. وجب على المرتدف الضمان؛ لأنه تعدى بذلك. وفي قدر ما يلزمه ثلاثة أوجه: أحدها: يلزمه نصف قيمة الظهر؛ لأنه تلف من جائز وغير جائز. والثاني: يلزمه ثلث قيمته؛ لأن الرجال لا يوزنون، فيقسط على عددهم. والثالث: تقسط القيمة على أوزانهم؛ لأنه يمكن وزنهم. فرع: [اكترى مركبة ليحمل عليها وزنًا معينًا] : إذا اكترى منه بهيمة ليحمل عليها عشرة أقفزة إلى بلد، فحمل عليها طعامًا، فكيل، فوجد أحد عشر قفيزًا، فإن كانت تلك الزيادة حصلت بفعل المكتري، بأن كان المكتري هو الذي كال الطعام، وحمله على البهيمة، وساقها، فتلفت البهيمة.. فإنه يجب على المكتري الأجرة المسماة لحمل العشرة الأقفزة، ويجب عليه أجرة

المثل بحمل ما زاد على عشرة، كما لو اكتراه إلى بلد، فجاوز به إلى غيره، ويجب عليه جميع قيمة البهيمة؛ لأنها تلفت تحت يده بعدوانه، وإن كان صاحبها معها.. لزم المكتري الضمان؛ لما تعدى به من حمله على البهيمة أكثر مما يستحقه. وفي قدر ما يلزمه من الضمان قولان: أحدهما: نصف قيمتها. والثاني: يقسط الزائد، بناء على القولين في الجلاد إذا جلد إحدى وثمانين. وليس للمكتري أن يطالب المكري برد الزيادة إلى البلد الذي اكترى منه. وأما إن كانت الزيادة حصلت بفعل المكري، بأن فوض المكتري إليه أن يكيل عشرة أقفزة، ويحملها على بهيمة، فكال المكري أحد عشر قفيزًا، وحملها على بهيمته.. فإنه غاصب لما زاد على العشرة؛ لأنه قبضه بغير إذن مالكها، ولا تجب له أجرة بحمله؛ لأنه متطوع بحمله، فإن تلفت البهيمة.. لم يلزم المكتري ضمانها؛ لأنها تلفت بفعل صاحبها، وللمكتري أن يطالب المكري برد ما زاد على العشرة إلى البلد الذي اكترى منه؛ لأنه حمله بغير إذنه، وليس للمكتري إجباره على رده، بل لو اختار إقراره في البلد الذي حمله إليه.. كان له؛ لأنه عين ماله. وإن لقيه المكتري في البلد الذي حمل منه الطعام.. فهل له أن يطالبه ببدل الطعام إلى أن يرد إليه طعامه؟ نقل المزني: (أن له مطالبته ببدله) . وقال في " الأم ": (له مطالبته برده) . وقد قيل: له المطالبة ببدل الطعام. ومن أصحابنا من قال: له المطالبة ببدله إلى أن يرد إليه طعامه، كمن غصب من رجل عبدًا، فأبق منه. ومنهم من قال: ليس له المطالبة ببدله؛ لأن عين ماله باقية يمكن ردها، ويفارق الآبق، فإنه لا يمكن رده، والذي حكاه الشافعي فليس بمذهب له. وأما إذا كال المكتري أحد عشر قفيزًا، وحملها المكري على بهيمته، ولم يعلم.. ففيه وجهان:

فرع: اختلاف المكري والمكتري في وزن الحمل

أحدهما: أن حكمه حكم ما لو كاله المكتري، وحمله على البهيمة؛ لأن التدليس حصل بالكيل؛ لأن المكري لم يعلم به. والثاني: أن حكمه حكم ما لو كاله المكري، وحمله على البهيمة؛ لأنه مفرط في ذلك، وكان الاحتياط أن لا يحمل إلا بعد المعرفة بقدره. وهذان الوجهان مأخوذان من القولين فيمن سم طعامه، وقدمه إلى غيره، فأكله. قال أبو إسحاق: وهذا إذا كانت الزيادة بحيث يمكن الاحتراز منها، ولا يقع التفاوت فيها بين الكيلين، وأما إذا كانت يسيرة لا يمكن الاحتراز منها، ويقع مثلها في الكيلين، مثل: أن يزيد مكوكًا أو مكوكين.. فلا يكون لها حكم في أجرة ولا ضمان ولا رد؛ لأن ما يقع في المكيال في العادة من الغلط يعفى عنه، كما يعفى عن الغبن الذي يتغابن الناس بمثله في بيع الوكيل. وإن كانت الزيادة بفعل أجنبي، بأن استأمنه المكتري والمكري على أن يكيل عشرة أقفزة، ويحمله على البهيمة، فكال عليها أحد عشر قفيزًا، وحمله عليها.. فإنه يجب عليه أجرة المثل للزيادة للمكري، ويجب عليه ضمان البهيمة إن تلفت، ويجب عليه رد الزيادة للمكتري إلى البلد الذي حمل منه؛ لأنه تعدى بمال كل واحد منهما، فتعلق لكل واحد منهما حكم التعدي في ماله. [فرع: اختلاف المكري والمكتري في وزن الحمل] وإن اختلف المكري والمكتري في الزيادة، بأن قال المكتري: أنا حملت عليها أحد عشر قفيزًا، وقال المكري: بل حملت أنت عليها عشرة أقفزة، وحملت عليها لنفسي قفيزًا.. قال الشيخ أبو حامد: فالقول قول المكري مع يمينه؛ لأن يده عليها. قيل له: وإن كان المكتري مع الطعام؟ قال: نعم؛ لأن ذلك على بهيمة المكري ويده عليها وعلى المتاع الذي عليها.

فرع: اكترى أرضا ليزرعها حنطة فزرع غيرها

[فرع: اكترى أرضًا ليزرعها حنطة فزرع غيرها] ] : وإن اكترى أرضًا ليزرعها حنطة، فزرعها ما هو أضر من الحنطة، بأن زرعها ذرة أو دخنًا.. فاختلف أصحابنا فيما يلزمه من الأجرة: فقال الشيخ أبو إسحاق: هي على قولين: أحدهما: يلزمه أجرة المثل للأرض؛ لأنه تعدى بالعدول عن المعقود عليه إلى غيره، فلزمه أجرة المثل، كما لو استأجر أرضًا ليزرعها وزرع غيرها. والثاني: يلزمه الأجرة المسماة وأجرة المثل للزيادة؛ لأنه استوفى ما استحقه وزيادة، فأشبه إذا استأجر ظهرًا إلى مكان، فجاوز به. وقال الشيخ أبو حامد: فيه قولان: أحدهما: يلزمه المسمى وأجرة المثل للزيادة. والثاني: أن المكري بالخيار: إن شاء.. أخذ المسمى وأجرة المثل للزيادة، وإن شاء.. أخذ أجرة المثل للجميع. وقال القاضي أبو حامد: المسألة على قول واحد، وأن المكري بالخيار: إن شاء.. أخذ المسمى وأجرة المثل للزيادة، وإن شاء.. أخذ أجرة المثل للجميع؛ لأنه أخذ شبهًا ممن اكترى أرضًا، فزرع غيرها، وشبهًا ممن اكترى ظهرًا إلى مكان، فجاوز به إلى غيره، فخير بين موجبيها. وإن اكترى ظهرًا ليحمل عليه مائة منا قطنًا، فحمل عليه مائة منا حديدًا.. فهو كما لو اكترى أرضًا ليزرعها حنطة، فزرعها دخنًا على ما مضى من الخلاف. والذي

مسألة: تلف العين بيد الأجير

يقتضيه المذهب: أن الأرض والبهيمة إذا تلفتا تحت يد المكتري.. وجب عليه ضمانهما؛ لأنه تعدى بما فعله، فصار ضامنًا لهما بذلك. [مسألة: تلف العين بيد الأجير] وإن استأجر رجل رجلًا ليعمل له في عين، فتلفت العين في يد الأجير.. نظرت: فإن كان بتفريط من الأجير، مثل: أن استأجره ليخبز له، فألزق الخبز قبل أن يسكن حمي التنور أو الفرن ويهدأ لهبه، أو ترك الخبز فيه أكثر مما يترك في العادة، فاحترق.. ضمنه بكل حال؛ لأنه هلك بعدوانه. وإن هلك بغير تفريط من الأجير.. نظرت: فإن كان يعمل في ملك المستأجر، مثل: أن استدعى خياطًا إلى داره أو دكانه ليخيط له، أو استدعى صباغًا إلى ملكه ليصبغ له، أو لم يكن في ملكه، إلا أنه واقف مع الأجير مشاهد له، فتلفت العين من غير تفريط من الأجير.. فلا يجب على الأجير ضمانها، قولًا واحدًا؛ لأن يد المالك ثابتة على عين ماله حكمًا، فهو كما لو أجر رجلًا دابة ليركبها، فركبها وصاحبها معها. وإن لم تكن يد صاحبها عليها، مثل: أن كان الخياط يخيط في ملك نفسه، والمستأجر غائب عنه، فتلفت العين من غير تفريط من الأجير.. فهل يجب على الأجير الضمان؟ ينظر فيه: فإن كان أجيرًا مشتركًا.. ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه الضمان، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، وروي ذلك عن عمر، وعلي. ووجهه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» ، ولأنه قبض العين لمنفعة نفسه من غير استحقاق، فضمنها، كالعارية.

فقولنا: (لمنفعة نفسه) احتراز من الوديعة. وقولنا: (بغير استحقاق) احتراز من الرهن ومن العين التي استأجرها. والثاني: لا يجب عليه الضمان، وبه قال عطاء، وطاوس، وزفر، وأحمد، وإسحاق، والمزني. وهو الصحيح؛ لأنها عين قبضها بعقد الإجارة، فلم يضمنها من غير تعد، كالعين المستأجرة، أو لأنها عين قبضها لمنفعة نفسه ومنفعة المالك، فلم يضمنها من غير تعد فيها، كمال القراض والنخل في المساقاة. وقال الربيع: كان الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يذهب إلى: أنه لا ضمان على الأجير، قولًا واحدًا، وإنما كان لا يبوح به لفساد الصناع. هذا مذهبنا. وقال أبو يوسف، ومحمد: إن تلفت العين بأمر ظاهر، كالحريق، والنهب.. فلا ضمان عليه، وإن تلفت بغير ذلك.. ضمن. وقال أبو حنيفة: (إن تلفت بفعله.. ضمنها وإن كان الفعل مأذونًا فيه، وإن تلفت بغير فعله.. فلا ضمان عليه) . وتوجيه القولين دليل عليهم. وإن كان الأجير منفردًا.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هو على قولين. وهو المنصوص؛ لأن الشافعي قال: (والأجراء كلهم سواء) . ومنهم من قال: لا يجب عليه الضمان، قولًا واحدًا، كما لو كان العمل في دكان المستأجر. إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في صفة الأجير المشترك والمنفرد: فمنهم من قال: (المشترك) : هو الذي استأجره على عمل في ذمته؛ لأن لكل أحد أن يستأجره على عمل في ذمته، وهو مشترك بين الناس. و (المنفرد) : هو الذي استأجره ليعمل له مدة؛ لأنه لا يجوز لغيره أن يستأجره في تلك المدة، فقد انفرد بها. ومنهم من قال: (المشترك) : هو أن يستأجره ليعمل له شيئًا، وقال له: اعمله في أي موضع شئت، فيجعله شريكًا في الرأي والتدبير. و (المنفرد) : أن يستأجره

فرع: استأجر معلما ليعلم صبيا

ليعمل له شيئًا، وقال: اعمله في هذا الموضع، ولا تعمله في غيره. والصحيح هو الأول. [فرع: استأجر معلمًا ليعلم صبيًا] وإن استأجر رجلًا ليعلم له صبيًا.. فللمعلم أن يضربه ويؤدبه على التعليم؛ لأن العادة جرت به. فإن مات الصبي منه.. وجب على الأجير ضمانه، قولًا واحدًا؛ لأنه قد كان يمكنه تأديبه بالتخويف والزجر بالقول، بخلاف البهيمة، حيث قلنا: إذا ضربها المستأجر ضربًا معتادًا، فماتت منه.. لم يجب عليه ضمانها؛ لأنه لا يمكن زجرها بغير ذلك. وإن مات الصبي في يد المعلم من غير فعل منه، فإن كان حرًا.. لم يجب عليه ضمانه، قولًا واحدًا؛ لأن يده ثابتة على نفسه، وإن كان مملوكًا.. فعلى قولين؛ لأن يد المعلم تثبت على المملوك. [فرع: لا يد للحجام على الحر] ولا يد للحجام على الحر، فإن مات بغير تعد من الحجام فيه.. لم يجب عليه ضمانه، قولًا واحدًا؛ لأن يد الحر ثابتة على نفسه، وإن كان المحجوم مملوكًا، فمات وهو في يد الحجام بغير تعد منه فيه.. فهل يجب عليه ضمانه؟ فيه قولان، كالبهيمة. وإن استأجر رجلًا ليرعى له غنمًا، فتلفت في يد الأجير من غير تفريط منه، فإن كان يرعاها في ملك صاحبها، أو في غير ملكه إلا أن مالكها مشاهد لها.. لم يجب على الراعي ضمانها، قولًا واحدًا، وإن كان يرعاها في موات، أو في ملك الأجير ومالكها غير مشاهد لها.. فهل يجب عليه ضمانها؟ فيه قولان. وإن استأجر له رجلًا ليحفظ له متاعًا في دكانه.. لم يضمنه الأجير من غير تفريط منه، قولًا واحدًا؛ لأنه في ملك صاحبه.

فرع: استأجر سائسا ليروض دابته

[فرع: استأجر سائسًا ليروض دابته] وأن استأجر رواضًا ليروض له دابة.. فله أن يضربها ويكبحها باللجام، ويحمل عليها في السير أكثر مما يكون لمستأجر الدابة؛ لأن القصد تأديبها، وذلك لا يحصل إلا بذلك، فإن فعل ذلك وماتت منه، فإن كانت في ملك صاحبها، أو كان مشاهدًا لها.. لم يجب على الرائض ضمانها، قولًا واحدًا؛ لأن يد صاحبها عليها، وإن كان في غير ملك صاحبها وهو غائب عنها.. فهل يجب على الأجير ضمانها؟ فيه قولان. وإن ضربها، أو كبحها، أو حمل عليها في السير أكثر مما جرت عادة الرواض به، فماتت.. ضمنها، قولًا واحدًا؛ لأنه متعد بذلك. [فرع: ما يضمنه الأجير] وأما قدر ما يضمنه الأجير.. فينظر فيه: فإن استأجره ليعمل له في عين في ملكه أو غير ملكه وهو مشاهد لها.. فقد قلنا: إنه لا يضمنها الأجير إلا بالتعدي فيها، فإن تعدى الأجير فيها، ثم أتلفها.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يلزمه قيمتها يوم الإتلاف لا يوم التعدي؛ لأنه إذا تعدى فيها وهي باقية.. فيد مالكها عليها، فزال تعديه بثبوت يد صاحبها عليها. وإن كان الأجير يعمل في غير ملك المستأجر والمالك غير مشاهد لها، فإن قلنا: إن يده يد أمانة فتعدى فيها.. لزمه قيمتها أكثر ما كانت من حين التعدي إلى أن تلفت. وإن قلنا: إن يده ضمان.. لزمه قيمتها أكثر ما كانت من حين قبضها إلى أن تلفت. ومن أصحابنا من قال: يجب قيمتها يوم التلف إلا أن يتعدى بها.. فيلزمه على هذا قيمتها أكثر ما كانت من حين تعدى بها إلى أن تلفت. والأول أصح. وأما وجوب الأجرة للأجير إذا تلفت العين بعد أن عمل جميع العمل أو بعضه.. فينظر فيه:

فرع: استأجر حائكا لينسج غزله

فإن كان العمل في ملك المستأجر أو في غير ملكه وهو مشاهد لها.. استحق الأجير أجرة ما عمل؛ لأنه كلما عمل الأجير شيئًا.. صار قابضًا له. قال الشيخ أبو حامد: إلا أن يكون الأجير تعدى في العين حين ابتدأ في العمل، فإنه لا يستحق أجرة ما عمل؛ لأنه متعد حين العمل، فلم يستحق أجرة. وإن كان العمل في ملك الأجير والمستأجر غير مشاهد له.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو إسحاق: إن قلنا: إنه أمين.. لم يستحق الأجرة؛ لأنه لم يسلم العمل، وإن قلنا: إنه ضامن.. استحق عليه الأجرة؛ لأنه يقوم عليه معمولًا، فيصير بالتضمين مسلمًا للعمل، فاستحق الأجرة. وقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: لا يستحق الأجير الأجرة على القولين، وإن كان قد أخذ الأجرة.. ردها؛ لأن الأجرة إنما تستقر له بتسليم العمل، ولم يسلم له شيئًا من العمل. [فرع: استأجر حائكًا لينسج غزله] قال ابن الصباغ: إذا دفع إلى حائك غزلًا، واستأجره لينسجها له ثوبًا طوله عشرة أذرع في عرض أربعة، فنسجه دون الطول والعرض المذكورين.. استحق من الأجرة بحصة ما عمل من المسمى، وإن نسجه أكثر مما قدر له.. لم يستحق زيادة على المسمى. وقال محمد بن الحسن: إذا جاء به أكثر من الذرع المشروط أو أقل.. فصاحب الثوب بالخيار: بين أن يطالبه بمثل غزله ويدفع إليه الثوب، وبين أن يدفع إليه بحسابه من الأجرة؛ لأن غرضه لم يسلم له. وهذا غير صحيح؛ لأنه استأجره ليعمل له عملًا، فعمل له بعضه فاستحق بقدره من الأجرة، كما لو استأجرة ليضرب له لبنا معلومًا، فضرب له بعضه.

فرع: استأجره لينسج ثوبا صفيقا

[فرع: استأجره لينسج ثوبًا صفيقًا] قال الطبري: وإن استأجره لينسج له غزلًا ثوبًا صفيقًا، فنسجه رقيقًا.. فله أجرة المثل، وإن استأجره لينسجه رقيقاُ، فنسجه صفيقًا.. فله المسمى، ولا شيء له للزيادة في العمل. وقال أبو حنيفة: (يضمن قيمة الغزل في الحالين، والثوب له) . دليلنا: أن ما عمله من جنس ما استؤجر عليه، والنقص عن المشروط عبث بمال الغير، فاقتضى ضمانًا، ولا ينقل الملك قهرًا، والزيادة التي أحدثها متطوع بها، فلم يستحق لأجلها أجرة. وإن جحد النساج الغزل، ثم نسجها ثوبًا.. فالثوب لمالك الغزل، ولا شيء للأجير. وقال أبو حنيفة: (الثوب للنساج، وعليه قيمة الغزل) . دليلنا: أنه صار ضامنًا له بالجحود، فلا يستحق أجرة بعد ذلك، ولا يملكها، كالغاصب. [فرع: استأجره بريدًا] وإن استأجر رجلًا ليحمل له إلى رجل كتابًا، ويرد الجواب، فأوصل الأجير الكتاب إلى المكتوب إليه، فمات المكتوب إليه قبل رد الجواب.. فللأجير من الأجرة بقدر ذهابه. وقال أبو حنيفة: (لا شيء له) . دليلنا: أنه عمل بعض ما استؤجر عليه على مقتضى الأمر، فاستحق من الأجرة بقدر ما عمل، كما لو كتب إلى جماعة، فأوصل إليهم، فرد بعضهم الجواب دون بعض.

مسألة: إتلاف الخياط القماش

وإن استأجره ليحمل له الكتاب إلى رجل، ولم يقل: وترد الجواب، فلم يجد الأجير المكتوب إليه. استحق الأجير الأجرة. وقال أبو حنيفة: (لا يستحق) . دليلنا: أنه عمل المعقود عليه؛ لأن عليه قطع المسافة بالكتاب، فاستحق الأجرة، كما لو وجد المكتوب إليه، فدفع إليه الكتاب، فامتنع من أخذه. [مسألة: إتلاف الخياط القماش] إذا دفع إلى رجل ثوبًا، وقال: إن كان يكفيني للقميص فاقطعه لي قميصًا، فقطعه، فلم يكفه.. لزم القاطع الضمان، لأنه أذن له بالقطع بشرط، وقد قطعه من غير وجود الشرط، فضمنه. وإن قال: أيكفينى للقميص؟ فقال: نعم، فقال: اقطعه لي قميصًا، فقطعه، فلم يكفه.. لم يلزم القاطع الضمان؛ لأنه قطعه بإذن مطلق. وإن دفع إلى رجل ثوبًا، فقال: استأجرتك لخياطته، فإن خطته روميًا فلك درهمان، وإن خطته فارسيًا فلك درهم.. فالأجرة فاسدة. وقال أبو حنيفة: (الأجرة صحيحة) . دليلنا: أن المنفعة المعقود عليها غير معينة، فلم تصح، كما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين، أو بعتك هذا الثوب بدرهم، أو هذا العبد، أو هذين العبدين بدرهمين. [فرع: أجرة الحمامي] واختلف أصحابنا فيما يأخذه الحمامي: فمنهم من قال: هو ثمن الماء، وهو متطوع بحفظ الثياب، ومعير للسطل.

مسألة: ارتكاب الأجير محظورا في الحج

فعلى هذا: لا يضمن الحمامي الثياب إذا تلفت من غير تفريط، وله عوض السطل إذا تلف بكل حال. ومنهم من قال: هو أجرة الدخول والسطل ولحفظ الثياب. فعلى هذا: لا يضمن الداخل السطل إذا تلف بغير تعد منه. وهل يضمن الحمامي الثياب إذا لم يفرط فيها؟ على قولين؛ لأنه أجير مشترك. [مسألة: ارتكاب الأجير محظورًا في الحج] إذا ارتكب الأجير في الحج شيئًا من محظورات الحج، بأن تطيب أو لبس.. وجبت الفدية في ماله؛ لأنها جناية، فكان بدلها عليه. وإن استأجره ليقرن عنه أو يتمتع.. فإن الدم يجب على المستأجر؛ لأنه وجب بإذنه. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] فيها قولًا مخرجًا: أنه يجب على الأجير، كدم الجبرانات. والأول هو المشهور. فإن شرط المستأجر: أن دم القران والتمتع على الأجير.. بطلت الإجارة؛ لأنه في معنى بيع وإجارة، إلا أن الهدي مجهول، فلذلك لم يصح، قولًا واحدًا. [فرع: إفساد الأجير الحج] وإن أفسد الأجير الإحرام بالوطء.. فإن الإحرام ينقلب إلى الأجير، وعليه أن يمضي في فساده، ويلزمه بدنة، ويلزمه القضاء. وقال المزني: لا ينقلب إلى الأجير، بل يمضي فيه الأجير عن المستأجر، ولا يجب القضاء على أحدهما؛ لأن الحج لا يجوز أن ينعقد عن شخص وينقلب إلى

فرع: إحصار الأجير

غيره، ولا يجب القضاء على الأجير؛ لأن الحج فسد على غيره ولا على المستأجر؛ لأنه لم يفسد. وهذا خطأ؛ لأنه أتى بالحج على غير الوجه المأذون فيه، فوقع عنه، كما لو وكله أن يشتري له عينًا بصفة، فاشترى له عينًا بغير تلك الصفة، وهل تنفسخ الإجارة؟ قال ابن الصباغ: إن كانت الإجارة على حج الأجير بنفسه.. انفسخت الإجارة؛ لأن المعقود عليه حجه بنفسه في هذه السنة، وقد فات ذلك، وإن كانت الإجارة على حج في الذمة.. فهل يثبت للمستأجر الخيار؟ ينظر فيه: فإن كانت الإجارة عن حي.. ثبت له الخيار؛ لأنه يستفيد بذلك التصرف بالأجرة. وإن كانت الإجارة عن ميت من ماله.. ففيه وجهان: [الأول] : قال الشيخ أبو حامد: يثبت للمستأجر الخيار؛ لأن له فائدة في الفسخ، وهو أنه يتعجل عنه الاستئجار في السنة الثانية؛ لأن الأجير يقضي فيها عما أفسده. و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لا يثبت له الخيار؛ لأنه لا بد من استئجار غيره. وأما قضاء الأجير في الثانية: فإنه يمكنه أن يستأجر من يحج عن الميت؛ لأن الإجارة في ذمته. [فرع: إحصار الأجير] ] : وإن أحرم الأجير عن المستأجر، وأتى ببعض النسك، ثم أحصر.. فإنه يتحلل، وعمن يقع ما فعله قبل التحلل؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: [أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: يقع عن المستأجر؛ لأنه أتى به على الوجه المأذون فيه، بخلاف الإفساد. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب: يقع عن المحصر، والدم عليه. قال ابن الصباغ: وهو الأقيس. وهل يكون له شيء من الأجرة؟ على قولين، كما لو مات.

وإن لم يتحلل الأجير، وأقام حتى فات الحج وزال الحصر.. قال ابن الصباغ: انقلب إلى الأجير في قول الشيخ أبي حامد والقاضي، ويتحلل بعمل عمرة، ولا يستحق الأجرة على ما فعل بعد الفوات؛ لأنه فعل ذلك ليتحلل من إحرامه. وهل يستحق الأجرة لما فعله قبل الإحرام؟ على قولين. فرع: [استأجره ليحرم من ميقات معين] : وإن استأجره ليحرم عنه من ميقات طريق، فسلك الأجير طريقًا آخر، فأحرم من ميقاتها.. أجزأ عن المحجوج عنه، ولا يلزم الأجير الدم، ولا يرد شيئًا من الأجرة وإن كان الميقات الذي أحرم منه أقرب إلى الحرم؛ لأن الشرع جعل هذه المواقيت يقوم بعضها مقام بعض من غير نقص. وإن أحرم عنه من دون الميقات، أو استأجره ليحرم عنه من موضع فوق الميقات، فجاوز ذلك الموضع، وأحرم دونه.. لزم الأجير دم؛ لأنه ترك الإحرام من موضع لزمه الإحرام منه، وهل يلزمه أن يرد شيئًا من الأجرة؟ روى المزني: (أنه يرد بقدره من الأجرة) . وقال في القديم: (أراق دمًا) . ولم يتعرض للأجرة. واختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: فيها قولان: أحدهما: يرد؛ لأنه ترك بعض ما استؤجر عليه. والثاني: لا يرد؛ لأن ما تركه قد انجبر بالدم، فهو كما لو تطيب أو قتل صيدًا. ومنهم من قال: يرد، قولًا واحدًا، وسكوته عن الأجرة لا يدل على أنه لا يرد منها شيئًا. فعلى هذا: يقال: كم أجرة حجه من الميقات أو من الموضع الذي عينه؟ وكم أجرة حجه من الموضع الذي أحرم منه؟ وينظر ما بينهما، فيرد من المسمى مثل تلك النسبة.

فرع: [استأجره في اليمن ليحرم بحج] : وإن استأجر رجل رجلًا من اليمن ليحرم عنه بالحج من الميقات، فلما بلغ الأجير الميقات، أحرم بعمرة عن نفسه، فلما تحلل عنها، أحرم عن المستأجر بحجة من مكة.. لزم الأجير الدم، لا لأجل المنفعة ـ لأنهما عن شخصين ـ ولكن لأجل أنه ترك الإحرام عن المستأجر من الميقات، وهل يلزم الأجير أن يرد شيئًا من الأجرة؟ على ما مضى من الطريقين. فإذا قلنا: يلزمه أن يرد.. فكيف يقسط؟ فيه قولان: قال في " الأم ": (يلزمه أن يرد ما بين حجه من الميقات وبين حجه من مكة، بأن يقال: كم أجرة حجة يحرم بها من الميقات؟ فإن قيل: عشرة.. قيل: فكم أجرة حجة يحرم بها من مكة؟ فإن قيل: تسعة.. لزمه أن يرد عشر المسمى؛ لأن الحج إنما هو من الميقات، وما قبله ليس بحج) . وقال في " الإملاء ": (تقسط الأجرة هاهنا على المسافة والعمل) . فيقال: كم أجرة حجة يسافر لها من اليمن، ويحرم بها من الميقات؟ فإن قيل: عشرون.. قيل: وكم أجرة حجة يسافر لها من اليمن، ويحرم بها من مكة؟ فإن قيل: عشرة.. لزمه أن يرد نصف المسمى؛ لأنه استأجره على عمل وسفر، وقد جعل السفر عن نفسه، فرد ما في مقابلته. والفرق بين هذه المسألة على هذا القول والتي قبلها: أن هاهنا صرف المسافة إلى نفسه؛ لأنه اعتمر عن نفسه من الميقات، وفي التي قبلها لم يصرف المسافة إلى نفسه، بل قطعها عن المستأجر؛ لأنه أحرم بالنسك عنه، وإنما ترك بعض العمل. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد. قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من قال: تقسط على حجة من اليمن وحجة من مكة؛ لأن سفره كان لنفسه. قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأنه لا يعلم ذلك.

فرع: استأجره لحج فترك واجبا

فإن فرغ المعتمر من عمرته، ورجع إلى الميقات، فأحرم منه بحجة عن المستأجر.. قال الشيخ أبو حامد: فعلى قوله في " الأم ": (لا يرد شيئًا) ، وعلى قوله في " الإملاء ": (يرد ما بين الموضع الذي استأجره منه وبين الميقات) . [فرع: استأجره لحج فترك واجبًا] وإن استأجره للحج، فحج عنه وترك المبيت والرمي.. لزمه من الدماء ما يلزمه إذا ترك ذلك في حجة نفسه، وهل يرد من الأجرة شيئًا؟ على الطريقين فيمن أحرم دون الميقات. فرع: [استأجره ليحج قارنًا فتمتع] : إذا استأجره ليقرن بين الحج والعمرة، فأتى بالعمرة والحج عنه متمتعًا.. فقد زاده من وجه، ونقصه من وجه. أما الزيادة: فلأنه استؤجر على نسكين ليأتي بهما معًا فأفردهما، وهذا أزيد، فلا شيء له بهذه الزيادة؛ لأنه تطوع بها. وأما النقصان: فلأنه استؤجر ليأتي بهما من الميقات، وقد أتى بالحج من مكة، فيقعان عن المحجوج عنه، ويجب على المستأجر دم التمتع؛ لأنه أذن في نسك يقتضي وجوب الدم. قال الشيخ أبو حامد: ويجب على الأجير دم لتركه الإحرام بالحج من الميقات. وقال المحاملي: يجزئ الدم الذي على المستأجر عن الأجير. وهل يجب على الأجير أن يرد بقسط ما ترك من إحرامه بالحج من الميقات إلى مكة؟ فيه طريقان. قال ابن الصباغ: وهذا يدل على: أن الأجير يجب عليه الدم، إذ لو لم يجب عليه الدم.. لوجب أن يرد من الأجرة، قولًا واحدًا.

فرع: [استأجره ليقرن فأفرد] : وإن استأجره ليقرن بين الحج والعمرة، فأفرد الحج عنه، فإن أتى بالحج لا غير، فقد استؤجر على نسكين ولم يأت إلا بأحدهما.. فيكون له من الأجرة بقسط ما أتى به، فيقال: كم أجرة حجة وعمرة على وجه القران؟ فإذا قيل: عشرة.. قيل: فكم أجرة حجة مفردة لا عمرة بعدها؟ فإن قيل: ثمانية.. لزمه أن يرد خمس المسمى. وإن أتى بالعمرة بعد الحج.. ففيه وجهان: [الأول] : قال ابن الصباغ: لا تقع العمرة عن المستأجر؛ لأنه عين له أن يأتي بها في أشهر الحج، فإذا فات ذلك الوقت لم يكن له أن يأتي بها عنه. والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أنها تقع عن المستأجر؛ لأنه قد أذن له بها. فعلى هذا: إن أحرم الأجير بالعمرة من الميقات.. فلا دم عليه؛ لأنه قد أتى بها من الميقات، وقد زاده خيرًا؛ لأن إفراد الحج والعمرة أفضل من القران، ولا يستحق لهذه الزيادة أجرة؛ لأنه متطوع بها. وإن أتى بالعمرة من أدنى الحل.. وجب عليه الدم؛ لأنه أخل بالإحرام بالعمرة من الميقات، وهل يرد من الأجرة شيئًا؟ فيه طريقان. فرع: [استأجر من يتمتع فقرن] : إذا استأجر رجلًا ليحج عنه متمتعًا، فقرن الأجير بين الحج والعمرة من الميقات عنه.. وقعًا عن المستأجر، لأنه أذن فيهما، وقد زاد الأجير من وجه، ونقص من وجه، أما الزيادة: فلأنه أتى بالنسكين من الميقات، وأما النقصان: فلأنه استؤجر على أن يأتي بالنسكين منفردين، فجمع بينهما. ويجب على المستأجر دم؛ لأنه أذن في نسك يقتضي وجوب الدم، ولا شيء للأجير بالزيادة حيث أحرم بالحج من الميقات؛ لأنه متطوع به، ولا يلزمه دم لترك إحرامه بالحج من مكة؛ لأن الميقات أبعد منها، وهل يلزمه أن يرد شيئًا من الأجرة لأجل النقصان؟ فيه وجهان:

[أحدهما] : قال الشيخ أبو حامد: عليه أن يرد ما بين أجرة المتمتع والقارن من المسمى إن كان بينهما شيء. و [الثاني] : قال ابن الصباغ: لا يلزمه أن يرد شيئًا؛ لأن ذلك العمل يجزئ في الشرع عن العبادتين. وإن استأجره ليحج عنه متمتعًا، فحج عنه مفردًا، فإن أتى بالحج عنه لا غير.. فقد زاده من وجه، ونقصه من وجه، أما الزيادة: فلأنه كان عليه أن يحرم عنه بالحج من مكة، وقد أحرم به عنه من الميقات، فلا شيء له بهذه الزيادة؛ لأنه متطوع بها، وأما النقصان: فلأنه استأجره ليأتي بنسكين عنه، فأتى عنه بأحدهما، فيرد من الأجرة بقدر ما ترك، فيقال: كم أجرة حجة وعمرة على وجه التمتع؟ فإن قيل: عشرة.. قيل: فكم أجرة حجة يحرم بها من مكة؟ فإن قيل: خمسة.. لزمه أن يرد نصف المسمى. وإنما قلنا: كم أجرة حجة يحرم بها من مكة؛ لأنه تطوع بالإحرام بها من الميقات. وإن أتى بالعمرة عنه بعد الحج.. قال الشيخ أبو حامد: فإن أحرم بها من الميقات.. فلا دم عليه؛ لأنه زاده خيرًا، وإن أحرم بها من أدنى الحل.. فعليه دم لتركه الإحرام بالعمرة من ميقات البلد، وهل يرد شيئًا من الأجرة؟ فيه طريقان. وعلى قياس ما قال ابن الصباغ فيمن استؤجر ليقرن، فأفرد الحج وأتى بالعمرة بعده.. أن لا تقع العمرة هاهنا عن المستأجر؛ لأنه استأجره ليأتي بالعمرة عنه في أشهر الحج، وقد فاتت، فلا تقع عنه. وعلى قياس قول الشيخ أبي حامد أنا إذا قلنا: إن التمتع أفضل من الإفراد.. أن يرد من الأجرة المسماة بقدر ما بين أجرة المتمتع والمفرد. فرع: [استأجره ليفرد فقرن] : وإن استأجر رجلًا ليحج عنه مفردًا، فقرن الأجير بين الحج والعمرة عنه.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المناسك الكبير ": (كان الحج والعمرة عن المحجوج عنه، وقد زاده خيرًا، وعلى المستأجر دم القران) .

وجملة ذلك: أن الأجير إذا استؤجر ليفرد الحج، فقرن بين الحج والعمرة، فإن كانت الإجارة عن ميت عليه فرض العمرة، أو عن حي قد كان في كلامه ما يدل على الإذن بالعمرة، بأن يقول: تحج عني وتعتمر بكذا، فيقول الأجير: بل أحج عنك لا غير هذا، ثم عقد الإجارة على إفراد الحج، ثم قرن الأجير الحج والعمرة عنه.. فإن الحج والعمرة يقعان عن المحجوج عنه؛ لأن الميت لا يمكن إذنه. وأما الحي: فقد وجد منه ما يدل على الإذن. وعلى من يجب دم القران؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أنه على الأجير؛ لأن المحجوج عنه لم يصرح بالرضا بوجوبه عليه. والثاني: على المحجوج عنه؛ لأن النسكين وقعا عنه. وإن كانت الإجارة عن ميت لا عمرة عليه، أو عن حي لم يكن في كلامه ما يدل على الإذن بالعمرة.. ففيه وجهان: أحدهما: يقع النسكان عن المحجوج عنه؛ لأن العمرة من جنس الحج وتابعة له، فتضمن إذنه له بالحج إذنًا بالعمرة. فعلى هذا: على من يجب دم القران؟ على الوجهين الأولين. والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد، وهو المشهور ـ: أن النسكين يقعان عن الأجير؛ لأنه لم يوجد من المحجوج عنه الإذن في العمرة، فوقعت عن الأجير، وإذا انعقدت له العمرة.. انعقد له الحج؛ لأنهما نسك واحد، فلا يتبعض. وإن استأجره للإفراد، فتمتع.. قال الشيخ أبو حامد: فإن أتى بالعمرة من الميقات، وبالحج من مكة.. فقد أتى بالعمرة عن المستأجر بغير إذنه. فإن كان المحجوج عنه ميتًا عليه فرض العمرة، أو حيًا وكان في كلامه ما يدل على الإذن بالعمرة.. وقعت العمرة والحج عن المحجوج عنه، ودم التمتع على الأجير؛ لأن المحجوج عنه لم يأذن بها، ولا شيء للأجير للعمرة؛ لأنه تطوع بها، وعلى

الأجير دم لترك الإحرام بالحج من الميقات، وهل يرد شيئًا من الأجرة؟ على الطريقين. وإن كان المحجوج عنه ميتًا لا عمرة عليه، أو حيًا لم يوجد منه إذن بالعمرة ولا ما يدل عليه، ولم يعد الأجير للإحرام بالحج إلى الميقات.. فإن العمرة تقع عن الأجير، والحج يقع عن المحجوج عنه، ولا يجب على الأجير دم التمتع؛ لأنهما وقعا عن شخصين، ولكن عليه دم لترك الإحرام بالحج من الميقات، وهل يرد شيئًا من الأجرة؟ على الطريقين. فإذا قلنا: يجب عليه. فهل تقسط على المسافة والعمل، أو على العمل دون المسافة؟ على قولين، مضى ذكرهما. وبالله التوفيق

باب اختلاف المتكاريين

[باب اختلاف المتكاريين] إذا اختلفا في قدر الأجرة أو في قدر المنفعة.. تحالفا، كما قلنا في المتبايعين إذا اختلفا في الثمن أو المثمن. وإن اختلفا في التعدي بالعين المستأجرة.. فالقول قول المكتري مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التعدي. وإن اختلفا في ردها.. فالقول قول المكري مع يمينه، كما قلنا في المعير. وإن اختلف الأجير المشترك والمستأجر في رد العين التي استؤجر على العمل فيها، فإن قلنا: إنه ضامن.. فالقول قول المستأجر مع يمينه، كالمعير، وإن قلنا: إنه ليس بضامن.. ففيه وجهان، كالوكيل بجعل. وإن قال الأجير: هلكت العين بعد العمل، فلي الأجرة، وقال المستأجر: بل هلكت قبل العمل فلا أجرة لك.. فالقول قول المستأجر مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته. [مسألة: اختلاف المستأجر والخياط على الصنع] إذا دفع إلى خياط ثوبًا، فقطعه قباء، فقال رب الثوب: أمرتك أن تقطعه قميصًا، وقال الخياط: بل أمرتني أن أقطعه قباء.. فقد ذكرها الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في

(اختلاف العراقيين) ، ونقلها المزني، فقال: فيها قولان: أحدهما: القول قول الخياط، وهو قول ابن أبي ليلى. والثاني: أن القول قول رب الثوب، وهو قول أبي حنيفة. قال الشافعي: (وهذا أشبه، وكلاهما مدخول؛ لأن الخياط يدعي الأجرة، وينفي الغرم، ورب الثوب يدعي الغرم، وينفي الأجرة. ولا أقبل قولهما، وأردهما إلى أصل السنة، فيتحالفان) . وقال في (الإملاء) : (إذا دفع إلى صباغ ثوبًا، فصبغه أسود، فقال رب الثوب: أمرتك أن تصبغه أحمر، فقال الصباغ: بل أمرتني أن أصبغه أسود.. أنهما يتحالفان، وعلى الصباغ أرش النقص) . واختلف أصحابنا في المسألة على ثلاث طرق: فـ[الأول] : قال أكثرهم: هي على قولين: أحدهما: أن القول قول الخياط. والثاني: أن القول قول رب الثوب. و [الطريق الثانية] : منهم من قال: فيها ثلاثة أقوال: أحدها: القول قول الخياط. والثاني: أن القول قول رب الثوب. والثالث: أنهما يتحالفان. و [الطريق الثالثة] : قال الشيخ أبو حامد: الأشبه بالمذهب: أنها على قول واحد، وأنهما يتحالفان؛ لأن الشافعي ذكر القولين في (اختلاف العراقيين) ، وطعن عليهما، ولما ذكر التحالف.. لم يطعن فيه. فإذا قلنا: القول قول الخياط.. فوجهه: أنه قد ملك القطع لاتفاقهما عليه، فكان الظاهر أنه إنما فعل ما ملكه، فكيف يحلف؟

قال ابن الصباغ: يحلف بالله: ما أذنت لي في قطعه قميصًا، ولقد أذنت لي في قطعه قباء. وقال الشيخ أبو حامد: يحلف: أن رب الثوب أذن له في قطعه قباء. فإذا حلف.. لم يلزمه الغرم؛ لأنه حقق بيمينه أنه مأذون له فيما فعله، وهل يستحق أجرة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يستحق؛ لأنه يسقط بيمينه ما يدعى عليه من الغرم، فلا يجوز أن يثبت بيمينه حقا له. والثاني: أنه يستحق؛ لأنا حكمنا بيمينه أنه مأذون له بالقطع، فاستحق الأجرة. فإذا قلنا بهذا: فأي أجرة يستحق؟ قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان: أحدهما: الأجرة التي ادعاها أنها مسماة في العقد؛ لأنا قبلنا قوله: إن رب الثوب أذن له، فوجب له ما اقتضاه الإذن. والثاني: لا يستحق المسمى، وإنما يستحق أجرة المثل؛ لأنا لو قبلنا قوله.. لم يؤمن أن يدعي ألفًا، وأجرة مثله درهم. وذكر الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وابن الصباغ: أنه يستحق المسمى، وجهًا واحدًا. قال الشيخ أبو حامد: ما رأيت أحدًا من أصحابنا يقول: يستحق المسمى، وإن كان القياس يقتضي ذلك. قلت: والذي يقتضي المذهب: أن الشيخ أبا حامد، ومن قال: يستحق أجرة المثل ولا يستحق المسمى، أرادوا: إذا كان ما يدعيه من المسمى أكثر من أجرة المثل، فأما إذا كان الذي يدعيه من المسمى أقل من أجرة المثل.. استحق ذلك، وجهًا واحدًا إذا قلنا: إنه يستحق الأجرة؛ لأنه لا يجوز أن يوجب له أكثر مما يدعيه. وإذا قلنا: إن القول قول رب الثوب ـ قال في (التعليق) : وهو الأصح ـ فوجهه:

قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» . والخياط يدعي على رب الثوب الإذن، ولأنهما لو اختلفا في أصل الإذن.. لكان القول قول رب الثوب، فكذلك إذا اختلفا في صفته. قال ابن الصباغ: وعندي: أنه يكفيه أن يحلف أنه ما أذن له في قطعه قباء، ولا يحتاج إلى إثبات إذنه في قطع القميص، فإذا حلف.. وجب الغرم على الخياط؛ لأنه أثبت بيمينه أن الخياط غير مأذون له في قطعه، والقطع بغير إذن يوجب الغرم، وفي قدر الغرم قولان: أحدهما: يجب ما بين قيمة الثوب صحيحًا ومقطوعًا قباء؛ لأنه تعدى بقطعه قباء، فلزمه أرش القطع. والثاني: يلزمه ما بين قيمته مقطوعًا قميصًا ومقطوعًا قباء؛ لأن قطع القميص مأذون فيه. وهل يجب للأجير أجرة؟ فيه وجهان: [الأول] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يجب له أجرة قطع ما تحصل من قطع القباء للقميص؛ لأنه مأذون فيه. و [الثاني]ـ المنصوص ـ: (أنه لا شيء له) ؛ لأنه لم يقطعه للقميص، فهو متعد في ابتداء القطع. وإذا قلنا: إنهما يتحالفان ـ وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق ـ فوجهه: أن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه؛ لأنه الخياط يدعي الأجرة، ورب الثوب ينكرها. ورب الثوب يدعي الأرش، والخياط ينكره، فتحالفا، كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن. فعلى هذا: إذا حلف أحدهما ونكل الآخر.. كان الحكم فيه كما لو قلنا: إن القول قول الحالف، وحلف. وإن حلفا.. لم يستحق الخياط الأجرة؛ لأن التحالف يوجب رفع العقد، والخياطة من غير عقد لا يستحق لها أجرة.

مسألة: الأجير يحبس العين ليستوفي الأجرة

وهل يجب على الخياط أرش القطع؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه شيء؛ لأن كل واحد منهما قد نفى بيمينه ما ادعي عليه به. والثاني: يجب عليه؛ لأن التحالف يوجب رفع العقد. والقطع من غير عقد يوجب الضمان. فعلى هذا: في قدر الأرش القولان الأولان. فكل موضع أوجبنا للخياط الأجرة.. فإن الخياط لا يرجع في الخيوط؛ لأنها إن كانت من الثوب.. فهي لصاحب الثوب، وإن كانت للخياط.. فهي تابعة للخياطة التي أخذ عليها الأجرة. وكل موضع قلنا: لا أجرة له، فإن كان الثوب مخيطًا بخيوط من رب الثوب أو من الثوب.. فإن رب الثوب يأخذ ثوبه مخيطًا، وليس للخياط فتق الخياطة؛ لأنه قد عمل في ملك غيره عملًا لا عين له فيه، فلم يكن له إزالته، كما لو نقل ملك غيره من زاوية إلى زاوية.. فليس له رده إلا برضا المالك. وإن كانت الخيوط من الخياط.. فله أن يأخذ خيوطه؛ لأنها عين ماله. فإن بذل له رب الثوب قيمة الخيوط.. لم يجبر الخياط على قبولها؛ لأنها عين مال الخياط لا يتلف بردها ما له حرمة، فلم يلزمه أخذ عوضها. فإن قال رب الثوب: أنا أشد بطرف خيطك خيطًا، فإذا جررت خيطك دخل هذا الخيط مكان خيطك.. لم يلزم الخياط تمكينه من ذلك؛ لأنه انتفاع بملكه، ولأنه يتأخر بذلك وصوله إلى خيطه إلى أن يثبت الخيط الآخر مكانها، فلم يجبر على ذلك. [مسألة: الأجير يحبس العين ليستوفي الأجرة] إذا استأجر رجلًا ليعمل له عملًا في عين، مثل: خياطة، أو صياغة، فعمل الأجير ذلك.. فهل له أن يحسب العين إلى أن يستوفي الأجرة؟ فيه وجهان:

فرع: استحقاق أجرة المثل

أحدهما: لا يجوز له؛ لأن العين غير مرهونة عنده بالأجرة، ولأنه لو استأجره على حمل متاع فحمله.. لم يكن له حبس المتاع إلى أن يستوفي الأجرة، فكذا هذا مثله. والثاني: له أن يحبس العين؛ لأن العمل في العين ملكه، فجاز له حبسه، كالعين المبيعة، بخلاف الحمل، فإنه لا يمكن حبسه. [فرع: استحقاق أجرة المثل] إذا دفع إلى رجل ثوبا ليخيطه له، أو متاعًا ليحمله له إلى مكان، فإن سمى له أجرة صحيحة.. استحق المسمى ولا كلام، وإن سمى له أجرة فاسدة، أو عرض له بالأجرة، بأن قال: اعمل وأنا أحاسبك على أجرتك، أو لا ترى مني إلا ما يسرك.. استحق أجرة المثل؛ لأنه قد عرض له بالأجرة وهي مجهولة، فاستحق أجرة المثل، كما لو سمى له عوضًا فاسدًا. وأن دفعها إليه فعملها الأجير.. فهل يستحق أجرة الثمل؟ فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه يستحق أجرة المثل؛ لأنه قد أتلف عليه منافعها، فاستحق عليه بدلها، فهو كما لو أكرهه على العمل. والثاني ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: إن استدعى الصانع لأن يعمل، بأن قال: أعطني ثوبك لأخيطه.. لم يستحق أجرة؛ لأنه اختار إتلاف منفعة نفسه بغير عوض. وإن استدعاه رب الثوب إلى العمل، بأن قال: خط لي هذا الثوب.. لزمه أجرة المثل؛ لأنه أدى ما عليه منفعته، فاستحق عليه بدلها. والثالث: إن كان الصانع معروفًا بأخذ الأجرة على العمل.. استحق الأجرة؛ لأن

العرف في حقه كالشرط، وإن كان غير معروف بذلك.. فلا أجرة له. والرابع ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا يستحق أجرة) ؛ لأن المنافع ليست بأولى من الأعيان، وقد ثبت أنه لو قدم إلى رجل طعامًا، وقال: كله.. لم يستحق عليه عوضه، فكذلك هذا مثله. والله أعلم.

باب الجعالة

[باب الجعالة] يجوز عقد الجعالة في رد الآبق وخياطة الثوب، وكل عمل يجوز عقد الإجارة عليه، فيقول: من رد عبدي الآبق، أو خاط لي هذا القميص، أو خاط لي قميصًا. فله دينار؛ لقول تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] [يوسف: 72] . فذكر الله الجعالة في شرع من قبلنا ولم ينكرها، فدل على جوازها، ولأن بالناس حاجة إلى الجعالة؛ لأنه قد يأبق له عبد لا يعلم مكانه، ولا يقدر على رده بنفسه، ولا يجد من يتطوع بالمضي لرده، ولا تصح الإجارة على رده؛ للجهالة بمكانه، فجوز عقد الجعالة لذلك. إذا ثبت هذا: فيصح أن يكون العامل في الجعالة غير معلوم، والعمل غير معلوم؛ للآية. والفرق بين الجعالة والإجارة: أن الإجارة عقد لازم، فوجب تقدير العمل فيها والعامل، والجعالة عقد جائز، فجاز أن يكون العمل فيها غير معلوم، كالعارية.

مسألة: تعيين قدر الجعل

فإن قال: من رد عبدي من موضع كذا فله كذا.. صح؛ لأنه إذا صح ذلك مع جهالة العمل.. فلأن يصح إذا كان العمل معلومًا أولى. فإن قال: من رد عبدي من البصرة في هذا الشهر فله كذا.. قال القاضي في (المجرد) : لم يصح؛ لأنه يكثر بذلك الغرر، حيث قدره بمدة معلومة. [مسألة: تعيين قدر الجعل] ولا تصح الجعالة حتى يكون عوض العمل معلومًا؛ لأنه عوض في عقد، فلم يصح مع الجهالة به، كالمسلم فيه. والفرق بين العمل والعوض: أن العمل قد تدعو الحاجة إلى أن يكون مجهولًا؛ لما ذكرناه، ولا تدعو الحاجة إلى أن يكون العوض مجهولًا، ولأن العمل لا يكون لازمًا، والعوض يكون لازمًا بعد العمل. فرع: [فيمن قال: أول من يحج عني فله كذا] : فإن، قال: أول من يحج عني فله مائة درهم، فحج عنه رجل.. قال الشافعي في (المنثور) : (استحق المائة) . وقال المزني: يستحق أجرة المثل. وليس بشيء؛ لأنه جعالة، والجعالة تصح لعامل غير معين. [فرع: تفاوت الجعل في اختلاف المدة] قال ابن الصباغ: فإن قال لرجل: إن خطت لي هذا الثوب اليوم فلك دينار، وإن خطته غدًا فلك نصف دينار.. فهو عقد فاسد، فإذا خاطه.. استحق أجرة المثل، وبه قال مالك، وزفر. وقال أبو حنيفة: (الشرط الأول جائز، والثاني فاسد، فإن خاطه في اليوم الأول.. فله دينار، وإن خاطه بعده.. فله أجرة مثله) .

مسألة: العوض يلزم بشرط رب المال

وقال أبو يوسف، ومحمد: الشرطان جائزان. دليلنا: أنه عقد واحد، فإذا اختلف فيه العوض بالتقديم والتأخير.. كان فاسدًا، كما لو قال: أجرتك هذا بدرهم نسيئة، أو بنصف درهم نقدًا. إذا ثبت هذا: فكل موضع شرط فيه جعلًا فاسدًا، فعمل الأجير.. استحق أجرة مثله، كما قلنا في الإجارة. [مسألة: العوض يلزم بشرط رب المال] ولا يستحق العامل العوض إلا إذا عمل بإذن صاحب المال، وشرط العوض له، فأما إذا رد لرجل عبدًا آبقًا، أو رد له بهيمة ضالة بغير إذنه.. فإنه لا يستحق عليه عوضًا، سواء رده من موضع قريب أو بعيد، وسواء كان معروفًا برد الضوال أو لم يكن معروفًا بذلك. وقال أبو حنيفة: (إن رد له بهيمة ضالة بغير إذنه.. لم يستحق عليه العوض ـ كقولنا ـ وإن رد له عبدا آبقًا بغير إذنه.. فالقياس: أنه لا يستحق عليه جعلًا، ولكن يعطى عليه جعلًا استحسانًا، فإن رده من مسيرة ثلاثة أيام فما زاد، وكانت قيمة العبد أربعين درهما فأكثر.. استحق عليه أربعين درهما، وإن رده من مسيرة دون ثلاثة أيام.. استحق عليه أجرة مثل عمله، وإن رده من مسيرة ثلاثة أيام، وقيمة العبد أربعون درهما.. استحق أربعين درهمًا إلا درهمًا، وإن كانت قيمته عشرة.. استحق عشرة دراهم إلا درهمًا) . وقال أبو يوسف، ومحمد: يعطى أربعين درهمًا بكل حال حتى لو كانت قيمته عشرة دراهم. وقال مالك: (إن كان الراد معروفًا برد الضوال والأباق.. استحق أجرة مثله،

فرع: الرد لا يستوجب العوض

وإن كان غير معروف بذلك.. فلا شيء له) . دليلنا: أنه رد لغيره ما لم يشرط له عليه عوضًا، فلم يستحق عليه عوضًا، كما لو رد بهيمة مع أبي حنيفة، وكما لو كان غير معروف برد الضوال مع مالك. [فرع: الرد لا يستوجب العوض] وإن رد عبده بإذنه، ولم يشرط له عوضًا.. فهل يستحق عليه أجرة المثل؟ على الأوجه الأربعة المذكورة في الإجارة، الصحيح: أنه لا يستحق عليه. وإن قال: من رد عبدي فله دينار، فرده من لم يسمع قوله ولا بلغه.. لم يستحق عليه شيئًا؛ لأنه متطوع. وإن قال رجل: من رد عبد فلان فله دينار، فرده رجل.. استحق الدينار على الذي قال ذلك؛ لأنه التزم العوض فلزمه بالعمل. وإن نادى، فقال: قال فلان: من رد عبدي فله دينار، فرده رجل.. لم يلزم المنادي شيء؛ لأنه حكى قول غيره، ولم يلتزم ضمانه. فإن أنكر مالك العبد أنه قال ذلك.. فالذي يقتضي المذهب: أنه المنادي إذا كان عدلًا وشهد عليه بذلك.. حلف من رد العبد معه إذا صدقه، واستحق على مالك العبد الدينار، وإن لم يكن عدلًا أو لم يشهد عليه.. لم يلزم المنادي شيء؛ لأنه يقول: أنا صادق، ومالك العبد كاذب، فلا يلزمني الغرم بكذبه، ولأنه لا يلتزم ضمانه، فلا يلزمه بالحكاية. [مسألة: يستحق الجعل بتمام العمل] فإن قال: إن جئتني بعبدي فلك دينار، فرده حتى صار على باب البلد، فهرب العبد أو مات.. لم يستحق العامل شيئًا؛ لأن المقصود رده، ولم يوجد ذلك.

والفرق بينه وبين الأجير في الحج ـ إذا عمل بعض العمل فمات.. أنه يستحق بقسط ما عمل في أحد القولين ـ: أن المقصود بالحد تحصيل الثواب، وقد حصل للمحجوج عنه الثواب ببعض العمل، والمقصود هاهنا الرد، ولم يوجد، ولأن الإجارة عقد لازم.. فلزمت الأجرة بنفس العقد، وهاهنا الجعالة عقد جائز.. فلم تلزم إلا بالعمل. فرع: [ما يستحق لبعض العمل] : قال ابن الصباغ: فإن قال رجل لآخر: إن علمت ابني القرآن فلك كذا وكذا، فعلمه القرآن أو بعضه، ومات الصبي.. استحق الأجير بقدر ما علمه؛ لأن العمل وقع مسلمًا؛ لأن الصبي لا تثبت يد المعلم عليه. ولو قال: إن خطت لي هذا الثوب فلك درهم، فخاط نصفه، وتلف الثوب في يد الخياط.. لم يستحق شيئًا؛ لأن رب الثوب لم يتسلم العمل. وإن قال رجل: من رد عبدي من موضع كذا.. فله دينار، فرده رجل من نصف تلك المسافة.. استحق نصف الدينار؛ لأنه عمل نصف العمل، وإن رده من أبعد من الموضع المذكور.. لم يستحق أكثر من الجعل المسمى؛ لأنه تطوع بما زاد عليها. وإن أبق له عبدان، فقال: من ردهما فله دينار، فرد رجل أحدهما.. استحق نصف الدينار؛ لأنه عمل نصف العمل. وإن قال: من رد عبدي فله دينار، فرده جماعة.. اشتركوا في الدينار؛ لاشتراكهم في الرد. وإن قال لرجل: إن رددت عبدي فلك دينار، وقال لآخر: إن رددته فلك ديناران، وقال لآخر: إن رددته فلك ثلاثة، فردوه جميعًا.. استحق كل واحد منهم ثلث ما شرطه له؛ لأن كل واحد منهم عمل ثلث العمل. وإن شرط لواحد منهم جعالة فاسدة، ولآخرين جعالة صحيحة.. استحق من شرط له جعالة صحيحة ثلث ما سمى له، ويستحق من شرط له جعالة فاسدة ثلث أجرة مثله اعتبارًا بالانفراد.

فرع: معاون المجعول له لا يستحق عوضا

[فرع: معاون المجعول له لا يستحق عوضًا] وإن قال لرجل: إن رددت عبدي فلك دينار، فرده معه رجلان آخران، فإن قالا: عاوناه في الرد.. استحق المجعول له الدينار، ولم يستحقا شيئًا؛ لأنهما عملا له بغير عوض. وإن قالا: شاركناه في العمل لنشاركه في الجعل.. استحق المجعول له ثلث الدينار؛ لأنه عمل ثلث العمل ولا شيء للآخرين؛ لأن مالك العبد لم يشرط لهما شيئًا، وإنما شرط للثالث. [مسألة: فسخ الجعالة] الجعالة عقد غير لازم؛ لأنها عقد على عمل مجهول بعوض، فكانت غير لازمة، كالقرض. إذا ثبت هذا: فيجوز لكل واحد منهما فسخها، فإن فسخها العامل قبل العمل أو قبل تمامه.. لم يستحق شيئًا، وإن فسخها رب المال، فإن كان قبل أن يبتدئ العامل شيئًا من العمل.. لم يستحق العامل شيئًا من الأجرة؛ لأنه إنما عمل بقول رب المال، وقد رفع ذلك، وإن فسخ بعد تمام العمل.. لم يسقط عنه ما بذله من الجعل؛ لأنه قد استقر بالعمل، وإن كان بعد أن عمل العامل شيئًا من العمل.. استحق العامل أجرة ما قد عمله؛ لأنه ليس له إسقاط عمله بغير عوض. [فرع: تعداد الجعل] إذا قال: من رد عبدي فله عشرة دراهم، ثم قال: من رده فله درهم، أو قال: من رده فله درهم، ثم قال: من رده فله عشرة.. كان الاعتبار بالبذل الأخير؛ لأنه عقد غير لازم، فجاز النقصان والزيادة في عوضه، كالربح في القراض.

مسألة: اختلفا في العوض وقدره

[مسألة: اختلفا في العوض وقدره] وإن قال العامل: شرطت لي العوض في رد عبدك، وقال مالك العبد: لم أشرط لك، أو قال العامل: شرطت لي العوض في رد هذا العبد، فقال: بل شرطت لك في رد غيره، ولا بينة.. فالقول قول رب المال؛ لأن الأصل براءة ذمته. وإن اختلفا في قدر العوض المشروط.. تحالفا، ووجب للعامل أجرة المثل، كما قلنا في المتبايعين إذا اختلفا في ثمن السلعة بعد هلاكها. وإن قال: أنا رددت عبدك الآبق، وقال العبد: بل جئت بنفسي، وصدقه المولى.. فالقول قول المولى مع يمينه؛ لأن الأصل عدم رده. وبالله التوفيق

كتاب السبق والرمي

[كتاب السبق والرمي]

كتاب السبق والرمي الأصل في جواز المسابقة: الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} [يوسف: 17] [يوسف: 17] . فذكر الله

المسابقة في شرع من قبلنا، ولم ينكرها، فدل على جوازها. وأما السنة: فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» . وأجمعت الأمة على جواز المسابقة. إذا ثبت هذا: فتجوز المسابقة على الخيل والإبل؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بين الخيل» . وروي: «أنه كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناقة تسمى العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له، فسابقها، فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه، فقالوا: يا رسول الله، سبقت العضباء‍! فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنه حق على الله أن لا يرتفع شيء من

الدنيا ـ وروي: من هذه القذرة ـ إلا وضعه» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» . وروي: (لا سبق) بسكون الباء وبفتحها، فبسكونها: هو المصدر، وبفتحها: هو المال المسابق عليه. وأما (النصل) : فهي السهام التي يرمى بها، مثل: السهام العربية، والنشاب. وأما (الخف) : فهي الإبل. و (الحافر) : الخيل. ويجوز ذلك بغير عوض؛ لما «روى سلمة بن الأدرع، قال: أتى علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نترامى، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حسن هذا لعبًا، ارموا، فإن أباكم إسماعيل كان راميًا، ارموا، واركبوا، ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا»

ويجوز ذلك بعوض؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» . و (السبق) ـ بفتح الباء ـ: هو المال المتسابق عليه. «وسئل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هل كنتم تراهنون؟ فقال: نعم، راهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فرس له، فجاءت سابقة، فهش لذلك وأعجبه» والرهان

لا يكون إلا على عوض. وهل تجوز على الفيل؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» . والفيل له خف، ويقاتل عليه، فهو كالإبل. والثاني: لا يجوز، وبه قال أحمد؛ لأنه لا يصلح للكر والفر، فهو كالبقر. قال ابن الصباغ: والأول أولى، لأنه يقال: إنه يسبق الخيل. وفي جواز المسابقة على البغال والحمير قولان: أحدهما: لا تجوز؛ لأنها لا تصلح للكر والفر. والثاني: تجوز، وهو المشهور؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أو حافر» . وتجوز المسابقة على الأقدام بغير عوض؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: سابقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرتين، فسبقته في المرة الأولى، فلما بدنت.. سبقني، وقال: هذه بتلك» . يقال: بدن الرجل ـ بضم الدال وتخفيفها ـ: إذا سمن. وبدن ـ بفتح الدال وتشديدها ـ: إذا كبر، يبدن تبدينًا. قال الشاعر وكنت خلت الشيب والتبدينا ... والهم مما يذهل القرينا وهل تجوز المسابقة على الأقدام بعوض؟ فيه وجهان: أحدهما: تجوز، وبه قال أهل العراق؛ لأنه يحتاج إليه الراجل في القتال، كما يحتاج إليه في الفرس للقتال.

والثاني: لا تجوز، وهو المنصوص، وبه قال أحمد؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» . و (السبق) ـ بفتح الباء ـ: هو المال المسابق عليه. وتجوز المسابقة على الطير بغير عوض، وهل تجوز المسابقة عليها بعوض؟ فيه وجهان: أحدهما: تجوز؛ لأنه يستعان بها في الحرب في حمل الكتاب بالأخبار. والثاني: لا يجوز، وهو المنصوص؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا سبق إلا في خف، أو نصل، أو حافر» . والطيور ليست بواحد منها. وتجوز المسابقة على السفن بغير عوض، وهل تجوز المسابقة عليها بعوض؟ فيه وجهان: أحدهما: تجوز؛ لأنه يقاتل عليها في البحر، كما يقاتل على الخيل في البر. والثاني: لا تجوز، وهو المنصوص؛ لما ذكرناه من الخبر، ولأنها ليست بآله للحرب، وإنما الحرب فيها. وتجوز المصارعة بغير عوض، وهل تجوز بعوض؟ فيه وجهان: أحدهما: تجوز، وبه قال أهل العراق؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صارع يزيد بن ركانة على مائة، فصرعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان لا يصرع، ثم عاد، فصرعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم عاد فصرعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأسلم، ورد عليه الغنم» .

مسألة: المناضلة بالرمي

والثاني: لا تجوز، وهو المنصوص؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا سبق إلى في نصل، أو خف، أو حافر» . ولأن الصراع ليس بآلة الحرب. وأما صراع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليزيد بن ركانة: فإنما كان طمعًا منه في إسلامه، ولهذا لما أسلم.. رد عليه الغنم. [مسألة: المناضلة بالرمي] وتجوز المسابقة على الرمي بالقسي العربية والعجمية بعوض وغير عوض؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر» . فإن قيل: فقد روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى مع رجل قوسًا عجمية، فقال: لعن الله حاملها، عليكم بالقسي العربية وسهامها، فإنه سيفتح عليكم بها» .

فالجواب: أن الأمة أجمعت على جواز الرمي بالأعجمية، فيستدل بهذا الإجماع على أن هذا الخبر منسوخ، وإن لم نعلم ناسخه، ويحتمل أن يكون إنما نهى عنها ولعن حاملها؛ لأن العجم لم يكونوا أسلموا يومئذ، فلذلك لعنهم، ومنع العرب أن يتعرضوا بما لا يعرفون ولم يألفوه. وتجوز المسابقة على الرمي بالمزاريق؛ لأن لها نصلًا، ويقاتل بها، فهي كالسهام، وهل تصح المسابقة بالرمح والسيف والعمود؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تجوز، وبه قال أحمد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أو نصل» ؛ لأنه لا يرمى بها، فلا معنى للمسابقة بها. والثاني: تجوز، وقد قال الشافعي في (الأم) [4/148] : (بكل ما ينكي العدو، من سيف، أو رمح، أو مزراق) ، ولأنه سلاح يقاتل به، فهو كالنشاب. وهل تجوز المسابقة على رمي الأحجار عن المقلاع بعوض؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) : أحدهما ـ ولم يذكر ابن الصباغ غيره ـ: أنه لا يصح؛ لأنه ليس بآلة للحرب. والثاني ـ ولم يذكر في (المهذب) غيره ـ: أنه يصح؛ لأنه آلة للحرب، فهو كالنشاب.

فرع: المسابقة على غير آلة الحرب

[فرع: المسابقة على غير آلة الحرب] وأما المسابقة على ما ليس آلة للحرب، كضرب كرة الصولجان، ورفع الأحجار، واللعب بالخاتم، وما أشبه ذلك.. فلا يصح بعوض؛ لأنه لا منفعة في ذلك للحرب. [مسألة: ما جاز أن يدفع له من أفراد جاز البذل له من بيت المال] ] : كل موضع قلنا: تجوز المسابقة بعوض، فيجوز أن يبذله السلطان من بيت المال، أو من مال نفسه؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بين الخيل، وجعل بينها سبقًا» ، ولأن في ذلك حثًا على تعلم الفروسية والرمي ليتقووا به على الجهاد، ويقع فيه الصلاح للمسلمين.

ويجوز أن يكون العوض من رجل من الرعية. وقال مالك: (لا يجوز ذلك لغير الإمام) . دليلنا: أنه بذل مال لمصلحة، فصح من غير الإمام، كوقف الخيل في سبيل الله. ويجوز أن يكون السبق من أحدهما، بأن يقول: سبقتك عشرة، فإن سبقتني.. فهي لك، وإن سبقتك.. فلا شيء لك علي ولا شيء لي عليك. وقال مالك: (لا يجوز) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بحزبين من الأنصار يتناضلون وقد سبق أحدهما الآخر، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ارموا، وأنا مع الحزب الذي فيه ابن الأدرع ". فكف القوم أيديهم وقسيهم، وقالوا: يا رسول الله صلى الله عليك، غلب من كنت معه. فقال: ارموا، وأنا معكم جميعًا» ويجوز أن يكون السبق بينهما بشرط أن يدخلا معهما محللا على فرس مماثل لفرسيهما، فإن سبقهما.. أحرز السبقين، وإن سبقاه.. فلا شيء له. وإن أخرج كل واحد منهما مالًا، ولم يدخلا بينهما محللا.. لم يصح. وقال مالك: (لا يصح أن يكون المال منهما، سواء كان بينهما محلل أو لم يكن) . وحكاه الطبري، وابن الصباغ، عن ابن خيران. ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق.. فليس بقمار، ومن أدخل فرسًا بين فرسين وقد أمن أن يسبق.. فهو قمار» .

فرع: صحة العقد بعوض معلوم حالا أو مؤجلا

ومعنى قوله: «وقد أمن أن يسبق.. فهو قمار» أراد: إذا كان فرس المحلل بطيئًا لا يرجى له السبق.. فإن ذلك لا يجوز؛ لأن وجوده كعدمه. ومعنى قوله: «وإن لم يأمن أن يسبق.. فليس بقمار» أراد: إذا كان مكافئًا لهما؛ لأن المكافئ يرجى له السبق. [فرع: صحة العقد بعوض معلوم حالا أو مؤجلًا] ولا يصح العقد إلا أن يكون العوض معلومًا، إما معينا، أو في الذمة، وإذا كان في الذمة.. جاز أن يكون حالا ومؤجلًا، كما قلنا في الثمن والإجارة. وإن قال أحدهما لصاحبه: سبقتك عشرة، فإن سبقتني فهي لك على أن لا أسابق، أو على أن لا أرمي أبدًا.. كان باطلا؛ لأنه شرط ترك ما هو مندوب إليه. وإن قال: سبقتك عشرة، فإن سبقتني أخذتها وتعطيني قفيز حنطة.. قال الشافعي في " الأم " [4/148] : (لم يصح؛ لأن العقد يقتضي أن لا يكون على السابق شيء، وإنما يكون على المسبوق) . [فرع: عمل مخرج العطاء كالجعل] إذا كان المخرج للسبق هو السلطان، أو رجل من الرعية، أو أحد المتسابقين.. فهو كالجعالة. وإن كان المال من المتسابقين وبينهما محلل.. ففيه قولان:

فرع: جعل المخرج لمن سبق

أحدهما: أنه لازم، كالإجارة، لأنه عقد يشترط أن يكون العوض فيه والمعوض معلومين، فكان لازمًا، كالإجارة. والثاني: أنه غير لازم، كالجعالة؛ لأنه عقد بذل العوض فيه على ما لا يتقين حصوله، فلم يكن لازمًا، كالقراض. والأول أصح. فإذا قلنا: إنه كالإجارة.. كان الحكم في الرهن والضمان فيه حكم الإجارة. وإن قلنا: إنه كالجعالة.. فحكم الرهن والضمان فيه حكم مال الجعالة، وقد مضى. وأما الزيادة والنقصان في المال أو في السبق أو في الرمي: فإن قلنا: إنه كالإجارة.. لم يجز إلا أن يفسخا الأول، ثم يعقد ثانيًا. وإن قلنا: إنه كالجعالة، فإن اتفقا على الزيادة أو النقصان جاز، وإن طلب أحدهما ذلك، فإن كانا متساويين في السبق، أو في عدد الرمي والإصابة.. كان له ذلك، وقيل للآخر: إن رضيت بما طلب صاحبك، وإلا.. فافسخ العقد. وإن كانا غير متساويين: فإن كان الذي يطلب الزيادة أو النقصان هو الذي له الفضل.. جاز؛ لأنه لا ضرر على الآخر بذلك. وإن كان الذي يطلب الزيادة أو النقصان هو المفضول.. ففيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه عقد غير لازم. والثاني: لا يجوز؛ لأنه لو قلنا: يجوز.. لأفضى إلى أن لا يسبق أحد أحدًا بحال. [فرع: جعل المخرج لمن سبق] وإن كان المخرج للسبق هو السلطان أو رجل من الرعية.. نظرت: فإن جعله فيما بينهم، بأن قال: من سبق منكم إلى الغاية.. فله عشرة، فإن

كانا اثنين، وسبق أحدهما إلى الغاية.. استحق العشرة، وإن كانوا ثلاثة، فجاء اثنان منهم إلى الغاية جميعًا.. استحقا العشرة، كما لو قال: من رد عبدي.. فله دينار، فرده اثنان، وإن جاءوا جميعًا إلى الغاية في حالة واحدة.. لم يستحق واحد منهم شيئًا؛ لأنه لم يسبق بعضهم بعضًا. وهكذا لو قال: من سبق منكم إلى الغاية.. فله عشرة، ومن صلى.. فله عشرة، وكان المتسابقون أكثر من اثنين.. صح؛ لأن كل واحد منهم يجتهد أن يكون سابقًا أو مصليًا. فمن سبق منهم إلى الغاية.. استحق العشرة، ومن صلى استحق العشرة أيضًا. ولا شيء لمن بعد المصلي. والمصلي: هو الثاني؛ لأن رأس فرس الثاني يكون عند صلا فرس الأول، فلهذا سمي مصليًا. قال الشاعر: إن تبتدر غاية يومًا لمكرمة ... تلق السوابق منا والمصلينا وإن جعل السبق لجميعهم، فإن لم يفاضل بينهم، بأن كانا اثنين، فقال: من سبق منكما فله عشرة، ومن صلى فله عشرة.. لم يصح؛ لأنه لا فائدة فيه؛ لأن كل واحد منهما يعلم أنه يستحق، سواء كان سابقا أو مسبوقًا فلا يجتهد.

وإن فاضل بينهما، بأن قال: من سبق منكما فله عشرة، ومن صلى فله خمسة.. ففيه قولان: أحدهما: لا يصح؛ لأن كل واحد منهما يعلم أنه يستحق عوضًا، سواء كان سابقًا أو مسبوقًا، فلا يجتهد في الركض. والثاني: يصح. قال ابن الصباغ: وهو الأصح؛ لأن كل واحد منهما يجتهد في الركض ليأخذ الأكثر. فرع: [المخرج للسبق أحدهما] : وإن كان المخرج للسبق أحد المتسابقين، فإن سبق المخرج.. أحرز سبقه، ولا يستحق الآخر شيئًا؛ لأنه لم يسبق، وإن سبق غير المخرج.. أخذ سبق المخرج. وإن أخرج كل واحد من المتسابقين سبقًا، وأدخلا بينهما محللا.. نظرت: فإن جاء الثلاثة إلى الغاية معًا، أو جاء المخرجان إلى الغاية في حالة واحدة وجاء المحلل بعدهما.. لم يستحق المحلل شيئًا؛ لأنه لم يسبقهما، ويحرز كل واحد من المخرجين سبقه؛ لأن أحدهما لم يسبق صاحبه. وإن سبقهما المحلل إلى الغاية، ثم جاء المخرجان بعده معًا.. أخذ المحلل سبقيهما، لأنه سبقهما. وإن سبق أحد المخرجين، ثم جاء المحلل والمخرج الثاني معًا.. أحرز السابق سبق نفسه. وفي سبق المسبوق وجهان: [الأول] : قال أبو علي بن خيران: لا يأخذه السابق ولا المحلل؛ لأنا لو قلنا: يأخذه السابق.. لكان هناك من يغرم مرة، ويغنم أخرى، وهذا قمار. و [الثاني] : المنصوص للشافعي: (أنه يأخذه السابق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق.. فهو قمار، وإن لم يأمن أن يسبق.. فليس بقمار» ، ولأن المحلل يغنم ولا يغرم) . وبهذا خرجا من القمار. وعبر بعض أصحابنا عن هذين الوجهين، فقال: هل دخول المحلل لتحليل المال، أو لتحليل العقد؟ فيه وجهان، فإن قلنا: إنه لتحليل العقد لا غير.. لم

مسألة: يشترط اتحاد جنس المركوب

يستحق المخرج سبق صاحبه، وإن قلنا: إنه لتحليل المال.. استحقه. وإن سبق أحد المخرجين، ثم جاء المحلل بعده، ثم المخرج الآخر.. فإن المخرج السابق يحوز سبق نفسه، وفي سبق المسبوق أربعة أوجه، حكاها الطبري: أحدها ـ وهو المنصوص ـ: (أنه للسابق المخرج) . والثاني: أنه للمحلل؛ لأنه سبقه. والثالث: أنه لا يستحقه السابق المخرج ولا المحلل، وهو إذا قلنا: إن المحلل دخل لتحليل العقد. والرابع: أنه بين السابق المخرج والمحلل؛ لأنهما سبقاه. وإن جاء أحد المخرجين والمحلل معا إلى الغاية، وتأخر المخرج الآخر عنهما.. فإن المخرج السابق يحرز سبق نفسه، وفي سبق المسبوق وجهان: [الأول] : المنصوص (أنه للسابق والمحلل) . و [الثاني] : قال أبو علي بن خيران: يكون جميعه للمحلل. وإن جاء المحلل أولا، ثم صلى بعده أحد المخرجين، ثم فسكل المخرج الثاني.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الطبري: أحدها ـ وهو المنصوص ـ: (أن سبقي المخرجين للمحلل؛ لأنه سبقهما) . والثاني: أن سبق المصلي للمحلل، وسبق الفسكل بين المحلل والمصلي. والثالث: أن سبق المصلي للمحلل، وسبق الفسكل للمصلي. والأول أصح. [مسألة: يشترط اتحاد جنس المركوب] وهل تصح المسابقة على مركوبين من جنسين؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا يصح أن يسابق بين الخيل والإبل، ولا بين البغال والحمير؛

مسألة: معرفة المسافة التي يسابق عليها

لأن فضل أحد الجنسين على الآخر معلوم. فعلى هذا: يجوز أن يسابق بين نوعين من جنس، كالهجين والعتيق من الخيل، والبخاتي والعراب من الإبل. وقال أبو إسحاق: يجوز أن يسابق بين جنسين إذا تقاربا في الجري، كالخيل والنجب، والخيل والبغال، والبغال والحمير؛ لأن المقصود معرفة جودة المركوب، فإذا علم تقاربهما في الجري.. جازت المسابقة عليهما، كما لو كانا من جنس واحد. فعلى هذا: لو سابق بين فرسين يعلم أن أحدهما يسبق الآخر.. لم يصح؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبقهما.. فهو قمار» . فرع: [المسابقة على مركوبين معينين] : ولا يصح عقد المسابقة إلا على مركوبين معينين؛ لأن المقصود معرفة جودتهما. وذلك لا يحصل إلا بتعيينهما. [مسألة: معرفة المسافة التي يسابق عليها] شرط] : ولا يصح عقد المسابقة حتى تكون المسافة التي يستبقان فيها معلومة الابتداء والانتهاء؛ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء

مسألة: مكان الانطلاق واحد

إلى ثنية الوداع، وبين ما لم يضمر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق» . و (الخيل المضمرة) : هي التي تسقى اللبن، وتعلف المنعقد من العلف، وتجري في طرفي النهار، فإذا نزل الفارس عن الفرس وهو عرق.. أزال ذلك العرق، وتجلل بالأجلة، يفعل ذلك أربعين يومًا، فيشتد لحم الفرس وعصبه، ويكثر جريه. ولأن بعض الخيل قد يكون مقصرًا في ابتداء عدوه، سريعًا في انتهائه، وبعضها بضد ذلك. ولا بد من بيان غاية معلومة الابتداء والانتهاء ليجمع لفرسه حاليه، فيظهر جودته، فإن شرط السبق في بعض الطريق إلى الغاية.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) : أحدهما: يصح؛ لأنه قد يسبق في بعض الطريق، فصار كالغاية. والثاني: لا يصح؛ لأن الفرس قد يسبق في أول الطريق، ثم يسبق في آخرها، فكان الاعتبار بالغاية المشروطة. [مسألة: مكان الانطلاق واحد] ويطلق المركوبان في مكان واحد؛ لأن المقصود معرفة جودة المركوبين في السبق، ولا يعلم إلا بذلك، فإن كان بينهما محلل وتنازعا في مكانه.. جعل بينهما؛ لأنه أعدل، وإن اختلفا في اليمين واليسار.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، ولا يجلب وراء الفرس بشيء؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أجلب

على الخيل يوم الرهان.. فليس منا» . و (الجلب) : هو أن يضرب بعد الفرس بشيء يابس أو غيره مما يفزع منه الفرس، فيسرع في الجري لذلك. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا جلب ولا جنب» . فأما (الجلب) : فله تأويلان: أحدهما: الجلب وراء الفرس في المسابقة على ما ذكرناه و [الثاني] : قيل: بل هو في الصدقة، وهو أن يقدم المصدق بلدًا، فينزل في موضع، ثم يرسل إلى أهل المواشي ليجلبوا مواشيهم إليه. وأما (الجنب) : فهو في خيل السباق أيضًا، وهو أن يجنب الرجل خلف فرسه

مسألة: تقييد السبق بأقدام

الذي سابق عليه فرسًا آخر، فإذا بلغ قريبًا من الغاية.. نزل عن الذي هو راكب عليه، وركب الآخر فيسبق؛ لأنه أقل كلالا من الأول. [مسألة: تقييد السبق بأقدام] وإذا تسابقا واشترطا في السبق أن يسبق أحدهما الآخر بخمسة أقدام وما أشبهه.. فقد قال أبو علي الطبري في (الإفصاح) : يجوز ذلك؛ لأنهما يتحاطان فيما استويا فيه، وينفرد أحدهما بالأقدام المشروطة، فصح، كما قلنا في الرمي. وحكى فيه وجها آخر: أنه لا يصح. وليس بشيء. فإذا قلنا بالأول.. لم نحكم للسابق بالسبق حتى يسبق بما شرطا، وإن لم يشرطا شيئًا.. قال الشافعي: (فالسبق: أن يسبق أحدهما صاحبه، وأقل السبق بالهادي أو ببعضه، أو بالكتد أو ببعضه) . قال أصحابنا: إن كان المركوبان متساويين في (الهادي) ـ وهو: العنق ـ اعتبر السبق أن يسبق أحدهما الآخر ببعض العنق أو ببعض الكتد، و (الكتد) : الكاهل: وهو العالي بين أصل العنق والظهر ـ وهو مجتمع الكتفين ـ وهو من الخيل مكان السنام من الإبل. وإن كانا مختلفين في العنق، بأن كان طول عنق أحدهما ذراعا وشبرًا، وطول عنق الآخر ذراعًا لا غير.. فإن سبق صاحب العنق القصير ببعض عنقه أو ببعض كتده. حكم له بالسبق، وإن سبق صاحب العنق الطويل بقدر شبر.. لم يحكم له بالسبق؛ لأن ذلك قدر زيادة الخلقة، وإن سبق بأكثر من شبر من عنقه.. حكم له بالسبق؛ لأنه سبق بذلك، فإن سبق صاحب العنق الطويل بأكثر من زيادة الخلقة من عنقه، وسبق الآخر ببعض كتده.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) :

أحدهما: أن السابق هو المتقدم بعنقه؛ لأن سبق الخيل هو هكذا. والثاني: أن السابق هو المتقدم ببعض كتده؛ لأن القصد من وصول العنق وصول البدن، ومن سبق ببعض كتده.. فقد وصل ببدنه، فكان أولى. فإن قيل: فلم قال الشافعي: (أقل السبق أن يسبق بالهادي أو ببعضه، أو بالكتد أو ببعضه) ، ونحن نعلم أن من سبق بأحدهما.. فقد سبق الآخر؟ فأجاب أصحابنا عن هذا بأجوبة: فمنهم من قال: أراد إذا تساوى المركوبان بالعنق، اعتبر السبق بالعنق. وإن اختلفا في طول العنق.. اعتبر السبق بالكتد؛ لأنه لا يختلف. ومنهم من قال: أراد: إذا كانت المسابقة بين الخيل والإبل.. فيكون الاعتبار بالتقدم ببعض الكتد؛ لأن من عادة الخيل أن تمد أعناقها إذا عدت، ومن عادة الإبل أن ترفع أعناقها. ومنهم من قال: أراد بذلك: بالمسابقة في الخيل؛ لأن منها ما يمد أعناقها إذا عدت، ومنها ما يرفع أعناقها، فلا يعتبر السابق منهما بالعنق، وإنما يعتبر بالكتد. هذا مذهبنا. وقال الثوري: إذا سبق أحد الفرسين صاحبه بأذنه.. حكم له بالسبق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بعثت أنا والساعة كفرسي رهان، كاد أن يسبق أحدهما الآخر بأذنه» .

فرع: توقف أحد الفرسين

ودليلنا: أن الاعتبار: هو السبق بسرعة العدو، وقد يكون أحدهما أسرع، وأذن الآخر أسبق؛ بأن يرفع السريع رأسه قليلًا، والآخر يمد عنقه، فيسبق بأذنه. وأما الخبر: فالمقصود به ضرب المثل، وقد يضرب المثل بما لا يكاد يوجد، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة.. بنى الله له بيتا في الجنة» . ولا يمكن ذلك، أو نحمله على الفرسين إذا تساويا في طول العنق ومدها. [فرع: توقف أحد الفرسين] فإن عثر أحد المركوبين أو وقف لعلة، فسبقه الآخر.. لم يحكم له بالسبق؛ لأنه سبقه لعلة طارئة لا بجودة جريه.

مسألة: أقل المناضلة يكون بين اثنين

وإن مات أحد المركوبين قبل بلوغ الغاية.. بطل العقد؛ لأن العقد تعلق بعينه وقد فات. وإن مات الراكب، فإن قلنا: إنه كالجعالة.. بطل العقد، وإن قلنا: إنه كالإجارة.. لم يبطل، وقام وارثه مقامه. [مسألة: أقل المناضلة يكون بين اثنين] وإن كان العقد على الرمي.. لم يجز بأقل من نفسين؛ لأن المقصود معرفة حذق الراميين وذلك لا يبين بأقل من اثنين. فإن قال رجل لرجل: ارم عشرين سهمًا، فإن كان صوابك فيها أكثر من خطئك فلك علي كذا.. فنقل المزني: (أنه لا يجوز) . واختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: إذا قال: ارم عشرين سهماُ، فإن كان صوابك فيها أكثر من خطئك فلك علي كذا.. صح ذلك فإن كان صوابه أحد عشر من عشرين.. استحق المسمى، ويكون ذلك جعالة؛ لأنه شرط له عوضا بما له فيه غرض صحيح، ولا يكون نضالا. فأما ما نقله المزني.. فله تأويلان: أحدهما: أنه أراد به: إذا قال له: ناضل نفسك، فإن كان صوابك أكثر فلك كذا.. فلا يصح؛ لأنه لا يناضل نفسه. والتأويل الثاني: أن يقول: فإن كان صوابك أكثر فقد نضلتني.. فلا يصح أيضا؛ لأنه لا يجوز أن ينضله إذا لم يرم معه. ومن أصحابنا من قال مثل ما نقله المزني، وأنه لا يصح، واختلفوا في تعليله: فمنهم من قال: إنما لم يجز؛ لأنه جعل له الجعالة على العشرين، ومنها صواب ومنها خطأ، والخطأ لا تجوز له جعالة.

مسألة: جواز الجعل من السلطان وغيره

وقال أبو جعفر الأستراباذي: إنما لم يجز؛ لأنه جعل له عوض على الإصابة وهي مجهولة، فلو قال: إن أصبت من العشرين عشرة أو اثني عشر.. صح ذلك، واستحق المسمى بإصابة المشروط. والوجه الأول أصح: وقد نص الشافعي على ذلك في " الأم "، فقال: (ولو قال: ناضل نفسك) فأخل المزني بذلك. وقول من قال: فقد نضلتني، خلاف ما قال الشافعي. وقول من قال: إنه جعل الجعالة في مقابلة الخطأ والصواب، فليس بصحيح؛ لأنه إنما جعله في مقابلة إصابة الأكثر دون الجميع. وقول الأستراباذي ليس بصحيح؛ لأن أكثر العشرين أحد عشر. فرع: [لا يناضل واحد عن اثنين] فلو قال لرجل: ارم عن نفسك عشرة أسهم وعني عشرة أسهم، فمن كانت الإصابة في عدده أكثر فهو الناضل.. لم يصح؛ لأنه يجتهد في نوبة نفسه دون نوبة صاحبه. [مسألة: جواز الجعل من السلطان وغيره] ] : وأما إخراج المال في المناضلة في الرمي.. فعلى ما ذكرناه في إخراجه بالمسابقة: يجوز أن يكون من السلطان، أو من رجل من الرعية، أو من أحد المتناضلين، أو منهما وبينهما محلل مكافئ لهما. قال الطبري: فإن تناضل رجلان، وكان المال من أحدهما، فجاء رجل إلى المخرج، وقال: أن شريكك فيما بذلت، فإن نضل صاحبك غرمت معك، وإن نضلته أخذت منك نصف ما بذلته.. لم يجز. وهكذا: لو أخرجا المال وأدخلًا بينهما محللًا، فجاء رجل إلى أحدهما أو إليهما، فقال: أنا شريككما في ذلك ولا أرمي،

فرع: النضال بين الماهر والمخطئ

فإن نضلكما المحلل غرمت معكما نصف ما أخرجتما، وإن نضلتماه أخذت منكما النصف.. لم يجز؛ لأن الذي يغنم ويغرم في عقد النضال من يرمي، وهذا لا يرمى. [فرع: النضال بين الماهر والمخطئ] فإن كان أحد المتناضلين كثير الإصابة والآخر كثير الخطأ.. فهل يصح عقد النضال بينهما؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن فضل أحدهما على الآخر معلوم. والثاني: يصح؛ لأن المناضلة تبعثه على الاجتهاد في الرمي. [مسألة: مناضلة مختلفي آلة الرمي] قال الشافعي: (ولا بأس أن يناضل أهل النشاب أهل العربية) . وجملة ذلك: أنهما إذا عقدا عقد النضال وأطلقا، ولم يذكرا قوسًا عربية ولا قوسًا عجمية، فإن كان في البلد نوع متعارف من القسي، إما العربية، أو العجمية.. صح العقد، وحملًا على ذلك النوع، كما قلنا فيمن باع بنقد مطلق ببلد فيه نقد غالب. وإن لم يكن فيه نوع متعارف.. فذكر الشيخ أبو حامد: أنه يصح، ويستويان في القوس، إما العربية، وإما العجمية. وقال أبو العباس بن القاص: لا بد من بيان القوس التي يرميان عنها في الابتداء؛ لأنه قد يكون أحدهما أحذق في أحد النوعين دون الآخر. قال ابن الصباغ: وهذا أصح. وإن اتفقا على أن يرمي أحدهما بالعربية والآخر بالعجمية.. جاز؛ لأن النوعين من جنس واحد يتقاربان، فإن أراد أحدهما أن ينتقل من النوع الذي عينه إلى النوع الآخر.. لم يلزم الآخر إجابته إلى ذلك؛ لأن الأغراض تختلف؛ لأنه قد يكون رميه بأحدهما أجود من رميه بالنوع الآخر، وإن عين قوسًا من نوع، وأراد أن ينتقل إلى قوس آخر من ذلك النوع.. جاز؛ لأن المقصود معرفة حذق الرامي، وحذقه

مسألة: شروط عقد المناضلة

لا يختلف فيما بين القوسين من نوع واحد اختلافًا متباينًا فإن شرطا في العقد على أنه لا ينتقل من ذلك القوس إلى قوس أخرى من ذلك النوع.. فهل يصح؟ فيه ثلاثة أوجه، كما قلنا فيمن اكترى دابة ليركبها في طريق ولا يركبها مثله، ولا في مثل تلك الطريق. وإن عقدا النضال على الرمي بجنسين، بأن يرمي أحدهما بالنبل، والآخر بالحراب.. لم يصح؛ لأن فضل أحدهما على الآخر لا يعلم بذلك. [مسألة: شروط عقد المناضلة] ولا يصح عقد النضال على الرمي إلا بشروط: أحدها: أن يكون عدد الرشق معلومًا، وهو عدد ما يرميان من السهام؛ لأنهما إذا لم يذكرا عددًا محدودًا.. لم يعلم متى ينتهي الرمي، ولا يظهر فضل أحدهما على الآخر. و (الرشق) ـ بكسر الراء ـ: هو عدد الرمي، ويسمى: الوجه، واليد، والدست. وأما (الرشق) ـ بفتح الراء ـ: فهو عبارة عن الرمي نفسه، يقول: رشقت رشقًا، أي: رميت رميًا. الشرط الثاني: أن يكون عدد الإصابة من الرشق معلومًا؛ ليعلم تفاضلهما، فإن شرطا أن يصيب عشرة من عشرة أو تسعة من عشرة.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه قد يصيب ذلك، فهو كما لو شرط إصابة ثمانية من عشرة. والثاني: لا يصح؛ لأن ذلك يندر، فلا يحصل المقصود. الشرط الثالث: أن تكون المسافة التي بين الرامي وبين الغرض معلومة؛ لأن الإصابة تختلف بالقرب من الغرض والبعد منه، فإن كان هناك غرض معلوم المدى.. قال الشيخ أبو إسحاق: صح إطلاق العقد، ويحمل عليه، كما قلنا في البيع بنقد مطلق ببلد فيه نقد غالب.

ولا يجوز أن تكون المسافة مما لا يصيب مثلهما في مثلها غالبًا، وإنما يجوز في المسافة التي يصيب مثلهما في مثلها غالبًا، وهل يجوز في المسافة التي يصيب مثلهما في مثلها نادرًا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن إصابتهما في ذلك تندر، فلا يحصل المقصود. والثاني: يجوز؛ لأن ذلك يبعثهما على الاجتهاد في الرمي. وقدر أصحابنا ما يصاب في مثله بمائتين وخمسين ذراعًا؛ لما روي عن بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قيل له: كيف تقاتلون العدو؟ فقال: (إذا كانوا على مائتين وخمسين ذراعًا.. قاتلناهم بالنبل، وإذا كانوا على أقل من ذلك.. قاتلناهم بالرماح، وإذا كانوا على أقل من ذلك.. قاتلناهم بالسيوف) . وما لا يصاب في مثله ما زاد على ثلاثمائة وخمسين ذراعًا، وقيل: (إنه ما رمى إلى أربعمائة إلا عقبة بن عامر الجهني) . وفيما بين مائتين وخمسين إلى ثلاثمائة وخمسين وجهان: أحدهما: يجوز العقد عليه، وهو ظاهر النص؛ لأن الإصابة معتادة فيه.

والثاني: لا يجوز؛ لأن الإصابة فيه لا توجد غالبًا. وإن تناضلا على أن يكون السابق من بعد وقوع سهمه من غير تحديد الغاية.. فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، كما لا يجوز السباق إلى غير غاية محدودة. والثاني: يجوز؛ لأن الإبعاد في الرمي مقصود، كالإصابة، فصح العقد عليه. الشرط الرابع: أن يكون قدر الغرض معلومًا، إما بالمشاهدة، أو بالصفة، وأنه شبر أو أكثر أو أقل؛ لأن الحاذق يصيب الصغير والكبير، وغير الحاذق لا يصيب الصغير. قال أصحابنا: و (الغرض) : هو ما ينصب في الهدف، وهو التراب المجموع، أو البناء المرتفع من رق أو شن أو قرطاس. و (الشن) : الجلد البالي الذي ينصب. وقال الأزهري: (القرطاس) : ما ينصب في الهدف. و (الغرض) : ما ينصب في الهواء. والمستحب: أن يكون الرمي بين غرضين، وقد روي ذلك عن ابن عمر وأنس؛ لأنه أبعد من التنافر. الشرط الخامس ـ ذكره الشيخ أبو إسحاق ـ: أن يكون موضع الإصابة معلومًا، بأن يشرطا أن يصيبا الهدف أو البناء أو الغرض أو الدارة التي في الغرض، أو الخاتم التي في الدارة؛ لأن الغرض يختلف بذلك. قال: فإن أطلقا.. حمل على إصابة الغرض؛ لأن المتعارف في الرمي إصابة الغرض، فحمل الإطلاق عليه. الشرط السادس: أن تكون صفة الإصابة معلومة. قال المحاملي: وقد ذكر الشافعي في صفة الإصابة أربعة أوصاف، بأن يقول:

حوابي، أو خواصر، أو خوازق، أو خواسق. قال ابن الصباغ: أو خواصل. فأما (الحوابي) : فقال المحاملي، والطبري: هو أن يمر السهم مع الأرض، فيصيب الغرض. وقال ابن الصباغ: هو أن يقع السهم بين يدي الغرض، ثم يحبو إليه، ومنه يقال: حبا الصبي. وأما (الخواصر) : قال المحاملي: فهو السهم الذي يصيب الغرض ولا يؤثر فيه، وسماه في " المهذب " [1/424] : القرع. وقال ابن الصباغ: الخواصر: ما كان في جانبي الغرض، ومنه قيل: الخاصرة؛ لأنها من جانبي الإنسان. وما قال المحاملي أقيس؛ لأنه تفسير لصفة الإصابة. وما قاله ابن الصباغ تفسير لموضع الإصابة، وإن كان صحيحًا في اللغة. وأما (الخوازق) : فهي ما أصاب الغرض، وخدش فيه، وسقط عنه، ولم يثبت فيه. وأما (الخواسق) : فهي ما أصاب الغرض، وخدش فيه، وثبت. وأما (الخواصل) : فحكى ابن الصباغ عن الأزهري: أنه قال: هي ما أصاب القرطاس، يقال: خصلت مناضلي أخصله خصلًا. قال ابن الصباغ: وللإصابة أسماء غير هذه، وليست من شرائط المناضلة، وهي: (المارق) : وهو السهم الذي ينفذ في الغرض، ويقع من الجانب الآخر، ويسمى: الصارد.

فرع: شرط المحاطة والمبادرة

و (الخارم) : وهو السهم الذي يصيب الغرض ويقطعه، ويخرج طرفه من الجانب الآخر لا غير. و (المزدلف) : وهو السهم الذي يقع على الأرض دون الغرض، ويثب إليه. وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن المرق والخرم كالخزق والخسق في وجوب بيانه في الإصابة. [فرع: شرط المحاطة والمبادرة] وهل يشترط في صحة عقد المناضلة أن يذكر أن الرمي محاطة أو مبادرة؟ فيه وجهان، هكذا قال عامة أصحابنا، وأضاف صاحب " المهذب " [1/424] الحوابي إلى ذلك: أحدهما: أن ذكر ذلك شرط، فإن لم يذكر.. بطل العقد؛ لأن غرض الرماة يختلف، فإن منهم من تكثر إصابته في ابتداء الرمي، ومنهم من تكثر إصابته في الانتهاء. والثاني: أن ذلك ليس بشرط؛ لأن مقتضى المناضلة المبادرة.. فصح العقد مع الإطلاق، ويحمل على المبادرة؛ لأنه مقتضى العقد. إذا ثبت هذا: (فالمحاطة) : أن يتفقا على أن يحطا ما يتساويان فيه من الإصابة، ويفضل لأحدهما إصابة معلومة. وأما (المبادرة) : فأن يشترطا إصابة معلومة من الرشق، وأن من بدر إليها منهما كان ناضلًا. وحكى ابن الصباغ: أن أبا يعقوب البويطي قال: قيل في المبادرة: هو أن يفرقا جميعًا سهميهما، وأيهما وقع سهمه أولًا.. بدر بالسبق. والأول هو الصحيح.

فرع: شرط من يبدأ الرمي

[فرع: شرط من يبدأ الرمي] وهل من شرط صحة عقد المناضلة أن يذكرا عند العقد من يبدأ بالرمي؟ فيه وجهان، وحكاهما ابن القاص قولين: أحدهما: لا يصح العقد حتى يذكر ذلك، وهو ظاهر النص؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر بالبداية، وإذا قدمنا أحدهما بالقرعة.. انكسر قلب الآخر، وفسد رميه. والثاني: يصح العقد؛ لأن ذلك من توابع العقد. قال المحاملي: فعلى هذا: إن كان السبق منهما.. أقرع بينهما، وإن كان السبق من أحدهما.. كانت البداية له. وإن كان المال من أجنبي.. كان للمخرج أن يجعل البداية لأحدهما. وقال في " المهذب ": فيه وجهان: أحدهما: إن كان المال من أحدهما.. قدم، وإن كان منهما.. أقرع بينهما. والثاني: يقرع بينهما بكل حال. وإن كان الرمي بين غرضين، فبدأ أحدهما من أحد الغرضين.. بدأ الثاني من الغرض الثاني؛ لأن ذلك أعدل. وإن كانت البداية لأحدهما، فبدأ الآخر ورمى.. لم يعتد له إن أصاب ولا عليه إن أخطأ؛ لأنه رمى من غير عقد. [فرع: موقف الرامي] قال الشافعي: (وللمبتدئ أن يقف في أي مقام شاء، ثم للآخر أن يقف من الغرض الآخر أي مقام شاء) . وجملة ذلك: أنه إذا كان الرمي بين غرضين: فاختلفا: فقال أحدهما: يقف عن يمين الغرض، وقال الآخر: بل يقف عن يساره.. فإن الخيار في ذلك إلى من يبدأ

فرع: يقبل القول في استدبار الشمس

بالرمي؛ لأنه لا مزية بالبداية، فكان له الاختيار في المكان. فإذا صار إلى الغرض الثاني.. كانت البداية بالرمي والاختيار في الوقوف في المكان إلى الثاني. فإن كان النضال من ثلاثة، فبدأ أحدهم.. اقترع الآخران، فمن خرجت له القرعة.. رمى بعد الأول، وكان له الخيار في المكان. [فرع: يقبل القول في استدبار الشمس] قال في " الأم ": (فإن طلب أحدهما أن يكونا مستقبلين الشمس في حال الرمي، وطلب الآخر استدبارها.. أجيب من طلب استدبارها؛ لأن العرف هكذا، فحمل الإطلاق عليه) . فإن شرطا في العقد أن يرميا مستقبلين للشمس.. قال الشافعي: (حملا على ذلك، كما لو شرطا الرمي ليلًا) . [مسألة: يرمي الأول ثم الثاني سهمًا سهمًا على ما اتفقا] قال الشافعي: (ويرمي البادئ السهم حتى ينفذا نبلهما) . وجملة ذلك: إن إطلاق المناضلة تنصرف إلى المراسلة، وهو أن يرمي أحدهما سهمًا، ثم يرمي الآخر سهمًا، إلى أن يستكملا عدد رشقهما؛ لأن ذلك هو المتعارف في الرمي، ولأن الآخر يصلح قوسه إلى أن يرمي الآخر، فكان ذلك أولى. فإن شرطا أن يرمي أحدهما خمسة أسهم، ثم يرمي الآخر خمسة، أو يرمي أحدهما جميع رشقه، ثم يرمي الآخر جميع رشقه.. حملا على ذلك؛ لأنه لا يؤثر في مقصود المناضلة. فإن عقد النضال على أرشاق كثيرة، فإن شرطا أن يرميا كل يوم أرشاقًا منها معلومة.. جاز، وحملا عليه، وإن أطلقا ذلك.. جاز، وحملا على التعجيل، فيرميان من أول النهار إلى آخره، إلا أن يعرض عذر من مرض، أو ريح تشوش السهام، أو مطر؛ لأنه يرخي الوتر، ويفسد الريش. وكذلك: إن عرضت الحاجة إلى الطعام والشراب، أو قضاء حاجة الإنسان من غائط أو بول، لهما أو لأحدهما.. قطع الرمي لذلك.

مسألة: اتحادهما في عدد الرميات

وإذا جن الليل.. قطعا الرمي؛ لأن العادة ترك الرمي بالليل، إلا أن يكونا قد شرطا الرمي بالليل، فإنهما يرميان به، فإن كان القمر منيرًا.. كفى، وإن لم يكن منيرًا.. فلا بد أن يكون معهما شمعة أو ما أشبهها؛ ليتمكنا من الإصابة. [مسألة: اتحادهما في عدد الرميات] ولا يجوز أن يتفاضلا في عدد الرشق، فيكون رشق أحدهما ثلاثين والآخر عشرين، ولا أن يحتسب خسق أحدهما خاسقين، ولا أن تكون الشمس في وجه أحدهما دون الآخر. ولا يجوز أن يختلفا في عدد الإصابة، ولا في موضعها؛ لأن المناضلة إنما تراد ليعرف بها فضل أحدهما على الآخر، فكانت موضوعة على التساوي. فرع: [لا يتفاضلان في عدد النبال] : قال الشافعي: (ولا يجوز أن ينتضل رجلان وفي يد أحدهما من النبل أكثر مما في يد الآخر) . فتأول أصحابنا هذا تأويلين: أحدهما: أنه أراد باليد الرشق، فلا يكون رشق أحدهما أكثر من رشق الآخر، والرشق يسمى: يدًا، ووجهًا، ودستًا. والثاني: أراد به اليد في الحقيقة؛ لأن بعض الرماة قد يرمي وفي يده سهم أو سهمان، فأراد: أنه لا يجوز أن يشترطا أن يكون في يد أحدهما من السهام أكثر مما في يد الآخر؛ لأن من كثرت في يده السهام تشوش رميه. [فرع: الشرط الفاسد في المناضلة يبطلها] ] : وإذا شرطا في المناضلة أو المسابقة شرطًا فاسدًا.. بطل العقد؛ لأنه كالإجارة في أحد القولين، أو كالجعالة في الآخر، وهما يبطلان بالشروط الفاسدة، وهل يستحق الناضل والسابق شيئًا في العقد الفاسد؟ فيه وجهان:

مسألة: الشرط الباطل يبطل النضال

أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه لا يستحق شيئًا؛ لأن عوض المثل إنما يستحق في العقد الفاسد إذا تلفت منفعة العامل في نفع صاحبه، وهاهنا لم يحصل للآخر نفع، فلم يستحق عليه عوض المثل. والثاني: أنه يستحق عوض المثل. وهو الصحيح؛ لأن كل منفعة ضمنت بالمسمى في العقد الصحيح.. ضمنت بعوض المثل في العقد الفاسد، كالقراض. [مسألة: الشرط الباطل يبطل النضال] ولو قال: سبقتك عشرة، على أنك إن نضلتنى أطعمت السبق أصحابك، أو كان المال منهما، وبينهما محلل، وشرطا أن الناضل يطعم السبق أصحابه. فالمنصوص: (أن الشرط باطل، والنضال باطل) . وقال أبو إسحاق: يحتمل قولًا آخر، أن يبطل الشرط، ويصح النضال، كما قال الشافعي ـ فيمن قال: أصدقتك ألفين على أن تعطي أباك ألفا ـ: (إن الشرط باطل، والصداق صحيح) ؛ لأنه شرط عليها ما لا يعود نفعه إليه. وهذا ليس بصحيح؛ لأنه تمليك شرط فيه شرط يمنع كمال التصرف، فإذا بطل الشرط.. بطل العقد، كما لو باعه شيئًا، وشرط على المشتري أن يتصدق بالمبيع، أو كما لو باعه شيئًا، واشترط عليه أن لا يبيعه. إذا ثبت هذا: فإن قلنا: يصح النضال.. كان الناضل بالخيار: بين أن يطعم أصحابه، أو لا يطعمهم، وإذا قلنا: لا يصح النضال.. لم يستحق الناضل المسمى، وهل يستحق عوض المثل؟ على الوجهين في المسألة قبلها. مسألة: [عقد على إصابة خمسة سهام] : فإن عقد النضال على عشرين رشقًا وإصابة خمسة منها مبادرة، فإن أصاب أحدهما خمسة من خمسة، أو من ستة، وأصاب الآخر منها أربعة.. فالذي أصاب خمسة هو الناضل، وسقط رمي ما بقي من الرشق؛ لأن أحدهما قد نضل صاحبه.

وإن رميا عشرة، فأصاب أحدهما ثلاثة، والآخر أربعة، أو استويا في عدد الإصابة.. رميا ما بقي من الرشق؛ لأن كل واحد منهما يرجو أن ينضل صاحبه، فإن رمى المصيب أربعة سهمًا، فأصاب.. لم يرم المصيب ثلاثة ذلك السهم؛ لأنه لا فائدة له في رميه؛ لأن عليه إصابة سهمين، وقد بقي له من الرشق سهم. وإن أصاب كل واحد منهما خمسة من خمسة أو أكثر.. لم ينضل أحدهما صاحبه؛ لأن أحدهما لم يبدر إلى عدد الإصابة، وسقط رمي ما بقي من الرشق؛ لأنهما قد أصابا العدد المشروط في الإصابة. وإن شرطا إصابة خمسة من عشرين رشقًا محاطة، فإن رمى كل واحد منهما عشرة، وأصاب خمسة.. لم ينضل أحدهما صاحبه؛ لأن إصابتهما متساوية، فتسقط إحداهما بالأخرى، ولا يسقط ما بقي من الرشق؛ لأن كل واحد منهما يرجو أن ينضل صاحبه. وإن أصاب أحدهما عشرة أسهم من عشرين رشقًا، [و] أصاب الآخر خمسة من عشرين.. فقد نضل المصيب عشرة؛ لأن خمسة تسقط بخمسة، ويبقى له خمسة، وهو العدد المشروط. وإن رمى كل واحد منهما ستة عشر سهمًا، ولم يصب أحدهما شيئًا، أو أصاب كل واحد منهما سهمًا من سبعة عشر سهمًا، أو سهمين من ثمانية عشر سهمًا.. فالذي يقتضي المذهب: أن يسقط رمي ما بقي من الرشق؛ لأنه لا يرجو أحدهما أن ينضل صاحبه، فلا فائدة في رميه. وإن رمى أحدهما خمسة عشر، فأصابها كلها، وأصاب الآخر خمسة من خمسة عشر، فطلب صاحب الخمسة أن يرمي باقي الرشق.. لم تجب إجابته إلى ذلك؛ لأنه

لا فائدة له في ذلك، لأن أكثر ما فيه أن يصيب صاحب الخمسة الخمسة الباقية له، ويخطئ الآخر فيها، ويبقى لصاحب الخمسة عشر خمسة، فينضله بها. وإن استويا في عدد الرمي، وبدر أحدهما إلى إصابة العدد المشروط قبل إكمال الرشق، فطالبه الآخر بإكمال الرشق، فإن كان يرجو أن ينضله، أو يساويه، أو يمنعه أن ينضله: فأما رجاء أن ينضله: فمثل أن يرمي أحدهما عشرة، فيصيب منها ستة، ويرمي الآخر عشرة، فيصيب منها واحدًا، ويرمي صاحب الواحد العشرة الباقية، فيصيبها كلها، فيكون له أحد عشر، ويخطئ الآخر بالعشرة الباقية، فيسقط ستة بستة، ويفضل للآخر خمسة. وأما المساواة: فبأن يصيب أحدهما عشرة من خمسة عشر، ويصيب الآخر خمسة من خمسة عشر، فربما رمى صاحب الخمسة ما بقي من الرشق، فأصابها كلها، وأخطأ فيها صاحبه، فيكون له عشرة ولصاحبه عشرة. وأما منعه أن ينضله: فبأن يصيب أحدهما أحد عشر من خمسة عشر، ويصيب الآخر سهمين من خمسة عشر، فربما أصاب صاحب السهمين الخمسة الباقية، وأخطأ صاحبه فيها، فيصير معه سبعة، فإذا سقط من أحد عشر ـ وهي إصابة صاحبه ـ سبعة.. بقي له أربعة، وهي دون العدد المشروط في الإصابة. فمتى رجا واحدًا من هذه الأحوال.. فهل له المطالبة برمي باقي الرشق؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له المطالبة بذلك؛ لأن صاحبه قد حصل له العدد المشروط من الإصابة بعد الحط، فلا معنى لإكمال الرشق، كما قلنا في المبادرة. والثاني: أن له المطالبة بذلك؛ لأن له فائدة في ذلك، بخلاف المبادرة، فإنه لا فائدة له في الإصابة بعد استوائهما في العدد المشروط.

فرع: تناضلا على عشرين وإصابة عشرة

[فرع: تناضلا على عشرين وإصابة عشرة] لو تناضلا على رمي عشرين رشقا، وإصابة عشرة منها، فرمى أحدهما، فأصاب سهمين، وأصاب الآخر سهمين، فقال أحدهما للآخر: ارم هذا السهم، فإن أصبت، فقد نضلتني.. لم يجز؛ لأنه لا يكون ناضلًا له إلا أن يتفقا في عدد الرمي، وينضله في الإصابة. فإن تفاسخا عقد المناضلة، ثم قال: إن رميت هذا السهم، فأصبت، فلك كذا.. جاز؛ لأن ذلك جعالة مبتدأة فيما له فيه غرض صحيح، وهو حثه له على الرمي والإصابة. قال ابن الصباغ: وينبغي أنه إذا قال: ارم هذا السهم، فإن أصبته فلك كذا ـ غير المشروط بينهما ـ ولا يعد هذا السهم من النضال الذي بينهما.. أن يجوز ذلك؛ لأنه خارج من المناضلة. فإن قال: ارم سهمًا، فإن أصبت، فلك كذا، وإن أخطأت فعليك كذا.. لم يجز؛ لأنه قمار. [مسألة: صور النضال على الحوابي] مسألة: [] : إذا عقد النضال على الحوابي، على أن ما كان من الإصابة أقرب إلى الشن أسقطت الإصابة التي هي أبعد منها، ويفضل للناضل عدد معلوم.. جاز ذلك؛ لأن المحاطة جائزة، وهذا نوع من المحاطة. إذا ثبت هذا: فقد ذكر الشافعي في هذا مسائل: [الأولى] منها: إذا رمى أحدهما سهمًا، فوقع في الهدف، ورمى الآخر خمسة، فوقعت أبعد من سهم الأول، ثم رمى الأول سهمًا، فوقع أبعد من الخمسة.. سقطت الخمسة بالأول، وسقط الذي بعد الخمسة بالخمسة؛ لأن الخمسة إلى الغرض أقرب منه. الثانية: إذا رمى الأول خمسة، فوقعت قريبة من الشن، وبعضها أقرب إلى الشن

من بعض، ثم رمى الثاني خمسة، فوقعت أبعد من الخمسة الأولى.. سقطت الخمسة الثانية، وثبتت الأولى، ولم يسقط الأقرب منها الأبعد منها؛ لأن الأقرب من رمي أحدهما يسقط الأبعد من رمي الآخر، لا من رمي نفسه. الثالثة: إذا رمى أحدهما فأصاب الهدف، ورمى الآخر فأصاب الغرض.. أسقطت إصابة الغرض إصابة الهدف؛ لأن الأقرب إلى الغرض يسقط الأبعد منه، فلأن تسقط إصابة الغرض ما خرج عنه أولى. الرابعة: أن يصيب أحدهما الغرض، ويصيب الآخر العظم الذي في وسط الرقعة في الغرض، قال الشافعي [في " الأم " (4/149) ] : فمن الرماة: (من قال: تسقط الإصابة في العظم ما كان أبعد منها في الغرض) ؛ لأنه لما كان القريب إلى الشن يسقط ما بعد منه.. كذلك القريب إلى الرقعة يسقط ما بعد منها. قال الشافعي: (والقياس عندي: أن لا يسقطه) ؛ لأن الشن كله موضع إصابته، فليس بعض إصابته أقرب من بعض. الخامسة: قال الشافعي: (من الرماة من قال: إنهما يتقايسان النبل ما كان منه في الوجه أو عاضدًا، وليس هذا بقياس. والقياس: هو أنهما يتقايسان ما كان ساقطًا وعاضدًا. وخارجًا) . وأراد بذلك: أن من الرماة من يقول: إنهما يتقايسان النبل، ويسقط القريب منه البعيد إذا كان ذلك في وجه الشن، وهو ما وقع بين يدي الغرض وأسفل منه، وهو المراد بقوله: (ساقطًا) . وقوله: (عاضدًا) : وهو ما كان من جانبي الغرض دون ما أصاب ما جاوز الغرض من فوق.

مسألة: النضال بين فئتين

وقال الشافعي: (ليس هذا بقياس، بل القياس: أنهما يتقايسان ما كان ساقطًا وعاضدًا وخارجًا، فيسقط الأقرب منها من أي جهات الغرض ما كان أبعد منها) . السادسة: إذا رميا فأصابا الهدف، وكانا في القرب سواء إلى الهدف.. قال الشافعي: (تناضلا) يريد: أنهما سواء، فيسقطان. [مسألة: النضال بين فئتين] ويجوز أن يكون النضال بين جهتين. وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يجوز؛ لأنه لا يجوز لأحدهم أن يأخذ بإصابة غيره. والأول هو المنصوص؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بحزبين من الأنصار يتناضلان، فقال: ارموا، وأنا مع الحزب الذي فيه ابن الأدرع» ولم ينكر عليهم. إذا ثبت هذا: فإن أرادوا التحزب.. فإنه ينتصب لكل حزب رئيس، يم يختار أحد الرئيسين واحدًا من الرماة، ثم يختار الرئيس الآخر واحدًا بإزائه، ثم يختار الأول واحدًا، ثم يختار الثاني واحدًا، إلى أن يستكمل كل واحد حزبه، فإن اختلف الرئيسان فيمن يختار أولًا.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. وإن أرادوا أن يجعلوا الرئيس واحدًا في اختيار الحزبين.. لم يجز؛ لأنه تدخله التهمة، فيختار لنفسه الحذاق. ولا يجوز أن يختار أحد الرئيسين جميع أهل حزبه أولًا؛ لأنه يختار لنفسه الحذاق، بل يختار كل رئيس واحدًا على ما مضى. فإن قال أحد الرئيسين: أن أختار أولًا على أن أخرج السبق، أو على أن يكون السبق على حزبي، أو قال لصاحبه: اختر أولًا، على أن يكون السبق عليك.. لم يجز؛ لما ذكرناه من أن ذلك يؤدي إلى أن يختار أحدهما لحزبه الحذاق. فإن عدل بين الحزبين بالقوة والضعف، ثم اقترع الزعيمان على الحزبين.. لم يصح؛ لأن المناضلة كالإجارة في أحد القولين، وكالجعالة في الآخر، وأيهما كان.. فلا تدخله القرعة.

فرع: معرفة المتناضلين لبعضهما

[فرع: معرفة المتناضلين لبعضهما] شرط] : قال الشافعي: (ولا يجوز السبق حتى يعرف كل واحد من المتناضلين من يرمي معه، بأن يكون حاضرًا يراه أو غائبًا يعرفه) . قال القاضي أبو الطيب: ظاهر هذا: أنه يكفي معرفة الزعيم لهم، ولا يصح حتى يتساوى الحزبان في العدد؛ لأن المقصود معرفة حذقهم، فإذا كان أحدهما أكثر عددًا.. كان الفضل بكثرة العدد لا بجودة الرمي، ويكون عدد الرشق منقسمًا بينهم؛ لأنه إذا لم يكن منقسمًا عليهم.. بقي هناك سهم، وتنازعوا فيمن يرميه. وتبنى إصابة بعض الحزب على إصابة بعض، وخطأ بعضهم على خطأ البعض؛ لأنهم بمنزلة الرجل الواحد. [فرع: شرط التقديم مفسد] وإن شرطوا أن يكون فلان مقدمًا في الرمي، وفلان في الحزب الآخر معه، ثم فلان وفلان بعده.. قال الشافعي: (كان فاسدًا) ؛ لأن تدبير الحزب في البداية إلى زعيمهم؛ ليقدم من رأى تقديمه، فإذا شرطوا أن يكون ذلك إلى اختيار الزعيم الآخر.. كان شرطًا ينافي مقتضى العقد، فأبطله. [فرع: اختيار أحد الزعماء للغريب] فإن جاء رجل غريب لا يعرفونه، فادعى: أنه يحسن الرمي، فاختاره أحد الرئيسين.. نظرت: فإن خرج من أهل الرمي إلا أنه كثير الخطأ، فقال أهل حزبه: ظنناه أنه كثير الإصابة.. وقد بان بخلافه، أو خرج كثير الإصابة، فقال أهل الحزب الآخر: ظنناه قليل الإصابة.. لم يسمع ذلك منهم. قال الشافعي: (وكان كمن عرفوه) ؛ لأن شرط دخوله في العقد: أن يكون من أهل الصنعة دون الحذق والنقص، كما اشترى عبدًا

فرع: قسمة الربح بين أحد الحزبين

على أنه كاتب، فبان حاذقًا فيها أو ناقصًا.. فإن ذلك لا يؤثر. وإن بان أنه لا يحسن الرمي أصلا.. بطل العقد فيه؛ لأنه ليس من أهل العقد. قال ابن الصباغ: ويبطل العقد في محاذيه؛ لأنا قد قلنا: إن أحد الزعيمين يختار واحدًا، ويختار الآخر واحدًا، وهل يبطل في الباقي؟ فيه قولان، بناء على تفريق الصفقة. فإذا قلنا: لا يبطل.. ثبت للحزبين الخيار؛ لأن الصفقة تفرقت عليهم. وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن العقد يبطل في واحد من الحزبين غير معين. وهل يبطل العقد في الباقي؟ فيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان. و [الثاني] : منهم من قال: يبطل، قولًا واحدًا؛ لأن من في مقابلته لا يتعين، ولا سبيل إلى تعيينه بالقرعة. فإذا قلنا: لا يبطل، وتنازعوا فيمن يخرجونه بإزائه.. فسخ العقد. [فرع: قسمة الربح بين أحد الحزبين] وإذا تناضل حزبان، فنضل أحدهما الآخر.. ففي قسمة المال بينهم وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: يقسم بينهم بالسوية، كما يقسم على المنضولين بالسوية إذا التزموه. فعلى هذا: إن خرج فيهم من لم يصب.. استحق. والثاني: يقسم بينهم على عدد إصابتهم؛ لأنهم استحقوا ذلك بالإصابة، فإن خرج فيهم من لم يصب.. لم يستحق شيئًا.

فرع: تفاضل أحد المتناضلين

[فرع: تفاضل أحد المتناضلين] وإذا تناضلا فظهر لأحدهما فضل على الآخر في الإصابة، فقال المفضول: اطرح فضلك وعلي لك دينار.. لم يجز؛ لأن ذلك يمنع معرفة الحاذق منهما، فإن تفاسخا العقد، وعقدا عقدًا آخر.. جاز، وإن لم يتفاسخاه، ولكن رميا تمام الرشق فتمت له الإصابة مع ما أسقطه.. استحق السبق، ورد الدينار إن كان أخذه؛ لأنه لم يملكه. والله أعلم

باب بيان الإصابة والخطأ في الرمي

[باب بيان الإصابة والخطأ في الرمي] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (وإذا تناضلا، فكان الشرط بينهما إصابة الشن خاصة.. لم يعتد له إلا بما أصاب الشن دون ما يصيب الجريد والعروة والمعاليق) . قال المحاملي: و (الشن) : هو الجلد المنصوب للرمي. و (الجريد) : هو الطوق الذي يكون حول الجلد. و (العروة) : هي التي يعلق بها ذلك الطوق. و (المعاليق) : هي الخيوط التي تربط بالعروة؛ ليعلق بها الغرض، و (الغرض) : هو الشن، والجريد، والعرى. إذا ثبت هذا: فإن شرطا إصابة الشن.. لم يعتد إلا بإصابة الجلد خاصة، دون ما زاد عليه. وإن كان الشرط إصابة الغرض، فإن أصاب الشن أو الجريد أو العروة.. اعتد له بذلك؛ لأن اسم الغرض يجمع ذلك كله، وإن أصاب المعاليق، وهي: الخيوط التي يعلق بها الغرض.. ففيه قولان: أحدهما: يعتد له بذلك؛ لأنهما من جملة الغرض، ألا ترى أن المعاليق إذا مدت.. امتد الغرض؟ والثاني: لا يعتد له بذلك؛ لأنه ليس من جملة الغرض، وإنما يراد لإمساك الغرض، فهي كالهدف. [مسألة: ثبوت السهم في الهدف] قال الشافعي: (وإن كان في الشن نبل، فأصاب سهمه فوق سهم في الشن.. لم يحتسب، ورد عليه، فرمى به) .

فرع: نقل الريح الغرض

قال أصحابنا: إذا وقع سهمه في فوق سهم ثابت في الغرض.. نظرت: فإن كان السهم الذي في الغرض لم يغرق إلى فوقه، بل باقيه خارج.. لم يحتسب لمن أصاب فوقه ولا عليه؛ لأن بين سهمه والغرض طول السهم. وإن كان السهم الذي في الغرض قد غرق فيه إلى فوقه؛ فإن كان الشرط في الإصابة مطلقًا.. احتسب له بالإصابة، لأنا نعلم أنه لولا فوق هذا السهم لأصاب الغرض، وإن كانت الإصابة هي الخسق.. لم يحتسب له ولا عليه؛ لأنا لا نعلم مع فوق هذا السهم الثابت، هل كان يخسق، أو لا؟ قال ابن الصباغ: فإن أصاب فوق السهم، وسبح على الشن، فأصاب الغرض. حسبت إصابته. [فرع: نقل الريح الغرض] إذا رمى إلى الغرض، فنقلت الريح الغرض من مكانه إلى مكان آخر، فإن أصاب الغرض في مكانه الذي انتقل إليه.. حسب عليه في الخطأ؛ لأن الشرط بينهما الإصابة في الموضع الأول، وإن أصاب الموضع الذي كان فيه الغرض، فإن كان الشرط بينهما الإصابة مطلقًا.. حسب له؛ لأن الغرض لو كان مكانه أصابه. وإن كان الشرط الخواسق، فإن كان الهدف صلبًا قويًا.. حسب له؛ لأنه لو كان الغرض بحاله.. خسقه، وإن كان ترابًا.. لم يحتسب له ولا عليه؛ لأنا لا نعلم لو كان الغرض هناك، هل كان يخسقه، أم لا؟ إذا ثبت هذا: فقد قال الشافعي في " الأم ": (ولو رمى والشن منصوب، فطرحه الريح، أو طرحه إنسان قبل أن يقع سهمه.. كان له أن يعود فيرمي بذلك السهم؛ لأن الرمية زالت) . قال ابن الصباغ: واختلف أصحابنا فيه:

فرع: لا تحتسب إلا إصابة النصل

فذهب ابن القاص إلى: أن المسألة على ظاهرها، وأنه إذا أصاب مكان الغرض.. لا يكون إصابة؛ لأن محل الإصابة زال. ومنهم من قال: أراد الشافعي: إذا كان الشرط الخواسق، وكان الموضع ترابًا. على ما مضى بيانه، وهذا أصح. قال الشافعي: (فإن اتفقا على أن يرميا الغرض في موضعه الثاني.. جاز، كما لو اتفقا على ذلك ابتداء) . فرع: [معاونة الريح على الإصابة] : إذا رمى مفارقًا للغرض، فحملت السهم ريح خفيفة، فأصاب الغرض، أو نزع نزعًا مقصرًا ليصيب مع معاونة الريح، فأعانته الريح، وأصاب.. احتسب له؛ لأن ذلك غاية الحذق في الرمي، وإن أخطأ.. احتسب عليه؛ لأنه أخطأ بسوء رميه. فأما إذا رمى وفي الجو ريح عاصف، فصرفت سهمه عن الإصابة، أو حملت سهمه، فأصاب.. لم يحتسب عليه ولا له؛ لأنه لم يصب بجودة رميه، ولا أخطأ بسوء رميه. وإن رمى من غير ريح، فثارت ريح بعد خروج السهم، فحملت سهمه، فأخطأ.. لم يحتسب عليه؛ لأنه أخطأ بعارض لا بسوء رميه، وإن أصاب.. فقد قال بعض أصحابنا: فيه وجهان، بناء على القولين في السهم المزدلف، وقال الشيخ أبو إسحاق: عندي: أنه لا يحتسب له، قولًا واحدًا. [فرع: لا تحتسب إلا إصابة النصل] قال الشافعي: (إذا أصاب بالقدح.. لم يحتسب إلا ما أصاب بالنصل) . قال أصحابنا: أراد (بالقدح) : الفوق، وهو: الثلمة في أسفل السهم التي يوضع فيها الوتر، فإذا أصاب به.. لم يحتسب له؛ لأن ذلك من أسوأ الرمي.

مسألة: عوارض تعتري الرمي

[مسألة: عوارض تعتري الرمي] وإن انكسر القوس، أو انقطع الوتر، أو أصابت يده ريح، أو أغرق السهم، فخرج السهم من اليمين إلى اليسار، قال ابن الصباغ: لأن من شأن السهم أن يمر على إبهام يساره، فإذا زاد في النزع.. عثر السهم، فمر على أصل سبابة يساره، فإن رمى، ووقع السهم دون الغرض مع شيء من هذه العوارض.. لم يحتسب عليه؛ لأنه أخطأ باختلال الآلة لا بسوء رميه. ومن أصحابنا من حكى وجهًا آخر: أن يحتسب عليه بالخطأ في إغراق السهم. والأول هو المنصوص. قال الشافعي بعد هذا: (فإن جاء السهم، وجاز من وراء الناس.. فهذا سوء رمي وليس بعارض، فلا يرد) . واختلف أصحابنا في هذا: فقال أبو إسحاق: عطف به الشافعي على المسألة قبلها، وهو أنه إذا عرض له بعض العوارض التي ذكرناها، فلم يقصر سهمه، ولكن جاوز الغرض ولم يصبه.. اعتد عليه به في الخطأ؛ لأنه إنما لا يحتسب عليه به في الخطأ إذا قصر سهمه دون الغرض؛ لأن العارض منعه، فأما إذا جاوز السهم الغرض.. فإنه أخطأ بسوء رميه لا للعارض؛ لأنه لو كان للعارض تأثير.. لمنعه عن بلوغه. ومن أصحابنا من قال: هذه غير معطوفة عليها، بل هي مبتدأة، وأراد به: إذا رمى فجاوز سهمه الغرض، والناس الذين عنده يشهدون الإصابة من غير عارض.. فإنه يعتد عليه بالخطأ؛ لأنه أخطأ بسوء رميه. فأما إذا عرض شيء من العوارض التي ذكرناها، وجاوز سهمه الغرض، وأخطأه.. فإنه لا يعتد به عليه في الخطأ، كما لو قصر سهمه عن الغرض. وإن أصاب الغرض مع شيء من هذه العوارض التي ذكرناها.. فهل تحتسب له الإصابة؟ حكى المحاملي، وابن الصباغ فيها وجهين:

فرع: انكسار السهم

[الأول] : على قول أبي إسحاق: يعتد له به؛ لأنه لما اعتد عليه بالخطأ عند مجاوزة السهم الغرض.. اعتد له بالإصابة. و [الثاني] : على قول غيره من أصحابنا: لا يعتد له بالإصابة؛ لأنه لما لم يعتد عليه بالخطأ.. لم يعتد عليه بالإصابة. وذكر في " المهذب " [1/427] : أنه يعتد له بالإصابة، وجهًا واحدًا؛ لأن الإصابة مع اختلال الآلة أدل على حذقه. [فرع: انكسار السهم] وإن انكسر السهم، فوقع دون الغرض.. لم يحتسب عليه بالخطأ؛ لأنه أخطأ بعارض لا بسوء رميه. وإن أصاب بالنصل.. احتسب له به في الإصابة؛ لأن ذلك أدل على حذقه. وإن أصابه بفوقه أو عرضه.. لم يحتسب له ولا عليه؛ لأنه لم يخطئ بسوء رميه، وإنما أخطأ باختلال الآلة. فرع: [حدوث عارض رد السهم] : وإن عرض دون الغرض عارض، من إنسان أو بهيمة، فإن رد العارض السهم، ووقع دون الغرض.. لم يحتسب عليه في الخطأ؛ لأنه لم يخطئ بسوء رميه، وإن وقع السهم في العارض، ثم جاوز السهم الغرض ولم يصبه.. فهل يحتسب عليه في الخطأ؟ فيه وجهان، ذكرناهما في انكسار القوس وانقطاع الوتر: [الأول] : قال أبو إسحاق في " المهذب " [1/428] : يحسب عليه. و [الثاني] : قال غيره من أصحابنا: لا يحتسب عليه. وإن نفذ السهم في العارض وأصاب الغرض.. فهل يحتسب له في الإصابة؟ قال ابن الصباغ: فيه وجهان:

[أحدهما] : إن قلنا: يحتسب عليه. بالخطأ إذا جاوز الغرض.. احتسب له بالإصابة. و [الثاني] : إن قلنا: لا يحتسب عليه بالخطأ عند مجاوزة الغرض.. لم يحتسب له بالإصابة. وقال الشيخ أبو إسحاق: يحتسب له بالإصابة، وجهًا واحدًا؛ لأن إصابته مع العارض أدل على حذقه. وإن رمى بسهم، فازدلف ووقع في الغرض وأصابه؛ بأن يقع في الأرض دون الغرض، ثم يقوم من الأرض إلى الغرض.. فهل يحتسب له بالإصابة؟ من أصحابنا من قال: فيه وجهان، ومنهم من قال: هما قولان: أحدهما: يحتسب له بالإصابة؛ لأنه أصاب الغرض بنصل السهم، فهو كما لو لم يزدلف سهمه. والثاني: لا يحتسب له في الإصابة؛ لجواز أن تكون الإصابة بازدلاف السهم في الأرض واضطرابه، لا بجودة الرمي. قال المحاملي: فعلى هذا: لا يحتسب له في هذا الرمي ولا عليه. وقال أبو إسحاق المروزي: يحتمل أن يكون على اختلاف حالين: فإن كانت الأرض أعانت.. لم يحتسب له، وإن لم تكن أعانت.. احتسب له. وإن ازدلف سهمه، فأخطأ.. قال المحاملي: احتسب عليه بالخطأ؛ لأن الازدلاف من سوء الرمي والخطأ فيه. وحكى صاحب " المهذب " فيه وجهين: أحدهما: يحتسب عليه فيه بالخطأ؛ لما ذكرناه. والثاني: لا يحتسب عليه فيه؛ لأن الأرض تشوش الرمي، وتزيل السهم عن سننه، فإذا أخطأ.. لم يكن ذلك بسوء رميه.

مسألة: يحتسب خاسقا إذا خرق

[مسألة: يحتسب خاسقًا إذا خرق] قال الشافعي: (ولو تشارطا الخواسق.. لم يحتسب له خاسقًا حتى يخرقه فيتعلق بنصله) وجملة ذلك: أنه إذا كان الشرط بينهما الخواسق، فإن أصاب السهم الغرض وثقبه وثبت فيه.. حسب له في الإصابة؛ لأن هذا هو الخاسق، وإن خدشه ولم يثقبه.. احتسب عليه في الخطأ؛ لأنه لم يخسق، وإن ثقبه وسقط عنه ولم يثبت فيه، فهل يحتسب له خاسقا؟ فيه قولان، قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من يقول: هما وجهان: أحدهما: يعتد له به في الإصابة؛ لأنه قد خرقه، والخسق والخرق واحد، ولعله لم يثبت فيه لسعة الثقب. والثاني: لا يحتسب له فيه، وهو الأصح؛ لأن كل واحد منهما مخالف للآخر في الاسم والمعنى، والخسق أعلى من الخرق. فعلى هذا: يحتسب عليه فيه بالخطأ. وإن كان الشرط بينهما الإصابة مطلقا فأصاب وخرق أو خسق أو خرم أو مرق.. احتسب له في الإصابة؛ لأن الإصابة توجد في هذه الأنواع. [فرع: اشتراط الخسق] وإن كان الشرط بينهما الخسق، فأصاب أحدهما الغرض وكان ملصقًا بالهدف، فسقط عنه السهم ولم يثبت فيه، وادعى الرامي أنه قد خسق وإنما لم يثبت سهمه لغلط لقيه من نواة أو حصاة أو ما أشبه ذلك، وقال المصاب عليه: إنما لم يثبت سهمك لسوء رميك، لا لما ذكرت، فإن علم موضع الإصابة باتفاقهما، أو بقيام البينة عليه.. نظرت:

فرع: إصابة الخرق وثبوته فيه

فإن لم يكن في الغرض ما يمنع ثبوت السهم وقد خرقه.. ففيه قولان بناء على أن الخارق هل يحسب خاسقًا؟ فإن قلنا: يحسب له.. فلا كلام. وإن قلنا: لا يحسب له.. حسب عليه في الخطأ. وإن علم موضع الإصابة، وكان فيه ما يمنع من جري السهم من نواة أو حصاة، وقد خرق إلى أن يبلغ إلى المانع، فإن قلنا: إن الخارق يحسب خاسقًا.. حسب له في الإصابة. وإن قلنا: لا يحتسب الخارق خاسقًا.. لم يحسب عليه في الخطأ؛ لأنه إنما لم يخسق للعارض، لا لسوء رميه. وإن علم موضع الإصابة ولا مانع فيه، ولا خرقه الرامي.. حسب عليه في الخطأ، ولا يمين على المصاب عليه؛ لأن ما ادعاه الرامي غير ممكن. وإن كان هناك مانع، فقال الرامي: لم يخرق سهمي للمانع، وقال المصاب عليه: لم يخرق سهمك لسوء رميك لا لمانع.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: القول قول الرامي مع يمينه؛ لأن المانع يشهد له. والثاني: القول قول المصاب عليه مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الخسق. وإن لم يعلم موضع الإصابة: فإن فتش الغرض ولم يوجد وراءه حصاة، ولا نواة تمنع الخسق.. فالقول قول المصاب عليه بغير يمين؛ لأن ما يدعيه الرامي غير ممكن، ويحسب على الرامي بالخطأ. وإن وجد بعد الغرض ما يمنع من الثبوت.. فالقول قول المصاب عليه مع يمينه؛ لأن ما يدعيه الرامي ممكن، فلذلك حلف المصاب عليه. [فرع: إصابة الخرق وثبوته فيه] قال الشافعي: (وإن كان الشن باليًا، فأصاب موضع الخرق، فغاب في الهدف.. فهو مصيب) .

فرع: المروق في الغرض خسق

وجملة ذلك: أنه إذا كان الشرط بينهما الخواسق، فوقع السهم في موضع من الغرض قد خلق وبلي، أو ثقبه كانت فيه، وثبت في الهدف، فإن كان الهدف قويًا مثل صلابة الشن، بأن يكون بناء أو طينًا يابسًا وما أشبهه.. احتسب له فيه؛ لأنا نعلم أن السهم لو وقع في الغرض لخسقه. وهذا مراد الشافعي. وإن كان الهدف ترابًا أو طينًا رطبًا.. لم يعتد له به؛ لأنا لا نعلم لو أصاب الغرض، هل كان يثبت أم لا؟ ولا يحتسب عليه به في الخطأ أيضًا؛ للاحتمال فيه. وإن كان الشرط الخسق، فأصاب طرف الشن وخرقه وثبت مكانه، فحصل الشن من أحد جانبي السهم والجانب الآخر فارغ.. ففيه قولان، حكاهما المزني في " المختصر ": أحدهما: لا يعتد له به؛ لأن الخاسق هو الذي يثبت في الغرض، ويحيط الغرض بجميع السهم، والغرض هاهنا لا يحيط بجميع السهم، فلم يعتد به خاسقًا. والثاني: يعتد له به. قال المحاملي: وهو الأشبه؛ لأن الخاسق هو الذي يصيب الغرض ويثبت فيه وقد وجد ذلك. [فرع: المروق في الغرض خسق] وإن كان الشرط الخسق، فرمى أحدهما فوقع في الغرض ومرق منه.. قال الشافعي: (كان عندي خاسقا) قال: (ومن الرماة من لا يحتسبه إذا لم يثبت فيه) .

واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: هو خاسق قولًا واحدًا، وإنما حكى الشافعي مذهب غيره؛ لأنه قد وجد فيه الخسق وزيادة. ومنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: يعتد به خاسقًا؛ لما ذكرناه. والثاني: لا يعتد له به؛ لأن المقصود بالمناضلة أن يعلم حذق الرامي وحسن رميه، والخسق فيه ضرب من الحذق وهو أن ينزع نزعًا يعلم أن سهمه يثبت في الغرض، ولا يزيد عليه، فإذا مرق، لم يوجد هذا المعنى، ولم يعد مصيبًا. قال في " الأم " [4/150] : إذا كان الشرط الخواسق، فرمى أحدهما، فوجد السهم في ثقبة من الغرض، وهو ثابت في الهدف مع جليدة من الغرض، فقال الرامي: خسقت، ولشدة الرمي قطعت هذه الجليدة، وثبت في الهدف، فأنكر الآخر، وقال: بل كان في الغرض ثقبة وفيها هذه الجليدة، فوقع سهمك في الجليدة.. فالقول قول المصاب عليه مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الخسق. قال الشيخ أبو حامد: وهذا ـ كما قدمنا في المسألة قبلها ـ إن كان الهدف رخوًا.. لم يثبت كونه خاسقًا، وإن كان صلبًا.. كان خاسقًا. وأراد: إذا كان الهدف رخوًا.. فالقول قول المصاب عليه مع يمينه. وإن كان صلبًا.. حكم للرامي بالخسق من غير يمين؛ لما قدمناه.

مسألة: ما يبطل المناضلة

[مسألة: ما يبطل المناضلة] وإن مات أحد المتناضلين، أو ذهبت يده.. بطلت المناضلة؛ لأن المقصود معرفة حذقهما، وقد فات ذلك. وإن مرضا، أو أحدهما، أو رمدت عينه.. لم يبطل العقد؛ لأنه يمكن استيفاء ذلك بعد زوال العذر، ويحتمل أن يثبت للآخر الخيار في فسخ العقد؛ لأنه تأخر المعقود عليه. وإن أراد أحدهما أن يفسخ العقد، أو يجلس عن الرمي، وكان العوض منهما، وبينهما محلل، فإن قلنا: إنه كالإجارة.. لم يصح فسخه، وأجبر الممتنع منهما عن الرمي بالحبس والتعزير، وإن قلنا: إنه كالجعالة، فإن كان قبل الرمي أو بعد الرمي، وهما متساويان في الإصابة.. صح الفسخ، ولم يجبر الممتنع عن الرمي. فإن كان أحدهما قد ظهر له فضل إصابة، فإن كان الذي فسخ أو امتنع من الرمي هو الفاضل.. صح فسخه، ولم يجبر على الرمي، وإن كان الفاسخ أو الممتنع هو المفضول، فهل يصح فسخه، ولا يجبر على الرمي؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في أول الباب. وإن شرطا أن كل واحد منهما يجلس عن الرمي أي وقت شاء، فإن كان ذلك في حال العقد، فإن قلنا: إن العقد لازم.. بطل الشرط والعقد، وإن قلنا: إنه كالجعالة.. لم يبطل العقد؛ لأنه شرط ما هو من مقتضى العقد. وإن كان هذا الشرط بعد العقد.. لم يبطل العقد، قولًا واحدًا، كما لو شرطا في البيع شرطًا باطلًا بعد العقد وانقضاء الخيار.

مسألة: لا يعجل أحد المتناضلين صاحبه

[مسألة: لا يعجل أحد المتناضلين صاحبه] ] : وإذا رمى أحد المتناضلين فأصاب.. فليس للمصيب أن يعجل صاحبه في الرمي ويدهشه؛ لأنه ربما أخطأ مع العجلة. وليس للمصاب عليه أن يطول إرساله، فيمسح قوسه وسهمه، ويمد مدًا طويلًا، يقصد بذلك تبريد يد المصيب؛ لينسى القصد الذي أصاب به، ويقال له: لا نكلفك أن ترمي على عجلة، ولا يجوز أن تطول لتضر بصاحبك، ولكن ارم على حسب العادة. وليس للمصيب أن يفتخر في إصابته، ويتبجح فيها؛ لأن ذلك يغيظ صاحبه ويدهشه. ويستحب أن يكون عند الغرض شاهدان ليشهدا الإصابة والخطأ، ويخبرا بها، وليس للشاهد أن يمدح المصيب؛ لأن ذلك يغيظ صاحبه، ولا يذم المخطئ؛ لأنه إنما استحب كونه هنالك للشهادة، ولا للمدح والذم. وبالله التوفيق

كتاب إحياء الموات

[كتاب إحياء الموات]

كتاب إحياء الموات يجوز إحياء الموات وتملكه بذلك؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له، وليس لعرق ظالم حق» . وروي: «لعرق ظالم» بإضافة العرق إلى ظالم. وروى سمرة بن جندب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحاط حائطًا على أرض.. فهي له» وأراد به في الموات.

وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «موتان الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني» هكذا روي بفتح الميم والواو. و" الموتان" ـ بضم الميم وسكون الواو ـ: الموت الذريع. و" الموتان" ـ بفتح الميم وسكون الواو ـ عمى القلب، يقال: رجل موتان القلب: إذا كان لا يفهم. وأجمع المسلمون على جواز إحياء الموات والتملك به.

مسألة: البلاد نوعان

إذا ثبت هذا: فإن الإحياء لا يفتقر إلى إذن الإمام. وبه قال أبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز إحياء الموات إلا بإذن الإمام) . وقال مالك: (إن كان قريبًا من العمران في موضع يتشاح الناس فيه.. افتقر إلى إذن الإمام، وإلا.. لم يفتقر) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» ، و «من أحاط حائطًا على أرض.. فهي له» ولم يفرق بين أن يكون بإذن الإمام، أو بغير إذنه، ولأنها عين مباحة، فلم يفتقر تملكها إلى إذن الإمام، كالصيد والحشيش. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فهي لكم مني» أراد: هي لكم أن تحيوها. [مسألة: البلاد نوعان] والبلاد على ضربين: بلاد إسلام وبلاد شرك. فأما بلاد الإسلام فعلى ضربين: عامر وموات. فأما العامر: فهو لمالكه، ولا يجوز لأحد أن يتصرف في شيء منه إلا بإذن مالكه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أخذ شبرًا من الأرض بغير حقه.. طوقه الله إياه يوم القيامة إلى سبع أرضين» . إذا ثبت هذا: فإن كان هذا العامر يجاور مملوكًا، كالدور والأرض المتلاصقة.. فإن ملك كل واحد منهما لا يتجاوز إلى ملك غيره، إلا أن يكون له في ملك غيره رسم مسيل ماء، أو طريق، فله ذلك، ولكل واحد منهما أن يتصرف في ملكه بما شاء من وجوه التصرفات وإن كان فيه ضرر على جاره. وإن كان العامر يجاور مواتًا.. فلصاحب العامر من الموات الذي يجاور ملكه ما لا يمكنه الانتفاع بالعامر إلا به، مثل الطريق، ومسيل الماء الذي يخرج من الدار، وما تحتاج إليه الأرض من مسيل الماء.

وإن كانت بئرًا.. فله من الموات قدر ما يحتاج إليه في نزع الماء منها، فإن كانت يستقى منها بالسواني.. فقدر ما تحتاج إليه من السانية في ذهابها ومجيئها. وإن كان دولابًا.. فقدر ما يدور فيه الثور. وإن كانت للماشية.. فقدر ما تعطن فيه الماشية. وإن كانت ليستقى باليد منها.. فقدر ما يقف فيه المستقي، ولا يقدر ذلك بشيء. وقال أبو يوسف: حريم البئر أربعون ذراعًا، وحريم العين خمسمائة ذراع. وقال أحمد: (حريم البئر خمسة وعشرون ذراعًا، إلا أن يكون البئر عاديًا، فحريمه خمسون ذراعًا؛ لما روى الدارقطني عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حريم البئر البديء خمسة وعشرون ذراعًا، وحريم البئر العادي خمسون ذراعًا» . وأراد بقوله: (البديء) الذي ابتدئ حفرها. دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حريم البئر أربعون ذراعًا من حواليها، كلها لأعطان الإبل والغنم، وابن السبيل أول شارب، ولا يمنع فضل ماء يمنع به الكلأ» .

وإنما حد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حريم البئر بأربعين ذراعًا على عادة أهل الحجاز؛ لأنهم كانوا يحفرون آبارًا عميقة يغور الماء فيها، فيحتاج أن يمشي الثور فيها أربعين ذراعًا. وأما الخبر الذي رواه أحمد: فمختلف، وإن صح حملناه على ما تدعو الحاجة إليه. قال الشيخ أبو حامد: وللدار حريم، فإذا حفر إنسان في فنائها وأصل حيطانها.. منع منه. قال ابن الصباغ: وعندي أن حيطان الدار لا فناء لها ولا حريم، ألا ترى أنه لو أراد رجل أن يحيي إلى جنبها دارًا.. لم يلزمه أن يبعد عن فنائها؟ وإنما يمنع من حفر البئر في أصل الحائط؛ لأنه يضر به، وينبغي إذا كان لا يضر به أن يجوز. وهل يكون صاحب العامر مالكًا لمرافق العامر من الموات؟ حكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: لا يكون مالكًا له، وإنما يكون أحق به؛ لأنه لم يحصل له فيه إحياء، فلم يملكه. وقال القاضي أبو الطيب: يكون مالكًا له؛ لأنه تابع للعامر، فلما كان مالكًا للعامر.. ملك ما تبعه. قال ابن الصباغ: وهذا أقيس؛ لأن العامر إذا بيع دخلت هذه الحقوق في البيع، ولأن معنى الملك في هذه الحقوق موجود، فإنه لا يجوز لأحد إحياؤها، وقد اختلفوا في ثبوت الشفعة في الطريق، وهذا يدل على ثبوت الملك فيها. وأما الموات: فعلى ضربين: ضرب: لم يجر عليه ملك قط لأحد، فهذا يجوز إحياؤه وتملكه، وهذا الذي ورد فيه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» . والضرب الثاني: موات قد كان جرى الملك عليه لمسلم ثم مات، أو غاب وخربت الأرض وصارت كالموات، فإن كان المالك لها معروفًا.. فهذا لا يجوز إحياؤه بلا خلاف، كما قلنا في العامر، وإن كان المالك لها غير معروف.. قال الشيخ أبو حامد: فلا يملك ذلك بالإحياء عندنا.

وقال أبو حنيفة: (يملك بالإحياء) . وحكى الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: أن ذلك وجه لبعض أصحابنا؛ لأنها عادت مواتًا كما كانت، فصارت مباحة كما لو لم يجر عليها أثر ملك. ودليلنا: ما روى كثير بن مرة، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضًا ميتة في غير حق مسلم.. فهو أحق بها» وهذه في حق مسلم. وروى ابن الزبير، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضًا ميتة ليست لأحد.. فهو أحق بها» ولأن هذه لها مالك، فلا يجوز إحياؤها كما لو كان المالك لها معينًا. وأما بلاد الشرك: فضربان، عامر وموات: فأما العامر، وما يحتاج إليه العامر من المرافق: فإنه ملك للكفار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} [الأحزاب: 27] [الأحزاب: 27] فأضافها إليهم، فدل على: أنهم ملكوها ولا يجوز إحياؤها، وإنما تملك بالقهر والغلبة. وأما الموات: فإن كان قد جرى عليها ملك لمالك معروف.. لم يجز إحياؤها، كالعامر، وإن لم يجر عليها ملك.. جاز إحياؤها. ومن أحياها ملكها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» ولم يفرق. فعلى هذا: إذا أحيا مسلم مواتًا في أرضهم، ثم ظهر المسلمون على أرضهم فملكوها.. كانت غنيمة، إلا ما أحياه المسلم. وإن كانت مواتًا قد جرى عليها أثر ملك لهم، ولا يعرف مالكها، فهل يجوز إحياؤها وتملك بالإحياء؟ حكى البغداديون من أصحابنا فيها وجهين، وحكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 342] قولين:

فرع: إحياء قرب العامر

أحدهما: يجوز إحياؤها وتملك بالإحياء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني» وأراد به: الأرض التي كانت ملكًا لقوم عاد، ولأنه لو وجد في بلاد الشرك ركاز من ضرب المشركين.. لملكه بالوجود وإن كان قد جرى عليه ملك مشرك، فكذلك إذا أحيا مواتًا جرى عليه ملك لمالك غير معروف من المشركين. والثاني: لا تملك بالإحياء. قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (والموات ما ليس عليه أثر عمارة) ، ولأنها أرض حية جرى عليها الملك، فلم تملك بالإحياء، كما لو كان لها مالك معروف، ولأنه يجوز أن تكون لكافر لم تبلغه الدعوة فلا يكون ماله مباحًا. ومن قال بهذا.. قال: معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عادي الأرض لله ولرسوله» أراد به: الملك القديم، فعبر عن الملك القديم بالعادي؛ لأنه يقال: شيء عادي، أي: قديم. فإن أحيا المسلم مواتًا في بلد صولح الكفار على الإقامة فيها.. لم يملكها بذلك؛ لأن الموات يتبع البلد، فإذا لم يجز تملك البلد عليهم، فكذلك ما تبعه. [فرع: إحياء قرب العامر] ويجوز إحياء الموات بقرب العامر إذا لم يكن من مرافق العامر. وقال مالك: (لا يجوز إيحاء ذلك بغير إذن الإمام، ولم يحده بحد) . وقال أبو حنيفة: (لا يحيي إلا ما جاوز مدى الصوت من العامر، بأن يصيح إنسان في العامر، فالذي ينتهي إليه صوته من الموات.. لا يجوز إحياؤه) . ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» ولم يفرق. وروى الشافعي، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة أقطع الناس الدور، فقال حي من بني زهرة، يقال لهم:

بنو عبد زهرة: يا رسول الله: نكب عنا ابن أم عبد ـ أي: أخرج من جملتنا ابن مسعود ـ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ولم ابتعثني الله إذا؟ إن الله لا يقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيهم حقه» . قال الشافعي: (وفي ذلك دلالة على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بالمدينة بين ظهراني عمارة الأنصار من المنازل، وأن ذلك ليس لأهل العامر) . وفي بعض نسخ المزني: (وأن ذلك لأهل العامر) . فإن كان الأول.. فمعناه: وأن ذلك ليس لأهل العامر منعه. وإن كان الثاني.. فمعناه: أن ذلك لأهل العامر أن يحيوه أيضًا، كغيرهم. وأما معنى قوله: (أقطع الدور) فقد اختلف أصحابنا في تأويله: فمنهم من قال: كان الذي أقطعهم دورًا قديمة عادية خربت. وهذا قول من يقول: إن ما كان مملوكًا ومات أهله في الجاهلية، ولا يعرف مالكه.. يجوز إحياؤه. ومنهم من قال: إنه أقطعهم ما يبنونه دورًا. فسماها دورًا؛ لأنها تؤول إليه، كقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] [يوسف: 36] فسمى العصير خمرًا؛ لأنه يؤول إليه.

مسألة: لا يقطع لكافر في دار الإسلام

وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقطع العقيق وهو على ميل من المدينة) ولم ينكر عليه أحد، ولأنه موات لم يملك، غير متعلق بمصلحة العامر، فجاز إحياؤه، كما لو زاد على مدى الصوت. [مسألة: لا يقطع لكافر في دار الإسلام] ] : وإذا أحيا الكافر الحربي أو الذمي مواتا في دار الإسلام.. لم يملكه بذلك، وليس للإمام أن يأذن له في ذلك. وقال مالك وأبو حنيفة: (يجوز للإمام أن يأذن في ذلك، وإذا أحيا أرضًا مواتًا في بلاد الإسلام بالإذن.. ملكه) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موتان الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني» . فوجه الدليل من الخبر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أضاف الموات إلى الله لا على سبيل أنه يملكها؛ لأنه مالك لها ولغيرها، وإنما أضافها إلى الله تعالى تشريفًا لها؛ لأنها تملك بغير عوض ولا عن مالك، كما أضاف خمس الغنيمة إليه لشرفه؛ لأنه يملك بغير عوض ولا عن مملك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] . فلما لم يكن للكافر حق في خمس الغنيمة.. فكذلك في الموات في بلاد الإسلام. وإنما لم يضف الزكاة إليه؛ لأنها أوساخ الناس، ثم قال: «هي لكم مني» وهذا خطاب للمسلمين.

فرع: لا تحفر بئر تضر ببئر موات

[فرع: لا تحفر بئر تضر ببئر موات] ] : قال ابن الصباغ: إذا حفر بئرًا في موات للتملك، فجاء آخر فحفر قريبًا منها بئرًا ينسرق إليها ماء البئر الأولى.. لم يكن له ذلك. قال أصحابنا: فلو حفر الثاني في ملكه بئرًا بحيث ينسرق ماء جاره إليه.. جاز. والفرق بينهما: أن الذي يحفر في الموات يبتدئ التملك، وليس له أن يتملك الموات على وجه يضر بملك غيره، وليس كذلك هاهنا؛ لأن كل واحد منهما حفر في ملكه، فلا يمنع من ذلك. ولو حفر رجل في ملكه كنيفًا يفسد على جاره بئره.. قال القاضي أبو الطيب: لم يمنع من ذلك؛ لأنه يتصرف في ملكه، فهو بمنزلة أن يكون له دكان، فيخبز فيه، فيتأذى الجيران به، فلا يمنع. وحكى في " المهذب " [1/431] : أن بعض أصحابنا قال: ليس له أن يحفر في أصل حائطه حشًا؛ لأنه يضر بالحاجز الذي بينه وبين جاره في الأرض.. وليس بشيء. [مسألة: العرف في إحياء الموات] ] : قال الشافعي: (والإحياء ما عرفه الناس إحياء لمثل المحيا) . وجملة ذلك: أن الشرع ورد بالإحياء مطلقًا، وما ورد به الشرع مطلقًا.. رجع فيه إلى العرف والعادة في ذلك الشيء، كما قلنا في أقل الحيض وأكثره، والتفرق في البيع والقبض فيه، والحرز في السرقة. إذا ثبت هذا: فإن كان يحيي الموات دارًا للسكنى.. فإحياؤها أن يبني حيطان الدار بالحجارة، أو اللبن، أو الآجر، وما أشبه ذلك مما يبنى به. قال الصيمري: ويبني الحيطان عالية، بحيث يمنع من أراده، ويسقف منها ولو

بيتًا واحدًا؛ لأن الدار تراد للإيواء، ولتقي من البرد والحر والمطر، ولا يقيه إلا السقف، فإن لم يسقف كان متحجرًا. وهل من شرط تمام الإحياء في الدار نصب الباب؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: أن ذلك شرط؛ لأن الدور لا تكون دورًا إلا بذلك. والثاني: أن ذلك ليس بشرط؛ لأن عدم ذلك لا يمنع السكنى، وإنما يراد للحفظ. وإن أراد أن يحيي الموات حظيرة للغنم، أو للحطب، أو للشوك.. فإحياؤها أن يبني حولها حائطًا بحجارة، أو لبن، أو آجر، أو ما أشبهه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحاط حائطًا على أرض.. فهي له» . قال ابن الصباغ: وهل من شرط تمام إحيائها نصب الباب؟ على الوجهين في الدار. وإن جمع ترابًا حول الحظيرة وسنمه، أو اتخذ حائطًا من حجارة نصبه من غير بناء، أو من حطب، أو شوك، أو خشب.. فذكر الشيخ أبو حامد: أنه لا يملكه بذلك، ولكن يكون بذلك متحجرًا. قال الشافعي: (لأن المسافر قد ينزل منزلًا وينصب الحجارة حول الخباء، ولا يكون ذلك إحياء) . وليس من شرط الحظيرة التسقيف؛ لأن ذلك لا يحتاج إليه في الحظيرة، بخلاف الدار للسكنى. وإن أراد أن يحيي الموات للزراعة.. فإحياؤها أن يجمع ترابًا يحيط بها بما يبين به الأرض من غيرها، ويحرثها، ويسوق الماء إليها، فإن كانت تشرب من بئر.. حفر

مسألة: العمارة في الموات

لها بئرًا، وإن كانت تشرب من ماء مباح.. فأن يطرق إليها طريقًا للماء، وإن كانت تشرب من ماء المطر.. فأن يطرق إليها طريقًا ينزل فيه الماء إليها. وهل من شرط تمام إحيائها الزراعة فيها؟ قال الشافعي في " المختصر " [3/108] : (ويزرعها) واختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: إن الزرع ليس بشرط في الإحياء، وهو المنصوص في " الأم " [3/266] لأن الزراعة انتفاع من المحيا، فلم يكن شرطًا في الإحياء، كما لو أحيا حظيرة للغنم، فلا يشترط في إحيائها ترك الغنم فيها. ومنهم من قال: إن ذلك شرط في الإحياء. وهو ظاهر ما نقله المزني؛ لأن الأرض لا تكون معمورة للزرع إلا بالزرع. وحكى الشيخ أبو إسحاق وجهًا ثالثًا: أن أبا العباس قال: لا تكون الأرض محياة للزرع حتى يزرعها ويسقيها؛ لأن عمارتها للزراعة لا تكمل إلا بذلك. قال الشافعي في " الأم ": (وعمارة الأرض للغراس أن يغرس الأرض) . والفرق بين الزراعة والغرس على أحد الوجهين: أن الغراس يراد للبقاء، فهو كبناء الدار، والزرع لا يراد للبقاء، فهو كسكنى الدار. وإن حفر في الموات بئرًا.. لم يتم الإحياء حتى يصل إلى الماء. فإن كانت الأرض صلبة.. فقد تم الإحياء، وإن كانت رخوة.. لم يتم الإحياء حتى يطويها. [مسألة: العمارة في الموات] تثبت الحق] : وإذا سبق إلى موات فشرع في عمارته.. كان متحجرًا له بذلك، وصار أحق به من غيره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه.. فهو أحق به» .

فإن مات.. انتقل إلى وارثه؛ لأن يد الوارث تقوم مقام يد المورث. وإن نقله إلى غيره.. صار الثاني أحق به؛ لأنه قد أقامه مقام نفسه. وإن باعه.. فهل يصح بيعه؟ حكى البغداديون من أصحابنا فيه وجهين، وحكاهما المسعودي قولين [في " الإبانة " ق \ 343] : أحدهما: يصح؛ لأنه صار أحق به، فصح بيعه له كالمالك. والثاني: لا يصح، وهو المذهب؛ لأنه لم يملكه، وإنما ملك أن يملك. فإن بادر غيره فأحياها: فإن كان قبل أن يتطاول الزمان في ثبوت يد الأول عليها.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يملكها الثاني؛ لأن يد الأول قد ثبتت عليها، وقد ملك أن يملكها، فلم يملكها غيره. والثاني: أن الثاني يملكها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» ولم يفرق بين أن تكون قد تحجرها غيره، أو لم يتحجرها. وإن تطاول الزمان في ثبوت يد الأول عليها: فإن السلطان يستدعيه، ويقول له: إما أن تحييه، وإما أحياه غيرك، فإن استمهله.. قال الشيخ أبو حامد: أمهله يومًا، وثلاثًا، وشهرًا، فإن أحياه.. ملكه، وإن تركه.. زال ملكه عنه. وإن لم يتركه فجاء غيره وأحياه.. ملكه، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا عذر له مع تطاول المدة.

مسألة: المعادن في الموات

[مسألة: المعادن في الموات] والمعادن على ضربين: ظاهرة، وباطنة. فأما الظاهرة: فهي ما لا يحتاج في الانتفاع بها إلى عمل، فهي مثل: الماء في الأنهار، والعيون، وكالنفط، والمومياء، والياقوت، والملح، والكحل، فهذا لا يملكه أحد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضًا ميتة.. فهي له» . فعلق الملك بالإحياء، وهذا لا يحتاج إلى إحياء. إذا ثبت هذا: فإن الناس يشتركون فيها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس شركاء في ثلاثة: النار، والماء، والكلأ» .

فأما اشتراكهم في النار: فهو أن يضرم رجل نارًا في حطب مباح مطروح في موات. فأما إذا حطب الرجل حطبًا، وأضرم فيه نارًا.. فهو أحق بها، وله أن يمنع غيره منها. وأما اشتراكهم في الكلأ: فهو الكلأ النابت في الموات. وأما اشتراكهم في الماء: فهو الماء في الأنهار والعيون التي ليست بمملوكة. فإذا سبق واحد إلى شيء من هذه المعادن الظاهرة.. أخذه وملكه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه.. فهو أحق به» . فإن أخذ منها وانصرف، وجاء غيره وأخذ منها وانصرف، وعلى هذا يأخذ واحد بعد واحد.. جاز. وإن جاء واحد وأطال يده عليها.. ففيه وجهان:

أحدهما: لا يزيل الإمام يده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم.. فهو أحق به» . والثاني: أن الإمام يزيل يده عنها؛ لأنه يصير متحجرًا، وتحجرها لا يجوز. وإن جاء اثنان في حالة واحدة، فإن اتسع المعدن لهما.. أخذاه، ولا كلام. وإن ضاق المعدن عليهما، فإن كانا يأخذان شيئًا قليلًا، كالماء الذي يأخذانه ليشرباه، أو ليتطهرا به، وما أشبهه.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الإمام يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. قدم؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر. والثاني: أن الإمام ينصب رجلًا ليستقي منه لهما، ثم يقسمه بينهما؛ لأن قسمة ذلك ممكنة. والثالث: أن الإمام يقدم أحدهما باجتهاده. وإن كانا يأخذان الكثير للتجارة.. هايأ الإمام بينهما يومًا بيوم أو شهرًا بشهر على حسب ما يراه، ويقرع في البادئ منهما؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر. وإن كان بقرب الساحل بقعة إذا حفرت وانساق الماء إليها ظهر بها ملح.. جاز إحياؤها؛ لأنه لا ينتفع بها إلا بالعمل، فهي كالموات. وأما المعادن الباطنة: وهي ما لا يتوصل إلى أخذ شيء منها إلا بعلاج وعمل، كمعدن الذهب والفضة والفيروز والرصاص والنحاس وما أشبهه، فإذا عمل فيها رجل ووصل إلى نيله.. ملك ما أخذ منه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم. فهو أحق به» . وهل يملك المعدن؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يملكه؛ لأنه أرض غير مملوكة، لا يتوصل إلى منفعتها إلا بنفقة ومؤونة، فيملك بالإحياء، كالموات. والثاني: لا يملكه بالإحياء، وهو الصحيح؛ لأن المحيا: ما يتكرر الانتفاع به

فرع: غلبة المسلمين على أرض معدن

بعد عمارته من غير إحداث عمارة وعمل آخر، فهذا لا يمكن في المعادن؛ لأنه لا ينتفع بها إلا بعمل متجدد في كل شيء يأخذه. قال الشافعي: (ولأنه لو ملكه.. لجاز بيعه، وبيعه لا يجوز؛ لأن المقصود منه مجهول) . فإذا قلنا: يملكه بالإحياء.. فإحياؤه هو العمل الذي يتوصل به إلى نيله، وقبل ذلك تحجر. وإن قلنا: إنه لا يملكه.. فلا يجوز تحجره، بل لكل أحد أن يجيء ويأخذ منه. فإن أطال المقام عليه، فهل تزال يده؟ على وجهين، كما قلنا في المعادن الظاهرة. وإن سبق إليه اثنان في حالة واحدة.. فهو كما لو سبقا إلى معدن ظاهر على ما مضى. هذا ترتيب الشيخ أبي إسحاق، وذكر الشيخ أبو حامد والمحاملي: أنه لا يأتي فيه إلا وجهان: أحدهما: يقرع بينهما. والثاني: يقدم الإمام من يرى منهما. ولا يجيء الثالث، وهو: أن يقسم بينهما؛ لأن الموضع لا يتسع إلا لأحدهما. [فرع: غلبة المسلمين على أرض معدن] وإن عمل جاهلي في الموات على معدن باطن، وظهر على نيله، ثم غلب المسلمون على تلك الأرض.. فهو كما لو لم يعمل عليه. وهل يملك بالإحياء؟ على القولين. فإن قيل: هلا قلتم: إنه يصير غنيمة على القول الذي يقول: إن هذه المعادن تملك بالإحياء؟ فالجواب: أن المعادن إنما تملك بالإحياء إذا قصد المحيي تملكها، ونحن لا نعلم أن الجاهلي قصد تملكها أم لا، فجرى مجرى من حفر بئرًا في موات وارتحل عنها، فإنه يجوز لغيره الانتفاع بها؛ لأنا لا نعلم أنه يملكها أم لا؟

فرع: إحياء الأرض يقتضي ملكها وما فيها

[فرع: إحياء الأرض يقتضي ملكها وما فيها] إذا أحيا رجل مواتًا.. ملكها. فإن ظهر بها معدن ذهب أو فضة أو غير ذلك مما ذكرنا.. ملك ذلك المعدن، قولًا واحدًا؛ لأنه قد ملك الأرض بالإحياء، فملك جميع أجزائها، والمعدن من أجزائها، فملكه، كما لو أحيا أرضًا فنبع فيها عين ماء. ويفارق إذا حفر في الموات معدنًا منفردًا في أحد القولين؛ لأنه لم يملك الأرض، وإنما قصد تملك المعدن، والموات لا تملك إلا بعمارة، ولا يوجد ذلك في المعدن. [مسألة: مقاعد الباعة في الأسواق] ويجوز القعود بمقاعد الأسواق، ورحاب المساجد، والطرق الواسعة للبيع والشراء بإجماع الأمة على جواز ذلك. فإن سبق رجل إلى شيء من هذه المواضع.. كان أحق به؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «منى مناخ من سبق» . وله أن ينصب فيها ما يستظل به مما ينقله معه ولا يضر به على الناس، كالبواري ونحوه.

فرع: للإمام المنع من القعود

وليس له أن يبني فيها دكة ولا بيتًا؛ لأن في ذلك ضررًا على الناس. فإن جاء آخر، وقعد بين يدي الأول حتى ضيق عليه المكان.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 344] : كان له منعه. فإن قام رجل من شيء من هذه المواضع وترك رحله فيه.. لم يكن لغيره أن يقعد فيه؛ لأن يد الأول لم تزل عنه. فإن نقل رحله عنه: قال الشيخ أبو حامد والبغداديون من أصحابنا: فلغيره أن يقعد فيه؛ لأن يد الأول زالت عنه. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 343] : إذا فارق ذلك الموضع ليلًا.. فليس لغيره أن يقعد فيه. وكذلك لو لم يقعد فيه يومًا أو يومين لمرض أو شغل.. فليس لغيره أن يقعد فيه. وإن طالت غيبته.. بطل حقه، ولغيره أن يقعد فيه، ولا يرده عليه إذا عاد. قال: وهكذا لو كان جالسًا في مسجد فسبقه الحدث فذهب ليتوضأ.. لم يكن لغيره أن يجلس في مكانه. [فرع: للإمام المنع من القعود] وإن قعد رجل في شيء من هذه المواضع وأطال الإقامة.. فهل للإمام أن يزيل يده عنه؟ فيه وجهان، كما قلنا فيمن سبق إلى معدن ظاهر وأطال. وإن جاء اثنان إلى ذلك الموضع في حالة واحدة، ولم يتسع المكان لهما.. ففيه وجهان أحدهما: يقرع بينهما. والثاني: يقدم الإمام أحدهما، كما قلنا في الرجلين إذا جاءا معًا إلى معدن ظاهر. ولا يجيء الوجه الثالث هناك هاهنا ـ وهو: أن يقسم بينهما ـ لأن الموضع لا يتسع لهما، فلا فائدة في قسمته.

فرع: [مواضع النجعة في البادية] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 343] : المواضع التي ينزل بها أهل البادية للنجعة، فمن نزل بها.. فهو أحق بها، وكذا لو أرسل نعمه في صحراء.. فليس لغيره أن ينحي نعمه عنها، ويرسل نعمه فيها. والله تعالى أعلم

باب الإقطاع والحمى

[باب الإقطاع والحمى] يجوز للإمام أن يقطع الموات لمن تملكها بالإحياء؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع الزبير حفر فرسه ـ يعني: عدوه ـ فأجراه، فلما قام.. رمى بسوطه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أقطعوا له من ميتتها سوطه» و: (أقطع أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أقطع العقيق) ولم ينكر عليهما أحد، فدل على إجماعهم على صحة الإقطاع. ولا يقطع الإمام أحدًا من الموات إلا ما يقدر المقطع له على إحيائه؛ لأنه إذا أقطعه ما لا يقدر على إحيائه.. استضر الناس بذلك من غير فائدة. ومن أقطعه الإمام شيئًا.. صار أحق به، كالذي يتحجر شيئًا من الموات بابتداء العمل على ما مضى بيانه.

مسألة: إقطاع المعدن

[مسألة: إقطاع المعدن] وأما إقطاع المعادن: فينظر فيه: فإن كان معدنًا ظاهرًا ـ وهو: الذي يتوصل إلى نيله من غير إحداث عمل ـ كالأنهار والعيون وما أشبهه.. فلا يصح إقطاعه؛ لما روي: «أن الأبيض بن حمال المازني وفد على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليقطعه ملح مأرب ـ فروي: أنه أقطعه، وروي: أنه أراد أن يقطعه ـ فقال له رجل من المجلس ـ قيل: إنه الأقرع بن حابس ـ: أتدري يا رسول الله ما الذي تقطعه؟ إنما تقطعه الماء العد، فانتزعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -) . وفي رواية الشافعي [في " الأم " 3/265] : قال: "فلا آذن"، وذكر في " المهذب " [1/432] : «فاستقاله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الأبيض: قد أقلتك فيه على أن تجعله مني صدقة، فقال: هو منك صدقة» .

و (الماء العد) : هو الذي لا ينقطع، وأراد: أنه بمنزلة ما لا ينقطع من الماء. فإن قيل: في الخبر ما يدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطعه إياه، ثم تبين أنه أخطأ فاسترده، وأن الخطأ عليه جائز.. قلنا: عن هذا أجوبة: أحدها: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد كان أقطعه إياه ولم يخطئ في الحكم، وإنما أخطأ في الصورة؛ لأنه ظن أنه معدن باطن يحتاج الانتفاع به إلى نفقة ومؤنة، فلما أخبر أنه معدن ظاهر لا يحتاج إلى نفقة ومؤنة.. امتنع. والثاني: أنه وإن أخطأ في الحكم فالخطأ في الحكم جائز على الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، وإنما لا يقرهم الله عليه بخلاف غيرهم، فإنهم يخطئون ويقرون عليه. والثالث: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن أقطعه، وإنما أراد أن يقطعه، فلما أخبر أنه كالماء العد.. امتنع من إقطاعه. فعلى هذا: لم يخطئ في حكم ولا في صورة، بل كان وعده، ثم استقاله؛ لتطيب نفسه من النفقة. وأما المعادن الباطنة ـ وهي: المعادن التي لا يتوصل إلى أخذ ما فيها إلا بحفر بعد حفر ـ كمعادن الذهب والفضة: فإن قلنا: يجوز تملكها بالإحياء.. جاز إقطاعها، كما قلنا في الموات، وإن قلنا: لا تملك بالإحياء.. فهل يجوز إقطاعها؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز إقطاعها؛ لأنها لا تملك بالإحياء، فلم يجز إقطاعها، كالمعادن الظاهرة. والثاني: يجوز إقطاعها؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بلال بن الحارث معادن القبلية، جلسيها وغوريها، وحيث يصلح الزرع من قدس، ولم يعطه حق مسلم، وأخذ منه الزكاة» ، ولأنه يجوز إقطاع ما لا يملك بالإحياء، كمقاعد الأسواق والطرق.

مسألة: المعدن الباطن لمالك الأرض

وإن شئت قلت: في المعادن الباطنة ثلاثة أقوال: أحدها: تملك بالإحياء، ويجوز إقطاعها. والثاني: لا تملك بالإحياء، ولا يجوز إقطاعها. والثالث: لا تملك بالإحياء، ويجوز إقطاعها. فإذا قلنا: يجوز إقطاعها.. لم يقطع الإمام منها رجلًا إلا ما يقوم بعمارته، كما قلنا في الموات. فرع: [يجوز إقطاع مقاعد الأسواق] : ويجوز إقطاع مقاعد الأسواق، والطرق الواسعة، فإذا أقطعه الإمام شيئًا من ذلك.. صار أحق به من غيره. فإن قام عنه ونقل رحله عنه، ثم رجع إليه ووجد غيره فيه.. فالأول الذي أقطعه الإمام أحق به. وهذا هو الفرق في الارتفاق بهذه المواضع بغير الإقطاع، وبالإقطاع. [مسألة: المعدن الباطن لمالك الأرض] ومن ملك معدنًا باطنًا، ثم جاء غيره وأخذ منه شيئًا، فإن كان ذلك بغير إذن المالك. كان ما أخرجه لمالك المعدن، ولا أجرة للمخرج، وإن كان بإذنه.. نظرت: فإن قال: استخرجه لنفسك، فأخرجه.. فالهبة فاسدة؛ لأنه مجهول، ويأخذه مالك المعدن، ولا أجرة للمخرج؛ لأنه أخرجه لنفسه. فإن قيل: أليس لو قارضه على أن يكون الربح كله للعامل، فعمل وربح.. كان القراض فاسدًا، وكان الربح لرب المال وللعامل أجرة ما عمل؟ قال ابن الصباغ: فإن أصحابنا قالوا: الفرق بينهما: أن العمل وقع لغيره؛ لأن

مسألة: الحمى لموضع

العمل في رأس المال وهو يعلم أنه لغيره، والبيع والشراء وقع لصاحب المال، وهاهنا عمل لنفسه؛ لأنه اعتقد أن ما يعمل فيه له. قال ابن الصباغ: والفرق الجيد عندي: أن إذنه هاهنا تمليك للعين الموجودة، والعمل فيها لا يكون بالإذن؛ لأن عمله في ملك نفسه لا يفتقر إلى إذن غيره، فلم يستحق في مقابلته شيئًا. أما القراض: فإنه لا يملك فيه بالإذن إلا التصرف، وبه يملك الربح، فإذا لم يحصل له بتصرفه ملك ما يحصل بالتصرف، وحصل لغيره.. كان له أجرة العمل الذي حصل به ملك غيره. وإن قال مالك المعدن: استخرجه لي، ولم يشرط له أجرة، فاستخرج له منه شيئًا.. كان المخرج لمالك المعدن. وهل يستحق المخرج أجرة المثل على مالك المعدن؟ فيه أربعة أوجه، مضى ذكرها. وإن شرط له أجرة معلومة على عمل معلوم، بأن قال: استأجرتك أن تحفر لي كذا وكذا يوما بكذا.. صح. وإن قال: إن أخرجت لي كذا وكذا فلك كذا.. صح، وكان جعالة. [مسألة: الحمى لموضع] ] : وأما الحمى: فهو أن يحمي الرجل موضعًا من الموات الذي فيه الكلأ ليرعى فيه البهائم، يقال: حمى الرجل يحمي حمى، وحامى يحامي محاماة، وحماء، فيجوز قصر الحمى ومده، والمشهور فيه: القصر. قال الشاعر: أبحت حمى تهامة ثم نجد ... وما شيء حميت بمستباح إذا ثبت هذا: فإن الحمى كان جائزًا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيحمي لنفسه وللمسلمين؛ لما

روى الصعب بن جثامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حمى إلا لله ولرسوله» . فأما لنفسه: فإنه ما حمى، وأما للمسلمين: فإنه قد حمى، والدليل عليه: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمى النقيع لخيل المجاهدين» . و (النقيع) : بالنون: اسم للمكان الذي حماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وبالباء: اسم لمقابر المدينة. وأما آحاد الرعية: فليس لأحد منهم أن يحمي شيئًا من الموات؛ لأن الرجل العزيز في الجاهلية كان إذا انتجع بلدًا مخصبًا.. أوفى بكلب على جبل، أو نشز من الأرض ـ إن لم يكن جبل ـ ثم استعواه، ووقف له من يسمع منتهى صوته ـ وهو العواء ـ فحيث انتهى صوته.. حماه من كل ناحية لضعفاء ماشيته خاصة، ويرعى مع الناس في غيره، فأبطل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك، وقال: «لا حمى إلا لله ولرسوله» . وأما إمام المسلمين: فليس له أن يحمي لنفسه، قولًا واحدًا، وهل له أن يحمي لخيل المجاهدين، ونعم الصدقة، ونعم من يضعف من المسلمين عن طلب النجعة؟ فيه قولان:

أحدهما: ليس له ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حمى إلا لله ولرسوله» ، ولأنه لا يجوز له أن يحمي لنفسه، فلا يحمي لغيره كآحاد الرعية. والثاني: يجوز، وبه قال مالك وأبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لما روي في بعض الأخبار: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حمى إلا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين» . وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أتاه أعرابي من أهل نجد وقال: يا أمير المؤمنين: بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها، فعلام تحميها؟ فأطرق عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجعل ينفخ ويفتل شاربه ـ وكان إذا كره أمرًا فعل ذلك ـ فجعل الأعرابي يردد ذلك عليه، فقال عمر: المال مال الله، والعباد عباد الله، فلولا ما أحمل عليه في سبيل الله.. ما حميت عليهم شبرًا في شبر) . قال مالك: (نبئت أنه كان يحمل في كل عام على أربعين ألفًا من الظهر) ، وقال مرة: (من الخيل) . وروي: (أن عمر حمى موضعًا وولى عليه مولى له يسمى هنيًا، وقال: يا هني: ضم جناحك للناس، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان، ونعم ابن عوف، فإنهما إن تهلك ماشيتهما.. يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الصريمة والغنيمة، إن تهلك ماشيته.. يأتيني بعياله فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا، لا أبا لك؟ إن الماء والكلأ أهون علي من الدينار والدرهم، وايم الله: إنهم ليرون أني ظلمتهم،

فرع: حمى النبي لا ينقض

وإن البلاد لبلادهم، قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده: لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله.. ما حميت شبرًا من أرض المسلمين) . قال الشيخ أبو حامد: فقوله: (ضم جناحك للناس) أي: تواضع لهم ـ وقيل معناه: اتق الله؛ لأن ضم الجناح هو تقوى الله، فكأنه قال: اتق الله في المسلمين. وقوله: (وأدخل رب الصريمة والغنيمة) أي: لا تمنع الضعفاء من هذا الحمى. و (الصريمة) تصغير صرمة، وهي: ما بين العشر إلى الثلاثين من الإبل. وما دون العشر يقال له: الذود. و (الغنيمة) : تصغير غنم. وأما قوله: (وإياك ونعم ابن عفان، ونعم ابن عوف) أي: لا تدخلها الحمى؛ لأنهما غنيان لا يضرهما هلاك نعمهما. إذا ثبت هذا: وقلنا: يجوز للإمام أن يحمي.. فإنه يحمي قدرًا لا يضيق به على المسلمين؛ لأنه إنما يحمي للمصلحة، وليس من المصلحة إدخال الضرر على المسلمين. [فرع: حمى النبي لا ينقض] إذا حمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مواتًا لمصلحة، فإن كان ما حمى له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المصلحة باقيًا.. لم يجز لأحد إحياؤه، وإن زال ذلك المعنى.. فهل يجوز إحياؤه؟ فيه وجهان:

فرع: حمى الحاكم

أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ربما عاد ذلك المعنى فيحتاج إلى ذلك الحمى، كما قلنا في المحلة إذا خربت وفيها مسجد.. فلا يجوز نقضه ونقل خشبه، ولأن ما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معلوم أنه مصلحة، فلا يجوز تغييره، كما أمر بالرمل والاضطباع بسبب، ولم يزل بزوال ذلك السبب. والثاني: يجوز إحياؤه. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأن الحكم إذا وجب لعلة.. زال بزوال العلة، بخلاف المسجد، فإنه يرجى عود العمارة فيحتاج إلى المسجد ولا يتمكن منه؛ لأنه لا يحتاج إلى الإنفاق عليه، وليس كذلك الحمى؛ لأنه إن عاد ذلك المعنى واحتيج إلى الحمى.. فإنه يحمى في الوقت، ولا شيء يتعذر. [فرع: حمى الحاكم] وأما إذا حمى الإمام مواتًا لمصلحة، وقلنا: يصح حماه، فأحياه إنسان، فإن كان بإذن الإمام.. جاز وملكه إذا أحياه؛ لأن إذن الإمام نقض لذلك الحمى، وإن أحياه بغير إذنه.. قال ابن الصباغ.. فقد قيل: فيه وجهان، وقيل: هما قولان: أحدهما: لا يملكه من أحياه؛ لأنها أرض محمية، فلم يملكها من أحياها، كالذي حماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والثاني: يملكه؛ لأن الملك بالإحياء ثبت بالنص، وحمى الإمام اجتهاد، فكان النص مقدمًا على الاجتهاد. [فرع: توسع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ملك خيبر وغيرها] قال الشيخ أبو حامد: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابتداء الإسلام ـ حيث كان الأمر ضيقًا ـ ما كان يدخر إلا قوت يوم لنفسه وعياله، ويتصدق بالباقي في بره، فلما انتشر

باب حكم المياه

الإسلام، وكثرت الفتوح، وملك خيبر وبني النضير وغير ذلك.. اتسع، فكان يدخر قوت سنة لنفسه وعياله، ويتصدق بالباقي، وكان ممن يملك. وقال بعض الناس: ما كان يملك شيئًا، ولا يتأتى منه الملك، وإنما أبيح له ما يأكله وما يحتاج إليه، فأما تملك شيء: فلا. وهذا غلط؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] [الحشر: 7] فأضاف ذلك إليه، والإضافة تقتضي الملك، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعتق صفية وتزوجها وجعل عتقها صداقها» و: «استولد مارية» ولا يكون ذلك إلا في ملك. فرع: [لا حق لعرق ظالم] : روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «ليس لعرق ظالم حق» . قال الشافعي: (والعرق: ما وضع في الأرض للبقاء والدوام) . والعروق أربعة: عرقان ظاهران، وهما: الغراس والبناء. وعرقان باطنان، وهما: البئر والنهر. [باب حكم المياه] 7 -

باب حكم المياه إذا حفر الرجل بئرًا في ملكه.. فالبئر ملك له؛ لأن من ملك أرضًا ملكها إلى القرار، فإن نبع فيها ماء فهل يملكه؟ على وجهين، مضى ذكرهما في البيوع. وإن حفر الرجل بئرًا في موات ليتملكها، فما لم ينبع فيها الماء.. فلا يملكها، لكنه متحجر لها، فإن نبع فيها الماء وكانت صلبة لا تفتقر إلى طي، أو كانت رخوة فطواها.. ملك البئر، وهل يملك ما فيها من الماء؟ على الوجهين. وإن حفرها في موات لا ليتملكها، ولكن لينتفع بها، فنبع فيها الماء.. فإنه لا يملكها؛ لأنه لم يقصد تملكها، وإنما قصد الارتفاق بها، فلم يملكها. فما دام مقيمًا عليها.. فهو أحق بها؛ لأنه سابق إليها، فإن أزال يده عنها وجاء غيره.. كان أحق بها؛ لأنه ماء مباح. إذا ثبت هذا: فإن الماء الذي ينبع في البئر التي يملكها، لا يلزمه أن يبذل لغيره منه ما يحتاج إليه لنفسه وماشيته وزرعه وشجره. وأما ما يفضل عن حاجة نفسه وماشيته وزرعه وشجره: فيجب عليه أن يبذله لماشية غيره إذا كان بقرب هذا الماء كلأ مباح لا يمكن للماشية رعيه إلا بأن تشرب من هذا الماء، فيلزم مالك الماء بذل الماء بغير عوض. وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال أبو عبيدة بن حرب: لا يلزمه ذلك، وإنما يستحب له بذله، كما لا يلزمه بذل الكلأ في أرضه لماشية غيره. ومن الناس من قال: يلزمه بذله بعوض، كبذل الطعام للمضطر. والأول أصح؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمنع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ» .

فرع: الشرب من النهر المملوك

وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ.. منعه الله فضل رحمته يوم القيامة» فأوجب عليه بذل الفضل من غير عوض، وتوعده على منعه. والتوعد لا يكون إلا على فعل معصية. ولا يلزمه بذل فضل الماء لزرع غيره وشجره. ومن الناس من قال: يلزمه بذل الفضل لزرع غيره وشجره. وهذا ليس بصحيح؛ لأن التوعد إنما ورد في منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ، ويخالف بذل الماء للماشية؛ لأن الماشية لها حرمة بنفسها، ولهذا يلزمه سقي ماشيته، والزرع والشجر لا حرمة له بنفسه، ولهذا لو كان له زرع أو شجر لم يلزمه سقيه. [فرع: الشرب من النهر المملوك] قال ابن الصباغ: وإذا كان لرجل نهر مملوك.. جاز لكل أحد أن يتقدم ويشرب منه؛ لأنه به حاجة إلى ذلك، وهو فاضل عن حاجة صاحب النهر، إذا كان لا يؤثر فيه. [مسألة: الماء مباح مملوك حسب مكانه] المياه على ثلاثة أضرب: [الأول] : ماء مباح في موضع مباح.

والثاني: ماء مباح في موضع مملوك. والثالث: ماء نبع في ملك. فأما الماء المباح في موضع مباح: فمثل الماء في الأنهار العظيمة، كدجلة والفرات، وما جرى من ذلك إلى نهر صغير، وكالسيول في الموات، فهذا الماء الناس فيه شرع واحد، لكل أحد أن يأخذ منه، ومن قبض منه شيئًا.. ملكه، وفيه ورد قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس في ثلاثة شركاء: الماء والنار والكلأ» . وأما الماء المباح في موضع مملوك: فمثل أن يحفر رجل ساقية إلى أرضه، ويرد فيها الماء من هذه الأنهار العظيمة، أو ينزل في أرضه ماء من المطر.. فهذا الماء مباح؛ لأنه ليس من نماء أرضه، وإنما هو على أصل الإباحة. ولا يملك المباح إلا بالتناول وهو: أن يأخذه في جرة أو جب، إلا أن صاحب الأرض أحق به لكونه في أرضه، ولا يجوز لغيره أن يدخل إلى أرضه بغير إذنه، فإن خالف الغير ودخل إلى هذه الأرض، وأخذ شيئًا من هذا الماء.. ملكه، وكان متعديًا بدخول أرض غيره بغير إذنه. قيل للشيخ أبي حامد: فإن سقى الرجل زرعه بماء مباح، أيملك الماء الذي في أرضه بين زرعه؟ قال: لا يملكه، كما لو دخل الماء إلى أرضه وفيه سمكة، فإنه لا يملك السمكة بدخولها إلى أرضه، وإنما يكون أحق بها من غيره. وإن توحل في أرضه ظبي، أو عشش فيه طائر.. فإنه لا يملكه لكونه في أرضه، ولكن لا يجوز لغيره أن يدخل إلى أرضه ويأخذ هذا الظبي والطير منها؛ لأنه لا يجوز له التخطي فيها بغير إذن مالكها، فإن خالف ودخلها، وأخذ الظبي والطير منها.. ملكه بالأخذ. وحكى الطبري في " العدة " وجهًا آخر: أنه يملك الظبي المتوحل في أرضه والطائر الذي عشش في أرضه، وليس بشيء. وإن نصب رجل شبكة فوقع فيها صيد.. ملكه؛ لأن الشبكة كيده. وأما الضرب الثالث ـ وهو الماء الذي ينبع في موضع مملوك ـ: فهو: أن ينبع في

فرع: السقي من الأنهار

أرضه عين ماء، أو يحفر في أرضه بئرًا أو عينًا، أو يحفر في الموات بئرًا ليتملكها، وينبع فيها الماء.. فقد مضى ذكر هذا في أول الباب. [فرع: السقي من الأنهار] وأما السقي بالماء: فإن كان الماء مباحًا في موضع مباح: فإن كان نهرًا عظيمًا لا يحصل فيه تزاحم، كدجلة والفرات، وكالسيول العظيمة.. فلكل أحد أن يسقي منه متى شاء وكيف شاء؛ لأنه لا ضرر على أحد بذلك. وإن كان يحصل فيه تزاحم، بأن كان هذا الماء المباح في الموضع المباح قليلًا لا يمكن سقي الأرض إلا بجميعه.. فإن ترتيب السقي فيه: أن الأعلى يسقي أرضه منها إلى أن يجول الماء في أرضه ـ إذا كانت مستوية ـ إلى الكعبين، ثم يرسل الماء إلى من تحته، وعلى هذا إلى أن تنتهي الأرضون؛ لما روى عبادة بن الصامت: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في شرب النخل من سيل: أن للأعلى أن يسقي حتى يبلغ الماء إلى الكعبين، ثم للأسفل كذلك حتى ينتهي الأرضون» . وروى ابن الزبير: «أن الزبير ورجلًا من الأنصار اختصما في شراج الحرة التي يسقون بها النخل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه الزبير، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير: يا زبير اسق أرضك، ثم أرسل الماء إلى جارك" فغصب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك! فتلون وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال: "يا زبير اسق أرضك، واحبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر". قال الزبير: فوالله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] [النساء: 65] » .

قال أبو عبيد [في "غريب الحديث (4/2) ] : و (الشراج) : جمع شرج، والشرج: نهر صغير. و (الحرة) : أرض ملبسة بالحجارة. و (الجدر) : الجدار. فقيل: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أمر الزبير في المرة الأولى أن يسقي أرضه أقل من حقه مسامحة لجاره، فلما أغضبه الأنصاري.. أمره أن يسقي إلى الجدر، وعلم أن الماء إذا بلغ الجدر، بلغ إلى الكعب، وذلك قدر حقه. وقيل: بل كان أمره في الأولى أن يسقي أرضه قدر حقه، وهو: أن يبلغ الماء إلى الكعب، فلما قال الأنصاري ما قال.. أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسقي أرضه أكثر من حقه عقوبة للأنصاري، إذ كانت العقوبات يومئذ في الأموال. قال أصحابنا: والأول أشبه. وفرع أبو جعفر الترمذي على هذا: إذا كان لرجل أرض بعضها أعلى من بعض، ولا يقف الماء في العالية إلى الكعبين حتى يحول في المتسفلة إلى الركبتين.. فليس له أن يحبس الماء في المتسفلة إلى الركبتين، ولكن يسقي المتسفلة إلى الكعبين، ثم يسدها، ويسقي العالية إلى الكعبين. وفرع الترمذي والإصطخري على هذا فرعًا آخر وهو: إذا أراد رجل أن يحيي مواتًا ويجعل شربه من هذا النهر: فإن لم يضق الماء على الذين قد حصلت لهم الأرض والشرب من النهر قبل هذا.. كان للثاني أن يسقي معهم؛ لأن الماء مباح، ولا ضرر عليهم في ذلك. وإن كان الماء يضيق على أهل الأرض.. لم يكن للثاني ذلك. قال أبو سعيد الإصطخري: لأن من أحيا مواتًا.. ملكه، وملك مرافقه وما يصلح

فرع: السقي من ماء مملوك

به. ومن مرافق هذه الأرض كفايتها من الماء، فإذا كان في إحياء هذا نقصان الماء عليهم.. لم يكن له ذلك. وعلل الترمذي تعليلًا آخر، فقال: من سبق إلى شيء مباح.. كان أحق به، وهؤلاء الذين تقدم إحياؤهم سبقوا إلى هذا الماء والشرب منه، فكانوا أحق به من غيرهم. [فرع: السقي من ماء مملوك] وأما السقي من الماء المملوك: فإن حفر رجل بئرًا في ملكه، أو نهرًا، ونبع فيه الماء.. فإنه يملك البئر والنهر، وفي ملكه للماء وجهان. وسواء قلنا: يملكه، أو لا يملكه.. فليس لأحد أن يدخل ملكه بغير إذنه ليأخذ منه شيئًا، فيسقي هذا الرجل أرضه بهذا الماء كيف شاء. وإن حفر بئرًا أو نهرًا في ملكه، ونزل فيها ماء مباح.. فإنه لا يملك هذا الماء، ولكنه أحق به؛ لكونه في أرضه، ويسقي به أرضه كيف شاء. فإن وقف رجل في موات بقرب هذه البئر ـ أو النهر ـ ورمى حبلًا عليه دول في هذه البئر.. لم يكن له ذلك؛ لأنه ينتفع بما هو ملك غيره، ولكنه إن خالف وأخذ منه الماء.. ملكه. وإن حفر جماعة نهرًا من موات ـ أو بئرًا ـ فنبع فيها الماء.. ملكوا النهر والبئر. وهل يملكون الماء؟ على الوجهين. فإن أرادوا أن يتساووا في الملك.. تساووا في النفقة. وإن أرادوا التفاضل في الملك.. تفاضلوا في النفقة؛ لأنهم إنما ملكوا بالعمارة.. فاختلف ملكهم باختلاف نفقاتهم. إذا ثبت هذا: وأرادوا السقي بهذا الماء، فإن اتفقوا على المهايأة، وأن يسقي كل واحد منهم يومًا.. جاز، غير أن المهايأة لا تلزمهم، فمتى أرادوا نقضها.. جاز. وإن أرادوا قسمته من غير مهايأة: قال أبو جعفر الترمذي: أمكن ذلك، بأن تؤخذ خشبة مستوية الطرفين والوسط،

فتفتح فيها كواء على قدر حقوقهم، ثم توضع في مكان بين الأرضين والنهر، ويكون الموضع مستويًا، ثم يجمع الماء إلى ذلك الموضع، فيدخل في كل كوة قدر حق صاحبها، فإذا فعل ذلك.. فقد صار مقسومًا قسمة صحيحة، وليس لأحدهم أن يوسع كوته ولا يعمقها؛ لأنه يدخل فيها بذلك أكثر من حقه. فإن تغيرت.. أصلحها. فإن أراد أحدهم أن يأخذ حقه من الماء قبل موضع القسمة، ويحفر ساقية إلى أرضه.. لم يكن له ذلك؛ لأن الحريم مشترك بينه وبين غيره، فلم يكن له خرقه. وإن أراد أحدهم أن يدير قبل موضع القسمة رحى.. لم يكن له ذلك؛ لأنه يضعها في موضع مشترك بينه وبين غيره بغير إذن شركائه. وإن أراد أن ينصب رحى بعد موضع القسمة في ساقيته التي تجري إلى أرضه.. جاز؛ لأنه وضع الرحى في ملك له منفرد به. فإن أحيا رجل منهم مواتًا ليسقيها من مائه من هذا النهر وساقيته، أو كان له أرض أخرى ليس لها رسم شرب من هذا النهر، فأراد أن يسقيها منه بمائه ومن ساقيته.. فذكر الشيخان ـ أبو حامد وأبو إسحاق ـ: ليس له ذلك؛ لأنه يجعل لهذه الأرض شربًا من هذا النهر، فلم يكن له ذلك، كرجل له دار في درب لا ينفذ، فاشترى دارًا في درب آخر طريقها منه، فأراد أن ينفذ إحداهما إلى الأخرى، فإنه لا يكون له ذلك. قال ابن الصباغ: وهذا وجه جيد عندي، غير أن الدارين قد اختلف أصحابنا فيها، فمنهم من جوز ذلك، ويمكن من جوز ذلك في الدارين أن يفرق بينها وبين الأرض؛ لأن الدار لا يستطرق منها إلى الدرب، وإنما يستطرق إلى أخرى، ومن أخرى إلى الدرب، وهاهنا يحمل في الساقية إليها، فيصير لها رسم في الشرب.

فرع: كري النهر على المنتفعين

[فرع: كري النهر على المنتفعين] قال ابن الصباغ: إذا كان النهر مشتركًا بين عشرة، فأرادوا أن يكروه، فإن على الجماعة أن يشتركوا في الكري في أوله، فإذا جاوزوا الأول.. كان على الباقين دونه، فإذا جاوزوا الثاني.. كان على الباقين دونه.. وعلى هذا. وبه قال أبو حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يشتركون في جميعه؛ لأن الأول ينتفع بجميعه؛ لأنه ينتفع بأوله بسقي أرضه، وبالباقي بصب مائه، فكان الكري على الكل بقدر شربه وأرضه. ودليلنا: أنه ينتفع بالماء الذي في موضع شربه، فأما ما بعده: فإنه يختص بالانتفاع به من دونه، فلا يشاركهم فيه. والله أعلم

كتاب اللقطة

[كتاب اللقطة]

كتاب اللقطة اللقطة ـ بسكون القاف ـ: هو المال الملقوط. وأما اللقطة ـ بفتح القاف ـ: فاختلف أهل اللغة فيها: فقال الأصمعي وابن الأعرابي والفراء: هو اسم المال الملقوط. وقال الخليل: هو اسم الرجل الملتقط؛ لأن ما جاء على وزن فعلة.. فهو اسم الفاعل، كقولهم: همزة ولمزة وضحكة. إذا ثبت هذا: فإذا وجد الحر الرشيد لقطة.. لم تخل: إما أن يجدها في موضع مملوك، أو في موضع مباح: فإن وجدها في موضع مملوك.. فهي لمالك ذلك الموضع؛ لأن يده ثابتة على الموضع وعلى ما فيه، إلا إن قال مالك الموضع: ليست بملك لي. وإن وجدها في موضع مباح.. فلا يخلو: إما أن يكون حيوانًا، أو غير حيوان، فإن

كان غير حيوان.. نظرت: فإن كانت يسيرة بحيث يعلم أن صاحبها لو علم أنها ضاعت منه لم يطلبها، كزبيبة أو تمرة وما أشبههما.. لم يجب تعريفها، وله أن ينتفع بها في الحال؛ لما روى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بتمرة مطروحة في الطريق فقال: لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة.. لأكلتها» وروى جابر قال: «رخص لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به» . وروي: (أن عمر بن الخطاب رأى رجلًا يعرف زبيبة، فقال: إن من الورع ما يمقته الله) . وإن كانت اللقطة كثيرة بحيث يطلبها من ضاعت منه، كالذهب والفضة والثياب والجواهر وغيرها، فإن وجدها في غير الحرم.. جاز التقاطها للتملك؛ لما روى زيد بن خالد الجهني، قال: سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن اللقطة فقال: «اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فشأنك بها» . وروي: «فاستنفع بها» . وسئل عن ضالة الغنم، فقال: «خذها فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب» .

وسئل عن ضالة الإبل، فغضب حتى احمرت وجنتاه أو قال: احمر وجهه، فقال: «ما لك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر، دعها حتى يجيء صاحبها فيأخذها» «وروى أبو ثعلبة، قال: قلت يا رسول الله: أفتني في اللقطة فقال: ما وجدته في طريق ميتاء،، أو قرية عامرة.. فعرفها سنة، فإن وجدت صاحبها، وإلا.. فهي لك. وما وجدته في طريق غير ميتاء، أو قرية غير عامرة.. ففيها وفي الركاز الخمس» . قال أبو عبيد ["في غريب الحديث" (2/204) ] : و (الميتاء) : الطريق العامر المسلوك، ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين توفي ابنه إبراهيم - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، فبكى عليه وقال:

«لولا أنه وعد حق، وقول صدق، وطريق ميتاء.. لحزنا عليك يا إبراهيم أشد من حزننا» قال: وبعضهم يقول: مأتي عليه الناس. وكلاهما جائز. ويجوز أن يلتقطها للحفظ على صحابها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة:2] . ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» . وإن وجدها في الحرم.. لم يجز له التقاطها للتملك. ومن الناس من قال: يجوز له التقاطها للتملك. وبه قال بعض أصحابنا، وحكاه ابن الصباغ عن مالك وأبي حنيفة؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مكة: «لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد» . و (المنشد) : المعرف، يقال: أنشدت الضالة إنشادا، فأنا منشد: إذا عرفتها. فأما الطالب لها: فيقال له: الناشد. يقال من الطلب: نشدت الضالة، أنشدها نشدانا: إذا طلبتها، فأنا ناشد. ومنه ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فقال: «أيها الناشد غيرك الواجد» .

وإذا كان المنشد هو المعرف.. كان معناه أنها لا تحل إلا للمعرف لها إذا لم يجد صاحبها. والمذهب الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] [العنكبوت:67] وما وصفه الله تعالى بالأمن لا يجوز أن يضيع فيه مال الغير. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل لقطة الحاج» . وعموم الخبر يقتضي: لا تحل لقطة الحاج بمكة، ولا بغيرها، فأجمع المسلمون على أنها تحل بغير مكة، وبقي الحرم على ظاهر الخبر. وأما الخبر الأول: فأراد به أنه لا يحل للمنشد منها إلا إنشادها، فأما للانتفاع بها.. فلا تحل له، إذا لو حل له تملكها لما كان لمكة مزية على غيرها من البلاد. والخبر ورد في بيان فضيلة مكة على غيرها. وقيل: أراد بقوله: (إلا لمنشد) أي: لا تحل إلا لصاحبها الذي يطلبها، وسماه منشدا. وهذا حسن في الفقه، ولكن لا يجوز في اللغة أن يسمى الطالب منشدا، وإنما هو ناشد. ولأن مكة بلد صغير، وينتابها الناس من الآفاق، فإذا عرفنا اللقطة فيها.. استشاع التعريف فيها، فإن كانت لأحد من أهلها.. تعرفها في الحال وأخذها. وإن كانت لمن ينتابها من الناس من غيرها وقد راح إلى أهله.. فلا يخلو أن يخرج من بلده غيره، من صديق له أو قريب، فيمكنه أن يتعرفها له، فكان الحظ في تركها وحفظها إلى أن يجيء صاحبها؛ لأن الظاهر أنها تصل إليه وليس كذلك سائر البلاد؛ لأن البلد قد يكون كبيرا لا يستشيع التعريف فيه إن كانت لأهلها، وربما كانت لغريب

فرع: رؤية اللقطة في طريق مسلوك

دخل ذلك البلد، وربما لا يعود إليه، فالظاهر أنها لا تعود إلى مالكها، فلذلك جاز تملكها. إذا ثبت هذا: فإن الملتقط يلزمه المقام لتعريفها، فإن لم يمكنه المقام.. دفعها إلى الحاكم ليعرفها من سهم المصالح؛ لأن ذلك مصلحة. [فرع: رؤية اللقطة في طريق مسلوك] ] وإن وجد شيئا من ضرب الجاهلية في طريق مسلوك، أو قرية عامرة.. فهو لقطة. وإن وجده في موات، أو في قرية خربة كانت عامرة للجاهلية.. فهو ركاز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما كان منها في طريق ميتاء.. فعرفها حولا كاملا، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فهي لك. وما كان منها في خراب.. ففيها وفي الركاز الخمس» و (الركاز) : المال المدفون. هكذا: إذا احتملت الأمرين، بأن تكون آنية، أو دراهم لا نقش عليها.. قال الشيخ أبو حامد: فهو ركاز أيضا. [فرع: اللقطة ذات الشأن] وإن كانت اللقطة يسيرة، إلا أنها تتبعها النفس، ويطلبها صاحبها إذا علم أنها ضاعت منه.. فهل يجب تعريفها سنة أو ثلاثة أيام؛ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب تعريفها سنة، بل يكفي ثلاثة أيام؛ لأن ذلك يشق. والثاني: وهو المذهب: - أنه يجب تعريف الكثير واليسير سنة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عرفها سنة» ولم يفرق. إذا ثبت هذا: وقلنا لا يجب تعريف اليسير سنة.. ففي قدره ثلاثة أوجه: أحدها: أن الدينار فما دونه: يسير، وما زاد عليه كثير؛ لما روي: «أن عليا

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجد دينارًا، فذكره للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمره بأكله» . والثاني: أن اليسير درهم فما دونه، وما زاد عليه كثير. والثالث: أن ما دون ربع دينار يسير، وربع دينار فما زاد عليه كثير؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ما كانت يد السارق تقطع في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشيء التافه» . ومعلوم أنها كانت تقطع بربع دينار.

مسألة: استحباب اللقطة للأمين

[مسألة: استحباب اللقطة للأمين] إذا وجد اللقطة وكان أمينا.. قال الشافعي في " المختصر " [3/125] : (لا أحب لأحد ترك لقطة وجدها إذا كان أمينا عليها) . وقال في موضع آخر: (لا يحل له ترك اللقطة إذا كان أمينا عليها) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم قال فيه قولان: أحدهما: يستحب له أخذها، ولا يجب عليه، لأن ذلك أمانة، فلم يجب عليه أخذها، كقبول الوديعة. والثاني: يجب عليه أخذها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة:2] ، ولقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] [التوبة:71] . وإذا كان وليا عليه.. وجب عليه حفظ ماله. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمة مال المؤمن كحرمة دمه» . ولو خاف على دمه.. لوجب عليه حفظه، فكذلك إذا خاف على ماله. وقال أبو العباس، وأبو إسحاق وغيرهما: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال (يستحب له أخذها، ولا يجب عليه) أراد به: إذا وجدها في بلد، أو قرية، أو محلة، يعلم أمانة أهلها؛ لأن ترك أخذها لا يكون تغريرا بها؛ لأن غيره يقوم مقامه في حفظها، فجرى مجرى الصلاة على الجنازة، ودفن الميت إذا كان هناك من يقوم بها غيره. والموضع الذي قال (يجب عليه أخذها) أراد: إذا وجدها في بلد، أو قرية، أو محلة يعلم أن أهلها غير ثقات، أو وجدها في مسلك يسلكه أخلاط الناس؛ لأن في تركها تغريرا بها.

فرع: تضمن اللقطة بالحفظ مدة التعريف

فإن تركها الأمين ولم يأخذها فتلفت.. لم يجب عليه ضمانها، سواء قلنا: يجب عليه أخذها، أو يستحب له أخذها؛ لأن الضمان إنما يكون باليد أو الإتلاف، ولم يوجد منه أحدهما، وإنما يفيد الوجوب الإثم لا غير. فأما إذا كان الواجد لها غير أمين: فلا يستحب له أخذها؛ لأن المقصود بأخذها حفظها على صاحبها، والتغرير يحصل بأخذه لها، فإذا تركها.. فربما وجدها من يحفظها على صاحبها. إذا ثبت هذا: فقد حكي عن مالك وأحمد: (أنهما كرها الالتقاط للأمين أيضا) . وروي ذلك عن ابن عباس وعطاء وجابر بن زيد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤوي الضالة إلا ضال» . ودليلنا: حديث زيد بن خالد الجهني، ولأنه أخذ أمانة فلم تكره، كالوديعة. وأما الخبر: فمحمول على كبار الحيوان إذا وجده في البرية. [فرع: تضمن اللقطة بالحفظ مدة التعريف] ] : إذا أخذ لقطة بنية التعريف.. لم يلزمه ضمانها بالأخذ، ولكن يلزمه حفظها مدة التعريف، فإن ردها إلى الموضع الذي وجدها فيه.. لم يبرأ بذلك. قال الشيخ أبو حامد: وهذا وفاق بيننا وبين أبي حنيفة، بخلاف الوديعة، فإنه خالفنا فيها.

مسألة: وجد اللقطة رجلان

وحكى ابن الصباغ: أن أبا حنيفة قال في اللقطة أيضا: (إنه يبرأ بذلك) كما قال في الوديعة. ودليلنا: أنه لما أخذها.. فقد التزم حفظها فإذا تركها في الموضع الذي وجدها فيه.. فقد ضيعها، فلزمه ضمانها، كما لو رماها إلى موضع آخر. وإن أخذ اللقطة من موضعها بنية تملكها في الحال.. ضمنها بالأخذ، ولا يبرأ بالتعريف. وإن عرفها بعد ذلك. فهل يملكها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 358] : أحدهما: لا يملكها، لأنها دخلت في ضمانه، فهو كما لو أخذها غصبا. والثاني: يملكها، وهو الأصح؛ لظاهر الأخبار، ولم يفرق، ولأن سبب التملك هو التعريف، وقد وجد. [مسألة: وجد اللقطة رجلان] وإذا وجد رجلان لقطة، فأخذاها معا.. كانت بينهما بعد التعريف، كما إذا أثبتا صيدا، وإن رأياها معا فبادر أحدهما وأخذها.. كانت لمن أخذها؛ لأن استحقاق اللقطة بالأخذ دون الرؤية، كما قلنا في الاصطياد. فإن رآها أحدهما، فقال لصاحبه: أعطنيها، فأخذها الآخر؛ فإن أخذها لنفسه.. كان أحق بها؛ لأن استحقاقها بالأخذ دون الرؤية، وإن أخذها لصاحبه الذي أمره بأخذها، فهل تكون للآمر؟ فيه وجهان، بناء على القولين في التوكيل في الاصطياد والاحتشاش. وإن أخذ رجل اللقطة فضاعت منه، ووجدها آخر.. فإن الثاني يعرفها، فإن جاء مالكها، وأقام البينة عليها.. وجب عليه ردها إليه؛ لأنه هو المالك لها. وإن لم يجد مالكها ولكن جاء الملتقط الأول، وأقام البينة على التقاطه لها.. وجب على الثاني ردها إليه؛ لأن الأول قد ثبت له عليها حق بالالتقاط، فوجب ردها إليه كما لو تحجر مواتا.

مسألة: ما تعرف به اللقطة

[مسألة: ما تعرف به اللقطة] قال الشافعي: (ويعرف عفاصها ووكاءها وعددها ووزنها وحليتها ويكتبها ويشهد عليها) . وجملة ذلك: أنه إذا وجد لقطة.. فيحتاج أن يعرف منها أشياء: أحدها: (العفاص) : وهو الوعاء الذي يكون فيه اللقطة: كالكيس الذي يكون فيه الدنانير أو الدراهم، واللفافة التي تكون فوق الثوب، والصندوق الذي يكون فيه المتاع، يقال أعفصت الإناء: إذا أصلحت له العفاص، وعفصته: إذا شددته عليه. وأما (الصمام) : فهو ما يسد به رأس المحبرة والقارورة. والعفاص والوعاء شيء واحد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في حديث زيد بن خالد: «اعرف عفاصها» . وفي حديث أبي بن كعب قال: «اعرف وعاءها» فدل أن المعنى واحد. الثاني: أن يعرف (وكاءها) : وهو الخيط الذي يشد به المال في الوعاء. ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «العينان وكاء السه» . الثالث: أن يعرف (جنسها) ، بأن يعرف أنها دنانير أو دراهم أو ثياب أو طعام. الرابع: أن يعرف (قدرها) ، بأن يعرف عددها إن كانت معدودة، أو وزنها إن كانت موزونة، وكيلها إن كانت مكيلة، وذرعها إن كانت مذروعة. الخامس: أن يعرف (حليتها) : وهو صفتها، فإن كانت من النقود.. عرف من أي السكك هي. وإن كانت ثيابا.. عرف أنها قطن أو كتان أو حرير، وأنها دقيقة أو غليظة. وإن كانت حيوانا.. عرف نوعه وحليته.

وإنما قلنا ذلك؛ لما روى زيد بن خالد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن اللقطة فقال اعرف عفاصها ووكاءها» وفي حديث أبي بن كعب «اعرف عددها، ووعاءها، ووكاءها» فنص على هذه الأشياء، وقسنا غيرها عليها؛ لأنها في معناها. واختلف أصحابنا لأي معنى أمر بتعرف هذه الأشياء؟ فقال أبو إسحاق: يحتمل ثلاثة معان: أحدها: أن المقصود ما في الوعاء، فنص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على معرفة الوعاء والوكاء وحفظهما؛ لينبه على معرفة ما في الوعاء وحفظه. والثاني: أن الوعاء والوكاء لا خطر له، والعادة أن الإنسان إذا وجد شيئا ربما يرمي بالوعاء والوكاء، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحفظهما؛ لئلا يرمى بهما. والثالث: أن الملتقط ربما خلط اللقطة ورفعها في جملة أمواله، فأمر بمعرفة الوعاء والوكاء؛ لكي تتميز عن أمواله ولا تختلط بها. ومن أصحابنا من قال: إنما أمره بمعرفة ذلك؛ لأن صاحبها ربما جاء ووصفها بذلك، فإن غلب على ظنه صدقه.. جاز له الدفع إليه بذلك. ومن أصحابنا من قال: إنما أمره بمعرفة ذلك؛ لأنه إذا عرف ذلك أمكنه الإشهاد عليها، والتعريف لها لتكون معلومة بما ذكرناه. قال الشافعي: (ويكتبها ويشهد عليها) . قال أصحابنا: يكتبها؛ لئلا ينسى ما عرفه، وذلك مستحب غير واجب. وأما الإشهاد عليها: فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يستحب ولا يجب، فإن تركه.. لم يجب عليه ضمانها. وبه قال مالك؛ لحديث زيد بن خالد، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمره بالإشهاد عليها، ولأنه آخذ أمانة، فلا يجب الإشهاد عليها، كالوديعة. والثاني: يجب الإشهاد عليها، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (إن لم يشهد عليها.. ضمنها) ؛ لما روى عياض بن حمار: أن

مسألة: نية حفظ اللقطة

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وجد لقطة.. فليشهد ذا عدل- أو ذوي عدل - ولا يكتم ولا يغيب. فإن وجد صاحبها.. فليردها عليه، وإلا.. فهو مال الله عز وجل يؤتيه من يشاء» ولأنه إذا لم يشهد عليها.. كان الظاهر أنه أخذها لنفسه، ولأن القصد من أخذ اللقطة حفظها على صاحبها، والحفظ إنما يتم بالإشهاد؛ لأنه ربما غاب أو مات، ويأخذها ورثته. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 362] : إذا قلنا: يجب الإشهاد.. فإنه يشهد أنه وجد لقطة ولا يعلم الشهود بالعفاص والوكاء وغير ذلك. [مسألة: نية حفظ اللقطة] إذا أخذ اللقطة بنية أن يحفظها على صاحبها أبدا.. فهل يلزمه تعريفها؟ فيه وجهان، حاكهما الطبري: أحدهما: لا يلزمه، وهو المشهور؛ لأن التعريف يراد للتملك وإباحة أكلها، ولا نية له في ذلك. والثاني: يلزمه التعريف؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عرفها سنة» ، ولأن صاحبها لا يعلم بها إلا بالتعريف. وإن أراد أن يتملكها.. عرفها. والكلام في التعريف في سبعة مواضع: في وجوبه، وقدر مدته، ووقته، وقدر التعريف، ومكانه، وكيفيته، ومن يتولاه. فأما الوجوب: فالدليل عليه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم عرفها سنة» . وهذا أمر، والأمر

يقتضي الوجوب، ولأن سبب التملك هو التعريف، فمتى أراد التملك.. لزمه الإتيان بالسبب. وأما قدر مدته: فسنة؛ للخبر، ولأن من ضاع منه شيء.. ربما لم يتمكن من طلبه في الحال لشغل، أو لأنه لم يعلم إلا بعد زمن، أو لبعده عن الموضع الذي ضاع فيه، فلم يكن بد من مدة، فقدرت بسنة؛ لأنه يمر فيها الفصول الأربعة. ولأن الغالب ممن ضاع منه شيء أنه يتمكن من طلبه في سنة، فإذا لم يوجد له مالك.. فالظاهر أنه لا مالك له. فإن قيل: فقد روي «عن أبي بن كعب: أنه قال: وجدت صرة فيها مائة دينار فأتيت بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "عرفها حولًا" فعرفتها، ثم أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "عرفها حولًا"، ثم أتيته فقال: "عرفها حولًا" فأمره بتعريفها ثلاثة أحوال؟» . قلنا: عن ذلك أجوبة: أحدها: أن ابن المنذر قال: قد ثبت الإجماع بخلاف هذا الحديث، فيستدل بالإجماع على نسخه. وأيضًا فإن له ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه عرفها حولًا، وقصر في تعريفها، فأمره أن يعيد التعريف فعرفها حولًا آخر وقصر في التعريف، فأمره أن يأتي بالتعريف الكامل حولًا. والتأويل الثاني: أنه ذكر ذلك لفظًا، فقال: «عرفها حولًا» ، «عرفها حولًا» ، «عرفها حولًا» ، لا أنه كرر الأحوال. والثالث: أنه أمره بتعريفها حولًا، فأتاه في بعض الحول، فقال: «عرفها حولًا» أي: تمم الحول، ثم أتاه قبل إتمامه أيضًا، فقال: «عرفها حولًا» أي: تمم الحول. إذا ثبت هذا: فابتداء السنة من حين التعريف لا من حين الالتقاط. فإن عرفها سنة متوالية.. فلا كلام، وإن عرفها شهرًا، ثم قطع التعريف مدة، ثم عرفها، ثم قطع

التعريف، ثم عرفها إلى أن استوفى مدة التعريف متفرقة، ففيه وجهان: أحدهما: يجزئه؛ لأنه يقع عليها اسم سنة التعريف، فهو كما لو نذر صوم سنة وصامها سنة متفرقة.. أجزأه. والثاني: لا تجزئه حتى يأتي بها متوالية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عرفها حولًا» وظاهره التوالي، ولأن المقصود بالتعريف وصول الخبر إلى المالك، وذلك لا يحصل إلا بالتوالي، كما لو حلف أن لا يكلم زيدًا سنة. وأما وقت التعريف: فهو بالنهار دون الليل، ودون أوقات الخلوة؛ لأن العادة جرت بتعريف اللقطة وطلبها بالنهار دون الليل، ويستحب أن يكثر منه في أدبار الصلوات؛ لأن الناس يجتمعون لها، فيتصل الخبر بمالكها. وأما قدر التعريف: فليس عليه أن يعرف من أول النهار إلى آخره؛ لأن في ذلك مشقة عليه، وينقطع عن دينه ودنياه. قال الصيمري: بل يعرفها في اليوم مرة أو مرتين؛ لأن المقصود يحصل بذلك. إذا ثبت هذا: فنقل المزني: (ويكون أكثر تعريفها في الجمعة التي أصابها فيها) . وقال في موضع آخر: (يكون أكثر تعريفه في البقعة التي أصابها فيها) . ونقل الربيع: (ويكون أكثر تعريفه في الجماعات التي أصابها فيها) . فقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 358] : إذا وجدها في الجامع.. عرفها كل جمعة؛ لأن الغالب أن مالكها يعود كل جمعة. وقال الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: الصحيح ما نقله الربيع من هذا، حيث قال: (في الجماعات) وهو موافق لقوله: (في البقعة التي أصابها فيها) وأنه يعرفها في الجماعات والبقعة التي وجدها فيها؛ لأن ذلك أبلغ في تعريفها. وأما رواية المزني في الجمعة التي أصابها فيها: فإنه يقتضي أنه يكثر تعريفها في

الأسبوع الذي وجدها فيه. فإذا لم يجد صاحبها.. قل تعريفه، وليس بشيء. وأما مكان التعريف: فإنه يعرفها على أبواب الجوامع، وأبواب مساجد الجماعات، وفي الأسواق، وإذا اجتمع الناس في المجالس في المحال؛ لأن القصد بالتعريف إعلام صاحبها بها، والتعريف في هذه المواضع أبلغ. ولا يعرفها داخل المسجد؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيها الناشد غيرك الواجد، إنما بني المسجد لذكر الله والصلاة» وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد.. فليقل: لا ردها الله عليك". [و] "إنما بنيت المساجد للصلاة» . وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البيع والشراء، وإنشاد الضوال في المساجد» . قال الصيمري: وقد كره قوم إنشاد الشعر في المساجد، وليس ذلك عندنا بمكروه. وقد كان حسان بن ثابت ينشد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشعر في المسجد، وقد أنشده

كعب بن زهير قصيدتين في المسجد. ولكن لا يكثر منه في المسجد. وأما كيفية التعريف: فهو أن يقول: وجدت شيئًا أو لقطة، أو يقول: من ضاع له شيء، أو من ضاع له ذهب أو دراهم، ولا يزيد عليه. فإن ذكر النوع والقدر والعفاص والوكاء، فهل يكون ضامنًا بذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصير ضامنًا بذلك؛ لأنه لا يجب عليه الدفع بمجرد الصفة. والثاني: يكون ضامنًا؛ لأنه ربما حفظ ذلك رجل وحاكمه إلى حنبلي يوجب الدفع بالصفة. وأما من يتولى التعريف: فإن الواجد يتولى التعريف بنفسه، وإن تطوع رجل بتعريفها.. جاز. وإن لم يجد من يتطوع عنه بالتعريف.. فعليه أن يستأجر من ماله من يعرفها؛ لأن هذا سبب للتملك، والتملك له، فكانت الأجرة عليه.

مسألة: تملك اللقطة بعد سنة

وإن دفعها الملتقط إلى القاضي ليعرفها القاضي عنه أو دفعها إلى أمين بأمر القاضي.. جاز. وإن دفعها إلى أمين ليعرفها عنه بغير أمر القاضي.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق \ 359] : أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنها أمانة في يده.. فلم يكن له إخراجها من يده بغير إذن المالك والقاضي من غير ضرورة، كالوديعة. والثاني: له ذلك؛ لأن صاحب الشرع قد جعله وليا على هذه اللقطة، فصار كتصرف الأب في مال الابن. [مسألة: تملك اللقطة بعد سنة] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (فإن جاء صاحبها، وإلا.. فهي له بعد سنة) . وقال في موضع آخر: (فإذا عرفها سنة فإن شاء ملكها على أن يغرمها لصاحبها إذا جاء، وإن شاء حفظها عليه) . وجملة ذلك: أنه إذا وجد اللقطة وعرفها سنة.. فهل تدخل في ملكه من غير أن يختار تملكها، اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: تدخل في ملكه بمضي سنة التعريف وإن لم يختر تملكها، واحتج بظاهر كلام الشافعي: (وإلا فهي له بعد سنة) ، وبما روي في حديث أبي ثعلبة الخشني: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «ما وجدته في طريق ميتاء أو قرية عامرة.. فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فهي لك» ، ولأن سبب التملك هو التعريف فإذا وجد السبب.. حصل الملك، كالاصطياد، والاحتشاش، وإحياء الموات. وقال أكثر أصحابنا: لا يملكها بمضي السنة، وهو الأصح؛ لأن الشافعي قال: (فإذا عرفها سنة: فإن شاء ملكها) ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث زيد بن خالد الجهني: «ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فشأنك بها» فأغراه بتملكها بعد التعريف، فدل على أنه لم يملكها بمضي مدة التعريف، ولأنه تملك بعوض، فافتقر إلى اختيار التملك - وفيه احتراز من الصيد والاحتشاش. فإذا قلنا بهذا:

فرع: للفقير والغني تملكها بعد الحول

فبماذا يحصل له الملك؟ فيه ثلاثة أقوال، حكاها الشيخ أبو حامد: أحدها: أنه لا يملكها إلا بثلاثة أشياء: وهو أن ينوي بقلبه تملكها، ويتلفظ بذلك وهو أن يقول: تملكتها - ويتصرف فيها، كما قلنا في المستقرض في أحد الوجهين: أنه لا يملك ما استقرض إلا بالعقد والتلفظ والقبض والتصرف. والقول الثاني: أن الملتقط يملك اللقطة بالنية والقول، وإن لم يتصرف فيها، كما قلنا في المستقرض في الوجه الثاني: أنه يملك بالعقد والقبض وإن لم يتصرف. و [القول] الثالث: أن الملتقط يملك اللقطة بمجرد نية التملك، وإن لم يتلفظ بها، ولم يتصرف؛ لأن القول إنما يفتقر إليه إذا كان هناك موجب، فيقبل منه. ولا يوقف الملك على التصرف؛ لأنه لو لم يملك قبل التصرف.. لما صح تصرفه. وحكى ابن الصباغ وجها رابعا - وهو اختيار القاضي أبي الطيب -: أنه يملك اللقطة بمجرد القول وهو: أن يختار تملكها بالقول وإن لم ينو بقلبه ولم يتصرف؛ لأن الملك في الأموال يحصل بالاختيار بالقول من غير نية ولا تصرف، كما قلنا في الشفعة والغنيمة، فحصل فيها خمسة أوجه. [فرع: للفقير والغني تملكها بعد الحول] وإذا عرف الملتقط للقطة لسنة.. فقد ذكرنا أن له أن يحفظها على صاحبها، وله أن يختار تملكها سواء كان الواجد غنيا أو فقيرًا، وسواء كان من آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو من غيرهم. وقال أبو حنيفة) إذا وجدها الفقير وعرفها حولا.. فهو بالخيار: بين أن يحفظها على صاحبها، وبين أن يتملكها، وبين أن يتصدق بها عن صاحبها. ويكون ذلك موقوفا على إجازة صاحبها، فإن رضي به.. وقعت الصدقة عنه، وإن رده.. كانت الصدقة عن الواجد، ووجب عليه ضمانها. وإن وجدها الغني فعرفها حولا.. كان

مسألة: اللقطة أمانة كالوديعة

بالخيار: بين أن يحفظها على صاحبها، وبين أن يتصدق بها عن صاحبها. فإن أجازها صاحبها.. وقعت عنه، وإن ردها.. وقعت عن الواجد، وكان عليه ضمانها، ولا يجوز للغني تملكها) . وحكى أصحابنا عن أبي حنيفة (إذا كان الواجد من آل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. فليس له أن يتملك اللقطة وإن كان فقيرًا) وقال مالك: (إن كان الواجد فقيرًا.. فله أن يتملك اللقطة بعد التعريف، وإن كان غنيا.. فليس له أن يتملكها بعد التعريف، بل يحفظها على صاحبها) دليلنا: ما وري في حديث زيد بن خالد الجهني: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن اللقطة فقال: عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها» أي: افعل بها ما تشاء. وروي: «وإلا.. فاستنفع بها» ولم يفرق بين الغني والفقير. «وروى أبي بن كعب قال: وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "عرفها حولا" ثم أتيته" فقال: "عرفها حولا" - مرتين أو ثلاثا - إلى أن قال: اعرف عددها ووعاءها ووكاءها، فإن جاء صاحبها، وإلا.. فاستمتع بها» قال الشافعي: (وأبي بن كعب من أيسر أهل المدينة أو كأيسرهم) ولأن من صح أن يملك بالقرض.. صح أن يملك اللقطة، كالفقير، وعكسه العبد. [مسألة: اللقطة أمانة كالوديعة] وإذا التقط الرجل لقطة بنية التملك بعد التعريف، أو بنية الحفظ على صاحبها.. فإن اللقطة أمانة في يده مدة التعريف؛ لأن الحظ في التعريف لصاحبها، فهي كالوديعة. فإن تلفت في يده، أو نقصت من غير تفريط.. فلا ضمان عليه، كما قلنا في الوديعة. فإن جاء صاحبها قبل انقضاء مدة التعريف.. أخذها وزيادتها المتصلة بها والمنفصلة عنها؛ لأنها باقية على ملكه. وإن نوى الملتقط تملكها قبل انقضاء مدة التعريف.. لم يملكها بذلك؛ لأن

فرع: ثبوت بدل اللقطة بعد تملكها

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أباح له تملكها بتعريفها سنة، فلا يملكها قبل ذلك، وهل يضمنها بهذه النية؟ ينظر فيه: فإن نقلها بعد هذه النية من موضع إلى موضع.. ضمنها، ولم يزل عنه الضمان بترك نية الخيانة، ولا يملكها بعد السنة بالتعريف؛ لأنه قد صار غاصبًا. وإن لم ينقلها بعد هذه النية.. ففيه وجهان حكاهما الطبري: أحدهما: يصير ضامنا لها؛ لأنه صار ممسكا لها على نفسه. فعلى هذا: لا يملكها بالتعريف، ولا يزول عنه الضمان بنية ترك الخيانة، وإنما يبرأ بالتسليم إلى مالكها. والثاني: لا يصير ضامنا لها، ولم يذكر المسعودي [في " الإبانة " ق \ 359] غيره؛ لأنه لم يوجد منه إلا مجرد النية، وذلك لا يوجب الضمان. فإن ترك هذه النية وعرفها.. تملكها بعد استيفاء التعريف. [فرع: ثبوت بدل اللقطة بعد تملكها] وإذا أخذ اللقطة فعرفها حولا، فإن قلنا: لا يملكها إلا باختيار التملك.. فهي أمانة في يده، كما كانت قبل انقضاء مدة التعريف. وإن قلنا: إنه يملكها بمضي مدة التعريف، أو قلنا: لا يملكها إلا باختيار تملكها، فاختار تملكها.. ملكها ببدلها في ذمته. فإن كان لها مثل.. ثبت مثلها في ذمته، وإن لم يكن لها مثل.. ثبتت قيمتها في ذمته. وحكي عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: إذا تملك اللقطة بعد الحول.. لا يثبت بدلها في ذمته، وإنما يضمنها إذا جاء صاحبها وطالب بها. وقال داود: (يملكها، ولا يثبت بدلها في ذمته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن جاء

صاحبها، وإلا.. فشأنك بها» ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رواية عياض بن حمار: «فإن جاء صاحبها.. فهو أحق بها، وإلا.. فهي مال الله، يؤتيه من يشاء» ولم يذكر وجوب البدل عليه) . وهذا ليس بصحيح؛ لما روى الشافعي: «أن عليا كرم الله وجهه وجد دينارًا، فذكره للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمره أن يعرفه، فعرفه، فلم يعترف به، فأمره بأكله، فلما جاء صاحبه.. أمره أن يغرمه» . وفي رواية غير الشافعي: «أن عليا كرم الله وجهه دخل على فاطمة، فرأى الحسن والحسين - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - يبكيان، فقال: ما يبكيهما؟ قالت أصابهما الجوع، فخرج علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فوجد دينارا بالسوق، فحمله إليها، فقالت: احمله إلى الدقاق، فاشتر به دقيقا، فحمله إليه، فقال: أنت ختن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ ـ وكان الدقاق يهوديا ـ فقال علي: نعم، فقال: خذ الدينار والدقيق، فأخذه، فأتى به فاطمة، فقالت: احمله إلى فلان الجزار وخذ عليه لحمًا بدرهم، فمر عليه، وأخذ اللحم وحمله إليها، فعجنت وخبزت، وأرسلت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما أتاها، ذكرت له الأمر، وقالت له: إن كان حلالًا أكلت وأكلنا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "باسم الله" فبينا هو في ذلك إذ سمع رجلا ينشد الله والمسلمين.. فاستدعاه وسأله، فقال: ضاع مني دينار، فقال لعلي: مر على الجزار واسترجع منه الدينار وقل: علي الدرهم، ورده إليه» ولأنه مال من له حرمه، فوجب أن لا يملكه بغير عوض بغير اختيار صاحبه، كالمضطر إلى الطعام. فإن جاء صاحبها والعين باقية في ملك الملتقط.. أخذها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن جاء صاحبها.. فهو أحق بها» . وإن وجدها زائدة.. نظرت.. فإن كانت زيادة متصلة، كالسمن والكبر.. أخذها مع

زيادتها؛ لأنه يتبعها.. وإن كانت زيادة منفصلة، كاللبن والولد المنفصلين.. كانت الزيادة للملتقط؛ لأنها زيادة حدثت في ملكه. وإن وجدها صاحبها ناقصة.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يأخذها وأرش ما نقصت؛ لأن جميعها مضمون على الملتقط إذا تلفت، فكذلك إذا تلف بعضها. والثاني: أنه بالخيار: بين أن يرجع بالعين ويأخذ أرش النقص معها، وبين أن يطالب ببدلها؛ لأن بدلها ثابت في ذمة الملتقط، فكان لصاحبها المطالبة به. والثالث: حكاه القاضي أبو الطيب في " المجرد " - "أنه يأخذها ولا أرش له؛ لأن النقص كان في ملكه. والمذهب الأول. وإن جاء صاحبها وقد تلفت العين في يد الملتقط، أو أتلفها.. رجع بمثلها إن كان لها مثل، أو بقيمتها إن لم يكن لها مثل. وقال داود: (لا يرجع عليه ببدلها) ، ووافقه الكرابيسي من أصحابنا. وهذا ليس بصحيح؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. إذا ثبت هذا: فمتى تعتبر قيمتها؟ وفيه وجهان: [الأول] : قال أبو إسحاق: تعتبر قيمتها يوم يطالب بها صاحبها؛ لأنه وقت وجوبها؛ لأنه لو وجبت عليه قيمتها حين التملك.. لوجب إذا مات قبل أن يجيء صاحبها أن لا يكون لورثته أن يقتسموا جميع التركة، بل يعزل منها قدر قيمتها، كمن مات وعليه دين. و [الثاني] : - وهو المذهب - أن قيمتها تعتبر يوم تملكها؛ لأن للقطة تجري مجرى القرض، ومن اقترض شيئا.. وجبت عليه قيمته، فإن قيمته تعتبر وقت تملكه، لا حين يطالب به. قال الشيخ أبو حامد: وأما قسمة التركة التي ذكرها أبو إسحاق: فلا نسلمه، وإن سلمناه.. فإنما كان كذلك؛ لأنه لا يعرف المستحق، والظاهر أنه لا يعرف، فلم توقف التركة.

فرع: بيع الملتقط اللقطة

[فرع: بيع الملتقط اللقطة] فإن تملك الملتقط اللقطة وباعها، وحضر المالك في حال الخيار.. ففيه وجهان: أحدهما: يفسخ المالك البيع ويأخذه؛ لأنه يستحق العين، والعين باقية. والثاني: لا يملك الفسخ؛ لأن الفسخ حق للمتعاقدين، فلم يملكه غيرهما من غير إذنهما. [مسألة: لا تدفع اللقطة بالتخمين] وإذا التقط الرجل لقطة فعرفها، فجاء رجل وادعى أنها له: فإن وصفها المدعي بصفاتها، وشهدت له البينة أن تلك اللقطة بهذه الصفة له.. وجب دفعها إليه؛ لأنه قد عرف أنه مالكها بالبينة. وإن لم يصفها، ولم يقم عليها بينة.. لم يجز دفعها إليه. وإن وصفها بصفاتها، ولم يقم عليها بينة، فإن لم يغلب على ظن الملتقط أنها له.. لم يجب دفعها إليه، ولم يجز؛ لأنه لا يدفع إليه أمانة عنده بالتخمين. فإن طلب المدعي يمين الملتقط.. نظرت: فإن أقر الطالب أنها لقطة في يد الملتقط يمينًا: ما يعلم أنها ملك الطالب، وإن لم يدع الطالب أن الملتقط يعلم أنها ملكه.. لم يجب عليه أن يحلف. وإن لم يقر الطالب أنها لقطة في يد الملتقط، وقال: هي ملكي.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 359] : فإن الملتقط يحلف على البت والقطع. فأما إذا غلب على ظن الملتقط بوصف الطالب أنها ملكه.. فإنه يجوز له دفعها إليه، ولكن

لا يجب عليه دفعها إليه. وبه قال أبو حنيفة، وعامة أهل العلم. وقال أحمد وبعض أصحاب الحديث: (يجب عليه دفعها إليه بذلك) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن جاء ربها.. فهو أحق بها، وإلا.. فشأنك بها» . و (ربها) : مالكها، ونحن لا نعلم مالكها بوصفه لها، ولأنه وصف لما ادعاه فلم يستحقه بالصفة، كالمغصوب والمسروق. وكما لو كان عند رجل وديعة، وأشكل عليه المودع لها، فجاء رجل ووصفها بصفاتها، فإنه لا يجبر على دفعها إليه بذلك فكذلك هذا مثله. إذا ثبت هذا: فإن اختار الملتقط دفع اللقطة إلى من وصفها بصفاتها، ثم جاء طالب آخر وادعى أنها له، وأقام بينة أن تلك اللقطة ملكه، أو أنه ابتاعها من مالكها، ولا يعلم أنها انتقلت منه - قال الشيخ أبو حامد: أو شهدت له أنه ورثها ولا يعلم أنها انتقلت من ملكه - حكم لصاحب البينة بملك اللقطة؛ لأن البينة أولى من الصفة. فإن كانت اللقطة باقية.. أخذها الثاني ولا كلام، وإن كانت قد تلفت في يد الأول الذي أخذها بالصفة.. فللثاني الذي أقام البينة أن يطالب ببدلها الملتقط؛ لأنه دفعها إلى غير مستحقها، وله أن يطالب الذي تلفت في يده؛ لأن التلف حصل بيده. فإن ضمن الذي تلفت بيده.. لم يرجع بما ضمنه على الملتقط؛ لأنه يقول: ظلمني صاحب البينة، فلا يرجع على غير من ظلمه. وإن رجع صاحب البينة على الملتقط.. فهل للملتقط أن يرجع بما ضمنه على الذي تلفت في يده؟ ينظر فيه: فإن كان قد سمع من الملتقط إقرار أن الملك للواصف، بأن يقول: هي ملكك، أو صدقت هي ملكك، وما أشبه ذلك.. لم يرجع الملتقط على الذي تلفت بيده بشيء؛ لأنه يعترف أن صاحب البينة ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه. وإن لم يتقدم منه إقرار بالملك للواصف، بأن قال حين الدفع: يغلب على ظني صدقه، إذا دفع إليه بالصفة.. كان له الرجوع على الواصف؛ لأن التلف حصل بيده، ولم يقر له بالملك. هذا إذا دفعها الملتقط إلى الواصف برأيه. فأما إذا دفعها إليه برأي حاكم يرى

مسألة: لقطة الحيوان

وجوب الدفع بالصفة، وألزمه ذلك.. فليس للذي أقام البينة أن يرجع على الملتقط بشيء؛ لأن الملتقط غير مفرط في الدفع. فأما إذا تلفت اللقطة في يد الملتقط بعد أن تملكها، فجاء رجل فادعاها ووصفها، فغلب على ظن الملتقط صدقه، فدفع إليه قيمتها، ثم جاء آخر وادعاها، وأقام عليها بينة.. فلصاحب البينة أن يطالب الملتقط بقيمة اللقطة، وليس له أن يطالب الواصف؛ لأن القيمة التي قبضها ليست عليه اللقطة. [مسألة: لقطة الحيوان] ] : وإن كانت اللقطة حيوانًا.. فلا يخلو: إما أن يجدها في صحراء، أو في قرية: فإن وجدها في صحراء.. نظرت: فإن كان حيوانًا يمتنع بقوته من صغار السباع، كالإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، أو يبعد أثره في الأرض لخفته، كالظباء والغزلان والأرانب، أو بطيرانه، كالحمام.. فلا يجوز التقاطها للتملك. وحكى ابن الصباغ: أن أبا حنيفة قال: (يجوز التقاطها للتملك) . ودليلنا: ما روي: «أن رجلًا قال: يا رسول الله! إنا نصيب هوامي الإبل، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ضالة المسلم حرق النار فلا تقربنها» . وفي حديث آخر: «لا يؤوي الضالة إلا ضال» و (الضالة) : اسم للحيوان خاصة.

وفي حديث زيد بن خالد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ضالة الإبل، فغضب حتى احمرت وجنتاه، وقال: ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها» . وسئل عن ضالة الغنم فقال: «هي لك، أو لأخيك، أو للذئب» . فقوله: «معها حذاؤها» يعني: أخفافها، أي: أنها تقوى على السير، وقطع البلاد. وقوله: «سقاؤها» يعني: أجوافها: لأنها تأخذ الماء الكثير في أجوافها، فيبقى معها. وقوله: «ترد الماء، وتأكل الشجر» أي: هي محفوظة بنفسها. فزجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أخذ الإبل وبين لأي معنى منع منه. وقسنا عليه ما في معناها. إذا ثبت أنه لا يجوز التقاطها للتملك.. فهل يجوز أخذها للحفظ على صاحبها؟ ينظر فيه: فإن كان الواجد لها هو الإمام، أو الحاكم.. جاز له أن يأخذها ليحفظها على صاحبها؛ لما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانت له حظيرة يجمع فيها الضوال) . ولأن في ذلك مصلحة لصاحبها. فإن كان له حمى.. تركها في الحمى، ويسمها بسمة الضوال؛ لتتميز عن نعم الصدقة والجزية وخيل المجاهدين. وإن لم يكن له حمى، واحتاجت إلى الإنفاق عليها، فإن طمع في مجيء صاحبها في يوم أو يومين أو ثلاث.. أنفق عليها. وإن لم يطمع في مجيء

صاحبها.. باعها وحفظ ثمنها له؛ لأنه لو تركها.. استغرقت النفقة قيمتها، فكان بيعها أحوط لصاحبها. وإن كان الواجد لها من الرعية، فأخذها ليحفظها على صاحبها.. فهل يضمنها بالأخذ لذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يضمنها؛ لأنه أخذها ليحفظها عل صاحبها، فهو كالحاكم. والثاني: يضمنها بالأخذ؛ لأنه لا ولاية له على مالكها بحال، بخلاف الإمام والحاكم فإنهما يرصدان لمصالح المسلمين، ولهما ولاية على غير الرشيد. فإذا قلنا بهذا: أو أخذها بنية التملك.. فقد لزمه ضمانها؛ فإن ردها إلى الموضع الذي وجدها فيه.. لم يزل عنه الضمان؛ لأن ما لزمه ضمانه "لا يزول عنه ضمانه برده إلى مكانه، كما لو غصب شيئا من مكان ثم رده إليه. وإن سلمها إلى الإمام أو الحاكم.. فهل يزول عنه الضمان؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يزول عنه الضمان؛ لأن الإمام والحاكم لا ولاية له على رشيد، ويجوز أن يكون مالكها رشيدا. والثاني: يزول عنه الضمان، وهو الصحيح؛ لأن الإمام أو الحاكم لو أخذها ليحفظها على صاحبها.. جاز فإذا قبضها.. كذلك، لأن له ولاية على مال الغائب، ولهذا يقضي منه ديونه ويحفظه عليه. فعلى هذا: إن أخذها الإمام أو الحاكم منه.. كان كما لو وجدها بنفسه وأخذها ليحفظها على ما مضى. وإن كان الحيوان مما لا يمتنع بنفسه من صغار السباع، كالشياه، وعجاجيل البقر، وفصلان الإبل الصغار، وما أشبهها.. فيجوز التقاطه؛ لما روى زيد بن

خالد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ضالة الغنم، فقال: خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب» . ومعنى هذا: أي هي لك إن أخذتها، أو هي لأخيك إن أخذها. قال الصيمري: يحتمل أنه أراد: أنها باقية على ملك مالكها. وقوله: «أو للذئب» أي: إذا لم تأخذها أنت ولا أحد.. أكلها الذئب بلا شك. فإذا التقط الرجل شيئا من هذا.. فهو بالخيار: إن شاء تطوع بالإنفاق عليها، وحفظها لصاحبها. وإن شاء عرفها حولا، وتملكها بعد ذلك. وإن شاء باعها وحفظ ثمنها لصاحبها، أو عرف الحيوان نفسه حولا وتملك الثمن. وإن شاء أكلها قبل الحول، وعرفها حولا، فإن جاء صاحبها.. غرم له قيمتها. وقال مالك: (لا يجب عليه غرم قيمتها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإنما هي لك، أو لأخيك أو للذئب» ولم يذكر الغرم) . ودليلنا: أن هذا ملك لغيره، فلم يكن له تملكه بغير عوض من غير رضا المالك، كما لو كان في البنيان. والخبر محمول على أنه أراد: بعوضها. إذا ثبت هذا: فإن أراد الملتقط بيعها، فإن لم يكن في البلد حاكم.. باعها بنفسه؛ لأنه موضع ضرورة. وإن كان في البلد حاكم.. رفع الأمر إليه ليبيعها الحاكم، أو يأمره بالبيع أو يأمر غيره. فإن باعها الملتقط من غير إذن الحاكم مع قدرته عليه.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح البيع؛ لأنه لما قام مقام المالك في الحفظ. قام مقامه في البيع. والثاني: لا يصح، وهو الصحيح؛ لأنه لا ولاية له على المالك في بيع ماله، بخلاف الحاكم. فإذا قلنا بهذا: وجاء المالك.. كان له أن يطالب الملتقط برد العين إن كانت باقية، أو بقيمتها إن كانت تالفة.

وله أن يطالب المشتري بذلك. فإن تلفت في يد المشتري، فرجع عليه بقيمتها ... لم يرجع المشتري على الملتقط بالقيمة، بل يرجع عليه بالثمن إن كان دفعه. وإن رجع المالك على الملتقط بالقيمة.. رجع بها الملتقط على المشتري، ورد عليه الثمن. وإذا قلنا بالأول: أو باعها بإذن الحاكم.. فإن الثمن يكون أمانة في يده مدة التعريف. فإن جاء المالك بعد البيع. لم يملك فسخ البيع، بل يرجع بالثمن، سواء كان قبل أن يتملكه الملتقط أو بعد ما تملكه؛ لأنه قام مقام اللقطة. فإن هلك الثمن في يد الملتقط في مدة التعريف من غير تفريط منه، ثم جاء مالك اللقطة.. لم يجب على الملتقط ضمان، كما لو هلكت اللقطة في مدة التعريف. وإن اختار المتلقط أكلها قبل الحول.. كان له ذلك؛ لأن في ذلك حظا لصاحبها؛ لأن قيمتها ثبتت في ذمة الملتقط، فإذا تركت، ربما تلفت، فسقط حق مالكها. وهل يلزم المتلقط عزل قيمتها مدة التعريف؟ قال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: لا يلزمه عزل قيمتها هاهنا، وجها واحدا. وحكى في " المهذب " في عزل القيمة هاهنا وجهين: أحدهما: لا يلزمه؛ لأن كل موضع جاز له أكل اللقطة.. لم يلزمه عزل بدلها، كما بعد الحول. والثاني: يلزمه عزل بدلها من ماله؛ لأنه ليس له أن ينتفع باللقطة قبل الحول، فلما جوزنا له بالانتفاع بها هاهنا قبل الحول.. لزمه عزل بدلها من ماله؛ ليقوم بدلها مقامها. فإذا قلنا: لا يلزمه عزل بدلها.. فإن بدلها يكون دينا في ذمته، ويعرف اللقطة نفسها. فإن مات أو أفلس، ثم جاء صاحبها.. ضارب مع الغرماء بقدر قيمة اللقطة. وإن قلنا: يلزمه عزل بدلها، فعزله.. فإنه يعرف اللقطة نفسها، لا ما عزله، ويكون ما عزله أمانة في يده مدة التعريف، فإن تلفت في يده من غير تفريط.. لم يلزم الملتقط شيء آخر غير الذي عزله؛ لأن القيمة قد قامت مقام اللقطة، فإن اختار أن يحفظ القيمة أبدا على صاحب اللقطة بعينه.. كان له ذلك، وإن أراد أن يتملكها بعد

فرع: وجد حيوانا في قرية عامرة

التعريف.. كان له ذلك، فإذا تملكها كانت القيمة في ذمته، وإن مات المتلقط أو أفلس قبل أن يتملك القيمة، فجاء مالك اللقطة.. كان أحق بالقيمة المعزولة وله من سائر الغرماء. [فرع: وجد حيوانا في قرية عامرة] وإن وجد الحيوان في بلد أو قرية عامرة.. فقال المزني: قال الشافعي فيما وضعه بخطه - لا أعلمه سمع منه -: (فالجميع لقطة) . واختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق: الصحيح ما ذكره المزني: فالصغير والكبير من الحيوان لقطة في البلد؛ لأنا إنما منعناه من أخذ الكبير من الحيوان في الصحراء؛ لأن ترك أخذه أحظ لصاحبه؛ لأنه يأكل الشجر، ويرد الماء، ويحتفظ بنفسه، وهذا المعنى غير موجود فيه في البلد، لأنه لا يجد ما يرعى فيه، فكان التقاطه أحظ لصاحبه. ومن أصحابنا من قال: ما يجده من الحيوان في البلد كالذي يجده في الصحراء، فإن كان إبلا، أو ما كان في معناها.. لم يكن له أخذها. وإن كان غنما، أو ما كان في معناها.. كان له أخذها؛ لعموم حديث زيد بن خالد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفرق فيه بين البلد والصحراء، وإنما فرق فيه بين الصغير والكبير؛ لأن الكبير في البلد لا يضيع أيضا ولا يخفى أمره بخلاف الصغير. فإذا قلنا بهذا: فليس له أن يأخذ الكبار للتملك، وله أن يأخذ الصغار ويكون فيه بالخيار: بين أن يتطوع بالإنفاق عليها ويحفظها على صاحبها، وبين أن يعرفها حولا ويتملكها، وبين أن يبيعها ويحفظ ثمنها، أو يتملكها بعد التعريف، وهل له أن يأكلها في البلد؟ فيه وجهان: قال أكثر أصحابنا: لا يأكلها. والفرق بين البلد والصحراء: أنه لا يجد في الصحراء من يشتريها في الغالب، فجاز له أكلها، وفي البلد يجد من يشتريها في الغالب.. فلم يجز له أكلها.

فرع: وجد ضالة في دار الحرب

وقال الشيخ أبو حامد: يجوز له أكلها في البلد؛ لأن الشافعي قد نص على: (أنه إذا وجد الطعام الرطب في البلد.. فله أكله وإن كان يجد من يشتريه) . وهذا في معناه. وإن قلنا بقول أبي إسحاق: وأن الصغار والكبار لقطة.. فهو بالخيار: بين أن ينفق على الجميع ويحفظها على صاحبها، أو يعرفها ويتملكها، أو يبيعها ويحفظ ثمنها، أو يتملكه بعد التعريف، وهل له أكل الجميع؟ على الوجهين في الصغار في البلد. [فرع: وجد ضالة في دار الحرب] إذا وجد لقطة أو ضالة في دار الحرب، ولا مسلم في دار الحرب.. فهي غنيمة، لأهل الخمس خمسها، والباقي لمن وجدها. وإن وجد لقطة أو ضالة للحربي في دار الإسلام.. فهي فيء لا يختص به الواجد. [فرع: لقطة الهدي الضال] إذا وجد هديا ضالا في أيام منى أو قبلها.. فقد قال ابن القاص: أخذه وعرفه، فإن لم يجد صاحبه، وخاف أن يفوته الذبح.. ذبحه. قال الشافعي: (وأحب إلي أن يرجع إلى الحاكم حتى يأمره الحاكم بذبحه) . قال أبو علي السنجي: قياس قول الشافعي: أنه لا يأخذ الهدي إذا وجده في الصحراء؛ لعموم الخبر. ويحتمل ما حكاه ابن القاص، أن الشافعي قال: (يرجع به إلى الحاكم) أراد به: إذا وجده في المصر. وإن ثبت النص فيها عن الشافعي.. فوجهه: أنه معد للذبح، فإذا وجده وأشرف الوقت على الخروج.. فالغالب أنه انفلت من صاحبه. وإن تركه خرجت العبادة عن وقتها، فجاز له أخذه وذبحه. وقال القفال: إذا وجد الهدي مشعرا مقلدا.. فهل له أن يذبحه؟ فيه قولان مأخوذان من القولين فيمن وجد هديا مذبوحا في الطريق، وقد أشعر وقلد، وضرب

مسألة: التقاط العبد الصغير

بدمه على صفحة سنامه.. هل له الأكل منه بهذه العلامة؟ على قولين. وهكذا لو قلد هديه وأشعره.. هل يقوم هذا الفعل مقام النطق في إيجابه؟ على قولين. [مسألة: التقاط العبد الصغير] إذا التقط الرجل عبدا صغيرا غير مميز.. فله أن يحفظه على صاحبه، ويتطوع بالإنفاق عليه. وله أن يعرفه حولا ويتملكه. قال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 363) : وله أن يبيعه، كالشاة. وإن وجد جارية صغيرة غير مميزة.. فله أن يحفظها على صاحبها، ويتطوع بالإنفاق عليها، وهل له أن يتملكها؟ ينظر فيه: فإن كان لا يحل له وطؤها: بأن كانت من ذوي محارمه.. جاز له أن يتملكها بعد التعريف، كما يجوز له أن يقترضها. وإن كانت ممن يحل له وطؤها.. لم يجز له تملكها، كما لا يجوز له اقتراضها. وإن وجد عبدًا كبيرًا، أو صغيرًا مميزًا يتحفظ بنفسه، أو جارية كبيرة، أو صغيرة مميزة، تتحفظ بنفسها.. لم يكن له التقاطهما؛ لأنهما يحفظان أنفسهما. فإن أراد الواجد أن يحفظهما على مالكهما، وينفق عليهما من كسبهما.. جاز. وإن لم يكن لهما كسب.. رفع الأمر إلى الحاكم؛ ليبيعهما، ويحفظ ثمنهما على مالكهما، فإن باعه الحاكم، أو كان العبد صغيرًا فتملكه المتلقط وباعه، ثم جاء مالكه وأقر أنه كان قد أعتق قبل البيع.. فحكى الشيخ أبو حامد فيه قولين: أحدهما: يقبل قول السيد فيه، ويحكم بحريته، ويبطل البيع؛ لأن السيد أقر على نفسه بما يضره، فلا تهمة عليه فيه.. فيقبل. والثاني: لا يقبل قوله، بل نحكم بصحة البيع؛ لأن الإمام يلي بيعه حين باعه.. فلم يقبل قول المالك بما يبطله، كما لو باع الرجل عبد نفسه، ثم أقر أنه كان أعتقه قبل ذلك.

فرع: ادعاء عبد آبق في مصر وطلبه في مكة

وحكى القاضي أبو الطيب: أن من أصحابنا من قال: لا يقبل قوله قولا واحدا؛ لما ذكرناه. [فرع: ادعاء عبد آبق في مصر وطلبه في مكة] إذا أبق للرجل عبد، فحصل عند الحاكم بمصر، فجعله مع الضوال، فأقام رجل عند حاكم مكة شاهدين شهدا على أن ذلك العبد بصفاته له، فكتب حاكم مكة إلى حاكم مصر: حضر إلي فلان بن فلان، وادعى أن له في يدك عبدًا، من صفته كذا وكذا، وشهد له ذلك شاهدان.. فهل يجب تسلميه بذلك إلى المدعي؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب تسليمه بذلك. وبه قال أبو حنيفة ومحمد؛ لأنهم لم يشهدوا على عينه، وإنما شهدوا على الصفات، والصفات تشتبه، وقد تتفق الصفات مع اختلاف الأعيان. فعلى هذا: لو جاء طالب له آخر، وادعى أنه له، ووصفه بصفاته.. لم يجز دفعه إليه حتى يتضح له: من المالك منهما؟ القول الثاني: يجب تسليمه إليه بذلك. وبه قال أبو يوسف؛ لأن البينة أثبتته له بصفاته، كما ثبتت في الذمة بوصفه في السلم. فإذا قلنا بهذا: فإن حاكم مصر يجعل في رقبة العبد خيطا، ويضيقه بحيث لا يمكن أن يخرجه من رأسه، ويختم على ذلك الخيط، ويسلمه إلى المدعي أو وكيله، ويكون مضمونا على المدعي إن تلف، فيحمله إلى حاكم مكة، فإن قال الشاهدان: إن هذا هو العبد الذي شهدنا عليه للمدعي.. استقر ملكه عليه. وإن قالا: هو غيره.. لزمه رده إلى حاكم مصر. والأول أصح؛ لأنه يدخل على الثاني ثلاثة أشياء: أحدها: أنه إذا أسلم العبد إلى المدعي.. لم يؤمن أن يموت المدعي أو يفلس، وقد تلف العبد في يده، ويكون لغيره، فلا يصل صاحبه إلى العبد، ولا إلى قيمته. الثاني: أنه قد يكون للغير، فتذهب منفعته في الطريق مع المدعي. الثالث: قد تكون أم ولد للغير، فيسلمها إلى غيره، وهذا لا سبيل إليه.

مسألة: التقاط كلب صيد

وإذا قلنا بالأول: فرأى حاكم مصر بيعه وحفظ ثمنه، فنصب المدعي رجلا ليبتاعه له من حاكم مصر، فابتاعه له، ثم مضى به إلى مكة فحضر الشاهدان وشهدا أن هذا العبد ملكه. حكم بفساد البيع، فيكتب حاكم مكة إلى حاكم مصر بذلك ليرد له الثمن إن كان قد قبضه؛ لأنه قد بان أنه ملكه، ولا يقول المدعي لحاكم مصر: بعني هذا العبد؛ لأن ذلك إقرار منه أنه ليس بملك له. [مسألة: التقاط كلب صيد] إذا التقط كلب صيد.. عرفه حولا، فإن لم يجد صاحبه.. كان له أن ينتفع به بعد الحول؛ لأنه وإن كان غير مملوك فإن الانتفاع به جائز، فقام بعد الحول والتعريف مقام صاحبه. فإن جاء صاحبه وقد هلك.. لم يجب عليه قيمته؛ لأنه لا قيمة له. وهل يضمن قيمة منفعته بعد الحول؟ فيه وجهان بناء على الوجهين في جواز إجارته. [مسألة: التقاط الطعام الرطب] وإن كانت اللقطة طعامًا رطبًا لا يمكن استبقاؤه، كالطبائخ والهرائس.. فقد قال الشافعي: (له أن يأكله إذا خاف فساده، ويغرمه لربه) . قال المزني: وقال الشافعي فيما وضعه بخطه ـ لا أعلمه سمع منه ـ: (إذا خاف فساده.. أحببت له أن يبيعه) فجعل المزني هذا قولًا آخر أنه لا يجوز له أكله؛ لأنه يمكنه بيعه. قال أصحابنا: وما خرجه المزني غير صحيح، بل يجوز له الأكل، قولًا واحدًا. وما ذكره الشافعي بخطه لا يدل على أنه لا يجوز له الأكل، وإنما يدل على أن البيع أولى من الأكل، وهذا صحيح. وإذا ثبت هذا: فهو بالخيار: بين أن يبيعه، وبين أن يأكله، كما قلنا في الشاة إذا

فرع: التقاط ما يحتاج إلى مؤونة

وجدها في صحراء؛ لأنه يخاف على كل واحد منهما الهلاك؛ فإن اختار بيعه، فإن لم يكن في البلد حاكم.. باعه بنفسه؛ لأنه موضع ضرورة، ويعرف الطعام الذي وجده لا نفس الثمن. وإن كان في البلد حاكم، فرفع الأمر إليه، فباعه الحاكم بنفسه، أو أمر الملتقط أو غيره أن يبيعه فباعه.. صح البيع. وإن باعه الملتقط بنفسه من غير إذن الحاكم.. فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنه لا يصح البيع. قلت: ويحتمل أن يكون على الوجهين اللذين حكاهما الشيخ أبو إسحاق في بيع الشاة التي وجدها في الصحراء. وإن اختار أكله.. فهل يلزمه عزل قيمته؟ حكى الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: فيه وجهين عن أبي إسحاق، وقد مضى تعليلهما في أكل الشاة التي وجدها في الصحراء. [فرع: التقاط ما يحتاج إلى مؤونة] وإن التقط ما لا يبقى إلا بمؤونة وعلاج، كالرطب والعنب، فإن كان بيعه رطبًا أحوط.. قال ابن الصباغ: كان كالطعام الرطب على ما مضى. وذكر الشيخان ـ أبو حامد وأبو إسحاق ـ: أنه يباع ويحتفظ بثمنه لصاحبه. وإن كان تجفيفه أحوط، فإن تطوع الواجد بالإنفاق على تجفيفه.. جاز، وإن لم يتطوع.. باع الحاكم جزءًا منه، وأنفقه على تجفيفه، بخلاف الحيوان فإنه لا يباع منه شيء؛ لأن النفقة هاهنا لا تتكرر، بخلاف النفقة على الحيوان فإنها تتكرر، فلذلك قلنا: لا يباع منه شيء لذلك. [مسألة: لقطة خمر مراق] وإن وجد خمرًا أراقها صاحبها.. لم يجب تعريفها؛ لأن إراقتها مستحقة، فإن صارت عنده خلًا.. ففيه وجهان:

مسألة: لقطة العبد

أحدهما: يجب تعريفها؛ لأنها عادت إلى الملك السابق لصاحبها. والثاني: لا يجب تعريفها؛ لأن صاحبها قد أسقط حقه منها بإراقتها. [مسألة: لقطة العبد] إذا التقط العبد لقطة.. فهل يصح التقاطه؟ فيه قولان: أحدهما: يصح. وبه قال أبو حنيفة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من التقط لقطة.. فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل، ولا يكتمها ولا يغيبها» ولم يفرق بين الحر والعبد. ولأنه كسب بفعل، فصح من العبد، كالاصطياد والاحتشاش، وفيه احتراز من الميراث. والثاني: لا يصح التقاطه. وهو اختيار المزني؛ لأن الالتقاط يقتضي: أمانة وولاية في مدة التعريف، وتملكًا بعوض في ذمته، والعبد ليس من أهل الأمانة والولاية، ولا ذمة له يستوفى الحق منها، فلم يصح. فإذا قلنا: يصح التقاطه، فإن لم يعلم السيد باللقطة.. فإنها أمانة في يد العبد. وإن تلفت في يد العبد بغير تفريط منه.. لم يضمنها؛ لأن الأمانة لا تضمن بغير تعد. وإن أتلفها العبد، أو تلفت في يده بتفريط منه.. ضمنها في رقبته، كما لو أتلف مالًا لغيره. وإن عرفها العبد حولًا تعريفًا كاملًا.. لم يملكها العبد قولًا واحدًا؛ لأنه لا يملك المال على القول الجديد، ويملكه على القول القديم إذا ملكه السيد، ولم يملكه السيد هاهنا. فإن قلنا: إن اللقطة تدخل في ملك الملتقط بعد انقضاء التعريف.. دخلت في ملك السيد. وإن قلنا: لا يملكها الملتقط إلا باختيار التملك.. لم يملكها السيد حتى يختار

تملكها، فإن تملكها العبد وتصرف فيها. فإنه لا يملكها ويضمنها، وفي محل ضمانه لها وجهان: أحدهما: يضمنها في ذمته، كما لو اقترض شيئًا فاسدًا، أو قبضه وأتلفه. والثاني ـ وهو قول الشيخ أبي حامد ـ: أنه يضمنها في رقبته؛ لأنه لزمه بغير رضى من له الحق، بخلاف القرض الفاسد. وأما إذا علم بها السيد: فله أخذها من يده؛ لأن كسبه له، فإن أخذها السيد بعد أن عرفها العبد.. كان للسيد أن يتملكها. وإن كان العبد قد عرفها بعض الحول.. فللسيد أن يكمل التعريف ويتملكها. وإن كان قبل أن يعرفها العبد.. عرفها السيد حولًا وتملكها. وإن لم يأخذها السيد من العبد، بل أقرها في يده، فإن كان العبد ثقة.. جاز، كما لو استعان به في حفظ ماله، ويكون الحكم فيه كما لو أخذها السيد منه. وإن كان العبد غير ثقة.. ضمنها السيد وزال الضمان عن العبد؛ لأن السيد فرط في إقرارها بيده، فلزمه ضمانها، كما لو أخذها من يده وردها إليه؛ لأن يد العبد كيد سيده. وإن علم فلم يأخذها من يده ولم يقرها، وإنما أهملها في يده.. فهل يجب على السيد ضمانها؟ قال ابن الصباغ: فيه وجهان، يأتي توجيههما. وأما إذا قلنا: لا يصح التقاط العبد.. فإن العبد يضمنها بالأخذ؛ لأنه أخذ ما لًا يجوز له أخذه، فهو كما لو غصب مال غيره، فإن علم بها السيد.. فإنه لا يخلو: إما أن يأخذها من يده، أو يقرها في يده، أو يهملها. فإن أخذها من يده.. زال الضمان عن العبد، وصار كأن السيد التقطها. قال ابن الصباغ: وينبغي لو أخذها غير السيد من الأحرار.. أن يزول عن العبد الضمان؛ لأن كل من هو من أهل الالتقاط نائب عن صاحبها. فإن قيل: إذا حصل الشيء مضمونًا، لم يزل الضمان بالانتقال إلى يد غير يد مالكه.. فالجواب: أنه إنما لا يزول الضمان إذا أخذه من لا يجوز له أخذه، وهاهنا يجوز للسيد أخذها، فصار كما لو غصب عينًا، فدفعها الغاصب إلى وكيل المغصوب منه.

إذا ثبت هذا: فإن اختار السيد حفظها على صاحبها.. جاز. وإن اختار تملكها.. عرفها حولًا ثم تملكها. فإن كان العبد قد عرفها.. لم يعتد بتعريفه؛ لأن وجود التقاطه بمنزلة عدمه، فكذلك تعريفه. وإن لم يأخذها السيد منه، ولكن أقرها في يده ليعرفها، فإن كان العبد ثقة.. جاز وزال عن العبد الضمان؛ لأن العبد صار ممسكًا لها عن السيد، فصار كما لو أخذها السيد من يده وردها إليه. وإن كان العبد غير ثقة.. ضمنها السيد؛ لأنه فرط في تركها في يده؛ لأن يد السيد على العبد وعلى ما في يده، فصار كما لو أخذها السيد منه ثم ردها إليه. وإن لم يأخذها السيد منه ولا أقرها، ولكن أهملها في يده.. فقد روى المزني: (أن السيد يضمنها في رقبة عبده) ، ونقل الربيع: (أنه يضمنها في رقبة عبده وسائر أمواله) . وأراد بقوله (وسائر أمواله) : في ذمته. فمن أصحابنا من قال: الصحيح ما نقله المزني، وأنه يضمنها في رقبة عبده لا غير؛ لأن السيد لا يضمن جنايات عبده في ذمته، وإنما يتعلق الضمان برقبة العبد لا غير، فإن تلف العبد.. سقط حق صاحب اللقطة. وقال أبو إسحاق: الصحيح ما نقله الربيع، وقد نقله المزني في "جامعه الكبير " وإنما أسقطه في " المختصر "؛ لأن السيد قد كان يمكنه أن يأخذها منه، أو يقرها في يده، فإذا لم يفعل.. صار متعديًا، فكان ضامنًا لها في ذمته، كما لو غصب العبد مالًا لغيره، وعلم به السيد، وأمكنه انتزاعه منه، فلم يفعل حتى تلف في يد العبد، فإن السيد يضمنه في ذمته. فعلى هذا: إن تلف العبد.. تعلق الضمان بذمة السيد. وإن كان على السيد ديون وأفلس.. كان للملتقط أن يأخذ حقه من العبد، ولا يشاركه الغرماء فيه. وإن لم تف قيمته بحقه.. ضارب الغرماء فيما بقي له من قيمة اللقطة في مال السيد. ومن أصحابنا من قال: فيها قولان، ووجههما ما ذكرناه.

مسألة: المكاتب في اللقطة

فرع: [عتق العبد ومعه لقطة لم يعلم بها سيده] : إذا التقط العبد لقطة فأعتقه سيده قبل أن يعلم باللقطة، فإن قلنا: يصح التقاطه.. كان للسيد أخذها منه، كما لو اكتسب مالًا قبل العتق ولم يعلم به السيد. وإن قلنا: لا يصح التقاطه.. لم يكن للسيد أخذها؛ لأنه قبل أن يعتق لم يتعلق به حق للسيد. وهل للعبد أن يبتدئ تعريفها بعد العتق، ويتملكها بعد التعريف؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأنه قد صار على صفة يصح التقاطه، فصار كما لو وجدها في هذه الحالة. والثاني ـ خرجه الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق ـ: ليس له ذلك؛ لأن يده قد صارت يد ضمان، فلا تنقلب يد أمانة. [مسألة: المكاتب في اللقطة] قال الشافعي في " المختصر " [3/128] : (والمكاتب في اللقطة كالحر؛ لأن ماله يسلم له) ونص في " الأم " [3/289] : (أنه كالعبد) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان، كالعبد؛ لأنه ناقص بالرق، بدليل أنه لا يرث، ولا تصح الوصية إليه. ومنهم من قال: إنه كالحر قولًا واحدًا. قال الشافعي في " الأم ": (لأن ماله له) وهذا التعليل أصح من التعليل الذي نقله المزني: (أن ماله يسلم له) ؛ لأنه قد يسلم له، وقد لا يسلم له.

فرع: لقطة المبعض

فإذا قلنا: إنه كالحر، أو قلنا: إنه كالعبد، وقلنا: يصح التقاطه، فإذا التقط لقطة.. فهي أمانة في يده، فإذا عرفها حولًا.. صح تعريفه، وله أن يتملكها بعد التعريف؛ لأنه من أهل التملك كالحر. وإذا قلنا: إنه كالعبد، وقلنا: لا يصح التقاطه، فالتقط لقطة.. ضمنها بأخذه لها، وليس للسيد أن يأخذها منه، كما يأخذها من العبد؛ لأنه لا سبيل للسيد على ما في يد المكاتب، ولكن يسلمها إلى الحاكم، فإذا قبضها الحاكم.. برئ المكاتب من ضمانها، فإن عرفها الحاكم حولًا، فهل للمكاتب أن يتملكها؟ فيه وجهان: قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب: له أن يتملكها؛ لأنه من أهل التملك. وقال الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: ليس له أن يتملكها؛ لأنه ليس من أهل الالتقاط، فلم يملكها بالحول والتعريف. فعلى هذا: تكون في يد الحاكم إلى أن يجد صاحبها. [فرع: لقطة المبعض] وأما إذا وجد من نصفه حر ونصفه عبد لقطة.. فقد نص الشافعي: (أنه كالحر) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان كالعبد؛ لأنه ناقص بالرق. ومنهم من قال: هو كالحر قولًا واحدًا، وهو الصحيح؛ لأنه يملك بنصفه الحر ملكًا تامًا. فإذا قلنا: إنه كالعبد، وقلنا: لا يصح التقاطه، فهو كالعبد يصير ضامنًا لها، وإذا أخذها السيد منه.. زال عنه الضمان. وإذا قلنا: إنه كالحر، أو كالعبد، وقلنا: يصح التقاطه، فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة.. فاللقطة لهما بعد التعريف. وإن كان بينهما مهايأة.. فهل تكون اللقطة لمن وجدت في يومه؟ فيه قولان:

فرع: لقطة المدبر والمعلق عتقه

أحدهما: تكون له؛ لأنه كسب للعبد، فكانت لمن وجدت في يومه، كالمعتاد. والثاني: أنها لا تكون لمن وجدت في يومه، بل تكون بينهما؛ لأنه كسب نادر، والنادر غير معلوم وجوده، فلا يدخل في المهايأة. [فرع: لقطة المدبر والمعلق عتقه] وأما المدبر والمعتق بصفة، إذا التقط لقطة.. فحكمه حكم العبد القن على ما مضى. وأما أم الولد إذا التقطت لقطة.. فنص الشافعي: (أنها كالعبد القن) . قال الشافعي: (إلا أنها إذا تلفت اللقطة في يدها، فإن علم بها السيد.. كان الضمان عليه في ذمته، وأما إذا لم يعلم بها.. كان الضمان في ذمتها) . قال الربيع: وفيه قول آخر: (أن ضمانها في ذمته) . وقوله: (في ذمتها) غلط. واختلف أصحابنا في قول الشافعي: (في ذمتها) : فقال أكثرهم: هو غلط كما قال الربيع؛ لأن هذا فرعه الشافعي على القول الذي يقول: لا يصح التقاط العبد، وكان يجب أن يكون ضمانها في رقبتها، إلا أن السيد قد منع من بيعها بالإحبال، ولم يبلغ بها حالة يتعلق الحق بذمتها إذا لم يعتقها، فوجبت جنايتها في ذمته. وقوله (في ذمتها) غلط من الكاتب. وقال أبو إسحاق: يمكن تأويل قول الشافعي: (في ذمتها) أن يكون فرعه على القول الذي يقول: يصح التقاط العبد، فإذا التقطت أم الولد لقطة.. حصلت في يدها أمانة، إلا أنه يجب عليها أن تعلم السيد بها ليأخذها منها، فإذا لم تفعل حتى تلفت في يدها.. فقد فرطت، فتعلق الضمان بذمتها؛ لأن صاحبها كأنه رضي بكونها في يدها، فصار بمنزلة أن يدفع رجل وديعة إلى أم ولد لتدفعها إلى سيدها، فلم تدفعها حتى تلفت في يدها، فإن ضمانها يكون في ذمتها.

مسألة: لقطة معدومي أهلية التكليف

قال الشيخ أبو حامد وهذا وإن كان صحيحًا في الفقه، فلا يحمل كلام الشافعي على هذا؛ لأنه إنما فرعه على القول الذي يقول: لا يجوز التقاط العبد. [مسألة: لقطة معدومي أهلية التكليف] إذا وجد الصبي أو المجنون أو المحجور عليه للسفه لقطة فالتقطها.. صح التقاطه؛ لعموم الأخبار، ولأن هذا كسب، فصح منهم، كالاصطياد والاحتشاش. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 360] : في التقاط الصبي قولان، كالعبد. وهذا ليس بمشهور. إذا ثبت هذا: فإن تلفت اللقطة في يد أحدهم بغير تفريط، قبل أن يعلم بها الولي.. لم يجب ضمانها؛ لأنه قبض ما له قبضه. وإن تلفت في يده بتفريط منه، أو أتلفها.. وجب ضمانها في ماله، كما لو أتلف مال غيره. وإن علم بها الولي.. فعليه أن يأخذها منه؛ لأنه ليس من أهل حفظ الأموال. فإن تركها الولي في يده حتى تلفت.. قال القاضي أبو الطيب ضمنها الولي؛ لأن الولي يلزمه حفظ مال الصبي وما تعلق به حقه، وهذا قد تعلق بها حقه، فإذا تركها في يده.. صار مضيعًا لها، فضمنها. وإن أخذها الولي فعرفها حولًا.. نظر الولي: فإن كان المولى عليه ممن يجوز أن يقترض عليه.. تملكها له. وإن كان ممن لا يجوز أن يقترض له، بأن كان غنيًا، فهل للولي أن يتملكها له؟ فيه وجهان. قال عامة أصحابنا: ليس له أن يتملكها له؛ لأن الملك في اللقطة يجري مجرى الاقتراض. فإذا كان لا حاجة به إلى الاقتراض، لم يتملكها له. وقال ابن الصباغ: له أن يتملكها له؛ لأن الظاهر عدم صاحبها، ولهذا جعلناه

مسألة: لقطة الفاسق

بمنزلة الاكتساب. ولو جرى مجرى الاقتراض.. لم يصح الالتقاط من الصبي والمجنون، وكان يراعى في صحة الالتقاط الحاجة إلى الاقتراض. [مسألة: لقطة الفاسق] إذا وجد الحر الفاسق لقطة فيكره له أخذها؛ لأنه ربما تدعوه نفسه إلى استحلالها وكتمانها. فإن التقطها.. صح التقاطه قولًا واحدًا؛ لأنه من جهات التكسب، فصحت من الفاسق، كالاصطياد. وهذا نقل البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 361] : في صحة التقاطه قولان، كالعبد. إذا ثبت أنه يصح التقاطه.. فهل يقرها الحاكم في يده؟ فيه قولان: أحدهما: لا يقرها في يده، بل ينتزعها ويسلمها إلى أمين؛ لأن اللقطة في الحول الأول أمانة في يد الملتقط، والفاسق ليس من أهل الأمانة. والقول الثاني أنه يقرها في يده، ولكن لا يهمل الحاكم أمرها، بل يضم إليه أمينًا يشرف عليه ويمنعه من التصرف فيها قبل الحول؛ لأن الفاسق لما ساوى الأمين في تملك اللقطة بعد الحول.. ساواه في كونها بيده. والأول أصح. وفي الذي يتولى تعريفها قولان، سواء قلنا تقر في يده، أو لا تقر: أحدهما: يعرفها الواجد لها وإن كان فاسقًا؛ لأنه هو الواجد، ولأنها إنما انتزعت منه خوفًا من أن يخون بها، ولا خيانة في التعريف. والثاني: أن الفاسق لا ينفرد بتعريفها، ولكن يضم إليه الحاكم أمينًا يعرفها معه؛ لأنه لا يؤمن أن يقصر في التعريف. فإذا انتهى التعريف.. كان للفاسق أن يتملكها؛ لأنه من أهل التملك. [فرع: لقطة الذمي في بلاد المسلمين] ] : واختلف أصحابنا في الذمي إذا التقط لقطة في دار الإسلام: فمنهم من قال: لا يصح التقاطه؛ لأن الالتقاط أمانة بولاية، والذمي ليس من

فرع: القول للمدعي حتى يأتي صاحب اليد بالبينة

أهلها، ولأنه لا يملك بالإحياء في دار الإسلام، فلا يملك بالالتقاط فيه. ومنهم من قال: يصح التقاطه؛ لأن له ذمة صحيحة ويملك بالقرض، فصح التقاطه. فإذا قلنا: يصح التقاطه.. فهل تقر في يده، ويصح تعريفه بنفسه، أو ينزعها الحاكم منه، ويضم من يعرفها معه؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالفاسق. ومنهم من قال: تقر في يده، وينفرد بالتعريف قولًا واحدًا؛ لأنه وإن كان كافرًا، فهو مقر على دينه، كما أنا نقول: لا يصح إنكاح الفاسق، ويصح إنكاح الذمي. [فرع: القول للمدعي حتى يأتي صاحب اليد بالبينة] قال الشافعي في " الأم ": (إذا كان في يد رجل عبد، فادعاه آخر، وشهد له به شاهدان أنه ملكه، فقال من بيده العبد: هذا اشتريته من فلان، ببلد كذا، ولي عليه بينة هناك تشهد أني ابتعته، وكان مالكًا له حين باعه مني.. فإن العبد يسلم إلى المدعي، ولا يعتد بدعوى من بيده العبد؛ لأن بينة المدعي قد قامت، وثبت له الملك، فلا يوقف بالدعوى، فيسلم العبد إلى المدعي إلى أن يأتي من بيده العبد ببينة) . والله أعلم

كتاب اللقيط

[كتاب اللقيط]

كتاب اللقيط اللقيط، والملقوط، والمنبوذ: اسم للطفل الذي يوجد مطروحًا. وهو فعيل: بمعنى مفعول، كما يقال للمقتول: قتيل، وللمدهون: دهين. والتقاط المنبوذ فرض، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة: 2] فأمر بالمعاونة على البر، وهذا من البر. وقَوْله تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] [الحج: 77] فأمر بفعل الخير، وهذا من فعل الخير. وقَوْله تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] [التوبة: 71] والولي يلزمه حفظ المولى عليه. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] [المائدة: 32] . فقيل: معناه: له ثواب من أحيا الناس كلهم. وفي أخذ اللقيط إحياء له، فكان واجبًا، كبذل الطعام للمضطر. إذا ثبت هذا: فإن التقاطه فرض على الكفاية إذا قام به بعض الناس.. سقط عن الباقين. وإن تركوه.. أثم جميع من علم به، كما نقول في غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه.

مسألة حرية اللقيط

[مسألة حرية اللقيط] ) : وإذا وجد لقيط مجهول الحال.. حكم بحريته، لما روى سنين أبو جميلة - رجل من بني سليم - قال: (وجدت منبوذًا على عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأخذته، فذكره عريفي لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما رآني.. قال: عسى الغوير أبؤسًا، فقال عريفي: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، لا يتهم في ذلك، قال عمر: أهو كذلك؟ قال: نعم، فقال عمر: اذهب فهو حر، وولاؤه لك، وعلينا نفقته) . وفي بعض الروايات: (ونفقته من بيت المال) . وإنما أراد عمر بهذا: أي لعل هذا الرجل الذي وجده هو صاحب المنبوذ. فقال: (عسى الغوير أبؤسًا) ، حتى أثنى عليه عريفه خيرًا. وهذا مثل لكل شيء يخاف منه أن يأتي بشر. قال الأصمعي: (والأبؤس) : جمع البأس. وأصل هذا: أن غارًا كان فيه ناس، فانهار عليهم الغار، فماتوا. وقيل: أتاهم فيه عدو فقتلهم، فصار ذلك مثلًا لكل أمر يخاف منه، صم صغر الغار فقيل: غوير.

فرع اللقيط ومعه مال

وقال الكلبي: (الغوير) ماء لكلب، يسمى الغوير. وقال: وهذا المثل إنما تكلمت به الزباء، وذلك أنها وجهت قصيرًا اللخمي بعير ليحمل إليها من بز العراق، وكان يطلبها رجال جذيمة الأبرش، فحمل الأحمال صناديق - وقيل: غرائر - وجعل في كل واحد منها رجلًا معه السلاح، ثم تنكب بهم على الغوير؛ لأنه طريق منهج، فسألت عنه، فأخبرت أنه تنكب بالعير على الغوير، فقالت: (عسى الغوير أبؤسًا) أي: عسى أن ذلك الطريق يأتيها منه شر، واستنكرت حاله. قال أبو عبيد: وهذا أشبه من الأول. وأما نصب أبؤس.. فأراد: عسى الغوير أن يحدث أبؤسًا. وأما قول عمر: (وولاؤه لك) .. فإنا نحمله على أنه أراد ولاء حضانته، لا ولاء ميراثه. وقد حمله قوم على ولاء الميراث، ونحن نذكره في موضعه - إن شاء الله - ولأن الأصل في الناس الحرية. [فرع اللقيط ومعه مال] الصبي الصغير يملك المال الكثير؛ لأنه يرث، ويوصي له، ويبتاع له، فهو كالكبير في الملك، وإذا ثبت أنه يملك.. فإن يده تثبت على المال، كالبائع. فإذا ثبت هذا: فإن وجد لقيط ومعه مال، فإن كانت يده ثابتة عليه، بأن وجده لابسًا ثوبًا، أو وجد الثوب مفروشًا عليه، أو وجده على فراش، أو سرير أو في سفط، أو وجد الثوب مفروشًا عليه، أو وجد معه دراهم معقودة على ثيابه أو تحت فراشه، أو وجده مشدودًا على بهيمة، أو وجد في يده عنان دابة، أو وجده في خيمة أو دار.. فإن ذلك كله له؛ لأن

ذلك كله في يده، وله يد صحيحة، فهو كما لو وجد ذلك في يد بالغ. وإن كان تحته مال مدفون، أو بالبعد منه مال مطروح، أو فرس مربوط.. لم يكن ذلك له؛ لأنه لا يد له عليه. وإن كان بالقرب منه مال مطروح، أو فرس مربوط.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه له؛ لأن الإنسان قد يترك ماله ودابته بالقرب منه. والثاني: أنه لا يكون له، وهو ظاهر النص؛ لأن اليد يدان، يد مشاهدة ويد حكمية. (فالمشاهدة) : ما كان ممسكًا له بيده. (والحكمية) : ما كان في ملكه، وإن لم يكن ممسكًا له، وهذا ليس بواحد منهما. ويفارق الكبير؛ لأن ما يقربه يكون مراعيًا له، فكان بمنزلة المتصل به. والطفل لا مراعاة له، فجرى مجرى البعيد من الكبير. إذا ثبت هذا: فإن كل مال يكون للقيط.. ينظر فيه: فإن كان في ملك إنسان.. فهو لصاحب الملك؛ لأن الظاهر أنه له. وإن كان في غير ملك إنسان، فإن كان من غير ضرب الجاهلية.. فهو لقطة. وإن كان من ضرب الجاهلية، فإن كان في طريق مسلوك، أو قرية عامرة.. فهو لقطة. وإن كان في موات، أو قرية خربة كانت عامرة في الجاهلية.. فهو ركاز، وكل ما كان في يد اللقيط فهو ملك له. وإذا أخذ رجل اللقيط، وأخذ ماله.. فهل له إمساكه وحفظه عليه بغير أمر الحاكم؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي. (في " الإبانة " ق \ 364) : أحدهما: له ذلك، كما كانت له حضانته. والثاني: ليس له ذلك؛ لأن مالكه متعين.

مسألة الناس ضربان من حيث التكليف

[مسألة الناس ضربان من حيث التكليف] الناس في الإسلام على ضربين: مكلف، وغير مكلف. فأما (المكلف) : فهو البالغ العاقل. فهذا لا يحكم بإسلامه إلا بأن يأتي بالشهادتين. وأما (غير المكلف) : فهو الصبي والمجنون. وقد يسلم الصبي، وقد يتبع غيره في الإسلام. فأما إسلامه بنفسه: فيأتي ذكره في السير إن شاء الله. وأما إسلامه تبعًا لغيره: فذلك الغير ثلاثة أشياء: الأبوان، أو السابي، أو الدار. فأما الأبوان: فإذا أسلما ولهما ولد صغير.. تبعهما في الإسلام. وهكذا: إن أسلم الأب وحده.. تبعه في الإسلام بلا خلاف، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] (الطور: 21) وإن أسلمت الأم وحدها.. تبعها ولدها الصغير في الإسلام. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (لا يتبعها) دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مولود يولد على الفطرة: وأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه» . وعند مالك: (إن الأم لا مدخل لها في التهويد والتنصير والتمجيس) .

ولأنها أحد الأبوين، فيتبعها الولد في الإسلام تغليبًا للإسلام، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يعلو ولا يعلى» كالأب. وأما السابي: فإذا سبي طفل من أولاد الكفار، فإن سبي معه أبواه أو أحدهما.. فإنه يتبعهما في الكفر إن كانا كافرين. وإن أسلم أحدهما.. تبعه. وإن سبي وحده.. فهل يتبع السابي في الإسلام؟ فيه وجهان. أحدهما: لا يتبعه؛ لأن يده يد ملك. والثاني: يتبعه؛ لأنه لا يمكن اعتبار إسلامه بنفسه، ولا بأبويه، فلم يبق من يتبعه غير السابي. فعلى هذا: إن كان السابي مسلمًا.. حكم بإسلام الصبي. وإن كان السابي يهوديًا أو نصرانيًا.. لم يحكم بإسلامه. وأما إسلامه بالدار: فالدار على ثلاثة أضرب: دار إسلام يسكنها المسلمون، ودار إسلام يسكنها المشركون، ودار شرك يسكنها المشركون. أما دار الإسلام التي يسكنها المسلمون: فكأرض الحجاز كلها، والعراق والكوفة واليمن. فإذا وجد فيها لقيط.. حكم بإسلامه، سواء كان أكثر ساكنيها مسلمين، أو

كفارًا؛ لأنه يحتمل أنه مسلم، ويحتمل أنه كافر، فغلب الإسلام تغليبًا للدار، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يعلو ولا يعلى» . وأما دار الإسلام التي يسكنها الكفار: فهي على ضربين: دار فتحها المسلمون فملكوها وأقروا الكفار فيها ببذل الجزية، فهذه دار إسلام؛ لأن حكم الإسلام جار فيها. فإن وجد فيها لقيط: فإن كان فيها من المسلمين ولو واحد.. فإنه يحكم بإسلام اللقيط الذي وجد فيها، سواء دخلها ذلك المسلم ساكنًا أو تاجرًا، تغليبًا لحكم الدار وحكم الإسلام. فإن قال ذلك المسلم: ليس بابني.. قبل قوله في نفي نسبه عنه، ولكن لا يحكم بسقوط إسلامه بذلك. وإن لم يدخل إليها مسلم.. فإن اللقيط الموجود فيها كافر؛ لأنه لا يحتمل أن يكون ابن مسلم. وإن كانت دار إسلام إلا أن المشركين غلبوا عليها المسلمين وأخرجوهم منها، كـ: طرسوس، وأرض القدس، والمصيصة وما أشبهها من الثغور، فإن كان فيها مسلمون بين الكفار، ووجد فيها لقيط.. حكم بإسلامه، لاجتماع حكم الدار والمسلم الذي فيها. وإن لم يكن فيها أحد من المسلمين.. ففيه وجهان: قال ابن الصباغ: لا يحكم بإسلام اللقيط الموجود فيها؛ لأنه لا يحتمل أن يكون ابن مسلم. وقال أبو إسحاق: يحكم بإسلامه؛ لأنها دار إسلام، ويحتمل أن يكون بقي فيها مسلم أخفى نفسه وهذا ابنه.

فرع الإشهاد على أخذ اللقيط

وأما دار الشرك التي يسكنها المشركون: فمثل الروم والترك وغيرهما: فإن لم يكن فيها مسلم.. فاللقيط الموجود فيها كافر؛ لأن الدار دار كفر. وإن كان معهم مسلم أسير أو غيره.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه مسلم تغليبًا للمسلم الذي فيها. والثاني: أنه كافر؛ لأنه يحتمل أنه ابن مسلم، ويحتمل أنه ابن كافر.. فغلب الكفر؛ لأن الدار دار كفر، والكفار فيها أكثر، ولأن الظاهر من الأسير أنه لا يتمكن من الوطء بنكاح ولا بغيره. [فرع الإشهاد على أخذ اللقيط] وإذا أخذ الملتقط اللقيط.. فهل يجب عليه الإشهاد عليه؟ من أصحابنا من قال: فيه وجهان، كما قلنا في اللقطة. ومنهم من قال: يجب عليه الإشهاد وجهًا واحدًا؛ لأن الإشهاد في اللقطة لحفظ المال، والإشهاد ها هنا لحفظ النسب، وللنسب مزية على المال في الإشهاد، ولهذا وجب الإشهاد في عقد النكاح دون البيع وغيره من العقود. [مسألة الإنفاق على اللقيط] وأما نفقة اللقيط، فلا يخلو: إما أن يكون له مال، أو لا مال له. فإن كان له مال.. كانت نفقته في ماله؛ لأنه الطفل إذا كان له أبوان موسران وله مال، كانت نفقته في ماله، فلأن تكون نفقة من لا يعرف أبواه في ماله أولى. فإن كان في البلد حاكم.. لم يجز للملتقط أن ينفق على اللقيط من ماله بغير إذن الحاكم؛ لأن الملتقط لا ولاية له على مال اللقيط، وإنما له الولاية على حضانته، فإن خالف وأنفق عليه من ماله بغير إذن الحاكم.. لزمه الضمان؛ لأنه تعدى بذلك. وإن جاء الملتقط إلى الحاكم وعرفه الحال.. نظرت: فإن أخذ الحاكم المال منه، ودفعه إلى أمين، وأمره أن يعطي الملتقط كل يوم قدر النفقة، أو ينفقه الأمين عليه،

أو قبض الحاكم المال من الملتقط، ودفع إليه كل يوم قدر نفقة اللقيط، وأمره بإنفاق ذلك عليه.. جاز. وإن أقر الحاكم المال في يد الملتقط، وأمره أن ينفق منه قدر ما يحتاج إليه.. فقد قال الشافعي ها هنا وفي (الدعوى) : (يجوز) . وقال في (اللقطة الكبير) من " الأم " (3/290) : (إذا وجد الرجل ضالة وأراد أن ينفق عليها من ماله على أن يرجع بذلك على صاحبها.. لم يجز، إلا أن يدفع ذلك إلى الحاكم حتى ينصب عدلًا، فيأمر الملتقط بدفع المال إليه، حتى يتولى الإنفاق) . فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين: أحدهما: لا يجوز أن يأذن له في الموضعين بالإنفاق، بل ينصب أمينًا يجعل المال في يده، ويعطيه قدر النفقة كل يوم؛ لأنه إذا أذن له في أن ينفق النفقة مما في يده.. صار قابضًا من نفسه ومقبضًا، وإنما يجوز ذلك في الأب والجد. قال الشيخ أبو حامد: وهذا التعليل إنما يصح في الضالة، وفي اللقيط إذا لم يكن له مال فأقرضه الملتقط. والقول الثاني: أنه يجوز أن يأذن له في الإنفاق، وهو الصحيح؛ لأن الملتقط أمين. فإذا أذن له في الإنفاق.. صار وليًا، وللولي أن ينفق على المولى عليه من ماله بإذن الحاكم، كالولي على اليتيم من قبل الحاكم والوصي. ولأنه لا خلاف أنه إذا أخذ المال من يده، جاز أن يدفع إليه كل يوم قدر النفقة ويتولى إنفاق ذلك عليه، فجاز إقرار المال بيده لينق منه قدر حاجته. ومن أصحابنا من حملها على ظاهرهما فقال في اللقيط: يجوز، وقال في الضالة: لا يجوز. والفرق بينهما: أن اللقيط مولى عليه بكل حال؛ لأنه إذا لم يكن له أب ولا جد.. فالحاكم وليه. وإذا كان له أحدهما.. قام الحاكم مقامه عند غيبته، وقد أذن له. وأما الضالة: فيجوز أن تكون لبالغ رشيد لا ولاية للحاكم عليه.

إذا ثبت هذا: فإذا قلنا: إنه ينصب أمينًا يدفع المال إليه ليعطيه النفقة.. قدر له الحاكم ما يعطيه كل يوم. وإن قلنا: يأمره بالإنفاق.. فإنه ينفق ما يحتاج إليه في العرف. فإذا بلغ اللقيط واختلفا في قدر النفقة، فإن كان ما يدعيه الملتقط النفقة بالمعروف.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أمين. وإن أدعى أكثر من النفقة بالمعروف.. لم يقبل قوله في الزيادة، ولزمه ضمان الزيادة. فإن لم يكن في البلد حاكم، فأنفق الملتقط من غير إشهاد ... ضمن. وإن أشهد، فهل يضمن؟ فيه قولان، وقيل: هما وجهان: أحدهما: يضمن؛ لأنه أنفق بغير إذن الحاكم، فضمن كما لو كان في البلد حاكم. والثاني: أنه لا يضمن؛ لأنه موضع ضرورة، والإنفاق لا بد منه، إذ لو ترك من غير إنفاق.. مات. وإن لم يكن للقيط مال.. أنفق عليه من بيت المال، لما روي (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استشار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في نفقة اللقيط.. فقالوا: ينفق عليه من بيت المال) ، ولأنه لو كان بالغًا معسرًا، كانت نفقته في بيت المال، فاللقيط بذلك أحق. وإن لم يكن في بيت المال شيء، أو كان فيه شيء ولكن احتيج إليه لما هو أهم من ذلك.. فإنه يجب على المسلمين الإنفاق عليه، كما لو أضطر بالغ إلى الطعام، فإنه يجب على المسلمين بذل ما يحتاج إليه من الطعام، وهل يجب ذلك عليهم على وجه الإنفاق، أو على وجه القرض؟ فيه قولان: أحدهما: يجب عليهم ذلك على وجه الإنفاق بلا عوض؛ لأنه ضائع لا حيلة له، فوجب الإنفاق عليه بغير عوض، كالمجنون الذي لا يعقل ولا شيء له، فإنه يجب على المسلمين الإنفاق عليه، وكذلك يجب عليهم كفن ميت لا مال له. والثاني: يجب عليهم ذلك، ويكون قرضًا لهم عليه، وهو المنصوص؛ لأنه نفقة لإحيائه، فلم يجب إلا بعوض، كالمضطر إلى الطعام. فإذا قلنا: يجب عليهم بغير عوض.. فإن ذلك يجب على من علم به. فإذا قام به بعضهم.. سقط الفرض عن

الباقين. وإن تركوا الإنفاق عليه.. أثموا، وللإمام أن يقاتلهم عليه كما يقاتلهم على ترك صلاة الجنازة. وإن قلنا: يجب عليهم، ويكون قرضًا لهم.. قيل للملقط: أتقرضه أنت؟ فإن قال: نعم.. جاز أن يقترض منه. فإن قبض الحاكم منه المال، ثم دفعه إليه، أو إلى أمين لينفقه عليه.. جاز، وإن أمره الحاكم أن ينفق عليه قرضًا عليه.. فهل يصح؟ فيه طريقان، كما قلنا فيه إذا أمره أن ينفق من مال اللقيط بيده. وإن لم يجد مع الملتقط ما يقرضه.. اقترض له من غيره من المسلمين. فإن لم يقرضوه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أحصى الحاكم أهل البلد وأحصى نفسه معهم وقسط نفقته عليهم بالحصص) . ثم ينظر: فإن حصل في بيت المال شيء قبل بلوغ اللقيط، أو قبل يساره.. قضى عنه ذلك من بيت المال؛ لأنه لو كان في بيت المال شيء، كانت نفقته منه. فوجب قضاء ما اقترض عليه منه. وإن حصل للطفل مال.. وجب قضاء ذلك منه. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ. وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": إذا لم يكن للقيط مال.. ففي نفقته قولان: أحدهما: يجب في بيت المال. فعلى هذا: لا يرجع بما ينفق عليه على أحد. والثاني: لا يجب في بيت المال؛ لأن مال بيت المال لا يصرف إلا فيما لا وجه له غيره، واللقيط يجوز أن يكون عبدًا، فتكون نفقته على سيده، أو حرا له مال، فنفقته في ماله، أو فقيرًا له من يلزمه نفقته. فعلى هذا: يستقرض له الإمام نفقته من بيت المال، أو من رجل من المسلمين. فإن لم يكن يمكن ذلك.. جمع الإمام من له مكنة وعد نفسه فيهم، وقسط نفقته عليهم. فإن بان أنه عبد.. رجع على مولاه. وإن بان أن له أبًا موسرًا.. رجع عليه بما

مسألة ثبوت الولاية على اللقيط

اقترض عليه. وإن كان له كسب.. قضى منه. وإن لم يكن له شيء من ذلك.. قضى من سهم من يرى الإمام من المساكين أو الغارمين. [مسألة ثبوت الولاية على اللقيط] ) : إذا التقط اللقيط حر مسلم ثقة موسر مقيم.. أقر في يده؛ لأنه لا بد له أن يكون في يد من يكفله، فكان الملتقط أحق. وإن التقطه عبد.. لم يقر في يده؛ لأنه لا يقدر على حضانته مع خدمة سيده. فإن علم به السيد وأقره في يده.. جاز وكان السيد هو الملتقط، كما قلنا في العبد إذا التقط لقطة وعلم بها السيد وأقرها في يده. وإن التقطه كافر، فإن كان اللقيط محكومًا بإسلامه.. لم نقره في يده؛ لأن القيام بأمر اللقيط ولاية، والكافر ليس من أهل الولاية على المسلم، ولأنه ربما فتنه عن دينه. وإن كان اللقيط محكومًا بكفره.. أقر في يده؛ لأن الكافر يلي على من هو من أهل دينه. وإن التقطه فاسق.. لم يقر في يده؛ لأن القيام بأمر اللقيط ولاية، والفاسق ليس من أهل الولاية، ولأنه لا يؤمن أن يسترقه. وإن التقطه معسر. ففيه وجهان. (أحدهما) : قال عامة أصحابنا: يقر في يده؛ لأن نفقته لا تجب على الملتقط، ولأن حضانة اللقيط ولاية، والمعسر من أهل الولاية. والثاني: قال أبو إسحاق: لا يقر بيده؛ لأنه قد يريد التبرع بالإنفاق عليه، فلا يمكنه ذلك مع الإعسار. وإن وجد اللقيط في مصر أو قرية: فإن وجده من يصلح للحضانة من أهل المصر والقرية، ويريد الإقامة فيه.. أقر في يده. وإن وجده من هو على الخروج منها إلى غيرها.. نظرت: فإن كان يريد الانتقال إلى بادية.. لم يقر في يده لثلاثة معان:

أحدها: أن تركه في الموضع الذي وجده فيه أرجى لظهور نسبه من الموضع الذي ينقله إليه. والثاني: أن الحضر أوفق للقيط، وأحظ له؛ لأنه يوجد في الحضر ما يحتاج إليه لتربية الطفل، ولا يوجد ذلك في البادية. والثالث: أن تركه في الحضر أظهر لحريته؛ لأنه إذا أقام به في المصر.. علم الناس به. وإذا خرج به إلى البادية. لا يؤمن أن يسترقه الملتقط، أو يموت فيسترقه وارثه. وإن أراد الملتقط أن ينتقل به إلى مصر أو قرية مثل الموضع الذي وجده فيه.. ففيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه ينقله إلى مثل الموضع الذي وجده فيه. والثاني - وهو المذهب -: أنه لا يجوز، لما ذكرناه إذا أراد الانتقال به إلى البادية. وإذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (ولو أراد الذي التقطه الظعن به، فإن كان يؤمن أن يسترقه. فذلك له، وإلا.. منعه) . قال أصحابنا: أراد بهذا: أن الرجل إذا التقط لقيطا، وثبتت ولايته عليه بكونه أمينًا، ثم أراد بعد ذلك أن يظعن من ذلك البلد، وينتقل إلى بلد أخر، أو قرية أخرى، وينقل اللقيط معه. فإن كان يؤمن أن يسترقه، بأن يكون قد عرفت أمانته، وخبر في الظاهر والباطن.. فله أن ينقله مع؛ لأنه قد ثبت له حق الولاية والتربية، فكان أولى من غيره لثبوت يده عليه وولايته. وإن لم يؤمن أن يسترقه، مثل أن لم تختبر أمانته في الظاهر والباطن.. لم يقر في يده؛ لأنه لا يؤمن أن يسترقه. فإن قيل: هذا مناقضة على قول الشافعي؛ لأن اللقيط لا يقر إلا في يد أمين، فكيف قال ها هنا: (إذا أراد أن يظعن به - إن كان يؤمن أن يسترقه - ترك، وإلا منع) ؟

مسألة تنازع واجدان حضانة لقيط

فالجواب: أن الملتقط إذا لم يكن فاسقًا، وهو أمين في الظاهر دون الباطن، بأن يكون غريبًا دخل البلد، ولم تختبر أمانته في الباطن، فإن اللقيط يقر بيده؛ لأنه عدل في الظاهر، فهذا لا يمكن من الانتقال به وإن أقر بيده في البلد. وأما الأمين الذي عرفت أمانته في الظاهر والباطن، بأن كان قد نشأ في البلد، وعرفت أمانته ظاهرًا وباطنًا.. فهذا يقر اللقيط بيده، ويمكن من الانتقال به بعد ثبوت ولايته عليه. وأما إذا وجدا اللقيط في البادية، فإن كان الواجد له من مصر أو قرية بقرب تلك البادية، وأراد حمله معه إلى المصر أو القرية.. أقر بيده؛ لأن ذلك أحظ له من البادية. وإن كان الواجد له بدويًا، فإن كان مقيمًا في الموضع الذي وجده فيه.. أقر بيده؛ لأن ذلك أرجى لظهور نسبه، وإن كان ينتقل في طلب الماء والكلأ.. ففيه وجهان: أحدهما: يقر بيده؛ لأنه هو الواجد له، وهو من أهل الولاية. والثاني: لا يقر في يده؛ لأن على اللقيط مشقة في التنقل. [مسألة تنازع واجدان حضانة لقيط] ) : إذا وجد اثنان لقيطًا، وتنازعا في حضانته وهما من أهل الحضانة: فإن كان ذلك قبل أن يأخذاه.. أخذه الحاكم، وأقره في يد من يرى منهما، أو من غيرهما؛ لأنه لا حق لهما قبل أن يأخذاه. وإن التقطاه وتشاحا في حضانته.. أقرع الحاكم بينهما، فمن خرجت له القرعة.. كان أحق به. وقال أبو علي بن خيران: يقره الحاكم بيد من يرى منهما من غير قرعة. والمذهب الأول، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] [آل عمران: 44] ولأنه لا يمكن أن يجعل في أيديهما؛ لأنه لا يمكن اجتماعهما على حضانته. ولا يمكن أن يجعل بينهما فيكون عند أحدهما زمانًا، وعند الآخر مثله؛ لأن في ذلك إضرارًا باللقيط؛ لأن الأغذية تختلف عليه، ويستوحش بمفارقة من أنس إليه. ولا

فرع تنازل أحد الواجدين عن الحضانة للآخر

يمكن أن يقدم أحدهما على الآخر؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. فإذا بطلت هذه الأقسام.. لم يبق إلا أن يقرع بينهما. قال الشافعي في " الأم ": (ولا فرق بين أن يكونا رجلين أو امرأتين، أو رجلًا وامرأة؛ لأنهما من أهل الحضانة والتربية) . فإن قيل: أليس لو افترق الزوجان، ولهما ولد له دون سبع سنين، فإن الأم أولى بحضانة الولد، فهلا قلتم: إن المرأة ها هنا أولى بالحضانة؟ قلنا: الفرق بينهما: أن الولد هناك خلق من ماء الزوجين، وللأم مزية بحمله ورضاعه، وشفقتها عليه أكثر، فلذلك قدمت على الأب. وها هنا إنما ثبت لهما الحق بالالتقاط، وهما متساويان فيه، فلم يقدم أحدهما على الآخر، ولأنا إذا جعلنا الحضانة للأم.. فإن حق الأب لا ينقطع منه؛ لأن التأديب والتعليم إليه، وذلك جمع بين الحقين، وليس كذلك ها هنا، فإنا إذا جعلنا الحضانة للمرأة.. انقطع حق الرجل عنه. [فرع تنازل أحد الواجدين عن الحضانة للآخر] ) : فإن التقطه اثنان، وترك أحدهما حقه من الحضانة للآخر.. ففيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك، بل يرفع الأمر إلى الحاكم ليقره في يد الآخر؛ لأن الملتقط إنما يملك الحضانة ولا يملك نقل الولاية إلى غيره. والثاني: يقر في يد الآخر من غير إذن الحاكم، وهو المذهب؛ لأن الحق لهما، فإذا ترك أحدهما حقه ثبت الجميع للآخر، كما لو ثبت لهما الشفعة فعفا أحدهما عن حقه.. وليس ذلك بنقل ولاية وإنما ترك حق. وإن تنازعا حضانته وأحدهما من أهل الحضانة، والآخر ليس من أهل الحضانة.. أقر في يد من هو من أهل الحضانة؛ لأنه لا حق للآخر في حضانته.

مسألة ادعى رجلان من أهل الحضانة لقيطا

[مسألة ادعى رجلان من أهل الحضانة لقيطا] إذا تداعى رجلان من أهل الحضانة لقيطا.. فقال كل واحد منهما: أنا التقطه، فلي حق حضانته، فإن لم يكن لأحدهما عليه يد.. فإن الحاكم يأخذه ويقره في يد من يرى منهما، أو من غيرهما؛ لأنه لا يد لأحدهما عليه. وإن كان في يد أحدهما ... كان صاحب اليد أحق به؛ لأن له يدًا تدل على الالتقاط. فإن قال الآخر: أنا التقطته أولًا، وإنما غصبه الآخر مني.. فالقول قول صاحب اليد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الغصب. وإن كان في يديهما: قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. وقال الشيخ أبو إسحاق: يتحالفان. فإن حلفا أو نكلا.. أقرع بينهما. وهذا أولى؛ لأن كل واحد منهما يدعي أنه هو الملتقط أولًا، وأن الآخر أدخل يده معه، فتحالفا كالمختلفين في الملك. فإن حلف أحدهما، ونكل الآخر.. قضي به للحالف. وإن كان لأحدهما بينة دون الآخر.. قضى لصاحب البينة؛ لأن البينة أقوى من الدعوى. وإن كان مع كل واحد منهما بينة: فإن كانت البينتان مؤرختين تأريخًا واحدًا، أو مطلقتين، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة.. تعارضتا، وفيهما قولان: أحدهما: تسقطان. فيكون الحكم كما لو لم يكن مع أحدهما بينة. والثاني: يستعملان. وفي الاستعمال ثلاثة أقوال: أحدها: يقسم بينهما. والثاني: يوقف الأمر حتى ينكشف.

مسألة ادعى الملتقط ابنا فيلحقه

والثالث: يقرع بينهما ولا تجيء ها هنا القسمة ولا الوقف؛ لأن ذلك يضر باللقيط. ولكن يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. قدم. وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه وجهان يأتي بيانهما إن شاء الله تعالى. وإن كانتا مؤرختين، وتاريخ إحداهما أسبق من الأخرى. قدمت السابقة بالتأريخ؛ لأنه ثبت أنه سابق. ويفارق إذا ادعيا ملك عين، وأقام كل واحد منهما بينة، وتاريخ إحداهما أسبق، فإنهما سواء في أحد القولين؛ لأن الملك قد ينتقل عن الأسبق إلى الأحدث. والملتقط إذا ثبتت يده على اللقيط.. لم ينتزعه من يده إلا الحاكم - إذا تغير حاله - ويقره في يد آخر، وذلك ليس بالتقاط. إذا ثبت هذا: فإن البينة التي تقبل في الالتقاط عند التداعي إنما هي شاهدان. فأما الشاهد والمرأتان، أو الشاهد واليمين، أو النساء منفردات.. فإنها لا تقبل؛ لأن ذلك ليس بمال، ولا المقصود منه المال. وهو مما يطلع عليه الرجال، فلم يقبل فيه إلا الشاهدان، كالوصية إليه. [مسألة ادعى الملتقط ابنًا فيلحقه] ) : وإذا التقط رجل لقيطًا، ثم قال الملتقط: هو ابني.. فإنه يلحقه نسبه، ويكون ابنًا له. وحكي عن مالك: أنه قال: (إن كان قد تعسر عليه الولد.. لم يثبت نسبه منه. وإن لم يتعسر عليه الولد.. ثبت نسبه منه) . دليلنا: أنه أقر بنسب مجهول النسب، ويمكن أن يكون منه، وليس في

فرع ادعاء المسلم وغيره نسب لقيط

إقراره إضرار بغيره، فقبل، كما لو أقر له بمال، أو كما لو لم يتعسر عليه الولد. فقولنا: (أقر بنسب مجهول النسب) احتراز ممن أقر بنسب معلوم النسب من غيره. وقولنا: (ويمكن أن يكون منه) احتراز ممن أقر ببنوة من هو أكبر منه سنًا، فإنه لا يقبل؛ لأنه يقطع بكذبه. وقولنا: (وليس في إقراره إضرار بغيره) احتراز ممن أقر ببنوة عبد لغيره، فإنه لا يقبل؛ لأنه يضر بالمولى؛ لأنه قد يعتقه فيكون ميراثه للأب دون المولى. إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (المستحب للحاكم أن يسأل الملتقط من أين صار ابنه، لئلا يكون ممن يعتقد أنه يكون ابنًا له بالالتقاط والتربية. وإن لم يسأله.. جاز) . وإن أدعى غير الملتقط بنوة اللقيط.. لحقه نسبه، وصار ابنًا له، للمعنى الذي ذكرناه في الملتقط. ويدفع إلى الأب؛ لأنه أحق بحضانته من غيره. [فرع ادعاء المسلم وغيره نسب لقيط] ) : قال الشافعي: (ودعوة المسلم والعبد والذمي سواء. غير أن الذمي إذا ادعاه، ووجده في دار الإسلام، فألحقته به.. أحببت أن أجعله مسلمًا) . وجملة ذلك: أن الدعوة - بكسر الدال-: ادعاء النسب، وبضمها: الطعام الذي يدعى إليه الناس، وبفتحها: مصدر دعا يدعو دعوة. إذا ثبت هذا: فإن الحر المسلم إذا أدعى نسب لقيط.. فإنه يقبل، ويثبت نسبه منه، لما ذكرناه، ويلحقه في الإسلام؛ لأنه صار ابنًا له. وأما العبد إذا أدعى بنوة لقيط.. فقد نص الشافعي ها هنا: (أنه يقبل) . قال المسعودي (في " الإبانة " ق\366) : ونص في موضع آخر: (أنه لا يقبل) . واختلف أصحابنا فيه:

فمنهم من قال: تقبل دعوته، ويثبت النسب منه؛ لأن العبد كالحر في جهات استحقاق النسب من الوطء بالنكاح وبالشبهة.. فكان كالحر في دعوة النسب. ومنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: تقبل دعوته، ويثبت النسب منه، لما ذكرناه. والثاني: لا تقبل دعوته؛ لأن في ذلك إبطال حق السيد من الولاء عليه؛ لأنه قد يعتقه ويموت، فيكون ميراثه لابنه. ومنهم من قال: لا تقبل دعوته قولًا واحدًا، لما ذكرناه. والطريق الأول هو نقل البغداديين من أصحابنا، وهو المشهور. فعلى هذا: لا يسلم اللقيط إلى أبيه؛ لأنه مشغول بخدمة سيدة، ولا تجب عليه نفقته؛ لأنه مملوك، ولا تجب على سيده لأن الولد حر، فلم تجب على مولى العبد نفقته. وإن أدعى كافر بنوة اللقيط، قبلت دعوته، وثبت نسبه منه؛ لأنه كالمسلم في الجهات التي يثبت منها النسب، من الوطء بالنكاح في الملك والشبهة.. فكان كالمسلم في لحوق النسب به، وهل يلحق به في الدين؟ قال الشافعي ها هنا: (أحببت أن أجعله مسلمًا) فظاهر هذا: أنه يكون كافرًا. وقال في (الدعوى والبينات) : (أجعله مسلمًا) . فظاهر هذا: أنه لا يكون كافرًا. واختلف أصحابنا فيها: فقال أبو إسحاق: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فحيث جعله كافرًا.. أراد: إذا أدعى نسبه وأقام على ذلك بينة؛ لأنه إذا ثبت بالبينة أنه ولد على فراش كافر.. كان مولودًا بين كافرين، فكان كافرًا. والموضع الذي جعله مسلمًا.. أراد: إذا أدعى بنوته ولم يقم بينة. فإنه يلحقه نسبه، ولا يكون كافرًا؛ لأنا حكمنا بإسلامه بظاهر الدار.. فلا نحكم بكفره بقول كافر.

مسألة دعوة المرأة

ومن أصحابنا من قال: إذا ادعاه وأقام البينة. حكم بكفره قولًا واحدًا، كما قال أبو إسحاق. وإن لم يقم البينة.. ففيه قولان: أحدهما: يحكم بكفره؛ لأن كل ما ألحقه بنسبه، ألحقه بدينه، كالبينة. والثاني: لا يحكم بكفره؛ لأن إقراره تضمن ما ينفع اللقيط وهو: وجوب نفقته وحضانته عليه، وما يضره وهو: كونه كافرًا، فقبل قوله فيما ينفع اللقيط دون ما يضره. ولأنه يجوز أن يكون ولده وهو مسلم بإسلام أمه، وإذا احتمل هذا. لم يحكم بكفر من حكم بإسلامه بظاهر الدار بقول كافر. والصحيح: طريقة أبي إسحاق، وقد نص الشافعي عليها في " الإملاء ". فكل موضع حكمنا بكفره، فإن الشافعي قال: (أحببت أن أجعله مسلمًا) . قال أصحابنا: أراد: أن المستحب أن لا يدفع إليه، لئلا يفتنه عن الإسلام إن أراده، بل يترك في يد الملتقط، ويؤخذ الكافر بنفقته وأجرة حضانته إلى أن يبلغ. وإن وصف الإسلام.. حكمنا بإسلامه من الآن. وإن وصف الكفر.. فهو كافر لم يزل، ودفعناه إلى أبيه. وكل موضع حكمنا بإسلامه.. فلا يجوز دفعه إلى أبيه، بل يقر في يد الملتقط ويطالب أبوه بنفقته وأجرة حضانته إلى أن يبلغ. فإن وصف الإسلام.. حكمنا بأنه مسلم لم يزل. وإن وصف الكفر.. فهل يقر عليه؟ يأتي بيانه. [مسألة دعوة المرأة] قال الشافعي: (ولا دعوة للمرأة إلا ببينة) . وجملة ذلك: أن المرأة إذا ادعت بنوة اللقيط.. هل تقبل دعوتها من غير بينة؟ أختلف أصحابنا فيها على ثلاثة أقوال: فـ (الأول) : منهم من قال: لا تقبل دعوتها. وهو المذهب؛ لأن الأم يمكنها

مسألة ادعيا بنوة لقيط

إقامة البينة على أن الولد منها قطعًا، فلم يقبل قولها بمجرد الدعوى، والأب لا يمكنه إقامة البينة على أن الولد منه قطعًا، فلذلك قبلنا قوله، كما نقول فيمن علق طلاق امرأته على ولادتها، أو على دخول الدار، فإنه لا يقبل قولها على الولادة والدخول إلا ببينة. ولو علق طلاقها على حيضها.. قبل قولها فيه من غير بينة. والثاني: منهم من قال: تقبل دعوتها بكل حال؛ لأنها أحد الأبوين.. فقبل قولها في إلحاق النسب بها، كالأب. ولأن المرأة كالرجل في الجهات التي يلحق منها النسب، وتزيد عليه في أنها يلحقها ولدها الذي زنت به. فإذا لحق الرجل النسب بالإقرار.. فالمرأة بذلك أولى. فعلى هذا: إن كانت فراشًا لزوج أو سيد.. لم يلحق الولد بالزوج ولا بالسيد؛ لأنا إنما ألحقناه بها لإقرارها. ولم يوجد من الرجل إقرار. وإن كانت مملوكة.. لم يحكم برقه؛ لأنا نقبل قولها فيما يضره. والثالث: منهم من قال: إن كانت فراشًا لزوج أو سيد.. لم يلحقها النسب؛ لأن ذلك يتضمن إلحاق النسب بغيرها من غير رضاه. وإن كانت خالية من الفراش.. لحقها النسب؛ لأنه لا يتضمن إلحاق النسب بغيرها. [مسألة ادعيا بنوة لقيط] إذا ادعى رجلان بنوة لقيط.. لم يلحق بهما. وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: (يلحق بهما) . وقال المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة: يجوز أن يلحق الولد بمائة أب. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] (الحجرات: 13) . إذا ثبت هذا: نظرت في المتداعيين: فإن جاءا معًا وادعيا نسبه، ولا بينة مع أحدهما.. فإنه يعرض على القافة. فإن ألحقته بأحدهما.. لحق به. وبه قال علي

وأنس، وإحدى الروايتين عن عمر. وبه قال عطاء والأوزاعي ومالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: (لا أريه القافة، وألحقه بهما) . دليلنا: ما روى الشافعي عن سفيان عن الزهري عن عروة «عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعرف السرور في وجهه، فقال: " أي عائشة: ألم تري إلى مجزز المدلجي: نظر إلى أسامة وزيد عليهما قطيفة، وقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» . ولو لم يكن ذلك حقًا وصوابًا.. لما سر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: دعا قائفًا في رجلين تداعيًا ولدًا، فقال: لقد اشتركا فيه، فقال: وال أيهما شئت) .

فرع ادعيا نسبا له فترجحه القافة

وإن سبق أحدهم بالدعوى، أو ادعياه معًا، وكان في يد أحدهما.. فهل يقدم السابق بالدعوى أو صاحب اليد؟ فيه وجهان، حكاهما ابن اللبان: أحدهما: يقدم السابق بالدعوى، وصاحب اليد لا مزية له بذلك. فعلى هذا: لو كان في يد أحدهما، فسبق أحدهما بدعواه، ثم ادعاه صاحب اليد.. قدم السابق بالدعوى؛ لأنه حكم بثبوت نسبه من الأول. والوجه الثاني: أنه لا يقدم السابق بالدعوى ولا صاحب اليد. بل يعرض على القافة، وهو المنصوص؛ لأن ولد الإنسان قد يكون في يد غيره. ولأن اليد إنما تدل على الملك لا على النسب. وأما السبق بالدعوى: فإنه إذا لم يقدم به في الملك.. ففي النسب أولى. فإن علم أن أحدهما قد سبق بالدعوى وأشكل عليه، وقلنا: يقدم السابق بالدعوى.. ففيه وجهان خرجهما ابن اللبان: أحدهما: يكون كما لو ادعياه معًا. فيعرض على القافة؛ لأنه لم يثبت السابق. والثاني: لا يعرض على القافة، بل يوقف أبدًا؛ لأنه يرجى معرفة السابق بقيام البينة. [فرع ادعيا نسبًا له فترجحه القافة] ) : إذا ادعى رجل نسب لقيط.. لحق به. فلو جاء آخر بعده وادعى نسبه ولا بينة. وقلنا: لا يقدم السابق بالدعوى.. فإنه يعرض على القافة، وفي كيفية عرضه على القافة وجهان:

أحدهما- وهو المشهور -: أنه يعرض مع الثاني وحده، فإن لم تلحقه بالثاني، أو نفته عنه.. لحق بالأول بدعوته الأولى. وإن ألحقته بالثاني.. عرض أيضًا مع الأول، فإن لم تلحقه بالأول، أو نفته عنه.. لحق بالثاني وانتزع من يد الأول. وإن ألحقته بالأول.. لم يثبت نسبه من أحدهما، وترك حتى يبلغ، وينتسب إلى أحدهما. وحكى ابن سريج عن بعض أصحابنا: أنه يلحق بهما. وليس بشيء. والوجه الثاني: أن الولد يعرض مع الأول والثاني معًا؛ لأن كل واحد منهما يجوز أن يكون أبًا، والأول أصح؛ لأنه قد ثبت نسبه من الأول بدعوته السابقة. وأما إذا جاءا معًا وادعيا نسبه: فإنه يعرض معهما على القافة؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فإن أحقته بأحدهما.. لحق به، وانتفى عن الآخر. وإن ألحقته بهما.. لم يلحق بهما، وترك حتى يبلغ وينتسب إلى أحدهما. وقال بعض أصحابنا: يلحق بهما، وهو قول أحمد، وليس بشيء؛ لما ذكرناه من حديث عمر؛ لأنه لا يجوز أن يكون ابنهما. وهكذا إن نفته القافة عنهما، أو لم يكن هناك قافة، أو كانت وأشكل عليها الأمر.. فإنه يترك حتى يبلغ، أو يقال له: انتسب إلى من يميل إليه طبعك، لحديث عمر، ولأن الولد يميل طبعه إلى من هو منه. فإن انتسب إلى أحدهما، ثم قال بعد ذلك: أخطأت، وإنما أنا ابن الآخر.. لم يقبل قوله. وهكذا لو ألحقته القافة بأحدهما، ثم قالت: أخطأت، وإنما هو ابن الآخر.. لم يقبل قولها؛ لأنه قد ثبت نسبه من الأول بقولها، فلا يسقط بقولها، كما لو ادعى رجلان عينًا، فشهد لأحدهما بها شاهدان، وحكم بشهادتهما، ثم قالا: أخطأنا، وإنما هي ملك الآخر.. فإنه لا يحكم بها للثاني. وهل يصح أن ينتسب إلى أحدهما إذا صار مميزا قبل أن يبلغ؟ فيه قولان: أحدهما: يصح، كما يصح أن يختار الولد الكون مع أحد الأبوين إذا صار مميزًا، وإن لم يبلغ.

والثاني: لا يصح؛ لأن قوله يثبت به النسب وتلزم به الأحكام، فلم يصح من الصبي بخلاف الكون مع أحد الأبوين.. فإنه غير لازم. وأما إذا كان هناك بينة، فإن كانت مع أحدهما دون الآخر.. حكم لصاحب البينة؛ لأن البينة أقوى من الدعوى، كما قلنا في الملك. وإن كان مع كل واحد منهما بينة.. تعارضتا. وفي البينتين إذا تعارضتا قولان: أحدهما: أنهما تسقطان. وهو الصحيح. فعلى هذا: يكون كما لو لم يكن هناك بينة، فيعرض على القافة. والثاني: أنهما تستعملان، وفي الاستعمال ثلاثة أقوال: أحدها: القسمة. والثاني: الوقف. والثالث: القرعة. ولا تجيء ها هنا القسمة ولا الوقف؛ لأن القسمة لا تمكن، والوقف يضر باللقيط. وهل تجيء ها هنا القرعة؟ فيه وجهان: (الوجه الأول) : قال الشيخ أبو حامد: يقرع بينهما. فمن خرجت له القرعة.. حكم له بالنسب، وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه قولان يأتي بيانهما. و (الثاني) : قال القاضي أبو الطيب: لا يقرع بينهما؛ لأن القرعة لا مدخل لها في النسب، وإنما يعرض على القافة. قال ابن الصباغ: وهذا أقيس. فإن ادعى الملتقط نسب اللقيط.. ثبت نسبه منه. فإن جاء آخر وادعى أنه ابنه، فإن أقام الثاني بينة، ولا بينة مع الملتقط.. لحق النسب بالثاني؛ لأن البينة أقوى من الدعوى واليد. وإن أقام الأول بينة أيضًا.. تعارضت البينتان، وكان الحكم فيه ما مضى في تعارض البينتين. فإن قيل: هلا قدمتم بينة الملتقط كما قدمتم بينة صاحب اليد في الملك؟ قلنا: لا نقول ذلك؛ لأن اليد لا تدل على الأنساب، وإنما تدل على الأملاك، ولأن الملك قد يحصل باليد- وهو: الاصطياد والاغتنام- والنسب لا يحصل باليد بحال.

فرع ذكر علامة من أحدهما لا تقدمه

[فرع ذكر علامة من أحدهما لا تقدمه] ) : وإن ادعى رجلان نسب لقيط، وذكر أحدهما في اللقيط علامة، من خال في بدنه، أو شامة، وما أشبه ذلك، ولم يذكر الآخر ذلك.. لم يقدم الواصف له بذلك. وقال أبو حنيفة: (يقدم الواصف له بذلك) . دليلنا: أن معرفة العلامة هو وصف للمدعى، والمدعي لا يقدم بوصف ما ادعاه، كما لو ادعيا ملك عين ووصفها أحدهما. وإن ادعى حر وعبد نسب لقيط، أو مسلم وكافر.. لم يقدم أحدهما على الآخر. وقال أبو حنيفة: (يقدم الحر على العبد، والمسلم على الكافر) . ودليلنا: أن كل واحد منهما لو انفرد بالدعوى.. قبلت دعواه، فإذا اجتمعا.. تساويا، كالحرين المسلمين. [فرع ادعتا ولادة لقيط] ) : وإن ادعت امرأتان ولادة لقيط، ولا بينة لواحدة منهما: فإن قلنا: لا تقبل دعوى المرأة في النسب بكل حال.. لم تقبل دعوى واحدة منهما. فإن قلنا: تقبل دعوتها إذا لم تكن فراشًا، ولا تقبل إذا كانت فراشًا، فإن كانتا

فراشين لرجلين.. لم تقبل دعوتهما. وإن كانت إحداهما فراشًا دون الأخرى.. قدمت دعوة من ليست بفراش. وإن كانتا ليستا بفراش، أو قلنا: تقبل دعوة المرأة بكل حال.. فهل تعرضان على القافة مع الولد؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: لا يعرضان؛ لأن الأم يمكن معرفتها يقينًا من طريق المشاهدة، فلم يرجع فيه إلى القافة. والثاني: أنهما تعرضان مع الولد على القافة، ولم يذكر ابن الصباغ غيره؛ لأنهما أحد الأبوين، فعرضتا مع الولد على القافة، كالرجلين. وإن أقامت إحداهما بينة بالولادة: رجلين، أو رجلًا وامرأتين، أو أربع نسوة.. حكم بثبوت النسب منها؛ لأن البينة أقوى من الدعوى. فإن كانت فراشًا لزوج أو سيد.. لحق به الولد؛ لأن البينة قد شهدت بولادتها له، فلحق صاحب الفراش، ويخالف إذا ألحقناه بها بإقرارها؛ لأنا لا نلحقه بغير المقر. وإن أقامت كل واحدة منهما بينة بالولادة، فإن قلنا: إنهما تسقطان.. كان كما لو لم تكن بينة، وقد مضى. وإن قلنا: تستعملان.. فلا يجيء الوقف ولا القسمة. قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: ولا تجيء ها هنا القرعة؛ لأن معنا ما هو أقوى من القرعة، وهو القافة، فنعرضه عليها، فإن ألحقته بإحداهما.. قوينا بينتها بذلك، وألحقناه بها وبزوجها، ولا ينتفي عنه إلا باللعان. وإن ألحقته القافة بها، أو نفته

فرع ادعاء رجل وامرأة لقيطا

عنهما، أو أشكل عليها الأمر، أو لم يكن قافة.. ترك الولد حتى يبلغ وينتسب إلى إحداهما، وتكون نفقته عليهما. فإذا انتسب إلى إحداهما. رجحنا به بينتها، ولحقها ولحق زوجها، وانتفى عنه باللعان. فإن ماتت إحدى المرأتين، أو مات زوجها قبل بلوغ اللقيط.. عزل من ميراث الميت ميراث ابن. فإن بلغ وانتسب إلى الميتة.. أخذ ما عزل له من ميراثها، أو من ميراث زوجها. وإن انتسب إلى الحية.. رد المعزول على ورثة الميتة. [فرع ادعاء رجل وامرأة لقيطًا] ) : ذكر الطبري: إذا اجتمع رجل وامرأة، وللرجل زوجة غير هذه المرأة، وللمرأة زوج غير هذا الرجل. فادعى كل واحد منهما بنوة اللقيط، وأقام كل واحد منهما بينة.. قال أبو العباس بن سريج: ففيه أربعة أقوال. أحدها: أن بينة الرجل أولى؛ لأنا لو ألحقناه بالمرأة.. لالتحق بزوجها من غير أن يدعيه. والثاني: أن بينة المرأة أولى؛ لأن خروج الولد منها يعرف بالمشاهدة والقطع، وخروج الولد من الزوج لا يعلم إلا بغلبة الظن. والثالث: أنهما يتعارضان؛ لأنه ليس إحداهما بأولى من الأخرى. والرابع: أنه يعرض معهما على القافة. [مسألة اشتركا بوطء وجاء ولد] إذا اشترك رجلان في وطء امرأة، وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، وادعى أحدهما أنه ابنه وصادقه الآخر.. ففيه قولان حكاهما الطبري:

مسألة اعتبار قول قائف

أحدهما: أنه يحكم بأنه ابن للمدعي، كما لو كان في يدهما عين فادعى أحدهما ملكها، وصادقه الآخر. والثاني: أنه لا ينتفي عن الآخر بالمصادقة؛ لأنه قد وجد منه الوطء، ويجوز أن يكون ابنه.. فلا ينتفي عنه بالإنكار، كما لو وطئ امرأة وانفرد بوطئها، فأتت بولد يمكن أن يكون منه، وتصادق الرجل والمرأة أنه ليس بابنه. فعلى هذا: يعرض معهما على القافة. [مسألة اعتبار قول قائف] وهل يصح أن يحكم بقول قائف واحد؟ فيه قولان: أحدهما: يصح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما سر بقول مجزز المدلجي وحده. ولأنه مجتهد.. فقبل فيه قول الواحد، كالقاضي. والثاني: لا يصح إلا بقول اثنين؛ لأنه حكم بالشبه في الخلقة.. فلم يقبل إلا من اثنين، كالحكم في المثل في جزاء الصيد. وهل يصح أن يكون القائف امرأة؟ فيه قولان حكاهما القاضي أبو الطيب: أحدهما: لا يصح؛ لأن القائف يجري مجرى الحاكم، والمرأة لا يصح أن تكون حاكما. والثاني: يصح؛ لأن قول القائف يجري مجرى الشهادة، وقول المرأة يقبل في النسب وهو الشهادة. قال ابن الصباغ: وهذا ضعيف؛ لأن شهادتها لا تقبل في النسب، وإنما تقبل في الولادة.

فرع عدالة القائف

قال المسعودي [في " الإبانة " ق\368] : وهل يصح أن يكون القائف عبدا؟ فيه قولان بناء على أن القيافة حكم أو شهادة، فإن قلنا: حكم.. لم يصح. وإن قلنا: شهادة.. صح. قلت: هذا ضعيف؛ لأن العبد لا يصح أن يكون شاهدًا بحال. وهل يصح أن يكون القائف من غير بني مدلج؟ فيه قولان. أحدهما: لا يصح، لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما سر بقول مجزز المدلجي» . ولأن القيافة في طباع بني مدلج من كنانة، فلم يصح من غيرهم. والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأنه علم يتعلم ويتعاطى فلم تختص به قبيلة بعينها، كالعلم بالأحكام. وأما الخبر: فلا يدل على أنه يختص ببني مدلج، ولو كان كذلك، لاختصت القيافة بمجزز المدلجي وحده: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما سر بقوله. [فرع عدالة القائف] ولا يحكم بقول القائف حتى يكون عدلا؛ لأن الحكم والشهادة لا تصح إلا من عدل. ولا يصح الحكم بقوله حتى يكون حاذقًا في القيافة، مجربًا، كما لا يقبل الحكم إلا ممن عرف حذقه في الحكم. قال البغداديون من أصحابنا: ومعرفة حذقه في ذلك: بأن يرى صبيًا ثابت النسب من رجل بعينه، لا يعرف القائف أباه، مع جماعة ليس فيهم أبوه، فيقال: أيهم أبوه منهم؟ فإن قال: ليس فيهم أبوه.. أري الصبي مع جماعة رجال فيهم أبوه، فيقال: أيهم أبوه منهم؟ فإذا أخبرنا بأبيه منهم.. علم صدقه. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\368] : معرفة حذقه: بأن يؤتى بالولد ونسوة

فرع كيف يلحق القائف

فيهن أمه فيقال: أيتهن أمه منهن؟ فإن أصابها.. علم صدقه؛ لأن كون الولد منها معلوم قطعا، بخلاف الأب. قال المحاملي: وأصحابنا أطلقوا ذلك، ولم يذكروا تكرر ذلك منه. والأشبه بالمذهب: أنه يحتاج إلى أن يتكرر ذلك منه ثلاث مرات؛ لأنه قد يتفق منه ذلك مرة أو مرتين. فإذا تكرر منه ثلاث مرات.. علم أنه من أهل الصنعة بذلك. [فرع كيف يلحق القائف] ؟) : والأشباه التي يلحق بها القائف نوعان: ظاهرة وخفية: فـ (الظاهرة) : كالسواد والبياض وما أشبههما مما يشترك في معرفتها الخاص والعام. و (الخفية) : هي الشبه بالأطراف، كالأيدي والأرجل. فهذا يختص بمعرفته القافة. فإن تنازع رجلان في نسب صبي، وكان يشبه أحدهما بالأشباه الظاهرة، ويشبه الآخر بالأشباه الخفية.. ففيه قولان: أحدهما: يلحق بمن يشبهه بالأشباه الظاهرة؛ لأن الأشباه الظاهرة كالنص، والأشباه الخفية كالقياس، والنص مقدم على القياس. والثاني: يلحق بمن يشبهه بالأشباه الخفية؛ لأن الأشباه الظاهرة كالعموم والخفية كالخاص، والخاص مقدم على العموم. ولأن الظاهرة معرفة العامة، والخفية معرفة الخاصة، والخاصة مقدمة على العامة.

فرع اختلف قول القافة

[فرع اختلف قول القافة] فإن ألحقته القافة بأحدهما، ثم جاء الآخر بقافة أخرى وألحقته بالثاني.. لم يلحق بالثاني؛ لأن القائف كالحاكم، ولو حكم حاكم بعين لرجل.. لم يحكم بها لآخر بحكم حاكم آخر. وهكذا: لو قال القائف - بعد أن ألحقه بأحدهما -: أخطأت، وإنما هو ابن الآخر.. لم يقبل قوله، كما لو حكم الحاكم بعين لرجل، ثم تغير اجتهاده.. فإنه لا ينقض. [فرع عرض الميت على القافة] وإن مات الولد قبل أن يعرض على القافة.. فهل يعرض قبل الدفن؟ فيه قولان: أحدهما: لا يعرض؛ لأن التمييز قد يقع بالأشباه الغامضة، وذلك ينقطع بالموت، وإنما تبقى الأشباه الظاهرة. والثاني - وهو قول أبي إسحاق، وهو المشهور -: أنه يعرض؛ لأن إلحاقه بالشبه، وذلك ممكن بعد الموت. فإن قلنا: لا يجوز أن يعرض الميت، أو كان قد دفن وتغير، وله ولد.. فإنه يعرض على القافة، ويقوم مقامه في الانتساب. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\366] : وإن ألقت سقطًا، فإن كان قد تخطط.. فإنه يرى القافة، وإن لم يتخطط لم يرى القافة وإن مات الأبوان أو أحدهما، وقلنا: لا يجوز عرض الميت، أو كانا قد دفنا.. قال ابن اللبان: فإن عصبة الميت وقرابته تعرض على القافة، مثل أبي الميت وإخوته وأخواته وأعمامه وعماته وسائر أولاد آباء الميت الذكور والإناث، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعل عرقا نزعه» .

فرع ادعاء غائب نسب مجهول

[فرع ادعاء غائب نسب مجهول] إذا قدم رجل من أرض الأعاجم كالترك والهند، فادعى نسب رجل مجهول النسب، وصادقه المجهول - إن كان بالغا عاقلًا -، فإن كان لم يثبت على المجهول ولاء لغيره.. قبلت دعواه، وثبت نسبه منه؛ لأنه لا ضرر على أحد في ذلك: وإن كان قد ثبت عليه ولاء، بأن كان قد سباه رجل وأعتقه، أو كان قد اشترى رجل عبدًا مجهول النسب فأعتقه، وأقر آخر بنسبه.. نظرت في المقر: فإن ادعى أنه أخوه أو عمه أو ابن عمه أو ما أشبه ذلك.. لم تقبل دعواه؛ لأنه يسقط بذلك ولاء معتقه منه وإرثه. وإن ادعى أنه ابنه.. ففيه قولان: أحدهما: لا تقبل دعوة المقر؛ لأنه يسقط بذلك ولاء مولاه. والثاني: تقبل دعوته، ويثبت نسبه منه، ويقدم على المولى. والفصل بين الولد وغيره من القرابات: أنه غير مضطر إلى الإقرار بالأخ والعم وغيرهما من القرابات؛ لأنه إذا لم يقر به.. أقر به غيره. أما أبوه أو أخوه: فلم يقبل إقراره فيه، وهو مضطر إلى الإقرار بالولد؛ لأنه لا يثبت نسبه إلا من جهته.

مسألة ادعاء رجل أن الملتقط عبده

[مسألة ادعاء رجل أن الملتقط عبده] ] : إذا ادعى رجل أن اللقيط عبده.. سمعت دعواه سواء ادعاء الملتقط أو غيره؛ لأن ما يدعيه ممكن، وذلك أنه يحتمل أنه ولد أمته من زواج أو زنا، فإن قيل: إن الملتقط قد اعترف بأنه التقطه، فكيف سمعت دعواه أنه عبده؟ قيل بالجواب: إن اعترافه أنه التقطه لا يمنع من قبول دعواه بعد ذلك أنه عبده؛ لأن أمته قد تلده من زواج أو زنا، فترمي به، ولا يعلم به، فيلتقطه، ثم يعلم بعد ذلك أنه ابن أمته. إذا ثبت أن دعواه تسمع.. فإنه لا يحكم له برقه إلا بعد أن يقيم البينة؛ لأن الظاهر حريته. فإذا أقام المدعي البينة: فلا يخلو: إما أن يقيم البينة على الولادة، أو على الملك، أو على اليد. فإن أقام البينة على الولادة.. قبل فيه شاهدان، أو شاهد وامرأتان، أو أربع نسوة، فإن قالت البينة: نشهد أن أمة هذا ولدته في ملكه. حكم له برقه؛ لأن ما تلده أمته في ملكه.. يكون مملوكًا له ولا يلحقه نسبه؛ لأنها ليست بفراش له، وإن قالت البينة: نشهد أن هذا ولد أمته.. فقد قال الشافعي في (اللقيط) : (يحكم له بملكه في هذه الشهادة) وقال في (الدعوى والبينات) : (إذا شهدوا بأن أمته ولدته في ملكه.. حكمت له برقه) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يحكم له برقه قولًا واحدًا، وإن لم يقولوا ولدته في ملكه؛ لأنهم قد شهدوا أن أمته ولدته. والظاهر أنها ولدته في ملكه، وما ذكره في (الدعوى والبينات) إنما ذكره تأكيدًا لا شرطًا. ومنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: يحكم له برقه، لما ذكرناه. والثاني: لا يحكم له برقه؛ لأنها قد تلده قبل أن يملكها، فيكون ابن أمته ولا يكون مملوكًا له.

مسألة الصبي يتبع في الإسلام أحد أبويه

وأما إذا شهد له بالملك شاهدان، فإن قالا: نشهد أن هذا ملكه أو عبده اشتراه أو اتهبه من مالكه أو ورثه.. حكم له بالملك. وإن قالا: ملكه أو عبده، ولم يذكرا سبب الملك.. ففيه قولان: أحدهما: يحكم له بملكه؛ لأنهما قد شهدا له بالملك، فهو كما لو ادعى على رجل عينًا في يده، فشهدت له البينة بملكها. والثاني: لا يحكم له بملكه؛ لأنهم قد يرونه بيده فيشهدون له بملكه، لثبوت يده عليه. ولا فرق في هذين القسمين بين الملتقط وغيره. وأما إذا شهدت البينة للمدعي باليد.. نظرت: فإن شهدت بذلك للملتقط.. لم يحكم له بملكه قولا واحدًا؛ لأن يده يد التقاط لا يد ملك. وإن ادعى ملكه غير المتلقط، فشهدت له البينة باليد.. فحكى الشيخ أبو إسحاق فيه قولين: أحدهما: لا يحكم له بالملك؛ لأن ثبوت اليد على اللقيط لا تدل على الملك؛ لأن الظاهر الحرية. والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ غيره -: أنه يحكم له باليد؛ لأن البينة شهدت له بذلك، ويحلف أنه ملكه؛ لأن الظاهر ممن بيده شيء أنه ملكه، فإذا ادعاه.. حلف عليه. [مسألة الصبي يتبع في الإسلام أحد أبويه] قد ذكرنا أن الصبي يحكم بإسلامه تبعًا لإسلام أبويه أو لأحدهما، أو للسابي أو للدار. فإذا ثبت هذا: فإن حكم هذا الصبي - الذي حكم بإسلامه تبعًا لأحد هذه الأشياء قبل البلوغ - حكم سائر المسلمين. وإن مات له مناسب مسلم.. ورثه. وإن مات.. غسل، وصلي عليه، ودفن في مقابر المسلمين، وورثه مناسبه المسلم؛ لأن الذي أوجب إسلامه موجود قطعا، فهو كالمسلم بنفسه. فإن بلغ ووصف الإسلام.. استقر

إسلامه، وتيقنا أنه لم يزل مسلماَ. وإن بلغ ووصف الكفر.. نظرت: فإن كان حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو لأحدهما أو للسابي.. ففيه طريقان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه مرتد) فلا يقر على الكفر قولا واحدًا؛ لأنه محكوم بإسلامه قطعًا، فهو كما لو أسلم بنفسه بعد البلوغ، ثم ارتد. والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ غيره -: أنها على قولين: أحدهما: أنه مرتد، ولا يقر على الكفر، وهو الأصح، لما ذكرناه. والثاني: أنه ليس بمرتد، فيقر على كفره؛ لأنا حكمنا بإسلامه تبعًا لغيره في صغره؛ لأنه لا يمكن اعتباره بنفسه. فإذا بلغ أمكن اعتباره بنفسه، وزال حكم التبع. وأما إذا كان حكم بإسلامه بالدار، فبلغ ووصف الكفر: فإن قلنا: إن من حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي، يقر على الكفر إذا بلغ ووصف الكفر.. فهذا أولى أن يقر. وإن قلنا: هناك لا يقر.. ففي هذا قولان: أحدهما: لا يقر على الكفر؛ لأنه محكوم بإسلامه تبعًا لغيره، فلم يقر عليه، كمن حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي. والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يقرع ويتهدد على الكفر، فإن أقام عليه.. أقر عليه) ؛ لأنه أضعف حالًا ممن حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي، بدليل: أنه لو ادعى نسبه كافر وأقام البينة على ذلك.. حكم بكفره. إذا ثبت هذا: فكل موضع قلنا: لا يقر على كفره.. فهو مرتد، فإن تاب، وإلا قتل. وكل موضع قلنا: يقر على كفره.. نظرت:

فإن وصف كفرًا يقر أهله عليه، كاليهودية والنصرانية، والمجوسية.. أقر عليه. فإن التزم الجزية.. عقدت له الذمة، وأقر في بلاد الإسلام حيث يجوز إقرار أهل الذمة فيه.. وإن لم يبذل الجزية.. لم يقر في بلاد الإسلام، ولكن يقال له: الحق بأهل الحرب. وإن وصف كفرًا لا يقر أهله عليه، كعبادة الأوثان.. قلنا له: لا تترك على هذا، فإما أن تسلم، أو تلحق بدار الحرب وأنت في أمانٍ إلى أن تلحق بدار الحرب، أو تصف كفرا يقر أهله عليه. وكل موضع أقررناه على الكفر، فإن كان الإمام قد أنفق عليه شيئًا من بيت المال.. ففيه قولان: أحدهما: يسترد منه بدله، كما لو انفق عليه على سبيل القرض. والثاني: لا يسترد منه بدله؛ لأنه صدقة عليه، ومن تصدق على كافر ... لم يرجع عليه بها. وإن بلغ هذا الصبي فقتله قاتل قبل أن يصف الكفر أو الإسلام، وكانت الجناية عمدا، فإن كان حكم بإسلامه تبعا لأبويه أو للسابي ... فهل يجب القود على قاتله؟ فيه قولان: أحدهما: يجب عليه القود؛ لأنه قتل من هو محكوم بإسلامه قطعًا عمدًا، فوجب عليه القود، كما لو قتله قبل البلوغ. والثاني: لا يجب عليه القود، وإنما يجب عليه دية مسلم، وهو المنصوص؛ لأنه يحتمل أنه لم يصف الإسلام؛ لأنه لم يسأل عنه - وهو مسلم - فيجب عليه القود، ويحتمل أنه لم يصف الإسلام؛ لأنه غير راضٍ بالإسلام، بل هو معتقد للكفر، وذلك شبهة يسقط به القود عن القاتل.

مسألة جناية اللقيط

وإن كان محكومًا بإسلامه بظاهر الدار.. فهل يجب القود على قاتله؟ إن قلنا: إنه لا يجب القود على من قتل من حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي.. فهذا أولى. وإن قلنا: يجب القود على قاتل من حكم بإسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي.. ففي هذا قولان: أحدهما: يجب على قاتله القود، كما قلنا فيمن قتل من حكم بإسلامه تبعًا لأبويه. والثاني: لا يجب على قاتله القود، وإنما تجب عليه دية مسلم، وهو الصحيح؛ لأنه أضعف حالا ممن حكم بإٍسلامه تبعًا لأبويه أو للسابي، بدليل: أنه لو ادعى كافر أنه ابنه وأقام عليه البينة.. حكم بكفره. [مسألة جناية اللقيط] وإن جنى اللقيط على غيره.. نظرت: فإن كانت جنايته خطأ. وجب الأرش في بيت المال، سواء كانت جنايته قبل البلوغ أو بعده، وسواء كان موسرًا أو معسرًا؛ لأنه حر مسلم لا مناسب له، فكانت جنايته الخطأ في بيت المال، كغير اللقيط. وأما إن جنى على غيره عمدًا، فإن كان بعد البلوغ.. وجب عليه القود، إن كان المجني عليه ممن يجب له عليه القود، أو الدية، وإن كان المجني عليه لا يستحق عليه القود، أو إن كانت جنايته قبل البلوغ.. لم يجب عليه القود؛ لأن الصبي لا يجب عليه القود. وأما الأرش: فإن قلنا: إن عمد الصبي خطأ.. وجب الأرش في بيت المال. وإن قلنا: إن عمده عمد.. وجب الأرش عليه، فيؤخذ منه إن كان موسرًا، وإن كان معسرًا.. ثبت في ذمته إلى أن يوسر.

وإن جني على اللقيط قبل البلوغ.. نظرت: فإن قتله قاتل، فإن كانت الجناية خطأ.. وجب دية اللقيط على عاقله الجاني، ويأخذها الإمام إلى بيت المال إرثًا للمسلمين، كسائر أمواله. وإن قتله عمدًا.. كان الإمام بالخيار: بين أن يقتل القاتل، وبين أن يعفو عنه على الدية؛ لأن ذلك يجب للمسلمين، والإمام نائب عنهم، ولا يفعل من ذلك إلا ما رأى فيه الصلاح. وإن جنى عليه فيما دون النفس.. نظرت: فإن كانت الجناية خطأ.. وجب الأرش للقيط ويأخذه الملتقط له؛ لأنه مال للقيط. وإن كانت الجناية عمدا توجب القصاص، فإن كان اللقيط موسرًا.. لم يكن لوليه أن يقتص؛ لأن القصاص جعل للتشفي، والتشفي يحصل له إذا بلغ. وليس له أن يعفو على مال؛ لأنه لا حاجة به إليه. ويحبس له الجاني إلى أن يبلغ، وإن كان اللقيط معسرًا: فإن كان عاقلًا لم يكن للولي أن يقتص؛ لأن التشفي إنما يحصل للمجني عليه وليس له أن يعفو على مال؛ لأنه لا حاجة به إليه؛ لأن نفقته تجب في بيت المال. وإن كان معسرًا معتوهًا.. قال الشافعي: (أحببت للحاكم أن يعفو على مال؛ لأنه لا يرجى له أن يقتص، فكان العفو على مال أحظ) . وأما إذا جني عليه بعد البلوغ.. نظرت: فإن كانت على النفس.. فهو كما لو جنى عليه قبل البلوغ. وإن كانت على ما دون النفس، فإن كانت خطأ.. وجب له الأرش، وإن كانت عمدًا يجب فيها القصاص.. فهو بالخيار: بين أن يقتص، وبين أن يعفو على مال كغيره. هذا نقل البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\367] : إذا قتل اللقيط عمدًا.. ففيه قولان: أحدهما: يقتص الإمام؛ لأنه وليه، كالأب ولي الصبي. والثاني: لا يقتص؛ لأن أولياء اللقيط المسلمون، وهم لا يتعينون. وإن قتل اللقيط خطأ.. ففيه قولان:

مسألة قذف اللقيط

أحدهما: يجب فيه دية حر؛ لأنه حر. والثاني: يتوقف إلى أن يتبين أحر هو أم مملوك؛ لأنه يجوز أن يكون عبدًا، فلا يجب إلا باليقين. [مسألة قذف اللقيط] إذا قذف اللقيط غيره: فإن كان قبل البلوغ.. لم يجب عليه حد القذف؛ لأن الصغير لا يجب عليه الحد ولكن يؤدب. وإن كان بعد البلوغ.. وجب عليه حد القذف إن كان المقذوف محصنًا، أو التعزير إن كان غير محصن. وإن قذف اللقيط قاذف، فإن قذفه قبل البلوغ.. لم يجب على القاذف حد القذف، وإنما يعزر القاذف؛ لأن الصبي لا يجب الحد بقذفه. وإن قذفه بعد البلوغ، فإن اتفق اللقيط والقاذف أن اللقيط عبد.. لم يجب على القاذف حد القذف، وإنما يجب عليه التعزير. وإن اتفقا أنه حر.. وجب على القاذف حد القذف. وإن قال القاذف: هو عبد، وقال اللقيط: بل أنا حر.. ففيه قولان: أحدهما: القول قول اللقيط مع يمينه؛ لأن الظاهر أنه حر. والثاني: أن القول قول القاذف مع يمينه؛ لأنه يحتمل أنه حر، فيجب على القاذف الحد، ويحتمل أنه عبد، فلا يجب عليه الحد، والأصل براءة ذمته. فأما إذا جنى رجل على اللقيط عمدًا، فقال الجاني: أنت عبد، فلا يجب علي القصاص، وقال اللقيط: بل أنا حر.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان، كما قلنا في القذف.

مسألة قبول قول اللقيط بأنه رقيق

ومنهم من قال: القول قول اللقيط قولًا واحدًا. والفرق بينهما: أن حد القذف يراد للردع والزجر، فإذا عدلنا عن الحد إلى التعزير.. حصل به الردع، والقصاص يراد للتشفي، فإذا عدلنا منه إلى الدية.. لم يحصل بها التشفي. ولأن التعزير بعض الحد، فإذا عدلنا عن الحد إلى التعزير، فقد عدلنا عن مشكوك فيه إلى يقين، فجاز. وليس كذلك الجناية، فإن اللقيط يجوز أن يكون عبدًا، فلا يجب في الجناية عليه قصاص، ويجوز أن يكون حرًا، فيجب على الجاني عليه القصاص. فالقصاص مشكوك فيه، والقيمة مشكوك فيها، فإذا جعلنا القول قول الجاني.. انتقلنا من مشكوك فيه إلى مشكوك فيه، فلم يجز. [مسألة قبول قول اللقيط بأنه رقيق] قال الشافعي: (فإذا بلغ اللقيط فباع واشترى، ونكح وأصدق، ثم أقر على نفسه بالرق.. قبل إقراره، وفي إلزامه الرق قولان) . وجملة ذلك: أن اللقيط إذا بلغ، ثم باع واشترى، ووهب وأقبض، ونكح، فجاء آخر وادعى أنه عبده، فصدقه اللقيط، ولم يقم عليه بينة، أو قال اللقيط: أنا عبد فلان، وصدقه المقر له.. نظرت: فإن كان اللقيط قد تقدم منه إقرار قبل هذا أنه حر.. لم يقبل إقراره الثاني أنه عبد؛ لأنه بإقراره الأول أنه حر، لزمته أحكام في العبادات لله تعالى فلا يقبل إقراره بما يسقطها، ولهذا لو أن حرًا قال لرجل: جعلت نفسي عبدك.. لم يصر عبده بذلك. وإن لم يتقدم منه إقرار بالحرية.. فقد قال الشافعي: (قبل إقراره، وفي إلزامه الرق قولان) . واختلف أصحابنا في ترتيب المذهب فيها: فقال أبو الطيب بن سلمة: هل يقبل إقراره في الرق؟ فيه قولان: أحدهما: يقبل إقراره ويحكم برقه؛ لأنه مجهول الحال.. فقبل إقراره على نفسه بالرق، كما لو قدم رجل من بلاد الكفر لا يعرف نسبه، فأقر على نفسه بالرق. ولأن

إقراره آكد من البنية. لأنه لا يتهم في إقراره على نفسه، والبينة متهمة. ثم ثبت أن البينة لو قامت برقه.. حكم برقه، فكذلك إذا أقر على نفسه. والثاني: لا يقبل إقراره؛ لأنه محكوم بحريته بظاهر الدار، فلم يقبل إقراره بالرق، وقد تعلق عليه حقوق لله تعالى، فلم يقبل إقراره بما يسقطها، كما لو أقر بالحرية، ثم أقر بالرق. ويخالف المجهول؛ لأنه لم يلزمه حق لغيره فيسقطها بالإقرار. وقال عامة أصحابنا: يقبل إقراره في الجميع، فيما له وفيما عليه؛ لأن هذه الأحكام فرع للرق، فإذا ثبت الأصل.. ثبتت فروعه، ولأن إقراره آكد من البينة. ثم لو قامت البينة.. لثبتت عليه جميع أحكام الرق، فكذلك إذا أقر. والثاني: يقبل قوله فيما يضره، ولا يقبل فيما يضر غيره. وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني؛ لأن إقراره تضمن ما يضره ويضر غيره، فقبل قوله فيما يضره، ولم يقبل فيما يضر غيره، كمن أقر بدين عليه وعلى غيره. ولأن اللقيط قد يكون جارية وقد أنكحها الحاكم، فإذا قلنا: يقبل قولها فيما يضر غيرها.. أدى إلى أن ينفسخ النكاح بقولها، والنكاح لا ينفسخ بقول النساء. وقول الأول: (إن الأصل إذا ثبت.. تثبت فروعه) يبطل بالرجل إذا مات وخلف أخا وارثا، فأقر الأخ بابن للميت.. فإن النسب يثبت، ولا يثبت الميراث. وهذا الطريق أصح؛ لأن الشافعي قال: (قبل إقراره، وفي إلزامه الرق قولان) وأراد: في إلزامه أحكام الرق قولان. فإن قلنا بالطريق الأول، فإن قلنا: يقبل إقراره في الرق.. كان حكمه حكم الرقيق إذا تصرف بغير إذن سيده في التصرفات الماضية والمستقبلة. وإن قلنا: لا يقبل قوله في الرق.. لم يؤثر هذا الإقرار في التصرفات الماضية ولا في المستقبلة. وإذا قلنا بالطريق الثاني، وعليه التفريع.

فعلى هذا: حكمه في التصرفات بعد الإقرار حكم الرقيق فيما يضره ويضر غيره. وأما تصرفاته بعد البلوغ وقبل الإقرار: فلا تخلو: إما أن يكون اللقيط ذكرًا أو أنثى: فإن كان أنثى وقد زوجها الحاكم بإذنها بحر ثم أقرت بالرق، فإن قُلنا: يقبل إقرارها فيما يضرها ويضر غيرها.. حكم بأن النكاح وقع باطلا؛ لأنه بغير إذن سيدها، فإن لم يدخل بها الزوج.. فلا شيء عليه. وإن كان قد دخل بها.. وجب عليه مهر مثلها لسيدها وفرق بينهما واعتدت بقرأين؛ لأنها عدة أمة، هكذا ذكر الشيخ أبو إسحاق وابنُ الصباغ. وذكر الشيخ أبو حامد والمحاملي: أنها تستبرئ بقرء واحد؛ لأنه استبراء، والأمة تستبرئ بقرء. وإن أتت أمته بأولاد.. فهم أحرار؛ لأنه اعتقد أنها حرة، وذلك شبهة، ويجب عليه لسيدهم قيمتهم حين الوضع. فإن مات عنها.. لم يجب عليها عدة الوفاة. وإن قلنا: يقبل قولها فيما يضرها، ولا يقبل فيما يضر غيرها.. لم يحكم بفساد النكاح؛ لأن ذلك يضر بالزوج. فإن لم يدخل بها الزوج.. لم يجب لها مهر؛ لأن السيد يقر بفساد نكاحها. والنكاح الفاسد لا تستحق به المهر قبل الدخول. فإن طلقها الزوج قبل الدخول، أو مات عنها.. لم يطالبه السيد بشيء؛ لأنه لا يدعيه. وإن كان الزوج قد دخل بها.. وجب عليه أقل الأمرين من مهر المثل أو المسمى؛ لأن المسمى إن كان أقل.. لم يلزمه ما زاد؛ لأنه لا يقبل قولها فيما يضر غيرها. وإن كان مهر المثل أقل.. لم يجب عليه ما زاد عليه؛ لأنها لا تدعى أكثر منه. وإن أتت منه بأولاد قبل الإقرار.. فهم أحرار؛ لأنه وطئها وهو يعتقد أنها حرة. ولا يجب عليه قيمتهم؛ لأنه لا يقبل قولها فيما يضر غيرها، ولكن يقال للزوج: قد

ثبت أن زوجتك أمة، فإن شئت اخترت المقام معها على أنك إذا وطئتها بعد ذلك، وحبلت منك.. كان الولد مملوكا بلا كلام؛ لأنك تطؤها على علم بأنها أمة. فإن قيل: فهذا مما يضره، وقد قلتم لا يقبل قولها فيما يضر غيرها.. فالجواب: أنا لم نقبل قولها فيما يضر غيرها في إيجاب حق لم يدخل في العقد عليه. فأما الحكم في المستقبل: فيمكن إيفاء حقه وحق من ثبت له الرق عليها، بأن يطلقها، فلا يلزمه ما لم يدخل عليه، أو يقيم على نكاحها، فلا يسقط حق سيدها. فإن قيل: إذا أثبتم حق الرق الآن، فاعتبروا أن يكون ممن يجوز له نكاح الإماء.. قلنا: لا يعتبر ذلك؛ لأنا إن أثبتنا ذلك، وقلنا بفساد النكاح إذا لم يكن ممن يجوز له نكاح الإماء.. أفسدنا العقد بقولها؛ لأن شروط نكاح الأمة لا تعتبر في الاستدامة، وإنما تعتبر في الابتداء. وإن طلقها الزوج.. اعتدت بثلاثة أقراء، وهي عدة حرة. قال أصحابنا: ولا فرق بين أن يطلقها ثلاثًا أو دون الثلاث؛ لأن عدة الطلاق حق للزوج، وقولها لا يقبل فيما يضر غيرها؛ لأنها إن طلقت دون الثلاث.. فله الرجعة في العدة، وإن طلقت ثلاثًا، أو كان الطلاق بائنًا.. فالعدة لاستبراء مائه. ألا ترى أنها لا تجب في الموضع الذي لا يحتاج إلى الاستبراء، وهو: قبل الدخول؟ وإن مات عنها.. لم يجب عليها عدة حرة؛ لأن عدة الوفاة حق لله تعالى، لا حق للزوج فيها. ألا ترى أنها تجب في الموضع الذي لا يحتاج فيه إلى الاستبراء؟ وقولها مقبول فيما يسقط حق الله عز وجل. وتعتد بشهرين وخمس ليالٍ، وحكى المحاملي: أنها تستبرئ بقرء واحد؛ لأن استبراء الأمة بقرء. وإن كان اللقيط ذكرًا: فإن كان قد باع واشترى بعد البلوغ، أو كان اللقيط أنثى، فباعت واشترت بعد البلوغ، فإن قلنا: يقبل قوله فيما يضره ويضر غيره.. حكم بفساد العقود كلها. فإن كانت الأعيان قائمة.. ردت إلى أهلها، وإن كانت تالفة.. ثبتت قيمتها في ذمته، يتبع بها إذا عتق. وإن قلنا: لا يقبل قوله فيما يضر غيره.. لم يحكم بفساد العقود وتلزمه الأثمان.

فرع جناية اللقيط عمدا

فإن كان في يده مال.. دفعت الأثمان عنه، وما بقي منه يكون لسيده. وإن لم يف بالأثمان، أو لم يكن في يده مال.. كان ذلك دينًا في ذمته، يتبع به إذا عتق. هكذا قال الشيخ أبو حامدٍ. وقال ابن الصباغ: إن كان له كسب.. استوفى ذلك من كسبه. وإن كان غلامًا، فنكح، فإن قلنا: يقبل قوله فيما يضره ويضر غيره.. حكم بفساد النكاح؛ لأنه وقع بغير إذن سيده. وإن لم يدخل بها.. فلا شيء عليه. وإن دخل بها.. وجب عليه مهر مثلها. ومن أين يستوفى؟ فيه قولان: قال في القديم: (يستوفى من رقبته، كأرش الجناية) . وقال في الجديد: (يتبع به إذا عتق) لأنه وجب برضا من له الحق، فهو كثمن المبيع، هكذا ذكر الشيخ أبو حامدٍ وابن الصباغ. وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أنه إذا دخل بها.. لزمه أقل الأمرين من مهر المثل أو المسمى؛ لأن المسمى إن كان أقل.. لم يجب ما زاد؛ لأنها لا تدعيه. وإن كان مهر المثل أقل.. لم يجب ما زاد؛ لأن قوله مقبول وإن ضر غيره. وأما إذا قلنا: يقبل قوله فيما يضره، ولا يقبل فيما يضر غيره.. فإنا نحكم بأن النكاح وقع صحيحًا، ولا نحكم ببطلانه فيما مضى؛ لأن ذلك يضر بالزوجة. ولكن يحكم بانفساخه من الآن؛ لأنه أقر بتحريمها عليه. فإن كان لم يدخل بها.. لزمه نصف المسمى. وإن كان قد دخل بها.. لزمه جميع المسمى، فإن كان في يده كسب.. استوفى المهر منه، وإن لم يكن في يده كسب.. استوفى مما يكسبه من الآن؛ لأنه لو تزوج بإذن المولى.. لكان المهر من كسبه، فكذلك ها هنا مثله. [فرع جناية اللقيط عمدًا] وإن جنى اللقيط على غيره عمدًا بعد أن أقر بالرق.. وجب عليه القود، سواء كان المجني عليه حرًا أو عبدًا؛ لأن ذلك يضره، وإن كانت جنايته على غيره خطأ.. ففيه ثلاثة أوجه:

فرع إقرار اللقيط بالرق

[الوجه الأول] قال الشيخ أبو حامد: يتعلق الأرش برقبته على القولين؛ لأنا قد حكمنا بأن أرش هذه الجناية في بيت المال، والآن فقد أقر بالرق، وهذا يضره، فقبل، فيؤخذ بالأرش من ماله إن كان بيده مال. وإن لم يكن بيده مال، أو كان ولم يف.. بيعت رقبته. و [الوجه الثاني] قال القاضي أبو الطيب: إن قلنا: لا يقبل قوله فيما يضر غيره.. كان الأرش في بيت المال؛ لأن كونه في بيت المال أنفع للمجني عليه؛ لأن الرقبة قد لا تفي بالجناية، وربما تلفت قبل استيفاء الأرش منها، فيسقط الأرش. و [الوجه الثالث] قال ابن الصباغ: إذا قلنا: يقبل قوله فيما يضر غيره.. لم يكن للمجني عليه حق في بيت المال، بل يتعلق حقه في رقبة اللقيط. وإن قلنا: لا يقبل قوله فيما يضر غيره، وكان الأرش أكثر من قيمة الرقبة.. استحق المجني عليه قيمة الرقبة، ووجب ما زاد له في بيت المال؛ لأنه قد تعلق حقه في بيت المال، فلا يسقط بقول الجاني. وأما إذا جني على اللقيط بعد أن أقر بالرق.. نظرت: فإن كانت الجناية عليه عمدًا، فإن كان الجاني عليه عبدًا.. وجب عليه القود؛ لأنه مكافئ له. وإن كان الجاني عليه حرًا.. لم يجب عليه القود؛ لأن العبد لا يستحق القود على الحر، ويكون عليه من الأرش ما على المخطئ عليه. وإن كانت الجناية عليه خطأ، بأن قطع رجل يده خطأ، فإن كان نصف القيمة أقل من نصف الدية، أو كانا سواء.. وجب على الجاني نصف القيمة. وإن كان نصف القيمة أكثر من نصف الدية، فإن قلنا: يقبل إقراره فيما يضره ويضر غيره.. لزم الجاني نصف القيمة، وإن قلنا: لا يقبل قوله فيما يضر غيره.. لزمه نصف الدية لا غير. [فرع إقرار اللقيط بالرق] وإن أقر اللقيط أنه عبد لرجل، فكذبه المقر له.. سقط حق المقر له لتكذيبه. فإن أقر اللقيط بعد ذلك أنه عبد لآخر، أو صادقه المقر له الأول.. فقد قال أبو العباس:

فرع ادعاء رجل عبودية اللقيط

يقبل، كما لو أقر لرجل بدار فكذبه المقر له، ثم أقر بها لآخر، أو صادقه المقر له. والمنصوص: (أنه لا يقبل) ؛ لأنه قد أخبر أنه لا يملكه غير الأول، فإذا أسقط المقر له إقراره بتكذيبه له.. رجع إلى الأصل- وهو: الحرية - فلم يقبل إقراره لغيره. ويخالف الدار، فإن الأول إذا كذب إقراره.. رجعت الدار إلى ملكه، وإقراره في ملكه مقبول. [فرع ادعاء رجل عبودية اللقيط] وإن ادعى رجل على اللقيط أنه عبده، فأنكر اللقيط أنه عبده، ثم أقر له بعد ذلك.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\367] : قبل إقراره له، كما لو ادعى الزوج أنه راجع امرأته في عدتها، فأنكرت، ثم أقرت بصحة الرجعة. وإن أنكر اللقيط فأقام المدعي بينة.. حكم له بملكه، وكان حكمه حكم الرقيق في التصرفات قبل قيام البينة وبعدها، سواء تقدم منه إقرار بحريته أو لم يتقدم. وإن لم يكن مع المدعي بينة، وسأل اللقيط أن يحلف له: فإن كان قد تقدم من اللقيط إقرار بالحرية.. لم يحلف؛ لأنه لو أقر له بالرق.. لم يقبل إقراره، فلا فائدة في عرض اليمين. وإن لم يتقدم منه إقرار بالحرية، فإن قلنا بقول عامة أصحابنا: يقبل إقراره بالرق قولا واحدًا.. حلف لجواز أن يخاف من اليمين فيقر. وإن قلنا بقول أبي الطيب بن سلمة.. هل يقبل إقراره بالرق؟ فيه قولان: فإن قلنا: يقبل.. حلف لجواز أن يخاف من اليمين فيقر. وإن قلنا: لا يقبل إقراره.. لم يحلف؛ لأنه لو خاف من اليمين فأقر بالرق.. لم يقبل إقراره، فلا فائدة في اليمين. قلت: وينبغي أن يبني على القولين في يمين المدعي مع نكول المدعى عليه،

فإن قلنا: إنها كالبينة.. عرضت اليمين على اللقيط على هذا القول أيضا، لجواز أن ينكل عن اليمين، فيحلف المدعي فيكون كما لو أقام البينة. وإن قلنا: إنه كالإقرار.. لم تعرض. والله أعلم

كتاب الوقف

[كتاب الوقف]

كتاب الوقف الوقف: عطية مؤبدة. يقال: وقف، ولا يقال: أوقف، إلا في شاذ اللغة. ويقال حبس وأحبس. إذا ثبت هذا: فإن الوقف يصح، ويلزم بالقول ولا يفتقر إلى القبض. وبه قال مالك وأبو يوسف.

وقال محمد بن الحسن وابن أبي ليلى: يصح الوقف، ولكن يفتقر إلى القبض. وقال أبو حنيفة: (لا يصح الوقف أصلا) ولكن أصحابه استشنعوا هذا، فقالوا: يصح الوقف، ولكن لا يلزم، بل له بيعه وهبته. ولا يلزم إلا في موضعين: إما أن يحكم به الحاكم، أو يوصي الواقف به. دليلنا: ما روى نافع، عن ابن عمر: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ملك مائة سهم بخيبر ابتاعها، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وقال: يا رسول الله إني ملكت مالًا لم أملك مثله قط، وأردت أن أتقرب به إلى الله تعالى، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حبس الأصل، وسبل الثمرة» . قال: فتصدق به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الفقراء وفي القربي وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل، لا يباع ولا يوهب ولا يورث. لا جناح على من وليها أن يأكل منها غير متأثل مالًا، تنظر فيها حفصة ما عاشت، فأما إذا ماتت فذوو الرأي من أهلها، يعني: من أهل الوقف.

فوجه الدليل من الخبر: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن جهة التقرب، فقال: «حبس الأصل» فاقتضى الظاهر أن القربة تحصل بنفس الحبس. ولم يعتبر حكم الحاكم به بعد الوقف، ولا الوصية به. قال الشافعي: (ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حبس الأصل» أي بما عليه الأموال المطلقة، فلا تباع ولا توهب ولا تورث. إذ لا معنى لقوله: «حبس الأصل» إلا هذا. وأيضًا فإن عمر حبس، وقال: (لا يباع ولا يوهب ولا يورث) وهذا بيان حكم الوقف) . ومعلوم: أن عمر كان جاهلًا بأصل الوقف حتى سأل النبي صلى لله عليه وسلم. فكيف يجهل أصل الوقف، ويعلم حكمه؟ فعلم أنه إنما ذكر هذا الحكم بتوقيف من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإن لم يكن بتوقيف منه، فلا يجوز أن يخفى هذا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فلما لم ينكره.. دل على أن هذا حكم الوقف. وروي: عن أبي بكر، وعثمان، وطلحة: أن كل واحد منهم وقف داره. وروي: (أن فاطمة وقفت على بني هاشم، وبني المطلب) . ووقف علي عليهم، وأدخل معهم غيرهم.

مسألة وقف ما تثبت عينه

وروي عن جابر: أنه قال: (لم يبق في أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من له مقدرة إلا وقد وقف) . وروي: أن عمرو بن العاص قدم من اليمن إلى المدينة فقال: (لم يبق في المدينة لأهلها شيء إلا وهو وقف) . وروي: أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حفر بئرًا بـ: ينبع، فخرج ماؤها مثل عنق البعير. فقيل: بخت الوارث. قال: فتصدق بها علي وكتب: (هذا ما تصدق به علي بن أبي طالب ابتغاء وجه الله، وليصرفه عن النار، ويصرف النار عنه ينظر فيه الحسن ما عاش، ثم الحسين، ثم ذوو الرأي من ولده) . وهذا إجماع من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على الوقف. [مسألة وقف ما تثبت عينه] ويصح الوقف في كل عين يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، كالدور والأرضين والثياب والأثاث والسلاح والحيوان. وقال أبو حنيفة: (لا يصح وقف الحيوان وإن حكم به الحاكم) . وقال محمد بن الحسن: يصح الوقف في الحيوان إلا في الخيل. دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بعث عمر ساعيًا، فلما رجع.. شكا ثلاثة نفر: العباس بن عبد المطلب، وخالد بن الوليد، وابن جميل. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله، وأما خالد.. فقد ظلمتموه، قد احتبس أدراعه

وأعبده في سبيل الله. وروي: وأعتده» . والأعتد: الخيل. فالخبر حجة على أبي حنيفة ومحمد. وروي: «أن أم معقل أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: يا رسول الله! إن أبا معقل وقف ناقة في سيبل الله، وإني أريد الحج، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اركبيها، فإن الحج والعمرة في سبيل الله» ويصح وقف الصغير من الحيوان؛ لأنه يرجى الانتفاع به. ولا يصح الوقف في الحمل؛ لأنه تمليك منجز.. فلم يصح في الحمل وحده، كالبيع. وقولنا: (تمليك منجز) احتراز من الوصية. وقولنا: (وحده) احتراز ممن وقف حيوانًا حاملًا، فإنه يصح الوقف في الحمل تبعًا لأمه، ولا يصح الوقف فيما لا يمكن الانتفاع به على الدوام، كالحيوان الذي تحطم، والطعام والريحان.

فرع وقف العين غير الثابتة

وحكي عن مالك والأوزاعي أنهما قالا: (يجوز وقف الطعام) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لا يمكن حبس أصله. [فرع وقف العين غير الثابتة] وهل يصح وقف الدراهم والدنانير؟ فيه وجهان: إن قلنا: تصح إجارتها.. صح وقفها. وإن قلنا: لا تصح إجارتها.. لم يصح وقفها. وهذا هو الصحيح؛ لأنه لا خلاف أنه لو غصب منه دراهم أو دنانير.. لم يجب عليه أجرتها. وأما وقف الكلب: فاختلف أصحابنا فيه: فقال بعضهم: فيه وجهان بناء على الوجهين في إجارته. وقال القفال: لا يصح وقفه وجهًا واحدًا؛ لأنه لا يصح تمليكه. وقال بعضهم: يصح وقفه وجهًا واحدًا، كما تصح الوصية به. وهل يصح وقف أم الولد؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصح؛ لأن الوقف تمليك، وأم الولد لا تملك. والثاني: يصح وقفها، كما يصح إجارتها. فعلى هذا: إذا مات سيدها.. عتقت بموته؛ لأن ذلك قد ثبت لها بالاستيلاد، فلا يبطل بوقفها، كما لا يبطل بإجارتها. [فرع الوقف في شيء معين] ولا يصح الوقف إلا في عين معينة. فإن وقف عينًا في ذمته.. لم يصح؛ لأن ذلك إبطال لمعنى الملك فيها، فلم يصح في عين بذمته، كالعتق.

فرع وقف المشاع

فإن قال: وقفت أحد هؤلاء العبيد.. لم يصح؛ لأنه تمليك منجز، فلم يصح في عين غير معينة، كالبيع والهبة. [فرع وقف المشاع] ويصح الوقف في المقسوم والمشاع، وبه قال مالك وأبو يوسف. وقال محمد بن الحسن: لا يصح الوقف في المشاع. دليلنا: حديث عمر: (أنه وقف مائة سهم بخيبر) . وهذا وقف مشاع. ويصح وقف علو الدار دون سفلها، أو سفلها دون علوها؛ لأنهما كالعينين. [مسألة الوقف فيما فيه طاعة] ولا يصح الوقف إلا على ما فيه طاعة لله، كالوقف على أولاده أو على قرابته أو الفقراء والمساكين وطلبة العلم، وكالوقف على المساجد والسقايات والقناطر والمقابر، لما ذكرناه من أخبار الصحابة. فإن كان الوقف على غير معين.. فهل تفتقر صحته إلى قبول الموقوف عليه. وإن كان على معين.. فهل تفتقر صحته إلى قبول الموقوف عليه؟ فيه وجهان: الصحيح: أنه لا يفتقر. وقال المسعودي (في " الإبانة " ق\352) : يفتقر إلى قبوله. ومن قال: لا يفتقر إلى القبول.. فإن الموقوف عليه إذا كان معينًا، ورد الوقف.. بطل الوقف عليه. وإن وقف على آدمي.. فلا بد أن يكون موجودًا حيًا يوم الوقف عليه. وإن وقف على ميت، أو على من يولد له.. لم يصح؛ لأنه عقد تمليك في حال الحياة، فلم يصح إلا على موجود حي، كالهبة والبيع.

فرع الوقف على ذمي

إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولا يجوز أن يخرجها من ملكه إلا إلى مالك منفعة يوم يخرجها إليه) . فإن قال قائل: لم قال الشافعي: (لا يجوز الوقف إلا على مالك) وعنده يجوز الوقف على المساجد والسقايات والقناطر والمقابر؟! قلنا: عن ذلك جوابان: أحدهما: أن الوقف على المساجد والسقايات والقناطر والمقابر وقف على المسلمين في الحقيقة؛ لأن منفعة هذه الأشياء ترجع إليهم. والثاني: أنه أراد بذلك: إذا وقف على الآدمي.. فلا يصح الوقف إلا على موجود حي. فأما الميت والمعدوم: فلا يصح الوقف عليه. فإن قيل: أليس لو وقف على أولاده وعقبهم.. جاز، وأن كان العقب لم يخلق؟ قلنا: إنما جاز ذلك على سبيل التبع للموقوف عليه الموجود. [فرع الوقف على ذمي] وإن وقف مسلم أو ذمي على ذمي.. صح الوقف؛ لأنه يصح أن يملك بصدقة التطوع.. فصح الوقف عليه، كالمسلم. وإن وقف مسلم أو ذمي على كنائس أهل الذمة وبيعهم.. لم يصح الوقف؛ لأنها مجامع الكفر ومشاتم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكذلك الوقف على خادمها.. لا يصح؛ لأن خدمتها من عمارتها. وإن وقف على النازلين في الكنائس من المارة من أهل الذمة.. قال ابن الصباغ: صح الوقف؛ لأنه وقف على أهل الذمة دون الكنائس والبيع. وإن وقف شيئًا على كتب التوراة والإنجيل.. لم يصح؛ لأنها مبدلة مغيرة، فلا حرمة لها. وإن وقف شيئًا على من يقطع الطريق، أو يرتد عن الدين.. لم يصح؛ لأن الوقف

فرع الوقف على بهيمة رجل

لا يصح إلا على بر، وهذا إعانة على المعصية. وإن وقف على مرتد أو حربي.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: يصح، كما يصح الوقف على الذمي. والثاني: لا يصح؛ لأنه مأمور بقتلهما، فلا معنى للوقف عليهما. وهذا يبطل بالزاني المحصن، فإنه مأمور بقتله، ويصح الوقف عليه. [فرع الوقف على بهيمة رجل] وإن وقف على بهيمة رجل.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنها لا تملك، فلم يصح الوقف عليها. والثاني: يصح. قال ابن الصباغ: وهو ظاهر المذهب؛ لأن ذلك وقف على مالكها، قال: إلا أنه ينفق منه عليها، فإذا نفقت- أي: ماتت- كان لصاحبها. وأما إذا وقف على عبد أو أم ولد.. ففيه طريقان: قال الشيخان- أبو حامد وأبو إسحاق -: لا يصح الوقف عليهما؛ لأنه تمليك منجز، فلم يصح على العبد، كالهبة. وقال القاضي أبو الطيب في (المجرد) : يبني على القولين في أنه: هل يملك إذا ملكه السيد؟ فإن قلنا: إنه يملك.. صح الوقف عليه. فإذا أعتق.. كان له مثله. وإن قلنا: إنه لا يملك.. فهو كما لو وقف على بهيمة غيره، على وجهين: الصحيح: يصح.

مسألة وقف على نفسه ثم الفقراء

[مسألة وقف على نفسه ثم الفقراء] ) : إذا وقف شيئًا على نفسه، ثم على الفقراء والمساكين، أو على نفسه وأولاده، ثم على الفقراء.. لم يصح الوقف على نفسه. وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو يوسف، وأحمد: (يصح) . قال ابن الصباغ: وإليه ذهب أبو العباس وأبو عبد الله الزبيري من أصحابنا، لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما وقف قال: (لا بأس على من وليها أن يأكل منها غير متأثل مالًا) . فجعل لمن يليها أن يأكل منها. وقد يليها الواقف وغيره. وقد كانت بيده إلى أن مات. وروي: أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما وقف بئر رومة قال: (دلوي منها كدلاء المسلمين) ولأن الوقف وقفان: وقف خاص، ووقف عام. ثم ثبت: أن الوقف العام له فيه حظ، وهو: إذا وقف مسجدًا أو سقاية.. فإن له أن يصلي في المسجد، ويشرب من السقاية، فكذلك في الوقف الخاص. ودليلنا: أن الوقف تمليك للرقبة والمنفعة، فلا يجوز أن يملك نفسه من نفسه، كما لا يجوز ذلك في البيع والهبة. وأما حديث عمر: فمحمول على أنه شرط ذلك لغيره. وأما حديث عثمان: فلأن ذلك وقف عام، وهو يدخل في العام من غير شرط. إذا ثبت هذا، وأن وقفه على نفسه لا يصح: فإنه يكون وقفًا منقطع الابتداء متصل الانتهاء، على ما يأتي بيانه.

فرع التحبيس على الولد بشرط

[فرع التحبيس على الولد بشرط] ) : قال في (البويطي) : (إذا قال: داري حبس على ولدي، ثم مرجعها إلي إذا انقرض.. فالحبس باطل) . وقد قيل: جائز، ويرجع إلى أقرب الناس بالمحبس. [مسألة الوقف المعلق أو على التخيير] ) : وإن قال: وقفت داري هذه على أحد هذين الرجلين، أو على من يختاره فلان.. لم يصح؛ لأنه تمليك منجز، فلم يصح على غير معين، كالبيع. وإن قدر الوقف بمدة.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو إسحاق: لا يصح من غير تفصيل. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\349] : إذا قال: وقفت داري هذه على زيد سنة، ثم تعود ملكي بعد السنة.. ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: لا يصح الوقف؛ لأن مقتضى الوقف التأبيد، وليس هذا بمؤبد. والثاني: يصح الوقف، ويرجع إليه بعد السنة، فكأنه جعل غيره أحق بمنفعة الدار هذه السنة بإجارة أو إعارة. والثالث: يكون كما لو قال: وقفتها على زيد وأولاده، وأطلق.. فيكون وقفًا متصل الابتداء منقطع الانتهاء، على ما يأتي بيانه. وقال ابن الصباغ: وإن قال: وقفتها على زيد سنة، وأطلق.. فإنه وقف متصل الابتداء منقطع الانتهاء، على ما يأتي بيانه. وإن قال: وقفت هذا على زيد سنة، ثم بعد السنة على الفقراء والمساكين.. فظاهر كلام ابن الصباغ أنه يصح قولًا واحدًا. وقد ذكر الشيخ أبو حامد ما يدل على ذلك في التي بعدها.

مسألة الوقف على أحوال

[مسألة الوقف على أحوال] وإذا وقف وقفًا: فلا يخلو من أربعة أحوال: إما أن يكون معلوم الابتداء والانتهاء، أو يكون مجهول الابتداء والانتهاء، أو يكون معلوم الابتداء مجهول الانتهاء، أو يكون مجهول الابتداء معلوم الانتهاء. فإن كان معلوم الابتداء والانتهاء.. صح الوقف، وذلك يتصور من وجهين: أحدهما: أن يقفه على قوم معينين بالصفة لا يجوز بحكم العادة انقطاعهم، مثل: أن يقفه على الفقراء والمساكين، أو على طلبة العلم، أو أبناء السبيل، وما أشبه ذلك، أو على قبيلة لا تنقطع، كبني تميم. الثاني: أن يقفه على قوم معينين ينقطعون في العادة، ثم بعدهم على من لا ينقطع، مثل أن يقفه على أولاده وأولاد أولاده، فإذا انقرضوا، فعلى الفقراء والمساكين. قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز أن يكون الابتداء معلومًا بالصفة، والانتهاء معلومًا بالتعيين، مثل أن يقول: وقفت هذا على الفقراء والمساكين. ثم على أولادي، أو على بني تميم؛ لأن هذا لا يفنى؛ لأن الدنيا لا تخلو من فقراء ومساكين. قال: إلا أن يقدره بمدة، مثل أن يقول: وقفته على الفقراء والمساكين سنة، أو عشر سنين، ثم على أولادي، ثم على بني تميم، فيصح. فإن كان الوقف مجهول الابتداء والانتهاء، مثل أن يقول: وقفت داري على أولادي، ولا أولاد له، أو على رجال، أو على حمل هذه المرأة.. فلا يصح الوقف؛ لأن الوقف تمليك للرقبة والمنفعة، فلم يصح على من لا يملك، كما لا يصح البيع والإجارة من غير ملك. فإن كان الوقف معلوم الابتداء مجهول الانتهاء، مثل أن يقول: وقفت هذا على أولادي، ويسكت، وله أولاد، أو على أولادي وأولاد أولادي ما تناسلوا وتعاقبوا،

ولم يصرفه بعد انقراضهم على سبيل لا ينقطع.. ففيه قولان: أحدهما: أن الوقف باطل. وبه قال محمد بن الحسن؛ لأن مقتضى الوقف التأبيد، وهذا ليس بمؤبد؛ لأن نسله قد ينقطع، فلم يصح الوقف، كما لو كان مجهول الابتداء والانتهاء. والثاني: يصح الوقف. وبه قال مالك؛ لأن ابتداء الوقف معلوم، ويمكن نقله إلى غيره بعد انقراضه، فصح، كما لو كان معلوم الابتداء والانتهاء. فإذا قلنا: إن الوقف باطل.. فإن الموقوف يكون باقيًا على ملك الواقف. وإذا قلنا: إن الوقف صحيح.. فإن الوقف يصرف إلى الموقوف عليهم ما داموا. فإذا انقرضوا.. ففيه ثلاثة أقوال حكاها المسعودي [في " الإبانة " ق\347] : أحدها: يصرف إلى المساكين؛ لأنهم هم الذين يؤول إليهم الوقف الصحيح. والثاني- وهو قول أبي يوسف -: أنه يرجع ملكًا إلى الواقف إن كان باقيًا، أو إلى وارثه إن كان ميتًا؛ لأنه جعله وقفًا على ما سماه، فلا يجوز أن يكون وقفًا على غيره، فرجع إلى الواقف. والثالث- وهو الصحيح، ولم يذكر أصحابنا البغداديون غيره-: أن ينقل إلى أقرب الناس بالواقف؛ لأن ملكه قد زال عنه على وجه القربة، فلم يعد إليه، كما لو أعتق عبدا. وإذا لم يعد ملكه إليه.. كان أقاربه بعد من سماه أولى؛ لأنه قصد جهة الثواب وأولى جهات الثوب أقاربه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صدقة وذو رحم محتاج» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقتك على المساكين صدقة، وعلى ذي رحم اثنتان: صدقة وصلة» .

فإذا قلنا بهذا: قال المسعودي [في " الإبانة " ق\346] : فاختلف أصحابنا في أقرب الناس إليه: فمنهم من قال: هم ورثته الذين جعلهم الله أحق بميراثه. وقال ابن سريج: أقربهم جوارًا لا قرابة؛ لأن الشافعي قال: (يصرف إلى أقرب الناس بالواقف) وأقربهم به: جاره. ومنهم من قال: أقربهم به رحمًا وإن لم يكن وارثًا. وهذا هو المشهور. فعلى هذا: إن كان هناك ابن بنت أو ابنة بنت، وابن عم.. كان ابن البنت أو ابنة البنت أولى من ابن العم. وإن كان هناك قرابة له ذكور ونساء: سوى بينهم، فيقدم الأقرب فالأقرب. فأقربهم الأولاد، ثم أولادهم وإن سفلوا، فإن لم يكن أحد منهم.. فالأبوان. فإن اجتمعا.. استويا. فإن اجتمع له جد وأخ لأب.. ففيه قولان: أحدهما: أنهما سواء، كما قلنا في الميراث. والثاني: أن الأخ أولى؛ لأن تعصيبه تعصيب الأولاد. وهل يختص به فقراؤهم، أو يشترك به الأغنياء والفقراء؟ فيه قولان: أحدهما: يشترك فيه الأغنياء والفقراء؛ لأن اسم القرابة يجمعهم. والثاني: يختص به الفقراء؛ لأن القصد منه القربة، والقربة في الفقراء أكثر ثوابًا من الغني. فإن كان الوقف مجهول الابتداء معلوم الانتهاء، مثل أن يقف على ولده ولا ولد له، ثم على الفقراء. أو على قوم غير معينين ثم على الفقراء، أو على زيد ثم على الفقراء فرد زيد الوقف.. فإن الوقف يبطل عليه. وهل يبطل الوقف على الفقراء في هذه المسائل؟ اختلف أصحابنا فيه:

فقال أبو علي بن أبي هريرة: هي على قولين كالتي قبلها. وقد نص الشافعي على القولين فيها في (حرملة) ؛ لأن الجهالة دخلت في أحد طرفي الوقف، فهو كما لو دخلت في الانتهاء. وقال أبو إسحاق: يبطل الوقف هاهنا قولًا واحدًا، وهو المنصوص في (المختصر) ؛ لأن الثاني فرع لأصل باطل، فكان باطلًا. فإذا قلنا: إنه باطل.. فلا كلام. وإذا قلنا: إنه صحيح.. فلا حق للبطن الأول فيه. وهل ينقل الوقف إلى البطن الثاني؟ ينظر فيه: فإن كان البطن الأول لا يمكن اعتبار انقراضه كرجل غير معين.. نقل الوقف في الحال إلى البطن الثاني. وإن كان الأول يمكن اعتبار انقراضه كأم ولده، أو وقف على وارثه في مرض موته ثم على الفقراء.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ينقل في الحال إلى البطن الثاني؛ لأن الوقف لم يصح على الأول، فكان وجوده كعدمه. والثاني: أنه يرجع إلى الواقف إن كان حيًا، أو إلى وارثه إن كان ميتًا، إلى أن ينقرض البطن الأول؛ لأنه لا يمكن نقله إلى الثاني في الحال؛ لأنه شرط في صرفه إليه انقراض الأول، فبقي على ملك الواقف. والثالث- وهو اختيار ابن الصباغ -: أنه ينقل إلى أقرب الناس بالواقف إلى أن ينقرض الأول، ثم ينقل إلى الثاني، كما قلنا في الوقف المعلوم الابتداء، المجهول الانتهاء.

فرع وقف داره على اثنين ولم يذكر من بعدهما

قال الشيخ أبو حامد: وقد نص الشافعي في (حرملة) : (أن رجلا لو وقف داره في مرض موته على ولده، وولد ولده.. صح الوقف في نصف الدار على ولد الولد، ولم يصح في النصف على الولد؛ لأنه وارث. فيكون للولد أخذ نصف غلة الوقف ما عاش، فإذا مات.. صار ذلك لولد الولد) فجعل للولد أخذ نصف الغلة بحق الملك، فإذا مات.. نقل إلى ولد الولد. فإذا قلنا: إنه ينقل إلى أقرباء الواقف.. فهل يختص به فقراؤهم، أو يشترك فيه أغنياؤهم وفقراؤهم؟ على ما مضى من القولين. [فرع وقف داره على اثنين ولم يذكر من بعدهما] قال المسعودي [في " الإبانة " ق\347] : لو وقف داره على زيد وعمرو، وسكت عن ذكر من بعدهما، وقلنا: يصح، فمات أحدهما.. ففيه قولان: أحدهما: يرجع نصيب الميت إلى الباقي منهما؛ لأنها موقفة عليهما، فكان الباقي منهما أحق بها. والثاني: يصرف نصيب الميت منهما إلى ما يصرف جميعها إذا ماتا، على ما مضى. [فرع لم يذكر الموقوف عليه] ) : وإن قال: وقفت داري، أو تصدقت به صدقة محرمة، ولم يقل على من.. ففيه قولان: أحدهما: إن الوقف باطل؛ لأن الوقف تمليك فلا بد من مملك، كالبيع والهبة، ولأنه لا خلاف أنه لو قال: وقفت داري على أقوام أو رجال، أنه لا يصح الوقف وقد ذكر الموقوف عليه.. فبأن لا يصح ولم يذكره أولى. والثاني: يصح الوقف؛ لأن القصد من الوقف القربة، فصح وإن لم يذكر الواقف الموقوف عليه، كما لو قال: علي لله أن أضحي بهذه الشاة. ولأنه لو قال: أوصيت

مسألة يشترط للوقف القول

بثلثي وأطلق.. لصحت الوصية وصرفت إلى الفقراء، فكذلك هذا مثله. ويفارق البيع والهبة؛ لأنه ليس لهما مصرف معروف. ويفارق إذا وقف على قوم أو رجال غير معينين؛ لأنا لو صححناه ورددناه على قوم.. ربما أخطأنا مراده إن كان قصده غيرهم. فإذا قلنا: إن الوقف صحيح.. فإن الوقف يصرف إلى أقرباء الواقف؛ لأنهم أولى جهات الثواب. قال الشافعي: (ويستوي فيه الأغنياء والفقراء) . قال الشيخ أبو حامد: فنص على أحد القولين، ويجيء فيه القول الآخر أنه يختص به فقراؤهم. [مسألة يشترط للوقف القول] ) : ولا يصح الوقف إلا بالقول. وألفاظه ستة: وقفت، وحبست، وسبلت، وتصدقت، وحرمت، وأبدت. فإما الوقف: فهو صريح؛ لأنه لا يصلح في عرف اللغة إلا لذلك. وأما التحبيس، والتسبيل: فهما صريحان أيضًا؛ لأن الشرع ورد بهما، وهو قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حبس الأصل وسبل الثمرة» ولا يصلحان في اللغة إلا لذلك. أما الصدقة: فهو كناية. فإن نوي به الوقف، صار وقفًا فيما بينه وبين الله تعالى دون الحكم، إلا أن يقول: أنا نويت به الوقف، فيصير وقفًا فيما بينه وبين الله تعالى وفي الحكم؛ لأن هذه اللفظة مشتركة بين صدقة الفرض والتطوع، وهي في صدقة التطوع أظهر. فإن قرن بالصدقة لفظة من ألفاظ الوقف، بأن قال: صدقة موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة أو محرمة، أو مؤبدة، أو قرن بها حكمًا من أحكام الوقف، بأن قال: صدقة لا تباع، ولا توهب، ولا تورث.. صار ذلك وقفًا؛ لأن انضمام ذلك إلى لفظ الصدقة لا يحتمل غير الوقف. وأما قوله: حرمت، وأبدت: ففيهما وجهان:

فرع يلزم الواقف للمسجد والمقبرة أن يتلفظ بذلك

أحدهما: أنهما كناية. وهو اختيار المحاملي؛ لأن قوله حرمت: يقتضي تحريمًا عن نفسه، ولا يقتضي تمليك العين. والوقف يقتضي تمليك العين، فلم تكن صريحة. وقوله أبدت: يقتضي التأبيد، وليس لهذه اللفظة عرف مستعمل. والثاني: أنهما صريحان. وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن لفظة التحريم والتأبيد في الجمادات لا يصلحان لغير الوقف. قال ابن الصباغ: ولأن الشافعي جعلهما مع لفظة الصدقة صريحين في الوقف. ولو كانا كناية في الوقف.. لم تصر الصدقة بهما صريحًا؛ لأن بإضافة الكناية إلى الكناية لا يحصل الصريح. [فرع يلزم الواقف للمسجد والمقبرة أن يتلفظ بذلك] ] : فإن بنى مسجدًا وأذن للناس في الصلاة فيه، أو أذن للناس في الدفن في أرضه.. لم يصيرا بذلك وقفًا. وقال أبو حنيفة: (إذا بنى في داره مسجدًا، وفتح بابه إلى الشارع، وأذن للناس في الصلاة فيه، أو أذن للناس بالدفن في أرضه.. صار بذلك وقفًا) . دليلنا: أنه تحبيس عين على وجه القربة، فكان من شرطه القول مع القدرة عليه، كما لو حبس دارًا على الفقراء والمساكين. وهذا احتراز من الأخرس. [مسألة صحة الوقف تزيل الملك] ) : وإذا صح الوقف.. زال ملك الواقف عن الوقف. وحكى أبو العباس ابن سريج فيه قولًا آخر: أنه لا يزول ملكه عن الوقف، وهو قول مالك، والأول هو المشهور؛ لأن الوقف سبب يقطع تصرف الواقف في الرقبة والمنفعة، فأزال الملك، كالعتق.

إذا ثبت هذا: فإلى من ينتقل الملك في الوقف؟ نص الشافعي ها هنا: (أن الملك ينتقل فيه إلى الله تعالى) ونص في (الشهادات) : (أن الرجل إذا ادعي أن أباه وقف عليه، وأقام عليه شاهدًا واحدًا.. حلف معه) . فمن أصحابنا من قال: هذا يدل على أن الملك انتقل إلى الموقوف عليه؛ لأنه حكم بثبوت الوقف بشاهد ويمين، ولو انتقل إلى الله تعالى.. لم يحكم بثبوته بشاهد ويمين، كما قلنا في العتق، فتكون المسألة على قولين: أحدهما: ينتقل الملك فيه إلى الموقوف عليه، إلا أنه لا يملك التصرف في رقبته؛ لأن الوقف متمول، بدليل أنه يجب على متلفه القيمة، وما كان متمولًا، فإن الملك فيه للآدمي، كالحربي إذا استرق، والصيد. والثاني: أنه ينتقل إلى الله تعالى، وهو الصحيح؛ لأنه معنى يزيل الملك، لا يقصد به الانتفاع بالرقبة، فانتقل إلى الله تعالى كالعتق. وقال أبو العباس: ينتقل إلى الله تعالى قولًا واحدًا، لما ذكرناه. وإنما حكم الشافعي فيه بالشاهد واليمين؛ لأن ملك المنفعة للموقوف عليه، والمنافع تثبت بالشاهد واليمين. وحكى القاضي أبو الطيب طريقًا ثالثًا: أن الملك ينتقل إلى الموقوف عليه قولًا واحد. وحيث قال الشافعي: (يملك الموقوف عليه منفعته لا رقبته) أراد به: لا يملك بيع رقبته ولا هبتها، والصحيح الطريق الأول. وأما منفعة الوقف: فإنها ملك للموقوف عليه بلا خلاف. فإن كان الموقوف شجرة.. ملك الموقوف عليه ثمرتها، وتجب فيها الزكاة؛ لأنه يملكها. وإن كان الموقوف نصابًا من الماشية على رجل تجب عليه الزكاة، وحال عليها الحول، فإن قلنا: إن الملك فيها لله تعالى.. لم تجب فيها الزكاة، وإن قلنا: إنها في ملك الموقوف عليه، فهل تجب الزكاة عليه؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في الزكاة.

فرع وطء الجارية الموقوفة

قال الشيخ أبو حامد: فإذا قلنا: يجب عليه.. فإنه لا يخرجها منها، وإنما يخرجها من ماله، ويملك الموقوف عليه صوفها ولبنها؛ لأنه غلتها. وإن ولدت أولادًا بعد الوقف.. ففيه وجهان: أحدهما: أن الولد ملك للموقوف عليه يجوز له بيعه؛ لأنه من نمائها، فهو كثمرة الشجرة وكسب العبد. والثاني: أن الولد يكون وقفًا، كالأم؛ لأن كل حكم ثبت للأم، تبعها فيه الولد، كأم الولد. وإن وقف بهيمة حاملًا.. قال ابن الصباغ: فإن قلنا: للحمل حكم.. كان الولد وقفًا. وإن قلنا: لا حكم للحمل.. كان كالولد الحادث بعد الوقف، على الوجهين. [فرع وطء الجارية الموقوفة] ] : وإن كان الموقوف جارية فوطئها الواقف، أو أجنبي بشبهة، أو أكرهها على الوطء.. وجب عليه المهر للموقوف عليه؛ لأن ذلك من كسبها. ولا يجوز للموقوف عليه وطؤها قولًا واحدًا؛ لأنه لا يملكها في أحد القولين، ويملكها في الثاني، إلا أنه ملك ضعيف، بدليل أنه لا يملك بيعها ولا هبتها. والوطء لا يكون إلا في ملك تام، فإن خالف ووطئها.. لم يجب عليه الحد؛ لأنه وطء شبهة، ولا يجب عليه المهر؛ لأنه لو وطئها غيره وطئًا يوجب المهر.. لكان المهر الذي يستحق عليه للموقوف عليه، فلا يجوز أن يستحق مهرها على نفسه. وهل يجوز تزويجها؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز. كما يجوز إجارتها. والثاني: لا يجوز؛ لأنه يخاف عليها أن تحبل من الوطء، وتموت منه، فيبطل حق البطن الثاني منها. وإذا قلنا: يجوز تزويجها.. فمن يزوجها؟

مسألة تلف الموقوف

إن قلنا: إن الملك فيها للموقوف عليه.. زوجها. وإن قلنا: إنه لله تعالى.. زوجها الحاكم بإذن الموقوف عليه، ويجب له مهرها. وإن أتت بولد.. كان على الوجهين في ولد البهيمة. [مسألة تلف الموقوف] وإن أتلف أجنبي الوقف، أو أتلفه الواقف.. وجب عليه قيمته، ولمن يكون؟ فيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: إذا قلنا: إن الملك للموقوف عليه.. وجبت له القيمة، يتصرف فيها بما شاء. وإن قلنا: إن الملك لله تعالى.. اشترى بالقيمة شقصًا وأوقفه ويكون وقفًا بالعين التي أتلفت. و [الطريق الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: يشتري بالقيمة مثل العين على القولين، وهو اختيار ابن الصباغ، لئلًا يبطل حق البطن الثاني منها. فإن كان الموقوف عبدًا، فقتله عبد عمدًا.. قال ابن الصباغ: فعندي أنه للموقوف عليه إذا قلنا: إن الموقوف عليه يستحق قيمته، أن يثبت له القصاص. وإن قلنا: إن الملك لله تعالى.. فإن القصاص إلى الإمام إن رأى ذلك. وإن قطعت يده خطأ.. وجبت فيها نصف قيمته، وفيها وجهان: أحدهما: تكون للموقوف عليه. والثاني: يشترى بها شقص من عبد. وإن قتله الموقوف عليه: فإن قلنا: إن القيمة تصرف إليه.. لم يجب عليه دفع القيمة؛ لأنه لا يستحق شيئًا على نفسه، كما لو قتل عبد نفسه.

فرع وطء الواقف أو الأجنبي بشبهة

وإن قلنا: يشتري بالقيمة مثل العين.. أخذت منه القيمة، واشتري بها عبد يكون وقفًا كالأول، وعلى الموقوف عليه الكفارة بكل حال. [فرع وطء الواقف أو الأجنبي بشبهة] وإن كان الموقوف جارية، فوطئها الواقف، أو أجنبي بشبهة، فأتت منه بولد.. فإن الولد يكون حرًا للشبهة، ويجب عليه قيمته؛ لأنه أتلف رقه باعتقاده. فإن قلنا: إن الولد لو كان مملوكًا لكان للموقوف عليه.. وجبت القيمة له. وإن قلنا: إن الولد يكون وقفًا كأمه لو كان مملوكًا.. ففي قيمة الولد طريقان، كما قلنا في قيمة الوقف إذا أتلفه أجنبي، أو أتلفه الواقف. ولا تصير الجارية أم ولد للواطئ؛ لأنه وطئها في غير ملكه. وإن وطئها الموقوف عليه وأولد منها ولدًا.. فإن الولد يكون حرًا، سواء علم تحريم الوطء أو لم يعلم؛ لأنه يملكها في أحد القولين، وله فيها شبهة ملك في القول الثاني. فإن قلنا بأحد الوجهين- لو كان الولد مملوكًا كان للموقوف عليه- لم يجب عليه دفع قيمته. وإن قلنا: إن الولد يكون وقفًا كأمه.. بني على الطريقين في العين الموقوفة إذا أتلفها أجنبي، فإن قلنا: تؤخذ منه القيمة وتسلم إلى الموقوف عليه.. لم يجب على الموقوف عليه شيء. وإن قلنا: يشتري بها مثلها.. أخذت منه قيمة الولد، واشتري بها مثله. وهل تصير أم ولد للموقوف عليه؟ إن قلنا إن الملك فيها ينتقل إلى الله تعالى.. لم تصر أم ولد له. وإن قلنا: إن الملك انتقل إلى الموقوف عليه.. صارت أم ولد له. فإن مات وهي باقية.. عتقت بموته وأخذت قيمتها من تركته، وكان الحكم فيها كما لو أتلفها أجنبي على الطريقين: منهم من قال:

فرع جناية العبد الموقوف

إن قلنا: إن الملك ينتقل إلى الله تعالى.. اشترى بالقيمة مثل الجارية، وتكون وقفًا مكانها. وإن قلنا: إن الملك انتقل إلى الموقوف عليه.. صرفت القيمة ها هنا إلى أهل البطن الثاني بعده. ومنهم من قال: يشترى بها مثل الجارية على القولين. [فرع جناية العبد الموقوف] وإن جنى العبد الموقوف على غيره: فإن كانت جنايته توجب- واختار المجني عليه- القصاص فاقتص منه.. فلا كلام، فإن كان على النفس فقتله.. بطل الوقف، كما لو مات. وإن كانت فيما دون النفس.. بقي الوقف فيما بقي منه. وإن كانت الجناية خطأ، أو عمدًا، فعفي عنه على مال.. وجب الأرش، ولا يجوز بيعه؛ لأن الوقف لا يجوز بيعه. فإن قلنا: إن ملك الواقف لم يزل عنه.. وجب عليه أرش جنايته. وإن قلنا: إن ملك الوقف للموقوف عليه.. وجب أرش الجناية عليه، بالغة ما بلغت حتى لو جنى جنايات كثيرة.. وجب عليه أرشها. قال ابن الصباغ: وهذا يدل على ضعف هذا القول؛ لأنه لا يجوز أن يجب عليه أرش جناية غيره على وجه يجحف به. وإن قلنا: إن الملك فيه ينتقل إلى الله تعالى.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو قول أبي إسحاق -: أنها تجب على الواقف؛ لأنه منع من بيعه بسبب لم يبلغ به حالة يتعلق الأرش بذمته، فلزمه الأرش، كأم الولد. والثاني: تجب في بيت المال؛ لأنه لا يمكن إيجاب الأرش على الواقف؛ لأن

مسألة تعليق الوقف على شرط مستقبل

ملكه قد زال عنه. ولا على الموقوف عليه؛ لأنه لا يملكه، فلم يبق إلا بيت المال. والثالث: يجب في كسبه؛ لأنه لا يمكن إيجابه على الواقف، ولا على الموقوف عليه؛ لأنهما لا يملكانه، ولا في رقبته؛ لأنه لا يمكن بيعها، فوجب ذلك في كسبه. فإن لم يكن له كسب.. كانت على الوجهين الأولين. [مسألة تعليق الوقف على شرط مستقبل] ولا يصح تعليق أصل الوقف بشرط مستقبل، مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر.. فقد وقفت داري هذه على المساكين؛ لأن هذا تصرف لم يبن على التغليب، فلا يصح تعليقه على شرط، كالبيع والهبة. ولا يصح الوقف بشرط الخيار، ولا بشرط أن يبيعه متى شاء، ولا بشرط أن يدخل فيه من شاء، أو يخرج منه من شاء. وقال أبو يوسف: يصح بشرط الخيار، وبشرط أن يبيعه متى شاء، في إحدى الراويتين. دليلنا: أن هذا شرط ينافي مقتضاه، فلم يصح، كما لو أعتق عبدًا وشرط شيئًا من هذه الشروط. وأما صرف غلة الوقف: قال الشافعي: (فهي على ما شرط الواقف من الأثرة، والتقدمة، والتسوية بين أهل الغنى والحاجة، ومن إخراج من أخرج منها بصفة، ورده إليها بصفة) . قال أصحابنا: فـ (الأثرة) : أن يخص قومًا دون قوم، مثل: أن يقف على أولاده، على أن يخص الذكور دون الإناث، أو الإناث دون الذكور. وأما (التقدمة) : فإنه يقدم قومًا على قوم، وذلك يحصل من وجهين: أحدهما: أن يفاضل بينهم، مثل: أن يقول وقفت عل أولادي للذكر مثل حظ الأنثيين، أو على أن للأنثى الثلثين وللذكر الثلث. والثاني: أن يقول: على أن البطن الأعلى يقدم على البطن الثاني.

فرع وقف شيئا على جماعة فقراء

وأما (التسوية) : فمثل أن يقول: على أن يسوى بين الغني والفقير منهم، أو بين الذكور والإناث. والإطلاق يقتضي ذلك وشرط تأكيدًا. وأما (إخراج من أخرج بصفة) : فمثل أن يقول: وقفت على أولادي على أن من تزوج من بناتي.. فلا حق لها فيه. وعلى أن من استغنى من أولادي.. فلا حق له فيه. وأما (رده إليها بصفة) : فمثل أن يقول: على أن من تزوج من بناتي.. فلا حق لها فيه، فإن طلقها زوجها، أو مات عنها.. عادت إلى الوقف. فكل هذا وما أشبهه جائز، ويحمل على ما شرطه الواقف. فإن قيل: فهذا وقف معلق على شرط، والوقف المعلق على شرط لا يصح؟ فالجواب: أن هذا ليس بوقف معلق على شرط؛ لأن الوقف المعلق على الشرط هو: أن يعلق أصل الوقف على الشرط، مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر.. فقد وقفت داري. وأما هذا: فهو وقف منجز في الحال، وإنما الاستحقاق معلق بشرط، كما قلنا في الوكالة لو قال: إذا جاء رأس الشهر.. فقد وكلتك، فلا يصح. ولو قال: وكلتك ولا تتصرف إلا أول الشهر.. صح. [فرع وقف شيئا على جماعة فقراء] إذا وقف شيئًا على فقراء بني فلان: فمن جاء منهم وادعى أنه فقير.. أعطي، ولم يكلف إقامة البينة على فقره؛ لأن الأصل في الناس الفقر. ولو قال على الأغنياء منهم: فمن ادعى الغنى منهم ليأخذ.. كلف إقامة البينة؛ لأن الأصل عدم الغنى. [فرع وقف على رجل دابة للركوب دون نتاجها] ] : قال المسعودي [في " الإبانة " ق\352] : إذا وقف دابة على رجل للركوب، ولم يجعل له درها ووبرها.. فللموقوف عليه الركوب، ولي له الدر والوبر، وكان الحكم في الدر والوبر حكم من وقف شيئًا على زيد، وسكت عمن يصرف إليه بعده.

فرع الوقف في سبيل الله للغزاة

[فرع الوقف في سبيل الله للغزاة] وإن وقف شيئًا في سبيل الله.. كان ذلك وقفا على الغزاة عند نشاطهم دون المرتبين في ديوان الإمام. وقال أحمد: (الحج من سبيل الله) وتعلق بحديث أم معقل. دليلنا: أن مطلق كلام الآدمي محمول على المعهود في الشرع، وقد ثبت أن سهم سبيل الله في الصدقات مصروف إليهم، فكذلك الوقف المطلق. وأما الخبر: فيحتمل أن في كلام الواقف ما دل أنه أراد سبيل الثواب. وإن وقف شيئًا في سبيل الثواب.. صرف ذلك إلى أهله وقرابته؛ لأنهم أعظم جهات الثواب، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقتك على غير ذي رحمك صدقة. وصدقتك على ذي رحمك صدقة وصلة» . وإن وقف شيئًا على سبيل الخير.. صرف ذلك إلى من يستحق الزكاة لحاجته إليها، وهم الفقراء، والمساكين، وفي الرقاب، والغارمون- لمصلحتهم- وابن السبيل. [فرع الوقف على وجوه البر] وإن وقف شيئًا على وجوه البر.. صرف ذلك إلى من اختاره الناظر من الفقراء والمساكين والمساجد والقناطر وسائر مصالح المسلمين. وقال بعض أهل العلم: يصرف إلى من يستحق الزكاة سوى العاملين عليها. وليس بشيء؛ لأن ذلك يعم جميع مصالح المسلمين. [فرع الوقف على العلماء] قال الصيمري: وإن قال: وقفت هذا على العلماء.. صرف ذلك إلى كل عالم بأصول الشريعة وفروعها، ولا يصرف إلا إلى من يكمل لهما.

فرع وقف ضيعة لحقوق وتبعات

وإن قال: وقفت على الفقهاء.. صرف إلى أهل الفروع. وإن قال: على النحاة.. لم يصرف إلى أهل اللغة. [فرع وقف ضيعة لحقوق وتبعات] قال أبو العباس: وإن وقف ضيعة، وقال: يكون الانتفاع منصرفا إلى عمارتها وحق السلطان، وما فضل بعد ذلك في تبعاتي في الزكاة والكفارات.. صح الوقف، وصرفت الغلة إلى الفقراء والمساكين؛ لأن الظاهر أنه أخرج زكاته وكفارته، وإنما خاف النقص، فيكون هذا تطوعا منه. [مسألة الوقف على الأولاد يدخل الجميع] وإن وقف على أولاده.. دخل فيه أولاده من صلبه، الذكور والإناث والخناثى؛ لأن الجميع ولده، ولا يدخل أولاد البنين، ولا أولاد البنات؛ لأن ولده حقيقة هو ولده من صلبه. وإن كان له حمل.. استحق من الغلة الحادثة بعد انفصاله، دون الحادثة قبل انفصاله؛ لأنه لا يسمى ولدًا إلا بعد الانفصال. وإن كان له ولد فنفاه باللعان.. لم يدخل فيه. وقال أبو إسحاق: يدخل فيه. وهذا خطأ؛ لأنه بالنفي خرج عن أن يكون ولده. [فرع الوقف على أولاد أولاده] وإن وقف على أولاد أولاده.. دخل فيه أولاد البنين، وأولاد البنات الذكور والإناث والخناثى.

وروي: أن رجلا هاشميا بالبصرة وقف على أولاده وأولاد أولاده، وكان له ابن بنت، يقال له: ابن عائشة من أصحاب الحديث، وكان يأخذ من الوقف، فلما ولي عيسى بن أبان القضاء بالبصرة أسقطه من الوقف. واختلف أصحاب أبي حنيفة فيما فعله عيسى بن أبان: فقال بعضهم: تحامل عليه، لكونه من أصحاب الحديث. فبلغ ذلك أبا حازم - وكان قاضيا ببغداد - فقال: ما تحامل عليه، وإنما هو مذهب محمد بن الحسن؛ لأنه قال: لو قال الإمام لمشرك: أمنتك وأولادك وأولاد أولادك.. لم يدخل أولاد البنات في الأمان؛ لأنهم لا يدخلون في إطلاق اسم أولاد الأولاد. ولهذا قال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد دليلنا: أنه لو قال: وقفت على أولادي لدخل فيه الذكور والإناث من ولد صلبه. فإذا قال: على أولاد أولادي.. دخل فيه أولاد بناته. وأما البيت: فإنما أراد أن أولاده الذين ينسبون إليه، هم أولاد بنيه، دون أولاد بناته. إذا ثبت هذا: فإن قال: وقفت هذا على أولاد أولادي الذين ينسبون إلي.. دخل فيه أولاد أبنائه دون أولاد بناته؛ لأن أولاد بناته لا ينسبون إليه. وإن قال هاشمي: وقفت هذا على أولادي وأولاد أولادي الهاشميين.. دخل فيه أولاده الذكور والإناث، وأولاد أبنائه؛ لأنهم هاشميون. وأما أولاد بناته: فمن تزوجت منهن بهاشمي فأولد منها.. دخل فيه؛ لأنه هاشمي. ومن تزوجت بعامي فأولد منها.. لم يدخل في الوقف؛ لأنه عامي، وليس بهاشمي.

فرع الوقف على النسل

[فرع الوقف على النسل] ] : وإن وقف على عقبه، أو نسله، أو ذريته.. دخل فيه أولاد صلبه الذكور والإناث والخناثى. ويدخل فيه أولاد أبنائه، وأولاد بناته من قرب منهم، ومن بعد؛ لأن الجميع عقبه ونسله وذريته، ولهذا قال الله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] الآية [الأنعام: 84] فنسب الجميع إلى إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على البعد منه، ونسب عيسى إليه، وهو من أولاد البنات. وإن قال: وقفت على عشيرتي. فإن كان له عشيرة يحصى عددهم- وهي: قبيلة الرجل التي ينسب إليها- صح الوقف وصرف ذلك إلى جميعهم. وإن كان عددهم لا يحصى- كبني تميم وطيء - ففيه قولان: أحدهما: لا يصح الوقف؛ لأنه عين الموقوف عليهم، ولا يمكن تعميمهم بالانتفاع به، فلم يصح، كما لو وقف على قوم. والثاني: يصح، ويعطي ثلاثة ممن يختاره الناظر منهم، وهو الصحيح؛ لأن كل من صح الوقف عليه إذا كان عددهم محصورًا.. صح، وإن كان عددهم غير محصور، كالفقراء والمساكين. وإن وقف على عترته.. فقد قال ابن الأعرابي وثعلب: هم ذريته. وقال ابن قتيبة: هم عشيرته. [فرع الوقف على جنس من الأولاد] وإن وقف على البنين من أولاده.. لم يدخل فيه الإناث ولا الخناثى. وإن وقف على الإناث من أولاده.. لم يدخل فيه الذكور ولا الخناثى. وإن وقف على البنين والبنات من أولاده.. فهل يدخل معهم الخنثى المشكل؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:

مسألة الوقف على أولاده وأولاد أولاده مرتبا ومشتركا

أحدهما: لا يدخل؛ لأنه ليس من البنين ولا من البنات. والثاني: يدخل فيه؛ لأنه لا يخلو أن يكون من أحدهما، وهذا أصح. وإن وقف على بني زيد.. لم يدخل فيه بناته. وإن وقف على بني تميم وقلنا: يصح الوقف عليهم.. فهل يدخل الإناث منهم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يدخلن؛ لأن اسم البنين إنما ينصرف إلى الذكور. فعلى هذا: لا يدخل معهم الخناثى. والثاني: يدخلن؛ لأنه إذا أطلق اسم القبيلة.. دخل فيه الذكور والإناث. فعلى هذا: يدخل معهم الخناثى. [مسألة الوقف على أولاده وأولاد أولاده مرتبًا ومشتركًا] وإذا وقف وقفًا على أولاده وأولاد أولاده: فلا يخلو: إما أن يكون الوقف مشتركًا، أو مرتبًا: فإن كان مشتركًا، وذلك بأن يقول: وقفت هذا على أولادي وأولاد أولادي ما تناسلوا وتعاقبوا، فإن انقرضوا كان على الجامع، أو على الفقراء والمساكين.. فإن الوقف على أولاده وأولاد أولاده يكون مشتركًا بين أهل البطن الأول ومن يحدث بعده، فيشارك من يحدث من كان موجودًا في الغلة الحادثة بعد حدوث الولد؛ لأن الواو تقتضي الجمع والتشريك، فإن قال: يستوي الأعلى والأدنى.. كان ذلك تأكيدًا، فإذا انقرضت ذريته.. نقل إلى من بعدهم.

وإن كان الوقف مرتبًا، وذلك من وجهين: أحدهما: أن يقول: وقفت هذا على أولادي، وأولاد أولادي ما تناسلوا وتعاقبوا الأول فالأول، أو الأدنى فالأدنى، أو الأقرب فالأقرب، أو الأعلى فالأعلى، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء، والمساكين.. استحق أهل البطن الأعلى الوقف. فإذا انقرض أهل البطن الأعلى.. صرف إلى أهل البطن الثاني. وعلى هذا: لا يستحق أهل بطن وهناك أحد من أهل البطن الذي فوقه، فإذا انقرضوا.. صرف إلى الفقراء والمساكين. والثاني: أن يقول: وقفت هذا على أولادي، فإذا انقرضوا فعلى أولادهم، فإذا انقرضوا فعلى أولادهم، وعلى هذا أبدًا. أو يقول: وقفت هذا على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على أولادهم، وعلى هذا أبدًا، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء والمساكين.. صح وكان مرتبًا. ولكن لا بد أن يقول هاهنا: وعلى هذا أبدًا؛ لأنه ربما يحدث بطن آخر لم يذكره في قوله: فإذا انقرضوا فعلى أولادهم، أو في قوله: ثم على أولادهم. فإذا قال: وعلى هذا أبدًا.. استغرق جميع من يحدث، بخلاف القسم الأول، حيث قال: ما تناسلوا وتعاقبوا، فإن ذلك يغني عن قوله: وعلى هذا أبدًا. فإن قال: وقفت هذا على ولدي، وولد ولدي، ثم على ولد ولد ولدي.. فإن ولده وولد ولده يشتركان في الوقف، فإذا انقرضا.. كان للبطن الثالث. وإن قال: وقفت هذا على ولدي، ثم على ولد ولدي وولد ولد ولدي.. فإن البطن الأول ينفرد بالوقف، فإذا انقرضوا.. اشترك البطن الثاني والثالث في الوقف؛ لأنه رتب الأول وشرك بين الثاني والثالث. فإن قال: وقفت هذا على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على عقبهم ونسلهم، ثم على الفقراء والمساكين:

فرع وقف كيلا ما على أولاد بناته والباقي للذكور

قال الشافعي في " البويطي ": (فإن الوقف يكون للبطن الأول - وهم: أولاده ما عاشوا - فإذا انقرضوا.. كان لأهل البطن الثاني لا يشاركهم فيه أهل البطن الثالث، ولا من بعدهم. فإذا انقرض أهل البطن الثاني.. كان للبطن الثالث والرابع ومن حدث من بعدهم، يشتركون فيه. فإذا انقرض نسله.. كان للفقراء والمساكين؛ لأنه رتب الوقف في البطن الأول. وفي الثاني: يشترك فيمن بعدهم من نسله) . [فرع وقف كيلا ما على أولاد بناته والباقي للذكور] ] : فإن قال: وقفت نخلي هذه على أولادي، على أن لبناتي منه مكيلة كذا، ويكون الباقي للذكور.. صح، وكان للبنات ما شرطه. فإن بقي شيء.. استحقه الذكور، وإن لم يبق شيء.. فلا شيء لهم. وإن قال: وقفت هذه على أولادي، فإذا انقرضوا، فعلى أولادهم أبدًا ما تناسلوا، فمن مات منهم وكان له ولد، كان نصيبه لولده، ومن مات ولا ولد له، كان نصيبه لأهل الوقف، فإن كان للواقف ثلاثة أولاد.. كان الوقف أثلاثًا بينهم، فإن مات واحد منهم وله ولد.. كان نصيب أبيه له، فإن مات الثاني بعده ولا ولد له.. رجع نصيبه إلى أخيه وابن أخيه. [فرع الوقف على أولاده ثم للفقراء بعدهم] فإن قال: وقفت هذا على أولادي، فإذا انقرضوا أو انقرض أولادهم فعلى الفقراء والمساكين.. ففيه وجهان: أحدهما: أن أولاد الأولاد يستحقون الوقف بعد انقراض الأولاد؛ لأنهم لما اعتبر انقراضهم لاستحقاق الفقراء.. دل على استحقاقهم من الوقف. والثاني - وهو الصحيح -: أنهم لا يستحقون شيئًا؛ لأنه لم يجعل لهم من الوقف شيئًا، وإنما شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم.

مسألة الوقف على الأقرباء يكون من طرفي الأبوين

فعلى هذا: يكون الوقف منقطع الوسط، فيكون على قولين، كالوقف المنقطع الانتهاء: أحدهما: أنه باطل. والثاني: أنه صحيح، فيكون لأولاد الواقف. فإذا انقرضوا وهناك أولاد أولاد.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يصرف إلى الواقف إن كان حيًا، أو إلى وارثه إن كان ميتًا، إلى أن ينقرض ولد الولد، ثم يصرف إلى الفقراء والمساكين. والثاني: أن الوقف يصرف إلى الفقراء والمساكين في الحال. والثالث: أنه يكون لأقرباء الواقف إلى أن ينقرض ولد الولد. وقد مضى دليلها. [مسألة الوقف على الأقرباء يكون من طرفي الأبوين] وإن قال: وقفت هذا على قراباتي، أو على أقربائي، أو على ذوي رحمي، أو على أرحامي، أو كان ذلك في الوصية.. صرف ذلك إلى من يعرف بقرابته من قبل الآباء والأمهات. فإن كان له جد يعرف به عند عامة الناس.. صرف إلى من ينسب إلى ذلك الجد دون من ينسب إلى أبي ذلك الجد، ولا إلى من ينسب إلى أخي ذلك الجد، كالشافعي إذا وقف على قرابته، فإنه يصرف إلى من ينسب إلى شافع بن السائب، ولا يصرف إلى من ينسب إلى علي وعباس ابني السائب، ولا إلى من ينسب إلى السائب بن عبيد. ويدخل فيه بنات الواقف، وأولاد بناته. ويدخل فيه أمهات الواقف، وآباء أمهاته، وأخواته، وخالاته. وقال أبو حنيفة: (يدخل فيه كل ذي رحم محرم بالنسب، مثل: الآباء والأمهات، والبنين والبنات، وأولادهم، والإخوة والأخوات، والأعمام والعمات دون بنيهم) . وقال مالك: (يدخل فيه من يرث الواقف لا غير) .

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] . وقَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] [الحشر: 7] . ولنا منها ثلاثة أدلة: أحدها: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى من سهم ذوي القربى بني أجداده- وهم: بنو هاشم - وبني أعمامه - وهم: بنو المطلب -) . والثاني: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لما أعطى بني هاشم وبني المطلب سهم ذوي القربى.. أتاه عثمان بن عفان - وهو: من ولد عبد شمس بن عبد مناف -، وجبير بن مطعم - وهو: من ولد نوفل بن عبد مناف - وقالا: أما بنو هاشم فلا ينكر فضلهم، لمكانك الذي وضعك الله فيهم، فما بال بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا، وقرابتنا وقرابتهم واحدة؟! فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما بنو هاشم، وبنو المطلب شيء واحد - وشبك بين أصابعه - إنهم ما فارقونا في جاهلية ولا إسلام» . فأقرهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على دعواهما القرابة، ولكنه أخبر أن ذلك السهم لا يستحق بالقرابة منفردة، وإنما يستحق بالقرابة والنصرة. والثالث: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعطي من ذلك السهم من كان يرثه، ومن لا يرثه، فإنه أعطى منه العمات) . وروي عن الزبير: أنه قال: (كنت أضرب في الغنائم بأربعة أسهم: سهم لي، وسهمين لفرسي، وسهم لأمي) ، وأمه كانت: صفية بنت عبد المطلب عمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وروي: أنه «لما نزل قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] [الشعراء: 214] جمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشيرته وقال: " يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا عباس، يا فاطمة بنت محمد، إني لا أغني عنكم من الله شيئًا " فعندها قال أبو لهب: ألهذا جمعتنا!؟ تبًا لك، فنزل قَوْله تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] [المسد: 1] » . إذا ثبت هذا: فإنه يصرف إلى غني قرابته وفقيرهم، وذكرهم وأنثاهم، ويسوى بين الذكر والأنثى، كما لو وهب لرجل وامرأة شيئا. فإن حدث له قريب بعد الوقف.. دخل في الوقف. وقال في " البويطي ": (لا يدخل في الوقف) وهذا غير صحيح؛ لأن اسم القرابة يتناوله، فدخل فيه، كما لو قال: وقفت هذا على أولادي.. فإنه يدخل فيه من يحدث من أولاده بعد الوقف. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\409-410] : إذا أوصى للقرابة، فهل تقدم قرابة الأب على قرابة الأم؟ ينظر فيه:

فرع الوقف على أقرب الناس رحما

فإن كان الموصي من العجم.. فلا تقدم قرابة الأب على الأخرى، بل يصرف ذلك إلى أقاربه من جانب الأب والأم. وإن كان من العرب.. فإنما هو لقرابته من قبل أبيه، فيدفع إلى البطن الذي ينتمي إليه؛ لأن العجم لا تعرف القبائل والبطون، فعندهم الرجل إذا سمى قرابته فإنما يريد به قرابته من جهة آبائه وأمهاته، والعرب تعرف القبائل والبطون بينهم، فلا ينسب الرجل إلى قرابة أمه ألبتة. [فرع الوقف على أقرب الناس رحما] وإن وقف على أقرب الناس إليه، أو أقربهم رحمًا به، أو أمسهم رحمًا به، أو أوصى له.. فإنه يصرف إلى أقرب الناس إليه من الرجال والنساء، فإن لم يكن له والدان.. صرف إلى أولاده الذكور والإناث، ويسوى بينهم، ثم إلى أولادهم، ثم إلى أولاد أولادهم، فإن كان له ابن ابنِ ابن، وابنة بنت.. صرف إلى ابنة البنت؛ لأنها أقرب من ابن ابنِ الابن. فإن لم يكن له ولد، ولا ولد ولدٍ، وله أحد الأبوين.. صرف إليه، وإن اجتمعا.. تساويا؛ لأنهما في درجة واحدة.

وإن كان له أب وابن.. ففيه وجهان: أحدهما: أنهما سواء؛ لأنهما في أول درجة من الميت. فعلى هذا: يقدم الأب على ابن الابن. والثاني - وهو المذهب -: أن الابن يقدم؛ لأنه جزء من الواقف، وأقوى تعصيبًا من الأب. فعلى هذا: يقدم ابن الابن وإن سفل، على الأب. وإن اجتمعت الأم والابن.. فينبغي أن يكون على الوجهين المذكورين في الأب والابن. فإن لم يكن له والد ولا ولد، وله إخوة وأخوات.. صرف إليهم. فإن كان فيهم من يدلي بالأبوين، وفيهم من يدلي بأحدهما.. قدم من يدلي بهما؛ لأنه أقرب. وإن كان أحدهما يدلي بالأب والآخر يدلي بالأم.. فهما سواء، وأولادهم يقومون مقامهم. فإن لم يكن له إخوة، وله جد من قبل الأب أو من قبل الأم.. صرف إليه. وإن كانت له جدة من قبل أحدهما.. صرف إليها، فإن اجتمع الجد أبو الأب، والجد أبو الأم، وأم الأم، وأم الأب.. صرف إليهم بالسوية؛ لأنهم منه بمنزلة واحدة. وإن اجتمع الجد أبو الأب، والأخ من قبل الأب والأم، أو من الأب.. ففيه قولان: أحدهما: أنهما سواء، لتساويهما في القرب منه. فعلى هذا: يقدم الجد على ابن الأخ. والثاني: أن الأخ أولى؛ لأنه أقوى تعصيبًا منه. فعلى هذا: يقدم ابن الأخ على الجد. فإن لم يكن له أحد هؤلاء، وله أعمام.. صرف إليهم على ترتيب الأخوة. فإن كان له عم وأبو جد.. فعلى القولين في الأخ والجد.

فرع الوقف على جماعة من أقرب القرابة

فإن كان له عم وخال، أو عمة وخالة، أو عم وخالة.. صرف إليهما، وأولادهم يقومون مقامهم. فإن كانت له جدتان: إحداهما تدلي بقرابتين، والأخرى تدلي بقرابة واحدة، بأن يتزوج رجل بابنة عمته، أو ابنة خالته، ثم يولد له منها ولد.. فإن أم أمّ زوجته تدلي إلى ولدهما بقرابتين، فإن كان هناك جدة تحاذيها.. ففيه وجهان: أحدهما: أن التي تدلي بقرابتين أولى. والثاني: أنهما سواء. [فرع الوقف على جماعة من أقرب القرابة] وإن وقف على جماعة من أقرب الناس إليه، أو أوصى لهم.. صرف إلى ثلاثة من أقرب الدرجات إليه. فإن كان له ثلاثة أولاد في درجة واحدة.. صرف إليهم؛ لأنهم أقل الجمع. فإن كان في الدرجة الأولى أقل من ثلاثة.. تمموا من الدرجة التي تليها. فإن كان هناك ثلاثة من ثلاث درجات.. صرف إلى كل واحد منهم ثلث الوقف. فإن كان في الدرجة الأولى أكثر من ثلاثة.. ففيه وجهان: أحدهما: أن الناظر في الوقف والوصية يصرف ذلك إلى ثلاثة يختارهم منهم، كما لو وقف على الفقراء أو أوصى لهم. والثاني: يصرف إلى جميعهم بالسوية؛ لأنه لا مزية لبعضهم على بعض، بخلاف الفقراء؛ لأنهم لا ينحصرون، فالوقف والوصية إنما يقع بجهتهم دون أعيانهم. وإن كان في الدرجة الأولى اثنان، وفي الثانية اثنان.. صرف الثلثان إلى اللذين في الدرجة الأولى، وفي الثلث الباقي وجهان:

فرع الوقف على أهل بيته

أحدهما: يصرفه الناظر إلى واحد يختاره من اللذين في الدرجة الثانية. والثاني: يصرف إليهما بالسوية. [فرع الوقف على أهل بيته] وإن وقف على أهل بيته أو أوصى لهم.. صرف إلى أبيه وأقاربه من جهة أبيه، نحو أجداده وإخوته؛ لأنه روي عن ثعلب: أنه قال: أهل البيت: الأقارب من جهة الأب. قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا: لا يكن لبنيه ولا لأقاربه من أمه شيء؛ لأنهم ليسوا من أهل بيته، فمن كان من أهل بيته وارثًا.. لم تصرف إليه الوصية، بل إلى الباقين. [مسألة الوقف في مرض الموت] إذا وقف شيئًا في مرض موته.. فإن ذلك وصية. فإن كان الوقف على أجنبي: فإن احتمله الثلث من تركته.. صح الوقف. وإن لم يحتمله الثلث.. لزم الوقف في قدر الثلث ووقف ما زاد عليه على إجازة الورثة. وإن وقف على وارثه في مرض موته.. وقف على إجازة الورثة، سواء احتمله الثلث أو لم يحتمله، كالوصية له. فإن كان له دار لا يملك غيرها، فوقفها على ابنه في مرض موته، ولا وارث له سواه.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\411] : لزم الوقف في ثلثها؛ لأن أكثر ما فيه أنه حال بينه وبين ثلثها، وله أن يفعل ذلك في ثلثه. وأما الثلثان: فللابن إبطال الوقف فيهما؛ لأن الإنسان لا يملك التبرع في مرض موته إلا بثلث تركته، فإن أبطله.. فلا كلام، وإن اختار أن يجيزه وقفًا على نفسه:

فرع وقف داره على ابنه وابنته

فإن قلنا: إن الإجازة من الوارث ابتداء عطية منه.. لم يصح، كما لا يجوز أن يقف على نفسه. وإن قلنا: إنه تنفيذ لما فعله الموصي.. صح. [فرع وقف داره على ابنه وابنته] وإن كان له دار، فوقفها على ابنه وابنته بينهما نصفين، واحتملها الثلث، ولا وارث له غيرهما، فإن أجاز الابن الوقف على أخته.. صح، وكانت الدار وقفًا بينهما نصفين. وإن أبى أن يجيزه.. قال ابن الحداد: بطل الوقف في نصف الموقوف على الابنة - وهو: ربع الدار - ويبقى الربع موقوفًا على الابنة، والنصف موقوفًا على الابن، ثم يقتسمان الربع الذي بطل فيه الوقف بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين. وتصح المسألة من اثني عشر: للابن ثمانية أسهم: ستة منها وقف عليه، وسهمان طلق له، وللابنة أربعة أسهم: ثلاثة وقف عليها، وسهم طلق لها. فإن كانت له دار وقفها على ابنه وزوجته نصفين بينهما، ولا وارث له غيرهما، وخرجت الدار من ثلثه، فإن أجاز الابن الوقف على الزوجة.. كانت وقفًا بينهما نصفين. وإن لم يجز.. فقد فضل الزوج الزوجة بثلاثة أسهم من ثمانية من الدار، فيبطل الوقف فيها، ويكون ذلك ملكًا للابن طلقًا، ويبقى أربعة أسهم من ثمانية من الدار وقفًا على الابن، فيصير أربعة أسباع نصيبه وقفًا عليه، وثلاثة أسباع نصيبه طلقًا له، فيجب أن يكون نصيب الزوجة كذلك؛ لأنه سوى بينهما في الوقف، فيكون أربعة أسباع ثمنها وقفًا عليها، وثلاثة أسباع ثمنها طلقًا لها، فنضرب ثمانية في سبعة، فذلك ستة وخمسون، للابن تسعة وأربعون سهمًا: ثمانية وعشرون منها وقف عليه، وأحد وعشرون طلق له. وللزوجة سبعة أسهم: أربعة وقف عليها، وثلاثة طلق لها. [مسألة وقف على الموالي] وإن وقف على مواليه، أو أوصى لهم: فإن كان له مولى من أعلى، وهو الذي أعتقه وأنعم عليه.. صرف ذلك إليه.

مسألة وقف على جماعة فمات أحدهم وله ولد

وإن كان له مولى من أسفل، وهو الذي أعتقه الواقف أو الموصي.. صرف ذلك إليه. وإن كان له مولى من أعلى ومولى من أسفل.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يصرف ذلك إليهما؛ لأن اسم المولى لجميعهما. والثاني: يصرف ذلك المولى من أعلى؛ لأن جنبته أقوى؛ لأنه الوارث له. والثالث: لا يصح الوقف؛ لأن اسم المولى في أحدهما لمعنى معين، وفي الآخر لمعنى آخر، فصار من أسماء الأضداد؛ لأن أحدهما منعم، والآخر منعم عليه، ولا يمكن حمله على العموم فيهما؛ لأن العموم إنما يحمل إذا كان من أسماء الأجناس كالمسلمين والمشركين. وإن كان الموقوف عليه والموصى له منهما مجهولًا.. لم يصح. [مسألة وقف على جماعة فمات أحدهم وله ولد] إذا قال: وقفت هذا على زيد وعمرو وبكر، فمن مات منهم وله ولد، فنصيبه لولده، فإذا انقرضوا، فعلى الفقراء والمساكين.. حمل ذلك على شرطه. وإن قال: وقفته على زيد وعمرو وبكر، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء والمساكين، فمن مات منهم وله ولد، فنصيبه لولده، ومن مات ولا ولد له، نقل نصيبه إلى أهل الوقف، أو إلى الفقراء والمساكين.. حمل ذلك على ما شرطه. وإن قال: وقفته عليهم، فإذا انقرضوا، فعلى الفقراء والمساكين، وأطلق، فمات واحد منهم.. ففيه قولان سواء كان له ولد أو لم يكن: أحدهما - وهو قول أبي علي الطبري -: أن نصيبه يصرف إلى الفقراء

مسألة وقف مسجدا لفئ

والمساكين؛ لأنه لما جعل الجميع لهم إذا انقرضوا.. وجب أن يكون نصيب كل واحد منهم لهم إذا انقرض. والثاني- وهو المنصوص في " حرملة " -: (أن نصيبه يكون لمن بقي من الآخرين) . وبه قال مالك. قال أبو العباس: ولأي معنى صرف إليهما.. يحتمل معنيين: أحدهما: لأنه لا يمكن دفع نصيبه إلى الفقراء والمساكين؛ لأنه جعل انقراض أهل الوقف شرطًا في استحقاق الفقراء، ولم يوجد انقراضهم، فلا يمكن رده إلى الواقف؛ لأن ملكه قد زال عنه فلم يبق إلا صرفه إلى من بقي منهم؛ لأنه أقرب. والمعنى الثاني: أنه لما قال: وقفته عليهم، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء والمساكين.. صار كأنه وقفه عليهم وعلى من عاش منهم، وهذا من ضمن كلامه معلوم. [مسألة وقف مسجدا لفئ] ة] : إذا وقف مسجدًا على الشفعوية.. فهل يمكن غيرهم من الصلاة فيه؟ حكى الطبري فيه قولين. وإن وقف مسجدًا في محلة فخربت المحلة، أو وقف دارا فخربت وتعطلت منافعها.. لم يبطل الوقف فيهما. وقال أحمد: (إذا خربت المحلة.. جاز نقض المسجد وصرف آلته إلى بناء مسجد آخر، وإذا خربت الدار.. جاز بيعها، وصرف ثمنها إلى بناء دار أخرى) . وقال محمد: يبطل الوقف فيهما، ويكونان ملكًا للواقف.

فرع وقف نخلة فيبست أو مسجدا فتلف منه شيء

دلينا: أن ما زال الملك فيه لحق الله.. لا يبطل باختلال الانتفاع به، كما لو أعتق عبدًا ثم زمن، ولأنه قد يصلي فيه أفراد الناس، وقد تعمر المحلة وتعمر الدار. [فرع وقف نخلة فيبست أو مسجدًا فتلف منه شيء] وإن وقف نخلة فانقلعت أو يبست، أو وقف مسجدًا فانكسرت خشبة منه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز بيعها، لما ذكرناه في المسجد. والثاني: يجوز بيعها؛ لأن منفعتها بطلت، فكان بيعها أولى من تركها. فإذا قلنا بهذا: فهل يجب صرف ثمنها في شراء مثلها لتكون وقفًا مثلها، أو يكون ملكًا للموقوف عليه، ويصرف في سائر مصالح المسجد؟ فيه طريقان، كما قلنا في قيمة الوقف إذا تلف. قال أبو علي السنجي: وكل ما اشتري للمسجد من الحصير والخشب والآجر والطين. لا يجوز بيع شيء منه؛ لأن ذلك كله في حكم المسجد، فهو كجزء من أجزائه. فإن أشرفت على الهلاك ولا يحتاج المسجد إليها، كالحصيرة البالية والأخشاب العفنة.. فهل يجوز بيعها؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنا لو قلنا: لا يجوز بيعها.. لهلكت. والثاني: لا يجوز، قال: وهو الأصح؛ لأنها في حكم المسجد. قال الطبري: وما أشرف على الهلاك من أستار الكعبة، ولم يبق فيه جمال ولا منفعة.. فهل يجوز بيعه؟ يحتمل أن يكون على هذين الوجهين. قال: والصحيح في الكل: لا يجوز بيعه.

فرع وقف على ثغر فبطل

[فرع وقف على ثغر فبطل] وإن وقف أرضًا على ثغر، فبطل الثغر وتعذر القتال فيه.. حفظ انتفاع الوقف. وهو: غلته - ولا يصرف إلى غيره، لجواز أن يعود الثغر كما كان. [مسألة احتياج الوقف إلى نفقة] وإذا احتاج الوقف إلى نفقة، بأن كان حيوانًا أو أرضًا تحتاج إلى العمارة: فإن شرط الواقف أن نفقة ذلك من غلة الوقف.. أنفق عليها من غلتها، وما بقي صرف إلى أهل الوقف. قال ابن الصباغ: وإن شرط الواقف أن تكون نفقتها من ماله.. حمل على ذلك. وإن أطلق ذلك.. أنفق عليه من غلته؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا بذلك. فإن بطلت منفعته، بأن كان عبدًا فزمن: فإن قلنا: إن الملك فيه ينتقل إلى الله تعالى.. أنفق عليه من بيت المال، كالحر المعسر. وإن قلنا: إن الملك فيه ينتقل إلى الموقوف عليه.. كانت نفقته عليه. وإن قلنا بالقول المخرج: إن ملك الواقف باق عليه.. وجبت نفقته عليه. [مسألة النظر في الوقف] وأما النظر في الوقف: فإن جعل الواقف النظر فيه لنفسه أو لغيره.. حمل على ذلك؛ لما ذكرناه من أخبار الصحابة.

مسألة وقف على أولاده أرضا بأيديهم

وإن لم نجعله إلى أحد: فإن قلنا: إن الملك فيه ينتقل إلى الله.. كان النظر فيه إلى الحاكم. وإن قلنا: إنه ينتقل إلى الموقوف عليه.. كان النظر فيه إليه. وإن قلنا بالقول المخرج: إنه باق على ملك الواقف.. كان النظر فيه إليه. فإن جعل الواقف النظر فيه إلى اثنين من أهل الوقف، ولم يوجد في أهل الوقف من يصلح للنظر إلا واحد.. ضم إليه الحاكم واحدًا؛ لأن الواقف لم يرض إلا بنظر اثنين. [مسألة وقف على أولاده أرضًا بأيديهم] إذا وقف على أولاده أرضًا وهي في أيديهم، فاختلفوا فيها: فقال الذكور: جعلها للذكر مثل حظ الأنثيين، وقال الإناث: بل جعل الذكور فيها والإناث سواء. أو قال أهل البطن الأول: هي على الترتيب، وقال أهل البطن الثاني: هي على التشريك بيننا وبينكم: فإن كان هناك بينة.. عمل بها، وإن لم تكن هناك بينة، فإن كان الواقف حيًا.. رجع إليه في بيانه؛ لأنه ثبت بقوله، فرجع إليه. وإن كان ميتًا.. حلفوا، وجعلت بينهم بالسوية؛ لأنه لا مزية لقول بعضهم على بعض، فتحالفوا، كما لو اختلف اثنان في ملك دار. [فرع أرض بعضها وقف والآخر طلق] إذا كان هناك أرض بعضها وقف وبعضها طلق، فأراد أهل الطلق أن يقاسموا أهل الوقف، والأرض مما يحتمل القسمة، فإن قلنا: إن القسمة بيع.. لم تصح القسمة؛ لأن الوقف لا يصح بيعه، وإن قلنا: إنها فرز النصيبين، ولم يكن فيها رد.. صحت القسمة، وإن كان فيها رد.. نظرت: فإن كان صاحب الطلق يرد على أهل الوقف.. لم يصح؛ لأنه يعطي عوضًا عن شيء يأخذه من الوقف، وذلك لا يجوز.

مسألة أشياء كانت في الجاهلية

وإن كان أهل الوقف يردون على صاحب الطلق.. صح؛ لأنهم يميزون الوقف، ويبذلون العوض عن شيء يملكونه من حق الشريك، وذلك جائز. وأما قسمة الوقف بين أربابه: فقال سليم وابن الصباغ: لا يصح قولا واحدًا؛ لأنا وإن قلنا إن القسمة فرز النصيبين، إلا أنه يتعلق بها حق البطن الثاني، فلا يجوز لأهل البطن الأعلى التصرف بحقوقه، ولأن ذلك تغيير للوقف، وهو لا يجوز تغييره. [مسألة أشياء كانت في الجاهلية] ذكر أصحابنا في تفسير قول الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة: 103] [المائدة: 103] وهذه أشياء كان يفعلها أهل الجاهلية، فورد الشرع بإبطالها. فأما (السائبة) : فإن الناقة كانت إذا ولدت عشرة بطون كلها إناث متوالية سيبوها إكرامًا لها، فلا تركب ولا يجز وبرها، ولا يشرب من لبنها أحد إلا أن يطرقهم ضيف ولا لبن عندهم فيحلبونها له، فإذا ماتت: أكلها الرجال دون النساء، وكانوا يستحلون أكل الميتة. وقد سمى الفقهاء العبد يعتق بشرط أن لا ولاء عليه سائبة. وأما (البحيرة) : فهو ولد السائبة بعد أن تسيب، ويكون حكمه حكم أمه. وإنما سمي بحيرة؛ لأنهم كانوا يشقون أذنه ليعلم أنه ولد السائبة. و (البحر) : الشق. ومنه سمي البحر بحرًا؛ لأن الله تعالى جعله مشقوقًا في الأرض شقًا. وقيل (البحيرة) : الناقة إذا ولدت خمسة بطون، فتشق أذنها وتسيب. والأول أصح. وأما (الوصيلة) : فهي الناقة أو الشاة إذا ولدت سبعة بطون، في ست أنثيان أنثيان، وفي السابعة ذكر وأنثى؛ لأنها وصلت الذكر بالأنثى، فيسيبونها ولا يشرب من لبنها إلا الرجال دون النساء. وأما (الحام) : فقيل: هو الفحل إذا نتج منه عشرة بطون، قيل: قد حمى ظهره، وسيب.

وقيل: هو الفحل الذي نتج ولد ولده، فيسيب ولا ينتفع به، وكانوا يعتقدون ذلك قربة. قال الشافعي: (وهذا تأويل ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء بإطلاق الحبس، وهو الحبس الذي كانت تفعله الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ولا يعلم أن أحدًا منهم حبس داره أو أرضه) . والله أعلم وبالله التوفيق

كتاب الهبة

[كتاب الهبة]

كتاب الهبة الهبة: تمليك العين بغير عوض. وهي مندوب إليها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] [المائدة: 2] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [البقرة: 177] [البقرة: 177] وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تهادوا تحابوا» .

وأجمع المسلمون على استحبابها. إذا ثبت هذا: فإن الهبة للأقارب أفضل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177] [البقرة: 177] فبدأ بهم، والعرب تبدأ بالأهم فالأهم. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها.. وصله الله، ومن قطعها.. قطعه الله» . و (الشجنة) : تروى بضم الشين وكسرها. وروي: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يقول الله: أنا الله، وأنا الرحمن، وأنا خلقت الرحم، وشققت لها من اسمي، فمن وصلها.. وصلته، ومن قطعها.. بتته» . يعني: قطعته.

وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقتك على غير ذي رحمك صدقة، وصدقتك على ذي رحمك صدقة وصلة» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصدقة: على ذي الرحم الكاشح» يعني: المعادي؛ لأن الصدقة تقطع العداوة وترفعها. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سره أن ينسأ في أجله، ويوسع في رزقه.. فليصل رحمه» . وفي الهبة صلة للرحم. فإذا أراد أن يهب أولاده. فالمستحب أن يعمهم، وأن يساوي بين الذكور والإناث. وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأكثر أهل العلم. وقال شريح: المستحب أن يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين. وبه قال أحمد وإسحاق. دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلا أحدًا.. لفضلت البنات» .

«وروى النعمان بن بشير: أن أباه بشير بن سعد أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أكل ولدك نحلت مثل هذا؟ " قال: لا. قال: " أيسرك أن يكونوا في البر سواء؟ " قال: نعم، قال: " فارجعه ". وروي: " فاردده» . و (النحلة) - بضم النون وبكسرها - هي: العطية. قال الشافعي [في " مختصر المزني " (3/122) ] : (ولأن الأقارب ينفس بعضهم بعضًا ما لا ينفس العدا) . يعني: أن الأقارب يتنافسون ويتحاسدون أكثر من الأجانب، وربما أدى ذلك إلى قطع الرحم. فـ (العدا) - بكسر العين -: الأجانب والأباعد. و (العدا) - بضم العين -: العداوة.

فإن وهب لبعض أولاده دون بعض، أو فاضل بينهم.. صح ذلك، ولم يأثم به، غير أنه قد فعل مكروها، وخالف السنة. وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال طاووس، وأحمد، وإسحاق: (لا تصح الهبة) . وقال داود: (تصح، ولكن يجب عليه أن يرجع فيها) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث النعمان بن بشير: " فارجعه ". فلولا أن الهبة قد صحت.. لما أمره بالرجعة. وفي رواية: «أن النعمان بن بشير قال: يا رسول الله! إن أمه قالت: لا أرضى حتى يشهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما قال له ما قال من أنه لم ينحل جميع ولده مثله.. قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أشهد على هذا غيري» فلو لم تصح الهبة.. لما أمره بأن يشهد عليه غيره، وإنما امتنع من أن يشهد على ذلك، لئلا يصير ذلك سنة. وروي: أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (نحل عائشة جداد عشرين وسقًا من ماله دون سائر أولاده) . وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهب ابنه عاصمًا دون عبد الله وعبيد الله وزيد) . وكذلك روي عن عبد الرحمن بن عوف. ولا مخالف لهم.

مسألة قبول الهبة والهدية

ولا يستنكف أن يهب القليل، ولا أن يتهبه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أهدي إلى ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع.. لأجبت» . [مسألة قبول الهبة والهدية] الهبة والهدية وصدقة التطوع حكمها واحد، وكل لفظ من هذه يقوم الألفاظ يقوم مقام الآخر، ولا يصح شيء من هذا كله إلا بالإيجاب والقبول، ويكون القبول فيه عقيب الإيجاب، كما قلنا في البيع. وقال أبو العباس: يصح أن يكون القبول في ذلك متراخيًا عن الإيجاب، لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى إلى النجاشي وكان في أرض الحبشة» .

والأول أصح؛ لأنه تمليك في حال الحياة، فكان القبول فيه على الفور، كالبيع. هذا نقل البغداديين من أصحابنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\353] : الهدية لا تفتقر إلى القبول. وقال ابن الصباغ: لا تفتقر الهبة والهدية وصدقة التطوع إلى الإيجاب والقبول، بل إذا وجد منه ما يدل على التمليك.. صح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يهدى إليه، فيقبضه، ويتصرف فيه، ولم ينقل في شيء من ذلك أن الرسول أوجب له، ولا أنه قبل. وكذلك: (أهدى إلى النجاشي وكان في أرض الحبشة) . وما نقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالإيجاب والقبول. وكذلك الناس يدفعون صدقات التطوع فيقبضها المدفوع إليهم، ويتصرفون فيها من غير إيجاب وقبول، ولم ينكر هذا منكر، فدل على أنه إجماع. فإن قيل: فهذه إباحات مال؟ فالجواب: أن الناس أجمعوا على تسمية ذلك هبة، وهدية، وصدقة، ولأن الإباحة تختص بالمباح له، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا أهدي إليه شيء.. يهديه إلى زوجاته وغيرهن، وقد أهديت له حلة، فأهداها لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. والمذهب الأول.

مسألة لزوم الهبة بالقبض

[مسألة لزوم الهبة بالقبض] ولا تلزم الهبة إلا بالقبض: فإذا وهب لغيره عينا.. فالواهب بالخيار: إن شاء أقبض الموهوب له، وإن شاء لم يقبضه. وبه قال الثوري وأبو حنيفة. وقال مالك: (تلزم الهبة بالإيجاب والقول من غير قبض، فإن امتنع الواهب من الإقباض.. رفعه الموهوب له إلى الحاكم، ليجبره على الإقباض) ، كما قال في الرهن، وقال: (إذا أعار الرجل داره شهرًا.. فقد لزم المعير ذلك، وليس له أن يرجع في العارية قبل انقضاء الشهر) . دليلنا: ما روي: (أن أبا بكر نحل عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جداد عشرين وسقًا من ماله، فلما حضرته الوفاة.. قال: يا بنية، ما أحد أحب إلي منك ولا أعز علي فقدًا منك) . وفي رواية: (ما أحد أحب إلي غنى منك، ولا أعز علي فقرًا منك، وإني كنت نحلتك جداد عشرين وسقًا من مالي، ووددت أنك جذذته وحزته وقبضته، وإنما هو اليوم مال الوارث، وإنما هم أخواك وأختاك، فاقتسموه على كتاب الله، فقالت: لو كان كذا وكذا - تعني: أكثر - لتركته، أما أخواي.. فنعم، وأما أختاي.. فما لي إلا واحدة: أسماء، فمن الأخرى؟! فقال: إنه قد ألقي في روعي - وفي رواية: أن روح القدس نفث في روعي - أن في بطن بنت خارجة جارية، وكانت زوجة أبي بكر بنت خارجة حاملًا فولدت جارية) . قال: و (الروع) ـ بضم الراء ـ: الذهن، وـ بفتحها ـ: الزيادة. ووجه الدلالة من الخبر: أنه كان وهبها في صحته، وإنما لم يقبضها حتى مرض، والإقباض في مرض الموت كالعطية، والعطية للوارث لا تصح. وقيل: إن الذي كان نحلها ثمرة نخل.

فرع القبض قبل الإيجاب والقبول

وروي عن عمر: أنه قال: (لا تتم نحلة حتى يحوزها المنحول) . وروي ذلك: عن عثمان، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، ومعاذ، وأنس، ولا مخالف لهم، فدل على أنه إجماع، ولأنها هبة لم تقبض، فكانت غير لازمة، كما لو مات الواهب قبل أن يقبض الموهوب، فإن وارث الواهب لا يجبر على الإقباض. وقد وافقنا مالك على ذلك. إذا ثبت هذا: فإن الموهوب له ليس أن يقبض إلا بإذن الواهب، فإن قبض بغير إذنه.. لم يصح القبض. وقال أبو حنيفة: (إذا قبضه الموهوب له في مجلس الهبة بغير إذن الواهب.. صح القبض، وإن قاما من المجلس.. لم يكن له أن يقبض بغير إذنه) . دليلنا: أنه لم يأذن له في القبض، فلم يصح له قبضه، كما لو قاما من المجلس قبل أن يأذن له. [فرع القبض قبل الإيجاب والقبول] إذا أذن له بقبض العين الموهوبة قبل الإيجاب والقبول.. لم يصح الإذن، كما لو شرط المتبايعان الخيار قبل العقد. وإن قال: وهبتك هذه الدار، وأذنت لك في قبضها، فقال الموهوب له: قبلت.. ففيه قولان: أحدهما ـ وهو قول شيخنا الإمام زيد بن عبد الله اليفاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـ: أنه

فرع رجوع الواهب قبل الإقباض

لا يصح؛ لأنه أذن في القبض قبل تمام العقد.. فلم يصح، كما لو أذن له في القبض قبل العقد. ولأنه فصل بين الإيجاب والقبول بالإذن، فلم يصح، كما لو فصل بينهما بكلام. و [الثاني] : قال القاضي أبو الطيب في " المنهاج "، والشيخ أبو إسحاق في " التعليقة ": بالخلاف- أي- يصح. ووجه ذلك عندي: أن الإذن شرط في الهبة، فلم يفصل بين الإيجاب والقبول، كذكر الثمن في البيع. [فرع رجوع الواهب قبل الإقباض] إذا وهب له عينًا، وأذن له في قبضها، ثم رجع الواهب عن الإذن قبل القبض.. بطل الإذن؛ لأن الإذن يبطل بالرجوع. وإن وهبه عينًا، ثم باعها الواهب قبل القبض.. قال ابن الصباغ: فإن اعتقد أن الهبة ما تمت.. صح بيعه، وبطلت الهبة. وإن كان يعتقد أن الهبة قد تمت قبل القبض.. فهل يصح بيعه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح بيعه؛ لأنه عقد وهو متلاعب، وأنه ليس ببيع. والثاني: يصح؛ لأنه بيع صادف ملكه. وإذا قبض الموهوب له العين الموهوبة بإذن الواهب.. فقد ملكها، ومتى يملكها؟ فيه وجهان:

فرع موت الواهب قبل الإقباض

[أحدهما] : من أصحابنا من قال: تبين الملك أنه ملك بالعقد، فإن حدث في العين الموهوبة نماء بعد العقد وقبل القبض.. كان ملكًا للموهوب له؛ لأن الشافعي قال: (لو وهب له عبدا قبل أن يهل هلال شوال، وقبضه بعدما أهل.. فإن زكاة الفطر على الموهوب له) . والثاني- وهو المنصوص -: (أنه ملكه من حين القبض) . فعلى هذا: يكون النماء الحادث بعد العقد وقبل القبض للواهب؛ لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض، فلا يقع الملك للموهوب قبله، كما لا يملك قبل تمام العقد. وما حكي عن الشافعي: فإنما فرعه على مذهب مالك. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\354] هذين الوجهين قولين. [فرع موت الواهب قبل الإقباض] إذا مات الواهب بعد العقد وقبل القبض.. فهل تبطل الهبة؟ فيه وجهان: أحدهما: تبطل الهبة؛ لأنها عقد غير لازم، فبطلت بالموت، كالوكالة. والثاني- وهو المنصوص -: (أنها لا تبطل) ؛ لأنها عقد يؤول إلى اللزوم، فلم تبطل بالموت، كالبيع بشرط الخيار. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\353] : إذا مات أحدهما بعد العقد وقبل القبض، فإن قلنا: إنها تملك بالقبض.. بطل العقد. وإن قلنا: تبين بالقبض أنه ملك بالعقد.. ففيه وجهان: أحدهما: يبطل العقد؛ لأن القبض ركن في الهبة، كما أن القبول ركن في البيع، ومعلوم أن البيع يبطل بموت أحدهما بعد الإيجاب وقبل القبول، فكذلك هذا مثله. والثاني: لا يبطل. وهو الأصح؛ لأن العقد قد تم إلا أن إمضاءه موقوف على القبض، فصار كالبيع بشرط الخيار.

فرع أذن بالقبض ثم مات

[فرع أذن بالقبض ثم مات] إذا أذن له في القبض، ثم مات الواهب أو الموهوب له قبل القبض، وقلنا: لا تبطل الهبة.. بطل الإذن؛ لأنه جائز، فبطل بالموت. قال أبو العباس: إذا بعث رجل مع رجل هدية إلى رجل، فمات المهدي قبل أن يقبض المهدى إليه الهدية.. كان ذلك لورثة المهدي. وكذلك إذا اشترى الحاج هدايا لأهل بيته وأصدقائه، فمات قبل أن يصل.. كان ذلك لورثته؛ لأن ملكه لم يزل عن ذلك كله. [فرع وهبه وأقبضه ثم نكل] ] : إذا قال: وهبت داري هذه من فلان، وأقبضته إياها، فصدقه المقر له.. قُبِل إقراره، وحكم للموهوب له بملك الدار. فإن قال الواهب: لم أكن أقبضته، فحلفوه أني أقبضته: قال الشافعي: (أحلف المقر له، لجواز أنه لم يكن أقبضه) . وإن قال: وهبت له هذه الدار، وخرجت إليه منها.. قال الشافعي: (لم يكن ذلك إقرارًا منه بالقبض؛ لأن قوله: خرجت إليه منها يحتمل أنه أراد بالهبة) . وإن قال: وهبت له هذه الدار وملكها.. لم يكن إقرارا منه بالقبض، لجواز أن يعتقد أن القبض ليس بركن في الهبة، وأنه لا يفتقر إليه في لزوم الهبة على مذهب مالك. [فرع كساه ولم يرد الهبة] قال الطبري: إذا قال رجل لآخر: كسوتك هذا الثوب، ثم قال: لم أرد الهبة.. قبل قوله. وقال أبو حنيفة: (لا يقبل) . دليلنا: أن هذا اللفظ يصلح للإعارة والهبة، فهو كما لو قال: حملتك على دابتي، أو أخدمتك جاريتي.

مسألة ما صح هبة كله صح هبة بعضه

وإن قال: أطعمتك هذا الطعام، فاقبضه، ثم قال: ما أردت به الهبة.. فهل يقبل قوله؟ فيه قولان: أحدهما: لا يقبل. وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه لا يطعم إلا ما ملكه. والثاني: يقبل؛ لأن اللفظ يصلح للإباحة دون التمليك، فهو كما لو قال: أطعمتك أرضي. وإن قال لرجل: لك هذه الأرض، فاقبضها.. لم يكن صريحًا في الهبة. وقال أبو حنيفة: (يكون صريحًا فيها) . دليلنا: أن هذا اللفظ يصح من غير مالك على وجه الخبر، فهو كما لو قال: هذه الدار لك، ولم يقبضها. وإن قال: منحتك هذه الدار، أو هذا الثوب، وقال: قبلت، وأقبضه.. كان ذلك هبة. وقال أبو حنيفة: (لا يكون هبة إلا أن يريدها، وتكون عارية) . دليلنا: أنه لفظ يصلح للتمليك، فكان صريحًا في التمليك، كلفظ الهبة. [مسألة ما صح هبة كله صح هبة بعضه] ] : كل عين صحت هبتها.. صح هبة جزء منها مشاع. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (إن كانت مما لا ينقسم كالعبد والدابة والثوب وما أشبهها.. صحت هبة جزء منها مشاع. وإن كانت مما ينقسم كالدار والأرض والطعام.. لم يصح هبة جزء منها مشاع من الشريك ولا من غيره) . قال: (وإن كان بين رجلين دار فوهباها لرجل بينهما.. صحت الهبة. وإن وهب الرجل داره لرجلين.. لم يصح) .

فرع الهبة لرجلين

وقال أبو يوسف ومحمد: يصح هاهنا، وإجارة المشاع عند أبي حنيفة لا تصح من الشريك ولا من غيره، ورهن المشاع عنده لا يصح بحال. دليلنا: ما روى أبو قتادة قال: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتينا الروحاء، فوجدنا حمار وحش معقورًا، فأردنا أخذه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دعوه، فإنه يوشك أن يجيء صاحبه " فجاء رجل من فهر - وكان هو الذي عقره- فقال: هو لكم يا رسول الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر: " اقسمه بين الناس» . فوجه الدليل من الخبر: أن الرجل وهب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه الحمار مشاعا، فدل على جواز هبة المشاع، ولأنه مشاع يصح بيعه.. فصحت هبته، كالذي لا ينقسم. إذا ثبت هذا: فإن كان الموهوب مما لا ينقل ولا يحول، كالأرض والدور: قال الشيخ أبو حامد: فإن القبض فيه أن يخلي بينه وبينه فيحضره إياه، ويقول: خليت بينك وبينه فتسلمه. وإن كان مما ينقل ويحول.. فإن القبض لا يحصل فيه إلا بالنقل، فإن رضي الشريك الذي لم يهب أن يكون ذلك الشيء في يد الموهوب له.. جاز، فيكون نصفه له ونصفه وديعة. وإن لم يرض الشريك الذي لم يهب بذلك، فإن وكل الموهوب له الشريك ليقبض له.. صح. وإن لم يرض واحد منهما.. نصب الحاكم أمينًا ليقبض ذلك الشيء، وينقله، ويكون في يده أمانة للموهوب والشريك. [فرع الهبة لرجلين] وإن وهب رجل لرجلين شيئًا، فقبل أحدهما دون الآخر.. صحت الهبة في نصفه للذي قبل؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين.

فرع ما لا يصح بيعه لا تصح هبته

[فرع ما لا يصح بيعه لا تصح هبته] ] : وما لا يصح بيعه من المجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملكه عليه.. لا تصح هبته؛ لأنه عقد تمليك في حال الحياة، فلم يصح فيما ذكرناه، كالبيع. فإن وهبه عينًا مجهولة.. لم تصح الهبة. وقال مالك: (تصح الهبة) . دليلنا: أنه تمليك لا يتعلق بخطر، فلم يصح في المجهول، كالبيع. وقوله: (بخطر) احتراز من الوصية. وإن وهب المغصوب منه العين المغصوبة منه للغاصب.. صحت الهبة. وهل تفتقر إلى الإذن بالقبض؟ على وجهين. مضى ذكرهما في الرهن. وإن وهبها لغير الغاصب ممن يقدر على انتزاعها من الغاصب.. صحت الهبة، فإذا أذن له في القبض، فقبضه. لزمت الهبة. وإن وكل الغاصب في القبض له، فمضى زمان يمكن فيه القبض.. صارت مقبوضة للموهوب له، وزال الضمان عن الغاصب؛ لأن الملك الذي صار مضمونًا زال، وصار مقبوضًا لمالك آخر بإذنه، بخلاف ما إذا وهبه الغاصب، وأذن له في قبضه.. فإن الضمان لا يزول عنه؛ لأن الملك باق لم يزل. وإن وهب المعير العين المستعارة منه للمستعير.. صحت الهبة. فإن أذن له في القبض، ومضى زمان الإمكان.. صار مقبوضًا عن الهبة. وإن وهبها لغير المستعير.. صحت الهبة، فإن وكله في القبض، ومضى زمان الإمكان.. صارت مقبوضة للموهوب له، وبطلت العارية، لزوال ملك المعير. [فرع هبة العين المؤجرة] وإن وهب المؤاجر العين المستأجرة لغير المستأجر.. ففيه وجهان، بناء على القولين في جواز بيعها:

فرع تعليق الهبة على شرط مستقبل

فإن قلنا: تصح هبتها.. فهل تصح هبة العين المرهونة بغير إذن المرتهن؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\353] . أحدهما: يصح، كما تصح هبة المستأجر، ولا يبطل الرهن، بل إذا انفك الرهن.. سلم في الهبة، كما تسلم العين المستأجرة بعد انقضاء الإجارة. والثاني: لا تصح الهبة؛ لأن الهبة تصرف بإزالة الملك، والراهن ممنوع من التصرف بما يزيل الملك، كما لا يجوز له بيع الرهن. وهل تصح هبة الأرض المزروعة دون زرعها؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ". [فرع تعليق الهبة على شرط مستقبل] ولا يجوز تعليق الهبة على شرط مستقبل، كما قلنا في البيع. وهل تبطل الهبة بالشروط الفاسدة؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ": أحدهما: تبطل- وهو المشهور - كما قلنا في البيع. والثاني: تصح الهبة ويبطل الشرط، كما قلنا في العمرى والرقبى. فإذا قلنا بهذا: فوهبه جارية حاملا، واستثنى الواهب حملها.. بقي الحمل للواهب. [مسألة يقبل الهبة للصبي وليه] قال الشافعي: (ويقبض للطفل أبوه) . وجملة ذلك: أنه إذا وهب غير ولي الطفل للطفل هبة: فإن كان له أب أو جد، وكان عدلًا.. قبل له الهبة، وقبض له؛ لأنه هو المتصرف عنه. وإن كان فاسقًا.. لم يصح قبوله ولا قبضه؛ لأنه لا ولاية له عليه مع الفسق. وإن لم يكن له أب ولا جد، وكان الناظر في ماله الوصي من قبلهما، أو الأمين من قبل الحاكم.. قبل له الهبة، وقبض له؛ لأنه المتصرف عنه. وإن كان الواهب للطفل هو وليه: فإن كان الولي عليه الوصي، أو الحاكم، أو

فرع الهبة للغائب لا يقبضها الوكيل

أمينه.. لم يصح قبوله له من نفسه ولا قبضه، بل ينصب له الحاكم أمينا ليقبل له الهبة، ويقبض له؛ لأنه لا يصح أن يبيع ماله بماله، فلم يصح قبوله له. وإن كان وليه أباه أو جده.. صح أن يقبل له الهبة من نفسه؛ لأنه يجوز له أن يبتاع ماله بماله. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\352] : وهل يفتقر إلى أن يتلفظ بالإيجاب والقبول، أو يكفيه أحدهما؟ فيه وجهان، والمشهور: أنه لا بد أن يتلفظ بهما. وأما القبض: فإن قلنا: إنه إذا وهب لغيره وديعة في يده لا تحتاج إلى القبض.. صار ذلك مقبوضًا له. وإن قلنا: لا بد من القبض في هبة الوديعة.. فلا بد أن يقول هاهنا: وقبضت له من نفسي. وإن وهب الرجل لابنه البالغ.. لم يصح حتى يقبل الابن الهبة، أو وكيله. فإن قبل له الأب الهبة.. لم يصح. وقال ابن أبي ليلى: يصح إذا كان يعوله. دليلنا: أنه لا ولاية له عليه بعد البلوغ، فلم يصح قبوله له، كما لو كان لا يعوله. [فرع الهبة للغائب لا يقبضها الوكيل] ] : قال أبو العباس: فإن وهب رجل لرجل غائب هبة، فوكل الواهب رجلًا ليقبل الهبة للغائب منه، ويقبضها منه.. لم يصح؛ لأن الواهب لا ولاية له على الغائب، فلم يصح توكيله عنه.

مسألة رجوع الأصل في هبته لفرعه

[مسألة رجوع الأصل في هبته لفرعه] ] : وإذا وهب أحد الأبوين لولده شيئًا.. جاز له الرجوع فيه، سواء أقبضه إياه، أو لم يقبضه. وكذلك إذا وهب أحد الأجداد، أو الجدات من قبل الأب، أو الأم وإن علا شيئًا لولد الولد وإن سفل، وأقبضه.. فله أن يرجع عليه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا، وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وحكى الخراسانيون: أن الجدات من قبل الأب والأم، والأجداد من قبل الأم، هل يصح لهم الرجوع فيما وهبوه لولد الولد؟ فيه قولان؛ لأنهم لا يملكون التصرف في مال الولد بأنفسهم، فليس لهم الرجوع في الهبة. وقال أبو العباس بن سريج: إنما يرجع الأب في هبته لولده إذا قال: إنما قصدت بالهبة ليزيد في بري، أو يترك عقوقي، ولم يفعل. فأما إذا أطلق الهبة. فإنه لا يرجع فيها. والمشهور من المذهب: هو الأول. وقال أبو حنيفة والثوري: (إذا وهب الوالد لولده، وأقبضه.. لم يكن له أن يرجع عليه) . وقال مالك (إذا وهب الوالد لولده هبة، فإن ظهر نفعها للولد، بأن أمنه الناس فبايعوه أو زوجوه.. لم يكن له أن يرجع عليه، وإن لم يظهر نفعها له.. جاز له الرجوع عليه) . دليلنا: حديث النعمان بن بشير: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: " فارجعه ". وروى ابن عباس وابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لرجل أن يعطي عطية،

أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما وهب لولده» . فأما إذا وهب لغير ولده، أو ولد ولده، وإن سفل.. فليس له أن يرجع في هبته له بعد إقباضه له، سواء كان ذا رحم محرم، أو أجنبيًا. وقال أبو حنيفة: (إذا وهب لذي رحم محرم، بحيث لو كان أحدهما أنثى والآخر ذكرًا.. لم يحل له نكاحها، مثل: أن يهب لأبيه، أو لجده، أو لعمه، أو لخاله.. لم يجز له أن يرجع عليه بعد الإقباض، وهكذا إذا وهب أحد الزوجين للآخر. وإن وهب لغير ذي رحم محرم، مثل أن يهب لابن عمه، أو لابن خاله، أو لابنة عمه، أو كان أجنبيًا منه.. فيجوز له أن يرجع عليه في هبته له بعد الإقباض) ، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (من وهب لذي رحم محرم هبة.. فليس له أن يرجع فيها، ومن وهب لغير ذي رحم محرم.. فله أن يرجع عليه إلا أن يثيبه عليه) . دليلنا: ما روى ابن عباس، وابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل للرجل أن يعطي عطية، أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما أعطى ولده. ومثل الراجع في هبته كمثل الكلب قاء بعد ما شبع، ثم رجع في قيئه» وهذا أولى من حديث عمر. وقد روي عن ابن عمر، وابن عباس ما يخالف قول عمر أيضًا.

فرع الصدقة على الولد

[فرع الصدقة على الولد] وإن تصدق على ابنه وأقبضه.. فهل يثبت له الرجوع عليه؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يصح رجوعه عليه؛ لأن المقصود بالصدقة القربة إلى الله تعالى، فلم يصح له الرجوع فيها بعد لزومها، كالعتق، والقصد بالهبة صلة الرحم، وإصلاح حال الولد. والثاني - وهو المنصوص في " حرملة " -: (أن له أن يرجع؛ لأن الصدقة تفتقر إلى ما تفتقر إليه الهبة، من الإيجاب والقبول والإذن بالقبض، والقبض) فكان حكمها حكم الهبة في الرجوع، بخلاف العتق. وإن تداعى رجلان نسب مولود، ووهبا له قبل أن يلحق بأحدهما.. لم يجز لأحدهما أن يرجع عليه؛ لأن بنوته لم تثبت من أحدهما. فإن لحق بأحدهما.. ففيه وجهان: أحدهما: يجوز له الرجوع عليه؛ لأن بنوته ثبتت منه. والثاني: لا يجوز له الرجوع عليه؛ لأنه كان لا يجوز له الرجوع عليه في حال العقد. [فرع وهب الولد فمات فورثه ابنه] وإن وهب الرجل لولده هبة، وأقبضه إياها، ثم وهبها الولد لولده، أو مات الولد وورثه ولده. فهل يجوز للجد أن يرجع فيها؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز له الرجوع فيها؛ لأن للجد أن يرجع على ولد الولد فيما وهب له وهي في ملكه. والثاني: لا يرجع فيها، وهو الأصح؛ لأن الملك لم ينتقل منه إليه، فهو كما لو وهب لأجنبي، ثم وهبها الأجنبي لابن الواهب.

فرع وهب لولده فأفلس وحجر عليه

وإن ابتاعها الولد من والده.. لم يرجع الجد فيها وجهًا واحدًا؛ لأنه إذا لم يثبت الرجوع فيها لمن انتقل منه الملك بها، فلأن لا يثبت لمن انتقل منه بها الملك إلى الواهب أولى. وإن وهب الرجل لولده شيئًا، وأقبضه إياه فوهبها هذا الولد لأخيه من أبيه.. فينبغي أن لا يثبت للأب فيها الرجوع وجهًا واحدًا؛ لأنه إذا لم يثبت الرجوع لمن انتقل منه الملك، فلأن لا يثبت لمن انتقل منه إلى الواهب أولى. [فرع وهب لولده فأفلس وحجر عليه] وإن وهب لولده شيئًا، وأقبضه إياه، فأفلس الولد وحجر عليه.. فهل للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده قبل أن يقسم على الغرماء؟ فيه وجهان. أحدهما: له أن يرجع فيه؛ لأن حقه أسبق. والثاني: لا يجوز له الرجوع فيه، وهو الأصح؛ لأن بالحجر تعلقت به حقوق الغرماء، فهو كما لو رهنها الولد. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\354] : فإن ارتد الابن الموهوب له: فإن قلنا: إن ملكه باق.. فللأب أن يرجع عليه. وإن قلنا: إن ملكه قد زال بالردة.. فليس للأب الرجوع عليه في حال ردته. فإن عاد للإسلام.. فهل له الرجوع عليه؟ على الوجهين في الولد إذا أفلس. وإن قلنا: إن ملكه موقوف، فإن عاد إلى الإسلام.. فللأب الرجوع؛ لأنا تبينا أن ملكه لم يزل.

فرع زيادة الهبة في يد الولد

[فرع زيادة الهبة في يد الولد] ] : وإذا وهب لولده عينًا وأقبضه إياها، فزادت في يد الولد. نظرت: فإن كانت زيادة غير منفصلة عنها، بأن كان عبدًا فسمن، أو تعلم القرآن، أو كانت جارية فسمنت، أو تعلمت صنعة.. فللوالد أن يرجع في العين وزيادتها. وحكى الطبري وجها لبعض أصحابنا: أنه لا يملك الرجوع هاهنا، وهو قول محمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة: (لا يرجع إلا أن تكون الزيادة تعلم قرآن، أو إسلامًا، أو قضاء دين، فلا تمنع الرجوع) . دليلنا: أنها زيادة في الموهوب، فلا تمنع الرجوع، كما لو حدثت قبل القبض. وإن كانت زيادة منفصلة، بأن وهبه نخلة، فأطلعت في يده وأبرها، ثم رجع الوالد.. كانت الثمرة للولد؛ لأنها زيادة حدثت في ملك الولد، فلم تتبع الأصل، كما قلنا في الرد بالعيب. فأما إذا وهبه شاة، أو بقرة حاملًا: فإن رجع الوالد قبل الوضع.. رجع في البهيمة وحملها. وإن وضعت في يد الولد: فإن قلنا: للحمل حكم.. رجع الوالد فيهما. وإن قلنا: لا حكم للحمل.. رجع في الأم دون الولد. وإن وهبها وهي حائل فحملت في يد الوالد: فإن ولدت في يد الولد.. رجع الولد في الأم دون الولد؛ لأنه نماء حدث في يد الولد. وإن رجع فيها قبل الوضع: فإن قلنا: للحمل حكم.. رجع الوالد في الأم دون الولد. وإن قلنا: لا حكم للحمل.. رجع الوالد فيها.

فرع وهب ولده عينا فأتلفها

[فرع وهب ولده عينا فأتلفها] ] : وإن وهب لولده عينا، وأقبضه إياها، فأتلفها الولد، بأن كان طعاما فأتلفه، أو عبدا فقتله.. لم يكن للأب أن يرجع فيها؛ لأن حقه يتعلق بالعين، والعين غير موجودة، ولا يرجع في قيمتها؛ لأن حقه يتعلق بالعين دون القيمة. وهكذا: لو كانت العين باقية، إلا أنها قد نقصت في يد الولد.. رجع الوالد فيها، ولا يرجع بأرش ما نقصت، كما لا يرجع في قيمتها إذا كانت تالفة. وهكذا: لو كان في معنى الإتلاف، بأن كان عبدا فأعتقه، أو كانت جارية فاستولدها الولد؛ لأن العين باقية، وإنما تلف الرق.. فليس للوالد أن يرجع في العين ولا في قيمتها. وإن تصرف الولد في العين تصرفا لم يتلفها به.. نظرت: فإن كان تصرفا لا يقطع تصرف الابن، بأن كانت أمة فزوجها الابن، أو أجرها، أو دبرها، أو أعتقها بصفة.. فللأب أن يرجع فيها؛ لأن تصرف الابن لم ينقطع فيها، فإذا رجع.. لم يبطل النكاح، ولا الإجارة، ولكن إذا انقطعا.. رجعت المنفعة للأب. وأما التدبير والعتق بالصفة: فيبطلان؛ لأن ملك الابن قد زال. وإن كان تصرف الابن قد انقطع عن العين، بأن باع العين، أو وهبها وأقبضها.. لم يكن للأب أن يرجع؛ لأن تصرف الابن يصح فيها، فهي كما لو تلفت. فإن عادت العين إلى الابن ببيع، أو هبة، أو إرث.. فهل للأب أن يرجع فيها؟ فيه وجهان: أحدهما: يرجع؛ لأن العين موجودة في ملك الابن. والثاني: لا يرجع. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأن ملك الابن لم يكن من جهة الأب.

فرع جناية العبد الموهوب في يد الابن

فإن قلنا بالأول: وكان الابن قد اشتراها بثمن في ذمته، وأفلس، وقلنا: إن الإفلاس لا يمنع الأب من الرجوع، والابن لم يدفع ثمن العين.. فإن بائعها أحق بها من الأب ومن الغرماء؛ لأن حق البائع تعلق بها من جهة البيع. وإن كان تصرف الابن انقطع عن العين انقطاعا مراعى، بأن كان قد رهنه، أو كان عبدا فكاتبه.. فليس للأب أن يرجع فيه في الحال؛ لأن الابن لا يصح تصرفه فيه في هذه الحالة، فكذلك الأب. فإن فك الرهن، أو عجز المكاتب ففسخت الكتابة.. كان للأب أن يرجع؛ لأن ملك الابن قد عاد إليه. هذا هو المشهور. وحكى القاضي أبو الطيب في " المجرد " وجها آخر في المكاتب: أنه إذا عجز ورق.. كان كما لو باعه، ثم رجع إليه؛ لأن الكتابة تقطع تصرفه فيه، كما لو باعه والأول أصح. [فرع جناية العبد الموهوب في يد الابن] وإن جنى العبد في ملك الابن فتعلق الأرش برقبته: قال القاضي أبو الطيب: فليس للأب أن يرجع فيه؛ لأن تعلق الأرش برقبته حق، فهو كما لو رهنه الابن. قال: فإن بذل الأب فكه ليرجع فيه.. كان له ذلك. ولو كان مرهونا فبذل الأب فكه ليرجع فيه.. لم يكن له. والفرق بينهما: أن فك الرهن فسخ لعقد الموهوب له، فلم يكن له ذلك، وهاهنا لم يتعلق به حق من جهة العقد. [فرع ارتجاع الموهوب من الولد] والرجوع هو أن يقول الأب: ارتجعتها منك، أو رجعت فيما وهبته لك. ولا يفتقر إلى قضاء قاض.

مسألة الواهبون على ثلاثة أضرب

وقال أبو حنيفة: (لا يصح الرجوع إلا بقضاء قاض) . دليلنا: أنه خيار في فسخ عقد، فلا يفتقر إلى قضاء قاضٍ، كفسخ العقد في خيار الثلاث. وإن كان الموهوب جارية فوطئها الأب.. فهل يكون رجوعا؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون رجوعا، كما لو وطئ البائع الجارية المبيعة بشرط الخيار، في حال الخيار. والثاني: لا يكون رجوعا؛ لأن ملك الابن ثابت عليها، فلا يزول إلا بصريح الرجوع، بخلاف المبيع. فإن باع الأب العين الموهوبة، أو وهبها، وأقبضها.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها المسعودي [في " الإبانة " ق\355] : أحدها - وهو الأصح -: أن الرجوع والبيع يصحان. والثاني: أن البيع والهبة لا يصحان، ولا يصح الرجوع. والثالث: أن الرجوع يصح، ولا يصح البيع والهبة. [مسألة الواهبون على ثلاثة أضرب] الواهبون على ثلاثة أضرب: أحدها: هبة الأعلى للأدنى، مثل: أن يهب السلطان لبعض الرعية، أو يهب الغني للفقير. قال الشيخ أبو حامد: أو يهب الأستاذ لغلامه، فهذه لا تقتضي الثواب؛ لأن القصد من هذه الهبة القربة إلى الله تعالى، دون المجازاة. والثاني: هبة النظير للنظير، كهبة السلطان لمثله، أو الغني لمثله، فهذه لا تقتضي الثواب أيضا؛ لأن القصد بهذه الهبة الوصلة والمحبة. والثالث: هبة الأدنى للأعلى، مثل: أن يهب بعض الرعية للسلطان شيئا، أو يهب الفقير للغني، أو يهب الغلام لأستاذه.. ففيه قولان:

قال في القديم: (يلزمه أن يثيبه) . وبه قال مالك؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (من وهب هبة يرجو ثوابها.. فهي رد على صاحبها ما لم يثب عليها) . وروي: أن رجلا سأل فضالة بن عبيد، فقال: إني أهديت إلى رجل بازيا فلم يثبني عليه، فقال: إن أثابك وإلا فارجع وخذ بازيك. ولأن العرف والعادة: أن من وهب لمن أعلى منه، إنما يقصد به الثواب من المال، فصار هذا العرف كالشرط. وقال في الجديد: (لا يلزمه أن يثيبه) . وبه قال أبو حنيفة، وهو الأصح؛ لأنه تمليك بغير عوض، فلم يقتض ثوابا كهبة الأعلى لمن هو دونه. وما روي عن عمر وفضالة بن عبيد، فقد روي عن ابن عباس وابن عمر خلافه. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: إذا وهب لمن هو في مثل حاله.. فهل يقتضي إطلاق الهبة الثواب؟ فيه قولان. ومنهم من قال: إذا أطلق الهبة، فإن كان قد نوى الثواب.. استحقه، وإن لم ينو.. فهل يستحقه؟ فيه قولان. فإن قلنا: لا يستحق إلا مع النية، فاختلفا: هل نوى أم لا؟ ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قول الواهب؛ لأن الأصل أنه لم يرض بزوال ملكه بغير عوض. والثاني: أن القول قول الموهوب له؛ لأن الأصل عدم النية. والمشهور: طريقة البغداديين.

فإذا قلنا بقوله الجديد، وأن الهبة لا تقتضي الثواب.. نظرت: فإن وهب لمن هو أعلى منه من غير شرط الثواب، فوهب الموهوب له للواهب هبة.. كان ذلك ابتداء عطية تلزم بالقبض. وإن خرج أحدهما معيبا أو مستحقا.. لم يرجع صاحبها بهبته. وإن وهبه بشرط الثواب: فإن كان ثوابا مجهولا.. بطلت الهبة؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الهبة، ولأنه شرط ثوابا مجهولا، فلم يصح، كالبيع بثمن مجهول، فإن قبضها الموهوب له.. كان حكمه حكم البيع الفاسد. وإن شرط ثوابا معلوما.. فهل تصح الهبة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تصح الهبة؛ لأنه شرط ينافي مقتضاها، فلم تصح، كما لو عقد النكاح بلفظ الهبة. فعلى هذا: إذا قبضه كان حكمه حكم البيع الفاسد. والثاني: تصح الهبة، ويلزم الموهوب الثواب المشروط؛ لأن الهبة تمليك العين، وقد ثبت أنه لو قال: ملكتك هذه العين، ولم يذكر العوض.. كان هبة. ولو قال: ملكتكها بدينار.. صح وكان بيعا، فكذلك الهبة بالعوض. فإذا قلنا بهذا: فحكمه حكم البيع الصحيح في خيار المجلس، والثلاث، والرد بالعيب والشفعة. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: هل حكمه على هذا القول حكم البيع أو حكم الهبة؟ فيه قولان: أحدهما: حكمه حكم البيع اعتبارا بالمعنى؛ لوجود العوض فيه. والثاني: حكمه حكم الهبة اعتبارا باللفظ.

وإن قال: وهبتك درهما بدرهمين.. لم يصح على الطريقين؛ لأنه ربا. وإن قلنا بقوله القديم.. نظرت: فإن أطلق ولم يشرط الثواب.. فالموهوب له بالخيار: بين أن يثيبه، وبين أن يرد الموهوب: فإن اختار أن يثيبه: ففي قدر ما يلزمه ثلاثة أقوال: أحدها: يلزمه أن يثيبه إلى أن يرضى الواهب؛ لما روى أبو هريرة: «أن أعرابيا أهدى للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناقة، فأعطاه بدلها ثلاثا، فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثا، فلم يرض، ثم أعطاه ثلاثا، فرضي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دوسي» . والثاني: يلزمه أن يثيبه بقدر قيمته. وهو قول مالك؛ لأن كل عقد اقتضى العوض إذا لم يسم فيه عوض.. وجبت فيه قيمة المعوض، كالنكاح. والثالث: يلزمه أن يثيبه ما يكون ثوابا لمثله في العادة؛ لأن هذا الثواب وجب بالعرف، فوجب قدره بالعرف. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\356] وجها آخر: أنه يلزمه أن يثيبه ما يقع عليه الاسم؛ لأنه رضي بزوال ملكه بعوض، وقد يشتري الشيء النفيس بالثمن القليل.

فإن لم يثبه الموهوب.. فللواهب أن يرجع في العين الموهوبة إن كانت باقية؛ لأنه لم يرض بزوال ملكه عنها إلا بعوض، ولم يحصل العوض. فإن كانت زائدة زيادة متصلة.. رجع فيها وبزيادتها. وإن كانت زائدة زيادة منفصلة.. رجع فيها دون الزيادة، كما قلنا في هبة الأب لولده. وإن كانت العين تالفة.. فهل يرجع عليه بقيمتها؟ فيه قولان: أحدهما: لا يرجع عليه بقيمتها؛ لأنها تلفت في ملكه، فهو كما لو وهب الأب لابنه عينا وتلفت في يده. والثاني: يرجع عليه بقيمتها؛ لأنه ملكها بعوض، فإذا تلفت.. ضمنها بقيمتها. والمذهب الأول. وإن وجد العين وقد نقصت في يد الموهوب له.. رجع الواهب فيها، وهل يرجع عليه بأرش النقص؟ على الوجهين. وإن وهبه بشرط الثواب: فإن كان ثوابا مجهولا، بأن قال: وهبتك على أن تثيبني، فقال: قبلت.. صحت الهبة؛ لأن الهبة تقتضي الثواب، وشرطه تأكيد. وإن شرط ثوابا معلوما.. فهل يصح؟ فيه قولان: أحدهما: لا تصح؛ لأن الهبة تقتضي ثوابا مجهولا، فإذا شرط ثوابا معلوما، فقد شرط ما ينافي مقتضاها، فلم يصح. والثاني: يصح؛ لأن الهبة إذا صحت بشرط الثواب المجهول.. فلأن تصح مع المعلوم أولى.

فرع اختلفا على طلب البدل

[فرع اختلفا على طلب البدل] ] : وإن اختلفا فقال الواهب: وهبتك ببدل، وقال الموهوب له: وهبتني بغير بدل.. ففيه وجهان: أحدهما: القول قول الواهب مع يمينه؛ لأنه لم يقر بخروج ملكه إلا ببدل. والثاني: القول قول الموهوب له؛ لأن الأصل براءة ذمته وعدم شرط البدل. وإن وهبه جارية هبة تقتضي الثواب، فقبضها الموهوب له، ووطئها، ولم يثب الواهب.. فللواهب أن يرجع في جاريته، ولا مهر على الموهوب له؛ لأنه وطئها في ملكه، فهو كما لو وهب الأب لابنه جارية فوطئها الابن ثم رجع الأب عليه، فإنه لا مهر عليه. وإن وهب له ذهبا أو فضة هبة تقتضي الثواب، فإن أثابه من جنس الأثمان.. نظرت: فإن كان قبل التفرق.. صح ذلك، ويعتبر التساوي بينهما إن كانا من جنس واحد، كما قلنا في البيع. وإن كان بعد التفرق.. بطلت الهبة؛ لأن ذلك معاوضة. وإن أثابه من غير جنس الأثمان.. جاز، سواء كان قبل التفرق أو بعد التفرق، كالبيع. والله أعلم وبالله التوفيق

باب العمرى والرقبى

[باب العمرى والرقبى] العمرى: نوع من الهبة تفتقر إلى الإيجاب والقبول، ولا تلزم إلا بالقبض، ولا يصح القبض فيها إلا بإذن الواهب. وفي العمرى ثلاث مسائل: إحداهن: أن يقول: أعمرتك داري هذه، وجعلتها لك حياتك، أو عمرك، ولعقبك بعدك. فإذا قال الآخر: قبلت، وأذن له في القبض، فقبض.. صح، وكان ذلك هبة. وبه قال أكثر الفقهاء. ومن الناس من قال: لا تجوز العمرى؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تعمروا ولا ترقبوا» . وقال مالك: (يكون للمعمر في حياته ولعقبه، فإذا انقضى.. رجعت إلى المعمر) . ودليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العمرى جائزة» . وروى

جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعمر شيئا له ولعقبه.. فهو للذي يعطاها؛ لا يرجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث» . يعني: أنه ورث عن المعطي. وفي رواية أخرى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تعمروا، ولا ترقبوا، فمن أعمر شيئا، أو أرقبه.. فهو سبيل الميراث» . وأما النهي: فإنما نهى عما كان يفعله أهل الجاهلية، وهو أنهم كانوا يجعلونها للمعمر في حياته، فإذا مات.. رجعت إلى المعمر. المسألة الثانية: إذا قال: أعمرتك هذه الدار، أو جعلتها لك عمرك، أو ما عشت، أو ما حييت، وأطلق.. ففيه قولان: [أحدهما] : قال في الجديد: (تصح، وتكون للمعمر في حياته، ولورثته من بعده، ولا ترجع إلى المعطي) . وبه قال أبو حنيفة، وهو الأصح؛ لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعمر شيئا.. فهو له ولعقبه» . وروى جابر: «أن رجلا من الأنصار أعطى أمه حديقة، فماتت، فقال: أنا أحق بها؛ لأني أعطيتها مدة حياتها، فقال إخوته: نحن فيها شركاء، فاختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعلها ميراثا بينهم» .

وأما القول القديم: فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق المروزي: قوله القديم: (إنها تكون للمعمر في حياته، فإذا مات.. رجعت إلى المعطي) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعمر شيئا له ولعقبه.. فهو للذي يعطاها؛ لأ ترجع إلى الذي أعطاها» فدليل خطابه أنه إذا لم يشترط لعقبه.. فإنها ترجع إلى الذي أعطاها. وقال أكثر أصحابنا: قوله القديم: (إن العطية تكون فاسدة) لأنه تمليك عين وقته، فلم يصح، كما لو قال: أعمرتك هذا شهرا، أو بعتك هذا شهرا. المسألة الثالثة: إذا قال: أعمرتك هذه الدار، أو جعلتها لك حياتك، أو عمرك، فإذا مت عادت إلي إن كنت حيا، وإلى ورثتي إن كنت ميتا.. فهي كالثانية على قولين: [الأول] : على القول الجديد: تكون للمعمر في حياته، ولورثته بعده. و [الثاني] : على ما حكاه أبو إسحاق عن القديم: تكون على ما شرط للمعمر في حياته، فإذا مات.. رجعت إلى المعطي إن كان حيا، وإلى ورثته إن كان ميتا. وعلى ما حكاه غيره عن القديم.. تكون العطية باطلة. فإن قيل: هلا قلتم تبطل الهبة على القول الجديد؛ لأن العمرى تقتضي التمليك على التأبيد، فإذا قدره بحياة المعمر، فقد شرط شرطا ينافي مقتضى العقد فأبطله، كما لو قال: وهبتك هذه الدار سنة؟ فالجواب: أن هذا الشرط لا يبطل العمرى؛ لأنه ليس بشرط على المعمر، وإنما

فرع فيمن أعمره داره

هو شرط على ورثته. فإذا لم يكن الشرط على المعقود له.. لم يؤثر في العقد، بخلاف ما لو قال: وهبت لك داري سنة، فإنه لا يصح؛ لأن النقصان دخل في ملك المعقود له، فلم يصح. [فرع فيمن أعمره داره] إذا قال رجل لآخر: جعلت لك هذه الدار عمري أو حياتي.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\ 357] : أحدهما - ولم يذكر الشيخ أبو حامدٍ غيره -: أن الحكم فيها كما لو قال: جعلتها لك عمرك أو حياتك، على ما مضى. والثاني: لا تصح بحال؛ لأنه إذا جعلها للمعمر مدة حياته.. فكأنه أبد التمليك له؛ لأنه إنما يملك الشيء مدة عمره. فأما إذا قال: عمري أو حياتي، فلم يجعلها له مؤبدا؛ لأن المعطي قد يموت والمعمر حي، فلم يصح، كما لو قال: أعمرتكما شهرا. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 357] : وهكذا الوجهان إذا قال: أعمرتكها عمر زيد، أو حياته. [مسألة ما يعطى على سبيل الرقبى] ] : وأما الرقبى: فهو أن يقول: أرقبتك هذه الدار، أو جعلت داري لك رقبى ومعنى هذا: أنها لك مدة حياتك، فإن مت قبلي.. عادت إلي، وإن مت قبلك.. فهي لك ولورثتك بعدك.

فهي كالمسألة الثانية من العمرى، على القول الجديد، تكون للمرقب في حياته ولورثته بعده. وأما على القول القديم: فعلى ما حكاه أبو إسحاق تكون للمرقب في حياته، فإن مات والمعطي حي.. رجعت إليه. وإن مات المعطي أولا.. كانت للمرقب في حياته، ولورثته بعده. وعلى ما حكاه غير أبي إسحاق عن القديم: تكون العطية باطلة. هذا مذهبنا، وبه قال أبو يوسف. وقال أبو حنيفة ومحمد: (الرقبى لا تملك، وتكون عارية؛ لأن معناها أنها لآخرنا موتا، فلا يصح التمليك بهذا؛ لأن التمليك معلق بخطر وغرر) . وقال مجاهد: الرقبى هو: أن يقول: هذه الدار للآخر مني ومنك موتا. وتعلقوا بما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز العمرى وأبطل الرقبى» . ودليلنا: ما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا معشر الأنصار: أمسكوا عليكم أموالكم؛ لأ تعمروا، ولا ترقبوا، فمن أعمر شيئا أو أرقبه.. فهو له ولورثته» . وفي رواية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العمرى جائزة لأهلها، والرقبى جائزة لأهلها» وما رووه غير معروف.

فرع تعطى العمرى من الثلث

فإن قيل: فقد سويتم بين معنى العمرى والرقبى، واختلاف الأسماء يدل على اختلاف المسميات؟ قلنا: بينهما فرق، وذلك: أن المعمر يملك ما أعمره مدة عمره، فإذا مات.. اقتضى ذلك أن يرجع إلى المعمر، أو إلى ورثته إن لم يكن باقيا. وأما الرقبى: فاقتضت أنه ملكه إياها، فإن مات.. رجعت إلى المرقب. وإن مات المرقب قبله.. استقرت على ملك المرقب، ولم ترجع بموته إلى ورثة المرقب. [فرع تعطى العمرى من الثلث] إذا قال رجل لآخر: إذا مت فهذه الدار لك عمرك، فإذا مت عادت إلى ورثتي، فإذا مات المعطي، وخرجت الدار من الثلث.. كانت على قولين، كما لو قال: هذه الدار لك عمرك، فإذا مت قبلي، عادت إلي إن كنت حيا، وإلى ورثتي إن كنت ميتا. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 357] : إذا قال الشريكان في الدار، هي لآخرنا موتا.. صار نصيب كل واحد منهما رقبى لصاحبه، وقد مضى بيان الرقبى. [مسألة صحة إبراء صاحب الدين] ] : ومن وجب له على غيره دين.. صح إبراؤه منه. وهل يفتقر إلى قبول البراءة ممن عليه الدين؟ فيه وجهان: أحدهما: يفتقر إلى قبوله؛ لأن عليه منة في إسقاط الحق عنه.. فافتقر إلى قبوله، كقبول الهبة.

الثاني - وهو الأصح -: أنه لا يفتقر إلى قبوله؛ لأنه إسقاط وليس بتمليك عين، فلم يفتقر إلى القبول، كإسقاط الشفعة والقصاص والعتق، بخلاف الهبة، فإنها تمليك عين. ولا يصح الإبراء من دين مجهول؛ لأنه إزالة ملك، فلم يصح مع الجهل به، كالهبة. فإن قال: أبرأتك من دينار إلى مائة دينار، وكان يعلم أنه يستحق ذلك عليه.. صحت البراءة. وإن أبرأه من دين وكان من له الدين لا يعلم أنه يستحق ذلك عليه، ثم بان أنه كان يستحقه عليه.. فهل تصح البراءة؟ فيه وجهان: أحدهما: تصح البراءة؛ لأنها وافقت وجوب الدين. والثاني: لا تصح، وهو الأصح؛ لأنه عقد البراءة، وهو متلاعب. وإن قال: تصدقت عليك بالدين الذي لي عليك.. صح ذلك، وكان براءة بلفظ الصدقة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] [النساء: 92] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280] [البقرة: 280] وأراد بالصدقة في الآيتين البراءة. قال أبو العباس: وهذا يدل على صحة البراءة بلفظ الصدقة، وعلى أن الصدقة تصح على الغني والفقير، وعلى أن صدقة التطوع تصح على بني هاشم، وبني المطلب؛ لأنه لم يفرق في الآيتين. وإن وهب دينه لمن هو في ذمته.. صحت الهبة وجها واحدا؛ لأن الهبة والصدقة واحد، فإذا صحت الصدقة.. صحت الهبة، وهل يكون حكمها حكم الإبراء؛ لا يفتقر إلى القبول على الأصح، أو حكم الهبة يفتقر إلى القبول، ولا يلزم حتى تمضي مدة يتأتى فيها القبض؟ على وجهين. فإن وهب من له الدين دينه لغير من هو عليه، أو باعه منه، وكان الدين مستقرا. فهل يصحان؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا يصحان؛ لأنه غير مقدور على تسليمه. والثاني: يصحان، وهو الأصح؛ لأن الذمم تجري مجرى الأعيان، بدليل: أن الرجل يبتاع بعين ماله، ويبتاع بثمن في ذمته. وكذلك يبيع عين ماله، ويبيع ما في ذمته، وما جاز بيعه وابتياعه.. جازت هبته؛ لأنه لا خلاف أن الحوالة تصح، وهي في الحقيقة بيع، فكذلك البيع. فإذا قلنا بهذا: فهل يفتقر لزوم الهبة إلى الإذن بالقبض، وإلى القبض؟ فيه وجهان: أحدهما: يفتقر إلى ذلك؛ لأن هذا شرط في لزوم الهبة في العين، فكذلك في الدين. والثاني: لا يفتقر إلى ذلك، وهو الأصح، كالحوالة لا يعتبر فيها القبض. والله أعلم وبالله التوفيق.

كتاب الوصايا

[كتاب الوصايا]

كتاب الوصايا الوصية: مأخوذة من قولهم: وصيت الشيء أصيه إذا وصلته؛ لأن الموصي يصل ما كان منه في حياته بما بعده من أمر مماته. والأصل في ثبوت الوصية: الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] [النساء: 12] . وأما السنة: فما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما حق امرئ مسلم عنده شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه» .

وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة.. سأل عن البراء بن معرور، فقالوا له: إنه هلك، وأوصى لك بثلث ماله، فقبله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم رده على ورثته» . وأما الإجماع: فروي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصى بالخلافة إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) . و: (لما طعن عمر.. أوصى بالخلافة إلى أهل الشورى، وهم ستة: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص) . وظهر ذلك في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولم يخالفهم أحد، بل عمل به. إذا ثبت هذا: فإن ما يوصي به الإنسان ضربان، وصية بالنظر فيما كان النظر له فيه، ووصية بثلث ماله.

فأما الوصية بالنظر: فإن من ثبت له الخلافة على الأمة.. فله أن يوصي بها إلى رجل توجد فيه شروط الخلافة على ما يأتي بيانه إن شاء الله في موضعه؛ لما ذكرناه من حديث أبي بكر وعمر رضى الله عنهما. وإن ثبت لرجل النظر في ملك ولده الصغير، ولا جد للصغير من أبيه، ولا أم له.. فللأب أن يوصي بالنظر في ماله إلى من يصلح لذلك، ويكون وصي الأب أولى بالنظر في مال الصغير من الحاكم؛ لما روي: (أنه أوصى إلى الزبير سبعة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمر أولادهم الصغار، منهم: عثمان، والمقداد، وعبد الرحمن، وابن مسعود) . وإن كان للصغير جد من أبيه يصلح للنظر، فأوصى الأب إلى غير الجد.. كان الجد أولى بالنظر. وقال أبو حنيفة: (وصي الأب أولى من الجد) وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين، والجويني؛ لأنه لما كان الأب أولى بالنظر من الجد.. كان وصيه أولى من الجد، كما قلنا في وصي الأب مع الحاكم. وهذا غلط؛ لأنها ولاية يستحقها الجد بالقرابة، فكان مقدما على وصي الأب، كولاية النكاح. وإن لم يكن للصبي جد، ولكن له أم تصلح للنظر في ماله، وأوصى الأب إلى غيرها:

مسألة الناظر لا يزوج

فإن قلنا بالمذهب: وأن الأم لا ولاية لها بالنظر في مال ولدها.. كان الناظر هو وصي الأب. وإن قلنا بقول الإصطخري: وأن الأم لها ولاية بالنظر في مال ابنها.. فهل يقدم وصي الأب عليها؟ ينبغي أن يكون على الوجهين في وصي الأب مع الجد. والصحيح: أن الأم مقدمة على وصي الأب. [مسألة الناظر لا يزوج] ] : وإن أوصى رجل إلى رجل بالنظر في أمر أولاده، وله بنات.. لم يكن للوصي تزويجهن بلا خلاف. وإن أوصى إليه بالنظر في مال أولاده الصغار، وتزويج بناته.. لم يكن للوصي تزويجهن، سواء كن البنات صغارا أو كبارا، عين له الزوج أو لم يعينه، بل إن كان للبنات ولي مناسب.. زوجهن، وإلا.. فالحاكم يزوجهن. وبه قال الثوري وأبو حنيفة. وقال أبو ثور: (الوصي أولى بتزويجهن من الولي المناسب) . وقال مالك: (إذا أوصى إليه في تزويج بناته مطلقا.. كان الوصي أحق بإنكاحهن من الولي المناسب. فإن كن كبارا.. لم يزوجهن إلا بإذنهن. وإن كن صغارا.. لم يزوجهن الوصي إلا إن عين له الموصي الزوج) . دليلنا: ما «روى عبد الله بن عمر قال: زوجني خالي قدامة بن مظعون ابنة أخيه عثمان بن مظعون، فمضى المغيرة بن شعبة إلى أمها، فأرغبها في المال، فمالت إليه، فذهبت أمها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: إن ابنتي تكره ذلك. فمضى قدامة بن مظعون إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: أنا عمها ووصي أبيها، وقد زوجتها من عبد الله بن عمر، وما نقموا منه إلا أنه لا مال له، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنها يتيمة، وإنها لا تنكح إلا بإذنها» .

فرع الوصية بالدين والحج والكفارة

فموضع الدليل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنكح إلا بإذنها» وقد أخبره قدامة أنه وصي أبيها، ولم يسأله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل وصى إليه بإنكاحها، أم لا؟ وهل عين له الزوج، أم لا؟ فلو كان الحكم يختلف بذلك.. لسأله عنه. فقيل: إن المغيرة تزوجها بعد ذلك. ولأن ولاية النكاح لها تستحق بالشرع، فلم يجز نقلها عنه بالوصية، كالوصية في أمر الصغير مع وجود الجد. [فرع الوصية بالدين والحج والكفارة] ومن عليه دين، أو زكاة، أو حج، أو كفارة. أو كان في يده وديعة، أو غصب.. فله أن يوصي إلى من يخرج ذلك من تركته؛ لأنه إذا ملك أن يوصي بالنظر في أمر غيره.. فلأن يملك ذلك في خاصة نفسه أولى. [مسألة الوصية بالثلث] ] : وأما الوصية بالثلث: فكل من ملك التصرف في ماله بالبيع والهبة. ملك الوصية بثلث ماله بما فيه قربة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] [النساء: 12] . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله أعطاكم ثلث أموالكم في آخر آجالكم زيادة في حسناتكم» .

وروي «عن سعد بن أبي وقاص: أنه قال: مرضت بمكة عام الفتح مرضا أشرفت فيه على الموت، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله: إن لي مالا كثيرا، وإنما يرثني ابنة لي، أفأتصدق بمالي كله؟ قال: " لا ". قلت: أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: " لا ". قلت: فبالشطر؟ قال: " لا ". قلت: فبالثلث؟ قال: " الثلث، والثلث كثير - وروي " كبير " - إنك أن تترك ورثتك أغنياء.. خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس» فلم ينهه عن الثلث، وإنما قال: هو كثير. فدل على جواز التصدق به. و (العالة) : الفقراء. قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] [الضحى: 8] . وقوله: «يتكففون الناس» معناه: يسألون بأكفهم الناس. فإن كان ورثته فقراء.. فالمستحب له أن لا يوصي بجميع الثلث؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنك أن تترك ورثتك أغنياء.. خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس» .

وإن كانوا أغنياء: استحب له أن يوصي بجميع الثلث؛ لأنه لما كره له استيفاء الثلث إذا كانوا فقراء.. دل على أنه يستحب له أن يستوفي الثلث إذا كانوا أغنياء. والمستحب لمن رأى المريض يجنف في الوصية أن ينهاه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [النساء: 9] [النساء: 9] . قال أهل التفسير: المراد بذلك الحاضرون عند الموصي. والمستحب لمن أراد التصدق: أن يفعل ذلك في صحته؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن أفضل الصدقة، فقال: «أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم.. قلت: لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» . وإن اختار الوصية.. فالمستحب له أن يقدمها؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما حق امرئ مسلم عنده شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه» . قال الشافعي: (معناه: ما الحزم، وما الأحوط، أو ما الاحتياط له، إلا هذا) . وقال غيره: هذا في الرجل عنده أمانات للناس، أو عليه ديون لهم، فتلزمه الوصية بذلك. إذا ثبت هذا: فالناس الموصى لهم على ثلاثة أضرب:

[إحداها] : ضرب تجوز لهم الوصية ولا تجب، بلا خلاف بين أهل العلم، وهو: من كان أجنبيا من الموصي؛ لأن البراء بن معرور أوصى للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلث ماله فقبلها منه، ولا قرابة بينهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرشي والبراء أنصاري. والضرب الثاني: تجوز لهم الوصية ولا تجب عندنا، وهم من لا يرث الموصي وبينهما قرابة، كالعمات والخالات، وسائر ذوي الأرحام. أو كان ممن يرثه إلا أن هناك من يحجبه. وقال الضحاك، والزهري، وأبو مجلز، وداود، وابن جرير: (تجب لهم الوصية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] [البقرة: 180] . ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] . وفسر ذلك بالوصية، فجعل ذلك إليهم. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه» فعلق الوصية على الإرادة. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنك أن تترك ورثتك أغنياء.. خير من أن تتركهم عالة» . وهذا يدل على أنها لا تجب؛ لأن ترك الوارث غنيا لا يكون خيرا من الواجب. وروي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دخل على [رجل من بني] هاشم، فقال له: لي ثمانمائة درهم، أفأوصي؟ قال: لا) . وروي: (أن ابن عباس دخل على مريض، فقال: لي سبعمائة درهم، أفأوصي؟ قال: لا، إنك لا تترك خيرا) . والخبر عنده ثمانمائة درهم. وقيل: ألف.

وكذلك روي عن ابن عمر وعائشة. وأما الآية: فمنسوخة بآية المواريث. والضرب الثالث: إذا أوصى رجل لوارثه: قال الشيخ أبو حامد: فلا تصح الوصية له، قولا واحدا؛ لما روى أبو أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» . وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة» . فإن أجاز سائر الورثة الوصية، فهل تكون إجازتهم لها تنفيذا لما فعله الموصي، أو ابتداء عطية؟ منهم من قال: فيه قولان: أحدهما: إنه ابتداء عطية منهم؛ لحديث أبي أمامة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وصية لوارث» ولأنها عطية لا تلزم في حق الوارث، فكانت ابتداء عطية منه، كما لو وهبه الوارث شيئا من مال نفسه.

مسألة الوصية بأكثر من الثلث

والثاني: إنه تنفيذ لما فعله الموصي. وهو قول أبي حنيفة، وهو الأصح؛ لحديث ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجوز الوصية للوارث إلا أن يشاء الورثة» فدل على أنهم إذا شاءوا.. جازت الوصية. وقال الشيخ أبو إسحاق: هل تصح الوصية للوارث؟ على قولين، ووجههما ما ذكرناه. فإذا قلنا: تصح الوصية له، فلأي. [مسألة الوصية بأكثر من الثلث] وإذا أوصى بما زاد على ثلث ماله: فإن لم يكن له وارث متعين.. لم تصح الوصية بما زاد على الثلث. وبه قال مالك، وأهل المدينة. وقال أبو حنيفة: (تصح) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم» ولم يفرق، ولأن ما زاد على الثلث موقوف على إجازة الورثة، ولا وارث له غير المسلمين، وهم غير معينين، ولا تتأتى الإجازة منهم. وإن كان له وارث متعين.. فالحكم فيه كالحكم فيمن أوصى لوارثه. قال الشيخ أبو حامد: لا تصح الوصية بما زاد على الثلث، قولا واحدا. فإن أجازه الورثة.. فهل يكون ذلك تنفيذا لما فعله الموصي، أو ابتداء عطية من الورثة؟ على قولين.

وقال الشيخ أبو إسحاق: هل تصح الوصية بما زاد على الثلث؟ فيه قولان: أحدهما: لا تصح؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى سعدا عن الوصية بما زاد على الثلث» والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. والثاني: تصح؛ لأن الوصية صادفت ملكه، وإنما يتعلق بها حق الوارث فيما بعد، وذلك لا يمنع صحة تصرفه، كما لو اشترى رجل شقصا فيه شفعة، فباع الشقص قبل أن يأخذه الشفيع. فإن قلنا: إن إجازة الورثة في الوصية للوارث فيما زاد على الثلث تنفيذ لما فعله الموصي.. كفاهم لفظ الإجازة، ولا يحتاج الموصى له إلى قبول الإجازة. وإن قلنا: إن إجازة الورثة ابتداء عطية منهم.. ففيه وجهان: [إحداهما] : قال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: لا يصح ذلك إلا بما تصح به الهبة من الإيجاب والقبول، والإذن بالقبض، والقبض. و [الثاني] : قال القفال، والمسعودي [في " الإبانة " ق\ 410] ، وابن الصباغ: يكفيه لفظ الإجازة على القولين؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في جميع كتبه: (إذا أجاز الورثة ذلك.. كانت عطية) ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة» فعلقها على الإجازة، فدل على أنهم إذا أجازوها بلفظ الإجازة.. صح. وإن أعتق المريض عبدا لا مال له غيره.. عتق ثلثه عليه، وثبت ولاؤه له. وأما ثلثاه: فإن لم يجز الورثة العتق.. رق. وإن أجازوه. فإن قلنا: إن الإجازة تنفيذ لما فعله الميت.. كفاهم لفظ الإجازة، وكان ولاء جميع العبد للمريض. وإن قلنا: إن الإجازة ابتداء عطية منهم.. فهل تفتقر إلى لفظ العتق، أو يكفي فيه لفظ الإجازة؟ على وجهين.

فرع إجازة الورثة الوصية بعد الموت

وهل يكون ولاء ما زاد على الثلث للمريض، ولوارثه إذا قلنا: لا يعتق إلا بإعتاق الوراث؟ فيه وجهان: أحدهما: أن ولاءه للوارث؛ لأنه باشر عتقه. والثاني: أنه للموصي. وهو قول ابن اللبان؛ لأن الوارث وإن باشر عتقه إلا أنه أعتقه عن الميت بإذنه، ومن أعتق عن غيره عبده بإذنه.. فإن ولاءه للمعتق عنه. [فرع إجازة الورثة الوصية بعد الموت] وإذا مات الموصي فأجاز ورثته وصيته فيما زاد على الثلث، أو أجازوا وصيته لوارثه.. صحت الإجازة. وإن أجازوا ذلك قبل موت الموصي.. لم تصح الإجازة، سواء أجازوا ذلك في صحة الموصي، أو في مرض موته. وبه قال ابن مسعود، وشريح، وطاووس، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد. وقال الحسن، وعطاء، والزهري، وربيعة: تصح الإجازة. وقال مالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى: (إن أجازوا ذلك في صحة الموصي.. لم تصح. وإن أجازوا ذلك في مرض موته.. صحت إجازتهم) . دليلنا: أنه لا حق للوارث قبل موت الموصي، فلم تصح إجازته، كما لو عفا الشفيع عن الشفعة قبل البيع. [فرع اختلفا بعد إجازة الوصية لكثرتها] وإن أوصى لرجل بثلثي ماله، ومات الموصي، فأجاز الوارث الوصية، ثم قال: أجزته لأنني ظننت أن الذي أجزته يسير وقد بان لي أنه كثير. فإن كان مع الموصى له بينة أن الوارث يعلم قدر ما أجازه.. لزمته الإجازة في الجميع. وإن لم يكن معه بينه.. لزم الوارث الإجازة في قدر ما علمه من المال، والقول

فرع الوصية للوارث بقدر الإرث

قوله مع يمينه فيما لم يعلمه؛ لأن الإجازة كالإسقاط في أحد القولين، وكالهبة في الآخر. والجميع لا يصح مع الجهالة به. وإن أوصى لرجل بعبد، وقيمته أكثر من ثلث المال، وأجازه الوارث، ثم قال: ظننت أن الزيادة على الثلث يسيرة فأجزته، وقد بان أنه كثير.. ففيه قولان: أحدهما: أنها كالمسألة قبلها. والثاني: يلزم الوارث الإجازة في العبد، ولا يقبل قوله أنه لا يعلم قدر ما أجازه؛ لأن الموصى به هاهنا شيء بعينه، وقد أجازه، فلم يقبل قوله، وفي التي قبلها: الوصية في جزء مشاع، فقبل قوله. [فرع الوصية للوارث بقدر الإرث] وإن أوصى لأحد ورثته بما كان نصيبه من جهة الميراث بالقيمة إلا أنه عين له عينا، مثل أن يموت رجل وخلف ابنا وابنة، وخلف دارا بألف، وأوصي بها للابن، وعبدا بخمسمائة، وأوصى به للابنة.. فهل تصح الوصية؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\ 436] : أحدهما: تصح، ولا تفتقر إلى إجازة؛ لأن حقوق الورثة في المقادير لا في الأعيان، فهو كما لو باع الدار من ابنه بألف، وباع العبد من ابنته بخمسمائة في مرض موته. والثاني: لا تصح الوصية لهما من غير إجازة؛ لأن الوارث قد يكون له غرض في ملك العين، فلا يجوز للموصي إبطال ذلك عليه. [فرع وقت اعتبار قيمة الثلث] وفي الوقت الذي يعتبر به المال لإخراج الثلث وجهان: أحدهما: أن الاعتبار به وقت الوصية؛ لأن الوصية عقد على المال، فكان الاعتبار بقدر المال وقت العقد، كالبيع والنذر.

مسألة وصية الصغير والسفيه بقربة

فعلى هذا: إذا أوصى له بثلث ماله، ولا مال له وقت الوصية.. لم تصح له الوصية، وإن استفاد مالا بعد ذلك.. لم تتعلق به الوصية الأولى. وإن كان ثلثه عند الوصية ألفا، فصار عند الوفاة ألفين.. لم تصح الوصية إلا بالثلث، وهو عند الوصية ألف. وإن كان له مال عند الوصية، فهلك ذلك المال واستفاد مالا آخر.. لم تتعلق به الوصية الأولى. والوجه الثاني - وهو المذهب، وهو قول أهل العراق، قال الشيخ أبو حامد: وأظنه إجماعا -: أن الاعتبار بالمال وقت موت الموصي؛ لأن الوصية وعد في حياة الموصي لا حكم لها، وإنما تجب ويصير لها حكم بوفاته، فاعتبر المال وقت وجوبها، ولأنه لا خلاف أنه لو وصى بثلث ماله، وله مال فباعه، فإن الوصية تتعلق بالثمن، فلو كان الاعتبار بالمال وقت الوصية.. لبطلت هاهنا. فعلى هذا: إذا وصى بثلث ماله وكان له ألف، فصار عند الوفاة ألفين، أو كان له مال وقت الوصية فهلك واستفاد غيره.. تعلقت الوصية بجميع ماله الموجود عند موته. وإن وصى لرجل بثلث ماله، ولا مال له.. ففيه وجهان: أحدهما: تصح الوصية، فإن استفاد مالا بعد ذلك.. تعلقت به الوصية الأولى؛ لما ذكرناه. والثاني - حكاه ابن اللبان -: لا تصح الوصية حتى يكون له مال وإن قل؛ لتتوجه إليه الوصية. وهذا ليس بشيء. [مسألة وصية الصغير والسفيه بقربة] وهل تصح وصية الصبي المميز، والمحجور عليه للسفه، بما فيه قربة؟ فيه قولان:

مسألة فساد الوصية بما فيه معصية

أحدهما: لا تصح؛ لأنه لا يصح تصرفه في ماله بالبيع والهبة، فلم تصح وصيته كغير المميز. والثاني: تصح؛ لأنه إنما منع من بيع ماله وهبته خوفا من إضاعته، وبالوصية لا يضيع ماله؛ لأنه إن عاش.. فالمال باق على ملكه، وإن مات.. فله حاجة إلى الثواب، والثواب يحصل له بالوصية. [مسألة فساد الوصية بما فيه معصية] ولا تصح الوصية بما لا قربة فيه، كالوصية لمن يرتد عن الدين، ويقطع الطريق. وكالوصية للكنائس، والبيع، والوصية بالسلاح لأهل الحرب؛ لأن ذلك إعانة على المعصية، والوصية إنما جعلت لاكتساب الحسنات. وإن وصى للحربي بغير السلاح.. فهل تصح وصيته؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تصح. وهو قول أبي حنيفة؛ لأنا مأمورون بقتله، فلا معنى للوصية له. والثاني: تصح. وهو المذهب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] [النساء: 11] ولم يفرق، ولأن من صح تملكه بالبيع.. صحت الوصية له، كالمسلم. وتصح الوصية للذمي؛ لـ (أن صفية زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصت لأخيها بثلثها، ثلاثين ألفا، وكان ذميا يهوديا) .

فرع وصى ببيع فيه محاباة

[فرع وصى ببيع فيه محاباة] وإن وصى ببيع عين من رجل بمحاباة.. صحت الوصية؛ لأن في ذلك نفعا للموصى له. وإن وصى أن تباع إليه من غير محاباة.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تصح الوصية؛ لأنه لا منفعة للموصى له في البيع إليه من غير محاباة. والثاني: تصح الوصية؛ لأنه قصد تخصيصه بملك المبيع. [مسألة الوصية للقاتل] وإن وصى لقاتله.. فهل تصح؟ فيه قولان: أحدهما: لا تصح. وبه قال أبو حنيفة؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقاد والد بولده، وليس للقاتل شيء» . وهذا عام، ولأنه مال مستحق بالموت، فلم يستحقه القاتل، كالميراث. وفيه احتراز من الدين الثابت له عليه.

فرع قتل أم ولد مولاها

والثاني: تصح الوصية. وبه قال مالك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] [النساء: 12] ولم يفرق، ولأنه تمليك يفتقر إلى القبول، فلم يمنع القتل منه، كالبيع. وفيه احتراز من الميراث. قال المسعودي [في " الإبانة "] : واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان إذا وصى رجل لرجل، ثم قتل الموصى له الموصي. فأما إذا جرح رجل رجلا، ثم أوصى المجروح للجارح، ثم مات المجروح.. فيصح قولا واحدا. ومنهم من قال: القولان في الحالين، وهو قول الشيخ أبي حامد، وهو المشهور. [فرع قتل أم ولد مولاها] وإن قتلت أم ولد مولاها.. عتقت بموته؛ لأن عتقها ليس بوصية. وإن قتل المدبر مولاه: فإن قلنا: إن التدبير عتق بصفة.. عتق المدبر. وإن قلنا: إنه وصية.. كان في عتقه القولان في الوصية للقاتل. وإن كان لرجل على آخر دين مؤجل، فقتل من له الدين من عليه الدين قبل حلوله.. حل الدين؛ لأن حلوله حظ لمن عليه الدين؛ لإبراء ذمته. [مسألة الوصية ممن يملك] ] : ولا تصح الوصية لمن لا يملك، فإن وصى لميت.. لم تصح الوصية، سواء ظنه حيا، أو علمه ميتا. وبه قال أبو حنيفة.

فرع الوصية لحمل امرأة

وقال مالك: (إن ظنه حيا فبان أنه ميت.. بطلت الوصية. وإن علمه ميتا.. صحت الوصية، وتكون لوارثه) . دليلنا: أنه تمليك، فلم تصح للميت، كالهبة، ولأنها وصية لميت، فلم تصح، كما لو ظنه حيا. [فرع الوصية لحمل امرأة] ] : وإن وصى لحمل امرأة وكان موجودا حال الوصية.. صحت؛ لأن الوصية أوسع من الميراث، بدليل: أن كل من ورث المال صحت الوصية له، وقد تصح الوصية لمن لا يرث، وهو العبد. والحمل ممن يرث، فصحت له الوصية، ولأن أكثر ما في الحمل الغرر والجهالة به، وذلك لا يؤثر في الوصية. إذا ثبت هذا: فإن خرج الحمل ميتا.. لم تصح الوصية؛ لأنا لا نتيقن حياته عند الوصية. وإن خرج حيا: فإن وضعته لدون ستة أشهر من حين الوصية.. صحت الوصية، سواء كانت فراشا لزوج أو لسيد، أو لم تكن فراشا؛ لأنا نتيقن وجوده حين الوصية. وإن وضعته لأكثر من أربع سنين من حين الوصية.. لم تصح الوصية، سواء كانت فراشا أو لم تكن؛ لأنا لا نتيقن وجوده عند الوصية وإن وضعته لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من حين الوصية: فإن كانت فراشا لزوج أو سيد أقر بوطئها.. لم تصح له الوصية؛ لأنا لا نتيقن وجوده عند الوصية، بل يجوز حدوثه بعد الوصية. وإن كانت غير فراش.. فنقل البغداديون من أصحابنا: أن الوصية تصح له؛ لأنا نحكم بوجوده حال الوصية، بدليل: أنه يلحق بالزوج. ونقل المسعودي [في " الإبانة "] في ذلك قولين: أحدهما: تصح الوصية له؛ لما ذكرناه.

فرع الوصية للحمل تشمل الجنسين

والثاني: لا تصح الوصية؛ لأن النسب يثبت بالاحتمال، والوصية لا تثبت بالاحتمال. وإن وصى لما تحمل هذه المرأة.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: تصح الوصية له وإن كان معدوما حال الوصية. فعلى هذا: إذا حملت بعد الوصية له.. صحت الوصية؛ لأن الموصي لم يعتبر وجوده، بخلاف الأولى. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا تصح الوصية له؛ لأن الوصية لا تصح لمعدوم. وإن قال: وصيت بثلثي لحمل هذه المرأة من فلان.. لم تصح الوصية له إلا بشرطين: أحدهما: وجوده حال الوصية على ما مضى والثاني: ثبوت نسبه من أبيه المذكور. فإن أتت بولد يلحق ذلك الرجل بالإمكان، ونتيقن وجوده حال الوصية، فنفاه ذلك الرجل باللعان.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس: ينتفي عنه، ولا تبطل الوصية له؛ لأن النفي حكم يتعلق بين الولد والوالد، فلم يتعلق به حكم آخر، بدليل: أن المرأة تعتد بوضعه. والثاني - وهو قول عامة أصحابنا -: أن الوصية لا تصح؛ لأن الوصية له تثبت بشرطين: وجوده حال الوصية، وثبوت نسبه من ذلك الرجل. وباللعان سقط نسبه عنه، فلم تصح له الوصية. [فرع الوصية للحمل تشمل الجنسين] وكل موضع صححنا الوصية فيه للحمل: فإن ولدت ذكرا أو أنثى.. أعطي ذلك كله. وإن ولدت ذكرين أو أنثيين أو ذكرا وأنثى.. صرف إليهما بالسوية؛ لأنها عطية فلم يفضل الذكر فيها على الأنثى، كما لو وهب لهما. وهكذا: إن ولدت ذكرا وأنثى

وخنثى.. صرفت الوصية إليهم أثلاثا؛ لما ذكرناه. وإن قال: إن ولدت هذه المرأة ذكرا فله ألف، وإن ولدت أنثى فلها مائة: فإن ولدت ذكرا.. كان له ألف، وإن ولدت أنثى.. كان لها مائة. وإن ولدت خنثى.. استحق المائة؛ لأنه يقين، ووقف ما زاد على المائة إلى الألف. فإن تبين أنه امرأة.. لم يستحقه، وإن تبين أنه رجل.. استحقه. وإن ولدت ذكرا وأنثى.. استحق الذكر الألف، والأنثى المائة. وإن ولدت ذكرين أو أنثيين.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الذكرين يشتركان في الألف، والأنثيين تشتركان في المائة؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر. والثاني: أن الوصي يدفع الألف إلى من شاء من الذكرين، والمائة إلى من شاء من الأنثيين؛ لأنه جعله لأحدهما، ولا مزية لأحدهما على الآخر، فخير بينهما. والثالث: يوقف الألف بين الذكرين، والمائة بين الأنثيين إلى أن يصطلحا؛ لأنه لا يجوز أن يجعل لأحدهما بعينه؛ لأنه لا يتعين، ولا يجوز أن يجعل بينهما؛ لأن الموصي جعله لأحدهما، ولا يجوز أن يختار الوصي أحدهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فلم يبق إلا أن يوقف بينهما إلى أن يصطلحا. وإن ولدت ذكرا وأنثى وخنثى: فإن قلنا في التي قبلها بالاشتراك.. لم يمكن أن يشارك الخنثى الذكر؛ لجواز أن تكون امرأة. ولا يجوز أن يشارك الأنثى؛ لجواز أن يكون رجلا. قال القاضي أبو الفتوح: فيحتمل أن يقال هاهنا بالوقف، ويحتمل أن يقال: يعطى الذكر الألف والأنثى المائة، ولا يعطى الخنثى شيئا. وإن قلنا بالتي قبلها: أن الوصي بالخيار.. فلا يمكن أن يعطي الخنثى الألف ولا المائة؛ لأنه لا يتيقن حاله ولكن يدفع الألف إلى الذكر والمائة إلى الأنثى.

فرع قدر الوصية لنوع المولود

وإن قلنا بالتي قبلها بالوقف.. وقف الألف والمائة بينهم إلى أن نتبين حال الخنثى، فإن بان امرأة.. دفع الألف إلى الذكر، ووقف المائة بين الأنثيين إلى أن يصطلحا عليها. وإن بان أنه رجل.. دفعت المائة إلى الأنثى، ووقف الألف بين الذكرين إلى أن يصطلحا عليه. [فرع قدر الوصية لنوع المولود] وإن قال لامرأة: إن كان حملك ذكرا.. فله ألف، وإن كان أنثى.. فلها مائة. أو قال: إن كان ما في بطنك ذكرا، أو إن كان الذي في بطنك ذكرا فله ألف، وإن كان أنثى.. فلها مائة: فإن ولدت ذكرا.. كان له ألف. وإن ولدت أنثى.. كان لها مائة. وإن ولدت خنثى.. ففيه وجهان، خرجهما القاضي: أحدهما: له المائة؛ لأنها يقين. والثاني: لا شيء له؛ لأنه ليس بذكر ولا أنثى. وإن ولدت ذكرا وأنثى، أو ذكرين، أو أنثيين، أو ذكرا وخنثى، أو أنثى وخنثى، أو خنثيين.. لم يستحق واحد منهما في هذه المسائل شيئا؛ لأنه شرط أن يكون جميع حملها، أو جميع ما في بطنها ذكرا أو أنثى، ولم يوجد ذلك. [مسألة الوصية لأحد شخصين] وإن قال: وصيت بهذا لأحد هذين الرجلين.. لم يصح؛ لأنه تمليك لغير معين. وإن قال: أعطوا هذا العبد لأحد هذين الرجلين.. صح؛ لأنه ليس بتمليك، وإنما هو وصية بالتمليك. ولهذا لو قال: بعت عبدي هذا من أحد هذين الرجلين.. لم يصح البيع. ولو قال لوكيله: بع عبدي هذا من أحد هذين الرجلين.. صح التوكيل.

مسألة الوصية لعبد غير وارثه

[مسألة الوصية لعبد غير وارثه] ] : وإن وصى لعبد غير وارثه.. صحت الوصية؛ لأن ذلك وصية لسيده، إذ العبد لا يملك. إذا ثبت هذا: فلا يختلف المذهب أن قبول العبد يصح؛ لأن الإيجاب له، والعقد مضاف إليه، فكان القبول إليه، كالوكيل في الشراء. وهل يصح قبوله بغير إذن سيده؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يصح من غير إذن سيده؛ لأن منافعه مستحقة للسيد بكل حال، فلا يملك التصرف فيها بغير إذن السيد، كالشراء. والثاني: يصح، وهو المذهب؛ لأنه اكتساب بغير عوض، فصح منه بغير إذن السيد، كالاصطياد. وإن قبل السيد الوصية.. فهل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن الإيجاب للعبد، فلا يصح القبول من غيره، كالبيع. والثاني: يصح؛ لأن الملك له، فصح القبول منه. ويخالف البيع، فإن القبول فيه لا يصح من غير الموجب له، وفي الوصية يصح القبول من غير الموجب لها، وهو إذا مات الموصى له قبل القبول.. فإن وارثه يقبل الوصية. [فرع الوصية لعبد وارثه أو مكاتبه أو أم ولده] وإن وصى لعبد نفسه، أو لعبد وارثه.. فهو كما لو وصى لوارثه؛ لأن الملك لسيده. وإن وصى لمكاتبه، أو لمكاتب وارثه.. صحت الوصية؛ لأنه يملك المال ولا سبيل للوارث عليه، وإنما يستحق المال في ذمته، وذلك لا يمنع صحة الوصية له، كما لو وصى لرجل في ذمته دين لوارثه.

مسألة الوصية

وإن وصى لأم ولده.. صحت الوصية؛ لأنها وقت وجوب الوصية حرة لا ملك لأحد عليها. وإن وصى لمدبره.. صحت الوصية، كما قلنا في أم الولد، فإن خرج من الثلث.. عتق كله وملك الوصية. وإن خرج بعض العبد من الثلث.. عتق منه قدر ذلك، وملك من الوصية بقدر ما عتق منه. [مسألة الوصية] بالمجهول بالمجهول] : وتصح الوصية بالمجهول، كالوصية بالحمل في البطن واللبن في الضرع. وتصح إذا كانت غير معينة، كعبد من عبيد، وبما لا يقدر على تسليمه، كالطير في الهواء، والعبد الآبق؛ لأن الموصى له يخلف الميت في ثلث تركته كما يخلفه الوارث في ثلثيها، فلما خلفه الوارث في هذه الأشياء.. خلفه الموصى له فيها. وتصح الوصية بما ينتفع به من النجاسات، كالكلب والدمن وجلد الميتة؛ لأن الوارث يرث عنه هذه الأشياء، فكذلك الموصى له. وتصح الوصية بالميتة؛ لأن فيها منفعة مباحة، بأن يطعمها كلابه أو بزاته أو يأكلها عند الضرورة، فصحت الوصية بها، كالدمن. ولا تصح الوصية بالخمر والخنزير والكلب العقور؛ لأنه لا يحل الانتفاع بها. وهل تصح الوصية بالمعدوم، كالوصية بمن تحمل هذه الجارية، وبما تحمله هذه الشجرة؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: إن قلنا: إن الاعتبار بالمال وقت الوصية.. لم تصح الوصية بها. و [الثاني] : المذهب أن الوصية تصح بذلك، وجها واحدا؛ لأن الجهالة لا تؤثر في الوصية.

فرع الوصية بالمنافع

وأما إذا أوصى له بحمل هذه الجارية.. فإنه يعتبر أن يكون الحمل موجودا وقت الوصية، كما قلنا في الوصية للحمل على ما مضى. [فرع الوصية بالمنافع] وتصح الوصية بالمنافع التي تستباح بالإجارة والإباحة، كسكنى الدار وخدمة العبد وثمرة البستان وما أشبهه. وهو قول كافة العلماء. وقال ابن أبي ليلى: لا يصح. دليلنا: أن هذه المنافع تصح المعاوضة عليها؛ لأن منافع العبيد والدور تملك بالإجارة، وثمرة الشجرة تملك بالمساقاة عليها. وما ملك بالمعاوضة عليه.. صحت الوصية به، كالأعيان. وتصح الوصية بالمنفعة لرجل، وبالعين لآخر؛ لأن المنفعة والعين كالعينين، فجاز العقد على كل واحد منهما. إذا ثبت هذا: فتصح الوصية بمنفعة مقدرة، وبمنفعة مؤبدة؛ لأن الوصية تصح بالمعلوم والمجهول. [فرع وصى له بشيء من ريع ثم وقف المورد] وإن وصى رجل لرجل بدينار من غلة داره في كل سنة، وخرجت الدار من الثلث ووقفت الدار.. فلا يجوز للورثة بيعها؛ لأن ذلك يسقط حق الموصى له من غلتها، فلم يجز بيعها، كالمرهون، فيدفع إلى الموصى له من غلتها كل سنة دينار. فإن بقي من غلتها شيء بعد الدينار.. دفع ذلك إلى الورثة. وإن لم يبق لهم شيء.. فلا شيء لهم. وإن لم تف غلة الدار كل سنة بدينار. فلا شيء للموصى له غير ما جاء من غلتها. وإن كانت الدار تغل كل سنة دنانير كثيرة، فقال الورثة: نحن نبيع منها قدر ما تزيد غلته على الدينار ونبقي منه ما يغل دينارا.. لم يكن لهم ذلك؛ لأنه ربما نقص كراء الباقي عن الدينار.

مسألة تعليق الموصي على شرط في حياته

[مسألة تعليق الموصي على شرط في حياته] ] : يجوز تعليق الوصية على شرط في حياة الموصي، بأن يقول: إن حج فلان في حياتي، أو قدم في حياتي.. فقد أوصيت له بكذا؛ لأن الوصية تصح في المجهول، فصح تعليقها على شرط، كالطلاق والعتاق. ويصح تعليقها على شرط بعد موت الموصي، بأن يقول: إن حج فلان بعد موتي، أو تعلم القرآن وما أشبهه.. فقد أوصيت له بكذا؛ لأن ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة، فإذا جاز تعليق الوصية، على شرط في حالة الحياة.. جاز بعد الموت. وإن قال: إذا ملكت عبد فلان.. فقد أوصيت به لفلان، فملكه.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي يعقوب الأبيوردي، وأبي حنيفة -: (أن الوصية صحيحة؛ لأن الجهالة والغرر لا تؤثر في الوصية) . والثاني - حكاه الطبري في " العدة " -: أنه لا تصح الوصية. [مسألة إيجاب قول الموصي في الوصية] ولا تصح الوصية إلا بإيجاب من الموصي. قال المسعودي [في " الإبانة "] : والإيجاب كل ما يدل على التمليك والعطية، بأن يقول: أوصيت لفلان بكذا، أو أعطوا فلانا كذا، أو لفلان كذا، وما أشبهه. وأما القبول: فإن كانت الوصية لغير معين، كالوصية للفقراء والمساكين.. لزمت بالموت؛ لأنه لا يمكن اعتبار القبول منهم. وإن كانت الوصية لمعين، كالوصية لرجل مسمى أو لقوم محصورين.. فلا بد من القبول من الموصى له.

هل القبول شرط في الملك؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال عامة أصحابنا: هو شرط في الملك على ما سيأتي بيانه؛ لأنه تمليك لعين، فلم تصح من غير قبول، كالبيع والهبة. و [الثاني] : قال ابن الصباغ: ينبغي أن يقال: إن القبول في الوصية ليس بشرط في صحة الملك، وإنما يتبين به اختياره للملك حال الموت، فتبين حصول الملك باختياره. ولا يصح القبول إلا بعد موت الموصي؛ لأن إيجاب الوصية بعد الموت، فكان القبول بعده. وإذا قبل الموصى له الوصية بعد الموت.. حكم له بالملك. ومتى يملك؟ فيه قولان مشهوران: أحدهما: أن الملك حصل له بشرطين: الموت والقبول. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه تمليك عين لمعين، فلم يقع الملك فيه قبل القبول، كالهبة. فقولنا: (تمليك) احتراز من الميراث. وقولنا: (عين) احتراز من الوقف. وقولنا: (لمعين) احتراز من الوصية للفقراء والمساكين. والقول الثاني: أن الملك موقوف. فإن قبل الموصى له.. تبينا أنه ملك بالموت. وإن لم يقبل.. تبينا أنه لم يملك، وأن الملك بعد الموت كان للورثة، وهو الصحيح؛ لأن الموصى به بعد موت الموصي لا يخلو: إما أن يقال: إنه ملك للميت، أو يقال: إنه دخل في ملك الورثة، أو يقال: إنه قد ملكه الموصى له، أو يقال: إنه مراعى، فبطل أن يقال: إنه ملك للميت؛ لأنه جماد لا يملك. وبطل أن يقال: إنه ملك للورثة؛ لأنهم لا يملكون إلا بعد الدين والوصية، ولأنه خلاف الإجماع. وبطل أن يقال: إنه قد دخل في ملك الموصى له؛ لأنه لو ملكه.. لما صح رده له، كالميراث.

فرع رد الموصى له الوصية

فإذا بطلت هذه الأقسام.. ثبت أنه مراعى. وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي قولا ثالثا - ليس بمشهور -: (أن الموصى له يملكه بنفس الموت؛ لأنه مال مستحق بالموت، فانتقل إليه بالموت، كالميراث) . [فرع رد الموصى له الوصية] وإن رد الموصى له الوصية.. ففيه أربع مسائل: إحداهن: إذا ردها في حياة الموصي.. فلا يصح هذا الرد؛ لأنه لا حق له في هذه الحال، بدليل أنه لا يصح قبوله للوصية، فلم يصح رده، كالشفيع إذا عفا عن الشفعة قبل البيع. الثانية: إذا رد بعد موت الموصي، وقبل القبول.. فيصح الرد؛ لأنه وقت القبول، فصح منه الرد، كالشفيع إذا عفا عن الشفعة بعد البيع. الثالثة: إذا قبل الوصية وقبضها، ثم ردها.. فلا يصح الرد؛ لأنه قد ملك الموصى به، واستقر ملكه عليه. فإن أراد أن يملكه الورثة.. افتقر إلى لفظ التمليك أو الهبة بشروطها. الرابعة: إذا رد بعد القبول وقبل القبض.. فهل يصح الرد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح الرد؛ لأنه قد ملك الموصى به إما بالقبول أو بالموت، فلم يصح رده؛ كما لو وهبه عينا وقبلها وقبضها بإذنه، ثم ردها. والثاني: يصح رده، وهو المنصوص عليه؛ لأن ملكه لم يستقر عليها بالقبض، فصح الرد. وإن كان القبض غير معتبر، كما لو وقف وقفا على رجل.. فإن القبول فيه غير معتبر. ثم لو رد الموقوف عليه الوقف.. لبطل الوقف عليه. فكذلك هذا مثله.

فرع الرجوع في قبول الوصية

[فرع الرجوع في قبول الوصية] قال في " الأم ": (إذا رد الموصى له الوصية، ثم بدا له غير ذلك، وقال: أريد أن أرجع فيها؛ لأن الوارث لم يقبضها.. لم يكن للموصى له ذلك؛ لأن الموصى له لما ملك الموصى به وإن لم يقبضه بالوصية.. ملكه الوارث برد الموصى له، وإن لم يقبضه الوارث) . [فرع رد الوصية إلى وارث] قال في " الأم ": (إذا أوصى لرجل بوصية، ثم قال الموصى له بعد موت الموصي: رددت الوصية لفلان، وسمى واحدا من الورثة.. رجع إلى الموصى له، وقيل له: ما أردت بقولك: لفلان، فإن قال: أردت أني رددت الوصية إلى جميع الورثة لأجل ذلك المسمى.. عادت إلى جميع الورثة، وكان المسمى كغيره، وإن قال: إني أردت بذلك أني جعلتها للمسمى خاصة.. اختص المسمى بملكها دون سائر الورثة) . وإن لم يقبل الموصى له الوصية، ولم يرد.. كان للورثة مطالبته بالقبول أو الرد. فإن امتنع من القبول. حكم عليه الحاكم بالرد؛ لأن الملك متردد بينه وبين الورثة، فهو كما لو تحجر مواتا وامتنع عن إحيائه. [فرع موت الموصي لحمل] إذا أوصى رجل لحمل امرأة بشيء، فمات الموصي، ثم قبل أبو الحمل الوصية له قبل الانفصال.. فهل يصح هذا القبول؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال القفال: لا يصح القبول قبل الولادة؛ لأنه قبله في وقت لا يدري، هل الحمل موجود أم لا؟ وقد قال ابن سريج: لا يصح الأخذ بالشفعة للحمل إلا بعد الولادة.

مسألة موت الموصى له قبل الموصي

وقال الشيخ أبو زيد: فيه وجهان بناء على القولين في الحمل: هل له حكم أم لا؟ فإن قلنا: له حكم.. صح القبول له. وإن قلنا: لا حكم له.. لم يصح القبول له إلا بعد الوضع. قال: وكذلك الشفعة له، على هذين الوجهين. [مسألة موت الموصى له قبل الموصي] وإن أوصى لرجل بوصية فمات الموصى له قبل موت الموصي.. بطلت الوصية؛ لأنه مات قبل استحقاق الوصية. وإن مات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول والرد.. فإن وارث الموصى له يقوم مقامه في القبول والرد. وقال أبو حنيفة: (تبطل الوصية) . دليلنا: أنه خيار ثابت في تملك المال، فقام الوارث مقامه، كخيار الشفعة. فقولنا: (ثابت) احتراز من الموصى له إذا رد الوصية قبل موته. وقولنا: (في تملك المال) احتراز ممن أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن معه، فمات قبل أن يختار. فإن رد الوارث الوصية.. كانت ملكا لورثة الموصي. وإن قبلها الوارث.. فهل يقضي منها دين الموصى له وينفذ منها وصاياه؟ إن قلنا: نتبين بالقبول أنها ملكت بموت الموصي.. قضي منها دين الموصى له، ونفذت منها وصاياه؟ إن قلنا: لا تملك إلا بالقبول.. ففيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب: أحدهما: لا يقضى منها دين الموصى له، ولا تنفذ منها وصيته؛ لأن الوارث ملكها بقبوله من جهة الموصي.

مسألة وصية مالك الأمة بها لزوجها

والثاني: يقضى منها دين الموصى له وتنفذ منها وصيته؛ لأن الوارث ملكها بما ورثه عن الموصى له من القبول، فصار كالمملوك من تركته. [مسألة وصية مالك الأمة بها لزوجها] وإذا تزوج حر بأمة لغيره، فأوصى مالك الأمة بها لزوجها، ثم مات الموصي، فإن رد الموصى له الوصية.. بقيت الأمة على ملك ورثة الموصي، والزوجية باقية.. وإن قبل الزوج الوصية.. ملك زوجته، وانفسخ النكاح؛ لأن حكم النكاح والملك يتنافيان، فثبت الأقوى وهو الملك، وسقط الأضعف وهو النكاح. ومتى يحكم بانفساخ النكاح؟ يبنى ذلك على وقت ملك الموصى له الموصى به بعد القبول. وقد مضى. ثم ينظر في الجارية: فإن كانت حائلا.. فلا كلام. وإن كانت حاملا فولدت.. فلا تخلو من ثلاثة أحوال: إما أن تضعه قبل موت الموصي، أو بعد موته وقبل قبول الموصى له، أو بعد موته وبعد قبول الموصى له. فالحالة الأولى: إذا وضعته في حياة الموصي.. نظرت: فإن وضعته لستة أشهر فما زاد من حين الوصية.. كان الولد ملكا للموصي ولورثته بعده؛ لأنا لا نحكم بوجوده حال الوصية. وإن وضعته لدون ستة أشهر من حين الوصية.. فإنا نحكم بوجوده حال الوصية: فإن قلنا: إن الحمل له حكم.. كان الولد موصى به مع الأم، ويملكه الموصى له مع الأم، ويعتق عليه، ولا تصير الجارية أم ولد له. وإن قلنا: لا حكم له.. كان الولد ملكا لورثة الموصي. الحالة الثانية: إذا وضعته بعد موت الموصي وقبل قبول الموصى له.. ففي هذا ثلاث مسائل:

إحداهن: أن تكون حملت به بعد موت الموصي، بأن تضعه لستة أشهر فصاعدا من حين موت الموصي: فإن قلنا: إن الموصى له لا يملك الوصية إلا بالقبول.. فإن الولد هاهنا ملك لورثة الموصي. وإن قلنا: نتبين بالقبول أنه ملك بموت الموصي، أو قلنا براوية ابن عبد الحكم.. فإن الولد حر الأصل؛ لأنها علقت منه بحر في ملكه ولا ولاء عليه؛ لأنه لم يمسه الرق، والجارية أم ولد له؛ لأنها علقت منه بحر في ملكه. المسألة الثانية: إذا حملت به قبل موت الموصي وبعد الوصية، مثل: أن تضعه لستة أشهر فصاعدا من حين الوصية، ولأقل من ستة أشهر من حين موت الموصي: فإن قلنا: للحمل حكم.. فإن الولد غير موصى به، بل كان ملكا للموصي في حياته، ولورثته بعده. وإن قلنا: لا حكم له، فإن قلنا: إن الموصى له لا يملك إلا بالقبول.. كان الولد ملكا لورثة الموصي. وإن قلنا: نتبين بالقبول أنه ملك بالموت، أو قلنا برواية ابن عبد الحكم.. كان الولد ملكا للزوج، ويعتق عليه، ويثبت له عليه الولاء، ولا تصير الجارية أم ولد له؛ لأنها علقت به وهو مملوك. المسألة الثالثة: إذا حملت به قبل الوصية، بأن تضعه لدون ستة أشهر من حين الوصية: فإن قلنا: للحمل حكم.. كان الولد موصى به؛ لأنه مع الأم كعين أخرى موصى بها. فإذا قبل الموصى له الوصية.. ملك الولد، وعتق عليه، وثبت له عليه الولاء، ولا تصير الجارية أم ولد له؛ لأنها علقت منه بمملوك. وإن قلنا: لا حكم للحمل، فإن قلنا: إن الملك حصل بقبول الموصى له.. فالولد ملك لورثة الموصي. وإن قلنا: نتبين بالقبول أنه ملك بموت الموصي، أو قلنا براوية ابن عبد الحكم.. فقد ملك الزوج الولد، وعتق عليه، وثبت له عليه الولاء، ولا تصير الجارية أم ولد له.

الحالة الثالثة: إذا وضعته بعد موت الموصي، وبعد قبول الموصى له.. ففيه أربع مسائل: إحداهن: أن تكون حملته بعد القبول، بأن تضعه لستة أشهر فصاعدا من حين القبول.. فإن الولد حر الأصل، ولا ولاء عليه، والأمة أم ولد للزوج؛ لأنها علقت منه بحر في ملكه. الثانية: إذا حملته بعد موت الموصي وقبل القبول، بأن تضعه لستة أشهر فصاعدا من حين موت الموصي، ولدون ستة أشهر من وقت القبول. فإن قلنا: إن الملك للموصى له حصل بنفس القبول.. يثبت على القولين في الحمل: فإن قلنا: له حكم.. كان ذلك ملكا لورثة الموصي. وإن قلنا: لا حكم له.. كان ملكا للموصى له، وعتق عليه، وثبت له عليه الولاء، ولا تصير الجارية أو ولد له. وإن قلنا: نتبين بالقبول أنه ملك بموت الموصي، أو قلنا برواية ابن عبد الحكم.. انعقد الولد حر الأصل، وصارت الجارية أم ولد للموصى له؛ لأنها علقت منه بحر في ملكه. الثالثة: إذا حملته بعد الوصية وقبل موت الموصي، مثل: أن تضعه لستة أشهر فصاعدا من وقت الوصية، ولأقل من ستة أشهر من وقت موت الموصي: فإن قلنا: للحمل حكم.. كان ذلك ملكا للموصي ولورثته بعده. وإن قلنا: لا حكم للحمل.. ملك الموصى له الولد بملك الأم، وعتق عليه، وثبت له عليه الولاء، ولا تصير الجارية أم ولد له. الرابعة: إذا حملته قبل الوصية، مثل: أن تضعه لأقل من ستة أشهر من وقت الوصية.. فإن الولد يكون ملكا للموصى له بكل حال، ويعتق عليه، وله عليه الولاء؛ لأنا إن قلنا: للحمل حكم: فقد أوصى له بهما. وإن قلنا: لا حكم له.. اعتبر وقت انفصاله، وقد انفصل في ملكه. ولا تصير الجارية أم ولد له؛ لأنها علقت منه بمملوك.

فرع موت الموصي ثم الموصى له قبل القبول

[فرع موت الموصي ثم الموصى له قبل القبول] ) : فإن كانت المسألة بحالها، فمات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول والرد، وله وارث، إما ابن أو أخ أو غيرهما.. قام مقامه في القبول والرد. فإن رد الوارث الوصية.. كانت الجارية وأولادها ملكا لورثة الموصي. قال الشافعي: (وكرهت لهم ذلك؛ لأن الأولاد قد يعتقون ويثبت للأمة حكم الاستيلاد، وذلك يبطل برد الوارث) . وإن قبل الوارث الوصية.. بنيت على وقت ملك الموصى له: فإن قلنا: إنه يملك بنفس القبول.. ملك الوارث الجارية وأولادها، ولا يعتقون عليه، ولا يرث أولاد الجارية الموصى له؛ لأن وارث الموصى له ملك الجارية وأولادها بالموصى له لا من جهته؛ لأن الموصى له لم يملكهم. وإن قلنا: نتبين بالقبول أنه ملك بموت الموصي.. تبينا أن الموصى له قد كان ملك الجارية وأولادها قبل موته، فيكون قبول وارث الموصى له كقبوله. فكل موضع قلنا في التي قبلها على هذا القول: إذا قبل الموصى له الوصية أن الجارية تكون ملكا للزوج وأولادها لورثة الموصي.. كان هاهنا مثله. وكل موضع قلنا: لو قبل الأب الوصية على هذا، وقلنا يكون أولاد الجارية أحرار الأصل.. فإنهم يكونون أحرار الأصل إذا قبل وارث الموصى له الوصية إلا أن الأولاد يرثون الأب إذا قبل، ويكونون أحرار الأصل. وأما إذا قبل وارث الموصى له، وحكمنا بأن الأولاد أحرار الأصل.. فهل يرثون الأب؟ اختلف أصحابنا فيهم: فقال الشيخ أبو حامد: لا يرثون؛ لأنا لو جعلنا أولاد الأمة من جملة الورثة..

فرع وصى بأمة لمن له ابن منها فماتا

لوقف صحة قبول الوصية على جماعتهم، إذ قبول جملة الوصية لا تصح إلا من جميع الورثة، وهم عند القبول مماليك لا يصح قبولهم، فتبطل الوصية. وإذا بطلت الوصية.. سقط عتقهم، فيؤدي إثبات ميراثهم إلى نفيه، فثبت العتق وسقط الميراث. وقال ابن الصباغ: يرث أولاد الأمة، ويعتبر قبول من هو وارث في حال اعتبار القبول؛ لأن اعتبار القبول في حقهم يؤدي إلى إسقاطهم وإسقاط الميراث، فأسقطنا القبول وأثبتنا الميراث؛ لأنا لو لم نورثهم.. لأدي إلى إثبات ولد بلا ميراث. وقال القاضي أبو الطيب والمسعودي (في " الإبانة ") : إن كان الوارث القابل ممن يحجبه أولاد الأمة.. لم يرث أولاد الأمة. وإن كان ممن لا يحجبه أولاد الأمة.. فهل يرثون؟ فيه وجهان: أحدهما: يرثون؛ لأن توريثهم لا يؤدي إلى حجب الوارث القابل. والثاني: لا يرثون، وهو اختيار المسعودي (في " الإبانة ") ؛ لأن توريثهم يخرج القابل عن أن يكون جميع الورثة، ولا يصح القبول إلا من جميع الورثة. وقال الداركي: إن كان القبول ثبت للموصى له وهو مريض.. لم يرثه أولاد الأمة؛ لأن قبول وارث الموصى له يقوم مقام قبوله، ولو قبل هو لكان وصية ولم يرثه أولاد الأمة. وإن ثبت له القبول وهو صحيح.. ورثه أولاد الأمة؛ لأنه لو قبل الوصية في صحته.. لورثه الأولاد، فكذلك قبول ورثته يقوم مقام قبوله. [فرع وصى بأمة لمن له ابن منها فماتا] وإن وصى رجل لرجل بأمة، وللموصى له ابن منها حر يرثه، فمات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول والرد.. فإن ابن الموصى له من الجارية الموصى بها يقوم مقامه في القبول والرد.. فإن ردها.. بقيت على ملك ورثة الموصي. وإن قبلها، فإن احتملها الثلث.. عتقت على الابن؛ لأنا إن قلنا: أن الملك يحصل بالقبول.. فقد

فرع الوصية للمبعض

ملكها ابنها بقبوله. وأن قلنا: نتبين بالقبول أنها ملكت بموت الموصي.. فبقبول الابن نتبين أن أباه كان قد ملكها، ثم انتقلت منه إرثا إلى ابنه، فعتقت عليه. وإن لم يحتملها الثلث، فإن كان الابن معسرا.. عتق منها ما ملكه منها لا غير. وإن كان موسرا بقيمة باقيها: فإن قلنا: تملك الوصية بنفس القبول.. قوم باقيها على الابن. وإن قلنا: نتبين بالقبول أنها ملكت بموت الموصي.. فهل تقوم عليه؟ فيه وجهان: (أحدهما) : من أصحابنا من قال: لا تقوم عليه؛ لأنه ملك بعضها بالإرث من أبيه، ومن ملك بالإرث.. لم يقوم عليه، كما لو ورث بعض أمة. و (الثاني) : قال ابن الحداد: تقوم عليه، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه ملك بعضها باختياره للقبول، فصار كما لو اشترى بعضها، بخلاف الإرث فإنه يدخل في ملكه بغير اختياره. [فرع الوصية للمبعض] وإن أوصى رجل لمن نصفه حر ونصفه مملوك لوارثه بثلث ماله: فإن لم يكن بين العبد وبين سيده مهايأة.. لم تصح الوصية؛ لأن تصحيحها يؤدي إلى أن تصح الوصية للوارث. وإن كان بينهما مهايأة: فإن قلنا: إن الأكساب النادرة لا تدخل في المهايأة.. لم تصح الوصية أيضا؛ لما ذكرناه. وإن قلنا: إنها تدخل: فإن قلنا: إن الوصية لا تملك إلا بنفس القبول.. نظر في اليوم الذي قبل فيه

فرع الوصية لعبد رجل

الموصى له الوصية، فإن كان يوم نفسه.. صحت الوصية له، وإن كان يوم سيده.. لم تصح الوصية. وإن قلنا: نتبين بالقبول أن الموصى له ملك الوصية بموت الموصي.. نظر في اليوم الذي مات فيه الموصي، فإن كان يوم الموصى له.. صحت الوصية له، وإن كان يوم سيده.. لم تصح الوصية. وغلط بعض أصحابنا فقال: يعتبر يوم عقد الوصية، كما يعتبر في اللقطة يوم الوجود. وليس بشيء. وإن وصى لمن نصفه حر ونصفه مملوك لأجنبي.. صحت الوصية.. فإن لم يكن بينهما مهايأة.. كانت الوصية بينهما. وإن كان بينهما مهايأة. فإن قلنا: إن الأكساب النادرة لا تدخل في المهايأة.. كانت الوصية بينهما. وإن قلنا: إنها تدخل.. بني على القولين في وقت ملك الوصية، وكانت لمن كان يومه يوم ملك الوصية. [فرع الوصية لعبد رجل] وإن وصى رجل لعبد رجل وصية فعتق العبد.. نظرت: فإن عتق في حياة الموصي، ثم قبل العبد المعتق الوصية بعد موت الموصي.. فإن الوصية ملك للعبد دون مولاه. وإن عتق بعد موت الموصي، وبعد القبول.. فإن المال للمولى؛ لا حق للعبد فيه. وإن عتق بعد موت الموصي وقبل القبول، ثم قبل العبد: فإن قلنا: إن الوصية تملك بنفس القبول.. فإن الوصية ملك للعبد دون مولاه. وإن قلنا: نتبين بالقبول أنها ملكت بموت الموصي.. فالوصية ملك للسيد.. فإن امتنع العبد من القبول على هذا.. فهل يجوز للسيد أن يقبل؟ فيه وجهان: أحدهما: له أن يقبل؛ لأن الملك له. والثاني: ليس له أن يقبل؛ لأن الإيجاب للعبد.

فرع الوصية لعبده

[فرع الوصية لعبده] ) : وإن أوصى رجل بثلث ماله لعبده.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو قول ابن الحداد -: أنه يعتق ثلث العبد؛ لأن العبد من جملة ماله، والوصية عامة فيه وفي سائر أمواله، فصار كما لو أوصى له بنفسه. ولا يقوم عليه باقي نفسه؛ لأنه معسر بقيمة باقيه. و (الثاني) : من أصحابنا من قال: يجمع ثلث التركة في العبد. ويعتق. وإن فضل من الثلث شيء بعد قيمته.. دفع إليه. وإن نقص الثلث عن قدر قيمته.. عتق منه بقدر الثلث ورق باقيه؛ لما روي: «أن رجلا أعتق ستة أعبد في مرضه، فأعتق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهم اثنين وأرق أربعة» فجمع الثلث لتكميل الحرية، فكذلك هذا مثله. و (الثالث) منهم من قال: لا تصح الوصية؛ لأن الظاهر أن الموصى به غير الموصى له. وإذا لم يدخل العبد في الوصية.. لم تصح الوصية. والله أعلم

باب ما يعتبر من الثلث

[باب ما يعتبر من الثلث] العطايا على ضربين: منجزة وغير منجزة فأما غير المنجزة: فهو ما يوصي به الإنسان أن يخرج من ماله بعد موته، فينظر فيه: فإن وصى بما لم يلزمه في حياته، كالهبة وصدقة التطوع والمحاباة والعتق وما أشبه ذلك.. فإن ذلك يعتبر من ثلث تركته، سواء وقعت الوصية به في الصحة أو في مرض الموت، أو بعضها في الصحة وبعضها في مرض الموت؛ لأن الوصية وعد، بدليل أنه يصح الرجوع فيها، وإنما تلزم بموت الموصي، وكلها متساوية في وقت اللزوم. وأما ما وجب عليه في حياته، كالدين والزكاة والكفارة والحج: فإن لم يوص بها.. وجب قضاؤها من رأس ماله؛ لأنه إنما منع من الزيادة على الثلث لحق الورثة، وهذه الأشياء مقدمة على الميراث. وإن وصى بها.. نظرت: فإن وصى أن تؤدى من رأس ماله.. أخرجت من رأس ماله؛ لأنها في الأصل من رأس المال، ووصيته بها تأكيد. وإن وصى أن تخرج من ثلث تركته.. أخرجت من ثلث تركته، وزاحم أصحاب الوصايا في الثلث؛ لأنه قصد الرفق بالورثة، فإن لم يف ما يخص الواجب من الثلث.. تمم من رأس المال على ما سيأتي بيانه. وإن وصى أن يفعل عنه، ولم يقل من رأس المال، ولا من الثلث.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يعتبر من الثلث، وهو ظاهر النص؛ لأنه في الأصل من رأس المال فلما وصى به.. علم أنه قصد الرفق بالورثة في أن يخرج من الثلث. وقال أكثر أصحابنا: يخرج من رأس المال، وهو الأصح؛ لأنه في الأصل من

رأس المال، والوصية به تقتضي التذكارية، والنص محمول عليه إذا صرح بأن يفعل من الثلث. وقال أبو علي بن أبي هريرة: إن لم يقرن بوصيته بالواجب وصية أخرى.. كان من رأس المال. وإن قرن بها وصية أخرى يكون من الثلث، بأن قال: اقضوا ديني، وأعتقوا عني رقبة، أو تصدقوا عني تطوعا بكذا.. كان جميع ذلك من الثلث؛ لأنه لما قرن الواجب مع ما يخرج من الثلث.. علم أن الجميع من الثلث. وأما العطايا المنجزة: فمثل أن يهب ويقبض، أو يبيع ويشتري بمحاباة، فإن كان ذلك في صحته.. اعتبر من رأس ماله وإن تأتى على جميع ماله؛ لأنه لا حق لأحد في ماله، ولا اعتراض عليه. وإن فعل ذلك في مرضه.. فالمرضى على ثلاثة أضرب: مريض حكمه حكم الصحيح، ومريض حكمه حكم الميت، ومريض يخاف عليه التلف من مرضه ويرجى برؤه. فأما [الضرب الأول] الذي حكمه حكم الصحيح فهو: أن يكون به مرض ولا يخاف عليه منه التلف، مثل: حمى يوم، ووجع الضرس والصداع ووجع العين وما أشبه ذلك.. فهذا حكم تصرفه حكم الصحيح؛ لأن هذه الأشياء لا يخاف منها التلف غالبا، ولا يخلو الإنسان من مثلها. وإن اتصل الموت بهذه الأشياء.. صار كمن مات فجأة بلا مرض. وفي هذا المعنى: المرض الذي لا يرجى برؤه، ولكنه يطول بصاحبه، ولا يعاجله الموت منه، كالسل في ابتدائه، والفالج إذا طال به، وما أشبه ذلك مما لا يخاف منه معاجلة الموت، وإن تحقق أنها لا تزول.. فحكمه حكم الصحيح، كتصرف الشيخ الهرم، هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\404] : الاعتبار بالمآل لا بالحال، فلو كان مرضا يسيرا فمات منه.. بان أنا أخطأنا، وأنه مخوف.

وأما (الضرب الثاني) المريض الذي حكمه حكم الميت فهو: الميؤوس من حياته، مثل: أن يكون في النزع وقد شخص بصره وابيضت عيناه، أو يكون قد علاه الماء ولا يحسن العوم، أو كان قد قطع حلقه ومريئه، أو خرجت حشوته أو أبينت، أو قطع بنصفين وهو يتكلم - وحكى أبو على بن أبي هريرة: أن رجلا قطع بنصفين، فجعل يعاتب من فعل به ذلك - فهذا لا حكم لكلامه في وصية ولا عقد ولا إسلام ولا توبة. قال الشيخ أبو حامد: فإن جنى جناية، أو أتلف مالا.. لم يلزمه ضمانها. وإن قتله قاتل.. لم يجب عليه قود ولا دية ولا كفارة؛ لأنه لم يبق فيه حياة مستقرة، وإنما يتحرك حركة مذبوح، وهذه حالة فرعون التي قال بها: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90] (يونس: 90) فلم يقبل منه. وهي الحالة التي قال الله تعالى فيها: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [النساء: 18] (النساء: 18) . وأما الضرب الثالث: فهو المرض الذي يخاف منه التلف غالبا، وقد يرجى البرء منه، فهذا إذا وصى فيه.. صحت وصيته. وإن تصرف فيه.. صح تصرفه. وإن أعتق أو وهب وأقبض أو حابى فيه بالبيع والشراء.. صح جميع ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] (البقرة: 180) ولم يرد به الموت نفسه؛ لأنه لا يمكنه معه الوصية، وإنما أراد به: إذا حضر سبب الموت. وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما طعن.. سقاه الطبيب لبنا، فخرج من الجرح، فقال: اعهد إلى الناس، فعهد، وأمضت الصحابة عهده) . فإن كان فعله ذلك في حالة مخوفة: فإن برئ.. لزم الكل، وإن مات من مرضه ذلك.. اعتبرت تبرعاته فيه مثل العتق والهبة والمحاباة من ثلث تركته؛ لما روى عمران بن الحصين: «أن رجلا أعتق في مرضه الذي مات فيه ستة مملوكين؛ لا مال له غيرهم، فجزأهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة أجزاء، وأقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة» .

وروى: أن النبي صلى الله عليم وسلم قال: «إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم» . ولأنه في تلك الحالة يتخوف الورود على الله، وقد يحمله ذلك الخوف على أن يتصدق بجميع ماله تقربا إلى الله ويتلفه على الوارث، فيضر به، فلذلك قصر تصرفه على ثلث تركته. فأما إذا أنفق ماله في لذاته من المطعم والمشرب والملبس.. فإنه يكون من أصل ماله وإن استغرق جميع ماله؛ لأن منفعة نفسه مقدمة على منفعة الورثة. إذا ثبت هذا: فقد ذكر الشافعي الأمراض المخوفة وغير المخوفة، فبدأ بذكر الحمى، وهي على ضربين: مطبقة وغير مطبقة. فأما المطبقة: فإنها لا تكون مخوفة في يوم ولا يومين. فإذا أعطى في تلك لحال.. لم يعتبر من الثلث؛ لأن العادة ما جرت بأن الإنسان يضعف بحمى يوم ولا يومين، ولا يخاف منه التلف. فإذا دامت واتصلت.. صارت مخوفة، وما أعطاه في تلك الحال، اعتبر من الثلث؛ لأنه يخاف منها التلف. وأما غير المطبقة فهي: الغب: التي تجيء يوما وتذهب يوما. والربع: وهي التي تجيء يوما وتذهب يومين، ثم تعود في اليوم الرابع، فهذه الحمى ليست بمخوفة وإن طالت زمانا؛ لأنه وإن ضعف في يوم الحمى، فإنه يقوى في يوم الصحة، فتكون القوة بإزاء الضعف فتتعادلان. قال الشافعي: (فإن كان معها وجع.. كان مخوفا وذلك مثل البرسام، أو الرعاف الدائم أو ذات الجنب أو الخاصرة أو القولنج) .

وظاهر هذا: أن هذه الأمراض ليست بمخوفة إلا إذا انضافت إلى حمى الغب أو الربع. قال أصحابنا: وليس هذا على ظاهره، بل هذه الأمراض مخوفة وإن انفردت، وإنما هي مع الحمى أشد خوفا. وقد نص على ذلك في " الأم "؛ لأن (البرسام) : بخار من الحمى يرتقي إلى الرأس أو الصدر فيختلط معه العقل فيهذي، فيكون مخوفا. وأما (الرعاف) : فإن كان يسيرا لحظة أو ساعة.. فليس بمخوف. وإن كان متصلا دائما.. فهو مخوف؛ لأنه ينزف دمه، فهو كما لو افتصد ولم يسده. وأما (ذات الجنب) : فهو داء يقع في الجنب، فيرم وينتفخ وينفذ، ويكون ذلك بقرب القلب، يؤلم ألما شديدا، وربما انفتح إلى قلبه فمات عقيبه. وكذلك (ذات الخاصرة) : جرح يقع في الخاصرة.. فهو مخوف. وكذلك قروح الصدر والرئة مخوفة؛ لأنه يصعب علاج قروح الصدر، والرئة لا تقبل العلاج؛ لأنها تضطرب أبدا وتتحرك فلا تقبل العلاج. (والقولنج) : هو أن يستمسك طبعه فيحمي جسمه، ويرتفع إلى رأسه بخارات نخمية، فيختلط معها العقل، فيهلك. وأما (القيام) : فهو إسهال البطن، فإن كان مسترسلا بحيث لا يقدر على حبسه، بل يخرج منه بغير اختياره.. فهو مخوف وإن كان قليلا؛ لأن هذا لا يكون إلا بسقوط القوة، ويخشى منه معاجلة الموت. وإن كان غير مسترسل، ويمكنه إمساك نفسه فيه، فإن كان ذلك يوما أو يومين وليس معه دم.. فليس بمخوف؛ لأنه لا يخاف منه التلف إذ قد يكون من غير علة، وقد يكون من امتلاء فيدفع الطبيعة، فتحل محل الدواء. وإذا كان محتملا.. لم يجعل مخوفا. وإن جاوز يومين.. صار مخوفا؛ لأنه ينشف الرطوبة الغريزية، فتغلب اليبوسة عليه، فيؤدي إلى التلف.

فرع غلبة خروج الدم والبلغم ونحوهما

فإن انضاف إلى القيام زحير أو تقطيع.. كان مخوفا بكل حال. فالزحير: أن يخرج منه الشيء بشدة ومشقة وذلك يهده. والتقطيع: أن يخرج منه الشيء بعد الشيء متقطعا بشدة. وأما إذا كان في إسهال يوم أو يومين دم.. فقد نقل المزني: (أنه لا يكون مخوفا) ، ونقل الربيع: (أنه يكون مخوفا) . واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: الصحيح ما نقله الربيع؛ لأن الدم يخرج من الأعضاء الشريفة، كالكبد والطحال ونحو ذلك، وذلك مخوف. ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين: فالذي نقله الربيع: أراد: إذا كان خروج الدم من الكبد والطحال ونحوهما؛ لأن ذلك عن قروح بها. والذي نقله المزني: أراد: إذا كان خروج الدم من المقعدة - وهو: البواسير - فلا يكون مخوفا ما لم يتطاول؛ لأنه لا يخاف منه التلف. [فرع غلبة خروج الدم والبلغم ونحوهما] ) : قال الشافعي: (ومن ساوره الدم حتى تغير عقله أو المرار، أو البلغم.. كان مخوفا) وهذا كما قال: إذا ساوره الدم، أي غلبه وهاج عليه: وهو أن ينصب الدم إلى طرف من بدنه من يد أو رجل أو فخذ أو غيره، فينتفخ ويرم ويحمر.. فهو مخوف. قال الشافعي: (تغير عقله أو لم يتغير؛ لأنه لا يكون من فرط الحمى؛ لأنه يذهب بالرطوبة الغريزية، فيهلك) .

فرع الطاعون مرض مخوف

وكذلك إذا ساوره المرار - أي: وأتته، وهي الصفراء إذا انصبت إلى موضع من بدنه؛ لأنه يكون من فضل الحمى - فيخاف عليه. وإن غلب عليه البلغم - وهو من الرطوبة وابتداء الفالج - فهو مخوف أيضا؛ لأنه أول ما يثور يستمسك لسانه وتسقط قوته، فربما أطفأ الحرارة الغريزية، فيهلك. فإذا استقر وانطلق لسانه.. صار فالجا، ولم يكن مخوفا؛ لأنه لا يخشى منه معاجلة الموت. وكذلك السل: لا يخاف منه معاجلة الموت وإن كان يتحقق أنه لا يبرأ منه، كما أن الإنسان إذا كبر وهرم يتحقق أنه لا يعود شابا، وأنه يموت عن كبره، وليس بمخوف. [فرع الطاعون مرض مخوف] ) : قال الشافعي: (الطاعون مخوف حتى يذهب) . قال الشيخ أبو حامد: أراد: إذا كان بالمرء طاعون.. فإنه مخوف حتى يذهب عنه؛ لأنه من غلبة الدم والحمى على جميع بدنه. وقال المسعودي (في " الإبانة " ق\405) : إذا حصل ببلد طاعون، فمن كان بذلك البلد.. فأمره مخوف، وإن لم يطعن بعد. وإن أشكل شيء من الأمراض: هل هو مخوف أو غير مخوف؟ رجع فيه إلى أهل الصنعة من أهل الطب، كما يرجع فيما أشكل من الشرع إلى أهل الفقه، ولا يقبل فيه أقل من طبيبين؛ لأن ذلك يحل محل الشهادة. ولا يقبل فيه إلا قول مسلمين عدلين، كما قلنا في الشهادة. قال المسعودي (في " الإبانة " ق\405) : ولا يقبل فيه قول رجل وامرأتين؛ لأن

فرع حمل المرأة ليس بمخوف

المقصود إثبات المرض لا إثبات المال، وإنما يثبت المال بشهادة رجل وامرأتين. وأما المجروح: فينظر فيه: فإن كان الجرح نافذا إلى الدماغ أو البطن.. فهو مخوف؛ لما روى: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما طعن، سقاه الطبيب لبنا، فخرج من جوفه، فقال له: اعهد إلى الناس) ولأن الهواء يدخله، وتهب فيه الريح فتنشف رطوبته. وإن لم يكن نافذا.. فحكمه وحكم من ضرب بعصا أو خشبة أو حجر واحد، فينظر فيه، فإن آلمه وحصل منه ورم وجمع مدة.. فهو مخوف؛ لأنه قد يسري. وإن لم يجمع مدة، وليس فيه ورم ولا ألم.. فليس بمخوف. فإن أخذت الجراحة في البرء.. قال الشيخ أبو حامد: فقد خرج عن أن يكون مخوفا. [فرع حمل المرأة ليس بمخوف] ) : وأما الحمل في المرأة: فليس بمخوف قبل الطلق. وقال مالك: (إذا بلغت المرأة ستة أشهر.. صارت مخوفا عليها، فيكون تصرفها في ثلث تركتها) . وقال ابن المسيب: الحمل مخوف من ابتدائه. دليلنا: أن الحمل ليس بحال خوف، وإنما هو يقرب إلى حال الخوف، فهو كالصحة. فأما إذا ضرب الحامل الطلق - وهو وجع الولادة - فهو مخوف على المنصوص عليه. وفيه قول آخر: (أنه غير مخوف) ؛ لأن السلامة منه أكثر، والأول أصح؛ لأن وجع الولادة أشد من المرض المخوف؛ لأن الولد يخرج من الرحم الذي ضيق رأسه كالإحليل، وربما كان سببا لتلفها.

فرع صفة الحرب المخوفة

قال الشافعي: (وكذلك طلق الإسقاط) . قال أصحابنا: إن أسقطته لستة أشهر فأكثر.. كان مخوفا؛ لأن ولادته أشق من ولادة الحي؛ لأن الحي يسهل خروجه للحرارة التي فيه، وهي الحياة. وإذا كان ميتا.. برد وثقل، فعسر خروجه. وإن ولدته لدون ستة أشهر.. فليس بمخوف؛ لأنه مضغة أو شيء لم يتخلق، فهو كقطعة لحم، فلا يشق خروجه. قال الشافعي: (فإن انفصل الولد وخرج.. فليس ما بعده بمخوف إلا أن يكون هناك جرح وألم وضربان.. فيكون مخوفا) . [فرع صفة الحرب المخوفة] ) : وإن وقع القتال بين طائفتين مسلمتين، أو مسلمة وكافرة، أو كافرتين: فإن كانوا يترامون من بعد.. قال الشيخ أبو حامد: فليس بمخوف؛ لأنه قد يصيب الرمي وقد يخطئ، وليست إصابته بأولى من خطئه. وإن التحم القتال، واختلط الفريقان: فإن كانت إحدى الطائفتين أكثر عددا من الأخرى بزيادة كثيرة.. فالقليلة مخوف عليها. وإن كانتا متساويتين.. فنقل المزني: (أنه مخوف عليهما) . وقال في " الإملاء ": (تعتبر العطايا من رأس المال) . فالمسألة على قولين: أحدهما: أنه مخوف عليهما؛ لأنه سبب يخاف منه التلف، فهو كالمرض المخوف. والثاني: أنه ليس بمخوف عليهما؛ لأنه لم يحدث في الجسم شيء، فهو كالصحيح.

مسألة تبرعات الثلث المنجزة والمؤخرة

وإن وقع رجل في أسر الكفار: فإن كانوا قوما لا يرون قتل الأسرى - كالروم - فالأسر معهم ليس بمخوف؛ لأن عادتهم أنهم يحبسون الأسرى ولا يقتلونهم. وإن كانوا قوما يرون قتل الأسرى.. فنقل المزني: (أنه مخوف) . وقال في " الإملاء ": (ليس بمخوف) . فالمسألة على قولين وتعليلهما ما مضى. وإن ركب في البحر، فهبت الرياح وارتفعت الأمواج والتطمت - وإن لم تنكسر السفينة - ففيه قولان، وتعليلهما ما ذكرناه. وإن كان لمسلم على مسلم قتل قصاص وقدم لقتل القصاص. فنقل المزني: (أنه غير مخوف ما لم يجرح) . واختلف أصحابنا فيها: فقال أبو إسحاق: هي على قولين كالمسائل الثلاث. ومنهم من قال: ليس بمخوف قولا واحدا؛ لأن الله خلق الرحمة والرأفة في قلب المؤمن، وقد يرق لأخيه المسلم إذا قدر عليه، ويعفو عن القصاص، ولا رحمة في قلب الكافر على المسلم فيرجى منه ترك القتل. وكذلك في حال التحام القتال وارتفاع الأمواج لا يوجد هذا المعني. [مسألة تبرعات الثلث المنجزة والمؤخرة] وإن عجز الثلث عن التبرعات.. فلا تخلو التبرعات: إما أن تكون منجزة أو مؤخرة، أو بعضها منجزا وبعضها مؤخرا. فإن كانت منجزة، مثل: أن باع وحابى أو وهب وأقبض أو أعتق عتقا نافذا.. نظرت: فإن كانت تبرعاته وقعت في جنس واحد من التصرفات، مثل: المحاباة أو

الهبة أو العتق، فإن فعل ذلك متفرقا، مثل: أن أعتق عبدا ثم أعتق عبدا، أو حابى ثم حابى.. فإنه يبدأ بالأول فالأول. فإن استوفى الثلث بالأول.. لزم، وكان ما بعده موقوفا على إجازة الورثة. وإن بقي من الثلث شيء بعد الأول.. لزم من الثاني بقدر ما بقي من الثلث، وما زاد على الثلث موقوف على إجازة الورثة؛ لأن المريض لا ينفذ تبرعه إلا في ثلث التركة، وقد سبق الأول، فقد لسبقه، فلزم في حق الورثة. وإن وقعت تبرعاته في حالة واحدة.. نظرت: فإن كانت عتقا، بأن قال لجماعة عبيد: أعتقتكم.. أقرع بينهم، ويعتق منهم قدر ثلث التركة؛ لما روى عمران بن الحصين: «أن رجلا أعتق في مرض موته ستة مملوكين له، فأقرع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم بعد موته، فأعتق اثنين وأرق أربعة» . وإن كانت تبرعاته محاباة أو هبة، بأن باع جماعة بكلمة واحدة وحاباهم، أو وهبهم وأقبضهم في حالة واحدة، أو وكل من فعل ذلك عنه، ووقع ذلك في حالة واحدة.. قسط الثلث بينهم على قدر محاباتهم. والفرق بين العتق وغيره من التبرعات: أن القصد من العتق تكميل الأحكام، ولا يحصل ذلك إلا بعتق جميع الرقبة، والقصد من غير العتق الملك للموصى له، وذلك يحصل وإن ملك الموصى له بعض ما وصي له به. وإن كانت تبرعاته في أجناس من التصرفات، مثل أن أعتق وباع وحابى ووهب وأقبض: فإن وقع ذلك في حالة واحدة، مثل أن وكل من يبيع من رجل بيعا فيه محاباة، ووكل آخر يهب من رجل عينا ويقبضه، وأعتق هو أو وكيله عبدا، أو وقعت هذه التصرفات في حالة واحدة، ولم يحتمل الثلث جميعها.. قسط الثلث بين الجميع على التساوي إن تساوت عطاياهم، وعلى التفاضل إن تفاضلت؛ لأنه لا مزية لبعضهم على بعض في السبق. وإن وقعت هذه التصرفات متفرقة.. قدم الأول فالأول على ما ذكرناه في الجنس الواحد. وقال أبو حنيفة: (إن حابى أولا ثم أعتق.. قدمت المحاباة. وإن أعتق أولا ثم حابى.. سوى بينهما؛ لأن العتق حق لله تعالى، والمحاباة حق للآدمي، فلم يقدم حق الله، كما لو أعتق المريض عبدا ثم أقر بدين لآدمي، فإن الدين مقدم) .

ودليلنا أنهما عطيتان منجزتان، لو انفردت كل واحدة.. للزمت. فإذا اجتمعتا ولم يحتملهما الثلث.. قدمت الأولى منهما، كما لو حابى أولا، ثم أعتق. فقولنا: (منجزتان) احتراز مما لو كانتا مؤخرتين، أو إحداهما منجزة والأخرى مؤخرة. وقولنا: (لو انفردت كل واحدة للزمت) احتراز من البيع الفاسد. وما ذكروه من الإقرار بالدين بعد العتق، فإن الدين لم يجب بالإقرار، وإنما وجوبه متقدم على العتق، فلذلك قدم على العتق. وإن كانت التبرعات مؤخرة - وهو: ما يوصي أن يفعله عنه بعد موته، من عتق وكتابة ومحاباة وهبة وصدقة وما أشبه ذلك - نظرت: فإن كانت وصاياه بجنس واحد، ولم يحتملها الثلث، فإن كانت عتقا.. أقرع بين الجميع؛ لأن القصد تكميل الأحكام بالعتق، وذلك لا يحصل إلا بعتق جميع الرقبة. وإن كانت محاباة أو هبة أو صدقة.. قسم الثلث بين الجميع، سواء وقعت متفرقة أو في وقت واحد؛ لتساوي الجميع في وقت اللزوم، وهو عند الموت. وإن كانت وصاياه بأجناس، فإن لم يكن معها عتق.. قسم الثلث بين الجميع؛ لما ذكرناه. وإن كان معها عتق، بأن أوصى بمحاباة وهبة وعتق.. ففيه قولان: أحدهما: يقسط الثلث بين الجميع بالحصص؛ لتساوي الجميع في وقت اللزوم. والثاني: يقدم العتق على غيره؛ لأن له مزية في السراية. وإن أوصى بمحاباة وهبة وتفرقة شيء من ماله على المساكين، وعجز الثلث عن جميع ذلك: فقال البغداديون من أصحابنا: يقسط الثلث بين الجميع على الحصص قولا واحدا؛ لأنه لا مزية لبعضها على بعض.

فرع ينفذ تعليق عتق مشروط إن احتمله الثلث

وقال المسعودي (في " الإبانة " ق\406) : وهل تقدم الوصية للمساكين على غيرهما؟ فيه قولان، كالعتق مع غيره، والأول أصح؛ لأن العتق له مزية بالسراية، وهذا لا يوجد في الوصية للمساكين. وإن كانت الوصية بمحاباة وهبة وكتابة.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هل تقدم الكتابة على غيرها؟ فيه قولان؛ لما في الكتابة من العتق. ومنهم من قال: لا تقدم الكتابة قولا واحدا؛ لأنه لا سراية للكتابة. وإن كان بعض التبرعات منجزة وبعضها مؤخرة.. قدمت المنجزة، سواء تقدمت أو تأخرت، عتقا كانت أو غيره؛ لأنها أقوى، بدليل أن الكل يلزم في حق المتصرف ولو لم يمت في مرضه ذلك، والمؤخرة لا تلزم في حياته بحال. وقال أبو حنيفة: (إذا أعتق عبدا في مرضه، ثم أوصى بعتق آخر، ولم يحتملهما الثلث.. سوى بينهما) . دليلنا: أنهما عطيتان، إحداهما منجزة والأخرى مؤخرة، فقدمت المنجزة، كما لو باع وحابى، ثم أوصى بعتق عبد. [فرع ينفذ تعليق عتق مشروط إن احتمله الثلث] إذا كان له عبدان - سالم وغانم - فقال في مرض موته: إذا أعتقت سالما.. فغانم حر، فأعتق سالما، فإن احتملهما الثلث.. عتق سالم بالمباشرة، وعتق غانم بالصفة. وإن لم يحتملهما الثلث.. عتق سالم؛ لأنه سابق، ولم يعتق غانم؛ لأن عتقه متأخر. وإن قال: إذا أعتقت سالما.. فغانم حر حال عتق سالم، فأعتق سالما واحتملهما الثلث.. فاختلف أصحابنا فيها: فقال القاضي أبو الطيب: يعتق سالم ولا يعتق غانم؛ لأن إعتاق سالم شرط لإعتاق غانم، والمشروط لا يصح وقوعه مع الشرط ولا قبله.

وقال أكثر أصحابنا: يعتقان معا؛ لأنه جعل حال عتق سالم صفة لعتق غانم وتأخر حرف من لفظ عتق سالم يعلم بوجود الشرط، فوقع المشروط. فإذا قلنا بهذا: ولم يحتملهما الثلث.. ففيه وجهان: (أحدهما) : قال أبو العباس ابن سريج، والشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: يعتق سالم ولا يعتق غانم؛ لأن عتقهما وقع في حالة واحدة، ولا يمكن الإقراع بينهما؛ لأنا لو أقرعنا بينهما.. لم يؤمن أن تخرج قرعة العتق على غانم فيرق سالم. وإذا رق سالم.. لم يعتق غانم، فيؤدي إثبات عتق غانم إلى نفيه. وما أدى إثباته إلى نفيه.. سقط إثباته. (والثاني) : قال الشيخ أبو إسحاق: لا يعتق واحد منهما؛ لأن الإقراع بينهما لا يمكن؛ لما ذكرناه، ولا يمكن تقديم عتق سالم؛ لأن عتقهما وقع في حالة واحدة، ولا مزية لأحدهما على الآخر، فسقط عتقهما. قال الشيخ أبو حامد: وإن قال لغانم: إذا أعتقت سالما.. فأنت حر قبله، ثم أعتق سالما في مرض موته، فإن خرجا من الثلث.. عتقا، وتبينا أن عتق غانم قبل سالم. وإن لم يحتملهما الثلث.. عتق سالم دون غانم؛ لما ذكرناه. قلت: وعلى قول الشيخ أبي إسحاق في التي قبلها: لا يعتق هاهنا واحد منهما؛ لأن عتق سالم شرط لعتق غانم، فإذا لم يعتق عبده في الأولى - وعتقه وعتق غانم يقع في حالة واحدة - فلأن لا يعتق عبده هاهنا - وعتق غانم قبله - أولى. وكذلك على قول القاضي أبي الطيب في التي قبلها: لا يعتق غانم وإن احتملهما الثلث؛ لأن المشروط لا يتقدم على الشرط. والأول هو المشهور. فإن كان له ثلاثة أعبد - سالم وغانم وفائق - فقال في مرض موته: إذا أعتقت سالما.. فغانم وفائق حران، ثم أعتق سالما، فإن احتمل الثلث عتق جميعهم.. عتقوا. وإن احتمل الثلث عتق أحدهم لا غير.. عتق سالم؛ لأنه عتقه سابق. وإن احتمل الثلث عتق سالم وعتق أحد الآخرين.. عتق سالم، وأقرع بين غانم وفائق؛ لأن عتقهما وقع في حالة واحدة.

فرع تعلق العتق بمرض الموت على صفة

وإن قال لغانم وفائق في مرض موته: أنتما حران حال عتق سالم، ثم أعتق سالما، واحتمل الثلث عتق جميعهم.. فعلى قول القاضي أبي الطيب في التي قبلها: يعتق سالم ولا يعتق غانم وفائق. وعلى قول عامة أصحابنا: يعتق جميعهم. فإذا قلنا بهذا: ولم يحتمل الثلث إلا عتق واحد.. فعلى قول الشيخ أبي إسحاق في التي قبلها: لا يعتق واحد من الثلاثة. وعلى قول عامة أصحابنا: يعتق سالم ولا يعتق غانم وفائق. فإذا قلنا بهذا: واحتمل الثلث عتق اثنين.. عتق سالم؛ لأن عتقه متقدم، وأقرع بين غانم وفائق؛ لأن عتقهما في حالة واحدة. [فرع تعلق العتق بمرض الموت على صفة] قال أبو العباس: إذا قال الرجل لعبده في مرض موته: إذا تزوجت.. فأنت حر، فتزوج امرأة بمهر مثلها.. اعتبر المهر من رأس المال، وعتق العبد من الثلث لوجود الصفة. وإن تزوجها بأكثر من مهر مثلها.. كان قدر مهر مثلها من رأس المال. وأما الزيادة على مهر مثلها، فإن كانت وارثة له.. لم تستحقها؛ لأن المحاباة وصية، والوصية لا تصح للوارث. ويعتق العبد من الثلث. وإن كانت غير وارثة، بأن كانت ذمية وهو مسلم، أو أبانها قبل موته، وقلنا: لا ترثه.. صحت لها المحاباة من الثلث. فإن احتمل الثلث المحاباة وعتق العبد.. نفذا. وإن لم يحتملهما الثلث.. قدمت المحاباة؛ لأنها سابقة؛ لأنها تثبت بنفس العقد، والعتق يقع بعد العقد. وإن قال لعبده في مرض موته: إذا تزوجت.. فأنت حر حال تزويجي، ثم تزوج امرأة بمهر مثلها.. اعتبر مهر المثل من رأس المال وعتق العبد من الثلث. وإن تزوجها بأكثر من مهر مثلها، فإن كانت وارثة.. لم تستحق الزيادة، وعتق العبد من الثلث. وإن كانت غير وارثة.. استحقت المحاباة، فإن احتمل الثلث المحاباة والعتق.. نفذ الجميع. وإن لم يحتملهما.. قسم الثلث بين المحاباة والعتق على قدرهما؛ لأنهما وقعا في حالة واحدة.

فرع علق في مرض موته عتق عبده على شراء

والفرق بين هذه وبين العتق: أن الصفة هاهنا هو التزويج، والتزويج لا يبطل بانتقاض المحاباة. [فرع علق في مرض موته عتق عبده على شراء] ) : قال أبو العباس: إذا قال في مرض موته لعبده غانم: إذا اشتريت سالما.. فأنت حر في حال شرائي له، ثم اشتراه وحابى فيه، ولم يحتمل الثلث المحاباة والعتق قسم الثلث بين المحاباة والعتق على قدرهما؛ لأن الشراء يتم في جميع سالم وإن لم يتم لبائعه جميع المحاباة، فصفة العتق توجد. وإن قال لغانم في مرض موته: إذا بعت سالما.. فأنت حر في حال بيعي له، فباع سالما وحابى فيه، ولم يحتملهما الثلث.. قدمت المحاباة؛ لأن البيع لا يتم في جميع سالم إلا بأن تحصل جميع المحاباة للمشتري. وإذا لم يتم البيع في جميع سالم.. لم توجد صفة عتق غانم، وهذا ظاهر كلام الشافعي، وبه قال ابن الحداد. وقال ابن القاص وابن اللبان: تقدم المحاباة فيهما؛ لأن الثمن يقابل جميع العبد، فإذا سقط بعض الثمن.. بطل البيع فيما يقابله من العبد، فلا توجد صفة العتق، وقد مضى ذلك في البيوع. [فرع وصى بقضاء دينه أو أن يحج عنه من الثلث] ) : إذا أوصى أن يقضى دينه أو يحج عنه حجة الإسلام من الثلث، وأوصى بتبرعات ولم يحتملها الثلث.. ففيه وجهان: أحدهما: يقدم الدين أو الحج في الثلث، فإن فضل من الثلث شيء بعد ذلك.. صرف إلى وصايا التبرعات. وإن لم يفضل شيء.. سقطت الوصايا بالتبرعات؛ لأن الدين أو الوصية بحجة الإسلام فرض، والتبرعات تطوع، والفرض آكد، فقدم. والوجه الثاني: يقسط الثلث على قدر الدين وقدر الوصية بالتبرع، أو على قدر أجرة المثل وقدر الوصية بالتبرع، ثم يتمم الدين أو أجرة المثل من رأس المال؛ لأن

الدين وأجرة المثل على حجة الإسلام من رأس المال، فإذا جعلهما من الثلث. فقد قصد الرفق بالورثة، فقسط الثلث على الجميع، وتمم الواجب من رأس المال؛ لأنه لا بد من تمامه. فعلى هذا: إذا كان عليه أربعون درهما دينا، وأوصى أن يقضى ذلك من ثلثه، وأوصى لآخر بثلث ماله، ومات، وخلف مائة وعشرين درهما، ولم يجز الورثة.. فالعمل فيه: أنك تعزل أربعين درهما لصاحب الدين، فله منها سهم وصية، والباقي تمام دينه من رأس المال، ويبقى للورثة وللموصى له بالثلث ثمانون درهما، للموصى له منها سهم وصية، وللورثة أربعة أسهم مثلا السهمين الموصى بهما. فإذا قسمت الثمانين على الخمسة الأسهم.. أصاب كل سهم ستة عشر، فيعلم أن سهم الوصية من الأربعين ستة عشر، فتضم إلى الثمانين، فيكون الجميع ستة وتسعين، ثلث ذلك اثنان وثلاثون: لصاحب الدين ستة عشر، وللموصى له ستة عشر، وما زاد على ستة وتسعين - وهو: أربعة وعشرون ـ تمام الدين. فإذا كانت المسألة بحالها، وأوصى لرجل بثلث ماله، وعليه دين أربعون درهما، وأوصى أن يقضى ذلك من ثلثه، وأوصى أن يحج عنه حجة الإسلام من ثلثه، ولم يوجد من يحج عنه من الميقات إلا بأربعين، ولم يجز الورثة ما زاد على الثلث.. فإنك تعزل لصاحب الدين أربعين: له منها سهم وصية، والباقي تمام دينه من رأس المال. وتعزل للحج أربعين: يخرج منها سهم وصية، والباقي منها تمام أجرة المثل من راس المال. ويبقى للورثة وللموصى له بالثلث أربعون: للموصى له منها سهم وصية، وللورثة ستة أسهم مثلا أسهم الوصية. فإذا قسمت الأربعين على سبعة أسهم.. أصاب كل سهم خمسة دراهم وخمسة أسباع درهم، فيعلم أن السهم الموصى به من الأربعين التي للدين مثل ذلك، ومن الأربعين التي للحج مثل ذلك، وما زاد على السهمين تمام للدين والأجرة. فإذا أضفت السهمين إلى الأربعين التي للموصى له وللورثة.. كان جميع ذلك أحدا وخمسين درهما وثلاثة أسباع درهم، الثلث من ذلك سبعة عشر

مسألة الوصية بثلث عين من المال

درهما وسبع درهم بينهم أثلاثا؛ لتساوي وصاياهم، فيحصل لكل واحد خمسة دراهم وخمسة أسباع درهم. والثلثان أربعة وثلاثون درهما وسبعا درهم، وما زاد على أحد وخمسين وثلاثة أسباع درهم تمام الدين، والأجرة بينهما نصفان؛ لتساوي حقيهما. وإن تفاضلت الحقوق.. كانت القسمة على التفاضل على هذا العمل. [مسألة الوصية بثلث عين من المال] إذا أوصى لرجل بثلث عين من ماله من دار أو أرض أو عبد، ثم مات الموصي، فاستحق ثلثا العين الموصى بها، أو هلك ثلثاها وبقي ثلثها، وللموصي مال آخر يخرج ذلك الثلث منه.. استحق الموصى له الثلث الباقي من العين الموصى بها. وبه قال كافة العلماء. وقال أبو ثور، وزفر، وأبو العباس ابن سريج: لا يستحق الموصى له إلا ثلث ما بقي من العين الموصى بها، كما لو أوصى له بثلث ماله فاستحق ثلثاه، ولأنه لم يوص له بثلث معين، وإنما أوصى له بثلث مشاع، فإذا استحق ثلثاه، أو هلك.. فقد هلك ثلثا الوصية. والمذهب الأول؛ لأنه أوصى له بملكه الذي يخرج من ثلثه، فصح، كما لو أوصى له بعبد كامل، فاستحق ثلثاه، وله مال يخرج الثلث الباقي منه. ولأن الوصية إنما تنصرف إلى ما يملكه من العبد، كما لو كان عبد بين شريكين نصفين، فقال أحدهما للآخر: بعتك نصف هذا العبد.. فإنه ينصرف إلى ما يملكه منه. قال ابن اللبان: وعلى هذين الوجهين الوصية بالنوع الواحد، مما يقسم كيلا أو وزنا، كالحبوب والدراهم والدنانير. أو مما يجمع في القسم من النوع الواحد، كالإبل والبقر والغنم والعبيد والثياب، قال: فإن أوصى لرجل بسدس ماله، ثم مات وخلف مائة شاة، أو مائة ثوب مروية، فاستحق نصفها أو تلف.. كان للموصى له سدس ما بقي في أحد الوجهين معا.

مسألة وصى بثلث ماله وهو حاضر وغائب

وإن وصى له بسدس الغنم، أو بسدس الثياب، ثم مات فاستحق نصفها، أو تلف.. كان له سدس ما بقي في أحد الوجهين، وله سدس جميع الغنم أو الثياب، وهو: ثلث الباقي في الثاني. [مسألة وصى بثلث ماله وهو حاضر وغائب] إذا أوصى لرجل بثلث ماله، فمات وخلف مالا حاضرا ومالا غائبا، وخلف عينا ودينا.. استحق الموصى له ثلث الحاضر، وثلث الغائب، وثلث العين، وثلث الدين. واستحق الوارث الثلثين من ذلك. ويدفع إلى الموصى له ثلث الحاضر وثلث العين. وكلما حضر من الغائب شيء، أو نض من الدين شيء.. دفع إليه ثلثه، وإلى الوارث ثلثاه؛ لأنه شريك للوارث في جميع ذلك. وإن وصى له بعبد يساوي مائة درهم، وخلف مائتين غائبتين، أو دينا، ولا يملك غير ذلك.. لم يجب دفع العبد إلى الموصى له؛ لأنه لا يجوز أن يتنجز للموصى له شيء إلا ويحصل للوارث مثلاه. فإن وصل من المائتين شيء، أو نض من الدين شيء.. دفع إلى الموصى له مثل نصف ما حصل منهما أو نض. فإن حصل جميع المائتين.. دفع جميع العبد إلى الموصى له فإن طلب الموصى له أن يدفع إليه ثلث العبد ليتصرف فيه قبل أن يحصل شيء من المائتين.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب دفعه إليه؛ لأنه يستحق ذلك بكل حال. والثاني: لا يجب دفعه إليه، وهو المذهب؛ لأنه لا يتنجز للموصى له شيء إلا ويتنجز للوارث مثلاه، وهذا مذهبنا. وقال مالك: (الوارث بالخيار: بين أن يسلم العبد إلى الموصى له قبل حضور المائتين، وبين أن يبطل الوصية في ثلثي العبد وتجعل وصيته في ثلث جميع المال مشاعا) .

فرع له ستون درهما وأوصى بثلث العين منها

دليلنا: أن الموصي قصد تخصيص الموصى له بملك عين معينة من ماله، فلم يجز للوارث نقل ذلك إلى غيره، كما لو كان المال كله حاضرا. وإذا ثبت هذا: فإن كسب هذا العبد مالا بعد موت الموصي، وبعد قبول الموصى له الوصية، وقبل حضور المال الغائب.. كان للموصى له ثلث كسبه، وللوارث الثلثان. فإن لم يحضر المال الغائب.. فلا كلام. وإن حضر المال الغائب.. فهل يجب على الوارث رد ما أخذه من كسبه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب؛ لأنه أخذه في وقت يجوز له أخذه، فهو كالمستأجر. والثاني: يجب عليه رده وهو الأصح؛ لأنه بان أنه لا ملك له في العبد ذلك الوقت. [فرع له ستون درهما وأوصى بثلث العين منها] إذا كان لرجل ثلاثون درهما عينا، وثلاثون درهما دينا على معسر، فأوصى بثلث العين لرجل، وأوصى بالدين لمن عليه ومات، ولم يجز الورثة.. فإن الثلث يقسم بين الموصى لهما على أربعة أسهم، لمن عليه الدين ثلاثة، وللآخر سهم. ويسقط ممن عليه الدين خمسة عشر درهما، ويضم سهم الموصى له بثلث العين إلى سهام الورثة ـ وهي: ثمانية، مثلا سهام الوصية ـ فتقسم الثلاثون ـ التي هي عين ـ على تسعة، للموصى له سهم ـ وهو: ثلاثة دراهم وثلث درهم ـ وللورثة ستة وعشرون درهما وثلثا درهم. وكلما نض من الخمسة عشر التي بقيت على الغريم شيء.. كان للموصى له بثلث العين قدر تسعه يأخذه من الثلاثين التي كانت عينا ـ إن كانت باقية ـ أو من بدلها ـ إن كانت تالفة ـ وللورثة ثمانية أتساعه. فإذا نضت الخمسة عشر كلها.. كان للموصى له بثلث العين قدر تسعها ـ وهو درهم وثلثا درهم ـ يأخذه من العين، أو من بدلها. فإن أوصى لرجل بثلث الدين، ولمن عليه الدين بجميع ما عليه، ولم يجز

فرع وصى بالثلث وترك عشرة عينا وعشرة دينا وابنا

الورثة.. كانت الثلاثون ـ التي هي عين ـ للورثة، ويقسم الثلث على أربعة أسهم: لمن عليه الدين ثلاثة أسهم ـ وهو: خمسة عشر درهما ـ تسقط عن ذمته، ويبقى عليه خمسة عشر، وكلما نض منها شيء.. اقتسمه الورثة والموصى له بالثلث على ثلاثة أسهم: للورثة سهمان، وللموصى له سهم. فإن أوصى لرجل بثلث ماله، وللغريم بما عليه، ومات، ولم يجز الورثة.. قسم الثلث على خمسة، للغريم ثلاثة أخماسه ـ وهو: اثنا عشر درهما ـ فيسقط عنه، وللموصى له بالثلث سهمان يضمهما إلى سهام الورثة ـ وهي: عشرة ـ فيقسم الثلاثون ـ التي هي عين ـ على اثني عشر: للورثة عشرة، وللموصى له سهمان، وكلما نض من الثمانية عشر الباقية على الغريم شيء.. قسم بين الورثة والموصى له بالثلث على اثني عشر. [فرع وصى بالثلث وترك عشرة عينا وعشرة دينا وابنا] ] : وإذا كان لرجل عشرة دراهم عينا، وعشرة دراهم دينا على ابنه، ولا وارث له غيره، ولا يملك غير ذلك، وأوصى بثلث ماله لرجل، ومات والابن معسر.. فللموصى له ثلثا العشرة العين: ثلثها بالوصية وثلثها قضاء ما له على الابن. فإن كان الابن قد حجر عليه لغرمائه.. ففيه وجهان، حكاهما ابن اللبان: أحدهما: أن الموصى له أحق بثلثي العشرة، كالأولى. والثاني: أنه يأخذ ثلث العشرة بالوصية، ويقسم ثلثاها بينه وبين غرماء الابن على قدر ديونهم. فإن كان الوصية بثلثي العين.. كان للموصى له ثلثا العشرة العين، وللابن ثلثها ويبرأ مما عليه؛ لأنه كالقابض لثلثي المال. فإن كان محجورا عليه لغرمائه.. لم يحاصوا الموصى له في ثلثي العشرة وجها واحدا؛ لأنه يأخذ ذلك بحق الوصية. وإن ترك ابنين، وعشرة عينا وعشرة دينا على أحدهما، وهو معسر.. أخذ الابن الآخر العشرة العين، نصفها ميراثا له ونصفها اقتضاء عن ما له على أخيه.

مسألة اعتبار الثلث فيمن أوصى بمنفعة عبده أو داره

وإن كان من عليه الدين محجورا عليه لدين عليه.. فهل يختص الأخ بهذه العشرة، أو يقاسم غرماء أخيه في نصفها؟ على الوجهين. وإن كان الأب قد وصى بثلث ماله لرجل.. قسمت العشرة العين بين الابن الذي لا دين عليه وبين الموصى له نصفين؛ لأن الابن الذي لا دين عليه يملك ثلثها بالإرث، والموصى له يملك ثلثها بالوصية، ومن عليه الدين يملك ثلثها بالإرث، ثم الابن الذي لا دين عليه والموصى له يملك كل واحد منهما في ذمة الابن الذي عليه الدين ثلث العشرة في ذمته، وقد وجدا له ثلث هذه العشرة وحقاهما متساويان، فاقتسما ذلك بينهما. [مسألة اعتبار الثلث فيمن أوصى بمنفعة عبده أو داره] ] : إذا أوصى له بمنفعة عبده أو داره على التأبيد.. اعتبر خروج ذلك من الثلث. وفي كيفية اعتبار خروجها من الثلث ثلاثة أوجه: أحدها: تقوم المنفعة في حق الموصى له، والرقبة مسلوبة المنفعة في حق الورثة؛ لأن الموصى به هو المنفعة، فاعتبرت قيمتها في حق الموصى له، والرقبة ملك الورثة.. فاعتبرت قيمتها في ثلثي التركة. وكيفية ذلك أن يقال: كم قيمة هذه الرقبة بمنافعها؟ فإن قيل: مائة.. قيل: فكم قيمة الرقبة مسلوبة المنفعة على التأبيد؟ فإن قيل: عشرة.. علمنا أن قيمة المنفعة تسعون، فتعتبر من الثلث، وعلمنا أن قيمة الرقبة عشرة، فتضاف إلى ثلثي التركة. والوجه الثاني: أن المنفعة تقوم على الموصى له، ولا تحتسب قيمة الرقبة على الموصى له؛ لأنه لا يملكها، ولا على الوارث؛ لأنه لا منفعة له بها. والثالث ـ وهو المنصوص ـ: (أن الرقبة تقوم بمنافعها في حق الموصى له؛ لأن المقصود بالعبيد والدور هو منفعتها دون أعيانها) . وإن وصى له بمنفعة عبده أو داره أو أرضه مدة معلومة.. فإن الرقبة تقوم في حق

فرع الوصية بثمرة البستان

الورثة لا في حق الموصى له، وجها واحدا؛ لأن لهم فيها منفعة، وهو أنهم يملكون منفعتها بعد انقضاء المدة. وتقوم المنفعة في حق الموصى له، وفي كيفية تقويمها في حقه وجهان: أحدهما: تقوم الرقبة كاملة المنفعة، ثم تقوم مسلوبة المنفعة مدة الوصية، ويكون ما بينهما قيمة المنفعة. والثاني: تقوم المنفعة مدة الوصية، فتعتبر من الثلث، ولا تقوم الرقبة على الموصى له؛ لأنها غير موصى بها. وإن وصى بالمنفعة لرجل وبالرقبة لآخر.. فإن المنفعة تقوم في حق الموصى له بها، والرقبة تقوم في حق الموصى له بها، بلا خلاف بين أصحابنا؛ لأن كل واحد منهما يستفيد بالوصية ملك ما وصى له به. قال الشيخ أبو حامد: واتفاقهم في هذه يدل على صحة تقويم الرقبة بمنفعتها في حق الموصى له بالمنفعة لا غير. [فرع الوصية بثمرة البستان] وإن وصى له بثمرة بستانه: فإن كانت موجودة.. قومت الثمرة يوم موت الموصي، واعتبر خروجها من الثلث. وإن كانت غير موجودة: أحدهما: يقوم البستان بكماله في حق الموصى له؛ لأن المقصود به منفعته. والثاني: تقوم المنفعة في حق الموصى له، والرقبة في حق الورثة، وهو أن يقال: كم قيمته كامل المنفعة؟ فإن قيل مائة.. قيل: كم قيمته مسلوب المنفعة؟ فإن قيل: عشرة.. علم أن التسعين قيمة المنفعة فتحتسب من الثلث، وعلم أن العشرة قيمة الرقبة، فتحتسب بها في ثلثي التركة على الورثة. ويسقط الوجه الثالث في العبد هاهنا، وهو أن الرقبة لا تقوم في حق أحدهما؛ لأن

فرع أوصى له بلبن شاة وصوفها

البستان قد يجف فتبطل الوصية بالمنفعة بثمره، ويمكن الوارث الانتفاع بأخشابه، بخلاف الرقبة. وإن كانت الوصية بمنفعته مدة معلومة.. قومت الرقبة في حق الوارث، والمنفعة في حق الموصى له وجها واحدا. وكل موضع احتمل خروج منفعة جميع البستان من الثلث.. فإن الثمرة تكون للموصى له، ما دام البستان باقيا، ورقبة النخيل والشجر للوارث، ولا يلزم أحدهما سقي النخل والشجر؛ لأن السقي تنتفع به الثمرة والشجرة، فلا يلزم أحدهما سقي ملك صاحبه، بخلاف ما لو باع ثمرة بعد بدو صلاحها، فإن عليه سقيها؛ لأن عليه تسليمها، وذلك من تمام تسلميها. وإن لم يخرج من الثلث إلا بعض المنفعة.. كان للموصى له من ثمرة كل عام قدر ما احتمله المنفعة، والباقي للورثة اعتبارا بما خرج من الثلث. [فرع أوصى له بلبن شاة وصوفها] إذا أوصى له بلبن شاة وصوفها.. جاز، كما تجوز الوصية بثمرة الشجرة. وإن وصى له بلبنها لا غير.. جاز. قال ابن الصباغ: وينبغي أن يقوم هاهنا الموصى به دون العين؛ لأنه لم يوص له بجميع منافعها. [مسألة اعتق في مرضه أمة حاملا] إذا اعتق في مرض موته أمة حاملا بمملوك له.. فإنها تعتق بالمباشرة ويعتق الحمل بالسراية، ومتى تقوم الأمة؟ قال أبو العباس: فيه قولان: أحدهما: تقوم حاملا، ولا يفرد الحمل بالتقويم؛ لأنه كأعضائها. فعلى هذا: إن خرجت قيمتها من الثلث.. عتقت وعتق ولدها، وإن خرج نصفها.. عتق نصفها.

والثاني: أن الولد يقوم عند الانفصال؛ لأنه يمكن تقويمه، وتقوم الأم حاملا دون حملها؛ لأن قيمتها حاملا أقل من قيمتها حائلا، وأصلها القولان: هل للحمل حكم، أم لا؟ فعلى هذا: إن خرجت قيمتها من الثلث.. عتقا، وإن لم يخرجا، ولم يجز الورثة، فإن كانت قيمتهما سواء، بأن كانت قيمة الأم مائة وقيمة الولد مائة والثلث مائة.. عتق من كل واحد منهما نصفه. وإن كانت قيمة الأم مائة وقيمة الولد خمسين.. عتق من كل واحد منهما ثلثاه؛ لأن الولد تابع للأم فوجب أن يعتق منه بقدر ما يعتق منها. فإن قال في مرض موته: حملك حر وأنت حرة، فإن خرجا من الثلث.. عتقا. وإن لم يخرجا من الثلث.. قدم عتق الحمل؛ لأنه سابق. فإن كان الحمل جماعة، ولم يخرجوا من الثلث.. أقرع بينهم. وإن بقي من الثلث شيء بعد عتق الحمل.. عتق من الأم بقدره. فإن قال في مرض موته: إذا أعتقت نصف حملك.. فأنت حرة؛ ثم قال في مرض موته: نصف حملك حر.. عتق نصف حملها بالمباشرة، واقتضى ذلك سراية إلى عتق نصف حملها، وعتق الأم بالصفة. فإن خرجت قيمة جميع الحمل وقيمة الأم من الثلث.. عتقا. وإن لم يخرج من الثلث غير نصف الحمل.. عتق نصف الولد، ورق باقيه، ورقت الأم. وإن بقي من الثلث شيء بعد عتق نصف الولد، بأن كانت قيمة الولد مائة، وقيمة الأم خمسين، والثلث مائة، فقد بقي من الثلث خمسون. فيقرع بين نصف الولد والأم؛ لأن عتقهما وقع في حالة واحدة. فإن خرجت قرعة العتق على نصف الولد.. عتق جميعه. ورقت الأم؛ لأن عتق الولد لا يسري إليها. وإن خرجت قرعة العتق على الأم.. لم يمكن أن يصرف ما بقي من الثلث في عتق الأم وحدها، ولكن يسوى بينها وبين باقي حملها في العتق لتساوي قيمتهما.. فيعتق من الأم نصفها بخمسة وعشرين، ويعتق من الولد ربعه بخمسة وعشرين.

فرع أوصى بجارية حبلى

وإنما جعل ربعه تابعا لنصف الأم وإن كان القياس يقتضي التسوية بين الجزأين؛ لأنه لا يمكن التسوية بينهما. وإن كانت قيمة الولد مائة وقيمة الأم مائة والثلث مائة فقد بقي بعد عتق نصف الولد من الثلث خمسون.. فيقرع بين نصف الولد والأم، فإن خرجت القرعة على نصف الولد.. عتق جميعه، ورقت الأم. وإن خرجت على الأم.. عتق ثلثها وثلث نصف الحمل لتساويهما في القيمة. [فرع أوصى بجارية حبلى] ) : قال ابن اللبان: فإن أوصى لرجل بجارية حبلى، قيمتها يوم مات سيدها مائة، فقبل الموصى له، وولدت بعد موت سيدها ولدا قيمته ستون درهما، وخلف الموصي مائتي درهم، فإن قلنا: لا يفرد بالتقويم.. كانت الجارية وولدها للموصى له، ولا تزيد التركة بقيمة الولد. وإن قلنا: يفرد الولد بعد الانفصال بالتقويم.. زادت التركة بقيمة الولد، فتصير التركة ثلاثمائة وستين، الثلث: مائة وعشرون، وقيمة الجارية وولدها: مائة وستون. فالثلث: ثلاثة أرباع قيمتها، فيكون للموصى له ثلاثة أرباع الجارية، وثلاثة أرباع ولدها. وربعهما مع المائتين للورثة. وإن ترك الميت مائتين وستين درهما.. كانت التركة أربعمائة وعشرين، الثلث منها مائة وأربعون، وقيمة الجارية وولدها: مائة وستون. فالثلث من قيمتهما سبعة أثمانهما، فيكون للموصى له سبعة أثمانهما. [فرع أوصى بحمل جارية] ) : وإن وصى رجل لرجل بحمل جارية مملوك له، وأوصى لآخر بالجارية، ومات الموصي، وقبلا الوصية، ثم إن الموصى له بالجارية أعتقها، ثم ولدت ولدا لأقل من ستة أشهر من وقت إعتاق الجارية. عتقت الجارية دون ولدها، موسرا كان المعتق أو

فرع قال إذا مت فأنت حرة أو ما في بطنك

معسرا؛ لأن الولد إنما يتبع الأم في العتق إذا كانا في ملك المعتق، فأما إذا كانت في غير ملكه.. لم يتبعها، كما إذا باع داره وفي حائطه ساجة مغصوبة أو مستعارة.. فإنها لا تدخل في البيع، وهذه حرة حامل بمملوك ولا نظير لها. [فرع قال إذا مت فأنت حرة أو ما في بطنك] قال القاضي أبو الطيب: إذا قال رجل لأمة له حامل بمملوك له: إذا مت.. فأنت حرة أو ما في بطنك حر، ومات، ثم ولدت ولدا يعلم وجوده وقت الإعتاق.. أقرع بين الأم والولد، فإن خرجت قرعة العتق على الأم وخرجت من الثلث.. عتقت وعتق ولدها تبعا لها، ولا تحتسب قيمة الولد من الثلث؛ لأنه يعتق بالشرع، فهو بمنزلة التالف. وإن خرج بعض الأم من الثلث.. عتق ما خرج منها من الثلث، وتبعها من الولد مثل الذي عتق منها. وإن خرجت قرعة العتق على الولد، وخرج من الثلث.. عتق الولد ورقت الأم. وإن خرج بعضه.. عتق منه ما خرج من الثلث، ورق باقيه ورقت الأم؛ لأن الأم لا تتبع الولد في العتق. ويقوم الولد وقت الانفصال؛ لأنه أول وقت يمكن تقويمه فيه، وتقوم الجارية وقت موت الموصي؛ لأنه يمكن تقويمها وهي حالة استحقاقها للعتق. قال القاضي أبو الطيب: وإن كان له أمتان حاملان بمملوكين له، فقال لهما: إذا مت.. فأنتما حرتان، أو ما في بطنيكما حران، ومات، ثم ولدت كل واحدة منهما ولدا لوقت يعلم وجوده وقت الإعتاق.. أقرع بين الأمتين والولدين، فإن خرجت قرعة العتق على الأمتين، وخرجتا من الثلث.. عتقا من الثلث، وعتق ولداهما تبعا لهما من غير الثلث؛ لأنهما تالفان من طريق الشرع. وإن لم تخرج الأمتان من الثلث.. أعيدت القرعة بينهما، فأيتهما خرجت عليها قرعة العتق.. عتقت وعتق ولدها، ورقت الأخرى وولدها. وإن خرجت إحداهما من الثلث، وبعض الأخرى.. عتقت من خرجت عليها قرعة العتق، وعتق ولدها، وعتق من الأخرى تمام الثلث، وعتق من ولدها قدر ما عتق منها، ورق باقيها.

فرع أعتق في مرض موته عبدا قيمته مائة وله مائتان غائبتان

وإن خرجت قرعة العتق على الولدين، فإن خرجا من الثلث.. عتقا ورقت الأمتان. وإن لم يحتملهما الثلث.. أعيدت القرعة بين الولدين، فمن خرجت عليه قرعة العتق.. عتق جميعه ورق الآخر والأمتان. وإن احتمل الثلث أحدهما وبعض الآخر.. أقرع بينهما، فمن خرجت عليه قرعة العتق.. عتق جميعه، وعتق من الآخر تمام الثلث، ورق باقيه والأمتان. [فرع أعتق في مرض موته عبدا قيمته مائة وله مائتان غائبتان] ) : قال ابن اللبان: إذا أعتق في مرض موته عبدا قيمته مائة درهم، وله مائتا درهم غائبتان أو دين، ولا مال له غير ذلك.. عتق ثلثه في الحال، وسلم ثلثاه إلى الورثة؛ لأنه لا يتنجز للموصى له شيء إلا ويحصل للورثة مثلاه. ولا يملك الورثة بيعه؛ لأن تنجز عتق باقيه موقوف على قضاء الدين أو حصول المال الغائب، والبيع لا يجوز وقفه. فإن كسب العبد مالا قبل اقتضاء الدين.. كان للعبد ثلث كسبه، وللورثة ثلثاه. فإذا نض جميع الدين. نفذ عتق جميعه؛ لأنه حصل للورثة مثلا قيمته. وهل يرجع العبد على الورثة بما أخذوا من كسبه وأجرة ما خدمهم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يرجع عليهم؛ لأنهم أخذوه في حالة أباح لهم الشرع أخذه. والثاني - وهو المنصوص عليه -: (أنه يرجع عليهم) ؛ لأنه بان أنه كان حرا ذلك الوقت. ولا يرجع الورثة عليه بما أنفقوه على ثلثيه وجها واحدا؛ لأنهم أنفقوه عليه لحظهم واختيارهم، إذ لو شاؤوا.. لأجازوا عتقه. وإن مات للعبد من يرثه قبل أن ينض الدين.. فهل يوقف ميراثه؟ فيه وجهان: أحدهما: يوقف ميراثه منه؛ لأنه لا يؤمن أن يكون حرا، والظاهر من الدين أنه يقضى، وإن أعسر الغريم أو تلف المال الغائب.. رد الموقوف على ورثة مناسب العبد المعتق.

والثاني: أنه لا يوقف، بل يدفع ذلك إلى ورثة مناسب العبد؛ لأنا لا نتيقنه وارثا فلا نمنع الورثة ميراثهم لجواز أن ينض الدين، كما لم يمنع ورثة المعتق من استخدام ثلثي العبد المعتق. فإن مات العبد المعتق قبل أن ينض الدين أو يحصل المال الغائب.. كان لورثة العبد ثلث كسبه ولورثة سيده ثلثاه على القول الجديد، وعلى القديم: يكون جميع كسبه لورثة سيده. وإن نض الدين أو حضر الغائب بعد موت العبد.. رد ورثة السيد على ورثة العبد المعتق ما أخذوه من كسبه في أصح الوجهين. وإن مات بعد موت العبد ابن للعبد من حرة معتقة لقوم، وترك مولى أمه ومولى أبيه.. أعطي مولى الأب من ماله قدر ما حكم بعتقه من العبد بجزء الولاء، وباقي مال ابن العبد لمولى أمه. فإن نض الدين أو حضر الغائب بعد ذلك.. تبينا أن الأب قد كان مات حرا، وأنه حر ولاء ولده من مولى أمه إلى مولى أبيه، فيرد ورثة السيد ما أخذوا من كسب العبد على ورثة العبد المعتق في أصح الوجهين، ويرد مولى أم ابن العبد ما أخذ من مال الابن على مولى العبد. ولو سلم لورثة المعتق من المائتين مائة، وثوى الباقي أو تلف.. تبينا أنه كان عتق ثلثا العبد، ورق ثلثه وحر ثلثي ولاء ولده فيرد ورثة السيد على الابن ما أخذوا من كسب أبيه تمام الثلثين في أصح الوجهين، فيضاف إلى ما خلفه الابن، ويجعل ثلثاه لمولى أبيه، وثلثه لمولى أمه، ويحتسب على مولى الأم بما أخذه من ميراث الابن. وإن أنكر الغريم الدين، ولا بينة، ونكل عن اليمين، ولم يحلف ورثة السيد.. فهل يحلف العبد؟ فيه قولان: أحدهما: لا يحلف؛ لأنه لا يستحق ما يحلف عليه.

فرع أعتق عبدا لا مال له غيره

والثاني: يحلف؛ لأنه يستحق العتق بثبوت المال الذي يحلف عليه. وإن دفع الغريم الدين إلى الوارث، فقال الوارث: لا دين لمورثي عليك، فإن كان المعتق قد ادعى الدين.. عتق العبد ولم يقبل إقرار الوارث أنه لا دين للمعتق؛ لأن المعتق قد ادعاه وصدقه الغريم، وفي تكذيب الورثة إبطال لحق العبد من العتق، فلم يقبل. وهكذا: لو صدق العبد الورثة أنه لا دين للمعتق.. لم يحكم ببطلان العتق؛ لأن العتق حق لله تعالى، فلا يقبل قوله فيما يسقطه. وإن كان المعتق لم يدع الدين.. لم يقبل إقرار الغريم - سواء ادعاه العبد أو لم يدعه - إذا لم يدعه الوارث؛ لأن في ذلك إثبات المال لمن يدعيه وإبطالا لحق الورثة من رق العبد. وإن ادعى الورثة دينا للميت على رجل، فأنكر وحلف، ثم أقر المدعى عليه بعد ذلك بالدين، وكذبه الورثة بإقراره.. لم يقبل تكذيبهم، سواء صدقهم العبد على التكذيب أو كذبهم؛ لأن إقرارهم قد سبق بأنه مال للميت، ولزمهم بذلك حق العتق، فلم يقبل إقرارهم بعد ذلك بما يسقطه. [فرع أعتق عبدا لا مال له غيره] ) : إذا أعتق في مرض موته عبدا لا مال له غيره، وعليه دين يستغرق قيمته، وطالبه الغرماء به.. بطل العتق، وقيل للورثة: إن شئتم أن تقضوا الدين من مالكم وتملكوا العبد.. كنتم أحق به. وإن لم يختاروا ذلك، وطلب الغرماء أن يأخذوا العبد بقيمته عن دينهم.. قال ابن اللبان: كانوا أحق بشرائه من الأجنبي؛ لأنه أحظ للميت؛ لأنه يبرأ من الدين يقينا، ويأمن عهدة الثمن. فلو كسب العبد مالا بعد موت سيده.. كان ملكا لورثة السيد على قول الشافعي، وعلى قول الإصطخري: يقضى من كسبه الدين. ولو أبرأ الغرماء الميت من الدين.. عتق ثلث العبد، ورق ثلثاه.

مسألة نكاح الرجل في مرض الموت

[مسألة نكاح الرجل في مرض الموت] إذا نكح الرجل في مرض موته.. صح النكاح وورثته. وأما الصداق: فإن أصدقها مهر مثلها.. استحقت ذلك من رأس المال. وإن أصدقها أكثر من مهر مثلها: فإن ورثته.. كان ما زاد على مهر مثلها وصية لوارث على ما مضى. وإن لم ترثه، بأن كانت ذمية أو مملوكة، أو قتلته، أو ماتت قبله، أو أبانها، وقلنا: لا ترثه.. كان ما زاد على مهر مثلها وصية تعتبر من الثلث. وبه قال الشعبي، والنخعي، والأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك: (لا يصح نكاحه) . وقال الزهري: يصح نكاحه ولا ترثه الزوجة. وقال ربيعة: يصح، ولكن تستحق المهر في الثلث وإن لم يزد على مهر مثلها. دليلنا على مالك: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] (النساء: 3) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أحب فطرتي.. فليستن بسنتي، ومن سنتي: النكاح» .

ولم يفرق بين الصحيح والمريض. وروي عن معاذ: أنه مرض، فقال: (زوجوني، زوجوني؛ لا ألقى الله عزبا) . وقال ابن مسعود: (لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لا أحب أن أكون بغير زوجة) . وروي: (أن الزبير دخل على قدامة بن مظعون يعوده وهو مريض، فبشر الزبير ببنت وهو عنده، فقال له قدامة: زوجنيها، فقال له الزبير: ما تصنع بها وأنت على هذه الحالة؟! فقال قدامة: إن عشت.. فابنة الزبير، وإن مت.. فهي أحق من ورثني) ولا يعرف لهم مخالف. ودليلنا على الزهري: أنه معنى يورث به، فامستوى فيه الصحيح والمريض، كالإقرار بالنسب. ودليلنا على ربيعة: أنه عقد معاوضة، فاعتبر عوض المثل فيه من رأس المال، كالابتياع. إذا ثبت هذا: فإن تزوج مسلم ذمية في مرض موته بأكثر من مهر مثلها، فأسلمت قبل موته.. صارت وارثة له، وكان ما زاد على مهر مثلها وصية لوارث؛ لأن الاعتبار عند الموت لا عند العقد. وإن تزوج حر أمة لغير وارثه بأكثر من مهر مثلها في مرض موته، فأعتقت قبل

فرع أعتق في مرضه المخوف أمة

موته.. ورثته، وكان ما زاد على مهر مثلها وصية تلزم من الثلث لمولاها، ولا يجتمع الميراث والوصية لشخص. [فرع أعتق في مرضه المخوف أمة] إذا أعتق في مرض موته المخوف أمة له، وله مال تخرج من ثلثه.. فهل يصح لوليها الحر أن يزوجها بإذنها قبل موت السيد من مرضه ذلك، أو برئه منه؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس بن سريج، وأكثر أصحابنا: يصح نكاحها؛ لأن في ملك المريض مالا تخرج الجارية من ثلثه والظاهر بقاؤه، فنفذ عتقها في الحال، وصح تصرفها في بضعها، كما لو مات السيد وهي تخرج من ثلثه ولم يظهر عليه دين.. فإن لها أن تتصرف في بضعها. و [الثاني] : قال ابن الحداد، وابن اللبان، والقاضي أبو الطيب: لا يصح نكاحها؛ لأن عتقها موقوف على ما تبين في ثاني الحال. فإن برئ المريض من مرضه، أو مات، وخرجت من ثلثه.. نفذ عتقها. وإن لم تخرج من ثلثه ولم يجز الورثة.. لم ينفذ العتق في جميعها. وربما ظهر عليه دين يستغرق جميع التركة، فلا ينفذ العتق في شيء منها. وإذا كان كذلك.. لم يصح عقد النكاح على امرأة مشكوك في حريتها، كما لو أسلم وثني وتخلفت امرأته في الشرك.. لم يجز له أن يعقد النكاح على أختها قبل انقضاء عدتها. قال القاضي أبو الطيب وابن اللبان: وعلى هذا لو شهدت.. لم تقبل شهادتها، ولو جنت أو جني عليها.. لوقف ذلك، وإن قذفت غيرها.. لم تحد حد حرة، وإن قذفها قاذف.. لم يحد حد القذف، وأن مات لها من ترثه.. وقف ميراثها منه على ما نتبين من أمر المعتق. قالا: وكذلك لو وهب في مرضه المخوف لغيره جارية تخرج من ثلثه، وقبضها الموهوب له.. لم يجز له وطؤها قبل موت الواهب أو برئه من مرضه؛ لأن هبتها موقوفة على ما تبين من حاله، فلا يباح له وطء امرأة يشك في ملكها.

فرع أعتق أمته في مرضه المخوف وتزوجها قبل برئه

[فرع أعتق أمته في مرضه المخوف وتزوجها قبل برئه] ) : وإن أعتق في مرضه المخوف أمة له تخرج من ثلثه، فتزوجها قبل برئه من مرضه: قال القاضي أبو الطيب: فعلى قول ابن الحداد في المسألة قبلها لا يصح نكاحه لها. وبه قال ابن اللبان؛ لما ذكرناه في التي قبلها. وقال أبو العباس بن سريج، والشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: يصح النكاح. وقد حكاه القاضي أبو الطيب في " شرح المولدات " في موضع آخر عن ابن الحداد: أنه يصح. فإذا قلنا بهذا - وهو المشهور - ومات.. فإنها لا ترثه؛ لأن إثبات ميراثها يؤدي إلى نفيه؛ لأن عتقها في مرض الموت وصية لها، والوصية لا تصح للوارث، فلو ورثناها منه.. لبطل عتقها، وإذا بطل عتقها.. بطل ميراثها، وما أدى إثباته إلى نفيه.. بطل إثباته. قال الشيخ أبو حامد: وليس على مذهب الشافعي حرة مسلمة لا ترث زوجها إلا هذه. فعلى هذا: إذا تزوجها بمهر مثلها ولا ينقص مهرها ثلثه.. استحقت ذلك. وإن تزوجها على أكثر من مهر مثلها، والزيادة تخرج من ثلثه.. استحقت ذلك كله؛ لأنها ليست بوارثة له. وإن كان مهرها ينقص ثلثه، بأن كانت قيمتها مائة درهم، وله مائتا درهم عين، فتزوجها على مائتين أو بعضهما.. لم تستحق مهرا؛ لأنها لو استحقت ذلك.. لم يحصل للورثة مثلا قيمتها، فيرق بعضها، وإذا رق بعضها.. بطل نكاحها، وإذا بطل النكاح.. بطل المهر، وما أدى إثباته إلى نفيه بطل إثباته. وهذه حرة سليمة لا تستحق مهرها ولا نظير لها.

فإن أعتق المريض أمة قيمتها مائة لا مال له غيرها، وتزوجها في مرضه، ومات فإن قلنا بقول القاضي أبي الطيب، وابن اللبان.. فالنكاح باطل. وإن قلنا بقول أبي العباس، وعامة أصحابنا: فإن أجاز الورثة العتق بعد الموت، فإن قلنا: الإجازة تنفيذ لما فعله الموصي.. حكم بصحة النكاح، وعليها عدة الوفاة، ولا مهر لها سواء دخل بها أو لم يدخل؛ لأن إثباته يؤدي إلى إسقاطه على ما مضى. وإن قلنا: إن الإجازة ابتداء عتق من الورثة، أو لم يجيزوا.. كان النكاح باطلا. فإن كان السيد لم يطأها قبل موته.. فلا كلام. وإن كان قد وطئها بعد العتق، ومهر مثلها خمسون.. كان لها من مهر مثلها بقدر ما فيها من الحرية. فإن أبرأت منه. عتق ثلثها، ورق ثلثاها. وإن لم تبرئ منه.. دخلها الدور، فنقول: يعتق من الأمة شيء من الثلث، ولها من مهر مثلها نصف شيء من رأس المال، فبقي في يد الورثة جارية قيمتها مائة إلا شيئا ونصف شيء يعدل مثلي الشيء الخارج بالوصية، وذلك شيئان، فإذا جبرت المائة بالشيء والنصف، وزدت ذلك على الشيئين المعادلين.. عدلت المحنة إلى ثلاثة أشياء ونصف، فالشيء الواحد سبعا الجارية، فيعتق منها سبعاها، وتستحق سبعي مهرها، وهو مثل سبع رقبتها، فيقال للورثة: إن اخترتم أن تبيعوا سبع رقبتها، وتسلموا ثمنه إليها.. بقي معكم أربعة أسباع رقبتها، وذلك مثلا ما عتق منها. وإن اخترتم أن تعطوها سبعي مهرها من خاص أموالكم.. ملكتم خمسة أسباعها. وإن اختارت الأمة أن تأخذ سبع رقبتها بمهرها: قال ابن اللبان: كانت أحق به من الأجنبي. هذا هو المذهب. وفيها وجهان آخران، خرجهما أبو العباس: أحدهما: أن الذي غرمه السيد من مهرها يكون من الثلث؛ لأن ذلك خرج منه بسبب عتقه، ولا يخرج منه بالعتق وسببه أكثر من الثلث. وعلى هذا نقول: عتق منها شيء، ولها من مهرها نصف شيء، وبقي في يد الورثة جارية قيمتها مائة إلا شيئا ونصف شيء يعدل ثلاثة أشياء، فإذا جبرت.. عدلت

المائة أربعة أشياء ونصف، فالشيء تسعا الجارية فيعتق تسعاها، ولها تسعا مهرها، وهو مثل تسع رقبتها، فيباع في المهر ويسلم إليها، ويبقى مع الورثة ثلثاها. والوجه الثاني: يجعل مهرها هدرا، كما لو وطئها السيد ثم أعتقها. فعلى هذا: يعتق ثلثها ويرق ثلثاها، فإن أحبلها السيد.. ففيه وجهان: أحدهما: تعتق بموته بالإحبال لا بالإعتاق؛ لأن الميت لا ثلث له. والثاني: تعتق من حين أعتقها؛ لأنها لم تبق على ملك الميت حتى تجري فيها المواريث والوصية، وصار عتق الميت غير مانع للورثة من أن يرثوها.. فتكون كعتق الصحيح، ويجب لها المهر في ذمته. قال ابن اللبان: والأول أشبه بمذهب الشافعي. فإن ترك السيد معها مائة درهم.. فإنك تقول: عتق منها شيء بالوصية، ولها نصف شيء بالمهر تأخذه من المائة، ويعتق باقيها بالإحبال من رأس المال، فبقي في يد الورثة مائة إلا نصف شيء يعدل مثلي ما عتق منها، وذلك شيئان، فإذا جبرت المائة بما نقص منها وزدته على الشيئين.. عدلت المائة شيئين، ونصفا الشيء خمسا المائة وهو أربعون، فيعلم أن الذي عتق منها خمساها وقيمته أربعون، فتستحق خمسي مهرها وهو عشرون من المائة، ويبقى في يد الورثة ثمانون وهو مثلا ما عتق من الجارية. وعلى الوجه الذي يجعل ما غرمه السيد من المهر من ثلث يعدل المائة إلا نصف شيء ثلاثة أشياء فإذا جبرتها عدلت ثلاثة أشياء، ونصف الشيء سبعاها، فإذا استحقت سبعي مهرها - وهو سبع المائة - بقي في يد الورثة ستة أسباع المائة، وهو: مثلا ما عتق منها وأخذته بالمهر. وعلى الوجه الذي يجعل المهر هدرا: يعتق نصفها بالإعتاق، ونصفها بالإحبال، ويبقى في يد الورثة مائة، مثلا ما عتق منها بالإعتاق. وهكذا: إن أبرأت من مهرها، وقلنا: يجب عتق نصفها بالإعتاق، ونصفها بالإحبال.

فرع أعتق أم ولده في مرض موته ثم تزوجها بمهر مثلها

[فرع أعتق أم ولده في مرض موته ثم تزوجها بمهر مثلها] وإن أعتق أم ولده في مرض موته، ثم تزوجها قبل موته بمهر مثلها.. صح النكاح وجها واحدا، وورثته؛ لأن عتقها لا يعتبر من ثلث التركة؛ لأنها مستحقة للعتق بموته. فإن أصدقها أكثر من مهر مثلها.. كان ما زاد على مهر مثلها وصية لوارث على ما مضى؛ لأنها ترثه، فيثبت الميراث ولا تثبت الوصية؛ لأنهما لا يجتمعان.. وإنما أثبتنا الميراث؛ لأنه أقوى من الوصية؛ لأنه يثبت بغير اختياره، والوصية لا تثبت له إلا باختياره. [فرع أعتق في مرض موته جارية على أن تتزوج به] وإن أعتق في مرض موته جارية له على أن تتزوج به، ويكون عتقها صداقها، ورضيت به، فتزوجها قبل موته.. فإن عتقها يصح، ولا يلزمها أن تتزوج به؛ لأنه سلف في عقد، ويلزمها قيمتها لسيدها؛ لأنه ما رضي بزوال ملكه عنها إلا بعوض ولم تسلمه له، فيثبت له قيمتها، كما لو كاتبها على محرم وسلمته إليه. فإذا نكحها: صح نكاحه لها وجها واحدا؛ لأنها لا تعتق من ثلثه؛ لأنها تعتق عليه بعوض وترثه؛ لأن توريثها لا يؤدي إلى إبطال عتقها، فإن أصدقها مهر المثل.. استحقته. وإن أصدقها أكثر من مهر مثلها.. لم تستحق الزيادة من غير إجازة الورثة لأنها وارثة له. [فرع أعتقت في مرض موتها عبدها ثم تزوجته] ] : وإن أعتقت امرأة عبدا لها في مرضها المخوف، ثم تزوجت به ولها مال يخرج العبد من ثلثه:

فرع تزوج في مرض موته بأكثر من مهر المثل

فعلى قول القاضي أبي الطيب، وابن الحداد، وابن اللبان: النكاح باطل؛ لأن عتقه موقوف على ما يتبين من أمرها، ولا يجوز أن يقع عقد النكاح موقوفا. وعلى قول أبي العباس، وعامة أصحابنا: يصح النكاح، وإذا ماتت.. لم يرثها؛ لأن توريته منها يؤدي إلى إبطاله، على ما مضى في الأمة. [فرع تزوج في مرض موته بأكثر من مهر المثل] وإن تزوج امرأة في مرض موته بمائة درهم، ومهر مثلها خمسون، فماتت قبله، وورثها، ولا مال لهما غيرها.. فحسابه أن نقول: لها مهر مثلها خمسون، ولها مما بقي شيء وصية؛ لأنها لم ترثه، فلما ماتت قبله.. ورث عنها النصف - وهو: خمسة وعشرون - ونصف شيء، فصار في يد ورثة الزوج خمسة وسبعون إلا نصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرتها.. عدلت شيئين، ونصفا الشيء خمسا ذلك - وهو: ثلاثون، وهو الذي صح لها بالمحاباة مع مهر مثلها - فذلك ثمانون، وبقي في يد الزوج عشرون، فلما ماتت قبله.. ورث عنها نصف ما بيدها أربعين - وهو: نصف مهر مثلها - ونصف شيء، فصار معه ستون، مثلا المحاباة. فلو ترك الزوج سوى الصداق خمسين، أو تركت الزوجة مائة: تمت المحاباة للزوجة. فإن ترك الزوج سوى الصداق عشرين، وتركت الزوجة أيضا ثلاثين.. فحسابه أن يقول: لها مهر مثلها خمسون، ولها مما بقي شيء محاباة مع الثلاثين التي لها.. فتكون تركتها ثمانين وشيئا، ويرث الزوج نصفها، يضمه إلى باقي المائة في يد الزوج، وإلى العشرين، فيصير في يده مائة وعشرة إلا نصف شيء يعدل شيئين. فإذا جبرتها.. عدلت شيئين، ونصفا الشيء خمسا ذلك - وهو: أربعة وأربعون - فتأخذ الزوجة ذلك مع مهر مثلها، وتضمه إلى الثلاثين.. فيكون جميع تركتها مائة وأربعة وعشرين، فيرث الزوج نصف ذلك - وهو: اثنان وستون - وقد بقي في يده من المائة ستة والعشرون الأخرى، فذلك كله ثمانية وثمانون مثلا المحاباة.

مسألة شراء وبيع من في مرض الموت

وإن كان على كل واحد عشرون دينا، ولا مال لهما غير المائة.. فحسابه أن تقول: لها مهر مثلها خمسون، ولها شيء محاباة، يخرج منها عشرون دينها، بقي لها ثلاثون وشيء يرث الزوج نصف ذلك - وهو: خمسة عشر - ونصف شيء يضمه إلى ما بقي معه، فيصير خمسة وستين إلا نصف شيء، يخرج دينه عشرون، فيبقى لورثته خمسة وأربعون إلا نصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين، ونصفا الشيء خمسا ذلك - وهو: ثمانية عشر - فيصح لها ذلك مع مهر مثلها، فيصير ثمانية وستين، فإذا خرج لدينها عشرون، بقي ثمانية وأربعون.. فيرث الزوج أربعة وعشرين مع اثنين وثلاثين يبقى معه من المائة، فذلك ستة وخمسون، فإذا خرج لدينه عشرون.. بقي لورثته ستة وثلاثون، وهو مثلا ما صح لها بالمحاباة. [مسألة شراء وبيع من في مرض الموت] ] : وإذا اشترى شيئا في مرض موته، أو باعه بثمن المثل.. صح ذلك ولم يعتبر من الثلث؛ لأن ما رجع إليه مثل ما خرج منه. وإن اشترى شيئا في مرض موته أو باعه، وحابى في ذلك.. اعتبرت المحاباة من ثلث التركة. وقال ابن اللبان: القياس يقتضي أن يبطل بيع المريض وشراؤه إذا كان فيهما محاباة؛ لأنه لا يجوز أن يقع العقد موقوفا، على ما تبين في باقي الحال. والمشهور هو الأول، وعليه التفريع، وقد مضى ذلك في البيوع. [فرع شراء من يعتق عليه في مرض موته] وإن اشترى ابنه أو أباه في مرض موته.. عتق من ثلثه ولا يرثه؛ لأن عتقه وصية، ولا يجتمع له الميراث والوصية.

وإن اشتراه بمحاباة، واحتمل الثلث عتقه والمحاباة.. عتق، ولزمت المحاباة للبائع. وإن لم يحتملهما الثلث.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدهما - وهو المشهور - أن المحاباة تقدم في الثلث؛ لأن البائع ملك الثمن في حال ما ملك المشتري المبيع، ثم يعتق عليه بعد ذلك من الثلث. فإذا استغرقت المحاباة الثلث.. لم يعتق عليه، وورث عنه. والثاني - وهو قول أبي العباس ابن سريج -: أن البيع لا يصح؛ لأن تصحيحه يؤدي إلى أن يملك الإنسان أباه أو ابنه، ولا يعتق عليه، وذلك يخالف مقتضى العقد، فلم يصح. والثالث: وهو قول ابن اللبان: أن الثلث يقسم بين العتق والمحاباة على قدرهما؛ لأن في تقديم أحدهما إبطالا للآخر، وليس أحدهما بأولى من الآخر. وإن اشتراه في مرض موته بثمن مثله، وعليه دين يستغرق ماله. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس ابن سريج: لا يصح الشراء؛ لأن تصحيحه يؤدي إلى أن يملك أباه أو ابنه، ولا يعتق عليه، فلم يصح، كما لا يصح شراء الكافر للعبد المسلم. والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا -: يصح الشراء، ولا يعتق عليه، ويباع في الدين، وهو الأصح؛ لأن موجب الشراء الملك، والدين لا يمنع منه، فلم يمنع صحة الشراء.. وعتقه معتبر من الثلث، والدين يمنع منه كما يمنع الدين العتق بالإعتاق. ويخالف شراء الكافر للمسلم، فإن الكفر يمنع الملك للعبد المسلم. وإن كان ماله مائتي درهم وأمة تساوي مائة درهم ولا يملك غير ذلك، فأعتق الأمة في مرض موته، ثم اشترى أباه أو ابنه.. قدم عتق الأمة. وعلى قول أبي العباس: لا يصح الشراء؛ لأنه لا يملكه، وهو لا يعتق عليه. وعلى قول سائر أصحابنا: يصح الشراء، ولا يعتق عليه، بل يورث عنه، فإن كان في ورثته من يعتق عليه إذا ملكه.. عتق عليه نصيبه دون الباقي. وإن كانوا ممن لا يعتق عليه.. استقر ملكهم عليه.

فرع ورث من يعتق عليه

وهكذا: لو أبرأ البائع المشتري من الثمن، أو برئ من مرضه.. عتق عليه. [فرع ورث من يعتق عليه] بالملك في مرض موته بالملك في مرض موته] : وإن ورث من يعتق عليه بالملك في مرض موته، ولا دين على الوارث.. ففيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب. أحدهما: أنه يعتق عليه من ثلثه؛ لأنه ملكه في مرض موته وعتق عليه، فهو كما لو اشتراه. والثاني - وهو الأصح -: أنه يعتق عليه من رأس ماله؛ لأنه دخل في ملكه بغير اختياره، وعتق عليه بغير اختياره، فهو كما لو تلف شيء من ماله في مرض موته، بخلاف ما لو اشتراه. وإن وهب له فقبله وقبضه في مرض موته، أو وصى له به فقبله في مرض موته، ولا دين عليه. فإن قلنا: إنه إذا ورثه في مرض موته يعتق عليه من ثلثه.. فهاهنا أولى. وإن قلنا في الميراث: يعتق عليه من رأس ماله.. ففي الهبة والوصية وجهان: أحدهما: أنه يعتق عليه من رأس ماله؛ لأنه دخل في ملكه بغير عوض. والثاني - وهو الأصح: أنه يعتق عليه من ثلثه؛ لأنه دخل في ملكه باختياره للقبول، فعتق من ثلثه، كما لو اشتراه. فكل موضع قلنا: إنه يعتق من رأس المال.. فإنه يرث من معتقه؛ لأن عتقه ليس بوصية. وكل موضع قلنا: إنه يعتق من الثلث.. فإنه لا يرث من المعتق؛ لأن عتقه وصية، ولا يجتمع له الميراث والوصية.

فرع وهب له من يعتق عليه في مرض موته

وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يرث بحال، وليس بشيء؛ لأنه إذا لم يكن عتقه وصية.. لم يناف الميراث. وأما إذا ورثه، أو قبل وصيته، أو قبضه في هبة في مرض موته، وعليه دين يستغرق تركته: فإن قلنا: إنه يعتق إذا لم يكن عليه دين من رأس المال.. عتق هاهنا، ولا يباع في الدين. وإن قلنا هناك: إنه يعتق من الثلث.. فهاهنا وجهان: أحدهما - وهو الأصح -: أنه يملكه ويباع في الدين؛ لأن العتق من الثلث لا يكون إلا بعد الدين. والثاني - وهو قول أبي العباس -: أنه لا يصح قبوله في الهبة أو الوصية، بل يكون على ملك الواهب، أو ورثة الموصى؛ لئلا يملكه ولا يعتق عليه. [فرع وهب له من يعتق عليه في مرض موته] إذا وهب له من يعتق عليه في مرض موته، أو وصى له به فقبله، ثم أعتق الموهوب عبدا له آخر، فإن احتملهما الثلث.. عتقا. وإن احتمل الثلث أحدهما لا غير: فإن قلنا: إن عتق الموهوب أو الموصى به من رأس المال.. عتقا جميعا. وإن قلنا: إن عتق الموهوب أو الموصى به من الثلث.. قدم عتق الموهوب أو الموصى به في الثلث، ووقف عتق الآخر على إجازة الورثة. وإن بدأ فأعتق عبدا له قيمته جميع ثلثه في مرض موته، ثم وهبه له من يعتق عليه أو وصى له به فقبل: فإن قلنا: يعتق الموهوب أو الموصى به من رأس المال.. عتقا جميعا.

وإن قلنا: يعتق الموهوب أو الموصى به من الثلث.. قدم عتق الأول في الثلث، وفي الموهوب أو الموصى به وجهان: أحدهما: لا يعتق ويرثه ورثة الموهوب. والثاني: لا تصح هبته ولا الوصية له به. والله أعلم.

باب جامع الوصايا

[باب جامع الوصايا] إذا أوصى لجيرانه.. فإنه يصرف إلى أربعين دارا من كل جانب وقال أبو حنيفة: (يكون ذلك للجار الذي يلاصقه) وقال أبو يوسف: (هو لأهل الدرب) . قال أحمد: (هو لأهل المسجد والجماعة ممن يسمع النداء والإقامة) . دليلنا: ما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن حد الجوار؟ فقال: " أربعون دارا، هكذا، وهكذا، وهكذا، وهكذا، يمينا وشمالا وقداما وخلفا ". وبعضهم يرويه: أربعون ذراعا» .

مسألة أوصى لقراء القرآن

[مسألة أوصى لقراء القرآن] وإن وصى لقراء القرآن.. كان ذلك لمن يحفظ جميع القرآن. وهل يدخل فيه من يحفظ بعضه؟ فيه وجهان: أحدهما: يدخل فيه؛ لعموم قوله. والثاني: لا يدخل فيه؛ لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف إلا على من يحفظ جميعه. وإن وصى للفقهاء.. صرف إلى الفقهاء دون الأصوليين والنحاة، وأهل اللغة والطب. ولا يدخل فيه من يسمع الحديث ولا يعرف طرقه؛ لأنه لا يطلق اسم الفقيه إلا على الفقهاء. وإن وصى إلى العلماء.. صرف إلى كل عالم بأصول الشريعة وفروعها دون غيرهم. [فرع أوصى لأعقل الناس] وإن وصى لأعقل الناس.. قال الشافعي: (صرف ذلك إلى أورع الناس وأزهدهم؛ لأن العقل: المنع، وأعقل الناس: أمنعهم عن المحارم) . قال أصحابنا: وعلى هذا القياس إذا وصى لأجهل الناس وأسفلهم.. صرف ذلك إلى من يسب الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وإلى أهل الذمة؛ لأنهم أجهل الناس لمخالفتهم الدلائل الواضحة. [فرع أوصى لمسجد أو سقاية] وإن وصى بثلثه لمسجد أو لسقاية، أو لبناء مسجد أو بناء سقاية، أو أوصى بأن يوقف ذلك عليه.. قال الشيخ أبو حامد: صح ذلك؛ لأنه وصية في طاعة.

مسألة أوصى للأيتام

وإن وصى بثلثه لمفاداة أسارى المشركين من أيدي المسلمين: قال ابن الصباغ: صحت الوصية؛ لأن المفاداة جائزة فصحت الوصية له. قال الشافعي: (وإن وصى بمصحف لذمي.. فالوصية باطلة) . قال أصحابنا: هذا على أحد القولين، إذا قلنا: لا يصح شراؤه له. [مسألة أوصى للأيتام] وإن أوصى للأيتام.. صرف إلى الصغار الفقراء ممن لا أب له؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد الحلم» . ولأن اليتم في بني آدم: فقد الأب، وفي البهائم: فقد الأم. وهل يدخل فيه من كان صغيرا غنيا لا أب له؟ فيه وجهان: أحدهما: يدخل فيه؛ لأنه يتيم بفقد الأب. والثاني: لا يدخل فيه؛ لأن هذا الاسم لا يطلق في العادة إلا على الفقير الصغير الذي لا أب له. [فرع أوصى للأرامل] وإن وصى للأرامل.. دخل فيه كل امرأة فقيرة لا زوج لها. وهل يدخل فيه من لا زوج لها إذا كانت غنية؟ على الوجهين في الصغير الغني. وهل يدخل فيه من لا زوجة له من الرجال؟ فيه وجهان:

مسألة أوصى للشيوخ

أحدهما: لا يدخل؛ لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف على الرجال. والثاني: يدخل فيه؛ لأنه قد يسمى من لا زوجة له من الرجال أرمل. [مسألة أوصى للشيوخ] قال الشيخ أبو إسحاق: وإن وصى للشيوخ.. أعطي من جاوز الأربعين سنة. وإن وصى للفتيان والشباب.. أعطي من جاوز البلوغ إلى الثلاثين. وإن وصى للغلمان والصبيان.. أعطي من لم يبلغ؛ لأن هذه الأسماء لا تطلق إلا على من ذكرناه. [مسألة أوصى للفقراء والمساكين] الفقراء والمساكين صنفان: فالفقير أمس حاجة من المسكين. و (الفقير) هو الذي: الذي لا شيء له، أو له شيء لا يقع موقعا من كفايته، مثل أن كان يحتاج في كل يوم إلى عشرة دراهم، ولا يجد إلا درهما أو درهمين. و (المسكين) هو: الذي لا يجد ما يكفيه ويجد ما يقع موقعا من كفايته، بأن كان يجد في كل يوم ثمانية دراهم، وهو يحتاج إلى عشرة. فإذا أوصى بثلثه للمساكين.. جاز أن يصرف إلى المساكين والفقراء. وإن وصى. للفقراء.. جاز أن يصرف إلى الفقراء والمساكين؛ لأن معناه أنه للمحتاجين، والفقراء والمساكين محتاجون. وحكى أبو إسحاق المروزي: أن الشافعي قال: (إذا أوصى للفقراء.. لم يجز أن

فرع أوصى لغير الفقراء والمساكين ممن يستحق الزكاة

يدفع منه شيء على المساكين؛ لأن الفقراء أمس حاجة من المساكين) . والمشهور هو الأول. وإن وصى للفقراء والمساكين.. وجب أن يصرف النصف إلى الفقراء، والنصف إلى المساكين؛ لأن الجمع بينهما في الوصية يقتضي الجمع بينهما في العطية. ويصرف ذلك إلى فقراء بلد الموصي ومساكينه؛ لأن كلام الآدمي يحمل على المعهود في الشرع، فلما كانت صدقة المال تختص بفقراء البلد ومساكينه، فكذلك الوصية لهم. فإن نقل عنهم إلى بلد آخر.. كان على الخلاف في نقل الصدقة. قال الشافعي: (وإن فضل شيء من الثلث عن فقراء بلده.. نقل إلى أقرب البلدان إليه) . وأقل ما يجزئ: أن يدفع إلى ثلاثة من كل صنف، غير أن المستحب أن يعم من في البلد من الصنف الموصى له إن أمكنه، كما قلنا في الزكاة. [فرع أوصى لغير الفقراء والمساكين ممن يستحق الزكاة] وإن وصى للمؤلفة قلوبهم أو للرقاب أو للغارمين أو لسبيل الله أو لابن السبيل.. صرف إلى من يصرف إليه الزكاة منهم على ما بيناه في قسم الزكاة؛ لأنه قد ثبت لهذه الأسماء عرف في الشرع، فحمل مطلق كلام الآدمي عليه. [فرع أوصى لمعين من الفقراء] وإن أوصى بثلثه لزيد وللفقراء.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (هو كأحدهم) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال بظاهره، وأن المستحب أن يعم فقراء البلد، ويعطي زيدا كأحدهم. وأقل ما يجزئ أن يدفع إلى ثلاثة من الفقراء. وأفاد ما ذكره هاهنا: أنه لا يجوز الإخلال به.

فرع وصى لزيد بدينار

وهل يشترط على هذا أن يكون زيد فقيرا؟ فيه وجهان. فمنهم من قال: يجب أن يصرف إلى زيد نصف الثلث، وإلى الفقراء النصف؛ لأنه أضاف الثلث إلى زيد وإلى الفقراء، فصار كما لو قال: هذه الدار لزيد وللفقراء. ومنهم من قال: يجب أن يصرف إلى زيد ربع الثلث، وإلى الفقراء ثلاثة أرباعه؛ لأن أقل ما يجزئ أن يدفع إلى ثلاثة من الفقراء، فكأنه أوصى لأربعة فقراء. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: إن قال: أعطوا زيدا الفقير والفقراء، أو زيدا المسكين والمساكين.. كان على الأوجه الثلاثة. وإن قال: أعطوا زيدا والفقراء.. كان في قدر ما يعطى زيد وجهان: أحدهما: النصف. والثاني: الربع. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: تبطل الوصية لزيد؛ لأنه جعله كأحدهم، فإذا لم يعلم عددهم وتعذر حصرهم.. صار ما يخصه مجهولا، فبطل. [فرع وصى لزيد بدينار] وإن وصى لزيد بدينار وبثلاثة للفقراء، وزيد فقير.. لم يعط غير الدينار؛ لأنه قطع اجتهاد الوصي فيه بتقدير حقه بالدينار. وإن وصى بثلاثة لزيد وعمرو، فرد عمرو وصيته، وقبل زيد وصيته.. لم يتوفر الثلاثة على زيد، بل يكون لزيد نصف الثلاثة؛ لأنه وصى لكل واحد منهما بنصف الثلاثة، فإذا رد أحدهما وصيته.. كان ذلك للورثة.

مسألة الوصية لقبيلة

[مسألة الوصية لقبيلة] وإن وصى لقبيلة لا ينحصر عددهم، كبني بكر وبني تميم.. ففيه قولان: أحدهما: تصح الوصية، ويجوز أن يصرف إلى ثلاثة منهم فما زاد، كما قلنا في الوصية للفقراء. والثاني: لا تصح الوصية لهم؛ لأنه لا يمكن حصرهم ولا عرف لما يعطى منهم في الشرع، بخلاف الفقراء. وإن وصى لزيد ولبني تميم، فإن قلنا: إن الوصية لبني تميم تصح.. ففي قدر ما يستحقه زيد معهم الأوجه التي ذكرناها في الوصية لزيد وللفقراء. ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: إنه كأحدهم.. بطلت الوصية له هاهنا؛ لأنه لا يعرف عددهم الذين يضم إليهم، فلا يعرف قدر نصيبه، وليس بشيء؛ لأنه يعلم أنه أوصى له بشيء في الجملة. وإن لم يعرف.. فهو كما لو أوصى له بشيء من ماله. وإن قلنا: لا تصح الوصية لبني تميم.. ففي قدر ما يستحقه زيد الأوجه في الوصية له وللفقراء، وما زاد على ذلك يرجع إلى الورثة. [فرع الوصية بالثلث دون تعيين] وإن قال: أوصيت بثلث مالي، وأطلق.. صح ذلك، وصرف إلى الفقراء والمساكين؛ لأن المعهود في الشرع أن الصدقات لهم، فحمل مطلق كلام الآدمي عليه. [مسألة ضع ثلثي فيما أراك الله] قال الشافعي في " الأم ": (إذا قال للوصي: ضع ثلثي فيمن يريك الله، أو حيث ترى، أو فيما يقربني إلى الله، أو في جهة البر وجهة الثواب.. صرف ذلك إلى الفقراء والمساكين؛ لأن ذلك جهة البر والثواب) . ويستحب أن يقدم في ذلك من لا يرث

مسألة وصى لزيد وملك

الموصي من أقاربه، وذوي رحمه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقتك على ذي رحمك: صدقة وصلة» . فإن لم يكن له ذو رحم من النسب.. فمن الرضاع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» . فإن لم يكن له ذلك.. فإلى جيران الموصي؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى خشيت أنه سيورثه» . ولو دفعه الوصي إلى من يرث الموصي.. لم يصح؛ لأن الوصية للوارث لا تصح. ولا يجوز للوصي أن يضعه في نفسه، كما لو وكله في البيع.. لم يجز أن يبيع من نفسه. [مسألة وصى لزيد وملك] وإن وصى لزيد ولجبريل بثلث ماله.. كان لزيد نصف الثلث، وتبطل الوصية لجبريل. وإن وصى لزيد وللرياح بثلث ماله.. ففيه وجهان: أحدهما: أن لزيد نصف الثلث، وتبطل الوصية في النصف، كما قلنا في التي قبلها.

فرع أوصى لعقب زيد

والثاني: أن جميع الثلث لزيد، وذكر الرياح لغو. هذا ترتيب الشيخ أبي إسحاق وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا أوصى بثلثه لزيد وللملائكة، أو للرياح.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدهما: أن لزيد نصف الثلث، وتبطل في النصف الآخر، كما لو أوصى بثلثه لوارثه ولأجنبي. والثاني: أن جميع الثلث لزيد. والثالث: أن لزيد منه ما يقع عليه اسم شيء تخريجا من نص الشافعي: إذا أوصى لزيد ولمن لا يحصى. وإن وصى بثلثه لحي ولميت.. فللحي نصف الثلث، وتبطل الوصية للميت. وقال أبو حنيفة: (الثلث كله للحي) . وحكاه المسعودي [في " الإبانة "] قولا آخر لنا، وليس بمشهور. وإن قال: ثلثي لله ولزيد.. ففيه وجهان: أحدهما: أن جميع الثلث لزيد، واسم الله للتبرك. والثاني: أن لزيد نصف الثلث، ونصفه للفقراء والمساكين؛ لأن عامة ما يجب لله يصرف إلى الفقراء والمساكين، فصار كما لو قال: ثلثي لزيد وللفقراء. [فرع أوصى لعقب زيد] إذا أوصى لعقب زيد، فمات الموصي وزيد حي، ثم مات زيد.. كانت الوصية لولده. وإن وصى لأولاد زيد.. صرف إلى أولاده الموجودين يوم عقد الوصية، دون من يولد بعده. وقال أبو حنيفة: (يصرف إلى الموجودين يوم موت الموصي) . وقبل: إنه قول لنا.

فرع الوصية لدابة فلان

[فرع الوصية لدابة فلان] قال في " العدة ": إذا قال: أوصيت لدابة فلان.. سئل: فإن قال: أردت أن الدابة تملك ذلك.. لم يكن شيئا؛ لاستحالة أنها تملك. وإن قال: أردت به أنها تعلف به.. فهل يشترط قبول مالكها؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يشترط قبوله؛ لأن نفقتها على مالكها، فهو في الحقيقة وصية له كما لو وصى لعمارة دار فلان.. فالقبول إليه. والثاني: أنه لا يشترط قبوله، كما لو وصى بعمارة مسجد أو قنطرة. فإذا قلنا بالأول: كان الموصى به لمالك الدابة، إن شاء أنفقه على الدابة، وإن شاء أمسكه على نفسه وأنفق عليها من حيث شاء. ومن قال بالثاني، قال: ينفق الوصي ذلك على الدابة، فإن لم يكن وصي.. أنفقه رب الدابة عليها؛ لأن الوصي قصد ذلك، ولعله علم أن رب الدابة لا ينفق عليها وأراد إحياء نفسها، وفي ذلك قربة وطاعة. وإن مات الموصي قبل أن يبين.. رجع إلى ورثته: فإن قالوا: أرد أن تعلف به الدابة.. صحت الوصية. وإن قالوا: أراد تمليكها.. حلفوا على ذلك، وبطلت الوصية؛ لأن الدابة لا تملك. وإن قالوا: لا ندري ما أراد.. كان كما لو قال: أوصيت لها، ولا نية له.. فتبطل الوصية؛ لأن الدابة لا تملك. قال أبو علي السنجي: فعلى هذا: إذا قال: وقفت أرضي هذه على المسجد أو على الكعبة، سئل، فإذا قال: أردت على عمارتها.. صح وإن قال: أردت أن تكون المنافع ملكا للمسجد أو للكعبة، أو قال: لا نية لي.. لم يصح؛ لأن المسجد والكعبة لا يملكان. وإن مات قبل أن يبين.. رجع إلى ورثته، وإذا صحت الوصية للكعبة.. صرف إلى عمارتها.

مسألة أوصى لرجل بقسط من ماله

وقال أبو حنيفة: (تصرف إلى مساكين مكة) وهو وجه لبعض أصحابنا الخراسانيين. [مسألة أوصى لرجل بقسط من ماله] إذا أوصى رجل لرجل بنصيب من ماله، أو بحظ أو بقسط أو بجزء أو بقليل أو كثير.. فإن شيئا من هذه الألفاظ لا يقدر بشيء مملوك، بل أي شيء أعطاه الوارث جاز؛ لأنه ليس له حد معلوم في اللغة ولا في الشرع، وهذا لا خلاف فيه. وأما إذا أوصى له بسهم من ماله: فعندنا لا يتقدر ذلك بشيء معلوم، بل أي شيء أعطاه الوارث قبل منه. وقال أبو يوسف ومحمد: يدفع إليه مثل نصيب أقل ورثته نصيبا، ما لم يكن نصيب أقل ورثته أقل من الثلث، فإن كان أقل من الثلث.. أعطي الثلث. وعن أبي حنيفة روايتان: إحداهما: (أن له مثل أخس ورثته نصيبا، ما لم يكن أقل من السدس، فإن كان أقل من السدس.. أعطي السدس) . والثانية: (أن له مثل أخس ورثته نصيبا، ما لم يزد على السدس، فإن زاد على السدس.. كان له السدس) . دليلنا: أن السهم لا يتقدر في اللغة ولا في الشرع بشيء معلوم. ولهذا يقال: له في هذه الدار سهم، وقد يكون قليلا، وقد يكون كثيرا، فهو كما لو أوصى له بحظ أو نصيب من ماله. [مسألة أوصى لرجل بمثل نصيب وريثه الوحيد] إذا كان لرجل ابن لا غير فأوصى لرجل بمثل نصيب ابنه.. كانت الوصية بنصف المال، فتلزم الوصية بالثلث، وتوقف الوصية بالسدس على إجازة الوارث. وبه قال أبو حنيفة.

فرع أوصى بمثل نصيب ابنته الوحيدة

وقال مالك: (تكون الوصية بجميع المال، فيلزم في الثلث ويوقف في الثلثين على إجازة الوارث) . دليلنا: أن قوله: أوصيت بمثل نصيب ابني، يحتمل أنه أراد: بمثل نصيب ابني لو لم أوص، فتكون الوصية بجميع المال. ويحتمل أنه أراد: بمثل نصيب ابني لو كان معه وارثا، فتكون الوصية بالنصف، فإذا احتمل هذين.. كانت الوصية بالنصف؛ لأنه يقين، ولأنه قد جعل لابنه نصيبا، وهذا يقتضي اشتراكهما. وإن كان له ابنان، فقال: أوصيت لفلان بمثل نصيب ابني، أو أحد ابني.. كانت الوصية بالثلث؛ لأن معناه مع دخول الموصى له مع ولديه ووجوب حقه في تركته فصار المال بينهم أثلاثا. [فرع أوصى بمثل نصيب ابنته الوحيدة] وإن كان له ابنة واحدة، فقال أوصيت لفلان بمثل نصيب ابنتي.. كانت الوصية بالثلث؛ لأن تقدير هذا: أنه يجعل الموصى له كأنه ابنة له أخرى، ولو كان هناك ابنة أخرى.. لكان لهما ثلثا المال ولبيت المال الثلث، فكذلك هاهنا مثله. فإن كان له ولد خنثى لا غير، فقال: أوصيت لفلان بمثل نصيب ولدي.. أعطي الموصى له الثلث، والخنثى الثلث، ووقف الباقي: فإن بان الخنثى امرأة.. فقد استوفى الخنثى حقه والموصى له حقه. وإن بان الخنثى رجلا.. علمنا أن الوصية وقعت في النصف، فتعتبر إجازة الابن في السدس.

فرع وصى بنصيب ابنين

[فرع وصى بنصيب ابنين] وإن قال: أوصيت له بنصيب ابني.. فقد قال أبو حنيفة: (الوصية باطلة) . وقال مالك: (هو كما لو قال: أوصيت له بمثل نصيب ابني) فتكون الوصية عنده بجميع المال. وليس للشافعي فيها نص. واختلف أصحابنا فيها: فقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: هو كما قال أبو حنيفة؛ لأنه أوصى له بنصيب ابنه، ونصيبه ما استحقه بوفاة أبيه، فلا تصح الوصية به، كما لو وصى بمال لابنه من غير الميراث. ويفارق إذا أوصى له بمثل نصيب ابنه؛ لأنه أوصى له بقدر نصيب ابنه. ومنهم من قال: هو كما لو أوصى له بمثل نصيب ابنه، فيكون موصيا له بالنصف؛ لأن معناه يؤول إلى معنى مثل نصيب ابنه، كما يقال للزوجة: لها مهر مثلها، ولا يكون ذلك لها، وإنما يكون لها مثل مهر مثلها. وإن أوصى له بمثل نصيب ابنه وليس له إلا ابن قاتل له، أو مملوك.. فالوصية باطلة؛ لأنه أوصى بمثل نصيب من لا نصيب له، فهو كما لو أوصى بمثل نصيب أخيه وله ابن. [فرع أوصى بمثل نصيب أحد أبنائه] وإن كان له أولاد ذكور ونساء، فأوصى لآخر بمثل نصيب أحد أولاده.. فإنه يدفع إليه مثل نصيب بنت؛ لأنها أحد أولاده. فإن كان له ابنان وبنت.. كان فريضتهم من خمسة، ويزاد للموصى له سهم سادس. وهكذا لو قال: أوصيت له بمثل نصيب أحد ورثتي.. أعطي الموصى له مثل نصيب أقل الورثة نصيبا، من زوجة أو غيره؛ لأنه اليقين.

مسألة أوصى له بضعف نصيب أحد الورثة

[مسألة أوصى له بضعف نصيب أحد الورثة] وإن أوصى له بضعف نصيب أحد ورثته.. أعطي الموصى له مثلي نصيب أقل الورثة نصيبا. فإن خلف بنتا وبنت ابن وأختا لأب وأم.. كان لابنة الابن السدس، سهم من ستة، فيزاد للموصى له مثلا نصيبها - وهو سهمان - فتقسم التركة على ثمانية: للابنة ثلاثة، وللأخت سهمان، ولابنة الابن سهم، وللموصى له سهمان. وهذا قول كافة العلماء إلا أبا عبيد القاسم بن سلام فإنه قال: الضعف عبارة عن مثل الشيء مرة؛ لقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] [الأحزاب: 30] : فلما ثبت بالإجماع أنه أراد بذلك حدين.. علم أن الضعفين عبارة عن مثلي الشيء، وأن الضعف عبارة عن مثل الشيء. ودليلنا: ما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أضعف الصدقة على نصارى بني تغلب - أي أخذ منهم مثلي ما يأخذ من المسلمين) فعلم أن الضعف عبارة عن الشيء ومثله. وأما الآية: فظاهرها أنه كان يجب عليهن ثلاثة حدود، وإنما ترك ذلك بدليل وهو قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] [الأحزاب: 31] : فلما جعل ثوابهن مثلي ثواب غيرهن.. لم يجز أن يكون عذابهن أكثر من مثلي عذاب غيرهن؛ لأن جزاء السيئة لا يجوز أن يكون أكثر من جزاء الحسنة؛ لأن الله أخبر أنه يجازي بالحسنة عشر أمثالها، ويجازي بالسيئة مثلها.

فرع الوصية لجماعة بوصايا مختلفة

وإن قال: وصيت له بضعفي نصيب أحد ورثتي.. كان له ثلاثة أمثال نصيب أقل ورثته نصيبا. وقال أبو ثور: (الضعفان عبارة عن أربعة أمثال نصيب أقلهم) وهذا غلط؛ لأن الضعف لما كان عبارة عن الشيء ومثله.. كان الضعفان عبارة عن الشيء ومثليه. [فرع الوصية لجماعة بوصايا مختلفة] إذا أوصى لجماعة بوصايا مختلفة، ثم قال: أوصيت لفلان بمثل ما أوصيت به لأحد الناس.. أعطي مثل أقلهم وصية؛ لأنه يقين، وما زاد فهو مشكوك فيه. [مسألة وصى لرجل بنصف ماله ولأخر بثلثه] إذا أوصى لرجل بنصف ماله، ولآخر بثلث ماله، فإن أجاز الورثة.. قسمت التركة على ستة أسهم، للموصى له بالنصف ثلاثة أسهم، وللموصى له بالثلث سهمان، وللورثة سهم. وإن لم يجيزوا.. قسموا المال على خمسة عشر سهما، للورثة عشرة ولصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث سهمان. وبه قال الحسن، والنخعي، ومالك، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة: (من أوصى له بزيادة على الثلث.. سقطت الزيادة على الثلث، وصارت بالثلث؛ لا غير) . وعلى هذا يكون الثلث بينهما نصفين. دليلنا: أنها وصايا لو كانت بالثلث فما دون وقسمت.. لقسمت على التفضيل. فإذا كانت أكثر من الثلث.. قسمت على التفضيل، كالوصايا المرسلة، وهو إذا وصى لرجل بألف درهم، ولآخر بألف، ولآخر بخمسمائة، وكان ماله ألفين.. فإن أبا حنيفة وافقنا إذا لم يجز الورثة أن الثلث يقسم بينهم على التفضيل.

فرع وصى لرجل بنصف ولآخر بثلث ولآخربربع

[فرع وصى لرجل بنصف ولآخر بثلث ولآخربربع] فرع: [وصى لرجل بنصف ولآخر بثلث ولآخر بربع] : وإذا أوصى لرجل بنصف ماله، ولآخر بثلث ماله، ولآخر بربع ماله: فإن أجاز الورثة الوصايا.. قسمت التركة على ثلاثة عشر سهما، للموصى له بالنصف: ستة أسهم، ولصاحب الثلث: أربعة، ولصاحب الربع: ثلاثة؛ لأن الوصايا ليست بآكد من المواريث ثم التركة إذا ضاقت أعيلت بالسهم الزائد، فالوصايا بذلك أولى. وإن لم يجيزوا.. قسم الثلث على ثلاثة عشر سهما على ما مضى. وعند أبي حنيفة: (لا يضارب الموصى له بالنصف إلا بالثلث) فتقسم التركة على أحد عشر سهما، للموصى له بالنصف: أربعة، وللموصى له بالثلث: أربعة، وللموصى له بالربع: ثلاثة. وقد مض الدليل عليه. وإن وصى لرجل بجميع ماله، ولآخر بثلث ماله: فإن أجاز الوارث.. قسم المال على أربعة أسهم، للموصى له بجميع المال: ثلاثة، وللموصى له بالثلث: سهم وإن لم يجز الورثة.. قسم الثلث على أربعة. وعند أبي حنيفة روايتان عند الإجازة: إحداهما: كقولنا، رواها عنه محمد وأبو يوسف. والأخرى - رواها عنه الحسن بن زياد -: (أن المال بينهما عند الإجازة على ستة أسهم، للموصى له بالجميع: خمسة، وللموصى له بالثلث: سهم) . دليلنا: أن أقل مال له: ثلث ثلاثة، وثلثه: سهم فقسم على أربعة. [فرع أوصى بمثل نصيب ابنه ثم لآخر بمثل نصيبه] فإن كان لرجل ابن واحد لا غير، فأوصى لرجل بمثل نصيب ابنه، ثم أوصى لآخر بمثل نصيبه أيضا:

فرع أوصى بثلث ماله لأجنبي ولوارث

فإن أجاز الابن لهما.. قسم المال بينهما أثلاثا. وإن لم يجز لواحد منهم.. قسم الثلث بين الموصى لهما نصفين. وإن أجاز لأحدهما لا غير.. أعطي من لم يجز له سدس المال، وقسم الباقي بين الابن والموصى له نصفين. ويصح من اثني عشر سهما، للذي لم يجز له: سهمان، وللابن: خمسة، وللذي أجاز له: خمسة. فإن أجاز الابن للثاني بعد ذلك: ضم السهمان اللذان في يد الموصى له إلى الخمسة التي بيد الابن فتصير سبعة، وتقسم بين الابن والذي أجاز له ثانيا نصفين. وتصح المسألة من أربعة وعشرين، للذي أجاز له أولا: عشرة، وللابن: سبعة، وللذي أجاز له آخرا: سبعة. [فرع أوصى بثلث ماله لأجنبي ولوارث] إذا أوصى بثلث ماله لأجنبي ولوارث له: فإن أجاز باقي الورثة وصية الوارث. قسم الثلث بينهما نصفين. وإن ردوا وصية الوارث.. كان للأجنبي نصف الثلث؛ لأن الورثة لما أبطلوا وصية الوارث.. صار كأنه لم يوص إلا بالسدس للأجنبي. فإن كان له ابنان، فأوصى لأحدهما بثلث ماله، ولأجنبي بثلث ماله: فإن أجاز الابن الآخر الوصيتين.. كان للأجنبي الثلث، وللابن الموصى له الثلث بالوصية، وفي الثلث الباقي وجهان: الصحيح: أنه بين الابن الموصى له وبين الثاني نصفين. والثاني: أنه للابن الذي لم يوص له. وإن رد الابن الوصية في أحد الثلثين، وأجاز الآخر.. كان الثلث الباقي بين الأجنبي والابن الموصى له نصفين؛ لأنه إذا أوصى لكل واحد منهما بثلث ماله.. لم تقل: إن كل واحد من الثلثين موصى به لأحدهما، بل كل ثلث من الثلثين موصى به لهما. فإذا لم تصح الوصية في غير ذلك الثلث كان بينهما نصفين؛ لأنه موصى به لهما.

فإن رد الابن أحد الثلثين ونصف الآخر في حق الابن الآخر.. بطلت الوصية فيه، وبقي للأجنبي السدس لا غير. هكذا ذكرها الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي في " المجموع ". وإن رد الابن الوصية في الثلث الذي للابن.. فكم يستحق الأجنبي؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما ـ وهو قول القاضي أبي الطيب ـ أنه لا يستحق إلا السدس فقط؛ لأن الابن الموصى له يزاحمه عند الإجازة، فيكون له السدس، وللأجنبي السدس، فإذا رد الابن وصية أخيه.. بقي للأجنبي السدس. والثاني ـ وهو قول أبي العباس ابن سريج، ولم يذكر في " الإبانة " و " العدة " غيره -: أن له الثلث. قال الشيخ أبو حامد: كنت أجد أن له السدس، ثم رأيت ظاهر كلام الشافعي أن له الثلث؛ لأن الموصي لم يرض بإخراج دون الثلث، فلا يملك الوارث إسقاط حقه من الثلث، ولأن المزاحمة بالباطل لا تمكن، وما للأجنبي وحده لم يجاوز الثلث، فتم له ذلك. فإن أوصى لأجنبي بثلث ماله، ولكل واحد من ابنيه بثلث ماله، وأجاز كل واحد منهما لصاحبه، ولم يجيزا للأجنبي.. فالصحيح أن للأجنبي ثلث ماله، ولا معنى لقولهما: لا نجيز. وفيه وجه آخر: أن الأجنبي ليس له إلا ثلث الثلث؛ لأن الثلث كان بينهم أثلاثا. وإن أوصى لأجنبي بنصف ماله، ولأحد ابنيه بالنصف، فأجاز الابنان الوصية للأجنبي، وأجاز الابن الذي لم يوص له لأخيه.. ففيه وجهان، حكاهما القفال: أحدهما: أن للأجنبي النصف، وللابن الموصى له الثلث ونصف السدس ـ وهما: خمسة من اثني عشر ـ ويبقى للابن الذي لم يوص له نصف السدس، وهو:

سهم من اثني عشر ـ لأنه لم يوص إلا للأجنبي.. لاستحق الثلث بغير إجازة منهما، واستحق كل واحد من الاثنين الثلث، فلما وصى للأجنبي بالنصف، وللابن بالنصف.. علمنا أنه وصى للأجنبي بسدس لا يستحقه إلا بالإجازة من حق الابنين الموصى له وغير الموصى له، فاستحقه الأجنبي بإجازتهما له ذلك. وعلمنا أنه وصى لابنه بسدس زائد على ثلثه المستحق له بالإرث من حق أخيه، وقد أجازه، فإذا أجاز للأجنبي نصف السدس.. ولأخيه السدس.. بقي له نصف السدس. والوجه الثاني: ـ ولم يذكر ابن اللبان غيره ـ: أن النصف للأجنبي، وللابن الموصى له النصف، ولا شيء للابن المجيز، كما لو لم يكن له إلا ابن واحد وأوصى لأجنبيين، لكل واحد منهما بنصف ماله، وأجاز الابن الوصيتين. قال القفال: وأصل هذين الوجهين إنما هما إذا قلنا: تجوز الوصية للوارث. فلأي معنى جازت؟ فيه وجهان: أحدهما: لأنه ألحقها بالأجنبي. والثاني: لأنه قصد تفضيله على سائر الورثة. فإذا قلنا: لأنه ألحقه بالأجنبي.. استحق الابن الموصى له هاهنا النصف، والأجنبي النصف. وإذا قلنا: لأنه قصد تفضيله.. استحق هاهنا ثلثا ونصف سدس، واستحق الذي لم يوص له نصف سدس، وقد حصل له التفضيل بالثلث. قال القفال: وهكذا لو أوصى لأحد ابنيه بنصف ماله، وأجاز له أخوه: فإن قلنا: لأنه ألحقه بالأجنبي.. كان النصف له بالوصية، والنصف الآخر بينه وبين أخيه. وإن قلنا: لأنه قصد تفضيله.. فلا فائدة له في هذه الوصية. قال المسعودي [في " الإبانة "] : بل يجب أن يقاسمه بالنصف الباقي هاهنا على المعنيين؛ لأنه لا يحصل التفضيل إلا بذلك.

وإن أوصى لأحد ابنيه بثلثي ماله، وأجاز له الآخر: فإن قلنا: لأنه ألحقه بالأجنبي.. استحق الثلثين بالوصية، وقاسم أخاه بالثلث الباقي. وإن قلنا: لأنه قصد تفضيله.. لم يقاسم أخاه في الثلث الباقي؛ لأن التفضيل قد حصل. وإن كان له ابن وابنة، فأوصى لابنته بنصف ماله، وأجاز الابن الوصية لها: فإن قلنا: لأنه ألحقها بالأجنبي.. استحقت النصف بالوصية، وقاسمت أخاها في النصف الثاني، فيحصل لها ثلثا المال. وإن قلنا: لأنه قصد تفضيلها.. لم تقاسم أخاها في النصف الثاني. قال ابن اللبان: فإن أوصى لأحد ابنيه بالنصف، ولأجنبي بالنصف، فأجاز الابن الذي لم يوص له الوصيتين، ولم يجز الابن الموصى له للأجنبي.. كان للأجنبي ثلث المال بغير إجازة، وله نصف السدس بإجازة الابن المجيز له، وللابن الموصى له بالنصف النصف بالوصية، ونصف سدس من النصف الموصى به للأجنبي من حقه، فيصير له سبعة من أثنى عشر. وهذا بناء على أصله. قال ابن اللبان: ولو أوصى للأجنبي بثلث ماله، ولوارث بجميع ماله، فأجاز الورثة.. فللأجنبي الثلث كاملا؛ لأنه أحق به، ولوارث الموصى له الثلثان. وإن لم يجز الورثة ما جاوز الثلث.. فالثلث كله للأجنبي، ولا شيء للوارث الموصى له. قال: وإن أوصى لأجنبي بنصف ماله، ولوارث بجميع ماله، فأجاز الورثة.. فللأجنبي الثلث؛ لأنه أحق به من الوارث، ويبقى من وصيته السدس يضرب به في الثلثين، ويضرب الموصى له في الثلثين بنصيبه - وهو: ستة أسهم - فيقتسمان الثلثين على سبعة أسهم، للوارث: ستة أسباع الثلثين، وللأجنبي سبع الثلثين. وتصح الفريضة من أحد وعشرين.

مسألة أوصى لفلان برقيق

قال: فإن أوصى لأحد ابنيه بنصف ماله، ولأجنبي بنصف ماله، ولأجنبي آخر بثلث ماله، وأجاز الابنان.. فإن ثلث التركة للأجنبيين لا يضاربهما فيه الوارث، ويبقى من وصيتهما النصف، وللابن الموصى له مثل ما بقي لهما، فيضاربهما الابن الموصى له في ثلثي التركة نصفين، فيحصل للابن الموصى له ثلث، وللأجنبيين ثلث، فيضمانه إلى الثلث الأول، فيحصل لهما الثلثان، ويقتسمان ذلك على قدر وصيتهما - وهي: خمسة أسهم - للموصى له بالنصف: ثلاثة أسهم، وللموصى له بالثلث: سهمان. وتصح المسألة من خمسة عشر، للابن الموصى له: خمسة، وللموصى له بالنصف: ستة، وللموصى له بالثلث: أربعة. [مسألة أوصى لفلان برقيق] إذا قال: أوصيت لفلان برأس من رقيقي، أو قال: أعطوه رأسا من رقيقي - وله رقيق - أعطاه الوارث ما شاء منهم صغيرا كان أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، سليما أو معيبا؛ لأن اسم الرقيق يقع عليه. وهل يجوز أن يدفع إليه خنثى مشكلا؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن اسم الرقيق يقع عليه. والثاني: لا يجوز؛ لأن إطلاق اسم الرقيق لا ينصرف إليه. فإن أراد الوارث أن يشتري له رأسا من الرقيق، ويدفعه إليه، ويتملك ما خلفه الموصي.. لم يكن له ذلك؛ لأن الوصية تعينت في رقيق الموصي. فإن مات رقيق الموصي إلا واحدا منهم.. لزم الوارث دفعه إلى الموصى له وإن كان أنفس الرقيق؛ لأنه تعين للوصية. وإن ماتوا كلهم قبل موت الموصي أو بعد موته من غير تفريط من الوارث.. بطلت الوصية؛ لأنهم إذا ماتوا قبل موت الموصي.. فقد جاء وقت لزوم الوصية ولا رقيق له، وإذا ماتوا بعد موته.. فقد تلفوا على الوارث وعلى الموصى له بغير تفريط من أحد، فهو كالمال بين الشريكين.

مسألة وصى بعتق أحد رقيقه

وإن قتلوا كلهم: فإن كان قبل موت الموصي.. بطلت الوصية؛ لأنه جاء وقت لزوم الوصية ولا رقيق له. وإن كان بعد موت الموصي.. لم تبطل الوصية، وكان للوارث أن يعين له قيمة أيهم شاء وإن كان أقلهم قيمة؛ لأن القيمة تقوم مقامهم. وإن قتلوا إلا واحدا منهم قبل موت الموصي.. قال أبو إسحاق: لزم الوارث تسليمه إلى الموصى له وإن كان أفضلهم؛ لأنه تعين للوصية، فهو كما لو ماتوا إلا واحدا منهم. فإن قتلوا بعد موت الموصي إلا واحدا منهم، فقال الوارث: أنا أعطيه قيمة واحد منهم ولا أسلم الباقي منهم.. لم يكن له ذلك؛ لأن الموصي إنما أوصى له برأس من رقيقة، فما دام هناك واحد منهم.. فاسم الرقيق موجود فيه، فلا يجوز العدول عنه إلى القيمة. وإن قال: أعطوه رأسا من رقيقي، فمات ولا رقيق له، أو قال: أعطوه عبدي الحبشي، وليس له عبد حبشي.. لم تصح الوصية؛ لأنه أوصى له بما لا يملكه. وإن قال: أعطوه رأسا من الرقيق، أو من مالي، فمات ولا رقيق له.. اشتري له رأس من الرقيق؛ لأنه لم يضف ذلك إلى رقيقه، وإنما أضافه إلى ماله، وما اشترى من ثلثه.. فهو من ماله. [مسألة وصى بعتق أحد رقيقه] إذا قال: أعتقوا عني أحد رقيقي، وله رقيق. أعتق عنه الوارث ما شاء منهم، وإن كان أقلهم قيمة. وإن قال: أعتقوا عني عبدا.. اشترى له من ثلثه عبد وأعتق عنه، صغيرا كان أو كبيرا، مسلما أو كافرا. ولا يجوز عتق أمة ولا خنثى مشكل؛ لأنه لا يقع عليهما اسم العبد.

فرع أوصى بعبد قيمته مائة ولا مال له غيره

وإن كان هناك خنثى مشكل زال إشكاله، وبان أنه رجل.. فهل يجزئ عتقه عن الوصية؟ فيه وجهان: أحدهما: يجزئ؛ لأنه عبد. والثاني: لا يجزئ؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم العبيد. وهل يجزئ إطلاق عبد معيب لا يجزئ في الكفارة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجزئ؛ لأن العتق في الشرع له عرف، وهو: السليم، فحمل مطلق كلام الآدمي عليه. والثاني: يجزئ، وهو المشهور؛ لأنه يقع عليه اسم العبد، فهو كالوصية بالعبد لرجل. [فرع أوصى بعبد قيمته مائة ولا مال له غيره] ) : وإن كان له عبد قيمته مائة، لا مال له غيره، فأعتقه في مرض موته، أو أوصى أن يعتق عنه.. لزم العتق في ثلثه، فإن أجاز الورثة العتق في ثلثيه.. عتق جميعه. فإن قلنا: إن إجازة الورثة تنفيذ لما فعله مورثهم.. كان ولاء جميع العبد للموروث. وإن قلنا: إن إجازتهم ابتداء عطية منهم.. كان ولاء ثلث العبد للموروث، وولاء ثلثيه للورثة. هذا قول عامة أصحابنا. وقال ابن اللبان: يحتمل أن يكون ولاء جميع العبد للموروث على القولين؛ لأنا وإن قلنا: إنه ابتداء عطية من الورثة، فإنهم أعتقوه عن الميت بإذنه، ومن أعتق عبدا عن غيره بإذنه.. كان ولاؤه للمعتق عنه. فإن ظهر بعد ذلك على الميت مائة دين عليه.. قال الشيخ أبو حامد: بطل العتق في جميع العبد؛ لأن الوصية إنما تنفذ في ثلث ما يفضل بعد الدين، فيرق العبد ويباع في الدين.

فرع أوصى بشراء عبد وعتقه بماله ثم وجد دين مستغرق

وإن ظهر على الميت خمسون دين.. بطل العتق في نصف العبد لأجل الدين ولزم العتق في نصفه؛ لأن الوارث قد أجازه. وإن لم يجز الورثة العتق في ثلثيه.. عتق ثلثه، ورق ثلثاه للورثة. فإن ظهر على الميت من الدين مائة.. بطل العتق في ثلثه، وبيع في الدين. وإن ظهر عليه من الدين خمسون.. بيع نصفه في الدين، وعتق سدسه، ورق للورثة ثلثه. [فرع أوصى بشراء عبد وعتقه بماله ثم وجد دين مستغرق] وإن كان له مائة درهم لا يملك غيرها، فأوصى أن يشترى له عبد بمائة ويعتق، وأجاز الورثة الوصية، فأشترى الوصي له عبدا بمائة وأعتقه عنه، ثم ظهر على الميت مائة دين، فإن كان الوصي قد اشترى العبد بعين الدراهم.. بطل الشراء؛ لأنه اشترى لغيره ما لا يقع له فوقع لنفسه؛ لأنه اشتراه بمال تعلق به حق الغرماء، ولم يصح العتق؛ لأنه على ملك البائع. وإن اشتراه الوصي بمائة في ذمته، ونقد المائة التي خلفها الموصي في ثمن العبد.. صح الشراء؛ لأنه اشتراه في ذمته، ووقع العتق عن الميت؛ لأنه أعتقه عنه بإذنه ويضمن الوصي المائة التي نقدها من مال الميت؛ لأنه نقدها، وحق الغرماء متعلق بها فضمنها للغرماء. [فرع أوصى بعتق رقاب] إذا أوصى أن يعتق عنه رقاب.. أعتق عنه ثلاث؛ لأن الرقاب اسم جمع، وأقل الجمع ثلاثة. فإن لم يحتمل الثلث عتق ثلاث رقاب، واحتمل عتق رقبتين لا غير، أو أقل.. أعتق عنه ما احتمله الثلث. وإن بقي من الثلث شيء بعد الرقبتين: فإن لم يمكن أن يشتري بما بقي بعض الثالثة.. زيد في ثمن الرقبتين. وإن أمكن أن يشترى بما بقي بعض الثالثة.. ففيه وجهان. (أحدهما) : قال أبو إسحاق: يشتري به جزءا من رقبة ثالثة؛ لأنه أقرب إلى العدد الموصى به.

(والثاني) : قال أبو العباس وأكثر أصحابنا: بل يزاد ذلك في ثمن الرقبتين، وهو المذهب؛ لما روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن أفضل الرقاب؟ فقال: " أكثرها ثمنا، وأنفسها عند أهلها» . فإذا قلنا بهذا: فأشترى أنفس رقبتين بثمن، وبقي من الثلث بقية لا تبلغ ثمن الثالثة: قال المسعودي (في " الإبانة ") : بطلت الوصية في البقية، وردت إلى الورثة. إذا ثبت هذا: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (قال لي قائل: الاسترخاص مع الاستكثار أحب إليك، أم الاستغلاء مع الاستقلال؟ قلت: الاسترخاص مع الاستكثار) . ومعناه: أنه إذا أمكنه أن يشتري خمسة أوساط بثمن ثلاثة جياد.. كان الخمس أولى؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعتق رقبة مؤمنة.. أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار حتى فرجه بفرجه» ومعلوم أنه إذا أعتق خمس مرات من النار.. كان خيرا مما دونها.

مسألة كاتب أو أوصى بالمكاتبة عند موته

[مسألة كاتب أو أوصى بالمكاتبة عند موته] وإن كاتب عبدا له في مرض موته، أو أوصى أن يكاتب.. اعتبرت قيمة العبد من الثلث؛ لأن ما يأخذه منه من العوض من كسب عبده، فهو كما لو اعتقه، أو أوصى بعتقه بغير عوض. إذا ثبت هذا: فإن وصى أن يكاتب عبد.. لم تكاتب أمة، ولا خنثى مشكل. وإن وصى أن تكاتب أمة.. لم يكاتب عبد، ولا خنثى مشكل. وإن أوصى أن يكاتب أحد رقيقه.. جاز أن يكاتب عبدا أو أمة من رقيقه.. وهل يجوز أن يكاتب خنثى مشكلا؟ قال المزني: يجوز وقال الربيع: لا يجوز فمن أصحابنا من قال: الصحيح ما قاله المزني؛ لأن الخنثى يقع عليه اسم الرقيق. ومنهم من قال: الصحيح ما قاله الربيع؛ لأن الخنثى لا تدخل في إطلاق اسم الرقيق. فإن أوصى أن يكاتب عبد من عبيده وفيهم خنثى قد زال إشكاله، وبان أنه رجل.. فهل تجوز كتابته؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. [مسألة أوصى بشاة لرجل] إذا قال: أوصيت لفلان بشاة من مالي، أو قال: أعطوا فلانا شاة من مالي.. أعطاه الوارث شاة، صغيرة كانت أو كبيرة، ضائنة كانت أو ماعزة، سليمة أو معيبة لأن اسم الشاة يقع عليها. قال الشافعي: (ولا يعطي كبشا ولا تيسا؛ لأن اسم الشاة إنما يعرف للإناث دون الذكور) . ومن أصحابنا من قال: يجوز؛ لأن هذا الاسم للجنس يقع على الذكر

فرع أوصى بذكر فلا يعطى أنثى ولا عكسه

والأنثى، كالإنسان يقع على الرجل والمرأة. قال الشافعي: (ولا يعطى ظبيا؛ لأنه وإن وقع عليه اسم الشاة إلا أن الإطلاق لا ينصرف إليه) . إذا ثبت هذا: فإن كان للموصي غنم.. فإن الوصية لا تنصرف إلى غنمه، بل الوارث بالخيار: بين أن يعطي من غنمه، وبين أن يشتري له شاة؛ لأنه اعتبر خروجها من ماله، وإذا اشتري له من ثلثه.. فقد أخرجها من ماله. وإن قال: أعطوه شاة من غنمي، وله غنم.. أعطي واحدة منها، وليس للوارث أن يمتنع عن دفع واحدة منها ويشتري له؛ لأنه أضاف ذلك إلى غنمه. فإن كانت غنمه كلها إناثا، أو كلها ذكورا.. أعطاه واحدة منها. وإن كانت ذكورا وإناثا.. فعلى قول الشافعي لا يعطي إلا أنثى، وعلى قول من خالفه من أصحابنا يجوز أن يعطى ذكرا منها. وإن لم يكن له غنم، أو كانت فماتت قبل موت الموصي، أو بعد موته، من غير تفريط من الورثة.. بطلت الوصية، كما قلنا في الرقيق. وإن قال: أوصيت له بشاة من شياهي وله ظباء مملوكة.. أعطاه الوارث واحدا منها؛ لأنه لا شياه له إلا الظباء، وهي مما يقع عليها اسم الشاة. [فرع أوصى بذكر فلا يعطى أنثى ولا عكسه] وإن وصى له بجمل.. لم يعط ناقة. وإن وصى له بثور.. لم يعط بقرة. وإن وصى له بناقة أو بقرة.. لم يعط جملا ولا ثورا. وإن وصى له ببعير.. فالمنصوص: (أنه يعطى جملا ولا يعطى ناقة؛ لأن البعير إنما ينصرف إلى الذكر دون الأنثى) . ومن أصحابنا من قال: يجوز أن يدفع إليه ناقة؛ لأن البعير يقه على الذكر

مسألة أوصى بدابة

والأنثى، كالإنسان يقع على الرجل والمرأة. ولهذا يقول الإنسان: حلبت بعيري، وشربت لبن بعيري. وإن قال: أوصيت له بعشرة من الإبل، أو بعشر من الإبل.. فللورثة أن يعطوه ما شاؤوا من نوق أو جمال؛ لأن المزني نقل: (بعشرة) بثبوت الهاء، ونقل الربيع: (بعشر من الإبل) بغير هاء؛ لأن للوارث أن يعطيه ما شاء وإن كان ثبوت الهاء في عدد العشر وما دونها يدل على التذكير، وسقوطها يدل على التأنيث. إلا أن الشافعي لم يعتبر فرق العربية مع ذكر الجنس - وهو: الإبل - لأن اسم الجنس يقع على الذكور والإناث، وكذلك اسم البقر يقع على الذكور والإناث، وإنما يتخصص البقر إذا كانت فيها هاء بواحدة أنثى. وإن قال: أعطوه عشر أينق، أو عشر بقرات.. لم يعط ذكرا. وإن قال أعطوه رأسا من الغنم، أو رأسا من الإبل، أو رأسا من البقر.. جاز أن يدفع إليه الوارث ما شاء من ذكر أو أنثى؛ لأن ذلك يعم الجنس. [مسألة أوصى بدابة] قال الشافعي: (وإن قال: أعطوه دابة من مالي.. فمن الخيل أو البغال أو الحمير) . واختلف أصحابنا في ذلك: فقال أبو العباس: إنما قال الشافعي هذا على عادة أهل مصر؛ لأنهم يطلقون اسم الدابة على الأجناس الثلاثة. فأما أهل العراق وغيرهم: فلا يطلقون اسم الدابة إلا على الخيل. فعلى هذا: إن كان الموصي بـ مصر.. أعطي الموصى له واحدا من الأجناس الثلاثة. وإن كان بغيرها من البلاد.. لم يعط إلا من الخيل. وقال أبو إسحاق، وأبو علي بن أبي هريرة: بل يعطى الموصى له واحدا من الثلاثة في جميع البلاد؛ لأن اسم الدابة ينصرف إطلاقه إلى جميع هذه الأجناس، ولأن

فرع أوصى له بدابة وعنده غنم وبقر

ما ثبت له عرف في بلد. ثبت له ذلك العرف في جميع البلاد، ولا خلاف أنه لا يحمل على غير هذه الأجناس الثلاثة من الغنم والإبل والبقر وإن كان الدابة اسما لكل ما دب على الأرض حقيقة، بل يصرف إلى ما يتعارفه الناس فقط. وإن قال: أعطوه دابة من دوابي، وله الأجناس الثلاثة، أو كان عنده جنسان وأحدهما من الخيل: فعلى قول أبي إسحاق: يعطيه الوارث ما شاء، وعلى قول أبي العباس: إن كان الموصي بـ مصر.. أعطاه الوارث مما شاء من الثلاثة، وإن كان بغيرها.. لم يعط إلا من الخيل. وإن لم يكن عنده إلا واحد من الأجناس الثلاثة.. أعطاه الوارث مما عنده واحدا؛ لأنه أضافه إلى دوابه، وليس عنده إلا ذلك. قال أبو إسحاق: وإنما نخير الوارث بين الثلاثة الأجناس إذا لم يكن في كلام الموصي ما يدل أنه أراد أحد الأجناس. فأما إذا قال: دابة ليقاتل عليها، أو لينتفع بدرها وظهرها.. لم يعط إلا الخيل. وإن قال لينتفع بظهرها ونسلها.. لم يعط إلا الخيل والحمير، دون البغال. قال في " المهذب ": وإن قال: ليحمل عليها.. أعطي بغلا أو حمارا، ولا يعطي فرسا. [فرع أوصى له بدابة وعنده غنم وبقر] وإبل] : وإن قال: أعطوه دابة من دوابي، وليس عنده أحد الأجناس الثلاثة - الخيل والبغال والحمير - وإنما عنده الغنم والإبل والبقر.. فلا أعلم نصا فيها، والذي يقتضيه القياس: أن الوارث يعطيه واحدا منها؛ لأنه يقع عليها اسم الدابة، وقد أضاف الوصية إلى دوابه، وليس دوابه إلا ذلك، كما قال أصحابنا إذا قال: أعطوه شاة من شياهي، وليس عنده إلا الظباء.. أعطاه الوارث واحدا، منها، فكذلك هذا مثله.

مسألة أوصى له بكلب

[مسألة أوصى له بكلب] إذا قال: أعطوه كلبا من مالي، أو وصى له بكلب، ولا كلاب له.. لم تصح الوصية؛ لأنه لا يصح أن يشتري له كلبا. وإن قال أعطوه كلبا من كلابي، وله كلاب.. نظرت: فإن كانت كلابا لا ينتفع بها بصيد ولا حرث ولا ماشية، بل هي كلاب الهراش.. فالوصية باطلة؛ لأنه لا ينتفع بها، ولا تقر اليد عليها. وإن كانت كلابا ينتفع بها بشيء مما ذكرناه.. صحت الوصية، وأعطاه الوارث ما شاء منها إلا أن يقرن الموصي به بصيد، أو حرث، أو ماشية، وهو عنده.. أعطي ذلك دون غيره. قال الشيخ أبو حامد: وإن قال: أوصيت له بكلب من مالي، وله كلاب ينتفع بها.. صحت الوصية؛ لأن الكلاب وإن لم تكن مالا فإن قوله من مالي يحمل على المجاز، ومعناه: مما لي، وفي يدي. [فرع أوصى له بأحد كلابه] وإن كان له ثلاثة أكلب ينتفع بها، فوصى بها لرجل، ولا مال له، ولم يجز الورثة.. ففيه أربعة أوجه: أحدهما: يأخذ الموصى له من كل كلب ثلثه، كسائر الأعيان. والثاني: يعطيه الوارث واحدا منها بالقرعة؛ لأنه ليس بعضها بأولى من البعض والثالث: يعطيه الوارث واحدا منها باختياره. والرابع: تقدر لو كانت متقومة كم كانت قيمة كل واحد منها؛ لأنه لما لم يمكن تقويمها بأنفسها.. اعتبرت بما يتقوم.

مسألة أوصى بطبل

وإن كان له مال- وإن قل - فوصى بالأكلب الثلاثة لرجل، أو كان له كلب واحد ومال، فوصى بالكلب لرجل.. ففيه وجهان: أحدهما: ليس للموصى له إلا ثلث ما أوصى له به من الكلاب أو الكلب؛ لأنه لا يحصل للموصى له شيء إلا ويحصل للورثة مثلاه، والكلاب لا يمكن اعتبارها من المال؛ لأنه لا قيمة لها، فاعتبرت بأنفسها. والثاني: أن الكلاب أو الكلب للموصى له؛ لأن أقل جزء من المال خير من كلب. وإن وصى لرجل بكلب له، ولا مال للموصي، ولم يجز الورثة.. أعطي الموصى له ثلث الكلب، وللورثة ثلثاه، كغيره من الأعيان. [مسألة أوصى بطبل] وإن قال: أعطوه طبلاً من طبولي: فإن كان له طبل الحرب.. صحت الوصية؛ لأن استعماله مباح، وهو آلة للحرب فهو كالسلاح. قال الشافعي: (فإن كان لا يسمى طبلاً إلا بجلد.. ألزم الوارث أن يسلمه بجلده، وإن كان يسمى طبلاً بلا جلد.. كان للوارث أن يعطيه إياه بلا جلد) . وإن لم يكن له إلا طبل اللهو- قال الشيخ أبو حامد - مثل طبول المخنثين- فإن كان يصلح لمنفعة مباحة وهي على تلك الهيئة من غير نقص.. صحت الوصية بها؛ لأنه يمكن الانتفاع بها. وإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة إلا بعد تفصيلها وخروجها عن كونها طبولاً.. لم تصح الوصية بها؛ لأنها حال ما تسمى طبولاً.. لا تصلح لمنفعة مباحة، وحال ما تصلح لمنفعة مباحة.. لا يقع عليها اسم الطبول. وإن كان له طبل الحرب، وطبل اللهو: فإن كان طبل اللهو لا يصلح لمنفعة مباحة.. أعطاه الوارث طبل الحرب، وإن كان طبل اللهو يصلح لمنفعة مباحة مع كونه يسمى طبلاً.. أعطاه الوارث ما شاء منهما. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\414] : الطبول ثلاثة، طبل الحرب، وطبل

فرع الوصية بدف

اللهو وطبل العطر: وهو سفط من خيرزان يضع فيه العطار العطر. فإن كان في ملكه طبل الحرب وطبل العطر.. أعطاه الوارث ما شاء منهما. وإن كان عنده الطبول الثلاثة، وكان طبل اللهو يصلح لمنفعة مباحة مع كونه يسمى طبلاً.. أعطاه الوارث أي الطبول الثلاثة شاء. وإن قال: أعطوه طبلاً من مالي.. اشتروا له طبلاً تصح الوصية به على ما ذكرناه. [فرع الوصية بدف] وإن قال: أوصيت له بدف من دفوفي وله دفوف، أو بدف من مالي.. صحت الوصية؛ لأن ضرب الدف في النكاح والختان جائز، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدفوف» . [مسألة أوصى له بعود] وإن وصى له بعود من عيدانه: " فاسم العود يقع على عود اللهو الذي يضرب به، وعلى العود الذي يصلح للقوس وعلى العود الذي يصلح للبناء- وهي: الأخشاب- فإن كانت عنده هذه العيدان الثلاثة.. نظرت: فإن كان عود اللهو يصلح لمنفعة مباحة وهو على هيئته يقع عليه اسم العود.. انصرفت الوصية إلى عود اللهو؛ لأن إطلاق اسم العود إليه أسبق. وللوارث أن يعطيه عود اللهو بلا مضراب، ولا وتر، ولا ملاو؛ لأن هذه الأشياء لا تصلح على العود إلا للهو، ولأنه يسمى عوداً وإن أمسكت عنه. هذا نقل البغداديين.

فرع الوصية بمزمار

وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\415] : يعطيه الوارث أي العيدان شاء. فإن كان عود اللهو لا يصلح لمنفعة مباحة مع كونه يسمى عوداً.. لم تصح الوصية به؛ لأنه لا يصلح لمنفعة مباحة. قال الشيخ أبو حامد: ويعطيه الوارث ما شاء من عود القوس، أو عود البناء وجها واحداً؛ لأن الوصية تمليك، فإذا لم تصح بما يطلق الاسم عليه.. انصرف الإطلاق إلى ما يصح أن يملك، كما قلنا في الطبل. وذكر في " المهذب " فيها وجهين: أحدهما: هذا، والثاني: أن الوصية باطلة، وهو المذهب؛ لأن العود لا يطلق إلا على عود اللهو فإذا كان لا يصلح لمنفعة مباحة.. كان وصية بمحرم، بخلاف الطبل فإنه يقع على طبل الحرب وطبل اللهو. قال في " المهذب ": وإن وصى له بعود من عيدانه وليس عنده إلا عود القوس، وعود البناء.. أعطي منها؛ لأنه أضافه إلى ما عنده، وليس عنده سواه. قال: وهذا يدل على صحة ما ذكره الشيخ أبو حامد في التي قبلها. [فرع الوصية بمزمار] ] : وإن قال: أوصيت لفلان بمزمار من مزاميري: فإن كان المزمار يصلح لمنفعة مباحة على هيئته.. صحت الوصية به. قال الشافعي: (ويدفع إليه الوارث المزمار دون المجمع) الذي يترك في الفم عند الزمر؛ لأن المجمع لا يصلح إلا للهو، ولأنه يسمى مزماراً وإن لم يكن فيه مجمع. وإن كان المزمار لا يصلح لمنفعة مباحة على هيئته، وإذا صلح لمنفعة مباحة لم يقع عليه اسم المزمار.. لم تصح الوصية؛ لأنها وصية بمحرم.

مسألة أوصى بقوس من قسيه

[مسألة أوصى بقوس من قسيه] وإن وصى له بقوس من قسيه: فالقسي خمسة أجناس: القسي العربية: التي يرمي عنها بالنبل. والقسي العجمية: التي يرمي عنها النشاب. وقسي الحسبان: قال الشيخ أبو حامد: وهي خشبة فيها حفيرة طولاً، أو قصبة يوضع فيها سهم، ثم يرمى بالسهم عنها. وقوس الجلاهق: وهي قسي يرمى عنها الطير ببنادق الطين. وقوس الندف. فإذا أوصى له بقوس من قسيه وعنده هذه الأجناس الخمسة.. أعطاه الوارث ما شاء من الأجناس الثلاثة الأولى دون قوس الجلاهق والندف؛ لأن اسم القوس إليها أسبق، ولا يعطيه إلا قوساً قد نحتت؛ لأنها لا تصلح للرمي إلا بعد النحت. وهل يلزم الوارث أن يعطيه معها الوتر؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه؛ لأن اسم القوس يقع عليها من غير وتر، وإنما الوتر للتمكن من الانتفاع، فلم يجب دفعه، كسرج الدابة. والثاني: يلزمه؛ لأن القوس يراد للرمي، ولا يمكن الرمي عنه إلا بالوتر. وإن قال: أعطوه قوساً ليندف بها القطن، أو الصوف.. لم يعط إلا قوس الندف. وإن قال: ليرمي بها الطير.. لم يعط إلا قوس الجلاهق؛ لأن القرينة تدل عليه. وإن قال: أعطوه قوساً من قسيي، وليس عنده إلا قوس الندف والجلاهق.. فاختلف الشيخان فيه:

مسألة إبراء المكاتب في مرض مخوف

فقال الشيخ أبو إسحاق: يعطى قوس الجلاهق؛ لأن الاسم إليه أسبق. وقال الشيخ أبو حامد: يعطيه الوارث ما شاء منهما؛ لأنه أضافه إلى ما عنده، وليس إحداهما بأولى من الأخرى. [مسألة إبراء المكاتب في مرض مخوف] وإذا أبرأ مكاتبه من مال الكتابة، أو أعتقه في مرض مخوف: فإن برئ من مرضه.. عتق المكاتب. وإن مات من مرضه ذلك.. اعتبر من الثلث. فإن كان مال الكتابة وقيمة العبد يخرج كل واحد منهما من الثلث.. عتق. وإن خرج أحدهما دون الآخر.. اعتبر الأقل من قيمته أو من مال الكتابة، فأيهما خرج من الثلث.. عتق، مثل أن يكون قيمة العبد مائة ومال الكتابة مائة وخمسين والثلث مائة، فتعتبر القيمة هاهنا. وإن كانت قيمته مائة وخمسين، ومال الكتابة مائة، والثلث مائة.. اعتبر مال الكتابة هاهنا. وإنما اعتبرنا الأقل منهما؛ لأن القيمة إن كانت هي الأقل.. اعتبرت؛ لأنها قيمة من أعتقه؛ لأن مال الكتابة ما استقر ملكه عليه؛ لأن للمكاتب أن يسقطه بتعجيز نفسه. وإن كان مال الكتابة هو الأقل.. اعتبر؛ لأن الكتابة لازمة من جهة السيد ولا يستحق على العبد غيره. وإن لم يخرج من الثلث أقلهما، وإنما احتمل الثلث النصف من أقلهما، مثل أن يكون الثلث خمسين وقيمة العبد أو مال الكتابة مائة.. عتق نصفه، وكان نصفه باقياً على الكتابة، فإن أدى نصف مال الكتابة.. عتق باقيه.. وإن عجز.. رق نصفه للورثة. فإن قيل: أليس لو أبرأه السيد في صحته عن نصف مال الكتابة، أو أدى نصف مال كتابته.. لم يعتق شيء منه، فلم أعتقتم نصفه هاهنا، وقد بقي عليه شيء من الكتابة؟

مسألة الوصية بحط أكثر مال الكتابة

قلنا: الفرق بينهما أن هناك لم تحصل الصفة التي علق عليها العتق- وهو: أداء المال- وهاهنا قد حكمنا ببراءته من الذي خرج من الثلث. وإنما رددنا العتق في بعضه لحق الورثة. وإن لم يخرج شيء منهما من الثلث، بأن كان على السيد دين يستغرق ماله.. لم يعتق شيء منه، وأخذ المكاتب بأداء ما عليه، فإن أداه.. عتق، وتعلق حق الغرماء بما أداه. وإن عجز.. رق وبيع بحق الغرماء. وإن لم يكن له مال غير العبد، ولا دين عليه، ولم يجز الورثة: فإن كان قد حل عليه مال الكتابة.. عتق ثلثه في الحال، فإن أدى ما بقي عليه من مال الكتابة.. عتق ثلثاه، وإن عجز رق ثلثاه للورثة. وإن لم يحل عليه مال الكتابة.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يتعجل عتق شيء منه؛ لأنه لا يتنجز للموصى له شيء إلا ويحصل للورثة مثلاه. والثاني - وهو المنصوص عليه -: (أنه يعتق ثلثه في الحال) لأن حق الورثة في مثلي ثلثه متيقن، إما بالأداء أو بالعجز. وإن أوصى بعتقه، أو بالإبراء مما عليه.. فحكمه حكم ما لو أعتقه في مرض موته، أو أبرأه مما عليه إلا أن في هذه يوقف العتق على إعتاق الوصي أو إبرائه، وفي التي قبلها لا يحتاج إلى عتق، ولا إلى إبراء من الوصي. [مسألة الوصية بحط أكثر مال الكتابة] إذا قال: ضعوا عن مكاتبي أكثر ما عليه من مال الكتابة.. وضع عنه نصف ما عليه وزيادة على النصف. وتقدير الزيادة إلى اختيارهم؛ لأن ذلك أكثر ما عليه.

فرع أوصى بأن يوضع عنه شيء ما

وإن قال: ضعوا عنه أكثر ما عليه ونصفه.. وضع عنه ثلاثة أرباع ما عليه وزيادة، وتقدير الزيادة إليهم. وإن قال: ضعوا عنه أكثر ما عليه ومثله.. فقد وصى له بأكثر مما عليه؛ لأن قوله: (أكثر ما عليه) يقتضي النصف وزيادة. وقوله: (مثله) يقتضي نصفا آخر وزيادة، فيوضع عنه جميع مال الكتابة، وتسقط الوصية بالزيادة؛ لأنه لم يبق لها محل. [فرع أوصى بأن يوضع عنه شيء ما] ] : روى المزني: (لو قال: ضعوا عنه ما شاء، فشاءها كلها.. لم يكن له إلا أن يبقي شيئا) . وروى الربيع: (إذا قال: ضعوا عنه ما شاء من الكتابة.. لم يجز أن يوضع عنه الكل حتى يبقى شيء منه) . واختلف أصحابنا فيها: فقال أبو علي بن أبي هريرة: الصحيح ما نقله الربيع؛ لأن قوله: (من مال الكتابة) يقتضي البعض، فلا بد أن يبقى شيء. والذي نقله المزني غلط، بل يجوز أن يوضع عنه جميع مال الكتابة إذا شاء ذلك؛ لأن قوله: (ما شاء) الكل داخل فيه. وقال أبو إسحاق والقاضي أبو الطيب: ما نقله الربيع صحيح، وما نقله المزني أيضا صحيح، ولا بد أن يبقى شيء فيهما؛ لأن قوله: (ما شاء) يقتضي البعض؛ لأنه لو أراد الجميع.. لقال: ضعوا عنه مال الكتابة. وإن قال: ضعوا عنه بعض كتابته، أو بعض ما عليه، أو ضعوا عنه ما قل أو ما كثر، أو ضعوا عنه ما يثقل أو ما يخف.. وضع عنه الوارث ما شاء من قليل أو كثير؛ لأن شيئا من ذلك لا يقتضي شيئا مقدراً. وإن قال: ضعوا عنه نجماً من نجومه.. وضع عنه الوارث أي نجم شاء وإن كان أقلها مالاً. وإن قال: ضعوا عنه أي نجم شاء.. وضع عنه أي نجم شاء المكاتب وإن

مسألة كاتبه ثم أوصى بعتقه

كان أكثرها مالاً. وإن قال: ضعوا عنه أوسط نجومه.. فقد يكون الأوسط من ثلاث جهات: أوسط من جهة العدد: بأن كان يكاتبه على ثلاثة نجوم، فالأوسط هو الثاني. وإن كاتبه على أربعة نجوم.. فالأوسط هو الثاني والثالث. وإن كاتبه على خمسة.. فالأوسط هو الثالث. وأوسط من جهة الأجل: بأن يكاتبه على ثلاثة نجوم، نجم إلى شهر، ونجم إلى شهرين، ونجم إلى ثلاثة أشهر، فالأوسط من جهة الأجل هو النجم إلى شهرين. وأوسط من جهة القدر: بأن يكاتبه على ثلاثة نجوم، نجم بعشرة، ونجم بعشرين، ونجم بثلاثين، فالأوسط من جهة القدر هو النجم بعشرين. فإن اجتمعت هذه الجهات.. وضع عنه الوارث ما شاء منها. وإن لم تجتمع إلا جهتان.. وضع عنه الوارث أيهما شاء. وإن قال: ضعوا عنه أكثر نجومه أو أكبر نجومه.. قال ابن الصباغ: انصرف ذلك إلى الأكثر من جهة القدر لا من جهة العدد والأجل. [مسألة كاتبه ثم أوصى بعتقه] وإن كاتب عبده كتابة صحيحة، ثم أوصى برقبته.. لم تصح الوصية؛ لأنه لا يملك بيعه، فلا يملك الوصية به. فإن عجز ورق.. لم تصح الوصية به؛ لأنها وقعت فاسدة. وإن أوصى لرجل بمال الكتابة.. صحت الوصية، فإن أدى المال.. كان للموصى له به، وعتق، وكان الولاء للورثة. وإن عجز.. بطلت الوصية بمال الكتابة، واسترقه الورثة. فإن حل نجم الكتابة، وعجز عنه، فأراد الورثة تعجيزه ليملكوه، وأراد الموصى له بالمال إنظاره به.. كان للورثة تعجيزه؛ لأن حق الورثة متعلق بعينه، وحق الموصى له متعلق بما في ذمته، فكان حق الورثة آكد.

فرع أوصى بمال الكتابة لرجل وبرقبته إن عجز لآخر

قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأن الحق للموصى له، بدليل: أنه إذا أبرأه.. عتق ولا حق لصاحب الرقبة. [فرع أوصى بمال الكتابة لرجل وبرقبته إن عجز لآخر] وإن أوصى بمال الكتابة لرجل، وبرقبة المكاتب إن عجز لآخر.. صح. فإن أدى المال.. أخذه الموصى له بالمال، وعتق، وبطلت الوصية بالرقبة. وإن عجز.. رق، وكان للموصى له بالرقبة، وبطلت الوصية بالمال. وإن قال: أوصيت لفلان بما يعجله المكاتب، فإن عجل المكاتب شيئاً قبل حلول النجم.. استحقه الموصى له. وإن لم يعجل حتى حل النجم فأداه.. لم يستحقه الموصى له؛ لأن الوصية معلقة بشرط، فلا يستحقه الموصى له مع فقد الشرط. [فرع كاتبه كتابة فاسدة] وإن كاتب عبده كتابة فاسدة، فأوصى لآخر بما في ذمته.. لم تصح الوصية؛ لأنه لا شيء له في ذمته. وإن قال: إذا قبضت من المكاتب مالاً فقد أوصيت به لفلان.. فقد قال أبو إسحاق المروزي: تصح الوصية؛ لأنه وإن كان لا يملك في الحال شيئاً في ذمته لكنه إذا قبضه ملكه، فلما أضاف الوصية إلى حال تملك الموصى به.. صح، كما لو أوصى برقبته إذا عجز. قال الشيخ أبو إسحاق: وفي هذا عندي نظر؛ لأنه لا يملكه بالقبض، وإنما يعتق بحكم الصفة، كما يعتق بقبض الخمر إذا كاتبه عليه، ثم لا يملكه. وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يملكه إذا لم يزد على قدر قيمة العبد؛ لأنهما يتراجعان فيها. وإن وصى برقبته لرجل، فإن لم يعلم بفساد الكتابة.. فهل تصح الوصية؟ فيه قولان:

مسألة يحرم بالحج الواجب الوصية من الميقات

أحدهما: تصح. وهو اختيار المزني؛ لأن ملكه لم يزل عن رقبته، فصحت الوصية بها. والثاني: لا تصح، قال المحاملي: وهو الأشبه؛ لأنه إذا لم يعتقد أنه ملكه كان متلاعباً بالوصية. وهكذا القولان فيمن باع مال مورثه وهو يعتقد أنه حي فبان أنه كان ميتاً حال البيع. وإن كان يعلم بفساد الكتابة حال الوصية.. صحت الوصية، قولا واحداً، كما لو باعه من رجل بيعاً فاسداً، ثم باعه من آخر وهو يعلم فساد الأول. ومن أصحابنا من قال: فيها قولان. وليس بشيء. [مسألة يحرم بالحج الواجب الوصية من الميقات] إذا مات وعليه حجة واجبة - إما حجة الإسلام، أو القضاء، أو النذر - فإن لم يوص بها أو أوصى بها من رأسماله.. وجب أن يستأجر عليها من رأس المال من يحرم عنه من الميقات؛ لأنه كان لا يجب عليه أن يحرم بالحج في حياته إلا من الميقات، فكذلك بعد موته. ويجوز أن يكون الأجير من الورثة؛ لأنه معاوضة لا محاباة فيها. وإن أوصى بحجة الإسلام من ثلثه، أو أوصى بها مطلقاً، ولم يقل: من رأس المال، ولا من الثلث، وقلنا: إن الوصية بها يجب إخراجها من الثلث.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: يجب أن يستأجر على أدائها من يحرم بها من بلده، وتكون جميع الأجرة من الثلث؛ لأن ميقات الإحرام في أصل الوجوب من دويرة أهله، بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] [البقرة: 196] فقال عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (إتمامهما: أن تحرم بهما من دويرة أهلك) ثم رخص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قطع

المسافة إلى الميقات بغير إحرام بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يستمتع الرجل بأهله من بنيانه حتى يأتي الميقات» . فإن أوصى الرجل بالحج.. عاد إلى الأصل دون الرخصة. و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يجب الإحرام إلا من الميقات؛ لأن الموصي كان لا يجب عليه الإحرام إلا من الميقات بالشرع، فكذلك الأجير. وإن قال: حجوا عني حجة الإسلام وأطلق، وقلنا: إن الوصية به لا توجب كون جميع الأجرة من الثلث، فمن أين يجب الإحرام هاهنا؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: يجب الإحرام من دويرة أهله إلا أن القدر الذي يحتاج إليه من الأجرة من بلده إلى الميقات يكون من الثلث، وما بعد ذلك إلى آخر النسك يكون من رأس المال؛ لأن قوله: (حجوا عني) لا يفيد إلا وجوب الإحرام عنه من بلده، فكانت أجرته من الثلث، إذ لو لم يوص به.. لكان يجب الإحرام عنه من الميقات. و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يجب الإحرام عنه به إلا من الميقات، وتكون جميع الأجرة من رأس المال؛ لأن الحج لا يجب بالشرع إلا من الميقات، فكانت الوصية به تأكيداً. وإن وصى أن يجعل جميع الثلث في حجة الإسلام.. حج به عنه من حيث أمكن من بلده إلى الميقات. فإن عجز الثلث عن حجه من الميقات.. تمم من رأس المال؛ لأن الحج من الميقات مستحق من رأس المال، فإن كان الثلث قدر أجرة المثل من البلد،

فرع أوصى بحجة ولم يعين الأجرة والأجير

أو ما دونه إلى الميقات.. جاز أن يستأجر به الوارث والأجنبي؛ لأن ذلك معاوضة لا محاباة فيها. وإن كان الثلث يزيد على أجرة المثل من البلد، أو ما دونه إلى الميقات.. لم يستأجر به الوارث؛ لأن الزيادة محاباة ووصية، فلا تصح للوارث هذا نقل الشيخ أبي حامد. وقال القفال: إذا قال أحجوا عني رجلاً بألف، وأجرة المثل أقل، ولم يعين الأجير.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يحج عنه إلا بقدر أجرة المثل، والزيادة للوارث. والثاني: أن الزيادة وصية لشخص موصوف بصفة، وهو حج ذلك الشخص. قال: وحدثت حادثة بـ (مرو) اختلفت فيها فتوى مشايخنا وهي: أن رجلاً أوصى أن يشترى له عشرة أقفزة حنطة بمائة درهم فيتصدق بها عنه، فأخذ من أجود الحنطة عشرة أقفزة بثمانين درهماً، فماذا يصنع بالعشرين الباقية من المائة؟ فمنهم من أفتى بأنها ترد إلى الوارث، ومنهم من قال: إنها وصية لبائع لحنطة، ومنهم من قال: يشترى بها حنطة بهذا السعر ويتصدق بها عنه.. وهذا الوجه لا يتصور في الحج [فرع أوصى بحجة ولم يعين الأجرة والأجير] إذا أوصى بحجة الإسلام ولم يقدر الأجرة، ولا عين الأجير.. فإنه يستأجر بأقل ما يوجد، سواء كان الأجير أجنبياً أو وارثاً؛ لأن ذلك معاوضة لا محاباة فيها. وإن عين الأجرة ولم يعين الأجير. فإن كان ما عينه من الأجرة قدر أجرة المثل.. جاز أن يستأجر بها الوارث والأجنبي.

وإن كان أكثر من أجرة المثل.. لم يجز أن يستأجر بها الوارث إلا بإجازة الورثة معه. وهل يستأجر بها الأجنبي؟ إن كانت الزيادة على أجرة المثل لا تخرج من الثلث لم تلزم الزيادة إلا بإجازة الورثة.. وإن كانت تخرج من الثلث.. لزم الاستئجار بها على طريقة أصحابنا البغداديين. وعلى طريقة القفال.. على وجهين. وإن عين الأجير، ولم يقدر له الأجرة.. وجب استئجاره، وهل يجب استئجاره بأقل ما يؤخذ أو بأجرة مثله من نظرائه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزم استئجاره إلا بأقل ما يؤخذ ممن يحج؛ لأنه لا فائدة في أن يستأجر بأكثر من ذلك. والثاني: أنه يلزم أن يستأجر بأجرة مثله من نظرائه؛ لأن الموصي لما عينه فكأنه إنما قصده لعلمه بورعه وعلمه، فاعتبرت أجرة مثله بنفسه. ولا فرق على الوجهين بين أن يكون الأجير المعين وارثاً أو أجنبياً. فإن امتنع هذا الأجير المعين من الحج، أو مات قبل أن يحج.. لم تسقط الوصية بالحج، واستؤجر غيره بأقل ما يؤخذ؛ لأن الحج واجب، فلزمه أداؤه. وإن عين الأجير، وقدر الأجرة، بأن قال: استأجروا فلانا يحج عني بمائة: فإن كانت الأجرة المقدرة قدر أجرة مثله.. وجب استئجاره بها، وارثاً كان أو أجنبياً. وإن كانت أكثر من أجرة مثله.. كان قدر أجرة مثله من رأس المال. وأما الزيادة: فمعتبرة من الثلث: فإن خرجت من الثلث وكان الأجير أجنبياً فهي وصية له تلزم إذا حج. وإن لم يحتملها الثلث، أو كان الأجير المعين وارثاً.. وقف ذلك على إجازة الورثة.

فرع وجب الحج عليه فأوصى لمن يحج عنه بمائة دينار

وإن قال الأجير المعين: أحجوا غيري بأجرة المثل، وأعطوني ما زاد عليها؛ لأنه وصية لي وهي تخرج من الثلث.. لم يكن له ذلك؛ لأنه إنما وصى له بذلك بشرط- وهو أن يحج عنه- فإذا لم يحج.. لم يستحق. [فرع وجب الحج عليه فأوصى لمن يحج عنه بمائة دينار] إذا كانت عليه حجة واجبة، فقال من حج عني بعد موتي أولاً.. فله مائة دينار: فحج عنه أولاً أجنبي: فإن كانت المائة أجرة المثل.. فلا كلام. وإن كانت أكثر من أجرة المثل.. كان ما زاد معتبرا من الثلث. وإن حج عنه أولاً وارث.. قال الشافعي: (فله من المائة أقل ما يؤخذ به أحد يحج عنه) . واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: أراد به أجرة المثل. ومنهم من قال: أراد أقل ما يؤخذ به من يحج عنه، ويكون ما زاد موقوفاً على إجازة الورثة، خرج من الثلث أو لم يخرج. [مسألة أوصى بحج تطوع] إذا أوصى بحج تطوع، فإن قلنا: لا تدخله النيابة.. لم تصح الوصية به. وإن قلنا: تدخله النيابة.. فإن جميع الأجرة معتبرة من الثلث. فإن قال: أحجوا عني، ولم يقدر الأجرة، ولا عين الأجير.. قال الشيخ أبو حامد: فعلى قول أبي إسحاق: يستأجر من يحج عنه من بلده بأقل ما يؤخذ، فإن لم يحتمله الثلث.. حج عنه بالثلث من حيث أمكن من بلده إلى الميقات. وعلى قول

سائر أصحابنا: يستأجر من يحج عنه بأقل ما يؤخذ من الميقات. فإن عجز الثلث عن حجه من الميقات.. بطلت الوصية فيه، ورجع ملكاً للورثة، كما لو قال: اشتروا عبيدا وأعتقوهم، فاشتري عبدان، وفضل من الثلث مال يمكن أن يشترى به بعض الثالث.. فإنه يكون للورثة. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\419] : وفيه قول آخر في الموضعين: أنه يتصدق بالبقية، وهذا ليس بمشهور. وإن قال: أحجوا عني بمائة من ثلثي في حج التطوع.. حج عنه بها من حيث أمكن من بلده إلى الميقات، فإن لم يوجد من يحج بها عنه من الميقات.. بطلت الوصية، وكانت للورثة. وإن قال: أحجوا عني بثلثي.. صرف الثلث فيما أمكن من عدد الحجج، وهل يكون من البلد أو من الميقات؟ على وجهين: [أحدهما] : على قول أبي إسحاق: يكون من بلده. و [الثاني] : على قول سائر أصحابنا: يكون من الميقات. فإن اتسع الثلث لحجة أو حجتين، وبقي منه بقية لا يمكن أن يستأجر به من يحج من الميقات.. بطلت الوصية بها وردت إلى الورثة، ولا تصرف إلى العمرة؛ لأن الموصى به الحج دون العمرة. وإن قال: أحجوا عني فلاناً، ولم يقدر له أجرة.. فهل يجب استئجاره بأجرة مثله، أو بأقل ما يؤخذ؟ على الوجهين في المسألة قبلها. وإن قال: أحجوا عني فلانا بمائة.. اعتبر جميعها من الثلث؛ لأنها تطوع، فإن امتنع الأجير المعين عن الحج.. ففيه وجهان: أحدهما: أن الوصية بالحج تبطل، ولا يستأجر غيره؛ لأنه قصد إرفاق هذا الأجير. وإذا رد الوصية.. بطلت، كما لو وصى له بشيء فرده. والثاني: لا تبطل بل يستأجر غيره بأقل ما يؤخذ، وهو الأصح؛ لأنها وصية تتضمن قربة، فإذا ردها الموصى له.. لم تبطل القربة، كما لو وصى أن يباع له ثوب

فرع وصى بثلثه للحجيج

من رجل بمحاباة، ويتصدق بثمنه، فامتنع الموصى له بالشراء عن الشراء.. فإن الثوب يباع من غيره ويتصدق بثمنه. [فرع وصى بثلثه للحجيج] وإن أوصى بثلثه للحجيج.. قال الشافعي: (أحببت أن يدفع إلى فقراء الحجيج؛ لأنهم أحوج إليه، فإن دفع إلى أغنيائهم.. جاز) ؛ لأن اسم الحجيج يجمعهم. [مسألة وصى بمائة لحج تطوع] وإن أوصى بأن يحج عنه رجل بمائة حجة تطوع، وأوصى بما بقي من ثلثه بعد المائة لآخر، وأوصى بثلث ماله لثالث، فإن كان ثلثه مائة فما دونها.. فلا وصية للموصى له بالبقية بعد المائة, فإن أجاز الورثة الوصيتين: أعطي كل واحد من الموصى لهما ثلث ماله. وإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث.. قسم الثلث بينهما نصفين. وإن كان ثلثه أكثر من مائة، بأن كان ماله أربعمائة وخمسين، وأجاز الورثة الوصيتين.. دفع إلى الموصى له بالمائة مائة، وإلى الموصى له بالبقية خمسون، وإلى الموصى له بالثلث مائة وخمسون. وإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث.. رد الوصيتان إلى الثلث- وهو: مائة وخمسون- فيعاد الموصى له بالمائة الموصى له بالثلث بالموصى له بالبقية معه، فيقسم الثلث بينهما نصفين، فيأخذ الموصى له بالثلث نصفه- وهو: خمسة وسبعون - وفي النصف الآخر وجهان: أحدهما: أنه يأخذه الموصى له بالمائة؛ لأن الموصى له بالبقية إنما حقه فيما زاد على المائة، ولم يزد على المائة شيء. والثاني: أن الموصى له بالمائة، والموصى له بالبقية يقتسمان هذا النصف بينهما،

مسألة أوصى بعبد ولآخر بما بقي من الثلث

كما كانا يقتسمان جميع الثلث عند الإجازة، فيقتسمان هاهنا الخمسة والسبعين على ثلاثة، للموصى له بالمائة: سهمان، وللموصى له بالبقية: سهم. وإن كان الثلث مائتين.. فإنهما يقتسمان المائة عند الرد بينهما نصفين؛ لأن الوصية بالثلث زاحمتهما معاً في حقيهما فأدخلت الضرر عليهما، كأصحاب الفروض في المواريث، والأول هو المذهب؛ لأن الموصى له بالبقية إنما وقعت وصيته بشرط، ولم يوجد الشرط بخلاف أصحاب الفروض، فإن أولئك تساوت حقوقهم. فأما إذا أوصى لرجل بثلث ماله، وأوصى أن يحج عنه رجل بمائة من ثلثه حجة التطوع، وأوصى لثالث بما بقي من ثلثه بعد المائة.. ففد اختلف أصحابنا فيها: فذهب أكثرهم إلى: أن الحكم فيها كالحكم في التي قبلها؛ لأنها وصية بثلثي ماله. ومنهم من قال: لا تصح الوصية للموصى له بالبقية بعد المائة؛ لأنه لما أوصى للأول بثلث ماله.. علم أنه لا يبقى بعد المائة شيء. فعلى هذا: إن أجاز الورثة الوصيتين.. دفع إلى الموصى له بالثلث الثلث، وإلى الموصى له بالمائة مائة. وإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث.. قسم الثلث بينهما على قدر حقيهما عند الإجازة، فإن كان الثلث مائة.. اقتسماها نصفين. وإن كان الثلث مائتين.. اقتسماها على ثلاثة: للموصى له بالثلث سهمان، وللموصى له بالمائة سهم، وإن كان الثلث ألفا.. اقتسماه على أحد عشر سهما، للموصى له بالثلث عشرة أسهم، وللموصى له بالمائة سهم، والأول أصح؛ لأنه لما أوصى بالمائة بعد الثلث علم أنه أراد منه الثلث الثاني، فكانت كالأولى. [مسألة أوصى بعبد ولآخر بما بقي من الثلث] وإن أوصى لرجل بعبد، ولآخر بما بقي من ثلثه.. ففيه أربع مسائل: إحداهن: أن يموت الموصي والعبد باق بحالة سليمة: فإن العبد يقوم مع باقي التركة، وينظر: كم قدر ثلثها؟ فيدفع العبد إلى الموصى له به، فإن بقي من الثلث

مسألة أوصى بمنفعة عبد

شيء.. دفع إلى الموصى له بالبقية تمام الثلث. وإن استغرقت قيمة العبد الثلث.. فلا شيء للموصى له بالبقية؛ لأنه لم يبق له شيء. الثانية: أن يصيب العبد عيب بعد موت الموصي: فإن العبد يقوم يوم مات سيده سليماً، وتحسب قيمته سليماً في التركة، وينظر: ما بقي من ثلث التركة بعد قيمته سليماً، فيدفع ذلك إلى الموصى له بالبقية، ويدفع العبد معيباً إلى الموصى له به؛ لأنه كان سليماً وقت استحقاق الوصية. وإنما نقص بعد ذلك بغير تفريط من أحد. الثالثة: إذا مات العبد بعد موت سيده، وقبل قبول الوصية فيه.. فقد بطلت الوصية به لفواته، إلا أنه محسوب في التركة، فينظر: كم قدر ثلث التركة؟ وتسقط قيمته من الثلث. فإن بقي شيء بعد قيمته.. دفع ذلك إلى الموصى له بالبقية. الرابعة: إذا مات العبد قبل موت سيده.. فإن العبد غير محسوب في التركة؛ لأنه لم يخلفه السيد، فتقوم التركة، وينظر: كم قدر الثلث؟ ويقوم العبد يوم مات، ويسقط ذلك من الثلث، ويدفع إلى الموصى له بالبقية ما بقي بعد ذلك، ولا تبطل الوصية لصاحب البقية بموت العبد؛ لأنهما وصيتان فلا تبطل إحداهما ببطلان الأخرى، كما لو وصى لرجلين فرد أحدهما وقبل الآخر. [مسألة أوصى بمنفعة عبد] ] : إذا أوصى له بمنفعة عبد، فمات الموصي، وقبل الموصى له، وخرج العبد من الثلث.. ملك الموصى له منافعه وأكسابه وله أن ينتفع به بنفسه، ويؤاجره، ويعيره، ويوصي به، وهل له أن يسافر به؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\418] : المشهور: أن له ذلك كعبده الذي يملكه. وإن التقط هذا العبد لقطة، أو وهب له مال.. قال في " الإفصاح ": احتمل وجهين بناء على القولين أن ذلك يدخل في المهايأة: فإن قلنا: إنه يدخل في المهايأة في العبد بين الشريكين.. كان ذلك للموصى له. وإن قلنا: لا يدخل في المهايأة.. كان ذلك ملكاً لمالك الرقبة.

وإن مات الموصى له والعبد باق.. فهل يرث ورثته المنفعة؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإفصاح "، و " الإبانة ": أحدهما: لا تورث عنه، بل تكون لمالك الرقبة. وبه قال أبو حنيفة؛ لأن الميراث لا يجري في المنافع. والثاني - وهو الأصح -: أنها تورث عنه كسائر أمواله، ولا يسلم: أن الميراث لا يجري في المنافع؛ لأنه لو استأجر عينا ومات قبل استيفاء المنفعة.. ورثها ورثته، وعلى من تجب نفقة هذا العبد؟ حكى الشيخ أبو حامد فيه وجهين: أحدهما: تجب على مالك الرقبة؛ لأن النفقة للرقبة، فكانت على مالكها. والثاني: أنها في كسبه؛ لأنه لا يمكن إيجابها على مالك المنفعة؛ لأنه لا يملك الرقبة، ولا يمكن إيجابها على مالك الرقبة؛ لأنه لا يملك المنفعة، فكانت في كسبه، فإن لم يكن في كسبة وفاء أو لا كسب له.. كانت في بيت المال. وحكى الشيخ أبو إسحاق فيها وجها ثالثاً: أنها تجب على الموصى له بالمنفعة؛ لأن الكسب له. وإن قتل هذا العبد حر أو قتله عبد خطأ.. وجبت قيمته، وماذا يصنع بها؟ فيه وجهان: أحدهما: تكون ملكاً لمالك الرقبة؛ لأنها بدلها، فكانت لمالكها. والثاني - وهو الصحيح -: أنه يشترى بها عبد تكون منفعته للموصى له، ورقبته لورثة الموصي؛ لأن لكل واحد منهما حقا فيما قام مقام الأصل، فلم يجز إبطاله. وإن قتله عبد عمداً.. فمن يستوفي القصاص؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\418] : أحدهما: يستوفيه مالك الرقبة. والثاني - وهو قول أبي حنيفة -: (أن الاستيفاء للموصى له) .

فرع وصى بمنفعة جارية

فإن قطع رجل طرفه.. وجب عليه الأرش، ولمن يكون؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه لمالك الرقبة؛ لأنه بدلها. والثاني: أن ما قابل من الأرش ما نقص من قيمة الرقبة يكون لمالك الرقبة، وما قابل منه ما نقص من المنفعة يكون للموصى له. ومن أصحابنا من قال: إن كان المتلف مما ينقص منفعة العبد كاليد والرجل.. أخذ أرشه واشتري به عبد أو جزء من عبد تكون منفعته للموصى له، ورقبته لوارث الموصي. وإن كان المتلف مما لا ينقص المنفعة كالذكر ونحوه.. كان أرشه لمالك الرقبة وحده. وإن جنى هذا العبد على غيره، فإن اتفقا على فديته.. فدياه، وكان باقيا ما كان عليه. وإن فداه أحدهما دون الآخر.. كان متطوعاً. وإن امتنعا من الفدية.. بيع عليهما. [فرع وصى بمنفعة جارية] وإن كان الموصى بمنفعته جارية، فأتت بولد من زواج أو زنا.. ففيه وجهان: أحدهما: أن الولد للموصى له بالمنفعة، كما قلنا في كسبها. والثاني: أنه يكون كأمه، منفعته للموصى له، ورقبته للوارث؛ لأنه كجزء منها. ويجوز تزويجها، وفيمن يملك عقد النكاح عليها ثلاثة أوجه: أحدها: أن ذلك إلى الموصى له بالمنفعة؛ لأن مهرها له. والثاني: أنه لمالك الرقبة؛ لأن ملك الرقبة له. والثالث: لا يصح إلا باجتماعهما لأن لكل واحد منهما فيها حقا، فلم ينفرد أحدهما بالعقد عليها، كالجارية بين الشريكين. وإن أراد أحدهما وطأها.. لم يكن له؛ لأن كل واحد منهما لا يملكها ملكا تاماً،

والوطء لا يجوز إلا في ملك تام، كالجارية بين الشريكين، هذه طريقة أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 407] : يجوز وطؤها لمالك الرقبة. والأول أصح، وعليه التفريع. إذا ثبت هذا: فإن وطئها الموصى له بالمنفعة.. فلا حد عليه؛ لأن له فيها شبهة، ولا مهر عليه؛ لأن المهر له. وإن أتت منه بولد.. فالولد حر للشبهة: فإن قلنا: إن الولد الذي تأتي به من الزنا أو النكاح يكون مملوكا للموصى له.. لم يجب عليه هاهنا قيمته. وإن قلنا: إن الولد الذي تأتي به من الزنا أو النكاح يكون كأمه.. أخذت منه قيمته، وماذا يصنع بها؟ فيه وجهان، كما لو قتلت الأم: أحدهما: يكون الملك لمالك الرقبة. والثاني: يشترى بها عبد تقوم مقامه منفعته للموصى له، ورقبته لورثة الموصي. وإن وطئها وارث الموصي.. فلا حد عليه للشبهة، ويجب عليه المهر للموصى له. وإن أتت منه بولد.. كان حرا؛ لأن له فيها شبهة ملك. وأما قيمة الولد، فإن قلنا: لو كان مملوكاً كان للموصى له.. لزم وارث الموصي دفع قيمته إلى الموصى له، وإن قلنا: يكون موقوفا كأمه.. فقد أتلف الوارث رقه. فإن قلنا: لو قتل تكون قيمته لمالك الرقبة.. لم يجب عليه قيمته؛ لأنها لو وجبت عليه.. لكانت له. وإن قلنا: يشترى بها ما يقوم مقامه.. أخذت منه القيمة، واشتري بها ولد تكون منفعته للموصى له، ورقبته لورثة الموصي.

فرع بيع مالك الرقبة مع أنه قد بذل المنفعة لغيره

[فرع بيع مالك الرقبة مع أنه قد بذل المنفعة لغيره] ] : إذا أراد مالك الرقبة بيع الرقبة.. فهل يصح بيعه لها؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يصح؛ لأنه بيع صادف ملكاً له، فهو كما لو لم يكن موصى بمنفعتها. والثاني: لا يصح بيعه؛ لأنه بيع ما لا منفعة فيه، فهو كبيع الجعلان والخنافس. والثالث: إن باعها من الموصى له بالمنفعة.. صح بيعه؛ لأنه يحصل له الرقبة والمنفعة، فتكون بيع ما فيه منفعة. وإن باعها من غيره.. لم يصح؛ لأنه لا ينتفع بالرقبة من غير منفعة. فإن أعتقها مالك الرقبة.. صح عتقه؛ لأن العتق صادف ملكه، وللموصى له أن يستوفي منفعته؛ لأنه ملكها قبل العتق، فهو كما لو استأجر رجل عبداً ثم أعتقه مالكه. ولا يرجع المعتق على الذي أعتقه بشيء، بخلاف العبد إذا أجره سيده ثم أعتقه قبل انقضاء الإجارة. فإنه يرجع عليه بأجرته بعد العتق في أضعف القولين. والفرق بينهما: أن السيد هناك ملك عوض منفعته، وهاهنا: الوارث لم يملك عوض منفعته، فلذلك لم يرجع عليه بشيء. [فرع طلب مضاربة المال بعد الموت والربح نصفين] إذا دفع رجل إلى رجل مالاً، وقال: إذا مت.. فتصرف فيه بالبيع والشراء، وما حصل فيه من الربح فلك نصفه، فمات.. فلا يجوز له أن يتصرف فيه. واختلف أصحابنا في علته: فقال ابن الحداد: لأن المال قد انتقل إلى ملك وارث الموصي. ومنهم من قال: هذه العلة غير صحيحة؛ لأنه لو أوصى لرجل بمنفعة داره أو عبده.. صح وإن كان قد انتقل إلى ملك وارثة، وإنما العلة: أنه لم يوص له بعين ولا

فرع أوصى بعطاء لجماعة

منفعة عين مع بقائها، فلم يصح، كما لو أوصى أن يقرض فلان كذا وكذا من ماله. وقال القاضي أبو الطيب: إنما لم يصح لأنه عقد مضاربة على شرط مستقبل، فلم يصح، كما لو قال: قارضتك على هذا المال إذا قدم الحاج. [فرع أوصى بعطاء لجماعة] إذا قال: أعطوا زيداً عشرة من ثلثي، وعبد الله عشرة من ثلثي، وخالدا خمسة من ثلثي، وقدموا خالداًً على عبد الله، وكان ثلثه عشرين.. أعطي زيد ثمانية، وخالد خمسة، وعبد الله سبعة؛ لأن الوصية تزيد على الثلث بالخمس. فلو لم يقل: قدموا خالداً على عبد الله.. لوجب أن ينقص كل واحد منهم خمس ما وصى له به، فلما قال: قدموا خالداً على عبد الله.. اقتضى ذلك توفير حصة عبد الله على خالد، ويجعل نقصان حقه من حق عبد الله. ولو قال: قدموا خالداً على زيد.. لأعطي زيد سبعة، وعبد الله ثمانية، وخالد خمسة. مسائل من الدور في الهبة: لو أن مريضاً وهب لرجل عبداً يساوي مائة، فقبضه الموهوب له بإذنه، ثم إن الموهوب له مرض، فوهب ذلك العبد من الذي وهبه منه وأقبضه إياه، ولا مال لهما غيره، وماتا من مرضهما ذلك، ولم يجز ورثتهما، فإن قلنا: إن الاعتبار بالتركة حال الوصية.. فلا دور في هذه المسألة وأشباهها، بل تصح هبة الأول في ثلث العبد، ثم يرجع إليه من ذلك الثلث ثلثه- وهو: التسع-. وإن قلنا بالمذهب، وأن الاعتبار بالتركة حال موت الموصي.. وقع الدور؛ لأن الموهوب لما وهب للواهب.. ازدادت تركته، فتصح هبته في أكثر من ثلث العبد، ثم

تصح هبة الثاني في ثلث ما صح له من العبد، فاحتيج إلى قطع الدور فنقول: صحت هبه الأول في شيء من العبد، فلما وهبه الموهوب من الواهب.. رجع إلى الواهب ثلث ذلك الشيء، فمات الواهب الأول وفي يد ورثته عبد يساوي مائة إلا ثلثي شيء تعدل شيئين، فاجبر المائة بثلثي الشيء الذي نقصت به المائة، ورد ذلك على الشيئين المعادلين لها، فتصير مائة تعدل شيئين وثلثي شيء، فأقسط الشيئين أثلاثاً، وضم إليه ثلثي الشيء فيصير ثمانية أجزاء، فالشيء الكامل ثلاثة أجزاء من ثمانية- وهو الذي صحت به هبة الأول- ثم يرجع إلى الأول من هبة الثاني جزء من الثلاثة، فيصير مع ورثته ستة أثمان العبد- وهو مثلا ما صحت الهبة منه فيه- ويبقى مع ورثة الثاني جزءان من ثمانية - وهو مثلا ما صحت الهبة منه فيه. فلو أن الواهب الأول أعتق هذا العبد بعد أن اتهبه من الثاني.. فإن أبا العباس بن سريج قال: يدخل عتقه في تمام الثلث- وهو سهمان من أربعة وعشرين - فيكون لورثة الموهوب له الأول أربعة أسهم، ويعتق منه سهمان، ويبقى لورثة الواهب الأول ستة عشر سهما مثلا ما خرج منه بالهبة والعتق. وقال ابن اللبان: هذا خطأ، بل لا يعتق منه شيء؛ لأنه بدأ بالهبة قبل العتق ولم يحتمل الثلث للهبة أكثر من ثلاثة أثمانه، فكيف يصح العتق بعده؟ ولأن هبة الأول قد صحت في تسعة أسهم من أربعة وعشرين، ثم يصح عتقه في سهمين، فيؤدي إلى أن تصح وصيته في أحد عشر من أربعة وعشرين، ويبقى مع ورثته ثلاثة عشر وذلك أقل من مثلي ما خرج منه بالوصية.. وذلك لا يجوز.

فرع وهب أخاه في مرض موته فمات قبله

فإن لم يعتقه الأول ولكن خلف الواهب الثاني ستين درهماً.. فإنك تقول: تصح هبة الأول في شيء من العبد، وتصح هبة الثاني في ثلث ذلك الشيء وفي قدر ثلث الدراهم التي تركها، فيكون مع ورثة الأول مائة وعشرون درهماً إلا ثلثي شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين وثلثي شيء، الشيء الواحد ثلاثة أثمان مائة وعشرين- وهو خمسة وأربعون- وهو الذي صحت فيه هبة الأول- وهو ربع العبد وخمسه-فإذا انضم ذلك إلى تركة الواهب الثاني.. كانت تركته مائة وخمسة، فتصح هبته في قدر ثلث ذلك- وهو خمسة وثلاثون- وهو ثلث شيء وعشرون درهماً، فإذا ضممت ذلك إلى خمسة وخمسين من قيمة العبد بعد الهبة الأولى.. صار ذلك تسعين-وهو مثلا ما صحت فيه هبة الأول- ويبقى لورثة الواهب الثاني عشر العبد، وقيمته عشرة وستون درهما- وهو مثلا ما صحت فيه هبته- [فرع وهب أخاه في مرض موته فمات قبله] وإن وهب رجل مريض لأخيه مائة درهم، وأقبضه إياها، فمات الأخ الموهوب له أولاً، وخلف بنتاً وأخاه الواهب له، ثم مات الواهب من مرضه ذلك، ولا مال لهما غير هذه المائة.. فإنك تقول: صحت الهبة في شيء من المائة، فلما مات الموهوب له.. ورث الواهب نصف ذلك الشيء، فبقي في يد ورثته مائة إلا نصف شيء تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت المائة شيئين ونصف شيء، فالشيء خمسا المائة- وهو أربعون درهماً - وهو الذي صحت فيه الهبة، فلما مات الموهوب له.. ورث الواهب منه عشرين، فيصير مع ورثته ثمانون، وهو مثلا هبته. فإن ترك الموهوب له مائة غير المائة الموهوبة.. فإنك تقول: صحت الهبة في شيء من المائة الموهوبة، ثم يرث الواهب نصف ذلك الشيء ونصف المائة التي تركها الموهوب له، فيبقى في يد ورثة الواهب مائة وخمسون إلا نصف شيء يعدل شيئين،

فإذا جبرت.. عدلت شيئين ونصف شيء، والشيء الكامل خمسا ذلك - وهو ستون درهماً - فتصح الهبة في ستين درهماً من المائة، ويبقى منها أربعون، فيصير مع الموهوب له مائة وستون، فيرث الواهب نصف ذلك - وهو ثمانون - مع الأربعين التي بقيت من المائة فيصير مع ورثته مائة وعشرون، وهو مثلا هبته. وهكذا: الحكم فيمن وهب زوجته في مرض موته مائة، وماتت الزوجة قبله ولم تخلف ولداً، وورثها الزوج. فإن ماتت الزوجة ولا مال لهما غير المائة التي وهبها الزوج، وعليها دين عشرة.. فحسابه أن نقول: تصح الهبة للزوجة في شيء من المائة، يخرج من ذلك الشيء عشرة دينها، ثم يرث الزوج نصف ما بقي بعد الدين، وهو نصف شيء إلا خمسة، فيحصل لورثة الزوج خمسة وتسعون درهما إلا نصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين ونصفاً، فالشيء خمسا خمسة وتسعين - وهو ثمانية وثلاثون- وهو الذي صحت فيه الهبة، فيخرج منه دين المرأة- عشرة - فيبقى ثمانية وعشرون، فيرث الزوج نصف ذلك- وهو أربعة عشر- وهو نصف شيء إلا خمسة دراهم، فإذا أضيفت الأربعة عشر إلى اثنين وستين - الذي بقي من المائة - صار ذلك ستة وسبعين، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة. وإن كان الزوجان مريضين، ولكل واحد منهما مائة لا مال له غيرها، فوهب كل واحد منهما مائته لصاحبه وأقبضه، ثم ماتا من مرضهما ذلك، ولا ولد لواحد منهما: فإن ماتت الزوجة أولا.. بطلت هبتها للزوج؛ لأنه وارثها فتصح الهبة من الزوج لها في شيء، ويرث الزوج نصفه ونصف المائة التي خلفتها، فيصح مع ورثة الزوج مائة وخمسون إلا نصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين ونصف شيء،

والشيء خمسا ذلك - وهو ستون درهماً- فيضم ذلك إلى مائة الزوجة، فيرث الزوج نصف ذلك - وهو ثمانون- مع الأربعين التي بقيت من مائة الزوج، فذلك مائة وعشرون، وهو مثلا هبته لها. وإن مات الزوج أولاً.. بطلت هبته لها؛ لأنها وارثته، ويصح للزوج من هبتها شيء، ثم ترث الزوجة ربعه وربع المائة التي خلفها الزوج، فيجتمع لورثتها مائة وخمسة وعشرون درهماً إلا ثلاثة أرباع شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين وثلاثة أرباع شيء، فإذا قسطت الشيئين أرباعا مع ثلاثة أرباع شيء.. كان ذلك أحد عشر جزءاً، الشيء الكامل: أربعة أجزاء من أحد عشر جزءاً من مائة وخمسة وعشرين، وذلك خمسة أجزاء من أحد عشر جزءا ًمن مائة الزوجة فتضم هذه الأجزاء إلى مائة الزوج -وهي أحد عشر جزءا- فيكون له ستة عشر جزءاً، ترث الزوجة منه أربعة أجزاء، فتضمه إلى ستة أجزاء بقيت من مائة الزوجة.. فذلك عشرة أجزاء، وهو مثلا ما صحت فيه هبتها: فإن غرقا ولم يعلم أيهما مات أولاً.. لم يرث أحدهما صاحبه، وصحت الوصية لكل واحد منهما من صاحبه، فنقول: يكون للمرأة بهبة الزوج شيء تضمه إلى المائة التي لها، فيجوز للزوج من ذلك وصية فيبقى لورثتها مائة درهم وشيء إلا وصية تعدل وصيتين، فإذا جبرت.. صارت المائة والشيء يعدلان ثلاث وصايا، الوصية الواحدة ثلاثة وثلاثون درهما وثلث درهم وثلث شيء، فإذا ضممت ذلك إلى تركة الزوج.. صارت تركته مائة وثلاثة وثلاثين درهما وثلث درهم إلا ثلثي شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين وثلثي شيء، الشيء الكامل ثلاثة أثمان مائة وثلاثة وثلاثين وثلث درهم وهو خمسون

مسألة وهب جارية فأتت بزيادة من مهر أو كسب أو ولد

درهماً. وهو الجائز بهبة الزوج فيخرج منه للزوج وصية وقد كانت قيمة الوصية ثلث شيء وثلاثة وثلاثين درهماً وثلث درهم، فإذا ضممت ذلك.. كان خمسين درهماً، فيصح مع ورثة الزوج مائة مثلا ما صحت فيه هبته، وتصح مع ورثة الزوجة مائة مثلا ما صحت هبتها فيه. وإنما يفيد ذلك في قدر انتقال الملك لك واحد منهما من مائة صاحبه. [مسألة وهب جارية فأتت بزيادة من مهر أو كسب أو ولد] إذا وهب في مرض موته لغيره جارية قيمتها مائة، لا مال له غيرها، وأقبضه إياها، فوطئها رجل بشبهة قبل موت سيدها، ومهر مثلها خمسون درهماً، أو كسبت هذه الجارية بعد الهبة والقبض وقبل موت سيدها خمسين درهماً: فإن قلنا: تصح هبة المريض فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة تنفيذ لما فعله مورثهم.. فإن جميع المهر والكسب للموهوب له؛ لأنه حدث في ملكه، وإنما يرجع إلى الورثة ثلثاها إذا لم يجيزوا. ولا دور في هذا. وإن قلنا: لا تصح هبة المريض فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة لفعله ابتداء عطية منهم.. فقد زادت تركة الميت هاهنا قبل موته: فإن قلنا: الاعتبار بالتركة حال الوصية.. فلا دور هاهنا أيضاً، فتصح الهبة في ثلث الجارية، وتبطل في ثلثيها، فيكون لورثة الواهب ثلثا الجارية، وثلثا المهر والكسب، وللموهوب له ثلثها، وثلث مهرها، وثلث كسبها. وإن قلنا بالمذهب: إن الاعتبار بالتركة عند موت الموصي وعليه التفريع.. كان هاهنا دور، فنقول: تصح الهبة في شيء من الجارية، فللموهوب له من المهر والكسب نصف شيء، وللواهب خمسون إلا نصف شيء، فيكون مع ورثته مائة وخمسون درهماً إلا شيئاً ونصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء ونصف شيء، الشيء الكامل سبعاً مائة وخمسين درهماً , وهو ثلاثة أسباع الجارية , فتصح الهبة في ثلاثة أسباعها , وتبطل في أربعة أسباعها , فيكون للواهب أربعة أسباع مهرها وهو مهر ما بطلت فيه الهبة - وذلك قدر سبعي رقبتها - فيجتمع لورثة الواهب

أربعة أسباع رقبتها ومثل سبعي رقبتها من المهر وذلك مثلاً ما صحت فيه الهبة ويكون للموهوب له على الواطئ ثلاثة أسباع مهرها بقدر ما صحت فيه الهبة يأخذه بغير وصية. فإن حبلت من هذا الوطء وولدت قبل موت سيدها ولداً قيمته خمسون درهماً يوم ولد ... ازدادت تركة الموصى به أيضاً كالمهر، وحسابه: أن الهبة تصح في شيء من الجارية، ويلزم الواطئ المهر خمسون، للموهوب له منه نصف شيء بغير وصية، ويلزم الواطئ قيمة الولد خمسون، للموهوب له منها نصف شيء أيضاً بغير وصية، والباقي من المهر والقيمة للواهب.. فيجتمع لورثة الواهب مائتا درهم إلا شيئين، تعدل شيئين مثلي الوصية، فإذا جبرت.. عدلت المائتان أربعة أشياء الشيء الواحد ربع ذلك - وهو خمسون - وهو نصف الجارية، وتصح الهبة في نصف الجارية وقيمته خمسون، وتبطل في نصفها وقيمته خمسون، فيلزم الواهب نصف المهر خمسة وعشرون، ونصف قيمة الولد خمسة وعشرون، فذلك كله مائة مثلاً ما صحت فيه هبته، وللموهوب له نصف المهر وقيمة نصف الولد بغير وصية. فإن ولدت الجارية من هذا الوطء بعد موت سيدها.. فهل يكون الولد زائداً في التركة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن اللبان. أحدهما: لا يكون زائداً في التركة؛ لأن الولد حدث بعد موته فيكون حادثاً في ملك الورثة والموهوب له فيكون الحساب كما لو لم يكن هناك وارث. والثاني: أنه يكون زائداً في التركة؛ لأن الولد قد كان موجوداً في ملك السيد، وإنما تأخر التقويم إلى الوضع، فيكون الحساب كما لو ولدت قبل موت سيدها.

فرع وهب جارية عند موته لا مال له غيرها ثم وطئها

[فرع وهب جارية عند موته لا مال له غيرها ثم وطئها] وإن وهب رجل في مرضه المخوف لغيره جارية قيمتها مائة، لا مال له غيرها، وأقبضه إياها، ثم وطئها الواهب، ثم مات من مرضه، ومهر مثلها خمسون، ولم يجز ورثته الهبة: فإن قلنا: تصح هبته فيما زاد على الثلث، وإجازة الورثة تنفيذ لما فعله.. لزم الواهب جميع مهرها للموهوب له، فإن طالب بالمهر.. بيع له نصفها بالمهر، وكان له ثلث ما بقي، وهو سدسها بالهبة. وإن اختار الموهوب له أن يملك نصفها بالمهر.. كان أحق به من الأجنبي، فيكون له بمهره وهبته ثلثاها. وإن قلنا: لا تصح هبة المريض فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة لذلك ابتداء هبة منهم.. وجب على الواهب مهر ما صحت فيه الهبة من رأس المال، فإن أبرأه الموهوب له مما وجب له من المهر.. صحت له الهبة في ثلث الجارية، وبطلت في ثلثيها. وإن طالب بما وجب له من المهر.. فحسابه أن يقول: تصح الهبة في شيء من الجارية، وعلى الواهب مهر ما صحت فيه الهبة، وهو نصف شيء بغير وصية، فيبقى في يد ورثة الواهب جارية قيمتها مائة إلا شيئاً ونصف شيء تعدل مثلي الوصية- وهو شيئان - فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء ونصف شيء، والشيء الكامل سهمان من سبعة، فتصح الهبة في سبعي الجارية، وتبطل في خمسة أسباعها، فيلزم الواهب سبعا المهر، وهو قدر سبع رقبتها يباع في المهر، ويبقى في يد ورثة الواهب أربعة أسباع الجارية، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة. هذا هو المذهب. وحكى ابن سريج في المهر وجهين آخرين: أحدهما: أن ما لزم الواهب من المهر يكون من الثلث. فعلى هذا: تصح الهبة في تسعي الجارية، ويلزمه تسعا مهرها، وهو مثل تسع رقبتها، ويبقى في يد ورثته ستة أتساعها.

والثاني: أن المهر هدر. وقد مضى ذكرهما. وإن ولدت من وطء السيد ولدا قيمته خمسون درهماً. فإن قلنا: تصح هبة المريض فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة تنفيذ لما فعله الميت.. لزم الواهب جميع المهر وجميع قيمة الولد، وبيعت الجارية بهما للموهوب له. وإن قلنا: لا تصح هبته فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة ابتداء عطية منهم.. بطلت الهبة، وعتقت بالإحبال من رأس المال؛ لأنه لا ثلث له فتصح الوصية. فإن ترك الواهب مائتي درهم: صحت الهبة في شيء من الجارية، وعليه نصف شيء من مهرها، وعليه نصف شيء من قيمة ولدها، ولا يقوم عليه ما صحت فيه الهبة من الجارية؛ لأنه كالمعسر في هذه الحال؛ لأن الهبة قد استغرقت الثلث، فصار كمن أعتق بعد أن وهب ثلث ماله، فلا يصح عتقه، ولا يعتق باقي الأمة بالإحبال من رأس المال، ويبقى في يد الورثة مائتاً درهم إلا شيئاً تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء، فإذا قسمت المائتان على الأشياء الثلاثة.. أصاب كل شيء ثلثاً مائة - وهو ثلثا الجارية - وهو ما صحت فيه الهبة، ويلزم الواهب ثلثا مهرها وثلثاً قيمة ولدها من المائتين - وهو ثلثاً مائة - فيبقى مائة وثلاثة وثلاثون وثلث درهم، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة. فإن لم يطأها الواهب ولكن وطئها الموهوب له بعد أن قبضها وقبل موت الواهب.. وجب عليه مهر ما بطلت فيه الهبة، وازدادت التركة والهبة، وحسابه: تصح الهبة في شيء من الجارية، ويجب على الموهوب له من المهر خمسون درهما إلا نصف شيء، فيحصل للورثة مائة وخمسون إلا شيئا ونصف شيء تعدل شيئين، فإذا

جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء ونصف شيء ـ والشيء سبعا ذلك ـ وهو ثلاثة أسباع الجارية، فتصح الهبة في ثلاثة أسباعها، وتبطل في أربعة أسباعها، ويلزم الموهوب له أربعة أسباع مهرها ـ وهو مثل سبعي رقبتها ـ فإذا ضممت ذلك إلى ما بطلت فيه الهبة.. كان ستة أسباعها، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة. وإن حبلت من هذا الوطء، وولدت منه قبل موت سيدها ولداً قيمته خمسون درهماً.. ففيه قولان: أحدهما: تصير أم ولد له، ولا يلزم الموهوب له من قيمة الولد شيء؛ لأنها تضعه في ملكه. فعلى هذا: يلزمه قيمة ما بطلت فيه الهبة ـ وهو أربعة أسباعها ـ ويلزمه أربعة أسباع مهرها. والثاني: يلزمه من قيمة الولد قدر ما بطلت فيه الهبة؛ لأنها علقت به وهو لا يملك جميعها. فعلى هذا: تزداد التركة.. فتصح الهبة في شيء، ويلزم الموهوب له من المهر خمسون إلا نصف شيء، ومن قيمة الولد خمسون إلا نصف شيء، فيبقى في يد الورثة مائتان إلا شيئين تعدل شيئين، فإذا جبرتا.. عدلتا أربعة أشياء، الشيء ربع المائتين، وذلك نصف الجارية، فتصح الهبة في نصفها، ويلزمه قيمة نصفها ونصف مهرها ونصف قيمة ولدها، وذلك كله مثلا ما صحت فيه الهبة. وعلى القول الذي يقول: تصح هبة المريض فيما زاد على الثلث، وإجازة الورثة إنما هي تنفيذ لما فعله الميت.. لا يلزمه المهر ولا قيمة الولد، وتصح الهبة في ثلثها، وعليه ثلثا قيمتها للورثة، وهو ما لهم أن يردوا الهبة فيه. وإن ولدت بعد موت سيدها: فإن قلنا: لا يلزمه شيء من قيمته.. فلا كلام.

وإن قلنا: يلزمه من قيمته بقدر ما بطلت فيه الهبة.. فهل تزداد التركة به هاهنا؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. وإن وطئها الواهب والموهوب له في طهر واحد، وأتت بولد.. عرض على القافة، فإن ألحقوه بالواهب ولا مال له غير الجارية.. جازت الهبة في شيء منها، وعلى الواهب مهر ذلك الشيء ـ وهو نصف شيء ـ وعليه من قيمة الولد بقدر ما صحت فيه الهبة من الجارية ـ وهو نصف شيء ـ ويعتق باقي الأمة بالإحبال، ولا يقوم عليه ما صحت فيه الهبة؛ لأنه كالمعسر به، وعلى الموهوب له مهر ما بطلت فيه الهبة ـ وهو خمسون درهماً إلا نصف شيء ـ فيسقط من ذلك عنه ما وجب له على الواهب من المهر وقيمة الولد ـ وذلك شيء ـ فيبقى عليه خمسون درهماً إلا شيئاً ونصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرته.. عدل ثلاثة أشياء ونصفاً، فإذا قسمت الخمسين على ذلك؛ لأنه لا مال للواهب إلا ذلك.. كان الشيء الكامل سبعي الخمسين، وذلك الذي صحت فيه الهبة ـ وهو سبع رقبة الجارية ـ ويعتق باقيها بالإحبال، فيلزم الموهوب له ستة أسباع مهرها ـ وهو اثنان وأربعون درهماً وستة أسباع درهم ـ فيسقط من ذلك ما وجب له على الواهب، وهو سبع مهرها وسبع قيمة الولد ـ وهو أربعة عشر درهماً وسبعا درهم ـ فيبقى على الموهوب له ثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة من رقبتها، وسواء وطئها الواهب أولاً أو الموهوب له. هذا إذا قلنا: إن هبته لا تصح فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة ابتداء عطية. وأما إذا قلنا: تصح الهبة فيما زاد على الثلث وإجازة الورثة تنفيذ لما فعله الموصي.. فلا مهر على الموهوب له؛ لأنه وطئها وهي في ملكه. قال ابن اللبان: وعلى الواهب جميع مهرها للموهوب له وجميع قيمة ولدها، فتفسخ الهبة في الجارية وتباع ويسلم إلى الموهوب له مهرها وقيمة ولدها مائة. وإن ألحقت القافة الولد بالموهوب له: فإن قلنا: لا تصح هبة المريض فيما زاد على الثلث، فإن كان وطء الواهب لها قبل وطء الموهوب له.. فحسابه: أن تصح الهبة في شيء من الجارية، وتبطل في

باقيها، فيلزم الواهب مهر ذلك الشيء ـ وهو نصف شيء ـ وعلى الموهوب له قيمة ما بطلت فيه الهبة من الجارية ـ وهو مائة درهم إلا شيئاً ـ وعليه مهر ما بطلت فيه الهبة ـ وهو خمسون درهماً إلا نصف شيء ـ وقيمة الولد ـ وهو خمسون درهماً إلا نصف شيء ـ فجميع ما يجب عليه مائتان إلا شيئين، فيسقط عنه من ذلك ما وجب له على الواهب ـ وهو نصف شيء ـ فيبقى عليه مائتان إلا شيئين ونصفاً تعدل شيئين، فإذا جبرتهما.. عدلتا أربعة أشياء ونصف شيء، الشيء تسعا المائتين ـ وهو أربعة أتساع الجارية، وهو الذي صحت فيه الهبة ـ وقيمته أربعة وأربعون درهماً وأربعة أتساع درهم، ويلزم الموهوب له قيمة خمسة أتساع الجارية وخمسة أتساع مهرها وخمسة أتساع قيمة ولدها؛ وذلك مائة درهم وأحد عشر درهماً وتسع درهم. فإذا سقط عنه ما وجب له على الواهب ـ وهو أربعة أتساع مهرها ـ ومبلغه اثنان وعشرون درهماً وتسعا درهم.. بقي عليه ثمانية وثمانون درهما وثمانية أتساع درهم، وذلك مثلا ما صحت فيه الهبة. وإذا قلنا: لا يلزم الموهوب له قيمة الولد.. فإنه يؤدي مائة وخمسين درهماً إلاً شيئاً ونصفا، ويسقط عنه ما على الواهب له ـ وهو نصف شيء ـ فيبقى عليه مائة وخمسون درهماً إلا شيئين تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت أربعة أشياء، الشيء ربع مائة وخمسين وهو ثلاثة أثمان الجارية، فتصح فيه الهبة، وقيمته سبعة وثلاثون درهماً ونصف درهم، ويلزم الموهوب له قيمة خمسة أثمانها وخمسة أثمان مهرها، ويسقط عنه ثلاثة أثمان مهرها الذي على الواهب، فيبقى عليه خمسة وسبعون درهماً، وهو مثلا الهبة. وأما إذا قلنا: إن المريض تصح هبته فيما زاد على ثلث التركة وإجازة الوارث تنفيذ لما فعله الميت.. فلا مهر على الموهوب له، ولا قيمة ولد؛ لأنها ملكه يوم الوطء، وعلى الواهب جميع مهرها للموهوب له ـ وهو خمسون درهماً ـ وذلك نصف قيمة الجارية، وتصح الهبة في ثلث باقيها ـ وهو سدسها ـ وعلى الموهوب له قيمة خمسة أسداسها، فيقاص بقيمة نصفها من المهر له ويبقى عليه ثلاثة وثلاثون درهماً وثلث

مسألة وهب جارية في مرض موته

درهم مثلا الهبة، وسواء وطئها الواهب أولاً أو الموهوب له على هذا القول. وإن وطئها الواهب بعد وطء الموهوب له، وقلنا: لا تصح هبة المريض فيما زاد على ثلث تركته، وإجازة الورثة ابتداء عطية منهم، فإن قلنا: لا تعتق حصة الشريك إلا بعد أداء القيمة.. كان الجواب فيها كما لو وطئها الواهب قبل الموهوب. وإن قلنا: تعتق حصة الشريك قبل أداء القيمة.. كان جميعها أم ولد للموهوب له، ويكون على الواهب جميع مهرها وهو خمسون درهماً؛ لأنه وطئها بعد أن صارت أم ولد للموهوب له، فيلزم الموهوب له قيمة ما بطلت فيه الهبة ـ وهو مائة إلا شيئاً ـ ومهر ذلك ـ وهو خمسون درهما إلا نصف شيء ـ يسقط منها ما وجب له على الواهب ـ وهو خمسون درهماً ـ يبقى على الموهوب له مائة درهم إلا شيئاً ونصف شيء يعدل شيئين فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء ونصف شيء، الشيء سبعا المائة، فتصح الهبة في سبعي الجارية، ويلزم الموهوب له قيمة خمسة أسباعها وخمسة أسباع مهرها، فإذا سقط منه خمسون درهماً.. بقي عليه سبعة وخمسون درهماً وسبع درهم، وهو مثلا ما صحت فيه الهبة. [مسألة وهب جارية في مرض موته] ولو وهب زيد في مرض موته جارية له عمراً، وأقبضه إياها، فوطئها عمرو، ثم وهبها عمرو في مرض موته زيداً، وأقبضه إياها، وماتا من مرضهما، وقيمة الجارية مائة، ومهر مثلها خمسون، ولا مال لهما غير الجارية، وقلنا: لا تصح هبة المريض فيما زاد على الثلث من تركته، واعتبار التركة يوم الموت.. فحسابه: تجوز الهبة لعمرو في شيء من الجارية، وتبطل في جارية إلا شيئاً، فيؤدي عمرو من الشيء مهر ما بطلت فيه الهبة، وهو خمسون درهماً إلا نصف شيء. وكيفية ذلك: أن تجبر الخمسين الدرهم بنصف الشيء الذي نقص منها، ويرتد ذلك على الشيء المستثنى منه، ثم نستثني من الشيء ومما زيد عليه خمسين فنقول

بقي مع عمرو شيء ونصف شيء إلا خمسين درهماً، فتصح هبته لزيد في ثلث ذلك ـ وهو نصف شيء إلا ستة عشر درهماً وثلثي درهم ـ ويبقى مع ورثة عمرو شيء إلا ثلاثة وثلاثين درهماً وثلث درهم، ويكون مع ورثة زيد مائة درهم وثلاثة وثلاثون درهماً وثلث درهم إلا شيئا يعدل شيئين، ويكون مع ورثة زيد مائة درهم وثلاثة وثلاثون درهماً وثلث درهم إلا شيئاً يعدل شيئين. فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء، الشيء الواحد ثلث ذلك ـ وهو أربعة أتساع الجارية ـ فتصح الهبة في أربعة أتساع الجارية، وتبطل في خمسة أتساعها، فيلزم عمراً خمسة أتساع مهرها، وهو قدر تسعي رقبتها ونصف تسعها. فإذا خرج ذلك من أربعة أتساعها.. بقي معه تسعها ونصف تسعها، فتصح هبته لزيد في نصف تسعها ـ وهو نصف شيء إلا ستة عشر درهماً وثلثي درهم ـ فيجتمع لزيد ثمانية أتساعها، وهو مثلا ما صحت فيه هبته لعمرو. فإن وهبها زيد لعمرو وأقبضه إياها، ثم وطئها زيد، ثم وهبها عمرو من زيد.. صحت هبة زيد لعمرو في شيء من الجارية، فلما وطئها زيد.. وجب عليه مهر ذلك الشيء ـ وهو نصف شيء ـ فيجتمع لعمرو شيء ونصف شيء، فتصح هبته لزيد في ثلث ما بيده ـ وهو نصف شيء ـ فيكون مع زيد جارية قيمتها مائة إلا شيئاً يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء، الشيء ثلثها، فتصح هبة زيد لعمرو في ثلث الجارية، ويجب على زيد لعمرو ثلث مهرها وهو مثل سدسها، فلما وهبها عمرو من زيد ... صحت هبته في سدسها، فاجتمع لورثة زيد ثلثا الجارية ـ وهو مثلا هبته لعمرو ـ وبقي لورثة عمرو ثلث الجارية ـ مثلا هبته لزيد ـ. وإن وطئها زيد بعد أن وهبها منه عمرو وأقبضه إياها.. فحسابه أن نقول: تصح هبة زيد لعمرو في شيء من الجارية، فلما وهبها عمرو من زيد.. صحت هبته له وصية، وبقي مع عمرو شيء إلا وصية، فلما وطئها زيد.. وجب عليه مهر ما بقي في يد عمرو، وقدر ذلك المهر نصف شيء إلا نصف وصية، فيجتمع لعمرو شيء ونصف شيء إلا وصية ونصف وصية تعدل وصيتين. فإذا جبرت.. صار شيء ونصف شيء يعدل ثلاث وصايا ونصف وصية، الوصية سبعا ذلك، وهي ثلاثة أسباع شيء، فتصح

هبة عمرو لزيد في ثلاثة أسباع شيء، وتبطل في أربعة أسباع شيء، ويجب على زيد مهر أربعة أسباع شيء وذلك قدر سبعي شيء، فيجتمع لورثة عمرو ستة أسباع شيء ـ وهو مثلا ما صحت فيه هبته ـ ويجتمع لورثة زيد جارية قيمتها مائة درهم إلا ستة أسباع شيء تعدل شيئين. فإذا جبرت.. عدلت شيئين وستة أسباع شيء فإذا قسطت الشيئين أسباعاً وضممت إليها الستة الأسباع.. كان ذلك عشرين، فالشيء الكامل سبعة أسهم من عشرين، وهو الجائز بهبة زيد لعمرو، ثم يرجع إلى زيد بهبة عمرو ثلاثة أجزاء من هذه السبعة، فيبقى مع عمرو أربعة أجزاء، ثم يغرم له زيد بالمهر جزأين، فيكون معه ستة أجزاء ـ وهو مثلا هبته ـ ويبقى مع زيد أربعة عشر جزءاً، وذلك مثلا هبته لعمرو. وإن وهبها زيد لعمرو وأقبضه إياها، ثم وهبها عمرو لزيد وأقبضه إياها، ثم وطئها عمرو.. فإنه يصح لعمرو بهبة زيد شيء من الجارية، وتصح لزيد من عمرو من الشيء وصية، فيبقى مع عمرو شيء إلا وصية، ومع زيد مائة درهم ووصية إلا شيئاً، فلما وطئها عمرو.. وجب عليه مهر ما في ملك زيد فيها، وقدر ما عليه من المهر نصف وصية وخمسون درهماً إلا نصف شيء، يخرج ذلك مما في يده فيبقى معه شيء ونصف شيء إلا وصية ونصف وصية، وإلا خمسين درهماً تعدل وصيتين. فإذا جبرت.. صار ذلك شيئاً ونصف شيء إلا خمسين درهماً تعدل ثلاث وصايا ونصف وصية، الوصية سبعا ذلك، وهو ثلاثة أسباع شيء إلا أربعة عشر درهماً وسبعي درهم. فإذا جمعت ما بيد زيد من الذي لم تصح فيه الهبة منه ومن هبة عمرو له ومن المهر على عمرو.. كان معه مائة وخمسون درهماً ووصية ونصف وصية إلا شيئاًَ ونصف شيء، فاجعل مكان الوصية ونصف الوصية قيمتها ـ وذلك أربعة أسباع شيء ونصف سبع شيء إلا أحداً وعشرين درهماً وثلاثة أسباع درهم ـ فيصير معه مائة درهم وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم إلا ستة أسباع شيء تعدل شيئين. فإذا جبرت..

عدلت شيئين وستة أسباع شيء فابسط الشيئين أسباعاً، وضم إليها الستة الأسباع، فتصير عشرين سهماً. والدراهم الزائدة على المائة، سبعا المائة فابسط المائة أسباعاً، وضم إليها سبعي المائة، فذلك تسعة أسهم، فالشيء تسعة أجزاء من عشرين جزءاً من الجارية، وهو ربعها وخمسها، وهو الجائز بهبة زيد لعمرو: فلما وهب عمرو لزيد.. صح له من هبته وصية، والوصية ثلاثة أسباع شيء إلا أربعة عشر درهماً وسبعي درهم، وذلك سهم من التسعة، فيبقى مع عمرو ثمانية أجزاء ومع زيد اثنا عشر جزءاً، فلما وطئها عمرو.. وجب عليه لزيد بالمهر نصف ما بيد زيد من الجارية؛ لأن المهر نصف قيمتها، وذلك ستة أجزاء.. فيصير مع زيد ثمانية عشر جزءاً ـ وهو مثلا هبته لعمرو ـ ويبقى مع ورثة عمرو جزآن ـ وهو مثلا هبته لزيد ـ. فأما إذا وهبها زيد لعمرو وأقبضه إياها، ثم وطئها عمرو، ثم وهبها عمرو لزيد وأقبضه إياها، ثم وطئها زيد، وقيمتها ثلاثمائة ومهر مثلها مائة ولا مال لهما غيرها.. فحسابه أن نقول: تصح هبة زيد لعمرو في شيء من الجارية، فلما وطئها عمرو.. وجب عليه لزيد مهر ما لم تصح فيه الهبة وقدر ذلك المهر مائة درهم إلا ثلث شيء، ثم لما وهبها عمرو من زيد.. صح من هبته له وصية، وبقي في يد عمرو شيء إلا وصية، فلما وطئها زيد.. وجب عليه مهر ما بيد عمرو منها، وقدر المهر على زيد ثلث شيء إلا ثلث الوصية. فإذا جمعت ما بيد زيد مما لم تصح فيه هبته، والمهر الذي على عمرو، وهبة عمرو له.. كان جميع ذلك وصية وأربعمائة درهم إلا شيئاًَ وثلث شيء، فأسقط من ذلك ما وجب عليه لعمرو بالمهر ـ وذلك ثلث شيء إلا ثلث وصية ـ فأكمل ثلث الشيء بثلث الوصية الناقصة، ثم رد ثلث الوصية إلى الوصية مع الدراهم الأربعمائة، ثم استثن ثلث الشيء مما في يد زيد، فيبقى معه وصية وثلث وصية وأربعمائة درهم إلا شيئاً وثلثي شيء، ثم اجمع ما بيد عمرو من هبة زيد له ومما غرم له زيد بالمهر، وذلك شيء وثلث شيء، إلا ثلث وصية وقد غرم من ذلك مائة درهم إلا ثلث شيء ووهب وصية لزيد، فإذا أردت إخراج ذلك مما بيده.. أكملت المائة بثلث الشيء

الناقص منها، وزدت ذلك الثلث على الشيء وثلث الشيء إلا ثلث وصية، ثم استثن من ذلك مائة درهم ووصية، فنقول: بقي مع عمرو شيء وثلثا شيء إلا وصية وثلث وصية وإلا مائة درهم ـ وهذا الذي بيد عمرو ـ يعدل وصيتين، فاجبر شيئاًَ وثلثي شيء إلا مائة درهم وإلا وصية وثلث وصية بالوصية وثلث الوصية الناقص، ورد ذلك على الوصيتين، فتصير شيئاً وثلثي شيء إلا مائة درهم تعدل ثلاث وصايا وثلث وصية، فاضرب الثلاث الوصايا في ثلاثة، وضم إليها ثلث الوصية، فتصير عشرة، فاقسم شيئاً وثلثي شيء إلا مائة درهم على عشرة، واجمع ما يخص ثلاثة أجزاء ـ لأنها أجزاء الوصية ـ فيخص الوصية الكاملة ثلاثة أعشار شيء وثلثي شيء إلا ثلاثين درهماً ـ وذلك نصف شيء إلا ثلاثين درهماً ـ فنعلم أن هذه قيمة الوصية، ثم ارجع إلى ما بيد زيد، وهو أربعمائة درهم ووصية وثلث وصية إلا شيئاً وثلثي شيء، فانظر قيمة وصية وثلث وصية.. تجد ذلك ثلثي شيء إلا أربعين درهماً، فاجعلها مكان الوصية وثلث الوصية، فيحصل في يد زيد ثلاثمائة درهم وستون درهماً إلا شيئاً يعدل شيئين، فإذا جبرت.. صارت ثلاثمائة وستين تعدل ثلاثة أشياء، الشيء ثلث ذلك ـ وهو مائة وعشرون درهماً ـ فهذا الذي صحت فيه هبة زيد لعمرو، وذلك خمسا الجارية، وتبطل الهبة في ثلاثة أخماسها، فيجب له على عمرو ثلاثة أخماس مهرها ـ وهو ستون درهماً ـ وذلك مائة درهم إلا ثلث شيء، ويخرج منه وصية، وذلك نصف شيء إلا ثلاثين درهما ـ وهو ثلاثون درهماً ـ فبقي معه ثلاثون درهماً، ثم يرجع إلى عمرو ما وجب له على زيد من المهر، وهو ثلاثون درهماً ـ ثلاثة أعشار المهر ـ وذلك ثلث شيء إلا ثلث وصية، فيجتمع لعمرو ستون درهماً مثلا الوصية التي خرجت منه، ويجتمع لورثة زيد مائتان وأربعون مثلا هبته لعمرو. والله أعلم

مسألة أوصى لرجل بثلث ونحوه ثم لآخر مثله

باب الرجوع في الوصية يجوز للموصي أن يرجع فيما أوصى به؛ لأن الوصية لا تلزم إلا بعد موته، فجاز له الرجوع فيها، كما لو وهب لغيره شيئاً، ثم رجع الواهب قبل قبول الموهوب له. و (الرجوع) : هو أن يقول: رجعت في الوصية لفلان، أو أبطلتها أو رددتها أو فسختها أو ما أشبه ذلك: فإن قال: حرام على فلان ما أوصيت له به.. كان رجوعاً؛ لأنه لا يجوز أن يكون له وهو حرام عليه. وإن قال: هو لورثتي.. كان رجوعاً؛ لأن ذلك ينافي الوصية. وإن قال: هو تركتي.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه رجوع؛ لأن التركة للورثة. والثاني: ليس برجوع؛ لأن الموصى به من التركة. [مسألة أوصى لرجل بثلث ونحوه ثم لآخر مثله] وإن أوصى لرجل بثلث ماله، أو بعين من ماله، ثم أوصى بثلث ماله، أو بتلك العين لرجل آخر ولم يتعرض للوصية الأولى.. فليس برجوع في الأولى، فإن أجاز الورثة وصيته في الثلثين.. استحق كل واحد من الموصى لهما ثلث ماله. وإن لم يجيزوا وصيته في الثلثين، أو كانت وصيته في العين.. قسم ذلك بينهما إذا احتمل الثلث العين الموصى بها. وبه قال ربيعة، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه. وقال الحسن، وعطاء، وطاووس، وداود: (يكون هذا رجوعاً في الوصية الأولى) .

فرع وصى لرجل بشيء ثم قال هو لآخر

ودليلنا: أن كل واحد من الموصى لهما قد ساوى صاحبه وقت الوجوب، فقسم بينهما، كما لو أوصى لهما بثلث ماله أو بعين من ماله في حالة واحدة. وإن أوصى لأحدهما بثلث ماله، ثم أوصى لآخر بثلث ماله، فرد أحدهما وصيته.. توفر جميع الثلث على الذي لم يرد؛ لأنه قد أوصى له بثلث ماله، وليس هاهنا من يزاحمه فهو كما لو لم يوص إلا له. [فرع وصى لرجل بشيء ثم قال هو لآخر] وإن وصى لرجل بشيء، ثم قال: ما أوصيت به لفلان فقد أوصيت به لفلان.. فهو رجوع عن وصيته الأولى؛ لأنه قد نقل الوصية من الأول إلى الثاني، وصرح بذلك. وحكى الشيخ أبو إسحاق وجها آخر: أنه يكون بينهما، والأول أصح. [مسألة أوصى بعبد ثم باعه] وإن وصى لرجل بعبد، ثم باعه، أو وهبه وأقبضه، أو أعتقه، أو كاتبه، أو أوصى للعبد بشيء من ذلك.. كان رجوعاً في الوصية الأولى؛ لأن هذه الأشياء تنافي مقتضى الوصية؛ لأن الوصية تمليك بعد الوفاة، فينبغي أن يكون الموصى به على ملكه حتى يقع تملكه بعده. وإن عرضه للبيع، أو وهبه لآخر فلم يقبل، أو رهنه.. ففيه وجهان: أحدهما: أن ذلك رجوع في الوصية؛ لأنه عرضة لزوال الملك. والثاني: ليس برجوع؛ لأن ملكه لم يزل عنه، والأول أصح. وإن وصى بثلث ماله، ثم باع ماله.. لم يكن رجوعاً في الوصية؛ لأن ماله معتبر عند الموت.

فرع أوصى بعبد ثم دبره

[فرع أوصى بعبد ثم دبره] ] : وإن أوصى لرجل بعبد، ثم دبره، فإن قلنا: إن التدبير تعليق عتق بصفة.. كان رجوعاً في الوصية؛ لأنه عرضة لزوال الملك. وإن قلنا: إن التدبير وصية، فإن قلنا: العتق يقدم على سائر الوصايا.. كان ذلك رجوعاً في الوصية. وإن قلنا: لا يقدم العتق.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: أنه ليس برجوع في الوصية.. فيكون نصفه موصى به، ونصفه مدبراً، كما لو أوصى به لرجل ثم أوصى به لآخر. والثاني ـ ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه رجوع؛ لأن التدبير أقوى؛ لأنه يتنجز من غير قبول، والوصية لا تتم إلا بالقبول. [مسألة زيادة الموصى به] وإن أجر الموصى به، أو علمه صنعة أو زوجه، أو ختنه، أو استخدمه، أو أنفق عليه.. لم يكن رجوعاً في الوصية؛ لأن ذلك لا ينافيها. وإن وصى لرجل بجارية فوطئها الموصي: فإن عزل عنها.. لم يكن رجوعاً؛ لأن ذلك استيفاء منفعة، فهو كالاستخدام. وإن لم يعزل عنها.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه ليس برجوع، كما لو عزل عنها. والثاني: وهو قول ابن الحداد، والمسعودي [في " الإبانة " ق\ 438] ، والقاضي أبي الطيب ـ: أنه رجوع، كما قال الشافعي: (إذا حلف لا يتسرى بجارية فوطئها ولم يعزل عنها.. كان حانثاً في يمينه) ولأنه عرضها للإحبال وزوال الملك، فهو كما لو عرضها للبيع.

مسألة خلط الموصي الطعام

[مسألة خلط الموصي الطعام] ] : وإن وصى له بطعام متميز فخلطه بغيره.. كان رجوعاً سواء خلطه بمثله أو بأجود منه، أو بأردأ منه؛ لأنه لا يمكن تسليم الطعام الموصى به. وإن أوصى له بصاع من صبرة، ثم خلط الصبرة بمثلها.. لم يكن رجوعاً؛ لأن الموصى به مختلط بغيره، فلا يضر خلط الصبرة بمثلها. وإن خلط الصبرة بأجود منها.. كان رجوعاً؛ لأنه أحدث بالخلط زيادة لم يرض بتمليكها. وإن خلط الصبرة بأردأ منها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما ـ ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه ليس برجوع، كما لو خلطها بمثلها. وما حدث من النقص لا يقتضي الرجوع، كما لو أتلف بعضها. والثاني: أنه رجوع؛ لأنه يتغير بما دونه كما يتغير بما هو أجود منه. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 439] : لا يكون رجوعاً، سواء زادت أو نقصت؛ لأن الاسم باق عليها. وإن نقل الطعام إلى بلد أبعد من بلد الموصى له.. ففي ذلك وجهان: أحدهما: أنه رجوع؛ لأنه لو لم يرد الرجوع.. لما نقله عنه. والثاني: ليس برجوع؛ لأنه باق على صفته. [فرع تصنيع الموصى به] وإن وصى له بطعام فطحنه أو جعله سويقاً، أو بدقيق فعجنه، أو بعجين فخبزه.. كان رجوعاً؛ لأنه أزال عنه الاسم.

فرع إزالة اسم العين الموصى بها

وإن وصى له بخبز فجعله فتيتاً.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه رجوع؛ لأنه أزال عنه الاسم. والثاني: ليس برجوع؛ لأنه يقال: خبز مدقوق. وإن وصى له برطب فجعله تمراً، أو بلحم فطبخه أو شواه.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه رجوع؛ لأنه أزال عنه الاسم. والثاني: ليس برجوع؛ لأنه أبقى له. وإن وصى له بقطن فغزله، أو بغزل فنسجه.. كان رجوعاً؛ لأنه أزال عنه الاسم. وإن وصى له بقطن فحشا به فراشاً.. ففيه وجهان. أحدهما: أنه ليس برجوع؛ لأن اسم القطن باق عليه. والثاني: أنه رجوع؛ لأنه جعله للاستهلاك. وإن وصى له بشاة فذبحها.. كان رجوعاً؛ لأنه أزال عنها الاسم. وإن وصى له بثوب فغسله.. لم يكن رجوعاً؛ لأنه باق. وإن قطعه قميصاً، أو وصى له بخشبة فشقها باباًَ.. ففيه وجهان. أحدهما: أنه رجوع؛ لأنه أزال عنهما اسم الثوب والخشبة. والثاني: ليس برجوع؛ لأن الاسم باق عليهما. [فرع إزالة اسم العين الموصى بها] وإن وصى له بدار فهدمها الموصي.. بطلت الوصية فيها؛ لأنه تصرف أزال به الاسم، فكان رجوعاً، كما لو أوصى له بحنطة فطحنها. وإن انهدمت في حياة الموصي، فإن لم يزل عنها اسم الدار.. لم تبطل الوصية فيما لم ينفصل عنها. وأما ما انفصل عنها من أحجار وآجر وأخشاب.. فالمنصوص: [أنه لورثة الموصي] ؛ لأنه جاء وقت لزوم الوصية وهو منفصل. ومن أصحابنا من قال: إنه للموصى له؛ لأن الوصية تناولته. وليس بشيء.

فرع استعمال الموصى به

وإن زال عنها اسم الدار، بأن صارت براحاً، فإن قلنا: إن الآلة التي انفصلت عنها في الأولى للموصى له.. لم تبطل الوصية هاهنا في الآلة والعرصة. وإن قلنا بالمنصوص.. فإن الآلة لورثة الموصي، وفي العرصة وجهان: أحدهما: أنها للموصى له؛ لأنها ثبوت الدار. والثاني ـ وهو المذهب: - أن الوصية تبطل بها أيضاً؛ لأنه لا يقع عليها اسم الدار. وإن انهدمت بعد موت الموصي وقبل قبول الموصى له، ثم قبل.. فإن الدار وما انفصل عنها للموصى له؛ لأنه جاء وقت لزوم الوصية وهي متصلة بالدار. ومن أصحابنا من قال: إن قلنا: إن الموصى له ملك بالموت.. كان الجميع له. وإن قلنا: إنه ملك بنفس القبول.. كان ما انفصل عنها لورثة الموصي. قال الشيخ أبو حامد: وهذا ضعيف؛ لأنه يلزم على هذا: إذا خربت الدار كلها بعد الموت وقبل القبول، وقلنا: إن ملكه بالقبول.. أن الوصية تبطل وتكون لورثة الموصي! وما قال هذا أحد من أصحابنا. وإن وصى له بدار، ثم بنى عليها بيتاًَ آخر، فإن قلنا: إن المنفصل عنها في حياة الموصي لورثة الموصي.. كان البيت الملحق بالدار لهم. وإن قلنا: إن المنفصل للموصى له.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 438] : كان البيت الملحق للموصى له أيضاًَ. [فرع استعمال الموصى به] وإن وصى له بأرض فزرعها.. لم يكن رجوعاً، كما لو وصى له بدار فسكنها. وإن غرسها أو بنى فيها.. ففيه وجهان:

فرع وصى بمنفعة دار سنة ثم أجرها

أحدهما: أنه ليس برجوع، كزراعتها. والثاني: أنه رجوع؛ لأنهما يرادان للبقاء. فإذا قلنا بالأول.. ففي موضع الغراس وقرار البناء وجهان: أحدهما: أن ذلك ليس برجوع فيه، كالبياض الذي بين ذلك. والثاني: أنه رجوع فيه؛ لأنه تابع لما عليها. [فرع وصى بمنفعة دار سنة ثم أجرها] قال الشيخ أبو إسحاق: وإن أوصى له بمنفعة داره سنة، ثم أجرها دون السنة.. لم يكن رجوعاً؛ لأن الإجارة قد تنقضي قبل موت الموصي، فإن مات قبل انقضاء الإجارة.. ففيه وجهان: أحدهما: تبطل الوصية فيما بقي من مدة الإجارة. والثاني: لا تبطل، بل يسكن الموصى له سنة بعد انقضاء مدة الإجارة. والله أعلم

باب الأوصياء لا تصح الوصية إلا إلى بالغ عاقل مسلم عدل، حر؛ لأن الوصية تقتضي ولاية وأمانة، وذلك لا يصح إلا ممن جمع هذه الشرائط. أما (الولاية) : فلأن الوصي يلي أموال الأطفال وتفرقة ثلث الميت. وأما (الأمانة) : فلأن المال يكون عنده. فإذا اختل شرط من هذه الشروط.. لم يكن من أهل الولاية والأمانة. فإن أوصى إلى صبي أو مجنون.. لم تصح الوصية؛ لأنه مولى عليهما، فلا يملكان الولاية على غيرهما وهذا إجماع. وإن أوصى إلى مسلم فاسق.. لم يصح. وقال أبو حنيفة: (يصح) . دليلنا: أن الوصية تقتضي ولاية وأمانة كما ذكرناه، والفاسق ليس من أهل الولاية والأمانة. وإن وصى مسلم إلى كافر.. لم تصح الوصية؛ لأن الفسق ينافي الوصية، فالكفر أولى، وهو إجماع أيضاً. وإن وصى كافر إلى كافر: فإن كان الكافر غير رشيد في دينه.. لم تصح الوصية إليه، كالوصية إلى المسلم الفاسق. وإن كان الوصي رشيداً في دينه.. ففيه وجهان:

فرع: وصاية المرأة

أحدهما: يصح؛ لأنه يجوز أن يكون ولياً له، فجاز أن يكون وصياً له. والثاني: لا يصح، كما لا يكون شاهداً له. أما الوصية إلى العبد: فاختلف الناس فيها على أربعة مذاهب: فـ[الأول] : ذهب الشافعي إلى: أن الوصية لا تصح إليه بحال، سواء أوصى إلى عبد نفسه أو إلى عبد غيره، بإذن سيده أو بغير إذنه، وسواء كان ورثته كباراً أو صغاراً، أو بعضهم كباراً وبعضهم صغاراً. وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وأبو ثور. و [الثاني] : ذهب مالك: إلى أن الوصية تصح إلى عبده وإلى عبد غيره إذا أذن له سيده. و [الثالث] : ذهب الأوزاعي، وابن شبرمة إلى أنه: إن أوصى إلى عبد نفسه.. صح. وإن أوصى إلى عبد غيره.. لم يصح بحال. و [الرابع] : قال أبو حنيفة: (إن أوصى إلى عبد غيره.. لم يصح. وإن أوصى إلى عبد نفسه.. نظرت: فإن كان في ورثته كبير يلي.. لم يصح. وإن كانوا كلهم صغاراً.. صح) . دليلنا: أنه مولى عليه فلم تصح الوصية إليه، كالمجنون. قال الشافعي: (ولا تصح الوصية إلى المدبر، ولا إلى المكاتب، وأم الولد، والمعتق بصفة، ولا إلى المعتق بعضه؛ لأن بعض الرق حاصل فيهم، فهم بمنزلة العبد) . [فرع: وصاية المرأة] وإذا جمعت المرأة الشرائط الخمس.. جازت الوصية إليها، وهو قول كافة العلماء إلا عطاء، فإنه قال: لا يجوز.

مسألة شرائط الوصي تعتبر عند الموت

دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» . فجوز لها أن تنفق على أولادها الصغار. وروي: (أن عمر أوصى إلى ابنته حفصة) ، ولا مخالف له. وإن جمع الأعمى الشرائط الخمس.. فهل تصح الوصية له؟ فيه وجهان: أحدهما: تصح؛ لأنه من أهل الشهادة. والثاني: لا تصح؛ لأن الوصي يراد للنظر، والأعمى لا يصلح للنظر. [مسألة شرائط الوصي تعتبر عند الموت] ومتى يعتبر وجود الشرائط الخمس في الوصي؟ فيه ثلاثة أوجه: [أحدها] : من أصحابنا من قال: يعتبر وجودها عند موت الموصي دون ما قبله؛ لأن الوصي إنما يستحق النظر في تلك الحال دون ما قبله، فاعتبر حاله فيه كما يعتبر كون الشخص وارثاً عند موت المورث دون ما قبله.

مسألة الوصية إلى اثنين

و [الثاني] : منهم من قال: يعتبر وجود الشرائط في الوصي عند عقد الوصية، وعند موت الموصي دون ما بينهما؛ لأن وقت الوصية حال الإيجاب، ووقت الموت حال القبول. و [الثالث] : منهم من قال: تعتبر وجود الشرائط في الوصي من حين الوصية إلى أن يموت الموصي؛ لأن كل وقت من ذلك يجوز أن يموت فيه الموصي فيستحق الوصي فيه النظر. قال الشيخ أبو حامد: والأول أصح. قيل له: فكيف يكون الأول أصح وقد قال الشافعي: (لا تصح الوصية إلى المدبر، ولا إلى أم الولد) ، وكل واحد منهما يعتق بوفاته فتكمل فيه الشرائط؟ فقال: يحمل قوله هذا على أنه أراد: مدبر غيره، وأم ولد غيره. فإن أوصى إلى من جمع الشرائط، ثم تغيرت حال الوصي بعد موت الموصي، فإن تغير لضعف عن الحساب أو الحفظ.. لم ينعزل بذلك، بل يضم إليه الحاكم أميناً يعاونه؛ لأن الضعف لا ينافي الولاية، بدليل: أن الأب والجد يليان مال ولدهما وإن كان فيهما ضعف. ولو كان الحاكم هو الذي نصب الأمين فضعف. فله عزله؛ لأنه نصبه. وإن فسق الوصي أو جن.. انعزل عن الوصية؛ لأن الفسق والجنون ينافيان الولاية، بدليل: أن الأب والجد والحاكم إذا فسق واحد منهم أو جن.. بطلت ولايته. [مسألة الوصية إلى اثنين] فإذا أوصى إلى اثنين.. صح، كالوكالة. فإن وصى إليهما، وإلى كل واحد منهما، مثل أن يقول: أوصيت إليكما، وإلى كل واحد منكما، أو لكل واحد منكما أن يتصرف على الانفراد.. صح. فإن اجتمعا على التصرف.. صح. وإن انفرد أحدهما بالتصرف.. صح أيضا؛ لأن كل واحد منهما كالوصي المنفرد.

وإن مات أحدهما أو فسق أو جن.. لم يضم الحاكم إلى الآخر غيره؛ لأن الموصي رضي بنظر كل واحد منهما. وإن قال: أوصيت إليكما على أن لا ينفرد أحدكما بالنظر والتصرف.. لم يجز لأحدهما أن ينفرد بالتصرف؛ لأن الموصي لم يرض بنظره وحده. فإن اجتمعا على التصرف.. صح. وإن انفرد أحدهما بالتصرف.. نظرت: فإن كان في رد وديعة أو مغصوب.. وقع موقعه؛ لأن للمودع والمغصوب أن يأخذ ماله بغير واسطة. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 439] : وهكذا لو كان ما انفرد به قضاء دين من جنسه، أو وصية بشيء معين.. فلا ضمان على المنفرد بذلك منهما. وإن كان ما انفرد به مما يفتقر إلى الاجتهاد، كتفرقة الثلث على الفقراء وما أشبهه.. لم يصح، وكان على المنفرد بذلك الضمان؛ لأن ذلك يفتقر إلى الاجتهاد، ولم يرض الموصي باجتهاده وحده. فإن قال: أوصيت إليكما في كذا وأطلق، ولم يأذن لكل واحد منهما في التصرف على الانفراد ولا منع كل واحد منهما عن التصرف على الانفراد.. فحكمه عندنا حكم ما لو منع كل واحد منهما عن التصرف على الانفراد. وقال أبو يوسف: لكل واحد منهما أن ينفرد بالتصرف.

وقال أبو حنيفة ومحمد: (إن اجتمعا على التصرف.. صح. وإن انفرد أحدهما في التصرف.. لم يصح إلا في ستة أشياء: [الأول] : في شراء كفن الموصي، و [الثاني] : تفرقة ثلثه، و [الثالث] : قضاء ديونه، و [الرابع] : رد الودائع، و [الخامس] : الغصوب، و [السادس] : إطعام اليتيم وكسوته.. فأما ما عدا ذلك من شراء العقار لليتيم وسائر العقود.. فلا يصح) . دليلنا: أنه مشترك بينهما، فلم يكن لأحدهما أن ينفرد به، كما لو وكل وكيلين في شراء شيء أو بيعه، ولأن الجهة التي ملك بها الوصي النظر في الستة الأشياء هي الجهة التي ملك بها النظر في غيرها، فإذا لم يملك النظر فيما عدا الستة الأشياء.. لم يملك النظر في الأشياء الستة. إذا ثبت هذا: فإن اجتمع الوصيان معا على التصرف.. جاز. وإن تشاحا، فقال كل واحد منهما: أنا أنظر أو أفعل، أو قال: لا أفعل أنا.. قال الشيخ أبو حامد: وقف الأمر ليتفقا ما لم يطل تشاحهما فإن طال.. أقام الحاكم عدلين لينظرا؛ لأن هذا موضع ضرورة. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\ 440] : فإذا استناب أحدهما آخر عن نفسه ليتصرف مع الآخر.. جاز؛ لأن رأي الاثنين حاصل. فإن مات أحدهما، أو فسق، أو جن.. لم يكن للآخر أن ينفرد بالتصرف؛ لأن الموصي لم يرض بنظره وحده، بل يرفع الأمر إلى الحاكم ليقيم آخر مع الباقي منهما. فإن أراد الحاكم أن يفوض النظر إلى الباقي منهما، أو ماتا، أو فسقا فأراد الحاكم تفويض النظر إلى عدل واحد.. ففيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن النظر قد صار إلى الحاكم، فجاز أن يكون الباقي أميناً من قبل الحاكم ووصياً من الموصي. والثاني: لا يصح؛ لأن الموصي لم يرض إلا بنظر اثنين.

فرع توقيت مدة الوصاية

إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (إذا اختلفا.. قسم بينهما ما كان ينقسم، وجعل في أيديهما نصفين، وأمرا بالاحتفاظ بما لم ينقسم) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا: فقال أبو إسحاق: إنما عطف الشافعي بهذا على الأولى، وهي: إذا أوصى إليهما وإلى كل واحد منهما، فاختلفا في النظر والتصرف، فقال كل واحد منهما: أنا أنظر وحدي، فإن كان الشيء مما ينقسم.. قسم بينهما ودفع إلى كل واحد منهما نصفه لينظر فيه ويتصرف به؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر. قال: ولا يقسم بينهما كقسمة الأملاك ولكن على جهة التقريب والتعديل، بأن يقوم ويدفع إلى كل واحد منهما شيء بقيمته؛ لأنه ليس بإقرار ملك وإنما هو للنظر. فأما إذا أوصى إليهما معاً أو أوصى إليهما وأطلق.. فلا يقسم بينهما؛ لأن الموصي لم يرض أحدهما، ولكنهما يجتمعان على النظر. ومن أصحابنا من قال: هذه المسألة معطوفة على ما إذا أوصى إليهما معاً ومنع أحدهما عن الانفراد في التصرف، أو وصى إليهما وأطلق، وتشاحا في الحفظ لا في النظر، فقال كل واحد منهما: أنا أحفظه إلى وقت النظر، فإن كان بحيث لا ينقسم.. كان تحت أيديهما معاً. وإن كان مما ينقسم.. قسم بينهما نصفين؛ لأنه يتعذر اجتماعهما على حفظه. وهذا اختيار الشيخ أبي إسحاق والمسعودي [في " الإبانة " ق\440] . [فرع توقيت مدة الوصاية] ] : إذا أوصى إليه في شيء مدة.. لم يصر وصياً بعد انقضاء المدة. وإن وصى إليه في جهة من التصرف.. لم يصر بها وصياً له في غيرها من الجهات. وبه قال أبو يوسف ومحمد.

مسألة توكيل الوصي

وقال أبو حنيفة: (إذا أوصى إليه في جهة.. كان وصياً فيها وفي غيرها من الجهات، مثل أن يوصي إليه في تفرقة ثلثه، فإنه يكون وصياً في ذلك وفي قضاء ديونه ورد ودائعه، وكذلك إذا أوصى إليه في نفقة أولاده الصغار.. صار وصياً بالنفقة عليهم، وبحفظ أموالهم، والعقد عليها وغير ذلك) . دليلنا: أنه ينظر بتوليه، فلم يجاوز نظره إلى غير ما ولي فيه، كالوكيل، وعكسه الأب والجد. [مسألة توكيل الوصي] إذا أوصى إليه بشيء.. فللوصي أن يوكل غيره في كل ما لم تجر العادة أن يتولاه بنفسه، كما قلنا في الوكيل. وإن وصى إليه بشيء يقدر عليه بنفسه.. فهل له أن يوكل غيره فيه؟ حكى الشيخ أبو حامد فيه وجهين: أحدهما: لا يجوز، كما قلنا في الوكيل. والثاني: يجوز، وهو المذهب؛ لأن تصرف الوصي بولاية؛ لأنه يتصرف فيما لم ينص له عليه، فجاز له التوكيل فيما يقدر عليه، كالأب والجد والحاكم، بخلاف الوكيل. [فرع عدم الإذن للوصي بأن يوصي] إن أوصى إلى رجل ولم يأذن الموصي للوصي أن يوصي.. فللوصي أن يتصرف ما عاش، وليس له أن يوصي إلى غيره به. وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق. وقال الثوري، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه) للوصي أن يوصي) . دليلنا: أنه ينظر بتوليه، فلم يملك الإيصاء، كالوكيل، وفيه احتراز من الأب والجد. وإن قال: أوصيت إليك، فإن حدث بك حادث من فسق، أو جنون، أو موت

فقد أوصيت إلى فلان.. صح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث جيشاً وقال: " أميركم فلان، فإن أصيب.. ففلان، فإن أصيب.. ففلان» . وإذا ثبت ذلك في الولاية.. ثبت في الوصية. وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أوصى إلى ابنته حفصة، فإذا ماتت.. فإلى ذوي الرأي من أهلها) . و: (أوصت فاطمة إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فإذا مات.. فإلى ابنيهما - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -) . وإن أوصى إلى رجل وأذن للوصي أن يوصي عن الموصي.. قال ابن الصباغ: صح ذلك قولا واحداً. وإن وصى إليه أن يوصي عن نفسه.. ففيه قولان. وذكر الشيخ أبو حامد: أنه إذا قال: أوصيت إليك، أو أذنت لك إن حدث بك موت أن توصي إلى من شئت، أو قال: إن حدث بك موت فمن أوصيت إليه فهو وصيي، أو قال: من أوصيت إليه فقد أوصيت إليه.. فالحكم في الجميع واحد. قال الشافعي في موضع: (يجوز) ، وقال في موضع آخر: (لا يجوز) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يجوز ذلك قولا واحداً، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي؛ لأن الموصي يملك التصرف بنفسه، ويملك أن يملك غيره التصرف بعد موته وهو الوصي، فلما كان للموصي أن يملك غيره التصرف.. ملك أن يملك غيره التولية؛ لأن الوصية آكد من الوكالة، فلما كان للوكيل أن يوكل بإذن

فرع يشترط قبول الوصي

الموكل.. كان للوصي أن يوصي إلى غيره بإذن الموصي. ومنهم من قال: فيه قولان، وهو اختيار الشيخ أبي حامد: أحدهما: يجوز. وبه قال أبو حنيفة والثوري؛ لما ذكرناه. والثاني: لا يجوز. واختاره الشيخ أبو حامد؛ لأن الوصي يعقد الوصية عن الميت بإذنه ولا إذن للميت في حال لا ولاية للميت - لأنه ليس من أهل الولاية، فلم يصح. وإن قال: أوصيت إليك، فإن حدث بك حادث، فأوص إلى فلان، فإن قلنا في التي قبلها: يصح قولاً واحداً.. فهاهنا أولى أن يصح. وإن قلنا في التي قبلها: إنها على قولين.. ففي هذه طريقان: أحدهما: أنها على قولين؛ لأنا إنما منعنا الوصية؛ لأن الوصي يعقد الوصية لآخر عن إذن من لا إذن له في حال العقد، وهذا المعنى موجود هاهنا. ومنهم من قال: يصح هاهنا قولاً واحداً؛ لأن الموصي قطع اجتهاده بالتعيين. قال الشيخ أبو حامد: والأول أصح. [فرع يشترط قبول الوصي] ] : وإذا أوصى إليه.. لم يملك الوصي التصرف إلا بالقبول، كما لو وصى له. فإن قبل بعد موت الموصي.. صح، كالوصية له. وإن قبل قبل موت الموصي. فهل يصح قبوله؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح، كالوصية له. والثاني: يصح؛ لأنه إذن في التصرف فجاز القبول فيه بعد الإيجاب، كالوكالة. فإذا قلنا بهذا: فللوصي أن يعزل نفسه في حياة الموصي. فإذا عزل نفسه.. انعزل ولم تعد الوصية إليه إلا بوصية أخرى، وسواء عزل نفسه بحضرة الموصي أو بغيبته.

مسألة ما يقوم به الوصي

وقال أبو حنيفة: (إذا عزل نفسه في حياه الموصي.. لم ينعزل حتى يرده في وجهه) يعني: بحضرته. دليلنا: أنه قطع عقد لا يفتقر إلى رضاه، فلم يفتقر إلى حضوره، كالوكالة والطلاق. وإن قلنا: لا يصح قبوله إلا بعد موت الموصي.. فلا حكم بعزله نفسه في حياة الموصي.. فإن قبل الوصية بعد موت الموصي ثم عزل نفسه.. انعزل ورفع الأمر إلى الحاكم، ليقيم غيره مقامه. وقال أبو حنيفة: (إذا مات الموصي وقبل الوصي الوصية.. لزمت الوصية إليه، فلا يملك عزل نفسه، ولا يملك الحاكم عزله إلا بأن يعجز أو يقر بالعجز، فيقيم الحاكم مقامه) . دليلنا: أنه ينظر بتوليه، فملك عزل نفسه كالوكيل. وللموصي أن يعزل الوصي؛ لأنه أذن له في التصرف، فجاز له عزله، كالموكل. [مسألة ما يقوم به الوصي] ] : قال الشافعي: (ويخرج الوصي من مال اليتيم كل ما لزمه من زكاة ماله، وجنايته وما لا غنى به عنه) . وجملة ذلك: أن الوصي يخرج من مال الصغير زكاة ماله، وزكاة فطره، ومماليكه، لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه كان في يده مال ليتيم، فلما بلغ.. رده إليه، فوجده ناقصاً، فسأله عن ذلك، فقال: احسبوا قدر الزكاة، فحسبوا، فإذا هو قدر النقصان، فقال علي: (أفتراني ألي مالاً لا أخرج الزكاة منه) . ولأن ذلك حق واجب، فكان على الولي إخراجه.

وإن قتل الصغير آدمياً عمداً أو خطأ.. وجب عليه الكفارة، وأخرجها الولي من ماله، ويخرج عنه ما وجب عليه بأرش الجناية وإتلاف المال؛ لأن ذلك واجب عليه، فهو كالزكاة. وإنما يخرج الولي الأرش وبدل المتلف من ماله إذا قامت البينة على إتلافه.. فأما بإقراره.. فلا يتصور ذلك؛ لأنه غير مكلف، فلا حكم لإقراره. وإن أقر الوصي عليه.. لم يلتفت إلى إقراره؛ لأنه أقر عليه بما فيه ضرر عليه، فلم يقبل، وينفق عليه الوصي ويكسوه بالمعروف؛ لأن ماله مرصد لمصالحه، ونفقته وكسوته منها. فإن أنفق عليه أو كساه أكثر من المعروف.. لزم الوصي ضمان الزيادة؛ لأنه مفرط فيها. فإن بلغ الصبي رشيداً.. سلم إليه ماله. وإن اختلف هو والوصي في قدر ما أنفق عليه الوصي، فإن كان ما يدعيه الوصي أكثر من النفقة بالمعروف.. لزم الوصي ضمان الزيادة. وإن كان ما يدعيه النفقة بالمعروف.. فالقول قول الوصي مع يمينه؛ لأنه أمين فقبل قوله فيه. وإن اختلفا في قدر مدة الإنفاق عليه، بأن قال الوصي: مات أبوك من عشر سنين وأنفقت عليك فيها، وقال: بل مات أبي من ثماني سنين.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما- وهو قول أبي سعيد الإصطخري ـ: أن القول قول الوصي، كما لو اختلفا في قدر النفقة. والثاني ـ وهو قول أكثر أصحابنا، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أن القول قول الموصى عليه؛ لأن الأصل حياة الأب، ويمكن الوصي إقامة البينة على ذلك بخلاف قدر النفقة. وإن ادعى الوصي أنه دفع إليه ماله بعد البلوغ وأنكر الموصى عليه.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (أن القول قول الموصى عليه؛ لأنه لم يأتمنه على المال، فلم يقبل قوله عليه، كالمودع إذا ادعى دفع الوديعة إلى وارث المودع، والملتقط إذا ادعى دفع اللقطة إلى مالكها) .

مسألة ما يلحق الميت بعد الوفاة

والثاني: أن القول قول الوصي، كما قلنا في النفقة. وإن بلغ الصبي غير رشيد.. استديم عليه الحجر ولم يسلم إليه ماله، بل ينفق عليه ويكسوه ويخرج ما وجب عليه من ماله كما كان قبل البلوغ. قال الشافعي: (فإن كان متلفاً يبذر ما يعطى من نفقة أسبوع.. أعطاه نفقة يوم فيوم. وإن كان يتلف ما يعطيه من نفقة يوم.. فإن الوصي يجلسه عنده ويحضر الطعام ويأكله وهو بين يديه) . فإن كان يخرق الثياب، أو كان مجنوناً كثير الخرق.. قال الشافعي: (قرعه الولي وهدده فإن تهيب وارتدع وإلا.. فإن الولي يجلسه في البيت عرياناً بمئزر يستر عورته ويصلي فيه، فإذا أخرجه إلى الناس.. كساه، فإذا رده.. نزع عنه ذلك) . وإن احتاج إلى خادم، ومثله يخدم.. قال الشافعي: (اشترى له خادماً) . وأما إنكاحه: فإن لم يكن محتاجاً إليه.. لم يزوجه؛ لأنه لا حاجة به إليه؛ لأنه يلزمه المهر، والنفقة، والكسوة. وإن احتاج إلى النكاح.. زوجه الوصي؛ لئلا يقدم على الزنا، فيكون فيه رجمه أو حده. وصيانة نفسه أولى من صيانة ماله. قال الشيخ أبو حامد: ولا يزيد على واحدة؛ لأن الكفاية تقع بها، بخلاف الأب والجد، فإنه يجوز أن يزوج الصغير بأربع؛ لأنه غير متهم في ذلك. [مسألة ما يلحق الميت بعد الوفاة] ] : قال الشافعي في " الإملاء ": (يلحق الميت من فعل غيره وعمله حج يؤدى عنه، أو مال يتصدق به، أو دين يقضى، أو دعاء) . وجملة ذلك: أنه إذا مات وعليه حج فرض إما حجة الإسلام، أو القضاء أو

النذر، فإن كان له مال.. وجب قضاؤه من ماله. وإن لم يكن له مال ففعله الوارث أو الأجنبي عنه.. صح؛ لما روي: «أن امرأة من خثعم استأذنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحج عن أبيها فأذن لها، قالت: أينفعه ذلك؟ قال: نعم كما لو كان على أبيك دين.. فقضيته، نفعه» . وإن لم يكن عليه حج فرض، فأراد إنسان أن يتطوع بالحج عنه بغير إذنه.. لم يجز، ولم يلحقه ثوابه؛ لأن تطوعه لا يلحق غيره. وإن أوصى به.. فيه قولان، وقد مضى ذلك في الحج. وأما الصدقة: فيجوز للوارث وللأجنبي أن يتصدق عن الميت، ويلحق الميت ثوابها؛ لما روي: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها، ولولا ذلك لوهبت وتصدقت، أأتصدق عنها؟ قال: "نعم" قال: فإن لي مخرفاً فأشهدك أني قد تصدقت به عنها» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وواسع في فضل الله أن يثيب المتصدق أيضاً) . وأما الدين: فيجوز للوارث والأجنبي أن يقضيه عن الميت؛ لما ذكرناه في حديث الخثعمية. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتي بجنازة ليصلي عليها، فقال: "هل على صاحبكم دين؟ قالوا: نعم، ديناران. فتحملهما أبو قتادة، فصلى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما قضاهما أبو قتادة.. قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الآن بردت عليه جلده» . وأما الدعاء: فيلحق الميت؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] [الحشر: 10] .

فلولا أن الدعاء يلحقهم.. لما أثنى عليهم بالدعاء لإخوانهم. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مات الإنسان.. انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له» . فمعنى (الصدقة الجارية) : الوقف. ومعنى (العلم المنتفع به) : إما كتب علم وقفها، أو علم غيره. فأما ما سوى ذلك من القرب، كالصلاة والقراءة والذكر.. فلا يلحق الميت ثوابها بفعل الغير لها عنه، قال أصحابنا: إلا أنه إذا قرئ القرآن عند القبر أو الميت.. فإن ثواب القراءة للقارئ، ولكن الرحمة تنزل حيث يقرأ القرآن، فيرجى أن تعم الرحمة الميت؛ لأنه كالجالس بينهم. هذا مذهبنا. وحكي عن أحمد بن حنبل: أنه قال: (يلحق الميت ثواب ما يفعل عنه من الصلاة، والقراءة، والذكر) . ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] [النجم: 39] وهذا عموم إلا فيما خصه الدليل. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا مات الإنسان.. انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له» وهذا ليس بواحد منها. وإن أعتق عن الميت رقبة، فإن لم يكن في ذمته رقبة من كفارة متحتمة بالعتق أو بالنذر، ولا أوصى بها.. لم يقع ذلك العتق عن الميت؛ لما ذكرناه. وإن كان في ذمته عتق رقبة متحتمة من نذر أو كفارة قتل أو ظهار، فأعتق عنه الوارث أو الوصي.. صح ذلك عن الميت وإن كان بغير إذنه؛ لأنه واجب عليه وهم يقومان مقامه في أداء الواجب عليه.

فرع اختلاف الورثة والموصى له

وإن كان عليه كفارة يمين فأعتق عنه رقبة بعد موته بغير إذنه.. فهل تقع عنه؟ فيه وجهان: أحدهما: تقع عن الميت: لأنه لو كفر بها في حياته.. لصح، فإذا أعتقها عنه غيره بعد موته.. وقعت عنه، ككفارة الظهار. والثاني: لا تقع عنه، بل تقع عن المعتق؛ لأن العتق كان غير محتم عليه، بل كان مخيراً: بين الإطعام والكسوة والعتق، فصار كما لو تطوع عنه بالعتق. [فرع اختلاف الورثة والموصى له] ) : إذا قال: إن مت من مرضي هذا.. فلزيد كذا، فمات، فادعى الموصى له أنه مات من ذلك المرض، وقال الورثة: بل برئ منه، ثم مات.. فالقول قول الورثة مع أيمانهم؛ لأن الأصل انتقال الملك إليهم إلا أن يثبت ما يصرفه عنهم، ولم يثبت. والله أعلم وهو ولي التوفيق

كتاب العتق

[كتاب العتق]

كتاب العتق الأصل في العتق: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] [الأحزاب: 37] . قال أهل التفسير: أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعمت عليه بالعتق. وقَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] في مواضع القرآن. «وروى واثلة بن الأسقع قال: أتينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صاحب لنا أوجب النار بالقتل، فقال: " أعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار» .

وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» . وأجمعت الأمة على صحة العتق وحصول القربة به. ولا يصح العتق إلا ممن يصح تصرفه في المال، كما قلنا في الهبة. فإن أعتق الموقوف عليه العبد الموقوف.. لم يصح عتقه؛ لأنه لا يملكه ملكاً تاماً. وإن أعتق في مرض موته عبداً له وعليه دين يستغرق تركته.. لم يصح؛ لأن عتقه وصية، والدين مقدم على الوصية. وإن أعتق عبدا جانياً.. فهو كما لو أعتق عبداً مرهوناً، وقد مضى بيانه. إذا ثبت هذا: فإن العتق يقع بالصريح من غير نية، وبالكناية مع النية. و (الصريح) : العتق والحرية؛ لأنه ثبت لهما عرف الشرع واللغة. و (الكناية) : مثل قوله: خليتك، وسيبتك، وحبلك على غاربك، ولا سبيل لي عليك، ولا سلطان لي عليك، وأنت لله، وأنت طالق؛ لأنه يحتمل العتق وغيره، فوقع به العتق مع النية. فإن قال لأمته: أنت علي كظهر أمي ونوى به العتق.. ففيه وجهان: أحدهما: تعتق؛ لأنه يوجب تحريم الزوجة، فأشبه الطلاق. والثاني: لا تعتق؛ لأنه لا يزيل الملك عن الزوجة، فهو كالإيلاء. وإن قال: فككت رقبتك.. ففيه وجهان:

مسألة عتق أحد الشريكين نصيبه

أحدهما: أنه صريح في العتق، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] [البلد: 13] . والثاني: يحتمل أنه كناية في العتق؛ لأنه يستعمل في العتق وغيره. [مسألة عتق أحد الشريكين نصيبه] وإن كان عبد بين نفسين، فأعتق أحدهما نصيبه فيه، فإن كان معسراً بقيمة باقيه..عتق نصيبه ورق نصيب شريكه. وإن كان موسراً بقيمة نصيب شريكه، بحيث يملك قيمة نصيب شريكه فاضلاً عن قوت يومه.. سرى عتقه إلى نصيب شريكه، وعتق عليه، وقوم عليه نصيب شريكه. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (لا يسري، وإنما يستحق إعتاق نصيب الشريك. وإن كان المعتق معسراً.. كان المالك للنصيب مخيرا بين شيئين: بين أن يعتق نصيب نفسه ويكون الولاء بينه وبين شريكه، وبين أن يستسعي العبد في قيمة نصيبه، فإذا أداه..عتق عليه، وكان الولاء بينه وبين شريكه. وإن كان المعتق موسراً.. كان شريكه مخيراً بين ثلاثة أشياء: بين أن يعتق نصيبه، وبين أن يستسعي العبد في قيمة نصيبه ويكون الولاء بينهما في هذين، وبين أن يضمن شريكه المعتق قيمة نصيبه ويكون جميع الولاء للشريك المعتق، ثم يرجع المعتق في سعاية العبد بما غرمه من قيمته) . وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد: يسري العتق في الحال بكل حال. وإن كان المعتق موسراً.. غرم قيمة نصيب شريكه. وإن كان معسراً.. استسعى العبد في قيمة نصيبه. وقال ربيعة: لا يعتق نصيب الشريك بحال إلا أن يرضى الشريك. وقال عثمان البتي: لا يعتق نصيب الشريك بحال. دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق شركاً له

فرع العبد المسلم بين مسلم وكافر

في عبد، فإن كان معه ما يبلغ ثمن العبد.. قوم عليه قيمة عدل، وأعطى شركاءه حصصهم وإلا.. فقد عتق منه ما عتق، ورق منه ما رق» . [فرع العبد المسلم بين مسلم وكافر] ) : وإن كان العبد المسلم مشتركاً بين كافرين، أو بين مسلم وكافر: فأعتق الكافر نصيبه فيه.. عتق نصيبه. فإن كان موسراً بقيمة نصيب شريكه.. فهل يقوم عليه؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان بناء على أن شراء الكافر للمسلم هل يصح؟ فإن قلنا: لا يصح.. لم يقوم عليه؛ لأن التقويم يوجب الملك. وإن قلنا: يصح شراؤه.. قوم عليه نصيب شريكه. ومنهم من قال: يقوم عليه هاهنا قولاً واحداً، وهو المنصوص؛ لأنه تقويم متلف فامستوى فيه المسلم والكافر في الإتلاف. ولأن المقصود هاهنا تكميل الأحكام لا الملك، بخلاف الشراء. [فرع وقت عتق نصيب الشريك] ) : ومتى يعتق نصيب الشريك؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يعتق بنفس اللفظ، وهو الصحيح، لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

قال: «من أعتق شركاً له في عبد وله مال يبلغ ثمنه.. فهو عتيق» . ولأن قدر القيمة معتبر بحال العتق، فثبت أن العتق قد نفذ في تلك الحال. والثاني: أنه لا يعتق إلا بدفع القيمة، لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان العبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه، فإن كان موسراً.. قوم عليه ولا وكس ولا شطط، ثم يعتق» . و (الوكس) : النقصان. و (الشطط) : الزيادة. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق شركاً له في عبد.. فعليه خلاصه إن كان له مال» فثبت أنه باق على الرق. والثالث: أنه مراعى، فإن دفع القيمة.. حكمنا بأنه عتق باللفظ. وإن لم يدفع القيمة.. حكمنا بأنه لم يعتق؛ لأنا لو أعتقناه باللفظ قبل دفع القيمة.. أضررنا بالشريك، ولو قلنا: إنه باق على الرق.. أضررنا بالعبد في إبقاء أحكام الرق عليه، فثبت أنه موقوف ليزول الضرر عنهما. فإذا قلنا: إنه يعتق بنفس اللفظ.. صارت أحكامه أحكام الأحرار من حين الإعتاق، فإن مات للعبد من يرثه.. ورثه. فإن أعسر المعتق بعد ذلك، أو هرب، أو مات، ولم يخلف وفاء.. فقيمة نصيب شريكه في ذمته.

وهل عتق جميعه باللفظ في حالة واحدة؟ فيه وجهان حكاهما الطبري. أحدهما: أن عتق جميعه وقع في حالة واحدة، لأن الجميع صار كأنه له، فعتق جميعه باللفظ. والثاني - وهو الأصح -: أن العتق وقع في نصيب المعتق أولا، ثم يسري إلى نصيب شريكه؛ لأنه لا يملك نصيب شريكه، فلم يقع عتقه فيه مباشرة. وإذا طالب الشريك بقيمة نصيبه.. أجبر المعتق على الدفع. وإن بذل المعتق القيمة، فامتنع الشريك من أخذها.. قبضها الحاكم له، وليس للعبد المعتق المطالبة بالدفع ولا بالقبض؛ لأن عتقه غير موقوف على ذلك. وأما إذا قلنا: إن العتق لا يقع إلا بدفع القيمة، فإن طلب الشريك القيمة.. وجب على المعتق دفعها، فإن بذلها المعتق.. وجب على الشريك قبضها، فإن امتنع من قبضها.. قبضها الحاكم له وعتق العبد. وإن امتنع المعتق والشريك.. فللعبد أن يطالبهما بذلك ليصل إلى حقه من العتق، فإذا لم يطالب العبد.. فللحاكم أن يطالب المعتق بالدفع والشريك بالقبض، فإن امتنعا.. أخذ الحاكم القيمة من المعتق للشريك، وعتق العبد، لما في العتق من حق الله تعالى. فإن باع الشريك نصيبه من العبد أو وهبه قبل أن يدفع المعتق القيمة إليه.. لم يصح بيعه ولا هبته؛ لأن في ذلك إبطال ما ثبت للعبد من الحرية. وإن أعتق نصيبه.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي حنيفة وأبي علي بن أبي هريرة -: (أنه يعتق؛ لأن العتق صادف ملكه ويحصل العتق للعبد) . والثاني: لا يعتق، وهو الأصح؛ لأن ذلك يبطل ما ثبت للمعتق من الولاء. وإن مات للعبد من يرثه قبل دفع القيمة، أو شهد، أو جنى، أو جني عليه.. فحكمه في ذلك حكم العبيد؛ لأنه باق على الرق. وإن مات العبد قبل دفع القيمة.. فهل للشريك أن يطالب المعتق بالقيمة؟ على هذا القول فيه وجهان:

فرع استيلاد الجارية من أحد الشريكين

أحدهما: له ذلك؛ لأن القيمة وجبت على المعتق بالعتق، فلا تسقط بموت العبد. والثاني: لا يجب عليه ذلك؛ لأن القيمة إنما وجبت عليه لتكميل أحكام العبد، وليحصل للمعتق الولاء عليه، وهذا لا يوجد في حقه بعد موته. وعلى القول الأول: له مطالبته بعد موت العبد قولاً واحداً؛ لأنه مات حراً. [فرع استيلاد الجارية من أحد الشريكين] وإن كانت جارية بين اثنين فاستولدها أحدهما.. ثبت لها حرمة الاستيلاد في نصيبه. فإن كان موسراً بقيمة نصيب شريكه.. قوم عليه. ومتى يثبت لها حرمة الاستيلاد؟ فيه طريقان حكاهما الطبري في " العدة ". ومن أصحابنا من قال: هي على الأقوال الثلاثة في العتق. ومنهم من قال: إن قلنا في العتق: يسري بنفس اللفظ.. فهاهنا تثبت لها حرمة الاستيلاد بالإحبال. وإن قلنا في العتق: لا يسري إلا بدفع القيمة.. ففي الإحبال وجهان: أحدهما: لا تثبت لها حرمة الاستيلاد في نصيب شريكه إلا بدفع القيمة كالإعتاق. والثاني: تثبت بالإحبال؛ لأنه أقوى من العتق، بدليل: أن العتق لا يصح من السفيه والمجنون، والإحبال يصح منهما. وأما إذا استولدها الشريكان معاً، مثل: أن كانا معسرين فاستولدها أحدهما، ثم استولدها الثاني.. فإنها تصير أم ولد لهما. فلو أعتق أحدهما نصيبه منها بعد ما أيسر.. فهل يقوم عليه نصيب شريكه؟ فيه وجهان:

فرع يدخل نصيب الشريك بالملك في التقويم

أحدهما: يقوم عليه؛ لأنها تعتق بالإعتاق والثاني: لا يقوم عليه؛ لأن أم الولد لا تملك. [فرع يدخل نصيب الشريك بالملك في التقويم] ] : كل موضع قوم على المعتق نصيب شريكه.. فإنه يحكم بدخول ملك نصيب الشريك في ملك المعتق. ومتى يملكه؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: يملكه ويعتق عليه في حالة واحدة. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يملكه ثم يعتق عليه، وهكذا إذا اشترى من يعتق عليه.. فإنه يملكه، وفي وقت ملكه الوجهان. [مسألة اختلاف الشريكين في قيمة العبد المعتق] إذا اختلف الشريكان في قيمة العبد المعتق، فادعى الشريك أن قيمته ألفان، وقال المعتق: بل قيمته ألف.. فلا خلاف أن قيمته تعتبر حال الإعتاق؛ لأنه وقت الإتلاف. فإن كان الاختلاف عقيب الإعتاق أو بعده بزمان ولم تختلف قيمته من حين الإعتاق إلى حين التقويم.. رجع فيه إلى مقومين. وإن كان العبد قد مات، أو غاب، أو تأخر تقويمه زماناً تختلف فيه قيمته، ولا بينة على قيمته وقت الإعتاق.. فمن القول قوله مع يمينه؟ فيه قولان، واختلف أصحابنا في مأخذ القولين. فمنهم من قال: أصلهما القولان في وقت السراية. فإن قلنا: إن السراية وقعت بنفس اللفظ.. فالقول قول المعتق مع يمينه؛ لأنه غارم، فكان القول قوله في قيمة ما أتلفه، كالمتلف. وإن قلنا: إن السراية لا تقع إلا بدفع القيمة.. فالقول قول الشريك مع يمينه؛ لأن

ملكه ثابت على نصيبه، فلا ينتزع منه إلا بما يقر به، كما لو اختلف الشفيع والمشتري في الثمن. ومنهم من قال: أصلهما: القولان فيمن اشترى عبدين فتلف أحدهما ووجد بالآخر عيباً، وقلنا: له رده، فاختلفا في قيمة التالف، وفيه قولان: أحدهما: القول قول المشتري؛ لأنه كالغارم. فعلى هذا: القول قول المعتق. والثاني: القول قول البائع؛ لأن ملكه ثابت على الثمن، فلا ينتزع منه إلا بما يقر به. فعلى هذا: القول قول الشريك. قال الطبري: وحكى الشيخ أبو حامد عن الربيع: أنه قال: فيها قول آخر: أنهما يتحالفان. قال: وهذا من تخريج الربيع؛ لأنه ليس بينهما عقد ينفسخ بالتحالف، ولأنا لو حلفناهما.. لاحتجنا إلى الرجوع إلى القيمة، فلا يفيد التحالف شيئاً. والطريق الأول هو المشهور. وأن ادعى الشريك زيادة صنعة في العبد تزيد بها قيمته، فإن كان العبد غائباً، أو ميتاً، ولا بينة للشريك، فأنكرها المعتق.. ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: فيه قولان. أحدهما: القول قول المعتق. والثاني: القول قول الشريك. ومنهم من قال: القول قول المعتق قولاً واحداً؛ لأن الأصل عدم الصنعة. وإن كان العبد حاضراً، فإن كان يحسن الصنعة التي ادعاها الشريك، فإن لم يمض من حين العتق زمان يمكن تعلم تلك الصنعة.. فالقول قول الشريك؛ لأنا علمنا صدقه. وإن كان قد مضى زمان يمكن فيه تعلم الصنعة.. فعلى الطريقتين. وإن قال المعتق: كان سارقاً، أو آبقاً، وأنكر الشريك، ولا بينة للمعتق.. فعلى طريقين:

فرع وجود دين مستغرق على المعتق

[الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان. و [الثاني] : منهم من قال: القول قول الشريك قولاً واحداً؛ لأن الأصل عدم ذلك. [فرع وجود دين مستغرق على المعتق] إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من العبد وهو يملك من المال قدر قيمة شريكه إلا أن عليه دينا يستغرق ذلك.. فهل يقوم عليه نصيب شريكه؟ فيه قولان بناءً على أن الدين: هل يمنع وجوب الزكاة؟ [فرع تعليق الشريكين على شرط واحد] إذا قال أحد الشريكين في العبد: إذا دخلت الدار الفلانية فأنت حر، ثم قال له الآخر: إذا دخلتها فأنت حر، فدخلها..عتق عليهما، ولم يقوم نصيب أحدهما على الآخر؛ لأنه عتق عليهما في حالة واحدة. وإن قال أحد الشريكين للآخر: إذا أعتقت نصيبك من العبد فنصيبي منه حر، فأعتق الآخر نصيبه.. عتق نصيبه عليه، وقوم عليه نصيب شريكه إن كان موسراً؛ لأن عتق نصيب المباشر سبق، فاستحقت به السراية، فمنعت وقوع عتق الشريك المعلق عتق نصيبه بصفة. وإن قال: إذا أعتقت نصيبك. فنصيبي حر في حال عتق نصيبك، فأعتق الآخر نصيبه.. عتق عليه نصيبه. وهل يقوم عليه نصيب شريكه الذي علق عتقه؟ فيه وجهان. أحدهما: يقوم عليه؛ لأن إعتاقه لنصيبه شرط في عتق نصيب شريكه، والشرط يتقدم على المشروط، فكان كالأولى. والثاني: لا يقوم عليه، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن العتق وقع على النصيبين في وقت واحد.

فرع علق أحدهما عتقه بمدة قبل الموت وجعله الآخرحالا

[فرع علق أحدهما عتقه بمدة قبل الموت وجعله الآخرحالاً] فرع: [علق أحدهما عتقه بمدة قبل الموت وجعله الآخر حالاً] : وإن قال أحد الشريكين في العبد: نصيبي منك حر قبل موتي بشهر، ثم قال الثاني بعده: نصيبي منك حر الآن، ثم مات الأول، فإن كان بين موت القائل الأول وبين قوله أقل من شهر.. لم يعتق عليه نصيبه؛ لأن العتق لا يقع قبل الإعتاق، ويعتق على الثاني نصيبه حين أعتقه، فإن كان موسراً بقيمة نصيب شريكه.. قوم عليه وإن كان معسراً.. لم يقوم عليه. وإن كان بين قول الثاني وبين موت الأول أكثر من شهر.. لم يعتق على الأول أيضاً نصيبه إن كان الثاني موسراً بقيمة نصيب الأول؛ لأن عتق الثاني مقدم عليه، فيعتق على الثاني نصيبه، ويقوم عليه نصيب الأول. وإن كان معسراً به.. لم يقوم عليه، وعتق على الأول نصيبه قبل موته بشهر، فيكون الولاء بينهما. وإن كان بين قول الأول وبين موته شهر من غير زيادة ولا نقصان.. عتق عليه نصيبه لوجود الصفة قبل عتق الثاني، فإن كان موسراً بقيمة نصيب الثاني.. قوم عليه، وكان جميع ولائه له، وإن كان معسراً.. عتق عليه نصيبه قبل موته بشهر، وعتق على الثاني نصيبه بعده حين أعتقه، وكان ولاؤه بينهما. [فرع توكيل أحد الشريكين في عتق نصيبه] وإن كان عبد بين اثنين نصفين، فوكل أحد الشريكين شريكه في عتق نصيبه، فقال الوكيل: نصفك حر ... رجع إليه، فإن قال: أردت به نصيبي.. عتق عليه نصيبه، وقوم عليه نصيب شريكه إن كان موسراً به. وإن قال: أردت به نصيب شريكي.. عتق نصيب شريكه، وقوم نصيب الوكيل على الموكل إن كان الموكل موسراً به. وإن أطلق، ولم ينو شيئاً.. ففيه وجهان: حكاهما ابن الصباغ:

فرع له شقصان في عبدين فأعتق أحدهما ثم الآخر ولا مال له

أحدهما: يعتق نصيب الموكل، ويقوم عليه نصيب الوكيل؛ لأنه أمره بالإعتاق. والثاني: يعتق نصيب الوكيل، ويقوم عليه نصيب الموكل؛ لأن نصيب نفسه لا يحتاج إلى نية، ونصيب الموكل يحتاج إلى النية، ولم ينو. [فرع له شقصان في عبدين فأعتق أحدهما ثم الآخر ولا مال له] قال ابن الحداد: إذا كان لرجل شقصان من عبدين، وقيمتهما سواء، ولا مال له غيرهما، فأعتق أحد الشقصين في صحته.. عتق عليه نصيبه، وقوم عليه نصيب شريكه؛ لأنه موسر بقدر قيمته - وهو: الشقص في العبد الآخر - فإن أعتق الشقص الآخر بعد ذلك في صحته.. عتق نصيبه فيه، ولا يقوم عليه نصيب شريكه فيه؛ لأنه لا مال له. ولا يمنع عتقه في الثاني ثبوت الدين في ذمته؛ لأن قيمة الأول لم تتعلق في رقبة الثاني، وإنما هي في ذمة المعتق. وإن كان بين اثنين عبد يساوي عشرين ديناراً، فقال رجل لأحدهما: أعتق نصيبك عني على عشرة دنانير، فأعتقه عنه - والسائل لا يملك غير عشرة دنانير - عتق نصيب المعتق عن السائل. قال ابن الحداد: ويعتق نصيب شريك المعتق عن السائل أيضاً؛ لأنه واجد لقيمة نصيبه - وهي العشرة - ثم يتضارب المعتق وشريكه في العشرة التي للسائل على قدر حقيهما لكل واحد منهما نصفها. قال القاضي أبو الطيب: وهذا على القول المشهور: أن نصيب الشريك يعتق بنفس اللفظ. فأما إذا قلنا: إنه لا يعتق بدفع القيمة.. فإنه يعتق منه بقدر ما يؤدي إليه. فأما إذا قال السائل: أعتق عني نصيبك من هذا العبد على هذه العشرة، وعينها وأشار إليها، فأعتقه.. عتق عن السائل، ولم يعتق نصيب الشريك؛ لأن العشرة قد ملكها المعتق ولا مال للسائل غيرها.

مسألة عتق بعض العبد عتق لكله

[مسألة عتق بعض العبد عتق لكله] وإن ملك عبداً، فأعتق بعضه.. سرى العتق إلى باقيه؛ لأنه موسر به. وإن كان عبد بين اثنين نصفين، فقال أحدهما له: إن كان هذا الطائر غراباً، فنصيبي منك حر، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً، فنصيبي منك حر، فطار ولم يعرف.. قال ابن الحداد: فإن كانا معسرين.. فالعبد باق على ملكهما؛ لأن عتق نصيب أحدهما لم يتعين. فإن باع أحدهما نصيبه من رجل، وباع الآخر نصيبه من آخر.. فلكل واحد من المشتريين أن يتصرف فيما اشتراه؛ لأن كل واحد منهما قائم مقام من اشترى منه. وإن باعا نصيبيهما من واحد.. قال ابن الحداد: عتق على المشتري نصفه؛ لأنه قد تيقن أن نصفه حر، فلا يكون له أن يتصرف في جميعه. وعلى قياس قول ابن الحداد: إذا اشترى أحدهما نصيب الآخر.. عتق على المشتري نصفه؛ لأنا نتيقن أن أحد النصفين حر بيقين. وإن كانا موسرين، فإن قلنا: إن العتق يسري باللفظ.. عتق جميعه؛ لأن كل واحد منهما يعترف أن عتق شريكه يسري إلى نصيبه. ولا يجب لأحدهما على الآخر شيء؛ لأنه لا يقبل قوله على صاحبه في استحقاق حق له عليه. وإن قلنا: لا يسري إلا بأداء القيمة.. لم يعتق العبد، ولا يجوز لأحدهما بيع نصيبه ولا هبته؛ لأنه قد استحق عتقه، وهل يجوز له عتقه، فيه وجهان، مضى ذكرهما. وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً.. عتق نصيب المعسر؛ لأن قوله يتضمن أن صاحبه حانث في يمينه وأن نصيبه حر، فإن كان موسراً.. سرى العتق في نصيبه، وهذا إذا قلنا: إن السراية تقع باللفظ.

فرع علق أحد الشريكين عتق نصيبه على بيع شريكه شقصه

وإن قلنا: لا تقع إلا بدفع القيمة.. لم يعتق نصيب المعسر أيضاً ولكن لا يصح بيعه ولا هبته، وهل يصح عتقه؟ على الوجهين. [فرع علق أحد الشريكين عتق نصيبه على بيع شريكه شقصه] ) . وإن كان عبد بين اثنين، فقال أحدهما: إن بعت نصيبك من العبد فنصيبي حر، وقال الآخر: إن اشتريت نصيب شريكي فنصيبي حر، ثم اشتري نصيب شريكه.. فقد حنثا جميعاً، وعتق كل واحد منهما نصيبه، ولا يقوم على أحدهما نصيب شريكه؛ لأن عتقهما وقع في حالة واحدة. وإن كان لرجل عبد، فقال: إن بعته فهو حر، وقال الآخر: إن اشتريته فهو حر، فاشتراه منه.. عتق على البائع دون المشتري؛ لأن المشتري عقد الصفة وهو لا يملكه، فلم يصح، والبائع عقد الصفة وهو يملكه. فإذا وجد الإيجاب والقبول.. فقد وجدت الصفة، وهو يملك عتقه لثبوت الخيار بينهما، فوقع عليه العتق بالصفة. وإن قال لعبده: إذا بعتك بيعاً فاسداً فأنت حر، فباعه بيعاً فاسداً.. قال الطبري: لم يعتق. وقال المزني: يعتق. [مسألة شركاء في عبد أعتق اثنان نصيبهما] إذا كان عبد بين ثلاثة أنفس لأحدهم النصف، ولآخر الثلث، ولآخر السدس، فأعتق صاحب النصف وصاحب السدس نصيبهما في حالة واحدة بأن أعتقا واتفق لفظهما، أو وكلا وكيلاً فأعتق عنهما بكلمة وهما موسران.. قوم عليهما نصيب شريكهما، وكيف يقوم عليهما؟ فيه طريقان، ومن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: يقوم بينهما نصفين.

مسألة ادعى أحد الشريكين بعتقهما وأنكره الآخر

والثاني يقوم على قدر الملكين، كالقولين في الشفعاء. وهو قول مالك؛ لأن له فيه روايتين. ومنهم من قال: يقوم عليهما نصفين قولا واحداً. وهذه طريقة الشيخ أبي حامد وأكثر أصحابنا؛ لأن إعتاق النصيب إتلاف لرق الباقي، فإذا اشتركا في الإتلاف.. استويا في الضمان وإن اختلفا في سبب الإتلاف، كما لو جرح رجل رجلاً جراحة، وجرحه آخر جراحات ومات. وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسرا.. قوم نصيب صاحب الثلث على الموسر منهما؛ لأن عتق المعسر لا يسري. [مسألة ادعى أحد الشريكين بعتقهما وأنكره الآخر] إذا قال أحد الشريكين في العبد: أعتقت أنا وأنت العبد في حالة واحدة، وقال الآخر: أما أنا فما أعتقت نصيبي.. كان القول قول المنكر مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإعتاق، فإذا حلف.. ثبت أنه لم يعتق، ويعتق نصيب المقر بإقراره. وإن كان معسراً ... بقي نصيب الحالف رقيقاً. وإن كان المقر موسراً.. قوم عليه نصيب شريكه، وعتق عليه ويكون ولاء نصيب المقر له، وأما ولاء نصيب المنكر.. فإنه يكون موقوفاً بينهما؛ لأن كل واحد منهما لا يدعيه ويقر به لصاحبه. فإن مات العبد المعتق قبل موت المنكر وخلف مالاً.. فللمقر أن يأخذ من تركته قدر ما دفع إلى شريكه من القيمة؛ لأنه يستحقه بكل حال، ويوقف الباقي بينهما إلى أن يصطلحا عليه، أو يدعيه أحدهما فيأخذه. وإن مات العبد بعد موت المنكر.. فليس للمقرر أن يأخذ من تركته قدر ما دفعه من

فرع عبد بين ثلاثة فشهد اثنان على الثالث بعتق نصيبه

الثمن ما دام مقيماً على إقراره الأول؛ لأنه يقر بمال المعتق لعصبة المنكر، ويقر أنهم لم يظلموه وإنما ظلمه المنكر. وإن قال كل واحد منهما: أعتق شريكي نصيبه، وأنكر كل واحد منهما، وهما موسران.. حلف كل واحد منهما أنه لم يعتق نصيبه؛ لأن الأصل عدم الإعتاق، وعتق جميع العبد إذا قلنا: تقع السراية باللفظ؛ لأن كل واحد منهما يقر بعتق نصيبه على شريكه، ويكون الولاء موقوفاً بينهما. وإن كانا معسرين.. لم يعتق شيء من العبد فإن اشترى أحدهما نصيب شريكه.. عتق عليه ما اشتراه؛ لأنه مقر بحريته. وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً.. عتق نصيب المعسر إذا قلنا: تقع السراية باللفظ؛ لأنه مقر بعتق نصيبه على صاحبه، ولا يعتق نصيب الموسر؛ لأن عتق المعسر لا يسري. فأما إذا قلنا: لا يسري العتق إلا بدفع القيمة.. لم يعتق من العبد شيء. [فرع عبد بين ثلاثة فشهد اثنان على الثالث بعتق نصيبه] وإن كان عبد بين ثلاثة رجال، فشهد رجلان منهم على الثالث أنه أعتق نصيبه وأنكر ذلك المشهود عليه، فإن كان المشهود عليه معسراً: قبلت شهادتهما عليه وعتق نصيبه لا غير؛ لأنهما لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما نفعاً ولا يدفعان عنهما بها ضرراَ. وإن كان موسراً.. لم تقبل شهادتهما عليه؛ لأنهما يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما نفعاً وهو التقويم عليه. فإن قلنا: تقع السراية باللفظ.. عتق نصيبهما؛ لأن شهادتهما تضمنت الإقرار به. وإن قلنا: لا تقع السراية إلا بدفع القيمة.. لم يعتق نصيبهما، ولا يجوز لهما بيعه، وهل يجوز لهما عتقه؟ على وجهين.

فرع رجوع الشاهدين عن قولهما أعتق شقصا

وللشاهدين أن يحلفا المنكر أنه لم يعتق نصيبه، لجواز أن يقر. فإن نكل عن اليمين.. حلفا ووجبت عليه قيمة نصيبهما. [فرع رجوع الشاهدين عن قولهما أعتق شقصاً] وإن شهد شاهدان على رجل أنه أعتق شقصاً له من عبد وهو موسر، فقوم عليه نصيب شريكه، ثم رجع الشاهدان.. قال ابن الحداد: رجع المشهود عليه على الشاهدين بقيمة نصيبه، ولا يرجع عليهما بما غرم لشريكه من القيمة. قال القاضي أبو الطيب: أما نصيب المشهود عليه: فيرجع عليهما بقيمته؛ لأنهما أتلفاه عليه. وأما ما غرمه من قيمة نصيب شريكه.. فهل يرجع عليهما به؟ فيه قولان، كما لو شهدا عليه بمال في يده؟ أو في ذمته، ثم رجعا.. المشهور: أنه لا يرجع عليهما فأجاب ابن الحداد على المشهور: قال القاضي أبو الطيب: إلا أن الصحيح عندي أنه يرجع عليهما به أيضاً. [مسألة أعتق شقصين أحدهما بعد الآخر في مرض موته] إذا أعتق في مرض موته شقصين له من عبدين له شريك فيهما أحدهما بعد الآخر: فإن احتمل الثلث عتق الشقصين وتقويم باقيهما.. عتق عليه الشقصان بالمباشرة، وباقي العبدين بالسراية والتقويم. وإن لم يحتمل الثلث إلا عتق الأول وتقويم باقيه.. قدم تقويم باقي الأول على عتق الثاني. فإن احتمل الثلث عتق الشقص الأول وتقويم باقيه، والشقص الثاني دون تقويم باقيه.. عتق جميع العبد الأول عليه بالمباشرة والسراية، والشقص الثاني، ولا يقوم باقي الثاني عليه. وإنما قدمنا تقويم باقي الأول على الشقص الثاني؛ لأنا إن قلنا: إن السراية تقع

مسألة يعتبر الثلث في عتق عبد بمرض موته

باللفظ.. فقد سبق عتق باقي الأول. وإن قلنا: لا تقع إلا بدفع القيمة.. فقد استحق إعتاق بقيته في الثلث قبل الثاني. وإن أعتق الشقصين في حالة واحدة.. عتق الشقصان وقوم باقي العبدين عليه إن احتملهما الثلث. وإن لم يحتمل الثلث إلا عتق الشقصين.. عتق الشقصان لا غير ورق باقي العبدين. وإن لم يحتمل الثلث إلا عتق أحد الشقصين.. أقرع بينهما. وإن خرج الشقصان من الثلث وباقي أحد العبدين لا غير.. ففيه وجهان: قال ابن الحداد: عتق الشقصان، وقسم الباقي بينهما؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر. ومن أصحابنا من قال: يعتق الشقصان، ثم يقرع بينهما فيما بقي من الثلث بعد الشقصين، كما إذا أعتق عبدين.. فخرج أحدهما من الثلث. والأول أصح. [مسألة يعتبر الثلث في عتق عبد بمرض موته] إذا أعتق عبداً له في مرض موته.. فقد ذكرنا أن قيمته تعتبر من ثلث ماله. وقال مسروق: تعتبر من رأسماله، كما لو أتلف شيئاً من ماله. دليلنا: حديث عمران بن الحصين في: «الرجل الذي أعتق ستة أعبد له في مرض موته، فأقرع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة» . وإن أعتق شركاً له في عبد في مرض موته.. عتق نصيبه من ثلث تركته، وقوم عليه نصيب شريكه أن احتمله الثلث. وحكي عن أحمد بن حنبل: أنه قال: (لا يقوم عليه نصيب شريكه) .

فرع أوصى بعتق شقصين من عبدين

دليلنا: أنه موسر بقيمة نصيب شريكه ولا يتعلق به حق أحد فقوم عليه، كعتق الصحيح. وإن أوصى بعتق شرك له في عبد، أو بعتق بعض عبد له.. أعتق عليه، ولا يقوم عليه نصيب شريكه، ولا يسري إلى عتق باقي العبد سواء احتمله الثلث أو لم يحتمله؛ لأن ملكه يزول عن ماله إلا عن القدر الذي أوصى به، فصار كالمعسر إذا أعتق شركاً له في عبد. وإن أوصى بعتق شقص له من عبد وأوصى أن يعتق عليه نصيب شريكه فإن احتمله الثلث أعتق عليه نصيب شريكه ودفعت قيمته إلى شريكه؛ لأن له التصرف في الثلث بما فيه قربة. قال القاضي أبو الطيب في " المجرد ": عندي أنه إنما تقوم حصة الشريك إذا رضي الشريك بذلك، ولا تقوم إذا لم يرض؛ لأن التقويم لم يجب على الموصي وإنما وجب بالوصية، فجرى ذلك مجرى المعسر إذا أعتق شقصاً له في عبد ثم أيسر، فإنه لا يقوم عليه نصيب شريكه إلا برضاه. قال ابن الصباغ: وأصحابنا أطلقوا ذلك، وما قالوه له وجه صحيح؛ لأن التقويم لا يجب؛ لأن العتق وقع حال زوال ملك الميت عن المال، فجرى ذلك مجرى المعسر إذا أعتق شقصاً له من عبد. فأما إذا أوصى بتكميله.. كانت قيمته باقية كالباقية على حكم ملكه، فصار كالموسر إذا أعتق، وهكذا لو قال: إذا مت فنصيبي حر.. عتق نصيبه إن خرج من الثلث ولم يسر إلى نصيب شريكه. [فرع أوصى بعتق شقصين من عبدين] إذا كان له شقصان من عبدين فأوصى بعتقهما بعد موته، وبأن يكمل باقي عتق العبدين من الثلث، فإن احتملهما الثلث.. أعتقا عنه، وإن لم يحتمل الثلث إلا قيمة

باقي أحدهما.. قال ابن الحداد: أقرع بينهما ولا يقسم بينهما؛ لأن الموصي قصد تكميل العتق فيهما، فإذا لم يكن ذلك فيهما.. كان في أحدهما. وإن كان له ثلاثة أعبد لا مال له غيرهم، وقيمتهم سواء، فقال: نصف كل واحد منكم حر بعد موتى، ولم تجز الورثة: قال ابن الحداد: أقرع بينهم، وهو بأن يكتب في رقعة عتق، وفي رقعة رق، ويخرج إحدى الرقعتين على واحد منهم، فإن خرجت عليه رقعة الرق.. رق جميعه وعتق من كل واحد من الآخرين نصفه. وإن خرجت على الأول رقعة العتق.. عتق نصفه، ثم تعاد القرعة بين الآخرين، فمن خرجت عليه رقعة العتق.. عتق نصفه ورق نصفه وجميع الآخر، فيعتق نصفا عبدين. قال القاضي أبو الطيب: وهذه لا يختلف فيها أصحابنا، ودل هذا على أن المعتق إذا فرق العتق في شخصين.. لم يجمع في شخص واحد. فإن كان له عبدان سالم وغانم، وقيمتهما سواء، فقال: إذا مت فنصف سالم حر، وثلث غانم حر، فمات ولا مال له غيرهما، ولم تجز الورثة.. فقد زاد على الثلث سدس أحدهما. قال ابن الحداد: فيقرع بينهما، فيكتب رقعة عتق وفي رقعة رق، ويخرج إحداهما على أحدهما، فإن خرجت رقعة العتق على أحدهما.. عتق منه ما أعتق لا غير وتمم الثلث من الثاني. فإن خرجت رقعة العتق على سالم عتق نصفه وعتق من غانم سدسه. وإن خرجت رقعة العتق على غانم.. عتق ثلثه وعتق من سالم ثلثه؛ لأن ذلك قدر الثلث. وإن كان له ثلاثة أعبد لا مال له غيرهم، فقال في مرض موته: أثلاثكم أحرار.. عتق ثلث كل واحد منهم - اتفقت قيمتهم أو اختلفت - ولا يقرع بينهم؛ لأنه عين العتق ولم يزد على الثلث.

فرع عتق نصيبه عند موته وأوصى بالباقي من ثلثه وكذا شريكه

وإن قال: ثلثكم حر، أو ثلث هؤلاء حر.. قال القاضي أبو الطيب: فإن الظاهر من هذا الكلام أنه أعتق واحداً منهم لا بعينه فيقرع بينهم، ويعتق واحد منهم ويرق اثنان. [فرع عتق نصيبه عند موته وأوصى بالباقي من ثلثه وكذا شريكه] إذا كان عبد بين شريكين فقال أحدهما: نصيبي من هذا العبد حر بعد موتي، ويستتم عتق باقيه من ثلثي، وقال شريكه: إذا مات شريكي فنصيبي حر من هذا العبد، فمات الأول.. قال ابن الحداد: عتق العبد عليهما، ولم يقوم نصيب أحدهما على الآخر؛ لأن عتق نصيبيهما وقع في حالة واحدة. وإن قال أحدهما: نصيبي حر بعد موتي، ويستتم عتق نصيب شريكي من ثلثي، وقال الثاني: إذا عتق نصيب شريكي فنصيبي حر، فمات الأول.. قال ابن الحداد: فإن الوصية بالتقويم صحيحة؛ لأن عتق الموصي يتقدم وعتق شريكه يتعقبه، فوجب التقويم عليه. [فرع أعتق أحدهما نصيبه من حمل جاريتهما] وإن كان بين نفسين جارية حامل من نكاح أو زنى، فأعتق أحدهما نصيبه من الحمل: فإن أسقطته حياً.. عتق عليه وقوم عليه نصيب شريكه إن كان موسراً به. وتجب قيمته يوم الإسقاط؛ لأنه أول حالة يمكن تقويمه فيها. وإن أسقطته ميتاً من غير ضرب.. لم يجب على المعتق لشريكه شيء؛ لأنه لا يعلم أن العتق صادفه وهو حي. وإن ضربها ضارب فأسقطته ميتاً.. وجب على الضارب غرة عبد أو أمة؛ لأن الظاهر أنه تلف بالضرب. قال ابن الحداد: ويجب على المعتق لشريكه نصف عشر قيمة الأم؛ لأنه ضمن نصيب شريكه بالإعتاق، وقيمة نصيبه لو كان مملوكاً نصف عشر قيمة أمه.

مسألة قال لعبده وهبتك أو ملكتك نفسك

ومن أصحابنا من قال: يجب عليه أقل الأمرين من نصف عشر قيمة أمه أو الغرة والأول أصح. [مسألة قال لعبده وهبتك أو ملكتك نفسك] ] : قال الطبري في (العدة) : لو قال لعبده: وهبتك نفسك، أو ملكتك نفسك.. افتقر إلى القبول ليعتق. وإن قال لأمته: إذا ولدت ولداً فهو حر، فولدت ولداً حياً.. عتق. وإن ولدت بعده ولداً آخر.. لم يعتق؛ لأن لفظه لا يقتضي التكرار. وإن ولدت ولداً ميتاً، ثم ولدت ولداً حياً.. قال ابن الصباغ: فالذي يقتضيه المذهب: أن الثاني لا يعتق. وبه قال أبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: (يعتق؛ لأن العتق يستحيل في الميت فيعلق بالحي) . ودليلنا: أن شرط العتق وجد بالأول، بدليل: أنه لو علق به عتقها.. لعتقت لولادة الميت فانحلت اليمين به، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت حر، فباعه ثم دخل. [فرع حلف بعتقه فحنث] وإن كان عبده مقيداً، فحلف سيده بعتقه أن في قيده عشرة أرطال، وحلف بعتقه لا أحله ولا أحد من الناس، فشهد شاهدان أن في قيده خمسة أرطال، فحكم الحاكم بعتقه لحنثه في يمينه أن في قيده عشرة أرطال، فوزن القيد بعد حله، فوجد فيه عشرة أرطال.. فإن العبد يعتق، وهل يجب على الشاهدين شيء؟ قال أبو حنيفة: (يجب على الشاهدين قيمة العبد) . وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجب عليهما شيء، قال ابن الصباغ: وهو الصحيح. فبنى أبو حنيفة ذلك على أصله، بأن حكم الحاكم ينفذ في الباطن وإن كان بشهادة الزور، ووجه الآخر: أنه عتق بحل القيد دون ما شهدا به؛ لأنا تحققنا كذبهما.

فرع شهدا بعتق عبد ورجعا ثم شهد آخران بعتق غيره

[فرع شهدا بعتق عبد ورجعا ثم شهد آخران بعتق غيره] وإن شهد شاهدان أن رجلاً أوصى بعتق عبد عيناه، وقيمته ثلث تركته، فحكم الحاكم بشهادتهما بعد موت الموصي، ثم رجعا عن الشهادة، وشهد آخران أن الموصي أوصى بعتق عبد آخر عيناه، وقيمته قدر ثلث تركته، وحكم بشهادتهما.. أقرع بين العبدين؛ لأنه قد ثبت أن الميت أوصى بعتقهما، ورجوع الشاهدين لا يقبل في نقض الحكم. فإن خرجت قرعة العتق على الأول.. عتق ورق الثاني، ووجب على الشاهدين الراجعين قيمة العبد لورثة المعتق؛ لأنه تلف بشهادتهما، وقد أقرا ببطلانها. وإن خرجت قرعة العتق على الثاني.. عتق ورق الأول، ولم يجب على الشاهدين الراجعين للورثة شيء؛ لأنهما لم يتلفا بشهادتهما شيئاً. [مسألة أعتق عبداً بعينه ثم أشكل عليه أمر] إذا كان له أعبد فأعتق واحداً منهم بعينه، ثم أشكل عليه.. أمر بأن يتذكر وينفق عليهم إلى أن يتبين، فإن قال: الذي كنت قد أعتقته هو هذا.. حكم بعتقه من حين العتق. فإن قال آخر من عبيده: بل أنا الذي كنت أعتقت، فإن صادقه.. حكم بعتقهما، وإن كذبه.. حلف له، وإن نكل عن اليمين.. ردت اليمين على الآخر، فإن حلف.. حكم بعتقه أيضاً. وإن قال: أعتقت هذا، لا، بل هذا.. حكم بعتقهما؛ لأنه لما أقر للأول.. حكم بعتقه، فإذا رجع عن الأول وأقر للثاني.. لم يقبل رجوعه عن الأول وقبل إقراره للثاني. فإن مات قبل أن يبين، فإن ذكر الوارث أنه يعرف المعتق منهما.. رجع إليه، فإذا أخبر بعتق واحد.. قبل وحكم بعتقه؛ لأنه قائم مقام مورثه. وإن اتهمه غيره.. حلف له.

فرع أعتق واحدا من جماعة ولم يعينه

وإن قال الوارث: لا أعرف المعتق منهم.. ففيه قولان: أحدهما: يقرع بينهم؛ لأن أحدهم ليس بأولى من الآخر. والثاني: لا يقرع، ولكن يوقف إلى أن يتبين؛ لأن القرعة ربما أعتقت الرقيق وأرقت العتيق. والصحيح هو الأول. [فرع أعتق واحداً من جماعة ولم يعينه] وإن أعتق واحداً منهم لا بعينه.. أمر بأن يعين العتق فيمن شاء منهم، فإن قال: أعتقت هذا، لا، بل هذا.. أعتق الأول دون الثاني؛ لأن ذلك اختيار لا إخبار. فإن اتهمه الآخر.. لم يحلف له؛ لأنه لو أقر للثاني لم يحكم بعتقه، فلا معنى لتحليفه. وإن مات قبل أن يبين.. فهل يرجع إلى الوارث؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يرجع إليه، بل يقرع بينهما، كما لا يرجع إليه إذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها. والثاني: يرجع إليه، وهو الأصح؛ لأنه خيار يتعلق بالمال فقام الوارث مقام المورث، كخيار الرد بالعيب والشفعة. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي (في " الإبانة ") : هل يرجع إلى الوارث؟ فيه قولان، واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان فيه إذا كان المعتق قد عينه بقلبه، فيجوز أن يكون قد أخبر به الوارث. فأما إذا لم يعينه المعتق بقلبه.. فلا يرجع إلى الوارث قولاً واحداً. ومنهم من قال: القولان إذا لم يعنيه المعتق بقلبه. فأما إذا كان قد عينه بقلبه.. فلا يرجع إلى الوارث قولاً واحداً، بل يقرع بينهم. ومنهم من قال: القولان في الجميع.

فرع اختلاف قول الابن فيمن أعتق الأب في مرض موته

[فرع اختلاف قول الابن فيمن أعتق الأب في مرض موته] وإن مات رجل وخلف ابناً وثلاثة أعبد قيمتهم سواء، لا مال له غيرهم، فقال الابن: أعتق أبي هذا العبد في مرض موته، وأشار إلى واحد منهم، ثم قال: لا، بل أعتق هذا وهذا بكلمة واحدة، وأشار إلى الأول وإلى آخر معه، ثم قال: لا بل أعتق الثلاثة كلهم بكلمة واحدة.. قال ابن الحداد: عتق العبد الأول بإقراره الأول من غير قرعة، ثم يقرع بين الأول وبين الثاني الذي أشار إليه معه في الإقرار الثاني لإعتاق الثاني لا لإرقاق الأول، فإن خرجت قرعة العتق على الثاني.. عتقاً، وإن خرجت قرعة العتق على الأول.. لم يعتق الثاني بالإقرار الثاني. ثم تعاد القرعة بين الثلاثة، فإن خرجت قرعة العتق على الثالث.. عتق أيضاً. وإن خرجت على الأول.. رق الثالث والثاني إن لم يعتق الثاني بالقرعة الأولى. وإن خرجت قرعة العتق على الثاني.. عتق ورق الثالث. [فرع ترك ثلاثة بنين وثلاثة أعبد واختلفوا في معتق] وإن مات رجل وخلف ثلاثة بنين وثلاثة أعبد قيمتهم سواء، ولا مال له غيرهم، فقال أحد البنين: أعتق أبي هذا العبد في مرض موته، وقال آخر: بل أعتق أبي هذا وهذا في مرض موته بكلمة واحدة وأشار إلى الذي أشار إليه الأول وإلى آخر معه، وقال الثالث: بل أعتق أبي جميع الثلاثة في مرض موته بكلمة واحدة. قال ابن الحداد: فإن الأول يعتق ثلثه بإقرار الابن الأول؛ لأنه أقر بعتقه عليه وعلى إخوته.. فقبل إقراره في نصيب نفسه دون نصيب إخوته، ثم يقرع بين العبدين اللذين أشار إليهما الابن الثاني، فأيهما خرجت عليه قرعة العتق.. عتق ثلثه؛ لأنه قدر نصيبه، ثم يقرع بين الأعبد الثلاثة لإقرار الثالث، فأيهم خرجت عليه قرعة العتق.. عتق عليه ثلثه؛ لأنه قدر نصيبه، ولا يقوم على المقر باقي العبد؛ لأن العتق لم يقع بقوله، وإنما هو مخبر عن إعتاق أبيه، والإخبار واجب عليه، فلم يجب عليه التقويم.

فرع اختلاف قول الوارث والشهود في عين المعتق

وإن كانت قيمة العبد الذي أشار إليه الأول مائة، وقيمة الثاني الذي أشار إليه الثاني مع الأول مائتين، وقيمة العبد الثالث ثلاثمائة.. فإن الأول يعتق ثلثه بإقرار الابن الأول؛ لأنه لم يقر أن أباه أعتق إلا ما يساوي مائة، فلزمه ثلثها. فإذا أقرعنا بين الأول والثاني لإقرار الثاني، فإن خرجت قرعة العتق على الأول.. عتق ثلثه وعتق من الثاني سدسه، وقيمة ذلك ثلاثة وثلاثون وثلث؛ لأنه أقر أن أباه أعتق ما يساوي مائتين، فلزمه ثلثهما. وإن خرجت قرعة العتق على الثاني.. عتق ثلثه. فإذا أقرعنا بين الثلاثة لإقرار الثالث، فإن خرجت قرعة العتق على الأول.. عتق ثلثه ثم تعاد القرعة بين الثاني والثالث، فإن خرجت قرعة العتق على الثاني.. عتق سدسه وهو تمام حصته من الثلث. وإن خرجت على الثالث بعد خروجها على الأول.. عتق تسعه تمام حصته من الثلث. وإن خرجت قرعة العتق في الابتداء على الثالث.. عتق منه تسعاه. ولا يجب التقويم على ما مضى في الأول. [فرع اختلاف قول الوارث والشهود في عين المعتق] قال القاضي أبو الطيب: وإن شهد شاهدان أن رجلاً أعتق قبل موته عبداً له عيناه، وقيمته قدر ثلث تركته، وقال الوارث: لا، بل أعتق هذا، وقيمته قدر ثلث تركته، أو كانت الشهادة والإقرار في الوصية.. عتق العبد المشهود له بالشهادة، ثم يقرع بين المشهود له وبين الذي أقر له الوارث لبيان حكم المقر له لإرقاق المشهود له، فإن خرجت قرعة العتق على المشهود له.. رق المقر له؛ لأنه لا يجوز الزيادة على الثلث. وإن خرجت قرعة العتق على المقر له.. عتق بإقراره وعتق الأول بالشهادة. [فرع اختلاف قول الشهود في عين المعتق] قال في " الأم ": [وإن شهد شاهدان على ميت أنه أعتق هذا العبد عتقاً بتاتاً وهو يخرج من الثلث، وشهد آخران أنه أعتق عبدا آخر عتقاً بتاتاً.. سئل عن الوقت،

فأيهما سبق بالعتق.. عتق ورق الثاني، ولا قرعة. وإن كانا في وقت واحد ولم يعلم.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر) . قال في " الأم ": (وإن شهد شاهدان أنه نجز عتق هذا العبد وهو الثلث، وشهد آخران أنه أعتق هذا العبد في الوصية وهو الثلث.. عتق المنجز ورق المعتق في الوصية؛ لأن المنجز سابق، فقدم) . قال في " الأم ": (وإن شهد شاهدان أنه أعتق هذا العبد في الوصية أو التدبير وشهد آخران أنه أعتق عبدا آخر في الوصية أو التدبير، وكل واحد منهما قدر الثلث.. أعتق واحد منهما بالقرعة) . إذا ثبت هذا: فإن المزني روى في " المختصر ": لو شهد أجنبيان أنه أعتق عبده وصية وهو الثلث، وشهد وارثان أنه أعتق عبداً غيره وصية وهو الثلث.. عتق من كل واحد منهما نصفه. واختلف أصحابنا في ذلك: فقال القاضي أبو الطيب: أخطأ المزني في النقل، وقد ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في المسألة قبلها أنه يقرع بينهما. وقال بعض أصحابنا: المسألة مفروضة في الوصية بالعتق دون العتق المنجز؛ لأنه قال: (أعتق عبده وصية) وقوله: (عتق من كل واحد منهما نصفه) أراد: أن القياس كان يقتضي ذلك؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر إلا أن السنة وردت بالقرعة، وإنما قصد أن يبين له أنه لا مزية لشهادة الورثة على غيرهم. ومنهم من قال: بل صورتها أن الشهادتين وقعتا في العتق المنجز؛ لأنه قال: (فإن شهدا أنه أعتق عبده) وقوله: (وصية) أراد: في مرض الموت؛ لأنه حالة الوصية. والحكم في ذلك أنه يعتق من كل واحد منهما نصفه، ولا يمكن الإقراع بينهما لأنه ربما يكون قد تقدم عتق أحدهما، فخرج عليه سهم الرق، فيكون قد أرق الحر. وقال ابن القاص: بل تأويل ذلك أنه إذا كان في لفظ الموصي ما يدل على تفريق العتق فيهما.. فيجعل بينهما.

فرع إن ولدت غلاما فهو حر أو جارية فأنت حرة

[فرع إن ولدت غلاماً فهو حر أو جارية فأنت حرة] إذا قال لأمته الحامل: إن كان أول ولد تلدينه غلاماً فهو حر، وإن كانت جارية فأنت حرة، فولدت غلاماً وجارية: فإن ولدت الغلام أولاً: عتق ورقت الأم والجارية. وإن ولدت الجارية أولاً.. عتقت الأم بوجود صفة العتق فيها، وعتق الغلام تبعاً لها؛ لأن العتق وقع عليها وهي حامل به فتبعها في العتق. وإن ولدتهما معاً.. فالذي يقتضي المذهب: أنه لا يعتق أحد منهم؛ لأنه ليس أحدهما أولى من الآخر. وإن ولدت أحدهما بعد الآخر ولم يعلم أيهما نزل أول.. قال ابن الحداد: عتق الغلام؛ لأنه حر بكل حال، ورقت الجارية؛ لأنها رقيقة بكل حال. وأما الأم: فإنه يقرع عليها بسهم عتق وسهم رق، فإن خرج عليها سهم العتق.. عتقت. وإن خرج عليها سهم الرق.. رقت. فاعترض عليه بعض أصحابنا، وقال: أخطأ؛ لأن الإقراع لا يكون إلا بين شخصين، فأما شخص واحد يشك في عتقه.. فلا تدخله القرعة. قال القاضي أبو الطيب: وهذا الذي قاله هذا القائل ليس بصحيح؛ لأن الإقراع ها هنا بين شخصين وهو الابن والأم؛ لأن سبب العتق وجد في أحدهما؛ لأن ولادة البنت سبب عتقهما، وولادة الابن سبب عتقه، وعلم أنه وجد في أحدهما، ولم يعلم بعينه، فوجب الإقراع بينهما. [فرع علق العتق على الوطء] وإن كان له أربع إماء، فقال: كلما وطئت واحدة منكن.. فواحدة حرة، فوطئ ثلاثاً منهن ولم يطأ الرابعة: قال ابن الحداد: أقرع بين الموطوءة أولاً وبين الرابعة التي لم توطأ، فإن خرجت

قرعة العتق على الرابعة.. عتقت، ثم تعاد القرعة بين الثانية والأولى، فإن خرجت قرعة العتق على الأولى.. عتقت، ثم تعاد القرعة بين الثانية والثالثة. قال القاضي أبو الطيب: وبيان صحة ما قاله أنه بناه على أصلين: أحدهما: أن الموطوءة تدخل في لفظ العتق كما يدخل غيرها. والثاني: أن الوطء اختيار لملك الموطوءة ويعتبر العتق في غيرها. إذا ثبت هذا الأصلان: فإنه إذا وطئ إحداهن.. فقد وقع العتق على واحدة من الأربع بغير عينها، فلما وطئ الثانية والثالثة.. كان اختياراً لملكهما، وتعين العتق بين الأولى والرابعة، فوجب الإقراع بينهما لتعيين العتق في إحداهما. فإن قيل: أليس قد وطئ الأولى كما وطئ الثانية والثالثة، فهلا قلتم: إن العتق ينصرف عنها ويتعين في الرابعة بغير قرعة؟ فالجواب: أن الثانية والثالثة وطئهما بعد وقوع العتق على إحداهن والتعيين إليه، فكان وطؤهما اختياراً لملكهما، ووطئ الأولى قبل وقوع العتق، وإنما وقع العتق بعد هذا الوطء. وأما العتق الواقع بوطء الثانية: فهو شائع بينهما وبين التي لم تعتق بوطء الأولى، وهي إما الأولى وإما الرابعة. وأما الثالثة: فقد وطئها بعد وقوع العتق بوطء الثانية فكان اختياراً لملكها، وصرف العتق عنها، فتردد العتق الواقع بوطء الثانية بين الثانية والأولى والرابعة. وأما العتق الواقع بوطء الثالثة: فهو شائع بينها وبين التي لم تعتق بالقرعة الأولى أو الثانية، وهي الأولى أو الثانية أو الرابعة، فيقرع بينهما، فإذا خرجت القرعة على إحداهما.. عتقت، فنكون قد عينا العتق في ثلاث منهن وأرققنا واحدة منهن. ومن أصحابنا من خالفه في ذلك وقال: الوطء لا يكون اختياراً لملك الموطوءة كما لا يكون رجعة في المطلقة. ووافقه أن الموطوءة تدخل في لفظ الإعتاق كغيرها.

فرع تعليق العتق بدخول دار أولا وآخرا

فعلى هذا: قد عتق بوطء الثلاث ثلاث منهن بغير أعيانهن، فيكتب في ثلاث رقاع عتق، وفي رقعة رابعة رق، ثم يخرج رقعة على إحدى الأربع، فإن خرجت عليها رقعة الرق.. رقت وعتق البواقي. وإن خرجت عليها رقعة العتق.. عتقت، ثم تخرج رقعة أخرى على أخرى، فإن خرجت رقعة الرق.. رقت وعتق الأخريان إلى أن يستوفى عتق ثلاث. ومن أصحابنا من قال: الموطوءة لا تدخل في لفظ العتق، والوطء اختيار منه لملك الموطوءة. فعلى هذا: إذا وطئ الأولى.. لم تدخل هي في العتق، وتعتق واحدة إما الثانية أو الثالثة أو الرابعة، لكنه وطئ الثانية والثالثة، فكان ذلك اختياراً لملكهما فتعتق الرابعة. وتعتق الأولى بوطء الثانية؛ لأن الرابعة قد عتقت، والثالثة قد اختار تملكها بوطئها، فلم يبق إلا الأولى. ويعتق بوطء الثالثة الثانية؛ لأن الرابعة قد عتقت بوطء الأولى، والأولى قد عتقت بوطء الثانية، والثالثة هي الموطوءة لا تدخل في العتق، فلم يبق إلا الثانية. قال القاضي أبو الطيب: والأول أصح؛ لأن قوله: (كلما وطئت واحدة منكن) عام في جميعهن، والوطء اختيار للملك، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في البائع إذا وطئ الأمة المعيبة في مدة الخيار.. كان اختياراً للفسخ. [فرع تعليق العتق بدخول دار أولاً وآخراً] قال أبو العباس: لو قال: أول عبد يدخل الدار فهو حر، فدخل عبد الدار.. احتمل أن يعتق في الحال، وهو الأصح؛ لأنه أول، واحتمل أن لا يعتق حتى يدخل آخر؛ لأنه لا يقال له أول حتى يكون له آخر. وإن قال: آخر عبد يدخل الدار فهو حر.. لم يحكم عليه بعتق عبد حتى يموت

مسألة ملك الأصول أو الفروع

فيحكم بعتق آخر من دخل من عبيده الدار؛ لأنه لا يعلم ذلك إلا بموته. وإن قال: أول عبد يدخل الدار فهو حر، فدخل اثنان معاً، ثم دخل الثالث بعدهما.. لم يعتق أحدهم؛ لأن الاثنين لما دخلا معاً لم يكن أحدهما أولاً، واللفظ اقتضى واحداً، والثالث ليس بأول إلا إن قال: أول عبد يدخل الدار وحده فهو حر.. فيعتق الثالث. وإن قال: أي أمة ابتعتها وتسريتها فهي حرة، فاشترى أمة وتسراها.. لم تعتق لأنه عقد الصفة قبل الملك. [مسألة ملك الأصول أو الفروع] إذا ملك الإنسان أباه، أو أمه، أو جده، أو جدته من قبل الأب أو الأم وإن علوا، أو ملك ولده أو ولد ولده وإن سفلوا، من البنين أو البنات.. عتق عليه بالملك. وبه قال مالك وأبو حنيفة وعامة أهل العلم. وقال داود: [لا يعتق عليه بالملك أحد من والد ولا ولد ولا غيرهم) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] [الأنبياء: 26] ، وهذا يدل على أن الولد لا يكون مملوكاً. وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90] {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 91] {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] [مريم: 90 - 93] . فدل على أن الولادة والعبودية لا يجتمعان له. وإن ملك من سوى الوالدين له، أو المولودين من سائر القرابة.. لم يعتق عليه. وقال مالك: (يعتق عليه الإخوة والأخوات) . وقال أبو حنيفة وأحمد: (يعتق عليه بالملك كل ذي رحم محرم) .

فرع ولد الزنا لا يعتق

دليلنا: أن من جاز للمكاتب بيعه إذا ملكه.. لم يعتق على الحر إذا ملكه، كالعصبات. [فرع ولد الزنا لا يعتق] وإن ولدت المرأة ولداً من الزنى وملكه الزاني بها.. لم يعتق عليه. وقال أبو حنيفة: (يعتق عليه) . دليلنا: أنها ولادة لا يتعلق بها ثبوت النسب، فلا يتعلق بها وجوب الإعتاق، كما لو ولدته لأكثر من أربع سنين من حين الزنى. [فرع يعتق شقص من ذكر بالملك] وإن ملك شقصاً ممن يعتق عليه بالملك.. عتق عليه ذلك الشقص كما لو ملك جميعه، وهل يقوم الباقي عليه ويعتق؟ ينظر فيه: فإن كان معسراً.. لم يقوم عليه ولم يعتق عليه؛ لأن التقويم والسراية لإزالة الضرر عن الشريك، وفي التقويم على المعسر إضرار بالمعسر. وإن كان موسراً.. نظرت: فإن ملك ذلك الشقص باختياره، بأن اتباعه أو اتهبه أو أوصي به له فقبله.. قوم عليه الباقي وعتق عليه. وإن ملكه بغير اختياره، بأن ورثه.. لم يقوم عليه الباقي ولم يعتق عليه؛ لأن اختياره لملك الشقص اختيار للتقويم عليه والعتق. [فرع الوصية والهبة بمن يعتق عليه] وإذا وصى له بمن يعتق عليه، أو وهب له، أو قدر على شرائه.. فالمستحب له أن يقبل الوصية والهبة ويشتريه ليعتق عليه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجزي ولد والده إلا أن يجده

فرع قبول الولي الوصية والهبة

مملوكاً فيشتريه فيعتقه» . ومعناه: فيعتقه بالشراء كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الناس غاديان: فبائع نفسه فموبقها، ومشتريها فمعتقها» . ولا يجب عليه ذلك، وهو قول كافة العلماء. وقال بعض الناس إذا أوصي له بأبيه أو وهب له.. وجب عليه القبول، ليخلصه من ذل الرق. دليلنا: أنه اجتلاب ملك فلم يجب عليه قبوله، كما لو وصى له بغير أبيه، ولأنه لا يجب عليه شراء أبيه، فلم يجب عليه قبول الوصية والهبة فيه. [فرع قبول الولي الوصية والهبة] وإن وصى للمولى عليه بمن يعتق عليه بالملك أو وهب له، فإن كان المولى عليه معسراً.. وجب على الولي أن يقبل له الوصية والهبة؛ لأنه يحصل للمولى عليه بذلك الثواب والولاء من غير ضرر عليه.

فرع وصى بجارية لزوجها فماتا وله ابن

وإن كان المولى عليه موسراً، فإن كان الموصى به له يلزم المولى عليه نفقته.. لم يجز للولي قبوله؛ لأن النفقة تلزم المولى عليه. وإن كان المولى عليه لا تلزمه نفقته.. وجب على الولي أن يقبل له الوصية والهبة؛ لأنه لا ضرر على المولى عليه. وإن وصى له ببعضه: فإن كان المولى عليه معسراً.. لزم الولي قبوله؛ لأنه لا يقوم على المولى عليه ولا تلزمه نفقته. وإن كان موسراً: فإن كان الموصى به زمناً يلزمه نفقته.. لم يجز للولي قبوله؛ لأنه يدخل الضرر على المولى عليه بوجوب النفقة عليه. وإن كان الموصى به صحيحاً مكتسباً.. ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز للولي قبوله؛ لأنه يلزم المولى عليه الضرر بالتقويم. والثاني: يلزم الولي قبوله، ولا يقوم على المولى عليه ولا يسري؛ لأنه يدخل في ملكه بغير اختياره، فهو كما لو ملك بعضه بالإرث. [فرع وصى بجارية لزوجها فماتا وله ابن] إذا وصى رجل بجارية لزوجها، فمات الموصي، ثم مات الموصى له قبل قبول الوصية، وللموصى له ابن من هذه الجارية يرثه.. فالابن بالخيار: بين أن يقبل الوصية وبين أن يردها. فإن ردها.. بقيت الأمة على ملك ورثة الموصي. إن قبل الابن الوصية واحتملها الثلث.. صح ذلك ودخلت في ملك الزوج أولاً، ثم انتقلت إلى ابنه ميراثاً وعتقت عليه. وإن لم يحتمل الثلث إلا بعضها ولم تجز الورثة باقيها.. صحت الوصية فيما احتمل الثلث منها، ودخل في ملك الزوج بقبول الابن، ثم ينتقل بعد ذلك إلى ملك ابنها بالإرث عن أبيه، ويعتق عليه ذلك. فإن كان الابن معسراً.. لم يسر العتق إلى باقيها. وإن كان موسراً.. فهل يقوم عليه باقيها ويسري العتق إليه؟ فيه وجهان:

فرع استولد أمة ثم ملكها عتق ابنه منها

(أحدهما) : قال ابن الحداد: يقوم عليه ويعتق؛ لأنه اجتلب ملك بعضها بقبول الوصية فيقوم عليه باقيها، كما لو أوصى له ببعض أمة فقبلها. والثاني: من أصحابنا من قال: لا تقوم عليه؛ لأنه ملك بعضها بالإرث عن أبيه، فهو كما لو ورث بعض أمة من غير الوصية. قال القاضي أبو الطيب: والأول أصح؛ لأن له صنعاً في ملك بعضها، وهو قبوله. قال: ونظيرها: إذا باع بعض أمة له بثوب وقبض الثوب ومات بائع بعض الأمة وورثه رجل هو ابن الأمة فوجد الابن بالثوب عيباً فرده.. رجع إليه بعض أمه. وهل يقوم عليه باقيها إن كان موسراً؟ على الوجهين، الصحيح: أنه يقوم عليه. [فرع استولد أمة ثم ملكها عتق ابنه منها] إذا تزوج رجل أمة لغيره فأولد منها ابناً، ثم ملكها.. عتق عليه ابنه وانفسخ النكاح. فإن ملك الأمة، ثم أوصى بهذه الجارية زوجها لابن لها من غيره، فإن رد الموصى له الوصية.. ملكها ابنها منه إرثاً عن أبيه، وعتقت عليه. وإن قبلها الموصى له وخرجت من الثلث.. عتقت عليه؛ لأنها أمه. وإن لم يكن له مال غيرها ولم يجز ابنها الوصية فيها.. عتق ثلثها على ابنها الموصى له، وعتق ثلثاها على ابنها الوارث. وإن أجاز ابنها الوصية فيما زاد على الثلث، فإن قلنا، إن الإجازة ابتداء عطية من الوارث.. لم تصح الإجازة؛ لأنه ليس له أن يهب أمه. وإن قلنا: الإجازة تنفيذ لما فعله الموصي.. صحت الإجازة، وعتق جميعها على الابن الموصى له. [فرع أوصى بأمته لابنها من غيره وله ابن منها] وإن كان لرجل أمة وله ابن من غيرها، ولها ابن من غيره، فأوصى بها لابنها ولا مال له غيرها، فمات الموصي، فأعتق ابنه ثلثيها، ثم قبل ابنها الوصية فيها، فإن

فرع أوصى له بما يعتق عليه

قلنا: إن الموصى له يملك الوصية بالقبول.. سرى إعتاق الوارث إلى ثلثها الموصى به. وإن قلنا: تبين بالقبول أنه ملك بموت الموصي.. فقد قال ابن الحداد: لا يقوم نصيب الابن الوارث على ابن الأمة الموصى له وإن كان عتقه سابقاً لعتق الوارث. ومن أصحابنا من خالفه وقال: يقوم ما زاد على الثلث على الابن الموصى له إن كان موسراً؛ لأن عتق نصيب الموصى له سابق لعتق نصيب الوارث، فيقوم عليه، ولأن ابن الحداد قال: إذا أوصى بها لابنها الذي ليس منه ولأجنبي، فقبل الأجنبي الوصية في نصفها وأعتقه، ثم قبل ابنها الوصية.. تبينا أنه عتق على ابنها نصفها حين موت الموصي، ووجب تقويم نصف الأجنبي عليه؛ لأن عتق نصيب ابنها سابق لعتق نصيب الأجنبي، فكذا هذا مثله. ومنهم من صوب قول ابن الحداد، وقال: لا يقوم على ابنها نصيب الوارث الذي أعتقه؛ لأن ملك الوارث آكد من ملك الموصى له؛ لأنه ينتقل إلى الوارث من غير قبول. فإذا أعتق ذلك.. صح واستقر، والموصى له لا يملك إلا بالقبول. وإذا قلنا: إنه تبين بالقبول أنه ملك بالموت.. ففي ذلك خلاف بين أهل العلم، فلم يجز إبطال الأقوى بالأضعف. وليس كذلك إذا كانت الوصية للأجنبي ولابنها؛ لأن سبب ملكهما واحد، وهو الوصية والقبول، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فجعلنا الحكم للسابق. [فرع أوصى له بما يعتق عليه] وإن وصى لرجل بمن يعتق عليه، فمات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول وله وارثان، فقبل أحدهما ورد الآخر.. فإن نصيب القابل يدخل في ملك الموصى له ويعتق عليه، وهل يقوم الباقي على القابل؟

فرع اشترى الأمة الحامل زوجها وابنها الحر

قال ابن الحداد: إن كان القابل قد ورث عن الموصى له قدر قيمة الباقي.. قوم عليه الباقي. وإن ورث عنه أقل من قيمة الباقي.. قوم عليه من باقي العبد بقدر ما ورث عن الموصى له. وإن لم يرث عن الموصى له شيئاً.. لم يقوم عليه وإن كان موسراً من غير ميراثه عنه؛ لأن التقويم لزم على المتوفى لعتقه عنه في نصيب أحد الوارثين، فتعلق بما ورث عنه وقدم على الميراث، ولم يتعلق بنصيب الوارث الآخر؛ لأن العتق لم يثبت على الموصى له في نصيبه. قال القاضي أبو الطيب: ويجيء في مثل هذا ما قال بعض أصحابنا: أنه لا يقوم عليه؛ لأنه دخل في ملك القابل بالإرث. والأول أصح. [فرع اشترى الأمة الحامل زوجها وابنها الحر] إذا كان لرجل أمة ولها ابن حر من غيره، فزوجها مالكها من رجل وحملت من الزوج، فاشتراها زوجها وابنها الحر من مولاها وهي حامل صفقة واحدة.. فإن نصيب الابن من الجارية يعتق عليه؛ لأنه ملك بعض أمه، ويتبعه نصف حملها، فإن كان الابن معسراً.. لم يقوم عليه نصيب الزوج. وإن كان موسراً.. قوم عليه نصيب الزوج من الجارية. وأما نصيب الزوج من الحمل: فإنه يعتق عليه؛ لأنه ملك بعض ولده، ولا يقوم نصيب أحدهما بالحمل على صاحبه بحال؛ لأن عتق نصيبهما وقع عليهما في حالة واحدة. فإن لم يشترياها ولكن أوصى بها مولاها لهما، فإن قبلا الوصية في حالة واحدة، بأن اتفق لفظهما في القبول أو وكلا وكيلا فقبل لهما بكلمة واحدة.. فهو كما لو اشترياها صفقة واحدة. وإن قبل الوصية أحدهما بعد الآخر.. بنى على وقت ملك الموصى له، فإن قلنا: يتبين بالقبول أنه ملك بالموت.. فهو كما لو قبلا الوصية في حالة واحدة. وإن قلنا: يملك الموصى له بالقبول.. نظرت:

فرع أسر المسلم أباه الحربي

إن قبل الزوج أولاً.. عتق عليه نصف الحمل؛ لأنه ملك بعض ولده، وقوم عليه النصف الآخر للموصى له إن كان موسراً، ثم إذا قبل الابن بعده.. عتق عليه نصف الأمة؛ لأنها أمه، ويقوم عليه نصفها للزوج إن كان الابن موسراً فيتقاصان فيما استويا فيه من القيمة ويترادان بالفضل. وإن قبل الابن أولاً.. عتق عليه نصف الأمة، وتبعها نصف الحمل، وقوم عليه نصف الأمة ونصف الحمل للزوج. [فرع أسر المسلم أباه الحربي] وإذا أسر المسلم أباه الحربي وانفرد بأسره.. قال ابن الحداد: لم يعتق عليه؛ لأن الإمام فيه بالخيار: بين قتله ومفاداته والمن عليه، فلو أعتقناه.. لأبطلنا خيار الإمام فيه، ولأن الغانم لا يملك شيئا إلا أن يختار تملكه، ولم يوجد من الابن الاختيار لتملكه. فإن اختار الإمام استرقاقه، واختار الابن تملكه.. عتق على الابن أربعة أخماسه، ويكون خمسه لأهل الخمس. فإذا كان الابن معسراً.. رق خمسه. وإن كان موسراً.. قوم عليه الخمس وعتق عليه. وإن لم يختر الابن تملكه.. كانت أربعة أخماسه مرصدة لمصالح المسلمين، وخمسه لأهل الخمس. وإن سبى أمه وابنه الصغير واختار تملكهما.. عتق عليه أربعة أخماسهما، وقوم عليه خمسهما لأهل الخمس إن كان موسراً؛ لأنه لا خيار للإمام فيهما. وإن لم يختر تملكهما.. كانت أربعة أخماسهما لمصالح المسلمين، وخمسهما لأهل الخمس.

فرع قال لأحد عبديه أحدكم حر على ألف

[فرع قال لأحد عبديه أحدكم حر على ألف] إذا قال رجل لعبدين له: أحدكما حر على ألف، فقال كل واحد منهما: قد قبلت.. عتق أحدهما لا بعينه. وله أن يعين أيهما شاء، ولا يقرع بينهما ما دام حياً. فإن مات قبل البيان ولا وارث له.. أقرع بينهما.. وإن كان له وارث.. فهل يقوم مقامه في البيان؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب. أحدهما: يقوم مقامه في البيان كسائر حقوقه. والثاني: يقرع بينهما كما أقرع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتعيين العتق في العبيد الستة. فإذا أقرع بينهما وخرجت القرعة لأحدهما.. عتق. قال ابن الحداد: ولزم العبد قيمته لمولاه، ولا تلزمه الألف؛ لأنه زال ملكه عنه بعوض مجهول ولا يمكنه الرجوع إلى العبد، فيرجع عليه بقيمته. ومن أصحابنا من قال: فيه قول آخر: أنه يرجع عليه بالألف. قال القاضي أبو الطيب: وهذا هو القول القديم في الصداق إذا تلف في يد الزوج قبل القبض، أو تلف عوض الخلع في يد الزوجة قبل القبض. والأول أصح. [فرع اختلف إخوة في ملك جارية وولدها] ولو كانت جارية وولدها في يد ثلاثة رجال إخوة، فقال أحدهم: هذه أم ولدي وهذا ولدها مني. وقال آخر: هذه أم ولد أبينا وولدها أخونا. وقال الثالث: هذه أمتي وولدها عبدي، ولا بينة لوحد منهم.. قال ابن الحداد: فإنه يعتق ثلث الجارية وثلث ولدها بإقرار من قال: هي أم ولد أبينا. ويعتق ثلث ثان من الولد بإقرار من قال: الجارية أم ولدي وولدها مني، ويصير ثلث الجارية أم ولد له، ويسري إلى ثلث الجارية وثلث ولدها، فيلزم الذي أقر بكونها أم ولد له ثلث قيمتها وثلث قيمة ولدها إن

فرع علق عتق عبده على حجه العام

كان موسراً بقيمتها للذي ادعى أنهما مملوكان له. ويثبت نسب الولد من الذي ادعى أنه ابنه؛ لأنه أقر بثبوت نسبه منه ولا منازع له في ذلك. ولا يثبت النسب من الأب؛ لأنه إقرار من بعض الورثة. [فرع علق عتق عبده على حجه العام] إذا قال: إن لم أحج العام فعبدي حر، فادعى أنه حج، فأقام العبد بينة أنه كان يوم النحر بالكوفة.. قال في " الفروع ": عتق العبد؛ لأن الحال إذا كان كذلك استحال أن يكون حج تلك السنة. [فرع مسائل من الدور في العتق] مسائل من الدور في العتق: إذا أوصى رجل بعتق عبد، فاكتسب العبد مالا بعد الوصية وقبل موت سيده.. فإن جميع كسبه يكون ملكاً لسيدة ولورثته بعده؛ لأن عتقه قبل موت سيده غير لازم؛ لأن للموصي أن يرجع في وصيته بعتقه. وإن مات الموصي فاكتسب هذا العبد مالاً بعد موت سيده وقبل الإعتاق، فإذا كان العبد يخرج من الثلث.. فإن جميع الكسب له؛ لأن العبد قد استحق العتق بموت سيده، وإنما تأخر إعتاقه بتفريط الوصي أو الوارث. وإن لم يخرج من الثلث ولم تجز الورثة.. كان للعبد من الكسب بقدر ما عتق منه. فإن عتق منه ثلثه.. كان له ثلث كسبه، وإن عتق منه نصفه.. كان له نصف كسبه، وباقي كسبه للورثة؛ لأن الكسب حصل منه بعد أن دخل ما لم يستحق إعتاقه في ملكهم. وإن أعتق في مرض موته عبداً له، ومات السيد، ثم كسب العبد مالاً بعد موت سيده وعلى السيد دين يحيط بتركته.. فإن العبد لا يعتق، ويباع في الدين، والكسب للورثة ولا يقضى الدين من الكسب. وقال أبو سعيد الإصطخري: يقضى الدين من الكسب. والمنصوص هو الأول. وإن لم يكن على الميت دين. فإن جميع الكسب للعبد إن كان يخرج من الثلث. وإن كان لا يخرج من الثلث.. فله من الكسب بقدر ما عتق منه، وللورثة بقدر ما رق

منه، ولا تزداد التركة هاهنا بالكسب؛ لأنه حدث في ملكهم. ولا دور في شيء من هذه المسائل. وإن أعتق عبداً في مرض موته فاكتسب العبد مالاً بعد العتق وقبل موت سيده، فإن خرج العبد من الثلث.. كان جميع الكسب للعبد. وإن لم يخرج من الثلث. دخله الدور؛ لأن الكسب يتقسط على ما فيه من الحرية والرق، فما قابل ما فيه من الحرية.. كان للعبد بغير وصية. وما قابل فيه من الرق.. فهو للسيد فتزداد تركته بذلك. فإذا ازدادت التركة.. ازداد العتق، وإذا ازداد العتق.. ازداد استحقاق العبد من الكسب فدارت المسألة. فإن كانت قيمة العبد مائة وكسبه مائة ولا مال للسيد غير ذلك.. فحسابه أن تقول: يعتق من العبد شيء، وله من كسبه شيء من غير وصية فيبقى في يد الورثة مائتان إلا شيئين تعدل مثلي ما عتق منه - وهو شيئان - فإذا جبرت المائتين بالشيئين الناقصين وزدتهما على الشيئين المعادلين. صار مع الورثة مائتان يعدلان أربعة أشياء، فإذا قسمت المائتين على أربعة أشياء.. أصاب كل شيء خمسون، فيعلم أن الشيء المطلوب خمسون - وهو نصف العبد - فيعتق منه نصفه ويتبعه شيء - وهو نصف كسبه - فيبقى مع الورثة من العبد شيء - وهو خمسون - ومن كسبه شيء - وهو خمسون - فذلك مائة، وهو مثلاً ما عتق منه. وإنما قلت: يتبعه شيء؛ لأن الكسب مثل قيمته، ولو كسب مثلي قيمته.. لقلت: يتبعه شيئان، وإن كسب ثلاثة أمثال قيمته.. لقلت: يتبعه ثلاثة أشياء. وإن كسب مثلي نصف قيمته.. لقلت: يتبعه من كسبه نصف شيء. وإن ترك السيد مائة، وكسب العبد مائة، وقيمة العبد مائة.. فحسابه أن يقول: يعتق من العبد شيء، وله من كسبه شيء بغير وصية، فيبقى في يد الورثة ثلاثمائة إلا شيئين تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت الثلاثمائة أربعة أشياء، الشيء خمسة وسبعون - وهو ثلاثة أرباع العبد - فيعتق ذلك منه، وله من كسبه مثل ذلك، فيبقى في

يد الورثة المائة التي تركها مورثهم، ومن العبد ما قيمته خمسة وعشرون ومن كسبه خمسة وعشرون، فذلك مائة وخمسون، وهو مثلاً ما عتق من العبد. وإن كسب العبد مائة، وقيمته مائة، وعلى السيد دين مائة دينار ولا مال له غير ذلك.. فحسابه أن نقول: يعتق من العبد شيء، وله من كسبه شيء بغير وصية، فبقي في يد الورثة مائتان إلا شيئين، يخرج من ذلك مائة للدين، يبقى مائة إلا شيئين تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت المائة أربعة أشياء، الشيء خمسة وعشرون، فيعتق قدر ذلك من العبد - وهو ربعه - وله ربع كسبه، فبقي في يد الورثة خمسون، وهو مثلاً ما عتق من العبد. ولو استقرض السيد في حياته المائة التي كسبها العبد وأتلفها، ومات؟ ولا مال له غير العبد.. قيل للعبد: إن أبرأت مما تستحقه من الكسب.. عتق ثلثك ورق ثلثاك، وإن طالبت بما تستحقه من الكسب.. فحسابه أن يقال: يعتق من العبد شيء، وله من كسبه شيء بغير وصية دين على السيد، فبقي في يد الورثة مائة إلا شيئين تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت المائة أربعة أشياء، الشيء ربع العبد، فيعتق ربعه - وقيمته خمسة وعشرون - ويرق ثلاثة أرباعه - وقيمته خمسة وسبعون - ويقال للورثة: إن اخترتم أن تعطوا العبد من خاص أموالكم خمسة وعشرين - وهو ما يستحقه من كسبه - ملكتم ثلاثة أرباعه. وإن اخترتم بيعه.. بعتم ربعه بدينه، وملكتم بالإرث نصفه، وهو مثلاً ما عتق منه. فإن اختار العبد أن يأخذ ربع رقبته بدينه.. قال ابن اللبان: كان أحق به من الأجنبي. فإذا أخذه.. عتق نصفه. وإن كان بدل الكسب في هذه المسائل مالاً وهب للعبد، أو أرش جناية عليه، أو كانت جارية فوطئها رجل بشبهة، أو حبلت بعد أن أعتقت وولدت، أو داراً فاستغلت.. فحكمه حكم الكسب على ما ذكرناه.

فرع أعتق في مرض موته عبدا فزادت قيمته قبل موته

[فرع أعتق في مرض موته عبداً فزادت قيمته قبل موته] ] : وإن أعتق في مرض موته عبداً قيمته مائة، أو وهبه لغيره وأقبضه، فزادت قيمة العبد قبل موت سيده، فبلغت ستمائة، ومات السيد ولا مال له غير العبد.. فهو كالكسب، وحسابه أن نقول: يعتق منه شيء ويتبعه بالزيادة خمسة أشياء بغير وصية، فيبقى في يد الورثة ستمائة إلا ستة أشياء تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت الستمائة ثمانية أشياء، فإذا قسمت الستمائة على ثمانية أشياء.. خص كل شيء خمسة وسبعون درهماً، وهو قيمة ثلاثة أرباعه يوم عتق، فيعتق ثلاثة أرباعه، ولا يحتسب على العبد بزيادة قيمة ثلاثة أرباعه، ويبقى للورثة ربعه، وقيمته يوم مات سيده مائة وخمسون، وهو مثلاً قيمة ما عتق من العبد يوم العتق. ولو لم تزد قيمة العبد ولكن نقصت قيمته بعد ما أعتق وقبل أن يقبضه الورثة فبلغت قيمته خمسين. فحسابه أن نقول: يعتق منه شيء ويبقى مائة إلا شيئاً حصل ذلك في يد الورثة، وهو خمسون إلا نصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت الخمسون شيئين ونصف شيء، فإذا قسمتها.. كان الشيء عشرين، فيعتق ذلك منه - وذلك خمس العبد يوم أعتق - ويبقى للورثة أربعة أخماسه وقيمته يوم قبضه الورثة أربعون، وذلك مثلاً ما عتق من العبد.. وهكذا الحكم في الهبة. وفيه وجه آخر: أنه لا يحتسب على العبد ولا على الموهوب بما نقص من القيمة في يده، فيصح العتق والهبة في ثلثه ويرق ثلثاه؛ لأن المعتق والموهوب له لم يستقر ملكهم على ما قبضوا من وصاياهم. ألا ترى أنهم ممنوعون من التصرف فيه حتى تقسم التركة؟ فكانت أيديهم كيد المودع الحافظ على الميت تركته حتى تقسم التركة فلم يضمنوا، ألا ترى أن التركة لو كانت في يد الورثة وهم ممنوعون من التصرف فيها لحق الغرماء وأهل الوصايا فنقصت في أيديهم، لما احتسب عليهم بما نقص في أيديهم من حقوقهم؟ فكذلك المعتق والموهوب. قال ابن اللبان: وظاهر كلام الشافعي بخلاف هذا.

فرع وهب في مرض موته وأقبضه فمات العبد

[فرع وهب في مرض موته وأقبضه فمات العبد] ] : فإن وهب في مرض موته لغيره عبداً قيمته مائة، وأقبضه الموهوب له، فمات العبد في يد الموهوب له، ثم مات الواهب ولا مال له غير العبد.. ففيه وجهان: أحدهما: أن الهبة صحيحة؛ لأن العبد لم يبق، فتقع فيه المواريث ولا تركة هناك فيدخل العبد في التركة ليجري فيها ما توجبه الوصية. والثاني: أن الهبة باطلة؛ لأن هبته في مرض موته وصية ولا تصح حتى يبقى للورثة مثلاه. فعلى هذا: لا يلزم الموهوب له ضمان العبد؛ لأن العقد الفاسد يجري مجرى الصحيح، في الضمان. فإن كسب العبد في يد الموهوب له ألفاً، ثم مات العبد، ثم مات سيده.. صحت الهبة في شيء منه، وللموهوب له من كسبه عشرة أشياء، فبقي في يد الورثة ألف إلا عشرة أشياء، تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت اثني عشر شيئاً، فإذا قسمت الألف على اثني عشر شيئاً.. أصاب الشيء ثلاثة وثمانون وثلث درهم، وذلك خمسة أسداس العبد، وهو الذي صحت فيه الهبة. فللموهوب له خمسة أسداس الألف بغير وصية، ولورثة الواهب سدس الألف وهو مثلاً ما صحت فيه الهبة ولا يحتسب ذلك على الورثة بما تلف من العبد؛ لأنه لم يحصل في أيديهم. ولا يضمن الموهوب له حصة الورثة منه؛ لأن يده أمانة. [فرع أعتق عبداً في مرض موته فماتا] ] : فإن أعتق في مرض موته عبداً قيمته مائة، فمات العبد، ثم مات السيد ولا مال له.. ففيه وجهان: أحدهما: أن العبد مات رقيقاً؛ لأن عتقه في مرض الموت وصية، ولم يبق للورثة مثلاً قيمته.

والثاني: أنه مات حراً؛ لأن عتق المريض لم يمنع ورثته من إرثه، فصار كأنه لم يتلف عليهم شيئاً، فصار كعتق الصحيح. فإن كسب العبد مالاً بعد عتقه وقبل موت سيده، ومات العبد وخلفه، ثم مات سيده.. قال ابن اللبان: تغير هذا المعنى؛ لأن السيد ليس له أن يدخل على ورثته ما يمنعهم مما يلحق بحكم هذا العبد من كسبه، ولا يتهيأ لهم أن يأخذوا مال حر إلا من جهة الميراث. فإن ترك العبد مائتي درهم فما زاد ولا وارث له إلا مولاه.. مات العبد حراً، وورثه السيد بالولاء، وحصل لورثة السيد. وإن ترك العبد مائة درهم.. مات العبد ونصفه حر ونصفه رقيق، وورث السيد نصف المائة، ونصفها في حق الملك في أحد الوجهين. وفي الثاني: مات حراً كله، نصفه بالوصية؛ لأن مع ورثة السيد مثليه، ونصفه بغير وصية؛ لأنه لم يبق حتى يجري فيه الميراث. وإن ترك العبد مائتي درهم وبنتاً وارثة ومولاه.. فإن قلنا بالقول الجديد، وأن من مات وبعضه حر وبعضه مملوك ورث عنه ورثته ما ملكه ببعضه الحر ... دخلها الدور، فنقول: عتق منه شيء وله من كسبه شيئان، ترث البنت شيئاً، ويرث المولى شيئاً بحق الولاء، وباقي كسبه للمولى بحق الملك، فيبقى في يد المولى مائتان إلا شيئاً، تعدل شيئين فإذا جبرت عدلت المائتان ثلاثة أشياء، الشيء ثلثا المائة، فيعتق ثلثا العبد، فيكون له ثلثاً كسبه وهو مائة وثلاثة وثلاثون وثلث، فترث البنت نصف ذلك، ويرث المولى نصف ذلك بحق الولاء، ويأخذ باقي كسبه بحق الملك فيكون للمولى مائة وثلاثة وثلاثون وثلث، وهو مثلاً ما عتق من العبد. وإن قلنا بالقول القديم، وأن وارثه لا يرث عنه ما ملكه ببعضه الحر، وقلنا: يكون لسيده.. مات العبد حراً كله، وجميع كسبه لمولاه، ولا ترثه البنت؛ لأن في

توريثها ما ينقص تركة السيد فلا يخرج العبد من ثلثه، فيؤدي إلى رق بعضه، وإذا رق بعضه.. لم ترثه البنت، فكان توريثها يؤدي إلى أن لا ترث، فمنعت الإرث. وإن ترك العبد أربعمائة درهم فصاعداً.. مات العبد حراً كله في أحد القولين وورثت البنت مائتين والسيد مائتين. وإن ترك العبد ابناً ومائتي درهم، وقلنا بالقول الجديد.. عتق من العبد شيء، وله من كسبه شيئان يرثهما ابنه، والباقي من الكسب للسيد، وهو مائتان إلا شيئين تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت أربعة أشياء، الشيء خمسون - وهو نصف قيمة العبد - فيعتق نصفه، فيكون له نصف كسبه، وهو مائة منه يرثها ابنه، ويكون لسيده نصف كسبه، وهو مائة، وذلك مثلاً ما عتق من العبد. وإن قلنا بالقديم.. مات العبد حراً كله، وكان الكسب كله للسيد، ولا يرث الابن شيئاً؛ لأن توريثه يؤدي إلى أن لا يرث على ما تقدم. فإن مات ابن العبد بعد العبد، ثم مات السيد ولا وارث للابن غير مولى أبيه.. عتق جميع العبد، وورث ابنه جميع المائتين، ثم ورث السيد ابن العبد، فيحصل لورثته مثلاً قيمة العبد. فلو لم يخلف العبد شيئاً ولكن خلف ابن العبد مائتي درهم، وترك مولى أبيه ومولى أمه.. مات الأب حراً، وورث مولى العبد الابن، فيحصل مع ورثته مثلاً قيمة العبد. وإن ترك ابن العبد أقل من مثلي قيمة أبيه، فإن قلنا: إن العبد مات رقيقاً.. لم يرث مولى العبد من ابن العبد شيئاً. وإن قلنا: إنه مات حراً.. ورثه. قال ابن اللبان: فإن لم يمت العبد ولكن مات ابنه وخلف ألف درهم، ثم مات السيد.. عتق العبد، ولم يرث من ابنه شيئاً، وورثه السيد بالولاء. فإن قيل: فهلا ورث العبد ابنه وقد تم عتقه؟ قيل: لو ورثه لما خرج من الثلث فيرق بعضه فلا يرث، فكان توريثه يؤدي إلى قطعه فلم يرث، فكان السيد أحق بميراثه.

فرع أعتق جارية فوطئها قبل موته

فإن ترك ابن العبد مائة.. عتق من العبد شيء وجر من ولاء ولده بقدر ما عتق منه، فورث السيد من المائة التي تركها الابن شيئاً، فيحصل ذلك مع باقي العبد لورثة السيد، وذلك مائة تعدل شيئين، فالشيء خمسون - وهو نصف العبد - فيعتق نصف العبد فيجر إلى سيده نصف ولاء ولده، فيرث نصف المائة التي تركها الابن مع نصف العبد، وذلك مائة مثلاً ما عتق من العبد. وإن ترك ابن العبد خمسين.. قلت: يعتق من العبد شيء، وورث السيد مما ترك ابن العبد نصف شيء، فبقي في يده مائة إلا نصف شيء تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين، ونصفا، الشيء خمسا المائة، فيعتق خمسا العبد وقيمته أربعون، فيرث السيد خمسي الخمسين، وهو عشرون مع ما بقي من العبد -فذلك ثمانون- وهو مثلا ما عتق من العبد. [فرع أعتق جارية فوطئها قبل موته] وإن أعتق في مرض موته جارية له قيمتها مائة، فوطئها قبل موته، ومهر مثلها خمسون، ولا مال له غيرها، ثم مات.. فحسابه أن يقال. يعتق منها شيء بوصية، ولها على سيدها نصف شيء بغير وصية، فبقي في يده جارية قيمتها مائة إلا شيئاً ونصف شيء تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت ثلاثة أشياء، ونصفا، الشيء سبعاها، فيعتق سبعاً الجارية، وتستحق الجارية سبعي مهرها، وذلك قدر سبع رقبتها، فتباع بمهرها، فيبقى في يد الورثة أربعة أسباعها، وهو مثلاً ما عتق منها. فإن حبلت من هذا الوطء وولدت.. ففيه وجهان: أحدهما: تعتق من جهة أنها أم ولد لا من جهة الوصية؛ لأن الميت لا ثلث له. والثاني: تعتق من حين أعتقها سيدها؛ لأنها لم تبق على ملك الميت فتجري في الميراث والوصية، فصار عتق الميت مانعاً للورثة من أن يرثوها، فيكون كعتق الصحيح، ويجب لها المهر في ذمة السيد.

مسألة أعتق في مرض موته عبدين

قال ابن اللبان: والأول أشبه بمذهب الشافعي. فإن ترك السيد مائة درهم.. عتق منها شيء بالوصية يوم أعتقت، ولها نصف شيء بالمهر تأخذه من المائة، ويعتق باقيها بالإحبال من رأس المال، فبقي في يد الورثة مائة درهم إلا نصف شيء تعدل شيئين، فإذا جبرتها.. عدلت شيئين ونصفاً، الشيء خمسا المائة - وهو أربعون - فيعتق منها بالوصية خمساها، ولها خمسا مهرها - وهو عشرون من المائة - فيبقى في يد الورثة ثمانون، وهو مثلاً ما عتق منها بالوصية. [مسألة أعتق في مرض موته عبدين] ولو أعتق في مرض موته عبدين، قيمة كل واحد منهما مائة، أحدهما قبل الآخر، فاكتسب كل واحد منهما مائة بعد العتق وقبل موت السيد، ومات السيد ولا مال له غير ذلك.. عتق الأول بالوصية وله جميع كسبه بغير وصية، وللورثة العبد الثاني وكسبه وذلك مثلاً قيمة الأول. فإن كسب كل واحد منهما مائتين.. عتق الأول وله كسب، وعتق من الثاني تمام الثلث، فيقال: عتق منه شيء، وله من كسبه شيئان، فبقي في يد الورثة ثلاثمائة إلا ثلاثة أشياء، تعدل مثلي قيمة الأول ومثلي ما عتق من الثاني - وهو مائتان وشيئان - فإذا جبرت الثلاثمائة الأشياء الناقصة، وزدتها على الشيئين المقابلين لها.. كانت الثلاثمائة تعدل مائتي درهم وخمسة أشياء، فأسقط مائتين بإزاء مائتين، فتبقى مائة تعدل خمسة أشياء، الشيء خمس المائة، فيعتق خمس العبد الثاني، وقيمة ما عتق منه عشرون، فيأخذ خمس كسبه -وهو أربعون - فيبقى في يد الورثة من قيمة الثاني ثمانون، ومن كسبه مائة وستون فذلك مائتان وأربعون وهو مثلاً قيمة الأول ومثلاً ما عتق من الثاني. فإن كسب كل واحد منهما ثلاثمائة.. عتق الأول وله كسبه، وعتق من الثاني شيء وله من كسبه ثلاثة أشياء، فبقي في يد الورثة الثاني وكسبه، وهو أربعمائة إلا أربعة أشياء تعدل مثلي قيمة الأول ومثلي ما عتق من الثاني، وذلك مائتان وشيئان.

فرع أعتق ثلاثة أعبد في مرض موته

فإذا جبرت الأربعمائة بالأربعة الأشياء الناقصة وزدتها على الشيئين المقابلين.. صارت أربعمائة تعدل ستة أشياء ومائتين، فأسقط مائتين بإزاء مائتين، فتبقى مائتان تعدلان ستة أشياء، فالشيء الواحد سدس المائتين، وذلك قدر ثلث قيمة الثاني، فيعتق ثلث الثاني، ويتبعه ثلث كسبه - وهو مائة- فيبقى مع الورثة ثلثا رقبة الثاني وثلثا كسبه، وذلك مثلاً قيمة الأول ومثلاً ما عتق من الثاني. ولو لم يعتق أحدهما بعد الآخر ولكن أعتقهما بكلمة واحدة.. أقرع بينهما، فمن خرجت عليه قرعة العتق منهما.. كان كما لو بدأ بعتقه. [فرع أعتق ثلاثة أعبد في مرض موته] وإن أعتق في مرض موته ثلاثة أعبد له، قيمة كل واحد منهم مائة، أحدهم بعد الآخر، فاكتسب الأول بعد عتقه وقبل موت سيده مائة، ومات السيد ولا مال له غيرهم.. عتق الأول وله كسبه، ورق الآخران وقيمتهما مثلاً قيمة الأول. وإن كسب كل واحد منهم مائة.. عتق الأول وتبعه كسبه، وعتق من الثاني شيء وله من كسبه شيء، فبقي في يد الورثة أربعمائة إلا شيئين تعدل مائتين، وهو مثلاً قيمة الأول وشيئين، فإذا جبرت.. عدلت الأربعمائة مائتين وأربعة أشياء، فأسقط مائتين بإزاء مائتين، فيبقى مائتان يعدلان أربعة أشياء - الشيء خمسون - فيعتق نصف الثاني ويتبعه نصف كسبه، فيبقى مع الورثة نصف الثاني ونصف كسبه، والثالث وكسبه - وذلك ثلاثمائة - وهو مثلاً قيمة الأول ومثلاً ما عتق من الثاني. فإن كسب كل واحد منهم ثلاثمائة.. عتق الأول والثاني، ولهما كسبهما، وكان للورثة الثالث وكسبه، وذلك مثلاً قيمة الأول والثاني. وإن كسب كل واحد منهم خمسمائة.. عتق الأول والثاني، ولهما كسبهما، وعتق من الثالث شيء وله من كسبه خمسة أشياء، فيبقى في يد الورثة ستمائة إلا ستة أشياء تعدل مثلي قيمة الأول والثاني وما عتق من الثالث، وذلك أربعمائة وشيئان، فإذا جبرت.. عدلت الستمائة أربعمائة وثمانية أشياء، فأسقط أربعمائة بإزاء أربعمائة،

فيبقى مائتان تعدلان ثمانية أشياء، الشيء خمسة وعشرون - وهو ربع قيمة الثالث - فيعتق ربعه ويتبعه ربع كسبه، فيبقى من الثالث ومن كسبه أربعمائة وخمسون وذلك مثلاً قيمة الأول والثاني ومثلاً ما عتق من الثالث. وإن أعتقهم بكلمة واحدة وكسب أحدهم مائة لا غير.. أقرع بينهم، فإذا خرجت قرعة العتق على المكتسب ... عتق جميعه وتبعه كسبه، ورق الآخران وقيمتهما مثلاً قيمة الأول. وإن خرجت قرعة العتق على أحد الآخرين.. عتق جميعه وبقي من الثلث شيء، فيقرع بين المكتسب وبين الباقي من العبدين اللذين لم يكتسبا، فإن خرجت قرعة العتق على الذي لم يكتسب.. عتق ثلثه ورق ثلثاه والمكتسب وكسبه، فيبقى مع الورثة مائتان وستة وستون وثلثان، وذلك مثلاً قيمة الأول وما عتق من الثاني. وإن خرجت قرعة العتق على المكتسب.. عتق منه شيء وله من كسبه شيء، فيبقى في يد الورثة باقي رقبته وباقي كسبه وجميع العبد الآخر، وذلك ثلاثمائة إلا شيئين تعدل مثلي قيمة الأول وما عتق من الثاني - وذلك مائتان وشيئان - فإذا جبرت الثلاثمائة بالشيئين الناقصين وزدتهما على الشيئين المقابلين لها.. صارت الثلاثمائة تعدل مائتين وأربعة أشياء، فأسقط مائتين بإزاء مائتين، فيبقى مائة تعدل أربعة أشياء، الشيء ربعها، فيعتق ربع العبد ويتبعه ربع كسبه، فيبقى مع الورثة ثلاثة أرباعه وثلاثة أرباع كسبه والعبد الآخر، ومبلغ ذلك مائتان وخمسون، وذلك مثلاً قيمة الأول وما عتق من الثاني. وإن أعتق الثلاثة بكلمة واحدة، وكسب كل واحدة منهم مائة.. أقرع بينهم، فمن خرج له سهم العتق.. عتق جميعه وتبعه كسبه، وقد بقي من الثلث شيء فيقرع بين الآخرين، فمن خرج له سهم العتق.. عتق منه شيء وتبعه من كسبه شيء، فيبقى في يد الورثة أربعمائة إلا شيئين تعدل مائتين وشيئين، فإذا جبرت.. عدلت مائتين وأربعة أشياء، فأسقط مائتين بإزاء مائتين، فيبقى مائتان تعدل أربعة أشياء - الشيء خمسون -

فيعتق نصف الثاني ويتبعه نصف كسبه، ويبقى مع الورثة نصفه ونصف كسبه وجميع الثالث وكسبه، وذلك ثلاثمائة، وهو مثلاً قيمة الأول وما عتق من الثاني. وإن كانت قيمة أحدهم ثلاثمائة وكسبه ثلاثمائة، وقيمة آخر مائتين وكسبه مائتين، وقيمة الثالث مائة وكسبه مائة، وأعتقهم بكلمة واحدة ومات، ولا مال للسيد غير ذلك.. أقرع بينهم. فإن خرج سهم العتق على من قيمته ثلاثمائة.. عتق جميعه وله كسبه، وكان للورثة الآخران وكسبهما، ومبلغ ذلك ستمائة، وهو مثلاً قيمة المعتق. وإن خرج سهم العتق على من قيمته مائتان.. عتق جميعه وتبعه كسبه وبقي من الثلث بعضه، فتعاد القرعة بين الآخرين، فإن خرج سهم العتق على من قيمته مائة.. عتق جميعه وتبعه كسبه، وبقي للورثة الذي قيمته ثلاثمائة وكسبه، وذلك مثلا قيمة العبدين المعتقين. وإن خرج سهم العتق على من قيمته ثلاثمائة.. عتق منه شيء وتبعه من كسبه شيء، فيبقى في يد الورثة ثمانمائة إلا شيئين تعدل أربعمائة وشيئين، فاجبر الثماني مائة بالشيئين الناقصين وزدهما على الشيئين المقابلين لهما مع أربعمائة، فتكون ثماني مائة تعدل أربعمائة وأربعة أشياء، فتسقط أربعمائة بإزاء أربعمائة، فيبقى أربعمائة تعدل أربعة أشياء الشيء مائة وهو ثلث العبد المقوم بثلاثمائة فيعتق ثلثه ويتبعه ثلث كسبه، ويبقى مع الورثة ثلثاه وثلثا كسبه والمقوم بمائة وكسبه، وذلك ستمائة، وهو مثلاً قيمة الأول وما عتق من الثاني. وإن خرج سهم العتق أولاً على المقوم بمائة.. عتق كله وتبعه كسبه، وبقي بعض الثلث، فتعاد القرعة بين الآخرين، فإن خرج سهم العتق على المقوم بمائتين.. عتق جميعه وتبعه كسبه، ورق الثالث وقيمته ثلاثمائة وكسبه ثلاثمائة، وذلك مثلاً قيمة العبدين المعتقين.

وإن خرج سهم العتق على المقوم بثلاثمائة.. عتق منه شيء وتبعه من كسبه شيء، فيبقى في يد الورثة ألف إلا شيئين تعدل مائتين وشيئين، فإذا جبرت.. عدلت مائتين وأربعة أشياء، فأسقط مائتين بإزاء مائتين، فيبقى ثمانمائة تعدل أربعة أشياء - الشيء مائتان - وذلك ثلثا العبد المقوم بثلاثمائة، فيعتق ثلثاه ويتبعه ثلثا كسبه، فيبقى مع الورثة ثلثه وثلث كسبه وجميع العبد المقوم بمائتين وجميع كسبه، وذلك كله ستمائة، وهو مثلاً قيمة الأول وما عتق من الثاني. والله أعلم وبالله التوفيق

باب القرعة

[باب القرعة] إذا أعتق عبيداً له في مرض موته في حالة واحدة، ومات ولم يحتملهم الثلث، ولم يجز الورثة.. أقرع بينهم.. وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: (يعتق من كل واحد منهم ثلثه ويستسعى في قيمة باقيه) . دليلنا: ما روى عمران بن الحصين: «أن رجلاً أعتق في مرض موته ستة أعبد ولا مال له غيرهم، فأقرع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم، فأعتق اثنين منهم، وأرق أربعة» . إذا ثبت هذا: فإن كان القصد عتق الثلث. ففيه ست مسائل: الأولى: أن يكون لهم ثلث صحيح وتكون قيمتهم متساوية، بأن كانوا ثلاثة أعبد قيمة كل واحد منهم مائة، أو ستة أعبد قيمة كل واحد مائة، فإن كانوا ستة ... جعل كل اثنين جزءاً، ثم يؤخذ ثلاث رقاع متساوية فيكتب في كل رقعة ما يريد، وتترك في ثلاث بنادق من طين أو شمع متساوية الصفة والوزن، وتجفف وتغطى بثوب، ويقال لرجل لم يحضر الكتابة والبندقة: أخرج بندقة، فيعمل بما فيها. ثم هو بالخيار: بين أن يكتب الأسماء وبين أن يكتب الحرية والرق، فإن اختار أن يكتب الأسماء.. كتب في كل رقعة اسم اثنين. ثم إن شاء أخرج على الرق، وإن شاء أخرج على الحرية. فإن أخرج على الرق.. أخرج رقعة، ويقول: من فيها رقيق، فيفتح وينظر من فيها، فيرق، ثم يخرج رقعة

أخرى فيقول: من فيها رقيق، فينظر من فيها، فيرق، وتتعين الحرية لمن في الثالثة ولا يحتاج إلى إخراجها؛ لأنه لا فائدة في إخراجها. وإن شاء أخرج أولاً على الحرية، فيخرج رقعة فيقول: من فيها حر، فينظر من فيها، فيعتق، ويرق من في الرقعتين الباقيتين، ولا يحتاج إلى إخراجها. والإخراج على الحرية أولى؛ لأنه أقرب. وإن اختار كتب الحرية والرق.. كتب في رقعة حر وفي رقعتين رق، ثم يخرج الرجل رقعة ويضعها على جزء من الثلاثة الأجزاء، وينظر ما فيها، فإن كان فيها الحرية.. عتق ذلك الجزء ورق الجزآن الآخران، ولا يحتاج إلى إخراج الرقعتين الباقيتين؛ لأنه لا فائدة في ذلك. وإن خرج في الرقعة الأولى الرق.. حكم برق ذلك الجزء الذي خرجت عليه، ثم يخرج رقعة ثانية على جزء ثان، فإن خرج فيها رق.. حكم برق ذلك الجزء وتعين العتق للجزء الثالث. وإن خرج في الثانية الحرية.. عتق الجزء الثاني ورق الثالث، ولا يفتقر إلى إخراج الرقعة الثالثة. المسألة الثانية: أن يكون لعددهم ثلث صحيح وقيمتهم مختلفة إلا أنه يمكن تعديل قيمتهم، مثل: أن يكونوا ستة قيمة اثنين ألفان، وقيمة اثنين أربعة آلاف، وقيمة اثنين ستة آلاف، فيجعل العبدان اللذان قيمتهما أربعة آلاف جزءاً، ويجعل أحد العبدين المقومين بألفين مع أحد العبدين المقومين بستة آلاف جزءاً، وكذلك يفعل بالآخرين، فيصيرون ثلاثة أجزاء كل جزء قيمته أربعة آلاف، ثم يقرع بينهم، على ما ذكرناه في التي قبلها. المسألة الثالثة: أن يكون لعددهم ثلث صحيح، وقيمتهم مختلفة، ولا يمكن تعديلهم بالعدد والقيمة، فإن عدلوا بالعدد.. اختلفت قيمتهم. وإن عدلوا بالقيمة.. اختلف عددهم، وإنما يمكن بأحدهما. فإن كانوا ستة، قيمة واحد ألف، وقيمة اثنين ألف، وقيمة ثلاثة ألف.. ففيه وجهان:

أحدهما - وهو المنصوص -: (أنهم يعدلون بالقيمة، فيجعل العبد الذي قيمته ألف جزءاً، والعبدان اللذان قيمتهما ألف جزءاً، والثلاثة الذين قيمتهم ألف جزءاً، ثم يقرع بينهم على ما تقدم) . والثاني: من أصحابنا من قال: يعدلون بالعدد، فيجعل كل اثنين جزءاً، فيجعل العبدان المقومان بألف جزءاً - وهو قدر الثلث - ويجعل العبد المقوم بألف مع أحد الثلاثة المقومين بألف جزءاً وقيمتهما أكثر من الثلث، ويجعل العبدان الآخران من الثلاثة جزءاً وقيمتهما أقل من الثلث، ثم يقرع بينهم على ما مضى. فإن خرجت الحرية على المقومين بألف.. عتقاً وقيمتهما الثلث، ورق باقي العبيد. وإن خرجت الحرية على المقومين بألف وثلث الألف.. فلا يمكن عتقهما، فيقرع بينهما، فإن خرجت الحرية على المقوم بألف ... عتق ورق الآخر مع باقي العبيد. وإن خرجت الحرية على المقوم بثلث الألف.. عتق وعتق ثلثاً المقوم بألف ورق ثلثه وباقي العبيد. وإن خرجت الحرية على المقومين بثلثي الألف ... عتقاً وقد بقي بعض الثلث، ثم يقرع بين الجزأين الآخرين لتمام الثلث. فإن خرج سهم العتق على العبدين المقومين بألف.. أعيدت القرعة بين هذين العبدين، فأيهما خرج عليه سهم العتق.. عتق ثلثاه ورق ثلثه مع باقي العبيد. وإن خرج سهم العتق في المرة الثانية على المقومين بألف وثلث ألف.. أعيدت القرعة بينهما، فإن خرج سهم العتق على المقوم بثلث الألف.. عتق جميعه ورق الآخر مع العبدين المقومين بألف. وإن خرج سهم العتق على المقوم بألف.. عتق ثلثه ورق ثلثاه مع الثلاثة الباقين. وأصل هذين الوجهين الاختلاف في تأويل حديث عمران بن الحصين، فقال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إنما جزأهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة أجزاء؛ لأن قيمتهم تساوت) . وهذا القائل يقول: إنما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلكم لأن عددهم كان مستوياً.

والصحيح هو الأول؛ لأنه أقرب. وفيما قال هذا القائل.. يحتاج إلى إعادة القرعة. المسألة الرابعة: إذا كان لعددهم ثلث صحيح والقيم مختلفة ولا يمكن تعديل السهام بالقيمة، مثل أن كانوا ستة قيمة واحد ألفان، وقيمة اثنين ألف، وقيمة ثلاثة ألف: قال المحاملي: فعلى منصوص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يعتبر تفاوت القيمة، فيجعل العبد الذي قيمته ألفان جزءاً، والعبدان اللذان قيمتهما ألف جزءاً، والثلاثة الذين قيمتهم ألف جزءاً، فإن خرج سهم العتق على العبد المقوم بألفين.. عتق منه قدر ثلث التركة ورق باقيه وباقي العبيد. وإن خرج سهم العتق على العبدين المقومين بألف.. عتقاً وأقرع بين الباقين، فيعتق منهم تمام الثلث بالقرعة، وكذلك إن خرج سهم العتق على الثلاثة المقومين بألف.. عتقوا، ثم يقرع بين الباقين، فيعتق منهم تمام الثلث. وعلى قول ذلك القائل من أصحابنا: يسوى بينهم في العدد، فيجعل كل اثنين جزءاً، ثم يقرع بينهم على ما ذكرناه. وإن كانوا خمسة قيمة واحد ألف، وقيمة اثنين ألف، واثنين ألف.. قال ابن الصباغ: فإن هاهنا يعدلون بالقيمة وجهاً واحداً. المسألة الخامسة: إذا اختلف عددهم وقيمتهم، ولا يمكن تعديلهم بواحد منهما، بأن كانوا خمسة قيمة واحد ألف وقيمة اثنين ألف وقيمة اثنين ثلاثة آلاف.. ففيه قولان: أحدهما: لا يجزءون، بل تخرج قرعة العتق على واحد واحد حتى يستوفى الثلث. والثاني: أنهم يجزءون ثلاثة أجزاء بالقيمة، فيجعل العبد المقوم بألف جزءاً،

مسألة أعتق ثلاثة قيمتهم سواء فمات أحدهم

وكل اثنين من الأربعة جزءاً، ثم يقرع بينهم على ما ذكرناه؛ لأن ذلك أقرب إلى ما فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إذا ثبت هذا: فذكر في " المهذب ": إذا اختلف العدد والقيمة، ولم يمكن التعديل بالعدد ولا بالقيمة، بأن كانوا خمسة قيمة واحد مائة وقيمة الثاني مائتان وقيمة الثالث ثلاثمائة وقيمة الرابع أربعمائة وقيمة الخامس خمسمائة.. ففيه قولان. فقال شيخنا الإمام الفقيه زيد بن عبيد الله: ليست هذه المسألة مسألة القولين؛ لأنه يمكن تعديلهم هاهنا بالقيمة، وإنما مسألة القولين إذا لم يمكن تعديلهم بالقيمة. المسألة السادسة: أن يكون أعتق اثنين: فإنه يقرع بينهما، فإن خرجت قرعة العتق على أحدهما.. نظرت: فإن كانت قيمته قدر ثلث التركة.. عتق ورق الآخر، وإن كانت قيمته أكثر.. عتق منه قدر ثلث التركة ورق باقيه والعبد الآخر. وإن كانت قيمته أقل من قدر ثلث التركة.. عتق جميعه وعتق من الآخر تمام الثلث ورق باقيه. [مسألة أعتق ثلاثة قيمتهم سواء فمات أحدهم] وإن أعتق ثلاثة أعبد له قيمتهم سواء، في مرض موته بكلمة واحدة، ولا مال له غيرهم، فمات واحد منهم قبل القرعة.. أقرع بين الميت والحيين. فإن خرج سهم العتق على الميت.. عتق جميعه ورق الآخران، سواء مات السيد أولا أو العبد. وإن خرج سهم العتق على أحد الحيين.. نظرت: فإن مات العبد قبل سيده.. لم يعتق ممن خرجت عليه القرعة إلا ثلثاه؛ لأن الميت قبل سيده غير داخل في التركة. وإن مات السيد قبل العبد.. نظرت: فإن مات العبد قبل أن يقبضه الورثة.. كان كما لو مات قبل سيده؛ لأنه لا يجوز أن يحتسب على الورثة بما لم يحصل في أيديهم من التركة. وإن مات بعد أن قبضه الورثة.. عتق جميع العبد الذي خرجت عليه القرعة؛ لأن العبد الذي مات قد كان في أيديهم، فاحتسب به عليهم من التركة.

فرع أعتق ثلاث إماء ولا مال أقرع بينهن

[فرع أعتق ثلاث إماء ولا مال أقرع بينهن] ] : وإن أعتق ثلاث إماء في مرض موته بكلمة واحدة، ولا مال له غيرهن.. أقرع بينهن، فإن خرجت القرعة بالعتق لإحداهن فولدت.. كان الولد حراً؛ لأنه ولد حرة. فإن كان حادثاً بعد العتق.. فلا ولاء عليه. وإن كان موجوداً قبل العتق.. كان عليه الولاء. قال ابن الصباغ: وينبغي أن يعتبر في ثبوت الولاء عليه أن تلده لدون أقل مدة الحمل من حين العتق. [فرع ظهر ماله بعد إعتاقه ستة في مرض موته] وإن أعتق ستة أعبد له في مرض موته بكلمة واحدة، ولا مال له في الظاهر غيرهم، فأقرع بينهم وحكم بعتق اثنين منهم ورق أربعة، ثم ظهر له مال.. نظرت: فإن كان مثلي قيمتهم.. حكم بعتق جميعهم. وإن كان مثل قيمتهم.. تبينا أن العتق قد كان لازماً في ثلثهم، وقد خرجت القرعة بعتق ثلثيهم، فيجب أن تعاد القرعة بين الأربعة ويعتق منهم نصفهم، ومن خرجت عليه قرعة العتق.. كان له جميع ما اكتسبه من حين العتق؛ لأن الحرية حصلت له بذلك. [مسألة ظهر دين مستغرق وكان أعتق عبيداً في مرض موته] ] : وإن أعتق عبيداً له في مرض موته لا مال له غيرهم، ثم ظهر عليه دين يستغرق جميع ماله.. لم يصح العتق في شيء من العبيد؛ لأن عتقهم وصية والدين مقدم على الوصية، فيباع العبيد ويقضي الدين بثمنهم. فإن قال الورثة: نحن نقضي الدين من أموالنا ليصح العتق، فقضوه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا ينفذ العتق في شيء من العبيد إلا بإعتاق الوارث؛ لأنا حكمنا ببطلان عتق الميت لأجل الدين، فلم يحكم بصحته بقضاء الدين، كما لو اعتنق الراهن العبد المرهون وقلنا: لا يصح، فقضى الراهن الدين له.

والثاني: ينفذ العتق؛ لأن المانع هو الدين وقد قضي، فصار كأن لم يكن. قال أصحابنا: وأصل هذين الوجهين: إذا مات وله تركة وعليه دين، فتصرف الوارث في التركة قبل قضاء الدين، ثم قضى الدين.. هل يصح تصرفه؟ على وجهين. وإن كان الدين الذي ظهر على الميت لا يستغرق جميع قيمتهم، وإنما يستغرق نصف قيمتهم.. جعل العبيد جزأين، وكتب في رقعة دين وفي رقعة تركة، فمن خرجت عليه رقعة الدين.. بيع في الدين، ومن خرجت عليه رقعة التركة.. جعلوا ثلاثة أجزاء: جزءا للعتق، وجزأين للورثة؛ لأنه اجتمع حق أصحاب الدين وحق العبيد وحق الورثة وليس بعض العبيد - بأن يجعل للدين أو للعتق أو للورثة - بأولى من البعض فأقرع بينهم؛ لأن القرعة لها مدخل في العتق وإن لم يكن لها مدخل في الدين والتركة لو انفردا. وإن استغرق الدين ثلث قيمتهم.. جعلوا ثلاثة أجزاء، وكتب ثلاث رقاع: رقعة للدين، ورقعتين تركة، فمن خرجت عليه رقعة الدين.. بيع في الدين، ومن خرجت عليه رقعة التركة.. جعلوا ثلاثة أجزاء وكتب ثلاث رقاع: رقعة للعتق ورقعتين تركة. وإن استغرق الدين ربع قيمتهم.. جعلوا أربعة أجزاء، وكتب أربع رقاع: رقعة للدين وثلاث رقاع تركة، فمن خرجت عليه رقعة الدين.. بيع في الدين، ومن خرجت عليه رقعة التركة.. جعلوا ثلاثة أجزاء، وكتب ثلاث رقاع، رقعة للعتق، ورقعتين تركة. فإن قيل: فهلا كتب في الأربع: رقعة للدين ورقعة للعتق ورقعتان للرق؛ لأن ذلك أسهل؟ قال أصحابنا: لا يفعل ذلك لقوة الدين على الوصية فلا يشرك بينهما في الإقراع، ولأنه ربما خرجت رقعة العتق قبل رقعة الدين، فيؤدي إلى حصول العتق قبل الدين، وذلك لا يجوز.

فرع أعتق ثلاثة قيمتهم ثلاثمائة ولا مال غيرهم واكتسب أحدهم مائة

[فرع أعتق ثلاثة قيمتهم ثلاثمائة ولا مال غيرهم واكتسب أحدهم مائة] ] : وإن أعتق في مرض موته ثلاثة عبيد له، قيمة كل واحد منهم مائة بكلمة واحدة، ولا مال غيرهم، فاكتسب أحدهم بعد العتق وقبل موت السيد مائة، ثم مات السيد وعليه دين مائة ديناً.. كتب رقاع: رقعة دين ورقعتان تركة، ثم يقرع بينهم، فإن خرجت رقعة الدين على أحد العبدين اللذين لم يكتسبا.. بيع في الدين، ثم أعيدت القرعة للعبدين المكتسب وغير المكتسب الثاني. فإن خرجت رقعة العتق على الذي لم يكتسب.. عتق جميعه، وبقي مع الورثة المكتسب وكسبه، وذلك مثلاً قيمة المعتق بعد قضاء الدين. وإن خرجت رقعة العتق على المكتسب.. دخله الدور، فنقول: عتق من العبد شيء بوصية، وله من كسبه شيء بغير وصية، فبقي في يد الورثة ثلاثمائة إلا شيئين تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت أربعة أشياء - الشيء خمسة وسبعون - وذلك ثلاثة أرباع العبد، فيعتق ثلاثة أرباعه، وله ثلاثة أرباع كسبه، ويبقى للورثة ربعه وربع كسبه والعبد الآخر، وذلك مائة وخمسون، وهو مثلاً ما عتق من العبد. وإن خرجت رقعة الدين على المكتسب.. قال ابن الحداد: بيع نصفه للدين لا غير؛ لأنه لا حاجة بنا إلى بيع جميعه وتفويت العتق في جميعه؛ لأن ما رق منه يتبعه بقدره من الكسب، فيقضى الدين بنصفه ونصف كسبه، ثم يقرع بين نصفه وبين العبدين الآخرين، فإن خرج سهم العتق على نصف المكتسب.. عتق نصفه الثاني وتبعه نصف كسبه الباقي، وقد بقي بعض الثلث، فتعاد القرعة بين العبدين الآخرين، فمن خرج عليه سهم العتق منهما.. عتق ثلثه، وهو تمام ثلث مائتين وخمسين بعد قضاء الدين. وإن خرج سهم العتق على أحد العبدين اللذين لم يكتسبا.. عتق جميعه وبقي للورثة العبد الآخر ونصف المكتسب ونصفه كسبه، وهو مثلاً قيمة المعتق بعد الدين. [فرع أعتق ستة أعبد ولا مال غيرهم فأقرع بينهم] وإن أعتق ستة أعبد له في مرض موته لا مال له غيرهم، فمات ولا دين عليه في الظاهر، فأقرع بينهم، وأعتق اثنان، ثم ظهر دين عليه يستغرق جميع قيمتهم.. لم ينفذ العتق. فإن قال الورثة: نحن نقضي الدين ليصح العتق وتمضي القرعة، فقضوا

الدين.. فهل يصح العتق؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. وإن كان الدين يستغرق نصف قيمتهم.. ففيه وجهان: أحدهما: يبطل عتق العبدين اللذين خرجت القرعة عليهما؛ لأنا تبيناً أن الدين كان شريكاً للورثة والعتق, فبطل العتق, كما لو اقتسم شريكان في المال ثم ظهر لهما شريك ثالث. والثاني: أن العتق لا يبطل فيهما إلا في قدر ما يخصهما من الدين؛ لأنه يمكن إمضاء القرعة وإفراز حصة الدين من كل واحد من النصيبين؛ لأن القرعة دخلت لأجل العتق دون الدين, فيقال للورثة: اقضوا ثلثي الدين, وهو قدر نصف قيمة العبيد الأربعة المحكوم برقهم, إما من خاص أموالكم وإلا بيع نصفهم. ويجب رد نصف العتق في العبدين المحكوم بعتقهما لما يخصهما من الدين, فيقرع بينهما, فإن خرجت قرعة الدين على أحدهما وكانت قيمتهما سواء.. بيع في الدين وعتق العبد الآخر. وإن كانت قيمتهما مختلفة, فخرجت قرعة الدين على أكثرهما قيمة.. بيع منه بقدر نصف قيمتهما, وعتق باقيه والعبد الآخر. وإن خرجت قرعة الدين على أقلهما قيمة.. رق وبيع في الدين, ورق من الآخر تمام نصف قيمتهما وبيع ذلك في الدين وعتق باقيه. والله أعلم

باب المدبر

[باب المدبر] التدبير: مأخوذ من الدبر, وهو: أن يعلق عتق عبده بموته. وهو مما يتقرب به إلى الله تعالى؛ لأن المقصود به العتق, فهو كالعتق المنجز. فإذا قال لعبده: أنت حر, أو محرر, أو عتيق, أو معتق بعد موتي.. كان ذلك صريحاً في التدبير لا يفتقر إلى النية؛ لأنه لا يحتمل غير العتق بالموت. وإن قال: دبرتك, أو أنت مدبر ونوى عتقه بموته.. صار مدبراً. وإن أطلق ذلك من غير نية.. فالمنصوص في (التدبير) : (أنه صريح فيه, ويعتق بموت سيده) . وقال في (الكتابة) : (إذا قال لعبده: كاتبتك, أو أنت مكاتب على مائة دينار تؤديها في نجمين.. لم يعتق حتى يقول: فإذا أديتها فأنت حر, أو ينوي ذلك) . فمن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: أن ذلك صريح فيهما؛ لأن قوله: [دبرتك) موضوع التدبير, وقوله: (كاتبتك) موضوع للكتابة في عرف الشرع. والثاني: أن ذلك كناية فيهما, فلا يكونان صريحين إلا بنية أو قرينة؛ لأنه لم يكثر استعمالهما لذلك. ومنهم من حملهما على ظاهر النص فقال: قوله: دبرتك, أو أنت مدبر صريح في التدبير, وقوله: كاتبتك, أو أنت مكاتب كناية في الكتابة. وفرق بينهما بفرقين:

أحدهما: أن التدبير معقول المعنى, وأنه موضوع للعتق بعد الموت, يشترك في معرفة معناه الخاصة والعامة. والكتابة لا يعرفها إلا خواص الناس. والثاني: أن التدبير لا يحتمل إلا العتق بعد الموت, والكتابة تحتمل المخارجة بأن يقول: كاتبتك كل شهر بكذا, فافتقر إلى النية أو القرينة. إذا ثبت هذا: فإن المدبر يعتبر عتقه من ثلث التركة. وروي ذلك عن: علي وابن عمر , وابن المسيب , والزهري, والثوري, ومالك, وأبي حنيفة. وقال ابن مسعود , وسعيد بن جبير, ومسروق, والنخعي وداود: (يعتبر عتقه من رأس المال) . دليلنا: ما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المدبر من الثلث» ولأنه تبرع يلزم بالموت, فكان من الثلث كالوصية.

مسألة تدبير المجنون والصبي والسفيه

فإن دبر عبدا وأوصى بأن يعتق عنه عبد آخر بعد موته وعجز الثلث عنهما ... أقرع بينهما. ومن أصحابنا من قال: فيه قول آخر: أنه يقدم عتق المدبر؛ لأنه أقوى؛ لأنه يتنجز بالموت. والأول أصح؛ لأنهما يستويان في وقت اللزوم. [مسألة تدبير المجنون والصبي والسفيه] ] : ويصح التدبير من كل بالغ عاقل جائز التصرف في ماله، كما قلنا في العتق المنجز. فأما المجنون والصبي الذي ليس بمميز ... فلا يصح تدبيرهما؛ لأنه لا حكم لكلامهما. وهل يصح تدبير الصبي المميز ووصيته؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصح. وهو قول أبي حنيفة واختيار المزني والشيخ أبي إسحاق؛ لأنه لا يصح عتقه، فلم يصح تدبيره، كالمجنون. والثاني: يصح. وهو اختيار القاضي أبي حامد؛ لما روي: (أن قوما سألوا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن غلام - من غسان - يافع لم يبلغ الحلم، وصى لبنت عمه، فأجاز وصيته) . وأما تدبير السفيه: فاختلف أصحابنا فيه:

مسألة التدبير المطلق والمقيد

فمنهم من قال: فيه قولان، كالصبي. قال المحاملي: وهذا أشبه بكلام الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ومنهم من قال: يصح تدبيره قولا واحدا؛ لأن الصبي ليس من أهل العقود، والسفيه من أهل العقود، ولهذا يصح طلاقه ويصح نكاحه بإذن الولي. ولم يذكر في " المهذب " غير هذا. [مسألة التدبير المطلق والمقيد] ] : ويصح التدبير مطلقا ومقيدا بشرط. (فالمطلق) هو: أن يقول: أنت حر بعد موتي، أو إذا أنا مت ... فأنت حر. و (المقيد) : مثل أنا يقول: إن مت من هذا المرض، أو في هذا الشهر، أو في هذه السنة ... فأنت حر. ويجوز تعليق التدبير إلى الشرط في حال الحياة، مثل أن يقول: إذا دخلت الدار ... فأنت حر بعد موتي، فإن دخل الدار قبل موت سيده.. صار مدبرا؛ لأنه علق التدبير بدخول الدار، فإن دخل الدار.. صار مدبرا. فإن لم يدخل الدار حتى مات السيد، ثم دخلها.. لم يعتق؛ لأنه علق التدبير على شرط، فإذا مات السيد قبل وجود الشرط.. بطل الشرط، كما لو وكل وكيلا في بيع سلعة، فمات الموكل قبل البيع.. فإن البيع لا يصح. ويجوز تعليق العتق على شرط بعد الموت، مثل أن يقول: إن دخلت الدار بعد موتي.. فأنت حر. فإذا مات السيد، ثم دخل العبد الدار..عتق؛ لأنه صرح بذلك، فحمل عليه، كما إذا قال لوكيله: إذا مت، فبع هذه السلعة.. فإنه يصير وصيا بذلك، وجاز بيعه بعد موته.

فرع ألفاظ لا يقطع بالعتق فيها

ويعتق العبد هاهنا من الثلث بالصفة لا بالتدبير؛ لأن التدبير هو أن يعلق عتقه بموته وحده، وهاهنا علقه بموته ودخول الدار بعده. فإن دخل العبد الدار في حال حياة السيد ولم يدخلها بعد موته.. لم يعتق؛ لأنه شرط الدخول بعد الموت، ولم يوجد. [فرع ألفاظ لا يقطع بالعتق فيها] : قال في (الأم) : (إذا قال لعبده: أنت حر بعد موتي، أو لست بحر، أو أنت مدبر، أو لست بمدبر، أو أنت حر أو لا.. لم يكن ذلك شيئًا؛ لأنه لم يقطع بالعتق) . وإن قال: لعبده إذا قرأت القرآن ومت.. فأنت حر، فإن قرأ جميع القرآن قبل موت السيد.. عتق بموته. وإن قرأ بعضه.. لم يعتق؛ لأنه علق حريته بقراءة جميع القرآن. وإن قال له: إذا قرأت قرآنًا ومت.. فأنت حر، فقرأ بعض القرآن قبل موت السيد.. عتق بموته. والفرق بينهما: أن في الأولى عرف القرآن بالألف واللام، فاقتضى جميعه، وفي الثانية نكره، فاقتضى بعضه. فإن قيل: فقد قال الله - تعالى -: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] {النحل:98} ولم يرد جميعه وإنما أراد أي شيء قرأ منه؟ قلنا: ظاهر اللفظ يقتضي جميعه، وإنما حملناه على بعضه بدليل. [فرع تعليق العتق على مشيئة العبد] : إذا قال لعبده: إن شئت فأنت حر بعد موتي، أو إذا شئت فأنت حر بعد موتي، أو أنت حر إن شئت بعد موتي، أو أنت حر إن شئت متى مت، أو أنت حر إن شئت إذا

فرع تعليق التدبير بمشيئة العبد بعد موت السيد

مت.. فلا يصير مدبرًا في شيء من هذه المسائل حتى توجد المشيئة من العبد؛ لأنه علق التدبير على مشيئته. فإن وجدت المشيئة من العبد على الفور بحيث تكون جوابًا لكلام سيده.. صار العبد مدبرًا. وإن أخر العبد المشيئة حتى قام من المجلس.. لم يصر مدبرًا. وإن وجدت منه المشيئة بعد أن سكت سكوتًا طويلًا، أو اشتغل بأمر وقبل أن يقوم من مجلسه.. فعلى وجهين، كالوجهين فيمن علق طلاق امرأته بمشيئتها. وإن لم توجد منه المشيئة حتى مات السيد.. بطل التدبير؛ لأن الصفة المطلقة تقتضي وجودها قبل موت السيد. وإن قال: متى شئت، أو أي وقت شئت فأنت حر بعد موتي.. فهذا تعليق تدبير بمشيئة العبد كالأولى، إلا أن هاهنا متى وجدت المشيئة من العبد في حياة السيد على الفور أو على التراخي في المجلس أو بعده.. صار مدبرًا؛ لأن قوله: متى، وأي وقت، يقتضي العموم. وإن مات السيد قبل وجود المشيئة.. بطلت الصفة؛ لأن الصفة المطلقة تبطل بموت السيد. [فرع تعليق التدبير بمشيئة العبد بعد موت السيد] : وإن قال لعبده: إذا مت، فشئت، فأنت حر.. فقد علق عتقه بوجود المشيئة منه بعد موت سيده، فإن مات السيد فشاء العبد عقيب موته.. عتق؛ لأن الفاء توجب الترتيب والتعقيب. وإن لم يشأ العبد بعد الموت إلا بعد قيامه من مجلسه.. لم يعتق. وإن شاء في مجلسه بعد موت السيد وقد اشتغل بعد الموت بسكوت طويل أو أمر غيره.. فهل يعتق؟ على الوجهين في التي قبلها. وإن شاء العبد في حياة السيد لا غير.. لم يتعلق بهذه المشيئة عتق؛ لأن السيد شرط أن تكون المشيئة بعد موته.

وإن قال لعبده: إذا مت فمتى شئت، أو أي وقت شئت فأنت حر، أو قال: إذا مت فأنت حر متى شئت، أو أي وقت شئت.. فهي كالأولى، وأنه لا يعتق إلا إذا شاء بعد موت سيده، إلا أن في هذه يجوز أن تتراخى المشيئة عن الموت، سواء وجدت في المجلس أو بعده؛ لأن قوله: (متى شئت، أو أي وقت شئت) عام في الزمان. فإن اكتسب العبد مالًا في هذه المسألة بعد موت سيده وقبل وجود المشيئة منه، أو كسب مالًا بعد موت سيده في المجلس قبل وجود المشيئة إذا علق العتق بمشيئته بعد الموت بقوله: فشئت، وقلنا: إن المشيئة في المجلس هي مشيئة على الفور.. فلمن يكون ذلك المال الذي اكتسبه إذا وجدت منه المشيئة؟ قال القاضي أبو الطيب: تكون نفقة العبد منه، وما بقي من نفقته فيه قولان، كما لو كسب العبد الموصى به لرجل مالًا بعد موت سيده وقبل قبول الموصى له، فإنه على قولين: أحدهما: يكون الكسب للموصى له. والثاني: يكون لورثة الموصي. وقال ابن الصباغ: يكون الكسب هاهنا لورثة المعتق قولًا واحدًا. والفرق بينهما: أن العبد هاهنا مملوك قبل وجود المشيئة منه.. فكان كسبه للورثة، بخلاف الموصى به، فإن الموصى له إذا قبل الوصية فيه.. تبينًا أنه ملكه بالموت في أحد القولين، فكذلك حكمنا له بملك الكسب في هذا القول. فأما إذا قال لعبده: أنت حر إذا مت إن شئت، أو إذا شئت، أو إذا مت فأنت حر إن شئت، أو إذا شئت.. فقد قال البغداديون من أصحابنا: حكمها حكم ما لو قال: إذا مت فشئت فأنت حر.. فإنه لا يعتق إلا بوجود المشيئة بعد موت السيد. وقال المسعودي في (الإبانة) : يحتمل أن يكون المراد به المشيئة في حياته، ويحتمل بعد الموت، فيرجع إليه، فإن لم يكن له نية.. فلا بد من المشيئة مرة في المجلس في حياة السيد ومرة بعد الموت، فإن شاء مرة واحدة.. قال: فالمشهور: أنه لا يعتق. وقيل: يحمل على المشيئة بعد الموت؛ لأنه الظاهر.

مسألة علق عتقه ثم دبره أو العكس

ويعتق العبد في جميع ذلك من الثلث؛ لأنه علق عتقه على موته، وأضاف إليه المشيئة، فهو كما لو علق عتقه على الموت وحده. [مسألة علق عتقه ثم دبره أو العكس] : إذا قال لعبده: إذا دخلت الدار فأنت حر، ثم دبره، أو دبره ثم قال له: إذا دخلت الدار فأنت حر.. صح، فإن دخل الدار قبل موت سيده.. عتق بالصفة. وإن مات السيد قبل أن يدخل الدار.. عتق بالتدبير؛ لأن كل واحد منهما صفة للعتق، فتعلق العتق بالسابق منهما. وإن كاتب عبده ثم دبره.. صح ذلك فإن أدى قبل موت سيده.. عتق بالكتابة. وإن مات السيد قبل الأداء، فإن خرج من الثلث.. عتق بالتدبير وبطلت الكتابة، وإن لم يخرج من الثلث.. عتق منه ما احتمله، وبقي الباقي منه مكاتبًا بحصته من المال؛ لأن كل واحد منهما سبب للعتق، فتعلق العتق بالسابق منهما، كما لو قال له: إن دخلت الدار.. فأنت حر، ثم قال له: إن كلمت زيدًا.. فأنت حر. وإن كانت جارية فاستولدها، ثم دبرها.. لم يفد التدبير شيئًا؛ لأنها تعتق بموته من رأس المال، ويعتق المدبر من الثلث، فكان الاستيلاد أقوى. [مسألة دبر أحد الشريكين نصيبه] : وإن كان بين اثنين عبد فدبر أحدهما نصيبه منه وهو موسر.. صار نصيبه مدبرًا. وهل يسري إلى نصيب شريكه؟ فيه قولان: أحدهما: يسري إلى نصيب شريكه، ويلزمه دفع قيمة نصيب شريكه، ويصير الجميع مدبرًا، يعتق بموته. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه استحق العتق بموت سيده، فسرى إلى نصيب شريكه، كما لو استولد جارية بينه وبين شريكه. والثاني: أنه لا يقوم عليه نصيب شريكه، ولا يسري إليه التدبير. وهو اختيار

فرع تدبير بعض العبد

المزني وابن الصباغ، وهو المشهور من المذهب؛ لأن التدبير لا يقطع التصرف في رقبته بالبيع فلم يسر إلى نصيب الشريك، كما لو علق عتق عبد مشترك بينه وبين غيره على صفة. ويخالف الاستيلاد فإنه يمنع من البيع. فعلى هذا: يصير نصفه مدبرًا ونصفه قنا. فإن مات السيد الذي دبر نصيبه.. عتق نصيبه، ولا يقوم عليه نصيب شريكه؛ لأنه لا مال له حال العتق. فإن أعتق الذي لم يدبر نصيبه قبل موت السيد الذي دبر نصيبه.. فهل يقوم نصيب المدبر على المعتق إن كان موسرًا؟ الحكم فيه حكم ما لو كان عبد بين شريكين فدبراه، فأعتق أحدهما نصيبه قبل موت شريكه.. فهل يقوم عليه نصيب شريكه إذا كان موسرًا؟ فيه قولان: أحدهما: يقوم عليه؛ لأن المدبر كالقن في التصرف فيه بالبيع والهبة، فكان كالقن في العتق والسراية. والثاني: لا يقوم عليه. وهو قول أبي حنيفة. قال المحاملي: وهو الأصح؛ لأن الشريك قد استحق الولاء على نصيبه بموته، فلم يجز إبطال ذلك عليه بالتقويم. فعلى هذا: لو رجع الشريك في تدبير نصيبه.. فالذي يقتضي المذهب: أنه يقوم على المعتق ويسري عتقه إلى جميعه؛ لأن المنع من التقويم إنما كان لما استحقه السيد من الولاء، وقد بطل ذلك برجوعه. [فرع تدبير بعض العبد] : وإن كان لرجل عبد فدبر بعضه.. صح ذلك كما يصح عتقه في بعض عبده، وهل يسري التدبير إلى جميعه؟ المنصوص للشافعي: (أنه لا يسري التدبير إلى باقيه) ؛ لأن التدبير ليس بإتلاف ولا سبب يوجب الإتلاف؛ لأنه يجوز بيعه، فلم يقتض السراية.

فرع دبرا عبدهما معا

قال المحاملي: ويجيء فيه قول آخر: أن التدبير يسري إلى باقيه، مأخوذ من القول المحكي: إذا دبر أحد الشريكين نصيبه.. سرى إلى نصيب شريكه وقوم عليه إذا كان موسرًا. [فرع دبرا عبدهما معًا] : وإن كان عبد بين اثنين، فقال كل واحد منهما: إذا متنا فأنت حر.. فقد علق كل واحد منهما عتق نصيبه بموته وموت شريكه، فلا يصير العبد مدبرًا في الحال؛ لأن المدبر هو العبد الذي علق سيده عتقه بموته وحده، وهاهنا قد علق عتقه بموته وموت شريكه، فكان عتقًا معلقًا بصفة. فإن ماتا معًا.. عتق نصيب كل واحد منهما من ثلث تركته بالصفة لا بالتدبير. وإن مات أحدهما قبل الآخر.. لم يعتق نصيب الميت أولًا قبل موت شريكه، وأما نصيب الثاني.. فإنه يصير مدبرًا؛ لأن عتق نصيبه الآن متعلق بموته وحده. وهل لورثة الأول أن يتصرفوا في نصيبهم قبل موت الثاني بما يزيل الملك، كالبيع والهبة؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) : {أحدهما} : قال صاحب (التقريب) : لهم ذلك، كما لو علق عتق عبده على صفتين فوجدت إحداهما، فله أن يزيل ملكه عنه قبل وجود الأخرى. و {الثاني} : قال غيره من أصحابنا: ليس لهم ذلك، وهو الأصح، كما لو قال لعبده: إذا مت فدخلت الدار.. فأنت حر، فأراد العبد دخول الدار، لم يكن للوارث منعه من الدخول، ولا بيعه، وكما لو قال: إذا مت ومضى يوم.. فأنت حر، فليس لهم بيعه قبل مضي اليوم، ولهم استخدامه قبل موت الثاني. فإن كسب مالًا بعد موت الأول وقبل موت الثاني. ثم مات الثاني.. فلمن يكون ما يخص نصيب الأول من ذلك الكسب؟ فيه وجهان:

مسألة جواز بيع المدبر

أحدهما: أنه لورثة الأول لا يقضى منه دينه، ولا تنفذ منه وصاياه. والثاني: أنه من جملة تركة الأول، يقضى منه دينه وتنفذ منه وصاياه، بناء على الوجهين في جواز تصرف الورثة في رقبته. فأما إذا قال كل واحد من الشريكين: أنت حبيس على آخرنا موتًا، فإذا مات عتقت.. فإنه لا يعتق نصيب أحدهما إلا بموته وموت شريكه كالأولى، إلا أن هاهنا إذا مات أحدهما.. كانت منفعة نصيبه موصى بها لشريكه إلى أن يموت الآخر منهما، فإذا مات.. عتق عليهما من ثلث تركتهما. [مسألة جواز بيع المدبر] : ويجوز للمولى بيع المدبر وهبته ووقفه، سواء كان التدبير مطلقًا أو مقيدًا. وروي ذلك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وعمر بن عبد العزيز، وطاووس، ومجاهد، وهي إحدى الروايتين عن أحمد. والأخرى عنه: (يجوز بيعه لأجل الدين) . وقال أبو حنيفة: (إن كان التدبير مقيدًا، بأن قال: إذا مت في هذا الشهر أو من هذا المرض فأنت حر.. جاز بيعه وهبته. وإن كان مطلقًا؛ بأن يقول: إذا مت فأنت حر.. لم يجز بيعه ولا هبته) . وقال مالك: (لا يجوز بيعه ولا هبته بحال) . دليلنا: ما روى جابر: «أن رجلًا - يقال له: أبو مذكور - كان له عبد قبطي- يقال

فرع للسيد اكتساب المدبر واستخدامه

له: يعقوب - فأعتقه عن دبر منه، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: من يشتريه مني؟ فاشتراه منه نعيم بن النحام بسبعمائة أو بتسعمائة، قال جابر: مات وهو عبد في أول عام من إمارة ابن الزبير» . ولأن عتق نصفه ثبت بقول السيد وحده، فلم يكن لازمًا، كما لو قال له: إن دخلت الدار.. فأنت حر، أو كما لو كان مقيدًا. [فرع للسيد اكتساب المدبر واستخدامه] : ويملك السيد اكتسابه واستخدامه. وإن كانت جارية.. ملك وطأها؛ لما روي: (أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دبر أمتين له، وكان يطؤهما بعد التدبير) . ولأن المدبر كالقن في البيع، فكان كالقن فيما ذكرناه. وإن جني على المدبر، فإن كانت على الطرف.. فللسيد استيفاء القصاص فيها والأرش، ويكون المدبر باقيًا على تدبيره. وإن جنى على نفسه عمدًا.. فللسيد استيفاء القصاص فيها، وإن كانت خطأ أو عمدًا لا قصاص فيها.. فللسيد أخذ الأرش فيها، وإذا أخذه.. ملكه. فإن قيل: فهلا قلتم: تكون قيمته قائمة مقامه كقيمة الرهن؟ قلنا: الفرق بينهما: أن القيمة لا تكون مدبرة، ويمكن أن تكون القيمة رهنًا.

فرع جناية المدبر

فإن قيل: هلا أخذتم بالقيمة عبدًا مدبرًا، كما جعلتم قيمة المرهون رهنًا؟ قلنا: الفرق بينهما: أن العبد المأخوذ بقيمته لا يكون بدله، وإنما يكون بدل قيمته، ولأن الرهن لازم، فتعلق ببدله، والتدبير ليس بلازم؛ لأنه يجوز إبطاله بالبيع. [فرع جناية المدبر] : وإن جنى المدبر على غيره، فإن كانت الجناية عمدًا، فاختار المجني عليه القصاص، فاقتص، فإن كان في النفس.. بطل التدبير، وإن كان في الطرف.. كان باقيًا على تدبيره. وإن كانت الجناية خطأ أو عمدًا فعفى المجني عليه على مال.. تعلق الأرش برقبة المدبر كالعبد القن. وإن اختار السيد أن يفديه.. فبكم يلزمه أن يفديه؟ فيه قولان: أحدهما: بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية. والثاني: بأرش الجناية بالغًا ما بلغ، كالقولين في العبد القن. فإن فداه.. سقط حكم الجناية وكان باقيًا على التدبير. وإن اختار أن يسلمه للبيع، فإن كان الأرش يستغرق قيمته.. بيع جميعه في الأرش. وإن كان الأرش لا يستغرق قيمته.. بيع منه بقدر أرش الجناية إن أمكن بيع ذلك، وكان الباقي على التدبير، إلا أن يختار السيد بيع جميعه، فيباع؛ لأن للسيد بيع المدبر بكل حال. فإن مات السيد قبل أن يفديه وقبل بيعه.. فهل يعتق؟ إن قلنا: لا يصح عتق العبد الجاني.. لم يعتق، وكان الورثة بالخيار بين أن يفدوه أو يسلموه للبيع. وإن قلنا: يصح عتق العبد الجاني.. عتق بالتدبير وأخذت القيمة من أصل التركة؛ لأنه عتق بسبب من جهته، فتعلق الأرش بتركته. ولا يجب في التركة إلا أقل الأمرين من القيمة أو الأرش قولًا واحدًا؛ لأنه لا يمكن بيعه.

مسألة دبر أمته فأتت بولد

[مسألة دبر أمته فأتت بولد] وإذا دبر أمته فأتت بولد من زواج أو زنًا لستة أشهر، فما زاد من وقت التدبير.. فإنه يحكم بأن الولد حدث بعد التدبير، وهل يتبع أمه في التدبير؟ فيه قولان: أحدهما: يتبعها في التدبير. وبه قال عمر، وابن عمر، وابن مسعود، وأبو حنيفة، ومالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأنها أمة تعتق بموت سيدها، فتبعها ولدها في حكمها، كولد أم الولد. والثاني: لا يتبعها. وبه قال جابر بن زيد أبو الشعثاء. قال المحاملي: وهو الأصح؛ لأن التدبير عقد يلحقه الفسخ، فلم يسر إلى الولد، كالرهن والوصية. واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: إنما بناهما الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على القولين في التدبير. فإن قلنا: إنه وصية.. لم يتبعها ولدها، كما لو وصى بأمة ثم أتت بولد، فإنه لا يتبعها. وإن قلنا: إنه عتق بصفة.. تبعها ولدها. ومنهم من قال: القولان إنما هما على القول الذي يقول: التدبير عتق بصفة، فأما إذا قلنا: إنه وصية.. فلا يتبعها قولًا واحدًا.

فرع دبر الأمة وهي حامل

ومنهم من قال: إن القولين في الحالين، وهو الأصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قد نص على أنه: (إذا علق عتق أمة على صفة، ثم أتت بولد من نكاح أو زنًا.. فهل يتبعها؟ فيه قولان) . فلو كان ولد المدبرة إنما يتبعها إذا قلنا: إن التدبير عتق بصفة.. لكان يتبعها هاهنا قولًا واحدًا. فإن قلنا: إن الولد لا يتبع الأم في التدبير.. كان مملوكًا للسيد يتصرف فيه كيف شاء. وإن قلنا: إنه يتبعها، فإن ماتت الأم في حياة المولى، أو رجع في تدبيرها.. لم يبطل التدبير في ولدها؛ لأنهما مدبران، فلا يبطل تدبير أحدهما ببطلان تدبير الآخر. [فرع دبر الأمة وهي حامل] ] وإن دبر الأم وهي حامل، فإن أتت بالولد لدون ستة أشهر من وقت التدبير.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أكثرهم: يتبعها في التدبير قولًا واحدًا؛ لأنه يجري مجرى أعضائها. ومنهم من قال: إن قلنا: إن الحمل له حكم.. تبعها في التدبير قولًا واحدا ً. وإن قلنا: لا حكم له.. فهو كما لو حدث بعد التدبير، وهل يتبعها؟ على قولين. وهذه على طريقة المسعودي [في الإبانة] ، واختيار المحاملي. ولو دبر جارية فمات المولى وهي حامل.. عتقت وتبعها ولدها في العتق قولًا واحدًا، سواء كان موجودًا وقت التدبير أو حدث بعده، كما لو أعتق جارية حاملًا. [فرع وطء المدبر الجارية الموهوب له] ] : وإن دبر عبده، ثم وهب له جارية، فأذن له في وطئها، فوطئها فأتت منه بولد.. فإنه لا حد على العبد ويلحقه نسب الولد للشبهة. فإن قلنا بالقول الجديد، وأن العبد لا يملك إذا ملكه سيده.. فالولد باق على ملك السيد.

مسألة جواز رجوع السيد بالتدبير

وإن قلنا بالقول القديم، وأن العبد يملك إذا ملكه سيده.. فالولد ابن العبد ومملوكه، ولا يعتق عليه؛ لأن ملكه غير تام عليه. وهل يتبعه في التدبير؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يتبعه؛ لأن الولد إنما يتبع أمه في الرق والحرية دون أبيه. والثاني: يتبعه الولد في التدبير؛ لأن وطأه صادف ملكه، فتبعه ولده في حكمه، كالحر إذا وطئ أمة له. [مسألة جواز رجوع السيد بالتدبير] ) : التدبير غير لازم قبل موت السيد، فيجوز للسيد الرجوع فيه بما يزيل الملك، كالبيع والهبة والوقف، لحديث جابر في بيع المدبر. وإذا ثبت الخبر في البيع.. قسنا عليه كل تصرف يزيل الملك. وهل يصح الرجوع فيه بقوله: نقضت التدبير، وأبطلته، ورجعت فيه، وفسخته؟ فيه قولان: (أحدهما) : قال في القديم وبعض كتبه الجديدة: (هو كالوصية فيصح الرجوع فيه بما يزيل الملك وبالفسخ) . وهو اختيار المزني؛ لأنه جعل للعبد نفسه، فهو كالوصية. (والثاني) : قال في أكثر كتبه الجديدة: (هو كالعتق المعلق على الصفة، فلا يصح الرجوع فيه إلا بتصرف يزيل الملك) وهو الأصح؛ لأنه عتق معلق بصفة، فهو كما لو قال لعبده: إذا دخلت الدار فأنت حر. وإن دبر عبده ثم وهبه لغيره ولم يقبضه.. فالمنصوص: (أنه رجوع) . فمن أصحابنا من قال: هذا على القول الذي يقول: إنه وصية، فأما إذا قلنا: إنه عتق بصفة.. فلا يكون رجوعًا؛ لأن ملكه لم يزل عنه بذلك.

فرع تدبير الحمل دون الجارية

ومنهم من قال: هو رجوع على القولين؛ لأن الهبة سبب لإزالة الملك. وإن دبر عبده، ثم كاتبه، فإن قلنا: إن التدبير وصية.. كانت الكتابة رجوعًا فيه. وإن قلنا: إنه عتق بصفة.. لم يكن رجوعًا، وكان كما لو كاتبه، ثم دبره. وإن دبر عبده، ثم قال له: إن أديت إلى وارثي ألفا فأنت حر.. فالمنصوص: (أنه رجوع في التدبير) . فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: إنما ذلك إذا قلنا: إن التدبير وصية؛ لأنه عدل عن العتق بالتدبير إلى العتق بالمال، فكان رجوعًا فيه.. فأما إذا قلنا: إنه عتق بصفة.. فليس برجوع، بل إن خرج من الثلث.. عتق بالتدبير وبطل العتق بالمال. ومنهم من قال: بل هو رجوع على القولين؛ لأن ذلك معاوضة مع العبد، فجرى مجرى البيع. وإن دبر جارية ثم استولدها.. بطل التدبير؛ لأن العتق بالاستيلاد أقوى. وإن دبر عبدًا ثم رجع في تدبير بعضه.. صح الرجوع فيما رجع فيه، كما يصح التدبير في بعضه، ولا يسري الرجوع إلى باقيه؛ لأن ذلك لا سراية له. [فرع تدبير الحمل دون الجارية] ) : ويجوز تدبير حمل الجارية دون الجارية كما يجوز عتقه، ولا يسري ذلك إلى الجارية، كما لا يسري عتق الحمل إلى الأم. فإذا أراد الرجوع في تدبير الحمل، فإن قلنا: يصح الرجوع فيه بلفظ الفسخ والإبطال وما أشبه.. رجع في تدبيره بذلك. وإن قلنا: لا يصح الرجوع في التدبير إلا بتصرف يزيل الملك كالبيع والهبة.. فلا يمكن ذلك في الحمل وحده. فإن باع الأم: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم " (7/358) : (فإن قصد بالبيع الرجوع في تدبير الحمل.. صح البيع. وإن لم يقصد الرجوع في تدبير الحمل.. لم يصح البيع) .

فرع يتبع الولد الحادث الأم في التدبير

واختلف أصحابنا في ذلك: فقال المسعودي (في " الإبانة ") وبعض أصحابنا البغداديين: إن نوى بالبيع الرجوع في تدبير الحمل، صح البيع في الأم والحمل. وإن لم ينو بالبيع الرجوع في تدبير الحمل.. لم يصح البيع فيهما، كما لو باع الجارية واستثنى حملها. وذهب الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا إلى: أنه يصح البيع فيهما، ويكون رجوعًا في تدبير الحمل سواء نوى الرجوع أو لم ينو؛ لأن البيع لا يفتقر إلى النية؛ ألا ترى أنه لو دبر عبدًا فباعه.. صح البيع، وكان رجوعًا في التدبير وإن لم ينو الرجوع. وتأولوا قوله: (إن قصد بالبيع الرجوع في تدبير الحمل.. صح البيع) أراد: إذا باع الجارية مطلقًا ولم يستثن الحمل.. فإن البيع يصح فيهما. وقوله: (وإن لم يقصد الرجوع في تدبير الحمل.. لم يصح البيع) أراد: إذا باع الجارية واستثنى حملها.. لم يصح البيع فيهما، كما لا يصح استثناء بعض أعضائها. [فرع يتبع الولد الحادث الأم في التدبير] ) : إذا قلنا: إن الولد الحادث بعد التدبير، يتبع الجارية في التدبير فولدت أولادًا بعد التدبير.. تبعها الجميع في التدبير. فإن قال السيد قبل الولادة: كلما ولدت ولدًا فقد رجعت في تدبيره.. لم يصح هذا الرجوع؛ لأن الرجوع إنما يصح فيمن ثبت له حكم التدبير، وقبل أن تلد ما ثبت للولد حكم التدبير، فلم يصح الرجوع فيه، كما لو قال لعبده: إن دبرتك فقد رجعت في تدبيرك.. فلا يصح هذا الرجوع. [فرع تدبير الصبي] والسفيه والسفيه) : وإن دبر الصبي أو السفيه، وقلنا: يصح تدبيرهما، فإن قلنا: يصح هذا الرجوع بلفظ الفسخ.. صح رجوعهما بالفسخ. وإن قلنا: لا يصح الرجوع إلا بتصرف يزيل الملك.. فلا يصح ذلك منهما؛ لأنه لا يصح بيعهما.

مسألة الردة لا تبطل

وإن باع وليهما العبد.. كان ذلك رجوعًا في تدبيرهما. وإن دبر عبده، ثم خرس السيد، فأشار إلى الرجوع أو كتب ذلك، فإن قلنا: يصح الرجوع بالقول.. صح الرجوع، وإن قلنا: لا يصح الرجوع إلا بتصرف يزيل الملك.. لم يصح رجوعه بذلك، ولا ينصب له ولي؛ لأنه رشيد. فإن أشار إلى البيع وفهم ذلك منه.. صح بيعه وكان ذلك رجوعًا في التدبير. [مسألة الردة لا تبطل] التدبير التدبير) وإن دبر عبده، ثم ارتد السيد.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أن التدبير لا يبطل) واختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق المروزي: لا يبطل التدبير قولًا واحدًا؛ لأن الردة إنما تؤثر في العقود المستقبلية دون الماضية. ومنهم من قال: هذه المسألة مبينة على الأقوال في ملك المرتد، فإن قلنا: إن ملكه قد زال بالردة.. بطل التدبير. وإن قلنا: إن ملكه موقوف.. كان تدبيره موقوفًا. وإن قلنا: إن ملكه باق. لم يبطل التدبير، وحمل نص الشافعي هاهنا على القول الذي يقول: إن ملكه باق لم يبطل التدبير. وإلى هذا أومأ صاحب " المهذب ". ومنهم من قال: يبطل التدبير قولًا واحدًا؛ لأن المدبر يعتق من ثلث التركة، فلا يعتق حتى يحصل للورثة مثلاه. قال ابن الصباغ: والأول أصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (إذا دبر المرتد عبده.. فهل يصح تدبيره؟ فيه ثلاثة أقوال بناء على الأقوال في ملكه فإن قلنا: إن ملكه لا يزول بالردة.. صح تدبيره. وإن قلنا: إن ملكه يزول بالردة.. لم يصح

فرع ردة العبد لا تبطل التدبير

تدبيره. وإن قلنا: إن ملكه موقوف.. كان تدبيره موقوفًا) . وقول من قال: لا يصح حتى يحصل للورثة مثلاه.. غير صحيح؛ لأن ماله للمسلمين، وقد حصل لهم مثلاه. [فرع ردة العبد لا تبطل التدبير] ] : وإن دبر المسلم عبده فارتد العبد.. لم يبطل التدبير؛ لأن الملك باق عليه لا يبطل بالردة. فإن كان العبد ذميًا فلحق العبد بدار الحرب فأسر.. وجب رده إلى سيده؛ لأن ملكه باق عليه. وإن أسر بعد أن مات سيده.. لم يجز استرقاقه؛ لأنه قد ثبت عليه لمولاه الولاء، فلا يجوز إبطال ذلك عليه. [مسألة تدبير الكافر] ] : وإن دبر الكافر عبده الكافر.. صح تدبيره، سواء كان يهوديًا، أو نصرانيًا، أو مجوسيًا، أو وثنيًا. ولا فرق بين أن يكون ذميًا أو حربيًا، كما يصح عتقه. فإن دخل الحربي دار الإسلام بأمان ومعه عبد مدبر، ثم أراد الرجوع به إلى دار الحرب.. لم يمنع منه؛ لأن ملكه باق عليه، فإن رجع في تدبيره.. فحكمه حكم المسلم إذا رجع في تدبيره على ما مضى. وإن أسلم العبد قبل رجوع السيد، فإن رجع السيد في التدبير بالفسخ، وقلنا: يصح الرجوع به.. رجع المدبر قنا له، وأمر بإزالة ملكه عنه؛ لأن الكافر لا يقر على ملك المسلم. وإن لم يرجع، أو رجع وقلنا: لا يصح.. ففيه قولان. أحدهما: يباع عليه العبد. وهو اختيار المزني؛ لأن الكافر لا يقر على ملك المسلم، فبيع عليه كغير المدبر. والثاني: لا يباع عليه. وهو قول أبي حنيفة.

مسألة يرد جحود التدبير بعدلين

قال المحاملي وهو الأشبه؛ لأنه إنما يباع لطلب الحظ للعبد لأن لا يجري عليه صغار في ملك الكافر، وهاهنا الحظ له أن لا يباع؛ لأنه قد ثبت له سبب العتق، فلا يجوز إبطال ذلك عليه بالبيع. فعلى هذا: لا يترك في يد سيده؛ لأن في ذلك صغارًا على المسلم، بل يكون السيد بالخيار: بين أن يخارجه على شيء، وبين أن يتركه على يد مسلم ثقة، وينفق عليه من كسبه إن كان له كسب، ويكون الباقي من الكسب للسيد. وإن لم يكن له كسب.. أنفق عليه من ماله. فإن مات السيد وخرج من الثلث.. عتق عليه. وإن لم يخرج من الثلث.. بيع ما رق منه على الورثة قولًا واحدًا؛ لأنه لم تبق له حرية منتظرة، فوجب بيعه. [مسألة يرد جحود التدبير بعدلين] ] : قال الشافعي: (ولا يجوز على التدبير إذا جحد السيد إلا عدلان) . وجملة ذلك: أن العبد إذا ادعى على سيده أنه دبره وأنكر السيد، فإن قلنا: إن التدبير عتق بصفة.. سمعت دعوى العبد؛ لأن السيد لا يملك إبطال الصفة بالرجوع. فإن كان مع العبد بينة.. ثبت التدبير، ولا يقبل فيه إلا شاهدان ذكران؛ لأنه شهادة على ما ليس بمال، ويطلع عليه الرجال. وإن لم يكن مع العبد بينة.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التدبير، فيحلف على القطع أنه ما دبره؛ لأنه يحلف على فعل نفسه، فإن نكل عن اليمين.. ردت اليمين على العبد، فيحلف لقد دبره، ويثبت التدبير. فإن ادعى السيد أنه قد باعه ثم اشتراه، وأقام على ذلك بينة.. قبل، ويقبل فيه شاهد وامرأتان؛ لأنه دعوى ملك. وإن قلنا: إن التدبير وصية.. فهل تسمع دعوى العبد؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا تسمع دعواه؛ لأن السيد يملك الرجوع فيه بالقول، فكان إنكاره رجوعًا. و [الثاني] : منهم من قال: تسمع دعواه، وهو ظاهر النص هاهنا؛ لأن الشافعي

فرع دبر أمة ومات ولها ولد فاختلفوا

- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال في (الدعاوى والبينات) : (لو ادعى العبد على السيد التدبير، وأنكر السيد.. قلنا للسيد: لا تحتاج إلى اليمين، بل قل: قد رجعت في التدبير) فدل على أن الجحود ليس برجوع، ولأن الرجوع أن يقول: قد رجعت. فأما قوله: ما دبرتك.. فليس ذلك برجوع. ولأن المرأة لو ادعت على الرجل النكاح فأنكر.. لم يكن إنكاره طلاقًا، فكذلك هاهنا لا يكون إنكاره رجوعًا. فعلى هذا: الحكم فيه حكم التدبير إذا قلنا: إنه عتق بصفة في سماع دعواه. وإن مات السيد، وادعى العبد على الورثة أن السيد كان دبره، وأنكر الورثة.. سمعت دعوى العبد على القولين؛ لأنه لا يصح رجوعهم في التدبير. فإن كان مع العبد شاهدان ذكران على التدبير.. عتق من الثلث. وإن لم يكن معه شاهدان.. حلف الورثة أنهم لا يعلمون أن مورثهم دبره؛ لأنهم يحلفون على نفي فعل غيرهم. فإن ادعى الورثة أن مورثهم رجع في التدبير، وأقاموا على ذلك شاهدين ذكرين.. حكم بصحة الرجوع. وإن أقاموا على الرجوع شاهدًا وامرأتين.. فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ". أحدهما: يقبل منهم ذلك؛ لأن القصد من ذلك إثبات المال، فقبل منهم، كما لو أقام ذلك مورثهم. والثاني: لا يقبل منهم؛ لأنهم ينفون حرية حاصلة بموت السيد. [فرع دبر أمة ومات ولها ولد فاختلفوا] ] : وإن دبر أمة ومات، ومع الجارية ولد، فاختلفت هي والورثة، فقالت: ولدته بعد التدبير، فيتبعني في التدبير - وقلنا: إن ولدها يتبعها - وقال الورثة: بل ولدته قبل التدبير.. فالقول قول الورثة مع أيمانهم؛ لأن الأصل في الولد الرق. وإن مات السيد وفي يدها مال، فقالت: كسبته بعد موت السيد فهو لي، وقال الورثة: بل كسبته قبل موته فهو لنا، ولا بينة.. فالقول قول المدبرة مع يمينها؛ لأن الأصل عدم ملك الورثة على المال.

مسألة تعليق العتق على صفة كالتدبير

فإن أقام الورثة بينة على المال أنها كسبته قبل موت السيد، وأقامت الجارية بينة أنها كسبته بعد موته.. قدمت بينة الجارية؛ لأن يدها عليه. وإن أقام الورثة البينة أن المال كان في يدها في حياة السيد، فقالت الجارية: لم يكن لي وإنما أفدته بعد موت السيد.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن البينة إنما شهدت لها باليد وقد يكون في يدها لغيرها. [مسألة تعليق العتق على صفة كالتدبير] ] : ويجوز تعليق العتق على صفة، مثل أن يقول: إن دخلت الدار فأنت حر، أو إن كلمت فلانًا فأنت حر؛ لأنه تعليق عتق على صفة، فهو كالتدبير. فإن علق العتق على صفة في مرض موته فوجدت الصفة قبل موته أو قال في صحته: أنت حر في مرض موتي.. عتق من الثلث؛ لأنه قصد إلى الإضرار بالورثة، فكان من الثلث كالمدبر. وإن علق العتق على صفة في الصحة فوجدت الصفة في الصحة.. عتق من رأس المال؛ لأنه لم يقصد الإضرار بالورثة. وإن علق العتق على صفة في الصحة يجوز أن توجد في الصحة، ويجوز أن توجد في المرض، فوجدت في مرض الموت.. فنقل البغداديون من أصحابنا أنه يعتق من رأس المال؛ لأنه لم يقصد إلى إعتاقه في مرض الموت، فلم توجد منه تهمة في حق الورثة. ونقل المسعودي [في " الإبانة "] في ذلك قولين: أحدهما: هذا. والثاني: أنه يعتق من ثلث التركة. وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وليس بمشهور. وإن قال لعبده: أنت حر في آخر جزء من أجزاء صحتي المتصل بمرض موتي..

فرع علق عتقها على صفة ثم حملت وولدت

فقد قال بعض أصحابنا المتأخرين: إنه يعتق من رأس المال؛ لأن العتق تقدم على مرض الموت. والذي يقتضي المذهب عندي: أنه يعتق من ثلث التركة؛ لأن هذه صفة لا توجد إلا بمرض الموت، فهو كما لو قال: إذا مرضت فأنت حر. [فرع علق عتقها على صفة ثم حملت وولدت] ] : وإن علق عتق أمة على صفة، مثل أن يقول: إن دخلت الدار فأنت حرة، ثم حملت بولد وولدته قبل وجود الصفة.. فهل يتبعها الولد إذا وجدت الصفة في العتق؟ فيه قولان، كما قلنا في المدبرة. ولسنا نريد: أنه تنعقد للولد تلك الصفة حتى إذا دخل الدار عتق، وإنما نريد به: أنه يتبعها في حكم الصفة، وهو أن الأم إذا دخلت الدار.. عتقت وعتق الولد معها. فإن مات السيد أو ماتت قبل وجود الصفة.. بطلت الصفة في الأم، وبطل حكمها في الولد؛ لأن الصفة إذا بطلت.. بطل حكمها، بخلاف ولد المدبرة، فإن الأمة إذا ماتت في حياة السيد.. لم يبطل ذلك في الولد؛ لأنه يتبعها في التدبير. [فرع علق العتق إلى ما بعد موته بعشرة سنين] ] : فإن قال لأمته: أنت حرة بعد موتي بعشر سنين، فأتت بولد بعد موت السيد وقبل انقضاء العشر.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يتبعها الولد) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان كالذي يأتي به بعد عقد الصفة وقبل موت السيد. ومنهم من قال: يتبعها هاهنا قولا واحدًا؛ لأن سبب عتقها قبل موت السيد غير مستقر؛ لأن للسيد إبطاله بإزالة ملكه عنها، وبعد موت السيد سبب عتقها مستقر؛ لأنه لا سبيل لأحد إلى إبطاله، فهي بمنزلة أم الولد، فيتبعها ولدها قولًا واحدًا. قال المحاملي: ويجيء على قول هذا القائل أن الولد هاهنا يعتق من رأس المال، كما يعتق ولد أم الولد من رأس المال.

فرع تعليق العتق يمنع الفسخ

[فرع تعليق العتق يمنع الفسخ] ] : إذا علق عتق عبده على صفة.. لم يملك فسخه بالقول؛ لأن ذلك ليس بوصية فلا يملك رفعه بالفسخ. فإن باعه أو وهبه.. صح؛ لأنه ملكه. فإن رجع إليه ملكه.. فهل يعود حكم الصفة؟ فيه قولان بناء على القولين فيمن علق طلاق امرأته على صفة، فبانت منه، ثم تزوجها. وإن دبر عبده فباعه، ثم رجع إليه، فإن قلنا: إن التدبير وصية.. لم يعد التدبير، وإن قلنا: إنه عتق بصفة.. فهل تعود الصفة؟ على القولين. [فرع دبر عبدين يزيدان عن الثلث فيقرع بينهما] ] : وإن قال لعبدين له أنتما حران بعد موتي ولم يحتمل الثلث إلا أحدهما.. أقرع بينهما. وإن دبر أحدهما بعد الآخر.. ففيه وجهان، حكاهما ابن اللبان: أحدهما: يقرع بينهما؛ لأن عتقهما وقع في حالة واحدة. والثاني: يقسم الثلث بينهما؛ لأنه علم أنه أراد أن يوقع لكل واحد منهما حرية لا محالة. ولو قال لجارية له في صحته لا مال له غيرها: هذه أم ولدي أو مدبرتي أو حرة، ومات قبل أن يبين.. عقت ثلثها؛ لأنه اليقين. وإن قال لعبدين له: أنتما حران أو مدبران، ثم مات قبل أن يبين.. كانا مدبرين. وبالله التوفيق

كتاب المكاتب

[كتاب المكاتب]

كتاب المكاتب الكتابة هي: العتق على مال يؤديه المكاتب في نجمين أو نجوم. قال ابن الصباغ: وأصلها مشتق من الكَتْبِ، و (الكَتْبُ) هو: الضم والجمع، يقال: كتبت القربة: إذا ضممت رأسها. وسميت الكتيبة بذلك لانضمام بعض الجيش إلى بعض. وسمي الخط كتابة؛ لضم بعض الحروف إلى بعض. وسمي هذا العقد كتابة؛ لضم بعض النجوم إلى بعض. و (النجوم) هي: الأوقات التي يحل بها مال الكتابة. وإنما سميت نجوما؛ لأن العرب كانت لا تعرف الحساب، وإنما تعرف الأوقات بطلوع النجوم، فسميت الأوقات نجومًا. والأصل في جواز الكتابة: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] (النور: 33) . ومن السنة ما روى سهل بن حنيف: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعان غارمًا أو

غازيًا أو مكاتبًا في كتابته.. أظله الله يوم لا ظل إلا ظله» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم من الكتابة» . وروت أم سلمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان عنده ما يؤدي.. فلتحتجب عنه» . قال الشافعي - رحمة الله -: (إنما أمرهن بالاحتجاب عنه قبل الأداء تعظيمًا لشأنهن، كما أمرهن الله أن يحتجبن ممن جعلهن أمهات لهم وحرمهن عليهم، وهم جماعة المسلمين. ويحتمل أن يكون أمرهن بذلك لقرب عتقهم بالأداء، كما استحب الاحتجاب من المراهق لقرب بلوغه) . وأجمعت الأمة على جواز الكتابة.

مسألة يشترط في المكاتب الاكتساب والأمانة

إذا ثبت هذا: فإن الكتابة لا تصح إلا من جائز التصرف في المال. فإن كاتب صبي أو مجنون عبده.. لم تصح الكتابة. وقال أبو حنيفة وأحمد: (تصح كتابة الصبي المميز لعبده) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . ولأنه غير مكلف، فلم تصح كتابته، كالمجنون. وإن كاتب رجل عبده الصغير أو المجنون.. لم تصح الكتابة؛ لأنها معاوضة، فلم تصح مع الصبي والمجنون، كالبيع. [مسألة يشترط في المكاتب الاكتساب والأمانة] ) : قال الشافعي: (وأظهر معاني الخير في العبد بدلالة الكتاب: الاكتساب والأمانة) . وجملة ذلك: أن العلماء اختلفوا في الخير المراد بقوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] (النور:33) . فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أن المراد بالخير هاهنا هو: الاكتساب والأمانة، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، وعمرو بن دينار. وحكي عن ابن عباس، وابن عمر، وعطاء، ومجاهد: (أن الخير هاهنا هو الاكتساب لا غير) . وحكي عن الحسن البصري، والثوري: أنهما قالا: هو الأمانة والدين خاصة.

دليلنا: أن الله تعالى ذكر الخير في مواضع من كتابه وأراد به المال، وهو قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] (البقرة: 180) وأراد به: إن ترك مالًا. وكذلك قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] (العاديات: 8) وأراد به: المال. وذكر في مواضع أخر الخير وأراد به الدين، وهو قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] (الزلزلة: 7) يعني: عملًا صالحًا. فإذا كان الخير يقع عليهما.. حملناه هاهنا عليهما؛ لأن المقصود بالكتابة لا يحصل إلا باجتماعهما. فإذا اجتمع في العبد الكسب والأمانة، وسأل سيده أن يكاتبه.. استحب له أن يكاتبه؛ للآية، ولا يجب عليه ذلك. وبه قال كافة العلماء. وحكي عن عمرو بن دينار، وعطاء، والضحاك، وداود: أنهم قالوا: (يجب عليه ذلك) . دليلنا: أنه عتق لم يتقدم وجوبه، فلا يجب بطلب العبد، كالعتق في غير الكتابة. وإن طلب السيد أن يكاتب العبد فكره العبد.. لم يجبر العبد على الكتابة؛ لأنه عتق على مال، فلم يجبر العبد عليه، كما لو قال له: إن أديت إلي ألفًا فأنت حر.. فإنه لا يجبر على أدائه. وإن عدم الكسب والأمانة في العبد.. لم تستحب كتابته؛ لأنه لا يحصل المقصود بالكتابة مع فقدهما، ولا تكره كتابته. وقال أحمد وإسحاق: (تكره كتابته إذا لم يكن له كسب، كما تكره مخارجة الأمة التي لا كسب لها) . دليلنا: أنه تعليق عتق بصفة، فلا يكره، كما لو كان له كسب. ويخالف الأمة، فإن ذلك ربما دعاها إلى الزنا، ولأن المخارجة ليس فيها تحصيل العتق، وهاهنا ربما

فرع لا يكاتب من لا يكتسب

حصل له مال الكتابة مما يخصه من الزكاة، فافترقا. وإن كانت له أمانة بلا كسب.. فهل تستحب كتابته؟ فيه وجهان: أحدهما: تستحب؛ لأنه ربما حصل مال الكتابة من الصدقات. والثاني: لا تستحب، وهو الأصح؛ لأن الله تعالى قال: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) (النور:33) وقد دللنا على أن الخير هاهنا: هو الكسب والأمانة، وقد فقد أحدهما. فعلى هذا أيضًا: لا تكره كتابته. [فرع لا يكاتب من لا يكتسب] ) : ولا يجوز أن يكاتب عبدًا أجيرًا؛ لأنه لا يمكنه الاكتساب. ولا تصح كتابة العبد الموقوف؛ لأنه لا يعتق بالمباشرة، فلا يعتق بالمكاتبة. ولا تصح كتابة العبد المرهون؛ لأنه معرض للبيع في الرهن. وتصح كتابة العبد المعار؛ لأنه في ملك المعير. وتصح كتابة المدبر كما يجوز عتقه، فإن أدى المال قبل موت السيد.. عتق بالكتابة. وإن مات السيد قبل الأداء وخرج من الثلث.. عتق بالتدبير، وإن لم يخرج من الثلث.. عتق منه ما احتمله الثلث وبقي الباقي على الكتابة. وتصح كتابة أم الولد كما يصح عتقها، فإن أدت المال قبل موت السيد.. عتقت بالكتابة، وإن مات السيد قبل الأداء.. عتقت بالاستيلاد. [مسألة اشتراط قول السيد إن أديت فأنت حر] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يعتق حتى يقول في الكتابة: فإذا أديت فأنت حر، أو يقول بعد ذلك: إن قولي: كاتبتك كان معقودًا على أنك إذا أديت، فأنت حر) .

مسألة مكاتبة أحد الشريكين

وجملة ذلك: أن الكتابة تشتمل على معاوضة وصفة، (فالمعاوضة) قوله: كاتبتك على كذا. و (الصفة) قوله: فإذا أديت فأنت حر. فإذا قال ذلك، أو قال: كاتبتك على كذا، ونوى به العتق.. كان صريحًا. وإن قال: كاتبتك على كذا، ولم يقل: فإذا أديت فأنت حر، ولا نوى ذلك.. فقد نص هاهنا: (أنه لا يعتق) ، ونص في المدبر: أنه إذا قال: دبرتك، ولم يقل: إذا مت فأنت حر ولا نواه.. أنه يصير مدبرًا) . واختلف أصحابنا فيهما على طريقين، مضى ذكرهما في التدبير. [مسألة مكاتبة أحد الشريكين] ) : إذا كان عبد بين شريكين، فكاتبه أحدهما في نصيبه منه بغير إذن شريكه.. لم تصح الكتابة. وقال الحكم، وابن أبي ليلى، والعنبري، والحسن بن صالح، وأحمد: (يصح) دليلنا: أن الكتابة تقتضي إطلاقه في الكسب والسفر لأجل الكسب، وملك نصفه يمنع عن ذلك، ويمنع عن أن يأخذ شيئًا من الزكاة؛ لأن جميع ما يكتسبه يكون لسيده نصفه فلا يدفع إلى سيده الزكاة، ولأنه يضر شريكه بذلك؛ لأن قيمة نصيبه تنقص، فلم يصح. وإن كاتبه بإذن شريكه.. ففيه قولان: أحدهما: لا يصح. وهو اختيار المزني؛ لما ذكرناه فيه إذا كاتبه بغير إذن شريكه. والثاني: يصح. وبه قال أبو حنيفة إلا أنه قال: (إذنه في ذلك يقتضي أن يؤدي العبد مال الكتابة من جميع كسبه، ولا يرجع الآذن بشيء) ، وعندنا يؤدي مال الكتابة مما يخص نصيب سيده الذي كاتبه من كسبه؛ لأن المنع من كتابته لحق شريكه، وقد زال ذلك بإذنه.

فرع مكاتبة من بعضه حر

وقال أبو يوسف ومحمد: إذا أذن له.. صار جميعه مكاتبًا. دليلنا: أن الكتابة عقد معاوضة، فلا تسري، كسائر العقود. [فرع مكاتبة من بعضه حر] ) : وإن كان يملك بعض عبد، وباقيه حر، فكاتبه على ما فيه من الرق.. صح؛ لأنه عقد الكتابة على جميع ما فيه من الرق، فهو كما لو كاتبه على جميعه وهو رقيق، ولأن حرية باقية لا تمنع شيئًا من مقصود الكتابة، فلم تمنع صحتها. وإن كان العبد له فكاتبه على بعضه.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يصح) . فمن أصحابنا من قال: إذا قلنا: إنه يصح أن يكاتب نصيبه في العبد المشترك بإذن شريكه.. صح هاهنا أيضًا؛ لأن اتفاقهما على كتابة بعضه كاتفاق الشريكين. وقال أكثر أصحابنا: لا يصح هاهنا قولًا واحدًا؛ لأنه إذا كاتبه على نصفه.. لم يعتق حتى يؤدي ضعف مال الكتابة؛ لأنه يحتاج أن يؤدي إليه النصف بحكم النصف الرقيق، ولأنه إذا أدى مال الكتابة.. عتق جميعه؛ لأن العتق يسري في الملك ولا يتبعض، فيؤدي كتابة نصفه ويعتق جميعه، وذلك خلاف مقتضى العقد، فلم يصح العقد. [فرع وصى بمكاتبة عبده] ) : وإن أوصى بكتابه عبده.. صحت الوصية؛ لأن الكتابة عقد يتعلق بها حق الله - تعالى - وحق الآدمي. وتعتبر قيمة العبد من الثلث. فإن كان قد قدر المال الذي يكاتب عليه.. كوتب عليه، سواء كان أقل من قيمته أو أكثر. وإن لم يقدر ذلك.. كوتب على ما جرى العرف بكتابة مثله؛ لأن العرف أن العبد يكاتب على أكثر من قيمته. فإن لم يختر العبد ذلك.. لم يجبر عليه، كما أنه لا يجبر على قبول الوصية، فإن طلب بعد ذلك.. لم يجب إليها؛ لأن الموصى له إذا رد الوصية.. سقطت في حقه ويوفر الثلث على باقي أهل الوصايا.

وإن لم يحتمل الثلث جميع قيمة العبد.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه يكاتب منه القدر الذي يحتمله الثلث) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: في هذا قولان، كما لو كاتب نصيبه من العبد المشترك بإذن شريكه. فنص هاهنا على أحدهما. وقال أكثرهم: يصح هاهنا قولًا واحدًا. والفرق بينهما: أنا إنما منعنا المكاتبة في بعض المشترك لما يلحق الشريك من الضرر، وهاهنا لا ضرر على الورثة؛ لأنهم ملكوه وقد لزمتهم مكاتبته، ولأن الكتابة في العبد المشترك غير مستحقة، والوصية في الكتابة استحقت، فإذا تعذرت في جميعه.. بقي الاستحقاق في ببعضه. فإذا قلنا بهذا: وأوصى أن يكاتب عبده على مائة وقيمته مائة ولا مال له غيره، أو كاتبه في مرض موته على مائة وقيمته مائة ولا مال له غيره.. صحت الكتابة في ثلثه بحصته من مال الكتابة. وهل تزداد التركة إذا أدى المكاتب مال الكتابة؟ حكى المحاملي في " التجريد " فيه قولان: أحدهما ـ وهو المشهور ـ: أن التركة لا تزداد بذلك؛ لأن التركة ما يخلفها الميت، ومال الكتابة حصل للورثة بعد موت السيد من ملكهم، فهو كثمرة البستان وولد الجارية بعد الموت. والثاني ـ وهو اختيار المحاملي ـ أن التركة تزداد بذلك؛ لأن هذا المال إنما استفيد بعقد الكتابة، وعقد الكتابة وجب تنفيذه بوصية الميت، فكان كالمال الذي استفيد بسبب من جهة الميت. فإذا قلنا بهذا: دخله الدور، وهو: أنه إذا كاتبه على مائة في مرض موته وقيمته مائة.. قيل للمكاتب: إن عجلت مال الكتابة.. جازت الكتابة في نصفك بنجمين، فحصل للورثة نصف الرقبة ونصف مال الكتابة، وذلك مثلا ما صحت فيه الكتابة. وحسابه: تجوز الكتابة في شيء من الرقبة، وتبطل في رقبة إلا شيئًا، ويؤدي

مسألة الكتابة على مال مؤجل بنجمين أو أكثر

المكاتب عما صحت فيه الكتابة شيئًا؛ لأن مال الكتابة مثل قيمته، فيحصل للورثة من الرقبة ومال الكتابة مائة درهم وذلك يعدل شيئين ـ الشيء نصف المائة ـ وذلك الجائز بالكتابة. وإن لم يعجل مال الكتابة.. صحت الكتابة في الحال في ثلثه بثلث مال الكتابة، ويسلم إلى الورثة ثلثاه، فكلما أدى شيئًا زاد في الكتابة بقدر نصف ما أدى حتى يؤدي نصف الكتابة فيستوفي وصيته. وهل يرد الورثة ما أخذوا من كسب سدسه؟ فيه وجهان: الصحيح: أنهم يردونه. وإن كاتبه على مائة وخمسين، فإن قلنا: لا تزداد التركة بأداء مال الكتابة.. صحت الكتابة في ثلثه بخمسين. وإن قلنا: تزداد التركة بأداء مال الكتابة، فإن عجل المكاتب ما عليه.. جازت الكتابة في شيء منه بشيء ونصف شيء، فيحصل للورثة من الرقبة والكتابة مائة درهم ونصف شيء ـ وذلك يعدل شيئين ـ فأسقط نصف الشيء الزائد على المائة، وأسقط بإزائه نصف شيء من الشيئين المقابلين له.. فيبقى مائة تعدل شيئًا ونصف شيء، الشيء ثلثا المائة ـ وذلك ثلثا العبد ـ وهو الجائز في الكتابة بثلثي مال الكتابة ـ وهو مائة ـ فيبقى للورثة ثلث الرقبة، وقيمته ثلاثة وثلاثون وثلث، ومن مال الكتابة مائة، وذلك مثلا ما صحت فيه الكتابة. والصحيح: أن التركة لا تزداد بأداء مال الكتابة؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في آخر المسألة: (فإذا أدى.. عتق ثلثه ورق ثلثاه) فلو ازدادت التركة بذلك.. لكان العتق أكثر من ثلثه. [مسألة الكتابة على مال مؤجل بنجمين أو أكثر] ) : ولا تصح الكتابة إلا بعوض مؤجل، وأقل تأجيله نجمان. وبه قال أحمد. وقال مالك وأبو حنيفة: (تصح الكتابة بعوض حال) . دليلنا: ما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه غضب على عبد له، فقال:

فرع المكاتبة على عمل

لأعاقبنك ولأكاتبنك على نجمين) فقصد التضييق عليه بذلك، ولو كانت الكتابة تصح على أقل من ذلك.. لكاتبه عليه. وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (الكتابة على نجمين، والإيتاء من الثاني) وهذا يقتضي أقل ما يجوز عليه الكتابة؛ لأن الكتابة على أكثر من نجمين معلوم بالإجماع. وروي: أن جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عقدوا الكتابة، وما روي عن أحد منهم أنه عقدها حالة، فدل على أن ذلك إجماع منهم. ولأنه إذا كاتبه على عوض حال، توجهت المطالبة للسيد عليه به وهو معسر به؛ لأنه لا يملك شيئًا، فيفسخ السيد الكتابة، فيبطل المقصود بالكتابة. قال أبو العباس: ولأن الكتابة مشتقة من ضم نجم إلى نجم، وأقل ذلك نجمان. ألا ترى أن الكتابة بالخط لا تكون الكلمة فيها أقل من حرفين. إذا ثبت هذا: فمن شرط مال الكتابة أن يكون معلومًا. ومن شرط النجوم أن تكون معلومة، وما يؤدي من المال في كل نجم معلومًا، كما نقول في المسلم فيه. [فرع المكاتبة على عمل] ) : ويجوز أن يكاتبه على العمل في ذمته، كما يجوز أن يستأجره على عمل في ذمته. فإن كاتبه على عملين في ذمته.. صح، كما يجوز أن يستأجره على ذلك.

فرع المكاتبة على خدمة شهر ومال بعده

[فرع المكاتبة على خدمة شهر ومال بعده] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا بأس أن يكاتبه على خدمة شهر ودينار بعد انقضاء الشهر) . وهذا ينظر فيه: فإن كاتبه على خدمة شهر ودينار بعد انقضاء الشهر بيوم أو يومين.. صح، ومن شرط الشهر أن يكون متصلًا بالعقد، كما قلنا في الإجارة. فإن قيل: فالعوض في الكتابة لا يكون حالًا.. فكيف جاز هاهنا أن يكون الشهر متصلًا بالعقد؟ قلنا: إنما لم يجز في العوض أن يكون حالًا؛ لأنه يتحقق عجزه عنه، وأما الخدمة: فهو قادر عليها، فلهذا جازت الكتابة عليها حالة. وإن كتابه على خدمة شهر ودينار بعد انقضاء الشهر من غير فصل بينهما.. فهل يصح؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: لا يصح؛ لأنه يكون كتابة على نجم واحد، فلم تصح. وقال أبو علي بن أبي هريرة: يصح، وهو المذهب؛ لأن الكتابة إنما لم تصح على نجم واحد؛ لأنه لا يقدر على تحصيله، وهاهنا يقدر على خدمة شهر ودينار بعده، فصحت الكتابة. وهكذا: لو كاتبه على خدمة شهر ودينار في أثناء الشهر.. صح ذلك؛ لأن الشافعي قال في " الأم " (7/374) : (إذ شرط الدينار بعد الشهر أو معه.. كان جائزًا، وإن كاتبه على دينار وخدمة شهر بعد الدينار.. لم يصح) . وقال أصحاب أحمد: يصح. دليلنا: أن من شرط الشهر أن يكون متصلا بالعقد، ومن شرط العوض أن يكون متراخيًا عن العقد بالأجل، فإذا شرط حلول الدينار وتأجيل الشهر.. لم يصح. قال ابن الصباغ: وإطلاق الخدمة يكفي؛ لأنها معلومة بالعرف، ويلزمه خدمة مثله.

فرع كاتبه على دينار بعد شهر ودينارين بعد شهرين

ولو قال: على منفعة شهر.. لم يصح؛ لأنها تختلف. وإن كاتبه على خدمة شهرين.. لم يصح؛ لأنه نجم واحد. [فرع كاتبه على دينار بعد شهر ودينارين بعد شهرين] ) : وإن كاتبه على دينار إلى شهر، ودينارين إلى شهرين، على أنه إذا أدى الدينار الأول، عتق، وإذا أدى الدينارين، فهو حر.. فحكى أبو العباس فيها قولين: فـ (أحدهما) : من أصحابنا من قال: هذا عقد جمع بين شيئين مختلفي الأحكام؛ لأنها صفقة جمعت كتابة وعتقًا بصفة، فكان فيها قولان، كما لو جمع بين الكتابة والبيع. و (الثاني) : منهم من قال: فيها قولان مختصان بها: أحدهما: لا تصح الكتابة؛ لأنه شرط فيها ما ينافيها؛ لأن مقتضى الكتابة أن يعتق بعد أداء جميع مالها، فإذا شرط أن يعتق بأداء بعضه.. لم يصح. والثاني: يصح؛ لأنه لو كاتبه كتابة مطلقة فأدى بعض مال الكتابة، فأعتقه على أن يؤدي الباقي بعد عتقه.. صح. فإذا شرط ذلك في الابتداء.. وجب أن يصح. [مسألة كاتب عبدين أو ثلاثة على مائة درهم] ) : وإن كاتب رجل عبدين أو ثلاثة أعبد له بمائة درهم، في نجمين أو أكثر، بعقد واحد.. فنص الشافعي: (أن الكتابة صحيحة، وتقسم المائة بينهم على قدر قيمتهم) . ونص: (أنه لو تزوج أربع نسوة بعقد واحد على عوض واحد.. صح النكاح، وفي المهر قولان. وإن خالع أربع نسوة بعوض واحد.. صح الخلع، وفي العوض قولان) .

قال أصحابنا: وهكذا القولان في الكتابة: أحدهما: تصح الكتابة ويقسم العوض المسمى عليهم على قدر قيمتهم. وبه قال مالك وأبو حنيفة؛ لأن جملة العوض معلوم، وإنما يجهل ما يقابل كل واحد منهم، فلم يؤثر، كما لو باع رجل ثلاثة أعبد له من رجل بعوض. والثاني: لا تصح الكتابة. قال المحاملي: وهو الأشبه؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين، وعقد الواحد مع الثلاثة بمنزلة ثلاثة عقود. ولو كاتب كل واحد منهم بعقد منفرد مع الجهل بالعوض.. لكان باطلًا، فكذلك هذا مثله. ويخالف البيع، فإنه إذا باع رجل من رجل ثلاثة أعبد له بعوض واحد.. صح؛ لأنه عقد واحد وصفقة واحدة. وهكذا: إذا باع ثلاثة أنفس ثلاثة أعبد لهم مشاعة بينهم، من رجل بعقد واحد بثمن واحد.. صح البيع قولًا واحدًا؛ لأن نصيب كل واحد منهم يقع بثلث الثمن مشاعًا. وهكذا إن باع رجل ثلاثة عبيد له من ثلاثة أنفس بعقد واحد.. صح قولا واحدًا، ويملك كل واحد منهم ثلث العبيد مشاعًا. وإن باع رجل ثلاثة عبيد له، من ثلاثة أنفس بعقد واحد، من كل واحد عبدًا، بثمن واحد، بأن يقول: بعتك يا زيد هذا العبد، وبعتك يا عمرو هذا الآخر، وبعتك يا خالد هذا الآخر بألف.. ففيه طريقان: (أحدهما) : قال أبو العباس: في البيع قولان كالكتابة. و (الثاني) : قال أبو إسحاق وأبو سعيد الإصطخري: يبطل البيع قولًا واحدً، وقد مضى ذكرها في (البيع) . فإذا قلنا: تصح الكتابة.. قسم المال المسمى على قيمتهم وقت عقد الكتابة.

مسألة الشريكان في العبد يكاتبانه على قدر نصيبهما

[مسألة الشريكان في العبد يكاتبانه على قدر نصيبهما] ) : وإن كان عبد بين شريكين.. لم يجز لهما أن يكاتباه إلا على قدر ملكهما، ولا يجوز لهما التفاضل في المال مع تساوي الملكين، ولا التساوي في المال مع تفاضل الملكين. وقال أبو حنيفة: (يجوز) . ودليلنا: أن ذلك يؤدي إلى أن ينتفع أحدهما بمال الآخر؛ لأنه إذا دفع إلى أحدهما أكثر من قدر ملكه، ثم عجز.. رجع الآخر عليه بذلك. وإن فعل أحدهما ذلك بإذن شريكه.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان، كما لو كاتبه أحدهما دون الآخر بإذن شريكه، وهو ظاهر النص. ومنهم من قال: لا يصح هذا قولًا واحدًا؛ لأن هاهنا يؤدي إلى أن ينتفع أحدهما بنصيب شريكه، وإذا كاتبه أحدهما بإذن شريكه.. لم يؤد إلى أن ينتفع أحدهما بنصيب شريكه، فافترقا. [فرع الكتابة على شرط فاسد أو مستقبل] ) : ولا تصح الكتابة إلى شرط فاسد، ولا تعليقها على شرط مستقبل؛ لأنها معاوضة، فلا تصح على شرط فاسد ولا تعليقها على شرط، كالبيع. [مسألة لزوم الكتابة من جهة السيد] ) : وإذا صحت الكتابة.. لزمت من جهة السيد، فلا يجوز له فسخها قبل عجز المكاتب؛ لأنه أسقط حقه منه بالعوض، فهو كما لو باعه. ولا تلزم الكتابة من جهة العبد، بل يجوز له أن يمتنع من أداء الكتابة، ولا يجبر على أدائها وإن كان موسرًا بها؛ لأن كل ما لا يجبر على فعله إذا لم يجعل شرطًا في

فرع موت السيد لا يبطل الكتابة

عتقه، لم يجبر على فعله وإن جعل شرطًُا في عتقه، كالسنن في الصلاة وسائر التطوعات. وللسيد أن يفسخ الكتابة بنفسه إذا عجز العبد أو امتنع من الأداء، إلا أنه إنما أسقط حقه منه بالعوض، فإذا تعذر العوض.. كان له أن يرجع إلى عين ماله، كما لو باع من رجل عينًا وأفلس المشتري بالثمن. وهل يجوز للعبد أن يفسخ الكتابة؟ فيه وجهان: أحدهما: له أن يفسخ؛ لأنه عقد لحظه، فملك فسخه، كالمرتهن. والثاني: ليس له أن يفسخ، ولم يذكر المحاملي غيره؛ لأنه لا ضرر عليه في البقاء على العقد، ولا فائدة له في الفسخ. والأول أقيس؛ لأنه يستفيد بالفسخ وجوب نفقته على المولى. فإن تراضيا على الفسخ وفسخا.. صح؛ لأنه عقد يلحقه الفسخ بحال فجاز لهما فسخه بالتراضي، كالبيع. وفيه احتراز من الخلع. [فرع موت السيد لا يبطل الكتابة] ) : وإذا مات المولى قبل الأداء ... لم تبطل الكتابة؛ لأنه لازم من جهته، فلم تبطل بموته، كسائر العقود اللازمة. فإن مات العبد وقد بقي عليه شيء من مال الكتابة ... مات رقيقًا، وكان جميع ما خلفه للمولى، سواء خلف وفاء بما عليه أو لم يخلف. وقال أبو حنيفة ومالك: (إن خلف وفاء عليه.. لم تنفسخ الكتابة) . إلا أن أبا حنيفة يقول: (إذا خلف وفاء.. أدى عنه مال الكتابة، وعتق في آخر جزء من أجزاء حياته. وإن لم يخلف وفاء.. حكم الحاكم بعجزه، وانفسخت الكتابة) .

مسألة مكاتبة الذمي عبده الكافر

ومالك يقول: (إن كان له ولد حر.. انفسخت الكتابة. وإن كان مملوكًا للمكاتب.. أجبر على دفع المال إن كان له مال، وإن لم يكن له مال.. أجبر على الاكتساب والأداء) . دليلنا: أنه مات قبل أداء مال الكتابة، فانفسخت الكتابة، كما لو لم يخلف وفاء. فإن قيل: إذا لم يبق على المكاتب من مال الكتابة إلا قدر يسير بقدر الإيتاء الذي يجب على السيد.. فهلا قلتم إنه يعتق؛ لأنه يجب على السيد الإيتاء؟ قلنا: إنما لم يعتق؛ لأن على السيد أن يفعله، فلا يقع بنفسه، كما لو وصى بأن يعتق عنه عبد، فمات السيد، ثم مات العبد قبل أن يعتق. [مسألة مكاتبة الذمي عبده الكافر] ) : وإذا كاتب الذمي عبده الكافر.. صحت الكتابة؛ لأن الكتابة تشتمل على معاوضة وصفة، وهما يصحان من الذمي كالمسلم. فإن ترافعا إلى الحاكم.. نظر في الكتابة: فإن كانت صحيحة في شرعنا.. حكم الحاكم بصحتها، سواء ترافعا إلى الحاكم قبل الإسلام أو بعده. وإن كانت فاسدة في شرعنا، بأن كاتبه على خمر أو خنزير وما أشبهه، فإن تقابضا في حال الشرك، ثم ترافعا إلى الحاكم قبل الإسلام أو بعده.. لم يتعرض الحاكم لنقضها ولا لصحتها، بل يحكم بعتق العبد بأداء ما وقعت عليه الكتابة؛ لأن ما فعلاه في حال الشرك قد لزم بالقبض. وإن أقبضه ذلك بعد الإسلام، ثم ترافعا إلى الحاكم.. حكم بعتق العبد بحكم الصفة، وثبت التراجع بينهما، كالكتابة الفاسدة بين المسلمين. وإن أقبضه بعض العوض في حال الشرك، ثم ترافعا بعد الإسلام.. فإن الحاكم يحكم بفساد هذه الكتابة؛ لأن الكتابة الفاسدة لا يعتق العبد فيها بقبض بعض العوض.

مسألة مكاتبة الحربي عبده

إذا ثبت هذا: فلا فرق بين أن يسلما، أو يسلم أحدهما فيما ذكرناه؛ لأن التغلب لحكم الإسلام. وقال أبو حنيفة: (إذا كاتبه على خمر ثم أسلم.. لم يبطل العقد، ويؤدي إليه قيمة الخمر) . دليلنا: أن هذا العقد لو عقداه بخمر أو خنزير.. كان فاسدًا، فإذا أسلم أحدهما قبل التقابض.. حكم بفساده، كالبيع. [مسألة مكاتبة الحربي عبده] ) : إذا كاتب الحربي عبده.. صحت الكتابة؛ لأن له ملكًا تامًا. وقال مالك: (لا يملك) . وقال أبو حنيفة: (ملكه ناقص؛ لأنه يجوز للمسلم تملكه عليه) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} [الأحزاب: 27] (الأحزاب: 27) وهذه إضافة إليهم تقتضي ملكهم. إذا ثبت هذا: فإن دخلا دار الإسلام مستأمنين.. لم يتعرض الحاكم لهما. فإن ترافعا إليه، فإن كانت كتابة صحيحة.. ألزمهما الحاكم حكمها. وإن كانت فاسدة.. بين لهما فسادها. فإن جاءا وقد قهر أحدهما الآخر في دار الشرك.. فقد بطلت الكتابة؛ لأن العبد إن قهر سيده.. فقد ملك نفسه، وبطلت الكتابة. وإن قهر السيد العبد على إبطال الكتابة.. فقد عاد رقيقًا؛ لأن دار الكفر دار القهر والإباحة. ولهذا: لو قهر حر حرًا على نفسه.. ملكه. وإن قهر أحدهما الآخر في دار الإسلام ... لم يصح قهره، وكانا على ما كانا عليه قبل القهر؛ لأن دار الإسلام دار حظر لا يؤثر فيها القهر إلا بالحق.

فرع مكاتبة المسلم عبده الكافر

[فرع مكاتبة المسلم عبده الكافر] ) : وإن كاتب المسلم عبده الكافر.. صح؛ لأن ملكه صحيح عليه، فإذا أدى إليه مال الكتابة.. عتق، وقيل له: إن أسلمت.. فلا كلام، وإن اخترت المقام على الكفر، فإن أردت المقام في دار الإسلام.. فاعقد الذمة والتزم بالجزية إن كنت ممن يجوز له عقد الذمة، وإلا.. فالحق بدار الحرب. فإن اختار الرجوع إلى دار الحرب.. صار حربًا لنا، فإن وقع في الأسر.. كان الإمام مخيرًا فيه بين القتل والمن والفداء. ولا يجوز استرقاقه؛ لأن في ذلك إبطال ولاء سيده الذي ثبت له عليه بالعتق. [مسألة مكاتبة المرتد عبده] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لو كاتب المرتد عبده قبل أن يقف الحاكم ماله.. كان جائزًا) . وقال في (المدبر) : (إذا دبر عبده.. ففيه ثلاثة أقوال: أحدهما: يصح. والثاني: لا يصح. والثالث: أنه موقوف) . واختلف أصحابنا في الكتابة: فمنهم من قال: فيها ثلاثة أقوال كالتدبير؛ لأنه عتق بصفة كالتدبير. ومنهم من قال: في الكتابة قولان: أحدهما: يصح. والثاني: لا يصح. ولا يجيء القول بالوقف؛ لأن الكتابة عقد معارضة، وعقود المعارضات لا تقع موقوفة عندنا. والأول أصح.

إذا ثبت هذا: فإن أدى المكاتب مال الكتابة إلى سيده المرتد، فإن كان قبل أن يقف الحاكم ماله ويحجر عليه.. ففي صحة الأداء ثلاثة أقوال بناء على الكتابة: فإن قلنا: إن الكتابة صحيحة.. صح الأداء وعتق العبد. وإن قلنا: إن الكتابة باطلة.. لم يصح الأداء ولم يعتق العبد؛ لأن عدم الصحة لعدم الملك، وذلك مانع من صحة العتق، فهو كما لو كاتب الصبي عبده. وإن قلنا: إنها موقوفة.. وقف الأداء. فإن عاد إلى الإسلام صح الأداء وعتق العبد. وإن مات أو قتل على الردة.. لم يصح الأداء ولم يعتق العبد. وإنٍ كان الأداء بعد أن وقف الحاكم ماله وحجر عليه، فإن قلنا: إن الكتابة صحيحة.. فالأداء غير صحيح لأجل الحجر، فإن كان المال باقيا في يد السيد ... استرجعه منه ورفعه إلى الحاكم وعتق. وإن كان تالفًا.. لم يرجع المكاتب على سيده بشيء؛ لأنه فرط بالدفع إليه، وطالب الحاكم المكاتب بمال الكتابة، فإن أداه.. عتق. وإن عجز.. عاد رقيقًا. فإن أسلم السيد قبل أن يعتق العبد.. احتسب للعبد بما كان دفعه إليه في حال الردة. فإن قيل: أليس لو دفع إلى المحجور عليه لسفه مالًا فأتلفه، لم يضمن، وإذا زال الحجر، لم يحتسب عليه به؟ قلنا: الفرق بينهما: أن السفيه حجر عليه لحفظ ماله، فلو احتسب عليه بما قبضه في حال الحجر.. سقطت فائدة الحجر، والمرتد حجر عليه لحق المسلمين في ماله، فإذا عاد إلى الإسلام.. سقط حقهم من ماله. وإن قلنا: إن الكتابة فاسدة.. لم يعتق العبد بالأداء. وإن قلنا: إن الكتابة موقوفة.. فإن الأداء لا يصح، كما إذا قلنا: إنها صحيحة. ويسترجعه الحاكم إن كان صحيحًا باقيًا.

فرع ارتداد العبد وقت مكاتبته

[فرع ارتداد العبد وقت مكاتبته] ) : وإن ارتد العبد بمكاتبة سيده.. صحت كتابته؛ لأنه يصح بيعه له وعتقه، ثم ينظر فيه، فإن أسلم.. كان حكمه حكم المكاتب المسلم. وإن لم يسلم.. نظرت: فإن أدى مال الكتابة.. عتق وطولب بالإسلام، فإن لم يسلم.. قتل، وكان ما بقي في يده فيئًا، كالحر المرتد. وإن لم يؤد مال الكتابة وقتل أو مات على الردة.. كان ما بيده لسيده؛ لأن بقتله أو بموته انفسخت الكتابة، فكان ما بيده لسيده. وبالله التوفيق

باب ما يملكه المكاتب وما لا يملكه

[باب ما يملكه المكاتب وما لا يملكه] والمكاتب في البيع والشراء والأخذ بالشفعة وسائر جهات التجارة كالحر؛ لأنه عقد الكتابة ليحصل له العتق، ولا يحصل له إلا بالأداء، ولا يمكنه الأداء إلا بالاكتساب بالبيع والشراء وسائر جهات التجارة. ويجوز له أن يشتري من سيده، ويبيع منه، ويأخذ منه بالشفعة، كما يجوز ذلك من الأجنبي؛ لأنه صار بعقد الكتابة كالخارج من ملكه، وإنما له مال في ذمته، فهو كرجل له دين عليه. ويصح إقراره بالبيع والشراء؛ لأنه يصح ذلك منه، فصح إقراره به كالحر. [مسألة مال المكاتب محجور عليه] ) : والمكاتب محجور عليه في ماله فليس له استهلاكه ولا هبته ولا المحاباة به بغير إذن السيد؛ لأن حق السيد لم ينقطع عنه؛ لأنه قد يعجز فيعود إليه؛ لأن القصد بالكتابة تحصيل العتق بالأداء، فإذا وهب ماله.. أدى إلى فوات المقصود. وإن وهب المكاتب شيئًا من ماله بإذن سيده.. فنص الشافعي في " الأم " (7/34) و" المختصر ": (أنه يصح) . وقال الربيع: وفيه قول آخر: (أنه لا يصح) . وقال في " الجامع ": (إذا اختلعت المكاتبة نفسها بعوض بإذن سيدها ... لم يصح الخلع) . والمكاتبة في بذل العوض كالواهبة؛ لأنها تبذل العوض فيما لا فائدة لها فيه. واختلف أصحابنا في المسألة على طريقين: فمنهم من قال: في المسألة قولان:

فرع ليس للمكاتب أن يكفر بالمال

أحدهما: لا تصح الهبة والخلع. وبه قال أبو حنيفة؛ لأن المكاتب ناقص الملك، والسيد لا يملك ما بيده، فلم يصح ذلك باجتماعهما، كالأخ إذا زوج أخته الصغيرة بإذنها. والثاني: تصح؛ لأن المال لا يخرج من بين المكاتب والسيد، فإذا اتفقا على هبته.. صح كالراهن والمرتهن في الرهن. ومنهم من قال: تصح الهبة قولًا واحدًا على ما نص عليه في " الأم " و " المختصر "، وما ذكره الربيع تخريج منه، وما ذكره في الخلع على ظاهره. والفرق بينهما: أن المكاتب إذا وهب، حصل له الثواب عاجلا في الدنيا أو آجلًا في الآخرة، وليس كذلك بذل العوض في الخلع، فإنه لا يحصل لها فيه ثواب عاجل ولا آجل، بل عليها ضرر في سقوط نفقتها. والطريق الأول أصح. [فرع ليس للمكاتب أن يكفر بالمال] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يكفر المكاتب في شيء من الكفارات إلا بالصوم) . وجملة ذلك: أن المكاتب إذا لزمته كفارة في قتل أو جماع أو ظهار أو يمين.. فلا يجوز له أن يكفر بالمال من غير إذن سيده؛ لأن ملكه غير تام. وإن أذن له أن يكفر بالمال، فإن إذن له أن يكفر بالعتق.. لم يصح؛ لأنه يتضمن الولاء، ولا يثبت له الولاء. وإن أذن له أن يكفر بالإطعام، فإن قلنا: إن العبد لا يملك المال، لم يصح تكفيره به؛ لأنه لا يملك ذلك المال، فلم يصح التكفير به. وإن قلنا: إنه يملك المال.. صح تكفيره به؛ لأنه قد ملك ذلك وأذن له السيد بالتكفير به.

فرع المكاتب لا يبيع نسيئة

[فرع المكاتب لا يبيع نسيئة] ) : وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجوز أن يبيع بدين) . وجملة ذلك: أنه ممنوع من البيع بالدين المؤجل؛ لأن فيه غررًا وهو ممنوع من التغرير بالمال، وسواء باع بما يساوي أو بأكثر مما يساوي؛ لأن الغرر حاصل بالأجل إلا أن يبيعه بأكثر مما يساوي، فتكون الزيادة على ثمنه مؤجلة؛ لأنه لا تغرير في ذلك. فإن ابتاع المكاتب بثمن مؤجل.. صح؛ لأن الغرر على البائع دون المكاتب، فإن دفع به رهنًا.. لم يصح الرهن؛ لأن في ذلك تغريرًا بالمال المرهون؛ لأنه أمانة وقد يتلف في يد المرتهن، فيكون من ضمان الراهن. ويجوز أن يستسلف في ذمته إلى أجل؛ لأن الحظ له في ذلك؛ لأنه يأخذ الثمن فينتفع به إلى أن يحل عليه المسلم فيه. ولا يجوز أن يرهن بما في ذمته؛ لما ذكرناه. [فرع المكاتب يأخذ للقراض والقرض ولا عكس] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يجوز أن يدفع شيئًا من المال الذي في يده قراضًا؛ لأن فيه غررًا؛ لأنه يخرج المال من يده، فربما يعود إليه وربما لا يعود، ويجوز أن يأخذ المال قراضًا؛ لأنه من أنواع الكسب. وليس له أن يقرض؛ لأن ذلك تبرع، وله أن يقترض؛ لأنه ينتفع بذلك) . [فرع لا تصح هبة المكاتب ولو بزيادة منفعة] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يهب بشرط الثواب) . وجملة ذلك: أنه إذا وهب لغيره شيئًا بشرط الثواب، فإن قلنا: لا يصح ذلك من غيره.. لم يصح من المكاتب.

فرع شراء المكاتب من يعتق عليه

وإن قلنا: إنه يصح من غير المكاتب، فإن كان ذلك بغير إذن السيد.. لم يصح؛ لأن عوضها متأخر، ولأن المقصود بالهبة الوصلة والمحبة دون الثواب، فيصير كالهبة بغير ثواب. فإن كان ذلك بإذن السيد.. كان على الطريقين في الهبة بغير ثواب. [فرع شراء المكاتب من يعتق عليه] ) : وليس للمكاتب أن يشتري من يعتق عليه ـ كوالده أو ولده ـ بغير إذن سيده. وقال أبو حنيفة وأحمد: (يجوز له شراؤهما ولا يجوز له بيعهما) . وقال فيمن عداهما ممن يعتق عليه برحم: (يجوز له بيعهم) . دليلنا: أنه تصرف بما يؤدي إلى إتلاف ماله، فلم يصح منه بغير إذن سيده، كالهبة. وإن اشترى ذلك بإذن سيده، فإن قلنا: لو وهب لغيره بإذن سيده، صح قولًا واحدًا.. صح هاهنا أيضًا قولًا واحدًا. وإن قلنا: في الهبة قولان.. فاختلف أصحابنا في هذا: فمنهم من قال: فيه قولان كالهبة. وقال أبو إسحاق: يصح قولًا واحدًا؛ لأن الهبة لا منفعة للمكاتب فيها، وهاهنا يحصل له به جمال، ويحصل كسب العبد له وأرش الجناية عليه له. فإذا قلنا: يصح الشراء.. لم يكن له بيعه، وكان موقوفًا على كتابته، وينفق عليه بحكم الملك دون النسب. وإن وصى له بوالده أو ولده، فإن كان غير مكتسب.. لم يجز له قبول الوصية فيه بغير إذن سيده؛ لأنه يستضر بوجوب نفقته عليه. وإن كان مكتسبًا يمكن الإنفاق عليه من كسبه.. جاز له قبول الوصية؛ لأنه يحصل له بذلك جمال ومنفعة من غير ضرر.

فرع المكاتب لا يعتق ولا يكاتب

فإن كان كسبه وفق نفقته.. فلا كلام. وإن كان كسبه أكثر من نفقته.. كان الفضل للمكاتب. وإن كان أقل من نفقته.. وجب على المكاتب تمام نفقته بحكم الملك، ويكون عتقه موقوفًا على أداء المكاتب. فإن جنى والد المكاتب أو ولده.. لم يكن له أن يفديه من غير إذن سيده؛ لأن في ذلك إتلافًا لماله. فإن أذن له سيده في ذلك.. فهو كالهبة. [فرع المكاتب لا يعتق ولا يكاتب] ) : ولا يجوز للمكاتب أن يعتق ولا يكاتب بغير إذن سيده. وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يكاتب ولا يعتق) . دليلنا: أنه لا يجوز له العتق، فلا يجوز له الكتابة، كالعبد المأذون له في التجارة، فإن أذن له سيده في ذلك.. فهو كالهبة. فإن قلنا: لا تصح كتابته ولا عتقه.. لم يعتق العبد بالأداء. وإن قلنا: يصح عتقه وكتابته، فأعتق أو كاتب عبدًا، فأدى إليه ما كاتبه عليه قبل أن يؤدي هو كتابته.. ففي ولاء معتقه قولان: أحدهما: (أنه للسيد) وبه قال أبو حنيفة؛ لأن العتق لا ينفك عن الولاء، والمكاتب ليس من أهل الولاء. والثاني: أنه يكون موقوفًا على أداء المكاتب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» ، والسيد لم يعتق. فعلى هذا إن أدى المكاتب المال.. كان ولاء هذا المعتق له. وإن عجز ورق.. كان ولاؤه لسيده. وإن مات هذا المعتق قبل أداء المكاتب.. ففي ماله قولان: أحدهما: أنه يكون موقوفًا كالولاء. والثاني: أنه يكون للسيد؛ لأن الولاء يجوز أن يكون لشخص ثم ينتقل عنه، والميراث لا يجوز أن يكون لشخص ثم ينتقل عنه. والصحيح: أن الميراث موقوف على هذا القول أيضًا.

فرع بة المكاتب أو محاباته لسيده

[فرع بة المكاتب أو محاباته لسيده] فرع: (هبة المكاتب أو محاباته لسيده) : وإن وهب المكاتب لسيده أو حاباه.. فهل يصح؟ فيه طريقان، كما لو فعل ذلك مع غير السيد بإذن السيد؛ لأن قبوله لذلك كالإذن له في ذلك. فإن قلنا: يصح.. فلا كلام. وإن قلنا: لا يصح.. فله أن يسترجع ذلك منه قبل أن يعتق. فإن لم يسترجع ذلك منه حتى عتق.. فهل يجوز له استرجاعه؟ فيه وجهان: أحدهما: له أن يسترجعه؛ لأنه وقع فاسدًا، فلا يملكه السيد إلا بعقد آخر. والثاني: ليس له أن يسترجعه؛ لأنه إنما لم يصح لنقصانه، وقد زال ذلك. [فرع لا يتزوج المكاتب إلا بإذن سيده] ] : ولا يجوز للمكاتب أن يتزوج بغير إذن سيده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما عبد تزوج بغير إذن سيده.. فهو عاهر» . و (العاهر) : الزاني. والمكاتب هو عبد قبل الأداء، فإن إذن له سيده في النكاح.. صح قولًا واحدًا؛ للخبر، ولأن الحاجة تدعو إليه. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، كالهبة. والأول أصح. ولا يجوز له أن يطأ جاريته بغير إذن سيده؛ لأنه ربما أحبلها فتتلف. فإن أذن له سيده في ذلك، فإن قلنا: إن العبد لا يملك.. لم يجز له وطؤها. وإن قلنا: إنه يملك إذا ملك.. فاختلف أصحابنا فيه:

فرع سفر المكاتب بالمال

فمنهم من قال: هو كالهبة، وفيه قولان. ومنهم من قال: يصح قولًا واحدًا، كالنكاح. وإن أولد منها ولدًا.. كان ابنا له ومملوكًا له، ولا يعتق عليه، بل يكون موقوفًا على عتقه، ويلزمه أن ينفق عليه بحكم الملك لا بحكم النسب. [فرع سفر المكاتب بالمال] ) : وإن أراد المكاتب أن يسافر بالمال بغير إذن المولى فقد قال الشافعي في موضع: (يجوز) ، وقال في موضع: (لا يجوز) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن في ذلك تغريرًا بالمال. والثاني: يجوز؛ لأن فيه تنمية المال. ومنهم من قال: إن كان السفر طويلًا.. لم يجز، وإن كان قصيرًا.. جاز. والأول أصح. [مسألة حرمة وطء المكاتبة] ) : إذا كاتب الرجل أمة له.. حرم عليه وطؤها؛ لأن ملكه على رقبتها قد ضعف وزال ملكه عن منفعتها. ولهذا لو وطئها غيره بشبهة.. وجب عليه المهر لها. فإن خالف السيد ووطئها.. فلا حد عليه، سواء علم بالتحريم أو لم يعلم. وبه قال جماعة الفقهاء إلا الحسن البصري، فإنه قال: يجب عليه الحد إذا علم تحريم وطئها.

دليلنا: أن له فيها ملكًا بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» . ومن وطئ ملكه.. لم يحد. إذا ثبت هذا: فإن كانا عالمين بالتحريم ... عزرا. وإن كانا جاهلين بالتحريم.. لم يعزرا ونهيا عن العود. وإن كان أحدهما عالمًا والآخر جاهلًا.. عزر العالم، ولم يعزر الجاهل ونهي عن العود. وأما المهر، فنقل المزني: (أنه إذا أكرهها.. وجب المهر) . فمن أصحابنا من حمله على ظاهره، وقال: إذا طاوعته على ذلك.. لم يجب لها المهر؛ لأنها بذلت نفسها بغير عوض، فهي كالزانية. ومنهم من قال: يجب لها المهر، سواء طاوعته أو أكرهها. وهو الصحيح، وقد نص الشافعي على هذا في " الأم " (7/388) لأن الحد يسقط عنها بشبهة الملك، وهذه الشبهة توجب لها المهر؛ لأنها ثابتة في حقها. وقال مالك: (لا يجب لها المهر؛ لأن بضعها ملكه، ولهذا لا تتزوج إلا بإذنه) . ودليلنا: أن المكاتبة في يد نفسها ومنافعها لها، ولهذا لو وطئها أجنبي بشبهة.. وجب لها عليه المهر. إذا ثبت هذا: فإنه لا يجب لها إلا مهر واحد، سواء وطئها مرة واحدة أو وطئها مرارًا، كما قلنا في النكاح الفاسد، إلا أن يطأها ويدفع إليها المهر، ثم يطأها، فيلزمه المهر ثانيًا؛ لأن الوطء الأول قد استقر حكمه. ويجب لها المهر من غالب نقد البلد، فإن لم يحل عليها نجم.. كان لها المطالبة بما وجب لها عليه من المهر. وإن حل عليها نجم، فإن كان مال الكتابة من غير جنس نقد البلد.. كان لها المطالبة بالمهر. وإن كان من نقد البلد.. فهل يتقاصان فيما استويا فيه؟ فيه أربعة أقوال يأتي ذكرها.

فرع كاتب أمة وشرط وطئها

وإن أذهب بكارتها.. لزمه أرشها، كما لو قطع عضوًا منها. وإن أحبلها ... صارت مكاتبة له وأم ولد، وقد مضى بيانها. [فرع كاتب أمة وشرط وطئها] ) : وإن كاتب أمة وشرط في عقد الكتابة أن يطأها.. كان الشرط والعقد فاسدين. وقال مالك: (يصح العقد، ويبطل الشرط) . وقال أحمد: (يصح العقد والشرط) . دليلنا: أنه لا يملك وطئها مع إطلاق العقد، فلا يملكه بالشرط، كما لو زوجها واشترط لنفسه الوطء. [مسألة لا يطأ الشريكان مكاتبتهما] ) : وإذا كانت أمة بين رجلين نصفين فكاتباها.. لم يحل لواحد منهما وطؤها؛ لأنه لا يحل لواحد منهما وطؤها قبل الكتابة، فلأن لا يحل بعد الكتابة ـ وقد ضعف ملكهما ـ أولى. فإن خالف أحدهما ووطئها.. فلا حد عليه لشبهة الملك. فإن كانا عالمين بالتحريم.. عزرًا، وإن كانا جاهلين.. لم يعزرًا، وإن كان أحدهما جاهلًا والآخر عالمًا.. عزر العالم دون الجاهل. ويلزم الواطئ جميع مهرها للمكاتبة؛ لأنه بمنزلة كسبها، فإن لم يحل عليها نجم من الكتابة.. أخذت منه المهر وتصرفت فيه. وإن كان قد حل عليها نجم وكان مال الكتابة من نقد البلد، فإن كان في يدها ما تدفع إلى سيدها الذي لم يطأها بقدر مهرها.. دفعت إليه مما في يدها، واحتسب على الواطئ بالمهر الذي عليه من النجم الذي حل له عليها. وإن لم يكن بيدها ما تدفعه إلى الذي لم يطأها.. أخذت من الواطئ نصف مهرها، وسلمته إلى الذي لم يطأها، واحتسب على الواطئ بنصفه من النجم الذي حل له.

فإذا أدت ما بقي من مال الكتابة.. عتقت، وإن عجزت.. عادت رقيقة لهما. فإن كانت قد قبضت من الواطئ مهرها.. فقد برئت ذمته منه؛ لأنها قبضته في وقت تستحق قبضه. فإذا كان باقيًا في يدها.. أخذ كل واحد منهما نصفه، وإن كان تالفًا.. سقط حكمه فيه؛ لأنها تصرفت في ملكها في حال نفوذ تصرفها. وإن لم تكن قبضت المهر، فإن كان في يدها شيء من كسبها بقدر مهرها.. دفعته إلى الذي لم يطأها، واحتسب على الواطئ بمهرها عليه من كسبها. وإن لم يكن في يدها شيء.. رجع سيدها الذي لم يطأها على الواطئ بنصف مهرها، وبرئت ذمته من نصفه. وإن أحبلها الواطئ.. فالحكم في الحد والتعزير والمهر على ما مضى. وأما الولد، فإن ادعى الواطئ أنه استبرأها وحلف على أنه استبرأها، وأتت بولد بعد الاستبراء لستة أشهر.. لم يلحقه ولدها، وكان كولدها من زوج أو زنًا على ما يأتي بيانه. وإن لم يدع الواطئ أنه استبرأها.. صار نصيبه من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له. فإن كان معسرًا.. لم يسر الإحبال إلى نصيب شريكه من الجارية، كما لو أعتق شركًا له من عبد وهو معسر، وفي الولد وجهان: (أحدهما) : قال أبو علي بن أبي هريرة: ينعقد جميعه حرًا، ويثبت في ذمة الواطئ نصف قيمته لشريكه؛ لأنه يستحيل أن ينعقد نصفه حرًا ونصفه مملوكًا. و (الثاني) : قال أبو إسحاق: يكون نصفه حرًا ونصفه مملوكا، كولدها الذي تأتى به من زوج أو زنا على ما يأتي بيانه، وهو الأصح؛ لأنه إذا لم يسر الاستيلاد لإعساره، فكذلك حرية الولد لا تسري لإعساره. وقول الأول يبطل بالمرأة إذا كان نصفها حرًا ونصفها مملوكًا فأتت بولد من زوج أو زنا، فإن نصفه حر ونصفه مملوكًا. وإن كان الواطئ موسرا.. قوم عليه نصيب شريكه من الجارية، فيصير جميعها أم ولد له ونصفها مكاتبًا له؛ لأن الإحبال كالعتق.

ولو أعتق نصيبه منها وهو موسر.. قوم عليه نصيب شريكه من الجارية، فكذلك إذا أحبلها، فإذا قومت عليه.. انفسخت الكتابة في نصيب الشريك وبقي نصفها مكاتبًا للواطئ، فإن أدت إليه نصف مال الكتابة.. عتق نصفها بالكتابة ويسري العتق إلى باقيها. وإن مات الواطئ قبل الأداء.. عتق جميعها عليه بالاستيلاد. ومتى تقوم عليه؟ فيه طريقان: (الأول) : قال أبو إسحاق: فيها قولان، كما لو أعتقه: أحدهما: تقوم في الحال ولا ينتظر العجز، كما لو أحبل جارية بينه وبين شريكه وهي غير مكاتبة، أو أعتقها. والثاني: لا تقوم عليه إلا بعد العجز؛ لأنه قد ثبت لشريكه فيها حق الولاء بعقد الكتابة، فلا يجوز إبطال ذلك عليه بالتقويم. و (الطريق الثاني) : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا تقوم إلا بعد عجزها قولًا واحدًا، وإنما القولان إذا أعتقها؛ لأن الحظ يحصل لها بالتقويم بالعتق؛ لأن عتقها يتنجز، والحظ لها هاهنا في أن لا تقوم؛ لأنها ربما أدت مال الكتابة، فتعجل عتقها بالكتابة. والصحيح هو الأول؛ لأن الإحبال أقوى من العتق، بدليل أنه يصح من المجنون والسفيه، والعتق لا يصح منهما، ولأن الحظ لها بالتقويم بالإحبال أكثر من انتظار عجزها؛ لأنها إذا قومت على الواطئ.. بقي نصفها مكاتبًا للواطئ، فإذا أدت إليه نصف مال الكتابة.. عتق جميعها، وذلك أخف من أن يبقى جميعها مكاتبًا فلا تعتق إلا بأداء جميع مال الكتابة. وإذا قومت على الواطئ.... سرى الإحبال إلى باقيها. ومتى وقعت السراية؟ فيه ثلاثة أقوال، كالعتق: أحدهما: في الحال. والثاني: بدفع القيمة.

فرع كاتبا جارية ثم جامعاها

والثالث: أنه موقوف، فإن أدى القيمة ... بان أن السراية وقعت بالإحبال. وإن لم يدفع القيمة.. تبينا أن السرية لم تقع. وأما قيمة نصف الولد، فإن قلنا: إنها تقوم في الحال، وقلنا: إن الإحبال يسري إلى نصيب الشريك في الحال.. لم يلزمه قيمة نصف الولد؛ لأنها تضعه في ملكه. وإن قلنا: إنها لا تقوم إلا بعد العجز، وقلنا: إن الإحبال لا يسري إلا بعد دفع القيمة، فوضعت الولد قبل العجز أو قبل دفع القيمة.. لزمه نصف قيمة الولد لشريكه؛ لأنه كان من سبيله أن يكون نصفه مملوكًا لشريكه، وقد أتلف رقه عليه. [فرع كاتبا جارية ثم جامعاها] ) : وإن كاتبا جارية بينهما نصفين، ثم وطئها كل واحد منهما.. فالكلام في التحريم والحد والتعزير على ما مضى، ويجب على كل واحد منهما مهر مثلها. فإن لم يحل عليها نجم ... كان لها مطالبة كل واحد منهما بالمهر الذي وجب عليه لتتصرف فيه. وإن كان قد حل عليها نجم، وكان مال الكتابة من جنس المهر.. فهل يسقط عن كل واحد منهما قدر ما وجب له عليها مما عليه لها من المهر؟ على الأقوال في المقاصة. وإن فضل لها فضل عليهما أو على أحدهما من المهر.. طالبته به، وإن عجزت نفسها ... رقت لهما. فإن كانت قد قبضت المهرين.. فقد برئت ذمتهما، ويقتسمان ما كان في يدها. وإن كانت لم تقبض المهرين.. برئت ذمة كل واحد منهما من نصف المهر الذي وجب عليه؛ لأن نصفها عاد رقيقًا له فيسقط عنه ما يقابل ملكه منها، ويبقى عليه نصف المهر لأجل حق شريكه. فإن كان المهران متساويين.. فهل يسقط ذلك عنهما؟ على الأقوال في المقاصة. وإن كان أحد المهرين أكثر من الآخر: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (بأن يطأها أحدهما وهي بكر، ويطأها الآخر وهي ثيب، أو يطأها أحدهما وهي صحيحة،

ويطأها الآخر وهي مريضة أو معيبة.. تقاصا فيما استويا فيه، ومن بقي له فضل طالب شريكه به، وإن أفضاها أحدهما.. وجب عليه للآخر نصف قيمتها مع المهر. وكذلك إن افتضها أحدهما.. لزمه لشريكه نصف أرش الافتضاض مع المهر. فإن ادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه أفضاها أو افتضها.. حلف كل واحد منهما لشريكه، وسقط حكم الإفضاء والافتضاض) . وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، فحلف عليه شريكه.. لزم الناكل نصف قيمتها للإفضاء، ونصف الأرش للافتضاض. فإن أتت بولد.. نظرت: فإن ادعيا أنهما استبرآها وحلفا وأتت بولد لستة أشهر بعد الاستبراء.. انتفى الولد عنهما، وكان كالولد الذي تأتي به من زوج أو زنا. وإن لم يدعيا الاستبراء.. فلا يخلو من أربعة أحوال: إما أن لا يمكن أن يكون من واحد منهما، أو يمكن أن يكون من الواطئ الأول ولا يمكن أن يكون من الثاني، أو يمكن أن يكون من الثاني ولا يمكن أن يكون من الأول، أو يمكن أن يكون من كل واحد منهما. فإن لم يمكن أن يكون من كل واحد منهما، مثل: أن تأتي به لأكثر من أربع سنين من وطء كل واحد منهما، أو لدون ستة أشهر من وطء كل واحد منهما.. انتفى عنهما، فكان كولدها الذي تأتي به من زوج أو زنا. وإن أمكن أن يكون من الأول دون الثاني، بأن تأتي به لدون أربع سنين من وطء الأول، أو لستة أشهر فما زاد من وطئه، ولدون ستة أشهر من وطء الثاني.. لحق الولد بالأول. فإن كان معسرًا.. صار نصيبه من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له، ولا يسري الإحبال إلى نصيب شريكه من الجارية. وفي الولد وجهان: (أحدهما) : على قول أبي علي بن أبي هريرة: ينعقد جميعه حرًا، ويثبت في ذمته نصف قيمته لشريكه. و (الثاني) : على قول أبي إسحاق: يكون نصفه حرًا ونصفه الآخر كولدها من زوج

أو زنا، وتستحق الجارية على كل واحد منهما جميع مهرها. وإن كان المحبل موسرًا.. صار نصيبه من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له، ويقوم عليه نصيب شريكه فيها. وهل يقوم عليه في الحال أو بعد العجز؟ على الطريقين في المسألة قبلها. وهل يلزمه نصف قيمة الولد؟ إن قلنا: يقوم في الحال ويسري الإحبال قبل دفع القيمة.. لم يلزمه نصف قيمة الولد؛ لأنها تضعه في ملكه. وإن قلنا: لا يقوم إلا بعد العجز، أو قلنا: لا يسري الإحبال إلا بعد دفع القيمة، فإن وضعت بعد العجز والتقويم ودفع القيمة.. لم يلزمه نصف قيمته؛ لأنها وضعته في ملكه. وإن وضعته قبل ذلك.. لزمه نصف قيمته. ويجب على الواطئ المحبل جميع مهرها؛ لأنه وطئها وجميعها مكاتب، فيكون للجارية نصف المهر لأجل النصف الذي بقي على الكاتبة، ونصف المهر لسيدها الذي لم يحبل؛ لأن نصيبه قد انفسخت الكتابة فيه إما بالتقويم أو بالعجز، وكان ما يخص نصيبه من كسبها له. وأما ما يجب على الثاني من المهر، فإن قلنا: إن الإحبال يسري في الحال فقد وطئها الثاني ولا ملك له فيها.. فيلزمه جميع المهر، ويكون للأول نصفه لأجل النصف الذي قوم عليه، وصارت أم ولد له. وأما النصف الثاني من المهر، فإن كانت قد عجزت نفسها عن كتابة نصيب الذي استولدها.. كان له أيضًا. وإن كانت لم تعجز نفسها.. كان للجارية؛ لأنه كسب لنصفها الذي بقي على الكتابة.

وإن قلنا: إن الإحبال لا يسري إلا بدفع القيمة، فإن وطئها قبل دفع القيمة.. سقط عن الثاني نصف مهرها لأجل نصفها الذي له؛ لأنه عاد رقيقا له بالتقويم، وهل يجب عليه نصف مهرها لأجل نصفها الذي هو للمحبل؟ فإن كانت قد عجزت نفسها عن الكتابة.. استحق المحبل نصف مهرها على الثاني. وإن لم تعجز نفسها.. كان ذلك النصف للجارية؛ لأن نصفها باق على الكتابة. وإن وطئها الثاني بعد أن أخذ نصف قيمتها.. وجب عليه كمال مهرها، فيكون للمحبل نصفه لأجل النصف الذي قوم عليه. وأما النصف الثاني من المهر، فإن كانت قد عجزت نفسها عن أداء كتابة نصفها الباقي.. كان للمحبل أيضًا. وإن لم تعجز نفسها.. كان لها. وإن أمكن أن يكون الولد من الثاني دون الأول، بأن تأتي به لأكثر من أربع سنين من وطء الأول، ولدون أربع سنين ولستة أشهر فما زاد من وطء الثاني.. لحق الولد بالثاني، وانتفى عن الأول، فصار نصيب الثاني من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له. وإن كان معسرًا.. لم يسر الإحبال إلى نصيب الأول منهما. وأما الولد: فعلى قول أبي علي: ينعقد جميعه حرًا، ويثبت في ذمة الثاني نصف قيمته للأول. وعلى قول أبي إسحاق: يكون نصفه حرًا ونصفه ليس بحر، بل يكون كولدها الذي تأتي به من زوج أو زنا، ويلزم كل واحد منهما جميع المهر لها فتقبضه منهما إن لم يحل عليها نجم، وإن حل عليها نجم.. كان كما لو لم تلد. وإن كان الثاني موسرًا.. صار نصيبه من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له، ويسري الإحبال إلى نصيب شريكه منها، ويقوم عليه. ومتى يقوم؟ على الطريقين.

فرع كاتبا أمة ثم وطئاها وأتت بولدين

والكلام في قيمة الولد كما ذكرناه في التي قبلها. ويلزم الثاني جميع مهرها: نصفه للمكاتبة لأجل نصفها الذي بقي على الكتابة، ونصفه للواطئ الأول الذي لم يحبلها لأجل نصفها الذي انفسخت فيه الكتابة بالتقويم. وأما الأول: فإنه يسقط عنه نصف مهرها لأجل نصفها الذي انفسخت فيه الكتابة، وعاد رقيقًا له بالتقويم، ويجب عليه نصف المهر لأجل نصفها الذي للمحبل. فإن كانت قد عجزت نفسها عن أداء كتابة نصفها الذي للثاني.. كان ذلك النصف من مهرها للثاني. وإن لم تعجز نفسها.. كان ذلك للمكاتبة. وإن أمكن أن يكون الولد من كل واحد منهما، بأن تأتي به لأكثر من ستة أشهر ولدون أربع سنين من وطء كل واحد منهما.. عرض الولد على القافة، فإن ألحقته بالأول.. لحق به وانتفى عن الثاني، وكان الحكم كما لو أمكن أن يكون من الأول دون الثاني على ما مضى. وإن ألحقته بالثاني.. كان الحكم فيه كما لو أمكن أن يكون من الثاني دون الأول على ما مضى. وإن ألحقته القافة بهما، أو نفته عنهما، أو أشكل عليها أمرهما، أو لم توجد قافة.. يترك الولد حتى يبلغ وينتسب إلى أحدهما، وينفقان عليه، فإذا بلغ، وانتسب إلى أحدهما.. لحق به، وكان الحكم فيه كما لو لحقه بالإمكان، ويلزمه أن يغرم للآخر ما أنفقه على ولده؛ لأنه بان أنه ولده. [فرع كاتبا أمة ثم وطئاها وأتت بولدين] ) : وإن كانت أمة بينهما نصفين فكاتباها، ثم وطئها كل واحد منهما، وأتت من كل واحد منهما بولد اعترف به واعترفا بالسابق منهما، وأظهرت العجز، وفسخ السيدان الكتابة.. فلا يخلو حالهما: إما أن يكونا موسرين، أو يكون الأول موسرا والثاني معسرا، أو يكون الأول معسرا والثاني موسرا، أو يكونا معسرين.

فإن كانا موسرين.. فإن الأول يجب عليه نصف المهر لشريكه؛ لأنها بانفساخ الكتابة عادت بمعناها قبل الكتابة، فوجب عليه نصف المهر لأجل نصف شريكه، ويسقط عنه نصف المهر لأجل نصفه الذي عاد رقيقًا له، ويكون الولد حرًا، ونصيبه من الجارية أم ولد له ومكاتبًا له، ويسري الإحبال إلى نصيب شريكه، ومتى يسري الإحبال؟ على الأقوال الثلاثة في وقت سراية العتق. وأما قيمة نصف الولد: فمبني على القولين في وقت السراية، فإن قلنا: إن السراية تقع في الحال.. لم يجب عليه قيمة نصف الولد؛ لأنها تضعه في ملكه. وإن قلنا: لا تقع السراية إلا بعد دفع القيمة، فإن ولدت قبل دفع القيمة.. فإنه يلزمه نصف قيمة الولد لشريكه. وإن دفع القيمة، ثم ولدت.. لم يلزمه نصف قيمة الولد. وأما ما يجب على الثاني: فإن قلنا: إن السراية تقع في الحال، فقد وطئها الثاني وأحبلها بعد أن صارت أم ولد للأول.. فيلزم الثاني للأول جميع مهرها، ويكون ولده حرًا للشبهة، ويلزمه جميع قيمته للأول. وإن قلنا: لا تقع السراية إلا بعد دفع القيمة، وكان وطؤه قبل دفع القيمة.. وجب على الثاني نصف مهرها للأول لأجل نصفه منها، ويسقط عنه نصف مهرها لأجل نصفه الذي انفسخت الكتابة فيه له، ويصير الولد حرًا للشبهة، ويلزمه للأول نصف قيمته، ويسقط عنه النصف، ولا تصير الجارية أم ولد للثاني؛ لأنه قد استحق تقويمها على الأول بحكم الاستيلاد ولا ينفذ استيلاد الثاني فيها، فيتقاصان فيما استويا فيه، ويرجع من له فضل شيء على صاحبه بما بقي له، والحكم في الحد والتعذير على ما مضى. وإن كان الأول موسرًا والثاني معسرًُا.. فالحكم في الأول على ما مضى. وأما الثاني: فإن قلنا: إن إحبال الأول يسري في الحال فقد وطئها الثاني وأحبلها بعد أن صارت أم ولد للأول.. فيجب عليه للأول جميع مهرها. قال أبو إسحاق: ويكون الولد مملوكًا للأول. وقال ابن أبي هريرة: يكون حرًا وتثبت قيمته في ذمة الثاني. وإن قلنا: إن إحبال الأول لا يسري إلا بعد دفع القيمة فوطئها الثاني قبل دفع

القيمة.. لزم الثاني للأول نصف المهر ويسقط عنه النصف. وعلى قول أبي إسحاق: يكون نصف ولد الثاني حرًا ونصفه مملوكًا للأول. وعلى قول أبي علي: يكون جميعه حرًا ويكون في ذمة الثاني نصف قيمته للأول، ولا يصير نصيب الثاني من الجارية أم ولد له؛ لأنه قد استحق تقويمه على الأول. وإن كان الأول معسرًا والثاني موسرًا.. فإن نصيب الأول من الجارية صار أم ولد له، ولا يسري إلى نصيب الثاني من الجارية. وفي ولد الأول وجهان: (أحدهما) : قال أبو إسحاق: يكون نصفه حرًا ونصفه مملوكًا للثاني. و (الثاني) : قال أبو علي بن أبي هريرة: يكون جميعه حرًا، ويثبت في ذمته نصف قيمته للثاني، ويجب على الأول نصف المهر في ذمته للثاني. وأما الثاني: فيجب عليه للأول نصف مهرها، ويسقط عنه النصف، ويصير نصيبه من الجارية أم ولد له، ولا يسري إلى نصيب الأول من الجارية؛ لأنه قد صار أم ولد للأول. وأما ولد الثاني: فيكون حرًا وجهًا واحدًا، ويلزمه نصف قيمته للأول. وإن كانا معسرين.. فعلى كل واحد منهما لصاحبه نصف المهر، ويصير نصيب كل واحد منهما من الجارية أم ولد له، ولا يسري إلى نصيب شريكه. وأما الولدان: فعلى قول أبي إسحاق: يكون نصف ولد كل واحد منهما حرًا، ونصفه مملوكًا لصاحبه. وعلى قول أبي علي: يكونان حرين، ويثبت في ذمة كل واحد منهما نصف قيمة ولده لصاحبه. وإن اختلفا في السابق منهما، وكل واحد منهما يقول: أنا الأول.. فلا يخلو: إما أن يكونا موسرين، أو معسرين، أو أحدهما موسرًا والآخر معسرًا. فإن كانا موسرين، فكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف قيمة الجارية؛ لأنه يقول: أن أحبلتها أولا، ويسري الإحبال إلى نصيبك، ويقر له بنصف المهر؛ لأنه

يقر أنه وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره، ويقر له بنصف قيمة الولد على القول الذي يقول: إن السراية لا تقع إلا بدفع القيمة. وعلى القول الذي يقول: إن السراية تقع في الحال.. يقول: لا شيء علي من قيمة الولد، ويدعي كل واحد منهما على صاحبه بجميع المهر وجميع قيمة الولد في أحد القولين ـ وهو إذا قلنا: إن السراية تقع في الحال ـ وبنصف المهر ونصف قيمة الولد في القول الآخر ـ وهو إذا قلنا: إن السراية لا تقع إلا بعد دفع القيمة ـ فيسقط إقرار كل واحد منهما لصاحبه بنصف قيمة الجارية؛ لأن كل واحد منهما يكذب إقرار صاحبه له بذلك. وأما المهر: فكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصفه والمقر له يدعي جميعه في أحد القولين، وهو إذا قلنا: إن السراية تقع في الحال، فيجب على كل واحد منهما لصاحبه نصف المهر الذي اتفقا عليه، ويحلف كل واحد منهما لصاحبه على النصف الذي يدعيه وينكره صاحبه. وأما على القول الذي يقول: لا يسري الإحبال إلا بدفع القيمة.. فإن كل واحد منهما لا يدعي على صاحبه إلا نصف المهر، فكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف المهر، فلا يمين على أحدهما للآخر؛ لأن كل واحد منهما يقر لصاحبه بما يدعيه عليه. وأما قيمة الولدين: فإن كل واحد منهما يحلف لصاحبه بما يدعيه عليه من ذلك؛ لأنا إذا قلنا: إن الإحبال يسري في الحال.. فإن كل واحد منهما يقول: أنا أحبلتها أولًا ويسري إحبالي، ووضعته في ملكي، فلا يلزمني قيمة ولدي، وأنت أحبلتها بعدى وقد صارت أم لولدي، فيلزمك جميع قيمة ولدك، فيحلف كل واحد منهما لصاحبه ـ على هذا ـ أنه لا يستحق جميع قيمة الولد التي يدعيها ولا بعضها.

وعلى هذا القول الذي يقول: إن الإحبال لا يسري إلا بدفع القيمة.. فكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف قيمة ولده ويدعي على صاحبه بنصف قيمة ولده، فإن كانت قيمة الولدين متساوية، وقلنا: يسقط ما على أحدهما بمثل ما له على الآخر.. فلا يمين على أحدهما. وإن كانت قيمة أحدهما أكثر.. حلف من كثرت قيمة ولده؛ لأن الأصل براءة ذمة كل واحد منهما مما يدعيه الآخر. إذا ثبت هذا: فإن هذه الجارية توقف ولا تصير أم ولد لواحد منهما؛ لأن قول أحدهما ليس بأولى من قول الآخر. ويؤخذان بنفقتهما، فِإن مات أحدهما.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول أكثر أصحابنا، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أنه لا يعتق شيء من الجارية لاحتمال ِأن تكون أم ولد للثاني منهما خاصة، ولا يقع العتق بالشك. والثاني ـ حكاه ابن الصباغ عن أبي علي بن أبي هريرة، وأبي علي الطبري، واختاره القاضي أبو الطيب ـ: أنه يعتق نصفها؛ لأن الميت كان قد أقر بأن نصفها أم ولد له وهي في يده، فلزم ذلك في حق ورثته. ويكون ولاء هذا النصف موقوفًا، بخلاف العتق؛ لأنه يبنى على التغليب والسراية. وإن ماتا جميعًا.. حكم بعتقها بلا خلاف؛ لأن موت سيدها الذي صارت أم ولد له منهما متيقن، ويكون ولاؤها موقوفًا إلى أن يتبين الحال. فإن ماتت الجارية بعد ذلك، فإن كان لها وارث من جهة النسب يحوز ميراثها.. ورثها ولا كلام. وإن كان وارثها هو مولاها.. وقف ميراثها إلى أن يصطلح عليه ورثة السيدين. وإن كانا معسرين.. فكل واحد منهما يقر أن نصيبه من الجارية أم ولد له والآخر يصدقه؛ لأن الاستيلاد مع الإعسار لا يسري، وكل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف

المهر ويصدقه المقر له على ذلك، فإن كانا سواء.. تقاصًا، ولا يمين بينهما، وإن كان على أحدهما فضل.. دفع الفضل لصاحبه. وأما الولدان: فعلى قول أبي إسحاق: نصف ولد كل واحد منهما حر، ونصفه الآخر مملوك لصاحبه. وعلى قول أبي علي: الولدان حران، وعلى كل واحد منهما لصاحبه نصف قيمة ولده، فيتقاصان فيما استويا، ويتراجعان في الفضل، ولا يمين هاهنا. فإن مات أحدهما.. عتق نصف الجارية، ويكون ولاؤه لورثته. ونقل الربيع في " الأم " (انظر: 7/412) : أنهما إذا ماتا.. كان الولاء موقوفًا، سواء كانا موسرين أو معسرين) . فمن أصحابنا من قال: هذا خطأ في النقل؛ لأن الولاء إنما يوقف إذا كانا موسرين، فأما إذا كانا معسرين.. فلا يوقف، كما بيناه. ومنهم من اعتذر له، وقال: أراد به إذا كانا معسرين حال الموت، وقد كانا موسرين حال الإحبال. وأما إذا كان أحدهما موسرًا والآخر معسرًا.. فإن الموسر يقر للمعسر بنصف قيمة الجارية ونصف مهرها. ويقر له بنصف قيمة الولد إذا قلنا: لا يسري الإحبال إلا بدفع القيمة. ولا يقر بشيء من قيمة الولد إذا قلنا: يسري الإحبال في الحال. ويدعي على المقر بجميع المهر إذا قلنا: يسري الإحبال في الحال. ويملك الولد على قول أبي إسحاق، وبقيمته على قول أبي علي بن أبي هريرة وعلى هذا القول. ولا يدعي إلا بنصف المهر إذا قلنا: لا يسري الإحبال إلا بدفع القيمة. وفي الولد على هذا القول وجهان. فالمعسر يقول: أنا وطئت أولًا، فعلي نصف المهر، ونصيبي من الجارية أم ولد لي، وفي ولدي وجهان. وأنت أيها الموسر وطئتها بعدي، فعليك لي نصف المهر ونصيبك أم ولدك وولدك حر وعليك لي نصف قيمته، فيسقط إقرار الموسر بنصف قيمة الجارية للمعسر؛ لأنه يكذبه في ذلك، وكل واحد منهما مقر لصاحبه بنصف المهر، ويصادقه المقر له به فيتقاصان فيما استويا فيه من ذلك، ويحلف

مسألة لا يتبع ولد المكاتبة أمه

المعسر للموسر عن النصف الباقي من المهر؛ لأنه قد يدعي عليه جميع المهر ـ في أحد القولين ـ والمعسر لا يقر له إلا بالنصف. وأما ولد المعسر: فقد تصادقا على ملك نصفه للموسر في أحد الوجهين ونصف قيمته في الآخر، فلا يمين على المعسر في ذلك، إلا أن الموسر يدعي ملك جميعه أو جميع قيمته في أحد القولين، فيحلف المعسر له على ذلك. وأما ولد الموسر: فإن قلنا: إن الإحبال لا يسري إلا بعد دفع القيمة.. لزمه أن يدفع نصف قيمة ولده إلى المعسر؛ لأنه يقر له بذلك وهو يدعيه. وإن قلنا: إن الإحبال يسري في الحال.. فإنه لا يقر له بشيء من قيمة الولد، والمعسر يدعي عليه بقيمة نصفه، فيحلف الموسر له على ذلك. وأما الجارية: فإن نصيب الموسر فيها أم ولد له بلا منازعة، فيكون كسبه له ونفقته عليه. وأما نصيب المعسر منها: فإنهما يتنازعان فيه، فيكون نفقته عليهما وكسبه لهما. فإن مات الموسر.. عتق نصيبه وولاؤه لورثته. فإن مات المعسر أولًا.. لم يعتق نصيبه قبل موت الموسر؛ لأنهما يتنازعان فيه. وإن ماتا.. عتقت الجارية، وكان ولاء نصيب الموسر لورثته؛ لأنهم لا ينازعهم غيرهم فيه. وأما ولاء نصيب المعسر: فإنه يكون موقوفًا بين ورثة الموسر وورثة المعسر. ونقل المزني في هذه المسألة: (أنهما إذا ماتا.. كان الولاء موقوفًا) . قال أصحابنا: أراد بذلك ولاء نصيب المعسر دون نصيب الموسر لما بيناه. [مسألة لا يتبع ولد المكاتبة أمه] ) : إذا كاتب أمة ثم حملت بعد الكتابة بولد من زوج أو زنا.. فإن الولد يكون مملوكًا ولا يتبع الأم في الكتابة. وقال أبو حنيفة: (يتبع الأم في الكتابة) . دليلنا: أن الكتابة عقد يفتقر إلى القبول، فلم يتبع الولد فيه الأم، كالبيع. وفيه احتراز من التدبير.

إذا ثبت هذا: فما حكم الولد؟ فيه قولان: أحدهما: أنه مملوك للمولى، وهو الأصح؛ لأنه عقد يلحقه الفسخ، فلم يسر حكمه إلى الولد، كالرهن. فعلى هذا: يكون كسبه للمولى، وله أن يتصرف فيه بسائر التصرفات التي يتصرف بها في سائر عبيده من البيع والاستخدام والوطء. والثاني: أنه موقوف على حكم الأم، فإن رقت الأم.. رق معها. وإن عتقت.. عتق؛ لأن الكتابة سبب يستحق به العتق، فتبع الولد الأم في ذلك، كالاستيلاد. فإذا قلنا بهذا: فالكلام في قيمته إذا قتل، وفي كسبه، وفي نفقته، وفي عتقه. فأما قيمته: فإنه إذا قتل.. وجبت قيمته على القاتل؛ لأنه مملوك يضمن بالقيمة، ولمن تكون هذه القيمة؟ فيه قولان: أحدهما: أنها للمولى؛ لأنه تابع لأمه، ولو قتلت أمه.. لكانت قيمتها لمولاها، فكذلك قيمة ولدها. والثاني: أنها تصرف إلى المكاتبة لتستعين بها على كتابتها؛ لأن السيد كان لا يستحق التصرف في رقبته مع كونه قنًا، فلا يستحق قيمته، فإذا لم يستحقها السيد.. كانت للأم؛ لأنه لا فائدة في إيقاف القيمة. وأما كسبه: فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيه على قولين: (أحدهما: أنه للمكاتبة، تستعين به على كتابتها؛ لأن الولد تابع لها وجزء منها. والثاني: أنه يكون موقوفًا كالولد، فإن رقت الأم.. رق الولد، وكان الكسب للسيد. وإن عتقت الأم.. عتق الولد وكان كسبه له؛ لأنه لما كانت ذاته موقوفة.. وجب أن يكون كسبه موقوفًا) . ومن أصحابنا من خرج في الكسب قولًا ثالثًا: أنه يكون للسيد؛ لأن كسب ولد أم الولد للسيد، فكذلك كسب ولد المكاتبة.

ومنهم من قال: هي على القولين الأولين المنصوص عليهما. والفرق بين ولد أم الولد المكاتبة أن كسب أم الولد للسيد، فكان كسب ولدها له، وكسب المكاتبة لا يملكه السيد، فلم يكن له كسب ولدها. قال ابن الصباغ: وإن جني على أعضاء هذا الولد.. وجب الأرش على الجاني، وكان ككسب الولد على ما ذكرناه. وإن قلنا: إن الكسب موقوف فمات الولد قبل عتق الأم أو عجزها.. كان كسبه كقيمته إذا قتل، على ما مضى من القولين. وإن أشرفت الأم على العجز، وقلنا: إن كسب الولد موقوف.. فهل للأم أن تأخذه لتؤديه للمولى فتعتق به؟ فيه قولان: أحدهما: لها ذلك؛ لأن في ذلك حظًا للولد؛ لأنها إذا عتقت.. عتق الولد. والثاني: ليس لها أن تأخذه؛ لأن الكسب ليس بمملوك لها، وإنما هو موقوف على السيد أو الولد. وأما نفقه الولد: فإن قلنا: إن كسبه للسيد.. كانت نفقته عليه. وإن قلنا: إن كسبه موقوف.. كانت نفقته في كسبه. وإن لم يف كسبه بنفقته.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب تمامها على السيد؛ لأن المغلب في ذلك حظه؛ لأنه موقوف عليه ليتملكه. والثاني: يجب تمامها في بيت المال؛ لأن السيد لا يملكه، فلا يلزمه الإنفاق عليه، فيكون محتاجًا ليس له من ينفق عليه، فوجبت نفقته في ببيت المال. وأما عتقه: فإن السيد إذا أعتق هذا الولد قبل عجز الأم أو عتقها، فإن قلنا: إن كسبه وقيمته للسيد، أو قلنا: إنه موقوف وليس لها أن تستعين به إذا عجزت.. نفذ

فرع ولد المكاتبة جارية

عتقه؛ لأنه ليس في ذلك إضرار بغيره. وإن قلنا: إن كسبه وقيمته للأم.. لم ينفذ عتقه؛ لأن في ذلك إسقاط حقها من الكسب والقيمة. [فرع ولد المكاتبة جارية] ) : وإن كان ولد المكاتبة جارية، قلنا: إن ولد المكاتبة موقوف.. فلا يجوز للسيد وطؤها، كما لا يجوز له وطء أمها، فإن خالف ووطئها.. فلا حد عليه، كما لو وطئ أمها. فإن كانا عالمين بالتحريم.. عزرًا. وإن كانا جاهلين.. لم يعزرًا. وإن كان أحدهما عالمًا والآخر جاهلًا.. عزر العالم منهما دون الجاهل. وأما المهر: فإن قلنا: إن الكسب للسيد.. فلا مهر عليه. وإن قلنا: إن الكسب للأم.. وجب عليه المهر للمكاتبة. وإن قلنا: إنه موقوف.. أخذ منه المهر ووقف. وإن افتضها أو أفضاها.. كان أرش الافتضاض وقيمتها للإفضاء ككسبها على ما مضى. وإن أحبلها.. كان ولده منها حرًا، ويلحقه نسبه، وتصير أم ولد له؛ لأنها حملت منه بحر في ملكه. وأما قيمتها: فقال أكثر أصحابنا: لا يجب عليه قيمتها؛ لأن القيمة تجب لمن يملكها، والأم لا تملكها. وقال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون في قيمتها قولان هاهنا، كما لو أتلفت. ولا يجب عليه قيمة ولدها؛ لأنها تضعه في ملكه. وإن كان للمكاتبة أمة.. لم يجز للسيد وطؤها؛ لأنها ملك للمكاتبة. فإن خالف ووطئها.. فلا حد عليه لشبهة الملك؛ لأنه يملك مالكها، ويجب عليه المهر، ويدفعه إلى المكاتبة؛ لأن كسب جاريتها لها.

فرع ولد ولد المكاتبة

وإن أحبلها.. صار ولده منها حرًا، ولحقه نسبه، وصارت أم ولد له، ويجب عليه قيمتها للمكاتبة، ولا يجب عليه لها قيمة ولدها؛ لأنها تضعه في ملكه. [فرع ولد ولد المكاتبة] ) : وأما ولد ولد المكاتبة: فإن الشافعي قال: (وولد البنات كالبنات، وولد البنين كالأمهات) يريد: أن ولد بنت المكاتبة حكمه حكم أمه، وولد ابن المكاتبة حكمه حكم أمه دون أبيه. وقال أبو يوسف ومحمد: ولد البنت يكون داخلًا في كتابة جدته. وقال أبو حنيفة: (يدخل في كتابة أمه دون جدته) . ودليلنا: أن الولد من كسب أمه، والأم تابعة للمكاتبة، فكذلك ولدها، كسائر أكسابها. ونحن نريد بذلك في حكم الكتابة لا في الكتابة. [مسألة حبس المكاتب ومنعه عن التصرف] ) : وإذا كاتب الرجل عبدا له على مال معلوم إلى أجل، ثم إن السيد حبس المكاتب ومنعه عن التصرف مدة.. ففيه قولان منصوصان في " الأم ": (أحدهما: يلزمه أن يخليه مثل تلك المدة التي حبسه فيها ليكتسب فيها؛ لأنه دخل معه في عقد على أن يمكنه من التصرف تلك المدة التي شرطها، فلزمه الوفاء بذلك) . والثاني: يلزمه أجرة مثله في مثل تلك المدة التي شرطها، فلزمه الوفاء بذلك. وهو الأصح؛ لأن المنافع تضمن بالأجرة ولا تضمن بالمثل، فهو كما لو غصب من رجل مالًا: دارًا أو عبدًا. [فرع أخذ الأعداء المكاتب لا يمنع الملك] ) : وإن كاتب مسلم عبدًا له، ثم ظهر المشركون على الدار وأخذوا المكاتب..فإنهم لا يملكونه بالأخذ.

مسألة إيتاء السيد شيئا للمكاتب

فإن حبسوه مدة، ثم خلص من أيديهم.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: يلزم السيد أن يخليه مثل تلك المدة التي حبسه المشركون فيها. والثاني: لا يلزمه تخليته؛ لما ذكرناه في التي قبلها. فأما الأجرة: فإنها لا تجب على السيد؛ لأنه لم يحبسه بنفسه. ومنهم من قال: لا يلزمه تخليته للاكتساب هاهنا قولًا واحدًا. والفرق بين هذه والتي قبلها: أن السيد هناك حبس المكاتب وهاهنا لم يحبسه، ولا له في حبسه فعل. فإن قلنا: لا يلزمه تخليته، فإن لم يحل عليه نجم.. فليس له مطالبته. وإن كان قد حل عليه نجم، فإن كان معه مال وأداه.. عتق. وإن لم يكن معه مال.. فللسيد أن يعجزه ويفسخ الكتابة. وإن قلنا: يلزمه تخليته، ففعل، واكتسب مالًا وأداه.. عتق. وإن انقضت المدة ولا مال معه.. فللسيد أن يفسخ الكتابة. [مسألة إيتاء السيد شيئًا للمكاتب] ) : قال الشافعي: (ويجبر السيد على أن يضع من كتابته شيئًا) . وجملة ذلك: أن الإيتاء في الكتابة واجب عندنا، وهو: أن يحط عنه السيد شيئًا من مال الكتابة، أو يدفع إليه ما يستعين به في أداء مال الكتابة. وبه قال أحمد.

وقال مالك وأبو حنيفة: (الإيتاء مستحب غير واجب) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] (النور: 33) وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال في هذه الآية: (ضعوا عنه ربع مال الكتابة) . وعن ابن عباس في هذه الآية: أنه قال: (ضعوا عنهم من مكاتبتهم شيئًا) . وعن ابن عمر: (أنه كاتب عبدا له بخمسة وثلاثين ألفًا، فأخذ منه ثلاثين ألفًا، وترك خمسة آلاف) . إذا ثبت هذا: فالكلام في الإيتاء في أربعة مواضع:

أحدها: في وقت جوازه. والثاني: في وقت وجوبه. والثالث: في قدره. والرابع في جنسه. فأما وقت جوازه: فمن بعد عقد الكتابة إلى حين أداء مال الكتابة؛ لعموم الآية، ولأن القصد إعانته على الأداء، وذلك يحصل كل وقت من هذه الأوقات. وأما وقت وجوبه: ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب إلا بعد؛ لأنه مشبه بالمتعة في الطلاق، والمتعة لا تجب إلا بعد الطلاق. والثاني ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه يتعين وجوبه إذا أدى أكثر مال الكتبابة وبقي عليه قدر الإيتاء؛ لأنه إذا آتاه وقد بقي عليه أكثر من قدر الإيتاء ربما عجز نفسه بعد ذلك، فلا يحصل المقصود بالإيتاء. وأما قدره: ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ أن الإيتاء يختلف باختلاف مال الكتابة، فإن كثر مال الكتابة.. كثر الإيتاء. وإن قل مال الكتابة.. قل الإيتاء. هكذا حكاه الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق عن أبي إسحاق، وحكاه ابن الصباغ عنه: أن الإيتاء يختلف بيسار المكاتب وإعساره. فإن تراضيا على قدر الإيتاء.. فلا كلام، وإلا.. رفعاه إلى الحاكم؛ ليقدره باجتهاده، كما قلنا في المتعة. والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه يجزئ السيد من ذلك ما يقع عليه الاسم من قليل أو كثير) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] (النور: 33) وهذا عموم يقع على القليل والكثير.

فرع أداء مال الكتابة قبل حلول الأجل

وأما جنسه: فإن حط عنه بعض مال الكتابة.. أجزأه. وإن أخذ منه مال الكتابة ثم دفع إليه بعض ما أخذ منه.. جاز؛ لأن الله أمر بالإيتاء، وحقيقة الإيتاء تقع على الدفع، والحط أولى من الدفع؛ لأن فيه معنى الإيتاء وزيادة، ولأنه أنفع له من الدفع؛ لأنه لم يتكلف المشقة في تحصيله، ولأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فسروا الإيتاء بالحط على ما تقدم. فإن كاتبه على دراهم فأعطاه السيد دنانير، أو كاتبه على دنانير فأعطاه السيد دراهم.. لم يجبر العبد على قبوله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] وهذا آتاه من غير المال الذي آتاه. وإن كاتبه على دراهم فأعطاه السيد دراهم من غير المال الذي أعطاه المكتاب.. فهل يلزم العبد المكاتب قبولها؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه قبولها، كما لو أخرج الزكاة من غير المال الذي وجبت فيه الزكاة، إلا أنه من جنسه. والثاني: لا يلزم قبوله، وهو المذهب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] وفسرته الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: بحط بعض مال الكتابة، فدل على أن الإيتاء يختص بنفس مال الكتابة. [فرع أداء مال الكتابة قبل حلول الأجل] ) : وإن أدى المكاتب جميع مال الكتابة قبل الإيتاء.. عتق ولزم المولى إن يدفع إليه؛ لأن لكل واحد منهما على صاحبه حقًا، فلا يسقط حقه بأداء ما عليه، كما لو كان لكل واحد منهما على الآخر دين فقضى أحدهما صاحبه دينه. وإن مات المولى قبل الإيتاء.. لم يسقط الإيتاء؛ لأنه حق واجب لآدمي، فلم يسقط بموته، كالدين. فإن كان ماله يفي يدين ـ إن كان عليه ـ وبالإيتاء.. استوفي ذلك من تركته. وإن كان عليه دين وأوصى بوصايا، فإن كان ماله يفي بالدين والوصايا والإيتاء.

فرع قول السيد رقيقي أحرار

استوفي ذلك كله من تركته. وإن كان ماله لا يفي بذلك كله.. فنقل المزني: (أن المكاتب يحاص أهل الدين والوصايا) واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من ذهب إلى ظاهر ما نقله المزني، وأن المكاتب يحاص أصحاب الوصايا؛ لأن الإيتاء غير مقدر وضعف أمره وإن كان واجبًا، فساوى أصحاب الوصايا. ومنهم من قال: يقال الإيتاء على الوصايا، وهو الصحيح؛ لأنه دين، والدين مقدم على الوصايا. تأولوا ما نقله المزني ثلاث تأويلات: أحدهما: أنه أراد أن الإيتاء مقدم على الميراث، كما يقدم الدين والوصايا عليه؛ لأنه أراد أن الإيتاء يسوي بينه وبين الوصايا. والثاني: أنه أراد بذلك إذا كان قد ثبت عليه دين بالبينة ودين بالوصية، فإن المكاتب يساوي أصحاب الدين الذين ثبت دينهم بالوصية، كما يساوي أصحاب الدين الذين ثبت دينهم بالبينة. والثالث: أنه أراد بذلك: إذا كان قد أوصى للمكاتب بزيادة على قدر الواجب له من الإيتاء.. فإنه يحاص بالقدر الواجب من غير الوصية أهل الدين، ويحاص بما زاد عليه أهل الوصايا؛ لأنه وجب له بالوصية. [فرع قول السيد رقيقي أحرار] ) : إذا قال: مماليكي، أو رقيقي أحرار.. عتق كل عبد له ومدبر وأم ولد. وإن كان له مكاتب.. فنقل المزني: (أنه لا يعتق) . وقال الربيع: سماعي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه يعتق) . فمن أصحابنا من قال: لا يعتق قولا واحدا، وما قاله الربيع من تخريجه. ومنهم من قال: فيه قولان؛ لأنه أخبر أنه سماعه: أحدهما: أنه يعتق عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» ، ولأنه مملوك، فكان مملوكا لسيده.

والثاني: لا يعتق؛ لأنه كالخارج عن ملك سيده، فلا يتصرف في رقبته ولا في منفعته، ولا يستحق كل واحد منهما حقا على صاحبه، فلم يدخل في اسم ممالكيه ولا رقيقه، كالحر. ومن قال بهذا.. قال: المكاتب مملوك لا مالك له، كستارة الكعبة. ومن أصحابنا من يقول: هو مملوك لنفسه ولا يعتق عليه؛ لأنه لم يكمل ملكه، كما إذا اشترى عبدا.. فإنه يملكه ولا ينفذ عتقه فيه. وبالله التوفيق

باب الأداء والعجز

[باب الأداء والعجز] ولا يعتق المكاتب ولا شيء منه بالكتابة حتى يؤدي جميع مال الكتابة، وبه قال عمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وعائشة، وأم سلمة، وابن المسيب، والحسن البصري، والزهري، ومالك، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه. وقال ابن مسعود: (إذا أدى قدر قيمته.. عتق، وكان زعيما بالباقي بعد عتقه) . وروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روايتان: إحداهما: (أنه إذا أدى نصف ما عليه.. عتق كله، وطولب بالباقي) . والثانية: (أنه يعتق منه بقدر ما يؤدي) وقال ابن سريج: إذا أدى ثلث ما عليه.. عتق كله وأدى الباقي في حال حريته. ودليلنا: ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم من مكاتبته» .

مسألة إبراء أحد المكاتبين

ولأنه علق عتقه على دفع مال، فلم يعتق قبل أداء جميعه، كما لو قال لعبده: إن أديت إلي ألفا.. فأنت حر. [مسألة إبراء أحد المكاتبين] ) : وإن كاتب رجلان عبدا بينهما كتابة صحيحة، ثم أبرأه أحدهما مما عليه، أو أعتق نصيبه منه.. عتق عليه، كما لو كاتب عبدا فأبرأه من مال الكتابة أو أعتقه. وهل يقوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا؟ قال الشيخ أبو حامد: يقوم عليه قولا واحدا، كغير المكاتب. وقال الشيخ أبو إسحاق: يجب أن يكون التقويم على قولين، كما قلنا في الشريكين إذا دبرا عبدا بينهما، ثم أعتق أحدهما نصيبه. فإذا قلنا: يقوم عليه.. فمتى يقوم عليه؟ فيه قولان: أحدهما: يقوم عليه في الحال؛ لأن التقويم لحظ العبد، والحظ له التقويم في الحال لتتعجل له الحرية، فتقوم في الحال، كغير المكاتب. والثاني: يؤخر التقويم إلى أن يعجز العبد؛ لأن التقويم في الحال يسقط ما ثبت للآخر من ولاء نصفه، فتأخر التقويم. فعلى هذا: إن أدى ما بقي عليه من المال الكتابة.. عتق نصيب السيد الذي لم يعتق عليه، وكان الولاء بينهما. وإن عجز.. قوم نصيب الشريك الذي لم يعتق على المعتق، وعتق عليه، وكان له ولاء جميعه. [فرع لا تنفسخ الكتابة بموت السيد] ) : وإن كاتب رجل عبدا، ومات السيد قبل الأداء وخلف ابنين فإن الكتابة لا تنفسخ بموت السيد؛ لأنها لازمة من جهته. فإن أدى مال الكتابة إليهما.. عتق؛ لأنهما قائمان مقام الأب فيعتق بالأداء إليهما، كما يعتق بالأداء إلى الأب. ويكون الولاء لأبيهما؛ لأنه عتق بسبب منه وينتقل إليهما، فإن عجز فسخا الكتابة وعاد

رقيقا لهما. وإن أراد أن يؤدي مال الكتابة إلى أحدهما دون الآخر.. لم يجز؛ لأن الحق لهما، فلا يجوز أن يفرد أحدهما بالأداء. فإن خالف وأدى مال الكتابة إلى أحدهما.. فهل يعتق نصيبه؟ قال ابن الصباغ: فيه قولان. وإن أعتق أحدهما نصيبه منه، أو أبرأه مما له عليه.. برئ مما له عليه، وعتق نصيبه منه. وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يعتق إلا بأداء جميع مال الكتابة) . دليلنا: أنه أبرأه من جميع ما له عليه، فعتق نصيبه منه، كما لو كاتب عبدا له وأبرأه من مال الكتابة. وهل يقوم عليه نصيب أخيه إن كان موسرا؟ فيه قولان: أحدهما: لا يقوم عليه؛ لأنه إذا أبرأه.. عتق بحكم الكتابة، والكتابة إنما كانت من الميت، بدليل أن الولاء له فيه، فلا يجوز أن يقوم على الابن. والثاني: يقوم عليه نصيب أخيه، وهو الأصح؛ لأن الحرية تعجلت له بإعتاق الابن أو إبرائه، فقوم عليه، كما لو كان عبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه فيه وهو موسر. وما ذكره الأول لا يدل على عدم التقويم؛ لأنه قد يقع العتق والولاء لشخص ويكون التقويم على غيره، ألا ترى أن رجلا لو قال لأحد الشريكين في العبد: أعتق نصيبك عني على ألف، فأعتقه عنه.. فإنه يعتق عن السائل نصيب المعتق، ويكون الولاء له به، ويسري فيه العتق إلى نصيب الشريك، ويجب تقويمه على الشريك المباشر للعتق؟ فإذا قلنا: لا يقوم عليه.. عتق نصيب المعتق وبقي نصيب أخيه على الكتابة، فإن أدى إليه ما يخصه من مال الكتابة.. عتق، وكان ولاء جميعه للميت، وينتقل إلى عصباته. وإن عجز.. كان للأخ الذي لم يعتق فسخ الكتابة في نصفه، فيعود رقيقا له ويكون نصفه حرا، ولمن يكون ولاء ذلك النصف؟ فيه وجهان:

أحدهما: يكون بين الاثنين نصفين؛ لأنه عتق بالكتابة على الأب، فانتقل إليهما. والثاني: يكون للابن الذي أعتقه أو أبرأه؛ لأنه الذي يجر العتق له. وإذا قلنا: إنه يقوم عليه نصيب أخيه.. فمتى يقوم عليه؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال أكثرهم: فيه قولان: أحدهما: يقوم في الحال. والثاني: لا يقوم إلا بعد العجز، كالتي قبلها. وقال أبو إسحاق المروزي: يؤخر التقويم إلى أن يعجز قولا واحدا. والفرق بينهما: أن في هذه قد ثبت الولاء للميت بحق الكتابة، فإذا قوم على الابن عاجلا.. انتقل الولاء عن الميت إليه، والملك لا ينتقل فيه، فلم يجز نقل الولاء عنه بغير ضرورة. وفي التي قبلها إذا قوم العبد على أحد الشريكين.. انتقل الملك إليه في نصيب شريكه، فانتقل إليه الولاء. فإذا قلنا: يقوم في الحال.. دفع إلى أخيه قيمة نصف العبد، وعتق هذا النصف على الذي يقوم عليه، وكان ولاء هذا النصف له، وفي ولاء النصف الذي عتق بالإعتاق أو الإبراء الوجهان الأولان: أحدهما: أنه بين الابنين. والثاني: أنه للذي أعتقه منهما أو أبرأه. وإذا قلنا: لا يقوم إلا بعد العجز.. نظرت: فإن أدى المال الذي بقي عليه من مال الكتابة.. قال ابن الصباغ: عتق ويكون الولاء بينهما. وقال المحاملي: يكون ولاء هذا النصف الذي عتق بالأداء للميت، وينتقل إلى عصباته. وفي ولاء هذا النصف الذي عتق بالإعتاق أو الإبراء الوجهان:

فرع يدفع المكاتب للسيدين معا

أحدهما: أنه بين الابنين. والثاني: ينفرد به الابن الذي أعتقه. وإن عجز عن أداء ما بقي عليه.. فسخت الكتابة في النصف الذي للأخ الذي لم يعتق، وقوم ذلك على أخيه، وعتق عليه، وكان ولاء هذا النصف للمقوم عليه. وفي ولاء النصف الذي عتق بالإبراء الوجهان. [فرع يدفع المكاتب للسيدين معا] فرع: (يدفع المكاتب للسيدين) : وان كاتب رجلان عبدًا بينهما نصفين كتابة صحيحة.. فلا يجوز للمكاتب أن يدفع إلى أحدهما شيئا من مال الكتابة حتى يدفع إلى الآخر مثله. فإن دفع إلى أحدهما شيئا من مال الكتابة، ولم يدفع إلى الآخر مثله، فإن كان ذلك بغير إذن المولى الذي لم يدفع إليه.. لم يصح قبض الذي قبض، وكان للآخر أن يأخذ من القابض نصف ما قبض. وإن كان ذلك بإذن الذي لم يقبض.. فهل صح القبض؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصح. وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني؛ لأن حق الإذن إنما هو في ذمة المكاتب، وما في يد المكاتب ملك للمكاتب، فلا ينفذ فيه إذن السيد، فيكون كما لو دفع إليه من غير إذن، ولأنه لو كان مع المكاتب ألف فوزن لأحدهما خمسمائة برضا الآخر، ثم هلكت الخمسمائة التي بقيت في يد المكاتب قبل أن يقبضها الآذان.. لكان للآذن أن يرجع على القابض بنصف الخمسمائة التي قبض، ولو صح الإذن.. لم يرجع عليه بشيء. والثاني: يصح القبض. قال المحاملي: وهو الأشبه؛ لأن للسيد على المكاتب حقين؛ حقا في ذمته وحقا في ماله وهو حق الحجر؛ لأن له منعه أن يخص شريكه بشيء منه فإذا أذن له في دفعه، فقد أسقط حقه من الحجر وبقي حقه الذي في ذمته، فصار كرجل له في ذمة رجل دين وله رهن فأسقط حقه من الرهن، فإنه يبقى حقه من الدين. فإذا قلنا: لا يصح القبض.. قيل للمكاتب: إن كان معك من المال مثل الذي

دفعت إلى القابض.. فادفعه إلى الآخر، فإذا دفعه وكان تمام المال الكتابة.. عتق عليهما. وإن لم يكن معه مال غير ما قد قبضه السيد الأول.. كان للسيد الآذن أن يرجع على القابض بنصف ما قبضه. فإن أدى إليهما تمام مال الكتابة.. عتق عليهما. وإن عجز.. فسخا الكتابة ورق لهما. وإن قلنا: يصح القبض. عتق نصيب القابض؛ لأنه استوفى جميع ما له عليه. وهل يقوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا؟ قال الشيخ أبو إسحاق: فيه قولان: أحدهما: لا يقوم عليه؛ لتقدم سببه الذي اشتركا فيه. والثاني: يقوم عليه؛ لأنه عتق نصيبه بسبب منه. وقال أكثر أصحابنا: يقوم عليه قولا واحدا. فإذا قلنا: يقوم عليه.. فمتى يقوم عليه؟ فيه قولان: أحدهما: يقوم عليه في الحال. والثاني: لا يقوم في الحال، بل يؤخر إلى أن يعجز فيرق، أو ما يؤدي ما عليه للأخر، وقد مضى توجيههما. فإذا قلنا: يقوم في الحال.. فإن الكتابة تنفسخ في النصف المتقوم، فيعتق جميعه على القابض، ويكون ولاء جميعه للقابض. فإن كان في يده ما كسبه قبل العتق.. قال ابن الصباغ: كان للذي لم يقبض أن يأخذ منه بقدر ما قبضه شريكه؛ لأن كسبه قبل عتقه كان بينهما. فإن فضل من الكسب شيء بعد ذلك.. كان بين السيد الذي لم يقبض وبين المكاتب نصفين؛ لأن الكسب كان في ملكهما، فما خص ملك القابض، انتقل إلى العبد بعتق نصفه، وما خص ملك الذي لم يقبض.. كان له أخذه؛ لأن حصته منه قد عاد رقيقا بالتقويم.

مسألة قبض السيد مال المكاتبة قبل الحلول

وإن قلنا: لا يقوم إلا بعد العجز.. نظرت: فإن أدى ما عليه للذي لم يقبض.. عتق عليه نصفه وعلى القابض نصفه، وكان ولاؤه بينهما، وما فضل في يد المكاتب من الكسب للمكاتب. وإن عجز.. قوم نصفه على القابض، وعتق عليه جميعه، وكان ولاؤه له، وكان للذي لم يقبض نصف ما كسبه العبد من حين عتق نصفه الأول إلى حين أن يعتق نصفه الثاني. فإن مات المكاتب قبل الأداء والتقويم.. مات ونصفه حر ونصفه مكاتب، فيكون لسيده الذي لم يقبض نصف ما خلفه، وفي النصف الآخر قولان: قال في القديم: (يكون لورثته) . وقال في الجديد: (يكون لمالك نصفه) ويأتي بيانهما في الفرائض إن شاء الله. [مسألة قبض السيد مال المكاتبة قبل الحلول] ) : إذا جاء المكاتب بمال الكتابة إلى السيد قبل حلول النجم، فإن قبله السيد منه.. صح القبض وبرئ منه المكاتب. وإن امتنع السيد من قبضه.. نظر فيه: فإن كان مما يخاف عليه التلف أو التغير إلى وقت حلول النجم، كالأشياء الرطبة وما أشبه.. ذلك لم يلزمه قبوله؛ لأنه ربما يتلف قبل المحل ففاته المقصود. وإن كان مما لا يتلف بنفسه ولكن عليه مؤونة في حفظه إلى وقت حلول النجم، كالطعام الكثير والثياب والأخشاب وما أشبهها.. لم يجبر على قبوله؛ لأن عليه ضررا في مؤونة حفظه إلى وقت حلول النجم. وإن كان حيوانا لم يجبر على قبوله أيضا؛ لأنه يخاف عليه التلف ويلزمه مؤونة في حفظه. وإن كان مما لا يخاف التلف بنفسه، ولا عليه مؤونة في حفظه، كالدراهم والدنانير والرصاص والصفر والنحاس، فإن كان البلد خائفا ويخاف عليه الأخذ،

فرع كاتبه على مال في بلد

وكان البلد وقت عقد الكتابة آمنا.. لم يلزمه قبوله؛ لأنه ربما يتلف إلى وقت حلول النجم. وإن كان البلد عند وقت عقد الكتابة خائفا.. ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه قبوله؛ لأن حالة العقد وحالة القبض سواء فأشبه إذا كانا آمنين. والثاني: لا يلزمه قبوله، وهو الأصح؛ لأن الاعتبار بحال حلول النجم وربما زال الخوف ذلك الوقت. وكل موضع قلنا: يلزمه قبوله، فإن قبله.. فلا كلام، وإن لم يقبله.. وإلا دفعه المكاتب إلى الحاكم وبرئ؛ لما روى سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه: (أن امرأة اشترته وكاتبته على أربعين ألفا، فأدى عامة المال، ثم أتاها ببقيته، فقالتِ: لا والله حتى يأتي به سنة بعد سنة وشهرا بعد شهر، فأتى بالمال إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخبره بذلك، فقال: ضعه في بيت المال، ثم أرسل إليها عمر: أنه أخذ المال وجعله في بيت المال، وقال لها: قد عتق أبو سعيد، فإن اخترت أخذه شهرا بعد شهر أو سنة بعد سنة.. فافعلي. فأرسلت، فأخذت المال) . ولأن الأجل حق لمن عليه الدين، فإذا عجل الدين.. فقد رضي بإسقاط حقه من الأجل، فأجبر من له الدين على أخذه. [فرع كاتبه على مال في بلد] ) : قال في " الأم ": (وإن كاتب رجل عبدا له على مال ببلد، ثم لقيه ببلد آخر، فأعطاه العبد إياه: فإن كان مما لحمله مؤونة، كالحبوب والحديد والرصاص والثياب.. لم يجبر على قبوله؛ لأن عليه ضررا بمؤونة حمله. وإن كان مما ليس بحمله مؤونة كالدراهم والدنانير، فإن كان الطريق مخوفا.. لم يلزمه قبوله؛ لأنه يخاف عليه التلف. وإن كان الطريق آمنا.. لزمه قبوله؛ لأنه لا غرض له في تأخيره) .

فرع كاتبه على ألف في نجمين فعجل أحدهما

[فرع كاتبه على ألف في نجمين فعجل أحدهما] ) : وإن كاتبه على ألف في نجمين إلى أجلين، فجاءه بخمسمائة قبل المحل، ثم قال له: خذ هذه على أن تبرئني من الخمسمائة الأخرى، ففعل، أو قال له السيد: عجل لي خمسمائة حتى أبرئك من الباقي، أو صالحني على خمسمائة معجلة.. لم يصح القبض ولا الصلح ولا الإبراء ولا يعتق العبد بذلك. وبه قال أبو يوسف وزفر. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجوز استحسانا) وبه قال أحمد. دليلنا: أن هذا يضارع ربا الجاهلية، فإن الرجل منهم كان إذا حل دينه يقول لمن عليه الدين: تقضي أو نزيد؟ فإن قضاه، وإلا.. زاده في الدين، وزاده في الأجل. وهذا مشبه بذلك؛ لأنه ينقصه من الحق لينقصه من الأجل، فلم يصح. وإن لم يشترط عليه الإبراء ولكن عجل له خمسمائة وسأله إبراءه من الباقي؟ فأبرأه.. صح؛ لأن الإبراء لم يكن عوضا عن التعجيل. إذا ثبت هذا: فإن المزني قال: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وضع وتعجيل لا يجوز) ، وقال في موضع آخر: (وضع وتعجيل يجوز) . قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على حالين: فالموضع الذي قال: (لا يجوز) أراد: إذا كان بشرط البراءة. والموضع الذي قال: (يجوز) أراد: إذا عجل بغير شرط البراءة. [مسألة لا يطالب المكاتب قبل الأجل] ) : وليس للسيد مطالبة المكاتب بمال الكتابة قبل حلول النجم؛ لأن الأجل جعل رفقا بالمكاتب، فلو جوزنا له مطالبته به قبل حلول النجم.. سقطت فائدة الأجل. فإذا حل أجل نجم.. كان للسيد مطالبته بالنجم الذي حل، فإن دفعه إليه.. فلا كلام. وإن كان عاجزا عن أداء النجم الذي حل عليه.. كان المولى بالخيار بين أن يصبر عليه ويتركه على الكتابة، وبين أن يفسخ الكتابة ويرده إلى الرق. وبه قال أبو حنيفة.

فرع إنظار السيد للمكاتب

وقال أبو يوسف: لا يرده إلى الرق حتى يتوالى عليه نجمان. دليلنا: ما روي: (أن ابن عمر كاتب عبدا له على ثلاثين ألفا، فقال له: أنا عاجز. فقال له: امح كتابك. فقال: امح أنت كتابك) . ولأنه عجز عن أداء ما حل عليه، فكان للسيد أن يعجزه، كما لو توالى عليه نجمان. فإن كان مع المكاتب ما يؤديه فامتنع من أدائه.. جاز للمولى تعجيزه ورده إلى الرق. وقال أبو حنيفة: (ليس له تعجيزه، بل يجبره الحاكم على الأداء) . دليلنا: أنه تعذر الأداء بالامتناع من الأداء، فجاز له تعجيزه ورده إلى الرق، كما لو لم يكن قادرا على الأداء. وإن عجز عن أداء بعض النجم، أو امتنع من دفع بعضه.. جاز للمولى تعجيزه؛ لأن العتق لا يتبعض، فكان تعذر البعض كتعذر الجميع. وللمولى أن يعجزه بنفسه ويرده إلى الرق من غير حاكم إذا كان المكاتب حاضرا. وقال ابن أبي ليلى: لا يكون عجزه إلا عند السلطان. دليلنا: أنه فسخ مجمع عليه، فلم يفتقر إلى الحاكم كفسخ البيع للعيب. [فرع إنظار السيد للمكاتب] ) : وإذا حل على المكاتب نجم فعجز عن أدائه، فقال السيد: قد أنظرته.. جاز؛ لأن الحق في الفسخ للسيد، فجاز له تركه. فإن بدا للسيد أن ينظره وطالبه به.. جاز، وله أن يعجزه؛ لأن الدين الحال لا يتأجل عندنا بالتأجيل.

فرع حلول أجل المال والمكاتب غائب

فإن كان مع المكاتب مال من غير جنس مال الكتابة فاستنظر لبيعه بجنس مال الكتابة.. وجب على السيد إنظاره؛ لأنه قادر على أداء مال الكتابة، ولا يلزمه أن ينظره أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن ما زاد على الثلاث كثير. وإن طلب أن ينظره إلى أن يصل إليه ماله، فإن كان ماله منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. وجب إنظاره؛ لأن ذلك قريب ولا ضرر على المولى فيه. وإن كان منه على مسافة تقتصر فيها الصلاة.. لم يجب إنظاره؛ لأن على المولى ضررا في ذلك. قال الشيخ أبو إسحاق: فإن طلب الإنظار إلى أن يقتضي دينا له على غيره، فإن كان حالا على مليء.. وجب إنظاره؛ لأنه كالمال الذي أودعه. وإن كان مؤجلا، أو على معسر.. لم يجب إنظاره؛ لأن على المولى ضررا في ذلك. [فرع حلول أجل المال والمكاتب غائب] ) : وإن حل عليه نجم الكتابة وهو غائب.. قال ابن الصباغ: فإن كان يسافر بغير إذن سيده.. كان له أن يفسخ الكتابة. وإن سافر بإذنه.. لم يكن له أن يفسخ، ولكن يرفع الأمر إلى الحاكم، ويثبت عنده حلول مال الكتابة، ويحلف أنه ما قبض؛ ليكتب إلى الحاكم الذي في بلده المكاتب فيعلمه بما ثبت عنده، فإذا وصل الكتاب إلى الحاكم الذي في بلده المكاتب.. استدعى المكاتب وأخبره بما كتب إليه، فإن كان المكاتب عاجزا.. كتب الحاكم المكتوب إليه إلى الحاكم الكاتب إليه بعجز المكاتب ليخبر السيد بذلك، فيكون السيد بالخيار: بين أن يصبر وبين أن يفسخ الكتابة. وإن كان المكاتب قادرا على الأداء.. قال له الحاكم: إما أن تخرج إلى البلد الذي فيه السيد فتؤدي إليه مال الكتابة، أو توكل من يحمل إليه المال، فإن فعل ذلك في أول حال الإمكان عند خروج القافلة ـ إن كان لا يخرج إلا معها ـ فلا كلام. وإن أخر ذلك عن حالة الإمكان ومضى زمان المسير.. ثبت للسيد الخيار في الفسخ. وإن وكل السيد في بلد المكاتب من يقبض منه المال. لزم المكاتب الدافع إليه، فإن امتنع المكاتب من الدفع إليه.. ثبت للسيد الخيار في فسخ الكتابة. وإن أمر

فرع أسر المكاتب

الوكيل بالفسخ عند تعذر القبض.. جاز للوكيل الفسخ. إذا ثبت هذا: فنقل المزني: (أن السيد ليس له أن يفسخ حتى تمضي مدة السير، وسواء كان وكل أو لم يوكل) . ونقل الربيع: (أنه إذا كان للسيد وكيل.. لم تعتبر مدة المسير) . قال أصحابنا: المذهب ما نقله الربيع، وما نقله المزني في هذا خطأ. هكذا ذكر أكثر أصحابنا. وحكى الشيخ أبو إسحاق وجها آخر: أن نجم الكتابة إذا حل والكاتب غائب.. كان للسيد أن يفسخ الكتابة من غير أن يكتب إلى الحاكم الذي في بلده المكاتب؛ لأنه تعذر عليه المال فجاز له الفسخ. [فرع أسر المكاتب] ) : وإن كاتب عبده ثم أسر المشركون العبد وحبسوه مدة وتخلص من أيديهم وحل عليه نجم الكتابة، فإن قلنا: لا يجب على السيد تخليته في مثل تلك المدة التي حبسه فيها المشركون.. فله مطالبته بما حل عليه، فإن كان عاجزا عن أدائه.. كان له تعجيزه. وإن قلنا: يجب عليه تخليته مثل تلك المدة.. فليس له مطالبته حتى تمضي عليه مثل تلك المدة التي حبس فيها بعد حلول النجم، ثم له مطالبته بعد ذلك بما حل عليه، فإن كان عاجزا.. كان له تعجيزه. وإن كان العبد حل عليه النجم وهو في أيدي المشركين، فإن قلنا: يلزمه تخليته بعد أن يتخلص منهم مثل المدة التي حبس فيها.. فليس للسيد هاهنا تعجيزه؛ لأنه يلزمه تخليته مثل المدة بعد أن يتخلص منهم. وإن قلنا: لا يلزمه تخليته بعد التخلص.. فله أن يعجزه ويفسخ الكتابة؛ لأنه قد تعذر الأداء من جهته , وهل له أن يفسخ؟ فيه وجهان: أحدهما: له أن يفسخ الكتابة بنفسه. كما لو كان في دار الإسلام وتعذر الأداء من جهته.

فرع جنون المكاتب

والثاني: لا يجوز له ذلك بنفسه حتى يرفع الأمر إلى الحاكم؛ لينظر الحاكم هل له مال أم لا؛ لأن العبد إذا كان في دار الإسلام وعجز.. فقد عرف العجز من جهته. فكان للسيد أن يفسخ. وإذا كان في دار الشرك.. لم يعلم العجز من جهته، وإنما يعلم من طريق الظاهر وقد يجوز أن يكون له مال في الباطن، فلم يجز له الفسخ قبل البحث عنه. فإن قلنا: يجوز له الفسخ بنفسه، ففسخ، أو قلنا: لا يجوز له إلا عند الحاكم، فبحث الحاكم عن ماله فلم يجد له مالا، فأذن له ففسخ، ثم تخلص العبد وأظهر له مالا.. حكم ببطلان الفسخ؛ لأنا إنما جوزنا له الفسخ ظنا منا أنه لا مال له، فإذا بان أن له مالا.. لم يصح الفسخ. [فرع جنون المكاتب] ) : وإن كاتب عبدا ثم جن العبد.. لم تنفسخ الكتابة بجنونه؛ لأنها لازمة من أحد الطرفين، فلم تنفسخ بالجنون كالرهن، وإنما ينفسخ بالجنون ما كان جائزا من أحد الطرفين، كالوكالة والشركة وما أشبههما، ولأنه عتق معلق بصفة، فلم يبطل بالجنون، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت حر. إذا ثبت هذا: فإن حل عليه النجم قبل الإفاقة.. كان للسيد أن يثبت عند الحاكم الكتابة بالبينة، ويحلف مع بينته أنه لم يقبض مال الكتابة، فإذا أقام البينة وحلف معها، بحث الحاكم عن مال المكاتب، فإن وجد له مالا.. سلمه إلى المولى وعتق عليه. وإن سلم المجنون المال إلى السيد.. عتق؛ لأنه قبض ما يستحقه. فبرئت به ذمته. وإن لم يجد الحاكم للمكاتب مالا.. مكن المولى من فسخ الكتابة، فإذا فسخ الكتابة.. عاد رقيقا له ولزمه الإنفاق عليه؛ لأنه عاد قنا له. فإن بان للمكاتب بعد ذلك مال يفي بمال الكتابة.. بطل فسخ السيد؛ لأنه بان أن

فرع كاتبه على دنانير فلا يكفي دراهم

الباطن بخلاف ما حكم به، فهو كما لو حكم الحاكم بالاجتهاد ثم بان أن النص بخلافه. ويجب عليه أن يرد على السيد ما أنفقه عليه بعد الفسخ؛ لأنه بان أنه لم يكن مستحقا للنفقة عليه. وإن أفاق المكاتب ثم أقام البينة أنه كان قد أدى إلى السيد مال الكتابة.. بطل الفسخ، ولا يرد على السيد ما أنفقه عليه بعد الفسخ؛ لأنه أنفق عليه مع علمه بحريته، فالظاهر أنه متطوع به. [فرع كاتبه على دنانير فلا يكفي دراهم] ) : قال في " الأم ": (وإن كاتبه على دنانير فأعطاه دراهم، أو كاتبه على دراهم فأعطاه دنانير.. لم يجبر على أخذها. وإن كاتبه على دراهم فأعطاه دراهم خيرا منها.. لزمه قبولها إلا أن يكون الذي كاتبه عليه ينفق في بلده ولا ينفق فيه الذي أعطاه إياها، فلا يلزمه قبولها وإن كانت خيرا مما سمى) . [فرع قبول قول السيد في رفضه مال النجم بالبينة] ) : وإن حمل المكاتب إلى السيد شيئا من مال الكتابة فقال السيد: لا آخذه؛ لأنه حرام أو غصبته، أو سرقته من فلان وأنكر المكاتب ذلك، فإن أقام السيد بينة بما قال.. سمعت البينة، ولم يلزمه الأخذ؛ لأن للسيد حقا في ذلك في أن لا يقبض دينه من الحرام، فلذلك سمعت البينة منه. قال المحاملي: فإن أقام شاهدا واحدا بأن المال حرام.. لم تقبل شهادته؛ لأن التهمة تلحق السيد في أنه أراد تعجيزه ورده إلى ملكه.

وإن لم يكن مع السيد بينة.. فالقول قول المكاتب مع يمينه؛ لأن الظاهر مما في يده أنه ملكه، ولأن السيد متهم في ذلك، فإن لم يحلف المكاتب.. حلف المولى، ولم يلزمه قبضه. وإن حلف المكاتب.. حكم بأن المال ملك للمكاتب، فيقال للسيد: إما أن تقبضه أو تبرئه من قدره من مال الكتابة. فإن قبضه المولى.. برئ المكاتب من قدره، فإن كان تمام الكتابة.. عتق. فإن كان المولى قد أقر أنه غصب أو سرق من رجل معين.. لزمه رده إليه؛ لأنه قد تقدم منه الإقرار له بذلك، فقبل: كما لو أقر رجل بحرية عبد غيره ثم اشتراه. وإذا كان المولى لم يقر به لرجل معين، بل قال: هو حرام أو مغصوب.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال ابن الصباغ: لا يمنع منه، بل يمسكه لنفسه؛ لأنه لم يقر به لأحد. وقال المحاملي: لا يمسكه لنفسه، وإنما يقال له: امسكه حتى تعلم مالكه فتدفعه إليه. وإن اختار المولى أن يبرئه من قدره من مال الكتابة فأبرأه.. صح وأقر ذلك في يد المكاتب. وإن امتنع المولى من قبضه أو الإبراء عن قدره.. رفع المكاتب ذلك الأمر إلى الحاكم، فيحلفه الحاكم أنه ملكه إن لم يكن قد حلفه المولى، ويقبضه الحاكم للمولى ويعتق المكاتب، كما قلنا في المكاتب إذا عجل مال الكتابة. فإن كان المولى قد أقر به لرجل معين.. فالذي يقتضي المذهب: أن الحاكم يسلمه إلى المقر له به وإن ادعاه؛ لأن قبضه له كقبض المولى في براءة المكاتب منه، فكان كقبضه في ذلك أيضا.

مسألة ظهور عيب بالمال بعد الحكم بالعتق

[مسألة ظهور عيب بالمال بعد الحكم بالعتق] ) : وإن دفع المكاتب إلى المولى المال وحكم بعتقه، ثم بان أن المال معيب.. نظرت: فإن بان أن المال الذي دفعه من غير جنس مال الكتابة، بأن كاتبه على دراهم فدفع إليه دراهم وبان أنها رصاص أو نحاس.. حكمنا ببطلان القبض وأن العبد باق على الكتابة. وإن بان أنها مضطربة السكة، أو كان مال الكتابة عرضا فبان أنه معيب.. ثبت للمولى الخيار: بين الإمساك والرد، فإن اختار إمساكه.. استقر العتق، ومتى وقع العتق؟ فيه وجهان حكاهما الطبري في " العدة ": أحدهما: حين القبض. والثاني: حين الرضا بالعيب. فإن قيل: إذا أعطاه معيبا.. فلم يعطه جميع ما وقع عليه العقد، فكان ينبغي أن لا يعتق، كما لو كاتبه على عشرة فأعطاه تسعة؟ قلنا: إذا أمسك المعيب فقد رضي بإسقاط حقه منه، فجرى مجرى ما لو أبرأه مما بقي من مال الكتابة. وإن اختار رده، فرده.. كان له ذلك، وبطل ما كنا حكمنا به من العتق. وقال أحمد: (لا يبطل العتق) . دليلنا: أن الكتابة عقد معاوضة يلحقه الفسخ، فوجب أن يفسخ بوجود العيب، كالبيع. وفيه احتراز من الخلع؛ لأنه لا يلحقه الفسخ. وإن وجد العيب وقد تلف العوض عنده، أو حدث عنده عيب آخر.. ثبت له الأرش؛ لأنه قد تعذر رد العوض الذي قبضه. فإن دفع المكاتب الأرش.. استقر العتق. وإن لم يدفعه.. ارتفع العتق، وثبت للمولى الخيار في فسخ الكتابة.

فرع المكاتبة على خدمة مدة ومال

وإذا أراد الرجوع بالأرش وكان العوض ثوبا فوجد به عيبا ينقص عشر قيمته وقد تلف الثوب عنده.. قال الطبري: اختلف أصحابنا في كيفية الرجوع بالأرش: فقال أبو حامد: يرجع بعشر قيمة الثوب. وقال القفال: هذا غلط، بل يرجع بما يقابله من عوضه، وعوضه رقبته وهي فائته بالعتق، فيرجع بعشر قيمة الرقبة، كما لو اطلع على عيب في المسلم فيه بعد فواته وكان ينقص عشر قيمته.. فإنه يرجع بعشر رأس مال السلم. [فرع المكاتبة على خدمة مدة ومال] ) : وإن كاتب عبده على خدمة شهر ودينار، فمرض العبد في الشهر أو في بعضه.. فنص الشافعي في " الأم ": (أن الكتابة تبطل) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هي على طريقين، كما لو اشترى.. فتلف أحدهما قبل القبض. أحد الطريقين: أنها على قولين: أحدهما: تبطل. والثاني: لا تبطل. والطريق الثاني: لا تبطل قولا واحدا. وقال القاضي أبو الطيب: تبطل الكتابة هاهنا قولا واحدا على ما نص عليه؛ لأن عقد الكتابة لا يقع على بعض العبد، فإذا انفسخ العقد في بعضه.. انفسخ في جميعه. [فرع كاتبه على عوض موصوف] ) : وإن كاتب عبده على عوض موصوف، فدفع المكاتب للسيد العوض بصفته وحكم بعتقه، ثم خرج العوض الذي دفعه إليه مستحقا.. حكمنا ببطلان العتق وعاد مكاتبا؛ لأن العتق وقع بالأداء، وقد بان أنه لم يؤد.

فرع بيع النجوم مفسوخ

فإن كان السيد قال له بعد الأداء: أنت حر، أو هذا حر.. لم يلزم المولى حريته؛ لأن الظاهر أن المولى لم يرد استئناف الحرية، وإنما أراد الإخبار عن الحرية بذلك، وهي التي وقعت بالأداء. فإن ادعى المكاتب أنه أراد إيقاع الحرية بذلك وأنكر السيد.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأنه أعلم بما أراد. فإن قال له السيد قبل الأداء أو بعد أن علم استحقاق العوض: أنت حر.. حكم عليه بالحرية؛ لأن الظاهر أنه أراد إيقاع الحرية بهذا القول. فإن استحق العوض بعد موت المكاتب.. بان أن المكاتب مات رقيقا، فيكون ما في يده لسيده. [فرع بيع النجوم مفسوخ] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وبيع نجومه مفسوخ. فإن أدى إلى المشتري كتابته بإذن سيده.. عتق، كما يؤدي إلى وكيله فيعتق) . وجملة ذلك: أن السيد إذا باع مال الكتابة في ذمة المكاتب.. فهل يصح بيعه؟ فيه طريقان مضى ذكرهما في البيوع. فإذا قلنا: لا يصح البيع.. فليس للمشتري أن يطالبه بالأداء، ولا للمكاتب أن يؤدي إليه؛ لأنه لا يملك ذلك المال. فإن خالف ودفع المال للمشتري فهل يعتق؟ نص الشافعي في موضع: (أنه يعتق) ، ونص في موضع آخر: (أنه لا يعتق) واختلف أصحابنا فيها: فقال أبو إسحاق: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فحيث قال: (يعتق) أراد: إذا كان السيد قد أذن للمشتري بقبض المال بصريح الإذن.. إلا ترى أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال هاهنا: (فإن أدى إلى المشتري كتابته بإذن سيده.. عتق؛ لأنه يصير وكيلا له في القبض) ؟

مسألة جناية المكاتب على طرف سيده

وحيث قال: (لا يعتق) أراد: إذا لم يصرح له بالإذن، وإنما قبضه بمقتضى العقد، والعقد فاسد.. ففسد مقتضاه. قال المحاملي: وهذه طريقة صالحة. وقال أبو العباس وغيره: هي على قولين، وهو اختيار ابن الصباغ: أحدهما: يعتق؛ لأن بيعها منه يتضمن الإذن له في القبض، فأشبه وكيله. والثاني: لا يعتق، وهو الأصح؛ لأن المشتري قبض المال لنفسه لا للسيد، وإنما قبضه بمقتضى البيع، والبيع فاسد، فكان القبض فاسدا. فإن قلنا: إنه يعتق.. فقد برئ المكاتب من المال وليس للسيد مطالبته بالمال، وإنما يطالب السيد المشتري؛ لأنه كالوكيل له، وللمشتري أن يطالبه بالثمن إن كان قد دفعه إليه. فإن قلنا: إن المكاتب لا يعتق وهو باق على الكتابة.. فللمولى أن يرجع على المكاتب بمال الكتابة، وللمكاتب أن يرجع على المشتري بما قبض منه، وللمشتري أن يرجع على المولى بما دفع إليه من الثمن. [مسألة جناية المكاتب على طرف سيده] ) : وإن جنى المكاتب على طرف سيده، فإن كانت عمدا.. فله أن يقتص منه، كما يقتص من عبده القن. فإذا اقتص منه.. بقي مكاتبا كما كان، وإن عفا عنه على مال أو كانت الجناية خطأ.. وجب له عليه الأرش في ذمته؛ لأن السيد يثبت له المال في ذمة مكاتبه بالبيع، فكذلك في الجناية. وإن جنى على نفسه، فإن كانت عمدا.. جاز للوارث أن يقتص منه، وإن كانت خطأ أو عمدا وعفا عنه على مال.. ثبت له المال عليه، فإن كان في يد المكاتب مال

يفي بمال الكتابة وبالأرش.. كان له أن يفدي نفسه بدفع الأرش مما في يده؛ لأن له صرف ماله في مصلحته، وهذا من أعظم المصالح. وبكم يفدي نفسه في الجناية على سيده؟ فيه قولان: أحدهما: بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية. والثاني: بأرش الجناية بالغا ما بلغت، كالقولين في العبد القن إذا جنى على الأجنبي واختار السيد أن يفديه؛ لأنه يمكن تعجيزه وبيعه في الجناية، كما يمكن بيع العبد القن. فإذا قلنا: ليس له أن يفدي نفسه إلا بأقل الأمرين.. دفع أقل الأمرين من الأرش أو قيمته، وكان باقيا على كتابته. فإن قلنا: له أن يفدي نفسه بأرش الجناية بالغا ما بلغ، فإن كان الأرش أقل من قيمته.. دفعه ولا كلام. وإن كان الأرش أكثر من قيمته.. قال الشيخ أبو حامد: فدى نفسه بأرش الجناية بالغا ما بلغ. وقال القاضي أبو الطيب: إذا قلنا بهذا: فهل له أن يدفع ما زاد على قيمته إلى سيده؟ يبنى على هبته لسيده: فإن قلنا: تصح.. كان له ذلك. وإن قلنا: لا تصح.. لم يكن له ذلك. قال ابن الصباغ: وقول القاضي يقتضي أن للسيد أن يمتنع من قبول ذلك؛ لأنه لا يلزمه قبول الهبة منه. قال: وعندي أنه يلزمه قبول ذلك؛ لأنه لا يمكنه أن يفدي نفسه إلا بذلك. فإذا أمكنه أن يؤدي ذلك ويؤدي ما عليه من مال الكتابة.. لم يكن للسيد أن يمتنع؛ لأنه يخلص نفسه وإن كان بأكثر من قيمته. فإن كان ما في يده لا يفي بمال الكتابة وأرش الجناية.. فللسيد تعجيزه ورده إلى الرق؛ لأنه إذا كان له تعجيزه عند عجزه عن أداء مال الكتابة، فلأن يكون له تعجيزه عند عجزه عن مال الكتابة وأرش الجناية أولى. فإذا عجز.. عاد رقيقا وسقط عنه مال الكتابة وأرش الجناية؛ لأن المولى لا يثبت له على عبده مال.

فإن أعتقه سيده قبل التعجيز، فإن لم يكن في يد المكاتب مال.. سقط أرش الجناية؛ لأن أرش الجناية تلف باختيار سيده. وإن كان معه مال.. ففيه وجهان: أحدهما: يسقط الأرش؛ لأن الأرش متعلق بالرقبة وقد أتلفها، فسقط الأرش، كما لو لم يكن في يده مال. والثاني: يستوفيه مما في يده؛ لأن حقه كان متعلقا برقبته وبما في يده، فإذا تلفت الرقبة.. بقي متعلقا بالمال الذي في يده فاستوفى منه. ويخالف إذا لم يكن في يده شيء؛ لأن محله فات. فإن قطع يد سيده خطأ أو عمدا وعفا عنه على مال.. وحب له الأرش عليه، وفي قدر ما يفدي به نفسه القولان. وهل للسيد أن يستوفيه منه قبل الاندمال؟ فيه قولان، كالحر إذا قطع يد الحر، ويأتي بيانهما في (الجنايات) . فإن قلنا: له أن يستوفي ذلك قبل الاندمال.. استوفاه. فإن بقي معه ما يؤدي في الكتابة.. استوفى منه مال الكتابة. وإن لم يبق معه ما يؤدي في الكتابة.. كان للسيد تعجيزه. وإن قلنا: ليس له أن يستوفيه قبل الاندمال، فإن اندمل قبل أن يؤدي مال الكتابة.. فالحكم فيه كما لو قلنا: له استيفاؤه قبل الاندمال. وإن أدى مال الكتابة، وعتق قبل الاندمال.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لزمه أرش الطرف، وهو نصف الدية) . قال ابن الصباغ: ويجيء فيه قول آخر: أنه يلزمه أقل الأمرين من قيمته أو أرش

مسألة جناية المكاتب على أجنبي

الجناية بالغا ما بلغ؛ لأن ذلك قد لزمه قبل العتق، فلا يسقط العتق بما تقدم وجوبه. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : له أن يطالبه بجميع الأرش بالغا ما بلغ قولا واحدا؛ لأنه وجب له في ذمته دون رقبته، فأشبه مال الكتابة. وإن أعتقه سيده قبل الاندمال أو قبل الأداء، فإن لم يكن معه مال.. سقط عنه الأرش. وإن كان معه مال.. ففيه وجهان مضى ذكرهما. [مسألة جناية المكاتب على أجنبي] ) : وإن جنى المكاتب على أجنبي، فإن كانت جناية توجب القصاص.. فله أن يقتص منه. وإن كانت توجب المال أو كانت عمدا فعفا عنه على مال.. ثبت له المال في رقبته، فإن كان في يده مال.. فله أن يفدي نفسه؛ لأن ذلك من مصلحته. وبكم يفدي نفسه؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: ليس له أن يفدي نفسه من الأجنبي إلا بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية قولا واحدا؛ لأنه إن كان الأرش أقل.. لم يستحق المجني عليه أكثر منه. وإن كان الأرش أكثر من قيمته.. فما زاد عليها يجري مجرى الهبة، والمكاتب لا يملك الهبة من الأجنبي بغير إذن سيده. ويخالف سيده حيث قلنا: يفدي نفسه منه بأرش الجناية بالغا ما بلغ في أحد القولين؛ لأنه يملك الهبة منه. وقال ابن الصباغ: فيما يفدي به نفسه من الأجنبي قولان: أحدهما: بأقل الأمرين. والثاني: بأرش الجناية بالغا ما بلغ. فإذا قلنا: يفدي نفسه بأقل الأمرين.. كان له ذلك بغير إذن السيد. وإن قلنا: يفدي به بأرش الجناية بالغا ما بلغ، فإن كان الأرش أقل من قيمته.. كان له ذلك بغير إذن سيده، وإن كان الأرش أكثر من قيمته.. لم يكن له ذلك بغير إذن

السيد؛ لأنه باع نفسه بأكثر من قيمتها، فإذا أذن له سيده في ذلك.. فهو كما لو وهب لأجنبي مالا بإذن سيده على ما مضى. فإن فدى نفسه.. بقي على الكتابة، وإن لم يكن معه مال يفدي به نفسه، أو كان معه مال وامتنع من فدية نفسه.. كان للأجنبي المجني عليه أن يرفعه إلى الحاكم ليعجزه ويرده إلى الرق، ويباع في أرش جنايته. وإن اختار السيد أن يفديه من ماله ليبقى على الكتابة.. جاز، وفيما يلزمه أن يفديه به قولان: أحدهما: بأقل الأمرين. والثاني: بأرش الجناية بالغا ما بلغ. قال الطبري: فإن قال السيد: ضمنت فداءه.. ففيما يلزمه قولان: أحدهما: أقل الأمرين. والثاني: يلزمه أرش الجناية بالغا ما بلغ. وإن قال: ضمنت أرش الجناية.. لزمه أرش الجناية بالغا ما بلغ قولا واحدا. وإن اختار السيد الفداء، ثم رجع.. نظر فيه: فإن كان العبد باقيا.. فله الرجوع، ويباع في الجناية. وإن مات العبد بعد اختيار الفداء.. لم يصح رجوع السيد. وإن أعتقه السيد قبل الأداء.. لزمه أن يفدي العبد؛ لأنه أتلف رقه بالإعتاق، فلزمه ضمانه، كما لو قتله. ولكن لا يلزمه إلا أقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمته قولا واحدا؛ لأنه لا يمكنه بيعه. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: يلزمه أقل الأمرين. والثاني: يلزمه الأرش بالغا ما بلغ. وليس بشيء. وإن أدى إلى السيد مال الكتابة قبل الأرش.. عتق العبد بالأداء ولا شيء على المولى؛ لأنه مجبور على القبض، وعلى المكاتب بعد الإعتاق ضمان أرش الجناية

غير أنه لا يلزمه إلا أقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمته قولا واحدا؛ لأن محل أرش الجناية على الأجنبي رقبته لا ذمته، فلم يستحق المجني عليه أكثر من هذا، بخلاف جنايته على سيده، فإنه إذا عتق لزمه الأرش بالغا ما بلغ في أحد القولين؛ لأن محل أرشه ذمته لا رقبتة. إذا ثبت هذا: فإن جنى المكاتب جنايات كثيرة فأدى مال الكتابة قبل أرو ش الجنايات.. عتق بالأداء، ولزمه أن يفدي نفسه من المجني عليهم. وفي قدر ما يلزمه لهم قولان: أحدهما: يلزمه أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته على كل واحد منهم؛ لأن كل واحدة من الجنايات اقتضت أن يفديها بأقل الأمرين من قيمته أو أرشها، وقد منع نفسه منها بأدائه وعتقه، فضمن ذلك، كما لو انفردت. فعلى هذا: قد يلزمه عشرون قيمة، بأن يجني على عشرين نفسا. والقول الثاني: لا يلزمه إلا أقل الأمرين من قيمته أو جميع الأروش، وهو اختيار المزني. وهو الأصح؛ لأن أرو ش الجنايات كلها تعلقت برقبته، وقد أتلفها بالعتق في الأداء، فلم يلزمه أكثر من قدر قيمة، كما لو منع مانع من بيعه بقتله. فعلى هذا: لا يلزمه إلا قيمة واحدة، فإن كانت الأروش أكثر منها.. تحاصوا فيها على قدر حقوقهم. وإن جنى جنايات كثيرة فبادر سيده وأعتقه قبل الأداء.. عتق، ولزم السيد أن يفديه؛ لأنه أتلف محل الأرش. وفي قدر ما يلزمه القولان في المكاتب إذا عتق بالأداء: أحدهما: أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته على كل واحد منهم. والثاني: أقل الأمرين من قيمته أو أرش الجنايات كلها.

فرع إقرار المكاتب بجناية

وإن عجزه أصحاب الجنايات أو عجزه السيد بمال الكتابة وفسخ الكتابة.. عاد قنا، ووجب تسليمه للبيع. فإن أراد السيد أن يفديه.. ففيه قولان: أحدهما: يفديه بأقل الأمرين من قيمته أو أروش الجنايات كلها. والثاني: بأروش الجنايات بالغة ما بلغت. وإن جنى المكاتب جنايات، وأقام على الكتابة، ولم يعجز نفسه، وأراد أن يفدي نفسه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يفدي نفسه بالأقل من قيمته أو أرش كل جناية) . فقال أبو إسحاق: الأشبه عندي أن تكون هذه على قولين: أحدهما: يفدي بالأقل من أرش كل جناية أو القيمة. والثاني: أنه يفدي بالأقل من أروش الجنايات كلها أو القيمة،، كما لو أدى وعتق؛ لأنه منع نفسه من البيع بعدم العجز، كما منع منه بالعتق بالأداء. ونص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أحد القولين. ومنهم من قال: يفدي نفسه بالأقل من أرش كل جناية أو قيمته قولا واحدا. والفرق بينهما: أنه إذا أدى وعتق.. فهو متلف لرقبته، فلا يضمن إلا قيمتها. وإذا كان مكاتبا.. فالرقبة قائمة يمكن تسليمها للبيع، فإذا منع ذلك.. ضمن لكل واحد منهم أقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته. قال ابن الصباغ: وهذا الفرق يبطل به إذا عجز وفسخت الكتابة واختار السيد الفداء، فإنه مانع من بيعه مع بقاء الرقبة ولا يضمن لكل واحد منهم إلا أقل الأمرين. [فرع إقرار المكاتب بجناية] ) : وإن أقر المكاتب بجناية موجبة للقصاص.. قبل إقراره؛ لأنه لا يتهم في ذلك. وإن أقر بجناية موجبة للمال.. ففيه قولان، ومنهم من يحكيهما وجهين:

فرع جناية عبد المكاتب

أحدهما: يقبل، وهو الأصح؛ لأنه لا يهتم، ولأنه إقرار بمال فقبل إقراره، كما لو أقره بدين معاملة. والثاني: لا يقبل؛ لأنه مملوك فلا يقبل إقراره بجناية موجبة للمال، كالعبد القن. فإذا قلنا: يقبل، فأقر بجناية أرشها ألف، ثم عجز ورق، فادعى السيد أن الأرش خمسمائة.. فهل يقبل من السيد؟ فيه قولان حكاهما الطبري في " العدة ": أحدهما: لا يقبل؛ لأنا قبلنا إقرار المكاتب بالألف. والثاني: يقبل؛ لأنه قد عاد قنا. [فرع جناية عبد المكاتب] ) : إذا كان للمكاتب عبد يملك بيعه فجنى على مولى المكاتب أو على أجنبي، فإن كانت الجناية عمدا.. فللمجني عليه أن يقتص منه. وإن كانت خطأ، أو عمدا وعفي عنه على مال.. تعلق الأرش برقبة العبد الجاني، وللمكاتب أن يفديه؛ لأن ذلك من مصلحة ماله. فإن اختار أن يفديه.. ففيه قولان: أحدهما: يفديه بأقل الأمرين من قيمة الجاني أو أرش جنايته. والثاني: يفديه بأقل الأمرين.. كان له ذلك بغير إذن السيد. وإن قلنا: يفديه بأرش الجناية بالغا ما بلغ، فإن كان الأرش بقدر القيمة أو أقل.. كان له ذلك بغير إذن سيده. وإن كان الأرش أكثر من قيمته.. لم يكن له ذلك بغير إذن سيده، فإن إذن له سيده في ذلك.. فهو كما لو أذن له في الهبة لغيره. إذا ثبت هذا: فإن قيمة العبد الجاني تعتبر يوم جنايته، نص عليه الشافعي.

مسألة اجتماع حقوق على المكاتب

وقال القفال: بل يجب أن تعتبر قيمته يوم الفداء؛ لأن استدامة ملكه إنما تقع في هذا اليوم، والنص محمول عليه إذا تقدم من السيد منع من البيع. فإن كان للمكاتب عبد لا يملك بيعه ـ كوالده أو ولده ـ فجنى جناية توجب المال.. لم يكن له أن يفديه بشيء من ماله من غير إذن سيده؛ لأنه لا يملك بيعه فلم يكن له أن يخرج مالا يملك التصرف فيه بمال لا يملك التصرف فيه. فإن كان لهذا العبد كسب.. دفع الأرش من كسبه. وإن لم يكن له كسب.. فالمنصوص: (أنه يباع في الأرش) . فإن استغرق الأرش قيمته.. بيع جميعه. وإن لم يستغرق الأرش قيمته.. بيع منه بقدر الأرش، وبقي الباقي على ملك المكاتب. وإن لم يمكن أن يباع منه بقدر الأرش إلا ببيع جميعه.. بيع جميعه، ويصرف قدر الأرش إلى المجني عليه، وما بقي من ثمنه يكون للمكاتب. وحكى الطبري في " العدة ": أن من أصحابنا من قال: لا يتعلق الأرش برقبته، ولا يباع في الأرش؛ لأن الشرع منع من بيع الوالدين والمولودين. [مسألة اجتماع حقوق على المكاتب] ) : إذا اجتمع على المكاتب دين الكتابة، وأرش الجناية، ودين المعاملة، وعوض القرض، فإن كان في يده مال يفي بها.. فليس للحاكم أن يحجز عليه؛ لأن ماله يفي بدينه. فإن كانت الديون كلها حالة.. فللمكاتب أن يقضي من شاء منهم أولا، كالحر. وإن كان بعضها حالا وبعضها مؤجلا، فإن قضى الحال منها.. صح، وإن أراد أن يعجل المؤجل، فإن كان المؤجل لغير السيد.. لم يصح قضاؤه قبل حلوله بغير إذن سيده؛ لأن ذلك تبرع، فإن أذن له سيده في تعجيله.. فهو كما لو وهب بإذنه. وإن كان المؤجل لسيده وأراد تعجيله له.. فهو كما لو وهب لسيده مالا، على ما مضى. فإذا قضى دين المعاملة وعوض القرض.. بقي مال الكتابة وأرش الجناية، وإن قضى دين الكتابة أولا.. عتق بالأداء، وبقي دين المعاملة وأرش الجناية في ذمته.

فإن قيل: هلا قلتم: إنه لا يعتق بالأداء قبل أن يؤدي أرش الجناية، كما قلتم في عتق الجاني في أحد القولين؟ قلنا: فالجواب: أن العتق هاهنا وقع بالصفة السابقة للجناية، فلم تكن الجناية مانعة منه، ألا ترى أنه لو قال لعبده: إذا دخلت الدار فأنت حر، ثم جنى، ثم دخل الدار.. فإنه يعتق بالصفة السابقة ولا يمنع منه أرش الجناية المتعلق برقبته؟ فكذلك هذا مثله. وإن كان ماله لا يفي بديونه، وسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه.. نظرت: فإن سأله المولى أن يحجر عليه لأجل مال الكتابة.. لم يحجر عليه بسؤاله؛ لأن دينه غير مستقر؛ لأن للعبد أن يسقطه بالعجز. وإن سأله من له دين معاملة أو عوض قرض أو أرش جناية أن يحجر عليه لأجل ديونهم.. حجر عليه؛ لأنه ليس بأولى من الحر، فإذا جاز الحجر على الحر لما عليه من الدين.. فالمكاتب أولى. فإذا حجر عليه وكانت ديونهم كلها حالة أو بعضها مؤجلا، وقلنا يحل المؤجل بالحجر.. فنقل المزني: (أن الحاكم إذا أوقف ماله.. أدى إلى سيده وإلى الناس ديونهم شرعا) . يريد: سواء. واختلف أصحابنا في ذلك: فحمل أبو إسحاق المروزي كلام الشافعي على ظاهره. وقال: يساوى بين السيد وبين سائر الغرماء ويقسط ماله بينهم على قدر ديونهم؛ لأن الحر إذا حجر عليه.. قسم ماله بين غرمائه على قدر ديونهم، فكذلك المكاتب. وقال سائر أصحابنا: لا يساوى بينهم، وهو الصحيح، بل يقدم دين المعاملة وبدل القرض على أرش الجناية ومال الكتابة؛ لأن دينهما يختص بما في يده، والمجني عليه والسيد يرجعان إلى الرقبة. فإن لم يف ماله بدين المعاملة وبدل القرض.. قسم بينهما على قدرهما، وإن بقي من ماله شيء بعدهما.. قدم أرش الجناية على مال

الكتابة؛ لأنه مستقر ودين الكتابة غير مستقر. وتأولوا كلام الشافعي تأويلين: أحدهما: أنه أراد: إذا كان ماله يفي بدينه، وإنما حجر عليه الحاكم؛ لأنه خاف إفلاسه، فيسوي بينهم حينئذ في القسمة. والثاني: أنه أراد: إذا وصى غرماؤه بأن يسوى بينهم في القسمة، فإن مات المكاتب قبل قسمة ماله؛ سقط عنه مال الكتابة؛ لأنها انفسخت بموته، وسقط أرش الجناية؛ لأنه تعلق برقبته وقد فاتت، ولأنه تعلق بماله بحكم الكتابة وقد انفسخت الكتابة، فلم يبق لها محل، ويبقى دين المعاملة وبدل القرض فيتقاصان ما كان في يده، فإن وفى ماله بهما.. فلا كلام، وإن لم يف ماله بهما.. قسط ماله بينهما على قدرهما، وإن بقي من ماله شيء بعدها.. كان لسيده بحكم الملك لا بحكم الكتابة. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي (في " الإبانة ") : فيه وجهان: أحدهما: يقدم دين المعاملة والقرض على أرش الجناية بعد موته؛ لما ذكرناه. والثاني: يسوى بين الجميع؛ لأنه لا محل للجناية بعد موته إلا بماله. وأما إذا لم يكن في يد المكاتب مال، فإن اختار أصحاب الديون إنظاره إلى أن يكتسب.. جاز، وإن لم يختاروا إنظاره وأرادوا تعجيزه.. نظرت: فإن طلب من له دين المعاملة وبدل القرض تعجيزه ورده إلى الرق.. لم يكن لهما ذلك؛ لأنه لا فائدة لهما في ذلك؛ لأن حقهما متعلق بما في يده لا في رقبته، بل الحظ لهما في تركه على الكتابة؛ لجواز أن يكتسب مالا، فيقضي دينهما منه. وإن أراد المولى تعجيزه ورده إلى الرق لما عليه له من مال الكتابة.. كان له ذلك، فإن عجزه.. انفسخت الكتابة وسقط دين المعاملة وبدل القرض، وتعلق برقبته أرش

مسألة الجناية على المكاتب

الجناية. فإن اختار السيد تسليمه للبيع.. بيع في الجناية، وإن اختار أن يفديه.. كان له ذلك. وبكم يفديه؟ على قولين: أحدهما: بأقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية. والثاني: بأرش الجناية بالغا ما بلغ. وإن أراد المجني عليه تعجيزه.. كان له ذلك، ولكن ليس له أن يفسخ الكتابة بنفسه، بل يرفع الأمر إلى الحاكم ليفسخ الكتابة ويبيعه بأرش الجناية، إلا أن يختار السيد أن يبقيه على الكتابة ويفديه، فله ذلك. وبكم يفديه؟ على القولين. قال الشيخ أبو إسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا عجزه المجني عليه، فإن كان الأرش يحيط بالثمن.. بيع جميعه وقضي حق المجني عليه، وإن كان الأرش دون الثمن.. بيع منه بقدر ما يقضي به الأرش، وبقي الباقي على الكتابة، فإذا أدى كتابة باقيه.. عتق. وهل يقوم الباقي على المولى إن كان موسرا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقوم؛ لأنه وجد بسبب العتق قبل التبعيض. والثاني: يقوم عليه؛ لأن اختياره للإنظار كابتداء العتق. [مسألة الجناية على المكاتب] ) : وإذا جني على المكاتب، فإن كانت على نفسه.. انفسخت الكتابة. فإن كان الذي جنى عليه أجنبيا.. وجبت عليه قيمته لسيده، وإن كان الذي جنى عليه سيده.. لم يجب عليه شيء وكان له أخذ كسبه. فإن قيل: أليس القاتل لا يستحق تركة المقتول؟ قلنا: إنما لا يستحقه بالإرث، وهذا ليس بإرث، وإنما هو لحق الملك. وإن كانت الجناية على طرفه، فإن كانت الجناية عمدا، وكان الجاني ممن يستحق عليه المكاتب القصاص.. فله أن يستوفي القصاص. وحكى الربيع قولا آخر: أن للسيد منعه من القصاص.

قال أصحابنا: وهذا لا يعرف للشافعي، بل هو من تخريج الربيع؛ لأن القصاص للتشفي ودرك الغيظ، والمكاتب كغيره في ذلك. وإن كانت الجناية خطأ أو عمدا على من لا يستحق عليه المكاتب القصاص، أو عفا عن القصاص على مال.. كان الأرش للمكاتب؛ لأنه ككسبه. وإن كان للمكاتب عبد يملك بيعه فجنى على المكاتب.. كان للمكاتب أن يقتص منه إن كانت الجناية يجب فيها القصاص، وإن كانت خطأ.. لم يثبت له عليه أرش؛ لأن المولى لا يثبت له المال على عبده. وإن ملك المكاتب والده أو ولده فجنى على المكاتب جناية توجب المال.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: أنه يبيعه؛ لأنه يستفيد بالبيع أرش الجناية، ويخالف غيرهما؛ لأنه لا يستفيد بالبيع شيئا؛ لأنه يملك بيعه من غير جناية. والثاني: لا يجوز له بيعه؛ لأنه مملوك، فلا يجب له عليه مال. وما ذكره الأول.. يبطل بالعبد المرهون، إذا جنى على الراهن. وإن جنى بعض عبيد المكاتب على بعض جناية توجب القصاص.. فله أن يقتص من الجاني؛ لأنه من مصلحة ماله؛ لأنه إذا لم يستوف القصاص.. كان ذلك ذريعة إلى إقدام بعضهم على بعض. وإن كانت خطأ أو عمدا وعفا عنه على مال.. لم يثبت له المال؛ لأن السيد لا يثبت له المال على عبده. وبالله التوفيق

باب الكتابة الفاسدة

[باب الكتابة الفاسدة] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى: (ولو كاتب عبده كتابة فاسدة فأدى.. عتق، ورجع عليه السيد بقيمته يوم عتق) . وجملة ذلك: أن العتق المعلق بالصفات على ثلاثة أضرب: عتق معلق بصفة محضة لا مدخل للعوض فيها. وعتق معلق بصفة فيها معاوضة والمغلب فيها حكم المعاوضة. وعتق معلق بصفة فيها معاوضة والمغلب فيها حكم الصفة. فأما (الضرب الأول: وهو) العتق المعلق بصفة لا عوض فيها، فمثل قوله: إن دخلت الدار فأنت حر، وإن كلمت فلانا فأنت حر، فهذه صفة لازمة من جهة السيد والعبد، فمتى وجدت الصفة.. عتق العبد. وفي معنى هذا: إذا قال: إن أعطيتني ألفا فأنت حر، فهذا وإن تضمن عطية الألف.. فليس هو على وجه العوض، وإنما العطية صفة في وقوع العتق، فليس للسيد ولا للعبد فسخ هذه الصفة. وإن أبرأ السيد العبد من الألف.. لم يعتق؛ لأن العتق يقع بوجود الصفة، وهي العطية، والإبراء ليس بعطية. وإن مات السيد.. بطلت الصفة. وإن كسب العبد مالا قبل وجود العطية.. كان لسيده. وإن دفع الألف إلى السيد.. ملكه السيد، وكان للسيد ما بقي في يد العبد، ولا تراجع بين السيد والعبد، هذا هو المذهب. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: حكمه حكم الكتابة الفاسدة؛ لأنه في الحقيقة كتابة على نجم واحد. وأما الضرب الثاني: وهو العتق المعلق بصفة والمغلب فيه حكم العوض: فهو العتق في الكتابة الصحيحة، وقد مضى بيانه.

وأما الضرب الثالث: وهو العتق المعلق بصفة فيها معاوضة والمغلب فيه حكم الصفة: فهو الكتابة الفاسدة، بأن يكاتب عبده على خمر أو خنزير أو شرط فاسد، فإن المعاوضة فيها يبطل حكمها؛ لفساد العقد، وتبقى الصفة وهذه صفة جائزة من الطرفين. فإن امتنع العبد من الأداء.. لم يجبر عليه؛ لأنه إذا لم يجبر على الأداء في الكتابة الصحيحة.. فلأن لا يجبر على الأداء في الكتابة الفاسدة أولى. وللسيد أيضا أن يبطل الصفة؛ لأن السيد إنما دخل في العقد ورضي بالصفة.. ليسلم له العوض الذي شرطه، ولم يسلم له، فكان له الرجوع فيها. وكيفية الرجوع: هو أن يقول: قد رجعت في الصفة وأبطلتها. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويُشهد على ذلك) . قال أصحابنا: لم يرد بهذا: أن الإشهاد شرط في صحة الرجوع، وإنما هو ليثبت أنه قد رجع فيها وأبطلها. وللسيد أن يبطل الصفة بنفسه من غير حاكم؛ لأنه مجمع عليه، فهو كفسخ البيع للعيب. فإن جن المولى، أو أغمي عليه، أو حجر عليه لسفه قبل الأداء.. بطلت الصفة، ولم يعتق العبد بأداء العوض بعد ذلك؛ لأنه عقد جائز، فبطل بالجنون والإغماء، كالوكالة والشركة. ولو علق عتق عبده على دخول الدار، فجن المولى أو أغمي عليه.. لم تبطل الصفة؛ لأن المولى لا يملك إبطال الصفة المجردة، بل هي لازمة مع بقاء الملك. هذا هو المنصوص. وحكى المحاملي: أن الشيخ أبا حامد قال: عندي أن الصفة في الكتابة الفاسدة لا تبطل بجنون المولى، كما لا يبطل العتق المعلق بدخول الدار، وحمل النص على أن السيد إذا قبض في حال جنونه.. لم يعتق العبد؛ لأنه قبض غير صحيح، فلا يقع به العتق.

وإن مات المولى قبل أداء المال إليه.. بطلت الصفة، ولم يعتق العبد بالأداء إلى ورثته. وقال أبو حنيفة وأحمد: (لا يبطل، وإذا أدى إلى ورثته.. عتق) . دليلنا: أنه عقد جائز من الطرفين لا يؤول إلى اللزوم فبطل بالموت، كالوكالة والشركة. وإن جن العبد أو أغمي عليه.. لم تبطل الصفة؛ لأن العبد محجور عليه بالرق قبل الجنون، فلا يتجدد له بالجنون الحجر، ولأن العبد لا يملك إبطال الصفة، وإنما له أن يعجز نفسه، فلا ينفسخ بجنونه. وإن مات العبد قبل الأداء.. بطلت الصفة؛ لأن العتق لا يلحقه بعد الموت. وإن أدى العبد إلى سيده العوض الذي كاتبه عليه قبل بطلان الصفة بشيء مما ذكرناه.. عتق العبد؛ لأن العقد اشتمل على معاوضة وصفة، فإذا بطلت المعاوضة.. بقيت الصفة، فعتق بها. وإن أبرأه السيد من المال الذي كاتبه عليه.. لم يعتق؛ لأنه إنما يعتق هاهنا بالصفة، وهي قوله: فإذا أديته فأنت حر، والصفة لا توجد في البراءة، بخلاف الكتابة الصحيحة، فإنه إذا أبرأه من مال الكتابة.. عتق؛ لأن المغلب فيه حكم المعاوضة. فإذا أبرأه من المال.. صار كأنه أداه وعتق، وإذا عتق العبد في الكتابة الفاسدة بالأداء.. كان له ما كسبه بعد الكتابة. وإن كاتب جارية، وأتت بولد بعد الكتابة، وقلنا: يتبعها في الكتابة الصحيحة.. تبعها في الكتابة الفاسدة أيضا؛ لأن الفاسدة لما كانت كالصحيحة في العتق بالأداء.. كانت كالصحيحة أيضا في ملك الكسب وفي الولد. وإن أعتقه السيد قبل الأداء.. لم يتبعه كسبه، ولا يتبع الجارية ولدها؛ لأن الكتابة الفاسدة للسيد فسخها، فجعل عتقه فسخا. وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أن السيد لو أعتقه عن الكفارة.. أجزأه، ولو وقع عتقه بحكم الكتابة.. لمَا أجزأه في الكفارة) .

ويرجع العبد على مولاه بالعوض الذي دفعه إليه؛ لأنه دفعه إليه عما عليه له فإذا لم يكن له عليه شيء.. رجع عليه به. ويرجع المولى على العبد بقيمته من غالب نقد البلد؛ لأنه إنما أزال ملكه عنه بشرط أن يسلم له العوض الذي شرطه، فإذا لم يسلم له وتعذر الرجوع إلى رقبته.. رجع عليه بقيمته، كما لو باع سلعة بشرط فاسد وتلفت السلعة في يد المشتري. وتعتبر قيمة العبد حال العتق؛ لأنها حالة الإتلاف، فإن كان أحد العوضين من غير جنس الآخر.. طالب كل واحد منهما بحقه الذي له عند صاحبه. وإن كان العوض الذي له دفعه العبد إلى السيد من جنس نقد البلد وعلى صفته.. فالحكم فيه ـ وفي كل دينين من الأثمان أحدهما من جنس الآخر وعلى صفته ـ واحد، وهو: أنه هل يصير أحدهما قصاصا عن الآخر؟ فيه أربعة أقوال: أحدهما: يسقط أحدهما بالآخر وإن لم يتراضيا ولا رضي أحدهما؛ لأنه لا فائدة في قبض كل واحد منهما لحقه، ولأنه يجب عليه دفعه أو مثله. والثاني: أنه لا يسقط أحدهما بالآخر إلا بأن يرضى أحدهما بذلك؛ لأنه إذا رضي أحدهما.. فقد رضي أن يقضي الدين الذي عليه من الدين الذي له، وله أن يقضي ما عليه من أي ماله شاء، ولم يكن للآخر الامتناع. والثالث: أنه لا يسقط أحدهما بالآخر إلا برضاهما جميعا؛ لأنه إبدال ذمة بذمة، فلم تصح إلا برضاهما، كالحوالة. والرابع: أنه لا يسقط أحدهما بالآخر وإن تراضيا؛ لأنه بيع دين بدين، فلم يصح. وكل موضع قلنا: يسقط أحدهما بالآخر، فإن كانا متماثلين.. سقط أحدهما بالآخر، وإن كان أحدهما أكثر من الآخر.. سقط الأقل، وسقط من الأكثر بقدر الأقل، ودفع ما بقي عليه. قال ابن الصباغ: وإن كان الحقان من غير جنس الأثمان.. فلا يسقط أحدهما بالآخر.

مسألة يعتق المخبول ونحوه بأداء الكتابة

والفرق بينهما: أن ما عدا الأثمان تطلب فيه المغابنة؛ لوجود الاختلاف فيها، وقلما يتساويان، والأثمان به متساوية لا تطلب فيها المغابنة. وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن الحقين إذا كانا من ذوات الأمثال.. فهي كالأثمان على الأربعة أقوال. وإن أخذ المكاتب كتابة فاسدة من سهم الرقاب من الزكاة شيئا، فإن لم يكن فيه وفاء بما كوتب عليه.. استرجع منه. وإن كان فيه وفاء.. فالمنصوص: (أنه يسترجع منه) ؛ لأن بفساد الكتابة خرج عن أن يكون من الرقاب. ومن أصحابنا من قال: لا يسترجع منه؛ لأنه كالكتابة الصحيحة في العتق والكسب، فكان كالصحيحة في الأخذ من سهم الرقاب. [مسألة يعتق المخبول ونحوه بأداء الكتابة] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو كان العبد مخبولا.. عتق بأداء الكتابة، ولا يرجع أحدهما على الآخر بشيء) وفي هذا ثلاث مسائل: إحداهن: إذا كاتب عبده وهو عاقل كتابة صحيحة، ثم جن العبد وأدى مال الكتابة في حال جنونه.. فإنه يعتق بالأداء؛ لأن السيد إذا قبض منه.. فقد استوفى منه حقه الذي كاتبه عليه، ولو أخذ حقه من يده.. يعتق العبد بحكم العقد. الثانية: إذا كاتبه ـ وهو عاقل ـ كتابة فاسدة، ثم جن العبد فأدى المال في حال جنونه.. فيعتق العبد بحكم الصفة، ويثبت بينهما التراجع إلا أن الحاكم هاهنا ينصب وكيلا على العبد يراجع عنه؛ لأن المجنون لا تصح مراجعته. الثالثة: إذا كاتب عبده المجنون كتابة فاسدة، فأدى العبد المال في حال جنونه.. فنقل المزني: (أنه يعتق بأداء مال الكتابة، ولا يرجع أحدهما على الآخر بشيء) .

مسألة إبطال السيد المكاتبة إذا جزأها

ونقل الربيع في " الأم " (7/379) : (أنه يعتق، ويتراجعان) . واختلف أصحابنا في المسألة على أربع طرق: فقال أبو العباس: الصحيح: ما نقله الربيع في " الأم " وأنهما يتراجعان؛ لأن السيد لم يسلم له ما شرط من المسمى، وقد وقع العتق، فيتراجعان، ككتابة الصحيح، وما نقله المزني فيه زيادة: (لا) . وقال أبو إسحاق: الصحيح: ما نقله المزني وأنه لا يرجع بشيء؛ لأن العبد إذا كان مجنونا.. فليس هو من أهل العقود ولا من أهل الضمان، فإذا عقد معه العقد.. فلم يلتزم ضمانا بالعقد، وإنما يعتق بوجود الصفة، فلم يثبت بينهما التراجع. وما نقله الربيع أسقط منه: (لا) . وقال القاضي أبو الطيب: في المسألة قولان، ووجههما: ما ذكرناه لأبي العباس وأبي إسحاق. وقال الشيخ أبو حامد: يحتمل أن تكون المسألة على اختلاف حالين: فالذي نقله المزني: (أنه لا يرجع أحدهما بشيء) أراد به: إذا كاتبه وهو مجنون.. فلا يثبت بينهما تراجع؛ لأن المجنون ليس من أهل العقود والضمان. والذي نقل الربيع: (أنهما يتراجعان) أراد به: إذا كاتبه كتابة فاسدة وهو عاقل، ثم جن وأدى المال في حال جنونه.. فإنه يعتق ويتراجعان؛ لأنه حال العقد من أهل العقد والضمان. وإن كاتب عبدا صغيرا فأدى إليه ما كاتبه عليه.. عتق، وهل يثبت بينهما التراجع؟ على الطرق الأولى الثلاث في المجنون. [مسألة إبطال السيد المكاتبة إذا جزأها] ) : وإن كاتب نصف عبده وقلنا: لا يصح.. فللسيد إبطال هذه الصفة والرجوع فيها. فإن لم يبطلها حتى أدى العبد ما كاتبه عليه.. عتق النصف الذي كاتبه منه بالصفة،

فرع: مكاتبة الشريك دون إذن شريكه

وسرى العتق إلى باقيه؛ لأن النصف الأول عتق برضا السيد واختياره، فسرى العتق إلى باقيه، كما لو قال لعبده: إن دخلت الدار فنصفك حر، فدخل الدار، فإن نصفه يعتق بالصفة والثاني بالسراية. إذا ثبت هذا: فإن للعبد أن يرجع على السيد بما دفع إليه من العوض، وللسيد أن يرجع على العبد بقيمة نصفه الذي كاتبه عليه؛ لأن السيد لم يرض بزوال ملكه عنه إلا بعوض، ولم يسلم له ذلك، ولا يرجع عليه بقيمة نصفه الذي عتق بالسراية؛ لأن العبد لم يلتزم لسيده بعتق ذلك النصف عوضا. [فرع: مكاتبة الشريك دون إذن شريكه] ) : وإن كاتب شركا له في عبده من غير إذن شريكه، فالكتابة فاسدة، وللسيد أن يبطل الصفة ويرجع فيها، فإن لم يبطل الصفة حتى أدى إليه العبد ما كاتبه عليه.. نظرت: فإن أدى إليه ذلك من حصة نصيبه من كسبه، وأدى إلى شريكه حصة نصيبه من كسبه.. عتق نصيب السيد الذي كاتبه بالصفة، ورجع العبد على سيده الذي كاتبه بما دفع إليه من العوض، ورجع المولى عليه بقيمة نصيبه منه. فإن كان السيد الذي كاتبه موسرا بقيمة حصة شريكه منه.. عتق عليه بالسراية، وغرم لشريكه قيمة نصيبه، ولا يرجع السيد على العبد بقيمة ما غرمه لشريكه؛ لأن العبد لم يلتزم لسيده الذي كاتبه عوضا عن عتق نصيب شريكه. وإن دفع العبد المكاتب جميع كتابته إلى الذي كاتبه.. فهل يعتق؟ فيه وجهان: أحدهما: يعتق؛ لأن العتق في الكتابة الفاسدة يقع بالصفة، وقد وجدت الصفة، فعتق، كما لو قال لامرأته: إن أعطيتني هذا العبد فأنت طالق، فغصبته وأعطته إياه.

والثاني: لا يعتق، وهو الصحيح؛ لأن قوله: فإذا أديت إلي كذا فأنت حر يقتضي أن يؤدي إليه مما يملك، وما أداه إليه لا يملكه، فهو كما لو لم يؤد إليه، ويخالف العبد في الطلاق؛ لأنه قد عينه، فوزانه من الطلاق أن يقول: إذا أعطيتني عبدا فأنت طالق، فغصبت عبدا وأعطته إياه.. فإنها لا تطلق. فإذا قلنا: إنه يعتق.. فللشريك الذي لم يكاتب أن يرجع على شريكه بحصة نصيبه مما قبضه من العبد؛ لأنه ملكه، ويرجع المولى على العبد بقيمة نصيبه، ويرجع العبد عليه بما بقي من كسبه. وإن كان السيد الذي كاتبه موسرا بقيمة نصيب شريكه.. قوم عليه وعتق عليه، ولا يرجع على العبد بما غرمه لشريكه من الكسب والقيمة. وإن قلنا: إنه لا يعتق.. فللشريك الذي لم يكاتب أن يرجع على شريكه بنصف ما قبضه من كسب العبد، فإن أدى إليه العبد تمام ما كاتبه عليه من نصف كسبه.. عتق وحكم التراجع بينهما والتقويم على ما مضى. وإن كاتبه بإذن شريكه، فإن قلنا: لا يصح.. فهو كما لو كاتبه بغير إذنه، على ما مضى. وإن قلنا: إنه يصح، فإن دفع نصف كسبه إلى الذي كاتبه ونصفه إلى الذي لم يكاتبه.. عتق بالأداء ولم يثبت بين السيد والعبد تراجع؛ لأن الكتابة صحيحة. فإن كان الذي كاتبه موسرا بقيمة نصيب شريكه.. قوم عليه وعتق ولا شيء على المكاتب مما دفعه السيد بالتقويم. فإن كان معسرا.. لم يقوم عليه. وإن دفع جميع كسبع إلى الذي كاتبه.. فهل يعتق نصيب الذي كاتبه؟ من أصحابنا من قال: فيه وجهان، كالوجهين في الكتابة الفاسدة. وقال أكثرهم: لا يعتق وجها واحدا، وهو المذهب؛ لأن الكتابة الصحيحة: المغلب فيها حكم العوض ـ ولم يحصل له دفع العوض ـ والكتابة الفاسدة: المغلب فيها الصفة.

مسألة مكاتبة عبيد بعقد واحد

[مسألة مكاتبة عبيد بعقد واحد] ) : إذا كاتب عبيدا له على مال بعقد واحد، فإن قلنا: يصح العقد، بأن أدى كل واحد منهم ما يخصه من مال الكتابة.. عتقوا، وإن أدى واحد منهم ما يخصه.. عتق. فإن قيل: هلا قلتم: لا يعتق المؤدي قبل أداء أصحابه؛ لأن السيد قال: فإذا أديتم.. فأنتم أحرار، فلا يعتق واحد منهم حتى يؤدوا كلهم، كما لو قال لعبيده: إذا أديتم إلي كذا.. فأنتم أحرار، فإنه لا يعتق واحد منهم إلا بأداء الجميع؟ فالجواب: أن الكتابة إذا كانت صحيحة.. فالمغلب فيها حكم المعاوضة دون الصفة، بدليل: أنه لو أبرأ السيد واحدا منهم.. عتق. وإن قلنا: إن الكتابة فاسدة فللسيد إبطال الصفة، فإن لم يبطلها حتى أدوا المال الذي كوتبوا عليه.. عتقوا بالصفة، ورجع السيد على كل واحد منهم بقيمته، ورجعوا عليه بالمال الذي دفعوه إليه. وإن أدى أحدهم ما يخصه من مال الكتابة.. فهل يعتق بالصفة، ويثبت التراجع بينه وبين السيد؟ قال الشافعي في " الإملاء ": (يعتق ويتراجع هو والسيد؛ لأن الكتابة الفاسدة محمولة على الصحيحة في العتق، وفي الصحيحة: إذا أدى بعض العبيد.. عتق ـ فكذلك في الكتابة الفاسدة) . ومن أصحابنا من قال: لا يعتق. قال أصحابنا: وهو الأقيس؛ لأن العتق بالكتابة الفاسدة يقع بالصفة، والصفة لا توجد بأداء بعضهم.

فرع يؤدي من عتق عن جماعة المكاتبين

[فرع يؤدي من عتق عن جماعة المكاتبين] ) . وإن كاتب جماعة عبيد.. فإنه لا يجب أن يؤدي بعضهم عن بعض مال كتابته. فإن أدى واحد منهم عن صاحبه مال كتابته، فإن كان بعد أن أدى المؤدي كتابة نفسه وعتق.. صح. فإن كان بغير إذن المؤدي عنه.. لم يرجع عليه بشيء؛ لأنه متطوع عنه، وإن كان بإذنه.. رجع عليه وكان دينا على المؤدى عنه. وإن أدى عن غيره قبل أن يؤدي هو عن نفسه كتابة نفسه، فإن لم يعلم المولى أنه يؤدي ذلك عن غيره، كأن اعتقد أنه يؤدي ذلك من كسب المؤدى عنه.. لم يصح الأداء عن المؤدى عنه؛ لأنه إن كان بغير إذن المؤدى عنه.. فهو هبة منه له. وإن كان بإذنه.. فهو قرض له، والقرض والهبة لا يصحان من مال المكاتب بغير إذن سيده. وإن كان ذلك بعلم السيد، بأن قال لسيده: هذا من كسبي أؤديه عن صاحبي، فقبضه المولى..فهل يصح ذلك عن المؤدى عنه؟ إن قلنا: تصح هبته بإذن المولى.. صح هاهنا، وإن قلنا: لا تصح هبته بإذن المولى.. لم يصح الأداء عن المؤدى عنه. فعلى هذا: إن كان قد حل على المؤدى عنه نجم.. قاصه به، وإن لم يحل عليه نجم.. قال ابن الصباغ: فإن شاء قاصه به، وإن شاء طالبه به وأخذه. وقال غيره من أصحابنا: لا تصح المقاصة إلا باتفاق الدينين بالحلول أو التأجيل. فعلى هذا: فإنه يأخذه منه ليتصرف فيه إلى أن يحل عليه نجم. فإن لم يأخذه من السيد حتى أدى المؤدي عن نفسه وعتق.. فهل يقع ذلك عن المؤدى عنه؟ ظاهر ما قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أنه يقع عن المؤدى عنه؛ لأنه إنما منع من الأداء لرقه، وقد زال رقه.. فوقع عن المؤدى عنه.

ومن أصحابنا من قال: لا يقع عنه؛ لأنه وقع الأداء فاسدا.. فلا يصح حتى يبتدئ إذنا صحيحا. وكل موضع وقع الأداء عن صاحبه: فإن كان بإذن المؤدى عنه.. كان دينا عليه له، وحكمه حكم دين القرض إذا اجتمع مع دين الكتابة، وقد مضى. قال الطبري في " العدة ": ولو كاتب جماعة عبيد له وشرطوا عليه أن يكون كل واحد منهم ضامنا عن صاحبه.. كانت الكتابة فاسدة قولا واحدا. وبالله التوفيق

باب اختلاف المولى والمكاتب

[باب اختلاف المولى والمكاتب] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن اختلف السيد والمكاتب.. تحالفا وترادا) . وجملة ذلك: أن السيد والمكاتب إذا اختلفا.. نظرت: فإن اختلفا في أصل الكتابة، وادعى العبد على مولاه أنه كاتبه وأنكر السيد، فإن أقام العبد شاهدين ذكرين على الكتابة.. ثبتت الكتابة، ولا يقبل فيه شاهد وامرأتان، ولا شاهد ويمين؛ لأن المقصود إثبات العتق، وذلك لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين. وإن لم يكن معه بينة.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» ، ولأن الأصل عدم الكتابة، فكان القول قول من ينفيها. وإن اتفقا على الكتابة ولكن اختلفا في قدر المال، بأن قال السيد: كاتبتك على ألفين إلى نجمين، فقال المكاتب: بل كاتبتني على ألف إلى نجمين، أو اختلفا في مقدار الأجل، بأن قال السيد: كاتبتك على ألف في نجمين كل نجم إلى سنة، فقال المكاتب: بل كاتبتني على ألف في نجمين كل نجم إلى سنتين، أو اختلفا في قدر النجوم، بأن قال السيد: كاتبتك على ألف في نجمين كل نجم إلى كذا، وقال المكاتب: بل كاتبتني على ألف في أربعة نجوم، ولا بينة لواحد منهما.. فإنهما يتحالفان على النفي والإثبات، كتحالف المتبايعين في قدر الثمن. وبه قال أبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: (القول قول المكاتب) . وعن أحمد ثلاث روايات: إحداهن: كقولنا. والثانية: كقول أبي حنيفة.

مسألة قبول قول السيد بيمينه على عدم أهليته عند المكاتبة

والثالثة: (القول قول السيد) . دليلنا: أنهما اختلفا في عوض العتق القائم بينهما أو في صفته وليس مع أحدهما بينة، فوجب أن يتحالفا كالمتبايعين. فإذا تحالفا ... نظرت: فإن تحالفا قبل العتق، فإن قلنا: إن المتبايعين إذا تحالفا انفسخ البيع بنفس التحالف.. انفسخت الكتابة بنفس التحالف، ولا يعتق بعد ذلك بالأداء. وإن قلنا: لا ينفسخ البيع بنفس التحالف، فإن تراضى السيد والمكاتب على أحد العوضين.. لم تنفسخ الكتابة، وإن لم يتراضيا على شيء.. فسخت الكتابة، ومن يتولى فسخها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تنفسخ إلا بالحكم. والثاني: لكل واحد منهما أن يفسخها، كما قلنا في المتبايعين. وإن كان التحالف بعد العتق، بأن دفع المكاتب إلى السيد ألفين، فقال العبد: مال الكتابة من ذلك ألف، وألف أودعتكه، وقال السيد: بل الألفان مال الكتابة.. فإنهما يتحالفان ويعتق العبد لاتفاقهما على العتق ولا يرتفع العتق؛ لأنه إذا وقع.. لم يرتفع ولكن يثبت للسيد الرجوع على العبد بقيمته، ويثبت للعبد على السيد الرجوع بما دفع إليه. والكلام في المقاصة إذا أدى الجميع من نقد البلد على الأقوال الأربعة. [مسألة قبول قول السيد بيمينه على عدم أهليته عند المكاتبة] ) : وإن قال السيد: كاتبتك وأنا مغلوب على عقلي أو محجور علي، وأنكر العبد، فإن كان قد عرف للسيد جنون أو حجر.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الأصل بقاؤه على الجنون والحجر. وإن لم يعرف له ذلك.. فالقول قول العبد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الجنون والحجر.

فرع ثبوت المكاتبة بشاهدين

[فرع ثبوت المكاتبة بشاهدين] ) : وإن مات رجل وخلف عبدا وابنين فادعى العبد أن سيده قد كان كاتبه، فإن صادقه الاثنان أو كذباه أو أحدهما، وأقام العبد شاهدين ذكرين على الكتابة.. ثبتت الكتابة. وإن أنكراه ولا بينة للعبد.. فالقول قول الابنين مع أيمانهما؛ لأن الأصل عدم الكتابة، ويحلف كل واحد منهما يمينا بالله: أنه لا يعلم أن أباه كاتبه؛ لأنهما يمين على نفي فعل الغير. وإن صدقه أحدهما أن أباه كاتبه وأنكر الآخر، فإن شهد المصدق له على الكتابة وكان عدلا وشهد معه شاهد ذكر.. حكم للعبد بالكتابة في جميعه. وإن لم يكن المصدق عدلا أو لم يشهد معه غيره.. فالقول قول المنكر مع يمينه: أنه لا يعلم أن أباه كاتبه، فإذا حلف له.. صار نصفه مملوكا للمنكر، ونصفه مكاتبا للمصدق، فإن قيل: أليس لو كاتب أحد الشريكين العبد في نصيبه بغير إذن شريكه.. لم تصح الكتابة، وبإذنه على قولين، فكيف صحت الكتابة هاهنا في نصفه؟ فالجواب: أنه إذا كاتبه في نصيبه ابتداء.. فقد قصد الإضرار بشريكه، فلذلك لم يصح، وهاهنا لم يقصد الإضرار بشريكه، وإنما أخبر أن أباه كاتبه، فقبل خبره. إذا ثبت هذا: فإن الكسب يكون بين المكاتب وبين المكذب نصفين، فإن اتفقا على المهايأة ويكون لكل واحد منهما كسب يوم، أو على ترك المهايأة ثم يقتسمان ما حصل من كسب.. جاز. وإن دعا أحدهما إلى المهايأة وامتنع الآخر.. لم يجبر الممتنع منهما. وقال أبو حنيفة: (يجبر) . دليلنا: أن المهايأة تؤدي إلى تأخير الحق عن حالة استحقاقه.. فلم يجبر الممتنع منهما، كما لو كان له دين حال على رجل ... فإنه لا يجبر على تأخيره.

فإذا قسم الكسب بينهما: إما مهايأة أو مناصفة، فإن عجز المكاتب عن حق المصدق من مال الكتابة.. كان للمصدق تعجيزه، فإذا عجزه.. عاد نصفه المكاتب رقيقا له، وأخذ ما بقي في يده من كسبه بعد الكتابة؛ لأن المكذب قد أخذ حقه من الكسب. فأما ما اكتسبه قبل الكتابة.. فإنه بين الابنين نصفان؛ لأنه كان مملوكا لأبيهما، وانتقل إليهما بالإرث. فإن اختلفا في شيء من الكسب، فقال المكذب: هذا كسبه قبل الكتابة فهو بيننا، وانتقل إليهما بالإرث. فإن اختلفا في شيء من الكسب، فقال المكذب: هذا كسبه قبل الكتابة فهو بيننا، وقال المصدق: بل كسبه بعد الكتابة وقد أخذت حقك منه وباقيه لي.. فالقول قول المصدق مع يمينه؛ لأن المكذب يدعي أنه كان موجودا قبل الكتابة، والأصل عدم وجوده في ذلك الوقت، ولأن السيد لو اختلف هو والمكاتب في ذلك.. لكان القول قول المكاتب مع يمينه؛ والمصدق هاهنا قائم مقام المكاتب. وإن أدى إلى المصدق نصف مال الكتابة.. عتق نصفه، وكان نصفه مملوكا للمنكر، ولا يقوم نصيب المنكر على المصدق وإن كان موسرا؛ لأن التقويم إنما يكون على من باشر العتق أو وجد منه سبب العتق، والمصدق لم يباشر العتق ولا وجد منه سببه وإنما أخبر بكتابة أبيه، ولمن يكون ولاء هذا النصف؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون بين الاثنين نصفين؛ لأنه عتق بسبب كان من أبيهما، ويثبت له عليه الولاء، فانتقل إليهما. والثاني: يكون للابن المصدق وحده؛ لأن المنكر أسقط حقه من الولاء بإنكاره فهو كما لو شهد شاهد لأبيهما بدين على رجل فحلف أحدهما معه دون الثاني فإن للحالف نصف الدين.

مسألة ادعاء المكاتب دفع مال الكتابة أو الإبراء

[مسألة ادعاء المكاتب دفع مال الكتابة أو الإبراء] ) : وإن ادعى المكاتب أنه دفع مال الكتابة إلى السيد، أو ادعى أن سيده أبرأه من مال الكتابة، فأنكر السيد القبض، أو البراءة، أو قال المكاتب: وضعت عني النجم الأول، فقال السيد: بل وضعت النجم الأخير، فإن كان مع المكاتب بينة بما ادعاه.. حكم له بما ادعاه؛ لأن البينة أقوى من اليمين ويقبل في ذلك شاهدان، وشاهد وامرأتان، وشاهد ويمين؛ لأنه بينة على المال. وإن لم يكن مع المكاتب بينة.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم ما ادعاه المكاتب واشتغال ذمته بمال الكتابة. [فرع كاتبه على دنانير وأبرأه من دراهم] ) : وإن كاتبه على ألف دينار، فأبرأه عن ألف درهم.. لم تصح البراءة؛ لأنه أبرأه عما لا يستحقه عليه، فصار وجود هذا الإبراء كعدمه. فإن قال السيد: أردت عن قيمة ألف درهم من الدنانير التي عليه.. صح وبرئت ذمته عن قيمة ألف درهم من الدنانير؛ لأنه فسر إبراءه بما يحتمله، فقبل منه. فإن اختلفا، فقال المكاتب: أبرأتني من ألف درهم وأردت عن قيمتها من الدنانير، وقال السيد: لم أرد ذلك.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأنه أعلم بما أراد. فإن نكل عن اليمين.. حلف المكاتب أنه أراد ذلك. وإن اختلف المكاتب وورثة السيد فيما أراد السيد من ذلك.. حلف الورثة أنهم لا يعلمون أن مورثهم أراد ذلك. [مسألة علق إقراره بالقبض بالمشيئة] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو قال: قد استوفيت آخر كتابتك إن شاء الله أو إن شاء فلان.. لم يجز؛ لأنه استثناء) . وجملة ذلك: أن السيد إذا قال: فقد استوفيت آخر نجومك أو جميع مال الكتابة إن

مسألة يوقف ولد المكاتبة حتى يعرف وقت ولادته

شاء الله أو إن شاء فلان.. لم يكن إقرارا؛ لأن الاستثناء يمنع الإقرار كما يمنع الطلاق والعتاق؛ لأنه يحتمل أن يريد بذلك: سأستوفي إن شاء الله؛ لأن الاستثناء يدخل في الأفعال المستقبلة دون الماضية. وإن قال: قبضت مال الكتابة إن شاء زيد.. لم يصح الإقرار؛ لأنه علقه بشرط، والقبض لا يصح تعليقه بشرط، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن شاء الله أو إن شاء فلان) .. لم يجز؛ لأنه استثناء يرجع إلى مشيئة الله تعالى، وأما مشيئة فلان فهي صفة. وإن قال السيد: استوفيت، أو قال المكاتب: أليس قد استوفيت أو وفيتك، فقال السيد: بلى، ثم اختلفا فادعى المكاتب أنه استوفى جميع مال الكتابة، وقال السيد: بل استوفيت البعض.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الاستيفاء لا يقتضي الجميع. وإن قال السيد: استوفيت آخر كتابتك.. فليس هذا إقرارا باستيفاء جميع مال الكتابة؛ لأنه يحتمل ذلك، ويحتمل أنه يريد: استوفيت آخر ما حل عليك دون ما قبله، فيرجع في تفسير ذلك إلى السيد، فإن ادعى المكاتب أنه أراد بذلك جميع مال الكتابة، وقال السيد: بل أردت النجم الأخير دون ما قبله.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأنه أعلم بما أراد. [مسألة يوقف ولد المكاتبة حتى يعرف وقت ولادته] ) : وإن كان مع المكاتبة ولد، فقالت: ولدته بعد الكتابة فهو موقوف معي ـ إذا قلنا: ولدها موقوف معها ـ وقال السيد: بل ولدته قبل الكتابة فهو ملك لي.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن هذا اختلاف في وقت الكتابة، فالسيد يقول: كان العقد بعد الولادة، والمكاتبة تقول: بل كان العقد قبل الولادة، ولو اختلفا في أصل العقد.. لكان القول قول السيد فكذلك إذا اختلفا في وقته.

فرع شراء المكاتب زوجته الأمة

[فرع شراء المكاتب زوجته الأمة] ) : وإن كاتب رجل عبدا له ثم زوجه بأمته، ثم باع السيد الأمة من المكاتب.. فإن النكاح ينفسخ. وقال أبو حنيفة: (لا ينفسخ؛ لأنه لا يملكها، بدليل: أنه إذا اشترى أمة.. لم يملك وطأها) . دليلنا: أن المكاتب يملك ما اشتراه، بدليل: أنه إذا اشترى شقصًا من دار، ثم اشترى السيد شقصًا فيه.. ثبت للمكاتب الشفعة فيما اشتراه مولاه، فانفسخ نكاحه، كالحر إذا ملك زوجته. وأما منع المكاتب من وطئها: فلا يدل على أنه لا يملكها، بدليل: أن الراهن يمنع من وطء أمته المرهونة وإن كان مالكها. إذا ثبت هذا: فإن أتت هذه الجارية بولد، فاختلف السيد والمكاتب فيه، فقال السيد: أتت به قبل أن أبيعها منك فهو ملك لي، وقال المكاتب: بل أتت به بعد ما اشتريتها فهو ملك لي.. فالقول قول المكاتب مع يمينه؛ لأنهما اختلفا في ملكه، ويد المكاتب عليه، فكان القول قوله، كسائر الأملاك. ويفارق المكاتبة، فإنها لا تدعي ملك ولدها. [مسألة إقرار السيد استيفاء ما على أحد مكاتبته] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو قال السيد: قد استوفيت ما على أحد مكاتبي.. أقرع بينهما) . وجملة ذلك: أنه إذا كاتب عبدين له بعقدين أو بعقد ـ وقلنا: إنه يصح ـ ثم أقر السيد أن أحدهما قد أدى إليه جميع مال الكتابة، أو أنه قد أبرأه من جميع مال الكتابة،

وقال: لا أعلم عينه منهما.. فما دام حيا لا يقرع بينهما، ولكن يقال له: تذكر الذي أدى منهما أو الذي أبرأته منهما؛ لأن ذلك أقوى من القرعة، فإن تذكر وقال: هذا الذي أدى إلي مال الكتابة، أو هذا الذي أبرأته.. حكم بعتقه. فإن صدق الآخر السيد أنه لم يؤد أو أنه لم يبرئه.. كان باقيا على كتابته. وإن قال الآخر: أنا الذي أدى مال كتابته، أو أنا الذي أبرأته، فإن صدقه السيد.. حكم بعتقه أيضا مع الأول، وإن كذبه ولا بينة للثاني.. فالقول قول السيد مع يمينه: أنه لم يؤد إليه أو أنه لم يبرئه؛ لأن الأصل بقاء المال في ذمته. فإذا حلف له السيد.. بقي على كتابته، وإن نكل السيد.. حلف المكاتب وعتق أيضا. وإن مات المولى قبل أن يبين.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " المختصر ": (يقرع بينهما) وقال في موضع آخر: (لا يقرع بينهما) فحصل فيها قولان: أحدهما: يقرع بينهما، فمن خرج له سهم الحرية.. عتق؛ لأن الحرية تعينت لأحدهما وأشكل عينه ولا يمكن التمييز إلا بالقرعة. قال المحاملي: فعلى هذا: إن ادعى الآخر على الورثة أنه هو الذي أدى مال كتابته أو أبرأه السيد.. حلف الورثة: أنهم لا يعلمون أنه قد أدى مال كتابته، أو أن مورثهم أبرأه. والقول الثاني: أنه لا يقرع بينهما؛ لأنه لا يؤمن أن يخرج سهم الحرية للذي لم يؤد فيرق المعتق، ولكن يرجع إلى بيان الوارث، فيقال للوارث: أتعلم الذي أدى أو أبرئ؟ فإن قال: نعم.. قيل له: عينه، فإذا عين أحدهما.. حكم بعتقه. فإن قال الآخر: بل أنا الذي أدى مال كتابته أو أبرأه السيد.. حلف الوارث أنه لا يعلم أنه الذي أدى أو أبرئ.. وبقي على الكتابة. وإن قال الوارث: لا أعلم عين المؤدي أو المبرأ، فإن صدقه المكاتبان أنه لا يعلم.. بقيا على الكتابة، وإن كذباه وادعيا علمه بالمؤدي منهما أو بالمبرأ.. حلف لكل واحد منهما يمينا وبقيا على الكتابة.

مسألة مكاتبة ثلاثة بعقد على مائة

قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: ويؤدي كل واحد منهما جميع مال كتابته؛ لأنه لم يثبت أداء أحدهما. قال: وعندي: أنهما إذا قالا: نؤدي ما على أحدنا إن كانت كتابتهما سواء، أو كانت كتابة أحدهما أكثر من الآخر فقالا: نؤدي كتابة أكثرنا كتابة لنعتق.. كان لهما ذلك؛ لأنهما إذا أديا ذلك.. فقد أديا جميع ما عليهما بيقين. [مسألة مكاتبة ثلاثة بعقد على مائة] ) : وإن كاتب رجل ثلاثة أعبد له على مائة درهم بعقد واحد، وقيمة أحدهم مائة وقيمة كل واحد من الآخرين خمسون، فإن قلنا: إن الكتابة باطلة.. فلا كلام. وإن قلنا: إنها صحيحة.. قسمت المائة المسماة عليهم على قدر قيمتهم، فيكون على من قيمته مائة: خمسون، وعلى كل واحد من الآخرين: خمسة وعشرون. فعلى هذا: إن أدى العبيد الثلاثة مائة من أيديهم إلى السيد، ثم اختلفوا، فقال كل واحد من العبدين اللذين قيمتهما مائة: أديناها أثلاثا بيننا، فأديت أنت ثلاثة وثلاثين وثلثا وبقي عليك باقي كتابتك فلم تعتق، وأدى كل واحد منا ثلاثة وثلاثين وثلثا، وعلى كل واحد منا خمسة وعشرون.. فقد عتقنا نحن، وبقي ما زاد لكل واحد منا وديعة عند السيد، أو أدينا ذلك عنك بإذنك فهو دين عليك لنا. وقال من كثرت قيمته: بل أديناها على قدر ما علينا من مال الكتابة، فأديت أنا خمسين وعتقت، وأدى كل واحد منكما خمسة وعشرين وعتق: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (القول قول من قلت قيمته) . وقال في موضع من " الأم ": (إذا أدوا ستين دينارا، ثم اختلفوا، فقال من قلت قيمته: أديناها على العدد أثلاثا، وقال من كثرت قيمته: أديناها على قدر ما علينا من مال الكتابة.. فالقول قول من كثرت قيمته) .

مسألة ادعاء المكاتب تأدية الكتابة لسيديه

واختلف أصحابنا فيها على طريقين: فمنهم من قال: فيها قولان: أحدهما: القول قول قلت قيمته، وهو الأصح؛ لأن أيديهم على المال، فالظاهر أن أملاكهم متساوية فيه. والثاني: أن القول قول من كثرت قيمته؛ لأن الظاهر من حال من عليه دين أنه لا يؤدي أكثر مما عليه، ومن قلت قيمته يدعي أنه أدى أكثر مما عليه، وهذا مخالف للظاهر. ومنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (القول قول من قلت قيمته) أراد به: إذا أدوا أقل مما عليهم من مال الكتابة، مثل: أن يؤدوا ستين وعليهم مائة؛ لأن من قلت قيمته.. لم يؤد أكثر مما عليه، فلا تخالف دعواه الظاهر، ويد كل واحد منهم على ثلث المال، فكان القول قوله. والموضع الذي قال: (القول قول من كثرت قيمته) أراد به: أدوا جميع مال الكتابة؛ لأن من قلت قيمته هاهنا.. يدعي أنه أدى أكثر مما عليه، فكانت دعواه تخالف الظاهر، فلم تقبل. [مسألة ادعاء المكاتب تأدية الكتابة لسيديه] ) : وإن كان عبد بين رجلين نصفين فكاتباه كتابة صحيحة، ثم ادعى المكاتب أنه أدى إليهما مال الكتابة.. ففيه ثلاث مسائل: إحداهن: إذا كاتباه على ألف، فادعى المكاتب أنه أدى إلى كل واحد منهما خمسمائة، فإن صدقاه.. عتق، وإن كذباه ولا بينة للمكاتب.. حلف له كل واحد منهما يمينا وبقي على الكتابة، وإن صدقه أحدهما وكذبه الآخر.. عتق نصيب المصدق. ولا تقبل شهادة المصدق على المنكر؛ لأنه يدفع بهذه الشهادة عن نفسه غرما، فإن لم يكن مع المكاتب بينة.. حلف له المنكر: أنه لم يقبض منه نصيبه من الكتابة،

وبقي نصيبه على الكتابة، ويكون المنكر بالخيار: بين أن يطالب المكاتب بخمسمائة؛ لأنه قد ثبت أنه ما قبض شيئا منها، وبين أن يرجع على شريكه المصدق بمائتين وخمسين ـ وهو نصف ما قبض ـ لأن كسب المكاتب مشترك بين سيديه، فلا يجوز أن يخص أحدهما بشيء منه، ويرجع على المكاتب بمائتين وخمسين؛ لأنه لم يثبت أنه قبض منه شيئا من الكتابة. فإذا حصل للمنكر الخمسمائة، إما من المكاتب وإما من المكاتب ومن المصدق.. عتق نصيبه، ولا يرجع المكاتب على المصدق بما أخذه منه المنكر، وكذلك لا يرجع المصدق على المكاتب بما أخذه منه المنكر؛ لأن كل واحد منهما يقر أن الذي ظلمه هو المنكر، فلا يرجع على غير من ظلمه. فإن قيل: فالمكذب منكر لقبض المصدق نصيبه.. فكيف يرجع عليه؟ قلنا: إقرار المصدق يوجب له الرجوع عليه، وإنكاره لا يمنعه من الرجوع؛ لجواز أن يكون المصدق قبض بغير علم المنكر. فإن عجز المكاتب عما لزمه أداؤه إلى المنكر.. كان له تعجيزه فإذا عجزه.. عاد نصفه رقيقا له، ونصفه قد عتق بإقرار المصدق، ويكون ما بقي في يد المكاتب من الكسب بينه وبين المنكر نصفين. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يقوم نصيب المنكر هاهنا على المصدق؛ لأن التقويم لحظ العبد لتكميل أحكامه، والعبد يزعم أنه حر، وإنما استرق المنكر نصفه ظلما) . المسألة الثانية: إذا قال المكاتب لأحد الشريكين: دفعت إليك جميع الألف لتأخذ نصفها لك وتدفع إلى شريكك نصفها، فقال الذي ادعى عليه المكاتب: لم تدفع إلي جميع الألف، وإنما دفعت إلي نصف الألف وإلى شريكي نصف الألف، فقال الشريك: ما دفع إلي شيئا.. فيعتق نصيب الذي أقر أنه قبض نصف الألف، ويحلف للمكاتب: أنه ما قبض منه إلا خمسمائة، ولا تقبل شهادته على شريكه؛ لأن المكاتب لا يدعي عليه أنه قبض، ولأنه يدفع بهذه الشهادة عن نفسه غرما، ولا يمين

على الشريك الذي لم يدع عليه المكاتب، للمكاتب؛ لأنه لا يدعي أنه أقبضه شيئا، فبقي نصيبه على الكتابة: ويكون بالخيار: بين أن يرجع على المكاتب بخمسمائة، وبين أن يرجع عليه بمائتين وخمسين وعلى شريكه المقر بمائتين وخمسين؛ لأن الخمس المائة التي أقر بقبضها من كسب العبد وكسبه بينهما. قال ابن الصباغ: وللمصدق أن يحلف المنكر: أنه لم يقبض من المكاتب خمسمائة؛ لجواز أن يخاف، فيقر، فيسقط رجوعه عليه. فإذا رجع المنكر على المكاتب أو على المصدق.. لم يرجع أحدهما على الآخر بذلك؛ لأن المصدق يعترف: أن المنكر ظالم له، فلا يرجع على غير من ظلمه، والمكاتب ما ثبت أنه دفع إلى المصدق شيئا، فيرجع عليه. فإذا حصل للمنكر خمسمائة من المكاتب أو منهما.. عتق نصيبه. وإن عجز المكاتب عما لزمه أداؤه إلى المنكر.. كان له تعجيزه، فإذا عجزه.. عاد نصفه رقيقا له، ونصفه قد عتق على المصدق. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويقوم على المقر نصيب المنكر؛ لأن المكاتب يقول: أنا أستحق التقويم؛ لأن نصفي مملوك) . ومن أصحابنا من نقل جواب الأولى إلى هذه وجواب هذه إلى الأولى، وجعل فيهما قولين، وليس بشيء. المسألة الثالثة: إذا قال المكاتب لأحد الشريكين: قد دفعت إليك الألف كلها لتأخذ نصفها وتدفع إلى شريكك نصفها، فقال هذا الذي ادعى عليه المكاتب: نعم، قد قبضت الألف ودفعت إلى شريكي نصفها، فقال الشريك: ما دفعت إلي شيئا.. عتق نصيب المقر؛ لأنه أقر أنه استوفى مال كتابته، فإن لم تكن بينة على المنكر.. فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف.. بقي حقه مكاتبا، ويكون بالخيار.. بين أن يطالب المكاتب بخمسمائة؛ لأن حقه في الأصل عليه، وبين أن يطالب المقر بخمسمائة؛ لأنه أقر بقبضها. فإذا أخذ حقه من أيهما كان.. عتق نصيبه، ثم ينظر:

فرع تزويج السيد ابنته من مكاتبه

فإن رجع المنكر على المكاتب بخمسمائة.. كان للمكاتب الرجوع على المقر بخمسمائة، سواء صدقه على الدفع إلى شريكه أو كذبه؛ لأنه يقول: كان من الواجب عليك أن تدفع إليه وتشهد ليكون دفعا مبرئا، فإذا لم تشهد.. فقد فرطت. وإن رجع المنكر على المقر.. لم يرجع المقر على المكاتب؛ لأنه يقر أن شريكه ظلمه، فلا يرجع على غير من ظلمه. وإن عجز المكاتب عن الأداء.. قال أصحابنا: وهذا بعيد؛ لأن له أن يأخذ من المقر خمسمائة ويؤديها في مال الكتابة، ولكنه إن لم يختر ذلك.. لم يجبره المنكر على مطالبة المقر، وللمنكر أن يعجزه، فإذا عجزه.. عاد نصفه رقيقا له، ويرجع المنكر على المقر بخمسمائة، وهو نصف ما أقر بقبضه؛ لأنه من كسب المكاتب. قال عامة أصحابنا: ويقوم نصيب المنكر على المقر. وقال القاضي أبو الطيب: إن كان المكاتب لم يصدق المقر في دفع خمسمائة إلى المنكر.. قوم عليه؛ لأنه يقر أن نصفه مملوك، وإن صدقه أنه دفع إليه خمسمائة.. لم يقوم عليه؛ لأنه يعترف أنه حر وأن أحكامه كملت، وأن المنكر مسترق لنصفه ظلما. [فرع تزويج السيد ابنته من مكاتبه] ) : إذا زوج الرجل ابنته من مكاتبه برضاها.. صح النكاح، وإنما اعتبر رضاها؛ لأنه ليس بكفء لها. فإن مات السيد قبل أن يعتق المكاتب، فإن كانت غير وارثة لأبيها، بأن كانت قاتلة أو ذمية.. فإن النكاح بحاله، وإن ورثت أباها.. انفسخ نكاحها. وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (لا ينفسخ النكاح) . دليلنا: أن المكاتب عبد قبل الأداء وقد ملكت شيئا منه.. فانفسخ نكاحها، كما لو كان زوجها غير مكاتب، فملكته أو ملكت شيئا منه.

فرع تدفع الكتابة لورثة السيد أو للوصي

[فرع تدفع الكتابة لورثة السيد أو للوصي] ) : وإن كاتب الرجل عبدا له ومات السيد قبل أن يؤدي المكاتب، فإن كان وارث السيد واحدا رشيدا.. دفع المكاتب المال إليه، وإن كان وارثه اثنين رشيدين.. لم يعتق المكاتب حتى يدفع إلى كل واحد منهما نصيبه. وإن ورث السيد من ليس برشيد.. لم يعتق المكاتب حتى يدفع مال الكتابة إلى الناظر في أمر الوارث، من جد أو وصي أو حاكم أو أمين الحاكم. وإن أوصى السيد بمال الكتابة لرجل معين أو لقوم معينين.. قال المحاملي: جاز للمكاتب أن يدفع مال الكتابة للموصى له المعين، ويجوز أن يدفعه إلى وصي الميت أو إلى وارثه؛ لأن للوارث والوصي أن يتوليا إيصال الوصايا إلى مستحقيها. وإن وصى به المولى لقوم موصوفين غير معينين، كالفقراء والمساكين.. لم يبرأ المكاتب بدفعه إليهم، بل يدفعه إلى الوصي ليتولى تفرقته. وإن أوصى المولى أن يقضى دينه من مال الكتابة، فإن كان الدين لرجل معين.. فالأولى أن يدفعه إليه. وإن دفعه إلى الوصي أو إلى الوارث.. جاز. وإن لم يوص به، بل كان عليه دين يحيط بماله.. فلا يجوز للمكاتب أن يدفع إليه المال إلا بحضرة الوارث والوصي. فإن دفعه إلى أحدهما.. لم يبرأ؛ لأن لكل واحد منهما فيه حقا، فحق الوارث: أن يأخذه ويقضي الدين من عنده، وللوصي حق، وهو: منع الورثة من التصرف في التركة حتى يقضي الدين. والله أعلم بالصواب، وبالله التوفيق

كتاب عتق أمهات الأولاد

[كتاب عتق أمهات الأولاد]

كتاب عتق أمهات الأولاد إذا علقت الأمة من سيدها بحر في ملكه.. ثبت لها حكم الاستيلاد. وقال المزني: قطع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في خمسة عشر كتابا بعتق أمهات الأولاد، ووقف في غيرها. فقال البغداديون من أصحابنا: لا يختلف مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يجوز بيع أم الولد ولا هبتها، ولا تورث عنه، بل تعتق بموته من رأس المال) . وبه قال عمر وعثمان وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وهو قول عامة الفقهاء. وأما توقف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عن بيعها.. فإنما ذلك لينبه على أن في بيعها خلافا. وروي عن على، وابن عباس، وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (يجوز بيعها) . وبه قال داود والشيعة.

وحكى الخراسانيون من أصحابنا: أن ذلك قول آخر للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وليس بمشهور. دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما أمة ولدت من سيدها.. فهي حرة عن دبر منه» . وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في أم الولد: "لا تباع، ولا توهب، ولا تورث يستمتع بها مدة حياته، فإذا مات عتقت» . إذا ثبت هذا: فلا يصح هبتها ولا رهنها، وهل تصح كتابتها؟ فيه وجهان: قال ابن القاص: لا يصح؛ لأنه عقد على رقبتها، فأشبه البيع والرهن والهبة. وقال أكثر أصحابنا: يصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نص على: (أنه إذا استولد المكاتبة.. صارت أم ولد، والكتابة بحالها) ، ولأنه يملك كسبها، فإذا اعتقها على بعضه.. جاز. إذا تقرر ما ذكرناه ... ففي الاستيلاد ثلاث مسائل: إحداهن: إذا علقت الأمة بحر من سيدها في ملكه.. فإنها تصير أم ولد له في الحال إلا في مسألة واحدة وهي: إذا أحبل الراهن الجارية المرهونة بغير إذن المرتهن.. فإنها في أحد القولين تباع لحق المرتهن وإن كانت قد علقت بحر من سيدها في ملكه.

مسألة ما يصيرالأمة أم ولد

الثانية: إذا علقت بولد ممولك. فإنها لا تصير أم ولد إلا في مسألة واحدة وهي: إذا وطئ المكاتب أمته، فحبلت منه، فهل تصير أم ولد له؟ فيه قولان: أحدهما: تصير أم ولد ولا يجوز له بيعها، بل تكون موقوفة على عتقه، فإن عتق بالأداء.. عتقت بموته، وإن رق.. رقت؛ لأنها أتت منه بولد في ملكه وهذا الولد موقوف على حريته، فكذلك الأم. والثاني: لا تصير أم ولد له؛ لأنها أتت منه بولد مملوك. وإن تزوج أمة فأحبلها واشتراها وهي حامل منه فوضعت عنده.. عتق الولد، ولا تصير أم ولد له. وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (تصير أم ولد له) . وقال مالك: (إن اشتراها حاملًا ووضعت عنده.. صارت أم ولد له، وإن اشتراها بعدما ولدت.. لم تصر أم ولد له) . دليلنا: أنها علقت منه بمملوك، فلا يثبت لها حكم الاستيلاد، كما لو زنى بها. المسألة الثالثة: إذا علقت منه بحر في غير ملك، مثل: أن يطأها بشبهة.. فإنها لا تصير أم ولد له في الحال؛ لأنها ليست بمملوكة له، فإن ملكها بعد ذلك، فهل تصير أم ولد له؟ فيه قولان: أحدهما: تصير أم ولد له؛ لأنها علقت بحر منه فهو كما لو علقت منه في ملكه. والثاني: لا تصير أم ولد له؛ لأنها علقت منه في غير ملكه، فهو كما لو علقت منه في زوجية أو زنى بها. [مسألة ما يصيرالأمة أم ولد] مسألة: (ما يصير الأمة أم ولد) : وأما الكلام في بيان ما تصير به أم ولد: فإنها إن ولدت ولدًا مصورًا حيًا أو ميتًا.. فإنها تصير أم ولد، ويحب به الغرة على الضارب إذا أسقطته من ضربه، وتجب به الكفارة، وتنقضي به العدة. وإن وضعته وهو غير مصور تام إلا أنه بان فيه صورة الآدمي، كظفر أو شعر.. كان حكمه حكم الولد التام الخلقة، فتتعلق به الأحكام الأربعة.

وإن وضعت جسدًا ليس فيه تخطيط ظاهر، ولكن عرض على أربع نساء ثقات من القوابل فشهدن أن فيه تخطيطًا باطنًا لا يشاهده إلا أهل الصنعة.. فحكمه حكم الولد، فتتعلق به الأحكام الأربعة؛ لأنهن من أهل المعرفة بذلك، فهو كما لو كان فيه تخطيط ظاهر. وإن وضعت جسدًا ليس فيه تخطيط ظاهر، ولا شهدت القوابل أن فيه تخطيطًا باطنا، لكن شهدن أن هذا لو بقي لتخطط وأنه مبتدأ خلق آدمي.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " المختصر " ما يدل على أنها لا تصير به أم ولد؛ لأنه قال: (إذا ولدت ما يتبين أنه من خلق الآدمي عينًا أو ظفرًا أو إصبعًا.. فهي أم ولد) . وقال في كتاب (العدد) : (تنقضي به العدة) . واختلف أصحابنا فيه على طريقين: فمنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: حكمه حكم الولد، فيتعلق به الأحكام الأربعة؛ لأن القوابل قد شهدن أنه مبتدأ خلق آدمي، فأشبه إذا شهدن أنه تخطط. والثاني: لا يتعلق به شيء من أحكام الولد؛ لأنه لم يتبين فيه صورة الآدمي، فأشبه الدم والماء. ومنهم من قال: لا تصير به أم ولد، ولا تجب به الغرة ولا الكفارة، ولكن تنقضي به العدة؛ لأن القصد معرفة براءة رحم المعتدة، وذلك يحصل به. وسائر الأحكام إنما تثبت لحرمة الولد ولا حرمة لابتدائه. وتعتق أم الولد بموت سيدها من رأس المال، سواء استولدها في صحته أو في مرض موته؛ لأن الإحبال إتلاف فيما طريقه الالتذاذ.. فاعتبر ذلك من رأس المال، كما لو أتلف شيئًا من ماله في مأكوله وملبوسه.

مسألة حكم أم الولد كالقنة

[مسألة حكم أم الولد كالقنة] ) : ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أنها لا تخالف الأمة، غير أنها لا تخرج من ملكه) . وجملة ذلك: أن حكم أم الولد حكم الأمة القنة.. فيجوز للسيد وطؤها واستخدامها وإجارتها. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يجوز له إجارتها) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عمر، ولأنه يملك استخدمها، فملك إجارتها، كالمدبرة. وهل يجوز تزويجها؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: (يجوز) وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني، وهو الصحيح؛ لأنها أمة يملك الاستمتاع بها، فملك تزويجها، كالمدبرة، فعلى هذا: له إجبارها على النكاح. والثاني: يصح تزويجها برضاها، ولا يصح بغير رضاها؛ لأنها أمة ثبتت لها الحرية بسبب لا يملك المولى إبطاله فهي كالمكاتبة وفيه احتراز من المدبرة. والثالث: لا يصح تزويجها بحال؛ لأنها ملك السيد قد ضعف في حقها وهي لم تكمل، فلم يكن له تزويجها، كالأخ لا يزوج أخته الصغيرة لضعف ولايته؛ لأنها لم تكمل. فإذا قلنا بهذا: فهل يجوز للحاكم تزويجها؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، وهو قول أبي إسحاق، وأبي سعيد الإصطخري؛ لأن تزويجها من طريق الحكم، والحاكم يملك بالحكم ما لا يملكه الولي، بدليل: أن الحاكم يجوز له تزويج الذمية، ولا يجوز للمسلم تزويد الذمية بولاية القرابة. فعلى هذا: لا يصح إلا برضا المكاتب؛ لأنه يملك الاستمتاع بها، وبتزويجها

مسألة منزلة ولد أم الولد بمنزلتها

يحرم عليه استمتاعها، ويجب لها المهر ورضاها؛ لأن الاستمتاع لها. والثاني ـ وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ـ: أنه لا يصح؛ لأن الحاكم ينوب عنهما وهما لا يملكان النكاح بأنفسهما، فلم يجز أن ينوب الحاكم عنهما. والأول أصح. [مسألة منزلة ولد أم الولد بمنزلتها] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولد أم الولد بمنزلتها، يعتقون بعتقها) . وجملة ذلك: أن أم الولد إذا أتت بولد من نكاح أو زنى.. ثبت له ما لها من حرمه الاستيلاد، فإن مات السيد.. عتقت وعتق ولدها؛ لأن الولد يتبع أمه في رقها وحريتها حال ولادتها، فيتبعها أيضا في حكم الاستيلاد؛ لأنه سبب مستقر للحرية، فجرى مجرى الحرية. فإن ماتت الأم قبل موت سيدها.. ماتت رقيقة؛ لأنها إنما تعتق بموت سيدها، فإذا ماتت قبله.. ماتت رقيقة، كالمدبرة، ولا يبطل ما ثبت للولد من حرمة الاستيلاد، بل يعتق بموت سيده؛ لأنه ثبت له حق مستقر بحياة الأم، فلا يسقط بموتها، كالحرية. [فرع ملك الرحم المحرمة لا يحل وطأها] ) : وإذا ملك الرجل أخته من النسب أو الرضاع، أو عمته أو خالته، أو ملك المسلم أمة مجوسية.. فلا يحل له وطؤها. فإن خالف ووطئها وأحبلها.. فلا خلاف أن الولد ينعقد حرًا ويلحقه نسبه، وتصير الجارية أم ولد له وتعتق بموته؛ لأنها مملوكته. وإنما حرم عليه وطؤها، للقرابة أو لكونها مجوسية، فهو كما لو وطئ أمته الحائض. فإن كان جاهلًا بالتحريم.. فلا حد عليه ولا تعزير، وإن كان عالمًا بالتحريم.. فهل يجب عليه الحد؟ فيه قولان:

أحدهما: لا يجب عليه؛ لأن وطأه صادف ملكه، فهو كما لو وطئ أمته وهي حائض. فعلى هذا: يعزر. والثاني: يجب عليه الحد؛ لأنه وطئ امرأة لا يحل له وطؤها بحال مع العلم بتحريمها، فهو كما لو وطئ أجنبية منه، وإن ملك الكافر أمة كافرة فأسلمت، فوطئها قبل أن يزال ملكه عنها وأحبلها.. فحكمه حكم المسلم إذا وطئ أخته وهي في ملكه، على ما مضى. فإذا صارت أم ولد له.. فرق بينه وبينها، وتركت على يد امرأة ثقة، وأمر بالإنفاق عليها إلى أن يموت فتعتق. وإن كان لليهودي أو النصراني أمة يحل له وطؤها، فاستولدها.. ثبت لها حرمة الاستيلاد وهي مقرة تحت يده، كأم ولد المسلم. فإن أسلمت قبل موته.. لم تقر تحت يده؛ لأنه لا يحل له وطؤها، ولا يؤمر بإزالة ملكه عنها؛ لأنه قد ثبت لها حكم الحرية بالاستيلاد، فلا يجوز إبطال ذلك عليها. فعلى هذا: تترك على يد امرأة ثقة، فإن كان لها صنعة.. أمرت بها، وما كسبت.. أنفق عليها منه، وما بقي من كسبها.. يكون لسيدها. وإن لم يف كسبها بنفقتها أو لم يكن لها كسب.. وجب على المولى نفقتها؛ لأنها في ملكه. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (تستسعي في قيمتها) . وعن مالك روايتان: إحداهما: (تعتق ولا شيء عليها) . والثانية: (تباع) . فأما الدليل على إبطال الاستسعاء: فقد مضى في العتق. وأما الدليل على مالك: فلأنه إسلام من الأمة، فلا يوجب عتقها، كأمة الكافر إذا دبرها.

مسألة جناية أم الولد قبل موت السيد

[مسألة جناية أم الولد قبل موت السيد] ) : إذا جنت أم الولد على غيرها قبل موت سيدها، فإن كانت جناية توجب القصاص.. فالمجني عليه بالخيار: بين أن يقتص وبين أن يعفو، كما قلنا في غيرها. وإن كانت الجناية خطأ أو عمدًا وعفا على مال.. لزم المولى أن يفديها؛ لأنه منع من بيعها، ولم يبلغ بها حالة يتعلق الأرش بذمتها، فلزمه الضمان، كما لو جنى العبد على غيره ثم قتله قاتل، ولكن لا يلزمه إلا أقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمتها قولًا واحدًا؛ لأنه لا يمكن بيعها، بخلاف العبد القن في أحد القولين. فإن جنت، ففداها السيد، ثم جنت ثانيًا.. ففيه قولان: أحدهما: يلزم المولى أن يفدي الجناية الثانية بأقل الأمرين من أرشها أو قيمة الجارية، وهو اختيار المزني؛ لأنه مانع بالإحبال من بيعها عند الجناية الثانية، كما أنه مانع من بيعها عند الأولى، فلزمه الفداء للثانية، كالأولى. فعلى هذا: يلزمه الفداء لكل جناية جنتها. والثاني لا يلزمه إلا أقل الأمرين من قيمتها أو أروش الجنايات كلها؛ لأنه منع من بيعها بالإحبال، والإحبال إنما وجد منه دفعة واحدة، فلم يلزمه إلا فديه واحدة للجنايات كلها، كما لو جنى العبد جنايات، ثم قتله آخر. فعلى هذا: إن كان المولى قد دفع جميع القيمة إلى المجني عليه الأول.. فإن المجني عليه الثاني والثالث يشاركان المجني عليه الأول فيما أخذ منه من القيمة على قدر جناياتهم؛ لأنه لا يلزم المولى أكثر من القيمة، وقد دفعها. فإن كان المولى لم يدفع جميع القيمة إلى المجني عليه الأول، فإن كان أرش الثاني مثل البقية التي بقيت على المولى من قيمة الجارية.. دفع المولى ما بقي عليه من القيمة إلى الثاني. وإن كان أرش الجناية الثانية أكثر من بقية القيمة على المولى.. ضمت بقية

مسألة ملك الولد الأمة يحرم على الأب وطأها

القيمة على المولى إلى ما أخذه المجني عليه الأول من القيمة، وقسمت القيمة على المجني عليهما على قدر أرشهما. [مسألة ملك الولد الأمة يحرم على الأب وطأها] ) : إذا ملك الرجل أمة.. لم يحل لأبيه وطؤها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج: 29] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30] (المعارج: 29 ـ 30) . وأمة الابن ليست بزوجة للأب ولا ملكًا له، فإن خالف الأب ووطئها.. فقد فعل فعلًا محرمًا، فإن لم يحبلها.. فالكلام في ثلاثة مواضع، في الحد، والمهر، والقيمة: فأما (الحد) : فإن كان الابن لم يطأها.. لم يجب على الأب الحد؛ لأن له في مال الابن شبهة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» .

وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أولادكم من كسبكم، فكلوا من أطيب كسبكم» . وإذا كان له شبهة في مال الابن.. لم يجب عليه الحد بوطء جاريته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرءوا الحدود ما استطعتم» . فإن كان الابن قد وطئها قبل ذلك.. فهل يجب الحد على الأب؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه الحد؛ لما ذكرناه. والثاني: يجب عليه الحد؛ لأنها صارت محرمة على الأب بوطء الابن على التأبيد، فوجب عليه الحد بوطئها، كما لو وطئ امرأة ابنه. قال الشيخ أبو حامد: ويشبه أن يكون هذان الوجهان مبنيين على القولين فيمن ملك أخته فوطئها.

وأما (المهر) : فكل موضع قلنا: لا يجب على الأب الحد، فإن كان الابن لم يطأها أو كان قد وطئها وقلنا: لا حد على الأب بوطئها.. وجب على الأب المهر بوطئها؛ لأنه وطء يسقط فيه الحد عن الموطوءة، فوجب فيه المهر، كالوطء في النكاح الفاسد. وكل موضع قلنا: يجب الحد على الأب.. نظرت: فإن كان أكرهها على الوطء.. وجب عليه المهر. وإن طاوعته على الوطء.. فهل يجب المهر على الأب؟ حكى أصحابنا البغداديون فيه وجهين: المنصوص: (أنه لا يجب) ؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مهر البغي» (والبغي) : الزانية. قال الله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] (مريم: 28) . ومن أصحابنا من قال: يجب عليه المهر؛ لأن المهر للسيد، فلم يسقط ببذل الأمة. وأصحابنا الخراسانيون: يحكونهما قولين: وأما (قيمة الجارية) : فإنها لا تجب على الأب؛ لأنه لم يتلفها. فإن قيل: فقد صارت محرمة بالوطء على الابن.. قلنا: إذا لم يحصل نقص في عينها ولا في قيمتها.. لم يجب ضمانها: لأنها تحل لغيره. وأما إذا أحبلها الأب.. فالكلام في الحد والمهر على ما مضى، والولد حر ثابت النسب من الأب. وهل تصير الجارية أم ولد له؟

قال القفال: لا تصير أم ولد له قولًا واحدًا. وقال الشيخ أبو حامد: هل تصير الجارية أم ولد له؟ فيه قولان: أحدهما: لا تصير أم لد له، وهو اختيار المزني؛ لأنها علقت منه في غير ملكه، فهو كما لو وطئ أمة بالنكاح فولدت منه. والثاني: أنها تصير أم ولد له. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأنها علقت منه بحر بحق الملك، فثبت لها حرمة الاستيلاد، كما لو كانت في ملكه. فإذا قلنا: لا تصير أم ولد له.. فلا يجوز للابن بيعها ولا هبتها ما دامت حاملًا؛ لأنها حامل بحر. وللابن أن يطالب الأب بقيمة الجارية؛ لأنه حال بينه وبين جاريته، فهو كما لو غصب منه جارية وأبقت منه، فإذا وضعت.. رد الابن القيمة التي أخذ من الأب إليه؛ لأن الحيلولة قد زالت. وحكى الطبري في " العدة ": أن من أصحابنا من قال: ليس له مطالبته بالقيمة، لأن الابن يقدر على الانتفاع بها بالاستخدام والإجارة. والأول هو المشهور. فإذا وضعت الجارية الولد.. وجب على الأب للابن قيمة الولد يوم الوضع؛ لأنه كان في سبيله أن يكون مملوكًا، وقد حال الأب بين الابن وبين رقه. فإن ملك الأب الجارية بعد ذلك.. فهل تصير أم ولد؟ فيه قولان، كما لو وطئ جارية غيره بشبهة فحملت منه، ثم ملكها. وإذا قلنا بالقول الآخر: وأنها تصير أم ولد للأب.. لزمه أن يغرم للابن قيمة الجارية في الحال، سواء كان الأب موسرًا أو معسرًا. بخلاف الشريك في الجارية إذا استولدها، فإنه لا يلزمه قيمة نصيب شريكه فيها إذا كان معسرًا؛ لأنا نجعل الجارية أم

فرع ملك الأب الأمة يحرمها على ولده

ولد للشريك نظرًا للشريك، ولا نظر له عند إعسار الشريك، وهاهنا نجعلها أم ولد له نظرًا للأبوة، والأبوة موجود في الحالين، ولا يلزم الأب قيمة الولد؛ لأنها تضعه في ملكه. [فرع ملك الأب الأمة يحرمها على ولده] ) : إذا ملك الرجل جارية.. لم يحل لولده وطؤها؛ لأنها ليست بزوجة له ولا ملك. فإن خالف الابن ووطئها، فإن كان عالمًا بالتحريم.. فعليه الحد بوطئها. فإن أكرهها على الوطء، فعليه المهر للأب. وإن طاوعته على الوطء.. فهل يجب عليه المهر؟ فيه وجهان: المنصوص: (أنه لا يجب) فإن أتت منه بولد.. لم يلحقه نسبه؛ لأنه زان، والزاني لا يلحقه النسب، ويكون الولد مملوكًا للأب. وإن كان الابن جاهلًا بالتحريم، بأن كان قريب العهد بالإسلام أو نشأ في بادية.. لم يجب عليه الحد؛ لأن ذلك شبهة توجب سقوط الحد، ويجب عليه المهر. قال الشيخ أبو حامد: ويكون الولد مملوكًا للجد؛ لأنها علقت به في غير ملك ولا شبهة ملك، ويعتق على الجد؛ لأنه ابن ابنه، ولا يجب على الابن قيمته؛ لأنه إنما عتق على الأب بملكه له لا بفعل الابن، فلم يلزمه قيمته، ولا تصير الجارية أم ولد للابن بلا خلاف؛ لأنه لا ملك له فيها ولا شبهة ملك. وبالله التوفيق

باب الولاء

[باب الولاء] الأصل في ثبوت الولاء: قَوْله تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] (الأحزاب: 5) . وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع، ولا يوهب» . فإذا أعتق الرجل عبدا أو أمة عتقًا منجزًا، أو علق عتقه بصفة فوجدت الصفة، أو دبره، أو كاتبه فعتق عليه.. ثبت له عليه الولاء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» .

مسألة الولاء لسائل العتق عنه

وكذلك إذا استولد الرجل جارية فمات قبلها.. عتقت عليه وثبت له عليها الولاء؛ لأنها عتقت عليه بالاستيلاد، فهو كما لو باشر عتقها. [مسألة الولاء لسائل العتق عنه] ) : إذا قال الرجل لغيره: أعتق عبدك عني على مائة درهم، فأعتقه عنه.. عتق عن السائل، وكانت عليه المائة، وثبت الولاء للسائل؛ لأنه عتق عنه بعوض، فهو كما لو اشتراه وأعتقه. وإن قال: أعتق عبدك عني، فأعتقه المولى عنه.. عتق عن السائل، وكان الولاء للسائل، كما لو اتهبه وأعتقه. وإن قال: أعتق عبدك على مائة ولم يقل: عني، فقال المولى: هو حر.. عتق العبد، واستحق مولاه المائة على السائل. وفي ولاء العبد وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب: أحدهما: أنه للسائل؛ لأنه أعتقه بعوض بذله عن العبد المعتق، فوجب أن يكون العتق عمن عليه العوض والولاء له، كما لو قال: أعتق عبدك عني. والثاني: يكون الولاء للمعتق دون السائل؛ لأنه لم يطلب العتق عن نفسه، فهو كما لو قال له: أعتق عبدك ولم يبذل له عوضًا، ويكون بذل العوض هاهنا لافتداء العبد دون استحقاق الولاء، كما لو قال: طلق امرأتك على مائة. وإن قال: أعتق أم ولدك هذه على مائة درهم، فقال المولى: هي حرة.. عتقت، واستحق مولاها المائة على الباذل لها، وكان ولاؤها للمعتق، ولا يختلف أصحابنا في ذلك؛ لأن نقل الملك فيها لا يصح، وإعتاقها تعجيل للعتق المستحق بالإحبال، وبذل المائة لافتدائها. وإن قال: أعتق أم ولدك عني على مائة درهم، أو لك مائة، فقال: هي حرة.. عتقت، ولم يستحق المولى المائة على الباذل؛ لأنه بذلها ليكون العتق عنه، والعتق هاهنا عن المعتوق والولاء له، فلا يستحق عليه عوضًِا.

فرع لمن الولاء لو كان المشتري العبد نفسه

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن قال رجل لعبده: أنت حر عن فلان، ولم يأمره بالحرية، وقبل المعتق عنه ذلك بعد العتق أو لو لم يقبله.. فسواء، وهو حر عن نفسه لا عن الذي أعتقه عنه، وولاؤه له؛ لأنه أعتقه) . [فرع لمن الولاء لو كان المشتري العبد نفسه] ) : وإن باع الرجل عبده من نفسه، وقلنا: يصح.. فإنه يعتق عليه، وفي ولائه وجهان: أحدهما: أن الولاء يكون لسيده الذي باعه؛ لأنه لم يثبت عليه رق غيره. والثاني: لا ولاء عليه لأحد؛ لأنه لم يعتق عليه في ملكه، والعبد لا يملك الولاء على نفسه، فلم يكن له عليه ولاء. وإذا ملك الحر أحد والديه أو مولوديه.. عتق عليه، وثبت له عليه الولاء؛ لأنه عتق عليه فثبت له الولاء عليه، كما لو باشر عتقه. [مسألة الولاء للمسلم في عتقه الكافر] ) : وإن أعتق مسلم عبدًا كافرًا.. ثبت له الولاء عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» . فشبه الولاء بالنسب، والنسب يثبت مع اختلاف الدين، فكذلك الولاء، ولكن لا يرثه المولى. وقال الثوري: يرثه. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتوارث أهل ملتين» .

فرع يبقى ولاء العتق ولو صار حربيا

وإن أعتق كافر عبدًا مسلمًا.. ثبت له عليه الولاء ولا يرثه. وقال مالك: (لا يثبت له عليه الولاء) . ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» ولم يفرق. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» والنسب يثبت مع اختلاف الدين، فكذلك الولاء. [فرع يبقى ولاء العتق ولو صار حربيًا] ) : وإن أعتق المسلم عبدا نصرانيًا، فلحق النصراني بدار الحرب، فسبي.. لم يجز استرقاقه؛ لأن في ذلك إبطال ما ثبت للمسلم من الولاء عليه. فإن أعتق ذمي عبدًا ذميًا، فلحق العبد المعتق بدار الحرب ثم سبي.. فهل يجوز استرقاقه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن في ذلك إبطال ما ثبت لمولاه من الولاء، وقد أمرنا بحفظ أموالهم كأموالنا. والثاني: يجوز استرقاقه؛ لأن السيد لحق بدار الحرب.. لجاز استرقاقه، فكذلك عبده. [فرع عتق حربي لحربي يثبت له الولاء] وإن أعتق حربي عبدًا حربيًا.. صح عتقه، وثبت له عليه الولاء. وقال أبو حنيفة: (لا يصح عتقه، ولا ولاية له عليه، وله أن يوالي من شاء) . دليلنا: أن كل من صح عتقه في عبده المسلم.. صح عتقه في عبده الكافر، كالمسلم. وإذا صح عتقه.. ثبت له عليه الولاء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» وهذا معتق.

مسألة الولاء للمعتق

[مسألة الولاء للمعتق] ولا يثبت الولاء لغير المعتق، فإن أسلم رجل على يد رجل.. لم يثبت له عليه الولاء. وقال إسحاق بن راهويه: يثبت له عليه الولاء. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» فدل على أنه لا ولاء لغير المعتق. وإن التقط رجل لقيطًا.. لم يثبت له عليه الولاء. وحكى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال للذي التقط لقيطًا: (لك ولاؤه، وعلينا رضاعه) . دليلنا: ما ذكرناه من الخبر، وما روي عن عمر.. فيحتمل أنه أراد بذلك ولاء حضانته. [فرع أعتق سائبة فله ولاؤه] ) : وإن أعتق عبدًا سائبة.. عتق، وكان ولاؤه له. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (يعتق، ولا يكون له ولا عليه ولاؤه، وإنما نكون ولاؤه للمسلمين) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ} [المائدة: 103] (المائدة: 103) . وقيل: إن المراد به: ما كانوا يعتقونه من السوائب. ولأن عتقه صادف ملكه، فكان الولاء له، كما لو أطلق.

فرع لا يباع الولاء يوهب

إذا ثبت هذا: فإذا قال لعبده: أنت سائبة.. كان ذلك كناية في العتق، فإن نوى به العتق.. عتق، وإن لم ينو به العتق.. لم يعتق. [فرع لا يباع الولاء يوهب] ولا يصح بيع الولاء ولا هبته؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب» . وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الولاء وعن هبته» . ولأن الولاء كالنسب، والنسب لا يصح بيعه ولا هبته، فكذلك الولاء. [مسألة ثبوت الميراث للمولى المعتق] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن لم يكن له عصبة برحم ترث.. فالمولى المعتق) . وجملة ذلك: أن الولاء يورث به؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الولاء لحمة كلحمة النسب» فشبه الولاء بالنسب، والنسب يورث به، فكذلك الولاء. وروى واثلة بن الأسقع: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه» .

فنص: على أن المرأة عتيقها لينبه بها على الرجل؛ لأن الرجل قد يرث بجهة ولا ترث بها المرأة؛ فإذا كانت المرأة ترث عتيقها.. فالرجل بذلك أولى. وأما قوله: (ولقيطها) فيحتمل أنه أراد أنها تحوز ميراثها منه إذا ادعت نسبه. إذا ثبت هذا: فإن الولاء مؤخر عن النسب. فإذا أعتق الرجل عبدًا ثم مات العبد، فإن كان له عصبة من النسب.. كان أحق بميراثه. وإن لم يكن له عصبة.. ورثه المولى المعتق؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» فشبه الولاء بالنسب، والمشبه بالشيء أضعف من المشبه به، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وتحريم النسب المشبه به أقوى وآكد. قال القاضي أبو الطيب: ولأن المسلمين أجمعوا على تقديم الإرث بالنسب، لا نعلم بينهم خلافًا في ذلك. وإن خلف المعتق من له فرض يستغرق جميع تركته.. قدموا على المولى؛ لأنهم إذا قدموا على العصبة الذين يقدمون على المولى.. فلأن يقدموا على المولى أولى. وإن خلف من له فرض لا يستغرق جميع التركة، بأن مات وخلف ابنة أو أختًا.. فإن صاحب الفرض يأخذ فرضه والباقي للمولى؛ لما روي: «أن ابنة حمزة أعتقت

فرع انتقال الولاء لعصبات المولى

مملوكًا لها فمات وخلف ابنته وابنة حمزة، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابنته النصف، ولابنة حمزة النصف» . [فرع انتقال الولاء لعصبات المولى] ) : فإن مات العبد المعتق وقد مات مولاه الذي أعتقه.. فإن ولاءه ينتقل إلى عصبة مولاه، فيكون الميراث لهم؛ لأن المولى عصبة، فجاز أن ترث عصباته، كالأخ لما كان عصبة.. ورث عصباته، وهو ابن الأخ، كذلك المولى. إذا ثبت هذا: فإن الولاء يكون لعصبة المولى دون سائر ورثته؛ لأن الولاء يورث به ولا يورث؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب، ولا يورث» . فإذا مات العبد المعتق وخلف ابن مولاه وابنة مولاه، أو أخا مولاه وأخت مولاه.. فإن الميراث يكون لابن المولى دون ابنة المولى، أو لأخ المولى دون أخت المولى. وبه قال كافة أهل العلم إلا شريحًا وطاووسًا فإنهما قالا: لا ميراث بين ابن المولى وابنة المولى، أو بين أخ المولى وأخت المولى. دليلنا: أن الإرث بالولاء إرث بالتعصيب المجرد دون الرحم، والتعصيب لابن المولى وأخيه دون ابنته وأخته، فإذا اجتمع مع أخته.. لم يعصبها؛ لأن الذكر ـ الابن والأخ ـ إنما يعصب أخته ما دام النسب على قرب، فإذا بعد.. لم يعصبها، ولأن

الابن والأخ يعصب أخته في النسب لقربه، وابن الأخ والعم وابن العم لا يعصب أخته لبعده، وابنة المولى وأخته أبعد من ابنة الأخ وابنة العم، فلذلك لم ترث. وإن اجتمع ابن مولى وابن مولى.. فإن الميراث لابن المولى دون ابن ابن المولى. وبه قال أكثر أهل العلم. وقال شريح وطاووس: يكون المال بينهما نصفين. دليلنا: ما روى عن عمر وعثمان وعلى وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (الولاء للكبر) . و (الكبر) الأقرب. ولأن الولاء يستحق بالتعصيب ويستفاد به، ثم الابن يقدم على ابن الابن في الميراث بالنسب، فكذلك في الميراث بالولاء. فإن لم يكن له ابن مولى.. فابن ابن المولى وإن سفل. وإن اجتمع ابن مولى وأبو مولى.. فاختلف الناس فيه على ثلاثة مذاهب: فـ (الأول) : مذهبنا: أن الميراث كله لابن المولى دون أبي المولى. وبه قال مالك وأبو حنيفة. و (الثاني) : ذهب النخعي والشعبي وأبو يوسف وأحمد وإسحاق إلى: (أن لأبي المولى السدس، والباقي لابن المولى) . و (الثالث) : ذهب الثوري إلى: أن المال بينهما نصفين.

دليلنا: ما روي: (أن عليًا والزبير اختصما إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في مثل هذه القضية، فحكم عمر أن الميراث لابن المولى دون أبي المولى) . وروي ذلك عن زيد بن ثابت. ولأن الولاء إنما يورث بالتعصيب المحض، بدليل: أن ابنة المولى وأخته لا يرثان بالولاء، ومعلوم أن الابن والأب إذا اجتمعا.. سقط تعصيب الأب بتعصيب الابن، وإنما يبقى له حق الرحم، والولاء لا يورث به بالرحم. إذا ثبت هذا: فإنه إذا بقي أحد من البنين وإن سفل.. فإنه مقدم على الأب، كما قلنا في الميراث بالنسب. وإن لم يكن هناك أحد من بني المولى وهناك أبو المولى.. كان الولاء له؛ لأنه ليس هناك أحد من العصبات أقرب منه؛ لأن باقي العصبات ـ غير البنين ـ يدلون بالأب، فكان مقدمًا عليهم. فإن لم يكن أبو المولى.. نظرت: فإن لم يكن هناك أحد من إخوة المولى ولا من بينهم، وهناك جد مولى.. قدم على عم المولى؛ لأنه أقرب منه؛ لأن العم يدلي بالجد والمدلى به أقرب ممن يدلي به، ثم أبو جد المولى، ثم جد جد المولى. ويقدم الجد على أعمام المولى وبنيهم. وإن لم يكن هناك جد المولى ولا أحد من آبائه، وهناك أخو المولى لأبيه وأمه، أو لأبيه.. فإن الولاء له دون عم المولى؛ لأن الأخ أقرب من العم؛ لأنه يدلي بالأب، والعم يدلي بالجد. فإن اجتمع أخو مولى لأب وأم، وأخو مولى لأب.. فالمشهور من المذهب: أن أخا المولى لأبيه وأمه مقدم على أخي المولى لأبيه، كما قلنا في الميراث في النسب. ومن أصحابنا من قال فيه قولان:

أحدهما: هذا. والثاني: أنهما سواء؛ لأن الأم لا ترث بالولاء، فلا يرجح بها. وإن اجتمع أخو مولى لأب وابن أخي مولى لأب وأم ... فأخو المولى للأب أولى؛ لأنه أقرب. وإن اجتمع ابن أخي مولى لأب وأم وابن أخي مولى لأب، فإن قلنا: إن أخا المولى للأب والأم مقدم على أخي المولى للأب.. قدم ابن أخي المولى للأب والأم على ابن أخي المولى للأب. وإن قلنا: إن الأخوين سواء.. كان ابناهما سواء أيضاً. وأما أخو المولى لأمه: فلا ولاء له: لأن الولاء يستحق بالتعصيب، ولا تعصيب له. وإن اجتمع جد مولى وأخو مولى.. ففيه قولان: أحدهما: أنهما سواء. وبه قال الأوزاعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق؛ لأن هذا كميراث المال، ثم ثبت أنهما في ميراث المال سواء، فكذلك في الميراث بالولاء. والثاني: أن الأخ يقدم على الجد. قال القاضي أبو الطيب: وهو المشهور من المذهب؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (القياس يقتضي: أن الأخ أولى بالميراث من الجد وتعصيبه أقوى؛ لأنه ابن أبي الميت والجد أبو أبي الميت، وتعصيب البنوة أقوى من تعصيب الأبوة) غير أن الصحابة أجمعت في الميراث بالنسب على أن الأخ لا يقدم، بل منهم، بل منهم من قال: الجد أولى. ومنهم من جعلهما سواء، فتركنا القياس لهذا الإجماع. وأما الولاء: فلا إجماع فيه عن الصحابة، فاستعملنا القياس فيه، فإذا قلنا: إنهما سواء فاجتمع جد وإخوة.. قاسموه على عدد رءوسهم.

وإن اجتمع جد مولى، وأخو مولى لأب وأم، وأخو مولى لأب، وقلنا: إن الأخ للأب والأم، يقدم على الأخ للأب إذا اجتمعا.. فإن المال يكون بين جد المولى وأخي المولى لأبيه وأمه، ولا يعاد الجد بالأخ للأب. وقال أبو العباس ابن سريج: فيه نظر. وإن اجتمع جد مولى وابن أخي مولى، فإن قلنا: إن جد المولى وأخا المولى يقتسمان المال.. قدم جد المولى على ابن أخي المولى؛ لأنه أقرب منه. وإن قلنا: إن أخا المولى يقدم على جد المولى. قدم ابن أخي المولى على جد المولى. وإن اجتمع جد مولى وعم مولى.. قدم الجد قولاً واحداً؛ لأن العم يدلي بالجد، فكان أقرب منه. فإن اجتمع جد أبي مولى وعم مولى.. فعلى القولين في الجد والأخ، فإن قلنا: إن أخا المولى أولى من جد المولى.. قدم عم المولى وبنوه على جد أبي المولى. وإن قلنا: إن جد المولى وأخا المولى سواء.. كان جد أبي المولى وعم المولى سواء. فإن لم يكن هناك أحد من إخوة المولى ولا من أجداد المولى، وهناك أحد من أعمام المولى.. كان الولاء له، ثم ينتقل إلى بنى أعمام المولى، الأقرب فالأقرب. فإن لم يكن هناك مولى ولا عصبة مولى، وهناك مولى مولى.. كان الولاء له، ذكرا كان أو أنثى؛ لأن النعمة متصلة به؛ لأنه: لولا النعمة على الأول بالعتق.. لم يحصل منه النعمة على غيره. فإن كان مولى المولى قد مات.. كان الولاء لعصبة مولى المولى، يقدم الأقرب فالأقرب منهم، كما قلنا في عصبة المولى. فإن لم يكن للميت مولى مولى ولا عصبة مولى مولى، ولكن كان هناك مولى لمولى المولى.. كان الولاء له؛ لما ذكرناه في مولى المولى، ثم ينتقل الولاء بعد موت مولى مولى المولى إلى عصبته، الأقرب فالأقرب. وإن لم يكن للميت عصبة ولا له مولى باشر عتقه، ولكن هناك مولى لعصبة هذا الميت.. نظرت:

فرع الولاء ينقسم على العصبات

فإن كان مولى لمن هو في درجته من عصبته كمولى أخيه، أو مولى من هو أسفل منه كمولى ابنه أو ابن ابنه.. لم يرث المولى هذا الميت. وإن كان مولى أبيه أو مولى جده.. ورثه؛ لأن المنعم على أبيه وجده منعم عليه، وليس من أنعم على أخيه أو ابنه منعما عليه. وهكذا: إن لم يكن للميت عصبة، ولا مولى عصبة، ولا مولى مولى، ولكن خلف مولى لعصبة مولى، أو مولى عصبة مولى مولى، فإن كان ذلك العصبة الذي له المولى أبا أو جداً لمولاه.. ورث ذلك المولى، وإن كان ذلك العصبة ابنه أو ابن ابنه أو أخاه.. لم يرث ذلك المولى؛ لما ذكرناه من الفرق. فإن أعتق رجل عبداً، أو أعتق آخر أباه وأعتق آخر جده، ثم مات المعتق الأسفل.. ورثه عصبته من مناسبيه، فإن لم يكن له عصبة.. فميراثه لمولاه الذي أعتقه، ثم لعصبة مولاه، ثم لمولى مولاه، ثم لعصبة مولى مولاه، فإن انقرضوا.. قال القاضي أبو الطيب: فإن ماله ينتقل إلي بيت المال، ولا ينتقل إلى مولى أبيه ولا إلى مولى جده؛ لأنه إذا كان عليه ولاء لمعتق باشر عتقه.. لم يثبت عليه ولاء لموالي أبيه ولا لموالي جده، وإنما يثبت عليه الولاء لموالي أبيه.. إذا لم يكن عليه ولاء في نفسه لمن باشر عتقه. [فرع الولاء ينقسم على العصبات] ) : قد ذكرنا أن الولاء للكبر من العصبة، وهو الأقرب. قال أبو العباس: فإن أعتق رجل عبداً، ثم مات السيد وخلف ثلاثة بنين، ثم مات أحد البنين الثلاثة وخلف ابناً، ثم مات الثاني وخلف أربعة بنين، ومات الثالث وخلف خمسة بنين، ثم مات العبد المعتق ولا مناسب له.. كان ماله بين العشرة، لكل واحد العشر منه.

فرع يمنع الأسفل الأعلى

ولو ظهر لجدهم مال لم يقتسمه أولاده الثلاثة.. كان للذي هو ابن وحده: الثلث، وللأربعة: الثلث، وللخمسة: الثلث. والفرق بينهما: أنهم يتلقون الإرث بالولاء عن جدهم وهم متساوون في الإدلاء إليه، ويتلقون الإرث بالنسب عن آبائهم، وقد كان كل واحد من الثلاثة الأولاد ملك ثلث مال المعتق، فانتقل ما ملكه كل واحد منهم إلى أولاده. [فرع يمنع الأسفل الأعلى] المولى من أسفل لا يرث المولى من أعلى. وبه قال كافة أهل العلم. وروي عن طاووس وشريح: أنهما قالا: إذا لم يكن للميت عصبة ولا مولى من أعلى ولا عصبة مولى.. ورثه المولى من أسفل. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» فجعل الولاء للمنعم لا للمنعم عليه. [مسألة الولاء لمولى الأم المعتقة] ) : إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولد منها ولداً.. فإن الولد ينعقد حراً تبعاً لحرية أمه، ويكون ولاء هذا الولد لمولى أمه ما دام الأب مملوكاً؛ لأنه إنما صار حراً لحرية أمه وقد عتقت بإعتاق سيدها لها، فكان إنعامه عليها إنعاماً منه على ولدها. فإن أعتق الأب والولد حي.. فإن ولاء الولد ينجر عن مولى أمه إلى مولى أبيه. قال القاضي أبو الطيب: وقول السلف في هذا: (ينجر الولاء) مجاز؛ لأن الولاء لا ينجر، وإنما يبطل الولاء الذي عليه لمولى الأم، ويثبت عليه الولاء لمولى الأب بإعتاقه الأب. وبهذا قال عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن الزبير، ومن الفقهاء: الأوزاعي ومالك وأبو حنيفة وأصحابه والثوري وأحمد وإسحاق. وذهب عكرمة ومجاهد والزهري: إلى أن الولاء لا ينجر عن مولى الأم بحال. والدليل على ما قلناه: إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -

فروي عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: (يجر الأب ولاء ولده إلى مولى نفسه) . وروى عبد الرحمن بن حاطب: (أن الزبير قدم خيبر فرأى فتية لعساً، فأعجبه ظرفهم وجمالهم، فسأل عنهم، فقيل له: إنهم موال لرافع بن خديج، وأبوهم مملوك لفلان، فمضى واشترى أباهم وأعتقه، ثم قال لهم: انتسبوا إلي فإني مولاكم، فقال رافع بن خديج: هم موالي؛ لأنهم بعتق أمهم عتقوا، فاختصما إلى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقضى بولائهم للزبير، ولم يخالفه أحد) . والظاهر: أن هذا انتشر في الصحابة ولم ينكره أحد، ولا أظهر رافع بن خديج الخلاف في ذلك، بل سكت، فدل على أنه رجع، وأنه إجماع. ولأن الولد إنما يتبع الأم في الولاء ما دام الأب مملوكاًً؛ لأنه ليس من أهل الولاية والولاء لكونه رقيقاً، فصار كالولد الذي يأتي به من الزنا. فإذا أعتق الأب.. تبع الولد الأب؛ لأن الولد يتبع الوالد في النسب دون الأم، بدليل: أن ولد الهاشمي من العامية هاشمي، وولد العامي من الهاشمية عامي. فإن مات الولد قبل أن يعتق الأب، فإن كان له ورثة من جهة النسب.. ورثوه، وإن لم يكن له ورثة من جهة النسب.. ورثه مولى أمه. فإن أعتق الأب بعد ذلك.. لم

فرع تزوج معتق معتقة لآخر

يجر ولاء الولد الميت؛ لأن مولى الأم قد ملك ذلك المال، فلا ينتقل عنه؛ لأن الأب إنما يتبعه الأحياء من ولده دون الأموات. [فرع تزوج معتق معتقة لآخر] ) : فإن تزوج معتق لرجل بمعتقة لرجل آخر فأولده ولداً.. فإن الولد ينعقد حراً وولاءه لمولى أبيه؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها. فإن نفى الأب نسب هذا الولد باللعان.. صار ولاؤه لمولى أمه؛ لأنه إنما يتبع الأب إذا كان مخلوقاً من مائه، وباللعان أثبت أنه ليس بمخلوق من مائه، فإن أكذب الأب نفسه بعد ذلك.. تبعه الولد، وكان ولاؤه لمولى أبيه؛ لأنه إذا أكذب نفسه.. تبعه الولد، فصار كما لو لم يلاعن. وإن تزوج معتق لرجل بمعتقة لآخر، فأولدها ولدين، فنفاهما الأب باللعان، ثم قتل أحد الابنين أخاه الآخر ولا عصبة للمقتول.. كان لأمه الثلث، وما بقي من ماله لمولى أمه. فإن أكذب الأب نفسه بعد ذلك.. قبل قوله، ولحقه النسب، واسترجع ما أخذه مولى الأم من تركة المقتول؛ لأن نسب المقتول لحقه بإكذابه نفسه. فإن قيل: لا يقبل رجوعه في استحقاقه للمال؛ لأنه متهم.. قلنا: لما قبل قوله في ثبوت النسب منه.. استحق المال، كما لو أكذب نفسه وكان فقيراً محتاجاً، فإنه يلحقه نسب الولد، ويجب على الابن نفقته، ولا يقال: لا يقبل قوله في استحقاقه النفقة لأنه متهم. [فرع تزوج بمعتقة لآخر فأولدها ففقد ثم عتق] ) : وإن تزوج عبد لرجل بمعتقه لآخر فأولدها ولداً، ثم فقد الأب، ثم أعتقه السيد.. ففيه وجهان خرجهما ابن اللبان:

فرع تزوج عتيقة لآخر وأبوه مملوك

أحدهما: أنه لا يجر ولاء ولده إلى مولى نفسه؛ لأنا لا نعلم أن العتق لحقه. والثاني: أن ولاء الولد يكون موقوفاً، فإن بان أن الأب كان حياً يوم أعتق.. جر ولاء ولده. وإن بان أنه كان ميتاً، أو مضت مدة لا يعيش مثله إليها قبل العتق.. ثبت ولاء الولد المولى أمه؛ لأنا قد حكمنا بموت الأب قبل العتق. [فرع تزوج عتيقة لآخر وأبوه مملوك] ] : وإن تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولدها ولداً، ولهذا الزوج أب مملوك.. فإن الولد حر تبعاً لأمه، وولاؤه لمولى أمه، فإن أعتق أبو الزوج - وهو جد هذا الولد ـ فهل يجر ولاء ولد ولده؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال القاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق: فيه ثلاثة أوجه: أحدها ـ وهو اختيار القاضيين: أبي حامد، وأبي الطيب ـ: أنه يجر ولاء ولد ولده ما دام الأب مملوكاً، سواء كان الأب حياً أو ميتاً؛ لأنه ينسب إليه كما ينسب إلى الأب، فجر ولاءه كالأب. فإذا قلنا بهذا: فأعتق الأب بعد ذلك.. جر ولاء الولد عن مولى الجد إلى مولى الأب؛ لأنه أقوى من الجد في نسب الولد وأحكامه. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، وأبي علي الطبري ـ: أن الجد لا يجر ولاء ولد ولده، سواء كان الأب حياً أو ميتاً؛ لأنه يدلي إليه بواسطة، فلا يجر ولاءه، كالأخ والعم. والثالث ـ وهو اختيار ابن اللبان ـ: إن كان الأب حياً.. لم يجر الجد ولاء ولد ولده. وإن كان الأب ميتاً.. جر الجد ولاء ولد ولده؛ لأنه إذا كان الأب ميتاً.. استقر جر الجد، وإذا كان حياً.. لم يستقر جر الجد، ولا يجوز أن ينجر الولاء إلى من لا يستقر له عليه. وقال الشيخ أبو حامد: إن كان الأب ميتاً.. جر الجد ولاء ولد ولده وجهاً واحداً. وإن كان الأب حياً مملوكاً.. فهل يجر الجد ولاء ولد ولده؟ فيه وجهان:

مسألة تزوج بأمة لآخر فأولدها

أحدهما ـ وهو قول مالك ـ: (أنه يجر) . والثاني ـ وهو قول أبي حنيفة، وهو الأشبه ـ: (أنه لا يجر) ووجههما ما ذكرناه. وقال القفال: إن كان الأب حياً.. فإن الجد لا يجر ولاء ولد ولده وجهاً واحداً. وإن كان الأب ميتاً.. فهل يجر الجد ولاء ولد ولده؟ فيه وجهان. [مسألة تزوج بأمة لآخر فأولدها] ] : إذا تزوج عبد لرجل بأمة لآخر فأولدها ولداً.. فإن الولد يكون مملوكاً لمالك الأم، فإن أعتق مولى الأمة هذه الأمة وولدها.. ثبت له عليهما الولاء. فإن أعتق مولى العبد عبده بعد ذلك.. لم يجر ولاء ولده إلى مولاه؛ لأن الأب إنما يجر ولاء ولده إلى سيد نفسه إذا لم يكن قد مس الولدَ الرقُّ بل خلق حراً، وهاهنا قد مسه الرق وأنعم عليه بالعتق مولاه الذي باشر عتقه، فكان مولاه الذي أنعم عليه أحق بولائه ممن أنعم على أبيه. [فرع تزوج عبد بأمة آخر فعتقت] وإن تزوج عبد الرجل بأمة لآخر، فأعتق مولى الأمة أمته ولم تختر فراق الزوج، ثم أعتق مولى العبد عبده، ثم أتت الجارية بولد.. فإنه يكون حراً؛ لأنه إن كان موجوداً وقت العتق.. فقد ناله العتق، وإن حدث بعد العتق.. فهو ولد حرة، فكان حراً. ولمن يكون ولاؤه؟ ينظر فيه: فإن ولدته لدون ستة أشهر من يوم أعتقت الأم.. كان ولاؤه لمولى أمه؛ لأنا نعلم أنه كان موجودا وقت العتق، وقد ناله العتق من مولى أمه، فهو كما لو أعتقه مولى الأم بعد الانفصال. فإن ولدته لستة أشهر فصاعداً من يوم عتق الأم وكان الزوج غير ممنوع من وطئها.. فولاؤه لمولى أبيه؛ لأنا لا نعلم أنه كان موجوداً يوم أعتقت الأمة، ويجوز أن يكون العبد حدث بعد ذلك.

فرع تزوج بمعتقة لآخر فأولدها ثم عتق

وإن اختارت فراقه ساعة أعتقت، أو أبانها زوجها، ثم أعتقها سيدها، ثم أعتق الأب، ثم أتت بولد.. فإن الولد يكون حراً؛ لأنه إما أن يكون موجوداً وقت العتق فعتق بالمباشرة، أو حدث بعد العتق من حرة فكان حراً. إذا ثبت هذا: فإن ولاءه يكون لمولى أمه دون موالي أبيه؛ لأنها إن أتت به لأربع سنين فما دونها من وقت البينونة.. فإنا نلحقه بالزوج ويحكم بوجوده وقت العتق، وإن أتت به لأكثر من أربع سنين من وقت البينونة.. فإنا لا نلحقه بالزوج، وإذا لم يكن ابنا له.. لم يجر ولاؤه إلى مواليه. [فرع تزوج بمعتقة لآخر فأولدها ثم عتق] ] : إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولدها ولداً ثم أعتق الأب.. فقد ذكرنا أن ولاء الولد يكون لمولى أبيه، ثم لعصبة المولى. فإن عدم مولى الأب ومن يرث بسببه من العصبات والموالي.. فإن مال الميت ينتقل إلى بيت المال ولا ينتقل إلى مولى أمه. وحكي عن ابن عباس: أنه قال: (يكون ذلك لمولى أمه) . دليلنا: هو أنه لا خلاف إذا كان هناك عصبة للميت مناسبين أو عصبة لموالي أبيه.. لم يرث مولى الأم شيئاً. فإذا لم يكن له عصبة مناسبون ولا مولى ولا عصبة مولى.. فالمسلمون عصبته وعصبة مواليه، فكانوا أحق بميراثه من مولى الأم. [مسألة تزوج من لا ولاء له بمعتقة] ] : وإذا تزوج حر لا ولاء عليه بمعتقة لقوم وأولدها ولداً.. فإن الولد حر لا ولاء عليه لأحد، سواء كان الأب عربي الأصل. أو أعجمي الأصل وبه قال أبو يوسف. وقال أبو حنيفة: (إن كان الأب عربي الأصل.. فلا ولاء على الولد، وإن كان أعجمي الأصل.. ثبت الولاء على الولد لمولى أمه) . دليلنا: أن استدامة الشيء آكد من ابتدائه، بدليل: أن الردة والعدة ينافيان ابتداء النكاح لضعفه، ولا ينافيان استدامته لقوته، ثم ثبت أن ابتداء حرية الأب تسقط الولاء

فرع تزوج بحرة فأتت بولد فلا ولاء عليه

الثابت لمولى الأم.. فكانت استدامة حريته أولى بأن تمنع الولاء لمولى الأم. وإن تزوج رجل مجهول النسب، إلا أنه محكوم بحريته في الظاهر بمعتقة لرجل فأولدها ولداً، فهل يكون على هذا الولد ولاء لمولى أمه؟ فيه وجهان: قال أبو العباس ابن سريج: لا ولاء عليه كالعربي المعروف النسب. وقال ابن اللبان: ثبت عليه الولاء لمولى أمه؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (أرأيتم المولاة المعتقة تلد من مملوك أو ممن لا يعرف، أليس يكون ولاء ولدها تبعاً لولائها؟) . ولو أن حراً حربياً معروف النسب كان تحته حرة معتقه فأولدها ولداً.. فلا ولاء على هذا الولد لمولى أمه؛ لأن أباه حر لا ولاء عليه في الحال، وإن كان يجوز أن يسترق ويعتق.. فيثبت عليه الولاء، إلا أنه في الحال معروف النسب لا ولاء عليه، وكما يجوز أن يسترق.. يجوز أن يموت على كفره قبل الاسترقاق، ويجوز أن يسلم فتستقر حريته. [فرع تزوج بحرة فأتت بولد فلا ولاء عليه] ] : وإن تزوج عبد لرجل بحرة الأصل فأتت منه بولد. فالولد حر لا ولاء عليه. فإن عتق الأب بعد ذلك: قال البندنيجي: فإن معتق الأب يكون لهذا الولد مولى عصبة، فيرثه عند عدم ورثته من النسب. وإن تزوج مولى قوم بحرة الأصل فأتت منه بولد.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يثبت على الولد الولاء لمولى أبيه؛ لأن أحد أبويه حر الأصل، فلم يثبت عليه الولاء، كما لو كان الأب حر الأصل والأم معتقة. والثاني: أن عليه الولاء لمولى أبيه وهو المنصوص في (البويطي) ؛ لأن الولد يتبع الأب في النسب دون الأم، كما لو تزوج العامي بهاشمية ... فإن الولد عامي تبعاً لأبيه، فكذلك هذا مثله. فإن تزوج عبد بحرة معتقة وحرة أصلية، فأولد من الحرة المعتقة ولداً، ثم مات

فرع ثبوت الولاء لموالي الأم

هذا الولد ولا وارث له غير أمه ومولاها.. كان لأمه الثلث ولمولى أمه الثلثان. فإن ولدت الحرة الأصلية ولداً بعد ذلك، فإن وضعته لدون ستة أشهر من حين موت الولد الأول.. كان هذا الولد أحق بالثلثين اللذين أخذهما مولى الأم فيسترجع من مولى الأم؛ لأنه عصبة مناسب. وإن وضعته لأكثر من ستة أشهر من حين موت الأول.. لم يسترجع ذلك من مولى الأم؛ لأنه يحتمل أن يكون الثاني موجوداً وقت موت الأول، ويحتمل أنه حدث بعد ذلك، والأصل عدمه. [فرع ثبوت الولاء لموالي الأم] ] : قال القاضي أبو الطيب: فإن كان رجل حراً لم يعتق، وأبوه وجده حرين لم يعتقا، وأمه معتقة، وأم أبيه معتقة، وأم جده معتقة، وأبو جده مملوكاً.. فإن الولاء لمولى أم جده؛ لأن الجد إذا كان أبوه مملوكاً وأمه معتقة.. ثبت عليه الولاء لمولى أمه، وإذا ثبت الولاء على الجد لمولى أمه.. ثبت على أولاده. فلا يثبت لمولى أم أبيه على أبيه ولاء؛ لأنه تابع لأبيه وهو الجد فيما عليه من الولاء وعلى أولاده. ولو كان أبو الجد حراً عربياً.. لم يثبت عليه الولاء لمولى أمه، ولا على أولاده وإن سفلوا. وإن كان حراً مجهول النسب.. كان في ثبوت الولاء عليه لمولى أمه وجهان، مضى توجيههما. [فرع ثبوت الولاء لمولى الأم] ] : قال القاضي أبو الطيب: وإذا كان رجل حراً لم يعتق، وأبوه مملوك وأمه حرة لم تعتق، وأبوا الأم حران معتقان.. كان الولاء عليه لمولى أبي الأم؛ لأن الأم إذا كان

فرع تزوج بمعتقة لآخر فأولدها فولده حر

على أحد طرفيها ولاء.. يجب أن يكون عليها ولاء مولى أبيها دون ولاء مولى أمها، وإذا ثبت عليها ولاء مولى أبيها.. ثبت ذلك على أولادها وإن سفلوا ما لم يقع فيه حر بإعتاق الأب. وإن مات رجل حر لم يعتق، وأبوه مملوك وأمه حرة لم تعتق، وأم الأم حرة معتقة، وأبو الأم حر لم يعتق، وأم أبي الأم حرة معتقة، وأبو أبي الأم مملوك.. ثبت الولاء على الميت لمولى أم أبي أمه؛ لأن أبا الأم إذا ثبت عليه الولاء لمولى أمه.. ثبت ذلك له على أولاده وإن سفلوا. فإذا مات هذا الرجل.. كان ميراثه لمولى أبي أمه دون مولى أم أمه. ولو كان أبو أبي أمه عربياً.. لم يثبت الولاء عليه لموالي أم أبي أمه. ولو كان حراً مجهول النسب.. فهل يثبت الولاء على ولده؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. [فرع تزوج بمعتقة لآخر فأولدها فولده حر] ] : وإن تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولدها ولداً.. فإن هذا الولد حر، ويكون عليه الولاء لمولى أمه. فإن بلغ هذا الابن ثم اشترى أباه.. عتق عليه، ومن حكم الأب إذا عتق أن يجر ولاء ولده عن مولى أمه إلى مولى نفسه، واختلف أصحابنا في هذه [على قولين] : فـ[الأول] : منهم من قال: إن الأب لا يجر ولاء ولده هاهنا إلى مولاه عن مولى أمه، بل يبقى ولاء مولى أمه عليه، وهو المنصوص؛ لأن الأب لو جر ولاء ولده إلى مولاه.. لجره إلى ولده؛ لأنه مولاه، والإنسان لا يملك الولاء على نفسه، فبقي ولاء مولى الأم كما كان. والثاني - وهو قول أبي العباس -: أن الأب يجر ولاء الولد عن مولى أمه ويسقط؛ لأن عتق الأب يسقط الولاء عن مولى الأم.

فعلى قول أبي العباس: يكون هذا الولد حراً لا ولاء عليه، وأبواه عليهما الولاء. ويتصور مثل هذا في موضعين: أحدهما: إذا كان الإنسان كافراً فأسلم بعد بلوغه وله أبوان كافران، فسبيا واسترقا، ثم أعتقا. والثاني: إذا تزوج عبد بأمة لآخر، وغره وكيل سيدها بحريتها، فأتت منه بولد قبل أن يعلم برقها.. فإنه يكون حراً، ثم أعتق العبد والأمة، فإن هذا الولد يكون حراً لا ولاء عليه، وأبواه موليين. قال القاضي أبو الفتوح: وهذه المسائل الثلاث لا توجد رابعة في معناهن. فإن قيل لك: رجلان كل واحد منهما مولى لصاحبه من فوق.. قال أصحابنا: فيتصور ذلك: بأن يعتق الذمي عبداً ثم يلحق السيد بدار الحرب فيسبى، فيملكه عتيقه ويعتقه فيثبت لكل واحد منهما على صاحبه الولاء وأيهما مات.. ورثه الآخر. ويتصور أيضاً: إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولدها ولداً.. فإن الولد حر، وولاؤه لمولى أمه. فإن اشترى هذا الولد عبداً فأعتقه.. ثبت له عليه الولاء؛ لأنه أعتقه. فإن اشترى هذا العبد المعتق أبا سيده فأعتقه.. ثبت له عليه الولاء، وجر الأب ولاء ولده عن مولى أمه إلى مولى نفسه، ومولى الأب هو عتيق ولده، فيكون كل واحد منهما مولى لصاحبه من أعلى، فإن مات العبد المعتق.. فماله للابن. وإن مات الأب ثم مات الابن.. فماله لمعتق أبيه وهو مولاه. فإن مات معتق الأب بعد ذلك، فإن قلنا بقول أبي العباس: إن الولد الذي إذا اشترى أباه أسقط ولاء مولى أمه عن نفسه.. فمال معتق الأب لبيت المال ولا يرثه مولى أم الابن؛ لأن ولاءه قد انتقل عنه. وإن قلنا بالمنصوص، وأن الولد إذا اشترى أباه لا يسقط ولاء مولى أمه عن

فرع تزوج بمعتقة فأتت ببنت ثم تزوجها آخر

نفسه.. فإن مال معتق الأب هاهنا لمولى أم الابن؛ لأن الأب يجر ولاء ابنه إلى معتقه ثم إلى عصبته بعده، فإذا لم تكن عصبة.. كان الابن هو وارثه لو كان حياً؛ لأنه معتقه. فإذا كان ميتاً.. ورثه مولى أمه. [فرع تزوج بمعتقة فأتت ببنت ثم تزوجها آخر] ] : إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأتت منه ببنت، ثم تزوج هذه البنت عبد لآخر فأولدها ولداً، ثم مات هذا الولد.. ورثت منه الأم ميراثها، والباقي لمولاه، ومولاه هو مولى أمه، وهو مولى جدته أم أمه؛ لأن من أعتق جارية.. فله ولاؤها وولاء ولدها وولد ولدها وإن سفلوا ما لم يعتق الأب، وأبو هذا الولد مملوك لم يعتق. فإن لم يمت هذا الولد حتى أعتق جده أبو أمه، ثم مات الولد قبل أن يعتق أبوه.. انتقل ولاء أمه إلى مولى أبيها عن مولى أمها. قال ابن الحداد: وانتقل ولاء الولد إلى مولى أمه تبعاً لأمه؛ لأنه إذا كان تابعاً لها.. وجب أن ينتقل بانتقاله. قال القاضي أبو الطيب: ولا يختلف أصحابنا أن أبا الأم إذا أعتق أنه ينتقل ولاء ولد ابنته إلى مواليه تبعاً لأمه، وهذا يدلي في الجد أبي الأب.. أن الصحيح: أنه يجر ولاء ولد ابنه إلى مواليه. [فرع كان مملوكاً لرجل وابنه لآخر فتزوج الأب معتقة الآخر] ] : إذا كان الرجل مملوكاً لرجل وله ابن مملوك لآخر وابن ابن مملوك لآخر، فتزوج ابن الابن معتقة لآخر وأولدها ولداً.. فإن هذا الولد حر، وولاؤه لمولى أمه. فإن أعتق بعد ذلك أبو هذا الولد وجده وجد أبيه.. انجر ولاء الولد عن مولى أمه إلى مولى أبيه دون مولى جده وجد أبيه.

فرع اشترتا أباهما فعتق

فإن مات الولد ولا مناسب له.. كان ماله لمولى أبيه أو لعصبة مولى أبيه، فإن عدم مولى أبيه ومن يدلي به من عصبة أو مولى.. فماله لبيت المال، ولا يرثه مولى جده ولا مولى جد أبيه. وقال الحسن البصري: يرثه مولى جده، وهذا غلط؛ لأنه لو كان عصباته أو عصبة مولى أبيه موجودين.. لم يرث مولى جده، فإذا عدموا.. كان المسلمون عصباته وعصبة مولى أبيه، فكانوا أحق بميراثه من مولى جده. [فرع اشترتا أباهما فعتق] ] : ابنتان اشترتا أباهما فعتق عليهما: فإن مات الأب.. كان لابنتيه الثلثان بالنسب، والباقي لهما بالولاء. فإن ماتت إحداهما بعد ذلك.. كان لأختها نصف مالها بالنسب، والنصف الباقي لمولى أبيها، ومولى أبيها هي هذه الابنة الباقية، فتأخذ نصفه، فيكون لها ثلاثة أرباع مالها. وأما الرابع الباقي، فإن لم يكن عليهما ولاء لمولى أمهما.. كان لبيت المال، وإن كان عليهما ولاء لمولى أمهما.. فعلى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يكون لمولى أمهما. وعلى قول أبي العباس: يكون لبيت المال. فإن ماتت إحداهما قبل أبيها.. كان مالها لأبيها، وإن مات الأب بعد ذلك.. كان لابنته الباقية سبعة أثمان المال، والثمن لبيت المال؛ لأن لها النصف بحق النسب- وهو كونها بنتاً- ولها نصف الباقي بحق ولائها على الأب. والربع الباقي: كان يكون للميتة بحق ولائها على الأب، وقد جر الأب إلى ابنته الحية بنصف الولاء الذي لها عليه نصف ولاء الميتة، فاستحقت به نصف ما كان لها- وهو: الثمن- فيحصل لها سبعة أثمان المال، والثمن لبيت المال. وإن تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأولدها ابنتين، ثم اشتريا أباهما.. فإنه يعتق

عليهما. فإن مات الأب.. كان ماله لابنتيه: الثلثان بالنسب والباقي بالولاء. فإن ماتت إحدى الابنتين بعد ذلك.. فنقل المزني أنه: (يكون للباقية ثلاثة أرباع مالها، والربع لمولى أمها) . ونقل الربيع والبويطي: (أن لها سبعة أثمان المال) ، واختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: الصحيح ما نقله المزني: أن لها ثلاثة أرباع المال، والربع لمولى الأم. وما نقله الربيع فغلط في صورة المسألة وتابعه البويطي على ذلك. والمسألة التي يستحق فيها سبعة أثمان المال هي: إذا ماتت إحدى الابنتين أولاً، ثم مات الأب بعد ذلك.. فإن للبنت الباقية سبعة أثمان المال، وأما إذا مات الأب أولاً، ثم ماتت إحدى الابنتين بعده.. فإن للباقية ثلاثة أرباع مالها، والربع لمولى أمها؛ لأن لها نصف مالها بكونها أختاً، ولها الربع بما جره إليها الأب من ولاء الميتة؛ لأن ولاء مولى الأم كان ثابتا عليهما، فلما عتق الأب عليهما.. جر إلى كل واحد منهما نصف ولاء أختها، ويبقى لمولى الأم الربع بما لم يجره الأب عن ولاء الميتة. ومنهم من قال: فيها قولان: أحدهما: ترث الابنة الباقية ثلاثة أرباع مال الميتة، والربع لمولى الأم؛ لما ذكرناه. والثاني: ترث الباقية سبعة أثمان مال الميتة؛ لأنها ترث نصف مالها بكونها أختاً، وترث نصف الباقي- وهو: الربع- بما جر الأب إليها من ولاء أختها، وترث نصف الباقي- وهو: الثمن- لأنها مولاة العصبة الميتة، وهو الأب. فيحصل الخلاف بين هذا القول والقول الذي قبله، في أنها هل ترث لكونها مولى العصبة، أم لا؟ فعلى الأول: لا ترث. وعلى الثاني: ترث به. وعلى قول أبي العباس: أن الأب يجرعن مولى الأم جميع ولاء الابنتين، فالقدر الذي جعلناه على القولين الأولين لمولى الأم يكون لبيت المال.

فرع شقيقتان اشترت إحداهما الأب والأخرى الأم

[فرع شقيقتان اشترت إحداهما الأب والأخرى الأم] ] : قال القاضي أبو الطيب: ولو أن أختين لأب وأم لا ولاء عليهما، اشترت إحداهما أباهما، واشترت الأخرى أمهما.. يعتق على كل واحدة منهما ما اشترت. فإن مات الأب وورثت ابنتاه بالنسب الثلثين، والباقي للتي أعتقته منهما. فإن كانت أمهما زوجة له.. ورثت معهما الثمن، وإن لم تكن زوجة له.. فلا ميراث لها معهما. وإن ماتت الأم بعد ذلك.. كان لابنتيها الثلثان بالنسب، والباقي للتي أعتقتها. فإن ماتت بعد ذلك البنت التي أعتقت الأم.. كان للباقية النصف بالنسب، والباقي لها ميراثاً بالولاء على أبيها؛ لأن ثبوت الولاء الذي لها على أبيها، يثبت على ولده. وإن كانت الميتة معتقة الأب.. كان لمعتقة الأم النصف لكونها أختاً، والباقي لها أيضاً؛ لأنها معتقة أمها، ومولاة أمها مولاتها إذا لم يكن عليها ولاء من جهة معتقها. وعلى قول أبي العباس: أن ولاء مولى الأم يبطل، فيكون الباقي لبيت المال. [فرع تزوج معتقة لآخر فأتت بولد فهو حر] ] : إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر فأتت منه بولد.. فإن الولد يكون حراً وولاءه لمولى أمه. فإن كاتب السيد عبده، ثم اختلف مولى المكاتب ومولى الولد، فقال مولى المكاتب: قد أدى إلى كتابته فعتق وجر إلى ولاء ولده، وقال مولى الأم: لم يؤد إليك، ولم يعتق فولاء الولد باق لي، فإن كان هذا الاختلاف في حياة المكاتب وقبل موت الولد.. حكم بحرية المكاتب بإقرار سيده، ولا يفتقر إلى بينة ولا يمين.

وإن كان هذا الاختلاف بعد موت المكاتب أو بعد موت الولد، فإن كان مع مولى المكاتب بينة على الأداء قبل الموت.. حكم له بولاء الولد، ويقبل في ذلك شاهد وامرأتان، وشاهد ويمين؛ لأنه بينة على المال. وإن لم يكن معه بينة.. فالقول قول مولى الولد مع يمينه؛ لأنا تيقنا رق المكاتب وثبوت الولاء على الولد لمولى أمه.. فلا ينتقل عنه إلا بيقين. قلت: والذي يقتضي المذهب: أن مولى الأم يحلف أنه لا يعلم أن المكاتب قد أدى جميع مال الكتابة؛ لأنها يمين على نفي فعل الغير، فكانت على نفي العلم. والله أعلم بالصواب، وبالله التوفيق

كتاب الفرائض

[كتاب الفرائض] الأصل في الحث على تعلم الفرائض: ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإنها نصف العلم، وهي أول ما ينسى، وأول شيء ينزع من أمتي» . وروى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تعلموا القرآن وعلموه الناس، وتعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإني امرؤ مقبوض، وسيقبض العلم، وتظهر الفتنة حتى يختصم الرجلان في الفريضة فلا يجدان أحدا يفصل بينهما» .

وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إذا لهوتم.. فالهوا بالرمي، وإذا تحدثتم.. فتحدثوا بالفرائض) . وقال علقمة: إذا أردت أن تتعلم الفرائض.. فأمت جيرانك. إذا ثبت هذا: فإن التوارث كان في الجاهلية بالحلف والنصرة، فكان الرجل يقول للرجل: تنصرني وأنصرك، وترثني وأرثك، وتعقل عني وأعقل عنك، وربما تحالفوا على ذلك. فإذا كان لأحدهما ولد.. كان الحليف كأحد أولاد حليفه، وإن لم يكن له ولد.. كان جميع المال للحليف، فجاء الإسلام والناس على هذا، فأقرهم الله تعالى على ذلك في صدر الإسلام بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] [النساء: 33] وروي: " أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حالف رجلاً، فمات، فورثه أبو بكر) . ثم نسخ ذلك وجعل التوارث بالإسلام والهجرة، فكان الرجل إذا أسلم وهاجر.. ورثه من أسلم وهاجر معه من مناسبيه دون من لم يهاجر معه من مناسبيه، مثل: أن يكون له أخ وابن مسلمان، فهاجر معه الأخ دون الابن فيرثه أخوه دون ابنه.

والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] [الأنفال: 72] . ثم نسخ الله ذلك بالميراث بالرحم بقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] ، وفسر المعروف بالوصية. وقال الله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] [النساء: 7] فذكر: أن لهم نصيباً في هذه الآية ولم يبين قدره، ثم بين قدر ما يستحقه كل وارث في ثلاثة مواضع من كتابه، على ما نذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى. إذا تقرر هذا: فإن الميت إذا مات.. أخرج من ماله كفنه وحنوطه ومؤنة تجهيزه من رأس ماله مقدما على دينه ووصيته، موسراً كان أو معسراً. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأكثر أهل العلم - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى. وقال الزهري: إن كان موسراً.. احتسب ذلك من رأس ماله، وإن كان معسراً احتسب من ثلثه. وقال خلاس بن عمرو: يحتسب من ثلثه بكل حال. دليلنا: ما روى خباب بن الأرت قال: «قتل مصعب بن عمير يوم أحد وليس له إلا نمرة، إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا بها رجليه خرج رأسه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر» ، ولم يسأل عن ثلث ماله. وروي: أن الرجل الذي وقص وهو محرم، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما» ، ولم يعتبر الثلث.

ولأن الميراث إنما نقل إلى الورثة لاستغناء الميت عنه، وهذا غير مستغن عن كفنه ومؤنة تجهيزه، فقدم على الإرث. ثم يقضى دينه إن كان عليه دين، ثم تخرج وصاياه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] [النساء: 11] . وأجمعت الأمة: على أن الدين مقدم على الوصية. وهل انتقل ماله إلى ورثته قبل قضاء الدين؟ اختلف أصحابنا فيه. فذهب أكثرهم إلى: أنه ينتقل إليهم قبل قضاء الدين. وقال أبو سعيد الإصطخري: لا ينتقل إليهم حتى يقضى الدين. هكذا ذكر الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق - عن أبي سعيد من غير تفصيل. وأما ابن الصباغ: فحكي عنه: أنه إن كان الدين لا يحيط بالتركة.. فإن عند أبي سعيد الإصطخري: لا يمنع الدين من انتقال المال إلى الورثة إلا بقدره، واحتج بأنه لو بيع شيء من مال الميت بعد موته.. لكانت العهدة على الميت دون الورثة، فدل على بقاء ملكه. فعلى هذا: إذا حدث من المال فوائد قبل قضاء الدين.. كان ذلك ملكا للميت، فيقضى منه دينه وينفذ منه وصاياه. وقال أبو حنيفة: (إن كان الدين يحيط بالتركة.. منع انتقال الملك إلى الورثة، وإن كان الدين لا يحيط بالتركة.. لم يمنع انتقال الملك إلى الورثة) . والمذهب: أن الدين لا يمنع انتقال الملك إلى الورثة بحال، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] الآية: [النساء: 12] ، ولم يفرق. ولأنه لا خلاف: في أن رجلاً لو مات وخلف ابنين وعليه دين، فمات أحدهما قبل قضاء الدين وخلف ابنا، ثم أبرأ من له الدين الميت عن الدين.. فإن تركة من كان عليه الدين تقسم بين الابن وبين ابن الابن، فلو كان الدين يمنع انتقال الملك إلى الورثة.. لكانت التركة للابن وحده.

مسألة: أصناف الإرث والوارثين والتعريف بأولي الأرحام

فعلى هذا: إن حصل من التركة فوائد قبل قضاء الدين.. فإنها للورثة لا يتعلق بها حق الغرماء ولا الوصية. وإن كان الدين أكثر من التركة، فقال الوارث: أنا أدفع قيمة التركة من مالي ولا تباع التركة، وطلب الغرماء بيعها.. فهل يجب بيعها؟ فيه وجهان بناء على العبد الجاني، إذا بذل سيده قيمته، وطلب المجني عليه بيعه، وكان الأرش أكثر من قيمته.. فهل يجب بيعه؟ فيه قولان. [مسألة: أصناف الإرث والوارثين والتعريف بأولي الأرحام] ] : ثم يصرف مال الميت بعد قضاء الدين وإخراج وصيته إلى ورثته. والإرث ضربان: عام وخاص. فأما (العام) : فهو أن يموت رجل من المسلمين ولا وارث له خاص.. فإن ماله ينتقل إلى المسلمين إرثا بالتعصيب، يستوي فيه الذكر والأنثى، وهل يدخل فيه القاتل؟ فيه وجهان. وأما (الإرث الخاص) : فيكون بأحد أمرين: بسبب أو نسب. فأما (السبب) : فينقسم قسمين: ولاء ونكاحاً. فأما (الولاء) : فقد مضى بيانه. وأما (النكاح) : فهو إرث أحد الزوجين من الآخر على ما يأتي بيانه. وأما (النسب) : فهم الوارثون من القرابة من الرجال والنساء. فالرجال المجمع على توريثهم: خمسة عشر، منهم أحد عشر لا يرثون إلا بالتعصيب، وهم: الابن، وابن الابن وإن سفل، والأخ للأب والأم، والأخ للأب، وابن الأخ

للأب والأم، وابن الأخ للأب، والعم للأب والأم، والعم للأب، وابن العم للأب والأم، وابن العم للأب، والمولى المعتق. فكل هؤلاء لا يرث واحد منهم فرضاً، وإنما يرث تعصيباً إلا الأخ للأب والأم.. فإنه قد يرث بالفرض في المشتركة لا غير، على ما نذكره في موضعه. واثنان من الرجال الوارثين يرثان تارة بالفرض، وتارة بالتعصيب، وتارة بالفرض والتعصيب معا، وهما: الأب، والجد أبو الأب وإن علا. واثنان لا يرثان إلا بالفرض لا غير، وهما: الأخ للأم، والزوج. وأما النساء المجمع على توريثهن: فعشر، وهن: الابنة، وابنة الابن وإن سفلت، والأم، والجد أم الأم، والجدة أم الأب، والأخت للأب والأم، والأخت للأب، والأخت للأم، والزوجة، والمولاة المعتقة. فأربع منهن يرثن تارة بالفرض وتارة بالتعصيب، وهن: الابنة، وابنة الابن، والأخت للأب والأم، والأخت للأب. وخمس منهن لا يرثن إلا بالفرض، وهن: الأم، وأم الأم، وأم الأب، والأخت للأم، والزوجة. وواحدة منهن لا ترث إلا بالتعصيب، وهي: المولاة المنعمة. والورثة من الرجال والنساء ينقسمون ثلاثة أقسام: قسم يدلي بنفسه، وقسم يدلي بغيره، وقسم قد يدلي بنفسه وقد يدلي بغيره. فأما (القسم الذي يدلي بنفسه) : فهم ستة: الأب، والأم، والابن، والابنة، والزوج، والزوجة. وهؤلاء لا يحجبون بحال.

وأما (القسم الذي يدلي بغيره) : فهو من عدا من ذكرنا من القرابات، وقد يحجبون. وأما (القسم الثالث الذي قد يدلي بنفسه مرة وبغيره أخرى) : فهو من يرث بالولاء، وقد يحجب أيضاَ. وقد ورد الشرع بتوريث جميع من ذكرنا، على ما يأتي بيانه. وأما (ذوو الأرحام) وهم: ولد البنات، وولد الأخوات، وبنات الإخوة، وولد الإخوة للأم، والخال، والخالة، والعم للأم، والعمة، وبنات الأعمام، وكل جد بينه وبين الميت أم، ومن يدلي بهؤلاء. فاختلف أهل العلم في توريثهم على ثلاثة مذاهب: فـ[الأول] : ذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى: أنهم لا يرثون بحال. وبه قال من الصحابة: زيد بن ثابت وابن عمر. وهي إحدى الروايتين عن عمر، ومن الفقهاء: الزهري ومالك والأوزاعي وأهل الشام وأبو ثور. و [الثاني] : ذهبت طائفة إلى: أنهم يرثون ويقدمون على المولى والرد. وذهب إليه من الصحابة: علي بن أبي طالب وابن مسعود ومعاذ وأبو الدرداء، وهو الصحيح عن عمر. [والثالث] : ذهب الثوري وأبو حنيفة إلى: (أن ذوي الأرحام يرثون ولكن يقدم عليهم المولى والرد، فإن كان له مولى منعم.. ورث، وإن لم يكن له مولى منعم، وهناك من له فرض كالابنة والأخت.. كان الباقي لصاحب الفرض بالرد، وإن لم يكن هناك أحد من أهل الفروض.. ورث ذوو الأرحام) ، وبه قال بعض أصحابنا إن لم

يكن هناك إمام عادل، وهي إحدى الروايتين عن علي إلا أنها رواية شاذة، ولا سلف لأبي حنيفة في مذهبه غير هذه الرواية الشاذة. دليلنا: ما روى أبو أمامة الباهلي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» . فظاهر الخبر يقتضي: أنه لا حق في الميراث لمن لم يعطه الله شيئا، وجميع ذوي الأرحام لم يعطهم الله في كتابه شيئاً، فثبت: أنه لا ميراث لهم. وروى أبو سلمة، عن أبي هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن ميراث العمة والخالة، فقال: " لا أدري حتى يأتي جبريل "، ثم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أين السائل عن ميراث العمة والخالة؟ أتاني جبريل فسارني: أن لا ميراث لهما» . وروى عطاء بن يسار، عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأتي قباء على حمار أو

فرع: لا توارث بالموالاة عندنا

حمارة، يستخير الله في ميراث العمة والخالة، فأنزل الله عز وجل: أن لا ميراث لهما» . ولأن كل من لم يرث مع من هو أبعد منه.. لم يرث إذا انفرد، كابنة المولى، لأن ابنة المولى لما لم ترث مع ابن ابن المولى - وهو أبعد منها - لم ترث أيضاً إذا انفردت. وكذلك العمة لما لم ترث مع ابن العم - وهو أبعد منها - لم ترث أيضا إذا انفردت. ولأن ابنة الأخ لما لم ترث مع أخيها.. لم ترث إذا انفردت، كابنة المولى، وعكسه الابنة والأخت، لأنهما لما ورثتا مع أخيهما.. ورثتا إذا انفردتا. [فرع: لا توارث بالموالاة عندنا] ] : مولى الموالاة لا يرث عندنا بحال، وهو أن يقول رجل لآخر: واليتك على أن ترثني وأرثك، وتنصرني وأنصرك، وتعقل عني وأعقل عنك. ولا يتعلق بهذه الموالاة عندنا حكم إرث ولا عقل ولا غيره. وبه قال زيد بن ثابت. ومن التابعين: الحسن البصري والشعبي. ومن الفقهاء: الأوزاعي ومالك. وذهب النخعي إلى: أن هذا العقد يلزم بكل حال، ويتعلق به التوارث والعقل، ولا يكون لأحدهما فسخه بحال. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (مولى الموالاة يرث، ولكنه يؤخر عن المناسبين والمولى، وهو عقد جائز، لكل واحد منهما فسخه ما لم يعقل أحدهما عن الآخر، فإذا عقل.. لزمه ذلك ولم يكن له سبيل إلى فسخه) . دليلنا: ما روي: «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أرادت أن تشتري بريرة، فامتنع أهلها من بيعها إلا على أن يكون الولاء لهم، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اشتري واشترطي لهم الولاء "، فاشترتها واشترطت لهم الولاء، فصعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر، فقال: " ما بال

مسألة: الكافر والمسلم لا يتوارثان

أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ كل شرط ليس في كتاب الله.. فهو باطل، كتاب الله أحق، وشرطه أوثق، والولاء لمن أعتق» ، فجعل جنس الولاء للمعتق فلم يبق، ولا يثبت لغيره. ولأن كل سبب لم يورث به مع وجود السبب.. لم يورث به مع فقده، كما لو أسلم رجل على يد رجل. ولأن عقد الموالاة لو كان سبباً يورث به.. لم يجز فسخه وإبطاله، كالنسب والولاء. [مسألة: الكافر والمسلم لا يتوارثان] ] : لا يرث الكافر من المسلم بلا خلاف، وأما المسلم: فلا يرث الكافر عندنا. وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وزيد بن ثابت. وهو مذهب الفقهاء كافة. وقال معاذ ومعاوية: (يرث المسلم من الكافر) . دليلنا: ما روى أسامة بن زيد الليثي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» . وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» ، الإسلام والكفر ملتان شتى، فوجب أن لا يتوارثا. ِِ

فرع: يتوارث أهل الملة وحكم من دخل إلينا من أهل الحرب

[فرع: يتوارث أهل الملة وحكم من دخل إلينا من أهل الحرب] ] : ويرث الكافر من الكافر إذا اجتمعا في الذمة أو في الحرب. فيرث اليهودي من النصراني، ويرث النصراني من اليهودي، وكذا المجوسي إذا جمعتهم الذمة أو كانوا حربا لنا. فأما أهل الحرب وأهل الذمة: فإنهم لا يتوارثون وإن كانوا من اليهود أو النصارى. وبه قال من الصحابة: عمر وعلي وزيد بن ثابت. ومن الفقهاء: مالك والثوري وأبو حنيفة. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 375] : الذمي هل يرث الحربي؟ فيه قولان: أحدهما: يرثه؛ لأن ملتهما واحدة. والثاني: لا يرثه، لأن حكمنا لا يجري على الحربي. هذا مذهبنا، وذهب الزهري والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق إلى: (أن اليهودي لا يرث من النصراني، ولا النصراني من اليهودي وإن جمعتهما الملة، وإنما يرث النصراني من النصراني، واليهودي من اليهودي) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يرث المسلم الكافر» . دليله: أن غير المسلم يرث الكافر. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ولا الكافر المسلم» . دليله: أنه يرث غير المسلم. ويرث أهل الحرب بعضهم بعضاً إذا تحاكموا إلينا وإن اختلفت دارهم وكان بعضهم يرى قتل بعض. وحكم من دخل إلينا بأمان أو رسالة أو تجارة.. حكم أهل الذمة، ويرث بعضهم من بعض.

فرع: ميراث المرتد لبيت المال عندنا

ومتى كانت امرأة الكافر ذات رحم منه من نسب أو رضاع.. لم يتوارثا بالنكاح، وإن كانت غير ذات رحم محرم منه ممن لو أسلما أقرا على ابتداء النكاح.. أقرا على نكاحهما، وتوارثا بالنكاح وإن عقدا بغير ولي ولا شهود. [فرع: ميراث المرتد لبيت المال عندنا] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وميراث المرتد لبيت المال) . وجملة ذلك: أن العلماء اختلفوا في إرث مال المرتد بعد موته على أربعة مذاهب: فـ[الأول] : ذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى: أن ماله لا يورث، بل يكون فيئا لبيت المال، سواء في ذلك ما اكتسبه في حال إسلامه أو في حال ردته، وسواء قلنا: إن ملكه يزول، أو لا يزول، أو موقوف. وبهذا قال ابن عباس، وهي إحدى الروايتين عن علي. وبه قال ربيعة ومالك وابن أبي ليلى وأحمد. [والثاني] : ذهب ابن مسعود إلى: (أن جميع ما يخلفه لورثته، سواء كسبه قبل الردة أو بعدها) . وهي إحدى الروايتين عن علي، وبه قال الأوزاعي وأبو يوسف ومحمد. و [الثالث] : ذهب قتادة وعمر بن عبد العزيز إلى: أن ماله يكون لأهل الملة التي انتقل إليها، فإن انتقل إلى اليهود..كان ماله لهم، وإن انتقل إلى النصارى.. كان ماله لهم. و [الرابع] : قال أبو حنيفة والثوري: (ما اكتسبه قبل الردة.. ورث عنه، وما اكتسبه بعد الردة.. يكون فيئاً) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» ، والمرتد كافر. ولأنه لا يرث بحال، فلم يورث كالكافر.

مسألة: لا يرث العبد أقاربه الأحرار ولا يرثهم عندنا

والجواب على أبي حنيفة هو: أن كل من لم يرث المسلم ما اكتسبه في حال إباحة دمه.. لم يرث ما اكتسبه في حال حقن ٍدمه، كالذمي إذا لحق بدار الحرب. إذا ثبت هذا: فهل يخمس مال المرتد؟ فيه قولان، يأتي بيانهما في موضعهما إن شاء الله تعالى. [مسألة: لا يرث العبد أقاربه الأحرار ولا يرثهم عندنا] ] : إذا مات العبد وفي يده مال.. لم ترثه قراباته الأحرار، لأن من الناس من يقول: إنه لا يملك المال، ومنهم من يقول: إنه يملك المال، ومنهم من يقول: إنه يملكه إذا ملكه السيد ولكنه ملك ضعيف يزول بزوال ملك سيده عن رقبته. ولهذا: إذا باعه.. زال ملك العبد عنه. وإذا مات العبد.. فقد زال ملك العبد عن المال، فيصير كمن مات ولا مال له. وأما إذا مات للعبد مناسب يملك المال.. فإن العبد لا يرثه عندنا. وبه قال كافة أهل العلم. وقال ابن مسعود: (يشتري نفسه ببعض التركة فيعتق، ثم يدفع إليه الباقي) . وقال طاووس: يرث العبد ويدفعه إلى مولاه. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] [النحل: 75] ، فنفى أن يقدر العبد على شيء، والإرث شيء. وقَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الروم: 28] [الروم: 28] ، فثبت بهذا: أن العبد لا يرث، لأن الميراث مما رزقه الله للأحرار، وهو يشارك الحر فيما رزقه الله. ولأن العبد لا يملك المال، فلم يرث، كالبهيمة. وحكم المكاتب والمدبر وأم الولد والمعلق عتقه بصفة. حكم العبد في الميراث، لأنهم ناقصون بالرق.

فرع: إرث المبعض

[فرع: إرث المبعض] ] : وأما من نصفه حر ونصفه مملوك: فإنه لا يرث بنصفه الحر. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق \ 375] عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن أبي ليلى، وعثمان البتي، والمزني: أنهم قالوا: (يرث بنصفه الحر) . وهذا غلط، لأنه ناقص بالرق، ولهذا لا تقبل شهادته ولا يتزوج أربعا ولا يطلق ثلاثاً، هو كما لو لم يعتق شيء منه. وهل يرث عنه ورثته الأحرار ما جمعه بنصفه الحر؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في الجديد، (يرثه ورثته المناسبون، فإن لم يكن له مناسب. كان كمن أعتق نصفه) ، لأنه مال ملكه بما فيه من الحرية، فورثه ورثته المناسبون، كالحر. و [الثاني] : قال في القديم: (لا يرثه ورثته المناسبون) ، لأنه ناقص بالرق، فلم يرثه المناسبون له، كالعبد. ولأنه لا يرث بحال، فلم يورث كالمرتد. فإذا قلنا بهذا: فلمن يكون ما جمعه بما فيه من الحرية؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه يكون لمالك نصفه) ، لأنه لا يجوز أن يكون لمناسبه، لأن المناسب يأخذ المال إرثا وهذا لا يورث، ولا يجوز أن يكون لمولاه الذي اعتق نصفه بالولاء، لأن الولاء أضعف من النسب، فإذا يستحقه المناسب.. فالمعتق أولى، فلم يبق إلا أن يكون لمن يملك نصفه. والثاني - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه يكون لبيت المال، لأنه لا يجوز أن يكون لمناسبه ولا لمن أعتق نصفه، لما ذكرناه في الأول، ولا يجوز أن يكون لمالك نصفه، لأنه ملكه بنصفه الحر، ولا ملك لمالك نصفه في ذلك النصف ولا

ولاء، فلم يبق إلا أنه يكون لبيت المال. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 375] : إذا قلنا بقوله الجديد فمات، فإن لم يكن بينه وبين سيده مهايأة.. كان لمالك نصفه النصف من الذي في يده، والنصف للوارث. وإن كان بينهما مهايأة، وقد أعطى السيد حقه وبقي حقه في يده.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه لورثته، لأن السيد قد أخذ حقه. والثاني: أنه بين السيد وبين الورثة نصفان؛ لأنه شخص لا يورث إلا بعض ماله، فلم يكن للورثة إلا بعض ما في يده. وإن قلنا بقوله القديم ومات وفي يده مال، فإن كان قد أعطى السيد حقه.. كان فيمن يستحق ما بقي بيده وجهان: أحدهما: أنه لمالك نصفه. والثاني: أنه لبيت المال. وإن كان لم يعط السيد حقه من الكسب، بل الجميع في يده.. كان لمالك نصفه نصف ما بيده، وفي النصف الباقي وجهان: أحدهما: أن جميع ذلك النصف لبيت المال. والثاني: أن لبيت المال نصف ذلك النصف، والنصف لمالك نصفه. وإن كان بينه وبين مالك نصفه مهايأة، وكان ما بقي في يده خالص ملكه.. ففيه وجهان:

فرع: خلف أولادا مسلمين أحرارا ومملوكين وكافرين

أحدهما: أنه لبيت المال. والثاني: أن نصفه لمالك نصفه. ونصفه لبيت المال. [فرع: خلف أولاداً مسلمين أحراراً ومملوكين وكافرين] ] : إذا مات مسلم حر وخلف أولادا أحراراً مسلمين، وأولاداً مملوكين مسلمين، وأولاداً كفاراً.. ورثه الأولاد المسلمون الأحرار. فإن أسلم الكفار أو أعتق العبيد بعد قسمة الميراث.. لم يشاركوا في الإرث بلا خلاف. وإن أسلموا أو أعتقوا بعد موت أبيهم وقبل قسمة تركته.. لم يشاركوا في الميراث عندنا، وبه قال أكثر أهل العلم. وقال عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (إذا أسلموا أو أعتقوا قبل القسمة. شاركوا في الإرث) . دليلنا: أن كل من لم يرث حال الموت.. لم يرث بعد ذلك، كما لو أسلم أو أعتق بعد القسمة. [فرع: دبر أخاه فمات أو علق عتقه على موته] أو آخر جزء من حياته] : وإن دبر رجل أخاه فمات.. عتق، ولم يرث من أخيه شيئاَ، لأنه صار حرا بعد الموت. قال الشيخ أبو إسحاق: فإن قال: أنت حر في آخر جزء من حياتي المتصل بالموت، ثم مات.. عتق من ثلثه، وهل يرثه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يرثه، لأن العتق في المرض وصية، والإرث والوصية لا يجتمعان.

مسألة: القاتل لا يرث عندنا

والثاني: يرثه، ولا يكون عتقه وصية؛ لأن الوصية ما يملك بموت الموصي، وهذا لم يملك نفسه بموته. وإن قال له في مرض موته: إن مت بعد شهر فأنت اليوم حر، فمات بعد شهر.. عتق يوم تلفظ، وهل يرثه؟ على الوجهين. [مسألة: القاتل لا يرث عندنا] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والقاتلون عمداً أو خطأ لا يرثون) . وجملة ذلك: أن العلماء اختلفوا في ميراث القاتل من المقتول. فذهب الشافعي إلى: أن القاتل لا يرث المقتول، لا من ماله ولا من ديته، سواء قتله عمداً أو خطأ، أو مباشرة أو بسبب، لمصلحة - كسقي الدواء أو بط الجرح- أو لغير مصلحة، متهما كان أو غير متهم، وسواء كان القاتل صغيراً أو كبيراً، عاقلاً كان أو مجنوناً. وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وعمر بن عبد العزيز وأحمد بن حنبل. وقال أبو إسحاق: من أصحابنا من قال: إذا كان القاتل غير متهم، بأن كان حاكماًً، فجاء مورثه فأقر عنده بقتل رجل عمداً، فطلب وليه القود، فمكنه الحاكم من قتله، أو اعترف عنده بالزنا وهو محصن فرجمه، أو اعترف بقتل المحاربة فقتل.. فإنه يرثه، لأنه غير متهم في قتله. ومن أصحابنا من قال: إن كان القتل مضموناً..لم يرث القاتل، لأنه قتل بغير حق. وإن كان غير مضمون، بأن قتله قصاصاً، أو في الزنا، أو كان باغياً فقتله العادل، وما أشبه ذلك.. ورث؛ لأنه قتله بحق، فلم يمنع الإرث. وقال عطاء وابن المسيب ومالك والأوزاعي: (إن كان القتل عمداً.. لم يرث

القاتل لا من ماله ولا من ديته، وإن كان القتل خطأ.. ورث ماله ولم يرث من ديته) . وقال أبو حنيفة وأصحابه: (إن قتله مباشرة.. فلا يرثه، سواء قتله عمداً أو خطأ، إلا إن كان القاتل صبياً أو مجنوناً أو عادلا فقتل الباغي.. فإنهم يرثون. وإن قتله بسبب، مثل: أن حفر بئرا أو نصب سكينا فوقع عليها مورثه، أو كان يقود دابة أو يسوقها فرفسته.. فإنه يرثه) . وإن كان راكبا للدابة فرفست مورثه أو وطئته فمات.. فقال أبو حنيفة: (لا يرثه) . وقال أبو يوسف ومحمد: يرثه. دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «لا يرث القاتل شيئاً» . وروى عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقاد والد بولده، وليس للقاتل شيء» . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يرث القاتل» . وهذه نصوص في أن القاتل لا يرث، ولم تفرق بين العمد والخطأ، والبالغ

فرع: الشهادة على القتل هل تمنع من الإرث

والصغير، وعن المضمون وغير المضمون. ولأنه معني أسقط إرثه من الدية، فأسقط إرثه من المال، كالرق والردة، وعكسه الجنون والصغر. فإن قيل: إنما لم يرث الدية؛ لأن العاقلة تعقل عنه، فلا يجوز أن تعقل عنه له! فالجواب: أن العاقلة قد تعقل عنه له، وهو: أن رجلا لو كان له ابنان، فقتل أحدهما أباه خطأ.. ورثه ابنه الذي لم يقتل، فلو مات الأخ الوارث للأب.. ورثه الأخ القاتل وورث الدية التي على العاقلة، وكانت العاقلة تعقل عنه له. [فرع: الشهادة على القتل هل تمنع من الإرث] فرع: [الشهادة على القتل تمنع الإرث] وإن شهد شاهدان على رجل بقتل العمد فقتل بشهادتهما.. لم يرثه الشاهدان؛ لأنه قتل بشهادتهما، فهو كما لو باشرا قتله. وكذلك إن شهد أربعة على رجل بالزنا وهو محصن فقتل، أو شهد عليه شاهدان بالإحصان وزنا ثم قتل.. لم ترثه الشهود، لما ذكرناه. [مسألة: إرث المطلقة في مرض الموت] ] وإذا طلق الرجل امرأته في مرض موته.. وقع الطلاق، وهو إجماع لا خلاف فيه؛ لأن المرض لا يزيل التكليف، فهو كالصحيح. فإن كان الطلاق رجعيا، فمات وهي في العدة، أو ماتت قبله في العدة.. ورث أحدهما صاحبه بلا خلاف أيضاً، لأن الرجعية حكمها حكم الزوجة إلا في إباحة وطئها، فهي كالحائض. وإن كان الطلاق بائناً، فإن ماتت قبل الزوج.. لم يرثها الزوج، وهو إجماع أيضا لا خلاف فيه. وإن مات الزوج قبلها.. فهل ترثه؟ فيه قولان: قال في القديم: (ترثه) . وبه قال عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن الفقهاء ربيعة، ومالك، والأوزاعي، والليث، وسفيان بن عيينة،

وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد. ووجه هذا: ما روي: أن عمر قال: (المبتوتة في حال المرض ترث من زوجها) . وروي: (أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت أصبغ الكلبية في مرض موته، فورثها منه عثمان بن عفان) . وروي: (أن عثمان لما حوصر طلق امرأته، فورثها منه علي بن أبي طالب، وقال: كان قد أشرف على الموت) . ولأنه متهم في قطع ميراثها، فغلظ عليه وورثت منه، كالقاتل لما كان متهما في القتل لاستعجال الميراث.. غلظ عليه، فلم يرث. وقال في الجديد: (لا ترثه) . وبه قال عبد الرحمن بن عوف، وابن الزبير، وأبو ثور، وهو الصحيح، لأنها فرقة تقطع ميراثه عنها فقطعت ميراثها منه، كما لو أبانها في حال الصحة، وعكسه الرجعية. ولأنها فرقة لو وقعت في الصحة.. لقطعت ميراثها عنه، فإذا وقعت في المرض.. قطعت ميراثها عنه، كاللعان. ولأنها ليست بزوجة له، بدليل: أنها لا يلحقها طلاقه ولا إيلاؤه ولا ظهاره ولا عدة وفاته، فلم ترثه، كالأجنبية. وأما ما روي عن عمر وعثمان وعلي: فإن ابن الزبير وعبد الرحمن بن عوف خالفاهم في ذلك، فإن ابن الزبير قال: (أما أنا: فلا أرى أن ترث مبتوتة) ، وعبد الرحمن بن عوف إنما طلق امرأته في مرض موته ليقطع ميراثها عنه. فإذا قلنا بقوله الجديد.. فلا تفريع عليه.

فرع: الإقرار في مرض الموت بطلاق الزوجة في حال الصحة

وإذا قلنا بقوله القديم.. فإلى متى ترثه؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ترثه ما دامت في عدتها منه، فإذا انقضت عدتها منه.. لم ترثه - وبه قال أبو حنيفة وسفيان والليث والأوزاعي، وإحدى الروايتين عن أحمد - لأن الميراث للزوجة إنما يكون لزوجة أو لمن هي في حكم الزوجات، فما دامت في عدتها منه.. فهي في حكم الزوجات، وإذا انقضت عدتها.. فليست بزوجة ولا في حكم الزوجات. والثاني: أنها ترثه ما لم تتزوج بغيره، فإذا تزوجت بغيره لم ترثه - وبه قال ابن أبي ليلى، وهي الرواية الصحيحة عن أحمد - لأن حقها قد ثبت في ماله، فإذا لم يسقط ببينونتها.. لم يسقط بانقضاء عدتها، وإنما يسقط برضاها، فإذا تزوجت.. فقد رضيت بفراقه، وقطع حقها عنه. والثالث: أنها ترثه أبدا، سواء تزوجت أو لم تتزوج - وبه قال مالك - لأنها قد ثبت لها حق في ماله، فإذا لم يسقط ببينونتها.. لم يسقط بانقضاء عدتها ولا بتزويجها، كمهرها. [فرع: الإقرار في مرض الموت بطلاق الزوجة في حال الصحة] فرع: [أقر في مرض موته بطلاق زوجته في صحته ثلاثاً] : إذا أقر في مرض موته: [أنه قد كان طلق امرأته في صحته ثلاثاً.. بانت منه. قال الشيخ أبو حامد: ولا ترثه قولاً واحداً، لأن ما أقر به في مرض موته وأضافه إلى حال الصحة.. كالذي يفعله في الصحة، كما لو أقر في مرض موته: أنه كان وهب ماله في صحته وأقبضه.. فإن ذلك لا يعتبر من الثلث. وحكى القاضي أبو الطيب عن بعض أصحابنا في ذلك قولين، كما لو طلقها ثلاثا في مرض موته، لأنه متهم في إسقاط حقها فلم يسقط، بدليل: أنه لا يسقط بهذا الإقرار نفقتها ولا سكناها في حال النكاح وإن أضاف ذلك إلى وقت ماض. [فرع: طلقها بطلبها ثلاثاً في مرض الموت] ] : إذا كان الرجل مريضاً فسألته امرأته أن يطلقها ثلاثاً فطلقها ثلاثاً ومات في مرضه ذلك، أو قال لها في مرض موته: أنت طالق ثلاثاً إن شئت، فقالت: شئت.. طلقت، وهل ترثه؟ اختلف أصحابنا فيه:

فرع: سألته في مرض موته طلاقا واحدا فطلقها ثلاثا

فقال أبو علي بن أبي هريرة: هي على قولين، لأن الأصل في هذا قصة عثمان في توريثه تماضر من زوجها عبد الرحمن بن عوف في مرض موته، وقد كانت سألته الطلاق. وقال الشيخ أبو حامد: لا ترثه قولا واحدا، وهو المذهب، لأنها إذا سألته الطلاق.. فلا تهمة عليه في طلاقها، وأما قصة تماضر: فلا حجة فيها، لأن عبد الرحمن قال لنسائه: (من اختارت منكن أن أطلقها.. طلقتها، فقالت تماضر: طلقني، فقال لها: إذا حضت فأعلميني، فأعلمته، ثم قال لها: إذا طهرت فأعلميني، فأعلمته فطلقها) . وليس طلاقه لها في هذا الوقت جوابا لكلامها، لأن قولها: طلقني.. يقتضي الجواب في الحال، فإذا تأخر، ثم طلقها.. كان ذلك ابتداء الطلاق. [فرع: سألته في مرض موته طلاقاً واحدا فطلقها ثلاثاً] ً] : وإن سألته في مرض موته: أن يطلقها واحدة، فطلقها ثلاثاً، ثم مات من مرضه ذلك.. فهل ترثه؟ فيه قولان، لأنها سألته تطليقة، فإذا طلقها ثلاثاً.. صار متهما بذلك، لأنه قصد قطع ميراثها، فصار كما لو طلقها ثلاثاً ابتداء من غير سؤال منها. [فرع: تعليق الطلاق بصفة ثم وجدت في مرض الموت] فرع: [تعليق المريض أو الصحيح طلاقه بصفة ثم وجدت في مرض موته] : إذا علق المريض طلاق امرأته ثلاثاً بصفة، ثم وجدت تلك الصفة في مرضه ومات منه.. فهل ترثه؟ نظرت: فإن كانت صفة لها منها بد، مثل أن قال لها: إن دخلت الدار، أو خرجت منها. أو كلمت فلانا، أو صليت النافلة، أو صمت النافلة، فأنت طالق ثلاثاً، ففعلت ذلك في مرض موته.. لم ترثه قولاً واحداً، لأنها إذا فعلت ذلك مع علمها بالطلاق.. فقد اختارت وقوع الطلاق عليها بما لها بد منه، فصارت كما لو سألته الطلاق.

فرع: علق طلاقها قبل موته بشهر أو بآخر حياته أو صحته

وإن كانت صفة لا بد لها منها، بأن قال: إن تنفست، أو صليت الفرض، أو صمت الفرض، أو كلمت أباك أو أمك، فأنت طالق ثلاثاً، ففعلت ذلك في مرض موته ومات منه.. فهل ترثه؟ على القولين، لأنها لا بد لها من فعل هذه الأشياء، فصار كما لو طلقها ثلاثا طلاقاً منجزاً. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : وهكذا إن قال لها: إن قمت أو قعدت فأنت طالق ثلاثاً، فقامت أو قعدت في مرض موته.. فهل ترثه؟ على القولين، لأنها لا تجد بدا من القيام أو القعود. وإن قال لها: إذا مرضت فأنت طالق ثلاثاً، فمرض.. طلقت ثلاثاً، فإن مات منه.. فهل ترثه؟ قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، لأنه لما جعل مرض موته صفة في وقوع الطلاق عليها.. كان متهما في ذلك، فهو كما لو طلقها في المرض. فإن قال لها وهو صحيح: إذا جاء رأس الشهر، أو جاء الحاج، أو طلعت الشمس، وما أشبه ذلك فأنت طالق ثلاثاً، فوجدت هذه الصفات في مرض موته.. فهل ترثه؟ قال البغداديون من أصحابنا: لا ترثه قولا واحدا، لأنه غير متهم في ذلك، لأن اتفاق ذلك في مرضه مع هذه الصفات لم يكن من قصده. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : من أصحابنا من قال: في ميراثها منه قولان، كما لو قال فيمن قال لعبده: إذا قدم زيد فأنت حر، فقدم زيد في مرض موت السيد.. فهل يعتق العبد من الثلث أو من رأس المال؟ على قولين. وأصحابنا البغداديون قالوا: يعتق من رأس المال قولا واحدا أيضاً. [فرع: علق طلاقها قبل موته بشهر أو بآخر حياته أو صحته] ] : إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً قبل موتي بشهر، فإن عاش هذا الزوج بعد هذا القول أقل من شهر، ثم مات.. لم يحكم بوقوع الطلاق، لأنا لو حكمنا بوقوعه.. لأوقعناه

فرع: طلقها ثلاثا في مرضه ثم تخلل بين مرضه وموته حالة لا ترث فيها

قبل إيقاعه وهذا لا يجوز. وإن عاش بعد ذلك شهرا أو مات مع الشهر.. لم يقع الطلاق، لأن الطلاق إنما يقع عقيب الإيقاع لا معه. وإن عاش شهرا وجزءا، ثم مات.. طلقت قبل موته بشهر. قال الشيخ أبو حامد: وهل ترثه؟ فيه قولان؛ لأنه متهم في ذلك، ثم إنه إنما قصد بذلك منعها من الميراث. قال الصيمري: وإن قال لامرأته: إن مت من مرضي فأنت طالق ثلاثاً، فمات.. فلا طلاق، ولها الميراث. ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً في آخر أجزاء حياتي..فهل ترثه؟ فيه قولان. ولو قال هذا القول وهو صحيح.. فهو بمنزلة من طلق في المرض، لأن أحدا لا يموت إلا من سبب قبل وفاته. قال: ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً في آخر أجزاء صحتي المتصلة بسبب وفاتي.. فلا ميراث لها، والطلاق واقع. قال: والأجود أن يقول: المتصل بمرض موتي: لأنه قد يموت فجأة أو بهدم أو بغرق. قلت: والذي يتبين لي: أنها على قولين، لأنه متهم في ذلك، كما قلنا فيمن قال لامرأته: أنت طالق قبل موتي بشهر، فعاش شهراً وجزءا ثم مات.. فإنه لا فرق بين أن يقول ذلك في الصحة أو في المرض. [فرع: طلقها ثلاثاً في مرضه ثم تخلل بين مرضه وموته حالة لا ترث فيها] ] : إذا طلقها ثلاثاً في مرضه، ثم صح من مرضه، ثم مرض، ثم مات.. فإنها لا ترثه قولاً واحداً؛ لأنه قد تخلل بين المرض والموت حالة لو طلقها ثلاثاً فيها.. لم ترث شيئاً، فكذلك لو طلقها قبل تلك الحالة.. وجب أن لا ترث. وهكذا: إذا طلقها في مرض موته ثلاثاً، ثم ارتد الزوج أو الزوجة، ثم رجعا، ثم مات الزوج.. لم ترثه قولا واحداً، لأنه قد تخلل بينهما حالة لا ترث فيها.

فرع: قذف امرأته في صحته أو مرضه ثم لاعنها في مرض موته

[فرع: قذف امرأته في صحته أو مرضه ثم لاعنها في مرض موته] فرع: [قذف امرأته في صحته أو مرض موته ثم لاعنها أو فسخ نكاحها بعيب في مرض موته] : إذا قذف امرأته في صحته، ثم لاعنها في مرض موته.. لم ترثه قولًا واحدا؛ لأنه مضطر إلى اللعان لدرء الحد عنه، فلا تلحقه التهمة. فإن قذفها في مرض موته ثم لاعنها.. قال ابن الصباغ: فإنها لا ترثه قولاً واحداً، لأن به حاجة إلى اللعان لإسقاط الحد عن نفسه. قال ابن اللبان: وهو ظاهر تعليل الشافعي. قال ابن اللبان: ويحتمل أن يقال: إذا قذفها في حال مرضه.. فقد تلحقه التهمة، لأنه قصد تعييرها لتطالب بما يدفع العار عنها، فتلاعن، فتقع الفرقة، فلا ترث. وقال: يحتمل أن يقال: إن كان قد نفى الحمل.. فإنها لا ترث، لأنه مضطر إلى قذفها. وإن لم ينف الولد.. ورثته - يعني: في أحد القولين - لأنه لم يكن مضطرا إلى قذفها. وإن فسخ نكاحها في مرض موته بأحد العيوب.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: أنه كالطلاق في المرض، فيكون في ميراثها منه قولان. والثاني: لا ترثه قولا واحدا؛ لأنه يستند إلى معنى من جهتها، ولأن به حاجة إلى الفسخ، لما عليه من الضرر في المقام معها على العيب. [فرع: طلق أمة ثلاثاً أو طلاقا رجعياً في مرض موته] ] : إذا كانت تحته أمة فطلقها ثلاثاً في مرض موته، ثم أعتقت، ثم مات الزوج.. فإنها لا ترثه قولاً واحداً؛ لأنها وقت طلاقها لم تكن وارثة، فكان غير متهم في قطع ميراثها منه.

فرع: طلق نساءه الأربع في مرض موته طلاقا بائنا ثم تزوج أربعا

وإن قال لها في مرض موته: أنت طالق غداَ ثلاثا، فأعتقها سيدها قبل مجيء الغد، ثم جاء الغد، ثم مات الزوج.. فإنها لا ترث قولاً واحداً، لأن الزوج وقت عقد الطلاق لم تكن الزوجة ممن يرث أيضاً. فإن أعتقت الأمة في مرض موته، ثم طلقها ثلاثاً.. فهل ترثه؟ فيه قولان. وإن طلقها في مرض موته وأعتقت، ثم مات الزوج، فقالت الزوجة: أعتقت، ثم طلقت فلي الميراث، وقال الورثة: بل طلقت، ثم أعتقت، فلا ميراث لك.. فالقول قول الورثة مع أيمانهم، لأن الأصل أن لا عتق. وإن طلقها في مرضه طلاقاً رجعيا، ثم أعتقت، ثم مات الزوج من مرضه، فإن مات وهي في العدة.. فلها الميراث قولا واحداً، لأنها في حكم الزوجات. وإن مات بعد انقضاء عدتها. فلا ميراث لها قولاً واحداً، لأنها ليست بزوجة ولا في معنى الزوجات. [فرع: طلق نساءه الأربع في مرض موته طلاقاً بائناً ثم تزوج أربعاً] ً] : إذا كان تحته أربع نسوة فطلقهن في مرض موته طلاقاً بائناً، ثم تزوج بعدهن أربعا سواهن، ثم مات من مرضه ذلك، فإن قلنا بقوله الجديد: وأن المبتوتة في مرض الموت لا ترث.. كان ميراثه للأربع الزوجات دون المطلقات. وإن قلنا بقوله القديم: وأن المبتوتة في مرض الموت ترث.. ففي ميراث هذه ثلاثة أوجه حكاها الشيخ أبو حامد: أحدها: أنه للزوجات الجديدات دون المطلقات؛ لأنه لا يجوز أن يرث الرجل أكثر من أربع زوجات، ولا بد من تقديم بعضهن على بعض، فكان تقديم الزوجات أولى، لأن ميراثهن ثابت بنص القرآن، وميراث المطلقات ثبت بالاجتهاد. والثاني: أنه للزوجات المطلقات دون الزوجات الجديدات، لأنه لا يجوز أن يرثه أكثر من أربع، فكان تقديم المطلقات أولى، لأن حقهن أسبق. والثالث: أنه يكون بين الزوجات والمطلقات بالسوية، لأن إرث الزوجات ثابت بنص القرآن، وإرث المطلقات ثابت بالاجتهاد، فشرك بينهن.

مسألة: مات متوارثان معا

وقول من قال: لا يجوز أن يرثه أكثر من أربع زوجات.. ليس بصحيح، لأن الشرع إنما منع من نكاح ما زاد على أربع: وأما توريث ما زاد على أربع: فلم يمنع الشرع منه. [مسألة: مات متوارثان معا] ] وإذا مات متوارثان- كالرجل وابنه، أو كالزوجين - بالغرق أو الهدم، فإن علم أن أحدهما مات أولا وعرف عينه.. ورث الثاني من الأول. وإن علم أن أحدهما مات أولاً وعرف عينه، ثم نسي.. وقف الأمر إلى أن يتذكر من الأول منهما، فيرث منه الثاني، لأن الظاهر ممن علم ثم نسي أنه يتذكر، وهذا لا خلاف فيه. وإن علم أنهما ماتا معا، أو علم أن أحدهما مات أولا ولم تعرف عينه - قال الشيخ أبو حامد: مثل أن غرقا في ماء فرئي أحدهما يصعد من الماء وينزل ولم يعرف بعينه، والآخر قد نزل ولا يصعد.. فإنه يعلم لا محالة أن الذي يصعد وينزل لم يمت، وأن الذي نزل ولم يصعد قد مات - أو لم يعلم: هل ماتا في حالة واحدة، أو مات أحدهما قبل الآخر.. فمذهبنا في هذه الثلاث المسائل: أنه لا يرث أحدهما من الآخر، ولكن يرث كل واحد منهما ورثته غير الميت معه، وبه قال أبو بكر، وعمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، ومالك، وأبو حنيفة، وأكثر أهل العلم.

مسألة: يرث الأسير ما دام حيا

وذهب علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى: (أنه يرث كل واحد منهما الآخر ثم يرثهما ورثتهما) . وبه قال داود. دليلنا: ما روي عن زيد بن ثابت: أنه قال: (ولاني أبو بكر مواريث قتلى اليمامة، فكنت أورث الأحياء من الأموات، ولا أورث الموتى من الموتى) . ولأن كل من لم تعلم حياته عند موت مورثه.. لم يرثه، وأصله الحمل، وهو: أن الرجل إذا مات وخلف امرأة حاملاً، فإنه إن خرج حياً.. ورث، لأنا تيقنا حياته عند موت مورثه.. وإن خرج ميتاً.. لم يرث، لأنا لا نعلم حياته عند موت مورثه. ولأن توريث كل واحد منهما من الآخر خطأ بيقين، لأنهما إن ماتا معاً في حالة واحدة.. لم يرث أحدهما من الآخر. وإن مات أحدهما قبل الآخر.. فتوريث السابق منهما موتاً من الآخر خطأ، فإذا كان كذلك.. لم يرث أحدهما من الآخر، لأنه ليس أحدهما أن يكون مات أولا بأولى من الآخر. [مسألة: يرث الأسير ما دام حيا] ] : وإن مات رجل وخلف ولداً أسيراً في أيدي الكفار.. فإنه يرث ما دام تعلم حياته. وبه قال كافة أهل العلم. وقال النخعي: لا يرث الأسير. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] [النساء: 11] . ولم يفرق بين الأسير وغيره. فأما إذا لم تعلم حياته.. فحكمه حكم المفقود. وإذا فقد رجل وانقطع خبره.. لم يقسم ماله حتى يعلم موته أو يمضي عليه من

الزمان من حين ولد زمان لا يعيش في مثله، فحينئذ يحكم الحاكم بموته، ويقسم ماله بين ورثته الأحياء يومئذ دون من مات من ورثته قبل ذلك. وقال مالك: (إذا مضى له من العمر ثمانون سنة.. قسم ماله) . وقال عبد الملك بن الماجشون: إذا مضى له تسعون سنة.. حكم الحاكم بموته. وقال أبو حنيفة: (إذا مضى له مائة وعشرون سنة.. حكم بموته) . وحكى بعضهم: أن ذلك مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وإن مات للمفقود من يرثه قبل أن يحكم بموته.. أعطي كل وارث من ورثته ما يتيقن أنه له، ووقف المشكوك فيه إلى أن يتبين أمر المفقود، مثل: أن تموت امرأة وتخلف زوجاً، وأختين لأب وأم، وأخا لأب وأم مفقوداً.. فإن الزوج لا يستحق النصف كاملاً إلا إذا تيقنا حياة الأخ عند موت المرأة، ولا تستحق الأختان أربعة أسباع المال إلا إذا تيقنا موت الأخ عند موت المرأة. والعمل في هذه وما أشبهها أن يقال: لو كان الأخ ميتا وقت موت أخته.. لكانت الفريضة من سبعة: للزوج ثلاثة، وللأختين للأب والأم أربعة. ولو كان الأخ حيا وقت موت أخته.. لكانت الفريضة من ثمانية: للزوج أربعة، ولكل أخت سهم، وللأخ سهمان. والثمانية لا توافق السبعة بشيء، فتضرب الثمانية في سبعة - فذلك ستة وخمسون - فيعطى الزوج أقل نصيبيه وهو عند موت الأخ، فله حينئذ ثلاثة من سبعة مضروبة في ثمانية - فذلك أربعة وعشرون - وتعطى كل

أخت أقل نصيبيها وهو عند وجود الأخ حيا وعند موت أخته، وذلك سهم من ثمانية مضروب في سبعة - فذلك سبعة - ويبقى من المال ثمانية عشر سهما فيوقف ذلك إلى أن يتبين أمر الأخ. فإن بان أنه كان حيا وقت موت أخته.. كان له سهمان من ثمانية في سبعة، فذلك أربعة عشر نأخذه من الموقوف، وللزوج أربعة من ثمانية في سبعة - فذلك ثمانية وعشرون - فمعه أربعة وعشرون، ويبقى له أربعة، فيأخذها من الموقوف وقد استوفى الأختان نصيبهما. وإن بان أن الأخ كان ميتاً وقت موت أخته.. كان للأختين أربعة من سبعة في ثمانية - فذلك اثنان وثلاثون - فمعهما أربعة عشر، ويبقى لهما ثمانية عشر وهو الموقوف، فيأخذانه وقد استوفى الزوج نصيبه. هذا هو المشهور من المذهب. وخرج ابن اللبان في ذلك وما أشبهه وجهين آخرين: أحدهما: أن يجعل حكم الأخ المفقود حكم الحي، لأن الأصل بقاء حياته، فلا ينقص الزوج عن النصف كاملاً لجواز موته، فيدفع إلى الزوج النصف كاملاً، وإلى كل أخت الثمن، ويوقف ربع المال. فإن بان أن الأخ كان حيا وقت موت أخته.. دفع الربع الموقوف إليه أو إلى ورثته إن كان قد مات. وإن بان أنه ميت وقت موت أخته.. أخذ من الزوج نصف السبع ودفع ذلك مع الربع الموقوف إلى الأختين. وهل يؤخذ من الزوج ضمين في نصف السبع؟ فيه قولان: أحدهما: يؤخذ منه ضمين، لجواز أن يكون الأخ ميتاً.

والثاني: لا يؤخذ منه ضمين، كما يقسم مال الغرقى على الأحياء من ورثتهم ولا يؤخذ منهم ضمين. قال: وهذان القولان مأخوذان مما لو مات رجل فادعى رجل: أنه ابنه وأقام بينة أنه ابنه ولم تقل البينة: لا نعلم له وارثا سواه.. فإنه يبحث عن حال الميت: هل له وارث غيره أم لا؟ ثم يدفع إليه المال، وهل يؤخذ منه ضمين؟ فيه قولان. والوجه الثاني: أن يجعل حكم المفقود مع الورثة الموجودين حكم الميت، لأنا لا نعلم للميت وارثا غير الموجودين في الظاهر، فحكم لهم بجميع الميراث، وإمكان أن يكون المفقود حيا لا يمنع من القضاء في الظاهر في هذا الوقت، كما لم يمنع إمكان أن يتبين في الغرقى من مات أولا في أن يورث الأحياء من ورثهم. فعلى هذا: يدفع إلى الزوج النصف عائلاً وهو ثلاثة أسهم من سبعة، ويدفع إلى الأختين الثلثان عائلا وهو أربعة من سبعة. وهل يؤخذ من الأختين ضمين مما جاوز الربع؟ على قولين. والله أعلم بالصواب

باب ميراث أهل الفرض

[باب ميراث أهل الفرض] والفروض المذكورة في كتاب الله تعالى ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس. وإن شئت، قلت: النصف ونصفه ونصف نصفه، والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما. وأهل الفروض عشرة: الزوج، والزوجة، والأم، والجدة، والبنت، وبنت الابن، والأخت، وولد الأم، والأب مع الابن أو ابن الابن، والجد مع الابن أو ابن الابن. فأما (الزوج) : فله فرضان، النصف مع عدم الولد أو ولد الابن، والربع مع وجود الولد أو ولد الابن وإن سفل ذكرا كان الولد أو أنثى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} [النساء: 12] [النساء: 12] . وأما (الزوجة) : فلها الربع من زوجها إذا لم يكن له ولد ولا ولد ابن وإن سفل، ولها منه الثمن إذا كان له ولد أو ولد ابن وإن سفل، ذكرا كان الولد أو أنثى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] [النساء: 12] . وللزوجتين والثلاث والأربع ما للزوجة الواحدة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ} [النساء: 12] [النساء: 12] وهذا لفظ جمع. وإنما كان للزوجة نصف ما كان للزوج عند عدم الولد وعند وجوده، لأن الأنثى ترث نصف ميراث الذكر. [مسألة: ميراث الأم] ] : فأما (الأم) : فلها ثلاثة فروض: الثلث، أو السدس، أو ثلث ما يبقى، ولها سبع أحوال.

أحدها: أن يكون معها ولد ذكر أو أنثى، أو ولد ابن ذكر أو أنثى وإن سفل.. فلها السدس، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] [النساء: 11] . الحالة الثانية: أن لا يكون مع الأم ولد، ولا ولد ابن، ولا أحد من الإخوة والأخوات.. فللأم الثلث، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] [النساء: 11] . الحالة الثالثة: أن يكون مع الأم ثلاثة إخوة أو ثلاث أخوات أو منهما.. فلها السدس، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] [النساء: 11] ، وقَوْله تَعَالَى: {لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] لفظ جمع، وأقل الجمع ثلاثة. الحالة الرابعة: أن يكون مع الأم أخ أو أخت.. فلها الثلث أيضاً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] [النساء: 11] . فحجبها عن الثلث إلى السدس بالإخوة وذلك جمع، ولا خلاف: أن الواحد ليس بجمع. الحالة الخامسة: أن يكون مع الأم اثنان من الإخوة أو الأخوات، أو منهما.. فللأم السدس. وبه قال عامة الصحابة والفقهاء أجمع، إلا ابن عباس، فإنه قال: (لها الثلث) ، وله خمس مسائل في الفرائض انفرد بها، هذه إحداهن. دليلنا: أنه حجب لا يقع بواحد وينحصر بعدد، فوجب أن يوقف على اثنين. أصله حجب بنات الابن بالبنات. فقولنا: (حجب لا يقع بواحد) احتراز من حجب الزوج والزوجة، فإنه يقع بالواحد من الأولاد. وقولنا: (ينحصر بعدد) احتراز من حجب البنين للبنات، والإخوة للأخوات، لأن الابنة فرضها النصف والأخت فرضها النصف، وإذا حصل مع أحدهما أخوها.. حجبها من النصف، ولكن لا ينحصر هذا الحجب بعدد، بل كلما كثر الإخوة حجبوها

أكثر. ولأنا وجدنا الاثنين من الأخوات كالثلاث في استحقاق الثلثين.. فوجب أن يكون حجب الاثنين من الإخوة للأم حجب الثلاثة. وروي: (أن ابن عباس دخل على عثمان، فقال له: قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] . وليس الأخوان إخوة بلسان قومك، فقال عثمان: لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي، وانتشر في الأمصار وتوارث به الناس) ، فدل بهذا: أنهم قد أجمعوا على ذلك. الحالة السادسة: إذا كان هناك زوج وأبوان.. قال أصحابنا: فللزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب الباقي. وأصلها من ستة: للزوج ثلاثة، وللأم ثلث ما بقي- وهو سهم - وللأب سهمان. وقال القاضي أبو الفتوح بن أبي عقامة: للأم هاهنا السدس ولا يقال: لها ثلث ما بقي. قلت: ومعنى العبارتين واحد، لأن العبارة الأولى هي المشهورة. وبه قال عامة الصحابة والفقهاء. وقال ابن عباس: (للزوج النصف، وللأم ثلث جميع المال، وللأب ما بقي، وأصلها من ستة: للزوج ثلاثة، وللأم سهمان، وللأب سهم) . وتابعه على هذا شريح.

مسألة: ميراث الجدات

الحالة السابعة: إذا كان زوجة وأبوان.. فللزوجة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وللأب ما بقي. وأصلها من أربعة: للزوجة سهم، وللأم ثلث ما بقي وهو سهم، وللأب ما بقي وهو سهمان. وبه قال عامة الصحابة وأكثر الفقهاء. وقال ابن عباس: (للزوجة الربع، وللأم ثلث جميع المال، وللأب ما بقي، وأصلها من اثني عشر: للزوجة الربع ثلاثة، وللأم أربعة، وللأب خمسة) . وهاتان المسألتان من المسائل التي انفرد بها ابن عباس عن الصحابة وتابعه على هذه من التابعين شريح وابن سيرين. ودليلنا: أن في الأولى يؤدي إلى تفضيل الأم على الأب، وهذا لا يجوز. ولأنهما أبوان معهما ذو سهم، فوجب أن يكون للأم ثلث ما بقي بعد ذلك السهم، كما لو كان مع الأبوين بنت. ولأن كل ذكر وأنثى لو انفرد.. لكان للذكر الثلثان وللأنثى الثلث، فوجب إذا كان معهما زوج أو زوجة أن يكون ما بقي بعد فرض الزوج أو الزوجة بينهما كما كان بينهما إذا انفردا، كالابن والابنة والأخ والأخت. [مسألة: ميراث الجدات] وأما الجدة أم الأم وأم الأب: فإنها وارثة، لما روى عبد الله بن بريدة، عن أبيه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطعم الجدة السدس إذا لم يكن دونها أم» . وروى بلال بن الحارث: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى الجدة أم الأم السدس» .

وأجمعت الأمة: على توريث الجدة. إذا ثبت هذا: فإن فرضها السدس، سواء كانت أم الأم أو أم الأب. وبه قال كافة الصحابة والفقهاء. وروي عن ابن عباس رواية شاذة: أنه قال: (أم الأم ترث الثلث، لأنها تدلي بالأم فورثت ميراثها، كالجد يرث ميراث الأب) . ودليلنا: ما ذكرناه من الخبرين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وروى قبيصة بن ذؤيب: (أن جدة أتت أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تطلب ميراثها، فقال أبو بكر: ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس، ثم سأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد أعطاها السدس، فقال أبو بكر: من يشهد معك؟ فقام محمد بن مسلمة وشهد بمثل ما شهد المغيرة، فأنفذه أبو بكر، ثم أتت الجدة الأخرى إلى عمر تطلب ميراثها، فقال: ما لك في كتاب الله شيء، وما كان ذلك القضاء الذي قضى به إلا لغيرك، ولست بزائد في الفرائض، وإنما هو ذلك السدس، فإن اجتمعتما.. فهو بينكما، وأيكما خلت به.. فهو لها) . قال الشيخ أبو حامد: والجدة التي أتت أبا بكر هي أم الأم، والجدة التي أتت عمر هي أم الأب.

ومعنى قول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ما لك في كتاب الله شيء) : أن الكتاب محصور، وليس فيه ذكر الجدة، ولهذا قلنا: إن اسم الأم لا يطلق على الجدة، لأنه قال: (ما لك في الكتاب شيء) ، وفي الكتاب ذكر الأم، ثم قال: (وما علمت لك في السنة شيئاً) ، فلم يقطع به، لأن السنة لا تنحصر، ولكن أراد على مبلغ علمه. ومعنى قول عمر: (لست بزائد في الفرائض) أي: لا أزيد في الفريضة لأجلك، وإنما هو ذلك السدس الذي قضى به. وأما الاحتجاج بقول ابن عباس: لما كانت تدلي بالأم أخذت ميراثها.. فيبطل بالأخ من الأم، فإنه يدلي بها ولا يأخذ ميراثها. إذا ثبت هذا: فإن أول منازل الجدات يجتمع فيه جدتان، وهي: أم الأم وأم الأب. فإن عدمت إحداهما ووجدت الأخرى.. كان السدس للموجودة منهما، وإن اجتمعتا.. كان السدس بينهما. قال الشيخ أبو إسحاق: لما روى الحكم عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى الجدتين السدس» . وروى القاسم بن محمد، قال: (أتت الجدتان- أم الأم وأم الأب - أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأعطى أم الأم السدس، ولم يعط أم الأب شيئاً، فقال له رجل من الأنصار: ورثتها عمن لو ماتت لم يرثها، ولم تورثها عمن لو ماتت.. لورثها! فأشرك أبو بكر بينهما السدس) . قال الشيخ أبو حامد: وأصحابنا يحكمون أن هذه القضية كانت لعمر، وإنما هي قضية أبي بكر.

ومعنى قول الأنصاري: (ورثتها عمن لو ماتت.. لم يرثها) أي: أن أم الأم ورثتها عن ابن ابنتها، فهذه الجدة لو ماتت.. لم يرثها ابن بنتها، ولم ترث أم الأب عمن لو ماتت.. لورثها، لأنه ابن ابنها. فإذا ارتفعت الجدات إلى المنزلة الثانية.. اجتمعن أربع جدات: اثنتان من جهة الأم، وهما: أم أم الأم، وأم أبي الأم، واثنتان من جهة الأب، وهما: أم أم الأب، وأم أبي الأب. فأما أم أم الأم، وأم أم الأب: فهما وارثتان بلا خلاف، وأما أم أبي الأم: فإنها غير وارثة. وهو قال كافة الفقهاء، إلا ما روي عن ابن سيرين: أنه ورثها. وهذا خطأ، لأنها تدلي بمن ليس بوارث، فلم تكن وارثة، كابنة الخال. وأما الجدة أم أبي الأب..فهل ترث؟ فيه قولان: أحدهما: لا ترث - وهي إحدى الروايتين عن زيد بن ثابت، وبه قال أهل الحجاز: الزهري وربيعة ومالك - لأنها جدة تدلي بجد.. فلم ترث، كأم أبي الأم. فعلى هذا: لا ترث قط إلا جدتان. والثاني: أنها ترث، وبه قال علي وابن مسعود وابن عباس، وهي إحدى الروايتين عن زيد بن ثابت، وبه قال الحسن البصري وابن سيرين، وأهل الكوفة والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وهو الصحيح، لأنها جدة تدلي بوارث فورثت، كأم الأم. ولأن تعليل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - موجود فيها، حيث قيل لأبي بكر في أم الأب: ورثتها عمن لو ماتت: لم يرثها، ولم تورثها عمن لو ماتت.. لورثها! فورثها أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لهذه العلة، وهي موجودة في أم أبي الأب.

فعلى هذا: ترث في الدرجة الثانية ثلاث جدات. فإذا ارتفعت الجدات إلى الدرجة الثالثة.. اجتمع ثماني جدات، فترث منهن أربع ولا ترث أربع. وإنما كان كذلك، لأن الميت واحد فله في المنزلة الأولى جدتان، فإذا ارتفعن إلى الدرجة الثانية.. كان للميت أبوان، ولكل واحد منهما جدتان، فلذلك قلنا: له في الدرجة الثانية أربع جدات، فإذا ارتفعن إلى الدرجة الثالثة.. كان له جدان وجدتان، لكل واحد منهما جدتان، فيجتمع له في الدرجة الثالثة ثماني جدات. ثم في الرابعة ست عشرة جدة، وكلما ارتفع الميت درجة.. ازداد عدد الجدات ضعفاً. وأما الوارثات منهن: فترث في الدرجة الأولى جدتان، وفي الثانية ثلاث، وفي الثالثة أربع، وفي الرابعة خمس، إلى أن ترثه مائة جدة في الدرجة التاسعة والتسعين؛ لأن عدد الجدات الوارثات يزيد عن عدد الدرجات بواحدة. وإذا اجتمعن الجدات الوارثات وهن متحاذيات.. كان السدس بينهن، لما ذكرناه في الجدتين: أم الأم، وأم الأب. وإن اجتمع جدتان، إحداهما أبعد من الأخرى.. نظرت: فإن كانتا من جهة واحدة، بأن كان هناك أم أم، وأم أم أم.. كان السدس لأم الأم، لأن البعدى تدلي بهذه القربى، وكل من أدلى بغيره.. فإنه لا يشاركه في فرضه، كالجد مع الأب، وابن الابن مع الابن. وعلى هذا جميع الأصول. فإن قيل: أليس الأخ للأم يدلي بالأم، ومع ذلك فإنه يرث معها؟ فالجواب: أنه لا يرث أخاه بالإدلاء إليه بالأم، ولكن لأجل أنه ركض معه في رحم واحد، لأنه وإن أدلى بها.. فقد احترزنا عنه بقولنا: (لا يشاركه في إرثه) ، وهو: أن السدس إرث للقربى لو انفردت، فلو ورثت الجدة البعدى.. لشاركتها في ذلك السدس، وليس كذلك الأخ للأم، فإنه لا يشارك أمه في إرثها، بل تأخذ حقها ويأخذ هو حقه. وإن اجتمع أم أب، وأم أبي الأب.. فإن السدس يكون لأم الأب، وتسقط أم أبي الأب. وبه قال علي وزيد، والفقهاء أجمع.

وقال ابن مسعود - في إحدى الروايتين عنه-: (يشتركان في السدس) . وهذا ليس بصحيح، لأنهما من جهة واحدة، لأنهما يدليان بالأب، وإحداهما أقرب من الأخرى، فسقطت البعدى منهما بالقربى، كأم الأم إذا اجتمعت مع أم أم الأم. وإن كانتا من جهتين: إحداهما من جهة الأم، والأخرى من جهة الأب.. نظرت: فإن كانت القربى من جهة الأم، والبعدى من جهة الأب.. فإن القربى تسقط البعدى. وقال ابن مسعود: (لا تسقطها، وإنما يشتركان في السدس) . دليلنا: أن إحداهما أقرب من الأخرى فسقطت البعدى بالقربى، كما لو كانتا من جهة واحدة. وإن كانت القربى من جهة الأب، والبعدى من جهة الأم.. ففيه قولان: أحدهما: أن البعدى منهما تسقط بالقربى- وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو قول أهل الكوفة، ورووا ذلك عن زيد بن ثابت - لأنهما جدتان لو انفردت كل واحدة منهما.. لكان لها السدس، فإذا اجتمعتا.. وجب أن تسقط البعدى بالقربى، كما لو كانت القربى من جهة الأم. والثاني: لا تسقط البعدى بالقربى، بل تشتركان في السدس - وهي الرواية الثانية عن زيد، رواها المدنيون عنه- وهو الصحيح، لأن الأب لو اجتمع مع أم الأم.. لم يحجبها وإن كان أقرب منها، فلأن لا تسقط الجدة التي تدلي به من هو أبعد من جهة الأم أولى.

فرع: اجتماع جدتين متحاذيتين إحداهما تدلي بسبب والأخرى باثنين

[فرع: اجتماع جدتين متحاذيتين إحداهما تدلي بسبب والأخرى باثنين] وإن اجتمعت جدتان متحاذيتان، وإحداهما تدلي بقرابة والأخرى تدلي بقرابتين، بأن يتزوج رجل بابنة عمته فيولد منها ولدا، فإن جدة هذا الولد أم أبي أبيه، وهي جدته أم أم أمه، فإن اجتمع معها أم أم أبي هذا الولد.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي العباس، وبه قال الحسن بن صالح ومحمد بن الحسن وزفر - أن السدس يقسم بين هاتين الجدتين على ثلاثة، فتأخذ التي تدلي بولادتين سهمين، لأنها تدلي بسببين، وتأخذ التي تدلي بولادة سهماً، لأنها تدلي بسبب واحد. والثاني: يقسم السدس بينهما نصفين - وبه قال أبو يوسف - وهو الصحيح، لأنها شخص واحد، فلا يأخذ فرضين. [مسألة: ميراث البنت] ] : وأما (البنت) : فلها النصف، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] [النساء: 11] ، و: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] [النساء: 176] . وبه قال كافة الصحابة والفقهاء. وروي عن ابن عباس رواية شاذة: أنه قال: (للابنتين النصف) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] [النساء: 11] . ودليلنا: ما روى جابر: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعها ابنتان لها، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما يوم أحد، وقد أخذ عمهما

مسألة: ميراث ابنة الإبن

مالهما، ولم يعطهما شيئاً، ووالله إنهما لا ينكحان ولا مال لهما، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يقضي الله في ذلك "، فنزل قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] الآية [النساء: 11] ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ادع لي المرأة وصاحبها " فدعوتهما، فقال للعم: " أعط الابنتين الثلثين، وأعط للأم الثمن، وما بقي.. فلك» ، فدل على أن للابنتين الثلثين. ولأن الآية وردت على سبب، وهو: ابنتا سعد بن الربيع، فلا يجوز إخراج السبب عن حكم الآية. وأيضاً: فإن الله عز وجل فرض للابنة الواحدة النصف، وفرض للأخت الواحدة النصف في آية أخرى، وجعل حكمهما واحدا، ثم جعل للأختين الثلثين، ووجدنا أن البنات أقوى من الأخوات، بدليل: أن البنات لا يسقطن مع الأب ولا مع البنين، والأخوات يسقطن مع الأب والبنين. فإذا كان للأختين الثلثان.. فالابنتان بذلك أولى. وأما الجواب عن قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] فإن قَوْله تَعَالَى: فوق صلة في الكلام، كقوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] [الأنفال: 12] أي: فاضربوا الأعناق. وإن كن البنات أكثر من اثنتين.. فلهما الثلثان، للآية والإجماع. [مسألة: ميراث ابنة الإبن] ] : وأما (ابنة الابن) : فلها النصف إذا انفردت، ولابنتي الابن فصاعدا الثلثان،

فرع: اجتماع ابنة وابنة ابن أو أكثر

لأن الأمة أجمعت: أن ولد البنين يقومون مقام الأولاد، ذكورهم كذكور الأولاد، وإناثهم كإناثهم. [فرع: اجتماع ابنة وابنة ابن أو أكثر] ] : وإن اجتمع ابنة وابنة ابن.. كان للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين؛ لما روى هذيل بن شرحبيل الأودي: أن رجلا سأل أبا موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة عن رجل مات وخلف بنتا وبنت ابن وأختا، فقالا: للابنة النصف، وللأخت النصف، واذهب إلى عبد الله فإنه سيتابعنا. فأتى ابن مسعود فأخبره بقولهما، فقال ابن مسعود: (قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين) يعني: إن أفتيت بقولهما، ثم قال: (لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، والباقي للأخت) . فأخبر: أن هذا قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولأن بنات الابن يرثن فرض البنات، ولم يبق من فرض البنات إلا السدس.. فكان لابنة الابن السدس. وإن ترك ابنة وبنات ابن.. كان للابنة النصف، ولبنات الابن السدس؛ لأنه هو الباقي عن فرض البنات. وهكذا: لو ترك بنتا وبنت ابن ابن، أو بنات ابن ابن ابن بدرج.. كان للابنة النصف، ولمن بعدها من بنات الابن وإن بعدن السدس إذا تحاذين. وإن كان بعضهن أعلى من بعض.. كان السدس لمن علا منهن.

فرع: اجتماع ابنتين وابنة ابن أو بنات ابن

[فرع: اجتماع ابنتين وابنة ابن أو بنات ابن] وغير ذلك] : وإن كان هناك ابنتان وابنة ابن أو بنات ابن ولا ذكر معهن.. كان للابنتين الثلثان، ولا شيء لابنة الابن ولا لبنات الابن، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] [النساء: 11] ، ففرض للبنات الثلثين فدل على: أنه لا شيء لهن غير ذلك. وإن ترك ابنتين وابنة ابن وابن ابن.. كان للابنتين الثلثان، وما بقي: بين ابن الابن وابنة الابن، للذكر مثل حظ الأنثيين. وبه قال عامة الصحابة والفقهاء، إلا ابن مسعود، فإنه قال: (ما بقي لابن الابن دون ابنة الابن) . دليلنا: أن كل ذكر وأنثى لو انفردا كان المال بينهما ثلثا وثلثين.. وجب إن كان معهما ذو سهم أن يكون الباقي بينهما كذلك، كما لو كان معهما زوج. وإن ترك ابنة وبنات ابن وابن ابن.. فللابنة النصف، والباقي لبنات الابن وابن الابن، للذكر مثل حظ الأنثيين. وبه قال عامة الصحابة والفقهاء. وقال ابن مسعود: (لبنات الابن الأقل من المقاسمة أو السدس، فإن كان السدس أقل.. كان لهن السدس، والباقي لابن الابن، وإن كانت المقاسمة أقل من السدس.. فلهن المقاسمة) . ودليلنا عليه: ما ذكرناه في الأولى. [فرع: اجتماع بنت وابن ابن وبنت ابن ابن] وغير ذلك] : فإن خلف بنتا وابن ابن وبنت ابن ابن.. فللبنت النصف، والباقي لابن الابن، ويسقط بنت ابن الابن، لأنه أقرب منها.

مسألة: ميراث الأخوات الشقيقات

وإن خلف بنتين وبنت ابن وابن ابن ابن.. كان للابنتين الثلثان، والباقي بين بنت الابن وابن ابن الابن، للذكر مثل حظ الأنثيين. وقال بعض الناس: الباقي لابن ابن الابن وتسقط بنت الابن. ودليلنا: أنا وجدنا أن بنت الابن لو كانت في درجة ابن ابن الابن.. لم تسقط معه، بل يعصبها، فلما لم يسقطها إذا كانت في درجته.. فلأن لا يسقطها إذا كانت أعلى منه أولى. وإن خلف بنتا وبنات ابن وابن ابن ابن.. كان للبنت النصف، ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي لابن ابن الابن، لأن من فوقه من بنات الابن قد أخذن شيئاً من فرض البنات، فلا يجوز أن يرثن بالتعصيب، فكان الباقي له دونهن. [مسألة: ميراث الأخوات الشقيقات] مسألة: [الأخوات الشقيقات] : وأما (الأخوات للأب والأم) : فترتيبهن كترتيب البنات. فإن خلف أختا واحدة.. فلها النصف. وإن خلف أختين فصاعداً.. فلهن الثلثان، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] [النساء: 176] . وليس في الآية ذكر ثلاث أخوات فما زاد، ولكن قد ذكر في البنات إذا كن فوق اثنتين:، فلم يذكر الثلاث في الأخوات اكتفاء بما ذكره في البنات، كما أنه لم يذكر ما للابنتين اكتفاء بما ذكره للأختين، لأن حكم البنات والأخوات واحد. وأيضاً: «فروى جابر قال: اشتكيت وعندي سبع أخوات، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعودني، فقلت: يا رسول الله، كيف أصنع بمالي، وليس يرثني إلا

فرع: ميراث الأخوات لأب مع الشقيقات

كلالة؟ فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم رجع، فقال: " قد أنزل الله في أخواتك وبين، فجعل لهن الثلثين» قال جابر: في نزل قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] الآية [النساء: 176] . فذكر: أن الآية نزلت في أخواته وهن سبع، وإنما وردت باثنتين، فدل على: أن المراد بالآية الاثنتان وما زاد عليهما. [فرع: ميراث الأخوات لأب مع الشقيقات] ] : وأما الأخوات للأب: فإنهن مع الأخوات للأب والأم كبنات الابن مع البنات، لأنهن قد تساوين في الأخوة، إلا أن الأخوات للأب والأم فضلن بالإدلاء بالأم، فكن كالبنات فضلن على بنات الابن. إذا ثبت هذا: فإن لم يكن هناك أحد من الإخوة للأب والأم، وهناك أخت واحدة لأب.. فلها النصف، وإن كانتا أختين فصاعداً.. فلهما الثلثان. وإن كان هناك أخت واحدة لأب وأم وأخت لأب.. كان للأخت للأب والأم النصف، وللأخت للأب السدس قياساً على ابنة الابن مع ابنة الصلب.

فرع: ترك ابنة وأختا وغير ذلك

وإن كان هناك أخت لأب وأم، وأخ وأخت لأب.. كان للأخت للأب والأم النصف، وللأخ والأخت للأب الباقي، للذكر مثل حظ الأنثيين. وإن خلف أختين لأب وأم وأختا لأب.. كان للأختين للأب والأم الثلثان، ولا شيء للأخت للأب، لأنه لا يجوز أن تأخذ الأخوات بالفرض أكثر من الثلثين. وإن خلف أختين لأب وأم، وأخا وأخوات لأب.. فللأختين للأب والأم الثلثان، وما بقي للأخ والأخوات للأب، للذكر مثل حظ الأنثيين. وبه قال كافة الصحابة والفقهاء، إلا ابن مسعود، فإنه قال: (لهن الأقل من المقاسمة، أو سدس المال) ، وقد مضى الدليل عليه في ذلك في بنات الابن. وإن خلف أختين لأب وأم، وأختا لأب، وابن أخ لأب وأم، أو لأب.. فللأختين للأب والأم الثلثان، والباقي لابن الأخ ولا يعصب الأخت للأب. والفرق بينه وبين ابن ابن الابن - حيث عصب عمته - أن ابن ابن الابن يعصب أخته، فعصب عمته، وابن الأخ لا يعصب أخته، فلم يعصب عمته. [فرع: ترك ابنة وأختا وغير ذلك] ] : وإن خلف ابنة وأختا لأب وأم أو لأب، أو ابنة ابن وأختا لأب وأم أو لأب.. كان للابنة أو لابنة الابن النصف، وما بقي للأخت. وهكذا: إن خلف ابنتين، وأختا لأب وأم أو لأب.. كان للابنتين الثلثان، وللأخت ما بقي. وإن خلف ابنة وابنة ابن، وأختا لأب وأم أو لأب.. كان للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، وللأخت ما بقي. وكذلك إن كان في هذه المسائل مع الأخت ابن أخ، أو عم.. فإن ما بقي عن فرض البنات للأخت دون ابن الأخ والعم.

وبه قال كافة الصحابة والفقهاء، إلا ابن عباس، فإنه لم يجعل للأخت مع البنت ولا مع ابنة الابن شيئا، بل جعل ذلك لابن الأخ أو للعم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] [النساء: 176] . فورث الأخت بشرط أن لا يكون للميت ولد. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبقت الفرائض.. فلأولى عصبة ذكر» . ودليلنا: ما ذكرناه من حديث هزيل بن شرحبيل حيث قال ابن مسعود: (لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، وللأخت ما بقي) . وأما الجواب عن قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] [النساء: 176] : فإن الآية تدل على أنه لا فرض لها إذا كان للميت ولد ونحن نقول كذلك، لأن هذا النصف الذي تأخذه مع عدم الولد تأخذه بالفرض، وهذا الذي تأخذه مع وجود الولد تأخذه بالتعصيب، بدليل ما ذكرناه من الخبر. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبقت الفرائض.. فلأولى عصبة ذكر» : فنحمله إذا لم يكن

مسألة: ميراث ولد الأم أو الإخوة والأخوات لأم

هناك أخوات، بدليل ما ذكرناه من الخبر، ولأن للأخت تعصيباً ولابن الأخ تعصيباً، وتعصيب الأخت أولى، لأنها أقرب من ابن الأخ، والعم وابن العم. [مسألة: ميراث ولد الأم أو الإخوة والأخوات لأم] ] : وأما (ولد الأم) : فللواحد منهم السدس، ذكراً كان أو أنثى، وللأنثيين منهم فما زاد الثلث ويسوى فيه بين الذكر والأنثى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] [النساء: 12] . وهذه الآية نزلت في الإخوة والأخوات للأم، بدليل: ما روي: أن سعد بن أبي وقاص وابن مسعود كانا يقرآنها: (وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السدس) والقراءة الشاذة تحل محل الإخبار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو التفسير، فيجب العمل به. ولأن إرث الإخوة للأم إرث بالرحم المحض ولا تعصيب لهم، فاستوى ذكرهم وأنثاهم، كالأبوين مع الابن. [مسألة: ميراث الأب] ] : وأما (الأب) : فله ثلاث حالات: حالة يرث فيها بالفرض لا غير. وحالة يرث فيها بالتعصيب لا غير. وحالة يرث فيها بالفرض والتعصيب. فأما الحالة التي يرث فيها بالفرض لا غير فهي: إذا كان الأب مع الابن أو ابن الابن.. فإن فرض الأب السدس، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] [النساء: 11] ، والمراد بالولد هاهنا الذكر. وأما الحالة التي يرث فيها بالتعصيب لا غير فتنقسم قسمين:

فرع: ميراث الجد

أحدهما: ينفرد بجميع المال، وهو: إذا لم يكن معه من له فرض، بأن كان وحده. والثاني: يأخذ بعض المال بالتعصيب، وهو: إذا كان معه من له فرض غير الابنة، مثل: أن كان معه أم، أو أم أم، أو زوج، أو زوجة.. فإنه يأخذ ما بقي عن فرض هؤلاء بالتعصيب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] [النساء: 11] ، فأضاف المال إلى الأبوين، ثم قطع للأم منه الثلث ولم يذكر حكم الباقي، فدل على أن جميعه للأب. وأما الحالة الثالثة التي يرث فيها بالفرض والتعصيب فهي: إذا كان هناك أب وابنة، أو ابنة ابن.. فإن للأب السدس بالفرض، وللابنة أو لابنة الابن النصف، والباقي للأب بالتعصيب. وقيل: إن رجلاً سأل الشعبي عن رجل مات وخلف بنتاً وأباً، فقال له: للابنة النصف والباقي للأب، فقال له: أصبت المعنى وأخطأت العبارة، قل: للأب السدس، وللابنة النصف، والباقي للأب. وهكذا: لو خلف ابنتين وأبا، أو ابنة وابنة ابن وأبا.. فللأب السدس، وللابنتين الثلثان، والباقي للأب. [فرع: ميراث الجد] ] : وأما (الجد) : ففرضه السدس مع الابن أو ابن الابن، لاجتماع الأمة على ذلك.

مسألة: سقوط الجدات بالأم

وإن مات رجل وخلف جداً وابنة، أو ابنة ابن.. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\370] : فمن أصحابنا من قال: للجد السدس بالفرض، وللابنة أو ابنة الابن النصف، والباقي للجد بالتعصيب، كما قلنا في ابنة وأب. ومنهم من قال: يجوز أن يقال: للابنة النصف والباقي للجد بالتعصيب. [مسألة: سقوط الجدات بالأم] وحجب الأب كل من يرث بالأبوة] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يرث مع الأب أبواه، ولا مع الأم جدة) . وجملة ذلك: أن الأم تحجب الجدات من جهتها ومن جهة الأب؛ لما روى عبد الله بن زيد: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطعم الجدة السدس إذا لم يكن دونها أم» ، فشرط في إرث الجدة إذا لم يكن هناك أم، فدل على: أنه إذا كان هناك أم.. أنه لا شيء للجدة.. ولأن أم الأم تدلي بالأم ومن أدلى بشخص.. لم يشاركه في الميراث، كابن الابن مع الابن. وأما أم الأب: فلأن الأم أقرب منها، فلم تشاركها في الميراث، كالعم لا يشارك الأخ. وأما الأب: فإنه لا يرث معه أبوه، لأن الجد يدلي بالأب، ومن أدلى بعصبة..

لم يشاركه في الميراث، كابن الابن لا يشارك الابن. وكذلك لا يرث مع الأب أحد من أجداده، لما ذكرناه في الجد. ولا يحجب الأب أم الأم، لأنها تدلي بالأم، والأب لا يحجب الأم، فلم يحجب أمها، كما لا يحجب الأب ابن الابن. وكذلك أم الأم ترث مع الجد، لأن الأب إذا لم يحجبها.. فلأن لا يحجبها الجد أولى. وكذلك الجد لا يحجب أم الأب، لأنها تساويه في الدرجة والإدلاء إلى الميت. قال أصحابنا: وجميع هذه المسائل في الحجب لا خلاف فيها، وأما الأب، فهل يحجب أم نفسه؟ اختلف الناس فيه: فذهب الشافعي إلى: (أنه يحجبها) . وبه قال من الصحابة: عثمان، وعلي، وزيد بن ثابت. ومن التابعين: شريح. ومن الفقهاء: الأوزاعي، والليث، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه. وذهب عمر بن الخطاب، وابن مسعود،

وأبو موسى، وعمران بن الحصين إلى: (أنه لا يحجبها، بل ترث معه من ولده) . وبه قال أحمد، وإسحاق، وابن جرير الطبري، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورث امرأة من ثقيف مع ابنها» . ودليلنا: أنها تدلي بولدها، فلم تشاركه في الميراث، كأم الأم لا ترث مع الأم. وأما الخبر في الجدة التي ورثت مع ابنها: فيجوز أن يكون لها ابنان مات أحدهما وخلف ابنا، ثم مات ابن ابنها وخلف عمه وجدته، أو يجوز أن يكون الابن كافراً أو قاتلاً أو مملوكاً. إذا ثبت هذا: فمات رجل وخلف أباه وأم أمه وأم أبيه.. فإن البغداديين من أصحابنا قالوا: لأم الأم السدس والباقي للأب. وقال المسعودي [في " الإبانة " ق \ 369] فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: أن الجدة أم الأب تحجب أم الأم عن نصف السدس، ويأخذه الأب مع باقي المال. ووجهه: أنهما لو اجتمعا.. لشاركتها في نصف السدس واستحقته، فإذا كان هناك الأب.. استحق ما كانت تستحقه، لأنها تدلي به. والأول هو المشهور. ولا ترث ابنة الابن مع الابن، لما ذكرناه في أم الأب مع الأب.

مسألة: سقوط الإخوة والأخوات لأم بأربعة

[مسألة: سقوط الإخوة والأخوات لأم بأربعة] ] : وأما الإخوة والأخوات للأم: فيسقطون عن الإرث مع أحد أربعة: مع الأب، أو الجد الوارث، أو مع الولد ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر، أو مع ولد البنين سواء كان ولد الابن ذكرا أو أنثى واحدا كان أو أكثر. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] [النساء: 12] فورثهم بالكلالة، و (الكلالة) هو: من لا ولد له ولا والد، والدليل عليه: الكتاب والسنة والإجماع، واللغة. أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] [النساء: 176] فنص: أن الكلالة من لا ولد له، والاستدلال من الآية: أن الكلالة أيضا من لا والد ولا ولد له؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] [النساء: 176] فورث الأخت نصف مال الأخ، وورث الأخ جميع مال الأخت إذا لم يكن لها ولد، والأخت إنما ترث من أخيها النصف إذا لم يكن له والد، وكذلك الأخ لا يرث جميع مال الأخت إلا إذا لم يكن لها ولد ولا والد. وأما السنة: فما روي: «أن جابرا قال: (قلت: يا رسول الله كيف أصنع بمالي، وإنما ترثني كلالة؟ ولم يكن له ولد ولا والد، فأقره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك» . وأما الإجماع: فروي عن أبي بكر، وابن مسعود، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (الكلالة من لا ولد له ولا والد) . ولا مخالف لهم. وأما اللغة: فإن الكلالة مأخوذة من الإكليل، والإكليل: إنما يحيط بالرأس من

مسألة: سقوط ولد الأب والأم بثلاثة وولد الأب بأربعة

الجوانب ولا يعلو عليه ولا ينزل عنه، والأب يعلو الميت، وولده ينزل عنه، وكذلك الكلالة تحيط بالميت من الجوانب ولا تعلو عليه ولا تنزل عنه، ولهذا قال الشاعر يمدح بني أمية: ورثتم قناة الملك لا عن كلالة ... عن ابني مناف عبد شمس وهاشم يقول: لم ترثوا الملك عمن هو مثلكم، وإنما ورثتموه عمن هو أعلى منكم عثمان بن عفان جدكم، وعثمان ورثه عن جده عبد شمس، وعبد شمس ورثه عن هاشم جد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مسألة: سقوط ولد الأب والأم بثلاثة وولد الأب بأربعة] ] : ولا ترث الإخوة والأخوات للأب والأم مع أحد ثلاثة: مع الأب أو مع الابن أو ابن الابن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء: 176] [النساء: 176] فورث الأخت من أخيها وورثه منها في الكلالة، وقد دللنا على: أن الكلالة من لا ولد له ولا والد، ثم دل الدليل على: أنهم يرثون مع البنات وبنات الابن ومع الجد، وبقي الأب والابن وابن الابن على ظاهر الآية. ولا ترث الإخوة والأخوات للأب مع أحد أربعة وهم: الأب والابن وابن الابن؛ لما ذكرناه، ولا مع الأخ للأب والأم؛ لأنه أقرب منهم. [مسألة: أنواع الحجب] ] : الحجب حجبان: حجب إسقاط، وحجب نقصان. فأما (حجب الإسقاط) فمثل: حجب الابن للإخوة والأخوات وبنيهم، والأعمام وبنيهم، ومثل: حجب الإخوة لبني الإخوة، وللإعمام وبنيهم، ومثل: حجب الأب للإخوة.

فرع: أبناء الإخوة لا يحجبون الأم ولا يرثون مع الجد

وأما (حجب النقصان) فمثل: حجب الولد للزوج من النصف إلى الربع، وحجب الولد للزوجة من الربع إلى الثمن، ومثل: حجب الأم من الثلث إلى السدس. إذا ثبت هذا: فإن جميع من ذكرنا ممن لا يرث من ذوي الأرحام، والكفار، والمملوكين، والقاتلين، ومن عمي موته.. فإنه لا يحجب غيره. وبه قال كافة الصحابة والفقهاء، إلا ابن مسعود، فإنه قال: (يحجبون حجب النقصان) ووافق: أنهم لا يحجبون حجب الإسقاط. ودليلنا: أن كل من لا يحجب حجب الإسقاط.. لا يحجب حجب النقصان، كابن البنت. ولأنه ليس بوارث فلم يحجب غيره، كالأجنبي. فإن قيل: الأخوان لا يرثان مع الأب ويحجبان الأم؟ فالجواب: أنهما وارثان، وإنما أسقطهما من هو أقرب منهما، وهؤلاء ليسوا بورثة في الجملة. [فرع: أبناء الإخوة لا يحجبون الأم ولا يرثون مع الجد] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وبنو الإخوة لا يحجبون الأم عن الثلث، ولا يرثون مع الجد) وهذا صحيح، فبنو الإخوة لا يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، سواء كانوا بني إخوة لأب وأم، أو لأب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] [النساء: 11] وبنو الإخوة ليسوا بإخوة حقيقة ولا مجازاً. فإن قيل: أليس لما حجبها الأولاد حجبها أولاد الأولاد.. فهلا قلتم لما حجبها الإخوة حجبها أولادهم؟ قلنا: الفرق بينهما: أن حجب الأولاد أقوى من حجب الإخوة، بدليل: أن الواحد من الأولاد يحجب الأم، فمن حيث قوي حجبه.. تعدى ذلك إلى لده، وحجب الإخوة أضعف، لأنه لا يحجبها إلا اثنان منهم عندنا، وعند ابن عباس لا يحجبها إلا ثلاثة، فمن حيث ضعف حجبهم.. لم يتعد حجبهم إلى أولادهم. ولأن كل من حجبه الولد.. حجه ولد الابن، لأن الولد يحجب الإخوة فحجبهم

مسألة تعول المسألة عند ضيق السهام

ولده، والولد يحجب الأب فحجبه ولده، وليس كذلك ولد الإخوة، فإنهم لا يحجبون من يحجب أبوهم، ألا ترى: أن الأخ للأب والأم يحجب الأخ للأب، ومعلوم: أن ابن الأخ للأب والأم لا يحجب الأخ للأب، بل الأخ للأب يسقط ابن الأخ للأب والأم؟ ولا يرث بنو الإخوة مع الجد، لأن الجد أقرب منهم فأسقطهم. [مسألة تعول المسألة عند ضيق السهام] ] : وإذا اجتمع أصحاب الفروض وتضايقت سهام المال عن أنصبائهم.. أعيلت الفريضة - أي -: زيد في حسابها ليدخل النقص على كل واحد منهم بقدر حقه. و (العول) هو: الرفع، يقال: عالت الناقة بذنبها - أي-: رفعت به. وإنما سمي عولًا للرفع في الحساب - أي - الزيادة فيه. إذا ثبت هذا: فأصول حساب الفرائض سبعة: الاثنان، والثلاثة، والأربعة، والستة، والثمانية، والاثنا عشر، والأربعة وعشرون. فأربعة من هذه الأصول لا تعول قط، وهي: الاثنان، والثلاثة، والأربعة، والثمانية. وثلاثة من هذه الأصول تعول، وهي: الستة، والاثنا عشر والأربعة وعشرون. فأما أصل الستة: فإنه يعول إلى سبعة وثمانية وتسعة وعشرة. فأما (التي تعول إلى سبعة) فهي: إذا ماتت امرأة وخلفت زوجاً وأختين لأب وأم.. فللزوج النصف - ثلاثة - وللأختين الثلثان - أربعة - فذلك سبعة. أو مات رجل وخلف أختين لأب وأم، وأختين لأم، وأما أو جدة.. فللأختين للأب والأم الثلثان- أربعة - وللأختين لأم الثلث - سهمان - وللأم أو الجدة السدس-

سهم - فذلك سبعة، فيتصور أن يكون الميت فيها رجلاً أو امرأة. وأما (التي تعول إلى ثمانية) فمثل: أن يكون هناك أختان لأب وأم، وأخ لأم، وزوج.. فللأختين للأب والأم الثلثان - أربعة - وللأخ للأم السدس- سهم - وللزوج النصف - ثلاثة -. وكذلك إذا خلفت زوجاً، وأختا لأب وأم أو لأب، وأما.. فللزوج النصف. ثلاثة - وللأخت النصف - ثلاثة - وللأم الثلث - سهمان. وتعرف هذه المسألة بالمباهلة، فإنها حدثت في أيام عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقضى فيها عمر كذلك، فأنكرها ابن عباس، وقال: (من شاء باهلته فيها) ، (والبهلة) : اللعنة. وأما (التي تعول إلى تسعة) فمثل: أن تموت امرأة وتخلف أختين لأب وأم، وأخوين لأم، وزوجاً.. فللأختين الثلثان - أربعة - وللأخوين للأم الثلث - سهمان - وللزوج النصف - ثلاثة. وأما (التي تعول إلى عشرة) فمثل: أن تموت امرأة وتخلف زوجاً، وأختين لأب

وأم، وأخوين لأم، وأما وجدة.. فللزوج النصف - ثلاثة - وللأختين للأب والأم الثلثان- أربعة - وللأخوين للأم الثلث-سهمان - وللأم أو الجدة السدس - سهم - فذلك عشرة وهي أكثر ما تعول إليه الفرائض، لأنها عالت بثلثيها. وتسمى: أم الفروخ، لكثرة ما فرخت وعالت به من السهام، وتسمى: الشريحية، لأنها حدثت في أيام شريح فقضى بها كذلك، وكان الزوج يقول: جعل لي شريح النصف، فلما كان وقت القسمة.. لم يعطني النصف ولا الثلث، فقال شريح: أراك رجلاً جائرا، تذكر الفتوى ولا تذكر القصة. وإذا عالت الفريضة إلى ثمانية أو تسعة أو عشرة.. فلا يحتمل أن يكون الميت ذكراً. وأما أصل الاثني عشر: فإنه يعول إلى ثلاثة عشر، وخمسة عشر، وسبعة عشر. فأما (التي تعول إلى ثلاثة عشر) فمثل: أن يموت رجل ويخلف زوجة، وأختين لأب وأم، وأما أو جدة.. فللأختين الثلثان- ثمانية- وللزوجة الربع- ثلاثة - وللأم أو الجدة السدس- سهمان. أو تموت امرأة وتخلف ابنتين، وزوجاً، وأما أو جدة.. فللابنتين الثلثان ثمانية - وللزوج الربع - ثلاثة - وللأم أو الجدة السدس - سهمان - فيتصور في التي تعول إلى ثلاثة عشر: أن يكون الميت رجلاً أو امرأة. وأما (التي تعول إلى خمسة عشر) فمثل: أن يكون هناك زوجة وأختان لأب وأم وأخوان للأم.. فللزوجة الربع- ثلاثة - وللأختين للأب- والأم الثلثان- ثمانية - وللأخوين للأم الثلث- أربعة -. أو تموت امرأة فتخلف زوجاً وابنتين وأبوين.. فللزوج الربع- ثلاثة - وللابنتين الثلثان- ثمانية - وللأبوين السدسان- أربعة - فيتصور أن يكون الميت فيها رجلاً أو امرأة. وأما (التي تعول إلى سبعة عشر) : فأن يكون هناك زوجة وأختان لأب وأم وأخوان لأم وأم أو جدة.. فللزوجة الربع- ثلاثة - وللأختين للأب، والأم الثلثان - ثمانية

- وللأخوين للأم الثلث- أربعة - وللأم أو الجدة السدس- سهمان- فذلك سبعة عشر، وهذا أكثر ما يعول إليه هذا الأصل، وتسمى: أم الأرامل، لأنه لا يتصور أن يكون الميت فيها إلا رجلاً. وأما أصل أربعة وعشرين: فإنه يعول إلى سبعة وعشرين لا غير، وهو: أن يكون هناك زوجة وابنتان وأبوان.. فللزوجة الثمن- ثلاثة - وللابنتين الثلثان- ستة عشر- وللأبوين السدسان - ثمانية - ولا يتصور أن يكون الميت فيها إلا رجلاً، وتسمى: المنبرية، لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سئل عنها وهو على المنبر، فقال: (صار ثمنها تسعاً) . إذا ثبت هذا: فقد قال بالعول كافة الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وذلك: (أنه حدث في أيام عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن امرأة ماتت وخلفت زوجاً، وأختا لأب وأم، وأما، فاستشار الصحابة فيها، فأشار العباس عليه بالعول، فقالوا: صدقت، وكان ابن عباس يومئذ صبياً، فلما بلغ.. أنكر العول، وقال: من شاء باهلته) . وروي عن عبيد بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنه قال: (التقيت أنا وزفر بن أوس الطائي، فذهبنا إلى ابن عباس وتحدثنا معه، فقال: إن الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يجعل في مال نصفاً ونصفاً وثلثاً، فالنصفان: ذهبا بالمال، فأين الثلث؟ فقال له زفر: من أول من أعال المسائل؟ فقال: عمر، فقال ابن عباس: عمر! وايم الله لو قدموا من قدمه الله، وأخروا من أخره الله.. ما عالت فريضة قط، فقال له زفر: من المقدم ومن المؤخر؟ فقال: من أهبط من فرض إلى فرض.. فهو المقدم،

ومن أهبط من فرض إلى ما بقي.. فهو المؤخر، فقال زفر: فهلا أشرت عليه؟ فقال: هبته، وكان امرأ مهيبا) . فكان ابن عباس يدخل النقص على البنات والأخوات، ويقدم الزوج والزوجة، والأم، لأنهم يستحقون الفرض لكل حال، والبنات والأخوات تارة يفرض لهن وتارة لا يفرض لهن، فيقول في زوجة وابنتين وأبوين: للزوجة الثمن - ثلاثة - وللأبوين السدسان- ثمانية - وللابنتين ما بقي، وهو: ثلاثة عشر. ودليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقسموا الفرائض على كتاب الله عز وجل» . ووجدنا أن الله تعالى فرض لكل واحد ممن ذكرنا من البنات والأخوات فرضاَ، فوجب أن يقسم ذلك لهن، ولأن الأخوات أقوى حالا من الأم، والبنات أقوى حالاً من الزوج والزوجة، بدليل: أن البنات يحجبن الزوج والزوجة، والزوجان لا يحجبانهن، والأخوات يحجبن الأم، والأم لا تحجبهن، فكيف يجوز تقديم الضعيف على من هو أقوى منه؟ ولأن لا خلاف: أن رجلاً لو أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بثلث ماله، ولم تجز الورثة. لقسم الثلث بينهما، وإذا ضاق مال المفلس عن ديونه.. قسم بينهم على قدر ديونهم، فوجب إذا ضاقت التركة عن سهام الورثة أن يجعل لكل واحد منهم على قدر سهمه ويضرب به. ولأنه إذا كان هناك زوج وأختان لأم وأم.. فلا بد أن ينتقض فيها بعض أصول ابن عباس، لأنه إن قال: للزوج

مسألة الإرث لشخص بسببين

النصف، وللأم السدس، وللأختين للأم الثلث.. نقض أصله في أن الأختين تحجبان الأم من الثلث إلى السدس. وإن قال: للزوج النصف، وللأم الثلث، وللأختين للأم السدس.. نقض أصله، لأنه أدخل النقص على من له فرض مقدر لا ينقص عنه. وإن قال: للزوج النصف، وللأم الثلث، وللأختين للأم الثلث.. أعال الفريضة فنقض أصله في العول. [مسألة الإرث لشخص بسببين] ] : وإذا أدلى شخص واحد بنسبين يورث لكل واحد منهما فرضا مقدراً، مثل: أن يتزوج المجوسي ابنته فأولدها بنتاً.. فلا خلاف: أنهما لا يتوارثان بالزوجية. وأما القرابة: فإنهما قد صارتا أختين لأب، وإحداهما أم الأخرى، فإن مات الأب.. كان لابنتيه الثلثان، وما بقي لعصبته. فإن ماتت البنت السفلى.. ورثتها الأخرى بأقوى القرابتين وهي كونها أما. وهكذا: لو وطئ مسلم ابنته بشبهة فأتت منه ببنت.. فإنها بنتها وأختها لأب، فإن ماتت البنت السفلى.. ورثتها أمها بكونها أما لا بكونها أختاً. وبه قال زيد بن ثابت، ومن الفقهاء مالك. وذهب علي، وابن مسعود، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة وأصحابه إلى: أنها ترث بالقرابتين. دليلنا: أنهما قرابتان تورث بكل واحدة منهما فرضا مقدراً، فوجب أن لا يورث بهما معاً، كالأخت للأب والأم لا ترث بكونها أختا للأب وأختا للأم. وإن ماتت الأم.. ورثتها بكونها بنتا النصف، وهل ترث الباقي بكونها أختا؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا ترث للعلة الأولى. والثاني - وهو قول أبي حنيفة -: أنها ترث، لأنها ترث بكونها بنتاً النصف بالفرض، وترث بكونها أختاً الباقي بالتعصيب، فجاز أن ترث بهما، كأخ من أم هو ابن عم. وإن أتت منه بابن وابنة ثم مات الأب.. كان ماله لابنه وابنته، للذكر مثل حظ الأنثيين. وإن ماتت بعد ذلك البنت التي هي زوجة.. كان مالها لابنها وابنتها، للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا يرثان بالأخوة. وإن مات الابن وخلف أما- وهي أخت لأب- وأختا لأب وأم.. فعندنا: للأم الثلث، ولا شيء لها بكونها أختا للأب وللأخت للأب، والأم النصف، والباقي للعصبة. وعند أبي حنيفة: (للأخت للأب والأم النصف، وللأم بكونها أما السدس، ولها بكونها أختا لأب السدس) ، فوافقنا في الجواب وخالفنا في المعنى. والله أعلم وبالله التوفيق

باب ميراث العصبة

[باب ميراث العصبة] العصبة: كل ذكر لا يدلي إلى الميت بأنثى، وإنما سمي عصبة، لأنه يجمع المال ويحوزه. مشتق من العصابة، لأنها تحيط بالرأس وتجمعه. والأصل في توريث العصبة: قَوْله تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] [النساء: 33] . قال مجاهد: الأقربون هاهنا هم العصبة. إذا ثبت هذا:: فأقرب العصبة الابن، ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الأب. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\373] : ومنهم من لا يسمي الابن عصبة. وليس بشيء. والدليل على أن الابن أقرب تعصيباً من الأب قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الآية [النساء: 11] . فبدأ بذكر الولد، والعرب لا تبدأ إلا بالأهم فالأهم.

ولأن الله تعالى فرض للأب مع الولد السدس، فدل على أن الابن أسقط تعصيب الأب، ولأنه إنما يأخذ السدس بالفرض، ولأن الابن يعصب أخته، بخلاف الأب. فإن عدم البنون وبنوهم وإن سفلوا.. كان التعصيب للأب، وكان أحق من سائر العصبات، لأن سائر العصبات يدلون به. فإن عدم الأب.. كان التعصيب للجد إن لم يكن أخ، لأنه يدلي بالأب، ثم أبي الجد وإن علا مع الإخوة للأم والأب أو للأب، ويقدمون على بني الإخوة، وبنو الإخوة يقدمون على الأعمام. فإن لم يكن جد، وهناك أخ لأب وأم أو لأب.. كان التعصيب له، لأنه يدلي بالأب، فإن اجتمع الجد والأخ.. كان المال بينهما عندنا على ما يأتي ذكره. وإن اجتمع أخ لأب وأم وأخ لأب. فالأخ للأب والأم أولى، لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالدين قبل الوصية، وقال: " إن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه» . ولأنه يدلي بقرابتين، فكان أولى ممن يدلي بقرابة. فإن عدم الأخ للأب والأم.. كان التعصيب للأخ للأب، ويقدم على ابن الأخ للأب والأم، لأنه أقرب. ثم بعد الأخ للأب ابن الأخ للأب والأم، ثم ابن الأخ للأب. فإن عدم الإخوة وبنوهم.. كان التعصيب للأعمام، لأنهم أبناء الجد، ويقدم العم

مسألة خلفت زوجا وأما واثنين من ولد الأم وأخا وأختا شقيقين

للأب والأم على العم للأب، ويقدم العم للأب على ابن العم للأب والأم، لأنه أقرب. فإن عدم الأعمام وبنوهم.. كان التعصيب لأعمام الأب، لأنهم أبناء أبي الجد، يقدم الأقرب فالأقرب منهم، ثم بنوهم. فإن عدم أعمام الأب وبنوهم. كان التعصيب لأعمام الجد، الأقرب فالأقرب منهم، ثم بعدهم يكون لبنيهم، وعلى هذا يكون أبداً. فإذا انفرد الواحد من العصبة.. أخذ جميع المال، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] [النساء: 176] . فورث الأخ جميع مال الأخت. وإن كان هناك اثنان من العصبة في درجة واحدة.. اقتسما المال بينهما، لاستوائهما في النسب. وإن كان مع العصبة من له فرض.. أعطي صاحب الفرض فرضه، وكان الباقي للعصبة، لما ذكرناه في حديث ابنتي سعد بن الربيع وزوجته وأخته. ويعصب الابن أخته وأخواته، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] [النساء: 11] . وكذلك ابن الابن يعصب أخواته كالابن، ويعصب عماته، وقد مضى ذكره. وكذلك الأخ للأب والأم أو الأخ للأب يعصب أخواته، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] [النساء: 176] . ومن عدا هؤلاء من العصبة لا يعصب أخواته، لأنه لا فرض لهن عند انفرادهن.. فلم يعصبهن. [مسألة خلفت زوجاً وأما واثنين من ولد الأم وأخا وأختا شقيقين] ] : وإن ماتت امرأة وخلفت زوجاً، وأما واثنين من ولد الأم، وأخا وأختا لأب وأم.. كان للأم السدس- وهو سهم- من ستة، وللزوج النصف- ثلاثة - وللأخوين

مسألة خلفت ابني عم أحدهما زوج أو خلف ابني عم أحدهما أخ لأم

للأم الثلث- سهمان - ويشاركهما في هذين السهمين الأخ والأخت للأب والأم، يقتسمونه بينهم، الذكر والأنثى فيه سواء. وتصح من اثني عشر: للأم سهمان، وللزوج ستة، ولكل واحد من الإخوة والأخوات سهم، وبه قال عمر، وعثمان، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وشريح، ومالك، وإسحاق. وقال علي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبو موسى الأشعري، وأبي بن كعب، والشعبي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد: (يسقط الأخ والأخت للأب والأم) . دليلنا: أنها فريضة جمعت ولد أم وولد أب وأم يرث كل واحد منهما إذا انفرد، فإذا ورث ولد الأم.. لم يسقط ولد الأب والأم، كما لو انفرد ولد الأم وولد الأب والأم ولم يكن معهم ذو سهم غيرهم. وهذه المسألة تعرف بالحمارية، لأنه يحكى فيها: أن ولد الأب والأم قالوا: احسب أن أبانا كان حماراً، أليس أمنا وأمهم واحدة؟! وتعرف بالمشتركة أيضاَ، لما فيها من التشريك بين الإخوة للأم والإخوة للأب والأم في الثلث. [مسألة خلفت ابني عم أحدهما زوج أو خلف ابني عم أحدهما أخ لأم] ] : إذا ماتت امرأة وخلفت ابني عم، أحدهما زوج.. ورث الزوج النصف بالفرض، والباقي بينه وبين الآخر نصفان بالتعصيب. وإن مات رجل وخلف ابني عم، أحدهما أخ لأم.. فإن للذي هو أخ لأم السدس بالفرض، والباقي بينه وبين ابن العم الآخر نصفان بالتعصيب. وبه قال علي، وزيد بن ثابت، ومالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة.

مسألة ميراث ولد الملاعنة وولد الزنا

وذهب عمر، وابن مسعود، وشريح، والحسن، وأبو ثور إلى: (أن المال كله لابن العم الذي هو أخ للأم) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] [النساء: 7] . وابن العم الذي ليس بأخ لأم من الرجال الأقربين، فينبغي أن يكون له نصيب. ولأنه يدلي نسب يفرض له به، فوجب أن يقوى به تعصيبه، كابني عم أحدهما زوج. [مسألة ميراث ولد الملاعنة وولد الزنا] ] : إذا قذف رجل امرأته بالزنا وانتفى عن نسب ولدها ونفاه باللعان.. فإن النسب ينقطع بين الأب والولد، فلا يثبت بينهما توارث، لأن الإرث بينهما بالنسب، ولا نسب بينهما بعد اللعان، ولا ينقطع التوارث بين الولد والأم، لأنه لا ينتفي عنها. فإن ماتت الأم.. ورث ولدها جميع مالها إن كان ذكراً. وإن مات الولد ولم يخلف غير الأم.. كان لها الثلث، والباقي لمولاه إن كان له مولى، وإن لم يكن له مولى.. كان الباقي لبيت المال. وإن كان له أخ لأم.. كان له السدس، ولأمه الثلث، والباقي لمولاه أو لبيت المال. وإن كان له أخوان لأم وأم.. كان لأمه السدس، ولأخويه لأمه الثلث، والباقي لمولاه أو لبيت المال. وبه قال ابن عباس، وزيد بن ثابت، وهي إحدى الروايتين عن علي.

فرع ولدا الزنا أو اللعان

وقال أبو حنيفة: (يكون للأم فرضها، وتأخذ الباقي بالرد) بناء على أصله في ذلك. وذهب ابن مسعود إلى: (أن الأم عصبة له، فتأخذ سهمها بالفرض والباقي بالتعصيب) . وذهب بعض الناس إلى: أن عصبته عصبة الأم. دليلنا: ما روى الزهري، عن سهل بن سعد الساعدي: أنه قال: «فرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الرجل والمرأة - يعني: باللعان - وكانت حاملاً فانتفى عنه حملها، فكان الولد يدعى لأمه، وجرت السنة أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها» والذي فرض الله للأم من الولد الثلث أو السدس، فالظاهر يقتضي: أنها لا تزاد على ذلك. ولأن من ورث سهماً من فريضة.. لم يستحق زيادة عنها إلا بتعصيب، قياساً على الزوجة. ولأن الأم لو كانت عصبة.. لم يسقطها المولى، لأن العصبة لا تسقط بالمولى، فدل على: أنها ليست بعصبة. وأما الدليل على أن عصبتها ليست عصبة لولدها: أن الأم ليست عصبة للولد، فلم يكن من يدلي بها عصبة له، كابن الأخ للأم. إذا ثبت هذا: فإن حكم ولد الزنا حكم ولد الملاعنة، لأنه ثابت النسب من أمه وغير ثابت النسب من أبيه، فكان حكمه حكم ولد الملاعنة. [فرع ولدا الزنا أو اللعان] ] : وإن أتت امرأة بولدين توأمين من الزنا، أو أتت امرأة رجل بولدين توأمين فنفاهما الأب باللعان.. فإن التوارث بينهما وبين الأم ينقطع، لما ذكرناه في الولد، ولا ينقطع التوارث بينهما وبين الأم.

مسألة ميراث الخنثى

وأما إرث أحدهما من الآخر: فهل يتوارثان بكونهما أخوين لأم لا غير، أو بكونهما أخوين لأب وأم؟ فيه وجهان: أحدهما: يتوارثان بكونهما أخوين لأب وأم، لأن حكم اللعان إنما يتعلق بالزوجين دون غيرها، ألا ترى: أن الزوج إذا قذفها بعد ذلك.. لم يحد، وإذا قذفها غيره.. حد؟ والثاني: أنهما يتوارثان بكونهما أخوين لأم لا غير، وهو الأصح، لأن نسبهما قد انقطع عن الأب، فكيف يتوارثان به؟ [مسألة ميراث الخنثى] ] : وإن مات ميت وخلف وارثا خنثى- وهو الذي له ذكر رجل وفرج امرأة - فإن كان يبول من الذكر لا غير.. فهو رجل، وإن كان يبول من فرج المرأة لا غير.. فهو امرأة، لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إن خرج بوله من مبال الذكر.. فهو ذكر، وإن خرج من مبال الأثنى.. فهو أنثى) . ولأن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة في الرجل أنه يبول من ذكره، وأن الأنثى تبول من فرجها، فرجع في التمييز إليه. وإن كان يبول منهما سواء، أو خلق الله له موضعاً آخر يبول منه.. فهو مشكل. وإن كان يبول منهما إلا أن أحدهما يبول منه أكثر.. ففيه وجهان: أحدهما: يعتبر بالأكثر، لأنه أقوى في الدلالة. والثاني: لا يعتبر، لأن اعتبار ذلك يشق. وحكي: أن أبا حنيفة سئل عن الخنثى المشكل، فقال: (يحكم بالمبال) ، فقال أبو يوسف: أرأيت إن كان يبول بهما؟ قال: (لا أدري) ، قال أبو يوسف: لكني أرى

أن يحكم بأسبقهما بولاً، فقال أبو حنيفة: (أرأيت لو استويا في الخروج؟) فقال أبو يوسف: بأكثرهما، فقال أبو حنيفة: (يكال أو يوزن؟) فسكت أبو يوسف. وإن لم يكن فيه دلالة من المبال.. فهل يعتبر بنبات اللحية ونهود الثديين وعدد الأضلاع؟ فيه وجهان: أحدهما: يعتبر، فإن نبتت له لحية.. دل على أنه ذكر، وإن نهد ثدياه.. دل على أنه امرأة، فإن الله أجرى العادة بنبات اللحية للرجال، ونهود الثديين للنساء. وإن استوت أضلاعه من الجانبين.. فهو امرأة، وإن نقص أحد جانبيه ضلعاً.. فهو رجل، لأن المرأة لها في كل جانب سبع عشرة ضلعاً، والرجل له في الجانب الأيمن سبع عشرة ضلعاً وفي الجانب الأيسر ست عشرة ضلعا؛ لأنه يقال: إن حواء خلقت من ضلع من جانب آدم الأيسر.. فلذلك نقص من الجانب الأيسر من الرجال. و [الثاني] : منهم من قال: لا يعتبر بذلك، وهو قول أكثر أصحابنا، لأن اللحية قد تنبت لبعض النساء ولا تنبت لبعض الرجال، وقد يكون الثدي لبعض الرجال. وروي: أن رجلاً كان له ثدي يرضع به في مجلس هارون الرشيد. وأما اعتبار الأضلاع: فإنه يشق ولا يتوصل إلى ذلك، لأن فيها شيئاً يخفى، فلا يمكن اعتبارها. إذا ثبت هذا، أو تعذر اعتباره من هذه الأشياء.. فإنه يرجع إلى قوله، وإلى ماذا يميل إليه طبعه. فإن قال: أميل إلى جماع النساء.. فهو رجل، وإن قال: أميل إلى جماع الرجال.. فهو امرأة. وليس ذلك تخييراً له، وإنما هو سؤال له عن ميلان طبعه. فإن أخبر بأحدهما ثم رجع عنه.. لم يقبل رجوعه، لأنه إذا أخبر بأحدهما تعلقت به أحكام، وفي قبول قوله في الرجوع إسقاط لتلك الأحكام، فلم يجز.

وهل يصح ذلك منه قبل البلوغ وبعد التمييز؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة " ق\388] : أحدهما: يصح منه، كما يصح منه أن يختار الكون مع أحد الأبوين. والثاني: لا يصح، لأن طبع الرجل والمرأة إنما يختلفان بعد البلوغ. فإن قال: أنا رجل فزوج بامرأة فحبلت امرأته وحبل هو.. تبينا أنه امرأة، وأن نكاحه كان باطلاً، وأن ولد المرأة غير لاحق به، لأن الحمل يدل على الأنوثية قطعاً. وإن قال الخنثى: أنا أشتهي جماع النساء والرجال، أو لا أشتهي واحدا منهما. فهو مشكل. والحكم في توريث المشكل: أنه يعطى ما يتيقن أنه له، وإن كان معه ورثة.. أعطي كل وارث منهم ما يتيقن أنه له، وهو أقل حقيه، ووقف الباقي إلى أن يتبين أمر الخنثى أو يصطلحوا عليه. فإن مات ميت وخلف ابنا خنثى مشكلاً لا غير.. أعطي نصف ماله، وإن كانا خنثيين.. أعطيا الثلثين ووقف الباقي إلى أن يتبين أمرهما أو يصطلحوا عليه. وقال أبو حنيفة: (يعطى الخنثى المشكل ما يتيقن أنه له، ويصرف الباقي إلى العصبة) . وخرجه ابن اللبان وجها آخر، وليس بمشهور. وذهبت طائفة من البصريين إلى أنه: إذا خلف ابنا خنثى مشكلاً لا غير.. أعطي ثلاثة أرباع المال، واختلفوا في تنزيل حاله. فمنهم من قال: تنزيل حاله أنه يحتمل أن يكون ذكراً، فيكون له جميع المال، ويحتمل أنه أنثى، فيكون له نصف المال والباقي للعصبة، فالنصف متيقن له، والنصف الآخر يتنازعه هو والعصبة، فيكون بينهما. ومنهم من قال: تنزيل حاله أنه يحتمل أن يكون ذكراً، فيكون له جميع المال، ويحتمل أنه أنثى، فيكون له نصف المال، فيعطى نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى.

مسألة خلف حملا وارثا أو غير وارث

دليلنا: أنه يحتمل أن يكون ذكراً ويحتمل أن يكون أنثى فأعطيناه اليقين وهو ميراث الأنثى، لأنه متيقن له، ولم نورثه ما زاد؛ لأنه توريث بالشك. وعلى أبي حنيفة: أنا لا نتيقن استحقاق العصبة للموقوف، فلم يجز دفع ذلك إليه. [مسألة خلف حملاً وارثا أو غير وارث] ] : وإن مات رجل وخلف حملاً وارثا.. نظرت: فإن انفصل واستهل صارخاً.. فإنه يرث، سواء كان فيه روح حال موت مورثه أو كان يومئذ نطفة؛ لما روى أبو الزبير عن جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استهل الصبي.. ورث وصلي عليه» . قال الشيخ أبو حامد: ولا خلاف في هذا. وإن خرج ولم يستهل، ولكن علمت حياته بحركة أو غير ذلك، ثم مات.. فإنه يرث عندنا. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (لا يرث) . دليلنا: أن كل من تحققت حياته بعد انفصاله.. وجب أن يرث، كما لو خرج واستهل صارخاً، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما نص على الاستهلال، لأن ذلك تعلم به الحياة، فكل ما علمت به الحياة كالحركة والبكاء.. قام مقامه. وإن خرج ميتا.. لم يرث، لأنا لا نعلم أنه نفخ فيه الروح وصار من أهل الميراث أو لم ينفخ.

وإن انفصل ميتاً وتحرك بعد الانفصال حركة لا تدل على الحياة.. لم يرث، لأن بهذه الحركة لم تعلم حياته، لأن المذبوح قد يتحرك، واللحم قد يختلج ولا روح فيه. وإن خرج بعضه فصرخ، ثم مات قبل أن ينفصل.. لم يرث، لأنه ما لم ينفصل جميعه.. لا يثبت له أحكام الدنيا. إذا ثبت هذا: فما حكم مال الميت قبل انفصال الحمل؟ ينظر فيه: فإن كان مع الحمل وارث له فرض لا ينقصه الحمل، كالزوج والزوجة والأم والجدة.. أعطي صاحب الفرض فرضه، ووقف الباقي من ماله. وإن كان الوارث معه ممن لا سهم له مقدر، كالابن والابنة.. فاختلف أصحابنا فيه: فذهب المسعودي [في " الإبانة " ق \ 377] ، وابن اللبان وغيرهما إلى: أنه يدفع إلى الابن الموجود خمس المال، ويوقف الباقي. وحكى الشيخ أبو حامد: أن هذا مذهب أبي حنيفة، لأن أكثر ما تلد المرأة في بطن أربعة أولاد. وقال الشيخان- أبو حامد وأبو إسحاق -: لا يعطى الابن الموجود شيئا من المال، بل يوقف جميعه. وحكى المسعودي [في " الإبانة " ق\377] : أن هذا مذهب أبي حنيفة. وقال محمد بن الحسن: يدفع إليه ثلث المال، لأن أكثر ما تلده المرأة اثنان. وقال أبو يوسف: يدفع إليه نصف المال، لأن الظاهر أنها لا تلد أكثر من واحد. فإذا قلنا: إنه يوقف جميع المال.. فوجهه: أنه لا يعلم أكثر ما تحمله المرأة. وحكي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أنه قال: (قدمت اليمن، فكنت عند شيخ بها أستمع عليه الحديث، فبينما هو جالس على بابه إذ جاء خمسة كهول، فسلموا عليه وقبلوا رأسه ودخلوا الدار، ثم جاء خمسة شباب، فسلموا عليه وقبلوا رأسه ودخلوا

فرع بعض الأمثلة المتعلقة بإرث الحمل

الدار، ثم جاء خمسة فتيان، فسلموا عليه وقبلوا رأسه ودخلوا الدار، ثم جاء خمسة صبيان، فسلموا عليه وقبلوا رأسه ودخلوا الدار، فقلت: من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء أولادي، ولدت أمهم كل خمسة في بطن واحد، فهؤلاء عشرون في أربعة بطون، وخمسة أطفال في المهد) . وحكى ابن المرزبان: أنه قال: أسقطت امرأة عندنا بالأنبار كيسا فيه اثنا عشر ولداً، كل اثنين متحاذيان، فعلم أنه ليس لما تلده المرأة حد. [فرع بعض الأمثلة المتعلقة بإرث الحمل] ] : ميت مات، فقالت امرأة حامل: إن ولدت أنثى.. لم ترث منه، وإن ولدت ذكراً.. ورث منه، وإن ولدت ذكراً وأنثى.. ورث الذكر دون الأنثى.. فهذه امرأة أخ للميت، أو امرأة ابن أخيه، أو امرأة عمه، أو امرأة ابن عمه. وإن قالت: إن ولدت أنثى.. ورثت، وإن ولدت ذكراً.. لم يرث، وإن ولدت ذكراً وأنثى.. لم يرثا.. فهذه امرأة ماتت وخلفت زوجاً وبنتاً وأبوين وزوجة ابنها حاملاً من ابنها، فإن ولدت أنثى.. ورثت السدس تكملة الثلثين، فإن ولدت ذكراً.. لم يرث، وإن ولدت ذكراً وأنثى.. لم يرثا. وإن قالت امرأة حامل: إن ولدت ذكراً.. ورث، وإن ولدت أنثى.. لم ترث، وإن ولدت ذكراً وأنثى.. ورثا.. فهذا ميت مات وخلف ابنتين وزوجة ابن حاملاً منه، أو ميت مات وخلف أختين لأب وأم وزوجة أب حاملاً منه. ولو قالت الحامل: إن ولدت ذكراً.. ورث وورثت معه، وإن ولدت ذكراً، وأنثى.. ورثا وورثت معهما، وإن ولدت أنثى.. لم ترث ولم أرث.. فهذا رجل مات وخلف ابنتين وابنة ابن حاملاً من ابن ابن آخر قد مات.

فرع صورة تستحق البنت فيها التسع والابن التسعين

ولو قالت الحامل: إن ولدت أنثى.. ورثت وورثت معها، وإن ولدت ذكراً أو ذكراً وأنثى.. لم يرث واحد منا.. فهذه امرأة ماتت وخلفت ابنة وأبوين وزوجاً، وهذه الحامل ابنة ابن ابن هذه الميتة من ابن ابن لها آخر قد مات. ولو قالت حامل: إن ولدت ذكراً.. ورث ولم أرث أنا، وإن ولدت أنثى.. ورثت أنا ولم ترث هي.. فهذه امرأة أعتقت عبداً، ثم نكحت المعتقة أخ المعتق، فحملت منه فمات، ثم مات المعتق. فإن ولدت ذكراً.. كان ابن أخ المعتق، فورثه ولم ترثه المعتقة، وإن ولدت أنثى.. كانت ابنة أخ المعتق، فلا ميراث لها وترثه المعتقة. [فرع صورة تستحق البنت فيها التسع والابن التسعين] قال ابن اللبان: فإن مات رجل وخلف بنتاً، وبنت ابن ابن، وأخا، وأمة للميت حاملاً منه، وامرأة ابن حاملاً من الابن.. فإن البنت تعطى تسع المال ويوقف الباقي. وقلت: هذا بناه على أصله: أن المرأة لا تلد أكثر من أربعة. فإن ولدت الأمة وامرأة الابن ذكراً وأنثى وأشكل: أيتهما ولدت الذكر، وأيتهما ولدت الأنثى.. فإن البنت يكمل لها ثلث جميع المال، لأنها تستحق ذلك يقينا، ويعطى الابن تسعي المال، لأنه يستحقه بيقين، ويوقف الباقي حتى يصطلح عليه بنت الابن والمولودان، ولا حق للبنت في الموقوف. [فرع إرث ابن العبد لأخيه الحر] وماذا لو مات ابن الزوجة؟] : قال ابن اللبان: ولو أن عبداً له ابن حر وتحت العبد امرأة حرة، فمات ابن العبد ولم يعلم: هل امرأة العبد حامل أم لا؟

فرع يوقف توزيع التركة حتى يعلم من المستهل

فإن لم يمسك العبد عن وطئها، فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر.. ورث أخاه، وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر من يوم مات.. لم يرثه، لأنه يحتمل أن تكون حبلت به بعد موته، إلا أن يتصادق الورثة: أنها كانت حاملاً به يوم مات.. فيرثه. قال: وهذا إجماع. قال: وكذلك ينبغي للحر - إذا كان تحته امرأة فمات ابن لامرأته من غيره- أن يمسك عن وطئها حتى يستبرئها بحيضة، فلعل بها حملاً يرث أو يحجب، فإن لم يفعل.. فالجواب على ما مضى. [فرع يوقف توزيع التركة حتى يعلم من المستهل] ] : وإن مات رجل وخلف أما، وأخا لأب وأم أو لأب، وأمة حاملاً من هذا الميت، فولدت ذكراً وأنثى، واستهل أحدهما، ووجدا ميتين، ولم يعلم أيهما المستهل.. فيعطى الأخ أقل حقيه، وهو: عشرة أسهم من ثمانية عشر سهماً، لجواز أن يكون المستهل هو الذكر، ويدفع إلى أم الولد ثلاثة أسهم من ثمانية عشر سهماً وهو أقل حقها، لجواز أن يكون المستهل هو الأنثى، ويدفع إلى أم الميت ثلاثة أسهم وهو سدس المال ولا تستحق غير ذلك بكل حال، ويوقف سهمان حتى يصطلح عليه الأخ وأم الولد، ولا شيء للأم فيهما.

فرع يوقف التقسيم للصلح

وإن مات رجل وخلف أخا، وأمة حاملاً منه، وامرأة ابن حاملا من ابن الميت وقد مات الابن، فولدت أمة الميت ذكراً، وولدت امرأة ابنه أنثى، واستهل أحدهما ومات، ولم يعلم أيهما المستهل، ووجدا ميتين، قال ابن اللبان: فإنه يدفع إلى أخي الميت ثلثا المال؛ لأنه يستحقه بكل حال، ويوقف الثلث حتى يصطلح عليه الأخ وأم الولد وامرأة الابن؛ لأنه إن كان المستهل هو الابن.. فالثلث كله لأم الولد، وإن كان المستهل هو الابنة.. كان لامرأة الابن السدس، وللأخ السدس. قال: وهكذا الحكم إذا لم يعلم من التي ولدت الذكر منهما، ومن التي ولدت الأنثى، واستهل أحدهما، ووجدا ميتين، ولم يعلم من المستهل منهما. [فرع يوقف التقسيم للصلح] ] : وإن مات رجل وخلف أخا، وابنتين، وبنت ابن، وأم ولد حاملا ًمنه، وامرأة ابن حاملاً من الابن، فولدت إحداهما ذكراً والأخرى أنثى، واستهل أحدهما ووجدا ميتين، ولم يعلم من المستهل منهما، ومن التي ولدت الذكر ولا من التي ولدت الأنثى.. قال ابن اللبان: فإن التركة تقسم على مائة سهم وثمانية، فتعطى كل ابنة اثنين وثلاثين سهما، ويعطى للأخ أربعة، ويوقف أربعون سهما، فالأخ يدعي منها ستة وثلاثين سهما، وكل بنت تدعي ثلاثة عشر سهما، وأم الولد تدعي تسعة أسهم، وامرأة الابن تدعي ثمانية، وبنت الابن تدعي أربعة وعشرين سهما، فيوقف ذلك بينهم حتى يصطلحوا عليه.

فإن كانت امرأة حاملاً فولدت ابنتين توأمين وماتت، فاستهلت إحداهما، ثم سمع استهلال آخر، ووجدتا ميتتين، ولم يعلم هل تكرر الاستهلال من إحداهما أم استهلتا جميعاً؟ وخلفت المرأة أخاها وزوجها وهو أبو ولدها.. قال ابن اللبان: فإنه يعطى الأخ نصف السدس، والزوج ثلاثة أرباع، ويوقف السدس حتى يصطلحوا عليه. قال: ويحتمل أن يعطى الأخ الربع، لأنا لا نعلم أن المرأة ورثها ابنتاها، وقد علمنا أن إحداهما حية، والحي قد يتكرر منه الاستهلال، فلا يورث منهما إلا من تيقنا حياته، ولا يحجب الأخ إلا بيقين.

فرع الاختلاف في الموت والاستهلال

[فرع الاختلاف في الموت والاستهلال] ] : وإن مات رجل وخلف أخاً، وامرأة حاملاً فولدت ابنا وبنتا فاستهلا، ثم مات أحدهما، ثم ماتت المرأة بعده، ثم مات الولد الآخر ولم يعلم أيهما مات قبل الأم.. قال ابن اللبان: فقد قيل: القياس أن لا يرث الولدان أمهما ولا ترثهما؛ لأنه لا يعلم على الانفراد أيهما مات قبلها، كالغرقى، فيكون ثمن المرأة لعصبتها، والسبعة الأثمان التي للولدين للأخ بميراثه منهما. وقيل: بل ينزل فيقال: إن كان الذي مات قبل المرأة هي البنت.. فالمال كله للأخ، وإن كان الذي مات قبل المرأة هو الابن.. ورثت المرأة منه ثلث سهامه - وهو أربعة أسهم وثلثا سهم من أربعة وعشرين - وورثت الأخت نصفها والعم سدسها، فلما ماتت المرأة.. كان ما بيدها - وهو سبعة أسهم وثلثا سهم - بين ابنتها وعصبتها نصفين، فيصح لعصبتها ثلاثة أسهم وخمسة أسداس سهم، فلما ماتت البنت.. صار ما في يدها للعم، فاجتمع للعم بميراثه من الابن والبنت عشرون سهماً وسدس سهم، فهذا للأخ بيقين.

مسألة تقديم أصحاب الفروض

والباقي من المال - وهو ثلاثة أسهم وخمسة أسداس سهم - لعصبة المرأة فيوقف ذلك حتى يصطلحا عليه، فتضرب الفريضة - وهي أربعة وعشرون - في مخرج السدس - وهو ستة - فذلك مائة وأربعة وأربعون. [مسألة تقديم أصحاب الفروض] ] : وإن مات ميت وخلف من الورثة من له فرض لا يستغرق جميع ماله، كالأم والابنة والأخت.. فإن صاحب الفرض يأخذ فرضه، وما بقي عن فرضه.. يكون لعصبته إن كان له عصبة، وإن لم يكن له عصبة.. كان للمولى إن كان له مولى، وإن لم يكن له مولى.. كان الباقي لبيت المال، فيصرف إلى الإمام ليصرفه في مصالح المسلمين. وبه قال زيد بن ثابت، والزهري، والأوزاعي، ومالك. وذهب علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى: (أنه يرد ذلك على ذوي الفروض إلا على الزوجين.. فإنه لا يرد عليهما، فإن لم يكن له أحد من أهل الفروض.. صرف ذلك إلى ذوي الأرحام، فيقام كل واحد من ذوي الأرحام مقام من يدلي به) . وبه قال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه. واختاره بعض أصحابنا إذا لم يكن هناك إمام عادل، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها، وابنها الذي لا عنت عليه» . فأخبر: أنها تحوز ميراث ابنها

الذي لا عنت عليه وهذا نص. ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] [النساء: 176] ولم يفرق بين أن يكون هناك وارث غيرها أو لم يكن. فمن قال: إن لها جميع المال.. فقد خالف ظاهر القرآن. وكذلك جعل للابنتين الثلثين ولم يفرق. ولأن كل من استحق من فريضة سهماً مقدراً.. لم يرث منها شيئاً آخر إلا بتعصيب، كالزوج والزوجة. فعلى هذا: إن كان هناك إمام عادل.. سلم المال إليه، وإن لم يكن هناك إمام عادل.. صرفه من هو بيده إلى مصالح المسلمين. وبالله التوفيق

باب الجد والإخوة

[باب الجد والإخوة] الجد أبو الأب وإن علا.. وارث بلا خلاف بين أهل العلم. وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سأل الصحابة: هل تعلمون أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل في الجد شيئا؟ فقال معقل بن يسار المزني: نعم شهدت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورثه السدس، فقال له عمر: مع من؟ قال: لا أدري، فقال له: لا دريت، إذن لا تغني) . فإن اجتمع الجد مع الإخوة أو الأخوات للأم.. أسقطهم بالإجماع، وقد مضى. وإن اجتمع مع الإخوة أو الأخوات للأب والأم أو للأب.. فقد كانت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يتحرجون من الكلام فيه، لما روى سعيد بن المسيب: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أجرؤكم على الجد أجرؤكم على النار» . وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال (من أحب أن يتقحم جراثيم جهنم فليقض بين الجد والإخوة) .

وروي عن ابن مسعود: أنه قال: (سلونا عن كل شيء ودعونا من الجد، لا حياه الله ولا بياه) . إذا ثبت هذا: فقد اختلف الناس في الجد إذا اجتمع مع الإخوة أو الأخوات للأب والأم أو للأب: فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلى: أن الجد لا يسقطهم، وروي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت، وبه قال مالك والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل. وذهبت طائفة إلى: أن الجد يسقطهم، وروي ذلك عن أبي بكر، وابن عباس،

وعائشة، وأبي الدرداء، وبه قال أبو حنيفة، وعثمان البتي، وابن جرير الطبري، وداود، وإسحاق، واختاره المزني. قال المسعودي [في " الإبانة " ق\394] : وإليه ذهب ابن سريج. ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] [النساء: 7] ، فجعل للرجال والنساء الأقارب نصيباً. والإخوة والأخوات للأب إذا اجتمعوا مع الجد.. فهم من الأقارب، فمن قال: لا نصيب لهم.. فقد ترك ظاهر القرآن. ولأن الأخ يعصب أخته فلم يسقطه الجد، كالابن. ولأن الأخت تأخذ النصف بالفرض فلم يسقطها الجد، كالبنت. ولأن الجد والأخ على منزلة واحدة من الميت، لأن الجد أبو أبيه، والأخ ابن أبيه، والجد له تعصيب ورحم، والأخ له تعصيب من غير رحم فلم يسقطه الجد، كالابن والبنت إذا اجتمعا. إذا ثبت هذا: فإن الجد كالأب في عامة أحكامه، فيرث بالتعصيب إذا انفرد كالأب، ويرث بالفرض مع الابن وابن الابن، ويرث بالفرض والتعصيب مع البنت وبنت الابن، إلا أن الجد يخالف الأب في أربع مسائل: [الأولى] منها: أن الأب يحجب الإخوة والأخوات للأب والأم أو للأب، والجد لا يحجبهم. والثانية والثالثة: أن الأب يحجب الأم عن كمال الثلث إلى ثلث ما يبقى في زوج

مسألة الجد مع الإخوة

وأبوين أو زوجة وأبوين، والجد لا يحجبها فيهما، بل يكون لها ثلث جميع المال مع الجد فيهما. الرابعة: أن الأب يحجب أم نفسه، والجد لا يحجب أم الأب، لأنها تساويه في الدرجة إلى الميت، وتدلي بالأب فلم ترث معه. [مسألة الجد مع الإخوة] وإذا اجتمع الجد والإخوة أو الأخوات للأب والأم أو للأب، وليس معهم من له فرض.. فللجد الأحظ من المقاسمة، أو ثلث جميع المال. فإن كان معه أخ واحد.. فالأحظ له هاهنا المقاسمة؛ لأنه يأخذ نصف جميع المال، وإن كان معه أخوان.. استوت له المقاسمة والثلث، وإن كان معه ثلاثة إخوة فما زاد.. فالأحظ له هاهنا أن ينفرد بثلث جميع المال. هذا مذهبنا، وبه قال زيد بن ثابت وابن مسعود. وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روايتان: إحداهما - وهي المشهورة: - أن له الأحظ من المقاسمة أو سدس جميع المال، فإذا كان معه أربعة إخوة.. فالمقاسمة أحظ له، وإن كانوا خمسة.. استوت المقاسمة

والسدس، وإن كانوا ستة.. فالسدس أحظ له) . والثانية: (أن له الأحظ من المقاسمة أو سبع جميع المال) . وروي عن عمران بن الحصين، وأبي موسى الأشعري: أنهما قالا: (له الأحظ من المقاسمة أو نصف سدس جميع المال، فإذا كان معه عشرة إخوة.. فالمقاسمة خير له، وإن كانوا أحد عشر.. استوت المقاسمة ونصف السدس) . ودليلنا - عليهما: - أن البنين أقوى حالاً من الإخوة، بدليل: أن الإخوة يسقطون بالبنين، ثم ثبت أن البنين لا يسقطون الجد عن السدس، فالإخوة أولى أن لا يسقطوه عنه. وأما الدليل على ما قلناه: فلأن حجب الإخوة للجد لا يقع بواحد وينحصر بعدد، فوجب أن يكون غاية ذلك اثنين، قياساً على حجب الإخوة للأم عن الثلث، وحجب بنات الصلب لبنات الابن، وحجب الأخوات للأب والأم للأخوات للأب. وأما إذا اجتمع مع الجد الأخوات للأب والأم أو للأب منفردات.. فمذهبنا: أن حكمهن حكم الإخوة مع الجد، فيقاسمهن ويكون المال بينه وبينهن للذكر مثل حظ الأنثيين ما لم تنقصه المقاسمة عن الثلث، فإذا نقصته عن الثلث.. أفرد بثلث جميع المال، وبه قال زيد بن ثابت.

مسألة اجتماع إخوة وجد وذوي فروض

وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (يفرض للأخوات فروضهن، ويكون الباقي للجد) . ودليلنا: أنها فريضة جمعت أبا أب وولد أب، فوجب أن لا يأخذ ولد الأب بالفرض، كما لو كان مع الجد إخوة.. ولا ينتقض بالأكدرية، لأنه يفرض للأخت، ولكن لا تأخذ ما فرض لها. وإن كان مع الجد إخوة وأخوات لأب وأم أو لأب.. فإن الجد يقاسمهم، للذكر مثل الأنثيين ما لم تنقصه المقاسمة عن الثلث، فإذا نقصته المقاسمة عن ذلك.. فرض له الثلث كما ذكرنا. [مسألة اجتماع إخوة وجد وذوي فروض] ] : وإن اجتمع مع الجد والإخوة من له فرض، وهم ستة: البنت، وبنت الابن، والزوج، والزوجة، والأم، والجدة.. فإن صاحب الفرض يعطى فرضه، ويكون للجد أوفى ثلاثة أشياء: المقاسمة، أو ثلث ما يبقى، أو سدس جميع المال. فإن كان الفرض أقل من نصف جميع المال.. فثلث ما يبقى خير له من السدس، فيكون له الأحظ من المقاسمة أو ثلث ما يبقى. وإن كان الفرض النصف.. فثلث ما يبقى والسدس واحد. وإن كان الفرض أكثر من النصف.. فالسدس أكثر من ثلث ما يبقى، فيكون للجد الأحظ من المقاسمة أو السدس.

فرع اجتماع زوج وجد وأم

إذا ثبت هذا: فمات رجل وخلف بنتاً وأختا لأب وأم وجداً.. فللبنت النصف، والباقي بين الجد والأخت، للذكر مثل حظ الأنثيين، والمقاسمة هاهنا خير للجد.. هذا مذهبنا، وبه قال زيد بن ثابت. وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (للبنت النصف، وللجد السدس، والباقي للأخت) . دليلنا: أنها فريضة جمعت أبا أب وولد أب، فاشتركا في الفاضل عن فرض ذوي السهام، كما لو كان بدل الأخت أخا مع البنت والجد. [فرع اجتماع زوج وجد وأم] والمسألة المربعة] : زوج وجد وأم.. فالتركة من ستة: للزوج ثلاثة، وللأم الثلث - سهمان - وللجد سهم. وبه قال زيد بن ثابت. فإن كان بدل الزوج زوجة.. كان للزوجة الربع، وللأم الثلث، والباقي للجد.. وروي عن عمر روايتان: إحداهما: (أن للزوج النصف، وللأم ثلث ما يبقى، والباقي للجد) . والثانية: (للزوج النصف، وللأم السدس، والباقي للجد) . ويفيد اختلاف الروايتين إذا كان مكان الزوج زوجة.. فعلى إحدى الروايتين: يكون للزوجة الربع، وللأم ثلث ما يبقى، والباقي للجد. وروي عن ابن مسعود ثلاث روايات: كروايتي عمر. والثالثة (للزوج النصف، والباقي بين الجد والأم) ، فتكون على هذه الرواية من مربعات ابن مسعود. وإن مات رجل وخلف زوجة وأما وأخا وجدا.. كان أصلها من اثني عشر: للزوجة ثلاثة، وللأم أربعة وللأخ والجد ما بقي وهو خمسة، فتصح من أربعة،

فرع المسألة الخرقاء

وعشرين، وهي من مربعات ابن مسعود، فإنه قال: (للزوجة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وللجد وللأخ سهمان) . وإن خلف رجل زوجة وأختا وجدا.. كان للزوجة الربع - سهم من أربعة - والباقي بين الجد والأخت، للذكر مثل حظ الأنثيين، وتصح من أربعة. وبه قال زيد بن ثابت. وقال أبو بكر وابن عباس: (للزوجة الربع، والباقي للجد) . وقال عمر وابن مسعود: (للزوجة الربع- سهم من أربعة - وللأخت النصف، سهمان - وللجد ما بقي، وهو سهم) . وتعرف هذه المسألة بالمربعة، فإنهم اختلفوا في قدر ما يرث كل واحد من الجد والأخت، واتفقوا على أن أصلها من أربعة. [فرع المسألة الخرقاء] فرع: [اجتماع أم وأخت وجد أو المسألة الخرقاء] : وإن مات رجل وخلف أما وأختا وجداً.. فهذه تسمى الخرقاء؛ لتخرق أقاويل الصحابة فيها، فإن فيها سبعة أقاويل: [الأول] : قال أبو بكر، وابن عباس، وعائشة - ومن قال: إن الجد يسقط الإخوة - (للأم الثلث، والباقي للجد، وتسقط الأخت) . و [الثاني والثالث] : عن عمر فيها روايتان: إحداهما: (أن للأخت النصف، وللأم السدس، والباقي للجد) . والثانية: (أن للأخت النصف، وللأم ثلث ما بقي، والباقي بين الجد والأخت نصفان) .

مسألة عول الإخوة والأخوات مع الجد في الأكدرية

و [الرابع] : عن ابن مسعود فيها ثلاث روايات: روايتان: مثل روايتي عمر. والثالثة: (للأخت النصف، والباقي بين الجد والأم نصفان) ، فتكون على هذه الرواية من مربعاته. و [الخامس] : قال عثمان: (يقسم المال كله على ثلاثة: للأم سهم، وللأخت سهم، وللجد سهم) . و [السادس] : قال علي: (للأم الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس) . و [السابع] : قال زيد بن ثابت: (للأم الثلث، والباقي بين الجد والأخت، للذكر مثل حظ الأنثيين، وتصح من تسعة) . وبه قال الشافعي وأصحابه. [مسألة عول الإخوة والأخوات مع الجد في الأكدرية] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وليس يعال لأحد من الإخوة والأخوات مع الجد إلا في الأكدرية) ، وهي: زوج وأم وأخت لأب وأم أو لأب، وجد، وقد اختلفت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فيها: فذهب أبو بكر وابن عباس إلى: (أن للزوج النصف، وللأم الثلث، والباقي للجد، وتسقط الأخت) . وقال عمر وابن مسعود: (للزوج النصف، وللأخت النصف، وللأم السدس، وللجد السدس، فتعول إلى ثمانية وإنما فرضنا للأم السدس هاهنا؛ لئلا تفضل على الجد) . وقال علي: (للزوج النصف، وللأم الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس، فتعول إلى تسعة، فتأخذ الأخت ثلاثة) . وقال زيد بن ثابت: (تعول إلى تسعة) ، كما قال علي ولكن قال: (تجمع

الثلاثة التي للأخت والسهم الذي للجد، فتصير أربعة فيقتسمانها للذكر مثل حظ الأنثيين، وتصح من سبعة وعشرين: للزوج تسعة، وللأم ستة، وللجد ثمانية، وللأخت أربعة) . وبهذا قال الشافعي وأصحابه. وإنما كان كذلك، لأنه ليس هاهنا من يحجب الزوج عن النصف، ولا من يحجب الأم عن الثلث، ولا يمكن أن ينتقص الجد عن السدس، لأن الابن لا يسقطه عنه.. فهؤلاء أولى، وقد استكملت الفريضة، ولا سبيل إلى إسقاط الأخت، لأنه ليس هاهنا من يسقطها ففرض لها النصف، ولا يمكن أن تأخذ جميعه، لأنه لا يجوز تفضيلها على الجد، فوجب أن يجمع نصيبهما، ويقتسماه: للذكر مثل حظ الأنثيين، كما قلنا في غير هذا الموضع. واختلف الناس: لأي معنى سميت أكدرية؟ فروي عن الأعمش: أنه قال: إنما سميت أكدرية، لأن عبد الملك بن مروان سأل عنها رجلاً يقال له: أكدر، فذكر له اختلاف الصحابة فيها، فنسبت إليه. وقيل: سميت أكدرية، لأن امرأة تسمى أكدرية ماتت وخلفت هؤلاء، فسميت أكدرية ونسبت إليها. وقيل: سميت أكدرية، لأنها كدرت على زيد أصله، لأنه لا يفرض للأخوات مع الجد وقد فرض لها هاهنا، ولا يعيل مسائل الجد وقد أعال هاهنا. وإن كان بدل الأخت أخ.. فإن للزوج النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس،

مسألة المعادة للأشقاء والجد بالإخوة للأب

ويسقط الأخ، لأن الأخ له تعصيب محض، ولا يمكن أن يفرض له ولم يبق من الفريضة شيء، فسقط. وإن كان هناك زوج وأم وأختان وجد.. فليست بأكدرية، بل للزوج النصف، وللأم السدس، والباقي بين الجد والأختين: للذكر مثل حظ الأنثيين، فتصح من اثني عشر. فإن كان هناك زوج وأم وبنت وأخت وجد.. كان أصلها من اثني عشر: للزوج ثلاثة، وللبنت ستة، وللأم سهمان، وللجد سهمان، ولا شيء للأخت، لأن المسألة قد عالت، ولا يفرض لها، لأنها إنما تأخذ مع البنت بالتعصيب، ولا تعصيب هاهنا. [مسألة المعادة للأشقاء والجد بالإخوة للأب] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والإخوة للأب والأم يعادون الجد بالإخوة والأخوات للأب) .

فرع اجتماع شقيقة وأخت لأب وجد

وجملة ذلك: أنه إذا اجتمع جد، وأخ لأب وأم، وأخ لأب.. فإن الأخ للأب والأم يعاد الجد بالأخ للأب فيقسم المال بينهم على ثلاثة، لكل واحد منهم سهم، ثم يرجع الأخ للأب والأم فيأخذ السهم الذي بيد الأخ للأب. وبه قال زيد بن ثابت، ومالك بن أنس. وذهب علي وابن مسعود إلى: (أن الأخ للأب يسقط، ويكون المال بين الجد والأخ للأب والأم نصفين) . دليلنا: أن الجد له ولادة، فإذا حجب بأخوين وارثين.. جاز أن يحجب بأخوين أحدهما وارث والآخر غير وارث، كالأم تحجب بالأخوين أحدهما لأب والآخر لأب وأم وهما وارثان، وتحجب بأخ لأب وأم وهو وارث، وبأخ لأب وهو غير وارث. فإن كان هناك أخ لأب وأم، وأخت لأب، وجد.. عاد الأخ للأب والأم الجد بالأخت للأب، فيقسم المال على خمسة: للجد سهمان، وللأخ للأب والأم سهمان، وللأخت سهم، ثم يرجع الأخ فيأخذ سهم الأخت. وإن كان هناك أخوات لأب وأم، وأخ لأب، وجد.. فلا حاجة هاهنا إلى المعادة، لأن الجد لا يجوز أن ينقص عن الثلث. [فرع اجتماع شقيقة وأخت لأب وجد] ] : وإن اجتمع أخت لأب وأم، وأخت لأب، وجد.. كان المال بينهم على أربعة: للجد سهمان، ولكل أخت سهم، ثم تأخذ الأخت للأب والأم السهم الذي بيد الأخت للأب، وقد حصل معها نصف المال. وإن كان هناك أخت لأب وأم، وأخ لأب، وجد.. كان المال بينهم على خمسة:

للجد سهمان، وللأخت سهم، وللأخ سهمان، ثم تأخذ الأخت من الأخ تمام النصف وهو سهم ونصف، لأنه لا يجوز أن ترث أكثر من نصف المال، فتضرب الخمسة في اثنين، فتصح من عشرة: للجد اثنان في اثنين فذلك أربعة، وللأخت سهمان ونصف في اثنين فذلك خمسة، وللأخ نصف في اثنين فذلك سهم. وتعرف هذه المسألة بعشرية زيد. وإن كان بدل الأخ للأب أختان لأب.. كان الحكم فيها ما ذكرناه، ولكن لا تصح إلا من عشرين، لأنه يبقى للأختين سهم من عشرة فيكسر عليهما، فتضرب العشرة في اثنين. فذلك عشرون، وتعرف بالعشرينية. وإن اجتمع مع الجد والإخوة للأب والأم والإخوة للأب من له فرض.. كان الحكم حكم ما لو كان مع الجد والإخوة للأب والأم من له فرض في أنه يجعل للجد الأوفر من المقاسمة بعد الفرض، أو ثلث ما يبقى، أو سدس جميع المال، ويعاد الإخوة للأب والأم الجد بالإخوة للأب على ما ذكرناه. والله أعلم بالصواب وبالله التوفيق

كتاب النكاح

[كتاب النكاح]

كتاب النكاح النكاح جائز، والأصل في جوازه: الكتاب، والسنة، والإجماع. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] الآية [النساء: 3] . وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] [النور: 32] . وأما السنة: فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تناكحوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط» .

وفي السقط ثلاث لغات: بفتح السين، وضمها، وكسرها. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحب فطرتي.. فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح» . وتزوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا يدل إلى الجواز. وأجمعت الأمة: على جواز النكاح. إذا ثبت هذا: فروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (كانت مناكح أهل الجاهلية على أربعة أقسام: أحدها: مناكح الرايات، وهو أن المرأة العاهرة كانت تنصب على بابها راية لتعرف أنها عاهرة، فيأتيها الناس. والثاني: أن الرهط من القبيلة أو الناحية كانوا يجتمعون على وطء امرأة،

لا يخالطهم غيرهم، فإذا جاءت بولد.. ألحق بأشبههم به. والثالث: نكاح الاستنجاب، وهو: أن المرأة كانت إذا أرادت أن يكون ولدها كريماً.. بذلت نفسها لعدة من فحول رجال القبائل، ليكون ولدها كأحدهم. والرابع: النكاح الصحيح، وهو: الذي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولدت من نكاح لا من سفاح» .

مسألة أهلية النكاح

وتزوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خديجة بنت خويلد قبل النبوة من ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان الذي خطبها له عمه أبو طالب، فخطب وقال: (الحمد لله الذي جعله بلداً حراماً، وبيتا محجوجاً، وجعلنا سدنته، وهذا محمد قد علمتم مكانه من العقل والنبل، وإن كان في المال قل، إلا أن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وما أردتم من المال.. فعلي، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك) فزوجها منه عمها. [مسألة أهلية النكاح] ولا يصح النكاح إلا من حر، بالغ، عاقل، مطلق التصرف. فأما العبد: فلا يصح نكاحه بغير إذن المولى، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه.. فهو عاهر ". وروي: فنكاحه باطل»

مسألة حكم النكاح

و (العاهر) : الزاني. ويصح منه بإذن مولاه، للخبر. وأما الصبي والمجنون: فلا يصح نكاحهما، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . ولأنه عقد معاوضة، فلم يصح من الصبي والمجنون، كالبيع. وأما السفيه: فلا يصح نكاحه بغير إذن الولي، لأنه حجر عليه لحفظ ماله، وفي النكاح يستحق عليه المال. ويصح منه بإذن الولي، لأنه لا يأذن له إلا فيما له فيه مصلحة من ذلك. [مسألة حكم النكاح] ] : النكاح مستحب غير واجب عندنا، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأكثر أهل العلم. وقال داود: (هو واجب على الرجل والمرأة، فإن كان الرجل واجداً لمهر حرة.. وجب عليه الترويج بحرة أو التسري بأمة، وإن كان عادماً لمهر حرة.. وجب عليه التزويج بأمة) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] الآية [النساء: 3] . فعلقه بالاستطابة، وما كان واجباً.. لا يتعلق بالاستطابة. وروى أبو أيوب الأنصاري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحب فطرتي..

فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح» . فعلقه على المحبة، وسماه سنة، وإذا أطلقت السنة.. اقتضت المندوب إليه. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير الناس بعد المائتين، خفيف الحاذ " قيل: يا رسول الله، ومن خفيف الحاذ؟ قال: " الذي لا أهل له ولا ولد» ، ويقال: رجل خفيف الحاذ: إذا كان قليل لحم الفخذين. وروي: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله، ما حق الزوج على المرأة؟ فبين لها ذلك، فقالت: لا والله! لا تزوجت أبدا» . فلو كان النكاح واجباً.. لأنكر عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروي: أن جماعة من الصحابة ماتوا ولم يتزوجوا، ولم ينكر عليهم. إذا ثبت هذا: فالناس في النكاح على أربعة أضرب: ضرب: تتوق نفسه إليه، ويجد أهبته- وهو المهر والنفقة وما يحتاج إليه. فيستحب له أن يتزوج، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة.. فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع.. فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» .

وقال أبو عبيد: (الباءة) : ممدود، وأصل الباءة الجماع، والمراد بالباءة المذكورة في الخبر: المال الذي يملك به الجماع- وهو المهر، والنفقة - فسماه باسم سببه. وأراد: من استطاع منكم المال الذي يتوصل به إلى الباءة.. فليتزوج، لأنه قال: «ومن لم يستطع.. فعليه بالصوم» أي: ومن لم يستطع المال، ونفسه تتوق إلى الجماع.. فعليه بالصوم، ليكون له وجاء. يقال للفحل إذا رضت أنثياه: قد وجئ وجاء، يعني: أنه قطع النكاح، لأن الموجوء لا يضرب، فلو كان المراد بالباءة المذكورة في الخبر الجماع.. لم يأمر بالصوم من لا يستطيعه ليكون له وجاء، لأنه لا يحتاج إلى ذلك. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج بنساء كثيرة، ومات عن تسع» .

وسأل رجل ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النكاح، فقال: (كان خيرنا أكثرنا

نكاحاً يعني: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التبتل» و (التبتل) : ترك النكاح. وقال سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «رد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن لنا.. لاختصينا» . وروي: أن معاذا لما مرض.. قال: (زوجوني زوجوني، لا ألقى الله عزبا) . ولأنه إذا لم يتزوج.. لم يأمن مواقعة الفجور. والضرب الثاني: من تتوق نفسه إلى الجماع، ولا يقدر على المهر والنفقة.. فالمستحب له: أن لا يتزوج، بل يتعاهد نفسه بالصوم، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ومن لم يستطع.. فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» ، ولأنه يشغل ذمته بالمهر والنفقة. والضرب الثالث: من لا تتوق نفسه إلى الجماع، ويريد التخلي لعبادة الله.. فيستحب له أن لا يتزوج، لأنه يلزم ذمته حقوقاً هو مستغن عن التزامها، ويشتغل عن عبادة الله تعالى. والضرب الرابع: من لا تتوق نفسه إلى الجماع، وهو قادر على المهر والنفقة، ولا يريد العبادة.. فهل يستحب له أن يتزوج؟ فيه قولان، حكاهما في " الفروع ":

فرع استحباب ذات الدين وغير ذلك من الصفات المرضية

أحدهما: لا يستحب له أن يتزوج، لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأبي الزوائد: (نكحت؟ قال: لا، فقال: ما يمنعك منه إلا عجز، أو فجور) . وروي: (إلا شح، أو فجور) ، ولأنه يشغل ذمته بما لا حاجة به إليه. والثاني: يستحب له أن يتزوج، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أحب فطرتي.. فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح» . وقال أبو حنيفة: (النكاح مستحب بكل حال) ، وبه قال بعض أصحابنا، والأول أصح، لما ذكرناه. [فرع استحباب ذات الدين وغير ذلك من الصفات المرضية] ] : ويستحب له أن لا يتزوج إلا ذات دين، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنكح المرأة لميسمها، ولمالها، ولحسبها، فعليك بذات الدين، تربت يداك» .

وفي رواية: «تنكح النساء لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك» . و (الميسم) : الحسن، ويقال: رجل وسيم، وامرأة وسيمة، وهو الجمال في الخبر الثاني، و (الحسب) : الشرف الثابت في الآباء. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليك بذات الدين، تربت يداك» : يقال للرجل إذا قل ماله: ترب، أي: افتقر حتى لصق بالتراب. قال الله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] [البلد: 16] . ولم يتعمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدعاء عليه بالفقر، ولكنها كلمة جارية على ألسنة العرب، يقولونها وهم لا يريدون وقوع الأمر، «كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصفية بنت حيي، حين قيل له يوم النفر: إنها حائض، فقال: " عقرى، حلقى» أي: عقر الله جسدها، وأصابها بوجع في حلقها، ولم يرد الدعاء عليها. وقال بعضهم: بل أراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: " تربت يداك " نزول الفقر به عقوبة له، لتعديه ذات الدين إلى ذات الجمال، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم، إنما أنا بشر، فمن دعوت عليه بدعوة.. فاجعل دعوتي له رحمة» . وقال بعضهم: معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تربت يداك ": يريد به استغنت يداك. وهذا خطأ، لأنه لو أراد ذلك.. لقال: أتربت يداك، يقال: أترب الرجل: إذا استغنى، وترب: إذا افتقر. ويستحب له أن يتزوج ذات العقل، لأن القصد بالنكاح طيب العيش معها، ولا يحصل ذلك مع من لا عقل لها.

ويستحب له أن يتزوج بكراً، لما «روى جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: تزوجت امرأة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " أتزوجت يا جابر؟ " فقلت: نعم فقال: " أبكراً أم ثيباً؟ "، فقلت: بل ثيبا، فقال: " فهلاً جارية بكراً، تلاعبها وتلاعبك» ؟ وروي: «تداعبها وتداعبك "، فقلت: يا رسول الله، إن عبد الله مات - يعني: أباه - وترك تسع بنات - أو سبعاً- فجئت بمن تقوم بهن» . ويستحب أن لا يتزوج إلا من يستحسنها، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما النساء لعب، فإذا اتخذ أحدكم لعبة.. فليستحسنها» . ويستحب له أن يتزوج ذات نسب، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنكح المرأة لأربع"، فقال: "لحسبها» . و (الحسب) : الشرف الثابت في الآباء. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تخيروا لنطفكم» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إياكم وخضراء الدمن " قيل: وما خضراء الدمن،

يا رسول الله؟ قال: "المرأة الحسناء في المنبت السوء» . وقال أبو عبيد [في" غريب الحديث " (3/99) ] : أراد: فساد النسب، وهو: أن تكون لغير رشدة، أي: من الزنا، شبهها بالشجرة الناضرة في دمنة البعر، فمنظرها حسن، ومنبتها فاسد. والأولى: أن يتزوج من غير عشيرته، لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (إذا تزوج الرجل من عشيرته.. فالغالب على ولده الحمق) .

مسألة ما يحق للحر جمعه من النساء

ويستحب له أن يتزوج الولود الودود، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تناكحوا، تكثروا» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تزوجوا الودود الولود "، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سوداء ولود خير من حسناء عقيم» . ويستحب له أن يتزوج في شوال، لما «روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت (تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شوال، وبنى بي في شوال» . فكانت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تستحب أن يبنى بنسائها في شوال. [مسألة ما يحق للحر جمعه من النساء] ] : ويجوز للحر أن يجمع بين أربع زوجات حرائر، ولا يجوز أن يجمع بين أكثر من ذلك. قال الصيمري: إلا أن المستحب له: أن لا يزيد على واحدة، لا سيما في زماننا هذا. وقال القاسم بن إبراهيم وشيعته القاسمية: يجوز له أن يجمع بين تسع حرائر، ولا يجوز له أن يجمع بين أكثر من ذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] [النساء: 3] ، والاثنتان والثلاث والأربع: تسع، ومات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تسع زوجات. وذهبت طائفة من الرافضة إلى: أنه يجوز له أن يتزوج أي عدد شاء. دليلنا: ما روي: «أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أمسك منهن أربعاً، وفارق سائرهن» . «وروي عن نوفل بن معاوية، قال: أسلمت وتحتي خمس نسوة، فقال لي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أمسك أربعا منهن، وفارق واحدة منهن» .

وأما الآية: فالمراد بها التخيير بين الاثنتين والثلاث والأربع، ولم يرد به الجمع، كقوله تعالى في صفة الملائكة: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] [فاطر: 1] . وكقول الرجل: جاءني القوم مثنى وثلاث ورباع. وأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإنه كان مخصوصاً بذلك. وقد روي: أنه جمع بين أربع عشرة

فرع ما يجوز للعبد جمعه من النساء

زوجة، وما روي أن أحداً من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جمع بين أكثر من أربع زوجات. [فرع ما يجوز للعبد جمعه من النساء] ] : وأما العبد: فلا يجوز له أن يجمع بين أكثر من امرأتين، وبه قال من الصحابة: عمر، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن التابعين: الحسن، وعطاء. ومن الفقهاء أهل الكوفة: ابن شبرمة، وابن أبي ليلي، وأبو حنيفة وأصحابه، وبه قال الليث وأحمد وإسحاق. وقال أهل المدينة - الزهري، وربيعة، ومالك رحمة الله عليهم-: (يجوز له أن يجمع بين أربع، كالحر) . وبه قال الأوزاعي، وداود، وأبو ثور. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28] [الروم: 28] . فظاهر الآية يقتضي: أن العبيد لا يساوون الأحرار في حكم من الأحكام إلا ما خصه الدليل. وروي عن الحكم بن عتيبة: أنه قال: أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن العبد لا ينكح أكثر من امرأتين. [مسألة ما يجوز للخاطب من النظر] ] : وإذا أراد الرجل خطبة امرأة.. جاز له النظر منها إلى ما ليس بعورة منها - وهو

وجهها وكفاها - بإذنها وبغير إذنها. ولا يجوز له أن ينظر إلى ما هو عورة منها، وبه قال مالك، وأبو حنيفة. وحكي عن مالك: أنه قال: (لا يجوز له ذلك إلا بإذنها) . وقال المغربي: لا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها. وقال داود: (يجوز له أن ينظر إلى جميع بدنها، إلا إلى فرجها) . دليلنا - على المغربي -: ما رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رجلا ذكر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه أراد تزويج امرأة من الأنصار، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "انظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئا» . وروي: " سوءا ". «وروي عن المغيرة بن شعبة: أنه قال: أردت أن أنكح امرأة من الأنصار، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "اذهب، فانظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما". قال: فذهبت، فأخبرت أباها بذلك، فذكر أبوها ذلك لها، فرفعت الخدر، وقالت: إن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لك أن تنظر.. فانظر، وإلا.. فإني أحرج عليك إن كنت تؤمن بالله ورسوله» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يؤدم بينكما " أي " يصلح.

وأما الدليل: - على داود -: فقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] [النور: 31] . قيل في التفسير: الوجه والكفان. فظاهر الآية يقتضي: أنه لا يجوز للمرأة أن تبدي إلا وجهها وكفيها. وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أراد أحدكم أن يتزوج امرأة.. فلينظر إلى وجهها وكفيها» ، فدل على: أنه لا يجوز له النظر إلى غير ذلك. ولأن ذلك يدل على سائر بدنها. إذا ثبت هذا: فله أن يكرر النظر إلى وجهها وكفيها، لما روى أبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قذف الله في قلب امرئ خطبة امرأة.. فلا بأس أن يتأمل محاسن وجهها» . ولا يمكنه تأمل ذلك إلا بأن يكرر النظر إليها. قال الصيمري: وإذا نظر إليها ولم توافقه.. فالمستحب له: أن يسكت، ولا يقول: لا أريدها.

فرع نظر المرأة المخطوبة للخاطب

قال الصيمري: وقد جرت عادة الرجال في وقتنا هذا أن يبعثوا امرأة ثقة، لتنظر إلى المرأة التي يريدون خطبتها، وهو خلاف السنة. وذكر في " الإفصاح ": «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لتنظر إلى وجه امرأة أراد أن يتزوجها، فرجعت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وقالت: لم تمرض قط، فلم يرغب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها» . فإذا ثبت هذا الخبر.. كان مبطلاً لقول الصيمري. [فرع نظر المرأة المخطوبة للخاطب] فرع: [جواز نظر المرأة المخطوبة للخاطب] : قال الشيخ أبو إسحاق - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويجوز للمرأة إذا أرادت أن تتزوج برجل أن تنظر إليه، لأنه يعجبها منه ما يعجبه منها، ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا تزوجوا بناتكم من الرجل الدميم، فإنه يعجبهن منهم ما يعجبهم منهن) .

فرع الأمر بغض البصر عن الأجنبيات وعكسه

[فرع الأمر بغض البصر عن الأجنبيات وعكسه] ] : وإذا أراد الرجل أن ينظر إلى امرأة أجنبية منه من غير سبب.. فلا يجوز له ذلك، لا إلى العورة، ولا إلى غير العورة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] [النور: 30ٍ] . وروى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أردف الفضل بن العباس خلفه في حجة الوادع، فأتت امرأة من خثعم إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فلوى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنق الفضل، فقال العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لويت عنق ابن عمك، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " رجل شاب، وامرأة شابة، خشيت أن يدخل الشيطان بينهما» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليس لك الأخرى "، أو قال: وعليك الأخرى»

وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نظر الرجل إلى محاسن امرأة لا تحل له سهم من سهام الشيطان مسموم، من تركها خوفا من الله، ورجاء ما عنده.. أثابه الله بها» . قال ابن الصباغ، والمسعودي [في " الإبانة "] ، والطبري: إذا لم يخف الافتتان بها.. فله أن ينظر منها إلى الوجه والكفين بغير شهوة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليس لك الأخرى» . ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل الأجنبي، لا إلى العورة منه، ولا إلى غير العورة من غير سبب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] [النور: 31] .

فرع بروز المسلمة أمام الكتابية أو غيرها من الكافرات

وروي: «أن ابن أم مكتوم دخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعنده أم سلمة، وميمونة - وقيل: عائشة، وحفصة - فقال: " احتجبا عنه " فقالا: إنه أعمى لا يبصرنا! فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أفعمياوان أنتما؟! أليس تبصرانه؟» . ولأن المعنى الذي منع الرجل من النظر لأجله، هو خوف الافتتان، وهذا موجود في المرأة، لأنها أسرع إلى الافتتان، لغلبة شهوتها، فحرم عليها ذلك. [فرع بروز المسلمة أمام الكتابية أو غيرها من الكافرات] ] : وهل يجوز للمرأة المسلمة أن تبرز للمرأة الكتابية، أو غيرها من الكافرات؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، لأنه لا يخاف عليها الافتتان بذلك. والثاني: لا يجوز، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] [النور: 31] ، وهذه ليست من نسائهن. وهل يجوز للرجل أن ينظر إلى الطفلة الصغيرة الأجنبية؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] . ولا خلاف: أنه لا يجوز له النظر إلى فرجها.

فرع نظر المراهق والخصي والمتخنث إلى الأجنبية

[فرع نظر المراهق والخصي والمتخنث إلى الأجنبية] فرع: [حكم نظر المراهق والخصي والمتخنث إلى الأجنبية] : واختلف أصحابنا في الصبي المراهق مع المرأة الأجنبية: فمنهم من قال: هو كالرجل البالغ الأجنبي معها، فلا يحل لها أن تبرز له، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] [النور: 31] . ومعناه: لم يقووا على الجماع، والمراهق يقوى على الجماع، فهو كالبالغ. ومنهم من قال: هو معها كالبالغ من ذوي محارمها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] [النور: 59] . فأمر بالاستئذان إذا بلغوا الحلم، فدل على: أنه قبل أن يبلغوا الحلم يجوز دخولهم من غير استئذان. ولا يجوز للرجل الخصي أن ينظر إلى بدن المرأة الأجنبية، وقال ابن الصباغ: إلا أن يكبر، ويهرم، وتذهب منه شهوته. قال: وكذلك المخنث، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31] [النور: 31] . وروي: «أن مخنثا كان يدخل على أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لعبد الله بن أبي أمية - أخي أم سلمة -: إن فتح الله علينا الطائف غداً.. دللتك على ابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا أراك تعقل هذا، لا يدخل هذا عليكن» . وإنما لم يمنع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من دخوله قبل هذا، لأنه كان يظن أنه من غير أولي الإربة من الرجال، فلما وصف من المرأة ما وصف.. علم أنه ليس من أولئك، فمنع من دخوله.

فرع النظر لأجل الشهادة والمداواة وإلى الأمرد

وقوله (تقبل بأربع) يعني: أربع عكن في مقدم بطنها. قوله: (تدبر بثمان) : لأن الأربع محيطة ببطنها وجنبيها، فلها من خلفها ثمانية أطراف، من كل جانب أربعة أطراف. [فرع النظر لأجل الشهادة والمداواة وإلى الأمرد] ويجوز للرجل أن ينظر إلى وجه المرأة الأجنبية عند الشهادة، وعند البيع منها والشراء، ويجوز لها أن تنظر إلى وجهه كذلك، لأن هذا يحتاج إليه، فجاز النظر لأجله. ويجوز لكل واحد منهما أن ينظر إلى بدن الآخر إذا كان طبيباً وأراد مداواته، لأنه موضع ضرورة، فزال تحريم النظر لذلك. وأما أمة غيره: فإذا لم يكن هناك سبب.. فهي كالحرة الأجنبية مع الأجنبي. فإن أراد أن يشتريها.. فيجوز له أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها، وقد مضى بيان عورتها في الصلاة. قال الشيخ أبو حامد: وحكى الداركي: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (لا يجوز النظر إلى وجه الأمرد، لأنه يفتن) . قال: ولا أعرفه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. والأول اختيار الشيخ أبي إسحاق. قال المسعودي [في " الإبانة "] : ويحل للرجل النظر إلى الخنثى. [مسألة النظر إلى المحارم والرجل للرجل والمرأة للمرأة] ويجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة من ذوات محارمه، وكذلك يجوز لها النظر إليه من غير سبب ولا ضرورة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] [النور: 31] الآية. وفي الموضع الذي يجوز له النظر إليه منها وجهان، حكاهما المسعودي [في "الإبانة "] :

فرع نظر العبد لمولاته والخلوة بها

أحدهما - وهو قول البغداديين من أصحابنا- أنه يجوز له النظر إلى جميع بدنها، إلا ما بين السرة والركبة، لأنه لا يحل له نكاحها بحال، فجاز له النظر إلى ذلك، كالرجل مع الرجل. والثاني - وهو اختيار القفال -: أنه يجوز له النظر إلى ما يبدو منها عند المهنة، لأنه لا ضرورة به إلى النظر إلى ما زاد على ذلك. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وهكذا الوجهان في النظر إلى أمة غيره، إذا لم يرد شراءها، وهذا خلاف نقل البغداديين من أصحابنا فيها، وقد مضى. ويجوز للرجل أن ينظر إلى جميع بدن الرجل، إلا ما بين السرة والركبة، من غير سبب ولا ضرورة. ويجوز للمرأة أن تنظر إلى جميع بدن المرأة، إلا ما بين السرة والركبة، من غير سبب ولا ضرورة، لأنه لا يخاف الافتتان بذلك. [فرع نظر العبد لمولاته والخلوة بها] وإذا ملكت المرأة عبداً.. فهل يكون كالمحرم لها في جواز النظر والخلوة به؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يصير محرماً لها في ذلك. قال في " المهذب ": وهو المنصوص، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] [النور: 31] فعده مع ذوي المحارم. وروت أم سلمة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «إذا كان مع مكاتب إحداكن وفاء.. فلتحتجب منه» ، فلولا أن الاحتجاب لم يكن واجباً عليهن قبل ذلك.. لما أمرهن به.

مسألة النظر للزوجة وملك اليمين

وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - غلاماًَ، فأراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يدخل عليها، ومعه علي والغلام، وهي أفضل - أي: ليس عليها إلا ثوب واحد- فأرادت أن تغطي به رأسها ورجليها فلم يبلغ، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا بأس عليك إنما هو أبوك وزوجك وخادمك» . ولأن الملك سبب تحريم الزوجية بينهما فوجب أن يكون محرماً لها، كالنسب والرضاع. والثاني: لا يكون محرماً لها. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح عند أصحابنا، لأن الحرمة إنما تثبت بين شخصين لم تخلق بينهما شهوة، كالأخ والأخت، والعبد وسيدته شخصان خلقت بينهما الشهوة، فهو كالأجنبي. وأما الآية: فقال أهل التفسير: المراد بها الإماء، دون العبيد. وأما الخبر: فيحتمل أن يكون الغلام صغيراً. [مسألة النظر للزوجة وملك اليمين] ] : وإذا تزوج الرجل امرأة، أو ملك أمة يحل له الاستمتاع بها.. جاز لكل واحد منهما النظر إلى جميع بدن الآخر، لأنه يملك الاستمتاع به، فجاز له النظر إليه. وهل يجوز له النظر إلى الفرج؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، لأنه موضع يجوز له الاستمتاع به، فجاز له النظر إليه، كالفخذ. والثاني: لا يجوز، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «النظر على الفرج يورث الطمس» . ولأن فيه دناءة وسخفاً. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: يعني

مسألة ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم

بـ: (الطمس) : العمى، أي: في الناظر. وقال الطبري في" العدة ": أي: أن الولد بينهما يولد أعمى. وإذا زوج الرجل أمته.. كانت كذوات محارمه، فلا يجوز له أن ينظر منها إلى ما بين السرة والركبة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا زوج أحدكم أمته.. فلا ينظر منها إلى ما بين السرة والركبة» . ولأنه إذا زوجها.. فحكم الملك ثابت بينهما، وإنما حرم عليه الاستمتاع بها، فصارت كذوات المحارم. [مسألة ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن الله عز وجل لما خص به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وحيه، وأبان بينه وبين خلقه بما فرض عليهم من طاعته.. افترض عليه أشياء خففها على خلقه، ليزيده بها- إن شاء الله- قربة، وأباح له أشياء حظرها على غيره، زيادة في كرامته، وتبييناً لفضيلته) . وجملة ذلك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خص بأحكام في النكاح وغيره، ولم يشاركه غيره فيها. فأما ما خص به في غير النكاح: فأوجب الله تعالى عليه أشياء لم يوجبها على غيره، ليكون ذلك أكثر لثوابه، فأوجب عليه السواك، والوتر، والأضحية، والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث كتبهن الله تعالى علي، ولم تكتب عليكم: السواك والوتر، والأضحية» .

وكان يجب عليه إذا لبس لأمة حربه أن لا ينزعها.. حتى يلقى العدو. والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما كان لنبي إذا لبس لأمة حربه أن ينزعها.. حتى يلقى العدو» . وأما قيام الليل: فمن أصحابنا من قال: كان واجباً عليه إلى أن مات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] [المزمل: 1-2] . والمنصوص: (أنه كان واجباً عليه، ثم نسخ بقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] [الإسراء: 79] . وكان يجب عليه إذا رأى منكراً.. أنكره وأظهره، لأن إقراره لغيره على ذلك يدل على جوازه، وقد ضمن الله تعالى له النصر. وحرم الله عليه أشياء لم يحرمها على غيره، تنزيهاً له وتطهيراً، فحرم عليه الكتابة، وقول الشعر وتعليمه، تأكيداً لحجته، وبياناً لمعجزته. قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] [العنكبوت: 48] . وذكر النقاش: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما مات حتى كتب) . والأول هو المشهور. وحرمت عليه الصدقة المفروضة قولاً واحداً. وفي صدقة التطوع قولان، وقد مضى ذكرهما في الزكاة. وحرم عليه خائنة الأعين- وهو الرمز بالعين- لما روي: «أن رجلا دخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأراد قتله، فلما خرج عنه.. قال: " هلا قتلتموه؟ ! " فقالوا: هلا رمزت إلينا؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين»

وحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس. والدليل عليه: ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرت به إبل، وقد عنست بأبوالها وأبعارها، فغطى عينيه، فقيل له في ذلك، فقال: قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [طه: 131] [طه: 131] الآية. وأوعده الله أن يحبط عمله بنفس الردة، وأوعد غيره أن لا يحبط عمله إلا بالردة والموت عليها. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] [الزمر: 65] الآية. وقال في غيره: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217] [البقرة: 217] . وأباح الله تعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشياء لم يبحها لغيره، تفضيلا له واختصاصاً: منها: أنه أباح له الوصال في الصوم، والدليل عليه: «أنه نهى عن الوصال، فقيل له: يا رسول الله، إنك تواصل، فقال: " إني لست مثلكم، إني أطعم وأسقى» ، وفي رواية: «إني أبيت عند ربي، يطعمني، ويسقيني» . وأبيح له أخذ الطعام والشراب من الجائع والعطشان، وإن كان من هو معه يخاف على نفسه الهلاك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] وعلى كل واحد من المسلمين أن يقي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنفسه. وأبيح له أن يحمي لنفسه، وأبيح له أربعة أخماس الفيء وخمس الخمس من الفيء والغنيمة.

وأبيح له أن يصطفي من الغنيمة ما شاء، وهو: أن يختار منها ما شاء، وقد اصطفى صفية من سبي خيبر، فلذلك سميت صفية. وقيل: بل كان ذلك اسمها. وأكرمه الله تعالى بأشياء: منها: أنه أحل له الغنائم ولأمته، وكانت لا تحل لمن قبله من الأنبياء، بل كانوا يحرقونها. والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد من قبلي» . وجعلت الأرض له ولأمته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسجداً وطهوراً، وكان من قبله من الأنبياء لا تصح صلاتهم إلا في المساجد. والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت الأرض لنا مسجداً، وترابها لنا طهوراً، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة» . وجعلت له معجزات كمعجزات الأنبياء قبله، وزيادة، فكانت معجزة موسى - صلى الله على نبينا وعليه وسلم- العصا، وانفجار الماء من الصخر، وقد انشق القمر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخرج الماء من بين أصابعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكانت معجزة عيسى صلى الله

عليه وعلى نبينا وسلم إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وقد سبحت الحصى في كف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحن الجذع إليه، وهذا أبلغ. وفضله الله تعالى عليهم، بأن جعل القرآن معجزته، وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة، ولهذا جعلت نبوته مؤبدة، لا تنسخ إلى يوم القيامة، لأن معجزته باقية. ونصر بالرعب، فكان يخافه العدو من مسيرة شهر. وبعث إلى كافة الخلق، وقد كان من قبله من الأنبياء يبعث الواحد إلى بعض الناس دون بعض. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنام عيناي، ولا ينام قلبي» . وكان يرى من خلفه، كما يرى من بين يديه. وأما ما خص به النبي صلى عليه وسلم من الأحكام في النكاح: فاختلف أصحابنا في المنع من الكلام فيه: فحكى الصيمري: أن أبا علي بن خيران منع من الكلام فيه، وفي الإمامة، لأن ذلك قد انقضى، فلا معنى للكلام فيه. وقال سائر أصحابنا: لا بأس بالكلام في ذلك، وهو المشهور، لما فيه من زيادة العلم، وقد تكلم العلماء فيما لا يكون، كما بسط الفرضيون مسائل الوصايا، وقالوا: إذا ترك أربعمائة جدة وأكثر. إذا ثبت هذا: فإنه أبيح للنبي صلى الله وعليه وسلم أن ينكح من النساء أي عدد شاء. وحكى الطبري في " العدة " وجها آخر: أنه لم يبح له أن يجمع بين أكثر من تسع.

والأول هو المشهور، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] [النساء: 3] . قيل في التفسير: أن لا تجوروا في حقوقهن، فحرم الزيادة على الأربع، وندب إلى الاقتصار على واحدة، خوفاً من الجور وترك العدل، وهذا مأمون من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ثماني عشرة امرأة، وقيل: بل خمس عشرة. وجمع بين أربع عشرة، وقيل: بل بين إحدى عشرة. ومات عن تسع: عائشة بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وحفصة بنت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وأم سلمة بنت أبي أمية، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وميمونة بنت الحارث، وجويرية بنت الحارث، وصفية بنت حيي بن أخطب، وزينب بنت جحش - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - وأرضاهن. فهؤلاء ثمان نسوة كان يقسم لهن إلى أن مات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتاسعة سودة بنت زمعة: (كانت وهبت ليلتها لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) . وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رغب في نكاح امرأة مزوجة، وعلم زوجها بذلك.. وجب عليه أن يطلقها! كامرأة زيد بن حارثة، كما أنه إذا احتاج إلى طعام، ومع إنسان طعام،

فرع نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة

لو لم يأكله مات جوعاً.. وجب عليه أن يبذله له. وأبيح له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتزوج من غير مهر، لا ابتداء، ولا انتهاء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] [الأحزاب: 50] الآية، والهبة إنما تكون بغير عوض. [فرع نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة] ] : وهل كان يحل له النكاح بلفظ الهبة؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه كان يحل له، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] [الأحزاب: 50] الآية. وروي: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: قد وهبت نفسي منك يا رسول الله، فقال: ما لي اليوم في النساء من حاجة» ، ولم ينكر عليها قولها: (قد وهبت نفسي منك) . ولأن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما لا يصح نكاحه بلفظ الهبة، لأنه لا يعرو عن عوض، والهبة لا تتضمن عوضا، ونكاح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصح أن يعرو عن العوض، فلذلك صح بلفظ الهبة.

فرع نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلا ولي ولا شهود

والثاني: لا يحل له. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} [الأحزاب: 50] [الأحزاب: 50] الآية. فأجاز له العقد بالاستنكاح- وهو لفظ التزويج، أو الإنكاح - فدل على: أن ذلك يشترط في نكاحه. ولأن لفظ الهبة، ولفظ الإباحة واحد، لأنهما لا يتضمنان عوضاً، فلما لم يصح نكاحه بلفظ الإباحة.. لم يصح بلفظ الهبة. وإذا قلنا بالأول: فهل يصح قبوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: (اتهبت) ، أو لا يصح حتى يقول: (نكحت) ، أو: (تزوجت) ، وما أشبهها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في" الإبانه "] . [فرع نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلا ولي ولا شهود] وهل كان يصح نكاحه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير ولي ولا شهود؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح، لما روي ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدين» ، ولم يفرق. ولأن كل ما كان شرطاً في نكاح غيره.. كان شرطاً في نكاحه، كالإيجاب والقبول.

فرع زواجه صلى الله عليه وسلم في الإحرام

والثاني: يصح. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح، لما روي: «أن النبي صلى عليه وسلم لما خطب أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.. اعتذرت إليه بأشياء، منها: أن قالت: ليس لي ولي حاضر فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ليس لك ولي حاضر ولا غائب، إلا وهو يرضاني "، فقالت أم سلمة: قم يا عمر - تعني: ابنها - فزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . قال الشيخ أبو حامد: وأصحابنا يروون: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا غلام، قم فزوج أمك» . والذي أعرفه هو الأول. فتزوجها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير ولي، لأن الابن ليس بولي عندنا، لأن ابنها كان يومئذ صغيراً. ولأن الولي إنما اشترط في النكاح، لئلا تضع المرأة نفسها في غير كفء، واشترط حضور الشهود عند العقد، ليثبتوا الفراش، فيلحق النسب به، إن جحد الزوج، وذلك لا يوجد في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [فرع زواجه صلى الله عليه وسلم في الإحرام] وهل كان يصح نكاحه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حال الإحرام؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينكح المحرم، ولا ينكح» . 50

فرع زواجه صلى الله عليه وسلم من الكتابيات

والثاني: يصح، لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة وهو- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرم» . ولأن المحرم إنما منع من العقد في الإحرام، لئلا يدعوه ذلك على مواقعتها في حال الإحرام، وهذا مأمون منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [فرع زواجه صلى الله عليه وسلم من الكتابيات] وهل كان يجوز نكاحه الحرائر الكتابيات؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز له، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] [المائدة: 5] ولم يفرق. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبيح في النكاح ما لم يبح لغيره، فلا يجوز أن يحرم عليه منه ما أبيح لغيره. والثاني- وهو قول أكثر أصحابنا - أنه لا يجوز له نكاحها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] ، ولا يجوز أن تكون الكافرة أما للمؤمنين. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الآخرة» ، والكافرة لا تدخل الجنة، فلا تكون زوجة له.

فرع زواجه صلى الله عليه وسلم من الأمة المسلمة ووطؤه لملك اليمين

[فرع زواجه صلى الله عليه وسلم من الأمة المسلمة ووطؤه لملك اليمين] وأما تزويج الأمة المسلمة: فالمشهور من المذهب: أنه لا يحل له ذلك، لأن تزويجها للحر إنما يكون بشرطين: عدم طول الحرة، والخوف من العنت، وهذان، معدومان في حقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه كان يحل له ذلك، لما ذكرناه في نكاحه للذمية. فإذا قلنا بهذا: فما كان حكم ولده منها إذا قلنا: إن ولد العربي من الأمة مملوك؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه رقيق، كولدها من غيره. والثاني: ليس برقيق، وهو الأصلح، لأنه يستحيل أن يسترق من هو جزء من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأما وطء الأمة المسلمة بملك اليمين: فكان يحل له، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] [الأحزاب: 52] الآية. ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وطيء مارية القبطية بملك اليمين، وأولد منها إبراهيم عليه والسلام. وكان يحل له وطء الأمة الكتابية بملك اليمين، لأنه اصطفى صفية بنت حيي من سبي خيبر، وكان يطؤها قبل أن تسلم، فلما أسلمت أعتقها، وجعل عتقها صداقها - وهذا مما خص به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيضا- فتزوجها. [مسألة تخيير النساء خاص به صلى الله عليه وسلم] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فمن ذلك: أن من ملك زوجة.. فليس عليه تخييرها، وأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخير نساءه، فاخترنه) . وجملة ذلك: أن الله تعالى خير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بين أن يكون نبيا ملكاً وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا، وبين أن يكون نبياً مسكيناً، فشاور - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،

فأشار عليه بالمسكنة، فاختارها، فلما اختارها وهي أعلى المنزلتين.. أمره الله تعالى أن يخير زوجاته، فربما كان فيهن من تكره المقام معه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الشدة، تنزيها له. وقيل: إن السبب الذي وجب التخيير لأجله: أن امرأة من زوجاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سألته أن يصوغ لها حلقة من ذهب، فصاغ لها حلقة من فضة، وطلاها بالذهب- وقيل: بالزعفران- فأبت إلا أن تكون من ذهب، فنزلت آية التخيير، وهي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] الآية [الأحزاب: 28] . وقيل: إنما أمر بتخييرهن امتحانا لقلوبهن، وابتلاء لهن، وإلا.. فلا يختار له إلا الصالحات من النساء، ولكن يعلم بذلك أحكام، فبدأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعائشة، وقال: «إني مخيرك، ولا عليك أن لا تحدثي أمرا حتى تستأمري أبويك "، ثم قال: " إن الله أنزل علي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] [الأحزاب: 28] ، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أفيك أشاور أبوي؟! إني اخترت الله ورسوله. قالت عائشة: لا تخبر بما صنعت أحداً من أزواجك، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما بعثت ميسراً، ولم أبعث معسراً"، ثم دخل على باقي أزواجه، فخيرهن، فكن يقلن: ما قالت عائشة، فيقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اختارت الله ورسوله" فيقلن: اخترن الله ورسوله» . وقيل: إن واحدة منهن اختارت الفراق. وإنما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن تشاور أبويها، لأنه كان يحبها، وكان يخاف أن يحملها فرط الشباب على أن تختار فراقه، ويعلم من أبويها أنهما لا يشيران عليها بفراقه.

إذا ثبت هذا: فإن التخيير كناية في الطلاق، فلا يقع به طلاق حتى يقول الرجل لامرأته: اختاري نفسك، وينوي بذلك: أنه جعل طلاقها إليها، وتقول المرأة، اخترت نفسي، وتنوي بذلك الطلاق. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (هو صريح في الطلاق) . دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير عائشة، وأمرها أن تشاور أبويها، فلو كان الطلاق قد وقع، وبانت منه.. لم يمكنها مشاورتهما، ولأنها لو بانت منه.. لما أفاد اختيارها له. إذا تقرر هذا: فإن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خير زوجته.. فلا خلاف على المذهب: أن قبولها يجب أن يكون على الفور، بحيث يصلح أن يكون جواباً لكلامه. وأما تخيير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لزوجاته.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: إنه على التراخي، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فقال لها: «لا تحدثي أمرا حتى تشاوري أبويك» فأجاز لها تأخير الجواب إلى مشاورتهما، فدل على: أن الجواب لا يقتضي الفور. و [الثاني] : منهم من قال: إنه على الفور، وهو الصحيح، لأن التخيير يجري مجرى البيع والهبة، فلما كان قبول بيع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهبته على الفور.. فكذلك تخييره وأما تخيير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: فكان تخييراً موسعا إلى مشاورة أبويها، ولو أطلق التخيير.. لاقتضى الجواب على الفور. هذا نقل الشيخ أبي حامد. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا اختارت واحدة منهن الدنيا.. وقعت الفرقة، وهل كان ذلك طلاقا أو فسخاً؟ فيه وجهان. فإن قلنا: كان طلاقاً.. فهو على الفور، وإن قلنا: كان فسخاً.. فهو على التراخي. وقال القفال: إن اختارت واحدة منهن الدنيا.. فهل تبين منه بذلك، أو يلزمه أن يطلقها؟ فيه وجهان:

فرع خير نساءه صلى الله عليه وسلم فاخترنه فحظر عليه نكاح غيرهن

أحدهما: تبين منه، كما لو خير أحدنا زوجته، فاختارت فراقه. والثاني: لا تبين منه حتى يطلقها. قال: وهو الأصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] [الأحزاب: 28] الآية. ولأن الرجل منا لو خير زوجته بين الدنيا والآخرة، فاختارت الدنيا.. لم تبن منه، فكذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [فرع خير نساءه صلى الله عليه وسلم فاخترنه فحظر عليه نكاح غيرهن] وحكم طلاقهن بعد تخييرهن] : لما خير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه، فاخترنه.. حرم الله عليه التزويج بغيرهن، والاستبدال بهن، مكافأة لهن على فعلهن. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] [الأحزاب: 52] . وهل كان يحل له أن يطلق واحدة منهن بعد ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في" الإبانة "] : أحدهما - وهو اختيار المسعودي [في" الإبانة "] ، لم يذكر ابن الصباغ غيره-: أنه كان لا يحل له ذلك، جزاء لهن على اختيارهن له. والثاني - ولم يذكر في " التعليق " غيره-: أنه كان يحل له ذلك، كغيره من الناس، ولكن لا يتزوج بدلها، ثم نسخ هذا التحريم، وأباح له أن يتزوج بمن شاء عليهن من النساء. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] [الأحزاب: 50] الآية. والإحلال يقتضي تقدم حظر، وزوجاته اللاتي في حياته لم يكن محرمات عليه، وإنما كان حرم عليه التزويج بالأجنبيات، فانصرف الإحلال إليهن، ولأنه قال في سياق الآية: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب: 50] . [الأحزاب: 50] ولم يكن تحته أحد من بنات عمه، ولا من بنات عماته، ولا من بنات خاله، ولا من بنات خالاته، فثبت: أنه أحل له التزويج بهن ابتداء، وهذه الآية وإن كانت متقدمة في التلاوة.. فهي متأخرة النزول عن الآية المنسوخة بها، كالآية في قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] [البقرة: 234] نسخت

فرع أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين

الآية المتأخرة عنها في التلاوة، وهي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] الآية [البقرة: 240] . والذي يدل على أن التحريم نسخ: ما روي عن أبي وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: «ما مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أحل الله له النساء» ، يعني: اللاتي حظرن عليه. [فرع أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين] ومما خص به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن جعل الله أزواجه أمهات المؤمنين. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] . قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (قَوْله تَعَالَى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] في معنى دون معنى) ، وأراد به: أن أزواجه اللاتي مات عنهن لا يحل لأحد نكاحهن، ومن استحل ذلك.. كان كافراً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53] [الأحزاب: 53] . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الآخرة» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل نسب وسبب ينقطع إلا سببي ونسبي.. فإنه باق إلى يوم القيامة» ، و (السبب) : القران والنكاح، ولا يكون حكمهن حكم الأمهات من

فرع نكاح المفارقات من نسائه صلى الله عليه وسلم

النسب في التوارث، ولا حكم الأمهات من النسب والرضاع في: أنه لا يحل نكاح بناتهن وأخواتهن وأمهاتهن، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوج بناته من المسلمين. ونقل المزني: (وقد زوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بناته وهن أخوات المؤمنين، وليس هذا على ظاهره، لأنهن لو كن أخواتهم.. ما جاز لهم تزويجهن) ، ولما نقله تأويلان: أحدهما: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أراد: وهن غير أخوات المؤمنين، فأسقط المزني: (غير) . والثاني: أنه أخرجه مخرج الإنكار، وتقدير الكلام: أترى زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بناته، وهن أخوات المؤمنين؟ [فرع نكاح المفارقات من نسائه صلى الله عليه وسلم] وأما زوجات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللاتي فارقهن في حياته، مثل الكلبية، والتي قالت له: أعوذ بالله منك، فقال: «استعذت بمعاذ! الحقي بأهلك» ، و: " (المرأة التي رأى في كشحها بياضاً، ففارقها) : فهل كان يحل لغيره نكاحهن؟ فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه كان يحل لغيره نكاحهن، سواء من دخل بها منهن ومن لم يدخل بها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] [الأحزاب:28] .، فلو كان لا يحل لغيره نكاحهن إذا اخترن فراقه.. لم يحصل لهن من زينة الدنيا شيء؛ لأن الأيم لا زينة لها ولا لذة. والثاني: لا يحل لأحد نكاحهن، سواء دخل بهن أو لم يدخل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] ، وحرمة الأمومة تثبت بالعقد. والثالث- وهو الصحيح - أن من فارقها بعد أن دخل بها.. لا يحل لأحد نكاحها، ومن فارقها قبل أن يدخل بها.. يحل نكاحها، لما روي: أن المرأة الكلبية التي فارقها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها عكرمة بن أبي جهل، فرفع ذلك إلى أبي بكر الصديق - وقيل: إلى عمر رضي الله عنهما - فهم برجمها، فقيل له: إنه لم يدخل بها، فخلى عنها. وقيل: إن الذي تزوجها الأشعث بن قيس الكندي.

فرع فضل زوجاته صلى الله عليه وسلم

وقال القاضي أبو الطيب: إن الذي تزوجها مهاجر بن أبي أمية، ولم ينكر أحد ذلك، فدل على: أنه إجماع. [فرع فضل زوجاته صلى الله عليه وسلم] ومما خص الله به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن فضل الله زوجاته على سائر نساء العالمين، فقال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] [الأحزاب:30-31] . فجعل حدهن مثلي حد غيرهن، لكمالهن وفضيلتهن، كما جعل حد الحر مثلي حد العبد، فأخبر: إن حسناتهن تضاعفن تفضيلاً لحالهن. ثم قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] الآية [الأحزاب:32] : وذلك، لموضعهن من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقربهن منه. [فرع القسم في الزوجات] ومما خص الله تعالى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن الواحد منا إذا كان له أكثر من زوجة.. فإنه لا يجب عليه القسم ابتداء، بل له أن ينفرد عنهن، ولكن يجب عليه القسم انتهاء، وهو: أنه إذا بات عند واحدة منهن.. لزمه القضاء للباقيات. وأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فكان لا يجب عليه القسم ابتداء، وهل كان يجب عليه القسم انتهاء، وهو: أنه إذا بات عند واحدة منهن.. لزمه القضاء للباقيات؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه كان لا يجب عليه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] [الأحزاب:51] . والثاني: أنه كان يجب عليه ذلك، وهو المذهب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقسم لنسائه ويقول: «اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، وأنت أعلم بما لا أملك» يعني: قلبه.

فرع تأويل كلام المزني

و: (لما مرض.. كان يطاف به على أزواجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما ثقل وعلم أزواجه أنه قد شق عليه.. قلن: قد رضينا أن تكون عند عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فكان عندها إلى أن مات - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، فلو لم يكن واجباً عليه.. لما تكلف المشقة فيه. ولـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم بطلاق سودة بنت زمعة لما كبرت، فأحست بذلك، فقالت: لا تطلقني يا رسول الله، ودعني أحشر في جملة أزواجك، وقد وهبت ليلتي لعائشة، فلم يطلقها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يقسم لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ليلتين» . وأما الآية: فإنها وردت في التي وهبت نفسها له، ومعناها: تقبل من الموهبات من شئت، وترد منهن من شئت. [فرع تأويل كلام المزني] وأما تأويل كلام المزني لقوله: (إن الله تعالى لما خص به رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : قيل: (لما) بكسر اللام وتخفيف الميم، فيكون المراد: أن الله تعالى افترض على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الأشياء، لأجل ما خصه به من وحيه. وقيل: (لما) بفتح اللام وتشديد الميم، فيكون المراد: لما وجه إليه الوحي وخصه به.. افترض عليه هذه الأشياء.

وأما قول المزني: (وأبان بينه وبين خلقه بما فرض عليهم) ، فالمراد به: أنه فرق بينه وبين أمته، وأظهر فضله عليهم. ولا يقال في: (الفرق) : أبان، وإنما يقال: باين، وقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " أحكام القرآن " [1/29 و 2/121] : (وأبان من فضله - من المباينة بينه وبين خلقه-: فرض عليهم طاعته في غير آية من كتابه، فقال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] [النساء:59] ، وافترض عليه أشياء خففها عن خلقه) . وهذا أوضح معنى مما نقله المزني. وبالله التوفيق

باب ما يصح به النكاح

[باب ما يصح به النكاح] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (قد دل كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على: أن حتماً على الأولياء أن يزوجوا الحرائر البوالغ إذا أردن النكاح) . وجملة ذلك: أن عقد النكاح - عندنا - لا ينعقد إلا بولي ذكر، سواء كانت المرأة صغيرة أو كبيرة، بكراً أو ثيبا، نسيبة أو غير نسيبة. فإن زوجت المرأة نفسها، أو وكلت رجلاً أو امرأة حتى زوجها.. لم يصح، سواء أذن لها وليها في ذلك أم لم يأذن لها. وبه قال من الصحابة: عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن التابعين: الحسن البصري وابن المسيب. ومن الفقهاء: ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وقال أبو حنيفة: (إذا كانت المرأة بالغة عاقلة: زالت عنها الولاية في بضعها، كما يزول في مالها، ولها أن تزوج نفسها بغير إذن الولي، فإن زوجت نفسها من كفء.. فلا اعتراض للولي عليها، وإن زوجت نفسها من غير كفء.. كان للولي أن يفسخ النكاح) . وقال أبو يوسف ومحمد: عقد النكاح يفتقر إلى الولي، ولكنه ليس بشرط فيه، فإن عقدت المرأة النكاح على نفسها بغير إذن وليها، فإن وضعت نفسها في غير كفء.. كان للولي فسخه، وإن وضعت نفسها في كفء.. فعليه إجازته، فإن لم يجزه.. أجازه الحاكم.

وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كانت المرأة نسيبة موسرة.. لم يصح نكاحها إلا بولي - كقولنا - وإن كانت فقيرة دنيئة لا أبوة لها.. جاز لها أن تزوج نفسها بغير ولي) . وقال داود: (إن كانت بكراً.. لم يصح نكاحها إلا بولي، وإن كانت ثيباً.. جاز أن تزوج نفسها بغير ولي) . وقال أبو ثور: (إذا أذن لها الولي فزوجت نفسها.. صح، وإن زوجت نفسها بغير إذن وليها.. لم يصح) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] [البقرة:232] . قال معقل بن يسار: هذه الآية نزلت في شأني، وذلك أنه: زوج أخته من رجل، فدخل بها، ثم طلقها فلم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم خطبها فرضيت به، فامتنع معقل من تزويجها منه، وقال: زوجتك أختي وأكرمتك بها فطلقتها؟ والله لا نكحتها أبداً، فنزلت هذه الآية، فقال معقل: سمعاً وطاعة، فزوجها منه وكفر عنه يمينه.

وموضع الدليل منها: أن الله سبحانه وتعالى نهى الأولياء عن عضلهن عن النكاح- و (العضل) : المنع- فلو لم يكن للأولياء صنع في النكاح.. لما كان للنهي معنى. وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» . وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها.. فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن مسها.. فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا- وروي: فإن اختلفوا- فالسلطان ولي من لا ولي له» .

وهذا الخبر دليل على جميع من خالفنا إلا أبا ثور، فإنه يقول: لما أبطل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نكاحها بغير إذن وليها.. دل على أنه يصح بإذن وليها. ودليلنا عليه: أن المراد هاهنا الإذن لغيرها من الرجال، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها" ولم يفرق: بين أن يكون ذلك بإذن الولي، أو بغير إذنه» . إذا ثبت هذا: فذكر أصحابنا في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فوائد: الأولى: أن للولي شركاً في بضعها، لأنه أبطل نكاحها بغير إذنه. الثانية: أن الولاية ثابتة على جميع النساء، لأن لفظة: (أي) من حروف العموم. الثالثة: أن الصلة جائزة في الكلام، لقوله: (أيما) ومعناه: أي امرأة. الرابعة: أن للولي أن يوكل في عقد النكاح. الخامسة: أن مطلق النكاح في الشريعة ينصرف إلى العقد، لأن المعنى: أيما امرأة عقدت. السادسة: جواز إضافة النكاح إليها. السابعة: أن اسم النكاح يقع على الصحيح والفاسد. الثامنة: أن النكاح الموقوف لا يصح، لأنه لو كان صحيحا.. لما أبطله.

التاسعة: أن الشيء إذا كان بينا في نفسه.. جاز أن يؤكد بغيره، لأنه لو اقتصر على قوله: «فنكاحها باطل» .. لكان بينا، فأكده بالتكرار، وهو: كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] [البقرة:196] ، وكقوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] [الأعراف:142] . العاشرة: أن وطء الشبهة يوجب المهر. الحادية عشرة: أن المس كناية عن الوطء. الثانية عشرة: أنه إذا مس سائر بدنها- غير الفرج- فلا مهر عليه. الثالثة عشرة: قال الصيمري: إن القبل والدبر سواء، لأن كله فرج. الرابعة عشرة: أنه لا فرق: بين الخصي والفحل. الخامسة عشرة: أنه لا فرق: بين قوي الجماع، وضعيفه. السادسة عشرة: أنه لا فرق: بين أن ينزل، أو لا ينزل. السابعة عشرة: أنه لا فرق: بين أن يجامعها مرة، أو مراراً. الثامنة عشرة: أنه يجوز أن يثبت له وعليه حق يجهل قدره. التاسعة عشرة: أن النكاح الفاسد إذا لم يكن فيه جماع.. فلا مهر فيه. العشرون: أن مهر المثل يتوصل إلى العلم به. الحادية والعشرون: أن المهر يجب مع العلم بتحريم الوطء، ومع الجهل به؛ لأنه يفرق. الثانية والعشرون: أن المكره يجب عليه المهر؛ لأن المكره مستحل لفرج المكرهة. الثالثة والعشرون: أن المهر لا يجب بالخلوة، لأنه شرط المس في الفرج. الرابعة والعشرون: أنه لا حد في وطء الشبهة. الخامسة والعشرون: قال الشيخ أبو حامد: إن النسب يثبت بالوطء في الشبهة. السادسة والعشرون: أن تحريم المصاهرة يثبت بوطء الشبهة.

فرع: حكم الحنفي في التزويج

السابعة والعشرون: أن العدة تجب على الموطوءة بالشبهة، لأن النسب إذا لحق به.. أوجب العدة. الثامنة والعشرون: أن المرأة يجوز أن يكون لها جماعة أولياء، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن اشتجروا» ، وهذا إخبار عن جمع. التاسعة والعشرون: أن السلطان ولي من لا ولي لها. الثلاثون: أن الأولياء إذا عضلوا المرأة عن النكاح.. انتقلت الولاية إلى السلطان، لأن الاختلاف المراد في الخبر: أن يقول كل واحد منهم: لا أزوجها أنا، بل زوجها أنت. فأما إذا قال كل واحد منهم: أنا أزوجها دونك.. فلا ينتقل إلى السلطان، بل يقرع بينهم، كما سيأتي بعد. [فرع: حكم الحنفي في التزويج] فرع: [يقبل حكم الحنفي في التزويج] : وإذا تزوج رجل امرأة من نفسها، ثم ترافعا إلى حاكم شافعي، فإن كانا لم يترافعا إلى حاكم حنفي قبله.. حكم الشافعي بفساده وفرق بينهما، لأنه يعتقد بطلانه. وإن كانا قد ترافعا قبله إلى حاكم حنفي فحكم بصحته.. فهل ينقض الشافعي حكمه؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: ينقض حكمه، ويحكم بفساده، لأن حكمه مخالف لنص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فنكاحها باطل» . والثاني- وهو الأصح -: أنه لا يصح حكمه بفساده، لأن حكم الأول وقع فيما يسوغ فيه الاجتهاد، فهو كالحكم بالشفعة للجار. [فرع: الحد بالجهل أو بتقليد مجتهد] فرع: [سقوط الحد بالجهل أو بتقليد مجتهد] : وإن تزوج رجل امرأة من نفسها فوطئها، فإن لم يعلم بتحريم الوطء، بأن كان جاهلا لا يعلم تحريمه، أو عاميا فقلد مجتهدا يرى تحليله، أو كان الواطئ حنفيا

يرى تحليله.. فلا حد عليه، لأنه موضع شبهة. وإن كان الواطئ شافعياً يعتقد تحريمه.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو بكر الصيرفي: يجب عليه الحد، لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البغي: من أنكحت نفسها بغير ولي ولا بينة» . و (البغي) : الزانية. ولما روي: (أن الطريق جمعت رفقة فيهم امرأة، فولت أمرها رجلاً منهم، فزوجها من رجل آخر، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ففرق بينهما، وجلد الناكح والمنكح) ولا مخالف له. ولأن أكثر ما فيه: حصول الاختلاف في إباحته، وذلك لا يوجب إسقاط الحد فيه، كشرب النبيذ. والثاني- وهو قول أكثر أصحابنا، وهو المذهب - أنه لا حد عليه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادرؤوا الحدود بالشبهات» ، وحصول الاختلاف في إباحته من أعظم الشبهة. ولأن

فرع النكاح المختلف فيه يتبعه الطلاق

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يوجب عليه الحد في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البغي: من أنكحت نفسها» فسماها بغيا على جهة المجاز، لتعلق بعض حكم البغي عليها، وهو: تحريم الوطء. وأما حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فإنما جلدهما على جهة التعزير، لا على جهة الحد، بدليل، أنه جلد المنكح، وبالإجماع: أنه لا حد عليه. وأما النبيذ: فالفرق بينهما: أن هذا الوطء يتردد بين الزنا والوطء في النكاح الصحيح، وشبهه في الوطء بالنكاح الصحيح أكثر، بدليل: أنه يجب فيه المهر والعدة، ويلحق به النسب، وإنما يشبه الزنا بتحريم الوطء لا غير، فكان إلحاقه بالوطء في النكاح الصحيح في إسقاط الحد أولى. والنبيذ ليس له إلا أصل واحد يشبهه، وهو: الخمر، لأنه شراب فيه شدة مطربة، وليس في الأشربة ما يشبه الخمر غيره، فألحقناه به. [فرع النكاح المختلف فيه يتبعه الطلاق] ] : وإن تزوج رجل امرأة من نفسها وطلقها.. فهل يقع الطلاق عليها؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: يقع عليها طلاقه، لأنه نكاح مختلف في صحته، فوقع فيه الطلاق، كما لو تزوج امرأة ودخل بها وطلقها طلاقا بائنا، ثم تزوج أختها أو عمتها- قبل انقضاء عدة الأولى - وطلقها.. فإن نكاح الثانية مختلف في صحته، لأن مذهبنا: أنه يصح، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه: أنه لا يصح. ولو طلق الثانية.. لوقع عليها الطلاق، وإن كان مختلفاً في نكاحها، فكذلك هذه مثلها. والوجه الثاني - وهو المنصوص -: (أنه لا يقع عليها طلاقه) ، لأن الطلاق قطع الملك، فإذا لم يقع هناك ملك.. لم يقع الطلاق، كما لو اشترى عبداً شراء فاسداً ثم

فرع النكاح الموقوف على الإجازة

أعتقه. ويخالف إذا تزوج امرأة ودخل بها في عدة أختها.. فإن النكاح هناك- عندنا- صحيح، فلذلك وقع عليها الطلاق، وهاهنا النكاح- عندنا- غير صحيح، فلم يقع عليها الطلاق. [فرع النكاح الموقوف على الإجازة] النكاح الموقوف على الإجازة لا يصح- عندنا - سواء كان موقوفاً على إجازة الولي، أو الزوج، أو الزوجة. فالموقوف على إجازة الولي: أن يتزوج الرجل امرأة من رجل ليس بولي لها، ويكون موقوفاً على إجازة وليها، أو تزوج الأمة نفسها أو العبد نفسه بغير إذن السيد، ويكون موقوفاً على إجازة السيد. وأما الموقوف على إجازة الزوج: فإن يزوج الرجل امرأة بغير إذنه، ويكون ذلك موقوفاً على إجازته. وأما الموقوف على إجازة الزوجة: فأن يزوج الولي امرأة - يشترط إذنها في النكاح - بغير إذنها، ويكون موقوفاً على إجارتها.. فجميع هذه الأنكحة لا تصح- عندنا - وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال أبو حنيفة: (تصح هذه الأنكحة، فإن أجاز ذلك الموقوف على رضاه.. لزم، وإن رده.. بطل) . وقال مالك: (يجوز أن يقف النكاح مدة قريبة، فإن تطاول الزمان.. بطل) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها.. فنكاحها باطل» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما عبد تزوج بغير إذن سيده.. فهو عاهر» . و: «أيما أمة نكحت بغير إذن وليها.. فنكاحها باطل» .

فرع لا توجب المرأة النكاح بالوكالة

[فرع لا توجب المرأة النكاح بالوكالة] المرأة لا تتوكل في قبول النكاح، ولا في إيجابه. قال أبو حنيفة: (إذا وكل الولي امرأة في إيجاب النكاح، أو وكلها الزوج في القبول.. صح) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها» . وهذا عام. وروي عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (المرأة لا تلي عقد النكاح) ، ولا مخالف لهم. وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها حضرت نكاحاً، فخطبت، ثم قالت: (اعقدوا، فإن النساء لا يعقدن النكاح) فدل على: أنه إجماع. [مسألة تزويج الأمة] إذا ثبت: أن النكاح لا يصح إلا بالولي.. فلا تخلو المنكوحة: إما أن تكون حرة أو أمة. فإن كانت أمة.. نظرت: فإن كانت أمة لرجل يلي ماله.. زوجها. وإن كانت

لجماعة.. لم يصح نكاحها إلا باجتماعهم، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها.. فنكاحها باطل» . ولأنه عقد على منفعتها، فكان إلى الموالي، كالإجارة. وإن كانت الأمة لامرأة.. فإنها لا تملك عقد النكاح عليها، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنكح المرأة المرأة» . ولأنها إذا لم تملك عقد النكاح على نفسها.. فلأن لا تملك عقده على غيرها أولى، ومن الذي يعقد النكاح عليها؟ المشهور من المذهب: أنه يعقد النكاح عليها ولي مولاتها الذي يملك تزويجها وحكى صاحب" الفروع " وجهين آخرين: أحدهما: أنه لا يزوجها إلا الحاكم. والثاني: لا يصح تزويجها إلا باجتماع الحاكم وولي المولاة. والأول أصح، لأنه لا ولاية للحاكم على مالها ولا في نكاحها مع وجود الولي، فلم يكن له ولاية في إنكاح أمتها. إذا تقرر هذا: فإن كانت المولاة بالغة رشيدة.. لم يزوج وليها أمتها إلا بإذنها، سواء كانت المولاة بكراً أو ثيباً، لأنه تصرف في مالها، فلم يصح إلا بإذنها. وإن كانت المولاة صغيرة أو غير رشيدة وكان وليها أباها أو جدها، أو كانت الأمة للابن الصغير والناظر في ماله أباه أو جده.. فهل يملك تزويج أمتهما؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يملك لأن في ذلك تغريراً بها، لأنه قد تحبل فتموت منه. و [الثاني] : منهم من قال: يملك، وهو الصحيح، لأن في ذلك حظا لهما: لأنهما يستفيدان به ملك المهر وملك الولد. وما ذكره الأول من خوف الموت على الأمة.. فنادر، ألا ترى أن الأب يزوج ابنته بغير إذنها، وإن جاز أن تحبل فتموت من الولادة؟.

فرع شراء العبد المأذون له في التجارة جارية

وإن كان ولي الصغيرة غير الأب والجد من العصبات.. لم يجز له أن يزوج أمتها، لأنه لا ولاية له على مالها. فإن أعتقت المرأة أمتها، فإن كان للأمة المعتقة ولي من جهة النسب.. زوجها، ولا يفتقر إلى إذن المولاة المعتقة. وإن كان لا ولي للأمة المعتقة من جهة النسب.. زوجها ولي مولاتها، ولا يصح إنكاحها إلا بإذن الأمة المعتقة إن كانت من أهل الإذن، وهل يفتقر إلى إذن المولاة؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في" الإبانة "] . وإن كانت الأمة المعتقة صغيرة أو مجنونة.. لم يصح نكاحها، لأن إذنها معتبر، وليست من أهل الإذن. وإن أعتقت المولاة أمتها وماتت وخلفت أباها وابنها.. ففيمن يلي عقد النكاح على الأمة المعتقة؟ وجهان: أحدهما: يزوجها ابنها، لأن الولاء قد صار له. والثاني - وهو اختيار أبي علي الطبري -: أنه يزوجها الأب، لأن الولاء كان للمولاة فانتقل ذلك إلى أبيها، وعقد النكاح لم يكن للمولاة، وإنما كان لوليها، فلم ينتقل ذلك عن الولي إلى الابن. [فرع شراء العبد المأذون له في التجارة جارية] وإن دفع إلي عبده مالاً، وأذن له في التجارة فيه، فاشترى العبد جارية، فإن كان على المأذون له دين.. لم يزل ملك السيد عن المال والجارية التي في يد العبد. وقال أبو حنيفة: (إذا كان الدين يستغرق ما في يده.. زال ملك السيد عما في يد العبد) . دليلنا: أن قبل ثبوت الدين على العبد ملك السيد ثابت على الجارية وعلى ما في يد العبد، فلا يزول ملك السيد بتعلق حق الغرماء به، كما لو جنى العبد.. فإن ملك السيد لا يزول عنه.

مسألة ترتيب أولياء المرأة

إذا ثبت هذا: فإن أراد السيد أن يطأ هذه الأمة أو يزوجها.. لم يجز له ذلك، لتعلق حق الغرماء بها، لأنها ربما حبلت من وطء السيد أو نقصت قيمتها بالنكاح، فلم يملك ذلك، كالمرهونة. فإذا أبرأ الغرماء العبد من الدين أو قضى الدين.. فهل للسيد وطء الأمة أو تزويجها؟ ينظر فيه: فإن حجر السيد على العبد ومنعه من التصرف.. كان له ذلك. وإن لم يقطع تصرفه ولا حجر عليه.. ففيه وجهان: أحدهما: له ذلك، وهو الأقيس، لأنها ملكه لا حق فيها لغيره، فهو كما لو حجر عليه. والثاني: ليس له ذلك، وهو ظاهر النص، لأن في ذلك تعزيراً بالناس، لأنهم يعاملونه ويداينونه ظنا منهم أن حقهم يتعلق بما في يده، وربما تلفت بذلك. [مسألة ترتيب أولياء المرأة] وإن كانت المنكوحة حرة.. فأولى الولاة بتزويجها الأب، لأن سائر الأولياء يدلون به، ولأن القصد بالولي طلب الحظ لها، والأب أشفق عليها وأطلب للحظ لها من غيره. فإن لم يكن أب، وهناك جد أبو أب، أو جد من أجداد الأب الوارثين وإن علا.. فهو أولى من الأخ. وحكي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه قال: (الأخ أولى من الجد) . دليلنا: أن الجد له ولاية وتعصيب، فكان مقدماً على الأخ، كالأب. فإن قيل: هلا قلتم: إن الجد يساوي الأخ في الولاية، كما قلتم في الميراث؟ قلنا: الفرق بينهما: أن الميراث يستحق بالتعصيب المحض، ولهذا قدم الابن على الأب في الميراث، والأخ يساوي الجد في التعصيب، أو هو أقوى من الجد في

فرع اجتماع الوليين للمرأة

التعصيب، بدليل: أنه يعصب أخواته، وإنما لم يقدم عليه في الميراث، للإجماع، فلذلك سوينا بينهما في الإرث. والولاية في النكاح تستحق بالشفقة وطلب الحظ، بدليل: أن الابن لا ولاية له على أمه، لذلك، والجد أكثر شفقة عليها من الأخ، فكان أولى. فإن عدم الأجداد من قبل الأب.. انتقلت الولاية إلى الإخوة للأب والأم، أو للأب، ثم إلى بنيهم.. ويقدمون على الأعمام وبنيهم، لأنهم يدلون بالأب، والأعمام يدلون بالجد، والأب أقرب من الجد. فإن عدم الإخوة وبنوهم.. انتقلت الولاية إلى الأعمام، ثم إلى بنيهم. ويقدمون على أعمام الأب وبنيهم، لأن الأعمام يدلون بالجد، وأعمام الأب يدلون بأبي الجد. وعلى هذا: يقدم الأقرب فالأقرب، كما قلنا في الميراث. [فرع اجتماع الوليين للمرأة] وإن اجتمع وليان أحدهما: يدلي بالأب والأم، والآخر: يدلي بالأب، كأخوين أو عمين أو ابني عم، أحدهما لأب وأم والآخر لأب.. ففيه قولان: قال في القديم: (هما سواء) - وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لأن ولاية النكاح تستفاد بالانتساب إلى الأب، بدليل: أن الأخ للأم لا ولاية له في النكاح، وهما في الانتساب إلى الأب سواء، فاستويا في الولاية. وقال في الجديد: (إن المدلي بالأب والأم أولى) . وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] [الإسراء:33] ولو قتل رجل وله أخ لأب وأم، وأخ لأب.. لكان القصاص للأخ للأب والأم دون الأخ للأب، فثبت: أنه لا ولاية له معه. ولأنه حق يستحق بالتعصيب، فقدم المدلي بالأبوين على المدلي بأحدهما، كالإرث. وهكذا القولان في التقدم في الصلاة على الميت، وفي العقل. وأما الإرث والولاء والوصية للأقرب: فإن المدلي بالأب والأم أولى قولاً واحداً.

فرع اجتماع أكثر من ولي للمرأة في درجة واحدة

وإن اجتمع ابنا عم، أحدهما معتق أو أخ لأم.. فهل يقدم في ولاية النكاح، والصلاة على الميت، والعقل؟ فيه قولان، كأخوين أحدهما لأب وأم والآخر لأب، وإن اجتمع ابنا عم، أحدهما خال.. لم يقدم قولاً واحداً، لأنه لا مدخل للخؤولة في الميراث. [فرع اجتماع أكثر من ولي للمرأة في درجة واحدة] وإن اجتمع للمرأة أولياء في درجة واحدة، كالإخوة أو بنيهم، أو الأعمام أو بنيهم.. فالمستحب: أن يقدم أكبرهم سنا وأعلمهم وأورعهم، لما روي: أن حويصة ومحيصة دخلا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبدأ محيصة بالكلام، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كبر، كبر» يعني: قدم أخاك في الكلام، لأنه أكبر سنا منك. ولأن الأكبر أخبر بالناس، فكان أولى، والأعلم أعرف بشروط العقد، والأورع أحرص على طلب الحظ لها. فإن زوجها أحدهم بإذنها من غير إذن الباقين.. صح وإن كان أصغرهم سنا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أنكح الوليان.. فالأول أحق» . ولأن كل واحد منهم ولي.

فرع تزويج المعتقة

فإن تشاحوا، وقال كل واحد منهم: أنا أزوج، ولم يقدموا الأكبر الأعلم الأورع.. أقرع بينهم لاستواء استحقاقهم في الولاية، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يسافر بإحدى نسائه.. أقرع بينهن» . فإن خرجت القرعة لأحدهم فزوج، أو أذن لغيره من الأولياء الباقين أو غيرهم.. صح. وإن زوج واحد ممن لم تخرج عليه القرعة بإذن المرأة.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح، لأن خروج القرعة لأحدهم لا يبطل ولاية الباقين، كما لو زوجها أحدهم قبل القرعة. والثاني: لا يصح، لأن الفائدة في خروج القرعة أن تتعين الولاية بمن خرجت له القرعة، فلو صححنا عقد غيره بغير إذنه.. لبطلت فائدة القرعة. [فرع تزويج المعتقة] فإن كانت المنكوحة معتقة.. زوجها وليها من النسب، ويقدم على المولى. فإن لم يكن لها ولي من النسب.. زوجها المولى المعتق، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة، كلحمة النسب» . وقد ثبت أن النسب يستحق به ولاية النكاح، فكذلك الولاء. فإن أعتقها جماعة.. لم يصح نكاحها إلا باجتماعهم، بخلاف ما لو كان للمرأة أولياء من جهة النسب في درجة واحدة.. فإن النكاح يصح من واحد منهم بغير إذن الباقين. والفرق بينهما: أن الولاية من جهة الولاء مستحقة بالإعتاق، وكل واحد منهم أعتق بعضها، فلم يثبت له الولاء على جميعها. والولاية من جهة النسب مستحقة بالنسب، وكل واحد من أولياء النسب مناسب لها. فإن أعتق رجل جارية ومات، وخلف ابنين، فزوجها أحدهما بإذنها.. صح، لأنهما يتلقيان الولاية من أبيهما، فهما كالوليين من النسب، بخلاف ما لو أعتقاها. فإن عدم المولى المعتق.. زوجها عصباته، الأقرب فالأقرب منهم. فإن

مسألة تزويج الولد أمه

عدموا.. زوجها مولى المولى، ثم عصبة مولى المولى، كما قلنا في الميراث. فإن لم يكن للمرأة ولي من جهة النسب ولا من جهة الولاء.. زوجها السلطان، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السلطان ولي من لا ولي له» . [مسألة تزويج الولد أمه] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يزوج المرأة ابنها إلا أن يكون عصبة) . وجملة ذلك: أن الابن لا ولاية له على أمه في النكاح من جهة البنوة.. وقال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يثبت له عليها ولاية النكاح بالبنوة) . واختلفوا في ترتيب ولايته: فذهب مالك وأبو يوسف وإسحاق إلى (أنه مقدم على الأب) . وذهب محمد وأحمد إلى: (أن الأب مقدم عليه) . وذهب أبو حنيفة إلى: (أنهما سواء) . دليلنا - على أنه لا ولاية له-: أن بين الابن وأمه قرابة، لا ينتسب أحدهما إلى الآخر ولا ينتسبان إلى من هو أعلى منهما، فلم يكن له عليها ولاية، كابن الأخت. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولأن ولاية النكاح إنما وضعت طلبا لحظ المرأة والإشفاق عليها، والابن يعتقد أن تزويج أمه. عار عليه، فلا يطلب لها الحظ ولا يشفق عليها، فلم يستحق الولاية عليها) . فإن كان ابنها من عصبتها، بأن كان ابن ابن عمها.. كان وليا لها في النكاح، لأنهما ينتسبان إلى من هو أعلى منهما، فجاز له تزويجها، كتزويج الأخ لأخته للأب. وإن كان لها ابنا ابن عم، أحدهما ابنها.. ففيه قولان: أحدهما: أنهما سواء.

فرع لا يزوج الأخ لأم

والثاني: أن ابنها أولى: كالقولين في الأخوين أحدهما لأب وأم والآخر لأب. وهكذا: إذا كان ابنها مولاها أو كان حاكماً.. فله عليها ولاية من جهة الولاء والحكم لا من جهة البنوة. [فرع لا يزوج الأخ لأم] وإن كانت له أخت لأم لا قرابة بينهما غير ذلك.. لم يملك تزويجها. وقال أبو حنيفة في إحدى الروايتين: (له تزويجها) . دليلنا: أنه لا تعصيب بينهما، فلم يملك تزويجها، كالأجنبي. [مسألة ولاية العبد والصغير والمحجور عليه] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا ولاية للعبد بحال) . وهذا صحيح، فلا ولاية للعبد على مناسيبه في النكاح، لأنه ناقص بالرق، بدليل: أنه لا يرث ولا يشهد، وولاية النكاح مبنية على الكمال، فلم تثبت مع وجود النقص. وكذلك لا ولاية للصغير، لأن الولي يراد لطلب الحظ للمرأة، والصبي لا معرفة له في طلب الحظ، ولهذا لا يلي التصرف في ماله. وفي المحجور عليه للسفه وجهان: أحدهما: أنه ليس بولي في النكاح، لأنه لا يملك التصرف في ماله، فلم يكن وليا في النكاح، كالصبي. والثاني: أنه ولي في النكاح، لأنه إنما حجر عليه في ماله خوفاً عليه من إضاعته، وقد أمن ذلك في تزويج وليته.

مسألة كون الولي مرشدا

[مسألة كون الولي مرشداً] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في" البويطي ": (لا يكون الولي إلا مرشداً) . وقال في موضع: (وولي الكافرة كافر) ، وهذا يقتضي ثبوت الولاية لفاسق. واختلف أصحابنا في الفاسق: هل هو ولي في النكاح أم لا، على خمسة طرق: فـ[الأول] : قال الشيخ أبو حامد: الفاسق ليس بولي في النكاح قولاً واحداً. و [الثاني] : قال القفال: الفاسق ولي في النكاح قولاً واحداً. و [الثالث] : قال أبو إسحاق المروزي: إن كان الولي ممن يجبر على النكاح، كالأب والجد في تزويج البكر.. لم يصح أن يكون فاسقاً، لأنه يزوج بالولاية، والولاية لا تثبت مع الفسق، كفسق الحاكم والوصي. وإن كان ممن لا يجبر على النكاح، كمن عدا الأب والجد من الأولياء، وكتزويج الأب والجد للثيب.. صح تزويجه وإن كان فاسقاً، لأنه يزوج بإذنها، فهو كالوكيل. و [الرابع] : من أصحابنا من قال: إن كان الفاسق مبذرا في ماله.. لم يجز أن يكون وليا في النكاح. وإن كان رشيداً في أمر دنياه.. كان وليا في النكاح. و [الخامس] : من أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: أن الفاسق ولي في النكاح بكل حال- وهو قول مالك وأبي حنيفة رحمهما الله- لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] [النور: 32] : وهذا خطاب للأولياء، ولم يفرق: بين العدل، والفاسق: ولأن الكافر لما ملك تزويج ابنته الكافرة، والمسلم الفاسق أعلى منه.. فلأن يملك تزويج وليته أولى. والثاني: لا يصح أن يكون وليا بحال، وهو المشهور من المذهب، لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل» ، وفي رواية: «لا نكاح إلا بولي مرشد، أو سلطان» . وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل) . ولا مخالف له. والمرشد: من

فرع تأثير السفه والضعف على الولاية

أسماء المدح، والفاسق: ليس بممدوح. ولأنه تزويج في حق الغير، فنافاه الفسق في دينه، كفسق الحاكم. فقولنا: (تزويج) احتراز من ولاية القصاص. وقولنا: (في حق الغير) احتراز من تزويج الفاسق لأمته، فإنه تزويج في حقه، بدليل: أنه يجب له المهر. وقولنا: (في دينه) احتراز من تزويج الكافر لابنته الكافرة، لأنه ليس بفسق في دينه. ولأن الولي إنما اشترط في العقد لئلا تحمل المرأة شهوتها على أن تضع نفسها في غير كفء، أو تزوج نفسها في العدة، فيلحق العار بأهلها، وهذا المعنى موجود في الفاسق، لأنه لا يؤمن أن يحمله فسقه على أن يضع المرأة في أحضان غير كفء، أو يزوجها في العدة، فيلحق العار بأهلها، فلم يجز أن يكون وليا. وأما الآية: فلا نسلم له أنها تنصرف إلى الفاسق، لأنه ليس بولي عندنا، وإن سلمنا.. فإنها مخصوصة بالخبر.. وأما الكافر: فإنما يصح أن يزوج ابنته الكافرة إذا كان رشيداً في دينه، لأنه مقر عليه، بخلاف الفاسق. إذا ثبت هذا: وقلنا الفاسق ليس بولي.. فقد قال المسعودي [في" الإبانة "] : واختلف أصحابنا في الفسق الذي يخرجه عن ولاية النكاح: فمنهم من قال: شرب الخمر فحسب، لأنه إذا كان يشربها.. فإنه يميل إلى من هو في مثل حاله. ومنهم من قال: جميع الفسق بمثابته. [فرع تأثير السفه والضعف على الولاية] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن كان الولي سفيها، أوضعيفا، غير عالم بموضع الحظ، أو سقيماً مؤلماً، أو به علة تخرجه عن الولاية.. فهو كمن مات، فإذا صلح.. صار وليا) . قال أصحابنا: أما (السفيه) : ففيه تأويلان: أحدهما: أنه أراد المبذر المفسد لماله، فحجر عليه لذلك.

فرع فقدان الأهلية في وقت دون آخر وولاية السكران والأخرس

و [الثاني] : قيل: بل أراد الذي حجر عليه بجنونه. وأما (الضعيف) : فله تأويلان أيضاً: أحدهما: أنه أراد الصغير. والثاني: أنه أراد به الشيخ الذي قد ضعف نظره عن معرفة موضع الحظ لها. وأما (السقيم) : فمن كان به سقم شديد قد نقص نظره وأخرجه عن طلب الحظ لها. وأما (المؤلم) : فهو صفة للسقيم، وهو السقيم الذي اشتد به الألم إلى أن أخرجه عن النظر. وروي: (أو سقيما موليا) فيكون معناه: السقيم الذي صار موليا عليه من قلة تمييزه. وأما الذي (به علة) : فالمراد به إذا قطعت يده، أو رجله، أو أصابه جرح عظيم أخرجه عن حد التمييز، فلأن ولايته تزول. فإن زالت هذه الأسباب.. عادت ولايته، لأن المانع وجود هذه الأسباب، فزال المنع بزوالها. [فرع فقدان الأهلية في وقت دون آخر وولاية السكران والأخرس] قال الطبري: إذا كان الولي يجن يوماً، ويفيق يوماً، أو يغمى عليه يوماً، ويفيق يوماً.. فهل يخرجه ذلك عن الولاية؟ فيه وجهان. وأما السكران: فإن قلنا: إن الفاسق ليس بولي.. فهذا فاسق. وإن قلنا الفاسق ولي.. فهل يخرج السكران عن الولاية؟ فيه وجهان كالمجنون غير المطبق.

فرع ولاية الأعمى في النكاح

والإحرام بالحج، هل يخرجه من الولاية؟ فيه وجهان أيضاً. فإن قلنا: يخرجه.. زوج من دونه من الأولياء. وإن قلنا: لا يخرجه.. زوجها السلطان. وأما الأخرس: إذا كانت له إشارة مفهومة.. كان وليا في النكاح. وإن لم تكن له إشارة مفهومة.. فليس بولي في النكاح. [فرع ولاية الأعمى في النكاح] وهل يصح أن يكون الأعمى وليا في النكاح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح، لأنه قد يحتاج إلى النظر في اختيار الزوج لها، لئلا يزوجها بمعيب، أو دميم. والثاني: يصح، وهو الصحيح، لأن شعيباً - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كان أعمى، وزوج ابنته من موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. [مسألة ولي الكافرة كافر] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وولي الكافرة كافر، ولا يكون المسلم وليا لكافرة إلا على أمته) . وجملة ذلك: أنه إذا كان للكافر ابنة مسلمة.. فإنه لا ولاية له عليها، فإن كان لها ولي مسلم.. زوجها، وإلا.. زوجها الحاكم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] الآية [التوبة: 71] : وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أراد أن يتزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وكانت مسلمة، وأبو سفيان كافراً.. وكل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمرو بن أمية الضمري، فتزوجها له من ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص، وكان مسلماً» .

مسألة تقديم الأولى في الولاية

وإن كان للمسلم ابنة كافرة.. فلا ولاية له عليها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] [الأنفال:73] :، فدل على: أنه لا ولاية للمسلم عليها.. فإن كان لها ولي كافر.. زوجها، للآية. وإن لم يكن لها ولي كافر.. زوجها الحاكم لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فالسلطان ولي من لا ولي له» ، ولم يفرق. ولأن ولايته عامة، فدخلت فيها المسلمة والكافرة. وإن كان للمسلم أمة كافرة.. فهل له عليها ولاية في النكاح؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: له عليها ولاية، وهو المنصوص، لأنها ولاية مستفادة بالملك، فلم يمنع اختلاف الدين منها، كالفسق لما لم يؤثر في منع تزويج أمته، فكذلك كفرها. و [الثاني] : منهم من قال: ليس بولي لها، لأنه إذا لم يملك تزويج ابنته الكافرة.. فلأن لا يملك تزويج أمته الكافرة أولى. وحمل النص على الولاية في عقد البيع والإجارة.. والأول أصح. وإن كان للكافر أمة مسلمة.. فهل له أن يزوجها؟ قال ابن الصباغ: فيه وجهان، كما قلنا في تزويج المسلم لأمته الكافرة. [مسألة تقديم الأولى في الولاية] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا ولاية لأحد، وثم أولى منه) . وجملة ذلك: أنه إذا كان للمرأة وليان، أحدهما أقرب من الآخر.. فإن الولاية للأقرب، فإن زوجها من بعد..لم يصح. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح) .

فرع تعود الولاية بزوال سبب قطعها

دليلنا: أنه حق مستحق بالتعصيب، فلم يثبت للأبعد مع الأقرب، كالميراث. فإن خرج الولي الأقرب عن أن يكون وليا، باختلاف الدين، أو الفسق، أو الجنون، أو الصغر.. انتقلت الولاية إلى الولي الأبعد، لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج أم حبيبة من ابن عمها مع وجود أبيها، لكون أبيها كافراً) ، فإذا ثبت ذلك في الكفر.. كان في الفسق والجنون والصغر مثله، لأن الجميع يمنع ثبوت ولاية النكاح. وإن أعتق رجل أمة ومات، وخلف ابنا صغيراً، وأخا لأب كبيراً، وأرادت الجارية النكاح، ولا مناسب لها،.. فلا أعلم فيها نصاً، والذي يقتضي المذهب: أن ولاية نكاحها لأخ المعتق، لأن الولاية في الولاء فرع على ولاية النسب، وولاية ابنة الميت لأخيه ما دام الابن صغيراً، وكذلك ولاية المعتقة. [فرع تعود الولاية بزوال سبب قطعها] وإن زال السبب الذي أوجب قطع الولاية في الأقرب.. عادت ولايته، لأن المانع قد زال. فإن كان الولي الأبعد قد زوجها قبل زوال المانع.. صح النكاح. وإن كان زوجها الأبعد بعد زوال المانع، وبعد علمه بزوال المانع.. لم يصح، كما لو باع الوكيل ما وكل في بيعه بعد العزل، وبعد علمه بالعزل. وإن زوج بعد زوال المانع، وقبل علمه بزواله.. ففيه وجهان، بناء على القولين في الوكيل إذا باع بعد العزل وقبل علمه بالعزل. [فرع يزوج الحاكم عند امتناع الولي من الكفء] فإن دعت المرأة أن تزوج بكفء، فامتنع الولي.. زوجها الحاكم، ولا تنتقل الولاية إلى من بعد العاضل من الأولياء، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن اشتجروا.. فالسلطان ولي من لا ولي له» ولأن النكاح حق لها، فإذا تعذر ذلك من جهة وليها.. كان على الحاكم استيفاؤه، كما لو كان لها على رجل دين، فامتنع من بذله.. فإن الحاكم ينوب عنه في الدفع من مال الممتنع.

مسألة تزويج السلطان عند مغيب الولي

[مسألة تزويج السلطان عند مغيب الولي] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن كان أولاهم بها مفقوداً، أو غائبا غيبة بعيدة كانت أو قريبة.. زوجها السلطان) . وجملة ذلك: أنه إذا كان للمرأة أب وجد، فغاب الأب، وحضر الجد ودعت المرأة إلى تزويجها لكفء.. نظرت: فإن كان الأب مفقوداً، بأن انقطع خبره، ولا يعلم أنه حي أو ميت.. فإن الولاية لا تنتقل إلى الجد، وإنما يزوجها السلطان، لأن ولاية الأب باقية عليها، بدليل: أنه لو زوجها في مكانه.. لصح، وإنما تعذر ذلك لغيبته، فناب عنه الحاكم، كما لو غاب وعليه دين.. فإن الحاكم ينوب عنه في الدفع من ماله دون الأب. وإن غاب الأب غيبة غير منقطعة، بأن يعلم أنه حي.. نظرت: فإن كان على مسافة تقصر إليها الصلاة.. جاز للسلطان تزويجها، لأن في استئذانه مشقة، فصار كالمفقود. وإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يجوز للحاكم تزويجها، وهو المذهب، لأن في استئذانه إلحاق مشقة، فهو كما لو كان على مسافة القصر. ومنهم من قال: لا يجوز له تزويجها، لأنه في حكم الحاضر، بدليل: أنه لا يجوز له القصر والفطر، فهو كما لو كان في البلد. هذا مذهبنا، وبه قال زفر. وحكى ابن القاص قولا آخر: أن الولاية تنتقل إلى من بعده من الأولياء.. وليس بمشهور. وقال أبو حنيفة، ومحمد، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (إن غاب الأب غيبة منقطعة.. جاز للجد تزويجها، وإن كانت غيبته غير منقطعة.. لم يجز للجد تزويجها) . واختلف أصحاب أبي حنيفة في حد المنقطعة:

فمنهم من قال: من الرقة إلى البصرة. ومنهم من قال: من بغداد إلى الري. وقال محمد: إذا سافر من إقليم إلى إقليم، كمن يسافر من الكوفة إلى بغداد.. فهي منقطعة، وإذا كان في إقليم واحد.. فهي غير منقطعة. ومنهم من قال: (المنقطعة) : التي لا تجيء منها القافلة في السنة إلا مرة واحدة. دليلنا: أن كل ولاية لم تنقطع بالغيبة القريبة.. لم تنقطع بالغيبة البعيدة، كولاية المال. إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (وإذا غاب الولي، وأراد الحاكم تزويجها.. استحب له أن يستدعي عصباتها، وإن لم يكونوا أولياء، فإن لم يكن لها عصبات.. فذوي الأرحام والقرابات لها، فيسألهم عن حال الزوج، ويستشيرهم في أمره، لتستطيب بذلك نفوسهم) ، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر نعيماً أن يشاور أم ابنته في تزويجها» ، وإن لم يكن لها ولاية. فإن قالوا: إنه كفء.. زوجها. قال الشيخ أبو إسحاق: ويستحب له أن يأذن لمن تنتقل الولاية إليه ليزوجها، ليخرج من الخلاف. فإن زوجها الحاكم بنفسه، أو أذن لأجنبي أن يزوجها، ولم يشاورهم.. صح ذلك لأن الولاية له. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يزوجها ما لم يشهد شاهدان: أنه ليس لها ولي حاضر، وليست في نكاح أحد ولا عدته) .

مسألة إجبار الولي على النكاح

قال المسعودي [في: " الإبانة "] : فمن أصحابنا من قال: هذا واجب. ومنهم من قال: هذا مستحب. [مسألة إجبار الولي على النكاح] وأما الإجبار على النكاح: فلا تخلو المنكوحة: إما أن تكون حرة، أو أمة. فإن كانت حرة.. نظرت: فإن كانت عاقلة، فلا تخلو: إما أن تكون بكراً، أو تكون ثيباً. فإن كانت بكراً، فلا تخلو: إما أن تكون صغيرة، أو كبيرة، فإن كانت صغيرة.. جاز للأب تزويجها بغير إذنها، بلا خلاف، والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . وتقديره: وكذلك عدة اللائي لم يحضن، وإنما يجب على الزوجة الاعتداد من الطلاق بعد الوطء، فدل على: أن الصغيرة التي لم تحض يصح نكاحها، ولا جهة يصح نكاحها معها إلا أن يزوجها أبوها. وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا ابنة سبع سنين، ودخل بي وأنا ابنة تسع سنين» ، ومعلوم أنه لم يكن لإذنها حكم في تلك الحال، فعلم أن أباها زوجها بغير إذنها. ويجوز للأب والجد إجبارها على النكاح، ولا يجوز لغيرهما من الأولياء تزويجها قبل أن تبلغ. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يجوز للجد) . وقال أبو حنيفة: (يجوز للأب، والجد، وسائر العصبات، والحاكم إجبارها

على النكاح، إلا أنها إذا زوجها غير الأب والجد. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح إذا بلغت) . دليلنا على مالك - رحمة الله عليه: - أن للجد ولاية وتعصيباً، فجاز له إجبار البكر، كالأب. وعلى أبي حنيفة: «ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: زوجني خالي قدامة بن مظعون ابنة أخيه عثمان بن مظعون، فجاء المغيرة بن شعبة إلى أمها، فأرغبها في المال، فمالت إليه، وزهدت في، فقالت أمها: يا رسول الله بنتي تكره ذلك، فقال قدامة: يا رسول الله أنا عمها، ووصي أبيها، وقد زوجتها من عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقد عرفت فضله وقرابته، وما نقموا منه إلا أنه لا مال له، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنها يتيمة، وإنها لا تنكح إلا بإذنها» . ولأن غير الأب والجد لا يلي مالها بنفسه، فلم يملك إجبارها على النكاح، كالأجنبي. إذا ثبت هذا: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في القديم: (أستحب للأب أن لا يزوجها حتى تبلغ، لتكون من أهل الإذن، لأنه يلزمها بالنكاح حقوق) . قال الصيمري: وإذا قاربت البلوغ، وأراد تزويجها.. فالمستحب أن يرسل إليها نساء ثقات وينظرن ما عندها. وإن كانت البكر بالغا.. فللأب والجد إجبارها على النكاح، وإن أظهرت الكراهية. وبه قال ابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.

وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (للأب إجبارها دون الجد) . وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، والأوزاعي: (لا يجوز لأحد إجبارها) . دليلنا- على مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أن الجد له تعصيب وولاية، فملك إجبار البكر على النكاح، كالأب. وعلى أبي حنيفة: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها» ، فلما جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثيب أحق بنفسها من وليها.. دل على: أن الولي أحق بالبكر. والمراد بالولي هاهنا الأب والجد، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن صمتت.. فهو إذنها، وإن أبت.. فلا جواز عليها» وأراد باليتيمة: التي لا أب لها، وسماها يتيمة بعد البلوغ استصحاباً لاسمها

قبل البلوغ، فلما أوجب استئذان اليتيمة.. دل على: أن غير اليتيمة لا تستأذن، ومن لها أب أو جد.. فليست بيتيمة. إذا ثبت هذا: فإن زوج الأب أو الجد البكر البالغ.. فالمستحب لهما: استئذانها، وإذنها صماتها، للخبر، ولأنها تستحيي أن تأذن بالنطق. فإن لم يستأذناها.. جاز، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن» فقصد بذلك التفرقة بينهما، فلو قلنا: إن استئذان البكر واجب.. لما كان بينهما فرق. وإن زوج البكر البالغ غير الأب والجد من الأولياء.. لم يصح حتى تستأذن، وهو إجماع لا خلاف فيه.. وفي إذنها وجهان: أحدهما: لا يحصل إلا بنطقها، لأن كل من يفتقر نكاحها إلى إذنها.. افتقر إلى نطقها مع قدرتها على النطق، كالثيب. والثاني- وهو المذهب -: أنها إذا استؤذنت، فصمتت.. كان ذلك إذنا منها في النكاح، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن صمتت.. فهو إذنها» . ولأنها تستحيي أن تأذن بالنطق، بخلاف الثيب. قال أصحابنا المتأخرون: فإن استأذنها وليها في أن يزوجها بأقل من مهر مثلها، أو بغير نقد البلد، فصمتت.. لم يكن ذلك إذنا منها في ذلك، لأن ذلك مال، فلا يكون صموتها إذنا فيه.. كما لو استأذنها في بيع مالها فصمتت، بخلاف النكاح. وإن كانت المنكوحة ثيباً، نظرت:

فإن ذهبت بكارتها بالوطء في نكاح أو ملك أو شبهة، فإن كانت بالغة.. لم يجز لأحد من الأولياء إجبارها على النكاح، سواء كان الولي أبا أو جداً أو غيرهما، لما روي: «أن خنساء بنت خدام الأنصارية زوجها أبوها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نكاحها» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليس للولي مع الثيب أمر» . قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع لا خلاف فيه. ولا يصح نكاحها إلا بإذنها، ولا يصح إذنها بنطقها مع قدرتها على النطق، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها» ، فلما جعل إذن البكر الصمت.. دل على: أن إذن الثيب النطق. فإن كانت خرساء، وأشارت إلى الإذن بما يفهم منها.. صح تزويجها. وإن كانت الثيب صغيرة.. لم يجز لأحد من الأولياء تزويجها قبل البلوغ، سواء كان الولي أبا، أو جداً، أو غيرهما. وقال أبو حنيفة وأصحابه: (يجوز للأب والجد وغيرهما من الأولياء إجبارها على النكاح) .، و (الإجبار) : عندهم يختلف بصغر المنكوحة وكبرها، وعندنا: يختلف ببكارتها وثيوبتها. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس للولي مع الثيب أمر» . ولم يفرق. ولأنها حرة سليمة

فرع ذهاب عذرة المرأة واعتبار إذنها

ذهبت بكارتها بجماع، فلم تجبر على النكاح، كالثيب الكبيرة. وقولنا: (حرة) احتراز من الأمة. وقولنا: (سليمة) احتراز من المجنونة. وقولنا: (بجماع) احتراز ممن ذهبت بكارتها بوثبة أو تعنيس. [فرع ذهاب عذرة المرأة واعتبار إذنها] وإن ذهبت بكارتها بالزنا.. فهو كما لو ذهبت بكارتها بالجماع في النكاح، فيكون حكمها حكم الثيب في الإذن. وقال أبو حنيفة: (حكمها حكم البكر) . دليلنا: أنها حرة سليمة، ذهبت بكارتها بجماع، فهو كما لو ذهبت بكارتها بنكاح. وإن ذهبت بكارتها بوثبة أو تعنيس.. ففيه وجهان: أحدهما: حكمها حكم الموطوءة بالنكاح، لأنها ثيب. والثاني: حكمها حكم البكر في الإذن، وهو المذهب، لأن الثيب إنما اعتبر إذنها بالنطق، لذهاب الحياء بالوطء، وهذا الحياء لا يذهب بغير الوطء، بخلاف الزانية، فإنها إذا لم تستح من مباضعة الرجال على الزنا والإقدام عليه.. لم تستح من النطق بالإذن. قال الصيمري: وإن خلقت المرأة لا بكارة لها.. فهي كالبكر. وإن ادعت المرأة البكارة، أو الثيوبة.. قال الصيمري ": فالقول قولها، ولا يكشف عن الحال، لأنها أعلم بحالها.

فرع ادعاء المزوجة وجود مانع كالرضاع

[فرع ادعاء المزوجة وجود مانع كالرضاع] قال ابن الحداد: إذا زوج الرجل ابنته البكر البالغ بغير إذنها، فلما بلغها ذلك.. قالت: أنا أخته من الرضاع - تعني: الزوج - أو تزوجني أبوه قبله، أو غير ذلك من الأسباب المحرمة.. فالقول قولها مع يمينها، ويبطل النكاح. وإن كانت ثيبا فزوجها وليها بإذنها، أو زوجها أبوها وهي بكر بغير إذنها فمكنت الزوج من وطئها، ثم ذكرت سببا يوجب التحريم.. لم يقبل قولها، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيمن ضل له عبد، فأخذه الحاكم، ورأى المصلحة في بيعه فباعه، أو باعه الحاكم بدين عليه وهو غائب، ثم قدم وادعى: أنه كان قد أعتقه قبل ذلك.. قبل قوله فيه مع يمينه، ولو باعه المالك بنفسه، أو باعه الحاكم عليه- وهو حاضر -لدين عليه امتنع منه، ثم ادعى بعد البيع: أنه كان أعتقه أو أوقفه.. لم يقبل قوله في ذلك. فمن أصحابنا من صوب ابن الحداد، ومنهم من خطأه وقال: لا يقبل قولها بحال، لأن لها غرضا في أعيان الأزواج، وربما كرهت زوجها وطلبت غيره، فلا تصدق على ما يوجب بطلان نكاحها، كما إذا أقر العبد بجناية خطأ، أو إتلاف مال.. فإنه لا يقبل. [فرع يثبت النكاح بتصادق الزوجين فحسب] قال ابن الحداد: وإن قالت امرأة وهي بالغة عاقلة: زوجني أبي زيدا بشهادة شاهدين، وصادقها زيد على ذلك، فأنكر الأب أو الشاهدان ذلك.. لم يلتفت إلى إنكار الأب والشاهدين، لأن الحق للزوجين، ولا حق للأب ولا للشاهدين في ذلك فهو كما لو قال رجل: باع وكيلي داري من فلان، وادعاه المشتري، فأنكر الوكيل.. لم يلتفت إلى إنكاره، فكذلك هذا مثله. قال القاضي أبو الطيب: هذا على قول الشافعي الجديد: (إن النكاح يثبت

فرع إنكاح المجنونة

بتصادق الزوجين) . وهو المشهور. وأما على القول القديم: (فإنه لا يثبت بتصادقهما إلا إن كانا غريبين) . [فرع إنكاح المجنونة] وإن كانت المنكوحة مجنونة، فإن كان وليها أباها أو جدها.. زوجها على أية صفة كانت، صغيرة كانت أو كبيرة، بكرا كانت أو ثيبا، لأنهما يملكان إجبارها على النكاح، وإنما لم يجز لهما تزويج الثيب الصغيرة العاقلة، لأنه يرجى لها أن تبلغ وتأذن، ولم يجز لهما تزويج الثيب البالغة إلا بإذنها، لأنها من أهل الإذن، والمجنونة ليست من أهل الإذن، ولا يرجى لها حال تصير فيه من أهل الإذن. وإن كان وليها غير الأب والجد من العصبات.. لم يملك تزويجها، لأن تزويجها إجبار، وهم لا يملكون إجبارها على النكاح. وإن كان وليها الحاكم.. قال الشيخ أبو حامد: بأن لا يكون لها ولي مناسب، أو كان لها ولي مناسب غير الأب والجد.. فإنهم لا ولاية لهم عليها في هذه الحالة، وتنتقل الولاية إلى الحاكم. فإن كانت صغيرة.. لم يجز للحاكم تزويجها، لأنه لا حاجة بها إلى التزويج في هذه الحال. وإن كانت كبيرة.. جاز له تزويجها، لأن لها في ذلك حظا، لأنها تحتاج إليه للعفة، ويكسبها غناء، وربما كان لها فيه شفاء. والفرق بين الحاكم وبين غير الأب والجد من العصبات: أن الحاكم يزوجها حكما، ولهذا يجوز له التصرف في مالها، والعصبات غير الأب والجد يزوجونها بالولاية، ولا ولاية لهم عليها، هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: المجنونة المطبقة إن كانت بكرا.. فللأب والجد تزويجها صغيرة كانت أو كبيرة. وإن كانت ثيبا، فإن بلغت مجنونة.. فلهما ذلك، وإن بلغت عاقلة ثم جنت.. فهل لهما تزويجها؟ فيه وجهان، بناء على أنه: هل تعود ولاية المال لهما؟ وفيه وجهان. وإن كانت صغيرة ثيبا.. فوجهان.

فرع إنكاح الأمة

وإن كان جنونها غير مطبق وهي ثيب.. فهل لهما تزويجها في يوم الجنون؟ على وجهين. فأما غير الأب والجد من العصبات.. فليس له تزويجها بحال، وللحاكم أن يزوجها إذا كانت بالغة، وهل يستأذن الحاكم غيره من العصبات؟ فيه وجهان. [فرع إنكاح الأمة] وإن كانت المنكوحة أمة.. فللمولى أن يزوجها بغير إذنها، صغيرة كانت أو كبيرة، عاقلة كانت أو مجنونة، ثيبا كانت أو بكرا، لأنه يملك ذلك عليها بحق الملك، فملكه عليها بكل حال، كالإجارة. فإن دعت الأمة المولى إلى إنكاحها وامتنع، فإن كان يملك وطأها.. لم يجبر على إنكاحها، لأن عليه ضررا في ذلك، وهو زوال استمتاعه بها. وإن كانت لا يحل له وطؤها، كأخته من النسب أو الرضاع.. فهل يجبر على إنكاحها؟ فيه وجهان. أحدهما: لا يجبر، لأنها تنقص قيمتها بالنكاح. والثاني: يجبر، لأنه لا يملك الاستمتاع بها، ولا ضرر عليه في إنكاحها، بل يحصل له المهر وملك الولد. وإن كانت الجارية لامرأة، فطلبت الأمة الإنكاح، فامتنعت مولاتها.. فينبغي أن يكون في إجبارها وجهان، كما لو كانت لرجل لا يملك استمتاعها. وحكم المدبرة والمعتقة بصفة حكم الأمة القنة في ذلك. [فرع إنكاح المبعضة] وإن كانت له أمة نصفها حر، ونصفها مملوك.. فلا يملك المولى إجبارها على النكاح لما فيها من الحرية، ولا يجوز لها أن تتزوج بغير إذن مالك نصفها، لما فيها من الرق.. فإن دعت إلى الإنكاح، وامتنع مالك نصفها.. فهل يجبر؟ قال ابن الصباغ: ينبغي أن تكون على وجهين، كالتي لا تحل له.

فرع إنكاح المكاتبة

ومن الذي يتولى عقد النكاح عليها؟ قال ابن الحداد: يزوجها مالك نصفها برضا وليها من النسب، فإن كان وليها من النسب أباها أو جدها وكانت بكرا.. زوجها مالك نصفها برضا أبيها أو جدها، ولا يفتقر إلى رضاها. وإن كانت ثيبا، أو كان وليها من النسب غير الأب والجد من العصبات.. لم يزوجها مالك نصفها إلا برضا وليها من النسب ورضاها، وإن لم يكن لها ولي من النسب.. لم يزوجها مالك نصفها إلا برضاها ورضا معتقها، لأن المالك لا حق له إلا في نصفها المملوك. وقال أصحابنا: هذا على القول الذي يقول: إن من نصفها حر، ونصفها مملوك يرث عنها عصبتها ما ملكته بنصفها الحر. فأما على القول الذي يقول: إن ما ملكته بنصفها الحر إذا ماتت، كان لمالك نصفها.. فمن ذا الذي يزوجها؟ فيه وجهان: أحدهما: يزوجها مالك نصفها وحده، لأنه لما ملك جميع ميراثها.. ملك تزويجها، كعصبتها. والثاني: أنه لا يزوجها إلا برضاها وبرضا وليها من النسب، أو برضاها وبرضا معتقها، كالقول الأول، لأن وليها ومعتقها، وإن لم يرثا فإنما لم يرثا لما فيها من الرق، وأما النسب والولاء: فهو ثابت بينهما، فوجب أن يكون الإنكاح إليه. [فرع إنكاح المكاتبة] وأما المكاتبة: فإن أراد المولى إجبارها على النكاح.. لم يكن له ذلك، لأن تصرفه قد انقطع عنها بالكتابة. وإن طلبت النكاح وامتنع السيد.. فهل يجبر؟ فيه وجهان: أحدهما: يجبر، لأن لها في ذلك منفعة، لأنه يحصل لها المهر والنفقة، فتستعين بالمهر على أداء الكتابة. والثاني: لا يجبر، لأن له في الامتناع فائدة، وهو أنها: ربما عادت إليه بالتعجيز، فيكون لا يملك الاستمتاع بها.

مسألة تزويج الولي نفسه من وليته

[مسألة تزويج الولي نفسه من وليته] إذا أراد الرجل أن يتزوج امرأة يلي عليها النكاح من نفسه، كابنة العم والمعتقة، أو وكل الولي رجلا يزوج وليته، فتزوجها الوكيل من نفسه.. لم يصح. وقال ربيعة، ومالك، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: (يصح) . دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل نكاح لم يحضره أربعة.. فهو سفاح: خاطب، وولي، وشاهدان» ، وهذا لم يحضره إلا ثلاثة، وشرط أن يكون ولي وخاطب، ولم يوجد ذلك. ولأنه لو وكل وكيلا ليبيع له سلعة.. لم يجز للوكيل أن يبتاعها من نفسه، فكذلك هذا مثله. وقد وافقنا أبو حنيفة على البيع، وخالفنا مالك رحمهما الله فيه، وقد مضى. إذا ثبت هذا: فأراد ابن العم أن يتزوجها، فإن كان هناك ولي لها في درجته.. تزوجها منه. وإن لم يكن هناك ولي في درجته، بل كان أبعد منه أو لا ولي لها.. تزوجها من السلطان، لأنها تصير في حقه بمنزلة من لا ولي لها، فيتزوجها من السلطان.

فرع أعتق مستولدته وأراد أن يتزوجها

[فرع أعتق مستولدته وأراد أن يتزوجها] وإن أعتق رجل جارية وله ابنان، أحدهما منها، والآخر من غيرها، وأراد المعتق أن يتزوجها.. فقال ابن الحداد: يتزوجها من ابنه منها. فمن أصحابنا من وافقه في ذلك، لأن المعتق لا ولاية له عليها في تزويجها من نفسه، فيكون بمنزلة الفاسق إذا أراد أن يتزوج وليته. قال القاضي أبو الطيب: ويأتي على قول ابن الحداد: إذا أراد ابن العم أن يتزوج ابنة عمه.. فإنه يتزوجها ممن دونه من الأولياء. وقوله: (يتزوجها من ابنه منها) أراد على أشهر القولين في الأخوين، أحدهما لأب وأم، والآخر لأب. وخالفه أكثر أصحابنا، وقالوا: لا يصح أن يتزوجها من ابنه منها ولا من غيره، وإنما يتزوجها من الحاكم، لأن الولاية له عليها ثابتة، فلا تبطل ولايته بإرادته تزويجها، كما لو غاب الولي أو عضل. ولأن هذا يؤدي إلى أن يكون المعتق وابنه وليين لها في حالة واحدة، وأن لكل واحد منهما أن يزوجها من صاحبه، وهذا لا يصح، لأن الابن يتلقى الولاية عليها من جهة أبيه، فلا يجتمع معه في الولاية. [فرع زواج الحاكم أو الإمام ممن لا ولي لها] إذا أراد الحاكم أن يتزوج امرأة لا ولي لها.. فإنه يتزوجها من الإمام. قال ابن الصباغ: أو يرد ذلك إلى من يزوجه إياها، ولا يتولى طرفي العقد. وإن أراد الإمام أن يتزوج امرأة لا ولي لها.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح أن يتزوجها من نفسه ويتولى طرفي العقد؛ لأنه إذا تزوجها من جهة الحاكم.. فهو قائم من جهته، فصح أن يتولى ذلك من نفسه. والثاني: لا يصح أن يتولى العقد بنفسه، بل يتزوجها من الحاكم، لأن الحاكم ليس بوكيل له، وإنما هو نائب عن المسلمين، ولهذا: لا يملك الإمام عزله من غير سبب.

فرع تزويج الجد أحفاده من بعضهم

[فرع تزويج الجد أحفاده من بعضهم] وإن أراد الجد أن يزوج ابن ابنه الصغير بابنة ابن له آخر.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح، وهو اختيار ابن القاص، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل نكاح لم يحضره أربعة.. فهو سفاح: خاطب وولي وشاهدان» . والثاني: يصح، وهو اختيار ابن الحداد والقاضي أبي الطيب، لأنه يملك طرفي العقد بغير تولية، فجاز أن يتولاه هاهنا، كبيع مال الصغير من نفسه. وأما الخبر.. فمحمول على أنه إذا كان الولي غير الخاطب. فعلى هذا: لا تصح الولاية إلا بثلاثة شروط: أحدها: إذا كان أبواهما ميتين، أو فاسقين، أو أحدهما ميتا والآخر فاسقا، لأنه لا ولاية للجد الرشيد عليهما مع ثبوت ولاية الأبوين عليهما. الشرط الثاني: أن يكون ابن الابن صغيرا أو مجنونا. الشرط الثالث: أن تكون الابنة بكرا، فأما إذا كانت ثيبا، فلا يملك تزويجها بحال إلا بإذنها. وقد اشترط ابن الحداد أن يكون صغيرة. وليس بصحيح، لأن الجد يملك إجبارها على النكاح إذا كانت بكرا بكل حال، إلا أن تكون الابنة مجنونة.. فيملك الجد إجبارها على النكاح بكل حال. إذا ثبت هذا: فإن الجد يقول: زوجت فلانة بفلان، أو فلانا بفلانة. وهل يفتقر إلى لفظ القبول، وهو: أن يقول: وقبلت نكاح فلانة لفلان؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يفتقر إلى ذلك، لأن الإيجاب يتضمن القبول، فلم يفتقر إليه، كما لو قال: زوجني بنتك، فقال: زوجتك.. لا يحتاج أن يقول: قبلت. ولأنه لما قام شخص واحد مقام شخصين.. قام لفظ واحد مقام لفظين.

فرع تزويج الولي وليته من ابنه

والثاني: يفتقر إلى القبول، وهو قول ابن الحداد، وهو المشهور، لأن كل عقد افتقر إلى الإيجاب.. افتقر إلى القبول، كما لو كان بين شخصين. [فرع تزويج الولي وليته من ابنه] وإن زوج الولي وليته من ابنه الكبير.. صح، لأنه يقبل لنفسه. وإن زوجها من ابنه الصغير.. فذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنه لا يصح، لأنه هو الذي أوجب النكاح عن المرأة ويقبله لابنه، والشخص الواحد لا يجوز أن يكون قابلا موجبا في النكاح. [مسألة وكيل الولي يقوم مقامه بشروط] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ووكيل الولي يقوم مقامه) . وجملة ذلك: أن الولي إذا كان ممن يملك إجبار المرأة على النكاح.. فله أن يوكل من يزوجها بغير إذنها، كما يجوز أن يعقد عليها بنفسه بغير إذنها. فإن وكل في تزويجها من رجل بعينه.. صح، وإن قال للوكيل: وكلتك في تزويجها وأطلق.. فهل يصح؟ حكى الشيخان- أبو حامد وأبو إسحاق -: فيها قولين، وحكاهما ابن الصباغ والمسعودي [في" الإبانة "] وجهين: أحدهما: يصح، لأن من جاز أن يوكل وكالة معينة.. جاز أن يوكل وكالة مطلقة، كالوكالة في البيع. والثاني: لا يصح هذا التوكيل، لأن الولي إنما فوض إليه اختيار الزوج، لكمال شفقته، وهذا لا يوجد في الوكيل. وإن كان الولي لا يملك التزويج إلا بإذنها، فإن أذنت له في التزويج والتوكيل.. صح توكيله، وإن أذنت له في التزويج لا غير.. فهل يملك التوكيل؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في (الوكالة) .

فرع إذنها لوليها في العقد عليها

[فرع إذنها لوليها في العقد عليها] ] : إذا كان الولي لا يملك أن يعقد على المرأة إلا بإذنها، فإن أذنت له أن يزوجها من رجل معين.. صح ذلك. وإن أذنت له أن يزوجها مطلقا.. قال الشيخ أبو حامد: يصح ذلك قولا واحدا، لكمال شفقته. وقال الطبري في " العدة ": هو كالوكيل إذا وكله الولي في التزويج وأطلق، على ما مضى. ويجوز للمرأة أن تأذن لوليها بلفظ الإذن، ويجوز بلفظ الوكالة، نص عليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لأن المعني فيهما واحد. وإن أذنت لوليها أن يزوجها، ثم رجعت.. لم يصح تزويجها، كالموكل إذا عزل وكيله. فإن زوجها الولي بعد العزل وقبل أن يعلم به.. فهل يصح؟ فيه وجهان مأخوذان من القولين في الوكيل إذا باع بعد العزل وقبل العلم به. [مسألة توكيل الزوج في تزويجه] قد ذكرنا: أن للزوج أن يوكل من يتزوج له، لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل عمرو بن أمية الضمري أن يتزوج له أم حبيبة بنت أبي سفيان من ابن عمها في أرض الحبشة» و: «وكل أبا رافع في تزويج ميمونة» . فإن وكله: أن يتزوج له امرأة بعينها.. صح، وإن وكله: أن يتزوج له ممن شاء.. ففيه وجهان، مضى ذكرهما في (الوكالة) :

فرع ادعاء التوكيل للتزوج أو استئنافه وضمان المهر

[أحدهما] : قال أبو العباس وأبو عبد الله الزبيري: لا يجوز، لأن الأغراض تختلف في ذلك. و [الثاني] : قال القاضي أبو حامد: يجوز. وإليه أشار الصيمري، فإنه قال: لو وكله أن يزوجه امرأة من العرب، فزوجه امرأة من قريش.. جاز. ولو وكله أن يزوجه امرأة من قريش، فزوجه امرأة من العرب غير قريش.. لم يصح. ولو وكله أن يزوجه امرأة من الأنصار، فزوجه امرأة من الأوس أو الخزرج من بنات الأنصار.. جاز. ولو وكله أن يزوجه امرأة من الأوس، فزوجه من الخزرج.. لم يجز. ولو وكله أن يزوجه امرأة بعينها، فتزوجها الموكل لنفسه، ثم طلقها قبل الدخول أو بعد الدخول وانقضت عدتها، ثم تزوجها الوكيل للموكل.. قال الصيمري: لم يصح، لأن وكالته قد بطلت لما تزوجها الموكل لنفسه. فإن وكله أن يتزوج له امرأة بمائة، فتزوجها له بخمسين.. صح، وإن تزوجها له بأكثر من مائة.. قال الصيمري: فقد قال شيخ من أصحابنا: يبطل النكاح. والصحيح: أنه يصح النكاح، ولها مهر مثلها. [فرع ادعاء التوكيل للتزوج أو استئنافه وضمان المهر] فإن جاء رجل وادعى أن فلانا وكله أن يتزوج له امرأة، فتزوجها له وضمن عنه المهر، ثم أنكر الموكل الوكالة، ولا بينة.. فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف له.. لم يلزمه النكاح، ولا يقع النكاح للوكيل، بخلاف وكيل الشراء، لأن الغرض من النكاح أعيان الزوجين، فلا يقع لغير من عقد له، وترجع الزوجة على الوكيل بنصف المهر- وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف - لأنها تدعي وجوبه على الزوج، والوكيل ضامن به وهو مقر به. وقال محمد بن الحسن: ترجع على الوكيل بجميع الصداق، لأن الفرقة لم تقع في الباطن بإنكاره. وهذا ليس بشيء، لأنه يملك الطلاق، فإذا أنكر النكاح.. فقد أقر بتحريمها عليه، فصار بمنزلة إيقاعه للطلاق.

مسألة تزويج المرأة من الكفء وغيره

ولو مات الزوج قبل المصادقة على النكاح.. لم ترث هذه الزوجة إلا أن يصدقها سائر ورثته على التوكيل، أو تقوم لها بينة على ذلك. ولو غاب رجل عن امرأته، فجاءها رجل وذكر: أن زوجها طلقها طلاقا بانت به منه بدون الثلاث، وأنه وكله في استئناف عقد النكاح عليها بألف، فعقد عليها النكاح بألف، وضمن لها الوكيل الألف، ثم قدم الزوج فأنكر ذلك.. فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف.. فهل للزوجة أن ترجع على الوكيل بالألف؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال الساجي والقاضي أبو الطيب: لا ترجع عليه بشيء- وبه قال أبو حنيفة - لأن الضامن فرع على المضمون عنه، فإذا لم يلزم المضمون عنه شيء.. لم يلزم الضامن. والثاني: ترجع عليه بالألف. وقال الشيخ أبو حامد: وقد نص عليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الإملاء "، وهو الأصح، لأن الوكيل مقر بوجوبها عليه، كما قلنا في التي قبلها. [مسألة تزويج المرأة من الكفء وغيره] وليس للولي أن يزوج المرأة من غير كفء إلا برضاها ورضا سائر الأولياء، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تخيروا لنطفكم، وأنكحوا الأكفاء، وانكحوا إليهم» . ولأن في ذلك إلحاق عار بها وبسائر الأولياء، فلم يجز من غير رضاهم. قال الشيخ أبو حامد: والأولياء الذين يعتبر رضاهم في نكاح المرأة من غير كفء هم: كل من كان وليا للعقد حال التزويج، فأما من يجوز أن ينتقل إليه الولاية.. فلا يعتبر رضاه. فإن دعت المرأة أولياءها أن يزوجوها من غير كفء، فامتنعوا.. لم يجبروا على

فرع التزويج برضاها وأوليائها من غير كفء

ذلك، ولا ينوب الحاكم منابهم في تزويجها، لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ولما روى علي كرم الله وجهه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاثة لا يؤخرن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤا» فدل على: أنها إذا وجدت غير كفء.. جاز أن تؤخر. وإن دعت المرأة الولي إلى أن يزوجها من كفء بأقل من مهر مثلها.. وجب عليه إجابتها، فإن زوجها، وإلا.. زوجها الحاكم. فإن كان لها أولياء، فزوجها أحدهم بأقل من مهر مثلها بإذنها دون رضا سائر أوليائها.. صح. وقال أبو حنيفة: (لا يلزمهم إجابتها إلى ذلك، فإن زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها، أو زوجها واحد منهم بذلك.. ألزموا الزوج مهر مثلها، ولم يكن لهم فسخ النكاح) . دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استحل بدرهمين.. فقد استحل» . ولأن كل من لا يملك الاعتراض عليها في جنس المهر.. لم يملك الاعتراض عليها في قدره، كأباعد الأولياء والأجانب. ولأن المهر حق لها، ولا عار عليهم بذلك.. فلم يكن لهم الاعتراض عليها. [فرع التزويج برضاها وأوليائها من غير كفء] فإن زوجت المرأة من غير كفء برضاها ورضا سائر الأولياء.. صح النكاح. وبه قال مالك وأبو حنيفة رحمة الله عليهما، وأكثر أهل العلم.

وقال سفيان وأحمد وعبد الملك ابن الماجشون: (لا يصح) دليلنا: ما روي: «أن فاطمة بنت قيس أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله، إن معاوية وأبا جهم خطباني، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما معاوية: فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم: فلا يضع عصاه عن عاتقه، فانكحي أسامة بن زيد» وفي رواية أخرى: " أدلك على من هو خير لك منهما؟ ". قلت: من؟ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أسامة بن زيد "، قالت: فتزوجت أسامة، فبورك لأبي زيد في، وبورك لي في أبي زيد. وفاطمة قرشية، وأسامة مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم. وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: حجم أبو هند - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اليافوخ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأنصار: «يا بني بياضة، زوجوا أبا هند، وتزوجوا إليه» فندبهم إلى التزويج بحجام وليس بكفء لهم. وروي: (أن بلالا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تزوج بهالة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) . قيل: بل هو حذيفة. وروي: (أن سلمان الفارسي خطب إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ابنته، فأنعم له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكره ذلك عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فلقي عمرو بن العاص، فأخبره بذلك، فقال: أنا أكفيك هذا، فلقي سلمان، فقال له

فرع تزويج البكر برضاها من غير كفء

عمرو: هنيئا لك، قال: بماذا؟ فقال: تواضع لك أمير المؤمنين، فقال سلمان: أَلِمِثْلِي يتواضع؟ والله لا تزوجتها أبدا) . [فرع تزويج البكر برضاها من غير كفء] فإن زوج الأب أو الجد البكر من غير كفء بغير رضاها، أو زوجها أحد الأولياء بغير كفء برضاها من غير رضا سائر الأولياء.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (النكاح باطل) . وقال في موضع: (كان للباقين الرد) ، وهذا يدل على: أنه وقع صحيحا. واختلف أصحابنا فيها على ثلاثة طرق: فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيها قولان: وهو اختيار الشيخ أبي حامد: أحدهما: أن النكاح صحيح، ويثبت لها الخيار، ولسائر الأولياء الخيار في فسخه، لأن النقص دخل عليهم، وحصول النقص لا يمنع صحة العقد، وإنما يثبت الخيار في فسخه، كما لو اشترى لموكله شيئا معيبا. والثاني: أن العقد لا يصح، لأن العاقد قد تصرف في حق غيره، فإذا فرط.. بطل العقد، كما لو باع الوكيل بأقل من ثمن المثل. و [الطريق الثاني] : منهم من قال: العقد باطل قولا واحدا، وحيث قال: (كان للباقين الرد) أي: المنع من العقد. و [الطريق الثالث] : منهم من قال: هي على حالين: فحيث قال: (يبطل العقد) أراد: إذا عقد وهو يعلم أنه ليس بكفء. وحيث قال: (لا يبطل العقد) أراد: إذا عقد ولم يعلم أنه غير كفء، كما قلنا في

فرع رجوع المرأة والولي عند الاختلاف في الكفاءة إلى الحاكم

الوكيل إذا اشترى شيئا معيبا يعلم بعيبه.. لم يصح في حق الموكل، وإن اشتراه وهو لا يعلم بعيبه.. صح في حق موكله. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إذا زوجها أحد الأولياء بغير كفء برضاها.. لم يكن للباقين في ذلك اعتراض) . دليلنا: أن رضا جميعهم معتبر، فلم يسقط برضا بعضهم. [فرع رجوع المرأة والولي عند الاختلاف في الكفاءة إلى الحاكم] إذا دعت المرأة وليها إلى تزويجها برجل، وزعمت: أنه كفء لها، فقال الولي، ليس بكفء لها.. رفع ذلك إلى الحاكم، ونظر الحاكم فيه: فإن كان كفؤا لها.. لزمه تزويجها به، فإن امتنع.. زوجها الحاكم منه. وإن كان ليس بكفء لها.. لم يلزم الولي إجابتها إليه. [مسألة مقومات الكفاءة] ستة] : الكفاءة معتبرة في ستة أشياء: النسب، والدين، والحرية، والصنعة، واليسار، والسلامة من العيوب. فأما (النسب) : فإن العجمي ليس بكفء للعربية. وأما العجم: فهم أكفاء، لا فضل لبعضهم على بعض، لما روى نافع، عن ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العرب بعضهم أكفاء بعض، حي لحي، وقبيلة لقبيلة، ورجل لرجل، إلا الحائك والحجام» فدل على: أن العجم ليست بأكفاء للعرب.

وروي عن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «يا معشر العرب، إنما نفضلكم، لفضل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا ننكح نساءكم، ولا نتقدمكم في الصلاة» . وأما العرب. فإن غير القرشي.. ليس بكفء للقرشية. وقال أبو حنيفة: (بل هم أكفاء لهم) . دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله عز وجل اختار العرب من سائر الأمم، واختار من العرب قريشا، واختار من قريش بني هاشم وبني عبد المطلب» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نحن قريش خير العرب، وموالينا خير الموالي» .

وأما قريش: فإن بني هاشم وبني عبد المطلب أكفاء، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بني هاشم، وبني عبد المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه» . وهل تكون سائر قبائل قريش أكفاء لبني هاشم وبني المطلب؟ فيه وجهان حكاهما في " المهذب ": أحدهما: أنهم أكفاء، كما أنهم في الخلافة أكفاء. والثاني: أنهم ليسوا بأكفاء لهم- ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ غيره - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال لي جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إني قلبت مشارق الأرض ومغاربها.. فلم أجد أفضل من بني هاشم» . وأما سائر قبائل العرب: فلا فضل لبعضهم على بعض، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العرب بعضهم أكفاء بعض، حي لحي، وقبيلة لقبيلة، ورجل لرجل، إلا الحائك والحجام» . وقال الصيمري: وموالي قريش أكفاء لقريش، وكذلك موالي كل قبيلة أكفاء لهم، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «موالي القوم من أنفسهم» . قلت: وهذا الذي ذكره مخالف لظاهر قول سائر أصحابنا، لأنهم يحتجون- على جواز إنكاح المرأة ممن ليس بكفء لها- بتزويج أسامة بن زيد لفاطمة بنت قيس، وأسامة مولى لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قرشية. ولو قيل: فيها وجهان، كالوجهين في أنه: هل تحل الصدقة المفروضة لموالي بني هاشم وبني المطلب.. لكان محتملا. فأما إذا وطئ الرجل أمته، فأولدها ولدا.. فإنه كفء لمن

أمه عربية، لأن الولد يتبع الأب في النسب دون الأم، بدليل: أن الهاشمي لو تزوج أعجمية.. فإن ولده منها هاشمي، ولو تزوج العجمي هاشمية.. فإن ولده منها عجمي. وأما (الدين) : فهو معتبر، فالفاسق الذي يشرب الخمر ويزني، أو لا يصلي.. ليس بكفء للحرة العفيفة. وقال محمد بن الحسن: هو كفء لها، إلا أن يكون يسكر، ويخرج مظاهرا به ويولع به الصبيان. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] [السجدة:18] ، فنفى المساواة بينهما من جميع الوجوه. ولما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه.. فزوجوه، إلا تفعلوا.. تكن فتنة في الأرض، وفساد كبير» . ولأن الفاسق لا يؤمن أن يحمله فسقه على أنه يجني على المرأة، فثبت لها الخيار في فسخ نكاحه. وأما (الحرية) : فهي معتبرة، فالحرة ليست بكفء للعبد، والحر لا يكافئ الأمة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا} [النحل: 75] إلى قَوْله تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوُونَ} [النحل: 75] [النحل:75] . فنفى المساواة بينهما.

ولـ: «أن بريرة أعتقت تحت عبد، فخيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، فإذا ثبت لها الخيار إذا طرأت عليها الحرية وهي تحت عبد.. فلأن يثبت لها الخيار إذا كانت حرة عند ابتداء النكاح أولى. ولأن عليها ضررا في النفقة، لأنه لا ينفق عليها نفقة الموسر، ولا ينفق على أولاده منها. وأما (الصنعة) : فهي معتبرة، فمن كان من أهل الصنعة الدنية، كالحائك، والحمامي، والحجام، وما أشبههم.. ليس بكفء للمرأة التي أبوها من أهل الصنائع الرفيعة، مثل: البزاز والعطار، لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العرب بعضهم أكفاء بعض، حي لحي، وقبيلة لقبيلة، ورجل لرجل، إلا الحائك والحجام» ، فلما استثنى الحائك والحجام من جملتهم.. دل على: أن للصنعة تأثيرا في الكفاءة. ولأن هذه الصنع نقص في العادة، فاعتبرت. وأما (اليسار) : فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: إنه معتبر، فالمعسر ليس بكفء للموسرة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحسب المال» . ولأنه لما ثبت: أن العبد لا يكافئ الحرة، لأنه لا ينفق عليها نفقة الموسر، ولا ينفق على أولاده منها.. فكذلك المعسر. فعلى هذا: لا يعتبر أن يكون الرجل مثل المرأة في اليسار في جميع الوجوه، بل إذا كان كل واحد منهما موسرا يسارا ما.. تكافئا وإن اختلفا في المال. ومنهم من قال: اليسار غير معتبر في الكفاءة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا» . ولأن ذلك ليس بنقص في العادة، لأن المال يغدو

مسألة إذن المرأة لأكثر من ولي في تزويجها

ويروح، ولهذا: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابني خالد: «لا تيأسا من رزق الله ما تهززت رؤوسكما، فإن ابن آدم خلق ليس عليه شيء إلا قشرتان، ثم يرزق الله سبحانه وتعالى» . وأما (السلامة من العيوب) : فهي معتبرة في الكفاءة. فالعيوب في الرجال: الجنون، والجذام، والبرص، والجب، والعنة. والعيوب في النساء: الجنون، والجذام، والبرص، والرتق، والقرن. ولها أحكام تأتي في بابها إن شاء الله تعالى. قال الصيمري: واعتبر قوم البلدان، فقالوا: ساكنو مكة والمدينة والبصرة والكوفة ليسوا بأكفاء لمن يسكن الجبال. وهذا ليس بشيء. وليس للحسن والقبح، والطول والقصر، والسخاء والبخل، ونحو ذلك مدخل في الكفاءة، لأن ذلك ليس بنقص في العادة، ولا عار فيه ولا ضرر. [مسألة إذن المرأة لأكثر من ولي في تزويجها] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو قالت: قد أذنت في فلان، وأي أوليائي زوجني.. فهو جائز) .

وجملة ذلك: أنه إذا كان للمرأة وليان في درجة واحدة، فأذنت لكل واحد منهما: أن يزوجها برجل غير الذي أذنت به للآخر، أو أذنت لكل واحد منهما: أن يزوجها لرجل ولم تعين- وقلنا: يجوز - فزوجها كل واحد منهما برجل.. ففيه خمس مسائل: إحداهن: أن يعلم أن العقدين وقعا معا في حالة واحدة.. فهما باطلان، لأنه لا يمكن الجمع بينهما، إذ المرأة لا يجوز أن يكون لها زوجان، لاختلاط النسب وفساده، وليس أحدهما بأولى من الآخر في التقديم، فبطلا، كما لو تزوج أختين في عقد واحد. الثانية: أن لا يعلم: هل وقع العقدان في حالة واحدة، أو سبق أحدهما الآخر؟ قال أصحابنا البغداديون: بطل العقدان، لأنه لا يمكن الجمع بينهما، ولا مزية لأحدهما على الآخر في التقديم. وقال الخراسانيون: بطل العقدان في الظاهر، وهل يبطلان في الباطن؟ فيه وجهان. الثالثة: أن يعلم أن أحدهما سبق الآخر، إلا أنه أشكل عين السابق منهما، فقال أصحابنا البغداديون: بطل العقدان، لما ذكرناه في التي قبلها. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: فيها قولان: أحدهما: أنهما باطلان. والثاني: يتوقف فيهما، بناء على القولين في الجمعتتين إذا وقعتا معا في بلدة وعلم بسبق إحداهما، ولم تتعين السابقة. وهذا اختيار المزني. الرابعة: أن يعلم أن أحد العقدين سبق الآخر ونسي السابق منهما.. فيوقفان إلى أن يتذكر السابق، لأن الظاهر مما علم ثم نسي: أنه يتذكر.

فرع زوجها وليان ولا يعلم السابق منهما

الخامسة: أن يعلم السابق منهما ويتعين ويذكر.. فإن النكاح الصحيح هو الأول، والثاني باطل، سواء دخلا بها أو لم يدخلا بها، أو دخل بها أحدهما. وبه قال من الصحابة: علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ومن التابعين: شريح، والحسن البصري رحمة الله عليهما، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق. وذهبت طائفة إلى: أنه إن لم يطأها أحدهما، أو وطئاها معا، أو وطئها الأول دون الثاني.. فهي للأول - كقولنا - وإن وطئها الثاني دون الأول.. فالنكاح للثاني دون الأول، وبه قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعطاء والزهري، ومالك رحمة الله عليهم. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] [النساء:23-24] ، والمراد به الزوجات، ولم يفرق. وروى سمرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أنكح المرأة الوليان.. فهي للأول منهما» . ولم يفرق. ولأنه نكاح لو عري عن الوطء.. لم يصح، فإذا كان فيه الوطء.. لم يصح، كنكاح المعتدة والمحرمة بالحج. [فرع زوجها وليان ولا يعلم السابق منهما] إذا زوج المرأة وليان من رجلين، ولم يعلم السابق منهما، وادعى كل واحد من الزوجين: أنه هو السابق منهما: نظرت: فإن ادعى أحد الزوجين على الآخر.. قال المسعودي [في" الإبانة "] : لم تسمع دعواه، لأنه لا شيء في يده.

وإن ادعيا على الولي، فإن كان غير مستبد بنفسه، بأن لا يصح إنكاحه إلا بإذنها.. لم تسمع دعواهما عليه. وإن كان مستبدا بنفسه، كالأب والجد في تزويج البكر.. فهل تسمع الدعوى عليه؟ فيه قولان. وإن ادعيا على المرأة، فإن لم يدعيا علمها بذلك.. لم تسمع الدعوى عليها، لأنه لا فائدة في ذلك. وإن ادعيا علمها بالسابق منهما.. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فهل تسمع الدعوى عليها؟ فيه قولان، بناء على القولين في إقرارها لأحدهما بالسبق: هل يقبل؟ [أحدهما] : قال في القديم: (يقبل إقرارها) . فعلى هذا: تسمع الدعوى عليها. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يقبل إقرارها) . فعلى هذا: لا تسمع الدعوى عليها. وأما الشيخ أبو حامد، والبغداديون من أصحابنا: فقالوا: تسمع الدعوى عليها من غير تفصيل. فإذا قلنا: تسمع الدعوى عليها.. نظرت: فإن أنكرت: أنها لا تعرف السابق منهما.. فالقول قولها مع يمينها: أنها لا تعرف السابق منهما، فإذا حلفت.. سقطت دعواهما، وبطل النكاحان، وإن نكلت عن اليمين.. ردت اليمين عليهما، فيحلف كل واحد منهما: أنه هو السابق بالعقد، فإذا حلفا.. بطل النكاحان، لأن كل واحد منهما قد أثبت بيمينه: أنه هو السابق، ولا مزية لأحدهما على الآخر، فبطلا. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر.. ثبت نكاح الحالف، وبطل نكاح الناكل. وإن نكلا جميعا.. بطل النكاحان أيضا، لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. وإن أقرت: أنها تعلم السابق منهما.. نظرت:

فإن أقرت لكل واحد منهما: أنه هو السابق، وكان إقرارها لهما في وقت واحد.. فلا حكم لهذا الإقرار، لاستحالة أن يكون كل واحد منهما سابقا لصاحبه، فتكون دعواهما عليها باقية، فتطالب بالجواب. وإن أقرت لأحدهما: أنه هو السابق.. حكم بالنكاح له، لأنه لم يثبت عليها نكاح غير المقر له حال الإقرار، فقبل إقرارها على نفسها. فإن أراد الثاني أن يحلفها-بعد إقرارها للأول- أنها لا تعلم أنه هو السابق.. فهل يلزمها أن تحلف له؟ فيه قولان- بناء على أنها لو أقرت للثاني: هل يلزمها غرم؟ وفيه قولان، كالقولين فيمن أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو.. فهل يلزمه الغرم لعمرو؟ وفيه قولان-: أحدهما: لا يلزمها أن تحلف للثاني، لأنها لو أقرت له.. لم يقبل إقرارها له، فلا معنى لعرض اليمين عليها. والثاني: يلزمها أن تحلف للثاني، لجواز أن تخاف من اليمين فتقر له، فيلزمها الغرم. فإن قلنا: لا يلزمها أن تحلف للثاني..ثبت النكاح للأول، وانصرف الثاني. وإن قلنا: يلزمها أن تحلف للثاني.. نظرت: فإن حلفت له.. انصرف. وإن أقرت للثاني: بأنه هو السابق.. لم يقبل قولها في النكاح، لأن في ذلك إسقاط حق الأول الذي قد ثبت، ولأنها قد أقرت أنها حالت بين الثاني وبين بضعها بإقرارها للأول، وهل يلزمها أن تغرم له؟ قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، كما لو أقرت بدار لزيد، ثم أقرت بها لعمرو. وقال المحاملي، وابن الصباغ: يلزمها أن تغرم له قولا واحدا، لأنا إنما عرضنا عليها اليمين على القول الذي يقول: يلزمها الغرم، فإذا أقرت له.. لزمها أن

تغرم له عوض ما حلت بينه وبينه، وكم يلزمها من الغرم؟ قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: يلزمها أن تغرم جميع مهر مثلها. وقال المسعودي [في " الإبانة "] ، والجويني: فيه قولان: أحدهما: جميع مهر مثلها. والثاني: نصف مهر مثلها، كالقولين في المرأة إذا أرضعت زوجة لرجل، وانفسخ نكاحها بذلك. وإن لم تقر للثاني، ولا حلفت له، بل نكلت عن اليمين، وردت اليمين عليه، فإن نكل.. سقطت دعواه، وإن حلف: أنه هو السابق.. فقد حصل مع الأول إقرار، ومع الثاني يمين ونكول المدعى عليه. فإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه تحل محل البينة.. ثبت النكاح للثاني، وانفسخ نكاح الأول. قال الشيخ أبو حامد: وهذا القول ضعيف جدا. وإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه تحل محل إقرار المدعى عليه - وهو الصحيح - ففيه وجهان: [أحدهما] : قال الشيخ أبو إسحاق: يبطل النكاحان، لأن مع الأول إقرار، ومع الثاني ما يقوم مقام الإقرار، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فبطلا. و [الثاني] : ومن أصحابنا من قال: يثبت نكاح الأول، لأن إقرارها له أسبق. قال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ، والمحاملي: ويلزمها على هذا: أن تغرم مهر مثلها للثاني. وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": هل يلزمها الغرم للثاني على هذا؟ فيه قولان. وقال ابن الصباغ: فعلى قول أبي إسحاق.. لا تعرض عليها اليمين، لأنه لا فائدة فيها. هذا ترتيب البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا نكلت وحلف الثاني.. فهل ينفسخ نكاح الأول؟ فيه وجهان.

فرع تزوج واحدة واثنتين وثلاثا كلا في عقد

فإذا قلنا: ينفسخ.. قال القفال: فإنه لا يثبت نكاح الثاني. والأول هو المشهور. [فرع تزوج واحدة واثنتين وثلاثا كلا في عقد] إذا تزوج رجل امرأة في عقد، وامرأتين في عقد، وثلاثا في عقد، وأشكل: أي العقود كان أولا؟ قال ابن الحداد: صح نكاح الواحدة المنفردة، ولا يصح نكاح الاثنتين ولا الثلاث، لأن العقد على الواحدة إن كان أولا.. فهو صحيح، وإن كان آخرا.. فقد تقدمه العقد على اثنتين، والعقد على ثلاث، فإن كان العقد على اثنتين أولا.. صح، وبطل العقد على الثلاث، لأنهن تمام الخمس، وصح بعده العقد على واحدة، لأنها تمام الثلاث. وإن كان العقد على الثلاث أولا.. فهو صحيح، ولم يصح بعده العقد على الاثنتين، لأنهما تمام الخمس، وصح بعده العقد على واحدة، لأنها تمام الأربع. وإن كان العقد على الواحدة بين الاثنتين والثلاث.. فهو صحيح، لأنها إما تمام الثلاث، أو تمام الأربع، فصحت بكل حال. وأما نكاح الاثنتين والثلاث: فإنه يحتمل الصحة والفساد، فيحكم بفساده، لأن الأصل عدم صحة العقد عليهن. وإن كان بدل الثلاث أربعا.. بطل نكاح الجميع، لأن الواحدة يحتمل أن تكون هي الخامسة. [فرع وكل من يتزوج له ثلاثا وآخر باثنتين أو طلق] ولو وكل رجلا: أن يزوجه ثلاث نسوة بعقد واحد، ووكل آخر: أن يزوجه امرأتين بعقد، فأي الوكيلين سبق وعقد له ما وكل فيه.. صح، وبطلت وكالة الثاني. وإن عقدا له ولم يعلم السابق منهما.. بطل الجميع، لأنه لا مزية لأحد العقدين على الآخر.

فرع ادعاء ورثة الزوج أن الزواج بغير رضاها والإقرار بالزوجية

ولو أذن لهما بذلك في عقود أو أطلق، فإن تزوج له صاحب الثلاث ثلاثا أولا، وتزوج له صاحب الاثنتين واحدة.. صح. وإن تزوج له صاحب الاثنتين باثنتين أولا، وتزوج له صاحب الثلاث باثنتين.. صح. وإن تزوج له صاحب الثلاث بثلاث، وصاحب الاثنتين باثنتين، ولم يعلم السابق.. بطل الجميع، لأنه لا مزية لبعض العقود على بعض. [فرع ادعاء ورثة الزوج أن الزواج بغير رضاها والإقرار بالزوجية] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الإملاء ": (إذا زوج الرجل أخته من رجل، ثم مات الزوج، فادعى ورثته: أن الأخ زوجها بغير إذنها، وصدقتهم.. فالنكاح باطل، ولا ترث. وإذا ادعت المرأة: أنه زوجها بإذنها.. فالقول قولها، وترث) ، لأن هذا اختلاف في إذنها وهي أعلم به. ولأن الأصل في النكاح أنه يقع صحيحا، فإذا ادعى الورثة فساده.. كان القول قولها، لأن الظاهر صحته. قال في " الإملاء ": (إذا قال رجل: هذه المرأة زوجتي، وصدقته على ذلك.. ثبتت الزوجية بينهما، وأيهما مات.. ورثة الآخر، لأن الزوجية قد ثبتت. وإن قال رجل: هذه زوجتي، فسكتت، فإن ماتت.. لم يرثها، لأن إقراره عليها لا يقبل. وإن مات.. ورثته، لأن إقراره على نفسه مقبول. وكذلك إذا أقرت امرأة بالزوجية لرجل، ولم يسمع منه إقرار، فإن مات.. لم ترثه، وإن ماتت.. ورثها) ، لما ذكرناه في التي قبلها. [مسألة زواج الصغير العاقل] يجوز للأب والجد أن يزوج ابنه الصغير إذا كان عاقلا، لما روي: (أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - زوج ابنا له صغيرا) . ولأنه يملك التصرف في مصلحته، وفي

فرع زواج المجنون

النكاح مصلحة له، لأنه إن بلغ وهو محتاج إلى النكاح.. وجد فرجا معدا له للاستمتاع، وانتفع بها أيضا من وجه آخر، وهو أنها تخدمه وتقوم بحوائجه، فتكون سكنا له، وإن بلغ وهو غير محتاج إلى النكاح.. فإن المرأة تكون سكنا له، وتقوم بمنزله. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يزوج الصغير؟ فيه وجهان، الأصح: لا يزوجه، لأنه لا حاجة به إليه. وكم يجوز للأب والجد أن يزوجا الصغير؟ حكى الشيخ أبو حامد: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (له أن يزوجه واحدة، واثنتين، وثلاثا، وأربعا، كالبالغ) . ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يزوجه بأكثر من واحدة، لأنه لا حاجة به إلى ما زاد عليها. ولا يجوز للوصي والحاكم أن يزوجا الصغير، كما لا يجوز للوصي والحاكم أن يزوجا الصغيرة. [فرع زواج المجنون] ولا يجوز للأب، ولا للجد، ولا للوصي، ولا للحاكم تزويج الصغير المجنون، لأنه لا يحتاج إلى النكاح في الحال، ولا يُدرَى إذا بلغ.. هل يحتاج إلى النكاح أم لا؟ بخلاف الابن الصغير العاقل، لأن الظاهر أنه يحتاج إلى النكاح عند بلوغه. فإن كان المجنون بالغا.. نظرت: فإن كان يجن ويفيق.. لم يجز للولي تزويجه، لأن له حالة يمكن استئذانه فيها، وهو حال إفاقته. وإن لم يكن له حال إفاقة، فإن كان خصيا، أو مجبوبا، أو علم أنه

فرع زواج المحجور عليه

لا يشتهي النكاح.. لم يجز للولي تزويجه، لأنه لا حاجة به إلى النكاح. وإن علم أنه يشتهي النكاح، بأن يراه يتبع نظره النساء، أو علم ذلك بانتشار ذكره، أو غير ذلك.. جاز للأب والجد تزويجه، لأن فيه مصلحة له، وهو ما يحصل له به من العفاف.. فإن لم يكن له أب ولا جد.. زوجه الحاكم. [فرع زواج المحجور عليه] وأما المحجور عليه لسفه: فإن كان غير محتاج إلى النكاح، بأن خلق زمنا، أو ممن لا شهوة في النساء.. لم يجز للولي أن يزوجه، لأن عليه فيه مضرة في وجوب المهر والنفقة عليه من غير منفعة. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إلا أن يحتاج إلى امرأة تخدمه.. فيجوز له تزويجه، لأن في ذلك مصلحة له، وهو أنهما إذا كان بينهما نكاح.. صارت محرما له يجوز له الخلوة بها، فيكون أحوط) . وإن كان له حاجة إلى النكاح، وطالب الولي بذلك.. فعلى الولي أن يزوجه، لأن على الولي أن يفعل ما فيه المصلحة له، وهذا من مصالحه، فلزمه القيام به، كالإنفاق على طعامه وكسوته. ولأنه إذا لم يزوجه.. ربما زنا، فأقيم عليه الحد، فيؤدي إلى تلفه. إذا ثبت هذا: فالولي بالخيار: إن شاء زوجه بنفسه وتولى عقد النكاح، لأنه عقد معاوضة، فجاز للولي أن يفعله، كالبيع. وإن اختار أن يأذن له في أن يتزوج بنفسه.. جاز، لأن المحجور عليه من أهل عقد النكاح، ألا ترى أنه يصح منه الطلاق والخلع؟ وإنما منع منه بغير إذن وليه خوفا من تبذير المال، فإذا أذن لها الولي.. زال

هذا المعنى، فجاز. ويخالف الصبي المراهق، فإن الأب أو الجد إذا أذن له في أن يعقد النكاح بنفسه.. لم يصح، لأنه ليس من أهل عقد النكاح، ولهذا لا يصح منه الطلاق والخلع. فإذا أذن له الولي أن يتزوج امرأة بعينها، أو من قبيلة عينها له.. جاز. وإن أطلق له الإذن.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يجوز، كما يجوز للسيد أن يطلق الإذن للعبد في النكاح. والثاني: لا يجوز، لأنه ربما تزوج امرأة شريفة يستغرق مهرها ماله. ويخالف العبد، فإن العادة أنه لا يزوج الشريفة، والمهر أيضا في كسبه، فلا يؤدي إطلاق إذنه إلى إتلاف ماله، بخلاف المحجور عليه. فإذا تزوج المحجور عليه بإذن الولي.. لم يتزوج إلا بمهر المثل، أو بأقل منه، لأن ما زاد عليه محاباة، فلا يصح منه. فإن تزوج بمهر المثل أو بأقل منه.. صح، وإن تزوج بأكثر من مهر المثل.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (رد الفضل منه) . ولا خلاف أن الزيادة على مهر المثل باطلة. وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (رد الفضل منه) له تأويلان: أحدهما: أنه أراد أنه لا يثبت ولا يلزم. والثاني: أنه أراد إن كان الولي قد سلم إليه مهر المثل والزيادة، وسلم الجميع إلى المرأة.. لزمها رد الفضل. وكلا التأويلين صحيح. قال ابن الصباغ: وظاهره أن الفضل يبطل، ويصح عقده في الباقي. قال: وكان القياس يقتضي: أن تبطل تسميته، ويثبت مهر المثل في ذمته، لأن التسمية إذا كانت صحيحة.. ملكت مما عينه لها مهر مثلها. وإن طلب المحجور عليه من الولي أن يزوجه، فامتنع الولي، فتزوج المحجور عليه بنفسه.. فهل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح، لأنه محجور عليه تزوج بغير إذن وليه فلم يصح، كالعبد، أو كما لو تزوج قبل الطلب.

مسألة تزويجه لابنته الصغيرة بغير كفء

والثاني: يصح؛ لأن هذا حق تعين له، فإذا لم يتمكن من الوصول إليه من جهة من وجب عليه.. كان له أن يستوفيه بنفسه، كما لو كان له على رجل دين، فامتنع من أدائه.. فله أخذه من ماله بغير إذنه. فإن تزوج المحجور عليه بغير إذن مع إمكان إذنه.. فالنكاح فاسد.. فإن وطئ المرأة.. فهل يجب عليه مهر المثل؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يجب عليه لأنه أتلف بضعها بشبهة، فجرى مجرى إتلاف المال. والثاني: لا يجب عليه شيء، لأنها بذلته باختيارها، فهو كما لو باعته مالا وأقبضته إياه.. فإنه لا يضمنه بالإتلاف. [مسألة تزويجه لابنته الصغيرة بغير كفء] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وليس له أن يزوج ابنته الصغيرة عبدا، ولا غير كفء، ولا مجنونا، ولا مخبولا، ولا مجذوما، ولا أبرص) . وهذا كما قال: لا يجوز للرجل أن يزوج ابنته الصغيرة لغير كفء، والعبد ليس بكفء للحرة، وقد مضى شروط الكفاءة. فلا يجوز أن يزوجها لمجنون ولا مخبول، لأن القصد من النكاح الاستمتاع، وهذا متعذر منه ولأنه لا يؤمن أن يجني عليها فـ (المخبول) هو: الذي تقادم جنونه وسكن، فلا يتأذى الناس به، أو يكون أبله، لا يحصل منه أذية لغيره. و (المجنون) هو: الذي يكون في ابتداء جنونه يتأذى به الناس. ولا يزوجها بمجذوم ولا أبرص، لأن النفس تعاف ممن به هذه العيوب. قال الشيخ أبو حامد: ولأنه يقال: إن هذه العيوب تعدي، وربما أعدت إليها أو إلى ولدها منه.

وكذلك لا يزوجها بخصي، ولا مجبوب، لأن المقصود من النكاح الاستمتاع وذلك لا يوجد منه. فإن خالف الأب وزوج ابنته الصغيرة ممن به أحد هذه العيوب.. فهل يصح النكاح؟ على الطرق الثلاث إذا زوج المرأة من غير كفء من غير رضاها، أو من غير رضا سائر الأولياء. فإذا قلنا: إن النكاح باطل.. فلا كلام، وإن قلنا: إن النكاح صحيح.. فهل يجب على الأب أن يختار فسخ النكاح، أو يدعه حتى تبلغ فتختار؟ حكى القاضي أبو الطيب فيه قولين، وحكاهما الشيخ أبو حامد وجهين: أحدهما: يجب عليه ذلك، لأنه قد فرط، فكان عليه أن يتلافى تفريطه، كالوكيل إذا اشترى شيئا معيبا. والثاني: لا يجب عليه، وليس له ذلك، لأن الشهوات تختلف، وقد تختار المرأة التزويج ممن به هذه العيوب. فعلى هذا: إذا بلغت.. كانت بالخيار: فإن شاءت.. فسخته، وإن شاءت.. أقرته. قال ابن الصباغ: هذا إذا كان المزوج هو الولي وحده، وأما إذا كان معه غيره: فلهم الاعتراض على العقد، وفسخه قولا واحدا، لأن العاقد أسقط حقه برضاه، والباقون لم يرضوا. وإن أراد أن يزوج أمته من عبد.. جاز، لأنه مكافئ لها. وإن أراد أن يزوجها من غير كفء لها.. قال الشيخ أبو حامد: صح، لأن الكفاءة إنما اعتبرت في نكاح الحرة، لما يلحقها بعقده من النقص في نسبها، والأمة لا نسب لها، فيلحقها النقص فيه.. ولكن إن أراد تزويجها بمجنون، أو مخبول، أو مجذوم، أو أبرص، أو مجبوب، أو خصي لم يكن له ذلك، لأن الضرر الذي يلحق الحرة في ذلك يلحق الأمة.. فلم يجز. فإن قيل: أليس لو باع أمته من مجذوم، أو أبرص، أو مجبوب، أو مخبول ... صح البيع؟

فرع تزويجه ابنه الصغير امرأة ليست بكفء أو بها عيب

قلنا: الفرق بينهما: أن المقصود من النكاح الاستمتاع، بدليل: أنه لا يصح تزويجها ممن لا يحل له الاستمتاع بها. والمقصود بالبيع: المال، ولهذا: يصح بيعها ممن لا يحل له الاستمتاع بها. فإن خالف وزوج أمته ممن به أحد هذه العيوب.. فهو كما لو زوج ابنته لغير كفء من غير رضاها، فإن قلنا: لا يصح.. فلا كلام. وإن قلنا: يصح، فإن كانت كبيرة.. كان لها الخيار في فسخ النكاح، وإن كانت صغيرة أو مجنونة.. فهل يجب على السيد أن يفسخ النكاح، أو ليس له ذلك بل تترك إلى أن تبلغ وتختار؟ فيه وجهان، كما قلنا فيه إذا زوج ابنته الصغيرة من أحدهم. [فرع تزويجه ابنه الصغير امرأة ليست بكفء أو بها عيب] ولا يزوج ابنه الصغير بامرأة ليست بكفء له، ولا بمجنونة، ولا بمخبولة، ولا مجذومة، ولا برصاء، ولا رتقاء، ولا قرناء، لأنه لا مصلحة له في تزويج إحداهن. فإن زوجه بأمة.. لم يصح قولا واحدا، لأن تزويج الأمة إنما يصح للحر إذا لم يجد طول حرة، ويخاف العنت، فإن كان الصبي موسرا.. لم يوجد الشرطان في حقه، وإن كان معسرا.. فإنه لا يخاف العنت. وإن زوجه بحرة ليست بكفء له، أو بها أحد هذه العيوب.. فهل يصح؟ على الطرق الثلاث فيمن زوج ابنته الصغيرة بغير كفء. فإذا قلنا: يصح.. فهل يجب عليه أن يفسخ النكاح، أو ينتظر بلوغه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. وإن زوج ابنه المجنون برتقاء أو قرناء، فإن قلنا: يصح تزويج الصغير العاقل بها.. صح في المجنون. وإن قلنا: لا يصح تزويج الصغير العاقل بها.. ففي المجنون وجهان:

فرع أصناف لا تزوج للصغير

أحدهما: لا يصح، كما لو زوجها من الصغير العاقل. والثاني: يصح، لأنه لا ضرر عليه في ذلك، لأنه لا يحتاج إلى الوطء. [فرع أصناف لا تزوج للصغير] قال الصيمري: ولا يزوج ابنه الصغير بعجوز هرمة، ولا بمقطوعة اليدين أو الرجلين، ولا عمياء، ولا زمنة، ولا بيهودية، ولا نصرانية. ولا يزوج ابنته الصغيرة بشيخ هرم، ولا بمقطوع اليدين أو الرجلين، ولا بأعمى، ولا زمن، ولا بفقير مرمل وهي غنية. فإن فعل ذلك.. فسخ. وعندي: أنها تحتمل وجها آخر: أنه لا يكون له الفسخ، لأنه ليس بأعظم ممن زوج ابنته الصغيرة بمجذوم أو أبرص. [مسألة إجبار العبد على النكاح] وإن دعا السيد عبده البالغ النكاح، فامتنع العبد.. فهل يجبره السيد على النكاح؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (له إجباره على النكاح) - وبه قال مالك، وأبو حنيفة رحمهما الله - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] [النور: 32] . والظاهر: أن للسادة إنكاح العبيد والإماء على كل حال. ولأنه رقيق له، يملك بيعه، فملك إجباره على النكاح، كالأمة. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يملك إجباره) - وبه قال أحمد رحمة الله عليه- لأن النكاح سبب يملك به الاستمتاع، فلم يملك المولى إجبار عبده عليه، كالقسم بين امرأتيه. ولأنه لو كان للعبد زوجة.. لم يملك المولى إجباره على الوطء، فلم يملك إجباره على النكاح. وإن كان العبد صغيرا أو مجنونا.. فهل يملك المولى إجباره على النكاح؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالكبير العاقل.

فرع طلب العبد النكاح

ومنهم من قال: له إجباره قولا واحدا، لأن للصغر والجنون تأثيرا في الإجبار على النكاح، بدليل: أنه يجبر ابنه الصغير والمجنون على النكاح، ولا يجبر العاقل البالغ. [فرع طلب العبد النكاح] وإن طلب العبد من سيده أن يأذن له في النكاح، فإن أذن له أن يتزوج ممن شاء، أو أذن له مطلقا.. كان له أن يتزوج ممن شاء، حرة كانت أو أمة. وإن تزوج من بلد غير بلد السيد.. صح النكاح، ولكن للسيد أن يمنعه من الخروج إليها، لأن له أن يمنعه من السفر. وإن أذن له أن يتزوج امرأة بعينها، حرة أو أمة فتزوج غيرها، أو أذن له أن يتزوج أمة فتزوج حرة، أو أذن له أن يتزوج حرة فتزوج أمة.. لم يصح، لأنه خالف الإذن. فإن أذن له أن يتزوج من بلد فتزوج من بلد غيرها.. لم يصح، لما ذكرناه. قال الصيمري: فإن كان للمرأة عبد فسألها التزويج، فأذنت له أن يتزوج وهو بالغ عاقل.. جاز، لأنه بالغ عاقل، وقد رفعت الحجر عنه بالإذن. فإن كان مجنونا أو صغيرا.. جاز أن تأذن لوليها أن يعقد له التزويج. وإن امتنع السيد من الإذن له.. فهل يجبر؟ فيه قولان: أحدهما: يجبر - وبه قال أحمد رحمة الله عليه- لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] [النور: 32] ، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.. ولأنه مكلف دعا إلى إنكاحه لحاجته إليه، فأجبر وليه على إنكاحه، كالمحجور عليه للسفه إذا طلب النكاح. والثاني: لا يجبر السيد- وبه قال مالك وأبو حنيفة رحمة الله عليهما- وهو الأصح، لأنه شخص يملك رقه، فلم يجبر على إنكاحه، كالأمة، والآية: المراد بها الندب. ويخالف السفيه، فإن المنع من إنكاحه، لحظه، فإذا كان محتاجا إلى النكاح.. فالحظ له في التزويج، والمنع من تزويج العبد لحظ السيد، فلو أجبرناه

فرع المدبر والمعلق عتقه بصفة أو المبعض

على إنكاحه.. لأسقطنا حظه. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد. وقال المسعودي [في" الإبانة "] : هل يجبر السيد على إنكاح العبد؟ إن قلنا: إن السيد يجبر العبد على النكاح.. لم يجبر السيد على إنكاح العبد. وإن قلنا: إن السيد لا يجبر العبد على النكاح.. أجبر السيد على إنكاح العبد. ومن أصحابنا من قال: لا يجبر السيد على إنكاح العبد قولا واحدا، لأنه لا ولاية للعبد على سيده. فإن قلنا: لا يجبر السيد على إنكاح العبد، فإن كان السيد رشيدا.. استحب له تزويجه، وإن كان السيد محجورا عليه.. لم يجز لوليه تزويج عبده. وإن قلنا: يجبر السيد على إنكاح العبد، فإن كان السيد بالغا رشيدا.. أمره الحاكم بإنكاحه، فإن امتنع.. زوجه الحاكم. وإن كان السيد محجورا عليه.. جاز لولي المحجور عليه أن يأذن لعبده في النكاح، فإن لم يأذن له.. أذن له الحاكم. [فرع المدبر والمعلق عتقه بصفة أو المبعض] وحكم المدبر والمعلق عتقه بصفة حكم العبد في ذلك، لأنه رقيق يملك بيعه. وأما من نصفه حر ونصفه مملوك: فإن أراد المولى إجباره على النكاح.. لم يكن له ذلك قولا واحدا، لما فيه من الحرية. وإن طلب العبد النكاح، فإن أذن له مالك نصفه في النكاح، فنكح.. صح، وإن امتنع السيد..فهل يجبر؟ على القولين، كما لو كان يملك جميعه. وإن ملك السيد عبده جارية، وقلنا: إنه لا يملكها.. لم يكن للعبد وطؤها. وإن قلنا: إنه يملكها، فإن أذن له السيد في وطئها.. جاز له وطؤها، وإن لم يأذن له في وطئها.. لم يكن له وطؤها. وإن كان نصفه حرا ونصفه مملوكا، فملك بنصفه الحر جارية.. فهل له أن يطأها؟ قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يتسرى العبد، ولا من لم تكمل فيه الحرية) . قال الشيخ أبو حامد: يبنى هذا على القولين: أن العبد يملك:

فرع إجبار المكاتب أو السيد على النكاح

إن قلنا: لا يملك.. لم يكن لهذا أن يطأ وإن أذن له السيد في الوطء، لأن الوطء لا يتبعض. وإن قلنا: إنه يملك.. لم يكن له أن يطأها قبل أن يأذن له السيد في الوطء، لأن الوطء لا يتبعض. فإن أذن له السيد في الوطء.. جاز، لأنه يجوز له أن يأذن لعبده القن في الوطء على هذا القول، فهذا أولى. قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر، لأن السيد لا حق له في الأمة الموطوءة. وأما ما في العبد من الرق: فإنه لا يمنعه من استيفاء الوطء بما يملكه بنصفه الحر، كما يجوز له أن يتصرف ويأكل ما ملكه بنصفه الحر وإن كان يأكل ويتصرف في جميع بدنه. [فرع إجبار المكاتب أو السيد على النكاح] فأما المكاتب: فإن أراد المولى إجباره على النكاح.. لم يكن له ذلك قولا واحدا، لأنه صار في الكتابة كالخارج عن ملكه، ولأنه يلزمه المهر والنفقة، وفي ذلك إضرار به. وإن دعا المكاتب سيده إلى النكاح، فامتنع السيد.. فهل يجبر؟ إن قلنا: يجبر السيد على إنكاح العبد القن.. أجبر على إنكاح المكاتب. وإن قلنا: لا يجبر السيد على إنكاح العبد القن.. فهل يجبر على إنكاح المكاتب؟ فيه وجهان: أحدهما: يجبر عليه، لأنه لا يفوت على السيد بذلك حقا، لأنه لا يملك كسبه. والثاني: لا يجبر عليه، لأن حق المولى متعلق بكسبه، بدليل: أن المكاتب لا يملك أن يهب كسبه، ثم لا يحابي به، وفي النكاح يستحق كسبه للمهر والنفقة. [فرع إجبار أحد المالكين العبد على النكاح أو طلب العبد له] وأما العبد بين الشريكين: فإن أرادا إجباره على النكاح فامتنع.. فهل لهما إجباره؟ فيه قولان، كالعبد لسيد واحد. وإن أراد أحدهما إجباره على النكاح وامتنع السيد الآخر والعبد.. لم يجبر العبد قولا واحدا، لأنه لا حق للسيد الطالب لإنكاحه في ملك السيد الآخر.

مسألة شرط حضور الشاهدين وصفتهما

وإن سأل العبد سيديه أن ينكحاه، فامتنعا..فهل يجبران؟ فيه قولان، كما لو كان لسيد واحد. وإن أجاب أحد السيدين العبد إلى النكاح، وامتنع السيد الآخر.. فهل يجبر الممتنع؟ قال الشيخ أبو حامد: إن قلنا: يجبران لو امتنعا معا.. أجبر الممتنع منهما. وإن قلنا: لا يجبران لو امتنعا معا.. فهل يجبر الممتنع منهما؟ فيه وجهان، كالمكاتب إذا امتنع سيده من تزويجه، لأن جنبة العبد قد قويت بانضمام إجابة أحد سيديه له، فكان كالمكاتب. قال ابن الصباغ: وهذا بعيد، لأنه يملك نصفه ملكا تاما يتعلق حقه بكسبه، بخلاف المكاتب، ويبطل بمن نصفه حر ونصفه مملوك، إذا طلب من سيده النكاح، لأن الحرية فيه أكثر من إجابة مالك نصفه. [مسألة شرط حضور الشاهدين وصفتهما] ولا يصح النكاح إلا بحضرة شاهدين ذكرين عدلين، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، والحسن البصري، وابن المسيب، والنخعي، والشعبي، والأوزاعي، وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وقال ابن عمر، وابن الزبير، وعبد الرحمن بن مهدي، وداود، وأهل الظاهر: (لا يفتقر النكاح إلى الشهادة) . وبه قال مالك، إلا أنه قال: (من شرطه أن لا يتواصوا بكتمانه، فإن تواصوا على كتمانه.. لم يصح النكاح وإن حضره شهود) . وبه قال الزهري.

فرع عدالة الشهود ظاهرا وباطنا

وقال أبو حنيفة: (من شرطه الشهادة، إلا أنه ينعقد بشهادة رجلين فاسقين، وعدوين، ومحدودين، شاهد وامرأتين) . دليلنا: ما روى عمران بن الحصين: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي وشاهدين» . وروت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل نكاح لم يحضره أربعة.. فهو سفاح: خاطب، وولي، وشاهدان» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل» . وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل» . ولأنه عقد، فلم يكن من شرط صحته ترك التواصي بالكتمان، كالبيع. ولأن كل ما لم يثبت بشهادة عبدين.. لم يثبت بشهادة فاسقين، كالإثبات عند الحاكم. [فرع عدالة الشهود ظاهرا وباطنا] ] . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والشهود على العدالة، حتى يعلم الجرح يوم وقع النكاح) . وجملة ذلك: أنه إذا عقد النكاح بحضرة شاهدين، فإن علمت عدالتهما ظاهرا وباطنا.. انعقد النكاح بشهادتهما، وإن عملت عدالتهما في الظاهر، وجهلت في الباطن.. ففيه وجهان، حكاهما في " المهذب ". [أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يصح، لأن ما افتقر ثبوته إلى الشهادة.. لم يثبت بمجهول الحال، كالإثبات عند الحاكم. والثاني - وهو المذهب، ولم يحك الشيخ أبو حامد وابن الصباغ غيره-: أن النكاح صحيح، لأن الظاهر العدالة، ولأنا لو اعتبرنا العدالة الباطنة.. لم ينعقد النكاح إلا بحضرة الحاكم؛ لأن العامة لا يعرفون شروط العدالة، وقد أجمع المسلمون: على جواز انعقاده بغير حضور الحاكم. فإذا قلنا بهذا: فبان أنهما فاسقان، فإن حدث هذا الفسق بعد العقد.. لم يؤثر،

لأن الاعتبار وجود العدالة حال العقد.. وإن بان أنهما فاسقان حال العقد.. لم يصح النكاح، لأن فسقهما ينافي قبول شهادتهما على النكاح. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، كالقولين في الحاكم إذا حكم بشهادة شاهدين ظاهرهما العدالة، ثم بان فسقهما حال الشهادة. وليس بشيء. فإن ترافع الزوجان إلى الحاكم، وأقرا بالنكاح، وأنه عقد بشهادة رجلين ظاهرهما العدالة، واختصما في حق من حقوق الزوجية، كالنفقة والكسوة وما أشبههما.. فإن الحاكم يحكم بينهما فيما احتكما فيه، ولا ينظر في حال عدالة الشاهدين في الباطن، إلا أن يعلم أنهما فاسقان.. فلا يحكم بينهما. فإن جحد أحد الزوجين الآخر، فأتى المدعي منهما بشاهدين، فإن علم الحاكم عدالتهما ظاهرا وباطنا حين عقد النكاح.. حكم بصحة النكاح. وإن علم فسقهما حال الشهادة.. لم يحكم بصحة العقد، بل يحكم بفساده على المذهب. وإن عرف أنهما كانا عدلين في الظاهر، وجهل عدالتهما في الباطن.. فلا يجوز أن يحكم بصحة العقد ولا بفساده، بل يتوقف إلى أن يعلم عدالتهما في الباطن، لأنه لا يجوز أن يحكم بشهادة شاهد إلا بعد المعرفة بحاله ظاهرا وباطنا، بخلاف ما لو أقرا بالنكاح. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ". وذكر ابن الصباغ: أن الرجل إذا ادعى نكاح امرأة بولي وشاهدي عدل، فأقام شاهدين عند الحاكم.. فإنه يبحث عن حالهما حين الحكم، ولا يبحث عن حالهما حين العقد. والأول أصح. وهل ينعقد النكاح بشهادة أعميين، أو أعمى وبصير؟ فيه وجهان: أحدهما: ينعقد، لأن الأعمى من أهل الشهادة. والثاني: لا يصح، لأنه لا يعرف العاقد، فهو كالأصم الذي لا يسمع لفظ العاقد.

فرع ما يشترط في حضور وسماع الشاهدين

وهل ينعقد بشهادة أخرسين، أو أخرس وناطق؟ فيه وجهان: أحدهما: لا ينعقد. قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب، لأن الشهادة تفتقر إلى صريح اللفظ، والأخرس لا يتأتى منه ذلك. والثاني: ينعقد. قال القاضي أبو الطيب: وهو المذهب، لأن إشارته إذا كانت مفهومة.. تقوم مقام عبارة وغيره. وهل ينعقد بشهادة أصحاب الصنع الدنية، مثل: الحجام والحائك والكناس وغيرهم؟ فيه وجهان، بناء على جواز قبول شهادتهم في سائر الحقوق، ويأتي بيانهما في موضعهما، إن شاء الله تعالى. وإن عقد النكاح بشهادة ابني أحد الزوجين، أو بشهادة أبيه وجده، أو بشهادة عدوي أحد الزوجين.. صح النكاح، لأن النكاح يثبت بشهادتهما، وهو: إذا شهد الابنان على والدهما، أو شهد العدوان لعدوهما. وإن عقد النكاح بشهادة ابني أحد الزوجين، أو ابن لهذا وابن لهذا، أو جد هذا وجد هذا، أو عدوين لهما.. ففيه وجهان: أحدهما: ينعقد، لأنهما من أهل الشهادة في النكاح في الجملة. والثاني: لا ينعقد، لأنه لا يثبت بشهادتهما بحال من الأحوال. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: ينعقد بشهادة العدوين وجها واحدا، لأن العداوة قد تزول. [فرع ما يشترط في حضور وسماع الشاهدين] وليس من شرط الشهادة إحضار الشاهدين، بل لو حضر الشاهدان لأنفسهما، وسمعا الإيجاب والقبول.. صح ذلك. ولو سمعا الإيجاب والقبول، ولم يسمعا

فرع ما يشترط في ولي الكتابية والشاهدين

الصداق.. صح النكاح، لأن الصداق ليس بشرط في النكاح. وإن سمع أحد الشاهدين الإيجاب، وسمع الآخر القبول.. لم يصح النكاح، لأنهما شرط في الإيجاب والقبول. [فرع ما يشترط في ولي الكتابية والشاهدين] إذا تزوج المسلم كتابية.. فإنه يتزوجها من وليها الكافر، إذا كان عدلا في دينه، ولا يصح إلا بحضرة شاهدين مسلمين عدلين. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يصح أن يتزوجها إلا من المسلم) . وقال أبو حنيفة: (يتزوجها من وليها الكافر، ويصح أن يكون بشهادة كافرين) . دليلنا - على أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] [التوبة: 71] . فدل على: أنه لا ولاية لهم على الكافرين. وعلى أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنهما شاهدان لا يثبت بهما نكاح المسلمة، فلم يثبت نكاح الكافرة، كالعبدين. والفرق بين الولي والشاهدين: أن الولي إنما أريد لدفع العار عن النسب، والكافر كالمسلم في دفع العار. والشاهدان يرادان لإثبات الفراش عند جحد أحد الزوجين، وليس الكافر كالمسلم في إثبات الفراش، لأنه لا يثبت بشهادته الفراش. ولأن الولي يتعين في العقد، فتأكد حاله، فجاز أن يكون كافرا، والشاهد لا يتعين، فلم يجز أن يكون كافرا. [فرع اختلاف حال الشاهدين بين الإيجاب والقبول وشهادة الخثنى] فإن حضر عقد النكاح عبدان أو كافران، فوقع الإيجاب في حال رقهما أو في حال كفرهما، ووقع القبول في حال عتقهما أو في حال إسلامهما.. لم يصح، لأنه يشترط كمالهما عند الإيجاب والقبول وإن عقد النكاح بشهادة رجل وخنثى، أو بشهادة خنثيين.. لم يصح، لأنه لا يتيقن كونه رجلا. فلو بان أنه رجل في الأولى، أو بانا رجلين في الثانية.. قال

مسألة اختلاف الزوجين بحال الشاهدين

القاضي: احتمل أن يكون في العقد وجهان، كما لو صلى رجل خلف خنثى، فبان أنه رجل قبل أن يقضي المؤتم به. [مسألة اختلاف الزوجين بحال الشاهدين] ] : إذا اختلف الزوجان، فقالت الزوجة: عقدنا بشهادة فاسقين، وقال الزوج: عقدنا بشهادة عدلين.. ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قول الزوج مع يمينه، لأن الظاهر العدالة. والثاني: القول قول الزوجة مع يمينها، لأن الأصل عدم العدالة وعدم العقد. إذا ثبت هذا: فالذي يقتضي المذهب: أن الزوج لو مات والزوجة باقية.. فإنها لا ترثه، لأنها تقر: أنها ليست بزوجة له. وأما المهر: فإن مات قبل أن يدخل بها: أو طلقها قبل الدخول.. فإنها لا تستحق عليه مهرا، لأنها لا تدعيه. وإن دخل بها.. فإنها لا تستحق عليه إلا أقل الأمرين: من المسمى، أو مهر المثل، لأنه إن كان المسمى أقل.. لم يجب لها أكثر منه بيمين الزوج، وإن كان مهر المثل أقل.. لم يجب لها أكثر منه، لأنها لا تدعي الزيادة. وإن قال الزوج: عقدنا بشهادة فاسقين، وقالت المرأة: عقدنا بشهادة عدلين.. فمن القول قوله؟ على الوجهين الأولين. وعلى كلا الوجهين: يحكم عليه بانفساخ النكاح، لأنه أقر بتحريمها عليه. فإن كان ذلك قبل الدخول، فإن قلنا: القول قوله، فحلف.. فلا شيء عليه. وإن قلنا: القول قولها، أو نكل فرد عليها اليمين فحلفت.. وجب لها نصف المسمى. وإن كان ذلك بعد الدخول، فإن قلنا: القول قوله، فحلف.. لزمه أقل الأمرين: من المسمى، أو مهر المثل، لأنها لا تدعي أكثر من المسمى. وإن قلنا: القول قولها فحلفت، أو قلنا: القول قوله فنكل، وحلفت.. لزمه المسمى.

مسألة تعيين المرأة في النكاح

وإن ماتت قبله.. لم يرثها، لأنه يقر: أنها ليست له بزوجة. وإن مات قبلها، فإن قلنا: القول قوله، فمات قبل أن يحلف.. انتقلت هذه اليمين إلى سائر ورثته، فيحلفون: أنهم لا يعلمون أنه تزوجها بشهادة عدلين. ولا ترث معهم. وإن قلنا: القول قولها.. حلفت: أنه نكحها بشهادة عدلين. وورثته. [مسألة تعيين المرأة في النكاح] مسألة: [لا بد في النكاح من تعيين المرأة] : إذا أراد عقد النكاح على امرأة.. فلا بد أن تتميز عن غيرها بالمشاهدة، أو بالصفة، أو بالتسمية. فإذا كان له ابنة واحدة وهي حاضرة، فإن قال: زوجتك هذه.. صح، ولم يحتج إلى ذكر اسمها، ولا إلى صفتها. وإن قال: زوجتك ابنتي هذه، وزوجتك هذه عائشة.. صح، لأنها تميزت بالإشارة، وكان ما زاد تأكيدا. وإن كان اسمها عائشة، فقال: زوجتك هذه فاطمة.. فقال البغداديون من أصحابنا: يصح، لأنه لا حكم لتغيير الاسم مع الإشارة. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يصح؟ فيه وجهان، وبناء على الوجهين فيما لو قال: بعتك هذا البغل، وكان حمارا، أو فرسا. وإن كان له ابنة واحدة اسمها عائشة، وهي غائبة عنهما، فإن قال: زوجتك ابنتي.. صح، لأن قوله ابنتي صفة لازمة لها لا تختلف، وليس له غيرها. وإن قال: زوجتك ابنتي عائشة.. صح، لأن النكاح ينعقد بقوله: ابنتي، فإذا سماها باسمها.. كان تأكيدا. وإن قال: زوجتك ابنتي فاطمة، فغير اسمها.. فقال البغداديون من أصحابنا: يصح، لأن قوله ابنتي صفة لازمة لها لا تختلف ولا تتغير، والاسم يتغير ويختلف، فاعتبر حكم الصفة اللازمة، وألغي الاسم. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : لا يصح، ولم يذكر له وجها. وإن قال: زوجتك عائشة، وقصد ابنته.. فذكر الشيخ أبو إسحاق، والطبري في

" العدة "، وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد: أنه يصح، لأنها تتميز بالنية. وإن لم يقصد ابنته.. لم يصح. قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر، لأن هذا العقد يعتبر فيه الشهادة، فلا بد أن يكون العقد مما يصح أداء الشهادة على وجه يثبت به العقد، وهذا متعذر في النية. ولم أجد فيما قرأت من تعليق الشيخ أبي حامد، وفي " المجموع " إلا أنه لا يصح من غير تفصيل، لأن هذا الاسم يقع على ابنته وعلى من اسمها عائشة، فلا تتميز بذلك عن غيرها. فإن كانت له ابنتان: كبيرة اسمها عائشة، وصغيرة اسمها فاطمة، فإن قال: زوجتك ابنتي، أو إحدى ابنتي.. لم يصح؛ لأن المزوجة غير متميزة. وإن قال: زوجتك ابنتي عائشة، أو ابنتي الكبيرة.. صح، لأنه قد ميزها بالصفة أو بالاسم، وإن قال: زوجتك ابنتي الكبيرة عائشة.. صح، لأن هذا آكد. وإن قال: زوجتك ابنتي الكبيرة فاطمة، فغير اسمها.. صح العقد على الكبيرة، لأن الاعتبار بالصفة دون الاسم. وهكذا إن قال: زوجتك ابنتي الصغيرة عائشة، فغير اسمها.. صح النكاح على الصغيرة، ولا يضر تغييره للاسم. وعلى قول المسعودي [في" الإبانة "] في التي قبلها: لا يصح هاهنا. وإن قال: زوجتك ابنتي عائشة، وهو ينوي الصغيرة، واسم الصغيرة فاطمة، فقبل الزوج وهو ينوي الصغيرة أيضا.. قال الشيخ أبو حامد: ينعقد النكاح على الصغيرة، لاتفاق نيتهما، ولا يضر تغيير الاسم. وإن قال: زوجتك ابنتي عائشة، وهو ينوي الصغيرة، وقبل الزوج وهو ينوي الكبيرة.. انعقد النكاح في الظاهر على الكبيرة، لأنه أوجب نكاحها له فقبله، وفي الباطن هو مفسوخ، لأنه أوجب له النكاح في الصغيرة، فقبل في الكبيرة. وإن قال: زوجتك ابنتي، فقبل الزوج، ونويا الكبيرة.. فقال الشيخ أبو إسحاق: صح، لأنها تميزت بالنية. وقال ابن الصباغ: لا يصح، لأنه لا يمكن أداء الشهادة في هذا.

فرع اختلاف البنتين على العقد بعد وفاة وليهما

[فرع اختلاف البنتين على العقد بعد وفاة وليهما] وإن كان لرجل ابنتان، فزوج رجلا إحداهما بعينها، ثم مات الأب، وادعت كل واحدة اثنتين على الزوج أنها هي التي زوجها أبوها منه، فإن أنكرهما.. حلف لكل واحدة منهما يمينا، وإن أقر لإحداهما.. ثبتت زوجيتها. فإن ادعت عليه الأخرى النكاح بعد ذلك.. قال ابن الحداد: لم تسمع دعواها، لأنه قد أقر بتحريمها على نفسه. وإن ادعت عليه نصف المهر.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف لها.. فلا كلام، وإن نكل.. حلفت، ووجب لها نصف المسمى الذي ادعته. وإن لم يدعيا عليه، ولكنه ادعى على إحداهما أنها زوجته، فإن أقرت له.. ثبت النكاح بينهما وإن أنكرت.. حلفت له، وسقطت دعواه. وإن نكلت، فحلف.. ثبت نكاحها له. فإن ادعى بعد ذلك على الأخرى.. لم تسمع دعواه. قال ابن الحداد: ووجب عليه لها نصف مهرها. قلت: وينبغي أنه لا يثبت لها ذلك إلا إذا ادعته، فأما إذا لم تدعه.. لم يثبت لها. قال ابن الحداد: ويكون ذلك إبطالا لنكاح التي أقر بنكاحها أولا، ويجب لها نصف مهرها إن لم يدخل بها، وجميع مهرها إن كان قد دخل بها. [فرع تزويج الحمل] فرع [لا يصح تزويج الحمل] : إذا قال زوجتك حمل هذه المرأة إن كان ابنة.. لم يصح النكاح، لأنه قد يكون ريحا فينفش فلا يتحقق وجوده، وقد يكون ذكرا، وقد يكون ابنتين فلا يعلم أيتهما المعقود عليها، وهذا غرر من غير حاجة، فلم يصح. [فرع الكتابة للولي بطلب التزويج لا تعد وكالة] إذا كتب رجل إلى الولي: زوجني ابنتك، فقرأه الولي أو غيره بحضرة شاهدين، فقال الولي: زوجته.. لم ينعقد النكاح.

مسألة ما يقول في خطبة النكاح

وحكى ابن الصباغ: أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: (يصح) . دليلنا: أنه لم يوكل القارئ.. فلم يصح، كما لو استدعاه من غائب، فبلغه، فأوجب. [مسألة ما يقول في خطبة النكاح] وإذا أراد العقد.. خطب الولي، أو الزوج، أو أجنبي، فيحمد الله تعالى، ويصلي على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويوصي بتقوى الله، ويرغب في النكاح، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بحمد الله.. فهو أبتر» ، والنكاح من الأمور التي لها بال. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب لما أراد تزويج فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. والخطبة مستحبة غير واجبة. وبه قال عامة أهل العلم، إلا داود، فإنه قال: (إنها شرط في النكاح) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل» ، ولم يشترط الخطبة. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زوج الواهبة ولم يخطب» ، و: «تزوج عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ولم يخطب» . إذا ثبت هذا: فللنكاح خطبتان: إحداهما: تتقدم العقد. والثانية: تتخلله. فأما التي تتقدم العقد: فيستحب أن يخطب، لما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:

أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب، فيقول: «الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله.. فلا مضل له، ومن يضلل.. فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا رسول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] [النساء:1] : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] [آل عمران:102] : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] [الأحزاب: 70-71] » . قال الشيخ أبو حامد: وقد روي في بعض الروايات: أنه قال في الثلاث الآيات: " يا أيها الناس ". قال: وحكي عن بعض المتأخرين: أنه كان يقول: «المحمود الله، والمصطفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخير ما عمل به كتاب الله» . قال: وزاد بعضهم، فكان يقول: «المحمود الله ذو الجلال والإكرام، والمصطفى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخير ما عمل به كتاب الله المفرق بين الحلال والحرام» . ويستحب أن يقول في النكاح مما أمر الله به وندب إليه. وأما الخطبة التي تتخلل العقد: فبأن يقول الولي: باسم الله، والحمد لله، وصلى الله على محمد رسول الله، أوصيكم بتقوى الله. ويقول - كما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أنكحتك على ما أمر الله به، ومن إمساك بمعروف أو تسريحٍ

بإحسان، ثم يقول الزوج: باسم الله، والحمد لله، وصلى الله على رسول الله، أوصيكم بتقوى الله، قبلت نكاحها. فاختلف أصحابنا في صحة العقد مع ذلك: فذكر الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ: أن ذلك يصح، لأن الخطبة متعلقة بالنكاح، فلم يؤثر فصلها بين الإيجاب والقبول، كالتيمم بين صلاتي الجمع. وحكى الشيخ أبو إسحاق عن بعض أصحابنا: أن الفصل بين الإيجاب والقبول بالخطبة يبطل العقد، كما لو فصل بينهما بغير الخطبة، ويخالف التيمم، فإنه مأمور به بين الصلاتين، والخطبة مأمور بها قبل العقد. ويكره أن يقال للزوج بعد العقد: بالرفاء والبنين، لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يقال: بالرفاء والبنين» ، ولكن يستحب أن يقال له: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير، لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رفأ الإنسان - إذا تزوج - قال له ذلك» . قال الأصمعي: والرفاء يكون من الاتفاق وحسن الاجتماع، ومنه أخذ رفؤ الثوب، لأنه يضم بعضه إلى بعض ويلأم، ويكون من الهدوء والسكون. قال الشاعر:

مسألة لفظ النكاح أو التزويج شرط في عقد النكاح

رفوني, وقالوا: يا خويلد! لم ترع ... فقلت, وأنكرت الوجوه: هم هم يقول: سكنوني. [مسألة لفظ النكاح أو التزويج شرط في عقد النكاح] ولا ينعقد النكاح- عندنا- إلا بلفظ النكاح أو التزويج، وهما اللفظتان اللتان ورد بهما القرآن، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] [النساء:22] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] [الأحزاب:37] . فأما لفظ البيع والتمليك والهبة والإجارة وغيرها من الألفاظ.. فلا ينعقد بها النكاح. وبه قال عطاء، وابن المسيب، والزهري، وربيعة، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وقال أبو حنيفة: (ينعقد النكاح بكل لفظ يقتضي التمليك، كالبيع، والتمليك، والهبة، والصدقة) . وفي لفظ الإجارة عنه روايتان، (ولا ينعقد بلفظ: الإباحة والتحليل) . وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن ذكر المهر مع الألفاظ التي تقتضي التمليك.. انعقد بها النكاح، وإن لم يذكر المهر.. لم ينعقد بها النكاح) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] [الأحزاب:50] ، فذكر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخصوص بالنكاح بلفظ الهبة، وأن غيره لا يساويه. ولأنه لفظ ينعقد به غير النكاح، فلم ينعقد به النكاح، كالإجارة والإباحة. [مسألة ألفاظ الإيجاب والقبول] مسألة: [صور من ألفاظ الإيجاب والقبول] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والفرج محرم قبل العقد، فلا يحل أبداً إلا بأن يقول الولي: قد زوجتكها أو أنكحتكها، ويقول الزوج: قد قبلت تزويجها أو نكاحها) .

وجملة ذلك: أن الولي إذا قال: زوجتك ابنتي، فقال الزوج: قبلت التزويج أو النكاح، أو قال: أنكحتك ابنتي، فقال الزوج: قبلت النكاح أو التزويج.. صح ذلك، لأنه قد وجد الإيجاب والقبول في النكاح أو التزويج. فإن قال الولي: زوجتك ابنتي، أو أنكحتك، فقال الزوج: قبلت ولم يقل النكاح ولا التزويج.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (يصح) ، وقال في موضع: (لا يصح) . واختلف أصحابنا فيها على ثلاثة طرق: فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: لا يصح قولاً واحداً، وحيث قال: (يصح) أراد: إذا قبل الزوج قبولاً تاماً. و [الثاني] : منهم من قال: يصح قولاً واحداً، وحيث اشترط الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لفظ النكاح أو التزويج في القبول.. أراد على سبيل التأكيد. وهذا لا يصح، لأنه قال: (لا ينعقد النكاح) . و [الثالث] : قال أكثر أصحابنا: هي على قولين- وهذا اختيار الشيخ أبي إسحاق وابن الصباغ -: أحدهما: يصح- وهو قول أبي حنيفة وأحمد رحمة الله عليهما- لأن قوله: (قبلت) إذا ورد على وجه الجواب عن إيجاب متقدم.. كان المراد به قبول ما تقدم فصح، كما لو قال: بعتك داري، أو وهبتكها، فقال: قبلت.. فإنه يصح. والثاني: لا يصح. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح، لأن الاعتبار في النكاح أن يحصل الإيجاب والقبول فيه بلفظ النكاح أو التزويج، فإن عري القبول منه.. لم يصح، كما لو قال رجل لآخر: زوجت ابنتك من فلان، فقال الولي: نعم، وقال الزوج: قبلت النكاح.. فإن هذا لا يصح بلا خلاف. وإن قال الولي: زوجتك ابنتي، فقال الزوج: نعم.. قال الصيمري: هو كما لو قال الزوج: قبلت، على الطرق الثلاث. وقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: لا يصح قولاً واحداً. وإن قال الزوج: زوجني ابنتك، فقال الولي: زوجتك.. صح ذلك، ولا يفتقر

فرع عقد النكاح بغير العربية

الزوج إلى أن يقول: قبلت نكاحها- وقد وافقنا أبو حنيفة هاهنا، وخالفنا في البيع- لما روي: أن الذي تزوج الواهبة قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زوجنيها يا رسول الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زوجتكها» ، ولم يأمره بالقبول بعد هذا. وإن قال الزوج: أتزوجني ابنتك؟ فقال الولي: زوجتك.. لم يصح حتى يقول الزوج: قبلت التزويج أو النكاح، لأن قوله: أتزوجني؟ استفهام وليس باستدعاء. ولو قال الولي: أتستنكحها؟ فقال الزوج: قد استنكحت، أو قد تزوجت.. لم يكن بد من قول الولي بعد هذا: زوجتك أو أنكحتك، لأن ما تقدم إنما كان استفهاماً ولم يكن عزيمة. [فرع عقد النكاح بغير العربية] وإن عقد النكاح بالعجمية: فاختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد.. إن كانا يحسنان العربية.. لم يصح العقد بالعجمية وجهاً واحداً، وإن كانا لا يحسنان العربية.. فهل يصح العقد بالعجمية؟ فيه وجهان، المذهب: أنه يصح. وقال القاضي أبو الطيب.. إن كانا لا يحسنان العربية.. صح العقد بالعجمية وجها واحدا، وإن كانا يحسنان بالعربية.. فهل يصح العقد بالعجمية؟ فيه وجهان. وقال الشيخ أبو إسحاق: فيها ثلاثة أوجه: أحدها: لا يصح العقد بالعجمية بكل حال، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استحللتم فروجهن بكلمة الله» ، وكلمة الله إنما هي بالعربية.

فرع تخلل وقت بين القبول والإيجاب أو طروء جنون ونحوه

والثاني: إن كانا يحسنان العربية.. لم يصح العقد بالعجمية، وإن كانا لا يحسنان العربية.. صح عقده بالعجمية، كما قلنا في تكبيرة الإحرام. والثالث: يصح العقد بالعجمية بكل حال، لأن لفظ العجمية يأتي على ما تأتي عليه العربية في ذلك. وإن كان أحدهما يحسن العربية ولا يحسن العجمية، والآخر يحسن العجمية ولا يحسن العربية، وقلنا: يصح العقد بالعجمية.. صح العقد بينهما بشرط أن يفهم القابل أن الولي أوجب له النكاح، لأنه إذا لم يفهم.. لا يصح أن يقبل. وهكذا: إذا حضر شاهدان أعجميان وعقد بالعربية، أو عربيان وعقد بالعجمية.. فلا يصح إلا إذا فهما أن العاقدين عقدا النكاح، لأن الغرض بالشاهدين معرفتهما بالعقد وتحملهما الشهادة. [فرع تخلل وقت بين القبول والإيجاب أو طروء جنون ونحوه] إذا تخلل بين الإيجاب والقبول زمان طويل.. لم يصح، وإن تخلل بينهما زمان يسير يجري مجرى بلع الريق وقطع النفس.. صح، لأن ذلك لا يمكن الاحتراز منه. قال الصيمري: ولو صبر الزوج بعد الإيجاب بعض ساعة، فقبل.. ففيه وجهان. وإن أوجب الولي، فزال عقله بإغماء أو جنون، ثم قبل الزوج، أو استدعى الزوج النكاح، ثم زال عقله قبل إيجاب الولي، ثم أوجب له الولي.. لم يصح. وإن أذنت المرأة لوليها في النكاح، ثم أغمي عليها، أو جنت قبل التزويج.. بطل إذنها، لأن العقد جائز قبل إتمامه، وكذلك الإذن، فانفسخ لما ذكرناه، كالوكالة والشركة. [فرع توكيل من تقبل النكاح] وإذا وكل الزوج من يقبل له النكاح، أو قبل الأب لابنه الصغير.. فإن النكاح لا يصح حتى يسمى الزوج في الإيجاب والقبول، فيقول الولي: زوجت فلانة فلاناً-

فرع عقد النكاح ملزم

ويسمي الزوج- ويقول القابل من قبل الزوج: قبلت النكاح لفلان- ويسمي الزوج- بخلاف الوكيل في الشراء، فإنه لا يجب ذكر الموكل، لأن النكاح لا يقبل نقل الملك فيه- أي: أن الرجل لا يجوز أن يتزوج امرأة، ثم ينتقل نكاحها منه إلى غيره- والملك في المال يقبل النقل، أي: أنه يجوز أن يتملك الرجل عيناً، ثم ينتقل ملكها منه إلى غيره. قال الطبري: ولهذا قال أصحابنا: لو قال رجل لآخر: وكلتك أن تزوج ابنتي من زيد، فزوجها من وكيل زيد.. صح، لأنه في الحقيقة زوجها من زيد. ولو قال: وكلتك أن تبيع عبدي هذا من زيد، فباعه من وكيل زيد.. لم يصح لهذا المعنى. [فرع عقد النكاح ملزم] وإذا انعقد النكاح.. لزم ولم يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الثلاث، وقد مضى ذلك في البيع. والله أعلم بالصواب.

باب ما يحرم من النكاح وما لا يحرم

[باب ما يحرم من النكاح وما لا يحرم] لا يصح نكاح المرتد والمرتدة، لأن القصد بالنكاح الاستمتاع، وذلك لا يوجد في حقهما، لأنهما يقتلان، ولأن الردة تقتضي إبطال النكاح قبل الدخول، فلا ينعقد النكاح معها، كالرضاع. ولا يصح نكاح الخنثى المشكل، لأنه لا يدرى أنه رجل أو امرأة، فإن أخبر الخنثى: أنه يشتهي النساء فزوج بامرأة.. صح النكاح. وإن حمل هذا الخنثى.. تبينا أنه امرأة، وأن نكاحه كان باطلاً، لأن الحمل دليل على الأنوثية من طريق القطع. [مسألة المحرمات من النساء بالنسب] النساء اللاتي نص الله تعالى على تحريمهن في القرآن أربع عشرة امرأة، ثلاث عشرة بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية [النساء:23] ، وواحدة في قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] [النساء:22] . فسبع منهن حرمن بالنسب، واثنتان بالرضاع، وأربع بالمصاهرة، وواحدة بالجمع. فالسبع المحرمات بالنسب: الأم، والبنت، والأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23] الآية [النساء:23] . فأما (الأم) : فيحرم عقد النكاح عليها ووطؤها، للآية. قال الصيمري: ومن أصحابنا من قال: تحريم وطئها علم بالعقل. وليس بشيء. وسواء في التحريم الأم حقيقة- وهي: التي ولدته- والأم مجازاً- وهي: جدته أم أمه وأم أبيه- وكذلك كل جدة من قبل أبيه أو أمه وإن علت.

وأما (البنت) : فيحرم عليه البنت التي يقع عليها اسم البنت حقيقة، وهي: بنته لصلبه، والبنت التي يقع عليها اسم البنت مجازاً، وهي: بنت بنته، وبنت ابنه وإن سفلت. وأما (الأخت) : فتحرم عليه، سواء كانت لأب وأم، أو لأب، أو لأم، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] [النساء:23] . وأما (العمة) : فيحرم عليه من يقع عليها اسم العمة حقيقة- وهي: أخت أبيه-سواء كانت أخته لأبيه وأمه، أو لأبيه، أولأمه، ويحرم عليه نكاح من يقع عليها اسم العمة مجازاً، وهي: كل أخت لجد من أجداده من قبل أبيه أو من قبل أمه. وأما (الخالة) : فيحرم عليه نكاح من يقع عليها اسم الخالة حقيقة-وهي: أخت أمه لأبيها وأمها، أو لأبيها، أو لأمها- ويحرم عليه من يقع عليها اسم الخالة مجازاً، وهي: أخت كل جدة له من قبل أمه أو أبيه. وأما (بنت الأخ) : فيحرم عليه بنت أخيه حقيقة- وهي: بنت أخيه لصلبه- ويحرم عليه بنت أخيه مجازاً، وهي: كل من تنتسب إلى أخيه بالبنوة من قبل أبنائه وبناته وإن سفلت. وأما (بنت الأخت) : فيحرم عليه بنت أخته حقيقة- وهي: بنت أخته لصلبه- ويحرم عليه بنت أخته مجازاً، وهي: كل من تنتسب إلى أخته بالبنوة من بنات أبنائها وبناتها وإن سفلت. وهل يحرم كل من يقع عليها الاسم مجازاً بالاسم، أو بالقياس على من وقع عليها الاسم حقيقة؟ فيه وجهان، الصحيح: أنه يحرم بوقوع الاسم عليها، بقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] [الأعراف: 26] ، وقَوْله تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] [الحج: 78] ، بقوله تعالى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] [يوسف:38] ، فأطلق عليهم اسم البنوة والأبوة مع البعد. إذا ثبت هذا: فقد عبر بعض أصحابنا عن المحرمات بالنسب، فقال: يحرم على الرجل أصوله، وفصوله، وفصول لأول أصوله، وأول فصل من كل أصل بعده. وهي عبارة حسنة، لأن (أصوله) : من ينتسب الرجل إليه بالبنوة من الأمهات،

مسألة المحرمات بالرضاعة

و (فصوله) : من ينسب إلى الرجل بالبنوة، و (فصول أول أصوله) : الأخوات وأولادهن وبنات الإخوة، و (أول فصل من كل أصل بعده) : العمات والخالات، فاحترز عن بنات العمات وبنات الخالات، بقوله: وأول فصل من كل أصل بعده. [مسألة المحرمات بالرضاعة] وأما الاثنتان المنصوص على تحريمهما بالرضاع: فالأم والأخت، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] [النساء:23] . فمتى كان للرجل زوجة، وثار لها لبن من وطئه، فأرضعت به طفلاً، له دون الحولين خمس رضعات متفرقات.. صار كالولد لهما من النسب، وصارا كالوالدين له من النسب في تحريم النكاح وجواز الخلوة، فيحرم عليهما نكاحه ونكاح أولاده وأولاد أولاده وإن سفلوا، لأنه ولدهما. ويحرم على الرضيع نكاح الأم من الرضاع الحقيقة والمجاز، والأخت من الرضاع الحقيقة والمجاز، والعمة من الرضاع الحقيقة والمجاز، والخالة من الرضاع الحقيقة منهن والمجاز، وبنت الأخ من الرضاع الحقيقة والمجاز، وبنت الأخت من الرضاع الحقيقة والمجاز، على ما ذكرناه في المحرمات من النسب، لأن الله تعالى نص على السبع المحرمات بالنسب، ونص على الأم والأخت من الرضاع، لينبه بهما على من تقدم ذكرهن من المحرمات بالنسب. وروت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» ، وفي رواية: «ما يحرم من الولادة» . ويقال: الرضاع بكسر الراء وفتحها، فإما الرضاعة: فإنها بفتح الراء لا غير.

مسألة المحرمات بالمصاهرة

[مسألة المحرمات بالمصاهرة] وأما الأربع المنصوص على تحريمهن بالمصاهرة: فأم الزوجة، والربيبة، وحليلة الابن، وحليلة الأب، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] [النساء:22] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ} [النساء: 23] الآية [النساء: 23] . فأما (أما الزوجة) : فإن الرجل إذا عقد النكاح على امرأة.. حرمت عليه كل أم لها، حقيقة أو مجازاً، من جهة النسب أو من جهة الرضاع، سواء دخل بها أو لم يدخل. وبه قال عامة العلماء، إلا ما روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (لا يحرم عليه إلا بالدخول بالبنت) ، كالربيبة. وبه قال مجاهد رحمة الله عليه. وقال زيد: (الموت يقوم مقام الدخول) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] [النساء:23] وبالعقد عليها تدخل في اسم نساء العاقد عليها. وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نكح امرأة، ثم طلقها قبل أن يدخل بها.. حرمت عليه أمها، ولم تحرم ابنتها»

وأما (الربيبة) : فهي بنت زوجته، فإذا عقد النكاح على امرأة.. حرمت عليه ابنتها حقيقة ومجازاً، من النسب والرضاع، تحريم جمع، فإن دخل بالأم.. حرمت عليه ابنتها على التأبيد، وإن ماتت الزوجة أو طلقها قبل أن يدخل بها.. جاز له أن يتزوج بابنتها. وسواء كانت الربيبة في حجره وكفالته أو لم تكن.. وبه قال عامة أهل العلم. وقال داود: (إنما تحرم عليه الربيبة إذا كانت في حجره وكفالته، فإن لم تكن في حجره وكفالته.. لم تحرم عليه وإن دخل بأمها) ، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب. وقال زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (تحرم عليه إذا دخل بأمها أو ماتت) . دليلنا: ما روى [ابن] عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نكح امرأة، ثم طلقها قبل أن يدخل بها.. حرمت عليه أمها، ولم تحرم عليه ابنتها» وأما التربية: فلا تأثير لها في التحريم، كتربية الأجنبية. وأما الآية: فلم يخرج ذلك مخرج الشرط، وإنما وصفها بذلك تعريفاً لها، لأن العادة أن الربيبة. تكون في حجره. وأما (حليلة الابن) : فإن الرجل إذا عقد النكاح على امرأة.. حرمت على أب الزوج، سواء دخل بها الزوج أو لم يدخل بها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23] الآية [النساء:23] ، وبالعقد عليها يقع عليها اسم الحليلة. وسواء كان ابنه حقيقة أو مجازاً، وسواء كان ابنه من الرضاع حقيقة أو مجازاً، لما ذكرناه المحرمات من

مسألة الجمع بين الأختين

النسب. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] [النساء:23] ، فدليل خطابه يدل على: أنه لا تحرم حلائل الأبناء من الرضاع؟ فالجواب: أن دليل الخطاب إنما يكون حجة إذا لم يعارضه نص، وهاهنا عارضه نص أقوى منه فقدم عليه، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة» . وأما (حليلة الأب) : فإن الرجل إذا تزوج امرأة.. حرمت على ابن الزوج، سواء دخل بها الزوج أم لم يدخل بها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] [النساء:22] ، ولا فرق بين الأب حقيقة أو مجازاً، وسواء كان الأب من الرضاع حقيقة أو مجازاً، لما ذكرناه في المحرمات من النسب. [مسألة الجمع بين الأختين] فأما المنصوص على تحريمها في القرآن بالجمع: فهي أخت الزوجة، فلا يجوز للرجل أن يجمع بين الأختين في النكاح، سواء كانتا أختين لأب وأم أو لأب أو لأم وسواء كانتا أختين من النسب أو من الرضاع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] [النساء:23] . ولأن العادة جارية أن الرجل إذا جمع بين ضرتين تباغضتا وتحاسدتا، وتتبعت كل واحدة منهما عيوب الأخرى وعوراتها، فلو جوزنا الجمع بين الأختين.. لأدى ذلك إلى تباغضهما وتحاسدهما، فيكون في ذلك قطع الرحم بينهما ولا سبيل إليه، وهو إجماع لا خلاف فيه. فإن تزوجهما معاً في عقد واحد.. لم يصح نكاح واحدة منهما، لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى، فبطل الجمع، كما لو ابتاع درهماً بدرهمين. وإن تزوج إحداهما، ثم تزوج الثانية.. بطل نكاح الثانية دون الأولى، لأن الجمع اختص بالثانية. [فرع الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها] وصور أخرى] : ويحرم عليه الجمع بين المرأة وعمتها الحقيقة والمجاز، من الرضاع أو من النسب.

ويحرم عليه الجمع بين المرأة وخالتها الحقيقة والمجاز، من الرضاع أو من النسب. وحكي عن الخوارج والروافض: أنهم قالوا: لا يحرم! دليلنا: ما روى أبو داود في "سننه " عن أبي هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا العمة على ابنة أخيها، ولا المرأة على خالتها، ولا الخالة على ابنة أختها، لا الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى» ولأن كل امرأتين لو قلبت كل واحدة منهما ذكراً.. لم يجز له التزوج بالأخرى بالنسب، فوجب أن لا يجوز الجمع بينهما في النكاح، كالأختين. ولا يجوز أن يجمع بين المرأة وخالة أمها، أو عمة أمها، لما ذكرناه من العلة. ويجوز الجمع بين امرأة كانت لرجل وبين ابنة زوجها الأول من غيرها. وقال ابن أبي ليلى: لا يجوز ذلك، لأنك لو قلبت ابنة الرجل ذكراً.. لم يحل له نكاح امرأة أبيه، فهما كالأختين. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] [النساء:24] . ولأنك لو قلبت امرأة الرجل ذكراً.. لحل له نكاح الأخرى. ويخالف الأختين، فإنك لو قلبت كل واحدة منهما ذكراً.. لم يحل له نكاح الأخرى.

فرع طلق امرأة وأراد التزوج مما لا يجوز جمعها معها

ويجوز أن يجمع بين المرأة وبين زوجة أبيها، لأنه لا قرابة بينهما ولا رضاع. وكذلك إذا تزوج رجل له ابنة امرأة لها ابنة.. فيجوز لآخر أن يجمع بين ابنة الزوج وابنة الزوجة، لأنه إذا جاز أن يجمع بين بنته وامرأته.. فلأن يجوز أن يجمع بين ابنته وابنة امرأته أولى. ويجوز أن يجمع بين المرأة وبين ابنة ضرتها، لأنه لا قرابة بينهما ولا رضاع. وإن تزوج رجل له ابن بامرأة لها ابنة.. جاز لابن الزوج أن يتزوج بابنة الزوجة، لما روي: (أن رجلا له ابن تزوج امرأة لها ابنة، ففجر الغلام بالصبية، فسألهما عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه فاعترفا، فجلدهما وحرص أن يجمع بينهما، فأبى الغلام) . ولأنه لا نسب بينهما ولا رضاع. فإن قيل: أليس الرجل لو أولد من المرأة ولداً.. كان أخا أو أختا لولديهما، فكيف يجوز له أن يتزوج بأخت أخيه؟ قلنا: إنما لا يجوز له التزوج بأخت نفسه، فأما بأخت أخيه أو أخته: فلا يمنع منه، فإن رزق كل واحد منهما ولداً من امرأته.. كان ولد الأب عم ولد الابن وخاله. وإن تزوج بامرأة وتزوج ابنه بأمها.. جاز، لأن أمها محرمة على أبيه دونه، فإن رزق كل واحد منهما ولداً.. كان ولد الأب عم ولد الابن، وولد الابن خال ولد الأب. [فرع طلق امرأة وأراد التزوج مما لا يجوز جمعها معها] وإن تزوج رجل بامرأة ثم طلقها وأراد أن يتزوج بأختها أو عمتها أو خالتها، أو تزوج بأربع نسوة فطلقهن وأراد أن ينكح أربعاً غيرهن، أو طلق واحدة منهن وأراد أن

فرع قول المرأة في انتهاء عدتها

يتزوج غيرها، فإن كان الطلاق قبل الدخول.. صح تزويجه بلا خلاف، لأنه لا عدة له على المطلقة. وإن كان بعد الدخول، فإن كان الطلاق رجعياً.. لم يصح تزويجه قبل انقضاء العدة، لأن المطلقة في حكم الزوجات. وإن كان الطلاق بائناً.. صح تزويجه- عندنا- قبل انقضاء العدة. وبه قال زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ومالك والزهري رحمهما الله. وقال الثوري وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (لا يصح) . وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم. دليلنا: أن المطلقة بائن منه، فجاز له عقد النكاح على أختها، كالبائن قبل الدخول. [فرع قول المرأة في انتهاء عدتها] فرع: [قبول قول المرأة في انتهاء عدتها] : قال في " الإملاء ": (فإن تزوج رجل امرأة فطلقها طلاقاً رجعياً، ثم قال الزوج: قد أخبرتني بانقضاء عدتها، فأنكرت.. لم يقبل قوله في إسقاط نفقتها وكسوتها وسائر حقوقها) ، لأنه حق لها، فلا يقبل قوله في إسقاطه. وإن أراد أن يتزوج بأختها أو عمتها، وصادقته التي يتزوجها على ذلك.. صح تزويجه، لأن الحق لله تعالى وهو مقدر فيما بينه وبينه.

فرع أسلم زوج الوثنية ثم تزوج أختها أو أربعا في حال عدتها

[فرع أسلم زوج الوثنية ثم تزوج أختها أو أربعا في حال عدتها] وإن تزوج وثني وثنية ودخل بها، ثم أسلم وأقامت على الشرك، فتزوج أختها أو أربعاً سواها في حال عدتها.. لم يصح. وقال المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكون نكاح أختها أو الأربع موقوفاً، فإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. تبينا أن نكاح أختها أو الأربع سواها لم يصح، وإن لم تسلم حتى انقضت عدتها.. صح نكاح أختها أو الأربع سواها، لأنه لما جاز وقف نكاحها.. جاز وقف نكاح أختها أو الأربع سواها. ولأن عقد النكاح على المرتابة بالحمل يصح وإن كان موقوفاً، فكذلك هذا مثله. وهذا ليس بصحيح، لأن المشركة جارية إلى بينونة، فلم يصح العقد على أختها ولا على أربع سواها، كالرجعية والمرتدة. ولأنه عقد نكاح على من يمكن الاستمتاع بها، فإذا لم يعقبه استباحة استمتاع.. لم يصح، كنكاح المعتدة والمرتدة- وقولنا: (على من يمكن الاستمتاع بها) احتراز من نكاح الطفلة الصغيرة- ويخالف وقف نكاحها، فإن الموقوف حله، ونكاح الأخت يوقف انعقاده، والنكاح يجوز أن يوقف حله- وهو نكاح المرتدة- ولا يوقف انعقاده، ولهذا: لا يصح نكاح المرتدة. وأما المرتابة: فالأصل عدم الحمل. [مسألة ملك من لا يصح نكاحها أو الجمع بينهما] إذا ملك الرجل أمة لا يحل له نكاحها بنسب، أو رضاع، أو مصاهرة.. لم يحل له وطؤها، لأن الشرع ورد بتحريم نكاحهن على ما مضى، واسم النكاح يقع على الوطء.. ولأن المقصود بعقد النكاح هو الوطء، فإذا حرم عقد النكاح عليها.. فلأن يحرم الوطء أولى. وإن ملك الرجل أمتين يحرم الجمع بينهما في النكاح، كالأختين، وكالمرأة

وعمتها وخالتها.. صح الملك، لأن المقصود بالملك بالمنفعة والنماء دون الاستمتاع، ولهذا: يصح ملكه على ذوات محارمه بخلاف النكاح، فإن أراد أن يجمع بينهما في الوطء.. لم يجز. وبه قال عامة أهل العلم. وقال داود وأهل الظاهر: (يجوز) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] [النساء:23] ، ولم يفرق. وروي: أن رجلاً دخل على عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فسأله عن الجمع بين الأختين بملك اليمين، فقال: (أحلتهما آية- يعني: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] [النساء:3]- وحرمتها آية- يعني: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] [النساء:23]- والتحريم أولى) . وكذلك: روي عن أمير المؤمنين عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم ولا مخالف لهم. إذا ثبت هذا: فإن وطئ إحداهما.. حل له وطؤها وصارت فراشاً له، ولا يحل له وطء أختها ولا عمتها ولا خالتها، إلا إن حرم الموطوءة ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة أو نكاح. فإن رهنها.. لم يحل له وطء الأخرى، لأنه وإن كان ممنوعاً من وطئها فلم يزل ملكه عن استمتاعه بها وإنما منع من، لحق المرتهن، ولهذا: لو أذن له المرتهن.. جاز، بخلاف المزوجة.

فرع وطء السيد إحدى الأخوات المختلفات لعبده

وحكي عن قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: إذا استبرأ الموطوءة.. حل له وطء الأخرى. وهذا ليس بصحيح، لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (لا يطأ الأخرى حتى يخرج الموطوءة عن ملكه) . ولأن ذلك لا يمنع من وطئها، فلا يؤمن أن يعود على وطئها. فإن باع الموطوءة أو كاتبها، ثم وطئ الأخرى، ثم ردت المبيعة لعيب أو فسخ، أو عجزت المكاتبة فرجعت إلى ملكه.. لم تحل له المردودة حتى يحرم الثانية على ما ذكرناه. فإن وطئ إحداهما، ثم وطئ الثانية قبل تحريم الأولى.. فقد فعل فعلاً يأثم به إذا كان عالماً بالتحريم، ولا يجب عليه الحد للشبهة، ولا يحل له أن يعود إلى وطئها حتى يحرم الأولى على ما ذكرناه. فإن أراد أن يعود إلى وطء الأولى.. جاز؛ لأنها صارت فراشاً له قبل وطء الثانية، إلا أن المستحب له: أن لا يعود إلى وطئها حتى يستبرئ الثانية، لئلا يجتمع ماؤه في رحم أختين. [فرع وطء السيد إحدى الأخوات المختلفات لعبده] قال ابن الحداد: ولو ملك رجل عبداً له ثلاث أخوات متفرقات، فإن وطئ أخته لأبيه وأمه.. لم يكن له أن يطأ واحدة من الباقيتين حتى يحرم الموطوءة، لأنها أختها. وإن أراد أن يجمع في الوطء بين أخته لأبيه وأخته لأمه.. جاز له، لأنه لا أخوة بين الموطوأتين.

فرع تزوج امرأة أو وطئ أمته ثم ملك أختها أو عمتها

[فرع تزوج امرأة أو وطئ أمته ثم ملك أختها أو عمتها] إذا تزوج رجل امرأة ثم ملك أختها أو عمتها أو خالتها.. لم يحل له وطء المملوكة ما لم تبن المنكوحة منه، لأن المنكوحة على فراشه. وهذا لا خلاف فيه. وإن ملك أمة ووطئها، ثم تزوج أختها أو عمتها أو خالتها.. صح النكاح، وحل له وطء المنكوحة قبل أن تحرم المملوكة، وحرم عليه وطء المملوكة. وقال مالك رحمة الله عليه- في إحدى الروايتين عنه-: (لا يصح النكاح) . وبه قال أحمد رحمة الله عليه. وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: (يصح النكاح، ولا يحل له وطؤها حتى يحرم المملوكة) . دليلنا - على مالك -: أن النكاح أقوى من ملك اليمين، لأن المرأة تصير به فراشاً بنفس العقد، والأمة لا تصير فراشاً إلا بالوطء، والفراش بالنكاح آكد حكماً، بدليل: أنه يملك به الطلاق والخلع والظهار والإيلاء، ويثبت التوارث بالنكاح، فإذا اجتمعا.. ثبت الأقوى وسقط الأضعف، وسواء تقدم الأقوى أو تأخر، كما لو اجتمع النكاح والملك في امرأة واحدة.. فإن النكاح يبطل ويثبت الملك. وعلى أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه نكاح صحيح في امرأة طاهر غير متلبسة بعبادة، فأبيح له وطؤها، كما لو لم يطأ أختها. [مسألة التحريم بالوطء أو بالمباشرة بشهوة أو بالنظر للفرج] وإذا وطئ الرجل امرأة بملك يمين صحيح، أو بشبهة ملك، أو بشبهة عقد نكاح، أو ظنها زوجته أو أمته.. حرمت عليه أمهاتها وبناتها على التأبيد، وتحرم الموطوءة على آباء الواطئ وأبنائه على التأبيد، لأنه وطء يتعلق به لحقوق النسب، فتعلق به تحريم المصاهرة، كالوطء في النكاح. ولأنه معنى تصير به المرأة فراشاً، فتعلق به تحريم المصاهرة، كعقد النكاح. هذا هو المشهور من المذهب.

وحكى المسعودي [في" الإبانة "] قولاً آخر: أنه لا يتعلق تحريم المصاهرة بوطء الشبهة.. وليس بشيء. فإذا قلنا بالمشهور.. ففيمن تعتبر الشبهة؟ فيه قولان، حكاهما المسعودي [في" الإبانة "] : الصحيح: أنها تعتبر بالرجل. والثاني: تعتبر بأيهما كانت. وليس بشيء. وإن باشر امرأة فيما دون الفرج بشهوة في ملك أو شبهة، بأن قبلها أو لمس شيئا من بدنها.. فهل يتعلق بذلك تحريم المصاهرة، وتحرم به الربيبة على التأبيد؟ فيه قولان: أحدهما: يتعلق به التحريم- وبه قال أبو حنيفة ومالك رحمة الله عليهما- لأنه روي ذلك عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.. ولأنه تلذذ بمباشرة، فتعلق به تحريم المصاهرة والربيبة، كالوطء. فقولنا: (تلذذ) احتراز من المباشرة بغير شهوة. وقولنا: (بمباشرة) احتراز عن النظر. والثاني: لا يتعلق به تحريم المصاهرة ولا الربيبة-وبه قال أحمد رحمة الله عليه- لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] [النساء:23] ، فشرط الدخول، وهذا ليس بدخول، ولأنه لمس لا يوجب الغسل، فلم يتعلق به التحريم، كالمباشرة بغير شهوة. وإن نظر على فرجها بشهوة.. لم يتعلق به تحريم المصاهرة ولا تحريم الربيبة. وقال الثوري وأبو حنيفة رحمهما الله: (يتعلق به التحريم) . وحكاه المسعودي [في" الإبانة "] قولا آخر للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وليس بمشهور. دليلنا: أنه نظر إلى بعض بدنها، فلم يتعلق به التحريم، كما لو نظر إلى وجهها.

فرع تزوج امرأة ثم وطئ أمها أو بنتها أو زوجة ابنه بشبهة وعكسه

[فرع تزوج امرأة ثم وطئ أمها أو بنتها أو زوجة ابنه بشبهة وعكسه] ] : وإن تزوج امرأة ثم وطئ بنتها أو أمها بشبهة، أو وطئ الأب زوجة الابن بشبهة أو وطئ الابن زوجة الأب بشبهة.. انفسخ النكاح، لأنه معنى يوجب تحريما مؤبدا، فإذا طرأ على النكاح.. أبطله، كالرضاع. إذا ثبت هذا: فإن تزوج رجل امرأة، وتزوج ابنه ابنتها، وزفت إلى كل واحد منهما زوجة صاحبه ووطئها، ولم يعلما، فإن الأول لما وطئ غير زوجته منهما.. لزمه لها مهر مثلها، وانفسخ نكاح الموطوءة من زوجها، لأنها صارت فراشا لأبيه أو ابنه، ويجب عليه الغرم لزوجها، لأنه حال بينه وبين بضع امرأته، وفيما يلزمه له قولان: أحدهما: جميع مهر المثل. والثاني: نصفه، كالقولين فيما يلزم المرضعة لزوج الرضيعة إذا انفسخ النكاح بإرضاعها. وينفسخ نكاح الواطئ الأول من زوجته، لأن أمها أو ابنتها صارت فراشا له، فيجب عليه لامرأته نصف المسمى لها، لأن الفرقة جاءت من جهته. وأما الواطئ الثاني: فيلزمه مهر المثل للتي وطئها، ولا يجب عليه لزوجها شيء، لأنه لم يحل بينه وبين بضعها، لأن الحيلولة بينهما حصلت بوطء الأول، ولا يجب على الثاني أيضا لزوجته شيء، لأن الفرقة بينهما جاءت من قبلها بتمكينها الأول من نفسها. فإن عرف الأول منهما والثاني.. تعلق بوطء واحدة منهما ما ذكرناه.. وإن لم يعرف أول منهما من الثاني.. فإنه يجب لكل واحدة منهما مهر مثلها على الذي وطئها، وينفسخ النكاحان، ويجب لكل واحدة منهما على زوجها نصف المسمى لها، لأنا نتيقن وجوبه فلا يسقط بالشك، ولا يرجع أحدهما على الآخر بشيء، لأن ذلك إنما يجب للثاني على الأول ولم يعلم الأول من الثاني، ويجب على كل واحدة منهما العدة.

فرع تزوج امرأة ثم أخرى فبان أن إحداهما أم الأخرى

وإن أتت كل واحدة بولد.. لحق الولد بواطئها، ولا حد على أحدهما. وهذا، إذا كان الواطئ والموطوءة جاهلين بالتحريم، وإن كانت جاهلة وهو عالم بالتحريم.. ثبت لها المهر، ولا حد عليها، ولا يجب عليها عدة، ولا يلحقه النسب، ولا يثبت بهذا الوطء تحريم المصاهرة، ويجب على الواطئ الحد. وإن كان الواطئ جاهلا بالتحريم والمرأة عالمة بالتحريم.. وجبت عليها العدة ولحق النسب به، ويثبت به تحريم المصاهرة، ولا حد عليه ولا مهر، ويجب عليها الحد. [فرع تزوج امرأة ثم أخرى فبان أن إحداهما أم الأخرى] وإن تزوج رجل امرأة، ثم تزوج امرأة أخرى، فوطئ إحداهما، ثم بان أن إحداهما أم الأخرى.. فإن نكاح الأولى صحيح، لأنه لم يتقدمه ما يمنع صحته، ونكاح الثانية باطل، لأن نكاح الأولى يمنع صحة نكاح الثانية. فأما الواطئ: فإن كان وطئ الأولى.. فقد صادف وطؤه زوجته، واستقر به المسمى لها، ويفرق بينه وبين الثانية، وتحرم عليه الثانية على التأبيد، لأنها إن كانت هي البنت.. فقد وطئ أمها، وإن كانت هي الأم.. فقد عقد على بنتها ووطئها. وإن كانت الموطوءة هي الثانية.. وجب لها عليه مهر مثلها، وانفسخ نكاح الأولى، وحرمت عليه على التأبيد، لأنها بنت من وطئها بشبهة أو أمها، ووجب عليه للأولى نصف المسمى لها، لأن الفسخ جاء من جهته. وهل يجوز له أن يتزوج الثانية على الانفراد؟ ينظر فيه.. فإن كانت البنت.. جاز له أن يتزوجها، لأنها ربيبة لم يدخل بأمها، وإن كانت الأم.. لم يجز له تزويجها، لأنه قد عقد النكاح على ابنتها. وإن وطئهما جميعا، ثم بان أن إحداهما أم الأخرى، فإن وطئ المنكوحة أولا.. فقد صادف وطؤه زوجته، فاستقر به عليه مهرها المسمى، فلما وطئ الثانية.. لزمه لها مهر مثلها، وانفسخ نكاح الأولى بوطء الثانية، ولا يسقط من مهر الأولى شيء،

مسألة الزنا وتحريم المصاهرة

لأن الفسخ وقع بعد الدخول.. وإن وطئ أولا المنكوحة ثانيا، ثم وطئ بعدها المنكوحة أولا، فإنه لما وطئ المنكوحة ثانيا أولا.. لزمه لها مهر مثلها، وانفسخ بهذا الوطء نكاحه من زوجته وهي المنكوحة أولا، ويلزمه لها نصف المسمى لها، فإذا وطئ المنكوحة أولا بعد ذلك.. لزمه لها بهذا الوطء مهر مثلها. وإن أشكل الأمر فلم يعلم المنكوحة أولا من المنكوحة ثانيا، ووطئ إحداهما.. وقف عنهما، لجواز أن يكونا محرمتين عليه على التأبيد. فإن كانت الموطوءة يعلم عينها.. وجب لها أقل الأمرين: من مهر المثل، أو المسمى لها، لأنها تستحق ذلك بيقين، لأنها إن كانت هي المنكوحة أولا.. فلها المسمى، وإن كانت هي المنكوحة ثانيا.. فلها مهر المثل، وتوقف الزيادة حتى يتبين. وإن كانت الموطوءة أيضا مشكلة.. وقف أقل المهرين بينهما حتى يتبين أو يصطلحا. [مسألة الزنا وتحريم المصاهرة] إذا زنى الرجل بامرأة لم يثبت بهذا الزنا تحريم المصاهرة.. فلا يحرم على الزاني نكاح المرأة التي زنى بها ولا أمها ولا ابنتها، ولا تحرم الزانية على آباء الزاني ولا على أبنائه. وكذلك: إذا قبلها بشهوة حراما، أو لمسها، أو نظر إلى فرجها بشهوة حراما. وبه قال من الصحابة: علي بن أبي طالب، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم. ومن التابعين: ابن المسيب، وعروة بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، والزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ومن الفقهاء: ربيعة، ومالك، وأبو ثور - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى.

وقال الحسن البصري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يحرم على الزاني نكاحها على التأبيد. وقال قتادة، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد رحمة الله عليهم: (لا يجوز له تزويجها ما لم يتوبا) . وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم: (يتعلق بالزنا تحريم المصاهرة) . وروي ذلك عن عمران بن الحصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وانفرد الأوزاعي، وأحمد رحمة الله عليهما أنه: (إذا لاط بغلام.. حرمت عليه بنته وأمه) . وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا قبل امرأة بشهوة حراما، أو لمسها بشهوة، أو كشف عن فرجها فنظر إليه.. تعلق به تحريم المصاهرة. وإن قبل أمن امرأته.. انفسخ نكاح امرأته، وإن قبل رجل امرأة أبيه.. انفسخ نكاح الأب) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] [النساء:24] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] [الفرقان:54] . فأثبت الله تعالى الصهر في الموضع الذي أثبت فيه النسب، فلما لم يثبت بالزنا النسب لم يثبت به الصهر. وروت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن رجل زنى بامرأة، فأراد أن يتزوج بها أو بابنتها، فقال: «لا يحرم الحرام الحلال، وإنما يحرم ما كان بنكاح» .

فرع نكاح الرجل ابنة من زنى بها

ودليلنا - على قتادة ومن تابعه-: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحرم الحرام الحلال» ، والعقد قبل الزنا حلال. وروي: (أن أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه جلد رجلاً وامرأة، وحرص أن يجمع بينهما في النكاح) . وسئل ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن رجل زنى بامرأة وأراد أن يتزوج بها، فقال (يجوز، أرأيت لو سرق رجل من كرم رجل، ثم ابتاعه.. أكان يجوز؟) . [فرع نكاح الرجل ابنة من زنى بها] فإن زنى بامرأة فأتت بابنة يمكن أن تكون منه، بأن تأتي بها لستة أشهر من وقت الزنا، فلا خلاف بين أهل العلم: أنه لا يثبت نسبها من الزاني ولا يتوارثان. وأما نكاحه لها: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أكره له أن يتزوجها، فإن تزوجها.. لم أفسخ) . واختلف أصحابنا في العلة التي لأجلها كره للزاني التزويج بها: فمنهم من قال: إنما كره له ذلك ليخرج من الخلاف، فإن من الناس من قال: لا يجوز له نكاحها. فعلى هذا: لو تحقق أنها من مائه، بأن أخبره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زمانه: أنها من مائه..لم يحرم عليه نكاحها، لأن علة الكراهة حصول الاختلاف لا غير. ومنهم من قال: إنما كره له ذلك لإمكان أن تكون من مائه، لأنه لم يتحقق ذلك،

فرع تزويج الرجل من بنت زوجته التي نفاها باللعان

فلو تحقق أنها من مائه، بأن أخبره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زمانه: أنها من مائه.. لم يجز تزويجها. هذا مذهبنا. وبه قال مالك رحمة الله عليه. وقال أبو حنيفة وأحمد رحمة الله عليهما: (لا يجوز له تزويجها) . واختلف أصحاب أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في علة تحريمها: فقال المتقدمون من أصحابه: إنما حرم نكاحها لكونها ابنة من زنى بها، لا أنها ابنته من الزنا؛ لأن الزنا عنده يثبت به تحريم المصاهرة على ما مضى. فعلى هذا: لا تحرم على آبائه وأبنائه. وقال المتأخرون من أصحابه: إنما يحرم نكاحها لكونها مخلوقة من مائه. فعلى هذا: تحرم على آبائه وأبنائه، وهذا أصح عندهم دليلنا: أنها منفية عنه قطعا، بدليل: أنه لا يثبت بينهما التوارث ولا حكم من أحكام الولادة، فلم يحرم عليه نكاحها، كالأجنبية. فإن أكره رجل امرأة على الزنا، فأتت منه بابنة.. فحكمه حكم ما لو طاوعته على الزنا؛ لأنه زنا في حقه. [فرع تزويج الرجل من بنت زوجته التي نفاها باللعان] وإن أتت امرأته بابنة فنفاها باللعان، فإن كان قد دخل بالزوجة.. لم يجز له تزويج ابنتها؛ لأنها بنت امرأة دخل بها، وإن لم يدخل بالأم.. فهل يجوز له نكاح الابنة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز له تزويجها؛ لأنها منفية عنه، فهي كالابنة من الزنا. والثاني: لا يجوز له تزويجها؛ لأنها غير منفية عنه قطعا، بدليل: أنه لو أقر بها.. لحقه نسبها، والابنة من الزنا لو عاد الزاني فأقر بنسبها.. لم يلحقه نسبها.

فرع الزنا بمزوجة وحكم نكاحها

[فرع الزنا بمزوجة وحكم نكاحها] ] : وإن زنا رجل بزوجة رجل.. لم ينفسخ نكاحها. وبه قال عامة أهل العلم. وقال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (ينفسخ نكاحها) . وبه قال الحسن البصري. دليلنا: ما روي: «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترد يد لامس؟ قال: " طلقها " قال: إني أحبها، قال: " استمتع بها» ، فكنى الرجل عن الزنا بقوله: «لا ترد يد لامس» ، ولم يحكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بانفساخ نكاحها. [فرع من له امرأة في بلدة أو في عدد محصور لا يصح نكاحه منها] قال ابن الحداد: ولو قال رجل: أنا أحيط علما أن لي في هذه البلدة امرأة يحرم علي نكاحها بنسب أو رضاع أو صهر، ولا أعلم عينها.. جاز له أن يتزوج من تلك البلدة؛ لأن في المنع من ذلك مشقة، كما لو كان في يد رجل صيد، فانفلت واختلط بصيد ناحية ولم يتميز.. فإنه لا يحرم على الناس أن يصطادوا من تلك الناحية. وإن اختلطت هذه المرأة بعدد محصور من النساء، قل ذلك العدد أو كثر.. حرم عليه أن يتزوج بواحدة منهن؛ لأنه لا مشقة عليه في اجتناب التزويج من العدد المحصور. [فرع حرمة النكاح على التأبيد تجيز النظر والخلوة] وإذا حرم عليه نكاح امرأة على التأبيد، بنكاح أو رضاع أو وطء مباح.. صار محرما لها في جواز النظر والخلوة؛ لأنها محرمة عليه على التأبيد بسبب غير محرم، فصار محرما لها كالأم والابنة.

مسألة يحل نكاح الكتابيات دون غيرهن

وإن حرم عليه نكاحها بوطء شبهة.. فهل تصير محرما له؟ فيه قولان، حكاهما الصيمري: المشهور: أنها لا تصير محرما له؛ لأنها حرمت عليه بسبب غير مباح، فلم تلحق بذوات الأنساب. والثاني: أنها تصير محرما له؛ لأنها لما ساوت من وطئت وطأ مباحا في تحريم النكاح ولحوق النسب من هذا الواطئ.. ساوتها في الخلوة والنظر. [مسألة يحل نكاح الكتابيات دون غيرهن] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأهل الكتاب الذين يحل نكاح حرائرهم: اليهود والنصارى دون المجوس) . وجملة ذلك: أن المشركين على ثلاثة أضرب: ضرب لهم كتاب، وضرب لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب، وضرب لهم شبهة كتاب. فأما (الضرب الذين لهم كتاب) : فهم اليهود والنصارى، فإن كتاب اليهود: التوراة، وكتاب النصارى: الإنجيل، فيحل للمسلم نكاح حرائرهم، ووطء الإماء منهم بملك اليمين. وبه قال عامة أهل العلم. وقال القاسم بن إبراهيم والشيعة: لا يحل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] [البقرة: 221] : دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] [المائدة: 4 - 5] . قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (وهذه الآية نسخت قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] [البقرة: 221] ؛ لأن المائدة نزلت بعد البقرة) . وهو إجماع الصحابة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.

وروي عن أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (يحل للمسلم أن ينكح نصرانية) . و: (نكح أمير المؤمنين عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه نصرانية) ، و: (نكح طلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه نصرانية) ، و: (نكح حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يهودية) . وسئل جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية، فقال: (تزوجناهن بالكوفة عام الفتح - يعني: فتح العراق - إذ لم نجد مسلمة، فلما انصرفنا.. طلقناهن، نساؤهم تحل لنا، ونساؤنا تحرم عليهم) . وأما (من لا كتاب له ولا شبهة كتاب) : فهم عبدة الأوثان، وهم قوم يعبدون ما يستحسنون من حجر وحيوان وشمس وقمر، فلا يجوز إقرارهم على دينهم، ولا يحل نكاح حرائرهم، وإن ملكت منهم أمة.. لم يحل وطؤها بملك اليمين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] [البقرة: 221] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] ،

فرع المتمسكون بصحف إبراهيم أو بالزبور

فيحرم نكاح المشركات حتى يؤمن، ثم نسخ منه نكاح أهل الكتاب، وبقي الباقي منهم على ظاهر التحريم. وأما (من لهم شبهة كتاب) : وهم المجوس: فلا خلاف: أنهم ليس لهم كتاب موجود، وهل كان لهم كتاب ثم رفع، فيه قولان، يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى: إذا ثبت هذا: فيجوز إقرارهم على دينهم ببذل الجزية، ولا يحل نكاح حرائرهم، ولا وطء الإماء منهم بملك اليمين. قال إبراهيم الحربي: روي عن بضعة عشر نفسا من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -: أنهم قالوا: (لا يحل لنا نكاح نسائهم) . وقال أبو ثور: (يحل النكاح حرائرهم) . وحكى عن أبي إسحاق المروزي: أنه قال: إذا قلنا: إن لهم كتابا.. حل نكاح حرائرهم. والأول هو المذهب. ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] الآية [البقرة: 221] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] الآية [الممتحنة: 10] ، وهذا عام في عام في كل مشركة، إلا ما قام عليه الدليل - وهم أهل الكتاب - وهؤلاء غير متمسكين بكتاب، فلم تحل مناكحتهم وأكل ذبائحهم، كعبدة الأوثان وأما قول أبي إسحاق: فغير صحيح؛ لأنه لو جاز نكاحهم على القول الذي يقول: إن لهم كتابا.. لحل قتلهم على القول الذي يقول: لا كتاب لهم. [فرع المتمسكون بصحف إبراهيم أو بالزبور] فأما المتمسكون بالكتب التي أنزلت على سائر الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، كمن تمسك بـ: " صحف " إبراهيم، و: " زبور " داود وشيث - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -..

فرع السامرة والصابئون هل هما أهل كتاب؟

فلا يحل نكاح حرائرهم، ولا وطء الإماء منهم بملك اليمين، ولا يحل أكل ذبائحهم. وعلل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذلك بعلتين: إحداهما: أن تلك الكتب ليس فيها أحكام، وإنما هي مواعظ، فلم يثبت لها حرمة. والثانية: أنها ليست من كلام الله سبحانه، وإنما كانت وحيا منه، وقد يوحي ما ليس بقرآن، كما روي عن النبي صلى الله وعليه وسلم: أنه قال: «أتاني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأمرني أن أجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» ، ولم يكن ذلك قرآنا أو كلاما من الله تعالى) . هكذا ذكر الشيخ أبو حامد. [فرع السامرة والصابئون هل هما أهل كتاب؟] فأما السامرة والصابئون: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (السامرة صنف من اليهود، والصابئون صنف من النصارى) . وتوقف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع آخر في حكمهم. فقال أبو إسحاق: إنما توقف الشافعي في حكمهم قبل أن يتيقن أمرهم، فلما تيقن أمرهم.. ألحقهم بهم. وحكي: أن القاهر استفتى في الصابئة، فأفتاه أبو سعيد الإصطخري: أنهم ليسوا من أهل الكتاب؛ لأنهم يقولون: إن الفلك حي ناطق، وإن الأنجم السبعة آلهة، فأفتى بضرب رقابهم، فجمعهم القاهر ليقتلهم فبذلوا له مالا كثيرا، فتركهم. والمذهب: أنه ينظر فيهم: فإن كانوا يخالفون اليهود والنصارى في أصول

فرع المولود بين وثني وكتابية وعكسه

دينهم.. فليسوا منهم، وإن كانوا يوافقونهم في أصول دينهم ويخالفونهم في الفروع.. فهم منهم، كما أن المسلمين ملة واحدة لاتفاقهم في أصول الدين وإن اختلفوا في الفروع. [فرع المولود بين وثني وكتابية وعكسه] ] : ومن ولد بين وثني وكتابية.. فهو وثني، ولا تحل مناكحته. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تحل) . دليلنا: أنه تابع لأبيه في النسب، وأبوه لا تحل مناكحته. وفيمن ولد بين كتابي ووثنية قولان: أحدهما: أنه من أهل الكتاب تبعا لأبيه، فيحل نكاحه. والثاني: لا يحل نكاحه؛ لأنه لم يتمحض من أهل الكتاب، فهو كالمجوسي. [فرع الداخلون في اليهودية أو النصرانية وحكم مناكحتهم وذبائحهم] ومن انتقل إلى دين اليهود والنصارى، فإن دخل في دينهم بعد أن بعث النبي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. لم يجز نكاح حرائرهم ولا وطء إمائهم؛ لأنه دخل في دين قد جاء الشرع بإبطاله. وإن دخل قبل بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبل التبديل أو النسخ بشريعة بعدها.. حل مناكحتهم؛ لأنه دخل في دين كان أهله على الحق. وإن دخل فيه بعد أن نسخ بشريعة بعده، كمن دخل دين اليهودية بعد أن بعث عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] . وإن دخل فيه بعد التبديل والتغيير وقبل النسخ، فإن دخل في دين غير المبدلين.. فحكمه حكمهم. وإن دخل في دين المبدلين.. لم تجز مناكحته. وإن لم يعلم:

مسألة نكاح النساء الحربيات والكتابيات

هل دخل في دين من بدل، أو في دين من لم يبدل، كنصارى العرب.. لم تجز مناكحتهم، ولا تحل ذبائحهم؛ لأنه لما أشكل أمرهم.. صاروا كالمجوس. [مسألة نكاح النساء الحربيات والكتابيات] مسألة: [كراهية نكاح النساء الحربيات والكتابيات] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أكره نساء أهل الحرب إلا لئلا تفتن مسلما عن دينه) . وجملة ذلك: أن الحربية من أهل الكتاب يجوز نكاحها اعتبارا بالكتاب دون الدار. إذا ثبت هذا: فإنه يكره للمسلم نكاح الكتابية بكل حال؛ لأنه لا يؤمن أن تفتنه عن دينه، وإن كانت حربية.. فالكراهية أشد؛ لأنها ربما فتنته عن دينه، ولا يؤمن أن تسبى وهي حامل بولد له أو يكون معها فيسبى، ولأنه إذا أقام معها في دار الحرب كثر سوادهم. [مسألة لا ينكح المسلم أمة كتابية أو وثنية وشرط نكاح المسلمة] ولا يجوز للحر المسلم نكاح الأمة المشركة، سواء كانت وثنية أو كتابية. وقال أبو حنيفة: (يجوز له نكاح الأمة الكتابية) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] الآية [النساء: 25] ، فدل على: أنه لا يجوز نكاح الفتيات غير المؤمنات. ويجوز للحر المسلم أن ينكح الأمة المسلمة بشرطين: أحدهما: أن يكون عادما للطول، وهو: مهر حرة. والثاني: أن يكون خائفا من العنت، وهو: أن يخاف إن لم يتزوج بها أن تحمله شهوته للجماع على الزنا. وبه قال ابن عباس وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن التابعين: الحسن، وعطاء، وطاووس، وعمرو بن دينار، والزهري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن الفقهاء: مالك، والأوزاعي رحمة الله عليهما.

وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا لم تكن تحته حرة.. حل له نكاح الأمة وإن لم يخف العنت، سواء كان قادرا على صداق حرة أو غير قادر) . وقال الثوري، وأبو يوسف رحمهما الله: إذا خاف العنت.. حل له نكاح الأمة وإن لم يعدم الطول. وقال عثمان البتي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يجوز له أن يتزوج الأمة بكل حال، كالحرة. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] إلى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] [النساء: 25] ، فأباح نكاح الأمة بشرط: عدم الطول، وخوف العنت، فلم يجز نكاحها إلا مع وجود هذين الشرطين، فإن وجد مهر حرة مسلمة.. لم يحل له نكاح الأمة؛ للآية. وإن كان مجبوبا.. لم يحل له نكاح الأمة؛ لأنه لا يخاف الزنا. وإن كان عادما لطول حرة مسلمة وخائفا للعنت، فأقرضه رجل مهر حرة، أو رضيت الحرة بتأخير الصداق.. حل له نكاح الأمة؛ لأن عليه ضررا في تعلق الدين بذمته. وإن بذل له رجل هبة الصداق.. حل له نكاح الأمة؛ لأن عليه منة في ذلك وإن وجد طول حرة مسلمة إلا أنه لا يزوج لقصور نسبه، أو لم يزوجه أهل البلد إلا بأكثر من مهر المثل.. فله أن يتزوج أمة؛ لأنه غير قادر على حرة مسلمة، ووجود الشيء بأكثر من ثمن مثله بمنزلة عدمه. وإن رضيت الحرة بدون مهر مثلها وهو واجد له.. فهل له أن يتزوج أمة؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] . وإن كان تحته حرة صغيرة لا يقدر على وطئها، أو تحته كبيرة قرناء، أو غائبة لا يصل إليها.. فهل له أن يتزوج أمة؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن تحته حرة.

فرع تزوج بأمة ثم أيسر ونحوه

والثاني: له ذلك، وهو الأصح؛ لأنه يخاف العنت، ووجود الحرة التي تحته بمنزلة عدمها. وإن وجد ما يشتري به أمة، أو ما يتزوج به حرة كتابية.. ففيه وجهان: أحدهما: يجوز له نكاح الأمة؛ لأن الله تعالى شرط في نكاح الأمة: أن لا يستطيع نكاح المحصنات المؤمنات، والشرط موجود. والثاني: لا يجوز له، وهو الأصح؛ لأنه لا يخاف العنت. [فرع تزوج بأمة ثم أيسر ونحوه] إذا تزوج الأمة عند عدم الطول وخوف العنت، ثم أيسر أو أمن من العنت، أو تزوج حرة.. لم يبطل نكاح الأمة. وقال المزني: إذا قدر على طول حرة.. انفسخ نكاح الأمة. وقال أحمد رحمة الله عليه: (إذا تزوج بحرة.. انفسخ نكاح الأمة) . دليلنا - على المزني -: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] [النور: 32] ، فندب إلى نكاح الفقراء رجاء الاستغناء، فلو كان الاستغناء إذا طرأ أوجب فسخ النكاح.. لم يندب إلى النكاح رجاء حصوله، ولأنه أحد شرطي جواز نكاح الأمة، فارتفاعه لا يوجب فسخ نكاحها، كما لو أمن من العنت. وعلى أحمد رحمة الله عليه: ما روي عن علي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: أنها قالا: (إذا تزوج حرة على أمة.. لم ينفسخ نكاح الأمة) .

فرع تعدد الإماء والحرائر

ولا مخالف لهما. ولأن كل امرأة لو تزوج بها على حرة.. لم ينفسخ نكاحها، فإذا تزوج بها على أمة.. لم ينفسخ نكاحها. [فرع تعدد الإماء والحرائر] وإن تزوج أمة عند عدم الطول وخوف العنت.. لم يجز أن يتزوج أمة أخرى. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يجوز له التزويج بأربع إماء) . دليلنا: أنه إذا تزوج أمة.. فإنه لا يخاف العنت معها، فلم يجز له التزويج بأمة غيرها، كما لو كان تحته حرة. وإن تزوج أمتين، أو ثلاثا، أو أربعا بعقد واحد.. لم يصح نكاح واحدة منهن. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح نكاح الجميع) . دليلنا: أن تزويج الحر للأمة إنما يجوز للحاجة، ولا حاجة به إلى ما زاد على واحدة، فلم يصح. وإن تزوج من يحل له نكاح الأمة بأمة وحرة، أو حرتين، أو ثلاث بعقد واحد.. بطل نكاح الأمة، وفي نكاح الحرائر قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة. وإن تزوج بأمة وأربع حرائر بعقد واحد.. قال ابن الحداد: بطل نكاح الجميع قولا واحدا؛ لأن المعسر الخائف للعنت يجوز له نكاح الأمة فإذا تزوج بها وبأربع حرائر.. فقد تزوج بعدد يحرم جمعهن. ويجوز له إفراد كل واحدة بالعقد، فإذا جمع.. فسد الكل؛ لأن لا مزية لإحداهن على الأخرى، كالجمع بين الأختين. ولو كان موسرا.. فسد نكاح الأمة، وفي نكاح الحرائر قولان. وإن تزوج مجوسية ويهودية.. فسد نكاح المجوسية، وفي اليهودية قولان.

فرع تزوج الحر الكافر بالأمة مثله

[فرع تزوج الحر الكافر بالأمة مثله] وهل يجوز للحر الكافر أن يتزوج أمة كافرة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: لا يجوز؛ لأنها لا تحل للمسلم، فلم تحل للكافر، كالمرتدة. والثاني: يجوز؛ لأنه مساو لها في الدين. وكذلك الأمة المجوسية والوثنية: هل يجوز نكاحها لأهل دينها؟ فيه وجهان. [فرع نكاح الرقيق المسلم الأمة الكتابية أو المسلمة] وأما العبد المسلم: فهل يحل له نكاح الأمة الكتابية؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما - وهو قول أبي حنيفة -: أنه يحل له نكاحها؛ لأن العبد يساويها في الرق، وإنما نقصت عنه بالدين، فهو بمنزلة الحر مع الحرة الكتابية. والثاني - وهو المذهب -: أنها لا تحل له. وبه قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] الآية [النساء: 25] ، فشرط فيهن الإيمان، فدل على: أنه لا يجوز نكاح غير المؤمنات. ولأنها امرأة اعتورها نقصانان، لكل واحد منهما تأثير في المنع من النكاح، فوجب أن لا يحل للعبد المسلم نكاحها، كالأمة المجوسية. وأما الأمة المسلمة: فيجوز للعبد المسلم تزويجها، ولا يشترط فيه عدم الطول ولا خوف العنت؛ لأنه مساو لها، فهو كالحر إذا تزوج الحرة وإن كان تحت العبد حرة.. جاز له أن يتزوج أمة. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا يجوز) .

مسألة نكاح العبد لمولاته أو الرجل لأمته أو أمة ابنه وعكسه

دليلنا: أن كل من كان له أن يتزوج بامرأة من غير جنسه.. جاز له أن يتزوج عليها امرأة من جنسه، كالحر له أن يتزوج الحرة على الأمة. [مسألة نكاح العبد لمولاته أو الرجل لأمته أو أمة ابنه وعكسه] ولا يصح نكاح العبد لمولاته؛ لتناقض أحكام الملك والنكاح في النفقة والسفر؛ لأن العبد يستحق النفقة على مولاته، والزوجة تستحق النفقة على زوجها، وللمولاة أن تسافر بعبدها إلى أي بلد شاءت، وللزوج أن يسافر بزوجته إلى أي بلد شاء، فلو صححنا نكاحه لمولاته.. لتناقضت أحكامهما في ذلك. فإن تزوج العبد حرة ثم ملكته.. انفسخ نكاحها منه؛ لأن حكم ملك اليمين أقوى من النكاح، فأسقطه. ولا يصح نكاح الرجل لأمته؛ لأنه يملك وطأها قبل النكاح، فلا فائدة فيه، ولأن النكاح يوجب للمرأة حقوقا يمنع منها ملك اليمين. فإن تزوج الرجل أمة ثم ملكها.. انفسخ نكاحها منه؛ لأن ملك اليمين أقوى من النكاح، فأبطله. ولا يصح أن ينكح الرجل جارية ولده لصلبه، ولا ولد ولده وإن سفل؛ لأن له شبهة في ماله، بدليل: أنه يجب عليه إعفافه، فصارت كجارية نفسه. وإن تزوج الرجل أمة، ثم ملكها ابنه.. ففيه وجهان: أحدهما: يبطل نكاح الأب؛ لأن ملكه كملكه في إسقاط الحد وحرمة الاستيلاد، فكان كملكه في إبطال النكاح. والثاني: لا ينفسخ نكاحه؛ لأنه لا يملكها بملك الابن، فلم يبطل نكاحه بذلك. فإن كان له ابن من الرضاع.. جاز له أن يتزوج بجاريته؛ لأنه لا شبهة له في ماله. ويجوز للرجل أن يتزوج بجارية أبيه وأمه؛ لأنه لا يستحق عليها الإعفاف، فإذا ولدت منه.. كان حرا؛ لأن الإنسان لا يملك ابن ابنه.

مسألة نكاح المعتدة

[مسألة نكاح المعتدة] ولا يصح أن ينكح معتدة من غيره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] الآية [البقرة: 235] . وإن ارتابت بالحمل، بأن رأت أمارات الحمل وشكت: هل هو حمل أم لا؟ فإن حدثت لها هذه الريبة قبل انقضاء العدة، ثم انقضت عدتها بالأقراء أو بالشهور والريبة باقية.. لم يصح نكاحها؛ لأنها تشك في خروجها من العدة، والأصل بقاؤها. وإن انقضت عدتها من غير ريبة، فتزوجت، ثم حدثت لها ريبة بالحمل.. لم تؤثر هذه الريبة؛ لأن النكاح قد صح في الظاهر. وإن انقضت عدتها بالشهور أو بالأقراء، ثم حدثت لها ريبة بالحمل.. فيكره نكاحها، فإن تزوجها رجل.. فهل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنها مرتابة بالحمل فلم يصح نكاحها، كما لو حدثت بها الريبة قبل انقضاء العدة، ثم انقضت عدتها وهي مرتابة بالحمل.. فإنه لا يصح نكاحها، كذلك هذا مثله. والثاني: يصح نكاحها، وهو المذهب؛ لأنها ريبة حدثت بعد انقضاء العدة فلم تؤثر، كما لو نكحت بعد انقضاء العدة، ثم حدثت الريبة. [فرع لا تجب عدة على زانية عندنا] وإذا زنت المرأة.. لم يجب عليها العدة، سواء كانت حائلا أو حاملا. فإن كانت حائلا.. جاز للزاني أو لغيره عقد النكاح عليها.. وإن حملت من الزنا.. فيكره نكاحها قبل وضع الحمل، فإن تزوجها الزاني أو غيره قبل وضع الحمل.. صح، وهي إحدى الروايتين عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وذهب ربيعة، ومالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم إلى: (أن الزانية تلزمها العدة كالموطوءة بشبهة، فإن كانت حائلا.. اعتدت بثلاثة أقراء، وإن كانت حاملا.. اعتدت بوضع الحمل، ولا يصح نكاحها قبل وضع الحمل) .

مسألة نكاح الشغار

وقال مالك رحمة الله عليه: (إذا تزوج امرأة ولم يعلم أنها زانية، ثم علم أنها حامل من الزنا.. فإنه يفارقها، فإن كان قد وطئها.. لزمه لها مهر المثل) . وقال ربيعة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يفارقها ولا مهر عليه. وذهب ابن سيرين وأبو يوسف رحمهما الله إلى: أنها إن كانت حائلا.. فلا عدة عليها، فيجوز عقد النكاح عليها، وإن كانت حاملا.. لم يصح عقد النكاح عليها حتى تضع، وهي الرواية الأخرى عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] [النساء: 24] ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحرم الحرام الحلال» ، والعقد على الزانية كان حلالا قبل الزنا وقبل الحمل، فلا يحرمه الزنا. وروي: (أن رجلا كان له ابن تزوج امرأة لها ابنة، ففجر الغلام بالصبية، فسألهما عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فاعترفا، فجلدهما وحرص أن يجمع بينهما بالنكاح، فأبى الغلام) ، ولم يراع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه انقضاء العدة، ولم ينكر عليه أحد فدل على: أنه إجماع. ولأنه وطء لا يلحق به النسب، أو حمل لا يلحق بأحد فلم يمنع صحة النكاح، كما لو يوجد. [مسألة نكاح الشغار] ولا يصح نكاح الشغار - وهو: أن يقول رجل لآخر: زوجتك ابنتي، أو أختي، أو امرأة يلي عليها، على أن تزوجني ابنتك أو أختك ويكون بضع كل واحدة منهما صداقا للأخرى - وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى. وقال الزهري، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يصح، ويجب مهر المثل) . دليلنا: ما روى الشافعي، عن مالك رحمة الله عليهما، عن نافع - رَحِمَهُ اللَّهُ -، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الشغار، والشغار هو:

أن يقول الرجل: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك ويكون بضع كل واحدة منهما مهرا للأخرى» ، هكذا روي عن ابن عمر. فإن كان هذا التفسير من ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما.. فهو أعلم بمعنى الخبر، وإن كان من النبي صلى الله وعليه وسلم - وهو الظاهر - لأنه لو كان من ابن عمر.. لحكاه عن نفسه ولم يطلقه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. وروى عمران بن الحصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا جلب، ولا جنب، ولا شغار في الإسلام» ولأنه يحصل في البضع تشريك فلم يصح العقد مع ذلك، كما لو زوج ابنته من رجلين.

وبيان التشريك: أنه جعل البضع ملكا للزوج وابنته؛ لأنه إذا قال: زوجتك ابنتي.. فقد ملك الزوج بضعها، فإذا قال: على أن تزوجني ابنتك ويكون بضع كل واحدة منهما مهرا للأخرى.. فقد شرك ابنة الزوج في ملك بضع هذه المزوجة؛ لأن الشيء إذا جعل صداقا.. اقتضى تمليكه لمن جعل صداقا لها، فصار التشريك حاصلا في البضعين، فلم يصح. إذا ثبت هذا: فإن الشغار مأخوذ من الرفع، يقال: (شغر الكلب) : إذا رفع رجله، فكأن كل واحد منهما رفع رجله لصاحبه عما طلب منه، وقيل: سمي هذا النكاح شغارا؛ لقبحه تشبيها من رفع الكلب رجله ليبول. وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، واقتصر على هذا.. فالنكاح صحيح؛ لأنه لم يحصل في البضع تشريك، وإنما حصل الفساد في الصداق، وهو: أنه جعل مهر ابنته أن يزوجه الآخر ابنته، ففسد المهر المسمى، ووجب مهر المثل. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يصح النكاح؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لما ذكرناه. والثاني: لا يصح؛ لأنهما لم يسميا صداقا صحيحا، ولكن جعل كل واحد منهما عقد نكاح كل واحدة منهما صداقا للأخرى؛ لأنه أخرج ذلك مخرج الصداق. والأول هو المشهور. وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، ويكون مهر كل واحدة منها كذا وكذا.. فيصح النكاحان، ويبطل المهران المسميان، ويجب لهما مهر المثل، سواء اتفق المهران أو اختلفا؛ لأنه لم يحصل في البضعين تشريك، وإنما حصل الفساد في المهر؛ لأنه شرط مع المهر المسمى أن يزوجه ابنته، فهو كما لو قال: زوجتك ابنتي بمائة على أن تبيعني دارك.. فإن النكاح صحيح، والمهر باطل.

فرع زوج جاريته أو عبده وجعل رقبتهما صداقا

وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تطلق زوجتك، ويكون ذلك صداقا لابنتي.. صح النكاح، ولا يلزم الآخر أن يطلق زوجته، ويجب للمزوجة مهر مثلها؛ لأنه لم يسم لها صداقا صحيحا. وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، ويكون بضع ابنتك صداقا لابنتي.. صح النكاح الأول، ولم يصح النكاح الثاني؛ لأنه ملكه بضع ابنته في الابتداء من غير تشريك، وشرط عليه شرطا فاسدا وهو التزويج، فلم يؤثر في عقد الأولى، والثانية هي التي حصل التشريك في بضعها. وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، ويكون بضع ابنتي مهرا لابنتك.. فالعقد على ابنة المخاطب باطل؛ لأن التشريك حصل في بضعها، والعقد على ابنة القابل صحيح؛ لأنه لم يحصل في بضعها تشريك. وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، ويكون بضع كل واحدة منهما ومائة درهم صداقا للأخرى.. ففيه وجهان: أحدهما: أن النكاحين صحيحان، ويجب لهما مهر المثل؛ لأن الشغار هو الخالي عن المهر، وهاهنا لم يخل عن المهر. والثاني - وهو الصحيح -: أن النكاحين باطلان؛ لأن التشريك في البضع موجود مع تسمية المهر، والمفسد هو التشريك. وإن قال: زوجتك ابنتي وهذا الحائط.. فهل يصح النكاح؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ". [فرع زوج جاريته أو عبده وجعل رقبتهما صداقا] إذا قال لرجل: زوجتك جاريتي على أن تزوجني ابنتك، وتكون رقبة جاريتي صداقا لابنتك.. قال ابن الصباغ: صح النكاحان؛ لأن رقبة الجارية يصح نقل الملك

مسألة نكاح المتعة

فيها، فلا تكون تشريكا فيما يتناوله عقد النكاح، إلا أن المسمى فاسد فيجب مهر المثل. وإن زوج عبده من امرأة وجعل رقبته صداقا لها. قال ابن الصباغ: لم يصح الصداق؛ لأن ملك المرأة زوجها يمنع صحة النكاح، ففسد الصداق، وصح النكاح، ووجب لها مهر المثل. [مسألة نكاح المتعة] ولا يصح نكاح المتعة، وهو: أن يتزوج رجل امرأة مدة معلومة أو مجهولة، بأن يقول: زوجني ابنتك شهرا أو أيام الموسم. وبه قال جميع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - وأرضاهم، والتابعين والفقهاء رحمة الله عليهم، إلا ابن جريج، فإنه قال: يصح. وإليه ذهبت الشيعة، وأجمعوا: أنه لا يتعلق به حكم من أحكام النكاح، مثل الطلاق والظهار والإيلاء والتوارث.

دليلنا: ما روي: أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه لقي ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وبلغه: أنه يرخص في متعة النساء، فقال: (إنك امرؤ تائه، إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية) . وقوله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (تائه) أي: مائل عن الحق في هذا القول، يقال: تاهت السفينة عن بلد كذا: إذا مالت عنه. «وروى الربيع بن سبرة عن أبيه قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " استمتعوا بالنساء " قال: فخرجت أنا وابن عم لي لنستمتع وعلى كل واحد منا بردة، فلقينا امرأة فخطبناها، فكانت ترغب في حالي وترد ابن عمي، فتمتعت بها وكان الشرط بيننا عشرين ليلة، فبت معها ليلة واحدة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجدته واقفا بين الركن والمقام وهو يقول: " إني كنت أذنت لكم في المتعة، وإن الله تعالى حرمها إلى يوم القيامة، فمن كان عنده شيء منها.. فليخل سبيلها، ولا يأخذ منها شيئا مما آتاها» . ولأنه عقد معاوضة يصح مطلقا، فلم يصح مؤقتا، كالبيع.

مسألة نكاح المحلل

فقولنا: (عقد معاوضة) احتراز من العارية والإباحة.. وقولنا: (يصح مطلقا) احتراز من الإجارة. ولأنه نكاح لا يتعلق به سائرا أحكام النكاح فلم يصح، كنكاح ذوات المحارم. فإن قيل: فقد روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (أنه كان يبيحه) ؟ قلنا: قد رجع عنه؛ لأنه قد كان يبيحه وانتشر ذلك عنه، فروي عن سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: قلت لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ما صنعت بنفسك؟ أبحت نكاح المتعة، فسارت به الركبان، وقالوا فيه الشعر، فقال: (وما قالوا) ؟ قلت: قال الشاعر فيه: أقول للشيخ لما طال محبسه ... يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس يا صاح هل لك في بيضاء بهكنة ... تكون مثواك حتى مصدر الناس ويروى: يا شيخ. فخرج ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وكشف عن رأسه، وقال: (من عرفني قد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا ابن عباس، فإن المتعة حرام، كالميتة والدم) . [مسألة نكاح المحلل] وأما نكاح المحلل: فإن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا.. فإنها لا تحل له إلا بعد زوج وإصابة، فإذا طلق امرأته وانقضت عدتها منه، ثم تزوجت بآخر بعده.. ففيها ثلاث مسائل:

إحداهن: أن يقول: زوجتك ابنتي إلى أن تطأها، أو إلى أن تحلها للأول، فإذا أحللتها فلا نكاح بينكما، فهذا باطل بلا خلاف؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله المحلل والمحلل له» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا أدلكم على التيس المستعار؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " هو المحلل والمحلل له» . ولأن هذا أفسد من نكاح المتعة؛ لأنه يعقد إلى مدة مجهولة. المسألة الثانية: أن يقول: زوجتك ابنتي على أنك إن وطئتها طلقتها، أو قال: تزوجتك على أني إذا أحللتك للأول طلقتك، وكان هذا الشرط في نفس العقد.. ففيه قولان:

أحدهما: أن النكاح باطل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله المحلل والمحلل له» ، ولم يفرق. والثاني: أن النكاح صحيح والشرط باطل؛ لأن العقد وقع مطلقا من غير تأقيت، وإنما شرط على نفسه الطلاق، فلم يؤثر في النكاح، وإنما يبطل به المهر، كما لو شرط أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى عليها. المسألة الثالثة: أن تشترط عليه قبل النكاح أنه إذ أحللها للأول طلقها، أو تزوجها ونوى بنفسه ذلك، فعقد النكاح عقدا مطلقا.. فيكره له ذلك، فإن عقد.. كان العقد صحيحا. وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال مالك، والثوري، والليث، وأحمد، والحسن، والنخعي، وقتادة، رحمة الله عليهم: (لا يصح) . دليلنا: ما روى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن امرأة طلقها زوجها ثلاثا، وكان مسكين أعرابي يقعد بباب المسجد، فجاءته امرأة فقالت: هل لك في امرأة تنكحها وتبيت معها ليلة، فإذا أصبحت فارقتها، فقال: نعم - قال: وكان ذلك - فلما تزوجها، قالت له المرأة: إنك إذا أصبحت فإنهم سيقولون لك: طلقها، فلا تفعل، فإني لك كما ترى، واذهب إلى عمر، فلما أصبح أتوه وأتوها، فقالت لهم: أنتم جئتم به فاسألوه، فقالوا له: طلقها، فأبى وذهب إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه فأخبره، فقال له: الزم زوجتك، فإن رابوك بريب فائتني، وبعث إلى المرأة الواسطة فنكل بها، وكان يغدو بعد ذلك ويروح على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه في حلة، فقال له عمر: الحمد لله - يا ذا الرقعتين - الذي رزقك حلة تغدو بها وتروح) . ولم ينكر أحد على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فدل على: أنه إجماع.

فرع النكاح بشرط الخيار أو غيره

[فرع النكاح بشرط الخيار أو غيره] وإن تزوج امرأة بشرط الخيار.. بطل العقد؛ لأنه لا مدخل للخيار فيه فأبطله. فإن شرط في العقد أن لا يطأها ليلا.. بطل الشرط؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا» . فإن كان هذا الشرط من قبل الزوج.. لم يبطل العقد؛ لأن ذلك حق له، وإن كان الشرط من جهة المرأة.. بطل العقد؛ لأن ذلك حق عليها. [مسألة التعريض أو التصريح للمعتدات أو للزوجات] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (قال الله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] [البقرة: 235] : وجملة ذلك: أن المعتدات على ثلاثة أضرب: رجعية، وبائن لا تحل لزوجها، وبائن تحل لزوجها. فأما: (الرجعية) : فلا يجوز لغير زوجها التعريض بخطبتها ولا التصريح؛ لأنها في معنى الزوجات ولا يؤمن أن يحملها بغضها للزوج الأول أن تخبر بانقضاء عدتها قبل انقضائها؛ لتتزوج بغيره. وأما (المعتدة البائن التي لا تحل لزوجها) ، فهي: التي مات عنها زوجها، أو بانت منه باللعان، أو بالرضاع، أو بالطلاق الثلاث، فيجوز لغير زوجها التعريض بخطبتها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] [البقرة: 234 - 235]

، فكان الظاهر: أن النساء اللاتي أجاز التعريض بخطبتهن هن من تقدم ذكرهن. «وروت فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت، طلقني زوجي أبو حفص بن عمرو بالشام ثلاثا، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بذلك، فقال: " إذا حللت.. فآذنيني» ، وروي: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: " لا تفوتينا بنفسك "، وروي: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل إليها: " لا تسبقيني بنفسك ". هذا نقل البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يجوز له التعريض بخطبة البائن بالثلاث؟ فيه قولان. والمشهور هو الأول؛ لحديث فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. ويحرم التصريح بخطبتها؛ لأن الله تعالى لما أباح التعريض بالخطبة.. دل على: أنه لا يجوز التصريح بها. ولأن التعريض يحتمل النكاح وغيره، والتصريح لا يحتمل غير النكاح، فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح أن تخبر بانقضاء عدتها قبل انقضائها. وأما (البائن التي تحل لزوجها) ، فهي: التي طلقها زوجها طلقة أو طلقتين، بعوض أو فسخ أحدهما النكاح بعيب، فيجوز لزوجها التعريض بخطبتها والتصريح؛ لأنها تحل له في العدة. وأما غير زوجها: فلا يحل له التصريح بخطبتها، كالبائن بالثلاث، وهل يجوز له التعريض بخطبتها؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز له التعريض بخطبتها؛ لأنها معتدة بائن عن زوجها، فهي كالبائن بالوفاة أو بالثلاث. والثاني: لا يجوز له؛ لأنها تحل لزوجها في حال العدة، فهي كالرجعية.

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وكل معتدة حل للزوج التعريض بخطبتها.. حل لها التعريض بإجابته، وكل من لا يحل له التعريض بخطبتها والتصريح.. لم يحل لها إجابته بتعريض ولا بتصريح؛ لأنه لا يحل له ما يحرم عليها، ولا يحل لها ما يحرم عليه فتساويا) . إذا ثبت هذا: فـ (التصريح) : ما لا يحتمل غير النكاح، مثل أن يقول: أنا أريد أن أتزوجك، أو: إذا انقضت عدتك تزوجتك. و (التعريض) : كل كلام احتمل النكاح وغيره، مثل أن يقول: رب راغب فيك، رب حريص عليك، رب متطلع إليك، وأنت جميلة، أنت فائقة، أنت مرغوب فيك، " لا تسبقيني بنفسك "، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وروي: أن رجلا مات، فتبعت امرأته جنازته، فقال لها رجل: لا تسبقيني بنفسك، فقالت له: سبقك غيرك. فإن قال: أنا راغب فيك، أو حريص عليك، أو أنا متطلع إليك، أو إذا حللت فآذنيني.. كان ذلك كله تعريضا؛ لأنه يمكن أن يريد به: أنا راغب فيك، أو أنا متطلع إليك، أو إذا حللت فآذنيني لأشير عليك بمن تتزوجين؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرد بقوله لفاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " فآذنيني " و: " لا تسبقيني بنفسك ": الخطبة لنفسه، وإنما أراد: فآذنيني لأشير عليك بمن تتزوجين. وكذلك لو قال: رب راغب في نكاحك، وأبهم الخاطب.. كان تعريضا وكذلك لو قال: إن الله ليسوق إليك خيرا، أو رزقا.. كان ذلك تعريضا. هذا مذهبنا وقال داود لا تحل له الخطبة سرا، وإنما تحل له علانية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] الآية " (البقرة: 235) وهذا ليس بصحيح؛ لأنه تعالى لم يرد بالسر ضد الجهر، وإنما أراد:

مسألة لا يخطب على خطبة أخيه

لا يعرض للمعتدة بالجماع ولا يصرح به، مثل أن يقول: عندي جماع يصلح من جومعه، وما أشبهه، وسمي الجماع سرًا؛ لأنه يفعل سرًا. قال امرؤ القيس: ألا زعمت بسباسة القوم أنني ... كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي كذبت لقد أصبى على المرء عرسه ... وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي ولا يكره للرجل التعريض لزوجته بالجماع ولا التصريح به؛ لأنه لا يكره له جماعها، فلأن لا يكره له ذكره أولى. والآية وردت في المعتدات. فإن عرض بخطبة امرأة لا يحل له التعريض بخطبتها، أو صرح بخطبتها، ثم انقضت عدتها وتزوجها.. صح نكاحها. وقال مالك رحمة الله عليه: (يبينها بطلقة واحدة) . دليلنا: أن النكاح حادث بعد المعصية، فلا تؤثر المعصية فيه، كما لو قال: لا أتزوجها إلا بعد أن أراها متجردة، فتجردت له ثم نكحها، أو قالت: لا أرضى نكاحه حتى يتجرد لي أو حتى يجامعني، فتجرد لها أو جامعها ثم تزوجها. [مسألة لا يخطب على خطبة أخيه] وإذا خطب رجل امرأة فصرح له بالإجابة، بأن كان الولي أبا أو جدًا وهي بكر، أو كانت ثيبا فأذنت في تزويجها منه.. لم يجز لغيره أن يخطبها إلا أن يأذن له الخاطب الأول؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أن يخطب

الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب الأول، أو يأذن له فيخطب» ، ولأن في ذلك إضرارًا بالأول؛ لأنها ربما مالت إلى الثاني وتركت الأول. قال في " الأم ": (وإن قالت امرأة لوليها: زوجني ممن شئت، أو ممن ترى حل لكل أحد خطبتها) ؛ لأنها لم تأذن في تزويجها من رجل بعينه فتضر به خطبة الثاني. وإن خطب رجل امرأة فصرحت له بالرد، أو سكتت عنه ولم تصرح برد ولا إجابة.. حل لكل أحد خطبتها؛ لما «روت فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: طلقني زوجي أبو حفص بن عمر وهو غائب بالشام ثلاثًا، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بذلك، فأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال: " إذا حللت.. فآذنيني "، فلما انقضت عدتي أتيته فأخبرته وقلت له: إن معاوية وأبا جهم ـ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ـ خطباني، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أما معاوية: فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم: فلا يضع العصا عن عاتقه، ولكن أدلك على من هو خير لك منهما ". قلت: من يا رسول الله؟ قال " أسامة بن زيد "، قلت: أسامة؟ ! قال: " نعم أسامة "، فكرهت نكاحه، فقال: " انكحي أسامة "، فنكحته فكان منه خير كثير واغتبطت به» . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولم تكن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أذنت في نكاحها من معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا من أبي الجهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإنما كانت تستشير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومعلوم أن الرجلين إذا خطبا امرأة.. خطبها أحدهما بعد الآخر، فلم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الآخر منهما، ثم خطبها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لثالث بعدهما، فدل على جوازه) . وإن خطب رجل امرأة إلى وليها، وكان ممن يخيرها، فعرض له بالإجابة ولم يصرح، مثل أن يقول: أنا أستشير في ذلك، أو أنت مرغوب فيك، أو يشترط شرائط للعقد، مثل: تقديم المهر وغيره.. فهل يحرم على غيره خطبتها؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (يحرم على غيره خطبتها) . وبه قال مالك، وأبو

حنيفة رحمة الله عليهما لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه» ولم يفصل. ولأن فيه إفسادًا لما يقارب بينهما. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يحرم على غيره خطبتها) ، وهو الصحيح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لأسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد أن أخبرته: أن معاوية وأبا الجهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خطباها، ولم يسألها: هل ركنت إلى أحدهما أو رضيت به أم لا؟ فدل على: أن الحُكم لا يختلف بذلك. ولأن الظاهر من حالها: أنها ما جاءت تستشيره إلا وقد رضيت بذلك وركنت إليه. قال الصيمري: فإن خطب رجل خمس نسوة جملة واحدة، فأذن في إنكاحه.. لم يحل لأحد غيره خطبة واحدة منهن حتى يترك أو يعقد على أربع، فتحل خطبة الخامسة. وإن خطب كل واحدة وحدها، فأذنت كل واحدة في إنكاحه.. لم يجز لغيره خطبة الأربع الأولات، وتحل خطبة الخامسة لغيره. إذا ثبت هذا: فإن خطب رجل امرأة في الحال التي قلنا: لا تحل له خطبتها فيه، وتزوجها.. صح ذلك. وقال داود: (لا يصح) ، وحكاه ابن الصباغ عن مالك رحمة الله عليه. دليلنا: أن المحرم إنما يفسد العقد إذا قارنه، فأما إذا تقدم عليه.. لم يفسده، كما لو قالت امرأة: لا أتزوج فلانًا حتى أراه متجردًا أو حتى يجامعني، فتجرد لها أو جامعها، ثم تزوج بها.

إذا تقرر هذا: فذكر أصحابنا في حديث فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فوائد، وقد اختلفت الروايات فيه: فروي: «أن زوجها طلقها بالشام، فجاءها وكيله بشعير، فسخطت به، فقال لها: ما لك علينا شيء، فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تستفتيه، فقال لها: " لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا» . فإحدى فوائد الخبر: أنه دل على جواز الطلاق. والثانية: أنه يدل على جواز الطلاق الثلاث. الثالثة: أن طلاق الغائب يقع. الرابعة: أنه يجوز للمرأة أن تستفتى؛ لـ (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينكر عليها) . الخامسة: أن كلامها ليس بعورة. السادسة: أنه يجوز للمعتدة أن تخرج من منزلها لحاجة. السابعة: أنه لا نفقة للمبتوتة الحائل، خلافًا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. الثامنة: أن للحامل المبتوتة النفقة. التاسعة: أنه يدل على جواز نقل المعتدة عن بيت زوجها. وأختلف لأي معنى نقلها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقال ابن المسيب: كانت بذيئة، فكانت تستطيل على أحمائها. وقالت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (كان بيت زوجها وحشًا، فخيف عليها فيه) . وأي التأويلين صح.. ففي الخبر دليل على جواز النقل لأجله. العاشرة: يدل على جواز التعريض بخطبة المعتدة. الحادية عشرة: أنه يجوز للرجل أن يعرض للمعتدة بالخطبة لغيره؛ لـ: (أن

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرض لها بالخطبة لأسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، لا لنفسه) . الثانية عشرة: أنه يجوز للمرأة أن تستشير الرجال؛ لأنها جاءت تستشير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثالثة عشرة: يدل على جواز وصف الإنسان بما فيه وإن كان يكره ذلك؛ للحاجة إليه؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصف معاوية وأبا جهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بما فيهما) ، وإن كانا يكرهان ذلك. الرابعة عشرة: أنه يجوز أن يعبر بالأغلب على الشيء، ويذكر العموم والمراد به الخصوص؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أما معاوية: فصعلوك لا مال له» . ومعلوم أنه لا يخلو أن يملك شيئًا من المال وإن قل، كثيابه وما أشبهها، وإنما أراد: أنه لا يملك ما يتعارفه الناس مالا. وكذلك: «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أبي الجهم: " إنه لا يضع عصاه عن عاتقه» . وإن كان لا يخلو أن يضعها في بعض أوقاته. و (الصعلوك) : الفقير، قال الشاعر: غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... وكلا سقاياه بكأسيهما الدهر فما زادنا بغيا على ذي قرابة ... غنانا وما أزرى بأحسابنا الفقر وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يضع عصاه عن عاتقه» : ففيه تأويلان: أحدهما: أنه كان كثير الأسفار، قال الشاعر: فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر

فعلى هذا: يكون فيه دليل على جواز السفر بغير إذن زوجته، هذه الخامسة عشرة والثاني: أنه أراد أنه كان كثير الضرب لزوجته، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترفع عصاك عن أهلك» أي: في التأديب بالكلام أو بالضرب، هذه السادسة عشرة. فعلى هذا: التأويل يدل على جواز ضرب الزوج لزوجته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخرجه مخرج النكير. وقال بعضهم: بل أراد أنه كثير الجماع، وكذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ترفع عصاك عن أهلك» أراد به الكناية عن الجماع، فيكون في هذا دلالة على جواز الكناية بالجماع، هذه السابعة عشرة. وهذا غلط في التأويل لأنه ليس من الكلام ما يدل على أنه أراد هذا؟ قال الصيمري: ولو قيل: إنه أراد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا: كثرة الجماع، أي: أنه كثير التزويج.. لكان أشبه. الثامنة عشرة: يدل على جواز خطبة الرجل لغيره؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبها لأسامة» . التاسعة عشرة: أنه يجوز للرجل أن يخطب امرأة قد خطبها غيره إذا لم تتقدم إجابة للأول. العشرون: أنه يجوز للمستشار أن يشير على المستشير بما لم يسأله عنه؛ لأنها لم تستشره في أسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. الحادية والعشرون: أنه يجوز للمستشار أن يشير بما يرى فيه المصلحة للمستشير وإن كره المستشير.

الثانية والعشرون: أنه لا يجب على المستشير المصير إلى ما أشار به المشير؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل لها: يجب عليك المصير إلى ما أشرت به، وإنما أعاد ذلك عليها على سبيل المشورة. الثالثة والعشرون: أن الخير لا يختص بالنسب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " أدلك على من هو خير لك منهما "، ونسبهما خير من نسبه. الرابعة والعشرون: أن الكفاءة ليست بشرط في النكاح؛ لأنها قرشية وأسامة مولى. الخامسة والعشرون: أنه يجوز أن تخطب المرأة إلى نفسها وإن كان لها أولياء. وبالله التوفيق

باب الخيار في النكاح والرد بالعيب

[باب الخيار في النكاح والرد بالعيب] إذا وجد أحد الزوجين بالآخر عيبًا.. ثبت له الخيار في فسخ النكاح. والعيوب التي يثبت لأجلها الخيار في النكاح خمسة، ثلاثة يشترك فيها الزوجان، وينفرد كل واحد منهما باثنين. فأما الثلاثة التي يشتركان فيها: فالجنون، والجذام، والبرص. وينفرد الرجل بالجب والعنة، وتنفرد المرأة بالرتق والقرن. فـ (الرتق) : أن يكون فرج المرأة مسدودًا يمنع من دخول الذكر. و (القرن) : - قيل ـ هو عظم يكون في فرج المرأة يمنع من الوطء. والمحققون يقولون: هو لحم ينبت في الفرج، يمنع من دخول الذكر، وإنما يصيب المرأة ذلك إذا ولدت. هذا مذهبنا، وبه قال عمر، وابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور رحمة الله عليهم. وقال علي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (لا ينفسخ النكاح بالعيب) . وإليه صار النخعي، والثوري، وأبو حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلا أنه قال: (إذا وجدت المرأة زوجها مجبوبًا أو عنينًا.. كان لها الخيار، فإن اختارت الفراق.. فرق الحاكم بينهما بطلقة) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج امرأة من غفار، فلما خلا بها.. رأى في كشحها بياضًا، فقال لها: " ضمي إليك ثيابك والحقي بأهلك "، وفي رواية أخرى: " ضمي إليك ثيابك والحقي بأهلك؛ فقد لبستم علي "، أو قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دلستم علي ". وفي

رواية: (فرد نكاحها» . وهذا صريح في الفسخ، و (الكشح) : الجنب. ولأن المجنون منهما يخاف منه على الآخر وعلى الولد، والجب، والعنة، والرتق، والقرن يتعذر معها مقصود الوطء. والجذام، والبرص تعاف النفوس من مباشرة من هو به. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (ويخاف منهما العدوى إلى الآخر وإلى النسل) . فإن قيل: فقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا عدوى ولا هامة ولا صفر» . «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يعدى شيء شيئًا " فقال أعرابي: يا رسول الله، إن النقبة قد تكون بمشفر البعير أو بذنبة في الإبل العظيمة فتجرب كلها! فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فما أجرب الأول؟!» ، وهذا ينفي العدوى؟ قال أصحابنا: قد وردت أيضًا أخبار بالعدوى، فمنها: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يوردن ذو عاهة على مصح» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تديموا النظر إلى المجذومين، فمن كلمه منكم.. فليكن بينه وبينه قيد رمح» .

وروي: «أن رجلا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليبايعه، فأخرج يده فإذا هي جذماء، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ضم يدك، فقد بايعتك» ، وكان من عادته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصافحة من بايعه، فامتنع عن مصافحته لأجل الجذام. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فر من المجذوم فرارك من الأسد» . وإنما نفى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العدوى التي يعتقدها الملاحدة وهي: أنهم يعتقدون أن الأدواء تعدي بأنفسها وطباعها، وليس هذا بشيء؛ وإنما العدوى التي نريدها أن نقول: إن الله أجرى العادة بأن يخلق الداء عند ملاقاة الجسم الذي فيه الداء، كما أنه أجرى العادة أن يخلق الأبيض بين الأبيضين، والأسود بين الأسودين وإن كان في قدرته أن يخلق الأبيض من الأسودين، لا أن هذه الأدواء تعدي بنفسها. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا هامة ولا صفر» فإن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إذا قتل الإنسان ولم يؤخذ بثأره.. خرج من رأسه طائر يصرخ ويقول: اسقوني من دم قاتلي. هكذا حكاه ابن الصباغ. وأما (الصفر) : فإن أهل الجاهلية كانوا يقولون: في الجوف دابة تسمى الصفر، إذا تحركت.. جاع الإنسان، وهي أعدى من الجرب عند العرب. وقيل: بل هو تأخير حرمة المحرم إلى صفر، فأبطل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل ذلك.

مسألة وجد امرأته خنثى أو غير ذلك وعكسه

[مسألة وجد امرأته خنثى أو غير ذلك وعكسه] وإن وجد الرجل امرأته ولها فرج الرجال وفرج النساء، إلا أنها لا تبول إلا من فرج النساء، أو وجدت المرأة زوجها كذلك، إلا أنه لا يبول إلا من الذكر.. فهل يثبت الخيار لمن وجد صاحبه كذلك؟ فيه قولان: أحدهما: يثبت له الخيار في فسخ النكاح؛ لأن النفس تعاف ذلك. والثاني: لا يثبت له الخيار؛ لأنه لا يتعذر معه الاستمتاع. وإن وجدت المرأة زوجها خصيا - وهو: مسلول الخصيتين والذكر باقٍ - ففيه قولان: أحدهما: يثبت لها الخيار؛ لأن النفس تعاف من مباشرته. والثاني: لا يثبت لها الخيار؛ لأنه يقدر على الاستمتاع بها، ويقال: إنه أكثر جماعا؛ لقلة مائه. ولا يثبت الخيار في فسخ النكاح بغير هذه العيوب. فإذا وجد الرجل امرأته عمياء، أو مقطوعة اليدين أو الرجلين، أو شوهاء، أو وجدت المرأة زوجها كذلك.. لم يثبت به الخيار. وقال زاهر السرخسي: إذا وجد الرجل امرأته بخراء أو عذيوطا - وهي: التي تبدي الغائط عند جماعها - ثبت له الخيار في فسخ النكاح. وهذا خلاف النص؛ لأنه لا يتعذر معه الاستمتاع. إذا ثبت هذا: فإن الجنون يثبت لأجله الخيار، سواء كان مطبقا أو غير مطبق. فإن مرض أحدهما فزال عقله.. لم يثبت لأجله الخيار؛ لأن ذلك إغماء، والإغماء ليس بنقص، ولهذا: يجوز الإغماء على الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -

وسلامه، ولا يجوز عليهم الجنون. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن زال المرض وبقي زوال العقل.. فهو جنون) . وسواء كان زمان الإفاقة أكثر أو زمان الجنون أو استويا، هذا قول عامة أصحابنا. وقال الصيمري: إن كان زمن الإفاقة أكثر.. فهل يثبت لأجله الخيار؟ فيه وجهان. والأول أصح. وأما (الجذام) فهو: داء يأكل اللحم ويتناثر منه. و (البرص) : بياض يكون في البدن، وعلامته أن يعصر المكان.. فلا يحمر. وسواء كان الجذام أو البرص قليلا أو كثيرا؛ لأن النفس تعاف منه. فإن كان الجذام أو البرص ظاهرا.. فلا كلام. وإن كان خفيا، فادعى الآخر على من هو به: أنه جذام أو برص فأنكر من هو به أنه ذلك، فإن أقام المدعي شاهدين ذكرين مسلمين ثقتين من أهل المعرفة بذلك أنه جذام أو برص.. ثبت له الخيار. وإن لم يقم بينة.. فالقول قول من هو به مع يمينه: ما هو جذام أو برص؛ لأن الأصل عدمه. فإن أصاب الزوج زوجته رتقاء، فإن كان يتمكن معه من إدخال الذكر.. لم يثبت له الخيار. وإن كان لا يتمكن معه من إدخال الذكر.. ثبت له الخيار؛ لأنه تعذر عليه وطؤها. فإن أراد الزوج أن يشق ذلك الموضع ليتمكن من إدخال الذكر، فامتنعت المرأة من ذلك.. لم تجبر عليه؛ لأن ذلك جناية عليها. فإن شقت ذلك بنفسها، أو مكنته من شقه، فشقه قبل أن يفسخ النكاح.. لم يثبت له الفسخ؛ لأن المانع له قد زال. وفيه وجه آخر - حكاه الصيمري -: أنه لا يسقط حقه من الفسخ. وإن وجدها مفضاة - وهو: أن يزول الحاجز بين السبيلين، أو الحاجز بين مدخل الذكر ومخرج البول - لم يثبت له الخيار؛ لأنه يقدر على وطئها. وإن أصابها عقيما لا تلد، أو أصابته عقيما لا يولد له.. لم يثبت به الخيار؛ لأن ذلك لا يقطع به ولا يمنع كمال الاستمتاع. وإن وجدته مجبوبا - وهو: الذي قطع جميع ذكره - ثبت لها الخيار.

فرع وجود عيب في كلا الزوجين حال العقد ولم يعلم أو طرأ بعده

وإن قطع بعضه وبقي البعض، فإن كان الباقي مما لا يمكن الجماع به.. فلها الخيار؛ لأن وجود الباقي بمنزلة عدمه. وإن كان الباقي مما يمكن الجماع به.. لم يثبت لها الخيار؛ لأن معظم الاستمتاع غير متعذر عليها من جهته، كما لو لم يكن له إلا ذكر قصير. [فرع وجود عيب في كلا الزوجين حال العقد ولم يعلم أو طرأ بعده] وإن وجد كل واحد من الزوجين بصاحبه عيبا، فإن كان العيبان من جنسين، بأن كان أحدهما أجذم والآخر أبرص.. ثبت لكل واحد منهما الخيار؛ لأن نفس الإنسان تعاف من داء غيره. وإن كانا من جنس واحد، بأن وجد كل واحد منهما صاحبه أجذم أو أبرص.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يثبت لواحد منهما الخيار؛ لأنهما متساويان في النقص، فهو كما لو تزوج عبد امرأة فكانت أمة. والثاني: يثبت لكل واحد منهما الخيار؛ لأن نفس الإنسان تعاف من عيب غيره وإن كان به مثله. وإن أصاب الرجل امرأته رتقاء أو قرناء، وأصابته عنينا أو مجبوبا.. ففيه وجهان: أحدهما: يثبت لكل واحد منهما الخيار؛ لوجود النقص الذي يثبت لأجله الخيار. والثاني: لا خيار لواحد منهما؛ لأن الرتق والقرن يمنع الاستمتاع، والمجبوب والعنين لا يمكنه الاستمتاع، فلم يثبت الخيار. هذا الكلام في العيوب الموجودة حال العقد التي لم يعلم بها الآخر. فأما إذا حدث شيء من هذه العيوب بأحد الزوجين بعد العقد.. نظرت: فإن كان ذلك بالزوج - ويتصور فيه حدوث العيوب كلها إلا العنة، فإنه لا يتصور أن يكون غير عنين عنها، ثم يكون عنينا عنها - فإذا حدث فيه أحد العيوب الأربعة.. ثبت للزوجة الخيار؛ لأن كل عيب يثبت لأجله الخيار إذا كان موجودا حال العقد.. يثبت لأجله الخيار إذا حدث بعد العقد، كالإعسار بالنفقة والمهر.

فرع علمه بالعيب حال العقد يسقط خياره

وإن كان ذلك حادثا في الزوجة.. فإنه يتصور أن يحدث لها جميع العيوب الخمسة، فإذا حدث بها شيء منها.. فهل يثبت للزوج فسخ النكاح؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (لا يثبت له الفسخ) - وبه قال مالك رحمة الله عليه - لأنها لم تدلس عليه؛ ولأنه يمكنه التخلص من ذلك بالطلاق. و [الثاني] : قال في الجديد: (يثبت له الخيار في الفسخ) ، وهو الصحيح؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد نكاح الغفارية لما وجد في كشحها بياضا) ولو كان الحكم يختلف.. لسألها: هل حدث ذلك بها قبل العقد أو بعده؟ ولأن كل عيب يثبت لأجله الفسخ إذا كان موجودا حال العقد.. ثبت لأجله الفسخ إذا حدث، كالعيب بالزوج. وقول الأول: (يمكنه أن يطلق) : يبطل بالعيب الموجود حال العقد، فإنه يمكنه أن يطلق، ثم مع هذا يثبت له الفسخ. [فرع علمه بالعيب حال العقد يسقط خياره] قال في (الإملاء) : (إذا علم بالعيب حال العقد.. فلا خيار له؛ لأنه عيب رضي به، فلم يكن له الفسخ لأجله، كما لو اشترى شيئا معيبا مع العلم بعيبه) . فإن أصاب أحد الزوجين بالآخر عيبا فرضي به.. سقط حقه من الفسخ لأجله. فإن وجد عيبا غيره بعد ذلك.. ثبت له الفسخ لأجله؛ لأنه لم يرض به. وإن زاد العيب الذي رآه ورضي به.. نظرت: فإن حدث في موضع آخر، بأن رأى البرص أو الجذام في موضع من البدن فرضي به، ثم حدث البرص في موضع آخر من البدن.. كان له الخيار في الفسخ؛ لأن هذا غير الذي رضي به. وإن اتسع ذلك الموضع الذي رضي به.. لم يثبت له الخيار لأجله؛ لأن رضاه به رضى بما تولد منه.

مسألة العيب الذي يفسخ العقد به فخياره على الفور

[مسألة العيب الذي يفسخ العقد به فخياره على الفور] ] : وكل موضع قلنا: لأحد الزوجين أن يفسخ النكاح بالعيب.. فإن ذلك الخيار يثبت له على الفور لا على التراخي؛ لأنه خيار عيب لا يحتاج إلى نظر وتأمل فكان على الفور، كما لو اشترى عينا فوجد بها عيبا. فقولنا: (خيار عيب) احتراز من خيار الأب في رجوعه بهبته لابنه، ومن خيار الولي: في القصاص، أو العفو. وقولنا: (لا يحتاج فيه إلى نظرٍ وتأملٍ) احتراز من المعتقة تحت عبدٍ، إذا قلنا: يثبت له الخيار على التراخي. ولسنا نريد أن الفسخ يكون على الفور، وإنما نريد به أن المطالبة بالفسخ تكون على الفور، وهو: أن أحد الزوجين إذا علم بالآخر عيبا.. فإنه يرفع ذلك إلى الحاكم، فيستدعي الحاكم الآخر ويسأله، فإن أقر به أو كان ظاهرا.. فسخ النكاح بينهما، وإن أنكر أو كان خفيا.. فعلي المدعي أن يقيم البينة، فإذا أقام البينة.. فسخ النكاح بينهما، ولا يثبت هذا الفسخ إلا بالحاكم؛ لأنه مختلف فيه فلم يثبت إلا بالحاكم، كفسخ النكاح للإعسار بالنفقة والمهر. قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز لأحد الزوجين أن يتولى الفسخ بنفسه بحال. وقال ابن الصباغ: إذا رفعت الأمر إلى الحاكم.. فالحاكم أولى به، وهو بالخيار: فإن شاء.. فسخ بنفسه، وإن شاء.. أمرها بالفسخ. وقال القفال: إذا رفعت الأمر إلى الحاكم وأثبتت العيب عنده.. خيرت: بين أن تفسخ بنفسها، وبين أن يفسخ الحاكم بمسألتها. [مسألة فسخ النكاح بالعيب وحكم المهر] وإذا وجد أحد الزوجين بالآخر عيبا ففسخ النكاح.. نظرت: فإن كان الفسخ قبل الدخول.. سقط جميع المهر؛ لأن المرأة إن كانت هي التي فسخت.. فالفرقة جاءت من جهتها، وإن كان الزوج هو الذي فسخ.. فإنما فسخ لمعنى من جهتها، وهو

تدليسها بالعيب، فصار كما لو فسخته بنفسها. وإن كان الفسخ بعد الدخول، فإن كان الفسخ لعيب كان موجودا حال العقد.. فالمشهور من المذهب: أنه يلزم الزوج مهر المثل، سواء كان العيب بالزوج أو بالزوجة؛ لأن الفسخ مستند إلى العيب الموجود حال العقد، فصار كما لو كان النكاح فاسدا. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] قولا آخر مخرجا أنه: يجب المسمى؛ لأن الفسخ رفع للعقد في الحال لا من أصله. وليس بشيء. وإن كان الفسخ لعيب حدث بعد العقد بالزوج، أو بالزوجة على القول الجديد.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجب لها المسمى؛ لأنه قد وجب لها المسمى بالعقد، فلا يتغير بما يحدث بعده من العيب. والثاني: يجب لها مهر المثل؛ لأنه لما فسخ العقد.. ارتفع من أصله، فصار كما لو وطئها بشبهة. والثالث - وهو المنصوص -: (إن حدث العيب قبل الوطء.. وجب لها مهر المثل. وإن حدث العيب بعد الوطء.. وجب لها المسمى؛ لأنه إذا حدث قبل الوطء.. فقد حدث قبل استقرار المسمى، فإذا فسخ العقد.. ارتفع من أصله، فصار كما لو وطئها بشبهة. وإذا حدث العيب بعد الوطء.. فقد حدث بعد استقرار المسمى بالدخول، فلا يتغير بما طرأ بعده) .

فرع العلم بالعيب بعد الوطء ورجوع الزوج بالمهر

[فرع العلم بالعيب بعد الوطء ورجوع الزوج بالمهر] وإن تزوج رجل امرأة وبها عيب، فلم يعلم به حتى وطئها، ثم علم به وفسخ النكاح.. فقد قلنا: إنه يجب لها عليه مهر المثل، وهل للزوج أن يرجع به على الولي؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (يرجع به عليه) - وبه قال مالك رحمة الله عليه - لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قال: (أيما رجل تزوج بامرأة وبها جنون أو جذام أو برص فمسها.. فلها الصداق، وذلك لزوجها غرم على وليها) . ولأن الولي هو الذي أتلف على الزوج المهر؛ لأنه أدخله في العقد حتى لزمه مهر المثل، فوجب أن يلزمه الضمان، كالشهود إذا شهدوا عليه بقتل أو غيره ثم رجعوا. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يرجع به عليه) . وبه قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وهو قول أبي حنيفة، وهو الأصح؛ لأنه ضمن ما استوفى بدله، وهو الوطء فلا يرجع به على غيره، كما لو كان المبيع معيبا فأتلفه. فإذا قلنا بهذا.. فلا تفريع عليه. وإذا قلنا بالأول: فإن كان الولي ممن يجوز له النظر إلى وليته، كالأب والجد والأخ والعم.. رجع الزوج عليه، سواء علم الولي بالعيب أو لم يعلم؛ لأنه فرط بترك الاستعلام بالعيب، ولأن الظاهر أنه يعلم ذلك. وإن كان الولي ممن لا يجوز له النظر إليها، كابن العم، والمولى المعتق، والحاكم، فإن علم الولي بعيبها.. رجع عليه الزوج، وإن لم يعلم الولي بالعيب.. لم يرجع عليه الزوج، ويرجع الزوج على المرأة؛ لأنها هي التي غرته. فإن ادعى الزوج على الولي: أنه يعلم بالعيب فأنكر، فإن أقام الزوج بينة على

إقرار الولي بعلمه بالعيب.. رجع عليه. وإن لم يقم عليه بينة.. حلف الولي: أنه لم يعلم بالعيب، ورجع على الزوجة. وإن كان لها جماعة أولياء في درجة واحدة ووجد من جميعهم الغرور ممن يجوز لهم النظر إليها.. رجع الزوج عليهم إذا علموا. فإن كان بعضهم عالما بالعيب وبعضهم جاهلا به.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في (العدة) : أحدهما: يرجع على العالم؛ لأنه هو الذي غره. والثاني: يرجع على الجميع؛ لأن ضمان الأموال لا يختلف بالخطأ والعمد. هذا نقل البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا كان الولي غير محرم لها.. فهل يرجع عليه الزوج؟ فيه قولان. وكل موضع قلنا: يرجع الزوج على الولي.. فإنه يرجع عليه بجميع مهر المثل. وكل موضع قلنا: يرجع الزوج على الزوجة.. فبكم يرجع عليها؟ فيه قولان، ومنهم من قال: هما وجهان: أحدهما: لا يرجع عليها بجميع مهر المثل، وإنما يبقي قدرا يمكن أن يكون صداقا؛ لئلا يعرى الوطء عن بدل. والثاني: يرجع عليها بالجميع؛ لأنه قد حصل لها بدل الوطء وهو المهر، وإنما يرجع إليه بسبب آخر، فهو كما لو وهبته منه. والأول أصح. وحكي المسعودي [في " الإبانة "] : أن القولين في الولي أيضا. والمشهور: أنه يرجع عليه بالجميع قولا واحدا.

فرع العلم بالعيب بعد الطلاق لغير المدخول بها

[فرع العلم بالعيب بعد الطلاق لغير المدخول بها] قال في (الأم) : (إذا تزوج امرأة ثم طلقها قبل الدخول، وعلم بعد ذلك أنه كان بها عيب يثبت به خيار الفسخ.. لزمه نصف المهر؛ لأنه رضي بإزالة الملك والتزام نصف الصداق بالطلاق، فلم يرجع إليه) . [مسألة امتناع الولي أو وليته من تزويجها ممن به عيب] وإن دعت المرأة وليها إلى تزويجها بمجنون.. كان له الامتناع من ذلك؛ لأن عليه عارا بكون وليته تحت مجنون؛ لأنه لا يشهد ولا يحضر الجمعة والجماعة. وإن دعا الولي وليته إلى تزويجها بمجنون.. فلها أن تمتنع؛ لأن عليها ضررا به وعارا. وإن دعت المرأة وليها أن يزوجها بمجبوب أو خصي أو عنين.. فليس له أن يمتنع؛ لأنه لا عار عليه في ذلك. وإن دعاها الولي إلى أن يزوجها بأحدهم.. فلها أن تمتنع؛ لأن عليها نقصا من جهة الاستمتاع. وإن دعت المرأة وليها إلى أن يزوجها بمجذوم أو أبرص.. فهل له أن يمتنع؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له أن يمتنع؛ لأن الخيار إنما يثبت لها في النكاح؛ لأن النفس تعاف من مباشرتهما، وذلك نقص عليها دون الولي، فهو كالمجبوب والخصي. والثاني: له أن يمتنع؛ لأن على الولي عارا في ذلك، وربما أعداها أو أعدى ولدها فيلتحق العار بأهل نسبها. وإن دعاها الولي إلى تزويجها بمجذوم أو أبرص.. كان لها أن تمتنع؛ لأن عليها في ذلك عارا ونقصا. وإن تزوجت امرأة برجل سليم لا عيب فيه، ثم حدث به عيب يثبت لأجله الخيار،

مسألة معنى العنين وحكمه

فإن فسخت النكاح.. لم يعترض عليها وليها بذلك. وإن اختارت المقام معه على ذلك.. جاز، ولا اعتراض للولي عليها بذلك؛ لأن حق الولي إنما هو في ابتداء العقد دون استدامته. ولهذا: لو دعت الحرة وليها إلى تزويجها بعبد.. لم يلزمه إجابتها، ولو أعتقت تحت عبد واختارت المقام معه.. لم يجبرها الولي على الفسخ. [مسألة معنى العنين وحكمه] العنين: هو الرجل العاجز عن الجماع، وربما يشتهي الجماع ولا يناله. واشتقاقه من عَنَّ الشيءُ: إذا اعترض؛ لأن ذكره يعن، أي: يعترض عن يمين الفرج وشماله، فلا يقصده. وقيل: اشتق من عنان الدابة، أي: أنه يشبهه في اللين. إذا ثبت هذا: فالعنة في الرجل عيب يثبت الخيار لزوجته في فسخ النكاح لأجلها على ما نبينه. وبه قال عامة أهل العلم. وقال الحكم بن عتيبة، وداود، وأهل الظاهر: (ليست بعيب) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] ، فخير الله الأزواج: بين أن يمسكوا النساء بمعروف، أو يسرحوهن بإحسان. والإمساك بمعروف لا يكون بغير وطء؛ لأنه هو المقصود بالنكاح، فإذا تعذر عليه الإمساك بمعروف من هذا الوجه.. تعين عليه التسريح بإحسان؛ لأن من خير بين شيئين إذا تعذر عليه أحدهما.. تعين عليه الآخر. وعن عمر وعلى وابن مسعود والمغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (يؤجل العنين سنة، فإن جامعها، وإلا.. فرق بينهما) ، ولا مخالف لهم في الصحابة. فدل على: أنه إجماع.

ولأن الله تعالى أوجب على المولي أن يفيء أو يطلق؛ لما يلحقها من الضرر بامتناعه من الوطء، والضرر الذي يلحق امرأة العنين أعظم من امرأة المولي؛ لأن المولي ربما وطئها. فإذا ثبت الفسخ لامرأة المولي.. فلأن يثبت لامرأة العنين أولى. إذا ثبت هذا: فإن المرأة إذا جاءت إلى الحاكم وادعت على زوجها: أنه عنين أو أنه عاجز عن وطئها.. استدعاه الحاكم وسأله، فإن أقر: أنه عنين أو أنه عاجز عن وطئها.. ثبت أنه عنين. وإن أنكر وقال: لست بعنين، فإن كان مع المرأة بينة بإقراره: أنه عنين وأقامتها.. ثبت أنه عنين. وإن لم يكن معها بينة.. فالقول قوله مع يمينه: أنه ليس بعنين، فإذا حلف.. سقطت دعواها. وإذا ثبت أنه قادر على وطئها وامتنع.. فهل يجبره الحاكم على وطئها مرة ليتقرر مهرها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] . وإن نكل عن اليمين.. حلفت: أنه عنين، ولا يقضى عليه بنكوله من غير يمين.

وحكى الشيخ أبو إسحاق، عن أبي سعيد الأصطخري أنه: يقضى عليه بنكوله من غير أن تحلف؛ لأنه أمر لا تعلمه. وليس بشيء؛ لأنه حق نكل فيه المدعى عليه عن اليمين، فحلف المدعي، كسائر الحقوق. وقوله: (إنه أمر لا تعلمه) يبطل بكنايات الطلاق والقذف. فإذا ثبت أنه عنين بإقراره، أو بيمينها بعد نكوله.. فإن الحاكم يؤجله سنة، سواء كان الزوج حرا أو عبدا. وحكى عن مالك رحمة الله عليه: أنه قال: (يؤجل العبد نصف سنة) . دليلنا: ما رويناه عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: أنهم قالوا: (يؤجل سنة) ، ولم يفرقوا. ولأن العجز عن الوطء قد يكون للعجز من أصل الخلقة، وقد يكون لعارض، فإذا مضت عليه سنة.. اختلفت عليه الأهوية، فإن كان ذلك قد أصابه من الحرارة.. انحل في الشتاء، وإن أصابه من الرطوبة.. انحل في الصيف وشدة الحر، وإن كان طبعه يميل إلى هواء معتدل.. أمكنه ذلك في الفصلين الآخرين. فإذا مضت عليه سنة ولم يقدر على الوطء.. علم أن عجزه من أصل الخلقة. ولأن بعضهم قال: الداء لا يستجن في البدن أكثر من سنة، ثم يظهر. ولا يضرب المدة له إلا الحاكم؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه أجل العنين سنة بعد ثبوت العنة. ولأن من الناس من قال: يؤجل، ومنهم من قال: لا يؤجل. وكل حكم مختلف فيه.. فلا يثبت إلا بالحاكم، كالفسخ بالعيوب والإعسار بالنفقة. ولا يضرب له الحاكم المدة إلا من حين ترافعها إليه بعد ثبوت العنة. فأما إذا أقر الزوج للزوجة بالعنة وأقاما على ذلك زمانا.. فلا يحكم عيه بالتأجيل؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه ضرب أجل العنين سنة، والظاهر أنه إنما ضرب له المدة من حين ترافعها إليه.

فرع يسقط حق المرأة إذا جامع العنين في المدة

[فرع يسقط حق المرأة إذا جامع العنين في المدة] فإذا ضربت للعنين المدة، ثم جامع امرأته قبل انقضاء السنة، أو بعدها وقبل الفسخ.. سقط حقها من الفسخ؛ لأنه قد ثبتت قدرته على الوطء. فإذا كان ذكره سليما.. خرج من العنة بتغيب حشفته في فرجها، ولا يخرج بما دون ذلك، ولا يلزمه أكثر من ذلك؛ لأن أحكام الوطء من وجوب الغسل، والحد، والعدة، واستقرار المهر تتعلق بذلك. وإن كان بعض ذكره مقطوعا وبقى منه ما يتمكن به من الجماع، فإن غيب جميعه في فرجها.. خرج من العنة بذلك. وإن غيب منه أقل من مقدار الحشفة.. لم يخرج من العنة. وإن غيب منه قدر الحشفة.. ففيه وجهان: أحدهما: يخرج من العنة بذلك؛ لأنه لو كان ذكره سليما فغيب منه هذا القدر.. خرج من العنة. فكذلك إذا كان بعضه مقطوعا. والثاني - وهو ظاهر النص -: أنه لا يخرج من العنة إلا بتغييب جميع ما بقي من الذكر؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (ولا تكون الإصابة إلا بأن يغيب الحشفة أو ما بقي من الذكر في الفرج) . ولأنه إذا كان سليما.. فهناك حد يمكن اعتباره - وهو: الحشفة - فإذا كان بعضه مقطوعا.. فليس هناك حد يمكن اعتباره، فاعتبر الجميع. وعندي: أن الغسل وسائر أحكام الوطء فيه على هذين الوجهين. وإن وطئها في الموضع المكروه.. لم يخرج من العنة؛ لأنه ليس محلا للوطء في الشرع، ولهذا لا يحصل به الإحلال للزوج الأول. وإن أصابها في الفرج وهي حائض، أو نفساء، أو صائمة عن فرض، أو محرمة.. خرج من العنة؛ لأنه محل للوطء في الشرع، وإنما حرم الوطء لعارض.

فرع ادعاء الزوج الوطء

[فرع ادعاء الزوج الوطء] وإن ادعى الزوج: أنه قد وطئها، وأنكرت، فإن كانت ثيبا.. فالقول قول الزوج من يمينه؛ لأنه لا يمكن إثباته بالبينة. وإن كانت بكرا.. عرضت على أربع من القوابل، فإن قلن: إن بكارتها قد زالت.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الظاهر أن البكارة لا تزول إلا بالوطء. وإن قلن: إن البكارة باقية، فإن قال الزوج كذبن، قد أصبتها وهي ثيب.. لم يلتفت إلى قوله؛ لأن في ذلك طعنا على البينة فيثبت عجزه. وإن قال: صدقن، كنت قد أصبتها وأزلت بكارتها ثم عادت.. فالقول قول الزوجة؛ لأن الظاهر أن البكارة لا تعود. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وتحلف المرأة على ذلك؛ لأن ما يدعيه الزوج ممكن؛ لأنه قد قال أهل الخبرة: إن الرجل إذا وطئ البكر ولم يبالغ.. فإن البكارة ربما زالت ثم عادت، فحلفت عليه) هذا مذهبنا، وبه قال الثوري وأبو حنيفة رحمهما الله. وقال الأوزاعي: (يترك الزوج معها، ويكون هناك امرأتان جالستان خلف ستر قريب منهما، فإذا قام الرجل عن جماعها.. بادرتا فنظرتا إلى فرجها، فإن رأتا فيه الماء.. علمنا أنه أصابها، وأن لم تريا فيه الماء.. علمنا أنه لم يصبها) . وقال مالك رحمة الله عليه: (يفعل ذلك، ولكن يقتصر فيه على امرأة واحدة)

مسألة بعد مضي سنة تكون المرأة بالخيار

وحكي: (أن امرأة ادعت على زوجها العنة، فكتب سمرة بذلك إلى معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فكتب إليه: أن يزوج امرأة ذات حسن وجمال، يذكر عنها الصلاح، ويساق إليها صداقها من بيت المال؛ لتخبر عن حاله، فإن أصابها.. فقد كذبت - يعنى زوجته - وإن لم يصبها.. فقد صدقت. ففعل ذلك، ثم سألها عنه، فقالت ما عنده شيء! فقال سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما دنا ولا انتشر عليه؟ فقالت: بلى دنا وانتشر عليه، ولكن جاءه سره) أي: أنزل قبل أن يولج. هذه رواية الشيخ أبي حامد وسائر أصحابنا، وأما أبو عبيد فذكر: (أن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إليه: أن اشتر له جارية من بيت المال، وأدخلها معه ليلة ثم سلها عنه، ففعل سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما أصبح قال ما صنعت؟ قال: فعلت حتى خضخض فيه، فسأل الجارية، فقالت: لم يصنع شيئا، فقال: خل سبيلها يا مخضخض) . و (الخضخضة) : الحركة في الشيء حتى يستقر. وما ذكره الأوزاعي ومالك رحمة الله عليهما غير صحيح؛ لأن العنين قد ينزل من غير إيلاج، وقد يولج غير العنين من غير إنزال. وما ذكره معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غير صحيح؛ لأن الرجل قد يعن عن امرأة ولا يعن عن غيرها. [مسألة بعد مضي سنة تكون المرأة بالخيار] وإذا انقضت السنة ولم يقدر على وطئها.. كانت بالخيار: بين الإقامة، أو الفسخ. فإن اختارت الإقامة سقط حقها من الفسخ؛ لأنها أسقطت ما ثبت لها من الفسخ، فإن أرادت بعد ذلك أن ترجع وتطالب بالفسخ.. لم يكن لها ذلك؛ لأنه عيب رضيت به، فهو كما لو وجدته مجذوما أو أبرص فرضيت به، ثم أرادت أن تفسخ بعد ذلك.

فرع وطئ ثم عجز

وإن اختارت الفسخ.. لم يصح إلا بالحاكم؛ لأنه مجتهد فيه. قال ابن الصباغ: ويفسخ الحاكم النكاح، أو يجعله إليها فتفسخ. وقال الشيخ أبو حامد: لا تفسخه المرأة بنفسها؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم قالوا: (فإن جامعها، وإلا.. فرق بينهما) ، فأخبروا: أنها لا تتولاه. ويكون ذلك فسخا لا طلاقا وقال مالك، وأبو حنيفة رحمهما الله: (تكون طلقة بائنة) دليلنا: أنه فسخ لعيب، فلم يكن طلاقا، كالأمة إذا أعتقت تحت عبد فاختارت الفسخ. فإن رضيت بالمقام معه قبل أن تضرب له المدة أو في أثنائها.. ففيه وجهان، وحكاهما ابن الصباغ قولين: أحدهما: يسقط حقها من الفسخ؛ لأنها رضت بعنته، فهو كما لو رضيت به بعد انقضاء المدة. والثاني: لا يسقط حقها من الفسخ، وهو الأصح؛ لأنها أسقطت حقها من الفسخ قبل جوازه فلم يسقط، كالشفيع إذا أسقط حقه من الشفعة قبل الشراء [فرع وطئ ثم عجز] إذا تزوج رجل امرأة فوطئها، ثم عجز عن وطئها.. لم يثبت لها الخيار، ولا يحكم لها عليه بالعنة. وقال أبو ثور: (تضرب له المدة، ويثبت لها الخيار، كما لو وطئها ثم جب ذكره) دليلنا: أن العنة يتوصل إليها بالاستدلال والاجتهاد، فإذا تحققنا قدرته على الوطء في هذا النكاح.. لم يرجع فيه إلى الاستدلال بمضي الزمان؛ لأنه رجوع من اليقين إلى

فرع علمت بأنه عنين

الظن. ويخالف: إذا وطئها ثم جب؛ لأن الجب أمر مشاهد متحقق، فجاز أن ترفع قدرته على الوطء بالأمر المتحقق. فإن تزوج امرأة ثم وطئها، ثم طلقها فبانت منه، ثم تزوجها، فادعت عليه العنة.. سمعت دعواها عليه، فإن أقر بذلك.. ضربت له المدة؛ لأن كل نكاح له حكم نفسه، ويجوز أن تثبت العنة في نكاح دون نكاح، كما تثبت في امرأة دون امرأة. [فرع علمت بأنه عنين] وإن تزوج رجل امرأة مع علمها أنه عنين، بأن أخبرها: أنه عنين، أو تزوجها فأصابته عنينا، ففسخت النكاح ثم تزوجها ثانيا.. ففيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (لا يثبت لها الخيار) ؛ لأنها تزوجته مع العلم بحاله، فلم يثبت لها الفسخ، كما لو اشترى سلعة مع العلم بعيبها. و [الثاني] : قال في الجديد: (يثبت لها الفسخ) ؛ لأن كل نكاح له حكم نفسه، ولأنها إنما تحققت عنته في النكاح الأول، ويجوز أن يكون عنينا في نكاح دون نكاح. [مسألة فارقها العنين ثم راجعها] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن فارقها بعد ذلك، ثم راجعها، ثم سألت أن يؤجل لها.. لم يكن لها ذلك) . وجملة ذلك: أن المرأة إذا أصابت زوجها عنينا فضربت له المدة ورضيت بالمقام معه، ثم طلقها وعادت إليه.. نظرت: فإن طلقها طلاقا رجعيا، ثم راجعها وأرادت أن تضرب له المدة ثانيا.. لم يكن لها ذلك؛ لأن الرجعة استصلاح للنكاح الأول وليست بتجديد عقد للنكاح، وقد رضيت بمقامها معه في هذا النكاح، فلم يكن لها أن تطالب بضرب المدة.

فرع عن عن إحدى زوجتيه

واعترض المزني على الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقال: لا تجتمع الرجعة مع العنة؛ لأنه إن كان قد وطئها في هذا النكاح.. فإنه لا تضرب له المدة للعنة فيه، وإن لم يصبها فيه.. فلا عدة عليها له ولا رجعة. قال أصحابنا: يحتمل أن يكون الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بنى هذا على القول القديم: (أن الخلوة تثبت العدة) ، فكأنه فرضها فيمن خلا بامرأته ولم يطأها فأصابته عنينا، فضربت له المدة، ثم اختارت المقام معه، ثم طلقها ولم يبنها.. فإن له الرجعة عليها؛ لأن الخلوة كالدخول في استقرار المهر ووجوب العدة والرجعة على هذا. ويحتمل أنه بناها على القول الجديد، وهو: (إذا وطئها ولم يغيب الحشفة في الفرج وأنزل، أو استدخلت ماءه من غير جماع.. فإنه يجب عليها العدة وله عليها الرجعة) . قال الشيخ أبو حامد: وهذا أصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكره في (الأم) ، وقوله في (الأم) : (إن الخلوة لا تقرر المهر ولا توجب العدة) وقال المسعودي [في " الإبانة "] : يحتمل أن يكون الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أراد: إذا وطئها في دبرها. وإن كان الطلاق بائنا: ثم تزوجها بعده.. فقد تزوجته مع العلم بعنته، وهل لها الخيار؟ فيه قولان مضى بيانهما. [فرع عنَّ عن إحدى زوجتيه] إذا تزوج امرأتين فعن عن إحداهما دون الأخرى.. ضربت له المدة للتي عن عنها؛ لأن لكل واحدة حكم نفسها، فاعتبر حكمها بانفرادها. [مسألة وجدته مجبوبا أو خصيا أو خنثى زال إشكاله] وإن أصابت المرأة زوجها مجبوبا، فإن جب ذكره من أصله.. ثبت لها الخيار في الحال؛ لأن عجزه متحقق. وإن بقي بعضه، فإن كان الباقي مما لا يمكن الجماع

به.. فهو كما لو لم يبق منه شيء؛ لأن وجود الباقي كعدمه. وإن كان الباقي مما يمكن الجماع به، فإن اتفق الزوجان على أن الزوج يقدر على الجماع به.. فلا خيار لها. وإن اختلفا، فقالت الزوجة: لا يقدر على الجماع به، وقال الزوج: بل اقدر على الجماع به.. ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قول الزوج مع يمينه، كما لو كان الذكر سليما. والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أن القول قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الظاهر ممن قطع بعض ذكره أنه لا يقدر على الجماع به. فإن ثبت عجزه عن الجماع به، إما بإقراره أو بيمينها.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما - حكاه عن الشيخ أبي حامد -: أن الخيار يثبت لها في الحال؛ لأن عجزه متحقق. والثاني -: وهو قول القاضي أبي الطيب، ولم أجد في (التعليق) إلا ذلك -: أنه تضرب له مده العنين؛ لأن عجزه غير متحقق؛ لأنه قد يقدر على الجماع به، فهو كالعنين. وأما إذا اختلفا في القدر الباقي: هل هو مما يمكن الجماع به، أو مما لا يمكن الجماع به؟ فذكر الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق - والمحاملي: أن القول قول الزوجة وجها واحدا؛ لأن الأصل عدم الإمكان. وقال ابن الصباغ: ينبغي أن لا يرجع في ذلك إليها، وإنما يرجع إلى من يعرف

فرع العنة في الصبي والمجنون

ذلك بصغره وكبره، كما لو ادعت: أنه مجبوب، وأنكر ذلك. وإن أصابت زوجها خصيا، أو خنثى قد زال إشكاله، فإن قلنا: لها الخيار.. كان لها الخيار في الحال، سواء كان قادرا على الوطء أو عاجزا عنه؛ لأن العلة فيه: أن النفس تعاف من مباشرته. وإن قلنا: لا خيار لها وادعت عجزه عن الجماع، فأقر بذلك.. ضربت له مدة العنين، وهي سنة. [فرع العنة في الصبي والمجنون] ] : روى المزني عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن لم يجامعها الصبي.. أجل) . قال المزني: معناه عندي: صبي قد بلغ أن يجامع مثله. قال أصحابنا: أخطأ المزني في النقل والتأويل. فأما النقل: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في القديم: (وأن لم يجامعها الخصى.. أجل) ، وبنى الشافعي هذا إذا قلنا: لا خيار لها في الخصي وادعت عجزه عن الجماع.. فإنه يؤجل، فغلط المزني من الخصي إلى الصبي. وأما تأويله: فغلط أيضا؛ لأن الصبي لا تثبت العنة في حقه؛ لأن العنة لا تثبت إلا باعترافه أو بنكوله عن اليمين ويمين الزوجة، وهذا معتذر في حقه قبل أن يبلغ؛ لأن دعوة المرأة لا تسمع عليه بذلك قبل بلوغه. وإن ادعت امرأة المجنون على زوجها العنة.. لم تسمع دعواها عليه؛ لأنه لا يمكنه الجواب على دعواها. وإن ثبتت عنته قبل الجنون، فضربت له المدة وانقضت وهو مجنون.. فلا يجوز للحاكم أن يفسخ النكاح بينهما؛ لأنه لو كان عاقلا.. لجاز أن يدعي الإصابة ويحلف عليها، إن كانت ثيبا، وهذا متعذر منه في حال جنونه. وإن كانت بكرا، فيجوز أن يكون قد وطئها وأزال بكارتها، ثم عادت البكارة، أو منعته عن نفسها.. فلم يجز الحكم عليه قبل إفاقته.

مسألة اختلفت صفه الزوج أو نسبه عما شرط

[مسألة اختلفت صفه الزوج أو نسبه عما شرط] إذا تزوجت امرأة رجلا على أنه على صفة فخرج بخلافها، أو على نسب فخرج بخلافه، سواء خرج أعلى مما شرط أو دون ما شرط.. فالحكم واحد، وذلك بأن تتزوج رجلا بشرط أنه طويل فخرج قصيرا، أو بشرط أنه قصير فخرج طويلا، أو أنه أسود فخرج أبيض، أو أنه أبيض فخرج أسود، أو أنه موسر فخرج فقيرا، أو أنه فقير فخرج موسرا، أو على أنه قرشي فخرج غير قرشي، أو على أنه ليس بقرشي فكان قرشيا، أو على أنه حر فكان عبدا وكان نكاحه بإذن مولاه، أو على أنه عبد فخرج حرا، وكان هذا الشرط في حال العقد.. فهل يصح العقد؟ فيه قولان: أحدهما: أن النكاح باطل؛ لأن الاعتماد في النكاح على الصفات والأسماء، كما أن الاعتماد في البيوع على المشاهدة، بدليل: أنه لو قال: زوجتك أختي أو ابنتي.. صح وإن لم يشاهدها الزوج، كما أنه إذا باعه سلعة شاهدها.. صح. ثم اختلاف الأعيان يوجب بطلان النكاح والبيع، بدليل: أنه لو قال: زوجتك ابنتي يا عمرو، فقبل غيره نكاحها - وهو: زيد - أو قال: بعتك عبدي هذا، فقال المشتري: قبلت البيع في الجارية.. لم يصح النكاح والبيع، فوجب أن يكون اختلاف الصفة يوجب بطلان العقد.

مسألة تزوج على أنها حرة فبانت أمة

فعلى هذا: يفرق بينهما، فإن كان لم يدخل بها.. فلا شيء عليه، وإن دخل بها.. وجب لها عليه مهر مثلها. والقول الثاني: أن النكاح صحيح، وبه قال أبو حنيفة، وهو الأصح؛ لأنه معنى لا يفتقر العقد إلى ذكره، ولو ذكره وكان كما شرط.. صح العقد. فإن ذكره وخرج بخلاف ما شرط.. لم يبطل العقد، كالمهر. فإذا قلنا بهذا.. نظرت: فإن كان الشرط في الصفة، فإن خرج الزوج أعلى مما شرط في العقد، بأن شرط أنه فقير فكان موسرا، أو أنه جاهل فكان عالما، أو أنه شيخ فكان شابا، أو أنه قبيح فكان مليحا.. لم يكن لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأن الخيار يثبت للنقص، وهذه زيادة لا نقصان. وإن خرج أدنى مما شرط.. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأنه دون ما شرط. وإن كان في النسب.. نظرت: فإن شرط أنه حر خرج عبدا وهي حرة.. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح قولا واحدا؛ لأن العبد لا يكافئ الحرة. وكذلك: إذا شرط أنه عربي فخرج عجميا وهي عربية.. ثبت لها الخيار؛ لأنه لا يكافئها. وإن خرج نسبه أعلى من النسب الذي انتسب إليه بأن شرط أنه ليس من قريش فكان قرشيا.. فلا خيار لها لأنه أعلى مما شرط. وإن خرج نسبه دون نسبه الذي انتسب إليه، ودون نسبها.. ثبت لها الخيار. وإن كان مثل نسبها أو أعلى منه.. ففيه وجهان: أحدهما: لها الخيار؛ لأنها لم ترض به أن يكون كفؤا لها. والثاني - وهو المنصوص -: (أنه لا خيار لها؛ لأنه كفء لها، ولا نقص عليها في ذلك. [مسألة تزوج على أنها حرة فبانت أمة] وإن تزوج رجل امرأة على أنها حرة فكانت أمة.. فهل يصح النكاح؟ فيه قولان، وجههما ما ذكرناه في التي قبلها، وإنما يتصور القولان مع وجود أربع شرائط:

أحدها: أن يكون الزوج ممن يحل له نكاح الأمة. والثاني: أن يكون الشرط في حال العقد. فأما قبله أو بعده.. فلا يؤثر. الثالث: أن يكون الغرر من جهة الأمة أو من وكيل السيد، فأما إذا كان هذا الشرط من السيد.. فإنها تعتق. الرابع: أن يكون النكاح بإذن السيد. إذا ثبت هذا: فإن قلنا: إن النكاح باطل، فإن لم يدخل بها.. فرق بينهما، ولا شيء عليه. وإن دخل بها.. لزمه مهر المثل لسيدها، فإذا غرمه.. فهل يرجع به على من غره؟ فيه قولان، مضى توجيههما في التي قبلها. وإن حبلت منه وخرج الولد حيا.. كان حرا للشبهة، سواء كان الزوج حرا أو عبدا، ويلزمه قيمته لسيدها؛ لأنه أتلف رقه باعتقاده، ويرجع بقيمته إذا غرمها على من غره قولا واحدا؛ لأنه لم يحصل له في مقابلة حريته منفعة، بخلاف المهر، وتعتبر قيمته يوم الوضع. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تلزمه قيمته يوم الترافع إلى القاضي) دليلنا: أن الحيلولة بينه وبين سيد الأمة وجدت يوم الوضع، فاعتبرت قيمته عند ذلك. وإن وضعته ميتا.. فلا شيء عليه؛ لأنه لم يوجد بينه وبين سيد الأمة حيلولة. وإن ضرب ضارب بطنها فأسقطته ميتا.. وجب على الضارب للزوج غرة عبد أو أمة مقدرة بنصف عشر دية أبيه، وكم يجب على الزوج للسيد؟ فيه وجهان: أحدهما: قيمة الغرة بالغة ما بلغت. والثاني: أقل الأمرين من قيمة الغرة، أو عشر قيمة الأمة.

فإن كان المغرور عبدا.. ففي محل ما يلزمه من المهر وقيمة الولد ثلاثة أقوال: أحدها: في رقبته. والثاني: في ذمته إلى أن يعتق. والثالث: في كسبه. وإن كان المغرور حرا، ودفع إليه ما يلزمه من المهر وقلنا: له أن يرجع به أو دفع قيمة الولد، فإن كان الذي غره هو وكيل السيد.. رجع عليه في الحال إن كان موسرا. وإن كان معسرا أنظر إلى إيساره. وإن كان الذي غره هي الأمة.. رجع عليها إذا أعتقت. وإن كان الذي غره هي الأمة ووكيل السيدِ.. ففيه وجهان، حكاهما في " الإبانة ": أحدهما: أنه بالخيار: إن شاء.. رجع بالجميع على الوكيل في الحال، وإن شاء.. رجع بالجميع على الأمة بعد العتق. والثاني: أنه يرجع بما غرمه عليهما نصفين، إلا أنه لا يرجع على الأمة إلا بعد العتق. وإن كان المغرور عبدا، فإن قلنا: محل الغرم ذمته إذا عتق.. فإنه لا يرجع إلا بعد أن يغرم. وإن قلنا: إن محل الغرم رقبته أو كسبه.. رجع السيد على الغارم بعد الغرم. وإن قلنا: إن النكاح صحيح.. فهل يثبت له الخيار في الفسخ؟ فيه ثلاث طرق: [الطريق الأول] : قال أكثر أصحابنا: فيه قولان: أحدهما: لا يثبت له الخيار؛ لأنه يمكنه أن يطلقها. والثاني: له الخيار؛ لأن كل معنى ثبت به الخيار للزوجة.. ثبت به الخيار للزوج، كسائر العيوب. و [الطريق الثاني] : منهم من قال: يثبت له الخيار قولا واحدا، كما يثبت للحرة

فرع وجدها خلاف ما وصفت أو نسبت

في العبد؛ لأن الكفاءة وإن لم تعتبر إلا أن عليه ضررا في استرقاق ولده منها، وذلك أعظم من ضرر الكفاءة. و [الطريق الثالث] : قال أبو إسحاق: إن كان الزوج عبدا.. لم يثبت له الخيار قولا واحدا؛ لأنه مساو لها. والصحيح: أن للجميع الخيار. فإن قلنا: له الخيار، واختار الفسخ، فإن كان قبل الدخول.. فلا شيء عليه.. وإن كان بعد الدخول.. وجب عليه مهر المثل؛ لأن العقد إذا فسخ بمعنى قارن العقد.. صار كأن العقد وقع باطلا، فلزمه مهر المثل. والكلام في رجوعه به على من غره على ما مضى. وإن قلنا: لا خيار له، أو قلنا: له الخيار فاختار الإقامة على النكاح.. استقر عليه المسمى بالدخول، فإن حبلت منه قبل أن يعلم برقها.. فالولد حر، ويلزمه قيمته لسيده، ويرجع به على من غره. وإن وطئها بعد ما علم برقها فحبلت منه، فإن كان الزوج غير عربي.. كان ولده منها رقيقا لسيد الأمة. وإن كان الزوج عربيا، فإن قلنا بقوله الجديد: (إن العرب يسترقون إذا أسروا) .. كان ولده رقيقا. وإن قلنا بقوله القديم: (إن العرب لا يسترقون) .. كان ولده منها حرا، وعليه قيمة الولد لسيد الأمة. [فرع وجدها خلاف ما وصفت أو نسبت] ] : وإن تزوجها على أنها على صفة فخرجت بخلافها، أو أنها من نسب فخرجت بخلافه، وكان هذا الشرط في حال العقد.. فهل يصح النكاح؟ فيه قولان، وسواء خرجت أعلى من الشرط أو دونه. فإن قلنا: إن النكاح باطل، فإن لم يدخل بها.. فرق بينهما، ولا شيء عليه.

وإن دخل بها.. لزمه مهر مثلها، وهل يرجع به على من غره؟ فيه قولان، مضى توجيههما. فإن قلنا: لا يرجع.. فلا كلام. وإن قلنا: يرجع على من غره، فغرم، فإن كان الذي غره وليها وهو واحد.. رجع عليه بالجميع، وإن كانوا جماعة، فإن غروه بالنسب.. رجع على جميعهم بالسوية بجميع المهر؛ لأن نسبها لا يخفى عليهم. وإن غروه بصفة غير النسب، فإن كانوا كلهم عالمين بحالها، أو كلهم جاهلين بحالها.. رجع على جميعهم بالسوية؛ لأنه لا مزية لبعضهم على بعض. وإن كان بعضهم عالما بحالها وبعضهم جاهلا بحالها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: يرجع على الجميع؛ لأن الجميع منهم زوجوه، وحقوق الأموال لا تسقط بالخطأ. والثاني: يرجع على العالم منهم بحالها دون الجاهل؛ لأن العالم بحالها هو الذي غره. فإن كان الذي غره هي الزوجة.. ففيه وجهان: أحدهما: يرجع عليها بجميع المهر، كما قلنا في الأولياء. والثاني: لا يرجع عليها بالجميع، بل يبقى منه شيء حتى لا يعرى الوطء عن بدل. فإن قلنا: يرجع عليها بالجميع، فإن كان قد قبضته منه.. ردته إليه، وإن لم تقبضه منه.. لم تقبضه، بل يسقط أحدهما بالآخر على أحد الأقوال. وإن قلنا: لا يرجع عليها بالجميع، فإن كانت قد قبضت الجميع.. رجع عليها بما قبضت منه، ويبقي منه بعضه. وإن لم تقبضه منه.. أقبضها منه شيئا، وسقط الباقي عنه. وإن قلنا: إن النكاح صحيح، فإن غرته بصفة فخرجت على صفة أعلى مما شرطت، أو بنسب فخرج نسبها أعلى مما شرطت.. فلا خيار للزوج؛ لأنه لا نقص

مسألة تزوج امرأة يظنها حرة أو مسلمة فبانت أمة أو كتابية

عليه، وإن خرج نسبها دون ما شرطت من النسب إلا أنه مثل نسب الزوج أو أعلى من نسبه.. فلا خيار له؛ لأنه لا نقص عليه. وإن خرج نسبها دون النسب الذي شرطت ودون نسب الزوج، أو كان الغرور بصفة فخرجت صفتها دون الصفة التي شرطت.. فهل له الخيار في فسخ النكاح؟ فيه قولان: أحدهما: له الخيار؛ لأنه معنى لو شرطه الزوج بنفسه وخرج بخلافه.. لثبت لها الخيار، فثبت به للزوج الخيار، كالعيوب. والثاني: لا يثبت له الخيار؛ لأنه يمكنه أن يطلقها، ولأنه لا عار على الزوج بكون نسب الزوجة دون نسبه ودون صفته، بخلاف الزوجة. فإن قلنا: له الخيار، فاختار الفسخ. فهو كما لو قلنا: إنه باطل. وإن قلنا: إنه لا خيار له، أو له الخيار فاختار إمساكها.. لزمته أحكام العقد الصحيح. [مسألة تزوج امرأة يظنها حرة أو مسلمة فبانت أمة أو كتابية] وإن تزوج رجل امرأة يظنها حرة فبانت أمة، وهو ممن يحل له نكاح الأمة.. فالنكاح صحيح، والمنصوص: (أنه لا خيار له) . وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن تزوج امرأة يظنها مسلمة فبانت كتابية: (إن النكاح صحيح، وللزوج الخيار) . واختلف أصحابنا فيهما: فمنهم من قال: لا فرق بينهما؛ لأن الحرة الكتابية أحسن حالا من الأمة؛ لأن ولده منها لا يسترق واستمتاعه بها تام، فإذا ثبت له الخيار في الكتابية.. ففي الأمة أولى. وإذا لم يثبت له الخيار في الأمة.. ففي الكتابية أولى، فيكون فيهما قولان. ومنهم من قال: لا يثبت له الخيار في الأمة، ويثبت له الخيار في الكتابية. والفرق بينهما: أن ولي الكافرة كافر، وعليه أن يغير حال نفسه ليعلم أنه كتابي، فإذا لم يفعل.. كان هو المفرط، فثبت للزوج الخيار، وولي الأمة المسلمة مسلم، وليس عليه أن يغير حال نفسه، فليس من جهته تفريط، وإنما المفرط هو الزوج إذ لم يسأل عن الزوجة، فلم يثبت له الخيار.

مسألة بيع الأمة المزوجة أو أعتقت وزوجها حر

وحكى المسعودي [في " الإبانة "] طريقا ثالثا: أنه لا يثبت لواحد منهما الخيار قولا واحدا. ووجهه: أن العقد وقع مطلقا، فهو كم لو ابتاع شيئا ظنه على صفة فبان بخلافها.. فإنه لا خيار له. وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الكتابية.. فمحمول عليه: إذا شرط أنها مسلمة. والمشهور: هما الطريقان الأولان. [مسألة بيع الأمة المزوجة أو أعتقت وزوجها حر] وإذا كان لرجل أمة مزوجة، فباعها سيدها من غير زوجها.. صح بيعه، ولا يكون طلاقا، بل النكاح بحاله. وبه قال عمر، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، وعامة أهل العلم. وقال ابن عباس، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وأنس، وجابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: (يكون بيعها طلاقا) . دليلنا: ما روي: «أن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اشترت بريرة فأعتقتها فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . فلو كان نكاحها قد انفسخ بالشراء.. لما خيرها فيه. وإن أعتقت الأمة وزوجها عبد.. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح. وهو إجماع لا خلاف فيه، والأصل فيه ما روي: «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أعتقت بريرة، فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالت: وكان زوجها عبدا» .

فرع عتق بعض الشركاء نصيبه من المزوجة بعبد

«قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كان زوج بريرة عبدا أسود لبني المغيرة يقال له: مغيث، كأني أنظر إليه وهو يدور خلفها في سكك المدينة ويبكي ودموعه على خديه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للعباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ألا تعجب من حب مغيث بريرة، وبغض بريرة مغيثا؟ !) فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لو راجعتيه؛ فإنه أبو ولدك؟) ، فقالت: يا رسول الله، أبأمرك؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا، إنما أنا شفيع) ، فقالت: لا حاجة لي فيه» . ولأن المرأة إذا تزوجت رجلا فبان أنه عبد ولم تكن علمت به.. ثبت لها الخيار في الفسخ، فإذا ثبت لها الخيار في ابتداء النكاح.. ثبت لها في استدامته. وإن أعتقت الأمة وزوجها حر.. لم يثبت لها الخيار في الفسخ. وبه قال ابن عباس، وابن عمر، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وابن المسيب، وسليمان بن يسار، ومالك، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم. وقال الشعبي، والنخعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: (يثبت لها الخيار) . دليلنا: ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «خير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بريرة وكان زوجها عبدا، ولو كان زوجها حرا.. ما خيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وعائشة لا تقول ذلك إلا بعد أن تعلم ذلك من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطعا ويقينا؛ لأن مثل هذا لا يجوز أن يقطع به عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جهة الاستدلال. ولأنه لا ضرر عليها في كونها حرة تحت حر، ولهذا: لا يثبت لها الخيار في ابتداء النكاح، فلم يثبت ذلك لها في استدامته. [فرع عتق بعض الشركاء نصيبه من المزوجة بعبد] وإذا كانت أمة لجماعة وهي مزوجة بعبد، فأعتق بعضهم نصيبه وهو معسر.. عتق نصيبه لا غير، ولا يثبت لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأن الخيار إنما يثبت لها لكمالها بالحرية، وذلك لم يوجد قبل عتق جميعها.

فرع اختيار المعتقة تحت عبد فسخ النكاح

قال في (الفروع) : وإن تبعضت الحرية فيها.. فقد قيل: لا يثبت لها الخيار حتى تكمل حريتها. وقيل: إذا زادت أجزاء حريتها على أجزاء حريته.. ثبت لها الخيار. [فرع اختيار المعتقة تحت عبد فسخ النكاح] وإن أعتقت الأمة تحت عبد واختارت فسخ النكاح.. فلها أن تفسخ النكاح بنفسها، ولا تفتقر إلى حكم الحاكم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبريرة: (إن شئت.. أقيمي تحت هذا العبد، وإن شئت.. فارقيه» ، فجعل المفارقة إليها. ولأنه: مجمع عليه، فلم يفتقر إلى حكم الحاكم، كفسخ البيع عند وجود العيب. وفي وقت خيارها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه على الفور، فإن أخرت الفسخ بعد العلم بالعتق مع تمكنها منه.. سقط حقها؛ لأنه خيار عيب فكان على الفور، كخيار الرد بالعيب. والثاني: أنها بالخيار ثلاثة أيام؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن بريرة قضى فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالثلاث» . ولأنا لو قلنا: لا يكون خيارها إلا على الفور.. أضررنا بها؛ لأنها قد تحتاج إلى التأمل والنظر فيما لها فيه الحظ من ذلك. ولو قلنا: على التراخي أبدا.. أضررنا بالزوج؛ لأنه لا يدري أتقيم معه أم تفارقه، فقدر بالثلاث؛ لأنها أول حد الكثرة وآخر حد القلة. والثالث - وهو الصحيح -: أنها بالخيار إلى أن يطأها باختيارها؛ لما روي عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن «بريرة خيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال لها: (إن قربك.. فلا خيار لك» . وبه قال ابن عمر وحفصة بنت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

فرع ادعاء الأمة جهالة العتق أو بالحكم بعد فوات خيار الفسخ

قال المحاملي: وفيها قول رابع ضعيف: أنها بالخيار إلى أن يسقط حقها، أو تمكن من وطئها، أو يوجد ما يدل على الرضا مثل: أن يقبلها فتسكت. وقال ابن الصباغ: لها الخيار إلى أن يمسها باختيارها، أو تصرح بما يبطله. [فرع ادعاء الأمة جهالة العتق أو بالحكم بعد فوات خيار الفسخ] إذا أعتقت الأمة تحت عبد فلم تفسخ حتى وطئها الزوج وقلنا: إن لها الخيار إلى أن يطأها، أو مضت الأيام الثلاثة إذا قلنا: إن لها الخيار ثلاثا، أو مضى زمان تمكنت فيه من الفسخ إذا قلنا: إنه على الفور، ثم ادعت الجهالة، فإن ادعت الجهالة بالعتق، فإن كانت في موضع يجوز أن يخفى عليها العتق، بأن تكون في بلد غير البلد الذي أعتقها فيه السيد، أو في محلة غير محلة السيد.. قبل قولها مع اليمين؛ لأن الظاهر أنها لم تعلم. وإن كانت في موضع لا يجوز أن يخفى عليها العتق، بأن تكون مع السيد في دار واحدة.. ففيه طريقان، حكاهما القاضي أبو الطيب: أحدهما - وهو اختيار الشيخين: أبي حامد وأبي إسحاق -: أنه لا يقبل قولها قولا واحدا؛ لأن دعواها تخالف الظاهر. والثاني - وهو قول أبي إسحاق المرزوي -: أنها على قولين: أحدهما: لا يقبل قولها؛ لما ذكرناه. والثاني: أنه يقبل قولها مع يمينها؛ لأنه يجوز أن يخفى ذلك عليها، ولأن الأصل عدم علمها. وإن أقرت أنها علمت بالعتق وادعت: أنها جهلت أن لها الخيار.. فهل يقبل قولها مع يمينها؟ فيه قولان: أحدهما: لا يقبل قولها، كما لو اشترى سلعة فوجد بها عيبا وادعى: أنه لم يعلم أن له الرد.

فرع مهر المعتقة بعد اختيارها

والثاني: يقبل قولها مع يمينها؛ لأن هذا الأمر لا يعرفه إلا خواص الناس، بخلاف الرد بالعيب؛ فإن الخاص والعام يعلمه. هذا ترتيب البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا ادعت الجهالة.. فهل يقبل قولها؟ فيه قولان. واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان إذا ادعت الجهالة بالعتق، فأما إذا ادعت الجهالة بالحكم: فلا يقبل قولها قولا واحدا. ومنهم من قال: القولان إذا ادعت الجهالة بالحكم، فأما بالعتق: فيقبل قولها قولا واحدا. [فرع مهر المعتقة بعد اختيارها] وإذا اختارت فراقه، فإن كان قبل الدخول.. فلا مهر عليه لها ولا متعة؛ لأن الفرقة جاءت من جهتها. وإن اختارت بعد الدخول.. وجب عليه المهر، وأي مهر يجب عليه؟ ينظر فيه: فإن وطئها ثم أعتقت.. وجب عليه المهر المسمى؛ لأنه استقر بوطئه. وإن أعتقت ثم وطئها ثم اختارت الفسخ.. وجب عليه مهر المثل؛ لأن الفسخ يستند إلى حالة العتق، فصار كالوطء في نكاح فاسد، ويكون المهر في الحالين للسيد؛ فإنه وجب وهي في ملكه. وإن اختارت المقام، فإن كان قد سمى لها مهرا صحيحا.. كان ذلك لسيدها. وإن سمى لها مهرا فاسدا.. كان لسيدها مهر مثلها. وإن كانت مفوضة، ففرض لها المهر بعد العتق، فإن قلنا: يجب مهر المفوضة بالعقد.. كان لسيدها. وإن قلنا: يجب بالفرض.. كان لها، ويأتي بيان ذلك في موضعه.

فرع عتق قاصرة تحت عبد والصغير تبع لأبيه إذا أسلم

[فرع عتق قاصرة تحت عبد والصغير تبع لأبيه إذا أسلم] ] : وإن أعتقت الصغيرة أو المجنونة تحت عبد.. لم يكن لها أن تختار؛ لأنه لا حكم لكلامها، وليس لوليها أن يختار الفسخ؛ لأنه خيار شهوة وذلك يتعلق بشهوتها، ولزوجها أن يستمتع بها، وعليه لها النفقة إلى أن تبلغ الصغيرة أو تفيق المجنونة ويثبت لها الخيار. وهل يكون على الفور أو على التراخي؟ على الأقوال في البالغة العاقلة. قال ابن الصباغ: وكذلك إذا كان زوج الكافر ابنه الصغير من عشر نسوة، ثم أسلم الأب.. تبعه الابن في الإسلام. فإن أسلمت الزوجات.. كان النكاح موقوفا إلى أن يبلغ الزوج ويختار، وتجب عليه نفقتهن. قال: وينبغي أن يمنع من الاستمتاع بهن؛ لأن الإقرار على نكاح جميعهن لا يجوز، بخلاف الحرة تحت العبد. [فرع عتقت قبل أن تختار أو تعلم بعتق زوجها] ] : وإن لم تعلم بعتقها حتى أعتق العبد، أو قلنا: لا يبطل خيارها بالتأخير، فأعتق قبل أن تختار.. ففيه قولان: أحدهما: يسقط خيارها من الفسخ؛ لأن الخيار إنما يثبت لها لنقصه بالرق، وقد زال هذا النقص. والثاني: لا يسقط خيارها؛ لأنه حق ثبت بالرق فلا يتغير بالعتق، كما لو وجب عليه حد وهو عبد فأعتق قبل أن يقام عليه. [فرع عتقت في عدة طلاقها الرجعي] وإن كانت أمة تحت عبد فطلقها طلاقا رجعيا، فأعتقت في أثناء العدة.. فلها أن تختار الفسخ؛ لأنها في حكم الزوجات، ولأن لها في ذلك فائدة - وهي: أنها لا تأمن

فرع طلاق العبد أمته قبل اختيارها الفسخ

أن يراجعها في آخر عدتها - فإذا فسخت.. استأنفت العدة.. فإن فسخت.. انقطع النكاح. وإن اختارت المقام معه على الزوجية.. لم يكن لهذا الاختيار حكم؛ لأنها جارية إلى بينونة، فلا يصح اختيارها للنكاح، كما لو ارتد الزوج وراجع في حال العدة، فإن راجعها.. كان لها أن تختار الفسخ. وإن سكتت ولم تختر الفسخ ولا النكاح.. لم يسقط خيارها؛ لأنها لو صرحت بالمقام معه.. لم يسقط خيارها، فلأن لا يسقط خيارها بسكوتها أولى. [فرع طلاق العبد أمته قبل اختيارها الفسخ] ] : وإن أعتقت أمة تحت عبد فطلقها قبل أن تختار الفسخ.. ففيه قولان: أحدهما: أن الطلاق موقوف، فإن اختارت الفسخ.. لم يقع طلاقه. وإن لم تختر الفسخ.. وقع طلاقه؛ لأن في إيقاعه إسقاطا لما ثبت لما من الفسخ، وذلك سابق لطلاقه. والثاني: يقع عليها طلاقه؛ لأنه طلاق صادف زوجية صحيحة، فوقع كما لو طلقها قبل العتق. وقال الشيخ أبو حامد: ولأنه لا خلاف أن الزوجة إذا وجدت بالزوج عيبا.. يثبت به لها الفسخ، فطلقها قبل أن تفسخ. نفذ طلاقه، فكذلك هذا مثله. [فرع فسخ المعتقة إذا زوجها سيدها أثناء مرض موته أو بوصيته] وإن كان لرجل أمة قيمتها مائة درهم، وله مائة درهم أخرى، وزوج الأمة بمائة درهم، فأعتقها في مرض موته، أو أوصى بعتقها فأعتقت قبل الدخول، ولا يملك السيد غير ذلك.. لم يثبت لها الفسخ؛ لأنها لو فسخت.. لسقط مهرها، وإذا سقط مهرها.. لم ينفذ العتق في جميعها، وإذا لم ينفذ العتق في جميعها.. لم يثبت لها الفسخ، فكان إثبات الفسخ يؤدي إلى سقوطه فسقط الفسخ. وإن كان قد دخل بها.. ثبت لها الفسخ؛ لأنها تخرج من الثلث.

فرع عتق وزوجته أمة

[فرع عتق وزوجته أمة] وإن أعتق عبد وزوجته أمة.. ففيه وجهان: أحدهما: يثبت له الخيار في فسخ النكاح؛ لأنه صار كاملا مع نقصان زوجته، فصار بمنزلة الأمة إذا أعتقت تحت عبد. والثاني: لا يثبت له الفسخ، وهو المذهب؛ لأن رقها لا يثبت له الخيار في ابتداء النكاح، وهو: إذا تزوج حر امرأة مطلقا، ثم بان أنها أمة.. لم يثبت له الخيار، فلم يثبت له الخيار في استدامته، بخلاف الحرة، فإنها لو تزوجت برجل مطلقا، ثم بان أنه عبد.. ثبت لها الخيار في ابتداء النكاح، فثبت لها في استدامته. [فرع تزوج أمة من رجل ثم اختلفا] وإذا تزوج رجل أمة من رجل ثم اختلفا، فقال السيد: زوجتكها وأنا لا أملك تزويجها؛ لأني كنت محرما، أو محجورا علي. فقال الزوج: بل زوجتنيها وأنت تملك تزويجها.. قال ابن الحداد. فالقول قول الزوج مع يمينه. فمن أصحابنا من وافقه على ذلك؛ لأن الزوج يدعي الصحة، والسيد يدعي البطلان لمعنى قارن العقد، والأصل عدم ذلك المعنى، وسلامة العقد منه. قال هذا القائل: ولو ادعى الزوج: أنه تزوجها منه في حال الإحرام أو الحجر، أو أنه كان واجدا لطول حرة، وقال السيد: بل تزوجتها من غير إحرام ولا حجر، وكنت عادما لطول حرة.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم هذه الأشياء إلا أنها تحرم على الزوج في المستقبل؛ لأنه أقر بتحريمها عليه. ومن أصحابنا من قال: إن كان لا يعرف له حال إحرام ولا حجر.. فالقول قول من يدعي عدم ذلك. وإن عرف له حال إحرام أو حجر ولم يعلم: هل وقع ذلك في حال الإحرام أو الحجر أو في غيرهما.. ففيه قولان:

أحدهما: القول قول من يدعي نفيه؛ لأن الأصل عدمه. والثاني: القول قول من يدعي الفساد؛ لأنه ليس أحد الأمرين بأولى من الآخر والأصل عدم اللزوم. وقال القاضي أبو الطيب: والصحيح: قول ابن الحداد. وبالله التوفيق

باب نكاح المشرك

[باب نكاح المشرك] أنكحة أهل الشرك صحيحة، وطلاقهم واقع. فإذا نكح مشرك مشركة وطلقها ثلاثا.. لم تحل له إلا بعد زوج.. ولو نكح مسلم ذمية ثم طلقها ثلاثا، ثم نكحها ذمي ودخل بها وطلقها الذمي.. حلت للمسلم الذي طلقها بعد انقضاء عدتها. فيتعلق بأنكحتهم سائر الأحكام التي تتعلق بأنكحة المسلمين. وبه قال الزهري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وقال مالك رحمة الله عليه: (أنكحة أهل الشرك باطلة، فلا يتعلق بها حكم من أحكام النكاح الصحيح) . وحكاه أصحابنا الخراسانيون قولا آخر للشافعي: دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9] [القصص: 9] ، وقَوْله تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] [المسد: 1 - 4] ، فأضاف امرأتيهما إليهما، وحقيقة الإضافة تقتضي الملك. وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ولدت من نكاح لا من سفاح» ، وكان مولودا في الشرك. إذا ثبت هذا: فإن أسلم الزوجان المشركان معا، فإن كانا عند إسلامهما ممن يجوز ابتداء النكاح بينهما.. أقرا على نكاحهما الأول وإن كانا عقدا بغير ولي ولا شهود؛ لأنه أسلم خلق كثير وأقرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أنكحتهم ولم يسأل عن شروطها. وإن كانا لا يجوز لهما ابتداء عقد النكاح بينهما، بأن كانت محرمة عليه بنسب أو رضاع أو مصاهرة، أو معتدة من غيره.. لم يقرا على النكاح؛ لأنه لا يجوز لهما ابتداء النكاح، فلا يجوز إقرارهما عليه. [مسألة أسلم وزوجته كتابية أو مشركة] وإن أسلم الزوج والزوجة كتابية.. أقرا على النكاح؛ لأنه يجوز للمسلم ابتداء النكاح على الكتابية، فأقرا عليه.

وإن أسلم أحد الزوجين الوثنيين أو المجوسيين، أو أسلمت الزوجة ولم يسلم الزوج، فإن كان قبل الدخول.. انفسخ النكاح، وإن كان بعد الدخول.. وقف النكاح. فإن أسلم الكافر منهما قبل انقضاء عدة الزوجة.. أقرا على النكاح. وإن لم يسلم الكافر منهما حتى انقضت عدة الزوجة.. بانت منه من وقت إسلام المسلم منهما. ولا فرق بين أن يكون ذلك في دار الإسلام أو في دار الحرب. وبه قال أحمد. وقال مالك رحمة الله عليه: (إن كانت هي المسلمة.. فكما قلنا، وإن كان هو المسلم.. عرض عليها الإسلام في الحال، فإن أسلمت، وإلا.. انفسخ نكاحها) . وقال أبو ثور: (إن أسلم الزوج قبل الزوجة.. وقعت الفرقة بكل حال) . وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كانا في دار الحرب وكان ذلك بعد الدخول.. فالنكاح موقوف على انقضاء العدة - كقولنا - وإن كانا في دار الإسلام، فسواء كان قبل الدخول أو بعده.. فإن النكاح لا ينفسخ، بل يعرض الإسلام على المتأخر منهما، فإن أسلم.. فهما على الزوجية، وإن لم يسلم.. فرق بينهما بتطليقة. وإن لم يعرض الإسلام على المتأخر منهما وأقاما على الزوجية مدة طويلة.. فهما على النكاح) . دليلنا: ما روي عن عبد الله بن شبرمة: «أن الناس كانوا يسلمون على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الرجل قبل المرأة، والمرأة قبل الرجل، فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة.. فهما على النكاح، وإن لم يسلم حتى انقضت العدة.. فلا نكاح بينهما» ، والعدة لا تكون إلا بعد الدخول، ولم يفرق: بين أن يسلم الرجل أولا أو المرأة، وبين أن يكونا في دار الإسلام أو في دار الحرب. وإن أسلم الزوجان في حالة واحدة قبل الدخول.. لم ينفسخ نكاحهما؛ لأنه لم يسبق أحدهما الآخر.

فرع لا يفرق عندنا بين الزوجين المشركين باختلاف الدار

[فرع لا يفرق عندنا بين الزوجين المشركين باختلاف الدار] ولا تقع الفرقة - عندنا - بين الزوجين المشركين باختلاف الدار بهما، وإنما تقع باختلاف الدين على ما بيناه. وقال أبو حنيفة: (إذا اختلفت الدار بهما فعلا وحكما.. انفسخ النكاح بينهما، مثل أن تزوج ذمي ذمية ثم نقض العهد ولحق بدار الحرب، أو أسلم أحد الحربيين ودخل دار الإسلام، أو عقد الأمان لنفسه ودخل دار الإسلام.. انفسخ النكاح بينهما. وإن اختلفت الدار بهما فعلا لا حكما، أو حكما لا فعلا.. لم ينفسخ النكاح بينهما - واختلاف الفعل دون الحكم هو: أن يتزوج ذمي ذمية، ثم خرج أحدهم إلى دار الحرب في تجارة ولم ينقض ذمته، أو دخل الحربي دار الإسلام ولم يعقد لنفسه ذمة ولا أمانا. واختلاف الدار بينهما حكما لا فعلا هو: أن يسلم أحد الزوجين الحربيين ويقيم في دار الحرب - فلا ينفسخ النكاح بينهما) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قصد مكة عام الفتح.. نزل بمر الظهران، وكان ذلك الموضع قد صار دار إسلام؛ لغلبة رسول الله عليه وسلم عليه، ومكة دار كفر؛ لغلبة الكفار عليها، وبينه وبين مكة مرحلة، فخرج أبو سفيان بن حرب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إليه فأسلم، وتقدم أبو سفيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى مكة قبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدخل مكة وصاح بأعلى صوته في مكة: يا معشر قريش، قد جاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجيش لا قبل لكم به! فخرجت زوجته هند وقالت: لبئس طليعة القوم أنت، وتعلقت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال، فإنه قد صبأ.. فقال لهم: لا تغرنكم هذه. قالوا: فما الحيلة؟ فقال: من دخل داري.. فهو آمن. قالوا: وما تغني دارك؟ فقال: ومن دخل المسجد الحرام.. فهو آمن، ومن ألقى سلاحه.. فهو آمن. ثم دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة

فرع الفرقة باختلاف الدين بين الزوجين

بعد ذلك، وأقامت هند على شركها، وحمل إليها خالد بن الوليد أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقرأ عليها القرآن فلم تسلم، ثم أسلمت بعد ذلك وبايعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم تزل زوجة أبي سفيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلى أن ماتت» فلو كان نكاحه قد انفسخ.. لأخبره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك ولما أقرهما عليه. وأيضا روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فتح مكة. أمن الناس كلهم إلا خمسة - وقيل إلا سبعة - منهم: صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل. فهرب عكرمة بن أبي جهل إلى الساحل، وهرب صفوان إلى اليمن، وأقامت امرأتاهما بمكة وأسلمتا، فأخذت امرأة عكرمة له أمانا من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخرجت به إليه فأسلم وعاد إلى مكة، وأخذ لصفوان الأمان فرجع إلى مكة فأقام على الشرك شهرا، وخرج مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى هوازن، ثم عاد إلى مكة فأسلم» . ولم يخبره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بأن نكاحه قد انفسخ؛ لأنه خرج إلى الطائف وهي دار حرب في شركه، وامرأته مسلمة بمكة. [فرع الفرقة باختلاف الدين بين الزوجين] فرع: [الفرقة باختلاف الدين تكون فسخا لا طلاقا] : وكل موضع حكمنا بوقوع الفرقة بين الزوجين باختلاف الدين. فإن ذلك يكون فسخا لا طلاقا. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كان المسلم هو الزوج، فعرض الإسلام عليها فامتنعت.. فرق بينهما وكان فسخا - كقولنا - وإن كانت المسلمة هي الزوجة، فعرض الإسلام على الزوج فامتنع.. فرق بينهما وكان طلاقا) .

مسألة أسلم على أكثر من أربع

دليلنا: أن كل سبب لو كان من جهة الزوج كان فسخا، فإذا كان من جهة الزوجة.. كان فسخا، كالردة. [مسألة أسلم على أكثر من أربع] إذا أسلم الرجل وتحته أكثر من أربع زوجات فأسلمن معه في العدة، أو كن كتابيات.. لزمه أن يختار أربعا منهن ويفارق ما زاد، سواء تزوجهن بعقد واحدا أو بعقود، وسواء اختار من نكحها أولا أو آخرا. وبه قال مالك، وأحمد، ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى. وقال الزهري، وأبو حنيفة، وأبو يوسف - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (لا يصح التخيير بحال، بل إن كان تزوجهن بعقد واحد.. بطل نكاح الجميع، ولا تحل له واحدة منهن إلا بعقد مستأنف. وإن تزوجهن بعقود.. لزمه نكاح الأربع الأوائل، وبطل نكاح من بعدهن) . دليلنا: ما روي: «أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أمسك أربعا، وفارق سائرهن» ولم يفرق

فرع العقد لأكثر من رجل على امرأة

وروي «عن نوفل بن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: أسلمت وعندي خمس نسوة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته، فقال: " فارق إحداهن، وأمسك أربعا " فعمدت إلى أقدمهن عندي عهدا ففارقتها» وأراد: أقدمهن صحبة. [فرع العقد لأكثر من رجل على امرأة] ] : وإن تزوج رجلان أو أكثر من امرأة في الشرك، ثم أسلموا أو تحاكموا إلينا قبل الإسلام، فإن عقدوا عليها في حالة واحدة.. بطل نكاح الجميع؛ لأنه ليس بعضهم بأولى من بعض. وإن عقدوا عليها واحدٌ بعد واحدٍ.. فالنكاح للأول، وما بعده باطل. ولا يمكن التخيير هاهنا؛ لأنا لو جعلنا الخيرة للأزواج.. لم نأمن أن يختارها كل واحد منهم، ولا سبيل إلى اتباع خيرتهم، ولا مزية لبعضهم على بعض في التقديم. ولا سبيل إلى أن تجعل الخيرة لها؛ لأن المرأة لا تملك فسخ النكاح وحله إلا بعيب، ولأنه لما لم يجز لها ابتداء العقد على النكاح.. لم يجز لها اختيار الزوج. وحكى الطبري في " العدة " وجها آخر: أنها تخير. قال: وهو اختيار القاضي

فرع أسلم وتحته أكثر من أربع زوجات

أبي الطيب، حيث قال: إن مات أحد الزوجين في الشرك ثم أسلمت مع الزوج.. بقيا على النكاح وجها واحدا. والأول هو المشهور: [فرع أسلم وتحته أكثر من أربع زوجات] وإذا أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن.. فقد ذكرنا: أنه يجب عليه أن يختار أربعا منهن؛ «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغيلان بن سلمة: " اختر أربعا» وهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب. فإن لم يختر.. أجبره الحاكم على الاختيار؛ لأنه لا يجوز له أن يمسك أكثر من أربع نسوة، ويحبسه ليختار، فإن لم يفعل.. أخرجه وضربه جلدات دون أقل الحد، فإن لم يفعل.. أعاده إلى الحبس، فإن لم يفعل.. أخرجه ثانيا ًوضربه. وعلى هذا يتكرر عليه الحبس والضرب إلى أن يختار؛ لأن هذا حق تعين عليه، فهو كما لو كان عليه دين وله مال ناضٌّ أخفاه.. فإنه يحبس ويعزر إلى أن يظهره ويقضي به الدين. ويجب عليه أن ينفق على جميعهن إلى أن يختار؛ لأنهن محبوسات عليه. فإن جن في حال الحبس.. أطلق من الحبس؛ لأنه خرج عن أن يكون من أهل الاختيار. فإذا أفاق.. أعيد إلى الحبس والتعزير. ولا ينوب الحاكم عنه في الاختيار؛ لأنه اختيار شهوة، فلم ينب عنه الحاكم. فإن قال لأربع منهن: اخترتكن، أو اخترت نكاحكن، أو اخترت حبسكن، أو أمسكتكن، أو أمسكت نكاحهن، أو ثبت نكاحكن، أو ثبت عقدكن.. لزم نكاحهن وانفسخ نكاح ما زاد عليهن. وإن قال لواحدة، أو لما زاد على أربع: فسخت نكاحكن.. انفسخ نكاحهن، ولزم نكاح الأربع الباقيات.

وإن طلق واحدة أو أربعا.. وقع عليها الطلاق، وكان ذلك اختيارا لها للزوجية؛ لأن ذلك يتضمن الاختيار؛ لأن الطلاق لا يقع إلا في زوجة. فإن قال لواحدة: فارقتك، أو اخترت فراقك.. فذكر الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: أن ذلك يكو اختياراً لفسخ نكاحها. وقال القاضي أبو الطيب: يكون ذلك اختياراً لها للزوجية، فتقع عليها الفرقة، ويعتد بها من الأربع الزوجات؛ لأن الفراق صريح في الطلاق، فلما كان الطلاق في واحدة منهن اختيارا لزوجيتها، فكذلك لفظ الفراق. قال ابن الصباغ: وهذا وإن كان مبنيا على هذا الأصل، إلا أنه مخالف للسنة، «فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لغيلان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " اختر منهن أربعا، وفارق سائرهن» ، وكذلك «حديث نوفل بن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حيث قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فارق إحداهن» ، وهذا يقتضي: أن يكون لفظ الفراق فيه صريحا، كما قلنا: إنه صريح في الطلاق، فيكون صريحا في الطلاق وفي الفسخ؛ لأنه حقيقة فيهما، ويتخصص بالموضع الذي يقع فيه. فإن كان ظاهر من واحدة منهن أو آلى منها.. لم يكن ذلك اختيارا لها؛ لأنه قد يخاطب به غير الزوجة. وإن وطئ واحدة.. ففيه وجهان: أحدهما: يكون ذلك اختيارا لها بالنكاح؛ لأن الظاهر أنه لا يطأ إلا من يختارها للنكاح، كما قلنا في البائع إذا وطئ الجارية المبيعة في حال الخيار.. فإنه فسخ للبيع. والثاني: لا يكون ذلك اختيارا لها؛ لأن ما يتعلق به استصلاح النكاح، لا يكون بالوطء، كالرجعة. فإذا قلنا: إنه اختيار للموطوءة للنكاح، فوطئ أربعا منهن.. لزم نكاحهن، وانفسخ نكاح البواقي.

فرع تعليق النكاح أو فسخه على صفة لأكثر من زوجة

وإذا قلنا: لا يكون اختيارا للنكاح.. قلنا له: اختر أربعا، فإن اختار الموطوءة.. فلا شيء عليه.. وإن اختار أربعا غير الموطوءة.. لزمه للموطوءة مهر مثلها. [فرع تعليق النكاح أو فسخه على صفة لأكثر من زوجة] ] : وإن قال: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت نكاحها.. لم يصح؛ لأن الاختيار كابتداء النكاح، فلا يجوز تعليقه على الصفة. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن قال: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها.. لم يكن شيئا إلا أن يريده طلاقا) . وجملة ذلك: أن الرجل إذا أسلم وتحته أكثر من أربع زوجات، فقال: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها، فإن أراد به الفسخ.. لم يصح؛ لأن الفسخ لا يصح تعليقه بالصفات، فهو كما لو أسلمن وقال لكل واحدة: إذا طلعت الشمس فقد فسخت نكاحك. وإن نوى به الطلاق أو قال: كلما أسلمت واحدة منكن فهي طالق.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال بظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يصح ذلك؛ لأن الطلاق يصح تعليقه على الصفات. فإذا أسلم أربع منهن.. وقع عليهن الطلاق، وكان ذلك اختيارا بزوجيتهن. ومنهم من قال: لا يصح، ولا يتعلق بهذا حكم. قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب؛ لأن هذا يتضمن اختيارا للزوجية، والاختيار لا يصح تعليقه بالصفة. أحدهما: أنه أراد إذا أسلم الرجل وليس عنده إلا أربع زوجات حرائر وتأخر إسلامهن، فقال: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها، فإن أراد به الفسخ.. لم يصح؛ لأن الفسخ لا يصح إلا فيمن تفضل على الأربع. وإن أراد به

فرع أسلم وأسلمن والاختيار حال الردة أو الإحرام

الطلاق.. صح؛ لأنه يلزمه نكاح جميعهن، والطلاق يصح تعليقه بالصفات. والتأويل الثاني: أنه أراد إذا أسلم وتحته أكثر من أربع زوجات، فكلما أسلمت واحدة منهن قال لها: فسخت نكاحك، ونوى به الطلاق.. فيصح ذلك، ويكون طلاقا أو اختيارا لها. فيكون الشرط من كلام الشافعي لا من كلام الزوج. والتأويل الثالث: أنه أراد إذا أسلم رجل وعنده ثمان زوجات، فأسلم أربع منهن، فأختار نكاحهن.. لزم نكاحهن، ثم قال بعد ذلك للباقيات: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاح واحدة من زوجاتي اللاتي اخترت نكاحهن، فإن أراد به الفسخ.. لم يصح، وإن أراد به الطلاق.. صح به، فكلما أسلمت واحدة من الباقيات.. طلقت واحدة من الزوجات. قال ابن الصباغ: والطريقة الأولى أظهر، والتأويل يبعد؛ لأن الطلاق يصح تعليقه بالصفات، والاختيار تابع. [فرع أسلم وأسلمن والاختيار حال الردة أو الإحرام] وأن أسلم وأسلمن، ثم ارتد.. لم يصح اختياره. وكذلك: إذا رجعن إلى الردة.. لم يصح اختياره لواحدة منهن؛ لأن الردة تنافي ابتداء النكاح، فكذلك الاختيار. وأن أسلم وأحرم.. فالمنصوص: (أنه يصح اختياره) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يصح اختياره، كما لا يصح نكاحه. والثاني: يصح اختياره، كما تصح رجعته. ومنهم من قال: إن أسلم وأحرم ثم أسلمن.. لم يصح اختياره، كما لا يصح نكاحه.

مسألة أسلم وزوجاته أكثر من أربع ومات قبل الاختيار

وإن أسلم وأسلمن ثم أحرم.. صح اختياره؛ لأن الإحرام طرأ بعد ثبوت الاختيار. [مسألة أسلم وزوجاته أكثر من أربع ومات قبل الاختيار] ] : وإن أسلم رجل حر وتحته أكثر من أربع زوجات حرائر وأسلمن معه، فمات قبل أن يختار أربعا.. فإن الوارث لا يقوم مقامه في الاختيار؛ لأنه اختيار شهوة، والوارث لا ينوب منابه في الشهوة، فيلزمهن العدة. فإن كن حوامل.. لم تنقض عدتهن إلا بوضع الحمل؛ لأن من كانت منهن زوجة.. فهي متوفى عنها زوجها، وعدة المتوفى عنها زوجها تنقضي بوضع الحمل. ومن لم تكن منهن زوجة.. فهي موطوءة بنكاح فاسد وعليها العدة، ولا تنقضي عدتها إلا بوضع الحمل. وإن كن حوائل، فإن كن من ذوات الشهور.. لم تنقض عدتهن إلا بأربعة أشهر وعشرٍ؛ لأن من كانت منهن زوجة.. فعدتها عدة المتوفى عنها زوجها: أربعة أشهر وعشر. ومن لم تكن منهن زوجة.. فهي موطوءة بشبهة، فعدتها ثلاثة أشهر، ولا تتعين الزوجات من غيرهن، فلزمهن أربعة أشهر وعشر؛ ليسقط الفرض بيقين. وإن كن من ذوات الأقراء.. لزم كل واحدة أن تعتد بأقصى الأجلين: من أربعة أشهر وعشرٍ، أو ثلاثة أقراء؛ لأن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر، وعدة الموطوءة بشبهة ثلاثة أقراء، فإن انقضت الأربعة الأشهر والعشر قبل مضي ثلاثة أقراء.. لزمها استكمال ثلاثة أقراء، وإن انقضت ثلاثة أقراء قبل مضي أربعة أشهر وعشرٍ.. لزمها استكمال أربعة أشهر وعشر؛ ليسقط الفرض بيقين، كما قلنا فيمن نسي صلاة من خمس صلوات لا يعرفها بعينها. وإن كان بعضهن حوامل، وبعضهن من ذوات الشهور، وبعضهن من ذوات الأقراء.. لزم كل واحدة حكم نفسها فيما ذكرناه من ذلك، ويوقف لهن من ماله ميراث أربع زوجات، وهو: الربع مع عدم الولد، أو الثمن مع الولد؛ لأن فيهن أربع

زوجات بيقين. وإن لم يعرفهن بأعيانهن، فإن اصطلحن فيه على التساوي، فإن كن ثماني نسوة فأخذت كل واحدة منهن ثمن الموقوف، أو تفاضلن فيه برضائهن.. صح. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن كان فيهن مولى عليها: إما صغيرة أو مجنونة.. لم يصح لوليها أن يصالح عنها بأقل من ثمن الموقوف) ؛ لأنها تستحق هذا القدر في الظاهر، فلا يجوز أن يصالح عنها على أقل منه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الأم) : (فإن جاءت منهن واحدة إلى الحاكم تطلب حقها من الميراث.. لم يدفع إليها شيئا؛ لأنه يمكن أن لا تكون زوجته. وكذلك: إن جاء اثنتان أو ثلاث أو أربع. فإن جاء خمس.. دفع إليهن ربع الموقوف؛ لأنا نتيقن أن فيهن زوجة بيقين) . قال أكثر أصحابنا: إلا أنه لا يدفع إليهن ذلك إلا بشرط أنه لم يبق لهن حق في الباقي من الموقوف؛ ليمكن صرفه إلى الثلاث الباقيات إن طلبنه؛ لأنه إذا لم يشرط عليهن ذلك.. كان حقهن متعلقا به فيؤدي إلى أن يأخذن نصيب زوجة بيقين، وحقهن في الباقي. وكذلك: إن جاء ست.. دفع إليهن نصف الموقوف بهذا الشرط، ودفع الباقي إلى الأخريين إن طلبتاه. وإن جاء سبع منهن.. دفع إليهن ثلاثة أرباع الموقوف بهذا الشرط، ودفع الباقي منه إلى الثامنة إن طلبت ذلك. قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر، وذلك أن من يعطى من الميراث اليقين.. لا يسقط بذلك حقه مما يجوز أن يستحقه، كم لو خلف زوجة وحملا.. فإنا نعطي الزوجة اليقين، ونوقف الباقي ولا يسقط حقها منه. وإن أسلم وتحته أربع زوجات كتابيات، وأربع وثنيات، فأسلمن الوثنيات معه، ثم مات قبل أن يختار.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يوقف شيء من تركته، بل يدفع الجميع إلى باقي ورثته؛ لأنه ما يوقف إلا ما يتيقن استحقاقه على باقي الورثة ويجهل من يستحقه، وهاهنا يجوز أن تكون الزوجات هن الكتابيات.

مسألة أسلم على أختين أو غيرهما

والثاني: أنه يوقف؛ لأنه لا يجوز أن يدفع إلى باقي الورثة إلا ما يتحقق أنهم يستحقونه، وهاهنا يجوز أن تكون المسلمات هن الزوجات. [مسألة أسلم على أختين أو غيرهما] ] : وإن أسلم رجل وعنده أختان فأسلمتا معه.. اختار إحداهما؛ لما روي: «أن رجلا - يقال له الديلمي أو ابن الديلمي - أسلم على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه أختان، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اختر أيتهما شئت، وفارق الأخرى» . وكذلك: إذا أسلم وعنده امرأة وعمتها، أو امرأة وخالتها وأسلمتا معه.. اختار إحداهما؛ لأنه لا يجوز له الجمع بينهما، فهما كالأختين. [فرع أسلم على امرأة وابنتها وأسلمتا معه باعتبار الدخول] وإن أسلم رجل وعنده امرأة وابنتها، سواء عقد بهما في عقد واحد، أو عقد بإحداهما بعد الأخرى، فإن لم يدخل بواحدة منهما وكانتا كتابيتين أو وثنيتين وأسلمتا معه في حالة واحدة.. ففيها قولان: أحدهما: أنه يلزمه نكاح البنت، وينفسخ نكاح الأم - وهو اختيار المزني - لأن النكاح في حال الشرك صحيح، ولهذا قال - لو جمع بين أختين -: كان له أن يختار أيتهما شاء. وإذا صح العقد على البنت.. حرمت أمها على التأبيد، وقد وجد العقد على البنت، فوجب أن تحرم أمها. والثاني: له أن يختار أيتهما شاء، وهو الأصح؛ لأن العقد في الشرك لا يحكم بصحته إلا بانضمام الاختيار إليه في حال الإسلام.

فرع تزوج أما وابنتها وبنت بنتها وأسلموا

وقال الشيخ أبو حامد: ولهذا لو تزوج بعشر نسوة فاختار أربعا منهن.. لم يجب للباقيات مهر ولا متعة ولا نفقة، ولا عدة عليهن، ولا يلحقه من جهتهن نسب، كأنه لم يعقد عليهن. فإذا اختار الأم.. صار كأنه لم يعقد على الابنة. فعلى هذا: إن اختار الابنة.. حرمت عليه الأم على التأبيد. وإن اختار الأم حرمت عليه البنت تحريم جمع، فإن دخل بها.. حرمت البنت عليه على التأبيد. وإن ماتت الأم أو طلقها قبل الدخول.. جاز له أن ينكح البنت. وإن كان قد دخل بهما.. حرمتا عليه على التأبيد. أما البنت: فحرمت عليه بدخوله بالأم. وأما الأم: فإن قلنا: إنها تحرم عليه بالعقد على البنت.. فقد حرمت عليه بعلتين: بالعقد على البنت، وبالدخول بها. وإن قلنا: لا تحرم عليه بالعقد على البنت.. حرمت عليه بعلة واحدة، وهي: الدخول بالبنت. وإن كان قد دخل بالبنت دون الأم.. لزمه نكاح البنت، وحرمت عليه الأم على التأبيد بعلتين في أحد القولين، وبعلة في الآخر. وإن كان قد دخل بالأم دون البنت.. حرمت عليه البنت على التأبيد. وأما الأم: فإن قلنا: إنها تحرم عليه بالعقد على البنت.. حرمت عليه أيضا. وإن قلنا: لا تحرم عليه بالعقد على البنت.. لزمه نكاح الأم. [فرع تزوج أما وابنتها وبنت بنتها وأسلموا] وإن تزوج رجل امرأة وابنتها وأسلمتا قبله، أو أسلم قبلهما قبل الدخول.. انفسخ النكاح. وإن علم أنه أسلم مع إحداهما في حالة واحدة، ثم أسلمت الأخرى ولم تعرف بعينها.. لم يكن له أن يختار إحداهما؛ لأن المتأخرة منهما ينفسخ نكاحها، وكل واحدة منهما يشك في إباحتها له، فلا يجوز له إمساك مشكوك في تحليلها. وإن عقد النكاح على امرأة وابنتها وبنت بنتها وأسلموا معا في حالة واحدة قبل الدخول.. فعلى القولين الأولين:

فرع ملك أما وابنتها وأسلمتا معه باعتبار الوطء

أحدهما: يختار من شاء منهن. والثاني: يثبت له نكاح بنت البنت. وإن أسلم الزوج وأسلمت معه واحدة قبل الدخول، وأسلم اثنتان بعد ذلك ولم تتعين المسلمة معه.. لم يحل له إمساك واحدة منهن. وإن أسلمت معه السفلى وتأخر الأخريان.. ثبت نكاح السفلى، وانفسخ نكاح الأخريين. وإن أسلمت معه الوسطى وتأخر إسلام الأخريين.. ففيه قولان: أحدهما: له إمساكها. والثاني: ليس له إمساكها؛ لأجل عقده على ابنتها. ولو أسلمت معه الجدة وتأخرت الأخريان.. فهل له إمساكها؟ فيه قولان. وإن تزوج امرأة وابنتها، ودخل بإحداهما وأسلموا ولم يعرف المدخول بها.. قال الصيمري: انفسخ نكاحهما معا. [فرع ملك أما وابنتها وأسلمتا معه باعتبار الوطء] وإذا ملك المشرك أما وابنتها فأسلم وكانتا كتابيتين أو مجوسيتين أو وثنيتين، فأسلمتا معه، فإن كان قد وطئهما.. حرم عليه وطؤهما على التأبيد، ولكنه يستديم ملكه عليهما. وإن لم يطأ واحدة منهما.. كان له أن يطأ أيتهما شاء.. فإن وطئ الأم.. صارت فراشا له، وحرم عليه وطء البنت على التأبيد. وكذلك: إذا وطئ البنت.. حرمت عليه الأم على التأبيد. وإن وطئ إحداهما في الشرك.. صارت فراشا له، وحرم عليه وطء الأخرى على التأبيد. [فرع تزوج أختين أو غيرهما وأسلمتا معه قبل الدخول] إذا تزوج أختين في حال الشرك وأسلم وأسلمتا معه قبل الدخول، في حالة واحدة، أو كانتا كتابيتين.. فإن له أن يختار أيتهما شاء للنكاح. فإذا اختار إحداهما للنكاح.. حرمت عليه الأخرى تحريم جمع، وهل يجب عليه لها مهر؟

قال ابن الحداد: إن كان قد سمى لها مهرا حلالا.. وجب لها نصفه، وسقط عنه نصفه. وإن كان قد سمى لها مهرا حراما، كالخمر والخنزير ولم تقبضه.. وجب لها نصف مهر المثل. وكذلك: لو كان عنده امرأة وعمتها، أو امرأة وخالتها وأسلمتا معه قبل الدخول، في حالة واحدة، أو كانتا كتابيتين.. فله أن يختار إحداهما، وحكم المهر على ما مضى. فأما إذا تقدم إسلامه على إسلامهما أو على إسلام إحداهما، أو تقدم إسلامهما على إسلامه أو إسلام إحداهما.. لم يخير بينهما، بل ينفسخ النكاح بينه وبين التي اختلف إسلامه وإسلامها. وخالفه أبو بكر القفال المروزي ـ من أصحابنا ـ وقال: إذا أسلم أو أسلمتا معه قبل الدخول، في وقت واحد، أو كانتا كتابيتين، واختار إحداهما للنكاح وفارق الأخرى، فإن قلنا: إن أنكحة المشركين صحيحة.. كان للتي فارقها نصف المهر ـ كما قال ابن الحداد ـ وإن قلنا: إن أنكحتهم فاسدة إلا ما انضم إليه الاختيار.. لم يجب عليه للتي فارقها شيء؛ لأنها تكون باختياره لفراقها بمنزلة من لم يعقد عليها. قال القاضي أبو الطيب: والصحيح: ما قال ابن الحداد؛ لأنه جعل الاختيار إليه، فإذا اختار أربعا ممن زاد عليهن أو اختار إحدى الأختين.. فنكاح التي اختارها للنكاح صحيح. ومن اختار منهن للفسخ.. فإنها لا تصير بمنزلة من لم يعقد عليها باختياره؛ لأنه قد كان يمكنه أن يختارها للنكاح، فإذا اختارها للفسخ.. صار كأنه طلقها، فيجب لها نصف المهر. وأما إذا أسلم وعنده امرأة وابنتها وأسلمتا معه في حالة واحدة قبل الدخول، أو كانتا كتابيتين.. قال ابن الحداد: فإن قلنا: إن أنكحة المشركين صحيحة ـ وهو اختيار ابن الحداد والقاضي أبي حامد وأبي إسحاق المروزي ـ فإنه يلزمه نكاح البنت، ويبطل نكاح الأم، ولا يلزمه للأم شيء؛ لأن بطلان نكاحها لم يكن باختياره. وإن قلنا: إن أنكحة المشركين باطلة، وإنما يحكم بصحتها إذا انضم إليها الاختيار ـ وهو اختيار الشيخين: أبي حامد وأبي إسحاق ـ فإن له أن يختار أيتهما شاء للنكاح، فإذا اختار

فرع حرمة مصاهرة الكفار

إحداهما للنكاح.. لزمه للتي اختار فسخ نكاحها نصف المهر. هذا قول ابن الحداد. وقال القفال: بل الأمر على عكس هذا. وقال: بل إذا قلنا: إن أنكحتهم صحيحة.. ثبت نكاح البنت، وانفسخ نكاح الأم، ولزمه لها نصف المهر؛ لأننا صححنا نكاح الأم والبنت وقد وقعت الفرقة بينه وبين الأم قبل الدخول من غير صنع لها، فوجب لها نصف المهر. وإن قلنا: إن أنكحتهم فاسدة فاختار إحداهما للنكاح.. انفسخ نكاح الأخرى، ولم يجب لها عليه شيء. قال القاضي أبو الطيب: والصحيح: قول ابن الحداد؛ لأنا وإن قلنا: إن أنكحتهم فاسدة.. فإنما يحكم بفساد من اختار فسخ نكاحها، وذلك كان باختياره، إذ لو أمسكها.. لكان له ذلك. [فرع حرمة مصاهرة الكفار] فرع: [ثبوت حرمة مصاهرة الكفار] : حرمة المصاهرة: هل تثبت بأنكحتهم؟ قال المسعودي [في " الإبانة "] : إن قلنا: إن أنكحتهم صحيحة.. ثبتت، وإن قلنا: إنها باطلة.. لم تثبت. [فرع طلاق المشركة البائن] قال المسعودي [في " الإبانة "] : لو طلق المشرك امرأته قبل الإسلام ثلاثا.. هل تحل له قبل أن تنكح زوجا غيره؟ إن قلنا: إن أنكحتهم صحيحة.. لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره. وإن قلنا: إنها فاسدة.. فالقياس: أنها تحل له. وفيه وجه آخر: أنها لا تحل له. وعامة أصحابنا قالوا: لا تحل له من غير تفصيل. وقد مضى في أول الباب.

مسألة تزوج وثني بأختين أو بثمان وطلق ثلاثا ثلاثا

[مسألة تزوج وثني بأختين أو بثمان وطلق ثلاثا ثلاثا] قال ابن الحداد: إذا تزوج وثني أختين وطلقهما ثلاثا ثلاثا، ثم أسلم وأسلمتا معه، وأراد أن يتزوج إحداهما قبل أن تنكح زوجا غيره، أو أسلم وأسلمتا معه قبل أن يطلقهما، ثم طلقهما ثلاثا ثلاثا، ثم أراد أن يتزوج إحداهما قبل أن تنكح زوجا غيره.. قيل له: من كنت تختار للنكاح منهما لو لم تطلقهما؟ فإذا أشار إلى إحداهما.. حل له أن يعقد على الأخرى قبل أن تنكح زوجا غيره. واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: أخطأ في الأولى منهما وأصاب في الأخرى ـ وهو اختيار ابن الصباغ ـ وقال: إذا طلقهما في حال الشرك ثلاثا ثلاثا.. لم تحل له إحداهما؛ لأن الطلاق في الشرك عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - صحيح. فأما إذا أسلموا ثم طلقهما.. فالحكم كما قال ابن الحداد. وقال القاضي أبو الطيب: بل الحكم فيهما واحد، كما قال ابن الحداد؛ لأن المشرك إذا زاد على ما يجوز في الشرع.. كان النكاح باطلا. وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أنه: (إذا أسلم عن عشر نسوة وأسلمن معه.. فإنه يختار منهن أربعا، ويفارق سائرهن، فإذا اختار أربعا منهن ولم يكن دخل بهن.. لم يكن لغيرهن مهر ولا متعة) . قال ابن الصباغ: والصحيح عندي: ما ذكره الراد عليه، وهو: أنه إنما يراعى إذا بقي النكاح إلى حالة الإسلام، فأما ما أوقعه من الطلاق في الشرك: فإنه يمضي عليه. وعندي: أن الذي قاله ابن الحداد في الثانية إنما يصح إذا طلق الأختين بكلمة واحدة ثلاثا، فأما إذا أسلم وأسلمتا معه فطلق كل واحدة منهما ثلاثا، إحداهما بعد الأخرى.. فإن طلاقه للأولى اختيار منه لنكاحها، فلا تحل له إلا بعد زوج، وتحل له الثانية قبل زوج على ما ذكره.

مسألة أسلم حر وعنده أربع إماء وأسلمن بعد الدخول

قال ابن الصباغ: إذا أسلم عن ثمان نسوة وأسلمن معه، فطلق كل واحدة منهن ثلاثا.. قيل له: اختر منهن أربعا، فإذا اختار أربعا.. وقع عليهن الطلاق، وحل له نكاح الباقيات؛ لأنه بان بالاختيار أن الزوجات غيرهن. وعندي: أن هذا الذي قاله ابن الصباغ إنما يصح إذا وقع الطلاق على الثماني بكلمة واحدة، فأما إذا طلق واحدة بعد واحدة، أو طلق أربعا ثم أربعا.. فإن الأربع المطلقات أولا يتعين للزوجية، ويقع بهن الطلاق، ولا تحل له واحدة منهن إلا بعد زوج، فإذا أراد أن ينكح الأربع المطلقات آخراً قبل أن يتزوجن بغيره.. كان له ذلك. [مسألة أسلم حر وعنده أربع إماء وأسلمن بعد الدخول] ] : إذا أسلم الحر وعنده أربع زوجات إماء وأسلمن معه بعد الدخول، فإن كان عادما لطول حرة، خائفا من العنت.. لزمه أن يختار واحدة منهن. وإن كان واجدا لطول حرة، أو آمنا من العنت.. لم يجز له أن يختار واحدة منهن. وقال أبو ثور: (له أن يختار واحدة منهن بكل حال؛ لأن الاختيار ليس بابتداء نكاح، وإنما هو كالرجعة) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لا يجوز له نكاح الأمة، فلا يحل له اختيار نكاحها، كالمعتدة. إذا ثبت هذا: فإن أسلم وهو موسر، فلم يسلمن حتى أعسر.. فله أن يختار واحدة منهن اعتبارا بوقت اجتماع إسلامه بإسلامهن. وإن أسلم وهو معسر، ولم يسلمن حتى أيسر.. لم يكن له أن يختار واحدة منهن. وإن اجتمع إسلامه وإسلام بعضهن وهو موسر واجتمع إسلامه وإسلام بعضهن وهو معسر.. فله أن يختار ممن اجتمع إسلامه وإسلامهن في حال إعساره دون يساره.

وإن أسلم وأسلمت واحدة منهن، وتخلف ثلاث في الشرك.. فله أن يختار المسلمة، وله أن ينتظر إسلام الثلاث الباقيات؛ لأنه قد يكون له غرض في ذلك. فإن اختار نكاح المسلمة.. لزم نكاحها. فإن لم يسلمن الباقيات حتى انقضت عدتهن.. انفسخ نكاحهن من وقت إسلامه، وكان ابتداء عدتهن من ذلك الوقت. وإن أسلمن قبل انقضاء عدتهن.. انفسخ نكاحهن من وقت اختياره للأولى، وكان ابتداء عدتهن من ذلك الوقت. فإن ماتت المسلمة بعد اختيار نكاحها.. فليس له أن يختار واحدة من الباقيات. وإن لم يختر المسلمة الأولى.. نظرت: فإن لم تسلم الباقيات حتى انقضت عدتهن.. لزمه نكاح المسلمة، وانفسخ نكاح الباقيات من وقت إسلامه، وابتداء عدتهن من ذلك الوقت. وإن أسلمن قبل انقضاء عدتهن.. فله أن يختار نكاح من شاء من الأربع، فأيتهن اختار نكاحها.. لزمه نكاحها، وانفسخ نكاح الباقيات من وقت اختياره، وابتداء عدتهن من ذلك الوقت. وهكذا: لو أسلم وتحته ثمان نسوة دخل بهن، وأسلم منهن أربع، وتخلف أربع.. فله أن يختار نكاح الأربع المسلمات، وله أن ينتظر إسلام الباقيات. فإذا اختار.. كان الحكم في وقت الفسخ، ووقت العدة ما ذكرناه في التي قبلها. فإن طلق الأمة المسلمة، أو الأربع الحرائر المسلمات قبل إسلام الباقيات.. صح طلاقه، وكان ذلك اختيارا لمن طلق. وإن أراد أن يفسخ نكاح المسلمة أو الأربع المسلمات قبل إسلام الباقيات.. لم يكن له ذلك؛ لأن الفسخ إنما يكون فيمن فضل عمن يلزمه نكاحها، ويجوز أن لا تسلم الباقيات، فيلزمه نكاح من قد أسلم. فإن خالف وفسخ نكاح من أسلم.. نظرت: فإن لم تسلم الباقيات.. لم يصح الفسخ، ولزمه نكاح من فسخ نكاحها. وإن أسلم الباقيات.. نظرت: فإن اختار نكاح واحدة من الثلاث الإماء، أو نكاح الأربع الحرائر المسلمات آخراً.. لزمه نكاح من اختار نكاحها، وانفسخ نكاح الباقيات. وإن اختار نكاح الأمة المسلمة، أو الأربع الحرائر أولا.. ففيه وجهان.

مسألة تزوج مشرك أربع إماء وحرة وأسلموا أو تخلفت الحرة

أحدهما: يصح اختياره؛ لأن فسخه الأول لم يحكم بصحته. والثاني: لا يصح؛ لأنا إنما لم نحكم بصحة فسخه؛ لأنها لم تكن فاضلة عمن يلزمه نكاحها، وبإسلام الباقيات صار من فسخ نكاحها فاضلة. والأول أصح. [مسألة تزوج مشرك أربع إماء وحرة وأسلموا أو تخلفت الحرة] وإن تزوج حر مشرك أربع إماء وحرة، فأسلم وأسلمن الإماء والحرة معه.. لزمه نكاح الحرة، وانفسخ نكاح الإماء؛ لأنه لا يجوز للحر نكاح الأمة مع الحرة. فإن ماتت الحرة بعد أن أسلمت.. لم يكن له أن يختار واحدة من الإماء؛ لأنها ماتت بعد لزوم نكاحها. وإن أسلم الإماء وتخلفت الحرة.. لم يكن له أن يختار واحدة من الإماء قبل انقضاء عدة الحرة. فإن أسلمت الحرة قبل انقضاء عدتها.. لزمه نكاحها، وانفسخ نكاح الإماء. وإن انقضت عدتها قبل أن تسلم.. انفسخ نكاح الحرة، وكان له أن يختار نكاح واحدة من الإماء، إن كان ممن يجوز له نكاح الأمة. فإن طلق الحرة قبل إسلامها.. نظرت: فإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. تبينا أنها كانت زوجة له وقت الطلاق، ووقع عليها الطلاق. وإن انقضت عدتها قبل أن تسلم.. تبينا أنها لم تكن زوجة له، ولم يقع عليها الطلاق. فإن أسلم وأسلمت الإماء ثم أعتقن، وتخلفت الحرة في الشرك، فإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. لزمه نكاحها، وانفسخ نكاح الإماء. وإن لم تسلم حتى انقضت عدتها.. لزمه أن يختار نكاح واحدة من الإماء اعتبارا بحال اجتماع إسلامه وإسلامهن. فإن اختار نكاح واحدة من الإماء قبل إسلام الحرة.. فقد فعل ما ليس له فعله؛ لأنه لا يصح اختياره لها في هذه الحالة. فإن أسلمت الحرة قبل انقضاء عدتها.. لزمه نكاحها، وانفسخ نكاح الباقيات. وإن لم تسلم حتى انقضت عدتها.. لزمه أن يختار

مسألة تزوج العبد بأربع إماء ثم أسلم وأسلمن

واحدة من الإماء، فإن اختار نكاح التي اختارها أولا.. لزمه نكاحها. وإن اختار نكاح غيرها.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه نكاح التي اختارها أولا دون غيرها، وهو ظاهر النص؛ لأنا إنما لم نحكم بصحة اختياره الأول مراعاة لإسلام الحرة، فإذا انقضت عدتها قبل أن تسلم.. تبينا أن الاختيار كان صحيحا. والثاني: لا يلزمه نكاح التي اختارها أولا، ويلزمه نكاح التي اختارها ثانيا؛ لأن الاختيار الأول وجد قبل وقته. وإن أسلم ثم أعتق الإماء ثم أسلمن وتخلفت الحرة، أو أعتقن ثم أسلمن ثم أسلم، أو أسلمن ثم أعتقن ثم أسلم وتخلفت الحرة.. فله أن يختار نكاح الأربع المعتقات اعتبارا بحال اجتماع إسلامه وإسلامهن، وله أن ينتظر إسلام الحرة، فإن انقضت عدتها قبل إسلامها.. بانت باختلاف الدين، ولزمه نكاح الأربع المعتقات. وإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. لزمه أن يختار منهن أربعا. هكذا ذكره الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والقاضي أبو الطيب في " المجرد ". قال ابن الصباغ: وعندي أنه لا معنى لتأخير اختياره الكل؛ لأنه لا بد أن يلزمه نكاح ثلاث منهن، فلزمه أن يختار نكاح ثلاث من المعتقات. وإن اختار نكاح ثلاث من المعتقات قبل إسلام الحرة، فإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. لزمه أن يختار نكاحها، أو نكاح الباقية من المعتقات. وإن انقضت عدتها قبل إسلامها.. بانت من وقت إسلام الزوج، ولزمه نكاح الأربع المعتقات. [مسألة تزوج العبد بأربع إماء ثم أسلم وأسلمن] وإن تزوج العبد المشرك أربع زوجات ثم أسلم وأسلمن معه.. لزمه أن يختار اثنتين؛ لأنه لا يجوز للعبد أكثر من اثنتين. فإن عتق بعد ذلك.. لم يكن له أن يختار غير اثنتين؛ لأن العتق طرأ بعد ثبوت الاختيار. فإن اختار اثنتين منهن، وأراد أن يتزوج الأخريين بعقد جديد.. كان له ذلك.

مسألة أسلم عبد على حرائر وإماء أو على إماء فأسلمن وتخلف

وإن أسلم وأسلم معه اثنتان، ثم أعتق، ثم أسلم الباقيات.. لم يكن له أن يختار أكثر من اثنتين؛ لأن الاعتبار بحال الاختيار وهو عند إسلامه، فتغير حاله بعد ذلك لا يؤثر، كما لو أسلم الحر وتحته إماء وأسلمن معه وهو معسر ثم أيسر قبل أن يختار.. فإن له أن يختار واحدة منهن. فإن أسلم وأعتق ثم أسلمن، أو أسلمن وأعتق ثم أسلم.. لزمه نكاح الأربع اعتبارا بحال اجتماع إسلامه وإسلامهن. [مسألة أسلم عبد على حرائر وإماء أو على إماء فأسلمن وتخلف] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو كان عند عبد إماء وحرائر مسلمات أو كتابيات، فلم يخترن فراقه.. أمسك اثنتين) . وجملة ذلك: أن العبد إذا نكح في الشرك أمتين مشركتين، وحرتين وثنيتين، وحرتين كتابيتين، ثم أسلم وأسلم معه الأمتان والوثنيتان، وأقام الكتابيتان على الشرك.. فإقامتهما لا تأثير لها؛ لأن استدامة نكاحهما جائزة مع كفرهما، وله أن يختار اثنتين ممن شاء منهن. فأما الأمتان: فلا خيار لهما؛ لأنهما مساويتان له. وأما الحرتان المسلمتان والكتابيتان: فظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يدل على: أن لهن الخيار في فسخ النكاح. واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لهن الخيار؛ لأن الرق ليس بنقص في الكفر؛ لأن حال العبد عند المشركين كحال الحر في سائر الأحكام، وإنما هو نقص في الإسلام. ومن أصحابنا من قال: لا خيار لهن؛ لأنهن دخلن في النكاح مع العلم برقه، فهو كما لو تزوجت امرأة رجلا به عيب ورضيت به، ثم أسلما. وحمل النص على الإماء إذا أعتقن.

مسألة الإماء يخيرن حين يسلمن إذا أسلم قبلهن

فإن قلنا: إن لهن الخيار، فاخترن فسخ النكاح.. لزمه نكاح الأمتين. وإن قلنا: لا خيار لهن، أو قلنا: لهن الخيار فاخترن المقام على النكاح.. لزمه أن يختار اثنتين ممن شاء منهن. وإن كان تحت العبد أربع إماء فأسلمن، وتخلف العبد في الشرك، ثم أعتقن.. فلهن فسخ النكاح؛ لأنه لا يؤمن أن يسلم قبل انقضاء عدتهن فيختار واحدة منهن، فإذا اختارت فسخ النكاح.. لزمها أن تستأنف العدة، وفي ذلك ضرر عليها. فإن لم يسلم العبد حتى انقضت عدتهن.. تبينا أنهن بن منه بإسلامهن، وأن الفسخ لا حكم له، وهل يلزمهن عدة حرة أو أمة؟ فيه قولان يأتي بيانهما. وإن أسلم قبل انقضاء عدتهن.. تبينا أن الفرقة حصلت بالفسخ ويلزمهن عدة الحرائر. وإن سكتن، ولم يخترن الفسخ ولا المقام على النكاح.. لم يتعلق بذلك حكم. فإن لم يسلم الزوج حتى انقضت عدتهن.. بن منه من وقت إسلامهن. وإن أسلم قبل انقضاء عدتهن.. فلهن أن يخترن فسخ النكاح؛ لأنهن معتقات تحت عبد، فإن اخترن فسخ النكاح.. فلا كلام. وإن لم يخترن الفسخ.. لزمه أن يختار اثنتين منهن. وإن اخترن المقام معه على النكاح.. لم يكن لهذا الاختيار حكم؛ لأنهن جاريات إلى بينونة، فيكون كما لو سكتن. [مسألة الإماء يخيرن حين يسلمن إذا أسلم قبلهن] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو لم يتقدم إسلامهن قبل إسلامه واخترن فراقه أو المقام معه.. خيرن حين أسلمن؛ لأنهن اخترن ولا خيار لهن) . وجملة ذلك: أن العبد إذا أسلم وتخلفت الإماء في الشرك فأعتقن.. فليس لهن أن يخترن المقام على النكاح؛ لأنهن جاريات إلى بينونة. وهل لهن أن يخترن الفسخ؟ اختلف أصحابنا فيه:

مسألة أسلم وثمان زوجات على دفعتين ومات بعضهن

فذهب أبو الطيب بن سلمة إلى: أنه لا يجوز لهن اختيار الفسخ، وهو ظاهر ما نقله المزني؛ لأنهن جاريات إلى بينونة، ولا غرض لهن في الفسخ؛ لأن أمر النكاح هاهنا موقوف على إسلامهن، وفي التي قبلها أمر النكاح موقوف على إسلام الزوج. وقال أكثر أصحابنا: لهن أن يخترن الفسخ كالتي قبلها؛ لأن الإسلام واجب عليهن في كل حال. وأنكر أبو إسحاق ما نقله المزني. ومنهم من قال: له تأويلان: أحدهما: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر اختيار الفسخ والمقام، ثم أجاب عن اختيار المقام خاصة. والثاني: أنهن قلن: قد اخترنا فراقه أو المقام، ولم يعين اختيارهن لأحد الأمرين. [مسألة أسلم وثمان زوجات على دفعتين ومات بعضهن] إذا نكح الحر ثماني زوجات في الشرك، فأسلم وأسلم منهن أربع وتخلف أربع، ثم مات الأربع المسلمات أو بعضهن، ثم أسلم الأربع الباقيات قبل انقضاء عدتهن.. فله أن يختار الأربع الموتى للنكاح؛ لأن الاختيار ليس هو ابتداء عقد وإنما يتعين به من كانت زوجة. ولأن الاعتبار بالاختيار حال ثبوته وقد كن أحياء ذلك الوقت. [فرع تزوج وثنية فأسلمت وتخلف فتزوج أختها ثم أسلموا] إذا تزوج وثنية ثم أسلمت وتخلف الزوج في الشرك وتزوج أختها، فإذا أسلم بعد انقضاء عدة الأولى.. انفسخ نكاح الأولى، وثبت نكاح الثانية إن أسلمت معه قبل انقضاء عدتها. وإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدة الأولى وأسلمت معه الثانية.. اختار أيتهما شاء.

فرع أسلم وزوجاته الثمان أو تخلفن وطلق أو ظاهر أو آلى أو قذف

[فرع أسلم وزوجاته الثمان أو تخلفن وطلق أو ظاهر أو آلى أو قذف] إذا كان تحته ثمان زوجات، فأسلم وأسلمن معه، فقد قلنا: إنه إذا طلق واحدة منهن.. فإنه يكون اختيارا لزوجيتها. وإن ظاهر من واحدة، أو آلى منها، أو قذفها.. لم يكن ذلك اختيارا لها؛ لأنه قد يخاطب به غير الزوجة، فيكون ذلك موقوفا. فإن لم يختر التي ظاهر منها أو آلى.. لم يصح ظهاره ولا إيلاؤه، وإن اختارها للنكاح.. تبينا أن ظهاره وإيلاءه منها صحيح. وأما المقذوفة: فإن لم يخترها للنكاح.. وجب عليه الحد بقذفها ولا يسقط إلا بالبينة، وإن اختارها للنكاح.. تبينا أنها كانت زوجة، وله أن يسقط حد قذفها بالبينة أو باللعان. وإن أسلم وتخلفن في الشرك، فطلق واحدة منهن أو ظاهر منها أو آلى منها أو قذفها، فإن لم يسلمن حتى انقضت عدتهن.. لم يكن لطلاقه وظهاره وإيلائه حكم ويجب عليه التعزير للمقذوفة. وإن أسلمن قبل انقضاء عدتهن.. قال الشيخ أبو حامد: فإن اختار التي طلق أو ظاهر منها أو آلى.. وقع عليها الطلاق والظهار والإيلاء، ويلزمه التعزير بقذفها، وله أن يسقطه بالبينة أو اللعان. وإن لم يخترها.. فإنها أجنبية منه، فلا يقع عليها طلاق ولا ظهار ولا إيلاء، ويلزمه بقذفها التعزير، ولا يسقط إلا بالبينة. قال ابن الصباغ: وفي هذا عندي نظر، بل يجب إذا أسلمت المطلقة أن يقع عليها الطلاق، ويكون ذلك اختيارا لها؛ لأن هذا الطلاق إذا كان يقع عليها مع اختياره.. وقع عليها بإسلامها. [مسألة الزواج من المعتدة في حال الكفر] وإن تزوج معتدة من غيره، فإن أسلما قبل انقضاء عدتها من الأول.. لم يقرا على النكاح؛ لأنه لا يجوز له ابتداء نكاحها.. فلم يجز إقراره على نكاحها، كذوات محارمه. وإن أسلما بعد انقضاء عدتها من الأول.. أقرا على النكاح؛ لأنه يجوز له ابتداء نكاحها.. فأقرا عليه.

فرع نكاح المتعة بين المشرك والمشركة

[فرع نكاح المتعة بين المشرك والمشركة] وإن نكح مشرك مشركة نكاح متعة ثم أسلما.. لم يقرا عليه؛ لأنهما إن أسلما قبل انقضاء المدة التي شرطاها.. فهما لا يعتقدان لزومه بعد انقضائها، وإن أسلما بعد انقضائها.. فهما لا يعتقدان لزومه الآن. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن أبطلا بعد العقد المتعة وجعلا العقد مطلقا.. لم يؤثر ذلك؛ لأن حالما عقداه.. كانا يعتقدان أنه لا يدوم بينهما، فلا يتغير ذلك الحكم بما يطرأ من الشرط) . وهكذا: لو تزوجها على أن لهما أو لأحدهما الخيار في فسخ النكاح متى شاء، ثم أسلما.. لم يجز إقرارهما عليه؛ لأنهما لا يعتقدان لزومه. فإن اتفقا على إسقاط الشرط.. لم يؤثر ذلك، ولم يقرا عليه؛ لما ذكرناه. وإن شرطا بينهما خيار ثلاثة أيام، فإن أسلما قبل الثلاث.. لم يقرا عليه؛ لأنهما لا يعتقدان لزومه. وإن أسلما بعد الثلاث.. أقرا عليه؛ لأنهما يعتقدان لزومه. [فرع قهر حربي حربية أو ذمي ذمية فوطئها ثم أسلما] قال في " الأم ": (وإن قهر حربي حربية على نفسها فوطئها، أو طاوعته فوطئها، ثم أسلما.. لم يقرا على ذلك إذا كانا لا يعتقدان ذلك نكاحا) . قال أصحابنا: فإن اعتقدا ذلك نكاحا وأسلما.. أقرا عليه؛ لأنه نكاح عندهما. وإن قهر ذمي ذمية على نفسها فوطئها ثم أسلما.. لم يقرا عليه بكل حال؛ لأنه لا يجوز لبعض أهل الذمة أن يقهروا بعضا؛ لأن على الإمام الذب عنهم. [مسألة ردة أحد الزوجين] قبل الدخول] : إذا ارتد أحد الزوجين، فإن كان قبل الدخول.. انفسخ نكاحهما. وقال داود: (لا ينفسخ) .

فرع ارتدت الزوجة بعد الدخول فطلقها ثلاثا

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] . ولأن هذا اختلاف دين يمنع الإصابة.. فانفسخ به النكاح، كما لو أسلمت الذمية تحت كافر. وإن ارتد أحدهما بعد الدخول.. وقف النكاح على انقضاء عدة الزوجة، فإن رجع المرتد منهما إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها.. فهما على النكاح. وإن انقضت عدتها قبل أن يسلم المرتد منهما.. بانت منه بردة المرتد منهما. وبه قال أحمد رحمة الله عليه، وهي إحدى الروايتين عن مالك رحمة الله عليه. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ينفسخ النكاح في الحال) ، وهي الرواية الأخرى عن مالك. دليلنا: أن هذا اختلاف دين بعد الدخول.. فلا يوجب الفسخ في الحال، كما لو أسلمت الحربية تحت الحربي. فإن ارتدا معا، فإن كان قبل الدخول.. انفسخ النكاح بينهما. وإن كان بعد الدخول.. وقف الفسخ على انقضاء عدة الزوجة، فإن رجعا إلى الإسلام قبل انقضائها.. فهما على النكاح، وإن انقضت قبل إسلامهما.. بانت منه بالردة. وبه قال مالك وأحمد رحمة الله عليهما. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا ينفسخ العقد؛ استحسانا) . دليلنا: أنها ردة طارئة على النكاح، فوجب أن يتعلق بها فسخه، كما لو ارتد أحدهما. [فرع ارتدت الزوجة بعد الدخول فطلقها ثلاثا] إذا ارتدت الزوجة بعد الدخول فطلقها الزوج ثلاثا، فإن انقضت العدة قبل أن ترجع إلى الإسلام.. تبينا أنها بانت بالردة، ولم يقع عليها الطلاق. فإن رجعت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة.. تبينا أنها كانت زوجة وقت الطلاق، فوقع عليها.

فرع ردة الزوجة بعد الدخول وله امرأة صغيرة وحصل رضاع

وإن تزوج أختها، أو عمتها، أو خالتها بعد الطلاق.. صح بكل حال؛ لأنها إما بائن منه بالردة أو بالطلاق. وإن تزوج أختها أو عمتها بعد الردة وقبل الطلاق في العدة.. لم يصح؛ لجواز أن ترجع إلى الإسلام فتكون زوجته. [فرع ردة الزوجة بعد الدخول وله امرأة صغيرة وحصل رضاع] وإذا ارتدت زوجة رجل بعد الدخول، وله امرأة صغيرة فأرضعتها أم المرتدة قبل انقضاء عدة المرتدة خمس رضعات متفرقات، فإن رجعت المرتدة إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها.. انفسخ نكاح الصغيرة، وفي الكبيرة قولان. وإن لم ترجع إلى الإسلام.. بانت بالردة، ولم ينفسخ نكاح الصغيرة. وإن أرضعتها الكبيرة أو بنتها.. انفسخ نكاح الصغيرة بكل حال. [مسألة انتقال الكتابي إلى دين آخر] وإن انتقل اليهودي أو النصراني إلى دين لا يقر أهله عليه.. لم يقر عليه، كما لا يقر أهله عليه. وما الذي يقبل منه؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: الإسلام، أو الدين الذي كان عليه، أو دين يقر أهله عليه؛ لأن كل دين من ذلك يقر أهله عليه. والثاني: لا يقبل منه إلا الإسلام؛ لأنه الدين الحق، أو الدين الذي كان عليه؛ لأنا قد أقررناه عليه. والثالث ـ وهو الأصح ـ أنه لا يقبل منه إلا الإسلام؛ لأنه قد أعترف ببطلان كل دين، فلم يبق إلا الإسلام. فإن انتقل إلى دين يقر أهله عليه.. فهل يقر عليه؟ فيه قولان مضى توجيههما. فإن قلنا: لا يقر عليه.. فهل يقبل منه الدين الذي كان عليه أو لا يقبل منه إلا دين الإسلام؟ فيه قولان مضى توجيههما.

مسألة تزوج الكتابي بكتابية أو غيرها

وكل موضع قلنا: لا يقبل منه ما انتقل إليه.. فحكمه في النكاح حكم المرتد، وقد مضى بيانه. [مسألة تزوج الكتابي بكتابية أو غيرها] ] : إذا تزوج الكتابي بكتابية.. أقرا عليه قبل إسلامهما وبعد إسلامهما. وإن تزوج الكتابي بوثنية أو مجوسية، فإن أسلما.. أقرا عليه بلا خلاف؛ لـ: «أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة، فأسلمن معه، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يختار منهن أربعا» ، ولم يسأله: هل هن كتابيات أو غير كتابيات، فدل على: أن الحكم لا يختلف. وإن ترافعا إلينا قبل الإسلام.. ففيه وجهان: (أحدهما) : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يقران عليه؛ لأن كل نكاح لم يقر عليه المسلم.. لم يقر عليه الكتابي، كالمرتد. والثاني ـ وهو المذهب ـ: أنهما يقران عليه؛ لأن كل نكاح أقرا عليه إذا أسلما.. أقرا عليه إذا لم يسلما، كنكاح الكتابية. ويخالف المسلم؛ فإن الكافر أنقص من المسلم، فجاز له استدامة نكاح المجوسية والوثنية وإن لم يجز ذلك للمسلم، كما قلنا في العبد: يجوز له تزوج الأمة، ولا يعتبر فيه خوف العنت وعدم طول الحرة؛ لنقصه. [مسألة أسلم الزوج بعد الدخول وتخلفت زوجته أو عكسه وحكم النفقة] إذا أسلم الزوج بعد الدخول وتخلفت الزوجة.. فلا نفقة لها. وإن أسلمت الزوجة ولم يسلم الزوج.. فعليه نفقتها. فإن اختلفا، فقالت الزوجة: أسلمت أنا وأقمت أنت على الشرك، فأنا أستحق

مسألة أسلم قبلها وقبل الدخول أو اختلفا وحكم النكاح والمسمى

عليك النفقة. وقال الزوج: بل أسلمت أنا ولم تسلمي أنت، فلا نفقة لك علي.. ففيه وجهان: أحدهما: القول قول الزوجة؛ لأنه قد ثبت استحقاقها للنفقة بالزوجية، والأصل بقاؤها. والثاني: أن القول قول الزوج؛ لأن نفقة كل يوم تجب بيومه، والأصل عدم الوجوب. [مسألة أسلم قبلها وقبل الدخول أو اختلفا وحكم النكاح والمسمى] وإن أسلم الزوج قبل الزوجة، قبل الدخول.. وجب عليه نصف المسمى إن سمى لها مهرا صحيحا. وإن سمى لها مهرا باطلا ولم تقبضه في الشرك.. وجب لها نصف مهر المثل. وإن أسلمت الزوجة قبله قبل الدخول.. لم يجب لها شيء. إذا ثبت هذا: فإن اتفقا أنهما أسلما قبل الدخول، وقالا: لا نعلم السابق منا بالإسلام.. انفسخ النكاح بينهما؛ لأن الحال لا يفترق في انفساخ النكاح. وأما الصداق: فإن كان في يد الزوج.. لم تقبض منه الزوجة شيئا؛ لأنها إن كانت أسلمت أولا.. فإنها لا تستحق منه شيئا، وإن أسلم الزوج أولا.. فلها نصفه، فإذا لم يعلم على أي وجه كان.. لم يتيقن استحقاقها لشيء من المهر. وإن كان الصداق في يد الزوجة.. لم يكن للزوج أن يقبض منه إلا النصف؛ لأنه لا يتيقن أنه يستحق إلا ذلك. وإن اختلفا، فقالت الزوجة: أسلمت أنت أولا، فأنا أستحق عليك نصف الصداق. وقال الزوج: بل أسلمت أنت أولا، فلا تستحقين علي شيئا.. فالقول قول الزوجة مع يمينها؛ لأنا تيقنا استحقاقها لنصف المهر، والأصل بقاء ذلك الاستحقاق. وإن اختلفا في انفساخ النكاح، فقالت الزوجة: أسلم أحدنا قبل صاحبه، قبل الدخول فانفسخ النكاح. وقال الزوج: بل أسلمنا معا في حالة واحدة.. ففيه قولان:

فرع أسلمت قبله بعد الدخول ثم أسلم واختلفا

أحدهما: القول قول الزوج مع يمينه، وهو اختيار المزني وأبي إسحاق المرزوي؛ لأن الأصل بقاء النكاح. والثاني: أن القول قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الظاهر معها، ولأن الظاهر أنه لا يتفق إسلامهما في حالة واحدة إلا نادرا. وإن قلنا الزوج: أسلم أحدنا قبل صاحبه. وقالت الزوجة: بل أسلمنا معا في حالة واحدة.. فإنه يحكم على الزوج بانفساخ النكاح؛ لأنه أقر بذلك. وأما المهر: فيحتمل أن يكون على القولين، كالأولى. وإن أقام الزوج البينة أنهما أسلما قبل الدخول حين طلعت الشمس، أو حين زالت، أو حين غربت.. لم ينفسخ النكاح. وإن قال الزوجان: أسلمنا معا مع طلوع الشمس، أو مع زوالها، أو مع غروبها، أو حال طلوعها، أو حال زوالها، أو حال غروبها.. لم يثبت إسلامهما معا، فينفسخ نكاحهما. والفرق بينهما: أن حين طلوعها، وحين زوالها، وحين غروبها.. هو حين تكامل الطلوع والزوال والغروب. وأما قولهما: مع الطلوع، أو حال الطلوع، أو الزوال، أو الغروب.. فإنه من ابتداء الطلوع أو الزوال أو الغروب إلى استكماله، فيجوز أن يكون إسلام أحدهما قبل الآخر. [فرع أسلمت قبله بعد الدخول ثم أسلم واختلفا] وإن أسلمت الزوجة بعد الدخول، ثم أسلم الزوج بعدها، ثم اختلفا، فقال الزوج: أسلمت قبل انقضاء العدة. وقالت الزوجة: بل أسلمت بعد انقضاء العدة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فالقول قول الزوج) . وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن طلق زوجته طلقة رجعية ثم راجعها، فقال الزوج: راجعت قبل انقضاء العدة. وقالت الزوجة: بل راجعت بعد انقضاء العدة.. فالقول قول الزوجة) .

فرع تزوج كتابي كتابية صغيرة فأسلم أحد أبويها

وقال: (إذا ارتد الزوج بعد الدخول ثم أسلم، فقالت الزوجة: أسلمت بعد انقضاء العدة. وقال الزوج: بل أسلمت قبل انقضاء العدة.. فالقول قول الزوجة) . واختلف أصحابنا في هذه المسائل الثلاث على ثلاث طرق: فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيها قولان: أحدهما: أن القول قول الزوج؛ لأن الأصل بقاء النكاح. والثاني: القول قول الزوجة؛ لأن الأصل عدم الإسلام والرجعة. و [الطريق الثاني] : منهم من قال: هي على اختلاف حالين: فحيث قال: (القول قول الزوج) : إذا كان هو السابق بالدعوى. وحيث قال: (القول قول الزوجة) : إذا كانت هي السابقة بالدعوى. ولأن قول كل واحد منهما مقبول فيما أظهره وسبق إليه. و [الطريق الثالث] : منهم من قال: هي على حالين آخرين: فحيث قال: (القول قول الزوج) : أراد إذا اتفقا على وقت إسلامه أو رجعته، واختلفا في وقت انقضاء عدتها، بأن قال: أسلمت أو راجعت في شعبان، فقالت: صدقت، لكني انقضت عدتي في رجب. وحيث قال: (القول قول الزوجة) : أراد إذا اتفقا على وقت انقضاء عدتها، واختلفا في وقت إسلامه أو رجعته، بأن قالت: انقضت عدتي في شعبان، فقال: صدقت، لكني أسلمت أو راجعت في رجب؛ لأن الأصل بقاء العدة إلى شعبان، وعدم الإسلام والرجعة في رجب. [فرع تزوج كتابي كتابية صغيرة فأسلم أحد أبويها] ] وإن تزوج كتابي كتابية صغيرة فأسلم أحد أبويها قبل الدخول.. انفسخ نكاحها؛ لأنها صارت مسلمة تبعا لمن أسلم من أبويها قبل الدخول، فهو كما لو أسلمت بعد بلوغها وقبل الدخول. وهل يجب لها من المهر شيء؟

قال ابن الحداد: يسقط جميع مهرها؛ لأن الفرقة وقعت بينهما قبل الدخول، ولم يكن من الزوج صنع فيها فسقط المهر، كما لو اشترت المرأة زوجها قبل الدخول. فمن أصحابنا من صوبه، ومنهم من خطأه وقال: ويجب لها نصف المهر؛ لأنها لم يكن من جهتها صنع في الفرقة، فهو كما لو أرضعتها أم الزوج. فإذا قلنا بهذا: فإن الزوج لا يرجع على من أسلم من أبويها بشيء، ويرجع على المرضعة. والفرق بينهما: أن الإسلام واجب فلم يكن فعله جناية. وليس كذلك الإرضاع؛ فإنه ليس بواجب. فوزانه: أن تجد هذه المرضعة هذه الصغيرة عطشانة قد أشرفت على الموت، ولم تجد أحدا يرضعها ولا لبنا تسقيها، ولم تتمكن من إحيائها إلا بإرضاعها.. فإنه يجب عليها إرضاعها، وإذا أرضعتها.. انفسخ النكاح، ولم يجب عليها شيء للزوج. وهكذا ذكره القاضي أبو الطيب. وبالله التوفيق

كتاب الصداق

[كتاب الصداق]

كتاب الصداق (الصداق) هو: ما تستحقه المرأة بدلا في النكاح، وله سبعة أسماء: الصداق، والنحلة والأجر، والفريضة، والمهر، والعليقة، والعقر؛ لأن الله تعالى سماه: الصداق، والنحلة، والأجر، والفريضة. وسماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: المهر، والعليقة.

وسماه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: العقر. يقال: أصدقت المرأة ومهرتها، ولا يقال: أمهرتها. والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] [النساء: 4] ، وقَوْله تَعَالَى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] [النساء: 24] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] [البقرة: 237] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن مسها.. فلها المهر بما استحل من فرجها» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أدوا العلائق " قيل: وما العلائق؟ قال: " ما تراضى عليه الأهلون» .

وقال أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (لها عقر نسائها) . فإن قيل: لم سماه الله تعالى نحلة، و (النحلة) : العطية بغير عوض، والمهر ليس بعطية، وإنما هو عوض عن الاستمتاع؟ ففيه ثلاث تأويلات: أحدها: أنه لم يرد بالنحلة العطية؛ وإنما أراد بالنحلة: من الانتحال، وهو: التدين؛ لأنه يقال: انتحل فلان مذهب كذا، أي: تدين به. فكأنه تعالى قال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] أي: تدينا. والثاني: أن المهر يشبه العطية؛ لأنه يحصل للمرأة من اللذة في الاستمتاع ما يحصل للزوج وأكثر؛ لأنها أغلب شهوة، والزوج ينفرد ببذل المهر، فكأنها تأخذه بغير عوض. والثالث: أنه عطية من الله تعالى في شرعنا للنساء؛ لأن في شرع من قبلنا كان المهر للأولياء، ولهذا قال الله تعالى ـ في قصة شعيب وموسى صلى الله على نبينا وعليهما وسلم ـ {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] الآية [القصص: 27] . إذا ثبت هذا: فالمستحب: أن يسمى الصداق في عقد النكاح؛ لما روي:

(أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتزوج أحدا من نسائه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ -، ولا زوج أحدا من بناته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ - إلا بصداق سماه في العقد) . وروي: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، قد وهبت نفسي لك، فصعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصره إليها، ثم صوبه، ثم قال: " ما لي اليوم في النساء من حاجة "، فقام رجل من القوم، فقال: زوجنيها يا رسول الله، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما تصدقها؟ "، قال: إزاري. قال: " إن أصدقتها إزارك.. جلست ولا إزار لك "، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " التمس شيئا "، فالتمس فلم يجد. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " التمس ولو خاتما من حديد "، فالتمس فلم يجد، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أمعك شيء من القرآن؟ "، قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " زوجتكها بما معك من القرآن» . ولأنه إذا زوجه بالمهر.. كان أقطع للخصومة. فإن عقد النكاح بغير صداق.. انعقد النكاح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] الآية [البقرة: 236] ، فأثبت الطلاق من غير فرض، والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح. وروى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوج رجلا امرأة، ولم يفرض لها صداقا، فلما حضرته الوفاة قال: إني تزوجتها بغير صداق، وإني قد أعطيتها عن صداقها سهمي بخيبر، فباعته بمائة ألف» .

مسألة مقدار الصداق والقنطار

ولأن المقصود في النكاح أعيان الزوجين دون المهر، ولهذا يجب ذكر الزوجين في العقد، وإنما العوض فيه تبع. بخلاف البيع؛ فإن المقصود فيه العوض، ولهذا لا يجب ذكر البائع والمشتري في العقد إذا وقع بين وكيليهما. [مسألة مقدار الصداق والقنطار] وليس لأقل الصداق حد ـ عندنا ـ بل كل ما يجوز أن يتمول، أو جاز أن يكون ثمنا لشيء، أو أجرة.. جاز أن يكون صداقا. وبه قال عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وابن المسيب، والحسن، وربيعة، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم. قال القاضي أبو القاسم الصيمري: ولا يصح أن يكون الصداق نواة أو قشرة بصلة أو قمع باذنجانة أو ليطة أو حصاة، هذا مذهبنا. وقال مالك، وأبو حنيفة رحمة الله عليهما: (أقل الصداق: ما تقطع به يد السارق) . إلا أن عند مالك رحمة الله عليه: ما تقطع به يد السارق ربع دينار، أو ثلاثة دراهم. وعند أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دينار، أو عشرة دراهم. فإن أصدقها دون عشرة دراهم.. قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (كملت العشرة) . وقال زفر - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يسقط المسمى، ويجب مهر المثل. وقال ابن شبرمة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أقله خمسة دراهم. وقال النخعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أقله أربعون درهما.

وقال سعيد بن جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أقله خمسون درهما. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أدوا العلائق» ، ثم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والعلائق: ما تراضى عليه الأهلون» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التمس شيئا» . «التمس ولو خاتما من حديد» . وهذه عمومات تقع على القليل والكثير. وروي: «أن عبد الرحمن بن عوف أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه وضرة ـ أي: صفرة ـ فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مهيم؟ " ـ وهي كلمة استفهام ـ فقال: يا رسول الله، تزوجت امرأة من الأنصار. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما سقت إليها؟ "، قال: نواة من ذهب. فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أولم ولو بشاة» . و (النواة) : خمسة دراهم. وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من استحل بدرهمين.. فقد استحل» . وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعطى في صداق امرأة ملء كف سويقا أو تمرا. فقد استحل» . ولأن كل ما جاز أن يكون ثمنا.. جاز أن يكون مهرا، كالمجمع عليه. وأما أكثر الصداق: فليس له حد، وهو إجماع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] الآية [النساء: 20] ، فأخبر: أن القنطار يجوز أن يكون صداقا.

قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (القنطار: سبعون ألف مثقال) . وقال أبو صالح - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مائة أوقية. وقال معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ألف ومائتا أوقية) . وقال أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (القنطار: ملء مسك ثور ذهبا) . و (مسك الثور) : جلده. وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا معشر الناس، لا تغالوا في صدقات النساء، فوالله: لا يبلغني أحد زاد على مهر أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا جعلت الفضل في بيت المال، فعرضت له امرأة من قريش، فقالت: كتاب الله أولى أن يتبع، إن الله تعالى يعطينا، وتمنعنا يا ابن الخطاب! فقال: أين؟ قالت: قال الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] الآية [النساء: 20] ، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: فليضع الرجل ماله حيث شاء) . وفي رواية أخرى: أنه قال: (كل الناس أفقه من عمر، فرجع عن ذلك) .

وروي: (أنه تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، فأصدقها أربعين ألف درهم) . وروي: (أن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما كان يزوج بنات أخيه عبيد الله على صداق عشرة آلاف درهم) . و: (تزوج أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امرأة وأصدقها عشرة آلاف) . و: (تزوج الحسن بن على - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - امرأة وبعث إليها مائة جارية، ومع كل جارية ألف درهم، ثم طلقها) ، وتزوجها رجل من بني تميم، فأصدقها مائة ألف درهم. وتزوج مصعب بن الزبير بعائشة بنت طلحة، وأصدقها مائة ألف دينار. قال الشافعي: (والاقتصاد في المهر أحب إلي من المغالاة فيه) ؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعظم النكاح بركة أخفه مؤنة» . وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خيرهن أيسرهن مهرا» .

فرع الصداق ما اتفقوا عليه أولا ومهر المثل إذا لم يتفقوا

وروى صهيب بن سنان: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل أصدق صداقا ونوى أن لا يؤديه.. لقي الله تعالى وهو زان، وأيما رجل ادان دينا ونوى أن لا يؤديه.. لقي الله تعالى وهو سارق» . والمستحب: أن لا يزيد على خمسمائة درهم، وهو صداق أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبناته؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كان صداق أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبناته اثنتي عشرة أوقية ونشا، أتدرون ما النش؟ نصف أوقية» . و (الأوقية) : أربعون درهما؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأوقية: أربعون درهما» و (النش) : عشرون درهما. [فرع الصداق ما اتفقوا عليه أولا ومهر المثل إذا لم يتفقوا] لو تواعدوا في السر على أن الصداق مائة، وعلى أنهم يظهرون للناس أنه ألف.. فقد قال الشافعي في موضع: (المهر مهر السر) . وقال في موضع: (المهر مهر العلانية) . قال أصحابنا البغداديون: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (المهر مهر السر) أراد: إذا عقدوا النكاح أولا بمائة، ثم عقدوا النكاح ثانيا في العلانية بألف. وحيث قال: (المهر مهر العلانية) أراد: إذا عقدوا النكاح أولا في العلانية بألف، ثم عقدوه ثانيا في السر بمائة. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: في المهر قولان. والأول هو المشهور.

مسألة الصداق عين أو دين أو منفعة

فإن قال الولي: زوجتك ابنتي بألف، فقال الزوج: قبلت نكاحها بخمسمائة.. وجب لها مهر مثلها؛ لأن الإيجاب والقبول لم يتفقا على مهر واحد. [مسألة الصداق عين أو دين أو منفعة] ويصح أن يكون الصداق عينا أو دينا. وإذا كان دينا.. صح أن يكون حالا ومؤجلا، فإن أطلق.. كان حالا، كما قلنا في الثمن. ويصح أن يكون الصداق منفعة يصح عقد الإجارة عليها، كمنفعة العبيد والبهائم والأرض والدور؛ لأنه عقد على المنفعة فجاز بما ذكرناه، كالإجارة. [فرع منفعة الحر عندنا تكون صداقا] ويصح أن تكون منفعة الحر صداقا، كالخياطة والبناء وتعليم القرآن وما أشبه ذلك مما يصح استئجاره عليه. وبه قال مالك، إلا أنه قال: (يكره ذلك) . وقال أبو حنيفة: (لا يصح) . دليلنا ـ عليه ـ: قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] [القصص: 27] . فذكر: أن الرعي صداق في شرع من قبلنا، ولم يعقبه بنكير. و: «زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المرأة التي وهبته نفسها من الرجل الذي خطبها بما معه من القرآن» . وتقديره: على تعليم ما معه من القرآن؛ لأن القرآن لا يجوز أن يكون صداقا. ولأن كل منفعة جاز أن تستحق بعقد الإجارة.. جاز أن تستحق بعقد النكاح، كمنفعة العبيد والأرض. [فرع فساد المهر أو كونه ثوبا أو عبدا موصوفا بالذمة] وما لا يصح بيعه كالخمر، والكلب، والخنزير، والسرجين، والمجهول، والمعدوم، وما لم يتم ملكه عليه، والمنافع التي لا يصح الاستئجار عليها.. لا يصح

أن يكون شيء من ذلك صداقا؛ لأنه عوض في عقد فلم يصح فيما ذكرناه، كالبيع والإجارة. إذا ثبت هذا: فإن عقد النكاح بمهر باطل أو مجهول.. لم يبطل النكاح. وبه قال أبو حنيفة، وأكثر أهل العلم. وقال مالك: (لا يصح النكاح) . وحكى المسعودي [في " الإبانة "] : أنه قول للشافعي في القديم وليس بمشهور. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل» ، ولم يفصل بين أن يكون المهر صحيحا أو فاسدا. ولأنه عقد نكاح فلم يبطل بفساد المهر، كما لو تزوجها على دراهم مغصوبة ـ فإن مالكا وافقنا على هذا ـ ولأن النكاح إذا انعقد مع عدم ذكر المهر.. فلأن ينعقد مع فساده أولى. وإذا عقد النكاح بمهر باطل.. وجب لها مهر مثلها، بالغا ما بلغ. وبه قال زفر. وقال أبو حنيفة وصاحباه: (لها الأقل: من مهر المثل، أو المسمى) . دليلنا: أنها دخلت في العقد على أن يكون لها المسمى، فإذا لم يسم وتعذر رجوعها إلى بضعها.. رجعت إلى قيمته، كما لو اشترى عبدا شراء فاسدا وقبضه وتلف في يده. وإن تزوجها على عبد أو ثوب موصوف في ذمته.. لزمه تسليم ذلك على ما وصف. وقال أبو حنيفة وأحمد: (إن شاء.. سلم العبد بصفته، وإن شاء.. دفع قيمته) . وعن أبي حنيفة في الثوب روايتان: إحداهما: كقولنا. والثانية: هو كالعبد عنده. دليلنا: أن هذه تسمية صحيحة، فلم يخير بين دفع المسمى وبين دفع قيمته، كالمكيل والموزون.

فرع التزويج بلا مهر أو بأقل من مهر المثل أو غير ذلك

[فرع التزويج بلا مهر أو بأقل من مهر المثل أو غير ذلك] إذا قالت المرأة لوليها: زوجني بلا مهر، فزوجها بلا مهر.. صح النكاح بلا خلاف. وإن قالت له: زوجني وأطلقت فزوجها بلا مهر، أو أذنت له أن يزوجها بمهر فزوجها بأقل منه أو بغير جنس ما أذنت فيه، أو زوج الأب أو الجد الصغيرة أو الكبيرة البكر بلا مهر أو بأقل من مهر مثلها، أو وكل رجلا ليزوجها فزوجها بلا مهر أو بأقل من مهر مثلها.. فنقل أصحابنا البغداديون: أن النكاح صحيح في جميع هذه المسائل، ولها مهر مثلها. وقال المسعودي [في " الإبانة "] هل ينعقد النكاح في جميع هذه المسائل؟ فيه قولان. قال ومن أصحابنا من قال: لا ينعقد النكاح من الوكيل قولا واحدا؛ لأنه يزوج بالنيابة عن الولي. والأصح الطريق الأول؛ لأن النكاح الأول لا يفسد ـ عندنا ـ بفساد المهر. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إذا زوج ابنته الصغيرة بأقل من مهر مثلها، وكان ذلك مهرا لا ينقص عن أقل المهر وهو عشرة دراهم.. صح المهر) . دليلنا: أن البنت إذا أذنت لعمها بالعقد فزوجها بأقل من مهر مثلها بغير إذنها.. استحقت مهر مثلها، فكذلك الأب والجد. ولأن الأب والجد لا يجوز لهما أن يبيعا مال الصغيرة بأقل من ثمن مثله، فكذلك لا يجوز لهما تزويجها بأقل من مهر مثلها. وإن زوج الرجل وليته بأرض أو عرض أو بغير نقد البلد.. فهل يصح المهر؟ لا أعلم فيها نصا، والذي يقتضي القياس: إن كان الولي أبا أو جدا وكانت المنكوحة

مسألة تزوج على تعليم القرآن أو بعضه

صغيرة أو مجنونة.. صح المهر إذا كان قيمة ذلك مثل مهر مثلها، كما يجوز أن يبتاع لها ذلك بمالها. وإن كان الولي غيرهما من العصبات، أو كان الولي أبا أو جدا والمنكوحة بالغة عاقلة.. لم يصح ذلك المهر إلا إن كان بإذنها ونطقها؛ لأنه لا ولاية له على مالها، وإنما ولايته على عقد النكاح بنقد البلد. وإن كانت المنكوحة مجنونة وكان وليها الحاكم، ورأى أن يزوجها بشيء من العروض وقيمته قدر مهر مثلها.. صح ذلك؛ لأنه يجوز له التصرف في مالها. [مسألة تزوج على تعليم القرآن أو بعضه] إذا تزوج وأصدقها تعليم القرآن مدة معلومة.. صح ذلك إذا كانت المدة متصلة بالعقد، وتطالبه بالتعليم في تلك المدة على حسب عادة التعليم، ولها أن تطالبه بتعليم ما شاءت من القرآن. وإن كان الصداق تعليم شيء من القرآن.. فيشترط أن يذكر السورة التي يعلمها. فإن أصدقها تعليم عشرين آية من سورة كذا ولم يبين الأعشار.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل الذي خطب الواهبة: " ما معك من القرآن؟ "، قال: سورة البقرة والتي تليها، قال: " زوجتكها على أن تعلمها عشرين آية» ، ولم يفصل. والثاني: لا يصح، وهو الأصح؛ لأن الأعشار تختلف. وأما الخبر: فإنما نقل الراوي جواز تعليم القرآن في الصداق، ولم ينقل عين الصداق، ولا يجوز في صفة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعقد الصداق على مجهول. وهل من شرطه أن يبين الحرف الذي يعلمها به، كحرف نافع أو ابن كثير أو غيرهما؟ فيه وجهان، مضى بيانهما في الإجارة.

فرع أصدقها تعليم شعر أو شيئا من التوراة أو الإنجيل لو كانت كتابية

وإن أصدقها تعليم سورة وهو لا يحفظها، فإن كان على أن يحصل لها تعليمها.. صح ذلك، ويستأجر محرما لها أو امرأة تعلمها، أو يتعلمها هو بنفسه ثم يعلمها. وإن كان على أن يعلمها بنفسه.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح، كما لو أصدقها ألف درهم في ذمته وهو لا يملك شيئا. والثاني: لا يصح، كما لو أصدقها خدمة عبد لا يملكه. وإن أصدقها تعليم سورة، فأتت بامرأة غيرها ليعلمها مكانها.. فهل يلزمه تعليمها؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه، كما لو أكترت منه دابة لتركتها إلى بلد فأرادت أن تركبها مثلها. والثاني: لا يلزمه؛ لأن له غرضا في تعليمها؛ لأنه أطيب له؛ لأنه يلتذ بكلام زوجته ولا يلتذ بكلام غيرها. ولأنه أصدقها إيقاع منفعة في عين، فلا يلزمه إيقاعها في غيرها، كما لو أصدقها خياطة ثوب بعينه فأتت بثوب غيره ليخيطه.. فلا يلزمه ذلك. وإن لقنها فحفظت، ثم نسيت.. قال الشيخ أبو حامد: فينظر فيها: فإن علمها دون آية فنسيتها.. لم يعتد له بذلك، وكم القدر الذي إذا علمها إياه خرج من عهدة التعليم؟ فيه وجهان: أحدهما: أن أقله آية؛ لأنه يطلق عليه اسم التعليم. فعلى هذا: إذا علمها آية فنسيها.. لم يلزمه تعليمها إياها ثانيا. والثاني: أقله سورة؛ لأن ما دونها ليس بتعليم في العادة. وذكر ابن الصباغ: أنه إذا علمها ثلاث آيات.. سقطت عنه عهدة التعليم وجها واحدا. وهل تسقط عنه بتعليم آية أو آيتين؟ فيه وجهان. [فرع أصدقها تعليم شعر أو شيئا من التوراة أو الإنجيل لو كانت كتابية] وإن أصدقها تعليم شعر مباح.. صح. قال المزني: وذلك كقول الشاعر: يقول المرء فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا

مسألة ترافع الذميان إلى حاكم مسلم في شأن العقد أو الصداق أو غيره

وإن أصدقها تعليم شعر فيه هجو أو فحش.. كان كما لو أصدقها خمرا أو خنزيرا. وإن تزوج كتابية على أن يعلمها شيئا من القرآن.. فقال الشيخان ـ أبو حامد وأبو إسحاق ـ وأكثر أصحابنا: إن كانت ممن يطمع في إسلامها بذلك.. صح الصداق؛ لأن المشرك إذا جاء مسترشدا وطلب أن يعلم شيئا من القرآن.. جاز تعليمه. وإن كانت تريده للمباهاة.. لم يصح الصداق؛ لأن فيه ابتذالا للقرآن. وقال ابن الصباغ: يصح بكل حال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] [التوبة: 6] ، ولم يفرق. ولأنها قد تريد ذلك للمباهاة، فإذا تعلمته.. انتفعت به وأسلمت. وإن تزوج الكتابي كتابية على أن يعلمها شيئا من التوراة أو الإنجيل.. لم يصح الصداق؛ لأنه محرف مبدل. فإن ترافعا إلينا بعد التعليم.. فقد سقط عنه المهر. وإن ترافعا إلينا قبل التعليم.. حكمنا بفساد المهر المسمى، ولزمه مهر مثلها. وإن تزوج حر مسلمة كتابية على أن يعلمها شيئا من التوراة أو من الإنجيل.. لم يصح؛ لما ذكرناه. فإن ترافعا إلينا.. حكمنا لها بمهر مثلها، سواء ترافعا قبل التعليم أو بعده؛ لأن المسلم لا يقر على المعصية؛ لأنه يعتقد تحريمها، بخلاف أهل الكتاب، فإنهم يقرون على ذلك؛ لأنهم يعتقدون إباحته. [مسألة ترافع الذميان إلى حاكم مسلم في شأن العقد أو الصداق أو غيره] إذا ترافع ذميان إلى حاكم المسلمين ليحكم بينهما في ابتداء عقد النكاح.. لم يحكم بينهما إلا على الوجه الذي يحكم به بين المسلمين. فإن كان لها ولي مناسب عدل في دينه.. زوجها بشهادة مسلمين، ويكون ترتيب الولاة كترتيب ولاة المسلمة. فإن كانت المنكوحة بكرا.. أجبرها الأب أو الجد. وإن كانت ثيبا.. لم يصح تزويجها إلا بإذنها. وإن عضلها الولي.. زوجها حاكم المسلمين؛ لأنه يلي عليها بالحكم.

وإن تحاكما في استدامته.. فإنه لا اعتبار بحال انعقاده على أي وجه كان، ولكن ينظر فيها: فإن كانت ممن لا يجوز له ابتداء نكاحها في هذه الحال.. فرق بينهما. وإن كانت ممن يجوز له ابتداء نكاحها.. أقرهما على نكاحهما وإن كان قد عقد بها بولي غير مرشد أو بغير شهود؛ لأنه عقد قد مضى في الشرك فلا يجوز تتبعه ومراعاته؛ لأن في ذلك إلحاق مشقة وتنفيرا لهم عن الدخول في الطاعة. وفي هذا المعنى نزل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] [البقرة: 278] ، فأمر بترك ما بقي في أيديهم من الربا وعفا عما قبض في الشرك. وإن تحاكما في الصداق، أو أسلما وتحاكما، فإن كان قد أصدقها صداقا صحيحا.. حكم بصحته. وإن أصدقها صداقا فاسدا، كالخمر والخنزير، فإن كانت قد قبضت جميعه في الشرك.. فقد سقط عنه جميعه، وبرئت ذمته من الصداق؛ لأن ما قبض في الشرك لا يجوز نقضه؛ لما ذكرناه من الآية، ولقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] [الأنفال: 38] . وإن كانت لم تقبض منه شيئا.. حكم الحاكم بفساد المسمى، وأوجب لها مهر مثلها من نقد البلد. وقال أبو حنيفة: (لا يحكم لها إلا بما سمي لها) . دليلنا: أنه لا يمكن أن يحكم عليه بتسليم المسمى؛ لفساده، فحكم لها بمهر صحيح. وإن قبضت بعضه في حال الشرك وبقي البعض من المهر.. سقط من المهر بقسط ما قبضته من المسمى، ووجب لها من مهر المثل بقسط ما لم تقبضه من المسمى؛ لأنها لو قبضت الجميع.. لم يحكم لها بشيء، ولو لم تقبض شيئا.. لحكم لها بمهر مثلها، فإذا قبضت البعض وبقي البعض.. قسط مهر المثل على المقبوض وعلى ما لم يقبض. إذا ثبت هذا: فإن كان أصدقها عشرة أزقاق خمرا، فقبضت منها بعضها.. نظرت: فإن كانت متساوية لا يفضل بعضها على بعض.. قسم المهر على أعدادها، فإن قبضت خمسة.. سقط عنه نصف المهر، ووجب لها نصف مهر مثلها. وإن كانت مختلفة.. ففيه وجهان:

أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أن المهر يقسط على أعدادها؛ لأنه لا قيمة للخمر، فاستوى الصغير والكبير. والثاني: يقسط على كيلها. قال ابن الصباغ: وهو الأقيس؛ لأنه يمكن اعتبار كيلها. وإن أصدقها عشرة خنازير، أو عشرة كلاب وقبضت منه خمسة.. ففيه ثلاثة أوجه: والأول: قال أبو إسحاق: يعتبر بالعدد، سواء في ذلك الصغير والكبير، فيسقط نصف المهر، ويجب لها نصف مهر مثلها؛ لأن الجميع لا قيمة له، فكان الجميع واحدا. والثاني: يعتبر التفاوت فيها، فيضم صغيران ويجعلان بإزاء كبير، أو صغير وكبير ويجعلان بإزاء أوسطهن، ويقسط المهر على ذلك. والثالث ـ وهو قول أبي العباس: ـ أنه يقال: لو كانت هذه الخنازير أو الكلاب مما يجوز بيعها.. كم كانت قيمتها؟ فيقسط المهر على ذلك؛ لأنه لا يمكن اعتبارها بأنفسها فاعتبرت بغيرها، كما قلنا في الجناية على الحر التي لا أرش لها مقدر: فإنها تعتبر بالجناية على العبد. قال القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق: فعلى هذا: تقدر لو كانت غنما؛ لأنها أقرب إليها. قال ابن الصباغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأن الغنم ليست من جنس الخنازير والكلاب فتعتبر بها، بخلاف الحر والعبد. وينبغي على هذا: أن تقوم بما يتبايعونها بينهم؛ لتقدر بذلك ـ لا أن لها قيمة في الشرع ـ كما تقدر أن لو جاز بيعها.

وإن أصدقها عشرة خنازير وخمسة كلاب وزق خمر، فقبضت بعض ذلك.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يقسم المهر على عدد الأجناس، فيجعل كل جنس بإزاء ثلث المهر، ثم يقسط الثلث على كل جنس على ما مضى. والثاني: يقسط المهر على العدد، فيخص الخنازير عشرة أجزاء من ستة عشر جزءا من المهر، ويخص الكلاب خمسة أجزاء، ويخص الخمر جزء. والثالث: يعتبر كل جنس بما يجوز بيعه من الأعيان، فيقسط المهر على قيمة ذلك. وعلى قول ابن الصباغ: يعتبر كل جنس بما يتبايعونه بينهم في العادة. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن تبايع مشركان ألف درهم بألفي درهم، فإن أسلما قبل التقابض.. سقط الربح دون رأس المال. وإن أسلما بعد التقابض.. لم يتعرض لهما. وإن قبض منه ألفا ثم أسلما.. سئل المقبض، فإن قال: أقبضت بنية أصل المال.. سقط الربح. وإن قال: لم تكن لي نية.. ففيه وجهان: أحدهما: يوزع عليهما، ويجب عليه خمسمائة درهم. والثاني: يقال له: اصرف الألف المقبوضة إلى أيهما شئت. وإن تقابض المشركان في ذلك بحكم حاكمهم.. ففيه وجهان: أحدهما: حكمه حكم ما لو تقابضاه بغير حكم حاكمهم؛ لأنه قد وجد القبض في الشرك، فهو كما لو تقابضاه بأنفسهما. والثاني: لا يصح القبض؛ لأنه إذا قبضه بحكم حاكمهم.. صار كأنه أكره على القبض، فلم يتعلق به حكم.

مسألة يستحب أن يعتق الجارية ثم يتزوجها

[مسألة يستحب أن يعتق الجارية ثم يتزوجها] يستحب للرجل إذا ملك جارية ذات جمال أن يعتقها ثم يتزوجها؛ لما روى أبو موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ثلاثة يؤتون أجورهم مرتين: عبد أدى حق الله تعالى وحق مواليه، ورجل كانت عنده جارية وضيئة، فأدبها فأحسن أدبها، ثم أعتقها، ثم تزوجها يبتغي بذلك وجه الله تعالى، ورجل آمن بالكتاب الأول، ثم جاء الكتاب الآخر فآمن به» . إذا ثبت هذا: فإن قالت الأمة لسيدها: أعتقني على أن أتزوجك ويكون عتقي صداقي فأعتقها، أو قال الرجل لأمته: أعتقتك على أن تتزوجي بي ويكون عتقك صداقك، فقالت: قبلت.. عتقت ولا يلزمها أن تتزوج به. وقال الأوزاعي: (يلزمها أن تتزوج به، فإن لم تفعل.. يجبرها الحاكم) . وقال أحمد رحمة الله عليه: (إذا كان ذلك بحضرة شاهدين.. انعقد النكاح بذلك؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية وجعل عتقها صداقها» ، ولم ينقل أكثر من ذلك، وقد كانت صفية زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. دليلنا ـ على الأوزاعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـ: أنه سلم في عقد فلم يصح، كما لو قال: أسلفتك هذه الألف على أن تتزوجي بي. ولأن ما يثبت في الذمة فعل أو عين، فـ (الفعل) : كالخياطة والبناء وما أشبهه من الأفعال. و (العين) : أن يسلم إليه في ثوب موصوف أو غيره. وأما العقود: فلا تثبت في الذمة بحال، ألا ترى أنه لو قال: خذ هذه الدراهم على أن تبيعني دارك.. لم يصح؟

ودليلنا ـ على أحمد رحمة الله عليه ـ: أن العتق يزيل ملك السيد عن الاستمتاع بأمته، فلا يجوز أن يزول ملكه عن استمتاعها بحق الملك، ويملك استمتاعها بحق النكاح، كما لا يستبيح استمتاعها ببيعها. وأما خبر صفية: فقد روي: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية، وتزوجها» وهذا أزيد، فكان الأخذ به أولى. وإن ثبت الرواية أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها.. فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ مخصوص بذلك دون غيره. واختلف أصحابنا في موضع تخصيص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هذا: فقال أبو إسحاق: موضع التخصيص منه: أن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعتق جارية بشرط أن تتزوج به، أو أعتقها مطلقا.. لم يجز له أن يتزوجها إلا بمهر، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعتق جارية بشرط أن تتزوج به، أو أعتقها مطلقا.. جاز له أن يتزوجها بغير مهر؛ لأن نكاح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجوز أن يخلو عن المهر، فموضع تخصيصه: خلو نكاحه عن المهر. فقول الراوي: «أعتق صفية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وجعل عتقها صداقها» ، يعني: لم يجعل لها شيئا غير العتق. ومن أصحابنا من قال: موضع تخصيصه من هذا: أن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعتق أمة بشرط أن تتزوج به.. لم يلزمها أن تتزوج به وإذا أعتق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمة بشرط أن تتزوج به.. لزمها أن تتزوج به. ومنهم من قال: موضع التخصيص: أن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعتق أمة بشرط أن تتزوج به، ثم أراد أن يتزوج بها على قيمتها.. فلا بد أن يكونا عالمين بقدر قيمتها؛ لأن المهر المجهول لا يصح. والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعتق أمة بشرط أن تتزوج به.. جاز له أن يتزوج بها على قيمتها وإن كانا لا يعلمان قدرها؛ لأن الجهل بالمهر ليس بأكثر من عدمه. إذا ثبت هذا: وأنه لا يلزمها أن تتزوج به، فرضيت بأن تتزوج به.. لم يجبر السيد عليه؛ لأنه إذا لم يلزمها ذلك.. لم يجبر السيد على قبوله، كما لو أعتقها على خمر أو خنزير، ويلزمها قيمتها لسيدها.

فرع علق عتق أمته على الزواج بها وعكسه

وحكي عن مالك وزفر - رحمة الله عليهما -: أنهما قالا: (لا يلزمها) . دليلنا: أنه أزال ملكه عن رقبتها ببدل، ولم يسلم له ذلك البدل، ولا يمكنه الرجوع إلى رقبتها، فرجع إلى قيمتها - كما لو ابتاع عبدًا بعوض محرم وتلف العبد في يده - وتعتبر قيمتها يوم العتق؛ لأنه وقت زوال ملكه عنها. فإن لم يتراضيا على تزويجها.. طالبها بقيمتها إن كانت موسرة بها، وإن كانت معسرة.. أنظرها إلى يسارها. وإن تراضيا على تزويجها بغير قيمتها، فتزوجها به.. صح، واستحقت عليه المهر، واستحق عليها القيمة. فإن كانا من نقد واحد في الذمة.. فهل يسقط ما استويا فيه من ذلك؟ على الأربعة الأقوال في المقاصة. وإن تزوجها على قيمتها وهما يعلمان قدر قيمتها.. صح النكاح والصداق، كما لو تزوج رجل امرأة على دين له في ذمتها، فإذا انعقد النكاح.. سقطت القيمة من ذمتها، ولم تستحق عليه مهرًا. وإن كانا لا يعلمان قدر القيمة.. فهل يصح الصداق؟ فيه وجهان: (أحدهما) : قال أبو علي بن خيران: يصح، كما لو تزوجها على عبد لا يعرفان قدر قيمته. و (الثاني) : قال أكثر أصحابنا: لا يصح الصداق، وهو الصحيح؛ لأن الصداق غير القيمة، والقيمة مجهولة عندهما فلم يصح، كما لو تزوجها على ثوب مجهول. ويخالف العبد؛ فإن عينه معلومة عندهما، فلا يضر الجهل بقيمته، كما لو اشترى عبدًا عرف عينه ولم يعرف قيمته. [فرع علق عتق أمته على الزواج بها وعكسه] ) : قال ابن الصباغ: إذا قال لأمته: أنا أعتقك على أن أتزوج بك، أو تزوجيني نفسك، فقبلت.. عتقت، ووجب له عليها قيمتها؛ لأنه شرط عليها النكاح في مقابلة العتق.

فرع علقت عتق العبد على الزواج به وعكسه

وإذا أراد حيلة يعتق بها أمته ويلزمها أن تتزوج به، فقال: أعتقك على أنه إن كان في معلوم الله - تعالى - أني أتزوجك بعد عتقك، أو قال لها: إن كان في معلوم الله - تعالى - أني إذا أعتقتك تزوجت بك، فأنت حرة، ثم تزوجها.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو علي بن خيران: يصح النكاح وتعتق؛ لأنه إذا تزوجها بعد هذا القول.. تبينا أنها كانت في معلوم الله حرة حين عقد النكاح، فصح النكاح. وقال أكثر أصحابنا: لا يصح النكاح ولا تعتق؛ لأنه حالما يعقد عليها النكاح يشك: أنها مملوكة له أو ليست بمملوكة له، وعقد النكاح لا يصح على من يشك في صحة نكاحها، وإذا لم يصح عقد النكاح.. لم يوجد شرط العتق. [فرع علقت عتق العبد على الزواج به وعكسه] ) : وإن قالت امرأة لعبدها: أعتقك على أن تتزوج بي فقبل العبد، أو قال لها: أعتقيني بشرط أن أتزوج بك، فأعتقته.. عتق، ولا يلزمه أن يتزوج بها؛ لما ذكرناه في الأمة، ولا يلزم العبد لمولاته قيمته؛ لأنها لم تشرط عليه في مقابلة العتق شيئًا تملكه عليه، وإنما شرطت له أن تملكه مع رقبته شيئا، فهو كما لو قالت له: أعتقتك على أن أزيدك مائة درهم. [فرع قال له أعتق عبدك عني أو عن نفسك أزوجك ابنتي] إذا قال رجل لآخر: أعتق عبدك عني على أن أزوجك ابنتي، فأعتقه عنه.. عتق عن السائل، وله ولاؤه، ولا يلزمه تزويجه ابنته؛ لأنه سلف في عقد، ويلزم السائل لمالك العبد قيمة العبد؛ لأنه لم يسلم له ما شرط له. وإن قال له: أعتق عبدك عن نفسك على أن أزوجك ابنتي، فأعتقه.. عتق العبد على سيده، وله ولاؤه، ولا يلزم السائل تزويج ابنته مولى العبد؛ لأنه سلف في عقد. وهل يلزم السائل قيمة العبد لسيده؟ فيه وجهان، مأخوذان من القولين فيمن قال لآخر: أعتق عبدك عن نفسك على أن أدفع لك مائة درهم، فأعتقه.. فهل تلزمه المائة؟ فيه قولان:

مسألة عقد على أن لها ألفا، وألفا لأبيها أو لأبيها وأمها

أحدهما: تلزمه المائة؛ لأنه أعتقه بعوض بذل له، فلزم الباذل ما بذله، كما لو قال له: أعتق عبدك عني على مائة، وكما لو قال لآخر: طلق امرأتك ولك مائة درهم. فعلى هذا: يلزم الطالب هاهنا قيمة العبد. والثاني: لا تلزمه المائة، وهو الصحيح؛ لأنه بذل له العوض على ما لا منفعة له فيه، فلم يلزمه العوض، كما لو اشترى ما لا منفعة فيه. ويخالف إذا قال: أعتق عبدك عني؛ فإنه يحصل له الثواب والولاء، وفي الزوجة قد يكون له غرض في أن يتزوجها أو يعلمها على نكاح باطل، فيريد تخليصها. فعلى هذا: لا يلزم الطالب هاهنا قيمة العبد. [مسألة عقد على أن لها ألفًا، وألفًا لأبيها أو لأبيها وأمها] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإذا عقد النكاح بألف على أن لأبيها ألفًا.. فالمهر فاسد) . وجملة ذلك: أنه إذا تزوج امرأة بألف على أن لأبيها أو لعمها ألفًا أخرى.. فالنكاح صحيح، والمهر فاسد، وله مهر مثلها. وإنما صح النكاح؛ لأنه لا تفتقر صحته إلى صحة المهر. وإنما فسد المهر؛ لأن قوله: (على أن لأبيها ألفًا) ، إن أراد: أن ذلك هبة منه لأبيها.. فهذا شرط غير لازم له. وإن أراد أن جميع الألفين صداق لها - والصداق لا يستحقه غير الزوجة - فإذا فسد الشرط.. سقط المهر وقد نقصت المرأة من صداقها جزءًا لأجل الشرط، وإذا سقط الشرط.. وجب أن يرد إلى المهر الجزء الذي نقصته لأجل الشرط وذلك مجهول، والمجهول إذا أضيف إلى معلوم.. صار الجميع مجهولًا. ولو أصدقها صداقًا مجهولًا.. لم يصح، ووجب لها مهر مثلها بالغًا ما بلغ. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم: (إذا تزوجها على ألف على أن لأبيها ألفًا ولأمها ألفًا.. صح النكاح، واستحقت الثلاثة الآلاف، ولا شيء للأم والأب) ، وبه قال مالك.

قال أبو علي بن أبي هريرة: ويجيء على هذا: أن الألفين في الأولى للزوجة، وهذا مخالف لما نقله المزني وذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " في التي قبلها. والأول أصح؛ لأنه إنما أصدقها ألفا لا غير، وما شرطه لأبيها وأمها لا يستحقانه ولا تستحقه الزوجة؛ لما قدمناه في التي قبلها. إذا ثبت هذا، فقد ذكر المزني بعد الأولى: ولو نكح امرأة على ألف وعلى أن يعطي أباها ألفًا.. كان جائزًا، ولها منعه وأخذها منه؛ لأنها هبة لم تقبض أو وكالة. قال أصحابنا: أخطأ المزني في النقل؛ ولا فرق بين هذه والأولى، ويكون المهر فاسدًا، وإنما نقل المزني جواب مسألة ثالثة ذكرها الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " (5/65) : (وهو: إذا تزوجها بألفين على أن تعطي أباها منهما ألفًا.. فيكون المهر جائزًا؛ لأنها قد ملكت الألفين بالعقد، وما شرطه عليها من دفعها لأبيها ألفًا لا يلزمها؛ لأنه إن كان هبة منها.. فلا تلزم عليها قبل القبض، أو على سبيل الوكالة منها لأبيها في القبض وذلك لا يلزم عليها، وإذا لم يلزمها.. سقط، ولا يؤثر ذلك في المهر؛ لأن المرأة لم تنقص من مهرها شيئًا لأجل هذا الشرط، ولأن الزوج زاد في مهرها لكي تعطي أباها؛ لأنه لا منفعة له في ذلك) . قال الشيخ أبو حامد: وكذلك إذا أصدقها ألفين على أن يعطي الزوج منهما ألفًا لأبيها.. لم يؤثر ذلك؛ لأن ذلك هبة منها أو توكيل في قبضها، والتصرف لها، لا حق للزوج في ذلك. قال الشيخ أبو حامد: ومعنى هذا عندي: أنه لم يرد به الشرط، وإنما أراد به: أنه تزوجها على ألفين على أن لها أن تعطي أباها ألفًا.. أو يعطي هو أباها ألفًا، فالحكم ما ذكرناه. وأما إذا خرج ذلك مخرج الشرط: فينبغي أن يفسد المهر؛ لأنه لم يملكها المهر ملكًا تامًا؛ لأنه إذا شرط أن يعطي بعضه لغيرها.. فلم يملكها ملكًا تامًا، فبطل. وقد حكى الصيمري هذا عن بعض أصحابنا، ثم قال الصيمري: وهذا هو قياس

فرع لا يضر شرط من مقتضى العقد

التحقيق: أن لو كان من عقود المعاوضات وما الغرض فيه الغبن، فأما ما هو خلاف ذلك.. فلا. [فرع لا يضر شرط من مقتضى العقد] ) : إذا تزوج امرأة بألف على أن يطأها ليلًا ونهارًا، أو على أن ينفق عليها ويكسوها ويسافر بها، أو على أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه.. صح ذلك، ولم يؤثر في الصداق؛ لأن ذلك من مقتضى العقد. وإن شرط على أن له أن يتزوج عليها، أو يتسرى عليها.. صح ولم يؤثر؛ لأنه لا ينافي مقتضاه. وإن تزوجها بمائة على أن لا يتزوج عليها، أو لا يتسرى عليها، أو على أن لا يسافر بها، أو على أن لا تكلم أباها أو أمها، أو على أن لا يكسوها، أو على أن لا ينفق عليها، أو على أن لها أن تخرج من بيتها متى شاءت.. فالنكاح صحيح، والشرط والمهر فاسدان. وبه قال مالك وأبو حنيفة رحمة الله عليهما. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (الشرط صحيح، ومتى لم يف لها به.. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح) . وروى ذلك عن عمر، ومعاوية، وعمر بن عبد العزيز، وشريح، وأبي الشعثاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل شرط ليس في كتاب الله تعالى.. فهو باطل» وهذا الشرط ليس في كتاب الله. ويجب لها مهر مثلها؛ لأنها تركت لأجل الشرط جزءًا من المهر، فإذا سقط الشرط.. وجب رد الجزء وهو مجهول، وإذا صار الصداق مجهولًا.. وجب لها مهر المثل. وقال أبو علي بن خيران: يجب لها أقل الأمرين: من المسمى، أو مهر المثل. والمذهب الأول؛ لأن المسمى قد سقط اعتباره، وإنما الاعتبار بمهر المثل. وإن تزوجها على ألف إن لم يخرجها من بلدها، وعلى ألفين إن أخرجها.. فالمهر فاسد، ويجب لها مهر مثلها.

فرع الشرط المنافي لعقد النكاح يبطله

وقال أبو حنيفة: (إن وفى لها بالشرط الأول.. كان لها الألف، وإن لم يف لها.. كان لها مهر مثلها) . وقال أبو يوسف ومحمد: الشرطان جائزان. دليلنا: أنه دخل في العقد على التخيير بين عوضين، فكان العوض فاسداَ، كما لو قال: بعتك بألف نقدًا وبألفين نسيئة. [فرع الشرط المنافي لعقد النكاح يبطله] ) : إذا اشترطت المرأة على الزوج حال العقد أن لا يطأها، أو على أن يطأها في الليل دون النهار، أو على أن لا يدخل عليها سنة.. بطل النكاح؛ لأن ذلك شرط ينافي مقتضى العقد. وإن شرط الزوج ذلك عليها في العقد.. لم يبطل النكاح؛ لأن ذلك حق له يجوز له تركه، فلم يؤثر شرطه، ولا يلزمه الوفاء بالشرط؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل شرط ليس في كتاب الله تعالى.. فهو باطل» . وهذا ليس في كتاب الله، فكان باطلًا. [فرع شرط الخيار في عقد النكاح أو في الصداق] ) : إذا تزوج امرأة بمهر وشرط خيار المجلس، أو خيار الثلاث في عقد النكاح.. فسد النكاح؛ لأن النكاح لا يقع إلا لازمًا، فإذا شرط فيه الخيار.. نافى ذلك مقتضاه، فأبطله. وإن شرط الخيار في الصداق.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر ": (كان المهر فاسدًا) . وظاهر هذا: أن النكاح صحيح. وقال في " الإملاء ": (إن المهر والنكاح باطلان) . واختلف أصحابنا فيهما: فمنهم من قال: هي على حالين: فحيث قال: يبطلان.. أراد إذا شرط الخيار في النكاح والمهر، أو في النكاح وحده.

فرع عيب المهر يثبت خيار الرد

وحيث قال: لا يبطل النكاح.. أراد إذا شرط الخيار في المهر وحده. ومنهم من قال: إذا شرط الخيار في المهر وحده.. فهل يصح النكاح؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه أحد عوضي النكاح، فبطل النكاح بشرط الخيار فيه، كما لو شرطه في البضع. والثاني: يصح النكاح، وهو الصحيح؛ لأنه لو جعل الصداق خمرًا أو خنزيرًا.. لم يفسد النكاح، فلأن لا يفسد إذا شرط الخيار في المهر أولى. فإذا قلنا بهذا: ففي المهر والخيار.. ثلاثة أوجه حكاها الشيخ أبو حامد: أحدها: أن المهر والخيار صحيحان؛ لأن المهر كالثمن في البيع، فلما ثبت جواز الخيار في الثمن.. ثبت جوازه في المهر. والثاني: أن المهر صحيح والخيار باطل؛ لأن المقصود هو الصداق، والخيار تابع، فثبت المقصود وبطل التابع. والثالث: أن المهر والخيار باطلان، وهو المنصوص؛ لأن الخيار لما لم يثبت في المعوض، وهو البضع.. لم يثبت في العوض، وإذا سقط الخيار.. فقد ترك لأجله جزء من المهر، فيجب رده وذلك مجهول، وإذا كان المهر مجهولًا.. وجب مهر المثل. قال الشيخ أبو حامد: والوجهان الأولان يساويان استمتاعهما. [فرع عيب المهر يثبت خيار الرد] ) : ويثبت في الصداق خيار الرد بالعيب المتفاحش، واليسير مما يعد عيبًا في مثله. وقال أبو حنيفة، وصاحباه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يرد بالمتفاحش دون اليسير) . دليلنا: أن إطلاق العقد يقتضي سلامة المهر من العيب، فإذا رد بالمتفاحش.. رد باليسير، كالمبيع.

مسألة تملك المهر الصحيح عندنا بنفس العقد وحكم قبض وليها له

[مسألة تملك المهر الصحيح عندنا بنفس العقد وحكم قبض وليها له] ) : وتملك المرأة جميع المهر المسمى لها بنفس العقد إن كان ما سماه صحيحًا، وإن كان باطلًا.. ملكت مهر المثل. وبه قال أبو حنيفة، وأحمد. وقال مالك: (تملك نصف المسمى بالعقد، والنصف الباقي أمانة في يدها للزوج، فإن دخل بها.. استقر ملكها على الجميع) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] [النساء: 4] ، فلولا أنهن ملكنه.. لما أمر بتسليمه إليهن. ولأنه عوض في مقابلة معوض، فملك في الوقت الذي يملك به المعوض، كالأثمان في البيع. وإن كانت المنكوحة صغيرة، أو كبيرة مجنونة، أو سفيهة.. فللأب أو الجد أن يقبض صداقها؛ لأن له ولاية على مالها. وإن كانت بالغة عاقلة رشيدة.. سلم المهر إليها أو إلى وكيلها، وليس لوليها قبضه بغير إذنها. ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب أو الجد.. جاز له أن يقبض المهر بغير إذنها؛ لأنه إذا جاز له العفو عنه.. فلأن يجوز له قبضه أولى. والأول أصح؛ لأنه إنما يجوز له العفو على هذا القول عن مهر الصغيرة أو المجنونة، فأما الكبيرة العاقلة: فليس له العفو عن مهرها بلا خلاف. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إن كانت المنكوحة ثيبًا.. لم يكن للأب أو الجد قبض صداقها بغير إذنها. وإن كانت بكرًا.. فله قبض صداقها بغير إذنها إلا أن تنهاه عن قبضه) . دليلنا: أنها بالغة رشيدة، فلم يكن له قبض صداقها بغير إذنها، كالثيب.

فرع متى تجبر الزوجة على تسليم نفسها باعتبار المهر حالا أو مؤجلا

[فرع متى تجبر الزوجة على تسليم نفسها باعتبار المهر حالًا أو مؤجلًا] ؟) : إذا كان الصداق حالًا فطالبته الزوجة بتسليمه، فقال الزوج: لا أجده، وطلب الزوج إمهاله إلى أن يجمعه، وطالب بتسليم الزوجة إليه.. لم تجبر الزوجة على تسليم نفسها إليه، إلا أن يجمع صداقها ويسلمه إليها؛ لأن المهر في مقابلة البضع وعوض عنه، فإذا امتنع الزوج من تسليم العوض.. لم تجبر المرأة على تسليم المعوض، كما لا يجبر البائع على تسليم المبيع إذا امتنع المشتري من تسليم الثمن. فإن قال الزوج: لا أسلم الصداق حتى تسلم الزوجة نفسها. وقالت الزوجة: لا أسلم نفسي حتى يسلم إليَّ الصداق.. فقد ذكرنا فيمن اشترى سلعة بثمن في ذمته، فقال البائع: لا أسلم السلعة حتى أقبض الثمن، وقال المشتري: لا أسلم الثمن حتى أقبض السلعة ثلاثة أقوال مشهورة: أحدها: لا يجبر واحد منهما على التسليم، بل أيهما تطوع بالتسليم.. أجبر الآخر. والثاني: أنهما يجبران معًا، فيجبر البائع على تسليم السلعة إلى عدل، ويجبر المشتري على تسليم الثمن إلى عدل، ثم تسلم السلعة إلى المشتري، والثمن إلى البائع، وبأيهما بدأ.. جاز. والثالث: أن البائع يجبر على تسليم السلعة إلى المشتري، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن إلى البائع. وأما الصداق: فلا يجيء فيه إلا القولان الأولان: أحدهما: لا يجبر واحد منهما على التسليم، بل يقال لهما: أيكما تطوع بالتسليم.. أجبرنا الآخر على التسليم. والثاني: يجبر الزوج على تسليم الصداق إلى عدل، فإذا حصل الصداق في يد عدل.. أجبرت الزوجة على تسليم نفسها إلى الزوج.

ولا يجيء في هذا القول: أن تسلم المرأة نفسها إلى عدل، كما قلنا في البائع؛ لأن معنى قولنا: (تسلم نفسها) نعني به: ليطأها الزوج، وهذا لا يحصل بتسليمها نفسها إلى العدل. وسقط هاهنا القول الثالث في البيع، وهو قولنا: يجبر البائع أولًا على تسليم السلعة إلى المشتري؛ لأنا إذا أجبرنا البائع على تسليم السلعة.. أخذ الثمن من المشتري إن كان حاضرًا، وإن كان غائبًا.. حجر على المشتري في السلعة وفي جميع أمواله إلى أن يسلم الثمن. والزوجة هاهنا بمعنى البائع، فلو أجبرناها على تسليم نفسها - وهو: تمكينها الزوج من وطئها - ربما أتلف ماله بعد وطئها، أو أفلس وقد أتلف بُضعَها؛ لأنه لا يتأتى فيها ما ذكرناه في السلعة. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي (في " الإبانة ") : بل في الصداق ثلاثة أقوال أيضًا: أحدها: لا يجبران. والثاني: يجبران؛ بأن يوضع الصداق على يد عدل، وتجبر المرأة على التمكين. والثالث: يجبر الزوج. والأول هو المشهور. فإذا قلنا لا يجبران.. لم تجب لها عليه نفقه في حال امتناعها؛ لأن الزوج لا يختص بالامتناع. وإن قلنا: يجبر الزوج أولًا.. فلها النفقة في حال امتناعها قبل تسليم الزوج المهر؛ لأن المنع من جهته. فإن تبرعت المرأة وسلمت نفسها إليه ووطئها الزوج.. لم يكن لها أن تمتنع بعد

ذلك، بل يجبر الزوج على تسليم الصداق إن كان موسرًا. وبه قال أبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: (لها أن تمتنع بعد ذلك حتى تقبض صداقها) . دليلنا: أن التسليم الأول تسليم استقر به المسمى برضاها، فلم يكن لها الامتناع بعد ذلك، كما لو سلم البائع السلعة قبل قبض الثمن ثم أراد أخذها. وإن أكرهها الزوج فوطئها.. فهل لها أن تمتنع بعد ذلك إلى أن تقبض المهر؟ فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة ": أحدهما: لها أن تمتنع؛ كما لو قبض المشتري العين المبيعة وأكره البائع على ذلك قبل قبض الثمن. والثاني: ليس لها أن تمتنع؛ لأن المهر قد تقرر بذلك، والبائع إذا استرد المبيع.. ارتفع التقرير. وإن كان الصداق مؤجلًا، فطلب الزوج تسليمها إليه قبل حلول الأجل.. لم يكن لها أن تمتنع. فإن امتنعت.. أجبرت؛ لأنها رضيت بتأخير حقها إلى الأجل، فلم يكن لها الامتناع من التسليم، كما لو باع سلعة بثمن مؤجل.. فليس له الامتناع من تسليمها قبل حلول الأجل. فإن تأخر تسليمها لنفسها حتى حل الأجل.. فهل لها الامتناع إلى أن تقبض الصداق؟ فيه وجهان: (أحدهما) : قال الشيخ أبو حامد: ليس لها أن تمتنع؛ لأن التسليم مستحق عليها قبل المحل، فلم يسقط ما وجب عليها بحلول دينها. و (الثاني) : قال القاضي أبو الطيب: لها أن تمتنع. قال: وقد ذكر المزني في " المنثور ": أنه إذا باع سلعة بثمن مؤجل، فلم يقبض السلعة حتى حل الأجل.. فإن للبائع الامتناع من تسليم السلعة حتى يقبض الثمن.

مسألة تصرف الزوجة بالصداق قبل قبضه

ووجهه: أن لها المطالبة بالمهر، فكان لها الامتناع، كما لو كان حالًا. وإن كان بعض الصداق مؤجلًا وبعضه حالًا.. فلها أن تمتنع من تسليم نفسها حتى تقبض الحال منه، كما لو كان جميعه حالًا. فإذا قبضت الحال منه.. لم يكن لها أن تمتنع من تسليم نفسها حتى تقبض المؤجل، كما لو كان جميعه مؤجلًا. [مسألة تصرف الزوجة بالصداق قبل قبضه] ) : إذا كان الصداق عينا فأرادت الزوجة أن تتصرف فيها بالبيع أو الهبة وما أشبههما قبل القبض.. لم يصح. وقال بعض الناس: يصح. دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع ما لم يقبض» . وهذا لم يقبض. وإن كان الصداق دينًا في الذمة.. فهل يصح لها أن تبيعه قبل قبضه؟ فيه قولان، كالثمن في الذمة. وهذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي (في " الإبانة ") : إذا أرادت بيع الصداق قبل أن تقبضه.. فهل يصح بيعها له؟ فيه قولان: إن قلنا: إنه مضمون في يد الزوج ضمان العقد.. لم يصح. وإن قلنا: ضمان اليد.. صح، وأراد بذلك إذا كان الصداق عينًا. [مسألة الصداق العين مضمون على الزوج حتى يدفعه] ) : وإذا أصدق الرجل امرأته عينا معينة، إما عبدًا أو ثوبًا.. فإنها تكون مضمونة على الزوج ما لم تقبضها الزوجة؛ لأنها مضمونة عليه بعقد معارضة فكانت مضمونة، كالمبيع. فإن قبضتها الزوجة.. سقط الضمان عنه، وصار ضمانها على الزوجة.

وإن هلكت العين في يد الزوج قبل أن تقبضها الزوجة.. سقط حقها من العين؛ لأنها قد تلفت ولا يبطل النكاح؛ لأن النكاح ينعقد بغير مهر، فلا يبطل بتلف الصداق، ويجب على الزوج ضمان الصداق للزوجة؛ لأنا قد تبينا أنه مضمون عليه إلا أن تقبضه الزوجة. وفيما يضمنه به قولان: (أحدهما) : قال في الجديد: (ترجع عليه بمهر مثلها) - وهو اختيار المزني، وأبي إسحاق المروزي، والقاضي أبي الطيب - لأنه عوض معين تلف قبل القبض، وتعذر الرجوع إلى المعوض، فوجب الرجوع إلى بدل المعوض، لا إلى بدل العوض، كما لو اشترى عبدًا بثوب، وقبض العبد وتلف العبد، والثوب عنده.. فإنه يجب عليه قيمة العبد لا قيمة الثوب. فقولنا: (عوض معين) احتراز من العوض في الذمة. وقولنا: (تعذر الرجوع إلى المعوض به) ؛ لأن الشرع قد منع الزوجة من الرجوع إلى بُضعِها بتلف الصداق، فرجعت إلى بدله. وفيه احتراز من المبيع إذا تلف قبل القبض والثمن باق. و (الثاني) : قال في القديم: (ترجع عليه ببدل العين التالفة) - وهو قول أبي حنيفة، وأحمد رحمة الله عليهما، واختيار الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ - لأن كل عين يجب تسليمها.. لا يسقط ضمانها بتلفها، فإذا تلفت.. ضمنت ببدلها، كالعين المغصوبة. فقولنا: (عين يجب تسليمها) احتراز مما لم يجب تسليمه، كالعين المبيعة والثمن قبل البيع. وقولنا: (لا يسقط ضمانها بتلفها) احتراز من العين المبيعة والثمن إذا تلفا قبل القبض.

فإذا قلنا بقوله الجديد فإن تلفت العين بآفة سماوية أو بفعل الزوج.. وجب لها مهر مثلها، سواء سلمت نفسها إلى الزوج وطالبته بها فمنعها، أو لم تطالبه بها ولم يمنعها. وإن أتلفتها الزوجة.. كان ذلك قبضًا لها. وإن أتلفها أجنبي.. فظاهر قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنها بالخيار: بين أن ترجع على الزوج بمهر المثل ويرجع الزوج على الأجنبي ببدل الصداق الذي أتلف، وبين أن ترجع الزوجة على الأجنبي ببدل ما أتلف. وإن نقص الصداق في يد الزوج بآفة سماوية أو بفعل الزوج.. فهي بالخيار: بين أن تأخذ الصداق ناقصًا ولا شيء لها، وبين أن ترجع على الزوج بمهر مثلها. فإن كان النقص بفعل أجنبي.. فهي بالخيار: بين أن ترجع على الزوج بمهر مثلها ويأخذ الزوج من الأجنبي الأرش، وبين أن تأخذ الصداق والأرش من الأجنبي. وإن نقص الصداق بفعل الزوجة.. أخذته ناقصًا ولا شيء لها. وإن قلنا بقوله القديم.. فحكمه في يد الزوج حكم المغصوب، إلا أنه لا يأثم إذا لم يمنعها من أخذه. فإذا تلف في يد الزوج بآفة سماوية أو بفعل الزوج.. رجعت عليه بمثله إن كان له مثل، أو بقيمته إن لم يكن له مثل. ومتى تعتبر قيمته؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان، ومنهم من قال: هما وجهان: المنصوص: (أنه تعتبر قيمته أكثر ما كانت من حين العقد إلى حين التلف) ؛ لأنه مضمون على الزوج في جميع هذه الأحوال، فهو كالمغصوب 0 والثاني: ترجع عليه بقيمته يوم التلف. والأول أصح. وإن نقص في يد الزوج.. نظرت: فإن كان بآفة سماوية.. كانت بالخيار: بين أن ترد الصداق لأجل النقص وترجع ببدله عليه، وبين أن تأخذه ناقصًا وتأخذ منه أرش النقص؛ لأنه كالغاصب. وإن نقص بفعل الزوج، فإن اختارت رده وأخذ بدله.. كان لها. وإن اختارت أخذه، فإن لم يكن للجناية أرش مقدر.. أخذت الصداق وما نقص من قيمته. وإن كان لها أرش مقدر، بأن كان عبدًا فقطع يده.. رجعت عليه مع العبد بأكثر

فرع اختلال صفة المهر من جائز إلى محرم أو غيره

الأمرين: من نصف قيمته، أو ما نقص من قيمته بذلك؛ لأنه اجتمع فيه ضمان اليد والجناية. وإن نقص بفعل أجنبي، فإن اختارت رده على الزوج وأخذ بدل منه.. كان لها ذلك لأجل النقص، ورجع الزوج على الأجنبي بالأرش. وإن اختارت أخذه.. أخذته، فإن كان الأرش غير مقدر.. رجعت به إن شاءت.. على الزوج، وإن شاءت على الأجنبي. وإن كان الأرش مقدرًا، فإن كان مثل أرش النقص، أو أكثر من أرش النقص00رجعت به على من شاءت منهما. وإن كان الأرش المقدر أقل من أرش النقص.. كانت بالخيار: بين أن ترجع بأرش النقص على الزوج، وبين أن ترجع على الأجنبي بالأرش المقدر وترجع على الزوج بتمام أرش النقص. [فرع اختلال صفة المهر من جائز إلى محرم أو غيره] ) : إذا أصدقها عبدًا فخرج حرًا أو مستحقًا، أو شاة فخرجت خنزيرًا، أو خلا فخرج خمرًا.. فهو كما لو تلف الصداق قبل القبض، فيكون على قولين: أحدهما: ترجع عليه بمهر مثلها. والثاني: ترجع عليه بقيمته. ومن أصحابنا من قال: إذا قال: تزوجتك على هذه الجرة الخل فخرج خمرًا.. رجعت عليه بمهر مثله قولًا واحدًا؛ لأن الخل مجهول لا تعلم قيمته. وإن قال: تزوجتك على هذا الجرو، أو الخنزير، أو الخمر، أو هذا المغصوب.. وجب لها مهر المثل قولًا واحدًا؛ لأنه لم يسم لها شيئًا له بدل، بخلاف الأولى؛ فإنه قد سمى لها شيئاٍ له بدل. وإن قبضت الصداق فوجدت به عيبًا فردته، أو كان الصداق تعليم سورة فلم تحفظ لها، أو تعلمتها من غير الزوج.. فهو كما لو تلف الصداق قبل القبض. فعلى قوله الجديد: ترجع إلى مهر مثلها. وعلى قوله القديم: ترجع إلى بدل المردود بالعيب، وإلى أجرة التعليم.

مسألة ثبوت المهر بالوطء في مكان الحرث

[مسألة ثبوت المهر بالوطء في مكان الحرث] ) : ويستقر المهر المسسمى للزوجة بالوطء في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] (البقرة: 237) ، فلما أثبت للزوج الرجوع بنصف الصداق بالطلاق قبل المسيس.. دل على: أنه لا يرجع عليها بشيء منه بعد المسيس. وقال في آية أخرى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] [النساء: 21] ، وفسر (الإفضاء) : بالجماع: وإن وطئها في دبرها.. فهل يستقر به المسمى؟ فيه وجهان: (أحدهما) : من أصحابنا من قال: لا يستقر لها به المسمى؛ لأن المهر في مقابلة ما يملكه بالعقد، والوطء في الدبر غير مملوك في العقد، فلم يستقر به المهر. والثاني - وهو المذهب ـ: أنه يستقر به المسمى؛ لأنه موضع يجب بالإيلاج فيه الحد، فاستقر به المهر، كالفرج. قال أصحابنا: وجميع الأحكام التي تتعلق بالوطء في القبل.. تتعلق بالوطء في الدبر، إلا خمسة أحكام: الإحلال للزوج الأول، والإحصان، وإيفاء المولي، والخروج من العنة، وتغير إذن المنكوحة. فإن وطئ أجنبية في دبرها بشبهة.. وجب لها مهر المثل. وإن حلف أن لا يطأ امرأة فوطئها في دبرها.. حنث في يمينه. قال الصيمري: فإن آلى من امرأته أكثر من أربعة أشهر فوطئها في دبرها.. لم يسقط بذلك حقها، وينبغي أن يحنث في يمينه. وإن أتت امرأته بولد يلحقه بالإمكان ولم يقر بوطئها.. فهل يستقر عليه المهر المسمى؟ فيه قولان: أحدهما: يستقر عليه؛ لأن إلحاق النسب به يقتضي وجود الوطء.

فرع موت أحد الزوجين يثبت الصداق

والثاني: لا يستقر عليه؛ لأن الولد يلحق بالإمكان، والمهر لا يستقر إلا بالوطء، والأصل عدم الوطء. [فرع موت أحد الزوجين يثبت الصداق] ) : وإن مات أحد الزوجين قبل الدخول.. استقر لها المهر. وقال أبو سعيد الإصطخري: إن كانت أمة فماتت قبل الدخول.. لم يستقر لها المهر. والمذهب الأول؛ لأن النكاح إلى الموت، فاستقر به المهر، كالإجارة إذا انقضت مدتها. [فرع لا اعتبار للخلوة في الجديد إلا مع الوطء] ) : وإن خلا الزوج بها ولم يجامعها.. فهل حكم الخلوة حكم الوطء في تقرير المهر ووجوب العدة؟ اختلف العلماء فيها: فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد إلى: (أنه لا تأثير للخلوة في تقرير المهر، ولا في وجوب العدة) . وبه قال ابن عباس، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن التابعين: الشعبي، وابن سيرين، وطاوس. ومن الفقهاء: أبو ثور. وذهبت طائفة إلى: أن الخلوة كالوطء في تقرير المهر ووجوب العدة. وذهب إليه

عمر، وعلي بن أبي طالب - وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم -. وبه قال الزهري، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن خلا بها خلوة تامة، بأن يخلو بها في بيته دون بيت أبيها أو أمها.. رجح بها قول من يدعي الإصابة منهما عند اختلافهما فيها، ولا تكون الخلوة كالوطء في تقرير المهر ووجوب العدة) . وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديمِ: (للخلوة تأثير) . فمن أصحابنا من قال: مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم في الخلوة كقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أنه: يرجح بها قول من ادعى الإصابة لا غير، إلا أنه لا فرق - عندنا - على هذا بين أن يخلو بها في بيته، أو في بيت أبيها أو أمها. ومنهم من قال: مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم كقول أبي حنيفة، وهو المنصوص في القديم.

فإذا قلنا بهذا.. فوجهه: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كشف عن قناع امرأة.. فقد وجب عليه المهر» . وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: أنه قال: إذا أغلق الباب وأرخي الستر.. فقد وجب المهر؛ ما ذنبهن إن جاء العجز من قِبَلِكُمْ؟. ولأنه عقد على المنفعة، فكان التمكين منها كالاستيفاء في تقرير البدل، كالإجارة. وإذا قلنا بقوله الجديد، وهو الأصح.. فوجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] ، ولم يفرق بين أن يخلو بها، أو لا يخلو بها. ولأن الخلوة لو كانت كالإصابة في استقرار المهر ووجوب العدة.. لكانت كالإصابة في وجوب مهر المثل في الشبهة. وأما الخبر: فمحمول على أنه كنى عن الجماع بكشف القناع. وما روي عن أمير المؤمنين عمر.. فقد روينا عن ابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خلاف ذلك. فإذا قلنا بقوله الجديد، فوطئها فيما دون الفرج فسبق الماء إلى فرجها.. وجبت عليها العدة وجهًا واحدًا؛ لأن رحمها قد صار مشغولًا بمائه. وإن أتت من ذلك بولد.. لحقه نسبه، وهل يستقر بذلك صداقها؟ فيه وجهان: أحدهما: يستقر؛ لأن رحمها قد صار مشغولًا بمائه، فهو كما لو وطئها.

مسألة الفرقة بعد الدخول أو قبله باعتبار المهر

والثاني: لا يستقر به المهر؛ لأنه لم يوجد الجماع التام، فهو كما لو لم يسبق ماؤه إلى فرجها. ولو استدخلت المرأة ماء غير ماء زوجها وظنته ماء زوجها.. لم يثبت له حكم من الأحكام؛ لأن الشبهة تعتبر في الرجل. [مسألة الفرقة بعد الدخول أو قبله باعتبار المهر] وإن تزوج رجل امرأة ودخل بها ثم افترقا.. لم ترجع إلى الزوج بشيء من المهر، سواء كانت الفرقة من جهة الزوج، أو من جهة الزوجة، أو من جهتهما، أو من جهة أجنبي؛ لأن المهر قد استقر بالدخول، فلم تؤثر الفرقة، وهذا لا خلاف فيه. وإن أصدقها تعليم سورة من القرآن ودخل بها، ثم طلقها قبل أن يعلمها، فإن كان الصداق تحصيل التعليم.. لم يتعذر ذلك بالطلاق، بل يستأجر لها امرأة أو محرما لها ليعلمها. وإن كان الصداق على أن يعلمها بنفسه.. ففيه وجهان: أحدهما: أن التعليم لا يتعذر بذلك، بل يعلمها من وراء حجاب، كما يجوز أن يسمع مها أخبار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وراء حجاب. والثاني: أن تعليمه لها قد تعذر؛ لأنه يخاف عليهما الافتتان، ويخالف سماع الأخبار؛ لأنا لو لم نجوز ذلك.. لضاع ما عندها من الأخبار. فإذا قلنا بهذا.. كان كما لو تلف الصداق قبل القبض، فترجع في قوله الجديد إلى مهر مثلها، وفي قوله القديم إلى أجرة التعليم. وإن وقعت الفرقة بينهما قبل الدخول.. نظرت: فإن بسبب من جهتها، بأن أسلمت، أو ارتدت، أو أرضعته، أو أرضعت زوجة له صغيرة، أو وجد أحدهما بالآخر عيبًا ففسخ النكاح.. سقط جميع المهر؛ لأن البضع تلف قبل الدخول بسبب من جهتها، فسقط ما يقابله، كالمبيع إذا تلف قبل القبض.

وإن كانت بسبب من جهة الزوج، بأن طلقها.. سقط عنه نصف المسمى إن كانت لم تقبضه، ووجب عليها رد نصفه إن كانت قد قبضته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] . وهكذا: إن أسلم أو ارتد.. فحكمه حكم الطلاق؛ لأن الفرقة من جهته، فهي كالطلاق. وإن كانت الفرقة بسبب منهما.. نظرت: فإن كانت بخلع.. فحكمه حكم الطلاق؛ لأن المغلب فيه: جهة الزوج؛ بدليل: أنه يصح خلعه مع الأجنبي. وإن كانت بردة منهما، بأن ارتدا معًا في حالة واحدة.. ففيه وجهان: أحدهما: حكمه حكم الطلاق؛ لأن حال الزوج في النكاح أقوى، فهو كما لو ارتد وحده. والثاني: يسقط جميع المهر؛ لأن المغلب في المهر: جهة المرأة؛ لأنها صاحبة الحق وقد أقدمت على ما هو سبب الفرقة، فيسقط حقها. وإن اشترت المرأة زوجها قبل الدخول.. ففيه وجهان: أحدهما: حكمه حكم الطلاق؛ لأن البيع تم بالزوجة وسيد العبد، وهو قائم مقام العبد، فهو كالخلع. والثاني: يسقط جميع المهر، وهو المنصوص؛ لأنه لا صنع للزوج في البيع، فهو كما لو أرضعته وكان صغيرًا. فإذا قلنا بالأول، فإن كانت الزوجة قد قبضت جميع صداقها من كسب العبدِ.. رجع عليها سيده بنصفه. وإن كان الصداق في ذمة العبد.. فهل يبقى لها نصفه في الذمة؟ فيه وجهان يأتي بيانهما. وإن قلنا بالثاني، وكانت قد قبضته.. رجع سيده بجميعه عليها. وإن كان في ذمة العبد.. سقط جميعه عن ذمته.

مسألة قتل الزوجة نفسها أو بغيرها وسقوط المهر

[مسألة قتل الزوجة نفسها أو بغيرها وسقوط المهر] ) : وإن كانت المنكوحة أمة فقتلت نفسها، أو قتل السيد قبل الدخول.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (سقط جميع المهر) . وقال في الحرة إذا قتلت نفسها، أو قتلها وليها قبل الدخول: (إنه لا يسقط شيء من المهر) . واختلف أصحابنا فيهما: فذهب أبو العباس، وبعض أصحابنا إلى: أن فيهما قولين: أحدهما: يسقط مهرها؛ لأن النكاح انفسخ بسبب من جهتها، فهو كما لو ارتدت. والثاني: لا يسقط، وهو الأصح؛ لأنها فرقة حصلت بانقضاء أجلها، فهو كما لو ماتت. وذهب أبو إسحاق، وبعض أصحابنا إلى: أنهما على ظاهرهما، ففي الأمة يسقط، وفي الحرة لا يسقط؛ لأن الحرة مسلمة لنفسها بالعقد، ولهذا: لا يجوز لها السفر بغير إذن الزوج، والأمة غير مسلمة لنفسها، ولهذا: يجوز لسيدها السفر بها بغير إذن زوجها؛ لأن زوج الحرة يغنم ميراثها فجاز أن يغرم مهرها، وزوج الأمة لا يغنم ميراثها فلم يغرم مهرها. فإذا قلنا: يسقط المهر بذلك.. فإن الحرة لا يسقط مهرها إلا إذا قتلت نفسها قبل الدخول، وإن قتلها وليها أو زوجها أو أجنبي.. لم يسقط مهرها. وأما الأمة: فإن قتلت نفسها قبل الدخول.. سقط مهرها؛ لأنها هي الزوجة، وإن قتلها سيدها.. سقط مهرها؛ لأن المهر له. وإن قتل الأمة زوجها أو الأجنبي قبل الدخول.. لم يسقط مهرها. وقال أبو سعيد الإصطخري: يسقط مهرها إذا قتلها أجنبي؛ لأنها كالسلعة المبيعة، والسلع المبيعة إذا أتلفها أجنبي قبل القبض.. انفسخ البيع وسقط الثمن. والمذهب الأول؛ لأنها إنما تكون كالسلعة إذا بيعت، فأما في النكاح: فهي كالحرة.

مسألة زوج أمته ثم باعها واعتبار النفقة والمهر

قال الشيخ أبو حامد وأبو سعيد الإصطخري: إنما تخالف في الأمة إذا قتلها الأجنبي لا غير. قال ابن الصباغ: وحكى بعض أصحابنا: أنها إن ماتت قبل الدخول.. كان كما لو قتلها أجنبي - وهي طريقة صاحب " المهذب " وقد مضى ذكرها - قال ابن الصباغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأن الأمة في النكاح كالحرة يصح طلاقها وظهارها والإيلاء منها، فلا تجري مجرى السلعة. [مسألة زوج أمته ثم باعها واعتبار النفقة والمهر] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن باعها حيث لا يقدر عليها.. فلا مهر لها حتى يدفعها إليه) . وجملة ذلك: أنه إذا زوج أمته ثم باعها من آخر.. فقد ذكرنا: أنه يصح البيع ولا يكون طلاقًا، وقد مضى. فإن كان المشتري يريد السفر بها، أو كان بدويًا وأراد الخروج بها إلى البادية.. كان له ذلك؛ لأن حق المالك للرقبة آكد من حق المالك للمنفعة. فإن كان الزوج قد دخل بها.. فقد استقر عليه المهر، فيجب عليه دفعه إلى البائع، وإن كان قد دفعه.. لم يسترجعه 0وإن كان ذلك قبل الدخول.. لم يجب على الزوج دفع المهر، وإن كان قد دفعه 00استرجعه؛ لأن المهر إنما يجب بالتمكين من الاستمتاع ولم يوجد ذلك 0 لأن المهر إنما يجب بالتمكين من الاستمتاع ولم يوجد ذلك. وإن لم يرد المشتري السفر بها وسلمها إلى الزوج ليلًا ونهارًا.. وجب على الزوج جميع نفقتها، ولزمه تسليم مهرها إلى البائع إن لم تكن مفوضة. وإن قال المشتري: لا أسلمها إلا ليلًا، ولا أسلمها نهارًا.. كان له ذلك؛ لأنه عقد على إحدى منفعتيها وهو الاستماع، فلم يلزمه تسليمها في غير زمان الاستمتاع، كما لو أجرها للخدمة ليلًا.

مسألة الطلاق قبل الدخول وطرو الزيادة أو النقصان على الصداق

قال أبو إسحاق: إلا أن تكون صانعة تنسج التِّكَكَ، أو تغزل.. فيلزمه إرسالها إلى الزوج ليلًا ونهارًا، وتعمل ذلك في بيت زوجها. قال الشيخ أبو حامد: وفي هذا نظر؛ لأنه لا يتعين على السيد استعمالها في تلك الصنعة وحدها. فإذا سلمها السيد بالليل دون النهار.. فهل يجب على الزوج شيء من النفقة؟ فيه وجهان: (أحدهما) : قال أبو علي بن أبي هريرة: يجب على الزوج نصف نفقتها اعتبارًا بما سلمت إليه من الزمان. والمذهب: أنه لا يلزمه شيء من النفقة؛ لأنه لم يمكن من الاستمتاع التام بها. وأما المهر: فحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: إذا لم يسلمها تسليمًا تامًا ليلا ونهارًا.. لم يلزمه تسليم المهر. وقال غيره من أصحابنا: يلزمه، وهو الصحيح؛ لأنه يتمكن من وطئها ليلًا، فإذا وطئها.. استقر عليه المهر. [مسألة الطلاق قبل الدخول وطروّ الزيادة أو النقصان على الصداق] وإذا طلق الزوج امرأته قبل الدخول وقد قبضت الصداق.. فقد ذكرنا: أن الزوج يرجع عليها بنصفه. فإن كان الصداق قد تلف بيدها، فإن كان له مثل.. رجع عليها بنصف مثله؛ لأنه أقرب. وإن كان لا مثل له.. رجع عليها بنصف قيمته؛ لأن ما لا مثل له يضمن بالقيمة. فإن اختلفت قيمته من حين العقد إلى حين قبضه.. رجع عليها بنصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض؛ لأن قيمته إن كانت حين العقد أقل ثم

ازدادت.. فإن الزيادة حدثت في ملكها، فلا يلزمها ضمانها. وإن كانت قيمته وقت العقد أكثر ثم نقصت.. فإن النقص مضمون على الزوج لها، فلا تضمنه الزوجة له. وإن كان الصداق باقيًا في يدها.. فلا يخلو من أربعة أحوال: إما أن يكون باقيًا على حالته من حين القبض إلى حين الطلاق، أو يكون ناقصًا من جميع الوجوه عن حالته التي قبضته عليها، أو يكون زائدًا على حالته التي قبضته عليها من جميع الوجوه، أو يكون زائدًا من وجه ناقصًا من وجه. فإن كان باقيًا على حالته.. رجع بنصفه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة 237] وإن كان ناقصًا من جميع الوجوه، بأن كانت جارية سمينة فهزلت أو مرضت أو ما أشبه ذلك.. فالزوج بالخيار: بين أن يرجع بنصف الصداق ناقصًا ولا شيء له غير ذلك، وبين أن يرجع عليها بنصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض؛ لأن الله تعالى قال: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] وإذا كان ناقصًا.. فليس هو المفروض. وإن كان الصداق زائدًا من جميع الوجوه.. فلا تخلو الزيادة: إما أن تكون متميزة، أو غير متميزة: فإن كانت متميزة، بأن أصدقها بهيمة حائلًا فحملت وولدت ثم طلقها، أو شجرة لا ثمرة عليها فأثمرت وجذت ثم طلقها.. رجع عليها بنصف الصداق دون النماء؛ لأنه نماء حدث في ملكها وتميز، فلم يكن له فيه حق، كما قلنا في المشتري إذا حدث في ملكه نماء متميز ثم وجد بالمبيع عيبًا فرده. وإن كانت الزيادة غير متميزة، كالسمن، وتعلم القرآن، والعلم، والصنعة، فإن اختارت الزوجة تسليم نصفه.. أجبر الزوج على أخذه؛ لأنه يرجع إليه أكمل مما دفع إليها. وإن لم تختر تسليم نصفه.. لم تجبر عليه. وبه قال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال محمد بن الحسن: تجبر الزوجة على تسليم نصفه مع زيادته المتصلة. دليلنا: أن هذه زيادة حدثت في ملكها، فلم يلزمها تسليمها، كما لو كانت الزيادة

متميزة، ويلزمها نصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض. وإن كان على الزوجة ديون فأفلست وحجر عليها.. فهل للزوج أن يرجع عليها في نصف الصداق مع زيادته المتصلة به؟ فيه وجهان: (أحدهما) : قال أبو إسحاق: يرجع بنصف الصداق مع زيادته المتصلة؛ لأنا إنما لا نوجب الرجوع إلى نصف الصداق مع زيادته إذا كانت غير مفلسة؛ لأن ذمتها عامرة فيتوصل الزوج إلى استيفاء حقه من القيمة، وإذا كانت مفلسة.. فذمتها خربة، فلا يمكنه الوصول إلى استيفاء حقه بالقيمة، فثبت له الرجوع إلى نصفها. و (الثاني) : قال أكثر أصحابنا: لا يرجع الزوج إلى نصف الصداق مع زيادته المتصلة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى؛ {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] ، والزائد غير المفروض، ولم يفرق بين المفلسة وغير المفلسة. وإن كان الصداق زائدًا من وجه ناقصًا من وجه، بأن كان عبدًا فتعلم صنعة ومرض، فإن اتفقا على أن يأخذ الزوج نصفه.. جاز؛ لأن الحق لهما. وإن طلب الزوج نصفه فامتنعت الزوجة من ذلك.. لم تجبر على ذلك؛ لزيادته. وإن بذلت المرأة نصفه وامتنع الزوج من أخذه 00لم يجبر على ذلك؛ لنقصانه، ويرجع إلى نصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض. وإن طلقها قبل الدخول والصداق في يده، فإن كان الصداق بحاله لم يزد ولم ينقص.. كان لها النصف. وإن كان ناقصًا من جميع الوجوه، بأن مرض في يده أو عمي.. فالزوجة بالخيار: بين أن تأخذ نصفه ناقصًا ولا شيء لها - كالمبيع إذا نقص في يد البائع - وبين أن تفسخ الصداق لأجل نقصه. فإذا فسخت الصداق.. لم ينفسخ النكاح، وإلى ماذا يرجع؟ فيه قولان، كما لو تلف قبل القبض: (أحدهما) : قوله الجديد: (يرجع إلى نصف مهر المثل) . و (الثاني) : قوله القديم: (يرجع إلى بدل نصف الصداق) .

فرع وقت تملك الزوج نصف الصداق إذا طلق قبل الدخول

وإن كان الصداق زائدًا.. نظرت: فإن كانت زيادة متميزة، كالولد، واللبن، والثمرة.. كان لها نصف أصل الصداق وجميع الزيادة. وحكى المسعودي (في " الإبانة ") : أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (للزوج نصف الزيادة المنفصلة الحادثة في يده) . دليلنا: أنها زيادة حدثت في ملكها، فلم يكن للزوج فيها حق، كما لو حدثت في يدها. وإن كانت الزيادة غير متميزة، كالسِّمَن، وتعليم الصنعة.. فالمرأة بالخيار: بين أن تأخذ نصف الصداق وتدفع إلى الزوج نصفه مع زيادته فيجبر الزوج على قبوله، وبين أن تأخذ جميع الصداق وتدفع إلى الزوج نصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض. وإن كان الصداق زائدًا من وجه ناقصا من وجه، بأن كانت جارية تعلمت صنعة ونسيت أخرى.. فهي بالخيار: بين أن تأخذ نصفه وتسلم إلى الزوج نصفه فيجبر الزوج على ذلك؛ لأن النقص في يده مضمون عليه، وبين أن تفسخ الصداق لأجل النقص. فإذا فسخت.. رجعت عليه في قوله الجديد إلى نصف مهر مثلها، وفي قوله القديم إلى نصف بدل الصداق. [فرع وقت تملك الزوج نصف الصداق إذا طلق قبل الدخول] ) : كل موضع قلنا: يرجع الزوج إلى نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول.. فمتى يملك الزوج ذلك النصف؟ فيه وجهان: (أحدهما) : قال أبو إسحاق: لا يملكه إلا بالطلاق واختيار التملك - وهو قول أبي حنيفة - لأن الملك من غير اختيار لا يقع إلا بالإرث، وهذا ليس بإرث. والثاني - وبه قال زفر، وهو المنصوص ـ: أنه يملكه بنفس الطلاق وإن لم يختر

التملك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] ، ولم يفرق بين أن يختار التملك أو لا يختار. وما ذكره الأول: أن الإنسان لا يملك شيئاَ غير الميراث إلا باختيار التملك.. غير مسلم؛ فإن الإنسان لو أخذ صيدًا لينظر إليه لا ليتملكه.. لملكه بالأخذ من غير اختيار التملك. فإن زاد الصداق بعد الطلاق وقبل اختيار التملك، فإن قلنا بقول أبي إسحاق.. كانت الزيادة للزوجة وحدها. وإن قلنا بالمنصوص.. كانت الزيادة بينهما. وإن نقص الصداق في يدها بعد الطلاق وقبل الاختيار، فإن قلنا بقول أبي إسحاق.. لم يلزمها ضمان النقص. وإن قلنا بالمنصوص.. لزمها ضمان النقص. إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وهذا كله ما لم يقض القاضي بنصفه، فتكون هي حينئذ ضامنة لما أصابه في يدها) . وقال الصيمري: هل يشترط قضاء القاضي في تملك الزوج نصف الصداق؟ فيه وجهان: (أحدهما) : ظاهر كلام الشافعي: أن ذلك شرط. والثاني - وهو الأصح ـ: أن ذلك ليس بشرط. وسائر أصحابنا قالوا: لا خلاف أن قضاء القاضي ليس بشرط؛ لأن الرجوع بنصف الصداق ثبت له بنص الكتاب والإجماع، فلم يشترط قضاء القاضي فيه. فعلى هذا: اختلف أصحابنا في تأويل كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فمنهم من قال: أراد بقضاء القاضي: إذا اختلفا في وقت ملك الزوج، بأن قال الزوج: ملكته من شهرين ثم نقص بعد ما ملكته، فعليك ضمان النقص. وقالت: بل ملكته من شهر ونقص قبل أن تملكه، فلا يلزمني ضمان النقص.. فإنهما يترافعان إلى القاضي، فإذا قضى له القاضي بملكه من وقت.. كانت ضامنة لما حدث بعده من النقص. وقال أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: عطف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بهذا الكلام عليه إذا

طلقها قبل الدخول وقد نقص الصداق في يدها من جميع الوجوه.. فإن الزوج بالخيار: بين أن يرجع في نصفه ناقصًا ولا أرش له، وبين أن يرجع بقيمة نصفه. ومتى يملك نصفه؟ على قول أبي إسحاق: يملكه بالطلاق واختيار التملك. وعلى المنصوص: يملكه بالطلاق، ولا يفتقر إلى قضاء القاضي، وإنما عبر الشافعي عن وقت الملك بقضاء القاضي؛ لأنه أوضح ما يعلم به عود نصف الصداق، فمتى علم وقت عوده إليه ثم نقص بعد ذلك.. وجب عليها ضمان النقص؛ لأنها قبضت الصداق بعقد المعاوضة وقد انفسخت المعاوضة، فكان عليها ضمان ما نقص في يدها، كما لو اشترى سلعة فوجد بها عيبًا ففسخ البيع ثم نقصت في يده.. فإنه يجب عليه ضمان النقص. وقد نص الشافعي في " الأم " (5/54) على: (أنه إذا طلقها قبل الدخول، والصداق في يدها فمنعته إياه.. كان عليها ضمان ما يحدث فيه من النقص) . فمن أصحابنا من قال بظاهر هذا: وأنها إذا لم تمنعه.. لم يلزمها ضمان النقص، بل هو أمانة في يدها؛ لأنه حصل في يدها من غير تفريط. ومنهم من قال: يجب عليها ضمان ما نقص في يدها، سواء منعته أم لم تمنعه، وهو الأصح، كما قلنا فيمن اشترى عينًا فوجد بها عيبًا ففسخ البيع، ثم نقصت في يده.. فإن عليه ضمان النقص بكل حال. وتأولوا كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " على أنه أراد: ضمان الغصب؛ لأن ضمان الغصب يطرأ على ما هو مضمون بالقيمة، كالعارية إذا منعها صاحبها. وقال أبو العباس: بل عطف الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بهذا إذا زاد الصداق في يد الزوجة من جميع الوجوه.. فقد قلنا: إن الزيادة كلها لها، فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ما لم يقض القاضي بنصفه) يعني: ما لم يقض له قاض مالكي بنصفه مع زيادته؛ لأن

مسألة أصدقها نخلا، ثم طلقها قبل الدخول

مالكًا يقول: (نصف الصداق باق على ملك الزوج إلى أن يدخل بها) . فإذا قضى له قاض مالكيٌ بنصفه مع زيادته.. كان بينهما، ولا ينقض حكمه؛ لأنه موضع اجتهاد. قال الشيخ أبو حامد: وهذا تأويل حسن، إلا أن الشافعي قال بعده: (فتكون حينئذ ضامنة لما أصابه في يدها) ، ولا يمكن حمل هذا على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه يقول: (هو أمانة في يدها، لا يلزمها ضمان النصف ولا زيادته) . [مسألة أصدقها نخلًا، ثم طلقها قبل الدخول] ) : وإن أصدقها نخلا لا ثمرة عليها، فأثمرت في يدها، ثم طلقها قبل الدخول.. ففيها ست مسائل: الأولى: إذا أراد الزوج أن يرجع في نصف النخل بنصف ثمرتها فامتنعت الزوجة من ذلك.. فإنها لا تجبر على ذلك؛ لأن الثمرة إن كانت غير مؤبرة.. فهي زيادة متصلة بالنخل، وإن كانت مؤبرة.. فهي كالزيادة المنفصلة، وقد بينا أن الجميع لها. الثانية: إذا بذلت له المرأة نصف النخل مع نصف الثمرة.. فهل يجبر على قبوله؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجبر على قبوله؛ لأن هذه الزيادة ملك لها، فلا يجبر على قبولها، كما لو وهبت له شيئًا.. فإنه لا يجبر على قبوله. والثاني - وهو المذهب ـ: أنه يجبر على قبوله؛ لأنها زيادة متصلة بالصداق، فأجبر الزوج على قبولها، كالجارية إذا سمنت. قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": والوجهان إنما هما في الثمرة المؤبرة، فأما غير المؤبرة: فيجبر الزوج على قبولها وجهًا واحدًا. وذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": أن الوجهين في غير المؤبرة، ولم يذكر المؤبرة 0 فإذا قلنا: يجبر على القبول.. فإنه يجبر إلا أن يطول النخل طولا يكون عيبا فيها

من الكبر، ويصير قحامًا - وهو: النخل الذي قل سعفه ودق أصله - فلا يجبر الزوج على قبولها؛ لما فيها من النقص بذلك. الثالثة: إذا قال الزوج لها: اقطعي الثمرة لأرجع في نصف النخل بلا ثمرة.. فلا تجبر المرأة على ذلك؛ لأن في قطع الثمرة قبل أوان قطعها إضرارًا بها، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق» ، وهذه ليست بظالمة. الرابعة: أن تقول المرأة للزوج: اصبر عن الرجوع حتى تدرك الثمرة فتجذ، ثم ترجع في نصف النخل.. فلا يجبر الزوج على ذلك؛ لأن حقه متعجل فلا يجبر على التأخير، ولأنه لا يؤمن أن يتلف النخل فلا يمكنه الرجوع فيها. فإن صبر باختياره إلى أن جذت الثمرة أو قطعت المرأة الثمرة قبل أوان جذاذها.. لم يكن للزوج إلا نصف النخل، إلا أن يحدث بها نقص.. فلا يجبر على نصفها. الخامسة: أن يقول الزوج: أنا أصبر إلى أن تدرك الثمرة فتجذ، ثم أرجع في نصف النخل.. فإن المرأة لا تجبر على ذلك؛ لأن النخل بعد أن يرجع إليه نصفها يكون من ضمانها، فيلزمها الضرر بدخولها في ضمانها، ولأن النخل يزيد فإذا رجع في نصفها بعد ذلك.. رجع في نصفها وفي نصف زيادتها المتصلة الحادثة في يدها، ولأن حقه قد تعلق بالقيمة، فلا ينتقل عنها إلى النخل إلا برضا المرأة. السادسة: إذا قال الزوج: أنا أرجع في نصف النخل في الحال مشاعًا، وأترك الثمرة لها إلى أن تجذها.. ففيه وجهان: (أحدهما) : قال أبو إسحاق: له ذلك، وتجبر المرأة على ذلك؛ لأنه لا ضرر على المرأة بذلك. و (الثاني) : من أصحابنا من قال: لا تجبر المرأة على ذلك؛ لأن حقه قد صار في القيمة، فلا تجبر على تسليم نصف النخل.

فرع أصدقها أرضا فحرثتها ثم طلقها قبل الدخول

[فرع أصدقها أرضًا فحرثتها ثم طلقها قبل الدخول] وإن أصدقها أرضًا فحرثتها ثم طلقها قبل الدخول، فإن بذلت له نصفها.. أجبر على قبولها؛ لأن الحرث زيادة من غير نقصان. وإن امتنعت من بذل نصفها.. لم تجبر على ذلك، وكان له نصف قيمتها؛ لأنها قد زادت في يدها. فإن زرعتها أو غرستها وطلقها قبل الدخول والزرع والغرس فيها، فإن بذلت له نصف الأرض ونصف الزرع ونصف الغرس، وكانت قيمة الأرض قبل الزرع والغرس كقيمتها بعد الزرع والغرس.. قال الشيخ أبو حامد: أجبر على قبول ذلك على المذهب، كما قلنا فيه إذا بذلت له نصف النخل ونصف الثمرة. وقال ابن الصباغ: لا يجبر الزوج على قبول ذلك؛ لأن الثمرة لا ينقص بها النخل، والزرع تنقص به الأرض وتضعف، ولأن الثمرة متولدة من النخل، فهي تابعة لها، والزرع والغرس ملك لها أودعته في الأرض، فلا يجبر على قبوله. وإن نقصت قيمة الأرض بالزرع والغراس 00لم يجبر الزوج على قبول نصفها. فإن طلقها وقد استحصد الزرع ولم تحصده بعد، فقالت: أنا أحصده وأسلم نصف الأرض فارغة.. أجبر على قبول ذلك إلا أن يحدث بالأرض نقص. وإن حصدت الزرع ثم طلقها، أو طلقها ثم حصدت الزرع.. كان له الرجوع في نصف الأرض إلا أن تكون قد نقصت بالزرع.. فلا يجبر على قبولها؛ لأن المانع من الرجوع.. الزرع، وقد زال. [مسألة أصدقها جارية حائلًا فحملت ثم طلقها قبل الدخول] ) : وإن أصدقها جارية حائلًا فحملت في يدها، ثم طلقها قبل الدخول وهي حامل.. فإن الحمل زيادة فيها من وجه ونقصان من وجه؛ لأنه يخاف عليها منه. فإن تراضيا على أن يأخذ نصفها حاملًا.. جاز. وإن طلب الزوج أن يرجع بنصفها، وامتنعت الزوجة.. لم تجبر الزوجة؛ لزيادة الحمل.

مسألة أصدقها شاة حائلا فولدت في يده وطلقها قبل الدخول

وإن بذلت المرأة له نصفها وامتنع الزوج.. لم يجبر؛ لما يخاف عليها منه. وإن أصدقها شاة حائلًا فحملت في يدها، ثم طلقها قبل الدخول.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو المذهب ـ: أن حكمها حكم الجارية؛ لأنه يخاف عليها منه، كما يخاف على الجارية. والثاني: أنه زيادة من كل وجه. فإن بذلت له المرأة نصفها.. أجبر الزوج على قبوله؛ لأنه لا يخاف عليها منه بحال. والأول أصح. [مسألة أصدقها شاة حائلًا فولدت في يده وطلقها قبل الدخول] إذا أصدقها شاة حائلًا فولدت في يده.. فإن الولد ملك لها؛ لأنه متولد من ملكها. فإن طلقها قبل الدخول، فإن كانا باقيين في يده لم ينقصا.. فإن الزوج يرجع بنصف الأم، وتأخذ الزوجة نصف الأم وجميع الولد. وإن كانت الأم سالمة، وقد تلف الولد في يد الزوج.. رجع الزوج في نصف الأم، وهل يلزمه ضان الولد؟ ينظر فيه: فإن طالبته بتسليمه فمنعها.. لزمه ضمانه؛ لأنه صار بالمنع لها كالغصب. وإن لم تطالبه بتسليمه فهل يلزمه ضمانه؟ فيه قولان، نص عليهما في القديم - ومن أصحابنا من يحكيهما وجهين ـ: أحدهما: (يلزمه ضمانه) ؛ لأنه متولد من عين مضمونة، فهو كولد المغصوبة 0 والثاني (لا يلزمه ضمانه) لأنه حصل في يده بغير تعد، لا على وجه المعاوضة، فكان أمانة، كما لو ألقت الريح إلى بيته ثوبا 0 وإن كان الولد باقيًا في يده إلا أنه قد نقص، فإن كانت قد طالبته بتسليمه فمنعها منه.. لزمه أرش النقص. وإن لم تطالبه بتسليمه.. فهل يلزمه أرش النقص؟ على هذين الوجهين 0

وإن كانت الأم باقية في يده إلا أنها قد نقصت، فإن كانت قد طالبته بتسليمها فامتنع.. كانت بالخيار: بين أن تطالبه بنصفها ونصف أرش نقصها قولًا واحدًا، وبين أن تفسخ الصداق للنقص. فإذا فسخت.. كان كما لو تلفت، ولو تلفت قبل القبض.. رجعت عليه بنصف مهر مثلها في قوله الجديد، وبنصف قيمتها في قوله القديم. وإن لم تطالبه بتسليمها أو عرضها عليها فأقرتها في يده.. ففيه قولان نص عليهما في " لأم ": أحدهما: (لا يجب عليه أرش النقص) ؛ لأنه غير متعد في إمساكها. فعلى هذا: تكون المرأة بالخيار: بين أن تأخذ نصف الأم ناقصة ولا شيء لها غير ذلك، وبين أن تفسخ الصداق للنقص. فإذا فسخت.. رجعت عليه بنصف مهر مثلها في قوله الجديد، وبنصف بدل العين في قوله القديم. والقول الثاني: (أنها تأخذ نصف العين ناقصة، ونصف أرش النقص) ؛ لأنه ضامن للعين بعقد المعاوضة، فضمن أرش نقصها في يده. قال ابن الصباغ: وعندي أن هذا لا يستقيم إلا على القول القديم الذي يقول: (إذا تلف الصداق قبل القبض.. كان مضمونًا عليه بالقيمة) . وأما إذا قلنا بالجديد و: (أنه مضمون ضمان العقد) .. فلا فرق بين أن تطالب به أو لا تطالب به، ألا ترى أن البائع إذا نقص المبيع في يده.. فليس للمشتري مطالبته بالأرش، سواء كان قد طالب بتسليمه أو لم يطالب؟. وكل موضع قلنا: تأخذ نصف الأم ونصف الأرش، أو قلنا: تفسخ ففسخت وقلنا: تأخذ نصف قيمتها.. فإن الولد لها؛ لأنه نماء ملكها.

وكل موضع قلنا: لها فسخ الصداق والرجوع بنصف مهرها، ففسخت.. ففي الولد وجهان: أحدهما: أن الولد لها؛ لأنه انفصل في ملكها، فهو كما لو اشترى بهيمة حائلًا فولدت في يده، ثم وجد بها عيبًا فردها. والثاني - وهو المنصوص ـ: (أنه لا شيء لها في الولد) ؛ لأنها إذا فسخت الصداق.. ارتفع من أصله، فكأن الولد حدث في غير ملكها. وإن كانت الأم تالفة والولد باقيًا، وقد تلفت الأم قبل القبض.. فترجع عليه - على قوله الجديد - بنصف مهر مثلها، وعلى قوله القديم بصف قيمتها. وأما الولد: فإن قلنا بقوله القديم و: (أنها ترجع بنصف قيمتها) .. كان الولد لها؛ لأن الأم هلكت على ملكها، والولد نماء ملكها. وإن قلنا بقوله الجديد و: (أنها ترجع إلى نصف مهر مثلها) .. ففي الولد وجهان: (أحدهما) : من أصحابنا من قال: يكون الولد لها؛ لأنه حدث في ملكها، فكانت أحق به، كما لو اشترت بهيمة حاملًا فولدت في يد البائع ثم ماتت قبل القبض. والثاني - وهو المنصوص ـ: (أنه لا شيء لها في الولد) ؛ لأن العقد ارتفع من أصله، فكأن الولد حدث في ملك الزوج. وإن كانت الأم والولد تالفين، فأما الأم: فإنها ترجع عليه بنصف قيمتها في قوله القديم، وبنصف مهر مثلها في قوله الجديد. وأما الولد: فإن قلنا بقوله القديم.. فإنه يكون لها، فإن طالبته به فمنعها.. فعليه ضمانه، وإن لم يمنعها منه.. فهل يجب عليه ضمانه؟ على القولين أو الوجهين في التي قبلها. وإن قلنا بقوله الجديد: و: (أنها ترجع إلى نصف مهر مثلها) ، فإن قلنا بالمنصوص، وهو: أنه لا حق لها في الولد.. فلا كلام، وإن قلنا بقول بعض

مسألة أصدقها جارية حائلا فحملت في يده وطلقها قبل الدخول

أصحابنا: إن الولد لها، فإن طالبته به فمنعها.. فعليه ضمانه، وإن لم يمنعها منه.. فهل يضمنه؟ فعلى القولين أو الوجهين. [مسألة أصدقها جارية حائلًا فحملت في يده وطلقها قبل الدخول] ) : وإن أصدقها جارية حائلًا فحملت في يد الزوج من زوج أو زنا، ثم طلقها قبل الدخول وقبل أن تضع الجارية.. فهذا الحمل زيادة من وجه ونقصان من وجه، فتخير المرأة بين ثلاثة أشياء: بين أن ترضى بالنقص وتعطي الزوج نصفها ونصف حملها ويكون لها نصفهما، وبين أن تأخذ الكل لأجل الزيادة ويكون للزوج نصف قيمتها أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض، وبين أن تفسخ الصداق لأجل النقص، فإذا فسخت.. رجعت عليه بنصف مهر مثلها في قوله الجديد، وبنصف قيمتها أكثر ما كانت من حين العقد إلى حين الطلاق. فأما إذا ولدت الجارية في يد الزوج ثم طلقها.. فالحكم فيها حكم البهيمة إذا ولدت في يده - وقد بيناه في التي قبلها - إلا في شيء واحد، وهو: أن الزوج هاهنا لا يرجع في نصف الأم إذا كان الولد صغيرًا؛ لأنه يكون تفرقة بينها وبين الولد، فيرجع الزوج في نصف قيمة الأم؛ لأن التفرقة إذا لم تجز بين الولد وبين جميعها.. فكذلك بين الولد وبين نصفها؛ لأنه يؤدي إلى التفرقة بينه وبينها في بعض الزمان. وحكى الشيخ أبو حامد: أن البويطي قال: وفيه قول آخر: أنهما يباعان فيكون لها ثمن الولد ونصف ثمن الأم، وللزوج نصف ثمن الأم. والأول هو المشهور. فرع: (أصدقها جارية حاملًا فولدت في يده وطلقها قبل الدخول) : وإن أصدقها جارية حاملًا من زوج أو زنا فولدت في يده، ثم طلقها قبل الدخول، فإن لم تنقص بالولادة عما كانت عليه.. كانت الأم بينهما. وإن نقصت، فإن كانت قد

طالبته بها قبل الولادة فمنعها من أخذها.. كان عليه أرش النقص، وإن لم يمنعها.. ففيه قولان: أحدهما: أنها بالخيار: بين أن تأخذ نصفها ناقصة ولا شيء لها، وبين أن تفسخ الصداق وترجع إلى نصف قيمتها في القديم، وبنصف مهر مثلها في الجديد. والقول الثاني: أنها تأخذ نصفها ونصف أرش النقص. فإن قيل: أليس الرجل إذا باع سلعة فنقصت في يد البائع قبل القبض.. لم يكن للمشتري أرش النقص، بل له الخيار: بين أن يفسخ البيع، أو يجيزه ولا شيء له؟ قلنا: الفرق بينهما: أن في البيع إذا فسخ.. رجع المشتري إلى الثمن، فلا معنى لأن يعطى الأرش، وهاهنا إذا فسخ الصداق.. لا ينفسخ النكاح، فكان لها أخذ الأرش. وأما الولد: فإن قلنا: إن الحمل لا حكم له.. قال الشيخ أبو حامد: كان الولد للمرأة ولا حق للزوج فيه؛ لأنه حدث في ملكها. قلت: وينبغي على هذا أن لا يثبت للزوج الرجوع في نصف الأم، وإنما يرجع في القيمة؛ لئلا يؤدي ذلك إلى التفرقة بينهما، كما قلنا فيه إذا أصدقها جارية حاملًا فولدت في يد الزوج ثم طلقها قبل الدخول. وإن قلنا: للحمل حكم.. فقد تناول العقد الجارية وولدها، إلا أن الولد قد زاد بالولادة، فإن رضيت الزوجة بأن يرجع الزوج في نصف الأم ونصف الولد.. أجبر الزوج على ذلك، وإن لم ترض بذلك.. لم يكن له أن يرجع في نصف الأم؛ لأنه تفرقه بينها وبين ولدها الصغير، ويكون له نصف قيمة الأم. وهل يلزمها نصف قيمة الولد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمها نصف قيمة الولد؛ لأن حال العقد لا يمكن تقويمه، وحال

فرع أصدقها خشبا أو فضة أو ذهبا فصنعته ثم طلقها قبل الدخول

الانفصال قد زاد في ملكها فلا يجوز تقويمه عليها. والثاني: يلزمها نصف قيمته يوم الوضع؛ لأن العقد تناوله ولا يمكن تقويمه حال العقد، فقوم حال الانفصال؛ لأنه أول حالة إمكانه، كما قلنا في ولد المغرور. [فرع أصدقها خشبًا أو فضة أو ذهبًا فصنعته ثم طلقها قبل الدخول] ) : وإن أصدقها خشبًا، فشقتها أبوابًا، فزادت قيمتها بذلك، ثم طلقها قبل الدخول.. لم تجبر المرأة على تسليم نصفها؛ لزيادة قيمتها. وإن بذلت له نصفها بزيادته 00لم يجبر الزوج على قبوله؛ لأنها كانت تصلح وهي خشب لما لا تصلح له الآن0 وإن أصدقها فضة أو ذهبا، فصاغتها آنية، فزادت قيمتها بذلك، ثم طلقها قبل الدخول.. لم تجبر المرأة على تسليم نصفها؛ لزيادتها. وإن بذلت النصف بزيادته.. أجبر الزوج على القبول؛ لأنه يصلح وهو مصوغ لجميع ما كان يصلح له قبل ذلك. هكذا ذكر الطبري في " العدة ". وعندي: أنا إذا قلنا: لا يجوز اتخاذ آنية الذهب والفضة.. أن المرأة تجبر على تسليم نصفها وإن كانت قيمتها زائدة؛ لأن صنعتها لا قيمة لها. [فرع أصدقها حليًا أو قدحًا زجاجًا فكسرته ثم أعادته ثم طلقها قبل الدخول] ) : وإن أصدقها حليًا فكسرته، ثم أعادت صياغته كالأولى، ثم طلقها قبل الدخول.. فقد قال ابن الحداد: لا تجبر المرأة على تسليم نصف، بل يرجع الزوج إلى نصف قيمته؛ لأن هذه زيادة حدثت في ملكها لم تدخل في عقد الصداق، فلم يجب عليها تسليم نصفها، كما لو أصدقها ذهبًا غير مصوغ فصاغته. ومن أصحابنا من خالفه وقال: تجبر المرأة على تسليم نصفه؛ لأن الرجوع بنصف القيمة للإضرار بها، فالإضرار به إذا كان ناقصًا، والإضرار بها إذا كان زائدًا، وهذه الزيادة هي مثل ما أخذته عليه، فلم يكن عليها ضرر.

فرع ذمي أصدق ذمية خمرا أو جلد ميتة ثم طلقها قبل الدخول

وهكذا: إذا أصدقها قدحًا من زجاج فكسرته ثم أعادته مثل صنعته الأولى، أو أصدقها جارية سمينة فهزلت في يدها ثم سمنت ورجعت إلى حالتها الأولى، ثم طلقها قبل الدخول.. فهل تجبر المرأة على تسليم نصف العين؟ على هذين الوجهين. وإن صاغت الحلي أو القدح على غير هيئته الأولى.. رجع الزوج بنصف قيمته وجهًا واحدًا؛ لأنه يجوز أن يكون لها غرض في الصياغة الأخرى. فإن رضي الزوج بأخذ نصفه.. قال القاضي أبو الطيب: فالذي يقتضيه مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أن لها أن تمتنع؛ لأن هذا زيادة من وجه ونقصان من وجه - قال - وبهذا يفسد قول من خالف ابن الحداد؛ لأنه قد لا يكون عليها إضرار مع اختلاف الصياغتين إذا كانت الأجرة واحدة والقيمة واحدة، ومع ذلك فلا يجب عليها تسليم نصف العين. فإن قلنا: يرجع بنصف قيمته، وكانت قيمته تزيد على وزنه، ونقد البلد من جنسه.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقوم بجنس آخر؛ لئلا يؤدي إلى الربا. والثاني: يقوم بجنسه؛ لأن الزيادة لأجل الصنعة. [فرع ذمي أصدق ذمية خمرًا أو جلد ميتة ثم طلقها قبل الدخول] ) : وإن أصدق ذمي ذمية خمرًا فقبضتها، ثم طلقها قبل الدخول، فتحاكما إلينا قبل الإسلام، أو أسلما، أو أسلم أحدهما، فإن كانت الخمر باقية.. لم يرجع أحدهما على الآخر بشيء؛ لأن العقد والقبض في حال الكفر لا ينقض، ولا يرجع عليها الزوج بشيء؛ لأن الخمر لا تملك بحكم الإسلام ولا قيمة لها. فإن أسلمت الزوجة.. أريقت الخمر، وإن لم تسلم.. لم يتعرض لها. وهكذا الحكم لو استهلكت الخمر. وإن صارت الخمر خلا في يدها بغير علاج، ثم طلقها قبل الدخول والخل في يدها.. قال ابن الحداد: رجع عليها بنصفه.

فرع أصدقها تعليم سورة ثم طلقها قبل الدخول

فمن أصحابنا من خالفه وقال: لا يرجع عليها بشيء؛ لأن الصداق زاد في يدها، والصداق إذا زاد في يدها.. سقط حقه من العين إلى القيمة، والقيمة تعتبر أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض، والصداق كان ذلك الوقت خمرًا، والخمر لا قيمة لها. ومنهم من نصر ابن الحداد وقال: إنما يسقط حقه من العين إلى القيمة إذا أمكنه الرجوع إلى القيمة، وهاهنا لا يمكنه الرجوع إلى القيمة، فلم يسقط حقه من الرجوع بالعين لأجل زيادته، كما لو وهب لولده عينًا، فزادت في يد الولد، ورجع الأب فيها.. فإنه يرجع في العين وفي زيادتها. فإن استهلكت المرأة الخل، ثم طلقها قبل الدخول.. لم يرجع الزوج عليها بشيء وجهًا واحدًا؛ لأن العين إذا هلكت.. سقط حقه إلى القيمة أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض، ولا قيمة للصداق في ذلك الوقت. وإن صارت الخمر خلًا في يده قبل التسليم، ثم طلقها قبل الدخول.. قال ابن الحداد: يكون الخل بينهما نصفين. وخالفه هاهنا من خالفه في الأولى وقال: يكون الخل له، وترجع عليه بنصف مهر مثلها؛ لأن القبض لم يحصل. وإن ترافعا قبل القبض وكان فاسدًا.. أفسدناه وأوجبنا مهر المثل. وهكذا: إذا أصدقها جلد ميتة فدبغته، ثم طلقها قبل الدخول.. فالحكم فيه كالحكم في الخمر إذا تخللت. [فرع أصدقها تعليم سورة ثم طلقها قبل الدخول] وإن أصدقها تعليم سورة، فعلمها السورة ثم طلقها قبل الدخول.. رجع عليها بنصف أجرة التعليم. وإن طلقها قبل الدخول وقبل التعليم.. فقد سقط عنه نصف التعليم وبقى عليه

فرع أصدقها خياطة ثوب معين ثم طلقها قبل الدخول

النصف، فإن قلنا: إنه يجوز أن يعلمها من وراء حجاب.. علمها نصف السورة. وإن قلنا: لا يجوز أن يعلمها من وراء حجاب.. رجعت عليه بنصف مهر مثلها في القول الجديد، وبنصف أجرة التعليم في القول القديم. [فرع أصدقها خياطة ثوب معين ثم طلقها قبل الدخول] ) : إذا تزوج امرأة وأصدقها خياطة ثوب بعينه، فهلك الثوب قبل الخياطة.. فهل لها أن تأتيه بثوب مثله ليخيطه؟ فيه وجهان: أحدهما: لها ذلك، كما لو اكترى دابة ليركبها إلى مكان، فمات قبل أن يركبها.. فلوارثه أن يركبها إن كان مثل مورثه، أو يركبها مثله. فعلى هذا: لو أتته بثوب مثله ليخيطه مع بقاء الثوب.. لزمه ذلك. والثاني: لا يلزمه أن يخيطه؛ لأنه جعل صداقها إيقاع منفعة في عين بعينها، فإذا تلفت تلك العين.. بطل العقد ولا يقوم غيرها مقامها، كما لو استأجرته ليحصد لها زرعًا بعينه، فتلف الزرع قبل الحصاد.. فإن الإجارة تبطل، ولا يجوز أن يقال: يحصد لها زرعًا مثله. فعلى هذا: ترجع عليه بمهر مثلها في قوله الجديد، وبأجرة الخياطة في قوله القديم. وإن كان الثوب باقيًا، فطلقها قبل الدخول وبعد الخياطة.. رجع عليها بنصف أجرة الخياطة. وإن طلقها قبل الخياطة وقبل الدخول، فإن كان يمكنه أن يخيط نصفه وينضبط ذلك.. لزمه أن يخيط نصفه. وإن لم تنضبط خياطة نصفه.. كان كما لو تلف الصداق قبل القبض، فترجع عليه بنصف مهر مثلها في القول الجديد، وبنصف أجرة الخياطة في القول القديم. وهكذا ذكره أكثر أصحابنا. قال ابن الصباغ: وعندي: أن الزوج إذا اختار خياطة جميعه.. لا يكون لها المطالبة بغير ذلك.

مسألة أصدقها عينا فتصرفت بها ثم طلقها قبل الدخول

[مسألة أصدقها عينًا فتصرفت بها ثم طلقها قبل الدخول] ) : وإن أصدقها عينًا، فقبضتها، ثم باعتها أو وهبتها وأقبضتها، ثم طلقها قبل الدخول.. رجع عليها بنصف بدلها؛ لأن ملكها قد زال عنها، فهو كما لو تلفت في يدها. فإن رجع إليها ما باعته أو وهبته ببيع أو هبة أو إرث، ثم طلقها قبل الدخول.. فإن المسعودي قال (في " الإبانة ") : هل يرجع إلى نصف العين أو إلى نصف القيمة؟ فيه وجهان، كالوجهين فيمن وهب لولده عينًا، فخرجت عن ملك الولد ثم رجعت إليه. وقال أصحابنا البغداديون: يرجع الزوج إلى نصف العين وجهًا واحدًا. والفرق بين الزوج والأب على الصحيح من الوجهين: أن الصداق لو تلف في يد الزوجة.. لرجع الزوج عليها بنصف بدله، فكان له الرجوع بنصف العين إذا وجدت في ملكها، والعين لو تلفت في يد الولد.. لم يرجع الأب عليه ببدلها، فلم يرجع عليه بها إذا خرجت من ملكه ثم عادت إليه، على الصحيح. [فرع أصدقها عبدًا فدبرته أو تصرفت بالصداق بما لا يلزمها ثم طلقها قبل الدخول] ) : إذا أصدقها عبدًا فدبرته، ثم طلقها قبل الدخول وقبل أن ترجع في التدبير.. فقد روى المزني: أنه لا يرجع في نصفه؛ لأن الرجوع لا يكون إلا بإخراجها إياه عن ملكها. واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق: فـ (الطريق الأول) : منهم من قال: فيه قولان: إن قلنا: إن التدبير وصية00رجع إلى نصفه؛ لأنه باق على ملكها، فهو كما لو وصت به.

وإن قلنا: إنه عتق بصفة.. لم يكن له الرجوع بنصفه؛ لأنه لا يمكن الرجوع فيه إلا بإزالة الملك. وحمل النص على هذا القول. و (الطريق الثاني) : منهم من قال: لا يرجع بنصفه، وإنما يرجع بنصف قيمته قولًا واحدًا، وهو ظاهر النص؛ لأن العبد قد ثبت له حق الحرية، وفي الرجوع إلى نصف القيمة جمع بين الحقين، فكان أولى، كما لو وهبته وأقبضته. و (الطريق الثالث) : منهم من قال: له أن يرجع بنصف العبد قولًا واحدًا؛ لأن على القول الذي يقول: (التدبير وصية) .. فهو تصرف غير لازم، فلا يمنع الرجوع. وعلى القول الذي يقول: (هو عتق بصفة) .. يصح الرجوع فيه بما يزيل الملك، ودفعها لنصفه إلى الزوج يزيل ملكها عنه، فهو كالبيع. إذا ثبت هذا - وقلنا: له أن يرجع إلى نصفه ـ: فإن الشيخ أبا حامد قال في " التعليق ": تجبر المرأة على الرجوع بنصفه بالقول، إذا قلنا: (إن التدبير وصية) . قال ابن الصباغ: فإذا قلنا: يرجع الزوج إلى نصفه.. كان الزوج مخيرًا: بين أن يرجع إلى نصفه، وبين أن يرجع إلى قيمة نصفه؛ لأن العبد إذا كان نصفه مدبرًا.. نقصت قيمة النصف الثاني؛ لأنه لا يأمن أن يرافعه إلى حاكم حنفي، فيحكم بتدبير جميعه، فيسقط حقه. وإن دبرته ثم رجعت في التدبير بالقول - إذا قلنا: (إنه وصية) - أو بإزالة الملك، ثم رجع إليها، ثم طلقها قبل الدخول.. ثبت له الرجوع بنصفه. وإن طلقها وهو مدبر، وقلنا: لا يكون له الرجوع بنصفه، فقبل أن يأخذ نصف قيمته رجعت في التدبير بالقول والفعل، ورجع إلى ملكها.. فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " (5/60) : ليس له الرجوع بنصفه؛ لأنه رجع إلى ملكها، وقد تعلق حقه بنصف قيمته) .

فرع أصدقها جارية فزوجتها أو تصرفت بالصداق بما يلزمها ثم طلقها قبل الدخول

ومن أصحابنا من قال: يرجع إلى نصفه؛ لأن المانع من رجوعه إلى نصفه هو التدبير وقد زال، وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على مثل هذا في النخل حيث قال: (ولو طلقها وقد أثمرت، فلم يرجع في القيمة حتى جذت.. كان حقه في نصف النخل) . وإن وهبت الصداق لرجل ولم تقبضه، أو وصت به ثم طلقها الزوج قبل الدخول.. رجع الزوج بنصفه؛ لأن ذلك تصرف غير لازم، وإنما هو بمنزلة الوعد. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ". وقال القاضي أبو حامد: إذا وهبته ولم تقبضه.. ففيه قولان: أحدهما: لا تجبر الزوجة على الرجوع عن الهبة؛ لأنه عقد عقدته في ملكها في وقت لم يكن للزوج فيه حق. والثاني: تجبر؛ لأن الهبة قبل القبض ليست بلازمة لها، ولو أرادت أن تسلم إلى الزوج نصفه.. كان لها، وإذا امتنعت من ذلك.. أجبرت عليه. قال القاضي أبو حامد: وهكذا إذا باعته بشرط الخيار، ثم طلقها الزوج قبل الدخول وقبل انقضاء الخيار.. فعلى هذين القولين. [فرع أصدقها جارية فزوجتها أو تصرفت بالصداق بما يلزمها ثم طلقها قبل الدخول] ) : وإن أصدقها جارية فزوجتها، ثم طلقت المولاة قبل الدخول.. كان زوجها بالخيار: بين أن يرجع بنصف الأمة، وبين أن يرجع بنصف قيمتها؛ لأنها قد نقصت بالتزويج. وإن أجرت الزوجة الصداق مدة، ثم طلقها الزوج قبل انقضاء المدة.. كان للزوج أن يرجع بنصف قيمته؛ لنقصانه بالإجارة، فإن قالت الزوجة: اصبر حتى تنقضي مدة الإجارة، ثم ترجع في نصفه.. لم يلزمه ذلك؛ لأن حقه تعجل فلا يلزمه تأخيره.

مسألة أصدقها نخلا مثمرا أو غير مثمر ثم اجتناها ودبسها

فإن قال الزوج: أنا أصبر حتى تنقضي مدة الإجارة، ثم أرجع في نصف العين.. لم تجبر المرأة على ذلك؛ لأن الصداق يكون في ضمانها ولا تدري: هل يهلك أو يبقى؟ وإن قال الزوج: أنا أرجع في نصف العين في الحال وأقبضه، وأصبر حتى تنقضي مدة الإجارة وآخذها.. لم يكن لها أن تمتنع من ذلك؛ لأنه لا ضرر عليها في ذلك. وقد ذكرنا: أنه إذا أصدقها نخلًا فأثمرت في يدها، فقال الزوج: أرجع في نصفها في الحال، وأتركها إلى أن تجذ الثمرة وجهين: أحدهما: له ذلك. والثاني: ليس له ذلك. والفرق بينهما على هذا: أن في النخل يؤدي إلى اشتراك الأيدي في الثمرة التي لها، ولا يوجد ذلك هاهنا. وإن رهنت الصداق وأقبضته، ثم طلقها قبل الدخول.. رجع الزوج بنصف قيمته؛ لأن حق المرتهن متعلق برقبة الرهن. [مسألة أصدقها نخلًا مثمرًا أو غير مثمر ثم اجتناها ودبسها] إذا أصدقها نخلًا مثمرًا وشرط أن الثمرة للمرأة، أو نخلًا عليه طلع مؤبر، فلما بدا الصلاح في الثمرة.. اجتنى الزوج الثمرة وجعلها في قوارير - يعني: براني - وجعل عليها شيئًا من الذي يسيل من الرطب - ويسمى: الرُّبَّ والدبس بعد الطبخ، يفعل ذلك ليحفظ رطوبة الثمرة - فقد خلط الصداق بعضه ببعض، فإن لم تنقص قيمتهما بذلك في الحال ولا في الثاني، أو زادت قيمتهما بذلك.. فإن الزوجة تأخذ الثمرة وما جعل

فرع أصدقها جارية فوطئها

عليها مما سال منها، ولا شيء على الزوج، وإن نقصت قيمتهما في الحال أو في الثاني.. فقد نقص الصداق في يد الزوج. فإن قلنا بقوله الجديد: (إنه إذا تلف في يد الزوج قبل القبض ورجعت إلى مهر المثل) .. كانت المرأة بالخيار: بين أن تأخذهما ناقصين ولا شيء لها على الزوج، وبين أن تردهما على الزوج وتأخذ مهر مثلها. وإن قلنا بقوله القديم.. كانت بالخيار: بين أن تأخذهما ناقصين وأرش نقصهما، وبين أن ترجع بمثل الثمر إن كان قد شمسه؛ لأن له مِثلًا، وإن جعله قبل التشميس.. رجعت بقيمته. وأما ما سال من الثمرة، فإن كان قد أغلاه.. رجعت عليه بقيمته؛ لأنه لا مثل له، وإن لم يغله.. رجعت عليه بمثله؛ لأنه من ذوات الأمثال. وإن قالت الزوجة: أنا آخذ النخل، وأرد الثمرة وما سال منها، وأرجع عليه ببدله.. فهل لها ذلك؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة. وإن جعل عليها الزوج الدبس من نخله.. فهي كالأولى إلا في شيء واحد وهو: أنه لا يعتبر النقص في الدبس؛ لأنه ملكه. وإن أصدقها نخلًا لا ثمرة عليها، فأثمرت في يده، فلما بدا صلاحها اجتناها الزوج وجعلها في قوارير وجعل عليها شيئًا مما سال من ثمرتها أو ثمرته.. فهو بمنزلة من غصب من غيره ثمرة ودبَّسها وخلطهما؛ لأن عقد الصداق لم يتناولهما. [فرع أصدقها جارية فوطئها] وإن أصدقها جارية فوطئها وأحبلها، فإن أقر: بأنه يعلم بتحريمه، أو ادعى الجهالة ومثله لا يخفى عليه ذلك 00فهو زنًا، فيجب عليه الحد، ولا يلحقه نسب الولد، ويكون الولد مملوكًا لها. فإن أكره الجارية على الوطء.. وجب عليه المهر، وإن طاوعته.. فوجهان، المنصوص: أنه لا يجب عليه المهر. وإن كان جاهلًا بتحريم الوطء؛ بأن نشأ في بادية لا معرفة له في الأحكام، أو قريب العهد بالإسلام، أو كان يعتقد مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن المرأة لا تملك

مسألة ارتداد المرأة قبل الدخول أو طلقها وكان صداقها صيدا ثم أحرم

جميع الصداق إلا بالدخول) .. فهو وطء شبهة، فلا يجب عليه الحد، ويكون الولد حرًا، ويلحقه نسبه، ويلزمه قيمته يوم الوضع، ويجب عليه المهر، ولا تصير الجارية أم ولد له في الحال. فإذا ملكها.. فهل تصير أم ولد له؟ فيه قولان. [مسألة ارتداد المرأة قبل الدخول أو طلقها وكان صداقها صيدًا ثم أحرم] ) : وإن ارتدت المرأة قبل الدخول.. فقد ذكرنا: أن جميع الصداق يعود إلى الزوج؛ لأن الفرقة جاءت من قبلها، والحكم فيه في الزيادة والنقصان حكم النصف الذي يعود إليه بالطلاق على ما مضى. إذا ثبت هذا: فقال ابن الحداد: إذا أصدقها صيدًا بريًا وهما حلالان، ثم ارتدت المرأة قبل الدخول والزوج محرم.. رجع الزوج بالصيد؛ لأنه دخل في ملكه بغير اختياره. قال القاضي أبو الطيب: هذا على القول الذي يقول: إن الحلال إذا اصطاد صيدًا وأحرم.. لا يزول ملكه عنه، فأما إذا قلنا: يزول ملكه عنه.. فلا يرجع في الصيد وإنما يرجع في قيمته؛ لأنه كالمعدوم. فإذا قلنا: يرجع إلى الصيد.. قال ابن الحداد: دخل في ملكه ويلزمه إرساله. قال القاضي أبو الطيب: وهذا الذي ذكره ابن الحداد مخالف لما ذكره أصحابنا بالعراق؛ فإنهم قالوا: إذا قلنا: لا يزول ملكه عنه.. يجوز له التصرف فيه بالبيع والهبة والإمساك، وإنما لا يجوز له ذبحه. وأما إذا طلقها قبل الدخول، فإن قلنا بقول أبي إسحاق: إن نصف الصداق لا يدخل في ملك الزوج إلا بالطلاق واختيار التملك.. لم يجز له هاهنا أن يختار تملك نصف الصيد، وإنما يرجع إلى نصف قيمته. وإذا قلنا بالمنصوص من: (أنه يدخل في ملكه بالطلاق) ، فإن قلنا: يزول ملكه عنه بالإحرام.. لم يكن له أن يرجع في نصفه، وإنما يرجع في نصف قيمته. وإن قلنا: لا يزول ملكه عنه.. رجع بنصفه.

مسألة زوج ابنه أو تزوج بنفسه ثم ارتدت الزوجة أو طلقت قبل الدخول

قال القاضي أبو الطيب: ويقال لابن الحداد: إذا كان الصيد واحدًا، ورجع إليه نصفه، وأنت توجب عليه الإرسال.. فكيف يرسل نصفه ولا سبيل إلى إرسال نصيب الشريك؟ وكذلك: إذا كان صيد بين رجلين، فأحرم أحدهما، وقلنا: يزول ملك المحرم عن الصيد.. فإنه يجب عليه إرساله إذا كان منفردًا به.. وأما إذا كان مشتركًا بينه وبين غيره.. لم يجز إرسال نصيب الحلال، وقد قال بعض أصحابنا: سقط الإرسال هاهنا للضرورة، ولكن تزال يد المحرم عنه. قال القاضي أبو الطيب: وهذا لا بأس به عندي. [مسألة زوج ابنه أو تزوج بنفسه ثم ارتدت الزوجة أو طلقت قبل الدخول] وإذا زوج ابنه الصغير وكان الابن موسرًا.. فإن الصداق يجب على الابن؛ لأن النكاح حصل له، فلا يجب على الأب إلا إن ضمنه عن ابنه الصغير. وإن كان الابن معسرًا.. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: فلا خلاف: أن الصداق يجب للزوجة في ذمة الابن؛ لأن النكاح له، ولكن هل يجب الصداق على الأب بالضمان؟ فيه قولان: (أحدهما) : قال في القديم: (يجب عليه) ؛ لأنه لما زوجه مع العلم بإعساره.. كان رضًا منه بوجوب ضمانه عليه. و (الثاني) : قال في الجديد: (لا يجب عليه) ، لأن النكاح للصغير، فلا يجب على الأب المهر، كما لو كان الابن موسرًا، ولو أن رجلًا معسرًا وكل رجلًا موسرًا ليتزوج له، فتزوج له.. لم يجب على الوكيل ضمان المهر، فكذلك هذا مثله. فإن قلنا: يجب على الأب بالإطلاق أو ضمنه.. فللمرأة مطالبة الأب به. فإن ارتدت المرأة قبل الدخول، أو بلغ الابن وطلقها قبل الدخول، فإن كان الأب لم يدفع الصداق إليها، بل هو في ذمته.. سقط جميعه بردة الزوجة، وسقط نصفه بالطلاق قبل الدخول، وكان لها مطالبته بالنصف. وإن كان الأب قد دفعه إليها من ماله، أو كان الابن الصغير موسرًا فتطوع الأب بدفع الصداق عنه.. فإن ذمة الابن تبرأ بذلك، كما لو قضى عن رجل دينًا بغير إذنه، ويكون ذلك هبة منه لابنه. فإذا

فرع تزوج بصداق في ذمته فأدى عنه آخر ثم طلقها قبل الدخول

ارتدت، أو طلقها الابن قبل الدخول.. فإن جميع الصداق يعود إلى الابن بردتها قبل الدخول، ونصفه بالطلاق قبل الدخول. وهل للأب أن يرجع بذلك على الابن؟ ينظر فيه: فإن رجع إلى الابن بدل الصداق.. لم يرجع به الأب عليه، كما لو وهب لابنه شيئًا فأتلفه، أو أتلفه متلف.. لم يرجع الأب عليه ببدله. وإن رجع إلى الابن الصداق بعينه.. فهل للأب أن يرجع به عليه؟ فيه وجهان، كالوجهين فيما إذا وهب له عينا فخرجت من ملكه ثم رجعت إليه. وإن كان الأب أصدقها عينا من ماله، فطلقها الابن قبل الدخول والعين في يد الأب.. فللابن أن ينزع نصفها من الأب؛ لأنه قد عاد إليه بالطلاق، ولأن ملك المرأة كان ثابتًا عليه. فإذا انتزعه الابن.. فهل للأب أن يرجع به عليه؟ على الوجهين في التي قبلها. وإن تزوج الابن البالغ الرشيد بنفسه، وأصدقها صداقًا في ذمته، فدفع الأب عنه الصداق إليها من ماله.. برئت ذمة الابن، كما لو قضى عن غيره دينًا. فإن طلقها الابن قبل الدخول.. رجع إليه نصف الصداق. فإن كان أخذ بدل الصداق.. لم يرجع به الأب عليه، كما قلنا في الذي دفعه عن الصغير. وإن رجع إلى الابن الذي دفعه الأب بعينه.. فهل للأب أن يرجع به عليه؟ من أصحابنا من قال: فيه وجهان، كما قلنا فيما دفعه عن الصغير. ومنهم من قال: لا يرجع به الأب وجها واحد، والفرق بينهما: أن للأب أن يهب للصغير ويقبل الهبة له من نفسه، فيكون دفعه للصداق عنه هبة له. ولا يملك أن يقبل الهبة للبالغ الرشيد، فيكون دفعه للصداق عنه إسقاط حق عنه، فهو كما لو قضى عن الأجنبي دينًا. [فرع تزوج بصداق في ذمته فأدى عنه آخر ثم طلقها قبل الدخول] ) : وإن تزوج امرأة بصداق في ذمته، فأدى عنه أجنبي الصداق.. برئ الزوج، سواء كان بإذنه أو بغير إذنه. فإن طلقها الزوج قبل الدخول.. فهل يرجع نصفه إلى الزوج أو إلى الأجنبي؟ فيه وجهان:

مسألة وهبت له الصداق أو نصفه أو أبرأته فطلقها قبل الدخول

أحدهما: يعود إلى الزوج؛ لأن الأجنبي ملك الزوج إياه بقضائه عنه. والثاني: يعود إلى الأجنبي؛ لأن الأجنبي لم يملكه إياه؛ لأنه لا يملكه إلا باختيار تملكه، ولم يختر ذلك، وإنما أسقط عنه الحق، فإذا سقط عنه نصف الحق بالطلاق.. رجع النصف إلى الذي دفعه القضاء. [مسألة وهبت له الصداق أو نصفه أو أبرأته فطلقها قبل الدخول] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو وهبت له صداقها قبل القبض أو بعده، ثم طلقها قبل أن يمسها.. ففيه قولان) . وجملة ذلك: أنه إذا أصدقها عينًا، ثم وهبتها من الزوج وأقبضته إياها، ثم طلقها قبل الدخول.. ففيه قولان: أحدهما: لا يرجع عليها بشيء، لأنه قد تعجل له ما كان يستحقه بالطلاق قبل محله، فلا يستحقه عند محله، كما لو تعجل دينه المؤجل قبل محله ثم جاء وقت محله. والثاني: يرجع عليها بنصف مثله إن كان له مثل، أو بنصف قيمته إن لم يكن له مثل، وهو الأصح؛ لأنه عاد إليه بعقد، فلا يمنع ذلك رجوعه عليها ببدل نصفه، كما لو اشتراه منها، أو وهبته لأجنبي ثم وهبه الأجنبي منه. قال المحاملي وابن الصباغ: وسواء قبضت الصداق، أو لم تقبضه. وإن كان الصداق دينا، فإن عينه الزوج في شيء وأقبضه إياها، ثم وهبته منه.. فهي كالأولى. وإن أبرأته منه ثم طلقها قبل الدخول، فإن قلنا: لا يرجع عليها إذا كان عينًا فوهبتها منه.. فهاهنا أولى أن لا يرجع عليها. وإن قلنا: يرجع عليها في العين..

فهل يرجع عليها في الدين؟ فيه قولان، ومنهم من يقول: هما وجهان: أحدهما: يرجع عليها بنصفه؛ لأنها قد ملكت الصداق بالعقد، فهو كالعين. والثاني: لا يرجع عليها بشيء، وهو الصحيح، والفرق بينهما: أن الصداق إذا كان عينا.. فقد ضمنته بالقبض، وفي الدين لم تضمنه بالقبض، فلم يرجع عليها بشيء، ألا ترى أن الصداق لو نقص في يده ثم طلقها قبل الدخول.. لم برجع بالنقص؛ لأنها لم تضمنه؟ هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي (في " الإبانة ") : إن قلنا في العين: يرجع عليها.. ففي الدين أولى أن يرجع عليها. وإن قلنا: لا يرجع عليها في العين.. ففي الدين قولان، والفرق بينهما: أن هناك عاد إليه بعقد جديد، بخلاف هذا. وإن قبضت نصف الصداق، ثم وهبته النصف الباقي منه، ثم طلقها قبل الدخول، فإن قلنا: يرجع عليها إذا وهبت جميع الصداق له.. رجع عليها هاهنا بالنصف أيضًا. وإن قلنا هناك: لا يرجع عليها بشيء.. فهاهنا قولان: (أحدهما) : قال في " الأم ": (لا يرجع عليها بشيء؛ لأنه إنما يرجع عليها بالنصف، وقد تعجل له ذلك النصف، فلم يرجع عليها بشيء) . و (الثاني) : قال في " الإملاء ": (يرجع عليها بنصف الباقي؛ لأنها لو وهبته جميعه.. لم يرجع عليها بشيء، فإذا وهبته نصفه.. كان ذلك من حقها وحقه؛ لأن حقهما شائع في الجميع) . فإذا قلنا بهذا.. ففي كيفية رجوعه ثلاثة أقوال: أحدها: يرجع عليها بالنصف الباقي؛ لأنه يستحق عليها النصف، وقد وجده. والثاني: يرجع عليها بنصف النصف الباقي وقيمة نصف الموهوب؛ لأن حقهما شائع في الجميع، فصار الموهوب كالتالف.

فرع وهبته الصداق أو أبرأته ثم ارتدت قبل الدخول

والثالث: أنه بالخيار: بين أن يرجع بالنصف الباقي، وبين أن يرجع بنصف النصف الباقي ونصف قيمة الموهوب؛ لأنه تبعض عليه حقه. [فرع وهبته الصداق أو أبرأته ثم ارتدت قبل الدخول] وإن وهبته امرأته الصداق أو أبرأته منه، ثم ارتدت قبل الدخول.. فحكم الرجوع عليها بجميع الصداق كالحكم في رجوعه عليها بالنصف عند الطلاق؛ لأنه يستحق عليها الرجوع بالجميع عند ردتها، كما يستحق عليها الرجوع بالنصف عند الطلاق. [فرع هبة البائع ثمن العبد للمشتري أو السيد نجوم المكاتب] ) : وإن اشترى رجل من رجل عبدا بثمن، ثم وهب البائع المشتري الثمن، ثم وجد المشتري بالعبد عيبًا فرده.. فهل يرجع على البائع بالثمن؟ فيه وجهان بناء على القولين في الصداق. وإن وجد بالعبد عيبًا وقد حدث به عنده عيب آخر.. فهل يرجع عليه بالأرش؟ فيه وجهان. قال الشيخ أبو حامد: وإن كاتب عبده على نجوم، ثم وهبها السيد منه.. عتق المكاتب. وهل للمكاتب أن يطالب سيده بالإيتاء؟ على الوجهين. وإن باع من رجل عبدا بثمن في الذمة، ثم إن المشتري وهب العبد من البائع وأفلس المشتري بالثمن.. فللبائع أن يضرب بالثمن مع الغرماء قولا واحدا؛ لأنه حق تعلق بالثمن دون العبد.

مسألة خالعته على شيء من مهرها قبل الدخول

[مسألة خالعته على شيء من مهرها قبل الدخول] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو خالعته على شيء مما عليه من المهر، فما بقي.. فعليه نصفه) . وجملة ذلك: أنه إذا خالعها على نصف مهرها قبل الدخول.. نظرت: فإن كان الصداق عينًا، فخالعها على نصفها، فإن قلنا: إن الزوج يملك نصف الصداق بالطلاق.. لم يصح الخلع على نصف ما سماه في الخلع؛ لأن الخلع بمنزلة الطلاق الذي يوقعه ابتداء، فلم يصح خلعها على النصف الذي يملكه الزوج، وهل يصح في نصف ما سماه في الخلع؟ فيه قولان بناء على القولين في تفريق الصفقة. وما فسد من المسمى في الخلع.. فهل يرجع الزوج عليها ببدله أو بمهر المثل؟ فيه قولان، كما قلنا فيه إذا تلف الصداق قبل القبض. وإن قلنا: إن الزوج لا يملك النصف إلا بالطلاق واختار التملك.. صح الخلع على النصف المسمى في الخلع، ويرجع عليها بالنصف. وهل يرجع عليها بجميع النصف الباقي في يدها، أو بنصفه وبنصف قيمته؟ على الأقوال الثلاثة التي مضت في التي قبلها. وإن كان الصداق ألفًا في ذمة الزوج فخالعها على خمسمائة قبل الدخول.. قال ابن الصباغ: فإن قلنا: إنه يملك نصف الصداق.. فسدت التسمية في الخلع في نصف الخمسمائة، ولا ينصرف ذلك إلى نصيبها من الألف بعد الطلاق؛ لأن وقت التسمية هي مالكة لجميعه، فكان ما سمته من الجملة. وهل تفسد التسمية في نصفها الباقي؟ على القولين. وهل يرجع عليها ببدلها أو بمهر مثلها؟ على القولين. وإن قلنا: إنه لا يملك النصف إلا بالطلاق واختيار التملك.. صح الخلع على ما سمى فيه ويسقط الباقي عن ذمته باختيار التملك.

إذا ثبت هذا: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فما بقي.. فعليه نصفه) . وظاهر هذا: أن الخلع يصح بخمسمائة، ويسقط عن ذمته من الخمسمائة الباقية مئتان وخمسون. واختلف أصحابنا في تأويل هذا: فقال أبو علي بن خيران: أراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذا تخالعا علي خمسمائة من الألف وهما يعلمان أن الخلع لا يصح إلا على مائتين وخمسين منها؛ لأن نصفها يسقط عنه بالطلاق قبل الدخول، فإذا علما بذلك.. فقد رضيا أن يكون عوض الخلع مائتين وخمسين لا غير، فإذا بقي على الزوج خمسمائة، سقط عنه نصفها بالطلاق قبل الدخول. وحكي: أن ابن خيران ألزم، إذا باع عبده وعبد غيره بألف وهما يعلمان أن بيع عبد الغير لا يصح، وأن البيع يصح في عبده بالألف، فالتزمه. ومن أصحابنا من قال: بل أراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إذا قال: اخلعيني بما يخصني من خمسمائة مصرحا بذلك. وقال أبو إسحاق: تأويلها: أن العقد وقع على جميع الخمسمائة؛ لأنها كانت ملكا للزوجة، وإنما يعود نصفها إلى الزوج بعد الطلاق. فإذا تم الخلع..رجع إلى الزوج نصفها، فيكون هذا النصف كالتالف قبل القبض، فيرجع الزوج إلى بدل هذا النصف في القول القديم، وبدل الدراهم دراهم، فيستحق عليها في ذمتها بدل المائتين والخمسين التي كان يستحقها بالطلاق، ويبقى لها عليه خمسمائة، فيسقط عنه نصفها بالطلاق، ويبقى لها عليه مئتان وخمسون، فيتقاصان، فيكون معنى قوله: (فما بقي.. فعليه نصفه) يعني: الخمسمائة التي لم يقع بها الخلع، فذكر ما بقي لها عليه، ولم يذكر ما له عليها، ولا ذكر المقاصة أيضًا. قال الشيخ أبو حامد: وهذه طريقة صالحة. وقال القاضي أبو الطيب: إن الذي قاله الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنما قاله على أن الزوج لا يملك بالطلاق، وإنما يملك بالطلاق والاختيار، فقد صح الخلع بالخمسمائة ويرجع عليها بنصف الباقي وبقيمة نصف ما خالعها به، وإنما لم يذكر نصف ما خالعها به.

مسألة العفو عن المهر قبل الدخول ومن بيده عقدة النكاح

وقال الشيخ أبو حامد: لا يمكن حمل كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على هذا؛ لأنه قال: (فما بقي.. فعليه نصفه) ، ولو أراد: أنه لا يملك إلا بالاختيار.. لقال: فعليه كل ما بقي إلا أن يختار تملك نصيبه. قال أصحابنا: فإن أرادت الخلاص.. خالعته على خمسمائة في ذمتها، ويسقط عنه خمسمائة من الألف، ويبقى لها عليه خمسمائة فيتقاصان، أو تقول: اخلعني على ما تسلم لي من الألف أو على أن لا يبقى بيننا علقة ولا تبعة. [مسألة العفو عن المهر قبل الدخول ومن بيده عقدة النكاح] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (قال الله تعالى: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] [البقرة 237] وجملة ذلك: أنه إذا طلق امرأته قبل الدخول.. جاز لها أن تعفو عن نصف المهر الذي وجب لها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] البقرة [237] ، ولا خلاف: أن المراد به النساء. وجاز للزوج أن يعفو عن النصف الذي له الرجوع فيه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] [البقرة: 237] ، ولا خلاف: أن المراد بذلك الأزواج. وفي الذي بيده عقدة النكاح قولان: (أحدهما) : قال في القديم: (المراد به ولي المرأة) . وبه قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والحسن البصري، والزهري، وطاوس، وربيعة، ومالك، وأحمد رحمة الله عليهم. فيكون تقدير الآية- على هذا -: إلا أن تعفو الزوجات عن النصف الذي وجب لهن

فيكون جميع الصداق للزوج، أو يعفو الولي عن نصيب الزوجة فيكون الجميع للزوج {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] ، يعني: الأزواج. فيكون الجميع للزوجة، لأن الله تعالى قال: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] ، وهذا ورد فيما بعد الطلاق، والذي بيده عقدة النكاح عليها: هو الولي دون الزوج. ولأن الكناية ترجع إلى أقرب مذكور قبله، وأقرب مذكور قبل هذا: هو النصف الذي للمرأة. ولأن الله تعالى ذكر العفو في الآية في ثلاثة مواضع، فإذا حمل هذا على الولي.. حصل لكل عفو فائدة، وإذا حمل على غيره.. جعل أحدهما مكررًا. و (الثاني) : قال في الجديد: (الذي بيده عقدة النكاح: هو الزوج) . وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وجبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وابن المسيب، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وشريح - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وأهل الكوفة: الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه. فيكون تقدير الآية: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] ؛ يعني به: الزوجات. {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] ، يعني به: الأزواج. {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] ، يعني أن عفو الأزواج أفضل من عفو الزوجات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] ، وعقدة النكاح: عبارة عن معقوده، ومعقود النكاح بيد الزوج دون الولي؛ لأن الله تعالى قال: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] ، وهذه مفاضلة بين عفوين تقدم ذكرهما، ولا يصح ذلك إلا إذا كان المراد بالذي بيده عقدة النكاح هو: الزوج. ولأن المهر مال للصغيرة، فلا يصح للولي إسقاطه، كسائر أموالها. فإذا قلنا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي.. لم يصح العفو إلا بخمسة شروط: أحدها: أن يكون الولي أبا أو جدًا؛ لأنهما لا يتهمان فيما يريان من الحظ.

فرع كون الصداق في ذمة أو يد أحدهما ثم طلق قبل الدخول

الثاني: أن تكون المنكوحة صغيرة أو مجنونة، أو سفيهة، فإما البالغة العاقلة الرشيدة: فلا يملكان التصرف في مالها بغير إذنها. الثالث: أن تكون بكرًا، فأما إذا كانت ثيبًا: فلا يملكان العفو عن مهرها؛ لأن الزوج إن كان قد دخل بها.. فقد استهلك بعضها. وإن لم يدخل بها.. فقد لحقها ابتذال، فلا يعفوان عن صداقها. الرابع: أن يكون ذلك بعد الطلاق، فأما قبل الطلاق: فلا يجوز؛ لأن بضعها معرض للتلف. الخامس: أن يكون ذلك قبل الدخول، فأما بعد الدخول: فلا يجوز للولي العفو عن مهرها؛ لأن بضعها قد استهلك. فأما إذا زوج ابنه الصغير، فرجع إليه المهر بانفساخ النكاح: برضاع أو بردتها قبل الدخول، أو زوج ابنه الكبير السفيه، فرجع إليه المهر بردتها قبل الدخول، أو نصفه بطلاقه.. فلا يجوز للأب والجد العفو عنه قولا واحدا؛ لأنه أخرجه من مالهما وقد عاد إليهما بخلاف الصغيرة؛ فإن الأب أكسبه إياها بالتزويج. ولأنه قد يرى لها الحظ في ذلك؛ لأن الناس يرغبون في نكاحها إذا علموا مسامحة الأب وحسن معاملته، بخلاف الابن. [فرع كون الصداق في ذمة أو يد أحدهما ثم طلق قبل الدخول] ) : وإن كان الصداق دينا في ذمة الزوج وطلقها قبل الدخول، وأرادت المرأة العفو عن النصف الذي لها.. صح عفوها بأحد ستة ألفاظ: بأن تقول: أبرأتك عن كذا، أو وهبت لك، أو ملكتك، أو تركت لك، أو أسقطت عنك، أو عفوت عما لي في ذمتك. وهل يفتقر إلى قبول الزوج؟ فيه وجهان مضى ذكرهما، المنصوص: (أنه لا يفتقر) . وإن أراد الزوج أن يعفو عن النصف الذي رجع إليه بالطلاق، فإن قلنا: إنه لا يملك ذلك إلا بالطلاق واختيار التملك ولم يختر بعد.. فله أن يسقط حقه، بأن

يقول: عفوت عنك، أو تركت، أو أسقطت حقي، أو تركت حقي من الاختيار وما أشبه ذلك. وإن قلنا: إنه يملك النصف بالطلاق.. لم يصح عفوه؛ لأن ذمته قد برئت من نصفه بالطلاق. وإن كان الصداق في ذمتها، بأن سلم إليها الصداق وأتلفته، أو تلف ثم طلقها قبل الدخول، فإن أرادت أن تعفو عن النصف الذي لها.. لم يصح عفوها عنه؛ لأنه قد هلك على ملكها وفي يدها. وإن أراد الزوج أن يعفو عنها، فإن قلنا: إنه لا يملك النصف إلا بالطلاق والاختيار.. صح عفوه قبل الاختيار بكل لفظ يتضمن إسقاط حقه، كالعفو، والإسقاط، والترك، كما قلنا فيمن له شفعة فأسقطها، ولا يفتقر إلى قبولها وجها واحدًا. وإن قلنا بالمنصوص، و: (أنه يملك نصفه بالطلاق) .. صح عفوه عنها بأحد الألفاظ الستة من الهبة، والتمليك، والإسقاط، والإبراء، والعفو، والترك. وهل يفتقر إلى قبولها؟ على الوجهين. وإن كان الصداق عينًا في يد الزوج، وأرادت أن تعفو عن النصف الذي لها.. صح بلفظ الهبة، أو التمليك. ولا بد من قبول الزوج، ولا بد من مضي مدة القبض. وهل يفتقر إلى إذنها بالقبض؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما في (الرهن) . ولا يصح عفوها بلفظ: الإبراء والإسقاط؛ لأن ذلك إنما يصح عما في الذمم. وهل يصح بلفظ العفو؟ فيه وجهان، حكاهما في " التعليق "، الصحيح: أنه لا يصح. وإن أراد الزوج أن يعفو عن النصف الذي له، فإن قلنا بقول أبي إسحاق: إنه لا يملك إلا بالطلاق والاختيار، ولم يختر بعد.. صح عفوه بكل لفظ يتضمن إسقاط الخيار. وإن قلنا بالمذهب: (إنه يملك بنفس الطلاق) .. احتاج إلى شرائط الهبة من الإيجاب، والقبول، والإذن بالقبض، والقبض. وإن كان الصداق عينًا في يد الزوجة، فأرادت الزوجة أن تعفو عن نصفها.. افتقر إلى شروط الهبة.

فرع تزوج بمهر حرام أو مجهول

وإن أراد الزوج أن يعفو عنها، فإن قلنا: إنه لا يملك إلا بالطلاق والاختيار، ولم يختر بعد.. سقط حقه بما يتضمن إسقاط حقه من الخيار. وإن قلنا: (إنه يملك بنفس الطلاق) .. فهو يهبها شيئًا في يدها، فلا بد فيه من الإيجاب، والقبول، ومضي مدة القبض. وهل يفتقر إلى إذنه بالقبض؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما. [فرع تزوج بمهر حرام أو مجهول] ) : إذا تزوج امرأة بمهر حرام أو مجهول.. وجب لها مهر مثلها. فإن أبرأته عنه وكانت تعلم قدره.. صحت البراءة. وإن كانت لا تعلم قدره وأبرأته عنه.. لم تصح البراءة. وقال أبو حنيفة: (تصح) . دليلنا: أنه إزالة ملك بلفظ لا يسري، فلم يصح مع الجهل به، كالبيع. وفيه احتراز من العتق. وإذا ثبت أن الإبراء في الكل لا يصح.. فهل يصح في قدر ما يتحققه؟ قال الشيخ أبو حامد: المعروف أنه لا يصح. وقال أبو إسحاق: يصح؛ لأنا إنما منعنا صحة البراءة في الكل لأجل الغرر، وهذا لا يوجد فيما يتحقق أنه لها. وإن كانت تعلم أن المهر يزيد على مائة ولا يبلغ ألفا، فقالت: أبرأتك من مائة إلى ألف.. صح؛ لأن الغرر قد زال. [مسألة نكاح المفوضة] التفويض- في اللغة-: أن يكل الرجل أمره إلى غيره. ومنه قول الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا

يعني: إذا لم يكن لهم رأس، وإنما يكل بعضهم الأمور إلى بعض. وأما التفويض - في الشرع-: فهو تفويض المرأة البضع في النكاح. يقال: امرأة مفوضة- بكسر الواو-: إذا أضفت التفويض إليها. ومفوضة - بفتح الواو-: إذا أضفت التفويض إلى غيرها. والتفويض على ضربين: تفويض مهر، وتفويض بضع. فأما (تفويض المهر) : فمثل أن يقول: تزوجتك على أي مهر شئت أو شئت أو شئنا.. فالنكاح صحيح، ويجب لها مهر مثلها في العقد. وأما (تفويض البضع) : فبأن يقول الولي: زوجتكها ويسكت عن المهر، أو زوجتكها بلا مهر في الحال، وكان ذلك بإذن المرأة لوليها وهي من أهل الإذن.. فإن النكاح ينعقد. وأما المهر: فقد قال الشيخ أبو حامد: لا يجب لها مهر في العقد قولًا واحدًا، ولكنها قد ملكت بالعقد أن تملك مهرا ما؛ لأن لها المطالبة بفرضه، فهي كالشفيع ملك أن يملك الشقص. وأي مهر ملكت أن تملكه؟ فيه قولان: أحدهما: مهر المثل، والمفروض بدل عنه. والثاني: ما يتفقان عليه. وقال أبو حنيفة: (يجب لها مهر المثل بالعقد) . وحكى الشيخ أبو إسحاق: أنه أحد قولينا؛ لأنه لو لم يجب بالعقد.. لما استحقت المطالبة به، ولما استقر بالدخول.

فرع المفوضة تطالب بفرض المهر

ودليلنا - على أنه لا يجب بالعقد -: أنه لو وجب المهر لها بالعقد.. لتنصف بالطلاق، كالمسمى في العقد. فإذا قلنا: إنها ملكت أن تملك مهر المثل، ويكون المفروض بدلا عنه؛ فلأنه إذا عقد عليها النكاح.. فقد استهلك بضعها، فوجب أن يكون لها بدله، وبدله هو مهر المثل. وإذا قلنا: ملكت أن تملك مهرا ما، وإنما يتقدر ذلك بالفرض- قال أبو إسحاق: وهو أقواهما - ولأن المهر الذي تملكه المرأة بعقد النكاح مهران: مهر تملكه بالتسمية، ومهر تملكه بالفرض، ثم ثبت: أن المهر الذي تملكه بالتسمية لا يتقدر إلا بالتسمية، فكذلك المهر الذي تملكه بالفرض لا يتقدر إلا بالفرض. ولأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نص: (على أنهما إذا فرضا لها أكثر من مهر المثل.. لزم لها الجميع) ، ولو كانت الزيادة على مهر المثل هبة.. لم يلزم بالفرض، وإنما يلزم بالقبض. [فرع المفوضة تطالب بفرض المهر] ) : وللمفوضة أن تطالب بفرض المهر؛ لأن إخلاء العقد عن المهر خالص للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فإن ترافعا إلى الحاكم.. فرض لها مهر مثلها؛ لأن زيادته على ذلك.. ميل على الزوج، ونقصانه عنه.. ميل عليها. ولا يصح فرضه إلا بعد معرفته بقدر مهر مثلها؛ لأنه لا يمكنه الفرض إلا بذلك. وإن تراضى الزوجان ففرضاه بينهما، فإن كانا عالمين بقدر مهر مثلها.. صح فرضهما، فإن فرضا لها مهر مثلها.. صح، وإن فرضا أكثر من ذلك.. صح، ولزم وقد سمح الزوج، وإن فرضا أقل منه.. صح، ولم يلزم الزوج أكثر منه؛ لأنها سمحت.

فرع استحباب فرض المهر للمفوضة قبل الدخول وحصول طلاق أو موت

وإن كانا جاهلين بقدر مهر مثلها أو أحدهما، فإن قلنا: إنها ملكت بالعقد أن تملك مهر المثل.. لم يصح فرضهما؛ لأن المفروض بدل عن مهر المثل، فلا بد أن يكون المبدل معلومًا عندهما. وإن قلنا: ملكت بالعقد أن تملك مهرا ما.. صح فرضهما. وإذا فرض لها الحاكم.. لم يفرض لها إلا من نقد البلد؛ لأنه بدل بضعها التالف، فهو كما لو أتلف عليها عينًا من مالها. وإن فرضه الزوجان بينهما.. جاز أن يفرضا نقدًا أو عرضًا مما يجوز تسميته في العقد، ولا يلزم إلا ما اتفقا عليه من ذلك. وإذا فرض لها مهر صحيح.. فكان ذلك كالمسمى لها في العقد يستقر بالدخول أو بالموت، ويتنصف بالطلاق قبل الدخول. وقال أبو حنيفة: (إذا طلقها قبل الدخول.. سقط المفروض ووجبت لها المتعة) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] . [البقرة 237] ولأنه مهر واجب قبل الطلاق فينصف بالطلاق، كالمسمى لها في العقد. [فرع استحباب فرض المهر للمفوضة قبل الدخول وحصول طلاق أو موت] ويستحب أن لا يدخل بها حتى يفرض لها لئلا تشتبه بالموهوبة. فإن لم يفرض لها حتى وطئها.. استقر عليه مهر المثل؛ لأن الوطء في النكاح من غير مهر خالص لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فإن طلقها قبل الفرض والمسيس.. لم يجب لها المهر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، وهذا لم يفرض. وإن مات أحدهما قبل الفرض والمسيس.. توارثا، ووجب عليها عدة الوفاة إن مات الزوج قبلها بلا خلاف؛ لأن الزوجية ثابتة بينهما إلى الموت، وهل يجب لها مهر المثل؟ فيه قولان:

أحدهما: يجب لها مهر مثلها. وبه قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، وإسحاق - رحمة الله عليهم -، إلا أن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: (يجب لها مهر مثلها بالعقد) . ووجه هذا القول: ما روى عبد الله بن عتبة بن مسعود: (أن ابن مسعود- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يسمِّ لها مهرا، فمات عنها قبل الدخول، فردد السائل شهرًا، ثم قال: أقول فيها برأيي، فإن أصبت.. فمن الله تعالى، وإن أخطأت.. فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان: لها الميراث، وعليها العدة، ولها مهر مثلها لا وكس ولا شطط. فقام إليه معقل بن سنان الأشجعي وقال: أشهد، لقد قضيت مثل ما قضى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بروع بنت واشق، ففرح ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بذلك) .

فرع تزويج الولي وليته بدون مهر

ولأن الموت سبب يستقر به المسمى، فاستقر به مهر المفوضة، كالدخول. والثاني: لا يجب لها المهر. وبه قال علي بن أبي طالب، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم -، وأهل المدينة: الزهري وربيعة ومالك، والأوزاعي من أهل الشام. ولأنها فرقة وردت على المفوضة قبل الفرض والمسيس، فلم يجب لها المهر، كالطلاق. وأما خبر ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فهو مضطرب، فروي: (أنه قام إليه ناس من أشجع) ، وروي: (أنه قام إليه رجل من أشجع) ، وروي (أنه قام إليه معقل بن سنان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ، وروي: (أنه قام إليه معقل بن يسار) ، وروي: (أنه قام إليه أبو سنان) . ويجوز أن تكون بروع مفوضة المهر لا مفوضة البضع. [فرع تزويج الولي وليته بدون مهر] وإن زوج الولي وليته بإذنها وهي من أهل الإذن على أن لا مهر لها في الحال، ولا فيما بعد.. فهل يصح النكاح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح النكاح؛ لأنها في معنى الموهوبة، وذلك لا يصح إلا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والثاني: يصح النكاح ويبطل الشرط؛ لأن النكاح لا يخلو من مهر، فإذا شرط أن

فرع تفويض السيد بضع أمته

لا مهر لها بحال.. ألغي الشرط؛ لبطلانه، ولا يبطل النكاح؛ لأنه لا يبطل لبطلان المهر. فعلى هذا: تكون مفوضة البضع، وقد مضى حكمها. فإن زوج الأب أو الجد الصغيرة، أو الكبيرة المجنونة، أو البكر البالغة العاقلة بغير إذنها، وفوض بضعها، أو أذنت المرأة لوليها في تزويجها ففوض بضعها بغير إذنها.. لم تكن مفوضة، بل يجب لها مهر المثل؛ لأن التفويض إنما يتقرر بإذنها إذا كانت من أهل الإذن. هذا هو: المشهور من المذهب. وقال أبو علي بن أبي هريرة: إذا قلنا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب أو الجد.. صح تفويضه لبضع الصغيرة والمجنونة، كما يصح عفوه. والأول أصح؛ لأنه إنما يصح عفوه على أحد القولين بعد الطلاق، فأما مع بقاء النكاح.. فلا يصح. [فرع تفويض السيد بضع أمته] ) : وإن فوض السيد بضع أمته.. كانت مفوضة، وللسيد أن يطالب بفرض المهر، كما قلنا في الحرة. فإن أعتقها أو باعها قبل الفرض والمسيس، فإن قلنا: إن الحرة المفوضة ملكت بالعقد أن تملك مهر المثل.. كان المهر هاهنا للبائع أو المعتق. وإن قلنا: ملكت أن تملك مهرًا ما.. كان المهر لها إن أعتقت، أو لمشتريها. [فرع وطء الزوج المفوضة بعد سنين أو امرأة بنكاح فاسد واعتبار المهر] قال ابن الصباغ: إذا وطئ الزوج المفوضة بعد سنين وقد تغيرت صفتها.. فإنه يجب لها مهر المثل معتبرًا بحال العقد؛ لأن سبب وجوب ذلك إنما هو بالعقد، فاعتبر به.

مسألة اعتبار العصبات في مهر المثل ومواضعه

وقال القاضي أبو الطيب: يعتبر مهرها أكثر ما كان من حين العقد إلى حين الوطء؛ لأن لها أن تطالبه بفرض المهر في كل وقت من ذلك. وإن نكح امرأة نكاحًا فاسدًا ووطئها.. اعتبر مهرها حال وطئها. فإن أبرأته من مهرها قبل الفرض.. لم تصح البراءة؛ لأن المهر لم يجب، والبراءة من الدين قبل وجوبه لا تصح. وإن أسقطت حقها من المطالبة بالمهر.. قال ابن الصباغ: لم يصح إسقاطه عندي؛ لأن إثبات المهر ابتداء حق لها يتعلق به حق الله تعالى؛ لأن الشرع منعها من هبة بضعها، وإنما خص به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولهذا لا يصح أن يطأها بغير عوض. [مسألة اعتبار العصبات في مهر المثل ومواضعه] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ومتى قلت: لها مهر نسائها.. فإنما أعني: نساء عصباتها، وليس أمها من نسائها) . وجملة ذلك: أن أصحابنا قالوا: يجب لها مهر المثل في سبعة مواضع: أحدها: مفوضة المهر. الثاني: مفوضة البضع إذا دخل بها الزوج قبل الفرض، أو مات عنها في أحد القولين. الثالث: إذا فوض الولي بضعها بغير إذنها. الرابع: إذا نكحت المرأة بمهر فاسد أو مجهول. الخامس: إذا نكحها نكاحا فاسدًا ووطئها. السادس: إذا وطئ امرأة بشبهة. السابع: إذا أكره امرأة على الزنا. وكل موضع وجب للمرأة مهر مثلها.. فإنها تعتبر بنساء عصباتها، كالأخوات وبنات الإخوة والعمات وبنات الأعمام. ولا تعتبر بنساء ذوي أرحامها، كأمهاتها وخالاتها، ولا بنساء بلدها من غير عصباتها مع وجود نساء عصباتها.

وقال مالك: (تعتبر بنساء بلدها) . وقال ابن أبي ليلى، وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى: (تعتبر بنساء عصباتها، وبنساء ذوي أرحامها) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في بروع بنت واشق: أن لها مهر نساء قومها» وهذا يقتضي قومها الذين تنسب إليهم. ولأنه إذا لم يكن بد من اعتبارها بغيرها من النساء.. فاعتبارها بنساء عصباتها أولى؛ لأنها تساويهن في النسب. وتعتبر بمن هي في مثل حالها في الجمال، والعقل، والأدب، والسن، والبكارة، والثيوبة، والدين، وصراحة النسب. وإنما اعتبر الجمال؛ لأن له تأثيرا في الاستمتاع، وهو المقصود في النكاح. واعتبر العقل والأدب؛ لأن مهر العاقلة الأديبة أكثر من مهر من لا عقل لها ولا أدب. وكذلك مهر الشابة والبكر أكثر من مهر العجوز والثيب. ومهر العفيفة أكثر من مهر الفاسقة. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وصراحتها) . فمن أصحابنا من قال: أراد الفصاحة في اللسان. وقال أكثرهم: أراد صراحة النسب؛ لأن العرب أكمل من العجم. فإن كانت بين عربيين.. لم تعتبر بمن هي بين عربي وعجمية؛ لأن الولد بين عربي وعجمية هجين، والولد بين عربية وعجمي مقرف ومذرع. قال الشاعر في المقرف: وما هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراس تجللها بغل فإن نتجت مهرًا كريمًا فبالحرى ... وإن يك إقرافًا فما أنجب الفحل

فرع عادات الآباء في المهور

وقال في المذرع: إن المذرع لا تغني ضؤولته ... كالبغل يعجز عن شوط المحاضير ويعتبر بالأقرب فالأقرب، فإن لم يكن في أخواتها مثلها.. صعد إلى بنات أخيها، ثم إلى عماتها، ثم إلى بنات عمها. فإن كان لها نساء عصبات في بلاد متفرقة، ومهور أهل تلك البلاد تختلف.. اعتبرت بنساء عصباتها من أهل بلدها؛ لأنها أقرب إليهن. فإن لم يكن لها نساء عصبة، أو كان لها نساء عصبة ولم يوجد فيهن مثلها.. اعتبرت بأقرب النساء إليها من ذوي أرحامها، كأمهاتها وخالاتها. فإن لم يكن لها من يشبهها منهن.. اعتبرت بنساء بلدها، ثم بنساء أقرب بلد إلى بلدها. [فرع عادات الآباء في المهور] ) : فإن كان من عادتهم إذا زوجوا من عشيرتهم خففوا المهر، وإذا زوجوا من الأجانب ثقلوا المهر.. حمل الأمر على ذلك. فإن كان زوجها من عشيرتها.. خفف المهر، وإن كان من الأجانب.. ثقل؛ لأن المهر يختلف بذلك.

فرع وجوب مهر المثل حالا من نقد البلد

قال ابن الصباغ: وينبغي على هذا: إذا كان الزوج شريفًا، والعادة جارية أن يخفف المهر لشرف الزوج.. أن يعتبر ذلك. [فرع وجوب مهر المثل حالًا من نقد البلد] ) : ويجب مهر المثل حالًا من نقد البلد. وقال الصيمري: إن جرت عادتهم في ناحية بالثياب وغير ذلك.. قضي لها بذلك. والمنصوص: هو الأول؛ لأنه بدل متلف، فأشبه سائر المتلفات. قال الطبري: وإن كان عادة نساء عصباتها التأجيل في المهر.. فإنه لا يجب لها المهر مؤجلًا، بل يجب حالًا، وينقص منه لأجل التأجيل؛ لأن القيم لا تكون مؤجلة. [مسألة إعسار الزوج بالصداق] ) : وإذا أعسر الرجل بالصداق.. فهل يثبت لها الخيار في فسخ النكاح؟ فيه ثلاثة طرق، حكاها ابن الصباغ. ومن أصحابنا من قال: إن كان بعد الدخول.. لم يثبت لها الخيار قولًا واحدًا، وإن كان قبل الدخول.. ففيه قولان: أحدهما: يثبت لها الخيار؛ لأنه تعذر عليها تسليم العوض والمعوض باق بحاله، فكان لها الرجوع إلى المعوض، كما لو أفلس المشتري بالثمن والمبيع باق بحاله. والثاني: لا يثبت لها الخيار؛ لأن تأخير المهر ليس فيه ضرر متحقق، فهو بمنزلة الخادم في النفقة إذا أعسر بها الزوج. ومنهم من قال: إن كان قبل الدخول.. ثبت لها الخيار قولًا واحدًا، وإن كان بعد الدخول.. ففيه قولان: أحدهما: لا يثبت لها الخيار؛ لأن المعقود عليه قد تلف، فهو كما لو تلف المبيع في يد المشتري ثم أفلس.

والثاني: يثبت لها الخيار، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأن المرأة يجب عليها التمكين من الوطء، وجميعه في مقابلة الصداق وإن سلمت بعضه فكان لها الفسخ في الباقي، فهو كما لو وجد البائع بعض المبيع في يد المفلس. ومنهم من قال: إن كان قبل الدخول.. ثبت لها الخيار قولًا واحدًا، وإن كان بعد الدخول.. لم يثبت لها الخيار قولًا واحدًا؛ لأن قبل الدخول لم يتلف البضع، وبعد الدخول قد تلف البضع؛ لأن المسمى يستقر بالوطأة الأولى، كما يستقر الثمن بتسليم جميع المبيع، وباقي الوطآت تبع للأولى. فإذا تزوجت امرأة رجلًا مع العلم بإعساره بالمهر، وقلنا: يثبت لها الخيار إذ لم تعلم به.. فهل يثبت لها الخيار هاهنا؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: لا يثبت لها الخيار؛ لأنها رضيت بتأخيره، بخلاف النفقة؛ فإن النفقة لا تجب بالعقد، ولأنه قد يتمكن المعسر من النفقة بالكسب والاجتهاد، بخلاف الصداق. والثاني: يثبت لها الخيار؛ لأنه يجوز أن يقدر عليه بعد العقد، فلا يكون علمها بإعساره.. رضًا بتأخير الصداق، كالنفقة. وإن أعسر بالصداق، فرضيت بالمقام معه.. لم يكن لها الخيار بعد ذلك؛ لأن حق الصداق لم يتجدد، بخلاف النفقة، هذا ترتيب البغداديين. وقال المسعودي (في " الإبانة ") : إذا رضيت بإعساره بالمهر ثم رجعت، فإن كان قبل الدخول.. كان لها الامتناع، وإن كان بعد الدخول.. لم يكن لها الامتناع. وإن رضيت بالمقام معه بعد ما أعسر بالصداق.. سقط حقها من الفسخ، ولا يلزمها أن تسلم نفسها، بل لها أن تمتنع حتى يسلم صداقها؛ لأن رضاها إنما يؤثر في إسقاط الفسخ دون الامتناع، ولا يصح الفسخ للإعسار بالصداق إلا بالحاكم؛ لأنه مجتهد فيه، فهو كفسخ النكاح بالعيب.

مسألة إذن السيد بالنكاح لعبده وتعلق المهر والنفقة

[مسألة إذن السيد بالنكاح لعبده وتعلق المهر والنفقة] ) : وإن أذن السيد لعبده في النكاح.. فإن إطلاق إذنه يقتضي نكاحه بمهر المثل؛ لأنه محجور عليه، فلم يكن له الزيادة على مهر المثل، كالسفيه. فإن نكح بمهر المثل أو دونه نكاحًا صحيحًا.. لزمه المهر بالعقد، ولزمه نفقتها إذا أمكنته من الاستمتاع بها، كما قلنا في الحرة. إذا ثبت هذا: فلا يخلو العبد: إما أن يكون مكتسبًا غير مأذون له في التجارة، أو مأذونًا له في التجارة، أو غير مكتسب ولا مأذون له في التجارة. فإن كان مكتسبًا غير مأذون له في التجارة.. تعلق المهر والنفقة في كسبه؛ لأنه لا يخلو: إما أن يتعلق ذلك بذمة السيد، أو برقبة العبد، أو بذمته إلى أن يعتق، أو بكسبه، فبطل أن يقال: يتعلق بذمة السيد؛ لأنه لم يضمن ذلك، وإنما أذن في النكاح، وذلك ليس بضمان. وبطل أن يقال: يتعلق ذلك برقبة العبد؛ لأنه حق وجب برضا من له الحق، وإنما يتعلق برقبته ما وجب بغير رضا من له الحق. وبطل أن يقال يتعلق بذمته إلى أن يعتق؛ لأنه يجب في مقابلة ما يستحقه من الاستمتاع حالًا. فإذا بطلت هذه الأقسام.. لم يبق إلا تعلقه بكسبه. فإن قيل: ما الفرق بين هذا وبين الدين الذي يلزم المأذون له في التجارة، حيث قلنا: لا يقضى من كسبه، وإنما يتعلق بذمته إلى أن يعتق؟ قلنا الفرق بينهما: أن هذا الدين لزمه بغير إذن السيد؛ لأنه إن دفع إليه مالا وقال: اتجر به، فما لزمه من غيره.. لم يلزمه بإذنه، وإن قال: اتجر بجاهك.. فقد أمره أن يأخذ ويعطي، فإذا أخذ ولم يعط حتى ركبه الدين.. كان لازمًا له بغير إذنه، فصار كما لو استدان بغير إذنه، والمهر والنفقة لزماه بإذنه. ولأن المقصود بالنكاح

الاستمتاع، وذلك لا يحصل إلا بالمهر والنفقة، والمقصود من التجارة حصول الربح للسيد، وفي المنع من قضاء الدين من كسبه توفير على السيد. إذا ثبت هذا: وأن المهر والنفقة في كسبه.. فعلى السيد تخليته بالنهار للاكتساب، وبالليل للاستمتاع؛ لأن إذنه بالنكاح يتضمن ذلك، إلا أن يختار السيد أن يستخدمه نهارًا.. فإنه يلزمه نفقته ونفقة زوجته. هكذا ذكر ابن الصباغ. وذكر الشيخ أبو حامد: أنه لا يجوز له استخدامه بالنهار إلا أن يضمن عنه المهر والنفقة. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (ولا يتعلق المهر والنفقة إلا في الكسب الحادث بعد النكاح) . فأما ما اكتسبه قبل النكاح.. فلا يتعلقان به؛ لأنهما إنما يجبان بالنكاح، فتعلقا بالكسب الحادث بعده دون ما قبله. قال أصحابنا: وهكذا لو كان المهر مؤجلًا.. فإنه يتعلق بالكسب الحادث بعد حلوله دون ما اكتسبه قبل حلوله. وإن كان العبد مأذونًا له في التجارة.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم " ونقله المزني - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إنه يعطي مما في يده) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يدفع المهر والنفقة من أصل المال الذي في يده للتجارة؛ لأنه يجوز أن يقضي منه دين التجارة، والمهر والنفقة دين عليه لزمه برضا السيد، فهو كدين التجارة. ومنهم من قال: لا يجوز له أن يدفع المهر والنفقة من المال الذي بيده للتجارة، وإنما يدفعهما من فضل المال الذي بيده للتجارة، كما لا يجوز أن يدفعهما من المال الذي اكتسبه قبل النكاح؛ لأن ذلك مال السيد، وحمل النص على فضل المال. وإن كان العبد غير مكتسب ولا مأذون له في التجارة.. فمن أين يستوفى المهر والنفقة؟

فرع يصح تزوج العبد بأكثر من مهر المثل

حكى الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق ـ: فيهما قولين، وحكاهما القاضي أبو الطيب وجهين: أحدهما: يتعلقان بذمة العبد إلى أن يعتق؛ لأنه حق وجب برضا من له الحق فتعلق بذمته، كما لو استدان شيئًا. فعلى هذا: يثبت لها الخيار في فسخ النكاح. والثاني: يجبان في ذمة السيد؛ لأنه لما أذن له في النكاح مع علمه بوجوب المهر والنفقة، وعلمه بحاله.. كان ذلك رضًا منه بضمانهما. [فرع يصح تزوج العبد بأكثر من مهر المثل] وإن أذن السيد لعبده في النكاح، فتزوج بأكثر من مهر المثل.. صح النكاح والمهر، إلا أن قدر مهر المثل يتعلق بكسبه، وما زاد عليه يتعلق بذمته إلى أن يعتق؛ لأنه لا ضرر على المولى بذلك. [فرع النكاح بغير إذن السيد أو أذن له فنكح نكاحًا فاسدًا] ) : وإن نكح العبد بغير إذن سيده.. لم يصح النكاح. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يصح، وللسيد فسخه) . وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يكون النكاح موقوفًا على إجازة السيد) ، بناء على أصله. دليلنا: ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه.. فهو عاهر» و (العاهر) : الزاني، ولم يرد أنه زان في الحقيقة، وإنما أراد: أنه فعل فعلًا محرمًا كالزاني. وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نكح العبد بغير إذن سيده.. فنكاحه باطل»

إذا ثبت هذا: فإنه يفرق بينهما؛ لأن النكاح الفاسد لا يقر عليه. فإن كان لم يدخل بها.. فلا شيء عليه. وإن كان دخل بها.. وجب عليه لها المهر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها.. فنكاحها باطل " إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإن مسها.. فلها المهر بما استحل من فرجها» ومن أين يستوفى؟ فيه قولان: (أحدهما) : قال في القديم: (يتعلق برقبته فيباع فيه، إلا أن يختار السيد أن يفديه) ؛ لأنه كجنايته، وجنايته في رقبته. و (الثاني) : قال في الجديد: (يتعلق في ذمته إلى أن يعتق) ؛ لأنه حق وجب برضا من له الحق، فهو كما لو استدان دينًا. وإن أذن السيد لعبده بالنكاح فنكح نكاحًا فاسدًا.. فإنه يفرق بينهما. فإن كان لم يدخل بها.. فلا شيء عليه. وإن كان قد دخل بها.. وجب عليه المهر؛ لما ذكرناه في التي قبلها. وهل يتضمن إذن السيد النكاح الصحيح والفاسد؟ فيه قولان: أحدهما: أن إذنه يتضمنهما؛ لأن النكاح الفاسد لما كان حكمه حكم الصحيح في وجوب المهر والعدة ولحوق النسب.. جاز أن يكون الإذن متضمنًا له كالصحيح. فعلى هذا: يستوفى المهر هاهنا من حيث يستوفى المهر في النكاح الصحيح. والثاني: أنه يتضمن الصحيح دون الفاسد، وهو الصحيح؛ لأن إطلاق الإذن يقتضي نكاحًا شرعيًا، والشرعي هو الصحيح دون الفاسد، كما لو وكل وكيلًا يبيع له شيئًا أو يبتاعه.. فإن إذنه لا يتضمن الفاسد. وأما وجوب المهر والعدة ولحوق النسب.. فإن ذلك من أحكام الوطء في النكاح لا من أحكام النكاح.

فرع الإذن للعبد بالنكاح وإرادة السفر به

فعلى هذا: في محل استيفاء المهر هاهنا قولان، كما لو نكح بغير إذن سيده: أحدهما: في ذمته. والثاني: في رقبته. [فرع الإذن للعبد بالنكاح وإرادة السفر به] ) : وإن أذن لعبده بالنكاح فنكح، ثم أراد أن يسافر بعبده، فإن لم يضمن المهر والنفقة عنه.. لم يكن له ذلك؛ لأنه ينقطع بالسفر عن الاكتساب لهما. وإن ضمن عنه المهر والنفقة.. كان له أن يسافر به، كما يجوز له أن يسافر بالأمة المزوجة. [فرع مطالبة المرأة السيد أو العبد المكتسب بالمهر] ) : وإن أذن لعبده أن يتزوج امرأة بألف، فتزوجها بألف، ثم ضمن السيد عنه الألف.. صح ضمانه؛ لأنه دين ثابت في ذمة العبد، فصح ضمانه. فإن كان العبد مكتسبًا.. فلها أن تطالب به السيد، ولها أن تطالب به من كسب العبد. وإن كان غير مكتسب.. طالبت به السيد لا غير. فإن طلقها العبد.. نظرت: فإن كان بعد الدخول.. فقد استقر صداقها، فإن كانت قد استوفته.. فلا كلام. وإن لم تستوفه.. طالبت به. وإن كان قبل الدخول، فإن كانتا لم تقبض الصداق.. سقط عن الزوج نصفه، وبرئت ذمة السيد عن ذلك النصف؛ لأن ذمة الضامن فرع لذمة المضمون عنه، ولها أن تطالب بالنصف الباقي كما كانت تطالب به قبل الطلاق. وإن كانت قد قبضت الصداق.. وجب عليها أن ترد النصف. فإن كان العبد مملوكًا حال ما طلق.. وجب عليها رد ذلك النصف إلى السيد، سواء قبضته من السيد أو من كسب العبد؛ لأنه مال له. وإن كان معتقًا حال الطلاق.. قال الشيخ أبو حامد: ردت ذلك النصف إلى الزوج، سواء قبضته من السيد أو من كسب العبد؛ لأنه كسب للزوج بالطلاق وهو حر حال الطلاق فكان له، كما لو زوج

فرع تزوج حرة بإذن سيده ثم باع زوجها لها

ابنه الصغير ثم بلغ الابن وطلق قبل الدخول وقد قبضت الصداق.. فإنها ترد نصف الصداق إلى الابن، سواء قبضته من ماله أو تطوع أبوه بالدفع عنه. [فرع تزوج حرة بإذن سيده ثم باع زوجها لها] ) : وإن تزوج العبد حرة بإذن سيده بألف، وضمن السيد عنه الألف، ثم باعها السيد زوجها بألف في ذمتها.. صح البيع، وانفسخ النكاح. فإن كان ذلك قبل الدخول.. فهل المغلب فيه جهة الزوج أو جهة الزوجة؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. فإن قلنا: المغلب فيه جهة الزوج.. سقط عن الزوج نصف المهر، وسقط عن السيد ذلك، وبقي النصف لها في ذمتهما، وينبغي أن يكون في بقاء هذا النصف لها وجهان يأتي ذكرهما. وإن قلنا: المغلب في الشراء جهة المرأة، وهو المنصوص.. سقط جميع المهر عن ذمتهما. وإن كان الشراء بعد الدخول.. فقد استقر المسمى، ولكنها قد ملكت العبد، وهل يكون حدوث ملكها عليه موجبًا لسقوط مهرها عن ذمته؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: يسقط؛ لأن السيد لا يثبت له في ذمة عبده دين. والثاني: لا يسقط، وهو المنصوص؛ لأن الملك إنما ينافي أن يتجدد للسيد في ذمة عبده دين، فأما الدين الثابت في ذمته قبل الملك: فإن حدوث الملك له عليه لا ينافيه. فإذا قلنا بالأول.. سقط عن ذمة السيد؛ لأنه فرع لذمة العبد، فإذا سقط عن الأصل.. سقط عن الفرع.

فرع لا مهر على سيد زوج عبده بأمته

وإذا قلنا بالثاني.. فإن للسيد عليها الثمن، ولها على السيد المهر، وهل يتقاصان؟ على الأقوال في المقاصة. وأما إذا باعها السيد زوجها بالألف التي هي المهر، فإن كان ذلك قبل الدخول.. فقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على: (أن البيع لا يصح) ، وهذا يدل على: أن المغلب في الشراء جهة المرأة؛ لأنه إذا كان فسخ النكاح من جهتها.. سقط جميع المهر، وإذا سقط جميع المهر.. لم يصح البيع، وكل سبب إذا ثبت جر بثبوته سقوط غيره.. فإنه يسقط ولا يثبت. وإن كان بعد الدخول.. فقد قال المسعودي (في " الإبانة ") : إن قلنا بسقوط مهرها عنه إذا ملكته.. لم يصح البيع. وإن قلنا: لا يسقط.. صح البيع. وقال الشيخ أبو حامد وعامة أصحابنا: يصح البيع، ويبطل النكاح، وتكون مستوفية لمهرها؛ لأن الفسخ بعد الدخول لا يوجب سقوط المهر، وقد وقع البيع بنفس الصداق، فصارت مستوفية. ويفارق إذا اشترته بغير الصداق؛ لأن هناك تم ملكها وفي ذمته لها دين، فسقط في أحد الوجهين، وهاهنا تم ملكها عليه ولا شيء في ذمته لها، فلم يسقط تملكها إياه. [فرع لا مهر على سيد زوج عبده بأمته] إذا زوج الرجل عبده بأمته.. لم يجب المهر. وحكى أصحاب أبي حنيفة: أنه يجب ويسقط؛ لأنه لا يخلو النكاح عن المهر. وهذا ليس بصحيح؛ لأن المهر لو وجب.. لوجب للسيد على عبده، والسيد لا يثبت له على عبده المال ابتداء. إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في القديم: (يستحب أن يذكر المهر في العقد؛ لأنه من سنة النكاح) .

فرع زوج عبده بأمة غيره وجعله صداقها

وقال في الجديد: (إن شاء.. ذكره، وإن شاء.. لم يذكره؛ لأنه لا فائدة في ذكره) ، وهذا أصح. [فرع زوج عبده بأمة غيره وجعله صداقها] ) : وإن زوج الرجل عبده بأمة غيره، وجعل العبد الذي هو زوجها صداقها.. صح النكاح والصداق؛ لأن الزوجة لا تملك زوجها وإنما يملكه سيدها. ويجوز للسيد أن يزوج عبده بأمته، فإن طلقها العبد قبل الدخول.. رجع إلى مولى العبد نصفه، ولمولى الأمة نصفه. وإن أعتقت الأمة ففسخت النكاح قبل الدخول، أو وجدت به عيبًا، أو وجد بها عيبًا ففسخ النكاح قبل الدخول.. رجع جميع العبد إلى مولاه. وإن أعتق مولى الأمة العبد.. نفذ عتقه؛ لأنه ملكه، فإن طلق العبد الأمة قبل الدخول.. رجع مولى العبد على مولى الجارية بنصف قيمته. وكذلك إن وجد أحدهما بالآخر عيبًا ففسخ النكاح قبل الدخول.. رجع مولى العبد على مولى الأمة بجميع قيمة العبد؛ لأنه أتلفه بالعتق، بخلاف ما لو أصدق عن ابنه الصغير من مال نفسه، ثم بلغ الصبي وطلقها قبل الدخول.. فإن نصف الصداق يرجع إلى الابن دون الأب؛ لأن ذلك هبة من الأب للابن، وهاهنا خرج العبد من مولاه إلى مولى الأمة فرجع ما خرج منه إليه. [فرع زوج عبده بحرة وجعله صداقها] وإن زوج الرجل عبده بحرة وأصدقها إياه.. قال القاضي أبو الطيب: لم يصح النكاح؛ لأنها لا تملك زوجها، ولأن ملك الصداق والبضع يقعان في حالة واحدة، فإذا لم تملك الصداق.. لم يملك البضع.

فرع زواج السفيه بغير إذن الولي

[فرع زواج السفيه بغير إذن الولي] ) : وإن تزوج السفيه بغير إذن الولي.. فالنكاح باطل، ويفرق بينهما. فإن كان لم يدخل بها.. فلا شيء عليه. وإن دخل بها.. فهل يجب عليه المهر؟ فيه قولان: أحدهما: يجب عليه المهر؛ لأنه بمنزلة جنايته. والثاني: لا يجب عليه، وهو الأصح؛ لأنه إتلاف برضا من له الحق، فهو كما لو ابتاع منها سلعة فأتلفها. وبالله التوفيق

باب اختلاف الزوجين في الصداق

[باب اختلاف الزوجين في الصداق] إذا اختلف الزوجان في قدر المهر، بأن قال: تزوجتك بمائة، فقالت: بل بمائتين، أو في جنسه، بأن قال: تزوجتك على دراهم، فقالت: بل على دنانير، أو في عينه، بأن قال: تزوجتك بهذا العبد، فقالت: بل بهذه الجارية، أو في أجله، بأن قال: تزوجتك بمهر مؤجل، فقالت بل بمهر حال، ولا بينة لهما ولا لأحدهما.. تحالفا. وسواء كان اختلافهما قبل الدخول أو بعده، وسواء كان قبل الطلاق أو بعده. وبه قال الثوري. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن كان الاختلاف قبل الدخول.. تحالفا وفسخ النكاح، وإن كان بعد الدخول.. فالقول قول الزوج) . وقال النخعي، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف: القول قول الزوج بكل حال، إلا أن أبا يوسف قال: إلا أن يدعي الزوج مهرًا مستنكرًا لا يزوج بمثله في العادة.. فلا يقبل. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومحمد: (إن كان اختلافهما بعد الطلاق.. فالقول قول الزوج، وإن كان اختلافهما قبل الطلاق.. فالقول قول الزوجة، إلا أن تدعي أكثر من مهر مثلها.. فيكون القول قولها في قدر مهر مثلها، وفي الزيادة.. القول قول الزوج مع يمينه) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» ، وكل واحد من الزوجين مدعى عليه، فكان عليه اليمين، كالذي أجمع عليه كل مخالف فيها. إذا ثبت هذا: فالكلام في البادئ باليمين منهما، وفي صفة التحالف قد تقدم ذكره في التحالف في البيع، وإذا تحالفا.. لم ينفسخ النكاح. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ينفسخ) .

مسألة تزوج حرة لها أبوان مملوكان له واختلفا فيهما

دليلنا: أن أكثر ما فيه أن المهر يصير مجهولًا، والجهل بالمهر لا يفسد النكاح عندنا، وقد مضى الدليل عليه.. ويسقط المسمى؛ لأن كل واحد منهما قد حقق بيمينه ما حلف عليه، وليس أحدهما بأولى من الآخر فسقطا. وهل يسقط ظاهرًا وباطنًا، أو يسقط في الظاهر دون الباطن؟ على الأوجه الثلاثة في البيع. وهل ينفسخ بنفس التحالف، أو بالفسخ؟ على ما مضى في البيع. وترجع المرأة إلى مهر مثلها، سواء كان ذلك أكثر مما تدعيه أو أقل. وقال أبو علي بن خيران: إن كان مهر المثل أكثر مما تدعيه.. لم تستحق الزيادة على ما تدعيه؛ لأنها لا تستحق ما لا تدعيه. وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يقال - إذا قلنا: ينفسخ في الظاهر دون الباطن ـ: لا تستحق إلا أقل الأمرين: من مهر المثل، أو ما تدعيه. والمشهور: هو الأول، ولأن بالتحالف سقط اعتبار المسمى، فصار الاعتبار بمهر المثل. ويبطل ما قالاه بما لو كان مهر المثل أقل مما اعترف الزوج أنه تزوجها به.. فإنها لا تستحق أكثر من مهر مثلها، ولا يلزم الزوج ما اعترف به من الزيادة. [مسألة تزوج حرة لها أبوان مملوكان له واختلفا فيهما] وإن تزوج رجل حرة لها أبوان مملوكان له، فاختلف الزوجان، فقال الزوج: أصدقتك أباك، وقالت: بل أصدقتني أمي.. تحالفا، ووجب لها مهر مثلها وعتق الأب؛ لأن الزوج يقر: أنها قد ملكته وعتق عليها، فهو كما لو ادعى على رجل: أنه باعه عبده وأنه أعتقه، وأنكره المدعى عليه.. فإنه يحلف ويعتق العبد. وأما الأم: فلا تعتق؛ لأنها في ملك الزوج، فلا يقبل إقرار الزوجة عليه، ويكون ولاء الأب موقوفًا بينهما؛ لأن كل واحد منهما لا يدعيه. فإن رجع الزوج وصدق الزوجة: أنه أصدقها أمها.. عتقت عليها وكان ولاؤها لها، ولا يقبل قول الزوج بعد ذلك: أنه لم يصدقها أباها؛ لأنا قد حكمنا بعتقه عليه بإقراره، ويكون ولاؤه للزوج.

فرع اختلاف الورثة في الصداق

وإن قالت الزوجة: بل كان أصدقني أبي، ولم يصدقها على أنه أصدقها أمها.. لم تعتق الأم، وكان ولاء الأب للزوجة، ووجب عليها أن ترد ما أخذته منه من المهر. وإن قال الزوج: أصدقتك أباك ونصف أمك، وقالت الزوجة: بل أصدقتني أبي وأمي.. تحالفا، ووجب لها مهر مثلها. قال ابن الحداد: ويعتق الأب عليها بإقرارهما، ويجب عليها قيمته للزوج. وأما الأم: فإن كانت الزوجة موسرة.. عتقت عليها ولزمها قيمتها للزوج. وإن كانت معسرة.. عتق عليها نصفها، وعليها نصف قيمتها لزوجها، ويكون نصف الأم مملوكًا للزوج، وما عتق على الزوجة منها.. كان ولاؤه لها. [فرع اختلاف الورثة في الصداق] ) : وإن مات الزوجان واختلف ورثتهما في الصداق، أو مات أحدهما واختلف وارثه هو والباقي.. فهو كالمتبايعين إذا ماتا، أو مات أحدهما، وقد مضى ذلك، إلا أن أيمان الزوجين، يحلف كل واحد منهما على القطع، سواء حلف على الإثبات أو على النفي؛ لأنه يحلف على فعل نفسه. وأما أيمان الورثة: فإن كانت على الإثبات.. حلفوا على البت والقطع. وإن كانت على النفي.. حلفوا على نفي العلم. [مسألة اختلاف الولي والزوج في قدر المهر] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وهكذا الزوج وأبو الصبية) . وجملة ذلك: أن الأب أو الجد إذا زوج الصغيرة أو المجنونة، واختلف الأب أو الجد والزوج في قدر المهر.. فهل يتحالفان؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يحلف الزوج وتوقف يمين الزوجة إلى أن تبلغ الزوجة أو تفيق،

فرع ادعاء المرأة عقدين ومهرين

ولا يحلف الولي؛ لأن النيابة لا تدخل في اليمين، وحمل النص على أنه أراد به العطف على قوله: (وبدأت بيمين الزوج مع الكبيرة، ثم مع أبي الصغيرة) . وذهب أبو العباس، وأبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: إلى أن الأب والجد يتحالفان مع الزوج، على ظاهر قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وهو الصحيح؛ لأنه عاقد فحلف، كما لو وكل رجلًا ببيع سلعة فاختلف هو والمشتري.. فإنه يحلف. إذا ثبت هذا: فإن التحالف بينهما إنما يتصور بشرطين: أحدهما: إذا ادعى الأب أو الجد: أنه زوجها بأكثر من مهر المثل، وادعى الزوج: أنه إنما تزوجها بمهر المثل. فأما إذا اختلفا في مهر المثل أو أقل منه.. فلا تحالف بينهما؛ لأنه إذا زوجها بأقل من مهر المثل.. ثبت لها مهر المثل. الثاني: إذا كانت المنكوحة عند الاختلاف صغيرة أو مجنونة، فأما إذا بلغت أو أفاقت قبل التحالف.. فإن عامة أصحابنا قالوا: لا يحلف الولي؛ لأنه لو أقر عنها بما يدعي الزوج.. لم يقبل في هذه الحالة، بخلاف ما قبل البلوغ والإفاقة؛ فإنه لو أقرها بما يدعي الزوج من مهر المثل.. قبل إقراره. وقال القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق: يحلف الولي؛ لأن الوكيل يحلف وإن لم يقبل إقراره، فكذلك الولي هاهنا. [فرع ادعاء المرأة عقدين ومهرين] ) : إذا ادعت المرأة: أنه عقد عليها النكاح يوم الخميس بعشرين، ثم عقد عليها يوم الجمعة بثلاثين، وأقامت على ذلك بينة وطلبت المهرين.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فهما لها؛ لأنه يجوز أن يكون تزوجها يوم الخميس بعشرين، ثم خالعها

مسألة ادعى دفع الصداق وأنكرت

قبل الدخول أو بعده ثم تزوجها، أو طلقها بعد الدخول ثم تزوجها.. فيلزمه المهران) . فإن قال الزوج: إنما عقدت يوم الجمعة تكرارًا وتأكيدًا.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الظاهر لزومهما. قال المزني: للزوج أن يقول: كان الفراق قبل النكاح الثاني قبل الدخول، فلا يلزمه إلا نصف الأول وجميع الثاني؛ لأن القول قوله أنه: لم يدخل بها في الأول. قال أصحابنا: إنما قصد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن المهرين واجبان، فإن ادعى سقوط نصف الأول بالطلاق قبل الدخول.. كان القول قوله؛ لأن الأصل عدم الدخول. قال أصحابنا: وهكذا لو أقام بينة: أنه باع من رجل هذا الثوب يوم الخميس بعشرة، وأنه باعه منه يوم الجمعة بعشرين.. لزمه الثمنان؛ لجواز أن يرجع إليه بعد البيع الأول ببيع أو هبة. [مسألة ادعى دفع الصداق وأنكرت] إذا ادعى الزوج: أنه دفع الصداق إلى زوجته، وأنكرت، ولا بينة له.. فالقول قول الزوجة مع يمينها. وبه قال الشعبي، وسعيد بن جبير، وأهل الكوفة، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة، وأصحابه. وقال مالك والأوزاعي رحمهما الله تعالى: (إن كان الاختلاف قبل الدخول.. فالقول قول الزوجة، وإن كان بعد الدخول.. فالقول قول الزوج) . وقال الفقهاء السبعة من أهل المدينة: إن كان الاختلاف قبل الزفاف.. فالقول قولها، وإن كان بعد الزفاف.. فالقول قول الزوج.

فرع أصدقها تعليما فأنكرت

دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» ، والزوجة مدعى عليها في جميع الحالات، فكان القول قولها. [فرع أصدقها تعليمًا فأنكرت] ) : وإن أصدقها تعليم سورة وادعى: أنه قد علمها إياها، وأنكرت، فإن كانت لا تحفظها.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم التعليم. وإن كانت تحفظها.. ففيه وجهان: أحدهما: القول قولها؛ لما ذكرناه. والثاني: القول قوله؛ لأن الظاهر أنه قد علمها. [فرع اختلفا فيما دفعه صداقًا أو هدية] ) : وإن أصدقها ألف درهم، فدفع إليها ألف درهم، فقال: دفعتها عن الصداق، وقالت: بل دفعتها هدية أو هبة، فإن اتفقا: أنه لم يتلفظ بشيء.. فالقول قوله من غير يمين؛ لأن الهدية والهبة لا تصح بغير قول. وإن اختلفا في قوله، فقال: قلت هذا عن الصداق، وقالت: بل قلت: هذا هدية أو هبة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بقوله. [مسألة ادعاؤها بالخلوة والإصابة] وإن ادعت الزوجة: أنه خلا بها وأصابها، أو أصابها من غير خلوة، فأنكر الزوج ذلك.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الخلوة والإصابة. وإن صادقها على الخلوة والتمكن فيها من الإصابة وأنكر الإصابة، فإن قلنا: إن

مسألة أصدقها عينا ثم سرحها ووجد نقصا في العين

الخلوة كالإصابة في تقدير المسمى ووجوب العدة.. فلا كلام. وإن قلنا: إنها ليست كالإصابة.. فهل القول قوله، أو قولها؟ فيه قولان: (أحدهما) : قال في القديم: (القول قولها) ؛ لأن الظاهر معها. و (الثاني) : قال في الجديد: (القول قوله) ، وهو الأصح؛ لأن الأصل عدم الإصابة. [مسألة أصدقها عينًا ثم سرحها ووجد نقصًا في العين] ) : وإن أصدقها عينًا وقبضتها، ثم طلقها قبل الدخول، ووجد في العين نقص.. فقد ذكرنا أن هذا النقص إن حدث قبل الطلاق.. لا يلزمها أرشه، وإن حدث بعد الطلاق.. فعليها أرشه. فإن اختلف الزوجان في وقت حدوثه، فقال الزوج: حدث في يدك بعد عود النصف إلي - إما بالطلاق على المنصوص، أو بالطلاق واختيار التملك على قول أبي إسحاق - وقالت الزوجة: بل حدث قبل ذلك.. فالقول قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الزوج يدعي وقوع الطلاق قبل حدوث النقص وهي تنكر ذلك، والأصل عدم الطلاق، والزوجة تدعي حدوث النقص قبل الطلاق، والأصل عدم حدوث النقص، فتعارض هذان الأصلان فسقطا، وبقي أصل براءة ذمتها من الضمان، فكذلك كان القول قولها. وبالله التوفيق

باب المتعة

[باب المتعة] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في القديم: (لا متعة للمطلقات إلا لواحدة، وهي: التي تزوجها ولم يفرض لها مهرًا، ثم طلقها قبل الدخول.. فلها المتعة) . وقال في الجديد: (لكل مطلقة متعة إلا لواحدة وهي: التي تزوجها وسمى لها مهرًا، أو تزوجها مفوضة وفرض لها المهر، ثم طلقها قبل الدخول.. فلا متعة لها) . وجملة ذلك: أن المطلقات ثلاثة: مطلقة لها المتعة قولًا واحدًا، ومطلقة لا متعة لها قولًا واحدًا، ومطلقة هل لها المتعة؟ على قولين. فأما (المطلقة التي لها المتعة قولًا واحدًا) : فهي التي تزوجها مفوضة ولم يفرض لها مهرًا، ثم طلقها قبل الفرض والمسيس؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] [البقرة: 236] . ولأنه قد لحقها بالعقد والطلاق قبل الدخول ابتذال، فكان لها المتعة بدلًا عن الابتذال.

وأما (التي لا متعة لها قولًا واحدًا) : فهي التي تزوجها وسمى لها مهرًا في العقد، أو تزوجها مفوضة وفرض لها مهرًا، ثم طلقها قبل الدخول؛ لأن الله - تعالى - علق وجوب المتعة بشرطين وهما: أن يكون الطلاق قبل الفرض والمسيس، وهاهنا أحد الشرطين غير موجود. ولأنا إنما جعلنا لها المتعة لكي لا يعرى العقد عن بدل، وهاهنا قد حصل لها نصف المهر. وأما (المطلقة التي في المتعة لها قولان) : فهي التي تزوجها وسمى لها مهرًا في العقد ودخل بها، أو تزوجها مفوضة ثم فرض لها مهرًا ودخل بها، أو لم يفرض لها مهرًا ودخل بها، ففي هذه الثلاثة قولان: (أحدهما) قال في القديم: (لا متعة لها) - وبه قال أبو حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد - رحمة الله عليهما - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] [البقرة:236] ، فعلق المتعة بشرطين وهو: أن يكون الطلاق قبل الفرض والمسيس، ولم يوجد الشرطان هاهنا. وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] [الأحزاب: 49] ، فجعل لهن المتعة قبل المسيس، وقد وجد المسيس هاهنا. ولأنها مطلقة من نكاح لم يخل نكاحها عن بدل، فلم يكن لها المتعة، كما لو سمى لها مهرًا ثم طلقها قبل الدخول. و (الثاني) : قال في الجديد: (لها المتعة) . وبه قال عمر، وعلي، والحسن بن علي، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

مسألة لا فرق في وجوب المتعة بين الحرية والملكية

قال المحاملي: وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] [البقرة:241] ، فجعل الله سبحانه وتعالى المتعة لكل مطلقة، إلا ما خصه الدليل، ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] [الأحزاب:28] ، وهذا في نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللاتي دخل بهن وقد كان سمى لهن المهر؛ بدليل: حديث عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كان صداق نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثنتي عشرة أوقية ونشًَّا» ولأن المتعة إنما جعلت لما لحقها من الابتذال بالعقد والطلاق، والمهر في مقابلة الوطء، والابتذال موجود، فكان لها المتعة. إذا ثبت هذا: فإن المتعة واجبة عندنا. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (هي مستحبة غير واجبة) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] [البقرة236] ، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. وقَوْله تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] [البقرة:241] ، وقَوْله تَعَالَى: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] يدل على الوجوب. [مسألة لا فرق في وجوب المتعة بين الحرية والملكية] وكل موضع قلنا: تجب المتعة.. فلا فرق بين أن يكون الزوجان حرين، أو مملوكين، أو أحدهما حرًا والآخر مملوكًا. وقال الأوزاعي: (لا تجب المتعة إلا إذا كانا حرين، فإن كانا مملوكين أو أحدهما.. لم تجب) .

فرع الفرقة بغير طلاق

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] (البقرة: 241) ، وهذا عام. [فرع الفرقة بغير طلاق] ) : وإن وقعت الفرقة بغير طلاق في المواضع التي تجب فيها المتعة.. نظرت: فإن كانت بالموت.. لم تجب المتعة؛ لأن النكاح قد بلغ منتهاه، ولم يلحقها بذلك ابتذال. وإن وقعت بغير الموت.. نظرت: فإن كانت بسبب من جهة أجنبي.. فهي كالطلاق؛ لأنها كالطلاق؛ لأنها كالطلاق في تنصيف المهر قبل الدخول، فكذلك في المتعة. وإن كانت من جهة الزوج، كالإسلام قبل الدخول، والردة، واللعان.. فحكمه حكم الطلاق - قال القاضي أبو الطيب: وكذلك إذا أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة، وأسلمن معه، واختار أربعًا منهن.. وجب للباقي منهن المتعة - وإن كانت الفرقة من جهتها، كالإسلام، والردة، والرضاع، أو الفسخ للإعسار بالمهر والنفقة، أو فسخ أحدهما النكاح بعيب.. فلا متعة لها؛ لأن الفرقة جاءت من جهتها، ولهذا: إذا وقع ذلك قبل الدخول.. سقط جميع مهرها. وإن كانت بسبب منهما، فإن كانت بالخلع.. فهو كالطلاق. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي (في " الإبانة ") : لا متعة لها. وإن كانت بردة منهما في حالة واحدة.. ففيه وجهان، مضى بيانهما في الصداق. وإن كان الزوج عبدًا فاشترته زوجته.. انفسخ النكاح، وينبغي أن لا تجب لها متعة قولًا واحدًا؛ لأنه لا يجوز أن يجب للسيد في ذمة عبده حق ابتداء. وإن كانت الزوجة أمة فاشتراها الزوج.. انفسخ النكاح. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (لا متعة لها) . وقال في موضع: (لها المتعة) . واختلف أصحابنا فيها على أربع طرق: فـ[أحدهما] : منهم من قال: لا تجب لها المتعة قولًا واحدًا؛ لأن البيع تم بالزوج

فرع المتعة لامرأة العنين إذا فارقته

والسيد، والمغلب حكم السيد؛ لأنه يملك بيعها من غير الزوج، والمتعة حق له، فلم يجب له المتعة، كالخلع. و (الثاني) : منهم من قال: تجب المتعة قولًا واحدًا؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فسقطا، وصارت كالفرقة من جهة الأجنبي. و (الثالث) : منهم من قال: فيه قولان، ووجههما ما ذكرناه. و (الرابع) : قال أبو إسحاق: هي على حالين: فإن كان الزوج هو الذي استدعى البيع.. فعليه المتعة؛ لأن السبب في الفرقة من جهته. وإن كان السيد هو الذي دعا إليه.. فلا متعة؛ لأن الفرقة من قبله. وهذا ليس بشيء؛ لأن هذا يبطل بالخلع، وكان يلزمه أن يقول في الخلع مثله. [فرع المتعة لامرأة العنين إذا فارقته] فرع: (لا تجب المتعة لامرأة العنين إذا فارقته) : روى المزني: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (وأما امرأة العنين: فلو شاءت.. أقامت معه، ولها المتعة عندي) . قال المزني: هذا غلط عندي، وقياس قوله: (لا متعة لها) ؛ لأن الفرقة من قبلها. قال أصحابنا: اعتراض المزني صحيح، إلا أنه اخطأ في النقل، وقد ذكرها الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم " وقال: (ليس لها المتعة؛ لأنها لو شاءت.. أقامت معه) ، وإنما أسقط المزني: (ليس) . [مسألة الواجب والمستحب في قدر المتعة ووقتها] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا وقت فيها، واستحسن تقدير ثلاثين درهمًا) .

وجملة ذلك: أن الكلام في القدر المستحب في المتعة، وفي القدر الواجب. فأما (المستحب) : فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " المختصر ": (أستحسن قدر ثلاثين درهمًا) . وقال في القديم: (يمتعها ثيابًا بقدر ثلاثين درهمًا) . وقال في بعض كتبه: (أستحسن أن يمتعها خادمًا، فإن لم يكن.. فمقنعة، فإن لم يكن.. فثلاثين درهمًا) . قال أصحابنا: أراد المِقْنَعةَ التي قيمتها أكثر من ثلاثين درهمًا. وأقل المستحب في المتعة ثلاثون درهمًا؛ لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (يمتعها بثلاثين درهمًا) . وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (أكثر المتعة خادم، وأقلها ثياب) . يعني: كسوة. وروي عنه: (أقله مقنعة) . وأما القدر الذي هو واجب: ففيه وجهان: (أحدهما) : من أصحابنا من قال: ما يقع عليه اسم المال، كما يجزئ ذلك في الصداق. والثاني - وهو المذهب ـ: أنه لا يجزئ ما يقع عليه الاسم، بل ذلك إلى رأي الحاكم، وتقديره باجتهاده؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]

فرع تزوج امرأة مفوضة ثم فرض لها أجنبي ثم طلقت قبل الدخول

[البقرة: 236] ، فلو كان الواجب ما يقع عليه اسم المال.. لما خالف بينهما. ويخالف الصداق، فإن ذلك يثبت بتراضيهما. وهل الاعتبار بحال الزوج أو بحال الزوجة؟ فيه وجهان: أحدهما: الاعتبار بحال الزوجة؛ لأن المتعة بدل عن المهر؛ بدليل: أنه لو كان هناك مهر.. لم يجب لها متعة، والمهر معتبر بحالها، فكذلك المتعة. والثاني: الاعتبار بحال الزوج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] [البقرة: 236] ، فاعتبر فيه حاله دون حالها. هذا مذهبنًا. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يمتعها درعًا وخمارًا وملحفة، إلا أن يكون نصف مهر مثلها أقل من ذلك.. فينقصها ما لم ينقص عن خمسة دراهم) . وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في إحدى الروايتين عنه: (يتقدر بما تجزئ فيه الصلاة من الثياب) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] [البقرة: 236] ، ولم يفرق. وما روي عن أحد من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم ما ذكروه. [فرع تزوج امرأة مفوضة ثم فرض لها أجنبي ثم طلقت قبل الدخول] ) : إذا تزوج رجل امرأة مفوضة البضع، فجاء أجنبي وفرض معها المهر ودفعه إليها من ماله، ثم طلقها الزوج قبل الدخول.. قال أبو العباس: فيه وجهان: أحدهما: أن الفرض لا يصح؛ لأنه يوجب على الزوج مالًا من غير ولاية له عليه ولا وكالة، فصار وجود هذا الفرض كعدمه. فعلى هذا: يرد على الأجنبي ما دفعه، وتجب المتعة على الزوج. والثاني: يصح الفرض؛ لأنه لما صح أن يتطوع عنه بدفع المهر المسمى.. صح فرضه لمهر المفوضة.

فعلى هذا: لا تجب المتعة على الزوج. وإلى من يرجع نصف المدفوع؟ فيه وجهان: أحدهما: يرجع إلى الزوج؛ لأن الأجنبي ملكه إياه، كما لو قضى به دينًا عليه عنه. والثاني: يرجع إلى الأجنبي؛ لأنه دفعه ليقضي به ما وجب لها عليه، فإذا طلقها قبل الدخول.. سقط عنه وجوب النصف، فوجب أن يرجع إلى من دفعه. فعلى هذا: إذا تزوج امرأة بمهر مسمى، ودفعه عنه أجنبي من ماله، ثم طلقها الزوج قبل الدخول.. فإلى من يرجع نصف الصداق؟ على وجهين: أحدهما: إلى الزوج. والثاني: إلى الأجنبي، وقد مضى ذلك. وبالله التوفيق

باب الوليمة والنثر

[باب الوليمة والنثر] الوليمة: تقع على كل طعام يتخذ عند حادث سرور من إملاك، أو نفاس، أو ختان، أو بناء، أو قدوم غائب، إلا أن استعمالها في طعام العرس أظهر. ويختص طعام كل واحد من هذه الأسباب باسم، فالطعام الذي يتخذ عند الولادة: الخرس والخرص - بالسين والصاد - والطعام الذي يتخذ عند الختان: الإعذار، والطعام الذي يتخذ عند البناء: الوكيرة، والطعام الذي يتخذ عند قدوم الغائب: النقيعة. قال الشاعر: كل الطعام تشتهي ربيعة ... الخرس والإعذار والنقيعة وقال آخر: إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ... ضرب القدار نقيعة القدام

(القدار) : الجرار. والطعام الذي يتخذ يوم سابع الولادة: يسمى العقيقة. ويسمى الطعام الذي يتخذ لسبب وغير سبب: مأدبة بضم الدال، وبفتحها: التأديب، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجوع مأدبة الله في أرضه» وإنما سمي الطعام الذي يدعى إليه ف العرس وليمة من ولم الزوجين وهو اجتماعهما؛ لأن الولم الجمع، ومنه سمي القيد الولم؛ لأنه يجمع الرجلين. إذا ثبت هذا: فإن وليمة ما عدا العرس لا تجب؛ للإجماع، ولكن تستحب. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لا تستحب) ؛ لما روي: أن عثمان بن أبي العاص دعي إلى ختان، فلم يجب إليه وقال: (إنا كنا ندعى إلى الختان في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا نجيب) . ودليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال: لو دعيت إلى كراع.. لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع.. لقبلت» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أجيبوا الداعي؛ فإنه ملهوف»

ولأن فيه ألفة للقلوب وإظهار لنعم الله سبحانه وتعالى، فكان مستحبًا. وأما الخبر: فما نقل فيه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قول ولا فعل، فلا يكون حجة فيه. وأما وليمة العرس: فهل تجب أم لا؟ حكى الشيخ أبو حامد في " التعليق " فيها قولين، وأكثر أصحابنا يحكيهما وجهين: أحدهما: أنها واجبة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الرحمن بن عوف: أولِم ولو بشاة» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَمَ على صفية بسويق وتمر» ولأنه لما كانت الإجابة إليها واجبة.. كان فعلها واجبًا. والثاني: أنها تستحب ولا تجب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال حق سوى الزكاة» ولأنه طعام عند حادث سرور، فلم يكن واجبًا، كسائر الأطعمة. وأما الخبر وفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فمحمول على الاستحباب. وأما ما ذكروه من الإجابة: فيبطل بالسلام؛ فإنه لا يجب، وإجابته واجبة. وحكى الصيمري وجهًا ثالثًا: أن الوليمة فرض على الكفاية، فإذا فعلها واحد أو اثنان في الناحية أو القبيلة، وشاع في الناس وظهر.. سقط الفرض عن الباقين. وظاهر النص: هو الأول. وأقل المستحب في الوليمة للمتمكن شاة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الرحمن بن عوف

مسألة تلبية دعوة العرس وغيرها

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: «أَوْلِمْ ولو بشاة» . فإن نقص عن ذلك.. جاز؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولم على صفية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بسويق وتمر» ، وهذا أقل من شاة في العادة. [مسألة تلبية دعوة العرس وغيرها] ) : ومن دعي إلى وليمة العرس.. فهل يجب عليه الإجابة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه الإجابة - وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله تعالى - لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (ولو أن رجلًا أتى رجلًا، وقال: إن فلانًا اتخذ دعوة، وأمرني أن أدعو من شئت، وقد شئت أن أدعوك.. لا يلزمه أن يجيب) . والثاني - وهو المذهب ـ: أنه يلزمه أن يجيب؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " «من دعي إلى وليمة فلم يجب.. فقد عصى أبا القاسم» ، وروي: «فقد عصى الله ورسوله» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أجيبوا الداعي، فإنه ملهوف» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من دعي إلى وليمة.. فليأتها» ، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. وما احتج به القائل من كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.. فلا حجة فيه؛ لأن صاحب الطعام لم يعينه.

إذا ثبت هذا وأن الإجابة واجبة.. فهل تجب على كل من دعي، أو هي فرض على الكفاية؟ فيه وجهان: أحدهما: أنها فرض على الكفاية، فإذا أجابه بعض الناس.. سقط الفرض عن الباقين؛ لأن القصد أن يعلم ذلك ويظهر، وذلك يحصل بإجابة البعض. والثاني: يجب على كل من دعي؛ لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من دعي فلم يجب.. فقد عصى أبا القاسم» ، وكذلك عموم سائر الأخبار. وأما إذا دعي إلى وليمة غير العرس.. فقد ذكر ابن الصباغ: أن الإجابة لا تجب عليه قولا واحدا؛ لأن وليمة العرس آكد، ولهذا اختلف في وجوبها فوجبت الإجابة إليها، وغيرها لا تجب بالإجماع، فلم تجب الإجابة إليها. وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي: أنها كوليمة العرس في الإجابة إليها، وهو الأظهر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من دعي فلم يجب.. فقد عصى أبا القاسم» ، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أجيبوا الداعي؛ فإنه ملهوف» ، ولم يفرق. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي (في " الإبانة ") : إن دعي نقرى.. لم تجب الإجابة. وإن دعي جفلى، بأن فتح الباب لكل من يدخل.. فلا يلزمه أيضًا. وإن خصه بالدعوة مع أهل حرفته.. فيلزمه. ولو لم يجب.. فهل يعصي؟ فيه وجهان. و (النقرى) : أن ينتقر قومًا دون قوم. قال الشاعر: نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر (الآدب) : الداعي.

فرع الدعوة لوليمة كتابي

[فرع الدعوة لوليمة كتابي] ) : وإن دعي إلى وليمة كتابي - وقلنا: تجب عليه الإجابة إلى وليمة المسلم - فهل تجب عليه الإجابة إلى وليمة الكتابي؟ فيه وجهان: أحدهما: تجب الإجابة عليه؛ لعموم الأخبار. والثاني: لا تجب عليه الإجابة؛ لأن النفس تعاف من أكل طعامهم، ولأنهم يستحلون الربا، ولأن الإجابة إنما جعلت لتتأكد الأخوة والموالاة، وهذا لا يوجد في أهل الذمة. [فرع الدعوة بواسطة الغير وأعذار عدم الإجابة] ) : إذا جاءه الداعي وقال: أمرني فلان أن أدعوك فأجب.. لزمته الإجابة. وإن قال: أمرني فلان أن أدعو من شئت أو من لقيت فاحضُر، أو إن خف عليك فاحضُر.. لم تلزمه الإجابة. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (بل أستحب له أن لا يجب؛ لأنه لم يعينه) . قال الصيمري: وإن قال له صاحب الوليمة: إن رأيت أن تجملني.. لزمه أن يحضر إلا من عذر. والأعذار التي يسقط معها فرض الإجابة: أن يكون مريضًا، أو قيمًا بمريض، أو بميت، أو بإطفاء حريق، أو بطلب ماله، أو يخاف ضياع ماله، أو له في طريقه من يؤذيه؛ لأن هذه الأسباب أعذار في حضور الجماعة وفي صلاة الجمعة، ففي هذا أولى.

فرع دعوة الوليمة يومان

[فرع دعوة الوليمة يومان] وإذا كانت الوليمة ثلاثة أيام، فدعي في اليوم الأول.. وجب عليه الإجابة. وإن دعي في اليوم الثاني.. لم تجب عليه الإجابة، ولكن يستحب له أن يجيب. فإن دعي في اليوم الثالث.. لم يستحب له أن يجيب، بل يكره له؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوليمة في اليوم الأول حق، وفي اليوم الثاني معروف، وفي اليوم الثالث رياء وسمعة» وروي: أن سعيد بن المسيب دعي مرتين فأجاب، ودعي في اليوم الثالث فحصب الرسول. [فرع دعي إلى وليمتين] ) : إذا دعاه اثنان إلى وليمتين، فإن سبق أحدهما.. قدم إجابته، وإن لم يسبق أحدهما.. قدم أقربهما إليه دارًا؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اجتمع داعيان.. فأجب أقربهما إليك بابًا؛ فإن أقربهما بابًا أقربهما جوارًا، فإن سبق

مسألة ضرب الدف في العرس أو وجود منكر كخمر

أحدهما.. فأجب الذي سبق» هكذا ذكر المحاملي وابن الصباغ. وذكر الشيخ أبو إسحاق: أنهما إذا تساويا في السبق.. أجاب أقربهما رحما، فإن استويا في الرحم.. أجاب أقربهما دارًا. وإن ثبت الخبر.. فأقربهما دارًا أولى؛ لأنه لم يفرق بين أن يكون أقربهما رحمًا أو أبعد. فإن استويا في ذلك.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. [مسألة ضرب الدف في العرس أو وجود منكر كخمر] في الوليمة) : يجوز ضرب الدف في العرس؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فصل بين الحلال والحرام الدف» . «وروي عن أم نبيط: أنها قالت: هدينا فتاة من بني النجار إلى زوجها، فمضيت ومعي الدف مع نسوة من بني النجار، فكنت أضرب بالدف وأقول: أتيناكم أتيناكم ... فحيونا نحييكم ولولا الذهب الأحم ... ر ما حلت بواديكم فاستقبلنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "ما هذا يا أم نبيط؟ " فقلت: هدينا فتاة من بني النجار إلى زوجها، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما الذي كنتم تقولون؟ "، فأعدته عليه.» وهذا

يدل على جوازه. فإن دعي إلى وليمة عرس فيها ضرب الدف.. أجاب. وإن دعي إلى وليمة فيها منكر من خمر أو مزامير وطنابير ومعازف وما أشبه ذلك، فإن علم بذلك قبل الحضور، فإن كان قادرًا على إزالته.. لزمه أن يحضر؛ لوجوب الإجابة وإزالة المنكر، وإن كان غير قادر على إزالته.. لم تلزمه الإجابة ولم يستحب له الحضور، بل ترك الحضور أولى، فإن حضر ولم يشارك في المنكر.. لم يأثم. وإن لم يعلم به حتى حضر فوجده، فإن قدر على إزالته.. وجب عليه تغييره وإزالته؛ لأنه أمر بمعروف ونهي عن منكر، وإن لم يقدر على إزالته.. فالأولى له أن ينصرف؛ لما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى أن يجلس على مائدة يدار عليها الخمر» .

فإن لم ينصرف؟ فإن قصد إلى استماع المنكر.. أثم بذلك. وإن لم يقصد إلى استماعه، بل سمعه من غير قصد.. لم يأثم بذلك؛ لما روى نافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (كنت أسير مع ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما -، فسمع زمارة راع، فوضع إصبعيه في أذنيه، ثم عدل عن الطريق، فلم يزل يقول: أتسمع يا نافع؟ حتى قلت: لا، فأخرج إصبعيه من أذنيه، ثم رجع إلى الطريق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع) . فموضع الدليل: أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما - لم ينكر على نافع سماعه. ولأن رجلًا لو كان له جار وفي داره منكر ولا يقدر على إزالته.. فإنه لا يلزمه التحول من داره لأجل المنكر. وإن دعي إلى موضع فيه تصاوير، فإن كانت صور ما لا روح فيه، كالشمس والقمر والأشجار.. جلس، سواء كانت معلقة أو مبسوطة؛ لأن ذلك يجري مجرى النقوش. وإن كانت صور حيوان، فإن كان على بساط أو مخاد توطأ أو يتكأ عليها.. فلا بأس أن يحضر؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رأى سترًا معلقًا في بيت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عليه صور حيوان، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقطعيه مخاد» ولأنه يبتذل ويهان. وإن كان على ستور معلقة.. فقد قال عامة أصحابنا: لا يجوز له الدخول إليها؛ لما روى «علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اتخذت طعامًا فدعوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما أتى الباب.. رجع ولم يدخل، وقال: لا أدخل بيتًا فيه صور؛ فإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صور» وقيل: إن أصل

مسألة الحاضر للوليمة وهو صائم أو مفطر

عبادة الأوثان كانت الصور؛ وذلك لأن آدم - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - لما مات.. جعل في تابوت، فكان بنوه يعظمونه، ثم افترقوا، فحصل قوم منهم على ذروة جبل، وقوم منهم في أسفله، وحصل التابوت مع أهل ذروة الجبل، فلم يقدر من في أسفله على الصعود إليهم، فاشتد عليهم ذلك، فصوروا مثاله من حجارة وعظموه، فلما طال الزمان ونشأ من بعدهم.. رأوا آباءهم يعظمون تلك الصور، فظنوا أنهم كانوا يعبدونها من دون الله فعبدوها. فإذا كان هذا هو السبب.. وجب أن يكون محرمًا. وقال ابن الصباغ: هذا عندي لا يكون أكثر من المنكر، مثل الخمر والميسر والملاهي، وقد جوزوا له الدخول إلى المواضع التي هي فيه، سواء قدر على إزالتها أو لم يقدر، وما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. فلا يدل على التحريم، بل يدل على الكراهية، وما روي عن الملائكة.. يحتمل أن يكون في ذلك الزمان؛ لأن الأصنام كانت تعظم فيه التماثيل، فأما الزمان الذي لا يعتقد فيه تعظيم شيء من ذلك.. فلا يجري مجراه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (فإن كانت المنازل مسترة.. فلا بأس أن يدخلها، وليس فيه شيء أكرهه سوى السرف) ؛ لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (لا تستر الجدر) ، ولأن في ذلك سرفًا، فكره لمن فعله دون من يدخل إليه. [مسألة الحاضر للوليمة وهو صائم أو مفطر] ) : وإذا حضر المدعو إلى طعام.. فلا يخلو: إما أن يكون صائمًا، أو مفطرًا. فإن كان صائمًا.. نظرت: فإن كان الصوم فرضًا.. فإنه يجب عليه الإجابة، ولا يجب عليه الأكل؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من دعي إلى وليمة.. فليأتها،

فإن كان مفطرًا.. فليأكل، وإن كان صائمًا.. فليدع "، وروي: " فليصل " - و (الصلاة) : الدعاء - و: " ليَقُل: إني صائم» ولما روي: (أن ابن عمر دعي وهو صائم، فلما حضر الطعام.. مد يده، فلما مد الناس أيديهم.. قال: باسم الله كلوا؛ إني صائم) . وإن كان صوم تطوع.. استحب له أن يفطر؛ لأنه مخير بين الأكل والإتمام، وفي الإفطار إدخال المسرة على صاحب الوليمة. فإن لم يفطر.. جاز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن كان صائمًا.. فليدع» ، ولم يفرق. وإن كان المدعو مفطرًا.. فهل يلزمه أن يأكل؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه أن يأكل؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دعي أحدكم إلى طعام.. فليجب، فإن كان مفطرًا.. فليأكل، وإن كان صائمًا.. فليصل» ولأن الإجابة واجبة، والمقصود منها الأكل، فكان واجبًا.

فرع آداب الطعام

والثاني: لا يجب عليه الأكل؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دعي أحدكم إلى طعام.. فليجب، فإن شاء.. فليأكل، وإن شاء.. ترك» ولأنه لو كان واجبًا.. لوجب عليه ترك صوم التطوع؛ لأنه ليس بواجب. ولأن التكثير والتبرك يحصل بحضوره، وقد حضر. [فرع آداب الطعام] ) : في آداب الطعام روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بركة الطعام الوضوء قبله، والوضوء بعده» يريد بذلك: غسل اليد. وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حضر الأكل إلى أحدكم..فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله.. فليقل إذا ذكر: باْسم الله في أوله وآخره» . وروى أبو جحيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أكل أحدكم.. فلا يأكل من أعلى القصعة، إنما يأكل من أسفلها؛ فإن البركة تنزل في أعلاها»

وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله؛ فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله» وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «- ما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه.. أكله، وإن كرهه.. تركه» وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله تعالى ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة.. فيحمد الله عليها» ويستحب أن يدعو لصاحب الطعام؛ لما روى ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفطر عند سعد بن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: أفطر عندكم الصائمون، وصلت عليكم الملائكة، وأكل طعامكم الأبرار»

مسألة نثر الحلوى والنقود

[مسألة نثر الحلوى والنقود] ) : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في نثر السكر واللوز والجوز: (لو ترك.. كان أحب إلي؛ لأنه يؤخذ بخلسة ونهبة، ولا يتبين لي: أنه حرام) . وجملة ذلك: أن نثر السكر واللوز والجوز والزبيب والدراهم والدنانير وغير ذلك لا يستحب، بل يكره. وروي: (أن أبا مسعود الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان إذا نثر للصبيان.. يمنع صبيانه عن التقاطه، واشترى لهم) . وبه قال عطاء وعكرمة وابن سيرين وابن أبي ليلى ومالك. وقال أبو حنيفة، والحسن البصري، وأبو عبيد، وابن المنذر: (لا يكره) . وقال القاضي أبو القاسم الصيمري: يكره التقاطه، وأما النثر نفسه: فمستحب، وقد جرت العادة للسلف به. وروي (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «- لما زوج عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وأرضاها - نثر عليهما» والأول هو المشهور، والدليل عليه: أن النثار يؤخذ نهبة ويزاحم عليه، وربما أخذه من يكرهه صاحبه، وفي ذلك دناءة وسقوط مروءة. وما ذكره الصيمري غير

صحيح؛ لأنه لا فائدة في نثر إذا كان يكره التقاطه. فإن خالف ونثر، فالتقطه رجل.. فهل للذي نثره أن يسترجعه؟ فيه وجهان، حكاهما الداركي: أحدهما: له أن يسترجعه؛ لأنه لم يوجد منه لفظ يملك به. والثاني: ليس له أن يسترجعه، وهو اختيار المسعودي (في " الإبانة ") ؛ لأنه نثر للتملك بحكم العادة. قال المسعودي (في " الإبانة ") : لو وقع في حجر رجل.. كان أحق به. فلو التقطه آخر من حجره.. أو قام فسقط من حجره، فهل يملكه الملتقط؟ الصحيح: أنه لا يملكه. قال الشيخ أبو حامد: وحكي أن أعربيًا تزوج امرأة فنثر على رأسه زبيبًا، وأنشد يقول: ولما رأيت السكر العام قد غلا ... وأيقنت أني لا محالة ناكح نثرت على رأسي الزبيب لصحبتي ... وقلت كلوا, أكل الحلاوة صالح قال أبو العباس: ولا يكره للمسافرين أن يخلطوا أزوادهم ويأكلوا، وإن أكل بعضهم أكثر من بعض، بخلاف النثار؛ لأن النثار يؤخذ بقتال وازدحام، بخلاف الزاد. قال القاضي أبو الطيب: الكتب التي يكتبها الناس بعضهم إلى بعض قال بعض أصحابنا: لا يملكها المحمولة إليهم، ولكن لهم الانتفاع بها بحكم العادة؛ لأن العادة إباحة ذلك. وبالله التوفيق

باب عشرة النساء والقسم

[باب عشرة النساء والقسم] إذا تزوج الرجل امرأة كبيرة أو صغيرة يجامع مثلها، بأن تكون ابنة ثمان سنين أو تسع، وسلم مهرها وطلب تسليمها.. وجب تسليمها إليه؛ لما روي عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا ابنة سبع سنين، وبنى بي وأنا ابنة تسع سنين» . فإن طلبت المرأة أو ولي الصغيرة من الزوج الإمهال لإصلاح حال المرأة.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يؤخر يومًا ونحوه، ولا يجاوز بها الثلاث) . وحكى القاضي الشيخ أبو حامد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " الإملاء ": (إذا دفع مهرها ومثلها يجامع.. فله أن يدخل بها ساعة دفع إليها المهر، أحبوا أو كرهوا) . واختلف أصحابنا فيها: فقال الشيخ أبو حامد: يجب على الزوج الإمهال قولًا واحدًا، وما قاله في " الإملاء ".. أراد به بعد الثلاث. وقال القاضي أبو حامد: هل يجب عليه الإمهال؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه الإمهال؛ لأنه قد سلم العوض، فوجب تسليم المعوض، كالمتبايعين. والثاني: يجب عليه الإمهال؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تطرقوا النساء

ليلًا لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة» ، فإذا منع الرجل أن يطرق امرأته التي قد تقدمت صحبتها وألف بعضهما بعضًا ليلًا لكي تصلح شأنها.. فلأن يكون ذلك في التي لم يصحبها أولى. ولا يجب عليه الإمهال أكثر من ثلاثة أيام؛ لأنها كثيرة. وإن عرضت الزوجة التي يجامع مثلها على الزوج.. وجب عليه تسلمها. وإن كانت المنكوحة صغيرة لا يجامع مثلها، أو مريضة مرضًا يرجى زواله وطالب الزوج بها.. لم يجب تسليمها إليه؛ لأن المعقود عليه هو المنفعة، وذلك لا يوجد في حقها؛ وذلك لأنه لا يؤمن أن يحمله فرط الشهوة على جماعها فيوقع بذلك جناية بها. وإن عرضت على الزوج.. لم يجب عليه تسلمها؛ لما ذكرناه إذا طالب بها، ولأنها تحتاج إلى حضانة، والزوج لا يجب عليه حضانة زوجته. وإن كانت المرأة نضوة من أصل الخلق - بأن خلقت دقيقة العظام قليلة اللحم - وطلب الزوج تسليمها إليه.. وجب تسليمها إليه. فإن كان يمكن جماعها من غير ضرر بها.. كان له ذلك. وإن كان لا يمكن جماعها إلا بالإضرار بها.. لم يجز له جماعها، بل يستمتع بها فيما دون فرجها، ولا يثبت له الخيار في فسخ النكاح. والفرق بينها وبين القرناء والرتقاء: أن تعذر الجماع في الرتقاء والقرناء من جهتها؛

مسألة إجبار الزوجة على الغسل

ولهذا لا يتمكن أحد من جماعها، وهاهنا العذر من جهته وهو كبر خلقه؛ ولهذا: لو كان مثلها.. أمكنه جماعها. وهكذا: إن كانت مريضة مرضًا لا يرجى زواله.. فحكمه حكم نضوة الخلقة. فإن أقضها.. منع من وطئها حتى يلتئم الجرح. فإن اختلفا، فادعى الزوج: أنه قد التأم الجرح التئامًا لا يخاف تخريقه، وادعت الزوجة: أنه لم يلتئم.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأنها أعلم بذلك. [مسألة إجبار الزوجة على الغسل] ) : وللزوج أن يجبر زوجته الذمية والمسلمة على الاغتسال من الحيض والنفاس. وقال أبو حنيفة: (ليس له إجبار الذمية) . دليلنا: أن الوطء يقف عليه، فأجبرها عليه، كما يجبرها على الوقوف في بيته. وهل له أن يجبرها على الاغتسال من الجنابة؟ فيه قولان: أحدهما: ليس له إجبارها؛ لأنه يجوز وطء الجنب. والثاني: له أن يجبرها؛ لأن النفس تعاف من وطء الجنب. هذا نقل الشيخ أبي حامد. وقال القفال: إن طالت مدتها، بحيث يقذرها الزوج.. فله أن يجبرها، وإلا.. فلا. وهذا إنما يأتي في الذمية أو المسلمة الصغيرة، فأما المسلمة الكبيرة: فلا يتأتى فيها طول المدة على الجناية؛ لأنه يجب عليها الغسل للصلاة، وتجبر عليه قولًا واحدًا.

فرع إجبار الزوجة على قص الأظفار وحلق الشعور وغير ذلك

[فرع إجبار الزوجة على قص الأظفار وحلق الشعور وغير ذلك] ) : وهل له أن يجبرها على قص الأظفار وحلق العانة؟ ينظر فيه: فإن كان ذلك قد طال وصار قبيحًا في المنظر.. فله أن يجبرها عليه قولًا واحدًا؛ لأن ذلك يمنع من الاستمتاع بها. وأما إذا صار بحيث يوجد في العادة.. فهل له إجبارها على إزالته، وعلى إزالة الدرن الوسخ من البدن؟ قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان، وحكماهما الشيخ أبو حامد وغيره قولين: أحدهما: ليس له إجبارها عليه؛ لأنه لا يمنع الاستمتاع بها. والثاني: له إجبارها؛ لأنه يمنع كمال الاستمتاع. وهل له أن يمنعها من أكل ما يتأذى برائحته، كالبصل والثوم والكراث؟ قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، وحكاهما الشيخ أبو إسحاق وجهين، وتعليلهما ما مضى. وقال القاضي أبو الطيب: له أن يمنعها منه قولًا واحدًا؛ لأنه يتأذى برائحته، إلا أن تميته طبخًا؛ لأن رائحته تذهب. [فرع يمنع زوجته من تعاطي ما يسكر أو أكل لحم الخنزير] وإن كانت ذمية فأرادت أن تشرب الخمر.. فله أن يمنعها من السكر؛ لأنه يمنعه من الاستمتاع، ولا يؤمن أن تجني عليه. وهل له أن يمنعها من القدر الذي لا تسكر منه؟ حكى الشيخ أبو إسحاق فيه وجهين، وسائر أصحابنا حكوهما قولين: أحدهما: ليس له أن يمنعها منه؛ لأنها مقرة عليه، ولا يمنعه من الاستمتاع. والثاني: له منعها منه؛ لأنه لا يتميز القدر الذي تسكر منه عن القدر الذي لا تسكر منه مع اختلاف الطباع، فمنعت الجميع، ولأنه يتأذى برائحته، ويمنعه كمال الاستمتاع.

فرع لا يمنعها لبس الحرير ونحوه ويمنعها من جلد الميتة ونحوه

وإن كانت الزوجة مسلمة.. فله منعها من شرب الخمر؛ لأنه محرم عليها. فإن أرادت أن تشرب ما يسكر من النبيذ.. فله منعها منه؛ لأنه محرم بالإجماع. وإن أرادت أن تشرب منه ما لا يسكر، فإن كانا شافعيَّيْن.. فله منعها منه؛ لأنهما يعتقدان تحريمه. وإن كانا حنفيَّيْن أو هي حنفية.. فهل له منعها منه؟ فيه قولان، كما قلنا في الذمية إذا أرادت أن تشرب القليل من الخمر. وهل له أن يمنع الذمية من أكل لحم الخنزير؟ قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، كشرب القليل من الخمر. وحكاهما الشيخ أبو إسحاق وجهين، وتعليلهما ما مضى. قال ابن الصباغ: وظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إن كان يتقذره وتعافه نفسه.. فله منعها منه. وإن لم تعفه نفسه.. لم يكن له منعها منه. إذا ثبت هذا: فإن شربت الخمر، أو أكلت لحم الخنزير، أو شربت الحنفية النبيذ.. فله أن يجبرها على غسل فيها؛ لأنه نجس وإذا قبلها.. نجس فمه. [فرع لا يمنعها لبس الحرير ونحوه ويمنعها من جلد الميتة ونحوه] ) : وليس له أن يمنع زوجته من لبس الحرير والديباج ولا الحلي؛ لأن ذلك مباح لها. وله أن يمنعها من لبس جلد الميتة الذي لم يدبغ؛ لأنه نجس، وربما نجسه إذا التصق به. وله أن يمنعها من لبس الثوب المنتن؛ لأنه يمنع القرب إليها والاستمتاع بها. [مسألة للزوج منع المرأة من الخروج إلى المسجد وغيره] وللزوج أن يمنع زوجته من الخروج إلى المسجد وغيره؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لامرأة أن تخرج من بيت زوجها وهو كاره. »

مسألة للزوج منعها من شهود الجنائز وعيادة المرضى

وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما -: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: ما حق الزوج على زوجته؟ فقال: (أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه، فإن فعلت.. لعنها الله وملائكة الرحمة وملائكة الغضب حتى تؤوب أو ترجع) ، قالت: يا رسول الله وإن كان لها ظالمًا؟ قال: وإن كان لها ظالمًا» . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثل الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة؛ لا نور لها» وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المرأة عورة، فإذا خرجت.. استشرفها الشيطان» ولأنها تفوت بالخروج من يملك عليها من الاستمتاع. فإن قيل: فقد روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» وروي: «لا تمنعوا نساءكم المساجد» ؟! قيل: له ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه أراد به الاستحباب في غير ذوات الهيئات. والثاني: أنه أراد به الاستحباب في الجمع والأعياد. والثالث: أنه أراد به المسجد الحرام إذا أرادت الحج. وهذا التأويل ضعيف؛ لأنه قال: (مساجد الله) ، وذلك جمع. ٍ [مسألة للزوج منعها من شهود الجنائز وعيادة المرضى] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وله منعها من شهود جنازة أبيها وأمها وولدها) . وجملة ذلك: أن للزوج أن يمنع زوجته من عيادة أبيها وأمها إذا مرضا، ومن

مسألة معاشرة الأزواج بالمعروف

حضور موتهما وتشييعهما إذا ماتا؛ لما روى ثابت البناني عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «-: أن رجلًا سافر فنهى امرأته من الخروج، فمرض أبوها، فاستأذنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عيادته، فقال لها: (يا هذه اتقي الله ولا تخالفي زوجك) - قال- فمات أبوها، فاستأذنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تشييع جنازته، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا هذه اتقي الله ولا تخالفي زوجك "، فأوحى الله عز وجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله قد غفر لأبيها بطاعتها لزوجها» . ولأن عيادة أبيها وأمها وحضور مواراتهما ليس بواجب عليها، فلا تترك له واجبًا عليها. ويستحب للزوج أن لا يمنعها من ذلك؛ لأن ذلك ربما أدى إلى العداوة بينهما. [مسألة معاشرة الأزواج بالمعروف] ويجب على كل واحد من الزوجين معاشرة صاحبه بالمعروف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] [الأحزاب:50] ، ولقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] [النساء:34] يعني: بالإنفاق عليهن وكسوتهن، ولقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] [البقرة:228] والمماثلة هاهنا بالتأدية لا في نفس الحق؛ لأن حق الزوجات النفقة والكسوة وما أشبه ذلك، وحق الأزواج على الزوجات التمكين من الاستمتاع، وقال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] [النساء:19] . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وجماع المعروف بين الزوجين: كف المكروه، وإعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه، لا بإظهار الكراهية في تأديته، فأيهما مطل بتأخيره.. فمطل الغني ظلم بتأخيره) . قال أصحابنا: و (كف المكروه) هاهنا هو: أن لا يؤذي أحدهما الآخر بقول ولا فعل، ولا يأكل أحدهما، ولا يشرب ولا يلبس ما يؤذي الآخر. وقوله: (وإعفاء صاحب الحق من المؤونة في طلبه) : إذا وجب لها على الزوج نفقة أو كسوة.. بذله لها، ولا يحوجها إلى أن ترفعه إلى الحاكم، فيلزمها في ذلك

مؤونة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم» وكذلك: إذا دعاها إلى الاستمتاع.. لم تمتنع، ولم تحوجه إلى أن يرفع ذلك إلى الحاكم، فيلزمه في ذلك مؤنة؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأرضاه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دعا أحدكم امرأته إلى فراشه فأبت عليه، فبات وهو عليها ساخط.. لعنتها الملائكة حتى تصبح» . وقوله: (لا بإظهار الكراهية في تأديته) : إذا طلبت الزوجة حقها منه أو طلب الزوج حقه منها.. بذل كل واحد منهما ما وجب عليه لصاحبه وهو باش الوجه ضاحك السن؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صلى الله عيه وسلم - قال: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد.. لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها» .

فرع حق الاستمتاع وترك الزوج له وجمعه بين زوجتيه بمسكن

[فرع حق الاستمتاع وترك الزوج له وجمعه بين زوجتيه بمسكن] ولا يجب على الزوج الاستمتاع بها. وحكى الصيمري: أن مالكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (إذا ترك جماع زوجته المدة الطويلة.. أمر بالوطء، فإن أبى.. فلها فسخ النكاح) . وقال آخرون: يجبر على أن يطأ في كل أربع ليالٍ ليلة. وهذا غير صحيح؛ لأنه حق له فجاز له تركه. ولأن الداعي إليه الشهوة، وذك ليس إليه. والمستحب: أن لا يخليها من الجماع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمس النساء، فمن رغب عن سنتي.. فليس مني» ولأنه إذا لم يجامعها.. لم يؤمن منها الفساد، وربما كان سببًا للعداوة والشقاق بينهما. وإن كان له زوجتان.. لم يجمع بينهن في مسكن واحد إلا برضاهما؛ لأن ذلك يؤدي إلى خصومتهما. ولا يطأ إحداهما بحضرة الأخرى؛ لأن ذلك قلة أدب وسوء عشرة. [مسألة ما يقوله أول ما يرى زوجته أو عند إرادته الجماع] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في القديم: (وإذا تزوج رجل امرأة.. فأحب له أول ما يراها أن يأخذ بناصيتها ويدعو باليمن والبركة، فيقول: بارك الله لكل واحد منا في

مسألة إتيان المحاش من النساء

صاحبه؛ لأن هذا بدء الوصلة بينهما، فأستحب له أن يدعو بالبركة) . ويستحب له إذا أراد أن يجامعها أن يقول: (باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) ؛ لما روي: أن الني - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أراد أحدكم أن يجامع امرأته، فقال ذلك، فإن رزقا ولدًا.. لم يقربه الشيطان» . [مسألة إتيان المحاش من النساء] قال المزني: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ذهب بعض أصحابنا في إتيان النساء في أدبارهن إلى إحلاله، وآخرون إلى تحريمه، ولا أرخص فيه، بل أنهى عنه) . وروى محمد بن عبد الحكم: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ما صح فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيء في تحريمه، ولا في تحليله شيء، والقياس أنه حلال) . قال الربيع: كذب ابن عبد الحكم والذي لا إله إلا هو، فقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على تحريمه في ستة كتب، فلا يختلف مذهبنا: في أنه محرم. وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -، وابن عباس، وابن مسعود، وأبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومجاهد، والحسن البصري، وعكرمة، وقتادة، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأبو ثور، وأحمد، وعامة أهل العلم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وحكى العراقيون من أصحاب مالك عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مثل مذهبنا. وحكى المصريون وأهل الغرب عنه: أنه مباح، ونص عليه في (كتاب السير) .

فرع جواز التلذذ بين الأليتين مقبلة مدبرة

وحكي: أن مالكًا سئل عن ذلك، فقال: (الآن اغتلست منه) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] [البقرة:222] ، فأمر باعتزال النساء في المحيض للأذى، وأذى الحيض أخف من أذى الموضع المكروه. وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ملعون من أتى امرأته في دبرها» وروى خزيمة بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن» . وروي: «أن أعرابيًا أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، الرجل يكون في الفلاة وتكون معه الزوجة ويكون في الماء قلة؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا فسا أحدكم فليتوضأ، ولا تأتوا النساء في أعجازهن، إن الله لا يستحيي من الحق» وسئل قتادة عن ذلك، فقال: سمعت عمرو بن شعيب يحدث عن أبيه عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هي اللوطية الصغرى» . [فرع جواز التلذذ بين الأليتين مقبلة مدبرة] ويجوز التلذذ بما بين الأليتين من الزوجة من غير إيلاج في الدبر؛ لأنه إنما نهي عن الإيلاج في الدبر لما فيه من الأذى، وذلك لا يوجد فيما بين الأليتين.

فرع حرمة الاستمناء

ويجوز الوطء في الفرج مقبلة ومدبرة؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قالت اليهود: إذا جامع الرجل امرأته من ورائها.. جاء ولده أحول، فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] الآية [البقرة:223] . [فرع حرمة الاستمناء] ويحرم الاستمناء، وهو: إخراج الماء الدافق بيده. وبه قال أكثر أهل العلم. وقال ابن العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (نكاح الأمة خير منه، وهو خير من الزنا) . وروي: أن عمرو بن دينار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رخص فيه عند الاضطرار وخوف الهلكة. وبه قال أحمد ابن حنبل - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] * {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] [المؤمنون 5-6] ، فمنها دليلان: أحدهما: أنه أباح الاستمتاع بالفرج بالزوجة أو ملك اليمين، وهذا ليس بواحد منهما. والثاني: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] [المؤمنون:7] ، والاستمناء وراء ذلك. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ملعون ناكح كفه» ولأن فيه قطع النسل والامتناع من التزويج، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تناكحوا تكْثُرُوا» .

مسألة كراهية العزل

[مسألة كراهية العزل] ويكره العزل، وهو: أن يولج، فإذا قارب الإنزال.. نزع وأنزل خارج الفرج؛ لما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ذكرنا العزل عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لم يفعل ذلك أحدكم؟» . وروت جدامة بنت وهب قالت: «حضرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألوه عن العزل فقال: ذلك الوأد الخفي» . و (الوأد) هو: أن أهل الجاهلية كانوا إذا ولدت لهم ابنة.. قتلوها، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8] {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 9] [التكوير:8-9] . وهل يحرم عليه ذلك؟ ينظر فيه: فإن كان في وطء أمته.. لم يحرم عليه؛ لأن الاستمتاع حق له. وإن كان في وطء زوجته: فإن كانت زوجته أمة.. جاز له العزل بغير إذنها وغير

فرع استحباب خدمة الزوجة

إذن سيدها؛ لأن له غرضًا في ذلك، وهو: أن لا يكون ولده منها مملوكًا. وإن كانت حرة: فإن أذنت له في ذلك.. جاز؛ لأن الحق لهما، وإن لم تأذن له.. ففيه وجهان: أحدهما: يحرم عليه ذلك؛ لما روي: عن ابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهما قالا: (تستأذن الحرة، ولا تستأذن الأمة) ولأنه لا غرض له في ذلك. والثاني: لا يحرم عليه؛ لما روى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل عن ذلك فقال: (أو تفعلون ذلك؟) فقيل له: نعم، فقال: ولا عليكم أن تفعلوا، إن الله لم يقض لنفس أن يخلقها إلا وهي كائنة» ولأن حقها في الإيلاج دون الإنزال؛ بدليل: أن العنين والمولى إذا أولج فيها ولم ينزل.. سقط حقها، فلا معنى لاعتبار إذنها. [فرع استحباب خدمة الزوجة] ] : ولا يجب على الزوجة الخدمة للزوج في الخبز والطبخ والغزل وغير ذلك؛ لأن المعقود عليه هو الاستمتاع دون هذه الأشياء. [مسألة القسم للزوجات] وإذا كان له زوجتان أو أكثر.. لم يجب عليه القسم ابتداء، بل يجوز له أن ينفرد عنهن في بيت؛ لأن المقصود بالقسم هو الاستمتاع، وهو حق له.. فجاز له تركه. وإن أراد أن يقسم بينهن.. جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقسم بين نسائه. ولا يجوز له أن يبدأ بواحدة منهن من غير رضا الباقيات إلا بالقرعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

مسألة القسم للمريضة والحائض والمحرمة وغيرهن

{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] [النساء:129] . وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كانت له امرأتان يميل إلى إحداهما دون الأخرى.. جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط» وفي البداءة بإحداهن من غير قرعة ميل. فإن كان له زوجتان.. أقرع بينهما مرة واحدة، وإن كان ثلاثًا.. أقرع مرتين، وإن كن أربعًا.. أقرع ثلاث مرات؛ لأنهن إذا كن ثلاثًا فخرجت القرعة لواحدة.. قسم لها، ثم أقرع بين الباقيتين. وهكذا في الأربع. وإن قام عند واحدة منهن من غير قرعة.. لزمه القضاء للباقيات؛ لأنه إذا لم يقض.. صار مائلًا. [مسألة القسم للمريضة والحائض والمحرمة وغيرهن] ويقسم للمريضة، والرتقاء، والقرناء، والحائض، والنفساء، والمحرمة، والتي آلى منها أو ظاهر؛ لأن المقصود الإيواء والسكن، وذلك موجود في حقهن. وأما المجنونة: فإن كان يخاف منها.. سقط حقها من القسم؛ لأن الإيواء والألفة لا تحصل معها. وإن لم يخف منها.. وجب لها القسم؛ لأن الإيواء يحصل معها. وإن دعاها إلى منزل له فامتنعت.. سقط حقها من القسم، كالعاقلة.

فرع القسم على المريض والمحرم ونحوه

[فرع القسم على المريض والمحرم ونحوه] ويقسم المريض والمجبوب والعنين والمحرم؛ لأن الأنس يحصل به. وإن كان مجنونا يخاف منه.. لم يقسم له الولي؛ لأنه لا يحصل به الأنس. وإن كان لا يخاف منه.. نظرت: فإن كان قد قسم لواحدة في حال عقله، ثم جن قبل أن يقضي.. لزم الولي أن يقضي للباقيات قسمهن منه، كما لو كان عليه دين. وإن جن قبل أن يقسم لواحدة منهن، فإن لم ير الولي أن له مصلحة في القسم.. لم يقسم لهن، وإن رأى الولي المصلحة له في القسم.. قسم لهن؛ لأنه قائم مقامه. وهل يجب على الولي ذلك أم لا؟ على قولين، وحكاهما بعض الأصحاب وجهين: أحدهما: لا يجب عليه، كما يجب على العاقل. والثاني: يجب عليه ذلك؛ لأن العاقل له اختيار في ترك حقه، والمجنون لا اختيار له، فلزم الولي أن يستوفي له حقه بذلك. فإن حمله إلى واحدة.. حمله ليلة أخرى، وكان بالخيار: بين أن يطوف على نسائه، وبين أن يتركه في منزله ويستدعيهن واحدة واحدة إليه. وإن طاف به على البعض واستدعى البعض.. جاز. فإن قسم الولي لبعضهن ولم يقسم للباقيات.. أثم الولي. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في (الإبانة) ] : هل يقسم الولي للمجنون؟ فيه وجهان- قال- فإن كان يجن يومًا، ويفيق يومًا فأقام ليلة جنونه عند واحدة، وليلة عقله عند الأخرى.. لم تحتسب بليلة جنونه عندها حتى يقضي لها. ولو أقر الولي أنه ظلم إحداهن.. لم يسمع إقراره حتى تقر المقسومة لها للمظلومة. [مسألة النفقة والقسم للمسافرة] وإن سافرت المرأة مع زوجها.. فلها النفقة والقسم؛ لأنها في مقابلة الاستمتاع، وذلك موجود. وهكذا: إذا أشخصها من بلد إلى بلد للنقلة أو لحاجة له.. فلها النفقة والقسم وإن لم يكن معها.

مسألة التسوية في القسم بين المسلمة والذمية

وإن سافرت من بلد إلى بلد وحدها لحاجة لها بغير إذنه.. فلا نفقة لها ولا قسم؛ لأنها ناشزة عنه. وإن سافرت لحاجة لها وحدها بإذنه.. ففيه قولان: أحدهما: لا نفقة لها ولا قسم، لأنها في مقابلة الاستمتاع. وذلك متعذر منها. والثاني: لها النفقة والقسم، لأنها غير ناشزة، فهو كما لو أشخصها لحاجة له. والأول أصح. [مسألة التسوية في القسم بين المسلمة والذمية] ] : وإن كان عنده مسلمة وذمية.. سوى بينهما في القسم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وعاشروهن بالمعروف) [النساء:19] ، ولم يفرق. ولعموم الوعيد في الخبر. [مسألة القسم للحرة والأمة] وإن اجتمع عنده حرة وأمة.. قسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة. وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -، وأبو حنيفة، وهي إحدى الروايتين عن أحمد. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يسوي بينهما) . دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنكح الأمة على الحرة؛ للحرة الثلثان من القسم، وللأمة الثلث» . وللأمة أن تحلل الزوج من قسمها أو تهبه لبعض ضرائرها بغير إذن سيدها؛ لأن الحق لها فيه دون سيدها. [فرع القسم للحرة والأمة إذا عتقت] وإن كانت عنده حرة وأمة، فقسم للحرة ليلتين، ثم انتقل إلى الأمة فأعتقت، فإن أعتقت بعد أن أقام عندها ليلة ويومًا.. فلا شيء عليه لها غير ذلك. وإن أعتقت قبل

مسألة القسم في الليل إن كان معاشه بالنهار

استكمال الليلة واليوم.. تمم لها ليلتين ويومين، لأنه لم يوفها حقها حتى صارت مساوية للحرة. وإن قسم للأمة أولًا ليلة ويومًا، ثم دار إلى الحرة، فأعتقت الأمة، فإن أعتقت في الليلة الأولى ويومها.. لم يزد الحرة على ذلك، لأنها صارت مساوية لها. وإن أعتقت بعد انقضاء الليلتين.. لم يلزمه أن يقضي للأمة لليلة، لأنه قسم للحرة ليلتين وهي مستحقة لهما. ويستأنف القسم لهما من الآن متساويًا. [مسألة القسم في الليل إن كان معاشه بالنهار] وإذا كان طلب معاش الرجل بالنهار.. فعماد قسمته الليل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام: 96] [الأنعام:96] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ: 10] {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11] [النبأ 10-11] وإن كان طلب معاشه بالليل.. فعماد قسمته النهار. والمستحب: أن يقسم مياومة، وهو: أن يقيم عند واحدة يومًا ثم عند الأخرى يومًا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هكذا كان يقسم، ولأنه أقرب إلى إيفاء الحق. وإن أراد أن يقسم لكل واحدة ليلتين أو ثلاثًا.. جاز، لأن ذلك قريب. وإن أراد أن يقيم عند كل واحدة أكثر من الثلاث..فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الإملاء ": إن أراد أن يقسم لهن مياومة، أو مشاهرة، أو مساناة.. كرهت له، وأجزأه) . قال أصحابنا: يجوز له ما زاد على الثلاث برضاهن، وأما بغير رضاهن: فلا يجوز، لأنه كثير. ويدخل النهار في القسم، لما روي عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم لنسائه، ولكل واحدة يومها وليلتها، غير أن سودة

مسألة من ترك القسم مدة قضاه

وهبت ليلتها لعائشة) ، وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (توفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري» ، فأضافت اليوم إليها، لأنه كان يوم نوبتها. و (السحر) : الرئة، لأنه كان متكئا على صدرها. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل إلى بيت حفصة فلم يصادفها، فقعد عند مارية جاريته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فقالت: يا رسول الله، أفي بيتي، وفي يومي!» ، فأضافت اليوم إليها. والأولى: أن يجعل اليوم تابعًا لليلة التي مضت قبله، لأن الشهر هلالي. وإن جعل النهار تابعًا لليلة التي بعده.. جاز. [مسألة من ترك القسم مدة قضاه] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (وإذا كان له أربع زوجات، فترك إحداهن من القسم أربعين ليلة.. قضى لها عشر ليال) . واختلف أصحابنا في تأويله: فقال أكثرهم: أراد أنه أقام عند كل واحدة من الثلاث عشرًا، ثم أقام عشرًا وحده في بيت، فيقضي للرابعة عشرًا.. فأما لو أقام عند الثلاث أربعين ليلة.. قضى للرابعة ثلاث عشرة ليلة وثلثًا. وقال ابن الصباغ: ظاهر كلامه أنه أقام عندهن أربعين ليلة.. وما قال.. له وجه جيد عندي، لأن الذي تستحقه بالقضاء عشر وثلاث ليال وثلث تستحقها أداء، لأن زمان القضاء، لها فيه قسم.

فرع يقسم للناشزة من حين طاعتها ويخص البكر بسبع والثيب بثلاث

[فرع يقسم للناشزة من حين طاعتها ويخص البكر بسبع والثيب بثلاث] قال في " الأم ": وإن كان له أربع نسوة، فسافرت واحدة منهن بغير إذنه، وأقام عند اثنتين ثلاثين يومًا، عند كل واحدة خمسة عشر يومًا، فلما أراد أن يقيم عند الثالثة رجعت الناشزة وصارت في طاعته.. فلا حق لها فيما مضى من القسم، لأنها كانت عاصية، ولا يمكن أن يقسم للثالثة خمس عشرة ليلة، لأن القادمة تستحق الربع، فيجعل الليالي أربعًا، ويقيم عند القادمة ليلة وهو حقها، ويجعل للثالثة ثلاث ليال: ليلة هي حقها، وليلتين من حق الأولتين. فإذا دار بين القادمة والثالثة خمسة أدوار كذلك.. استوفت الثالثة خمس عشرة ليلة، والقادمة خمسا، واستأنف القسم بين الأربع. ولو كان بدل المسافرة زوجة جديدة تزوجها قبل أن يوفي الثالثة.. خص الجديدة إن كانت بكرًا بسبع، وإن كانت ثيبًا بثلاث، ثم يقسم ثلاثًا للثالثة الأولى وليلة للجديدة حتى يدور خمسة أدوار، واستأنف القسم للأربع) . [فرع سقوط حق الناشزة ويقضي لمن وجب لها قبل طلاقها لو راجعها] قال في " الأم ": (وإن كان له أربع زوجات فقسم لثلاث ليلة ليلة، فلما كان ليلة الرابعة نشزت عنه وأغلقت دونه بابها، وادعت عليه الطلاق.. فقد سقط حقها. فإن عادت إليه وأطاعته.. استأنف لهن القسم ولم يقض لها، لأن حقها قد سقط. ولو قسم للثلاث، ثم طلق الرابعة قبل أن يوفيها حقها.. أثم بذلك، لأنه أسقط حقها بعد وجوبه. فإن راجعها أو بانت منه فتزوجها.. قضى لها تلك الليلة، لأنها كانت واجبة لها) . [مسألة الطواف على النساء في منازلهن أو باستدعائهن] والمستحب: أن يطوف على نسائه في منازلهن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك، ولأن ذلك أصون لهن.

مسألة لا يشترط الوطء في القسم

وإن قعد في منزل واستدعى كل واحدة إليه في ليلتها.. كان له ذلك؛ لأن ذلك ليس بأكثر من السفر بهن. وإن طاف على بعض نسائه في منازلهن واستدعى البعض إلى منزله.. كان له ذلك، فإن لم تأته واحدة منهن إلى حيث استدعاها.. سقط حقها من القسم، لأنها ناشزة. وإن كان محبوسًا في مكان يصلن إليه ويصلح للسكنى، وأراد أن يقسم بينهن ويستدعيهن إليه.. كان له ذلك؛ لأنه كالمنزل. وإن كان له امرأتان في بلدين فأقام في بلد إحداهما، فإن أقام معها.. قضى للأخرى. وإن لم يقم معها.. لم يقض للأخرى، لأن إقامته في البلد التي هي بها من غير أن يقيم معها ليس بقسم. [مسألة لا يشترط الوطء في القسم] وليس من شرط القسم الوطء، غير أن المستحب: أن يساوي بينهن في الوطء، لأنه هو المقصود. فإن وطئ بعضهن دون بعض.. لم يأثم بذلك؛ لأن الوطء طريقه الشهوة، وقد تميل شهوته إلى بعضهن دون بعض، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] [النساء: 129] ، قيل في التفسير: في الحب والجماع. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقسم بين نسائه ويقول: «اللهم، إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» ، يعني: قلبه.

مسألة دخوله ليلا على ضرة المقسم لها

[مسألة دخوله ليلًا على ضرة المقسم لها] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يدخل في الليل على التي لم يقسم لها) . وجملة ذلك: أنه إذا قسم بين نسائه.. فلا يجوز أن يخرج من عند المقسوم لها في ليلتها لغير ضرورة من غير إذنها؛ لأن عماد القسم الليل. فإن دعت ضرورة إلى ذلك، بأن مرض غيرها وأشرفت على الموت، فاحتاج إلى أن يخرج إليها لتوصي إليه، أو تكون تحتاج إلى قيم ولا قيم لها، أو ماتت واحتاج إلى الخروج لتجهيزها.. جاز له الخروج؛ لأن هذا موضع عذر. فإن برئت المريضة التي خرج إليها.. قضى للتي خرج من ليلتها من قسم ليلة المريضة مثل الذي أقام عندها. وإن ماتت.. لم يقض، بل يستأنف القسم للباقيات. إذا ثبت هذا: فنقل المزني: (ويعودها في ليلة غيرها) . قال أصحابنا: هذا سهو في النقل أيضًا، إنما هو في يوم غيرها. فإن خالف وخرج عنها في ليلتها لغير عذر إلى غيرها، وأقام عندها قليلًا.. فقد أساء، ولا يقضي ذلك؛ لأن ذلك يسير لا يضبط. وإن أقام عندها مدة طويلة من الليل.. قضى للأخرى من ليلة التي أقام عندها مثل ذلك في وقته من الليل. وإن قضى مثله في غير وقته من الليل.. جاز؛ لأن المقصود الإيواء، وجميع الليل وقت للإيواء. وإن دخل إلى غيرها في ليلتها، وجامعها وخرج سريعًا.. فما الذي يجب عليه؟ فيه ثلاثة أوجه:

فرع حبس أو فوت نصف ليلتها

أحدها: لا يجب عليه القضاء؛ لأن القصد الإيواء، ولم يفوت عليها بجماع غيرها الإيواء؛ لأن قدر مدته يسير. والثاني: يجب عليه أن يقضيها بليلة من حق الموطوءة؛ لأن المقصود بالإيواء هو الجماع، فإن وقع ذلك لغيرها في ليلتها.. وجب عليه أن يقضيها بليلة الموطوءة. والثالث: أنه يدخل عليها في ليلة الموطوءة فيطؤها؛ لأنه أعدل. [فرع حبس أو فوت نصف ليلتها] فرع: [إن حبس أو فوت نصف ليلتها قضاه] : فإن أخرجه السلطان عنها في ليلتها وحبسه نصف ليلتها، أو خرج عنها إلى بيت وقعد فيه نصف الليل.. وجب عليه أن يقضيها مثل الذي فوت عليها. فإن فوت عليها النصف الأول من الليل.. فإنه يأوي إليها النصف الأول من الليل، ثم يخرج منها إلى منزل له أو لغيره، وينفرد عنها وعن سائر نسائه النصف الأخير. وقال ابن الصباغ: قال بعض أصحابنا: إلا أن يخاف العسس، أو يخاف اللصوص.. فيقيم عندها في باقي الليل ولا يخرج للعذر، ولا يقضي للباقيات. وإن فوت عليها النصف الأخير من الليل.. فالمستحب: أن يقضيها في النصف الأخير، وينفرد عنها وعن سائر نسائه النصف الأول من الليل، ويأوي إليها النصف الأخير. وإن أوى إليها النصف الأول وانفرد في النصف الأخير.. جاز. [فرع خروجه للحاجة ودخوله على ضرة المقسم لها نهارًا] ويجوز أن يخرج في نهار المقسوم لها؛ لطلب المعيشة إلى السوق ولقضاء الحاجات.

وإن دخل إلى غيرها في يومها، فإن كان لحاجة، مثل: أن يحمل إليها نفقتها، أو كانت مريضة فدخل عليها يعودها، أو دخل لزيارتها لبعد عهده بها، أو يكلمها بشيء، أو تكلمه، أو يدخل إلى بيتها شيئًا، أو يأخذ منه شيئًا، ولم يطل الإقامة عندها.. جاز، ولا يلزمه القضاء لذلك؛ لأن المقصود بالقسم الإيواء، وذلك يحصل بالليل دون النهار. ولا يجامعها؛ لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: «ما كان يوم إلا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطوف علينا جميعًا، فيقبل ويلمس، فإذا جاء إلى التي هي يومها.. أقام عندها» . وهل له أن يستمتع بالتي يدخل إليها في غير يومها بغير جماع؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: لا يجوز؛ لأن ذلك مما يحصل به السكن فأشبه الجماع. والثاني - وهو المشهور -: أنه يجوز؛ لحديث عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. فإن دخل إليها في يوم غيرها وأطال المقام عندها.. لزمه القضاء، كما قلنا في الليل. وإن أراد الدخول إليها في غير يومها لغير حاجة.. لم يجز؛ لأن الحق لغيرها. وإن دخل إليها في يوم غيرها، ووطئها وانصرف سريعًا.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: لا يلزمه القضاء؛ لأنه غير مستحق، ووقته لا ينضبط. والثاني: يلزمه أن يدخل إليها في يوم الموطوءة فيطأها؛ لأنه أعدل.

مسألة زواجه بجديدة يقطع الدور سبعا للبكر وثلاثا للثيب

[مسألة زواجه بجديدة يقطع الدور سبعًا للبكر وثلاثًا للثيب] إذا كان تحته زوجة أو زوجتان فتزوج بأخرى.. قطع الدور للجديدة. فإن كانت بكرًا.. أقام عندها سبعًا، ولا يقضي. وإن كانت ثيبا.. كان بالخيار: بين أن يقيم عندها ثلاثا ولا يقضي، وبين أن يقيم عندها سبعًا ويقضي ما زاد على الثلاث. ومن أصحابنا من قال: يقضي السبع كلها. والأول هو المشهور. هذا مذهبنا، وبه قال أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والشعبي، والنخعي، ومالك، وأحمد، وإسحاق رحمة الله عليهم. وقال ابن المسيب والحسن البصري: يقيم عندها إذا كانت بكرًا ليلتين، وعند الثيب ليلة. وقال الحكم وحماد وأبو حنيفة وأصحابه: (يقيم عند البكر سبعًا، وعند الثيب ثلاثًا، ويقضي مثل ذلك للباقيات) . دليلنا: ما روي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «للبكر سبع، وللثيب ثلاث» وما روي عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: «دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (ما بك على أهلك هوان! فإن شئت.. سبعت عندك وقضيت لهن، وإن شئت.. ثلثت عندك ودرت) ، فقلت: ثلث. وروي: " إن شئت.. سبعت عندك، وسبعت عندهن» .

فرع زفاف اثنتين بليلة

فإن قلنا: يجب عليه قضاء السبع إذا أقامها عند الثيب.. فوجهه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سبعت عندك، وسبعت عندهن» . وإذا قلنا: يقضي ما زاد على الثلاث.. فوجهه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلثت عندك ودرت» فلو كان يجب قضاء الثلاث كما كان يجب قضاء ما زاد.. لما كان للتخيير معنى. ولأن الثلاثة مستحقة لها، بدليل: أنها لو اختارت أن يقيم عندها الثلاث لا غير.. لم يجب عليه قضاؤها، فكذلك لا يجب قضاؤها إذا أقامها مع الأربع. [فرع زفاف اثنتين بليلة] فرع: [كراهة زفاف اثنتين بليلة] : ويكره أن تزف إليه امرأتان في ليلة واحدة؛ لأنه لا يمكنه أن يوفيهما حق العقد معًا، وإذا أقام عند إحداهما.. استوحشت الأخرى. فإن زفتا إليه، فإن كانت إحداهما قبل الأخرى.. أوفى الأولى حق العقد ثم الثانية؛ لأن الأولى لها مزية بالسبق. وإن زفتا إليه في حالة واحدة.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى. وإن كان عنده امرأتان فبات عند إحداهما ليلة، فزفت إليه زوجة جديدة قبل أن يوفي الثانية حقها.. قضى للجديدة حق العقد؛ لأن حقها آكد؛ لأنه متعلق بالعقد، وحق الأولى متعلق بفعله، فإذا قضى حق العقد؛.. فقد بقي للثانية من الأوليين ليلة: نصفها من حقها ونصفها من حق الأولى، فيوفيها إياها. ويجب للجديدة بحق القسم نصف ليلة؛ لأجل هذه الليلة، ثم يستأنف القسم بينهن. [فرع زفت أمة إلى عبد وعنده زوجة] وإن زفت إلى عبد أمة وعنده امرأة أخرى، سواء كانت حرة أو أمة.. ففي الذي تستحقه الأمة بحق العقد ثلاثة أوجه، حكاها ابن الصباغ:

فرع ملازمة صلاة الجماعة ونحوها نهارا إذا أقام عند الجديدة

أحدها: أنها كالحرة، فإن كانت بكرًا.. أقام عندها سبعًا. وإن كانت ثيبًا، فإن شاءت.. أقام عندها ثلاثًا ولا يقضي، وإن شاءت.. أقام عندها سبعًا ويقضي؛ لأن هذا يراد للأنس وزوال الوحشة، والأمة كالحرة في ذلك. والثاني: أن الأمة على النصف من الحرة، كما قلنا في القسم الدائم، إلا أن الليالي والأيام تكمل. فعلى هذا: إن كانت بكرًا.. أقام عندها أربع ليال. وإن كانت ثيبًا، فإن شاءت.. أقام عندها ليلتين ولا يقضي، وإن شاءت.. أقام عندها أربع ليال ويقضي، كما قلنا في الأقراء. والثالث: أنها على النصف، ولا تكمل الليالي والأيام، فيقيم عند البكر ثلاث ليال ونصفًا، وعند الثيب إن شاءت.. ليلة ونصفًا ولا يقضي، وإن شاءت.. ثلاث ليال ونصفًا ويقضي؛ لأنها تتبعض، بخلاف الأقراء. [فرع ملازمة صلاة الجماعة ونحوها نهارًا إذا أقام عند الجديدة] فرع: [استحباب ملازمة صلاة الجماعة ونحوها نهارًا إذا أقام عند الجديدة] : قال في (الأم) : (ولا أحب له أن يتخلف عن صلاة الجماعة، ولا يمنعه ذلك من عيادة مريض، ولا شهود جنازة، ولا إجابة وليمة) . وجملة ذلك: أنه إذا أقام عند الجديدة بحق العقد.. فهو كالقسم الدائم، فعماده الليل. وأما بالنهار: فله أن ينصرف في طلب معاشه، ويصلي مع الجماعة، ويشهد الجنازة، ويعود المريض، ويجيب الولائم؛ لأن الإيواء عندها بالنهار مباح، وهذه الأشياء طاعات، فلا يترك الطاعات للمباح. قال ابن الصباغ: فأما بالليل: فقال أصحابنا: لا يخرج فيه لشيء من ذلك؛ لأن حق الزوجة فيه واجب، وما يخرج له.. فليس بواجب، بخلاف الكون عندها بالنهار.. فإنه ليس بواجب.

مسألة المعدد إذا أراد السفر وتخييره

[مسألة المعدد إذا أراد السفر وتخييره] وإذا كان لرجل زوجتان أو أكثر، وأراد السفر.. كان بالخيار: بين أن يسافر وحده ويتركهن في البلد؛ لأن عليه النفقة والكسوة والسكنى دون المقام معهن، كما لو كان بالحضر وانفرد عنهن. وإن أراد أن يسافر بهن جميعهن.. لزمهن ذلك، كما يجوز أن ينتقل بهن من بلد إلى بلد. وإن أراد أن يسافر ببعضهن.. جاز؛ لـ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سافر ببعض نسائه» . وإذا أراد أن يسافر ببعض نسائه.. أقرع بينهن؛ لما روت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرع بين نسائه إذا أراد السفر، فأيتهن خرج سهمها.. خرج بها» وهو بالخيار: بين أن يكتب الأسماء ويخرج على السفر والإقامة، وبين أن يكتب السفر والإقامة ويخرج على الأسماء. فإذا خرج السفر على واحدة.. لم يلزمه المسافرة بها، بل لو أراد أن يدعها ويسافر وحده.. كان له ذلك. وإن أراد أن يسافر بغيرها.. لم يجز؛ لأن ذلك يبطل فائدة القرعة. وإن اختار أن يسافر باثنتين، وعنده أكثر.. أقرع بينهن. فإن خرجت قرعة السفر على اثنتين.. سافر بهما، ويسوي بينهما في القسم في السفر، كما لو كان في الحضر. وإذا سافر بها بالقرعة، فإن كان السفر طويلًا.. لم يلزمه القضاء للمقيمات. وإن كان السفر قصيرًا.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه القضاء للمقيمات، كالسفر الطويل. والثاني: يلزمه؛ لأنه في حكم الحضر. هذا مذهبنا. وقال داود: (يلزمه القضاء للمقيمات في الطويل والقصير) .

فرع السفر بإحداهن بلا قرعة

دليلنا: حديث عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها ذكرت السفر ولم تذكر القضاء. ولأن المسافرة اختصت بمشقة السفر، فاختصت بالقسم. [فرع السفر بإحداهن بلا قرعة] وإن سافر بواحدة منهن من غير قرعة.. لزمه القضاء للمقيمات. وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى: (لا يقضي) . دليلنا: أنه خص بعض نسائه بمدة على وجه تلحقه فيه التهمة، فلزمه القضاء، كما لو كان حاضرًا. وقال المسعودي [في (الإبانة) ] : فلو قصد الرجوع إليهن.. فهل تحتسب عليه المدة من وقت القصد؟ فيه وجهان: [فرع سافر بقرعة ثم أقام أو غير جهة السفر] وإن سافر بواحدة منهن بالقرعة، ثم نوى الإقامة في بعض البلاد وأقام بها معه، أو لم ينو الإقامة إلا أنه أقام بها أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج.. قضى ذلك للباقيات؛ لأنه إنما لم يجب عليه أن يقضي مدة السفر، وهذا ليس بسفر. وإن سافر بها إلى بلد، فلما بلغه.. عنَّ له أن يسافر بها إلى بلد آخر فسافر بها.. لم يقض للمقيمات؛ لأنه سفر واحد وقد أقرع له. [فرع انتقل بواحدة فيقضي للبواقي] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو أراد النقلة.. لم يكن له أن ينتقل بواحدة إلا أوفى البواقي مثل مقامه معها) . واختلف أصحابنا في تأويلها:

فرع عنده اثنتان وزف إليه اثنتان معا وأراد السفر أو سافر بإحداهما ثم تزوج

فمنهم من قال: تأويلها إذا كان له نساء، فأراد النقلة إلى بلد، فنقل واحدة منهن معه، ونقل الباقيات مع وكيله إلى ذلك البلد، فلما وصل إلى ذلك البلد أقام مع التي نقلها.. فعليه أن يقضي للباقيات مدة إقامته مع التي نقلها بعد السفر دون مدة السفر؛ لأن مدة السفر لا تقضى. وقال أبو إسحاق: تقضى مدة السفر ومدة الإقامة بعده؛ لأنه متى أراد نقل جميعهن.. فقد تساوت حقوقهن، فمتى خص واحدة بالكون معه.. لزمه أن يقضي للباقيات مدة الإقامة معها، كما لو أقام في الحضر معها، بخلاف السفر بإحداهن. فعلى قول الأول.. يحتاج إلى القرعة. وعلى قول أبي إسحاق.. لا يحتاج إلى قرعة. [فرع عنده اثنتان وزف إليه اثنتان معًا وأراد السفر أو سافر بإحداهما ثم تزوج] ] : إذا كان عنده امرأتان، فتزوج باثنتين وزفتا إليه في وقت واحد، وأراد السفر بإحداهن قبل أن يقضي حق العقد.. أقرع بينهن، فإن خرج السفر لإحدى الجديدتين.. سافر بها، ويدخل حق العقد في قسم السفر؛ لأن الأنس يحصل به. فإذا قدم.. فهل يلزمه أن يقضي للجديدة الأخرى حق العقد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه، كما لو كانتا قديمتين، فسافر بإحداهما بالقرعة. والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يلزمه أن يقضيها حق العقد، وهو الصحيح؛ لأنه سافر بالأخرى بعدما استحقت الجديدة حق العقد، فيلزمه قضاؤها، كما لو كان تحته أربع نسوة، فقسم لثلاث منهن، ثم سافر بغير الرابعة بالقرعة قبل أن يقضي للرابعة حقها. وإن خرجت قرعة السفر لإحدى القديمتين.. سافر بها. قال الشيخ أبو إسحاق: فإذا قدم.. قضى حق العقد للجديدتين. وينبغي أن يكون في ذلك وجهان كالأولى، ولعله أجاب على الأصح. قال في (الأم) : (وإن كان له امرأتان، فسافر بإحداهما بالقرعة، فلما كان في

مسألة هبة المرأة قسمها

بعض الطريق تزوج بأخرى، فإن سافر بهما.. قضى للجديدة حق العقد، ثم قسم بينها وبين القديمة. وإن أراد أن يسافر بإحداهما.. أقرع بينهما، فإذا خرج السفر للجديدة.. سافر بها وترك الأخرى، ودخل حق العقد في قسم السفر. وإن خرج السفر للقديمة.. سافر بها، فإذا رجع..قضى للجديدة حق العقد؛ لأنه سافر بها بعد وجوبه عليه) . وهذا يدل: على صحة قول أبي إسحاق في التي قبلها. [مسألة هبة المرأة قسمها] ] : ويجوز للمرأة أن تهب ليلتها لبعض ضرائرها؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج سودة بنت زمعة بعد موت خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وكان يقسم لها، فلما كبرت وأسنت.. هم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطلاقها، فقالت: يا رسول الله، لا تطلقني ودعني حتى أحشر في جملة أزواجك، وقد وهبت ليلتي لأختي عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فتركها، فكان يقسم لكل واحدة ليلة ليلة ولعائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ليلتين» . إذا ثبت هذا: فإن القبول فيه إلى الزوج؛ لأن الحق له، ولا يصح ذلك إلا برضاه؛ لأن الاستمتاع حق له عليها، ولا يعتبر فيه رضا الموهوبة؛ لأن ذلك زيادة في حقها. فإن كانت ليلة الواهبة توالي ليلة الموهوبة.. والاهما لها. وإن كانتا غير متواليتين.. فهل للزوج أن يواليهما من غير رضا الباقيات؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأن لها ليلتين، فلا فائدة في تفريقهما. والثاني: ليس له ذلك، وهو المذهب، ولم يذكر غيره؛ لأنها قائمة مقام الواهبة. وإن وهبتها لزوجها.. جاز له أن يجعلها لمن شاء من نسائه؛ لأن الحق له. فإن جعلها لواحدة تلي ليلتها ليلة الواهبة، إما قبلها أو بعدها.. والاهما لها. وإن جعلها لمن لا تلي ليلتها.. فهل له أن يواليهما لها؟ على الوجهين. هكذا نقل البغداديون.

مسألة القسم للإماء

وقال المسعودي [في (الإبانة) ] : هل للزوج أن يخص بها بعض نسائه؟ فيه وجهان. وإن وهبتها لجميع ضرائرها.. صح ذلك، وسقط قسمها، وصارت كأن لم تكن. فإن رجعت الواهبة في هبة ليلتها.. لم تصح رجعتها فيما مضى؛ لأنها هبة اتصل بها القبض. ويصح رجعتها في المستقبل؛ لأنها هبة لم يتصل بها القبض. فإن لم يعلم الزوج برجعتها حتى قسم ليلتها لغيرها.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لم يكن لها بدلها. فإن أخذت عن ليلتها عوضًا من الزوج.. لم يصح؛ لأنه ليس بعين ولا منفعة لها. فترد العوض، ويقضيها الزوج حقها؛ لأنها تركت حقها بعوض ولم يسلم لها العوض) . [مسألة القسم للإماء] مسألة: [لا يجب القسم للإماء] : وإن كان له جماعة إماء.. لم يجب عليه القسم لهن ابتداء ولا انتهاء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] [النساء:3] ، فدل على: أنه لا يجب عليه العدل فيما ملكت يمينه. ولأنه لا حق لها في الاستمتاع، بدليل: أنه لو آلى منها أو ظاهر.. لم يصح، ولو وجدته عنينًا أو مجبوبًا.. لم يثبت لها الخيار. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يعضلهن؛ لئلا يفجرن. وله أن يفصل بعضهن عن بعض. والمستحب أن يساوي بينهن) . وإن كان تحته إماء وزوجات، فبات عند بعض إمائه.. لم يجب عليه القضاء؛ لأن قسم الإماء غير مستحق، فهو كما لو بات في المسجد.

وله أن يطوف على إمائه بغسلٍ واحد،، وهو: أن يجامع واحدة بعد واحدة، ثم يغتسل. وإن كان تحته زوجات.. فله أن يطوف عليهن بغسل واحد إذا حللنه عن ذلك في القسم؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يطوف على نسائه بغسل واحد» . وبالله التوفيق

باب النشوز

[باب النشوز] إذا ظهر من المرأة أمارات النشوز، بقول أو فعل.. وعظها. فـ (أمارته بالقول) : هو أن يكون من عادته إذا دعاها.. أجابته بالتلبية، وإذا خاطبها.. أجابت خطابه بكلام جميل حسن، ثم صارت بعد ذلك إذا دعاها.. لا تجيب بالتلبية، وإذا خاطبها أو كلمها.. لا تجيبه بكلام جميل. و (ظهور أمارته بالفعل) : هو أن يكون من عادته إذا دعاها إلى الفراش.. أجابته باشة طلقة الوجه، ثم صارت بعد ذلك تأتيه متكرهة. أو كان من عادتها إذا دخل إليها.. قامت له وخدمته، ثم صارت لا تقوم له ولا تخدمه. فإذا ظهر له ذلك منها.. فإنه يعظها، ولا يهجرها ولا يضربها. هذا قول عامة أصحابنا. وقال الصيمري: إذا ظهرت منها أمارات النشوز.. فله أن يجمع بين العظة والهجران. والأول هو المشهور؛ لأنه يحتمل أن يكون هذا النشوز بفعله فيما بعد، ويحتمل أن يكون لضيق صدرٍ من غير جهة الزوج، أو لشغل قلبٍ. وإن نشزت منه، بأن دعاها إلى فراشه فامتنعت منه، فإن تكرر ذلك الامتناع منها.. فله أن يهجرها، وله أن يضربها. والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] [النساء: 34] .

وإن نشزت منه مرة واحدة.. فله أن يهجرها، وهل له أن يضربها؟ فيه قولان: أحدهما: ليس له أن يضربها- وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لأنها تستحق العقوبة على قدر جرمها؛ بدليل: أنها لا تستحق الهجران لخوف النشوز، فكذلك لا تستحق الضرب بالنشوز مرة واحدة. فعلى هذا: يكون ترتيب الآية: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ} [النساء: 34] : إذا نشزن، و: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] : إذا أصررن على النشوز. والثاني: له أن يضربها، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] . فظاهر الآية: أن له أن يفعل الثلاثة الأشياء لخوف النشوز، فدل الدليل على: أنه لا يهجرها ولا يضربها عند خوف النشوز، وبقيت الآية على ظاهرها إذا نشزت. ولأنها معصية يحل هجرانها، فأحلت ضربها، كما لو تكرر منها النشوز. إذا ثبت هذا: فـ (الموعظة) : أن يقول لها: ما الذي منعك عما كنت آلفه من برك، وما الذي غيرك، اتقي الله وارجعي إلى طاعتي؛ فإن حقي واجب عليك، وما أشبه ذلك. و (الهجران) : هو أن لا يضاجعها في فراش واحد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] .. ولا يهجر بالكلام، فإن فعل.. لم يزد على ثلاثة أيام. فإن زاد عليها.. أثم؛ لما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى أن يهجر الرجل أخاه فوق ثلاثة أيام»

وأما (الضرب) : فقال الشافعي: (لا يضربها ضربًا مبرحًا، ولا مدميًا، ولا مزمنًا، ويتقي الوجه) . فـ (المبرح) : الفادح الذي يخشى تلف النفس منه، أو تلف عضو. و (المدمي) : الذي يجرح، فيخرج الدم. و (المزمن) : أن يوالي الضرب على موضع واحد؛ لأن القصد منه التأديب. ويتوقى الوجه؛ لأنه موضع مجمع المحاسن. ويتوقى المواضع المخوفة. قال الشافعي: (ولا يبلغ به حدّا) . ومن أصحابنا من قال: لا يبلغ به الأربعين؛ لأنها كحد الخمر أقل حدود الحد. ومنهم من قال: لا يبلغ به العشرين؛ لأن العشرين حد في العبد؛ لأنه تعزير. وليس للزوج أن يضرب زوجته على غير النشوز، بقذفها له أو لغيره؛ لأن ذلك إلى الحاكم. والفرق بينهما: أن النشوز لا يمكنه إقامة البينة عليه، بخلاف سائر جناياتها. إذا ثبت هذا: فروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تضربوا إماء الله» . وروي «عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: كنا معشر قريش يغلب رجالنا نساءنا، فقدمنا المدينة، فوجدنا نساءهم تغلب رجالهم، فخالط نساؤنا نساءهم، فذئرن

على أزواجهن، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقلت: ذئر النساء على أزواجهن! فأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بضربهن، فأطاف بآل رسول الله نساء كثير كلهن يشتكين أزواجهن، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد طاف بآل محمد سبعون امرأة، كلهن يشتكين أزواجهن، وما تجدون أولئك بخياركم» . فإذا قلنا: يجوز نسخ السنة بالكتاب.. فيحتمل أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ضربهن، ثم نسخ الكتاب السنة يقوله: وَاضْرِبُوهُنَّ، ثم أذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ضربهن موافقًا للكتاب، غير أنه بين أن تركه أولى بقوله: "وما تجدون أولئك بخياركم ". وإن قلنا: إن نسخ السنة لا يجوز بالكتاب.. احتمل أن يكون النهي عن ضربهن متقدمًا، ثم نسخه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأذن في ضربهن، ثم ورد الكتاب موافقًا للسنة في ضربهن. ومعنى قوله: (ذئر النساء على أزواجهن) أي: اجترأن على أزواجهنِ. قال الصيمري: وقيل في قَوْله تَعَالَى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] : سبع تأويلات. إحداها: أن حل العقدة إليه دونها. والثاني: أن له ضربها عند نشوزها. والثالث: أن عليها الإجابة إذا دعاها إلى فراشه، وليس عليه ذلك. الرابع: أن له منعها من الخروج، وليس لها ذلك. الخامس: أن ميراثه منها على الضعف من ميراثها منه. السادس: أنه لو قذفها.. كان له إسقاط حقها باللعان، وليس لها ذلك. السابع: موضع الدرجة اشتراكهما في لذة الوطء، واختص الزوج بتحمل مؤونة الصداق والنفقة والكسوة وغير ذلك.

مسألة نشوز الزوج

[مسألة نشوز الزوج] وأما إذا ظهر من الزوج أمارات النشوز، بأن يكلمها بكلام غير لين، أو لا يستدعيها إلى الفراش كما كان يفعل وغير ذلك.. فلا بأس أن تترك له بعض حقها من النفقة والكسوة والقسم؛ تطيب بذلك نفسه، وبذلك ورد قَوْله تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] [النساء: 28] . قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (نزلت هذه الآية في امرأة إذا دخلت في السن.. جعلت يومها لامرأة أخرى) . وإن ظهر من الزوج النشوز، بأن منعها ما يجب لها من نفقة وكسوة وقسم وغير ذلك.. أسكنها الحاكم إلى جنب ثقة عدل؛ ليستوفي لها حقها. وإن ادعى كل واحد منهما على صاحبه النشوز بمنع ما يجب عليه.. أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة عدل؛ لكي يشرف عليهما، فإذا عرف الظالم منهما.. منعه من الظلم. وإن بلغ ما بينهما إلى الشتم أو إلى الضرب وتخريق الثياب.. بعث الحاكم حكمين ليجمعا بينهما أو يفرقا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35] الآية [النساء: 35] . وهل هما وكيلان من قبل الزوجين، أو حكمان من قبل الحاكم؟ فيه قولان: أحدهما: أنهما وكيلان من قبل الزوجين - وبه قال أبو حنيفة وأحمد - لما روى

عبيدة السلماني قال: جاء إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجل وامرأة، ومع كل واحد منهما فئام من الناس - يعني: جماعة - فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) ، ثم قال للحكمين: (أتدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا.. جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا.. فرقتما) ، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي، وقال الرجل: أما الجمع: فنعم، وأما الفرقة: فلا، فقال علي: (كذبت: لا والله، لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله لك وعليك) ، فاعتبر رضاه. ولأن الطلاق بيد الزوج، وبدل العوض بيد المرأة، فافتقر إلى رضاهما. فعلى هذا: لا بد أن يوكل كل واحد منهما الحكم من قبله على الجمع أو التفريق. والثاني: أنهما حكمان من قبل الحاكم. وبه قال مالك والأوزاعي وإسحاق، وهو الأشبه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] [النساء: 35] ، وهذا خطاب لغير الزوجين، وسماهما الله تعالى حكمين. فعلى هذا: لا يفتقر إلى رضا الزوجين. إذا ثبت هذا: فإن الحكمين يخلو كل واحد منهما بأحد الزوجين وينظر ما عنده، ثم يجتمعان ويتشاوران. فإن رأيا الجمع بينهما.. لم يتم إلا برضاهما. وإن رأيا التفريق بينهما، فإن رأيا أن يفرقا فرقة بلا عوض.. أوقعها الحاكم من قبل الزوج. وإن رأيا أنهما يفرقان بينهما بعوض.. بذل الحاكم من قبلها العوض عليها، وأوقع الحاكم من قبل الزوج الفرقة.

والمستحب: أن يكونا من أهلهما؛ للآية. ولأنهما أعلم بباطن أمرهما. وإن كان من غير أهلهما.. جاز؛ لأن الحاكم والوكيل يصح أن يكون أجنبيًا. ولا بد أن يكونا من حرين مسلمين ذكرين عدلين؛ لأنا إن قلنا: إنهما حكمان. فلا بد أن يكون الحكم بهذه الشرائط. وإن قلنا: إنهما وكيلان، إلا أنه توكيل من قبل الحاكم.. فلا بد أن يكونا كاملين. قال الشيخ أبو إسحاق: فإن قلنا: إنهما حكمان.. فلا بد أن يكونا فقيهين. وإن قلنا: إنهما وكيلان.. جاز أن يكونا من العامة. وإن غاب الزوجان أو أحدهما، فإن قلنا: إنهما وكيلان.. صح فعلهما؛ لأن تصرف الوكيل يصح بغيبة الموكل. وإن قلنا: إنهما حاكمان.. لم يصح فعلهما؛ لأن الحكم لا يصح للغائب وإن صح الحكم عليه؛ لأن كل واحد منهما محكوم له وعليه. وإن جنا أو أحدهما.. لم يصح فعلهما؛ لأنا إن قلنا: إنهما وكيلان.. بطلت وكالة من جن موكله. وإن قلنا: إنهما حاكمان.. فإنهما يحكمان للشقاق، وبالجنون زال الشقاق. وإن لم يرضيا أو أحدهما، فإن قلنا: إنهما حاكمان.. لم يعتبر رضاهما، وإن قلنا: إنهما وكيلان.. لم يجبرا على الوكالة، فينظر الحاكم فيما يدعيه كل واحد منهما، فإذا ثبت عنده.. استوفاه له من الآخر. وإن كان لهما أو لأحدهما حق على الآخر من مهر أو دين.. لم يصح للحكمين المطالبة به إلا بالوكالة قولا واحدًا، كالحاكم. وبالله التوفيق

كتاب الخلع

[كتاب الخلع] سمي الخلع خلعا؛ لأن المرأة تخلع نفسها منه، وهي لباس له؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] . ويسمى: الافتداء؛ لأنها تفتدي نفسها منه بما تبذله من العوض. إذا ثبت هذا: فالخلع ينقسم ثلاثة أقسام: مباحين، ومحظور. فـ (أحد المباحين) : إذا كرهت المرأة خلق الزوج أو خلقته أو دينه، وخافت أن لا تؤدي حقه، فبذلت له عوضا ليطلقها.. جاز ذلك وحل له أخذه بلا خلاف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] . وروى الشافعي عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن حبيبة بنت سهل: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى صلاة الصبح وهي على بابه، فقال: " من

هذه؟ " فقالت: أنا حبيبة بنت سهل، فقال: " ما شأنك " فقالت: يا رسول الله، لا أنا ولا ثابت - تعني: زوجها ثابت بن قيس - فلما جاء ثابت قال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هذه حبيبة تذكر ما شاء الله أن تذكر "، فقالت: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لثابت: " خذ منها "، فأخذ منها، وجلست في أهلها» . وفي رواية غير الشافعي: (أنها اختلعت من زوجها) . وقال الشيخ أبو إسحاق: جميلة بنت سهل. وروي: «أن الربيع بنت معوذ بن عفراء اختلعت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . (القسم الثاني من المباح) : أن تكون الحال مستقيمة بين الزوجين، ولا يكره أحدهما الآخر، فتراضيا على الخلع.. فيصح الخلع، ويحل للزوج ما بذلت له. وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأكثر أهل العلم.

وقال النخعي، والزهري، وعطاء، وداود، وأهل الظاهر: (لا يصح الخلع، ولا يحل له ما بذلته) . واختاره ابن المنذر. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] [النساء: 4] ، ولم يفرق. ولأن رفع عقد الزواج يجوز عند خوف الضرر، فجاز من غير ضرر، كالإقالة في البيع. (القسم الثالث) : هو أن يضربها، أو يخوفها بالقتل، أو يمنعها نفقتها وكسوتها لتخالعه، فهذا المحظور؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] [النساء: 19] . و (العضل) : المنع. فإن خالعته في هذه الحالة.. وقع الطلاق، ولا يملك الزوج ما بذلته على ذلك. فإن كان بعد الدخول.. كان رجعيا؛ لأن الرجعة إنما تسقط لأجل ملكه المال، فإذا لم يملك المال.. كان له الرجعة. فإن ضربها للتأديب للنشوز فخالعته عقيب الضرب.. صح الخلع؛ لـ: «أن ثابت بن قيس كان قد ضرب زوجته، فخالعته مع علم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحال، ولم ينكر عليهما» . ولأن كل عقد صح قبل الضرب صح بعده، كما لو حد الإمام رجلا ثم اشترى منه شيئا عقيبه. قال الطبري: وهكذا لو ضربها لتفتدي منه، فافتدت نفسها منه عقيبه طائعة.. صح ذلك؛ لما ذكرناه. وإن زنت فمنعها حقها لتخالعه، فخالعته.. ففيه قولان:

مسألة ما يصح الخلع به ومقداره

أحدهما: أنه من الخلع المباح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] [النساء: 19] ، فدل على: أنها إذا أتت بفاحشة.. جاز عضلها. والثاني: أنه من الخلع المحظور؛ لأنه خلع أكرهت عليه بمنع حقها، فهو كما لو أكرهها بذلك من غير زنا. وأما الآية: فقيل: إنها منسوخة بالإمساك بالبيوت، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] [النساء: 15] ، ثم نسخ ذلك بالجلد والرجم. [مسألة ما يصح الخلع به ومقداره] ] : ويصح الخلع بالمهر المسمى، وبأقل منه، وبأكثر منه. وبه قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأكثر أهل العلم. وقال طاوس، والزهري، والشعبي، وأحمد، وإسحاق: (لا يصح الخلع بأكثر من المهر المسمى) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] ، ولم يفرق، ولأنه عوض مستفاد بعقد فلم يتقدر، كالمهر والثمن. ويصح بالدين والعين والمنفعة، كما قلنا في المهر. [مسألة: لا يحق للأب تطليق زوجة ابنه القاصر] ] : ولا يجوز للأب أن يطلق امرأة ابنه الصغير أو المجنون بعوض ولا بغير عوض. وقال الحسن وعطاء وأحمد: (له أن يطلقها بعوض وبغير عوض) . وقال مالك: (له أن يطلقها بعوض، ولا يصح بغير عوض) .

فرع: طلب الأب من ختنه طلاق ابنته ويبرئه من مهرها

دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الطلاق لمن أخذ بالساق» . ولأن في ذلك إسقاط حقه من النكاح، فلم يصح من الأب، كالإبراء عن دينه. [فرع: طلب الأب من ختنه طلاق ابنته ويبرئه من مهرها] وإن قال رجل لآخر: طلق ابنتي وأنت بريء من مهرها، أو على أنك براء من مهرها، فطلقها الزوج.. وقع الطلاق، ولا يبرأ من مهرها، سواء كانت كبيرة أو صغيرة؛ لأنها إن كانت كبيرة.. فلأنه لا يملك التصرف في مالها. وإن كانت صغيرة.. فلا يجوز له التصرف في مالها بما لا حظ لها فيه. ولا يلزم الأب شيء للزوج؛ لأنه لم يضمن له. وقال أبو علي بن أبي هريرة: إذا قلنا: إن الولي الذي بيده عقدة النكاح.. صح إذا كانت صغيرة أو مجنونة. وهذا ليس بشيء؛ لأن هذا الإبراء قبل الطلاق. وإن قال: طلقها وأنت بريء من مهرها وعلي ضمان الدرك، أو إذا طالبتك فأنا ضامن، فطلقها.. وقع الطلاق بائنا، ولا يبرأ الزوج من المهر، ويكون له الرجوع على الأب، وبماذا يرجع عليه؟ فيه قولان: أحدهما: بمهر مثلها. والثاني: بمثل مهرها المسمى. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قال: طلقها على أنك بريء من مهرها، فطلقها.. لم يقع الطلاق. وأما إذا قال: وأنت بريء من صداقها وأنا ضامن، أو إذا طالبتك فأنا ضامن.. ففيه وجهان، بناء على القولين فيمن بيده عقدة النكاح.

مسألة: لا تخالع السفيهة

ولو خالعه الأب بعين من أعيان مالها، وضمن الأب دركها.. وقع الطلاق بائنا، ولا يملك الزوج العين. وبماذا يرجع على الأب؟ على قولين: أحدهما: بمهر مثلها. والثاني: ببدل العين. هذا نقل البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا كان الزوج جاهلا بأنها من مالها.. فسد العوض، وفيما يرجع به على الأب قولان. وإن علم أنها من مالها، فإن نسب الأب ذلك إلى مالها.. وقع الطلاق رجعيا. وإن أطلق.. فوجهان: أحدهما: يقع رجعيا؛ لأنه قد علم أنه من مالها. والثاني: يقع بائنا، ولا يملك العين. وبماذا يرجع على الأب؟ على القولين؛ لأنه إذا لم يضف ذلك إلى مالها.. احتمل انتقال ملكها إلى الأب. [مسألة: لا تخالع السفيهة] ] : ولا يجوز للسفيهة أن تخالع بشيء من مالها ولا في ذمتها، سواء أذن لها الولي أو لم يأذن؛ لأنه لا حظ لها في ذلك. فإن فعلت ذلك.. وقع الطلاق رجعيا؛ لأن الرجعة لا تسقط؛ لأن الزوج يملك العوض، ولم يملكه. [فرع: جواز مخالعة العبد والمكاتب] ] : ويجوز للعبد أن يخالع زوجته بإذن سيده وبغير إذنه؛ لأنه يملك أن يطلقها بغير عوض بغير إذن سيده، فلأن يملك ذلك بالعوض أولى. ولكن لا يجوز للزوجة أن تسلم العوض إليه بغير إذن سيده؛ لأنه ملك للسيد، فإن أذن لها في تسليم المال إلى العبد فسلمته إليه.. برئت بذلك.

فرع: الإذن للأمة والمكاتبة بالمخالعة

ويجوز للمكاتب أن يخالع زوجته بإذن السيد وبغير إذنه؛ لما ذكرناه في العبد. ويجوز له أن يقبض المال منها بغير إذن سيده؛ لأنه من أهل القبض. [فرع: الإذن للأمة والمكاتبة بالمخالعة] ] : وإذا أذن السيد لأمة أن تخالع زوجها.. فإطلاق إذنه ينصرف إلى الخلع بمهر مثلها. فإذا خالعت بمهر مثلها أو أقل في ذمتها.. صح ذلك. فإن كانت مأذونا لها في التجارة.. أدت المال مما في يدها. وإن كانت مكتسبة.. أدت العوض من كسبها. وإن كانت غير مكتسبة ولا مأذون لها.. ثبت ذلك في ذمتها إلى أن تعتق. وقال المسعودي [في الإبانة] : هل يكون السيد ضامنا له بإذنه لها؟ فيه قولان، كما قلنا فيه إذا أذن لعبده في النكاح، وكان العبد غير مأذون له ولا مكتسب. وإن اختلعت على أكثر من مهر مثله.. كان مهر مثلها في كسبها، وكانت الزيادة على مهر مثلها في ذمتها إلى أن تعتق. وإن اختلعت بغير إذن سيدها.. صح الخلع. فإن كان بعوض في ذمتها.. كان ذلك في ذمتها إلى أن تعتق. وإن كان على عين في يدها.. وقع الطلاق بائنا، ولا يملك الزوج العين؛ لأنها ملك للسيد. وهل يرجع عليها بمهر مثلها، أو ببدل العين في ذمتها إلى أن تعتق؟ على القولين. وإن خالعت المكاتبة زوجها بغير إذن سيدها.. فهي كالأمة إذا اختلعت بغير إذن سيدها. وإن كان بإذن سيدها.. فقد نص الشافعي: (أنه لا يصح الخلع) . وأراد تسمية العوض، وأما الطلاق: فيقع. وقال: (إذا وهبت لغيرها عينا في يدها بإذن سيدها.. هل يصح؟ فيه قولان) .

مسألة: طلب الأجنبي الطلاق أو الخلع على مال

فـ[الأول] : من أصحابنا من قال: في الخلع قولان، كالهبة، وإنما نص على أحدهما. و [الثاني] : منهم من قال: لا يصح إذنه في عوض الخلع قولا واحدا. والفرق بينهما: أن في الهبة يحصل الثواب لهما جميعا، والخلع إنما يستفاد به رجوع البضع إليها، فلا يجوز أن يشاركها السيد في العقد وتنفرد هي بملك البضع. فإن قلنا: لا يصح.. فهو كما لو اختلعت بغير إذن سيدها. وإن قلنا: يصح، فإن قدر لها العوض فزادت عليه.. كانت الزيادة في ذمتها تتبع بها إذا عتقت، والمأذون فيه فيما بيدها أو بكسبها. وإن أطلق الإذن.. اقتضى ذلك مهر مثلها. فإن زادت عليه.. كانت الزيادة في ذمتها، وقدر مهر مثلها فيما بيدها أو بكسبها. [مسألة: طلب الأجنبي الطلاق أو الخلع على مال] ] : إذا قال رجل لآخر: طلق امرأتك بألف علي، فطلقها.. وقع الطلاق بائنا، واستحق الزوج الألف على السائل. وبه قال عامة أهل العلم، إلا أبا ثور فإنه قال: (يقع الطلاق رجعيا، ولا يستحق على السائل عوض) . دليلنا: أن الزوج له حق على المرأة يجوز لها أن تسقطه عن نفسها بعوض، فجاز ذلك لغيرها، كما لو كان عليها دين. قال المسعودي [في الإبانة] : وإن سأل رجل امرأة أن تختلع من زوجها على ألف، فاختعلت.. فإن الألف على السائل.

مسألة: صحة الخلع في الحيض ومن غير حاكم

[مسألة: صحة الخلع في الحيض ومن غير حاكم] ] : ويصح الخلع في الحيض؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] ، ولم يفرق. وخالعت حبيبة بنت قيس زوجها بإذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يسألها: هل هي حائض أم طاهر؟ فدل على: أن الحكم لا يختلف. ويصح الخلع من غير حاكم. وبه قال عامة أهل العلم. وقال الحسن البصري وابن سيرين: لا يصح إلا بالحكم. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] ، ولم يفرق. ولأنه عقد معاوضة، فصح من غير حاكم، كالبيع والنكاح. [مسألة: الخلع بصريح أو كنايات الطلاق] ] : إذا خالعها بصريح الطلاق، أو بشيء من كنايات الطلاق ونوى به الطلاق.. فهو طلاق ينقص به عدد الطلاق. وإن خالعها بلفظة الخلع ولم ينو به الطلاق.. ففيه قولان: أحدهما - وهو قوله في القديم -: (أنه فسخ) . وبه قال ابن عباس، وعكرمة، وطاوس، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، واختاره ابن المنذر، والمسعودي [في الإبانة] ؛ لأنه نوع فرقة لا تثبت فيه الرجعة بحال، فكان فسخا، كما لو أعتقت الأمة تحت عبد ففسخت النكاح. فعلى هذا: لا ينقص به عدد الطلاق، بل لو خالعها ثلاث مرات وأكثر.. حلت له قبل زوج.

والثاني: (أنه طلاق) . وبه قال عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، ومالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه؛ لأنه فرقة لا تفتقر إلى تكرار اللفظ، ولا تنفرد به المرأة، فكان طلاقا كصريح الطلاق. فقولنا: (لا تفتقر إلى تكرار) احتراز من اللعان. وقولنا: (لا تنفرد به المرأة) احتراز من الردة. فإذا قلنا بهذا: فهل هو صريح أو كناية؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في " الإملاء ": (هو صريح في الطلاق؛ لأن دخول العوض فيه كدخول النية في كنايات الطلاق) . و [الثاني] : قال في " الأم ": (هو كناية في الطلاق، فلا يقع به الطلاق إلا بالنية، كسائر كنايات الطلاق) . فإذا قلنا: إنه طلاق.. نقص به عدد الطلاق. وإذا قلنا: إن الخلع فسخ.. كان صريحه: الخلع والمفاداة؛ لأن الخلع وردت به السنة وثبت له عرف الاستعمال، والمفاداة ورد بها القرآن وثبت لها عرف الاستعمال. وإن قالت: فاسخني على ألف، أو افسخني بألف، فقال: فاسختك أو فسختك.. فهل هو صريح في الفسخ، أو كناية فيه؟ على وجهين: أحدهما: أنه كناية في الفسخ، فلا يقع به الفسخ حتى ينويا الفسخ؛ لأنه لم يثبت له عرف الاستعمال، ولم يرد به الشرع.

والثاني: أنه صريح فيه، فينفسخ النكاح من غير نية، وهو الأصح؛ لأنه حقيقة فيه ومعروف في عرف أهل اللسان. وإن قالت: خلني على ألف، أو بتني على ألف، وغير ذلك من كنايات الطلاق، فقال: خليتك أو بتتك، ولم ينويا الطلاق، فإن قلنا: إن الخلع صريح في الطلاق بدخول العوض.. صارت هذه الكنايات صريحة في الطلاق بدخول العوض فيها. وإن قلنا: إن الخلع كناية في الطلاق، فإن نويا الطلاق في هذه الكنايات.. كان طلاقا بائنا واستحق العوض. وإن لم ينويا الطلاق.. لم يقع الطلاق ولم يستحق العوض؛ لأن الكناية لا يقع بها الطلاق من غير نية. وإن نوت الطلاق ولم ينو الزوج.. لم يقع الطلاق؛ لأنه هو الموقع. وإن نوى الزوج الطلاق ولم تنو هي.. ففيه وجهان، وحكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يقع طلقة رجعية ولا يستحق العوض؛ لأنه نوى الطلاق ولم يوجد منها استدعاء الطلاق. والثاني - وهو المذهب -: أنه لا يقع طلاقا؛ لأنه أوقعه بعوض، فإذا لم يثبت العوض.. لم يقع به الطلاق. وإن قلنا: إن الخلع فسخ ونويا بهذا الكنايات الفسخ.. فهل ينفسخ النكاح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا ينفسخ؛ لأن الفسخ لا يصح تعليقه بالصفة، فلم يصح بالكناية. والثاني: ينفسخ، وهو المذهب؛ لأنه أحد نوعي الفرقة، فانقسم إلى الصريح والكناية، كالطلاق. وإن خالعها بصريح الخلع ونويا به الطلاق، فإن قلنا: إن الخلع صريح في الطلاق، أو كناية فيه.. وقع الطلاق.

فرع: طلبت الخلع عن عوض فطلقها وعكسه

وإن قلنا: إنه فسخ.. فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: لا يقع به الطلاق، ويكون فسخا؛ لأنه صريح في الفسخ، فلم يجز أن يكون كناية في حكم آخر من النكاح، كما لا يجوز أن يكون الطلاق كناية في الظهار. والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره -: أنه يقع به الطلاق؛ لأنه يحتمل الطلاق، وقد اقترنت به نية الطلاق. [فرع: طلبت الخلع عن عوض فطلقها وعكسه] ] : إذا قالت: خالعني على ألف ونوت به الطلاق، فقال: طلقتك.. وقع الطلاق بائنا واستحق الألف، سواء قلنا: الخلع صريح في الطلاق أو كناية؛ لأنا إن قلنا: إنه صريح.. فقد أجابها إلى ما سألت. وإن قلنا: إنه كناية.. فقد سألت كناية وأجابها بالصريح، فكان أكثر مما سألت. وإن قالت: طلقني على ألف، فقال: خالعتك ونوى به الطلاق، وقلنا: إنه صريح في الطلاق.. استحق الألف. وقال ابن خيران: إذا قلنا: إنه كناية.. لم يقع عليها طلاق ولم يستحق الألف؛ لأنها بذلت الألف للصريح ولم يجبها إليه. والأول أصح؛ لأن الكناية مع النية كالصريح. وإن لم ينو به الطلاق.. لم يقع به طلاق ولا فسخ؛ لأنه لم يجبها إلى ما سألت. وإن قالت: اخلعني على ألف، فقال: طلقتك على ألف، وقلنا: الخلع فسخ.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يقع عليه طلاق ولا يستحق عوضا؛ لأنه لم يجبها إلى ما سألت. والثاني: يقع عليها الطلاق ويستحق الألف؛ لأنه أجابها إلى أكثر ما سألت منه.

فرع: الخلع من غير ذكر العوض

[فرع: الخلع من غير ذكر العوض] ] : وإن قال: خالعتك، فقالت: قبلت، ولم تذكر العوض، فإن قلنا: الخلع طلاق، فإن نوى به الطلاق.. وقع عليها رجعيا ولا شيء عليها؛ لأنها لم تلتزم له عوضا. وإن قلنا: إن الخلع فسخ.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يكون هذا شيئا؛ لأنه لم يذكر المال. والثاني: أنه خلع فاسد، فيلزمها مهر مثلها؛ لأنه قد وجد اللفظ الصريح في الخلع. وهكذا: لو قال: بعتك هذا العبد، فقال: قبلت، ولم يذكر الثمن، فقبضه المشتري.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه ليس ببيع، فيكون أمانة في يد المشتري. والثاني: أنه بيع فاسد، فيضمنه بالقبض. [مسألة: صحة الخلع منجزا ومعلقا] ] : يصح الخلع منجزا؛ لما فيه من المعاوضة. ويصح معلقا بشرط؛ لما فيه من الطلاق. فـ (المنجز) : أن يوقع الفرقة بعوض، مثل أن يقول الزوج: طلقتك، أو خالعتك، أو خلعتك، أو فاديتك، أو فديتك بألف، فتقول الزوجة عقيب قوله: قبلت، كما يقول البائع: بعتك هذا بألف، ويقول المشتري: قبلت. وللزوج أن يرجع في الإيجاب قبل القبول، كما قلنا في البيع. فإن قالت الزوجة: طلقني بألف، فقال الزوج عقيب استدعائها: طلقتك، أو قالت: اخلعني أو خالعني بألف، فقال عقيب استدعائها: خلعتك أو خالعتك.. صح، كما يقول المشتري: بعني هذا بألف فيقول البائع: بعتك. فإن تأخرت إجابته لها

على الفور.. بطل الاستدعاء، ولها أن ترجع قبل أن يجيبها، كما قلنا في المشتري. فإن قالت الزوجة: خالعتك بألف، فقال الزوج: قبلت.. لم يصح ولم يقع بذلك فرقة؛ لأن الإيقاع إليه دونها، وقوله: قبلت ليس بإيقاع، فهو كما لو قالت له: طلقتك بألف، فقال: قبلت. وإن قالت له: إن طلقتني، أو إذا طلقتني، أو متى طلقتني، أو متى ما طلقتني فلك علي ألف، فقال: طلقتك.. وقع الطلاق بائنا، واستحق الألف عليها؛ لأنه الطلاق لا يحتاج إلى استدعائها ورضاها به. ولهذا: لو طلقها بنفسه.. صح. وإنما الذي يحتاج إليه منها هو التزامها للمال وقد وجد الالتزام منها. ويعتبر أن يكون جوابه على الفور؛ لأنه معاوضة محضة من جهتها، فاقتضى الجواب على الفور. وإن قال: إن بعتني هذا فلك ألف.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في الإبانة] : أحدهما: يصح، كما قلنا في الخلع. والثاني: لا يصح، وهو المشهور؛ لأن البيع تمليك يحتاج فيه إلى رضا المملك، وقوله: إن بعتني، ليس بقبول ولا جار مجراه. وقال بعض أصحابنا المتأخرين: إن قالت له: أجزت لك ألفا لتطلقني أو على أن تطلقني، فقال: أنت طالق.. طلقت، واستحق عليها الألف. وقال ابن الصباغ: إذا استأجرته على أن يطلق ضرتها.. لم يصح. وأما (المعلق) : فمثل أن يعلق الطلاق على ضمان مال أو إعطاء مال، فينظر فيه: فإن كان بحرف (إن) مثل أن يقول: إن ضمنت لي ألفا فأنت طالق، فإن قالت: ضمنت لك، بحيث يصلح أن يكون جوابا لكلامه.. وقع الطلاق؛ لأنه وجد الشرط. وإن تأخر الجواب عن قوله بزمان طويل أو بعد أن أخذت في كلام.. لم يقع

الطلاق، ولم يلزمها الألف؛ لأنه معاوضة، ومن شرطها القبول فيه على الفور. وإن ضمنت له في المجلس بعد زمان ليس بطويل.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري، قال: وظاهر النص: أنه يلزم ذلك. وإن قال: إن أعطيتني ألفا.. فأنت طالق، فأعطته ألفا، بحيث يصلح أن يكون جوابا لكلامه.. وقع الطلاق، ويكفي أن تحضر الألف وتأذن له في قبضها، سواء أخذها أو لم يأخذها؛ لأنه يقع عليها اسم العطية. وإن تأخرت العطية عن الفور بسبب منها، بأن لم تعطه إياها، أو بسبب منه، بأن غاب أو هرب.. لم يقع الطلاق؛ لأنه لم يوجد الشرط. وإذا أخذ الألف.. فهل يملكها؟ قال عامة أصحابنا: يملكها؛ لأنه معاوضة، فملكها كما لو قال: طلقتك على هذه الألف، فقالت: قبلت. وحكى أبو علي السنجي فيها وجهين: أحدهما: يملكها؛ لما ذكرناه. والثاني: لا يملكها، وهو قول المزني وابن القاص؛ لأنه معاوضة، فلم يصح تعليقها على الصفة، كالبيع. فعلى هذا: يرد الألف إليها ويرجع عليها بمهر مثلها. والأول هو المشهور. فإن قال: إن قبضت منك ألفا.. فأنت طالق، فجاءته بألف ووضعته بين يديه وأذنت له في قبضه، فلم يقبضه.. لم يقع عليها الطلاق؛ لأن الصفة لم توجد. وإن أكرهها على الإقباض فقبض.. قال المسعودي [في الإبانة] : وقع الطلاق رجعيا، ورد المال إليها. قال الشيخ أبو إسحاق: ويصح رجوع الزوج قبل الضمان والعطية، كما قلنا فيما عقد بلفظ المعاوضة. فإن قالت: طلقني بألف، فقال: أنت طالق إن شئت، فإن وجدت المشيئة منها

بالقول جوابا لكلامه على الفور.. وقع الطلاق بائنا، ولزمها الألف؛ لأنه علق الطلاق بالمشيئة منها وقد وجدت. وإن تأخرت مشيئتها عن الفور.. لم يقع الطلاق؛ لأن الشرط لم يوجد؛ لأنه لم يرض بطلاقها إلا بعوض ولا يلزم العوض إلا بالقبول على الفور. وإن قالت: طلقني بألف، فقال لها: طلقي نفسك إن شئت، فإن قالت: طلقت نفسي.. طلقت، ولزمها الألف. ولا يشترط أن تقول: شئت؛ لأن طلاقها لنفسها يدل على مشيئتها. وإن كان ذلك بحرف من الحروف التي لا تقتضي الفور، كقوله: متى ضمنت لي ألفا.. فأنت طالق، أو متى ما ضمنت لي، أو أي وقت ضمنت لي، أو أي حين ضمنت لي، أو أي زمان، فمتى ضمنت له على الفور أو على التراخي.. وقع عليها الطلاق؛ لأن هذه الألفاظ تستغرق الزمان كله وتعمه في الحقيقة، بخلاف (إن) : فإنه لا يعم الزمان ولا يستغرقه، وإنما هو كلمة شرط يحتمل الفور والتراخي، إلا أنه لما قرن به العوض.. حمل على الفور؛ لأن المعاوضة تقتضي الفور. فإن رجع الزوج قبل الضمان.. لم يصح رجوعه؛ لأنه تعليق طلاق بصفة، فلم يصح رجوعه كما لو قال لها: إن دخلت الدار.. فأنت طالق. وإن كان ذلك بحرف (إذا) ، بأن قال: إذا أعطيتني ألفا، أو إذا ضمنت لي ألفا فأنت طالق.. فقد ذكر أكثر أصحابنا: أن حكمه حكم قوله: إن ضمنت لي ألفا، أو إن أعطيتني ألفا؛ لأنها كلمة شرط لا تستغرق الزمان، فهي كقوله: إن ضمنت لي. وقال الشيخ أبو إسحاق: حكمه حكم قوله: متى ضمنت لي، أو أي وقت ضمنت لي؛ لأنها تفيد ما تفيده متى، وأي وقت، ولهذا: لو قال: متى ألقاك.. جاز أن يقول: إذا شئت، كما يجوز أن يقول: متى شئت، وأي وقت شئت. بخلاف (إن) : فإنها لا تفيد ما تفيد متى، ولهذا: لو قال له: متى ألقاك.. لم يجز أن يقول: إن شئت. وهكذا إذا قال: أنت طالق أن أعطيتني ألفا - بفتح الهمزة - وقع الطلاق في الحال، وتقديره: لأجل أنك أعطيتني ألفا.

فرع: شرط عليها ضمان مبلغ وتطليق نفسها

وإن قال: أنت طالق إذ أعطيتني ألفا.. وقع عليها الطلاق وكان مقرا: بأنها أعطته ألفا، فترد إليها. [فرع: شرط عليها ضمان مبلغ وتطليق نفسها] ] : إذا قال لها: إن ضمنت لي ألفا فطلقي نفسك.. فإنه يقتضي ضمانا وتطليقا على الفور، بحيث يصلح أن يكون جوابا لكلامه. وسواء قالت: ضمنت الألف وطلقت نفسي، أو قالت: طلقت نفسي وضمنت الألف.. فإنه يصح؛ لأنه تمليك بعوض، فكان القبول فيه على الفور، كالنكاح والبيع. [فرع: الطلاق المؤجل على عوض] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو أخذ منها ألفا على أن يطلقها إلى شهر، فطلقها.. فالطلاق ثابت، ولها الألف، وعليه مهر المثل) . قال أصحابنا: وهذا يحتمل ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه أراد إذا مضى الشهر طلقها.. فلا يصح؛ لأنه سلف في الطلاق. الثاني: أنه أراد أن يطلقها الآن، ثم يرفع الطلاق بعد شهر.. فلا يصح؛ لأن الطلاق إذا وقع.. لم يرتفع. الثالث: أنه أراد أن يطلقها إن شاء الساعة، وإن شاء إلى مضي شهر.. فلا يصح لأنه سلف في الطلاق، ولأن وقت إيقاع الطلاق مجهول. وإن قالت له: إذا جاء رأس الشهر وطلقتني.. فلك علي ألف، فطلقها عند رأس الشهر، أو قال لها: إذا جاء رأس الشهر.. فأنت طالق على الألف، فقالت قبلت.. ففيه وجهان:

مسألة: الخلع المنجز على العوض المملوك أو الفاسد

أحدهما: يصح؛ لأن الطلاق يصح تعليقه على الصفات. الثاني: لا يصح، وهو الأصح؛ لأن المعاوضة لا يصح تعليقها على الصفات. فإذا قلنا: يصح.. قال ابن الصباغ: وجب تسليم العوض في الحال؛ لأنها رضيت بتأجيل المعوض. وإن قلنا: لا يصح، فأعطته ألفا.. وقع عليها الطلاق، وردت الألف إليها، ورجع عليها بمهر مثلها. [مسألة: الخلع المنجز على العوض المملوك أو الفاسد] ] : وإن خالعها خلعا منجزا على عوض معلوم بينهما تملكه.. صح الخلع وملك العوض بالعقد. فإن هلك العوض قبل القبض.. رجع عليها ببدله، وفي بدله قولان: [أحدهما] : قال في الجديد.. (مهر مثلها) . و [الثاني] : قال في القديم: (مثل العوض إن كان له مثل، أو قيمته إن لم يكن له مثل) . كما قلنا في الصداق إذا تلف في يد الزوج قبل القبض. وإن خالعها على خمر، أو خنزير، أو شاة ميتة، وما أشبه ذلك فيما لا يصح بيعه.. وقع الطلاق بائنا، ورجع عليها بمهر مثلها قولا واحدا. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: (يقع الطلاق، ولا يرجع عليها بشيء) . دليلنا: أن هذا عقد على البضع، وإذا كان المسمى فاسدا.. وجب مهر مثلها، كما لو نكحها على ذلك. وإن خالعها على ما في هذا البيت من المتاع ولا شيء فيه.. وقع الطلاق بائنا، ورجع عليها بمهر مثلها قولا واحدا. وقال أبو حنيفة وأحمد: (يرجع عليها بمثل المتاع المسمى) . دليلنا: أنه عقد على البضع بعوض فاسد، فوجب مهر المثل، كما لو سمى ذلك في النكاح.

مسألة: خالعها على شرط رضاع وحضانة ولده

وإن قال: خالعتك على ما في هذه الجرة من الخل، فبان خمرا.. وقع الطلاق بائنا. قال الشافعي في " الأم ": (وله مهر مثلها) . قال أصحابنا: ويحكى فيه القول القديم: (أنه يرجع عليها بمثل الخل) . قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأن الخل مجهول فلا يمكن الرجوع إليه. هذا مذهبنا. وقال أحمد: (يرجع عليها بقيمة الخل) . دليلنا: ما مضى في التي قبلها. [مسألة: خالعها على شرط رضاع وحضانة ولده] ] : إذا خالع امرأته على أن ترضع ولده وتحضنه وتكفله بعد الرضاع، وبين مدة الرضاع، وقدر الطعام وصفته، والأدم وصفته، وكم يحل منه في كل يوم، وكان الطعام والأدم مما يجوز السلم فيه، وبين مدة الكفالة بعد الرضاع.. فالمنصوص (أنه يصح) . ومن أصحابنا من قال: هل يصح العوض؟ فيه قولان؛ لأن هذا جمع أصولا للشافعي في كل واحد منها قولان: أحدها: البيع والإجارة؛ لأن في هذا إجارة الرضاع، وابتياعا للنفقة. والثاني: السلم على شيئين مختلفين. والثالث: فيه السلم على شيء إلى آجال. والصحيح: يصح قولا واحدا؛ لأن السلم والبيع إنما لم يصح على أحد القولين؛ لأن كل واحد منهما مقصود، والمقصود هاهنا هو الرضاع والباقي تبع له، ويجوز في التابع ما لا يجوز في غيره، ألا ترى أنه يجوز أن يشتري الثمرة على الشجرة مع الشجرة قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع، ولو اشترى الثمرة وحدها.. كذلك لم يصح.

وأما السلم على شيء إلى آجال، وعلى شيئين إلى أجل.. فإنما لم يصح؛ لأنه لا حاجة به إليه، وهاهنا به إلى هذا حاجة؛ لأنه كان يمكنه أن يسلم على كل واحد وحده، وهاهنا لا يمكنه الخلع على ذلك مرتين. إذا ثبت هذا: فإن عاش الولد حتى استكمل مدة الرضاع وحل وقت النفقة.. فللأب أن يأخذ كل يوم قدر ما يحل عليها من النفقة والأدم فيه، فإن شاء أخذه لنفسه وأنفق على ولده من ماله، وإن شاء أنفقه على ولده. فإن كان ذلك أكثر من كفاية الولد. كانت الزيادة للأب. وإن كان أقل من كفاية الولد. كان على الأب تمام نفقة الولد. وإن أذن لها في إنفاق ذلك على الولد.. فقد قال أكثر أصحابنا: يصح ذلك، كما لو كان في ذمته لغيره دين فأمره بدفعه إلى إنسان.. فإنه يبرأ بدفعه إليه، وسواء كان المدفوع إليه ممن يصح قبض أو ممن لا يصح قبضه، كما لو كان له في يده طير فأمره بإرساله. وقال ابن الصباغ: يكون في ذلك وجهان، كالملتقط إذا أذن له الحاكم في إنفاق ماله على اللقيط. وإن مات الصبي بعد استكماله الرضاع دون مدة النفقة.. لم يبطل العوض؛ لأنه قد استوفى الرضاع، ويمكن الأب أخذ النفقة، فيأخذ ما قدره من النفقة. وهل يحل عليها ذلك بموت الولد، أو لا يستحق الأب أخذه إلا على نجومه؟ فيه وجهان: أحدهما: يحل عليها، فيطالبها به الأب؛ لأن تأجيله إنما كان لحق الولد. والثاني: لا يستحق أخذه إلا على نجومه، وهو الأصح؛ لأنه وجب عليها هكذا، وإنما مات المستوفي. وإن مات الصبي بعد أن رضع حولا، وكانت مدة الرضاع حولين.. فهل تنفسخ الإجارة في الحول الثاني، أو لا تنفسح بل يأتيها بصبي آخر لترضعه؟ قال المسعودي [في الإبانة] : إن لم يكن الصبي الميت منها.. لم تنفسخ الإجارة قولا واحدا، بل يأتيها بصبي آخر لترضعه. وإن كان الولد الميت منها.. فهل تنفسح

الإجارة، أو لا تنفسح بل يأتيها بصبي آخر لترضعه؟ فيه قولان. والفرق بينهما: أنها تدر على ولدها ما لا تدر على غيره. وسائر أصحابنا حكوا القولين من غير تفصيل. أحدهما: لا تنفسخ، فيأتيها بصبي آخر؛ لأن الصبي الميت مستوفى به، فلم تبطل الإجارة بموته، كما لو اكترى دابة ليركبها إلى بلد فمات قبل أن يستوفي الركوب. والثاني: ليس له أن يأتيها بغيره، بل تنفسخ الإجارة؛ لأن الرضاع يتقدر بحاجة الصبي إليه، وحاجتهم تختلف، فلم يقم غيره مقامه، بخلاف الركوب، ولأنه عقد على إيقاع منفعة في عين، فإذا تلفت تلك العين.. لم يقم غيرها مقامها، كما لو اكترى دابة ليركبها إلى بلد فماتت. فإذا قلنا بهذا، أو قلنا بالأول، ولم يأت بمن يقيمه مقامه.. انفسخ العقد في الحول الثاني. وهل ينفسخ في الحول الأول وفيما بقي من العوض؟ فيه طريقان، كما قلنا فيمن استأجر عينا حولين فتلفت في أثنائها. فإن قلنا: لا يبطل العقد في الحول الأول ولا في النفقة.. فقد استوفى الرضاع في الحول الأول، وله أن يستوفي النفقة. وهل يحل جميعها عليها، أو يستوفيها على نجومها؟ على الوجهين. وأما الحول الثاني: فقد انفسخ العقد فيه، وبماذا يرجع عليها؟ فيه قولان: أحدهما: بأجرة الحول الثاني. والثاني: بقسطه من مهر المثل. فعلى هذا: يقسم مهر المثل على أجرة الرضاع في الحولين وعلى قيمة النفقة والأدم، فما قابل أجرة الحول الثاني.. أخذه، وما قابل غيره.. لم يستحقه عليها. وإن قلنا: يبطل العقد عليها في الجميع.. رجع عليها بمهر مثلها، ورجعت عليه بأجرة رضاعها في الحول الأول. وإن قلنا: له أن يأتيها بولد آخر، فإن أتاها به.. فحكمه حكم الأول. وإن أمكنه

مسألة: علق طلاقها بشرط حصوله على عبد

أن يأتي به، فلم يفعل حتى مضى الحول الثاني.. ففيه وجهان: أحدهما: يسقط حقه من إرضاعها في الحول الثاني؛ لأنه أمكنه استيفاء حقه وفوته باختياره، فهو كما لو اكترى دابة ليركبها شهرا، فحبسها حتى مضى الشهر ولم يركبها. والثاني: لا يسقط حقه؛ لأن المستحق بالعقد إذا تعذر تسليمه حتى تلف.. لم يسقط حق مستحقه، سواء كان بتفريط منه أو بغير تفريط، كما لو اشترى عبدا وقدر على قبضه فلم يقبضه حتى مات في يد البائع، بخلاف الدابة؛ فإن منفعتها تلفت تحت يده. وإن ماتت المرأة.. نظرت: فإن ماتت بعد الرضاع.. لم يبطل العقد، بل يستوفي النفقة من مالها. وإن ماتت قبل الرضاع أو في أثنائه، أو انقطع لبنها.. انفسخ العقد فيما بقي من مدة الرضاع؛ لأن المعقود عليه إرضاعها، وقد تعذر ذلك، فبطل العقد، كما لو استأجر دابة ليركبها فماتت قبل استيفاء الركوب. وهل يبطل العقد فيما بقي من العوض؟ على الطريقين فيمن استأجر عبدا سنة فمات في يده في أثنائها، والتفريع على الطريقين كما مضى. وإن خالعها على خياطة ثوب، فهلك الثوب قبل الخياطة.. فهل يبطل العقد، أو لا يبطل العقد ويأتيها بثوب آخر لتخيطه؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الصبي إذا مات. [مسألة: علق طلاقها بشرط حصوله على عبد] ] : وإن قال: إن أعطيتني عبدا فأنت طالق، فأعطته على الفور عبدا تملكه، صغيرا كان أو كبيرا، سليما كان أو معيبا.. فإنها تطلق؛ لوجود الصفة، ولا يملكه؛ لأنه مجهول، ويرجع عليها بمهر مثلها قولا واحدا؛ لأنه مجهول. وإن أعطته عبدا مكاتبا، أو مغصوبا، أو مرهونا.. لم تطلق؛ لأن إطلاق العطية إنما ينصرف إلى عبد يصح تملكه، وهذا مما لا يصح تملكه، فلم يوجد الشرط.

وإن قال: إن أعطيتني عبدا من صفته كذا وكذا - ووصفه بالصفات التي يصح السلم فيها على العبيد - فأعطته عبدا على الفور بتلك الصفات، فإذا قبضه.. طلقت عليه؛ لوجود الصفة. فإن كان سليما.. استقر ملكه عليه، وإن كان معيبا.. فهو بالخيار: بين أن يمسكه وبين أن يرده؛ لأن إطلاق العبد يقتضي السليم. فإن أمسكه.. استقر ملكه عليه، وإن رده.. رجع عليها بقيمته في قوله القديم، وبمهر مثلها في القول الجديد، كما لو خالعها على عبد معين فتلف في يدها قبل القبض. وإن أعطته عبدا ناقصا عن الصفات التي وصفها.. لم تطلق؛ لأن الصفة لم توجد. وإن خالعها على عبد موصوف في ذمتها خلعا منجزا.. وقعت الفرقة بينهما بالإيجاب والقبول. فإن دفعت إليه عبدا بتلك الصفات.. لزمه أخذه، كما قلنا في من أسلم في عبد. فإن وجده معيبا.. فهو بالخيار: بين أن يمسكه، وبين أن يرده. فإن أمسكه.. فلا كلام، وإن رده.. طالبها ببدله سليما؛ لأن العوض في ذمتها. وإن قالت: طلقني على هذا العبد، فقال: طلقتك.. وقع الطلاق وملكه. فإن كان سليما.. استقر ملكه عليه، وإن كان معيبا.. فهو بالخيار: بين أن يمسكه، وبين أن يرده. فإن رده.. رجع عليها بقيمته في قوله القديم، وبمهر مثلها في قوله الجديد، ولا تطالب بعبد سليم؛ لأن العقد تعلق بعينه، فهو كما لو اشترى عبدا فوجده معيبا. وإن كانت لا تملكه.. وقع عليها الطلاق ولم يملكه الزوج، ورجع عليها بقيمته في قوله القديم، وبمهر مثلها في قوله الجديد. وإن قال: إن أعطيتني هذا العبد فأنت طالق، وأشار إلى عبد بعينه، فأعطته إياه وكانت تملكه.. طلقت لوجود الصفة. فإن كان سليما.. استقر ملكه عليه، وإن كان معيبا.. فله أن يمسكه، وله أن يرده. فإن أمسكه.. فلا كلام، وإن رده.. رجع بقيمته في قوله القديم، وبمهر مثلها في قوله الجديد. هذا قول عامة أصحابنا.

فرع: خالعته على هذا الثوب المروي فكان هرويا أو كتانا

وقال أبو علي بن أبي هريرة: يجيء على قوله القديم أن لا يرده، ويرجع بأرش العيب؛ لأن الواجب قيمته، وما يجب قيمته.. فإنما يجب عند تلفه دون نقصانه، كالمغضوب. والأول أصح؛ لأن العيب الموجود في المعقود عليه إنما يثبت الرد، فلا يجوز الرجوع بالأرش مع إمكان الرد. وإن أعطته العبد المعين وهي لا تملكه.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا يقع عليها الطلاق؛ لأن الإعطاء يقتضي ما تملكه، فهو كما لو قال: إن أعطيتني عبدا فأنت طالق، فأعطته عبدا مغصوبا أو مكاتبا. والثاني: يقع عليها الطلاق، وهو المذهب؛ لأنه علق الطلاق على عطية ذلك العبد بعينه، وقد وجدت الصفة، فوقع الطلاق وإن كانت لا تملكه، كما لو علقه على عطية خمر أو خنزير فأعطته إياها. ويخالف إذا علق الطلاق على عطية عبد غير معين، فأعطته عبدا مغصوبا.. فإن فوض الاجتهاد إليها، فانصرف الإطلاق إلى عبد تملكه. قال ابن الصباغ: وهذان الوجهان يشبهان الوجهين فيمن وكل رجلا ليشتري له عبدا بعينه فوجده الموكل معيبا.. فهل له رده؟ على الوجهين. فإذا قلنا: يقع الطلاق.. فإنه لا يملك العبد، ولكن يرجع عليها بقيمته في قوله القديم، وبمهر مثلها في قوله الجديد. [فرع: خالعته على هذا الثوب المروي فكان هرويا أو كتانا] ] : وإن قالت: خالعني على هذا الثوب على أنه مروي، فقال: خالعتك، فخرج الثوب هرويا.. صح الخلع؛ لأنهما جنس واحد من القطن، وإنما هما نوعان، ويكون بالخيار: بين إمساكه ورده؛ لأنه لم يسلم له النوع المشروط، فهو كما لو وجده معيبا، فإن رده.. رجع بقيمته في قوله القديم، وبمهر المثل في قوله الجديد.

فرع: خالعته على حمل الجارية أو ما في جوفها

فإن قيل: هلا قلتم: إذا رد العوض بالعيب في الخلع ارتفع الطلاق، كما قلتم في السيد إذا كاتب عبده على عوض فقبضه، فوجده معيبا، فرده.. ارتفع العتق؟ قلنا: الفرق بينهما: أن الخلع والكتابة الصحيحة يجمع كل واحد منهما صفة ومعاوضة، إلا أن المغلب في الكتابة الصحيحة المعاوضة، والمغلب في الخلع الصفة؛ بدليل أنه لو كاتب عبدا على مالين في ذمته كتابة صحيحة ثم أبرأه عنهما.. عتق.. ولو علق طلاق امرأته على مال في ذمتها ثم أبرأها منه.. لم تطلق. فوزان الخلع: الكتابة الفاسدة؛ فإن المغلب فيها الصفة. وإن قال لامرأته: إن أعطيتني ثوبا مرويا فأنت طالق، فأعطته ثوبا هرويا.. لم تطلق؛ لأن الصفة لم توجد. وإن قالت: خالعني على هذا الثوب على أنه مروي، فقال: خالعتك، فخرج كتانا.. صح الخلع؛ لأنه وقع على ثوب معين، ولكن لا يملك الزوج الثوب؛ لأنه من غير جنس الثوب المسمى، فهو كما لو خالعها على خل فخرج خمرا، فيرجع عليها بقيمته في قوله القديم، وبمهر مثلها في قوله الجديد. وحكى المحاملي: أن الشيخ أبا حامد حكى وجها آخر: أن الزوج بالخيار: بين إمساكه ورده، كما لو خرج هرويا؛ لأن العين واحدة وإنما اختلف جنسه. والأول هو المشهور. [فرع: خالعته على حمل الجارية أو ما في جوفها] ] : إذا قالت له: طلقني على ما في جوف هذه الجارية من الحمل، فقال: أنت طالق.. وقع الطلاق بائنا، ورجع عليها بمهر مثلها. وقال أبو حنيفة: (إن خرج الولد سليما.. استحقه الزوج، وإن لم يكن شيئا فعليها مهر مثلها) .

مسألة: طلبتا الطلاق على مبلغ فأجابهما أو إحداهما

دليلنا: أن كل ما لا يصح أن يكون عوضا في غير الخلع.. لا يصح أن يكون عوضا في الخلع، كالخمر. وإن قالت: طلقني على ما في جوف هذه الجارية، ولم تقل: من الحمل، فقال: أنت طالق.. فهي كالأولى عندنا. وقال أبو حنيفة: (إن خرج الولد سليما.. استحقه الزوج، وإن لم يكن شيئا.. فلا شيء له؛ لأنها إذا قالت: من الحمل.. فقد وقع الخلع على مال، وإذا لم تقل ذلك.. لم يقع على مال) . ودليلنا: أن الخلع وقع على مجهول، فهو كما لو قالت: اخلعني على ثوب. [مسألة: طلبتا الطلاق على مبلغ فأجابهما أو إحداهما] ] : وإن كان له امرأتان، فقالتا له: طلقنا على ألف درهم، فقال: أنتما طالقان - جوابا لكلامهما - وقع عليهما الطلاق، وهل يصح تسميتهما للألف؟ فيه قولان، كما قلنا فيمن كاتب عبدين على عوض واحد. فإذا قلنا: تصح التسمية.. قسمت الألف عليهما على قدر مهر مثلهما. وإن قلنا: إن التسمية لا تصح.. رجع عليهما بمثل الألف في القول القديم؛ لأن لها مثلا، فيقسم عليهما على مهر مثلهما وعلى القول الجديد: يرجع على كل واحدة منهما بمهر مثلها. وإن أخر الطلاق عن الفور، ثم طلقها.. كان رجعيا، إلا أن يقول: أنتما طالقان على ألف، فتقولان عقيب قوله: قبلنا، فتكون كالأولى. وإن قالتا له: طلقنا على ألف بيننا نصفين، فطلقهما عقيب قولهما.. وقع الطلاق بائنا، واستحق على كل واحدة منهما خمسمائة قولا واحدا؛ لأن كل واحدة منهما استدعت الطلاق بعوض معلوم. وإن قالتا له: طلقنا بألف، فطلق إحداهما على الفور ولم يطلق الأخرى.. وقع طلاق التي طلقها. وهل تصح التسمية بقسطها من الألف؟ على القولين.

فرع: قالتا طلقنا بألف فأجابهما على مشيئتهما

فإذا قلنا: تصح.. قسمت الألف على مهر مثلها ومهر مثل الأخرى، فما قابل مهر مثل المطلقة.. استحقه عليها. وإن قلنا: التسمية فاسدة.. رجع عليها بحصتها من الألف في قوله القديم، وبمهر مثلها في قوله الجديد. وإن طلقهما عقيب استدعائهما الطلاق، ثم ارتدتا.. لم تؤثر الردة؛ لأنها وقعت بعد الفرقة. وإن ارتدتا عقيب استدعائهما الطلاق، ثم طلقهما في مجلس الخيار، فإن كانتا غير مدخول بهما.. بانتا بالردة، فلا يقع الطلاق ولا يلزمهما عوض. وإن كانتا مدخولا بهما.. فإن طلاقهما موقوف على حكم نكاحهما، فإن انقضت عدتهما قبل أن يرجعا إلى الإسلام.. تبينا أن الفرقة وقعت بردتهما، فلا يقع عليهما الطلاق، ولا يلزمهما العوض. وإن رجعتا إلى الإسلام قبل انقضاء عدتهما.. تبينا أن الطلاق وقع عليهما، فلزمهما العوض. وفي قدر ما يلزم كل واحدة منهما ما ذكرناه في الأولى. وإن رجعت إحداهما إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها، وانقضت عدة الأخرى وهي باقية على الردة.. وقع الطلاق على التي رجعت إلى الإسلام - وفي قدر ما يلزمها من العوض ما ذكرناه إذا طلق إحداهما - ولم يقع الطلاق على الأخرى، ولا يلزمها عوض. [فرع: قالتا طلقنا بألف فأجابهما على مشيئتهما] ] : وإن قالتا له: طلقنا بألف، فقال لهما على الفور: أنتما طالقان إن شئتما، فإن قالتا له على الفور: شئنا.. طلقتا، وفي قدر ما يلزم كل واحدة منهما من العوض ما ذكرناه إذا لم يعلق طلاقهما بمشيئتهما. وإن أخرتا المشيئة على الفور.. لم تطلقا؛ لأنه لم يوجد الشرط. وإن شاءت إحداهما على الفور ولم تشأ الأخرى.. لم تطلق واحدة منهما؛ لأنه علق طلاقهما بمشيئتهما، ولم توجد مشيئتهما.

فرع: قالت طلقني وضرتي بألف

وإن كانت بحالها، وإحداهما بالغة رشيدة، والأخرى كبيرة محجور عليها، فقالتا: شئنا على الفور.. وقع عليهما الطلاق، إلا أن البالغة الرشيدة يقع الطلاق عليها بائنا، وفيما يستحقه عليها من العوض ما ذكرناه من القولين. وأما المحجور عليها: فيقع عليها الطلاق، ولا عوض عليه؛ لأنها ليست من أهل المعاوضة وإن كانت من أهل المشيئة، ولهذا يرجع إليها في النكاح وما تأكله. وإن كانت صغيرة مميزة.. فهل تصح مشيئتها؟ فيه وجهان يأتي بيانهما. وإن كانت صغيرة غير مميزة.. فهل تصح مشيئتها؟ فيه وجهان. أو كبيرة مجنونة.. فلا مشيئة لها وجها واحدا. [فرع: قالت طلقني وضرتي بألف] فرع: [قالت إحداهما: طلقني وضرتي بألف أو طلقني بألف على أن تطلق ضرتي أو لا تطلقها] : وإن قالت له إحدى زوجتيه: طلقني وضرتي بألف، فقال على الفور: أنتما طالقان.. وقع الطلاق عليهما بائنا؛ لأنها بذلت له العوض على طلاقها وطلاق ضرتها، وبذل العوض على الطلاق من الأجنبي يصح. وهل تصح التسمية؟ قال أصحابنا: فيه قولان؛ لأنه أوقع به الطلاق على امرأتين، فكان كما لو سألتاه الطلاق. قال ابن الصباغ: ويحتمل عندي أن يقال هاهنا: يصح المسمى قولا واحدا؛ لأنه عقد واحد والعاقد واحد، وإن كان مقصوده يقع لهما، فهو كما لو كان لرجل على رجلين دين فصالحه أجنبي عنهما. فإن طلق إحداهما.. وقع عليها الطلاق. فإن قلنا - لو طلقهما -: إن التسمية على قولين.. كان فيما يستحقه على الباذلة لأجل المطلقة قولان: أحدهما: مهر مثل المطلقة. والثاني: حصتها من الألف.

فرع: قالت له بعني أو أعطني عبدك وطلقني بألف

وإن قلنا بقول ابن الصباغ في الأولى.. استحق على الباذلة حصة مهر مثل المطلقة من الألف قولا واحدا. قال ابن الصباغ: وإن قالت له: طلقني بألف على أن لا تطلق ضرتي.. فإن هذا شرط فاسد لا يلزم الوفاء به، ويكون المسمى فاسدا؛ لأنه مجهول؛ لأنه وجب أن يرد إليها ما زادته لأجل الشرط، وذلك مجهول، ويجب له عليها مهر مثلها. وإن قالت له: طلقني بألف بشرط أن تطلق ضرتي، فطلقها.. قال الشيخان: وقع عليها الطلاق، ويرجع عليها بمهر مثلها؛ لأن الشرط فاسد، فإذا سقط.. وجب إسقاط ما زيد في البدل لأجله، وهو مجهول، فصار العوض مجهولا، فوجب مهر المثل. [فرع: قالت له بعني أو أعطني عبدك وطلقني بألف] ] : وإن قالت له: بعني عبدك هذا وطلقني بألف، فقال: بعتك وطلقتك.. فقد جمعت بين خلع وبيع بعوض، ففيه قولان، كما لو جمع بين البيع والنكاح بعوض. فإذا قلنا: يصحان.. قسم الألف على قيمة العبد وعلى مهر مثلها، فما قابل قيمة العبد.. كان ثمنا، وما قابل مهر مثلها.. كان عوض خلعها. فإن وجدت بالعبد عيبا، فإن قلنا: تفرق الصفقة.. ردت العبد، ورجعت عليه بحصته من الألف. وإن قلنا: لا تفرق الصفقة.. ردت العبد، ورجعت عليه بجميع الألف، ورجع عليها بمهر مثلها. وإن قلنا: لا يصحان.. لم يصح البيع، ولم يصح العوض في الخلع، ولكن الخلع صحيح. وفي ماذا يرجع به عليها؟ قولان: أحدهما: يقوم العبد المبيع، وينظر إلى مهر مثلها، ويقسم الألف عليهما.

مسألة: الخلع يمنع لحوق الطلقات

والثاني: يرجع عليها بمهر مثلها. هكذا ذكر ابن الصباغ، وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، والمحاملي: أنه يرجع عليها بمهر المثل. ولعلهما أرادا على الصحيح من القولين. قال الشيخ أبو حامد: وهكذا الحكم فيه إذا قالت: خذ مني ألف درهم وأعطني هذا العبد وطلقني. قال المحاملي: وهكذا إذا قالت: طلقني على ألف، على أن تعطيني العبد الفلاني، فطلقها. [مسألة: الخلع يمنع لحوق الطلقات] عندنا] : إذا خلع امرأته.. لم يلحقها ما بقي من عدد الطلاق، سواء قلنا: الخلع طلاق أو فسخ، وسواء طلقها في العدة أو في غيرها، وسواء طلقها بالصريح أو بالكناية مع النية. وبه قال ابن عباس، وعروة بن الزبير، وأحمد، وإسحاق. وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (يلحقها الطلاق بالصريح ما دامت في العدة، ولا يلحقها بعد العدة، ولا يلحقها الطلاق بالكناية بحال) . وقال مالك والحسن البصري: (يلحقها الطلاق عن قرب، ولا يلحقها عن بعد) . فـ (القرب) - عند مالك -: أن يكون الطلاق متصلا بالخلع. والحسن البصري يقول: إذا طلقها في مجلس الخلع.. لحقها، وإن طلقها بعده.. لم يلحقها. دليلنا: أنه لا يملك رجعتها، فلم يلحقها طلاقه، كالأجنبية. أو نقول: لأن من لا يصح طلاقها بالكناية مع النية.. لم يصح طلاقها بالصريح،

فرع: لا رجعة على المختلعة إلا بعقد جديد

كما لو انقضت عدتها، إذ من لا يلحقها الطلاق بعوض.. لا يلحقها بغير عوض، كالأجنبية. [فرع: لا رجعة على المختلعة إلا بعقد جديد] عندنا] : ولا يثبت للزوج الرجعة على المختلعة، سواء خالعها بلفظ الخلع أو بلفظ الطلاق. وبه قال الحسن البصري، والنخعي، ومالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة. وذهب ابن المسيب والزهري إلى: أنه بالخيار: إن شاء.. أخذ العوض ولا رجعة له، وإن شاء.. ترك العوض وله الرجعة. قال الشيخ أبو حامد: وأظنهما أرادا ما لم تنقض العدة. وقال أبو ثور: (إن كان بلفظ الخلع.. فلا رجعة له، وإن كان بلفظ الطلاق.. فله الرجعة؛ لأن الرجعة من موجب الطلاق، كما أن الولاء من موجب العتق، ثم لو أعتق عبده بعوض.. لم يسقط حقه من الولاء، فكذلك إن طلقها بعوض) . ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] . وإنما يكون فداء إذا خرجت عن قبضته وسلطانه، فإنه لو أثبتنا له الرجعة.. لم يكن للفداء فائدة. ولأنه ملك العوض بالخلع، فلم تثبت له الرجعة، كما لو خالعها بلفظ الخلع. ويخالف الولاء؛ فإنه بإثبات الولاء عليه لا يملك ما أخذ عليه العوض من الرق، وبإثبات الرجعة له.. يملك ما أخذ عليه العوض من البضع. [فرع: خالعها على أن له الرجعة] ] : قال الشافعي في " المختصر ": (لو خالعها بطلقة بدينار على أن له الرجعة.. فالطلاق لازم، وله الرجعة، والدينار مردود) .

مسألة: توكيل الزوجين في المخالعة

وقال المزني: يسقط الدينار والرجعة، ويجب مهرها، كما قال الشافعي فيمن خالع امرأته على عوض وشرطت المرأة أنها متى شاءت استرجعت الدينار، وثبتت الرجعة: (أن العوض يسقط، ولا تثبت الرجعة) . ونقل الربيع الأولى في " الأم "، كما نقلها المزني. قال الربيع: وفيها قول آخر: (أن له مهر مثلها ولا رجعة) . فمن أصحابنا من ضاق عليه الفرق بين المسألتين اللتين حكاهما المزني، ونقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى وخرجها على قولين. وقال أكثرهم: لا يختلف المذهب في الأولى: أنه له الرجعة ويسقط الدينار، وما حكاه الربيع.. فهو من تخريجه، وما ذكره المزني.. فهو مذهبه بنفسه؛ لأن الخلع اشتمل على العوض وشرط الرجعة، وهذان شرطان متضادان، فكان إثبات الرجعة أولى؛ لأنها تثبت بالطلاق، والعوض لا يثبت إلا بالشرط. وأما الفرق بين الأولى والثانية.. فإنه قد قطع الرجعة في الثانية، وإنما شرط عودتها فيما بعد، فلم تعد، وفي الأولى.. لم يقطع الرجعة في الحال، فكانت باقية على الأصل. [مسألة: توكيل الزوجين في المخالعة] يجوز التوكيل في الخلع من جهة الزوجة والزوج؛ لأنه عقد معاوضة، فجاز التوكيل فيه، كالبيع. ويجوز أن يكون الوكيل منهما مسلما وكافرا، حرا وعبدا، رشيدا ومحجورا عليه. ويجوز أن يكون الوكيل من جهة الزوجة امرأة، وهل يجوز أن يكون الوكيل من قبل الزوج امرأة؟ فيه وجهان: المنصوص: (أنه يصح) ؛ لأنه من صح منه عقد المعاوضة.. صح أن يكون وكيلا فيه، كالبيع.

والثاني: لا يصح في النكاح؛ لأنها لا تملك إيقاع الطلاق لنفسها، فلم تملك في حق غيرها. قال الشافعي: (ويجوز أن يكون وكيل واحد عنه وعنها) . فمن أصحابنا من حمله على ظاهره، وقال: يجوز أن يلي الواحد طرفي العقد في الخلع، كما يجوز أن يوكل الرجل امرأته في طلاقها. ومنهم من قال: لا يصح، كما لا يصح في النكاح أن يكون الواحد موجبا قابلا، وحمل النص على أنه يجوز لكل واحد منهما أن يوكل وحده. إذا ثبت هذا: فإن الوكالة تصح منهما مطلقا ومقيدا، كما قلنا في البيع، فإذا أطلقت الوكالة.. اقتضت مهر المثل، كالوكيل في البيع والشراء. والمستحب: أن يقدر الموكل منهما العوض لوكيله؛ لأنه أبعد من الغرر. فإن وكلت المرأة في الخلع.. نظرت: فإن أطلقت الوكالة.. فإن الإطلاق يقتضي مهر المثل حالا من نقد البلد. فإن خالع عنها بذلك.. صح، ولزمها أداء ذلك. وإن خالعها بدون مهر مثلها، أو بمهر مثلها مؤجلا.. صح؛ لأنه زادها بذلك خيرا. قال ابن الصباغ: وهكذا إن خالع عنها بدون نقد البلد.. صح؛ لأنه زادها خيرا. وإن خالع بأكثر من مهر مثلها.. وقع الطلاق. قال الشافعي في " الإملاء ": (ويكون المسمى فاسدا، فيلزمها مهر مثلها) ؛ لأنه خالع على عوض لم تأذن فيه، فكان فاسدا، فسقط ووجب مهر مثلها، كما لو اختلعت بنفسها على مال مغصوب. وقال في " الأم ": (عليها مهر مثلها، إلا أن تبذل الزيادة على ذلك.. فيجوز) . قال الشيخ أبو حامد: فكأن الشافعي لم يبطل هذه الزيادة على مهر المثل بكل حال، ولكن لا يلزمها. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هي على قولين: أحدهما: يجب عليها مهر مثلها. والثاني: لها الخيار: إن شاءت.. فسخت المسمى وكان عليها مهر مثلها، وإن شاءت.. أجازت ما سمى الوكيل.

وإن قدرت له العوض، بأن قالت: اخلعني بمائة، فإن خلعها بمائة.. صح؛ لأنه فعل ما أمرته، وإن خلعها بمائة مؤجلة، أو بما دونها.. صح؛ لأنه زادها خيرا. وإن خلعها بمائتين.. ففيه قولان: أحدهما: يقع الطلاق، ويلزمها منه مهر مثلها لا غير؛ لأنه خالع بأكثر مما أمرته، فكان فاسدا، فسقط ووجب مهر المثل، كما لو اختلعت هي بخمر أو خنزير. والثاني: يلزمها أكثر الأمرين: من المائة، أو مهر مثلها؛ لأن المائة إن كانت أكثر.. لزمتها؛ لأنها قد أذنت فيها، وإن كان مهر المثل أكثر.. لزمها؛ لأن المسمى فاسد، فسقط ولزمها مهر مثلها. إذا ثبت هذا: فهل يلزم الوكيل ما زاد على مهر المثل في هذه والتي قبلها؟ ينظر فيه: فإن قال.. طلقها على كذا وكذا وعلي ضمانه.. لزمه للزوج الجميع؛ لأنه ضمنه. وإن قال: طلقها على كذا، ولم يقل من مالها، بل أطلق.. لزمه ذلك للزوج؛ لأن الظاهر أنه يخالع من مال نفسه، وللوكيل أن يرجع عليها بمهر مثلها؛ لأنه وجب عليه بإذنها وما زاد عليه يدفعه من ماله ولا يرجع عليها به؛ لأنه وجب عليه بغير إذنها. وإن قال: طلقها على كذا وكذا من مالها.. لزمها مهر مثلها، ولم يلزم الوكيل ما زاد على مهر مثلها؛ لأنه أضاف ذلك إلى مالها، ولم تأذن له فيه فسقط عنها. وإن قيدت له الوكالة أو أطلقتها، فخالع عنها بخمر أو خنزير.. وقع الطلاق بائنا ورجع عليها بمهر مثلها؛ لأن المسمى فاسد، فسقط ووجب مهر مثلها، كما لو خالعت هي بنفسها على ذلك. وقال المزني: لا يقع الطلاق؛ لأن الوكيل لم يعقد على ما هو مال، فارتفع العقد من أصله، كما لو وكله أن يبيع له عينا فباعها بخمر أو خنزير.

وهذا خطأ؛ لأن وكيل المرأة لا يوقع الطلاق وإنما يقبله، فإن قبله بعوض فاسد.. لم يمنع ذلك وقوع الطلاق، كما لو قبلت هي الطلاق بخمر أو خنزير، وإنما يصح هذا الذي قاله لوكيل الزوج. وإن وكل الزوج في الخلع ولم يقدر العوض، فإن خالع عنه الوكيل بمهر المثل من نقد البلد حالا.. صح؛ لأن إطلاق إذنه يقتضي ذلك. وإن خالع عنه بأكثر من مهر المثل.. صح؛ لأنه زاده خيرا. وإن خالع بدون مهر المثل، أو بمهر المثل مؤجلا.. فقد نص الشافعي فيها على قولين: أحدهما: (أن الطلاق واقع، والعوض فاسد) ؛ لأنه خالف مقتضى الإذن، ويرجع الزوج عليها بمهر مثلها، كما لو خالعها الزوج على عوض فاسد. والثاني: (أن الزوج بالخيار.. بين أن يرضى بهذا العوض المسمى ويكون الطلاق بائنا، وبين أن يرده ويكون الطلاق رجعيا) ؛ لأنه لا يمكن أن يلزم الزوجة أكثر من المسمى؛ لأنها لم تلتزمه، ولا يمكن أن يلزم الزوج الطلاق بالعوض المسمى؛ لأنه خلاف مقتضى إذنه، فثبت له الخيار، فإن رضي به وإلا.. أسقطنا العوض والبينونة؛ لأن البينونة من أحكام العوض، وبقي الطلاق رجعيا. وإن قيد له العوض، بأن قال: خالع عني بمائة، فإن خالعها بمائة.. جاز؛ لأنه فعل ما أذن له فيه. وإن خالع بأكثر منها.. صح؛ لأنه زاده خيرا. وإن خالع بما دون المائة.. فنص الشافعي: (أن الطلاق لا يقع) ؛ لأنه أذن له في إيقاع الطلاق على شيء مقدر، فإذا أوقعه على صفة دونها.. لم يصح، كما لو خالع بخمر أو خنزير. واختلف أصحابنا فيهما: فمنهم من نقل القولين فيه إذا لم يقدر له العوض، فخالع على أقل من مهر المثل

فرع: عين للوكيل يوما للمخالعة أو الطلاق فخالف

إلى هذه، وجوابه في هذه إلى تلك، وقال: فيها ثلاثة أقوال، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق: أحدها: يقع الطلاق فيهما بائنا، ويلزمها مهر المثل. والثاني: يثبت للزوج فيهما الخيار: بين أن يرضى بالعوض المسمى في العقد فيهما ويكون الطلاق بائنا، وبين أن لا يرضى به ويكون الطلاق رجعيا. والثالث: لا يقع فيهما طلاق. ووجهه ما ذكرناه؛ لأن الوكالة المطلقة تقتضي المنع من النقصان عن مهر المثل، كما أن الوكالة المقيدة تقتضي المنع من النقصان عن العوض المقيد. ومنهم من حملهما على ظاهرهما، فجعل الأولى على قولين، والثانية على قول واحد - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره - لأنه إذا قيد له العوض في ألف، فخالع بأقل منه.. فقد خالف نص موكله فنقض فعله، كالمجتهد إذا خالف النص، وإذا أطلق الوكالة.. فإنما علمنا أن الإطلاق يقتضي مهر المثل من طريق الاجتهاد، فإذا أدى الوكيل اجتهاده إلى المخالعة بأقل منه.. لم ينقض، كما لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد. قال ابن الصباغ: وهذه الطريقة ظاهر كلام الشافعي، والأولى أقيس. قال: والأقيس من الأقوال: أن لا يقع الطلاق. [فرع: عين للوكيل يوما للمخالعة أو الطلاق فخالف] ] : إذا وكله أن يطلق أو يخالع يوم الجمعة، فطلق أو خالع يوم الخميس.. لم يصح؛ لأنه لم يفعل المأذون فيه. وإن طلقها يوم السبت.. قال الداركي: وقع عليها الطلاق؛ لأنه إذا طلقها يوم الجمعة.. كانت مطلقة يوم السبت، وإذا طلقها يوم الجمعة.. لا تكون مطلقة يوم

مسألة: صحة المخالعة في مرض الموت

الخميس، فكأن الموكل قد رضي بطلاقها يوم السبت، ولم يرض بطلاقها يوم الخميس. [مسألة: صحة المخالعة في مرض الموت] ] : يصح الخلع في مرض الموت من الزوجين، كما يصح منهما النكاح والبيع. فإن خالع الزوج في مرض موته بمهر المثل أو أكثر.. صح، كما لو اتهب في مرض موته. وإن خالع بأقل من مهر المثل.. صح، ولا اعتراض للورثة عليه؛ لأنه لا حق لهم في بضع امرأته، ولهذا لو طلقها بغير عوض.. لم يكن لهم الاعتراض عليه. وإن خالعت الزوجة في مرض موتها بمهر المثل أو دونه.. كان ذلك من رأس المال. وقال أبو حنيفة: (يكون ذلك من الثلث) . دليلنا: أن الذي بذلته بقيمة ما ملكته، فهو كما لو اشترت به متاعا بقيمته. فإن خالعت بأكثر من مهر مثلها.. اعتبرت الزيادة من الثلث؛ لأنها محاباة، فاعتبرت من الثلث، كما لو اشترت متاعا بأكثر من قيمته. وإن خالعته في مرض موتها على عبد قيمته مائة، ومهر مثلها خمسون.. فقد حابته بنصف العبد. فإن لم يخرج النصف من الثلث، بأن كان عليها دين يستغرق مالها.. فالزوج بالخيار: بين أن يأخذ نصف العبد لا غير، وبين أن يفسخ ويضرب مع الغرماء بمهر مثلها. وإن خرج من الثلث، بأن كانت تملك منه غير العبد.. استحق جميع العبد، نصفه بمهر مثلها، ونصفه وصية. ومن أصحابنا من قال: هو بالخيار: بين أن يرضى بهذا، وبين أن يفسخ ويرجع بمهر مثلها؛ لأن الصفقة تبعضت عليه؛ لأنه دخل على أن يأخذ جميع العبد عوضا، ولم يصح له بالعوض إلا نصفه، ونصفه وصية.

فرع: خالعته في مرض موتها ثم تزوجها بمرض موته

والصحيح: أنه لا خيار له؛ لأن العبد قد سلم له على كل حال. وإن لم يكن لها مال غير العبد، ولم يجز الورثة.. كان للزوج نصف العبد بمهر المثل، وسدسه بالمحاباة، فذلك ثلثا العبد، فيكون الزوج بالخيار: بين أن يأخذ ثلثي العبد، وين أن يفسخ ويرجع بمهر المثل. فإن قال الزوج: أنا آخذ مهر المثل نقدا، وسدس العبد بالوصية.. لم يكن له ذلك؛ لأن سدس العبد إنما يكون له وصية تبعا للنصف. إذا ثبت هذا: فإن المزني نقل عن الشافعي: (أن له نصف العبد، ونصف مهر المثل) ، ثم اعترض عليه، وقال: هذا ليس بشيء، بل له نصف العبد وثلث ما بقي. قال أصحابنا: أخطأ المزني في النقل، وقد ذكرها الشافعي في " الأم " فقال: (له نصف العبد بمهر مثلها) . [فرع: خالعته في مرض موتها ثم تزوجها بمرض موته] ] : فإن خالعته في المرض الذي ماتت فيه على مائة، ومهر مثلها أربعون، ثم عاد الزوج فتزوجها على تلك المائة في مرض موته، وماتا، وخلفت الزوجة عشرة غير المائة، ولم يخلف الزوج شيئا، فإن مات الزوج أولا.. بطلت محاباته لها؛ لأنها ورثته، وصحت محاباتها له؛ لأنه لم يرثها، فيكون للزوج منها أربعون مهر مثلها، وله شيء بالمحاباة، فتكون تركته أربعين وشيئا، للمرأة منه أربعون وترث ربع الشيء، فتكون تركتها مائة وعشرة إلا ثلاثة أرباع شيء تعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدلت شيئين وثلاثة أرباع شيء، فإذا بسطت الشيئين أرباعا وضممت إليها الثلاثة أرباع.. كان ذلك أحد عشر جزءا، فإذا قسمت المائة والعشرة على ذلك.. كان الشيء الكامل أربعين درهما، فيكون للزوج أربعون مهر مثلها، وأربعون بالوصية، فيرجع إليها أربعون بالمهر وترث من الأربعين الباقية عشرة، فيجتمع لها ثمانون، وذلك مثلا محاباتها له.

وإن ماتت الزوجة أولا ولم تترك غير المائة.. بطلت محاباتها له؛ لأنه ورثها. وأما محاباة الزوج لها: فإن أصدقها المائة التي خالعته عليها بعينها.. لم يصح؛ لأنه لما أصدقها المائة وهو لا يملك منها غير أربعين.. فكأنه أصدقها ما يملك وما لا يملك، فبطل المسمى ورجعت إلى مهر المثل، فيجب لكل واحد منهما على الآخر مهر مثلها، فيتقاصان، ثم يرث الزوج نصف المائة عنها إن لم يكن لها ولد ولا ولد ولد، فيكون ذلك لورثته. وإن أصدقها مائة في ذمته.. صحت لها المحاباة، وحسابه: له أربعون مهر المثل، ولا محاباة له، ويرجع إليها صداقها، ولها شيء محاباة في ذمته، فتكون تركتها مائة وشيئا، يرث الزوج نصف ذلك - وهو: خمسون ونصف شيء - يخرج من ذلك لها شيء بالمحاباة، فيبقى في يد ورثته خمسون إلا نصف شيء تعدل شيئين، فإذا أجبرت.. عدلت الخمسون شيئين ونصف شيء، الكامل عشرون وهو الجائز لها بالمحاباة، ويجب للزوج عليها مهر مثلها، ولها عليه مهر مثلها، فيتقاصان، ويفضل لها عليه عشرون، فيكون ذلك تركة لها مع المائة، فذلك مائة وعشرون، يرث الزوج نصف ذلك - وهو: ستون - فتأخذ المرأة منها بالمحاباة عشرين، ويبقى لورثته أربعون - وهو: مثلا محاباته لها - فيكون لورثته ستون.

فرع: تزوجها في مرض موته ثم خالعته في مرض موتها

[فرع: تزوجها في مرض موته ثم خالعته في مرض موتها] ] : ولو تزوجها في مرض موته على مائة درهم، ومهر مثلها خمسون، ودخل بها، ثم خالعته في مرض موتها على مائة في ذمتها، ثم ماتا ولا يملكان غير هذه المائة، ولم يجز ورثتهما.. فحسابه: للزوجة خمسون مهر مثلها من رأس المال، ولها شيء محاباة، فجميع تركتها خمسون وشيء، للزوج منها خمسون - مهر المثل - وله ثلث شيء محاباة، فتكون تركته مائة إلا ثلثي الشيء تعدل شيئين، فإذا أجبرت.. عدلت المائة بشيئين وثلثي شيء، الشيء الواحد ثلاثة أثمان المائة - وهو: سبعة وثلاثون ونصف - وهو الذي صح لها بالمحاباة، فتأخذه من الزوج مع مهر المثل، فذلك سبعة وثمانون ونصف، فيرجع إليه مهر مثلها بالخلع، ويبقى معها سبعة وثلاثون ونصف، يستحق الزوج ثلث ذلك بالمحاباة، فيبقى لورثتها ثلثا ذلك، فيجتمع لورثة الزوج خمسة وسبعون، وذلك مثلا محاباته لها، فالدور وقع في فريضة الزوج لا في فريضة الزوجة. فإن تركت الزوجة شيئا غير الصداق.. فإنك تضم ثلث تركتها إلى المائة التي تركها الزوج، ثم تأخذ ثلاثة أثمان ذلك، وهو الجائز بالمحاباة. وسواء مات الزوج أولا أو الزوجة.. فالحكم واحد؛ لأنهما لا يتوارثان.

قال ابن اللبان: ولو خالعته على المائة بعينها.. بطلت محاباتها له؛ لأنها خالعته على ما تملك وعلى ما لا تملك، فبطل المسمى ووجب مهر المثل. وحسابه: للمرأة مهر المثل، ولها بالمحاباة شيء، فجميع تركتها خمسون وشيء، للزوج منها خمسون، ولا محاباة له، فتركته مائة إلا شيئا تعدل شيئين، فإذا أجبرت.. عدلت المائة ثلاثة أشياء، الشيء ثلاثة وثلاثون وثلث، يكون لها من ذلك مع مهر مثلها، فيأخذ الزوج من ذلك مهر مثلها مع ما بقي معه من المائة، فذلك ستة وستون وثلثان، وذلك مثلا محاباته لها. وبالله التوفيق.

باب جامع الخلع

[باب جامع الخلع] إذا قالت المرأة: طلقني ثلاثا ولك ألف، فطلقها ثلاثا.. استحق الألف عليها. وبه قال أحمد وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يستحق عليها شيئا) . دليلنا: أنها استدعت منه الطلاق بالعوض، فهو كما لو قالت: طلقني وعندي ألف. وإن قالت: طلقني ثلاثا ولك ألف، أو بألف، أو على ألف، فطلقها واحدة.. استحق عليها ثلث الألف. وبه قال مالك. وقال أحمد: (لا يستحق عليها شيئا) . وقال أبو حنيفة: (إن قالت: بألف.. استحق عليها ثلث الألف. وإن قالت: على ألف.. لم يستحق شيئا) . دليلنا: أنها استدعت منه فعلا بعوض، فإذا فعل بعضه.. استحق بقسطه، كما لو قالت: من رد عبيدي الثلاثة من الإباق.. فله ألف، فرد واحدا منهم. وإن قالت: طلقني ثلاثا ولك ألف، فطلقها واحدة ونصفا.. وقع عليها طلقتان. وكم يستحق عليها؟ فيه وجهان: أحدهما: يستحق ثلثي الألف؛ لأنه وقع عليها طلقتان. والثاني: لا يستحق عليها إلا نصف الألف؛ لأنه لم يوقع عليها إلا نصف الثلاث، وإنما سرت الطلقة بالشرع. وإن قال: إن أعطيتني ألفا.. فأنت طالق ثلاثا، فأعطته ثلث الألف أو نصفها.. لم يقع الطلاق عليها؛ لأن الصفة لم توجد، بخلاف ما لو استدعت منه الطلاق، فإن طريقه المعاوضة، وهذا طريقه الصفة.

مسألة: طلقها ثلاثا بألف فقبلت واحدة بثلثه

[مسألة: طلقها ثلاثا بألف فقبلت واحدة بثلثه] ] : وإن قال: أنت طالق ثلاثا بألف، فقالت: قبلت واحدة بثلث الألف.. قال ابن الحداد: لم يقع الطلاق، ولم يلزمها شيء؛ لأنه لم يرض بانقطاع رجعته عنها إلا بألف، فلا تنقطع بما دونه. وإن قالت: قبلت واحدة بألف.. قال ابن الحداد: وقعت عليها طلقة واحدة، واستحق عليها الألف؛ لأنها زادته خيرا. وقال بعض أصحابنا: بل يقع عليها ثلاث طلقات بالألف؛ لأن إيقاع الطلاق إليه دونها، وإنما إليها قبول العوض، وقد وجد منه إيقاع الثلاث، فوقعن. وإن قال: أنت طالق ثلاثا بألف، فقالت: قبلتها بخمسمائة.. لم يقع عليها طلاق، ولم يلزمها عوض؛ لأنه لم يرض وقوع الطلاق عليها بأقل من ألف، ولم تلتزم له الألف. وإن قالت: طلقني ثلاثا بألف، فقال: أنت طالق ثلاثا بألف ودينار أو بألفين.. لم يقع عليها الطلاق، إلا بأن تقول عقيب قوله: قبلت؛ لأنها لم ترض بالتزام أكثر من الألف، ولم يرض بإيقاع الطلاق إلا بأكثر من الألف. وإن قالت: طلقني ثلاثا بألف، فقال: أنت طالق ثلاثا بخمسمائة، أو قالت: طلقني بألف ولم تقل: ثلاثا، فقال: أنت طالق بخمسمائة.. وقع عليها الثلاث في الأولى، وفي الثانية ما نوى، ولم يلزمها إلا خمسمائة فيهما؛ لأنه زادها بذلك خيرا؛ لأن رضاها بالألف رضا بما دونه. هكذا: ذكر القاضي أبو الطيب، وقال: إذا قال: طلقتك على ألف، فقالت: قبلت بألفين.. وقع عليها الطلاق، ولم يلزمها إلا ألف.

فرع: له عليها طلقة أو طلقتان فطلبت ثلاثا بألف

وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قال: خالعتك بألف، فقالت: اختلعت بألفين.. لم تقع الفرقة؛ لأن من شرط القبول أن يكون على وفق الإيجاب. [فرع: له عليها طلقة أو طلقتان فطلبت ثلاثا بألف] ] : إذا بقي له على امرأته طلقة، فقالت: طلقني ثلاثا بألف، فطلقها واحدة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (استحق عليها الألف) . واختلف أصحابنا فيه: فقال أبو العباس وأبو إسحاق: هذه مفروضة في امرأة تعلم أنه ما بقي عليها إلا واحدة، فيكون معنى قولها: (طلقني ثلاثا) أي: أكمل لي الثلاث، فيلزمها. فأما إذا كانت لا تعلم ذلك: فلا يستحق عليها إلا ثلث الألف؛ لأنها بذلت الألف على الثلاث، فإذا طلقها واحدة.. لم يستحق عليها إلا ثلث الألف، كما لو كان يملك عليها ثلاثا فطلقها واحدة. ومن أصحابنا من قال: يستحق عليها الألف بكل حال، وهو ظاهر النص، واختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن المقصود بالثلاث قد حصل لها بهذه الطلقة. وقال المزني: لا يستحق عليها إلا ثلث الألف بكل حال؛ لأن التحريم إنما يحصل بهذه الطلقة وبالأولتين قبلها، كما إذا شرب ثلاثة أقداح خمر فسكر.. فإن السكر حصل بالثلاثة أقداح. وإن بقي له عليها طلقتان، فقالت: طلقني ثلاثا بألف، فإن قلنا بالطريقة الأولى، وكانت عالمة بأنه لم يبق عليها إلا طلقتان، فإن طلقها طلقتين.. استحق عليها الألف، وإن طلقها واحدة.. استحق عليها نصف الألف. وإن لم تعلم أنه بقي له طلقتان، فإن طلقها طلقتين.. استحق عليها ثلثي الألف، وإن طلقها واحدة.. استحق عليها ثلث الألف. وعلى الطريقة الثانية: إن طلقها طلقتين. استحق عليها الألف، وإن طلقها واحدة.. قال ابن الصباغ: فعندي أنه لا يستحق عليها إلا ثلث الألف؛ لأن هذه الطلقة لم يتعلق بها تحريم العقد، فصار كما لو كان له ثلاث طلقات، فطلقها واحدة.

مسألة: طلبت طلقة بألف وله عليها ثلاث طلقات فطلقها ثلاثا

[مسألة: طلبت طلقة بألف وله عليها ثلاث طلقات فطلقها ثلاثا] ] : وإن كان يملك عليها ثلاث طلقات، فقالت له: طلقني واحدة بألف، فطلقها ثلاثا.. وقع عليها الثلاث، واستحق عليها الألف؛ لأنه حصل لها ما سألت وزيادة. قال أبو إسحاق: الألف في مقابلة الثلاث. وقال غيره من أصحابنا: بل الألف في مقابلة الواحدة، والاثنتان بغير عوض، وليس تحت هذا الاختلاف فائدة. وقال القفال: تقع الثلاث، ويستحق عليها ثلث الألف؛ لأنها رضيت بواحدة عن العوض وهو جعل كل طلقة واحدة بإزاء ثلث الألف. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] : أن من أصحابنا من قال: يقع عليها واحدة بثلث الألف لا غير؛ لأنه أوقع الأخريين على العوض ولم تقبلهما، فلم يقعا. والأول هو المشهور. [فرع: طلقها اثنتين على أن إحداهما بألف] ] : وإن قال لها: أنت طالق طلقتين، إحداهما بألف.. قال ابن الحداد: إن قبلت وقع عليها طلقتان ولزمها الألف. وإن لم تقبل.. لم يقع عليها طلاق؛ لأنها لم ترض بإيقاع طلقتين عليها إلا بأن يحصل له الألف، فإذا لم تقبل.. لم يقع عليها الطلاق، كما لو أوصى: أن يحج عنه رجل بمائة، وأجرة مثله خمسون.. فلا تحصل له المائة إلا أن يحج عنه. قال القاضي أبو الطيب: ويحتمل أن يقال: إذا لم تقبل أن تقع عليها طلقة.. فلا شيء عليها؛ لأنه يملك إيقاعها بغير قبول، وقد أوقعها. وإن قالت: قبلت الطلقتين، ولم أقبل العوض.. كان بمنزلة ما لو لم تقبل؛ لأن الطلاق لا يفتقر إلى القبول، وإنما الذي يحتاج إلى القبول هو العوض، فلا يقع عليها الطلاق على قول ابن الحداد. وعلى قول القاضي أبي الطيب: تقع عليها الطلقة التي لا عوض فيها.

فرع: قال لزوجتيه أنتما طالقان وإحداكما بألف

[فرع: قال لزوجتيه أنتما طالقان وإحداكما بألف] ] : وإن قال لامرأتيه: أنتما طالقتان، إحداكما بألف، فإن قبلتا جميعا.. وقع عليهما الطلاق، ويقال له: عين المطلقة بالألف، فإذا عين إحداهما.. كان له عليها مهر مثلها؛ لأن المسمى لا يثبت مع الجهالة بالتسمية. وإن قبلت إحداهما، ولم تقبل الأخرى.. قيل له: عين المطلقة بالألف، فإن قال: هي القابلة.. وقع عليها الطلاق بائنا، ولزمها مهر مثلها، ووقع الطلاق على الأخرى بغير عوض، وإن قال: المطلقة بالألف هي التي لم تقبل.. وقع الطلاق على القابلة بغير عوض، ولم يقع الطلاق على التي لم تقبل. وإن لم تقبل واحدة منهما.. سقط الطلاق بالألف، ويقال له: عين المطلقة بغير الألف، فإذا عين إحداهما.. وقع الطلاق عليها بغير عوض. وإن ردتا جميعا ولم تقبلا.. قال القاضي أبو الطيب: فعلى قول ابن الحداد في التي قبلها يجب أن لا يقع على واحدة منهما طلاق؛ لأنه لم يسلم له شرطه من الألف. قال: وعلى ما ذكرته في التي قبلها يسقط الطلاق الذي شرط فيه الألف، ويقع الطلاق الذي أوقعه بغير شيء، ويطالب بالتعيين. [مسألة: قالت طلقني عشرا بألف فطلقها واحدة أو أكثر] ] : وإن قالت له: طلقني عشرا بألف، فطلقها واحدة.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: يستحق عليها عشر الألف؛ لأنها جعلت لكل طلقة عشر الألف. والثاني: يستحق عليها ثلث الألف؛ لأن ما زاد على الثلاث لا يتعلق به حكم. قال: فإن طلقها ثلاثا.. استحق عليها - على الوجه الأول - ثلاثة أعشار الألف، وعلى الثاني جميع الألف. وأما القاضي أبو الطيب: فحكى عن ابن الحداد: إذا قالت: طلقني عشرا بألف، فطلقها واحدة.. استحق عليها عشر الألف.

فرع: لها واحدة فقالت طلقني ثلاثا بألف

قال القاضي: قلت أنا: وإن طلقها اثنتين.. استحق عليها خمس الألف، وإن طلقها ثلاثا.. استحق عليها جميع الألف. وهكذا ذكر ابن الصباغ، ولم يذكر الوجه الثاني. [فرع: لها واحدة فقالت طلقني ثلاثا بألف] ] : إذا بقي له عليها طلقة، فقالت له: طلقني ثلاثا بألف: واحدة هي التي بقيت علي، واثنتين من نكاح آخر إذا نكحتني بعد زوج آخر، فطلقها ثلاثا.. وقع عليها طلقة؛ لأنها هي التي يملك، ولا تقع عليها الطلقتان الأخريان؛ لأنه طلاق قبل نكاح. وكم يستحق من العوض؟ قال الشافعي: (له مهر مثلها) . قال أصحابنا: إن قلنا: إن الصفقة لا تفرق.. استحق عليها مهر مثلها، وحمل النص على هذا. وإن قلنا: إن الصفقة تفرق.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد: يستحق عليها ثلث الألف. وقال الشيخ أبو إسحاق: فيه قولان: أحدهما: يستحق عليها ثلث الألف. والثاني: يستحق عليها جميع الألف. [فرع: لها طلقة فقالت طلقني ثلاثا بألف فطلقها اثنتين] إذا بقيت له على امرأته طلقة، فقالت له: طلقني ثلاثا بألف، فقال لها: أنت طالق طلقتين: الأولى بألف، والثانية بغير شيء.. فقال أبو العباس بن القاص: وقعت الطلقة التي بقيت له بألف عليها، ولا تقع عليها الثانية. وإن قال: الأولى بغير شيء، والثانية بألف.. وقعت عليها الطلقة التي بقيت له بغير شيء، ولم تقع الثانية.

فرع: قالت له طلقني واحدة بألف فطلقها وقال وطالق وطالق

فاعترض عليه بعض أصحابنا، وقال: إذا قال: أنت طالق طلقتين.. فليس فيهما أولى ولا ثانية. قال القاضي أبو الطيب: أخطأ هذا المعترض؛ لأن كلامه إذا لم يقطعه.. قبل منه ما شرط فيه وقيده، ولهذا يقبل استثناؤه. وإن بقيت له واحدة، فقالت: طلقني ثلاثا بألف، فقال: أنت طالق طلقتين إحداهما بألف. قال أبو العباس بن القاص: وقعت عليها واحدة ولزمها الألف. وقال أبو عبد الله الختن في " شرح التلخيص ": يجب أن يرجع إلى بيانه، فإن قال: أردت بقولي: (إحداهما بألف) الأولى دون الأخرى.. فله الألف. وإن قال: أردت بقولي: (إحداهما بألف) الثانية.. لم يكن له شيء. قال القاضي أبو الطيب: الصحيح: ما قاله ابن القاص؛ لأنه إذا لم يقل المطلق: الأولى أو الثانية بلفظه.. لم يكن فيهما أولى ولا ثانية، فترجع الألف إلى الطلقة التي بقيت له. [فرع: قالت له طلقني واحدة بألف فطلقها وقال وطالق وطالق] ] : وإذا قالت: طلقني واحدة بألف، فقال: أنت طالق على ألف، وطالق وطالق.. وقعت عليها الأولى بالألف، ولم يقع ما بعدها. وإن قال: أنت طالق وطالق وطالق على ألف.. قيل له: أي الثلاث أردت بالألف؟ فإن قال: أردت الأولى.. بانت بالأولى، ولم يقع عليها ما بعدها. وإن قال: أردت الثانية بالألف.. وقعت الأولى رجعية. فإن قلنا يصح خلع الرجعية.. وقعت الثانية أيضا بالألف، ولم تقع الثالثة. وإن قلنا: لا يصح خلع الرجعية.. وقعت الأولى رجعية والثانية رجعية، وبانت بالثالثة، ولا يستحق عليها عوضا. وإن قال: أردت الثالثة بالألف.. قال المحاملي: صح ذلك، واستحق عليها

مسألة: قال لها طالق وعليك ألف أو على أن عليك ألفا

الألف قولا واحدا؛ لأن الثالثة تقع بها بينونة لا تحل إلا بعد زوج، فيوجد فيها معنى يختص بها ولا يوجد في الأولى ولا في الثانية، فصح. وقال الشيخ أبو إسحاق: لا يستحق عليها الألف على القول الذي يقول: لا يصح خلع الرجعية، كما قلنا في التي قبلها. وإن قال: أردت الثلاث بالألف.. وقعت الأولى بثلث الألف وبانت بها، ولم يقع ما بعدها. [مسألة: قال لها طالق وعليك ألف أو على أن عليك ألفا] قال الشافعي: (وإن قال لها: أنت طالق وعليك ألف درهم.. فهي طالق ولا شيء عليها) . وإنما كان ذلك؛ لأن قوله: (أنت طالق) ابتداء إيقاع، وقوله: (وعليك ألف) استئناف كلام، فلم يتعلق بما قد تقدم، فيكون الطلاق رجعيا. فإن ضمنت له الألف.. لم يلزمها بهذا الضمان حق؛ لأنه ضمان ما لم يجب. وإن أعطته الألف.. كان ابتداء هبة لم تنقطع به رجعته. وإن قال: أنت طالق على أن عليك ألفا.. قال الشافعي في " الأم ": (فإن ضمنت في الحال.. وقع الطلاق، وإن لم تضمن.. لم يقع) ؛ لأن (على) : كلمة شرط، فقد علق وقوع الطلاق بشرط، فمتى وجد الشرط.. وقع الطلاق. بخلاف الأولى؛ فإن قوله: (وعليك ألف) استئناف كلام وليس بشرط. [مسألة: شرط ألف درهم لطلاقها فأعطته] ] : وإن قال: إن أعطيتني ألف درهم فأنت طالق، فأعطته في الحال بحيث يكون جوابا لكلامه.. نظرت: فإن أعطته ألف درهم مضروبة لا زائدة ولا ناقصة.. وقع عليها الطلاق؛ لوجود الشرط. وإن أعطته ألف درهم مضروبة وزيادة.. وقع الطلاق؛ لوجود الشرط

والزيادة لا تمنعها، كما لو قال: إن أعطيتني ثوبا فأنت طالق، فأعطته ثوبين. فإن قيل: أليس الإعطاء عندكم بمنزلة القبول، والقبول إذا خالف الإيجاب، فإن كان بالزيادة.. لم يصح، ألا ترى أنه لو قال: بعتك هذا بألف، فقال: قبلت بألفين.. لم يصح؟ قلنا: الفرق بينهما: أن القبول يقع بحكم الإيجاب في العقد، فمتى خالفه.. لم يصح، وهاهنا المغلب فيه حكم الصفة، فوقع الطلاق. والذي يقتضي المذهب: أن لها أن تسترد الزيادة على الألف، ويملك الزوج الألف إذا كانت الدراهم معلومة، وإن كانت مجهولة.. ردها ورجع عليها بمهر المثل. وإن أعطته دراهم ناقصة، فإن كانت ناقصة العدد والوزن، بأن أعطته دراهم عددها دون الألف ووزنها دون وزن ألف درهم من دراهم الإسلام.. لم يقع الطلاق؛ لأن الشرط لم يوجد. وإن كانت وافية العدد ناقصة الوزن، بأن أعطته ألف درهم مضروبة إلا أن وزنها دون وزن ألف درهم من دراهم الإسلام.. لم يقع الطلاق؛ لأن إطلاق الدراهم يقتضي وزن الإسلام. وإن كانت ناقصة العدد وافية الوزن، بأن أعطته تسعمائة درهم مضروبة إلا أن وزنها وزن ألف درهم من دراهم الإسلام.. وقع عليها الطلاق؛ لوجود الصفة؛ لأن الاعتبار بالوزن دون العدد إذا لم يكن مشروطا. وإن أعطته قطعة فضة نقرة، وزنها ألف درهم.. لم يقع الطلاق؛ لأن إطلاق الدراهم إنما ينصرف إلى المضروبة. وإن أعطته ألف درهم مضروبة رديئة، فإن كانت رداءتها من جهة الجنس أو السكة، بأن كانت فضتها خشنة أو سكتها مضطربة.. وقع الطلاق؛ لوجود الصفة. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: وله ردها والمطالبة ببدلها سليمة من نقد البلد؛ لأن إطلاق المعاوضة يقتضي السلامة من العيوب

فرع: طلبت الطلاق على ألف فطلقها ثلاثا

وإن أعطته ألف درهم مغشوشة بغير جنسها، بأن كانت مغشوشة برصاص أو نحاس، فإن كانت الفضة لا تبلغ ألف درهم من دراهم الإسلام.. لم يقع الطلاق؛ لأن الشرط لم يوجد. وإن كانت الفضة فيها تبلغ ألف درهم من دراهم الإسلام.. وقع عليها الطلاق؛ لوجود الصفة. [فرع: طلبت الطلاق على ألف فطلقها ثلاثا] ] : إذا قالت: طلقني بألف، فقال: أنت طالق ثلاثا.. استحق الألف. وإن طلقها واحدة أو اثنتين.. قال الصيمري: سألناها، فإن قالت: أردت ما أجابني به أو أقل.. لزمها الألف. وإن قالت: أردت أكثر.. فالقول قولها مع يمينها، وله العوض بحساب ما طلق. وإن سألت الطلاق مطلقا بعوض، فقال: أنت طالق، فإن قال: أردت الثلاث.. وقع عليها الثلاث، واستحق الألف. وإن قال: أردت ما دون الثلاث.. رجع إليها في ما سألت، وكان الحكم كالأولى. [فرع: خالعته على ألف درهم فخالعها أو علق طلاقها] ] : إذا قالت: خالعني على ألف درهم، فقال: خالعتك.. نظرت: فإن قيداه بدراهم من نقد بلد معلوم.. صح، ولزم الزوجة منها. وإن لم يقيدا ذلك بنقد بلد معروف، وكانا في بلد فيه دراهم غالبة.. انصرف ذلك إليها، كما قلنا في البيع. وإن كان في بلد لا دراهم فيها غالبة ونويا صنفا من الدراهم، أو قال: خالعتك على ألف - ولم يقل من الدراهم ولا من الدنانير - فقالت: قبلت، ونويا صنفا من الدراهم والدنانير واتفقا عليه.. انصرف إطلاقهما إلى ما نوياه؛ لأنهما إذا ذكرا ذلك واعترفا: أنهما أرادا صنفا.. صار كما لو ذكراه. وإن لم ينويا صنفا.. صح الخلع، وكان العوض فاسدا، فيلزمها مهر المثل. إذا ثبت هذا: فقال الشيخ أبو إسحاق: إذا قال: إن دفعت إلي ألف درهم فأنت

فرع: إرضاع زوجته الكبيرة زوجته الصغيرة وحصول خلع

طالق، ونويا صنفا من الدراهم.. صح الخلع، وحمل على ما نويا. والذي يقتضي المذهب: أن نيتهما إنما تؤثر في الخلع المنجز على ما مضى، وأما هذا: فهو طلاق معلق على صفة، وأي صنف من الدراهم أعطته.. وقع به الطلاق، ولا تأثير للنية. [فرع: إرضاع زوجته الكبيرة زوجته الصغيرة وحصول خلع] ] : إذا كانت له زوجتان، صغيرة وكبيرة، فأرضعت الكبيرة الصغيرة رضاعا يحرم، وخالع الزوج الكبيرة، فإن علم أن الخلع سبق الرضاع.. صح الخلع. وإن علم أن الرضاع سبق الخلع.. لم يصح الخلع؛ لأن النكاح انفسخ قبل الخلع. وإن أشكل السابق منهما.. صح الخلع أيضا؛ لأن الأصل بقاء الزوجية. [مسألة: مخالعة الذميين والوثنيين] ] : إذا تخالع الزوجان الوثنيان أو الذميان.. صح الخلع؛ لأنه معاوضة فصح منهما، كالبيع. ولأن من صح طلاقه بغير عوض.. صح بعوض، كالمسلمين. فإن عقدا الخلع بعوض صحيح، ثم ترافعا إلينا.. أمضاه الحاكم قبل التقابض وبعده؛ لأنه صحيح. وإن تخالعا بعوض فاسد كالخمر والخنزير، فإن ترافعا إلينا قبل التقابض.. لم يأمر بإقباضه، بل يوجب له مهر المثل. وإن ترافعا بعد تقابض الجميع.. لم ينقضه، بل يحكم ببراءة ذمتها. فإن ترافعا بعد أن قبض البعض.. فإن الحاكم يمضي من ذلك ما تقابضاه، ويحكم له من مهر المثل بقسط ما بقي، كما قلنا في الصداق. وإن تخالع المشركان على خمر أو خنزير، ثم أسلما أو أحدهما قبل التقابض.. فإن الحاكم يحكم بفساد العوض، ويوجب مهر المثل اعتبارا بحال المسلم منهما.

فرع: ارتد الزوجان أو أحدهما بعد الدخول ثم تخالعا

[فرع: ارتد الزوجان أو أحدهما بعد الدخول ثم تخالعا] ] : وإن ارتد الزوجان المسلمان أو أحدهما بعد الدخول، ثم تخالعا في حال الردة.. كان الخلع موقوفا. فإن اجتمعا على الإسلام قبل انقضاء العدة.. تبينا أن الخلع صحيح؛ لأنه بان أن النكاح باق. وإن انقضت عدتها قبل أن يجتمعا على الإسلام.. لم يصح الخلع؛ لأنه بان أن النكاح انفسخ بالردة. [مسألة: ادعاء الزوجة أنه طلقها بألف وأنكر] ] : إذا ادعت الزوجة على زوجها أنه طلقها بألف، وأنكر، فإن لم يكن معها بينة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الطلاق. وإن كان معها بينة، شاهدان ذكران، واتفقت شهادتهما.. حكم عليه بالطلاق وانقطاع الرجعة. قال الشيخ أبو حامد: ويستحق عليها الألف، فإن شاء.. أخذها، وإن شاء.. تركها. وإن شهد أحدهما أنه خالعها بألف، وشهد الآخر أنه خالعها بألفين.. لم يحكم بالخلع؛ لأنهما شهدا على عقدين. وإن أقامت شاهدا واحدا وأرادت أن تحلف معه، أو شاهدا وامرأتين.. لم يحكم بصحة الخلع؛ لأن الطلاق لا يثبت إلا بشاهدين. [مسألة: ادعاء الزوج الطلاق على ألف وأنكرت أو أنها كانت مكرهة] ] : وإن ادعى الزوج على زوجته أنه طلقها بألف وأنكرت، فإن كان ليس له بينة حلفت؛ لأنه يدعي عليها دينا في ذمتها، والأصل براءة ذمتها منه، ويحكم عليه بالبينونة؛ لأنه أقر على نفسه بذلك. وإن كان معه بينة، فإن أقام شاهدين ذكرين.. حكم له عليها بالمال. وإن أقام شاهدا وحلف معه، أو شاهدا وامرأتين.. ثبت له المال؛ لأن دعواه بالمال، وذلك يثبت بالشاهد واليمين، والشاهد والمرأتين.

فرع: ادعاؤه أنها طلبت طلاقها بألف فطلقها واختلفا

قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن قالت: طلقني بألف إلا أني كنت مكرهة على التزامه.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل براءة ذمتها. [فرع: ادعاؤه أنها طلبت طلاقها بألف فطلقها واختلفا] ] : وإن ادعى الزوج عليها أنها استدعت منه الطلاق بألف فطلقها عليه، فقالت: قد كنت استدعيت منك الطلاق بألف ولكنك لم تطلقني على الفور، بل بعد مضي مدة الخيار، وقال: بل طلقتك على الفور.. بانت منه بإقراره، والقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل براءة ذمتها. وإن قال الزوج: طلقتك بعد مضي وقت الخيار فلي الرجعة، وقالت: بل طلقتني على الفور فلا رجعة لك.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الطلاق. [فرع: اختلفا في قدر أو صفة أو عين العوض أو عدد الطلاق] ] : وإن اختلفا في قدر العوض، بأن قال: خالعتك على ألفي درهم، فقالت: بل على ألف. أو اختلفا في صفة العوض، بأن قال: خالعتك على ألف درهم من نقد بلد كذا، وقالت: بل على ألف درهم من نقد بلد كذا. أو اختلفا في عين العوض، بأن قال: خالعتك على هذه الجارية، فقالت: بل على هذا العبد. أو في تعجيله وتأجيله، بأن قال: خالعتك على ألف درهم معجلة، فقالت: بل على ألف درهم مؤجلة. أو في عدد الطلاق، بأن قالت: بذلت لك ألفا لتطلقني ثلاثا، فقال: بل بذلت لي ألفا لأطلقك واحدة ولم أطلق غيرها.. فإنهما يتحالفان في جميع ذلك على النفي والإثبات، كما قلنا في المتبايعين. وقال أبو حنيفة وأحمد: (القول قول المرأة) . دليلنا: أن الخلع عقد معاوضة، فإذا اختلفا في قدر عوضه أو صفته أو معوضه.. تحالفا، كالمتبايعين. إذا ثبت هذا: فإنهما إذا تحالفا.. فإن التحالف يقتضي فسخ العقد، إلا أنه لا يمكن هاهنا أن ينفسخ الخلع؛ لأنه لا يلحقه الفسخ، فيسقط العوض المسمى في

فرع: خالعها على دراهم في موضع لا نقد فيه واختلفا

العقد ويرجع عليها بمهر مثلها، كالمتبايعين إذا اختلفا بعد هلاك السلعة. وعلى قول من قال من أصحابنا: إن البائع يرجع بأقل الأمرين: من الثمن الذي يدعيه البائع، أو قيمة السلعة.. يرجع الزوج هاهنا بأقل الأمرين: من العوض الذي يدعيه الزوج، أو مهر المثل. وإذا اختلفا في قدر الطلاق.. فلا يقع إلا ما أقر به الزوج. [فرع: خالعها على دراهم في موضع لا نقد فيه واختلفا] فرع: [خالعها على دراهم في موضع لا نقد فيه أو فيه دراهم غالبة واختلفا] : وإن خالعها على دراهم في موضع لا نقد فيه، فقال أحدهما: نوينا من دراهم بلد كذا، وقال الآخر: بل نوينا من دراهم بلد كذا. أو خالعها على ألف مطلقا، وقال أحدهما: نوينا من الدراهم، وقال الآخر: بل نوينا من الدنانير.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يتحالفان، بل يجب مهر المثل؛ لأن ضمائر القلوب لا تعلم. والثاني - وهو المذهب -: أنهما يتحالفان؛ لأن النية لما كانت كاللفظ في صحة العقد.. كانت كاللفظ عند الاختلاف، ولأنه يجوز أن يعرف كل واحد منهما ما نواه الآخر في ذلك بإعلامه إياه أو بأمارات بينهما، فإذا اختلفا في ذلك.. تحالفا. وإن قال أحدهما: خالعت على ألف درهم من نقد بلد كذا وكانا في بلد فيه دراهم غالبة، وقال الآخر: بل خالعت على ألف مطلقة غير مقيدة بدراهم ولا دنانير.. تحالفا؛ لأن أحدهما يدعي أن العوض الدراهم المسماة، والآخر يدعي أن العوض مهر المثل، فتحالفا، كما قلنا لو اختلفا في قدر العوض. وإن بقيت له على امرأته طلقة، فقالت: طلقني ثلاثا بألف، فطلقها واحدة - وقلنا بقول أبي العباس وأبي إسحاق: إنها إذا علمت أنه لم يبق لها إلا طلقة واحدة إنه يستحق عليها الألف - فادعى الزوج: أنها كانت عالمة بأنه ما بقي له إلا طلقة، وقالت: ما كنت عالمة بذلك.. تحالفا؛ لأنهما اختلفا في عدد الطلاق المبذول به الألف، فهي تقول: ما بذلت الألف إلا في مقابلة الثلاث، والزوج يقول: بذلت الألف في مقابلة الواحدة لعلمك بها، فتحالفا، كما لو كان يملك عليها ثلاث طلقات واختلفا في عدد الطلاق، ويجب له مهر مثلها؛ لما ذكرناه.

مسألة: اختلفا في بذل العوض على المخالعة

[مسألة: اختلفا في بذل العوض على المخالعة] ] : إذا قال: خالعتك على ألف درهم، فقالت: ما بذلت لك العوض على طلاقي وإنما بذل لك زيد العوض من ماله على طلاقي.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل براءة ذمتها، وتبين منه لاتفاقهما على طلاقها بعوض. وإن قال: خالعتك بألف درهم في ذمتك، فقالت: خالعتني بألف في ذمتي إلا أن زيدا ضمنها عني.. لزمها الألف؛ لأنها أقرت بوجوبها عليها، إلا أنها ادعت أن زيدا ضمنها عنها، وذلك لا يسقطها من ذمتها. وإن قالت: خالعتني بألف يزنها عني زيد.. لزمها الألف؛ لأنها أقرت بوجوبها عليها؛ لأن زيدا لا يزن عنها إلا ما وجب عليها. وإن قال: خالعتك على ألف درهم في ذمتك أو في يدك، وقالت: بل خالعتني على ألف درهم في ذمة زيد لي.. ففيه وجهان: أحدهما: أنهما يتحالفان؛ لأنهما اختلفا في عين العوض فتحالفا، كما لو قال: خالعتك على هذه الدراهم في هذا الكيس، فقالت: بل على هذه التي في الكيس الآخر. والثاني: أنهما لا يتحالفان؛ لأن الخلع على ما في ذمة الغير لا يصح؛ لأنه غير مقدور عليه، فهو كما لو خالعها على عبدها الآبق. فعلى هذا: يلزمها مهر مثلها. والمذهب الأول؛ لأن بيع الدين في الذمة من غير السلم والكتابة يصح في أحد الوجهين. وإن قلنا: لا يصح، فلم يتفقا على أنه خالعها عليه، وإنما هي تدعي ذلك والزوج ينكره، فهو كما لو قالت: خالعتني على خمر أو خنزير، فقال: بل على الدراهم أو الدنانير.. فإنهما يتحالفان، فكذلك هذا مثله. وبالله التوفيق

كتاب الطلاق

[كتاب الطلاق]

كتاب الطلاق الطلاق ملك للأزواج يصح منهم على زوجاتهم، والأصل فيه: الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] ، وقَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] الآية [البقرة: 229] . وأما السنة فروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلق حفصة بنت عمر ثم راجعها» .

وروي عن ابن عمر: أنه قال: «كان تحتي امرأة أحبها وكان أبي يكرهها، فأمرني أن أطلقها، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته، فأمرني أن أطلقها» . وأجمعت الأمة على جواز الطلاق. إذا ثبت هذا: فإن الطلاق لا يصح إلا بعد النكاح. فأما إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، أو إذا تزوجت امرأة من القبيلة الفلانية فهي طالق، أو إذا تزوجت فلانة فهي طالق، أو قال لأجنبية: إذا دخلت الدار وأنت زوجتي فأنت طالق.. فلا يتعلق بذلك حكم، فإن تزوج.. لم يقع عليها الطلاق. وكذلك: إذا عقد العتق قبل الملك.. فلا يصح. هذا مذهبنا، وبه قال من الصحابة: علي بن أبي طالب وابن عباس وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

ومن التابعين: شريح وابن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس والحسن وعروة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى. ومن الفقهاء: أحمد وإسحاق إلا أن أحمد له في العتق روايتان. وقال أبو حنيفة وأصحابه: (تنعقد الصفة في عموم النساء وخصوصهن. وكذلك: إذا قال لامرأة أجنبية: إذا دخلت الدار وأنت زوجتي، فأنت طالق، فتزوجها ودخلت الدار.. طلقت) . وكذلك يقول في عقد العتق قبل الملك مثله. وحكي ذلك عن ابن مسعود، وبه قال الزهري. وقال مالك: (إن عين ذلك في قبيلة بعينها أو امرأة بعينها.. انعقدت الصفة، وإن عم لم تنعقد) . وبه قال النخعي والشعبي وربيعة والأوزاعي وابن أبي ليلى. دليلنا: ما روى المسور بن مخرمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل ملك» . ولأن من لم يقع طلاقه المباشر، لم ينعقد طلاقه بصفة كالمجنون والصغير.

مسألة: طلاق من رفع القلم عنه

[مسألة: طلاق من رفع القلم عنه] ] : ولا يصح طلاق الصبي والنائم والمجنون. وقال أحمد في إحدى الروايتين: (إذا عقل الصبي الطلاق.. وقع) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . ولا يصح طلاق المعتوه، ومن زال عقله بمرض أو بسبب مباح؛ لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل الطلاق جائز، إلا طلاق المعتوه والصبي» .

فرع: طلاق السكران

ولأنه يلفظ بالطلاق ومعه علم ظاهر يدل على فقد قصده بوجه هو معذور فيه، فلم يقع طلاقه، كالطفل. [فرع: طلاق السكران] ] : وإن شرب خمرا أو نبيذا فسكر، فطلق في حال سكره.. فالمنصوص: (أن طلاقه يقع) . وحكى المزني: أنه قال في القديم: (في ظهار السكران قولان) . فمن أصحابنا من قال: إذا ثبت هذا: كان في طلاقه أيضا قولان: أحدهما: لا يقع، وإليه ذهب ربيعة والليث وداود وأبو ثور والمزني؛ لأنه زال عقله، فأشبه المجنون. والثاني: يقع طلاقه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] [النساء: 43] ، فخاطبهم في حال السكر، فدل على أن السكران مكلف. وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استشار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقال: إن الناس قد انهمكوا في شرب الخمر واستحقروا حد العقوبة فيه، فما ترون؟ فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنه إذا شرب.. سكر، وإذا سكر.. هذى، وإذا هذى.. افترى،

مسألة: طلاق المكره

فحده حد المفتري) . فلولا أن لكلامه حكما.. لما زيد في حده لأجل هذيانه. وقال أكثر أصحابنا: يقع طلاقه قولا واحدا؛ لما ذكرناه من الآية والإجماع. واختلف أصحابنا في علته: فمنهم من قال: لأن السكر لا يعلم إلا من جهته وهو متهم في دعوى السكر لفسقه. فعل هذا: يقع الطلاق في الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى. ومنهم من قال: وقع طلاقه تغليظا عليه. فعلى هذا: يقع منه كل ما فيه تغليظ عليه، كالطلاق والردة والعتق وما يوجب الحد، ولا يقع منه ما فيه تخفيف، كالنكاح والرجعة وقبول الهبة. ومنهم من قال: لما كان سكره بمعصية.. سقط حكمه، فجعل كالصاحي. وهذا هو الصحيح، فيصح منه الجميع. فإن شرب دواء أو شرابا غير الخمر والنبيذ فسكر، فإن شربه لحاجة.. فحكمه حكم المجنون. وإن شربه ليزول عقله.. فهو كالسكران يشرب الخمر؛ لأنه زال عقله بمعصية، فهو كمن شرب الخمر أو النبيذ. [مسألة: طلاق المكره] ] : وإن أكره على الطلاق فطلق، فإن كان مكرها بحق، كالمولى إذا أكره.. وقع الطلاق، كما نقول في الحربي إذا أكره على كلمة الإسلام. وإن كان مكرها بغير حق ولم ينو إيقاع الطلاق.. فالمنصوص: (أنه لا يقع طلاقه) .

وحكى المسعودي [في " الإبانة "] ، وابن الصباغ وجها آخر: أنه لا يقع إذا ورى بغير الطلاق، مثل أن يريد به طلاقها من وثاق، أو يريد امرأة اسمها كاسم امرأته، فأما إذا لم يور.. وقع. والمذهب الأول، وبه قال عمر، وعلي، وابن الزبير، وابن عمر، وشريح، والحسن، ومالك، والأوزاعي. وقال أبو حنيفة، والثوري، والنخعي، والشعبي: (يقع طلاقه) . دليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» و (الإغلاق) : الإكراه. ولأنه قول حمل عليه بغير حق، فلم يصح، كما لو أكره على الإقرار بالطلاق. وقولنا: (بغير حق) احتراز من المولى إذا أكرهه الحاكم على الطلاق. إذا ثبت هذا: فلا يكون مكرها حتى يكون المكره له قاهرا له لا يقدر على الامتناع منه، وأن يغلب على ظنه أنه إذا لم يطلق فعل به ما أوعده به. فإن أوعده بالقتل أو قطع طرف.. كان ذلك إكراها. وإن أوعده بالضرب أو الحبس أو الشتم أو أخذ المال.. فاختلف أصحابنا فيه:

فرع: الإكراه في الطلاق مع التورية أو النية

فقال أبو إسحاق: إن ذلك لا يقع به الإكراه. وقال عامة أصحابنا - وهو المذهب -: إن أوعده بالضرب والحبس والشتم، فإن كان المكره من ذوي الأقدار والمروءة ممن يغض ذلك في حقه.. كان إكراها له؛ لأن ذلك يسوؤه. وإن كان من العوام السخفاء.. لم يكن ذلك إكراها في حقه؛ لأنه لا يبالي بذلك. وإن أوعده بأخذ القليل من ماله مما لا يتبين عليه.. لم يكن إكراها. وإن أوعده بأخذ ماله أو أكثره.. كان مكرها. وإن أوعده بإتلاف الولد.. فهل يكون إكراها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] . وإن أوعده بالنفي عن البلد، فإن كان له أهل في البلد.. كان ذلك إكراها. وإن لم يكن له أهل. ففيه وجهان. أحدهما: أنه إكراه؛ لأنه يستوحش بمفارقة الوطن. والثاني: ليس بإكراه؛ لتساوي البلاد في حقه. هذا مذهبنا. وقال أحمد في إحدى الروايتين: (ما أوعده به.. فليس بإكراه؛ لأنه لم ينله ما يستضر به) . وهذا ليس بصحيح؛ لأن الإكراه لا يكون إلا بالوعيد، فأما ما فعله به.. فلا يمكن إزالته. [فرع: الإكراه في الطلاق مع التورية أو النية] ] : إذا أكره على الطلاق، ونوى بقلبه من وثاق، أو نوى غيرها ممن يشاركها في الاسم وأخبر بذلك.. قبل منه؛ لموضع الإكراه. وإن نوى إيقاع الطلاق عليها. ففيه وجهان: أحدهما: يقع؛ لأنه صار مختارا لإيقاعه.

فرع: وقوع الطلاق في الرضا والغضب وغيرهما

والثاني: لا يقع؛ لأن حكم اللفظ يسقط بالإكراه، وتبقى النية، والنية لا يقع بها الطلاق. [فرع: وقوع الطلاق في الرضا والغضب وغيرهما] ] : ويقع الطلاق في حال الرضا والغضب، والجد والهزل؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» . ويقع الطلاق من المسلم والكافر، والحر والعبد والمكاتب؛ لإجماع الأمة على ذلك. وإن تزوج امرأة فنسي أنه تزوجها، فقال: أنت طالق.. وقع عليها الطلاق؛ لأنه صادف ملكه.

مسألة: طلق أعجمي مع جهل المعنى

[مسألة: طلق أعجمي مع جهل المعنى] وإن قال العجمي لامرأته: أنت طالق ولم يعرف معناه ولا نوى موجبه.. لم يقع الطلاق، كما لو تكلم بالكفر ولا يعرف معناه ولا نوى موجبه. فإن نوى موجبه بالعربية.. ففيه وجهان: أحدهما: يقع عليها الطلاق؛ لأنه نوى موجبه. الثاني: لا يقع، كما لو تكلم بالكفر ولا يعلم معناه ونوى موجبه. [مسألة: اعتبار عدد الطلاق] ] : عدد الطلاق معتبر بالرجال دون النساء، فيملك الحر ثلاث تطليقات، سواء كانت زوجته حرة أو أمة. ولا يملك العبد إلا طلقتين، سواء كانت زوجته حرة أو أمة. وبه قال ابن عمر، وابن عباس. ومن الفقهاء: مالك، وأحمد. وقال أبو حنيفة، والثوري: (عدد الطلاق معتبر بالنساء. فإن كانت الزوجة حرة.. ملك زوجها عليها ثلاث تطليقات، سواء كان حرا أو عبدا. وإن كانت أمة.. لم يملك زوجها عليها إلا طلقتين، سواء كان حرا أو عبدا) . وبه قال علي بن أبي طالب. دليلنا: ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (كان الرجل يطلق امرأته في صدر الإسلام ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني مني، ولا آويك أبدا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فأتت المرأة فأخبرتني بذلك، فأخبرت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك فسكت حتى نزل قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] .

وهذه الآية وردت في بيان عدد الطلاق؛ لأن معنى قوله: {مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] يعني: طلقتين، أي: من طلق طلقتين.. فله الرجعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] ، وله أن يطلقها الثالثة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] .. وروي: أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أين الثالثة؟ قال: {تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . وإنما وردت الآية في الحر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] ، فأحل الله تعالى له الأخذ، والذي يحل له الأخذ هو الحر دون العبد، ولم يفرق بين أن تكون الزوجة حرة أو أمة. فإن قيل: الأمة لا تفتدي! قلنا: بلى تفتدي، فإن افتدت بإذن سيدها.. كان ذلك مما في يدها أو كسبها، وإن افتدت الأمة بغير إذن سيدها.. كان ذلك في ذمتها. وروى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الطلاق بالرجال، والعدة بالنساء» .

فرع: علق الطلاق ثلاثا على عتقه

وروى الشافعي: (أن مكاتبا لأم سلمة طلق امرأته وهي حرة تطليقتين، وأراد أن يراجعها، فأمره أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتي عثمان فيسأله، فذهب إليه فوجده أخذ بيد زيد بن ثابت، فسألهما عن ذلك فانتهراه - وروي: فابتدراه - وقالا: حرمت عليك حرمت عليك) ، ولا مخالف لهما، فدل على: أنه إجماع، ولأنه عدد محصور يملك الزوج رفعه، فكان اعتبار عدده به، كعدد المنكوحات. فقولنا: (عدد محصور) احتراز من القسم بين النساء. وقولنا: (يملك الزوج رفعه) احتراز من الحدود؛ فإن الاعتبار بالموقع فيه. [فرع: علق الطلاق ثلاثا على عتقه] ] : إذا قال العبد لزوجته: إذا أعتقت فأنت طالق ثلاثا، فأعتق.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تقع عليها الثالثة؛ لأنه عقدها في وقت لا يملكها. والثاني: يقع؛ لأنه كان مالكا لأصل الطلاق، فهو كما لو علق الطلاق البدعي في وقت السنة. [فرع: طلاق الذمي الحر] ] : إذا طلق الذمي الحر امرأته طلقة، فنقض الأمان ولحق بدار الحرب، فسبي واسترق، ثم تزوج زوجته التي طلقها بإذن سيده.. قال ابن الحداد: لم يملك عليها

مسألة: محل وقوع الطلاق وأقسامه والطلاق البدعي وأحكامه

أكثر من طلقة واحدة؛ لأن النكاح الثاني يبني على الأول في عدد الطلاق. وإن طلقها طلقتين، ونقض الأمان، ولحق بدار الحرب، فسبي واسترق، ثم تزوجها بإذن سيده.. كانت عنده على واحدة؛ لأن الطلقتين الأوليين لم يحرماها عليه، فلم يتغير الحكم بالرق الطارئ بعده. وكذلك: إذا طلق العبد امرأته طلقة، فأعتق ثم تزوجها.. ملك عليها تمام الطلاق وهو طلقتان؛ لأن الطلقة الأولى لم تحرمها عليه. ولو طلق العبد امرأته طلقتين، ثم أعتق العبد.. لم يجز له أن يتزوجها قبل زوج؛ لأنه حرمت عليه بالطلقتين الأوليين، فلا يتغير الحكم بالعتق الطارئ. [مسألة: محل وقوع الطلاق وأقسامه والطلاق البدعي وأحكامه] ] : ويقع الطلاق على كل زوجة، صغيرة كانت أو كبيرة، عاقلة كانت أو مجنونة، مدخولا بها كانت أو غير مدخول بها؛ لعموم الآية والإجماع. وينقسم الطلاق على أربعة أضرب: واجب ومستحب ومكروه ومحرم. فأما (الواجب) : فهو طلاق الحكمين عند شقاق الزوجين إذا قلنا: إنهما حكمان، وكذلك طلاق المولي إذا انقضت مدة الإيلاء وامتنع من الفيئة على ما يأتي. وأما (المستحب) : فبأن تقع الخصومة بين الزوجين وخافا أن لا يقيما حدود الله، فيستحب له أن يطلقها؛ لأنه إذا لم يطلقها.. ربما أدى إلى الشقاق. أو تكون المرأة غير عفيفة، فيستحب له أن يطلقها؛ لما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن رجلا قال: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترد يد لامس، فقال: " طلقها "، فقال: إني أحبها قال "أمسكها»

وأما (المكروه) : فأن تكون الحال بينهما مستقيمة، ولا يكره شيئا من خلقها ولا خلقها ولا دينها، فيكره له أن يطلقها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» . وأما (المحرم) : فهو طلاق المرأة المدخول بها في الحيض، أو في الطهر الذي جامعها فيه قبل أن يتبين حملها، ويسمى طلاق البدعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] أي: لوقت عدتهن، ووقت العدة: هو الطهر. ولما روي «أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: " مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإن أراد أن يطلقها.. فليطلقها حين تطهر قبل أن يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» . وفي رواية أخرى: «مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» . ولأنه إذا طلقها في حال الحيض.. أضر بها في تطويل العدة، وإذا طلقها في حال الطهر الذي جامعها فيه قبل أن يتبين أنها حامل.. ربما كانت حاملا، فندم على مفارقتها.

وإن كانت غير مدخول بها وطلقها في الحيض.. لم يكن طلاق بدعة؛ لأنه لا عدة عليها. وإن طلق الصغيرة أو الآيسة في الطهر الذي جامعها فيه.. لم يكن طلاق بدعة؛ لأنها لا تحبل فيندم على مفارقتها. وإن طلقها وهي حامل في الطهر الذي جامعها فيه.. لم يكن طلاق بدعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مره فليطلقها طاهرا أو حاملا» . فإن رأت الدم على الحمل، فإن قلنا: إنه ليس بحيض.. فليس بطلاق بدعة، وإن قلنا: إنه حيض.. ففيه وجهان: [الأول] : قال أبو إسحاق: هو طلاق بدعة؛ لأنه طلقها على الحيض. والثاني - وهو المذهب -: أنه ليس بطلاق بدعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فليطلقها طاهرا أو حاملا» ، ولم يفرق. إذا ثبت هذا: فإن خالف وطلقها في الحيض أو الطهر الذي جامعها فيه.. وقع عليها الطلاق. وبه قال كافة أهل العلم. وذهب ابن علية، وهشام بن الحكم، وبعض أهل الظاهر، والشيعة إلى: أن الطلاق لا يقع. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «مره فليراجعها» ، فلولا أن الطلاق قد وقع.. لما أمره أن يراجعها. وروي: «أن ابن عمر قال: يا رسول الله، أرأيت أن لو طلقتها ثلاثا؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أبنت امرأتك، وعصيت ربك» . والمستحب: أن يراجعها؛ لحديث ابن عمر، فإن لم يراجعها.. جاز. وقال مالك: (تجب عليه الرجعة) .

مسألة: تفريق الطلقات وحكم طلاق البتة والثلاث

دليلنا: أن الرجعة ليست بأولى من ابتداء النكاح أو البقاء عليه، وهما لا يجبان، فكذلك الرجعة. [مسألة: تفريق الطلقات وحكم طلاق البتة والثلاث] ] : والمستحب لمن أراد أن يطلق امرأته: أن يطلقها واحدة؛ لأنه إن ندم على طلاقها.. أمكنة تلافي ذلك بالرجعة. وإن أراد أن يطلقها ثلاثا.. فالمستحب: أن يفرقها في كل طهر طلقة. وحكى أبو علي السنجي، عن بعض أصحابنا: أنه قال: لا سنة في عدد الطلاق ولا بدعة، وإنما السنة والبدعة في الوقت. والمنصوص هو الأول؛ لأنه يسلم بذلك من الندم. ويجوز أن يكون فعل الشيء سنة ولا يكون تركه بدعة، كتحية المسجد والأضحية وما أشبهه. فإن كانت صغيرة أو آيسة، وأراد أن يطلقها.. فالمستحب: أن يطلقها في كل شهر طلقة؛ لأن كل شهر بدل عن قرء في حقها. وإن كانت حاملا.. فقد قال بعض أصحابنا: يطلقها كل شهر طلقة. وقال أبو علي السنجي: يطلقها على الحمل واحدة، فإذا طهرت من النفاس.. طلقها ثانية، ثم إذا طهرت من الحيض بعد النفاس.. طلقها الثالثة. وأراد أبو علي: إذا استرجعها قبل وضع الحمل. فإن خالف وطلقها ثلاثا في طهر واحد، أو في كلمة واحدة.. وقع عليها الثلاث وكان مباحا، ولم يكن محرما. وبه قال عبد الرحمن بن عوف، والحسن بن علي بن أبي طالب. ومن التابعين: ابن سيرين. ومن الفقهاء: أحمد بن حنبل. وقال مالك وأبو حنيفة: (جمع الثلاث في وقت واحد محرم، إلا أنه يقع كالطلاق في الحيض) . وبه قال عمر، وعلي، وابن عباس، وابن مسعود.

وذهب بعض أهل الظاهر إلى: أن الثلاث إذا أوقعها في وقت واحد.. لا تقع. وبه قال بعض الشيعة. وقال بعضهم: تقع واحدة. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» ، ولم يفرق بين أن يطلقها واحدة أو ثلاثا، فلو كان الحكم يختلف.. لبينه. وروي: «أن عويمرا العجلاني لاعن امرأته عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قال: إن أمسكتها.. فقد كذبت عليها، وهي طالق ثلاثا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا سبيل لك عليها» ، فموضع الدليل: أن العجلاني لم يعلم أنها قد بانت منه باللعان، فطلقها ثلاثا بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيقاعه الثلاث، فلو كان محرما أو كان لا يقع.. لأنكره. ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبيل لك عليها» أي: لا سبيل لك عليها بالطلاق؛ لأنها قد بانت باللعان. وروي: «أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: " ما أردت بقولك: البتة؟ "، فقال: واحدة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " والله ما أردت إلا واحدة؟ "، فقال: والله ما أردت إلا واحدة، فردها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»

مسألة: يطلق الزوج أو وكيله وماذا لو فوض إليها الطلاق

فدل على: أنه لو أراد الثلاث.. وقعن، إذ لو لم يقعن.. لم يكن لاستحلافه معنى. وروي: «أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرأيت لو طلقتها ثلاثا؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أبنت امرأتك وعصيت ربك» . وهذا يبطل قول أهل الظاهر والشيعة. [مسألة: يطلق الزوج أو وكيله وماذا لو فوض إليها الطلاق] ؟] : إذا أراد أن يطلق امرأته.. فله أن يطلق بنفسه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] . وله أن يوكل من يطلقها، كما يجوز أن يوكل من يتزوج له. وله أن يفوض إليها الطلاق؛ لأن الله أمر نبيه: أن يخير زوجاته، فاخترنه. وإذا فوض الطلاق إليها.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لا أعلم خلافا: أنها إن طلقت نفسها قبل أن يتفرقا من المجلس أو يحدث قطعا لذلك.. أن الطلاق يقع عليها) . واختلف أصحابنا فيه: فقال ابن القاص: إذا فوض إليها طلاق نفسها.. فلها أن تطلق نفسها ما دام في المجلس ولم تخض في حديث آخر، فإن حاضت في حديث آخر، أو قامت من ذلك المجلس.. لم يكن لها أن تطلق نفسها، وبه قال أبو حنيفة. وقال أبو إسحاق: لا يتقدر بالمجلس، بل إذا طلقت نفسها عقيب قوله، بحيث يكون جوابا لكلامه.. وقع الطلاق. وإن أخرته عن ذلك ثم طلقت.. لم يقع الطلاق؛ لأنه نوع تمليك، فكان قبوله على الفور كسائر التمليكات. وحمل النص

فرع: تفويض الطلاق للمرأة أو ضبطه بعدد أو باستثناء

على أنه: أراد مجلس خيار القبول لا مجلس العقود. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه قولان بناء على أن تفويض الطلاق إليها تمليك أو توكيل؟ وفيه قولان: [أحدهما] : إن قلنا: تمليك.. اشترط القبول فيه على الفور، وإن قلنا: توكيل.. يقدر بالمجلس. و [الثاني] : قال الصيمري: يتقدر بالمجلس قولا واحدا. والأول أصح؛ لأن التوكيل لا يتقدر بالمجلس. هذا مذهبنا. وقال الحسن البصري، والزهري، وقتادة: (لها الخيار أبدا) . واختاره ابن المنذر. دليلنا: ما روي: عن عمر وعثمان: أنهما قالا: (إذا خير الرجل امرأته وملكها أمرها، فافترقا من ذلك المجلس ولم يحدث شيء.. فأمرها إلى زوجها) . وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر، ولا يعرف لهما مخالف. وإن قال لها: طلقي نفسك متى شئت.. كان لها ذلك؛ لأنه قد صرح لها بذلك. [فرع: تفويض الطلاق للمرأة أو ضبطه بعدد أو باستثناء] فرع: [تفويض الطلاق أو التخيير للمرأة ورجوعه عنه أو ضبطه بعدد أو باستثناء] : إذا فوض إليها الطلاق أو خيرها، ثم رجع قبل أن تطلق أو تختار.. بطل التفويض والتخيير. وقال ابن خيران: لا يبطل. وبه قال مالك وأبو حنيفة، كما لو قال لها: إذا اخترت فأنت طالق، ثم رجع قبل أن تختار. والمذهب الأول؛ لأن التفويض إما تمليك أو توكيل، وله الرجوع فيهما قبل القبول.

: فرع لو وكله بطلقة فطلق ثلاثا أو عكسه

وإن قال لها: طلقي نفسك، فإن طلقت بالكناية مع النية.. وقع الطلاق. وقال ابن خيران، وأبو عبيد بن حربويه: لا يقع. والأول أصح؛ لأن الكناية مع النية كالصريح. وإن قال لها: طلقي نفسك ثلاثا، فطلقت واحدة أو طلقتين.. وقع عليها ما أوقعت. وقال أبو حنيفة: (لا يقع عليها شيء) . دليلنا: أن من ملك إيقاع الثلاث.. ملك إيقاع الواحدة والاثنتين، كالزوج. وإن قال لها: طلقي نفسك واحدة، فطلقت ثلاثا.. وقع عليها واحدة. وقال مالك: (لا يقع عليها شيء) . دليلنا: أن الواحدة المأذون فيها داخلة في الثلاث، فوقعت دون غيرها. وقال ابن القاص: ولو قال لها: طلقي نفسك إن شئت واحدة، فطلقت ثلاثا، أو قال: طلقي نفسك إن شئت ثلاثا، فطلقت واحدة.. لم يقع الطلاق عليها؛ لأنها فوض إليها الطلاق في الأولى بشرط أن تشاء واحدة، وفي الثانية بشرط أن تشاء ثلاثا، ولم توجد الصفة، فلم يقع. قال الطبري: فإن أخر المشيئة، بأن قال: طلقي نفسك ثلاثا إن شئت، فطلقت واحدة، أو قال: طلقي نفسك واحدة إن شئت، فطلقت ثلاثا.. وقع عليها واحدة فيهما. والفرق: أنه إذا قدم المشيئة.. كان التمليك معلقا بشرط أن تشاء العدد المأذون فيه، فإذا أوقعت غيره مما شاءته.. فلم يقع عليها طلاق، وإذا أخر المشيئة.. كانت المشيئة راجعة إلى الطلاق لا إلى العدد. [: فرع لو وكله بطلقة فطلق ثلاثا أو عكسه] فرع: [الوكيل يطلق متى شاء وماذا لو وكله بطلقة فطلق ثلاثا أو عكسه؟] : وإن وكل رجلا ليطلق له امرأته.. كان له أن يطلق متى شاء، كما قلنا في الوكيل في البيع والشراء، بخلاف إذا فوض الطلاق إليها.. فإنه تمليك لمنفعتها، والتمليك يقتضي القبول في الحال.

مسألة: طلاق جزء من المرأة أو عضو أو عرض منها

وإن وكله أن يطلقها ثلاثا فطلقها واحدة، أو وكله أن يطلقها واحدة فطلقها ثلاثا.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه كالزوجة فيما ذكرناه. والثاني: لا يقع عليها طلاق فيهما؛ لأنه فعل غير مأذون له فيه، فلم يصح. [مسألة: طلاق جزء من المرأة أو عضو أو عرض منها] ] : إذا أضاف الطلاق إلى جزء منها معلوم أو مجهول، أو إلى عضو من أعضائها، بأن قال: نصفك، أو بعضك، أو يدك، أو رجلك، أو شعرك، أو ظفرك طالق.. فإنها تطلق. وقال أبو حنيفة: (إذا أضاف الطلاق إلى جزء منها معلوم أو مجهول، أو إلى أحد خمسة أعضاء وهي: الرأس، والوجه، والرقبة، والظهر، والفرج.. وقع عليها الطلاق. وإن أضاف الطلاق إلى سائر أعضائها، كاليد والرجل، أو إلى الشعر والظفر.. لم يقع عليها الطلاق) . وقال أحمد: (إذا أضاف الطلاق إلى ما ينفصل عنها في حال الحياة، كالشعر والسن والظفر.. لم يقع عليها. وإن أضافه إلى سائر أعضائها.. وقع عليها الطلاق) . دليلنا: أن الطلاق لا يتبعض، فكانت إضافته إلى جزء منها أو إلى عضو منها كإضافته إلى جميعها، كالعفو عن القصاص، ولأنه أشار بالطلاق إلى ما يتصل ببدنها اتصال خلقة، فكان كالإشارة إلى جملتها، وكالإشارة إلى الأعضاء الخمسة. وإن أضاف الطلاق إلى دمها.. فقد قال أصحابنا البغداديون: لا يقع عليها الطلاق؛ لأنه غير متصل بالبدن، وإنما هو يجري في البدن. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا أضافه إلى دمها.. وقع عليها الطلاق؛ لأنه كلحمها.

وإن قال: ريقك أو بولك أو عرقك طالق.. فقال أصحابنا البغداديون: لا تطلق؛ لأنه ليس بجزء منها، وإنما هو من فضول بدنها. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: يقع عليها الطلاق. وإن قال: حملك طالق.. فقال البغداديون من أصحابنا: لا يقع عليها الطلاق؛ لأنه ليس بمتصل بالبدن، وإنما هو يدور في الرحم. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه وجهان. وإن قطعت أذنها وأبينت منها، ثم ألصقت بالدم فلصقت، فطلق أذنها الملتصقة.. فقال البغداديون من أصحابنا: لا يقع عليها الطلاق. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه وجهان. وإن قال: منيك أو لبنك طالق.. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فمن أصحابنا من قال: فيه وجهان، كالدمع والعرق. ومنهم من قال: يقع عليها الطلاق وجها واحدا كالدم، وهذا على أصله. وإن قال: سوادك أو بياضك طالق.. ففيه وجهان: أحدهما: يقع عليها الطلاق؛ لأنه من جملة الذات التي لا تنفصل عنها فهي كالأعضاء. والثاني: لا يقع عليها الطلاق؛ لأنها أعراض تحل الذات. إذا ثبت هذا، وأضاف الطلاق إلى عضو منها، أو إلى جزء منها.. فكيف يقع عليها الطلاق؟ فيه وجهان: أحدهما: يقع الطلاق على جملتها؛ لأن الطلاق لا يتبعض. والثاني: يقع الطلاق على الذي أوقعه منها، ثم يسري اعتبارا بما سماه.

مسألة: قوله أنا منك طالق ونحوه كناية

[مسألة: قوله أنا منك طالق ونحوه كناية] ] : وإن قال لامرأته: أنا منك طالق، أو قال لها: طلقي نفسك، فقالت: أنت طالق.. فهو كناية في الطلاق. فإن نوى الطلاق في الأولى ونوته في الثانية.. وقع عليها الطلاق. وقال أبو حنيفة: (لا يقع عليها الطلاق) . دليلنا: أن كل لفظ صح أن يكون طلاقا بإضافته إلى الزوجة.. صح أن يكون طلاقا بإضافته إلى الزوج، كالبينونة، فإن أبا حنيفة وافقنا عليها، ولأنه أحد الزوجين فصح إضافة الطلاق إليه كالزوجة. وإن قال لعبده أو أمته: أنا منك حر.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: هو كناية في العتق، فيقع به العتق إذا نواه؛ لأنه إزالة ملك يصح بالصريح والكناية، فجاز إضافته إلى المالك، كإضافة الطلاق إلى الزوج. و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يقع به العتق؛ لأن كل واحد من الزوجين يقال له: زوج، فهما مشتركان في الاسم، فإذا جاز إضافة الطلاق إلى الزوجة.. جاز إضافته إلى الزوج، وليس كذلك الحرية؛ لأنها تقع بملك والذي ينفرد بالملك هو السيد فلم تجز إضافة الحرية إليه وبالله التوفيق.

باب ما يقع به الطلاق من الكلام وما لا يقع إلا بالنية

[باب ما يقع به الطلاق من الكلام وما لا يقع إلا بالنية] إذا نوى الرجل طلاق امرأته ولم ينطق به.. لم يقع عليها الطلاق. وقال مالك في إحدى الروايتين: (يقع) . دليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تجاوز الله لأمتي ما حدثت به نفسها ما لم تكلم به أو تعمل به» . [مسألة: صريح الطلاق وكنايته] ] : وأما الكلام الذي يقع به الطلاق: فينقسم قسمين: صريحا وكناية. فـ (الصريح) : ما يقع به الطلاق من غير نية، وهو ثلاثة ألفاظ: الطلاق، والفراق، والسراح. وقال أبو حنيفة: (الصريح: هو لفظ الطلاق لا غير، وأما الفراق والسراح: فهما كنايتان في الطلاق) . وبه قال الطبري في " العدة "، والمحاملي، وإلى هذا أشار الشافعي في القديم؛ لأن العرف غير جار بهاتين اللفظتين. والمشهور من المذهب هو المذهب الأول: لأن القرآن ورد بهذه الألفاظ الثلاثة على وجه الأمر، فقال تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] . وقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] . وقال في موضع آخر: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ} [البقرة: 231] [البقرة: 231] . إذا ثبت هذا: فالصريح من لفظة الطلاق ثلاثة، وهي قوله: طلقتك أو أنت طالق أو أنت مطلقة.

فرع: صرح بالطلاق وادعى أنه قصد ما يصرفه عن ظاهره

وقال أبو حنيفة: (قوله: أنت مطلقة ليس بصريح، وإنما هو كناية) . دليلنا: أن قوله: أنت طالق ليس بإيقاع الطلاق، وإنما هو وصف لها بالطلاق، كقوله: أنت نائم، فإن كان صريحا.. فكذلك قوله: (أنت مطلقة) مثله. وأما (الفراق والسراح) : فالصريح منهما لفظتان لا غير، وهو قوله: فارقتك أو أنت مفارقة، أو سرحتك أو أنت مسرحة. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد والبغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : في قوله: أنت مفارقة أو أنت مسرحة وجهان: أحدهما: أنه صريح، كقوله: أنت مطلقة. والثاني: أنه كناية؛ لأنه لم يرد به الشرع ولا الاستعمال. والأول هو المشهور. فإن خاطبها بلفظة من الألفاظ الصريحة في الطلاق، ثم قال: لم أقصد الطلاق وإنما سبق لساني إليها.. قال الصيمري: فقد قيل: إن كان هناك حال تدل على ما قال، بأن كان في حالة جرت العادة فيها بالدهش.. جاز أن يقبل منه. وقيل: لا يلتفت إليه، بل يقع عليها الطلاق- وهو المشهور؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر - ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. [فرع: صرح بالطلاق وادعى أنه قصد ما يصرفه عن ظاهره] ] : وإن قال: أنت طالق، وقال: أردت طلاقا من وثاق. أو قال: فارقتك، وقال: أردت به إلى المسجد. أو قال: سرحتك، وقال: أردت به إلى البيت أو إلى أهلك.. لم يقبل منه في الحكم؛ لأنه يعدل بالكلام عن ظاهره، ويدين فيما يدعيه بينه وبين الله تعالى. وقال مالك: (إن قال هذا في حال الرضا.. لم يقبل منه في الحكم، وقبل منه

فيما بينه وبين الله تعالى، وإن قاله في حال الغضب.. لم يقبل منه في الحكم ولا فيما بينه وبين الله تعالى) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحاسبوا العبد حساب الرب، واعلموا على الظاهر، ودعوا الباطن» . ولأن اللفظ يصلح في الحالين؛ لما ذكره، فيقبل منه فيما بينه وبين الله تعالى. وكل ما قلنا: لا يقبل فيه قول الزوج من هذا وما أشبهه، ويقبل منه فيما بينه وبين الله تعالى، فإن الزوجة إذا صدقته على ما يقول.. جاز لها أن تقيم معه. فإن رآهما الحاكم على اجتماع ظاهر.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه يفرق بينهما؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «احكم بالظاهر والله يتولى السرائر» .

مسألة: إجابة الزوج بنعم وغيرها فيما لو سئل عن طلاقه لزوجته

والثاني: لا يفرق بينهما؛ لأنهما على اجتماع يجوز إباحته في الشرع. فإن لم تصدقه الزوجة على قوله واستفتت.. فإنا نقول لها: امتنعي عنه ما قدرت عليه. وإذا استفتى.. قلنا له: إن قدرت على وطئها في الباطن.. حل لك فيما بينك وبين الله تعالى. وإن قال لها: أنت طالق من وثاق، أو فارقتك مسافرا إلى المسجد، أو سرحتك إلى أهلك.. لم يحكم عليه بالطلاق، لأنه وصله بكلام أخرجه عن كونه صريحا، فهو كما لو قال: لا إله وسكت.. كان كفرا؛ وإذا قال: لا إله إلا الله.. كان توحيدا. وكما لو قال: له علي عشرة إلا خمسة. [مسألة: إجابة الزوج بنعم وغيرها فيما لو سئل عن طلاقه لزوجته] ] : إذا قال له رجل: طلقت امرأتك، أو امرأتك طالق، أو فارقتها، أو سرحتها؟ فقال: نعم.. ففيه قولان، حكاهما ابن الصباغ والطبري: أحدهما: أن هذا كناية، فلا يقع به الطلاق إلا بالنية؛ لأن قوله: (نعم) ليس بلفظ صريح. والثاني: أنه صريح في الطلاق، وهو اختيار المزني، ولم يذكر الشيخان غيره، وهو الأصح؛ لأنه صريح في الجواب، وتقديره: نعم طلقت، كما لو قيل له: لفلان عليك كذا، فقال: نعم.. كان إقرارا. قال الطبري: قال بعض أصحابنا: وهذا مخرج على ما لو قال: زوجتك ابنتي بكذا، فقال الزوج: نعم بدل القبول، أو قال: قبلت لا غير. أو قال الزوج: زوجني ابنتك بكذا، فقال الولي: نعم.. فهل يصح النكاح؟ على قولين. إذا ثبت هذا، وقلنا: يقع عليه الطلاق.. نظرت: فإن كان صادقا فيما أخبر به من الطلاق.. وقع عليها الطلاق في الظاهر والباطن. وإن لم يكن طلق قبل ذلك وإنما

فرع: قوله طالق لولا أبوك لطلقتك أو لولا الله

كذب بقوله نعم.. وقع الطلاق في الظاهر دون الباطن. وإن قال: أردت أني كنت طلقتها في نكاح آخر ثم تزوجتها، فإن أقام بينة على ما قال.. فالقول قوله مع يمينه وأنه أراد ذلك؛ لإمكان ما يدعيه. وإن لم يقم على ذلك بينة.. لم يقبل منه قوله في الظاهر، ودين فيما بينه وبين الله تعالى. وإن قال له رجل: طلقت امرأتك؟ فقال: قد كان بعض ذلك.. سئل، فإن قال: أردت أني كنت علقت طلاقها بصفة.. قبل منه؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. [فرع: قوله طالق لولا أبوك لطلقتك أو لولا الله] ] : إذا قال لامرأته: أنت طالق، لولا أبوك لطلقتك.. فذكر المزني في فروعه: أنها لا تطلق؛ لأنه ليس بإيقاع للطلاق، وإنما حلف بطلاقها أنه إنما يمسكها لأجل أبيها، ولولا أبوها لطلقها، فلم يحنث، كما لو قال: والله لولا أبوك لطلقتك. قال صاحب " الفروع ": ويحتمل أن يقع عليها الطلاق؛ لأن قوله: (لولا أبوك لطلقتك) كلام مبتدأ منفصل عن الأول، ولهذا يفرد بجواب. والأول هو المشهور. فإن كان صادقا بأنه امتنع من طلاقها لأجل أبيها.. لم يقع عليها الطلاق لا ظاهرا ولا باطنا. وإن كان كاذبا.. وقع الطلاق في الباطن دون الظاهر إلا أن يقر بكذبه.. فيقع في الظاهر أيضا. فإن قال: أنت طالق لولا أبوك أو لولا الله.. لم يقع عليها الطلاق. [مسألة: ألفاظ كنايات الطلاق] ] : وأما (الكنايات) فهي: كل كلمة تدل على الطلاق، كقوله: أنت خلية،

وبرية، وبتة، وبتلة، وبائن، وحرة، وحرام، ومقطوعة، ومنقطعة، وواحدة، انطلقي، اخرجي، الزمي الطريق، اجمعي ثيابك، تزوجي، اختاري لنفسك بعلا، أنفقي على نفسك من مال، اذهبي، ابعدي، اعتدي، تقنعي، استبرئي رحمك، ذوقي، تجرعي، استفلحي، حبلك على غاربك، قد رفعت يدي عنك، قد صرمتك، قد انصرفت عنك، أنت الآن أعلم بشأنك، وهبتك لأهلك، وما أشبه ذلك من الكلام. فإن نوى بذلك الطلاق.. وقع عليها الطلاق. وإن لم ينو به الطلاق.. لم يقع عليها الطلاق، سواء قال ذلك في حالة الرضا أو في حالة الغضب، وسواء سألته الطلاق أو لم تسأله. وقال أبو حنيفة: (إذا كان ذلك في حال مذاكرة الطلاق، وقال لها: أنت بائن، وبتة، وبتلة، وحرام، وخلية، وبرية، والحقي بأهلك، واذهبي.. فلا يحتاج إلى النية. وإن قال لها: حبلك على غاربك، واعتدي، واستبرئي رحمك، وتقنعي.. فإنه يحتاج إلى النية) . وقال مالك: (الكنايات الظاهرة لا تحتاج إلى النية، كقوله: بائن، وبتة،

فرع: قوله أغناك الله ونوى الطلاق وأمثلة أخر

وبتلة، وحرام، وخلية، وبرية - والفراق والسراح عنده من الكنايات الظاهرة - وأما الكنايات الباطنة: فتفتقر إلى النية، وهي مثل قوله: اعتدي، واستبرئي رحمك، وتقنعي، واذهبي، وحبلك على غاربك، وما أشبه ذلك) . وقال أحمد: (دلالة الحال في جميع الكنايات تقوم مقام النية) . دليلنا: أن هذه الألفاظ تحتمل الطلاق وغيره ولا تتميز إلا بالنية، كالإمساك عن الطعام والشراب يحتمل الصوم وغيره ولا يتميز إلا بالنية، ولأن هذه كنايات في الطلاق، فإذا لم تقترن بها النية.. لم يقع بها الطلاق، كالألفاظ التي سموها. [فرع: قوله أغناك الله ونوى الطلاق وأمثلة أخر] فرع: [قوله: أغناك الله ونوى وأمثلة أخر] : قال ابن القاص: إذا قال لزوجته: أغناك الله، ونوى به الطلاق.. كان طلاقا. فمن أصحابنا من قال: لا يقع عليها الطلاق؛ لأن هذا دعاء لها، فهو كقوله: بارك الله فيك. ومنهم من أوقعه؛ لأنه يحتمل أن يريد الغناء الذي قال الله: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] [النساء: 130] . وإن قال لها: زوديني، ونوى به الطلاق.. فقد قال الماسرجسي: يقع به الطلاق؛ لأن الزاد يكون للفراق. وقال القاضي أبو الطيب: لا يقع عليها الطلاق؛ لأن المراد به الصلة، فهو كقوله: أطعميني واسقيني. وإن قال لها: كلي واشربي، ونوى به الطلاق.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا يقع عليها الطلاق. وبه قال أبو حنيفة، كقوله: أطعميني واسقيني. والثاني: يقع به الطلاق. وهو اختيار الشيخين؛ لأنه يحتمل: كلي ألم الفراق، واشربي كأسه.

فرع: الكنايات وصورها في الطلاق

فإن قال لامرأته: لست لي بامرأة، ونوى به الطلاق.. كان طلاقا. وبه قال أبو حنيفة وأحمد. وقال أبو يوسف: لا يقع. دليلنا: أنه محتمل للطلاق؛ لأنه إذا طلقها.. لا تكون امرأته، فهو كقوله: أنت بائن. وإن قال له رجل: ألك زوجة؟ فقال: لا، ونوى به الطلاق.. كان طلاقا. قال في " الفروع ": ويحتمل أن لا يكون كناية ولا صريحا. والأول هو المشهور؛ لأنه يحتمل الطلاق. [فرع: الكنايات وصورها في الطلاق] فرع: [من الكنايات أنت حرة وأمثلة أخر] : وإن قال لامرأته: أنت حرة، ونوى به الطلاق.. كان طلاقا. وإن قال لأمته: أنت طالق، ونوى به العتق.. كان عتقا؛ لأن لفظ الطلاق يتضمن إزالة ملك الزوجية، فكان كناية في العتق، كقوله لا سبيل لي عليك. وإن قال لامرأته: باب الاستطابة، أو أنت طلاق.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه كناية، فلا يقع به الطلاق إلا مع النية؛ لأن الطلاق مصدر، والأعيان لا توصف بالمصادر، فكان مجازا. والثاني: أنه صريح، وبه قال مالك وأبو حنيفة؛ لأن الطلاق قد يستعمل في معنى طالق. قال الشاعر: فأنت الطلاق وأنت الطلاق ... وأنت الطلاق ثلاثا تماما

فرع: مقارنة النية للكناية في الطلاق

وقال آخر: فأنت الطلاق والطلاق عزيمة ... ثلاثا ومن يخرق أعق وأظلم وإن قال له رجل: أخليت امرأتك، أو أبنتها وما أشبه ذلك من الكنايات؟ فقال الزوج: نعم، فإن اعترف الزوج أنه نوى بذلك الطلاق.. كان إقرارا منه بالطلاق. وإن لم يعترف أنه نوى بذلك الطلاق.. لم يلزمه بذلك شيء. [فرع: مقارنة النية للكناية في الطلاق] فرع: [مقارنة النية للكناية وعدم وقوع الطلاق بألفاظ لا تصلح له] : وإذا خاطبها بشيء من الكنايات التي يقع بها الطلاق، بأن قال: أنت خلية، فإن لم ينو الطلاق في اللفظ وإنما نواه قبله أو بعده.. لم يكن لهذه النية حكم؛ لأنها لن تقارن اللفظ ولا بعضه، فهو كما لو نوى الطلاق من غير لفظ. وإن نوى الطلاق في بعض اللفظ، بأن نوى الطلاق في قوله: أنت، وعزبت نيته في قوله: خلية، أو نوى الطلاق في قوله: خلية، دون قوله: أنت.. ففيه وجهان: أحدهما: يقع الطلاق. قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب؛ لأن النية إذا قارنت بعض الشيء ذكرا واستصحب حكمها إلى آخره وإن عزبت في أثنائه.. صح، كالعبادات من الطهارة والصلاة إذا قارنتها النية في أولها ذكرا واستصحب حكمها في باقيها.

مسألة: تخيير الزوجة وحكم الطلاق

والثاني: لا تطلق. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو ظاهر النص؛ لأن النية قارنت لفظا لا يصلح للطلاق. وأما الألفاظ التي لا تدل على الفراق إذا خاطبها كقوله: بارك الله فيك، وما أحسن وجهك، أطعميني واسقيني، قومي واقعدي، وما أشبه ذلك.. فلا يقع به الطلاق وإن نواه؛ لأنها لا تصلح للفرقة، فلو أوقعنا الطلاق بذلك.. لأوقعنا الطلاق بمجرد النية، والطلاق لا يقع بالنية من غير لفظ. واختلف أصحابنا: هل للفارسية صريح في الطلاق؟ فذهب أكثرهم إلى: أن له صريحا في لغتهم، كما نقول في لغة العرب. وقال أبو سعيد الإصطخري: لا صريح له في لغتهم. [مسألة: تخيير الزوجة وحكم الطلاق] ] : يجوز للزوج أن يخير زوجته، فيقول لها: اختاري أو أمرك بيدك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] [الأحزاب: 28] ، فـ: (خير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه، فاخترنه) . إذا ثبت هذا، فقال لزوجته: اختاري، فاختارت زوجها.. لم يقع عليها الطلاق. وبه قال ابن عمر وابن عباس وابن مسعود وعائشة، وبه قال أكثر الفقهاء. وروي: عن علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت روايتان: إحداهما: كقولنا. والثانية: أنها إذا اختارت زوجها.. وقع عليها طلقة واحدة رجعية. وبه قال الحسن البصري وربيعة. دليلنا: ما روي: «أن رجلا سأل عائشة عن رجل خير زوجته فاختارته، فقالت: خير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه فاخترنه، أكان ذلك طلاقا؟!) فأخبرت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير نساءه فاخترنه، ولم يجعل ذلك طلاقا» وهي أعلم الناس بهذه القصة؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بها.

وإن اختارت نفسها.. فهو كناية في الطلاق. فإن نويا الطلاق.. وقع الطلاق. وإن نوى أحدهما دون الآخر ... لم يقع الطلاق؛ لأن الزوج إذا لم ينو.. لم يقع الطلاق؛ لأنه لم يجعل إليها الطلاق. وإن نوى الزوج ولم تنو الزوجة.. لم يقع؛ لأنها لم توقع الطلاق.. هذا مذهبنا. وقال مالك: (هو صريح، فإذا اختارت الطلاق.. وقع، سواء نويا أو لم ينويا) . وقال أبو حنيفة: (لا يفتقر إلى نية الزوجة) . دليلنا: أن قوله (اختاري) : يحتمل الطلاق وغيره، وكذلك قولها: (اخترت نفسي) : يحتمل الطلاق وغيره، وما كان هذا سبيله.. فلا بد فيه من النية، كسائر الكنايات. وهل من شرط اختيارها لنفسها: أن يكون على الفور، بحيث يصلح أن يكون جوابا لكلامه، أو يجوز إذا وقع منها في المجلس قبل أن تخوض المرأة في حديث غيره؟ على وجهين مضى ذكرهما. وإن قالت المرأة: اخترت الأزواج، ونوت الطلاق.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يقع الطلاق؛ لأن زوجها من الأزواج. والثاني: يقع عليها الطلاق، قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الأظهر عندي؛ لأنها لا تحل للأزواج إلا بعد مفارقتها لهذا. وإن قالت: اخترت أبوي، ونوت الطلاق.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يقع الطلاق؛ لأن ذلك لا يتضمن فراق الزوج. والثاني: يقع؛ لأنه يتضمن العود إليهما بالطلاق. وإن قال لها: أمرك بيدك، ونوى به إيقاع الطلاق.. ففيه وجهان: أحدهما: يقع عليها الطلاق قبل أن تختار؛ لأنه يحتمل الطلاق، فكان كقوله: حبلك على غاربك.

مسألة: قوله أنت علي حرام

والثاني: لا يقع عليها الطلاق؛ لأنه صريح في تمليكها الطلاق ووقوعه بقبولها، فلا يجوز صرفه إلى الإيقاع. [مسألة: قوله أنت علي حرام] ] : إذا قال لزوجته: أنت حرام علي، فإن نوى به الطلاق.. كان طلاقا. وإن نوى به الظهار - وهو: أن ينوي أنها محرمة كتحريم ظهر أمه - كان مظاهرا. وإن نوى تحريم عينها، أو تحريم وطئها، أو فرجها بلا طلاق.. وجبت عليه كفارة يمين وإن لم يكن يمينا. وإن لم ينو شيئا.. ففيه قولان. أحدهما: تجب عليه كفارة يمين، فيكون هذا صريحا في إيجاب الكفارة. والثاني: لا يجب عليه شيء، فيكون هذا كناية في إيجاب الكفارة، ويأتي توجيههما. وأما إذا قال الرجل لأمته: أنت حرام علي: فإن نوى عتقها.. عتقت. وإن أراد به طلاقها أو ظهارها.. فقد قال عامة أصحابنا: لا يلزمه شيء؛ لأن الطلاق والظهار لا يصح من السيد في حق أمته. وقال ابن الصباغ: عندي أنه إذا نوى الظهار.. لا يكون ظهارا، ويكون بمنزلة ما لو نوى تحريمها؛ لأن معنى الظهار: أن ينوي أنها عليه كظهر أمه في التحريم، وهذه نية التحريم المتأكد. وإن نوى تحريم عينها.. وجبت عليه كفارة يمين. وإن أطلق ولم ينو شيئا.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان، كالزوجة. ومنهم من قال: تجب الكفارة قولا واحدا؛ لأن النص ورد فيها، والزوجة مقيسة عليها. فهذا جملة المذهب. وقد اختلف الصحابة فيمن قال لزوجته: أنت علي حرام، فذهب أبو بكر الصديق وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلى: (أن ذلك يمين تكفر) . وبه قال الأوزاعي.

وقال عمر بن الخطاب: (هي طلقة رجعية) . وبه قال الزهري. وقال عثمان بن عفان: (هو ظهار) . وبه قال أحمد. وقال علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة: (يقع به الطلاق الثلاث) . وبه قال مالك وابن أبي ليلى. وقال ابن مسعود: (تجب به كفارة يمين) . وهي إحدى الروايتين عن ابن عباس، وهو كقولنا.

واختلف الناس بعد الصحابة بهذه الكلمة، فقال أبو سلمة بن عبد الرحمن، ومسروق: لا يجب فيها شيء. قال أبو سلمة: لا أبالي أن أحرمها أو أحرم ماء النهر. وقال مسروق: لا أبالي أن أحرمها أو أحرم قصعة ثريد. وقال حماد بن أبي سليمان. هو طلقة بائنة. وقال أبو حنيفة: (إن نوى الطلاق.. كان طلاقا، وإن نوى الظهار.. كان ظهارا، وإن نوى طلقة.. كانت طلقة بائنة، وإن نوى اثنتين.. لم تقع إلا واحدة، وإن نوى الثلاث.. وقع الثلاث، وإن لم ينو شيئا.. كان موليا؛ فإن فاء في المدة.. كفر، وإن لم يفئ حتى انقضت المدة.. بانت منه. وإن قال ذلك لأمته.. كان حالفا من إصابتها؛ فإن أصابها.. كفر، وإن لم يصبها.. فلا شيء عليه) . دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى منزل حفصة فلم يجدها، وكانت عند أبيها، فاستدعى جاريته مارية القبطية، فأتت حفصة، فقالت: يا رسول الله! في بيتي، وفي يومي، وعلى فراشي؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أرضيك، وأسر إليك سرا فاكتميه، هي علي حرام» . فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] [التحريم: 1] ، فقال: لم تحرم، ولم يقل: لم تحلف، ولم تطلق، ولم تظاهر، ولم تولي. وإذا ثبت هذا في الأمة: قسنا الزوجة؛ لأنها في معناها في تحليل البضع وتحريمه. وروي عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم على نفسه جاريته مارية، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] [التحريم: 1] ،

فرع: قوله أنت كالميتة والدم طلاق أم ظهار

فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل من حرم على نفسه ما كان حلالا له أن يعتق رقبة، أو يطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم» . وهذا يجمع الأمة والزوجة. فإذا قلنا: إن لفظة الحرام صريح في إيجاب الكفارة.. فوجهه: حديث ابن عباس، ولأن كل كفارة وجبت بالكناية مع النية.. وجب أن يكون لوجوب تلك الكفارة صريح، كالظهار. وبيان هذا: أنه إذا قال لامرأته: أنت علي حرام ونوى به الظهار.. وجبت عليه كفارة الظهار، وكان كناية عن الظهار، ثم كان للظهار صريح وهو قوله: أنت علي كظهر أمي. كذلك كفارة التحريم لما وجبت بالكناية مع النية، وهو قوله: أنت علي كالميتة والدم ونوى به تحريم عينها.. وجب أن يكون لهذه الكفارة صريح، وهو قوله: أنت علي حرام. وإذا قلنا: إن التحريم كناية لا يجب به شيء من غير نية.. فوجهه: أن كل ما كان كناية في جنس.. لم يكن صريحا في ذلك الجنس، كقوله: أنت خلية. [فرع: قوله أنت كالميتة والدم طلاق أم ظهار] فرع: [قوله: أنت كالميتة والدم] : إذا قال لامرأته: أنت علي كالميتة والدم، فإن نوى به الطلاق.. كان طلاقا، وإن نوى به الظهار.. كان ظهارا؛ لأنه يصلح لهما. وإن لم ينو شيئا.. لم يكن عليه شيء؛ لأنها كناية تعرت عن النية، فلم تعمل في التحريم. وإن قال: نويت بها: أنت علي حرام، فإن قلنا: إن قوله: (أنت علي حرام) صريح في إيجاب الكفارة.. وجبت عليه الكفارة؛ لأن الصريح له كناية. وإن قلنا: إن التحريم كناية في إيجاب الكفارة.. لم تجب عليه هاهنا كفارة؛ لأن الكناية لا تكون لها كناية. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد. وذكر الشيخ أبو إسحاق والمحاملي: أنه إذا نوى بذلك تحريم عينها.. لزمته الكفارة.. وإنما يبنى على القولين إذا طلق ولم ينو شيئا.

فرع: قوله إصابتك علي حرام ونحوه

[فرع: قوله إصابتك علي حرام ونحوه] ] : قال الشافعي: (وإن نوى إصابة.. قلنا له: أصب وكفر) . وجملة ذلك: أنه إذا قال لامرأته: إصابتك علي حرام، أو فرجك علي حرام، أو قال: أنت علي حرام ثم قال: نويت به إصابتك.. فيجب عليه الكفارة؛ لأن موضع الإصابة هو الفرج، إلا أن ينوي به الطلاق أو الظهار، فيقع ما نواه. وقول الشافعي: (أصب وكفر) أراد: أن يبين أن له أن يطأها قبل أن يكفر، بخلاف المظاهر. وإن قال لها: أنت علي حرام، ثم قال: نويت إن أصبتها فهي علي حرام.. لم يقبل قوله في الحكم؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. [فرع: قوله كل ما أملك أو حلال الله علي حرام] ] : إذا قال الرجل: كل ما أملك علي حرام، فإن كان له مال، ولا زوجات له ولا إماء.. لم ينعقد بهذا اللفظ يمين، ولا يجب عليه شيء. وقال أبو حنيفة: (يكون معناه: والله لا انتفعت بمالي، فإن انتفع بماله.. حنث، ووجب عليه كفارة يمين) . دليلنا: أن التحريم ليس بيمين، فلم تجب به كفارة في الأموال، كغيره من الألفاظ. ويخالف الأبضاع؛ فإن للتحريم تأثيرا في الأبضاع بالرضاع، والظهار، والعتق، والطلاق، فأثر به التحريم وأما إذا كان له زوجات وإماء، فإن نوى طلاق النساء وعتق الإماء، أو الظهار في النساء والعتق في الإماء.. حمل على ما نواه. وإن نوى تحريم أعيانهن.. وجبت عليه الكفارة.

مسألة: كتابة طلاق زوجته

وإن أطلق، فإن قلنا: إنه صريح في إيجاب الكفارة.. وجبت عليه الكفارة. وإن قلنا: إنه كناية في إيجاب الكفارة.. لم تجب عليه الكفارة. إذا ثبت هذا: فإن كانت له زوجة واحدة، أو أمة واحدة ونوى تحريم عينها، وقلنا: إنه صريح في إيجاب الكفارة.. وجب عليه كفارة واحدة. وإن كان له زوجات وإماء، ونوى الظهار عن الزوجات.. فهل تجب عليه كفارة أو كفارات؟ فيه قولان، يأتي توجيههما في الظهار. وإن نوى تحريم أعيانهن.. فمن أصحابنا من قال: فيه قولان، كالظهار. ومنهم من قال: تجب عليه كفارة واحدة قولا واحدا؛ لأنه يجري مجرى اليمين، كما لو قال لأربع نسوة: والله لا أصبتكن، فأصابهن.. فإنه لا يجب عليه إلا كفارة واحدة. هذا نقل البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قال الرجل: حلال الله علي حرام.. فقد قال المتقدمون من أصحابنا: إن ذلك كناية. وقال المتأخرون منهم: إنه صريح؛ لأنه كثر استعمالهم لذلك. وكان القفال إذا استفتاه واحد عن هذا.. قال له: إن سمعت هذا من غيرك قاله لامرأته، ماذا كنت تفهم منه؟ فإن قال: فهمت منه الصريح.. قال: هو صريح لك. [مسألة: كتابة طلاق زوجته] ] : إذا كتب طلاق امرأته وتلفظ به.. وقع الطلاق؛ لأنه لو تلفظ به ولم يكتبه.. وقع الطلاق، فكذلك إذا كتبه ولفظ به. وإن كتب طلاقها ولم يتلفظ به ولا نواه.. لم يقع الطلاق. وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال أحمد: (يقع به الطلاق) . وحكاه أبو علي السنجي وجها لبعض أصحابنا، وليس بمشهور، ولأن الكتابة قد يقصد بها الحكاية، وقد يقصد بها تجويد الخط، فلم يقع به الطلاق من غير نية.

فرع: كتب امرأتي طالق ونواه أو علقه بوصوله إليها

وإن كتب طلاقها ونوى به الطلاق.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الطلاق) : (إنه يقع به الطلاق من غير نية) . وقال في (الرجعة) : (لا يكون بالوطء، كما لو لم يكن نكاح ولا طلاق إلا بكلام) . وقال أصحابنا البغداديون: هي على قولين. وقال بعض الخراسانيين: يقع به الطلاق قولا واحد، وما قال في (الرجعة) .. أراد به الرد على أبي حنيفة. فإذا قلنا: يقع به الطلاق - وبه قال أبو حنيفة وأحمد وهو الصحيح - فوجهه: أن الإنسان يعبر عما في نفسه بكتابته، كما يعبر عنه بلسانه، ولهذا قيل: القلم أحد اللسانين، وقد ثبت أنه لو عبر عن الطلاق باللسان.. لوقع، فكذلك إذا عبر بالكتابة. وإذا قلنا: لا يقع به الطلاق.. فوجهه: أنه فعل ممن يقدر على القول، فلم يقع به الطلاق، كالإشارة، وفيه احتراز من إشارة الأخرس. إذا ثبت هذا: فإن قلنا: لا يقع به الطلاق.. فلا تفريع عليه. وإن قلنا: يقع به الطلاق، فإن كانت غائبة عنه وكتب بطلاقها.. وقع، وإن كانت حاضرة معه.. فهل يقع طلاقها بكتابته؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقع؛ لأن الكتابة إنما جعلت كالعبارة في حق الغائب دون الحاضر، كالإشارة في حق الأخرس دون الناطق. والثاني: يقع؛ لأنه كناية في الطلاق، فصحت من الغائب والحاضر، كسائر الكنايات. [فرع: كتب امرأتي طالق ونواه أو علقه بوصوله إليها] ] : فإذا كتب: امرأتي طالق ونواه.. وقع عليها الطلاق، سواء وصلها أو لم يصلها؛ لأن الطلاق غير معلق به، ولكن حكم بوقوعه في الحال، والعدة تكون من وقت الكتبة له.

فرع: كتب أنت طالق ثم استمد وعلقه بوصوله إليها

وإن كتب: إذا أتاك كتابي هذا فأنت طالق، ونواه، فإن وصلها الكتاب سليما.. وقع عليها الطلاق؛ لوجود الصفة. وإن ضاع الكتاب ولم يصلها.. لم يقع الطلاق؛ لأن الصفة لم توجد. وإن وصلها الكتاب وقد تخرقت الحواشي.. وقع عليها الطلاق؛ لأن ما تخرق ليس بكتاب. وإن وصلها الكتاب وقد انمحى جميع الكتاب حتى صار القرطاس أبيض، أو انطمس حتى لا يفهم منه شيء.. لم يقع عليها الطلاق؛ لأن الكتاب هو المكتوب، وإن انمحى بعضه.. نظرت: فإن انمحى موضع الطلاق.. لم تطلق؛ لأن المقصود لم يأتها. وإن انمحى جميعه إلا موضع الطلاق.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق: يقع؛ لأن المقصود من الكتاب موضع الطلاق، وقد أتاها. ومنهم من قال: لا يقع؛ لأن قوله: كتابي هذا.. يقتضي جميعه، ولم يوجد ذلك. وإن قال: إذا أتاك طلاقي فأنت طالق، فأتاها الكتاب وقد انمحى جميعه إلا موضع الطلاق.. وقع عليها الطلاق لوجود الصفة. وإن قال: إذا أتاك كتابي هذا فأنت طالق، وكتب: إذا أتاك طلاقي فأنت طالق، وأتاها الكتاب.. وقع عليها طلقتان؛ لوجود الصفتين. [فرع: كتب أنت طالق ثم استمد وعلقه بوصوله إليها] ] : إذا كتب: أنت طالق، ثم استمد وكتب: أنت طالق، ثم استمد وكتب: إذا وصل إليك كتابي:

فرع: شهد على كتابة الطلاق أنه خطه

فإن استمد لحاجته إليه.. لم يقع الطلاق إلا بعد وصول الكتاب، كما لو قال: أنت طالق وسكت لانقطاع نفسه، ثم قال: إن دخلت الدار. وإن استمد لغير حاجة إليه.. وقع عليها الطلاق في الحال، كما لو قال: أنت طالق ثم سكت بغير حاجة، ثم قال: إن دخلت الدار. قال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قال: إذا قرأت كتابي فأنت طالق.. فلا تطلق ما لم تقرأه بنفسها إن كانت تحسن القراءة أو يقرأ عليها إن كانت أمية. وحكى الصيمري وجها آخر: إذا قرئ عليها.. لم تطلق؛ لأن حقيقة الوصف لم توجد. [فرع: شهد على كتابة الطلاق أنه خطه] ] : قال الشافعي: (وإن شهد عليه أنه خطه.. لم يلزمه حتى يقر به) . وهذا كما قال: إذا شهد رجلان على رجل: بأن هذا الكتاب خطه بطلاق امرأته.. فلا يجوز لهما أن يشهدا إلا إذا رأياه يكتبه ولم يغب الكتاب عن عينهما، فأما إذا رأياه يكتبه ثم غاب الكتاب عن أعينهما.. لم يجز لهما أن يشهدا أنه كتبه؛ لأن الخط قد يزور على الخط. فإذا ثبت أنه خطه بالشهادة أو بالإقرار.. لم يحكم عليه بالطلاق إلا إذا أقر أنه نوى الطلاق؛ لأن ذلك لا يعلم إلا من جهته، وهذا مراد الشافعي بقوله: (حتى يقر به) . [مسألة: إشارة الناطق إلى الطلاق] ] : وإن أشار الناطق إلى الطلاق ونواه.. لم يقع الطلاق به؛ لأن ذلك ليس بصريح ولا كناية، هذا هو المشهور. وقال أبو علي في " الإفصاح ": إذا قلنا: إن الكتابة كناية.. ففي الإشارة وجهان: أحدهما: أنه كناية؛ لأنه علم يعلم به المراد، فهو كالكتابة.

والثاني: أنه ليس بكناية؛ لأنه ليس من الأعلام الجارية فيما بينهم في فهم المراد، وإنما يستعمل خاصا، ولا حاجة به إلى الإشارة، بخلاف الكتابة. وإن أشار الأخرس إلى الطلاق، وكانت إشارته مفهومة.. حكم عليه بالطلاق؛ لأن إشارته كعبارة غيره. وإن كتب الأخرس بطلاق امرأته وأشار إلى أنه نواه، فإن قلنا: لا يقع الطلاق بالكتابة في الناطق.. لم يقع به من الأخرس. وإن قلنا: إن الطلاق يقع من الناطق بالكتابة.. وقع أيضا من الأخرس به. وبالله التوفيق.

باب عدد الطلاق والاستثناء فيه

[باب عدد الطلاق والاستثناء فيه] إذا قال لامرأته: أنت طالق أو طلقتك، فإن لم ينو عددا.. انصرف ذلك إلى طلقة. وإن نوى بذلك اثنتين أو ثلاثا.. وقع ما نواه، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (لا يقع بذلك إلا واحدة وإن نوى أكثر منها، إلا أن يقول: أنت طالق أو طلقي نفسك ثلاثا، فإنه إذا نوى بذلك ثلاثا.. وقعن) . دليلنا: أن كل لفظ لو اقترن به لفظ الثلاث.. وقعن به، فإذا اقترن به نية الثلاث.. وقعن به، كقوله: أنت الطلاق. وإن خاطبها بشيء من الكنايات ونوى به الطلاق، فإن لم ينو به العدد.. انصرف ذلك إلى طلقة رجعية. وإن نوى اثنتين أو ثلاثا.. انصرف ذلك إلى ما نواه، سواء في ذلك الكنايات الظاهرة أو الباطنة. وقال مالك: (الكنايات الظاهرة - وهي قوله: أنت خلية وبرية وبتة وبتلة وبائن وحرام وفارقتك وسرحتك - يقع بها الثلاث إذا خاطب بها مدخولا بها، سواء نوى بها الطلاق أو لم ينو. وإن خاطب بها غير مدخول بها، فإن لم ينو الطلاق.. وقع بها الثلاث، وإن نوى الطلاق.. وقع ما نواه. وأما الكنايات الباطنة - وهي قوله: اعتدي، واستبرئي رحمك، وتقنعي، واذهبي، وحبلك على غاربك، وما أشبهها - فإن لم ينو بها العدد.. كانت طلقة رجعية. وإن نوى بها أكثر.. وقع ما نواه) كقولنا. وقال أبو حنيفة: (الكنايات الظاهرة إذا نوى بها طلقة.. وقعت طلقة بائنة، وإن نوى بها طلقتين.. لم يقع إلا واحدة، وإن نوى بها الثلاث.. وقعت الثلاث. وأما الكنايات الباطنة: فلا يقع بها إلا طلقة واحدة رجعية وإن نوى أكثر منها) . دليلنا: ما روي: «أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته البتة، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما أردت بالبتة؟ "، قال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " والله ما أردت

مسألة: قوله للمدخول بها أنت طالق واحدة بائنا

به إلا واحدة؟ " فقال ركانة: والله ما أردت بها إلا واحدة، فردها عليه» . فدل على: أنه لو أراد به ما زاد على واحدة.. لوقع، وعلى أنه لو وقع به الثلاث.. لما سأله عنه، ولما استحلفه، ولا ردها عليه. ودليلنا على أن ما دون الثلاث يقع رجعيا: أنه طلاق صادف مدخولا بها من غير عوض ولا استيفاء عدد، فكان رجعيا، كقوله: أنت طالق. وإن قال لها: أنت طالق واحدة، وأنت واحدة، ونوى طلقتين أو ثلاثا.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يقع عليها ما نواه؛ لأنه يحتمل: أنت طالق واحدة مع واحدة أو مع اثنتين. والثاني: لا يقع عليها إلا واحدة؛ لأنه صريح فيه، فلو أوقعنا ما زاد عليها.. لكان إيقاع طلاق بالنية من غير لفظ. والثالث - وهو اختيار القفال -: إن نوى ما زاد على واحدة عند قوله: (أنت) .. وقع ما نواه، وإن نوى ذلك بمجموع الكلام.. لم يقع إلا واحدة. [مسألة: قوله للمدخول بها أنت طالق واحدة بائنا] ] : قال الشافعي: (إذا قال للمدخول بها: أنت طالق واحدة بائنا.. وقعت عليه طلقة رجعية) . قال الصيمري: وهكذا إذا قال: أنت طالق واحدة لا رجعة لي بها.. كان له الرجعة؛ لأن الواحدة لا تبين بها المدخول بها، وله الرجعة بها، فلا يسقط ذلك بشرط. [فرع: قوله أنت طالق طلاقا أو الطلاق] ] : وإن قال لامرأته: أنت طالق طلاقا، أو أنت طالق الطلاق.. فإنه لا يقع عليها إلا طلقة؛ لأن المصدر لا يزيد به الكلام، وإنما يدخل للتأكيد، كقوله: ضربت زيدا ضربا، إلا أن ينوي به ما زاد على واحدة فيقع ما نواه، كما لو لم يأت بالمصدر.

فرع: طلق واحدة فماتت فأتبعها بقوله ثلاثا

[فرع: طلق واحدة فماتت فأتبعها بقوله ثلاثا] ] : وإن قال لامرأته: أنت طالق فماتت، ثم قال: ثلاثا، متصلا بقوله.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الطبري في " العدة ": أحدها - وهو قول ابن سريج -: أنه يقع عليها الثلاث؛ لأنه قصده بقوله: أنت طالق. والثاني: لا يقع عليها إلا واحدة؛ لأن الثلاث لا تعلم إلا بقوله، ولم يقل ذلك إلا بعد موتها، والميتة لا يلحقها الطلاق. الثالث: أنه لا يقع عليها شيء؛ لأن الجملة كلها إنما تقع بجميع اللفظ ولا يتقدم وقوع واحدة على الاثنتين، ألا ترى أنه لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق ثلاثا.. لوقع الثلاث؟! فلو وقع باللفظ أولا واحدة.. لبانت بها، ولم يقع ما بعدها، ولم يتم الكلام إلا وهي ميتة، والميتة لا يلحقها الطلاق. وقال الطبري: والصحيح: أنه لا يقع إلا واحدة، كما لو قال: أنت طالق وجن، ثم قال: ثلاثا. [فرع: خير زوجته بعدد من الطلاق] ] : إذا قال لزوجته: اختاري، فقالت: اخترت نفسي، فإن نويا عددا من الطلاق واتفقا في عدد ما نوياه.. وقع ما نوياه. وإن اختلفا، فنوى أحدهما أكثر مما نوى الآخر.. وقع العدد الأقل، ويقع رجعيا. وقال أبو حنيفة: (لا يفتقر إلى نية الزوجة، فإن نوى الزوج واحدة.. وقعت بائنة، وإن نوى ما زاد عليها.. لم تقع إلا واحدة بائنة) . وقال مالك: (إذا نوى الطلاق.. وقع الثلاث إن كانت مدخولا بها، وإن لم تكن مدخولا بها.. قبل منها أنها أرادت واحدة أو اثنتين) . وروي: أن مروان بن الحكم أجلس زيد بن ثابت ليسأله، وأجلس كاتبا يكتب ما قال، فكان فيما سأله: إذا خير الرجل زوجته؟ فقال زيد: إن اختارت نفسها..

فرع: قوله يا مائة طالق أو أنت طالق كمائة

فهي ثلاث، وإن اختارت زوجها.. فهي واحدة رجعية. دليلنا: أنه لم يقترن به لفظ الثلاث ولا نيتها، فلم يقع به الثلاث، ولا يقع بقطع الرجعية، كقوله: أنت طالق. وإن كرر الزوج لفظ الاختيار ثلاثا ونوى به واحدة.. كانت واحدة. وقال أبو حنيفة: (إذا قبلت.. وقع الثلاث) . دليلنا: أنه يحتمل أنه يريد به التأكيد، فإذا قيد فيه.. قبل منه، كقوله: أنت طالق الطلاق. وإن قال لها: اختاري من الثلاث طلقات ما شئت.. فليس لها أن تختار الثلاث، ولها أن تختار ما دونها. وبه قال أبو حنيفة وأحمد. وقال أبو يوسف ومحمد: لها أن تختار الثلاث. دليلنا: أن (من) للتبعيض، وقد جعل إليها بعض الثلاث، فلا يكون لها إيقاع الثلاث. [فرع: قوله يا مائة طالق أو أنت طالق كمائة] ] : إذا قال لها: يا مائة طالق، أو أنت مائة طالق.. وقع عليها ثلاث طلقات. وإن قال لها: أنت طالق كمائة، أو قال: أنت طالق كألف.. قال ابن الصباغ: وقع عليها الثلاث. وبه قال محمد بن الحسن وأحمد. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (إن لم يكن له نية.. لم يقع عليها إلا واحدة) . دليلنا: أنه تشبه بالعدد خاصة، فوقع العدد، كقوله: أنت طالق كعدد مائة أو ألف. [مسألة: الطلاق والإشارة بالأصابع] ] : وإن قال لامرأته: أنت، وأشار بثلاث أصابع ونوى الطلاق.. لم يقع الطلاق؛ لأن قوله: (أنتِ) ليس بإيقاع. وإن قال لها: أنت طالق هكذا، وأشار بإصبع.. وقعت عليها طلقة، وإن أشار

مسألة: الطلاق بصيغة الحساب

بإصبعين.. وقع عليها طلقتان، وإن أشار بثلاثة أصابع.. وقع عليها ثلاث طلقات؛ لأنه شبه الطلاق بأصابعه، وهي عدد. وإن قال: أردت بعدد الأصبعين المقبوضين.. فقد ذكر الشيخ أبو إسحاق والمحاملي وابن الصباغ: أنه يقبل في الحكم؛ لأنه يحتمل الإشارة بهما. وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أنه لا يقبل قوله في الحكم؛ لأن الظاهر خلاف ما يدعيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى. وإن قال: أنت طالق، وأشار بأصابعه، ولم يقل هكذا، ثم قال: أردت واحدة، أو لم أرد بعدد الأصابع.. قبل منه في الحكم؛ لأنه قد يشير بالأصابع ولا يريد العدد. [مسألة: الطلاق بصيغة الحساب] ] : إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة في اثنتين، فإن كان غير عالم بالحساب.. قلنا له: ما أردت بهذا؟ فإن قال: أردت واحدة مقرونة مع اثنتين.. وقع عليها الثلاث؛ لأنه قد يعبر عن (مع) بـ: (في) ، قال الله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] [الفجر: 29] أي: مع عبادي. وإن قال: لم أنو شيئا.. وقع عليها طلقة بقوله: أنت طالق واحدة، ولا يلزمه حكم الحساب؛ لأنه لا يعرفه ولا نواه، فهو كما لو تكلم العجمي بقوله: أنت طالق، وهو لا يعرف معناه. وإن قال: نويت موجبه في الحساب.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو بكر الصيرفي: تلزمه طلقتان؛ لأن هذا موجبه عندهم. و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يلزمه إلا طلقة؛ لأنه لا يعرف معناه فلا يلزمه موجبه، كما لو تكلم العجمي بكلمة الكفر بالعربية وهو لا يعرف معناها، ونوى موجبها في لسان العرب.

فرع: الطلاق بصيغة الإضراب أو بقوله: من واحدة إلى ثلاث

وأما إذا كان ممن يعرف الحساب، فإن نوى واحدة مقرونة مع اثنتين.. وقع عليها الثلاث. وإن نوى موجبها في الحساب.. لزمه طلقتان؛ لأن هذا موجبه في الحساب. وإن لم ينو شيئا.. فالمنصوص: (أنه لا يلزمه إلا طلقة) ؛ لأنه غير متعارف عند الناس. وقال أبو إسحاق: يلزمه طلقتان؛ لأنه يعرف الحساب ويعلم أن هذا موجبه، فيلزمه وإن لم ينوه. وقال أبو حنيفة: (لا يلزمه إلا طلقة، سواء نوى موجبه في الحساب أو لم ينو) . دليلنا: أن هذا موضوع في الحساب لاثنين، فإذا نواه وهو ممن يعرفه.. لزمه، كما لو قال: أنت طالق اثنتين. وإن قال: أنت طالق اثنتين في اثنتين، وليس هو من أهل الحساب، فإن نوى اثنتين مع اثنتين.. لزمه ثلاث. وإن لم ينو ذلك ولا غيره.. لزمه اثنتان. وإن نوى موجبه عند أهل الحساب.. لزمه على قول الصيرفي ثلاث، وعلى قول سائر أصحابنا: يلزمه طلقتان. وإن كان من أهل الحساب وأراد موجبه في الحساب، أو نوى مع اثنتين.. لزمه ثلاث. وإن لم ينو شيئا.. فعلى المنصوص: (لا يلزمه إلا طلقتان) ، وعلى قول أبي إسحاق: يلزمه ثلاث، وعلى قول أبي حنيفة: يلزمه طلقتان بكل حال، وقد مضى دليل ذلك. [فرع: الطلاق بصيغة الإضراب أو بقوله: من واحدة إلى ثلاث] ] : إذا قال: أنت طالق طلقة، بل طلقتين.. ففيه وجهان: أحدهما: تقع عليها طلقتان، كما إذا قال له: علي درهم، بل درهمان. والثاني: يلزمه الثلاث؛ لأن الطلاق إيقاع، فحملت كل لفظة على إيقاع، والإقرار والإيقاع إخبار، فجاز أن يدخل الدرهم في الخبر مرتين. وإن قال لامرأته: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث.. ففيه ثلاثة أوجه:

مسألة: طلق ثلاثا غير المدخول بها

أحدها: تقع واحدة بقوله: أنت طالق، وقوله: (من واحدة إلى ثلاث) لا تدخل واحدة منهن، كما لو قال: له من هذا الحائط إلى هذا الحائط.. لم يدخل الحائطان في الإقرار. والثاني: تقع عليها طلقتان؛ لأن الأولى والثانية أوقعهما، والثالثة حد يجوز أن يدخل ويجوز أن لا يدخل، فلم يدخل بالشك. والثالث: تقع عليها ثلاث؛ لأنه وجد في اللفظ الثلاث، فلم يجز إلغاؤها. [مسألة: طلق ثلاثا غير المدخول بها] ] : إذا قال للتي لم يدخل بها: أنت طالق ثلاثا.. وقع عليها الثلاث. وبه قال جميع الفقهاء، إلا رواية عن عطاء؛ فإنه قال: تقع عليها طلقة. دليلنا: أن قوله: (أنت طالق) : اسم لجنس من الفعل يصلح للواحدة ولما زاد عليها، وقوله: (ثلاثا) مفسر له، فكان وقوع الثلاث عليها دفعة واحدة. وإن قال لها: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، أو قال: أنت طالق وطالق وطالق، ولم ينو بالأولى الثلاث.. وقع عليها بقوله الأول - أنت طالق - طلقة، وبانت بها، ولا يلحقها ما بعدها، وبه قال الثوري وأبو حنيفة. وقال مالك، والليث بن سعد، والأوزاعي: (تقع الثلاث) . وقال أبو علي بن أبي هريرة: للشافعي في القديم ما يدل على ذلك. فجعلها على قولين. وقال أبو علي الطبري: فيها وجهان: أحدهما: تقع عليها الثلاث؛ لأنه ربط الكلام بعضه ببعض، فحل محل الكلمة الواحدة. والثاني: أنه تقع عليها طلقة واحدة تبين بها، ولا يقع ما بعدها؛ لأنه قد فرق، فوقع بالأولى طلقة وبانت بها، ولم يقع ما بعدها.

مسألة: تكرار أنت طالق للمدخول بها أو غاير بينها بحروف العطف

وقال أكثر أصحابنا: هي على قول واحد، ولا يقع عليها إلا طلقة واحدة، وما ذكره في القديم.. فإنما حكى مذهب مالك. ووجهه: ما روي عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت: أنهم قالوا: (تقع عليها طلقة واحدة، ولا يقع ما بعدها) . ولا مخالف لهم. [مسألة: تكرار أنت طالق للمدخول بها أو غاير بينها بحروف العطف] أو بألفاظ الطلاق] : إذا قال للمدخول بها: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، فإن نوى بالأولى الثلاث.. لم يسأل عما بعدها. وإن لم ينو الثلاث.. وقع عليها بها طلقة، وسئل عن الكلمتين بعدها، فإن قال: أردت بهما تأكيد الأولى.. قبل منه، ولم يلزمه إلا طلقة؛ لأن التأكيد يقع بالتكرار. وإن قال: أردت بهما الاستئناف.. لزمه ثلاث طلقات. وإن قال: أردت بالثانية الاستئناف وبالثالثة تأكيد الثانية.. لزمه طلقتان. وإن قال: أردت بالثانية الاستئناف وبالثالثة تأكيد الأولى.. ففيه وجهان: أحدهما: يقبل، كما لو قال: أردت بهما تأكيد الأولى. والثاني: لا يقبل منه؛ لأنه قد تخلل بين الأولى والثالثة الثانية. وإن قال: لم أنو شيئا.. ففيه قولان: [أحدهما] : قال في " الإملاء ": (لا يلزمه إلا طلقة) ؛ لأنه لما لم يدخل (واو) العطف.. كان الظاهر أنه أراد التأكيد، كما لو قال: له علي درهم درهم درهم.. فلا يلزمه إلا درهم، ولأنه يحتمل: أنه أراد التأكيد أو الاستئناف، فلا يلزمه الطلاق بالشك. و [الثاني] : قال في " الأم ": (يلزمه ثلاث طلقات) وهو الأصح؛ لأن الثاني والثالث كالأول في الصيغة، فكان مثله في الإيقاع.

فرع: قوله أنت طالق وطالق لا بل طالق أو يا مطلقة أو البتة

وإن قال: أنت طالق، ثم سكت طويلا وقال: أنت طالق، ثم قال: أردت بالثاني تأكيد الأول.. لم يقبل؛ لأن الظاهر أنه أراد الإيقاع. وإن قال: أنت طالق وطالق وطالق، ولم ينو بالأولى ما زاد على واحدة.. وقع بالأولى طلقة وبالثانية طلقة؛ لأن الثاني عطف لا يحتمل التأكيد، ورجع في الثالثة إليه، فإن قال: أردت به تأكيد الثانية.. قبل منه. وإن قال: أردت به الاستئناف.. لزمه ثلاث طلقات. وإن قال: أردت به تأكيد الأولى.. لم يقبل منه وجها واحدا، كما لا يقبل إذا قال: أردت بالثانية تأكيد الأولى، وإن قال: لم أنو شيئا.. ففيه قولان، كالأولى، والصحيح: أنه يقع بها طلقة ثالثة. وهكذا: الحكم فيه إذا قال: أنت طالق ثم طالق ثم طالق، أو قال: أنت طالق فطالق فطالق، أو: طالق بل طالق بل طالق. وإن قال: أنت طالق وطالق ثم طالق، أو طالق فطالق بل طالق.. لزمه بكل لفظة طلقة. فإن قال: أردت التأكيد.. لم يقبل منه في الحكم؛ لأن المغايرة بينهما بحروف العطف تقتضي الاستئناف، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى. وإن قال: أنت مطلقة، أنت مفارقة، أنت مسرحة.. ففيه وجهان: أحدهما: حكمه حكم ما لو قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق؛ لأنه لم يأت بحروف عطف، والفراق والسراح كالطلاق. والثاني: حكمه حكم ما لو قال: أنت طالق وطالق ثم طالق؛ لأن الحكم إذا تغير بمغايرة حروف العطف.. فلأن يتغير بمغايرة اللفظ أولى. [فرع: قوله أنت طالق وطالق لا بل طالق أو يا مطلقة أو البتة] فرع: [قوله أنت طالق وطالق لا بل طالق أو أنت طالق يا مطلقة أو البتة] : قال في " الإملاء ": (إذا قال لامرأته: أنت طالق وطالق لا بل طالق، ثم قال: شككت في الثانية فقلت: لا بل طالق استدراكا لإيقاعها.. قبل منه) ؛ لأن (بل) للاستدراك، فاحتمل ما قاله. وإن قال: أنت طالق يا مطلقة.. وقع بالأولى طلقة إن لم ينو بها ما زاد عليها،

مسألة: الطلاق لا يتبعض وماذا لو تنصف

وسئل عن قوله: (يا مطلقة) ، فإن قال: أردت به الإيقاع.. لزمه ما نواه. وإن قال: أردت به يا مطلقة بالأولى.. قبل منه في الحكم. وإن قال: أنت طالق البتة، ولم ينو ما زاد على واحدة.. وقع عليها طلقة بقوله: أنت طالق، وسئل عن (البتة) ، فإن قال: أردت به إيقاع طلاق آخر.. لزمه. وإن قال: لم أرد به شيئا.. قبل منه في الحكم؛ لحديث ركانة بن عبد يزيد. [مسألة: الطلاق لا يتبعض وماذا لو تنصف] ؟] : إذا قال لامرأته: أنت طالق بعض طلقة.. وقعت عليها طلقة. وبه قال جميع الفقهاء، إلا داود؛ فإنه قال: (لا يقع عليها شيء) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230] [البقرة: 230] ، ولم يفرق: بين أن يطلقها طلقة، أو بعض طلقة. ولأن التحليل والتحريم إذا اجتمعا.. غلب التحريم، كما لو تزوج نصف امرأة أو أعتق نصف أمته. ولأنه لو طلق بعض امرأته.. لكان كما لو طلق جميعها، كذلك إذا طلق بعض طلقة.. كان كما لو طلقها طلقة. وإن قال: أنت طالق نصفي طلقة.. وقعت عليها طلقة؛ لأن نصفي الطلقة طلقة. وإن قال: ثلاثة أنصاف طلقة.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يقع عليها إلا طلقة؛ لأنه لم يوقع عليها إلا طلقة، وإنما وصفها بأن لها ثلاثة أنصاف وليس لها إلا نصفان. والثاني: يقع عليها طلقتان؛ لأن ثلاثة أنصاف طلقة طلقة ونصف، فيسري النصف. فعلى قوله الأول: يتعلق الحكم بقوله: (طلقة) ، ويلغى قوله: (ثلاثة أنصاف طلقة) . وعلى قوله الثاني: يلغى قوله: (طلقة) ، ويتعلق الحكم بقوله: (ثلاثة أنصاف طلقة) . قال صاحب " الفروع ": ويحتمل وقوع الثلاث؛ ووجهه: أنه إذا ألغي قوله:

فرع: قسم الطلقة إلى نصف وثلث وسدس أو قال أنت نصف طلقة

(طلقة) ، وتعلق الحكم بثلاثة أنصاف.. سرى كل نصف، فوقع عليها ثلاث. وإن قال: أنت طالق نصفي طلقتين.. وقع عليها طلقتان؛ لأن نصفي طلقتين طلقتان. وإن قال: ثلاثة أنصاف طلقتين.. فعلى وجهين: أحدهما: يقع عليها طلقتان. والثاني: يقع عليها ثلاث طلقات. وإن قال: أنت طالق نصف طلقتين.. ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه طلقة؛ لأنها نصف طلقتين. والثاني: يلزمه طلقتان؛ لأنه يلزمه نصف من كل طلقة، ثم يكمل النصفان. [فرع: قسم الطلقة إلى نصف وثلث وسدس أو قال أنت نصف طلقة] ] : وإن قال: أنت طالق نصف طلقة ثلث طلقة سدس طلقة.. لم يقع عليها إلا طلقة؛ لأن هذا أجزاء الطلقة. وإن قال: أنت طالق نصف طلقة، وثلث طلقة، وسدس طلقة.. طلقت ثلاثا؛ لأنه عطف جزءا من طلقة على جزء من طلقة، فظاهره يقتضي طلقات متغايرة. قال ابن الصباغ: وإن قال: أنت طالق نصف وثلث وسدس طلقة.. طلقت طلقة؛ لأن هذه أجزاء طلقة. وإن قال: أنت طالق نصفا، وثلثا، وسدسا.. طلقت طلقة، ويرجع إليه في النصف والثلث والسدس، فإن نوى نصفا من طلقة، وثلثا من طلقة، وسدسا من طلقة.. وقع عليها الثلاث، وإن لم ينو شيئا.. فلا شيء عليه. وإن قال: أنت نصف طلقة.. ففيه وجهان - كما لو قال: أنت الطلاق -: أحدهما: أنه صريح، فيقع عليها طلقة. والثاني: أنه كناية، فلا يقع عليها شيء إلا بالنية.

مسألة: أوقع طلقة أو أكثر أو أجزاءها بين أربع نسوة

[مسألة: أوقع طلقة أو أكثر أو أجزاءها بين أربع نسوة] ] : وإن قال لأربع نسوة له: أوقعت بينكن طلقة.. طلقت كل واحدة منهن طلقة؛ لأنه يخص كل واحدة ربع طلقة وتكمل. وإن قال لهن: أوقعت بينكن طلقتين.. وقع على كل واحدة طلقة؛ لأن ما يخص كل واحدة لا يزيد على طلقة، إلا أن يقول: أردت أن أقسم كل طلقة منهما عليهن.. فيقع على كل واحدة طلقتان. وإن قال: أوقعت بينكن ثلاث طلقات أو أربع طلقات.. وقع على كل واحدة طلقة، إلا أن يريد قسمة كل طلقة منهن.. فيقع على كل واحدة ثلاث، هذا هو المشهور. وقال في " الفروع ": ويحتمل أن يقع على كل واحدة ثلاث؛ لأن بعض كل طلقة يكمل في حق كل واحدة منهن. وإن قال: أوقعت بينكن خمس طلقات، ولم يرد قسمة كل واحدة منهن.. وقع على كل واحدة طلقتان؛ لأنه يخص كل واحدة طلقة وربع، فيكمل الربع. وكذلك: إذا قال: أوقعت بينكن ستا أو سبعا أو ثمانيا. فإن قال: أوقعت بينكن تسع طلقات.. طلقت كل واحدة منهن ثلاثا؛ لأنه يخص كل واحدة طلقتان وربع، ويكمل الربع. وإن قال: أوقعت بينكن نصف طلقة، وثلث طلقة، وسدس طلقة.. وقع على كل واحدة ثلاث طلقات؛ لأنه لما عطف.. قسم كل جزء بينهن وكمل. [مسألة: قوله طالق ملء الدنيا أو طلقها باستعمال صيغة أفعل] مسألة: [قوله طالق ملء الدنيا أو غيرها أو طلقها باستعمال صيغة أفعل التفضيل] : وإن قال لامرأته: أنت طالق ملء الدنيا، أو ملء مكة، أو ملء المدينة.. وقعت عليها طلقة؛ لأن الطلاق حكم، والأحكام لا تشغل الأمكنة، فعلم: أنه أراد ملء الدنيا أو ملء مكة ذكرا أو انتشارا، وتكون رجعية.

مسألة: قوله للمدخول بها طالق طلقة معها طلقة أو قبلها أو بعدها

وقال أبو حنيفة: (تقع بائنة) .. دليلنا: أنه طلاق صادف مدخولا بها من غير عوض ولا استيفاء عدد، فكان رجعيا، كقوله: أنت طالق. وإن قال: أنت طالق أشد الطلاق، أو أغلظه، أو أطوله، أو أعرضه، أو أقصره.. وقعت عليها طلقة؛ لأن قوله يحتمل أشد وأغلظ؛ لأنه يهواها أو تهواه، ولا يتصف الطلاق بطول ولا عرض، فكان كما لو لم يصفه بذلك، وتقع رجعية. وقال أبو حنيفة: (تقع بائنة، إلا في قوله: أقصر الطلاق) . دليلنا: ما ذكرناه في ملء مكة. وإن قال: أنت طالق كل الطلاق، أو أكثر الطلاق - بالثاء المعجمة بثلاث نقط - وقعت عليها ثلاث طلقات؛ لأن ذلك كل الطلاق وأكثره. وإن قال: أنت طالق أكمل الطلاق، أو أتم الطلاق، أو أكبر الطلاق - بالباء المعجمة بواحدة - وقعت عليها طلقة سنية؛ لأن أكمل الطلاق وأتمه طلاق السنة. قال في " الفروع ": ويحتمل أن يقع عليها ثلاث طلقات في قوله: أكمل الطلاق وأتمه؛ لأنه هو الأكمل والأتم، والمشهور هو الأول، وتكون رجعية. وقال أبو حنيفة: (تقع في قوله: أكبر الطلاق.. واحدة بائنة) . دليلنا عليه: ما ذكرناه في قوله: ملء مكة. [مسألة: قوله للمدخول بها طالق طلقة معها طلقة أو قبلها أو بعدها] وإن قال للمدخول بها: أنت طالق طلقة معها طلقة.. وقع عليها طلقتان في الحال. وإن قال لها: أنت طالق طلقة بعد طلقة، أو طلقة قبل طلقة.. وقع عليها طلقتان، إحداهما بعد الأخرى.

وإن قال: أنت طالق طلقة بعدها طلقة.. وقع عليها طلقتان؛ لأن الجميع يصادف الزوجية. وإن قال: أردت بقولي: (بعدها طلقة) : أوقعها فيما بعد.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يريد تأخير طلاق واقع في الظاهر. ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لاحتمال ما يدعيه. وإن قال: أنت طالق طلقة قبلها طلقة.. قال الشافعي: (وقع عليها طلقتان) . واختلف أصحابنا في كيفية وقوعهما: فحكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والمحاملي: أن أبا إسحاق المروزي قال: يقع عليها طلقتان، إحداهما بقوله: أنت طالق، والأخرى قبلها بالمباشرة؛ لأن الإنسان يملك أن يعلق بالصفة طلاقا فيقع قبل الصفة، كقوله: أنت طالق قبل موتي بشهر، ثم يموت بعد شهر. وحكى الشيخ أو حامد في " التعليق ": أنَّ أبا إسحاق قال: يقع عليها طلقة بالمباشرة بقوله: أنت طالق، وطلقة بالإخبار: أنه طلقها قبلها طلقة. وقال أبو علي بن أبي هريرة: يقع عليها طلقتان معا؛ لأنه لا يتقدم الوقوع على الإيقاع. هكذا حكى الشيخ أبو إسحاق عنه. وسائر أصحابنا حكوا عنه أنه قال: يقع عليها طلقة بقوله: أنت طالق، وطلقة بعدها بقوله: قبلها طلقة. فعلى ما حكاه الشيخ أبو حامد عن أبي إسحاق: يحكم عليه بوقوع الطلقة التي باشرها ظاهرا وباطنا. وأما الطلقة التي أخبر أنه أوقعها قبلها.. فإنما يحكم بوقوعها في الظاهر دون الباطن إن لم يكن صادقا في إقراره.

فرع: قوله أنت طالق قبل أن تخلقي

وعلى ما حكاه الشيخ أبو إسحاق عنه: يحكم عليه بوقوع الطلقتين ظاهرا وباطنا. وإن قال: أردت بقولي: (قبلها طلقة) في نكاح كنت نكحتها قبل هذا النكاح وطلقتها فيه، فإن كان لما قاله أصل.. قبل منه. وإن لم يكن له أصل.. لم يقبل منه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى. وإن قال: أنت طالق طلقة قبلها طلقة وبعدها طلقة.. وقع عليها ثلاث طلقات، وفي كيفية وقوعها ما مضى. وإن قال: أنت طالق طلقة قبلها وبعدها طلقة.. وقع عليها ثلاث طلقات؛ لأن كل واحد من النصفين يسري. وحكى المحاملي: أن من أصحابنا من قال: لا يقع عليها إلا طلقتان، وليس بشيء. [فرع: قوله أنت طالق قبل أن تخلقي] ] : قال الصيمري: إذا قال لامرأته: أنت طالق قبل أن تخلقي.. فلا طلاق؛ إذ لم يكن له إرادة. [مسألة: طلق غير المدخول بها مرة بعد أخرى وغير ذلك] ] : وإن قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة بعدها طلقة.. وقعت الأولى وبانت بها، ولم تقع الثانية. وإن قال: أنت طالق طلقة قبلها طلقة.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: لا يقع عليها الطلاق؛ لأن وقوع طلقة عليها يوجب وقوع طلقة قبلها، ووقوع ما قبلها يمنع وقوعها، وما أدى ثبوته إلى سقوطه.. سقط. والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه يقع عليها طلقة ليس قبلها شيء؛ لأن وقوع ما قبلها يوجب إسقاطها، ووقوعها يوجب إسقاط ما قبلها، فوجب إثباتها وإسقاط ما قبلها.

مسألة: الاستثناء والاستفهام في الطلاق ورفع جميع ما أوقعه أو بعضه

ويشبه أن يكون الأول إنما هو على ما حكاه في " المهذب " عن أبي إسحاق في المدخول بها. فأما على ما حكاه في " التعليق " عنه: أنه إخبار.. فإنه يقع عليها الطلقة التي أخبر بوقوعها أولا لا غير. وإن قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة معها طلقة.. ففيه وجهان: أحدهما: يقع عليها طلقة لا غير؛ لأنه أفردها فبانت بها، ولم يقع ما بعدها، كما لو قال: طلقة بعدها طلقة. والثاني: يقع عليها طلقتان؛ لأنهما يجتمعان في الوقوع. وإن قال لها: أنت طالق طلقتين ونصفا.. وقع عليها طلقتان لا غير؛ لأنه جمع بينهما فوقعتا وبانت بهما، فلم يقع ما بعدها. [مسألة: الاستثناء والاستفهام في الطلاق ورفع جميع ما أوقعه أو بعضه] ] : وإن قال لامرأته: أنت طالق طلقة لا تقع عليك.. وقع عليها طلقة؛ لأنه رفع لجميع ما أوقعه، وذلك لا يصح. وإن قال لها: أنت طالق طلقتين لا تقع عليك إحداهما.. وقعت عليها واحدة؛ لأن ذلك استثناء. وإن قال لها: أنت طالق طلقة لا تقع.. قال أبو العباس: وقعت عليها طلقة؛ لأن ذلك رفع لها، فلم ترتفع. فإن قال لها: أنت طالق طلقتين إلا طلقة.. فعلى قياس الأولى: لا يقع عليها إلا طلقة. وإن قال لها: أنت طالق، أو لا؟ لم يقع عليها طلاق؛ لأن ذلك استفهام لا طلاق. وإن قال لها: أنت طالق واحدة، أو لا شيء.. قال ابن الصباغ: فالذي يقتضيه قياس قوله: أن لا يقع شيء، وبذلك قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، وأحمد. وقال محمد: تقع واحدة. والأول أصح؛ لأن الواحدة صفة للفظ الموقعة، فما اتصل بها.. يرجع إليها، فصار كقوله: أنت طالق أو لا شيء.

مسألة: أنواع الاستثناء في الطلاق وبعض صوره

[مسألة: أنواع الاستثناء في الطلاق وبعض صوره] ] : قال الشافعي: (ولو قال: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين.. فهي واحدة) . وجملة ذلك: أن الاستثناء جائز في الجملة؛ لأن القرآن ورد به، قال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] [العنكبوت: 14] . والاستثناء ضد المستثنى منه، فإن استثنى من إثبات.. كان المستثنى نفيا، وإن استثنى من نفي.. كان المستثنى إثباتا، وسواء استثنى أقل العدد أو أكثره.. فإنه يصح. وقال بعض أهل اللغة: لا يصح استثناء أكثر العدد. وبه قال أحمد. دليلنا: قَوْله تَعَالَى حاكيا عن إبليس: {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] [الحجر: 39 - 40] ، ثم قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] [الحجر: 42] ، فاستثنى العباد من الغاوين، واستثنى الغاوين من العباد، وأيهما كان أكثر.. فقد استثنى من الآخر.

ولا يصح أن يستثنى جميع العدد؛ لأنه غير مستعمل في الشرع ولا في اللغة. إذا ثبت هذا، فقال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين.. طلقت واحدة؛ لأنه أثبت ثلاثا ثم نفى منها اثنتين، فبقي واحدة. وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة.. طلقت اثنتين. وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا.. طلقت ثلاثا؛ لأن الاستثناء رفع جميع المستثنى منه، فسقط. وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة وواحدة.. طلقت واحدة. وكذلك إذا قال: ثلاثا إلا واحدة وإلا واحدة؛ لأن واو العطف تجعل العطف والمعطوف عليه سواء، فكأنه قال: ثلاثا إلا اثنتين. وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين وواحدة، أو أنت طالق ثلاثا إلا واحدة وواحدة وواحدة.. ففيه وجهان: أحدهما: تقع عليها الثلاث، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه استثنى ثلاثا من ثلاث.

والثاني: يقع عليها واحدة، وبه قال أبو يوسف ومحمد؛ لأنه لو لم يعطف بالواحدة.. لصح، فكان العطف بها هو الباطل، فسقط. وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا نصف طلقة.. طلقت ثلاثا. ومن أصحابنا من قال: يقع عليها طلقتان؛ لئلا يؤدي إلى إبطال استثناء صحيح، وليس بشيء؛ لأنا لا نبطل الاستثناء، وإنما بقي طلقتان ونصف، فسرى النصف. وإن قال لها: أنت طالق طلقتين، ونصفا إلا واحدة.. وقع عليها ثلاث طلقات، واختلف أصحابنا في علته: فقال ابن الحداد: لأن النصف يسري فتصير واحدة، واستثناء واحدة من واحدة لا يصح. وقال القاضي أبو الطيب: لأنه استثناء واحدة من نصف؛ لأن الاعتبار بالمنطوق به في العدد، لا بما صح في الشرع. وإن قال: أنت طالق طلقة وطلقة إلا طلقة.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق. أحدهما: تطلق طلقة؛ لأن الواو في الاسمين المنفردين كالتثنية، فصار كما لو قال: أنت طالق طلقتين إلا طلقة. والثاني - وهو المنصوص -: (أنها تطلق طلقتين؛ لأن الاستثناء يرجع إلى ما يليه، وهو طلقة، واستثناء طلقة من طلقة لا يصح) . قال الشيخ أبو حامد: وإن قال: أنت طالق ثم طالق بل طالق إلا طلقة، أو أنت طالق فطالق ثم طالق إلا طلقة، أو أنت طالق وطالق وطالق إلا طلقة.. وقع عليها في هذه المسائل ثلاث طلقات؛ لأنه إذا غاير بين الألفاظ.. وقع بكل لفظة طلقة، واستثناء طلقة من طلقة لا يصح. وإن قال: أنت طالق خمسا إلا ثلاثا.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وأبي علي الطبري -: أنه يقع عليها

مسألة: صحة الاستثناء من الاستثناء

ثلاث؛ لأن الاستثناء يرجع إلى ما يملك من الطلقات، والذي يملك هو الثلاث، فلم يقع من الخمس إلا ثلاث، واستثناء ثلاث من ثلاث لا يصح. والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا -: أنه يقع عليها طلقتان؛ لأن الاستثناء يرجع إلى العدد المنطوق به، ويكون بالمستثنى منه مع الاستثناء عبارة عما بقي، فإذا استثنى ثلاثا من خمس.. بقي طلقتان. وقد نص الشافعي في " البويطي " على أنه: (إذا قال: أنت طالق ستا إلا أربعا.. وقع عليها طلقتان) . وهذا يرد قول أبوي علي. وإن قال لها: أنت طالق خمسا إلا اثنتين.. وقع عليها طلقة على قول أبوي علي، وعلى قول سائر أصحابنا: يقع عليها ثلاث طلقات. وإن قال: أنت إلا واحدة طالق ثلاثا.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال بعض أصحابنا.. يقع عليها الثلاث؛ لأن الاستثناء جعل لاستدراك ما تقدم، فلا يتقدم على المستثنى منه. و [الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق: يقع عليها طلقتان؛ لأن الاستثناء يجوز أن يتقدم على المستثنى منه. قال الشاعر: وما لي إلا آل أحمد شيعة ... وما لي إلا مذهب الحق مذهب [مسألة: صحة الاستثناء من الاستثناء] ويصح الاستثناء من الاستثناء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58] {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 60] [الحجر: 58 - 60] . فإذا قال: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة.. طلقت طلقتين؛ لأنه أثبت ثلاثا

فرع: طلق ثلاثا إلا أن يشاء أبوها واحدة

ثم نفى منها اثنتين فبقيت واحدة مثبتة، ثم أثبت من الطلقتين اللتين نفى واحدة، فصار مثبتا لاثنتين، فوقعتا. وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا اثنتين.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يقع عليها ثلاث طلقات؛ لأن الاستثناء الأول باطل فسقط، والثاني عائد إليه وتابع له، فسقطا. والثاني: يقع عليها طلقة؛ لأن الاستثناء الأول باطل فسقط، ونفى الثاني فكان عائدا إلى الإثبات، فكأنه قال: ثلاثا إلا طلقتين. والثالث: يقع عليها طلقتان؛ لأن استثناء الثلاث من الثلاث لا يصح إذا اقتصر عليه. فأما إذا تعقبه استثناء آخر.. بني عليه، فكأنه أثبت ثلاثا ونفى ثلاثا، ثم أثبت اثنتين فوقعتا. [فرع: طلق ثلاثا إلا أن يشاء أبوها واحدة] ] : إذا قال لها: أنت طالق ثلاث إلا أن يشاء أبوك واحدة، فقال أبوها: شئت واحدة.. لم يقع عليها طلاق؛ لأنه أوقع الطلاق بشرط أن يشاء أبوها واحدة، فإذا شاء أبوها واحدة، لم يوجد الشرط.. فلم يقع الطلاق، كما لو قال: أنت طالق إلا أن تدخلي الدار، أو إن لم تدخلي الدار، فدخلت الدار.. فإنها لا تطلق. ولا أعلم نصا في اعتبار وقت المشيئة، والذي يقتضي القياس: أن المشيئة تعتبر أن تكون عقيب إيقاع الزوج، كما لو علق إيقاع الطلاق على مشيئة الأب. [مسألة: علق الطلاق أو غيره بمشيئة الله] إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، أو قال لعبده: أنت حر إن شاء الله، أو علي لله كذا وكذا أو والله لا فعلت كذا أو علي لفلان كذا إن شاء الله.. لم يلزمه شيء من ذلك. وبه قال طاوس والحكم وأبو حنيفة وأصحابه.

وقال مالك والليث: (يدخل الاستثناء في الأيمان دون الطلاق والعتق والنذر والإقرار) . وقال الأوزاعي وابن أبي ليلى: (يدخل الاستثناء في اليمين والطلاق دون غيره) . وقال أحمد: (يدخل الاستثناء في الطلاق دون العتق) . دليلنا: ما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين، ثم قال على إثرها: إن شاء الله.. لم يحنث» . ولم يفرق بين أن يحلف بالله أو بالطلاق. ولأنه علق الطلاق بمشيئة من له مشيئة، فلم يقع قبل العلم بمشيئته، كما لو علق بمشيئة زيد. إذا ثبت هذا: فقال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، أو إذا شاء الله، أو متى شاء الله، أو بمشيئة الله.. لم يقع الطلاق؛ لأنه علق وقوع الطلاق بمشيئة الله، ومشيئة الله بذلك لا تعلم. فإن قال: أنت طالق إن لم يشأ الله، أو ما لم يشأ الله.. لم يقع الطلاق؛ لأنا لا نعلم أنه لم يشأ، كما لا نعلم أنه شاء.

فرع: قوله إن شاء الله أنت طالق أو أنت طالق ما شاء الله

وحكى صاحب " الفروع " وجها آخر: أنه يقع عليها الطلاق؛ لأنه قد أثبت عليها الطلاق، وإنما علق رفعه بمشيئة الله، ونحن لا نعلمها. والمشهور هو الأول. وإن قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يقع عليها الطلاق؛ لأنه علق الطلاق بمشيئة الله، فلم يقع، كما لو قال: إن شاء الله. والثاني - وهو المذهب -: أنه يقع الطلاق؛ لأنه أوقع الطلاق، وإنما علق رفعه بمشيئة الله، ومشيئة الله لا تعلم، فثبت الإيقاع وبطل الرفع. وإن قال: أنت طالق إذ شاء، أو أن شاء الله - بفتح الهمزة - طلقت؛ لأنه جعل مشيئة الله علة لوقوع الطلاق، ولم يعلقه بمشيئة الله. [فرع: قوله إن شاء الله أنت طالق أو أنت طالق ما شاء الله] قال ابن الصباغ: إذا قال: إن شاء الله فأنت طالق، أو إن شاء الله أنت طالق.. لم يقع الطلاق؛ لأن الشرط يجوز أن يقدم على المشروط. وإن قال: أنت طالق ما شاء الله.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال الطبري في " العدة ": لا يقع عليها الطلاق. وقال ابن الصباغ: تقع عليها واحدة؛ لأنا لا نعلم مشيئته لأكثر من ذلك. [فرع: لا يصح الاستثناء إذا كان منفصلا أو لم يقصد إليه] ولا يصح الاستثناء إلا إذا كان متصلا بالكلام؛ لأن هذا هو العرف في الاستثناء، فإذا انفصل لضيق نفس.. كان كالمتصل؛ لأنه انفصال لعذر.

فرع: قوله أنت طالق يا عاهرة إن دخلت الدار

ولا يصح إلا إن قصد إليه. ومتى تعتبر النية؟ فيه وجهان: أحدهما: تعتبر من ابتداء الكلام إلى آخره؛ لأن الطلاق يقع بجميع اللفظ. والثاني: إذا نوى قبل الفراغ من الكلام.. صح؛ لأن النية قد وجدت منه قبل الاستثناء متصلة به. فإذا قال لامرأته: يا طالق، أنت طالق ثلاثا إن شاء الله.. لزمه طلقة بقوله: يا طالق، والاستثناء يرجع إلى قوله: أنت طالق ثلاثا. وإن قال لها: أنت طالق يا طالق إن شاء الله.. فيقع بقوله: (يا طالق) طلقة ولا يرجع إليه الاستثناء، وإنما يرجع إلى الأول. وقال محمد بن الحسن: يرجع الاستثناء في هذه إلى الكل، ووافقنا في الأولى. دليلنا: أن قوله: (يا طالق) اسم، والاستثناء لا يعود إلى الأسماء، وإنما يعود إلى ما يوقع من الطلاق. [فرع: قوله أنت طالق يا عاهرة إن دخلت الدار] ونحوه وماذا لو كان عنده زوجتان؟] : وإن قال لامرأته: أنت طالق يا زانية إن دخلت الدار.. فالصفة تعود إلى الطلاق دون القذف. وهكذا: إذا قال لامرأته: أنت طالق يا زانية إن شاء الله.. فإن الاستثناء يرجع إلى الطلاق دون القذف. وقال محمد بن الحسن: يقع الطلاق فيها منجزا، وترجع الصفة والاستثناء إلى القذف فيهما. دلينا: أن قوله: (يا زانية) اسم، فلا ترجع إليه الصفة والاستثناء، وإنما يرجعان إلى الإيقاع، كما لو قال لها: يا زانية أنت طالق إن دخلت الدار، أو يا زانية أنت طالق إن شاء الله.. فإن الصفة والاستثناء يرجعان إلى الطلاق في هاتين. وقد وافقنا على ذلك، فكذلك في الأوليين.

مسألة: طلبت زوجة الطلاق فطلق الكل

وإن كان له زوجتان - حفصة وعمرة - فقال: حفصة طالق وعمرة طالق إن شاء الله.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: يرجع الاستثناء إلى ما يليه، وهو طلاق عمرة؛ لأنهما جملتان. و [الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق: يرجع الاستثناء إليهما؛ لأن المجموع بالواو كالجملة الواحدة. [مسألة: طلبت زوجة الطلاق فطلق الكل] إذا كان له زوجات، فقالت له واحدة منهن: طلقني، فقال: كل امرأة لي طالق، فإن لم يعزل السائلة بنيته.. طلق جميع نسائه. وقال مالك: (تطلق جميع نسائه إلا السائلة) . دليلنا: أن هذا اللفظ يعم نساءه فطلقن، كما لو قال ابتداء: كل امرأة لي طالق. وإن عزل بقلبه التي سألته أو غيرها.. فهل يقبل؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال أبو حفص بن الوكيل: يقبل قوله في الظاهر والباطن، ولا تطلق التي استثناها بقلبه؛ لأن الشافعي قال: (إلا أن يكون عزلها بقلبه) . ولأن قوله: (كل امرأة لي) يحتمل الخصوص والعموم، فإذا أراد به الخصوص.. قبل. وقال أكثر أصحابنا: لا يقبل في الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، وهو المذهب؛ لأن قوله: (نسائي) يعم جميع نسائه، وما ادعاه مخالف للظاهر، فلم يقبل في الحكم، كما لو قال: أنت طالق، ثم قال: أردت طلاقا من وثاق. [مسألة: طلق بلسانه واستثنى بقلبه] فيلزمه الطلاق] : قال الشافعي: (ولو طلق بلسانه واستثنى بقلبه لزمه الطلاق] : وجملة ذلك: أنه إذا قال لامرأته: أنت طالق، ونوى بقلبه: إن شاء الله.. لم يقبل في الحكم، ولا فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن اللفظ أقوى من النية، فلا يجوز

فرع: طلق زوجتيه ثم استثنى واحدة

إسقاطه بها، كما لا يجوز نسخ الكتاب والسنة بالقياس. وإن قال لها: أنت طالق ثلاثا، ونوى بقلبه إلا واحدة.. فلا يقبل في الحكم؛ لأنه نص على الثلاث، فلا يسقط بعضهن بالنية، كما لو نوى: إن شاء الله. وهل يدين فيما بينه وبين الله تعالى؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو علي الطبري: يدين، كما لو قال: نسائي طوالق، واستثنى بالنية بعضهن. والثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه لا يدين؛ لأن الثلاث لا يعبر به عما دونه من العدد؛ لأنه اسم لثلاثة آحاد، فلا يجوز إسقاط بعض ذلك بالنية، بخلاف النساء؛ فإنه اسم عام، وقد يعبر به عن الخصوص. وهكذا: إن قال لأربع نسوة له: أربعكن طوالق، واستثنى بالنية بعضهن.. لم يقبل في الحكم، وهل يدين فيما بينه وبين الله تعالى؟ على الوجهين. [فرع: طلق زوجتيه ثم استثنى واحدة] ] : قال الصيمري: إذا قال لامرأتيه: أنتما طالقتان إلا أنت يا زينب.. طلقتا، ولا يعمل الاستثناء شيئا، كما لا يحسن أن يقول: جاءني زيد وعمرو إلا عمرا. ولو قال: أربع زوجات لي طوالق إلا واحدة أو إلا عمرة.. جاز. وبالله التوفيق.

باب الطلاق البدعي والسني والتعليق بالصفة والشرط

[باب الطلاق البدعي والسني والتعليق بالصفة والشرط] إذا علق طلاق امرأته بشرط غير مستحيل.. لم يقع الطلاق قبل وجود الشرط، سواء كان الشرط يوجد لا محالة، كقوله: إذا طلعت الشمس فأنت طالق، أو كان الشرط قد يوجد وقد لا يوجد، كقوله: إذا قدم زيد فأنت طالق. هذا مذهبنا، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وإسحاق. وقال الزهري وابن المسيب والحسن البصري ومالك: (إذا علق الطلاق بشرط يوجد لا محالة، كمجيء الليل والنهار وطلوع الشمس والقمر وما أشبهها.. وقع عليها الطلاق في الحال قبل وجود الشرط) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون عند شروطهم» . ولأنه علق الطلاق على شرط غير مستحيل، فلم يقع الطلاق قبل وجود الشرط، كما لو علقه على قدوم زيد. وقولنا: (على شرط غير مستحيل) احتراز مما إذا علقه على صعود السماء، وشرب جميع ماء البحر. وإن علق طلاقها على شرط، ثم قال قبل وجود الشرط: عجلت ما كنت علقت على الشرط.. لم تطلق في الحال؛ لأنه تعلق بالشرط، فلا يتعجل بلفظ التعجيل، كالدين المؤجل. وإن قال: أنت طالق، ثم قال: أردت إذا دخلت الدار.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.

مسألة: الطلاق نوعان من حيث السنة والبدعة

وإن قال: أنت طالق إن دخلت الدار، ثم قال: أردت به الطلاق في الحال، وإنما سبق لساني إلى الشرط.. قبل قوله؛ لأنه في ذلك تغليظا عليه. [مسألة: الطلاق نوعان من حيث السنة والبدعة] النساء على ضربين: ضرب: لا سنة في طلاقهن ولا بدعة، وهن أربع: التي لم يدخل بها، والصغيرة، والآيسة من الحيض، والتي استبان حملها. وضرب: في طلاقهن سنة وبدعة، وهي: المدخول بها إذا كانت من ذوات الأقراء. إذا ثبت هذا: فقال لمن لا سنة في طلاقها ولا بدعة: أنت طالق للسنة أو للبدعة.. طلقت في الحال؛ لأنه علق الطلاق بصفة لا تتصف بها المرأة، فألغيت الصفة، وصار كما لو قال: أنت طالق. وإن قال: أنت طالق للسنة وللبدعة.. طلقت في الحال؛ لأنه وصفها بصفتين متضادتين فألغيتا، وتجرد الطلاق. وإن قال: أنت طالق لا للسنة ولا للبدعة.. طلقت في الحال؛ لوجود الصفة. وإن قال للصغيرة المدخول بها، أو للحامل: أنت طالق للسنة أو للبدعة، ثم قال: أردت به إذا صارت من أهل سنة الطلاق وبدعته.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يريد تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه، فلم يقبل، كما لو قال: أنت طالق، ثم قال: أردت إذا دخلت الدار، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، فيقال له: أمسك امرأتك فيما بينك وبين الله تعالى إلى أن تحيض الصغيرة وتلد الحامل إن علقه على البدعة، وإلى أن تطهر إن علقه على السنة. ولا يجيء هذا في الآيسة، وهل يجيء هذا في التي لم يدخل بها؟ اختلف الشيخان فيهما:

فرع: علق طلاق من لا سنة ولا بدعة في طلاقها وقيده

فذكر الشيخ أبو حامد: أنه لا يجيء فيها هذا. وذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه يجيء فيها هذا. [فرع: علق طلاق من لا سنة ولا بدعة في طلاقها وقيده] فرع: [علق طلاق من لا سنة ولا بدعة في طلاقها للسنة أو للبدعة وقيده] : وإن قال لمن لا سنة في طلاقها ولا بدعة: أنت طالق للسنة إن كنت في هذا الحال ممن يقع عليها طلاق السنة، أو أنت طالق للبدعة إن كنت الآن ممن يقع عليها طلاق البدعة.. قال الشافعي في " الأم ": (وقع عليها الطلاق في الحال) . وحكى ابن الصباغ: أن القاضي أبا الطيب قال: فيه نظر. وأن الشيخ أبا حامد قال: لا يقع الطلاق؛ لأن الشرط لم يوجد، كقوله: إن كنت علوية فأنت طالق، وليست بعلوية. ويخالف الصفة؛ لأنها تلغى إذا لم تتصف بها. قال ابن الصباغ: ولما قال الشافعي - عندي - وجه آخر وهو: أن قوله: (أنت طالق للسنة إن كان يقع عليك طلاق السنة) يقتضي: طلاقا مضافا إلى السنة، وهو يقع عليها. وقوله: (وصفها بصفة محال) يريد: إذا قال: أنت طالق للسنة.. فإنه تلغو الصفة. [مسألة: كانت من جماعة سنة الطلاق وبدعته فقال لها أنت طالق] للسنة] : وإن كان له امرأة من أهل سنة الطلاق وبدعته، فقال لها: أنت طالق للسنة، فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه.. طلقت؛ لوجود الصفة. وإن كانت في طهر جامعها فيه، أو في حيض.. لم تطلق؛ لعدم الصفة، فإذا طهرت من الحيض.. طلقت بأول جزء من الطهر. وقال أبو حنيفة: (إن طهرت لأكثر الحيض.. طلقت بأول جزء من الطهر، وإن طهرت لدون أكثر الحيض.. لم تطلق حتى تغتسل) .

فرع: الزواج من زانية حامل ووطؤها ثم طلاقها

دليلنا: أن كل طهر لو صادف غسلا وقع فيه الطلاق.. وجب أن يقع فيه الطلاق وإن لم يصادف الغسل، كما لو طهرت لأكثر الحيض. فإن جامعها في آخر الحيض وانقطع الدم في حال الجماع.. لم يقع عليها طلاق؛ لأنه طهر صادفه الجماع. وإن وطئها في أثناء الحيض وطهرت بعده.. فإن القفال قال: لا تطلق بالطهر إذا علقه بالسنة؛ لاحتمال أن تكون قد علقت منه، ووجود بقية الحيض لا يدل على براءة رحمها، كما لا يكون بعض الحيض استبراء في الأمة. وإن قال لها: أنت طالق للبدعة، فإن كانت حائضا، أو في طهر جامعها فيه.. وقع عليها الطلاق؛ لوجود الصفة. وهكذا: إذا كانت في طهر لم يجامعها فيه، ولكنها استدخلت ماء الزوج.. وقع عليها الطلاق؛ لاحتمال أن تكون علقت منه. وإن وطئها في الدبر أو فيما دون الفرج، ولم يتحقق وصول الماء إلى رحمها.. فليس بطلاق بدعة وإن كانت العدة واجبة عليها؛ لأن العدة تجب: مرة لبراءة الرحم، ومرة للتعبد. وإن كانت في طهر لم يجامعها فيه.. لم يقع عليها الطلاق، فإذا طعنت في الحيض، أو غيب الحشفة في الفرج بعد ذلك.. وقع عليها الطلاق؛ لوجود الصفة. [فرع: الزواج من زانية حامل ووطؤها ثم طلاقها] إذا تزوج رجل امرأة حاملا من الزنا.. فهل يجوز له وطؤها قبل وضعها؟ فيه وجهان، المشهور: أنه يجوز. إذا ثبت هذا، ودخل بها، ثم قال لها: أنت طالق للسنة.. لم تطلق حتى تلد وتطهر من النفاس؛ لأن هذا الحمل لا حكم له، فكان وجوده كعدمه.

فرع: طلق من لها سنة وبدعة وشرط وجود صفة حال العقد

[فرع: طلق من لها سنة وبدعة وشرط وجود صفة حال العقد] قال في " الأم ": (إذا قال لمن لها سنة وبدعة في الطلاق: أنت طالق للسنة إن كنت الآن ممن يقع عليها طلاق السنة. فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه.. وقع عليها الطلاق؛ لوجود الصفة. وإن كانت في طهر جامعها فيه أو حائضا.. لم يقع عليها الطلاق؛ لعدم الصفة، فإن طعنت بعد ذلك في الطهر.. لم يقع عليها الطلاق؛ لأنه شرط أن تكون حال عقد الطلاق ممن يقع عليها طلاق السنة، ولم توجد الصفة. وإن قال لها: أنت طالق للبدعة إن كنت الآن ممن يقع عليها طلاق البدعة، فإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه.. وقع عليها الطلاق؛ لوجود الصفة. وإن كانت في طهر لم يجامعها فيه.. لم يقع عليها الطلاق، فإن جامعها أو حاضت.. لم يقع عليها الطلاق؛ لأنه شرط أن تكون حال عقد الطلاق من أهل البدعة، ولم يوجد الشرط. وإن كانت في طهر لم يجامعها فيه، فقال: أنت طالق للبدعة.. فقد قلنا: لا يقع عليها الطلاق في الحال. وإن قال: أنا أردت طلاق السنة، وإنما سبق لساني إلى البدعة.. وقع عليها الطلاق؛ لأن فيه تغليظا عليه) . [فرع: طلقها ثلاثا وقيدها بالسنة] وإن قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا للسنة وكانت في طهر لم يجامعها فيه.. وقع عليها الثلاث؛ لأن السنة والبدعة للوقت - عندنا - دون العدد.

فرع: طلقها للسنة وللبدعة لعدة صور وهي ممن لها تلك الصفة

فإن قال: أردت السنة على مذهب مالك وأبي حنيفة: أنه يقع في كل قرء طلقة.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يريد تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه؛ بدليل: أنه لو صرح به في الطلاق.. حمل عليه، فيقع عليها في الحال طلقة. فإن لم يراجعها، فإنها إذا حاضت ثم طهرت.. طلقت أخرى، ثم إذا حاضت وطهرت.. طلقت الثالثة وبانت. وإن راجعها بعد الأولى ووطئها، فإنها إذا حاضت ثم طهرت.. طلقت الثانية بأول الطهر. فإذا راجعها ثانيا وطئها، ثم حاضت وطهرت.. طلقت الثالثة وبانت، واستأنفت العدة. وإن راجعها ولم يطأها حتى حاضت ثم طهرت.. طلقت الثانية بأول الطهر الثاني. فإن راجعها ثانيا ولم يطأها حتى حاضت وطهرت.. وقعت الثالثة وبانت، وهل تبني على عدتها أو تستأنف؟ على قولين يأتي ذكرهما. قال الشافعي: (ويسعه أن يطأها، وعليها الهرب وله الطلب؛ لأنه يعتقدها زوجته، وهي تعتقد أنها غير زوجته) . [فرع: طلقها للسنة وللبدعة لعدة صور وهي ممن لها تلك الصفة] وإن قال لمن لها سنة وبدعة في الطلاق: أنت طالق للسنة، وأنت طالق للبدعة.. وقع عليها في الحال طلقة؛ لأنها بإحدى الحالتين، فإذا صارت في الحالة الثانية.. وقع عليها الثانية. وإن قال لها: أنت طالق للسنة والبدعة.. وقع عليها في الحال طلقة؛ لأنه لا يمكن إيقاع طلقة على هاتين الصفتين فسقطتا، وبقي الطلاق فوقع.

وإن قال لها: أنت طالق طلقتين: طلقة للسنة وطلقة للبدعة.. وقع عليها في الحال طلقة، وفي الحالة الثانية طلقة أخرى. وإن قال لها: أنت طالق طلقتين للسنة والبدعة.. ففيه وجهان: أحدهما: يقع عليها في الحال طلقتان؛ لأن الظاهر عود الصفتين إلى كل واحدة من الطلقتين، وإيقاع كل واحدة من الطلقتين على الصفتين لا يمكن فسقطت الصفتان، وبقيت الطلقتان فوقعتا. والثاني: يقع عليها في الحال طلقة، فإذا صارت في الحالة الثانية.. وقعت عليها الثانية؛ لأن الظاهر من القسمة: أنها تعود إلى الأعداد دون الأبعاض. وإن قال: أنت طالق ثلاثا للسنة، وثلاثا للبدعة.. وقع عليها في الحال ثلاث؛ لأنها في إحدى الحالتين، وبانت بها. وإن قال لها: أنت طالق ثلاثا: بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة، وأطلق ذلك ولم يقيده بلفظ ولا نية.. وقع عليها في الحال طلقتان، وإذا صارت إلى الحالة الأخرى.. وقع عليها الطلقة الثالثة. وقال المزني: يقع عليها في الحال طلقة، وفي الحال الثانية طلقتان؛ لأن البعض يقع على الأقل والأكثر، فأوقعنا الواحدة؛ لأنها يقين، وما زاد مشكوك فيه. والمذهب الأول؛ لأنه أضاف الثلاث إلى الحالتين وسوى بينهما في الإضافة، والظاهر: أنه أراد التسوية بينهما في الثلاث، كما لو قال: بعض هذه الدار لزيد، وبعضها لعمرو.. فإنها تكون بينهما نصفين، وإذا كان كذلك.. كان للحالة الأولى طلقة ونصف، فسرى هذا النصف، فوقع طلقتان. فإن قيل: هلا قلتم: يقع في الحال ثلاث طلقات؛ لأنه يقتضي أن يكون بعض كل طلقة من الثلاث للسنة وبعضها للبدعة، فيخص كل حال ثلاثة أبعاض من الثلاث طلقات، فتكمل الأبعاض؟ فالجواب: أنا لا نقول هذا؛ لأن كل عدد أمكن قسمته قسمة صحيحة من غير

مسألة: علق طلاقها على مجيء زيد أو على رأس الشهر

كسر.. لم يجز قسمته على الكسر، وفي مسألتنا يمكن قسمة طلقتين من الثلاث جبرا على الحالتين، فلم تتبعضا. وإن قيد ذلك باللفظ، بأن قال: أنت طالق ثلاثا، نصفها للسنة ونصفها للبدعة.. وقع في الحال طلقتان، وفي الحال الثانية طلقة؛ لما ذكرناه. وإن قال: واحدة للسنة واثنتين للبدعة، أو قال: اثنتين للسنة وواحدة للبدعة.. حمل على ما قيده بقوله. فإن لم يقيده باللفظ، بل قال: أنت طالق ثلاثا، بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة، ثم قال: أنا أردت نصفهن للسنة ونصفهن للبدعة، أو أردت في الحالة الأولى طلقتين وفي الثانية طلقة.. حمل على ذلك؛ لأنه لو لم ينو ذلك.. لحمل إطلاقه عليه، فكذلك إذا نواه. وإن قال: أردت في الحالة الأولى طلقة وفي الحالة الثانية طلقتين.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يقبل في الحكم، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن الظاهر أنه أراد التسوية، فلا يقبل قوله فيما يخالف الظاهر. ومنهم من قال: يقبل في الحكم، وهو الصحيح؛ لأن البعض يقع على الأقل والأكثر، فإذا أخبر: أنه نوى ذلك.. قبل منه، كما لو قيده باللفظ. [مسألة: علق طلاقها على مجيء زيد أو على رأس الشهر] مسألة: [علق طلاقها على مجيء زيد وأطلقه أو على رأس الشهر وقيده بالسنة] : إذا قال: إذا قدم فلان فأنت طالق، فقدم فلان وهي في حال السنة.. طلقت طلاق السنة. وإن قدم وهي في حال البدعة. وقع عليها طلاق البدعة، إلا أنه لا يأثم؛ لأنه لم يقصد إليه. وإن قال: أنت طالق إذا قدم فلان للسنة، فإن قدم وهي في حال السنة.. طلقت

فرع: علق طلاقها قبل الدخول بقدوم فلان للسنة

لوجود الصفة. وإن كانت في حال البدعة.. لم تطلق؛ لعدم الصفة، فإذا صارت بعد ذلك إلى حال السنة.. وقع عليها الطلاق؛ لأن الشرطين قد وجدا. قال صاحب " الفروع ": ويحتمل أن لا يقع الطلاق حينئذ أيضا؛ لأن ظاهر الشرطين أن يكونا معتبرين حالة القدوم، والمنصوص هو الأول. وإن قال: أنت طالق رأس الشهر للسنة.. قال في " الأم ": (فإن كانت رأس الشهر في طهر لم يجامعها فيه.. طلقت. وإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه رأس الشهر.. لم تطلق، فإذا طهرت بعد ذلك من غير جماع.. وقع عليها الطلاق) . وعلى الوجه الذي خرجه صاحب " الفروع " في التي قبلها: يحتمل أن لا يقع عليها الطلاق هاهنا بالطهر بعد رأس الشهر، إلا أن: المنصوص هو الأول. [فرع: علق طلاقها قبل الدخول بقدوم فلان للسنة] قال في " الأم ": (إذا قال لامرأته - وهي ممن تحيض - قبل الدخول: أنت طالق إذا قدم فلان للسنة، فدخل بها قبل أن يقدم فلان، ثم قدم وهي طاهر غير مجامعة.. وقع عليها الطلاق) . وإن قدم وهي حائض أو في طهر جامعها فيه.. قال أصحابنا: فالذي يجيء على قول الشافعي: أنها لا تطلق حتى تصير إلى زمان السنة؛ لأنه يعتبر صفتها حين قدومه لا حين عقد الصفة، فلو لم يدخل بها وقدم فلان.. طلقت؛ لأنه ليس في طلاقها سنة ولا بدعة. فإن دخل بها الزوج وقال: ما أردت بقولي: (طلاق السنة) سنة الزمان، وإنما أردت سنة طلاقها قبل الدخول.. وقع عليها الطلاق بقدوم فلان، سواء كانت في زمان السنة أو في زمان البدعة. [مسألة: طلقها أحسن الطلاق أو أقبحه أو جمع بينهما] وإن قال: أنت طالق أعدل الطلاق، أو أحسنه، أو أكمله، أو أفضله، أو أتمه، ولم يكن له نية.. طلقت للسنة؛ لأنه أعدل الطلاق وأحسنه، فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه.. وقع عليها الطلاق. وإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه.. لم يقع

الطلاق، فإذا صارت إلى طهر لم يجامعها فيه.. وقع عليها الطلاق. وإن كانت له نية، فإن كانت نيته موافقة لظاهر قوله.. كانت تأكيدا. وإن خالفت ظاهر قوله، بأن قال: أردت به طلاق البدعة، واعتقدت أنه الأعدل والأحسن في طلاقها لسوء عشرتها، فإن كانت حال عقد الطلاق في حال البدعة.. وقع عليها الطلاق؛ لأن في ذلك تغليظا عليه، فقبل. وإن كانت في حال عقد الطلاق في حال السنة.. لم يقبل قوله في الحكم؛ لأنه يريد تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه فلم يقبل، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه، ولهذا: لو صرح به حال عقد الطلاق.. قبل منه. وإن قال: أنت طالق أكمل الطلاق اجتنابا.. قال الصيرفي: طلقت ثلاثا؛ لأنه أكمل الطلاق اجتنابا. وإن قال: أنت طالق أقبح الطلاق، أو أسمجه، أو أفحشه وما أشبه ذلك من صفات الذم، فإن لم يكن له نية.. طلقت للبدعة، فإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه.. طلقت؛ لأن ذلك أقبح الطلاق وأفحشه. وإن كانت في طهر لم يجامعها فيه.. لم تطلق، فإذا طعنت في الحيض أو جامعها.. طلقت. وإن كانت له نية، فإن وافقت نيته ظاهر قوله وهو: أن ينوي طلاق البدعة.. قبل منه وكانت نيته تأكيدا. وإن خالف ظاهر قوله، بأن قال: نويت طلاق السنة واعتقدت أن الأقبح في حقها طلاق السنة لحسن عشرتها، فإن كانت حال عقد الطلاق في طهر لم يجامعها فيه.. وقع عليها الطلاق؛ لأن فيه تغليظا عليه. وإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لاحتمال ما يدعيه.

فرع: طلاق الحرج بدعي

وإن قال لها: أنت طالق طلقة حسنة قبيحة.. وقع عليها في الحال طلقة. واختلف أصحابنا في علته: فمنهم من قال: لأنه وصفها وصفين لا يمكن وجودهما معا، وقد وجدت إحداهما، فوقع بها الطلاق. ومنهم من قال: لأنه وصفها بصفتين متضادتين فسقطتا، وبقي مجرد الطلاق فوقع. قال ابن الصباغ: وهذا أقيس؛ لأن وقوع الطلاق بإحدى الصفتين ليس بأولى من الأخرى. [فرع: طلاق الحرج بدعي] وإن قال لامرأته: أنت طالق طلاق الحرج.. وقع عليها طلقة بدعية. وقال علي بن أبي طالب: (يقع عليها الطلاق الثلاث في الحال) . دليلنا: أن (الحرج) : الضيق والإثم، ولا يأثم إلا بطلاق البدعة. وإن قال: أنت طالق طلاق الحرج والسنة.. وقع عليها في الحال طلقة؛ لأنه وصفها بصفتين متضادتين فسقطتا، وبقي الطلاق مجردا فوقع. [مسألة: علق الطلاق على مجرد الحيض] إذا قال لامرأته وهي طاهر: إن حضت فأنت طالق، فرأت الدم في زمان إمكانه.. وقع الطلاق عليها، ويكون بدعيا. فإن استمر بها الدم يوما وليلة.. استقر الطلاق، وإن انقطع لدون اليوم والليلة واتصل بعده طهر صحيح.. حكمنا بأن الطلاق لم يقع.

فرع: تعليق الطلاق على حيضها حيضة

وإن قال لها وهي حائض: إذا حضت فأنت طالق.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو إسحاق، والقاضي أبو القاسم الصيمري: لا يقع الطلاق حتى تطهر من هذا الحيض، ثم تطعن في الحيضة الثانية. وبه قال أبو يوسف؛ لأن قوله: إذا حضت، أو إن حضت يقتضي الاستقبال. وقال ابن الصباغ: يقع عليها الطلاق بما يتجدد من حيضها؛ لأنه قد وجد منها الحيض، فوقع الطلاق لوجود صفته، كما لو قال للصحيحة: إذا صححت فأنت طالق.. فإنه يقع عليها الطلاق في الحال. وإن قال لامرأته: كلما حضت فأنت طالق، فإذا رأت الدم.. طلقت برؤيته، فإذا انقطع الدم وطهرت طهرا كاملا ثم رأت الدم.. طلقت طلقة ثانية، فإذا طهرت ثم رأت الدم.. طلقت الثالثة؛ لأن (كلما) : تقتضي التكرار، فتكون الطقات كلها بدعية. [فرع: تعليق الطلاق على حيضها حيضة] ] : إذا قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق، فإن كانت طاهرا.. لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر؛ لأنه قال: (حيضة) ، وذلك لا يوجد إلا بطهرها من الحيض. وإن كانت حائضا.. لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ويكون الطلاق سنيا؛ لأنه يقع بأول الطهر. وإن قال: كلما حضت حيضة فأنت طالق، فإذا حاضت حيضة كاملة بعد عقد الصفة.. وقع عليها طلقة بأول جزء من الطهر بعد الحيض، ثم إذا حاضت الثانية وطهرت منه.. طلقت الثانية بأول جزء من الطهر، ثم إذا حاضت الثالثة وطهرت منه.. طلقت الثالثة بأول جزء من الطهر؛ لأنه (كلما) تقتضي التكرار، وتكون الطلقات للسنة. وإن قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق، وإذا حضت حيضتين فأنت طالق، فإنها إذا حاضت حيضة.. وقع عليها طلقة بانقطاع الدم لوجود الحيضة، فإذا حاضت حيضة ثانية.. وقع عليها طلقة ثانية بانقطاع دمها من الحيضة الثانية؛ لأنها مع الأولى

فرع: تعليق الطلاق بمجرد الطهر أو بالطهر الكامل

وإن قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق، ثم إذا حضت حيضتين فأنت طالق، فإذا انقطع دمها من الحيضة الأولى.. وقع عليها طلقة لوجود الصفة، وإن حاضت بعدها حيضة ثانية.. لم تطلق حتى تطهر من الحيضة الثالثة؛ لأن (ثم) للترتيب، و (الواو) للجمع. [فرع: تعليق الطلاق بمجرد الطهر أو بالطهر الكامل] وإن قال لامرأته وهي حائض: إذا طهرت فأنت طالق.. طلقت بانقطاع الدم؛ لوجود الشرط، ويكون الطلاق سنيا؛ لأنه يقع في الطهر. وإن قال لها كذلك وهي طاهر.. قال الشيخ أبو إسحاق: لم تطلق حتى تحيض وتطهر؛ لأن (إذ) اسم لزمان مستقبل. وعلى قياس قول ابن الصباغ في الحيض: تطلق عقيب قوله. وإن قال لها: إذا طهرت طهرا فأنت طالق، فإن كانت حال عقد الصفة حائضا.. لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض. وإن كانت طاهرا.. لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض؛ لأنه لا يوجد الطهر الكامل إلا بذلك، ويكون الطلاق بدعيا؛ لأنه يقع بأول جزء من الحيض، ويأثم به. فإن قال لها: أنت طالق في كل طهر طلقة، فإن كانت طاهرا.. طلقت طلقة، وإن رأت الدم وانقطع.. طلقت الثانية، فإذا رأت الدم ثانيا وانقطع.. طلقت الثالثة. وإن كانت حال عقد الطلاق حائضا.. لم تطلق حتى ينقطع الدم فتطلق، ثم بانقطاع الحيض الثاني تطلق ثانية، ثم بانقطاع الحيض الثالث تطلق الثالثة. وإن رأت الدم على الحمل، فإن قلنا: إنه حيض.. طلقت بانقطاعه، ويتكرر عليها الطلاق في الحمل بانقطاع كل دم على هذا القول.

مسألة: طلقها ثلاثا في كل قرء طلقة

[مسألة: طلقها ثلاثا في كل قرء طلقة] وإن قال لها: أنت طالق ثلاثا في كل قرء طلقة، فإن كانت حاملا طاهرا.. وقع عليها في الحال طلقة. وإن كانت حاملا حائضا، فإن قلنا: إن الدم على الحمل ليس بحيض.. وقع عليها طلقة، وإن قلنا: إنه حيض.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: يقع عليها الطلاق؛ لأن زمان الحمل كله قرء واحد؛ بدليل: أن العدة لا تنقضي إلا بوضعه. وقال المسعودي [في " الإبانة "] ، والقاضي أبو الطيب: لا يقع عليها الطلاق حتى تطهر؛ لأن الأقراء - عندنا - الأطهار، وهذا حيض، فلم يقع عليها الطلاق. وبه قال المسعودي [في " الإبانة "] . وهل يتكرر الطلاق في كل طهر على الحمل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يتكرر؛ لأن العدة لا تنقضي بثلاثة منها. والثاني: يتكرر، وهو الأقيس؛ لأنه طهر من حيض. وإذا وقع على الحامل طلقة.. نظرت: فإن لم يراجعها حتى وضعت.. انقضت عدتها وبانت منه، ولا يلحقها بعد ذلك طلاق. وإن استرجعها قبل أن تضع.. لم تطلق حتى تطهر من النفاس، ثم إذا طهرت من الحيض بعد النفاس.. وقعت عليها الثالثة. وإن كانت حاملا مدخولا بها.. نظرت: فإن كانت حائضا.. لم يقع عليها الطلاق في الحال؛ لأن الحيض ليس بقرء، فإذا انقطع دمها.. وقعت عليها طلقة، فإذا حاضت وانقطع دمها.. وقعت عليها الثانية بأول جزء من الطهر، فإذا حاضت الثالثة وانقطع دمها.. وقعت عليها الثالثة بأول جزء من الطهر. ولا فرق في هذا بين أن يراجعها أو لا يراجعها. وإن كانت طاهرا حين عقد الطلاق.. وقع عليها طلقة؛ لأن بقية الطهر قرء، وإن كان قد جامعها في هذا الطهر.. وقعت الطلقة بدعية، وإن لم يجامعها فيه.. وقعت

سنية، فإذا حاضت ثم طهرت.. طلقت الثانية بأول جزء من الطهر، ثم إذا حاضت وطهرت.. طلقت الثالثة بأول جزء من الطهر. ولا فرق في هذا أيضا بين أن يراجعها أو لا يراجعها. وإن كانت غير مدخول بها، فإن كانت طاهرا.. وقعت عليها طلقة، ولا تقع عليها الثانية والثالثة بالطهر الثاني والثالث؛ لأنها تبين بالأولى، فلم يلحقها ما بعدها. وإن كانت حال عقد الطلاق حائضا.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يقع عليها طلقة وتبين بها؛ لأنها ليست من أهل سنة الطلاق وبدعته. والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب -: أنه لا يقع عليها طلاق حتى تطهر من حيضها؛ لأن الأقراء هي الأطهار، فإذا طهرت.. وقعت عليها طلقة وبانت بها. وإن كانت صغيرة مدخولا بها.. وقع عليها في الحال طلقة، فإذا مضت ثلاثة أشهر ولم يراجعها.. بانت ولم تلحقها الثانية والثالثة، فإن راجعها قبل انقضاء عدتها.. لم تطلق حتى ترى الحيض ثم تطهر منه، فتقع الثانية بانقطاع الحيض الأول، ثم تقع الثالثة بانقطاع الحيض الثاني. وإن كانت غير مدخول بها.. وقع عليها في الحال طلقة وبانت بها، ولا تلحقها الثانية والثالثة. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يقع على الصغيرة طلقة في الحال؟ على وجهين، بناء على أنها إذا حاضت.. فهل يحتسب على ما مضى قرءا؟ على قولين. وإن كانت آيسة غير مدخول بها.. وقعت عليها طلقة وبانت بها، ولا تلحقها الثانية والثالثة. وإن كانت مدخولا بها.. وقعت عليها طلقة، فإن لم يراجعها حتى انقضت ثلاثة أشهر.. بانت ولم تلحقها الثانية والثالثة، وإن راجعها قبل انقضاء الثلاثة.. لم تلحقها الثانية والثالثة إلا إن عاودها الدم. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يلحقها في الحال طلقة؟ على وجهين. فإن عاودها الدم.. علمنا أنه وقع عليها طلقة حال عقد الطلاق وجها واحدا.

مسألة: علق طلاقها أو ضرتها على حيضها أو حيضهما واختلفا

[مسألة: علق طلاقها أو ضرتها على حيضها أو حيضهما واختلفا] إذا قال لامرأته: إذا حضت فأنت طالق، فقالت: حضت، فإن صدقها الزوج.. وقع عليها الطلاق؛ لأنه اعترف بوجود شرط الطلاق. وإن كذبها.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الحيض أمر تستبد به المرأة ولا يمكنها إقامة البينة عليه، فكان القول قولها. وإن قال لها: إن حضت فضرتك طالق، فقالت: حضت، فإن صدقها.. وقع الطلاق على ضرتها. وإن كذبها.. لم يقع الطلاق على ضرتها. والفرق بينهما: أن في الأولى الحق لها، فحلفت على إثبات حق نفسها، وهاهنا الحق لضرتها، والإنسان لا يحلف لإثبات الحق لغيره، فتبقى الخصومة بين الزوج والضرة، فإن قالت الضرة: قد حاضت، وقال الزوج: لم تحض.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأنه مساو للضرة في الجهل بحيض الأخرى، وللزوج مزية عليها؛ لأن الأصل بقاء الزوجية، فكان القول قوله. والذي يقتضي المذهب: أنه يحلف ما يعلم أنها حاضت؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره. وإن قال لها: إن حضت فأنت وضرتك طالقان، فقالت: حضت، فإن صدقها.. طلقتا، وإن كذبها.. حلفت وطلقت، ولم تطلق ضرتها؛ لأنها تحلف على إثبات حق نفسها، ولا تحلف لإثبات حق ضرتها. وإن ادعت عليه الضرة.. حلف لها، على ما مضى. وإن قال لهما: إن حضتما فأنتما طالقان، فإن قالتا: حضنا، فصدقهما.. طلقتا، وإن كذبهما.. لم تطلق واحدة منهما؛ لأن طلاق كل واحدة منهما معلق بحيضها وحيض صاحبتها، وقول كل واحدة منهما لا يقبل في حق غيرها، فيحلف لهما. وإن صدق إحداهما وكذب الأخرى.. طلقت المكذبة إذا حلفت دون المصدقة؛ لأنه قد اعترف بحيض المصدقة، والقول قول المكذبة مع يمينها في حيضها في حق نفسها، فوجد الشرط في طلاقها.

فرع: طلقها لحيضتهما

[فرع: طلقها لحيضتهما] وإن قال لامرأتين: إن حضتما حيضة فأنتما طالقان.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تنعقد هذه الصفة؛ لأنه يستحيل اشتراكهما في حيضة. والثاني: ينعقد، وهو الأصح. وإذا حاضتا.. طلقتا؛ لأن الذي يستحيل هو قوله: (حيضة) ، فسقط وصار كما لو قال: إن حضتما فأنتما طالقتان، وهكذا ذكر أصحابنا. وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أنه يقع عليهما الطلاق في الحال؛ لأنه علق الطلاق بشرط يستحيل وجوده، فألغي ووقع الطلاق في الحال، كما لو قال لمن لا سنة في طلاقها ولا بدعة: أنت طالق للسنة أو للبدعة.. فإنها تطلق في الحال. [فرع: تعليق الطلاق بحيض الأربع] وإن كان له أربع زوجات، فقال لهن: إن حضتن فأنت طوالق، فإن قلن: حضنا، وصدقهن.. طلقن؛ لوجود الصفة في حقهن، وإن كذبهن.. لم تطلق واحدة منهن؛ لأنه علق طلاق كل واحدة بحيضهن، ولم توجد الصفة. وإن صدق واحدة أو اثنتين.. لم تطلق واحدة منهن. وإن صدق ثلاثا وكذب واحدة.. طلقت المكذبة إذا حلفت دون المصدقات؛ لأنه قد وجد حيض الأربعة في حقها؛ لأنه قد صدق الثلاث، وقولها مقبول مع يمينها في حيضها في حق نفسها، ولا تطلقن المصدقات؛ لأن حيض المكذبة لم يوجد في حقهن، بل يحلف الزوج لهن. [فرع: علق طلاق كل واحدة منهن على حيض صواحبها] وإن كان له أربع زوجات، فقال لهن: أيتكن حاضت فصواحبها طوالق.. فقد علق طلاق كل واحدة بحيض صواحبها، فإن قلن: حضنا، فإن كذبهن.. حلف

فرع: علق طلاقها على حيضها بيوم الجمعة أو نهاره

لهن، ولم تطلق واحدة منهن؛ لأن كل واحدة منهن لا تحلف لإثبات حق صاحبتها. وإن صدقهن.. وقع على كل واحدة ثلاث طلقات؛ لأنه ثبت لها ثلاث صواحب حضن. وإن صدق واحدة وكذب الباقيات.. لم تطلق المصدقة؛ لأنه لم تثبت لها صاحبة حاضت، ووقع على كل واحدة من المكذبات طلقة؛ لأن لها صاحبة ثبت حيضها. وإن صدق اثنتين وكذب اثنتين.. وقع على كل واحدة من المصدقات طلقة؛ لأنه ما ثبت لكل واحدة منهما إلا صاحبة حاضت، ووقع على كل واحدة من المكذبات طلقتان؛ لأن لها صاحبتين ثبت حيضهما. وإن صدق ثلاثا وكذب واحدة.. طلقت المكذبة ثلاثا؛ لأن لها ثلاث صواحب ثبت حيضهن، وطلق كل واحدة من المصدقات طلقتين؛ لأن لكل واحدة منهن صاحبتين ثبت حيضهما. وإن كان له ثلاث نسوة، فقال: أيتكن حاضت فصاحبتاها طالقتان، فإن قلن: حضنا، فصدقهن.. طلقت كل واحدة طلقتين، وإن كذبهن.. لم تطلق واحدة منهن. وإن صدق واحدة وكذب اثنتين.. لم تطلق المصدقة، وطلقت المكذبتان طلقة طلقة. وإن صدق اثنتين وكذب واحدة.. طلقت المكذبة طلقتين، وطلقت المصدقتان طلقة طلقة؛ لما ذكرناه في الأولى. [فرع: علق طلاقها على حيضها بيوم الجمعة أو نهاره] أو على رؤيتها لدم] : قال الصيمري: إذا قال لها: إذا حضت يوم الجمعة فأنت طالق، فابتدأها الحيض قبل الفجر، ثم أصبحت يوم الجمعة حائضا.. لم يقع عليها الطلاق. ولو بدأها الحيض بعد الفجر أو عند طلوع الشمس.. طلقت. ولو قالت: لا أعلم ابتدأ قبل

مسألة: علق الطلاق على عدم الحمل أو عكسه

الفجر أو بعده.. وقع الطلاق في الظاهر؛ لأنا على يقين من حصوله. فإذا قال لها: إذا حضت في نهار يوم الجمعة فأنت طالق، فحاضت بعد طلوع الشمس يوم الجمعة.. وقع عليها الطلاق. وإن حاضت بعد الفجر وقبل طلوع الشمس.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري. وإن قال: إذا رأيت دما فأنت طالق، فحاضت، أو استحيضت، أو نفست.. وقع الطلاق. فإن قال: أنا أردت دما غير هذا الذي رأيته.. لم يقبل منه في الحكم؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، ودين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. فلو رعفت أو بظت جرحا فخرج منه دم.. قال الصيمري: الظاهر أن لا يقع عليها الطلاق؛ لأن إطلاق الدم لا ينصرف إلا إلى الحيض أو الاستحاضة أو النفاس - قال - وفيه احتمال. وإن قال لصغيرة: إن حضت فأنت طالق.. لم تطلق حتى تحيض. وإن قال لها: إن طهرت فأنت طالق.. لم تطلق حتى ترى النقاء بعد الحيض؛ لأن حقيقة الطهر في الإطلاق هذا. وإن قال للآيسة: إذا حضت فأنت طالق.. لم تطلق؛ لأن الصفة لا توجد. وإن قال لها: إن طهرت فأنت طالق.. قال الصيمري: لم تطلق؛ لأن حقيقة ذلك أن تدخل في طهر بعد حيض، وهذا لا يوجد في حقها. [مسألة: علق الطلاق على عدم الحمل أو عكسه] إذا قال لامرأته: إن لم تكوني حاملا فأنت طالق، أو إن كنت حاملا فأنت

طالق.. حرم عليه وطؤها قبل أن يستبرئها؛ لأن الأصل عدم الحمل. وبماذا يجب استبراؤها؟ فيه وجهان: أحدهما: بثلاثة أقراء؛ لأن الحرة تعتد بثلاثة أقراء، كذا هذه. والثاني: بقرء واحد؛ لأن براءة الرحم تعلم بذلك. فإذا قلنا: تستبرئ بثلاثة أقراء.. كانت أطهارا. وإذا قلنا: تستبرئ بقرء.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه الطهر؛ لأن القرء عندنا الطهر. والثاني: أنه الحيض؛ لأن معرفة براءة الرحم لا تحصل إلا بالحيض. فإذا قلنا: إنه الطهر، فإن كانت حائضا وطهرت، وطعنت في الحيض الثاني.. حصل براءة الرحم. وإن كانت طاهرا.. لم يكن بقية الطهر قرءا حتى تكمل الحيض بعده؛ لأن بعض الطهر لا يحصل به معرفة البراءة، فكمل بالحيضة بعده. وإذا قلنا: إنه الحيض، فإن كانت حائضا.. لم تعتد ببقية الحيض، فإذا طهرت وأكملت الحيضة بعده.. حصل براءة رحمها. وإن كانت طاهرا.. فحتى تكمل الحيضة بعده. وهل يكفي استبراؤها قبل أن يطلقها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يكفي؛ لأن الاستبراء لا يعتد به قبل وجود سببه، كالمستبرأة. والثاني: يعتد به؛ لأن الغرض معرفة براءة رحمها، ولهذا: لو كانت صغيرة.. وقع عليها الطلاق من غير استبراء، وذلك يحصل باستبرائها قبل الطلاق.

فرع: قوله إن كنت حاملا فأنت طالق

وإذا استبرأت بثلاثة أقراء أو بقرء، فإن لم تظهر بها أمارات الحمل.. حكم بوقوع الطلاق حين حلف، فإن كانت قد استبرأت بثلاثة أقراء بعد اليمين.. فقد انقضت عدتها، وإن استبرأت بقرء.. فقد بقي عليها من العدة قرءان. وإن ظهر بها الحمل.. نظرت: فإن وضعته لدون ستة أشهر من حين حلف.. لم يقع الطلاق؛ لأنه بان أنها كانت حاملا وقت اليمين. فإن وضعته لأكثر من أربع سنين من حين حلف.. حكمنا بأنها كانت حائلا، وأن الطلاق وقع عليها. وإن وضعته لستة أشهر فما زاد إلى تمام أربع سنين، بأن لم يطأها الزوج بعد الطلاق.. حكمنا بأن الحمل كان موجودا حين اليمين، وأن الطلاق لم يقع. وإن كان الزوج قد راجعها بعد الطلاق ووطئها.. نظرت: فإن وضعته لدون ستة أشهر من حين الوطء.. علمنا أن الحمل كان موجودا حين اليمين، وأن الطلاق لم يقع. وإن وضعته لستة أشهر فما زاد من وقت الوطء.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: يقع عليها الطلاق؛ لأن الأصل عدم الحمل وقت اليمين. و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا يقع عليها الطلاق؛ لأنه يحتمل أنه كان موجودا وقت اليمين، ويحتمل أنه حدث من الوطء، والأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق. [فرع: قوله إن كنت حاملا فأنت طالق] فأما إذا قال لها: إن كنت حاملا فأنت طالق.. فعليه أن يستبرئها؛ لأنا لا نعلم الحمل وعدمه إلا بالاستبراء، وفي كيفية الاستبراء ووقته ما ذكرناه في الأولى، وهل يحرم عليه وطؤها قبل أن يعلم براءة رحمها بالاستبراء؟ فيه وجهان:

مسألة: علق الطلاق بالولادة

أحدهما: لا يحرم؛ لأن الأصل عدم الحمل وثبوت الإباحة. والثاني: يحرم؛ لأنه يجوز أن تكون حاملا فيحرم وطؤها، ويجوز أن تكون حائلا فيحل وطؤها، فغلب التحريم. فإن استبرأت ولم يظهر بها الحمل.. علمنا أنها كانت حائلا وقت الحلف، ولم يقع عليها الطلاق. وإن ظهر بها الحمل.. نظرت: فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من حين حلف الطلاق.. علمنا أنها كانت حاملا وقت اليمين، وأن الطلاق وقع عليها. وإن وضعته لأكثر من أربع سنين من وقت اليمين.. علمنا أنها كانت حائلا حين اليمين، وأن الطلاق لم يقع عليها. وإن وضعته لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين أو ما دونها من حين اليمين، فإن لم يطأها الزوج بعد اليمين.. وقع عليها الطلاق؛ لأنا تبينا أنها كانت حاملا وقت اليمين. وإن وطئها الزوج بعد اليمين، فإن وضعته لدون ستة أشهر من وقت الوطء.. حكمنا بوقوع الطلاق؛ لأنا نعلم أنه كان موجودا حين اليمين. وإن وضعته لستة أشهر فما زاد من وقت الوطء.. لم يقع الطلاق وجها واحدا؛ لأنه يجوز أن يكون موجودا حال اليمين، ويجوز أن يكون حدث من الوطء.. فلا يقع الطلاق بالشك. [مسألة: علق الطلاق بالولادة] وإن قال لزوجته: إن ولدت ولدا فأنت طالق، فولدت حيا كان أو ميتا.. وقع عليها الطلاق؛ لوقوع اسم الولد. فإن قالت: ولدت، فصدقها الزوج أو كذبها، فأقامت عليه بينة.. حكم عليه بوقوع الطلاق. والذي يقتضي المذهب: أنه إذا أقامت أربع نسوة على الولادة.. وقع عليها الطلاق، كما يثبت النسب بذلك. وإن ولدت ولدا آخر.. لم تطلق به؛ لأن قوله لا يقتضي التكرار.

فرع: علق طلاقها بولادتها ذكرا أو أنثى طلقة للذكر واثنتين للأنثى

وإن قال لها: كلما ولدت ولدا فأنت طالق، فولدت ثلاثة أولاد واحدا بعد واحد، بين كل ولدين دون ستة أشهر.. طلقت بالأول طلقة، وطلقت بالثاني طلقة؛ لأنها رجعية عند وضع الثاني، والرجعية يلحقها الطلاق، و (كلما) تقتضي التكرار. فإذا ولدت الثالث.. لم يقع به طلاق. وحكى أبو علي بن خيران: أن الشافعي قال في بعض آماليه القديمة: (أنها تطلق به طلقة ثالثة) . وأنكر أصحابنا هذا، وقالوا: لا نعرف هذا للشافعي في قديم ولا في جديد؛ لأن عدتها تنقضي بوضع الثالث، فتوجد الصفة وليست بزوجة، فلم يقع عليها طلاق، كما لو قال لها: إذا مت فأنت طالق، فمات.. فإنها لا تطلق. وتأولوا هذه الحكاية: على أنه راجعها بعد ولادة الثاني، فولدت الثالث وهي زوجة. وإن ولدت أربعة، واحدا بعد واحد من حمل.. طلقت بالأول طلقة، وبالثاني طلقة، وبالثالث طلقة وبانت، وانقضت عدتها بوضع الرابع. وإن وضعت الثلاثة دفعة واحدة.. طلقت ثلاثا؛ لأن الصفة وجدت وهي زوجة. وإن وضعت الثاني لستة أشهر فما زاد من وضع الأول.. طلقت بالأول طلقة، ولم تطلق بالثاني ولا بالثالث؛ لأنها من حمل آخر. وإن ولدت ولدين، واحدا بعد الآخر من حمل.. طلقت بالأول طلقة، وانقضت عدتها بوضع الثاني ولم تطلق به، إلا على الحكاية التي حكاها ابن خيران. وإن وضعتهما دفعة واحدة.. طلقت بوضعهما طلقتين. [فرع: علق طلاقها بولادتها ذكرا أو أنثى طلقة للذكر واثنتين للأنثى] وإن قال لها: إن ولدت ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت ذكرا.. طلقت واحدة، واعتدت بالأقراء. وإن ولدت أنثى.. طلقت طلقتين، واعتدت بالأقراء. وإن ولدت ذكرا وأنثى دفعة واحدة.. طلقت ثلاثا؛ لوجود الصفتين، واعتدت بالأقراء.

وإن ولدت الذكر أولا، ثم ولدت الأنثى بعده، وبينهما أقل من ستة أشهر.. طلقت بولادة الذكر طلقة، وانقضت عدتها بوضع الأنثى، ولم تطلق بولادتها إلا على الحكاية التي حكاها ابن خيران. وإن ولدت الأنثى أولا، ثم ولدت الذكر بعده من حمل واحد.. طلقت بولادة الأنثى طلقتين، وانقضت عدتها بولادة الذكر، ولم تطلق به إلا على ما حكاه ابن خيران. وإن ولدتهما واحدا بعد واحد، ولم يعلم السابق منهما.. طلقت واحدة؛ لأنها يقين وما زاد مشكوك فيها، والورع له أن يلتزم اثنتين. وإن لم يعلم: هل وضعتهما معا، أو واحدا بعد واحد؟ لم تطلق إلا واحدة؛ لأنه يقين. والورع أن يلتزم الثلاث لجواز أن تكون ولدتهما معا. وإن ولدت ذكرا وأنثيين من حمل واحد.. نظرت: فإن ولدت الذكر أولا، ثم أنثى، ثم أنثى.. طلقت بولادة الذكر طلقة، وبالأنثى الأولى طلقتين وبانت، وانقضت عدتها بوضع الثانية. وإن ولدت أولا أنثى، ثم الذكر، ثم الأنثى.. طلقت بالأنثى الأولى طلقتين، وبالذكر طلقة وبانت، وانقضت عدتها بوضع الثانية. وإن وضعت الأنثيين أولا، واحدة بعد واحدة، ثم الذكر بعدهما.. طلقت بالأولى طلقتين، ولم تطلق بالأنثى الثانية؛ لئلا تقتضي التكرار، وانقضت عدتها بوضع الذكر، ولا تطلق به على المذهب، إلا على ما حكاه ابن خيران. وإن ولدت الذكر أولا، ثم ولدت الأنثيين بعده دفعة واحدة.. طلقت بالذكر طلقة، وانقضت عدتها بوضع الأنثيين، ولا تطلق بهما على المذهب.

فرع: علق بولادة أول ولد أو بآخره طلقة للذكر واثنتين للأنثى

وإن ولدت الذكر وأنثى بعده دفعة واحدة، ثم ولدت الأنثى بعدهما.. طلقت بوضع الأنثى والذكر ثلاثا، وانقضت عدتها بوضع الثانية. [فرع: علق بولادة أول ولد أو بآخره طلقة للذكر واثنتين للأنثى] وإن قال لامرأته: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن كان أنثى فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت ذكرا وأنثى.. نظرت: فإن ولدت الذكر أولا.. طلقت طلقة، فإذا ولدت الأنثى بعده.. انقضت عدتها بولادتها ولا تطلق بولادتها. وإن ولدت الأنثى أولا.. طلقت بها طلقتين، وانقضت عدتها بولادة الذكر ولا تطلق به. وإن أشكل الأول منهما.. طلقت واحدة؛ لأنها يقين وما زاد مشكوك فيها. وإن ولدتهما معا.. لم تطلق؛ لأنه ليس فيهما أول. وإن قال: إن كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت طالق طلقة، وإن كان آخر ولد تلدينه جارية فأنت طالق ثلاثا، فولدت غلاما وجارية من حمل واحد، واحدا بعد الآخر.. فإن ولدت الغلام أولا.. طلقت طلقة؛ لأن اسم الأول يقع عليه، وانقضت عدتها بولادة الجارية، ولا يقع عليها طلاق بولادتها. وإن ولدت الجارية أولا، ثم الغلام بعدها.. لم تطلق؛ لأنه لا يقال لها: آخر إلا إذا كان قبلها أول. وإن ولدت الغلام بعدها.. لم تطلق؛ لأنه ليس بأول. وإن ولدت ولدا واحدا لا غير.. قال ابن الحداد: فإن كان غلاما.. وقع عليها طلقة؛ لأن اسم الأول واقع عليه، وإن كانت جارية.. لم يقع عليها شيء؛ لأن اسم الآخر لا يقع عليها؛ لأن الآخر يقتضي أن يكون قبله أول، ولا يقتضي الأول أن يكون بعده آخر. قال القاضي أبو الطيب: ينبغي أن يقال في الغلام مثله؛ لأنه لما لم يقع اسم الآخر إلا لما قبله أول.. فكذلك لا يقع اسم الأول إلا لما بعده آخر.

فرع: علق طلاقه على ولادة غلام أو ولد

[فرع: علق طلاقه على ولادة غلام أو ولد] وإن قال لها: إن ولدت ولدا فأنت طالق، وإن ولدت غلاما فأنت طالق، فإن ولدت أنثى.. طلقت طلقة؛ لأنه يقع عليها اسم الولد. وإن ولدت غلاما.. طلقت طلقتين؛ لأنه يوجد فيه الصفتان، وهما الولد والغلام، كما لو قال لها: إن كلمت رجلا فأنت طالق، وإن كلمت شريفا فأنت طالق، فكلمت رجلا شريفا. [فرع: علق طلاقه على ما في جوفها أو جميع حملها] وإن قال لها: إن كان ما في جوفك ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن كان ما في جوفك أنثى فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت ذكرا.. طلقت طلقة حين حلف، وانقضت عدتها بوضع الغلام. وإن ولدت أنثى.. طلقت طلقتين حين حلف، وانقضت عدتها بالولادة. وإن ولدت ذكرا وأنثى من حمل واحد.. طلقت ثلاثا؛ لوجود الصفتين، سواء ولدتهما واحدا بعد واحد أو ولدتهما معا؛ لأن الصفة أن يكون ما في جوفها. وينبغي أن يقال: إنها تطلق إذا ولدت لدون ستة أشهر من حين عقد الصفة، سواء وطئها أو لم يطأها. وإن ولدت لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من حين اليمين.. نظرت: فإن لم يطأها بعد اليمين.. طلقت. وإن وطئها بعد اليمين، فإن ولدت لست أشهر فما زاد من وقت الوطء.. لم تطلق؛ لجواز أن يكون الولد حدث من الوطء بعد اليمين، فلم يكن في جوفها وقت اليمين. وإن ولدت لدون ستة أشهر من وقت الوطء.. طلقت؛ لأنا نتبين أنه لم يحدث من الوطء بعد اليمين. وإن قال: إن كان ما في جوفك أو حملك ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن كان أنثى فأنت طالق طلقتين، فولدت من ستة أشهر من وقت اليمين، أو لست أشهر فما

فرع: علق طلاقه على حملها بغلام وولادتها بجارية

زاد ولم يطأها، أو وطئها بعد اليمين وولدته لأقل من ستة أشهر من حين الوطء.. نظرت: فإن ولدت ذكرا.. طلقت طلقة حين عقد الصفة، وانقضت عدتها بولادته. وإن ولدت أنثى.. طلقت طلقتين حين عقد الصفة، وانقضت العدة بولادتها. وإن ولدت ذكرا وأنثى من حمل واحد.. لم تطلق، سواء ولدت أحدهما بعد الآخر أو ولدتهما معا؛ لأنه شرط أن يكون ما في جوفها أو جميع حملها ذكرا أو جميعه أنثى، ولم يوجد ذلك فلم تطلق. [فرع: علق طلاقه على حملها بغلام وولادتها بجارية] وإن قال لها: إن كنت حاملا بغلام فأنت طالق طلقة، وإن ولدت جارية فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت غلاما لا غير.. طلقت طلقة حين عقد الصفة، وانقضت عدتها بوضع الغلام. وإن ولدت جارية لا غير.. طلقت طلقتين بولادتها، واعتدت بثلاثة أقراء. وإن ولدت غلاما وجارية من حمل واحد.. نظرت: فإن ولدت الغلام أولا ثم الجارية بعده.. تبينا أنه وقع عليها طلقة حين عقد الصفة، وانقضت عدتها بولادة الجارية، ولا يقع عليها طلاق بولادة الجارية؛ لأن الصفة وجدت وهي غير زوجة، إلا على حكاية ابن خيران. وإن ولدت الجارية ثم الغلام بعدها.. تبينا أنه وقع عليها طلقة حين عقد الصفة؛ لكونها حاملا بغلام، ووقع عليها طلقتان بولادة الجارية، وانقضت عدتها بولادة الغلام. وهكذا: الحكم إذا ولدتهما معا. وإن ولدت أحدهما بعد الآخر ونسي الأول منهما.. طلقت طلقة؛ لأنها يقين، وما زاد مشكوك فيه، فلم يقع.

فرع: علق بولادتها طلاقها للسنة

[فرع: علق بولادتها طلاقها للسنة] قال ابن الحداد: إذا قال لها: كلما ولدت فأنت طالق للسنة، فولدت ولدا وبقي في بطنها آخر.. طلقت بالأول طلقة؛ لأنها حامل بعد ولادة الأول، ولا سنة في طلاقها ولا بدعة؛ لأن عدتها تنقضي بوضع الولد الباقي. فإن لم يراجعها قبل ولادة الولد الثاني.. لم تطلق بولادة الثاني؛ لأن عدتها تنقضي بولادته، وإن راجعها قبل ولادة الثاني.. لم تطلق حتى تطهر من نفاسها. وإن قال لها: إن ولدت فأنت طالق، فخرج بعض الولد ومات أحد الزوجين قبل استكمال خروج الولد.. لم تطلق؛ لأن بخروج بعض الولد لا يقال: ولدت، بخلاف ما لو علق الطلاق على الحيض.. فإنه تطلق برؤية الدم؛ لأنه يقال لها: حاضت. [مسألة: علق طلاق زوجاته الأربع على ولادة إحداهن] وإن كان له أربع زوجات، فقال لهن: كلما ولدت واحدة منكن فصواحبها طوالق، فولدن دفعة واحدة.. قال ابن الحداد: طلقت كل واحدة ثلاثا، وكانت عدتهن بالأقراء؛ لأن لكل واحدة منهن ثلاث صواحب ولدن. وإن ولدت واحدة بعد واحدة.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال ابن الحداد: وقع على الأولى ثلاث طلقات، وعلى الثانية طلقة، وعلى الثالثة طلقتان، وعلى الرابعة ثلاث طلقات. وإليه ذهب القفال. ووجهه: أن الأولى لما ولدت.. وقع على كل واحدة طلقة سواها، ولما ولدت الثانية.. وقعت على الأولى طلقة، وعلى الثالثة طلقة، وعلى الرابعة طلقة، وبانت الثانية بولادتها. ولما ولدت الثالثة.. وقعت على الأولى طلقة ثانية، وعلى الرابعة طلقة ثالثة، ولم يقع على الثانية شيء؛ لأنها قد بانت، وبانت الثالثة بولادتها.

ولما ولدت الرابعة.. وقع على الأولى طلقة ثالثة، ولم يقع على الثانية والثالثة طلاق؛ لأنهما قد بانتا، وبانت الرابعة بولادتها. وعدة الأولى بالأقراء، وهل تبني على عدتها بعد وقوع الأولى أو تستأنف؟ على قولين يأتي بيانهما في موضعهما. وقال أبو العباس بن القاص: يقع على كل واحدة طلقة لا غير، إلا الأولى.. فإنه لا يقع عليها شيء، وهو اختيار القاضي أبي الطيب وأكثر أصحابنا؛ لأن الأولى لما ولدت.. وقع على الباقيات طلقة طلقة؛ لأنها صاحبة لهن، ولم يقع عليها بولادتها طلاق؛ لأن الصفة ولادة الصاحبة، فلما ولدت المطلقات بعد الأولى.. انقضت عدة كل واحدة منهن بولادتها، ولم يقع بولادة كل واحدة منهن طلاق على غيرها؛ لأنها ليست بصاحبة لواحدة منهن لبينونتها بالولادة، والصفة لا توجد إلا بعد البينونة. وإن ولد اثنتان منهن دفعة واحدة، واثنتان بعدهما دفعة واحدة.. فعلى قول ابن الحداد: كل واحدة من الأوليين تطلق طلقة بولادة صاحبتها، وتطلق كل واحدة من الأخريين طلقتين بولادة الأوليين؛ لأن لها صاحبتين ولدتا، فإذا ولد الأخريان.. انقضت عدتها بولادتها، ولم يقع على إحداهما بولادة صاحبتها طلاق؛ لأن الصفة لا توجد مع البينونة. فإن كانت عدة الأوليين قد انقضت بالأقراء.. لم يقع عليهما طلاق، وإن كانت لم تنقض.. وقع على كل واحدة منهما طلقتان؛ لأن لها صاحبتين ولدتا. وعلى قول ابن القاص: يقع على كل واحدة من الأوليين طلقة بولادة صاحبتها معها، ويقع على كل واحدة من الأخريين طلقتان؛ لأن لها صاحبتين ولدتا، وإذا ولدت الأخريان.. بانتا بولادتهما، ولم يقع بولادتهما طلاق عليهما ولا على الأوليين.

وإن قال لهن: كلما ولدت واحدة منكن فسائركن طوالق.. فالحكم فيها ما ذكره ابن الحداد في الصواحب وجها واحدا؛ لأن المعنى الذي ذكره ابن القاص في الصاحبة لا يوجد هاهنا. وإن قال: كلما ولدت واحدة منكن فصواحبها طوالق، ثم طلقهن طلقة طلقة، ثم ولدن، فإن ولدن دفعة واحدة.. لم تطلق واحدة منهن بذلك؛ لأن عدة كل واحدة منهن تنقضي بولادتها، ولا يلحقها الطلاق بعد البينونة. وإن ولدت واحدة بعد واحدة.. فعلى قول ابن الحداد: لما ولدت الأولى.. لم يقع عليها بولادتها طلاق، وانقضت عدتها ووقع على كل واحدة من الثلاث طلقة ثانية، فلما ولدت الثانية.. انقضت عدتها، ووقع على الثالثة طلقة ثالثة، وعلى الرابعة طلقة ثالثة، فلما ولدت الثالثة والرابعة.. انقضت عدتهما، فيكون على الأولى طلقة، وعلى الثانية طلقتان، وعلى الثالثة والرابعة ثلاث ثلاث. وعلى قول ابن القاص: لا يقع على كل واحدة منهن إلا الطلقة الأولى، ولا يقع عليهن طلاق بالولادة؛ لأن عدة كل واحدة منهن تنقضي بولادتها، فلا تكون صاحبة لواحدة منهن. وإن قال لهن: كلما ولدت واحدة منكن فأنتن طوالق، فولدت واحدة بعد واحدة.. فإن الأولى لما ولدت.. ووقع عليها طلقة، وعلى كل واحدة من الباقيات طلقة؛ لأن ولادة كل واحدة منهن صفة لطلاقها وطلاق صواحبها، فلما ولدت الثانية.. انقضت عدتها، ولم يقع عليها طلاق بولادتها على المذهب، إلا على ما حكاه ابن خيران. ويقع على الأولى بولادة الثانية طلقة ثانية، وعلى الثالثة طلقة ثانية، وعلى الرابعة طلقة ثانية، فلما ولدت الثالثة.. لم يقع عليها بولادتها طلاق على المذهب، ووقع على الأولى طلقة ثالثة، وعلى الرابعة طلقة ثالثة، فلما ولدت الرابعة.. انقضت عدتها، ولم يقع بولادتها على واحدة طلاق.

فرع: علق طلاق زوجتيه على ولادة إحداهما أنثى أو ذكرا أو بولادتهما

[فرع: علق طلاق زوجتيه على ولادة إحداهما أنثى أو ذكرا أو بولادتهما] وإن كانت له امرأتان - حفصة وعمرة - فقال: يا حفصة، إن كان أول ما تلدين ذكرا فعمرة طالق، وإن كان أنثى فأنت طالق، فولدت ذكرا أو أنثى، فإن ولدت الذكر أولا.. طلقت عمرة. وإن ولدت الأنثى أولا.. طلقت حفصة. وإن ولدتهما معا.. لم تطلق واحدة منهما؛ لأنه ليس فيهما أول. وإن قال لهما: كلما ولدت واحدة منكما فأنتما طالقان، فولدت كل واحدة ولدين من حمل واحد، واحدا بعد واحد، فإن ولدت عمرة أولا ثم حفصة بعدها، فإن عمرة إذا ولدت الأول.. وقع على كل واحدة منهما طلقة، فإذا ولدت الثاني.. انقضت عدتها، ولا يقع عليها بولادته طلاق على المذهب، ويقع على حفصة طلقة ثانية. فإذا ولدت حفصة الأول.. طلقت طلقة ثالثة وانقضت عدتها بولادة الثاني. وإن ولدت عمرة أولا ولدا.. وقع على كل واحدة طلقة، ثم إذا ولدت حفصة بعدها.. وقع على كل واحدة طلقة ثانية، ثم إذا ولدت عمرة الثاني.. بانت بولادته ولم يقع عليها بولادته طلاق على المذهب، ولكن يقع به على حفصة الثالثة، وتنقضي عدة حفصة بوضع الولد الثاني. وإن قال: كلما ولدتما فأنتما طالقان، فإن لم تلدا جميعا.. لا يطلقان، فإذا ولدتا.. طلقتا، سواء ولدتا معا أو إحداهما بعد الأخرى، ويقع الطلاق عليهما بولادة الأخرى منهما. وإن ولدت كل واحدة منهما ولدين من حمل، فإن ولدتا معا ولدا، ثم ولدتا معا ولدا.. طلقتا بالأول طلقة، وتنقضي عدتهما بالثاني، ولا تطلقان به على المذهب، إلا على ما حكاه ابن خيران. وإن ولدت الأولى منهما أولا ولدين معا، أو أحدهما بعد الآخر، ثم ولدت الثانية

فرع: خالعته على مائة على أنها طالق إن كانت حاملا

ولدين أحدهما بعد الآخر.. فإن الأولى تطلق طلقتين، وتطلق الثانية طلقة؛ لأن الأولى لا يقع عليها طلاق بولادتها. فإذا ولدت الثانية الأول.. وقع على الأولى طلقة، وطلقت الثانية طلقة، فإذا ولدت الثانية الثاني.. طلقت الأولى طلقة ثانية، وبانت الثانية، ولم يقع عليها به الطلاق على المذهب، إلا على ما حكاه ابن خيران. [فرع: خالعته على مائة على أنها طالق إن كانت حاملا] قال في " الإملاء ": (إذا أعطته زوجته مائة دينار على أنها طالق إن كانت حاملا، فإن كانت حائلا.. لم يقع الطلاق، والمائة لها. وإن كانت حاملا.. وقع الطلاق، وله عليها مهر مثلها، وأكره له وطأها ولا يحرم) . قال الشيخ أبو حامد: وإنما فسدت التسمية؛ لأنه شرط كونها حاملا، فكان لكونها حاملا قسط من العوض، فسقط ذكر القسط، فصار ذلك مجهولا. قال ابن الصباغ: ويحتمل أن تفسد التسمية؛ لأن الحمل مجهول لا يمكن التوصل إليه في هذه الحال، فإذا شرطه.. فسد بذلك الخلع، كما إذا جعله عوضا فيه. [فرع: علق طلاقها بولادتها فادعت ذلك] إذا علق طلاقها بولادتها، فادعت أنها ولدت ولدا تنقضي به عدتها، فكذبها الزوج، ولا بينة.. فهل يقبل قولها مع يمينها؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: يقبل قولها مع يمينها، كما قلنا فيه إذا علق طلاقها على حيضها. و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا يقبل قولها؛ لأنه يمكنها إقامة البينة على ولادتها، فهو كما لو علقه على دخولها الدار، بخلاف الحيض.

مسألة: علق طلاقها بتطليقه إياها

[مسألة: علق طلاقها بتطليقه إياها] إذا قال للمدخول بها: إذا طلقتك فأنت طالق.. فقد علق طلاقها بتطليقه إياها، فإن قال لها بعد عقد الصفة: أنت طالق.. وقع عليها طلقتان: طلقة بالمباشرة، وطلقة بالصفة. وهكذا: إذا قال لها بعد عقد الصفة: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار.. وقع عليها طلقتان: طلقة بدخول الدار، وطلقة بالصفة المتقدمة؛ لأن معنى قوله: (إذا طلقتك) : إذا أحدثت طلاقك، وقد يحدث طلاقها بالمباشرة وبالصفة. فإن قال: لم أرد بقولي: (إذا طلقتك فأنت طالق) عقد الصفة، وإنما أردت به: أني إذا طلقتك تطلقين بما أوقعه عليك.. لم يقبل في الحكم؛ لأن الظاهر أنه عقد الطلاق بالصفة، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. [فرع: علق طلاقه بصفة بعد صفة أو أعاده] وإن قال لها: إذا دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم دخلت الدار. وقع عليها طلقة بدخول الدار، ولا تطلق بقوله: إذا طلقتك فأنت طالق؛ لأن معنى قوله: (إذا طلقتك) أي: إذا أحدثت طلاقك، وعقد الطلاق بدخول الدار كان سابقا لهذا. وإن قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم وكل من يطلقها.. وقع عليها ما أوقعه الوكيل لا غير، ولا تطلق بالصفة؛ لأنه لم يطلقها. وإن قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم أعاد هذا القول.. لم تطلق؛ لأن تعليق الطلاق ليس بطلاق.

فرع: علق طلاقها بوقوع طلاقه عليها وماذا لو طلقها وكيله

[فرع: علق طلاقها بوقوع طلاقه عليها وماذا لو طلقها وكيله] وإن قال لها: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم قال: أنت طالق.. وقع عليها طلقتان: طلقة بالمباشرة، وطلقة بالصفة. وهكذا: لو قال لها بعد عقد الصفة أو قبلها: إذا دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار.. وقع عليها طلقتان. بخلاف ما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم دخلت الدار.. فإنها لا تطلق إلا طلقة؛ لأن الصفة هاهنا وقوع طلاقه وقد وجد، وفي تلك: الصفة إحداثه الطلاق، ولم توجد. وإن قال لها: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم وكل من يطلقها.. ففيه وجهان: أحدهما: يقع عليها ما أوقعه الوكيل لا غير، كما قلنا في قوله: إذا طلقتك فأنت طالق. والثاني: يقع عليها طلقتان: طلقة بإيقاع الوكيل، وطلقة بالصفة؛ لأن الصفة وقوع طلاق الزوج، وما أوقعه الوكيل هو طلاق الزوج. وإن قال لها: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، وإذا طلقتك فأنت طالق.. فإنه لا يقع عليها بهذا طلاق؛ لأنهما تعليقان للطلاق. فإن أوقع عليها بعد ذلك طلقة بالمباشرة أو بالصفة.. وقع عليها ثلاث طلقات: طلقة بإيقاعه وطلقتان بالصفتين. فإن قال لها: كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم أوقع عليها طلقة بالمباشرة أو بصفة عقدها بعد هذا القول أو قبله ... وقع عليها ثلاث طلقات؛ لأن (كلما) تقتضي التكرار، فإذا وقع عليها طلقة.. اقتضى وقوعها وقوع طلقة ثانية، واقتضى وقوع الثانية وقوع الثالثة. وإن قال لها: كلما طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها: أنت طالق.. وقع عليها

فرع: جعل طلاق كل واحدة منهما صفة للأخرى

طلقة بالمباشرة وطلقة بالصفة، ولا تقع الثالثة بوقوع الثانية؛ لأن الصفة إيقاع الطلاق، والصفة لم تتكرر.. فلم يتكرر الطلاق. قال ابن الصباغ: وهكذا إذا قال: كلما أوقعت عليك طلاقي فأنت طالق، ثم قال لها: أنت طالق.. وقع عليها طلقتان، ولا تقع الثالثة؛ لما ذكرناه. وإن قال: كلما أوقعت عليك الطلاق فأنت طالق، ثم قال لها: أنت طالق.. وقع عليها طلقتان: طلقة بالمباشرة، وطلقة بالصفة، ولا تقع الثالثة بوقوع الثانية؛ لأنه لم يوقع الثانية، وإنما وقعت حكما. وإن قال لها: إذا أوقعت عليك الطلاق، أو كلما أوقعت عليك الطلاق فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار.. وقع عليها طلقة بدخول الدار، وهل يقع عليها طلقة بالصفة الأولى؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: لا يقع عليها؛ لأن الصفة أن يوقع عليها الطلاق، ولم يوقع هذه الطلقة، وإنما وقعت بالصفة، فلم يوجد شرط الثانية. وقال الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: تقع الثانية؛ لأن الصفة أن يوقع الطلاق عليها، فإذا علق الطلاق بصفة، فوجدت الصفة.. فهو الموقع للطلاق، كما قلنا فيه إذا قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم دخلت الدار. [فرع: جعل طلاق كل واحدة منهما صفة للأخرى] وإن كان له زوجتان - حفصة وعمرة - فقال لحفصة: كلما طلقت عمرة فأنت طالق، وقال لعمرة: كلما طلقت حفصة فأنت طالق.. فقد جعل طلاق كل واحدة منهما صفة للأخرى وعقد صفة طلاق حفصة أولا، فينظر فيه: فإن بدأ وقال لحفصة: أنت طالق.. وقع عليها طلقة بالمباشرة، ويقع على عمرة بهذه الطلقة طلقة بالصفة، وبوقوع هذه الطلقة على عمرة تقع طلقة ثانية على حفصة بالصفة؛ لأن عمرة طلقت بصفة تأخرت من عقد صفة طلاق حفصة، فهو محدث

لطلاقها، فصار كما قلنا فيه إذا قال لها: كلما طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار.. وقع عليها طلقة بدخول الدار، وأخرى بوجود الصفة؛ لأنه قد أحدث طلاقها بعد أن عقد لها الصفة وإن كان أحدثه بصفة لا بمباشرة. وإن بدأ فقال لعمرة: أنت طالق.. وقع عليها طلقة بالمباشرة، وبوقوع هذه الطلقة تقع على حفصة طلقة بالصفة، ولا يعود الطلاق إلى عمرة؛ لأنه ما أحدث طلاق حفصة بعد عقد صفة طلاق عمرة، وإنما هذه الصفة سابقة لصفة طلاق عمرة، فهو كما قلنا فيه إذا قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك: كلما طلقتك فأنت طالق، ثم دخلت الدار.. لم تطلق إلا واحدة بدخول الدار. وإن قال لحفصة: إذا طلقتك فعمرة طالق، ثم قال لعمرة: إذا طلقتك فحفصة طالق، فإن بدأ وقال لحفصة: أنت طالق.. وقع عليها طلقة بالمباشرة، وبوقوع هذه الطلقة على حفصة تطلق عمرة طلقة بالصفة، وبوقوع هذه الطلقة على عمرة لا يعود الطلاق على حفصة؛ لأنه ما وجد شرط وقوعها؛ لأن قوله لعمرة: (إذا طلقتك فحفصة طالق) معناه: إذا أحدثت طلاقك، ولم يحدث طلاقها بعد هذا العقد، وإنما طلقت بالصفة السابقة، فهو كما قلنا فيه إذا قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم دخلت الدار.. فإنها تطلق طلقة بدخول الدار لا غير. وإن بدأ فقال لعمرة: أنت طالق.. طلقت عمرة طلقة بالمباشرة، وبوقوع هذه الطلقة يقع على حفصة طلقة بالصفة، وبوقوع هذه الطلقة على حفصة يقع على عمرة طلقة ثانية بالصفة؛ لأنه قال لحفصة: إذا طلقتك فعمرة طالق قبل أن أقول لعمرة: إذا طلقتك فحفصة طالق.. فهو كما قلنا فيه إذا قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم دخلت الدار.. وقع عليها طلقتان: طلقة بدخول الدار، وطلقة بوجود صفة الطلاق.

فرع: علق طلاق كل واحدة منهما بكلما وقع على الأخرى

[فرع: علق طلاق كل واحدة منهما بكلما وقع على الأخرى] ولو قال لحفصة: كلما وقع على عمرة طلاقي فأنت طالق، وقال لعمرة: كلما وقع على حفصة طلاقي فأنت طالق، ثم طلق إحداهما.. فالذي يقتضي المذهب: أنهما تطلقان ثلاثا ثلاثا. [مسألة: تعليق طلاق غير المدخول بها] وإن كان له امرأة غير مدخول بها، فقال لها: إذا طلقتك فأنت طالق، أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق، أو كلما أوقعت عليك الطلاق، أو كلما طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك: أنت طالق.. لم يقع عليها إلا الطلقة التي أوقعها؛ لأنها تبين بها، والبائن لا يلحقها طلاق. وإن قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق، فدخلت الدار.. ففيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب. أحدهما: يقع طلقتان؛ لأنهما تقعان بالدخول من غير ترتيب. والثاني: لا تقع إلا واحدة، كما إذا قال لها: أنت طالق وطالق. قال القاضي أبو الطيب: ويحتمل أن يكون هذا الوجه على قول من قال من أصحابنا: إن (الواو) للترتيب. والأول أصح. [مسألة: حروف الطلاق المعلق سبعة وأحواله ثلاثة] قال الشافعي: (ولو قال: أنت طالق إذا لم أطلقك، أو متى لم أطلقك، فسكت مدة يمكنه فيها الطلاق.. طلقت) . وجملة ذلك: أن الحروف التي تستعمل في الطلاق المعلق بالصفات سبعة: إن وإذا ومتى ومتى ما وأي وقت، وأي حين وأي زمان.

وإذا استعملت في الطلاق.. فله ثلاثة أحوال: أحدهما: أن تستعمل في الطلاق متجردا عن العوض، وعن كلمة (لم) . الثاني: أن تستعمل فيه مع العوض. الثالث: أن تستعمل فيه مع كلمة (لم) . فإن استعملت في الطلاق متجردا عن العوض، وعن كلمة (لم) ، مثل أن قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو إذا دخلت الدار، أو متى دخلت الدار، أو متى ما دخلت الدار، أو أي وقت دخلت، أو أي حين دخلت، أو أي زمان دخلت.. فجميع هذا لا يقتضي الفور، بل أي وقت دخلت الدار.. طلقت؛ لأن ذلك يقتضي دخولها الدار، فأي وقت دخلت الدار.. فقد وجد الشرط. وإن استعملت في الطلاق مع العوض، بأن قال: إن أعطيتني، أو إن ضمنت لي ألفا فأنت طالق.. فإن خمسة أحرف منها لا تقتضي الفور، بل هي على التراخي بلا خلاف على المذهب، وهي: متى ومتى ما وأي حين وأي وقت وأي زمان. وحرف منها يقتضي الفور بلا خلاف على المذهب، وهو: إن. وحرف منها اختلف أصحابنا فيه، وهو: إذا، فعند أكثر أصحابنا: هو على الفور. وعند الشيخ أبي إسحاق: لا يقتضي الفور، وقد مضى ذلك في الخلع. وإن استعملت في الطلاق مع كلمة (لم) .. فلا خلاف على المذهب: أن خمسة أحرف منها على الفور، وهي: متى ومتى ما وأي حين وأي وقت وأي زمان. فإذا قال: متى لم تعطني ألفا فأنت طالق، أو متى لم أطلقك، أو متى لم تدخلي الدار فأنت طالق، وما أشبهه من الصفات، فإن أعطته ألفا على الفور بحيث يصلح أن يكون جوابا لكلامه، أو دخلت الدار.. فقد بر في يمينه ولا تطلق. وهكذا: إذا قال: متى لم أطلقك، فطلقها على الفور.. فقد بر في يمينه، ولا يقع عليها إلا ما أوقعه.

وإن تأخرت العطية أو دخول الدار أو الطلاق عن ذلك.. وقع عليها الطلاق؛ لأن تقديره: أي زمان فقدت فيه العطية أو الدخول أو الطلاق فأنت طالق. فإذا مضى زمان يمكن إيجاد هذه الصفة ولم توجد.. فقد وجد شرط وقوع الطلاق المعلق بذلك فوقع. وأما حروف: إن وإذا.. فقد نص الشافعي: (أن (إذا) على الفور، كالحروف الخمسة، وأن حرف (إن) لا يقتضي الفور، بل هو على التراخي) . فمن أصحابنا من عسر عليه الفرق بينهما، وقال: لا فرق بينهما، ولهذا إذا كان معهما العوض.. كانا على الفور، فنقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين. ومنهم من حملهما على ظاهرهما وجعل (إذا) على الفور، و (إن) على التراخي، وفرق بينهما: بأن حرف (إذا) يستعمل فيما يتحقق وجوده، وحرف (إن) يستعمل فيما يشك بوجوده، بدليل: أنه يقال: إذا طلعت الشمس، ولهذا قال الله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] [الانشقاق: 1] . ولا يقال: إن طلعت الشمس، ويقال: إن قدم زيد. فجاز أن تكون (إذا) على الفور، و (إن) على التراخي. فإذا قلنا بهذا، وقال لها: إذا لم أطلقك فأنت طالق، أو إذا لم تدخلي الدار فأنت طالق، فإذا مضى بعد قوله زمان يمكنه أن يقول فيه: أنت طالق ولم يطلق، أو مضى زمان يمكنها فيه دخول الدار ولم تدخل الدار.. وقع عليها الطلاق. وإن قال لها: إن لم أطلقك، أو لم تدخلي الدار فأنت طالق.. فإنها لا تطلق إلا إذا فات الطلاق أو الدخول، وذلك بآخر جزء من آخر حياة الميت الأول منهما. وإن قال لها: كلما لم أطلقك فأنت طالق، فمضى بعد هذا ثلاثة أوقات يمكنه أن يطلق فيها فلم يطلق.. طلقت ثلاثا؛ لأن (كلما) تقتضي التكرار؛ لأن تقديره: كلما سكت عن طلاقك فأنت طالق، وقد سكت ثلاثة أوقات، فطلقت ثلاثا.

فرع: علق طلاق نسوته بعدم وطء إحداهن

[فرع: علق طلاق نسوته بعدم وطء إحداهن] إذا كان له أربع زوجات، فقال لهن: أيتكن لم أطأها اليوم فصواحبها طوالق، فإن ذهب اليوم ولم يطأ واحدة منهن.. طلقن ثلاثا ثلاثا؛ لأن لكل واحدة منهن ثلاث صواحب لم يطأهن. وإن وطئ واحدة منهن في ذلك اليوم.. طلقت الموطوءة ثلاثا؛ لأن لها ثلاث صواحب لم يطأهن، وتطلق كل واحدة من الثلاث اللاتي لم يطأهن طلقتين؛ لأن لها صاحبتن لم يطأهما. وإن وطئ اثنتين منهن في اليوم طلقت كل واحدة من الموطوءتين طلقة؛ لأن لهما صاحبتين لم يطأهما وتطلق كل واحدة من اللتين لم يطأهما طلقة؛ لأنه ليس لها إلا صاحبة لم يطأها. وإن وطئ ثلاثا منهن في اليوم.. طلقت كل واحدة من الثلاث اللائي وطئهن طلقة؛ لأنه ليس لهن إلا صاحبة لم يطأها، ولا تطلق الرابعة؛ لأنه ليس لها صاحبة غير موطوءة. وإن وطئهن كلهن في اليوم.. انحلت الصفة، ولم تطلق واحدة منهن. وإن قال لهن: أيتكن لم أطأها فصواحبها طوالق، ولم يقل اليوم.. كان ذلك على التراخي. فإن مات قبل أن يطأ واحدة منهن.. طلقن ثلاثا ثلاثا. وإن ماتت واحدة منهن قبل أن يطأها.. طلقن الباقيات طلقة طلقة ولم تطلق هي. [مسألة: علق طلاقها على حلف أو ما يشبه الحلف] إذا قال لامرأته: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال لها: إن دخلت الدار، أو: إن لم تدخلي الدار، أو: أخبرها بشيء، أو أخبرته، فقال لها: إن لم يكن الأمر كما أخبرتك، أو كما أخبرتيني فأنت طالق.. طلقت؛ لأنه قد حلف بطلاقها. وإن قال لها: إذا طلعت الشمس، أو إذا قدم الحاج فأنت طالق.. فإنه لم يحلف

فرع: علق طلاقها إذا لم يحلف بطلاقها أو بالحلف وعلقه بصفة

بطلاقها، فلا تطلق قبل طلوع الشمس وقبل قدوم الحاج. وقال أبو حنيفة وأحمد: (كل ذلك حلف فتطلق به، إلا قوله: أنت طالق إن طهرت أو حضت أو نفست) . دليلنا أن اليمين هو ما يقصد بها المنع من شيء، كقوله: إن دخلت الدار، أو إلزام فعل شيء، كقوله: إن لم أدخل، أو إن لم تدخل، أو التصديق، كقوله: إن لم يكن هذا الأمر كما أخبرتك، أو كما أخبرتيني. وقوله: إذا طلعت الشمس، أو إذا قدم الحاج.. ليس فيه يمين، وإنما هو تعليق طلاق على صفة، فهو كقوله: إن طهرت، أو حضت، أو نفست. وإن قال لها: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم أعاد هذا الكلام ثانيا.. طلقت طلقة؛ لأنه حلف بطلاقها؛ لأنه باليمين الأولى منع نفسه من الحلف بطلاقها، وقد حلف. فإن أعاد ذلك ثالثا.. طلقت الثانية، فإن أعاد ذلك رابعا.. طلقت الثالثة وبانت. [فرع: علق طلاقها إذا لم يحلف بطلاقها أو بالحلف وعلقه بصفة] قال ابن الصباغ: إذا قال لامرأته: إذا لم أحلف بطلاقك فأنت طالق، وكرر ذلك ثلاث مرات، فإن فرق وسكت بعد كل يمين سكتة يمكنه أن يحلف فلم يحلف.. وقع عليها ثلاث طلقات؛ لأن (إذا) في النفي تقتضي الفور. وإن لم يفرق بينهن.. لم يحنث في الأولى والثانية؛ لأنه حلف عقيبهما، ويحنث في الثالثة فتطلق؛ لأنه لم يحلف عقيبها. فأما إذا قال: كلما لم أحلف بطلاقك فأنت طالق، فمضى ثلاثة أوقات يمكنه أن يحلف فيها ولم يحلف.. طلقت ثلاثا؛ لأن (كلما) تقتضي التكرار.

فرع: جعل ترك اليمين بطلاق إحداهما شرطا لطلاق الثانية

وإن قال لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال لها: إذا جاء المطر ولم أكن بنيت هذا الحائط، أو لم أكن خطت هذا القميص فأنت طالق.. وقع عليها الطلاق؛ لأنه ألزم بذلك نفسه أن يبني الحائط أو يخيط القميص قبل مجيء المطر. [فرع: جعل ترك اليمين بطلاق إحداهما شرطا لطلاق الثانية] ] : وإن كان له امرأتان، فقال: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها فغيرها طالق.. قال ابن القاص: فمتى سكت عقيب هذا القول قدرا يمكنه أن يحلف بطلاقها فلم يحلف.. طلقتا؛ لأنه جعل ترك اليمين بطلاق كل واحدة منهما شرطا لطلاق صاحبتها. فلو كرر هذا القول مرارا متصلا بعضها ببعض.. لم تطلق واحدة منهما ما دام مكررا؛ لأن هذا القول منه يمين بطلاقها تبين الأولى بالثانية، وتبين الثانية بالثالثة، فإذا سكت طلقتا باليمين الأخرى. فلو كرر هذا القول ثلاثا وسكت عقيب كل يمين.. طلقت كل واحدة ثلاثا. وقال أبو علي السنجي: وعندي أن هذا خطأ؛ لأن قوله: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها فغيرها طالق.. ليس في لفظه (متى يحلف بطلاقها) فيكون على التراخي، ومعناه: إن فاتني الحلف بطلاقها فغيرها طالق، ولا يعلم الفوات إلا بموت أحدهما، إلا أن يقول: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها الساعة فغيرها طالق.. فالجواب صحيح حينئذ. ولو قال: متى لم أحلف، أو أي وقت لم أحلف، أو أي زمان، أو كلما لم أحلف بطلاقها فغيرها طالق.. كان الجواب كما ذكر ابن القاص. [فرع: علق طلاق زوجة بالحلف بطلاقهما وكرره] وإن كان له امرأتان - زينب وعمرة - فقال لهما: إن حلفت بطلاقكما فعمرة طالق.. فهذا تعليق طلاق عمرة بالحلف بطلاقهما جميعا، فإن أعاد هذه الكلمة مرارا.. لم تطلق واحدة منهما؛ لأنه لم يحلف بطلاقهما، وإنما كرر تعليق طلاق عمرة.

ولو قال - بعد ذلك -: إن دخلتما الدار فأنتما طالقان.. طلقت عمرة؛ لأنه حلف بطلاقهما. وإن قال: إن حلفت بطلاقكما فإحداكما طالق، وكرر هذا القول.. لم تطلق واحدة منهما؛ لأنه لم يحلف بطلاقهما، وإنما حلف بطلاق واحدة منهما. ولو قال - بعد ذلك -: إذا حلفت بطلاقكما فأنتما طالقان.. طلقت إحداهما لا بعينها؛ لأنه حلف بطلاقهما. ولو قال: إذا حلفت بطلاق إحداكما فأنتما طالقان، ثم أعاد هذا مرة مرة.. طلقت كل واحدة منهما طلقة؛ لأنه علق طلاقهما بالحلف بطلاق إحداهما، فإذا حلف بطلاقهما.. فقد حلف بطلاق إحداهما لا محالة. ولو قال: إذا حلفت بطلاق إحداكما فأنتما طالقان، ثم قال: إذا حلفت بطلاقكما فإحداكما طالق.. طلقتا جميعا؛ لأنه قد حلف بطلاق إحداهما فيحنث في اليمين الأولى. وإن قال: إن حلفت بطلاقكما فعمرة طالق، وإن حلفت بطلاقكما فزينب طالق.. قال ابن القاص: فإن أعاد ما قاله في زينب مرة.. لم تطلق، وإن أعاد ما قاله في عمرة أخرى.. طلقت؛ لأنه علق طلاق عمرة بصفتين: إحداهما اليمين بطلاقها، والأخرى: اليمين بطلاق زينب، فما لم يحلف بعد القول الأول بطلاقهما معا أو مجتمعا أو متفرقا.. لم يحنث في طلاق عمرة. وكذلك إذا قال في المرة الثانية في طلاق زينب. فإذا كرر ما قال في زينب، وهو قوله الثاني: إن حلفت بطلاقكما فزينب طالق.. فلا تطلق واحدة منهما؛ لا زينب ولا عمرة؛ لأنه وجد إحدى الصفتين دون الأخرى. فإذا أعاد في عمرة.. طلقت عمرة؛ لأنه علق ابتداء طلاق عمرة بالحلف

فرع: الحلف بطلاق غير المدخول بها إذا بانت

بطلاقهما، وقد حلف بعد ذلك بطلاق زينب وحدها، فإذا حلف بطلاق عمرة بعد ذلك.. فقد اجتمع الصفتان في طلاق عمرة بعد تعليقه بهما، فوقع بها. فإذا أعاد في زينب مرة أخرى ما قال فيها بعد ما أعاد في عمرة.. طلقت زينب أيضا؛ لأنه قد حلف بعد ذلك بطلاقهما جميعا. فإذا حلف بعد ذلك بطلاقهما: إما مجتمعا، أو متفرقا.. فإنه يقع. [فرع: الحلف بطلاق غير المدخول بها إذا بانت] فرع: [لا يصح الحلف بطلاق غير المدخول بها إذا بانت] : وإن كانت له امرأتان، مدخول بها وغير مدخول بها، فقال لهما: إذا حلفت بطلاقكما فأنتما طالقتان، ثم أعاد هذا القول.. طلقت المدخول بها طلقة رجعية، وطلقت غير المدخول بها طلقة بائنة. فإن أعاد هذا القول ثالثا.. لم تطلق واحدة منهما؛ لأن الصفة لم توجد؛ إذ البائن لا يصح الحلف بطلاقها. [مسألة: علق طلاق كل زوجة أو أكثر بعتق عبد أو أكثر] وإن كان له أربع زوجات وعبيد، فقال لزوجاته: كلما طلقت واحدة منكن فعبد من عبيدي حر، وكلما طلقت اثنتين فعبدان حران، وكلما طلقت ثلاثا فثلاثة أعبد أحرار، وكلما طلقت أربعا فأربعة عبيد أحرار، فطلق زوجاته الأربع، إما بكلمة أو بكلمات.. طلقن. واختلف أصحابنا في عدد ما يعتق من العبيد على أربعة أوجه: أحدهما - وهو المذهب -: أنه يعتق خمسة عشر عبدا؛ لأنه إذا طلق واحدة.. عتق بها عبد؛ لوجود صفة طلاق الواحدة. وإذا طلق الثانية.. عتق بها ثلاثة أعبد؛ لأن فيها صفتين: صفة الواحدة، وصفة الاثنتن. فإذا طلق الثالثة.. عتق بها أربعة أعبد لأن فيها صفتين: صفة الواحدة، وصفة الاثنتن؛ فإذا طلق الرابعة، عتق بها سبعة أعبد؛ لأنه اجتمع ثلاث صفات: صفة الواحدة، وصفة الاثنتين - لأن الثالثة والرابعة اثنتان - وصفة الأربع.

وإن شئت.. عبرت عن هذا: أنه قد وجد في طلاق جميع النساء أربعة آحاد؛ لأن كل واحدة منهن يقع عليها اسم الواحدة، فيعتق بذلك أربعة أعبد، ووجد فيهن صفة اثنتين مرتين؛ لأن الأولى والثانية اثنتان والثالثة والرابعة اثنتان، فيعتق بذلك أربعة أعبد، ووجد فيهن صفة الثلاث وهي الأولى والثانية والثالثة، ولم يوجد ذلك إلا مرة، فيعتق به ثلاثة أعبد، ووجد فيهن صفة الأربع مرة أيضا فيعتق بها أربعة أعبد، فذلك خمسة عشر عبدا. والوجه الثاني: أنه يعتق سبعة عشر عبدا؛ لأنه يعتق بالثالثة ستة أعبد؛ لأنه يوجد فيها صفة الواحدة وصفة الاثنتين وصفة الثلاث. والثالث: أنه يعتق عشرون عبدا، فيعتق بالثالثة ستة أعبد - كما قال الذي قبله - ويعتق بالرابعة عشرة أعبد؛ لأنه يوجد فيها صفة الواحدة وصفة الاثنتين وصفة الثلاث وصفة الأربع. والرابع - وهو قول ابن القطان -: أنه يعتق عشرة أعبد لا غير؛ لأن الواحدة والاثنتين والثلاث والأربع عشرة. والأول أصح؛ لأن في الوجه الثاني والثالث قد عدت الثانية مع الأولى في صفة الاثنتين، فلا نعدها مع الثالثة في صفة الاثنتين ثانيا. وعدت الثالثة مع الأولى والثانية ثالثة، فلا تعد مع الرابعة ثالثة؛ لأن ما عد في صفة.. لا يتكرر في تلك الصفة، كما لو قال: كلما أكلت نصف رمانة فعبد من عبيدي حر، وكلما أكلت رمانة فعبد حر، فأكل رمانة.. فإنه يعتق ثلاثة أعبد بالنصفين وبالرمانة وإن كان الربع الثاني مع الربع الثالث نصفا. وأما قول ابن القطان: فخطأ أيضا؛ لأن (كلما) تقتضي التكرار، ولم يوجد ذلك في قوله.

فرع: علق طلاقها على أوصاف

[فرع: علق طلاقها على أوصاف] ] : وإن قال لامرأته: إذا أكلت نصف رمانة فأنت طالق، وإذا أكلت رمانة فأنت طالق، فأكلت رمانة.. طلقت طلقتين؛ لأنه وجدت الصفتان؛ فإنها أكلت نصفها وأكلت جميعها. وإن قال: كلما أكلت نصف رمانة فأنت طالق، وكلما أكلت رمانة فأنت طالق، فأكلت رمانة.. طلقت ثلاثا؛ لأن (كلما) تقتضي التكرار، وقد أكلت نصفين، فوقع بهما طلقتان، وأكلت رمانة فوقع بها طلقة، وهذا كما لو قال: إن كلمت رجلا فأنت طالق، وإن كلمت طويلا فأنت طالق، وإن كلمت فقيها فأنت طالق، فكلمت رجلا طويلا فقيها.. طلقت ثلاثا؛ لوجود الصفات الثلاث. [فرع: قوله أنت طالق مريضة] إذا قال لامرأته: أنت طالق مريضة - بالنصب، أو بالرفع - لم يقع الطلاق إلا إذا مرضت؛ لأن معنى قوله (مريضة) - بالنصب - أي: في حال مرضك، ومعنى قوله (مريضة) - بالرفع - أي: وأنت مريضة، هذا هو المشهور. وحكى ابن الصباغ: أن البندنيجي قال: إذا قال (مريضة) - بالرفع - وهو من أهل الإعراب.. وقع عليها الطلاق في الحال؛ لأنه صفة لها وليس بحال. وهذا خطأ؛ لأنه نكرة فلا توصف به المعرفة، وقد عرفها بالإشارة إليها، فلا يكون صفة لها، وإنما يكون حالا، وإنما لحن في إعرابه، أو على إضمار مبتدأ فيكون شرطا. [مسألة: علق طلاقهن بكلما طلق إحداهن] إذا كان له أربع زوجات، فقال لهن: كلما طلقت واحدة منكن فأنتن طوالق، فطلق واحدة منهن.. وقع عليها طلقتان: طلقة بالمباشرة، وطلقة بالصفة، ويقع على الثلاث الباقيات طلقة طلقة.

فرع: علق وقوع طلقتين لدخولها الدار طالقا

وإن قال: كلما وقع على واحدة منكن طلاقي فأنتن طوالق، أو أيتكن وقع عليها طلاقي فصواحبها طوالق، فطلق واحدة منهن.. طلقن ثلاثا ثلاثا؛ لأنه إذا طلق واحدة منهن طلقة.. وقع على كل واحدة من الباقيات طلقة، ووقوع هذه الطلقة على كل واحدة من الباقيات يوقع الثانية على صواحبها، ووقوع الثانية يوقع الثالثة. [فرع: علق وقوع طلقتين لدخولها الدار طالقا] وإن قال لامرأته: أنت طالق وطالق إن دخلت الدار طالقا.. فقد علق وقوع طلقتين بدخول الدار وهي طالق، فإن دخلت الدار وهي مطلقة طلاقا رجعيا.. وقع عليها طلقتان بالصفة، وإن دخلت الدار وهي زوجته غير مطلقة أو بائن.. لم تطلق؛ لأن الصفة لم توجد. [مسألة: قوله لإحداهما أنت طالق واحدة لا بل هذه ثلاثا] وإن كان له زوجتان، فقال لإحداهما: أنت طالق واحدة، لا: بل هذه ثلاثا.. وقع على الأولى طلقة، وعلى الثانية ثلاث؛ لأنه أوقع على الأولى طلقة فوقعت، ثم رجع عنها وأوقع على الثانية ثلاثا، فلم يصح رجوعه عما أوقعه على الأولى، وصح ما أوقعه على الثانية. وإن قال لامرأته المدخول بها: أنت طالق واحدة، لا: بل ثلاثا إن دخلت الدار.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال ابن الحداد: يقع عليها طلقة في الحال، ويقع باقي الثلاث بدخول الدار؛ لأنه أوقع واحدة فوقعت، ثم رجع وأوقع الثلاث بدخول الدار، فلم يصح رجوعه عن الأولى، وتعلق بدخول الدار باقي الثلاث.

فرع: قوله لإحداهما أنت طالق إن دخلت الدار لا بل هذه

ومنهم من قال: يرجع الشرط إلى الجميع، فلا تطلق حتى تدخل الدار؛ لأن الشرط يعقب الإيقاعين فرجع إليهما. وإن كانت غير مدخول بها.. فالذي يقتضي القياس: أن على قول ابن الحداد في الأولى: تقع عليها الطلقة المنجزة وتبين بها، ولا يقع ما بعدها بدخول الدار. وعلى قول القائل الآخر: لا يقع عليها طلاق حتى تدخل الدار، فإذا دخلت وقع عليها الثلاث. [فرع: قوله لإحداهما أنت طالق إن دخلت الدار لا بل هذه] وإن قال لإحدى امرأتيه: أنت طالق إن دخلت الدار، لا: بل هذه.. قال ابن الحداد: فإن دخلت الأولى الدار.. طلقتا جميعا. وإن دخلت الثانية.. لم تطلق واحدة منهما؛ لأنه علق طلاق الأولى بدخولها الدار، ثم رجع عن ذلك وعلق بدخولها طلاق الثانية فتعلق به، ولم يصح رجوعه عن طلاق الأولى. ومن أصحابنا من قال: إذا دخلت الأولى الدار.. طلقت وحدها، وإذا دخلت الثانية.. طلقت وحدها؛ لأنه علق طلاق الأولى بدخولها الدار، ثم رجع عن هذه الصفة جملة وعلق طلاق الثانية بدخولها الدار.. فلم يصح رجوعه، وتعلق طلاق الثانية بدخولها. [فرع: علق طلاقها بمكان طلقت فورا إلا إذا نوى وجودها فيه بعد ذلك] ] : قال في " البويطي ": (إذا قال: أنت طالق في مكة أو بمكة، أو في الدار أو بالدار.. فهي طالق ساعة تكلم به، إلا أن ينوي: إذا كنت بمكة، فإذا قال: نويت ذلك.. قبل منه؛ لأن لفظه يحتمله) . قال المسعودي [في " الإبانة "] : ولو قال: إن قذفت فلانا في المسجد فأنت طالق.. فيشترط أن يكون المقذوف في المسجد.

مسألة: علق طلاقه إلى شهر ولا نية

وإن قال إن قتلت فلانا في المسجد فأنت طالق.. يشترط أن يكون المقتول في المسجد. [مسألة: علق طلاقه إلى شهر ولا نية] وإن قال لامرأته: أنت طالق إلى شهر ولا نية له.. لم يقع عليها الطلاق إلا بعد مضي الشهر من حين عقد الصفة. وقال أبو حنيفة: (يقع الطلاق في الحال) . دليلنا: ما روي عن ابن عباس: أنه قال - في الرجل يقول لامرأته: أنت طالق إلى سنة -: (هي امرأته سنة) . ولأن (إلى) تستعمل في انتهاء الفعل، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] . وتستعمل في ابتداء الفعل، كقولهم: فلان خارج إلى شهر، فلا يقع به الطلاق في الحال بالشك. وإن قال: أردت أن الطلاق يقع في الحال ويرتفع بعد شهر.. وقع عليها الطلاق في الحال؛ لأنه فسر قوله بما يحتمله وفيه تغليظ عليه، فقبل ولا يرتفع الطلاق بعد شهر؛ لأن الطلاق إذا وقع لم يرتفع. [مسألة: قوله: أنت طالق في شهر أو غرة أو نهار رمضان] وإن قال: أنت طالق في شهر رمضان.. وقع الطلاق في أول جزء من الليلة الأولى من شهر رمضان. وقال أبو ثور: (لا تطلق إلا في آخر جزء من الليلة الأولى من شهر رمضان) . وهذا خطأ؛ لأن الطلاق إذا علق على شيء.. وقع بأول جزء منه، كما إذا قال

فرع: قوله أنت طالق في آخر رمضان أو أول آخره وغير ذلك

لها: إذا دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت أول جزء من الدار.. طلقت. فإن قال: أردت به الطلاق في النصف أو في آخره.. لم يقبل في الحكم؛ لأن ذلك يخالف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن قوله يحتمل ذلك. وإن قال: أنت طالق في غرة شهر رمضان، أو في غرة هلال رمضان، أو في رأس رمضان، أو في أول رمضان.. طلقت في أول جزء من الليلة الأولى من رمضان. فإن قال: أردت به نصف الشهر أو آخره.. لم يقبل في الحكم، ولا فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن لفظه لا يحتمل ذلك. وإن قال: أردت بالغرة بعض الثلاث الأولى من الشهر.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يؤخر الطلاق عن أول وقت يقتضيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يسمى غررا. وإن قال: أنت طالق في نهار رمضان.. لم تطلق إلا بأول جزء من اليوم الأول من الشهر؛ لأنه علقه بالنهار. [فرع: قوله أنت طالق في آخر رمضان أو أول آخره وغير ذلك] وإن قال: أنت طالق في آخر رمضان، أو في سلخ رمضان، أو في انقضائه، أو في خروجه.. طلقت بغيبوبة الشمس في آخر يوم منه. وإن قال: أنت طالق في أول آخر رمضان.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس: تطلق في أول جزء من ليلة السادس عشر؛ لأن أول الشهر هو النصف الأول، وآخره النصف الثاني، فكان أول آخره أول ليلة السادس عشر.

والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا، وهو الأصح -: أنها تطلق بطلوع الفجر من اليوم الأخير من الشهر؛ لأن آخر الشهر هو آخر يوم فيه، فأوله طلوع فجره. وإن قال: أنت طالق في آخر أول رمضان.. فعلى قول أبي العباس: تطلق بغروب الشمس من اليوم الخامس عشر؛ لأن أول الشهر عنده النصف الأول، وآخر أوله غروب الشمس من اليوم الخامس عشر. وعلى قول أكثر أصحابنا: يقع الطلاق في آخر الليلة الأولى من الشهر؛ لأنها أول الشهر، هكذا ذكر ابن الصباغ. وأما الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق - فقالا: تطلق على هذا آخر اليوم الأول من الشهر. وقول ابن الصباغ: أقيس. وإن قال: أنت طالق في آخر أول آخر رمضان.. قال الشيخ أبو إسحاق: فعلى قول أبي العباس: تطلق عند طلوع الفجر من هذا اليوم السادس عشر؛ لأن أول آخر الشهر ليلة السادس عشر، وآخرها عند طلوع الفجر من يومها. وعلى الوجه الثاني: تطلق بغروب الشمس من آخر يوم من الشهر؛ لأن أول آخره إذا طلع الفجر من آخر يوم منه، فكان آخره عند غروب الشمس. وإن قال: أنت طالق في أول آخر أول رمضان.. قال الشيخ أبو إسحاق: طلقت على قول أبي العباس بطلوع الفجر من اليوم الخامس عشر؛ لأن آخر أوله غروب الشمس من هذا اليوم، فكان أوله طلوع الفجر منه. وعلى الوجه الثاني: تطلق بطلوع الفجر من أول يوم من الشهر؛ لأن آخر أول الشهر غروب الشمس من أول يومه، فكان أوله طلوع الفجر. وعندي: أنها تطلق على هذا في أول جزء من الليلة الأولى من الشهر؛ لأن أول الشهر هو أول جزء من الليلة الأولى منه، وآخر أوله آخر جزء من هذه الليلة، فكان أول آخر أوله هو أول جزء من تلك الليلة.

فرع: قوله أنت طالق في شهر قبل ما بعد قبله رمضان

[فرع: قوله أنت طالق في شهر قبل ما بعد قبله رمضان] وإن قال: أنت طالق في شهر قبل ما بعد قبله رمضان.. فاختلف أصحابنا: متى تطلق؟ فمنهم من قال: تطلق في أول رجب. ومنهم من قال: تطلق في أول شعبان، ولم يذكر في " الفروع " غيره؛ لأن الشهر الذي بعد قبل رمضان هو رمضان نفسه، فالشهر الذي قبله شعبان. ومنهم من قال: تطلق في أول شوال، وهو اختيار القاضي أبي الطيب وابن الصباغ؛ لأنه أول وقت الطلاق في شهر وصفه؛ لأن قبل ما بعد قبله رمضان، ذلك لأنه يقتضي أن قبله رمضان، لأن ما بعد قبل الشهر هو الشهر نفسه، وقبله رمضان. [مسألة: قوله أنت طالق اليوم] إذا قال لامرأته: أنت طالق اليوم.. طلقت في الحال؛ لأنه من اليوم. وإن قال لها: إذا مضى يوم فأنت طالق، فإن قال ذلك بالليل.. لم تطلق حتى تغيب الشمس من يوم تلك الليلة. وإن قال ذلك بالنهار.. لم تطلق حتى يمضي باقي يومه، ثم تمضي الليلة التي تستقبلها وتبلغ من اليوم الثاني إلى الوقت الذي عقد فيه الطلاق. وإن قال: أنت طالق إذا مضى اليوم.. فالذي يقتضي المذهب: أنه إذا قال ذلك في النهار.. طلقت بغروب الشمس من ذلك اليوم؛ لأن اليوم للتعريف. [فرع: قوله أنت طالق في غد وغير ذلك] وإن قال لها: أنت طالق في غد.. طلقت بطلوع الفجر من الغد، سواء قال ذلك ليلا أو نهارا. وإن قال لها: أنت طالق اليوم إذا جاء غد.. قال أبو العباس: لم تطلق؛ لأنه

لا يجوز أن تطلق اليوم؛ لأنه لم يوجد شرط الطلاق، وهو مجيء الغد، ولا يجوز أن تطلق غدا؛ لأنه إيقاع طلاق في يوم قبله. وإن قال: أنت طالق اليوم غدا.. رجع إليه: ما أراد بذلك؟ فإن قال: أردت أنها تطلق اليوم طلقة وتكون طالقا غدا بتلك الطلقة.. لم يقع عليها إلا طلقة؛ لأن قوله يحتمل ذلك. وإن قال: أردت أنها تطلق اليوم طلقة وغدا طلقة.. طلقت طلقتين؛ لأن قوله يحتمل ذلك، وقد أقر على نفسه بما فيه تغليظ عليه. وإن قال: أردت اليوم نصف طلقة وغدا نصف طلقة أخرى.. طلقت طلقتين؛ لأن كل نصف يسري طلقة. وإن قال: أردت نصف طلقة في اليوم ونصفها الثاني في غد.. وقع عليها في اليوم طلقة؛ لأنه لا يمكن إيقاع نصف طلقة، فسرى إلى طلقة، وهل تقع عليها طلقة أخرى إذا جاء غد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقع عليها؛ لأن النصف الذي أوقعه في غد قد سرى في اليوم الأول، فلم يتبق ما يقع في غد. والثاني: تطلق في غد طلقة ثانية؛ لأنه لم يقع عليها في اليوم الأول بإيقاعه إلا نصف طلقة، وإنما الشرع أوجب سرايتها، وقد أوقع عليها في الغد نصف طلقة، فيجب أن تقع وتسري. وإن قال: لا نية لي.. وقع عليها في اليوم طلقة؛ لأنها يقين، ولا يقع عليها في الغد طلقة أخرى؛ لأنه مشكوك فيها. وإن قال: أنت طالق اليوم أو غدا.. ففيه وجهان، حكاهما في " المهذب ": أحدهما: لا تطلق إلا غدا؛ لأنه يقين.

فرع: علق طلاقها بغد أو عتق عبده بعد غد

والثاني: أنها تطلق اليوم؛ لأنه جعل كل واحد منهما محلا للطلاق، فتعلق بأولهما. [فرع: علق طلاقها بغد أو عتق عبده بعد غد] وإن قال لها: إذا جاء غد فأنت طالق، أو عبدي حر بعد غد.. لم تطلق امرأته إذا جاء غد؛ لأنه أوقع الطلاق غدا أو العتق بعد غد.. كان بالخيار: بين أن يعين الطلاق في امرأته، أو العتق في عبده، كما لو قال لامرأتيه: هذه طالق أو هذه. [فرع: طلقها ثلاثا موزعة كل يوم طلقة أو بعد مضي ثلاثة أيام] إذا قال لامرأته في يوم: أنت طالق ثلاثا، في كل يوم طلقة.. وقع عليها في الحال طلقة، ووقعت عليها الثانية بطلوع الفجر من اليوم الثاني، ووقعت الثالثة بطلوع الفجر من اليوم الثالث؛ لأن ذلك أول وقت يقتضي وقوع الطلاق. قال ابن الصباغ: وإن قال لها: أنت طالق في مجيء ثلاثة أيام.. وقع عليها الطلاق إذا طلع الفجر من اليوم الثالث. وإن قال لها: أنت طالق في مضي ثلاثة أيام.. فإنها تطلق إذا مضت ثلاثة أيام. قال ابن الصباغ: فإن قال ذلك بالليل.. طلقت إذا غربت الشمس من اليوم الثالث. فإن قال ذلك بالنهار.. طلقت إذا صار إلى مثل ذلك الوقت من اليوم الرابع. [مسألة: علق طلاقها برؤية هلال رمضان] وإن قال لامرأته: إذا رأيت هلال رمضان فأنت طالق، فإذا رآه آخر يوم من شعبان قبل الزوال أو بعده.. لم تطلق حتى تغيب الشمس من ذلك اليوم؛ لأن هلال الشهر ما كان في أوله لا قبله. وإن لم يره بنفسه وإنما رآه غيره.. طلقت امرأته.

وحكى ابن الصباغ: أن أبا حنيفة قال: (لا تطلق إلا أن يراه هو) . دليلنا: أن رؤية الهلال المعهود في الشرع هي العلم بالهلال برؤية نفسه أو برؤية غيره؛ بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» . ولم يرد به رؤيته بنفسه وإنما أراد علمه به برؤيته أو رؤية غيره، فحمل المطلق على ذلك، كما لو قال لها: إن صليت فأنت طالق.. فإنها تطلق بالصلاة الشرعية، لا بالصلاة اللغوية، وهي الدعاء. فإن قال: أردت رؤيتي بنفسي.. لم يقبل في الحكم؛ لأن دعواه تخالف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يقبل في الحكم؟ فيه وجهان. وإن غم عليهم الهلال.. قال أبو إسحاق المروزي: إذا عدوا شعبان ثلاثين يوما.. طلقت بمغيب الشمس من آخر يوم منه؛ لأنه بالضرورة يعلم أن بعد ذلك هلال رمضان؛ لأن الشهر لا يكون واحدا وثلاثين يوما. قال الشيخ أبو حامد: وإن صح عند الحاكم رؤية الهلال ولم يعلم المطلق، فإن كان شهر شعبان ناقصا.. لم يلزمه حكم الطلاق حتى يعلم بالرؤية. وإن كان شعبان تاما.. لزمه الطلاق بغروب الشمس من آخر يوم من شعبان؛ لأن الشهر لا يكون أحدا وثلاثين. ولعل الشيخ أبا حامد أراد به: أنه لا يلزمه حكم الطلاق إذا كان شعبان ناقصا قبل علمه؛ أي: إذا وطئها قبل علمه أنه لا يأثم، وأما الطلاق: فيحكم به عليه بأول جزء من الليلة التي رأى فيها الهلال، ويلزمه المهر إن وطئ بعد ذلك، سواء علم به أو لم يعلم، كما لو علقه بقدوم زيد، فقدم ولم يعلم بقدومه.

فرع: علق الطلاق لرؤية الهلال بنفسه أو أطلق ثم رآه قمرا

[فرع: علق الطلاق لرؤية الهلال بنفسه أو أطلق ثم رآه قمرا] وإن قال: إذا رأيت الهلال بنفسي فأنت طالق، أو أطلق ذلك وقال: أردت رؤيته بنفسي، فلم يره حتى صار قمرا.. لم تطلق عليه إلا إذا قيد ذلك ظاهرا وباطنا، ولا يدين فيما بينه وبين الله تعالى إذا رآه لأنه ليس بهلال. واختلف الناس فيما يصير به قمرا: فمنهم من قال: يصير قمرا إذا استدار، وقال بعضهم: إذا بهر ضوءه. [مسألة: علق طلاقها لمضي سنة] إذا قال لامرأته: إذا مضت سنة فأنت طالق.. اعتبر ذلك من حين حلف. فإن كان أول الشهر.. اعتبر جميع السنة بالأهلة، فإذا مضى اثنا عشر شهرا تامة أو ناقصة.. طلقت؛ لأن الاعتبار بالسنة الهلالية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] [البقرة: 189] . وإن كانت اليمين وقد مضى بعض الشهر، فإن مضى منه خمسة أيام.. اعتد بما بقي من أيام هذا الشهر، وعد بعده أحد عشر شهرا بالأهلة. فإن كان الشهر الذي حلف فيه تاما.. لم تطلق حتى يمضي بعد الأحد عشر شهرا خمسة أيام؛ لأن الطلاق إذا كان في أثناء الشهر.. لم يمكن اعتباره بالهلال، فاعتبر جميعه بالعدد، بخلاف غيره من الشهور. وإن قال: أنا أردت سنة بالعدد وهي ثلاثمائة وستون يوما، أو سنة شمسية وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يدعي تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.

فرع: طلقها ثلاثا كل سنة طلقة

وإن قال: إذا مضت السنة فأنت طالق.. طلقت إذا انقضت سنة التأريخ، وهو: إذا انسلخ شهر ذي الحجة؛ لأن التعريف يقتضي ذلك. وإن قال: أنا أردت سنة كاملة.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يدعي تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. [فرع: طلقها ثلاثا كل سنة طلقة] وإن قال لها: أنت طالق ثلاثا، في كل سنة طلقة.. وقع عليها طلقة عقيب إيقاعه؛ لأنه جعل السنة ظرفا لوقوع الطلاق، فإذا وجد أول جزء منها.. وقع الطلاق، كما لو جعل الشهر أو اليوم ظرفا للطلاق.. فإن الطلاق يقع في أوله. وهل تطلق في أول السنة الثانية والثالثة؟ ينظر فيه: فإن كانت في عدة من هذا الطلاق، بأن طالت عدتها.. طلقت في أول كل سنة منهما طلقة؛ لأن الرجعية يلحقها الطلاق. وإن كانت زوجة له في هذا النكاح، بأن راجعها بعد الأولى قبل انقضاء عدتها، فمضى عليه سنة من حين اليمين الأولى.. طلقت طلقة ثانية. وكذلك إذا راجعها بعد الطلقة الثانية، فجاء أول الثالثة وهي زوجة له من هذا النكاح.. وقعت عليها طلقة ثالثة. وإن جاء أول الثانية أو الثالثة وقد بانت منه ولم يتزوجها.. لم يقع عليها الطلاق؛ لأن البائن لا يلحقها الطلاق. وإن تزوجها بعد أن بانت منه فجاء أول الثانية أو الثالثة وهي زوجة له من نكاح جديد.. فهل يعود عليها حكم الصفة الأولى؟ فيه قولان، يأتي بيانهما إن شاء الله. فإن قال: أردت بقولي في أول كل سنة، أي: في كل أول سنة التأريخ وهو دخول المحرم.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يدعي تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه، ويدين فيما بينه وبين الله؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.

مسألة: قال أنت طالق في الشهر الماضي

[مسألة: قال أنت طالق في الشهر الماضي] وإن قال: أنت طالق في الشهر الماضي.. فإنه يسأل عن ذلك، فإن قال: أردت أني أوقع الطلاق الآن في الشهر الماضي.. فالمنصوص: (أنها تطلق في الحال) . قال الربيع: وفيها قول آخر: (أنها لا تطلق) . واختلف أصحابنا فيه: فقال أبو علي بن خيران: قد نص الشافعي على: (أنه إذا قال لها: إن طرت أو صعدت السماء فأنت طالق.. فإنها لا تطلق) ، وهذا تعليق طلاق بصفة محال، كإيقاع الطلاق الآن في زمن ماض. فجعل الأولى على قولين، وهذه على وجهين: أحدهما: لا تطلق؛ لأنه علق الطلاق على شرط، فلا يقع قبل وجوده، كما لو علقه على دخولها الدار. والثاني: تطلق في الحال؛ لأنه علقه على شرط مستحيل، فألغي الشرط ووقع الطلاق، كما لو قال لمن لا سنة في طلاقها ولا بدعة: أنت طالق للسنة وللبدعة. وقال أكثر أصحابنا: إذا قال: أنت طالق في الشهر الماضي، وقال: أردت به إيقاع الطلاق الآن في الشهر الماضي.. أنها تطلق قولا واحدا؛ لما ذكرناه، وما حكاه الربيع.. من تخريجه. وإذا قال لها: أنت طالق إن طرت أو صعدت إلى السماء.. فعلى وجهين: أحدهما: تطلق؛ لما ذكرناه. الثاني - وهو المنصوص -: (أنها لا تطلق حتى توجد الصفة) . والفرق بينهما: أن إيقاع الطلاق الآن في زمان ماض مستحيل وجوده في العقل؛ لأن الله تعالى ما أجرى العادة بمثل ذلك وإن كان غير مستحيل في قدرة الله تعالى، والطيران والصعود إلى السماء غير مستحيل وجوده في العقل؛ لأن الله قد أجرى العادة بذلك؛ إذ جعل ذلك للملائكة، وقد أسرى بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد يجعل الله لها إلى ذلك سبيلا. ولأن إيقاع الطلاق في الزمن الماضي يتضمن وقوعه الآن، فحكم عليه بالطلاق الآن.

وإن قال: أردت بقولي: أنت طالق في الشهر الماضي، أي: كنت طلقتها في الشهر الماضي في نكاح آخر، أو طلقها زوج غيري في الشهر الماضي وأردت الإخبار عنه، فإن صدقته الزوجة على أنه طلقها في الشهر الماضي، أو طلقها زوج غيره في الشهر الماضي، وأنه أراد بقوله هذا الإخبار عن ذلك.. فلا يمين على الزوج ولا طلاق. وإن صدقته على طلاقه أو طلاق زوجها الأول في الشهر الماضي، وكذبته أنه أراد ذلك.. فالقول قوله مع يمينه: أنه أراد ذلك؛ لأن دعواه لا تخالف الظاهر. وإن كذبته أن يكون طلقها هو أو غيره في الشهر الماضي.. لم يقبل حتى يقيم البينة على ذلك؛ لأنه يمكنه إقامة البينة على ذلك، فإذا أقام البينة عليه.. حلف أنه أراده، وإن لم يقم البينة.. لم يقبل في الحكم؛ لأن دعواه تخالف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. وإن قال: كنت طلقتها في هذا النكاح في الشهر الماضي، فإن صدقته الزوجة على ذلك.. حكمنا بوقوع الطلاق من ذلك الوقت، وكانت عدتها من ذلك الوقت. وإن كذبته.. فالقول قوله مع يمينه. والفرق بينهما: أن في التي قبلها يريد أن يرفع الطلاق من هذا النكاح، فلم يقبل، وهاهنا لا يريد أن يرفعه، وإنما يريد نقله إلى ما قبل هذا، فقبل. وتجب عليها العدة من الآن؛ لأنها تقر أن هذا ابتداء عدتها، وليس للزوج أن يسترجعها بعد انقضاء عدتها من الشهر الماضي؛ لأنه يقر أن ابتداء عدتها من الشهر الماضي. وإن قال: لم يكن لي نية.. حكم عليه بوقوع الطلاق في الحال؛ لأن الظاهر أنه أراد تعليق إيقاعه الآن في الشهر الماضي. وإن مات، أو جن، أو خرس فلم تعقل إشارته قبل البيان.. قال الشافعي في " الأم ": (حكم عليه بوقوع الطلاق في الحال) . وهذا يدل على أن الطلاق ينصرف إلى ذلك.

فرع: أنت طالق إن شربت دجلة أو علقه على صفة مستحيلة

[فرع: أنت طالق إن شربت دجلة أو علقه على صفة مستحيلة] ] : وإن قال لها: أنت طالق إن شربت ماء دجلة، أو حملت الجبال على رأسك.. ففيه قولان: أحدهما: لا يقع عليها الطلاق؛ لأنه علق الطلاق على صفة، فلم يقع قبلها. والثاني: يقع في الحال؛ لأنه علقه على صفة مستحيلة في العادة، فألغيت الصفة وبقي الطلاق مجردا، وهذا اختيار الشيخ أبي حامد، والأول اختيار ابن الصباغ. [مسألة: علق طلاقها على ما قبل قدوم زيد بشهر] وإن قال لامرأته: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، فقدم زيد بعد هذا بشهر وزيادة.. تبينا أن الطلاق وقع في لحظة قبل شهر من قدومه. وبه قال زفر. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (يقع الطلاق بقدوم زيد) . دليلنا: أنه أوقع الطلاق في زمان على صفة، فإذا حصلت الصفة.. وقع فيه، كما لو قال: أنت طالق قبل رمضان بشهر.. فإن أبا حنيفة وافقنا على ذلك. وإن قدم زيد قبل شهر من وقت اليمين.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: أنها كما لو قال: أنت طالق في الشهر الماضي، فيكون على قولين: عند ابن خيران: أنها لا تطلق. وعند سائر أصحابنا: تطلق في الحال قولا واحدا؛ لأنه إيقاع طلاق قبل عقده. والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا، وهو المشهور -: أنها لا تطلق هاهنا قولا واحدا؛ لأنه علق الطلاق على صفة قد كان وجودها ممكنا فوجب اعتبارها، وإيقاع الطلاق في زمان ماض غير ممكن فسقط اعتباره. فعلى هذا: إذا قال: أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، ثم خالعها الزوج، ثم قدم

فرع: علق الطلاق أو العتق بالموت

زيد.. نظرت: فإن قدم زيد لشهر فما دونه من حين تعليق الطلاق.. تبينا أن الخلع صحيح؛ لأنها لم تطلق بالصفة قبل الخلع. وإن قدم زيد لأكثر من شهر من حين عقد الطلاق، فإن كان بين ابتداء الخلع والقدوم شهر فما دون.. تبينا أن الخلع لم يصح؛ لأنه إذا كان بينهما أقل من شهر.. بان أن الطلاق بالصفة كان سابقا للخلع. وإذا كان بينهما شهر لا غير.. بان أنها طلقت بائنا قبل تمام الخلع، فلم يصح. وإن كان بين ابتداء الخلع والقدوم أكثر من شهر.. تبينا أن الخلع صحيح؛ لأنه بان أن الخلع وقع قبل الطلاق بالصفة. [فرع: علق الطلاق أو العتق بالموت] ] : وإن قال لامرأته: أنت طالق قبل موتي.. طلقت في الحال؛ لأن ذلك قبل موته، وهو أول وقت يقتضيه الطلاق، فوقع فيه الطلاق. وإن قال: أنت طالق قبيل موتي.. قال ابن الحداد: لا يقع الطلاق في الحال، وإنما يقع قبل موته بجزء يسير؛ لأن ذلك تصغير يقتضي الجزء اليسير. وكذلك إذا قال: أنت طالق قبيل رمضان.. طلقت إذا بقي من شعبان جزء يسير. وإن قال لها: أنت طالق مع موتي.. لم تطلق؛ لأن تلك حال البينونة، فلا يقع فيها طلاق، كما لو قال لها: أنت طالق مع انقضاء عدتك وكانت رجعية. وكما لو قال لها: أنت طالق بعد موتي. وإن قال لعبده: أنت حر مع موتي.. عتق من الثلث، كما يصح أن يقول: أنت حر بعد موتي. وإن قال لامرأته: أنت طالق قبل موتي بشهر، فإن مات بعد هذا الشهر وزيادة

مسألة: علق الطلاق أو العتق ليوم قدوم زيد

لحظة.. طلقت في تلك اللحظة قبل الشهر. وإن مات لأقل من شهر.. لم تطلق؛ لتقدم الشرط على العقد. وإن مضى شهر بعد هذا ومات على رأس الشهر.. لم تطلق؛ لأن الطلاق إنما يقع بعد الإيقاع لا مع الإيقاع، فلو حكمنا بالطلاق هاهنا.. لوقع معه. [مسألة: علق الطلاق أو العتق ليوم قدوم زيد] إذا قال لامرأته: أنت طالق في اليوم الذي يقدم فيه زيد.. قال الشيخ أبو إسحاق: فإن قدم زيد ليلا.. لم تطلق؛ لأنه لم يوجد الشرط. وإن قال: أردت باليوم الوقت.. طلقت؛ لأن اليوم قد يستعمل في الوقت، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] [الأنفال: 16] . وإن ماتت المرأة في يوم ثم قدم زيد بعد موتها في ذلك اليوم.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال ابن الحداد: ماتت مطلقة، فلا يرثها إن كان الطلاق بائنا. وكذلك: إذا علق عتق عبده بذلك، ثم باعه بعد ذلك بيوم، وقدم زيد بعد البيع في ذلك اليوم.. تبينا أن العتق وقع قبل البيع، وأن البيع باطل - وهو اختيار القاضي أبي الطيب - لأن أول اليوم طلوع الفجر، وإنما عرفه بقدوم زيد، فإذا قدم.. تبينا أن الصفة وجدت بطلوع الفجر، كما إذا قال لها: أنت طالق يوم الخميس. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يقع عليها الطلاق، ولا يصح العتق - وبه قال ابن سريج - لأن معنى قوله: يوم قدوم زيد، أي: وقت قدوم زيد، فلا تطلق قبله، كما لو علقه على القدوم من غير ذكر اليوم. [مسألة: علق طلاقها بعدم التزوج عليها] إذا قال لامرأته: إن لم أتزوج عليك فأنت طالق، فإن قيد ذلك بمدة، فإن لم يتزوج حتى بقي من المدة قدر لا يتسع لعقد النكاح.. طلقت. وإن أطلق.. اقتضى التأبيد، فإن مات أحدهما قبل أن يتزوج.. طلقت إذا بقي من

فرع: قوله إن لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم

حياة الميت ما لا يتسع لعقد النكاح. فإن كان الطلاق رجعيا.. ورث الباقي منهما. وإن كان بائنا، فإن ماتت الزوجة.. لم يرثها الزوج، وإن مات الزوج.. فهل ترثه؟ فيه قولان. وإن قال: إذا لم أتزوج عليك فأنت طالق، فمضى بعد يمينه زمان يمكنه أن يعقد فيه النكاح فلم يعقد.. طلقت عند من قال من أصحابنا إن (إذا) على الفور. وإن تزوج عليها.. بر في يمينه. وقال مالك وأحمد: (لا يبر حتى يتزوج عليها من يشبهها في الجمال، ويدخل بها) . دليلنا: أن اليمين معقودة على التزويج بها، وقد وجد ذلك بالعقد وإن كانت ممن لا يشبهها. هذا نقل البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قال لامرأته: إن لم أتزوج فأنت طالق.. لم تطلق ما لم يوأس من تزويجه. فلو ماتت قبل أن يتزوج، فإن قال: إن لم أتزوج عليك فأنت طالق.. طلقت قبل موتها، وإن أطلق.. لم تطلق. فإن ماتت في الأولى وكان الطلاق بائنا.. لم يرثها، وإن مات.. فهل ترثه؟ فيه قولان. وإن قتل فأجهز قتله.. فقد قال القفال مرة: لا ترثه؛ لأنه لم يوجد من جهته عجز. وقال مرة: ترثه؛ لأنه وجد منه العجز في حال لطيفة قبل خروج الروح. [فرع: قوله إن لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم] وإن قال لامرأته: إن لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم، فخرج اليوم ولم يطلقها.. ففيه وجهان:

فرع: علق طلاقها أو عتق عبده على صفة

أحدهما - وهو قول أبي العباس -: أنها لا تطلق؛ لأن الصفة توجد بخروج اليوم، فإذا خرج اليوم.. لم يقع الطلاق؛ لأنه قد فات. والثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنها تطلق في آخر جزء من اليوم؛ لأن معناه: إن فاتني طلاقك اليوم فأنت طالق، فإذا بقي من اليوم ما لا يمكنه الطلاق فيه.. فقد فاته الطلاق، فوقع الطلاق في ذلك الجزء. [فرع: علق طلاقها أو عتق عبده على صفة] ] : وإن قال لعبده: إن لم أبعك اليوم فامرأتي طالق، فأعتقه في اليوم.. طلقت حين أعتقه؛ لأنه قد فاته البيع. وكذلك إذا مات العبد. وإن دبره.. لم تطلق قبل خروج اليوم؛ لأن المدبر يصح بيعه. وإن قال رجل: إن كانت امرأتي في السوق فعبدي حر، ثم قال: إن كان عبدي في السوق فامرأتي طالق، فكانا في السوق.. عتق العبد، ولم تطلق المرأة؛ لأنه بدأ يمين العتق فعتق العبد، فلم توجد الصفة في الطلاق؛ لأنه ليس بعبده بعد عتقه. وعلى قياس هذا: إذا قال: إن كان عبدي في السوق فامرأتي طالق ثلاثا، وإن كانت امرأتي في السوق فعبدي حر، فكانا في السوق.. طلقت المرأة، ولم يعتق العبد؛ لأنه بدأ بيمين الطلاق، فإذا وقع الطلاق.. فليست امرأته، فلم يعتق العبد بكونها في السوق. وإن قال لعبده: متى دخلت الدار فأنت حر، ثم قال لامرأته: متى أعتقت عبدي فأنت طالق، ثم دخل العبد الدار.. عتق العبد، ولم تطلق المرأة؛ لأن إيقاع العتق هاهنا سابق لعقد الطلاق بالصفة. وإن قال لامرأته: متى أعتقت عبدي فأنت طالق، ثم قال لعبده: متى دخلت الدار فأنت حر، ثم دخل العبد الدار.. عتق العبد، وطلقت المرأة؛ لأنه معتق للعبد بالصفة بعد عقد الطلاق بالصفة. وإن قال لعبده: متى دخلت هذه الدار فأنت حر، ثم قال لامرأته: متى عتق

مسألة: تزوج أمة أبيه وعلق طلاقها بموته

عبدي.. فأنت طالق، ثم دخل الدار.. عتق العبد، وطلقت المرأة؛ لأن صفة الطلاق وقوع الحرية، وقد وقعت الحرية بعد عقد الطلاق بالصفة. [مسألة: تزوج أمة أبيه وعلق طلاقها بموته] وإن تزوج رجل أمة أبيه، ثم قال الابن: إذا مات أبي فأنت طالق، فمات الأب ولا دين عليه والابن وارثه.. فهل تطلق؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي العباس، وابن الحداد، والشيخ أبي حامد في درسه -: أنها لا تطلق؛ لأن الأب إذا مات.. ورثها الابن أو ورث بعضها، فينفسخ النكاح، والطلاق لا يقع في حال انفساخ النكاح، كما لو قال: أنت طالق مع موتي. والثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد في درسه ثانية -: أنها تطلق؛ لأن بموت الأب لا يحصل الفسخ، وإنما يملكها بموت الأب، ثم ينفسخ النكاح، فيكون وقوع الطلاق سابقا للانفساخ، فوقع. فإن كان على الأب دين.. فعلى قول الإصطخري: الدين يمنع انتقال الملك إلى الورثة، فيقع الطلاق. وعلى المذهب: لا يمنع، فيكون كما لو لم يكن عليه دين. فإن كانت بحالها، وقال الأب: إذا مت فأنت حرة، فمات الأب ولا دين عليه، فإن كانت تخرج من الثلث.. وقع الطلاق؛ لأنها تعتق بموت الأب، ولا يملكها الابن. وإن كان على الأب دين.. فإنها لا تعتق، فإذا قلنا: الدين يمنع انتقال الملك.. طلقت، وإذا قلنا: لا يمنع.. كان الطلاق على وجهين. وإن لم يكن على الأب دين إلا أنها لا تخرج من الثلث.. قال ابن الصباغ: فإن لم يجز الورثة.. عتق منها ما يخرج من الثلث، ورق الباقي، ولم يقع الطلاق على قول ابن الحداد.

فرع: علق طلاقها على شرائه لها وعلق سيدها حريتها على بيعها

وإن أجاز الورثة، فإن قلنا: إن الإجازة ابتداء عطية من الورثة.. لم يقع الطلاق، وإن قلنا: إنه تنفيذ.. وقع الطلاق. وإن كاتبها الأب ثم مات.. قال ابن الصباغ: لم يقع الطلاق على قول ابن الحداد؛ لأن المكاتبة ينتقل ملكها إلى الورثة، وينفسخ نكاحها. [فرع: علق طلاقها على شرائه لها وعلق سيدها حريتها على بيعها] وإن تزوج حر أمة غيره، فقال: إذا اشتريتك فأنت طالق، وقال سيدها: إن بعتك فأنت حرة، فاشتراها الزوج.. قال ابن الحداد: عتقت وطلقت؛ لأن صفة العتق والطلاق وجدا جميعا. قال أصحابنا: أما العتق: فيقع بكل حال، وأما الطلاق: فإنما يقع على القول الذي يقول: ينتقل الملك إلى المشتري بالعقد والتفرق، أو على القول الذي يقول: إنه موقوف، فأما على القول الذي يقول: يملكها المشتري بنفس العقد.. فلا تطلق؛ لأن النكاح ينفسخ فلا يصادف الطلاق زوجية. قال ابن الصباغ: ويجيء هاهنا ما ذكره الشيخ أبو حامد التي قبلها: أن الطلاق يقع؛ لأن الملك يحصل على هذا عقيب الشراء فتوجد الصفة فتطلق، والفسخ يقع بعد الملك، فكان وقوع الطلاق سابقا. قال ابن الحداد: قال الشافعي: (وإن اشترى امرأته الأمة، فلم يتفرق هو والبائع حتى طلقها ثلاثا، فإن تم الشراء.. فلا طلاق؛ لأنه يستدل على أن طلاقه صادف أمته لا امرأته. وإن لم يتم الشراء.. عمل بطلاقه وحرمت عليه) ، وهذا على القول الذي يقول: (إنه موقوف) .

فرع: علق طلاقه على كونه يملك أكثر من مائة أو لا يملك إلا مائة

[فرع: علق طلاقه على كونه يملك أكثر من مائة أو لا يملك إلا مائة] قال أبو العباس: إذا قال لامرأته: إن كنت أملك أكثر من مائة فأنت طالق، وكان معه خمسون، فإن قال: أردت أني لا أملك زيادة على مائة.. لم يحنث؛ لأنه صادق. وإن قال: أردت بيميني أني أملك مائة.. حنث. وإن أطلق.. ففيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأن هذا يعبر به عن ملك المائة، فإذا كان بخلافه.. حنث. والثاني: لا يحنث؛ لأنه علق الطلاق بملكه أكثر من مائة، وليس يملك ذلك، فلم يقع طلاقه. فأما إذا قال: إن كنت لا أملك إلا مائة فأنت طالق.. فإنه إذا كان يملك أقل من مائة.. فإنه يحنث. ومن أصحابنا من يحكي فيه وجهين. والأول أصح؛ لأن (إلا) هاهنا استثناء من النفي فيجب أن يكون إثباتا. [مسألة: علق طلاقها بقدوم فلان] وإن قال: إذا قدم فلان فأنت طالق، فمات فلان قبل أن يقدم، ثم قدم به.. لم تطلق؛ لأنه لم يقدم وإنما قدم به. وهكذا: إذا أكره فقدم به محمولا.. لم تطلق؛ لأنه لا يقال له: قدم. وإن أكره حتى قدم بنفسه.. فهل تطلق؟ فيه قولان، كما لو أكل في الصوم مكرها على الأكل. وإن قدم غير مكره والمحلوف عليه عالم باليمين.. حنث الحالف. وإن كان غير عالم باليمين، أو كان عالما ثم نسيها عند القدوم.. نظرت: فإن كان القادم ممن لا يقصد الحالف منعه من القدوم، كالسلطان أو الحجيج أو أجنبي لا يمنع من القدوم لأجل يمين الحالف.. طلقت؛ لأن ذلك ليس بيمين، وإنما هو تعليق طلاق بصفة وقد وجدت، فوقع الطلاق، كقوله: إن دخل الحمار الدار أو طلعت الشمس فأنت طالق.

فرع: علق طلاقه بضرب زيد فضربه بعد موته

وإن كان القادم ممن يقصد الحالف منعه من القدوم، كقرابة الرجل أو قرابة المرأة أو بعض من يسوؤه طلاقها.. ففيه قولان، كالقولين فيمن حلف لا يفعل شيئا، ففعله ناسيا. وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: ينبغي أن يقال: إذا كان المحلوف على قدومه ممن يمنعه الحالف من القدوم باليمين.. أن يرجع إلى قصد الحالف، فإن قصد منعه من القدوم.. فهو كما مضى، وإن أراد أن يجعل ذلك صفة.. كان ذلك صفة. قال الطبري: فلو قدم المحلوف على قدومه وهو مجنون، فإن كان يوم عقد اليمين عاقلا ثم جن بعد ذلك.. لم يقع الطلاق؛ لأنه لا حكم لفعله في ذلك. وإن كان في ذلك اليوم مجنونا.. وقع الطلاق؛ لأنه يجري مجرى الصفات. [فرع: علق طلاقه بضرب زيد فضربه بعد موته] ] : وإن قال لها: إذا ضربت فلانا فأنت طالق، فضربه بعد موته.. فقال أكثر أصحابنا: لم تطلق؛ لأن القصد بالضرب أن يتألم به المضروب، وهذا لا يوجد في ضرب الميت. هذا هو المشهور. وقال ابن الصباغ: وهذا يخالف أصلنا؛ لأنا لا نراعي إلا ظاهرا من اللفظ في اليمين دون ما يقصد به في العادة، ألا ترى أنه لو حلف: لا ابتعت هذا، فابتاعه له وكيله.. لم يحنث، وإن كان القصد بالابتياع هو التملك وقد حصل له؟ وحقيقة الضرب موجودة في ضرب الميت وإن لم يألم به، ألا ترى أنه لو ضربه وهو نائم أو سكران فلم يتألم به، وإن ضربه ضربا لا يؤلمه.. لبر في يمينه؟ [فرع: علق طلاقها على رؤيتها شخصا فرأته] وإن قال: إن رأيت فلانا فأنت طالق، فرأته حيا أو ميتا.. طلقت؛ لأن رؤيته حاصلة وإن كان ميتا.

مسألة: علق طلاقها على خروجها بغير إذنه

قال ابن الصباغ: وإن رأته مكرهة.. فهل تطلق؟ فيه قولان على ما ذكرناه في القدوم. وإن رأته في مرآة أو رأت ظله في الماء.. لم تطلق؛ لأنها ما رأته، وإنما رأت مثاله. وإن رأته من وراء زجاج شفاف.. طلقت؛ لأنها رأته حقيقة. [مسألة: علق طلاقها على خروجها بغير إذنه] وإن قال: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، فإن خرجت بغير إذنه.. طلقت. فإن أذن لها فخرجت.. انحلت اليمين، فإن خرجت بعد ذلك.. لم تطلق. وكذلك إذا قال: إن خرجت إلا بإذني، أو قال: إن خرجت إلا أن آذن لك، أو حتى آذن لك، أو إلى أن آذن لك.. فالحكم واحد. وقال أبو حنيفة: (إذا قال: إلا بإذني، أو قال: إن خرجت بغير إذني، فإذا خرجت بإذنه.. لم تنحل اليمين، ومتى خرجت بعد ذلك بغير إذنه.. حنث) . ووافقنا في الألفاظ الثلاثة. وخالفنا أحمد في الكل. دليلنا: أن اليمين تقدمت بخروج واحد؛ لأن هذه الحروف لا تقتضي التكرار، فلم يحنث بما بعد الأول؛ لأن قوله لا يقتضي التكرار. وإن قال: كلما خرجت بغير إذني فأنت طالق، فخرجت بغير إذنه.. طلقت، وإن خرجت بغير إذنه ثانيا.. طلقت الثانية، وإن خرجت بغير إذنه ثالثا.. طلقت الثالثة؛ لأن (كلما) تقتضي التكرار. وإن قال: إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق، فخرجت إلى غير الحمام بغير إذنه.. طلقت، وإن خرجت قاصدة إلى الحمام ثم عدلت إلى غير

مسألة: علق طلاقها على مخالفة أمره أو على نهيها له عن منفعة أمه

الحمام.. لم تطلق؛ لأن قصدها بالخروج كان إلى الحمام. وإن قصدت بخروجها الحمام وغيره.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تطلق؛ لأن الصفة خروجها إلى غير الحمام، وهذا الخروج مشترك. والثاني: تطلق؛ لأنه وجد الخروج إلى غير الحمام بغير الإذن وانضم إليه غيره فطلقت، كما لو قال: إن كلمت زيدا فأنت طالق، فكلمت زيدا وعمرا معا. وإن أذن لها بالخروج، فخرجت ولم تعلم بالإذن.. لم تطلق؛ لأن الصفة لم توجد؛ لأنه شرط إذا خرجت بغير إذنه وقد وجد الإذن منه وإن لم تعلم به. هذا هو المشهور. وحكى الطبري: إذا خرجت على ظن أنها تطلق.. فهل تطلق؟ فيه وجهان، الظاهر: أنها لا تطلق، بناء على القولين في الوكيل إذا تصرف بعد العزل وقبل العلم بالعزل. [مسألة: علق طلاقها على مخالفة أمره أو على نهيها له عن منفعة أمه] إذا قال لها: إن خالفت أمري فأنت طالق، ثم قال لها: لا تكلمي أباك، فكلمته.. لم تطلق؛ لأنها لم تخالف أمره، وإنما خالفت نهيه. وإن قال لها: متى نهيتيني عن منفعة أمي فأنت طالق، فقالت له: لا تعط أمك مالي.. لم تطلق؛ لأنه لا يجوز له أن يعطي أمه مال زوجته، ولا يجوز للأم أن تنتفع به. [فرع: علق طلاقها على مكالمة رجل] وإن قال لها: إن كلمت زيدا فأنت طالق، فكلمته بحيث يسمع كلامها.. طلقت، سواء سمعها أو لم يسمعها؛ لوجود الصفة. ولهذا يقال: كلمته فلم يسمع.

وإن كلمته وهو منها على مسافة بعيدة لا يسمع كلامها في العادة.. لم تطلق؛ لأنه لا يقال: كلمته. وإن كان أصم، فكلمته بحيث يسمع لو كان يسمع.. ففيه وجهان: أحدهما: تطلق؛ لأنها قد كلمته، وإنما لم يسمع لعارض، فهو كما لو لم يسمع لشغل. والثاني: لا تطلق؛ لأن الاعتبار بما يكون كلاما له، وذلك ليس بكلام له، كما يختلف الكلام في القرب والبعد. وإن كلمته وهو ميت.. لم تطلق؛ لأن الميت لا يكلم. فإن قيل: فقد «كلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتلى بدر وهم في القليب حيث قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا عتبة! يا شيبة! يا فلان! هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ ". فقيل: يا رسول الله، أتكلم الموتى؟! فقال: " اللهم إنهم لأسمع منكم، ولكن لم يؤذن لهم في الجواب» . قلنا: تلك معجزة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن الله رد إليهم أرواحهم حتى سمعوا كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن كان الميت لا يسمع، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] [فاطر: 22] ، سمى الكفار بمنزلة من في القبور. وإن كلمته وهو نائم، أو مغمى عليه.. لم تطلق، كالميت. وإن كلمته وهي مجنونة.. قال ابن الصباغ: لم يحنث. وإن كانت سكرانة.. حنث؛ لأن السكران بمنزلة الصاحي في الحكم. وإن كلمته وهو سكران، فإن كان بحيث يسمع.. حنث، وإن كان بحيث لا يسمع.. لم يحنث.

فرع: علق طلاقها بمكالمتها وعلقت عتق عبدها بمكالمته

[فرع: علق طلاقها بمكالمتها وعلقت عتق عبدها بمكالمته] وإن قال لها: إن بدأتك بالكلام فأنت طالق، ثم قالت له: إن بدأتك بالكلام فعبدي حر، فكلمها.. لم تطلق ولم يعتق عبده؛ لأن يمينه انحلت بيمينها، ويمينها انحلت بكلامه. وإن قال لها: إن كلمتك فأنت طالق، وإن دخلت الدار فأنت طالق.. طلقت؛ لأنه كلمها باليمين الثانية. وإن أعاد اليمين الأولى.. طلقت؛ لأنه كلمها. وإن قال لها: إن كلمتك فأنت طالق فاعلمي ذلك.. طلقت؛ لأنه كلمها بقوله: فاعلمي ذلك. ومن أصحابنا من قال: إن وصله باليمين.. لم تطلق؛ لأنه من صلة الأول. والأول أصح. [فرع: علق طلاقها بمكالمة اثنين أو أحدهما حتى قدوم الآخر] وإن قال لها: أنت طالق إن كلمت زيدا وعمرا وبكر مع خالد - برفع بكر - فكلمت زيدا وعمرا.. طلقت؛ لأن اليمين على كلامهما وقد وجد، وقوله: (وبكر مع خالد) لا يتعلق باليمين؛ لأنه ليس بمعطوف على الأولين. قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون كلامها لزيد وعمرو في حال كون بكر مع خالد، مثل قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154] [آل عمران: 154] ، فكانت هذه الجملة حالا من الأولى، فكذلك هاهنا. فإن كلمت زيدا أو عمرا.. لم تطلق؛ لأن صفة الطلاق كلامهما. فإن قال لها: أنت طالق إن كلمت زيدا وعمرا وخالدا، فكلمت بعضهم.. لم تطلق.

مسألة: طلقها على مكثها وخروجها من ماء جار أو راكد أو كانت على سلم

وإن قال: أنت طالق إن كلمت زيدا ولا عمرا ولا خالدا، فكلمت واحدا منهم.. طلقت. وإن قال لها: إن كلمت زيدا إلى أن يقدم عمرو، أو حتى يقدم عمرو فأنت طالق، فإن كلمت زيدا قبل قدوم عمرو.. طلقت. وإن كلمته بعد قدوم عمرو.. لم تطلق؛ لأن (حتى) و (إلى) للغاية، والغاية ترجع إلى الكلام لا إلى الطلاق، فيصير كقوله: أنت طالق إن كلمت زيدا إلى أن يشاء عمرو، أو حتى يشاء عمرو. [مسألة: طلقها على مكثها وخروجها من ماء جار أو راكد أو كانت على سلم] إذا كانت في ماء جار، فقال لها: إن أقمت في هذا الماء فأنت طالق، وإن خرجت منه فأنت طالق.. فأكثر أصحابنا قالوا: لا تطلق، سواء أقامت فيه أو خرجت منه؛ لأن الإشارة وقعت إلى الماء الذي هي فيه، فإذا ذهب وجاء غيره.. فلم تقم في الماء الذي تناولته اليمين، ولم تخرج منه. وقال القفال: عندي أنها على قولين، كما لو قال لها: إن لم تشربي ماء هذا الكوز اليوم فأنت طالق، فانصب ذلك الماء.. فهل تطلق؟ على قولين. فقال أبو علي السنجي: وهذا يشبه هذا، إلا أن الشرب قد فات من كل وجه، والمقام في ذلك الماء لم يفت بالجريان؛ لأنها لو جرت في ذلك الماء بجريان الماء.. لكان يحنث، فمكثها حتى جاوزها ذلك الماء خروج منه. ألا ترى أنه لو حول ذلك الماء في الكوز إلى دار، بحيث يمكنها الذهاب إليه للشرب في هذا اليوم، فلم تفعل.. تعلقت به اليمين؛ لأن الماء قائم يمكنها شربه؟ ولو قال لها: إن لم تخرجي من هذا النهر الآن فأنت طالق، فلم تخرج.. طلقت؛ لأن النهر اسم للمكان الذي فيه الماء، والخروج منه ممكن.

فرع: علق طلاقها على ازدراد التمرة أو لفظها وغير ذلك

وإن كانت في ماء راكد، فقال لها: إن أقمت في هذا الماء فأنت طالق، وإن خرجت منه فأنت طالق.. فالخلاص من الحنث: أن تحمل منه مكرهة عقيب يمينه. وإن كانت على سلم، فقال لها: إن صعدته فأنت طالق، وإن نزلت منه فأنت طالق، وإن أقمت عليه فأنت طالق.. فالخلاص منه: أن تتحول إلى سلم آخر، أو تنزل منه مكرهة. [فرع: علق طلاقها على ازدراد التمرة أو لفظها وغير ذلك] وإن كان في فيها تمرة، فقال لها: إن أكلتها فأنت طالق، وإن رميتها فأنت طالق، وإن أمسكتها فأنت طالق.. فالخلاص من الحنث: أن تأكل بعضها؛ لأنها إذا فعلت ذلك.. فما أكلتها، ولا رمتها، ولا أمسكتها. وإن قال لها: إن أكلتها فأنت طالق، وإن لم تأكليها فأنت طالق.. فحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: إذا أكلت بعضها.. لم تطلق، قال ابن الصباغ: وهذا ليس بصحيح؛ لأنها إذا أكلت بعضها فما أكلتها، فيجب أن يحنث. والذي قاله ابن الصباغ إنما يتصور الحنث في عدم أكلها إذا ماتت المرأة، أو تلف باقي التمرة قبل موتها، فأما قبل ذلك.. فلا يتصور الحنث في عدم أكلها. والذي رأيته في " التعليق " عن الشيخ أبي حامد: إذا قال: إذا أكلتيها فأنت طالق، وإن أخرجتيها فأنت طالق، فإذا أكلت بعضها.. لم يحنث؛ لأنها لم تأكلها ولم تخرجها. وإن قال: إن أكلت هذه التمرة فأنت طالق، فرماها في تمر كثير واختلطت ولم تتميز، وأكل الجميع إلا تمرة واحدة، ولم يعلم أنها المحلوف عليها أو غيرها.. لم تطلق؛ لجواز أن تكون هي المحلوف عليها، والأصل بقاء النكاح وعدم وقوع الطلاق.

فرع: علق طلاقها على إخباره بعدد ما أكلت تمرا وغير ذلك

[فرع: علق طلاقها على إخباره بعدد ما أكلت تمرا وغير ذلك] وإن أكلت تمرا كثيرا، وقال: إن لم تخبريني بعدد ما أكلت فأنت طالق، أو قال: إن لم تخبريني بعدد حب هذه الرمانة قبل كسرها فأنت طالق.. فالخلاص من أن يحنث: أن تقول في الأولى: أكلت واحدة، أكلت اثنتين، أكلت ثلاثا، فلا تزال تعدد واحدة بعد واحدة حتى يتيقن أن عدد الذي أكلته قد دخل فيما أخبرته به. وكذلك تقول: عدد حب هذه الرمانة واحدة اثنتان، فتعدد واحدة بعد واحدة حتى يعلم أن عدد حبها قد دخل فيما أخبرت به. وإن أكلا تمرا واختلط النوى، فقال لها: إن لم تميزي نوى ما أكلت، أو ما أكل كل واحد منها فأنت طالق، فميزت كل نواة وحدها.. لم تطلق؛ لأنها ميزت. وإن اتهمها بسرقة شيء، فقال لها: أنت طالق إن لم تصدقيني أنك سرقت، فقالت: سرقت وما سرقت.. لم تطلق؛ لأنها صدقته في أحد الخبرين. وإن قال لها: إن سرقت مني شيئا فأنت طالق، فسلم إليه دراهم أو غيرها، فأخذت من ذلك شيئا.. لم تطلق؛ لأن ذلك ليس بسرقة؛ بدليل: أنها لا تقطع. [مسألة: علق طلاقهن على من يبشره بقدوم زيد] إذا كان له زوجات، فقال لهن: من بشرتني بقدوم زيد فهي طالق، فقالت له واحدة منهن: قد قدم، وكانت صادقة.. طلقت لوجود الصفة. فإن أخبرته الثانية بقدومه.. لم تطلق؛ لأن البشارة: ما دخل بها السرور، وقد حصل ذلك بقول الأولى. وإن كانت الأولى كاذبة.. لم تطلق؛ لأنه لا بشارة في الكذب. وإن قال لهن: من أخبرتني بقدوم زيد.. فهي طالق، فقالت له واحدة منهن: قد قدم.. طلقت، صادقة كانت أو كاذبة؛ لأن الخبر ما دخله الصدق أو الكذب. فإن

مسألة: علق طلاقها على مشيئتها

أخبرته بقدومه بعدها ثانية وثالثة ورابعة.. طلقن؛ لأنه علق الطلاق بإخبارهن إياه بقدوم زيد، والخبر قد تكرر منهن فوقع الطلاق به. هذا نقل الشيخ أبي حامد والبغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قال: أيتكن أخبرتني بقدوم زيد فهي طالق، فأخبرته واحدة منهن، ولم يكن قادما.. لم تطلق. وإن قال: أيتكن أخبرتني بأن زيدا قد قدم فهي طالق، فإذا أخبرته واحدة منهن بقدومه.. طلقت وإن لم يكن قادما؛ لأنه علق الطلاق بالإخبار، وقد وجد. وإن قال: أيتكن بشرتني بقدوم زيد فهي طالق.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه كالإخبار على ما ذكره. والثاني: أنه كما ذكره البغداديون. [مسألة: علق طلاقها على مشيئتها] وإن قال لها: أنت طالق إن شئت، فإن قالت في الحال: شئت وكانت صادقة.. وقع الطلاق ظاهرا وباطنا؛ لوجود الصفة. وإن كانت كاذبة.. وقع الطلاق في الظاهر، وهل يقع في الباطن؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقع؛ لأن قولها (شئت) : إخبار عن مشيئتها بقلبها واختيارها للطلاق، فإذا لم تشأ ذلك بقلبها.. لم يقع في الباطن. والثاني: يقع في الباطن؛ لأن الصفة قولها: (شئت) وقد وجدت، فوقع الطلاق ظاهرا وباطنا، كما لو علق الطلاق على دخولها الدار فدخلت. وإن قالت: شئت إن شئت.. لم يقع الطلاق، سواء شاء الزوج أو لم يشأ؛ لأنه علق الطلاق على مشيئتها ولم توجد منها المشيئة، وإنما وجد منها تعليق المشيئة بمشيئته، فهو كما لو قالت: شئت إذا طلعت الشمس.

فرع: علق طلاقها على مشيئة زيد أو مشيئتهما معا

[فرع: علق طلاقها على مشيئة زيد أو مشيئتهما معا] وإن قال: أنت طالق إن شاء زيد، فإن قال زيد على الفور: شئت.. وقع الطلاق. وإن لم يشأ على الفور.. لم يقع الطلاق. وإن قال: أنت طالق إن شئت وزيد، فإن قالا في الحال: شئنا.. وقع الطلاق. وإن شاء أحدهما دون الآخر.. لم يقع الطلاق؛ لأنه علق الطلاق بمشيئتهما، وذلك لا يوجد بمشيئة أحدهما. وإن قالت: شئت إن شاء زيد، فقدم زيد: شئت.. لم تطلق؛ لأنها لم توجد منها المشيئة، وإنما وجد منها تعليق المشيئة. [فرع: علق طلاقها على مشيئتها فشاءت مجنونة أو صغيرة وغير ذلك] وإن علق الطلاق على مشيئتها، فشاءت وهي مجنونة.. لم تطلق؛ لأن المجنونة لا مشيئة لها. وإن شاءت وهي سكرانة.. فهي كما لو طلق السكران. وإن شاءت وهي صغيرة.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال ابن الحداد: لا تطلق؛ لأن ذلك خبر عن مشيئتها واختيارها للطلاق، والصغيرة لا يقبل خبرها. والثاني: تطلق؛ لأن الصفة قولها: (شئت) وقد وجد ذلك منها، فهو كما لو علق الطلاق على دخولها الدار فدخلت. ولأن لها مشيئة، ولهذا يرجع إلى اختيارها لأحد الأبوين. وإن كانت خرساء، فأشارت إلى المشيئة.. وقع الطلاق، كما إذا أشار الأخرس إلى الطلاق. وإن كانت ناطقة وقت اليمين فخرست فأشارت.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يقع الطلاق؛ لأن مشيئتها كانت بالنطق.

فرع: علق طلاقها على محبتها وغيره أو إذا لم يجر غريمه على الشوك

والثاني: يقع اعتبارا بحالها وقت المشيئة. وإن قال: أنت طالق إن شاء الحمار.. فهو كما لو قال: أنت طالق إن طرت أو صعدت السماء. [فرع: علق طلاقها على محبتها وغيره أو إذا لم يجر غريمه على الشوك] وإن قال لها: أنت طالق إن كنت تحبينني، أو إن كنت تبغيضيني، أو إن كنت معتقدة لكذا، أو محبة لكذا.. رجع في ذلك إليها؛ لأنه لا يعلم إلا من جهتها. قال الصيمري: وإن قال لغريمه: امرأتي طالق إن لم أجرك على الشوك ولا نية له.. فقد قيل: إذا ماطله مطالا بعد مطال.. بر في يمينه. [فرع: طلق لرضا إنسان] وإن قال: أنت طالق لفلان، أو لرضا فلان، ولا نية له.. طلقت في الحال؛ لأن معناه: لأجل فلان ولكي يرضى فلان، فصار كقوله لعبده: أنت حر لوجه الله، أو لرضا الله تعالى. وإن قال: أردت أن رضا فلان شرط في وقوع الطلاق.. فهل يقبل في الحكم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقبل؛ لأنه يعدل بالكلام عن ظاهره، فلم يقبل، كما لو قال: أنت طالق، ثم قال: أردت إذا دخلت الدار. فعلى هذا: يدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. والثاني: يقبل في الحكم؛ لأن قوله: (لفلان، أو لرضا فلان) يحتمل التعليل والشرط، فإذا أخبر أنه أراد أحدهما.. قبل.

مسألة: علق طلاقها على مكالمتها أو دخول دارها مستعملا حروف عطف

[مسألة: علق طلاقها على مكالمتها أو دخول دارها مستعملا حروف عطف] وإن قال لها: إن كلمتك أو دخلت دارك فأنت طالق، فإن كلمها أو دخل دارها.. طلقت. وإن قال لها: إن كلمتك ودخلت دارك فأنت طالق.. لم تطلق إلا بالدخول والكلام، سواء تقدم الدخول أو الكلام؛ لأن (الواو) تقتضي الجمع دون الترتيب. وإن قال: إن كلمتك فدخلت دارك فأنت طالق.. لم تطلق حتى يكلمها ويدخل دارها ويكون دخوله الدار عقيب كلامها؛ لأن حكم (الفاء) في العطف الترتيب والتعقيب. وإن قال لها: أنت طالق إن كلمتك ثم دخلت دارك.. لم تطلق حتى يكلمها ويدخل دارها بعد كلامها بمدة، سواء طالت المدة أو لم تطل؛ لأن (ثم) تقتضي الترتيب والمهلة. وإن قال: إن كلمتك وإن دخلت دارك فأنت طالق.. طلقت بكل واحدة منهما طلقة؛ لأنه كرر حرف الشرط، فكان لكل واحد منهما جزاء. [فرع: قوله أنت طالق لو دخلت الدار] قال ابن الصباغ: إذا قال لها: أنت طالق لو دخلت الدار.. فقد قال بعض أصحابنا: يقع الطلاق؛ لأن (لو) تقتضي الجواب؛ لأن معناه: لو دخلت الدار لكان كذا وكذا، فلما قطع الجواب.. وقع الطلاق، كأنه أراد أن يجعله يمينا، فلم يجعله، فصار واقعا. وحكي عن أبي يوسف: أنه قال: يكون بمنزلة قوله: إن دخلت الدار.

فرع: علق طلاق زوجتيه بدخول الدار أو بأكل رغيف

[فرع: علق طلاق زوجتيه بدخول الدار أو بأكل رغيف] فرع: [علق طلاق زوجتيه بدخولهما دارين وغير ذلك أو إحداهما بأكل رغيف أجزاء] : وإن قال لامرأتين له: إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما طالقان، فإن دخلت كل واحدة منهما الدارين.. طلقتا. وإن دخلت إحداهما إحدى الدارين، والأخرى الدار الأخرى.. ففيه وجهان: أحدهما: تطلقان؛ لأنهما دخلتا الدارين. والثاني: لا تطلق واحدة منهما؛ لأنه يقتضي دخول كل واحدة منهما الدارين. وإن قال لهما: أنتما طالقان إن ركبتما هاتين الدابتين، فركبت كل واحدة منهما دابة.. فعلى الوجهين في الأولى. وإن قال: إن أكلتما هذين الرغيفين فأنتما طالقان، فأكلت كل واحدة منهما رغيفا.. قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان، كالدارين. قال ابن الصباغ: وينبغي أن يقع الطلاق هاهنا وجها واحدا؛ لأن اليمين واحدة، واليمين لا تنعقد على أن تأكل كل واحدة منهما الرغيفين، بخلاف دخول الدارين. وإن قال لها: أنت طالق إن أكلت هذا الرغيف، وأنت طالق إن أكلت نصفه، وأنت طالق إن أكلت ربعه، فإن أكلت جميع الرغيف.. طلقت ثلاثا. قال الصيمري: وإن أكلت نصفه.. طلقت ثلاثا. ولم يذكر توجيهه! فيحتمل أنه أراد لأنه وجد بأكل نصفه ثلاث صفات: أكل نصفه وأكل ربعيه، إلا أن حرف (إن) لا يقتضي التكرار. ألا ترى أنه لو قال: أنت طالق إن أكلت ربعه فأكلت نصفه.. لم تطلق إلا واحدة، وينبغي أن لا تطلق إلا طلقتين؛ لأنه وجد صفتان، وهو أكل ربعه وأكل نصفه.

فرع: علق الطلاق على دخولها لمكانين

[فرع: علق الطلاق على دخولها لمكانين] قال ابن الصباغ: إذا قال: إن دخلت الدار، وإن دخلت هذه الأخرى فأنت طالق.. لم تطلق إلا بدخولهما؛ لأنه علق الطلاق بدخولهما. وإن قال: أنت طالق إن دخلت هذه الدار، وإن دخلت الأخرى.. طلقت بدخول كل واحدة منهما، ويفارق الأولى؛ لأنه جعل الطلاق جوابا لدخولهما. [مسألة: علق طلاقها على شرط من شرط] ] : إذا قال: أنت طالق إن كلمت زيدا إن كلمت عمرا إن ضربت بكرا.. لم تطلق حتى تضرب بكرا أولا، ثم تكلم عمرا، ثم تكلم زيدا؛ لأن الشرط دخل على الشرط.. فتعلق الأول بالثاني، كقوله تعالى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] [هود: 34] ، وتقديره: إن كان الله يريد أن يغويكم.. فلا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم. وإن قال: إن أكلت إن دخلت الدار فأنت طالق، أو أنت طالق إن أكلت متى دخلت الدار، أو متى أكلت متى دخلت الدار.. لم تطلق حتى تدخل الدار أولا، ثم تأكل؛ لما ذكرناه. وكذلك إذا قال لها: أنت طالق إن ركبت، إن لبست.. لم تطلق حتى تلبس ثم تركب. وإن قال لها: أنت طالق إذا قمت إذا قعدت.. لم تطلق حتى تقعد أولا ثم تقوم. وإن قال: أنت طالق إن أعطيتك إن وعدتك إن سألتني.. لم تطلق حتى تسأله، ثم يعدها، ثم يعطيها. [فرع: علق الطلاق بأن دخلت الدار أو بما يفيد التعليل] وإن قال لها: أنت طالق أن دخلت الدار، أو أن كلمتني - بفتح الهمزة - فالذي ذكر الشيخ أبو حامد: إن لم يكن الحالف من أهل الإعراب.. كان ذلك بمنزلة قوله - بكسر الهمزة - وإن كان من أهل الإعراب.. وقع الطلاق في الحال؛ لأن (أن) المفتوحة

فرع: علق طلاقها بقوله إن دخلت الدار أنت طالق أو وأنت طالق

ليست للشرط، وإنما هي للتعليل، كأنه قال: أنت طالق لأنك دخلت الدار، أو لأنك كلمتني. وقال القاضي أبو الطيب: يقع الطلاق في الحال، إلا إن كان الحالف من غير أهل الإعراب وقال: أردت به الشرط.. فيقبل؛ لأن الظاهر أنه إذا لم يكن من أهل الإعراب: أنه لا يفرق بين المفتوحة والمكسورة. قال ابن الصباغ: وهذا أولى؛ لأنه قبل أن يتبين لنا مراده.. يجب حمل لفظه على مقتضاه في اللغة، فلا يكون لعدم معرفته بالكلام تصرف عما يقتضيه بغير قصده. [فرع: علق طلاقها بقوله إن دخلت الدار أنت طالق أو وأنت طالق] قال أبو العباس: وإن قال: إن دخلت الدار أنت طالق بحذف الفاء.. لم تطلق حتى تدخل الدار. وقال محمد بن الحسن: يقع الطلاق في الحال. دليلنا: أن الشرط يثبت بقوله: (إن دخلت الدار) ، ولهذا: لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار.. ثبت الشرط وإن لم يأت بالفاء. وإن قال: إن دخلت الدار وأنت طالق.. سئل، فإن قال: أردت الطلاق في الحال.. قبل قوله من غير يمين؛ لأنه أقر بما هو أغلظ عليه. وإن قال: أردت بدخولها الدار وطلاقها شرطين لعتق أو طلاق غيرها، وهو أني أردت أن أقول: إن دخلت الدار وأنت طالق فامرأتي الأخرى طالق، أو عبدي حر، ثم سكت عن طلاق الأخرى، وعن عتق العبد.. قبل قوله مع يمينه؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. وإن قال: أردت أن أقول: إن دخلت الدار فأنت طالق، وأقمت (الواو) مقام (الفاء) .. قبل قوله مع يمينه؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.

مسألة: قال لامرأته وأجنبية إحداكما طالق أو ذكر اسما مشتركا بينهما

[مسألة: قال لامرأته وأجنبية إحداكما طالق أو ذكر اسما مشتركا بينهما] وإن قال لامرأته وأجنبية: إحداكما طالق.. سئل عن ذلك، فإن قال: أردت به الزوجة.. قبل. وإن قال: أردت به الأجنبية، وقالت الزوجة: بل أردتني.. فالقول قوله مع يمينه: أنه ما أرادها وإنما أراد الأجنبية؛ لأن الطلاق إنما يقع على امرأته؛ بأن يشير إليها أو يصفها، وقوله: (إحداكما) ليس بإشارة إليها ولا بصفة لها، فلم يقع عليها الطلاق. وإن كانت له زوجة اسمها زينب، وجارة اسمها زينب، فقال: زينب طالق، وقال: أردت الجارة، وقالت زوجته: بل أردتني.. فهل يقبل قوله في الحكم مع يمينه؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال القاضي أبو الطيب: يقبل قوله مع يمينه، كما لو قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طالق. وقال أكثر أصحابنا: لا يقبل؛ لأن هذا الاسم يتناول زوجته وجارته تناولا واحدا، فإذا أوقع الطلاق على من هذا اسمها.. كان منصرفا في الظاهر إلى زوجته. ويخالف قوله: (إحداكما) ؛ لأنه لا يتناول زوجته والأجنبية تناولا واحدا، وإنما يتناول إحداهما دون الأخرى، فإذا أخبر: أنه أراد به الأجنبية دون زوجته.. قبل منه؛ لأن دعواه لا تخالف الظاهر. [مسألة: نادى زينب فأجابته عمرة فقال أنت طالقة وأشار إلى عمرة] مسألة: [نادى زينب فأجابته عمرة فقال: أنت طالقة أو قال: يا زينب أنت طالقة وأشار إلى عمرة] : وإن كان له زوجتان - زينب وعمرة - فقال: يا زينب، فأجابته عمرة، فقال: أنت طالق.. سئل عن ذلك، فإن قال: علمت أن التي أجابتني عمرة، ولكني لم أرد طلاقها، وإنا أردت طلاق زينب.. طلقت زينب ظاهرا وباطنا؛ لأنه اعترف أنه طلقها، وطلقت عمرة بالظاهر؛ لأنه خاطبها بالطلاق، فالظاهر أنه أراد طلاقها، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن ما قاله يحتمل ذلك.

فرع: علق طلاقهما بقوله كلما ولدت إحداكما ولدا

وإن قال: ما علمت أن التي أجابتني عمرة، بل ظننتها زينب وإياها طلقت.. قال الشيخ أبو حامد: فالحكم فيها كالأولى، وهو: أن زينب تطلق ظاهرا وباطنا؛ لاعترافه بذلك. وتطلق عمرة في الظاهر دون الباطن؛ لأنه واجهها بالخطاب بالطلاق. وإن قال: طلقت التي أجابتني ولكن ظننتها زينب.. طلقت عمرة ولم تطلق زينب؛ لأنه أشار بالطلاق إلى عمرة وإن ظنها زينب، فهو كما لو قال لأجنبية: أنت طالق، وقال: ظننتها زوجتي.. لم تطلق زوجته؛ لأن الطلاق انصرف بالإشارة إلى التي أشار إليها دون التي ظنها. وإن قال: أردت عمرة، وإنما ناديت زينب لآمرها بحاجة.. طلقت عمرة؛ لأنه خاطبها بالطلاق، ولا تطلق زينب؛ لأن النداء لا يدل على الطلاق. وإن قال: يا زينب أنت طالق وأشار إلى عمرة.. سئل عن ذلك، فإن قال: قد علمت أن التي أشرت إليها هي عمرة، ولكني لم أردها بالطلاق، وإنما أردت طلاق زينب.. طلقت زينب ظاهرا وباطنا؛ لاعترافه بذلك، وطلقت عمرة في الظاهر؛ لإشارته بالطلاق إليها، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن الحال يحتمل ما يدعيه. وإن قال: لم أعلم أن هذه التي أشرت إليها عمرة، بل ظننتها زينب، ولم أرد بالطلاق إلا هذه التي أشرت إليها.. طلقت عمرة، ولا تطلق زينب؛ لأنه قد أشار بالطلاق إليها ولم يرد به غيرها، واعتقاده أن هذه المشار إليها زينب لا يضر، كما لو قال لأجنبية: أنت طالق وقال: ظننتها زوجتي.. فإن زوجته لا تطلق. [فرع: علق طلاقهما بقوله كلما ولدت إحداكما ولدا] ] . وإن كان له زوجتان - زينب وعمرة - فقال: كلما ولدت إحداكما ولدا فأنتما طالقان، فولدت زينب يوم الخميس ولدا، ثم ولدت عمرة يوم الجمعة ولدا، ثم ولدت زينب يوم السبت ولدا، ثم ولدت عمرة يوم الأحد ولدا.. فإن زينب لما ولدت يوم الخميس.. وقع على كل واحدة منهما طلقة، فلما ولدت عمرة يوم الجمعة

مسألة: علق على وقوع الطلاق طلاقا قبله بالثلاث أو ما يسمى بطلاق التنافي

وقع على كل واحدة منهما طلقة ثانية، فلما ولدت زينب يوم السبت.. وقع على عمرة طلقة ثالثة ولم يقع على زينب بذلك طلاق؛ لأن عدتها انقضت بوضعه - إلا على الحكاية التي حكاها ابن خيران - فلما ولدت عمرة يوم الأحد.. انقضت عدتها به. [مسألة: علق على وقوع الطلاق طلاقا قبله بالثلاث أو ما يسمى بطلاق التنافي] إذا قال لامرأته: متى وقع عليك طلاقي، أو إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم قال لها: أنت طالق.. فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يقع عليها الطلاق الذي باشر إيقاعه - وحكاه القاضي أبو الطيب عن شريح وابن القاص، وهو اختيار ابن الصباغ - لأنه زوج مكلف أوقع الطلاق مختارا فوجب أن يقع، ولا يقع الثلاث قبله؛ لأن وقوعها يوجب ارتفاع الطلاق المباشر، ولا يصح رفع طلاق واقع. ولأنه لو قال لها: إذا انفسخ نكاحك فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم ارتد أو أحدهما، أو اشتراها.. لوقع الفسخ ولم تطلق الثلاث قبله، كذلك هذا مثله. وقال أبو عبد الله - ختن الإسماعيلي -: تقع الطلقة التي باشر إيقاعها، ويقع تمام الثلاث من الثلاث المعلقة بالصفة، وبه قال أصحاب أبي حنيفة. وقال أكثر أصحابنا: لا يقع عليها الطلاق المباشر ولا الطلاق بالصفة، بل هذا حيلة لمن أراد أن لا يقع على امرأته الطلاق بعد ذلك. وبه قال المزني، والشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق، والقفال، وابن الحداد، والقاضي أبو الطيب، والمحاملي، والصيدلاني. وهو الأصح؛ لأنه لو وقع الطلاق الذي باشر إيقاعه.. وقع قبله الثلاث بالصفة، ولو وقع الثلاث قبله.. لم يقع الطلاق المباشر، وما أدى إثباته إلى إسقاطه.. سقط إثباته؛ قياسا على ما قاله الشافعي فيمن زوج عبده بحرة بألف في الذمة وضمنها السيد عنه، ثم باع السيد منها زوجها بالألف قبل الدخول: (أن البيع لا يصح) ؛ لأن إثبات البيع يؤدي إلى إسقاطه فسقط إثباته؛ لأنها إذا ملكت

زوجها.. انفسخ النكاح، وإذا انفسخ النكاح.. سقط المهر؛ لأن الفسخ من جهتها، وإذا سقط المهر.. سقط الثمن، وإذا سقط الثمن.. بطل البيع. وأما الجواب عما ذكره الأول: فمنتقض بالثلاث المعلقة بالصفة؛ فإنه قد أوقعها وهو زوج مكلف مختار، ولم تقع. وأما الفسخ: فإنما وقع؛ لأن إثباته لا يؤدي إلى إسقاطه، بخلاف الطلاق. إذا ثبت هذا: فقد ذكر أصحابنا في طلاق التنافي مسائل: إحداهن: المسألة التي مضت. والثانية - ذكرها المزني في " المنثور " -: إذا قال لها: إذا طلقتك طلاقا أملك به عليك الرجعة فأنت طالق قبله ثلاثا، فإن طلق المدخول بها طلقة أو طلقتين بغير عوض.. لم يقع عليها طلاق؛ لأنه لو وقع عليها ذلك.. لملك عليها الرجعة، ولو ملك عليها الرجعة.. لوقع الثلاث قبله، ولو وقع الثلاث قبله.. لم يقع ما بعده. وإن أوقع عليها الثلاث أو ما دون الثلاث بعوض، أو كانت غير مدخول بها.. وقع عليها الطلاق المباشر؛ لأنه لا يملك به الرجعة عليها، فلا يوجد صفة الثلاث قبله. الثالثة: إذا قال لها: إذا طلقتك ثلاثا فأنت طالق قبله ثلاثا، فإن طلقها ثلاثا.. لم يقع؛ لما ذكرناه. وإن طلقها واحدة أو اثنتين.. وقع ذلك. الرابعة: إذا قال لها: أنت طالق اليوم ثلاثا إن طلقتك غدا، فإن طلقها غدا.. لم يقع عليها طلاق. وإن طلقها بعد غد.. وقع عليها ما أوقعه. الخامسة: إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة قبل طلقة.. فهل يقع عليها طلقة؟ فيه وجهان مضى ذكرهما. السادسة: رجل قال لامرأته: إن لم أحج في هذه السنة فأنت طالق ثلاثا، ثم قال لها قبل أن يحنث: إن حنثت في هذه اليمين فأنت طالق ثلاثا قبل حنثي.. قال القاضي

أبو الطيب: وهذه تعرف بالعمانية؛ لأنها وقعت في عمان وكتبوها إلى بغداد، واختلف فيها القائلون بأن طلاق التنافي لا يقع. فمنهم من قال: لا تنحل اليمين الأولى، فإن لم يحج في سنته.. طلقت؛ لأن عقد اليمين قد صح فلم يرتفع. ومنهم من قال: تنحل اليمين الأولى، قال القاضي أبو الطيب: وأفتيت بذلك وبه أعمل؛ لأنه يعد هذا القول كقوله قبله، فلو وقع الطلاق بالحنث.. لوقع الثلاث قبلها، ولو وقع الثلاث قبلها.. لم يقع الطلاق بالحنث. والقول الأول أن عقد اليمين إذا صح.. لم يرتفع لا يصح؛ لأنه يجوز أن يعلق الطلاق بصفة ثم يسقط حكمه بصفة أخرى، بأن يقول: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق ثلاثا، ثم يقول لزوجته: أنت طالق الآن. السابعة: إذا قال لزوجته: متى دخلت جاريتي الدار وأنت زوجتي فهي حرة، ومتى عتقت فأنت طالق ثلاثا قبل عتقها بثلاثة أيام، فمضت ثلاثة أيام، ثم دخلت الأمة الدار.. لم تعتق الأمة ولم تطلق الزوجة؛ لأنا لو أعتقناها لوجدت الصفة بالطلاق الثلاث قبله؛ لأنها عتقت وقد قال لها: إذا عتقت فأنت طالق قبله ثلاثا بثلاثة أيام، وإذا وقع الطلاق الثلاث قبله.. لم تكن له زوجة في حال دخولها الدار، وإذا لم توجد صفة الزوجية.. لم تعتق، وإذا لم تعتق.. لم يقع الطلاق. الثامنة: قال ابن الحداد: إذا كان عبد بين شريكين، فقال أحدهما للآخر: متى أعتقت نصيبك منه فنصيبي منه حر قبل عتقك إياه بثلاثة أيام - وهما موسران - فأمهل المقول له ثلاثا فأكثر، ثم أعتق نصيبه.. لم يعمل عتقه؛ لأنه لو عمل.. لدل على وقوع عتق صاحبه قبله، ولو وقع عتق صاحبه قبل عتقه.. لما وقع عتقه، وإذا لم يقع عتقه.. لم توجد الصفة في وقوع عتق الذي خاطبه.

مسألة: علق طلاقه على صفة ثم أبان زوجته ثم تزوجها ثم وجدت الصفة

قال القاضي أبو الطيب: لا يحتاج إلى قوله بثلاث، بل يكفي قوله قبل عتقك، ولا يحتاج إلى يسار المقول له، وإنما يحتاج إلى يسار القائل وحده، فإذا أعتق المقول له نصيبه.. لم يعتق؛ لأنه لو عتق نصيبه.. لعتق نصيب القائل قبله، ولو عتق نصيب القائل.. لسرى إلى نصيب المقول له؛ لأنه موسر، وإذا سرى إلى نصيبه.. لم يصح إعتاقه لنصيبه، فكأن إثبات عتق نصيبه يؤدي إلى إسقاطه، فسقط حكم إثباته. [مسألة: علق طلاقه على صفة ثم أبان زوجته ثم تزوجها ثم وجدت الصفة] إذا علق طلاق امرأته على صفة فبانت منه قبل وجود الصفة، ثم تزوجها، ثم وجدت الصفة في النكاح الثاني.. فهل يعود حكم الصفة وتطلق؟ فيه قولان. قال في القديم: (إن أبانها بدون الثلاث.. عاد حكم الصفة قولا واحدا، وإن أبانها بالثلاث.. فهل يعود حكم الصفة؟ فيه قولان) . وقال في الجديد: (إن أبانها بالثلاث ثم تزوجها.. فإن حكم الصفة لا يعود قولا واحدا، وإن أبانها بدون الثلاث.. فهل يعود حكم الصفة؟ فيه قولان) . فالقديم أقرب إلى عود الصفة، فحصل في المسألتين ثلاثة أقوال: أحدها: لا يعود حكم الصفة، سواء بانت بالثلاث أو بما دونها - وهو اختيار المزني وأبي إسحاق المروزي - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طلاق قبل نكاح» فلو قلنا: يعود حكم الصفة.. لكان هذا طلاقا قبل نكاح؛ لأنه عقد قبل هذا النكاح، فلم نحكم

فرع: علق عتق عبده على صفة فباعه ثم اشتراه ثم وجدت الصفة

بوقوعه، كما لو قال لأجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم تزوجها، ثم دخلت الدار. والثاني: يعود حكم الصفة، سواء بانت بالثلاث أو بما دونها، وبه قال أحمد. وقال الشيخ أبو إسحاق والمحاملي: وهو الأصح؛ لأن عقد الطلاق والصفة وجدا في ملك، فهو كما لو لم يتخللهما بينونة. والثالث: أنه إن بانت بما دون الثلاث ثم تزوجها.. عاد حكم الصفة، وإن بانت بالثلاث ثم تزوجها.. لم يعد حكم الصفة -- وبه قال مالك وأبو حنيفة - لأنها إذا بانت بما دون الثلاث.. فإن أحد النكاحين يبنى على الآخر في عدد الطلاق، فكذلك في حكم الصفة. وإذا بانت بالثلاث.. فإن أحدهما لا يبنى على الآخر في عدد الطلاق، فكذلك في حكم الصفة. [فرع: علق عتق عبده على صفة فباعه ثم اشتراه ثم وجدت الصفة] وإن قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، فباعه ثم اشتراه ثم دخل الدار.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: حكمه حكم الزوجة إذا بانت بما دون الثلاث؛ لأنه يمكنه أن يشتريه بعد أن باعه، كما يمكنه أن يتزوج البائن بما دون الثلاث قبل زوج. فعلى هذا: يعود حكم الصفة على القول القديم قولا واحدا. وعلى القول الجديد: هل يعود حكم الصفة؟ على قولين. و [الثاني] : منهم من قال: حكمه حكم الزوجة إذا بانت بالثلاث؛ لأن علائق الملك قد زالت بالبيع، كما زالت بالبينونة بالثلاث. فعلى هذا: لا يعود حكم الصفة على القول الجديد قولا واحدا، وعلى القول القديم هي على قولين.

فرع: الخلاص لمن علق طلاقها بالثلاث على صفة

[فرع: الخلاص لمن علق طلاقها بالثلاث على صفة] وإن علق طلاق امرأته على صفة بحرف لا يقتضي التكرار، مثل أن قال: إن كلمت زيدا فأنت طالق ثلاثا، فأبانها قبل كلامها لزيد، فكلمت زيدا في حال البينونة، ثم تزوجها.. فإن حكم الصفة لا يعود، فإن كلمته بعد النكاح.. لم تطلق. وهذه حيلة في إبطال تعليق الطلاق الثلاث بصفة، بأن يخالعها بما دون الثلاث، أو بلفظ الخلع - إذا قلنا: إنه فسخ - ثم توجد الصفة في حال البينونة إن كانت الصفة غير وطئها، ثم يتزوجها، فلا يعود حكم الصفة، فأما إذا كانت الصفة وطأها.. فلا نأمره بهذه الحيلة؛ لأنه لا يحل له وطؤها في حال البينونة، فإن خالف ووطئها.. تعلق به حكم الوطء المحرم، وانحلت الصفة. وكذلك إذا قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، فباعه ثم دخل الدار، ثم اشتراه.. فإن حكم الصفة لا يعود. وقال أبو سعيد الإصطخري: يعود حكم الصفة - وبه قال مالك وأحمد - لأن عقد الصفة مقدر بالملك، فصار كما لو قال: إن دخلت الدار وأنت زوجتي فأنت طالق، أو قال لعبده: إن دخلت الدار وأنت عبدي فأنت حر. وهذا غلط؛ لأن اليمين إذا علقت بصفة.. فإنها تتعلق بالصفة التي علق بها اللفظ، ولا تعتبر صفة أخرى لم يتلفظ بها، كما لو قال لها: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق، فباع الدار ودخلتها. وإن كان بحرف يقتضي التكرار، بأن قال لها: كلما دخلت الدار فأنت طالق، فأبانها ودخلت الدار في حال البينونة، ثم تزوجها ودخلت الدار في حال النكاح الثاني.. لم تطلق بدخولها الدار في حال البينونة. وهل تطلق بدخولها الدار بعد النكاح الثاني؟ على الأقوال الثلاثة في التي قبلها. وبالله التوفيق

باب الشك في الطلاق واختلاف الزوجين فيه

[باب الشك في الطلاق واختلاف الزوجين فيه] إذا شك الرجل: هل طلق امرأته أم لا؟ لم يلزمه الطلاق - وهو إجماع - لأن الأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق. وقال الشافعي: (والورع والاحتياط أن يحنث نفسه، فإن كان يعرف من عادته أنه إذا طلق امرأته طلق واحدة أو اثنتين.. راجعها، وإن كان يعرف من عادته أنه يطلق الثلاث.. طلقها ثلاثا، فتحل لغيره بيقين) . وإن تيقن أنه طلق امرأته وشك: هل طلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا؟ لم يلزمه إلا الأقل، والورع أن يلتزم الأكثر. وبه قال أبو حنيفة ومحمد وأحمد. وقال مالك وأبو يوسف: (يلزمه الأكثر) . دليلنا: أن ما زاد على القدر الذي يتيقنه.. طلاق مشكوك فيه فلم يلزمه، كما لو شك في أصل الطلاق.

مسألة: طلق إحداهما وجهلها

[مسألة: طلق إحداهما وجهلها] إذا كان تحته زوجتان، فطلق إحداهما وجهلها.. نظرت: فإن طلق إحداهما بعينها ثم نسيها، أو رأى شخصها في ظلمة أو سمع كلامها فقال لها: أنت طالق، ولم يدر أيتهما هي.. فإنه يتوقف عن وطئهما حتى يتبين عين المطلقة منهما؛ لأنه قد تحقق التحريم في إحداهما، فلم يحل له وطء واحدة منهما قبل البيان، كما لو اختلطت امرأته بأجنبية فلم يعرفها. ويرجع في البيان إليه؛ لأنه هو المطلق، فكان أعرف بعين من طلقها. وليس البيان إلى شهوته - وهو: أن يعين الطلاق فيمن يشتهي منهما - وإنما يرجع إلى نفسه ويتذكر من التي طلقها منهما، ويستدل على ذلك من نفسه فيخبر عنها، ويؤخذ بنفقتهما؛ لأنهما محبوستان عليه. فإن قال: طلقت هذه.. حكم عليها بالطلاق من حين طلق، ويكون ابتداء عدتها من ذلك الوقت لا من حين عين؛ لأنه أخبر عن عين المطلقة منهما وقت طلاقه. فإن كذبته المعينة.. لم يفد تكذيبها له. وإن كذبته الأخرى وادعت: أنها هي المطلقة.. حلف لها؛ لأن الأصل عدم طلاقها. وإن أقر: أن التي طلقها هي الثانية بعد الأولى.. حكم بطلاقها بإقراره. فإن قال: طلقت هذه، لا بل هذه.. طلقتا جميعا في الحكم؛ لأنه أقر بطلاق الأولى فقبل منه، ثم رجع عن ذلك وأخبر بطلاق الثانية، فلزمه حكم إقراره الثاني، ولم يقبل رجوعه عن طلاق الأولى. وإن قال: لم أطلق هذه.. قال الشيخ أبو حامد: حكم عليه بطلاق الأخرى؛ لأنا قد تيقنا أنه طلق إحداهما، فإذا قال: لم أطلق هذه.. كان اعترافا منه بأن التي طلقها هي الأخرى.

فرع: طلق إحداهن بعينها وأشكلت أو بدون تعيين ولا نية

[فرع: طلق إحداهن بعينها وأشكلت أو بدون تعيين ولا نية] ] : وإن كان له ثلاث زوجات، فطلق واحدة بعينها وأشكلت، فقال: طلقت هذه، لا بل هذه، لا بل هذه. أو: طلقت هذه، بل هذه، بل هذه.. طلقن جميعا؛ لأنه أقر بطلاق الأولى فقبل، ثم رجع عن طلاقها وأقر بطلاق الثانية، ثم رجع عن طلاق الثانية وأقر بطلاق الثالثة.. فلزمه حكم إقراره ولم يقبل رجوعه، كما لو قال: له علي درهم، بل دينار، بل ثوب. وإن قال: طلقت هذه، بل هذه أو هذه.. طلقت الأولى وواحدة من الأخريين، ويلزمه أن يعين الطلاق في إحدى الأخريين. وإن قال: طلقت هذه أو هذه، لا بل هذه.. طلقت الثالثة وإحدى الأوليين، ويلزمه التعيين في إحدى الأوليين. وإن قال: طلقت هذه وهذه، أو هذه.. طلقت الأوليان أو الثالثة، ويلزمه البيان. وإن قال: طلقت هذه، أو هذه وهذه.. طلقت الأولى أو الأخريان، ويلزمه البيان. وقال أبو العباس: تطلق الثالثة وإحدى الأوليين؛ لأنه عدل عن لفظ الشك إلى (واو) العطف، فينبغي أن لا يشاركها في الشك، فتكون معطوفة على الجملة. وإن كن أربعا، فقال: طلقت هذه أو هذه، بل هذه أو هذه.. طلقت إحدى الأوليين وإحدى الأخريين وأخذ ببيانهما. وإن قال: هذه، ثم قال بعد ذلك: لا أدري أن التي عينتها هي المطلقة أو غيرها.. لزمه الطلاق في التي عينها، ووقف عن وطء الباقيات إلى أن يتبين أن التي طلقها هي التي عين أو غيرها. وإن قال: التي عينتها ليست المطلقة.. لم يقبل رجوعه عن طلاق المعينة، ولزمه أن يعين واحدة من الباقيات للطلاق؛ لأن هذه يتضمن الإقرار بأن واحدة من الباقيات مطلقة، فلزمه بيانها.

وإن وطئ إحداهن.. لم يكن ذلك تعيينا للطلاق في غير الموطوءة؛ لأن الطلاق لا يقع بالفعل، فكذلك البيان لا يقع بالفعل. ويؤخذ بالبيان، فإن عين الطلاق في غير الموطوءة.. علمنا أنه إنما وطئ زوجته، وإن عين الطلاق في الموطوءة.. وجب عليه لها مهر المثل للوطء بعد الطلاق؛ لأنه وطء شبهة. وأما إذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها، بأن قال: إحداكن طالق، ولم يعين بقلبه واحدة بعينها منهن.. وقع الطلاق على واحدة منهن لا بعينها؛ لأن الطلاق يقع مع الجهالة. وقال مالك: (يقع على جميعهن) . دليلنا: أنه أضاف الطلاق إلى واحدة.. فلم يقع على الجماعة، كما لو عينها. إذا ثبت هذا: فإنه يوقف عن وطئهن حتى يعين المطلقة منهن؛ لأنا نتحقق التحريم في واحدة منهن لا بعينها فوقف عن وطئهن، كما لو طلق واحدة بعينها ونسيها. ويؤخذ بتعيين المطلقة منهن؛ لتتميز المطلقة من غير المطلقة. وله أن يعين الطلاق فيمن اشتهى منه؛ لأنه أوقع الطلاق على واحدة لا بعينها.. فكان له التعيين فيمن اختار، بخلاف الأولى؛ فإنه أوقع الطلاق على واحدة بعينها وإنما أشكلت، فلذلك قلنا: لا يعينه فيمن اشتهى منهن. إذا ثبت هذا: فإن قال: طلقت هذه.. تعين فيها الطلاق. وإن قال: هذه التي لم أطلقها، وكانتا اثنتين.. طلقت الأخرى؛ لأن هذا يتضمن الإقرار بطلاق الأخرى. وإن قال: طلقت هذه، لا بل هذه.. طلقت الأولى دون الثانية؛ لأن الأولى إذا تعينت للطلاق.. لم يبق ما يقع على الثانية، بخلاف المسألة الأولى؛ فإن ذلك إخبار منه فيمن طلقها بعينها. فإذا أخبر بطلاق واحدة ثم رجع عنها إلى الثانية.. لزمه حكم إقراره في الثانية، ولم يقبل رجوعه عن الأولى.

فرع: قوله زوجتي طالق وله زوجات ولم يعينها

وإن وطئ إحداهما.. فهل يكون وطؤه لها بيانا لإمساكها واختيارا للطلاق في الأخرى إذا كانتا اثنتين؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يكون تعيينا؛ لأنه وطء فلم تتعين به المطلقة، كما لو طلق واحدة بعينها وجهلها أو نسيها. والثاني: يكون تعيينا، وهو الأصح؛ لأن هذا اختيار شهوة فوقع بالوطء، كما لو وطئ البائع الجارية المبيعة في حال الخيار. وقال أحمد بن حنبل: (لا تتعين المطلقة بالقول ولا بالوطء، وإنما تتعين بالقرعة) . دليلنا: أن القرعة لا مدخل لها في الزوجات في أصل الشرع. إذا ثبت هذا، وعين الطلاق في واحدة.. فمتى وقع عليها الطلاق؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يقع عليها من حين إيقاعه؛ لأن الطلاق لا يجوز أن يكون في الذمة وإن لم تتعين المطلقة، فإذا عينها.. تبينا أن الطلاق وقع من حين الإيقاع. فعلى هذا: يكون ابتداء عدتها من ذلك الوقت. والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه وقع عليها من حين التعيين - وبه قال أبو حنيفة وأصحابه - لأن الطلاق لم يوقعه على واحدة منهن، بدليل: أن له أن يختار التعيين فيمن شاء منهن، فلو قلنا: إنه من وقت الإيقاع.. لما خيره في التعيين. فعلى هذا: يكون ابتداء عدتها من وقت التعيين. وحكي عن أبي علي بن أبي هريرة: أنه قال: وقع الطلاق من حين الإيقاع، إلا أن العدة من وقت التعيين، كما نقول فيمن نكح امرأة نكاحا فاسدا ووطئها. [فرع: قوله زوجتي طالق وله زوجات ولم يعينها] إذا كان له زوجات، فقال: زوجتي طالق، ولم يعين واحدة بقلبه.. وقع الطلاق على واحدة منهن لا بعينها. وبه قال عامة العلماء.

مسألة: طلق إحداهما بعينها ونسيها أو إحداهما لا بعينها وحصول موت

وقال أحمد: (يقع الطلاق على جميعهن) . وحكي ذلك عن ابن عباس. دليلنا: أنه أوقع الطلاق على واحدة، فلا يقع على جميعهن، كما لو قال: إحدى نسائي طالق. إذا ثبت هذا: فإنه يرجع في البيان إليه على ما مضى. [مسألة: طلق إحداهما بعينها ونسيها أو إحداهما لا بعينها وحصول موت] وإن طلق إحدى امرأتيه ثلاثا وجهلها أو نسيها، أو طلق إحداهما لا بعينها، وماتت إحداهما قبل أن يعين المطلقة.. لم يتعين الطلاق في الأخرى، بل له أن يعين الطلاق في إحداهما بعد الموت. وقال أبو حنيفة: (يتعين الطلاق في الباقية) . دليلنا: أنه يملك تعيين الطلاق قبل موتها.. فملكة بعد الموت، كما لو كانتا باقيتين. إذا ثبت هذا: فإنه يوقف له من مال الميتة منهما ميراث زوج، وهو: النصف مع عدم الولد وولد الولد، أو الربع مع وجود الولد أو ولد الولد؛ لأنا نعلم أن إحداهما زوجته يرث منها والأخرى أجنبية لا يرث منها، فلم يجز أن يدفع إلى ورثة كل واحدة منهما إلا ما يتيقن أنهم يستحقونه، ونحن لا نعلم أنهم يستحقون قدر ميراث الزوج منهما فوقف. فيقال له: بين المطلقة منهما.

فإن كان قد طلق واحدة منهما بعينها ثم جهلها أو نسيها، ثم قال: التي كنت طلقتها فلانة وهي الميتة.. دفع ما عزل له من تركة الميتة إلى باقي ورثتها. وإن قال: التي طلقتها هي الباقية.. دفع إليه ما عزل له من تركة الميتة. وإن ماتتا قبل التعيين.. عزل من تركة كل واحدة منهما ميراث زوج، ثم يقال له: عين المطلقة منهما، فإن قال: التي طلقتها فلانة.. دفع ما عزل له من تركتها إلى باقي ورثتها؛ لأنه أقر أنه لا يرثها، ودفع إليه ما عزل له من تركة الأخرى؛ لأنه أخبر: أنها زوجته. فإن كذبه ورثتها فقالوا: بل هي التي كنت طلقتها.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء نكاحها وعدم طلاقه لها إلى الموت. فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل عن اليمين، فحلف ورثتها: أنها هي التي طلقها.. سقط ميراثه عن الأولى بإقراره، وعن الثانية بنكوله وأيمان ورثتها. وإن كان قد أطلق إحداهما لا بعينها فعين الطلاق في إحداهما.. دفع ما عزل له من تركة المعينة للطلاق إلى باقي ورثتها، ودفع ما عزل له من تركة الأخرى إلى الزوج. فإن كذبه ورثتها.. فلا يمين على الزوج؛ لأن هذا اختيار شهوة. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا طلق إحداهما لا بعينها.. فهل له أن يعينها بعد موتها؟ فيه وجهان، بناء على أن الطلاق يقع من وقت التعيين أو من وقت الإيقاع؟ فإن قلنا: يقع وقت الإيقاع.. كان له. وإن قلنا: يقع وقت التعيين.. لم يكن له. فإن مات الزوج وهما باقيتان قبل أن يعين الطلاق في إحداهما، فإن قال وارث الزوج: لا أعلم المطلقة منهما.. وقف من مال الزوج ميراث زوجة - وهو: الربع مع عدم الولد وولد الولد، والثمن مع وجود أحدهما - لأنا نتيقن أن إحداهما وارثته

بيقين، فلا يدفع إلى باقي ورثته إلا ما يتيقن استحقاقهم له، ويوقف ذلك بين الزوجين إلى أن يصطلحا عليه. وإن قال وارث الزوج: أنا أعرف المطلقة منهما.. فهل يرجع إلى بيانه؟ فيه قولان، قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من قال: هما وجهان: أحدهما: يرجع إلى بيان الوارث؛ لأنه يقوم مقام الزوج في الملك والرد بالعيب، وفي استحقاقه النسب بالإقرار، فقام مقامه في تعيين المطلقة. فعلى هذا: إذا قال: المطلقة فلانة.. دفع ما عزل من تركة الزوج إلى الأخرى، وإن كذبته المطلقة.. حلف لها. والثاني: لا يقوم مقامه؛ لأن في ذلك إسقاط حق وارث معه في الظاهر بقوله. واختلف أصحابنا في موضع القولين: فقال أبو إسحاق: القولان فيمن طلق إحداهما بعينها، وفيمن طلق إحداهما لا بعينها. ومنهم من قال: القولان فيمن طلق إحداهما بعينها ثم جهلها أو نسيها، فأما إذا طلق إحداهما لا بعينها: فلا يقوم مقام المورث قولا واحدا؛ لأنه يمكنه التوصل إلى العلم بالمطلقة منهما إذا وقع الطلاق بواحدة بعينها بسماع من الزوج، فإذا طلق واحدة منهما لا بعينها.. فتعيين المطلقة إلى شهوة الزوج، فلا يقوم وارثه مقامه، كما لو أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن معه، فمات قبل أن يختار. فإن كانت بحالها وماتت واحدة منهما، ثم مات الزوج قبل البيان، وبقيت الأخرى.. عزل من تركة الزوج ميراث زوجة؛ لجواز أن تكون الباقية هي الزوجة، وعزل من تركة الميتة قبله ميراث زوج؛ لجواز أن تكون الميتة هي الزوجة. فإن قال وارث الزوج: الميتة قبل الزوج هي المطلقة.. قبل قوله؛ لأن في ذلك إضرارا عليه من جهة أنه لا يرث من الميتة، وترث معه الباقية.

فرع: أشكل عليه طلاق إحداهما لصفة تقديما أو تأخيرا

وإن قال: بل الميتة قبل الزوج هي الزوجة، والباقية هي المطلقة، فإن صدقته الباقية وورثة الأولى.. ورث ميراث الزوج من الأولى، ولم ترث معه الباقية. وإن كذبوه.. فهل يقبل قول الوارث؟ فيه قولان، وقد مضى توجيههما. والذي يقتضي المذهب: أن يكون في موضع القولين وجهان كالتي قبلها: فـ[أحدهما] : إذا قلنا: لا يقبل قول وارث الزوج.. كان ما عزل من تركة الميتة قبل الزوج موقوفا حتى يصطلح عليه وارثها ووارث الزوج، وما عزل من تركة الزوج موقوفا حتى يصطلح عليه وارث الزوج والزوجة الباقية. و [الثاني] : إذا قلنا: يقوم مقام الزوج، فإن كان الزوج قد أوقع الطلاق في إحداهما بعينها ثم نسيها أو جهلها.. فإن وارث الزوج يحلف لورثة الميتة: ما يعلم أنه طلقها؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره، فحلف على نفي علمه، ويحلف للباقية: أنه طلقها؛ لأنه يحلف على الإثبات.. فكانت يمينه على القطع. وإن كان الزوج طلق إحداهما لا بعينها، وقلنا: يقبل قول وارث الزوج فيها.. فلا يمين على وارث الزوج، كما لا يمين على الزوج في ذلك. [فرع: أشكل عليه طلاق إحداهما لصفة تقديما أو تأخيرا] وإن قال: يا حفصة، إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فعمرة طالق، وإن كان أنثى فأنت طالق، فولدت حفصة ذكرا وأنثى أحدهما بعد الآخر وأشكل المتقدم منهما.. علمنا أن إحداهما قد طلقت بعينها وهي مجهولة، فيرجع إلى بيانه، كما لو أشرفت إحداهما من موضع فقال: هذه طالق ولم يعرفها.. فإنه يرجع إلى بيانه. [فرع: قال إن كان هذا الطائر غرابا فنسائي طوالق فطار ولم يعرف] فرع: [رأى طائرا فعلق الطلاق أو العتق على أنه غراب أم لا فطار ولم يعرف] : وإن رأى رجل طائرا، فقال: إن كان هذا الطائر غرابا فنسائي طوالق، وإن كان غير غراب فإمائي حرائر، فطار الطائر ولم يعرف: هل هو غراب أو غير غراب.. فقد علمنا أنه حنث في الطلاق أو العتق؛ لأنه لا يخلو: إما أن يكون غرابا أو غير غراب،

فيوقف عن وطء الجميع وعن التصرف؛ لأنا نتحقق التحريم: إما في الزوجات، وإما في الإماء وإن جهلنا عين المحرم منهما، فوقف عن الجميع تغليبا للتحريم، ويؤخذ بالبيان؛ لأنه هو الحالف ويجوز أن يكون عنده علم، فإن أقر: أن عنده علما وامتنع من البيان.. حبس وعزر إلى أن يبين، وعليه نفقة الجميع إلى أن يبين؛ لأنهن في حبسه. فإن قال: كان الطائر غرابا.. طلقن النساء، سواء صدقنه أو كذبنه. فإن صدقته الإماء على أنه كان غراب.. فلا يمين عليه، وإن قلن: ما كان غرابا.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء الملك عليهن. فإن طلبن يمينه فحلف لهن.. لم يعتقن، وإن كذبنه ولم يطلبن إحلافه.. ففيه وجهان: أحدهما: يحلفه الحاكم؛ لما في العتق من حق الله تعالى. والثاني: لا يحلفه؛ لأن العتق يسقط بتصديقهن أن الطائر كان غرابا، فسقطت يمينه بترك مطالبتهن. وإن نكل فحلفن.. عتق بأيمانهن ونكوله، وطلقن النساء بإقراره السابق. وإن قال ابتداء: كان الطائر غير غراب.. عتقن الإماء، صدقنه أو كذبنه. فإن صدقنه النساء أنه لم يكن غرابا.. فلا كلام. وإن قلن النساء: بل كان غرابا.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء النكاح، فإن حلف.. بقين على الزوجية، وإن نكل فحلفن.. طلقن بنكوله وأيمانهن، وعتقن الإماء بإقراره. وإن قال: لا أعلم: هل كان غرابا أو غير غراب؟ فإن صدقته النساء والإماء أنه لا يعلم.. بقين على الوقف، وإن كذبنه وقلن: بل هو يعلم.. حلف لهن: أنه لا يعلم، وبقين على الوقف. وإن نكل عن اليمين.. حلف من ادعى منهن: أنه يعلم أنه حنث في يمينه فيه، وكان كما لو أقر. فإن مات قبل البيان.. فهل يرجع إلى الورثة؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو

إسحاق وابن الصباغ، ويشبه أن يكونا مأخوذين من القولين في التي قبلها: أحدهما: يرجع إليهما في البيان؛ لأن الورثة يقومون مقامه في الملك والرد بالعيب، فكذلك في بيان المطلقات والمعتقات. والثاني: لا يرجع إليهم في البيان؛ لأن ذلك يؤدي إلى إسقاط بعض الورثة بقول البعض. وعندي: أن الوجهين إنما هما إذا قال الورثة: كان الطائر غرابا ليطلق النساء ولا يعتق الإماء. فأما إذا قلنا: كان الطائر غير غراب.. فإنه يقبل قوله وجها واحدا؛ لأنه أقر بما فيه تغليظ عليه من جهتهن: أحدهما: أن الإماء يعتقن عليه. والثاني: أن الزوجات يرثن معه. إذا ثبت هذا: فإن قال الوارث: لا أعلم: هل كان غرابا أو غير غراب، أو قال الوارث: كان الطائر غرابا ولم يصدقنه النساء والإماء، وقلنا: لا يقبل قوله.. فإنه يقرع بين النساء والإماء؛ لتمييز العتق لا لتمييز العتق لا لتمييز الطلاق، فتجعل الزوجات جزءا والإماء جزءا، ويضرب عليهن بسهم حنث وسهم بر، فإن خرج سهم الحنث على الإماء.. عتقن ولم تطلق النساء، وإن خرج سهم الحنث على النساء.. لم يطلقن ولا تعتق الإماء. وقال أبو ثور: (يطلقن النساء كما تعتق الإماء) . وهذا خطأ؛ لأن القرعة لا مدخل لها في الطلاق، ولهذا: لو طلق إحدى امرأتيه ومات قبل أن يعين.. لم يقرع بينهما. ولو أعتق عبديه في مرض موته ولم يحتملهما الثلث.. أقرع بينهما.

فإن خرجت قرعة الحنث على الإماء.. حكم بعتقهن من رأس المال إن كان قال ذلك في الصحة، ومن الثلث إن قاله في المرض الذي مات فيه. ولا يحكم بطلاق النساء، بل تكون عليهن عدة الوفاة. ويكون للزوجات الميراث، إلا أن يكن قد ادعين الطلاق وكان الطلاق مما لا يرثن معه لو ثبت.. فلا يرثن؛ لأنهن أقررن أنهن لسن بوارثات. وإن خرجت قرعة الحنث على الزوجات.. فقد ذكرنا: أنهن لا يطلقن. قال الشافعي: (والورع لهن أن يدعن الميراث؛ لأن الظاهر بخروج الحنث عليهن أنه طلقهن، إلا أن القرعة ليس لها مدخل في الطلاق، فكذلك لم يحكم بوقوعه. فإن طلبن الميراث.. كان لهن) . وأراد به: إذا لم يتقدم منهن الدعوى في الحنث في الطلاق، على ما مضى. وهل تزول الشبهة في ملك الإماء، ويكون الملك ثابتا عليهن ظاهرا وباطنا بخروج قرعة الحنث على النساء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تزول الشبهة؛ لأن القرعة لما لم تؤثر في الجنبة التي خرجت عليها.. لم تؤثر في الجنبة الأخرى. فعلى هذا: يكون ملك الورثة ثابتا على الإماء مع الشبهة. والثاني: تزول الشبهة بذلك، كما إذا خرجت قرعة الحنث عليهن. ولأن القرعة إنما تؤثر في جنبة النساء؛ لأنه لا مدخل لها فيهن في أصل الشرع، ولها مدخل في الإماء في أصل الشرع في العتق. فعلى هذا: يكون ملك الورثة ثابتا على الإماء بلا شبهة. وعلى الوجهين ينفذ تصرف الورثة فيهن بالبيع والاستمتاع وغيره، إلا أن في الأول يصح تصرفه مع الشك، وعلى الثاني من غير شك.

فرع: علق الطلاق أو العتق على أن الطائر غراب أو حمام فطار ولم يعرف

[فرع: علق الطلاق أو العتق على أن الطائر غراب أو حمام فطار ولم يعرف] وإن قال: إن كان هذا الطائر غرابا فنساؤه طوالق، وإن كان حماما فإماؤه حرائر، فطار ولم يعرف.. لم يحكم عليه بطلاق ولا عتق؛ لجواز أن لا يكون غرابا ولا حماما. فإن ادعى النساء: أنه كان غرابا، وادعى الإماء: أنه كان حماما، ولا بينة.. حلف: أنه ليس بغراب يمينا، وأنه ليس بحمام يمينا؛ لأن الأصل بقاء النكاح والملك. [فرع: اختلفا في عتق على طائر أنه غراب أم لا فطار ولم يعرف] فرع: [اختلفا في عتق على طائر أنه غراب أم لا أو غراب أو حمام وطار ولم يعرف] : وإن رأى رجلان طائرا، فقال أحدهما: إن كان هذا الطائر غرابا فعبدي حر، وقال الآخر: إن لم يكن غرابا فعبدي حر، فطار ولم يعرف.. علمنا أن أحدهما قد حنث في يمينه ولكن لا نعلمه بعينه.. فلا يحكم على أحدهما بالعتق؛ لأن كل واحد منهما يشك: هل زال ملكه عن عبده أم لا؟ والأصل بقاء ملكه. فإن ملك أحدهما عبد الآخر بهبة أو ببيع أو إرث.. عتق عليه؛ لأن إمساكه لعبده إقرار منه بحرية عبد الآخر، وإنما لم يقبل إقراره على صاحبه؛ لأنه يقر بما لا يملكه، فإذا ملكه بعد ذلك.. لزمه حكم إقراره الأول، كما لو شهد رجل على رجل: أنه أعتق عبده، فلم تقبل شهادته عليه، ثم ملكه الشاهد بعد ذلك.. فإنه يعتق عليه بإقراره الأول. وإن قال أحدهما: إن كان هذا الطائر غرابا فعبدي حر، وقال الآخر: إن كان حماما فعبدي حر، فطار الطائر ولم يعرف.. لم يحكم على أحدهما بعتق عبده. فإن ملك أحدهما عبد الآخر بعد ذلك.. لم يعتق عليه؛ لجواز أن يكون ذلك الطائر ليس بغراب ولا حمام. [مسألة: ادعت طلاقها وأنكره أو أنكر عدده] وإن ادعت المرأة على زوجها: أنه طلقها فأنكر، أو ادعت عليه: أنه طلقها ثلاثا فقال: بل طلقتها واحدة أو اثنتين ولا بينة.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

فرع: خيرها فاختارت أو قال: أنت طالق وكررها ثم اختلفا

«البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» . ولأن الأصل عدم الطلاق وعدم ما زاد على ما أقر به الزوج. [فرع: خيرها فاختارت أو قال: أنت طالق وكررها ثم اختلفا] وإن خيرها الزوج، فقالت: قد اخترت، وقال: ما اخترت.. فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل عدم الاختيار. والذي يقتضي المذهب: أنه يحلف: ما يعلم أنها اختارت؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره. وإن ادعت: أنها نوت الطلاق، وقال الزوج: ما نويت.. ففيه وجهان: أحدهما: القول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل عدم النية. والثاني: القول قولها مع يمينها؛ لأنهما اختلفا في نيتها، ولا يعلم ذلك إلا من جهتها، فقبل قولها مع يمينها، كما لو علق الطلاق على حيضها. وإن قال: أنت طالق أنت طالق، وادعى: أنه أراد التأكيد، وادعت: أنه أراد الاستئناف.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بإرادته. وإن قال أردت الاستئناف، وقالت: بل أردت التأكيد.. لزمه حكم الاستئناف؛ لأنه أقر بالطلاق فلزمه، ولا يمين عليه؛ لأنه لو رجع.. لم يقبل رجوعه، فلا معنى لعرض اليمين عليه. [فرع: عبد طلق زوجته ثنتين وأعتق وأشكل السابق أو اختلفا] إذا تزوج العبد امرأة فطلقها طلقتين وأعتق، فإن كان العتق قبل استيفاء الطلقتين.. فله أن يطلق الثالثة، وله أن يسترجعها. وإن كان طلاق الاثنتين قبل العتق.. لم يجز له استرجاعها، ولا يملك الثالثة. وإن أشكل السابق منهما.. لم يكن له استرجاعها، ولا يملك الثالثة عليها؛ لأنه

يشك في وقت الطلاق أنه في رقه أو في حريته، والأصل فيه الرق. وإن اختلفا، فقالت الزوجة: كان الطلاق سابقا، وقال الزوج: كان العتق سابقا.. فهو كما لو ادعى الزوج بعد انقضاء عدتها: أنه كان راجعها قبل انقضاء عدتها، وقالت: لم تراجعني إلا بعد انقضاء عدتي. ويأتي بيانه. وبالله التوفيق

كتاب الرجعة

[كتاب الرجعة]

كتاب الرجعة إذا طلق الرجل امرأته المدخول بها، ولم يستوف ما يملكه عليها من عدد الطلاق، وكان الطلاق بغير عوض.. فله أن يراجعها قبل انقضاء عدتها. والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وإلى قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] [البقرة: 228] ، فقوله: {بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] يعني: برجعتهن. وقوله: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] أي: إصلاح ما تشعث. من النكاح بالرجعة. وقَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] ، فأخبر: أن من طلق طلقتين.. فله الإمساك وهو الرجعة، وله التسريح وهي الثالثة. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] إلى قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] والإمساك: هو الرجعة. وقوله: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] يعني: الرجعة. وروي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه طلق حفصة وراجعها»

و «طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يراجعها» . وروي: «أن ركانة بن عبد يزيد قال: يا رسول الله، إني طلقت امرأتي سهيمة ألبتة، والله ما أردت إلا واحدة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " والله ما أردت إلا واحدة؟ "، فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه» . والرد: هو الرجعة. وأجمعت الأمة: على جواز الرجعة في العدة. إذا ثبت هذا: فقد قال الله تعالى في آية: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] وقال في آية أخرى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] [القرة: 232] ، وحقيقة البلوغ: هو الوصول إلى الشيء، إلا أن سياق الكلام يدل على اختلاف البلوغين في الاثنتين، فالمراد بالبلوغ بقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] أي: إذا قاربن البلوغ. فسمى المقاربة بلوغا مجازا؛ لأنه يقال إذا قارب الرجل بلوغ بلد: بلغ فلان بلد كذا مجازا، أو بلغها: إذا وصلها حقيقة. والمراد بالآية الأخرى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] [البقرة: 232] أي إذا انقضى أجلهن، وإذا انقضت عدتها.. لم تصح الرجعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] أي: في وقت عدتهن، وهذا ليس بوقت عدتهن. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] [البقرة: 232] ، فنهى الأولياء عن عضلهن عن النكاح، فلو صحت رجعتهن.. لما نهى الأولياء عن عضلهن عن النكاح. وإن طلق امرأته قبل الدخول.. لم يملك الرجعة عليها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] ، فخص الرجعة بوقت العدة، ومن لم يدخل بها.. فلا عدة عليها، فلم يملك عليها الرجعة.

مسألة: ما يجوز وما يحرم على من طلق رجعيا وماذا لو وطئها

[مسألة: ما يجوز وما يحرم على من طلق رجعيا وماذا لو وطئها] ؟] : وللزوج أن يطلق الرجعية في عدتها، ويولي منها، ويظاهر منها. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يصح إيلاؤه من الرجعية؟ فيه وجهان، وهل يصح أن يخالعها؟ فيه قولان: أحدهما: يصح؛ لبقاء أحكام الزوجية بينهما. والثاني: لا يصح؛ لأن الخلع للتحريم، وهي محرمة عليه. وإن مات أحدهما قبل انقضاء العدة.. ورثه الآخر؛ لبقاء أحكام الزوجية بينهما، وهذا من أحكامها. ويحرم عليه وطؤها، والاستمتاع بها، والنظر إليها بشهوة وغير شهوة. وبه قال عطاء ومالك وأكثر الفقهاء. وقال أبو حنيفة وأصحابه: (يجوز له وطؤها) . وعن أحمد روايتان: إحداهما: كقولنا، والأخرى: كقول أبي حنيفة. دليلنا: ما روي: (أن ابن عمر طلق امرأته وكان طريقه إلى المسجد على مسكنها، فكان يسلك طريقا أخرى حتى راجعها) . ولأنه سبب وقعت به الفرقة، فوقع به التحريم، كالفسخ والخلع والطلاق قبل الدخول. فإن خالف ووطئها في العدة.. لم يجب عليهما الحد، سواء علما تحريمه أو لم يعلما؛ لأنه وطء مختلف في إباحته، فلم يجب به الحد، كما لو تزوج امرأة بغير ولي ولا شهود ووطئها. وأما التعزيز: فإن كانا عالمين بتحريمه، مثل: أن كان شافعيين يعتقدان

تحريمه.. عزرا؛ لأنهما أتيا محرما مع العلم بتحريمه. وإن كانا غير عالمين بتحريمه، بأن كانا جاهلين أو حنفيين لا يعتقدان تحريمه.. لم يعزرا. وإن كان أحدهما عالما بتحريمه والآخر جاهلا بتحريمه.. عزر العالم بتحريمه دون الجاهل به. وإن أتت منه بولد.. لحقه نسبه بكل حال للشبهة. وأما مهر المثل: فهل يلزمه؟ ينظر فيه: فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها.. فلها عليه مهر مثلها بكل حال. وكذلك إذا أسلم أحد الحربيين بعد الدخول، فوطئها الزوج في عدتها، فانقضت عدتها قبل اجتماعهما على الإسلام.. فلها عليه مهر مثلها لهذا الوطء؛ لأن العدة لما انقضت قبل اجتماعهما على النكاح.. تبينا أنه وطئ أجنبية منه، فهو كما لو وطئ أجنبية بشبهة. وإن راجعها قبل انقضاء العدة، أو اجتمعا على الإسلام قبل انقضاء العدة.. فقد قال الشافعي: (إن للرجعية مهر مثلها) ، وقال في الزوجين - إذا أسلم أحدهما ووطئها قبل انقضاء عدتها وقبل الإسلام ثم أسلم الآخر قبل انقضاء العدة -: (إنه لا مهر لها) ، وكذا قال في المرتد - إذا وطئ امرأته في العدة ثم أسلم قبل انقضاء العدة -: (لا مهر عليه) واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: في الجميع قولان: أحدهما: يجب عليه مهر مثلها؛ لأنه وطئ في نكاح قد تشعث، فهو كما لو لم يرجعها ولم يجتمعا على الإسلام. والثاني: لا يجب عليه؛ لأن التشعث قد زال بالرجعة والإسلام. ومنهم من حملهما على ظاهرهما، فقال في الرجعة: يجب عليه المهر؛ لأن النكاح انثلم بالطلاق ثلمة لا ترتفع بالرجعة؛ بدليل: أنه لا يرتفع ما أوقعه من الطلاق

مسألة: ما يشترط لصحة الرجعة وألفاظها

بالرجعة، بل تبقى معه على عدد ما بقي من عدد الطلاق، وليس كذلك إذا اجتمع الحربيان أو المرتدان على الإسلام قبل انقضاء العدة.. فإن الثلمة التي حصلت في النكاح ترتفع وتصير كأن لم تكن. [مسألة: ما يشترط لصحة الرجعة وألفاظها] وتصح الرجعة من غير ولي، وبغير رضاها، وبغير عوض؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] ، فجعل الزوج أحق بردها، فلو افتقر إلى رضاها.. لكان الحق لهما. ولا تصح الرجعة إلا بالقول من القادر عليه أو بالإشارة من الأخرس، فأما إذا وطئها أو قبلها أو لمسها.. فلا يكون ذلك رجعة، سواء نوى به الرجعة أو لم ينو. وبه قال أبو قلابة وأبو ثور. وقال الأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه: (تصح الرجعة بالوطء، سواء نوى به الرجعة أو لم ينو ذلك) . قال أبو حنيفة: (إذا قبلها بشهوة، أو لمسها أو نظر إلى فرجها بشهوة.. وقعت به الرجعة) . وقال مالك وإسحاق: (إذا وطئها ونوى به الرجعة.. كان رجعة، وإن لم ينو به الرجعة.. لم يكن رجعة) . دليلنا: أنها جارية إلى بينونة، فلم يصح إمساكها بالوطء، كما لو أسلم أحد الحربيين وجرت إلى بينونة.. فلا يصح إمساكها بالوطء. ولأنه استباحة بضع مقصود يصح بالقول، فلم يصح بالفعل مع القدرة على القول، كالنكاح. فقولنا: (بضع مقصود) احتراز ممن باع جاريته ووطئها في مدة الخيار. وقولنا: (يصح بالقول) احتراز من السبي؛ فإنه لا يصح بالقول، وإنما يصح بالفعل.

وقولنا: (ممن يقد عليه) احتراز ممن يكون أخرس. إذا ثبت هذا: فقال: رددتك.. صح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . وإن قال: راجعتك أو ارتجعتك.. صح؛ «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: " مر ابنك فليراجعها» . وهل من شرطه أن يقول: إلى النكاح؟ فيه وجهان حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] ، المشهور: أن ذلك ليس بشرط، وإنما هو تأكيد. وإن قال: أمسكتك.. قال الشيخ أبو حامد: فهل ذلك صريح في الرجعة أو كناية؟ فيه وجهان، وحكاهما القاضي أبو الطيب قولين: أحدهما: أنه صريح في الرجعة؛ لأن القرآن ورد به، وهو قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] ، وأراد به الرجعة. والثاني: أنه ليس بصريح، وإنما هو كناية؛ لأنه استباحة بضع مقصود في عينه فلم يصح إلا بلفظتين، كالنكاح. وأما الشيخ أبو إسحاق فقال: هل تصح به الرجعة؟ على وجهين. ولم يذكر الصريح ولا الكناية. وإن قال: تزوجتك، أو نكحتك، أو عقد عليها النكاح.. فهل تصح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن عقد الرجعة لا تصح بالكناية، والنكاح كناية فيه، ولأن النكاح لا يخلو من عوض، والرجعة لا تتضمن عوضا، فلم ينعقد أحدهما بلفظ الآخر، كالهبة لا تنعقد بلفظ البيع.

فرع: قوله راجعتك أمس أو راجعتك للمحبة أو للإهانة

والثاني: يصح؛ لأن لفظ النكاح والتزويج آكد من الرجعة؛ لأنه تستباح به الأجنبية، فإذا استباح بضعها بلفظ الرجعة.. ففي لفظ النكاح والتزويج أولى. [فرع: قوله راجعتك أمس أو راجعتك للمحبة أو للإهانة] وإن قال: راجعتك أمس.. كان إقرارا برجعتها، وهو يملك الرجعة، فقبل إقراره فيها. وإن قال: راجعتك للمحبة أو للإهانة.. سئل عن ذلك: فإن قال: أردت بقولي للمحبة: لأني كنت أحبها في النكاح، فراجعتها إلى النكاح؛ لأردها إلى تلك المحبة، أو كنت أهينها في النكاح، فراجعتها إلى النكاح وإلى تلك الإهانة.. أو لحقها بالطلاق إهانة، فراجعتها إلى النكاح لأرفع عنها تلك الإهانة.. صحت الرجعة؛ لأنه قد راجعها وبين العلة التي راجعها لأجلها. وإن قال: لم أرد الرجعة إلى النكاح، وإنما أردت: أني كنت أحبها قبل النكاح، فلما نكحتها أبغضتها، فرددتها بالطلاق إلى تلك المحبة قبل النكاح، أو كنت أهينها قبل النكاح، فلما نكحتها زالت تلك الإهانة، فرددتها بالطلاق إلى تلك الإهانة.. لم تصح الرجعة؛ لأنه أخبر: أنه لم يردها إلى النكاح، وإنما بين المعنى الذي لأجله طلقها. وإن مات قبل أن يبين.. حكم بصحة الرجعة؛ لأنه يحتمل الأمرين، والظاهر أنه أراد الرجعة إلى النكاح؛ لأجل المحبة أو لأجل الإهانة. [مسألة: الرجعة والإشهاد عليها] وهل تصح الرجعة بغير شهادة؟ فيه قولان: أحدهما: لا تصح الرجعة إلا بحضور شاهدين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] ، فأمر بالإشهاد على الرجعة، والأمر يقتضي الوجوب، ولأنه استباحة بضع مقصود فكانت الشهادة شرطا فيه، كالنكاح.

فرع: تعليق الرجعة على المشيئة وغيرها

والثاني: تصح من غير شهادة - وبه قال أبو حنيفة - «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: " مر ابنك فليراجعها» ولم يأمره بالإشهاد، فلو كان شرطا.. لأمره به. ولأنها لا تفتقر إلى الولي.. فلم تفتقر إلى الشهادة، كالبيع والهبة، وعكسه النكاح. والآية محمولة على الاستحباب. [فرع: تعليق الرجعة على المشيئة وغيرها] قال في " الأم ": (وإن قال: راجعتك إن شئت، فقالت في الحال: شئت.. لم تصح الرجعة) ؛ لأنه عقد يستبيح به البضع، فلم يصح تعليقه على صفة، كالنكاح. قال في " الأم ": (وإن قال لها: كلما طلقتك فقد راجعتك.. لم تصح الرجعة) ؛ لأنه علق الرجعة على صفة فلم يصح، كما لو قال: راجعتك إذا قدم زيد. ولأنه راجعها قبل أن يملك الرجعة عليها فلم تصح، كما لو قال لأجنبية: طلقتك إذا نكحتك. وإن طلق الرجل امرأته طلاقا رجعيا فارتدت المرأة، ثم راجعها الزوج في حال ردتها.. لم تصح الرجعة. فإن انقضت عدتها قبل أن ترجع إلى الإسلام.. بانت باختلاف الدين. وإن رجعت إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها.. افتقر إلى استئناف الرجعة. قال المزني: تكون الرجعة موقوفة، كما لو طلقها في الردة. وهذا خطأ؛ لأنه عقد استباحة بضع مقصود، فلم تصح في حال الردة كالنكاح، ويخالف الطلاق؛ فإنه يصح تعليقه على الخطر والغرر. [مسألة: اختلفا راجعها قبل انقضاء العدة أو بعدها] إذا قال الزوج: راجعتك، وأنكرت المرأة، فإن كان قبل انقضاء عدتها.. فالقول قول الزوج؛ لأنه يملك الرجعة، فملك الإقرار بها، كالزوج إذا أقر بطلاق زوجته. وإن انقضت عدتها، فقال الزوج: كنت راجعتك قبل انقضاء عدتك وقالت

الزوجة: بل انقضت عدتي قبل أن تراجعني، ولا بينة للزوج.. فقد نص الشافعي: (على أن القول قول الزوجة مع يمينها) . وكذلك قال في الزوج إذا ارتد بعد الدخول، ثم رجع إلى الإسلام وقال: رجعت إلى الإسلام قبل انقضاء عدتك، وقالت: بل انقضت عدتي قبل أن ترجع إلى الإسلام.. (فالقول قول الزوجة) . وقال في نكاح المشركات إذا أسلمت الزوجة بعد الدخول وتخلف الزوج، ثم أسلم فقال الزوج: أسلمت قبل انقضاء عدتك، وقالت الزوجة: بل أسلمت بعد انقضاء عدتي.. (فالقول قول الزوج) . واختلف أصحابنا في هذه المسائل على ثلاث طرق: فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: في الجميع قولان - وهو اختيار القاضيين أبي حامد وأبي الطيب -: أحدهما: القول قول الزوج؛ لأن الزوجة تدعي أمرا يرفع النكاح، والزوج ينكره، فكان القول قوله؛ لأن الأصل بقاء النكاح. والثاني: أن القول قول الزوجة؛ لأن الظاهر حصول البينونة وعدم الرجعة والإسلام. والطريق الثاني: إن أظهر الزوج الرجعة أو الإسلام، ثم قالت الزوجة بعد ذلك: قد كانت عدتي انقضت قبل ذلك.. فالقول قول الزوج؛ لأنها ما دامت لم تظهر انقضاء العدة.. فالظاهر أن عدتها لم تنقض. وإن أظهرت الزوجة انقضاء العدة أولا، ثم قال الزوج: كنت راجعتك أو أسلمت قبل انقضاء العدة.. فالقول قولها؛ لأنها إذا أظهرت انقضاء عدتها في وقت يمكن انقضاؤها فيه.. فالظاهر أنها بانت، فإذا ادعى الزوج الرجعة أو الإسلام قبله.. كان القول قولها؛ لأن الأصل عدم ذلك. وإن أظهر الزوج الرجعة أو الإسلام في الوقت الذي أظهرت فيه انقضاء العدة، ولم يسبق أحدهما الآخر.. ففيه وجهان:

فرع: ادعاء الأمة مضي العدة وادعاء الزوج مراجعتها قبل ذلك

[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يقرع بينهما؛ لاستوائهما في الدعوى. و [الثاني] : منهم من قال: لا يقرع بينهما، بل لا تصح الرجعة ولا يجمع بينهما في النكاح؛ لأنه يمكن تصديق كل واحد منهما، بأن يكون قد راجعها أو أسلم في الوقت الذي انقضت عدتها فيه، فلم يصح اجتماعهما على النكاح، كما لو قال لامرأته: إن مت فأنت طالق.. فإنها لا تطلق بموته. والطريق الثالث - وهو اختيار أبي علي الطبري -: أن قول كل واحد منهما مقبول فيما اتفقا عليه، فإن اتفقا أنه راجع أو أسلم في رمضان، فقالت الزوجة: إلا أن عدتي انقضت في شعبان، وأنكرها الزوج.. فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل بقاء العدة. وإن اتفقا أن عدتها انقضت في رمضان، إلا أن الزوج ادعى أنه كان راجعها أو أسلم في شعبان وأنكرت الزوجة ذلك.. فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم الرجعة والإسلام. وإذا ادعت انقضاء عدتها في أقل من شهر.. لم يقبل قولها في أقل من اثنين وثلاثين يوما ولحظتين، ولا يقبل في أقل من ذلك بحال؛ لأنه لا يتصور - عندنا - أقل من ذلك. [فرع: ادعاء الأمة مضي العدة وادعاء الزوج مراجعتها قبل ذلك] وإن كانت الزوجة أمة وادعت انقضاء العدة، وقال الزوج: كنت راجعتها قبل ذلك، وصدقه المولى.. فكل موضع قلنا: القول قول الزوج في حق الحرة. قبل قول الزوج. وكل موضع قلنا: القول قول الزوجة إذا كانت حرة.. قال ابن الصباغ: فالذي يجيء على المذهب: أن القول قول السيد. وبه قال أبو يوسف ومحمد. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: (القول قولها؛ لأنه يقبل قولها في انقضاء عدتها) .

فرع: اختلفا هل طلقها قبل الإصابة أو بعدها

ووجه الأول: أن النكاح حق للسيد؛ ولهذا يثبت بقوله وإقراره، فكذلك الرجعة. ويخالف انقضاء العدة؛ لأنه لا طريق إلى معرفتها إلا من جهتها. [فرع: اختلفا هل طلقها قبل الإصابة أو بعدها] فرع: [اختلفا: طلقها قبل الإصابة أو بعدها] : وإن طلق امرأته طلقة أو طلقتين، فقال: طلقتك بعد أن أصبتك فعليك العدة ولي عليك الرجعة ولك السكنى والنفقة وجميع المهر، وقالت الزوجة: بل طلقتني قبل الإصابة.. فالقول قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الظاهر وقوع الفرقة بالطلاق، والأصل عدم الإصابة. إذا ثبت هذا: فإنها إذا حلفت.. فلا عدة عليها ولا رجعة، ولا تجب لها نفقة ولا سكنى؛ لأنها لا تدعي ذلك وإن كان مقرا لها به. وأما المهر: فإن كان في يد الزوج.. لم تأخذ الزوجة منه إلا النصف؛ لأنها لا تدعي أكثر منه وإن كان الزوج مقرا لها بالجميع. وإن كان الصداق في يد الزوجة.. لم يرجع الزوج عليها بشيء؛ لأنه لا يدعيه. وإن نكلت عن اليمين، فحلف.. ثبت له الرجعة عليها. وأما النفقة والسكنى: فالذي يقتضي المذهب: أنها لا تستحقه؛ لأنها لا تدعيه. وإن قال الزوج: طلقتك قبل الإصابة فلا رجعة لي عليك ولا نفقة ولا سكنى لك ولك نصف المهر، وقالت المرأة: بل طلقتني بعد الإصابة فلك الرجعة ولي عليك النفقة والسكنى وجميع المهر.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإصابة. إذا ثبت هذا: فإنه لا رجعة له عليها، سواء حلف أو لم يحلف؛ لأنه أقر: بأنه لا يستحق ذلك، ويجب عليها العدة؛ لأنها مقرة بوجوبها عليها. وأما النفقة والسكنى: فإن حلف: أنه طلقها قبل الإصابة.. لم تستحق عليه النفقة والسكنى. وإن نكل عن اليمين، فحلفت.. استحقت ذلك عليه.

فرع: أخبر عنها بانقضاء عدتها فراجعها ثم كذبت نفسها

وأما المهر: فإن حلف.. لم تستحق عليه إلا نصفه، سواء كان بيده أو بيدها. وإن نكل عن اليمين، وحلفت.. استحقت جميع المهر. وهذا إذا لم يثبت بالبينة أو بإقرار الزوج: أنه قد كان خلا بها. وأما إذا ثبت بالبينة أو بإقراره: أنه قد كان خلا بها.. فعلى القول الجديد: (لا تأثير للخلوة) ، وقال في القديم: (للخلوة تأثير) . فمن أصحابنا من قال: أراد: أنه يرجح بها قول من ادعى الإصابة منهما. ومنهم من قال: بل الخلوة كالإصابة، وقد مضى بيان ذلك. [فرع: أخبر عنها بانقضاء عدتها فراجعها ثم كذبت نفسها] قال في " الأم ": (إذا قال: قد أخبرتني بانقضاء عدتها، ثم قالت بعد ذلك: ما كانت عدتي منقضية.. فالرجعة صحيحة؛ لأنه لم يقر بانقضاء العدة، وإنما أخبر عنها، فإذا أنكرت ذلك.. فقد كذبت نفسها، وكانت الرجعة صحيحة) . [مسألة: ما يشترط لصحة الرجوع] مسألة: [لا يشترط لصحة الرجوع رضا وعلم الزوجة وماذا لو تزوجت بآخر وادعى الزوج رجعتها؟] : وتصح الرجعة من غير علم الزوجة؛ لأن ما لا تفتقر صحته إلى رضاها.. لم تفتقر صحته إلى علمها، كالطلاق. إذا ثبت هذا: فإن انقضت عدتها فتزوجت بآخر، وادعى الزوج الأول أنه كان راجعها قبل انقضاء عدتها منه، وقال الزوج الثاني: بل انقضت عدتها قبل أن تراجعها.. نظرت: فإن أقام الزوج الأول بينة: أنه راجعها قبل انقضاء عدتها منه.. حكم بزوجيتها للأول، وبطل نكاح الثاني، سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل بها. وبه قال علي بن أبي طالب، وأكثر الفقهاء.

وقال مالك: (إن دخل بها الثاني.. فهو أحق بها) . وإن لم يدخل بها الثاني.. ففيه روايتان: (إحداهما: أنه أحق بها. والثانية: أن الأول أحق بها) . وروي ذلك عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] [النساء: 24] . و (المحصنة) : من لها زوج، وهذه لها زوج وهو الأول، فلم يصح نكاح الثاني. إذا ثبت هذا فإن كان الثاني لم يدخل بها.. فرق بينهما ولا شيء عليه. وإن دخل بها.. فرق بينهما، وعليه مهر مثلها، وعليها العدة؛ لأنه وطء شبهة، ولا تحل للأول حتى تنقضي عدتها من الثاني. وإن لم يكن مع الأول بينة.. فله أن يخاصم الزوج الثاني، وله أن يخاصم الزوجة. والأولى: أن يبتدئ بخصومة الثاني؛ لأنه أقرب، فإن بدأ بخصومة الثاني.. نظرت في الثاني: فإن أنكر، وقال: لم يراجعها إلا بعد انقضاء عدتها.. فالقول قول الثاني مع يمينه؛ لأن الأصل عدم رجعة الأول، وكيف يحلف؟ قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": يحلف: أنه لم يراجعها في عدتها. وقال ابن الصباغ: يحلف: أنه لا يعلم أنه راجعها في عدتها؛ لأنه يحلف على نفي فعل الغير، وهذا أقيس. فإن حلف الثاني.. سقطت دعوى الأول عنه. وإن نكل الثاني عن اليمين.. ردت اليمين على الأول، فإن حلف: أنه راجعها قبل انقضاء عدتها منه.. سقط حق الثاني من نكاحها؛ لأن يمين الأول كبينة أقامها في أحد القولين، أو كإقرار الثاني بصحة رجعة الأول، وذلك يتضمن إسقاط حق الثاني منهما. فإن صدقت الزوجة الأول على صحة رجعته.. سلمت إليه. فإن كان الثاني لم

يدخل بها.. فلا شيء عليه وتسلم الزوجة في الحال. وإن كان الثاني دخل بها.. استحقت عليه مهر مثلها، ولا تسلم إلى الأول إلا بعد انقضاء عدتها من الثاني. وإن أنكرت الزوجة صحة رجعة الأول، فإن قلنا: إن يمين الأول كبينة أقامها الأول.. كان كأن لم يكن بين الثاني وبينها نكاح، فإن كان قبل الدخول.. فلا شيء لها عليه، وإن كان بعد الدخول.. فلها عليه مهر مثلها. وإن قلنا: إن يمين الأول بمنزلة إقرار الثاني.. فلا يقبل إقراره في إسقاط حقها، بل إن كان قبل الدخول.. لزمه نصف مهرها المسمى، وإن كان بعد الدخول.. لزمه جميع المسمى. ولا تسلم المرأة إلى الأول: على القولين؛ لأن يمين الأول كبينة أقامها، أو كإقرار الثاني في حق الثاني لا في حقها. وإن صدق الثاني الأول أنه راجعها قبل انقضاء عدتها، فإن صدقته المرأة أيضا.. كان كما لو أقام الأول البينة، فإن كان قبل الدخول.. فلا شيء لها على الثاني، وتسلم الزوجة إلى الأول في الحال. وإن كان بعد الدخول.. فلها على الثاني مهر مثلها، وله عليها العدة، ولا تسلم إلى الأول إلا بعد انقضاء عدتها من الثاني. فإن أنكرت الزوجة صحة رجعة الأول بعد أن صدقه الثاني.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم الرجعة، ويحكم بانفساخ نكاح الثاني..؛ لأنه أقر بتحريمها، فإن كان قبل الدخول.. لزمه نصف المسمى. وإن كان بعد الدخول.. لزمه جميع المسمى. وإن بدأ الزوج الأول بالخصومة مع الزوجة.. نظرت: فإن صدقته.. لم يقبل إقرارها؛ لتعلق حق الثاني بها، وهل يلزمها المهر للأول؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: لا يلزمها له شيء؛ لأن إقرارها لم يقبل؛ لحق الثاني، فلم يلزمها غرم، كما لو ارتدت أو قتلت نفسها. والثاني - ولم يذكر المحاملي والشيخ أبو إسحاق غيره -: أنه يلزمها للأول المهر؛ لأنها فوتت بضعها عليه بالنكاح الثاني، فهو كما لو شهد عليه شاهدان: أنه طلقها ثم

رجعا عن شهادتهما.. فإنه يجب عليهما المهر، فكذلك هذا مثله. وإن أنكرت.. فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم الرجعة، وهل يلزمها أن تحلف؟ قال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: فيه قولان: أحدهما: لا يلزمها أن تحلف؛ لأن اليمين إنما تعرض لتخاف فتقر، ولو أقرت.. لم يقبل إقرارها للأول؛ لحق الثاني، فلا فائدة في ذلك. والثاني: يلزمها أن تحلف؛ لأنها ربما خافت من اليمين فأقرت بصحة رجعة الأول فيلزمها له المهر. قال ابن الصباغ: يبنى على الوجهين إذا أقرت للأول: فإن قلنا هناك: يلزمها له المهر.. لزمها أن تحلف له؛ لجواز أن تخاف فتقر، فيلزمها المهر. وإن قلنا: لا يلزمها المهر.. لم يلزمها أن تحلف؛ لأنه لا فائدة في ذلك. فإن قلنا: لا يمين عليها.. فلا كلام. وإن قلنا: عليها اليمين، فإن حلفت.. سقطت دعوى الزوج عنها، وإن نكلت.. ردت اليمين على الزوج الأول، فإذا حلف.. احتمل أن يبنى على القولين في يمين المدعي مع نكول المدعى عليه: فإن قلنا: إنها كالبينة.. لزمها المهر للأول. وإن قلنا: إنها كالإقرار.. فهل يلزمها المهر للأول؟ على الوجهين اللذين حكاهما ابن الصباغ. ولا تسلم الزوجة إلى الأول مع إنكار الثاني على القولين؛ لأنها كالبينة أو كالإقرار في حق المتداعيين - وهما الزوج الأول والزوجة - لا في حق الثاني. وكل موضع قلنا: لا تسلم المرأة إلى الأول إذا أقرت له لحق الثاني، فزالت

مسألة: بينونة الحرة بثلاث والأمة باثنتين وماذا لو أراد رجعتها

زوجية الثاني بموته أو طلاقه.. سلمت إلى الأول بعد انقضاء عدة الثاني منها؛ لأن المنع من تسليمها إلى الأول لحق الثاني، وقد زال. [مسألة: بينونة الحرة بثلاث والأمة باثنتين وماذا لو أراد رجعتها] ؟] : وإذا طلق الحر امرأته ثلاثا، أو طلق العبد امرأته طلقتين.. بانت منه وحرم عليه استمتاعها والعقد عليها حتى تنقضي عدتها منه، ثم تتزوج غيره ويصيبها، ويطلقها أو يموت عنها وتنقضي عدتها منه. وبه قال عامة الفقهاء، إلا سعيد بن المسيب؛ فإنه قال: إذا تزوجها وفارقها.. حلت للأول وإن لم يصبها الثاني. وحكي ذلك عن بعض الخوارج. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] [البقرة: 230] . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن امرأة رفاعة القرظي أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، إني كنت عند رفاعة فطلقني وبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» .

وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت بآخر وطلقها قبل أن يدخل بها: أتحل للأول؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا، حتى تذوق العسيلة» . وإنما أراد بذلك لذة الجماع، وسماه العسيلة تشبيها من العسل. فثبت نكاح الثاني بالآية، وثبتت إصابته بالسنة، وهو إجماع الصحابة؛ لأنه روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة، ولا يعرف لهم مخالف. إذا ثبت هذا: فإن أقل الوطء الذي يتعلق به الإحلال للأول: أن يغيب الثاني الحشفة في الفرج؛ لأن أحكام الوطء من الغسل والحد وغيرهما تتعلق بذلك ولا تتعلق بما دونه.

فرع: إحلال الصبي أو من به عيب للبائن وحكم العبيد

فإن أولج الحشفة في فرجها وأفضاها.. تعلق به الإحلال؛ لأنه حصل به الإحلال وزيادة. وإن غيب الحشفة في الفرج من غير انتشار، أو غيبه في الموضع المكروه، أو وطئها فيما دون الفرج.. لم يتعلق به الإحلال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علقه على ذوق العسيلة، وذلك لا يحصل بما ذكرناه. [فرع: إحلال الصبي أو من به عيب للبائن وحكم العبيد] فرع: [إحلال الصبي أو من به عيب وحكم العبيد] : وإن تزوجها صبي فجامعها، فإن كان صبيا غير مراهق، كابن سبع سنين فما دون.. فلا يحكم بمجامعته , ولا يحلها للأول؛ لأن هذا الجماع لا يلتذ به، فهو كما لو أدخل إصبعه في فرجها. وإن كان مراهقا ينتشر عليها.. أحلها للأول. وقال مالك: (لا يحلها) . دليلنا: أنه جماع ممن يجامع مثله، فأحلها للأول، كالبالغ. وإن كان مسلول الأنثيين فغيب الحشفة في الفرج.. أحلها للأول؛ لأنه جماع يلتذ به، فهو كغيره. وإن كان مقطوع الذكر من أصله.. لم تحل للأول بجماعه؛ لأنه لا يوجد منه الجماع. وإن قطع بعضه، فإن بقي من ذكره قدر الحشفة وأولجه.. أحلها للأول. وإن كان الذي بقي منه، أو الذي أولج فيها دون الحشفة.. لم يحلها للأول؛ لأنه لا يلتذ به. وإن كان الزوج عبدا أو مكاتبا، وكانت الزوجة أمة أو مكاتبة.. كان حكمهما حكم الحر والحرة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا، حتى تذوق العسيلة» . ولم يفرق.

فرع: الإحلال مع ارتكاب محظور

[فرع: الإحلال مع ارتكاب محظور] وإن أصابها الزوج الثاني وهي محرمة بحج أو عمرة، أو صائمة، أو حائض.. أحلها للأول. وقال مالك: (لا يحلها) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حتى تذوق العسيلة» ، ولم يفرق. ولأنها إصابة يستقر بها المهر المسمى، فوقعت بها الإباحة للأول، كما إذا وطئها محلة مفطرة طاهرة. [فرع: للذمية حكم المسلمة وماذا لو طرأ جنون وانتفى القصد] ؟] : وإن كان تحت مسلم ذمية فطلقها ثلاثا، فتزوجت بذمي وأصابها، ثم فارقها.. حلت للمسلم. وقال مالك: (لا تحل) . دليلنا: أنه إصابة من زوج في نكاح صحيح.. فحلت للأول، كما لو تزوجها مسلم. وإن تزوجها الثاني فجن، فأصابها في حال جنونه، أو جنت فأصابها في حال جنونها، أو وجدها الزوج على فراشه فظنها أجنبية فوطئها فبان أنها زوجته.. حلت للأول بعد مفارقة الثاني؛ لأنه إيلاج تام صادف زوجية ولم يفقد إلا القصد، وذلك غير معتبر في الإصابة، كما لو قلنا في استقرار المسمى. [مسألة: إصابة المبتوتة ثلاثا بعد الردة] ] : قال الشافعي: (وإن كانت الإصابة بعد ردة أحدهما، ثم رجع المرتد منهما.. لم تحلها الإصابة؛ لأنها محرمة في تلك الحال) . وجملة ذلك: أن المطلقة ثلاثا إذا تزوجت بآخر، ثم ارتد أحدهما أو

مسألة: وطئها بعد العدة خطأ أو في نكاح فاسد

ارتدا وطئها في حال الردة.. لم يحلها للأول؛ لأن الوطء إنما يصح إذا حصل في نكاح صحيح تام، والزوجية هاهنا متشعثة بالردة. وقال المزني: هذه المسألة محال؛ لأنهما إن ارتدا أو ارتد أحدهما قبل الدخول.. انفسخ النكاح بنفس الردة، وإن ارتدا أو ارتد أحدهما بعد الدخول.. فقد حصل الإحلال بالوطء قبل الردة، فلا تؤثر الردة. قال أصحابنا: ليست بمحال، بل يتصور على قوله القديم الذي يقول: (إن الخلوة كالإصابة، فإذا خلا بها ثم ارتدا أو أحدهما.. فعليها العدة) . فما دامت في العدة.. فالزوجية قائمة. ويتصور على قوله الجديد: بأن يطأها فيما دون الفرج، فيسبق الماء إلى الفرج، أو تستدخل ماءه، ثم يرتد أحدهما، فتجب عليها العدة، أو يطأها في الموضع المكروه، فيرتدا أو أحدهما، فتجب عليها العدة، فيتصور هذا في هذه المواضع الثلاث. [مسألة: وطئها بعد العدة خطأ أو في نكاح فاسد] أو كانت أمة فوطئها سيدها أو اشتراها زوجها] : وإن طلق الرجل امرأته ثلاثا، فانقضت عدتها منه، فوجدها رجل على فراشه فظنها زوجته أو أمته فوطئها، أو كانت أمة لآخر فوطئها سيدها.. لم يحلها للأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] [البقرة: 230] ، وهذا ليس بزوج. وإن اشتراها زوجها قبل أن تنكح زوجا غيره.. فهل يحل له وطؤها بالملك؟ فيه وجهان: أحدهما: يحل له وطؤها؛ لأن الطلاق من خصائص الزوجية، فأثر في تحريم الوطء بالزوجية دون ملك اليمين.

والثاني: لا يحل له، وهو المذهب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] [البقرة: 230] ، ولم يفرق. ولأن كل امرأة يحرم عليه نكاحها.. لم يجز له وطؤها بملك اليمين، كالملاعنة. وإن نكحها رجل نكاحا فاسدا ووطئها.. فهل تحل للأول؟ فيه قولان: أحدهما: لا يحلها؛ لأنه وطء في نكاح فاسد، فهو كوطء الشبهة. والثاني: يحلها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله المحلل والمحلل له» ، فسماه محللا. ولأنه وطء في نكاح، فأشبه النكاح الصحيح. قال في " الإملاء ": (وإذا طلق الرجل امرأته طلاقا رجعيا، فانقضت عدتها، فجاءها رجل فقال: توقفي، فلعل زوجك قد راجعك.. لم يلزمها التوقف؛ لأن انقضاء العدة قد وجد في الظاهر، والرجعة أمر محتمل، فلا يترك الظاهر للمحتمل) .

مسألة: مبتوتة ادعت انقضاء عدتها من آخر

[مسألة: مبتوتة ادعت انقضاء عدتها من آخر] ] : وإن طلق الرجل امرأته ثلاثا، فجاءت إلى الذي طلقها، وادعت أن عدتها منه قد انقضت، وأنها قد تزوجت بآخر وأصابها، وطلقها الثاني وانقضت عدتها منه، وكان قد مضى من يوم الطلاق زمان يمكن صدقها فيه.. جاز للأول أن يتزوجها؛ لأنها مؤتمنة فيما تدعيه من ذلك. فإن وقع في نفس الزوج كذبها.. فالورع له أن لا يتزوجها، فإن نكحها.. جاز؛ لأن ذلك مما لا يتوصل إلى معرفته إلا من جهتها. وإن كانت عنده صادقة.. لم يكره له تزوجها، ويستحب له: أن يبحث عن ذلك؛ ليعرف به صدقها، فإن لم يبحث عن ذلك.. جاز. فإن رجعت المرأة عما أخبرت به.. نظرت: فإن كان قبل أن يعقد عليها الأول.. لم يجز له العقد عليها. وإن كان بعدما عقد عليها.. لم يقبل رجوعها؛ لأن في ذلك إبطالا للعقد الذي لزمها في الظاهر. [فرع: مبتوتة تزوجت وادعت إصابتها واختلفت مع الزوجين] وإن طلق الرجل امرأته ثلاثا، فتزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها، وطلقها الثاني، فادعت الزوجة على الثاني أنه طلقها بعد أن أصابها، وأنكر الثاني الإصابة.. فالقول قوله مع يمينه: أنه ما أصابها؛ لأن الأصل عدم الإصابة، ولا يلزمه إلا نصف المسمى، وتلزمها العدة للثاني؛ لأنها مقرة بوجوبها عليها. فإن صدقها الأول: أن الثاني قد كان أصابها في النكاح.. حل له أن يتزوجها؛ لأن قولها مقبول في إباحتها للأول وإن لم يقبل على الثاني. فإن قال الأول: أنا أعلم أن الثاني لم يصبها.. لم يجز له أن يتزوجها، فإن عاد

مسألة: الفرقة المحرمة للتزاوج

وقال: علمت أن الثاني أصابها.. قال الشافعي: (حل له أن يتزوجها؛ لأنه قد يظن أنه لم يصبها، ثم يعلم أنه أصابها فحلت له) . [مسألة: الفرقة المحرمة للتزاوج] ] : الفرقة التي يقع بها التحريم بين الزوجين على أربعة أضرب: الأول: فرقة يقع بها التحريم، ويرتفع ذلك التحريم بالرجعة، وهو: الطلاق الرجعي على ما مضى، وهذا أخفها. والضرب الثاني: فرقة يرتفع بها التحريم بعقد نكاح مستأنف قبل زوج؛ وهو: أن يطلق غير المدخول بها طلقة أو طلقتين، أو يطلق المدخول بها طلقة أو طلقتين بغير عوض ولا يسترجعها حتى تنقضي عدتها، أو يطلقها طلقة أو طلقتين بعوض، أو يجد أحدهما بالآخر عيبا فيفسخ النكاح، أو يعسر الزوج بالمهر أو النفقة فتفسخ الزوجة النكاح.. فلا رجعة للزوج في هذا كله، وإنما يرتفع التحريم بعقد نكاح مستأنف، ولا يشترط أن يكون ذلك بعد زوج وإصابة. وهذا الضرب أغلظ من الأول. والضرب الثالث: فرقة يقع بها التحريم، ولا يرتفع ذلك التحريم إلا بعقد مستأنف بعد زوج وإصابة؛ وهو: أن يطلق الرجل امرأته ثلاثا، سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها، فيحرم عليه العقد عليها إلا بعد زوج وإصابة على ما مضى. وهذا أغلظ من الأولين. والضرب الرابع: فرقة يقع بها التحريم على التأبيد لا ترتفع بحال، وهي الفرقة الواقعة باللعان على ما يأتي بيانه. وهذا أغلظ الفرق. إذا ثبت هذا: فإن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا رجعيا، ثم راجعها في عدتها.. فإنها تكون عنده على ما بقي له من عدد الطلاق. وإن طلق امرأته ثلاثا، ثم تزوجها بعد زوج.. فإنه يملك عليها ثلاث تطليقات. وهذا إجماع لا خلاف فيه.

وإن أبان امرأته بدون الثلاث، بأن يطلق غير المدخول بها طلقة أو طلقتين، أو يطلق المدخول بها طلقة أو طلقتين بعوض، أو طلقها طلقة أو طلقتين بغير عوض ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم تزوجها قبل أن تتزوج زوجا غيره.. فإنها تكون عنده على ما بقي من عدد الثلاث، وهذا أيضا لا خلاف فيه. وإن تزوجها بعد أن تزوجت غيره.. فإنها تعود إليه - عندنا - على ما بقي من عدد الثلاث لا غير. وبه قال في الصحابة: عمر، وعلي، وأبو هريرة. ومن الفقهاء: مالك، والأوزاعي، والثوري، وابن أبي ليلى، ومحمد بن الحسن، وزفر. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: (تعود إليه بالثلاث) . وروي عن ابن عباس مثل ذلك.

دليلنا: أن إصابة الزوج ليست شرطا في الإباحة للأول، فلم تؤثر في الطلاق، كإصابة السيد. وبالله التوفيق.

كتاب الإيلاء

[كتاب الإيلاء]

كتاب الإيلاء الإيلاء - في اللغة - هو: الحلف لا يتعلق بمدة مخصوصة. يقول الرجل: آليت لأفعلن كذا، أو لا فعلت كذا، أولي إيلاء وألية، وآلى إليه اليمين.

قال الشاعر: فآليت لا آتيك إلا محرما ... ولا أبتغي جارا سواك مجاورا وقال آخر: ولا خير في مال عليه ألية ... ولا في يمين عقدت بالمآثم وأما الإيلاء في الشرع فهو: أن يحلف أن لا يطأ امرأته مطلقا أو مدة معلومة، على ما يأتي وقد كان ذلك فرقة مؤبدة في الجاهلية. وقيل: إنه عمل به في أول الإسلام، والأصح: أنه لم يعمل به في الإسلام فرقة. والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] . إذا ثبت هذا: فإن الإيلاء يصح من كل زوج بالغ عاقل قادر على الوطء. فأما إذا حلف رجل على امرأة ليست له بزوجة.. انعقدت يمينه، ولا يصير موليا تتعلق به أحكام الإيلاء، فإن تزوجها وقد بقي من المدة أكثر من أربعة أشهر.. فقد قال القاضي أبو الطيب هل يصير موليا؟ فيه قولان، كما قلنا فيمن آلى من امرأته ثم أبانها، ثم تزوجها وقد بقيت مدة التربص: أحدهما: يصير موليا. وبه قال مالك. والثاني: لا يصير موليا. وقال ابن الصباغ: لا يصير موليا قولا واحدا؛ لأن الإيلاء حكم من أحكام النكاح، فلم يصح من الأجنبية، كالطلاق.

ولا يصح إيلاء الصبي والمجنون؛ لأن يمينهما لا تنعقد. وأما الخصي: فضربان: مسلول ومجبوب: فأما (المسلول) فهو: الذي سلت خصيتاه وبقي ذكره، فيصح إيلاؤه؛ لأنه كالفحل في الجماع. وقيل: هو أقوى منه على الجماع، فيصح إيلاؤه، كالفحل. وأما (المجبوب) : فإن كان بقي من ذكره ما يمكنه أن يطأ به، ويغيب منه قدر الحشفة في الفرج.. صح إيلاؤه؛ لأنه يقدر على الجماع به، فهو كمن له ذكر قصير. وإن بقي ما يمكنه الجماع به، إلا أنه أقر أنه لا يقدر على الجماع به.. فهو كالعنين، ويضرب له أجل العنين، فإن جامع وإلا.. فسخ عليه النكاح. وإن بقي له من الذكر ما لا يتمكن من الجماع به في العادة، أو جب من أصله.. فهل يصح إيلاؤه؟ فيه قولان: أحدهما: يصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، ولم يفرق بين المجبوب وغيره؛ لأن (المولي) هو الذي يمتنع من وطء امرأته باليمين مدة تزيد على أربعة أشهر، وهذا موجود فيه، فكان موليا. والثاني: أنه لا يصح إيلاؤه؛ لأنه حلف على ترك ما لا يقدر عليه بحال، فلم تنعقد يمينه، كما لو حلف لا يصعد السماء. ويصح إيلاء المريض والمحبوس؛ لأنه يقدر على وطئها في غير هذه الحالة، فانعقدت يمينه. وإن آلى من الرتقاء والقرناء.. قال ابن الصباغ: فهل يصح إيلاؤه منها؟ فيه قولان، كإيلاء المجبوب. وإن آلى من الصغيرة.. صح إيلاؤه قولا واحدا؛ لأنه قادر على وطئها.

مسألة: الإيلاء بالله تعالى وماذا لو آلى بغيره تعالى أو بنذر أو قذف

ويصح إيلاء الزوج، سواء كان حرا أو عبدا، مسلما كان أو ذميا. وبه قال أبو حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يصح إيلاء الذمي باليمين بالله، ويصح بالطلاق والعتاق. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] الآية [البقرة: 226] ، فعم ولم يخص. ولأن من صح طلاقه أو يمينه عند الحاكم.. صح إيلاؤه، كالمسلم. [مسألة: الإيلاء بالله تعالى وماذا لو آلى بغيره تعالى أو بنذر أو قذف] ؟] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والمولي من الحلف بيمين، تلزمه بها كفارة) . وجملة ذلك: أنه إذا حلف بالله أن لا يطأ امرأته.. صار موليا. وهو إجماع لا خلاف فيه. وإن حلف بغير الله، مثل أن قال: إن وطئتك فمالي صدقة، أو فعلي لله أن أتصدق بمالي، أو قال: فعبدي حر، أو فعلي أن أعتق عبدي، أو فأنت طالق، أو امرأتي الأخرى طالق.. فهل يصح إيلاؤه؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (لا يصح إيلاؤه) ، وبه قال أحمد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، و (الإيلاء) : الحلف، والحلف إذا أطلق.. فإنما ينصرف إلى الحلف بالله؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف.. فليحلف بالله أو ليصمت» .

فرع: علق وطأها على صيام شهر

ولأنه قال تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] وهذا يقتضي العفو عن الكفارة عند الفيئة، وذلك إنما يوجد في الحلف بالله دون غيره. فعلى هذا: يكون حالفا، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو فعبدي حر، وإنما لا يتعلق به أحكام الإيلاء. و [الثاني] : قال في الجديد: (يصح إيلاؤه) . وبه قال مالك وأبو حنيفة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، و (الإيلاء) : الحلف، وهذا عام في الحلف بالله وبغيره. ولأنها يمين يلزمه بالحنث فيها حق، فصح إيلاؤه بها، كاليمين بالله. وهذا هو الأصح، وعليه التفريع. إذا ثبت هذا: فإن قال: إن وطئتك فعلي لله أن أطلقك، أو أطلق امرأتي الأخرى.. لم يكن موليا؛ لأنه لا يلزمه بوطئها شيء؛ لأن هذا نذر، ونذر الطلاق لا يصح. وإن قال: إن وطئتك فأنت زانية.. لم يكن موليا، وإن وطئها.. لم يكن قاذفا؛ لأن المولي هو الذي لا يمكنه أن يطأ امرأته إلا بضرر يدخل عليه، وهذا يقدر على وطئها بغير ضرر يدخل عليه؛ لأنه لا يصير بوطئه لها قاذفا، فلم يكن موليا. [فرع: علق وطأها على صيام شهر] ] : وإن قال: إن وطئتك فعلي لله أن أصوم هذا الشهر.. لم يكن موليا؛ لأن المولي هو الذي لا يمكنه أن يطأها بعد أربعة أشهر إلا بضرر يلحقه، وهذا يمكنه أن يصبر هذا الشهر فلا يطؤها، ويمكنه الوطء بغير ضرر يلحقه، ويكون ناذرا نذر لجاج وغضب.

فرع: مظاهر علق عتق عبده على وطء امرأته

فإن وطئها بعد مضي هذا الشهر.. فلا شيء عليه. وإن وطئها في أثناء الشهر.. لم يلزمه صوم ما فات منه، وأما صوم ما بقي منه بعد الوطء.. فهو بالخيار: بين أن يصومه، وبين أن يكفر كفارة يمين، على ما مضى في النذر. وإن قال: إن وطئتك فعلي لله أن أصوم شهرا.. صار موليا؛ لأنه إذا نكر الشهر.. لم يقتض شهرا بعينه، ولا يمكنه وطؤها بعد أربعة أشهر إلا بضرر يلحقه. قال المسعودي [في " الإبانة] : إذا قال: إن وطئتك فلله علي أن أصوم الشهر الذي أطؤك فيه.. كان موليا، فإن وطئها في أثناء الشهر.. لزمه صوم بقية الشهر. وهل يلزمه صوم بقية اليوم الذي وطئها فيه؟ على وجهين بناء على أنه إذا قال: علي لله أن أصوم هذا اليوم.. هل يلزمه؟ فيه وجهان: [فرع: مظاهر علق عتق عبده على وطء امرأته] ] : وإن كان مظاهرا من امرأته ثم قال لامرأته: إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري، أو لم يعلم أنه كان مظاهرا ثم قال ذلك.. فإنه يكون إقرارا منه بالظهار، ويكون موليا في الحال؛ لأنه لا يمكنه وطؤها إلا بضرر يلحقه، وهو عتق العبد المعين. فإذا مضت مدة التربص، فإن طلقها.. أوفاها حقها ولم يعتق العبد، وإن وطئها.. عتق العبد، وهل يجزئه عن الظهار؟ فيه وجهان: أحدهما: يجزئه؛ لأنه عتق عبده بعد عقد الظهار، عن الظهار فأجزأه، كما لو أعتقه عن الظهار. والثاني: أنه لا يجزئه؛ لأن عتقه وقع مشتركا بين الظهار وبين الحنث عن الإيلاء، فلم يجزئه عن الظهار. وإن قال لامرأته: إن وطئتك فلله علي أن أعتق عبدي عن ظهاري، وهو مظاهر.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (إنه يكون موليا) . ونقل المزني: (أنه لا يكون موليا) - وبه قال المزني وأبو حنيفة وأصحابه - لأنه لا يملك تعيين عتق في ذمته في عبد بعينه، فلم تنعقد يمينه، كما لو كان عليه

صوم يوم، فقال: إن وطئتك فعلي أن أصوم يوم الخميس عن اليوم الذي في ذمتي. وقال أصحابنا: يكون موليا قولا واحدا؛ لأنه لا يمكنه وطؤها إلا بضرر يلحقه وهو عتق هذا العبد، فصار موليا، كما لو قال: إن وطئتك فعلي لله أن أعتق هذا العبد. وأما الصوم: فقد قال بعض أصحابنا: إنه يتعين بالنذر، كالعتق. وقال أكثر أصحابنا: لا يتعين، وهو المنصوص؛ لأن الصوم الواجب لا تتفاضل فيه الأيام، والرقاب تختلف وتتفاضل لتفاضل أثمانها. وأما ما نقله المزني: فقد قال بعض أصحابنا: أخطأ في النقل، ولا يعرف هذا للشافعي. ومنهم من قال: إنما نقله على قوله القديم: (أنه لا يصح الإيلاء إلا بالله تعالى) . وإذا ثبت هذا: وانقضت مدة التربص، فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها، ولا يتعين عليه عتق العبد عن الظهار. وإن وطئها.. فقد حنث في نذره، فيكون بالخيار: بين أن يكفر كفارة يمين ثم إن شاء أعتق العبد المنذور عن الظهار وإن شاء أعتق غيره، وبين أن يفي بنذره فيعتق هذا العبد عن نذره. فإذا أعتقه.. فهل يجزئه عن ظهاره؟ فيه وجهان مضى ذكرهما. إذا تقرر هذا: فذكر في " المهذب ": إذا قال: إن وطئتك فسالم حر عن ظهاري، وهو مظاهر.. فهو مول. وقال المزني: لا يكون موليا؛ لأن ما وجب عليه.. لا يتعين بالنذر. وسائر أصحابنا إنما ذكروا خلاف المزني فيه، إذا قال: إن وطئتك فعلي لله أن أعتق عبدي عن ظهاري، على ما مضى، وهو المنصوص في " المختصر "، وتعليل الشيخ أبي إسحاق يدل عليه.

فرع: علق عتق عبده على وطئه زوجته إن تظاهرت

[فرع: علق عتق عبده على وطئه زوجته إن تظاهرت] ] : وإن قال لامرأته: إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري إن تظاهرت، أو قال لها: إن تظاهرت فعبدي حر عن ظهاري إن وطئتك.. فإنه لا يكون موليا قبل الظهار؛ لأنه علق عتق عبده بصفتين: بالظهار والوطء، فلا يعتق قبل وجودهما. وإذا كان كذلك.. فإنه يمكنه وطؤها قبل الظهار من غير ضرر يلحقه، فلم يكن موليا في الحال، كما لو قال: إن دخلت الدار ووطئتك فعبدي حر. إذا ثبت هذا: فإن وطئها قبل أن يظاهر.. لم يلزمه شيء. وإن ظاهر قبل أن يطأها.. صار موليا؛ لأنه لا يقدر على وطئها إلا بضرر يلحقه وهو عتق هذا العبد، فصار كما لو قال: إن وطئتك فعبدي حر. فإذا مضت مدة التربص، فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها، وإن وطئها.. عتق العبد؛ لأنه وجد شرط عتقه، ولا يجزئه عن الظهار، بلا خلاف بين أصحابنا. واختلفوا في علته: فقال أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: لا يجزئه؛ لأنه علق عتقه عن الظهار قبل الظهار، فلم يجزئه عن الظهار. وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يجزئه؛ لأنه جعله مشتركا بين الحنث بالوطء، والإعتاق للتكفير. والأول أصح. ومن هذين التعليلين خرج الوجهان في التي قبل هذه. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا ظاهر منها.. صار موليا، وهل يصير موليا قبل الظهار؟

فرع: علق عتق عبده على ما قبل وطئه بشهر

من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على أنه لو قال: والله لا أطؤكن.. فهل يصير موليا من كل واحدة منهن؟ على قولين. ومنهم من قال: لا يصير موليا قولا واحدا. [فرع: علق عتق عبده على ما قبل وطئه بشهر] ] : قال الطبري: وإن قال: إن وطئتك فعبدي حر قبل وطئي إياك بشهر.. فلا تحتسب عليه مدة الإيلاء حتى يمضي شهر من وقت تلفظه بهذا؛ لأنه لو وطئ قبل شهر.. لم يعتق العبد، فإذا مضى شهر.. صار موليا، ثم إذا مضت مدة التربص.. فهل يطالب بالفيئة؟ قال القفال: لا يطالب حتى يمضي شهر آخر. وقال غيره: يطالب بالفيئة؛ لأنه إذا طلق.. لم يستند الطلاق إلى ما قبله. وإذا صار موليا بعد مضي شهر، وباع ذلك العبد.. لم يسقط حكم الإيلاء حتى يمضي شهر، وذلك لأنه لو وطئها قبل مضي شهر.. بان أنه باع حرا. [فرع: حرم زوجته إن أصابها] إذا قال لامرأته: إن أصبتك فأنت علي حرام، فإن نوى به الطلاق أو الظهار أو تحريم عينها.. كان موليا على قوله الجديد. وإن قلنا: إنه كناية.. لم يكن موليا. وإن قال: أنت علي حرام، ثم قال: نويت إن أصبتك فأنت علي حرام.. فقد قال أكثر أصحابنا: لا يقبل منه في الحكم، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن ظاهر لفظه يوجب الكفارة في الحال، فلم يقبل قوله فيما يقتضي تأخيرها، كما لو قال لامرأته: أنت طالق، ثم قال: أردت إذا دخلت الدار. وقال ابن الصباغ: يقبل قوله؛ لأن الكفارة لا يطالب بها الحاكم، فلا معنى لإيجاب ذلك في الحكم وهو مقر بالإيلاء، فيلزمه حكم إقراره، ويثبت للمرأة مطالبته بعد مدة التربص.

فرع: يولي الرجل في الرضا والغضب

[فرع: يولي الرجل في الرضا والغضب] ] : ويصح الإيلاء في حال الغضب والرضا. وحكي عن ابن عباس: أنه قال: (لا يصح في حال الرضا، وإنما يصح في حال الغضب) . وقال مالك: (إنما يصح في حال الرضا إذا كان للإصلاح، مثل أن يحلف لأجل ولده) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] الآية [البقرة: 226] ، ولم يفرق بين حال الرضا والغضب. [مسألة: حلف على عدم الجماع في الدبر أو إلا فيه] ] : وإن قال: والله لا جامعتك في دبرك.. فهو محسن وليس بمول؛ لأن المولي هو الذي يمتنع من وطء امرأته بيمين، وترك الجماع في الدبر واجب، فلم يكن موليا بذلك. وإن قال: والله لا وطئتك إلا في الدبر.. كان موليا؛ لأنه حلف على ترك وطئها في القبل، وذلك مما يضر بها.

مسألة: أنواع الصريح والكناية في الإيلاء

[مسألة: أنواع الصريح والكناية في الإيلاء] ] : قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: (ولا يلزمه الإيلاء حتى يصرح بأحد أسماء الجماع التي هي صريحة فيه) . وجملة ذلك: أن الألفاظ التي تستعمل في الإيلاء على أربعة أضرب: أحدها: ما هو صريح في الإيلاء ظاهرا وباطنا، وذلك قوله: والله لا أنيكك، ولا أغيب ذكري في فرجك، أو لا جامعتك بذكري، أو لا أقتضك بذكري وهي بكر، فإذا قال ذلك.. كان موليا سواء نوى به الإيلاء أو لم ينو؛ لأنه لا يحتمل غير الجماع لغة وشرعا. فإن قال: لم أرد به الإيلاء.. لم يقبل منه في الظاهر والباطن؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر. والضرب الثاني: ما هو صريح في الإيلاء في الحكم، وذلك قوله: والله لا جامعتك، أو لا وطئتك، فإذا قال ذلك.. كان موليا في الحكم؛ لأنه مستعمل فيه في العرف. فإن قال: لم أرد به الجماع في الفرج، وإنما أردت بالجماع الاجتماع والموافقة، وبالوطء الوطء بالرجل.. لم يقبل في الحكم؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن ما قاله محتمل في اللغة. وإن قال: والله، لا أقتضك - وهي بكر - ولم يقل: بذكري.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه صريح في الإيلاء ظاهرا وباطنا كالقسم الأول؛ لأنه لا يحتمل غير الاقتضاض بالذكر. والثاني - وهو قول القاضيين: أبي حامد وأبي الطيب، وأبي علي السنجي، واختيار ابن الصباغ -: أنه صريح في الإيلاء في الحكم. فإن ادعى: أنه لم يرد الجماع

بالذكر.. لم يقبل في الحكم، ويدين فيه؛ لأنه يحتمل الاقتضاض بالأصبع. الضرب الثالث: ما لا يكون إيلاء إلا بالنية، وذلك كقوله: والله لا يتوافق رأسي ورأسك، أو لا اجتمع رأسي ورأسك، أو لا جمعني وإياك بيت، أو لا دخلت عليك، أو لا دخلت علي، أو لأسوءنك، أو لأغيظنك، أو ما أشبه ذلك، فإن نوى به الجماع بالذكر.. كان موليا؛ لأنه يحتمل ذلك. وإن لم ينو به ذلك.. لم يكن موليا؛ لأن هذه الألفاظ لا تستعمل فيه غالبا. الضرب الرابع: اختلف فيه قول الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وهو قوله: والله لا باشرتك، أو والله لا لامستك، أو لا أفضي إليك. فقال في القديم: (وهو صريح في الإيلاء في الحكم، كقوله: والله لا وطئتك، أو لا جامعتك) ؛ لأن القرآن ورد بهذه الألفاظ، والمراد به: الجماع. قال الله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] يعني: جامعتم. وقال: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] . وقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ} [النساء: 21] [النساء: 21] . فإن قال: لم أرد به الوطء.. لم يقبل في الحكم، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. وقال في الجديد: (هي كناية، فلا يكون موليا إلا أن ينوي به الجماع) . وهو الأصح؛ لأن هذه الألفاظ تحتمل الجماع وغيره، فهو كقوله: لا اجتمع رأسي ورأسك. وإن قال: والله لا أصبتك.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان، كقوله: لا لامستك، أو لا باشرتك. ومنهم من قال: هو كناية قولا واحدا، كقوله لا اجتمع رأسي ورأسك. وقال الشيخ أبو حامد: هو صريح في الإيلاء في الحكم قولا واحدا، كقوله: لا جامعتك، ولا وطئتك. وإن قال: والله لا لمستك، أو لا غشيتك، أو لا باضعتك، أو لا قربتك.. فمن أصحابنا من قال: فيه قولان، كقوله: لا باشرتك.

فرع: الحلف على ما يلزم منه الإيلاء أو عدمه

ومنهم من قال: هو كناية قولا واحدا، كما لو قال: لا اجتمع رأسي ورأسك. وإن قال: والله لا كسوتك، أو لا أطعمتك، أو لا أخرجتك من داري.. لم يكن موليا بصريح وكناية؛ لأن ذلك لا يتضمن ذكر الجماع. [فرع: الحلف على ما يلزم منه الإيلاء أو عدمه] ] : وإن قال: والله لا غيبت الحشفة في الفرج.. كان موليا؛ لأن ما دون ذلك.. ليس بجماع تام، فهو كما لو قال: والله لا وطئتك. وإن قال: والله لا جامعتك إلا جماعا ضعيفا.. لم يكن موليا؛ لأنه لم يمنع نفسه من جماعها، وإنما منع نفسه من الجماع القوي، والجماع الضعيف كالقوي في الحكم. وإن قال: والله لا جامعتك إلا جماع سوء.. سئل عن ذلك، فإن قال: أردت لا جامعتها إلا في دبرها.. كان موليا؛ لأنه حلف أن لا يطأها في قبلها وذلك هو الإيلاء. وإن قال: أردت لا غيبت الحشفة في فرجها.. كان موليا؛ لأن تغييب ما دون الحشفة ليس بجماع تام. وإن قال: أردت لا جامعتها إلا جماعا ضعيفا.. لم يكن موليا؛ لأن الجماع الضعيف كالقوي في الحكم. وإن قال: والله لأجامعنك جماع سوء.. لم يكن موليا؛ لأنه لم يحلف أنه لا جامعها، وإنما حلف ليجامعنها جماع سوء، وذلك لا يتضمن ترك جماعها. [فرع: القسم على أنه لا يغتسل أو لا يجنب منها] ] : وإن قال: والله لا أغتسل منك، أو لا أجنب منك.. سئل، فإن قال: أردت أني لا أرى الغسل والجنابة من التقاء الختانين، أو أردت أني أطأ غيرك. قبلك ثم

مسألة: مدة الإيلاء الشرعي عندنا

أطؤك، أو أردت أني حلفت على الغسل دون الجماع.. لم يكن موليا. وإن قال: أردت لا أجامعك.. كان موليا. [مسألة: مدة الإيلاء الشرعي عندنا] ] : و (الإيلاء الشرعي) عندنا هو: أن يحلف أن لا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر. وإن حلف أن لا يطأها أربعة أشهر، أو ما دون ذلك.. لم يكن موليا في الشرع، وكان حالفا، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو ثور. وروي عن ابن عباس: أنه قال: (لا يكون موليا حتى يحلف أن لا يطأها أبدا) ، أو يطلق ولا يقدره بمدة. وقال أبو حنيفة: (إذا حلف أن لا يطأ أربعة أشهر.. كان موليا) . وقال النخعي والحسن البصري وابن أبي ليلى وقتادة: إذا حلف أن لا يطأها يوما أو يومين، أو أقل أو أكثر.. كان موليا. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] . فموضع الدليل فيها على ابن عباس: أن الله تعالى جعل لكل من آلى من امرأته أن يتربص أربعة أشهر، ولم يفرق بين أن يولي عنها أبدا أو مدة دونها. وموضع الدليل على أبي حنيفة والنخعي والبصري: أن الله تعالى جعل للمولي أن يتربص أربعة أشهر، ثم قال: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] وهذا يقتضي عفوه عن الكفارة بعد مدة التربص، والكفارة لا تجب إلا إذا كانت اليمين باقية. ولأن المولي هو الذي منع نفسه باليمين من وطء امرأته وقصد الإضرار بها، والإضرار لا يلحقها في ترك وطئها ما دون أربعة أشهر، لما روي: (أن عمر بن

الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اجتاز في موضع من المدينة ليلا، فسمع امرأة تقول: تطاول هذا الليل وازور جانبه ... وليس إلى جنبي خليل ألاعبه وروي: [ألا طال هذا الليل] واخضل جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه فوالله لولا الله لا رب غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه مخافة ربي والحياء يكفني ... وأكرم بعلي أن تنال مراكبه فسألها عمر عن حالها، فأخبرته: أن زوجها قد بعثه إلى الجهاد، فلما كان من الغد.. سأل عمر نسوة: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقلن: شهرين، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر، ويفنى الصبر في أربعة أشهر، فضرب لهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مدة أربعة أشهر، فكلما قام الرجل في الغزو أربعة أشهر.. قدم إلى أهله، وذهب مكانه غيره، وكتب إلى أمراء الجنود: أن لا يحبس الرجل عن امرأته أكثر من أربعة أشهر) .

إذا ثبت هذا: فقال لامرأته: والله لا وطئتك.. كان موليا؛ لأن إطلاقه يقتضي التأبيد. وإن قال: والله لا وطئتك مدة، أو والله لأطولن تركي لجماعك، أو ليطولن عهدك بجماعي.. فإن هذا صريح في الجماع، ولكن المدة وطولها تحتمل القليل والكثير. فإن قال: أردت به ما زاد على أربعة أشهر.. كان موليا. وإن قال: أردت به أربعة أشهر فما دونها.. لم يكن موليا؛ لأنه يحتمل الجميع احتمالا واحدا، فكان المرجع إليه؛ لأنه أعلم بما أراد. وإن قال: والله لتطولن غيبتي عنك.. فإنه كناية في الجماع والمدة. فإن قال: لم أرد به ترك الجماع.. لم يكن موليا، ولا حالفا عن الجماع. وإن قال: أردت به ترك الجماع في أربعة أشهر وما دونها.. لم يكن موليا وكان حالفا. وإن قال: أردت به ترك الجماع في مدة تزيد على أربعة أشهر.. كان موليا. وإن قال: والله لا اجتمع رأسي ورأسك، أو لا دخلت عليك، أو لا دخلت علي، وقال: أردت به ترك الجماع.. فإنه يستغرق الزمان ويكون موليا. وإن قال: والله لأغيظنك، أو لأسوءنك.. فهو كناية في الجماع. فإن لم ينو

فرع: حلف أن لا يجامع خمسة أشهر وحلف إذا انقضت لا يطؤها سنة

الجماع.. لم يكن موليا. وإن نوى به الجماع.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يكون صريحا في استغراق الزمان، فيكون موليا. وقال ابن الصباغ: لا يكون موليا، إلا أن ينوي بذلك ترك الجماع في مدة تزيد على أربعة أشهر؛ لأن غيظها قد يكون بترك الجماع فيما دون ذلك. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن قال: إذا مضت خمسة أشهر فوالله لا أطؤك.. لم يصر موليا حتى تمضي خمسة أشهر. [فرع: حلف أن لا يجامع خمسة أشهر وحلف إذا انقضت لا يطؤها سنة] ] : وإن قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر فإذا انقضت فوالله لا وطئتك سنة.. فإن هذا إيلاءان، وجد زمان أحدهما، فلا يدخل حكم أحدهما في الآخر؛ لأنه أفرد كل واحد بيمين، فيضرب له مدة التربص للإيلاء الأول من حين العقد. فإذا انقضت مدة التربص، فإن وطئها.. أوفاها حقها، وإن انقضت الخمسة الأشهر.. ضربت له مدة التربص للإيلاء الثاني. وإن لم يطأها للإيلاء الأول ولكن طلقها.. فقد أوفاها حقها. فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها.. فقد بانت منه. وإن راجعها وقد بقي من السنة بعد الخمسة الأشهر أربعة أشهر فما دون.. لم تضرب له المدة، وإن بقي منها ما زاد على أربعة أشهر.. ضربت له المدة للإيلاء الثاني. وإن لم يطأها للإيلاء الأول ولا طلقها، ولكن دافعها حتى انقضت الخمسة الأشهر.. فقد بر في اليمين الأولى، وليس لها أن تطالبه بعد ذلك بوطء ولا طلاق للإيلاء الأول؛ لأن زمانه قد انقضى، وإنما تضرب له مدة التربص للإيلاء الثاني. فإن وطئها.. أوفاها حقها. وإن طلقها.. أوفاها حقها، فإن لم يراجعها حتى انقضت

فرع: آلى أن لا يطأ خمسة أشهر ثم قال: سنة وصور أخر

عدتها.. فلا كلام. وإن راجعها وقد بقي من السنة أربعة أشهر فما دون.. لم يعد حكم الإيلاء؛ لأنه لم يبق من الزمان ما يكون فيه موليا. وإن بقي منها أكثر من أربعة أشهر.. كان موليا؛ لأنه ممتنع من وطئها بعقد يمين، فيتربص أربعة أشهر، فإذا مضت.. طولب بالفيئة أو الطلاق. فإن دافع حتى انقضت السنة.. خرج من الإيلاء وبر في يمينه. [فرع: آلى أن لا يطأ خمسة أشهر ثم قال: سنة وصور أخر] ] : وإن قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر ثم قال: والله لا وطئتك سنة.. فهما يمينان، إلا أن كل واحدة منهما تكون مدتها من حين اليمين. وحكى ابن الصباغ: أن من أصحابنا من قال: يستأنف السنة بعد انقضاء الخمسة الأشهر، كالتي قبلها؛ لأن الخمسة الأشهر قد تعلقت بها اليمين الأولى، فلا تحمل الثانية على التكرار. والأول أصح؛ لأن اليمين الثانية أفادت زيادة على المدة الأولى.. فدخلت الأولى في الثانية، كما لو قال: له علي مائة درهم، ثم قال: له علي ألف درهم.. فإن المائة تدخل في الألف. إذا ثبت هذا: فإنه تضرب له مدة التربص أربعة أشهر. فإن وطئها قبل انقضاء الخمسة الأشهر.. فقد حنث في يمينه، فإذا أوجبنا عليه الكفارة في الحنث بالأولى.. فهل تجب هاهنا كفارة أو كفارتان؟ فيه قولان، يأتي ذكرهما في (الأيمان) . وإن وطئها بعد انقضاء الخمسة الأشهر.. وجبت عليه كفارة واحدة. وإن طلقها.. فقد سقط حكم الإيلاء في اليمين الأولى، سواء راجعها أو لم يراجعها. وأما اليمين الثانية: فإن لم يراجعها.. فلا كلام. وإن راجعها وقد بقي من السنة أربعة أشهر فما دون.. لم يعد حكم الإيلاء.

مسألة: تعليق الإيلاء على شرط الوطء

وإن بقي أكثر من أربعة أشهر.. ضربت له مدة التربص ثانية، ثم يطالب بالفيئة أو الطلاق. فإن امتنع عن الطلاق أو الفيئة حتى انقضت السنة.. فقد أساء، وبر في اليمين. وإن قال: والله لا وطئتك أربعة أشهر فإذا انقضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر.. فهل يكون موليا؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون موليا؛ لأنه امتنع من وطئها ثمانية أشهر بالحلف، فهو كما لو حلف: أن لا يطأها ثمانية أشهر. والثاني: لا يكون موليا، بل يكون حالفا، وهو الأصح؛ لأن حكم إحدى اليمينين لا يبنى على الأخرى، وكل يمين تقصر مدتها عن مدة الإيلاء الشرعي.. فهو كما لو قال: والله لا وطئتك أربعة أشهر. وإن قال: والله لا وطئتك أربعة أشهر فإذا انقضت فوالله لا وطئتك خمسة أشهر، فإذا انقضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر.. فعلى الوجه الأول: يكون موليا عقيب اليمين. وعلى الثاني: لا يكون موليا في الأربعة الأشهر الأولى إيلاء شرعيا، ولكن يكون فيها حالفا. فإذا مضت أربعة أشهر.. كان موليا في الخمسة الأشهر إيلاء شرعيا، فإذا انقضت.. لم يكن موليا في الأربعة الأشهر بعدها، ولكن يكون حالفا. [مسألة: تعليق الإيلاء على شرط الوطء] ] : إذا قال لامرأته: إن وطئتك فوالله لا وطئتك.. ففيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (يكون موليا في الحال) ؛ لأن المولي هو الذي يمنع نفسه من وطء امرأته خوف الضرر بالحنث، وهذا يمتنع من وطئها خوفا أن يصير موليا، فكان موليا. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يكون موليا في الحال) ؛ لأنه علق الإيلاء بشرط

مسألة: علق الإيلاء على شرط مستحيل أو ممكن

قبله، فما لم يوجد الشرط.. لم يوجد الإيلاء، كما لو قال: إن دخلت الدار فوالله لا وطئتك. فعلى هذا: إذا وطئها.. صار موليا؛ لأنه قد وجد شرط الإيلاء. وإن قال: والله لا وطئتك سنة إلا مرة.. ففيه قولان، كالأولى: [أحدهما] : قال في القديم: (يصير موليا في الحال) ؛ لأنه يمتنع من وطئها خوفا أن يوجد شرط الإيلاء، فصار موليا. والثاني: لا يصير موليا في الحال؛ لأنه يقدر على وطئها من غير حنث يلزمه. فعلى هذا: إذا وطئها وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر.. ضربت له مدة التربص، وإن بقي منها أربعة أشهر فما دون.. لم يصر موليا إيلاء شرعيا، ويكون حالفا. [مسألة: علق الإيلاء على شرط مستحيل أو ممكن] ] : فإن قال: والله لا وطئتك أبدا.. كان موليا؛ لأن أبد الإنسان مدة عمره، فكأنه قال: والله لا وطئتك ما عشت. وإن قال: والله لا وطئتك حتى تصعدي إلى السماء أو تطيري.. كان موليا؛ لأنه علق الإيلاء على شرط يستحيل وجوده، فهو كما لو قال: والله لا وطئتك أبدا. وإن قال: والله لا وطئتك إلى يوم القيامة.. كان موليا؛ لأنا نتيقن أن القيامة لا تقوم من هذا الوقت إلى أربعة أشهر فما دون، وإنما تقوم لأكثر من ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبر أن لها علامات: مثل خروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج

الدجال، ونزول عيسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذلك لا يوجد إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر. وكذلك إذا قال: والله لا وطئتك حتى أذهب إلى الصين وأجيء، وهو من الصين في موضع لا يمكنه أن يذهب إليها ويجيء إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر.. فإنه يكون موليا؛ لأنا نتيقن أن ذلك لا يوجد منه إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر، فهو كما لو قال: والله لا وطئتك إلى يوم القيامة. وإن قال: والله لا وطئتك حتى يخرج الدجال، وينزل عيسى ابن مريم.. كان موليا؛ لأن الظاهر أن ذلك لا يوجد إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر. وكذلك إذا قال: والله لا وطئتك حتى أموت أو تموتي.. كان موليا؛ لأن الظاهر بقاؤهما أكثر من أربعة أشهر، فهو كما لو قال: ما عشت أو ما عشنا. وإن قال: والله لا وطئتك حتى يموت فلان.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال القفال: يكون موليا، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأن الظاهر بقاؤه أكثر من أربعة أشهر، فهو كما لو قال: حتى أموت. والثاني - حكاه الطبري عن الشيخ أبي حامد -: أنه لا يكون موليا؛ لأنه لا يتيقن

فرع: تعليق الوطء إلى وقت الفطام

بقاؤه أكثر من أربعة أشهر بخلاف قوله: حتى أموت؛ فإن الإنسان يستبعد موت نفسه، ولهذا يطول أمله. وإن قال: والله لا وطئتك حتى يفسد هذا الطبيخ، أو حتى يجف هذا الثوب، وما أشبه ذلك.. لم يكن موليا؛ لأنه يتيقن أن ذلك يوجد في أقل من أربعة أشهر. وإن قال: والله لا وطئتك حتى يقدم الحجيج، وقد بقي إلى وقت قدومهم أربعة أشهر فما دون، أو حتى يقدم فلان ومن عادته أنه يقدم إلى أربعة أشهر.. لم يكن موليا؛ لأن الظاهر وجود ذلك فيما دون أربعة أشهر. وإن قال: والله لا وطئتك حتى يقدم فلان، وهو على مسافة قد يقدم على أربعة أشهر فما دون، وقد يقدم فيما زاد على أربعة أشهر، وليس أحدهما بأولى من الآخر.. لم يكن موليا؛ لأنه لم يعلق الإيلاء على شرط يتيقن وجوده فيما زاد على أربعة أشهر، ولا أن الظاهر أنه لا يوجد إلا فيما زاد على أربعة أشهر، فلم يكن موليا. ولأن الأصل عدم الإيلاء. إذا ثبت هذا: فإن تأخر الحجيج أو فلان، فقدم بعد أربعة أشهر من وقت اليمين.. فإنه لا يكون موليا، ولا تضرب له مدة التربص؛ لأنا لم نحكم عليه بالإيلاء حال عقد اليمين. هذا نقل الشيخ أبي حامد. وقال القفال: فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: تبين أنه صار موليا. [فرع: تعليق الوطء إلى وقت الفطام] ] : فإن قال: والله لا وطئتك حتى تفطمي ولدك.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (لا يكون موليا) . ونقل المزني: (أنه يكون موليا) . قال أصحابنا: لا يعرف ما نقله المزني، فإن صح ما نقله.. فليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، واختلفوا فيها:

فرع: تعليق الوطء لوقت الحبل

فمنهم من قال: حيث قال: (لا يكون موليا) أراد إذا كان الصبي ابن سنة، وأراد بالفطام فعل الفطام، وقد يفطم مثله فيما دون أربعة أشهر. وحيث قال: (يكون موليا) ، إذا أراد بالفطام بلوغ وقت الفطام، وذلك انتهاء الحولين من مولده. ومنهم من قال: حيث قال: (لا يكون موليا) ، إذا كان الصبي مما يمكن فطامه قبل مضي مدة الإيلاء في العادة. وحيث قال: (يكون موليا) ، إذا كان الصبي ابن يوم أو يومين، بحيث لا يمكن أن يفطم في العادة إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر؛ لأنا نتحقق أنه لا يفطم إلا فيما زاد على أربعة أشهر. هذا مذهبنا. وحكي عن مالك: أنه قال: (لا يكون موليا بحال؛ لأنه لم يقصد الإضرار بها، وإنما قصد منفعة ولدها) . وهذا ليس بصحيح؛ لأنه حلف على ترك وطئها مدة تزيد على أربعة أشهر، فهو كما لو علقه بمدة، وما ذكره لا يصح؛ لأن الإضرار قد دخل عليها بحكم اليمين وإن لم يقصده، كما لو حلف أن لا يطأها خمسة أشهر وقصد به ليتوفر على الدرس والقراءة. [فرع: تعليق الوطء لوقت الحبل] ] : وإن قال: والله لا وطئتك حتى تحبلي.. فنقل المزني: (أنه يكون موليا) . وقال أصحابنا: ينظر فيها: فإن كانت من الصغار اللاتي نتيقن أنهن لا يحبلن مثل ابنة خمسة سنين وسبع.. كان موليا؛ لأنا نتيقن أنها لا تحبل إلا بعد مدة تزيد على أربعة أشهر. وكذلك: إذا كانت من النساء الآيسات.. كان موليا؛ لأنا نتيقن أنها لا تحبل. وهكذا: إن كانت صغيرة إلا أنها في سن يجوز أن تحبل مثلها فيه، مثل ابنة تسع سنين.. فإنه يكون موليا؛ لأنها وإن كانت في سن يجوز فيه أن تحبل إلا أن الظاهر أنها لا تحبل؛ لأن من يحبل في مثل هذا السن نادر.

مسألة: علق وطأها إلى أن يخرجها من بلدها

وإن كانت من ذوات الأقراء.. فإنه لا يكون موليا؛ لأنها قد تحبل في أربعة أشهر فما دون، أو في أربعة أشهر فما زاد، فليس لوجود حملها ولا لعدمه ظاهر، فلم يكن موليا، كما لو قال: والله لا وطئتك حتى تمرضي أو أمرض. [مسألة: علق وطأها إلى أن يخرجها من بلدها] ] : وإن قال: والله لا وطئتك حتى أخرجك من هذا البلد.. لم يكن موليا؛ لأنه يمكنه وطؤها من غير ضرر يلحقه، وهو أن يخرجها من ذلك البلد، فهو كما لو قال: والله لا وطئتك على هذا السرير، أو في هذا البيت. فإن قيل: فقد قلتم: إنه إذا قال: إن وطئتك فعبدي حر.. إنه يكون موليا، وقد كان يمكنه وطؤها من غير ضرر يلحقه، وهو أن يبيع العبد ثم يطأها؟ فالجواب: أنه قد يلحقه الضرر ببيع العبد؛ بأن يكون محتاجا إليه، أو لا يبتاع منه إلا بدون ثمن مثله. [فرع: علق جماعها على رضاها] ] : وإن قال: والله لا وطئتك إلا برضاك.. لم يكن موليا؛ لأنه لا تتوجه عليه المطالبة إلا وهي راضية، فلا تكون يمينه مانعة من الوطء. [فرع: علق قربها على مشيئتها] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لو قال: والله لا أقربك إن شئت، فشاءت في المجلس.. فهو مول) . وجملة ذلك: أنه إذا قال لها: والله لا أقربك إن شئت.. فقد عقد الإيلاء وعلقه بمشيئتها أن لا يقربها. فإن قالت في الحال، بحيث يكون جوابا لكلامه: شئت أن لا تقربني.. كان موليا. وإن أخرت المشيئة حتى قامت من المجلس.. لم يكن موليا؛ لأنه لم يوجد شرط الإيلاء. وإن شاءت في المجلس بعد يمينه بمدة طويلة،

إلا أنها لم تشتغل عنه بكلام غيره.. ففيه وجهان، كما قلنا فيه إذا قال لها: أنت طالق إن شئت. فإن قيل: هلا قلتم: إنها إذا شاءت.. لا يكون موليا؛ لأنها رضيت بإسقاط حقها، كما قلتم في المريض إذا طلق امرأته برضاها: أنها لا ترث؟ قلنا: الفرق بينهما: أنه يقصد بالإيلاء الإضرار بها بترك الجماع باليمين، وقد حصل ذلك بيمينه، ويمكنه رفع تلك اليمين بالوطء، وإذا استدامها.. فقد حصل ذلك بيمينه، والمطلقة بمرض الموت إنما ورثت في قوله القديم؛ لأنه متهم في قطع ميراثها، فإذا حصل برضاها.. انتفت التهمة عنه، ولا يمكنه رفع ذلك الطلاق بعد وقوعه. وإن قال لها: والله لا أقربك متى شئت.. فالمشيئة هاهنا على التراخي. فمتى قالت: شئت أن لا تقربني، ولو بعد زمان طويل من وقت اليمين.. كان موليا. وإن قال: والله لا أقربك إن شئت أن أقربك، فإن قالت في الحال: شئت أن تقربني.. انعقدت يمينه، وصار موليا. وإن لم تشأ.. لم يكن موليا. وإن قال: والله لا أقربك إلا أن تشائي، فإن شاءت في الحال.. لم يكن موليا. وإن أخرت المشيئة.. كان موليا؛ لأن مشيئتها قد بطلت. وإن قال لها: والله لا وطئتك حتى تشائي.. لم يكن موليا. والفرق بينهما: أنه قد جعل في هذه غاية اليمين مشيئتها، وقد تشاء في الحال، وقد لا تشاء. وإن كانت اليمين معلقة بفعل، قد يوجد قبل مضي مدة الإيلاء وقد لا يوجد.. لم يكن موليا. وليس كذلك إذا قال: إلا أن تشائي.. فإن يمينه مطلقة، وإنما استثنى منها مشيئتها، وإذا لم توجد مشيئتها.. كانت اليمين على إطلاقها.

مسألة: أقسم على أربع بأن لا يقربهن

[مسألة: أقسم على أربع بأن لا يقربهن] ] : وإن كان له أربع زوجات، فقال: والله لا أقربكن.. فقد منع نفسه من الأربع بيمين واحدة، فلا يحنث إلا بوطئهن جميعهن. وأما إذا وطئ واحدة منهن أو اثنتين أو ثلاثة.. لم يحنث، كما لو قال: والله لا كلمت زيدا وعمرا وبكرا وخالدا.. فإنه لا يحنث إلا بكلامه لجميعهم. وهل يصير موليا منهن كلهن في الحال؟ نقل المزني أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (يكون موليا منهن كلهن، ويوقف لكل واحدة منهن) . وقال المزني: لا يكون موليا منهن كلهن؛ لأن أيتهن وطئ.. لم يحنث في يمينه. واختلف أصحابنا فيها: فقال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق - وأكثر أصحابنا: المذهب ما قاله المزني: وأنه لا يكون موليا منهن كلهن؛ لأن المولي هو: من لا يقدر على الوطء إلا بضرر يلحقه، وهذا يمكنه أن يطأ ثلاثا منهن من غير ضرر يلحقه. فإن وطئ ثلاثا منهن.. صار موليا من الرابعة؛ لأنه لا يمكنه وطؤها إلا بضرر يلحقه، وهو الحنث من يمينه. وتأولوا ما نقله: على أن كل واحدة منهن يصح أن يكون موليا عنها، ويصح أن يوقف لها، وهو إذا وطئ صواحبها الثلاث. ومن أصحابنا من قال: هذا الذي نقله المزني على القول القديم، وهو: (أن كل وطء يقرب من الحنث.. يكون موليا فيه، ووطء كل واحدة منهن يقرب من الحنث) . وهذه طريقة المسعودي [في " الإبانة "] . قال القاضي أبو الطيب: هذا ليس بصحيح؛ لأن الشافعي نص في " الأم " على أنه يكون موليا منهن، ومذهبه في " الأم " [5/253] : أن ما قرب من الحنث لا يكون موليا فيه. ومن أصحابنا من قال: بل المذهب: ما نقله المزني، ويكون موليا منهن كلهن -

وبه قال أبو حنيفة وأحمد - لأنه منع نفسه من وطئهن بيمين بائنة فكان موليا، كما لو قال: والله لا أقرب كل واحدة منكن. إذا ثبت هذا: فقد ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بعد هذا ثلاث مسائل: إحداهن: قال: (إذا وطئ اثنتين منهن.. خرج من حكم الإيلاء فيهما، وكان موليا من الباقيتين) . فمن قال من أصحابنا بصحة ما نقله المزني.. قال هذا بناء عليه. ومنهم من قال: ما نقله المزني متأول، قال: تأويل هذا: أنه إذا وطئ اثنتين منهن.. فقد خرجتا من حصول الحنث فيهما بوطئهما. ومعنى قوله: (كان موليا من الباقيتين) أي: يجوز أن يكون موليا من كل واحدة منهما، بأن يطأ إحداهما فيصير موليا من الأخرى. الثانية: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إذا طلق ثلاثا منهن.. كان موليا من الرابعة) . فمن قال من أصحابنا بظاهر ما نقله المزني.. قال هذا بناء عليه؛ لأنه مول من كل واحدة منهن، فإذا طلق بعضهن.. أوفاهن حقهن، وكان موليا ممن لم يطلق، كما لو آلى منهن بأيمان. ومن تأول منهم ما نقله المزني، قال: تأويل هذا: أن المطلقات قد خرجن من حكم الإيلاء بالطلاق، وأما الرابعة: فيجوز أن يكون موليا منها، بأن يتزوج المطلقات فيطأهن، أو يطأهن بشبهة أو زنا، فيحنث بوطء الرابعة، والوطء المحظور كالمباح في الحنث؛ ولهذا قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لو قال لامرأته: والله لا وطئتك وفلانة الأجنبية.. لم يكن موليا من امرأته حتى يطأ الأجنبية) . الثالثة: إذا ماتت واحدة من الأربع.. قال الشافعي: (خرج من الإيلاء فيها ومن غيرها؛ لأنه يجامع البواقي ولا يحنث) .

فرع: قوله لزوجاته الأربع لا وطئت واحدة منكن وأراد كلهن أو صرح به

قال ابن الصباغ: وهذا لا خلاف فيه بين أصحابنا؛ لأن وطء الميتة قد تعذر: فمن أصحابنا من قال: إنما تعذر؛ لأن وطأها لا يحصل به الحنث؛ لأنها خرجت بالموت من أن يتعلق بوطئها حق من حقوق الآدميين، ولهذا لا يجب به مهر. ومنهم من قال: إنما تعذر؛ لأنها إذا دفنت.. فلا سبيل إلى وطئها بحال؛ لأنها تبلى وتتقطع أوصالها. وأما قبل الدفن.. فلم يبطل حكم الإيلاء؛ لأن اسم الوطء يقع عليه، ويجب به الغسل، فكذلك الكفارة. وهذا يدل على أن الأصح لا يصير موليا منهن في الحال؛ لأنه لو كان موليا منهن.. لما بطل بموت واحدة منهن، كما لو أفرد كل واحدة منهن بيمين. [فرع: قوله لزوجاته الأربع لا وطئت واحدة منكن وأراد كلهن أو صرح به] ] : وإن كان له أربع زوجات، فقال: والله لا وطئت واحدة منكن، وقال: أردتهن كلهن، صار موليا من كل واحدة منهن في الحال؛ لأن تقديره لا وطئتكن ولا واحدة منكن، ولا يمكنه وطء واحدة منهن إلا بضرر يلحقه، فكان موليا منهن في الحال. إذا ثبت هذا: فإنه يتربص بهن أربعة أشهر، فأيتهن طالبته.. وقف لها، فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها، ولم يسقط حق الباقيات. فإن طالبته الثانية فطلقها.. فقد أوفاها حقها، ولم يسقط حق الباقيتين. فإن طلق الثالثة.. لم يسقط حق الرابعة. فإن لم يطلق، ولكن لما طالبته الأولى فوطئها.. فقد أوفاها حقها، وسقط حكم الإيلاء فيها وفي الباقيات. وكذلك إذا طلق الأولى ووطئ الثانية.. سقط حكم الإيلاء في الباقيات. والفرق بين الطلاق والوطء: أنه إذا طلق بعضهن.. لم يحنث في يمينه، فكان الإيلاء باقيا في الباقيات. وإذا وطئ واحدة منهن.. فقد حنث في يمينه، ولزمته الكفارة، واليمين إذا حنث فيها.. سقطت؛ لأنها يمين واحدة، فهو كما لو قال: والله لا كلمت واحدة منكن، ثم كلم واحدة منهن.. فإنه يحنث، ويسقط حكم اليمين، وانحلت.

فرع: حلف والله لا وطئت واحدة منكن

وإن قال: والله لا وطئت كل واحدة منكن.. فإنه يكون موليا من كل واحدة منهن؛ لأنه صرح بذلك، ويتربص لهن أربعة أشهر، ويوقف لكل واحدة منهن. فإن طلق بعضهن.. لم يسقط الإيلاء من الباقيات. وإن وطئ بعضهن.. فقد أوفى الموطوءة حقها، وهل يسقط الإيلاء في الباقيات؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يسقط؛ لأنه منع نفسه من وطء كل واحدة بالحلف، فإذا وطئ بعضهن.. لم يسقط الإيلاء في الباقيات، كما لو أفرد كل واحدة منهن بيمين. والثاني - حكاه ابن الصباغ واختاره - أنه يسقط؛ لأنه حلف يمينا واحدة. فإذا وطئ واحدة منهن.. حنث في يمينه، وانحلت في الباقيات كالتي قبلها. [فرع: حلف والله لا وطئت واحدة منكن] ] : وإن كان له أربع زوجات، فقال: والله لا وطئت واحدة منكن، وقال: لم أنو شيئا.. كان موليا منهن كلهن؛ لأن الظاهر أنه لا يطأ كل واحدة منهن على الانفراد، وقد مضى بيانها. وإن قال: أردت واحدة منهن بعينها.. قبل منه في الحكم. وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: لا يقبل منه في الحكم؛ لأنه خلاف الظاهر. والأول أصح، وقد نص عليه الشيخ أبو حامد في " التعليق "؛ لأن قوله: (واحدة منكن) يحتمل واحدة بعينها، ويحتمل جميعهن، ويحتمل واحدة لا بعينها، وهو أعلم بما أراد من ذلك. إذا ثبت هذا: فإنه يرجع إليه في بيان عين المولي منها. فإذا عين واحدة منهن.. كان موليا منها، وكان ابتداء المدة من حين اليمين. فإن صدقته الباقيات.. فلا كلام. وإن قالت كل واحدة من الباقيات: بل أنا التي أردت الإيلاء منها.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بما أراد. فإن حلف لها.. فلا

مسألة: حلف لواحدة أنه لا يجامعها وقال للثانية أشركتك معها

كلام، وإن رد عليها اليمين فحلفت.. ثبت فيها حكم الإيلاء لنكوله ويمينها، وثبت بالأولى بإقراره. وإن قال: أردت به واحدة منهن لا بعينها.. قبل منه؛ لأن ما قاله محتمل. فإن صدقته الباقيات على أنه أراد ذلك.. فله أن يعين الإيلاء ممن شاء منهن، فإذا عينه في واحدة.. فلا مطالبة للباقيات عليه ولا يمين عليه؛ لأنه اختيار شهوة. وهل يكون ابتداء مدة الإيلاء من حين اليمين، أو من حين التعيين؟ فيه وجهان، كما قلنا فيه إذا طلق واحدة لا بعينها ثم عينها: فمتى يقع عليها الطلاق؟ وإن قلن الباقيات أو بعضهن: أردت واحدة بعينها، أو إياي أردت بذلك.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه يحتمل أنه أراد ذلك، وهو أعلم بما أراد. [مسألة: حلف لواحدة أنه لا يجامعها وقال للثانية أشركتك معها] ] : وإن كان له زوجتان - حفصة وعمرة - فقال لحفصة: والله لا وطئتك، ثم قال لعمرة: أشركتك معها.. لم يصر موليا من عمرة؛ لأن اليمين بالله إنما تنعقد باسم الله وصفته، ولا تنعقد بالكناية مع النية. فإن قال لحفصة: إن وطئتك فأنت طالق، ثم قال لعمرة: أشركتك معها.. سئل عن ذلك، فإن قال: أردت أني إن وطئت عمرة كان ذلك مع وطء حفصة شرطا في طلاق حفصة.. كان ذلك لغوا؛ لأن طلاق حفصة قد صار معلقا بوطئها وحدها، فلا يفيد ضم وطء عمرة، كما لو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال لها: إن دخلت الدار وكلمت زيدا فأنت طالق.. فإنه لا يفيد قوله: (وكلمت زيدا) حكما، بل إذا دخلت الدار.. طلقت، ولا يصير موليا من عمرة؛ لأنه لم يول منها. وإن قال: أردت أني إذا وطئت عمرة وحدها طلقت حفصة.. كان موليا من عمرة؛ لأنه علق طلاق حفصة بوطء عمرة.. فتعلق به، كما لو قال لامرأته: إن وطئتك فأنت طالق، وإن وطئت ضرتك فأنت طالق.

مسألة: لا مطالبة بالفيئة إلا بعد أربعة أشهر عندنا

وإن قال: أردت أني إذا وطئت عمرة فهي طالق أيضا.. صار موليا من عمرة أيضا؛ لأن الطلاق يقع بالكناية، وهذا كناية في الطلاق، فوقع الإيلاء به. [مسألة: لا مطالبة بالفيئة إلا بعد أربعة أشهر عندنا] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا سبيل على المولي لامرأته حتى تمضي أربعة أشهر) . وجملة ذلك: أنه إذا آلى إيلاء شرعيا، وهو: أن يحلف أن لا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر.. فإنه يتربص أربعة أشهر، ولا مطالبة للزوجة عليه في مدة التربص بفيئة ولا طلاق إلى أن تنقضي. وبه قال عمر، وعلي، وابن عمر، وعائشة، وأكثر الصحابة. وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق.

وقال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (مدة التربص محل للمطالبة بالفيئة) . وبه قال زيد بن ثابت وابن عباس وابن مسعود. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] . فموضع الدليل من الآية: أن الله جعل مدة التربص حقا للزوج، وإذا كانت حقا له.. فلا يجوز أن تكون محلا لوجوب الحق عليه، كالأجل في الدين. والدلالة الثانية منها: أن الله تعالى ذكر مدة التربص في الإيلاء، ثم عقب مدة التربص بذكر الفيئة - بالفاء - فقال: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] والفاء للتعقيب، فعلم أن محل المطالبة بالفيئة بعد مدة التربص. إذا ثبت هذا: فلا فرق بين أن يكون المولي حرا أو عبدا، ولا فرق بين أن تكون الزوجة حرة أو أمة؛ فإن مدة التربص في الجميع أربعة أشهر. وقال أبو حنيفة: (الاعتبار بالمرأة، فإن كانت حرة.. فمدة التربص أربعة أشهر، وإن كانت أمة.. فشهران) . وقال مالك: (الاعتبار بالزوج، فإن كان حرا.. تربص أربعة أشهر، وإن كان عبدا.. تربص شهرين) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، فجعل الله للمولي: أن يتربص أربعة أشهر، ولم يفرق بين الحر والعبد، والحرة والأمة. ولأنها مدة ضربت للوطء.. فاستوى فيها الجميع، كمدة العنة.

فرع: الامتناع من الجماع من غير يمين

[فرع: الامتناع من الجماع من غير يمين] ] : وإن امتنع الرجل من وطء امرأته من غير يمين.. لم تضرب له مدة التربص. وبه قال أبو حنيفة. وقال أحمد: (إذا قصد بامتناعه الإضرار بها.. ضربت له المدة) . دليلنا: أنه لم يحلف على ترك وطئها.. فلم يكن موليا، كما لو لم يقصد الإضرار بها بالامتناع. [فرع: مدة التربص لا تفتقر إلى حكم حاكم] ] : ولا يفتقر ضرب مدة التربص إلى الحاكم؛ لأنها ثبتت بالنص والإجماع، فلم يفتقر ضربها إلى الحاكم، كمدة العدة. ويكون ابتداؤها من حين اليمين؛ لأن ذلك أول وقت تقتضيه، فهو كالأجل في الثمن. [فرع: ضرب المدة ووجود عذر يمنع الوطء] ] : وإن آلى منها وهناك عذر يمنع الوطء.. نظرت: فإن كان العذر من جهتها؛ بأن كانت صغيرة لا يمكن جماعها، أو مريضة مضناة من المرض، أو ناشزة، أو مجنونة، أو محرمة بحج أو عمرة، أو صائمة عن واجب، أو معتكفة عن واجب، أو محبوسة في موضع لا يمكنه الوصول إليها.. فإن المدة لا تحسب عليه ما دامت هذه الأعذار؛ لأنه لا يتمكن من وطئها لو أراده مع ذلك. وإن طرأ شيء من هذه الأعذار في أثناء مدة التربص.. قطعها؛ لأنه إذا منع ابتداءها.. منع استدامتها. فإذا زال ذلك.. استؤنفت مدة التربص، ولم يبن على ما مضى منها قبل العذر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، وذلك يقتضي تواليها، فإذا انقطعت.. وجب استئنافها، كمدة الشهرين في صوم التتابع. هذا نقل أصحابنا البغداديين.

وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يجب استئناف مدة التربص، أو يجوز البناء على ما مضى قبل العذر؟ فيه وجهان. وإن آلى منها وهي حائض.. احتسبت المدة عليه. وكذلك إذا طرأ الحيض في أثناء مدة التربص.. لم يقطعها؛ لأن الحيض في النساء جبلة وعادة لا تخلو منه أربعة أشهر في الغالب. فلو قلنا: إنه يمنع الاحتساب.. لأدى ذلك إلى اتصال الضرر بها إلى الإياس من الحيض، فلم يقطع؛ ولهذا لم يقطع؛ في صوم الشهرين المتتابعين. وإن آلى منها وهي نفساء، أو طرأ النفاس في أثناء المدة.. فهل يمنع الاحتساب؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: لا يمنع من الاحتساب؛ لأنه كالحيض في سائر الأحكام، فكذلك في هذا. والثاني: يمنع من الاحتساب؛ لأنه نادر، بخلاف الحيض. وإن آلى وبه عذر يمنعه من الجماع؛ بأن كان مريضا، أو محبوسا في موضع لا تصل إليه، أو محرما، أو صائما عن واجب، أو معتكفا عن فرض.. حسبت مدة التربص عليه مع وجود هذه الأعذار؛ لأنها ممكنة من نفسها في نكاح تام، وإنما المنع من جهته.. فلم يمنع من احتساب المدة عليه، كما إذا مكنت من نفسها وهناك عذر من جهته يمنعه من الجماع.. فإن النفقة تجب عليه. وإن طرأ عليه شيء من هذه الأعذار في أثناء المدة.. لم يقطعها؛ لأنها لما لم تمنع ابتداء المدة.. لم تمنع استدامتها. وإن ظاهر منها وجبت عليه الكفارة ثم آلى منها، أو آلى منها ثم ظاهر منها في مدة التربص ووجبت عليه الكفارة.. فإن مدة التربص محسوبة عليه؛ لأن المنع من جهته.

فرع: إدخال الإيلاء على الطلاق وعكسه

[فرع: إدخال الإيلاء على الطلاق وعكسه] ] : وإن طلق امرأته طلاقا رجعيا فآلى منها قبل انقضاء العدة.. فقد ذكرنا: أنه يصح الإيلاء منها؛ لأنها في معنى الزوجات، ولكن لا يحتسب عليه المدة ما لم يراجعها. وكذلك: إذا آلى منها وهي زوجته، ثم طلقها في مدة التربص طلاقا رجعيا.. انقضت مدة التربص بذلك؛ لأن ملكه غير تام عليها؛ لأنها جارية إلى بينونة. فإن راجعها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر.. استؤنفت لها مدة التربص. وإن بقي منها أربعة أشهر فما دون.. لم تستأنف لها مدة التربص، ولكنه إن وطئها.. حنث في يمينه. وإن راجعها بعد انقضاء مدة الإيلاء.. فقد بر في يمينه. وإن بانت، ثم تزوجها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر.. فهل يعود حكم الإيلاء ويستأنف لها ضرب مدة التربص؟ على قوله القديم: يعود قولا واحدا. وعلى الجديد: هل يعود؟ على قولين، وقد مضى بيان دليله في الطلاق. وإن طلق امرأته في أثناء مدة التربص ثلاثا.. انقطعت مدة التربص. فإن تزوجها بعد زوج وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر.. فهل يعود حكم الإيلاء؟ على القول الجديد: لا يعود قولا واحدا. وعلى القول القديم: هل يعود؟ على قولين، وقد مضى دليل ذلك في الطلاق. [فرع: إدخال الردة أو الخلع على الإيلاء] ] : وإن آلى من امرأته ثم ارتدت، أو ارتد، أو ارتدا في مدة التربص.. انقطعت مدة التربص؛ لأن المدة إنما ضربت لتطالبه بالفيئة أو الطلاق، والفيئة لا تمكن مع الردة. فإن أسلم المرتد منهما قبل انقضاء العدة.. فهما على النكاح، وتستأنف مدة

فرع: حكم إيلاء الأمة إذا اشتراها زوجها أو إيلاء العبد إذا اشترته زوجته

التربص من حين الإسلام إن كانت مدة الإيلاء باقية؛ لأنها عادت إلى الزوجية التامة. وإن لم يسلم المرتد منهما حتى انقضت العدة.. بانت بالفسخ. فإن أسلم المرتد منهما، ثم تزوجها ومدة الإيلاء باقية.. فهل يعود حكم الإيلاء؟ من أصحابنا من قال: حكمها حكم من بانت بالثلاث ثم تزوجها؛ لأن بالفسخ تنقطع علائق النكاح. فعلى القول الجديد: لا يعود حكم الإيلاء قولا واحدا. وعلى القول القديم، هل يعود؟ على قولين: ومنهم من قال: حكمهما حكم من بانت بها دون الثلاث لأن له أن يتزوجها قبل زوج كما لو بانت بدون الثلاث، فيعود الإيلاء على القول القديم قولا واحدا، وهل يعود على القول الجديد؟ فيه قولان. وإن آلى من امرأته ثم خالعها في مدة التربص ثم تزوجها ومدة الإيلاء باقية، فإن قلنا: إن الخلع فسخ.. فحكمه حكم النكاح إذا انفسخ بالردة، وقد مضى. وإن قلنا: إن الخلع طلاق، فإن خالعها بدون الثلاث.. عاد حكم الإيلاء على القول القديم قولا واحدا. وهل يعود على القول الجديد؟ على قولين. وإن خالعها بالثلاث.. لم يعد حكم الإيلاء على القول الجديد قولا واحدا. وهل يعود على القول القديم؟ فيه قولان. [فرع: حكم إيلاء الأمة إذا اشتراها زوجها أو إيلاء العبد إذا اشترته زوجته] ] : وإن تزوج رجل أمة غيره فآلى منها، ثم اشتراها.. انفسخ النكاح بينهما. فإن باعها من آخر، أو وهبها منه، ثم تزوجها ثانيا ومدة الإيلاء باقية.. فهل يعود حكم الإيلاء؟ قال الشافعي: (لا يعود) . وإن تزوج العبد حرة فآلى منها، ثم اشترته.. انفسخ النكاح. فإن أعتقته ثم تزوج بها، أو باعته من آخر، أو وهبته منه ثم تزوج بها ومدة الإيلاء باقية.. قال الشافعي: (لم يعد حكم الإيلاء) . واختلف أصحابنا فيه:

مسألة: حصول الجماع في مدة التربص

فقال أبو إسحاق: البينونة بالفسخ كالبينونة بالثلاث؛ لأنه بالفسخ تنقطع علائق النكاح، كما تنقطع بالثلاث. فعلى هذا: لا يعود حكم الإيلاء على القول الجديد قولا واحدا، وعليه تأويل النص. وهل يعود على القديم؟ فيه قولان. ومنهم من قال: البينونة بالفسخ كالبينونة بدون الثلاث، وهو الأشبه؛ لأن للزوج أن يتزوجها قبل زوج، كما له أن يتزوجها قبل زوج إذا بانت بدون الثلاث. فعلى هذا: يعود حكم الإيلاء على القول القديم قولا واحدا. وهل يعود على القول الجديد؟ فيه قولان. [مسألة: حصول الجماع في مدة التربص] ] : وإن جامعها في مدة التربص.. فقد حنث وأوفاها حقها؛ لأنه يطالب بذلك بعد انقضاء مدة التربص، فإذا فعله قبل انقضاء المدة.. وقع موقعه، كمن دفع الدين المؤجل قبل حلول الأجل. وإن وطئها وهي نائمة.. حنث في يمينه وسقط الإيلاء؛ لأن الضرر زال عنها بذلك. وإن استدخلت ذكره وهو نائم.. لم يحنث؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . وهل يسقط بذلك حقها؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط؛ لأنها وصلت إلى حقها. والثاني: لا يسقط؛ لأن حقها في فعله لا في فعلها. [فرع: إدخال الإيلاء على الجنون وعكسه] ] : فإن آلى الرجل من امرأة في حال جنونها، أو آلى منها وهي عاقلة ثم جنت في مدة التربص، فإن نشزت وخرجت من تحت يده.. لم تحسب المدة. وإن كانت في

قبضته.. حسبت المدة عليه؛ لأنها ممكنة من نفسها في زوجية تامة. فإن وطئها زوجها.. فقد حنث في يمينه، وقد وفاها حقها؛ لأن الضرر زال عنها بذلك. وإن آلى منها وهو عاقل، ثم جن في مدة التربص.. احتسبت المدة؛ لأن المنع من جهته، فإن وطئها في حال جنونه.. لم يحنث في يمينه ولم تلزمه الكفارة؛ لارتفاع القلم عنه. وهل يخرج من حكم الإيلاء؟ فيه وجهان: أحدهما: يخرج من حكم الإيلاء، وهو المنصوص؛ لأن الوطء حق عليه، فإذا أوفاها إياه.. صح وإن كان مجنونا، كما لو كانت عنده وديعة فردها في حال جنونه. والثاني: لا يخرج من حكم الإيلاء؛ لأنه إنما يخرج من حكم الإيلاء بوطء يحنث فيه، وهذا لم يحنث فيه. فإذا قلنا: يخرج من الإيلاء.. فإنه يكون حالفا، ولا يكون موليا، فإن أصابها في حال إفاقته.. حنث في يمينه، ولا تتوجه عليه مطالبة، ولا تضرب له مدة التربص. وإذا قلنا: لا يخرج من الإيلاء.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه يطالب بالفيئة أو الطلاق إذا أفاق، ولا تضرب له المدة؛ لأن اليمين قائمة. والثاني: تضرب له المدة ثانيا؛ لأن الأولى قد انقضت وأوفاها حقها من الوطء فيها، فاحتاج إلى مدة ثانية. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا وطئها في حال جنونه.. فهل يحنث في يمينه، وتجب عليه الكفارة؟ فيه قولان، كالمحرم إذا قتل الصيد في حال جنونه. فإذا قلنا: لا كفارة عليه، فأفاق ووطئها.. فهل تلزمه الكفارة؟ فيه وجهان: أحدهما: تلزمه، وهو اختيار ابن الحداد؛ لأن فعله في حال الجنون كـ: لا فعل. والثاني: لا تلزمه؛ لأن اليمين قد انحلت بالوطء الأول. فإذا قلنا: تلزمه الكفارة إذا وطئ في حال الإفاقة.. فهل يعود حكم الإيلاء؟ على وجهين.

فرع: الخروج من الإيلاء بوطء محظور لصيام ونحوه

[فرع: الخروج من الإيلاء بوطء محظور لصيام ونحوه] ] : وإن جامعها وهو محرم، أو صائم صوما واجبا، أو معتكف اعتكافا واجبا، أو كانت محرمة، أو صائمة، أو معتكفة، أو حائضا.. فقد أوفاها حقها، وخرج من حكم الإيلاء؛ لأن هذا الوطء وإن كان محظورا.. فإنه يتعلق به جميع أحكام الوطء المباح؛ بدليل: أنه يتعلق به الإحصان والإباحة للزوج الأول، ويثبت النسب، فكذلك هذا مثله. [مسألة: لا تبين بانقضاء مدة التربص عندنا] ] : وإذا انقضت مدة التربص قبل أن يطلقها أو يطأها.. فإنها لا تبين بانقضاء المدة، ولكن تثبت لها المطالبة بالفيئة أو الطلاق. وبه قال من الصحابة: عمر وعثمان وعلي وابن عمر وعائشة، ومن الفقهاء: مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (تبين منه بانقضاء المدة بطلقة) . وبه قال زيد بن ثابت وابن عباس. وقال سعيد بن جبير والزهري: تطلق بانقضاء المدة طلقة رجعية. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] إلى قوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] [البقرة: 226 - 227] ، فأضاف الطلاق إلى الأزواج وجعله فعلا لهم، فدل على أنه لا يقع بانقضاء المدة؛ لأن الله تعالى وصف نفسه عند عزيمة

فرع: المطالبة في الإيلاء للزوجة

الطلاق بأنه: سَمِيعٌ عَلِيمٌ فاقتضى ذلك عزيمة طلاق يكون مسموعا، والمسموع هو القول، فدل على أنه لا يقع بانقضاء المدة. إذا ثبت هذا، وانقضت المدة، وليس هناك عذر يمنع الوطء.. فلها المطالبة بالفيئة أو الطلاق؛ لما روى سهيل بن أبي صالح، عن أبيه قال: سألت اثني عشر نفسا من الصحابة عن المولي، فقالوا: (يتربص أربعة أشهر، ثم يوقف ليفيء أو يطلق) . وفي بعض الأخبار: (يتربص أربعة أشهر، ولا شيء عليه فيها، ثم يوقف ليفيء أو يطلق) . وروي عن سليمان بن يسار: أنه قال: أدركت بضعة عشر نفسا من الصحابة، كلهم يوقف المولي أربعة أشهر. و (الفيئة) هاهنا: هو الجماع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، و (الفيئة) : هو الرجوع عما فعل، والذي فعله هو أنه حلف أن لا يجامعها، فالفيئة هو الرجوع إلى جماعها. [فرع: المطالبة في الإيلاء للزوجة] ولو أمة أو غيرها] : وإن كانت الزوجة أمة، فآلى منها زوجها.. فلها المطالبة بعد انقضاء مدة التربص بالفيئة أو الطلاق، وليس لسيدها المطالبة بذلك؛ لأن الحق لها في ذلك دون السيد. فإن قيل: للسيد حق في الفيئة؛ وهو: أن تحبل منه فيملك الولد. قلنا: القدر الذي يطالب به الزوج من الفيئة هو: تغييب الحشفة في الفرج لا غير،

وذلك لا تحبل منه المرأة، فلم يكن للسيد فيه منفعة. وإن كانت الزوجة معتوهة، أو مجنونة.. لم يكن لوليها المطالبة بذلك؛ لأن المقصود بالفيئة حصول اللذة، والولي لا يحصل له ذلك، وإنما يحصل لها، فلم يقم مقامها في المطالبة به. والمستحب: أن يقال للزوج: اتق الله فيها، فإما أن تفيء إليها أو تطلقها. فإن لم تطالبه المرأة بذلك، أو عفت عن مطالبته.. كان لها ذلك؛ لأن الحق لها، فجاز لها ترك المطالبة به والعفو عنه. فإن بدا لها، ثم طالبته بعد الترك أو بعد العفو.. كان لها ذلك؛ لأن الضرر يتجدد عليها بذلك في كل وقت، فجاز لها المطالبة، كما لو رضيت بإعسار الزوج بالنفقة، ثم أرادت الفسخ بعد ذلك. فإن قيل: هلا قلتم: إذا عفت عن المطالبة.. لم يكن لها المطالبة إلا بمدة ثانية، كما لو طلقها سقطت مطالبتها، فإن راجعها.. لم تطالب إلا بمدة ثانية؟ قلنا: الفرق بينهما: أنه إذا طلقها.. فقد أوفاها حقها في هذه المدة، فإذا راجعها.. استأنفت المدة؛ لأنه لم يبق لها حق للمدة التي مضت. وليس كذلك إذا عفت؛ فإنها لم تستوف حقها، وإنما تركت المطالبة، فكان لها المطالبة، كما لو كان له دين وقد حل، فقال: قد تركت المطالبة به.. فإن له أن يطالب به من غير أجل ثان. فإن قيل: أليس امرأة العنين إذا رضيت به.. لم يكن لها أن تعود فتطالب؟ قلنا: الفرق بينهما: أن العنة عيب في الزوج، وإذا رضيت به.. سقط حقها، كما لو اشترى معيبا فرضي به. وهاهنا ليس الإيلاء عيبا، وإنما هو للضرر الذي يدخل عليها، وهذا الضرر يتجدد عليها كل يوم، فكان لها المطالبة به. وإذا طولب بالفيئة أو الطلاق بعد انقضاء مدة التربص، فسأل أن يمهل ليفيء.. ففيه قولان: أحدهما: أنه يمهل ثلاثة أيام؛ لأنه لا خلاف أنه لا يلزمه الوطء على الفور، بل

مسألة: الفيئة وما يترتب عليها من الجماع والكفارة وإيلاء العتق والنذر

لو سأل الإمهال إلى أن يأكل أو يصلي.. كان له ذلك. ولا خلاف أنه لا يمهل الشهر والشهرين، فلا بد أن يكون بينهما فاصل يقدر بثلاثة أيام؛ لأنها أول حد الكثرة وآخر حد القلة. والثاني: لا يجب إمهاله أكثر من القدر الذي يتمكن معه من الجماع؛ وهو: إن كان جائعا.. فحتى يأكل، وإن كان ناعسا.. فحتى ينام، وإن كان شبعان.. فحتى يخف. وهو الأصح؛ لأن الله جعل له أن يتربص أربعة أشهر، فلو قلنا: يمهل ثلاثا.. لزدنا على ما جعل له، فلم يجب إمهاله أكثر من القدر الذي تدعو الحاجة إليه؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه. ولأن بانقضاء المدة.. حلت لها المطالبة وتعجل حقها، فلا يجوز تأخيره، كما لو كان لرجل دين مؤجل فحل.. لم يجز تأخيره عنه، فكذلك هذا مثله. [مسألة: الفيئة وما يترتب عليها من الجماع والكفارة وإيلاء العتق والنذر] ] : وإن أراد أن يفيء إليها.. فأدنى ذلك أن يغيب الحشفة في قبلها؛ لأن أحكام الوطء تتعلق بذلك، ولا تتعلق بما دونه. وإن كانت بكرا.. فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (حتى تزول بكارتها) ، وليس ذهاب البكارة شرطا، وإنما الشرط التقاء الختانين، والتقاؤهما لا يحصل إلا بإذهاب البكارة. وإن وطئها فيما دون الفرج، أو وطئها في دبرها.. لم يسقط بذلك حقها؛ لأن الضرر لا يزول عنها بذلك. إذا ثبت هذا، وكان إيلاؤه بالله تعالى، فوطئها في قبلها في مدة التربص أو بعدها.. فقد حنث في يمينه، وهل تجب عليه الكفارة؟ فيه قولان: قال في القديم: (لا تجب عليه) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] الآية [البقرة: 226] . فذكر الله تعالى التربص والفيئة ولم

يذكر الكفارة، فلو كانت واجبة.. لذكرها. ولأن الله تعالى قال: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] [البقرة: 226] ، فوصف نفسه بالغفران والرحمة عند الفيئة، وهذا يقتضي أنه إذا أفاء.. فلا تبعة عليه من كفارة ولا غيرها. وقال في الجديد: (تجب عليه الكفارة) . وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد. وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الآية إلى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها.. فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» ، وهذا عام في المولي وغيره.

وقوله الأول: (إنه لم يذكر الكفارة في آية الإيلاء) فقد ذكرها في هذه الآية. وقوله: (إن الله وصف نفسه بالغفران والرحمة عند الفيئة) فإن ذلك إنما يتوجه إلى الإثم، فأما إلى الكفارة: فلا يرجع إليها؛ بدليل: أنه لا يقال: غفر الله الكفارة، وإنما يقال: غفر الله الإثم. كمن حلف أن لا يكلم أباه فتاب وكلمه.. فإن الله تعالى يغفر له الإثم بالحنث باليمين، ولا تسقط عنه الكفارة. واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان فيما إذا جامع بعد مدة التربص؛ لأن الفيئة عليه لذلك الوقت واجبة، فأما إذا جامع في مدة التربص: فإن الكفارة تجب عليه قولا واحدا؛ لأن الفيئة لا تجب عليه. ومنهم من قال: القولان في الحالين؛ لأنه حانث في يمينه في الحالين. وإن كان الإيلاء بعتق منجز؛ بأن قال: إن وطئتك فعبدي حر فوطئها.. عتق العبد. وإن كان بنذر؛ بأن قال: إن وطئتك فمالي صدقة، أو فعلي لله أن أتصدق بمالي، أو أصلي، أو أصوم.. فهو نذر لجاج وغضب، وقد مضى بيانه في النذر.

فرع: علق وطئها على طلاق الأخرى

[فرع: علق وطئها على طلاق الأخرى] وهل يمنع من الفيئة لو علقه على طلاقها ثلاثا؟] : وإن قال لها: إن وطئتك فامرأتي الأخرى طالق، فوطئ المولي منها.. طلقت الأخرى - قال - لأنه علق طلاقها بصفة، وقد وجدت الصفة، فوقع الطلاق. وإن قال لامرأته: إن وطئتك فأنت طالق ثلاثا، وأراد أن يفيء إليها.. فهل يمنع؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال أبو علي بن خيران: يمنع من الفيئة؛ لأن بإيلاج الحشفة في الفرج يقع عليها الطلاق الثلاثة ويتعقبه التحريم؛ لأنها تصير أجنبية منه، وكل إيلاج يعقبه التحريم.. منع منه، كما لو أراد أن يولج من امرأته قبل الفجر في شهر رمضان، وعلم أن الفجر يطلع قبل أن ينزع. فعلى هذا: يتعين عليه الطلاق، فنوقع عليه طلقة رجعية؛ لأن من خير بين شيئين إذا تعذر عليه أحدهما.. تعين عليه الآخر، كمن تعذر عليه العتق والكسوة في كفارة اليمين ووجد الإطعام.. فإنه يتعين عليه. وقال أكثر أصحابنا: لا يمنع من الفيئة، وهو المذهب؛ لأن الإيلاج يصادف الزوجية، وينزع في الحال فلا يتعقبه التحريم. وأما الإخراج: فإنه ترك للجماع، فلا إثم عليه فيه وإن لم يصادف الزوجية، كما لو استأجر دارا مدة.. فله أن يسكنها تلك المدة بكاملها، فإذا خرج منها عقيب انقضاء المدة.. فإنه لا يكون غاصبا لها وقت الخروج. وأما ما ذكره ابن خيران في الصوم.. فقد قال بعض أصحابنا: إنه لا يمنع أيضا. فلا فرق بينهما على هذا. وقال بعضهم: يمنع. والفرق بينهما على هذا: أنه لا يقطع أن ذلك الوقت من الليل؛ لأنه إنما يعلم ذلك بغلبة الظن، ويجوز أن يكون ذلك الوقت من النهار،

فلهذا منع من الوطء. وهاهنا يتحقق أن وطأه يصادف زوجية، فلم يمنع منه. فوزانه من الصوم: أن يعلم أن ذلك الوقت من الليل بإخبار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زمانه، فلا يمنع الرجل فيه من الإيلاج. فإذا قلنا بالمذهب: إنه لا يمنع، فإنه إذا غيب الحشفة في الفرج.. طلقت ثلاثا لوجود الشرط في طلاقها. ثم ينظر فيه: فإن نزعه في الحال.. فلا شيء عليه لها - قال - كما إذا خرج المستأجر من الدار المستأجرة عقيب انقضاء مدة الإجارة.. فلا أجرة عليه لمدة خروجه. فإن زاد على تغييب الحشفة، أو غيب الحشفة ولم ينزع في الحال بل أقر ذكره في فرجها.. لم يجب عليه الحد وجها واحدا؛ لأنه إيلاج واحد، فإذا لم يجب الحد في أوله.. لم يجب في آخره، ولا في استدامته. وهل يجب عليه بذلك مهر؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه بذلك مهر المثل؛ لأن الاستدامة كابتداء الإيلاج في الكفارة في الصوم، فكذلك في المهر. والثاني: لا يجب عليه المهر؛ لأن هذه الاستدامة تابعة للإيلاج، فإذا لم يجب مهر المثل من الإيلاج.. لم يجب في الاستدامة. وأما إن نزع منها في الحال، ثم أولجه ثانيا.. فإن الإيلاج الثاني في غير زوجية، فلا يخلو: إما أن يكونا جاهلين بالتحريم أو عالمين، أو أحدهما جاهلا والآخر عالما. فإن كانا جاهلين بالتحريم؛ بأن جهلا أن الطلاق يقع بالإيلاج.. فلا حد عليهما للشبهة، ويجب لها عليه مهر مثلها؛ لأنه وطء شبهة، ويجب عليها العدة، ويلحقه النسب منه. وإن كانا عالمين بالتحريم.. فهل يكونا زانيين؟ فيه وجهان:

مسألة: امتناعه عن الفيئة والطلاق ونيابة الحاكم وماذا لو طلقت

أحدهما: أنهما زانيان؛ لأنه إيلاج تام محرم من غير شبهة، فهو كما لو طلقها ثلاثا، ثم وطئها. فعلى هذا: يجب عليهما الحد، ولا يجب لها المهر. والثاني: لا يكونان زانيين؛ لأن قولنا: (إن الطلاق الثلاث يقع بتغييب الحشفة) إنما قلنا ذلك من طريق الاستدلال وغلبة الظن، وإلا فالظاهر من قوله: (إن وطئتك) أنه أراد الوطء التام، فصار ذلك شبهة. فعلى هذا: لا يجب الحد عليهما، ويجب لها عليه مهر المثل. وإن كان أحدهما جاهلا والآخر عالما، فإن كانت الزوجة جاهلة بالتحريم، والزوج عالما بالتحريم.. لم يجب عليها الحد، ويجب لها المهر. وهل يجب الحد على الزوج، ويلحقه النسب، ويجب عليها العدة؟ على الوجهين. وإن كان الزوج جاهلا بالتحريم، وهي عالمة بالتحريم.. فلا حد على الزوج، ويجب عليها العدة، ويلحقه النسب. وهل يجب على المرأة الحد، ويجب لها المهر؟ على الوجهين. [مسألة: امتناعه عن الفيئة والطلاق ونيابة الحاكم وماذا لو طلقت] ؟] : وإن لم يختر الزوج الفيئة وطلقها طلقة.. فقد أوفاها حقها. وإن طلقها اثنتين أو ثلاثا.. فقد تطوع بما زاد على واحدة. وإن امتنع الزوج من الفيئة والطلاق.. فإن الحاكم لا ينوب عنه في الفيئة؛ لأن النيابة لا تدخل فيها، وهل ينوب عنه في الطلاق؟ فيه قولان: قال في القديم: (لا ينوب عنه في الطلاق، وإنما يحبسه ويضيق عليه حتى يطلق) - وهي إحدى الروايتين عن أحمد - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] [البقرة: 227] . فأضاف الطلاق إلى الأزواج، فدل على: أن الحاكم لا يطلق عليهم.

ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطلاق لمن أخذ بالساق» ، والزوج هو الذي يأخذ بالساق دون الحاكم. ولأنه أحد ما يخرج به من الإيلاء، فلم يكن للحاكم فيه مدخل، كالفيئة. وقال في الجديد: (يطلق عليه الحاكم) . وهو قول مالك، والرواية الأخرى عن أحمد، وهو الأصح؛ لأنه حق تدخله النيابة لمعين، فإذا امتنع المستحق عليه.. قام الحاكم مقامه، كقضاء الدين. فقولنا: (تدخله النيابة) احتراز من الفيئة. وقولنا: (لمعين) احتراز ممن أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن معه، وامتنع من اختيار أربع منهن. إذا ثبت هذا: فإن الحاكم يطلق عليه طلقة. فإن طلق عليه أكثر من واحدة.. لم يقع أكثر من واحدة؛ لأنه إنما يقوم مقامه في الواجب عليه، والواجب عليه طلقة. وإذا طلق الزوج بنفسه طلقة أو طلقتين، أو طلق عليه الحاكم.. فإن الطلاق يقع رجعيا. وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو ثور: (يقع الطلاق بائنا؛ لأن هذه فرقة لإزالة الضرر، فإذا كانت رجعية.. ملك رجعتها، فلا يزول الضرر عنها، فوجب أن تقع بائنة، كفرقة العنة والإعسار بالنفقة) . وهذا خطأ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] ، ولم يفرق بين أن يكون الطلاق في الإيلاء أو غيره. ولأنه طلاق صادف مدخولا بها من غير عوض ولا استيفاء عدد.. فكان رجعيا، كالطلقة في غير الإيلاء. ويخالف فرقة العنة والإعسار؛ فإن تلك فسخ وهذا طلاق.

فرع: علق طلاق إحداهما على جماع الثانية

وقوله: (إذا راجعها لم يزل الضرر عنها) غير صحيح؛ لأنه إذا راجعها.. ضربت له المدة ثانيا. إذا ثبت هذا: فإن راجعها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر.. استؤنفت له مدة التربص أربعة أشهر، ثم يطالب بالفيئة أو الطلاق، على ما مضى. وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها، فتزوجها، وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر.. فهل يعود حكم الإيلاء؟ على القول القديم: يعود حكم الإيلاء قولا واحدا. وعلى القول الجديد: فيه قولان. [فرع: علق طلاق إحداهما على جماع الثانية] ] : فإن كان له امرأتان، فقال: إن وطئت إحداكما فالأخرى طالق، فإن قال ذلك على طريق التعليل، وأرادهما جميعا بذلك.. صار موليا من كل واحدة منهما. وإن أراد واحدة بعينها، أو واحدة منهما لا بعينها.. فقد صار حالفا بطلاق إحداهما، وموليا من الأخرى. فإذا مضت أربعة أشهر.. قال له الحاكم: أنت مول من إحداهما وحالف بطلاق الأخرى، فبين ذلك. فإذا بين التي آلى منها.. كان لها أن تطالبه بالفيئة أو الطلاق، فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها، وبقيت الأخرى على النكاح. وإن فاء إليها.. طلقت الأخرى. فإن امتنع من الفيئة إلى التي آلى عنها، أو من طلاقها.. فهل يطلقها الحاكم عليه، أو يضيق عليه حتى يطلقها؟ على القولين. وإن امتنع من بيان المولي منها والمحلوف بطلاقها، وقلنا: إن الحاكم يطلق عليه

فرع: تكرار الحلف في الإيلاء

المولي منها المعينة إذا امتنع من الفيئة أو الطلاق.. فقد قال ابن الحداد: إن الحاكم يقول له: طلقت عليك التي آليت منها، ثم أنت ممنوع من وطئها حتى تراجع التي طلقت عليك؛ لأن التي منع نفسه من وطئها بيمينه إحداهما بغير عينها دون الأخرى، إلا أنها ليست بمعينة، فهو كما لو قال: إحداكما طالق. ومن أصحابنا من قال: يكون موليا منهما. وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأن المولي هو الذي يلزمه بوطء زوجته شيء، وهذا إذا وطئ أيتهما كان.. حنث في يمينه، ووقع الطلاق على الأخرى، فكان موليا منهما. وقال القفال: لا يطلق عليه الحاكم؛ لأن المستحقة منهما غير متعينة، فهي كرجلين قدما إلى القاضي برجل، فقالا: لأحدنا على هذا كذا.. فإن دعواهما لا تسمع، فكان هذا مثله. [فرع: تكرار الحلف في الإيلاء] ] : إذا كرر اليمين في الإيلاء، فإن كان ذلك في مدة واحدة؛ بأن قال لواحدة: والله لا وطئتك والله لا وطئتك.. فإن إطلاقه يقتضي التأبيد. أو قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر، والله لا وطئتك خمسة أشهر، ثم جامعها في الخمسة الأشهر، فإن قال: أردت باليمين الثانية تأكيد الأولى، وقلنا: تجب عليه الكفارة.. وجبت عليه كفارة واحدة. وإن قال: أردت بالثانية الاستئناف.. فهل تجب عليه كفارة أو كفارتان.. فيه قولان: أحدهما: تجب عليه كفارتان؛ لأنه حنث في يمينين، فوجب عليه كفارتان، كما لو حلف يمينين على فعلين. والثاني: تجب عليه كفارة واحدة؛ لأن الحنث لا يتكرر. وإن قال: لم أقصد التأكيد ولا الاستئناف.. ففيه وجهان مأخوذان من القولين فيمن قال لامرأته المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق ولم يرد التأكيد ولا الاستئناف.

مسألة: وجود عذر يمنع من الجماع بعد مضي مدة التربص

وإن كانت اليمينان على مدتين، فإن قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر، والله لا وطئتك سنة.. فقد ذكرنا: أن ابتداء السنة من حين اليمين على المذهب. فإن وطئها بعد الخمسة الأشهر.. لم تلزمه إلا كفارة واحدة بكل حال؛ لأنه لم يحنث إلا في اليمين الثانية. وإن وطئها في الخمسة الأشهر، وإن قال: أردت باليمين الثانية التأكيد.. لم تلزمه إلا كفارة واحدة. وإن قال: أردت بها الاستئناف.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أكثرهم: هي على قولين كالأولى. ومنهم من قال: تجب عليه كفارتان قولا واحدا. وهو اختيار أبي علي الطبري؛ لأنهما يمينان مختلفان. [مسألة: وجود عذر يمنع من الجماع بعد مضي مدة التربص] ] : وإن انقضت مدة التربص وهناك عذر يمنع الجماع.. نظرت: فإن كان لمعنى من جهتها؛ بأن انقضت المدة وحدث بها مرض لا يمكن الجماع معه، أو أحرمت بإذنه، أو بغير إذنه ولم يحللها، أو حبست بحق أو بغير حق، أو كانت صائمة صوما واجبا، أو معتكفة اعتكافا واجبا، أو حائضا، أو نفساء.. فليس لها المطالبة بالفيئة أو الطلاق؛ لأنه لا يمكنه وطؤها لو اختاره، فلم يكن لها المطالبة، كما لو أراد وطأها فمنعته. فإن قيل: فهلا قلتم: إذا مرضت، أو حاضت، أو نفست.. لا تسقط مطالبتها؛ لأن هذه الأسباب وقعت عليها بغير اختيارها؟ قلنا: إذا كان المانع لمعنى من جهتها.. فلا فرق بين أن يقع باختيارها أو بغير اختيارها، كما تسقط مطالبة البائع بالثمن إذا تلف المبيع قبل القبض باختياره أو بغير اختياره.

وإن جنت بعد انقضاء المدة، أو أغمي عليها.. فقد قلنا: إن الولي لا يطالب الزوج بشيء؛ لأن الحق لها في ذلك دونه. وإن كان العذر من جهته.. نظرت: فإن كان مجنونا أو مغمى عليه.. فإنه لا يطالب؛ لأن المطالبة إيجاب تكليف، وليس هو من أهل التكليف. فإذا أفاق.. طولب من ساعته بالفيئة أو الطلاق. وإن كان محبوسا بغير حق في موضع لا تصل إليه المرأة، أو كان مريضا مرضا لا يقدر معه على الجماع، أو يقدر معه على الجماع إلا أنه يخاف من الجماع الزيادة في العلة أو تباطؤ البرء، فإن اختار أن يطلقها وطلقها.. فقد أوفاها حقها. وإن لم يختر أن يطلقها.. لزمه أن يفيء فيئة المعذور. قال الشيخ أبو حامد: و (فيئة المعذور) : هو أن يقول: قد ندمت على ما فات، ولو قدرت على الفيئة.. لكنت أفيء. وقال القاضي أبو الطيب: يقول: إذا قدرت.. وطئت. قال ابن الصباغ: وهذا أحسن؛ لأن الفيئة: هو الرجوع، والرجوع هاهنا: أن يظهر رجوعه عن المقام على اليمين، وعزمه يحصل بذلك. وقال أبو ثور: (لا يلزم المعذور أن يفيء باللسان؛ لأن الضرر لا يزول عنها بذلك) . وهذا خطأ؛ لأن الفيئة تجب عليه على حسب إمكانه، إما بالفعل إن كان قادرا. فإذا كان عاجزا.. قامت الفيئة باللسان مقام الفعل، كالرجل إذا ثبتت له الشفعة وكان حاضرا.. فإنه يطالب بها، وإن كان غائبا. فإنه يجب عليه أن يشهد على نفسه أنه مطالب بالشفعة. إذا ثبت هذا: وفاء باللسان على ما ذكرناه.. سقطت عنه المطالبة في الحال. فإذا زال عذره.. كلف الإصابة في الحال من غير أن تضرب له المدة، كما قلنا في الشفيع إذا أشهد على نفسه إذا كان غائبا، فإذا حضر.. أخذ بالشفعة، وإلا.. سقط حقه.

فرع: المطالبة حال سفره

فإن امتنع المعذور أن يفيء باللسان أو يطلق.. فإن الحاكم لا ينوب عنه بالفيئة باللسان؛ لأنه لا يمكنه الوفاء من المولي بذلك، ولكن هل يطلق عليه؟ على القولين. [فرع: المطالبة حال سفره] ] : إذا انقضت المدة وهو غائب عن البلد التي هي بها.. حلت لها المطالبة. وإن وكلت رجلا يطالبه.. جاز؛ لأنه يطالبه بالفيئة أو الطلاق، والنيابة تصح في المطالبة. فإذا طالبه وكيلها، فإن أمكنه المسير إليها.. قال له الوكيل: إما أن تسير معي لتفيء، أو تطلق، فإن اختار الفيئة.. قال ابن الصباغ: فاء فيئة معذور؛ وهو أن يقول: إن وصلت إليها وطئتها.. فيلزمه أن يسير على حسب الإمكان. وإن امتنع من المسير إليها.. تعين عليه الطلاق. فإن طلق، وإلا.. طلق عليه الحاكم في أحد القولين. وإن لم يمكنه المسير.. قيل له: أنت بالخيار: بين أن تطلق أو تفيء فيئة المعذور، فإن فاء فيئة معذور.. سقطت عنه المطالبة في هذه الحال. فإذا أمكنه السير.. سار، وإن لم يفعل.. تعين عليه الطلاق، فإن طلق، وإلا.. طلق عليه الحاكم في أحد القولين. قال ابن الصباغ: وإن أراد أن يستوطن الموضع الذي هو فيه.. كان له أن يستدعيها إلى الموضع الذي هو فيه، فإذا وصلت إليه.. فاء إليها. [مسألة: انقضاء المدة حالة الإحرام في الإيلاء] مسألة: [انقضاء المدة حالة الإحرام] : وإن انقضت المدة وهو محرم.. فلها المطالبة بالفيئة أو الطلاق؛ لأنه أدخل نفسه في الإحرام، فلا يمنع ذلك من مطالبته. فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها. وإن أراد أن يطأها.. فإنا نقول له: لا يحل لك هذا، فإن فعلت.. أثمت، ويفسد نسكك، ويلزمك ما يلزم المفسد. فإن اختار ذلك.. فهل لها أن تمتنع من ذلك؟ فيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب:

مسألة: مضي زمن التربص حال ظهاره

أحدهما: لها أن تمتنع من ذلك؛ لأن هذا الوطء محرم، فلها أن تمتنع منه كما لو كان لرجل على رجل دين، فدفع إليه مالا مغصوبا.. فله أن يمتنع من قبضه. والثاني: ليس لها أن تمتنع؛ لأن حقها في الوطء، وإنما حرم عليه لأجل إحرامه؛ ولهذا إذا وطئها.. سقط حقها. بخلاف المال المغصوب؛ فإنه لو قبضه.. لم يستوف حقه. قال ابن الصباغ: والأول أصح؛ لأن موافقتها له على المعصية لا تجوز. فإذا قلنا بهذا: تعين عليه الطلاق. وإذا قلنا بالثاني، ولم تمكنه من نفسها.. سقط حقها. وإن لم يطأ ولم يطلق.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: يقنع منه بفيئة معذور؛ لأنه غير قادر على الوطء، فهو كالمريض والمحبوس. والثاني: لا يقنع منه بذلك. ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ غيره، وهو ظاهر النص؛ لأنه ممتنع من الوطء بسبب من جهته. [مسألة: مضي زمن التربص حال ظهاره] ] : وإن انقضت مدة التربص وهو مظاهر منها، ولم يكفر.. فلها المطالبة بالفيئة أو الطلاق. فإن كان موسرا بالكفارة، وسأل أن يمهل بالفيئة إلى أن يشتري رقبة ويعتقها.. أمهل اليوم واليومين والثلاثة؛ لأنه قد لا يمكنه شراء الرقبة إلا بذلك. وإن كان معسرا، وسأل أن يمهل إلى الصوم.. لم يلزمها ذلك؛ لأن مدة الصوم تطول.

وإن كان موسرا أو معسرا، واختار أن يطأها قبل التكفير.. فإنا نقول له: لا يحل لك هذا؛ لأنه وطء محرم. فإن خالف ووطئها.. أثم بذلك، وأوفاها حقها، وهل لها أن تمتنع من الوطء قبل التكفير؟ فيه وجهان: أحدهما وهو قول الشيخ أبي حامد: أنه ليس لها أن تمتنع، فإذا امتنعت.. سقط حقها من المطالبة إلى أن يزول التحريم، كما لو دفع إليها نفقتها فقالت: لا آخذ هذا؛ لأنه غصبه من فلان.. فإنه يقال لها: إما أن تأخذي هذا أو تبرئيه عن قدره من النفقة. والثاني وهو قول الشيخ أبي إسحاق: أن لها أن تمتنع؛ لأنه وطء محرم، فإن لها أن تمتنع، كوطء الرجعية. ويخالف المال المغصوب؛ فإن الظاهر أنه ملك لمن هو بيده. فوزانه من مسألتنا: أن يتفقا على أنه مغصوب.. فلا يلزم من له الدين قبضه. قال الطبري في " العدة ": فإذا قلنا بهذا: فهل يتعين عليه الطلاق؟ فيه وجهان: أحدهما: يتعين عليه؛ لأن كل من كان مخيرا بين أمرين فتعذر عليه أحدهما.. تعين عليه الآخر، كما قلنا في كفارة اليمين. والثاني: لا يتعين عليه؛ لأنه محبوس عن الوطء والطلاق، وإذا تعذر عن الوطء.. لم يتعين عليه الطلاق، كالمريض. فإن خالفت، ومكنت من نفسها، ووطئها.. قال الشيخ أبو حامد: فإنها لا تأثم بذلك. قال: وإن مكنت الحائض من نفسها فوطئها.. أثمت؛ لأن التحريم في المظاهر منها لعينها، وفي الحائض ليس من جهتها. وعلى قياس ما قال الشيخ أبو إسحاق: إذا علمت المظاهر منها بالتحريم.. أثمت بالتمكين، كالحائض.

مسألة: ادعاء العجز بعد مضي المدة

[مسألة: ادعاء العجز بعد مضي المدة] ] : وإن انقضت المدة، فطالبته بالفيئة أو الطلاق، وادعى أنه عاجز عن الوطء، فإن كانت بكرا أو ثيبا لم يطأها، فإن صدقته على أنه عاجز.. لم تطالبه بالفيئة، بل إن طلقها.. أوفاها حقها. وإن لم يطلقها.. كان لها أن ترفع الأمر إلى الحاكم ليضرب له مدة العنة، فإن لم يطأها.. فسخ عليه الحاكم النكاح. وإن لم تصدقه على أنه عاجز.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه لا يقبل قوله، بل يتعين الطلاق؛ لأنه مخير بين الفيئة والطلاق، فإذا أقر بالعجز عن الفيئة.. تعين عليه الطلاق، كالمخير في أنواع الكفارة. والثاني وهو المنصوص: (أن القول قوله مع يمينه أنه عاجز؛ لأنه أعلم بنفسه ويلزمه أن يحلف؛ لأنه متهم في ترك الفيئة. فإذا حلف.. لم يلزمه حكم الإيلاء؛ لأن المولي هو: الذي يقصد الإضرار بالامتناع من وطئها باليمين، وإذا كان عاجزا ولم يقصد الإضرار.. فلم يكن موليا) . فعلى هذا: لها أن ترفع أمرها إلى الحاكم؛ ليضرب له مدة العنة، فإن لم يطأها.. فسخ عليه النكاح. وإن كانت ثيبا وقد وطئها.. فإنه لا يقبل قوله أنه عاجز؛ لأن الإنسان لا يكون عنينا في نكاح واحد في بعض الأوقات دون بعض، بل يطالب بالفيئة أو الطلاق على ما مضى. [مسألة: إيلاء المجبوب] ] : فإن آلى المجبوب، وقلنا: يصح إيلاؤه، وانقضت المدة.. فلها أن تطالبه بالفيئة أو الطلاق. فإن طلقها.. فقد أوفاها حقها، وإن أراد أن يفيء.. اقتصر منه على فيئة معذور؛ وهو أن يقول: ندمت على ما فعلت، ولو قدرت على الوطء.. لوطئت.

مسألة: ادعاء الزوجة الإيلاء واختلفا فيه أو في انقضاء المدة أو في الإصابة

ولا يحتاج أن يقول: إذا قدرت فعلت؛ لأنه لا يمكنه ذلك. فإن لم يفعل.. فهل يطلق عليه الحاكم؟ على القولين. وإن آلى منها وهو صحيح الذكر، ثم جب ذكره.. ثبت لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأجل الجب. فإن فسخت.. سقط الإيلاء. وإن اختارت البقاء معه، فإن قلنا: لا يصح إيلاء المجبوب.. فحدوث الجب هاهنا يسقط حكم الإيلاء. وإن قلنا يصح إيلاؤه وانقضت المدة.. طولب بالفيئة أو الطلاق. فإن طلق.. فلا كلام، وإن اختار الفيئة.. فاء فيئة معذور، على ما مضى، وإن امتنع من ذلك.. طلق عليه الحاكم في أحد القولين. وحبسه وضيق عليه إلى أن يطلق في القول الآخر. [مسألة: ادعاء الزوجة الإيلاء واختلفا فيه أو في انقضاء المدة أو في الإصابة] ] : إذا ادعت الزوجة على زوجها أنه آلى منها، فأنكر ولا بينة لها.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإيلاء. وإن اتفقا على الإيلاء، واختلفا في انقضاء مدة التربص، فادعت الزوجة أن المدة قد انقضت، وقال الزوج: لم تنقض.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل بقاؤها. وإن اختلفا في الإصابة؛ فقال: أصبتك، وقالت: لم تصبني، فإن كانت ثيبا.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن ما يدعيه كل واحد منهما ممكن، والأصل بقاء النكاح، والمرأة تريد رفعه، فكان القول قوله. وإن كانت بكرا.. عرضت على أربع من النساء عدول، فإن قلن: إنها ثيب.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لما ذكرناه. وإن قلن: إنها بكر.. فالقول قولها مع يمينها: أنه لم يطأها؛ وإنما حلفناها لجواز أن يكون قد وطئها ولم يبالغ في الوطء، فعادت البكارة. فإن حلفت.. فلا كلام، وإن نكلت عن اليمين.. حلف الزوج. فإن نكل عن اليمين.. ففيه وجهان، حكاهما الصيمري:

فرع: آلى من ثيب قبل الدخول وادعى إصابتها

أحدهما: يحكم لها؛ لأنه معها ظاهرا، وهي البكارة. والثاني: لا يحكم لها؛ لأن هذه البكارة محتملة أن تكون هي الأصلية، وأن تكون عائدة. [فرع: آلى من ثيب قبل الدخول وادعى إصابتها] ] : وإن آلى الرجل من امرأته قبل أن يدخل بها، وضربت له مدة التربص، وادعى أنه أصابها، وأنكرت، وكانت ثيبا، فحلف الزوج: أنه أصابها، وأنكرت.. سقطت دعواها في الإيلاء. فإن طلقها بعد اليمين طلقة، ثم أراد أن يراجعها، وأنكرت أنه أصابها.. قال ابن الحداد: فالقول قولها مع يمينها: إنه ما أصابها؛ لأن الأصل وقوع الطلاق وثبوت التحريم، والزوج يدعي ما يرفعه، فلا يقبل قوله، ويمين الزوج إنما تثبت في حكم الإيلاء، فأما إثبات الرجعة عليها: فلا يثبت بها، بل القول قولها فيها. وبالله التوفيق

كتاب الظهار

[كتاب الظهار]

كتاب الظهار الظهار مشتق من الظهر، وإنما خصوا الظهر من بين أعضاء البدن؛ لأن كل مركوب يسمى ظهرا؛ لحصول الركوب على ظهره، فشبهت الزوجة به. وقد كان الظهار في الجاهلية طلاقا، ثم نقل في الشرع إلى التحريم والكفارة. وقيل: إنه كان طلاقا في أول الإسلام. والأول أصح. والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] الآية [المجادلة: 2] . وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . وروي «أن خولة بنت مالك بن ثعلبة - وقيل: اسمها خويلة - قالت: (ظاهر مني

زوجي أوس بن الصامت، فجئت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشكو إليه، فذكرت أمورا، وقلت: قدمت منه صحبتي، ونثرت له كنانتي، ولي منه صبية؛ إن ضمهم إليه.. ضاعوا، وإن ضممتهم إلي.. جاعوا. أشكو إلى الله عجزي وكبري، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجادلني فيه، ويقول: " اتقي الله، فإنه ابن عمك "، فما برحت حتى نزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] الآيات [المجادلة: 1] ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يعتق رقبة "، قلت: لا يجد، قال: " فيصوم شهرين متتابعين ". قلت: يا رسول الله، شيخ كبير ما به من صيام! قال: " فليطعم ستين مسكينا ". قلت: ما عنده شيء يتصدق به، قال: " فأتي ساعتئذ بعرق من تمر "، قلت: يا رسول الله، وأنا أعينه بعرق آخر، قال: " أحسنت، اذهبي فأطعمي عنه ستين مسكينا، وارجعي إلى ابن عمك» . قال الأصمعي: العرق - بفتح العين والراء -: ما يشق من خوص، كالزنبيل الكبير. وروى سليمان بن يسار، «عن سلمة بن صخر، قال: كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان.. خشيت أن أصيب من امرأتي شيئا يتابع بي حتى أصبح، فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينما هي تحدثني ذات

ليلة، إذ انكشف لي شيء منها، فلم ألبث أن نزوت عليها، فلما أصبحت.. خرجت إلى قومي، فأخبرتهم الخبر، وقلت: امضوا معي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالوا: لا والله، فانطلقت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته الخبر، فقال: " حرر رقبة "، قلت: والذي بعثك بالحق نبيا! ما أملك رقبة غيرها - وضربت صفحة رقبتي - فقال: " فصم شهرين متتابعين "، قلت: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟! قال: " فأطعم وسقا من تمر ستين مسكينا "، قلت: والذي بعثك بالحق نبيا! لقد بتنا ما لنا طعام، قال: " فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق، فليدفعها إليك، فأطعم ستين مسكينا وسقا من التمر، وكل أنت وعيالك بقيتها "، فرجعت إلى قومي، فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السعة وحسن الرأي، وقد أمر لي بصدقتكم» . إذا ثبت هذا: فالظهار محرم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] [المجادلة: 2] . ومعنى هذا: أن الزوجة لا تكون محرمة كالأم.

مسألة: يلزم الظهار ممن يصح طلاقه

[مسألة: يلزم الظهار ممن يصح طلاقه] ] : ويصح الظهار من كل زوج يصح طلاقه، حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو كافرا. وقال بعض الناس: لا يصح ظهار العبد. وقال أبو حنيفة: (لا يصح ظهار الذمي) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] الآية [المجادلة: 3] . ولم يفرق بين الحر والعبد، والمسلم والذمي. فإن قيل: في الآية ما يدل على أن العبد والذمي غير داخلين في الآية؛ لأن العبد ليس من أهل الإعتاق، والذمي ليس من أهل الصيام؟ قلنا: الآية عامة في الجميع، فإذا دل الدليل على أن العبد لا يعتق، والذمي لا يصح منه الصوم.. خرج ذلك بدليل، وبقي الباقي في الظهار على عمومه. ولأنه زوج يصح طلاقه.. فيصح ظهاره، كالحر المسلم. [فرع: ظهار السيد من أمته] فرع: [صحة ظهار السيد من أمته] : ولا يصح ظهار السيد من أمته، وبه قال من الصحابة: ابن عمر، ومن الفقهاء: الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد. وقال الثوري ومالك: (يصح) , وبه قال علي. دليلنا: أن الظهار لفظ يوجب التحريم في الزوجية، فلم يتعلق بالإماء، كالطلاق. ولأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية، فنقل حكمه وبقي محله، كالإيلاء. ويصح الظهار من كل زوجة، صغيرة كانت أو كبيرة، عاقلة كانت أو مجنونة، يمكن جماعها أو لا يمكن، مدخولا بها أو غير مدخول بها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . وهذا عام لجميع النساء. ولأنه كان طلاقا في الجاهلية، فنقل في الإسلام إلى التحريم وإيجاب الكفارة، وكل من صح منه الأصل.. صح ما نقل إليه.

مسألة: ألفاظ الظهار

[مسألة: ألفاظ الظهار] ] : والظهار هو: أن يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي؛ لما روي: «أن خولة بنت مالك قالت: يا رسول الله، إن زوجي أوس بن الصامت قال لي: أنت علي كظهر أمي» .. فنزلت الآية في شأنها. فإن قال: هي معه كظهر أمه، أو هي عنده، أو هي منه، أو هي عليه مثل ظهر أمه.. كان ظهارا؛ لأنه بمعنى: هي عليه كظهر أمه. فإن قال: هي كظهر أمي.. فقد قال الداركي: لا يكون ظهارا؛ لأنه ليس فيه ما يدل على أن ذلك في حقه، بخلاف قوله: أنت طالق؛ لأن الطلاق هو من جنس الزوجية، والجنس له دون غيره. وإن قال: هي عليه كبدن أمه.. فهو ظهار؛ لأن الظهر من جملة البدن. وإن قال: هي عليه كروح أمه.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو قول الداركي -: أنه ظهار، نوى به الظهار أم لم ينوه؛ لأن البدن لا يقوم إلا بالروح، ولا يستمتع بالبدن إلا مع الروح، فهو كما لو شبهها ببدن أمه. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه ليس بظهار، وإن نوى به الظهار؛ لأن الروح لا توصف بالتحريم؛ لأنه ليس بعين. والثالث - وهو قول المسعودي، [في " الإبانة "]-: إن نوى به الظهار.. فهو ظهار، وإن لم ينو به الظهار.. لم يكن ظهارا؛ لأنه يحتمل أنها كالروح في الكرامة، ويحتمل أنه كبدن أمه في التحريم، فلم يكن ظهارا من غير نية. [فرع: كنايات الظهار] ] : وإن قال: هي عليه كأمه، أو مثل أمه، أو هي أمه.. فهو كناية، فإن أراد بها كأمه في الكرامة والتوقير.. فليس بظهار، وإن أراد في التحريم.. فهو ظهار، وإن لم يكن له نية فليس بظهار، وبه قال أبو حنيفة.

فرع: فيما يلحق بظهر الأم

وقال مالك وأحمد ومحمد بن الحسن: (يكون ظهارا) . دليلنا: أنه يحتمل أنها كأمه في الإعزاز والكرامة، ويحتمل أنها كأمه في التحريم.. فلم يكن ظهارا من غير نية، كقوله: أنت خلية. [فرع: فيما يلحق بظهر الأم] ] : وإن شبه امرأته بظهر جدته.. فهو ظهار، سواء كانت من قبل الأم أو من قبل الأب؛ لأن اسم الأم يقع عليها مجازا. وإن قال: أنت علي كظهر أبي أو جدي.. لم يكن ظهارا. وقال أبو القاسم: إذا شبهها بالمحرمين من الرجال.. كان ظهارا. دليلنا: أن الظهار: أن يشبه زوجته بمن في جنسها استمتاع، والأب لا استمتاع في جنسه، فهو كما لو قال: أنت علي كظهر بهيمتي، بخلاف الأم؛ فإن في جنسها استمتاعا. ولأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية، فنقل حكمه، ولم ينقل محله، والطلاق لا يتعلق بجنس الأب، بخلاف الأم. فإن شبهها بظهر امرأة من ذوات محارمه غير الأم والجدة؛ بأن قال: أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو عمتي أو خالتي أو ابنة أخي.. ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا يكون ظهارا) ؛ لأن الظهار الذي ورد به القرآن أن يشبهها بظهر أمه، وللأم من الحرمة ما ليس لغيرها؛ بدليل: أنه إذا ملك أمه.. عتقت عليه، وهذا المعنى لا يوجد في غير الأم، فلم يكن بالتشبيه بها مظاهرا. و [الثاني] : قال في الجديد: (يكون ظهارا) . وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] [المجادلة: 2] . فأخبر: أن الظهار منكر من القول وزور. ولأنه يشبه زوجته بمن ليست كهي، وهذا المعنى موجود فيما إذا شبهها بذوات المحارم. وإن شبهها بمحرمة عليه برضاع، أو مصاهرة.. نظرت:

فرع: التشبيه بعضو غير الظهر

فإن شبهها بمن حلت له ثم حرمت عليه، كأم امرأته، ومن تزوجها أبوه بعد ولادته، وأخته من الرضاع بعد ولادته، أو بمحرمة عليه تحل له في الثاني، كأخت زوجته، وخالتها، وعمتها.. لم يكن ظهارا. وقال مالك وأحمد: (يكون ظهارا) . دليلنا: أنه لم يشبهها بالأم، ولا بمن يشبهها في التحريم، فلم يصر بذلك مظاهرا، كما لو شبهها ببهيمة. وإن شبهها بمن تحرم عليه على التأبيد ولم تحل له قط؛ بأن شبهها بامرأة تزوجها أبوه قبل أن يولد، أو بأخت له من الرضاعة أرضعتها أمه قبل ولادته.. فهي كالأخت والعمة على القولين. وإن شبهها بأجنبية ليست بمحرمة على التأبيد.. لم يكن مظاهرا. وقال أصحاب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إن شبهها بظهرها.. كان مظاهرا. وإن شبهها بغيره، فمنهم من قال: هو ظهار. ومنهم من قال: هو طلاق. دليلنا: أن هذه ليست بمحرمة عليه على التأبيد، فلا يكون بالتشبيه بها مظاهرا، كما لو شبهها بالمحرمة أو الصائمة من نسائه. [فرع: التشبيه بعضو غير الظهر] ] : وإن شبه امرأته بعضو من أعضاء أمه غير ظهرها، بأن قال: أنت علي كرأس أمي، أو كيدها أو كرجلها أو كفرجها، أو شبه عضوا من زوجته بظهر أمه؛ بأن قال: يدك أو رجلك أو فرجك علي كظهر أمي.. فالمنصوص: (أنه ظهار) ، وبه قال مالك. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو شبه امرأته بأخته أو عمته. وليس بشيء؛ لأن غير الأم ليست كالأم، وغير الظهر كالظهر في التحريم.

فرع: الظهار يمين

وقال أبو حنيفة: (إذا شبه زوجته بعضو من أعضاء أمه يحرم نظره إليه، كفرجها، أو فخذها.. فهو ظهار. وإن شبهها بعضو لا يحرم نظره إليه كرأسها أو يدها أو رجلها.. لم يكن ظهارا) . دليلنا: أنه شبه زوجته بعضو من أعضاء أمه، فكان ظهارا، كما لو شبهها بفخذها أو فرجها. [فرع: الظهار يمين] ] : وتنعقد يمين الزوج بالظهار، مثل أن يقول: إن كلمت زيدا.. فأنت علي كظهر أمي، كما يصح أن يقول: إن كلمت زيدا.. فأنت طالق. ويصح أن يعلقه بصفة، مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر.. فأنت علي كظهر أمي؛ لأن أصله كان طلاقا، فإذا جاز تعليق أصله بالصفة.. فكذلك هو. وإذا قال لأجنبية: إذا نكحتك فأنت علي كظهر أمي فتزوجها.. لم يصر مظاهرا منها. وقال مالك وأبو حنيفة: (يصير مظاهرا منها) . كما قالا في الطلاق، وقد مضى الدليل عليهما في الطلاق. [مسألة: طلق بنية الظهار] ] : وإن قال لامرأته: أنت طالق، ونوى به الظهار.. فهو طلاق. وإن قال: أنت علي كظهر أمي، ونوى به الطلاق.. كان ظهارا؛ لأن كل واحد منهما صريح في حكمه في الزوجية، فلا ينصرف إلى غير موجبه في الزوجية بالنية. وإن قال: أنت طالق كظهر أمي.. وقع عليها الطلاق بقوله: أنت طالق، وسئل ما نوى بقوله: كظهر أمي؟

فإن قال: لم أنو به شيئا.. لم يتعلق به حكم؛ لأنه لم يقرن به لفظا يعلقه عليه، كقوله: أنت علي أو مني، ولا نوى به الظهار. فيحتمل أنه أراد به: أنت علي كظهر أمي، أو أنت على غيري، فصار كناية في الظهار، فلم يقع به الظهار من غير نية. وإن قال: أردت أنها تحرم بالطلاق كما تحرم بالظهار.. كان ذلك تأكيدا في الطلاق، ولم يعد حكما. وإن قال: أردت بقولي: (أنت طالق) الظهار.. كان طلاقا ولم يكن ظهارا؛ لأن الطلاق صريح في حكم الزوجية، فلم يصر كناية في حكم آخر من الزوجية، ولا ينتقص بكونه كناية في العتق؛ لأنا قد قلنا في الزوجية: وإن قال: أردت بقولي: (أنت طالق) الطلاق، وأردت بقولي: (كظهر أمي) الظهار، فإن كان الطلاق بائنا.. لم يلحقها الظهار، وإن كان رجعيا.. لحقها الظهار؛ لأنه كناية في الظهار، فوقع به الظهار مع النية، والرجعية يصح فيها الظهار.

مسألة: لفظ أنت علي كظهر أمي

[مسألة: لفظ أنت علي كظهر أمي] ] : وإن قال لها: أنت علي حرام كظهر أمي.. ففيه خمس مسائل: إحداهن: أن يطلق ذلك ولا نية له.. فيكون ظهارا؛ لأن قوله: (أنت علي حرام) كناية تصلح للطلاق والظهار، فإن اقترن به نية الظهار.. كان ظهارا، وإن اقترن به لفظ الظهار.. كان أقوى من النية. ولأن قوله: (أنت علي كظهر أمي) صريح في الظهار، وقوله: (أنت علي حرام) تأكيد في التحريم؛ بدليل: أنه لو اقتصر على قوله: أنت علي كظهر أمي.. كان ظهارا. الثانية: إذا قال: أردت به الظهار.. فهو ظهار؛ لأن قوله: (أنت علي كظهر أمي) صريح في الظهار، وقوله: (حرام) تأكيد. الثالثة: إذا قال: نويت به الطلاق.. فروى الربيع: (أنه طلاق) . وكذلك في أكثر نسخ المزني، وفي بعض نسخ المزني: (أنه ظهار) . ومن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: أنه ظهار، وليس بطلاق، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن قوله: (أنت علي حرام) كناية تصلح للطلاق والظهار، وقد اقترن به قرينتان، إحداهما لفظ، والأخرى نية، فكان صريح اللفظ أقوى. ولأن قوله: (أنت علي كظهر أمي) صريح في الظهار؛ بدليل: أنه لو لم يقل: حرام، أو لم ينو شيئا.. لكان ظهارا، فقدم وإن نوى به الطلاق، كما لو قال: أنت علي كظهر أمي، ونوى به الطلاق. والثاني: أنه طلاق؛ لأن قوله: (أنت علي حرام) كناية في الطلاق، فإذا نوى به الطلاق.. كان طلاقا، كما لو قال: أنت طالق كظهر أمي.

ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: إن نوى الطلاق بقوله: أنت علي حرام.. كان طلاقا، وإن نواه بمجموع اللفظتين.. كان ظهارا، ولم يكن طلاقا. وقال أكثر أصحابنا: هو طلاق، قولا واحدا؛ لما ذكرناه في الثاني. وما وقع في بعض النسخ.. فهو غلط. وما ذكره الأول.. لا يصح؛ لأن نية الطلاق قارنت لفظ التحريم، وهو سابق بصريح لفظ الظهار، فكان الحكم فيه كقوله: أنت طالق كظهر أمي. والرابعة: إذا قال: نويت الطلاق بقولي: أنت حرام، والظهار بقولي: أنت كظهر أمي، فإن كان الطلاق رجعيا.. صح الطلاق والظهار، وإن كان بائنا.. لم يصح الظهار. هذا على قول أكثر أصحابنا. وعلى قول من قال من أصحابنا: لا يكون طلاقا، فإن نواه.. فإنه لا يقع الطلاق، ويقع الظهار. الخامسة: إذا قال: نويت تحريم عينها بقولي: أنت علي حرام.. فهل يقبل منه؟ قال الشيخ أبو حامد: المذهب: أنه لا يقبل منه؛ لأن هذا صريح في الظهار؛ لأنه لو لم ينو شيئا.. لكان ظهارا، والظهار تجب به الكفارة العظمى، فإذا أخبر عن نيته: أنه أراد به تحريم عينها.. فقد أخبر بما ينقل الكفارة العظمى إلى الصغرى، فلم يقبل. ومن أصحابنا من قال: يقبل منه؛ لأن اللفظ يصلح له. قال: وليس بشيء. وأما الشيخ أبو إسحاق فقال: تجب عليه كفارة يمين. وعلى قول من قال: اللفظ أولى من النية هو مظاهر، والذي يقتضي القياس عندي: أنه إن قال: أردت بقولي: (أنت علي حرام) تحريم عينها، وبقولي: (كظهر أمي) الظهار.. لزمه كفارة يمين لتحريمه عينها، وصار مظاهرا؛ لأن لفظه يصلح لذلك، كما لو قال: أردت الطلاق والظهار، وكان الطلاق رجعيا.

فرع: نية الطلاق بصريح لفظ الظهار

[فرع: نية الطلاق بصريح لفظ الظهار] قال في " البويطي ": (لو قال لها: أنت علي كظهر أمي حرام، ويريد به الطلاق.. كان ظهارا) ؛ لأنه صريح به. [فرع: أراد طلاقا وظهارا بلفظ كناية] ] : إذا قال لامرأته: أنت علي حرام، ثم قال: أردت به الطلاق والظهار.. فقد قال ابن الحداد: كلمة واحدة لا يكون طلاقا وظهارا، فاختر أيهما شئت. ومن أصحابنا من خالفه، وقال: يكون طلاقا؛ لأنه بدأ بالإقرار به، فلزمه حكمه، وقوله بعد ذلك: (والظهار) رجوع عن الإقرار بالطلاق إلى الظهار، فلم يقبل رجوعه. قال القاضي أبو الطيب: والصحيح هو الأول؛ وذلك أنه إذا أرادهما معا.. صحت إرادته لأحدهما بغير عينه؛ لأنه لا يصح إرادته لهما معا، فإذا صحت إرادته لأحدهما بغير عينه.. لزمه تعيين أحدهما، كما لو طلق إحدى امرأتيه بغير عينها. [مسألة: توقيت الظهار] ] : إذا وقت الظهار؛ بأن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي يوما، أو شهرا، أو سنة.. فهل يصح ظهاره؟ فيه قولان. أحدهما: لا يصح ظهارا، وبه قال ابن أبي ليلى والليث؛ لأن الظهار هو أن يشبه زوجته على التأبيد بمن تحرم عليه على التأبيد، فإذا ظاهر منها ظهارا مؤقتا.. لم يصر مظاهرا، كما لو شبهها بمن لا تحرم عليه على التأبيد، وإنما تحرم عليه إلى وقت؛ وهي مطلقته ثلاثا. والثاني: يصح الظهار، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 2] الآية [المجادلة: 2] . ولم يفرق بين المطلق والمؤقت.

مسألة: علق الظهار بمشيئة الله أو رجل

ولأن الله تعالى نبه على معنى الظهار بأنه منكر وزور، وهذا المعنى موجود في المؤقت. ولحديث سلمة بن صخر في أول الباب، فإنه ظاهر من امرأته شهر رمضان، فلما وطئها فيه.. أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالكفارة. وقال مالك: (يصح الظهار، ويسقط التوقيت) . كما لو قال: أنت طالق يوما أو شهرا. دليلنا: أن تحريم الظهار يرتفع بالتكفير، فارتفع بالتوقيت، بخلاف الطلاق. [مسألة: علق الظهار بمشيئة الله أو رجل] ] : وإن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي إن شاء زيد.. تعلق ذلك بمشيئته. وإن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي إن شاء الله.. لم يكن ظهارا. وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد حكى: أن الشافعي ذكر في القديم في ذلك قولين، أحدهما: (يكون مظاهرا) . قال: وهذا لا يجيء على أصله. وإن كان له امرأتان، فقال لإحداهما: إن تظاهرت من ضرتك، فأنت علي كظهر أمي، ثم ظاهر من الضرة.. كان مظاهرا منهما، إحداهما بالمباشرة، والأخرى بالصفة. فإن ظاهر من إحدى امرأتيه، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، أو أنت شريكتها، أو أنت كهي، أو أنت مثلها، فإن نوى الظهار.. كان مظاهرا منها، وإن لم ينو به الظهار.. لم يكن مظاهرا منها. وقال مالك وأحمد: (يكون مظاهرا منها وإن لم ينو به الظهار) . دليلنا: أنه يحتمل أن يريد: أنت شريكتها في الظهار، ويحتمل من النكاح، ويحتمل في الحب، أو في البغض، أو في سوء الأخلاق، فلم يتخصص بالظهار من غير نية، كالكنايات في الطلاق.

مسألة: إن ظاهر من أجنبية فهي كأمه

وإن قال لامرأتيه: أنتما علي كظهر أمي.. صار مظاهرا منهما، كما لو قال لهما: أنتما طالقتان. [مسألة: إن ظاهر من أجنبية فهي كأمه] ] : وإن قال لامرأته: إن تظاهرت من فلانة الأجنبية فأنت علي كظهر أمي.. سئل عما أراد: فإن قال: أردت أني إذا تلفظت بظهارها فأنت علي كظهر أمي.. فمتى قال لهذه الأجنبية: أنت علي كظهر أمي.. صار مظاهرا من زوجته؛ لأنه علق ظهار زوجته بالشرط، فإذا وجد الشرط.. وقع الظهار. وإن قال: أردت به الظهار الشرعي، إذا قال للأجنبية قبل أن يتزوجها: أنت علي كظهر أمي.. لم يصر مظاهرا منها؛ لأن الأجنبية لا يصح الظهار منها، ولا يصير مظاهرا من زوجته؛ لأنه لم يوجد الشرط. وإن قال: قلت ذلك، ولم أنو شيئا.. فإن إطلاق ذلك يقتضي ظهارا شرعيا، فإذا قال لأجنبية قبل أن يتزوجها: أنت علي كظهر أمي.. لم يصر مظاهرا منها؛ لأن الأجنبية لا يصح الظهار منها، ولا يكون مظاهرا من امرأته؛ لأن الشرط لم يوجد، كما لو قال لامرأته: إذا طلقت فلانة الأجنبية.. فأنت طالق، ثم قال للأجنبية: أنت طالق. فإن تزوج الأجنبية، ثم ظاهر منها. إذا أطلق، وقال: لم أنو شيئا، وإن قال: أردت بقولي: (إذا تظاهرت من فلانة الأجنبية) الظهار الشرعي.. فإنه يصير مظاهرا منها، وهل يصير مظاهرا من زوجته الأولى؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا يصير مظاهرا منها؛ لأنه جعل صفة الظهار عن الأجنبية، وهذه ليست بأجنبية منه بعد النكاح.. فلم يوجد الشرط. والثاني: يصير مظاهرا منها؛ لأنه عين الأجنبية ووصفها، فكان الحكم للتعيين لا للصفة، كما لو قال: والله لا دخلت دار زيد هذه، فباع زيد داره، ثم دخلها.. فإنه يحنث. والأول أصح. وقيل: هذان الوجهان إذا حلف: لا يأكل بسرة، فأكلها بعدما صارت رطبة، أو لا أكلت لحم هذا الحمل، فأكله بعد أن صار كبشا، أو لا كلمت هذا الصبي، فكلمه بعد أن صار شيخا. ويأتي ذلك في الأيمان. وإن قال لامرأته: إن تظاهرت من فلانة فأنت علي كظهر أمي، ولم يقل: الأجنبية، ولكنها أجنبية، فإن قال للأجنبية: أنت علي كظهر أمي.. لم يصر مظاهرا منها؛ لأن الظهار عن الأجنبية لا يصح، ولا يصير مظاهرا من زوجته؛ لأنه لم يوجد شرط ظهاره منها. وإن تزوج الأجنبية، فظاهر منها.. صار مظاهرا منها ومن زوجته الأولى، وجها واحدا؛ لأنه إنما علق ظهاره على امرأته بشرط؛ وهو ظهاره من فلانة، ولم يعلقه بغير ذلك، فإذا تزوجها، وظاهر منها.. فقد وجد الشرط، بخلاف الأولى؛ فإنه وصفها بأنها أجنبية، وبعد أن تزوجها فليست بأجنبية. وإن قال لامرأته: إن تظاهرت من فلانة أجنبية، فأنت علي كظهر أمي، فإن قال للأجنبية: أنت علي كظهر أمي.. لم يصر مظاهرا منها؛ لأن الأجنبية لا يصح الظهار منها، ولا يصير مظاهرا من زوجته؛ لأن الصفة في ظهارها لم توجد، ولأن إطلاق الظهار يقتضي الظهار الشرعي. فإن تزوج الأجنبية، وظاهر منها.. صح ظهاره منها، ولم يصر مظاهرا من زوجته الأولى، وجها واحدا. والفرق بين هذه وبين قوله: (فلانة الأجنبية) - حيث قلنا: يقع الظهار في أحد الوجهين -: أنه علق ظهار زوجته في الأولى بأن يتظاهر من فلانة بعينها، ووصفها بأنها أجنبية، ولم يجعل ذلك شرطا، والصفة تسقط مع التعيين، وهاهنا جعل كون فلانة

مسألة: قولها أنت علي كأبي

أجنبية شرطا في ظهار امرأته؛ لأن قوله: (أجنبية) حال، فاقتضى أن يتظاهر منها في حال كونها أجنبية، فإذا تظاهر منها.. لم يوجد الشرط. [مسألة: قولها أنت علي كأبي] ] : إذا قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أبي، أو أنا عليك كظهر أمك.. لم يلزمها شيء. قال الحسن البصري والنخعي: إذا قالت لزوجها: أنت علي كظهر أبي.. صارت مظاهرة، ولزمها الكفارة. وقال الأوزاعي: (إذا قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أبي.. لم تكن مظاهرة، وإن قالت ذلك لأجنبي، ثم تزوجها.. صارت مظاهرة) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . وهذا خطاب للذكور دون الإناث. ولأنه قول يوجب تحريما في الزوجة يملك الزوج رفعه.. فاختص بالزوج، كالطلاق.

مسألة: وجود العود في المولي يوجب الكفارة

فقولنا: (قول يوجب تحريما في الزوجة) احتراز من اليمين؛ فإنها لو حلفت لا وطئها الزوج.. انعقدت يمينها وإن لم يكن إيلاء. وقولنا: (يملك الزوج رفعه) احتراز من فسخ النكاح بالعيوب، ومن الخلع، فإنه يصح منهما. [مسألة: وجود العود في المولي يوجب الكفارة] ] : وإذا ظاهر الرجل من امرأته ووجد العود.. وجبت الكفارة، وبه قال الحسن البصري وطاوس والزهري ومالك وأحمد وداود. وقال مجاهد والثوري: تجب الكفارة بمجرد الظهار دون العود. وقال أبو حنيفة: (لا تجب الكفارة بالظهار، ولا بالظهار والعود، وإنما تجب على المظاهر إذا أراد أن يطأ) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . فموضع الدليل منها على مجاهد والثوري: أن الله أوجب الكفارة بالظهار والعود، فمن قال: إنها تجب بأحدهما.. فقد خالف مقتضى الآية. وعلى أبي حنيفة: أن الله أوجب الكفارة، ولم يفرق بين أن يريد أن يطأ أو لا يريد. وحديث خولة بنت مالك في أول الباب، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب على زوجها الكفارة، ولم يفرق بين أن يريد الوطء وبين أن لا يريد. إذا ثبت هذا: فـ (العود) عندنا: هو أن يمسكها بعد الظهار زوجة زمانا يمكنه أن يطلقها فيه فلا يطلق.

وقال مالك وأحمد: (العود: هو العزم على وطئها بعد الظهار وإن لم يطأها) . وقال داود وشعبة: (العود: هو إعادة لفظ الظهار) . وقال الحسن البصري وطاوس والزهري: العود: هو وطؤها. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وهو قول مالك. وقيل: هو قول الشافعي في القديم، وإحدى الروايتين لأبي حنيفة. والمشهور عنهم الأول. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] الآية [المجادلة: 3] . فإذا أمسكها زوجة.. فقد عاد فيما قال؛ لأن تشبيهها بأمه يقتضي إبانتها وإزالة نكاحها، فإذا أمسكها زوجة.. فقد عاد فيما قال، ولم يفرق بين أن يعزم على وطئها وبين أن لا يعزم. وموضع الدليل على داود: قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . ولم يقل: إلى ما قالوا؛ فالآية لا تقتضي العود إليه، وإنما تقتضي العود فيه، ولو احتملهما.. لكان ما قلناه أولى؛ لأنه أسبق. وموضع الدليل منها على الحسن البصري ومن تابعه: قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . وهذا نص في إبطال قولهم. وحديث «خولة بنت مالك، حيث قالت: يا رسول الله، ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت» .. الخبر إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يعتق رقبة» . ولم يسأل: هل عزم على وطئها، أو هل أعاد لفظ الظهار، أو هل وطئها، أم لا؟ فلو كان الحكم يتعلق بذلك.. لسأل عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإن قال لها: أنت علي كظهر أمي، ثم مات عقيبه، أو ماتت قبل أن يتمكن من

طلاقها، أو طلقها عقيب الظهار.. لم تجب الكفارة؛ لأن العود: هو أن يمسكها على الزوجية، ولم يمسكها. وإن ظاهر من الرجعية.. صح ظهاره، كما يصح طلاقه، ولا يكون عائدا قبل الرجعة؛ لأنها جارية إلى البينونة، فلا يوجد الإمساك منه. فإن راجعها، أو قال: أنت علي كظهر أمي، أنت طالق، ثم راجعها قبل انقضاء عدتها.. ففيه قولان: أحدهما: أن يكون عائدا بنفس الرجعة؛ لأن العود: هو الإمساك على الزوجية، وقد سمى الله تعالى الرجعة إمساكا، فقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] . يعني: الرجعة. ولأن استدامة الإمساك على الزوجية عود، فلأن تكون الرجعة - التي هي عقد أقوى من الاستدامة - عودا أولى. فعلى هذا: تجب عليه الكفارة، سواء طلقها عقيب الرجعة أو لم يطلقها. والقول الثاني: أن العود لا يحصل بنفس الرجعة، وإنما يحصل بأن يمسكها بعد الرجعة على الزوجية زمانا يمكنه أن يطلقها فيه، فلا يطلق؛ لأن الرجعة رد إلى النكاح، والعود: هو أن يمسكها زوجة، وذلك لا يوجد إلا بعد الرجعة. فعلى هذا: إن طلقت عقيب الرجعة.. لم تجب الكفارة. وإن ظاهر من الرجعية ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم تزوجها، أو قال لها: أنت علي كظهر أمي أنت طالق ثلاثا، ثم نكحها بعد زوج، أو طلقها عقيب الظهار طلاقا رجعيا، ثم لم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم تزوجها.. فهل يعود حكم الظهار؟ فيه ثلاثة أقوال، كما قلنا في عود صفة الطلاق: أحدها: يعود. والثاني: لا يعود. والثالث: إن عادت إليه بدون الثلاث.. عاد، وإن عادت إليه بعد الثلاث.. لم يعد.

فرع: مظاهرة الكافر

فإن قلنا: يعود.. فهل يصير عائدا بنفس العقد، أو بإمساكها بعد العقد زمانا يمكنه فيه الطلاق، فلا يطلق؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الرجعة. [فرع: مظاهرة الكافر] ] : وإن ظاهر الكافر من امرأته.. فقد ذكرنا: أنه يصح ظهاره، فإن أسلمت الزوجة عقيب ظهاره، فإن كان قبل الدخول.. لم تجب الكفارة؛ لأنها تبين منه بإسلامها قبل الدخول، وإن كان بعد الدخول.. لم يصر عائدا قبل إسلامها؛ لأنها جارية إلى بينونة. فإن لم يسلم الزوج حتى انقضت عدتها.. لم يجب عليها الكفارة؛ لأنهما لم يجتمعا على النكاح. وإن أسلم قبل انقضاء العدة.. فهل يكون إسلامه عودا، أو لا يحصل العود إلا بأن يمسكها بعد الإسلام؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الرجعة. وإن ظاهر الكافر من امرأته، ثم أسلم عقيب الظهار، فإن كانت ممن يقر المسلم على نكاحها، بأن كانت يهودية أو نصرانية.. لم يؤثر إسلامه في النكاح، فيجب عليه الكفارة. وإن كانت ممن لا يقر على نكاحها؛ بأن كانت مجوسية أو وثنية، فإن كان ذلك قبل الدخول.. انفسخ النكاح بإسلامه، ولم تجب عليه الكفارة؛ لأنه لم يمسكها بعد الظهار على الزوجية. وإن كان بعد الدخول.. وقف النكاح على انقضاء العدة، فإن لم تسلم الزوجة حتى انقضت عدتها.. بانت منه وقت إسلامه، ولم تجب عليه الكفارة، وإن أسلمت قبل انقضاء عدتها فقد اجتمعا على النكاح، ولا يكون إسلامها عودا، قولا واحدا؛ لأن العود بفعل الزوج لا بفعل الزوجة. فإن أمسكها الزوج بعد إسلامها زمانا يمكنه فيه الطلاق، فلم يطلق.. وجبت عليه الكفارة. وإن طلقها عقيب إسلامها، أو مات أحدهما.. لم تجب عليه الكفارة.

فرع: ظاهرها ثم ارتدا

[فرع: ظاهرها ثم ارتدا] ] : وإن ظاهر المسلم من امرأته المسلمة، فارتدا أو أحدهما عقيب الظهار، فإن كان قبل الدخول.. لم تجب الكفارة؛ لأن النكاح ينفسخ بالردة قبل الدخول. وإن كان بعد الدخول.. وقف النكاح على انقضاء العدة، فإن انقضت العدة قبل أن يسلم المرتد منهما.. لم تجب الكفارة، وإن أسلم المرتد منهما قبل انقضاء العدة.. فقد اجتمعا على النكاح. فإن كان المرتد هو الزوج.. فهل يكون إسلامه عودا، أو لا يحصل العود إلا بإمساكه لها بعد الإسلام زمانا يمكنه فيه الطلاق، فلم يطلق؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الرجعة. وإن كان المرتد منهما أو المسلم هي الزوجة.. فإن العود لا يحصل بإسلامها، وجها واحدا؛ لأن العود يحصل بفعله لا بفعلها، فإن أمسكها بعد إسلامها زمانا يمكنه فيه طلاقها، فلم يفعل.. كان عائدا. [فرع: تزوج أمة وظاهر منها] ] : وإن تزوج أمة لغيره، ثم ظاهر منها.. صح ظهاره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] الآية [المجادلة: 3] ولم يفرق. فإن اشتراها الزوج أو اتهبها.. نظرت: فإن كان ذلك بعد أن تمكن من طلاقها بعد الظهار، ولم يطلقها.. فقد وجبت عليه الكفارة، ولا تسقط عنه بملكها. وإن اشتراها عقيب الظهار؛ بأن قال: أنت علي كظهر أمي، بعني إياها بكذا، فقال سيدها: بعتك. أو قال: أنت علي كظهر أمي، فقال سيدها: بعتكها بكذا، فقال الزوج: قبلت.. فقد ملكها، وانفسخ نكاحها، وهل يكون عائدا؟

فرع: قوله أنت علي كظهر أمي يا زانية

فيه وجهان: أحدهما: يكون عائدا، وتجب عليه الكفارة؛ لأنه لم يحرمها على نفسه عقيب الظهار، وإنما أمسكها على الاستباحة، فهو كما لو لم يشترها. والثاني وهو قول أبي إسحاق: أنه لا يصير عائدا، ولا تجب عليه الكفارة، وهو الأصح؛ لأن (العود) : هو أن يمسكها بعد الظهار على الزوجية زمانا يمكنه أن يطلق فيه، فلم يطلق، وهذا لم يمسكها على الزوجية؛ لأن الشراء يوجب فسخ النكاح. فإذا قلنا بهذا: فأعتقها، ثم تزوجها، أو باعها من آخر، ثم تزوجها منه.. فهل يعود حكم الظهار؟ بينى على الوجهين في الفسخ، هل هو بمنزلة البينونة بما دون الثلاث، أو بالثلاث؟ فإن قلنا: إنه كالبينونة بما دون الثلاث.. عاد حكم الظهار على القول القديم، قولا واحدا، وهل يعود على القول الجديد؟ على قولين. وإن قلنا: إنه كالبينونة بالثلاث.. لم يعد حكم الظهار على القول الجديد، قولا واحدا، وهل يعود على القديم؟ فيه قولان. فإذا قلنا: يعود.. فهل يحصل العود بنفس النكاح، أو لا يحصل إلا بأن يمسكها بعد النكاح زمانا يمكن فيه الطلاق، فلم يطلق؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الرجعة. [فرع: قوله أنت علي كظهر أمي يا زانية] ] : إذا قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي يا زانية.. فالمشهور من المذهب: أنه يكون عائدا؛ لأن القذف لا تحصل به البينونة. قال ابن الصباغ: وحكى المزني في " الجامع الكبير ": (أنه لو ظاهر منها، ثم أتبع الظهار قذفا.. لم يكن عودا) .

مسألة: ظاهر فلاعن فسقط الظهار ولا يكون عائدا

قال أبو العباس: لا يعرف هذا للشافعي، ولا وجه له. قال ابن الحداد: فإذا قال لها: أنت علي كظهر أمي يا زانية، أنت طالق.. وجبت عليه الكفارة. وهذا على المشهور من المذهب. وأما إذا قلنا بما حكاه المزني في " الجامع الكبير ": فلا يكون عائدا. [مسألة: ظاهر فلاعن فسقط الظهار ولا يكون عائدا] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو تظاهر منها، ثم لاعنها مكانه بلا فصل.. سقط الظهار) . وجملة ذلك: أنه إذا قذف امرأته ولاعنها، فأتى من اللعان بلفظ الشهادة، وبقي لفظ اللعن، فقال لها: أنت علي كظهر أمي، ثم أتى عقيبه بلفظ اللعن.. فإنه لا يكون عائد؛ لأن الفرقة تقع باللفظة الخامسة من لعانه، فهو كما لو طلقها. وإن قذفها، ثم ظاهر منها، ثم ابتدأ عقيب الظهار باللعان.. ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون عائدا؛ لأن باشتغاله بألفاظ اللعان قد أمسكها زوجة زمانا أمكنه فيه أن يطلقها، ولم يطلقها. وحمل هذا القائل كلام الشافعي على الأولى. والثاني: لا يكون عائدا، وهو ظاهر كلام الشافعي؛ لأنه اشتغل عقيب الظهار باللعان، وهو سبب الفرقة؛ لأن الفسخ يحصل بجميع ألفاظ اللعان، فصار كما لو قال لها عقيب الظهار: أنت طالق، وأطال لفظ الطلاق، أو كما قال لها عقيب الظهار: فلانة بنت فلان طالق، أو فلانة وفلانة وفلانة طوالق. [مسألة: علق ظهاره على مدة شهر] ] : إذا قال لها: أنت علي كظهر أمي يوما، أو شهرا، أو سنة، وقلنا: يصح ظهاره، فمتى يصير عائدا؟ فيه وجهان:

مسألة: ظاهر من أربع بكلمة ثم عاد

[أحدهما] : قال المزني، وبعض أصحابنا: إذا أمسكها بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلقها فيه، فلم يطلقها.. صار عائدا، كما قلنا في الظهار المطلق. و [الثاني] : قال أبو العباس، وأبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: لا يصير عائدا بالإمساك، وإنما يصير عائدا إذا وطئها في اليوم، أو الشهر، أو السنة. فإن لم يطأها حتى انقضت مدة الظهار.. لم تلزمه الكفارة؛ لأن إمساكه لها بعد الظهار يحتمل أن يكون أمسكها زوجة، فيكون قد رجع عن التحريم وعاد، فلزمته الكفارة. ويحتمل أن يكون أمسكها إلى أن تنقضي المدة، ويرتفع التحريم، وتصير مباحة له بالأمر الأول.. فلم تجب الكفارة بالشك. فإذا وطئها قبل انقضاء مدة الظهار.. تحققنا عوده، فلزمته الكفارة. [مسألة: ظاهر من أربع بكلمة ثم عاد] لزمه أربع كفارات] : إذا كان له أربع زوجات، فظاهر من كل واحدة منهن بكلمة، ووجد العود.. لزمه أربع كفارات. وإن ظاهر منهن بكلمة واحدة؛ بأن قال: أنتن علي كظهر أمي، ووجد العود.. ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (يلزمه كفارة واحدة) . وبه قال مالك، وأحمد. وروي ذلك عن عمر؛ لأن الظهار يمين، بدليل «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأوس بن

فرع: كرر الظهار فعلى أيها الكفارة

الصامت: " كفر عن يمينك» . فلزمه بمخالفتها كفارة واحدة، كالإيلاء. و [الثاني] : قال في الجديد: (تجب عليه أربع كفارات) . وهو الأصح؛ لأن كل واحدة منهن محرمة عليه قبل التكفير، فلا يرتفع التحريم بكفارة واحدة، كما لو أفرد كل واحدة بكلمة. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (لا تجب عليه إلا كفارة واحدة، سواء ظاهر منهن بكلمة أو كلمات) . دليلنا: أن الظهار يمين، فإذا وجد منه إفراد كل واحدة بكلمة واحدة.. وجب عليه لكل واحدة كفارة، كما لو آلى من كل واحدة منهن بكلمة، وحنث. [فرع: كرر الظهار فعلى أيها الكفارة] وإن كرر لفظ الظهار.. نظرت: فإن أتى به متواليا، مثل أن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي، أنت علي كظهر أمي، أنت علي كظهر أمي.. فقد صار عائدا في كل ظهار من ذلك، فيلزمه في الظهار الأول كفارة، وأما الثاني والثالث: فإن نوى بهما تأكيد الأول.. لم تلزمه إلا كفارة واحدة، وإن نوى بهما استئناف الظهار.. ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (تلزمه كفارة واحدة) . وبه قال أحمد؛ لأن الثاني والثالث لم يؤثرا في التحريم، فلم تجب بهما كفارة. و [الثاني] : قال في الجديد: (تجب لكل واحد منهما كفارة) . وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وهو الأصح؛ لأنه لفظ يتعلق به تحريم الزوجة، فإذا كرره وقصد به الاستئناف.. تعلق بكل واحد حكمه، كالطلاق. وإذا أطلق ذلك، ولم ينو بهما التأكيد ولا الاستئناف.. ففيه وجهان، بناء على

مسألة: حرمة وطء المظاهر منها قبل الكفارة

القولين فيمن كرر لفظ الطلاق، ولم ينو التأكيد ولا الاستئناف: أحدهما: حكمه حكم ما لو قصد التأكيد، فتلزمه كفارة واحدة. والثاني: حكمه حكم ما لو قصد الاستئناف. فعلى هذا: هل تلزمه كفارة، أو كفارات؟ على قولين. وإن كرر ذلك في أوقات متراخية.. نظرت: فإن أتى بالثاني بعد أن كفر عن الأول.. لزمه للثاني كفارة. وكذلك: إذا كفر عن الثاني، ثم أتى بالثالث.. كفر عن الثالث. وإن أتى بالثاني قبل أن يكفر عن الأول.. فهل تلزمه كفارة، أو كفارات؟ على القولين، كما لو أتى به متواليا، ونوى بالثاني الاستئناف، ولا يقبل قوله: إنه أتى بما بعد الأول للتأكيد؛ لأن التأكيد لا يكون إلا بعدم الانفصال عن الأول بزمان. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال القفال: هل يصدق أنه أتى بما بعد الأول للتأكيد؟ فيه وجهان. وإن كان له امرأتان، فقال لإحداهما: إن تظاهرت منك فضرتك علي كظهر أمي، فتظاهر من الأولى.. صار مظاهرا منهما. فإذا وجد العود فيهما.. لزمه كفارتان، قولا واحدا؛ لأنهما ظهاران وجد العود فيهما، إلا أن أحدهما بالمباشرة، والآخر بالصفة. [مسألة: حرمة وطء المظاهر منها قبل الكفارة] ] : وإذا ظاهر من امرأته، ووجد العود.. حرم عليه وطؤها قبل أن يكفر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3] {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] [المجادلة: 3 - 4] . فنص على تحريم الوطء قبل العتق

والصيام، وقسنا عليهما الإطعام؛ لأنه في معناهما. وهل تحرم عليه مباشرتها بشهوة قبل التكفير؟ فيه قولان، ومنهم من يحكيهما وجهين. أحدهما: تحرم؛ لقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . و (المس) : يقع على الجماع، وعلى المس باليد، والقبلة. ولأنه قول يؤثر في تحريم الوطء، فحرم ما دونه من المباشرة، كالطلاق. والثاني: لا تحرم، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . وإطلاق المس في النساء إنما ينصرف إلى الجماع. ولأنه تحريم وطء لا يتعلق به مال، فوجب أن لا يحرم دواعي الوطء، كالحيض، وفيه احتراز من وطء المطلقة؛ فإنه يتعلق بتحريمه المال، وهو المهر. فإن خالف، ووطئها قبل التكفير وهو عالم بالتحريم.. فقد أثم بذلك، ولا تسقط الكفارة بالوطء، بل يلزمه إخراج الكفارة، ويكون إخراجها قضاء؛ لأن وقت أدائها من حين الظهار إلى أن يطأ. فإذا وطئ قبل التكفير.. فقد فات وقت الأداء، وصار قاضيا، ولا يلزمه بهذا الوطء كفارة أخرى. هذا مذهبنا. وقال بعض الناس: تسقط الكفارة بالوطء. وقال مجاهد: تلزمه كفارة ثانية للوطء. دليلنا: ما روى عكرمة، عن ابن عباس: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إني تظاهرت من امرأتي، وواقعتها قبل أن أكفر؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لم فعلت ذلك، يرحمك الله؟ " قال: رأيت بياض ساقها في ضوء القمر، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقربها حتى تكفر» . وروي: «لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله» . فلم يسقط

فرع: ظاهر من أمة ثم اشتراها لا يعود حتى يكفر

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكفارة بالوطء، ولم يأمره بكفارة ثانية للوطء. ويحرم عليه وطؤها بعد الوطء الأول إلى أن يكفر؛ لما ذكرناه في الخبر. [فرع: ظاهر من أمة ثم اشتراها لا يعود حتى يكفر] ] : وإن ظاهر من امرأته الأمة، ووجد العود، ثم اشتراها قبل أن يكفر.. حرم عليه وطؤها إلى أن يكفر. نص عليه الشافعي؛ لأن الفرج كان حراما عليه إلا بعد التكفير، وهذا التحريم باق لم يزل. ولم يختلف أصحابنا في هذه، وإن اختلفوا في المطلقة ثلاثا إذا ملكها زوجها قبل زوج، والنص هاهنا يدل على صحة أحد الوجهين هناك. وإن ظاهر من امرأته، وعاد، ووجبت عليه الكفارة، فأخر وطأها والتكفير حتى مضت أربعة أشهر.. لم يصر موليا منها، غير أنه إن قصد بتأخير التكفير والوطء الإضرار بها.. أثم بذلك، وإن لم يقصد ذلك.. لم يأثم. وقال مالك: (يصير موليا، فيطالب بالفيئة أو بالطلاق) . دليلنا: أن لفظ الظهار يوقع التحريم في الزوجية، فلم يصر به موليا، كالطلاق. والله أعلم بالصواب.

باب كفارة الظهار

[باب كفارة الظهار] وكفارة الظهار على الترتيب؛ فيجب عتق رقبة لمن وجد، فإن لم يجد.. فعليه الصيام، فإن لم يستطع.. فعليه الإطعام. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] الآية [المجادلة: 3] . ولما ذكرناه من حديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر. إذا ثبت هذا: وجب عليه الكفارة في الظهار، فإن كانت معه رقبة تجزئ في الكفارة فاضلة عن كفايته على الدوام، وهو لا يحتاج إلى خدمتها.. كان فرضه العتق، ولم يجزئه الصيام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3] {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] [المجادلة: 3 - 4] . وهذا واجد. وإن لم يكن معه رقبة تجزئ في الكفارة، إلا أنه واجد لثمنها، وكان ذلك فاضلا عن كفايته على الدوام.. لزمه أن يشتري رقبة ويعتقها؛ لأن كل حق تعلق بالذمة فإن قدرته على ثمنه وشرائه كالقدرة عليه، كما قلنا فيمن في ذمته دين من ذهب وعنده فضة. وإنما قلنا: (تعلق بالذمة) ؛ كيلا ينتقض بمن وجبت عليه ابنة مخاض في الزكاة

وليست في إبله، ولكنه قادر على ثمنها وشرائها، وعنده ابن لبون.. فإنه لا يجب عليه شراء ابنة مخاض، بل له أن يخرج ابن لبون. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن كان واجدا لثمن رقبة، وهي معدومة.. فعليه أن يصبر إلى أن يجدها. وإن وجد رقبة تباع نسيئة، وله مال في بلد آخر.. لزمه الشراء. وإن كان معه رقبة وهو محتاج إلى خدمتها، وهو ممن لا يخدم نفسه؛ بأن كان يضعف عن خدمة نفسه، أو كان ممن يقدر على خدمة نفسه، إلا أنه ممن لا يخدم نفسه في العادة؛ كذوي الهيئات من الناس، ولا يجد ما يشتري به خادما يخدمه فاضلا عن كفايته.. لم يلزمه العتق، بل فرضه الصوم. وكذلك إذا لم يكن معه رقبة، ومعه مال لا يفضل عن كفايته وكفاية من تلزمه نفقته على الدوام.. فلا يلزمه شراء الرقبة، بل له أن ينتقل إلى الصيام. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إذا وجد ثمن الرقبة وهو محتاج إليها في نفقته وكفايته على الدوام.. لم يلزمه العتق - كما قلنا - وإن كان واجدا للرقبة في ملكه.. لزمه إعتاقها وإن كان محتاجا إلى خدمتها) . وقال مالك والأوزاعي: (إذا وجد الرقبة في ملكه، أو ما يشتري به الرقبة.. لزمه العتق وإن كان محتاجا إلى الرقبة، أو إلى ما في يده من المال) . دليلنا: ما روي «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إني تظاهرت من امرأتي، ثم واقعتها، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعتق رقبة "، فضرب على صفحة عنقه، وقال: ما أجد غير هذه الرقبة، قال: " صم شهرين متتابعين "، قال: لا أستطيع، فقال: " أطعم ستين مسكينا "، قال: لا أجد، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتمر، فأتي به، فقال: " خذ هذا، فتصدق به "، فقال: فهل أفقر مني ومن أهل بيتي؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كله أنت وأهل بيتك» .

فموضع الدليل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ملكه التمر، وأمره أن يتصدق به عن كفارته، ثم أخبره الرجل أنه محتاج إليه، فأباح له أكله ولم يلزمه إخراجه مع وجوده، فدل على أن ما تستغرقه حاجته.. لا يلزمه إخراجه؛ لأنه وجد ما تستغرقه حاجته، فكان كالعادم له في جواز الانتقال إلى بدله، كما لو وجد ماء وهو محتاج إليه لعطشه. وإن كان معه رقبة، وهو يقدر على خدمة نفسه في العادة، كمن يخرج إلى الأسواق ويبيع ويشتري.. ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه إعتاقها؛ لأنه يمكنه أن يخدم نفسه، وأكثر الناس لا خادم له. والثاني: لا يلزمه إعتاقها، بل له أن يصوم؛ لأنه ما من أحد إلا ويحتاج إلى من يخدمه؛ ليترفه، ولأنه يشق على الإنسان خدمة نفسه في جميع الأشياء. وإن كان له رقبة تخدمه وهو محتاج إلى خادم، ويمكنه أن يبيعها ويشتري بثمنها رقبتين، تخدمه إحداهما، ويعتق الأخرى.. لزمه العتق. وإن كان له دار يسكنها، أو ضيعة يأتي له منها قدر كفايته، أو له بضاعة يتجر فيها ويحصل له من ربحها قدر كفايته.. لم يلزمه بيع ذلك وصرفه في العتق. وإن كانت الدار تزيد على ما يحتاج إليه، أو كانت الضيعة تكفيه غلة بعضها، أو كان يمكنه أن يتجر ببعض تلك البضاعة، ويحصل منها قدر كفايته.. لزمه بيع ما زاد على قدر حاجته من ذلك لشراء الرقبة. وإن وجبت عليه الكفارة وهو معسر بها في موضعه وله مال غائب عن موضعه يمكنه أن يشتري به رقبة، فإن كان ذلك كفارة الجماع في رمضان والقتل.. لم يجز له أن ينتقل إلى الصوم، بل يصبر إلى أن يصل إلى المال، ويشتري الرقبة ويعتق؛ لأنه لا ضرر عليه في التأخير. وإن كان ذلك في كفارة الظهار.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له أن ينتقل إلى الصوم؛ لأن له مالا فاضلا عن كفايته يمكنه أن يشتري به رقبة، فلم يجز له أن ينتقل إلى الصوم، كما قلنا في كفارة الجماع في رمضان والقتل.

مسألة: وجبت كفارة ثم اختلفت الحال

والثاني: يجوز له الانتقال إلى الصوم. قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأن عليه ضررا في التأخير؛ لأنه لا يجوز له أن يجامع قبل التكفير، فجاز له الانتقال إلى البدل، كما لو عدم الماء وثمنه في موضعه وهو واجد لثمنه في غير موضعه. [مسألة: وجبت كفارة ثم اختلفت الحال] ] : إذا وجبت عليه كفارة مرتبة، واختلف حاله من حين الوجوب إلى حين الأداء.. فمتى يعتبر حاله؟ نص الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيها على قولين: أحدهما: (يعتبر حاله حين الوجوب) . والثاني: (يعتبر حاله حين الأداء) . قال الشيخ أبو حامد: وخرج أصحابنا قولا ثالثا: أنه يعتبر حاله بأغلظ الأحوال. فإذا قلنا: يعتبر حاله حين الوجوب - وبه قال أحمد - فوجهه: أنه حق يقع به التكفير، فاعتبر حال وجوبه، كالحدود؛ لأن الحدود كفارة؛ بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحدود كفارات لأهلها» . ثم ثبت أنه لو زنى وهو عبد، فأعتق قبل أن يقام عليه الحد.. لم يجب عليه إلا حد العبد، ولو زنى وهو بكر، فأحصن قبل أن يقام عليه الحد.. لم يقم عليه إلا حد البكر، فكذلك هذا مثله. فعلى هذا: إذا كان من أهل العتق حين الوجوب، فأعسر قبل أن يعتق.. لم يسقط عنه العتق، بل يثبت في ذمته إلى أن يوسر به.

مسألة: المجزئ في الكفارة رقبة مؤمنة

وإن كان معسرا بالعتق حين الوجوب.. ففرضه الصيام، فإن أيسر قبل أن يصوم.. لم يلزمه العتق. قال الشافعي: (فإن أعتق.. كان أحب إلي؛ لأنه أفضل) . وإذا قلنا: يعتبر حاله حين الأداء - وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وهو الأصح - فوجهه: أنه حق ذو بدل من غير جنسه.. فوجب أن يعتبر بحالة الأداء، كالطهارة؛ وذلك أنه لو دخل عليه وقت الصلاة وهو عادم للماء، فوجد الماء قبل أن يدخل في الصلاة والتيمم.. لكان فرضه الطهارة بالماء. ولو كان واجدا للماء في أول الوقت، فلم يتوضأ به حتى تلف الماء.. لجاز له التيمم. يؤيد هذا: أنه لو دخل عليه وقت الصلاة وهو صحيح قادر على القيام، فلم يصل حتى عجز عن القيام بمرض.. لجاز له أن يصلي قاعدا، ولو دخل عليه الوقت وهو عاجز عن القيام، فلم يصل حتى قدر على القيام.. لوجب عليه القيام في الصلاة. فعلى هذا: يعتبر حاله عند التكفير، فإن كان موسرا بالرقبة.. ففرضه العتق، سواء كان موسرا حال الوجوب أو معسرا. وإن كان معسرا عند التكفير.. ففرضه الصوم، سواء كان موسرا بالرقبة حال الوجوب أو معسرا. وإذا قلنا: إن الاعتبار بأغلظ الأحوال.. فمتى كان موسرا بالرقبة في حال الوجوب، أو حال الأداء، أو فيما بينهما ففرضه العتق؛ لأنه حق يتعلق بالذمة بوجود المال، فاعتبر فيه أغلظ الأحوال، كالحج. [مسألة: المجزئ في الكفارة رقبة مؤمنة] ] : ولا يجزئ في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة، وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق. وقال عطاء والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يجزئ في كفارة القتل إلا رقبة مؤمنة، فأما كفارة الظهار وكفارة اليمين.. فيجزئ فيها المؤمنة والكافرة) .

دليلنا: أن الله تعالى ذكر الرقبة في كفارة القتل، وقيدها بالإيمان، وذكر الرقبة في كفارة الظهار وكفارة اليمين، وأطلق ذكرها، فوجب أن يحمل المطلق على المقيد، كما ذكر الشهود في موضع، وقيدهم بالعدالة، وذكرهم في مواضع، وأطلق ذكرهم ولم يقيدهم بالعدالة، فلما حمل مطلق الشهود على المقيد في العدالة.. فكذلك هذا مثله. وروى أبو هريرة: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجارية، وقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها رقبة، أفأعتق عنها هذه؟ فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أين الله؟ "، فقالت: في السماء، فقال: " من أنا؟ "، قالت: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " أعتقها فإنها مؤمنة» . وهذا يقتضي أن كل رقبة واجبة لا يجزئ فيها إلا مؤمنة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفرق. ولأنه تكفير بعتق، فلم يجز فيه إلا مؤمنة، ككفارة القتل. إذا ثبت هذا فيجزئ عتق الرقبة الفاسقة؛ لأن الفسق لا يوجب القتل، ولا يجيز الاسترقاق، وإنما هو نقص، فلم يمنع الإجزاء، كالأنوثية. ويجزئ عتق الرقبة الأعجمية إذا ثبت إسلامها؛ لما روى أبو هريرة: «أن رجلا أتى

فرع: إجزاء الرقبة الصغيرة المسلمة

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجارية أعجمية، فقال: علي يا رسول الله رقبة، أفأعتق هذه؟ فقال لها - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " أين الله؟ " فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: " من أنا " فأشارت إليه - أي: أنت رسول الله - فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " أعتقها؛ فإنها مؤمنة» . فإن كان مولاها أو الحاكم يعرف لغتها، فسمع الإسلام منها.. جاز إعتاقها، وإن كانا لا يعرفان ذلك، وترجم عنها رجلان عدلان، وأخبرا بإسلامها.. أجزأ عتقها. [فرع: إجزاء الرقبة الصغيرة المسلمة] ويجزئ عتق الرقبة الصغيرة إذا كان أحد أبويها مسلما، أو سبي ولم يسب معه أحد أبويه وقلنا: يتبع السابي في الإسلام، سواء كان ابن يوم أو شهر أو سنة، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (لا يتبع الصغير الأم في الإسلام) . وقد مضى ذلك، ثم قال: (لا يعجبني إلا رقبة صلت وصامت) . وقال أحمد: (لا تعجبني الصغيرة؛ لأن الإيمان قول وعمل، والصغيرة لا عمل لها) . وهذا يدل من قوله: أنها لا تجزئ. ومن الناس من قال: لا تجزئ الصغيرة؛ لأنها كالذمية. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . ولم يفرق بين الصغير والكبير. ولأنها رقبة مؤمنة سليمة تامة الملك، فأجزأ عتقها، كالبالغة. وإن كانت الرقبة جلبية؛ جلبت من دار الشرك، أو مولودة في دار الإسلام، ولا يعرف أبواها.. لم يجز عتقها حتى تصف الإسلام.

مسألة: أيجزئ عتق رقبة مؤمنة معيبة

قال الشافعي في موضع: (إذا أتت بالشهادتين.. كانت مسلمة) . وقال في موضع: (حتى تأتي بالشهادتين، وتبرأ من كل دين خالف الإسلام) . وقال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على حالين: فحيث قال: (يحكم بإسلامه إذا أتى بالشهادتين) إذا كان من عبدة الأوثان الذين لا يقرون بالله ولا بأحد من الأنبياء، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.. حكم بإسلامه؛ لأنه لا تأويل له في كفره. والموضع الذي قال: (يأتي بالشهادتين، ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام) إذا كان يهوديا أو نصرانيا؛ لأن منهم من يعتقد أن محمدا نبي أرسل إلى العرب وحدهم، أو أنه نبي يخرج في آخر الزمان. قال الشافعي: (وأحب أن يمتحنه بالإقرار بالبعث والنشور مع الشهادتين، ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام؛ لأنه أبلغ في الإيمان) . فإن لم يفعل ذلك.. جاز؛ لأن الإسلام يتضمن ذلك، وكل من كان مسلما.. فإنه يؤمن بذلك، فلم يحتج إلى الإقرار به. [مسألة: أيجزئ عتق رقبة مؤمنة معيبة] ؟] : ولا يجزئ في الكفارة عتق رقبة معيبة، وهو قول كافة العلماء. وقال داود: (تجزئ) . دليلنا: أنه أحد ما يكفر به، فلم يجز فيه معيب، كالطعام المسوس. إذا ثبت هذا: فإنما يريد بالعيوب التي تمنع الإجزاء العيوب التي تضر بالعمل ضررا بينا؛ لأن المقصود بالعتق تمليك المنفعة؛ لأن العبد لا يملك نفسه بالعتق، وإنما يملك المنفعة، وكل عيب أضر بالعمل ضررا بينا.. منع الإجزاء في الكفارة، كما أن المقصود بالمبيعات العين والثمن، وكل عيب وجد في المبيع ينتقص من العين والثمن.. فإنه يثبت له الرد. وكذلك: المقصود بالنكاح الاستمتاع، وإذا وجد أحد الزوجين بالآخر عيبا يمنع الاستمتاع.. يثبت له الخيار، وكذلك هذا مثله.

فرع: لا يجزئ قن مقطع بعض أوصاله

فإذا أعتق عبدا أعمى.. لم يجزئه عن الكفارة؛ لأن العمى يضر بالعمل ضررا بينا، بل هو يذهب بمعظم المنفعة. وإن أعتق عبدا أعور.. أجزأه؛ لأن العور لا يضر بالعمل ضررا بينا. وحكي: أن الشعبي كان يختلف إلى إبراهيم النخعي؛ يتعلم منه، ثم امتنع الشعبي، فقال له النخعي: لم امتنعت؟ فقال: قد استكفيت من العلم، فقال له النخعي: ما تقول في العبد الأعور، أيجزئ في الكفارة، أم لا؟ فقال الشعبي: لا يجزئ، فقال له النخعي: ويحك! شيخ مثلي لا يجزئ في الكفارة؟! - وكان النخعي أعور - فقال الشعبي: بل مثل هذا الشيخ يجزئ، فقال النخعي: أخطأت من وجهين: أحدهما: أن العبد الأعور يجزئ في الكفارة، وأنت منعت. والثاني: أن الحر الأعور لا يجزئ في الكفارة، وأنت جوزت. [فرع: لا يجزئ قن مقطع بعض أوصاله] ] : ولا يجزئ مقطوع اليدين أو الرجلين؛ لأنه يضر بالعمل ضررا بينا. وكذلك لا يجزئ مقطوع اليد والرجل من جانب بلا خلاف. ولا يجزئ مقطوع اليد والرجل من خلاف. وقال أبو حنيفة: (يجزئ) . دليلنا: أنه يضر بالعمل ضررا بينا، فلم يجزئ، كما لو كانا من جانب واحد. ولا يجزئ مقطوع اليد أو الرجل؛ لأنه يضر بالعمل ضررا بينا. وإن كانت له أصبع مقطوعة من اليد.. نظرت: فإن كانت الإبهام أو السبابة أو الوسطى.. منعت الإجزاء؛ لأن ذلك يضر بالعمل ضررا بينا؛ لأن معظم منفعة اليد تذهب بذلك.

مسألة: عتق الأعرج والأصم ومقطوع الأذن في الكفارة

وإن كانت الخنصر أو البنصر.. لم تمنع الإجزاء؛ لأن منفعة اليد لا تذهب بذلك وإن كان مقطوع الخنصر والبنصر، فإن كانتا من يد.. منع ذلك الإجزاء؛ لأن معظم منفعة اليد تذهب بذلك؛ لأنه يذهب بمنفعة نصف الكف، وإن كانتا من يدين. لم يمنع الإجزاء؛ لأن منفعة اليد لا تذهب بذلك. وإن كان مقطوع الأنملتين من أصبع من أصابع اليد، فإن كان ذلك من الخنصر أو البنصر.. لم يمنع الإجزاء؛ لأن ذهاب الخنصر أو البنصر لا يمنع الإجزاء، فذهاب الأنملتين منها أولى أن لا يمنع. وإن كان من السبابة أو الوسطى.. منع الإجزاء؛ لأن منفعتها تتعطل بذلك، فهو كما لو قطعت. وإن كان مقطوع الأنملة من أصبع في اليد، فإن كان ذلك من الإبهام.. منع الإجزاء؛ لأن منفعتها تتعطل بذلك. وإن كانت من غير الإبهام.. لم يمنع الإجزاء؛ لأن منفعتها لا تذهب بذلك. قال ابن الصباغ: وإن كان قد قطع من جميع أصابع يده أنملة أنملة، إلا الإبهام لم يقطع منه شيء.. فإن ذلك لا يمنع الإجزاء؛ لأنها كالأصابع القصار، ولا يضر ذلك بالعمل ضررا بينا. [مسألة: عتق الأعرج والأصم ومقطوع الأذن في الكفارة] ] : وأما الأعرج: فإن كان عرجه قليلا لا يمنع متابعة المشي، ولا يناله في المشي كبير مشقة.. أجزأ عتقه في الكفارة؛ لأن ذلك لا يضر بالعمل ضررا يبنا. وإن كان عرجه يمنع متابعة المشي.. لم يجزئ عتقه في الكفارة؛ لأنه يضر بالعمل ضررا بينا. ويجزئ الأصم؛ لأنه لا يضر بالعمل، بل يتوفر على العمل؛ لأنه لا يسمع ما يشغله.

فرع: عتق الأخرس في الكفارة

ويجزئ مقطوع الأذنين، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك، وزفر: (لا يجزئ) . دليلنا: أن قطعهما لا يضر بالعمل ضررا بينا، وإنما يخاف منه الصمم، والأصم يجزئ في الكفارة، فكذلك مقطوع الأذنين. [فرع: عتق الأخرس في الكفارة] فرع: [عتق الأخرس] : وأما الأخرس: فقد قال الشافعي في " المختصر ": (يجزئ) . وقال في القديم: (لا يجزئ) . فقال أصحابنا البغداديون: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، واختلفوا في الحالين. فمنهم من قال: الموضع الذي قال: (يجزئ) إذا لم يكن مع الخرس صمم، بل يسمع؛ لأنه لا يضر بالعمل ضررا بينا. والموضع الذي قال: (لا يجزئ) إذا كان مع الخرس صمم؛ لأنه يضر بالعمل ضررا بينا. ومنهم من قال: بل هو على اختلاف حالين غير هذا: فالموضع الذي قال: (يجزئ) إذا كان يعقل الإشارة. والموضع الذي قال: (لا يجزئ) إذا كان لا يعقل الإشارة. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه قولان. فإذا قلنا: يجزئ عتق الأخرس، فإن كان مسلما تبعا لأحد أبويه.. أجزأ عتقه، وإن كان مجلوبا من الشرك، أو مولودا في دار الإسلام، ولا يعرف أبواه، وهو بالغ، وأشار إلى الإسلام إشارة مفهومة.. فقد قال الشافعي في موضع: (يجزئ) . وقال في " الأم " [5/267] : (إن أشارت وصلت.. أجزأت) . فمن أصحابنا من قال: إذا أشارت إلى الإسلام.. أجزأت وإن لم تصل؛ لحديث

فرع: عتق المجنون والأحمق والقرناء والمجبوب وضروبهم في الكفارة

أبي هريرة الذي مضى في الأعجمية، ولأن سائر أحكامه تتعلق بالإشارة، كبيعه، وشرائه، ونكاحه، وطلاقه، فكذلك إسلامه. وقول الشافعي: (وصلت) تأكيد، لا شرط. ومنهم من قال: لا يجزئ عتقها حتى تصلي مع الإشارة؛ لأن بالصلاة تتحقق صحة إشارتها. [فرع: عتق المجنون والأحمق والقرناء والمجبوب وضروبهم في الكفارة] ] : وهل يجزئ عتق المجنون؟ ينظر فيه: فإن كان جنونه مطبقا.. لم يجزئ؛ لأنه لا منفعة له. وإن كان يجن في وقت، ويفيق في غيره.. فقد ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنه يجزئ من غير تفصيل؛ لأنه يمكنه الاكتساب في وقت الإفاقة. وذكر الشيخ أبو إسحاق: إن كان زمان الإفاقة أكثر.. أجزأ، وإن كان زمان الجنون أكثر.. لم يجزئ. ويجزئ عتق الأحمق؛ وهو الذي يفعل ما يضره مع علمه بقبحه؛ لأن ذلك لا يضر بالعمل. ويجزئ عتق الأمة القرناء والرتقاء، وعتق الخصي والمجبوب؛ لأن ذلك لا يضر بالعمل. ويجزئ مقطوع الأنف. وقال مالك: (لا يجزئ) . دليلنا: أن ذلك لا يضر بالعمل ضررا بينا. ويجزئ عتق ولد الزنا، وهو قول عامة أهل العلم. وقال الأوزاعي، والزهري: (لا يجزئ) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولد الزنا شر الثلاثة» .

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . ولم يفرق. ولأن ذلك لا يضر بالعمل، وإنما هو ناقص النسب، والنسب غير معتبر في الكفارة. وأما الخبر: فله تأويلان. أحدهما: أنه أراد: ولد الزنا شر من الزاني والمزني بها نسبا. والثاني: أنه أراد بذلك الإشارة إلى ثلاثة رجال بأعيانهم، أحدهم ولد الزنا؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجالس في وسط الحلقة ملعون» . ولم يرد لجلوسه فيها، وإنما ذلك علامة له. وأما المريض: فإن كان مرضا يرجى زواله، كالحمى، والصداع، وما أشبهه.. أجزأ عتقه في الكفارة، وإن كان لا يرجى زواله، كالسل، وما أشبهه.. لم يجزئ؛ لأنه يدوم ولا يزول. وأما النحيف ونضو الخلق من أصل الخلقة لا لمرض، فإن كان لا يستطيع العمل ولا كثيرا منه.. لم يجزئ عتقه في الكفارة؛ لأنه يضر بالعمل ضررا بينا، وإن كان يستطيع أكثر العمل.. أجزأ عتقه؛ لأنه لا يضر بالعمل ضررا بينا.

فرع: عتق المرهون والجاني ونحوه في الكفارة

[فرع: عتق المرهون والجاني ونحوه في الكفارة] ] : ومن أعتق عبدا عن الكفارة، مرهونا أو جانيا، وقلنا: يصح عتقهما.. أجزأه عن الكفارة؛ لأنه أعتق عبدا بملكه ملكا تاما لا عيب فيه، فأجزأه، كما لو كان غير مرهون ولا جان. وإن غصب عبدا من غيره، وأعتقه الغاصب عن الكفارة.. لم يجزئه؛ لأنه لا يملكه، وإن أعتقه المغصوب منه عن الكفارة.. عتق عليه، ولا يجزئه عن الكفارة؛ لأن الغاصب يحول بين العبد وبين منافعه، فلا يحصل للعبد المقصود من العتق، فصار كما لو أعتق عن كفارته عبدا زمنا.. فإنه يعتق ولا يجزئه عن الكفارة. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال القفال: يجزئه؛ لأنه يملكه ملكا تاما. وإن أعتق حمل جارية عن كفارته.. عتق الحمل؛ لأن العتق صادف ملكه ولا يتعلق به حق غيره فيعتق، كالمنفصل، ولا يجزئ عتقه عن الكفارة؛ لأنه لم تثبت له أحكام الدنيا، والكفارة حكم، فلم يجز في الحمل. [فرع: التكفير بعتق العبد الغائب] ] : وإن أعتق عن كفارته عبدا له غائبا، فإن كانت غيبته غير منقطعة، بل يعرف مكانه ويسمع بخبره.. أجزأه عن الكفارة؛ لأنه بمنزلة الغائب عنه في البيت، وإن كانت غيبته منقطعة، لا يعلم مكانه ولا يسمع بخبره.. عتق عليه. قال الشافعي: (ولا يجزئه عن الكفارة) . وقال في (زكاة الفطر) : (عليه زكاة فطره) . فمن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين: أحدهما: يجزئ عتقه عن الكفارة، وتجب عليه زكاة فطره؛ لأن الأصل حياته.

مسألة: أعتق أم ولد عن كفارة

والثاني: لا يجزئ عتقه عن الكفارة، ولا تجب عليه زكاة فطره؛ لأنه يشك في سقوط الكفارة عنه بعتقه، والأصل بقاؤها في ذمته، ويشك في حياته لتجب عليه زكاة فطره، والأصل براءة ذمته من الزكاة. ومنهم من حملهما على ظاهرهما، فقال: لا يجزئ عتقه عن الكفارة؛ لأنه يشك في إسقاط الكفارة عن ذمته بعتقه، والأصل بقاؤها في ذمته، ويشك في سقوط الزكاة عنه بموته، والأصل بقاؤها. [مسألة: أعتق أم ولد عن كفارة] ] : وإن أعتق أم ولده في كفارته.. عتقت عليه، ولم تجزئه عن الكفارة؛ لأن عتقها مستحق بالاستيلاد، فلم يقع عن الكفارة، كما لو باع من فقير طعاما، ثم دفعه إليه عن الكفارة. هذا نقل الشيخ أبي حامد. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يجزئ عتقها عن الكفارة؟ فيه قولان، بناء على القولين في جواز بيعها، وقد مضى ذلك في البيوع. وإن أعتق مكاتبه عن الكفارة.. عتق عليه، ولم يجزئه عن الكفارة، سواء قلنا: يصح بيعه، أو لا يصح؛ لأنا وإن قلنا: يصح بيعه.. فإن الكتابة لا تبطل بالبيع، وإنما يقوم المشتري مقام البائع، فمتى أدى إليه باقي النجوم.. عتق عليه. هذا مذهبنا، وبه قال مالك والأوزاعي والثوري. وقال أبو حنيفة: (إن كان قد أدى إليه شيئا من كتابته.. لم يجزئه عتقه عن الكفارة، وإن لم يؤد إليه شيئا من كتابته.. أجزأه عن الكفارة) . وبه قال الليث. وقال أحمد وأبو ثور: (يجزئ عن الكفارة بكل حال) . دليلنا: أن عتقه مستحق بسبب سابق لعتقه عن الكفارة.. فلم يجزئه عن الكفارة، كأم الولد.

مسألة: اشترى من يعتق عليه للكفارة

وإن أعتق عبدا مدبرا، أو معلقا عتقه بصفة عن الكفارة.. عتق عليه، وأجزأه عن الكفارة؛ لأن عتقهما غير مستحق عليه، فأجزأه عن الكفارة، كالقن. [مسألة: اشترى من يعتق عليه للكفارة] ] : وإن اشترى من يعتق عليه؛ كأحد أولاده، أو أحد والديه، ونوى عتقه عن الكفارة.. عتق عليه، ولم يجزئه عن الكفارة، وبه قال مالك، وأحمد. وقال أبو حنيفة: (يجزئه) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . والتحرير من التفعيل، وهو أن يفعل التحرير، فإذا ملك أحد والديه، أو أحد أولاده.. لم يحرر رقبة، وإنما يحرر بالشرع. ولأن عتقه مستحق عليه بالقرابة، وهو سبب للكفارة، فلم يقع عن الكفارة، كما لو استحق عليه القريب النفقة بالقرابة، فدفع إليه نفقته، ونوى الكفارة.. فإنها لا تجزئه. [فرع: اشترى عبدا بشرط أن يعتقه] ] : إذا اشترى عبدا بشرط أن يعتقه.. فقد ذكرنا في (البيوع) : أن المشهور من المذهب: أن البيع صحيح، وهل يلزمه أن يعتقه؟ فيه وجهان. وإن أعتقه عن الكفارة؟ فإن قلنا: إن البيع باطل.. لم يعتق؛ لأنه لا يملكه، ولا يجزئه عن الكفارة؛ لأنه لم يعتق عليه. وإن قلنا: يصح البيع، فأعتقه عن الكفارة.. عتق عليه، ولم يجزئه عن الكفارة، سواء قلنا: يجب عليه إعتاقه، أو لا يجب؛ لأنا إن قلنا: يجب عليه إعتاقه.. لم يجزئه عن الكفارة؛ لأن عتقه استحق عليه بسبب سابق لعتق الكفارة، فلم يجزئه عن الكفارة، كما لو نذر عتقه قبل هذا. وإن قلنا:

مسألة: النية في العتق

لا يجب عليه إعتاقه.. لم يجزئ عن الكفارة، كما لو نذره؛ لأن هذا العتق لم يقع خالصا للكفارة، وإنما هو مشترك للكفارة ولأجل هذا الشرط في البيع؛ بدليل أنه يسقط خيار البائع في فسخ البيع لذلك. هذا نقل الشيخ أبي حامد. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن قلنا: إن العتق في العبد المبيع بشرط العتق حق لله، أو حق للآدمي، فطالب البائع بإعتاقه، فأعتقه المشتري عن الكفارة.. لم يجزئه عن الكفارة. وإن قلنا: إنه حق للآدمي، فأعتقه المشتري قبل أن يطالب بإعتاقه، ونوى عتقه عن الكفارة.. فهل يجزئه عن الكفارة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجزئه؛ لأنه لم يجز عليه إعتاقه. والثاني: لا يجزئه؛ لأنه كان بعوض، وقد سامحه البائع في الثمن؛ حيث باعه بشرط العتق. قال: فإن باعه بشرط أن يعتقه عن كفارته، وقلنا: يصح البيع، فأعتقه عن كفارته.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان، بناء على ما لو قال: إن وطئتك.. فعلي لله أن أعتق عبدي عن ظهاري، فإذا وطئ وأعتق.. فهل يجزئ؟ على وجهين، مضى ذكرهما. [مسألة: النية في العتق] ] : ولا يقع العتق عن الكفارة إلا بالنية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» .

مسألة: جواز التكفير بالمشترك بنية جميعه

وصفة النية: أن ينوي العتق عن الكفارة، فإن نوى عن الكفارة الواجبة.. كان ذلك تأكيدا، وإن نوى عن الكفارة، ولم ينو عن الواجبة.. أجزأه؛ لأن الكفارة لا تكون إلا واجبة. وإن نوى العتق عن الواجب عليه أو الفرض.. قال الشيخ أبو حامد: لم يجزه عن الكفارة؛ لأن الرقبة الواجبة عليه قد تكون عن الكفارة، وقد تكون عن غير كفارة، فلم يجزه عن الكفارة؛ لأنه لم يخلص النية لها. قال: وكذلك إذا أخرج زكاة ماله، ونوى عن الصدقات الواجبة، أو عن الفرض.. لم يجزه عن الزكاة؛ لأنه قد يكون عليه صدقة واجبة عن زكاة وعن غير زكاة، فإذا لم ينو الزكاة.. لم يجزه. وهل يجب أن تكون نية العتق مقارنة للعتق، أو يجوز تقديمها على العتق؟ فيه وجهان، كما قلنا في وقت نية إخراج الزكاة، وقد مضى ذلك. [مسألة: جواز التكفير بالمشترك بنية جميعه] ] : وإن كان بينه وبين غيره عبد مشترك، فأعتق أحدهما نصيبه.. فقد ذكرنا: أنه إن كان موسرا بقيمة نصيب شريكه.. عتق عليه نصيب شريكه، ومتى يعتق عليه؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بنفس اللفظ. والثاني: يقع بدفع القيمة بعد العتق.

والثالث: أنه موقوف. فإن قلنا: يعتق بنفس اللفظ.. فهل وقع عتق الجميع دفعة واحدة، أو عتق نصيبه، ثم سرى إلى نصيب شريكه؟ فيه وجهان. وإن كان معسرا.. لم يعتق عليه نصيب شريكه. إذا ثبت هذا: فالكلام هاهنا إذا أعتقه عن الكفارة، فإن أعتق العبد، ونوى عتق جميعه عن الكفارة، وكان موسرا بقيمة نصيب شريكه.. أجزأه عن الكفارة؛ لأنه كالمالك للجميع؛ بدليل: أنه إذا أعتق نصيبه.. سرى إلى نصيب شريكه. ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: إن نصيب الشريك لا يعتق إلا بدفع القيمة بعد العتق.. لا يجزيه نصيب شريكه؛ لأنه حين يدفع القيمة، ويحكم بعتقه.. يكون عتقا مستحقا، فيكون كما لو اشترى أباه بنية الكفارة. والأول هو المشهور؛ لأن نية التكفير هنا قارنت سبب العتق، وهو إعتاقه لنصيبه بنية الكفارة، وإذا اشترى أباه.. فإن سبب العتق هو القرابة، ونية الكفارة تأخرت عنه؛ فلذلك لم يجزه. وأما وقت نية التكفير: فإن قلنا: إن نصيب شريكه يعتق بنفس اللفظ أو مراعى.. فلا بد أن ينوي عتق جميع العبد عن الكفارة حال العتق، أو قبله إذا قلنا: يجوز تقديم النية. وإذا قلنا: إن نصيب الشريك لا يعتق إلا بأداء القيمة.. فأما نصيب نفسه: فإنه ينوي عتقه عن الكفارة حال العتق، أو قبله إذا قلنا: يجوز تقديم النية. وأما نصيب الشريك: ففيه وجهان: أحدهما: قال أكثر أصحابنا: أنه بالخيار: إن شاء.. نوى عتقه عن الكفارة مع اللفظ؛ لأنه وقت الوجوب، وإن شاء.. نواه عند أداء القيمة؛ لأنه حين العتق. و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: عندي: أنه لا بد أن ينوي حال اللفظ؛ لأن تلك الحال حالة سبب العتق.

مسألة: عتق عبدين معا عن كفارتين

وأما إذا نوى عتق نصيبه عن الكفارة حال العتق، ولم ينو عتق نصيب شريكه، فإن قلنا: إن العتق يسري باللفظ، أو قلنا: إنه مراعى.. فإن نصيب شريكه يعتق، ولا يجزيه عن الكفارة. ومن أصحابنا من قال: يجزيه؛ لأنه يسري إلى العتق الواقع عن الكفارة؛ لأن قوله: (أعتقت نصيبي منك) كقوله: (أعتقت جميعك) ، إذ كان لا يملك عتق نصيب شريكه إلا كذلك، ألا ترى أنه لو قال: أعتقت نصيب شريكي.. لم يصح؟ والأول أصح؛ لأن العتق يسري، ولم ينوه عن الكفارة. وأما إذا قلنا: يسري بأداء القيمة، ثم نوى مع أداء القيمة.. فعلى الوجهين الأولين: أحدهما: يجزيه؛ لأنه نوى مع سبب العتق. والثاني: لا يجزيه، وهو قول الشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب؛ لأن سبب استحقاق العتق إنما هو عتق النصيب الأول، فإذا لم يقارن النية سبب الاستحقاق.. لم يجزه. وأما إذا كان معسرا، ونوى عتق نصيبه عن الكفارة.. عتق عليه نصيبه، ولا يسري إلى نصيب شريكه؛ لأن في ذلك ضررا على الشريك. فإن ملك بعد ذلك نصيب شريكه، وأعتقه عن الكفارة.. أجزأه؛ لأنه قد أعتق رقبة عن الكفارة وإن كان في وقتين، كما لو أطعم المساكين في وقتين. [مسألة: عتق عبدين معا عن كفارتين] ] : إذا كان على رجل كفارتان من جنس أو جنسين، فأعتق عنهما عبدين.. ففيه أربع مسائل: إحداهن: أن يعتق عن كل كفارة عبدا بعينه، فيجزيه ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] [المجادلة: 3] . وهذا قد حرر عن كل كفارة رقبة. الثانية: أن يعتق عبدا عن إحدى الكفارتين لا بعينها، ويعتق الآخر عن الأخرى

لا بعينها، فيجزيه ذلك أيضا؛ لأن تعيين سبب الكفارة ليس بواجب. الثالثة: أن يعتقها عن الكفارتين؛ بأن يقول: أعتقتكما عن كفارتي.. فإن الشيخ أبا حامد قال: يجزيه، ويقع كل واحد عن كفارة. قال ابن الصباغ: ووجهه عندي: أن عرف الاستعمال والشرع إعتاق الرقبة عن الكفارة، فإذا أطلق ذلك.. وجب حمل ذلك عليه. قال: وذكر صاحب " المجموع ": أنها بمنزلة الرابعة؛ وهي: إذا قال: أعتقتكما، وكل واحد منكما عن كفارتي.. قال الشافعي: (أجزأه، وكمل العتق) . ولا خلاف بين أصحابنا أنه يجزيه. واختلفوا في كيفية وقوع العتق: فقال أبو العباس، وأبو علي بن خيران: يقع كل واحد منهما عن كفارة؛ لأنه إذا قال: أعتقتكما.. وقع العتق، وقوله بعد ذلك: (وكل واحد منكما) لغو، فينقلب العتق في كل واحد عن كفارة. ومنهم من قال: يعتق نصف كل واحد من العبدين عن كل واحدة من الكفارتين، وهو ظاهر النص؛ لأنه قال: أجزأه، وكمل العتق؛ لأنه أعتقهما عن الكفارتين، فاقتضى وقوع كل واحد منهما عنهما، كما لو قال: هاتان الداران لزيد وعمرو. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إن كانتا من جنس واحد، فأعتق العبدين بنية التكفير.. أجزأه - كما قلنا - وإن كانتا من جنسين.. لم يجزه حتى يعين العتق عن كل واحدة من الكفارتين) . دليلنا: أنها حقوق تخرج في التكفير، فلم يجب فيها تعيين النية، كما لو كانتا من جنس واحد.

فرع: عليه كفارة فأعتق نصف عبدين

[فرع: عليه كفارة فأعتق نصف عبدين] ] : وإن كان عليه كفارة، فأعتق عنها نصف عبدين.. فهل يجزيه؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجزيه؛ لأن نصف الاثنين في الشرع يقوم مقام الواحد الكامل؛ بدليل: أنه إذا ملك نصف عبدين.. لزمه عنهما زكاة الفطر، كعبد. والثاني: لا يجزيه؛ لأن الله أوجب على المكفر تحرير رقبة، وهذا ما حرر رقبة. والثالث: إن كان باقي العبدين حرا.. أجزأه؛ لأنه يحصل لهما تكميل الأحكام، وإن كان باقيهما مملوكا، بأن كان معسرا.. لم يجزه؛ لأنه لا يحصل لهما تكميل الأحكام. [فرع: الشك في موجب الكفارة] ] : وإن كان عليه كفارة، فشك أنها من ظهار أو قتل أو يمين، فأعتق رقبة عنها.. أجزأه؛ لأن تعيين السبب ليس بواجب عليه. وإن كان عليه ثلاث كفارات، وكان واجدا لرقبة لا غير، فأعتقها بنية التكفير، ثم صام شهرين بنية التكفير، ثم مرض فأطعم ستين مسكينا بنية التكفير.. أجزأه ذلك، وسقط عنه الكفارات الثلاث؛ لأن عليه أن ينوي الكفارة، وليس عليه أن يعين جنسها. قال الطبري: إذا أعتق رقبة ونوى عتقها عن كفارة الظهار، ثم بان أنه لم يكن عليه كفارة الظهار، وإنما عليه كفارة القتل.. لم يجزه ذلك؛ لأن تعيين جنس الكفارة وإن كان غير واجب، إلا أنه إذا عينها عن جنس، وبان أن ذلك الجنس ليس عليه.. لم يجزه، كما لو نوى الاقتداء في الصلاة بالإمام وهو فلان، فبان أنه غيره، أو نوى الصلاة على جنازة رجل، فبان أنه امرأة.. لا يجزيه. [مسألة: له عبد عليه كفارة] ] : إذا كان لرجل عبد وعليه كفارة الظهار، فقال له آخر: أعتق عبدك عن ظهارك على أن علي عشرة، أو وعلي عشرة، فقال: أعتقت عبدي عن ظهاري على أن عليك

مسألة: عتق عبده نيابة عن غيره

عشرة، أو قال: أعتقت عبدي على أن عليك عشرة عن ظهاري.. فإن العبد يعتق عليه، ولا يجزيه عن الظهار؛ لأنه لم يعتقه عتقا خالصا عن الظهار، وإنما أعتقه عتقا مشتركا بين العتق عن الظهار وبين العوض، فلم يقع عن الظهار. وقال أبو إسحاق: إن قال: أعتقت عبدي على أن عليك عشرة عن ظهاري.. استحق العوض، ولم يجزه عن الظهار؛ لأن بقوله: (أعتقت عبدي على أن عليك عشرة) وقع العتق بالعوض، فقوله: (عن ظهاري) يكون لغوا، لا يتعلق به حكم. وإن قال: أعتقت عبدي عن ظهاري على أن عليك عشرة.. أجزأه عن الظهار، ولم يستحق العوض؛ لأن بقوله: (أعتقت عبدي عن ظهاري) يقع العتق عن الظهار، وقوله بعد هذا: (على أن عليك عشرة) لغو لا يتعلق به حكم. والمنصوص في " الأم ": هو الأول؛ لأن الكلام إذا اتصل بعضه ببعض.. كان حكم أوله حكم آخره. فإذا قلنا بهذا: فإنه يستحق على السائل العشرة التي بذلها. هذا قول عامة أصحابنا. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أن التسمية فاسدة. وبه قال ابن الصباغ؛ لبطلان الشرط الذي شرطه. فإن قال: أعتق عبدك عن ظهارك وعلي عشرة، فقال: أعتقت عبدي عن ظهاري، وسكت عن ذكر العوض.. أجزأه عن الظهار؛ لأنه لم يجبه إلى ما دعاه إليه، بل أخلص العتق عن الكفارة. [مسألة: عتق عبده نيابة عن غيره] ] : إذا أعتق عبده عن غيره.. فلا يخلو المعتق عنه: إما أن يكون حيا، أو ميتا. فإن كان حيا.. نظرت: فإن أعتق عنه بإذنه.. وقع العتق عن المعتق عنه، والولاء له، سواء كان بعوض أو

بغير عوض. وإن كان على المعتق عنه كفارة، وأعتق عنه مالك العبد عبده عن كفارة أخرى.. أجزأ المعتق عنه عن كفارته، وكان الولاء له، سواء كان بعوض أو بغير عوض. وقال أبو حنيفة: (إن أعتق عنه عن واجب عليه بعوض.. وقع عن المعتق عنه عن الواجب عليه، وإن كان بغير عوض.. لم يقع العتق عن المعتق عنه، ووقع عن المعتق) . وهي إحدى الروايتين عن أحمد. دليلنا: أنها رقبة تجزئ عن كفارة المعتق عنه، فإذا أعتقها عنه غيره بإذنه.. وقع عنه، كما لو أعتقها عنه بعوض. ولأنه إذا كان بعوض.. فهو بمنزلة البيع، وإذا كان بغير عوض.. فهو بمنزلة الهبة، والهبة إذا أقبضت.. لزمت، والعتق بمنزلة القبض. وهكذا: إذا زكى عنه ماله بإذنه.. أجزأه؛ لما ذكرناه في العتق. وإن أعتقه عنه بغير إذنه.. لم يقع العتق عن المعتق عنه، ويقع عن المعتق له، والولاء له، سواء كان العتق عن تطوع أو واجب، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (إذا أعتق عن غيره بغير إذنه عن تطوع.. لم يقع عن المعتق عنه، وإن أعتق عنه عن عتق واجب عليه.. وقع عن المعتق عنه، وكان الولاء له، كما لو قضى عنه دينا بغير إذنه) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» . والمعتق هو هذا.. فكان الولاء له. ولأنه لو باشر العتق بنفسه ولم ينو العتق عن الكفارة.. لم يجزه، فلأن لا يجزيه بإعتاق غيره عنه بغير إذنه أولى. ولأنها عبادة من شرطها النية، فلا يصح أداؤها عن الغير بغير إذنه، كالزكاة، ويخالف قضاء الدين، فإنه لا يفتقر إلى النية.

وإن كان المعتق عنه ميتا، فإن كان العتق تطوعا، لم يجب على المعتق عنه في حياته.. نظرت: فإن كان قد أذن بالعتق عنه قبل موته.. وقع العتق عن الميت، وكان الولاء له، كما لو أعتق عنه في حال الحياة بإذنه. وإن أعتق عنه بغير إذنه.. لم يقع العتق عن المعتق عنه، بل يقع عن المعتق، والولاء له. فإن قيل: أليس لو تصدق عنه بعد موته بغير إذنه.. لوقع عن المصدق عنه؟ قلنا: الفرق بينهما: أن العتق يتضمن ثبوت الولاء، و «الولاء لحمة كلحمة النسب» ، ولا يمكن إلحاق ذلك بالميت بغير إذنه. وإن كان العتق واجبا على الميت، فإن أعتق عنه أجنبي ليس بوارث له ولا وصي له، فإن كان بإذن الميت.. وقع العتق عن الميت، وأجزأ عما عليه، وكان الولاء له، كما لو أذن له في حال الحياة، وإن أعتق عنه بغير إذنه.. لم يقع العتق عن الميت، ووقع عن المعتق، كما لو أعتق عنه في حياته بغير إذنه. وإن كان المعتق وارثا له أو وصيا له.. نظرت: فإن كان العتق متحتما على الميت، ككفارة القتل أو الظهار، فإن كانت له تركة.. وجب على الوصي أو الوارث إخراج ذلك من تركته؛ لأنه يقوم مقامه في أداء الواجبات عليه من تركته، وإن عتق عنه من مال نفسه.. جاز؛ لأن نيته تقوم مقام نيته، وإنما تحصل منه النيابة في المال فحسب، وذلك جائز. وإن كان العتق غير متحتم عليه، ككفارة اليمين، فإن كفر عنه الوصي أو الوارث بالكسوة أو الإطعام.. صح ذلك، وإن كفر عنه بعتق، فإن كان بإذنه.. صح، وإن كان بغير إذنه.. فهل يقع عن الميت ويكون الولاء للميت، أو عن المعتق ويكون الولاء للمعتق؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما:

أحدهما: لا يقع عن الميت؛ لأنه كان غير متحتم عليه، فلم يقع عنه، كما لو تطوع عنه بالعتق بغير إذنه. والثاني: يقع عن الميت، وهو الأصح؛ لأنه مخير بين الثلاثة، فإذا فعل أحدها.. تعين بالفعل، وبان أنه فعل واجبا، فوقع عن الميت، كما لو كان العتق متحتما. إذا ثبت هذا: فقال رجل لآخر: أعتق عبدك عني، فأعتقه عنه.. فلا يختلف أصحابنا أن العبد قد دخل في ملك المعتق عنه، ولكن اختلفوا، متى ملكه وعتق عليه؟ على أربعة أوجه: فـ[أحدها] : منهم من قال: دخل في ملكه بالاستدعاء، وعتق عليه بالإعتاق. وهذا ضعيف؛ لأن الإيجاب شرط في الملك، فلا يتقدم الملك عليه. و [الثاني] : منهم من قال: إذا شرع المعتق في العتق دخل في ملك المعتق عنه، وبإكمال قوله: (أعتقت) عتق عليه. وهذا ضعيف أيضا؛ لأنه يدخل عليه ما ذكرناه على الأول. الثالث - وهو قول أبي إسحاق المروزي -: أنه يقع الملك والعتق في حالة واحدة، وهو عقيب قوله: (أعتقت) ؛ لأنه إنما يمتنع اجتماع الضدين في طريق المشاهدة، فأما من طريق الحكم.. فلا يمتنع. وهذا ليس بشيء؛ لأن ما امتنع في العقل من اجتماع الضدين في المشاهدة.. لا يجوز إثباته في الأحكام؛ لأنه يكون حكما بالمحال. الرابع - وهو اختيار الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق، والقاضي أبي الطيب، وابن الصباغ -: أنه يقع الملك عقيب قوله: (أعتقت) ، ثم يعتق عليه بعد ذلك؛ لأن من شرط العتق الملك، فما لم يوجد الملك.. لا يوجد العتق، ولا يمتنع أن

فرع: ظاهر من أمة غيره، ثم اشتراها وأعتقها عن كفارة ظهار منها

يوجد لفظ العتق ولا يتعقبه العتق؛ لعدم الشرط، وهو إذا قال: أعتقته عنك بألف.. فإن العتق لا يتعقب لفظة العتق، وإنما يقع بعد قوله: قبلت. [فرع: ظاهر من أمة غيره، ثم اشتراها وأعتقها عن كفارة ظهار منها] ] : إذا تزوج الحر أمة لغيره وظاهر منها ووجد العود، ثم اشتراها وأعتقها عن كفارة ظهاره.. أجزأه؛ لأنه أعتق أمة يملكها ملكا تاما فأجزأه، كما لو أعتقها عن ظهاره من غيرها، ولا يمتنع أن يجزئ عتقها وإن كانت سببا لوجوب العتق، كما لو قال: إن اشتريت أمة.. فعلي لله أن أعتق رقبة، فملك أمة، وأعتقها عن نذره.. جاز. فإن أتت هذه الجارية بولد بعد العتق، فإن لم يطأها المشتري بعد الابتياع.. نظرت: فإن أتت بالولد لأربع سنين فما دونها من وقت الشراء.. حكمنا بأن الولد أتت به من الزوجية، ويلحقه نسبه، ويعتق عليه بالشراء، ولم يسر إلى عتق أمه. فإن أعتق الأم بعد الشراء عن الكفارة.. أجزأه؛ لأنه أعتق أمة ليست بأم ولد له. وإن أتت به لأكثر من أربع سنين من وقت الشراء.. لم يلحقه نسب الولد. فإذا أعتق الأم.. تبعها الولد، وأجزأه ذلك عن الكفارة. وإن وطئها بعد الابتياع، فإن أتت بالولد لدون ستة أشهر من وقت الوطء.. فالحكم فيه كما لو لم يطأها، وقد مضى. وإن أتت به لستة أشهر فما زاد لأربع سنين من وقت الوطء.. علمنا أن هذا الولد حدث وهي في ملكه، فلم يمسه رق، ولا يجزئه عن الكفارة؛ لأنه أعتقها بعد أن صارت أم ولد له؛ لأن الظاهر من هذا: أن هذا الحمل من هذا الوطء الموجود في الملك؛ لأنه يعقبه.

مسألة: عدم وجدان الرقبة يلزم الصوم

[مسألة: عدم وجدان الرقبة يلزم الصوم] ] : وإن لم يجد المظاهر رقبة تفضل عن كفايته على الدوام وهو قادر على الصيام.. لزمه أن يصوم شهرين متتابعين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] الآية [المجادلة: 3] . ولما ذكرنا من حديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر. إذا ثبت هذا: فإن كان قد نوى الصوم عن الكفارة أول ليلة من الشهر.. صام شهرين متتابعين هلاليين، سواء كانا تامين أو ناقصين، أو أحدهما تاما والآخر ناقصا؛ لأن الله تعالى أوجب عليه صوم شهرين، وإطلاق الشهر ينصرف إلى الشهر الهلالي؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] [البقرة: 189] . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا " وأومأ بأصابع يديه، وحبس إبهامه في الثالثة، كأنه يعد ثلاثين» . وروي: أنه قال: «قد يكون الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا " وحبس إبهامه في الثالثة» . وإن كان ابتدأ الصوم وقد مضى من الشهر يوم أو أكثر.. صام ما بقي من الشهر بالعدد، وصام الشهر الذي بعده بالهلال، تاما كان أو ناقصا، وتمم عدد الأول من

فرع: الفطر في أثناء كفارة الصيام

الثالث ثلاثين يوما، تاما كان أو ناقصا؛ لأنه لما فاته شيء من الشهر الأول.. لم يصمه، ولم يمكن اعتباره بالهلال، فاعتبر بالعدد، واعتبر الثاني بالهلال؛ لأنه أمكنه ذلك. [فرع: الفطر في أثناء كفارة الصيام] ] : وإن أفطر في يوم في أثناء الشهرين، فإن كان أفطر لغير عذر.. انقطع التتابع، ولزمه أن يبدأ صوم شهرين متتابعين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] . ومعنى التتابع: أن يوالي بالصوم أيامهما، ولا يفطر فيهما لغير عذر، وإن لم يفعل ذلك.. صار كما لو لم يصم. وإن جامع في ليلة في أثناء الشهرين عامدا عالما بالتحريم.. أثم بذلك، ولا ينقطع تتابعه. وإن وطئها بالنهار ناسيا.. لم يفسد صومه، ولم ينقطع تتابعه، وبه قال أبو يوسف، وهي إحدى الروايتين عند أحمد. وقال مالك، وأبو حنيفة: (ينقطع تتابعه بذلك) . إلا أن مالكا يقول: (إذا وطئها ناسيا.. فسد صومه) . وأبو حنيفة يقول: (لا يفسد، إلا أنه يقطع التتابع) . دليلنا على أنه لا يقطع التتابع: أنه وطء لم يفسد به الصوم.. فلم يقطع التتابع كما لو وطئ امرأة أخرى.

وإن كان الفطر بعذر.. نظرت: فإن كان العذر حيضا.. فلا يتصور ذلك في كفارة الظهار، وإنما يتصور في كفارة القتل والجماع في رمضان؛ إذا قلنا: تجب عليها الكفارة.. فإن التتابع لا ينقطع؛ لأن زمان الحيض مستحق للفطر، فهو كليالي الصوم، ولأن الحيض حصل بغير اختيارها، ولا يمكنها الاحتراز منه، فلو قلنا: إنه ينقطع التتابع.. لأدى إلى أنه لا يمكن للمرأة أن تكفر بالصوم إلا بعد اليأس من الحيض، وفي ذلك تأخيرها عن وقت وجوبها، وربما ماتت قبل اليأس؛ ولذلك قلنا: لا ينقطع التتابع. وإن أفطرت للنفاس.. احتمل أن يكون فيه وجهان، كما قلنا في الإيلاء. وإن كان الفطر للمرض.. ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا ينقطع التتابع) . وبه قال مالك، وأحمد؛ لأن سبب الفطر حدث بغير اختياره، فهو كالحيض، ولأنا لو قلنا: إنه ينقطع بالفطر في المرض.. لأدى ذلك إلى أن يتسلسل؛ لأنه لا يأمن وقوع المرض إذا استأنف بعد البرء. و [الثاني] : قال في الجديد: (ينقطع تتابعه) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه أفطر باختياره، فهو كما لو أفطر بغير المرض. وإن أفطر بالسفر، فإن قلنا: إن المريض إذا أفطر قطع التتابع.. فالمسافر أولى. وإن قلنا: إن الفطر بالمرض لا يقطع التتابع.. ففي المسافر قولان: أحدهما: لا ينقطع التتابع؛ لأن السفر عذر يبيح الفطر، فهو كالمرض. والثاني: أنه ينقطع التتابع؛ لأنه أحدث سبب الفطر، وهو السفر. وإن نوى الصوم من الليل، ثم أغمي عليه في أثناء النهار.. فهل يبطل صومه؟ فيه طرق، مضى ذكرها في الصوم. فإذا قلنا: لا يبطل.. لم ينقطع تتابعه بذلك.

فرع: الصيام أثناء الكفارة يقطع التتابع

وإن قلنا: يبطل صومه.. قال الشيخ أبو إسحاق والمحاملي: هو كالفطر في المرض على قولين. وفيه نظر؛ لأنه لا يفطر باختياره، بخلاف الفطر في المرض؛ فإنه أفطر باختياره. وإن أفطرت الحامل والمرضعة في أثناء الشهرين، فإن كان خوفا على أنفسهما.. فهو كالفطر في المرض، وإن كان خوفا على ولديهما.. فهل ينقطع التتابع؟ فيه طريقان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالفطر في المرض. و [الثاني] : منهم من قال: ينقطع التتابع، قولا واحدا؛ لأنهما أفطرتا لحق غيرهما، بخلاف المريض. [فرع: الصيام أثناء الكفارة يقطع التتابع] ] : وإن صام في أثناء الشهرين تطوعا، أو عن نذر، أو قضاء.. انقطع تتابعه بذلك؛ لأن ذلك لا يقع عن الشهرين، وانقطع تتابعه به، كما لو أفطر. فإن صام بعض الشهرين ثم تخللهما زمان لا يجزئ صومه عن كفارته؛ مثل: رمضان، وعيد الأضحى.. انقطع تتابعه؛ لأن رمضان مستحق للصوم، وعيد الأضحى مستحق للفطر، وقد كان يمكنه أن يبتدئ صوما لا يقطعه ذلك، فإن لم يفعل.. فقد فرط، كما لو أفطر في أثناء الشهرين بغير عذر. ولا يجيء أن يقال: تخللهما عيد الفطر، ولا أيام التشريق؛ لأن عيد الفطر يتقدمه رمضان، وأيام التشريق يتقدمها عيد الأضحى. فأما إذا ابتدأ الصوم عن الشهرين في رمضان.. لم يصح صومه عن رمضان؛ لأنه لم ينو الصيام عنه ولا عن الشهرين؛ لأن الزمان مستحق لصوم رمضان، فلا يقع عن غيره.

مسألة: القدرة على العتق بعد الابتداء في الصوم

وإن ابتدأ صوم الشهرين يوم عيد الفطر.. لم يصح؛ لأنه مستحق للفطر، ويصح صوم باقي الشهر. وإن ابتدأ الصوم أيام التشريق، فإن قلنا بقوله الجديد، وأن صومها لا يصح عن صوم التمتع، أو قلنا بأحد الوجهين على القديم؛ لا يصح صومها عن التمتع.. لم يصح صومه عن الشهرين. وإن قلنا: يصح صومها عن التمتع.. صح صومها عن الشهرين. [مسألة: القدرة على العتق بعد الابتداء في الصوم] ] : وإن دخل في الصوم، ثم أيسر وقدر على إعتاق الرقبة.. لم يجب عليه الانتقال إلى الرقبة، وبه قال مالك، وأحمد. وقال أبو حنيفة، والمزني: (يلزمه الانتقال) . دليلنا: أنه وجد المبدل بعد شروعه في البدل، فلم يلزمه الانتقال إليه، كما لو وجد الهدي بعد شروعه في صوم التمتع. قال الشافعي: (لو أعتق.. كان أفضل؛ لأنه الأصل، وليخرج بذلك من الخلاف) . [فرع: تبييت النية لصيام الكفارة] فرع: [وجوب تبييت النية لصيام الكفارة] : ولا يجزيه الصوم عن الكفارة حتى ينوي الصيام كل ليلة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» . وهذا عام في كل صوم. وقد وافقنا أبو حنيفة على ذلك، وهل يلزمه نية التتابع؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يلزمه نية التتابع كل ليلة؛ لأن التتابع واجب كالصوم، فلما وجب عليه نية الصوم كل ليلة.. فكذلك نية التتابع.

مسألة: الانتقال إلى الإطعام عند العجز عن الصوم

الثاني: يلزمه نية التتابع أول ليلة من الشهرين؛ لأن الغرض تمييز هذا الصوم عن غيره بالتتابع، وذلك يحصل بالنية أول ليلة منه. والثالث: لا تجب عليه نية التتابع، وهو الأصح؛ لأن التتابع شرط في العبادة، وعلى الإنسان أن ينوي فعل العبادة دون شرطها، كما قلنا في الصلاة: يلزمه نية فعل الصلاة دون شرطها. [مسألة: الانتقال إلى الإطعام عند العجز عن الصوم] ] : وإن عجز عن الصوم لكبر أو لعلة، يلحقه من الصوم مشقة شديدة أو زيادة في المرض، أو يلحقه مشقة شديدة في الصوم من الجوع والعطش، وكان قادرا على الإطعام.. لزمه الانتقال إلى الطعام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] ، ولما ذكرناه من حديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر. وإذا ثبت هذا: فعليه أن يطعم ستين مسكينا، كل مسكين مدا من طعام، ولا يجوز أن ينقص من عدد المساكين ولا من ستين مدا، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (إذا أعطى الطعام كله مسكينا واحدا في ستين يوما.. جاز) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] . وقوله: {فَإِطْعَامُ} [المجادلة: 4] مصدر يتقدر بـ: أن والفعل، وهذا يمنع الاقتصار على دون الستين. ولأنه مسكين استوفى قوت يوم من كفارة، فإذا دفع إليه غيره منها.. لم يجزه، كما لو دفع إليه في يوم واحد صاعين. [فرع: ما يدفع للمسكين في الكفارة] ] : ويجب أن يدفع إلى كل مسكين مدا في جميع الكفارات إلا في كفارة الأذى؛ فإنه يدفع إليه مدين، سواء كفر بالتمر، أو الزبيب، أو الشعير، أو البر، أو الذرة، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، والأوزاعي. وقال أبو حنيفة: (إن كفر بالتمر أو الشعير.. لزمه لكل مسكين صاع

فرع: صفة الطعام الذي يخرج في الكفارة

و (الصاع) : أربعة أمداد، و (المد) عنده: رطلان - وإن كفر بالبر.. لزمه لكل مسكين نصف صاع وفي الزبيب عنه روايتان: إحداهما: أنه كالتمر والشعير. والثانية: أنه كالبر. وقال مالك - في كفارة اليمين والجماع في رمضان كقولنا في كفارة الظهار -: (يطعم كل مسكين مدا بمد هشام) . وهو مد وثلث بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: بل هو مدان. وقال أحمد: (هو مد من البر، ومن التمر والشعير مدان) . دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضرب نحره، وينتف شعره، فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: (وما أهلكك؟) ، قال: وقعت على امرأتي في نهار رمضان، قال: " أعتق رقبة "، قال: لا أجد، فقال: " صم شهرين متتابعين "، قال: لا أستطيع، قال: " أطعم ستين مسكينا "، قال: لا أستطيع، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتى بعرق من تمر فيه خمسة عشر صاعا، قال: " اذهب فتصدق به» . إذا ثبت هذا في المجامع في رمضان.. قسنا سائر الكفارات عليها. فأما خبر سلمة بن صخر؛ حيث أمر له النبي بوسق من تمر من صدقة بني زريق.. فمحمول على الجواز، وإنما زاد على خمسة عشر صاعا تطوعا؛ بدليل هذا الخبر. [فرع: صفة الطعام الذي يخرج في الكفارة] ] : وهل يلزمه أن يخرج من غالب قوته، أم من غالب قوت البلد؟ فيه وجهان: [الأول] : قال أبو عبيد بن حربويه: يلزمه من غالب قوته، وهو اختيار الشيخ

مسألة: توزيع الستين مدا على مائة وعشرين لا يكفي

أبي حامد؛ لأن الزكاة زكاتان: زكاة المال، وزكاة النفس، فلما كانت زكاة المال يجب إخراجها من المال.. وجب أن تخرج زكاة النفس من قوتها. و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يلزمه إخراجها من غالب قوت البلد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . و (الأوسط) : الأعدل، وأعدل ما يطعم أهله قوت البلد. فإن عدل عن قوته أو قوت بلده إلى قوت بلد آخر، فإن كان أعلى مما وجب عليه، بأن عدل عن الذرة والشعير إلى البر.. أجزأه؛ لأنه أعلى مما وجب عليه، وإن كان دون ذلك، بأن عدل عن البر إلى الذرة والشعير.. فهل يجزئه؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، وحكاهما في " المهذب " وجهين: أحدهما: يجزئه؛ لأنه قوت تجب فيه الزكاة. والثاني: لا يجزئه، وهو الأصح؛ لأنه دون ما وجب عليه. وإن أخرج من قوت لا تجب فيه الزكاة، فإن كان غير الأقط.. لم يجزه، وإن كان من الأقط.. ففيه قولان، كما قلنا في زكاة الفطر. وإن كان في بلد لا قوت لهم تجب فيه الزكاة.. وجب من قوت أقرب البلاد إليه. وهل يجزئه إخراج الدقيق والخبز والسويق؟ فيه وجهان: أحدهما: يجزئه؛ لأنه مهيأ للاقتيات. والثاني: لا يجزئه، وهو الصحيح؛ لأنه قد فوت فيه وجوها من المنفعة. وإن أخرج القيمة.. لم يجزه، كما قلنا في الزكاة. [مسألة: توزيع الستين مدا على مائة وعشرين لا يكفي] ] : وإن دفع ستين مدا إلى مائة وعشرين مسكينا، إلى كل واحد منهم نصف مد.. لم

فرع: العطاء المجزئ في الكفارة

يجزه ذلك، وقيل له: اختر منهم ستين مسكينا، وادفع إلى كل واحد منهم نصف مد؛ لأنه لا يجوز أن يدفع إلى كل واحد منهم أقل من مد. فإن دفع إلى ستين مسكينا ستين مدا، إلى كل واحد منهم مدا دفعة واحدة أو في أوقات متفرقة.. أجزأه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] . فعم، ولم يخص. وإن دفع إلى ثلاثين مسكينا ستين مدا، إلى كل واحد مدين.. لم يجزه إلا ثلاثون مدا؛ لأنه لم يطعم ستين مسكينا، وعليه أن يخرج ثلاثين مدا؛ لكل واحد مدا، وهل له أن يرجع على كل واحد من الثلاثين بما زاد على المد؟ ينظر فيه: فإن بين: أن ذلك عن كفارة واحدة.. كان له أن يرجع به؛ لأن ما زاد على المد عن الكفارة.. لا يجزئ دفعه إلى واحد. وإن أطلق.. لم يرجع؛ لأن الظاهر أن ذلك تطوع، وقد لزم بالقبض. وإن وجبت عليه كفارتان من جنس أو جنسين، فدفع إلى كل مسكين مدين.. أجزأه؛ لأنه لم يدفع إليه عن كل كفارة أكثر من مد. ويجوز الدفع إلى الكبار من المساكين، وإلى الصغار منهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] [المجادلة: 4] . ولم يفرق. ولكن يدفع مال الصغير إلى وليه، فإن دفع إلى الصغير.. لم يجزه؛ لأنه ليس من أهل القبض؛ ولهذا: لو كان عليه دين، فأقبضه إياه.. لم يبرأ بذلك. [فرع: العطاء المجزئ في الكفارة] هو دفع مد لكل واحد] : والدفع المبرئ له هو: أن يدفع إلى كل مسكين مدا، ويقول: خذه، أو كله، أو أبحته لك. فإن قدم ستين مدا إلى ستين مسكينا، وقال: خذوه، أو كلوه، أو أبحته لكم.. لم يجزه ذلك؛ لأن عليه أن يوصل إلى كل واحد منهم مدا، وهذا لم يفعل ذلك. وإن قال: ملكتكم هذا بينكم بالسوية، وأقبضهم إياه، فقبضوه.. ففيه وجهان:

فرع: لا تدفع الكفارة لغير المسلم المكلف

[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يجزئه؛ لأن عليهم مشقة في القسمة، فلم يجزه، كما لو دفع إليهم الطعام في السنابل. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: يجزئه، وهو الأصح؛ لأنه قد ملكهم إياه، ولا يلحقهم في قسمته كثير مشقة، ويمكن كل واحد منهم بيع نصيبه مشاعا. وإن جمع ستين مسكينا وغداهم وعشاهم.. لم يجزه. وقال أبو حنيفة: (يجزئه) . دليلنا: أن الواجب عليه دفع الحب، وهذا لم يدفع الحب. ولأنه لا يتحقق أن كل واحد منهم أكل قدر حقه، وهو يشك في إسقاط الغرض عن ذمته، والأصل بقاؤه. [فرع: لا تدفع الكفارة لغير المسلم المكلف] ] : ولا يجوز دفعها إلى عبد ولا إلى كافر، ولا إلى من تلزمه نفقته؛ لما ذكرناه في الزكاة. ولا يجوز دفعها إلى مكاتب وإن جاز دفع الزكاة إليه؛ لأن القصد بالكفارة المواساة المحضة، والمكاتب مستغن عن ذلك؛ لأنه إن كان له كسب.. فنفقته في كسبه، وإن لم يكن له كسب.. فيمكنه أن يعجز نفسه، وتكون نفقته على سيده. [فرع: القدرة على الصيام بعد الإطعام] ] : وإن أطعم بعض المساكين، ثم قدر على الصيام.. لم يلزمه الصيام، كما قلنا فيمن قدر على العتق بعد الشروع في الصيام، والمستحب له: أن يصوم. وإن وطئها في خلال الإطعام.. أثم بذلك، ولا يلزمه الاستئناف. وقال مالك: (يلزمه) . دليلنا: أن الوطء لا يبطل ما فعله من الإطعام، فلم يلزمه الاستئناف، كما لو وطئ غيرها.

فرع: لا يجزئ الإطعام إلا بالنية

[فرع: لا يجزئ الإطعام إلا بالنية] ] : ولا يجزئه الإطعام إلا بالنية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى» . وهل يجب أن تكون النية مقارنة للدفع، أو يجوز تقديمها على الدفع؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في الزكاة. [مسألة: علق عتق عبده على ظهاره إن ظاهر] ] : إذا قال لعبده: أنت حر الساعة عن ظهاري إن تظاهرت.. عتق عليه العبد في الحال، فإن تظاهر بعد ذلك.. لم يجزه عتق ذلك العبد عن الظهار؛ لأن حقوق الأموال إنما يجوز تقديمها على وقت وجوبها.. إذا وجد أحد السببين، فأما بتقديمه عليهما.. فلا يصح. وإن قال لعبده: أنت حر عن ظهاري إن تظاهرت.. لم يعتق العبد في الحال؛ لأنه علق عتقه بصفة، فلا يعتق قبل وجود الصفة، فإن تظاهر.. عتق العبد، وهل يجزيه عن ظهاره؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. وإن ظاهر من الرجعية، ثم أعتق عن ظهاره، أو أطعم قبل الرجعة، ثم راجعها.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجزئه، وهو الأصح؛ لأنه حق مال يتعلق بسببين، فإذا وجد أحدهما.. جاز تقديمه على الآخر، كإخراج الزكاة بعد ملك النصاب وقبل الحول. والثاني: لا يجوز؛ لأنه استباحة محظور، فلا يجوز تقديم الكفارة فيه، كما لو حلف لا يشرب الخمر، فأراد أن يكفر قبل أن يشرب الخمر. وإن أراد أن يكفر بالصيام.. لم يجز، وجها واحدا؛ لأنه صوم، فلا يجوز تقديمه قبل وجوبه، كصوم رمضان.

فرع: علق ظهارا على الدخول وأعتق عبدا قبل دخوله

[فرع: علق ظهارا على الدخول وأعتق عبدا قبل دخوله] ] : وإن قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي، فأعتق عبدا عن ظهاره قبل دخول الدار، ثم دخل الدار.. صار مظاهرا بدخول الدار، وهل يجزئه عتق ذلك العبد عن ظهاره؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال ابن الحداد: يجزئه؛ لأن العتق وجد منه بعد تلفظه بالظهار، فأجزأه، كما لو أعتق بعد الظهار وقبل العود، ثم عاد. و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: لا يجزئه؛ لأن العتق وجد منه قبل الظهار؛ لأن تعليق الظهار بالصفة ليس بظهار، فهو كما لو أعتق عبدا عن الظهار وقبل الظهار. [مسألة: الكافر يكفر بالعتق والإطعام] وإن ظاهر الكافر.. كفر بالعتق إن كان من أهل العتق، فإن لم يكن من أهل العتق.. كفر بالإطعام، ولا يكفر بالصيام؛ لأن العتق والإطعام يصحان منه في غير الظهار، فيصحان منه في الظهار، والصيام لا يصح منه في غير الظهار، فلا يصح منه في الظهار. ولا يجزئه إلا عتق رقبة مؤمنة، كما قلنا في المسلم. وإن ظاهر المسلم من امرأته، ثم ارتد قبل أن يكفر، فأعتق أو أطعم في حال ردته، فإن قلنا: إن ملكه ثابت لا يزول بالردة.. صح عتقه وإطعامه عن الكفارة. فإن قيل: كيف يصح منه ذلك، ولا نية في ذلك؟ فالجواب: أن العبادات المالية المقصود منها: إيصالها إلى الفقراء والمساكين، والنية فيها على وجه التبع، فإن تعذرت النية.. لم يسقط المال، وأجزأ دفعه من غير نية؛ ولهذا قلنا: إذا امتنع من عليه الزكاة من دفعها، فأخذها الإمام منه قهرا.. أجزأه من غير نية لتعذرها. وإن قلنا: إن ملكه مراعى.. كان عتقه وإطعامه مراعى، فإن رجع إلى الإسلام.. وقعت الكفارة موقعها، وإن مات أو قتل على الردة.. تبينا أن ملكه زال بالردة، فلم يعتق العبد، ولم يصح الإطعام. وإن قلنا: إن ملكه زال بالردة.. لم يصح عتقه وإطعامه.

ومن أصحابنا من قال: لا يزول ملكه بالردة، قولا واحدا، وإنما تصرفه لا ينفذ على هذا، ويصير كالمحجور عليه. وإن صام المرتد في حال ردته.. لم يصح صومه؛ لأن عبادته بدنية، فلم تصح من الكافر، كالصلاة. فإن كان المظاهر عبدا.. لم يجب عليه العتق، ولا يجزئ عنه؛ لأنه يتضمن ثبوت الولاء، وليس هو ممن يثبت له الولاء، ويكفر بالصوم. فإن عجز عن الصوم، فإن ملكه السيد مالا، وقلنا: إنه يملكه.. كفر بالإطعام، وإن قلنا: إنه لا يملكه.. لم يكفر بالإطعام. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال القفال: إذا ملكه السيد عبدا - وقلنا: يملكه - فأعتقه عن كفارته.. ففيه قولان، بناء على أن المكاتب إذا أعتق عبدا هل يصح؟ وفيه قولان. فإن قلنا: يصح.. كان ولاؤه موقوفا إلى أن يعتق، فإن أعتق.. كان ولاؤه له، كذلك هاهنا. وإن أعتق العبد قبل أن يكفر وصار موسرا.. فقد قال البغداديون من أصحابنا: لا يجب عليه العتق، قولا واحدا؛ لأنه لم يكن ممن يجزئ عنه العتق عند الوجوب، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن قلنا: إن الاعتبار بحال الأداء.. فكفارته العتق، وإن قلنا: الاعتبار بحال الوجوب.. فإن قلنا: العبد يملك المال.. كفر بالصيام إن كان من أهله، أو بالإطعام، أو بالكسوة في كفارة اليمين، وإن قلنا: لا يملك المال.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه إلا بالصيام؛ لأنه تعين عليه. والثاني: يجزئه العتق؛ لأنه أعلى حالا من الصوم. وبالله التوفيق.

كتاب اللعان

[كتاب اللعان]

كتاب اللعان اللعان: مشتق من اللعن، واللعن: هو الطرد والإبعاد، فسمي المتلاعنان بذلك؛ لأن في الخامسة اللعنة، ولما يتعقب اللعان من المآثم والطرد؛ لأنه لا بد أن يكون أحدهما كاذبا، فيكون ملعونا. والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] . و: «لاعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين عويمر العجلاني وامرأته» ، و: (بين هلال بن أمية وامرأته) . إذا ثبت هذا: فإن رأى الرجل امرأته تزني، أو أقرت عنده بالزنا، أو أخبره بذلك ثقة، أو استفاض في الناس أن رجلا زنى بها، ثم وجده عندها ولم يكن هناك نسب

يلحقه من هذا الزنا.. فله أن يقذفها بالزنا؛ لأنه إذا رآها.. فقد تحقق زناها، وإذا أقرت عنده، أو أخبره ثقة، أو استفاض في الناس ووجد الرجل عندها.. غلب على ظنه زناها، فجاز له قذفها، ولا يجب عليه قذفها؛ لما روي: «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترد يد لامس - تعريضا منه بزناها - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " طلقها "، فقال: إني أحبها، قال: " أمسكها» .

وروى عبد الله بن مسعود: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا، فتكلم.. جلدتموه، أو قتل.. قتلتموه، أو سكت.. سكت على غيظ؟! فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللهم افتح "، فنزلت آية اللعان» . فذكر: أنه يتكلم أو يسكت، ولم ينكر عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فأما إذا لم يظهر على المرأة الزنا ببينة ولا سبب.. حرم عليه قذفها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] [النور: 11] . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قذف محصنة.. أحبط الله عمله ثمانين عاما» .

مسألة: قذف المحصن يوجب حد القذف وغير ذلك

وإن أخبره بزناها من لا يثق بقوله.. حرم عليه قذفها؛ لأنه لا يغلب على الظن إلا قول الثقة. وإن وجد عندها رجلا، ولم يستفض في الناس أنه زنى بها.. حرم عليه قذفها؛ لجواز أن يكون دخل إليها هاربا، أو لحاجة، أو لطلب الزنا ولم تجبه، فلا يجوز قذفها بأمر محتمل. وإن استفاض في الناس أن فلانا زنى بها، ولم يجده عندها.. فهل يجوز له أن يقذفها؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: يجوز له قذفها؛ لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة، والقسامة تثبت بالاستفاضة، فيثبت بها جواز القذف. والثاني: لا يجوز له قذفها، ولم يذكر في " التعليق "، و " الشامل " غيره؛ لجواز أن يكون أشاع ذلك عدو لهما. [مسألة: قذف المحصن يوجب حد القذف وغير ذلك] ] : وإذا قذف الرجل رجلا محصنا، أو امرأة أجنبية منه محصنة.. وجب عليه حد القذف، وحكم بفسقه، وردت شهادته. فإن أقام القاذف بينة على زنا المقذوف.. سقط عنه الحد، وزال التفسيق، وقبلت شهادته، ووجب على المقذوف حد الزنا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية [النور: 4] . فإن قذف الرجل امرأته.. وجب عليه حد القذف إن كانت محصنة، والتعزيز إن كانت غير محصنة، وحكم بفسقه. فإن طولب بالحد أو التعزيز.. فله أن يسقط ذلك عن نفسه بإقامة البينة على الزنا،

وله أن يسقط ذلك باللعان، فإن لاعن، وإلا.. أقيم عليه الحد أو التعزير، هذا مذهبنا، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (إذا قذف الرجل امرأته.. لم يجب عليه الحد بقذفها، وإنما يجب عليه اللعان، فإن لاعن، وإلا.. حبس حتى يلاعن) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية [النور: 4] . وهذا عام في الأزواج وغير الأزواج. وخص الأزواج بأن جعل لعانهم يقوم مقام شهادة أربعة غيرهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية [النور: 6] . وروي عن ابن عباس: «أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " البينة، أو حد في ظهرك "، فقال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ به ظهري من الحد. فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] فدعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: " أبشر يا هلال؛ فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا ". قال: قد كنت أرجو ذلك من ربي» . وروى سهل بن سعد الساعدي: «أن عويمرا العجلاني أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلا لو وجد مع امرأته رجلا.. أيقتله، فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك، اذهب فأت بها ". فأتى بها، فتلاعنا» .

فرع: قذف الزوج لا يشترط له الرؤية

فيكون المعنى: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك، أي: ما أنزل الله في هلال بن أمية وامرأته؛ لأنها عامة. ويجوز أن تكون الآية نزلت في الجميع. والمشهور: هو الأول. وإنما خص الأزواج باللعان بقذف الزوجات؛ لأن الأجنبي لا حاجة به إلى القذف، فغلظ عليه، ولم يقبل منه في إسقاط الحد عنه إلا البينة. وإذا زنت الزوجة.. فقد أفسدت على الزوج فراشه، وخانته فيما ائتمنها عليه، وألحقته من الغيظ ما لا يلحق بالأجنبي، وربما ألحقت به نسبا ليس منه، فاحتاج إلى قذفها لنفي ذلك النسب عنه، فخفف عنه؛ بأن يجعل لعانه قائما مقام شهادة أربعة. فإن قدر الزوج على البينة واللعان.. فله أن يسقط الحد عن نفسه بأيهما شاء. وقال بعض الناس: ليس له أن يلاعن. دليلنا: أنهما بينتان في إثبات حق، فجاز له إقامة كل واحدة منهما مع القدرة على الأخرى، كالرجلين، والرجل والمرأتين في المال. [فرع: قذف الزوج لا يشترط له الرؤية] ] : وسواء قال الزوج: رأيتها تزني، أو قذفها بالزنى ولم يضف ذلك إلى رؤيته، فله أن يلاعن لإسقاط الحد عنه، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (ليس له أن يلاعن إلا إن قال: رأيتها تزني؛ لأن آية اللعان نزلت في هلال بن أمية، وكان قد قال: رأيت بعيني، وشهدت بسمعي) .

فرع: انتفاء الولد يثبت باللعان

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] ، ولم يفرق بين أن يقول: رأيت بعيني، أو أطلق. ولأنه معنى يخرج به من القذف المضاف إلى المشاهدة، فصح الخروج به من القذف المطلق، كالبينة. [فرع: انتفاء الولد يثبت باللعان] ] : وإن كان هناك ولد يريد نفيه.. لم ينتف بالبينة، وإنما ينتفي باللعان؛ لأن الشهود لا سبيل لهم إلى ذلك. وإن أراد أن يثبت الزنا بالبينة، ويلاعن لنفي النسب، أو يلاعن لهما.. جاز له ذلك. [مسألة: يسقط حد القذف بعفو المقذوف] ] : حد القذف حق للمقذوف، فإن عفا عنه.. سقط، وإن مات قبل أن يستوفيه.. ورث عنه. وقال أبو حنيفة: (هو حق لله لا حق للمقذوف فيه، وإن عفا عنه.. لم يسقط، وإن مات.. لم يورث عنه) . ووافقنا أنه لا يستوفى إلا بمطالبته. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» . فأضاف العرض إلينا كإضافة الدم والمال، فوجب أن يكون ما في مقابلته للمقذوف، كالدم، والمال. ولأنه حق على البدن إذا ثبت بالاعتراف.. لم يسقط بالرجوع، فكان للآدمي، كالقصاص. ففي قولنا: (إذا ثبت بالاعتراف.. لم يسقط بالرجوع) احتراز من حد الزنا والخمر والقطع في السرقة. إذا ثبت هذا: فقذف زوجته، ثم عفت عما وجب لها من الحد أو التعزيز، ولم

مسألة: قذف الزوج لامرأته حال الصحة يوجب الحد واللعان يسقطه

يكن هناك ولد.. لم يكن له أن يلاعن؛ لأنه يلاعن لإسقاط الحد عنه، وقد سقط عنه بالعفو. ومن أصحابنا من قال: له أن يلاعن؛ لأنه يستفيد به قطع الفراش والفرقة المؤبدة. والمذهب الأول؛ لأن الفرقة تمكنه بالطلاق الثلاث. وإن كان هناك ولد.. فله أن يلاعن لنفيه وإن لم تطالبه بالحد ولم تعف عنه. فإن كان هناك نسب.. فله أن يلاعن لنفيه عنه، وإن لم يكن هناك نسب.. فليس له أن يلاعن. ومن أصحابنا من قال: له أن يلاعن؛ لقطع الفراش. والمذهب الأول؛ لأنه إنما يلاعن لنفي النسب، أو لإسقاط الحد عنه، وليس هناك أحدهما، وقطع الفراش يمكنه بالطلاق الثلاث. [مسألة: قذف الزوج لامرأته حال الصحة يوجب الحد واللعان يسقطه] ] : إذا قذف الرجل امرأته، ثم جنت، أو قذفها في حال جنونها بزنا إضافة إلى حال الصحة.. فإنه يجب عليه الحد. وإن قذفها في حال جنونها بزنا إضافة إلى حال جنونها.. فإنه لا يجب عليه الحد بذلك، وإنما يجب عليه بذلك التعزير. وإن أراد الولي أن يطالب بما وجب لها من الحد أو التعزيز.. لم يكن له ذلك؛ لأن طريقه التشفي من القاذف بإقامة الحد عليه، فلم يكن له ذلك، كالقصاص. فإن التعن الزوج منها.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وقعت الفرقة) . واختلف أصحابنا فيها على وجهين: [أحدهما] : فمنهم من قال: إن كانت حاملا.. فللزوج أن يلاعن؛ لأن اللعان يحتاج إليه لنفي الولد عنه، وإن كانت حائلا.. لم يكن له أن يلاعن؛ لأن اللعان يراد

فرع: لا يقبل قذف زوجة لها سبع سنين ويعزر

لإسقاط الحد عنه، أو لنفي الولد، ولا ولد هاهنا، فيحتاج إلى نفيه، ولا يجب عليه الحد إلا بمطالبتها، ولا مطالبة لها قبل الإفاقة، فلم يكن له أن يلاعن. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: له أن يلاعن، سواء كانت حاملا أو حائلا؛ لأنها إن كانت حاملا.. احتاج إلى اللعان لنفي الولد، وإن كانت حائلا.. احتاج إلى اللعان لإسقاط الحد الواجب عليه في الظاهر، كمن وجب عليه دين إلى أجل.. فله أن يدفعه قبل حلول الأجل. والأول أصح؛ لأن الشافعي قال: (ليس على الزوج أن يلتعن حتى تطالب المقذوفة بحدها) . [فرع: لا يقبل قذف زوجة لها سبع سنين ويعزر] ] : وإن قذف زوجته الصغيرة، فإن كانت لا يوطأ مثلها، كابنة سبع سنين فما دونها.. لم يصح قذفه؛ لأن القذف إنما يصح إذا احتمل أن يكون فيه صادقا أو كاذبا، وابنة سبع سنين يعلم يقينا أنها لا توطأ وأنه كاذب. ويجب عليه التعزير للكذب، وليس له أن يلاعن لإسقاط هذا التعزير؛ لأنا نتحقق كذبه، فلا معنى للعانه. وقال الشيخ أبو حامد: لا يقام عليه التعزير إلا بعد بلوغها؛ لأنه لا يصح مطالبتها به، ولا ينوب عنها الولي في المطالبة. وإن كانت صغيرة يوطأ مثلها، كابنة تسع سنين فما زاد.. صح قذفه؛ لأن ما قاله يحتمل الصدق والكذب، ولا يجب عليه الحد بقذفها؛ لأنها ليست بمحصنة، وإنما يجب عليه التعزير، وهل للزوج أن يلاعن لإسقاط التعزير؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: ليس له أن يلاعن؛ لأن اللعان يراد لنفي النسب، أو لإسقاط ما وجب عليه من الحد أو التعزير بقذفها، وذلك لا يجب قبل مطالبتها. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: له أن يلاعن لإسقاط ما وجب عليه من التعزير في الظاهر وإن لم يطالب به، كما يجوز له أن يقدم ما وجب عليه من الدين المؤجل قبل حلوله.

مسألة: القذف بعد البينة أو الإقرار لا يوجب الحد

وإن كانت له زوجة كتابية، فقذفها.. لم يجب عليه الحد؛ لأنها ليست بمحصنة، ويجب عليه التعزير، وحكمه حكم الحد الذي يجب عليه بقذف المحصنة، ويسقط عنه بإقامة البينة على زناها، أو باللعان؛ لأنه إذا سقط عنه الحد الكامل بذلك.. فلأن يسقط ما هو دونه بذلك أولى. وإن كانت الزوجة أمة، فقذفها.. لم يجب عليه الحد؛ لأنها ليست بمحصنة ويجب عليه التعزير، وليس للسيد أن يطالبه به؛ لأنه ليس بمال ولا له بدل هو مال، وحق السيد إنما يتعلق بالمال أو بما بدله المال. فإن طالبته الأمة به.. كان له أن يسقط ذلك بالبينة أو باللعان، كما قلنا في الحد الذي يجب عليه بقذف المحصنة. وإن عفت الأمة عما وجب لها من التعزير.. سقط؛ لأنه لا حق للسيد فيه. [مسألة: القذف بعد البينة أو الإقرار لا يوجب الحد] ] : إذا قامت البينة على امرأة بالزنا، أو أقرت بذلك، ثم قذفها الزوج أو أجنبي بذلك الزنا أو بغيره.. لم يجب عليه حد القذف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية [النور: 4] . وهذه ليست بمحصنة. ولأن القذف هو ما احتمل الصدق والكذب، فأما ما لا يحتمل إلا أحدهما.. فإنه لا يكون قذفا، ألا ترى أنه لو قذف الصغيرة التي لا يوطأ مثلها في العادة، أو قال: الناس كلهم زناة.. لم يكن قاذفا؛ لأن القذف والحد فيه إنما جعلا لدفع العار عن نسب المقذوفة، وهذه لا عار عليها بهذا القذف؛ لأن زناها قد ثبت، ويجب عليه التعزير؛ لأنه آذاها وسبها، وذلك محرم، فعزر لأجله؟ فإن كان المؤذي لها بذلك أجنبيا.. لم يسقط عنه ببينة ولا بغيرها؛ لأن هذا تعزير أذى، وليس بتعزير قذف.

وإن كان المؤذي لها بذلك زوجها.. فهل له إسقاطه باللعان؟ نقل المزني: (ليس له إسقاطه باللعان) . ونقل الربيع: (أن له إسقاطه باللعان) . واختلف أصحابنا في ذلك: فقال أبو إسحاق: الصحيح ما نقله المزني، وما نقله الربيع خطأ؛ لأن اللعان إنما يراد لتحقيق الزنا، والزنا هاهنا متحقق، فلا فائدة في اللعان، ولأن اللعان إنما يسقط حق المقذوفة، فأما حق الله: فلا يسقط، وهذا التعزير لحق الله، فلم يجز إسقاطه باللعان، كما قلنا فيمن قذف صغيرة لا يوطأ مثلها. فإن قيل: لو كان هذا التعزير لحق الله.. لما كان يفتقر إلى مطالبتها، كما لو قال: الناس كلهم زناة.. فإن الإمام يعزره من غير مطالبة. قلنا: إنما افتقر إلى مطالبتها؛ لأنه يتعلق بحق امرأة بعينها. وقال أبو الحسن القطان، وأبو القاسم الداركي: هي على قولين: أحدهما: لا يلاعن؛ لما ذكرناه. والثاني: يلاعن؛ لأنه إذا جاز أن يلاعن لدرء التعزير فيمن لم يثبت زناها.. فلأن يلاعن فيمن ثبت زناها أولى. ومنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (لا يلاعن) إذا كان قد رماها بزنا مضافا إلى ما قبل الزوجية، مثل: أن رماها بالزنا وهما أجنبيان، فأقام عليها البينة بذلك، ثم تزوجها ورماها بذلك الزنا؛ لأنه كان في الأصل لا يجوز له اللعان لأجله، فكذلك في الثاني. والموضع الذي قال: (له أن يلاعن) إذا رماها بالزنا في حال الزوجية، فحققه

فرع: قذف زوجته ولم يبين ولم يلاعن

عليها بالبينة، ثم رماها به ثانيا، فله أن يلاعن؛ لأنه كان في الأصل له إسقاط حده باللعان قبل البينة، فكذلك بعد البينة. [فرع: قذف زوجته ولم يبين ولم يلاعن] ] : وإن قذف امرأته بالزنا، ولم يقم عليها البينة، ولم يلاعن، فحد، ثم رماها بذلك الزنا.. فإنه لا يجب عليه الحد؛ لأن القذف هو ما احتمل الصدق والكذب، وهذا لا يحتمل إلا الكذب، ولأن الحد إنما يراد لدفع العار عن نسب المقذوفة، وقد دفع عنه، العار بالحد الأول، فلا معنى لإقامة الحد ثانيا. ويجب عليه التعزير؛ لأنه آذاها بذلك، والأذى بذلك محرم، ولا يلاعن لإسقاط هذا التعزير؛ لأنه تعزير أذى، فهو كالتعزير لأذى الصغيرة التي لا يوطأ مثلها. وإن قذف أجنبي بزنا، ولم يقم البينة على الزنا، فحد حد القاذف، ثم رماها القاذف بذلك ثانيا.. فإنه لا يجب عليه حد القذف، وإنما يجب عليه التعزير للأذى. وقال بعض الناس: يجب عليه حد القذف. دليلنا: ما روي: (أن أبا بكرة شهد هو ورجلان معه على المغيرة بن شعبة بالزنا، فحدهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثم قال أبو بكرة للمغيرة: قد كنت زنيت، فهم عمر بجلده، فقال له علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن كنت تريد جلده.. فارجم صاحبك، فتركه عمر) .

فرع: قذف امرأته وثبت الحد بلعانه فتنفيه بلعانها

ومعنى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن كنت تجعل هذا قذفا ثانيا.. فقد تمت الشهادة على المغيرة، وإن كان هو القذف الأول.. فقد حددته فيه. [فرع: قذف امرأته وثبت الحد بلعانه فتنفيه بلعانها] ] : قال ابن الصباغ: إذا قذف الرجل امرأته بالزنا، وثبت عليها الحد بلعانه.. نظرت: فإن لاعنته.. فقد عارض لعانه لعانها، فلا يثبت عليها الزنا، ولا يجب عليها الحد، ولا تزول حصانتها، ومتى قذفها هو أو غيره.. وجب عليه حد القذف. وإن قذفها ولاعنها، ولم تلاعن هي.. فقد وجب عليها الحد، ويسقط إحصانها في حق الزوج، وهل تسقط حصانتها في حق الأجنبي؟ فيه وجهان: أحدهما: تسقط حصانتها؛ لأنه قد ثبت زناها باللعان من الزوج. والثاني: لا تسقط؛ لأن اللعان حجة تخص الزوج؛ ولهذا لا يسقط عن الأجنبي حد القذف به، فلا يسقط إحصانها به في حقه. وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن الزوج إذا قذفها وتلاعنا، ثم قذفها بذلك الزنا الذي تلاعنا عليه.. لم يجب عليه الحد، وإن قذفها بزنا آخر.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه الحد؛ لأن اللعان في حقه كالبينة، ثم بالبينة يبطل إحصانها، فكذلك في اللعان. والثاني: يجب عليه الحد؛ لأن اللعان لا يسقط إلا ما يجب بالقذف في الزوجية لحاجته إلى القذف، وقد زالت الزوجية، فزالت الحاجة إلى القذف.

وإن تلاعنا، ثم قذفها أجنبي.. حد. فكل موضع قلنا: (لا يجب على الزوج الحد بقذفها بعد الزوجية) فإنه يجب عليه التعزيز؛ لأنه آذاها، والأذى محرم، وهذا لا خلاف أنه لا يسقط التعزير ولا الحد الذي يجب عليه إذا قذفها بزنا آخر باللعان؛ لأن اللعان إنما يكون بين الزوجين وهما أجنبيان. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إذا قذفها أجنبي، فإن كان الزوج لاعنها ونفى حملها، وكان الولد حيا.. فعلى الأجنبي الحد، وإن كان لم ينف حملها، أو نفاه، وكان الولد ميتا.. فإنه لا حد على الأجنبي) . دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين هلال بن أمية وامرأته، ففرق بينهما، وقضى بأن لا يدعى الولد للأب، وأنها لا ترمى ولا ولدها، فمن رماها أو ولدها.. فعليه الحد» . ولم يفرق. وهذا حجة لما قال ابن الصباغ، فإنها أجابته باللعان، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن رماها أو ولدها.. فعليه الحد» . وروي: " وعليه الحد " ولم يفرق بين الزوج وغيره. وبالله التوفيق.

باب ما يلحق من النسب، وما لا يلحق

[باب ما يلحق من النسب، وما لا يلحق] وما يجوز نفيه باللعان، وما لا يجوز إذا تزوج الرجل امرأة، وهو ممن يولد لمثله، وأمكن اجتماعهما على الوطء، فأتت بولد لمدة الحمل.. لحقه الولد. فإن زوج الأب ابنه الصغير امرأة، وأمكن اجتماعهما، وأتت بولد.. نظرت: فإن أتت به قبل أن يستكمل الصبي تسع سنين وستة أشهر من مولده.. لم يلحقه الولد بلا خلاف؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أنه لا يولد لمثله. وينتفي عنه بغير لعان؛ لأن اللعان إنما يحتاج إليه لنفي نسب لاحق به، وهذا غير لاحق به. وإن مات هذا الصبي.. لم تنقض عدتها منه بوضعه؛ لأنه لا يمكن أن يكون منه، فلم تنقض عدتها منه بوضعه، بخلاف ما لو نفى حمل امرأته باللعان؛ فإن عدتها منه تنقضي بوضعه؛ لأنه يمكن أن يكون منه. وإن أتت به بعد أن كمل للصبي عشر سنين، ومضت مدة الحمل بعد ذلك.. لحقه الولد بلا خلاف؛ لأن ابن العشر قد ينزل الماء الدافق الذي يخلق منه الولد وإن كان نادرا، إلا أن الولد يلحق بالإمكان، وإن خالف الظاهر. فإن أتت به بعد أن كمل للصبي تسع سنين وستة أشهر، أو سبعة.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يلحق به؛ لأن الشافعي قال: (لو جاءت بحمل وزوجها صبي دون عشر سنين.. لم يلزمه؛ لأن العلم يحيط أنه لا يولد لمثله) . فإن قلنا بهذا: انتفى عنه بغير لعان. والثاني: أنه يلحقه، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لأنه لما جاز أن تبلغ المرأة بالحيض لتسع سنين.. فكذلك يجوز أن يبلغ الغلام بالاحتلام لتسع سنين، والنسب يحتاط في إثباته.

فإذا قلنا بهذا: وأتت به بعد أن كمل للصبي عشر سنين، ومضت مدة الحمل، وأراد أن ينفيه باللعان.. لم يكن له ذلك؛ لأنه لا حكم لكلامه؛ لأنه غير بالغ. فإن قيل: كيف جعلتموه بالغا في حكم لحوق الولد به، ولم تجعلوه بالغا في جواز اللعان؟! فالجواب: أن إثبات النسب يجوز بالإمكان، ولا يجوز نفيه بالإمكان. فإن أقر بالبلوغ وأراد أن ينفيه باللعان.. كان له ذلك؛ لأنه أقر بالبلوغ في وقت يجوز أن يكون صادقا، فقبل. هذا نقل الشيخ أبي حامد. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا أتت به وقد استكمل تسع سنين.. لحق به. وهل يشترط ستة أشهر وساعة الوطء بعد التسع ليلحقه؟ فيه وجهان. وإن كان الزوج في سن من يولد له، إلا أنه مجبوب، فأتت امرأته بولد.. فروى المزني: (أنه لا ينتفي عنه إلا باللعان) . وروى الربيع: (أنه ينتفي عنه بغير لعان) . قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، واختلفوا في الحالين: فقال أبو إسحاق: الموضع الذي قال: (لا ينتفي عنه إلا باللعان) أراد: إذا كان مقطوع الذكر والأنثيين؛ لأنه إذا قطع ذكره وبقي أنثياه.. ساحق وأنزل، وإن قطع أنثياه وبقي ذكره.. أولج وأنزل. غير أن أهل الطب قد قالوا: إذا قطع ذكره أو أنثياه.. فلا ينزل إلا ماء رقيقا

لا يخلق منه الولد، ولا اعتبار بقولهم هاهنا؛ لأن الولد يلحق بالإمكان. والموضع الذي قال: (ينتفي عنه بغير لعان) أراد: إذا قطع ذكره وأنثياه؛ لأنه يتعذر منه الإنزال جملة. وقال القاضي أبو حامد: هي على اختلاف حالين آخرين: فالموضع الذي قال: (لا ينتفي عنه إلا باللعان) أراد: إذا لم تنسد ثقبة المني التي في أصل الذكر. والموضع الذي قال: (ينتفي عنه بغير لعان) أراد: إذا انسدت؛ لأن في أصل الذكر ثقبتين: ثقبة للبول، وثقبة للمني، فإذا انسدت ثقبة المني.. تعذر الإنزال، وإذا لم تنسد.. لم يتعذر. ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين آخرين: فالموضع الذي قال: (لا ينتفي عنه إلا باللعان) أراد به: المجنون إذا وطئ امرأته في حال جنونه؛ لأنه كالعاقل في الوطء. والموضع الذي قال: (ينتفي عنه بغير لعان) هو المجبوب والخصي. وحكى الشيخ أبو حامد: أن من أصحابنا من قال: يلحق به الولد، ولا ينتفي عنه إلا باللعان وإن كان مقطوع الذكر والأنثيين. والصحيح: قول أبي إسحاق. هذا نقل البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن كان مجبوبا.. لحق به الولد، وإن كان خصيا، فإن قال أهل المعرفة: إنه يولد لمثله.. لحقه، وإلا.. فلا. وإن لم يمكن اجتماعهما على الوطء؛ بأن تزوجها في مجلس القاضي، وطلقها ثلاثا عقيب العقد في المجلس، فأتت بولد لمدة الحمل من يوم النكاح، أو تزوج رجل بالمشرق امرأة بالمغرب، فأتت بولد لستة أشهر من حين العقد.. فإن الولد لا يلحقه، وينتفي عنه بغير لعان، وبه قال مالك وأحمد.

مسألة: ولادة المرأة قبل مضي ستة أشهر من وقت العقد

وقال أبو حنيفة: (إذا كان الزوج ممن يتأتى منه الوطء.. لحقه) . وهكذا: قال في رجل غاب عن امرأته زمانا، فأخبرت: أنه مات، فاعتدت عنه عدة الوفاة، وتزوجت بغيره، فرزق منها أولادا، ثم جاء الزوج الأول، فإن الأولاد كلهم للأول، ولا يلحق أحد منهم الزوج الثاني. ودليلنا: أنها أتت بولد لا يمكن أن يكون منه، فلم يلحق به، كامرأة الطفل. [مسألة: ولادة المرأة قبل مضي ستة أشهر من وقت العقد] ] : وإن تزوج امرأة، وأتت بولد لأقل من ستة أشهر من حين العقد.. انتفى عنه بغير لعان؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر بالإجماع، فيعلم أنها علقت به قبل حدوث الفراش. وإن تزوج رجل امرأة ودخل بها، ثم طلقها وهي حامل، فوضعت الحمل، ثم أتت بولد آخر لدون ستة أشهر من حين وضع الحمل.. لحقه الثاني؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أنه لا يكون بين الحملين أقل من ستة أشهر، فعلمنا أنهما حمل واحد. وإن أتت بالثاني لستة أشهر فما زاد من وقت وضع الأول.. انتفى عنه الثاني بغير لعان؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أن الولدين من حمل واحد لا يكون بينهما ستة أشهر، فعلمنا أن الولد الثاني علقت به بعد وضع الأول. وإن طلقها واعتدت بالأقراء، ثم ولدت قبل أن تتزوج.. نظرت: فإن وضعته لستة أشهر فما زاد، أو لأربع سنين من وقت الطلاق، أو لدون ستة أشهر من وقت الطلاق.. لحقه الولد، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا، وسواء أقرت بانقضاء عدتها قبل ذلك أو لم تقر. وقال أبو حنيفة: (إذا أتت به لسنتين من وقت الطلاق.. لحق به، وإن أتت به لما

زاد عن سنتين من وقت الطلاق.. لم يلحق به) ؛ لأن أكثر الحمل عنده سنتان. والكلام عليه يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وقال أبو حنيفة أيضا: (إذا أقرت بانقضاء عدتها قبل ذلك.. لم يلحق الولد به، وانتفى عنه بغير لعان) . وبه قال أبو العباس ابن سريج؛ لأنا حكمنا بانقضاء عدتها بإقرارها وإباحتها للأزواج، فلا ينقض بأمر محتمل. ودليلنا: أن أكثر الحمل عندنا أربع سنين، وقد ترى الحامل الدم على الحمل، وإذا أمكن إثبات الحمل.. لم يجز نفيه، ولهذا: لو تزوج امرأة وأتت بولد لستة أشهر من وقت العقد.. لحق به وإن لم يعلم الوطء؛ احتياطا لإثبات النسب، فكذلك هذا مثله. وإن أتت به لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق.. نظرت: فإن كان الطلاق بائنا، مثل: أن طلقها طلقة أو طلقتين بعوض أو طلقها ثلاثا أو طلقها قبل الدخول أو فسخ النكاح بعيب.. فإن الولد لا يلحقه، وينتفي عنه بلا لعان. ونقل المزني: (فهو ينتفي باللعان) . قال أصحابنا: وهذا خطأ في النقل؛ لأن الحمل لا يكون أكثر من أربع سنين. ومن أصحابنا من اعتذر للمزني، وقال: ويحتمل أن (الألف) من (لا) التزق مع (لام) قوله: (لعان) ، فصار قوله: (بلا لعان) باللعان. وإن كان الطلاق رجعيا.. ففيه قولان: أحدهما: لا يلحقه الولد، وينتفي عنه بغير لعان؛ لأن الرجعية محرمة على الزوج تحريم المبتوتة عندنا، وقد ثبت أن المبتوتة إذا أتت بولد لأكثر من أربع سنين من وقت انقضاء العدة.. لم يلحقه، فكذلك الرجعية. والثاني: أنه يلحقه الولد، ولا ينتفي عنه إلا باللعان؛ لأن الرجعية في

فرع: طلقها فأتت بعد أربع سنين بولد

معنى الزوجات؛ بدليل: أنه يلحقها الطلاق، والإيلاء، والظهار، ويتوارثان، فكانت في حكم الزوجات في حكم لحوق ولدها به؛ لأن النسب يحتاط لإثباته. فإذا قلنا بهذا: فإلى متى يلحقه الولد؟ فيه وجهان: أحدهما: قال أبو إسحاق: يلحقه أبدا؛ لأنا نظن أن العدة قد انقضت، ولم تكن قد انقضت في الباطن، ويكون قد وطئها في العدة. والثاني وهو المذهب: أنه يلحقه إذا أتت به لأربع سنين من وقت إقرارها بانقضاء العدة، ولا يلحقه إذا أتت به لأكثر من أربع سنين؛ لأنا إنما ألحقناه به؛ لجواز أن يكون قد وطئها في عدتها، وذلك وطء شبهة، فلحقه الولد الحادث من هذا الوطء. وأكثر الحمل أربع سنين فإذا أتت به لأكثر من أربع سنين بعد انقضاء عدتها.. تبينا أنه حدث من وطء بعد انقضاء عدتها، وهي أجنبية من بعد انقضاء عدتها، فصارت كالمبتوتة. وإن لم تقر بانقضاء العدة.. ففيه وجهان: أحدهما: يلحقه الولد أبدا؛ لأنه يحتمل امتداد العدة. والثاني: أن يحسب ثلاثة أشهر من بعد الطرق، ثم إذا ولدت لأكثر من أربع سنين بعد الثلاثة الأشهر.. لم يلحقه؛ لأن الغالب أن الأقراء تنقضي بثلاثة أشهر. [فرع: طلقها فأتت بعد أربع سنين بولد] ] : وإن طلقها، وأتت بولد لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، وكان الطلاق بائنا أو رجعيا، وقلنا: لا يلحقه ولدها، فادعت الزوجة أنه قد كان نكحها بعد الطلاق

البائن، أو راجعها في الرجعي، وهذا الولد منه، فإن أنكر النكاح أو الرجعة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم النكاح والرجعة، ويحلف على القطع: أنه ما نكحها، أو أنه ما راجعها؛ لأنه حلف على فعل نفسه. فإذا حلف.. لم يلزمه لها مهر ولا نفقة، وانتفى الولد عنه بغير لعان. فإن نكل عن اليمين.. ردت عليها اليمين، فإن حلفت.. ثبت أنها زوجته، فتجب لها النفقة، ويجب لها المهر إن ادعت النكاح. وأما الولد: فإن اعترف الزوج: أنها ولدته على فراشه. لحقه نسبه، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، وإن قال: لم تلده، وإنما التقطته أو استعارته.. لم تصدق المرأة أنها ولدته حتى تقيم البينة على ذلك؛ لأنه يمكنها إقامة البينة على ذلك، ويقبل في ذلك رجلان، أو رجل وامرأتان، أو أربع نسوة، فإذا أقامت البينة لها: أنها ولدته على فراشه.. لحقه نسبه، ولا ينتفي عنه إلا باللعان. وإن عدمت البينة، فإن قلنا: إن الولد يعرض مع الأم على القافة.. عرض معها، فإن ألحقته بهما.. لحق بالزوج، ولم ينتف عنه إلا باللعان. وإن قلنا: لا يعرض مع الأم، أو لم تكن قافة، أو كانت وأشكل عليها.. فالقول قول الزوج مع يمينه: أنه لا يعلم أنها ولدته على فراشه، فإذا حلف.. انتفى عنه بغير لعان، وإن نكل الزوج عن اليمين، فردت على الزوجة، فلم تحلف.. فهل يوقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي ويحلف؟ فيه وجهان - بناء على القولين في الجالية المرهونة إذا أحبلها الراهن، وادعى المرتهن: أن الراهن أذن له في وطئها، وأنكر المرتهن، ونكلا جميعا عن اليمين -: أحدهما: لا ترد اليمين على الولد؛ لأن اليمين للزوجة، وقد أسقطتها بالنكول. والثاني: ترد عليه؛ لأنه يثبت بها حق الولد وحق الزوجة، فإذا أسقطت حقها.. بقي حق الولد. وإن أقر الزوج: أنه راجعها أو تزوجها.. ثبتت الزوجية، وثبتت أحكامها، فإن أقر: أنها أتت بالولد على فراشه.. لحقه، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، وإن أنكر

أنها ولدته، وإنما التقطته أو استعارته.. فعليها إقامة البينة على ما مضى. هذا إذا كان الاختلاف مع الزوج. فأما إذا كان الاختلاف مع ورثة الزوج: فإن مات وخلف ابنا، فادعت الزوجة: أن أباه قد كان تزوجها أو راجعها، وهذا الولد منه، فإن أقر الابن بالنكاح أو الرجعة.. ثبتت الزوجية وأحكامها. وأما الولد: فإن اعترف الابن: أنها ولدته على فراش أبيه.. لحق نسبه بالأب، وليس للابن أن ينفيه باللعان؛ لأن اللعان يختص به الزوج. وإن قال: لم تلده، وإنما التقطته أو استعارته.. فعليها أن تقيم البينة أنها ولدته؛ لأنها يمكنها إقامة البينة، فإذا أقامت البينة.. ألحق بالأب، وورث مع الابن، وليس له نفيه باللعان، وإن عدمت البينة، فإن قلنا: إن الولد يعرض مع الأم على القافة.. عرض معها، فإن ألحقته بالأب.. ثبت نسبه من الأب، وورث منه. وإن قلنا: لا يعرض معها، أو لم تكن قافة، أو كانت وأشكل عليها.. فالقول قول الابن مع يمينه: أنه لا يعلم أنها ولدته على فراش أبيه، فإذا حلف.. لم يثبت نسب الولد من الزوج، ولم يرث مع الابن، وإن نكل عن اليمين.. حلفت الأم: أنها ولدته على فراش الزوج، وثبت نسبه منه، ويرث منه، وإن لم تحلف الزوجة.. فهل توقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي ويحلف؟ على الوجهين اللذين مضى ذكرهما. وإن أنكر الابن النكاح أو الرجعة، فإن كان معها بينة وأقامتها.. كان الحكم فيه كما لو أقر الابن، وإن لم يكن معها بينة.. فالقول قول الابن مع يمينه، ويحلف الابن: أنه لا يعلم أن أباه نكحها أو راجعها؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره، فحلف على نفي العلم، فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل.. ردت اليمين عليها، فإن

حلفت.. كان الحكم فيه كما لو أقر الابن، أو أقامت البينة، وإن لم تحلف هي.. فهل توقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي فيحلف؟ على الوجهين. وإن خلف الزوج ابنين أو أكثر، فإن أقرا أو أنكرا أو حلفا أو نكلا وردا عليها اليمين فحلفت.. كان الحكم فيها كالحكم مع الواحد، وإن أقر أحدهما وأنكر الآخر، ونكل عن اليمين فحلف.. كان حكمها حكم ما لو أقرا. وإن أقر أحدهما، وأنكر الآخر، فحلف المنكر.. لم تثبت الزوجية في حق الحالف، ولا يثبت نسب الولد؛ لأن النسب لا يثبت إلا بالإقرار من جميع الورثة، ويلزم المقر بحصته من المهر النفقة، وهل ترث معه الزوجة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا ترث؛ لأنه لما لم يثبت النسب باعترافه.. لم يثبت ميراثها باعترافه. والثاني: ترث معه من حقه نصف الثمن، كما قلنا في الدين. وإن كان الوارث للزوج أخا، أو ابن أخ، أو عما، فإن أنكر عليها النكاح أو الرجعة، وأقامت البينة.. ثبت النكاح، وثبتت أحكامه. فإن أنكر أن تكون أتت بولد على فراش الزوج، فإن أقامت على ذلك بينة.. لحق بالزوج، وورث جميع مال الزوج إن كان ذكرا، وإن لم يكن معها بينة فحلف لها.. لم يثبت النكاح ولا يثبت نسب الولد. وإن نكل عن اليمين، فحلفت.. ثبتت زوجيتها وأحكامها في المهر والنفقة، وأما نسب الولد: فهل يلحق بالزوج؟ إن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة.. ثبت نسبه. وإن قلنا: إنها كالإقرار.. فهو كما لو أقر. وإن أقر لها بالنكاح أو الرجعة.. ثبتت الزوجية وأحكامها في المهر والنفقة، وأما نسب الولد: فإن أنكر الأخ أنها ولدته على فراش الزوج.. فعليها إقامة البينة: أنها ولدته على فراشه، وإن لم تقم بينة، وقلنا: لا يعرض الولد على القافة، أو قلنا:

فرع: انقضت عدتها وتزوجت بآخر وحملت

يعرض ولم تكن قافة، أو كانت وأشكل عليها.. فالقول قول الأخ مع يمينه: أنه لا يعلم أنها ولدته على فراش الزوج؛ فإن حلف.. لم يثبت نسبه، وإن أقر: أنها ولدته على فراش الزوج.. ثبت نسبه منه، ولا يرث من الزوج؛ لأنا لو ورثناه لحجب الأخ، وخرج عن أن يكون وارثا، فلم يصح إقراره. وقال أبو العباس: يرث. واختاره ابن الصباغ، والمذهب الأول. وأما قدر ميراث الزوجة: فالذي يقتضي المذهب: إن كان مال الزوج في يدها.. لم يأخذ الأخ والعم منه إلا ثلاثة أرباعه؛ لأنه لا يدعي سواه، ويقر لها بالربع وهي لا تدعي إلا الثمن، وتدفع من الربع الذي يبقى في يدها إلى ابنها نصفه؛ لأنها تقر له به. وإن كان المال في يد الأخ أو العم.. لم تأخذ الزوجة منه إلا الثمن؛ لأنه يقر لها بالربع، وهي لا تدعي إلا الثمن، فلم يكن لها أكثر منه. [فرع: انقضت عدتها وتزوجت بآخر وحملت] ] : وإن طلقها الزوج، وانقضت عدتها منه، وتزوجت بآخر، وأتت بولد، فإن وضعته لأربع سنين فما دونها من طلاق الأول، ولدون ستة أشهر من عقد الثاني.. لم يلحق بالثاني، ولحق بالأول على المذهب، ولا ينتفي عنه إلا باللعان. وعلى قول أبي العباس وابن سريج: لا يلحق بأحدهما. وإن أتت به لأقل من ستة أشهر من عقد الثاني، ولأكثر من أربع سنين من طلاق الأول.. فإن الولد لا يلحق بالثاني وينتفي عنه بغير لعان. وهل يلحق بالأول؟ ينظر فيه: فإن كان طلاقه بائنا.. لم يلحق به، وانتفى عنه بغير لعان. وإن كان طلاقه رجعيا.. فهل يلحقه به؟ على قولين، مضى ذكرهما. وإن أتت به لأربع سنين فما دونها من طلاق الأول، ولستة أشهر فما زاد من نكاح الثاني.. فذكر الشيخ أبو حامد: أن الولد يلحق بالثاني؛ لأن الفراش له. وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن الثاني إذا ادعى: أنه من الأول.. فإن الولد يعرض

مسألة: وطئت مزوجة بشهبة فتعتد

معهما على القافة، فإن ألحقته بالأول.. لحقه، وانتفى عن الثاني بغير لعان، وإن ألحقته بالثاني. لحق به، وانتسب إلى الثاني، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، وإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها.. ترك إلى أن يبلغ وقت الانتساب، فإن انتسب إلى الأول.. انتفى عن الثاني بغير لعان، وإن انتسب إلى الثاني.. لم ينتف عنه إلا باللعان. وإن لم يعرف وقت طلاق الأول ووقت نكاح الثاني.. حلف الثاني: أنه لا يعلم أنها ولدته على فراشه؛ لأن الأصل عدم ولادته على فراشه، فإذا حلف انتفى عنه نسبه بغير لعان، وإن نكل عن اليمين.. حلفت أنها ولدته على فراشه، ولحقه نسبه، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، وإن لم تحلف الزوجة.. فهل توقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي ويحلف؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الجارية المرهونة. [مسألة: وطئت مزوجة بشهبة فتعتد] ] إن كانت لرجل زوجة، فوطئها رجل بشبهة.. لزمها أن تعتد منه، فإن أتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما.. عرض الولد على القافة؛ لأن لها مدخلا في إلحاق النسب، ولا يلاعن الزوج لنفيه؛ لأنه يمكن نفيه بغير لعان، ومتى أمكن نفي الولد عنه بغير لعان.. لم يكن له أن يلاعن، كما أن السيد إذا أتت أمته بولد.. لم يكن له نفيه باللعان؛ لأن له طريقا إلى نفيه بغير اللعان، بأن يدعي استبراءها، ويحلف عليه، كذلك هذا مثله. فإن ألحقته القافة بالواطئ.. انتفى عن الزوج بغير لعان، ولحق الولد بالواطئ، وليس له نفيه باللعان؛ لأن اللعان يختص به الزوج. وإن ألحقته بالزوج.. انتفى عن الواطئ، ولحق بالزوج، وله نفيه باللعان، فإذا نفاه.. انتفى عنهما، وإن ألحقته القافة بهما، أو نفته عنهما، أو لم تكن قافة، أو كانت وأشكل عليها.. ترك إلى أن يبلغ سن الانتساب، ثم يؤمر بالانتساب إلى أحدهما، فإن انتسب إلى الزوج.. لحق به، ولا ينتفي عنه إلا باللعان، وإن انتسب إلى الواطئ.. لحق به، ولا ينتفي عنه باللعان؛ لأن اللعان يختص به الزوج، والواطئ أجنبي.

مسألة: نفي الحمل والطعن مع وجود الولد

[مسألة: نفي الحمل والطعن مع وجود الولد] ] : نقل المزني ثلاث مسائل: إحداهن: إذا قال لامرأته: هذا الحمل ليس مني، ولست بزانية، ولم أصبها.. قيل له: قد تخطئ ولا يكون حملا، فيكون صادقا، وهي غير زانية، فلا حد ولا لعان. فمتى استيقنا أنه حمل.. قلنا: قد يحتمل أن تأخذ نطفتك وتستدخلها لتحمل منك، فتكون صادقا بأنك لم تصبها، وهي صادقة بأنه ولدك. وإن قذفت.. لاعنت. الثانية: لو نفى ولدها، وقال: لا ألاعنها ولا أقذفها.. لم يلاعنها، ولزمه الولد. وإن قذفها.. لاعنها؛ لأنه إذا لاعنها بغير قذف.. فإنما يدعي: أنها لم تلد، وقد حكمنا أنها ولدته، وإنما أوجب الله اللعان بالقذف، فلا يجب بغيره. الثالثة: لو قال: لم تزن، ولكنها غصبت.. لم ينتف عنه إلا باللعان. قال أصحابنا: وفي هذه ست مسائل: إحداهن: إذا ظهر بها حمل، أو ولدت، فقذفها بالزنا برجل بعينه.. فله أن يلاعن لنفيه؛ لحديث هلال بن أمية، فإنه قذف امرأته بشريك بن سحماء، فـ: (لاعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما) . الثانية: إذا قذفها بالزنا مطلقا، ولم يعين الزاني بها.. فله أن يلاعن لنفيه؛ لأن عويمرا العجلاني قذف امرأته بالزنا، ولم يعين الزاني بها، و: (لاعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما) . الثالثة: أن يقول: هذا الولد ليس مني، وإنما وطئك فلان بشبهة، وهذا الولد منه، والشبهة منكما، فليس له أن ينفيه باللعان؛ لأنه يمكنه نفيه بغير لعان، فيعرض

الولد على القافة، فإن ألحقته بالزوج.. لحقه وانتفى عنه باللعان، وإن ألحقته بالواطئ بالشبهة.. لحقه ولا ينتفي عنه باللعان، ويكون الحكم فيه كما لو وطئها رجل بشبهة، وقد مضى. الرابعة: أن يقول: هذا الولد ليس مني وما وطئتها، وهي ما زنت.. فإن لم يقذف أحدا. وقوله: (ما وطئتها) لا ينفي أن يكون منه؛ لجواز أن يكون وطئها فيما دون الفرج، فسبق الماء إلى فرجها، أو احتملت منيه بصوفة. ولا يلتفت إلى قول أهل الطب: أن المني إذا برد لا تحبل المرأة منه. ويحتمل أيضا أن يكون قوله: (ما وطئتها) أي: بل وطئها غيري بشبهة، وهذا الولد منه. وإذا احتمل هذين الأمرين.. لم يكن له نفيه باللعان إلا أن يقذفها، فيلاعن. الخامسة: أن يقول: وطئك فلان بشبهة، وأنت عالمة بأنه زنا، وهذا الولد منه.. فليس له أن ينفيه باللعان في هذه الحال؛ لأنه يمكنه نفيه بغير لعان؛ بأن يعرض على القافة؛ لأن النسب تعتبر فيه الشبهة في حق الأب، فإن ألحقته القافة بالواطئ بالشبهة.. لحق به، ولا ينتفي عنه باللعان، وإن ألحقته بالزوج.. فله نفيه باللعان. السادسة: إذا قال: غصبت على الزنا، أو وطئك فلان وأنت مكرهة، وهذا الولد منه.. فقد قذف الزاني بها. فإن كان معينا.. وجب له عليه حد القذف، وأما المرأة: فلا يحد لها؛ لأنه لم يقذفها بزنا، وهل يعزر لها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يعزر لها؛ لأنه لم يسفهها؛ لأنه لا عار عليها، ولا جاءت بمحرم.

مسألة: تزوج فجاءه ولد بعد ستة أشهر فلا يحق قذفها ولا نفي ولدها

الثاني: يعزر لها؛ لأنه آذاها بحصول ماء حرام في رحمها، وبذلك يلحق العار بنسبها. وهل له أن يلاعن لنفي الولد الحادث من هذا الوطء؟ فيه قولان: أحدهما: لا يلاعن؛ لأنه قذف أحد الواطئين، فلم يكن له العان لنفي الولد، كما لو قذفها دونه. والثاني: له نفيه باللعان، وهو الأصح؛ لأنه نسب يلحقه من غير رضاه، لا يمكن نفيه بغير اللعان، فجاز له نفيه باللعان، كما لو قذفهما معا. فعلى هذا: يذكر في اللعان زنا الرجل وأن الولد ليس مني، ولا يذكرها بالزنا. [مسألة: تزوج فجاءه ولد بعد ستة أشهر فلا يحق قذفها ولا نفي ولدها] ] : إذا تزوج امرأة ووطئها، وأتت بولد لستة أشهر فما زاد من وقت الوطء، ولم يشاركه أحد في وطئها بشبهة، ولم يرها تزني، ولا استفاض في الناس زناها، وكان الولد لا يشبه غيره.. لم يحل له قذفها ولا نفي ولدها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية [النور: 4] . وهذه محصنة. ولما روي «عن أبي هريرة: أنه قال: لما نزلت آية اللعان.. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم.. فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته. وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه.. احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين» .

ومعنى قوله: " ينظر إليه " يعلم أنه منه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاف أن يبادر الناس إلى نفي الأنساب بالشك.. فغلظ الحال فيه. وأما إذا طهرت امرأته من الحيض، ولم يطأها، ورأى رجلا يزني بها، وأتت بولد لستة أشهر فصاعدا من وقت الزنا.. لزمه قذفها بالزنا ونفي النسب عنه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم.. فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته» . فإذا حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم.. حرم ذلك على الرجل أيضا. ولأنه لما حرم عليه نفي نسب يتيقنه منه.. حرم عليه استلحاق نسب يتيقن أنه ليس منه. وإن لم يطأها ولم يعلم بزناها.. وجب عليه نفيه باللعان؛ لما ذكرناه. ولا يجوز له أن يقذفها؛ لجواز أن يكون من وطء شبهة، أو من زوج قبله. وإن لم يرها زنت، ولا سمع بذلك، ولكنها أتت بولد أسود، وهما أبيضان، أو أتت بولد أبيض، وهما أسودان، أو أتت بولد يشبه رجلا ترمى به، ولم يعلم أن الرجل الذي ترمى به وطئها.. فهل يجوز له نفيه باللعان؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز له نفيه باللعان؛ لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين هلال بن أمية وبين امرأته، ثم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن جاءت به أصيهب، أثيبج حمش الساقين.. فهو لزوجها، وإن جاءت به أورق، جعدا، جماليا، خدلج الساقين، سابغ الأليتين.. فهو للذي رميت به " فجاءت به أورق، جعدا جماليا، خدلج الساقين، سابغ الأليتين، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لولا الأيمان.. لكان لي ولها شأن» . فدل على أن للشبه حكما.

والثاني: لا يجوز له نفيه؛ لأن هذا الشبه يجوز أن يكون عرق نزعه في آبائه وأجداده؛ ولهذا روي «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إن امرأتي أتت بولد أسود؟! فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " ألك إبل؟ "، قال: نعم، قال: " ما ألوانها؟ "، قال: حمر، قال: " هل فيها من أورق؟ "، قال: إن فيها لورقا، فقال: " أنى ترى ذلك؟ "، قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: " وهذا، عسى أن يكون نزعه عرق» . ويخالف قصة هلال بن أمية؛ لأنه كان أخبره: أنه كان شاهده يزني بها. والوجهان إذا لم يشاهد ذلك. إذا ثبت هذا: فمعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أصيهب " تصغير أصهب، وقوله: " أثيبج " تصغير أثبج، وهو الناتئ الثبج. والثبج: ما بين الكاهل ووسط الظهر، وقوله: " حمش الساقين " يعني دقيقهما، وقوله: " أورق " يعني: الأورق الذي لونه بين السواد والغبرة، ومنه قيل للرماد: أورق، وللحمامة: ورقاء؛ لأن لونهما كذلك، وقوله: " خدلج الساقين " يعني: عظيم الساقين. وقد روي: " جزل الساقين ". وأما قوله: " جماليا ": قال أبو عبيد: فإنهم يقولون جماليا - بفتح الجيم - يذهبون به إلى الجمال، وليس هو من الجمال في شيء؛ لأنه لو أراد ذلك.. لقال: جميلا، ولكنه جماليا - بضم الجيم - يعني: عظيم الخلق، شبه خلقه بخلق الجمل، فيقال للناقة العظيمة: جمالية؛ لأن خلقها يشبه خلق الجمل. قال الأعشى:

مسألة: جامع بعد طهر ثم قذفها فله أن يلاعن

جمالية تغتلي بالرداف ... إذا كذب الآثمات الهجيرا وقوله: " سابغ الأليتين " يعني: عظيم الأليتين. [مسألة: جامع بعد طهر ثم قذفها فله أن يلاعن] ] : إذا طهرت امرأة من الحيض، وجامعها في ذلك الطهر، ثم قذفها بزنا في ذلك الطهر.. فله أن يلاعن لإسقاط الحد بلا خلاف، وله أن يلاعن لنفي النسب الحادث في ذلك الطهر، وبه قال عطاء، وأبو حنيفة. وقال مالك: (ليس له أن يلاعن لنفي النسب منه) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] . ولم يفرق بين أن يكون وطئها أو لم يطأها. ولأنه رماها بزنا، وأتت بولد يمكن أن يكون منه، فكان له نفيه باللعان، كما لو لم يطأها فيه. [فرع: عزل وحملت] ] : إذا كان يجامع امرأته ويعزل عنها - وهو: أنه إذا أراد الإنزال نزع وأنزل الماء بعد النزع - فأتت بولد لمدة الحمل.. لحقه، ولا يجوز له نفيه؛ لما روي: أنه «قيل للنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إنا نصيب السبايا، ونحب الأثمان، أفنعزل عنهن؟ فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " إن الله إذا قضى خلق نسمة.. خلقها» ، و: «لا عليكم أن لا تفعلوا، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة..» ولأن كل حكم تعلق بالوطء.. فإنه

مسألة: قذف امرأته الحامل وادعى زناها لاعنها

يتعلق بالإيلاج دون الإنزال، كالغسل، والمهر، والعدة، وغير ذلك، فكذلك ثبوت النسب، ولأنه ربما سبق من الماء ما لا يحس به، فتعلق به، فلم يجز له نفيه. وإن كان يطؤها فيما دون الفرج، وأتت بولد.. فهل يجوز له نفيه باللعان؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له نفيه؛ لأنه قد يسبق منه الماء إلى فرجها، فتحمل منه، كما لو وطئ البكر، فحملت. والثاني - وهو المذهب -: أنه يجوز له نفيه؛ لأن كل حكم تعلق بالوطء.. فإنه لا يتعلق بالوطء فيما دون الفرج، كالغسل، والمهر، والعدة، فكذلك ثبوت النسب. وإن كان يطؤها في الدبر، وأتت بولد.. فهل يجوز له نفيه باللعان؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له نفيه؛ لأنه قد يسبق الماء إلى فرجها، فتعلق به. والثاني: يجوز له نفيه؛ لأنه وطئها في موضع لا تحبل منه بحال، فهو كما لو وطئها في سرتها وأنزل. [مسألة: قذف امرأته الحامل وادعى زناها لاعنها] ] : إذا قذف زوجته وهي حامل، وادعى أنها حملت من الزنا.. فله أن يلاعن لنفي الحمل قبل وضعه. وقال أبو حنيفة: (ليس له أن يلاعن قبل وضع الحمل لأجل نفي الحمل، فإن لاعن.. بانت، ووقعت الفرقة، فإذا وضعت.. لم ينتف النسب، ولحقه، ولم يكن له أن يلاعن بعد ذلك لنفي النسب) . دليلنا: حديث هلال بن أمية: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بينهما على الحمل قبل وضعه) .

ولأن كل سبب جاز اللعان لأجله بعد انفصال الولد.. جاز اللعان لأجله قبل انفصال الولد، كزوال الفراش. إذا ثبت هذا: فله أن يؤخر اللعان إلى أن تضع إذا لم يتيقن الحمل؛ لجواز أن يكون ريحا فتنفش، أو غلظا، فكان له التأخير ليلاعن على يقين. وإن رآها حاملا ولم ينف الحمل، فلما ولدت أراد النفي.. قيل له: قد علمتها حاملا، فلم لم تنفه؟ أكنت قد أقررت بالولد؟ فإن قال: لم أقر به، وإنما لم أنفه؛ لأني لم أتحققها حاملا، بل جوزت أنه ريح أو غلظ.. حلف على ذلك؛ لأنه يحتمل ما يدعيه، وكان له نفيه باللعان. وإن قال: قد علمتها حاملا لا محالة، ولكني أخرت لعلها تسقطه، أو يموت بعد الولادة، أو تموت هي.. لحقه الولد، ولم يكن له نفيه باللعان؛ لأنه ترك النفي لغير عذر. وإن كان الولد منفصلا.. فله نفيه. وخيار النفي عندنا على الفور. وقال أبو حنيفة: (القياس: أن يكون على الفور، غير أنه إن أخر ذلك اليوم أو اليومين ... كان له ذلك استحسانا) . وقال أبو يوسف، ومحمد: له أن يؤخر ذلك مدة النفاس. وهي أربعون يوما عندهم. وقال عطاء، ومجاهد: له النفي أبدا، إلا أن يقر به. دليلنا: أنه خيار لدفع ضرر متحقق، فإذا لم يتأبد.. كان على الفور، كخيار الرد بالعيب. وقولنا: (لدفع ضرر متحقق) احتراز من الحمل؛ فإن الخيار فيه إلى أن تضع؛ لأنه غير متحقق. وقولنا: (إذا لم يتأبد) احتراز من الخيار في القصاص.

فرع: ادعاؤه نفي علمه بالولادة

إذا ثبت هذا: فهل تتقدر مدة الخيار فيه بثلاثة أيام؟ فيه قولان: أحدهما: تتقدر بثلاثة أيام، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن إلحاقه بنفسه نسبا ليس منه محرم عليه، ونفيه نسبا ثابتا منه محرم عليه. وإذا كان كذلك، وولدت امرأته ولدا.. فلا بد أن يتأمله؛ هل يشبهه، أو يشبه الزاني؟! وهل هو منه أو من غيره؟! ويفكر في ذلك، وذلك لا يمكنه في الحال، فقدر ثلاثة أيام؛ لأنها قريبة، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64] [هود: 64] . ثم فسر القريب بالثلاث، فقال تعالى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] [هود: 65] . والثاني: لا تتقدر بالثلاث، بل هو على الفور، وهو الأصح؛ لأنه خيار لدفع ضرر متحقق غير مؤبد، فكان على الفور، كخيار الرد بالعيب. فإذا قلنا بهذا: فمعنى قولنا: (على الفور) على ما جرت العادة به، فإن كان حاضرا.. فلسنا نريد أنه يعدو إلى الحاكم حين يسمع بالولادة بكل حال، بل له التأخير بعذر؛ وذلك: أن له أن يؤخر إلى أن يلبس ثوبه، وإن كان ممن يركب.. فحتى تسرج له دابته، وإن كان جائعا.. فحتى يأكل، وإن كان ظمآنا.. فحتى يشرب الماء، وإن حضرت صلاة.. فحتى يصلي، وإن كان ماله غير محرز.. فله أن يؤخر إلى أن يحرز ماله، وما أشبه ذلك، ثم يذهب إلى الحاكم، ويعرفه أنه قد نفى الولد، ويريد أن يلاعن، ثم يستدعي الحاكم المرأة. [فرع: ادعاؤه نفي علمه بالولادة] ] : وإن ادعى: أنه لم يعلم أنها ولدت، فإن لم يمكن أن يكون صادقا في ذلك، مثل: أن يكون في دار واحدة أو محلة واحدة.. لم يقبل قوله؛ لأن الظاهر أنه لا يخفى عليه ذلك، وإن كان كل واحد منهما في جانب من البلد، أو كل واحد منهما في محلة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.

فرع: تأخر الملاعن لمرض أو حبس

وإن قال: علمت بولادتها، ولم أعلم أن لي النفي، أو علمت أن لي النفي، ولكن لم أكن أعلم أنه على الفور.. نظرت: فإن كان ممن يعرف شيئا من الفقه، أو ممن يخالط الفقهاء.. لم يصدق؛ لأن مثل هذا لا يخفى عليه. وإن كان قريب العهد بالإسلام، أو ممن تقدم إسلامه، إلا أنه ممن نشأ في بادية بعيدة لا يعرف من الحكم مثل هذا.. قبل قوله؛ لأن الظاهر أنه يخفى عليه مثل ذلك. وإن كان من العامة الذين قد يسمعون العلماء وقد لا يسمعونهم.. فهل يقبل قوله؟ فيه وجهان، بناء على القولين في الأمة إذا أعتقت تحت عبد، وادعت: أنها لم تعلم أن لها الخيار: أحدهما: لا يقبل قوله، كما لا يقبل قوله إذا ادعى: أنه لا يعلم أن له رد المبيع بالعيب. والثاني: يقبل قوله؛ لأن هذا لا يعرفه إلا العلماء أو من يخالطهم. [فرع: تأخر الملاعن لمرض أو حبس] ] : وإن كان الزوج مريضا أو محبوسا لا يقدر على الحضور إلى عند الحاكم، فإن كان يقدر على أن ينفذ إلى الحاكم رجلا لينفذ إليه من يستوفي عليه اللعان في موضعه، فلم يفعل.. سقط حقه من النفي، وإن كان لا يقدر على ذلك.. فإنه يشهد على نفسه: أنه مقيم على حقه من النفي، فإن لم يشهد مع الإمكان.. سقط حقه من النفي، وإن لم يقدر على الإشهاد.. لم يسقط حقه.

فرع: إجابة النافي للولد بآمين ونحوها

وإن كان غائبا، فبلغه الخبر: أنها ولدت، وصدق الخبر، فإن كان الطريق آمنا يمكنه سلوكه، فاشتغل بالخروج عقيب علمه.. لم يسقط خياره، وإن لم يقدر على المسير، مثل أن لم يجد رفقة يسير معهم، أو وجد رفقة ولكن الطريق مخوف.. فإنه يشهد على نفسه: أنه مقيم على النفي، فإن لم يشهد مع القدرة عليه.. سقط حقه من النفي. وإن قال: قد بلغني أنها ولدت، ولم أصدق، فإن كان قد سمع ذلك بالاستفاضة من جماعة لا يجوز عليهم الكذب.. لم يعذر في ذلك، وإن سمع ذلك بخبر واحد أو اثنين.. قال الشيخ أبو حامد في " التعليق ": عذر في ذلك، وكان له النفي؛ لأن الإنسان قد لا يصدق الواحد والاثنين؛ لأنه يجوز عليهم الكذب. [فرع: إجابة النافي للولد بآمين ونحوها] ] : وإن هنأه رجل بالولد، فقال: بارك الله لك في ولدك، أو جعله الله ولد صالحا.. نظرت فيه: فإن قال: آمين، أو استجاب الله دعاك.. سقط حقه من النفي؛ لأن معنى قوله: (آمين) اللهم استجب دعاءه، وذلك يتضمن الإقرار به. وإن قال: بارك الله عليك، أو أحسن الله جزاءك، أو رزقك الله مثله.. لم يسقط حقه من النفي. وقال أبو حنيفة: (يسقط) . دليلنا: أن ذلك لا يتضمن الإقرار به؛ لأن الظاهر أنه أراد رد الدعاء عليه، كقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] [النساء: 86] . [مسألة: قذف امرأته ونفى ولدا باللعان فجاءت بآخر] إذا قذف امرأته ونفى نسب ولدها باللعان، ثم أتت بولد آخر.. فلا يخلو: إما أن يكون لاعن على نفي ولد منفصل، أو لاعن على نفي حمل. فإن لاعن على نفي ولد منفصل، ثم أتت بعد اللعان بولد آخر.. نظرت:

فرع: قذف امرأة أتت بتوأمين فلاعن لنفيهما

فإن كان بين الحمل الأول والثاني دون ستة أشهر.. فإنهما حمل واحد، فيكون له نفي الثاني باللعان، فإن نفاه باللعان.. انتفى باللعان الثاني، وقد انتفى الأول باللعان الأول، وإن أقر بالثاني، أو أخر نفيه من غير عذر.. لحقه نسبه؛ لأنه أقر بثبوت نسبه، أو ترك نفيه من غير عذر، فإذا لحقه الثاني.. لحقه الأول أيضا؛ لأنا قد حكمنا بأنهما من حمل واحد، ولا يجوز أن يكون بعض الحمل منه وبعضه ليس منه، فجعل ما نفاه لما أقر به، ولم يجعل ما أقر به تابعا لما نفاه؛ لأن النسب يحتاط لإثباته، ولا يحتاط لنفيه. وإن كان بين الولد الأول والثاني ستة أشهر فما زاد.. فإن الشيخ أبا إسحاق قال: ينتفي عنه الثاني بغير لعان؛ لأنها علقت به بعد زوال الفراش. وقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: يلحقه الثاني؛ لأنه يحتمل أن يكون أصابها بعد وضعها الأول، ثم قذفها الأول وهي حامل منه بالإصابة بعد الوضع، فوجب أن يلحقه. ويكون له نفيه باللعان، فإن نفاه عنه باللعان.. انتفى عنه، وإن أقر به، أو ترك نفيه من غير عذر.. لحقه الثاني، ولا يلحقه الأول؛ لأنا حكمنا أنهما من حملين، فلا يلحقه أحدهما تبعا للآخر، بخلاف الأول. وإن لاعنها على حمل، فوضعت ولدا، ثم أتت بولد آخر.. فإن كان ما بين وضع الولدين ما دون ستة أشهر أو ستة أشهر.. انتفى الولدان كلاهما باللعان الأول؛ لأنا نقطع على أنهما من حمل واحد، وأنه كان موجودا وقت اللعان، وإن كان بينهما ستة أشهر فما زاد.. انتفى الثاني عنه بغير لعان؛ لأنا نقطع أنهما من حملين، وأن هذا الولد علقت به بعد وضع الأول، وقد بانت منه باللعان. [فرع: قذف امرأة أتت بتوأمين فلاعن لنفيهما] ] : وإن تزوج امرأة، فأتت بولدين توأمين، فإن قذف أمهما ونفى نسبهما.. كان له أن يلاعن لنفيهما، وإن أقر بنسب أحدهما، وانتفى عن الآخر.. لحقه الولدان؛ لأنهما حمل واحد، فلا يجوز له أن يكون أحدهما منه، والآخر من غيره.

مسألة: تزوج امرأة فقذفها

وإن أتت منه بولد، فنفاه باللعان، فمات الزوج، ثم أتت بولد آخر لدون ستة أشهر من ولادة الأول.. لحقه الولدان؛ لأنهما حمل واحد، فلا ينتفي عنه الثاني بغير لعان، فلحقه، فإذا لحقه الثاني.. لحقه الأول؛ لأنهما من حمل واحد، فلا يتبعض حكمهما. [مسألة: تزوج امرأة فقذفها] ] : وإن تزوج امرأة، وقال لها: زنيت قبل أن أتزوجك.. وجب عليه حد القذف، وهل له أن يسقطه باللعان؟ ينظر فيه: فإن لم يكن هناك نسب يلحقه من هذا الزنا.. لم يكن له أن يلاعن، وبه قال مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنهما. وقال أبو حنيفة: (له أن يلاعن) . دليلنا: أنه قذف غير محتاج إليه، فلم يجز له اللعان لأجله، كقذف الأجنبي. وإن كان هناك ولد، وادعى: أنه من هذا الزنا.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، واختيار أبي علي الطبري، والقاضي أبي الطيب -: أن له أن يلاعن لأجله. قال: لأن به حاجة إلى هذا القذف لنفي هذا الولد، كما لو أضاف الزنا إلى حال الزوجية. والثاني - وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد -: ليس له أن يلاعن لأجله؛ لأنه لا حاجة به إلى أن يقذفها بزنا يضيفه إلى ما قبل النكاح، بل كان يمكنه أن يقذفها بزنا مطلق، وأن الحمل ليس منه، بل هو من زنا.

فرع: طلقها طلاقا رجعيا فقذفها

[فرع: طلقها طلاقا رجعيا فقذفها] ] : وإن طلق امرأته طلاقا رجعيا، فقذفها بزنا أضافه إلى ما قبل الطلاق في الزوجية، أو إلى ما بعد الطلاق في العدة.. كان له أن يلاعن؛ لأنها في معنى الزوجات بالظهار، والإيلاء، والميراث، فكانت في معنى الزوجات بالقذف واللعان. [فرع: أبان زوجته أو فسخ نكاحها ثم قذفها] ] : وإن تزوج امرأة فأبانها بالثلاث، أو خالعها، أو فسخ نكاحها بعيب، ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال الزوجية، فإن لم يكن هناك نسب يلحقه منها.. لم يكن له أن يلاعن، وإن كان هناك نسب يلحقه منها.. كان له أن يلاعن. وقال عثمان البتي: له أن يلاعن بكل حال. وقال أبو حنيفة: (ليس له أن يلاعن بكل حال) . دليلنا: أنه إذا لم هناك نسب يلحقه منها.. فلا حاجة به إلى قذفها، فلم يكن له اللعان لأجله، كقذف الأجنبي، فإذا كان هناك نسب يلحقه منها.. فهناك به حاجة إلى قذفها لنفي النسب عنه، فهو كقذف الزوجة. إذا ثبت هذا: فإن كان الولد منفصلا.. لاعن لأجله، وإن كان حملا.. فله أن يؤخر إلى أن تضع، وهل له أن يلاعن قبل أن تضع؟ روى المزني في " المختصر ": (أن له أن يلاعن) . وروى في " الجامع الكبير ": (أنه لا يلاعن) . واختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق: لا يلاعن، قولا واحدا، وحيث قال: (يلاعن) أراد: إذا انفصل. وقد قال الشافعي في " الأم ": (لا يلاعن حتى ينفصل) . ومن أصحابنا من قال: فيه قولان - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -:

فرع: قذفها ثم بتها ثلاثا أو مخالعة فطالبته بحدها

أحدهما: له أن يلاعن؛ لأن كل امرأة كان له لعانها بعد انفصال ولدها.. كان له لعانها قبل انفصاله، كالزوجة. والثاني: ليس له أن يلاعن حتى تضع الولد؛ لأن اللعان هاهنا إنما ثبت لأجل نفي النسب، والنسب لا يتحقق قبل وضع الولد؛ لجواز أن يكون ريحا فينفش، فلم يكن له اللعان قبل الوضع. وإن تزوج امرأة وماتت، ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال الزوجية.. وجب عليه حد القذف، فإن طالبه ورثتها بالحد، فإن لم يكن هناك ولد.. لم يلاعن لنفي الحد؛ لأنه قذف غير محتاج إليه، وإن كان هناك نسب ولد يريد نفيه.. كان له أن يلاعن؛ لأنه محتاج إليه لنفي الولد. [فرع: قذفها ثم بتها ثلاثا أو مخالعة فطالبته بحدها] ] : وإن قذف زوجته، ثم طلقها طلاقا ثلاثا أو خالعها، ثم طالبته بحدها.. كان له أن يلاعن، سواء كان هناك ولد أو لم يكن؛ لأنه لعان عن قذف كان محتاجا إليه، فهو كما لو لم يطلقها، وهل تحرم عليه على التأبيد؟ فيه وجهان، يأتي ذكرهما. [فرع: قذفها وأقام البينة فسقط عنه الحد] ] : وإن قذف زوجته، وأقام عليها أربعة شهود بزناها.. سقط عنه حد القذف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية [النور: 4] . فدل على: أنه إذا أتى بأربعة شهداء.. لم يجلد. فإن لم يكن هناك ولد يلحقه منها.. لم يكن له أن يلاعن؛ لأن اللعان لدرء الحد أو لنفي النسب، وليس هناك واحد منهما. وإن كان هناك ولد يلحقه منها.. فله أن يلاعن لنفيه؛ لأنه لا ينتفي عنه بالبينة، فإن كان ولدا منفصلا.. فله أن يلاعن، وإن كان حملا.. فله أن يصبر باللعان إلى أن تضع، وهل له أن يلاعن لنفيه قبل الوضع؟ على الطريقين في التي قبلها.

مسألة: لا يعد ملك الأمة فراشا إلا بالبينة

وإن قذف زوجته بالزنا، فأقرت به.. لم يجب عليه حد القذف، فإن كان هناك ولد يلحقه منها.. فإنه لا ينتفي عنه بإقرارها بالزنا، وله أن يلاعن لنفيه، فإن كان منفصلا.. فله أن يلاعن لأجله، وإن كان حملا.. فهل له أن يلاعن لنفيه قبل انفصاله؟ أيضا على الطريقين. وإن تزوج امرأة تزويجا فاسدا، وقذفها.. وجب عليه حد القذف، وليس له أن يلاعن لدرء حد القذف عنه؛ لأن اللعان حكم يختص بالزوجين، وإن كان هناك ولد يلحقه منها.. فله أن يلاعن لنفيه. وقال أبو حنيفة: (ليس له نفيه باللعان) . دليلنا: أن الولد في النكاح الفاسد كالولد في النكاح الصحيح في ثبوته، فكذلك في نفيه، فإن كان منفصلا.. فله أن يلاعن لنفيه، وإن كان حملا.. فهل له أن يلاعن لنفيه قبل انفصاله؟ على الطريقين في التي قبلها. [مسألة: لا يعد ملك الأمة فراشا إلا بالبينة] إذا ملك الرجل أمة.. فإنها لا تصير فراشا له بنفس الملك؛ لأنه قد يملك الأمة للاستمتاع، وللخدمة، وللتمول، فلم تصر فراشا له بنفس الملك. قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع. فإن أقر بوطئها، أو قامت عليه بينة: أنه وطئها.. صارت فراشا له، ومتى أتت بولد لمدة الحمل من وقت الوطء.. لحقه نسبه، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد. وقال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (لا تصير فراشا ولو وطئها عشرين سنة فأكثر، فإن كل ولد تلده فهو مملوك له، إلا أن يقر بواحد: أنه ابنه، فيثبت نسبه منه، وتصير فراشا له، ويلحقه كل ولد تلده بعد ذلك) .

وقال في (الطلاق) : (إذا قال الرجل: كل امرأة أتزوجها.. فهي طالق ثلاثا، ثم تزوج امرأة.. فإنها تطلق عقيب العقد، فلو أتت بولد لستة أشهر فصاعدا من حين العقد.. لحقه بالفراش) . وهذا تخليط. دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابن أمة زمعة، فقال سعد: يا رسول الله، إن أخي عتبة أوصاني إذا قدمت مكة أن أطلب ابن أمة زمعة، وأقبضه، فإنه ابنه، ألم بها في الجاهلية، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن أمة أبي ولد على فراشه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هو لك يا عبد بن زمعة. الولد للفراش، وللعاهر الحجر» . فموضع الدليل: أن عبد بن زمعة قال: ولد على فراشه. فلم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كون الأمة فراشا، بل ألحق بأبيه الولد. والظاهر أنه ألحقه به وبالنسب الذي ادعى به، ولم يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هل ولدت له قبل ذلك، أم لا؟ ولو كان الحكم يختلف بذلك.. لسأل عنه. وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (ما بال رجال يطؤون ولائدهم، ثم يعزلونهن - وروي: ثم يرسلونهن - ما تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها.. إلا ألحقت به ولدها، فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا) . وروي: (أمسكوهن بعد أو أرسلوهن) . ولا مخالف له في الصحابة، فدل على: أنه إجماع. ولأنه معنى يثبت به تحريم المصاهرة، فجاز أن يثبت به الفراش، كعقد النكاح.

فرع: أقر بوطء أمته

[فرع: أقر بوطء أمته] ] : وإن أتت أمته بولد، وأقر: أنه كان يطؤها، إلا أنه كان يعزل عنها.. لحقه الولد؛ لما روى أبو سعيد الخدري: «أن قوما قالوا: يا رسول الله، إنا نصيب السبايا، ونحب الأثمان، أفنعزل عنهن؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله إذا قضى خلق نسمة.. خلقها» . ولأن أحكام الوطء تتعلق بالإيلاج دون الإنزال، ولأنه قد يسبق منه من الماء ما لا يحسن به.. فتعلق به. وإن أقر: أنه كان يطؤها دون الفرج، أو أنه كان يطؤها في دبرها.. فهل يلحقه ولدها؟ فيه وجهان، كما قلنا فيمن وطئ امرأته كذلك وأتت بولد.. هل له نفيه باللعان؟ [فرع: صارت فراشا وأتت بولد] ] : إذا صارت الأمة فراشا له بإقراره بوطئها، أو بالبينة على وطئها، ثم أتت بولد لمدة الحمل من وقت الوطء، فنفاه، وادعى: أنه استبرأها بعد الوطء، وأن هذا الولد حدث من غيره بعد الاستبراء، فحلف عليه.. فقد قال الشافعي هاهنا: (لا يلحقه) . وقال في المطلقة ثلاثا، إذا أقرت بانقضاء عدتها بالأقراء، ثم أتت بولد يمكن أن يكون منه: (لحقه) . وجعل أبو العباس المسألتين على قولين. وقال أكثر أصحابنا: يلحقه ولد الزوجة، قولا واحدا، وقد مضى الدليل عليه، ولا يلحقه ولد الأمة، قولا واحدا. والفرق بينهما: أن ولد الزوجة يلحقه بالإمكان، وولد الأمة لا يلحقه بالإمكان، وإنما يلحقه بالوطء، وإذا استبرأها.. بطل حكم الوطء، وبقي الإمكان، وولدها لا يلحقه بالإمكان.

مسألة: قذفها ولم تطالبه بحد ثم قذفها بآخر

وإذا أراد نفي ولد أمته عنه.. فالمنصوص: (أن له أن ينفيه بغير لعان) . وحكي عن أحمد بن حنبل: أنه قال: (أما ترون إلى أبي عبد الله يقول: إن ولد الأمة ينفى باللعان؟!) . واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: أراد أحمد بقوله: (أبي عبد الله) الشافعي، وأنه قال: (ينفي ولده من أمته باللعان) . وجعل المسألة على قولين: أحدهما: ينفى عنه باللعان؛ لأنه ولد لم يرض به، فكان له نفيه باللعان، كولد زوجته. والثاني: ليس له نفيه باللعان؛ لأنه يمكنه نفيه بدعوى الاستبراء، فلا حاجة به إلى اللعان، وكل موضع ليس به حاجة إلى اللعان.. لم يكن له أن يلاعن، كقذف الأجنبية، ويخالف الزوجة، فإنه لا يمكنه نفي ولدها إلا باللعان. ومن أصحابنا من قال: ليس له نفيه باللعان، قولا واحدا؛ لما ذكرناه، وقول أحمد: (أبي عبد الله) لم يرد به الشافعي، بل يحتمل أنه أراد به: مالك بن أنس، أو أبا عبد الله سفيان الثوري، فلا يضاف ذلك إلى الشافعي بالشك. ومنهم من قال: بل أراد أحمد بذلك الشافعي، وإنما لم يرد به: أن الشافعي يقول: إن الرجل ينفي ولد أمته باللعان، وإنما أراد: أن الشافعي يقول: (إذا تزوج الرجل أمة، وأتت بولد.. فإن له أن ينفيه باللعان) . وأحمد يقول: (ليس له نفيه باللعان) فيكون ذلك بيانا لمذهبه. [مسألة: قذفها ولم تطالبه بحد ثم قذفها بآخر] ] : إذا قذف زوجته، فلم تطالبه بحدها، ولم يقم عليها البينة، ولا لاعنها، ثم قذفها بزنا آخر، وأراد اللعان.. كفاه لعان واحد؛ لأنه يجب عليه حد واحد في أحد القولين، فكفاه لعان واحد.

ويجب عليه حدان في القول الثاني، إلا أن اللعان يمين، واليمين الواحدة تنفي الحقين لواحد وأكثر. وإن قذف أربع زوجات له بكلمة واحدة أو كلمات، وأراد اللعان.. لاعن عن كل واحدة منهن لعانا؛ لأن اللعان يمين، والأيمان لجماعة لا تتداخل في الأموال، ففي اللعان أولى. فعلى هذا: إن قذفهن بكلمة واحدة، وتشاحن في البداية.. أقرع بينهن؛ لأنه لا مزية لبعضهن على بعض، وإن بدأ بلعان واحدة منهن برضا البواقي أو بغير رضاهن.. صح لعانه؛ لأن كل واحدة منهن تصل إلى حقها منه. وإن قذفهن بكلمات، وطلبت كل منهن الحد في وقت واحد، وأراد اللعان.. بدأ بلعان من قذفها أولا؛ لأن حقها أسبق، ثم بالتي قذفها بعدها، ثم بالتي بعدها إلى أن يلاعن جميعهن. فإن لاعن أولا من قذفها آخرا.. صح؛ لأن المقذوفة قبلها تصل إلى حقها منه. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قذف أربع نسوة. فهل يلاعن عنهن مرة واحدة، أو أربع مرات؟ فيه وجهان. وبالله التوفيق.

باب من يصح لعانه وكيف اللعان وما يوجبه من الأحكام

[باب من يصح لعانه وكيف اللعان وما يوجبه من الأحكام] يصح اللعان من كل زوجين مكلفين، سواء كانا مسلمين أو كافرين، أو أحدهما مسلما والآخر كافرا، وسواء كانا حرين أو مملوكين، أو أحدهما حرا والآخر مملوكا، وسواء كانا محدودين أو غير محدودين، وبه قال ابن المسيب، وسليمان بن يسار، والحسن البصري، وربيعة، ومالك، وأحمد، والليث. وقال الزهري، والثوري، وحماد بن أبي سليمان، وأبو حنيفة: (لا يصح اللعان إلا بين زوجين حرين مسلمين غير محدودين في قذف، ويصح اللعان بين الفاسقين) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] . وهذا عام يتناول جميع ما ذكرناه. ولأنه يمين بالله تعالى، فصح من جميع من ذكرناه، كسائر الأيمان. يؤيده قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا الأيمان.. لكان لي ولها شأن» . ولا يصح اللعان من الصبي والمجنون؛ لأنه قول يوجب الفرقة، فلم يصح منهما، كالطلاق. [مسألة: إشارة الأخرس كنطقه في النكاح وغيره] ] : وأما الأخرس: فإن لم يكن له إشارة مفهومة ولا يحسن يكتب.. فلا يصح نكاحه، ولا بيعه، ولا شراؤه، ولا قذفه، ولا لعانه؛ لأنه في معنى المجنون. وإن كانت له إشارة مفهومة، أو يحسن يكتب.. فحكمه حكم الناطق، ويصح بيعه، وشراؤه، ونكاحه، وطلاقه، وقذفه، ولعانه.

فرع: نفي الأخرس اللعان بالكلام بعد إثباته بإشارته

وقال أبو حنيفة: (يصح نكاحه وطلاقه، ولا يصح قذفه ولعانه) . دليلنا: أنه يصح نكاحه وطلاقه، فصح قذفه ولعانه، كالناطق. ولأنه يصح يمينه في غير اللعان، فصح في اللعان كالناطق. وأما الزوجة إذا كانت خرساء: فإن كانت لها إشارة مفهومة، أو كانت تحسن تكتب، فقذفها الزوج.. فهي كالناطقة في لعانها. وإن لم يكن لها إشارة مفهومة، ولا تحسن تكتب، فقذفها الزوج، فإن كانت حائلا.. لم يكن للزوج أن يلاعنها؛ لأنه لا يلاعنها حتى تطالبه بحدها، ولا يصح منها المطالبة، وإن كانت حاملا.. فله أن يلاعنها لينفي عنه النسب. [فرع: نفي الأخرس اللعان بالكلام بعد إثباته بإشارته] ] : وإن لاعن الأخرس بالإشارة المفهومة، ثم زال خرسه، فتكلم، فقال: ما قصدت اللعان بما أشرت.. لم يقبل قوله فيما له؛ وهو عود الزوجة، ويقبل فيما عليه، فيطالب بالحد، ويلحقه الولد. فإن قال: أنا ألاعن لنفي الحد والنسب.. كان له ذلك؛ لأن ذلك إنما لزمه لإقراره: أنه لم يلاعن، فكان له أن يلاعن. فأما إذا أنكر القذف واللعان معا: لم يقبل قوله في القذف؛ لأنه قد تعلق به حق الغير بحكم الظاهر، فلا يقبل إنكاره له. [فرع: اعتقل لسانه بعد قذفه] ] : وإن قذف امرأته، ثم مرض واعتقل لسانه، فإن قال طبيبان عدلان من أطباء المسلمين: إن هذا لا يزول.. كان كالأخرس، وإن قالا: إنه يزول.. ففيه وجهان:

مسألة: اللعان بالعجمية

أحدهما: لا يصح لعانه إلا بالنطق؛ لأن هذا يزول، فهو كالساكت. والثاني: أنه كالأخرس؛ لما روي: (أن أمامة بنت أبي العاص أصمتت - أي: اعتقل لسانها - فقيل لها: لفلان عليك كذا، ولفلان كذا، فأشارت - أي: نعم - فرفع ذلك إلى الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فرأوا أن ذلك وصية) ، ولأنه عاجز عن النطق، فهو كالأخرس. [مسألة: اللعان بالعجمية] كالعربية] : وأي الزوجين كان أعجميا، فإن كان يحسن العربية.. فهل يصح لعانه بالعجمية؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: يصح؛ لأنه يمين، فصح بالعجمية مع القدرة على العربية، كسائر الأيمان. والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره -: أنه لا يصح؛ لأن القرآن ورد بألفاظ اللعان، فلا يصح منه بغيرها مع القدرة عليها. وإن كان لا يحسن العربية.. لاعن بلسانه؛ لأنه ليس بأكبر من أذكار الصلاة، وأذكار الصلاة تصح بالعربية، وبالعجمية إذا لم يحسن العربية. فإن كان الحاكم يعرف لسانهما.. لم يحتج إلى مترجم، والمستحب: أن يحضر أربعة يحسنون لسانهما. وإن كان الحاكم لا يعرف لسانهما.. فلا بد أن يحضر من يعرف لسانهما. واختلف أصحابنا في عددهم: فمنهم من قال: يكفي اثنان، كالأيمان في غير اللعان، والمستحب: أن يكونوا أربعة. ومنهم من قال: يبنى على القولين في الإقرار بالزنا، فإن قلنا: يقبل فيه

مسألة: يشترط للعان حضور الإمام أو الحاكم

شاهدان.. أجزأ في الترجمة اثنان، وإن قلنا: لا يثبت إلا بأربعة.. لم يقبل في الترجمة إلا أربعة؛ لأنه قول يثبت به حد الزنا، فأشبه الإقرار. قال ابن الصباغ: والأول أصح؛ لأن اللعان لا يتضمن الإقرار بالزنا. فإن أقرت.. فعلى القولين. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (يكفي مترجم واحد) . دليلنا: أنهما يثبتان قولا يحكم به الحاكم، فكان العدد شرطا فيه، كسائر الشهادات. [مسألة: يشترط للعان حضور الإمام أو الحاكم] ] : ولا يصح اللعان إلا بحضرة الإمام أو الحاكم؛ لأنها يمين، فلم تصح إلا بحضرة الحاكم، كاليمين في سائر الدعاوي. ولأن من الناس من لا يجيز لعان الذمي والعبد والمحدود، فكان موضع اجتهاد، فافتقر إلى الحاكم، كفسخ النكاح بالعيب. ولا يصح حتى يستدعي الحاكم اللعان، فيقول للزوج: قل: أشهد بالله؛ لما روي: «أن ركانة بن عبد يزيد قال: يا رسول الله، إني طلقت امرأتي سهيمة البتة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما أردت بالبتة؟ "، قال ركانة: والله ما أردت به إلا واحدة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " والله ما أردت به إلا واحدة؟ "، قال ركانة: والله ما أردت به إلا واحدة» . فلما حلف ركانة من غير أن يستدعيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمين.. لم يكتف

مسألة: كيفية الملاعنة

بذلك منه، بل استدعى منه اليمين ثانيا، فدل على: أنها لا تصح من غير استدعاء. فإن حكم الزوجان رجلا يصلح للحكم يلاعن بينهما، فلاعن بينهما.. فهل يصح ذلك؟ فيه وجهان، يأتي بيانهما في موضعه. وإن زوج الرجل عبده أمته، فقذف العبد الأمة.. فللسيد أن يلاعن بينهما؛ لأنه يملك إقامة الحد عليهما، فملك اللعان بينهما، كالحاكم. [مسألة: كيفية الملاعنة] ] : واللعان: أن يقول الحاكم للزوج أربع مرات: قل: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان من الزنا، ويرفع في نسبها؛ حتى لا تشاركها امرأة له أخرى إن كانت غائبة، وإن كانت حاضرة.. قال: فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان هذه، ويشير إليها، وهل يشترط أن يجمع بين ذكر نسبها وبين الإشارة إليها؟ فيه وجهان: أحدهما: يشترط أن يجمع بينهما؛ لأن اللعان مبني على التأكيد والتغليظ، فوجب الجمع بينهما. والثاني: لا يشترط الجمع بينهما، بل يكفي أن يقول: زوجتي هذه؛ لأن التمييز يحصل بذلك، كما يكفي في النكاح أن يقول الولي: زوجتك هذه، ويقول الزوج: هذه طالق. فإن كان هناك ولد أو حمل يريد الزوج نفيه عنه باللعان.. قال في كل مرة: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة ابنة فلان من الزنا، وأن هذا الحمل، أو هذا الولد من الزنا، وليس مني. وإن قال: وأن هذا الولد ليس مني، ولم يقل: وأنه من الزنا.. لم ينتف عنه؛ لأنه يحتمل أن يريد: ليس مني خلقا أو خلقا.

وإن قال: وأن هذا الولد من الزنا، ولم يقل: وليس مني.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول القاضي أبي حامد -: أنه ينتفي عنه؛ لأن ولد الزنا لا يكون منه. والثاني: لا ينتفي عنه؛ لجواز أن يعتقد أن الوطء في النكاح بلا ولي زنا - على قول الصيرفي - وقد ينكح بلا ولي ويطؤها فيه، وذلك ليس بزنا، فوجب أن يقول: وليس مني؛ لينفي الاحتمال. وإن قذفها بزنيتين.. ذكرهما في كل مرة. وإن قذفها برجل بعينه.. ذكره في كل شهادة. فإذا شهد الزوج بذلك أربع مرات.. فالمستحب: أن يوقفه الحاكم، ويعظه، ويقول له: إني أخاف إن لم تكن صادقا أن تبوء بلعنة الله، اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن الخامسة موجبة عليك العذاب. ويأمر رجلا يضع يده على فيه، فإن أبى.. قال له الحاكم: قل: وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي فلانة ابنة فلان من الزنا، وأن هذا الولد من زنا، وليس مني، ثم تقوم الزوجة، ويقول لها الحاكم أربع مرات: قولي: أشهد بالله إن زوجي فلان ابن فلان لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، إن كان زوجها غائبا. قال ابن الصباغ: وإن كان حاضرا.. أشارت إليه، وهل تحتاج إلى نسبه والإشارة إليه؟ على الوجهين. ولا تحتاج المرأة إلى ذكر الولد في لعانها؛ لأنه لا حق لها فيه. فإذا شهدت بذلك أربع مرات.. وقفها الحاكم، ووعظها، كما قلنا في الزوج، وقال لها: اتقي الله؛ فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن الخامسة موجبة

عليك الغضب. ويأمر امرأة تضع يدها على فيها، فإن أبت.. قال لها الخامسة: قولي: وعلي غضب الله إن كان زوجي فلان بن فلان من الصادقين فيما رماني به من الزنا. والدليل على هذا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6] الآية [النور: 6] . وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما لاعن بين هلال بن أمية وامرأته.. قال له: " يا هلال، قم فاشهد "، فلما شهد أربعا.. قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اتق الله يا هلال، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإنها موجبة عليك العذاب» . وفي بعض الأخبار: «أنه وضع يده على فيه، فقال هلال: والله، لن يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها، فشهد الخامسة. ولما شهدت المرأة أربعا.. قال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ". قال: فتلكأت ساعة، ونكصت، حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: والله لا فضحت قومي، فشهدت الخامسة» . فإن أخل أحدهما بأحد هذه الألفاظ الخمسة.. لم يتعلق بلعانه حكم ما علق عليه، سواء حكم به حاكم أو لم يحكم به. وقال أبو حنيفة: (إذا شهد أحدهما مرتين، وأتى باللعنة في الثالثة، وحكم الحاكم بالفرقة بذلك، ونفى النسب.. فقد أخطأ، ونفذ حكمه) . دليلنا: أن الله تعالى علق الحكم بهذه الألفاظ الخمسة.

فرع: تعيين لفظ أشهد في اللعان

وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين العجلاني وامرأته، فقال له: " قم فاشهد أربعا "، وذكر اللعن في الخامسة، ثم قال لها: " قومي فاشهدي أربعا "، وذكر الغضب في الخامسة، ثم فرق بينهما. وإذا علق الحكم على عدد.. لا يتعلق بما دونه، كالشهادة في الزنا. [فرع: تعيين لفظ أشهد في اللعان] فرع: [تعيين لفظ أشهد] : إذا قال أحدهما مكان قوله: أشهد بالله: أحلف بالله، أو أقسم بالله، أو أولي بالله.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه؛ لأن الله تعالى نص فيه على لفظ الشهادة، فإذا عدل عنه إلى غيره لم يجزه، كما لو نقص العدد المنصوص عليه. والثاني: يجزئه؛ لأن اللعان يمين، والحلف والقسم والإيلاء صريح في اليمين، والشهادة كناية فيه، فلما جاز بالكناية.. فلأن يجوز بالصريح أولى. وإن أبدل الرجل مكان اللعنة الإبعاد، بأن قال في الخامسة: وعلي إبعاد الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي فلانة ابنة فلان من الزنا.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ترك المنصوص عليه. والثاني: يجوز؛ لأن معنى الجميع واحد. فإن أبدل اللعنة بالغضب.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ترك المنصوص عليه. والثاني: يجوز؛ لأن في الغضب معنى اللعن وزيادة؛ لأن اللعنة: هي الإبعاد

مسألة: فيما يستحب في وقت اللعان

والإقصاء، وفي الغضب هذا وأكثر منه، ولأنه قد يكون مبعدا ولا يكون مغضوبا عليه، ولا يكون مغضوبا عليه إلا ويكون مبعدا. وإن أبدلت المرأة لفظ الغضب بالسخط.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنها تركت النص. والثاني: يجوز؛ لأن معنى الجميع واحد. وإن أبدلت لفظ الغضب باللعنة.. فقال الشيخ أبو حامد: لا يعتد به بلا خلاف بين أصحابنا؛ لأنها عدلت عن المنصوص عليه إلى ما أخف منه، على ما مضى. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه يجوز. وليس بمشهور. وإن قدم الرجل اللعنة على الأربع الشهادات، أو أتى به في أثنائها، أو قدمت المرأة الغضب على الأربع الشهادات، أو أتت به في أثنائها.. ففيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن المقصود التغليظ والتأكيد بهذه الألفاظ، وقد أتى به وإن قدم بعضه على بعض. والثاني: لا يجوز؛ لأنه خالف نص القرآن؛ لأنه يقول في الخامسة: وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين، أي: فيما شهدت به، فيجب أن يكون ذلك متأخرا عن الشهادة. [مسألة: فيما يستحب في وقت اللعان] ] : وإن أراد الحاكم أن يلاعن بينهما.. فالمستحب: أن يغلظ اللعان بإحضار جماعة من الرجال، وأقلهم أربعة؛ لأن الزنا يثبت بشهادتهم. وقال أبو حنيفة: (لا يستحب التغليظ بذلك) . دليلنا: أن من روى اللعان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة: سهل بن سعد، وابن عمر، وابن عباس. وكل هؤلاء أحداث لا يحضرون المجالس إلا تبعا لغيرهم. وقد روي عن سهل: أنه قال: (حضرته وكان لي خمس عشرة سنة وحضرته مع الناس) .

ولأن الله تعالى قال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] [النور: 2] . واللعان سبب للحد، فلما كان حضور الناس مشروعا في المسبب - وهو: الحد - فكذلك في السبب - وهو: اللعان - لأنه إذا لم يلاعن.. حد، وإذا لاعن.. حدت إن لم تلاعن. والمستحب: أن يغلظ الحاكم اللعان بالوقت، وهو: أن يجعله بعد العصر. قال المسعودي [في " الإبانة "] : ويكون ذلك يوم الجمعة؛ لأنه أفضل الأزمنة. وقال أبو حنيفة: (لا يستحب ذلك) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] [المائدة: 106] . قال أهل التفسير: هو بعد صلاة العصر، فدل على: أن للزمان تأثيرا في اليمين. وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: رجل حلف بعد صلاة العصر يمينا فاجرة ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل حلف على يمين بعد صلاة العصر لقد أعطي بسلعته أكثر مما

فرع: فيما يستحب بمكان اللعان

أعطي وهو كاذب، ورجل منع فضل ماء، فإن الله تعالى يقول: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمله يداك» . ويستحب أن يشهد الرجل وهو قائم؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «قم يا هلال فاشهد» ، ولأنه أبلغ في الردع. فإن لم يقدر على القيام.. لاعن وهو جالس أو مضطجع؛ لأنه ليس بأكبر من الصلاة، والصلاة يجوز فيها ترك القيام للعجز عنه.. فاللعان بذلك أولى. وتكون المرأة قاعدة حال لعان الزوج؛ لأنه لا حاجة إلى قيامها حال لعان الزوج، فإذا أرادت أن تشهد.. قامت؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرأة: «قومي فاشهدي» . [فرع: فيما يستحب بمكان اللعان] ] : ويغلظ عليهما بالمكان، كما يغلظ بالزمان، وهل يستحب، أو يجب؟ فيه قولان: أحدهما: يستحب، كما قلنا بالتغليظ بالزمان. والثاني: يجب؛ لأن الله ذكر اللعان ولم يبين موضعه، فلما لاعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما في المسجد على المنبر.. علم أن ذلك بيان لما أجمله الله في كتابه. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال القفال: هل يجب التغليظ بالزمان؟ فيه قولان، كالمكان.

ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: هل يجب التغليظ بحضور الجماعة؟ فيه قولان، كالمكان. والمشهور هو الأول. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (لا يستحب التغليظ بالمكان ولا يجب) . دليلنا: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بينهما على المنبر) . فثبت أن للمكان تأثيرا في اللعان. إذا ثبت هذا: فإن المكان - الذي قلنا: يستحب اللعان فيه، أو يجب - هو أن يلاعنها في أشرف موضع في البلد الذي فيه اللعان. فإن كان بمكة.. لاعن بينهما بين الركن والمقام؛ لما روي: (أن عبد الرحمن بن عوف مر بقوم وهم يحلفون رجلا بين الركن والمقام، فقال: أعلى دم؟ فقالوا: لا، قال: أفعلى عظيم من المال؟ فقالوا: لا، فقال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام) . وروي: (بهذا البيت) . يقال: تهاون بالشي: إذا استخف بحرمته. وإن كان بالمدينة.. لاعن بينهما في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أشرف البقاع بها، وهل يكون على المنبر؟ اختلفت الرواة فيه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

فروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف عند منبري هذا بيمين آثمة، ولو بسواك من رطب.. وجبت له النار» . وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على منبري هذا بيمين آثمة.. تبوأ مقعده من النار» . واختلف فيها نص الشافعي: فقال في موضع: (يلاعن على المنبر) . وقال في موضع آخر: (يلاعن عند المنبر) . واختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق: هي على اختلاف حالين: فإن كان الخلق في المسجد كثيرا؛ بحيث لو لاعن تحت المنبر لم يبلغهم.. فإنه يلاعن على المنبر.

والموضع الذي قال: (عند المنبر) أراد: إذا كان الخلق في المسجد قليلا يبلغهم لعانه إذا كان تحت المنبر. وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يلاعن على المنبر بحال؛ لأن الصعود على المنبر علو وشرف، واللعان للردع والنكال، وليس في موضع العلو والشرف. وحمل الخبر والنص في قوله: (على المنبر) على أنه أراد به: عند المنبر؛ لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. قال الشيخ أبو حامد: وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لو جاز أن يقال: لا يكون على المنبر؛ لأنه علو وشرف.. لوجب أن يقال: إنه لا يلاعن أيضا عند المنبر؛ لهذا المعنى. وإن كان اللعان في بيت المقدس.. لاعن بينهما عند الصخرة؛ لأنه أشرف البقاع به. وإن كانت في غير ذلك من البلاد.. لاعن بينهما في جوامعها. قال ابن الصباغ: ولا يختص بذلك المنبر؛ لأنه لا مزية لبعض المنابر على بعض، ويخالف المدينة؛ فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» . وإن كانت المرأة حائضا.. لم يحل لها دخول المسجد؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض» . وتكون قائمة على باب المسجد، فإذا شهد الزوج.. بعث إليها الحاكم جماعة لتشهد على باب المسجد، وإن قام إليها.. فلا بأس بذلك.

فرع: ملاعنة الكافرين

[فرع: ملاعنة الكافرين] ] : وإن كان اللعان بين زوجين كافرين لهما دين.. لاعن بينهما في الموضع الذي يعظمونه؛ فإن كانا يهوديين.. لاعن بينهما في الكنيسة، وإن كانا نصرانيين.. لاعن بينهما في البيعة، وإن كانا مجوسيين.. لاعن بينهما في بيت النار؛ لأنهم يعظمون هذه المواضع كما يعظم المسلمون المساجد. واللعان يراد للردع، وقد يرتدع الإنسان في الموضع الشريف عنده عن المعصية؛ لهيبة الموضع وخوف تعجيل العقوبة، وهذه المواضع شريفة عندهم، فكانت موضع لعانهم، كالمساجد للمسلمين. فإن قيل: فإذا حضر الحاكم معهما في هذه المواضع.. فقد شاركهما بالمعصية في تعظيمها؟! فالجواب: أن المعصية إنما تحصل بتعظيم هذه المواضع، والحاكم لا يعظمها، وإنما يدخلها ليلاعن بينهما، ولا معصية في دخولها. وإن كانا مشركين لا دين لهما، كعبدة الأوثان، والزنادقة، وتحاكما إلينا.. فإن الحاكم يلاعن بينهما حيث كان جالسا للحكم، إما في داره، أو في مجلسه. وإن كان في المسجد.. لاعن بينهما؛ لأنهما لا يعتقدان شرف موضع، بل البقاع عندهم سواء. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : يدخل المسجد ويلاعن بينهما فيه؛ رجاء أن يلحقه شؤمه؛ فإن اليمين الغموس تذر الديار بلاقع.

وإن كانت الذمية تحت مسلم، ولاعن بينهما.. فإن المسلم يلاعن في المسجد، ويوجه الحاكم المرأة إلى الموضع الذي تعظمه، فتلاعن فيه. قال الشافعي: (فإن سألت المشركة أن تحضر في المسجد.. حضرت، إلا أنها لا تدخل المسجد الحرام) . وقال الشيخ أبو حامد: أراد بذلك: أن الذمية إذا كانت تحت مسلم، وأرادت أن تلاعن زوجها في المسجد.. جاز لها ذلك في جميع المساجد إلا المسجد الحرام. وإنما يكون ذلك إذا رضي الزوج به، فأما إذا طلب الزوج أن تلاعن هي في الموضع الذي تعظمه.. كان له ذلك. وقال القاضي أبو الطيب: بل أراد الشافعي: إذا كانا كافرين، وأرادت المرأة أن تلاعنه في المسجد.. كان لها؛ لأن التغليظ عليه بالمكان الذي يعظمه حق لها، فإذا رضيت بإسقاطه.. كان لها ذلك. ولا بد أن يشترط رضاه في لعانها في المسجد أيضا؛ لأن التغليظ عليها بالمكان حق له أيضا. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (يجوز للمشرك أن يدخل كل المساجد) . وقال مالك: (لا يجوز للمشرك دخول مسجد من المساجد بحال) .

مسألة: من يبدأ الحاكم بملاعنته

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] [التوبة: 28] . فنطق الآية دليل على أبي حنيفة، ودليل خطابها دليل على مالك. [مسألة: من يبدأ الحاكم بملاعنته] ؟] : ويبدأ بلعان الزوج، فإذا التعنت المرأة قبل لعان الزوج، أو قبل أن يكمل لعانه.. لم يعتد بلعانها. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يعتد به) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] [النور: 6] . فبدأ بلعان الزوج، ثم قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8] [النور: 8] . و (العذاب) : هو الحد عليها، وإنما يجب ذلك عليها بلعان الزوج؛ لأن اللعان عندنا يمين، وعند أبي حنيفة شهادة، وأيهما كان.. فقد أتت بلعانها قبل وقته، فلم يعتد به، ألا ترى أن رجلا لو ادعى على رجل حقا، فقال المدعى عليه: والله، ما لك عندي شيء.. لم يعتد بها؟ وهكذا: لو شهد له بذلك شاهدان قبل أن يسألا الشهادة.. لم يعتد بهذه الشهادة، فكذلك هذا مثله. فإن حكم حاكم بتقديم لعانها.. فحكى الشيخ أبو حامد: أن الشافعي قال: (نقض حكمه) . [مسألة: الأحكام التي تتعلق باللعان] ] : وإذا لاعن الرجل امرأته.. تعلق بلعانه ستة أحكام: أحدها: سقوط حد القذف عنه، وبه قال عمر وعثمان وابن مسعود وعثمان البتي.

فرع: القذف برجل معين

وقال أبو حنيفة: (لا يجب على الزوج حد القذف لزوجته، ولا يكون لعانه مسقطا لذلك) . دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " البينة، وإلا.. حد في ظهرك "، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت آية اللعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] [النور: 6] . فسري عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: " أبشر يا هلال، قد جعل الله لك فرجا ومخرجا "، فقال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي تعالى» . [فرع: القذف برجل معين] ] : وإن قذفها بالزنا برجل بعينه.. فقد وجب عليه حدان: حد لها، وحد للمقذوف. فإذا التعن، وذكر الزاني في اللعان.. سقط عنه الحدان. وقال أبو حنيفة: (إذا قذفها برجل بعينه.. وجب له عليه حد القذف، ولم يجب لها عليه حد، وإنما يجب عليه لها اللعان، فإن طلبت الزوجة اللعان، فلاعنها.. حد بعد ذلك للأجنبي، وإن طلب الأجنبي أن يحد له أولا.. حد له، ولا يلاعن زوجته) ؛ لأن المحدود لا يلاعن عنده، فخالف في ثلاثة مواضع: أحدها: أنه لا يجب على الزوج حد القذف بقذف زوجته. الثاني: أن المحدود بالقذف لا يلاعن، وقد مضى الدليل عليه في ذلك. الثالث: أنه إذا قذف زوجته برجل معين، وسماه في اللعان.. سقط عنه ما وجب عليه له من حد القذف عندنا، وعنده لا يسقط. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] . فجعل الله تعالى موجب القذف للزوجة اللعان، ولم يفرق بين أن يقذفها برجل معين أو غير معين. ولأن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، ولاعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، ولم

يوجب النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - على هلال بقذفه لشريك بن سحماء شيئا، فدل على أنه سقط باللعان. فإن قالوا: كان شريك بن سحماء يهوديا، فلا يجب الحد بقذفه؟ قلنا: وإن كان يهوديا، فإنه يجب التعزير بقذفه، والحد والتعزير في الوجوب والسقوط واحد. وإن لاعنها، ولم يذكر الزاني بها في اللعان.. ففيه قولان: أحدهما: يسقط عنه حد القذف؛ لأن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، ولم ينقل أنه ذكره في اللعان، ولم يوجه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلى شريك أن له التعزير عند هلال، فدل على: أن ذلك يسقط باللعان، ولأنه رماهما بزنا واحد، فإذا ثبت صدقه في جهتها.. ثبت في جهته؛ لأنه لا يتبعض. والثاني: لا يسقط عنه، وهو الأصح؛ لأنه حد يسقط باللعان، فكان من شرط سقوطه ذكره في اللعان، كحد المرأة. وأما الخبر: فإنما لم يعزره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن الظاهر أنه قد بلغ شريك بن سحماء. فعلى هذا: إذا أراد أن يسقط حده.. أعاد اللعان، وذكر الزوجة والزاني بها. وإن رماها بالزنا برجل بعينه، ولم يقم عليهما البينة، ولم يلاعن، فجاءا وطلبا أن يحد لهما.. فكم يحد لهما؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: يحد لهما حدين. والثاني: يحد لهما حدا واحدا، كما قلنا فيمن قال لرجلين: زنيتما. ومنهم من قال: يحد لهما حدا واحدا، قولا واحدا؛ لأنه رماهما بزنا واحد، بخلاف ما لو قال لاثنين: زنيتما.. فإنه قذف كل واحد منهما بزنا. فأما إذا جاءت الزوجة وحدها، فطالبت بحدها، فحد لها، ثم جاء الرجل

المرمي، فطالب بحده، فإن قلنا في التي قبلها: يجب لكل واحد منهما حد.. فإنه يحد له ثانيا، وإن قلنا: يجب لهما حد واحد.. لم يحد له؛ لأنه قد استوفى منه. وإن عفت المرأة عن حدها، وطالب المقذوف بحده.. حد له؛ لأنهما حقان لآدميين، فلم يسقط حق أحدهما حق الآخر، كالديون. وإن اعترفت المرأة: أن الرجل المرمي بها زنى بها.. سقط عن الزوج حد القذف لها، ووجب عليها حد القذف للرجل؛ لأنها قذفته. وكذلك يجب على الزوج حد القذف له أيضا؛ لأنه قذفه. الحكم الثاني المتعلق بلعان الزوج: أنه يجب على الزوجة حد الزنا بلعان الزوج. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وعثمان البتي: (لا يجب عليها الحد) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] . فموضع الدليل منها قوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} [النور: 8] [النور: 8] . و (العذاب) هاهنا: هو الحد. ولأن لعان الزوج كالبينة في سقوط حد قذفها عنه، فكان كالبينة في إيجاب حد الزنا عليها. ولها أن تسقط ما وجب عليها من حد الزنا بلعان الزوج بلعانها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} [النور: 8] الآية [النور: 8] . وإن كان الزوج قد قذفها برجل بعينه، وذكره في اللعان.. لم يجب على المقذوف حد الزنا بذلك؛ لأنه لا يصح منه إسقاط ذلك باللعان، فلم يجب عليه حد القذف باللعان. الحكم الثالث: إن كان هناك حمل أو ولد منفصل، ونفاه الزوج باللعان.. انتفى عنه، ولحق بالمرأة.

وقال عثمان البتي: لا ينتفي عنه. دليلنا: ما «روى ابن عباس: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين هلال بن أمية وامرأته، وفرق بينهما، وقضى: أن لا يدعى الولد لأب، وأنها لا ترمى ولا ولدها، فمن رماها أو ولدها.. فعليه الحد» . فإن لم يذكر الزوج الولد في اللعان، وأراد نفيه.. أعاد اللعان وذكره؛ لأنه لم ينفه باللعان الأول، فإن عارضته المرأة باللعان.. فإنها لا تذكر الولد في لعانها؛ لأنه لا سبيل لها إلى إثبات النسب ولا إلى نفيه. قال الطبري: وكل موضع كان المقصود من اللعان نفي الولد لا غير، هل تعارضه المرأة باللعان؟ فيه وجهان. الحكم الرابع: إذا لاعنها وهي زوجة له.. وقعت الفرقة بينهما بفراغه من اللعان. وقال عثمان البتي: لا يقع باللعان فرقة. وقال أبو حنيفة: (لا تقع الفرقة باللعان، وإنما يفرق الحاكم بينهما إذا فرغ الزوج من اللعان، فلو طلقها الزوج بعد اللعان وقبل أن يفرق الحاكم بينهما.. وقع الطلاق؛ لما «روى ابن عمر: (أن رجلا لاعن امرأته في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ففرق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما» . وفي «رواية ابن عباس: (أن هلال بن أمية لاعن امرأته، ففرق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما» . فلو وقعت الفرقة بينهما باللعان.. لما افتقر إلى الفرقة بينهما. وروي: «أن العجلاني لما لاعن زوجته عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. قال: إن أمسكتها.. فقد كذبت عليها، هي طالق ثلاثا، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا سبيل لك عليها» ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله: (إن أمسكتها) ، ولا طلاقه) .

دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا» . فأخبر أن المتلاعنين لا يجتمعان، وأن الفرقة وقعت بينهما باللعان. ولأنها فرقة متجردة عن عوض لا تنفرد به المرأة، فوجب أن يقع بقول الزوج وحده، كالطلاق. فقولنا: (متجردة عن عوض) احتراز من الخلع. وقولنا: (لا تنفرد به المرأة) احتراز من الفسخ بالعنة والإعسار بالنفقة. وأما الجواب عن رواية ابن عمر، وابن عباس: فهذه قضية في عين لا يمكن ادعاء العموم فيها، فيحتمل أنه أراد: فرق بينهما في الزوجية، ويحتمل أنه فرق بين أبدانهما. وخبرنا: هو قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ظاهر لا احتمال فيه. وأما الجواب عن خبر العجلاني: فإن معنى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا سبيل لك عليها "، أي: إلى الإمساك والطلاق؛ لأنها قد بانت منه باللعان؛ لأن العجلاني ظن أن الفرقة لم تقع باللعان، فلذلك طلقها؛ ولهذا لما قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا سبيل لك عليها ".. قال: أين مالي؟ أي: إذا لم يكن لي إمساكها ولا طلاقها.. فأين الذي أعطيتها؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن كنت صادقا.. فبما استحللت من فرجها " - يعني: أنك دخلت بها - وإن كنت كاذبا.. فأبعد "، يعني: أنك دخلت بها، وكذبت عليها. الحكم الخامس: أن الفرقة باللعان فسخ، ويقع به التحريم مؤبدا. وقال مالك، وربيعة، وداود: (لا يقع زوال الفراش والتحريم إلا بلعانهما جميعا) . وقال أبو حنيفة، ومحمد: (الفرقة الواقعة باللعان طلقة ثانية، ولا يتأبد التحريم) .

فرع: قذف الزوجة المبانة ونفي الولد بلعان

دليلنا: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا» . فموضع الدليل منه على مالك: أن هذا يقتضي في حال تلاعنهما، كما يقال: متضاربان، في حال تضاربهما، فأما بعد فراغهما من اللعان.. فإنما يقال: كانا متلاعنين، وهذا لا يكون إلا على ما قلناه. وموضع الدليل منه على أبي حنيفة: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " لا يجتمعان أبدا ". وهذا نص. وفي «رواية ابن عباس: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن بين هلال بن أمية وامرأته، وفرق بينهما، وقضى: أن لا بيت لها ولا قوت؛ من أجل أنهما يفترقان لا عن طلاق ولا عن وفاة» . وإذا ثبت أنه ليس بطلاق ولا عن وفاة.. كان فسخا. [فرع: قذف الزوجة المبانة ونفي الولد بلعان] فرع: [في قذف الزوجة المبانة ونفي الولد بلعان] : وإن تزوج امرأة وأبانها، ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال الزوجية، وكان هناك نسب، فلاعن لنفيه، أو تزوج امرأة تزويجا فاسدا، وأتت بولد منه يمكن أن يكون منه، فلاعن لنفيه.. فهل تحرم عليه المرأة على التأبيد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تحرم؛ لأن التحريم يتعلق بفرقة اللعان، ولم يقع بهذا اللعان فرقة، فلم يقع به تحريم مؤبد. والثاني: تحرم على التأبيد، وهو الأصح؛ لأن كل سبب أوجب تحريما مؤبدا إذا صادف الزوجية.. أوجبه وإن لم يصادف زوجية، كالرضاع. فقولنا: (تحريما مؤبدا) احتراز من الطلاق. ولأن اللعان قد صح فتعلقت به أحكامه، وهذا من أحكامه.

فرع: اشتراها بعد تزوجها وأتت بولد

وإن تزوجها وقذفها، ولم يكن هناك نسب نفاه باللعان، فلاعنها لإسقاط الحد، ثم بان أن النكاح كان فاسدا.. قال القاضي أبو الطيب: لم تحرم، وجها واحدا؛ لأنا تبينا أن اللعان كان فاسدا؛ لأن اللعان لا يثبت في النكاح الفاسد إلا لنفي الولد، فإذا لم يكن هناك ولد.. تبينا أن اللعان كان فاسدا، فلم يتعلق به التحريم. [فرع: اشتراها بعد تزوجها وأتت بولد] ] : وإن تزوج الرجل أمة، ثم اشتراها وأقر بوطئها بعد الشراء، ثم أتت بولد، فإن أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء، ولستة أشهر فصاعدا من وقت النكاح.. لحقه الولد من جهة النكاح، فإن أراد نفيه باللعان.. كان له نفيه، وإذا نفاه باللعان.. انتفى عنه، وهل يحرم عليه وطء الأمة على التأبيد، أو يحل له وطؤها بملك اليمين؟ فيه وجهان: [الأول] : قال ابن الحداد: لا يحرم عليه على التأبيد. و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يحرم عليه على التأبيد. وهو الأصح. ووجههما: ما ذكرناه في التي قبلها. وإن أتت به لستة أشهر فما زاد من وقت الوطء بعد الشراء.. لحقه الولد. فإن ادعى: أنه استبرأها بعد الوطء بحيضة، ولم يطأها بعده.. فالمنصوص: (أنه يحلف على ذلك، وينتفي عنه من غير لعان) . وقال أبو العباس: وفيه قول آخر: أنه يلاعن لنفيه. وليس بصحيح. وإن لم يدع الاستبراء، ولكن قال: هذا الولد ليس مني.. ففيه قولان، حكاهما القاضي أبو الطيب. أحدهما: أنه يلاعن لنفيه، كما يلاعن لنفي الولد من النكاح.

مسألة: في إكذابه نفسه يعود عليه الحد ويلحق به النسب

والثاني وهو المشهور: أنه لا يلاعن لنفيه؛ لأنه يمكنه نفيه بدعوى الاستبراء، ويحلف عليه. فإذا قلنا: يلاعن، فلاعن لنفيه.. فهل يحرم عليه وطء الأمة على التأبيد؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. الحكم السادس المتعلق بلعان الزوج: أنه يسقط إحصانها في حق الزوج، فإن قذفها الزوج.. لم يجب عليه الحد بقذفها؛ لأن اللعان في حقه كالبينة، وإن قذفها أجنبي.. فهل يسقط إحصانها في حقه؟ فيه وجهان. فإن عارضته باللعان.. قال ابن الصباغ: عاد إحصانها في حق الجميع، وقد مضى ذلك. [مسألة: في إكذابه نفسه يعود عليه الحد ويلحق به النسب] ] : وإذا لاعن الزوج، ثم أكذب نفسه.. عاد كل حق عليه؛ وهو: وجوب حد القذف عليه، ولحوق النسب الذي نفاه به، وعادت حصانتها في حقه. ولا يعود كل حق له؛ وهو: عود الزوجية، وارتفاع التحريم على التأبيد. وبه قال عمر، وعثمان، وابن مسعود، والأوزاعي، ومالك، والثوري، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة ومحمد: (يرتفع التحريم المؤبد إذا أكذب نفسه، أو إذا حد في قذف) . ووافقنا: أن الزوجية لا تعود، وإنما يجوز له ابتداء عقد النكاح عليها. وقال سعيد بن المسيب: إذا أكذب نفسه عادت الزوجية. دليلنا: ما روى ابن عباس، وابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا» . وهذا نص، ولم يفرق.

فرع: في قذفها واعترافها بعد اللعان

وروي «عن سهل بن سعد الساعدي: أنه قال: (فرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين المتلاعنين، ثم جرت السنة أن لا يجتمعا أبدا» . وهذا يقتضي سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإن نفى باللعان نسب ولد، فمات الولد، ثم أكذب الزوج نفسه.. لحقه نسب الولد الميت سواء خلف الميت ولدا أو لم يخلف، وسواء كان موسرا أو معسرا. وقال أبو حنيفة: (إن خلف الميت ولدا ذكرا، أو أنثى.. صح رجوعه، ويثبت نسب الولد منه، وإن لم يخلف الميت ولدا.. لم يصح رجوعه؛ لأنه متهم في الرجوع ليرث) . دليلنا: أنه اعترف بنسب كان نفاه باللعان، فلحقه، كما لو كان المنفي حيا، أو كما لو خلف ولدا. [فرع: في قذفها واعترافها بعد اللعان] ] : وإن قذف الرجل امرأته بالزنا، فاعترفت بزناها.. نظرت: فإن أقرت به بعد لعان الزوج.. فإن إقرارها بالزنا لا ينفع؛ لأن جميع أحكام اللعان قد تعلقت بلعان الزوج، ولا يكون لها إسقاط ما وجب عليها من حد الزنا بلعانها؛ لأنها قد أقرت بالزنا. وإن أقرت بالزنا قبل أن يلاعن الزوج.. وجب عليها حد الزنا، ولا يجب على الزوج لها حد القذف.

مسألة: قذفها ثم مات قبل الملاعنة

وإن لم يكن هناك نسب.. فليس للزوج أن يلاعن؛ لأن اللعان لدرء حد القذف أو لنفي النسب، وليس هناك واحد منهما. وإن كان هناك نسب.. فللزوج أن يلاعن لنفيه، فإذا لاعن لنفيه.. فهل تقع الفرقة المؤبدة بينه وبين الزوجة؟ على الوجهين فيمن لاعنها البينونة، وقد مضى ذكرهما. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إن كان هناك نسب.. لحقه، وليس له نفيه باللعان، ولا يجب عليها حد الزنا) . وهذا بناء على أصلين: أحدهما: أن حد الزنا لا يثبت عنده بالإقرار به مرة، وإنما يثبت عنده إذا أقربه أربع مرات في أربع مجالس. والثاني: أن النسب لا ينتفي عنده إلا بلعانهما وحكم الحاكم، واللعان لا يصح منها؛ لأنها اعترفت بالزنا، فلا تلاعن على ما اعترفت به، ولا يصح أن يحكم الحاكم بنفيه عنه. وحكي عن أبي حنيفة: أنه قال: (إن كانت المرأة عفيفة وكذبته.. كان له أن ينفي عنه ولدها، وإن كانت فاجرة وصدقته.. لم يكن له أن ينفي ولدها) . ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية [النور: 6] . ولم يفرق بين أن تقر الزوجة أو لا تقر. ولأنه محتاج إلى القذف، وتحقيقه باللعان لنفي النسب، فكان له ذلك، كما لو لم تقر الزوجة. [مسألة: قذفها ثم مات قبل الملاعنة] ] : إذا قذف الرجل زوجته، فمات الزوج قبل أن يلاعن، أو قبل أن يكمل اللعان.. فقد سقط عنه الحد بموته؛ لأنه اختص ببدنه وقد مات، ورثته الزوجة؛ لأن الفرقة لا تقع إلا بلعانه، ولم يوجد.

وإن كان هناك ولد أراد نفيه.. لم ينتف عنه وورثه؛ لأنه مات قبل أن ينفيه. فإن أراد باقي الورثة أن يلاعنوا لنفيه.. لم يكن لهم ذلك؛ لأنه مشارك لهم في الظاهر بالميراث، فإن قلنا: لهم أن ينفوه.. كان له أن ينفيهم، وهذا متناقض. وليس للمرأة أن تلاعن؛ لأنها إنما تلاعن لدرء الحد عنها، والحد إنما يجب عليها بلعان الزوج، ولم يوجد. وإن مات الزوج بعد لعانه وقبل لعانها.. كان لها أن تلاعن لإسقاط الحد عنها؛ لأن ذلك قد وجب عليها بلعانه، فكان لها إسقاطه، كما لو كان حيا. وإن قذف زوجته، فماتت الزوجة قبل أن يلاعن الزوج، أو قبل أن يكمل لعانه.. ورثها الزوج؛ لأنها ماتت وهي زوجته، فورثها. فإن كان هناك ولد منها يريد نفيه.. كان له أن يلاعن لنفيه؛ لأن الحاجة داعية إلى اللعان لنفيه عنه. وإن لم يكن هناك ولد منها يريد نفيه، فإن كان لها وارث، فطالبه بحد القذف.. كان له أن يلاعن لدرء الحد عنه؛ لأن الحاجة داعية إلى درء الحد عنه بذلك. فإن كان لم يأت بشيء من ألفاظ اللعان في حياتها.. استأنف اللعان، وإن كان قد أتى بشيء من ألفاظ اللعان في حياتها.. قال الشيخ أبو حامد: فإن تطاول الزمان.. استأنف اللعان، وإن لم يتطاول الزمان.. بنى على اللعان الأول، وتممه. وإن لم يكن لها وارث غير الزوج، فإن كان ابن عم لها أو مولى.. لم يكن له أن يلاعن؛ لأنه لا حاجة به إلى اللعان. ومن أصحابنا من قال: له أن يلاعن ليسقط الحد عن نفسه. والأول أصح. وإن لم يكن لها وارث من غير المسلمين.. كان له أن يلاعن ليسقط الحد عن نفسه. فإن قيل: هو من المسلمين، وهو وارثها؟

فرع: قذفها ونفى ولدها فمات ابنها قبل ملاعنتها

فالجواب: أن حد القذف يجب لبعض الورثة، ولا يسقط بسقوط بعضه، ولهذا: لو عفا بعض الورثة عن حقه منه.. ثبت الجميع لمن لم يعف. وإذا لاعن بعد موتها.. فإن ميراثه لا يسقط عنها بذلك؛ لأن الفرقة لم تقع به. [فرع: قذفها ونفى ولدها فمات ابنها قبل ملاعنتها] ] : وإن قذف امرأته وانتفى من ولدها، فمات الولد قبل أن يلاعن الأب لنفيه، أو قبل أن يكمل اللعان.. فله أن يلاعن بعد موته. وقال أبو حنيفة: (ليس له أن يلاعن لنفي الولد بعد موته؛ لأنه لا حاجة به إلى نفيه بعد الموت) . دليلنا: أن الحاجة تدعو إلى نفيه بعد موته، كما تدعو إلى نفيه في حياته؛ لأنه يلحقه نسبه بعد موته، كما يلحقه في حياته؛ لأنه يقال: هذا قبر ابن فلان، كما يقال في حياته: هذا ابن فلان، فكان له نفي النسب الفاسد عنه؛ لئلا يعير به، ولأنه قد يكون غائبا، فتأتي امرأته بولد، ويبلغ ذلك الولد، ويولد له ولد، ثم يموت، ويقدم الغائب، فيحتاج إلى نفي أولاد ذلك الولد، كما كان يحتاج إلى نفي الولد في حياته، ولا ينتفي عنه أولاد الولد إلا بنفي الولد. وإن أتت امرأته بولدين توأمين، فقال: ما هما مني، وأراد نفيهما باللعان، فمات أحدهما قبل اللعان أو قبل إكماله.. فله أن ينفيهما معا باللعان، فإن نفى أحدهما، وأقر بالآخر، أو ترك نفيه.. لحقاه؛ لأنهما من حمل واحد، فإذا أقر بأحدهما.. لحقه نسبه ونسب الآخر. وقال أبو حنيفة: (ليس له أن يلاعن بعد موت أحدهما؛ لأن الميت عنده لا ينفى باللعان، ولا يجوز له أن ينفي الحي؛ لأنهما من حمل واحد) . وبنى هذا على أصله: أن الميت لا ينفى باللعان، وقد مضى الدليل عليه. وإذا نفى نسب الولد الميت باللعان.. لم يرثه؛ لأنا تبينا أنه ليس بولد له، فلم يرثه.

مسألة: قذفها وباشر اللعان ولم يتمه

[مسألة: قذفها وباشر اللعان ولم يتمه] ] : وإن قذف زوجته، وابتدأ باللعان، ثم امتنع من إتمامه.. حد لها حد القذف؛ لأن الحد وجب عليه لها بالقذف، وإنما يسقط عنه باللعان، فإذا لم يكمله.. وجب عليه الحد، كما لو أقام عليها بالزنا بينة غير كاملة. وإن قذفها، ولم يلاعن، فجلد بعض الحد، فقال: أنا ألاعن.. كان له ذلك، فإذا لاعن.. سقط عنه بقية الحد؛ لأن اللعان حجة في حق الزوج لإسقاط الحد عنه، كما أن البينة حجة لإسقاط الحد عن الأجنبي. ولو قذفها أجنبي، فحد بعض الحد، ثم قال: أنا أقيم البينة، وأقامها.. سقط عنه باقي الحد، كذلك هذا مثله. وإن قذفها الزوج ولاعن، فامتنعت من اللعان، فحدت بعض الحد، ثم قالت: أنا ألاعن.. كان لها ذلك، فإذا لاعنت.. سقط عنها بقية الحد؛ لأن ما أسقط جميع الحد.. أسقط بعضه، كالبينة. [فرع: قذفها فحد، ثم تزوجها] ] : وإن قذف رجل امرأة أجنبية بالزنا، فحد لها، ثم تزوجها، ثم قذفها.. نظرت: فإن قذفها بذلك الزنا الأول.. لم يجب عليه الحد بقذفها؛ لأنه قد حد فيه. وإن قذفها بزنا آخر أضافه إلى ما قبل الزوجية.. وجب عليه الحد، فإن لم يكن هناك ولد.. لم يلاعن لدرء الحد؛ لأنه قذف غير محتاج إليه، وإن كان هناك ولد.. كان له أن يلاعن لنفيه. وإن قذفها بزنا آخر أضافه إلى حال الزوجية.. وجب عليه الحد، وله أن يلاعن، سواء كان هناك ولد أو لم يكن.

فرع: قذفها ثم أعتق فطالبته بالحد

وأما إذا لم يقم عليه الحد بقذفه لها قبل الزوجية، ولم يقم عليها البينة، ثم قذفها بعد أن تزوجها.. قال القاضي أبو الطيب: فإن قذفها بذلك الزنا الأول.. وجب عليه حد واحد ويتداخل، كما إذا زنى، ثم زنى قبل أن يقام عليه الحد للزنا الأول.. فإنه يجب عليه حد واحد، فإن قذفها بزنا آخر منسوب إلى حال الزوجية.. وجب عليه حدان؛ لأنهما يختلفان؛ لأن أحدهما يسقط باللعان، والآخر لا يسقط باللعان، فلم يتداخلا، فيقام عليه الحد للقذف الأول، وأما الثاني: فإن لاعنها لأجله، وإلا.. حد له أيضا. وإن قذفها وهي زوجة، فلم يحد لها، ولم تعف حتى فارقها، ثم قذفها بعد الفراق بذلك الزنا، أو بزنا آخر أضافه إلى حال الزوجية.. قال ابن الحداد: وجب عليه حد آخر للقذف الثاني، ولا يتداخلان؛ لأن الأول يسقط باللعان، والثاني لا يسقط باللعان، فلم يتداخلا، فإن التعن للأول.. حد للثاني، وإن لم يلتعن للأول.. حد للأول، وحد للثاني بعد أن يبرأ ظهره من ألم الأول. [فرع: قذفها ثم أعتق فطالبته بالحد] ] : وإن قذف العبد امرأته، ثم أعتق وطالبته بحد قذفها.. فله أن يلاعن، وإن لم يلاعن.. حد حد العبد؛ اعتبارا بحال الوجوب عليه. وهكذا: لو قذف زوجته الأمة، ثم أعتقت، فطالبته بالتعزيز، فلاعن ولم تلاعن هي.. حدت هي حد الأمة؛ اعتبارا بحال الوجوب. وهكذا: إن قذف زوجته وهي بكر، ولم تلاعن حتى طلقها، ونكحت زوجا غيره، وأصابها الثاني، وطالبت الأول بحد القذف، فلاعنها ولم تلاعن هي.. وجب عليها حد البكر لا حد المحصنة؛ اعتبارا بحال الوجوب عليها. وإن تزوج رجل امرأة بكرا، فقذفها بالزنا، ثم فارقها قبل أن تطالبه بحد القذف، وتزوجت بآخر، ثم قذفها الثاني بالزنا.. كان لها مطالبتهما بحد القذف،

فإذا طالبتهما.. كان لكل واحد منهما درء الحد عن نفسه باللعان؛ لأن كل واحد منهما قذفها وهي زوجته، فإن عارضتهما باللعان.. لم يجب على أحدهما حد، وإن لاعنها، ونكلت عن جوابهما باللعان.. نظرت: فإن قذفها الأول وهي بكر، وقذفها الثاني وهي محصنة.. وجب عليها للأول حد بكر، وهو: جلد مائة، وتغريب عام، ووجب عليها للثاني حد محصنة، وهو: الرجم. وعلى هذا يحمل ما روي «عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه جلد امرأة يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وإن كانت بكرا في حال قذفهما لها.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال ابن الحداد: يجب عليها حدان؛ فتجلد للأول، ثم تترك حتى يبرأ ظهرها، ثم تجلد للثاني؛ لأن اللعان بينة يختص بها الزوج، فلا يتعدى إلى غيره، فيجب الأول بلعان الأول، والثاني بلعان الثاني.

فرع: قذفها بعد الردة والعدة ثم لاعنها

و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يجب عليها حد واحد، كما إذا ثبت عليها ذلك بالبينة. [فرع: قذفها بعد الردة والعدة ثم لاعنها] ] : إذا تزوج امرأة ودخل بها، ثم ارتدا، وقذفها في حال الردة والعدة، ولاعنها لدرء الحد.. قال ابن الحداد: ينظر فيه: فإن رجع إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها.. تبينا أن القذف واللعان صادفا الزوجية، وصح اللعان. وإن لم يرجع إلى الإسلام حتى انقضت عدتها.. تبينا أن القذف واللعان صادقا البينونة، ولم يصح اللعان، كما قلنا فيمن طلق امرأته ثلاثا في حال الردة. ومن أصحابنا من قال: لا يصح اللعان؛ لأنه يمين، فلم يصح أن تكون موقوفة؛ لأنه لا يصح تعلقها بالشرط، فلم يصح وقفها، بخلاف الطلاق. قال القاضي أبو الطيب: والأول أصح. [مسألة: ادعت أن زوجها قذفها فأنكر فأقامت بينة] ] : إذا ادعت المرأة على زوجها: أنه قذفها بالزنا، فأنكر، فأقامت بينة: أنه قذفها، فإن قال: أنا ألاعن.. جاز له ذلك. واختلف أصحابنا لم جاز له أن يلاعن؟ فمنهم من قال: إنما جاز له أن يلاعن؛ لأنه لم يكذب البينة؛ لأنها شهدت عليه: أنه قذفها، وهو يقول: ما قذفت؛ لأني قلت لها: يا زانية، وليس ذلك بقذف، بل هو صدق، و (القذف) : ما تردد بين الصدق والكذب. فأما إذا قال: ما قلت لها: يا زانية، وشهدت البينة: أنه قال ذلك.. لم يكن له أن يلاعن؛ لأنه مكذب لها.

فرع: اختلفا بوقت اللعان قبل الزواج أو بعده

ومنهم من قال: له أن يلاعن؛ لأنه لا يكذب نفسه، وأما البينة: فهو مكذب لها؛ لأن البينة تشهد: أنه قذف، وهو يقول: ما قذفت، وما رماها به.. فهو حرام إلى أن يحقق باللعان، وإنما لا يجوز له أن يلاعن، أن لو قال: ما زنت، ثم قال: ألاعن.. لم يكن له ذلك؛ لأنه قد كذب نفسه، وهذا التعليل هو المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. [فرع: اختلفا بوقت اللعان قبل الزواج أو بعده] ] : وإن اختلف الزوجان: فقالت الزوجة: قذفتني قبل أن تتزوج بي، فلي عليك حد لا يسقط باللعان، وقال الزوج: بل قذفتك بعد أن تزوجت بك، ولي إسقاط الحد باللعان.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأنهما لو اختلفا في أصل القذف.. كان القول قوله مع يمينه، فكذلك إذا اختلفا في وقته. وهكذا إن قال: قذفتك قبل وقوع الفرقة. وقالت: بل قذفتني بعد وقوع الفرقة، فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لما ذكرناه. وإن قالت: قذفتني وأنا أجنبية منك ولا نكاح بيننا، وقال: بل قذفتك وأنت زوجتي.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم النكاح بينهما، إلا إن أقام الزوج بينة على النكاح.. فيكون القول قوله مع يمينه على وقت القذف. وهكذا لو قذف رجل أجنبية فقال: قذفتك وأنت مرتدة، وقالت: ما كنت مرتدة.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم الردة، فإن أقام بينة على ردتها.. فالقول قوله مع يمينه: أنه قذفها في حال ردتها؛ لأنهما لو اختلفا في أصل القذف.. لكان القول قوله، فكذلك إذا اختلفا في وقته. والله أعلم

كتاب الأيمان

[كتاب الأيمان] [باب من تصح يمينه وما تصح به اليمين]

كتاب الأيمان باب من تصح يمينه وما تصح به اليمين الأصل في انعقاد اليمين: الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] ، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} [آل عمران: 77]

الآية [آل عمران: 77] . وأما السنة: فروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والله لأغزون قريشا، والله لأغزون قريشا، والله لأغزون قريشا "، ثم قال: " إن شاء الله " ثلاثا» . وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان كثيرا ما يحلف: لا ومقلب القلوب»

وأجمعت الأمة على انعقاد اليمين إذا ثبت هذا فإن اليمين تنعقد من كل بالغ عاقل مختار قاصد إلى اليمين. فأما الصبي والمجنون والنائم فلا تصح يمينه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . وهل تنعقد يمين السكران؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما في الطلاق. ولا تنعقد يمين المكره؛ لما روى أبو أمامة: أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قال: «ليس على مقهور يمين» . وأما (لغو اليمين) : فلا ينعقد، وهو: الذي يسبق لسانه إلى الحلف بالله من غير أن يقصد اليمين، أو قصد أن يحلف بالله: لا أفعل كذا، فسبق لسانه وحلف بالله: ليفعلنه، وسواء في ذلك الماضي والمستقبل.

مسألة: تنعقد اليمين على الماضي والمستقبل

وقال أبو حنيفة: (لغو اليمين هو: الحلف على الماضي من غير أن يقصد الكذب، وكأنه ظن شيئا على صفة، فحلف عليه: أنه كذلك، فبان خلافه) . وقال مالك: (لغو اليمين هي: اليمين الغموس) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] [البقرة: 225] . وروي عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قالوا: (لغو اليمين: هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله) . ولأن " اللغو " في اللغة: هو الكلام الذي لا يقصد إليه، وهذا لا يكون إلا فيما قلناه. فإن حلف على فعل شيء، ثم قال: لم أقصد إليه.. نظرت: فإن كانت اليمين بالله.. قبل قوله - لأنه أعلم بنيته - قال ابن الصباغ: إلا أن يكون الحلف على ترك وطء زوجته.. فلا يقبل قوله؛ لأنه يتعلق به حق آدمي. وكذلك: إذا حلف بالطلاق، أو العتاق، وادعى: أنه لم يقصد إلى ذلك.. لم يقبل قوله منه؛ لأنه يتعلق به حق الآدمي، والظاهر أنه قصد إلى ذلك، بخلاف اليمين بالله، فإن الحق فيها مقدر فيما بينه وبين الله تعالى، وهو أعلم بما قصده. وتنعقد يمين الكافر؛ لأنه مكلف قاصد إلى اليمين، فانعقدت يمينه، كالمسلم. [مسألة: تنعقد اليمين على الماضي والمستقبل] ] : وتنعقد اليمين على الماضي والمستقبل. فأما الماضي: فعلى ضربين.

أحدهما: أن يحلف أنه فعل أمرا، أو لم يفعله، وهو صادق، فلا كفارة عليه؛ لأن اليمين على المدعى عليه، ولا يجوز أن يجعل عليه اليمين إلا وهو صادق. وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال وهو على المنبر: يا أيها الناس، لا تمنعكم اليمين من حقوقكم، فوالذي نفسي بيده! إن في يدي عصا) . فإن كانت هذه اليمين عند الحاكم.. فالأولى أن لا يحلفها؛ لما روي: (أن المقداد استقرض من عثمان مالا، فتحاكما إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فقال المقداد: هو أربعة آلاف، وقال عثمان: إنه سبعة آلاف، فقال المقداد لعثمان: احلف: أنه سبعة آلاف، فقال عمر: إنه أنصفك، فلم يحلف عثمان، فلما ولى المقداد.. قال عثمان: والله لقد أقرضته سبعة آلاف، فقال له عمر: لم لم تحلف؟ فقال: خشيت أن يوافق قدر بلاء، فيقال: بيمينه) . والضرب الثاني: أن يحلف على ماض وهو كاذب؛ مثل أن يحلف أنه قد فعل كذا، ولم يفعله، أو أنه لم يفعل كذا، وقد فعله، فإن نسي عند اليمين أنه كان قد فعل أو لم يفعل.. فهل تجب عليه الكفارة؟ فيه قولان، يأتي بيانهما في موضعهما، وإن كان ذاكرا عند اليمين أنه قد كان فعل أو لم يفعل، وقصد إلى اليمين.. فهي اليمين الغموس، ويأثم بذلك؛ لما روى الشعبي، عن ابن عمر: «أن أعرابيا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: " الإشراك بالله "، قال: ثم ماذا؟ قال: " عقوق الوالدين "، قال: ثم ماذا؟ قال: " اليمين الغموس» . قيل للشعبي: وما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع بها مال امرئ، وهو فيها كاذب) .

وروى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين وهو فيها فاجر؛ ليقتطع بها من مال امرئ مسلم.. لقي الله وهو عليه غضبان» . وإن سميت: اليمين الغموس؛ لأنها تغمس من حلف بها في النار. وتجب عليه الكفارة في اليمين الغموس، وبه قال عمر، وعطاء، والزهري، وعثمان البتي. وقال مالك، والثوري، والليث، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق: (لا تجب بها الكفارة) . وقال سعيد بن المسيب: هي من الكبائر أعظم من أن تكفر. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ} [المائدة: 89] الآية [المائدة: 89] . وهذا عام في الماضي والمستقبل. ولأنه حلف بالله وهو مختار قاصد كاذب، فوجبت عليه الكفارة، كما لو حلف على مستقبل.

مسألة: اليمين على المستقبل

[مسألة: اليمين على المستقبل] وأما اليمين على المستقبل: فتصح أيضا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والله لأغزون قريشا» . إذا ثبت هذا: فإن اليمين على المستقبل تنقسم على خمسة أضرب: أحدها: يمين عقدها طاعة، والمقام عليها طاعة، وحلها معصية، مثل: أن يحلف: ليصلين الصلوات الواجبة، أو لا يشرب الخمر، أو لا يزني. وإنما كان عقدها والإقامة عليها طاعة؛ لأنها قد تدعوه إلى المواظبة على فعل الواجب، ويخاف من الحنث بها الكفارة. وحلها معصية؛ لأن حلها إنما يكون بأن يمتنع من فعل الواجب، أو يفعل ما حرم عليه. والضرب الثاني: يمين عقدها معصية، والإقامة عليها معصية، وحلها طاعة، مثل: أن يحلف: أن لا يفعل ما وجب عليه، أو ليفعلن ما حرم عليه. والضرب الثالث: يمين عقدها طاعة، والإقامة عليها طاعة، وحلها مكروه، مثل: أن يحلف: ليصلين النوافل، وليصومن التطوع، وليتصدقن بصدقة التطوع. والضرب الرابع: يمين عقدها مكروه، والإقامة عليها مكروهة، وحلها طاعة، مثل: أن يحلف: لا يفعل صلاة النافلة، ولا صوم التطوع، وصدقة التطوع. وإنما قلنا عقدها والمقام عليها مكروه؛ لأنه قد يمتنع من فعل البر خوف الحنث، وإنما كان حلها طاعة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها.. فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» .

فإن قيل: فكيف يكون عقدها والمقام عليها مكروها، وقد «سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأعرابي الذي سأله عن الصلاة، فقال: هل علي غيرها؟ فقال: " لا، إلا أن تطوع "، فقال: والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص منه» ولم ينكر عليه؟ قلنا: يحتمل أنه لما حلف: أنه لا يزيد ولا ينقص.. تضمنت يمينه تركا لما هو معصية وما هو طاعة، وهو ترك النقصان عنها، فلذلك لم ينكره. ويحتمل أن يكون لسانه سبقه إلى اليمين، وعلمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم ينكر عليه؛ لأنه لغو. ويحتمل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينكر عليه؛ ليدل على أن ترك التطوع جائز وإن كانت اليمين مكروهة، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل المكروه - كالالتفات في الصلاة - ليدل على الجواز. والضرب الخامس: يمين عقدها مباح، والمقام عليها مباح، واختلف أصحابنا في حلها، وذلك مثل: أن يحلف: لا دخلت هذه الدار، أو لا سلكت هذه الطريق. وإنما كان عقدها والمقام عليها مباحا؛ لأنه مباح له ترك دخول الدار، وترك سلوك الطريق، وهل حلها أفضل له، أو المقام عليها؟ فيه وجهان:

[الأول] : من أصحابنا من قال: المقام عليها أفضل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] [النحل: 91] . و [الثاني] : منهم من قال: حلها أفضل؛ لأنه إذا أقام على اليمين.. منع نفسه من فعل ما أبيح له، واليمين لا تغير المحلوف عليه عن حكمه. وإن حلف: لا يأكل الطعام اللين، ولا يلبس الثوب الناعم.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو اختيار الشيخ أبي حامد -: أن هذه يمين عقدها مكروه؛ والمقام عليها مكروه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] [الأعراف: 32] . الثاني - وهو اختيار القاضي أبي الطيب -: أن هذه يمين عقدها طاعة والمقام عليها طاعة؛ لأن السلف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يقصدون ترك الطيب من الطعام؛ ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لو شئت أن يدهمق لي.. لفعلت، ولكن الله عاب قوما، فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] [الأحقاف: 20] ) . و (الدهمقة) : لين الطعام وطيبه. وهو شبيه بحديثه الآخر: أنه قال: (لو شئت.. لدعوت بصلاء، وصناب، وصلائق، وكراكر، وأسنمة، وأفلاذ) ، و (الصلاء) : اللحم المشوي، و (الصناب) : الخردل بالزيت، و (الصلائق) : ما سلق من البقول وغيرها،

مسألة: الحلف بغير أسمائه تعالى وصفاته

وتسمى: السلائق، بالسين، و (الكراكر) : الإبل، و (الأسنمة) : أسنمة الإبل. و (الأفلاذ) : قطع الكبد. هذا مذهبنا. ومن الناس من قال: عقد اليمين مكروه بكل حال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] [البقرة: 224] . ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والله لأغزون قريشا» ، وكان يحلف كثيرا، ولو كان مكروها.. لما كرر فعله. وأما الآية: فتأويلها: أن يحلف على ترك البر والتقوى؛ كقوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} [النور: 22] الآية [النور: 22] . إذا ثبت هذا: وحلف على شيء مما ذكرناه، وحنث.. وجبت عليه الكفارة. ومن الناس من قال: إن كان الحنث طاعة.. لم تجب عليه الكفارة. ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها.. فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» . [مسألة: الحلف بغير أسمائه تعالى وصفاته] مكروه] : قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: (ومن حلف على شيء بغير الله.. فهي يمين مكروهة) .

وجملة ذلك: أنه إذا حلف بغير الله؛ بأن حلف بأبيه، أو بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو بالكعبة، أو بأحد من الصحابة.. فلا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقصد بذلك قصد اليمين، ولا يعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده بالله تعالى، فهذا يكره له ذلك، ولا يكفر؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» . وروي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدرك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو في ركب، وهو يحلف بأبيه، فقال له النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا.. فليحلف بالله، أو ليسكت ". قال عمر: فما حلفت بها بعد ذلك ذاكرا ولا آثرا» . فمعنى قوله: (ذاكرا) أذكره عن غيري. ومعنى قوله: (آثرا) أي: حاكيا عن غيري، يقال: آثر الحديث: إذا رواه. ولأنه يوهم في الظاهر التسوية بين المحلوف به وبين الله عز وجل، فكره. القسم الثاني: أن يحلف بذلك، ويقصد قصد اليمين، ويعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله، فهذا يحكم بكفره؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:

«من حلف بغير الله.. فقد كفر» . وروي: " فقد أشرك ". القسم الثالث: أن يجري ذلك على لسانه من غير قصد إلى الحلف به.. فلا يكره، بل يكون بمعنى لغو اليمين، وعلى هذا يحمل «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي الذي قال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أفلح وأبيه إن صدق» ، وكذا «قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في خبر أبي العشراء الدارمي: " وأبيك، لو طعنت في فخذها.. لأجزأك» . فإن قيل: فقد ورد في القرآن أقسام كثيرة بغير الله؟ فالجواب: أن الله تعالى أقسم بمصنوعاته الدالة على قدرته تعظيما له تعالى لا لها. إذا ثبت هذا: فإن حلف بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو بالكعبة، وحنث.. لم تلزمه كفارة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.

مسألة: من حلف بالله وحنث فعليه الكفارة

وقال أحمد: (إذا حلف بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحنث.. وجبت عليه الكفارة) . دليلنا: أنه حلف بمخلوق، فلم تلزمه بالحنث به الكفارة، كما لو حلف بالكعبة. وإن قال: إن فعلت كذا وكذا.. فأنا يهودي، أو نصراني، أو بريء من الله، أو من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو من الإسلام، أو مستحل للخمر، أو للميتة.. لم يكن يمينا، ولم تجب عليه الكفارة بالحنث به، وبه قال مالك، والأوزاعي، والليث. وقال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وإسحاق: (هي يمين، وتجب عليه الكفارة بالحنث بها) . دليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على أنه بريء من الإسلام، فإن كان كاذبا.. فهو كما قال - وروي: فقد قال - وإن كان صادقا.. فلن يرجع إلى الإسلام سالما» . ولم يذكر الكفارة. ولأنه لو قال: والإسلام.. لم يكن حالفا؛ لأنه يمين بمحدث، فهو كاليمين بالكعبة، فلأن لا يكون يمينا إذا حلف أنه بريء من الإسلام أولى. [مسألة: من حلف بالله وحنث فعليه الكفارة] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (من حلف بالله، أو باسم من أسماء الله، فحنث.. فعليه الكفارة) . وجملة ذلك: أن الحالف لا يخلو: إما أن يحلف باسم من أسماء الله، أو بصفة من صفاته. فإن حلف باسم من أسماء الله.. فأسماء الله تعالى على ثلاثة أضرب: أحدها: اسم الله، لا يشاركه فيه غيره، كقوله: والله، والرحمن، ومقلب

القلوب، والإله، وخالق الخلق، وبارئ النسمة، والحي الذي لا يموت، والذي نفسي بيده، والأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والواحد الذي ليس مثله شيء، وما أشبه ذلك. فإذا حلف بشيء من ذلك وحنث.. لزمته الكفارة؛ لأن هذه الأسماء لا يسمى بها غير الله، فانصرفت إلى الله، سواء نوى اليمين أو أطلق. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هي يمين إذا نوى بها اليمين أو أطلق، فإذا نوى بها غير اليمين.. لم يصدق في الحكم، وهل يصدق فيما بينه وبين الله تعالى؟ فيه وجهان. والضرب الثاني: أسماء الله التي يشاركه في التسمية بها غيره، إلا أن الإطلاق ينصرف إلى الله تعالى، كقوله: والخالق، والرازق، والبارئ، والرب، والرحيم، والرؤوف، والقادر، والقاهر، والمالك، والجبار، والمتكبر.

فإذا حلف بشيء من ذلك، فإن لم ينو بها غير الله.. كان يمينا؛ لأن إطلاق هذه الأسماء لا ينصرف إلا إلى الله، وإن نوى بها الله تعالى.. كان تأكيدا، وإن نوى بها غير الله.. لم تنعقد يمينه؛ لأنها قد تستعمل في غير الله تعالى مع التقييد؛ يقال: فلان خالق الكذب، قال الله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17] [العنكبوت: 17] ، وفلان يرزق فلانا: إذا كان ينفق عليه، قال الله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] [النساء: 8] ، وفلان بارئ العصا، وفلان رب فلان، أي: مالكه، قال الله تعالى: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} [يوسف: 50] [يوسف: 50] ، ويقال: فلان رحيم القلب، ورؤوف القلب، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الله رحيم يحب الرحماء "، ويقال:

فلان قادر، وقاهر للعدو، ومالك للمال، وجبار متكبر. والضرب الثالث: أسماء يسمى بها الله تعالى، ويسمى بها غيره، ولا ينصرف الإطلاق بها إلى الله، كقوله: والحي والموجود والعالم والمؤمن والكريم. فإن حلف بشيء من ذلك.. اختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو إسحاق: لا تنعقد يمينه إلا أن ينوي بها الله تعالى؛ لأن هذه الأسماء مشتركة بين الله وبين الخلق، وتستعمل في الجميع استعمالا واحدا؛ فلم تنصرف إلى الله من غير نية، كالكنايات في الطلاق. وقال الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ وأكثر أصحابنا: لا يكون يمينا، سواء نوى بها الله تعالى أو أطلق؛ لأن اليمين إنما تنعقد إذا حلف باسم معظم له حرمة، وهذه الأسماء ليست بمعظمة، ولا حرمة لها؛ لاشتراك الخالق والمخلوق بها اشتراكا واحدا. وهكذا إذا حلف بالشيء والمتكلم.. وإن حلف بصفة من صفات الله تعالى.. نظرت: فإن حلف بعظمة الله، أو بجلاله، أو بعزته، أو بكبريائه، أو ببقائه، أو بمشيئته، أو بإرادته، أو بكلامه، أو بالقرآن، أو بعلمه ولم ينو به المعلوم، أو بقدرته ولم ينو به المقدور.. انعقدت يمينه؛ لأن هذه صفات الذات لم يزل موصوفا بها، فصار كما لو حلف بالله. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هي يمين إذا نوى بها اليمين أو أطلق، وإن نوى

بها غير اليمين.. صدق فيما بينه وبين الله تعالى.. وهل يصدق في الحكم؟ على وجهين. وإن نوى بالعلم المعلوم، وبالقدرة المقدور.. لم تكن يمينا؛ لأنه محدث؛ ولهذا يقال: انظروا إلى قدرة الله، أي: إلى مقدوره. ويقال: اللهم اغفر لنا علمك فينا، أي: معلومك فينا. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة وأصحابه: (إذا حلف بالعلم.. لم يكن يمينا، وإذا حلف بكلام الله أو بالقرآن.. لم يكن يمينا) . فمنهم من قال: لأن أبا حنيفة كان يقول: (القرآن مخلوق) . ومنهم من قال: لم يكن يقول: القرآن مخلوق، وإنما لم تجر العادة بالحلف به. دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القرآن كلام الله، وليس بمخلوق» . وإذا كان غير مخلوق.. كان صفة من صفات الذات، كعظمة الله، وجلاله.

قال الشافعي: (من قال إن القرآن مخلوق.. فقد كفر) . وأما العلم: فلأنه صفة من صفات الذات، فهو كما لو حلف بعظمة الله وقدرته. وإن قال: وحق الله، فإن نوى به العبادات.. لم يكن يمينا؛ لأنه حلف بمحدث، وإن نوى به ما يستحقه الله من الصفات، أو أطلق ذلك.. كان يمينا، وبه قال مالك وأحمد. واختلف أصحابنا في علته: فمنهم من قال: لأنها قد ثبت لها عرف الاستعمال وإن لم يثبت لها عرف الشرع، وما ثبت له أحد العرفين.. كان يمينا. وقال أبو جعفر الأستراباذي: حق الله هو قرآن الله، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة: 51] [الحاقة: 51] ، يعني: القرآن، ولو حلف بالقرآن.. كان يمينا، سواء نوى اليمين، أو لم ينو أو أطلق، فكذلك هذا مثله. والأول أصح. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (لا يكون يمينا؛ لأن حقوق الله تعالى طاعته، وذلك محدث) . ودليلنا: أن لله حقوقا يستحقها لنفسه، وحقوقا على غيره، فإذا اقترن عرف

مسألة: في قوله عهد الله وميثاقه وكفالته وأمانته

الاستعمال في اليمين.. انصرف إلى ما يستحقه لنفسه من البقاء والعظمة وغير ذلك من الصفات، فصار كقوله: وعظمة الله. قال الطبري في " العدة ": وإن حلف بصفة من صفات الله التي من صفات الفعل، كقوله: وخلق الله، ورزق الله.. لم يكن يمينا. [مسألة: في قوله عهد الله وميثاقه وكفالته وأمانته] ] : إذا قال: علي عهد الله، وميثاقه، وكفالته، وأمانته، لا فعلت كذا، أو قال: وعهد الله، وميثاقه، وكفالته، وأمانته، لأفعلن كذا، فإن نوى به اليمين.. فهو يمين، وإن نوى به العبادات التي أخذ الله علينا العهد بأدائها.. لم يكن يمينا؛ لأنها محدثة، قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72] [الأحزاب: 72] . قيل في التفسير: هي الأعمال بالثواب. فإن أطلق ذلك.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: هو يمين؛ لأن العادة قد جرت بالحلف بذلك، فانصرف إطلاقها إلى اليمين، كقوله: وعظمة الله. والثاني - وهو المنصوص -: (أنه ليس بيمين) ؛ لأن ظاهر اللفظ ينصرف إلى ما وجب له على خلقه من العبادات، فلم تصر يمينا من غير نية، وتخالف العظمة؛ فإنها صفة ذاته. إذا ثبت هذا: فقال: وعهد الله، وميثاقه، وكفالته، وأمانته، لأفعلن كذا، وأراد به يمينا.. كانت يمينا واحدة. وإذا حنث.. لزمته كفارة واحدة. وقال مالك: (يجب لكل لفظة كفارة) . دليلنا: أن الجمع بين هذه الألفاظ تأكيد لليمين، واليمين واحدة، فهو كقوله: والله الطالب، الغالب، المهلك، المدرك.

فرع: في قوله علي يمين

[فرع: في قوله علي يمين] ] : قال الطبري: لو قال: علي يمين.. فظاهر المذهب: أنه لا يكون يمينا. وقال الإمام سهل: يحتمل وجهين. وقال أبو حنيفة: (يكون يمينا استحسانا، والقياس: لا يلزمه) . ودليلنا: أن قوله: (علي يمين) يحتمل الإخبار به، ويحتمل الإنشاء والابتداء، فلا يحمل على أحدهما. وإن قال: أيمان البيعة لازمة لي لأفعلن كذا.. فإن البيعة كانت في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمصافحة، فلما ولي الحجاج.. رتبها على أيمان تشتمل على اسم الله، وعلى الطلاق، والعتاق، والحج، وصدقة المال. قال ابن الصباغ: وإذا قال رجل: أيمان البيعة لازمة لي، فإن لم ينو الأيمان التي رتبها الحجاج.. لم يتعلق بقوله حكم، وإن أراد ذلك، فإن قال: أيمان البيعة لازمة لي بطلاقها وعتاقها.. فقد صرح بذكرها، ولا يحتاج إلى نية، وتنعقد يمينه بالطلاق والعتاق، وإن لم يصرح بذلك، ونوى أيمان البيعة التي فيها الطلاق والعتاق.. انعقدت يمينه بالطلاق والعتاق خاصة؛ لأن اليمين بها تنعقد بالكناية مع النية. وظاهر قول ابن الصباغ أن يمينه لا تنعقد بالله تعالى؛ لأن اليمين بالله لا تنعقد بالكناية مع النية. [مسألة: في قوله والله لأفعلن] ] : إذا قال: والله لأفعلن كذا.. كان ذلك يمينا إذا نوى بها اليمين أو أطلق؛ لأنه قد ثبت لها عرف الشرع؛ وهو قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «والله لأغزون قريشا» ، وثبت لها عرف الاستعمال؛ لأن الناس هكذا يحلفون، فإن نوى بها غير اليمين.. لم يقبل. وقد مضى خلاف المسعودي [في " الإبانة "] فيها، وهذا هو المشهور.

وإن قال: بالله لأفعلن كذا - بالباء المعجمة بواحدة من تحت - فإن نوى بها اليمين أو أطلق.. كان يمينا؛ لأنه قد ثبت لها عرف الشرع، قال الله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} [التوبة: 74] [التوبة: 74] ، وثبت لها عرف اللغة؛ لأن أهل اللغة يقولون: الباء إنما هي أصل حروف القسم، وغيرها بدل عنها. فإن صرفها بنيته عن اليمين؛ بأن نوى: بالله أستعين، أو أثق بالفعل الذي أشرت إليه، أو بالله أومن.. لم يكن يمينا؛ لأنه يحتمل ما نواه. وإن قال: تالله لأفعلن كذا - بالتاء المعجمة باثنتين من فوق - فقد نص الشافعي في (الإيلاء) : (لو قال: تالله لا أصبتك.. كان موليا) . قال المزني: وقال الشافعي في (القسامة) : (إنها ليست بيمين) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هي يمين في القسامة وغيرها إذا نوى بها اليمين أو أطلقها؛ لأنه قد ثبت لها عرف الشرع؛ وهو قَوْله تَعَالَى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85] [يوسف: 85] ، وقَوْله تَعَالَى: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 91] [يوسف: 91] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] [الأنبياء: 57] ، وما حكاه المزني عن (القسامة) .. فهو تصحيف منه، وإنما قال الشافعي في (القسامة) : (إذا قال: يا الله.. لا يكون يمينا) ، وتعليله يدل على ذلك؛ لأنه قال: (لأنه دعاء) وأراد به الاستغاثة، بفتح اللام من اسم الله. ومنهم من حملها على ظاهرها، فقال: إن كان في الإيلاء.. كان يمينا، وإن كان في القسامة.. لم يكن يمينا؛ لأن في القسامة أثبت لنفسه حقا، فلم يقنع منه إلا بصريح اليمين التي لا تحتمل، وفي الإيلاء يتعلق به حق غيره، فحمل اللفظ على ظاهره.

فرع: الخطأ أو اللحن في صورة القسم

[فرع: الخطأ أو اللحن في صورة القسم] ] : وإن قال: والله لأفعلن كذا، أو والله لأفعلن - بضم اسم الله أو بنصبه - فقد قال أكثر أصحابنا: إن يمينه ينعقد، سواء تعمده أو لم يتعمده؛ لأنه لحن لا يحيل المعنى. وقال القفال: إذا قال: والله لا فعلت كذا - بضم اسم الله - لم يكن يمينا، إلا أن ينوي به اليمين؛ لأنه ابتداء كلام، فإن نوى اليمين به.. كان يمينا؛ لأنه قد يخطئ في الإعراب، فيرفع مكان الخفض. والمنصوص للشافعي في (القسامة) : هو الأول. وإن قال: الله لأفعلن كذا - برفع اسم الله أو نصبه أو كسره - فإن أراد به اليمين.. فهو يمين؛ لما روي في «حديث ركانة، أنه قال: " الله - بالرفع - ما أردت إلا واحدة» . وفي «حديث ابن مسعود لما أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قتل أبا جهل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " آلله إنك قتلته؟ "، فقال: آلله إني قتلته. بنصب اسم الله» .

مسألة: القسم بـ لعمر الله

وإن لم ينو به اليمين.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمين؛ لأن حرف القسم قد يحذف، كما يحذف حرف النداء، ولا يتغير المعنى ولا الإعراب. والثاني: أنها ليست بيمين، وهو المشهور؛ لأن العادة لم تجر بالحلف به، ولا يحلف به إلا خواص الناس، فلم يجعل يمينا من غير نية. [مسألة: القسم بـ لعمر الله] ] : وإن قال: لعمر الله لأفعلن كذا، فإن نوى به اليمين.. كان يمينا؛ لأن معناه: بقاء الله وحياته. وقيل معناه: علم الله، وذلك صفة من صفات الذات. وإن نوى به غير اليمين، بأن نوى به حقوق الله.. لم يكن يمينا؛ لأن حقوق الله محدثة. وإن أطلق.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمين، وهو اختيار أبي علي الطبري، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد؛ لأنه قد ثبت لها عرف الاستعمال في الشرع، قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] [الحجر: 72] ، وثبت لها عرف الاستعمال في اللغة، قال الشاعر: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان

مسألة: القسم بـ وايم وأيمن

والثاني: أنه ليس بيمين، وهو المنصوص؛ لأنه ليس فيها حرف القسم، وإنما يكون يمينا بتقدير خبر محذوف؛ فكأنه قال: لعمر الله ما أقسم به، فكانت مجازا، والمجاز لا ينصرف إليه الإطلاق. وأما الآية: فلم يرد [تعالى] : أنها يمين في حقنا، وإنما أقسم الله بها، وقد أقسم الله بأشياء كثيرة، وليست بقسم في حقنا. [مسألة: القسم بـ وايم وأيمن] ] : وإن قال: وايم الله، أو وأيمن الله لأفعلن كذا، فإن نوى به اليمين.. فهو يمين؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في حق أسامة بن زيد: " وايم الله إنه لخليق بالإمارة» . وإن لم يكن له نية.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمين؛ لأنه قد ثبت له عرف الاستعمال في اللغة. والثاني: أنه ليس بيمين؛ لأنه لا يعرفه إلا خواص الناس.

مسألة: أقسم مع التوكيد أو النفي

وقد اختلف في اشتقاقه: فقيل: هو مشتق من اليمين؛ وكأنه قال: ويمن الله. وقيل: هو مشتق من اليمين. وإن قال: لاها الله، لأفعلن كذا، ونوى به اليمين.. كان يمينا؛ لما روي: «أن أبا بكر الصديق قال في سلب قتيل قتله أبو قتادة: لاها الله، إذن يعمد إلى أسد من أسد الله، يقاتل عن الله ورسوله، فيعطيك سلبه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صدق» . وإن لم ينو به اليمين.. لم يكن يمينا؛ لأنه لم يجر به عرف عام في الاستعمال، وإنما يستعمله بعض الناس دون بعض. [مسألة: أقسم مع التوكيد أو النفي] ] : وإن قال: أقسمت بالله لأفعلن كذا، أو أقسم بالله لا فعلت كذا، فإن نوى به اليمين، أو أطلق.. كان يمينا؛ لأن هذا اللفظ قد ثبت له عرف الاستعمال في الشرع،

قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] [الأنعام: 109] ، وقال تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 107] [المائدة: 107] . فإن قال: لم أرد به اليمين، وإنما أردت بقولي: (أقسمت بالله) الخبر عن يمين ماضية، وبقولي: (أقسم بالله) الخبر عن يمين مستأنفة، فإن كان صادقا.. لم تلزمه كفارة بالمخالفة فيما بينه وبين الله، وأما في الحكم: فإن كان قد علم أنه تقدمت منه يمين في ذلك.. قبل قوله في قوله: (أقسمت بالله) قولا واحدا؛ لأنه يحتمل ما يدعيه، وهو أعلم بما أراد، ولا يجيء مثله في قوله: (أقسم) ، وإن لم يعلم منه يمين بالله في الماضي على ذلك.. فهل يقبل قوله في: (أقسمت) ، وفي قوله: (أقسم) ؟ قال الشافعي هاهنا: (يقبل منه) ، وقال في " الإملاء ": (لا يقبل منه) . وهكذا قال في (الإيلاء) : (إذا قال: أقسمت بالله لا وطئتك، وقال: أردت به في زمان متقدم.. أنه لا يقبل) . واختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق: فـ[أحدها] : منهم من قال: لا يقبل منه، قولا واحدا على ما نص عليه في " الإملاء "؛ لأن ما يدعيه خلاف الظاهر، وحيث قال الشافعي: (يقبل) أراد: فيما بينه وبين الله. و [الطريق الثاني] : منهم من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين: أحدهما: لا يقبل منه؛ لما ذكرناه. والثاني: يقبل؛ لأن قوله: (أقسمت) يصلح للماضي حقيقة، وكذلك قوله: (أقسم) يصلح للمستقبل حقيقة، فإذا أراده.. قبل منه. و [الطريق الثالث] : منهم من حملهما على ظاهرهما: فحيث قال في " الإملاء ": (لا يقبل قوله) أراد بذلك على ما نص عليه في (الإيلاء) ؛ لأنه يتعلق به حق الزوجة، فلم يقبل قوله فيما يخالف الظاهر.

مسألة: قوله أشهد بالله

وحيث قال: (يقبل) أراد به في غير (الإيلاء) ؛ لأن الحق فيه مقدر فيما بينه وبين الله، فقبل قوله فيه. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قال: أقسم، أو أحلف باله، أو أقسمت، أو حلفت بالله، فإن نوى به اليمين.. فهو يمين. وإن لم ينو به اليمين.. فليس بيمين. وإن أطلق.. ففيه وجهان. [مسألة: قوله أشهد بالله] مسألة: [أشهد بالله] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن قال: أشهد بالله، فإن نوى به اليمين.. فهو يمين، وإن لم ينو.. لم يكن يمينا) . وجملة ذلك: أنه إذا قال: أشهد بالله، أو شهدت بالله لأفعلن كذا، فإن نوى به اليمين.. كان يمينا؛ لأنه قد ثبت له عرف الاستعمال في الشرع، قال الله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] [النور: 6] ، وإن نوى بالشهادة توحيد الله.. لم يكن يمينا؛ لأنه قد ثبت له عرف الاستعمال في ذلك. وإن أطلق ولم ينو شيئا.. فاختلف أصحابنا فيه: [الأول] : منهم من قال: هو يمين؛ لأنه قد ثبت له عرف الاستعمال في الشرع في اليمين، فحمل الإطلاق عليه. والثاني: منهم من قال: ليس بيمين، وهو المنصوص؛ لأنه لم يثبت له عرف الاستعمال، وأما الشرع: فقد ورد والمراد به اليمين، وورد والمراد به الشهادة، فلم يحمل إطلاقه على اليمين. [فرع: أعزم بالله ونحوها ولا نية] ] : قال الشافعي: (وإن قال: أعزم بالله، ولا نية له.. لم يكن يمينا) . وجملة ذلك: أنه إذا قال: أعزم بالله لأفعلن كذا، فإن نوى به اليمين.. كان يمينا؛ لأنه يحتمل اليمين بقوله: (بالله) ، وإن نوى أنه يعزم بمعونة الله.. لم يكن

يمينا، وإن لم ينو شيئا.. لم يكن يمينا؛ لأنه لم يثبت له عرف في الشرع ولا في الاستعمال. وإن قال: أقسم لأفعلن كذا، أو أقسمت لأفعلن كذا، أو أحلف، أو أشهد لأفعلن كذا، ولم يقل: بالله.. لم يكن يمينا، سواء نوى به اليمين أو لم ينو. وقال أبو حنيفة: (هو يمين، سواء نوى به اليمين أو لم ينو) . وهي إحدى الروايتين عن أحمد. وقال مالك: (إذا نوى به اليمين.. كان يمينا، وإن لم ينو به اليمين.. لم يكن يمينا) . وهي الرواية الأخرى عن أحمد. دليلنا: أنها يمين عريت عن اسم الله وصفته، فلم تكن يمينا، كما لو قال: أقسمت بالنبي أو بالكعبة. وأما الخبر الذي روي: «أن رجلا ذكر رؤيا بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ففسرها أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال أبو بكر: أصبت يا رسول الله، أو أخطأت؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أصبت بعضا، وأخطأت بعضا "، فقال أبو بكر: أقسمت عليك لتخبرني بالخطأ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقسم» .. فهو قسم في اللغة، لا أنه قسم في الشرع؛ بدليل: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تقسم "، أي: لا تقسم قسما شرعيا تجب فيه الكفارة. وإن قال رجل: أعتصم بالله، أو أستعين بالله، أو توكلت على الله لأفعلن كذا.. لم يكن يمينا، سواء نوى به اليمين أو لم ينو؛ لأن ذلك لا يصلح لليمين.

مسألة: السؤال بالله أو القسم لفعل

[مسألة: السؤال بالله أو القسم لفعل] ] : إذا قال رجل لآخر: أسألك بالله، أو أقسم عليك بالله لتفعلن كذا، فإن أراد بذلك الشفاعة إليه بالله.. لم يكن يمينا، وإن أراد أن يعقد للمسؤول بذلك يمينا.. لم تنعقد لأحدهما يمين؛ لأن كل واحد منهما لم يعقدها يمينا لنفسه. وإن أطلق، ولم ينو اليمين ولا غيرها.. لم ينعقد يمينا؛ لأنه لم يثبت لها عرف في الشرع ولا في الاستعمال. وإن أراد السائل أن يعقد اليمين لنفسه بذلك.. انعقدت اليمين في حقه؛ لأنها تصلح لليمين بقوله: بالله، وإن لم يفعل المسؤول ما حلف عليه السائل.. حنث السائل، ووجبت الكفارة عليه. وقال أحمد: (تجب الكفارة على المسؤول؛ لأن الكفارة وجبت بفعله) . دليلنا: أن المسؤول لم يعقد اليمين، فلم تلزمه الكفارة، كما لو لم يحلف عليه. [مسألة: الاستثناء في اليمين] ] : الاستثناء في اليمين جائز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] [القلم: 17 - 18] . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والله لأغزون قريشا " إلى أن قال في الثالثة: " إن شاء الله» . والاستثناء في اليمين ليس بواجب، وحكي عن بعض الناس: أنه قال: هو واجب؛ لأن الله تعالى ذم قوما أقسموا ولم يستثنوا. دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلف على نسائه شهرا ولم يستثن» .

إذا ثبت هذا: فقال: والله لأفعلن كذا إن شاء الله، ففعله.. لم يحنث؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله.. لم يحنث» . ولأنه علق الفعل على مشيئة الله، ومشيئة الله لا تعلم، وإنما يعمل الاستثناء إذا وصله بيمينه، فإن فصله عن يمينه بغير عذر.. لم يرتفع اليمين، وإن فصله عن يمينه لضيق نفس، أو عي، أو لتذكر يمينه الذي يريد أن يحلفها، أو كان

فرع: إن شاء الله لا أفعل

بلسانه فأفأة لم يمكنه وصله باليمين لذلك.. كان في حكم الموصول. هذا مذهبنا. وقال الحسن البصري: وعطاء: إذا استثنى وهو في مجلسه.. صح. وحكي عن ابن عباس: أنه قال: (إذا استثنى بعد سنة.. صح) . وحكي عنه: أنه يصح الاستثناء أبدا. وقيل: إنه رجع عن ذلك. ودليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها.. فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» . ولو كان الاستثناء يعمل بعد تمام اليمين والانفصال عنها.. لكفاه ذلك عن الكفارة. ولا يصح الاستثناء حتى ينويه، وهو أن ينوي تعليق الفعل بمشيئة الله تعالى؛ لأن اليمين بالله لا تصح إلا بالنية، فكذلك الاستثناء، وهل من شرطه أن ينوي الاستثناء من أول اليمين، أو يصح أن ينوي الاستثناء في بعض ألفاظ اليمين؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في الطلاق. وإن حلف واستثنى، ولم ينو الاستثناء.. صح الاستثناء في الظاهر دون الباطن. [فرع: إن شاء الله لا أفعل] قال القاضي أبو الطيب: إذا قال: إن شاء الله والله لا أفعل كذا.. لم يحنث. وكذلك: إذا قال لامرأته: إن شاء الله أنت طالق.. لم تطلق، أو: إن شاء الله أنت طالق وعبدي حر.. لم تطلق امرأته، ولم يعتق عبده؛ لأنه لا فرق بين أن يقدم الاستثناء أو يؤخره. وكذلك: إذا قال: أنت طالق إن شاء الله عبدي حر - من غير واو العطف - لم تطلق امرأته، ولم يعتق عبده؛ لأنه علقهما بمشيئة الله، وواو العطف يجوز حذفها، كما

فرع: قوله والله لأفعلن كذا إن شاء زيد

روي عن ابن عباس: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات» من غير واو العطف. وتقول العرب: أكلت خبزا سمنا. قال ابن الصباغ: وهذا وإن كان مجازا، فإنه إذا قصده.. صح الاستثناء؛ لأن الاستثناء لا يكون إلا بالقصد. [فرع: قوله والله لأفعلن كذا إن شاء زيد] ] : وإن قال: والله لأفعلن كذا إن شاء زيد.. فإن هذا ليس باستثناء، وإنما هو تعليق عقد اليمين بمشيئة زيد. فإن فعل ذلك الشيء قبل أن يعلم مشيئة زيد.. لم يتعلق بذلك حكم. وإن قال زيد: شئت أن تفعله.. انعقدت يمينه، فإن فعله.. بر في يمينه، وإن لم يفعله، وتعذر فعله.. حنث في يمينه. وإن قال زيد: لست أشاء أن تفعله.. لم تنعقد يمينه؛ لأنه لم يوجد شرط انعقاد اليمين، فإن فعله أو لم يفعله.. لم يحنث. وإن فقدت مشيئة زيد بالجنون، أو الغيبة، أو الموت.. لم تنعقد اليمين؛ لأنه لم يوجد شرط انعقادها. وإن قال: والله لا دخلت الدار اليوم إن شاء زيد، فإن قال زيد: شئت أن تدخلها.. انعقدت، فإن دخلها في اليوم.. بر في يمينه، وإن انقضى اليوم ولم يدخلها.. حنث في يمينه. وإن قال زيد: شئت أن لا تدخلها، أو لست أشاء أن تدخل.. لم تنعقد يمينه. وإن فقدت مشيئته بالموت، أو الغيبة، أو الجنون، فانقضى اليوم ولم يدخلها.. لم يحنث؛ لأن يمينه لم تنعقد. [فرع: أقسم على عدم الدخول إلا بمشيئة زيد] وإن قال: والله لأدخلن هذه الدار اليوم إلا أن يشاء زيد.. فقد انعقدت يمينه على دخول الدار في اليوم، إلا أن يشاء زيد أن لا يدخلها، فتنحل اليمين؛ لأن الاستثناء ضد المستثنى منه، فإن دخل الدار في يومه.. بر في يمينه، وإن قال زيد:

قد شئت أن لا يدخلها.. انحلت اليمين، فيتخلص من الحنث في اليمين بأحد هذين. وإن قال زيد: قد شئت أن تدخلها، أو قال: لست أشاء أن لا تدخلها.. فقد زال حكم الاستثناء، ولم يتخلص من الحنث إلا بأن يدخلها في يومه، فإن انقضى اليوم قبل أن يدخلها.. حنث في يمينه. وإن فقدت المشيئة من زيد بغيبة، أو جنون، أو خرس، أو موت، ومضى اليوم ولم يدخلها.. فقد قال الشافعي في " المختصر ": (يحنث في يمينه؛ لأن الأصل أن لا مشيئة) . وإن قال: والله لا دخلت هذه الدار اليوم إلا أن يشاء زيد.. فاليمين هاهنا على النفي، فيكون الاستثناء على الإثبات، فإن مضى اليوم ولم يدخل الدار.. بر في يمينه، سواء شاء زيد أو لم يشأ. وإن قال زيد: شئت أن تدخلها.. فقد تخلص من الحنث، سواء دخلها أو لم يدخلها. وإن قال زيد: شئت أن لا تدخلها، أو لست أشاء أن تدخلها.. فقد تعذر التخلص من الحنث بالاستثناء، فإن لم يدخل الدار حتى انقضى اليوم.. فقد بر في يمينه، وإن دخل الدار في يومه.. حنث. وإن تعذرت مشيئة زيد بغيبة، أو جنون، أو خرس.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (لم يحنث) . وهذا مخالف للنص في الأولى. واختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق: فـ[الطريق الأول] : قال أبو إسحاق وغيره: يحنث فيهما، قولا واحدا، كما نقله المزني؛ لأن الأصل عدم المشيئة، وأما ما ذكره الشافعي في " الأم ": فالظاهر أنه رجع عنه؛ لأن المزني لو وجده لاعترض به عليه، ويحتمل: أن الربيع نقلها قبل أن يتحقق رجوعه عنها. و [الطريق الثاني] : منهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وخرجهما على قولين:

فرع: علق يمينه على يمين صاحبه

أحدهما: لا يحنث فيهما؛ لأنه يجوز أن يكون قد شاء، ويجوز أنه لم يشأ، فحصل شك في حصول الحنث، والأصل أن لا حنث. والثاني: أنه يحنث فيهما؛ لأنه قد وجد عقد اليمين والمخالفة، ويمكن حصول المشيئة وارتفاع اليمين، ويمكن عدم المشيئة وبقاء حكم اليمين، والأصل عدم المشيئة. وأما المزني: فقد قال عقيب نقله: وهذا خلاف قوله في باب: (جامع الأيمان) ، ويريد بذلك: إذا حلف ليضربنها مائة، فضربها بضغث فيه مائة شمراخ، وخفي عليه، هل وصل جميعها إلى بدنها، أم لا؟ أنه لا يحنث، فلم يحنثه مع الشك في فعل ما حلف عليه. و [الطريق الثالث] : منهم من قال: هما على اختلاف حالين: فحيث قال: (حنث) أراد: إذا أيس من معرفة مشيئته بموته؛ لأنه أيس من معرفة مشيئته، والأصل عدمها. وحيث قال: (لا يحنث) أراد: إذا لم ييأس من مشيئته، بأن غاب أو خرس، فيرجى أن يرجع من غيبته، أو ينطلق لسانه، فيعلم ذلك منه. [فرع: علق يمينه على يمين صاحبه] إذا قال رجل لآخر: يميني في يمينك.. نظرت: فإن كان المقول له قد حلف بالله تعالى.. لم تنعقد يمين القائل، سواء نوى اليمين أو لم ينو؛ لأن اليمين بالله لا تنعقد بالكناية مع النية.

وإن كان المقول له قد حلف بالطلاق، أو الظهار، أو العتاق.. نظرت في القائل: فإن نوى ذلك.. انعقدت يمينه بذلك؛ لأن اليمين تنعقد بالكناية مع النية. وإن كان المقول له لم يحلف قبل هذا.. لم تنعقد يمين الحالف بشيء، سواء نوى اليمين بالطلاق، أو الظهار، أو العتق، أو لم ينو؛ لأن يمينه إنما تنعقد بذلك بالصريح، أو بالكناية مع النية، وليس هاهنا لفظ صريح، ولا كناية مع نية؛ لأن المقول له لم يحلف. وبالله التوفيق

باب جامع الأيمان

[باب جامع الأيمان] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إذا كان في دار، فحلف: لا يسكنها.. أخذ في الخروج من مكانه، فإن تخلف ساعة وهو يمكنه الخروج منها.. حنث) . وجملة ذلك: أنه إذا كان ساكنا في دار، فحلف: لا يسكنها، فإن أمكنه الخروج منها وأقام أي زمان كان.. حنث. وقال مالك: (إن أقام دون اليوم والليلة.. لم يحنث) . دليلنا: أن استدامة السكون بمنزلة ابتدائه، فإذا أمكنه الخروج ولم يخرج.. حنث، كما لو أقام يوما وليلة. وإن خرج من الدار في الحال.. لم يحنث. وقال زفر: يحنث وإن انتقل في الحال؛ لأنه لا بد أن يكون ساكنا بها زمانا ما. وهذا ليس بصحيح؛ لأن ما لا يمكنه الاحتراز منه لا يدخل في اليمين، ولأنه تارك للسكنى بالخروج، والتارك لا يسمى ساكنا، كما لو أولج في ليلة الصيام، ونزع مع طلوع الفجر. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن كانت اليمين في جوف الليل، فخاف من العسس إذا خرج ذلك الوقت.. فإنه لا يحنث بالمكث إلى وقت الإمكان. وإن وقف في الدار بعد اليمين لينقل قماشه ورحله من الدار.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول القفال، وبه قال أبو حنيفة -: (إنه لا يحنث) ؛ لأنه من أسباب الخروج.

مسألة: حلف بالله لا يساكن زيدا

والثاني - وهو قول البغداديين من أصحابنا، وهو المشهور -: إنه يحنث؛ لأنه أقام في الدار بعد اليمين مع تمكنه من الخروج، فحنث، كما لو أقام لا لنقل القماش. فإن خرج من الدار عقيب اليمين، وترك رحله فيها.. لم يحنث. وقال أبو حنيفة: (يحنث، إلا أن ينقل أهله وماله) . وبه قال أحمد. وحكي عن مالك: أنه اعتبر نقل عياله دون ماله. دليلنا: أنه حلف على أن لا يسكن، فإذا تحول بنفسه منها عقيب يمينه، فلم يسكن.. فوجب أن لا يحنث، كما لو حلف أن لا يسكن بلدا، فخرج منها، وترك رحله فيها. فإن رجع إلى الدار بعد الخروج؛ لنقل القماش، أو لعيادة مريض فيها، وما أشبه ذلك.. لم يحنث؛ لأنه قد وجد منه المفارقة للدار ومزايلة السكنى، وبعوده إليها لا يسمى به ساكنا، فلم يحنث. [مسألة: حلف بالله لا يساكن زيدا] وإن قال: والله لا ساكنت فلانا، وهو ساكن معه في مسكن، فإن خرج أحدهما في أول حال إمكان الخروج.. لم يحنث؛ لأنه لم يساكنه، وإن أقام بعد إمكان الخروج.. حنث؛ لأن المساكنة تقع على الاستدامة كما تقع على الابتداء. قال الشافعي: (والمساكنة: أن يكونا في بيت، أو في بيتين حجرتهما واحدة ومدخلهما واحد) . فإن كانا في مدخلين، أو في حجرتين في درب نافذ، أو غير نافذ، متفرقتين أو متلاصقتين.. فليسا بمتساكنين، وإنما هما متجاوران.

وإن سكن كل واحد منهما في بيت من خان، وكان البيتان متفرقين أو متلاصقين.. فهما غير متساكنين؛ لأن بيوت الخان كل بيت منها مسكن على الانفراد. وإن سكن كل واحد منهما في بيت في دار صغيرة، وكل واحد منهما ينفرد بغلق.. فهما متساكنان؛ لأن الدار الواحدة مسكن واحد، ويخالف الخان وإن كان صغيرا؛ لأنه بني للمساكن. وإن كانا في بيتين في دار كبيرة ذات بيوت كل بيت منفرد بباب وغلق.. فقد ذكر أكثر أصحابنا: أن ذلك ليس بمساكنة؛ لأنها كبيوت الخان. وقال الشيخ الحسن الطبري في " عدته ": وفي هذا نظر؛ لأن جميع الدار تعد في العادة مسكنا واحدا، بخلاف بيوت الخان. وإن كانت الدار كبيرة، إلا أن أحدهما في البيت، والآخر في الصفة، أو كانا في صفتين، أو كانا في بيتين ليس لأحدهما غلق دون الآخر.. فهما متساكنان. فكذلك: إذا كانا في بيتين في دار كبيرة ذات بيوت لا أبواب عليها.. كان ذلك مساكنة؛ لأن اشتراكهما في مرافق الصحن الجامع للبيتين، وفي الباب المدخول منه إليهما، كاشتراكهما في موضع السكون. قال الشافعي: (إلا أن يكون له نية.. فهو على ما نواه) . وإن أراد: أنه نوى أن لا يساكنه في درب أو بلد أو بيت واحد.. كان على ما نواه؛ لأنه يحتمل ما نواه من ذلك. وفيه وجه آخر، حكاه الطبري: إذا نوى لا يساكنه في هذه البلدة.. لم يصح، كما لو نوى لا يساكنه بخراسان.

فرع: حلف لا يفعل أمرا وهو متلبس به

إذا ثبت هذا: فحلف: لا يساكنه، وهما في بيتين في حجرة، قال الشافعي: (فجعل بينهما جدار، ولكل واحدة من الحجرتين باب.. فليست هذه بمساكنة) . قال أصحابنا البغداديون: ظاهر هذا الكلام أنهما إذا أقاما في بيتهما، وجعل بينهما جدار، ولكل واحد من الحجرتين باب.. لم يحنث. وليس هذا على ظاهره، وإنما أراد بذلك: إذا انتقل أحدهما في الحال، وعاد لبناء الجدار والباب، فأما إذا أقاما مع إمكان الانتقال لبناء الجدار والباب.. حنث الحالف. قال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا اشتغلا ببناء الجدار فيما بينهما عقيب اليمين.. فهل يحنث الحالف؟ فيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأن البناء يحتاج إلى مدة طويلة، ولم تجر العادة به. والثاني: لا يحنث؛ لأنه اشتغل بسبب الفرقة. [فرع: حلف لا يفعل أمرا وهو متلبس به] وإن حلف: لا يلبس ثوبا، وهو لابسه، أو لا يركب دابة، وهو راكبها، فإن نزع الثوب، أو نزل عن الدابة أول حال إمكانه.. لم يحنث، وإن استدام ذلك مع إمكان تركه.. حنث؛ لأن استدامة اللبس والركوب تسمى: لبسا وركوبا؛ ولهذا يقال: لبست الثوب شهرا، وركبت الدابة شهرا. وإن قال: والله لا تزوجت، وهو متزوج، فاستدام، أو لا تطهرت، وهو متطهر، فاستدام.. لم يحنث؛ لأن استدامة ذلك لا يجري مجرى ابتدائه؛ ولهذا: لا يقال: تزوجت شهرا، وتطهرت شهرا، وإنما يقال: تزوجت من شهر، وتطهرت من شهر، فإن عقد النكاح، أو ابتدأ الطهارة.. حنث. وإن قال: والله لا تطيبت، وهو متطيب، فاستدام.. ففيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأن اسم التطيب يقع على الاستدامة، ألا ترى أنه يقال: تطيبت شهرا، كما يقال: لبست شهرا؟

فرع: حلف لا يسافر وهو مسافر

والثاني - وهو الأصح، ولم يذكر في " المهذب " غيره -: أنه لا يحنث؛ لأن استدامة الطيب لم تجعل في الشرع بمنزلة ابتدائه، ألا ترى أن المحرم ممنوع من ابتداء التطيب، غير ممنوع من استدامته؟ ولأنه كالطهارة؛ لأنه يقال: تطيبت من شهر، كما يقال: تطهرت من شهر، ولا يقال: تطيبت شهرا. وإن حلف: لا يدخل دارا شهرا، وهو فيها، فاستدام الكون فيها.. قال القاضي أبو الطيب: فيه وجهان، وحكاهما الشيخان قولين: [أحدهما] : قال في " الأم ": (يحنث؛ لأن استدامة الكون في الدار بمنزلة ابتداء الدخول في التحريم في ملك الغير، فكان كالدخول في الحنث باليمين) . و [الثاني] : قال في " حرملة ": (لا يحنث) . وبه قال أبو حنيفة، وهو الأصح؛ لأن الدخول هو الانفصال من خارج الدار إلى داخلها، وهذا لا يوجد في استدامة الكون فيها؛ ولهذا لا يقال: دخلت الدار شهرا، وإنما يقال: دخلتها منذ شهر. فإن قلنا بالأول: فإن أقام بعد اليمين بعد أن أمكنه الخروج.. حنث، وإن خرج عقيب اليمين.. لم يحنث، وإن عاد لنقل المتاع.. حنث؛ لأنه قد دخلها، بخلاف ما لو حلف على السكنى؛ لأن السكنى لا توجد بمجرد الدخول. وإن قلنا بالثاني: فاستدام الكون فيها.. لم يحنث، فإن خرج، ثم دخلها.. حنث. [فرع: حلف لا يسافر وهو مسافر] وإن حلف: لا يسافر، وهو في السفر، فإن وقف ولم يسافر، وأخذ في العود.. لم يحنث؛ لأنه لم يسافر، وإن سار مسافرا بعد اليمين ولو خطوة.. حنث؛ لأنه سافر.

فرع: حلف لا يدخل دارا فدخل الممر

[فرع: حلف لا يدخل دارا فدخل الممر] وإن حلف: لا يدخل الدار، فدخل الدهليز بجميع بدنه.. حنث؛ لأنه قد دخل الدار، وإن دخل ببعض بدنه، إما برأسه دون باقي بدنه، أو بإحدى رجليه.. لم يحنث؛ لأنه لم يدخلها. وإن كان على باب الدهليز كن - وهو: الطاق - فدخله.. فهل يحنث؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحنث؛ لأنه خارج الدار. والثاني: يحنث؛ لأنه من جملة الدار؛ لأنه يكن الباب، فهو كالدهليز. فإن حلف: لا يخرج من الدار، فأخرج بعض بدنه.. لم يحنث؛ لأنه لم يخرج بدليل: أنه لو كان معتكفا، فأخرج بعض بدنه من المسجد.. لم يخرج من الاعتكاف؛ ولهذا روي: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان معتكفا، وكان يخرج رأسه من المسجد إلى عائشة لترجله» . [مسألة: حلف لا يدخل دارا فصعد على سطحها] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو حلف: لا يدخلها، فرقى فوقها.. لم يحنث) . وجملة ذلك: أنه إذا حلف: لا يدخل دارا، فرقى فوقها حتى حصل على سطحها ولم ينزل إليها، فإن كان السطح غير محجر.. لم يحنث.

فرع: يحنث بدخول الدار بأية وسيلة شاء

وقال أبو حنيفة وأحمد وأبو ثور: (يحنث؛ لأن حكم السطح حكم الداخل؛ بدليل: أن الاعتكاف يصح في سطح المسجد كما يصح في داخله، ولأنه لو قال: والله لا خرجت من داري، فصعد السطح.. لم يحنث) . ودليلنا: أن السطح حاجز يقي الدار من الحر والبرد، فلم يصر بحصوله فيه داخلا في الدار، كما لو وقف على الحائط. وما ذكروه من سطح المسجد.. فلا يلزم؛ لأن الشرع جعل سطحه بمنزلة داخله في الحكم، دون التسمية. ألا ترى أن الرحبة حكمها حكم المسجد في الاعتكاف، ومنع الجنب منها، وجواز الصلاة فيها بصلاة الإمام، وإن لم تكن في حكم المسجد بالتسمية، ولو حلف لا يدخل المسجد، فدخل الرحبة.. لم يحنث؟ وما ذكروه فيمن حلف: لا يخرج من داره، فصعد سطحها.. لا يسلم، بل يحنث؛ لأن صعوده خروج من الدار. وإن كان السطح محجرا، فحصل فيه.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يحنث، وهو ظاهر النص؛ لما ذكرناه فيه إذا كانت غير محجرة. و [الثاني] : منهم من قال: يحنث؛ لأنه يحيط به سور الدار، فهو كما لو حصل داخل الدار. ومن قال بهذا: قال: إنما قال الشافعي: (لا يحنث) على عادة أهل الحجاز؛ فإن سطوحهم غير محجرة. [فرع: يحنث بدخول الدار بأية وسيلة شاء] وإن حلف: لا يدخل الدار، وفيها شجرة ولها أغصان منتشرة إلى خارج الدار، فتعلق بغصن منها، فصعد عليه.. نظرت: فإن أحاط به سور الدار.. حنث، كما لو دخل من الباب.

مسألة: حلف على دار لزيد لا يدخلها فباعها ثم دخلها

وإن أحاط به السطح لا غير، فإن كان غير محجر.. لم يحنث، وإن كان محجرا.. فعلى الوجهين. وإن كان في الدار نهر، فطرح نفسه فيه من الخارج، وسبح حتى دخل الدار، أو دخل في سفينة، ثم سير السفينة حتى دخلت الدار.. حنث؛ لأنه قد دخل الدار، فهو كما لو دخلها من بابها. [مسألة: حلف على دار لزيد لا يدخلها فباعها ثم دخلها] وإن حلف: لا يسكن دار زيد هذه، أو لا يدخلها، فباعها زيد، ودخلها.. حنث، إلا أن ينوي أن لا يدخلها وهي ملك له، فلا يحنث بدخولها بعد زوال ملكه عنها. وهكذا: لو حلف: لا يكلم عبد زيد هذا، فباعه زيد، ثم كلمه، أو لا يكلم زوجة فلان هذه، فطلقها زيد، ثم كلمها الحالف.. حنث، وبه قال مالك، وأحمد، ومحمد، وزفر. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (لا يحنث في الدار والعبد، ويحنث في الزوجة؛ لأن الدار لا توالى ولا تعادى، وإنما يكون الامتناع لأجل مالكها، فتعلقت اليمين بذلك) . دليلنا: أنه اجتمع في اليمين التعيين والإضافة، فكان الحكم للتعيين، كما قلنا في الزوجة. ولأن العبد يوالي ويعادي، فهو كالزوجة. وإن حلف: لا يدخل دار زيد، ولم يقل: هذه، فباع زيد داره، ودخلها.. لم يحنث. وكذلك: إذا حلف: لا يكلم عبد زيد ولا زوجته، فباع زيد عبده، وطلق زوجته، وكلمهما.. لم يحنث؛ لأن اليمين تعلقت بالإضافة خاصة، وقد زال ملكه عنه.

فرع: أقسم لا يدخل دار زيد فدخل دارا يملكها معه عمرو

وإن قال: والله لا كلمت زيدا هذا، فغير زيد اسمه، وصار يعرف بما غيره إليه، فكلمه بعد ذلك.. حنث؛ لأن الاعتبار بالنفس دون الاسم. [فرع: أقسم لا يدخل دار زيد فدخل دارا يملكها معه عمرو] وإن حلف لا يدخل دار زيد، فدخل دارا يملكها زيد وعمرو.. لم يحنث؛ لأن اليمين معقودة على دار يملكها زيد، وزيد لا يملكها وإنما يملك بعضها. وإن قال: والله لا دخلت بيت زيد، فدخل بيتا يسكنه زيد بإجارة أو إعارة ولا يملكه؛ فإن قال: نويت البيت الذي يسكنه.. حنث. وإن قال: لا نية لي.. لم يحنث. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور: (يحنث؛ لأن الدار تضاف إلى ساكنها، كما تضاف إلى مالكها؛ ولهذا: قال الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] . وأراد بيوت أزواجهن لسكناهن بهن) . ودليلنا: أن الإضافة إلى من يملك تقتضي إضافة الملك؛ ولهذا لو قال: هذه الدار لزيد.. اقتضى ذلك ملكها. فلو قال: أردت به ملك سكناها.. لم يقبل، فإذا اقتضت الإضافة الملك.. انصرف الإطلاق إليه. وأما الآية: فإنما أضافت بيوت أزواجهن إليهن مجازا لا حقيقة؛ بدليل: أنه يصح نفي الدار عنه، بأن يقال: ما هذه الدار لزيد، وإنما يسكنها. والأيمان إنما تتعلق بالحقائق دون المجاز. وإن قال: والله لا دخلت مسكن زيد، فدخل دارا يسكنها زيد بملك، أو إجارة، أو إعارة.. حنث؛ لأن اسم مسكن زيد يقع على ذلك، إلا أن ينوي مسكنه الذي يملكه، فلا يحنث إلا بدخوله دارا يملكها. قال في " الأم ": (ولو حلف: لا يسكن دارا لزيد، فسكن دارا لزيد فيها شركة لزيد.. لم يحنث، سواء كان له أقلها أو أكثرها؛ لأنها لا تضاف إليه خاصة) .

مسألة: حلف لا يدخل دارا فدخل عرصتها

[مسألة: حلف لا يدخل دارا فدخل عرصتها] وإن حلف: لا يدخل هذه الدار، فانهدمت وزال بناؤها، فدخلها.. لم يحنث. وكذلك إذا حلف لا يدخل هذا البيت، ثم انهدم وصار عرصة، فدخل عرصته.. لم يحنث. وقال أبو حنيفة: (إذا حلف لا يدخل هذه الدار.. حنث بدخولها بعد هدمها) . ووافقنا في الدار المطلقة وفي البيت؛ أنه لا يحنث بدخول عرصتها بعد هدمها. وقال أحمد في الدار والبيت: (إذا عينها.. حنث بدخولهما بعد هدمهما) . دليلنا: أن كل ما لا يتناوله الاسم في إطلاق اليمين.. وجب أن يخرج منها مع التعيين، كما لو حلف: لا يأكل هذه الحنطة، فطحنت، أو لا يدخل هذا البيت، فخرب. إذا ثبت هذا: فإن أعيدت تلك الدار بغير آلتها، فدخلها.. لم يحنث؛ لأنها غير تلك الدار، وإن أعيدت بتلك الآلة.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث؛ لأنها غير تلك الدار. والثاني: يحنث؛ لأنها عادت كما كانت. [مسألة: حلف لا يدخل من باب فنقل من مكانه] قال الشافعي: (ولو حلف: لا يدخل من باب هذه الدار، وهو في موضع، فحول.. لم يحنث، إلا أن ينوي أن لا يدخلها، فيحنث) . وجملة ذلك: أنه إذا حلف: لا يدخل هذه الدار، فدخلها من بابها، أو بسور من سطحها، أو من كوة، أو من نقب، فدخلها.. حنث؛ لأنه قد دخلها.

وإن قال: والله لا دخلت هذه الدار من هذا الباب، فدخلها من كوة، أو من السطح.. لم يحنث؛ لأنه لم يدخلها من الباب، قال الشافعي: (إلا أن ينوي أنه لا يدخلها، فيحنث بأي دخول كان) . وإن فُتح لها ممر من موضع آخر، ولم ينصب عليه ذلك المصراع الذي على الباب الأول، فدخل منه.. لم يحنث؛ لأنه لم يدخلها من الباب الذي حلف عليه. وإن نقل الباب - وهو المصراع الذي كان على الأول - إلى الممر الثاني، ثم دخلها منه.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: إن دخلها من الممر الأول الذي نصب عليه الباب.. لم يحنث، وإن دخلها من الممر الثاني الذي نصب عليه المصراع الأول الذي كان على الممر الأول وقت اليمين.. حنث؛ لأن الباب هو المصراع. والثاني: منهم من قال: إن دخلها من الممر الأول.. حنث، سواء نقل عنه المصراع أو لم ينقل، وإن دخلها من ممر آخر للدار.. لم يحنث، وهو الأصح؛ لأن الباب: هو الموضع الذي يدخل منه ويخرج، وهو الفتحة فيما دون المصراع المنصوب؛ لأن المصراع المنصوب يراد للمنع من الدخول، ولا يراد للدخول والخروج، وإنما تراد لهما الفتحة، إلا أن ينوي بقوله: (الباب) هو المصراع المنصوب.. فيحنث إذا دخلها من حيث كان منصوبا فيه؛ لأن قوله يحتمل ذلك. وإن قال: والله لا دخلت هذه الدار من بابها، أو لا دخلت من باب هذه الدار، ولها باب، فسد وفتح لها باب آخر، فدخل منه.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من تعلق بظاهر كلام الشافعي، وأنه لا يحنث إلا أن ينوي بأنه لا يدخلها جملة فيحنث؛ لأن الإضافة اقتضت تعريف الباب الموجود وقت اليمين، فصار كما لو قال: والله لا دخلت هذه الدار من هذا الباب.

فرع: حلفه لا يدخل دارا يقتضي التأبيد

ومنهم من قال: يحنث، وهو الأظهر؛ لأن الثاني يقع عليه اسم الباب، فتعلقت به اليمين وإن لم يكن موجودا حال عقد اليمين، كما لو قال: لا دخلت دار زيد، وليس لزيد دارٌ، فملك زيد بعد اليمين دارا، فدخلها.. فإنه يحنث. ومن قال بهذا.. تأول كلام الشافعي على: أنه عين الباب. [فرع: حلفه لا يدخل دارا يقتضي التأبيد] وإن حلف: لا يدخل هذه الدار.. اقتضى إطلاقه التأبيد. فإن قال: نويت يوما أو شهرا، فإن كان يمينه بالطلاق، أو العتاق، أو بالله في الإيلاء.. لم يقبل قوله في الحكم؛ لأنه تعلق به حق لآدمي، وما يدعيه مخالف للظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. وإن كانت يمينه بالله في غير الإيلاء.. قبل قوله في الظاهر والباطن؛ لأنه أمين فيما يجب عليه من حقوق الله عز وجل. [مسألة: حلف لا يسكن بيتا وهو قروي أو بدوي] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن حلف: لا يسكن بيتا وهو بدوي أو قروي، ولا نية له.. فأي بيت من شعر، أو دم، أو خيمة، أو بيت حجارة، أو مدر، أو ما وقع عليه اسم البيت سكنه.. حنث) . وجملة ذلك: أنه إذا حلف: لا يدخل بيتا، فدخل بيتا مبنيا من حجارة أو لبن أو آجر أو خشب أو قصب.. حنث بذلك، قرويا كان أو بدويا؛ لأنه يقع عليه اسم البيت شرعا ولغة. وإن دخل في دهليز دار، أو صفتها، أو صحنها.. فقد قال بعض أصحابنا:

لا يحنث؛ لأنه لا يسمى بيتا ولهذا يقال: لم يدخل البيت، وإنما وقف في الدهليز، والصفة، والصحن. وقال صاحب " الفروع ": لا يحنث إلا أن يعد جميع الدار مبنيا، ولا يفرد للبيتوتة موضعا، فيحنث إذا حصل في دهليزها وصفتها. وقال القاضي أبو الطيب: فيه نظر. وأراد: أنه يحنث، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن جميع الدار مهيأ للإيواء. وإن دخل مسجدا، أو البيت الحرام، أو دخل بيتا في الحمام، أو بيعة، أو كنيسة.. لم يحنث. وقال أحمد: (إذا دخل مسجدا، أو البيت الحرام، أو دخل بيتا في الحمام.. حنث؛ لأن المسجد يسمى بيتا. قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] [النور: 36] . وأراد بها: المساجد) . ودليلنا: أن البيت اسم لما بني للسكنى في العرف؛ ولهذا يقال: بيت فلان، ويراد: مسكنه، والمسجد وبيت الحمام لم يبنيا لذلك، فلم ينصرف الإطلاق إليه. وأما الآية: فالجواب: أن المساجد تسمى بيوتا مجازا لا حقيقة، واليمين إنما تنصرف إلى الحقيقة دون المجاز. وإن دخل بيتا من شعر، أو صوف، أو أدم، فإن كان الحالف بدويا.. حنث؛ لأنه بيت في حقه، وإن كان الحالف قرويا لا يسكن هذه البيوت.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو العباس: لا يحنث. وهو قول أبي حنيفة؛ لأن الأيمان محمولة على العرف؛ ولهذا لو حلف: لا يأكل الرؤوس.. لم يدخل فيه إلا ما يعتاد أكله من الرؤوس منفردا، وهذه البيوت غير معتادة في حق أهل الأمصار والقرى، فلم يدخل تحت أيمانهم.

فرع: علق طلاق زوجته على دخول دار زيد بغير إذنه

وقال أكثر أصحابنا: يحنث. وهو المنصوص، واختلفوا في تعليله. فقال أبو إسحاق: إنما يحنث؛ لأنها تسمى في البادية بيوتا، وإذا ثبت للشيء عرف اسم في موضع.. ثبت له في جميع المواضع، ألا ترى أنه لو حلف العراقي: لا يأكل الخبز، فأكل خبز الأرز.. حنث وإن كان ذلك غير متعارف في حقه، وإنما هو متعارف في حق الطبري؟ ومن أصحابنا من قال: إنما حنث؛ لأن هذه البيوت المتخذة من هذه الأشياء تسمى: بيوتا في الشرع، قال الله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا} [النحل: 80] [النحل: 80] . وقال أبو الطيب: التعليل الصحيح: أن هذه تسمى: بيوتا حقيقة، وتسميتها: خيمة ومضربا إنما هو اسم للنوع، واسم البيت حقيقة يشمل الكل، واليمين تحمل على الحقائق. والتعليل الأول لا يصح؛ لأنه يلزمه أن يقول: إذا حلف: لا يركب دابة.. أن يحنث بركوب الحمار؛ لأنه يسمى دابة بمصر. والتعليل الثاني لا يستقيم؛ لأن المساجد سماها الله تعالى بيوتا بقوله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36] [النور: 36] ، ومع هذا فلا يحنث بدخولها. [فرع: علق طلاق زوجته على دخول دار زيد بغير إذنه] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (إذا قال: إن دخلت دار زيد إلا بإذنه.. فامرأتي طالق، فإن أذن له زيد بالدخول.. ارتفعت اليمين، دخلها أو لم يدخلها، فإن دخلها.. بر في يمينه، فإن دخلها بعد ذلك بغير إذنه.. لم يحنث، فإن منعه زيد من الدخول بعد الإذن وقبل الدخول.. لم يقدح) . قال ابن الصباغ: وفيه نظر؛ لأن رجوعه عن الإذن يبطله، ويكون داخلا بغير إذنه، ولهذا يأثم فيه، ومجرد الإذن لا يحل اليمين؛ لأن المحلوف عليه الدخول دون الإذن.

فرع: حلف لا يركب دابة عبد فخصه سيده بدابة

[فرع: حلف لا يركب دابة عبد فخصه سيده بدابة] ] : وإن حلف: لا يركب دابة هذا العبد، فركب دابة جعلها سيده لركوب العبد.. لم يحنث. وقال أبو حنيفة: (يحنث) . وهكذا: لو حلف: لا يركب دابة زيد، فركب دابة لزيد جعلها لركوب عبده.. حنث. وقال أبو حنيفة: (لا يحنث) . دليلنا: أن العبد لا يملكها، والإضافة تقتضي الملك في حق من يملك، كما لو ركب دابة استعارها المحلوف عليه. فإن ملكه سيده دابة، فركبها الحالف، فإن قلنا: يملك العبد بالتمليك.. حنث الحالف، وإن قلنا: لا يملك.. لم يحنث. وإن حلف: لا يركب دابة زيد، فركب دابة مكاتبه.. لم يحنث؛ لأن السيد لا يملكها، ولا ينفذ تصرفه فيها. وإن حلف: لا يركب دابة للمكاتب.. قال ابن الصباغ: فأكثر أصحابنا قالوا: إذا ركب دابة المكاتب.. حنث؛ لأن المكاتب يملك التصرف فيها دون سيده. وذكر الشيخ أبو حامد: أنا إذا قلنا: إن العبد لا يملك.. يحتمل أن يقال: لا يحنث؛ لأن المكاتب لا يملكها. قال ابن الصباغ: والأول أظهر؛ لأن الدابة إذا لم تضف إلى سيد المكاتب.. لا بد أن تكون مضافة إلى المكاتب. [مسألة: حلف لا يأكل قمحا فأكله طحينا] وإن حلف: لا يأكل خضرة الحنطة، أو لا يأكل منها، فطحنها، فأكلها.. لم يحنث، وبه قال أبو حنيفة.

فرع: حلف لا يكلم الصبي فكبر

وقال أبو يوسف ومحمد: يحنث. وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن أبي العباس؛ لأن الحنطة تؤكل هكذا، فهو كما لو حلف لا يأكل هذا الكبش، فذبحه فأكله، أو كما لو حلف لا يأكل هذا اللحم فشواه وأكله. ودليلنا: أن اسم الحنطة زال بالطحن.. فزال تعلق اليمين بها، كما لو حلف: لا أكلت من هذه الحنطة، فزرعها وأكل من حشيشها. وكذلك إذا حلف: لا أكلت هذه البيضة، فصارت فرخا فأكله، ويخالف الكبش؛ فإنه لا يمكن أكله حيا، ولا يشبه اللحم أيضا؛ لأن اسم اللحم وصورته لم تزل. وإن حلف: لا أكلت هذا الدقيق، فعجنه وخبزه وأكله، أو لا أكلت هذا العجين فخبزه وأكله.. لم يحنث.. وقال أبو حنيفة وأحمد وأبو العباس: يحنث. والأول أصح؛ لما ذكرناه في التي قبلها. [فرع: حلف لا يكلم الصبي فكبر] وإن قال: والله لا كلمت هذا الصبي، فصار شابا، فكلمه، أو لا أكلم هذا الشاب، فصار شيخا، فكلمه، أو لا آكل من لحم هذا الجدي، فصار تيسا، وأكل من لحمه، أو لا آكل من هذه البسرة فصارت رطبة فأكلها، أو لا آكل هذه الرطبة فصارت تمرة فأكلها.. فهل يحنث في جميع ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحنث؛ لأن الاسم قد زال، فأشبه إذا قال: لا أكلت هذه الحنطة، فطحنها وأكلها. والثاني: يحنث؛ لأن صورتها لم تزل، وإنما تغيرت الصفة، فأشبه إذا حلف: لا يأكل اللحم، فشواه وأكله. هذا مذهبنا.

فرع: حلف لا يشرب عصيرا فصار خلا

وقال أبو حنيفة في الحيوان: (يحنث) ، وفي الباقي: (لا يحنث) ؛ لأن قصده أن لا يكلم الصبي والشاب للاستخفاف به، وذلك لا يزول بالكبر. وكذلك معناه: لا يأكل لحم هذا الجدي وذلك المعنى لم يزل. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الاعتبار بالاسم دون القصد؛ ولهذا: لو حلف: لا أكلت هذا اللحم، فأكله نيئا.. حنث وإن كان قصده الامتناع من أكله مطبوخا. وإن قال: والله لا كلمت صبيا، فكلم شابا، أو لا كلمت شابا، فكلم شيخا، أو لا أكلت لحم جدي، فأكل لحم تيس، أو لا أكلت بسرا، فأكل رطبا، أو لا أكلت رطبا، فأكل تمرا.. لم يحنث، وجها واحدا؛ لأن اليمين هاهنا تعلقت بالصفة دون العين، ولم توجد الصفة، فجرى مجرى ما لو حلف: لا يأكل تمرا بعينه، فأكل غيره. [فرع: حلف لا يشرب عصيرا فصار خلا] وإن حلف: لا يشرب هذا العصير، فصار خلا، فشربه، أو لا يشرب هذا الخمر، فصار خلا، فشربه.. لم يحنث، كما قلنا في الحنطة إذا صارت دقيقا. وإن حلف: لا يلبس هذا الغزل، فنسج منه ثوب، فلبسه.. حنث؛ لأن الغزل لا يلبس إلا منسوجا، فصار كما لو حلف: لا يأكل هذا الكبش، فذبحه، وأكله.. فإنه يحنث. [مسألة: حلف لا يشرب سويقا فمزجه بماء ثم شربه] وإن حلف: لا يشرب سويقا، فطرح فيه ماء، وخلطه فيه حتى رق، وشربه.. حنث؛ لأنه شربه، وإن استفه قبل أن يطرح فيه الماء، أو طرح فيه الماء، وخلطه

فيه، وأكله بالملعقة أو بأصبعه.. لم يحنث؛ لأنه حلف على الشرب، وهذا ليس بشرب. وإن حلف: لا يأكل السويق، فطرح فيه الماء، وخلطه فيه حتى رق، وشربه.. لم يحنث؛ لأنه حلف على الأكل، ولم يأكل. وإن حلف: لا يأكل الخبز، فمضغه وازدرده.. حنث؛ لأنه أكله، وإن دقه، وخلطه في الماء، وشربه، أو ابتلعه من غير مضغ.. لم يحنث؛ لأن الأفعال أجناس كالأعيان، ثم لو حلف على جنس من الأعيان.. لم يحنث بجنس آخر، فكذلك إذا حلف على جنس من الأفعال.. لم يحنث بجنس آخر. وإن حلف لا يأكل هذا الطعام، أو لا يشربه، فذاقه ولم ينزل إلى حلقه.. لم يحنث؛ لأن ذلك ليس بأكل ولا شرب. وإن حلف: لا يذوقه، فتطعم منه بفيه، ورمى به، ولم يبتلعه.. حنث. ومن أصحابنا من قال: لا يحنث؛ لأنه لا يحصل بذلك الذوق؛ ولهذا لا يفطر به. والأول أصح؛ لأن الذوق معرفة طعمه، وقد حصل ذلك. وإن حلف: لا يذوقه، فأكله، أو شربه.. حنث؛ لأنه قد ذاق، وزاد. وإن حلف: لا يأكل، أو لا يشرب، أو لا يذوق، فأوجره بنفسه، أو أوجره غيره باختياره في حلقه حتى وصل إلى جوفه.. لم يحنث؛ لأنه لم يأكل، ولم يشرب، ولم يذق. وإن قال: والله لا طمعت هذا الطعام، فأوجره بنفسه، أو أوجره غيره باختياره.. حنث؛ لأن معناه: لا جعلته لي طعاما، وقد جعله طعاما له.

مسألة: حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا

[مسألة: حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا] وإن حلف لا يأكل اللحم.. حنث بأكل كل ما يؤكل لحمه من الدواب والصيد؛ لأنه يقع عليه اسم اللحم. وإن أكل لحم السمك.. لم يحنث. وقال مالك، وأبو يوسف: (يحنث) . وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين؛ لأن الله تعالى سماه لحما، فقال: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] [النحل: 14] . ودليلنا: أنه لا ينصرف إليه الإطلاق في اسم اللحم؛ ولهذا يصح أن ينفى عنه اسم اللحم، فيقول: ما أكلت اللحم، وإنما أكلت السمك. وإنما سماه الله تعالى لحما مجازا لا حقيقة، والأيمان إنما تقع على الحقائق؛ ولهذا لو حلف لا أقعد تحت سقف، فقعد تحت السماء.. لم يحنث وإن كان الله قد سماها سقفا فقال: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا} [الأنبياء: 32] [الأنبياء: 32] . وإن أكل من لحم ما لا يؤكل، كالخنزير، والحمار.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث؛ لأن يمينه ينصرف إلى ما يحل أكله في الشرع؛ ولهذا لو حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا.. لم يحنث. والثاني: يحنث، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه يقع عليه اسم اللحم وإن لم يحل أكله، فيحنث به، كما لو أكل لحما مغصوبا. وإن حلف لا يأكل اللحم، فأكل شحم الجوف، أو لا يأكل الشحم، فأكل اللحم.. لم يحنث؛ لأنهما مختلفان في الاسم والصفة. وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل الكبد والطحال.. لم يحنث. وقال أبو حنيفة: (يحنث) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لأنه لحم حقيقة، ويتخذ منه ما يتخذ من اللحم.

والمذهب الأول؛ لأن اسم اللحم لا يتناولهما، وقد سماهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دمين. ولو قال لوكيله: اشتر لي لحما، فاشترى له كبدا أو طحالا.. لم يقع للموكل. وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل المخ أو الكرش.. لم يحنث؛ لما ذكرناه في الكبد والطحال. وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل القلب أو الأكارع.. فقد قال المسعودي [في " الإبانة "] ، والصيدلاني: يحنث. وقال الشيخ أبو حامد: لا يحنث؛ لما ذكرناه في الكبد والطحال. وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل اللحم الأبيض الذي يكون على ظهر الحيوان وجنبيه.. فقد قال الشيخ أبو حامد: يحنث؛ لأنه لحم يكون عند هزال الحيوان أحمر، وإنما يبيض عندما يسمن الحيوان. وإن حلف: لا يأكل الشحم، فأكل ذلك.. لم يحنث؛ لأنه ليس بشحم، واختلف قول القفال فيه: فقال مرة: هو لحم. وقال مرة أخرى: هو شحم. وبه قال أبو يوسف، ومحمد. وقال أبو زيد: إن كان الحالف عربيا.. فهو شحم في حقه؛ لأنهم يعرفونه شحما، وإن كان أعجميا.. فهو لحم في حقه؛ لأنهم يعرفونه لحما. والمشهور قول الشيخ أبي حامد. وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل شحم العين.. لم يحنث؛ لأنه ليس بلحم. وإن حلف: لا يأكل الشحم، فأكل ذلك الشحم.. ففيه وجهان:

مسألة: حلف لا يأكل الرؤوس

أحدهما: يحنث؛ لدخوله في اسم الشحم. والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الشحم. وإن حلف: لا يأكل اللحم، فأكل لحم الخد، أو الرأس، أو اللسان.. ففيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأنه لحم. والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم اللحم. وإن حلف: لا يأكل الشحم، فأكل لحم الرأس، أو اللسان، أو أكل الكبد، أو الطحال، أو القلب، أو الكرش، أو المخ.. لم يحنث؛ لأن ذلك ليس بشحم. واختلف أصحابنا في الألية: فمنهم من قال: هي لحم، فيحنث بأكلها في اليمين على اللحم، ولا يحنث بأكلها في اليمين على الشحم؛ لأنها نابتة في اللحم، وتشبه اللحم في الصلابة. ومنهم من قال: هي شحم، فيحنث بأكلها في اليمين على الشحم، ولا يحنث بأكلها في اليمين على اللحم؛ لأنها تذوب كما يذوب الشحم. ومنهم من قال: ليست بلحم ولا بشحم، فلا يحنث بأكلها في اليمين على اللحم ولا في اليمين على الشحم؛ لأنها مخالفة لهما في الاسم والصفة، فهي كالكبد والطحال. [مسألة: حلف لا يأكل الرؤوس] وإن حلف: لا يأكل الرؤوس.. حنث بأكل رؤوس الأنعام؛ وهي الإبل والبقر والغنم. وقال أبو حنيفة: (لا تدخل رؤوس الإبل في يمينه) . في إحدى الروايتين عنه. وقال أبو يوسف ومحمد: لا تتعلق يمينه إلا برؤوس الغنم خاصة. دليلنا: أن رؤوس الإبل والبقر والغنم تفرد عن أجسادها، وتؤكل منفردة عنها، فاستوت في تعليق اليمين بها.

فرع: حلف لا يأكل البيض

وإن كان في بلد يكثر فيه السمك والصيد، وتباع رؤوسه منفردة عنه، وتؤكل.. حنث بأكلها من كان من أهل ذلك البلد؛ لأنها كرؤوس الأنعام في حقهم، وهل يحنث بأكلها غير أهل ذلك البلد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحنث بأكلها؛ لأنهم لا يعتادون ذلك ولا يعرفونه، فلم تنصرف أيمانهم إليها. والثاني: يحنث بأكلها في جميع البلاد؛ لأنه إذا ثبت لها عرف في بلد.. ثبت لها ذلك العرف في جميع البلاد، ألا ترى أنه لو حلف: لا يأكل اللحم.. حنث بأكل لحم الفرس وإن كان لا يؤكل في جميع البلاد، ولو حلف: لا يأكل الخبز.. حنث بأكل خبز الأرز وإن كان لا يعتاد أكله إلا بطبرستان؟ [فرع: حلف لا يأكل البيض] وإن حلف لا يأكل البيض.. حنث بأكل بيض كل ما يزايل بائضه في حال الحياة، كبيض الدجاج، والإوز، والعصافير، والنعام، وغير ذلك. وحكى المحاملي وجها آخر: أنه لا يحنث إلا بأكل بيض الدجاج. وليس بشيء. ولا يحنث بأكل بيض ما لا يزايل بائضه في حياته ولا يؤكل منفردا، كبيض الحيتان، والجراد؛ لأن إطلاق اسم البيض لا ينصرف إليها. [مسألة: حلف لا يأكل لبنا فأكل لبن بقر] ] : وإن حلف: لا يأكل لبنا.. حنث بأكل لبن الأنعام ولبن الصيد؛ لأن اسم اللبن يقع على الجميع، ويدخل فيه الحليب والرائب. وأما الشيراز: فيدخل في اسم اللبن، في قول أكثر أصحابنا.

مسألة: حلف لا يأكل سمنا فأكله مع السويق

قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من توقف فيه؛ لأن له اسما يختص به. وإن أكل الجبن أو اللبأ أو المصل أو الأقط أو السمن.. لم يحنث. وقال أبو علي بن أبي هريرة، وأبو علي الطبري: يحنث. والأول أصح؛ لأنه لا يسمى لبنا، ولأن ذلك ينتقض بمن حلف: لا يأكل السمسم، فأكل الشيرج. وإن أكل الزبد، فإن كان اللبن فيه ظاهرا.. حنث، وإن كان غير ظاهر.. لم يحنث، على قول أكثر أصحابنا، ويحنث، على قول أبي علي. [مسألة: حلف لا يأكل سمنا فأكله مع السويق] وإن حلف: لا يأكل سمنا.. نظرت في السمن، فإن كان جامدا، فأكله منفردا.. حنث؛ لأنه أكل المحلوف عليه، وإن أكله بالخبز، أو السويق، أو العصيدة.. حنث. وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يحنث؛ لأنه لم يأكل السمن منفردا، وإنما أكله مع غيره. والمذهب الأول؛ لأنه أكل المحلوف عليه. وإن كان مع غيره.. حنث، كما لو حلف: لا يكلم زيدا، فكلم زيدا وعمرا. وإن كان السمن ذائبا فشربه أو حساه بيده.. لم يحنث؛ لأنه لم يأكله، وإنما شربه. وإن أكله مع الخبز أو غيره.. حنث على المذهب؛ لأنه هكذا يؤكل، وعلى قول الإصطخري: لا يحنث.

مسألة: حلف لا يأكل أدما فأكل جبنا

وإن أكل عصيدة متخذة بسمن.. فقال الشافعي: (حنث) . وقال: (إذا حلف: لا يأكل خلا، فأكل سكباجا بخل.. لم يحنث) . قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما أراد بالخل إذا لم يكن ظاهرا، وأراد بالسمن إذا كان ظاهرا. قال ابن الصباغ: ويتصور ذلك: إذا أكل من لحم السكباج دون مرقته. وهذا على المذهب أيضا، فأما على قول الإصطخري: فإنه لا يحنث بحال. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا حلف: لا يأكل الخل، فاتخذ منه طبيخا؛ فإن كان طعمه أو لونه ظاهرا.. حنث، وإلا.. فلا. وإن حلف: لا يأكل زبدا أو سمنا، فأكل لبنا.. لم يحنث؛ لأن كل واحد منهما غير الآخر في الاسم والصورة، فهو كما لو حلف: لا يأكل دبسا، فأكل تمرا. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه إذا حلف: لا يأكل الزبد، فأكل اللبن.. حنث. وليس بشيء. [مسألة: حلف لا يأكل أدما فأكل جبنا] وإن حلف: لا يأكل أدما.. حنث بأكل كل ما يؤتدم به في العادة، سواء كان مما يصطبغ به أو لا يصطبغ، كاللحم، والجبن، والبيض، والفنيد، والسكر،

واللبن، والسمن، والزيت، والسيرج، والخل. وقال أبو حنيفة: (لا يحنث بأكل اللحم) . دليلنا: ما روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم» . ولأنه يؤتدم به في العادة، فهو كالخل. ويحنث بأكل الملح؛ لأنه قد روي في بعض الأخبار: «سيد إدامكم الملح» . وهل يحنث بأكل التمر؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: لا يحنث؛ لأنه لا يؤتدم به في العادة، وإنما يؤكل قوتا أو حلاوة. والثاني: يحنث به؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى سائلا خبزا وتمرا، وقال: " هذا إدام هذا» .

مسألة: حلف لا يأكل فاكهة فأكل تفاحا

[مسألة: حلف لا يأكل فاكهة فأكل تفاحا] وإن قال: والله لا أكلت فاكهة، فأكل التفاح، أو السفرجل، أو الأترج.. حنث؛ لأنها فاكهة. وإن أكل الرطب، أو العنب، أو الرمان.. حنث. وقال أبو حنيفة: (لا يحنث؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] [الرحمن: 68] . فلو كانا فاكهة.. لما عطفهما على الفاكهة. دليلنا: أنهما يسميان فاكهة؛ بدليل: أنه يسمى بائعهما فاكهيا، فهما كالتفاح والسفرجل. وأما الآية: فإنما أفردهما تخصيصا لهما وتمييزا؛ لأنهما أغلى الفاكهة، كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] [البقرة: 98] . فعطف جبريل وميكال على الملائكة وإن كانا من أخص الملائكة؛ تخصيصا لهما وتمييزا. وإن أكل النبق، أو التوت.. حنث؛ لأنهما ثمار أشجار، فهي كالتفاح والسفرجل. قال أبو العباس: وإن أكل البطيخ.. حنث؛ لأنه يطبخ ويحلو. وإن أكل القثاء والخيار والخربزة.. لم يحنث؛ لأنها ليست من الفواكه، وإنما هي من الخضراوات. [فرع: حلف لا يأكل بسرا فأكل تمرا] وإن حلف: لا يأكل بسرا، فأكل منصفا.. نظرت: فإن أكل موضع الرطب منه لا غير.. لم يحنث؛ لأنه لم يأكل بسرا.

وإن أكل موضع البسر منه لا غير.. حنث. وإن أكل الجميع.. حنث، وبه قال أبو حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري وأبو علي الطبري: لا يحنث. دليلنا: أنه أكل المحلوف عليه وغيره، فهو كما لو كانا منفردين. وهكذا لو حلف لا يأكل الرطب، فأكل موضع البسر من المنصف.. لم يحنث، وإن أكل موضع الرطب منه.. حنث، وإن أكل الجميع.. حنث على المذهب، ولا يحنث على قول أبي سعيد الإصطخري، وقول أبي علي الطبري. وإن حلف: لا يأكل رطبة أو بسرة، فأكل منصفا.. لم يحنث؛ لأنها ليست برطبة ولا بسرة. وإن حلف: لا يأكل هذه التمرة، فوقعت في تمر، فإن أكل الجميع.. حنث؛ لأنه أكل المحلوف عليها، وإن أكل جميعه إلا تمرة، فإن تيقن أنها غير التي حلف عليها.. حنث؛ لأنه يتيقن أنه فعل المحلوف عليه، وإن تيقن أن التي حلف عليها هي التي بقيت، أو شك: هل هي المحلوف عليها، أو غيرها؟ لم يحنث؛ لأنه إذا تيقن أنها بقيت.. فقد تيقن أنه لم يحنث، وإذا شك.. لم يحنث؛ لأنه يشك في وجوب الكفارة عليه، والأصل عدم وجوبها. وهكذا إن هلك من التمر تمرة وأكل الباقي، فإن تيقن أن التي حلف عليها في جملة ما أكله.. حنث، وإن لم يتيقن أنها التالفة، أو شك: هل هي التالفة، أو غيرها؟ لم يحنث؛ لما ذكرناه.

فرع: حلف لا يأكل قوتا فأكل ذرة

[فرع: حلف لا يأكل قوتا فأكل ذرة] وإن حلف: لا يأكل قوتا، فأكل الحنطة، أو الذرة، أو الشعير، أو الدخن.. حنث. وإن أكل التمر، أو الزبيب، أو اللحم، وكان ممن يقتات ذلك.. حنث، وهل يحنث به غيره؟ فيه وجهان، كما قلنا في رؤوس الصيد. وإن حلف: لا يأكل طعاما.. حنث بأكل كل ما يطعم من قوت وأدم وفاكهة؛ لأن اسم الطعام يقع على الجميع، وهل يحنث بأكل الدواء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحنث؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الطعام. والثاني: يحنث؛ لأنه يطعم في حال الاختيار. [مسألة: حلف لا يشرب الماء أو لا يشرب ماء] مسألة: [حلف: لا يشرب الماء أو ماء] : وإن قال: والله لا شربت الماء، أو لا شربت ماء، فأي ماء شربه من ماء مطر، أو ثلج، أو برد أذيب، أو ماء بئر، أو ماء نهر.. فإنه يحنث، سواء كان عذبا أو ملحا؛ لأنه يقع عليه اسم الماء. وإن شرب من ماء البحر.. قال الشيخ أبو إسحاق: احتمل عندي وجهين:

أحدهما: يحنث؛ لأنه يدخل في إطلاق اسم الماء؛ ولهذا تجوز الطهارة به. والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يشرب. وإن قال: والله لا شربت ماء فراتا، فإن شرب ماء عذبا من أي نهر كان، أو بئر.. حنث؛ لأنه وصفه بكونه فراتا، وذلك يقتضي الماء العذب، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27] [المرسلات: 27] . أي: عذبا. وإن شرب ماء مالحا.. لم يحنث؛ لأنه ليس بفرات. وإن قال: والله لا شربت من الفرات، فإن الفرات إذا عرف بالألف واللام.. اقتضى ذلك النهر الذي بين الشام والعراق، فإن شرب من غيره من الأنهار.. لم يحنث، وإن شرب من ذلك النهر.. حنث، سواء كرع فيه، أو أخذه بيده، أو في إناء وشربه، وبه قال أحمد وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: (إنما يحنث إذا كرع فيه كرعا، فأما إذا أخذه بيده أو في إناء.. لم يحنث، كما لو حلف: لا يشرب من هذا الكوز، فصب الماء الذي فيه في غيره، وشرب منه.. لم يحنث. دليلنا: أن معنى ذلك: لا أشرب من ماء هذا النهر؛ لأن الشرب من ماء النهر في العرف لا من النهر؛ لأن ذلك اسم للأرض المحفورة، ولا يمكن الشرب منها، فحملت اليمين عليه، كما لو قال: لا شربت من هذه البئر، ويخالف الكوز؛ لأن الشرب يكون منه في العرف. وإن شرب من نهر يأخذ من الفرات.. قال ابن الصباغ: ولم يذكره أصحابنا،

مسألة: حلف لا يشم ريحانا فشم ريحانا فارسيا

فيحتمل أن يحنث، كما قلنا فيما أخذه من الفرات بإناء وشربه ويحتمل أن لا يحنث. والفرق بينهما: أن ما يأخذه من الفرات بإناء ويشرب.. يقال: شرب من الفرات، وما يأخذه من النهر الآخر.. يكون مضافا إليه، وتزول إضافته عن الفرات. وأما إذا قال: والله لا شربت من ماء الفرات.. فلا يزول عنه ذلك الاسم وإن حصل في غيره. والذي يقتضي المذهب: أنه إذا حلف: لا يشرب من ماء الكوز، ثم صبه في غيره من الآنية وشربه.. أنه يحنث؛ لأن خروجه منه لا يبطل كونه من ماء الكوز، كما قلنا في ماء الفرات. [مسألة: حلف لا يشم ريحانا فشم ريحانا فارسيا] وإن حلف: لا يشم الريحان.. لم يحنث إلا بشم الريحان الفارسي، وهو الصيمران، ولا يحنث بشم النرجس، والمرزنجوش، والورد، والياسمين، والبنفسج؛ لأن إطلاق اسم الريحان لا يقع على ذلك. وإن حلف: لا يشم المشموم.. حنث بشم الريحان الفارسي، والنرجس، والمرزنجوش، والورد، والياسمين، والبنفسج؛ لأن الجميع مشموم. قال الشيخ أبو إسحاق: والزعفران من المشموم. وإن شم الكافور، والمسك، والعود، والصندل.. لم يحنث؛ لأنه لا يطلق عليه اسم المشموم. وإن حلف: لا يشم الورد، والبنفسج، فشم وردهما وهو أخضر.. حنث، وإن شم دهنهما.. لم يحنث.

مسألة: حلف لا يلبس فارتدى عمامة

وقال أبو حنيفة وأحمد: (يحنث) . دليلنا: أن ذلك اسم لوردهما، فلا يحنث بشم غيره ودهنهما، وإنما يسمى وردا وبنفسجا مجازا. وإن جف وردهما وشمه.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: لا يحنث، كما لو حلف: لا يأكل الرطب، فأكل التمر. والثاني: يحنث لبقاء اسم الورد والبنفسج. [مسألة: حلف لا يلبس فارتدى عمامة] حنث] : وإن قال: والله لا لبست ثوبا.. حنث بلبس القميص والرداء والعمامة والسراويل؛ لأنه يقع عليه اسم الثوب. وإن قال: والله لا لبست شيئا، ولبس شيئا من هذه الثياب.. حنث؛ لأن إطلاق اسم اللبس ينصرف إليها. وإن لبس خاتما أو جوشنا أو خفا أو نعلا.. ففيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأنه لبس شيئا. الثاني: لا يحنث؛ لأن إطلاق اسم اللبس إنما ينصرف إلى الثياب. [مسألة: حلف لا يلبس ثوبا فجعله قميصا] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن حلف: لا يلبس ثوبا وهو رداء، فقطعه قميصا، فلبسه، أو اتزر به، أو حلف: لا يلبس سراويل، فاتزر به، أو قميصا، فارتدى به.. فهذا كله ليس يحنث به، إلا أن يكون له نية، فلا يحنث إلا على نيته) . واختلف أصحابنا في صورتها: فذهب أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا إلى: أنه إذا قال: والله لا لبست هذا

مسألة: حلف لا يلبس حليا فلبس خاتما

الثوب، وكان ذلك الثوب رداء، ولم يقل الحالف: وهو رداء، وإنما ذلك من كلام الشافعي، فقطعه قميصا، فلبسه، أو اتزر به، أو ارتدى به، أو جعله قلانس، فبسه.. حنث بذلك كله. وهكذا: لو قال: لا لبست هذا الثوب، وكان سراويل، فلبسه، أو اتزر به، أو ارتدى به.. حنث؛ لأنه علق اليمين على لبس هذا الثوب بعينه، فعلى أي صفة لبسه.. فقد وجد منه فعل المحلوف عليه، فحنث، إلا أن يكون قد نوى أن لا يلبسه على الصفة التي هي عليها، فلا يحنث. فأما إذا قال الحالف: لا لبست هذا الثوب وهو رداء، فقطعه، ثم لبسه.. فإنه لا يحنث الحالف، وكذلك في السراويل؛ لأنه علق اليمين على صفة في الثوب، فإذا لبسه على غير تلك الصفة.. لم يحنث. ومن أصحابنا من وافق أبا إسحاق في الحكم فيما ذكره فيها، وخالفه في صورتها، فقال: هو رداء وسراويل من كلام الحالف، وإنما قال الشافعي: (هذا كله ليس يحنث به) . فنفى الحنث. ومنهم من وافق أبا إسحاق في الصورة، فقال: وقوله: (وهو رداء) من كلام الشافعي، وخالفه في الحكم. وقوله: (هذا كله ليس يحنث به) أي: لا يحنث به؛ لأن قوله: لا لبست هذا الثوب - الذي يقتضي لبسه على صفته - فإذا غيره.. لم يكن ما انصرفت إليه اليمين. والصحيح: قول أبي إسحاق ومن تابعه؛ لأن الشافعي قال في " الأم ": (وهذا كله لبس؛ وهو يحنث به) . وإنما أسقط المزني قوله: (وهو) ، فتصحف عليهم. [مسألة: حلف لا يلبس حليا فلبس خاتما] إذا حلف الرجل: لا يلبس حليا، فلبس خاتما من فضة أو ذهب.. حنث، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يحنث) .

دليلنا: أن حلي الرجل الخاتم، فحنث بلبسه، كالمرأة. وقال الشيخ أبو إسحاق: فإن لبس مخنقة من لؤلؤ أو غيره من الجواهر.. حنث؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج: 23] [الحج: 23] . وإن حلفت المرأة: لا تلبس الحلي، فلبست اللؤلؤ وحده.. حنثت، وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يحنث) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج: 23] [الحج: 23] . ولم يفرق بين أن يكون اللؤلؤ وحده أو مع غيره. ولأن الله تعالى قال في البحر: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] [النحل: 14] . وإن لبس شيئا من الخرز والسبج، فإن كان ممن عادته التحلي به.. حنث، وهل يحنث به غيرهم؟ فيه وجهان، كالوجهين في بيوت الشعر، ورؤوس الصيد. فإن تقلد سيفا محلى.. لم يحنث؛ لأن السيف ليس بحلي. وإن لبس منطقة محلاة.. ففيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأنها من حلي الرجال. والثاني: لا يحنث؛ لأنها من الآلات المحلاة، فهو كالسيف. وإن حلف: لا يلبس خاتما، فلبسه في غير الخنصر، أو لا يلبس قميصا، فارتدى به، أو لا يلبس قلنسوة، فلبسها في رجله.. قال الشيخ أبو إسحاق: لا يحنث؛ لأن اليمين تقتضي لبسا متعارفا، وهذا غير متعارف.

مسألة: حلف لا يستعمل ما من به عليه

وأما ابن الصباغ فقال: إذا حلف: لا يلبس ثوبا، فلبس ثوبا كما يلبس في العادة أو بخلاف العادة.. حنث؛ لأنه لبسه. [مسألة: حلف لا يستعمل ما من به عليه] وإن حلف: لا يلبس ثوب رجل من به عليه، فوهبه له، أو باعه منه ولبسه، أو من عليه بما يطعمه ويسقيه، فقال: والله لا شربت له ماء من عطش، فأكل له خبزا، أو لبس له ثوبا، أو شرب له ماء من غير عطش، أو منت عليه زوجته بالغزل، فقال: والله لا لبست ثوبا من غزلك، فباع غزلها، واشترى بثمنه ثوبا، فلبسه.. فإنه لا يحنث بجميع ذلك وإن كان قصد بيمينه قطع منته، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك، وأحمد: (إذا قصد قطع منته في يمينه بذلك كله.. لا يجوز له أن يأكل له خبزا، ولا يلبس له ثوبا، ولا ينتفع بشيء من ماله، فإن فعل شيئا من ذلك.. حنث في يمينه) . دليلنا: أن يمين الحالف لا تنعقد إلا على لفظه، ولا يراعى فيها المعنى، وإنما يراعى فيها لفظه، وما فعله لم يلفظ به، فلم يحنث به وإن كان معناه موجودا في معنى لفظه، فلم يحنث به، كما لو حلف: لا يتزوج، فتسرى، أو كما لو حلف: لا كلمت فلانا عدوي.. فإن يمينه لا تنعقد على غيره من أعدائه. [مسألة: حلف لا يضرب فضرب خفيفا] وإن حلف: لا يضرب امرأته، فضربها ضربا غير مؤلم.. حنث؛ لأنه يقع عليه اسم الضرب، وإن عضها، أو نتف شعرها، أو خنقها.. لم يحنث. وقال أحمد وأبو حنيفة: (يحنث) . دليلنا: أن ذلك لا يسمى ضربا، فلا يحنث به في اليمين على الضرب. وإن لكمها، أو لطمها، أو رفسها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:

فرع: حلف ليضربن زيدا مائة سوط

أحدهما: يحنث؛ لأنه ضربها. والثاني: لا يحنث؛ لأن الضرب المتعارف ما كان بآلة. [فرع: حلف ليضربن زيدا مائة سوط] وإن حلف: ليضربن عبده مائة سوط، فإن ضربه مائة سوط متفرقة.. بر في يمينه، وإن أخذ مائة سوط، وضربه بها ضربة واحدة.. نظرت: فإن تيقن أنه أصابه كل واحد منها في بدنه.. بر في يمينه. وقال مالك وأحمد: (لا يبر، ويحتاج إلى أن يضربه مائة ضربة متفرقة) . ودليلنا: أنه قد أوصل الضرب بكل واحد منها إلى بدنه، فبر في يمينه، كما لو ضربه مائة متفرقة. وإن تيقن أنه لم يصب بدنه بعضها.. لم يبر في يمينه، حتى يصل الجميع إلى بدنه. قال ابن الصباغ: وكذلك إذا أصابه البعض ولم يغلب على ظنه إصابة الجميع.. لم يبر في يمينه، وإن لم يتيقن أنه أصابه الجميع، ولكن غلب على ظنه أنه أصابه الكل.. فإنه يبر في يمينه. هكذا قال ابن الصباغ. وأما الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق - فقالا: إذا شك: هل أصابه الجميع، أم لا؟ فإنه يبر في يمينه. قال الشافعي: (والورع أن يحنث نفسه؛ لجواز أن لا يكون قد أصابه الجميع منها) . وقال أبو حنيفة والمزني: (يحنث) .

فرع: حلف ليضربن عبد زيد فباعه فضربه الحالف

دليلنا: أن الظاهر من السياط الرقاق أن جميعها أصابت بدنه، ولأن غلبة الظن أجريت في الأحكام مجرى اليقين، كما يحكم بخبر الواحد والقياس بغلبة الظن، فوجب أن يحكم به هاهنا في البر. وإن حلف: ليضربن عبده مائة مرة.. لم يبر إلا بمائة ضربة متفرقة. وإن حلف: ليضربنه مائة ضربة، فضربه بمائة عصا، أو بمائة سوط مشدودة، وتيقن أنه أصاب بدنه بجميع ذلك.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يبر؛ لأنه ما ضربه إلا ضربة. والثاني: يبر؛ لأنه أصابه بكل واحد من ذلك، فهو كما لو قال: مائة سوط؛ ولهذا لو ضرب به في الزنا.. حسبت له مائة. فعلى هذا إذا شك هل أصابه بالجميع أو بالبعض؟ فإنه يبر في يمينه، كما قلنا في قوله: مائة سوط. [فرع: حلف ليضربن عبد زيد فباعه فضربه الحالف] إذا حلف: لأضربن عبد زيد، فباع زيد عبده، أو أعتقه، ثم ضربه الحالف.. لم يحنث؛ لأنه ليس بعبده. وإن رهن زيد عبده، أو جنى وتعلق الأرش برقبته، ثم ضربه الحالف.. حنث في يمينه؛ لأن ملكه لا يزول عنه بذلك. [مسألة: حلف لا يهبه فأعمره] وإن حلف: لا يهب له، فوهب له، أو أعمره، أو أرقبه، وقبل الموهوب له.. حنث الحالف، وإن لم يقبل الموهوب له.. لم يحنث الحالف.

وقال أبو حنيفة: (يحنث بمجرد الإيجاب) . وإلى ذلك ذهب أبو العباس ابن سريج. دليلنا: أنه حلف على ترك عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول، فلم يحنث لمجرد الإيجاب، كالبيع. وإن تصدق عليه صدقة التطوع.. حنث، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يحنث) . دليلنا: أن ذلك تمليك عين في حال الحياة تبرعا، فيحنث به، كما لو وهب له. وإن أعطاه صدقة مفروضة.. قال القفال: فيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأن الهبة تمليك عين بغير عوض، وهذا موجود في ذلك، فصار كصدقة التطوع. والثاني: لا يحنث؛ لأنه أسقط بها واجبا عن نفسه. وإن أوصى له.. لم يحنث؛ لأنه لا يملك بها إلا بعد موت الموصي، فلا يحنث بعد موته. وإن وقف عليه، فإن قلنا: إن الوقف ينتقل إلى الله تعالى.. لم يحنث، وإن قلنا: ينتقل إلى الموقوف عليه.. حنث. وإن أعاره عينا.. لم يحنث؛ لأن الهبة تمليك الأعيان، والعارية تمليك المنافع، ولأن المستعير لا يملك المنافع بالإعارة، وإنما يستبيحها؛ ولهذا لا يجوز له أن يؤجرها. وإن كان المحلوف من هبته عبدا، فأعتقه الحالف.. لم يحنث؛ لأن ذلك لا يسمى هبة.

مسألة: حلف لا يتكلم فقرأ القرآن

[مسألة: حلف لا يتكلم فقرأ القرآن] إذا حلف: لا يتكلم، فقرأ القرآن.. لم يحنث، سواء قرأه في الصلاة أو في غيرها، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (إن قرأ في غير الصلاة.. حنث) . دليلنا: أن مطلق الكلام لا ينصرف إلا إلى كلام الآدمي. ولأن كل ما لا يحنث به في الصلاة.. لا يحنث به في غير الصلاة، كالإشارة. وإن سبح أو كبر.. ففيه وجهان، ذكرهما ابن الصباغ. أحدهما: لا يحنث؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، وإنما هي التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن» . والثاني: يحنث؛ لأنه يجوز للجنب أن يتكلم به، فأشبه سائر كلامه. وقال أبو حنيفة: (إن كان في الصلاة.. لم يحنث، وإن كان خارج الصلاة.. حنث) . دليلنا: أن ما حنث به خارج الصلاة.. حنث به في الصلاة، كسائر الكلام، وما لم يحنث به في الصلاة.. لم يحنث به خارج الصلاة، كالإشارة. [فرع: حلف لا يكلم رجلا فسلم عليه] وإن حلف: لا يكلم رجلا، فسلم عليه.. حنث؛ لأن السلام من كلام الآدميين؛ ولهذا تبطل به الصلاة. وإن صلى الحالف خلفه، فسها الإمام، فسبح له الحالف، أو فتح عليه في القراءة.. قال ابن الصباغ: لا يحنث الحالف؛ لأن هذا ليس بكلام له. وإن كان الحالف هو الإمام، والمحلوف عليه مؤتم به، فسلم الإمام.. قال ابن الصباغ: فالذي يقتضي المذهب: أنه يكون كما لو سلم الحالف على جماعة فيهم المحلوف عليه، على ما يأتي.

فرع: قوله والله لا كلمته تقع على التأبيد

وقال أبو حنيفة: (لا يحنث) . دليلنا: أنه شرع للإمام أن ينوي السلام على الحاضرين، فصار كما لو سلم عليهم في غير الصلاة. وإن قال لرجل: والله لا كلمتك فاذهب أو فقم، أو ما أشبه ذلك موصولا بيمينه.. قال ابن الصباغ: ولم يذكره أصحابنا، والذي يقتضيه المذهب: أنه يحنث. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يحنث، إلا أن ينوي بقوله: (فاذهب) الطلاق. ووجه الأول: أن قوله: (فاذهب، أو فقم) كلام منه له حقيقة، فحنث به، كما لو فصله. وعندي: أنها على وجهين، كما لو قال لامرأته: إن كلمتك.. فأنت طالق فاعلمي ذلك، وقد مضى ذكرهما في الطلاق. [فرع: قوله والله لا كلمته تقع على التأبيد] إذا قال رجل لآخر: كلم زيدا اليوم، فقال: والله لا كلمته.. فإن يمينه على التأبيد، إلا أن ينوي اليوم. فإن كانت يمينه في الطلاق، وقال: نويت كلامه اليوم لا غير.. لم يقبل قوله في الحكم، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى. وقال أصحاب أبي حنيفة: يمينه على اليوم. دليلنا: أن يمينه مطلقة، فوجب أن يحمل على التأبيد، كما لو ابتدأ بها. [فرع: حلف لا يكلمه فكلمه نائما] وإن حلف: أن لا يكلمه، فكلمه وهو نائم، أو ميت، أو في موضع بعيد لا يسمع كلامه في العادة.. لم يحنث، وإن كان في موضع يسمعه في العادة، إلا أنه لم يسمع لاشتغاله.. حنث. وإن لم يسمعه لصمم.. ففيه وجهان، وقد مضى بيان ذلك في الطلاق.

وإن كتب إليه، أو أرسل إليه.. فهل يحنث؟ فيه قولان - وقال أصحابنا: والرمز والإشارة كالكتابة -: [الأول] : قال في القديم: (يحنث) . وبه قال مالك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] [آل عمران: 41] . فاستثنى الرمز من الكلام، والاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه، ولقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا} [الشورى: 51] [الشورى: 51] . والوحي: هو الرسالة، فدل على: أن الوحي كلام. ولأن الجميع وضع لتفهيم الآدمي، فأشبه الكلام. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يحنث) . وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26] {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27] {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 29] [مريم: 26-29] . فلو كانت الإشارة كلاما.. لم تفعله. وما ذكره الأول.. فيجوز الاستثناء من غير جنس المستثنى منه. ويحرم عليه أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، والسابق.. أسبقهما إلى الجنة» .

فرع: حلف لا يكلم الناس

فإن كتب إليه أو أرسل إليه.. فهل يخرج من مأثم الهجران؟ فيه وجهان، مأخوذان من القولين إذا حلف لا يكلمه. فإن قلنا: يحنث إذا كاتبه أو راسله.. خرج بهما من مأثم الهجران. وإن قلنا: لا يحنث به.. لم يخرج بهما من مأثم الهجران. وينبغي أن يكون الرمز والإشارة في ذلك كالمكاتبة والمراسلة؛ لما ذكرناه في اليمين. [فرع: حلف لا يكلم الناس] وإن حلف: لا يكلم الناس.. قال ابن الصباغ: فإن كلم واحدا.. حنث؛ لأن الألف واللام للجنس، فإذا كلم واحدا من الجنس.. حنث، كما لو قال: لا أكلت الخبز، فأكل خبز أرز.. حنث. وإن حلف: لا يكلم ناسا.. قال الطبري: انصرف إلى ثلاثة أنفس، ويتناول الرجال والنساء والأطفال. [مسألة: حلف أن لا يكلم زيدا ولا يسلم عليه] وإن حلف: لا يكلم زيدا أو لا يسلم عليه، فسلم على جماعة فيهم زيد، فإن علم أن زيدا فيهم، ونوى السلام عليهم وعليه معهم.. حنث؛ لأنه كلمه. قلت: ويأتي على قول أبي سعيد الإصطخري، وأبي علي الطبري: أنه لا يحنث، كما قال إذا حلف: لا يأكل السمن أو الخل، فأكلهما مع غيرهما. وإن لم يعلم بزيد معهم، أو علمه ونسي اليمين، ونوى السلام على جميعهم.. فهل يحنث؟ فيه قولان، كما تقول فيمن فعل المحلوف عليه ناسيا، ويأتي بيانهما. وإن استثنى زيدا بقلبه.. فهل يحنث؟

قال أكثر أصحابنا: لا يحنث؛ لأن اللفظ وإن كان عاما، فإنه يحتمل التخصيص، فجاز التخصيص بالنية. وذكر صاحب " الفروع "، وابن الصباغ في موضع من " الشامل ": هل يحنث؟ على قولين. وذكر في موضع آخر: لا يحنث. وأما إذا سلم وأطلق، ولم ينو السلام عليه، ولا استثناه بقلبه.. ففيه قولان، ومن أصحابنا من حكاهما وجهين: أحدهما: يحنث؛ لأن السلام عام، فتناول جميعهم، وإنما يخرج بعضهم بالاستثناء. والثاني: لا يحنث؛ لأن اللفظ يصلح للجميع وللبعض، فلم تجب الكفارة بالشك. وإن قال: والله لا دخلت على زيد بيتا، فدخل بيتا فيه زيد مع غيره.. نظرت: فإن علم أن زيدا في البيت، فدخل عليه، ولم يستثنه بقلبه.. حنث؛ لأنه فعل المحلوف عليه. وإن لم يعلم به في البيت، أو علمه ونسيه، أو نسي اليمين.. فهل يحنث؟ فيه قولان، كمن فعل المحلوف عليه ناسيا. وإن علم أنه في البيت، إلا أنه استثناه بقلبه، ونوى الدخول على غيره دونه.. قال المحاملي، وسليم، وابن الصباغ: فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان، كما قلنا فيمن حلف: لا يكلم زيدا، فسلم على جماعة فيهم زيد، واستثناه بقلبه.. فهل يحنث؟ فيه قولان. ومنهم من قال: يحنث، قولا واحدا؛ لأن الدخول فعل، فلا يصح فيه الاستثناء، والسلام قول، يصح فيه الاستثناء؛ ولهذا لو قال: سلام عليكم إلا على زيد.. كان كلاما صحيحا، ولو قال: دخلت عليكم إلا على زيد.. لم يكن كلاما صحيحا؛ لأنه قد دخل عليه، فلا معنى لاستثنائه. هذا ترتيب أصحابنا البغداديين. وأما المسعودي [في " الإبانة "] : فرتب السلام على الدخول، وقال: إذا دخل على

مسألة: حلف لا يصوم ونوى حنث

جماعة فيهم زيد، واستثناه بقلبه.. فهل يحنث؟ فيه قولان. وإن سلم على جماعة فيهم زيد، وقد حلف: أن لا يسلم عليه، واستثناه بقلبه عند السلام عليهم، فإن قلنا في الدخول: لا يحنث.. ففي السلام أولى أن لا يحنث، وإن قلنا: يحنث في الدخول.. ففي السلام قولان. وفرق بين الدخول والسلام بما مضى. وإن حلف: لا يدخل على زيد بيتا، فدخل الحالف بيتا ليس فيه زيد، ثم دخل عليه زيد البيت، فإن خرج الحالف في الحال.. لم يحنث، وإن أقام معه.. فهل يحنث؟ يبنى على من حلف: لا يدخل دارا وهو فيها، فأقام فيها.. ففيه قولان: فـ[أحدهما] : إن قلنا هناك: يحنث بالإقامة.. حنث هاهنا بالإقامة. و [الثاني] : إن قلنا هناك: لا يحنث.. لم يحنث هاهنا. وذكر القاضي أبو الطيب في " المجرد ": أن الشافعي نص في " الأم ": (أنه لا يحنث) . قال ابن الصباغ: وهذا أولى؛ لأنا وإن قلنا: إن الاستدامة بمنزلة الابتداء، فكأنهما داخلان معا، ولا يكون أحدهما داخلا على الآخر، فلذلك لم يحنث. [مسألة: حلف لا يصوم ونوى حنث] وإن حلف: لا يصوم، فإذا نوى الصوم من الليل، وطلع الفجر.. حنث؛ لأن ذلك أول دخوله في الصوم، وإن نوى صوم التطوع بالنهار.. فإنه يحنث عقيب نيته؛ لأنه قد دخل في الصوم. وإن حلف: أن لا يصلي.. فمتى يحنث؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها - ولم يذكر في " المهذب " غيره -: أنه يحنث إذا أحرم بالصلاة؛ لأنه يسمى حينئذ مصليا. والثاني - وهو قول أبي العباس -: أنه يحنث بالركوع؛ لأنه إذا ركع.. فقد أتى

فرع: حلف لا يبيع ونحوه من المعاملات

بمعظم الركعة، فقام مقام جميعها، وإذا لم يركع.. فلم يأت بمعظمها. والثالث - حكاه في " الفروع " -: أنه لا يحنث إلا بالفراغ منها، ووجهه: أنه لا يحكم بصحتها إلا بالفراغ منها. والأول أصح؛ لأن الأيمان يراعى فيها الأسماء، وبالإحرام يسمى مصليا، فوجب أن يحنث، كما قلنا في الصوم، فإنا لم نعتبر فيه أن يأتي بمعظم اليوم ولا الفراغ منه. وقال أبو حنيفة: (لا يحنث حتى يسجد) . وقد مضى الدليل عليه. [فرع: حلف لا يبيع ونحوه من المعاملات] وإن حلف: لا يبيع، أو لا يشتري، أو لا يهب، أو لا يتزوج.. لم يحنث إلا بالإيجاب والقبول في ذلك كله. ومن أصحابنا من قال: يحنث في الهبة بالإيجاب وحده. والأول أصح؛ لأنه عقد تمليك، فلم يحنث فيه إلا بالإيجاب والقبول، كالبيع. ولا يحنث إلا بالصحيح. وقال محمد بن الحسن: إذا حلف: أن لا يتزوج، فتزوج تزويجا فاسدا، أو لا يصلي، فصلى صلاة فاسدة.. حنث. وهذا غلط؛ لأن الاسم لا يتناول الفاسد، فلم يحنث به. [فرع: حلف لا يبيع وأمر غيره فباع] وإن حلف: لا يبيع، أو لا يشتري، أو لا يضرب عبده، أو لا يتزوج، أو لا يطلق، فأمر غيره، فباع عنه، أو اشترى، أو ضرب العبد، أو نكح له، أو طلق.. لم يحنث. وحكى الربيع عن الشافعي قولا آخر: (إذا كان الحالف سلطانا لا يتولى البيع ولا الشراء ولا الضرب بنفسه، فأمر غيره، ففعل عنه ذلك.. حنث، وإن أمر غيره،

فنكح له، أو طلق عنه.. لم يحنث؛ لأن العادة أنه لا يتولى البيع ولا الشراء ولا الضرب بنفسه، وإنما يتولاه غيره عنه، وجرت العادة في النكاح والطلاق أنه يتولاه بنفسه، فانعقدت يمينه على ذلك) . والمشهور: هو الأول؛ لأن اليمين تحمل على الحقيقة دون المجاز؛ ولهذا: لو حلف: لا أقعد في ضوء السراج، فقعد في ضوء الشمس.. لم يحنث وإن كان قد سماها الله: سراجا، حيث قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ: 13] [النبأ: 13] . ولو حلف: لا يقعد تحت سقف، فقعد تحت السماء.. لم يحنث وإن كان الله تعالى قد سماها: سقفا، فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] [الأنبياء: 32] . وقال أبو حنيفة: (إذا حلف: لا يشتري، فوكل من يشتري له.. لم يحنث - كقولنا - وإن حلف: لا يتزوج، فوكل من يتزوج له.. حنث؛ لأن حقوق العقد في الشراء تتعلق بالعاقد، وفي النكاح تتعلق بالمعقود له) . وهذا ليس بصحيح؛ لما بيناه من أن الاعتبار بالاسم دون الحكم. وإن حلف: لا يبيع لي زيد متاعا، فوكل وكيلا يبيع متاعه، وأذن له في التوكيل، فدفع الوكيل المتاع إلى زيد، فباعه.. قال الطبري: حنث الحالف، سواء علم زيد أنه متاع الحالف أو لم يعلم؛ لأنه باعه باختياره؛ لأن العلم والنسيان إنما يعتبر في فعل الحالف. وإن قال: والله لا بعت لزيد شيئا، فدفع زيد متاعه إلى وكيل له ليبيعه، وأذن له في التوكيل في بيعه، فدفعه الوكيل إلى الحالف ليبيعه، فباعه، فإن علم الحالف أنه متاع زيد، فباعه وهو ذاكر ليمينه.. حنث في يمينه، وإن لم يعلم أنه لزيد، أو علم أنه لزيد، ونسي يمينه وقت البيع.. فهل يحنث؟ فيه قولان.

فرع: حلف لا يطلق زوجته ووكل لها أمرها

قال في " الأم ": (ولو قال: والله لا بعت له ثوبا، فدفعه إلى وكيله، فقال: بعه أنت، فدفعه إلى الحالف، فباعه.. لم يحنث؛ لأنه لم يبعه للذي حلف، إلا أن يكون نوى: لا يبيع سلعة يملكها فلان، وهذا يقتضي أنه أذن لوكيله في التوكيل بالبيع) . [فرع: حلف لا يطلق زوجته ووكل لها أمرها] ] : وإن حلف: لا طلق زوجته، فجعل أمرها إليها، فطلقت نفسها.. لم يحنث. وإن قال: إن شئت.. فأنت طالق، فقالت: قد شئت.. طلقت، وحنث؛ لأنه هو الموقع للطلاق. [مسألة: حلف لا يتسرى] وإن قال: والله لا تسريت.. فمتى يحنث؟ فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه يحنث بالوطء وحده وإن لم ينزل - وهو قول أحمد - لأنه قد قيل: إن التسري مشتق من السراة، وهو الظهر، فكأنه حلف: لا يتخذها ظهرا، والجارية تتخذ ظهرا بالوطء. وقيل: هو مشتق من السر، وهو الجماع، وذلك يوجد بالوطء وحده. والثاني: أنه لا يحنث إلا بمنعها من الخروج ووطئها، سواء أنزل أو لم ينزل - وهو قول أبي حنيفة - لأنه قد قيل: إنه مشتق من التسري، فكأنه حلف: لا يتخذها أسرى الجواري، وهذا لا يحصل إلا بسترها ووطئها.

مسألة: حلف لا مال له وله نقود أو عقار

والثالث: أنه لا يحنث إلا بوطئها والإنزال فيها، وإن لم يمنعها عن الخروج؛ لأن التسري في العرف والعادة: اتخاذ الجارية لابتغاء الولد، وذلك لا يحصل إلا بالوطء والإنزال. والرابع: أنه لا يحنث إلا بأن يمنعها من الخروج ويطأها وينزل فيها؛ لأنه قد قيل: إنه مشتق من السرور؛ والسرور لا يحصل إلا بذلك، وهذا هو المنصوص للشافعي، وقد قيل: إن المنصوص: هو الذي قبله. [مسألة: حلف لا مال له وله نقود أو عقار] وإن حلف: أنه لا مال له، وله شيء من النقود، أو العروض، أو العقار، وما أشبهه.. حنث. وقال أبو حنيفة: (لا يحنث إلا إن كان له شيء من الأموال الزكاتية؛ استحسانا) . دليلنا: أن ذلك كله يقع عليه اسم المال حقيقة فحنث به كالزكاتي. والدليل على أنه يقع عليه اسم المال: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن خير المال، فقال: «خير المال سكة مأبورة، أو فرس مأمورة» . و (السكة المأبورة) : هي النخلة المصطفة المؤبرة. و (الفرس المأمورة) : هي المهرة الكثيرة النتاج.

وهكذا الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة فيمن قال: إن شفى الله مريضي.. فعلي لله أن أتصدق بمالي: فعندنا: عليه أن يتصدق بجميع ماله إذا شفى الله مريضه. وعنده: ليس عليه أن يتصدق إلا بماله الزكاتي. وإن كان له دين، فإن كان حالا.. فقد حنث في يمينه؛ لأنه كالعين في يده؛ بدليل: أنه يجب عليه فيه الزكاة، وإن كان مؤجلا.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث؛ لأنه لا يملك المطالبة به. والثاني: يحنث؛ لأنه يملك المعاوضة عليه والإبراء عنه. وقال أبو حنيفة: (لا يحنث بالدين، حالا كان أو مؤجلا) . وقد مضى الدليل عليه. وإن كان له مال مغصوب أو مودع أو معار.. حنث؛ لأنه على ملكه. وإن كان له مال ضال.. ففيه وجهان: أحدهما: يحنث؛ لأن الأصل بقاؤه. والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يعلم بقاؤه، فلا يحنث بالشك. وقال ابن الصباغ: وإن كان يملك بضع زوجته أو غير ذلك من المنافع.. لم يحنث؛ لأنه لا يسمى: مالا وإن كان في معنى المال. وإن كان قد جني عليه خطأ أو عمدا، فعفا على مال.. حنث. وإن جني عليه عمدا، ولم يقتص ولم يعف.. فيحتمل أن يبنى على القولين في موجب جناية العمد. فإن قلنا: موجبها القود لا غير.. لم يحنث. وإن قلنا: موجبها القود أو المال.. حنث.

فرع: حلف لا يملك عبدا وعنده مكاتب

[فرع: حلف لا يملك عبدا وعنده مكاتب] وإن حلف: أنه لا يملك عبدا، وله مكاتب.. فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: يحنث؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم» . ولأنه يملك عتقه، فهو كالقن. والثاني: لا يحنث؛ لأنه كالخارج عن ملكه؛ بدليل: أنه لا يملك منافعه، ولا أرش الجناية عليه، فصار كالحر. ومنهم من قال: لا يحنث، قولا واحدا، وهو المنصوص؛ لما ذكرناه. وإن كان له أم ولد، أو مدبر، أو عبد معلق عتقه على صفة.. حنث؛ لأنه في ملكه، ويملك منافعه وأرش ما يجنى عليه، فهو كالقن. [مسألة: حلف أن يرفع المنكر إلى القاضي] وإن قال: والله لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى فلان القاضي، فإن رأى منكرا، ورفعه إليه.. فقد بر في يمينه، وإن رأى منكرا، وتمكن من رفعه، فلم يرفعه حتى مات أحدهما.. حنث في يمينه؛ لأنه أمكنه رفعه، ففوته بتفريط منه، وإن رأى منكرا، فمضى ليرفعه إليه، فحجب عنه ومنع عنه حتى مات أحدهما.. فهل يحنث؟ فيه قولان، كما إذا فعل المحلوف عليه مكرها. وإن لم يتمكن من رفعه، فمضى ليرفعه إليه، فمات القاضي قبل أن يصل الحالف.. قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، كالمكره. وقال أبو إسحاق المروزي والقاضي أبو الطيب: لا يحنث، قولا واحدا؛ لأن

قوله: لا رأيت منكرا إلا رفعته، يعني: إن تمكنت منه، واتسع الزمان لي، وهاهنا لم يتسع له الزمان، فلم يحنث، وتفارق التي قبلها، فإن هناك اتسع له الزمان، ولكن منع من الفعل. فأما إذا عزل هذا القاضي، فإن كان قال: إلى فلان القاضي، ونوى أنه يرفعه إليه وهو قاض، أو نطق بذلك، فقال: إلى فلان وهو قاض.. فقد فاته الرفع إليه بعزله، قال أكثر أصحابنا: فيكون كما لو مات القاضي. فإن كان ذلك بعد أن تمكن من رفعه.. حنث في يمينه، وإن كان قبل أن يتمكن من رفعه، وحجب عنه إلى أن عزل.. فعلى قولين. وإن لم يحجب عنه، ولكن عزل قبل أن يصل إليه.. فعلى الطريقين، كما قلنا في الموت. وقال ابن الصباغ: لا يبر بالرفع إليه بعد العزل، كما قال أصحابنا، ولكن لا يحنث؛ لأن اليمين على التراخي، ويجوز أن يلي بعد عزله، فيرفعه إليه. وإن قال: إلى فلان القاضي، ولم ينو وهو قاض، ولا نطق به.. فهل يبر برفعه إليه بعد العزل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يبر بالرفع إليه؛ لأنه علق اليمين بعين موصوفة بصفة، وقد زالت الصفة، فلم يبر، كما لو قال: والله لا أكلت هذه الحنطة، فطحنها وأكلها. فعلى هذا يكون الحكم فيه كما لو نوى وهو قاض، أو نطق به. والثاني: يبرأ بالرفع إليه، وهو الأصح؛ لأنه علق اليمين على عين، وذكر القضاء تعريفا له لا شرطا، فهو كما لو حلف: لا دخلت دار زيد هذه، فباعها زيد، ودخلها.. فإنه يحنث.

مسألة: حلف لا يكلمه زمانا أو حقبا

وإن قال: والله لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى قاض.. فلا يحنث هاهنا بترك الرفع إلى القاضي بموته ولا بعزله، ولا يحنث إلا بترك الرفع بعد إمكانه وموت الحالف؛ لأنه علق اليمين على الرفع إلى قاض منكر، وأي قاض رفع إليه.. بر في يمينه، سواء كان قاضيا وقت اليمين أو بعده. وإن قال: والله لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى القاضي، فإن رأى منكرا، ورفعه إلى قاضي البلد حين رؤيته.. بر في يمينه، وإن مات ذلك القاضي، أو عزل بعد الرؤية وبعد التمكن من الرفع إليه.. فحكى ابن الصباغ، عن أبي إسحاق المروزي، والقاضي أبي الطيب: أنه يحنث في يمينه؛ لأن لام التعريف تقتضي اختصاص من إليه القضاء عند رؤية المنكر. وقال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: لا يحنث، بل إذا رفعه إلى القاضي المولى بعده.. بر في يمينه؛ لأن الألف واللام يدخلان للجنس أو للعهد، ولم يرد بهما هاهنا الجنس، فثبت أن المراد بهما العهد، وذلك يتعلق بقاضي البلد. [مسألة: حلف لا يكلمه زمانا أو حقبا] وإن قال: والله لا كلمت فلانا زمانا، أو دهرا، أو حقبا، أو وقتا، أو حينا، أو مدة قريبة، أو بعيدة.. بر بأدنى زمان. وقال أبو حنيفة: (الحين شهر، والحقب ثمانون عاما، والمدة القريبة دون الشهر، والبعيدة شهر) . وقال مالك: (الحين سنة، والحقب أربعون عاما) . دليلنا: أن هذه أسماء للزمان، ولم ينقل عن أهل اللغة فيه تقدير، وإنما يقع على القليل والكثير منه، وما من مدة إلا وهي قريبة بالإضافة إلى ما هو أبعد منها، وبعيدة بالإضافة إلى ما هو أقرب منها.

مسألة: حلفلا يستخدم فلانا فخدمه

[مسألة: حلفلا يستخدم فلانا فخدمه] مسألة: [حلف: لا يستخدم فلانا فخدمه] : إذا حلف: أن لا يستخدم فلانا، فخدمه المحلوف عليه والحالف ساكت لم يستدعه إلى الخدمة.. لم يحنث الحالف، سواء كان المحلوف عليه عبده أو عبد غيره. وقال أبو حنيفة: (إذا كان المحلوف عليه عبد الحالف.. حنث الحالف) . دليلنا: أنه حلف على فعل نفسه، وهو طلب الخدمة، فلا يحنث بالسكوت، كما لو لم يكن عبده. [فرع: حلف لا يحلق رأسه فحلقه غيره بأمره] وإن حلف لا يحلق رأسه، فأمره غيره، فحلق رأسه.. فمن أصحابنا من قال: هل يحنث الحالف؟ فيه قولان، كما لو حلف السلطان: أن لا يضرب عبده، أو لا يبيع، أو لا يشتري، فأمر غيره، فضرب عبده، أو باع له، أو اشترى. ومنهم من قال: يحنث، قولا واحدا؛ لأن العرف في الحلاقة في حق كل أحد أن يفعله غيره عنه بأمره، ثم يضاف الفعل إلى المحلوق، فانصرفت اليمين إلى المتعارف فيه. [مسألة: حلف على فعلين فتعلق يمينه بهما] إذا حلف على فعلين.. تعلقت اليمين بهما إثباتا كانا أو نفيا، مثل أن يقول: والله لأكلمن هذين الرجلين، أو لآكلن هذين الرغيفين، فلا يبر إلا بكلام الرجلين جميعا، وبأكل الرغيفين جميعا. وكذلك: إذا قال: والله لا كلمت هذين الرجلين، أو لا أكلت هذين الرغيفين.. لم يحنث إلا بكلام الرجلين جميعا، أو بأكل الرغيفين جميعا. وكذلك إذا قال: والله لا أكلت هذا الرغيف، فأكل بعضه.. لم يحنث، وبه قال أبو حنيفة.

فرع: حلف ليشربن ماء الإناء

وقال مالك وأحمد: (إذا كانت اليمين على النفي.. تعلقت بالبعض، فمتى أكل بعض الرغفيفين، أو بعض الرغيف.. حنث في يمينه) . دليلنا: أن اليمين تعلقت بالجميع، فلم يحنث بالبعض، كاليمين على الإثبات. [فرع: حلف ليشربن ماء الإناء] وإن قال: والله لأشربن ماء هذه الإداوة، أو ماء هذا الكوز، أو ما أشبه ذلك.. قال ابن الصباغ: فإن كان مما يمكنه شربه في سنة أو سنتين.. لم يبر إلا بشرب جميعه. وإن حلف: أن لا يشربه.. لم يحنث إلا بشرب جميعه، خلافا لمالك وأحمد في النفي، وقد مضى الدليل عليهما. وإن قال: والله لأشربن من ماء هذه الإداوة، أو الكوز، فشرب بعضه.. بر في يمينه. وإن قال: لا شربت منه، فشرب منه ولو أدنى قليل.. حنث في يمينه؛ لأن (من) للتبعيض. وإن قال: والله لا شربت ماء هذا النهر، أو ماء دجلة، أو الفرات، أو البحر، مما لا يمكنه شرب جميعه بحال.. ففيه وجهان: أحدهما: يحنث بشرب بعضه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد؛ لأن شرب جميعه لا يمكن، فانعقدت اليمين على بعضه، وهذا كما لو حلف: لا يكلم الناس.. فإنه يحنث بكلام بعضهم. والثاني: لا يحنث؛ لأن لفظه يقتضي جميعه، فلم يتعلق ببعضه، كالماء في الإداوة.

مسألة: حلف لا يأكل طعاما اشتراه اثنان

قال القاضي أبو الطيب: ينبغي على هذا أن لا تنعقد يمينه، كما لو حلف: لأصعدن السماء. [مسألة: حلف لا يأكل طعاما اشتراه اثنان] وإن قال: والله لا أكلت طعاما اشتراه زيد، فاشترى زيد وعمرو طعاما صفقة واحدة، أو اشترى أحدهما نصفه مشاعا في عقد واحد، ثم اشترى الآخر نصفه مشاعا في عقد، وأكل الحالف منه.. لم يحنث. وقال أبو حنيفة: (يحنث) . ودليلنا: أن كل جزء من الطعام لم ينفرد زيد بشرائه، ولا يصح أن يضاف إليه.. فلم يحنث بأكله، كما لو حلف: لا يلبس ثوبا اشتراه زيد، فلبس ثوبا اشتراه زيد وعمرو، وكما لو حلف: لا يأكل من قدر طبخها زيد، فأكل من قدر طبخها زيد وعمرو، أو لا يدخل دارا اشتراها زيد، فدخل دارا اشتراها زيد وعمرو. وقد وافقنا أبو حنيفة على ذلك. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يحنث الحالف؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يحنث الحالف؛ لما ذكرناه. والثاني: يحنث، سواء أكل منه حبة أو لقمة؛ لأنه ما من جزء إلا وقد اشتركا في شرائه. والثالث: إن أكل النصف أو أقل.. لم يحنث، وإن أكل أكثر من النصف.. حنث؛ لأنه إذا أكل أقل من النصف.. لم يتحقق أنه أكل ما اشتراه زيد، وإن أكل أكثر من النصف.. حنث؛ لأنه تحقق أنه أكل ما اشتراه زيد. وإن حلف: لا يأكل طعاما اشتراه زيد، فاشترى زيد قفيز طعام منفردا، واشترى عمرو قفيز طعام منفردا، وخلطا الطعامين أو اختلطا، وأكل منه الحالف.. ففيه ثلاثة أوجه:

فرع: حلف لا يأكل مما اشتراه زيد

أحدها - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: إن أكل الحالف النصف فما دون.. لم يحنث، وإن أكل أكثر من النصف.. حنث؛ لأنه إذا أكل النصف فما دونه.. لا يتحقق أنه أكل ما اشتراه زيد، فلم يحنث، كما لو حلف: لا يأكل تمرة، فاختلطت بتمر كثير، فأكل الجميع إلا تمرة. وإذا أكل أكثر من النصف.. تحققنا أنه أكل مما اشتراه زيد، فحنث. والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: إن أكل حبات يسيرة، كالحبة والحبتين والعشرين حبة.. لم يحنث؛ لأنه يجوز أن يكون مما اشتراه عمرو، وإن أكل كفا.. حنث؛ لأنا نتحقق أن فيه مما اشتراه زيد؛ لأن العادة أن الطعامين إذا اختلطا أن لا يتميز الكف منه من أحدهما. والثالث: - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه لا يحنث وإن أكل جميعه؛ لأنه لا يمكن أن يشار إلى شيء منه أنه مما اشتراه زيد، فصارا كما لو اشترياه مشاعا. والأول اختيار القاضي أبي الطيب، ولم يذكر المسعودي [في " الإبانة "] غيره. والثاني اختيار ابن الصباغ. [فرع: حلف لا يأكل مما اشتراه زيد] وإن حلف: لا يأكل من طعام اشتراه زيد، فاشترى زيد طعاما، ثم باع نصفه، فأكل منه الحالف.. قال ابن الصباغ: حنث؛ لأن زيدا اشترى جميعه. وإن باع طعاما، فاستقال فيه، أو صالح على طعام من دعوى، فأكل منه الحالف.. قال الطبري: لم يحنث. وكذلك: إذا ورث زيد طعاما هو وغيره، وقاسم شركاءه، وأكل مما حصل لزيد.. لم يحنث الحالف، سواء قلنا: إن الإقالة والقسمة بيع أو لم نقل؛ لأنا وإن قلنا: إنهما بيع، فإنما ذلك بيع من طريق الحكم، وأما من طريق الاسم والحقيقة: فليس ببيع، وكذلك الصلح بهذا المعنى.

مسألة: حلف لا يدخل دارا فأدخلها برضاه

وإن اشترى زيد طعاما سلما، فأكل منه الحالف.. قال الطبري: حنث الحالف؛ لأنه يسمى شراء في الحقيقة. وإن اشترى زيد لغيره طعاما، فأكل منه الحالف.. حنث؛ لأن الاسم قد وجد. وإن اشترى عمرو لزيد طعاما، فأكل منه الحالف.. لم يحنث؛ لأن اليمين على ما اشتراه زيد، وذلك يقتضي شراءه بنفسه. وإن حلف: لا يدخل دارا اشتراها زيد، فاشترى زيد بعض دار، ثم أخذ باقيها بالشفعة، ودخلها الحالف.. لم يحنث؛ لأنه لم يشتر جميعها حقيقة. [مسألة: حلف لا يدخل دارا فأدخلها برضاه] إذا حلف: لا يدخل دارا، فدخلها ماشيا، أو راكبا، أو محمولا باختياره.. حنث؛ لأنه قد دخلها. فإن قيل: فهلا قلتم: إذا دخلها محمولا.. لا يحنث، كما لو حلف: لا ضربت زيدا، فأمر غيره، فضربه؟ قلنا: إن الفصل بينهما: أن الدخول هو الانفصال من خارج الدار إلى داخلها، وقد وجد ذلك، فإذا كان باختياره.. أضيف الفعل إليه، بخلاف الضرب. وإن أكره حتى دخلها، أو نسي اليمين، أو جهل الدار المحلوف عليها، فدخلها.. فهل يحنث؟ فيه قولان: أحدهما: يحنث، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لأنه فعل المحلوف عليه فحنث. والثاني: لا يحنث، وبه قال الزهري، وهو الأصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» ، ولأن حال النسيان والإكراه والجهل

مسألة: حلف ليأكلن الرغيف غدا

لا تدخل في اليمين، كما لا تدخل في أوامر الشرع ونواهيه. فإن أكرهه غيره، وحمله حتى دخل به الدار.. ففيه طريقان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو دخلها بنفسه مكرها؛ لأنه لما كان دخوله بنفسه ودخوله محمولا واحدا.. وجب أن يكون دخوله مكرها بنفسه ومحمولا واحدا. و [الثاني] : منهم من قال: لا يحنث، قولا واحدا؛ لأنه لم يوجد منه فعل ولا اختيار، فلم يجز أن يضاف الدخول إليه. [مسألة: حلف ليأكلن الرغيف غدا] إذا قال: والله لآكلن هذا الرغيف غدا.. ففيه ست مسائل: إحداهن: إذا أكله من الغد أي وقت كان منه.. بر في يمينه؛ لأنه فعل ما حلف ليفعلنه. الثانية: إذا أمكنه أكله، فلم يأكله حتى انقضى الغد.. حنث في يمينه؛ لأنه فوت المحلوف عليه باختياره. الثالثة: إذا أمكنه أكل جميعه من الغد، فلم يأكل إلا نصفه، وانقضى الغد.. حنث في يمينه؛ لأن اليمين على أكل جميعه، فلا يبر بأكل بعضه. الرابعة: إذا تلف الرغيف في يومه أو من الغد قبل أن يتمكن من أكله فيه، أو منع من أكله، أو نسي حتى انقضى الغد.. فهل يحنث؟ فيه قولان، كما لو فعل المحلوف عليه مكرها أو ناسيا. الخامسة: إذا أكل الرغيف في يومه، أو أكل بعضه.. حنث في يمينه. وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يحنث) .

فرع: حلف ليأكلن الرغيف اليوم

دليلنا: أنه فوت أكله من الغد بأكله إياه في اليوم، فحنث، كما لو ترك أكله من الغد حتى انقضى. ومتى يحنث؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري: أحدهما: يحنث عند أكل شيء منه؛ لأن الإياس من أكله حصل بذلك. والثاني: يحنث بانقضاء الغد؛ لأنه وقت الأكل. قال: ومثل هذين الوجهين إذا حلف: لأصعدن السماء غدا. السادسة: إذا جاء الغد، وتمكن من أكله، ثم تلف الرغيف، أو منع من أكله قبل مضي الغد.. ففيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: يحنث، قولا واحدا؛ لأنه أمكنه أكله وفوته باختياره، فحنث، كما لو قال: والله لآكلن هذا الرغيف، ولم يقيده بمدة، فأمكنه أكله ولم يأكله.. فإنه يحنث وإن كان جميع عمره وقتا للأكل. و [الثاني] : منهم من قال: فيه قولان؛ لأن جميع الغد وقت للأكل، ويخالف إذا كانت اليمين مطلقة؛ لأنه لم يعين وقته، وهذا كما قلنا فيمن أمكنه فعل الحج، ولم يحج حتى مات.. فإنه يأثم؛ لأنه غير مؤقت، ولو دخل عليه وقت الصلاة، وتمكن من فعلها، فمات في الوقت قبل أن يفعلها.. فإنه لا يأثم؛ لأن لها وقتا مقدرا. [فرع: حلف ليأكلن الرغيف اليوم] وإن قال: والله لآكلن هذا الرغيف اليوم.. ففيه ست مسائل أيضا: إحداهن: أن يأكله في يومه، فيبر في يمينه. الثانية: إذا أمكنه أكله في يومه، فلم يأكله حتى انقضى اليوم.. فيحنث في يمينه.

فرع: حلف ليطلقنها غدا

الثالثة: إذا أمكنه أكل جميعه، فلم يأكل إلا نصفه، وانقضى اليوم.. فيحنث في يمينه. الرابعة: إذا تلف الرغيف بغير الأكل.. فيحنث في يمينه. الخامسة: إذا تلف الرغيف قبل أن يتمكن من أكله.. فهل يحنث؟ فيه قولان. السادسة: إذا تمكن من أكله، وتلف في اليوم.. ففيه طريقان: [الأول] : من أصحابنا من قال: يحنث، قولا واحدا. و [الثاني] : منهم من قال: فيه قولان، والتعليل ما مضى في الأولى. [فرع: حلف ليطلقنها غدا] إذا حلف: ليطلقن امرأته غدا، فطلقها في يومه، فإن طلقها ثلاثا.. حنث؛ لأنه فات طلاقه غدا، وإن طلقها واحدة أو اثنتين، ولم يستوف بذلك الثلاث.. لم يحنث؛ لأنه يمكنه طلاقها غدا، فإن طلقها غدا.. بر في يمينه، وإن لم يطلقها حتى انقضى الغد.. حنث في يمينه. وإن كان عليه ركعتا نذر، فحلف: ليصلينهما غدا، فصلاهما اليوم.. حنث في يمينه؛ لأنه فوت المحلوف عليه، وإن حلف: ليصلين غدا، أو أطلق، فصلى اليوم.. لم يحنث؛ لأنه يمكنه أن يصلي غدا. [فرع: حلف ليقضين حقه غدا] وإن كان له عليه حق، فقال: والله لأقضينك حقك غدا.. ففيه المسائل الست التي مضت في الرغيف، إلا أن ينوي أن لا يخرج غدا حتى أقضيك، فإذا قضاه اليوم.. لم يحنث. وإن قال: والله لأقضينك حقك غدا إلا أن تشاء أن تؤخره.. ففيه المسائل الست في الرغيف، وفيه:

مسألة: حلف ليقضين الحق عند أول الشهر

سابعة: إذا قال من له الحق: شئت أن تؤخره، ولم يقضه حتى خرج الغد.. بر في يمينه. وإن قال: والله لأقضينك حقك غدا إلا أن يشاء فلان.. ففيه المسائل السبع إذا قال: إلا أن تشاء أن تؤخره، وفيه: ثامنة: وهو أن فلانا لو مات في الغد قبل أن تعلم مشيئته.. فقد تعذرت مشيئته، فيسقط حكمها، فيصير كما لو لم يستثن. [مسألة: حلف ليقضين الحق عند أول الشهر] وإن قال: والله لأقضينك حقك عند رأس الهلال، أو عند الاستهلال، أو مع رأس الهلال، أو مع الاستهلال، أو عند رأس الشهر.. فإن الحكم في الجميع واحد، ويقتضي أن يكون القضاء في أول جزء من الليلة الأولى من الشهر، فإن قضاه قبل ذلك.. حنث في يمينه؛ لأنه فوت القضاء باختياره، وإن مضى أول جزء من الليلة الأولى من الشهر، وأمكنه فيه القضاء، فلم يقضه.. حنث؛ لأنه ترك القضاء باختياره. وإن شك: هل هذه الليلة أول الشهر أم لا؟ فلم يقضه، ثم بان أنها أول الشهر.. ففيه قولان. وإن غابت الشمس في آخر يوم من الشهر، وأخذ في القضاء، وواصله كما جرت العادة باقتضاء مثله من الوزن إن كان موزونا، أو الكيل إن كان مكيلا.. بر في يمينه، وإن تأخر الفراغ منه مع مواصلته للقضاء.. لم يؤثر ذلك. قال الطبري: فإن اشتغل عند غروب الشمس بحمل الميزان ليزن.. لم يحنث؛ لأنه اشتغل بأسباب القضاء. هذا مذهبنا. وقال مالك: (رأس الشهر يتناول أول ليلة ويوم منه) . وإن ابتدأ بالقضاء في أثناء

فرع: حلف ليقضينه إلى رمضان

الليلة الأولى، أو في أثناء اليوم الأول من الشهر.. بر في يمينه؛ لأن الشهر ليال وأيام، فكان أوله الليلة الأولى، وآخره اليوم الأول. ودليلنا: أن (عند) و (مع) تقتضي المقارنة، ورأسه أول جزء منه، فاقتضى ابتداء القضاء فيه، وما ذكره يبطل بالسنة، فإنها شهور، وليس رأسها الشهر الأول منها. [فرع: حلف ليقضينه إلى رمضان] وإن قال: والله لأقضينك حقك إلى رمضان، فإن قضاه قبل رمضان.. بر في يمينه، وإن لم يقضه حقه حتى دخل شهر رمضان.. حنث في يمينه؛ لأن وقت القضاء قبل رمضان، فإذا أخره إلى رمضان.. فقد فوت القضاء عن وقته باختياره، فحنث في يمينه. وإن قال: والله لأقضينك حقك إلى رأس الشهر، أو إلى أول الشهر، أو إلى رأس الهلال، أو إلى أول الهلال.. فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: حكمه حكم ما لو قال: إلى رمضان، وهو قول المزني؛ لأن (إلى) للغاية. ومنهم من قال: حكمه حكم ما لو قال: عند رأس الشهر، أو مع رأس الشهر، وهو ظاهر النص؛ لأن (إلى) قد تكون للغاية، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] [البقرة: 187] ، وقد تكون بمعنى (مع) ، كقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف: 14] [الصف: 14] ، أي: مع الله، وكقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] [المائدة: 6] ، أي: مع المرافق. فإذا احتملت (إلى) هاهنا أن تكون للغاية، واحتملت أن تكون للمقارنة.. لم نحنثه بتركه القضاء قبل مجيء أول الشهر بالشك، ويخالف قوله: (إلى رمضان) ؛

فرع: حلف ليقضينه ليلة يرى الهلال

لأنه لا يحتمل هاهنا أن تكون للمقارنة؛ لأنه لا يحتمل أن يكون القضاء مقارنا لجميع شهر رمضان؛ فلذلك جعلناها للغاية. [فرع: حلف ليقضينه ليلة يرى الهلال] قال في " الأم ": (وإذا قال: والله لأقضينك حقك في الليلة التي ترى فيها الهلال.. فأي وقت قضاه من جميع تلك الليلة.. بر بيمينه؛ لأنه جعلها كلها وقتا للقضاء، وإن لم يقضه حتى فاتت الليلة.. حنث في يمينه. وإن قال: والله لأقضينك حقك إلى حين.. فليس بمقدر، فإذا قضاه في عمره.. بر في يمينه) . وقال مالك: (الحين سنة، فإذا قضاه في السنة.. بر في يمينه، وإن تأخر القضاء عنها.. حنث) . وقال أبو حنيفة وأحمد: (الحين شهر، فإن قضاه فيه.. بر في يمينه، وإن تأخر عنه.. حنث) . دليلنا: أن الحين يقع على القليل والكثير، قال الله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] [ص: 88] وأراد: يوم القيامة، وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] [الإنسان: 1] ، وقال تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون: 54] [المؤمنون: 54] . ولا يتساوى الجميع، فدل على أن الحين يقع على الكثير والقليل. وإن قال: والله لأقضينك حقك إلى دهر، أو إلى زمان، أو إلى حقب، أو إلى مدة قريبة أو بعيدة.. فليس ذلك بمقدر، ولا يحنث حتى يفوته القضاء بالموت. وقال أبو حنيفة: (القريب دون الشهر، والبعيد شهر، والحقب ثمانون عاما) . وقال مالك: (الحقب أربعون عاما) ؛ لأنه روي عن ابن عباس في قَوْله تَعَالَى:

فرع: حلف ليقضينه حقه إلى أيام

{لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23] [النبأ: 23] ، قال: (الحقب ثمانون عاما) . وروي عنه: (أربعون عاما) . دليلنا: أن ذلك اسم للزمان، ولم ينقل عن أهل اللغة فيه حد مقدر، وما من مدة إلا وهي قريبة بالإضافة إلى ما هو أبعد منها، وبعيدة بالإضافة إلى ما هو أقرب منها. وما روي عن ابن عباس.. فلا يمتنع أن اسم الحقب يقع على أكثر مما ذكر وأقل منه، وإنما أراد تفسير أحقاب لبث أهل النار فيها دون مقتضاها في اللغة. [فرع: حلف ليقضينه حقه إلى أيام] وإن قال: والله لأقضينك حقك إلى أيام.. قال القاضي أبو الطيب في " المجرد ": إن لم يكن له نية.. فعندي: أنها ثلاثة أيام؛ لأنها أقل الجمع. وقال القاضي حسين الطبري في " عدته ": حكمه حكم ما لو قال: إلى حين وزمان؛ لأنه يعبر بالأيام عن القليل والكثير، ولهذا قال الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] [البقرة: 184] . ويقال: أيام الفتنة، وأيام العدل، فلم يكن لها شيء معلوم. وإلى هذا أشار ابن الصباغ؛ فإنه قال: قول القاضي لا يوافق ما ذكرناه من الحين والزمان، ولأنا قلنا في القريب والبعيد: لا حد له؛ لأنه يقع على القليل والكثير، فلم يعلقه بأقل ما يقع عليه الاسم، فكذلك الأيام أيضا. ولم يذكر المحاملي غير هذا. [مسألة: حلف لا يفارقه حتى يستوفي حقه] وإن كان له على رجل حق، فقال من له الحق: والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك.. فقد علق الحالف اليمين على فعل نفسه، فإن استوفى منه حقه قبل المفارقة..

بر في يمينه، وإن فارقه باختياره قبل استيفاء حقه.. حنث في يمينه، وإن أكره حتى فارقه، أو نسي ففارقه قبل الاستيفاء.. فهل يحنث؟ فيه قولان. وإن فر من عليه الحق عن الحالف قبل الوفاء. فقد قال أكثر أصحابنا: لا يحنث الحالف، قولا واحدا. وحكى الشيخ أبو إسحاق: أن أبا علي بن أبي هريرة قال: هل يحنث الحالف؟ فيه قولان، كالقولين في الحالف إذا أكره حتى فارق الغريم، وهو قول المسعودي [في " الإبانة "] والأول هو الأصح؛ لأنه حلف على فعل نفسه، ولم يوجد منه فعل. فإذا فر من عليه الحق.. لم يحنث الحالف، سواء كان بأمر الحالف واختياره أو بغير أمره واختياره. وإن قال من له الحق لمن عليه الحق: والله لا فارقتني حتى استوفي حقي منك.. فقد علق الحالف اليمين على فعل من له عليه الحق، فإن وفاه الحق قبل أن يفارقه.. بر في يمينه، وإن فارقه من عليه الحق باختياره قبل أن يوفيه.. حنث الحالف، سواء فارقه بأمر الحالف واختياره أو بغير أمره واختياره؛ لأنه علق اليمين على فعل من عليه الحق. وقال صاحب " التقريب ": إذا فر من عليه الحق.. فهل يحنث الحالف؟ فيه قولان. والأول هو المشهور. وإن أكره من عليه الحق حتى فارقه من له الحق قبل الوفاء، أو نسي اليمين، ففارقه قبل الوفاء.. فهل يحنث الحالف؟ فيه قولان. وإن فر من له الحق قبل الوفاء.. لم يحنث، قولا واحدا؛ لأنه لم يعلق اليمين بفعل نفسه، وإنما علقها بفعل من عليه الحق، ولم يوجد من جهة من عليه الحق فعل. وإن قال من له الحق: والله لا افترقت أنا وأنت حتى توفيني حقي، أو لا نفترق أنا وأنت حتى أستوفي حقي منك.. فقد علق اليمين بفعل كل واحد منهما على

فرع: حلف لا يفارقه حتى يستوفي حقه فأفلس

الانفراد، فأيهما فارق الآخر مختارا ذاكرا لليمين قبل الاستيفاء.. حنث الحالف؛ لأنه علق اليمين على فعل كل واحد منهما. وقال في " الأم ": (لو قال: والله لا افترقت أنا وهو، ففر منه.. حنث في قول من قال: لا يطرح الخطأ والغلبة عن الناسي، ولم يحنث في قول من طرح الخطأ والغلبة عن الناسي) . قال الشيخ أبو حامد: وهذا خطأ. ولا فرق بين أن يقول: (أنا وأنت) ، وبين أن يقول: (أنا وهو) . وينبغي أن يحنث، قولا واحدا؛ لأن معنى ذلك: لا فارقتني ولا فارقتك. وإذا حلف على فعله، ففر منه.. فقد حنث؛ لأنه غير مكره على فعله. وإن قال: والله لا افترقنا حتى أستوفي حقي منك.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يحنث الحالف، إلا أن يفارق كل واحد منهما صاحبه، فأما إذا فارق أحدهما صاحبه.. فلا يحنث الحالف؛ لأنه علق اليمين بوجود الافتراق منهما، فلم يحنث بوجوده من أحدهما. و [الثاني] : قال ابن الصباغ: إذا فارق أحدهما الآخر مختارا ذاكرا لليمين.. حنث الحالف، كقوله: لا افترقت أنا وأنت؛ لأنه علق اليمين على الافتراق، وذلك يوجد بمفارقة أحدهما. [فرع: حلف لا يفارقه حتى يستوفي حقه فأفلس] وإن قال من له الحق: والله لا فارقتك حتى أستوفي منك حقي، فأفلس من عليه الحق، فإن فارقه من له الحق من غير أن يجبره الحاكم على مفارقته.. حنث، قولا واحدا؛ لأنه فارقه باختياره وإن كان ذلك واجبا عليه، كما لو حلف: لا يصلي، فصلى الفريضة. وإن أجبره الحاكم على مفارقته.. فهل يحنث؟ فيه قولان، كما لو أكره حتى فارقه.

فرع: حلف بالله لا يفارقه حتى يستوفي فدفع عوضا لمن له حق عليه

وإن كان حقه دراهم، فأعطاه دراهم، وبان أنها رصاص أو نحاس، فإن علم بذلك الحالف قبل المفارقة وفارقه.. حنث؛ لأنه فارقه باختياره وقبل استيفاء حقه، وإن ظنها دراهم جيدة، ففارقه، ثم بان أنها رصاص أو نحاس.. فهو في حكم المكره على المفارقة، وهل يحنث؟ على قولين. وإن أحاله من عليه الحق على آخر، ففارق الغريم.. حنث الحالف؛ لأنه لم يستوف حقه؛ لأن اسم الاستيفاء حقيقة لا يقع على الحوالة. [فرع: حلف بالله لا يفارقه حتى يستوفي فدفع عوضا لمن له حق عليه] وإن قال: والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي، فدفع إليه من عليه الحق عما عليه من الحق عوضا؛ بأن كان له عليه دراهم أو دنانير، فأعطاه بها عوضا، وفارقه من له الحق.. حنث، سواء كان العوض يساوي حقه أو لا يساوي؛ لأن الذي أخذه ليس هو حقه، وإنما هو عوض عن حقه. إذا ثبت هذا: فإن المزني نقل: (لو أخذ بحقه عوضا، فإن كان قيمته حقه.. لم يحنث، وإن كان أقل حنث) . قال المزني: ليس للقيمة معنى. قال أصحابنا: وهذا الذي نقله المزني ليس هو مذهب الشافعي، وإنما هو مذهب مالك؛ لأن الشافعي بدأ في (كتاب الأيمان) بمذهب مالك، ثم ذكر مذهب نفسه بعد ذلك، كما تقدم. وقال أبو حنيفة: (إذا أخذ عن حقه عوضا.. بر في يمينه، سواء كان قيمته حقه أو أقل من حقه) . دليلنا عليهما: ما مضى. وأما إذا قال: والله لا فارقتك حتى أستوفي، ولم يقل: حقي، ثم أخذ منه العوض وفارقه.. فقد قال المحاملي: فإن كان قيمة ما أخذه منه مثل حقه أو أكثر.. لم يحنث؛ لأنه استوفى حقه، وإن كان أنقص منه.. حنث؛ لأنه لم يستوف مثل حقه، بل ترك بعضه.

فرع: حلف لا يفارقه حتى يؤدي ما عليه

وإن قال: [والله] لا فارقتك وقد بقي لي عليك حق، ثم أخذ منه عوضا، أو أبرأه، ثم فارقه.. لم يحنث؛ لأنه لم يبق له عليه حق. [فرع: حلف لا يفارقه حتى يؤدي ما عليه] وإن قال من عليه الحق: والله لا فارقتك حتى أدفع إليك ما لك علي، أو لأقضينك حقك، فإن كان الحق عينا.. فمعنى القضاء فيها: الرد، فإن وهبها صاحب الحق للحالف، فقبل الهبة، وأذن له في قبضها، وأتت عليه مدة القبض، وكان ذلك قبل أن يردها إلى مالكها.. حنث الحالف؛ لأنه فوت ردها إليه باختياره بقبول الهبة. وإن كان الحق عليه دينا، فأبرأه صاحب الحق، فإن قلنا: إن الإبراء يفتقر إلى القبول، فقبل من عليه الحق.. حنث؛ لأنه فوت الدفع والقضاء بقبوله البراءة، وإن قلنا: إن الإبراء لا يفتقر إلى القبول.. فقد برئ، وقد فاته الدفع والقضاء بغير اختياره. قال المحاملي: فيحتمل أن يكون في حنثه قولان، كالمكره، ويحتمل أن لا يحنث، قولا واحدا؛ لأنه لم يوجد من جهته فعل بحال، لا مختارا ولا مكرها. إذا ثبت هذا فإن المفارقة التي يحصل بها الحنث في جميع ذلك كالمفارقة التي ذكرناها في انقطاع خيار المجلس في البيع. والله أعلم، وبالله التوفيق

باب كفارة اليمين

[باب كفارة اليمين] إذا حلف بالله، وحنث.. لزمته الكفارة. قال الطبري في " العدة ": والظاهر من المذهب: أن الكفارة تجب بسببين: اليمين والحنث. ومن أصحابنا من قال: تجب الكفارة باليمين فحسب، والحنث وقت للكفارة. وقال سعيد بن جبير: تجب الكفارة باليمين.

وقال أبو حنيفة: (تجب بالحنث) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلف بأيمان كثيرة» . ولم يرو عنه أنه كفر عنها، حيث لم يحنث فيها، فلو وجبت باليمين فحسب.. لكفر عنها. إذا ثبت هذا: فكفارة اليمين إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، وهو مخير في هذه الثلاثة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . فإن لم يقدر على أحد هذه الثلاث الأشياء.. وجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . وليس في شيء من الكفارة تخيير وترتيب إلا هذه. وإن قال: والله لا دخلت الدار، والله لا دخلت الدار، ثم دخلها، فإن نوى باليمين الثانية تأكيد الأولى.. لزمه كفارة واحدة، وإن نوى بها الاستئناف.. ففيه قولان:

أحدهما: يلزمه كفارتان؛ لأنهما يمينان بالله حنث بهما، فهو كما لو كانتا على فعلين. والثاني: لا تلزمه إلا كفارة واحدة، وهو الأصح؛ لأن الثانية لم تفد إلا ما أفادته الأولى. وإن أطلق ولم ينو شيئا، فإن قلنا: إنه إن نوى الاستئناف لم تلزمه إلا كفارة واحدة.. فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: تلزمه كفارتان.. فهاهنا قولان، بناء على من كرر لفظ الطلاق، ولم ينو التأكيد ولا الاستئناف. فإن قلنا هناك: لا يلزمه إلا طلقة.. لم تلزمه هاهنا إلا كفارة. وإن قلنا هناك: تلزمه طلقتان.. لزمه هاهنا كفارتان. وإن حلف على أمر مستقبل.. فالمستحب له: أن لا يكفر حتى يحنث؛ ليخرج من الخلاف. وإن أراد أن يكفر قبل الحنث، فإن كانت اليمين على غير معصية، بأن حلف: ليصلين، أو لا يدخل الدار.. جاز له أن يكفر بالإطعام، أو الكسوة، أو العتق، وبه قال عمر وابن عمر وابن عباس وعائشة والحسن البصري وابن سيرين وربيعة ومالك والأوزاعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: (لا يجوز) . دليلنا: ما روى أبو داود في " سننه " [ (3277) و (3278) ] : «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الرحمن بن سمرة: " إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها.. فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير» . ولأنه حق مال يتعلق بسببين يختصان به، فجاز تقديمه على أحدهما، كالزكاة.

وإن أراد أن يكفر بالصوم قبل الحنث.. لم يجز. وقال مالك: (يجوز) . دليلنا: أنه عبادة بدنية لا حاجة به إلى تقديمها، فلم يجز تقديمها قبل الوجوب، كصوم رمضان. فقولنا: (بدنية) احتراز من المالية. وقولنا: (لا حاجة به إلى تقديمها) احتراز من تقديم الصلاة في الجمع وفي السفر والمطر. وإن كانت اليمين على معصية، بأن حلف: أن لا يشرب الخمر، فأراد أن يكفر قبل أن يشرب.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن تقديم الكفارة رخصة فلا تجوز بسبب المعصية، كالقصر والجمع في سفر المعصية. والثاني: يجوز؛ لأن الكفارة لا تتعلق بها استباحة ولا تحريم، بل يبقى المحلوف عليه على حالته ويفارق السفر، فإنه سبب في جواز القصر والجمع. وإن ظاهر من الرجعية، وأراد أن يكفر قبل العود، أو جرح رجلا، وأراد أن يكفر عن القتل قبل موت المجروح، أو جرح المحرم صيدا، وأراد أن يخرج الجزاء قبل موت الصيد، أو احتاج إلى المشي على الجراد المنتشر وهو محرم، أو احتاج إلى استعمال الطيب وهو محرم، فأراد إخراج الكفارة قبل ذلك.. فمن أصحابنا من قال: فيه وجهان كما قلنا في التي قبلها: أحدهما: يجوز؛ لأنه وجد أحد سببي الكفارة. والثاني: لا يجوز؛ لأن في ذلك استباحة محظور. ومنهم من قال: يجوز، وجها واحدا؛ لأنه ليس فيه توصل إلى معصية. والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما في الصوم.. جاز لهما الفطر وإخراج

مسألة: يختص العتق بالرقبة المؤمنة

الفدية لليوم الذي تريد فطره، وهل يجوز إخراج الفدية ليوم بعده؟ فيه وجهان، كالوجهين في تقديم الزكاة لعامين. [مسألة: يختص العتق بالرقبة المؤمنة] فإن أراد أن يكفر بالعتق.. أعتق رقبة مؤمنة، على ما ذكرناه في الظهار. وإن أراد أن يكفر بالإطعام.. أطعم عشرة مساكين، كل مسكين مدا من الطعام، على ما ذكرناه في الظهار. وإن أراد أن يكفر بالكسوة.. كسا عشرة مساكين، كل مسكين ما يقع عليه اسم الكسوة، من قميص، أو عمامة، أو سراويل، أو رداء، أو إزار، أو مقنعة، أو خمار. وقال مالك، وأحمد: (لا يجزئه إلا ما يجزئ فيه الصلاة) . قال أبو يوسف ومحمد: لا يجزئه السراويل والعمامة. دليلنا: أن الشرع ورد بالكسوة مطلقة، وليس له عرف يحمل عليه، فوجب حمله على ما يقع عليه اسم الكسوة، واسم الكسوة يقع على العمامة والمقنعة والخمار والسراويل، فأجزأه، كالقميص، وهل تجزئ فيه القلنسوة؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا تجزئه؛ لأنه لا يقع عليها اسم الكسوة. والثاني: تجزئه؛ لما روي عن عمران بن الحصين، أنه سئل عن قَوْله تَعَالَى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] فقال: (إذا أعطاهم قلنسوة قلنسوة.. أجزأ، أرأيت لو قدم وفد على الأمير، فأعطاهم قلنسوة قلنسوة.. فإنه يقال: قد كساهم) . وإن أعطاه خفا، أو شمشكا، أو نعلا، أو جوربا، أو تكة.. لم يجزئه؛ لأن ذلك لا يقع عليه اسم الكسوة. قال ابن الصباغ: وقد حكى الشيخ أبو حامد في الخف وجهين، والأول هو المشهور. ويجوز دفع الكسوة مما اتخذ من الصوف والشعر والكتان والخز والوبر والقطن، وأما ما اتخذ من الحرير فإن أعطاه امرأة.. أجزأه، وإن أعطاه رجلا.. فهل يجزئه؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: لا يجزئه؛ لأنه يحرم عليه لبسه. والثاني: يجزئه؛ لأنه يجوز أن يدفع إلى الرجل كسوة المرأة، وإلى المرأة كسوة الرجل. والمستحب أن يكون ما يدفعه جديدا، خاما كان أو مقصورا. فإن دفع لبيسا، فإن كان قد خلق.. لم يجزه؛ لأنه قد ذهبت قوته، فلم يجزه كالطعام المسوس، وإن كان لم يخلق.. أجزأه، كالطعام العتيق.

فرع: أطعم قسما وكسا آخر

[فرع: أطعم قسما وكسا آخر] إذا أطعم خمسة، وكسا خمسة.. لم يجزه. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجزئه) . دليلنا: أنهما نوعان من أنواع الكفارة، فلم يجز إخراج الكفارة منهما، كما لو أعتق نصف رقبة، وكسا خمسة. [مسألة: يكفر بالإطعام والكسوة عند غناه] ولا يجب عليه أن يكفر بالمال - وهو الإطعام، أو الكسوة، أو العتق - إلا إذا قدر على ذلك فاضلا عن كفايته على الدوام؛ بحيث لا يجوز له أخذ الزكاة بالفقر أو المسكنة. فإن لم يجد ذلك فاضلا عن كفايته على الدوام.. انتقل إلى صوم ثلاثة أيام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . وهل يجب فيها التتابع؟ فيه قولان: أحدهما: يجب فيها التتابع، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، واختاره المزني؛ لما روي: أن ابن مسعود كان يقرؤها: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. والقراءة الشاذة كخبر الواحد، ولأنه صوم في كفارة جعل بدلا عن العتق، فوجب فيه التتابع، كصوم الظهار.

مسألة: مات وعليه كفارات ونحوها

فقولنا: (صوم في كفارة) احتراز من صوم النذر المطلق، ومن صوم قضاء رمضان. وقولنا: (جعل بدلا عن العتق) احتراز من صوم فدية الأذى. والثاني: لا يجب فيها التتابع، بل يجزئ فيه التفريق، وبه قال مالك، وعطاء. قال المحاملي: وهو الأصح، ووجهه: القراءة المشهورة: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . ولم يفرق بين أن تكون متتابعة أو متفرقة. ولأنه صوم ورد به القرآن مطلقا، فأجزأ فيه التفريق، كصوم فدية الأذى. وأما قراءة ابن مسعود: فإن عموم القرآن أولى منها. فإذا قلنا: يجب فيها التتابع، فصامتها المرأة وحاضت في أثنائها.. انقطع تتابعها. وقال أحمد: (لا ينقطع تتابعها، كصوم الشهرين في كفارة القتل) . دليلنا: أنه يمكنها أن تصوم ثلاثة أيام متتابعات، لا يتخللها الحيض، فإذا تخللها.. قطعها، كما لو صامتها وتخللها يوم الأضحى، ويخالف صوم الشهرين، فإنه لا يمكنها ذلك إلا بتأخير الصيام إلى الإياس، وذلك تغرير بالصوم. وأما إذا تخلل المرض والسفر في الثلاث: فالحكم فيه كما ذكرنا في كفارة الظهار. [مسألة: مات وعليه كفارات ونحوها] إذا مات وفي ذمته كفارات، أو هدي، أو نذر مال.. فإن ذلك لا يسقط بموته. وقال أبو حنيفة: (يسقط بموته) . وقد مضى الدليل عليه في الزكاة. إذا ثبت أنها لا تسقط.. فإنها تخرج من تركته، فإن اتسعت تركته لجميعها.. أخرجت، وإن كان ماله لا يتسع لجميعها، فإن كانت كلها متعلقة بالعين، بأن كان

فرع: مات وفي ذمته كفارة يمين ولم يوص

عليه زكاة مال والمال باق وهو أنواع، كالذهب والفضة والمواشي والزرع.. سوى بين الجميع. وهكذا إذا كانت متعلقة بالذمة، بأن كان المال الذي وجبت فيه الزكاة تالفا واستفاد غيره، أو كانت نذورا، أو كفارات.. سوى بين الجميع، وأخرج من كل عين بقسطها. وإن كان بعضها متعلقا بالعين، وبعضها متعلقا بالذمة.. قدم ما تعلق بالعين. وإن كان عليه حق لله تعالى، وحق للآدمي، وبعضها متعلقا بالعين، وبعضها متعلقا بالذمة.. قدم ما تعلق بالعين على ما تعلق بالذمة، سواء كان لله أو للآدمي. وإن كان الحقان متعلقين بالعين، أو متعلقين بالذمة.. فأيهما يقدم؟ فيه ثلاثة أقوال، مضت في (الزكاة) . [فرع: مات وفي ذمته كفارة يمين ولم يوص] وإن كان عليه كفارة يمين، ومات ولم يوص بها.. فالواجب عليه أقل الأنواع، وهو الإطعام. ويجوز للورثة أن يكسوا المساكين، وهل يجوز لهم أن يعتقوا عنه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. وإن رضي بأن يعتق عنه عن كفارة اليمين.. كان ذلك من ثلثه، سواء أطلق أو قال: من رأس المال، أو من الثلث؛ لأنه ليس بواجب. فإن وفى ثلثه برقبة تجزئ.. فلا كلام، وإن لم يف الثلث برقبة تجزئ.. ففيه وجهان. وقال أبو إسحاق: يعزل قدر الإطعام من رأس المال، ويضاف إليه الثلث من الباقي، فإن وفى برقبة تجزئ.. أعتقه، وإلا.. أطعم عنه، كما يقول فيه إذا وصى أن يحج عنه من دويرة أهله، ولم يف الثلث بذلك. ومن أصحابنا من قال: تبطل الوصية بالعتق، ويطعم عنه، وهو ظاهر النص؛

مسألة: فرض كفارة العبد الصوم

لأن الذي وصى به لم يحتمله الثلث، فسقط، ويفارق الحج؛ لأن الذي وصى به هو الواجب، وإنما أراد تكميله، والعتق هاهنا غير واجب، وإنما الواجب الإطعام. [مسألة: فرض كفارة العبد الصوم] إذا وجبت على العبد كفارة اليمين أو غيرها من الكفارات.. فإن فرضه الصوم؛ لأنه لا يملك المال على الجديد. وعلى القديم: (لا يملك العبد إلا بتمليك السيد له، وهو ملك ضعيف) . فإن أراد العبد أن يكفر بالمال بإذن السيد، أو أراد السيد أن يكفر عنه به.. فلا يجوز على قوله الجديد؛ لأنه لا يملك المال بحال. وأما على قوله القديم: فيجوز أن يكفر بإذن السيد، أو يكفر عنه السيد بالإطعام والكسوة، ولا يجوز بالعتق. قال ابن القفال في " التقريب ": وقد قيل: يصح، وتثبت له الولاية. وبه قال أحمد، وأنكر ذلك سائر أصحابنا. دليلنا: أن العتق لا ينفك عن الولاء، والعبد ليس من أهل الولاء؛ لأن الولاء يتضمن الولاية والميراث، والعبد لا يلي ولا يرث، فلذلك لم يثبت له الولاء. إذا ثبت هذا: وأراد العبد أن يصوم عن الكفارة، فإن كان الصيام في وقت يضر بالعبد أو يضعفه عن العمل؛ لشدة الحر، أو لطول النهار، فإن حلف بإذن السيد، وحنث بإذنه، أو حلف بغير إذنه، وحنث بإذنه.. جاز له أن يصوم بغير إذنه؛ لأن إذنه فيما يوجب الصيام إذن له به، كما إذا أذن له في الإحرام فأحرم.. لم يكن له منعه من فعله. وإن حلف وحنث بغير إذنه.. كان للسيد منعه من الصيام. وقال أحمد: (ليس له منعه) .

دليلنا: أن السيد لم يأذن له فيما ألزمه نفسه، وعلى السيد ضرر فيه؛ لأن منفعته تنقص، فكان له منعه، كما لو أراد أن يحرم بالحج بغير إذنه. وإن حلف بإذنه، وحنث بغير إذنه.. فهل يجوز له الصوم بغير إذنه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه أذن له في أحد سببي الكفارة، فهو كما لو أذن له في الحنث دون اليمين. والثاني: لا يجوز، وهو الأصح؛ لأنه لو حلف بغير إذنه، وحنث بغير إذنه.. لم يجز له أن يصوم بغير إذنه ولم ينهه عن الحنث، فلأن لا يجوز له الصوم بغير إذنه وقد نهاه عن الحنث باليمين أولى. وإن كان الصوم في نهار لا يضعفه عن العمل، ولا يضر ببدنه، كالصوم في الشتاء وما قاربه من الزمن.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: حكمه حكم الصوم في الزمان الذي يضر ببدن العبد أو بعمله؛ لأنه ينقص عن نشاطه. والثاني - ولم يذكر ابن الصباغ، والمحاملي غيره -: أنه ليس للسيد منعه منه بحال؛ لأنه لا يضر به، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة» ، أي: أنه يحصل من غير مشقة.

فرع: حلف عبد ثم عتق كان كالأحرار

قال أبو إسحاق: وكذلك إذا أراد العبد أن يتطوع بالصيام في هذا الزمان من غير إذن السيد، أو أراد أن يتطوع بالصلاة في غير زمان خدمته.. لم يكن للسيد منعه من ذلك؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك. فكل موضع قلنا: لا يجوز له أن يصوم بغير إذن سيده إذا صام بغير إذنه.. فللسيد أن يحلله منه، كما قلنا في الحج، وإن لم يحلله منه.. أجزأه؛ لأنه من أهل الصيام، وإنما منع منه لحق السيد، فإذا فعله.. صح، ويسقط به الفرض، كصلاة الجمعة. [فرع: حلف عبد ثم عتق كان كالأحرار] وإن حلف العبد، ثم أعتق، ثم حنث.. فحكمه في الكفارة حكم الأحرار؛ لأن الوجوب والأداء في حال الحرية. وإن حنث، ثم أعتق قبل أن يكفر، فإن كان معسرا.. ففرضه الصوم؛ لأنه حين الوجوب وحين الأداء من أهل الصوم، وإن كان موسرا، فإن قلنا: الاعتبار بحال الأداء، أو بأغلظ الحالين.. ففرضه أحد الأشياء الثلاثة، إما الإطعام، أو الكسوة، أو العتق، ولا يجزئه الصيام. وإن قلنا: إن الاعتبار بالكفارة بحال الوجوب.. ففرضه الصوم؛ لأنه كان حين الوجوب معسرا، فإذا أراد أن يكفر بالمال.. جاز له أن يطعم، أو يكسو، أو يعتق. ومن أصحابنا من قال: لا يكفر بالعتق، قولا واحدا، وفي الإطعام والكسوة القولان في ملك العبد؛ لأن الاعتبار بحال الوجوب، وحال الوجوب كان عبدا.

مسألة: على المبعض كفارة

والصحيح هو الأول؛ لأن الشافعي قال: (إذا أعتق فكفر بالمال.. أجزأه؛ لأنه حينئذ مالك للمال) . واعتباره بحال الوجوب في ذلك لا يصح؛ لأنه إذا كفر بالمال في حال رقه.. احتاج إلى إذن السيد، وبعد العتق لا يحتاج إلى ذلك. [مسألة: على المبعض كفارة] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو حنث ونصفه عبد ونصفه حر، فكان في يده لنفسه مال.. لم يجزئه الصوم) . وجملة ذلك: أنه إذا كان نصفه عبدا ونصفه حرا، ووجبت عليه كفارة؛ فإن لم يكن له مال بنصفه الحر.. ففرضه الصوم، وإن كان له مال بنصفه الحر.. فعليه أن يكفر بالإطعام أو الكسوة، ولا يجوز له أن يكفر بالعتق؛ لأنه إذا لم تكمل فيه الحرية.. فليس من أهل الولاية والميراث. وقال المزني: فرضه الصيام. وتابعه أبو العباس ابن سريج على هذا؛ لأن عدم بعض الحرية فيه بمنزلة عدمه لبعض الطعام، وقال: إنما قال الشافعي هذا على قوله القديم: (إن العبد يملك) . والمذهب الأول؛ لأنه قادر على التكفير بالمال فاضلا عن كفايته على الدوام، فأشبه الحر، ويخالف إذا عدم بعض الطعام، فإنه غير قادر عليه. والله أعلم بالصواب، وبالله التوفيق

كتاب العدد

[كتاب العدد]

كتاب العدد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [سورة البقرة: 228] ) . وجملة ذلك: أن الزوجة يجب عليها العدة بطلاق الزوج، أو بوفاته. فأما عدة الطلاق: فينظر فيه. فإن طلقها قبل الخلوة بها والدخول.. لم تجب عليها العدة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 49] [سورة الأحزاب: 49] . وإن طلقها بعد أن دخل بها.. وجبت عليها العدة؛ لأن الله تعالى لما لم يوجب عليها العدة إذا طلقت قبل الدخول.. دل على: أنها تجب عليها العدة بعد الدخول، ولأن رحمها قد صار مشغولا بماء الزوج، فوجبت عليها العدة؛ لبراءته منه. وإن طلقها بعد الخلوة وقبل الدخول.. فقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد على: (أن الخلوة لا تأثير لها في استقرار المهر، ولا في إيجاب العدة، ولا في قوة قول من يدعي الإصابة) . وقال أبو حنيفة: (الخلوة كالإصابة في استقرار المهر لها وإيجاب العدة) .

وقال مالك: (للخلوة تأثير في أنه يقوى بها قول من يدعي الإصابة منهما دون استقرار المهر لها وإيجاب العدة) . وقال الشافعي في القديم: (للخلوة تأثير) . فمن أصحابنا من قال: تأثيرها في القديم كقول أبي حنيفة في استقرار المهر وإيجاب العدة. ومنهم من قال: تأثيرها في القديم كقول مالك. والأول: أصح. فإذا قلنا بقوله القديم: فوجهه: ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (إذا أُرِخِيَ الستر، وأغلق الباب.. فقد وجب المهر، ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم) ، ولأن التمكين من استيفاء المنفعة جعل كاستيفائها في الإجارة، فكذلك في النكاح. وإذا قلنا بقوله الجديد - وبه قال ابن مسعود، وابن عباس، وهو الأصح - فوجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] [البقرة: 237] ، وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] [الأحزاب: 49] . ولم يفرق بين أن يكون خلا بها أو لم يخل بها. ولأنها خلوة عريت عن الإصابة، فلم يتعلق بها حكم، كالخلوة في غير النكاح.

مسألة العدة على المطلقة الحائل والحامل

وما روي عن عمر.. يعارضه ما رويناه عن ابن عباس، وابن مسعود، وعلي: أنه يحتمل أنه أراد بقوله: (فقد وجب المهر) أي: فقد وجب تسليم المهر؛ لأنها قد مكنت من نفسها، ولم يرد به الاستقرار. [مسألة العدة على المطلقة الحائل والحامل] ] : وإذا وجبت العدة على المطلقة.. لم يخل: إما أن تكون حاملا، أو حائلا. فإن كانت حاملا.. لم تنقض عدتها إلا بوضع الحمل، حرة كانت أو أمة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] ، ولأن العدة تراد لبراءة الرحم، وبراءة الرحم تحصل بوضع الحمل، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السبايا: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض» . وإن كان الحمل ولدا واحدا.. لم تنقض العدة إلا بوضع جميعه، فإن خرج بعضه دون بعض، فاسترجعها الزوج قبل انفصال جميعه.. صحت رجعته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . وهذه لم تضع حملها.

فرع وضعت جنينا أو ميتا

وإن كان الحمل ولدين أو أكثر، فوضعت واحدا.. لم تنقض عدتها إلا بوضع ما بقي معها منه. وإن راجعها الزوج قبل وضع ما بعد الأول.. صحت الرجعة، وبه قال أكثر الفقهاء، إلا عكرمة، فإنه قال: تنقضي عدتها بوضع الأول. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . والحمل يقع على جميع ما في البطن من الأولاد، بدليل: أن رجلا لو قال لامرأته: إذا وضعت حملك، فأنت طالق.. لم تطلق إلا بوضع جميع ما في بطنها من الأولاد. [فرع وضعت جنينا أو ميتا] ] . وإذا ولدت المرأة ولدا ميتا، أو جنينا وقد بان فيه شيء من خلقة الآدمي، من عين، أو ظفر.. أنقضت به العدة، ووجبت فيه الغرة على ضاربها، ووجبت فيه الكفارة، وتصير الجارية به أم ولد. وإن أسقطت مضغة ليس فيها شيء ظاهر من خلقة الآدمي، إلا أنه شهد أربع نسوة ثقات من أهل المعرفة أن فيه تخطيطا باطنا من خلقة ابن آدم.. تعلقت به الأحكام الأربعة في الولد. وحكي: أن أبا سعيد الإصطخري أتي بسقط لم يبن فيه شيء من خلقة الآدميين، فتوقف فيه، فشهد القوابل أنه مخطط مصور، فطرح في ماء جار، فاستجسد وبان تخطيطه وتصويره، فحكم بانقضاء العدة به. وإن أسقطت شيئا مستجسدا ليس فيه تخطيط ظاهر ولا باطن، ولكن شهد أربع من القوابل أن هذا مبتدأ خلق آدمي ولو بقي لتخطط وتصور.. فقد قال الشافعي: (تنقضي به العدة) . وقال في (أمهات الأولاد) ما يدل على: أنها لا تصير به أم ولد. واختلف أصحابنا فيهما على طريقين:

فرع أقل مدة الحمل

فـ[الأول] : منهم من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى، وجعلهما على قولين. و [الطريق الثاني] : منهم من حملهما على ظاهرهما، فقال: تنقضي به العدة، ولا تصير به أم ولد، وقد مضى ذلك في عتق أمهات الأولاد. وإن ألقت شيئا مستجسدا، ولم يعلم: هل هو مبتدأ خلق آدمي، أو لا؟ لم تنقض به العدة؛ لأنه لم يثبت كونه آدميا بالمشاهدة ولا بالبينة. [فرع أقل مدة الحمل] ] : أقل مدة الحمل الذي يولد بها الولد حيا ويعيش.. ستة أشهر. قال أصحابنا: وهو إجماع لا خلاف فيه؛ لما روي: أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُتِيَ بامرأة ولدت لستة أشهر، فهم برجمها، فقال ابن عباس: (لو خاصمتك إلى كتاب الله لخصمتك، فقد قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] [الأحقاف: 15] ، وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] [لقمان: 14] ، فالفصال في عامين، والحمل في ستة أشهر. فاستحسن الناس انتزاعه هذا من الآية. وذكر القتيبي: أن عبد الملك بن مروان وضعته أمه لستة أشهر.

وأما أكثر مدة الحمل: فاختلف الناس فيه على أربعة مذاهب: فمذهبنا: أن أكثر مدة الحمل أربع سنين. وذهب الزهري، وربيعة، والليث إلى: أن أكثر مدة الحمل سبع سنين. وذهب الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، وعثمان البتي إلى: أن أكثر مدة الحمل سنتان، وروي ذلك عن عائشة. وعن مالك ثلاث روايات: إحداهن: كقولنا. والثانية: كقول الزهري، وهو الصحيح عنه. والثالثة: كقول أبي حنيفة. والرابعة: ذهب أبو عبيد إلى: أنه لا حد لأكثره. دليلنا: أن كل ما ورد به الشرع مطلقا وليس له حد في اللغة ولا في الشرع.. كان المرجع في حده إلى الوجود، وقد ثبت الوجود فيما قلناه.

قال الشافعي: (ولد ابن عجلان لأربع سنين) . ومثل الشافعي لا يقول هذا إلا بعد أن علمه. وروي: أنه قيل لمالك حديث جميلة بنت سعد عن عائشة أنها قالت: (لا تزيد المرأة عن السنتين في الحمل) ، فقال مالك: سبحان الله! من يروي هذا؟ هذه جارتنا امرأة عجلان، حملت ثلاث بطون، كل بطن يبقى الحمل في جوفها أربع سنين!. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد. وأما الشيخ أبو إسحاق: فقال: امرأة محمد بن عجلان. وروى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد: أن سعيد بن المسيب أراه رجلا، وقال: إن أبا هذا غاب عن أمه أربع سنين، ثم عاد وقد ولد هذا وله ثنايا. وذكر القتيبي: أن هرم بن حيان حملته أمه أربع سنين. وكذلك منصور بن ريان، ومحمد بن عبد الله بن جبير، وإبراهيم بن أبي نجيح ولدوا لأربع سنين، وإذا وجد ذلك عاما.. وجب المصير إليه. فإن قيل: فقد روى سليمان بن عباد بن العوام قال: كان عندنا بواسط امرأة بقي الحمل في جوفها خمس سنين، ثم ولدت غلاما له شعر إلى منكبيه، فمر به طائر، فقال له: إش!! وقال الزهري: وجد حمل لسبع سنين. قلنا: لم يثبت هذا متكررا، فدل على بطلانه، وما رويناه قد ثبت متكررا.

فرع المطلقة الحائل

وإذا تزوج الرجل امرأة وطلقها، فادعت: أنها وضعت ولدا تنقضي به العدة.. فأقل مدة يقبل فيها قولها أن تدعي ذلك لثمانين يوما من يوم النكاح مع إمكان الوطء، فإن مضى لها من يوم النكاح وإمكان الوطء أقل من ذلك.. لم يقبل قولها؛ لأن الولد لا يتصور في أقل من ذلك؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن أحدكم ليمكث في بطن أمه نطفة أربعين يوما، ثم يكون علقة أربعين يوما، ثم يكون مضغة أربعين يوما» . وإنما يتصور إذا صار مضغة. [فرع المطلقة الحائل] مسألة: [المطلقة الحائل] : وإن كانت المطلقة حائلا.. نظرت: فإن كانت ممن تحيض.. لم يخل: إما أن تكون حرة، أو أمة. فإن كانت حرة.. اعتدت بثلاثة أقراء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] ) . وهذا أمر بلفظ الخبر، ولا خلاف في ذلك. إذا ثبت هذا: فإن (القرء) في اللغة: يقع على الطهر وعلى الحيض، وهو من أسماء الأضداد، كقولهم: الجون، يقع على الأبيض وعلى الأسود، وقولهم: أخفيت الشيء: أسررته. وأخفيته: أظهرته. وقد سمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل واحد منهما قرءا، فروي: أنه قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «دعي الصلاة أيام أقرائك» . وأراد: أيام حيضك. وروي: أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض: «وإنما السنة أن تطلقها في كل قرء طلقة» . وأراد به: الطهر. وأصل القرء في اللغة: الجمع، يقال: قرأت الماء في الحوض، أي: جمعته، والحوض يسمى: المقرأة، وقرأت الطعام في الشدق، أي: جمعته.

ومن أصحابنا من قال: إن اسم القرء يقع على الطهر والحيض حقيقة فيهما؛ لأن حالة الطهر حالة اجتماع الدم، فسمي: قرءا لذلك، وسمي الحيض: قرءا أيضا؛ لأن الدم يجتمع في الرحم. ومن أصحابنا من قال: إنه حقيقة في الطهر؛ لأنه حالة جمع الحيض، ومجاز في الحيض؛ لمجاورته حالة اجتماع الدم، وأما القرء المذكور في قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] .. فلا خلاف أنه لم يرد بذلك الحيض والطهر، وإنما أراد أحدهما. واختلف أهل العلم في المراد منهما: فمذهبنا: أن المراد بالقروء المذكورة في الآية الأطهار، وبه قال ابن عمر، وزيد بن ثابت، وعائشة في الصحابة، ومن التابعين: فقهاء المدينة السبعة، والزهري، وربيعة، ومالك. وذهبت طائفة إلى: أن المراد بالقرء في الآية الحيض، وبه قال عمر، وعلي بن

أبي طالب، وابن مسعود، ومن التابعين: الحسن البصري، ومن الفقهاء: الأوزاعي، ومن أهل الكوفة سفيان الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وهي إحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى: كقولنا: دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . فأدخل الهاء في الثلاثة، والهاء إنما تدخل في المذكر دون المؤنث، فدل على: أن المراد به، ما لو صرح به.. ثبتت الهاء به، وهو ثلاثة أطهار، دون ما لو صرح به.. سقطت الهاء، وهو ثلاث حيض. ولأن القرء مأخوذ من الجمع، وحالة اجتماع الدم في الرحم هو حال الطهر، فكان أولى. ولأن الله تعالى قال: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] وأراد: في وقت عدتهن. والطلاق المأمور به هو حالة الطهر دون حالة الحيض. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] في الأقراء قولين: أحدهما: أن الأقراء: الأطهار، وهو الأصح. والثاني - ذكره في " الرسالة " -: (أن الأقراء الانتقال من الطهر إلى الحيض) . والمشهور: هو الأول، وعليه التفريع، فينظر فيه: فإن طلقها وهي حائض.. وقع الطلاق محرما، وتكون معتدة، ولكن لا يحتسب لها بالحيض من الأقراء، فإذا طهرت.. دخلت في القروء.

فرع يعتد بالطهر الذي لم يصبها فيها

وإن طلقها وهي طاهر، وبقيت بعد الطلاق طاهرا.. احتسب بما بقي من الطهر قرءا؛ لأن الطلاق إنما حرم في الحيض لئلا يضر بها بتطويل العدة، فلو لم يحتسب ما بقي من الطهر قرءا.. لكان الطلاق في الطهر أضر بها في تطويل العدة من الطلاق في الحيض. فإن قيل: فقد أمرها الله تعالى أن تعتد بثلاثة قروء، فكيف تجوزون هاهنا أن تعتد بقرأين وبعض الثلاث؟ قلنا: العرب تسمي اليومين وبعض الثالث ثلاثة أيام، فيقولون: لثلاث ليال خلون وهم في بعض الثالثة، وكقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] [البقرة: 197] . وزمان الحج شهران وبعض الثالث. وإن وافق انقضاء الطلاق انقضاء طهرها، أو قال لها: أنت طالق في آخر جزء من أجزاء طهرك.. فالمذهب: أن الطلاق يقع محظورا، ولا يحسب لها بما يوافق لفظ الطلاق من الطهر قرءا؛ لأن الطلاق يتعقب الإيقاع، فتكون العدة بعد الطلاق، وذلك يصادف أول الحيض. وخرج أبو العباس وجها آخر: أن الطلاق يكون مباحا ويحتسب بالطهر الذي وافق لفظ الطلاق قرءا. وليس بشيء. وإن قال لها: أنت طالق في آخر جزء من أجزاء حيضتك.. فهل هو طلاق محظور، أو مباح؟ على وجهين، المذهب: أنه مباح. [فرع يعتد بالطهر الذي لم يصبها فيها] ] : إذا طلقها وهي طاهر.. اعتدت بما بقي من الطهر قرءا، فإذا حاضت وطهرت.. دخلت في القرء الثاني، فإذا حاضت ثانيا، ثم طهرت بعده.. دخلت في القرء الثالث، فإذا رأت الدم في الحيضة الثالثة.. فقد قال الشافعي في القديم والجديد:

(إن عدتها تنقضي برؤية الدم) . وقال في " البويطي ": (لا تنقضي عدتها حتى ترى الدم يوما وليلة) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: تنقضي برؤية الدم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . وهذه قد تربصت ثلاثة قروء. ولأن الظاهر أنه حيض؛ بدليل: أنا نأمرها بترك الصلاة فيه. والثاني: لا تنقضي عدتها حتى ترى الدم يوما وليلة؛ لأنا لا نتحقق أنه دم حيض حتى يمضي عليها يوم وليلة؛ لأنا لا نتحقق أنه كذلك. ومنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فحيث قال: (تنقضي عدتها برؤية الدم) أراد: إذا رأت الدم أيام عادتها؛ لأنها لما رأته أيام عادتها.. قوي أمره، فانقضت عدتها به. وحيث قال: (لا تنقضي عدتها حتى ترى الدم يوما وليلة) أراد: إذا رأت الدم قبل عادتها؛ لجواز أن يكون دم فساد. وهل يكون اليوم والليلة من الدم، أو اللحظة من العدة؟ فيها وجهان: أحدهما: أنه من العدة؛ لأنه لا بد من اعتباره. فعلى اعتبار هذا: إذا راجعها فيه الزوج.. صحت رجعته، وإن تزوجت فيه.. لم يصح. والثاني: أنه ليس من العدة، وإنما يعلم به انقضاء العدة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . وهذا ليس من القروء. فعلى هذا: إذا راجعها فيه الزوج.. لم يصح، وإن تزوجت فيه.. صح. قال الشافعي: (وليس لاعتبار الغسل بعد الحيضة الثالثة وجه) . وأراد بذلك الرد على أبي حنيفة، فإنه يقول: (إذا انقطع دمها من الحيضة الثالثة، فإن انقطع لأكثر الحيض.. خرجت من العدة، وإن انقطع لأقله.. لم تخرج من العدة حتى تغتسل، أو يمر عليها وقت الصلاة) .

مسألة ادعت انقضاء الأقراء

وقال أحمد - على الرواية التي تقول: (إن الأقراء الحيض) -: (لا تنقضي عدتها حتى تغتسل بكل حال) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . فمن اعتبر الغسل.. فقد أوجب عليها أكثر مما أوجب الله عليها، فلم يجز. [مسألة ادعت انقضاء الأقراء] إذا طلق امرأته: واعتدت بالأقراء، وادعت انقضاء الأقراء الثلاثة في زمان يمكن انقضاؤها فيه.. قبل قولها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . قيل في التفسير: من حمل وحيض، فتواعدهن على كتمان ما في أرحامهن، كما تواعد الشهود على كتمان الشهادة بقوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] ، وكما تواعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العلماء على كتمان العلم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سئل عن علم يعلمه، فكتمه.. ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» . فلما ثبت أن قول الشهود مقبول فيما شهدوا به، وقول العلماء مقبول فيما أخبروا به.. وجب أن يكون قولها مقبولا فيما أخبرت به. إذا ثبت هذا: فإن أقل ما تنقضي به العدة بالأقراء اثنان وثلاثون يوما ولحظتان؛ لأنه يحتمل أن يطلقها وهي طاهر، فتبقى بعد الطلاق لحظة طاهرا، ثم تطعن في الحيض، فتحتسب بتلك اللحظة قرءا، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر خمسة عشر يوما، فيحتسب بتلك قرءان، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر خمسة عشر يوما، فإذا

طعنت في الحيضة الثالثة، ومضت لحظة.. احتسب بالطهر قبلها قرءا ثالثا. وهذا إذا قلنا: إنه لا يفتقر إلى مضي يوم وليلة من الحيضة الثالثة، وهو الصحيح. فأما إذا قلنا بقوله في " البويطي ".. فلا يقبل قولها في أقل من ثلاثة وثلاثين يوما ولحظة. هذا إذا طلقها وهي طاهر، أو لم يعلم ما كان حالها. فأما إذا اعترفت: أنه طلقها وهي حائض.. فلا يقبل قولها في أقل من سبعة وأربعين يوما ولحظتين؛ لأنه يحتمل أنه طلقها وبقيت لحظة بعد الطلاق حائضا، ثم طهرت خمسة عشر يوما، فاحتسب بذلك قرءا، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر خمسة عشر يوما، فيحتسب بذلك قرءا ثانيا، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر خمسة عشر يوما، فإذا طعنت في الحيض لحظة.. انقضت عدتها. وهذا على الصحيح من المذهب. وإن قلنا بما قال في " البويطي ".. لم يقبل قولها حتى يمضي عليها ثمانية وأربعون يوما ولحظة. وإذا ادعت انقضاء العدة في مدة يمكن انقضاؤها فيها، فإن صدقها الزوج.. فلا يمين عليها، وإن كذبها.. حلفت على ذلك؛ لجواز أن تكون كاذبة. وإن ادعت انقضاء عدتها في مدة لا يمكن انقضاؤها فيها، مثل: أن تدعي: أن عدتها انقضت في أقل من اثنين وثلاثين يوما ولحظتين.. لم يقبل قولها؛ لأنا نعلم كذبها يقينا. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن أقامت على الدعوى حتى مضى اثنان وثلاثون يوما ولحظتان.. قبل قولها) . قال الشيخ أبو حامد: قال أصحابنا: أراد الشافعي بذلك: إذا كانت تقول: قد انقضت عدتي، وهي مقيمة على ذلك حتى تجاوز الزمان الذي يمكن انقضاء العدة

فرع علق طلاقها بولادتها

فيه، فيقبل قولها. فأما إذا قالت: انقضت عدتي في الوقت الذي قلت.. لم يقبل قولها؛ لأنها تدعي ما يقطع بكذبها فيه. وقال القاضي أبو الطيب: إن كانت مقيمة على ما أخبرت به.. لم نحكم بانقضاء عدتها، وإن قالت: وهمت في الإخبار، والآن انقضت عدتي.. قبل قولها. وحكي عن أبي سعيد الإصطخري: أنه قال: إذا كانت لها عادة معلومة في الحيض.. لم يقبل قولها إلا بعد مضي مدة يمكن انقضاء العدة فيه على عادتها؛ لأنها إذا ادعت انقضاء عدتها في أقل من ذلك.. كان قولها مخالفا للظاهر، فلم يقبل. وهذا ليس بشيء؛ لأن العادة قد تختلف، فإذا أمكن صدقها.. قبل قولها. وقال أبو يوسف، ومحمد: لا يقبل قولها في أقل من تسعة وثلاثين يوما؛ لأن أقل الحيض عندهما ثلاثة أيام. وقال أبو حنيفة: (لا يقبل قولها في أقل من ستين يوما) . فاعتبر أكثر الحيض عنده وأقل الطهر. وهذا ليس بصحيح؛ لأن أكثر الحيض نادر. [فرع علق طلاقها بولادتها] ] . إذا قال لها: إذا ولدت فأنت طالق، فولدت.. طلقت، فإن ادعت انقضاء العدة.. لم يقبل قولها في أقل من تسعة وأربعين يوما ولحظتين؛ لأن أقل النفاس لحظة، فإذا ولدت.. بقيت في النفاس لحظة، وطهرت خمسة عشر يوما، فاحتسب به قرءا، ثم حاضت يوما وليلة، وطهرت خمسة عشر يوما، فاحتسب به قرءا ثانيا، ثم حاضت يوما وليلة، ثم طهرت خمسة عشر يوما، فاحتسب به قرءا ثالثا، فإذا طعنت في الحيض لحظة.. انقضت عدتها. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ". وقال ابن الصباغ: يقبل قولها في سبعة وأربعين يوما ولحظة؛ لأنها قد تلد ولا ترى دما. وهذا أقيس.

مسألة فيمن يتباعد حيضها

[مسألة فيمن يتباعد حيضها] وإن كانت ممن تحيض، فتباعد حيضها، فإن تباعد تباعدا في اعتادت عودته.. انتظرت عودته، حتى لو كانت عادتها أن تحيض في كل سنة مرة.. لم تنقض عدتها إلا بثلاث سنين، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل سنتين مرة.. لم تنقض عدتها إلا بست سنين. وإن كان تباعده خلاف عادتها، فإن كان ذلك لعارض، كالمرض، والرضاع.. انتظرت عوده؛ لما روى الشافعي بإسناده: (أن حبان بن منقذ طلق امرأته طلقة واحدة، وكانت لها منه ابنة ترضعها، فتباعد حيضها، فمرض حبان بن منقذ، فقيل له: إن مت.. ورثتك، فمضى إلى عثمان وعنده علي، وزيد بن ثابت، فسأله عن ذلك، فقال عثمان لعلي وزيد: ما تريان في ذلك؟ فقالا: نرى أنها إن ماتت.. ورثها، وإن مات.. ورثته؛ لأنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض، ولا من الأبكار اللائي لم يبلغن المحيض. فرجع حبان إلى أهله، فانتزع ابنته، فعاد إليها الحيض، فحاضت حيضتين ومات حبان قبل انقضاء الثالثة، فورثها عثمان) ولا مخالف لهم، فدل على: أنه إجماع. وإن تباعد حيضها لغير عارض يعرف.. ففيه قولان:

قال في القديم: (تمكث إلى أن تعلم براءة رحمها، ثم تعتد بالشهور) . وبه قال عمر، ومالك، وأحمد؛ لأن العدة تراد لبراءة الرحم، فإذا علم براءته ... فلا معنى للتربص، ولأنا لو قلنا: تقعد إلى الإياس.. لأضر ذلك بها في منعها من النكاح، وأضر بالزوج في وجوب النفقة والسكنى عليه، فوجب إزالته. وقال في الجديد: (تقعد إلى الإياس، ثم تعتد بالأشهر) . وبه قال علي بن أبي طالب، وأبو حنيفة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . فدل على: أنه لا يجوز لغير الآيسة والصغيرة أن تعتد بالشهور، وهذه غير آيسة قبل أن تمضي عليها مدة الإياس. فإذا قلنا بقوله القديم: بأنه يعتبر براءة الرحم.. فهل يعتبر براءة رحمها في الظاهر، أو براءته قطعا؟ فيه قولان: أحدهما: يعتبر براءته في الظاهر، وهو: أن تمكث تسعة أشهر، وبه قال عمر، ومالك، وأحمد؛ لأن التسعة الأشهر غالب مدة الحمل، فإذا لم يتبين بها حمل.. فالظاهر براءة رحمها وإن جاز أن تكون حاملا في الباطن، كما أنها إذا كانت من ذوات الأقراء، فاعتدت بثلاثة أقراء.. فإنه يحكم بانقضاء عدتها وإن جاز أن تكون حاملا في الباطن وأن هذا دم رأته على الحمل. والقول الثاني: أنه يعتبر براءة رحمها قطعا، وهو: أن تمكث أربع سنين؛ لأنه لا يتيقن براءة الرحم من الولد إلا بهذا القدر، إذ لو كان الاعتبار ببراءة الرحم في الظاهر.. لوجب إذا مضى عليها ثلاثة أشهر ولم يظهر بها حمل.. أن يحكم ببراءة رحمها؛ لأن الظاهر أن الحمل يتبين بثلاثة أشهر. وإذا مضت لتسعة أشهر على القول الأول، أو أربع سنين على القول الثاني، ولم

يظهر بها حمل ولا عاودها الدم.. فإنها تعتد بثلاثة أشهر؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (تقعد تسعة أشهر لحملها، وثلاثة أشهر لعدتها) ، ولأنا إنما اعتبرنا التسعة الأشهر والأربع السنين.. لنعلم بها براءة رحمها؛ لتصير في حكم الآيسات، فإذا صارت في حكم آيسة.. اعتدت عدة الآيسات. فإن قيل: فالعدة تراد لبراءة رحمها، وقد علم براءة رحمها بالمدة التي مكثت فيها، فلم أوجبتم عليها العدة بعد ذلك؟ قلنا: قد تجب العدة عند العلم ببراءة رحمها، ألا ترى أن الصغيرة يجب عليها العدة، وإذا علق طلاق امرأته بوضع حملها، فوضعته.. فإنها تطلق وتجب عليها العدة مع تحققنا لبراءة رحمها؟ فإن عاودها الدم.. نظرت: فإن عاودها قبل انقضاء مدة التربص، أو قبل انقضاء الثلاثة الأشهر بعد مدة التربص.. وجب عليها أن تعتد بالأقراء؛ لأنه بان أنها من ذوات الأقراء، وتعتد بما مضى قرءا. وإن عاودها الدم بعد انقضاء مدة العدة وبعد أن تزوجت بزوج.. فإنه يجب عليها أن تعتد، وجها واحدا؛ لأنا قد حكمنا بانقضاء العدة، وحصلت حرمة الزوجية، فلم تؤثر معادة الدم. فإن عاودها الدم بعد انقضاء مدة العدة وقبل أن تتزوج بزوج.. ففيه وجهان:

أحدهما: يجب عليها أن تعتد بالأقراء، وتحتسب بما مضى قرءا؛ لأنه بان أنها من ذوات الأقراء، فهو كما لو عاودها قبل انقضاء مدة العدة. والثاني: لا يلزمها أن تعتد بالأقراء؛ لأنا قد حكمنا بانقضاء عدتها وإباحتها للأزواج، فلم يجز نقضه بمعاودة الدم. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: إذا عاودها الدم بعد العدة وقبل أن تتزوج.. فالمنصوص: (أنه لا يلزمها الاعتداد بالأقراء) . وفيها قول آخر مخرج: أنه يلزمها أن تعتد بالأقراء. وإن عاودها الدم بعد انقضاء عدتها وبعد أن تزوجت بآخر.. فمنهم من قال: قولان، كما لو عاودها بعد العدة وقبل أن تتزوج، وهو اختيار القفال. ومنهم من قال: لا يلزمها الاعتداد بالأقراء، ولا يبطل النكاح الثاني، قولا واحدا. وأما إذا قلنا بقوله الجديد، وأنها تمكث إلى الإياس.. ففيه قولان: أحدهما: تمكث إلى أن تبلغ السن الذي تيأس فيه نساء عصبتها؛ لأن نساء القبيلة يتقاربن في الإياس. والثاني: أنها تمكث إلى أن تبلغ السن الذي تيأس فيه نساء العالم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . وإنما تصير آيسة إذا بلغت سنا لم تبلغه امرأة من العالم إلا وأيست. ولأن حيضها لو انقطع لعارض.. اعتبر يأسها: أن تبلغ سنا لم تبلغه امرأة من نساء العالم إلا وأيست من الحيض، فكذلك هذا مثله. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قلنا بقوله الجديد.. ففيه أربعة أوجه: أحدها - وهو الأشهر -: أنها تعتبر بأقصى امرأة من نساء زمنها إياسا. والثاني: من نساء بلدها.

والثالث: من نساء عصبتها. والرابع: من نساء قرابتها. فإذا قلنا: إنها تقعد إلى السن الذي تيأس فيه نساء العالم.. فليس للشافعي فيه نص، واختلف أصحابنا فيه: فاق الشيخ أبو إسحاق: هو اثنان وستون سنة. وقال ابن القاص، والشيخ أبو حامد: هو ستون سنة، وإن ادعت دون ذلك.. لم يقبل. وقال أحمد ابن حنبل: (أقله خمسون سنة) . وقيل: إن غير العربية لا تحيض بعد خمسين سنة، والعربية تحيض بعد خمسين سنة، ولا تحيض بعد ستين سنة إلا قرشية. فإذا بلغت سن الإياس ولم تر الدم.. فإنها تعتد بثلاثة أشهر؛ لأن ما قبلها لم يكن عدة، وإنما اعتبر ليعلم أنها ليست من ذوات الأقراء. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن عاودها الدم بعد أن بلغت سن الإياس.. فهو كما لو عاودها الدم بعد تسعة أشهر، أو أربع سنين على القول القديم، على ما مضى. قال: وإن رأت الدم، ثم تباعد مرة أخرى.. فحكى القفال عن الشافعي: أنه قال: (تقعد تسعة أشهر) ، واختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: هذا على القول القديم، فأما على القول الجديد: فلا تحتاج أن تقعد شيئا. ومنهم من قال: على القولين جميعا، يلزمها أن تقعد تسعة أشهر استظهارا، ولا تبني العدة على تلك الحيضة؛ لأنها صارت كلا شيء، وهل تبني على ما مضى من الشهر قبل الحيضة؟ فيه وجهان:

مسألة عدة غير ذوات الأقراء

أحدهما: لا تبني، بل تستأنف الآن عدة الأشهر. والثاني: تبني على ما مضى من الأشهر قبل الحيضة. [مسألة عدة غير ذوات الأقراء] وإن كانت المطلقة ممن لا تحيض لصغر أو كبر.. اعتدت بثلاثة أشهر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . ومعنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى بين عدة ذوات الأقراء بالأقراء، وعدة الحوامل بالوضع، وعدة المتوفى عنها زوجها بالشهور، ولم يذكر عدة المطلقة الآيسة من الحيض، والصغيرة، فشك الناس في عدتهما، فأنزل الله تعالى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4] يعني: إن لم تعلموا عدتهن {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] ، ثم قال: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] يعني: واللائي لم يحضن، فعدتهن ثلاثة أشهر أيضا. إذا ثبت هذا: فإن كان الطلاق مع أول الشهر، بأن قال لها: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق.. اعتدت بثلاثة أشهر بالأهلة، تامة كانت أو ناقصة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] [البقرة: 189] . وأما إذا طلقها في أثناء الشهر، كأن طلقها وقد مضى خمسة أيام.. فإنها تعتد بما بقي من الشهر، ثم تعتد بالشهرين بعده بالأهلة، فإن كان الشهر الأول تاما.. اعتدت من الشهر الرابع خمسة أيام، وإن كان الأول ناقصا.. اعتدت من الشهر الرابع ستة أيام، وتلفق الساعات عندنا. وقال مالك: (لا تلفق الساعات، وإنما تلفق الأيام) . وبه قال الأوزاعي. وقال أبو حنيفة: (تقضي عدد ما فاتها من الشهر الأول من الرابع) . ويحصل الخلاف بيننا وبينه، إذا كان ناقصا، وكان قد طلقها وقد مضى منه خمسة أيام.. فإنها تعتد عنده من الرابع خمسا، وعندنا ستا.

مسألة تأخر حيض الفتاة

وقال أبو محمد بن عبد الرحمن ابن بنت الشافعي: إذا طلقها في أثناء الشهر.. اعتدت بثلاثة أشهر بالعدد. ودليلنا - على مالك -: أنها معتدة بالشهور، فوجب أن تعتد عقيب الطلاق، كما لو طلقها أول النهار. وعلى أبي حنيفة: أن الشهر هلالي وعددي، فـ (الهلالي) : أن تستوعب ما بين الهلالين. و (العددي) : أن تعد ثلاثين يوما. فإذا طلقها في أثناء الشهر.. فقد فات أن تستوعب ما بين الهلالين، فلم يبق إلا العدد. وعلى ابن بنت الشافعي: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] [البقرة: 189] . ولم يفرق. [مسألة تأخر حيض الفتاة] وإن بلغت الصبية سنا تحيض فيه النساء، بأن بلغت خمس عشرة سنة، أو عشرين سنة ولم تحض.. فعدتها بالشهور، وبه قال أبو حنيفة. وقال أحمد: (تقعد مدة الحمل في الغالب، ثم تعتد بعده بثلاثة أشهر) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] وهذه لم تحض. ولأنها لو بلغت سنا لا تبلغها امرأة قط إلا أيست من الحيض - قال الشيخ أبو حامد -: وهي ستون سنة، وكانت هي تحيض.. فإن عدتها بالأقراء اعتبارا بحالها، فكذلك إذا لم تحض في السن الذي تحيض السناء من مثلها فيه. [فرع عدة من لم تر الدم قبل الحمل وبعده] وإن ولدت المرأة ولم تر دما قبله ولا نفاسا بعده.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:

فرع رؤية الصغيرة الدم

أحدهما - وهو قول الشيخ أبو حامد -: أنها تعتد بالشهور؛ للآية. والثاني: لا تعتد بالشهور، بل تكون كمن تباعد حيضها من ذوات الأقراء؛ لأنه لا يجوز أن تكون من ذوات الأحمال ولا تكون من ذوات الأقراء. [فرع رؤية الصغيرة الدم] إذا شرعت الصغيرة بالاعتداد بالشهور، فرأت الدم قبل انقضاء الشهور ولو بلحظة.. انتقلت إلى الاعتداد بالأقراء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] وهذه قد حاضت. قال أصحابنا: وهذا إجماع لا خلاف فيه. وهل تعتد بما مضى قرءا؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي سعيد الإصطخري، وهو ظاهر النص -: أنها لا تعتد به قرءا؛ لأنها لا تسمى من ذوات الأقراء إلا إذا رأت الدم، وقبل ذلك لا تسمى بهذا الاسم، ولأنها لو كانت تعتد بالأقراء، فأيست من الحيض.. استأنفت الشهور، فوجب أن تستأنف الأقراء هاهنا. والثاني - وهو قول أبي العباس -: أنها تعتد به قرءا؛ لأنه طهر تعقبه دم حيض، فاعتد به قرءا، كما لو كان بين حيضتين. وإن اعتدت الصغيرة بالشهور، ثم رأت الدم بعد انقضاء الشهور.. لم يلزمها الاعتداد بالأقراء؛ لأنا قد حكمنا بانقضاء عدتها وإباحتها للزواج، فلم ينتقض ذلك برؤية الدم، كما لو اعتدت بالأقراء، ثم أيست.. فإنها لا تنتقل إلى الاعتداد بالشهور. وإن شرعت بالاعتداد بالأقراء، فظهر بها حمل، أو انقضت عدتها بالأقراء، ثم ظهر بها حمل من الزوج.. كانت عدتها بوضع الحمل؛ لأن وضع الحمل دليل على براءة الرحم قطعا، والحيض دليل على براءة الرحم في الظاهر، فوجب تقديم ما يقطع بدلالته، كما يقدم نص الكتاب والإجماع على القياس.

مسألة الأمة المطلقة الحامل

[مسألة الأمة المطلقة الحامل] وإن كانت المطلقة أمة، فإن كانت حاملا.. كانت عدتها بوضع الحمل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . ولم يفرق. ولأنه لا يمكن استبراء رحمها مع كونها حاملا إلا بوضعه، فهي كالحرة. وإن كانت حائلا.. نظرت: فإن كانت من ذوات الأقراء.. اعتدت بقرأين، وهو قول كافة العلماء. وقال داود وشيعته: (تعتد بثلاثة أقراء) . دليلنا: ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يطلق العبد تطليقتين، وتعتد الأمة بحيضتين» .

وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (طلاق الأمة طلقتان، وعدتها حيضتان) . ومعنى قوله: (حيضتان) عندنا: يتقدمها طهران؛ لأن القرء الذي هو الطهر لا بد فيه من الحيض. ولأنه أمر ذو عدد بني على التفاضل، فوجب أن تكون الأمة فيه على النصف من الحرة، كالحد، إلا أنه لما لم يتبعض القرء.. كُمِّلَ؛ ولهذا: روي عن عمر: أنه قال: (لو أستطيع أن أجعل عدة الأمة حيضة ونصفا.. لفعلت) . فقولنا: (ذو عدد) احتراز من الحمل. ومعنى قولنا: (بني على التفاضل) أن الأمة تستبرأ بحيضة، والحرة تستبرأ بثلاث حيض، وكل ما بني على التفاضل إذا لم يتبعض.. سقط في حكم الرقيق، كالشهادة، والميراث، والرجم، وما تبعض.. كان الرقيق فيه على النصف من الحر، كالحد، فكذلك العدة. وفي قولنا: (بني على التفاضل) احتراز من مدة الحيض والنفاس في حق الأمة، فإنه أمر ذو عدد، ولكنه لم يبن على التفاضل، فلذلك استوت فيه الحرة والأمة. وإن كانت الأمة من ذوات الشهور.. ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تعتد بشهر ونصف، وبه قال أبو حنيفة؛ لما روي عن علي، وابن عمر: أنهما قالا: (تعتد الأمة بحيضتين إذا كانت من ذوات الأقراء، وإذا كانت من

فرع تزوج أمة فأعتقت

ذوات الشهور.. فشهر ونصف) ، ولأنا قد دللنا على أن العدة للأمة على النصف من الحرة، إلا أن القرء لا يتبعض، فكمل، والشهور تتبعض، فكانت على النصف. والثاني: أنها تعتد بشهرين؛ لأن كل شهر بدل على قرء في حق الحرة، فكان كل شهر بدلا عن قرء في حق الأمة. والثالث: أنها تعتد بثلاثة أشهر؛ لأن براءة الرحم بالشهور لا تحصل بأقل من ثلاثة أشهر؛ لأن الولد يكون في الرحم أربعين يوما نطفة، وأربعين يوما علقة، وأربعين يوما مضغة، ثم يتصور، فلا تنقضي العدة إلا بوضع ذلك. [فرع تزوج أمة فأعتقت] ] : وإن تزوج رجل أمة وأعتقت.. ففيه ثلاث مسائل: إحداهن: أن تعتق أولا، ثم يطلقها الزوج، فإنها تعتد عدة حرة؛ لأنها حرة وقت وجوب العدة. الثانية: أن يطلقها الزوج، وتعتد بقرأين، ثم يعتقها سيدها، فلا يجب عليها استئناف العدة؛ لأن الحرية طرأت بعد انقضاء العدة، فلم تؤثر في العدة، كما لو اعتدت الصغيرة بالشهور، ثم حاضت. الثالثة: إذا طلقت، ثم أعتقت في أثناء العدة.. فلا خلاف أنه لا يلزمها استئناف العدة، ولكنها تبني على ما مضى، وكم يلزمها أن تتم؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يلزمها أن تتم عدة أمة، سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا، وبه قال

مسألة عدة المخالعة والفاسخة للنكاح

مالك؛ لأنه أمر ذو عدد يختلف بالرق والحرية، فلم يغيره العتق، كالحد. والثاني: أنها تتم عدة حرة، سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا، وهو اختيار المزني. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الأصح؛ لأنها معتدة عن نكاح في حال الحرية، فلزمها كمال العدة، كما لو أعتقها قبل الطلاق، ولأن الاعتبار في العدة بحال الانتهاء؛ ولهذا: لو اعتدت بالأقراء، ثم أيست من الحيض في أثناء العدة.. فإنها تعتد بالشهور اعتبارا بحال الانتهاء، وكذلك: لو اعتدت بالشهور، ثم حاضت في أثناء الشهور.. فإنها تعتد بالأقراء، فكذلك هذا مثله. والثالث: إن كان الطلاق رجعيا.. أتمت عدة حرة، وإن كان بائنا.. أتمت عدة أمة، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد. وقال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأن الرجعية لو مات عنها زوجها.. لوجب عليها عدة الوفاة، فإذا طرأت عليها الحرية في أثناء العدة.. أتمت عدة حرة، والبائن لو مات عنها زوجها.. لم تجب عليها عدة الوفاة، فإذا طرأت عليها الحرية.. لم يلزمها إتمام عدة الحرة. [مسألة عدة المخالعة والفاسخة للنكاح] وإن خالع الرجل زوجته، أو فسخ أحدهما النكاح بعيب.. فحكمه حكم الطلاق في العدة؛ لأنها فرقة في الزوجية في حال الحياة، فهي كالفرقة بالطلاق. وإن وطئت امرأة بشبهة.. وجبت عليها العدة؛ لأن الوطء في الشبهة كالوطء في النكاح في النسب، فكان كوطء النكاح في إيجاب العدة. فإن كانت حرة.. اعتدت بعدة الطلاق على ما ذكرناه. وإن كانت له زوجة حرة، فوجد أمة غيره، وظنها زوجته الحرة، فوطئها.. ففيه وجهان:

مسألة عدة وفاة الزوج للحامل والحائل

أحدهما: أنها تعتد بثلاثة أقراء، كالحرة؛ لأنه اعتقد أنها حرة، فأثر اعتقاده في حريتها وعدتها، كما أثر في ولدها. والثاني: أن تعتد عدة أمة؛ لأنها أمة معتدة، فهو كما لو اعتدت عن الطلاق. [مسألة عدة وفاة الزوج للحامل والحائل] وأما عدة المتوفى عنها زوجها: فلا تخلو: إما أن تكون حائلا، أو حاملا. فإن كانت حائلا.. نظرت: فإن كانت حرة.. اعتدت عنه بأربعة أشهر وعشرة أيام بلياليها، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، مدخولا بها أو غير مدخول بها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] [البقرة: 234] . وهذا أمر بلفظ الخبر، إذ لو كان خبرا.. لم يقع، بخلاف ما أخبر الله تعالى به، ولم يفرق بين الصغيرة والكبيرة، والمدخول بها وغير المدخول بها. وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا امرأة على زوجها، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا» .

فإن قيل: فقد ذكر الله الآية بعد هذه الآية، وهي قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] [البقرة: 240] ، فلم أخذتم بالتي قبلها؟ قلنا: لأن هذه الآية منسوخة بالتي قبلها، والدليل عليها: ما روت أم سلمة: «أن امرأة أتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينيها، أفنكحلها؟ فقال النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا - قالها مرتين أو ثلاثا - إنما هي أربعة أشهر وعشرا، وقد كانت إحداكن ترمي بالبعرة في رأس الحول» . فأخبر النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن العدة كانت حولا، وأنها الآن أربعة أشهر وعشر.

وأما (البعرة) : فإن أهل الجاهلية كانت المرأة منهم تعتد سنة، ثم إذا انقضت السنة أخذت بعرة، فرمتها، وقالت: خرجت من الأذى كما خرجت هذه البعرة من يدي. ولأن الله تعالى ذكر في الآية الأخيرة لها النفقة والوصية، وأن لها أن تخرج، ولا خلاف أن هذه الأحكام منسوخة، فكذلك مدة الحول. وقد روي عن ابن عباس: أنه قال: (المتاع منسوخ بالمواريث، والحول منسوخ بأربعة أشهر وعشر) . فإن قيل: فكيف نسختها وهي قبلها؟ قلنا: إنما هي قبلها في التأليف والنظم، وهي بعدها في التنزيل، والاعتبار بالناسخ: أن يكون بعد المنسوخ في التنزيل لا في التأليف، وليس تقدمها في التأليف يدل على تقدمها في التنزيل، ألا ترى إلى قَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] [البقرة: 142] ؟ وإنما أنزلت بعد قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] [البقرة: 144] ؛ لأن السفهاء إنما قالوا ذلك حين تحول النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيت المقدس إلى الكعبة. هذا قول عامة العلماء. وقال الأوزاعي: (تعتد بأربعة أشهر وعشر ليال وتسعة أيام؛ لأن الله تعالى قال: (وعشرا) ، و (العشر) : تستعمل في الليالي دون الأيام) . دليلنا: أن العرب تستعمل اسم التأنيث وتغلبه في العدد على التذكير خاصة، فتقول: سرنا عشرا، ويريدون به الليالي والأيام. وإن كانت أمة.. قال الشيخ أبو حامد: ففيه قولان:

أحدهما: تعتد بشهرين وخمسة أيام بلياليها؛ لأنها على النصف من عدة الحرة فيما يتبعض، والشهور تتبعض. والثاني: تعتد بأربعة أشهر وعشر؛ لأن الولد يكون أربعين يوما نطفة، وأربعين يوما علقة، وأربعين يوما مضغة، ثم تنفخ فيه الروح ويتحرك، فاعتبر أن تكون عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا؛ ليتبين الحمل بذلك، وهذا لا تختلف فيه الحرة والأمة. والأول هو المشهور. فإذا انقضت أربعة أشهر وعشر.. فقد انقضت عدتها، سواء حاضت فيها أو لم تحض، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (إذا كانت ممن عادتها أن تحيض في كل شهر.. لم تنقض عدتها حتى تحيض حيضة في الشهر، وإن تأخر حيضها.. لم تنقض عدتها حتى تحيض حيضة) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] [البقرة: 234] . ولم يفرق بين أن تحيض فيها أو لا تحيض. وقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا امرأة على زوجها، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا» . ولم يفرق. وإن كانت المتوفى عنها زوجها حاملا بولد يلحق بالزوج.. اعتدت بوضع الحمل، حرة كانت أو أمة، وبه قال عمر، وابن عمر، وأبو هريرة، وإليه ذهب أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأكثر أهل العلم. وحكي عن علي بن أبي طالب وابن عباس: أنهما قالا: (تنقضي عدتها بأقصى الأجلين من وضع الحمل، أو أربعة أشهر وعشر) .

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] ولم يفرق بين أن تضع لأربعة أشهر وعشر أو لأقل. فإن قيل: فالآية في المطلقات؟ قلنا هي عامة في الجميع، بدليل: ما روي: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فقال: " المتوفى عنها زوجها، والمطلقة» . وروي: «أن سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر، فتصنعت للأزواج، فمرت بأبي السنابل بن بعكك، فقال لها: قد تصنعت للأزواج، إنما هي أربعة أشهر وعشر، فأتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته بذلك، فقال: " كذب أبو السنابل - يعني: غلط - قد حللت، فانكحي من شئت» .

وقيل: إن أبا السنابل كان قد خطبها وكان شيخا، وخطبها شاب غيره، فرغبت في الشاب دونه، فأراد أبو السنابل أن تصبر حتى يقدم وليها - وكان غائبا - رجاء أن يتزوجها منه. وإذا وضعت الحمل.. انقضت عدتها، سواء اغتسلت من النفاس أو لم تغتسل. وقال الأوزاعي: (لا تنقضي عدتها حتى تغتسل من النفاس) . دليلنا: عموم الآية، وعموم الخبر.

فرع عدة زوجة الصغير

[فرع عدة زوجة الصغير] ] : وإن مات الصبي الذي لا يولد لمثله، وله زوجة.. فإنها تعتد عنه بالشهور، سواء كانت حائلا أو حاملا، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (إذا مات وبها حمل ظاهر.. اعتدت عنه بوضعه، وإن ظهر بها الحمل بعد موته.. لم تعتد به عنه) . وهكذا قال في البالغ إذا تزوج امرأة ووطئها، ثم طلقها وأتت بولد لدون ستة أشهر من حين عقد النكاح: (فإن كان الحمل بها ظاهرا وقت الطلاق.. اعتدت بوضعه عنه، وإن ظهر بها بعد الطلاق.. لم تعتد بوضعه عنه) . دليلنا: أن هذا الحمل منتف عنه قطعا، فلم تعتد به عنه، كما لو ظهر بها بعد الوفاة والطلاق. إذا ثبت هذا: فإن كان هذا الولد لاحقا بغير الزوج، بأن كان عن وطء شبهة أو نكاح فاسد.. اعتدت به عمن يلحق به، واعتدت عن الزوج بالشهور بعد الوضع، وإن كان الحمل من زنا.. اعتدت عن الزوج بالشهور من حين موته؛ لأن الحمل من الزنا لا حكم له، فكان وجوده كعدمه. [فرع موت الزوج في عدة طلاق الرجعية] وإن طلق امرأته طلاقا رجعيا، ثم مات عنها وهي في العدة.. انتقلت إلى عدة الوفاة؛ لأنها في حكم الزوجات. وإن نكح امرأة نكاحا فاسدا، ومات عنها.. لم تجب عليها عدة الوفاة؛ لأن عدة الوفاة من أحكام الزوجية، ولا زوجية بينهما، فلم تجب عليها العدة، كما لا يثبت لها الميراث وسائر أحكام الزوجية. فإن كان لم يدخل بها.. فلا عدة عليها. وإن دخل بها، فإن كانت حائلا.. اعتدت عنه بثلاثة أقراء، إن كانت ممن

فرع طلق أو مات وهو غائب

يحيض، وإن كانت ممن لا يحيض.. اعتدت بثلاثة أشهر، وابتداء ذلك من حين فرق بينهما، وإن كانت حاملا.. اعتدت عنه بوضع الحمل، فإذا وضعت الحمل.. انقضت عدتها. وقال حماد بن أبي سلمة، والأوزاعي: (لا تنقضي عدتها حتى تطهر من النفاس) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . ولم يعتبر أن تطهر من النفاس. [فرع طلق أو مات وهو غائب] إذا طلق الرجل امرأته، أو مات عنها وهو غائب عنها.. فإن عدتها من حين الطلاق، أو من حين الموت. فإن لم تعلم بالطلاق ولا بالموت حتى انقضت مدة عدتها.. فقد انقضت عدتها، وإن علمت قبل انقضاء مدة العدة.. أتمت عدتها من حين الطلاق أو الموت، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير، وهو قول أكثر الفقهاء. وقال علي بن أبي طالب: (يكون ابتداء عدتها من حين علمت بالطلاق أو الموت) . وبه قال الحسن البصري، وداود. وقال عمر بن عبد العزيز، والشعبي: إن ثبت الموت أو الطلاق بالبينة.. كان ابتدأ العدة من حين الطلاق أو الموت، وإن ثبت ذلك بالسماع والخبر.. كان ابتداؤها من حين بلغها. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] [الطلاق: 4] . فجعل عدة الحامل وضع الحمل، ولم يفرق بين أن تكون علمت بالطلاق أو لم تعلم.

مسألة طلق إحدى زوجتيه ومات ولم يعينها

ولأنها إذا سمعت بالطلاق أو الموت بعد انقضاء مدة العدة.. لم تعد الاعتداد، فكذلك إذا بقي بعض المدة، فلم تفقد غير قصدها، وقصدها إلى الاعتداد غير معتبر؛ بدليل: أن العدة تصح من الصغيرة والمجنونة وإن كان لا قصد لهما. [مسألة طلق إحدى زوجتيه ومات ولم يعينها] إذا كان له امرأتان، فطلق إحداهما بعينها، ثم نسيها ومات قبل أن يبين المطلقة منهما، فإن كانتا غير مدخول بهما.. فعلى كل واحدة منهما أن تعتد عنه بأربعة أشهر وعشر؛ لأنا لم نتيقن زوال ملكه عنهما، بل يجوز أن تكون هي الزوجة، فلزمها الاعتداد. وإن كان قد دخل بهما، فإن كانتا حاملتين منه.. فعدة كل واحدة منهما بوضع حملها؛ لأن وضع الحمل عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها، وإن كانتا حائلتين، فإن كان الطلاق رجعيا.. فعلى كل واحدة منهما أن تعتد عنه بأربعة أشهر وعشر لا غير؛ لأنها في حكم الزوجات، وإن كان الطلاق بائنا، فإن كانتا من ذوات الشهور.. فعلى كل واحدة منهما أن تعتد عنه بأربعة أشهر وعشر؛ لأنه يجوز أن تكون كل واحدة هي المطلقة.. فعدتها ثلاثة أشهر، ويجوز أن تكون هي الزوجة.. فعدتها أربعة أشهر وعشر، فلزمها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر؛ ليسقط الفرض بيقين، كما قلنا فيمن نسي صلاة من خمس صلوات ولا يعرف عينها.. فإن عليه أن يصلي الخمس صلوات. وإن كانتا من ذوات الأقراء.. فعلى كل واحدة منهما أن تعتد بأربعة أشهر وعشر فيها ثلاثة أقراء، فإن انقضت أربعة أشهر وعشر قبل أن تأتي بثلاثة أقراء.. فعليها إتمام ثلاثة أقراء، وإن أتت بثلاثة أقراء قبل إكمال أربعة أشهر.. فعليهما إكمال أربعة أشهر وعشر؛ ليسقط الفرض بيقين. وابتداء الأقراء من حين الطلاق، وابتداء أربعة أشهر وعشر من حين موت الزوج. وإن خالفت حال إحداهما حال الأخرى، مثل: أن كانت إحداهما غير مدخول بها والأخرى مدخولا بها، أو كانت إحداهما حاملا والأخرى حائلا، أو طلاق إحداهما

مسألة تربص الزوجة عند غياب الزوج

رجعيا وطلاق الأخرى بائنا، أو كانت إحداهما من ذوات الشهور والأخرى من ذوات الأقراء.. فحكم كل واحدة منهما على الانفراد حكمها إذا اتفقت صفتهما، وقد بيناه. وإن طلق إحداهما لا بعينها، ثم مات قبل أن يبين.. فقد كان يلزمه أن يبين المطلقة، وإذا بين المطلقة منهما.. فمن أي وقت يقع عليها الطلاق؟ فيها وجهان: أحدهما: من حين الطلاق. والثاني: من حين البيان، وقد مضى بيانهما. وأما إذا مات قبل أن يبين: فقد اختلف أصحابنا في العدة هاهنا: فقال الشيخ أبو حامد: إذا قلنا: إن الطلاق يقع حين البيان.. فعلى كل واحدة منهما أن تعتد عدة الوفاة بكل حال؛ لأن الطلاق لم يقع؛ لأنه لا يقع إلا ببيان الزوج، ولم يوجد منه بيان. وإن قلنا: إنه يقع من حين الطلاق.. فهو كما لو طلق إحداهما بعينها، ثم نسيها. وقال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: إذا قلنا: إن الطلاق يقع من حين التعيين.. كان ابتداء عدة الطلاق من حين الموت؛ لأنه وقع الإياس من تعيينه بالموت. [مسألة تربص الزوجة عند غياب الزوج] إذا غاب الزوج عن زوجته.. نظرت: فإن كانت غيبته غير منقطعة، بأن يأتيها خبره، أو تعلم مكانه.. فليس لها أن تفسخ النكاح، بل إن كان له مال حاضر.. أنفق عليها الحاكم منه، وإن لم يكن له مال حاضر.. كتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي فيه الزوج ليطالبه بحقوقها. وإن كانت غيبته منقطعة، بأن لا تسمع بخبره، ولا تعلم مكانه الذي هو فيه.. فإن

ملكه لا يزول عن ماله، بل هو موقوف أبدا إلى أن يتيقن موته، وأما زوجته.. ففيها قولان: [الأول] : قال في القديم: (لها أن تتربص أربع سنين، ثم تعتد، ثم تتزوج إن شاءت) . وبه قال عمر، وابن عمر، وابن عباس في الصحابة، وفي الفقهاء: مالك، وأحمد، وإسحاق؛ لما روي: (أن امرأة أتت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقالت: إن زوجي خرج إلى مسجد أهله ففقد، فقال لها: تربصي أربع سنين، فتربصت، ثم أتته فأخبرته، فقال لها: اعتدي بأربعة أشهر وعشر، فلما انقضت.. أتت إليه فأخبرته، فقال لها: حللت، فتزوجي - ولم ينكر عليه أحد من الصحابة - فتزوجت رجلا، ثم رجع زوجها الأول، فأتى عمر، فقال لعمر: زوجت امرأتي؟! فقال له عمر: وما ذاك؟ فقال: غبت أربع سنين، فأمرتها بالتزويج، فقال عمر: يغيب أحدكم أربع سنين، لا في غزوة، ولا في تجارة، ثم يرجع، فيقول: زوجت امرأتي؟! فقال الرجل: إني خرجت إلى مسجد أهلي، فاستلبتني الجن، فأقمت عندهم إلى أن غزاهم من الجن مسلمون، فوجدوني أسيرا في أيديهم، فقالوا: ما دينك؟ فقلت: الإسلام، فخيروني بين أن أقيم عندهم، أو أرجع إلى أهلي، فاخترت الرجوع إلى أهلي، فسلموني إلى قوم منهم، فكنت بالليل أسمع أصوات الرجال، وبالنهار أرى مثل الغبار، فأسير في أثره حتى أهبطت إلى عندكم، فخيره عمر بين أن يأخذ زوجته، أو مهرها) .

ولأن الضرر يلحقها بذلك، فثبت لها الفسخ، كما لو كان عنينا، أو أعسر بالنفقة. و [الثاني] : قال في الجديد: (ليس لها أن تتربص ولا تفسخ، بل تصبر إلى أن تتيقن موت زوجها) . وبه قال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وهو الصحيح؛ لما روى المغيرة بن شعبة: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها زوجها» . وروي: «حتى يأتيها يقين موته» . ولأنه زوج جهل موته، فلم يحكم بوقوع الفرقة، كما لو لم تمض أربع سنين. وما روي عن عمر.. فروي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال (هذه امرأة ابتليت، فتصبر أبدا) .

ويخالف الفسخ بالعنة والإعسار؛ لأن هناك سبب الفرقة متحقق، وهاهنا سبب الفرقة غير متحقق. إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان إذا تعذرت النفقة عليها من جهته، فأما إذا لم تتعذر النفقة عليها من جهته، فإن كان له مال حاضر.. فلا يثبت لها الفسخ، قولا واحدا. ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو المشهور؛ لأن عليها ضررا بفقد الاستمتاع من جهته. إذا ثبت هذا: فإذا قلنا بقوله القديم.. فإنها تتربص أربع سنين من حين انقطع خبره، ثم تعتد عدة الوفاة؛ لما رويناه عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهل يفتقر ابتداء مدة التربص إلى الحاكم؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق المروزي، واختيار صاحب " المهذب " -: أنها تفتقر إلى ذلك؛ لأنها مدة مجتهد فيها، فافتقرت إلى حكم الحاكم، كمدة العنين. والثاني: لا تفتقر إلى حكم الحاكم، قال الشيخ أبو حامد: وهو المنصوص في القديم؛ لأنها مدة تعلم بها براءة رحمها، فلم تفتقر إلى الحاكم، كما قلنا في المعتدة إذا انقطع دمها لغير عارض. وهل يفتقر إلى حكم الحاكم بالفرقة بعد أربع سنين؟ فيه وجهان، حكاهما في " المهذب ". أحدهما: لا يفتقر إلى حكم الحاكم بالفرقة؛ لأن الحكم بتقدير المدة حكم بالموت بعد انقضائها. والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وابن الصباغ غيره -: أنه يفتقر

فرع طلاق وظهار وإيلاء المفقود في مدة التربص

إلى حكم الحاكم بالفرقة؛ لأنها فرقة مجتهد فيها، فافتقرت إلى الحاكم، كفرقة العنين. وإذا انفسخ النكاح بمضي مدة التربص، أو بفسخ الحاكم.. فهل ينفسخ ظاهرا وباطنا، أو ينفسخ في الظاهر دون الباطن؟ قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان، وأكثر أصحابنا حكوهما قولين: أحدهما: ينفسخ ظاهرا وباطنا؛ لأن هذا فسخ مختلف فيه، فوقع ظاهرا وباطنا، كفسخ النكاح بالعنة، والإعسار بالنفقة. والثاني: ينفسخ في الظاهر دون الباطن؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل للزوج الأول لما رجع أن يأخذ زوجته. [فرع طلاق وظهار وإيلاء المفقود في مدة التربص] إذا طلق المفقود امرأته، أو ظاهر منها، أو آلى منها، فإن كان في مدة التربص، أو بعدها، وقبل حكم الحاكم بالفرقة، وقلنا: لا تقع الفرقة إلا بحكم الحاكم.. وقع طلاقه وظهاره وإيلاؤه، وإن كان بعد مدة التربص وبعد فسخ النكاح، إما بانقضاء مدة التربص، أو بفسخ الحاكم، فإن قلنا بقوله الجديد.. وقع طلاقه وظهاره وإيلاؤه، وإن قلنا بقوله القديم، فإن قلنا: ينفسخ النكاح ظاهرا وباطنا.. لم يقع طلاقه ولا ظهاره ولا إيلاؤه، وإن قلنا: ينفسخ في الظاهر دون الباطن.. وقع طلاقه وظهاره وإيلاؤه. [فرع حكم قضاء الحاكم بالفرقة ينقض بعد تربصها أربع سنين] ] : إذا تربصت امرأة المفقود أربع سنين: فإن قلنا بقوله الجديد.. فهي باقية على النكاح الأول، فإن قضى لها حاكم بالفرقة.. فهل يجوز نقض حكمه على هذا القول؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:

فرع تربصت وحكم بالفرقة وتزوجت وبان الزوج ميتا قبل الحكم

أحدهما: لا يجوز نقضه؛ لأنه حكم فيما يسوغ فيه الاجتهاد. والثاني: يجوز نقضه، وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنه حكم مخالف للقياس الجلي؛ لأنه لا يجوز أن يكون حيا في حكم ماله، ميتا في حكم زوجته. فعلى هذا: إن كانت لم تتزوج، ورجع الأول.. أخذها، واستمتع بها، وإن كانت قد تزوجت بآخر، فإن لم يدخل بها الثاني.. فرق بينها وبينه، ولا عدة عليها عنه، ولا شيء عليه لها، وعادت إلى استمتاع الأول، وإن كان قد دخل بها الثاني.. فرق بينها وبين الثاني، ولزمها أن تعتد عنه؛ لأنه وطء في نكاح فاسد، فلزمها الاعتداد عنه، فإذا انقضت عدتها عنه.. ردت إلى الأول. وإن قلنا بقوله القديم، ورجع الأول بعد الفسخ.. فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: إن قلنا: بفسخ النكاح في الظاهر دون الباطن.. ردت إلى الأول، سواء تزوجت أو لم تتزوج، وإن قلنا: ينفسخ ظاهرا وباطنا.. لم ترد إلى الأول، سواء تزوجت أو لم تتزوج. ومن أصحابنا من قال: إذا رجع الأول قبل أن تتزوج بآخر.. ردت إلى الأول على القولين، وإن رجع الأول بعد أن تزوجت بآخر.. فهي للثاني على القولين؛ لأنها إذا تزوجت بآخر.. فقد شرعت في المقصود بالفرقة، فهي كالمتيمم إذا وجد الماء بعد الدخول في الصلاة، وإذا لم تتزوج بآخر.. فلم تشرع في المقصود، فهي كالمتيمم إذا وجد الماء قبل الدخول في الصلاة. والأول هو المشهور. [فرع تربصت وحكم بالفرقة وتزوجت وبان الزوج ميتا قبل الحكم] ] : إذا تربصت امرأة المفقود، وحكم الحاكم بالفرقة، واعتدت، ثم تزوجت بآخر، وبان أن الزوج الأول كان قد مات قبل حكم الحاكم بالفرقة.. فإن قلنا بقوله القديم.. فقد وقعت الفرقة ظاهرا وباطنا، وصح نكاح الثاني ظاهرا وباطنا، وإن قلنا بقوله الجديد.. ففيه وجهان:

فرع لا تجب العدة حتى يتيقن الموت

أحدهما: أن نكاح الثاني صحيح؛ لأنه بان أنها خالية من الأزواج، وأنه وقع موقعه، فهو كما لو علمت موته بالبينة قبل أن تنكح. والثاني: لا يصح النكاح الثاني؛ لأن النكاح الثاني عقد في حال لم يؤذن بالعقد فيه، فكان محكوما بفساده، فلا تتعقبه الصحة. وأصل هذين الوجهين: القولان فيمن كاتب عبده كتابة فاسدة، ثم أوصى برقبته ولم يعلم بفساد الكتابة. وكذلك: إذا باع مال مورثه قبل أن يعلم بموته، ثم بان أنه كان ميتا وقت البيع. [فرع لا تجب العدة حتى يتيقن الموت] قال الصيمري: لو ركب رجل في البحر، فبلغ امرأته أن المركب الذي كان فيه زوجها غرق.. لم يجب عليها العدة حتى تعلم موته يقينا. قال: وإن كان هناك امرأتان، لكل واحدة منهن زوج، وكانتا على يقين أن زوج إحداهما مات، ولا يعلم عينه.. فلا يحكم على واحدة منهما بعدة. [فرع طلق امرأته فسألها بعد عن عدتها] وإذا طلق الرجل امرأته، ثم سألها عن عدتها: هل انقضت، أم لا؟ وجب عليها إخباره، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] . قال الصيمري: وكذلك لو سألها رسول الزوج، أو من تعلم أنه يخبره. فإن سألها غير الزوج وغير رسوله، أو من تعلم أنه لا يخبره.. فهل يلزمها إخباره؟ فيه قولان، حكاهما الصيمري. وبالله التوفيق

باب مقام المعتدة والمكان الذي تعتد فيه

[باب مقام المعتدة والمكان الذي تعتد فيه] إذا طلق الرجل امرأته.. نظرت: فإن كان الطلاق رجعيا.. وجب عليه نفقتها وإسكانها حيث يختار؛ لأنها في معاني الزوجات، بدليل: أنه يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه، ويتوارثان، فكانت في معاني الزوجات في النفقة والسكنى، ولأن النفقة والسكنى يجبان في مقابلة الاستمتاع، والزوج متمكن من الاستمتاع بها متى شاء بعد الرجعة، وإنما حرمت عليه لعارض، فهو كما لو أحرم أو أحرمت. قال أصحابنا: وهو إجماع أيضا. وإن كان الطلاق بائنا.. وجب على الزوج لها السكنى، وبه قال ابن عمر، وابن مسعود، وعائشة، وهو قول فقهاء المدينة، وعلماء الأمصار. وذهب ابن عباس، وجابر بن عبد الله إلى: أنه لا يجب عليه لها السكنى. وبه قال أحمد، وإسحاق؛ لما روي: «أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها وكان غائبا بالشام، فأمرها النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم» . ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] إلى قوله: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] [الطلاق:1] . فأمر أن لا يخرجن من بيوتهن، وأراد به بيوت أزواجهن، والأمر على الوجوب. والدليل على أنه أراد: بيوت أزواجهن: قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] . و (الفاحشة) هاهنا: هي أن تبدو على أحمائها، فلو أراد بيوتهن اللاتي يملكن.. لما أجاز إخراجهن للفاحشة. وقَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] والمراد بها: المطلقة البائن؛ لأنه

شرط في وجوب النفقة لها في الحمل، وذلك إنما يعتبر في البائن، فأما الرجعية: فتجب لها النفقة بكل حال. وأما حديث فاطمة: فإنما نقلها عن بيت زوجها؛ لأنها بذت على أهل زوجها. والدليل عليه: ما روي عن ميمون بن مهران: أنه قال: (دخلت المدينة، فسألت عن أفقه من فيها، فقيل لي: سعيد بن المسيب، فأتيته فسألته عن المبتوتة، هل يعد لها السكنى؟ فقال: لها السكنى، فقلت له: فحديث فاطمة بنت قيس؟ فقال: تلك امرأة فتنت الناس، إنها كانت في لسانها ذرابة، فاستطالت على أحمائها، فنقلها رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيت زوجها) . وروي: أن عائشة كانت تقول لفاطمة: (اتقي الله، ولا تكتمي السبب) أي: لا تكتمي سبب النقل. إذا ثبت هذا: فإن المسلمة والذمية فيما ذكرناه سواء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] وهذا يعم المسلمة والذمية.

مسألة وجوب سكن المطلقة في بيت الزوجية

وأما الأمة إذا طلقها زوجها: فالحكم في سكناها في حال عدتها كالحكم في سكناها في حال الزوجية؛ وذلك: أن السيد إذا زوج أمته.. فهو بالخيار: بين أن يمكن الزوج من الاستمتاع بها ليلا ونهارا، وبين أن يمكنه من الاستمتاع بها ليلا، ويستخدمها نهارا. فإن مكنه من الاستمتاع بها ليلا ونهارا.. فعلى الزوج نفقتها وسكناها، وإن مكنه من الاستمتاع بها بالليل دون النهار.. لم يجب على الزوج نفقتها ولا سكناها، على المذهب. فعلى هذا: إذا طلقها الزوج، وأرسلها السيد ليلا ونهارا.. وجب على الزوج إسكانها، وإن أرسلها بالليل دون النهار.. لم يجب على الزوج إسكانها، بل إن اختار الزوج إسكانها بالليل ليحصن ماءه فيه.. وجب على السيد إرسالها فيه، كما قلنا: يجب على السيد إرسالها ليلا في حال الزوجية. إذا تقرر هذا: فنقل المزني في بعض النسخ: ولأهل الذمية أن ينقلوها من بيتها. قال أصحابنا: هذا غير صحيح، إنما قال الشافعي: (ولأهل الأمة أن ينقلوها) ، وإنما صحفه المزني. وإن وطئ الرجل امرأة بشبهة، فاعتدت عنه، أو نكحها نكاحا فاسدا ووطئها، ففرق بينهما.. لم تجب عليه لها السكنى؛ لأنه لا حرمة بينهما. وإن مات عن الصغيرة التي في المهد.. فهل تجب لها السكنى؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإنابة "] : الأصح: أنه تجب لها، كالبالغة. والثاني: لا تجب لها، وبه قال أبو حنيفة. [مسألة وجوب سكن المطلقة في بيت الزوجية] وإذا طلقت المرأة وهي في مسكن للزوج، بملك، أو إجارة، أو إعارة، وهو مما يصلح لسكنى مثلها.. وجب سكناها فيه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] . فإن أراد الزوج نقلها عنه إلى غيره، أو طلبت أن تنتقل عنه، أو اتفقا على ذلك من غير عذر.. لم يجز؛ لأن الله نهى الأزواج عن إخراجهن، ونهاهن عن الخروج من بيوتهن، وأراد به: بيوت سكناهن. إذا ثبت هذا: فإن سكناها معتبر بحالها. فإن كانت ذات جهاز وجوار، فلا تسعها الدار الصغيرة.. فعلى الزوج إسكانها في دار تسعها. وإن كانت فقيرة ولا جهاز لها ولا جوار.. فتكفيها الدار الصغيرة؛ لأن الله سبحانه أمر بالسكنى ولم يبين قدره، فينبغي أن يكون الرجوع فيه إلى العرف والعادة، والعرف والعادة تختلف في ذلك باختلاف حالها، فيرجع في ذلك إليه. ولا تعتبر سكناها في حال الزوجية؛ لأنه قد يسكنها في حال الزوجية بدون سكنى مثلها، وترضى هي بذلك، فلا يلزمها ذلك في العدة، وقد يسكنها في حال الزوجية بدار أكبر من سكنى مثلها ويتطوع بذلك، ولا يلزمه ذلك في العدة. فإذا تقرر هذا: فإن كانت الدار التي كانت ساكنة فيها وقت الطلاق سكنى مثلها. وجب سكناها فيه، وإن كانت دون سكنى مثلها، فإن رضيت به.. فلا كلام، وإن لم ترض به.. فعليه أن يسكنها في سكنى مثلها، فإن أمكنه أن يضم إلى الموضع الذي هي فيه ساكنة حجرة بجنبه، وكان ذلك سكنى مثلها.. فعل ذلك، وإن لم يمكنه ذلك.. نقلها إلى سكنى مثلها بأقرب المواضع إلى الدار التي كانت ساكنة فيها. وإن كانت الدار فوق سكنى مثلها، وأراد الزوج أن يسكن هو فيما زاد على سكنى مثلها.. نظرت: فإن كان في الدار حجرة، وبين الدار والحجرة باب يغلق ويفتح، والدار أو

الحجرة سكنى مثلها.. فللزوج أن يسكنها في الدار، ويسكن هو في الحجرة، أو يسكنها في الحجرة ويسكن هو في الدار؛ لأنهما كالدارين المتلاصقتين. وإن لم يكن في الدار حجرة، ولكن للدار علو وسفل، يصلح كل واحد منهما لسكنى مثلها، وبينهما باب.. فللزوج أن يسكنها في أحدهما، ويسكن هو في الآخر، كالدارين المتلاصقتين. والأولى: أن يسكنها في العلو؛ لئلا يستطلع عليها. وإن لم يكن للدار علو وسفل، ولكنها دار كبيرة ذات بيوت، كالخانات التي ينفرد كل بيت منها بطريق وغلق، والمرأة ممن يسكن مثلها في مثل هذه البيوت.. فإنها تسكن في بيت منها، وللزوج أن يسكن في بيت منها؛ لأن هذه الدار كالدور والمحلة التي تجمع الدور. وإن لم تكن الدار كذلك، ولكنها مسكن واحد، فإن لم يكن فيها إلا بيت واحد.. فليس للزوج أن يسكن معها، بل ينتقل عنها، سواء كان معها محرم أو لم يكن؛ لأنه يحرم عليه الاجتماع معها. وإن كان في الدار بيتان أو ثلاثة أو أكثر، وليس بينها حاجز وغلق، ويكفيها أن تسكن في بيت منها، وأراد الزوج أن يسكن في بيت من هذه الدار، وتسكن هي في الآخر، فإن لم يكن معها محرم لها.. لم يجز للزوج أن يسكن معها؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخلون رجل بامرأة ليست له بمحرم، فإن ثالثهما الشيطان» ولا يؤمن أن يخلو بها في مثل ذلك. وإن كان معها محرم لها، كالأب، والابن، أو امرأة ثقة معها، ولها موضع تستتر

مسألة طلقها وهي في مسكنه وأراد بيعه

به عن الزوج.. جاز أن يسكن معها؛ لأنه يؤمن أن يخلو بها، وهل يعتبر أن يكون المحرم لها بالغا؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: يعتبر أن يكون بالغا؛ لأن من دون البالغ ليس بمكلف، فلا يلزمه إنكار الفاحشة. و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا يعتبر أن يكون بالغا، بل إذا كان مراهقا عاقلا.. جاز؛ لأن الغرض أن لا يخلو الرجل بالمرأة، وذلك لا يوجد مع كون المراهق العاقل معها. وإن حجز بين البيتين بحاجز من طين، أو خشب، أو قصب.. جاز أن يسكن معها؛ لأنهما يصيران كالدارين المتجاورتين. [مسألة طلقها وهي في مسكنه وأراد بيعه] ] : وإذا طلقها الزوج وهي في مسكن للزوج يملكه، فإن أراد بيعه قبل انقضاء عدتها.. نظرت: فإن كانت عدتها بوضع الحمل أو بالأقراء.. لم يصح بيعه، قولا واحدا؛ لأنها تستحق السكنى في الدار مدة عدتها، ومدة الوضع والأقراء مجهولة، فيصير كما لو باع دارا، واستثنى منفعتها مدة مجهولة. وإن كانت عدتها بالشهور.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هل يصح البيع؟ فيه قولان، كبيع الدار المستأجرة قبل انقضاء مدة الإجارة، ولم يذكر المسعودي [في " الإبانة "] غير هذا. ومنهم من قال: لا يصح البيع، قولا واحدا؛ لأنا لو جوزنا هذا البيع.. لكان في معنى من باع عينا واستثنى منفعتها مدة؛ لأن المنفعة هنا للزوج، بدليل: أن المرأة لو ماتت قبل انقضاء عدتها.. لكانت سكنى الدار ترجع إلى الزوج، وليس كذلك الدار المستأجرة، فإن المنفعة فيها للمستأجر، فلا يكون في معنى من باع دارا واستثنى منفعتها مدة.

فرع طلق ثم أفلس وحجرعليه

[فرع طلق ثم أفلس وحجرعليه] فرع: [طلق ثم أفلس وحجر عليه] : وإن طلق الرجل زوجته، ثم أفلس وحجر عليه.. كانت المرأة أحق بسكنى الدار من سائر الغرماء؛ لأن حق الزوجة تعلق بعين الدار بالطلاق، وحقوق الغرماء متعلقة بذمة المفلس، فكان حقها أقوى، فقدمت، كما لو رهن عينا من ماله، ثم أفلس. فإن باع الحاكم الدار لحق الغرماء قبل انقضاء مدة العدة.. فهو كما لو باعها المالك، على ما مضى في التي قبلها. وإن أفلس الزوج وحجر عليه، ثم طلق زوجته.. فإنها لا تقدم على الغرماء بالمسكن؛ لأن حقها مساوٍ لحقوقهم؛ لأن سبب حقها الزوجية، وذلك موجود قبل الحجر، فتضارب الغرماء في أجرة سكناها مدة العدة. فإن كانت عدتها بالشهور.. فإنها تضرب معهم بأجرة دار تصلح لسكنى مثلها ثلاثة أشهر، فإن كانت أجرته - مثلا - في ثلاثة أشهر ثلاثمائة درهم.. ضربت معهم بثلاثمائة، وإن كان ماله مثل ثلث ديونه.. فإن الذي يخصها مائة درهم، فتأخذها وتستأجر بها الدار التي كانت ساكنة فيها وقت الطلاق إن أمكنها استئجارها، وإن لم يمكنها استئجارها.. استأجرت دارا تصلح لسكنى مثلها بأقرب المواضع إليها، فإذا استأجرت بالمائة سكنى مثلها شهرا، وانقضت مدة الإجارة.. فلها أن تسكن باقي مدة العدة في أي موضع شاءت؛ لأن الإسكان من جهة الزوج قد تعذر، ويكون باقي أجرة سكناها - وهو المائتان - دينا لها في ذمة الزوج إلى أن يوسر، كسائر ديون الغرماء. وإن كانت عدتها بالأقراء أو بوضع الحمل، فإن كانت لها عادة فيما تنقضي به عدتها من الأقراء أو الحمل.. فإنها تضارب الغرماء بأجرة مسكن مثلها في مثل تلك المدة التي جرت عادتها بانقضاء عدتها فيها، فإن كانت أجرة مسكن مثلها في زمان عدتها ثلاثمائة، وكان ماله مثل ثلث ديونه.. فإن الذي يخصها مائة، فتأخذها من ماله، وتستأجر بها الدار التي كانت ساكنة بها إن أمكن، وإن تعذر استئجارها.. استأجرت دارا تصلح لمثلها بأقرب المواضع إليها. وإن لم تنقض عدتها إلا في وقت عادتها.. فإنها لا ترجع على الغرماء بشيء،

ولا يرجعون بشيء مما خصها، بل إذا انقضت المدة التي استأجرت بها الدار مما خصها من مال الزوج.. انتقلت إلى حيث شاءت، وكان باقي أجرة مسكنها دينا لها في ذمة الزوج إلى أن يوسر. وإن انقضت عدتها بأقل من عادتها، مثل: أن كانت عادتها أن عدتها تنقضي بثلاثة أشهر، وأجرة مسكن مثلها فيها بثلاثمائة، وماله ثلث ديونه، فخصها مائة، فأخذتها، ثم انقضت عدتها بشهرين، فإذا تبين أن الذي كانت تضرب به مائتان.. فترد ثلث المائة - وهو: ثلاثة وثلاثون درهما وثلث درهم - ويقسم ذلك بينها وبين الغرماء على قدر ديونهم؛ لأنه كمال ظهر للمفلس. وإن زادت مدة عدتها على قدر عادتها، بأن لم تنقض عدتها إلا لستة أشهر.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها ترجع على الغرماء، فتأخذ مما في أيديهم على قدر ما لو ضربت معهم بستمائة درهم؛ لأنه بان أن الذي يستحق الضرب به هو ذلك، فرجعت عليهم كما يرجعون عليها إذا انقضت عدتها، وكما لو ظهر للمفلس غريم آخر. والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنها لا ترجع على الغرماء بشيء؛ لأن الذي استحق الضرب به - وهو ذلك القدر مع تجويز أن يكون لها - أكثر منه، فلم يجز نقض القسمة بأمر كان موجودا حال القسمة. والثالث: إن كانت عدتها بالأقراء.. لم تضرب معهم بالزيادة؛ لأن الزيادة لا تعلم إلا بقولها، ولا يجوز أن تستحق بقولها حقا على غيرها، وإن كانت عدتها بالحمل.. ضربت بالزيادة؛ لأن الزيادة تعلم بالبينة، فجاز لها الرجوع بالبينة. وإن لم تكن لها عادة فيما تنقضي به عدتها.. فإنها تضرب مع الغرماء بأجرة مثل مسكنها في أقل مدة تنقضي بها العدة، فإن كانت عدتها بالأقراء.. ضربت بأجرة مثل مسكنها اثنين وثلاثين يوما ولحظتين، وإن كانت عدتها بالحمل.. ضربت بأجرة مثل مسكنها ستة أشهر؛ لأن ذلك يقين، فإن انقضت عدتها بذلك.. فلا كلام، وإن أسقطت ما تنقضي به العدة لأقل من ستة أشهر.. ردت الفضل على الغرماء، كما قلنا

فرع طلقها في مسكنها

إذا انقضت عدتها في أقل من عادتها التي ضربت بها مع الغرماء. ولا يأتي في الأقراء أن تنقضي عدتها بأقل من اثنين وثلاثين يوما ولحظتين. وإن زادت عدتها في الأقراء أو في الحمل على أقل المدة فيهما.. فهل تستحق الرجوع على الغرماء بالزيادة؟ على الأوجه الثلاثة إذا زادت عدتها على قدر عادتها. فإن قيل: إذا جوزتم لها أن تضرب مع الغرماء بأجرة مسكنها مدة عادتها أو أقل مدة تنقضي بها العدة.. فهلا قلتم: إنها تستحق السكنى في المنزل الذي يملكه الزوج إذا طلقها فيه بعد أن أفلس، وجوزتم بيعه لحق الغرماء في أحد القولين، كالدار المستأجرة؟ قلنا: لا نقول ذلك؛ لأن عدتها قد تزيد على ذلك، فتكون في معنى من باع دارا واستثنى منفعة مجهولة، فلم يصح. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا كانت عدتها بالحمل.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو الأصح -: أنها تضرب بغالب مدة الحمل. والثاني: بأجرة أقل مدة الحمل. وإن كانت بالأقراء ولا عادة لها.. ضربت بأجرة أقل مدة تنقضي بها العدة، وإن كان لها عادة.. فوجهان: الصحيح: تضرب بأجرة عادتها. والثاني: بأقل مدة تنقضي بها الأقراء. [فرع طلقها في مسكنها] وإن طلقها وهي في مسكن لها.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو إسحاق: يلزمها أن تعتد فيه؛ لأنه مسكن وجبت فيه العدة، ولها أن تطالبه بأجرة المسكن؛ لأن سكناها عليه. وقال ابن الصباغ: وإن أقامت فيه بإجارة أو إعارة.. جاز.

مسألة سكنى معتدة الوفاة

وإن طلبت أن يسكنها في غيره.. لزمه: لأنه ليس عليها أن تؤاجره ملكها، ولا تعيره. [مسألة سكنى معتدة الوفاة] ] : وأما المتوفى عنها زوجها: فهل تجب لها السكنى في مدة عدتها؟ فيه قولان: أحدهما: لا تجب لها السكنى، وبه قال علي، وابن عباس، وعائشة، وهو اختيار المزني؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] [البقرة: 234] . فذكر العدة ولم يذكر السكنى، ولو كانت واجبة.. لذكرها. ولأنها لا تجب لها النفقة بالإجماع، فلم تجب لها السكنى، كما لو وطئها بشبهة. والثاني: تجب لها السكنى، وبه قال عمر، وابن عمر، وابن مسعود، وأم سلمة، ومن الفقهاء: مالك، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وهو الصحيح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] [البقرة: 240] . فذكر الله تعالى في هذه الآية أحكاما، منها: أن المتوفى عنها لا تخرج من منزلها. وأن العدة حول. وأن لها النفقة والوصية. فنسخت العدة فيما زاد على أربعة أشهر وعشر بالآية الأولى، ونسخت النفقة بآية الميراث، وبقيت السكنى على ظاهر الآية، بدليل: ما روي «عن فريعة بنت مالك: أنها قالت: أتيت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقلت: يا رسول الله، إن زوجي خرج في طلب عبيد له هربوا، فلما وجدهم.. قتلوه، ولم يترك لي منزلا، أفأنتقل إلى أهلي؟ فقال لها: " نعم "، ثم دعاها قبل أن تخرج من الحجرة، فقال: " اعتدي في البيت الذي أتاك فيه وفاة زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله أربعة أشهر وعشرا» . ولأنها معتدة عن نكاح صحيح، فوجب لها السكنى، كالمطلقة.

فأما الآية الأولى: فلا حجة فيها؛ لأنه قد ذكر السكنى في الآية المنزلة بعدها. فإن قيل: فما معنى قولها: (ولم يترك لي منزلا) ؟ قيل: معناه: ولم يترك لي منزلا يملك عينه، أو يملك منفعته بإجارة، وإنما كانت في منزل مستعار. وإذا رضي المعير بسكناها فيه.. وجب عليها السكنى فيه. فإن قيل: فلم ينقل أنهم رضوا بسكناها فيه؟ قيل: أمر النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها أن تسكن فيه يدل على: أنهم قد رضوا: لأنه لا يجوز أن يأمر بما لا يجوز. وأما إذن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها بالانتقال عن البيت الذي كانت ساكنة فيه، ثم أمره لها بالاعتداد فيه.. فله تأويلان: أحدهما: يحتمل أن يكون النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لها بالخروج عنه ساهيا، فذكر، فرجع. والسهو يجوز على النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما لا يقر عليه. والثاني: يحتمل أن يكون أفتاها بالفتوى الأولى على ظاهر ذهب إليه، ثم بان له في الباطن خلافه، فرجع إليه، كما روي: أنه «أقطع الأبيض بن حمال ملح مأرب، فقيل له: يا رسول الله، إنه كالماء العد، فقال: " فلا إذن» .

فرع طلقها بائنا ثم مات في العدة

فإن قلنا: يجب لها السكنى: فإن مات وهي في مسكن لزوج بملك أو إجارة.. وجب عليها السكنى فيه. وإن كانت في مسكن مستعار، ورضي المعير بسكناها فيه.. وجب عليها السكنى فيه، وإن لم تكن في مسكن للزوج، وكان للزوج تركة.. استؤجر لها من تركة الزوج مسكن يصلح لسكنى مثلها في أقرب المواضع إلى حيث أسكنها الزوج، ويقدم ذلك على الوصية والميراث. وإن كان على الميت دين يستغرق تركته.. زاحمتهم بأجرة مسكنها على ما ذكرناه في المطلقة. قال الشيخ أبو إسحاق: فإن لم يكن للزوج مسكن.. فعلى السلطان سكناها؛ لما في عدتها من حق الله. وإن قلنا: لا يجب لها السكنى، فإن تطوع الورثة بإسكانها لتحصين ماء الزوج.. وجب عليها أن تسكن حيث أسكنوها إذا كان يصلح لسكنى مثلها، وإن لم يتطوعوا، ورأى السلطان من المصلحة أن يكتري لها مسكنا من بيت المال، لتحصين ماء الميت.. كان له ذلك؛ لأن ذلك مصلحة، وإذا بذل لها ذلك.. وجب عليها السكنى فيه؛ لأن ذلك يتعلق به حفظ نسب الميت. وإن لم يتطوع الورثة ولا السلطان بإسكانها.. فلها أن تسكن حيث شاءت. [فرع طلقها بائنا ثم مات في العدة] وإن طلق الرجل امرأته طلاقا بائنا، ثم مات عنها في أثناء العدة.. وجب إسكانها، قولا واحدا؛ لأنها قد استحقت السكنى على الزوج بالطلاق قبل الموت، فلم يسقط ذلك بموته، كالدين.

مسألة أسكنها دارا ثم أمرها بالانتقال عنها وطلقها فيها

فإن مات الزوج وهي في دار يملكها الزوج.. كانت أحق بسكناها إلى أن تنقضي عدتها. فإن أراد الورثة أن يبيعوا هذه الدار قبل انقضاء عدتها.. فهو كما لو أراد الزوج بيعها قبل انقضاء عدتها، وقد مضى ذكره. وإن أرادوا قسمتها بينهم قسمة يكون فيها نقض بناء وإحداث ما يضيق عليها.. لم يكن لهم ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] . وإن كانت قسمة لا يحصل بها عليها تضييق، وإنما ميزوا بالقول لكل واحد منهم موضعا من الدار، واقترعوا عليه، أو تراضوا به من غير قرعة.. فهل يصح ما فعلوه؟ إن قلنا: إن القسمة تمييز الحقين.. صح ذلك، ولزم. وإن قلنا: إن القسمة بيع.. فهو كما لو باعوها، وقد مضى ذكره. وهكذا: الحكم في المتوفى عنها زوجها إذا قلنا: إنها تستحق السكنى، فمات وهي في دار يملكها الزوج، وأراد ورثته قسمتها بينهم قبل انقضاء عدتها. [مسألة أسكنها دارا ثم أمرها بالانتقال عنها وطلقها فيها] إذا الزوج امرأته في دار، ثم أمرها بالانتقال عنها إلى دار أخرى، فانتقلت وطلقها أو مات عنها.. وجب عليها أن تعتد في الثانية؛ لأنها قد صارت مسكنا لها. وإن أمرها بالانتقال إلى الثانية، فطلقها أو مات عنها قبل أن تنتقل عن الأولى.. كان عليها أن تعتد في الأولى؛ لأنها مسكنها وقت وجوب العدة، وليس للزوج أن ينقلها إلى الثانية، ولا لها أن تنتقل عنها بأمره الأول.

مسألة أذن لها بسفر ثم طلقها

وإن خرجت من الأولى، فطلقها أو مات عنها وهي بين الأولى والثانية.. ففيه وجهان: أحدهما: أنها بالخيار: بين أن ترجع إلى الأولى، فتعتد فيها؛ لأنها لم تحصل في الثانية، وبين أن تمضي إلى الثانية، فتعتد فيها؛ لأنه قد أمرها بالانتقال إليها. والثاني: لا يجوز لها أن ترجع إلى الأولى، بل يلزمها أن تصير إلى الثانية، وتعتد فيها، وهو الأصح؛ لأنها منهية عن المقام في الأولى، وقد فارقتها مأمورة بالإقامة في الثانية. إذا ثبت هذا: فإن الاعتبار بانتقالها هو انتقالها ببدنها دون قماشها وخدمها، فمتى انتقلت ببدنها إلى الثانية.. فقد صارت مسكنا لها. وإن كان متاعها وقماشها في الأولى، فإن نقلت قماشها ومتاعها إلى الثانية، وبقيت في الأولى، فطلقها أو مات عنها.. فمسكنها الأولى. وقال أبو حنيفة: (الاعتبار ببدنها وقماشها ومتاعها) . دليلنا: أن الاعتبار بالسكنى بالبدن، بدليل: قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور: 29] [النور: 29] . فسماها غير مسكونة، وإن كان فيها متاعهم. إذا ثبت هذا: فإن انتقلت ببدنها إلى الثانية، ثم رجعت إلى الأولى لنقل قماشها أو متاعها، ثم طلقها أو مات عنها وهي في الأولى.. فمسكنها الثانية؛ لأنها قد صارت مسكنا لها لانتقالها إليها ببدنها، وإنما رجعت إلى الأولى لحاجة. [مسألة أذن لها بسفر ثم طلقها] وإن أذن لها في السفر إلى بلد، ثم طلقها أو مات عنها، وهي في مسكنها لم تخرج ببدنها منه.. فعليها أن تعتد فيه، سواء أخرجت قماشها أو لم تخرجه؛ لأن الاعتبار ببدنها.

وإن خرجت من مسكنها، ولم تفارق بنيان البلد، إلا أنها في موضع تجتمع فيه القافلة، ثم يخرجون، ثم طلقها أو مات عنها.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق -: أن عليها أن تعود إلى منزلها، وتعتد فيه؛ لأنها إذا لم تفارق البنيان.. فهي في حكم ما لو لم تفارق منزلها، بدليل: أنه لا يجوز لها الترخص بشيء من رخص المسافر. والثاني - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أن لها أن تعود إلى منزلها، وتعتد فيه، ولها أن تمضي في سفرها؛ لأن مزايلتها لمنزلها بإذن الزوج يسقط عنها حكم المنزل في الإقامة فيه. وإن فارقت بنيان البلد، ثم طلقها أو مات عنها قبل أن تصل إلى البلدة الثانية؛ فإن كان قد أمرها بالانتقال إلى البلد الثانية.. ففيه وجهان، كما لو أمرها بالانتقال من إحدى الدارين إلى الأخرى، فطلقها أو مات عنها وهي بينهما: أحدهما: أنها بالخيار: بين أن ترجع إلى مسكنها في البلد الذي انتقلت عنه، وبين أن تنتقل إلى البلدة الثانية. والثاني: يلزمها الانتقال إلى البلدة الثانية. وإن كان السفر إلى البلد الثانية لا للنقلة، ولكن للحاجة، أو لزيارة، أو لنزهة.. فهي بالخيار: بين أن ترجع إلى مسكنها في البلد الذي انتقلت عنه، وبين أن تمضي في سفرها؛ لأنها ربما بلغت موضعا يشق عليها العود منه والانقطاع عن الرفقة، فيجوز لها النفور في السفر. فإذا رجعت إلى مسكنها، واعتدت فيه.. فلا كلام. وإن مضت في سفرها، أو طلقها، أو مات عنها بعد أن بلغت مقصدها، فإن كان سفرها للنقلة في البلد الثانية.. فعليها أن تعتد في البلد الثانية. وإن كان سفرها للنزهة أو للزيارة، ولم يقدر لها مدة.. فلها أن تقيم ثلاثة أيام، ولا تقيم أكثر من ذلك؛ لأنه

إنما أذن لها في السفر دون الإقامة، والإقامة في الثلاث ليست بإقامة، وما زاد عليها فإقامة، بدليل: أن المسافر إذا نوى الإقامة ثلاثا.. لم تنقطع رخص السفر، فإن أقام أربعا.. انقطعت رخص السفر. وإن كان سفرها لحاجة أو تجارة.. فقال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: لها أن تقيم إلى أن تقضي حاجتها. وقال الشيخ أبو حامد: لا تقيم أكثر من ثلاثة أيام. وإن أذن لها في السفر لنزهة أو لزيارة، وأذن لها أن تقيم في البلد الثانية أكثر من ثلاثة أيام.. ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز لها أن تقيم فيه أكثر من ثلاثة أيام؛ لأنه لم يجعل الثانية مسكنا لها، وإنما أذن لها في المقام فيها، وذلك لا يقتضي أكثر من إقامة السفر. والثاني: يجوز لها أن تقيم فيها المدة التي أذن لها بالإقامة فيها، وهو الأصح؛ لأنه أذن لها فيها، فهو كما لو أمرها بالانتقال إليها. إذا ثبت هذا: فقضت حاجتها، أو أقامت المدة التي جوزناها لها، فإن كان الطريق مخوفا لا يمكنها أن تعود إلى البلد الأولى، أو لم تجد رفقة تسافر معها.. لم يلزمها العود إلى الأولى، بل تتم عدتها في البلد الثانية، وإذا كان الطريق آمنا، وأمكنها الرجوع إلى الأولى.. نظرت: فإن علمت أنها متى عادت إلى الأولى.. أمكنها أن تقضي بعض عدتها في البلد الأولى.. لزمها أن تعود إلى البلد الأولى، وتتم عدتها فيها. وإن كانت تعلم أن عدتها تنقضي قبل أن تبلغ البلد الأولى.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يلزمها العود إليها؛ لأنه لا فائدة فيه. والثاني: يلزمها العود إليها، وهو الأصح؛ لأنه غير مأذون لها في الإقامة في البلد الثانية، ولأن ذلك أقرب إلى البلد المأذون لها في الإقامة به. وهذا الحكم فيه إذا أذن لها في السفر. قال الشيخ أبو حامد: فأما إذا سافر بها، ثم طلقها: فإنه يجب عليها أن تعود إلى بلدها، وتعتد فيه، ولا يجوز لها النفور في السفر؛ لأنه إنما أذن لها في أن تكون معه

مسألة أذن لها بالإحرام ثم طلقها

ولا تفارقه، فإذا طلقها.. فقد وقعت الفرقة، وانفرادها في السفر غير مأذون لها فيه، فلزمها الرجوع والاعتداد في بلدها. إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (ولو أذن لها في زيارة أهلها أو لنزهة.. فعليها أن ترجع؛ لأن الزيارة ليست مقاما) . ولا يختلف أصحابنا أنه إذا أذن لها في السفر لنزهة أو زيارة أهلها، فطلقها بعد أن فارقت البنيان.. فهي بالخيار: بين أن تمضي في سفرها، وبين أن تعود، على ما مضى. واختلف أصحابنا في تأويل كلام الشافعي: فقال أبو إسحاق: تأويله: إذا أذن لها في السفر لنزهة، أو زيارة إلى البلد، أو إلى مسافة لا تقصر إليها الصلاة من البلد، ثم طلقها.. فعليها أن ترجع إلى البلد؛ لأنها في حكم المقيمة، بدليل: أنها لا تترخص بشيء من رخص السفر، فهو كما لو طلقها قبل أن تفارق البنيان، بخلاف ما لو أذن لها في السفر كذلك إلى بلد تقصر إليها الصلاة؛ لأن عليها مشقة في العود بعد الخروج عن البلد. وقال الشيخ أبو حامد: هذا التأويل غير صحيح، والتأويل عندي: أنها لا تقيم بعد الثلاث، وأما الثلاث: فلها أن تقيم فيها، وإنما قصد الشافعي بهذا: أن يفرق بين السفر للنزهة وللزيارة، وبين السفر للإقامة، والإقامة مدة. [مسألة أذن لها بالإحرام ثم طلقها] وإذا أذن الرجل لزوجته أن تحرم بالحج أو العمرة، فأحرمت، ثم طلقها وهي محرمة، قال الشيخ أبو حامد: فإن كان الوقت ضيقا، بحيث إذا أقامت حتى تنقضي العدة، فاتها الحج.. لزمها أن تمضي على حجها، وإن كان الوقت واسعا.. فهي بالخيار: إن شاءت.. مضت في الحج، وإن شاءت.. أقامت حتى تنقضي العدة. وذكر الشيخ أبو إسحاق: إذا لم تخش فوات الحج إذا قعدت للعدة.. لزمها أن تقعد للعدة، ثم تحج.

مسألة مسكن البدوية كأهلها

وقال أبو حنيفة: (يجب عليها أن تقيم حتى تقضي عدتها وإن خافت فوات الحج) . دليلنا: أنهما عبادتان استويتا في الوجوب، وتضيق وقت إحداهما، فوجب تقديم السابقة منهما. وإن طلقها، ثم أحرمت بالحج أو العمرة.. فعليها أن تقيم لقضاء العدة؛ لأن وجوبها أسبق، فإذا انقضت عدتها، فإن كانت قد أحرمت بالعمرة.. فإنها لا تفوت، فتتمها بعد انقضاء العدة، وإن كانت قد أحرمت بالحج، فإن كان الوقت واسعا، بحيث يمكنها أن تمضي وتدركه.. مضت عليه، وإن ضاق الوقت، وفات الحج.. تحللت بعمل عمرة، وقضت الحج من قابل. قال في " الأم ": (ولو كان أذن لها في الخروج إلى الحج، ثم طلقها قبل أن تحرم.. لم يجز لها أن تحرم، فإن أحرمت.. كان عليها أن تقعد للعدة؛ لأنها وجبت قبل حصول الإحرام، فأشبه إذا لم يأذن) . [مسألة مسكن البدوية كأهلها] قال الشافعي: (وتتبوأ البدوية حيث يتبوأ أهلها) . وجملة ذلك: أن البدوية إذا طلقت وهي مقيمة في حيها.. فإنها تعتد في بيتها الذي تسكنه؛ لأنه منزل إقامتها، فهو كمنزل الحضرية، فإن انتقل أهل الحي.. ففيه أربع مسائل: إحداهن: أن ينتقل جميع أهل الحي إلى موضع آخر.. فإنها تنتقل معهم إلى حيث انتقلوا، وتتم عدتها فيه، كما لو كانت مقيمة في قرية، وانتقل أهل القرية إلى قرية أخرى.. فإنها تنتقل معهم. الثانية: أن ينتقل بعض أهل الحي، وكان أهلها مع المقيمين، وكان فيمن بقي منعة، فإنه لا يجوز لها أن تنتقل عن موضعها؛ لأنه لا ضرر عليها في الإقامة، فهو كما لو انتقل بعض أهل القرية، وفيمن بقي منعة.. فإنه لا يجوز لها أن تنتقل.

مسألة طلق ملاح زوجته في السفينة

الثالثة: أن ينتقل أهلها، ويبقى بعض أهل الحي وفيهم منعة.. فهي بالخيار: إن شاءت.. أقامت مع من بقي؛ لأن فيهم منعة، وإن شاءت.. انتقلت مع أهلها؛ لأن عليها وحشة وضررا لمفارقة أهلها، فجاز لها الانتقال معهم. الرابعة: أن يهرب أهلها عن الموضع خوفا من سلطان أو عدو، وغيرهم من أهل الحي مقيمون، فإن كانت تخاف ما يخاف أهلها.. فلها أن ترتحل مع أهلها، وإن كانت لا تخاف.. لم يجز لها الانتقال؛ لأن أهلها لم ينتقلوا هاهنا، وإنما هربوا ومساكنهم باقية، ولا تخاف هي ما يخافون، فلم يكن لها عذر في الانتقال، ويفارق إذا انتقل أهلها بغير الخوف؛ لأنهم قد انتقلوا عن الحي، ولم يبق لهم مسكن يرجى عودتهم إليه، فكان لها الانتقال معهم؛ لأنها تستوحش بمفارقتهم. [مسألة طلق ملاح زوجته في السفينة] ] : إذا طلق الملاح امرأته وهي معه في السفينة، فإن كان لها مسكن في البر تأوي إليه وقت الإقامة، وإنما تكون في السفينة وقت السفر.. قال الشيخ أبو حامد: فهي مسافرة مع الزوج، فتكون بالخيار: إن شاءت.. رجعت إلى مسكنها في البر، واعتدت فيه، وإن شاءت.. سافرت، فإذا بلغت إلى الموضع الذي قصدته.. أقامت مقام المسافر، ثم رجعت إلى مسكنها في البر، وأكملت عدتها فيه. وإن لم يكن لها مسكن إلا في السفينة، فإن كان في السفينة بيوت وحواجز يمكنها أن تسكن في بيت منها، بحيث لا يخلو بها أحد، ولا يقع عليها بصر الزوج.. فعليها أن تسكن فيها إلى أن تنقضي عدتها؛ لأنها كالبيوت في الخان، وإن لم يكن فيها بيوت.. نظرت: فإن كان معها محرم لها، ويمكنه القيام بأمر السفينة.. فعلى الزوج أن يخرج من السفينة حتى تنقضي عدتها في السفينة، كما لو طلقها في دار ليس فيها إلا بيت واحد. وإن لم يكن معها محرم لها، أو كان معها محرم لها ولكنه لا يمكنه القيام بأمر السفينة.. فعلى الزوج أن يكتري لها موضعا بالقرب من ذلك الموضع تعتد فيه؛ لأن هذا موضع ضرورة.

مسألة يكترى على الزوج لمسكنها

[مسألة يكترى على الزوج لمسكنها] قَالَ الشَّافِعِيُّ: (وَيُكْتَرَى عَلَيْهِ إِذَا غَابَ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ فِي غَيْرِ مَسْكَن له، بملك، أو إجارة، أو إعارة.. فعليه أن يكتري لها مسكنا تسكنه، إن كان حاضرا، وتعتد فيه، وإن كان غائبا.. فعلى الحاكم أن يكتري لها مسكنا من مال الزوج تعتد فيه، وإن لم يجد له مالا.. اقترض عليه الحاكم، واكترى لها مسكنا؛ لأن الحاكم يقضي عن الغائب ما لزمه من الحق، وهذا حق لازم عليه. وإن أذن لها الحاكم أن تقترض عليه، وتكتري به، أو أذن لها أن تكتري بشيء من مالها قرضا عليه.. صح ذلك، وكان ذلك دينا على الزوج ترجع به عليه، إلا أن الحاكم إذا اكترى لها بنفسه.. اكترى لها حيث شاء، وإن اكترت لنفسها بإذن الحاكم.. اكترت حيث شاءت. وإن اكترت لنفسها مسكنا من غير إذن الحاكم، فإن كانت تقدر على إذن الحاكم.. لم ترجع بذلك على الزوج؛ لأنها تطوعت على الزوج بذلك، وإن لم تقدر على إذن الحاكم.. فهل ترجع؟ فيه وجهان، كالوجهين في الجمال إذا هرب. [فرع تأويل كلام الشافعي في التطوع السكنى] قال الشافعي: (ولا نعلم أحدا بالمدينة فيما مضى اكترى منزلا، وإنما كانوا يتطوعون بإنزال منازلهم) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا الكلام: فمنهم من قال: عطف الشافعي بهذا على التي قبلها، وهو إذا طلقها وهي في غير مسكن له وكان غائبا، فقد ذكرنا: أن الحاكم يكتري لها منزلا تعتد فيه، وهذا إذا لم يجد الحاكم من يتطوع بعارية منزل تعتد فيه، فأما إذا وجد من يتطوع بعارية منزل: لم يكتر لها، كما قلنا في الإمام لا يبذل على الأذان عوضا إذا وجد من يتطوع به. فعلى هذا: إن بذل لها باذل منزلا تسكنه.. لم يلزمها القبول؛ لأن عليها منة في

فرع طلقها في غير مسكن له

ذلك، ولكن يقبل ذلك الزوج أو يقبله الحاكم له إن كان غائبا، إلا إن كانت في منزل مستعار لزوج، فأقرها المعير فيه.. فعليها أن تعتد فيه؛ لأن المنة فيه على الزوج لا عليها. ومنهم من قال: إنما قال ذلك جوابا على سؤال يتوجه على كلامه، كأنه قال: ويكتري الحاكم عليه، فإن قيل: فإن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكتر لفاطمة بنت قيس منزلا، وإنما أنزلها عند ابن أم مكتوم.. فأجاب عن ذلك بأن أهل المدينة لا يكرون منازلهم. ومنهم من قال: هذا رد على مالك، وأبي حنيفة، حيث قالا: (لا تكترى دور مكة) ، واحتجا: بأن أهل مكة كانوا لا يكرون منازلهم، وإنما يعيرونها، ولو كان الكراء جائزا.. لأكروها، فأراد الشافعي كسر كلامهم، بأن أهل المدينة لا يكرون منازلهم، وإنما يعيرونها. ومع هذا فقد أجمعنا على جواز إكراء دور المدينة، فكذلك دور مكة. والأول أصح. [فرع طلقها في غير مسكن له] وإن طلق الرجل امرأته وهي في غير مسكن له، فإن طالبته بأن يكتري لها عقيب الطلاق.. فلها ذلك. وإن اكترت لنفسها وسكنت بعض مدة العدة، ثم طالبت بالكراء لما مضى.. فقد نص الشافعي على: (أن السكنى تسقط بمضي الزمان) . وقال في المرأة إذا سلمت نفسها إلى الزوج، ولم تطالبه بالنفقة حتى مضت مدة، ثم طالبته: (فلها المطالبة لما مضى وللمستقبل) . واختلف أصحابنا فيهما على طريقين: فـ[أحدهما] : منهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وجعلهما على قولين. و [الطريق الثاني] : قال أكثر أصحابنا: بل هما على ظاهرهما، فتكون لها المطالبة بنفقة ما مضى، وليس لها المطالبة بسكنى ما مضى. والفرق بينهما: أن النفقة في مقابلة الاستمتاع، فإذا سلمت نفسها.. فقد حصل

مسألة إقامة المعتدة في بيت الزوجة

للزوج التمكين من الاستمتاع، فوجب عليه في مقابلته، والسكنى في العدة تستحقه لحفظ ماء الزوج في بيت الزوج، فإذا سكنت بنفسها، فلم يحصل له حفظ مائه في بيته.. فلم تستحق ما في مقابلته، ولأن النفقة تجب على سبيل المعاوضة، فلم تسقط بمضي الزمان، والسكنى في العدة تجب لحق الله تعالى لا على سبيل المعاوضة، فسقطت بمضي الزمان. وأما نفقة المطلقة المبتوتة الحامل.. فقد نص الشافعي: (أنها لا تسقط بمضي الزمان) . واختلف أصحابنا فيها: فقال أكثرهم: لا تسقط، قولا واحدا؛ لأنها إما أن تجب لحملها أو لها، لحرمة الحمل، وليس في مقابلته حق عليها، فجرت مجرى الدين، فلم تسقط بمضي الزمان. ومنهم من قال: إذا قلنا: إنها تجب للحامل.. كانت كنفقة الزوجة، وإن قلنا: إنها تجب للحمل.. ففيه وجهان: أحدهما: تسقط بمضي الزمان، كنفقة القرابة. والثاني: لا تسقط؛ لأن حق الحامل متعلق بها؛ لأنها مصرفها، فلم تجر مجرى نفقة الأقارب. [مسألة إقامة المعتدة في بيت الزوجة] ولا يجوز للمعتدة أن تخرج من مسكنها الذي وجبت عليها فيه العدة من غير عذر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] ، ولحديث «فريعة بنت مالك: أنها قالت: أفأرجع إلى أهلي وأعتد عندهم؟ فقال لها النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اعتدي في البيت الذي أتاك فيه وفاة زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله أربعة أشهر وعشرا» . وإن وجب عليها حق، فإن أمكن استيفاء ذلك منها من غير أن تخرج، مثل: أن كان عليها دين، أو في يدها غصب، أو عارية، أو وديعة تعترف بذلك.. فإن صاحب

الحق يمضي إليها، ويأخذ منها حقه، ولا تكلف الخروج لذلك؛ لأنه لا حاجة بها إلى الخروج. وإن كان حقا لا يمكن استيفاؤه إلا بإخراجها، كحد القذف، أو القصاص، أو القطع في السرقة، أو اليمين في الدعوى، فإن كانت المرأة (برزة) وهي: التي تخرج في حوائجها، وتلقى الرجال: فإن الحاكم يستدعيها ويستوفي منها الحق، وإن كانت (غير برزة) وهي: التي لا تخرج في حوائجها.. فإن الحاكم يبعث إليها من يستوفي منها الحق في بيتها؛ لما روي: «أن الغامدية لما أتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واعترفت عنده بالزنا مرارا.. فقال لها: " امضي حتى تضعي، ثم تعودي، فعادت إليه، فأمر برجمها» . وروي: «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن ابني كان عسيفا على هذا، وإنه زنى بامرأته، فقال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " على ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمها ". فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها» .

وإنما استدعى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغامدية، لأنها كانت برزة، ولم يستدع الأخرى لأنها كانت غير برزة. وإن بذت المرأة على أهل زوجها.. أخرجت عنهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] . قال ابن عباس: (الفاحشة المبينة: أن تبذو على أهل بيت زوجها) . وقال ابن مسعود: (الفاحشة هاهنا: الزنا) . دليلنا: ما روي عن عائشة، وابن المسيب: «أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نقل فاطمة بنت قيس؛ لأنها استطالت على أحمائها» . وإن بذا عليها أهل زوجها.. نقلوا عنها؛ لأن الضرر جاء من قبلهم. وإن كان المسكن لها، فسكن معها أهل زوجها، واستطالت عليهم بلسانها.. فليس عليها أن تنتقل عنهم؛ لأن الملك والسكنى لها، لا حق للزوج فيه. وإن سكنت في مسكن للزوج، بإجارة، أو إعارة، فانقضت مدة الإجارة قبل انقضاء عدتها، وامتنع أهله أن يؤاجروه، أو طلبوا أجرة أكثر من أجرة المثل.. فلا يجب على الزوج أن يستأجره بأكثر من أجرة المثل. أو امتنع المعير من إعارته ومن إجارته بأجرة المثل.. جاز نقلها منه؛ لأن هذا موضع ضرورة. وكذلك: إذا انهدم المسكن الذي طلقت فيه، أو خيف انهدامه، أو خافت فيه من اللصوص، أو الحريق، أو غير ذلك.. جاز نقلها منه؛ لأنه إذا جاز نقلها لأجل البذاء على أحمائها.. فلأن يجوز نقلها لهذه الأعذار أولى. ولا يجوز نقلها من هذه المواضع، إلا إلى مسكن يصلح لسكناها بأقرب المواضع

إليها إذا قدر عليه الزوج، كما قلنا في الزكاة إذا لم توجد الأصناف في البلد.. فإنها تنقل إلى تلك الأصناف بأقرب البلاد إلى الموضع الذي وجبت تفريقها فيه، ولا فرق في ذلك بين المطلقة وبين المتوفى عنها زوجها. ويجوز إخراجها للضرورة ليلا ونهارا. وإن أرادت الخروج لحاجة، كشراء القطن وبيع الغزل وغير ذلك مما يقوم غيرها مقامها فيه، فإن أرادت الخروج لذلك ليلا.. لم يجز، سواء كانت متوفى عنها زوجها أو مطلقة مبتوتة؛ لما روي عن مجاهد: أنه قال: «استشهد رجال يوم أحد، فتأيم أزواجهم وكن متجاورات، فأتين النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقلن: يا رسول الله، إنا نستوحش في بيوتنا بالليل فنبيت عند إحدانا، فإذا أصبحنا.. تفرقنا إلى بيوتنا، فقال- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجتمعن وتحدثن عند إحداكن ما بدا لكن، فإذا أردتن النوم.. فلتؤب كل امرأة منكن إلى بيتها» . فإذا ثبت هذا: في المتوفى عنها زوجها.. فالمبتوتة مثلها. وإذا أرادت الخروج لذلك نهارا، فإن كانت متوفى عنها زوجها.. جاز؛ لحديث مجاهد، وإن كانت في عدة الطلاق، فإن كان الطلاق رجعيا.. فإنها في حكم الزوجات، فإن أذن لها الزوج بالخروج.. جاز لها الخروج، وإن لم يأذن لها.. لم يجز لها الخروج. وإن كان الطلاق بائنا.. ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا يجوز لها الخروج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] [الطلاق: 1] ) . و [الثاني] : قال في الجديد: (يستحب لها أن لا تخرج لذلك، فإن خرجت

له.. جاز) . وهو الأصح؛ لما روي عن «جابر قال: طلقت خالتي ثلاثا، فخرجت تجد نخلا لها، فزجرها بعض الناس، فأتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته بذلك، فقال لها النبي: " اخرجي فجدي نخلك، فلعلك أن تصدقي أو تفعلي خيرا» . وجداد النخل إنما يكون بالنهار، ونخيل المدينة حولها. ولأن عدة المتوفى عنها أغلظ، فإذا جاز لها الخروج لذلك نهارا.. فالبائن بذلك أولى. وبالله التوفيق

باب الإحداد

[باب الإحداد] (الإحداد) : هو ترك الزينة والطيب معا. يقال: أحدت المرأة تحد إحدادا، وحدت تحد حدادا. والإحداد صفة للمعتدة، وهو أمر قديم وأقر عليه الإسلام. والمعتدات ثلاث: معتدة يجب عليها الإحداد قولا واحدا. ومعتدة لا يجب عليها الإحداد قولا واحدا. ومعتدة اختلف فيها قول الشافعي. فأما المعتدة التي يجب عليها الإحداد قولا واحدا: فهي المتوفى عنها زوجها، وهو قول كافة العلماء، إلا الحسن البصري، فإنه قال: لا يجب عليها الإحداد. دليلنا: ما روي عن زينب بنت أبي سلمة: أنها قالت: دخلت على أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب حين توفي أبوها أبو سفيان، فدعت بطيب فيه خلوق، فأخذت منه ودلكته بعارضيها، وقالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله وباليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» .

قالت زينب: ودخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها عبد الله بن جحش، فدعت بطيب، فمست منه، وقالت: والله ما لي إلى الطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على المنبر: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله وباليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» . وقالت زينب بنت أبي سلمة: وسمعت أمي - أم سلمة - تقول: «جاءت امرأة إلى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينيها، أفنكحلها؟ فقال النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا " مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: " لا، إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن ترمي بالبعرة في رأس الحول» . فقيل لزينب: ما ترمي بالبعرة؟ فقالت: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا، ولبست شر ثيابها، ومكثت حولا، ثم تخرج في رأس الحول، فتؤتى بدابة - حمار أو شاة - فتفتض [به] ، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم ترمي بالبعرة. و (الحفش) هو: البيت الصغير. و (القبص) : [التناول] بأطراف الأصابع، و (القبض) : [الأخذ] بالكف. وأما رمي البعرة.. فلها تأويلات: إحداها: أنها كانت تقول: قد مكثت في ذمام الزوج حولا، والآن فقد خرجت من ذمامه وحرمته كما خرجت هذه البعرة من يدي. والثاني: أن ما كنت فيه من الغم والشقاء وترك الزينة أهون علي في حقه من رمي هذه البعرة. والثالث: أني خرجت من الأذى كما خرجت هذه البعرة من يدي. وقد روي: أنهن كن يقلن ذلك.

وأما المعتدة التي لا إحداد عليها قولا واحدا.. فهي المطلقة الرجعية؛ لأنها في معاني الزوجات، والزوجة لا إحداد عليها. وكذلك: إذا نكح الرجل امرأة نكاحا فاسدا، أو وطئها ثم فرق بينهما أو مات عنها، أو وطئ رجل امرأة بشبهة.. فإنه يجب عليها عدة الطلاق، ولا يجب عليها الإحداد. وكذلك أم الولد إذا مات عنها سيدها.. فإنه لا يجب عليها الإحداد؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» . وهذا ليس بزوج. ولأن الإحداد إنما يجب على المعتدة التي فارقها زوجها بغير اختياره، فيجب عليها أن تظهر الحزن عليه والتمسك بذمامه، وهذا المعنى لا يوجد في المنكوحة نكاحا فاسدا، ولا في الموطوءة بشبهة. وأما المعتدة التي اختلف فيها قول الشافعي.. فهي المطلقة البائن، وفيها قولان: [الأول] : قال في القديم: (يجب عليها الإحداد) . وبه قال ابن المسيب، وأبو حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد؛ لأنها معتدة بائن عن نكاح صحيح، فلزمها الإحداد، كالمتوفى عنها زوجها. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجب عليها الإحداد) . وبه قال عطاء، وربيعة ومالك، والرواية الأخرى عن أحمد؛ لأنها معتدة عن طلاق، فلم يجب عليها الإحداد، كالرجعية. أو نقول: إنها معتدة تتنوع عدتها ثلاثة أنواع، فلم يلزمها الإحداد، كالرجعية، وفيه احتراز من المتوفى عنها زوجها؛ فإن عدتها تتنوع نوعين لا غير. وأما التي انفسخ نكاحها باللعان، أو العنة، أو العيب، أو الخلع.. فهل يجب عليها الإحداد؟ فيه طريقان: [الطريق الأول] : قال أكثر أصحابنا: فيه قولان، كالمطلقة البائن.

مسألة وجوب الإحداد على الأمة

و [الطريق الثاني] : منهم من قال: لا يجب عليها الإحداد، قولا واحدا، كالموطوءة بشبهة. قال الشيخ أبو حامد: وإذا قلنا بقوله الجديد، وأن الإحداد لا يجب على البائن.. فإنه يستحب لها الإحداد. قال الصيمري: هل يستحب الإحداد للرجعية؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يستحب لها؛ لأنها لا تحفش نفسها؛ فربما لا يرغب زوجها في رجعتها. والثاني: يستحب لها الإحداد، كالبائن. [مسألة وجوب الإحداد على الأمة] ويجب الإحداد على الأمة، وهو إجماع لا خلاف فيه، إلا ما يحكى عن أبي حنيفة، قال أصحابنا: ولا يصح عنه. والدليل على أن الإحداد يجب على الأمة: قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا امرأة على زوجها؛ فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا» . وهذا عام للحرة والأمة. ولأنها معتدة عن وفاة الزوج، فلزمها الإحداد، كالحرة. ويجب الإحداد عن موت كل زوج، حرا كان أو عبدا، صغيرا كان أو كبيرا؛ لعموم الأخبار. [فرع العدة لوفاة زوج الصغيرة] وإذا مات زوج الصغيرة.. لزمها العدة والإحداد، وعلى الولي أن يجنبها ما تجتنبه المعتدة المحدة. وقال أبو حنيفة: (عليها العدة، ولا يجب عليها الإحداد) .

فرع تطالب الذمية بالعدة والإحداد

دليلنا: ما روت أم سلمة: «أن امرأة أتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال: " لا - مرتين أو ثلاثا - إنما هي أربعة أشهر وعشر» . ولم يسأل النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هل هي صغيرة، أو كبيرة، ولو كان الحكم يختلف بذلك.. لسأل عنها، بل الظاهر أنها كانت صغيرة؛ لأنها قالت: أفنكحلها، والبالغة لا تكحل وإنما تكحل نفسها. ولأنها معتدة عن وفاة، فوجب عليها الإحداد، كالبالغة. فإن قيل: الإحداد عبادة بدنية، فكيف يجب على الصغيرة؟ قلنا: الخطاب يتوجه على الولي، كما إذا أحرم الولي بالصغيرة، فإن الطيب يحرم على الصغيرة. [فرع تطالب الذمية بالعدة والإحداد] ] : وأما الذمية: فإن كان زوجها مسلما، فمات عنها.. وجبت عليها العدة والإحداد، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (تجب عليها العدة، ولا يجب عليها الإحداد؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» . فاشترط في الإحداد إيمان المرأة، فدل على: أنه لا يجب على من لا تؤمن بالله واليوم الآخر) . ودليلنا: قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تلبس المتوفى عنها زوجها المعصفر من الثياب، ولا الممشق، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل» . وهذا عام في المسلمة والكافرة.

مسألة موضع الإحداد

ولأنها معتدة عن وفاة، فلزمها الإحداد كالمسلمة. وأما الخبر: فدليل خطابه يدل على: أنه لا إحداد على الكافرة، وهم لا يقولون بدليل الخطاب. ولأن في الخبر تنبيها على أن الإحداد يجب على الذمية؛ لأن الإحداد إنما وجب على المعتدة تغليظا عليها، فإذا وجب التغليظ على المؤمنة في العدة.. فلأن يجب على الكافرة أولى، ومتى اجتمع دليل وتنبيه.. قدم التنبيه؛ لأنه أقوى. وأما إذا كان زوج الذمية ذميا، ومات عنها.. وجب عليها العدة والإحداد. وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليها العدة ولا الإحداد) . ودليلنا: أنها بائن عن وفاة زوجها، فلزمها العدة والإحداد، كالمسلمة. [مسألة موضع الإحداد] قال الشافعي رحمة الله عليه: (وإنما الإحداد في البدن) . وجملة ذلك: أن (الإحداد) : هو الامتناع من كل ما إذا فعلته المرأة.. امتدت الأعين إليها واشتهتها الأنفس، فمن ذلك: الكحل، فإن كان الكحل أسود - وهو الإثمد - فلا يجوز أن تستعمله في عينها؛ لما روت أم سلمة في «المرأة التي أتت النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال: " لا» . وروت أم سلمة أيضا: «أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المتوفى عنها زوجها: " لا تلبس المتوفى عنها زوجها المعصفر من الثياب، ولا الممشق، ولا الحلي، ولا تكتحل، ولا تختضب» . وقال الماسرجسي: إذا كانت المرأة سوداء.. لم يحرم عليها الاكتحال بالإثمد. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : لا يحرم على نساء العرب الاكتحال بالإثمد؛ لأن

أعينهن سود؛ فلا يظهر لونه، وإنما يحرم ذلك على نساء العجم؛ لأنه يحصل به التزين. والأول أصح؛ لأنه يحصل به التزيين في الجميع. ويجوز أن تستعمل الإثمد في سائر بدنها إلا في الحاجب؛ فإنه لا تحصل به الزينة في غير الحاجب، وتحصل به الزينة في الحاجب. ويجوز لها أن تكتحل بالكحل الأبيض، كالتوتياء، ويسمى: الكحل الفارسي؛ لأنه يزيد العين مرها وقبحا، ولا يحصل به زينة. ويحرم عليها أن تطلي على عينها الصبر؛ لما روت أم سلمة، قالت: «دخل رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علي حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبرا، فقال: " ما هذا يا أم سلمة؟ "، فقلت: يا رسول الله، إنما هو صبر ليس فيه طيب، فقال: " إنه يشب الوجه، فلا تجعليه إلا بالليل، وانزعيه بالنهار» ، ولأنه يصفر العين، فتحصل به زينة وجمال. فإن احتاجت إلى الاكتحال بالصبر أو الإثمد.. اكتحلت به بالليل، ومسحته بالنهار؛ لحديث أم سلمة. قال الشيخ أبو حامد: قال الشافعي: (وكذلك الدمام) - وهو شيء تصفر به

فرع فيما تجتنبه المحتدة

المرأة عينها، كالصبر والزعفران، يقال: (دمت المرأة) : إذا صفرت عينها - فلا يجوز لها ذلك؛ لأنه تحصل به زينة وجمال. [فرع فيما تجتنبه المحتدة] ويحرم على المرأة المحتدة أن تختضب بالحناء والورس والزعفران في شيء من بدنها؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا تختضب» ، ولأن في ذلك زينة وجمالا. ويحرم عليها أن تبيض وجهها بالخضاب الذي تبيض به وجوه العرائس؛ لأن الزينة تحصل به. ويحرم عليها أن تنقش وجهها ويديها؛ لأن في ذلك زينة. قال ابن الصباغ: ويحرم عليها أن تحف حاجبها؛ لأنه زينة، ويحرم عليها ترجيل الشعر؛ لأنه يحسنها، ويدعو إلى مباشرتها. [مسألة يحظر استعمال الطيب للمعتدة] مسألة: [يحظر استعمال الطيب] : ويحرم عليها أن تستعمل الطيب في بدنها وثيابها؛ لما روت أم عطية: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام، إلا على زوج، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا، ولا تكتحل، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تمس طيبا إلا عند طهرها من محيضها نبذة من قسط وأظفار» ، ولأن الطيب يحرك الشهوة، ويدعو إلى مباشرتها.

وأما الغالية: فقال الشيخ أبو حامد: إن كان لها ريح.. لم يجز لها استعمالها في شيء من بدنها، لأنه طيب، وإن لم يبق لها ريح.. جاز لها استعمالها في جميع بدنها؛ لأنه لا تحصل به زينة. وقال ابن الصباغ: لا يجوز لها استعمالها وإن لم يبق لها ريح؛ لأنها تسود، فهي كالخضاب. ولا يجوز لها أن تأكل شيئا فيه طيب ظاهر؛ لأنه يحرم عليها استعمال الطيب، فحرم عليها أكله، كالمحرم. وأما الأدهان: فإن كانت مطيبة، كدهن الورد، والبنفسج، والياسمين، وما أشبهها.. حرم عليها استعمالها في جميع بدنها؛ لما فيه من الطيب، وإن كانت غير مطيبة، كالشريج، والزيت، والزبد، والسمن.. فيجوز لها استعماله في غير الرأس؛ لأنه لا يحصل به تزيين، ولا يجوز لها استعماله في الرأس؛ لأنه يرجل الشعر ويزينه. وإن كانت للمرأة لحية.. حرم عليها استعمال الدهن فيها؛ لأن اللحية وإن كانت تقبح المرأة إلا أن أقبحها إذا لم تدهن. ويجوز لها أن تغسل شعرها وبدنها بالسدر والخطمي؛ لما روت أم سلمة: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «امتشطي "، قلت: بأي شيء أمتشط؟ قال: " بالسدر» ، ولأن ذلك تنظيف من غير زينة. ويجوز لها أن تقلم الأظفار، وتحلق العانة؛ لأن ذلك يراد للتنظيف لا للزينة. ولا يحرم عليها كنس البيت، وتزيينه بالفرش؛ لأن ذلك لا يدعو إلى مباشرتها. قال الصيمري: ولها أن تشم النيلوفر. والبنفسج لا يختلف فيه، وفي الريحان

مسألة المعتدة لا تلبس الحلي

الفارسي قولان، كالمحرمة. ولها أن تجلس والطيب يقلب بقربها، وعند رجل يتبخر. [مسألة المعتدة لا تلبس الحلي] ولا يجوز لها لبس الحلي من الذهب والفضة واللؤلؤ. وحكى ابن المنذر عن عطاء: أنه قال: يحرم عليها حلي الذهب دون الفضة. وهذا ليس بصحيح؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا الحلي» . ولم يفرق. ولأن الزينة تحصل بالفضة، فحرم عليها لبسها، كالذهب. قال الصيمري: ويحرم عليها لبس الدمالج والخواتم من العاج والذبل؛ لأن لها بريقا. وتمنع من حلق الصفر في أصابعها.

مسألة زينتا الثياب

فأما الخيوط والسيور وما قبح من الخرز: فلا بأس به ما لم يكن مستعملا للتحلي به. [مسألة زينتا الثياب] وفي الثياب زينتان: إحداهما: ما يحصل بلبسها من الزينة بستر العورة من غير زينة أدخلت على الثوب، فيجوز للمرأة المحدة لبس جميع الثياب التي لم تدخل عليها زينة وإن كانت الزينة فيها من أصل الخلقة، كالدبيقي، والمروي، وغير ذلك مما يتخذ من الحرير والخز والقز؛ لأن زينتها من أصل خلقتها، فلا يلزمها تغييرها، كما إذا كانت المرأة حسنة الوجه.. فلا يلزمها تغيير وجهها بالسواد وغيره. وأما الثياب المصبوغة: فينظر فيها: فإن صبغت للزينة؛ كالأحمر، والأصفر، والأزرق الصافي، والأخضر الصافي.. فيحرم عليها لبسه. وقال أبو إسحاق: ما صبغ غزله، ثم نسج.. يجوز لها لبسه؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلا ثوب عصب» . و (العصب) : ما صبغ غزله، ثم نسج. والمذهب الأول؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نص على: (أنه يحرم عليها لبس الوشي وعصب اليمن والحبر) . وهذه صبغ غزلها، ثم نسجت. ولقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تلبس المتوفى عنها زوجها المعصفر ولا الممشق» . ولم يفرق. ولأن الثياب المرتفعة: هي التي صبغ غزلها، ثم نسجت، والتي دونها: هي التي نسجت، ثم

صبغت، والخبر نحمله على المصبوغ بالسواد. و (الممشق) : ما صبغ بالمغرة. وأما ما صبغ للوسخ، كالأسود، والأزرق المشبع، والأخضر المشبع.. فلا يحرم عليها لبسه؛ لأنه لا يصبغ للزينة، وإنما صبغ لنفي الوسخ، أو ليدل على الخزن. وأما [الثانية] : الثياب التي عليها طرز: قال الشيخ أبو إسحاق: فإن كانت الطرز كبارا.. حرم عليها لبسها؛ لأنها زينة ظاهرة أدخلت عليها، وإن كانت صغارا.. ففيه وجهان: أحدهما: يحرم عليها، كقليل الحلي وكثيره. والثاني: لا يحرم عليها لبسها؛ لخفائها. قال الصيمري: ولا تلبس البرود المنقوشة، ولا القرقوبي من المقانع والوقايات؛ لما فيه من النقش. وبالله التوفيق

باب اجتماع العدتين

[باب اجتماع العدتين] إذا طلق الرجل امرأته أو مات عنها، فتزوجت برجل آخر في عدتها.. فالنكاح باطل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] [البقرة: 235] . فنهى عن عقد النكاح قبل انقضاء الأجل، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. فإن لم يدخل بها الثاني، فإن كانا عالمين بتحريم العقد.. عزرا؛ لأنهما أقدما على أمر محرم، وإن كانا جاهلين بالتحريم.. لم يعزرا، وإن كان أحدهما عالما بالتحريم والآخر جاهلا بالتحريم.. عزر العالم منهما بالتحريم دون الجاهل. ويسقط بهذا العقد سكناها عن الأول، ونفقتها إن كانت تستحق عليه النفقة؛ لأنها صارت ناشزة بذلك، والناشزة تسقط نفقتها وسكناها. ولا تنقطع عدة الأول بعقد الثاني. وقال القفال الشاشي: تنقطع بالعقد؛ لأن عقد الثاني يراد للاستفراش، والعقد الفاسد يسلك به مسلك الصحيح، كالوطء في النكاح الفاسد يسلك به مسلك الوطء في الصحيح. وهذا خطأ؛ لأن هذا العقد لا حكم له، فلم تنقطع به عدة الأول، بخلاف الوطء، فإن له حكما. وإن وطئها الثاني، فإن كانا عالمين بالتحريم.. فهما زانيان، ويجب عليهما الحد، ولا يجب لها مهر، ولا يجب عليها عدة للثاني، ولا تنقطع عدة الأول. وإن كان الزوج عالما بالتحريم وهي جاهلة.. وجب عليه المهر لها، ولا حد عليها، ووجب عليه الحد، ولا عدة عليها له، ولا تنقطع به عدة الأول. وإن كانا جاهلين بالتحريم.. فلا حد عليهما، ولها المهر، وعليها العدة للثاني.

وإن كان الزوج جاهلا بالتحريم وهي عالمة.. فعليها الحد، ولا مهر لها، ولا حد على الزوج، وعليها العدة له. وكل موضع كان الثاني جاهلا بتحريم الوطء.. فإنها تصير فراشا للثاني، وتنقطع عدة الأول إذا لم تكن حاملا من الأول؛ لأن العدة تراد لاستبراء الرحم، ولا يمكن استبراؤها من الأول في حال كونها فراشا للثاني، ويفرق بينها وبين الثاني، ويجب عليها إتمام عدة الأول، واستئناف العدة عن الثاني، ولا يتداخلان. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يتداخلان) . ودليلنا: ما روى سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار: (أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي، فطلقها البتة، فنكحت في عدتها، فضربها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وضرب زوجها بالمخفقة - يعني: الدرة - ضربات، وفرق بينهما، وقال: أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن لم يدخل بها زوجها الذي تزوجها.. فإنها تعتد عن الأول، ولا عدة عليها عن الثاني، وكان خاطبا من الخطاب، وإن كان قد دخل بها الثاني.. فرق بينهما، وتأتي ببقية عدة الأول، ثم تعتد للثاني، ولم ينكحها أبدا) .

وروى عطاء: أن امرأة نكحت في العدة، ففرق بينهما علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال: (أيما امرأة نكحت في عدتها فرق بينهما، وتأتي ببقية عدة الأول، ثم تأتي بثلاثة أقراء عن الثاني، ثم هي بالخيار: إن شاءت.. نكحته، وإن شاءت.. لم تنكحه) . ولا يعرف لهما مخالف، فدل على: أنه إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولأنهما حقان مقصودان لآدميين، فإذا اجتمعا.. لم يتداخلا، كالدينين. فقولنا: (مقصودان) احتراز من الأجل، فإنه لو كان عليه لرجل دين مؤجل إلى شهر، ولآخر دين مؤجل إلى شهر، فمضى الشهر.. تداخلا فيه؛ لأن الأجل ليس بمقصود، وإنما المقصود الدين. وقولنا: (لآدمي) احتراز ممن زنى، ثم زنى، فإنه يقام عليه حد واحد؛ لأن الحد لله، والعدة حق للزوج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] [الأحزاب: 49] واحترزنا بتثنية الآدمي ممن قطع يد رجل، ثم مات، فإن دية اليد تدخل في دية النفس. ومن الرجل إذا وطئ امرأته بشبهة في عدتها منه. إذا ثبت أنهما لا يتداخلان.. فلا يخلو: إما أن تكون حاملا، أو حائلا. فإن كانت حائلا.. فإنها تتم عدة الأول، ثم تستأنف عدة الثاني، فإن كان قد مضى لها قبل وطء الثاني قرء أو شهر.. فإنها تأتي بقرأين أو بشهرين عن الأول، ثم تأتي بثلاثة أقراء أو بثلاثة أشهر عن الثاني، ومن أي وقت تعود إلى عدة الأول؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] .

فرع تزوجت في عدة وحملت وولدت

أحدهما - وهو الأصح -: أنها تعود إليها عقيب التفريق بينها وبين الثاني. والثاني: أنها تعود إليها عقيب آخر وطأة من وطآت الثاني. وإن راجعها الزوج الأول في بقية عدته.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح، وهو المذهب؛ لأنها في عدة منه. والثاني: لا يصح، لأن عليها عدة لغيره. فإن خالعها الزوج، فتزوجت بآخر في عدتها ووطئها، وأراد الزوج الأول أن يتزوجها في بقية عدته.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] : أحدهما - قال: وهو المشهور -: أنه يصح، كما قلنا في الرجعة. والثاني: لا يصح، وهو قول الشيخ أبي حامد؛ لأنها تكون محرمة عليه عقيب النكاح من جميع الوجوه؛ لأنها تشرع في عدة الثاني بعد انقضاء عدة الأول، فصار كنكاح المحرمة. [فرع تزوجت في عدة وحملت وولدت] وإن تزوجت المرأة في عدتها برجل آخر، ووطئها وأتت بولد.. ففيه أربع مسائل: إحداهن: أن يمكن أن يكون من الأول دون الثاني، بأن تأتي به لأربع سنين فما دون من طلاق الأول، ولدون ستة أشهر من وطء الثاني، فإن الولد يلحق بالأول، وتنقضي عدتها منه بوضعه، وله أن يراجعها إلى أن تضع، فإذا وضعته.. اعتدت عن الثاني بثلاثة أقراء. المسألة الثانية: إذا أمكن أن يكون الولد من الثاني دون الأول، بأن تأتي به لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين من طلاق الأول، فإن كان الطلاق بائنا.. فإن الولد ينتفي عن الأول بغير لعان، ويكون الولد لاحقا بالثاني، فتعتد بوضعه عن الثاني، فإذا وضعته.. أتمت عدتها من الأول. وإن كان الطلاق رجعيا.. فهل ينتفي الولد عن الأول؟ فيه قولان، مضى ذكرهما في اللعان.

وإن قلنا: لا يحلقه.. فإنه يلحق بالثاني، وتعتد بوضعه عن الثاني، ثم تتم بقية عدتها من الأول بعد الوضع، فإن راجعها الأول بعد وضعها الحمل في حال إتمامها لعدته.. صحت الرجعة، وإن راجعها قبل وضع الحمل.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنها في عدة من غيره، ولأنها محرمة عليه في هذه الحالة، والرجعة لا تنفي ذلك التحريم، وكل تحريم لم تنفه الرجعة.. لم تصح الرجعة معه، كما لو ارتدت في العدة، وراجعها.. فإن الرجعة لا تصح. والثاني: تصح الرجعة؛ لأنا لم نحكم بانقضاء عدتها منه، فصحت رجعته؛ لأن هذا التحريم لا يفضي إلى زوال النكاح، فلم يناف الرجعة، كما لو طلقها طلاقا رجعيا، وأحرمت، فراجعها في حال الإحرام، ويفارق رجعتها في حال الردة، فإن الردة تفضي إلى زوال النكاح. وإن قلنا: إن الولد لا ينتفي عن الأول إلا باللعان.. فحكمه كحكم ما لو أمكن أن يكون الحمل من كل واحد منهما، على ما يأتي إن شاء الله تعالى. المسألة الثالثة: إذا لم يمكن أن يكون الولد من واحد منهما، بأن تأتي به لأكثر من أربع سنين من طلاق الأول، ولدون ستة أشهر من وطء الثاني. فإن كان الطلاق بائنا.. فإنه لا يمكن أن يكون من أحدهما، وفيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: لا تعتد به عن أحدهما؛ لأنه غير لاحق بأحدهما. فعلى هذا: إن رأت الدم على الحمل، وقلنا: إنه حيض.. فإنها تعتد بالأطهار أقراء، فتتم عدتها من الأول، ثم تستأنف العدة عن الثاني، وإن لم تر الدم على الحمل، أو رأته، وقلنا: إنه ليس بحيض.. فإنها تتم عدتها عن الأول بعد الوضع، ثم تستأنف العدة عن الثاني. والوجه الثاني: أنها تعتد بالحمل عن أحدهما لا بعينه؛ لأنه يمكن أن يكون من أحدهما؛ ولهذا: لو أقر به.. لحقه، فانقضت به العدة، كالمنفي باللعان. فعلى هذا: يلزمها أن تعتد بعد وضعه بثلاثة أقراء؛ لجواز أن يكون من الأول.

والمشهور هو الأول. وإن كان الطلاق رجعيا.. فهل ينتفي الولد عن الأول بغير لعان؟ فيه قولان: فإن قلنا: ينتفي عنه بغير لعان.. فحكمه حكم ما لو كان الطلاق بائنا. وإذا قلنا بالوجه المشهور: أنها لا تعتد به عن أحدهما، ولم تر الدم على الحمل، أو رأته، وقلنا: إنه ليس بحيض.. فإنها تتم عدتها من الأول بعد الوضع، ثم تستأنف ثلاثة أقراء للثاني، فإن راجعها الأول قبل الوضع.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنها ليست في عدة منه. والثاني: يصح؛ لأنه لم يحكم بانقضاء عدتها منه. وإن راجعها الأول بعد الوضع في حال إتمامها لعدته.. قال الشيخ أبو حامد: فهل تصح رجعته؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو المذهب -: أنها تصح؛ لأنها في عدة منه. والثاني: لا تصح؛ لأن عليها عدة لغيره. وإن قلنا: إنه لا ينتفي عن الأول إلا باللعان، فإن لم ينفه.. لحق به، واعتدت به عنه، وإن نفاه.. فهو كما لو لم يلحق بواحد منهما. المسألة الرابعة: إذا أمكن أن يكون من كل واحد منهما، بأن وضعته لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من وطء الثاني، ولستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من طلاق الأول.. فيعرض الولد بعد الوضع على القافة، فإن ألحقته بالأول.. لحق به، وانقضت عدتها منه بوضعه، فإن راجعها قبل الوضع.. فهل تصح الرجعة؟ فيه وجهان. وإذا وضعت الحمل.. اعتدت عن الثاني بثلاثة أقراء. فإن راجعها الأول بعد الوضع.. لم يصح؛ لأنها في عدة من غيره. وإن ألحقته القافة بالثاني.. لحق به، وانقضت عدتها من الثاني بوضعه، وأتمت عدة الأول بعد الوضع، وإن راجعها الأول بعد الوضع في حال إكمالها لعدته..

صح، وإن راجعها قبل الوضع.. فهل يصح؟ فيه وجهان. وإن ألحقته القافة بهما، أو نفته عنهما، أو لم تكن قافة، أو كانت وأشكل عليها.. ترك حتى يبلغ وينتسب إلى أحدهما. وأما العدة.. فإن عدتها تنقضي بوضعه عن أحدهما لا بعينه، ثم تعتد بعد وضعه بثلاثة أقراء؛ لجواز أن يكون الحمل من الأول، فيلزمها أن تعتد عن الثاني. وأما حكم الرجعة: فإن قلنا: إن الحمل إذا كان عن الثاني.. تصح رجعة الزوج الأول قبل وضعه، فراجعها قبل الوضع.. صحت رجعته. وإن قلنا هناك: لا تصح رجعته.. فلا رجعة له حال كونها حاملا؛ لأنه يجوز أن يكون الحمل من الزوج الأول، فتصح رجعته على المذهب، ويجوز أن يكون الحمل من الثاني، فلا تصح رجعته هاهنا، فلم نجعل له الرجعة مع الشك. وإن خالف وراجعها حال كونها حاملا، فإن بان أن الحمل من الثاني.. لم تصح الرجعة؛ لأنه بان أنها معتدة عن غيره، وإن بان أن الحمل من الأول - وقلنا بالمذهب: إن رجعته تصح في عدتها منه وإن كان عليها عدة لغيره - فهل تصح رجعته هاهنا؟ فيه وجهان: أحدهما: تصح؛ لأنه راجعها في وقت يملك رجعتها فيه. والثاني لا تصح؛ لأنه حالما راجعها كان يشك: هل له الرجعة، أم لا؟ فلم تصح الرجعة. وأصل هذين الوجهين: القولان فيمن باع مال مورثه قبل أن يعلم بموته، ثم بان أنه كان ميتا حال البيع. ولا نأمره بالرجعة بعدتها بعد الوضع؛ لأنه يجوز أن يكون الحمل من الأول، والعدة بالأقراء عن الثاني، فلم يملك الرجعة فيها، فإن خالف وراجع فيها.. نظرت:

فرع أتت بولد يحتمل أنه من زوجين

فإن كانت قد رأت قبل الحمل قرءا لا غير، فراجعها في القرء الثالث من الثلاثة بعد الوضع.. لم تصح رجعته؛ لأنه ليس هو من عدتها عنه بيقين. وإن راجعها في القرأين الأولين.. ينظر فيه. فإن بان أن الحمل من الأول.. لم تصح رجعته في القرأين؛ لأنه بان أن ذلك وقت عدتها من الثاني. وإن بان أن الحمل من الثاني.. فهل تصح رجعته في القرأين الأولين؟ فيه وجهان، بناء على القولين فيمن باع مال مورثه قبل أن يعلم بموته، وبان أنه كان ميتا وقت البيع. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وقال الخراسانيون: إذا احتمل أن يكون الحمل من كل واحد منهما، وأراد الزوج أن يراجعها.. فإنه يراجعها مرتين، مرة قبل وضع الحمل، ومرة بعده. وإن كانت بائنا، فنكحها مرتين.. فهل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنا تيقنا أن أحدهما كان في عدته. والثاني: لا يصح. قالوا: وهذان الوجهان يشبهان القولين في توقف العقد على البينتين. فأما الثاني إذا تزوجها، وقلنا: يصح.. قال ابن الصباغ: فإن تزوجها وهي حامل.. لم يصح؛ لأن الحمل إن كان من الأول.. فقد تزوجها في عدة غيره، وإن كان منه.. فقد تزوجها وقد بقي عليها عدة غيره. وإن تزوجها في عدتها بعد الوضع، فإن تزوجها في القرء الثالث.. صح؛ لأنها إما أن تكون معتدة منه فيه، أولا تكون معتدة أصلا، وإن تزوجها في القرأين الأولين.. لم يصح؛ لاحتمال أن تكون معتدة فيهما عن الأول، والنكاح مع الشك لا يصح؛ ولهذا: لا يصح نكاح المرتابة بالحمل. [فرع أتت بولد يحتمل أنه من زوجين] وإن أتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، فخرج الولد ميتا أو مات قبل أن تلحقه القافة بأحدهما.. فقد قال الشافعي: (لا يكون ابن واحد منهما) . ولم يرد:

أنه ليس فيهما أب له؛ لأنا نعلم أن أحدهما أبوه وإن جهلنا عينه، وإنما أراد: ليس بابن واحد منهما بعينه، وهل يعرض على القافة بعد موته؟ فيه وجهان: أحدهما: يعرض عليها؛ لأن مجززا المدلجي نظر على أسامة بن زيد وزيد وقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر بذلك رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنه يجوز عرضه على القافة وهو نائم، فكذلك بعد موته. وحمل هذا القائل كلام الشافعي عليه إذا دفن. والثاني: لا يجوز عرضه، وهو ظاهر النص؛ لأن الأشباه الخفية من الحركة والنغمة تذهب بالموت. فإن كان قد أوصي لهذا الولد بوصية، فإن ولد ميتا.. بطلت الوصية، وإن ولد حيا، فإن قبل له الواطئان الوصية.. صح؛ لأن أحدهما أبوه بيقين، وإن لم يقبلا له حتى بلغ، وقبل لنفسه.. صح. وإن مات قبل أن يلحق بأحدهما، فإن لم يكن له وارث غيرهما.. وقف المال بينهما إلى أن يصطلحا عليه؛ لأن أحدهما أبوه بيقين. وإن كان لهذا الولد ابن وأم.. دفع إلى الأم سدس تركته، ووقف السدس بين الرجلين الواطئين، وأعطي الابن الباقي. فإن كان له أم، ولا ولد له، فإن لم يكن للأم ولد ولا لأحد الرجلين.. دفع إلى الأم الثلث، ووقف الباقي بين الرجلين. وإن كان للأم ولدان، أو لكل واحد من الرجلين ولدان، أو لها ولد ولكل واحد من الرجلين ولد.. دفع إلى الأم السدس، ووقف الباقي بين الرجلين. وإن كان لأحد الرجلين ولدان، وكان للأم ولد، ولأحد الرجلين ولد.. فكم تستحق الأم؟ فيه وجهان:

فرع طلقها وتزوجت في عدتها وأتت بولد

أحدهما: تستحق الثلث؛ لأنا نشك: هل له أخوان، أم لا؟ فلا تحجب الأم بالشك. والثاني: تستحق السدس لا غير، ويوقف السدس لها؛ لأنا نشك أنها تستحق الثلث أو السدس، فلم يجز أن يدفع لها ما زاد على السدس بالشك. وإذا مات قبل أن يقبل أو يقبلا له.. فإن القبول إلى جميع الورثة، فيقبل الرجلان، وتقبل الأم معهما؛ لأنها وارثة معهما. [فرع طلقها وتزوجت في عدتها وأتت بولد] وإن تزوج رجل امرأة، ودخل بها، وطلقها، فتزوجت في عدتها بآخر، وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، وطلبت نفقتها: فإن كان الطلاق رجعيا، فإن قلنا: إن الحامل البائن تستحق النفقة بسبب الحمل.. فليس لها أن تطالب أحدهما بنفقتها حال كونها حاملا؛ لأنه يمكن أن يكون الحمل من الأول، فتستحق عليه النفقة، ويمكن أن يكون الحمل من الثاني، فلا تستحق النفقة؛ لأنها حامل منه من نكاح فاسد، فإذا شككنا في استحقاقها النفقة.. لم يكن لها مطالبة أحدهما. فإذا وضعت الولد، فإن كان له مال.. فنفقته في ماله، وإن لم يكن له مال.. وجبت نفقته عليهما؛ لأنه ابن أحدهما بيقين، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فأنفقا عليه بينهما. وأما الأم: فإنها ترجع على الأول بنفقتها أقل المدتين من مدة الحمل أو القرأين اللذين تكمل بهما عدته؛ لأن الحمل إن كان منه.. فنفقتها عليه مدة الحمل، وإن كان من الثاني.. فعلى الأول نفقتها في القرأين الأولين اللذين تكمل بهما عدته. فإن ألحق الولد بأحدهما.. نظرت:

فإن أخذت من الأول قدر حقها.. فلا كلام. وإن أخذت منه دون حقها.. رجعت عليه بباقي حقها. وإن قلنا: إن نفقة الحامل البائن للحمل.. فإنها تستحق نفقتها عليهما حال كونها حاملا؛ لأن الحمل إن كان من الأول.. فنفقتها عليه، وإن كان من الثاني.. فنفقتها عليه؛ لأن الحمل من نكاح فاسد كالحمل من نكاح صحيح، إلا أنا لا نعلم من الذي تستحق عليه منهما، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فوجبت نفقتها بينهما، وهل يجب عليهما أن يدفعا إليها نفقة كل يوم، أو لا يجب عليهما الدفع حتى تضع؟ فيه قولان. وأما نفقة الولد بعد وضعه، فإن كان له مال.. كانت نفقته في ماله، وإن لم يكن له مال.. أنفقا عليه بينهما إلى أن يتبين حاله. وإن كان الطلاق بائنا: فإن قلنا: إن الحامل البائن تستحق أن يدفع إليها النفقة يوما بيوم.. كان الحكم فيه كالحكم في الطلاق الرجعي، في أنه يبنى على القولين في النفقة للحامل، هل تجب للحامل، أو للحمل؟ على ما مضى، إلا في شيء واحد، وهو: أن في ذلك الموضع إذا وضعت المرأة - وقلنا: يجب للحامل - ولم تستحق النفقة في حال حملها.. فإنها ترجع على الأول بنفقة أقل المدتين، وهاهنا لا ترجع عليه بشيء. والفرق بينهما: أن الرجعية تستحق النفقة على الزوج في حال عدتها بكل حال، وهاهنا البائن لا تستحق النفقة على الزوج إلا إذا كانت حاملا. وإن قلنا: إن نفقة الحامل لا تدفع إليها إلا بعد الوضع.. فما دامت حاملا لا نفقة لها على أحدهما، فإذا وضعت الولد، فإن لحق بالأول.. فعليه نفقته، وترجع المرأة عليه بنفقتها حال حملها؛ لأنه بان أنها كانت معتدة بالحمل منه، وإن لحق بالثاني.. كانت نفقة الولد عليه، وهل ترجع عليه المرأة بنفقتها حال حملها؟ إن قلنا: إن الحامل تستحق النفقة لها.. لم ترجع عليه. وإن قلنا: إن النفقة للحمل.. رجعت عليه بنفقتها حال حملها.

فرع طلق رجعيا ونكحت بعدتها وحملت

وإن لم يلحق الولد بأحدهما.. كانت نفقة الولد عليهما نصفين إلى أن يتبين، وهل ترجع المرأة عليهما بنفقتها حال حملها بينهما نصفين؟ إن قلنا: إن النفقة للحامل.. لم ترجع عليهما بشيء؛ لأنه يمكن أن يكون الحمل من الأول، فتستحق عليه النفقة، ويمكن أن يكون من الثاني، فلا تستحق على أحدهما نفقة، وإذا شككنا في استحقاقها النفقة.. لم ترجع على أحدهما بشيء. وإن قلنا: إن النفقة للحمل.. رجعت عليهما بنفقتها حال حملها بينهما نصفين؛ لأنا نعلم أنها تستحق جميع نفقتها على أحدهما لا بعينه، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فرجعت بها عليهما نصفين، وكل موضع أنفقا على المرأة بينهما، أو أنفقا على الولد بعد الوضع بينهما، ثم لحق الولد بأحدهما، وبان أن النفقة عليه.. فهل يرجع الآخر عليه بما أنفق؟ ينظر فيه: فإن أنفق بغير حكم الحاكم.. لم يرجع عليه بشيء؛ لأنه متطوع بالإنفاق. وإن أنفق بحكم الحاكم، فإن كان يدعي نسب الولد.. لم يرجع؛ لأنه يقول: هو ولدي ويستحق علي جميع النفقة، وإنما ظلمت بنفيه عني، وإن كان يجحد نسب الولد.. فإنه يرجع على الآخر بما أنفق؛ لأنه يقول: قد كنت أقول: إن هذا الولد ليس مني، ولا يستحق علي النفقة، وإنما أكرهت على الإنفاق عليه بغير حق، فأنا أستحق الرجوع على أبيه. ومن أصحابنا من قال: إذا أشكل حال الولد.. لم تجب النفقة على واحد منهما؛ لأن الشافعي قال: (وإن أشكل الأمر.. لم آخذه بنفقته) ، ولأنا نشك في وجوب النفقة على كل واحد منهما، فلم تجب بالشك. والأول أصح؛ لأن الشافعي إنما أراد: أن الزوج لا يؤخذ بالنفقة وحده، ولكن تجب النفقة بينه وبين الآخر على ما بيناه. [فرع طلق رجعيا ونكحت بعدتها وحملت] وإن طلق امرأته طلاقا رجعيا، ونكحت بآخر في عدتها، ووطئها، وفرق بينهما، وأتت بولد لأكثر من أربع سنين من طلاق الأول، ولستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من وطء الثاني، فإن قلنا: إن الولد يلحق بالأول، ولا ينتفي عنه إلا باللعان..

فرع طلقت من حربي وتزوجت بمشرك في عدتها

فالحكم في النفقة على ما مضى في التي قبلها، وإن قلنا: إن الولد ينتفي عن الأول بغير لعان.. فإنه يلحق بالثاني، ولا تستحق المرأة النفقة على الأول حال كونها حاملا؛ لأنها في عدة من غيره، وهل تستحق نفقتها على الثاني حال كونها حاملا؟ إن قلنا: إن النفقة للحامل.. لم تستحق عليه. وإن قلنا: للحمل.. استحقت عليه. فإذا وضعت الحمل.. فإنها تكمل عدة الأول، وتستحق عليه النفقة في القرأين بعد دم النفاس، وهل تستحق عليه النفقة ما دام معها دم النفاس؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تستحق عليه نفقة ذلك؛ لأنه ليس من عدته، وإنما هو تابع للحمل، فلما لم تستحق عليه نفقة مدة الحمل، فكذلك مدة النفاس. والثاني: تستحق عليه نفقة تلك المدة؛ لأن عدتها تنقضي من الثاني بوضع الولد، وزمان النفاس هو من عدة الأول وإن كان غير محتسب به من عدته، كما لو طلقها وهي حائض. [فرع طلقت من حربي وتزوجت بمشرك في عدتها] وإن طلق الحربي امرأته، وتزوجت بمشرك في عدتها، ووطئها.. وجب عليها للثاني عدة، والمنصوص: (أن عدتهما تتداخلان) . ومن أصحابنا الخراسانيين من جعل فيها وفي المسألة قبلها قولين. وقال أكثر أصحابنا: تتداخل عدة المشركين، قولا واحدا، بخلاف المسألة قبلها؛ لأن عرض الحربي وماله عرضة للإبطال والنهب، فجاز إبطال عدته، بخلاف المسلم. وإن وطئت امرأة رجل بشبهة، ثم طلقها زوجها وهي في العدة.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:

مسألة تزوجها في عدة غيرها ووطئها جاهلا

أحدهما: أن العدتين لا تتداخلان، وهو المنصوص، كما لو طلقها، ثم وطئت بشبهة. والثاني: تتداخلان، فتجب عليها عدة واحدة؛ لأن عدة وطء الشبهة ضعيفة، فدخلت في عدة الطلاق بعدها. [مسألة تزوجها في عدة غيرها ووطئها جاهلا] ] : وإذا تزوج الرجل امرأة في عدة غيره، ووطئها جاهلا بالتحريم.. فقد قلنا: يفرق بينهما، وتتم عدتها من الأول، وتعتد عن الثاني، وهل يحل للثاني نكاحها؟ فيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (لا يحل له أبدا) . وبه قال عمر، ومالك؛ لأنه تعجل حقه قبل وقته، فمنعه في وقته، كالوارث إذا قتل مورثه. قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا: كل وطء بشبهة أفسد الفراش، فإن الموطوءة تحرم على الواطئ على التأبيد، مثل: أن يطأ الرجل زوجة غيره، أو أمة يستفرشها بشبهة، فأما وطء الشبهة الذي لا يفسد الفراش، مثل: أن يطأ امرأة معتدة عنه بشبهة، أو وطئ امرأة بشبهة لا زوج لها، ولا سيد يستفرشها، أو وطئ امرأة بنكاح فاسد، وليست في عدة من غيره.. فإنها لا تحرم على الواطئ على التأبيد. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تحرم عليه) . وبه قال علي بن أبي طالب، وأبو حنيفة وأصحابه، وعامة أهل العلم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] [النساء: 23 - 24] . وهذه ليست من الأعيان المحرمة. ولأنه وطء بشبهة، فلم يحرم على التأبيد، كما لو نكح امرأة بلا ولي ولا شهود ووطئها. وهذا القول أصح؛ لأن ابن عبد الحكم روى: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (اختلف عمر وعلي في ثلاث مسائل - القياس فيها مع علي، وبقوله آخذ - إحداهن: هذه. الثانية: امرأة المفقود إذا غاب عنها زوجها، وانقطع عنها خبره) .

مسألة طلقها ثم وطئها في العدة

فإن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (يرفع الأمر على الحكام، ويضرب لها أربع سنين، ثم تعتد بأربعة أشهر وعشر، ثم تتزوج) . وهو القول القديم للشافعي. وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (هذه امرأة ابتليت، تصبر أبدا) . وهو قول الشافعي في الجديد، وهو الأصح. والثالثة: إذا طلق زوجته طلقة رجعية، وغاب عنها، ثم راجعها وأشهد على رجعته، ولم تعلم بذلك، وانقضت عدتها، فتزوجت بآخر، ودخل بها، وجاء الأول، وادعى: أنه راجعها، وأقام على ذلك بينة.. فروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (هي زوجة الثاني) . وهو قول مالك. وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (هي زوجة الأول) . وهو قول الشافعي. وقد روي عن عمر: أنه رجع إلى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في الأولى. [مسألة طلقها ثم وطئها في العدة] وإن طلق الرجل امرأته طلاقا رجعيا، ووطئها الزوج في العدة.. فلا حد عليهما؛ لأنه وطء بشبهة، سواء كانا عالمين بتحريم الوطء أو جاهلين؛ لأنها في معاني الزوجات، إلا أنهما إذا كانا عالمين بالتحريم.. عزرا، وإن كانا جاهلين بالتحريم.. لم يعزرا، وإن كان أحدهما عالما والآخر جاهلا.. عزر العالم منهما. فإن كانت وقت الطلاق حائلا.. نظرت: فإن لم تحبل من الوطء في العدة.. وجب عليها استئناف العدة عن الوطء في العدة؛ لأنه وطء بشبهة، فأوجب العدة، وتدخل فيها البقية من العدة الأولى؛ لأنهما من واحد، فتداخلا. فإن كان قد مضى لها قرء من العدة قبل الوطء.. فإنها تستأنف ثلاثة أقراء من حين

الوطء بعد الطلاق، فالقرءان الأولان يقعان عن الطلاق وعن الوطء بعد الطلاق، والثالث يقع عن الوطء بعد الطلاق. فإن راجعها الزوج في حال القرأين الأولين.. صحت رجعته؛ لأنه راجعها في عدتها منه عن الطلاق الرجعي، وإن وطئها فيهما ثانيا.. لم يجب عليهما الحد، سواء كانا عالمين بالتحريم أو جاهلين، كما قلنا في الوطء الأول في القرء الأول. فإن راجعها في القرء الثالث.. لم تصح رجعته؛ لأنه راجعها بعد انقضاء عدتها عنه بالطلاق. وإن وطئها في القرء الثالث، فإن كانا عالمين بالتحريم.. فهما زانيان، ويجب عليهما الحد، ولا مهر لها، ولا يجب عليها استئناف العدة لهذا الوطء. وإن كانا جاهلين بالتحريم.. لم يجب عليهما الحد، ويجب لها المهر، ووجب عليها استئناف العدة لهذا الوطء، وتدخل فيها بقية عدة الوطء الأول. وإن كان الزوج جاهلا والزوجة عالمة.. وجب عليها الحد، ولا مهر لها، ولم يجب عليه الحد، ووجب عليها استئناف العدة، ودخل فيها بقية العدة من الوطء بعد الطلاق. وإن كان الزوج عالما بالتحريم والزوجة جاهلة.. وجب على الزوج الحد والمهر، ولا حد عليها، ولا يجب عليها استئناف العدة. وإن كان قد مضى عليها من العدة قبل الوطء قرءان.. وجب عليها استئناف ثلاثة أقراء، وصحت رجعته في القرء الأول، وإن وطئها فيه.. فلا حد عليهما بحال، ووجب عليها استئناف العدة، وإن راجعها في القرأين الآخرين.. لم تصح رجعته، وإن وطئها فيهما.. فهو كما لو وطئها في القرء الثالث إذا مضى لها قبل الوطء قرء، وعلى ما مضى. وإن كان عدتها بالشهور.. فالحكم فيها كالحكم في الأقراء، على ما مضى. وإن حبلت من الوطء بعد الطلاق في العدة.. فإنها تعتد بوضعه عن وطئه في عدة الطلاق، وهل تدخل فيه بقية عدتها عنه للطلاق؟ فيه وجهان:

أحدهما: تدخل؛ لأنهما عدتان لواحد، فتداخلتا، كما لو كانتا من جنس واحد. والثاني: لا تتداخلان؛ لأن الحقين إنما يتداخلان إذا كانا من جنس واحد، فأما إذا كانا من جنسين: فإنهما لا يتداخلان، كما لو زنى وهو بكر، ثم زنى وهو محصن قبل أن يحد للأول. فإن قلنا: إنهما يتداخلان.. كانت في عدة الطلاق إلى أن تضع، وله أن يراجعها قبل الوضع، فإن وطئها قبل الوضع ثانيا وثالثا.. فلا حد عليهما، وعليها العدة للجميع، وتنقضي عدتها عن الجميع بوضع الحمل. وإن قلنا: إنهما لا يتداخلان.. نظرت: فإن لم تر دما على الحمل، أو رأته، وقلنا: إنه ليس بحيض.. فإنها تعتد بالحمل عن وطء الشبهة، فإذا وضعت الحمل.. أتت بما بقي عليها من الأقراء من عدة الطلاق، فإن راجعها بعد الوضع في حال إتمامها لعدة الطلاق.. صحت الرجعة؛ لأنه راجعها في عدتها منه بالطلاق الرجعي، وإن راجعها قبل وضع الحمل.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنها في عدة من وطء الشبهة. والثاني: يصح؛ لأن عدتها عنه للطلاق الرجعي لم تنقض. وإن رأت الدم على الحمل، وقلنا: إنه حيض.. فإنها تتم عدة الطلاق بالأقراء - وهي الأطهار بين الدمين على الحمل - وله الرجعة عليها ما لم تنقض عدتها بالأقراء، فإذا انقضت الأقراء.. لم تصح رجعته. وتنقضي عدتها عن وطء الشبهة بوضع الحمل، وأما حكم نفقتها عليه.. فالذي يقتضي المذهب: أنا إذا قلنا: إنهما يتداخلان.. فعليه أن ينفق عليها ويكسوها ويسكنها إلى أن تضع، وإن قلنا: لا تتداخلان، ولم تر الدم على الحمل، أو رأته

مسألة تزوج وخالع أو طلقها بعوض ثم تزوجها في العدة

وقلنا: إنه ليس بحيض.. فإنه يجب عليه أن ينفق عليها في الأقراء بعد وضع الحمل؛ لأنها في عدة منه عن طلاق رجعي. وهل يجب عليه أن ينفق عليها مدة دم النفاس؟ فيه وجهان، ذكرناهما في التي قبلها. وهل يجب عليه أن ينفق عليها حال كونها حاملا؟ فإن قلنا: إن البائن الحامل تجب لها النفقة لنفسها.. لم تجب عليه نفقتها. وإن قلنا: إنها تجب لها بسبب الحمل.. وجب لها عليه النفقة. وأما إذا طلقها وهي حامل، ثم وطئها قبل الوضع.. فإنها تعتد بوضع الحمل عن الطلاق، ويجب عليها ثلاثة أقراء بوطئه إياها في العدة، وهل تدخل الأقراء في الحمل؟ على الوجهين. فإذا قلنا: إنهما يتداخلان.. فإنها تكون في العدة عن الطلاق والوطء إلى أن تضع، ولها عليه النفقة والكسوة والسكنى إلى أن تضع، وتصح رجعته ما لم تضع. وإن قلنا: إنهما لا تتداخلان، فإن لم تر الدم على الحمل، أو رأته وقلنا: إنه ليس بحيض.. فإنها في عدة الطلاق إلى أن تضع، وتستحق عليه ما تستحقه الرجعية إلى أن تضع، وتصح رجعته ما لم تضع، فإذا وضعت الحمل.. اعتدت بثلاثة أقراء عن وطء الشبهة، ولا تستحق عليه فيها نفقة ولا غيرها. وإن رأت الدم على الحمل وقلنا: إنه حيض.. فإنها تعتد بالأقراء من الحمل عن وطء الشبهة، وتعتد بالحمل عن الطلاق، وتستحق عليه ما تستحقه الرجعية إلى أن تضع، وتصح رجعته عليها ما لم تضع. [مسألة تزوج وخالع أو طلقها بعوض ثم تزوجها في العدة] إذا تزوج امرأة ودخل بها، وخالعها أو طلقها طلقة أو طلقتين بعوض، فتزوجها وهي في العدة.. صح. وقال المزني: لا يصح نكاحه لها، كما لا يصح نكاح غيره لها. وهذا خطأ؛ لأن

فرع خالعها حاملا ثم تزوجها ثم مات

نكاح غيره لها يؤدي إلى اختلاط المياه، وفساد النسب، ونكاحه لها لا يؤدي إلى ذلك. فإذا تزوجها.. انقطعت عدتها. وحكي عن أبي العباس بن سريج: أنه قال: لا تنقطع عدتها حتى يدخل بها، كما إذا تزوجها غيره في عدتها. وهذا ليس بصحيح. وقيل: لا يصح هذا عن أبي العباس؛ لأنها تصير بعد العقد فراشا له، ولا يجوز أن تكون فراشا له وتكون معتدة عنه، وتخالف إذا نكحها غيره في عدتها.. فإنها لا تصير فراشا له بالعقد. وإن طلقها.. نظرت: فإن وطئها بعد النكاح الثاني، ثم طلقها.. لزمها استئناف العدة، وتدخل فيها بقية العدة الأولى؛ لأنهما من واحد. وإن طلقها قبل أن يطأها.. لم يلزمها استئناف العدة، بل يجب عليها أن تتم العدة الأولى. وقال داود: (لا يلزمها) . دليلنا: أنا لو قلنا: لا تجب عليها العدة.. لأدى إلى أن يتزوجها في اليوم الواحد جماعة رجال، ويطأها كل واحد منهم، بأن يتزوجها الأول ويطأها، ثم يخالعها، ثم يتزوجها، ويطلقها قبل الدخول، فتتزوج بالثاني ويطأها، ثم يخالعها، ثم يتزوجها، ثم يطلقها قبل الدخول، ثم يتزوجها الثالث ويطأها، وعلى هذا إلى أن يجتمع على تزويجها ووطئها في اليوم الواحد مائة رجل، فتفسد أنسابهم. وهذا ظاهر الفساد. [فرع خالعها حاملا ثم تزوجها ثم مات] قال ابن الحداد: وإن خالع امرأته وهي حامل، ثم تزوجها حاملا، ثم مات.. فليس عليها إلا وضع الحمل، سواء أصابها بعد الخلع أو لم يصبها؛ لأن عدة الوفاة تنقضي بوضع الحمل، سواء دخل بها أو لم يدخل.

مسألة طلقها بعد الدخول ثم راجعها أثناء عدتها

[مسألة طلقها بعد الدخول ثم راجعها أثناء عدتها] وإن تزوج الرجل امرأة ودخل بها، ثم طلقها، ومضى عليها قرء أو قرءان، ثم راجعها.. انقضت العدة؛ لأنها صارت فرشا له، فلا يصح أن تكون معتدة عنه، فإن وطئها بعد الرجعة، ثم طلقها.. فعليها أن تستأنف العدة وتدخل فيها بقية العدة الأولى؛ لأنه قد حصل في رحمها ماء جديد له حرمة، فوجبت له العدة. وإن طلقها قبل أن يطأها.. ففيه قولان: أحدهما: تبني على الأولى. والثاني: يلزمها استئناف العدة. وقال داود: (لا يجب عليها عدة) . وهذا خطأ؛ لأنا لو قلنا: لا يجب عليها العدة.. لأدى إلى أن يجتمع على وطئها في اليوم الواحد جماعة رجال، بأن يتزوجها رجل ويدخل بها، ثم يطلقها طلاقا رجعيا، ثم يراجعها، ثم يطلقها قبل الدخول، ثم يتزوجها آخر، ويفعل مثل ذلك، وتتزوج بثالث، ويفعل مثل ذلك، فيؤدي إلى إفساد النسب. فإذا قلنا: تبني على العدة، وهو قوله في القديم، وبه قال مالك.. فوجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] [البقرة: 231] ولو احتاجت إلى استئناف العدة.. فقد أمسكها ضرارا؛ لأنه يراجعها في آخر عدتها، ثم يطلقها. وإذا قلنا: تستأنف العدة، وهو قوله في الجديد، وبه قال أبو حنيفة، وهو الأصح.. فوجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] [البقرة: 228] وهذه مطلقة. ولأنه إذا راجعها.. فقد عاد النكاح كما كان، فإذا طلقها.. استأنفت العدة، كالطلاق الأول. وإن طلق امرأته طلقة رجعية، فراجعها، ثم طلقها، ثم خالعها في العدة قبل أن يطأها بعد الرجعة، فإن قلنا: إن الخلع طلاق.. كان كما لو طلقها بعد الرجعة، وهل تبني على عدتها، أو تستأنف؟ على القولين. وإن قلنا: إن الخلع فسخ.. فاختلف أصحابنا فيه:

فرع طلق العبد أمة رجعيا ثم عتقت

فمنهم من قال: فيه قولان، كالطلاق. ومنهم من قال: تستأنف العدة، قولا واحدا؛ لأن الخلع نوع فرقة أخرى، فلا تبني عدته على عدة الطلاق. وإن طلق امرأته طلقة رجعية، ثم طلقها في العدة قبل أن يراجعها.. فهل تبني على عدتها، أو تستأنف العدة؟ فيه طريقان: [الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو راجعها ثم طلقها؛ لأن الشافعي قال - إذا راجعها، ثم طلقها في أحد القولين -: (إنها تستأنف) . ثم قال: (ومن قال بهذا.. لزمه أن يقول: ارتجع أو لم يرتجع سواء) . و [الطريق الثاني] : منهم من قال: تبني على عدتها، قولا واحدا. قال ابن الصباغ: وهو الأصح؛ لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطء ولا رجعة، فصار كما لو طلقها طلقتين في وقت واحد. [فرع طلق العبد أمة رجعيا ثم عتقت] إذا تزوج العبد أمة، فطلقها طلاقا رجعيا، ثم أعتقت في أثناء العدة.. فلها أن تختار فسخ النكاح، ولها أن لا تفسخ. فإن اختارت فسخ النكاح.. فهل تبني على عدتها، أو يلزمها استئناف العدة؟ فيه ثلاث طرق: [الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان. و [الثاني] : منهم من قال: لها أن تبني على العدة، قولا واحدا. وهو اختيار أبي إسحاق المروزي. و [الثالث] : منهم من قال: تستأنف العدة، قولا واحدا؛ لأن إحداهما من طلاق، والأخرى من فسخ. فإذا قلنا: إنها تستأنف العدة.. استأنفت عدة حرة؛ لأنها وجبت في حال الحرية.

وإذا قلنا: إنها تبني على الأولى.. فعلى ماذا تبني؟ فيه طريقان: [الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: تبني على عدة أمة. والثاني: تتم عدة حرة. كما لو كانت تحت حر وطلقها، ثم أعتقت.. فإن فيه قولين. و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: تتم عدة حرة، قولا واحدا؛ لأن الفسخ هاهنا طرأ على العدة، والفسخ يوجب العدة، فغيرها، بخلاف ما لو أعتقت تحت حر، أو تحت عبد، ولم تختر الفسخ.. فإن العتق لا يوجب العدة، فلم يغيرها. وإن لم تختر الفسخ.. نظرت: فإن لم يراجعها حتى بانت.. فلا يلزمها استئناف العدة، ولكن هل تتم عدة حرة، أو أمة؟ فيه قولان، مضى ذكرهما. وإن راجعها قبل انقضاء العدة.. فلها أن تختار فسخ النكاح، فإن اختارت الفسخ.. فهل يلزمها استئناف العدة، أو يجوز لها أن تبني على الأولى؟ فيه طريقان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالطلاق. و [الثاني] : منهم من قال: يلزمها أن تستأنف العدة، قولا واحدا؛ لأنها فسخت النكاح وهي زوجة. فإذا قلنا: إنها تستأنف العدة.. استأنفت عدة حرة. وإذا قلنا: تبني.. فهل يلزمها أن تتم عدة حرة، أو أمة؟ فيه طريقان، مضى ذكرهما.

مسألة طلقها واختلفا في الإصابة

[مسألة طلقها واختلفا في الإصابة] ] : إذا طلق الرجل زوجته، واختلفا في الإصابة: فادعى الزوج: أنه قد أصابها لثبوت الرجعة، وأنكرت الإصابة، أو ادعت المرأة: أنه أصابها لثبوت جميع المهر، وأنكر الزوج الإصابة.. نظرت: فإن اتفقا على: أنه قد خلا بها.. ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (القول قول من يدعي الإصابة) ؛ لأن الظاهر معه. و [الثاني] : قال في الجديد: (القول قول من ينكر الإصابة) . وهو الأصح؛ لأن الأصل عدم الإصابة. وإن لم يتفقا على الخلوة.. فالقول قول من ينكر الإصابة منهما، قولا واحدا؛ لأن الأصل عدم الإصابة. وإن ادعت الزوجة الإصابة، فأتت بشاهد واحد على مشاهدته الإصابة، أو على إقرار الزوج بها.. حلفت معه؛ لأن المقصود بدعواها في ذلك المال، وإن أتى الزوج بشاهد في الإصابة، وأراد أن يحلف معه.. لم يكن له ذلك؛ لأن المقصود بدعواه في ذلك غير المال. فإن أتت بولد لمدة الحمل من حين النكاح، ولم ينفه باللعان.. لحقه نسبه. فإن ادعت المرأة الإصابة لاستقرار المهر.. فنقل المزني: (أن القول قول الزوجة) ، فإذا حلفت.. استحقت جميع المهر. ونقل الربيع: (أن القول قول الزوج مع يمينه) . واختلف أصحابنا فيه على طريقين: فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيه قولان، ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غير هذا: أحدهما: القول قول الزوجة مع يمينها؛ لأن الظاهر معها؛ لأنا قد ألحقنا به النسب، والظاهر أن النسب لا يلحق إلا عن إصابة.

مسألة ادعت انقضاء العدة وأنكرها الزوج

والثاني: القول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإصابة، وقد يلحقه الولد من غير إصابة، بأن يطأها فيما دون الفرج، فيسبق الماء إلى فرجها، أو يبعث إليها بمائه، فتستدخله وتحمل منه. و [الطريق الثاني] : منهم من قال: هي على اختلاف حالين: فحيث قال: (القول قول الزوج) أراد به: إذا كانا قد اختلفا في الإصابة، وجعلنا القول قول الزوج، فحلف، وحكمنا بيمينه: أنه لم يصبها، ثم أتت بعد ذلك بولد يلحقه بالإمكان، ولم ينفه، ثم قالت بعد ذلك: قد أصبتني، وقال: ما أصبتك.. فالقول قوله؛ لأنا قد حكمنا بيمينه: أنه لم يصبها، فلا ننقض حكمنا في الظاهر بأمر محتمل؛ لجواز أن يكون الولد منه من غير وطء منه. وحيث قال: (القول قولها) أراد: إذا لم يكونا قد اختلفا في الإصابة، ثم أتت بولد، ولحقه نسبه، ثم خرس الزوج أو مات، وادعت الإصابة بعد ذلك.. فالقول قولها؛ لأن الظاهر معها. [مسألة ادعت انقضاء العدة وأنكرها الزوج] إذا ادعت انقضاء عدتها بالأقراء أو بوضع الحمل، وأنكرها الزوج.. فقد مضى ذكره. وإن ادعت انقضاء عدتها بالشهور، وأنكر الزوج، فإن اتفقا على وقت الطلاق.. لم يفتقر إلى اليمين، بل يحتسب ذلك، وإن اختلفا في وقت الطلاق.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن هذا اختلاف في قوله، وهو أعلم به. وإن ولدت وطلقها، فقالت: ولدت بعد الطلاق، وانقضت عدتي بالولادة، وقال الزوج: بل ولدت قبل الطلاق، فعليك العدة بالأقراء.. ففيه خمس مسائل: إحداهن: إذا اتفقا على وقت الولادة، واختلفا في وقت الطلاق، فإن اتفقا: أنها

ولدت يوم الجمعة، وقالت: طلقتني يوم الخميس، وقال الزوج: بل طلقتك يوم السبت.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن هذا اختلاف في قوله، وهو أعلم به. المسألة الثانية: إذا اتفقا على وقت الطلاق، واختلفا في وقت الولادة، مثل: أن اتفقا: أنه طلقها يوم الجمعة، وقالت الزوجة: ولدت يوم السبت، وقال الزوج: بل ولدت يوم الخميس.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الولادة من فعلها، وهي أعلم بها. المسألة الثالثة: إذا قال الزوج: طلقتك بعد الولادة، فقالت هي: بل طلقتني قبل الولادة، ولم يتفقا على وقت الولادة، ولا على وقت الطلاق.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء العدة عليها. المسألة الرابعة: إذا جهلا جميعا أن الطلاق وقع قبل الولادة أو بعدها، ولم يدعيا سبق أحدهما.. فعليها العدة بالأقراء؛ لأن الأصل بقاؤها، وله أن يراجعها، والورع أن لا يراجعها؛ لاحتمال أن تكون الولادة بعد الطلاق. المسألة الخامسة: إذا علم أحدهما، وجهل الآخر، مثل: أن قال الزوج: طلقتك بعد الولادة، وقالت: لا أعلم، هل طلقتني قبل الولادة، أو بعدها.. قلنا: ليس هذا بجواب، إما أن تجيبي بتصديقه أو تكذيبه، وإلا جعلناك ناكلة، وحلف، وكانت عليك العدة. ولو كانت هي العالمة، وهو الجاهل، مثل: أن قالت: طلقتني، ثم ولدت بعده، وقال الزوج: لا أدري، هل طلقت قبل الولادة، أو بعدها.. قلنا له: إما أن تجيب بتصديقها أو تكذيبها، وإلا.. جعلناك ناكلا، وحلفناها، وحكمنا بانقضاء عدتها، كما نقول فيمن ادعى على رجل دينا، فقال المدعى عليه: لا أدري.. فإنه يقال له: إما أن تصدقه، وإما أن تكذبه، وإلا.. جعلناك ناكلا، ويحلف المدعي، ويستحق.

مسألة اختلاف المطلقة وزوجها في مكان الإقامة

[مسألة اختلاف المطلقة وزوجها في مكان الإقامة] ] . روى المزني عن الشافعي: (لو صارت إلى منزل أو بلد بإذنه، ولم يقل لها: أقيمي، ولا: لا تقيمي، ثم طلقها، فقال: لم أنقلك، فقالت: نقلتني.. فالقول قولها) . وجملة ذلك: أنه إذا أذن لها في الخروج إلى منزل أو بلد، ثم طلقها، واختلفا: فقالت: نقلتني إلى هذا الموضع، وقال: ما نقلتك.. فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال بظاهر ما نقله المزني، وأن القول قولها؛ لأن إذنه لها في المضي إلى الموضع ظاهره الانتقال، فكانت دعواها موافقة للظاهر. وقال أبو إسحاق: إن قال لها: انتقلي إلى المنزل الفلاني، أو اذهبي، أو صيري إليه، أو أقيمي فيه، ثم اختلفا: فقالت: نقلتني للسكنى فيه، وقال: بل نقلتك إليه للإقامة فيه مدة.. فالقول قولها؛ لأن الظاهر من قوله: (أقيمي) أنه أراد على التأبيد. وإن قال لها: اذهبي إليه، أو صيري إليه، أو امضي إليه، ولم يقل: أقيمي.. فالقول قول الزوج؛ لأنه يحتمل النقلة للسكنى وللإقامة مدة، فكان القول قول الزوج، وحمل النص على الأولى دون الثانية. ومن أصحابنا من قال: الحكم كما ذكر أبو إسحاق؛ لأن المزني نقل: (القول قولها) في المسألتين معا؛ لأنه قال: (ولم يقل لها: أقيمي، ولا: لا تقيمي) ، إلا أن ما نقله أخطأ فيه، وإنما القول قولها إذا اختلفت هي وورثة الزوج؛ لأنها استوت هي والورثة في قصد الزوج، إلا أن الظاهر معها؛ لأن الأمر بالخروج يقتضي خروجا من غير عودة، فكان القول قولها. والله أعلم بالصواب

باب استبراء الأمة وأم الولد

[باب استبراء الأمة وأم الولد] إذا ملك الرجل أمة بابتياع، أو هبة، أو ميراث، أو غنيمة.. لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، بكرا أو ثيبا، يوطأ مثلها أو لا يوطأ، ممن يحمل مثلها أو لا يحمل، وبه قال عمر، وعثمان، وابن مسعود، وهو قول أبي حنيفة. وقال ابن عمر: (إن كانت بكرا.. فلا يجب عليه استبراؤها، وإن كانت ثيبا.. وجب عليه استبراؤها) . وبه قال داود وشيعته.

وقال مالك: (إن كانت ممن يوطأ مثلها.. لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها، وإن كانت ممن لا يوطأ مثلها.. لم يجب عليه استبراؤها) . وقال الليث بن سعد: (إن كانت ممن يحمل مثلها.. فلا توطأ حتى تستبرأ، وإن كانت ممن لا يحمل مثلها.. فإنها لا تستبرأ) . دليلنا: ما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عام أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض حيضة» وروي: «ولا غير حامل حتى تحيض» . ولم يفرق بين الصغيرة والكبيرة، والبكر والثيب، وبين من تحبل ومن لا تحبل. ولأنه ملك استمتاع جارية بملك اليمين بعد أن كانت محرمة عليه، فوجب عليه استبراؤها، كالثيب مع داود، وكمن يوطأ مثلها مع مالك، وكمن تحبل مثلها مع الليث. فقولنا: (بملك اليمين) احتراز منه إذا تزوجها. وقولنا: (بعد أن كانت محرمة عليه) احتراز منه إذا اشترى زوجته.

مسألة ما يعتد من طهرها

[مسألة ما يعتد من طهرها] وإذا وجب أن يستبرئ الأمة.. فلا يخلو: إما أن تكون حاملا، أو حائلا. فإن كانت حاملا.. لم يحصل الاستبراء إلا بوضع الولد؛ لحديث أبي سعيد. وإن كانت حائلا.. فلا تخلو: إما أن تكون ممن تحيض، أو ممن لا تحيض. فإن كانت ممن يحيض.. وجب استبراؤها بقرء، وفي القرء قولان، ومن أصحابنا من يحكيهما وجهين: أحدهما: أنه طهر؛ لأنه استبراء بقرء، فكان القرء هو الطهر، كما قلنا في العدة. والثاني: أن القرء هو الحيض، وهو الأصح؛ لقوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا حائل حتى تحيض حيضة» ، ولأن القرء يراد لمعرفة براءة الرحم، فإذا لم يكن بد من أحدهما.. كان بالحيض أولى؛ لأنه أدل على براءة الرحم، ويخالف الأقراء في العدة، فإنها تتكرر، ويتخللها الحيض. فإذا قلنا: إن القرء هو الطهر.. فلا يخلو: إما أن تكون حال وجوب الاستبراء طاهرا، أو حائضا. فإن كانت طاهرا.. فإنها تعتد ببقية الطهر قرءا، فإذا طعنت في الحيض.. فقد حصل القرء، إلا أنها لا يحل وطؤها، ولا تخرج من حكم الاستبراء حتى تطهر من الحيض، لتكون مضاهية للمعتدة، بأن يمر عليها الطهر المحسوب قرءا وحيضة على وجه التبع، فيعلم بذلك براءة رحمها. وإن كانت حال وجوب الاستبراء حائضا.. فإنها لا تعتد ببقية الحيض قرءا؛ لأن القرء الطهر، فإذا طهرت.. فقد طعنت في القرء، فإذا رأت الدم بعد الطهر.. فقد خرجت من الاستبراء؛ لأن في هذا الموضع قد تكرر رؤية الدم، فقويت المعرفة ببراءة رحمها، بخلاف الأولى، فإن رؤية الدم لم تتكرر.

فرع تبقى الجارية في يد المشتري لاستبرائها

وإذا قلنا: إن القرء الحيض، فإن كانت حال وجوب الاستبراء طاهرا.. لم تعتد ببقية الطهر؛ لأنا قلنا: إن القرء الحيض، فإذا طعنت في الحيض.. دخلت في القرء، فإذا طهرت.. خرجت من الاستبراء، وحلت. وإن كانت حال وجوب الاستبراء حائضا.. لم تعتد ببقية الحيض قرءا، فإذا طهرت وطعنت في الحيض بعده.. دخلت في القرء، فإذا طهرت.. خرجت من الاستبراء، وحلت. فإن قيل: فلم قلتم: تعتد ببقية الطهر قرءا على القول الأول، ولا تقولون: تعتد ببقية الحيض قرءا على هذا؟ قلنا: لا نقول هذا؛ لأن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حتى تحيض حيضة» . وبعض الحيض لا يسمى حيضة. ولأن بعض الطهر إنما اعتد به قرءا؛ لأنا قد قلنا: لا بد أن يتعقبه حيضة كاملة تدل على براءة رحمها، وبعض الحيضة لا يتعقبه إلا الطهر، والطهر لا يدل على براءة رحمها، وإنما يدل عليه الحيض. وإن وجب الاستبراء وهي ممن تحيض، فارتفع حيضها.. فهو كما لو ارتفع حيضها في العدة، على ما بيناه. وإن وجب استبراؤها وهي ممن لا تحيض لصغر أو كبر.. ففيه قولان: أحدهما: أنها تستبرأ بشهر؛ لأن كل شهر في مقابلة قرء في حق المعتدة، فكذلك هذا مثله. والثاني: تستبرأ بثلاثة أشهر، وهو الأصح؛ لأن براءة الرحم لا تحصل في الشهور إلا بذلك. [فرع تبقى الجارية في يد المشتري لاستبرائها] وتكون الجارية في يد المشتري زمن الاستبراء، سواء كانت جميلة أو قبيحة. وقال مالك: (إن كانت جميلة.. لم تكن في يد المشتري، وإنما تترك في يد

مسألة استبراء الوثنية

عدل، وإن كانت قبيحة.. كانت في يد المشتري؛ لأنه لا يؤمن أن يطأ الجميلة قبل الاستبراء، ويؤمن ذلك في القبيحة) . دليلنا: قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض» . والنهي إنما يتوجه على من كان متمكنا من الوطء. ولأنه استبراء لاستحداث ملك، فوجب أن يكون في يد من حدث له الملك، كما لو كانت قبيحة. وما ذكره.. غير صحيح؛ لأنه لا يؤمن أن يطأ القبيحة الوحشة أيضا، كما لا يؤمن ذلك في الجميلة. [مسألة استبراء الوثنية] إذا اشترى أمة مجوسية أو وثنية، فاستبرأها وهي مشركة، ثم أسلمت.. لم يعتد بذلك الاستبراء. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنها تعتد به. والمشهور هو الأول؛ لأنه استبرأها في وقت لا يحل له وطؤها، فلم يعتد به. فإن استبرأ المجوسية وكاتبها، فأسلمت، ثم حاضت بعد الإسلام، ثم عجزت عن أداء المال، ورجعت إلى ملكه.. لم تعتد باستبرائها في حال الكتابة والإسلام؛ لأنها كانت مدتها محرمة عليه بالكتابة. [فرع الاستبراء للاستباحة] وإن اشترى أمة مرتدة أو ذات زوج، فاستبرأها في هذه الحال.. لم يصح استبراؤها؛ لأن الاستبراء يراد للاستباحة، ولا توجد الاستباحة في هذه الأحوال. وإن استبرأ أمة معتدة.. فقال الشيخ أبو إسحاق: لا يصح استبراؤها، كالمرتدة. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يلزمه استبراؤها بعد عدتها؟ فيه قولان.

مسألة وضعت قبل التفرق من البيع

وإن اشترى العبد المأذون له في التجارة أمة.. فالملك فيها للسيد، فإن أراد السيد وطأها، فإن لم يكن على المأذون له في التجارة دين.. كان له ذلك، ويصح استبراؤها. وإن كانت في يد العبد، فإن كان على المأذون له دين.. لم يكن للسيد وطؤها؛ لأن الدين متعلق بها، فهي كالمرهونة، وقد تحبل بوطء السيد، فتتلف. وإن استبرئت قبل قضاء الدين، ثم قضي الدين.. لم يعتد بالاستبراء الأول؛ لأنه لم يعقب إباحة، فلم يعتد به. وهكذا: لو اشترى الرجل أمة، فرهنها قبل الاستبراء، ثم استبرأها وهي مرهونة، ثم قضى الدين أو أبرأه منه المرتهن.. فإنه لا يعتد بالاستبراء؛ لأنه لم يعقب إباحة، فلم يعتد به. [مسألة وضعت قبل التفرق من البيع] قال الشافعي: (ولو لم يفترقا حتى وضعت حملا.. لم تحل حتى تطهر من نفاسها، ثم تحيض حيضة مستقبلة) . وجملة ذلك: أنه إذا اشترى أمة وقبضها، فولدت أو حاضت بعد انقضاء الخيار.. حصل الاستبراء، وإن قبضها، ثم ولدت أو حاضت قبل انقضاء خيار المجلس أو خيار الثلاث، فإن قلنا: إن المشتري لا يملكها قبل انقضاء الخيار.. لم يعتد بهذا عن الاستبراء؛ لأنه وجد وهي في ملك البائع، وإن قلنا: إن المشتري يملكها نفس بالعقد، أو قلنا: إنه موقوف، واختار الإجازة.. ففيه وجهان: أحدهما: يعتد به، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأن الاستبراء حصل وهي في ملكه. والثاني: لا يعتد به؛ لأن ملكه كان غير مستقر؛ لأن للبائع أن يسترجعها.

مسألة تزوج أمة ثم اشتراها انفسخ النكاح

وإن استبرأها بعد انقضاء الخيار وقبل القبض، أو أوصى له بها وقبل الوصية واستبرأها قبل القبض.. فهل يعتد به؟ فيه وجهان: أحدهما: يعتد به، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأن الشافعي قال: (حتى تطهر من النفاس، وتحيض حيضة) . ولم يشترط القبض. ولأنه استبرأها بعد تمام الملك، فأشبه إذا كان بعد القبض. والثاني: لا يعتد به؛ لأن الشافعي قال: (والاستبراء: أن تمكث عند المشتري طاهرا بعد ملكها) ، ولأن ملكه قبل القبض غير مستقر. وإن وهبت له الجارية، واستبرأها قبل القبض.. لم يعتد به؛ لأنه استبرأها قبل أن يملكها. وإن ورثها واستبرأها قبل القبض.. اعتد به؛ لأن الموروث قبل القبض كالمقبوض في تمام الملك وجواز التصرف فيه. [مسألة تزوج أمة ثم اشتراها انفسخ النكاح] إذا تزوج الحر أمة، ثم اشتراها.. انفسخ النكاح، والمنصوص: (أنه لا يلزمه استبراؤها) . وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه يلزمه. وليس بشيء؛ لأن الاستبراء يراد لئلا يختلط الماءان، ويفسد النسب، وهاهنا الماءان له، فلا يؤدي إلى ذلك. قال الشافعي: (وأستحب له أن يستبرئها) . وإنما استحب ذلك لمعنيين: أحدهما: أنها قد تكون حاملا وقت الشراء، فلا تصير به أم ولد، وإذا حملت بعد الشراء.. صارت به أم ولد؛ فاستحب الاستبراء؛ لتمييز حكمها. والثاني: أن الولد الذي حملت به قبل الشراء يملكه، ويعتق عليه، ويكون له عليه

مسألة ملك أمة ثم باعها ولزم البيع ثم تقايلا

الولاء، والولد الذي تحمل به بعد الشراء لا يملكه، ولا يعتق عليه، ولا يثبت له عليه الولاء، فاستحب استبراؤها؛ لتمييز حكم الولد في ذلك. [مسألة ملك أمة ثم باعها ولزم البيع ثم تقايلا] إذا ملك الرجل أمة، ثم باعها من رجل أو امرأة أو خصي، ولزم البيع بينهما، ثم تقايلا البيع، وعادت إلى البائع.. فلا يجوز له وطؤها حتى يستبرئها، سواء قبضها المشتري أو لم يقبضها. وقال أبو يوسف: إن كان المشتري قد قبضها.. فلا يجوز للبائع وطؤها حتى يستبرئها. وإن لم يقبضها.. فالقياس: أنه يستبرئها، ولكن جوزنا له أن لا يستبرئها استحسانا. وهذا غلط؛ لأنها حرمت عليه بعقد معاوضة، وحلت له بفسخه، فوجب عليه استبراؤها، كما لو كان بعد القبض. [فرع كاتبها فعجزت ورجعت إليه] وإن كاتب الرجل أمته، فعجزت ورجعت إلى ملك سيدها، أو ارتد السيد أو الأمة أو ارتدا وعاد المرتد إلى الإسلام، أو زوج أمته وطلقها الزوج قبل الدخول.. لم يجز له وطؤها قبل استبرائها. وقال أبو حنيفة: (يحل له في جميع هذه المسائل قبل الاستبراء) . دليلنا: أنه عاد ملكه على استمتاعها بعد أن حرم عليه، فوجب عليه استبراؤها، كما لو باعها، ثم اشتراها. وإن زوج أمته، ودخل بها الزوج، وطلقها، واعتدت عن الزوج.. فهل يجب على السيد استبراؤها بعد انقضاء عدتها؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه؛ لأنه تجدد له الملك على استمتاعها، فوجب عليه استبراؤها، كما لو باعها، ثم اشتراها.

مسألة يحرم الوطء قبل الاستبراء

والثاني: لا يجب عليه استبراؤها، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة؛ لأن الاستبراء يراد لبراءة رحمها، وقد حصل ذلك بالعدة. وإن كانت له أمة، فرهنها، ففك الرهن.. لم يجب عليه استبراؤها؛ لأنها لم تخرج من ملكه، وإنما حرم عليه استمتاعها لعارض، وقد زال العارض، فلم يجب عليه الاستبراء، كما لو أحرمت بالحج أو صامت. [مسألة يحرم الوطء قبل الاستبراء] وإذا ملك الرجل أمة.. حرم عليه وطؤها قبل الاستبراء؛ لحديث أبي سعيد، وهل يحل له التلذذ بها بغير وطء، كالقبلة، واللمس، والنظر بشهوة؟ ينظر فيها: فإن ملكها بغير السبي.. لم يحل له ذلك؛ لأنا إنما منعناه من الوطء مخافة أن تكون أم ولد لغيره، وهذا المعنى موجود في القبلة واللمس والنظر بشهوة. وإن ملكها بالسبي.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له تقبيلها، ولا لمسها، ولا النظر إليها بشهوة؛ لأن من حرم وطؤها بحكم الاستبراء.. حرم التلذذ بها بالقبلة واللمس والنظر بشهوة، كما لو ملكها بغير السبي، وفيه احتراز من امرأته الحائض، فإنه حرم وطؤها بغير حكم الاستبراء، فيجوز التلذذ بها بغير الوطء. والثاني: لا يحرم عليه ذلك، وهو الأصح؛ لما روي عن ابن عمر: أنه قال (وقع في سهمي من سبي جلولاء جارية، كأن عنقها إبريق فضة، فلم أتمالك أن وثبت عليها فقبلتها والناس ينظرون) ، ولأن المسبية أمته، حائلا كانت أو حاملا، وإنما

فرع وجوب العدة على زوجته إن وطئت بشبهة

حرم وطؤها؛ لئلا يختلط ماؤه بماء مشرك، وهذا لا يوجد في التلذذ بها بغير الوطء، بخلاف غير المسبية، فإنها يجوز أن لا تكون أمته. [فرع وجوب العدة على زوجته إن وطئت بشبهة] وإن كان لرجل زوجة، ووطئها غيره بشبهة.. فإنه يجب عليها العدة، ولا يجوز للزوج وطؤها في حال عدتها؛ لئلا يختلط الماءان، ويفسد النسب، وهل يحرم عليه التلذذ بها بالقبلة واللمس والنظر بشهوة؟ فيه وجهان، كالتي قبلها. [مسألة وجوب الاستبراء على المشتري] ] : وإذا ملك الرجل أمة، وأراد بيعها.. فإنه لا يجب عليه استبراؤها، وإنما يجب ذلك على المشتري. وقال عثمان البتي: الاستبراء يجب على البائع دون المشتري. دليلنا: ما روي: «أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض» . وهذا أمر للمشتري بالاستبراء؛ لأنه قال: " لا «توطأ حامل حتى تضع» . والنهي يقتضي التحريم، والوطء إنما يكون محرما قبل الاستبراء على المشتري، فأما البائع: فلا يحرم عليه الوطء قبل الاستبراء، وإنما يقال له: إن اخترت بيعها.. فلا تبع حتى تستبرئها، وإن وطئتها.. فاستأنف الاستبراء. ولأنه علق التحريم بغاية، وهو الوضع والحيض، فدل على: أنه إذا وجدت الغاية.. ارتفع تحريم الوطء، وهذا المعنى لا يوجد إلا في حق المشتري، فأما البائع: فإنها إذا وضعت أو حاضت.. لم يرتفع التحريم في حقه على قول من أوجب

فرع استبراء المشتري لازم

الاستبراء عليه. ولأن المشتري ملك الاستمتاع بجارية بملك اليمين بعد تحريمها عليه، فوجب عليه استبراؤها، كالمسبية. [فرع استبراء المشتري لازم] وإذا اشترى أمة.. فلا يجوز له وطؤها حتى يستبرئها، سواء استبرأها البائع أو لم يستبرئها، وسواء إن اشتراها من امرأة أو من ولي طفل أو من رجل خصي؛ لحديث أبي سعيد الخدري، وهو إجماع. وإن وطئ الرجل أمته، ثم باعها قبل أن يستبرئها، وأراد المشتري أن يزوجها.. لم يصح حتى يستبرئها قبل النكاح. وكذلك: لو اشترى أمة واستبرأها، ووطئها، وأراد أن يزوجها.. لم يصح النكاح حتى يستبرئها قبل النكاح. وكذلك: لو اشترى أمة من رجل، ووطئها، وباعها قبل الاستبراء، فأعتقها المشتري قبل أن يستبرئها، وأراد أن يتزوج بها سيدها الذي أعتقها.. لم يصح حتى يستبرئها. وقال أبو حنيفة في هذه الثلاث المسائل: (يجوز النكاح قبل الاستبراء) . وقيل: إن الرشيد ابتاع جارية، وأراد وطأها في الحال، فقيل له: لا يجوز لك ذلك قبل الاستبراء، فتاقت نفسه إليها، فسأل أبا يوسف عن ذلك، فقال له: أعتقها، وتزوجها، ففعل ذلك، وعظم شأن أبي يوسف عنده بذلك. دليلنا: ما روي: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تسق ماءك زرع غيرك» . وأراد به:

في الوطء، وهذا الزوج إذا وطئها.. فقد سقى ماءه زرع غيره؛ لأن البائع أو المشتري قد وطئها قبله، ولم تستبرأ، ولا يؤمن أن تكون حاملا. وروى أنس: أن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل للرجلين أن يتشاركا في وطء امرأة في طهر واحد» . وهذا الزوج إذا وطئها.. فقد اشتركا في طهر واحد. ولأنه وطء له حرمة، فلم يجز لغير الواطئ نكاحها، كالموطوءة بنكاح. وإن اشترى الرجل أمة من امرأة، أو أمة طفل لا يجامع مثله، أو من خصي، أو من رجل فحل وطئها، إلا أن البائع استبرأها قبل البيع.. فيجوز للمشتري أن يتزوجها ويزوجها غيره قبل الاستبراء، وإن أعتقها المشتري.. كان له أن يتزوجها قبل الاستبراء أيضا. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا استبرأها البائع.. فهل يجوز للمشتري أن يزوجها غيره قبل الاستبراء، وهل يجوز له أن يتزوجها إذا أعتقها قبل أن يستبرئها؟ فيه وجهان، الأصح: أنه يجوز. فإن قيل: فقد منعتموه من وطئها في هذه المسائل قبل الاستبراء، فكيف يجوز له إنكاحها ونكاحها؟ قلنا: الفرق بينهما: أنه لا ضرر على أحد بترك الاستبراء في النكاح، والظاهر براءة رحمها من ماء كل أحد، ولو أتت بولد من غير الزوج.. أمكنه نفيه باللعان، وليس كذلك وطؤه بملك اليمين قبل الاستبراء؛ لأن على المشتري ضررا بذلك؛ لأنها لو أتت بولد لأقل من مدة الحمل.. لحقه، ولا ينتفي عنه باللعان، وإنما ينتفي ولد الأمة عن سيدها، بأن يدعي: أنه استبرأها، ويحلف عليه، وإذا لم يكن استبرأها.. لم يمكنه أن يحلف عليه. ولأن الاستبراء لحق الملك إنما يكون عقيب الملك، فلم يعتد بما تقدم من الاستبراء، والاستبراء في النكاح يكون قبل النكاح، وهو العدة، وقد تقدم الاستبراء، فوجب أن يعتد به.

مسألة أم الولد تستبرأ بقرء ولا عدة وفاة عليها

[مسألة أم الولد تستبرأ بقرء ولا عدة وفاة عليها] ] : إذا أعتق الرجل أم ولده في حياته، أو عتقت بموته.. لزمها أن تستبرئ بقرء، كالمسبية، ولا يلزمها عدة الوفاة بموته، وبه قال من الصحابة: ابن عمر، وعائشة، وهو قول الشعبي، ومالك، وأحمد، وأبي ثور، وأبي عبيد. وقال أبو حنيفة: (يلزمها أن تعتد بثلاثة أقراء، كالحرة إذا طلقت) . وبه قال ابن مسعود. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: (إذا مات عنها سيدها.. لزمها عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا) وبه قال داود، وأحمد. دليلنا: أنه استبراء بحكم ملك اليمين، فكان قرءا، كالمسبية.

فرع تزويج أم الولد

وعلى عبد الله بن عمرو: أن عدة الوفاة إنما تجب عن نكاح صحيح، وأم الولد ليست بزوجة لسيدها، فلم يلزمها عدة الوفاة، كما لو تزوج امرأة تزويجا فاسدا، ووطئها، ومات عنها. [فرع تزويج أم الولد] إذا كان للرجل أم ولد، وأراد تزويجها.. فهل يصح؟ وفيه ثلاثة أقوال، مضى ذكرها في (عتق أمهات الأولاد) . فإذا قلنا: لا يصح.. فلا كلام. وإن قلنا: يصح.. فلا يجوز تزويجها حتى يستبرئها قبل النكاح؛ لأنها قد صارت فراشا له، فإذا زوجها السيد، ثم مات عنها السيد أو أعتقها وهي تحت الزوج أو في عدة منه.. فإنه لا يلزمها الاستبراء عن السيد. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : وخرج ابن سريج وجها آخر: أنه يلزمها الاستبراء بعد فراغها من حق الزوج. والمنصوص هو الأول؛ لأنها ليست بفراش للسيد، فلم يلزمها الاستبراء عنه، كالأجنبي. وإن مات زوجها، واعتدت عنه عدة الوفاة وسيدها باق.. فالمنصوص: (أنها تعود فراشا لسيدها، ولا يلزمه استبراؤها بعد انقضاء عدتها) . قال ابن خيران: فيها قول آخر: أنها لا تعود فراشا للسيد حتى يستبرئها بعد انقضاء عدتها من الزوج ويطأها؛ لأنها حرمت عليه بعقد معاوضة، وحلت بفسخه، فلم تحل له قبل الاستبراء، ولا تعود فراشا له إلا بالوطء، كما لو وطئ أمته، ثم باعها، ثم اشتراها أو كاتبها، ثم عجزت ورجعت إلى ملكه. والأول أصح؛ لأن ملكه لم يزل عنها، وإنما حرمت عليه لعارض، وقد زال العارض، وعادت فراشا له، فلم يجب عليه استبراؤها، كالمرهونة.

فرع زوج أم ولد ومات السيد والزوج

وإن مات سيدها بعد انقضاء عدتها.. فعلى قول الشافعي: يجب عليها أن تستبرئ عن سيدها بقرء؛ لأنها قد عادت فراشا له، وعلى القول الذي حكاه ابن خيران: لا يجب عليها أن تستبرئ عنه، بل لها أن تتزوج في الحال؛ لأنها لم تعد فراشا له. وإن استبرأ الرجل أم ولده، ثم أعتقها أو مات عنها.. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فهل يجوز لها أن تتزوج قبل الاستبراء؟ فيه وجهان، كما قال: إذا استبرأ البائع الجارية.. زوجها المشتري قبل الاستبراء. والذي يقتضي قياس قول أصحابنا البغداديين هاهنا: أنه يجوز لها أن تتزوج قبل الاستبراء؛ قياسا على قولهم هناك. [فرع زوج أم ولد ومات السيد والزوج] وإن زوج الرجل أم ولده - إذا قلنا: يصح - ومات السيد والزوج، ولم يعلم السابق منهما.. ففيه ثلاث مسائل: إحداهن: أن يكون بين موتهما شهران وخمسة أيام بلياليها فما دون، إذا قلنا: إن عدة الأمة في الوفاة شهران وخمس ليال.. فيجب عليها هاهنا أن تعتد من أبعدهما موتا بأربعة أشهر وعشر، ولا يعتبر أن يكون فيها حيضة؛ لأن السيد إذا كان مات أولا.. فقد مات وهي مزوجة، ولا يجب عليها استبراء على المذهب الصحيح، خلافا لابن سريج. وإذا مات الزوج بعده.. لزمها أن تعتد عنه عدة الحرائر أربعة أشهر وعشرا. وإذا مات الزوج أولا.. فقد مات السيد وهي في عدة الزوج، ولا يلزمها الاستبراء عنه على المذهب أيضا، وقد عتقت بموت السيد في أثناء العدة، وهل يلزمها إتمام عدة الحرة؟ على قولين. فإذا احتمل الأمر هذين الحالين.. لم يجب عليها الاستبراء بالقرء عن السيد؛ لأنه

لم يجب عليها بحال، ووجب عليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من بعد آخرهما موتًا؛ ليسقط الفرض عنها بيقين. المسألة الثانية: إذا كان بين موتهما أكثر من شهرين وخمسة أيام بلياليها.. فإنه يجب عليها أن تعتد هاهنا بأكثر الأمرين من أربعة أشهر وعشر وقرء؛ لأن السيد إن مات أولًا.. فقد عتقت بموته، ولا يلزمها الاستبراء عنه، ولكن يلزمها أن تعتد عن الزوج عدة الحرائر أربعة أشهر وعشرًا، وإن مات الزوج أولًا.. فعدتها عنه شهران وخمسة أيام، فإذا مات السيد بعد انقضاء عدتها من الزوج.. عادت فراشًا للسيد على المذهب، خلاف لما حكاه ابن خيران، فإذا مات السيد.. لزمها الاستبراء عنه بقرء. وإذا احتمل الأمر هذين الحالين.. لزمها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر فيها قرء؛ ليسقط الفرض عنها بيقين. وحكى أبو إسحاق المروزي، عن بعض أصحابنا: أنه قال: ينبغي أن يكون القرء بعد شهرين وخمسة أيام من هذه الأربعة الأشهر والعشر؛ لأنه يمكن أن يكون الزوج مات أولًا، فتحتاج أن تعتد عنه بشهرين وخمسة أيام؛ ثم مات السيد بعده.. فلزمها الاستبراء عنه بقرء بعده؛ لئلا يجتمع الاستبراء عن السيد والاعتداد عن الزوج في زمان واحد. وقال عامة أصحابنا: لا فرق بين أن يوجد القرء في الشهرين الأولين، أو فيما بعدهما؛ لأن السيد إن مات أولًا.. فلا قرء عليها، وإن مات الزوج أولًا.. فقد مات السيد بعد مضي عدة الزوج، فلا تجتمع عدتهما. المسألة الثالثة: إذا أشكل الأمر، ولم يعلم: هل كان بين موتهما شهران وخمسة أيام بلياليها، أو أكثر من ذلك؟ فيجب عليها هاهنا أن تأخذ بأغلظ الأمرين، وهو: إن كان بين موتهما أكثر من شهرين وخمسة أيام بلياليها.. فتعتد بأكثر الأمرين من أربعة أشهر وعشر أو قرء؛ ليسقط الفرض بيقين، وإن كانت ممن لا تحيض.. يكفيها أربعة أشهر وعشر. إذا ثبت هذا: فنقل المزني عن الشافعي، قال: (وإن مات أحدهما قبل الآخر

فرع لا ترث أم الولد حتى تستيقن وفاة سيدها

بيوم أو يومين، أو شهرين وخمس ليال، أو أكثر.. فعليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من عند آخرهما موتًا، فيها حيضة) . فقال المزني: هذا عندي غلط، بل عليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر بلا حيضة إذا كان بين موتهما شهران وخمس ليال فما دون. قال أصحابنا: الفقه كما ذكره المزني، وهو مراد الشافعي، وما نقله.. فتأويله: أنه جمع بين المسائل، وأجاب عن الأخيرة، وهي: إذا كان بين موتهما أكثر من شهرين وخمس ليال، وقد يفعل مثل ذلك. [فرع لا ترث أم الولد حتى تستيقن وفاة سيدها] ] . قال الشافعي: (ولا ترث زوجها حتى تستيقن أن سيدها مات قبل زوجها، فترثه) . وجملة ذلك: أن السيد إذا زوج أم ولده، ومات السيد والزوج، ولم يعلم أيهما مات أولًا.. فإنه لا ميراث لها من الزوج، ولا يوقف لها من ماله شيء؛ لأن الأصل فيها الرق وعدم ميراثها، فلم ترث، ولم يوقف لها من مال الزوج شيء بالشك. [فرع لهما جارية فوطئاها وجب استبراؤها] ] : وإن كانت جارية بين رجلين، فوطئاها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: يجب عليها استبراء؛ لأنه يجب لحقهما، فلم يتداخلا، كالعدتين. والثاني: يجب استبراء واحد؛ لأن القصد معرفة براءة رحمها، وذلك يحصل باستبراء واحد. وإن زوج الرجل أم ولده فمات زوجها، ووطئها السيد في عدتها جاهلًا بتحريم

مسألة اشترى جارية ظهر حملها

الوطء أو بالعدة، ثم مات المولى في عدتها.. فعليها أن تتم عدة الزوج، وهل تتم عدة حرة، أو أمة؟ فيه قولان. فإذا فرغت من عدة الزوج.. قال ابن الحداد: فعليها أن تأتي بحيضة؛ لوطء سيدها لها في العدة؛ لأنهما عدتان لرجلين، فلا تتداخلان، ولا يحتسب بما مر من الحيض في عدة الزوج. [مسألة اشترى جارية ظهر حملها] إذا اشترى رجل من رجل جارية، وقبضها المشتري، وظهر بها حمل، فقال البائع: هذا الحمل مني، فإن صدقه المشتري على ذلك.. فقد اتفقا على فساد البيع، فيحكم بفساده، ويرد الثمن، ويلحق النسب بالبائع، وتكون الجارية أم ولد له، وإن كذبه المشتري، وقال: هذا الولد ليس منك.. نظرت في البائع: فإن كان لم يسبق منه إقرار بوطء الجارية قبل البيع أو حال البيع.. كان القول قول المشتري مع يمينه: أنه لا يعلم أن الحمل من البائع؛ لأن البائع لا يقبل قوله فيما يفسد البيع، كما لو باع من رجل عبدًا، ثم أقر: أنه كان قد أعتقه قبل البيع أو غصبه، فإن حلف المشتري.. سقطت دعوى البائع، وكانت الجارية والولد مملوكين للمشتري. وهل يثبت نسب الولد من البائع؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في " الأم ": (يثبت نسبه منه؛ لأنه لا ضرر في الحال على المشتري؛ لأن الولد يجوز أن يكون ابنا لرجل ومملوكًا لآخر) . والثاني: لا يثبت نسبه منه؛ لأن على المشتري ضررًا بذلك، بأن يعتق الولد، فيكون ولاؤه وميراثه للبائع. وعلى القولين: لو ملك البائع بعد ذلك الجارية والولد أو أحدهما.. لزمه حكم إقراره. وإن نكل المشتري عن اليمين.. حلف البائع: أن الحمل منه قبل البيع، فإذا حلف.. حكم بفساد البيع، ولحقه الولد، وكانت الجارية أم ولد له.

وإن لم يحلف البائع عند نكول المشتري.. فهل ترد اليمين على الجارية والولد؟ يحتمل أن تكون على طريقين، كما قلنا في الراهن إذا ادعى: أن المرتهن أذن له في وطء الجارية المرهونة، وأتت بولد لمدة الحمل، أو أعتقها بإذنه، وأنكر المرتهن، ونكلا عن اليمين.. فهل ترد اليمين؟ فيه طريقان. فأما إذا أقر البائع قبل البيع أو حال البيع: أنه كان قد وطئها قبل البيع، فإن كان البائع قد استبرأها قبل البيع.. نظرت: فإن أتت بالولد لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء.. لحقه الولد، وكان البيع باطلًا، والجارية أم ولد له؛ لأنا قد تبينا أن الولد كان موجودًا وقت الاستبراء، والظاهر أنه من البائع؛ لأنها حملت به وهي على فراشه. وإن أتت به لستة أشهر فما زاد من وقت الاستبراء.. لم يلحقه الولد، ولم يحكم بكون الجارية أم ولد له، ولا يحكم بفساد البيع؛ لأنه لو وطئ جاريته، واستبرأها، وأتت بولد لستة أشهر فما زاد من وقت الاستبراء وهي في ملكه.. لم يلحقه ولدها، فلأن لا يلحقه وهي في ملك غيره أولى. وإن لم يستبرئها قبل البيع، ولكن استبرأها المشتري بعد الشراء.. نظرت: فإن أتت بالولد لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء.. كان الولد لاحقا بالبائع، والجارية أم ولد له، والبيع باطلًا؛ لأنها أتت به على فراش البائع، والظاهر أنه منه. وإن أتت به لستة أشهر فما زاد من وقت الاستبراء.. لم يلحق الولد البائع، ولا يحكم بكونها أم ولد له، ولا بفساد البيع؛ لأن البائع لو اشتراها، وأتت بولد لستة أشهر فما زاد من حين استبرائها.. لم يلحقه ولدها، فبأن لا يلحقه إذ أتت به على هذه الصفة، وهي في ملك غيره أولى. وكل موضع لا يلحق الولد بالبائع، فإن كان المشتري لم يطأ الجارية.. فإن الجارية والولد مملوكان له، وإن وطئها بعد الاستبراء.. نظرت: فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من حين وطئه.. لم يلحقه الولد، وكانا مملوكين له.

فرع قبض الجارية فادعى: أنها حامل

وإن وضعته لستة أشهر فما زاد من وقت وطئه.. لحقه نسب الولد، وكانت الجارية أم ولد له؛ لأن الظاهر أنه منه. وإن وطئها المشتري قبل أن يستبرئها، وأتت بولد.. فقد أتت به على فراش مشترك بين البائع والمشتري، فيكون الحكم فيه كما لو أتت الحرة بولد على فراش مشترك، على الأقسام الأربعة التي تقدم ذكرها. [فرع قبض الجارية فادعى: أنها حامل] ] : قال الشيخ أبو حامد: إذا اشترى جارية وقبضها، فظهر بها حمل، فادعى المشتري: أنه قبضها وهي حامل، فإن صدقه البائع.. فله ردها بالعيب؛ لأن الحمل ينقص من جمالها وكمالها، ويخاف عليها منه عند الولادة، وإن كذبه البائع أنها حامل.. عرضت على القوابل؛ لأن للحمل أمارات وعلامات يعرف بها، فإذا قلن: إنها حامل.. ثبت له ردها، فإذا ردها.. نظرت: فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من حين قبضها المشتري.. فالقول قول المشتري بلا يمين؛ لأنا نعلم يقينا أن هذا الحمل كان موجودا في يد البائع. وإن ولدته لأكثر من أربع سنين من حين قبضها المشتري.. كان القول قول البائع بلا يمين؛ لأنا نتحقق أنه حدث في يد المشتري، ولا رد للمشتري. وإن وضعته لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من حين قبضها المشتري.. فيحتمل أن يحدث في يد كل أحد منهما، فيكون القول قول البائع مع يمينه: أنه لم يحدث في يده؛ لأن الأصل عدم حدوثه في يده، ولا يثبت له الرد. وبالله التوفيق

كتاب الرضاع

[كتاب الرضاع]

كتاب الرضاع للرضاع تأثير في تحريم النكاح، وفي ثبوت الحرمة، وفي جواز النظر والخلوة. والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، إلى قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] [النساء: 23] ، فذكر الله في جملة الأعيان المحرمات: الأم المرضعة، والأخت من الرضاعة، فدل على: أن له تأثيرًا في التحريم. وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة» وروى سعيد بن المسيب، «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: قلت: يا رسول الله،

هل لك في ابنة عمك حمزة؛ فإنها أجمل فتاة في قريش؟ فقال: أما علمت أن حمزة أخي من الرضاع، وأن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب؟» ويدل على ثبوت الحرمة به: ما روي: «أن وفد هوازن قدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكلموه في سبي أوطاس، فقال رجل من بني سعد: يا محمد، إنا لو كنا مجلنا للحارث بن أبي سمرة أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل منزلك هذا منا.. لحفظ ذلك لنا وأنت خير للمكفولين، فاحفظ ذلك» وإنما قالوا له ذلك؛ لأن حليمة التي أرضعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت من بني سعد بن بكر بن وائل، ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولهم. ومعنى قوله: (ملجنا) ، أي: أرضعنا، و (الملج) : هو الرضاع. وروى الساجي في كتابه، «عن أبي الطفيل: أنه قال: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بالجعرانة وهو يقسم لحمًا، فجاءته امرأة، فدنت منه، ففرش لها إزاره، فجلست عليه، قلت: من هذه؟ قال: هذه أمه التي أرضعته» وإنما أكرمها لأجل الحرمة التي حصلت بينهما بالرضاع، فدل على: أن الحرمة تثبت به. وإذا ثبت هذا: فبلغت المرأة سن الحيض، وثار لها لبن.. فإنه يكون طاهرًا ناشرًا للحرمة، يجوز بيعه، ويضمن بالإتلاف، ويجوز الاستئجار عليه.

مسألة ظهور لبن في فم ولد يثبت النسب

قال المسعودي [في " الإبانة "] : ويحكم ببلوغها بذلك، سواء ولدت قبله أو لم تلد. وحكى ابن القاص وجهًا آخر: أنه إذا نزل لبن لها على غير ولد.. فهو كلبن الرجل لا حرمة له. والأول أصح؛ لأن جنسه معتاد. وأما إذا نزل للمرأة لبن قبل أن تستكمل تسع سنين.. فلا يثبت له حرمة، ولا تنتشر الحرمة بإرضاعه، ويكون نجسًا، ولا يجوز بيعه، ولا يضمن بالإتلاف، ولا يجوز عقد الإجارة عليه. قال الشاشي: وإن باع أمة فيها لبن بلبن آدمية.. صح البيع، وإن باع شاة في ضرعها لبن بلبن شاة.. لم يصح البيع. والفرق بينهما: أن لبن الشاة في الضرع حكمه حكم العين؛ ولهذا: لا يجوز عقد الإجارة عليه. ولبن الآدمية في ضرعها ليس له حكم العين، بل هو كالمنفعة؛ ولهذا: يجوز عقد الإجارة عليه. وإن باع لبن آدمية بلبن آدمية متفاضلًا.. لم يصح. [مسألة ظهور لبن في فم ولد يثبت النسب] ] : إذا ثار للمرأة لبن على ولد ثابت النسب من رجل ولد على فراشه، وأرضعت به طفلا رضاعًا تامًا.. انتشر حكم الرضاع في التحريم والحرمة بين الرضيع والمرضعة، وبين الرضيع وبين الفحل، وهو أبو ولد المرأة التي ثار اللبن له، وبه قال علي بن أبي طالب، وابن عباس، وعطاء، وطاووس، ومالك، ومجاهد، والليث، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.

وقال ابن عمر، وابن الزبير: (لا يثبت التحريم بين الرضيع وبين الفحل) . فيجوز للفحل أن ينكح الرضيع إن كان بنتًا، ويجوز للرضيع أن ينكح أخت الفحل - إن كان الرضيع رجلًا - وأخيه - إن كان الرضيع بنتًا - وبه قال ابن المسيب، وسليمان بن يسار، وربيعة، وحماد، والأصم، وابن علية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] [النساء: 23] فدليل خطابه: أنه يجوز له أن ينكح بحليلة ابنه من الرضاع. دليلنا: ما روي «عن علي بن أبي طالب: أنه قال: قلت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك في ابنة عمك حمزة، فإنها أجمل فتاة في قريش؟ فقال: أما علمت أن حمزة أخي من الرضاع، وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؟» . «وروت عائشة، قالت: استأذن علي أفلح أخو أبي القعيس بعد ما ضرب الحجاب، فلم آذن له، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته بذلك، فقال: " ائذني له، فإنه عمك من الرضاعة "، فقلت: يا رسول الله، إنما أرضعتني امرأة أخيه، فقال: ائذني له، فإنه عمك» وفي رواية: «فإنه عمك، فليلج عليك» . ولأن اللبن ثار لولد، وهو مخلوق من مائهما، فكان اللبن لهما. فأما الآية: فإنه قيده بابنه من الصلب ليبين أن حليلة الابن من التبني لا تحرم؛ لأن التبني كان مباحًا في صدر الإسلام، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تبنى زيد بن حارثة، وكان يقال له: زيد ابن محمد، ثم طلق زيد زوجته، وتزوجها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

إذا ثبت هذا: فإن الحرمة تنتشر منهما إليه، فيصير كأنه ابنهما من النسب، وتنتشر الحرمة منه إليهما. فأما انتشار الحرمة منهما إليه: فلا يجوز للرضيع أن يتزوج بالمرضعة؛ لأنها أمه من الرضاعة، وتكون أمهاتها جدات الرضيع، وآباؤها أجداده، وإخوانها وأخواتها أخواله وخالاته، ويكون أولادها من الفحل وغيره إخوته وأخواته، وأولاد أولادها أولاد إخوته وأولاد أخواته، ويكون الفحل أبا الرضيع، وأولاده من المرضعة وغيرها إخوته وأخواته، وأولادهم أولاد إخوته وأولاد أخواته، ويكون آباء الفحل أجداده، وأمهاته جداته، وإخوته وأخواته أعمامه وعماته؛ لأن الله تعالى نص على تحريم الأم والأخت من الرضاع لينبه بهما على من سواهما من المحرمات بالسنة، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» . وهؤلاء يحرمن من النسب، فكذلك من الرضاع. وأما انتشار الحرمة من الرضيع إلى المرضعة والفحل: فإنه يحرم عليهما نكاحه، ويحرم عليهما نسله، ولا يحرم عليهما من هو في طبقته، ولا من هو أعلى منه، فيجوز للمرضعة أن تتزوج بأخي الرضيع ونسله، وبأبي الرضيع وأجداده وأعمامه وأخواله، ويجوز للفحل أن يتزوج بأخت الرضيع وبناتها، وبأم الرضيع وجداته وعماته وخالاته، ويجوز لأبي الرضيع من النسب أن يتزوج بالمرضعة وأختها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وحرمة الولد من النسب تنتشر إلى أولاده، ولا تنتشر إلى أمهاته وآبائه وإخوته وأخواته، فكذلك في الرضاع. قال أبو عبيد: والرضاعة إذا كان فيها هاء.. تفتح الراء، ولا اختلاف فيه، وأما الرضاع بغير هاء: فيقال بفتح الراء وكسرها.

فرع الرضاعة تثبت البنوة

[فرع الرضاعة تثبت البنوة] إذا كان هناك أخوان، لكل واحد منهما زوجة، ولأحدهما ابنة من زوجته، فأرضعتها امرأة عمها بلبن عمها.. فإن الرضيعة تصير ابنة للمرضعة ولزوجها. فإن ولدت هذه المرضعة أولادًا من زوجها.. فهم إخوة الرضيعة من الرضاع لأبيها وأمها، وبنو عمها من النسب، فلا يحل لهم نكاحها. وإن ولدت المرضعة أولادًا من غير زوجها.. فهم إخوة الرضيعة من أمها. وإن رزق عمها أولادًا من غير زوجته المرضعة.. فهم إخوة الرضيعة من الأب من الرضاع، وبنو عمها من النسب، فلا يحل لهم نكاحها. وما تلده أم الرضيعة من النسب لا يحرمون على أولاد أمها من الرضاع؛ لأنهم إخوة أختهم، وليسوا بإخوة لهم، ومثل هذا يشرع في النسب؛ ولهذا: لو أن رجلًا له ابن تزوج بامرأة لها ابنة.. جاز لابن الرجل أن يتزوج بابنة زوجة أبيه. [مسألة الرضاع في الحولين] ] : الرضاع مؤقت، فلا يثبت التحريم بما يرتضعه الطفل بعد استكماله حولين، وبه قال عمر، وابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وهو قول محمد، وأبي يوسف. وقال أبو حنيفة: (يثبت التحريم بما يرتضعه الطفل في ثلاثين شهرًا) . وقال زفر: يثبت التحريم بما يرتضعه الطفل في ثلاث سنين. وعن مالك ثلاث روايات: إحداهن: كقولنا. والثانية: بما يرتضعه بحولين وشهر. والثالثة: بحولين وشهرين. وقالت عائشة: (الرضاع غير مؤقت، فلو أن امرأة أرضعت شيخًا.. صار ابنًا

لها) . و: (كانت إذا أرادت أن يدخل إليها رجل.. أنفذت إلى بنات أخيها ليرضعنه) . وبه قال داود؛ لما روت: «سهلة بنت سهيل زوجة حذيفة، قالت: يا رسول الله، كنا نرى سالما ولدًا، وكان يدخل علي وأنا فضل، وليس لنا إلا بيت واحد، فما تأمرني؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرضعيه خمس رضعات معلومات، فيحرم بلبنك» ففعلت، فكانت تراه ابنا من الرضاع. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] فذكر أن تمام الرضاع في الحولين، فعلم أنه لم يرد أنه لا يجوز أكثر منه؛ لأن ذلك يجوز، وإنما أراد: أن تمام الرضاع الشرعي في الحولين، وأنه لا حكم لما زاد؛ بدليل: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا رضاع بعد الحولين» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا رضاع بعد فصال» . والفصال إنما هو في

مسألة عدد الرضعات المحرمات

العامين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] [لقمان: 14] . وأما حديث سهلة: فكان خاصًا لها، بدليل: ما روي عن أم سلمة: أنها قالت: (رضاع سالم كان خاصًا) . قال الصيمري: وابتداء الحولين عند خروج بعض الولد، لا عند خروج جميعه. إذا ثبت هذا: فإن الرضاع في الحولين يتعلق به التحريم والحرمة، سواء كان الرضيع يستغني بالطعام والشراب عن اللبن أو لا يستغني. وقال مالك: (إن كان الرضيع مستغنيًا عن اللبن بالطعام والشراب.. لم يتعلق بإرضاعه التحريم) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] فجعل مدة الرضاع حولين، ولم يفرق بين أن يكون الولد مستغنيًا عنه، أو غير مستغن عنه. [مسألة عدد الرضعات المحرمات] والرضاع الذي يتعلق به التحريم والحرمة هو خمس رضعات، ولا يتعلق بما دون ذلك، وروي ذلك عن عائشة، وابن الزبير، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاووس، وأحمد، وإسحاق.

وروي عن علي، وابن عمر، وابن عباس: (أن التحريم يتعلق بقليل الرضاع وكثيره) . وبه قال مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث، وأبو حنيفة وأصحابه. وقال زيد بن ثابت: (يتعلق التحريم بثلاث رضعات) . وبه قال داود، وأبو ثور، وابن المنذر. دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان» . و (الإملاجة والإملاجتان) : الرضعة والرضعتان. وقد روي: «لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان» . فهذا يبطل قول من قال: يتعلق التحريم بقليل الرضاع وكثيره. فإن قيل: فدليل الخطاب هاهنا يدل على: أن الثلاث يحرمن. قلنا: قد ثبت النص: أنه لا يحرم إلا الخمس، وهو أقوى من دليل الخطاب. والنص: ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: «كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس رضعات معلومات، فمات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهن مما يقرأ من القرآن» وهذا أمر لا تتوصل إليه عائشة إلا بتوقيف من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن القرآن أنزل عليه. فإن قيل: فليس يتلى في القرآن عشر رضعات؛ لأن ما نسخ حكمه.. فإن رسمه يتلى في القرآن، كالآية في عدة الحول؟!

فالجواب: أن النسخ في القرآن على ثلاثة أقسام: قسم: نسخ رسمه وحكمه: وذلك مثل: ما روي: أن قومًا قالوا: يا «رسول الله، إنا كنا نقرأ سورة من القرآن، فنسيناها، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنسيتموها» فأخبر: أنها نسخت تلاوتها وحكمها. والقسم الثاني: ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] [البقرة: 240] ومثل الوصية للوارث. والثالث: ما نسخ رسمه وتلاوته وبقي حكمه، وذلك مثل: ما روي عن عمر: أنه قال: (كان فيما أنزل الله من القرآن: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله "، ولولا أني أخشى أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله.. لأثبت آية الرجم في حاشية المصحف، وقد قرأناها في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وأراد: لأثبت حكم الآية. وهذه الآية مما نسخ رسمها وبقي حكم خمس رضعات. فإن قيل: فما معنى قولها: (فمات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهن مما يقرأ في القرآن) . والنسخ بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يجوز؟ قلنا: فيه تأويلان: أحدهما: أنها أرادت أن حكم الخمس مما يتلى في القرآن، لا رسمها.

والثاني - وهو تأويل أبي العباس -: أن هذه الآية نسخت تلاوتها في حياة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان الصحابة قريبي العهد بتلاوتها، وكانت ألسنتهم جارية على تلاوتها كما كانوا قبل النسخ، حتى عودوا ألسنتهم تركها، فاعتادته ألسنتهم. ومم يدل على ما ذكرناه: حديث سهلة بنت سهيل، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها أن ترضع سالمًا خمسًا ليجوز دخوله عليها؛ لأن زوجها حذيفة كان قد تبناه، ثم حرم التبني، وشق عليهم ترك دخوله، فنسخ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محل الرضاع في الكبير بقوله: «لا رضاع إلا ما كان في الحولين» ، وبقي عدد الرضاع. إذا ثبت أن التحريم يتعلق بخمس رضعات.. فمن شرط الخمس أن تكون متفرقات. فإذا التقم الصبي الثدي، وارتضع منه، فأقل أو أكثر، ثم قطع الرضاع باختياره من غير عارض.. حسب ذلك رضعة، فإن عاد إليها بعد فصل طويل، وارتضع منها ما شاء إلى أن قطع باختياره.. حسب ذلك رضعة، إلى أن يستوفي خمس رضعات؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر سهلة أن ترضع سالمًا خمس رضعات يحرم بلبنها، ولم يحد الرضعة، وكل حكم ورد الشرع به مطلقًا، وليس له حد في الشرع ولا في اللغة.. رجع في حده إلى العرف والعادة، والعرف والعادة في الرضاع هو ما ذكرناه. وإن التقم الصبي الثدي، وارتضع منه، ثم أرسله ليتنفس أو ليستريح، ثم عاد إليه من غير فصل طويل، أو أرسله وانتقل إلى الثدي الآخر من غير فصل طويل، أو انتقل ليشرب الماء، ثم عاد إليه من غير طول فصل.. فالجميع رضعه واحدة، كما لو حلف: لا يأكل في النهار إلا أكلة، فقعد يأكل، فأكل، وقطع ليستريح أو ليتنفس أو ليشرب الماء، أو انتقل من لون إلى لون، وأكل بعده من غير أن يطول الفصل.. فالجميع أكلة واحدة، وإن أكل من أول النهار إلى آخره، أو أكل ثم قطع بفصل طويل، ثم رجع وأكل.. كان ذلك أكلتين.

فرع الارتضاع من امرأتين

وإن قطع الرضاع لشيء يلهيه، ثم رجع إليه.. فقد قال الشيخ أبو إسحاق: كان كما لو قطعه لضيق النفس. وقال الشيخ أبو حامد: إذا قطعه لشيء يلهيه حتى طال الفصل ثم عاد إليه.. فالأول رضعة، والثاني رضعة، كما لو حلف: لا يأكل إلا أكلة، فأكل ثم قطع الأكل لشيء يلهيه حتى طال الفصل، ثم عاد إليه وأكل.. فإن ذلك أكلتان. وإن التقم ثديها، فارتضع منها، وانتزعت منه ثديها وقطعت عليه.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يحتسب بذلك رضعة؛ لأن الاعتبار في الرضاع بفعله، بدليل: أنه لو ارتضع منها وهي نائمة رضعة.. حسب ذلك، فإذا قطعت عليه.. لم يحتسب عليه، كما لو حلف: لا آكل اليوم إلا أكلة، فأخذ في الأكل، فجاء إنسان، فقطع عليه الأكل. والثاني: يحتسب بذلك رضعة؛ لأن الرضاع يحصل بفعلها؛ ولهذا: لو حلبت منها لبنًا، وأوجرته إياه وهو نائم.. حسب ذلك رضعة، وإذا حصل الرضاع بفعلها.. وجب أن يحسب بقطعها. [فرع الارتضاع من امرأتين] فإن ارتضع الصبي من امرأة، ثم انتقل منها إلى امرأة أخرى، وارتضع منها من غير أن يطول الفصل.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يحتسب بما ارتضع من كل واحدة منهما؛ لأن الطفل إذا ابتدأ وارتضع.. فكل ما والى به الارتضاع.. فهو رضعة واحدة؛ بدليل: أنه لو انتقل من أحد الثديين إلى الآخر من غير فصل طويل.. فهو رضعة واحدة، وكذلك: إذا انتقل من إحداهما إلى الأخرى من غير فصل طويل.. فإنه لم يكمل الرضعة من كل واحدة منهما، فلم يحتسب به. والثاني: يحتسب ما ارتضع من كل واحدة منهما رضعة؛ لأنه ارتضع من كل

فرع الشك في عدد الرضاع

واحدة منهما وقطع باختياره، فحسب عليه رضعة، كما لو قطع من إحداهما، وانتقل إلى خبز أو لبن، ويخالف إذا قطع من ثدي إلى ثدي؛ لأن ذلك شخص واحد، فيبنى حكم أحد ثدييها على الآخر، بخلاف الشخصين. وإن ارتضع منها بعض الخمس في الحولين، ثم ارتضع باقي الخمس بعد الحولين.. فإن التحريم لا يحصل به؛ لأن التحريم يتعلق بخمس رضعات في الحولين، ولم يوجد ذلك. [فرع الشك في عدد الرضاع] إذا شكت المرضعة: هل أرضعته خمسًا، أو أقل، أو شكت: هل أرضعته، أم لا؟ لم يثبت التحريم، كما نقول في الرجل إذا شك: هل طلق امرأته طلقة، أو أكثر، أو هل طلقها، أم لا؟! والورع: أن يلتزم حكم التحريم في النكاح دون الحرمة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» . [مسألة ثبوت حرمة الرضاع بالوجور ونحوها] ويثبت التحريم بالوجور واللدود، وهو: أن يحلب لبن المرأة، ويصب في فم الصبي بغير اختياره. و (الوجور) : الصب في وسط فيه.

و (اللدود) : الصب في أحد شقي فيه، وهو قول كافة العلماء، إلا عطاء، وداود، فإنهما قالا: (لا يثبت به التحريم) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرضاعة من المجاعة» . وقوله: «الرضاع: ما أنبت اللحم، وأنشز العظم» وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الرضاع: ما فتق الأمعاء» . وهذه المعاني موجودة في الوجور واللدود. ولـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر سهلة أن ترضع سالمًا» . ومعلوم أنه لم يرد بذلك أن يرضع من ثديها؛ لأنه كان كبيرًا، وهي أجنبية منه، فكيف يجوز له النظر إلى ثدييها وهي أجنبية منه؟! فعلم أنه أراد الوجور أو اللدود. ويثبت التحريم بـ (السعوط) ، وهو: أن يصب لبن المرأة في أنف الطفل، فيبلغ إلى دماغه أو جوفه. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: فيه قولان، كالحقنة. والمشهور هو الأول. وقال عطاء، وداود: (لا يثبت به التحريم) . دليلنا: أن الدماغ محل للغذاء، بدليل: أنه من جف دماغه.. فإن الدهن يصب

مسألة حلب لبن امرأة وأطعمه طفلا

في أنفه إلى دماغه، فيرطبه، فوقع التحريم باللبن الحاصل فيه من المرأة، كالجوف. وإن صب اللبن في أذنه، فوصل إلى دماغه.. كان رضاعًا، وإن لم يصل إلى دماغه.. لم يكن رضاعًا. وهل يثبت التحريم بـ (الحقنة) وهو: أن يصب اللبن في دبر الطفل؟ فيه قولان: أحدهما: يثبت به التحريم، وهو اختيار المزني؛ لأنه سبيل يحصل بالواصل منه الفطر، فتعلق التحريم بلبن المرأة إذا دخل فيه، كالفم. والثاني: لا يثبت به التحريم، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وهو الأصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الرضاع: ما أنبت اللحم، وأنشز العظم ". وهذا لا يحصل بالحقنة، وإنما تراد الحقنة للإسهال. فإذا قلنا: يثبت به التحريم، فأرضعته مرة، وأوجرته مرة، ولدته مرة، وأسعطته مرة، وأحقنته مرة.. ثبت التحريم. وإن كان بالطفل جراحة نافذة إلى محل الفطر، فداواه إنسان بلبن آدمية.. فقد قال القفال: لا يحصل به الرضاع. وقال الصيدلاني: ينبغي أن يكون على قولين، كالحقنة. [مسألة حلب لبن امرأة وأطعمه طفلًا] ] : وإذا حلب من المرأة لبنًا كثيرًا، وأوجره الطفل.. ففيه خمس مسائل: إحداهن: أن يحلب منها لبن دفعة واحدة، فيوجره الطفل مرة واحدة.. فهذا رضعة واحدة. الثانية: أن يحلب منها اللبن خمس مرات في خمسة أوان، ثم يوجر الصبي ذلك اللبن في خمسة أوقات متفرقة لبن كل إناء في وقت.. فذلك خمس رضعات لتفرق الحلب والوجور.

الثالثة: أن يحلب منها لبن كثير دفعة واحدة، ثم يوجره الصبي في خمسة أوقات متفرقة.. فنقل المزني، والربيع: (أن ذلك رضعة واحدة) . قال الربيع: وفيه قول آخر: (أنه خمس رضعات) . واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: هو رضعة واحدة، قولًا واحدًا، على ما نقلاه، وما حكاه الربيع.. من تخريجه؛ لأن ذلك لم يوجد في شيء من كتب الشافعي. ومنهم من قال: فيه قولان؛ لأن ما حكاه الربيع.. يحتمل على أنه سمع منه ذلك: أحدهما: أنه خمس رضعات؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرضاعة من المجاعة» . وهذا اللبن قد حصل به سد الجوع خمس مرات. ولأن الرضعات كالأكلات، ومعلوم أنه لو حلف: لا يأكل خمس أكلات، فأكل من طعام واحد خمس أكلات في خمسة أوقات متفرقة.. حنث، فوجب أن يكون هاهنا خمس رضعات. والثاني: أن ذلك رضعة واحدة، قال الشيخان: وهو الأصح؛ لأن الوجور فرع للرضاع، ومعلوم أن التحريم لا يحصل في الرضاع إلا بأن ينفصل اللبن عن ثدي المرأة خمس مرات متفرقات، ويصل إلى جوف الصبي في خمسة أوقات متفرقة، وكذلك في الوجور لا بد أن ينفصل خمسة انفصالات، ويتصل خمسة اتصالات متفرقات. الرابعة: إذا حلب منها اللبن في خمسة أوقات متفرقة في خمسة أوان، فأوجره الصبي دفعة واحدة.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان كالتي قبلها؛ لأن الرضاع يفتقر إلى إرضاع وارتضاع، فلما ثبت أن اللبن إذا انفصل من المرضعة دفعة واحدة وأوجره الصبي دفعات كان فيه قولان.. فكذلك إذا انفصل منها خمس دفعات، وأوجره دفعة.. يجب أن يكون على قولين:

فرع وضع حليب اثنتين في إناء خمس مرات وسقي الطفل

ومنهم من قال: هي رضعة واحدة، قولًا واحدًا؛ لأن في التي قبلها حصل اللبن في جوف الصبي خمس مرات، وهاهنا لم يحصل في جوفه إلا مرة واحدة. الخامسة: أن يحلب اللبن في خمسة أوقات متفرقة، كل وقت في إناء، ثم خلط ذلك اللبن في إناء واحد، وأوجره الصبي في خمسة أوقات متفرقة، فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق: هي خمس رضعات، قولًا واحدًا؛ لأن اللبن انفصل من المرأة في خمسة أوقات، واتصل بالصبي في خمسة أوقات، ولا اعتبار بالخلط. ومن أصحابنا من قال: فيه طريقان؛ لأن التفريق في الحلب قد بطل حكمه بالخلط، وفي كل سقية حصل للطفل جزء من كل حلبة، فصار كما لو حلبته دفعة واحدة، وسقته إياه في خمسة أوقات فتكون: إحدى الطريقين له: أنه على قولين. والثاني: أنه رضعة، قولًا واحدًا. [فرع وضع حليب اثنتين في إناء خمس مرات وسقي الطفل] ] : إذا حلبت امرأتان لبنًا منهما في إناء في وقت واحد، وأوجرتاه صبيًا، ثم حلبتا منهما لبنا في إناء في وقت آخر، وأوجرتاه الصبي، إلى أن فعلا ذلك خمس مرات.. حصل لكل واحدة منهما خمس رضعات، ويصير ابنهما معًا؛ لأنه قد حصل في جوفه اللبن من كل واحدة منهما خمس مرات. [مسألة اختلاف صفة لبن المرضعة] وإن حلب من المرأة لبن، فجبن، أو طبخ، أو جعل أقطًا أو شيرازًا، وأطعم منه طفل له دون الحولين خمس مرات متفرقات.. نشر الحرمة والتحريم.

فرع خلط لبن الظئر بشيء

وقال أبو حنيفة: (لا ينشر الحرمة ولا التحريم) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الرضاعة من المجاعة» ، و: «الرضاعة: ما أنبت اللحم وأنشز العظم» وهذا المعنى موجود في لبن المرأة وإن غير من صفته بما ذكرناه. [فرع خلط لبن الظئر بشيء] ] : إذا خلط لبن المرأة بالماء أو بالعسل أو بغيرهما، وسقي منه الطفل خمس دفعات في خمسة أوقات متفرقة، فإن كانت الغلبة للبن، بأن يكون أكثر مما خالطه.. نشر الحرمة، وإن كانت الغلة للماء أو للعسل، بأن يكون أكثر من اللبن، فإن كان اللبن مستهلكًا فيما خالطه، بحيث إذا وصل شيء مما خلط فيه ذلك اللبن إلى جوف الطفل لم يتحقق أن جزءًا من اللبن حصل في جوف.. لم ينشر الحرمة، وإن كان اللبن غير مستهلك، بحيث إذا وصل شيء مما خلط فيه ذلك اللبن إلى جوف الطفل تحقق أن جزءًا من اللبن حصل معه.. فإنه ينشر الحرمة. هذا نقل الشيخ أبي حامد، والبغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة "] ، والطبري: لو خلط لبن المرأة بمائع، وسقي منه الطفل خمس دفعات متفرقات.. ففيه قولان: أحدهما: أنه ينشر الحرمة بكل حال. والثاني: إن كان اللبن غالبًا.. ينشر الحرمة، وإن كان مغلوبًا لم ينشر الحرمة. وإن وقع في قلتين من الماء قليل من لبن المرأة، فسقي الطفل جميعه.. ففيه وجهان: أحدهما: يتعلق به التحريم؛ لأنا تيقنا أن اللبن فيه. والثاني: لا يتعلق به التحريم؛ لأنه صار مستهلكًا فيه. ولو وقع قليل من لبن المرأة في أقل من قلتين من الماء، فإن سقي الطفل جميعه..

مسألة الرضاع ونحوه بعد الموت

تعلق به التحريم، وإن سقي البعض، وزاد، في خمسة أوقات.. ففيه وجهان: أحدهما: يتعلق به التحريم؛ لأنه حكم بوصوله إلى جميع الماء، بدليل: أنه لو وقعت فيه نجاسة.. نجس الجميع. والثاني لا يتعلق به التحريم؛ لأنه يحتمل أنه فيما بقي. وقال أبو حنيفة: (إذا مزج اللبن بطعام أو شراب أو عسل.. فإنه لا ينشر الحرمة، سواء كان اللبن ظاهرًا على ما مزج به أو مستهلكًا فيه) . وإن مزج بدواء، فإن كان اللبن ظاهرًا فيه، فسقي منه الطفل خمس دفعات متفرقة.. نشر الحرمة، وإن لم يكن اللبن ظاهرًا، بل مستهلكًا.. لم ينشر الحرمة. دليلنا: أنه وصل إلى جوفه لبن آدمية في خمسة أوقات متفرقة، فتعلق التحريم به، كما لو كان غالبًا. [مسألة الرضاع ونحوه بعد الموت] وإن ماتت امرأة، فارتضع منها طفل بعد موتها، أو حلب منها لبن بعد موتها، وأوجره الصبي.. لم يتعلق به التحريم. وقال مالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة: (يتعلق به التحريم) . دليلنا: أن الرضاع معنى يوجب تحريمًا مؤبدًا، فلم يتعلق به التحريم بعد الموت، كوطء الشبهة؛ وذلك: أنه لو وطئ ميتة بشبهة.. لم يثبت به تحريم المصاهرة. وإن ارتضع طفل من امرأة أربع رضعات في حياتها، ثم حلب منها لبن في إناء في حياتها، ثم أوجره الصبي بعد موتها.. ثبت به التحريم؛ لأن إنبات اللحم وإنشاز العظم يحصل بشرب ذلك اللبن، فهو كما لو التقم الصبي ثديها، فامتص منه لبنًا، وحصل في فيه، وماتت المرأة، ثم ابتلعه الصبي.. فإنه يحصل به التحريم، فكذلك هذا مثله.

مسألة لا تحريم بلبن غير الآدمي

وإن حلب من امرأة لبن، ووقعت فيه نجاسة، وأوجره الصبي.. قال الشيخ أبو حامد: يتعلق به التحريم. والفرق بين هذا وبين اللبن الذي يؤخذ من الميتة: أن هذا اللبن كان طاهرًا، وإنما اختلط به نجاسة، فلم يمنع ثبوت الحرمة فيه، ولبن الميتة نجس العين، فلم يكن له حرمة. [مسألة لا تحريم بلبن غير الآدمي] ولا يثبت التحريم بلبن البهيمة، فإن شرب طفلان من لبن بهيمة، كل واحد خمس مرات في خمسة أوقات.. لم ينشر الحرمة بينهما. وحكي عن بعض السلف: أنه قال: ينشر الحرمة بينهما. ويحكى ذلك عن مالك. دليلنا: أن الأخوة في الرضاع فرع للأمومة، فإذا لم يثبت بهذا الرضاع أمومة.. لم تثبت به أخوة. [فرع وجد لبن لرجل وأرضعه] ] : إذا ثار للرجل لبن، وأرضع به طفلًا له دون الحولين خمس رضعات متفرقات.. فلا يثبت به التحريم. وقال الكرابيسي: يثبت به التحريم، كلبن المرأة. دليلنا: قَوْله تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] فجعل الله تعالى الرضاع - الذي يتعلق به الحكم - من الوالدات، وهذا ليس بوالدة، ولا من جنس الوالدات، فلم يتعلق بإرضاعه حكم. ولأن لبنه لم يجعل غذاء للولد، فلم يتعلق به التحريم، كلبن البهيمة. قال ابن الصباغ: ولأنه نجس يقاس على لبن الميتة.

مسألة ولد الزوجين ولبنه ينسب لهما

وإن ثار للخنثى المشكل لبن، وأرضع به طفلًا، وقلنا: إن لبن الرجل لا يتعلق به التحريم.. فقد اختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق المروزي: يرى النساء، فإن قلن: إن هذا اللبن على غزارته لا ينزل للرجل، وإنما ينزل للمرأة.. زال حكم إشكاله، وحكم بأنه امرأة، وجرى لبنه مجرى لبن المرأة. وإن قلن: قد ينزل هذا اللبن للرجل.. وقف أمر من ارتضع بلبنه. وقال أكثر أصحابنا: لا يزول إشكاله باللبن، بل يوقف أمر من ارتضع بلبنه، فإن بان أنه امرأة.. تعلق به التحريم، وإن بان أنه رجل.. لم يتعلق به التحريم؛ لأن اللبن قد ينزل للرجل كما ينزل للمرأة. وحكي عن الشافعي: أنه قال: (رأيت رجلًا يرضع في مجلس هارون الرشيد) . وإن مات هذا الخنثى قبل زوال إشكاله.. فالذي يقتضي المذهب: أنه لا يثبت التحريم بإرضاعه؛ لأن الأصل عدم ثبوت التحريم. [مسألة ولد الزوجين ولبنه ينسب لهما] إذا كان لرجل زوجة، فولدت منه ولدًا.. فإن اللبن النازل للولد لهما، فإن طلقها الزوج وبقي ذلك اللبن.. فهو لهما ما لم يتزوج بغيره، فإن انقضت عدتها من الأول، وتزوجت بآخر.. فاللبن للأول ما لم تحمل للثاني، سواء وطئها الثاني أو لم يطأها، وسواء انقطع ذلك اللبن ثم عاد أو لم ينقطع، وسواء زاد أو نقص؛ لأن اللبن إنما ينزل للولد، ولا ولد هاهنا إلا للأول. وإن حملت من الثاني.. نظرت: فإن لم تبلغ إلى حال ينزل فيه اللبن للحمل.. فاللبن للأول أيضًا. وإن بلغت إلى

حال ينزل فيها اللبن للحمل - وقدره ابن الصباغ بأربعين يومًا، وأما الشيخ أبو حامد: فقال: يرجع فيه إلى معرفة القوابل - فمتى بلغت ذلك الوقت.. فإن كان ذلك اللبن على حالته لم يزد.. فإنه يكون للأول، ومتى أرضعت به طفلًا رضاعًا تامًا.. كان ابنًا للأول دون الثاني. وإن زاد ذلك اللبن، وأرضعت به طفلًا.. ففيه قولان: [الأول] : قال في القديم: (هو ابنهما) . وبه قال محمد، وزفر، وأحمد؛ لأن اللبن الذي كان من الأول قد استدام، والظاهر أنه له. فإن زاد بعد أن حملت للثاني في وقت ينزل اللبن له في العادة.. فالظاهر أن الزيادة لحمل الثاني، فكان المرضع بهذا اللبن ابنهما، كما لو حلبت امرأتان لبنًا في قدح أو في فم صبي.. فإنه يحكم بحصول رضعة من كل واحدة منهما. و [الثاني] : قال في الجديد: (هو ابن الأول وحده) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأن اللبن للأول بيقين، والزيادة يجوز أن تكون لحمل الثاني، ويجوز أن تكون لفضل الغذاء، فلم يجعل للثاني بالشك. وإن انقطع لبن الأول، ونزل لها اللبن بعد أن حملت من الثاني في وقت ينزل فيه اللبن للحمل، وأرضعت به طفلًا.. ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ابن الأول وحده، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن اللبن إنما يكون للولد إذا كان يتغذى به، وقبل الوضع لا يتغذى به، وإنما يتغذى به ولد الأول، فكان اللبن له. والثاني: أنه ابن الثاني وحده، وبه قال أبو يوسف؛ لأن اللبن إنما انقطع، ثم عاد، والظاهر أن المنقطع لبن الأول، وأن الثاني للثاني. والثالث: أنها ابنهما؛ لأن لكل واحد منهما أمارة تدل أن اللبن له، فجعل بينهما. وإن وضعت ولد الثاني.. فإن اللبن للثاني بكل حال؛ لأن اللبن تابع للولد، والولد هاهنا للثاني، فكان اللبن له.

مسألة تزوج امرأة وفارقها وتزوجت بعدتها ثم ولدت

[مسألة تزوج امرأة وفارقها وتزوجت بعدتها ثم ولدت] وإن تزوج امرأة ودخل بها وفارقها، وتزوجت في عدتها بآخر، ووطئها جاهلًا بالتحريم، فأتت بولد، وأرضعت بلبنه طفلًا.. فإن الرضيع يكون ابنها. وأما أبو الرضيع من الرضاع: فإن أمكن أن يكون الولد من الأول دون الثاني.. كان الرضيع ابن الأول دون الثاني. وإن أمكن أن يكون الولد للثاني دون الأول.. فإن الرضيع يكون ابن الثاني دون الأول. وإن كان لا يمكن أن يكون ابنا لواحد منهما.. لم يكن الرضيع ابنا لواحد منهما. وإن أمكن أن يكون الولد من كل واحد منهما.. عرض على القافة، فأيهما ألحقته به القافة.. لحقه الرضيع أيضًا، فإن ألحقته القافة بهما، أو نفته عنهما، أو لم تكن قافة، أو كانت وأشكل الأمر عليها.. فإن الولد يترك إلى أن يبلغ وينتسب إلى من يميل إليه طبعه، فإذا انتسب إلى أحدهما.. لحقه نسبه، وتبعه الرضيع، وإن كان الولد معتوها أو مجنونًا.. لم يصح انتسابه. فإن كان للولد والد.. لم يصح أن ينتسب إلى أحدهما ما دام أبوه حيًا، فإن مات الولد قبل أن يلحق بأحدهما بالقافة أو بالانتساب.. قام ولده مقامه في الانتساب إلى أحدهما، فإذا انتسب إلى أحدهما.. تبعه الرضيع، وإن لم يكن له ولد.. قال الشافعي: (ضاع نسبه) . يريد: أنه لا ينسب إلى أحدهما. وما حكم الرضيع؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يكون ابنهما؛ لأن اللبن قد يثور للوطء، وقد يثور للولد. فعلى هذا: لا يجوز له أن يتزوج بنت أحدهما. والقول الثاني: أنه لا يكون ابنهما؛ لأن الرضيع تابع للولد، فإذا لم يجز أن يكون الولد ابنهما.. فكذلك الرضيع. فعلى هذا: هل له أن ينتسب إلى من يميل إليه طبعه أنه ارتضع بلبنه منهما؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز أن ينتسب إلى أحدهما؛ لأن الولد إنما جوز له أن ينتسب إلى

أحدهما؛ لأنه مخلوق من ماء أحدهما، وطبع الإنسان يميل إلى من خلق من مائه، وهذا المعنى لا يوجد في الرضيع؛ ولهذا: يجوز عرض الولد على القافة، ولا يجوز أن يعرض الرضيع على القافة. والثاني: يجوز له أن ينتسب إلى من يميل طبعه إليه؛ لأن طبعه يميل إلى من ارتضع بلبنه؛ لأن اللبن يؤثر في الطباع. فإذا كانت المرضعة على صفة من حسن خلق أو غيره.. تعدى ذلك إلى من أرضعته؛ ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنا أفصح العرب، ولا فخر، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد، وارتضعت في بني زهرة» . (بيد أني) أي: من أجل أني من قريش. وروي: (أن عمر رأى رجلًا، فقال: أنت من بني فلان؟ فقال: لست منهم نسبًا، إنما أنا منهم رضاعًا) . وقيل: إن المولود إذا سقي لبن البهيمة.. تطبع بطبع البهيمة.

فإذا قلنا: له أن ينتسب إلى أحدهما، فانتسب إلى أحدهما.. صار ابنًا له، وجاز أن يتزوج بنت الآخر. وإن قلنا: ليس له أن ينتسب إلى أحدهما.. فهل له أن يتزوج بنت أحدهما؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ليس له أن يتزوج ببنت أحدهما، وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق؛ لأنا تحققنا أن إحداهما محرمة عليه وإن جهلنا عينها، فحرمتا عليه، كما لو اختلطت زوجته بأجنبية، واشتبه عليه.

فرع أرضعت ولده فنفاه بلعان

والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أن له أن يتزوج بنت أحدهما، فإذا تزوج ببنت أحدهما.. حرمت عليه بنت الآخر على التأبيد؛ لأن قبل التزويج يجوز تحريم كل واحدة منهما، فإذا تزوج إحداهما.. فقد قطع أن الأخرى هي المحرمة عليه، فحرمت عليه أبدًا، كما لو اشتبه عليه إناءان في أحدهما نجاسة، فأداه اجتهاده إلى طهارة أحدهما، وتوضأ به.. فإن النجاسة تتعين في الآخر. والثالث - وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد -: أنه يجوز له أن يتزوج ببنت كل واحد منهما على الانفراد؛ لأن قبل الرضاع كانتا حلالًا له، وبعده شككنا في المحرمة منهما، ولا يزال اليقين بالشك، ولا يجوز له الجمع بينهما؛ لأن الخطأ يتيقن بالجمع، كما لو رأى رجلان طائرًا، فقال أحدهما: إن كان هذا الطائر غرابًا فعبدي حر، وقال الآخر: إن لم يكن غرابًا فعبدي حر، فطار ولم يعرف.. فإنه لا يعتق على أحدهما عبده، فإذا اجتمعا في ملك أحدهما.. قال الشيخ أبو إسحاق: عتق عليه أحدهما، وقال الشيخ أبو حامد: يعتق عليه عبد الآخر؛ لأن إمساكه لعبده إقرار منه بحرية عبد الآخر. [فرع أرضعت ولده فنفاه بلعان] وإن أتت امرأته بولد، وأرضعت بلبنه طفلًا، فنفى الزوج الولد باللعان.. كان الرضيع ابن المرضعة دون الزوج؛ لأن الرضيع تابع للولد، فإذا لم يثبت نسب الولد.. لم يكن الرضيع ابنًا له. وإن زنى رجل بامرأة، فأتت بولد، فأرضعت بلبنها صغيرة.. ثبت التحريم بينها وبين أولاد المرضعة، ولا يثبت التحريم بين الرضيعة وبين الزاني؛ لأنها تابعة للولد، والولد غير ثابت النسب منه، فكذلك الرضيع. والورع للزاني أن لا يتزوجها. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز له أن يتزوجها) . وقد مضى الدليل عليه في (النكاح) .

مسألة رضع من خمس مستولدات رضعة رضعة

[مسألة رضع من خمس مستولدات رضعة رضعة] وإن كان لرجل خمس أمهات أولاد، له منهن لبن، فارتضع طفل من كل واحدة منهن رضعة.. لم تصر واحدة منهن أما له؛ لأنه لم يرتضع منها رضاعًا تامًا، وهل يصير سيدهن أبًا له؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول ابن سريج، والأنماطي، وابن الحداد -: أنه لا يصير أبًا له؛ لأن الأبوة تابعة للأمومة، فإذا لم يثبت بهذا الرضاع أمومة.. لم يثبت به أبوة. والثاني - وهو قول أبي إسحاق المروزي، وابن القاص. قال القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق: وهو الأصح -: أنه يصير أبًا له؛ لأنه ارتضع من لبنه خمس رضعات متفرقات، فهو كما لو ارتضع ذلك من واحدة منهن. فإن كان لرجل خمس أخوات لهن لبن، فارتضع صبي من كل واحدة منهن رضعة.. لم تصر واحدة منهن أمًا له، وهل يصير أخوهن خالًا له؟ قال أكثر أصحابنا: فيه وجهان كالتي قبلها. قال الشيخ أبو حامد: فإذا قلنا: يصير خالًا له.. لم يجز للرضيع أن يتزوج بواحدة من المرضعات له؛ لأنها خالته. وقال ابن الصباغ: هذا بعيد؛ لأن الخؤولة فرع على الأمومة، فإذا لم تثبت الأمومة.. لم تثبت الخؤولة، بخلاف الأبوة. وإن كان لامرأة خمس بنات لهن لبن، فارتضع صبي من كل واحدة منهن رضعة.. لم تصر واحدة منهن أمًا له، وهل تصير أمهن جدة له؟ قال القاضي أبو الطيب: من قال في خمس أمهات الأولاد: إن سيدهن لا يصير أبًا له.. قال هاهنا: لا تصير أم المرضعات جدة له. ومن قال هناك: يصير سيدهن أبًا له.. خرج في الجدة هاهنا وجهين: أحدهما: لا تصير جدة له؛ لأن كونها جدة فرع على كون بنتها أما، فإذا لم تثبت أمومة بنتها.. لم تصر جدة.

فرع تفريق الرضعات بين رجلين يثبت أمومتها دونهما

والثاني: تصير جدة له، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه ارتضع من لبن من ولد منها خمس رضعات متفرقات، فهو كما لو ارتضعه من واحدة منهن. فإذا قلنا بهذا: فالذي يقتضي المذهب: أنه لا يحل له نكاح واحدة من المرضعات؛ لأنها بنت جدته، ولا يحل له نكاح بنت جدته من النسب، فكذلك من الرضاع. وإن كان لرجل أم لها لبن، وأخت لها لبن، وبنت لها لبن، وزوجة لها لبن، وامرأة أخ لها لبن، فارتضع صبي من كل واحدة منهن رضعة.. لم تصر واحدة منهن أمًا له، وهل تثبت الحرمة بينه وبين هذا الرجل؟ يبنى على ثبوت الحرمة للجدة في التي قبلها. فإذا قلنا: لا تثبت للجدة حرمة.. فهاهنا أولى أن لا تثبت. وإن قلنا: تثبت للجدة حرمة.. فهاهنا وجهان: أحدهما: تثبت؛ لأنه قد وجد العدد في حقه. والثاني: لا تثبت؛ لأن الرضعات من جهات مختلفة، فلا يمكن أن يسمى له أبًا ولا أخًا ولا جدًا ولا عمًا ولا خالًا، بخلاف الجدة. [فرع تفريق الرضعات بين رجلين يثبت أمومتها دونهما] ] : وإن كان لرجل زوجة له منها لبنا، فأرضعت به طفلًا ثلاث رضعات، ثم طلقها الزوج، وانقضت عدتها منه، وتزوجت بآخر، وولدت منه، وأرضعت ذلك الطفل رضعتين.. صارت أمًا له، ولم يصر واحد من الزوجين أبًا له؛ لأنه لم يرتضع من لبن أحدهما خمس رضعات.

مسألة تزوج صغيرة فأرضعتها أمه

[مسألة تزوج صغيرة فأرضعتها أمه] وإن تزوج رجل صغيرة لها دون الحولين: فأرضعتها أمه من النسب أو الرضاع خمس رضعات متفرقات.. انفسخ نكاحه منها؛ لأنها إن أرضعتها بلبن أبيه.. صارت أخته لأبيه وأمه، وإن أرضعتها بغير لبن أبيه.. صارت أخته لأمه. وإن أرضعتها أم أمه من النسب أو الرضاع.. انفسخ نكاحه منها؛ لأنها صارت خالته. وإن أرضعتها امرأة أبيه.. نظرت: فإن كان بلبن أبيه.. انفسخ نكاحه منها؛ لأنها صارت أخته لأبيه. وإن أرضعته بغير لبن أبيه.. لم ينفسخ النكاح؛ لأنها تصير بنت امرأة أبيه، وهي لا تحرم عليه. وإن أرضعتها أم أبيه من النسب أو الرضاع.. انفسخ النكاح؛ لأنها تصير عمته. وإن أرضعتها ابنته من النسب أو الرضاع.. انفسخ نكاحها؛ لأنها تصير بنت بنته. وإن أرضعتها أخته من النسب أو الرضاع.. انفسخ النكاح؛ لأنها تصير بنت أخته. وإن أرضعتها امرأة ولده من النسب أو الرضاع بلبن ولده.. انفسخ النكاح؛ لأنها تصير بنت ابنه، وإن أرضعتها بغير لبن ولده.. لم ينفسخ النكاح. وإن أرضعتها امرأة أخيه بلبن أخيه.. انفسخ النكاح؛ لأنها تصير بنت أخيه، وإن أرضعتها بغير لبن أخيه.. لم ينفسخ النكاح. وإن أرضعتها امرأة عمه أو امرأة خاله.. لم ينفسخ النكاح؛ لأن بنت عمه وبنت خاله لا تحرم عليه. وإن أرضعت امرأة أجنبية صبيًا أو صبية لهما دون الحولين، ثم كبر الغلام.. فله أن يتزوج أم أخته من الرضاع أو النسب؛ لأنه ليس بينهما ما يوجب التحريم. وكذلك: لو كان لأخته من النسب أم من الرضاع.. جاز له أن يتزوجها.

فرع تزوج زوجتين فأرضعت إحداهما الأخرى

[فرع تزوج زوجتين فأرضعت إحداهما الأخرى] وإن كان لرجل زوجة كبيرة وزوجة صغيرة لها دون الحولين، فأرضعت الكبيرة الصغيرة خمس رضعات متفرقات.. انفسخ نكاحهما بكل حال؛ لأنها تصير بنتًا لها، ولا يجوز الجمع بين المرأة وبنتها. فإن أرضعتها بلبن الزوج.. حرمتا على التأبيد؛ لأن الكبيرة صارت من أمهات نسائه، والصغيرة صات بنتًا له، وإن أرضعتها بغير لبن الزوج.. حرمت عليه الكبيرة على التأبيد، سواء دخل بها أو لم يدخل بها؛ لأنها صارت من أمهات النساء، وأما الصغيرة: فإن كان قد دخل بالكبيرة.. حرمت عليه أيضًا على التأبيد؛ لأنها ربيبة دخل بأمها، وإن لم يدخل بالكبيرة.. لم تحرم عليه الصغيرة على التأبيد، بل يجوز له العقد عليها؛ لأنها ربيبة لم يدخل بأمها. [فرع أرضعت زوجته الكبيرة ثلاث زوجات له صغارًا] وإن كان له أربع زوجات: كبيرة، وثلاث صغار لهن دون الحولين، فأرضعت الكبيرة كل واحدة منهن خمس رضعات متفرقات.. نظرت: فإن أرضعتهن بلبن الزوج.. انفسخ نكاح الجميع، وحرمن على التأبيد، سواء دخل بالكبيرة أو لم يدخل بها، وسواء ارتضعن في وقت واحد أو في أوقات متفرقات؛ لأن الصغار صرن بناته، وصارت الكبيرة أمًا لهن، ولا يجوز الجمع بين المرأة وابنتها. وإن أرضعتهن بغير لبن الزوج.. ففيه أربع مسائل:

إحداهن: أن ترضع اثنتين منهن في حالة واحدة، والثالثة بعدهما، وذلك: بأن ترضع كل واحدة من الأوليين أربع رضعات، ثم ألقمت كل واحدة منهما ثديًا في الخامسة.. فإن ارتضعتا معًا وقطعتا معًا، أو حلبت اللبن في موضعين وسقتهما ذلك اللبن في حالة واحدة، ثم أرضعت الثالثة بعد ذلك.. فإن نكاح الكبيرة والأوليين ينفسخ، أما نكاح الكبيرة: فلأنه لا يجوز الجمع بينها وبين ابنتها في النكاح، وأما الصغيرتان: فلأنه لا يجوز الجمع بينهما وبين أمهما، ولأن كل واحدة منهما صارت أخت الأخرى، ولا يجوز الجمع بين الأختين. وتحرم الكبيرة على التأبيد، سواء دخل بها أو لم يدخل بها؛ لأنها صارت من أمهات النساء. وأما الصغيرتان: فإن كان قد دخل بالكبيرة.. حرمتا أيضًا على التأبيد؛ لأنهما ربيبتان دخل بأمهما. فإن لم يدخل بالكبيرة.. جاز له أن يعقد على كل واحدة منهما؛ لأنهما ربيبتان لم يدخل بأمهما، ولا يجوز أن يجمع بينهما؛ لأنهما أختان. فإن أرضعت الثالثة بعد ذلك، فإن كان قد دخل بالكبيرة.. انفسخ نكاح الثالثة؛ لأنها ربيبة قد دخل بأمها، فحرمت على التأبيد، وإن لم يدخل بالكبيرة.. لم ينفسخ نكاح الثالثة؛ لأنها ربيبة لم يدخل بأمها. الثانية: إذا أرضعت الأولى خمس رضعات، ثم أرضعت الأخريين معًا.. فإنها لما أرضعت الأولى.. انفسخ نكاح الكبيرة ونكاح الأولى، وحرمت الكبيرة على التأبيد. وإن كان قد دخل بالكبيرة.. حرمت الأولى على التأبيد، وإن لم يدخل بها.. لم تحرم على التأبيد. وأما الأخريان: فإن نكاحهما ينفسخ؛ لأنهما صارتا أختين في حالة واحدة، ولا يجوز الجمع بين الأختين، فإن كان قد دخل بالكبيرة.. حرمتا على التأبيد، وإن لم يدخل بها.. لم تحرما على التأبيد. الثالثة: إذا أرضعت الثلاث، واحدة بعد واحدة.. فإنها لما أرضعت الأولى.. انفسخ نكاح الكبيرة والصغيرة؛ لأنه لا يجوز الجمع بين المرأة وبنتها، وتحرم الكبيرة

فرع له زوجتان فطلق الصغرى ثم أرضعتها الكبرى

على التأبيد بكل حال، وأما الصغيرة: فإن كان قد دخل بالكبيرة.. حرمت أيضًا على التأبيد، وإن لم يدخل بالكبيرة.. لم تحرم على التأبيد. فإذا أرضعت الثانية.. فهل ينفسخ نكاحها؟ نظرت: فإن كان قد دخل بالكبيرة.. انفسخ نكاحها؛ لأنها ربيبة قد دخل بأمها، فحرمت على التأبيد. وإن لم يدخل بالكبيرة.. لم ينفسخ نكاحها؛ لأنها ربيبة لم يدخل بأمها. فإذا أرضعت الثالثة، فإن كان قد دخل بالكبيرة.. انفسخ نكاحها، وحرمت على التأبيد، وإن لم يدخل بالكبيرة.. فقد صارت هي والثانية أختين، وما الحكم فيهما؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (ينفسخ نكاحهما) . وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني؛ لأنها أخوة اجتمعت في النكاح، فانفسخ النكاح، كما لو أرضعتهما معًا. والثاني: ينفسخ نكاح الثالثة وحدها؛ لأن الجمع تم بها، فاختصت بفساد النكاح، كما لو تزوج بأختين إحداهما بعد الأخرى.. فإن فساد النكاح يختص بالثانية. الرابعة: إذا أرضعتهن في حالة واحدة، بأن ترضع كل واحدة أربع رضعات، ثم تحلب ثلاث دفعات في ثلاثة أوقات متفرقة، ثم تسقيهن الخامسة دفعة واحدة.. فينفسخ نكاح الكبيرة وجميع الصغار، وتحرم الكبيرة على التأبيد، وأما الصغار: فإن دخل بالكبيرة.. حرمن على التأبيد، وإن لم يدخل بالكبيرة.. لم يحرمن على التأبيد، إلا أنهن صرن أخوات، فلا يجوز له الجمع بين اثنتين منهن، وإنما يجوز له أن يتزوج كل واحدة منهن على الانفراد. [فرع له زوجتان فطلق الصغرى ثم أرضعتها الكبرى] ] : وإن كان له زوجتان صغيرة وكبيرة، فطلق الصغيرة، ثم أرضعتها الكبيرة.. انفسخ نكاح الكبيرة؛ لأنها صارت أم من كانت له زوجة.

فرع أرضعت ثلاث زوجات زوجة صغيرة

وإن طلق الكبيرة، وأرضعت الصغيرة، فإن أرضعتها بلبن الزوج.. انفسخ نكاح الصغيرة أيضًا؛ لأنها صارت ابنته، وإن أرضعتها بغير لبن الزوج، فإن كانت الكبيرة مدخولًا بها.. انفسخ نكاح الصغيرة أيضًا؛ لأنها صارت بنت امرأة له أيضًا مدخول بها، وإن لم يدخل بالكبيرة.. لم ينفسخ نكاح الصغيرة؛ لأنها بنت امرأة لم يدخل بها. [فرع أرضعت ثلاث زوجات زوجة صغيرة] إذا كان له أربع زوجات، ثلاث منهن كبار، وواحدة صغيرة، فأرضعتها كل واحدة من الثلاث الكبار خمس رضعات متفرقات.. انفسخ نكاح الجميع؛ لأن كل واحدة من الكبار صارت أمًا لمن كانت له زوجة، ويحرمن الكبار على التأبيد، وأما الصغيرة: فإن أرضعتها واحدة منهن بلبن الزوج، أو بغير لبن الزوج إلا أن واحدة منهن مدخول بها.. حرمت على التأبيد، وإن لم ترتضع بلبن الزوج، ولا في الكبار مدخول بها.. لم تحرم الصغيرة على التأبيد، بل له أن يعقد عليها. قال ابن الحداد: وإن كان له ثلاث زوجات، كبيرتان وصغيرة، فأرضعتها كل واحدة أربع رضعات، ثم حلبتا لبنهما في مسعط، وأوجرتاه إياها.. تمت بها الخامسة من كل واحدة منهما، فينفسخ نكاح الجميع، وتحرم الكبيرتان على التأبيد بكل حال، وأما الصغيرة: فإن كان قد دخل بالكبيرتين أو بإحداهما.. حرمت الصغيرة أيضًا على التأبيد، وإن لم يدخل بواحدة منهما.. لم تحرم على التأبيد. قلت: وهذا إذا كان اللبن لغير الزوج، وأما إذا كان لبنهما أو لبن إحداهما للزوج: فإن الصغيرة تحرم عليه على التأبيد على كل حال. [فرع له زوجتان فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة] وإن كان له زوجتان: كبيرة وصغيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة خمس رضعات.. انفسخ نكاح الكبيرة والصغيرة؛ لأنه صار جامعًا بين نكاح أختين، وذلك لا يجوز.

فرع طلق امرأته فأرضعت زوجته الصغيرة

وإن أرضعتها جدة الكبيرة.. انفسخ نكاحهما؛ لأن الصغيرة صارت خالة الكبيرة، فإن أرضعتها أخت الكبيرة.. انفسخ نكاحهما؛ لأن الكبيرة تصير خالة للصغيرة. وإن أرضعتها أم أبي الكبيرة.. انفسخ نكاحهما؛ لأن الصغيرة صارت عمة الكبيرة، ويجوز له أن يعقد على كل واحدة منهما على الانفراد؛ لأنه لا يمنع أن يتزوج بخالة من كانت زوجته ولا عمتها، سواء دخل بالكبيرة أو لم يدخل بها. [فرع طلق امرأته فأرضعت زوجته الصغيرة] ] : وإن كان لرجل زوجتان: كبيرة وصغيرة، فطلقهما، وتزوجهما آخر، فأرضعت الكبيرة الصغيرة.. انفسخ نكاحهما من الثاني، فإن أراد الأول أن يتزوج بهما.. لم يجز له أن يتزوج بالكبيرة؛ لأنها أم من كانت زوجته، وأما الصغيرة: فإن دخل بالكبيرة.. لم يجز له أن يتزوج بالصغيرة أيضًا؛ لأنها بنت امرأة دخل بها، وإن لم يكن دخل بالكبيرة.. فله أن يتزوج بها؛ لأنها بنت امرأة لم يدخل بها. [فرع زوجان طلقا زوجتيهما ثم تزوج كل زوجة الآخر] ] : وإن كان لرجل زوجة كبيرة، ولآخر زوجة صغيرة، فطلق كل واحد منهما زوجته، فتزوج من كان تحته الكبيرة الصغيرة، وتزوج من كان تحته الصغيرة الكبيرة، ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة.. فإن نكاح الكبيرة ينفسخ، وتحرم على التأبيد؛ لأنها صارت أم من كانت زوجته، وأما الصغيرة: فإن كان زوجها قد دخل بالكبيرة قبل أن يطلقها.. انفسخ نكاح الصغيرة، وحرمت عليه على التأبيد؛ لأنها بنت امرأة دخل بها، وإن لم يكن دخل بها.. لم ينفسخ نكاحها؛ لأنها بنت امرأة لم يدخل بها. [فرع عتقت ففسخت النكاح وتزوجت بآخر ثم أرضعت الأول] قال المزني في " المنثور ": إذا زوج الرجل أمته الكبيرة بعبده الصغير، ثم أعتقها سيدها، فاختارت فسخ النكاح؛ لكونها حرة تحت عبد، ثم تزوجت بآخر، وولدت

فرع إرضاع الجدة أحد الصغيرين المتزوجين

له، وأرضعت بلبنه زوجها الأول.. انفسخ نكاحها من زوجها؛ لأنها حليلة ابنه. قال أصحابنا: وهكذا: إذا زوج الرجل ابنه الطفل بكبيرة، فوجدت به عيبًا، وفسخت النكاح، ثم تزوجت بكبير، وولدت منه، وأرضعت بلبنه زوجها الأول.. انفسخ نكاحها من زوجها؛ لأنها حليلة ابنه، وحرمت عليهما على التأبيد. وإن تزوجت امرأة برجل، وحصل لها منه لبن، فطلقها وتزوجت بعده بطفل، فأرضعته بلبن الزوج الأول خمس رضعات.. انفسخ نكاحها من الصغير، وحرمت عليه على التأبيد؛ لأنها أمه وحليلة أبيه، وحرمت على زوجها الأول على التأبيد؛ لأنها حليلة ابنه. [فرع إرضاع الجدة أحد الصغيرين المتزوجين] إذا كان هناك أخوان، لأحدهما ابن، وللآخر ابنة، فزوج الأخوان ابنيهما الصغيرين أحدهما من الآخر، فأرضعت أم الأخوين أحد الصغيرين.. انفسخ نكاحهما؛ لأنها إن أرضعت الابن.. صار عم زوجته، وإن أرضعت الابنة.. صارت عمة زوجها. وإن زوج الصغير بابنة عمته الصغيرة، فأرضعت جدتهما أحدهما.. انفسخ نكاحهما؛ لأنها إن أرضعت الابن.. صار خال زوجته، وإن أرضعت الابنة.. صارت عمة زوجها. وإن زوج الصغير بابنة خاله الصغيرة، فأرضعت جدتهما أحدهما.. انفسخ

فرع إرضاع أم ولد عبد سيدها الصغير

نكاحهما؛ لأنها إن أرضعت الابن.. صار عم زوجته، وإن أرضعت الابنة.. صارت خالة زوجها. وإن زوج الصغير بابنة خالته الصغيرة، فأرضعت جدتهما أحدهما.. انفسخ نكاحهما؛ لأنها إن أرضعت الابن.. صار خال زوجته، وإن أرضعت الابنة.. صارت خالة زوجها. [فرع إرضاع أم ولد عبد سيدها الصغير] قال ابن الحداد: روى المزني: أن الشافعي قال في " المنثور ": (إذا زوج أم ولد من عبده الصغير، فأرضعته بلبن مولاه خمس رضعات.. انفسخ نكاحهما، وحرمت عليه على التأبيد، ولا تحرم أم الولد على المولى؛ لأنها لم تصر أما للصغير إلا بعد زوال النكاح بينهما، وكانت حليلة الصغير، ولم تكن أمًا له، ولما صار ابنًا له.. لم تكن حليلة له) . وتقرير هذا: أن اسم حليلة الابن لم يوجد؛ لأنه حين يسمى: ابنًا، لا تسمى هي: حليلة، وإنما كانت حليلة له، فإذا لم يثبت الاسم للنسب.. لم يثبت التحريم. وأنكر المزني، وابن الحداد، وسائر أصحابنا ذلك، وقالوا: تحرم على السيد. ولا يصح هذا على مذهب الشافعي؛ لأن زوال النكاح لا يمنع وقوع اسم حليلة ابنه، وقد نص الشافعي على: (أنه إذا تزوج صغيرة وكبيرة، فأرضعت الكبيرة الصغيرة.. أن نكاحهما ينفسخ؛ لأن الكبيرة أم زوجته، وليست بزوجة له حين صارت أمًا لها) . هكذا ذكرها القاضي أبو الطيب. وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق ": أن المزني ذكر في " المنثور ": إذا كان له أم ولد، له منها لبن، فزوجها من طفل، فأرضعته بلبن مولاها.. انفسخ النكاح بينهما. قال المزني، وابن الحداد: وتحرم على سيدها على التأبيد؛ لأن الصغير صار ابنًا لسيدها من الرضاع، فتصير حليلة ابنه.

فرع إرضاع أجنبية زوجتين صغيرتين لرجل

قال الشيخ أبو حامد: وأخطأ، بل لا تحرم على سيدها؛ لأنه لم يصح النكاح بينها وبين الصغير، لأن نكاح الأمة لا يصح إلا بشرطين: خوف العنت، وعدم صداق حرة. والصغير لا يوصف بخوف العنت، فإذا لم يوجد الشرط.. لم يصح النكاح، وإذا لم يصح النكاح.. لم تكن حليلة ابنه. والذي حكاه القاضي صحيح إذا كان الطفل عبدًا؛ لأنه لا يعتبر خوف العنت وعدم صداق الحرة في نكاح الأمة. والذي ذكره الشيخ أبو حامد صحيح أيضًا إذا كان الطفل حرًا؛ لأن هذين الشرطين معتبران في حقه في جواز إنكاحه للأمة، وهما غير موجودين فيه. [فرع إرضاع أجنبية زوجتين صغيرتين لرجل] إذا كان لرجل زوجتان صغيرتان، فجاءت امرأة أجنبية، فأرضعت إحداهما خمس رضعات، ثم أرضعت الأخرى خمس رضعات.. فإن نكاح الأخرى ينفسخ بتمام رضعتها الخامسة، وهل ينفسخ به نكاح الأولى؟ فيه قولان، قد مضى توجيههما. وهكذا: لو جاءت أم إحدى الزوجتين الصغيرتين، فأرضعت ضرة ابنتها خمس رضعات.. انفسخ نكاح المرضعة، وهل ينفسخ نكاح ابنة المرضعة؟ على القولين. وإن كان لرجل أربع زوجات صغار، وله ثلاث خالات لأب وأم، أو لأم، فأرضعت كل واحدة من خالاته واحدة من زوجاته، وبقيت الرابعة.. لم ينفسخ نكاحه من إحداهن؛ لأن الثلاث المرضعات صرن بنات خالاته، وابنة خالته يجوز نكاحها، فإن أرضعت أمُّ أمِّ الزوج الرابعةَ.. انفسخ نكاحه منها، وحرمت عليه على التأبيد؛ لأنها صارت خالة له، وصارت أيضًا هذه الرابعة خالة لزوجاته الثلاث، وهل ينفسخ نكاحهن؟ على القولين في التي قبلها. وإن كان له ثلاث خالات متفرقات، فأرضعت كل واحدة من خالاته واحدة من

مسألة تزوج بصغيرة فأرضعتها أمه أو أخته

زوجاته.. فإن نكاحهن لا ينفسخ، فإن أرضعت أمُّ أم الزوج زوجته الرابعة.. انفسخ نكاحها، وأما زوجاته الثلاث: فإن في انفساخ نكاح زوجته التي أرضعتها خالته لأبيه وأمه وفي نكاح التي أرضعتها خالته لأمه القولين. وأما نكاح زوجته التي أرضعتها خالته لأبيه: فإنه لا ينفسخ، قولًا واحدًا؛ لأن خؤولة الرابعة حصلت من جهة أمّ أم الزوج، وخالة الزوج للأب من قوم آخرين، وهي من جهة أبي أم الزوج، فلم تجتمع مرضعتها مع خالتها في النكاح. هكذا ذكر المسعودي [في " الإبانة "] ، والطبري في " العدة ". وعندي: أن أمَّ أمِّ الزوج إذا أرضعت الرابعة بلبن أبي أم الزوج.. كان في نكاح مرضعة الخالة للأب أيضًا قولان، وإنما تفترق إذا أرضعت بغير لبن أبي أم الزوج. وعلى هذا يقاس: إذا كان للزوج ثلاث عمات، فأرضعت كل واحدة منهن واحدة من زوجاته، ثم أرضعت أم أبي الزوج الرابعة، على ما مضى. [مسألة تزوج بصغيرة فأرضعتها أمه أو أخته] مسألة: [تزوج صغيرة فأرضعتها أمه أو أخته] : إذا تزوج الرجل صغيرة، فأرضعتها أمه أو أخته أو امرأته.. ينفسخ النكاح برضاعها خمس رضعات متفرقات، فإن كان قد سمى لها صداقًا فاسدًا.. وجب لها نصف مهر المثل، وإن سمى لها صداقًا صحيحًا.. وجب لها نصف المسمى، ويرجع الزوج على المرضعة بضمان ما أتلفته عليه من البضع، سواء تعمدت فسخ النكاح أو لم تتعمد. وقال مالك: (لا يرجع عليها بشيء) . وقال أبو حنيفة: (إن تعمدت فسخ النكاح.. رجع عليها، وإن لم تتعمد فسخ النكاح.. لم يرجع عليها) . دليلنا - على مالك -: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الممتحنة: 11] [الممتحنة: 11] .

وذلك: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح قريشًا عام الحديبية على: أن المرأة المسلمة إذا هاجرت.. ردها إليهم، فنهاه الله عن ذلك، وأمره برد مهورهن إلى أزواجهن) ؛ لأنه حال بينهن وبين أزواجهن، فدل على: أن كل من حال بين الرجل وبين زوجته.. كان عليه ضمان البضع، وهذه المرضعة قد حالت بينه وبينها.. فكان عليها الضمان. وعلى أبي حنيفة: أن كل ما ضمن بالعمد.. ضمن بالخطأ، كالأموال. إذا ثبت هذا: فكم القدر الذي يرجع به على المرضعة؟ نص الشافعي هاهنا: (أنه يرجع عليها بنصف مهر المثل) . ونص في الشاهدين: (إذا شهدا على رجل: أنه طلق امرأته قبل الدخول، وحكم بشهادتهما، ثم رجعا عن الشهادة.. فإنها لا ترد إليه) ، وبماذا يرجع الزوج عليهما؟ فيه قولان:

أحدهما: يرجع عليهما بنصف مهر المثل. والثاني: يرجع عليهما بجميع مهر المثل. فنقل أبو سعيد الإصطخري هذا القول إلى جوابه في المرضعة، وخرج فيها قولين: أحدهما: يرجع عليها بجميع مهر المثل؛ لأنها أتلفت عليه البضع، فرجع عليها بالقيمة. والثاني: يرجع عليها بنصف مهر المثل؛ لأنه لم يغرم إلا نصف بدل البضع، فلم يجب له أكثر من نصف بدله. وحملهما أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا على ظاهرهما، فجعلوا في الشاهدين قولين، وفي المرضعة للزوج يرجع عليها بنصف مهر المثل، قولًا واحدًا؛ لأن الفرقة في الرضاع وقعت ظاهرًا وباطنًا، والذي غرم الزوج نصف المهر، فلم يرجع عليها بأكثر من بدله، وفي الشاهدين لم تقع الفرقة ظاهرًا وباطنًا، وإنما وقعت في الظاهر، وهما يقران: أنها زوجته الآن، وإنما حالا بينه وبينها، فرجع عليهما بقيمة جميع البضع. وقال أبو حنيفة: (يرجع على المرضعة بنصف المسمى) . دليلنا: أن هذا تعلق بالإتلاف، فلم يضمن بالمسمى، وإنما يضمن بقيمته، كضمان الأموال. فإذا قلنا: يرجع عليها بنصف مهر المثل، وهو الأصح، وعليه التفريع، فجاء خمس أنفس، وأرضعوا الصغيرة من أم الزوج كل واحد منهم رضعة.. فإن الزوج يرجع على كل واحد منهم بخمس نصف مهر المثل؛ لتساويهم في الإتلاف. وإن كانوا ثلاثة، فأرضعها اثنان كل واحد منهما رضعة من لبن أم الزوج، وأرضعها الثالث منها ثلاث رضعات.. ففيه وجهان:

فرع إرضاع بنات زوجته نساءه الثلاث الصغار

أحدهما: يجب على كل واحد منهم ثلث نصف مهر المثل؛ لأن كل واحد منهم وجد منه سبب الإتلاف، فتساووا في الضمان، كما لو كان عبد بين ثلاثة، لأحدهم النصف، وللآخر السدس، وللثالث الثلث، فأعتق صاحب النصف وصاحب السدس نصيبهما في وقت واحد. والثاني: يقسط النصف على عدد الرضعات، فيجب على من أرضع رضعة خمس نصف مهر المثل، وعلى من أرضع ثلاث رضعات ثلاثة أخماس نصف مهر المثل؛ لأن الفسخ حصل بعدد الرضعات، فقسط الضمان عليهم. [فرع إرضاع بنات زوجته نساءه الثلاث الصغار] وإن كان لرجل ثلاث زوجات صغار وزوجة كبيرة، وللكبيرة ثلاث بنات من النسب أو الرضاع لهن لبن، فأرضعت كل واحدة من بنات الزوجة الكبيرة واحدة من الثلاث الزوجات الصغار.. نظرت: فإن وقع رضاعهن دفعة واحدة، بأن اتفقن في الخامسة.. انفسخ نكاح الكبيرة والصغار؛ لأنه لا يجوز الجمع بينهن وبين جدتهن، وإن كان الزوج لم يدخل بالكبيرة.. فإنهن يرجعن عليه بنصف المسمى، ويرجع الزوج على كل واحدة من بنات الكبيرة بنصف مهر مثل الصغيرة التي أرضعت، ويرجع على الثلاث المرضعات بنصف مثل مهر المرأة الكبيرة بينهن أثلاثًا. ومن أصحابنا من قال: يرجع بنصف مهر كل واحدة من الصغار على الثلاث المرضعات بينهن بالسوية، وبنصف مهر الكبيرة؛ لأنهن اشتركن في إفساد نكاح كل واحدة منهن. والأول أصح. وتحرم عليه الكبيرة على التأبيد، وأما الصغار: فلا يحرمن عليه، بل يجوز له ابتداء عقد النكاح على كل واحدة منهن، ويجوز له الجمع بينهن؛ لأنهن بنات خالات. وإن كان قد دخل بالكبيرة.. حرمن جميعًا على التأبيد، والكلام في مهور الصغار

فرع إرضاع زوجتين كبيرتين لضرة صغيرة

على ما مضى، وأما مهر الكبيرة: فإنه يرجع بجميعه على الثلاث المرضعات بينهن أثلاثًا. وقال ابن الحداد: لا يرجع عليهن بمهر المثل؛ لأنه قد وطئها، فلو ثبت له الرجوع.. لكانت في معنى المرهونة. وهذا ليس بصحيح؛ لأن المهر يرجع به على غيرها، فلا تكون في معنى المرهونة. وإن تقدم إرضاع بعضهن على بعض.. فإن الأولى من بنات الكبيرة لما أرضعت واحدة من الصغار.. انفسخ نكاح الصغيرة والكبيرة، ورجع الزوج على المرضعة بنصف مهر مثل الصغيرة، وبنصف مهر مثل الكبيرة إن لم يدخل بها، وبجميع مهرها إن دخل بها - على الأصح - وحرمت الكبيرة على التأبيد، وأما الصغيرة: فإن لم يدخل بالكبيرة.. لم تحرم على التأبيد، وإن دخل بها.. حرمت على التأبيد. فلما أرضعت الثانية الصغيرة الثانية، وأرضعت الثالثة الصغيرة الثالثة، فإن كان الزوج قد دخل بالكبيرة.. انفسخ نكاحهما؛ لأنهما بنتا ابنة امرأته المدخول بها، والكلام في مهرهما على ما مضى، وإن كان لم يدخل بالكبيرة.. لم ينفسخ نكاحهما؛ لأنهما بنتا ابنة امرأته التي لم يدخل بها. [فرع إرضاع زوجتين كبيرتين لضرة صغيرة] إذا كان له ثلاث زوجات: كبيرتان وصغيرة، فأرضعتها كل واحدة من الكبيرتين أربع رضعات، ثم حلبت كل واحدة منهما لبنًا منها، وخلطتاه، وسقتاه الصغيرة معًا.. انفسخ نكاح الكبيرتين والصغيرة، وعلى الزوج للصغيرة نصف المسمى، وللزوج على الكبيرتين نصف مهر مثل الصغيرة بينهما نصفين. وأما مهر الكبيرتين: فإن كان قد دخل بهما.. فلهما عليه المهر المسمى، ويرجع الزوج على كل واحدة منهما بنصف مهر مثل صاحبتها؛ لأن كل واحدة منهما أتلفت عليه نصف بضع صاحبتها، ونكاح كل واحدة منهما انفسخ بفعل نفسها وفعل

فرع إرضاع كبيرة صغيرة أربعا ثم تزوجهما رجل فأرضعتها الخامسة

صاحبتها، فلا تضمن كل واحدة منهما من مهر صاحبتها إلا ما قابل فعلها. وإن كان لم يدخل بهما.. فلكل واحدة منهما ربع مهرها المسمى على الزوج؛ لأنه لو لم يكن من جهتها سبب في فسخ النكاح.. لاستحقت نصف مهرها المسمى، ولو انفسخ نكاحها بفعلها.. سقط جميع مهرها، فإذا انفسخ نكاحها قبل الدخول بفعلها وفعل صاحبتها.. فما قابل فعل نفسها، لا ترجع به؛ لأن الفسخ إذا كان من قبلها قبل الدخول.. لا مهر لها، وما قابل فعل صاحبتها.. لا يسقط، ويرجع الزوج على كل واحدة منهما بربع مهر مثل صاحبتها؛ لأنه قيمة ما أتلفته من بضع صاحبتها. قال الشيخ أبو حامد: إذا كانت بحالها إلا أن إحداهما انفردت بإيجارها اللبن المخلوط منهما.. انفسخ نكاح الجميع، وللصغيرة على الزوج نصف المسمى، ويرجع الزوج على الموجرة بنصف مهر مثل الصغيرة؛ لأنها هي انفردت بالإتلاف. وأما مهر الكبيرتين: فإن كان الزوج لم يدخل بالتي لم توجر.. كان لها على الزوج نصف المسمى، ويرجع الزوج على الموجرة بنصف مهر مثل التي لم توجر. وإن كان قد دخل بالتي لم توجر.. فلها على الزوج جميع ما سمى لها، ويرجع الزوج على الموجرة بجميع مهر مثل التي لم توجر، وأما مهر الموجرة: فإن كان ذلك قبل الدخول بها.. فلا شيء لها، وإن كان بعد الدخول عليها.. فلها عليه جميع المسمى، ولا يسقط عنه شيء منه، وتحرم الكبيرتان عليه على التأبيد بكل حال. وأما الصغيرة: فإن دخل بالكبيرتين أو بإحداهما.. حرمت عليه على التأبيد، وإن لم يدخل بواحدة منهما.. جاز له ابتداء العقد على الصغيرة. [فرع إرضاع كبيرة صغيرة أربعًا ثم تزوجهما رجل فأرضعتها الخامسة] وإن أرضعت امرأة كبيرة صغيرة أربع رضعات، ثم تزوج رجل الكبيرة والصغيرة، ثم أرضعتها الكبيرة الخامسة.. انفسخ نكاحهما، وتحرم الكبيرة على التأبيد، وإن كان قد دخل بالكبيرة.. حرمت الصغيرة أيضًا على التأبيد، وإن لم يدخل بها.. لم تحرم الصغيرة على التأبيد.

فرع ارتضاع زوجة صغيرة من أم زوجها

وأما المهر: فإن لم يدخل بالكبيرة.. فلا شيء لها على الزوج، وإن كان قد دخل بها.. فلها جميع مهرها عليه، وأما الصغيرة: فلها على الزوج نصف المسمى. قال الشيخ أبو حامد: ويرجع الزوج على الكبيرة بنصف مهر مثل الصغيرة، ولا يقسط على عدد الرضعات؛ لأن الرضاع إنما تكامل عند الخامسة، والتحريم إنما وقع بها وهي في ملك الزوج. [فرع ارتضاع زوجة صغيرة من أم زوجها] وإن تزوج صغيرة، فارتضعت من أم الزوج خمس رضعات متفرقات والأم نائمة.. انفسخ نكاحها، ويسقط مهرها؛ لأن الفسخ جاء من قبلها قبل الدخول. فإن ارتضعت من الأم رضعتين وهي نائمة، ثم أرضعتها الأم ثلاث رضعات متفرقات.. انفسخ نكاحها. قال الشيخ أبو إسحاق: وفي قدر ما يسقط عنه من نصف المسمى وجهان: أحدهما: يسقط نصفه وهو الربع، ويجب عليه الربع. والثاني: يقسط على عدد الرضعات، فيسقط من نصف المسمى الخمسان، ويجب ثلاثة أخماسه. فإذا قلنا بالأول.. وجب على الأم للزوج ربع مهر المثل. وإذا قلنا بالثاني.. وجب على الأم ثلاثة أخماس نصف مهر المثل. وإن تقاطر من لبن أمه في حلق زوجته الصغيرة، فوصل إلى جوفها خمس رضعات.. انفسخ النكاح، ووجب عليه للصغيرة نصف المسمى، ولا يرجع الزوج على الأم بشيء؛ لأنه ليس من جهة إحداهما فعل.

فرع ارتضاع زوجته الصغيرة من زوجته الكبيرة

[فرع ارتضاع زوجته الصغيرة من زوجته الكبيرة] ] : وإن ارتضعت زوجته الصغيرة من زوجته الكبيرة خمس رضعات متفرقات والكبيرة نائمة.. انفسخ نكاحهما، وسقط مهر الصغيرة، فإن كان لم يدخل بالكبيرة.. رجعت على الزوج بنصف مهرها المسمى، ورجع الزوج على الصغيرة بنصف مهر مثل الكبيرة، وإن دخل بالكبيرة.. رجعت عليه بجميع مهرها المسمى، ورجع الزوج في مال الصغيرة بجميع مهر مثل الكبيرة، على قول أكثر أصحابنا، ولا يرجع عليها بشيء، على قول ابن الحداد. [فرع أرضعت زوجته الأمة الكبيرة ضرتها الصغيرة] إذا كان لرجل زوجة أمة كبيرة، وله زوجة صغيرة، فأرضعت الكبيرة الصغيرة خمس رضعات متفرقات.. انفسخ نكاحهما، وتعلق نصف مهر مثل الصغيرة برقبة الأمة؛ لأنه جناية، وجناية الأمة في رقبتها. ولو كان لرجل أم ولد؛ وله زوجة صغيرة، فأرضعتها أم ولده.. انفسخ نكاح الصغيرة، وحرمت عليه الأمة على التأبيد، فإن كان قد وطئ الأمة.. حرمت عليه الصغيرة على التأبيد، وإن لم يكن وطئ الأمة إلا أنها استدخلت ماءه، وحملت منه.. فلا تحرم الصغيرة على التأبيد، ويجب للصغيرة على الزوج نصف مهرها المسمى، ولا يرجع الزوج على أم الولد بشيء؛ لأن جنايتها على غيره عليه. ولو أرضعتها مكاتبته بلبنه، فإن كانت أم ولده.. رجع عليها بنصف مهر مثل الصغيرة؛ لأن السيد يثبت له الحق على مكاتبته. وإن أرضعتها أم ولد أبيه أو ابنه بلبنه.. انفسخ النكاح، ورجع على أبيه أو ابنه بنصف مهر مثل الصغيرة؛ لأن جناية أم الولد على سيدها.

فرع إرضاع زوجة الابن ضرة حماتها الصغيرة

وإن كانت له أمة لها لبن من غيره، وأرضعت به زوجته الصغيرة خمس رضعات متفرقات.. حرمت عليه الأمة على التأبيد؛ لأنها صارت من أمهات النساء، وهل ينفسخ نكاح الصغيرة؟ ينظر فيه: فإن كان قد وطئ الأمة.. انفسخ نكاحها؛ لأنها بنت امرأة وطئها. وإن لم يطأها.. لم ينفسخ النكاح، ولا يرجع السيد على الأمة بشيء من مهر الصغيرة؛ لأن السيد لا يثبت له المال على عبده. [فرع إرضاع زوجة الابن ضرة حماتها الصغيرة] وإن كان له زوجة صغيرة وزوجة كبيرة، وللكبيرة ابن - من غير هذا الزوج - له زوجة لها لبن من ابن الكبيرة، فأرضعت به الصغيرة.. انفسخ نكاح الصغيرة والكبيرة؛ لأن الكبيرة صارت جدة الصغيرة، ولا يجوز الجمع بين المرأة وجدتها، وتحرم الكبيرة على التأبيد، وأما الصغيرة: فإن كان قد دخل بالكبيرة.. حرمت عليه على التأبيد، وإن لم يدخل بالكبيرة.. لم تحرم عليه على التأبيد، ويجب على الزوج للصغيرة نصف المسمى، ويرجع الزوج على زوجته الكبيرة بنصف مهر مثل الصغيرة، وأما الكبيرة: فإن لم يدخل بها.. وجب عليه لها نصف مهرها المسمى، ويرجع على زوجة الابن بنصف مهر مثل الكبيرة، وإن دخل بالكبيرة.. رجعت الكبيرة بجميع مهرها المسمى، ويرجع الزوج على زوجة ابنها بجميع مهر مثل الكبيرة، على قول أكثر أصحابنا، ولا يرجع عليها بشيء هاهنا، على قول ابن الحداد. وبالله التوفيق

كتاب النفقات

[كتاب النفقات] [باب نفقة الزوجات]

كتاب النفقات باب نفقة الزوجات الأصل في وجوب نفقة الزوجات: من الكتاب: قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] . و (المولود له) : هو الزوج. وإنما نص على وجوب نفقة الزوجة حال الولادة؛ ليدل على: أن النفقة تجب لها حال اشتغالها عن الاستمتاع بالنفاس؛ لئلا يتوهم متوهم أنها لا تجب لها. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] [النساء: 3] .

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (معناه: أن لا يكثر عيالكم ومن تمونونه) . وقيل: إن أكثر السلف قالوا: معنى (ألا تعولوا) أي: أن لا تجوروا، يقال: عال يعول: إذا جار، وأعال يعيل: إذا كثر عياله، إلا زيد بن أسلم، فإنه قال: معناه: أن لا يكثر عيالكم. وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشهد لذلك، حيث قال: «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول» . ويدل على وجوب نفقة الزوجات: قَوْله تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] [النساء: 34] ، وقَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] [الطلاق: 7] ، ومعنى قوله: {قُدِرَ عَلَيْهِ} [الطلاق: 7] أي: ضيق عليه. ومن السنة: ما روى حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه، قال: «قلت: يا رسول الله، ما حق الزوجة؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وأن تكسوها إذا اكتسيت»

وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب الناس، فقال: «اتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» . وروى أبو هريرة: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، عندي دينار، فقال: " أنفقه على نفسك "، قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على ولدك "، فقال: عندي آخر، فقال: " أنفقه على أهلك "، قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على خادمك "، قال: عندي آخر، قال: أنت أعلم به» والمراد بالأهل هاهنا: هي الزوجة، بدليل: ما روى أبو سعيد المقبري: أن أبا هريرة كان إذا روى هذا الحديث.. يقول: (ولدك يقول: أنفق علي، إلى من تكلني؟ وزوجتك تقول: أنفق علي أو طلقني، وخادمك يقول: أنفق علي، وإلا بعني) .

وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن هند امرأة أبي سفيان جاءت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني وولدي إلا ما آخذه منه سرًا ولا يعلم، فهل علي في ذلك شيء؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» قال أصحابنا: وفي هذا الخبر فوائد: إحداهن: وجوب نفقة الزوجة. الثانية: وجوب نفقة الولد. الثالثة: أن نفقة الزوجة مقدمة على نفقة الولد؛ لأنه قدم نفقتها على نفقة الولد. الرابعة: أن نفقة الولد على الكفاية. الخامسة: أن للزوجة أن تخرج من بيتها لحاجة لا بد لها منها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينكر عليها الخروج. السادسة: أن للمرأة أن تستفتي العلماء. السابعة: أن صوت المرأة ليس بعورة. الثامنة: أن تأكيد الكلام جائز؛ لأنها قالت: إن أبا سفيان رجل. التاسعة: أنه يجوز أن يذكر الإنسان بما فيه؛ لأنها قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، والشحيح من منع حقًا عليه. العاشرة: أن الحكم على الغائب جائز؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم على أبي سفيان وهو غائب) . وهذا قول أكثر أصحابنا. قال ابن الصباغ: والأشبه: أن هذا فتيا، وليس بحكم؛ لأنه لم ينقل: أن أبا سفيان كان غائبًا.

مسألة الاقتصار على زوجة

الحادية عشرة: أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسألها البينة، وإنما حكم لها بعلمه. الثانية عشرة: أن من كان له حق على غيره، فمنعه.. جاز له أخذه من ماله. الثالثة عشرة: أن له أخذه من ماله وإن كان من غير جنس حقه؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفصل) . الرابعة عشرة: أنه إذا أخذه وكان من غير جنس حقه.. فله بيعه بنفسه. الخامسة عشرة: أنها تستحق الخادم على الزوج إذا كانت ممن تخدم؛ لأنه روي: أنها قالت: (إلا ما يدخل علي) . السادسة عشرة: أن للمرأة أن تقبض نفقة ولدها، وتتولى إنفاقها على ولدها، ولأن الزوجة محبوسة على الزوج، وله منعها من التصرف، فكانت نفقتها واجبة عليه، كنفقة العبد على سيده. [مسألة الاقتصار على زوجة] قال الشافعي: (وأحب له أن يقتصر على واحدة وإن أبيح له أكثر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} [النساء: 3] [النساء: 3] . فاعترض ابن داود على الشافعي، وقال: لِمَ قال الاقتصار على واحدة أفضل،

مسألة وجوب النفقة في أحوال كل من الزوجين

وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين زوجات كثيرة، ولا يفعل إلا الأفضل، ولأنه قال: «تناكحوا تكثروا» ؟ فالجواب: أن غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان الأفضل في حقه الاقتصار على واحدة؛ خوفًا منه أن لا يعدل، فأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فإنه كان يؤمن ذلك في حقه. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تناكحوا تكثروا» فإنما ندب إلى النكاح لا إلى العدد. [مسألة وجوب النفقة في أحوال كل من الزوجين] إذا تقرر وجوب نفقة الزوجة.. فلا يخلو حال الزوجين من أربعة أقسام: إما أن يكونا بالغين، أو يكون الزوج بالغًا والزوجة صغيرة، أو تكون الزوجة بالغة والزوج صغيرًا، أو يكونا صغيرين. فإن كانا بالغين، وسلمت الزوجة نفسها إلى الزوج تسليمًا تامًا، بأن تقول: سلمت نفسي إليك، فإن اخترت أن تصير إلي وتستمتع فذلك إليك، وإن اخترت جئت إليك حيث شئت فعلت.. وجبت نفقتها؛ لأن النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع، فإذا وجد ذلك منها.. فقد وجد منها التمكين منه، فوجب ما في مقابلته، كالبائع إذا سلم المبيع.. وجب على المشتري تسليم الثمن. فإن سلمت المرأة نفسها إلى الزوج وكان حاضرًا، فلم يتسلمها حتى مضت على ذلك مدة.. وجبت عليه نفقتها في تلك المدة. وقال أبو حنيفة: (لا تجب نفقة المدة الماضية، إلا أن يحكم لها الحاكم بها) . دليلنا: عموم الآيات والأخبار التي ذكرناها في وجوب نفقة الزوجة، ولم يشترط حكم الحاكم. ولأنه مال يجب للزوجة بدل فيه بالزوجية، فلم يفتقر استقراره إلى حكم الحاكم، كالمهر. وإن سلمت نفسها إلى الزوج تسليمًا غير تام، بأن قالت: سلمت نفسي في هذا البيت دون غيره، أو في هذه القرية دون غيرها.. لم تجب لها نفقة؛ لأنه لم يوجد

التسليم التام، فهو كما لو قال بائع العبد: أسلمه في هذا الموضع دون غيره، أو في هذه القرية دون غيرها. فإن عقد النكاح ولم تسلم المرأة نفسها، ولا طالب الزوج بها، وسكتا على ذلك حتى مضت على ذلك سنة أو أكثر.. لم تجب لها النفقة؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج عائشة وهي ابنة سبع، ودخل بها وهي ابنة تسع» . ولم ينقل عنه: أنه أنفق عليها إلا من حين دخل بها. وإن عرض الولي الزوجة على الزوج بغير إذنها وهي بالغة عاقلة، فلم يتسلمها الزوج، ومضى على ذلك مدة.. لم يجب على الزوج النفقة؛ لأنه لا ولاية له عليها في المال. وإن غاب الزوج عن بلد الزوجة.. نظرت: فإن غاب عنها بعد أن سلمت نفسها إليه تسليمًا تامًا، وامتنع من تسلمها.. فقد وجبت نفقتها بتسليمها نفسها، ولا يسقط ذلك بغيبته. وإن غاب عنها قبل أن تسلم نفسها إليه، وأرادت تسليم نفسها إليه.. فإنها إذا أتت حاكم بلدها، فقالت: أنا أسلم نفسي إليه، وأخلي بيني وبينه.. فإن حاكم بلدها يكتب إلى حاكم البلد الذي فيه الزوج، ويعرفه ذلك، فإذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه.. استدعى الزوج، وعرفه ذلك، فإن سار إليها وتسلمها، أو وكل من يتسلمها فتسلمها الوكيل.. وجبت عليه نفقتها من حين تسلمها هو أو وكيله. وإن أمكنه السير، فلم يسر ولا وكيله.. فإنه إذا مضت عليه مدة لو أراد المسير إليها أمكنه ذلك.. فإن الحاكم يفرض لها النفقة من حين مضي مدة السفر إليها؛ لأنه قد كان يمكنه التسليم، فلم يفعل، فإذا لم يفعل.. صار ممتنعًا من تسلمها، فوجبت عليه النفقة. وإن لم يمكنه المسير لعدم الرفقة أو لخوف الطريق.. لم تجب عليه النفقة حتى يمكنه المسير؛ لأنه غير ممتنع من تسلمها.

وإن كان الزوج بالغًا والزوجة صغيرة.. نظرت: فإن كانت مراهقة.. نظرت: فإن كانت تصلح للاستمتاع.. فإن الذي يجب عليه تسليمها وليها، فإن سلمها الولي تسليمًا تامًا.. وجب على الزوج نفقتها، وإن لم يكن لها ولي، أو كان غائبًا أو امتنع من تسليمها، أو سكت عن تسليمها، فسلمت نفسها إلى الزوج.. وجبت النفقة على الزوج؛ لأن التسليم قد حصل، وإن كان ممن لا يصح تسليمه؛ كما لو اشترى سلعة بثمن وسلم الثمن وقبضها المشتري بغير إذن البائع، أو أقبضه إياها غلام البائع.. فإن القبض يصح. قال ابن الصباغ: وينبغي أن لا تجب النفقة إلا بعد أن يتسلمها، ولا تجب ببذلها؛ لأن بذلها لا حكم له. وإن كانت صغيرة لا يتأتى جماعها.. ففيه قولان: أحدهما: تجب لها النفقة؛ لأن تعذر وطئها عليه ليس بفعلها، فلم تسقط بذلك نفقتها، كما لو مرضت. والثاني: لا تجب لها النفقة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، واختاره المزني، وهو الصحيح؛ لأن الاستمتاع متعذر عليه، فلم تجب عليه النفقة، كما لو نشزت. وإن كان الزوج طفلًا صغيرًا والزوجة كبيرة.. ففيه قولان: أحدهما: لا تجب لها النفقة؛ لأن النفقة إنما تجب بالتمكين والتسليم، وإنما يصح ذلك إذا كان هناك متمكن ومتسلم، والصبي ليس بمتمكن ولا متسلم، فلم تجب لها النفقة، كما لو كان غائبًا. والثاني: تجب لها النفقة إذا سلمت نفسها، وهو الأصح؛ لأن التمكين والتسليم

فرع المرض ونحوه لا يسقط النفقة بعد التسليم

التام قد وجد منها، وإنما تعذر من جهته، فوجبت نفقتها، كما لو سلمت نفسها إلى الزوج البالغ، ثم هرب. وأما إذا كانا صغيرين، فسلمها الولي.. فهل تجب لها النفقة؟ فيه قولان، ووجههما ما ذكرناه في التي قبلها، إلا أن الأصح هاهنا: أن لا تجب لها النفقة؛ لأن الاستمتاع متعذر من جهتها. [فرع المرض ونحوه لا يسقط النفقة بعد التسليم] إذا تسلم الزوج زوجته وهي مريضة، أو تسلمها وهي صحيحة فمرضت عنده، أو تسلمها وهي رتقاء أو قرناء، أو أصابها ذلك بعد أن تسلمها، أو أصاب الزوج مرض أو جنون أو حسيم.. وجبت عليه نفقتها؛ لأن الاستمتاع بها ممكن مع ذلك. [فرع وجوب الضرر يمنع الجماع] ] : قال الشافعي: (وإن كان في جماعها شدة ضرر.. منع من جماعها، وأخذ بنفقتها) . وجملة ذلك: أن الرجل إذا كان عظيم الخلق، والزوجة نضوة الخلق، وعليها في جماعه ضرر يخاف منه الإفضاء أو المشقة الشديدة، أو كان بفرجها جرح يضر

فرع التمكين في النكاح الفاسد لا يوجب النفقة

بها وطؤه، فإن وافقها الزوج على الضرر الذي يلحقها بوطئه.. لم يجز له وطؤها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] [النساء: 19] . ومن المعروف: أن يمنع من وطئها. فإن اختار طلاقها، فطلقها.. فلا كلام، وإن لم يختر طلاقها.. وجبت عليه نفقتها؛ لأنها محبوسة عليه، ويمكنه الاستمتاع بها بغير الوطء. وإن لم يصدقها الزوج، بل ادعى: أنه يمكنه جماعها، فإن ادعت تعذر الوطء لعظم خلقه.. أمر الحاكم نساء ثقات يشاهدن ذلك بينهما بحال الجماع من غير حائل، فإن قلن: إنه يلحقها مشقة شديدة، أو يخاف عليها من ذلك.. منع من وطئها، وإن قلن: إنه لا يلحقها مشقة شديدة، ولا يخاف عليها منه.. أمرت بتمكينه من الوطء. وإن ادعت تعذر الوطء بجراح في فرجها.. أمر الحاكم نساء ثقات ينظرن إلى فرجها؛ لأن هذا موضع ضرورة، فجوز النظر إلى العورة لذلك. واختلف أصحابنا في عدد النساء اللاتي ينظرن إليها حال الجماع، أو ينظرن إلى الجرح في فرجها: فقال أبو إسحاق: تكفي واحدة؛ لأن طريق ذلك الإخبار، والمشقة تلحق بنظر الجماعة منهن، فجاز الاقتصار على واحدة. ومن أصحابنا من قال: لا يكفي أقل من أربع نسوة في ذلك؛ لأن هذه شهادة ينفرد بها النساء، فلم يقبل فيه أقل من أربع نسوة، كسائر الشهادات. [فرع التمكين في النكاح الفاسد لا يوجب النفقة] وإن سلمت المرأة نفسها إلى الزوج، ومكنته من الاستمتاع بها في نكاح فاسد.. لم تجب لها النفقة؛ لأن التمكين لا يصح مع فساد النكاح، فلم تستحق ما في مقابلته، كما لا يستحق البائع الثمن في البيع الفاسد.

مسألة تسقط النفقة بالنشوز

[مسألة تسقط النفقة بالنشوز] فإن انتقلت الزوجة من منزل الزوج الذي أسكنها فيه إلى منزل غيره بغير إذنه، أو خرجت من البلد بغير إذنه.. فهي ناشزة، وتسقط بذلك نفقتها، وبه قال كافة أهل العلم، إلا الحكم بن عتيبة؛ فإنه قال: لا تسقط نفقتها بذلك. دليلنا: أن النفقة تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع، وقد سقط التمكين من الاستمتاع، فسقطت نفقتها، كما لو لم تسلم نفسها. وإن سافرت المرأة بغير إذن زوجها.. سقطت نفقتها؛ لأنها قد منعت استمتاعه بالسفر، وإن سافرت بإذنه.. نظرت: فإن سافر الزوج معها.. لم تسقط نفقتها؛ لأنها في قبضته وطاعته. وإن سافرت وحدها، فإن كانت في حاجة الزوج.. وجبت عليه نفقتها؛ لأنها سافرت في شغله ومراده، وإن سافرت لحاجة نفسها.. فقد قال الشافعي في (النفقات) : (لها النفقة) . وقال في (النكاح) : (لا نفقة لها) . واختلف أصحابنا فيها: فقال أبو إسحاق: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فحيث قال: (لها النفقة) أراد: إذا كان الزوج معها. وحيث قال: (لا نفقة لها) أراد: إذا لم يكن الزوج معها. ومنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: لا نفقة لها، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد؛ لأنها غير ممكنة من نفسها، فلم تجب لها النفقة، كما لو سافرت بغير إذنه. والثاني: تجب لها النفقة؛ لأنها سافرت بإذنه، فلم تسقط نفقتها، كما لو سافرت في حاجته.

فرع إحرامها بغير إذن يسقط النفقة

[فرع إحرامها بغير إذن يسقط النفقة] وإن أحرمت بالحج أو العمرة بغير إذنه.. سقطت نفقتها؛ لأنه إن كان تطوعًا.. فقد منعت حق الزوج الواجب بالتطوع، وإن كان واجبًا عليها.. فقد منعت حق الزوج وهو على الفور بما هو على التراخي. وإن أحرمت بإذنه، وخرج الزوج معها.. لم تسقط نفقتها؛ لأنها في قبضته، وإن أحرمت بإذنه، وخرجت وحدها.. ففيه طريقان، مضى ذكرهما في (السفر) . وإن اعتكفت.. فلا يصح عندنا إلا في المسجد، فإن كان بغير إذن الزوج.. سقطت نفقتها؛ لأنها ناشزة بالخروج إلى المسجد بغير إذنه، وإن كان بإذن الزوج، فإن كان الزوج معها في المسجد.. لم تسقط نفقتها؛ لأنها في قبضته وطاعته، وإن لم يكن الزوج معها في المسجد.. فعلى الطريقين في (السفر) : [أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا نفقة لها، قولًا واحدًا. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: فيه قولان. [مسألة صومها بغير إذن الزوج] وإن صامت المرأة بغير إذن الزوج.. نظرت: فإن كان تطوعًا.. فللزوج منعها منه، وله إجبارها على الفطر بالأكل والجماع؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تصومن المرأة التطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه»

فإن امتنعت من الوطء ولكنها لم تفارق المنزل.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: هي ناشزة، فتسقط نفقتها؛ لأنها ممتنعة عليه، ولا فرق بين أن تمتنع عليه بالفراش، أو بمفارقة المنزل. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا تسقط نفقتها؛ لأنها لم تفارق المنزل، فهي غير ناشزة. هذا نقل الشيخ أبي حامد. ومن أصحابنا من قال: إذا منعته الوطء.. سقطت نفقتها، وجهًا واحدًا، وإنما الوجهان إذا صامت ولم تمنعه الوطء. وإن كان الصوم واجبًا.. نظرت: فإن كان صوم رمضان.. فليس له منعها منه، ولا تسقط نفقتها به؛ لأنه مستحق بالشرع. وإن كان قضاء رمضان، فإن لم يضق وقت قضائه.. فله منعها منه، وإن دخلت فيه بغير إذنه، كان كما لو دخلت في صوم التطوع بغير إذنه. وإن ضاق وقت قضائه، بأن لم يبق من شعبان إلا قدر أيام القضاء.. لم يكن له منعها منه، وإن دخلت فيه بغير إذنه.. لم تسقط نفقتها منه بذلك؛ لأنه لا يجوز لها تأخيره إلى دخول رمضان، فصار مستحقًا للصوم، كأيام رمضان. وإن كان الصوم عن كفارة.. كان للزوج أن يمنعها منه؛ لأنه على التراخي، وحق الزوج على الفور. وإن كان الصوم نذرًا، فإن كان في الذمة.. كان له منعها منه؛ لأنه على التراخي، وحق الزوج على الفور، وإن كان متعلقًا بزمان بعينه، فإن كان نذرته بإذن الزوج.. لم يكن له منعها منه؛ لأن زمانه قد استحق عليها صومه بإذن الزوج، وإن دخلت فيه بغير

فرع منعت نفسها لقضاء الصلوات

إذنه.. لم تسقط بذلك نفقتها. وإن نذرته بغير إذن الزوج بعد النكاح.. كان للزوج منعها من الدخول فيه؛ لأنها فرطت بإيجابه على نفسها بغير إذنه. وإن نذرت الصوم في زمان بعينه قبل عقد النكاح.. لم يكن للزوج منعها من الدخول فيه، فإن دخلت فيه بغير إذنه.. لم تسقط بذلك نفقتها؛ لأن زمانه قد استحق صومه قبل عقد النكاح. وكل موضع قلنا: للزوج منعها من الدخول فيه إذا دخلت فيه بغير إذن الزوج.. فهل تسقط نفقتها بذلك؟ فيه وجهان، كما قلنا في صوم التطوع. [فرع منعت نفسها لقضاء الصلوات] وإن منعت نفسها بالصلوات الخمس في أوقاتها.. لم تسقط نفقتها بذلك؛ لأن وقتها مستحق للصلاة، وليس للزوج منعها من الدخول فيها في أول الوقت؛ لأنها قد وجبت في أول وقتها، ولأنه يفوت عليها فضيلة أول الوقت. وأما قضاء الفائتة: فإن قلنا: إنها تجب على الفور.. لم يكن للزوج منعها منها. وإن قلنا: إنها لا تجب على الفور.. كان للزوج منعها من الدخول فيها. وأما الصلاة المنذورة: فهي كالصوم المنذور، على ما مضى. وأما صلاة التطوع: فإن كانت غير راتبة.. كان للزوج منعها منها؛ لأن حق الزوج واجب، فلا تسقطه بما لا يجب عليها، فإن دخلت فيها بغير إذن الزوج.. احتمل أن يكون في سقوط نفقتها في ذلك وجهان، كما قلنا في صوم التطوع، وإن كانت سنة راتبة.. فقال الشيخ أبو إسحاق: لا تسقط نفقتها بها، كما قلنا في الصلوات الخمس. [مسألة نفقة الزوج الكافر على زوجته المسلمة في عدتها] إذا أسلمت الزوجة، والزوج كافر، فإن كان قبل الدخول.. فلا نفقة لها؛ لأن الفرقة وقعت بينهما، وإن كان بعد الدخول.. فإن النكاح موقوف على إسلام الزوج في عدتها، ولها النفقة عليه مدة عدتها؛ لأنه تعذر الاستمتاع بمعنى من جهة الزوج، وهو

فرع نفقة الزوجة الوثنية من زوجها المسلم

امتناعه من الإسلام، ويمكنه تلافي ذلك، فلم تسقط نفقتها، كما لو غاب عن زوجته. وحكي عن ابن خيران قول آخر: أن نفقتها تسقط؛ لأن الاستمتاع سقط بمعنى من جهتها، فسقطت به نفقتها، كما لو أحرمت بالحج بغير إذن الزوج والمشهور: هو الأول؛ لأن الحج فرض موسع الوقت، والإسلام فرض مضيق الوقت.. فلم تسقط به نفقتها، كصوم رمضان. وإن انقضت عدتها قبل أن يسلم الزوج.. بانت، وسقطت نفقتها. [فرع نفقة الزوجة الوثنية من زوجها المسلم] وإن أسلم الزوج والزوجة وثنية أو مجوسية، فإن كان قبل الدخول.. وقعت الفرقة بينهما، ولا نفقة لها، وإن كان بعد الدخول.. وقف النكاح على إسلامها قبل انقضاء عدتها، ولا نفقة لها مدة عدتها ما لم تسلم؛ لأنها منعت الاستمتاع بمعصية؛ وهو إقامتها على الكفر فهي كالناشزة، فإن انقضت عدتها قبل أن تسلم.. فقد بانت باختلاف الدين، ولا نفقة لها، وإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. وجبت لها النفقة من حين أسلمت؛ لأنهما قد اجتمعا على الزوجية، وهل تجب لها النفقة لما مضى من عدتها في الكفر؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (تجب لها النفقة؛ لأن إسلام الزوج شعث النكاح) . فإذا أسلمت قبل انقضاء عدتها.. زال ذلك التشعث، وصار كما لو لم يتشعث. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجب لها النفقة لما مضى من عدتها) . وهو الأصح؛ لأن إقامتها على الكفر كنشوزها، ومعلوم أنها لو نشزت وأقامت مدة في النشوز، ثم عادت إلى طاعته.. لم تجب نفقتها مدة إقامتها في النشوز، فكذلك هذا مثله.

فرع ردة أحد الزوجين

[فرع ردة أحد الزوجين] وإن كان الزوجان مسلمين، فارتد الزوج بعد الدخول.. وجبت عليه نفقتها مدة عدتها؛ لأن امتناع الاستمتاع بمعنى من جهة الزوج، فلم تسقط نفقتها بذلك، كما لو غاب. وإن ارتدت الزوجة بعد الدخول.. فأمر النكاح موقوف على إسلامها قبل انقضاء عدتها، ولا تجب لها النفقة مدة عدتها؛ لأنها منعت الاستمتاع بمعصية من جهتها، فهو كما لو نشزت، فإن انقضت عدتها قبل أن تسلم.. فلا كلام، وإن أسلمت قبل انقضاء عدتها.. وجبت نفقتها من حين أسلمت؛ لأنهما قد اجتمعا على الزوجية، وهل تجب لها النفقة لما مضى من عدتها قبل الإسلام؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما قلنا في المشركة إذا تخلفت عن الإسلام، ثم أسلمت قبل انقضاء عدتها. ومنهم من قال: لا تجب لها النفقة، قولًا واحدًا؛ لأن في التي قبلها دخلا على الكفر، وإنما الزوج شعث النكاح بإسلامه، وهاهنا دخلا على الإسلام، وإنما شعثت هي النكاح بردتها فقط، فغلظ عليها. وإن ارتدت الزوجة والزوج غائب، أو غاب بعد ردتها، فرجعت إلى الإسلام والزوج غائب.. وجبت لها النفقة من حين رجعت إلى الإسلام. وكذلك: لو أسلم الزوج، والزوجة وثنية أو مجوسية، وتخلفت في الشرك، وكان الزوج غائبًا، فأسلمت قبل انقضاء عدتها.. وجبت لها النفقة من حين أسلمت. ولو نشزت الزوجة من منزلها والزوج غائب، أو غائب بعد نشوزها، فعادت إلى منزلها.. لم تجب نفقتها حتى يكون الزوج حاضرًا فيتسلمها، أو تجيء إلى الحاكم وتقول: أنا أعود إلى طاعته، ثم يكتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي فيه الزوج، فيستدعيه المكتوب إليه ويقول: إما أن تسير إليها تتسلمها أو توكل من يتسلمها؛ فإن لم يسر، ولم يوكل من يتسلمها، فإن كان ذلك مع قدرته على ذلك، ومضى زمان يمكنه الوصول إليها.. وجبت نفقتها من حينئذ.

فرع دفع نفقة وثنية ثم أسلم

والفرق بينهما: أن نفقتها سقطت عنه بالنشوز؛ لخروجها عن قبضته، فلا ترجع نفقتها إلا برجوعها إلى قبضته، وذلك لا يحصل إلا بتسلمه لها، أو بتمكينه من ذلك، وليس كذلك المرتدة والمشركة، فإن نفقتها إنما سقطت بالردة أو بالإقامة على الشرك، فإذا أسلمت.. زال المعنى الذي أوجب سقوطها، فزال سقوطها. [فرع دفع نفقة وثنية ثم أسلم] وإن دفع الوثني إلى امرأته الوثنية، أو المجوسي إلى امرأته المجوسية نفقة شهر بعد الدخول، ثم أسلم الزوج ولم تسلم هي حتى انقضت عدتها، وأراد الرجوع بما دفع إليها من النفقة.. نظرت: فإن دفعه إليها مطلقًا.. قال الشافعي: (لم يرجع عليها بشيء؛ لأن الظاهر أنه تطوع بدفعها إليها) . وإن قال: هذه نفقة مدة مستقبلة.. كان له الرجوع فيها؛ لأنه بان أنها لا تستحق عليه نفقة. وقال ابن الصباغ: وهذا يقتضي أن الهبة لا تفتقر إلى لفظ الإيجاب والقبول؛ لأنه جعله تطوعًا مع الإطلاق. قال: فإن قيل: يحتمل أن يريد أنه أباحه.. فليس بصحيح؛ لأنه لو كان أباحه لشرط أن تكون قد أتلفته حتى يسقط حقه منها. [مسألة زمن استمتاع زوج الأمة ونفقتها فيه] وإذا زوج الرجل أمته.. فليس عليه أن يرسلها مع زوجها ليلًا ونهارًا، وإنما يجب عليه أن يرسلها معه بالليل دون النهار؛ لأن السيد يملك على أمته الاستخدام والاستمتاع، بدليل: أنه يجوز له العقد على كل واحد منهما. فإذا عقد على أحدهما.. بقي الآخر على ملكه، كما لو أجرها، فإن له أن يستمتع بها في غير وقت الخدمة. فإن قيل: فما الفرق بينها وبين الحرة، حيث قلنا: لا يجوز أن تعقد الإجارة على نفسها بعد النكاح وإن كان عقد النكاح عليها إنما وقع على الاستمتاع دون الاستخدام؟

قلنا: الفرق بينهما: أن الحرة لا يملك عليها أحد الاستخدام قبل النكاح، فإذا عقد عليها النكاح.. ملك الزوج عليها الاستمتاع المطلق في كل وقت، بخلاف الأمة. فإن اختار السيد إرسالها لزوجها ليلًا ونهارًا.. وجب على الزوج جميع نفقتها؛ لأنه قد حصل له الاستمتاع التام. وتعتبر نفقتها بحاله لا بحالها؛ فيجب عليه نفقة الموسر إن كان موسرًا، أو نفقة المعسر إن كان معسرًا. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وليس عليه أن يخدمها؛ لأن الأمة في العرف والعادة تخدم نفسها، فهي كالحرة التي تخدم نفسها) . قال الشيخ أبو حامد: إنما قال الشافعي هذا في العرف والعادة التي كانت في وقته، وأما اليوم: فإن الأمة تخدم؛ لأن الرجل إذا تسرى أمة.. أخدمها. وإن سلمها السيد بالليل دون النهار.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: يجب عليه نصف نفقتها؛ لأنه لو سلمها إليه ليلًا ونهارًا.. لوجبت عليه جميع نفقتها، فإذا سلمها ليلًا دون النهار.. وجب عليه نصف النفقة. و [الثاني]-[وهو] المذهب -: أنه لا يجب عليه شيء من نفقتها؛ لأنه لم يتسلمها تسليمًا تامًا، فهو كما لو سلمت الحرة نفسها بالليل دون النهار، أو في بيت دون بيت. هذا نقل البغداديين. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجهًا ثالثًا: أنه يجب على الزوج جميع نفقتها. ولا وجه له. وبالله التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل.

مسألة باب قدر نفقة الزوجات

[مسألة باب قدر نفقة الزوجات] باب قدر نفقة الزوجات نفقة الزوجة معتبرة بحال الزوج لا بحال الزوجة؛ فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس، وهي مقدرة غير معتبرة بكفايتها. وقال مالك: (نفقتها تجب على قدر كفايتها وسعتها، فإن كانت ضعيفة الأكل.. فلها قدر ما تأكل، وإن كانت أكولة.. فلها ما يكفيها) . وقال أبو حنيفة: (إن كانت معسرة.. فلها في الشهر من أربعة دراهم إلى خمسة، وإن كانت موسرة.. فمن سبعة دراهم إلى ثمانية) . قال أصحابه: إنما قال هذا حيث كان الرخص في وقته، وأما في وقتنا: فيزداد على ذلك. ويعتبرون كفايتها كقول مالك؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» . ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] [الطلاق: 7] ، وأراد: أن الغني ينفق على حسب حاله، والفقير على حسب حاله. ولقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] ، وأراد:

فرع وجوب نفقة الزوجة على القن

المعروف عند الناس، والعرف والعادة عند الناس: أن نفقة الغني والفقير تختلف. ولأنا لو قلنا: إن نفقتها معتبرة بكفايتها.. لأدى ذلك إلى أن لا تنقطع الخصومة بينهما ولا يصل الحاكم إلى قدر كفايتها، فكانت مقدرة، كدية الجنين؛ قدرت لهذا المعنى. وأما خبر هند: فهو حجة لنا؛ لأنه قال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» . والمعروف عند الناس يختلف بيسار الزوج وإعساره. ولم يقل: خذي ما يكفيك ويطلق، على أنا نحمله على أنه علم من حالها أن كفايتها لا تزيد على نفقة الموسر، وكان أبو سفيان موسرًا. إذا ثبت هذا: فإن نفقتها معتبرة بحال الزوج، فإن كان الزوج موسرًا، وهو: الذي يقدر على النفقة بماله أو كسبه.. وجب لها كل يوم مدان، وإن كان معسرًا؛ وهو: الذي لا يقدر على النفقة بماله ولا كسبه.. وجب عليه كل يوم مد، وهو: رطل وثلث؛ لأن أكثر ما أوجب الله تعالى في الكفارات للواحد مدان وهو في كفارة الأذى، وأقل ما أوجب الله تعالى للواحد في الكفارة مد.. فقسنا نفقة الزوجات على الكفارة؛ لأن الله تعالى شبه الكفارة بنفقة الأهل في الجنس بقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] . فاعتبرنا الأكثر والأقل بالواجب للواحد في الكفارة. وأما المتوسط: فإنه يجب عليه كل يوم مد ونصف مد؛ لأنه أعلى حالًا من المعسر، وأدنى حالًا من الموسر، فوجب عليه من نفقة كل واحد منهما نصفها. [فرع وجوب نفقة الزوجة على القن] وإن كان الزوج عبدًا، أو مكاتبًا، أو مدبرًا، أو معتقًا بصفة.. وجبت عليه نفقة زوجته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] ، وهذا مولود

مسألة النفقة من قوت البلد

له، ولا يجب عليه إلا نفقة المعسر؛ لأنه أسوأ حالًا من الحر المعسر. وإن كان نصفه حرًا ونصفه مملوكًا وله زوجة، فإن كان معسرًا بنصفه الحر.. لم يجب عليه إلا نفقة المعسر؛ لأنه أسوأ حالًا من الحر المعسر؛ لأنهما استويا في الإعسار، وانفرد بنقص الرق، وإن كان موسرًا بنصفه الحر.. لم يجب عليه إلا نفقة المعسر. وقال المزني: يجب عليه نصف نفقة المعسر؛ لما فيه من الرق، ونصف نفقة الموسر؛ لما فيه من الحرية، فيجب عليه مد ونصف. والمذهب الأول؛ لأن أحكامه أحكام العبد في الطلاق وعدد المنكوحات، فكان حكمه حكم العبد في النفقة. [مسألة النفقة من قوت البلد] ] : ويجب عليه أن يدفع إليها من غالب قوت البلد، فإن كان ببغداد أو بخراسان.. فمن البر، وإن كان بطبرستان.. فمن الأرز، وإن كان بالمدينة وما حواليها.. فمن التمر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] ، والمعروف عند الناس: غالب قوت البلد. ولأنه طعام يجب على وجه الاتساع والكفاية، فوجب من غالب قوت البلد، كالكفارة. ويجب أن يدفع إليها الحب، فإن دفع إليها الدقيق أو السويق أو الخبز.. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: لم يجز. وذكر صاحب " التهذيب ": أنه يجوز، وجهًا واحدًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] [المائدة: 89] ، فجعل الكفارة فرعًا للنفقة ومحمولًا عليها، فلما كان في الكفارة الواجب هو الحب نفسه، ولا يجزئ الدقيق ولا السويق والخبز.. فكذلك النفقة. وإن أعطاها قيمة الحب.. لم تجبر على قبولها؛ لأن الواجب لها هو الحب، فلا تجبر على أخذ قيمته، كما لو كان لها طعام قرض. وإن سألته أن يعطيها قيمته.. لم يجبر الزوج على دفع القيمة؛ لأن الواجب عليه

مسألة ما تستحقه الزوجة من أدم

هو الحب، فلا يجبر على دفع قيمته، فإن تراضيا على القيمة.. فهل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه طعام وجب في الذمة بالشرع، فلم يصح أخذ العوض عنه، كالكفارة. والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأنه طعام وجب على وجه الرفق، فصح أخذ العوض عنه، كالقرض. قال الصيمري، والمسعودي [في " الإبانة "] : وتلزمه مؤنة طحنه وخبزه حتى يكون مهيأ؛ لأنه هو العرف. [مسألة ما تستحقه الزوجة من أدم] قال الشافعي: (ومكيله من أدم بلادها زيتًا أو سمنًا) . وجملة ذلك: أنه يجب للزوجة الأدم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] ، ومن المعروف: أن المرأة لا تأكل خبزها إلا بأدم. وروى عكرمة: أن امرأة سألت ابن عباس، وقالت له: ما الذي لي من مال زوجي؟ فقال: (الخبز والأدم، قالت: أفآخذ من دراهمه شيئًا؟ فقال: أتحبين أن يأخذ من حيلك فيتصدق به؟ قالت: لا، فقال: فكذلك لا تأخذي من دراهمه شيئًا بغير إذنه) . ويرجع في قدره وجنسه إلى العرف، فيجب في كل بلد من غالب أدمها. قال أصحابنا: فإن كان بالشام.. فالأدم الزيت، وإن كان بالعراق.. فالشيرج، وإن كان بخراسان.. فالسمن. وإنما أوجب الشافعي الأدهان من بين سائر الآدام؛ لأنها أصلح للأبدان، وأخف مؤنة؛ لأنه لا يحتاج في التأدم بها إلى طبخ.

فرع من النفقة إطعام اللحم

ويرجع في قدره إلى العرف: فإن كان العرف أنه يؤتدم به على المد أوقية دهن.. وجب لامرأة الموسر كل يوم أوقيتا دهن، ولامرأة المعسر أوقية، ولامرأة المتوسط أوقية ونصف؛ لأنه ليس للأدم أصل يرجع إليه في تقديره، فرجع في تقديره إلى العرف، بخلاف النفقة. وعندي: أنها إذا كانت في بلد غالب أدم أهلها اللبن، كأهل اليمن.. فإنه يجب أدمها من اللبن. [فرع من النفقة إطعام اللحم] قال الشافعي: (وقيل: وفي كل جمعة رطل لحم، وذلك العرف لمثلها) . وجملة ذلك: أنها إذا كانت في بلد يأتدم أهلها اللحم.. فإنه يجب عليه أن يدفع إليها في كل جمعة لحمًا؛ لأن العرف والعادة: أن الناس يطبخون اللحم في كل جمعة. قال أصحابنا: وإنما فرض لها الشافعي في كل جمعة رطل لحم؛ لأنه كان بمصر، واللحم فيها يقل، فأما إذا كانت بموضع يكثر فيه اللحم: فإن الحاكم يفرض لها على ما يراه من رطلين أو أكثر، وهذا لامرأة المعسر، فأما امرأة الموسر: فيجب لها من ذلك ضعف ما يجب لامرأة المعسر. [مسألة من النفقة وسائل الزينة] ويجب لها ما تحتاج إليه من الدهن والمشط؛ لأن ذلك تحتاج إليه لزينة شعرها، فوجب عليه كنفقة بدنها، ولأن فيه تنظيفًا، فوجب عليه كما يجب على المكتري كنس الدار المستأجرة. قال الشيخ أبو إسحاق: ويجب عليه ما تحتاج إليه من السدر وأجرة الحمام إن كان عادتها دخول الحمام؛ لما ذكرناه في الدهن والمشط.

مسألة من النفقة الكسوة

قال: وأما الخضاب: فإن لم يطلبه الزوج منها.. لم يلزمه، وإن طلبه منها.. لزمه ثمنه. وأما الطيب: فإن كان يراد لقطع السهوكة.. لزمه؛ لأنه يراد للتنظيف، وإن كان يراد للتلذذ والاستمتاع.. لم يلزمه؛ لأن الاستمتاع حق له، فلا يلزمه. ولا يلزمه أجرة الحجامة والفصاد، ولا ثمن الأدوية، ولا أجرة الطبيب إن احتاجت إليه؛ لأن ذلك يراد لحفظ بدنها لعارض، فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر إصلاح ما انهدم من الدار المستأجرة، وفيه احتراز من النفقة والكسوة؛ فإن ذلك يحتاج إليه لحفظ البدن على الدوام. [مسألة من النفقة الكسوة] قال الشافعي: (وفرض لها ما يكتسي مثلها في بلدها) . وجملة ذلك: أن كسوة الزوجة تجب على الزوج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» . ولأن الكسوة يحتاج إليها لحفظ البدن على الدوام، فوجبت على الزوج، كالنفقة. إذا ثبت هذا: فإن المرجع في عدد الكسوة وقدرها وجنسها إلى العرف والعادة؛ لأن الشرع ورد بإيجاب الكسوة غير مقدرة، وليس لها أصل ترد إليه، فرجع في عددها وقدرها إلى العرف والعادة، بخلاف النفقة، فإن في الشرع لها أصلًا، وهو الإطعام في الكفارة، فردت النفقة إليها. فإن قيل: قد ورد الشرع بإيجاب الكسوة في الكفارة، فهلا ردت كسوة الزوجة إلى ذلك؟

فالجواب: أن الكسوة الواجبة في كفارة اليمين ما يقع عليها اسم الكسوة، وأجمعت الأمة على: أنه لا يجب للزوجة من الكسوة ما يقع عليه اسم الكسوة، فإذا منع الإجماع من قياس كسوتها على الكسوة في الكفارة.. فلم يبق هناك أصل ترد إليه، فرجع في ذلك إلى العرف. وأما عدد الكسوة: فقال الشافعي: (فيجب للمرأة قميص، وسراويل، وخمار أو مقنعة) . قال أصحابنا: ويجب لها شيء تلبسه في رجليها من نعل أو شمشك. وأما قدرها فإنه يقطع لها ما يكفيها على قدر طولها أو قصرها؛ لأن عليه كفايتها في الكسوة، ولا تحصل كفايتها إلا بقدرها. وأما جنسها: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (أجعل لامرأة الموسر من لين البصري والكوفي والبغدادي، ولامرأة المعسر من غليظ البصري والكوفي) . قال الشيخ أبو حامد: إنما فرض الشافعي هذه الكسوة على عادة أهل زمانه؛ لأن العرف في وقته على ما ذكر، فأما في وقتنا: فإن الأمر قد اتسع، والعرف والعادة: أن امرأة الموسر تلبس الحرير والخز والكتان، فيدفع إليها مما جرت عادة نساء بلدها بلبسه، وإن كان في الشتاء.. أضاف إلى ذلك جبة محشوة تدفأ بها. وعندي: أنها إذا كانت في بلد يكتفي نساء بلدها بلبس الثوب الواحد، كالبلاد التي تلبس نساؤهم الأتاحم والثياب المصبغة.. وجبت كسوتها من ذلك، ويجب لها معه نطاق وخمار، ويجب لامرأة الموسر من مرتفع ذلك، ولامرأة المعسر من خشن ذلك، ولامرأة المتوسط مما بينهما. وإن كانت في بلد لا تختلف كسوة أهلها في زمان الحر والبرد.. لم يجب لها الجبة المحشوة للشتاء؛ لأن ذلك هو العرف والعادة في حق أهل بلدها، فلم يجب لها أكثر منه. وكذلك: إن كانت في بلد يلبس غالب نسائهم الأدم.. لم يجب عليه أن

مسألة ما يلزم الزوجة من الفرش ونحوه

يكسوها إلا الأدم؛ لأن ذلك عرف بلادهم؛ لأن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (وإن كانت بدوية.. فمما يأكل أهل البادية، ومن الكسوة بقدر ما يكتسون، لا وقت في ذلك إلا قدر ما يرى في العرف) . [مسألة ما يلزم الزوجة من الفرش ونحوه] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولامرأته فراش ووسادة من غليظ متاع البصرة) . وجملة ذلك: أنه يجب لها عليه فراش؛ لأنها تحتاج إلى ذلك كما تحتاج إلى الكسوة، فيجب لامرأة الموسر مضربة محشوة بالقطن ووسادة. وإن كان في الشتاء.. وجب لها لحاف أو قطيفة للدفء. وإن كان في الصيف.. وجب لها ملحفة، وهل يجب لها فراش تقعد عليه بالنهار غير الفراش الذي تنام عليه؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب لها غير الفراش الذي تنام عليه؛ لأنها تكتفي بذلك. والثاني - وهو المذهب -: أنه يجب لها فراش تقعد عليه بالنهار غير الفراش الذي تنام عليه، وذلك لبد أو كساء أو زلية أو حصير؛ لأن العرف في امرأة الموسر، أنها تقعد بالنهار على غير الفراش الذي تنام عليه. [مسألة من النفقة المسكن] ويجب لها مسكن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] [النساء: 19] ، ومن المعروف: أن يسكنها بمسكن. ولأنها تحتاج إليه للاستتار عن العيون عند التصرف

مسألة من النفقة إخدام من تخدم

والاستمتاع، ويقيها من الحر والبرد، فوجب عليه كالكسوة. ويعتبر ذلك بيساره وإعساره وتوسطه. [مسألة من النفقة إخدام من تخدم] فإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها؛ لمرض بها، أو كانت من ذوي الأقدار، قال ابن الصباغ: فإن كانت لا تخدم نفسها في بيت أبيها.. وجب على الزوج أن يقيم لها من يخدمها. وقال داود: (لا يجب عليه لها خادم) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] [النساء: 19] ، ومن المعاشرة بالمعروف: أن يقيم لها من يخدمها. ولأن الزوج لما وجبت عليه نفقة الزوجة.. وجب عليه إخدامها، كالأب لما وجب عليه نفقة الابن.. وجب عليه أجرة من يخدمه، وهو من يحضنه. إذا ثبت هذا: فإنه لا يلزمه لها إلا خادم واحد، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (إذا كانت تخدم في بيت أبيها بخادمين أو أكثر، أو كانت تحتاج إلى أكثر من خادم.. وجب عليه لها ذلك) . ودليلنا: أن الزوج إنما يلزمه أن يقيم لها من يخدمها بنفسها دون مالها، وما من امرأة إلا ويكفيها خادم واحد، فلم يجب لها أكثر منه. [فرع خادم المرأة امرأة أو محرم] ولا يكون الخادم لها إلا امرأة، أو رجلًا من ذوي محارمها؛ لأنها تحتاج إلى نظر الخادم، وقد يخلو بها، فلم يجز أن يكون رجلًا أجنبيًا، وهل تجبر المرأة على أن يكون من اليهود أو النصارى؟ فيه وجهان:

أحدهما: تجبر على خدمتهم؛ لأنهم يصلحون للخدمة. والثاني: لا تجبر على خدمتهم؛ لأن النفس تعاف من استخدامهم. فإن أخدمها خادمًا يملكه، أو اكترى لها من يخدمها، أو كان لها خادم واتفقا على: أن يخدمها وينفق عليه، أو خدمها الزوج بنفسه ورضيت الزوجة بذلك.. جاز؛ لأن المقصود خدمتها، وذلك يحصل بجميع ذلك. وإن أراد الزوج أن يقيم لها خادمًا، واختارت المرأة أن يقيم لها خادمًا غيره.. ففيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب: أحدهما: يقدم اختيار الزوجة؛ لأن الخدمة حق لها، وربما كان من تختاره أقوم بخدمتها. والثاني: يقدم اختيار الزوج؛ لأن الخدمة حق عليه لها، فقدمت جهة اختياره، كالنفقة، ولأنه قد يتهم من تختاره الزوجة، فقدم اختيار الزوج. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن كان لها خادم، وأراد الزوج إبداله بغيره؛ فإن كان بالخادم عيب أو كان سارقًا.. فله ذلك، وإلا.. فلا. وإن أراد الزوج أن يخدمها بنفسه، وامتنعت من ذلك.. فهل تجبر؟ فيه وجهان: أحدهما: تجبر عليه، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي، والشيخ أبي حامد؛ لأن المقصود إخدامها، فكان له إخدامها بغيره أو بنفسه، كما يجوز أن يوصل إليها النفقة بوكيله أو بنفسه. والثاني: لا تجبر على قبول خدمته؛ لأنها تحتشم أن تستخدمه في جميع حوائجها، ولأن عليها عارًا في ذلك وغضاضة، فلم تجبر عليه. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن كانت خدمة مما لا تحتشم منه في مثلها،

فرع نفقة خادم المرأة

مثل: كنس البيت، والطبخ، ونحوه.. أجبرت على قبول ذلك منه، وإن كانت خدمة تحتشم منه في مثلها، كحمل الماء معها إلى المستحم ونحوها.. لم تجبر على قبول ذلك منه، بل يجب عليه أن يأتيها بخادم يتولى ذلك لها. [فرع نفقة خادم المرأة] ] : وأما نفقة من يخدمها: فإن أخدمها بمملوك له.. فعليه نفقة مملوكه وكسوته على الكفاية، لحق الملك لا لخدمتها. وإن استأجرت من يخدمها.. فله أن يستأجره بالقليل والكثير. وإن وجد من يتطوع بخدمتها من غير عوض.. جاز؛ لأن حقها الخدمة، وقد حصل ذلك. وإن كان لها خادم مملوك لها واتفقا على أن يخدمها.. وجب على الزوج نفقة خادمها وكسوته وزكاة فطره، وتكون نفقته مقدرة، وقد أوهم المزني أن في وجوب نفقة خادمها قولين. قال أصحابنا: وليس بشيء. إذا ثبت هذا: فإنه يجب لخادم امرأة الموسر والمتوسط ثلثا ما يجب لها من النفقة، فيجب لخادم امرأة الموسر كل يوم مد وثلث، ولخادم امرأة المتوسط كل يوم مد؛ لأن العرف: أن نفقة خادم امرأة الموسر أكثر من نفقة خادم امرأة المعسر، وأما نفقة خادم امرأة المعسر: فيجب له كل يوم مد؛ لأن البدن لا يقوم بما دون ذلك، ويجب ذلك من غالب قوت البلد؛ لأن البدن لا يقوم بغير قوت البلد، ويجب له الأدم؛ لأن العرف: أن الطعام لا يؤكل إلا بأدم، وهل يكون من مثل أدمها؟ فيه وجهان:

أحدهما: أنه يجب من مثل أدمها، كما يجب الطعام من مثل طعامها. والثاني: لا يجب له من مثل أدمها؛ لأن العرف: أن أدم الخادم دون أدم المخدوم، فلم يسو بينهما كما لا يساوى بينهما في قدر النفقة. فعلى هذا: يكون أدمها من الزيت الجيد، ويكون أدم خادمها من الزيت الذي دونه، ولا يعدل بأدم الخادم عن جنس غالب أدم البلد؛ لأن البدن لا يقوم به، وهل يجب لخادمها اللحم؟ إن قلنا: يجب له الأدم من مثل إدامها.. وجب له اللحم. وإن قلنا: لا يجب له من مثل أدمها، وإنما يجب له دون أدمها.. لم يجب له اللحم؛ لأنه أعلى الإدام، بدليل: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم» ولا يجب له الدهن والمشط والسدر؛ لأن ذلك يراد للزينة، والخادم لا يراد للزينة. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويجب لخادمها قميص ومقنعة وخف) . وإنما لم يوجب له السراويل؛ لأن السراويل تراد للزينة وستر العورة، والخادم ليس في موضع الزينة، وعورة الأمة دون عورة الحرة. وأوجب لها الخف؛ لأنها تحتاج إليه عند الخروج لقضاء الحاجات. وإن كان في الشتاء.. وجبت له جبة صوف أو كساء؛ ليدفأ به من البرد. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولخادمها فروة، ووسادة، وما أشبههما، من عباءة، أو كساء) . قال أصحابنا: أما الفراش: فلا يجب لخادمها، وإنما يجب له وسادة. ويجب لخادم امرأة الموسر كساء، ولخادم امرأة المعسر عباءة؛ لأن ذلك هو العرف في حقهم. وإن مات خادمها.. فهل يجب عليه كفنه ومؤنة تجهيزه؟ فيه وجهان، كما قلنا في كفن الزوجة ومؤنة تجهيزها.

فرع خدمة من لا تخدم

وإن خدمت المرأة نفسها.. لم تجب لها أجرة؛ لأن المقصود بإخدامها ترفيهها، فإذا حملت المشقة على نفسها.. لم تستحق الأجرة، كالعامل في القراض إذا تولى من العمل ماله أن يستأجره عليه من مال القراض. [فرع خدمة من لا تخدم] ] : فإن كانت ممن لا يخدم، بأن كانت تخدم نفسها في بيت أبيها، وهي صحيحة تقدر على خدمة نفسها.. لم يجب على الزوج أن يقيم لها خادمًا؛ لأن العرف في حقها: أن تخدم نفسها. [مسألة وقت وجوب نفقة الزوجة] ومتى تجب نفقة الزوجة؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (تجب جميعها بالعقد، ولكن لا يجب عليه تسليم الجميع) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه مال يجب للزوجة بالزوجية، فوجب بالعقد، كالمهر، ولأن النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع، فلما ملك الاستمتاع بها بالعقد.. وجب أن تملك عليه بالعقد ما في مقابلته، وهو النفقة، كالثمن والمثمن. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا تجب بالعقد، وإنما تجب يومًا بيوم) ، وهو الأصح؛ لأنها لو وجبت بالعقد.. لوجب عليه تسليم جميعها إذا سلمت نفسها، كما يجب على المستأجر تسليم جميع الأجرة إذا قبض العين المستأجرة، فلما لم يجب عليه تسليم جميعها.. ثبت أن الجميع لم يجب. وقول الأول: (إنها وجبت في مقابلة ملك الاستمتاع) غير صحيح، وإنما وجبت في مقابلة التمكين من الاستمتاع. فإذا قلنا بقوله القديم.. صح أن يضمن عن الزوج نفقة زمان مستقبل، ولكن

فرع ما دفع لها نفقة لا يسترجع

لا يضمن عنه إلا نفقة المعسر وإن كان موسرًا؛ لأن ذلك هو الواجب عليه بيقين. وإن قلنا بقوله الجديد.. لم يصح أن يضمن عليه إلا نفقة اليوم بعد طلوع الفجر. وأما وجوب التسليم: فلا خلاف أنه لا يجب عليه إلا تسليم نفقة يوم بيوم؛ لأنها إنما تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع، وذلك لا يوجد إلا بوجود التمكين في اليوم. فإذا جاء أول اليوم، وهي ممكنة له من نفسها.. وجب عليه تسليم نفقة اليوم في أوله؛ لأن الذي يجب لها هو الحب، والحب يحتاج إلى طحن وعجن وخبز، ويحتاج إلى الغداء والعشاء، فلو قلنا: لا يجب عليه تسليم ذلك إلا في وقت الغداء والعشاء.. أضر بها الجوع إلى وقت فراغه. قال الشيخ أبو حامد: فإن سلم لها خبزًا فارغًا، فأخذته وأكلته.. كان ذلك قبضًا فاسدًا؛ لأن الذي تستحقه عليه الحب، فيكون لها مطالبته بالحب، وله مطالبتها بقيمة الخبز. [فرع ما دفع لها نفقة لا يسترجع] فإن دفع إليها نفقة يوم، ثم مات أحدهما، أو بانت منه بالطلاق قبل انقضاء اليوم.. لم يسترجع منها؛ لأنه دفع إليها ما وجب لها عليه، فلم يتغير بما طرأ بعده، كما لو دفع الزكاة إلى فقير، فمات أو استغنى. وإن دفع إليها نفقة شهر مستقبل، فمات أحدهما، أو بانت منه في أثناء الشهر.. استرجع منها نفقة ما بعد اليوم الذي مات أحدهما فيه أو بانت فيه، وبه قال أحمد، ومحمد. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (لا يسترجع منها؛ لأنها ملكته بالقبض) . ودليلنا: أنه دفع ذلك إليها عما سيجب لها بالزوجية في المستقبل، فإذا بان أنه لم يجب لها شيء.. استرجع منها، كما لو قدم زكاة ماله قبل الحول إلى فقير، فاستغنى الفقير من غير ما دفع إليه أو مات.

فرع دفع الكسوة فتلفت

[فرع دفع الكسوة فتلفت] ] : وإن دفع إليها الكسوة، أو النعل، أو الشمشك، فبليت.. نظرت: فإن بليت في الوقت الذي يبلى فيه مثلها.. لزمه أن يدفع إليها بدله؛ لأن ذلك وقت الحاجة إليه. وإن بليت قبل الوقت الذي يبلى فيه مثلها، مثل: أن يقال: مثل هذا يبقى ستة أشهر، فأبلته بأربعة أشهر أو دونها.. لم يلزمه أن يدفع إليها بدله؛ لأنه قد دفع إليها ما تستحقه عليه، فإذا بلي قبل ذلك.. لم يلزمه إبداله، كما لو سرقت كسوتها أو احترقت، وكما لو دفع إليها نفقة يوم، فأكلتها قبل اليوم. وإن مضى الزمان الذي تبلى مثل تلك الكسوة في مثل ذلك الزمان بالاستعمال المعتاد، ولم تبل تلك الكسوة، بل يمكن لباسها.. فهل يلزمه أن يكسوها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه؛ لأنها غير محتاجة إلى الكسوة. والثاني: يلزمه أن يكسوها. قال الشيخان: وهو الأصح؛ لأن الاعتبار في الكسوة بالمدة لا بالبلى، ألا ترى أن كسوتها إذا بليت قبل وقت بلائها.. لم يلزمه إبدالها؟! فإذا بقيت بعد وقت بلائها.. لزمه إبدالها. ولأنه لو دفع إليها نفقة يوم، فلم تأكلها حتى جاء اليوم الثاني.. لزمه النفقة لليوم الثاني وإن كانت مستغنية فيه بنفقة اليوم الأول، فكذلك في الكسوة مثله. وإن دفع إليها كسوة مدة، فمات أحدهما، أو بانت منه قبل انقضائها، والكسوة لم تبل.. فهل تسترجع من وارثها، أو منها؟ فيه وجهان: أحدهما: تسترجع منها، كما لو دفع إليها نفقة شهر، فمات أحدهما، أو بانت قبل انقضائه.. فإنه يسترجع منها نفقة ما بعد يوم الموت والبينونة. والثاني: لا تسترجع؛ لأنه دفع الكسوة إليها بعد وجوبها عليه، فلم تسترجع منها، كما لو دفع إليها نفقة يوم، فمات أحدهما، أو بانت قبل انقضائه، ويخالف إذا

فرع أخذت الكسوة وأرادت بيعها

دفع إليها نفقة الشهر.. فإنها لا تستحق عليه نفقة ما بعد يوم الموت والبينونة، فلذلك استرجعت منها. [فرع أخذت الكسوة وأرادت بيعها] قال ابن الحداد: إذا دفع إلى امرأته كسوة، فأرادت بيعها.. لم يكن لها ذلك؛ لأنها لا تملكها، ألا ترى أن له أن يأخذها منها ويبدلها بغيرها؟ ولو دفع إليها طعامًا، فباعته.. كان لها ذلك، واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من وافق ابن الحداد، وقال: لا يصح لها بيع ما يدفع إليها من الكسوة؛ لأنها تستحق عليه الانتفاع بالكسوة، وهو استتارها بها، فلا تملكها بالقبض، كالمسكن. وإن أتلفت كسوتها.. لزمها قيمتها له، ولزمه أن يكسوها. ومنهم من خطأ ابن الحداد، وقال: تملك الكسوة إذا قبضتها، ويصح بيعها لها؛ لأنه يجب عليه دفع الكسوة إليها، فإذا قبضتها.. ملكتها وصح بيعها لها، كالنفقة، ويخالف المسكن، فإنه لا يلزمه أن يسلم إليها المسكن، وإنما له أن يسكن معها. وقال أبو الحسن الماوردي: إن أرادت بيعها بما دونها في الجمال.. لم يجز؛ لأن للزوج حظًا في جمالها، وعليه ضرر في نقصان جمالها، وإن أرادت بيعها بمثلها أو أعلى منها.. كان لها ذلك؛ لأنها ملكتها، ولا ضرر على الزوج في ذلك. قال ابن الصباغ: وعندي: أنه لو أراد أن يكتري لها ثيابًا تلبسها.. لم يلزمها أن تجيب إلى ذلك، ولو أراد أن يكتري لها مسكنًا.. لزمها الإجابة إلى ذلك. هذا نقل أصحابنا البغداديين: أن الذي يستحق عليه دفع النفقة والكسوة، ولم يذكر أحد منهم: أنه يجب عليه أن يملكها ذلك. وأما المسعودي: فقال [في " الإبانة "] : يجب عليه أن يملكها الحب، فلو رضيت أن يملكها الخبز.. فالظاهر أنه يصح، وفيه وجه آخر: أنه لا يصح؛ لأنه إبدال قبل القبض، وأيضًا فإنه بيع الحب بالخبز، وذلك ربًا.

فرع أرادت تغيير صنف النفقة

وأما الكسوة: فتجب عليه على طريق الكفاية، ولا يجب عليه التمليك، فلو سرقت أو احترقت في الحال وجب عليه الإبدال. وفيه وجه آخر: أنه يجب عليه التمليك؛ تخريجًا من النفقة. [فرع أرادت تغيير صنف النفقة] وإن دفع إليها نفقتها، وأرادت بيعها أو إبدالها بغيرها.. لم تمنع منها. ومن أصحابنا من قال: إن أرادت إبدالها بما تستضر بأكله.. كان للزوج منعها؛ لأن عليه ضررًا في الاستمتاع؛ لمرضها. والمذهب الأول؛ لأن الضرر بأكلها لغيرها لا يتحقق، فإن تحقق الضرر بذلك.. منعت منه؛ لئلا تقتل نفسها، كما لو أرادت قتل نفسها. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وليس على الزوج أن يضحي عن امرأته؛ لأنه لا يجب عليه أن يضحي عن نفسه، فلأن لا يجب عليه أن يضحي عنها أولى) . والله أعلم.

باب الإعسار بالنفقة واختلاف الزوجين فيها

[باب الإعسار بالنفقة واختلاف الزوجين فيها] إذا كان الزوج موسرًا، فصار معسرًا.. فإنه ينفق على زوجته نفقة المعسر، ولا يثبت لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأن بدنها يقوم بنفقة المعسر. وإن أعسر بنفقة المعسر.. كانت بالخيار: بين أن تصبر، وبين أن تفسخ النكاح، وبه قال عمر، وعلي، وأبو هريرة، وابن المسيب، والحسن البصري،

وحماد بن أبي سليمان، وربيعة، ومالك، وأحمد. وقال عطاء، والزهري، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يثبت لها الفسخ، بل يرفع يده عنها لتكتسب) . وحكاه المسعودي [في " الإبانة "] قولًا آخر لنا، وليس بمشهور. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] [البقرة: 229] ، فخير الله تعالى الزوج بين الإمساك بالمعروف - وهو: أن يمسكها وينفق عليها - وبين التسريح بإحسان، فإذا تعذر عليه الإمساك بمعروف. تعين عليه التسريح. وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أعسر الزوج بنفقة زوجته.. يفرق بينهما» . ولأنه روي ذلك عن عمر، وعلي، وأبي هريرة، ولا مخالف لهم في الصحابة، فدل على: أنه إجماع. ولأنه إذا ثبت الخيار في فسخ النكاح لامرأة العنين والمجبوب، والذي يدخل عليها من الضرر بذلك: هو فقد اللذة بالاستمتاع، ونفسها تقوم مع فقده.. فلأن يثبت لها الفسخ لفقد النفقة - ونفسها لا تقوم مع فقدها - أولى. وإن أعسر بالأدم.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: يثبت لها الخيار في فسخ النكاح؛ لأن الخبز بلا أدم يضر بها، ولا تصبر عليه. والثاني - ولم يذكر الشيخان غيره -: أنه لا يثبت لها الخيار؛ لأن النفس تقوم بالطعام من غير أدم. وإن أعسر بالكسوة.. ثبت لها الخيار؛ لأن البدن لا يقوم بغير الكسوة، كما لا يقوم بغير القوت. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.

مسألة وجود نفقة يوم بيوم لا يثبت لها خيار الفسخ

وقال المسعودي [في " الإبانة "] : من أصحابنا من قال: هو كالطعام على قولين. ومنهم من قال: لا يثبت لها الخيار، قولًا واحدًا. وإن أعسر بنفقة الخادم.. لم يثبت لها الخيار؛ لأن النفس تقوم من غير خادم. وإن أعسر بالسكنى.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق. أحدهما: يثبت لها الخيار، ولم يذكر ابن الصباغ غيره؛ لأنه يقيها من الحر والبرد، فهو كالكسوة، ولأن البدن لا يقوم إلا به، فهو كالقوت. والثاني: لا يثبت لها الخيار؛ لأنها لا تعدم موضعًا تسكن فيه. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : المسكن على طريقين، كالكسوة. [مسألة وجود نفقة يوم بيوم لا يثبت لها خيار الفسخ] وإن كان لا يجد إلا نفقة يوم بيوم.. لم يثبت لها الخيار في الفسخ؛ لأنه قادر على الواجب عليه. وإن كان لا يجد في أول النهار إلا ما يغديها، ويجد في آخره ما يعيشها.. فهل يثبت لها الفسخ؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: يثبت لها الفسخ؛ لأن نفقة اليوم لا تتبعض. والثاني: لا يثبت لها الفسخ؛ لأنها تصل إلى كفايتها. وإن كان يجد نفقة يوم، ولا يجد نفقة يوم.. ثبت لها الفسخ؛ لأنها لا يمكنها الصبر على ذلك، فهو كما لو لم يجد كل يوم إلا نصف مد. [فرع يعمل في الأسبوع ما يكفيه ويستقرض] قال الشيخ أبو إسحاق: وإن كان نساجًا ينسج في كل أسبوع ثوبًا تكفيه أجرته إلى الأسبوع.. لم يثبت لها الفسخ؛ لأنه يمكنه أن يستقرض لهذه الأيام ما يقضيه، فلا تنقطع به النفقة.

فرع علمها بإعساره في النفقة لا يمنعها من الفسخ

وإن كانت نفقته بالعمل، فعجز عنه بمرض، فإن كان مرضًا يرجى زواله باليوم واليومين والثلاثة.. لم يثبت لها الفسخ؛ لأنه يمكنه أن يقترض نفقة هذه الأيام، وإن كان زمانه يطول.. ثبت لها الفسخ؛ لأنه يلحقها الضرر. قال: وإن كان له مال غائب، فإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. لم يجز لها الفسخ، وإن كان على مسافة تقصر فيها الصلاة.. ثبت لها الفسخ؛ لما ذكرناه في المرض. وإن كان له دين على موسر.. لم يثبت لها الفسخ، وإن كان على معسر.. ثبت لها الفسخ؛ لأن يسار الغريم كيساره، وإعساره كإعساره في تيسر النفقة وإعسارها. [فرع علمها بإعساره في النفقة لا يمنعها من الفسخ] ] : فإن علمت المرأة بإعسار الزوج بالنفقة، فتزوجته.. ثبت لها الفسخ؛ لأنه قد يكتسب بعد العقد أو يقترض أو يتهب، فلما جاز أن يتغير حاله.. لم يلزمها حكم علمها به. وإن تزوجته على علم منها بإعساره بالمهر.. فهل يثبت لها الفسخ؟ فيه وجهان: أحدهما: يثبت لها الفسخ، كالنفقة. والثاني: لا يثبت لها الفسخ؛ لأنها رضيت بتأخيره؛ لأنه معسر به، بخلاف النفقة؛ فإنها تجب بعد العقد.

مسألة منع الموسر النفقة

[مسألة منع الموسر النفقة] وإن كان الزوج موسرًا حاضرًا، فطالبته بنفقتها، فمنعها إياها.. لم يثبت لها الفسخ؛ لأنه يمكنها التوصل إلى استيفاء حقها بالحكم. وفيه وجه آخر حكاه المسعودي [في " الإبانة "] : أنه يثبت لها الفسخ؛ لأن الضرر يلحقها بمنعه النفقة، فهو كالمعسر. وليس بشيء؛ لأن العسرة عيب. فإن غاب عنها الزوج، وانقطع خبره، ولا مال له ينفق عليها منه.. فهل يثبت لها الفسخ؟ فيه وجهان: أحدهما: يثبت لها الفسخ، وهو قول القاضي أبي الطيب، واختيار ابن الصباغ؛ لأن تعذر النفقة بانقطاع خبره كتعذرها بالإعسار. والثاني - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه لا يثبت لها الفسخ؛ لأن الفسخ إنما يثبت بالإعسار بالنفقة، ولم يثبت إعساره. [مسألة ثبوت الإعسار يجعلها في خيار] وإذا ثبت إعسار الزوج.. خيرت بين ثلاثة أشياء: بين أن تفسخ النكاح، وبين أن تقيم معه وتمكنه من الاستمتاع به، ويثبت لها في ذمته ما يجب على المعسر من النفقة والأدم والكسوة ونفقة الخادم إلى أن يوسر، وبين أن تقيم على النكاح، ولكن لا يلزمها أن تمكنه من نفسها، بل تخرج من منزله؛ لأن التمكين إنما يجب عليها ببذل النفقة ولا نفقة هناك. ولا تستحق في ذمته نفقة في وقت انفرادها عنه؛ لأن النفقة إنما تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع، ولا تمكين منها له.

فرع إعسار زوج الصغيرة والمجنونة

وإن اختارت المقام معه، ثم عن لها أن تفسخ النكاح.. كان لها ذلك؛ لأن وجوب النفقة لها يتجدد ساعة بعد ساعة ويومًا بيوم. فإذا عفت عن الفسخ لوجوب نفقة وقتها، ورضيت به.. تجدد لها الوجوب فيما بعده، فثبت لها الفسخ، بخلاف الصداق إذا أعسر به، فرضيت بالمقام معه.. فإن خيارها يسقط؛ لأنه يجب دفعة واحدة، ولا يتجدد وجوبه. وإن اختارت الفسخ.. قال الطبري في " العدة ": ففيه قولان: أحدهما - قال: ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره -: أنها لا تفسخ بنفسها، بل ترفع الأمر إلى الحاكم حتى يأمره بالطلاق أو يطلق عليه؛ لأنه موضع اجتهاد واختلاف، فكان إلى الحاكم، كالفسخ بالعنة. والثاني: أنها تفسخ بنفسها، كالمعتقة تحت عبد. وهل يؤجل؟ فيه قولان: أحدهما: لا يؤجل؛ لأن الفسخ للإعسار، وقد وجد الإعسار، فثبت الفسخ في الحال، كالعيب في الزوجين. والثاني: يؤجل ثلاثة أيام؛ لأن المكتسب قد ينقطع كسبه ثم يعود، والثلاث في حد القلة، فوجب إنظاره ثلاثًا، ولكن لا يلزمها المقام معه في هذه الثلاث في منزله؛ لأنه لا يلزمها التمكين من غير نفقة. فإذا قلنا بهذا: فوجد في اليوم الثالث نفقتها، وتعسرت عليه النفقة في اليوم الرابع.. فهل يجب أن يستأنف له إمهال ثلاثة أيام أخر؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب؛ لأن العجز الأول ارتفع. والثاني: لا يجب لها؛ لأنها تتضرر بذلك. [فرع إعسار زوج الصغيرة والمجنونة] وإن كانت الزوجة صغيرة أو مجنونة، فأعسر زوجها بالنفقة.. لم يكن لوليها أن يفسخ النكاح؛ لأن ذلك يتعلق بشهوتها واختيارها، والولي لا ينوب عنها في ذلك. وإن زوج الرجل أمته من رجل، فأعسر الزوج بنفقتها، فإن كانت الأمة معتوهة أو

فرع ثبوت النفقة لما مضى من زمن الإعسار

مجنونة.. قال ابن الحداد: فلا يثبت للسيد فسخ النكاح؛ لأن الخيار إليها، وليست من أهل الخيار، فلا ينوب عنها السيد في الفسخ، كما لو عن الزوج عنها، ويلزم السيد أن ينفق عليها إن كان موسرًا بحكم الملك، وتكون نفقتها في ذمة زوجها إلى أن يوسر، فإذا أيسر.. قال القاضي أبو الطيب: فإنها تطالب زوجها بها، فإذا قبضتها.. أخذها السيد منها؛ لأنها لا تملك المال، وحاجتها قد زالت بإنفاق السيد عليها. قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأن الأمة إذا كانت لا تملك العين.. فكذلك الدين، فيجب أن يكون ما ثبت من الدين للسيد. وله المطالبة به دونها. وأما إذا كانت الأمة عاقلة، وأعسر زوجها بنفقتها.. لم يكن للمولى فسخ النكاح، وإنما الفسخ لها، فإن فسخت النكاح.. فلا كلام، وعادت نفقتها على سيدها، وإن لم تختر الفسخ.. ففيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب: أحدهما: تكون نفقتها على سيدها إلى أن يوسر زوجها، كالمعتوهة. والثاني: لا تجب نفقتها على السيد، بل يقال لها: إن اخترت النفقة من جهة السيد.. فافسخي النكاح؛ لأنه يمكنها فسخ النكاح، وتخالف المعتوهة، فإنه لا يمكنها فسخ النكاح. [فرع ثبوت النفقة لما مضى من زمن الإعسار] نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان، فإذا مكنت المرأة الزوج من نفسها زمانًا، ولم ينفق عليها.. وجبت لها نفقة ذلك الزمان، سواء فرضها الحاكم أو لم يفرضها، وبه قال مالك، وأحمد. وقال أبو حنيفة: (تسقط عنه، إلا أن يفرضها الحاكم) . دليلنا: أنه حق يجب مع اليسار والإعسار، فلا يسقط بمضي الزمان، كالدين، وفيه احتراز من نفقة الأقارب. فإن أعسر الزوج بنفقة ما مضى.. لم يثبت لها الفسخ؛ لأن الفسخ جعل ليرجع إليها ما في مقابلة النفقة، والنفقة للزمان الماضي في مقابلة تمكين قد مضى، فلو

فرع مقاصة المرأة بدينها عن نفقة المعسر

فسخت النكاح لأجلها.. لم يرجع إليها ما في مقابلتها، فهو كما لو أفلس المشتري والمبيع تالف.. فإنه لا يثبت للبائع الرجوع إلى المبيع، ولو أبرأت الزوج عنها.. صحت براءتها؛ لأنه دين معلوم، فصحت البراءة منه، كسائر الديون. [فرع مقاصة المرأة بدينها عن نفقة المعسر] وإذا كان له دين في ذمة امرأته من جنس النفقة، واستحقت النفقة أو الكسوة عليه، وأراد أن يقاصها في ذلك.. نظرت: فإن كانت موسرة.. كان له ذلك؛ لأن عليها قضاء دينها؛ ليسارها ومطالبته إياها، فيكون كالمال الذي في يده، وله التحكم في جعل النفقة فيه. وإن كانت معسرة.. لم يكن له ذلك؛ لأن من عليه دين لإنسان.. يلزمه قضاؤه من الفاضل عن قوت يومه وليلته، وفي المقاصة بذلك في حال إعسارها التزام قضاء الدين من القوت، فلم يكن له ذلك. [مسألة اختلاف الزوجين في دفع النفقة] إذا تزوج الرجل امرأة، ومكنته من نفسها زمانًا، ثم اختلفا في النفقة، فادعى الزوج: أنه قد أنفق عليها، وقالت: لم ينفق علي، ولا بينة للزوج.. فالقول قول الزوجة مع يمينها، سواء كان الزوج معها أو غائبا عنها، وبه قال أبو حنيفة وأحمد. وقال مالك: (إن كان الزوج غائبًا عنها.. فالقول قولها، وإن كان حاضرًا معها.. فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الظاهر أنها لا تسلم نفسها إليه إلا بعد أن تتسلم النفقة) . وهكذا قال في (الصداق) . ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» . والزوجة تنكر القبض، فكان القول قولها مع يمينها. ولأنهما زوجان اختلف في قبض النفقة، فكان القول قولها، كما لو سلمت نفسها والزوج غائب.

فرع اختلاف الأمة المزوجة والزوج في الصداق

وإن سلمت نفسها إليه زمانا، ولم ينفق عليها فيه، أو أنفق عليها فيه نفقة معسر، وادعت: أنه كان موسرًا فيه، وادعى: أنه كان معسرًا، ولا بينة لها على يساره ذلك الوقت، فإن عرف له مال قبل ذلك.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل بقاء المال، وإن لم يعرف له مال.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم اليسار. [فرع اختلاف الأمة المزوجة والزوج في الصداق] وإن زوج الرجل أمته من رجل، واختلف الزوج والأمة في الصداق.. فلا يصح اختلافهما فيه؛ لأن الصداق للسيد، فإن اعترف السيد: أنه قبضه منه.. قبل إقراره. وإن اختلف الزوج والأمة في تسليم نفقتها إليها، وأنكرته، ولا بينة له.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن النفقة حق لها يتعلق بالنكاح، فكان المرجع فيه إليها، كالمطالبة بالعنة والإيلاء. وإن صدقة السيد أنه قد سلم إليها نفقة مدة ماضية.. فقد قال أكثر أصحابنا: لا يقبل إقرار السيد عليها، وإنما يكون شاهدًا للزوج؛ لأن هذا إقرار من السيد في حقها، فلم يقبل، كما لو أقر عليها بجناية توجب القود. وقال ابن الصباغ: يقبل إقراره؛ لأن النفقة للمدة الماضية حق للمولى، لا حق للأمة فيها، فقبل إقرار السيد فيها. وإن أقر السيد عليها: أنها قبضت نفقة يومها الذي هي فيه، أو قبضت نفقة مدة مستقبلة، وأنكرت ذلك.. فإنه لا يقبل إقرار السيد عليها؛ لأن ذلك إقرار عليها بما يضرها، فلم يقبل عليها، كما لو أقر عليها بجناية توجب القود، فإن كان السيد عدلًا.. حلف معه الزوج، وحكم عليها بالقبض. [فرع ادعاؤها التمكين وإنكاره] وإن ادعت الزوجة: أنها مكنت الزوج من نفسها، وأنكر.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التمكين.

وإن طلق امرأته طلقة رجعية وولدت، واتفقا على وقت الطلاق، واختلفا في الولادة: فقال الزوج: ولدت بعد الطلاق، فلا رجعة لي ولا نفقة لك. وقالت المرأة: بل ولدت قبل الطلاق، فعلي العدة ولك الرجعة، ولي عليك النفقة.. فلا رجعة للزوج؛ لأنه أقر بسقوط حقه منها، وله أن يتزوج بأختها وبأربع سواها، وعلى الزوجة العدة؛ لأنها مقرة بوجوبها عليها، وتحلف المرأة: أنها ولدت قبل أن يطلقها، وتستحق النفقة؛ لأنهما اختلفا في وقت ولادتها، وهي أعلم بها، ولأنهما اختلفا في سقوط نفقتها، والأصل بقاؤها حتى يعلم سقوطها. وبالله التوفيق.

باب نفقة المعتدة

[باب نفقة المعتدة] إذا طلق الرجل امرأته طلاقًا رجعيًا.. فإنها تستحق على الزوج جميع ما تستحق الزوجة، إلا القسم، إلى أن تنقضي عدتها، وهو إجماع. وإن كان الطلاق بائنًا.. وجب لها السكنى، حائلًا كانت أو حاملًا. وأما النفقة: فإن كانت حائلًا.. لم تجب لها، وإن كانت حاملًا.. وجبت. وقال ابن عباس، وجابر: (لا سكنى للبائن) . وبه قال أحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة: (تجب النفقة للبائن، سواء كانت حائلا أو حاملًا) . ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] ، فأوجب السكنى للمطلقات بكل حال، وأوجب لهن النفقة بشطر إن كن أولات حمل، فدل على: أنهن إذا لم يكن أولات حمل.. أنه لا نفقة له. وروي: «أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها ثلاثًا وهو غائب بالشام، فحمل إليها وكيله كفًا من شعير، فسخطته، فقال لها: لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا، إنما يتطوع عليك. فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته بذلك، فقال لها: لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا، واعتدي عند أم شريك» . إذا ثبت هذا: فهل تجب النفقة للحمل، أو للحامل لأجل الحمل؟ فيه قولان: أحدهما: أنها تجب للحمل؛ لأنها تجب عليه بوجوده، ولا تجب عليه بعدمه، فدل على: أنها تجب له. والثاني: أنها تجب للحامل لأجل الحمل، وهو الأصح؛ لأنه تجب عليه نفقة الزوجة مقدرة، ولو وجبت للحمل.. لتقدرت بقدر كفايته، كنفقة الأقارب، والجنين يكتفي بدون المد.

وإن تزوج الحر أمة، فطلقها طلاقًا بائنًا وهي حامل، فإن قلنا: إن النفقة تجب للحمل.. لم تجب عليه النفقة؛ لأن ولده من الأمة مملوك لسيدها، ونفقة المملوك على سيده. وإن قلنا: إن النفقة للحامل.. وجب على الزوج نفقتها. وإن تزوج العبد بحرة أو أمة، فأبانها وهي حامل، فإن قلنا: إن النفقة للحمل.. لم تجب عليه النفقة؛ لأن ولده من الأمة مملوك لسيد الأمة، وولده من الحرة لا تجب عليه نفقته؛ لأن العبد لا تجب عليه نفقة ولده ولا والده. وإن قلنا: إن النفقة للحامل.. وجبت عليه النفقة. وإن كان الحمل مجتنًا، وقلنا: إن النفقة للحمل.. فهل تجب على أبيه؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي في كتاب (الجنايات) . قال الشاشي: ويصح إبراء الزوجة عنها على القولين. وإن طلق امرأته طلاقًا بائنا وهي حامل، فارتدت الزوجة.. فقد قال ابن الحداد: تسقط نفقتها. فمن أصحابنا من وافقه، وقال: تسقط نفقتها، قولًا واحدًا؛ لأنها تتعلق بمصلحتها وهي المستمتعة بها، فسقطت بردتها. ومنهم من خالفه، وقال: إذا قلنا: إن النفقة للحامل.. سقطت بردتها، وإن قلنا: إن النفقة للحمل.. فلا تسقط بردتها؛ لأن الحمل محكوم بإسلامه، فلا يسقط حقه بردتها. وإن أسلمت الزوجة، وتخلف الزوج في الشرك.. فعليه نفقتها إلى أن تنقضي عدتها، حائلا كانت أو حاملًا. وإن أسلم الزوج، وتخلفت الزوجة في الشرك.. فقد قال ابن الحداد: لا نفقة لها، حائلا كانت أو حاملًا. فمن أصحابنا من وافقه.

مسألة كيفية دفع نفقة المطلقة الحامل

ومنهم من خالفه، وقال: هذا إذا قلنا: إن النفقة للحامل، فأما إذا قلنا: إن النفقة تجب للحمل.. وجب له النفقة؛ لأنه محكوم بإسلامه. وإن مات الزوج قبل وضع الحمل، وخلف أبًا.. فقد قال أبو إسحاق المروزي: تسقط النفقة، ولا تجب على الجد، كما لو مات الزوج في عدة الرجعية. وقال الشيخ أبو حامد: إذا قلنا: إن النفقة تجب للحمل.. وجبت على جده؛ لأنه يجب عليه نفقة ولد ولده. [مسألة كيفية دفع نفقة المطلقة الحامل] وإذا طلق امرأته وهي حامل.. فهل يجب عليه أن يدفع إليها النفقة يومًا فيومًا، أو لا يجب عليه الدفع حتى تضع؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه دفع النفقة حتى تضع، فإذا وضعت الولد.. وجب عليه دفع نفقتها لما مضى من يوم الطلاق؛ لأنه لا يجب عليه الدفع بالشك، والحمل غير متحقق الوجود قبل الوضع، بل يجوز أن يكون ريحًا فتنفش. والقول الثاني: أنه يجب عليه أن يدفع إليها نفقة يوم فيوم، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] ، فأمرنا بالإنفاق عليهن حتى يضعن حملهن، وهذا يقتضي وجوب الدفع. ولأن الحمل له أمارات وعلامات، فإذا وجدت.. تعلق الحكم بها في وجوب دفع النفقة، كما تعلق الحكم بها في منع أخذ الحمل الزكاة، وفي جواز رد الجارية المبيعة، وفي منع وطء الجارية المسبية والمشتراة، وفي جواز أخذ الخلفة في الدية. فإذا قلنا: لا يجب الدفع حتى تضع.. لم تحتج إلى أمارة وعلامة، بل تعتد. فإذا وضعت ولدًا يجوز أن يكون منه.. لزمه أن يدفع إليها النفقة من حين الطلاق إلى أن وضعت. فإن ادعت: أنها وضعت، وصدقها.. فلا كلام، وإن كذبها.. فعليها أن تقيم

فرع طلقها بائنا وهي حامل

البينة على الوضع شاهدين، أو شاهدًا وامرأتين، أو أربع نسوة؛ لأنه يمكنها إقامة البينة على ذلك. وإن قلنا: يجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم بيومه، فادعت: أنها حامل، فإن صدقها الزوج.. وجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم بيومه، وإن لم يصدقها، فإن شهد أربع نسوة عدول بأنها حامل.. وجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم بيومه من وقت الطلاق إلى حين الحكم بقولهن - إنها حامل - دفعة واحدة، ووجب عليه أن يدفع لها نفقة كل يوم بيومه من حين الحكم بقولهن إلى حين الوضع. ولو سألته أن يحلف لها: ما يعلم أنها حامل.. فالذي يقتضي المذهب: أنه يلزمه أن يحلف؛ لجواز أن يخاف من اليمين، فيقر: أنها حامل، أو ينكل عن اليمين، فترد عليها، فإذا حلفت.. وجب عليه الدفع؛ لأن يمينها مع نكوله كإقراره في أحد القولين، وكبينة تقيمها في القول الآخر، والجميع يجب به الدفع. [فرع طلقها بائنا وهي حامل] وإن طلقها طلاقًا بائنًا، فقلن القوابل: إن بها حملًا، فأنفق عليها، فبان أنه لا حمل بها، أو ولدت ولدًا لا يجوز أن يكون منه.. فإن قلنا: إنه يجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم بيومه.. كان له أن يرجع عليها بما دفع إليها من النفقة، سواء دفعه بأمر الحاكم أو بغير أمره، وسواء شرط أنه نفقة أو أطلق؛ لأنه دفع إليها النفقة على أنها واجبة عليه، وقد بان أنه لا نفقة عليه لها، فيرجع عليها. وإن قلنا: إنه لا يجب عليه الدفع إلا بعد الوضع.. نظرت: فإن كان قد دفع إليها بحكم الحاكم.. كان له الرجوع؛ لأن الحاكم أوجب عليه الدفع، وقد بان أنها لم تكن واجبة عليه. وإن دفعها بغير حكم الحاكم، فإن كان قد شرط أن ذلك عن نفقتها إن كانت حاملًا.. فإنه يرجع عليها؛ لأنه بان أنها ليست بحامل ولا نفقة لها عليه، وإن دفعها من غير شرط.. لم يرجع عليها بشيء؛ لأن الظاهر أنه تطوع بالإنفاق عليها.

مسألة اعتبار العدة بأقصر مدة

[مسألة اعتبار العدة بأقصر مدة] قال الشافعي: (وإن كان يملك رجعتها، فلم تقر بثلاث حيض، أو كان حيضها مختلفًا، فيطول ويقصر.. لم أجعل لها إلا الأقصر؛ لأنه اليقين، وأطرح الشك) . واختلف أصحابنا في تأويلها: فقال أبو إسحاق: تأويلها هو: أن يطلق زوجته طلاقًا رجعيًا، فأنفق عليها، وظهر بها حمل في العدة، ووضعت لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، فإن قلنا: إنه يلحقه.. فعليه نفقتها إلى أن تضع، ولا كلام، وإن قلنا: إنه لا يلحقه، وينتفي عنه بغير لعان.. فإنها لا تكون معتدة به عنه. ولا نفقة عليه لها مدة حملها، وإنما عدتها منه بالأقراء، وتسأل من أين الحمل؟ فإن قالت: هو من غيره بشبهة أو زنًا.. قلنا لها: أي وقت حملت به؟ فإن قالت: بعد انقضاء عدتي بالأقراء عن الأول.. فعلى الأول نفقتها مدة عدتها بالأقراء لا غير. وإن قالت: حملت به بعد أن مضى من عدته قرءان.. كان على الزوج نفقتها مدة عدتها في القرأين قبل الحمل، ومدة عدتها بالقرء الثالث بعد الحمل. وإن قالت: هذا الولد من هذا الزوج وطئني في عدتي، أو راجعني ثم وطئني، فإن أنكرها.. حلف؛ لأن الأصل عدم ذلك، فإذا حلف.. بطل أن تعتد بالحمل منه، وقلنا له: فسر أنت كيف اعتدت منك؟ فإن قال: حملت به قبل أن يمضي لها شيء من الأقراء.. فإنها تعتد بثلاثة أقراء عنه بعد الوضع، ولها عليه نفقة ذلك الوقت. وإن قال: انقضت عدتها مني بالأقراء، ثم حملت به بعد ذلك.. فقد اعترف: أنها اعتدت عنه بالأقراء، فإن كان حيضها لا يختلف.. فلها نفقة مدة ثلاثة أقراء، وإن كان حيضها يختلف، فتارة تمضي ثلاثة أقراء في سنة، وتارة تمضي في ستة أشهر، وتارة في ثلاثة أشهر، واختلفا في عدتها.. كان لها نفقة ثلاثة أشهر؛ لأنه اليقين. ومن أصحابنا من قال: تأويلها: أن يطلقها طلاقًا رجعيًا، وأتت بولد لأكثر من

أربع سنين من وقت الطلاق - وقلنا: لا يلحقه - فإن عدتها بالأقراء عنه، فيرجع إليها، كيف الاعتداد منها بالأقراء؟ فإذا ذكرت، فإن كان حيضها لا يختلف.. كانت لها نفقة ثلاثة أقراء، وإن كان يختلف، فيطول ويقصر.. لم يكن لها إلا نفقة الأقصر؛ لأنه اليقين. ومن أصحابنا من قال: تأويلها: إذا طلقها طلاقًا رجعيًا، وحكمنا لها بالنفقة، وأتت بولد لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق - وقلنا: لا يلحقه - وكانت تحيض على الحمل، وقلنا: إنه حيض.. فإنها تعتد عنه بالأقراء الموجودة على الحمل، فإن كان حيضها لا يختلف.. فلها نفقة ثلاثة أقراء، وإن كان يختلف.. لم يكن لها إلا نفقة الأقصر؛ لأنه اليقين. وهذا ضعيف جدًا؛ لأنها على هذا القول يكون لها نفقة الأقراء على الحمل، طالت أو قصرت. ومنهم من قال: تأويلها: إذا طلقها طلاقًا رجعيًا، فذكرت: أن حيضها ارتفع لغير عارض.. فإنها تتربص على ما مضى. فإذا زعمت أن حيضها ارتفع بعارض.. فقد اعترفت بحقين؛ حق عليها: وهو العدة والرجعة، فيقبل قولها فيه، وحق لها: وهو النفقة، فلا يقبل قولها فيه، بل يجعل لها نفقة الأقصر؛ لأنه اليقين. والتأويل الأول أصح. فأما إذا طلقها طلاقًا رجعيًا، فظهر بها أمارات الحمل، فأنفق عليها، ثم بان أنه لم يكن حملًا، وإنما كان ريحًا فأنفش.. فإنه يسترجع نفقة ما زاد على ثلاثة أقراء، فيقال لها: كم كانت مدة أقرائك؟ فإن أخبرت بذلك.. كان القول قولها مع يمينها. وإن قالت: لا أعلم في كم انقضت عدتي، إلا أن عادتي في الحيض كذا، وعادتي في الطهر كذا.. حسبنا ذلك، ورجع الزوج بنفقة ما بعد ذلك. وإن قالت: حيضي يختلف، ولا أعلم قدر الثلاثة الأقراء.. نظرنا إلى أقل ما تذكره من الحيض والطهر، فحسبنا لها ثلاثة أقراء، ورجع عليها بما زاد على ذلك.

فرع لا كسوة للبائن وإن وجبت النفقة

وإن قالت: لا أعلم قدر حيضي وطهري.. فحكى ابن الصباغ: أن الشافعي قال: (جعلنا الأقراء ثلاثة أشهر؛ لأن ذلك هو الغالب في النساء، ورجع بالباقي) . [فرع لا كسوة للبائن وإن وجبت النفقة] قال أبو إسحاق المروزي: ولا يجب للبائن الكسوة وإن وجبت لها النفقة. [مسألة لا متعة ولا نفقة إلا في نكاح صحيح] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وكل ما وصفنا من متعة أو نفقة أو سكنى.. فليست إلا في نكاح صحيح) . وجملة ذلك: أنه إذا تزوج امرأة تزويجًا فاسدًا، كالنكاح بلا ولي ولا شهود أو في عدتها.. فإنه يفرق بينهما، فإن كان قبل الدخول.. فإنه لا يتعلق بالنكاح حكم، وإن كان بعد الدخول.. فلها مهر المثل، وعليها العدة، ولا سكنى لها؛ لأن السكنى تجب عن نكاح صحيح، ولا نكاح هاهنا. وأما النفقة: فإن كانت حائلًا.. فلا نفقة لها؛ لأنه إذا لم تجب النفقة للبائن الحائل في النكاح الصحيح. فلأن لا تجب لها في النكاح الفاسد أولى. وإن كانت حاملا؛ فإن قلنا: إن النفقة تجب للحامل.. لم تجب لها هاهنا نفقة؛ لأن النفقة إنما تجب لها عن نكاح صحيح له حرمة، وهذا النكاح لا حرمة له. وإن قلنا: إن النفقة للحمل.. وجب لها النفقة؛ لأن هذا الولد لاحق به، فهو كما لو حملت منه في نكاح صحيح. وأما إذا وقع النكاح صحيحًا، ثم انفسخ برضاع أو عيب بعد الدخول.. فإنه يجب عليها العدة. قال الشيخ أبو إسحاق: وتجب لها السكنى في العدة. وأما النفقة: فإن كانت حائلًا.. لم تجب، وإن كانت حاملًا.. وجبت؛ لأنها معتدة عن فرقة في حال الحياة، فكان حكمها ما ذكرناه، كالطلاق. وقال الشيح أبو حامد، وابن الصباغ: حكمها في السكنى والنفقة حكم النكاح الفاسد؛ لأن حكم النكاح الذي ينفسخ بعد الدخول حكم النكاح الذي يقع فاسدًا.

فرع المبتوتة بلعان لا نفقة لحملها

[فرع المبتوتة بلعان لا نفقة لحملها] وإن قذف امرأته وهي حامل ونفى حملها، فلاعنها.. انفسخ النكاح بينهما، واعتدت بوضع الحمل، ولا نفقة لها في حال عدتها؛ لأن النفقة للحمل في أحد القولين، ولها لأجل الحمل في الثاني - والحمل غير لاحق به - فلم تجب لها النفقة، وهل تجب لها السكنى؟ حكى القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق فيه وجهين: أحدهما: لا تجب لها السكنى؛ لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في المتلاعنين: أن يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدًا، ولا نفقة لها ولا بيت» ؛ لأنهما مفترقان بغير طلاق. والثاني: أن لها السكنى، قال ابن الصباغ: ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنها معتدة عن فرقة في حال الحياة، فهي كالمطلقة. قال ابن الصباغ: وقد ذكرنا فيما مضى: أن الفسخ الطارئ بمنزلة النكاح الفاسد، وهذا فسخ، وإيجاب السكنى يناقضه، غير أنه يتعلق بقول الزوج، فجرى مجرى قطع النكاح بغير الطلاق، وكما قلنا في الخلع إذا قلنا: إنه فسخ. وإن لاعنها ولم ينف الحمل.. قال الشيخ أبو إسحاق: وجبت لها النفقة. وإن أبان زوجته بالثلاث أو بالخلع، وظهر بها حمل فنفاه - وقلنا: يصح لعانه قبل الوضع - فلاعن.. سقطت عنه النفقة، وهل تسقط عنه السكنى؟ إن قلنا: للملاعنة السكنى في التي قبلها.. فهاهنا أولى. وإن قلنا في التي قبلها: لا سكنى لها.. قال القاضي أبو الطيب: احتمل هاهنا وجهين: أحدهما: لها السكنى؛ لأنها اعتدت عن الطلاق. والثاني: لا سكنى لها؛ لأن نفقتها قد سقطت لأجل اللعان فكذلك السكنى. وإن أكذب الزوج نفسه بعد اللعان.. لحقه نسب الولد، وكان عليه النفقة لها لما مضى وإلى أن تضع.

مسألة المعتدة عن وفاة لا نفقة لها حاملا أو حائلا

فإن قيل: فهلا قلتم: إنه لا نفقة لها لما مضى، على القول الذي يقول: إن النفقة للحمل؛ لأن نفقة الأقارب تسقط بمضي الزمان؟ قلنا: إنما نقول ذلك: إذا كان القريب هو المستوفي لنفقته، وهاهنا المستوفى لها هي الزوجة، فصارت كنفقة الزوجة، فلا تسقط بمضي الزمان. [مسألة المعتدة عن وفاة لا نفقة لها حاملًا أو حائلًا] وأما المعتدة المتوفى عنها زوجها: فلا يجب لها النفقة، حائلًا كانت أو حاملًا، وبه قال ابن عباس، وجابر، وروي: أنهما قالا: (لا نفقة لها، حسبها الميراث) . وذهب بعض الصحابة إلى: أنها إذا كانت حاملًا.. فلها النفقة. وقيل: إنه مذهب أحمد. ودليلنا: أنه لا يخلو: إما أن يقال: هذه النفقة للحامل، أو للحمل. فبطل أن يقال: إنها للحامل؛ لأنها لا تستحق النفقة إذا كانت حاملًا، وبطل أن يقال: إنها للحمل؛ لأن الميت لا تستحق عليه نفقة الأقارب، فلم تجب. وهل يجب لها السكنى؟ فيه قولان، مضى بيانهما في (العدة) .

مسألة غياب زوجها وهي في مسكنه يوجب لها النفقة

[مسألة غياب زوجها وهي في مسكنه يوجب لها النفقة] ] : إذا غاب الرجل عن امرأته وهي في مسكنه الذي أسكنها فيه، وانقطع عنها خبره.. فإن اختارت المقام على حالتها.. فالنفقة واجبة على الزوج؛ لأنها مسلمة لنفسها، وإن رفعت الأمر إلى الحاكم، وأمرها بالتربص أربع سنين.. فلها النفقة على زوجها هذه الأربع السنين؛ لأن النفقة إنما تسقط بالنشوز أو بالبينونة، ولم يوجد واحد منهما. فإن حكم الحاكم بالفرقة بينهما بعد أربع سنين واعتدت أربعة أشهر وعشرًا: فإن قلنا بقوله القديم، وأن الفرقة قد وقعت ظاهرًا وباطنًا، أو ظاهرًا.. فإنها كالمعتدة عن الوفاة، فلا يجب لها النفقة فيها، وهل تجب لها السكنى؟ فيه قولان. فإن رجع زوجها الأول، فإن قلنا: إن الفرقة وقعت ظاهرًا وباطنًا.. فهي أجنبية منه، ولا يجب لها عليه نفقة ولا سكنى. وإن قلنا: إن الفرقة وقعت في الظاهر دون الباطن.. ردت إليه، ووجبت لها النفقة من حين ردت إليه. وإن قلنا بقوله الجديد، وأن حكم الحاكم لا ينفذ.. فإنها ما لم تتزوج.. فنفقتها على الأول؛ لأنها محبوسة عليه، وإنما تعتقد هي: أن الفرقة قد وقعت، وهذا الاعتقاد لا يؤثر في سقوط نفقتها. فإن تزوجت بعد أربعة أشهر وعشر.. سقطت نفقتها عن الأول؛ لأنها كالناشزة عن الأول، فسقطت نفقتها عنه. وإن دخل الثاني بها، وفرق بينهما.. فعليها أن تعتد عنه، ولا نفقة لها على الأول؛ لأنها معتدة عن الثاني، فإن رجعت إلى منزل الأول بعد انقضاء عدة الثاني، أو قبل أن يدخل بها الثاني.. فهل تستحق النفقة على الأول؟ قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " المختصر ": (لا نفقة لها في حال الزوجية ولا في حال العدة) . وهذا يقتضي: أن لها النفقة بعد انقضاء العدة. وقال في " الأم ": (لا نفقة لها في حال الزوجية ولا في حال العدة ولا بعدها) .

واختلف أصحابنا فيها على طريقين: فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيه قولان، وحكاهما الشيخ أبو إسحاق وجهين: أحدهما: يجب لها النفقة من حين عادت إلى منزله؛ لأن النفقة سقطت بنشوزها، وقد زال النشوز، فعادت نفقتها. والثاني: لا تجب لها النفقة؛ لأن التسليم الأول قد سقط بنشوزها، فلم تعد إلا بتسليم ثان، وليس هاهنا من يتسلمها. فعلى هذا الطريق: إذا خرجت امرأة الحاضر من منزلها ناشزة، ثم عادت إليه.. فهل تعود نفقتها من غير أن يتسلمها الزوج؟ فيه وجهان، بناءً على هذين القولين. و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي دل عليه مفهوم كلامه: أن النفقة لها.. أراد: إذا تزوجت بالثاني من غير أن يحكم لها الحاكم بالفرقة، فإذا عادت إلى منزل الزوج.. عادت نفقتها؛ لأن نفقتها سقطت بأمر ضعيف؛ وهو نشوزها، فعادت برجوعها. وحيث قال في " الأم ": (لا نفقة لها) .. أراد: إذا حكم لها الحاكم بالفرقة، وتزوجت بآخر؛ لأن نفقتها سقطت بأمر قوي، وهو حكم الحاكم، فلا تعود إلا بأمر قوي، وهو أن يتسلمها الزوج. فعلى هذا الطريق: إذا نشزت امرأة الحاضر من منزلها وعادت إليه.. وجبت لها النفقة وإن لم يتسلمها الزوج. وأما وجوب نفقتها على الثاني: فإن قلنا بقوله القديم، وأن التفريق صحيح.. فإنها تستحق عليه النفقة بنفس العقد في قوله القديم، ونفقة كل يوم بيومه في قوله الجديد؛ لأن نكاحه صحيح. وإن قلنا بقوله الجديد، وأن التفريق غير صحيح.. فإنها لا تستحق عليه النفقة ولا السكنى في حال الزوجية؛ لأنه لا زوجية بينهما. وإذا فرق بينهما بعد الدخول.. فلا سكنى لها في حال العدة.

فرع تزوج زوجة المفقود بعد انقضاء عدتها ثم رجع الأول

وأما النفقة: فإن كانت حائلًا.. لم تجب لها، وإن كانت حاملًا، فإن قلنا: النفقة للحمل.. وجبت، وإن قلنا: للحامل.. لم تجب. [فرع تزوج زوجة المفقود بعد انقضاء عدتها ثم رجع الأول] إذا تربصت امرأة المفقود، وتزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها، فرجع الأول، فإن قلنا بقوله الجديد: لا تقع الفرقة، أو قلنا: تقع الفرقة في الظاهر دون الباطن، فأتت بولد يمكن أن يكون من الثاني، ولا يمكن أن يكون من الأول.. فإن عدتها تنقضي من الثاني بوضعه، وترد إلى الأول بعد وضع الولد. وإن أتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، فإن قلنا بقوله القديم، وأن الفرقة تقع ظاهرًا وباطنًا.. فالولد للثاني، وإن قلنا بقوله الجديد، أو قلنا بقوله القديم، وقلنا: إن الفرقة تقع في الظاهر دون الباطن، فإن لم يدعه الأول.. فهو للثاني؛ لأنها قد استبرأت رحمها يقينًا عن الأول. وإن ادعاه الأول.. سئل عن وجه دعواه، فإن قال: هذا الولد مني؛ لأنها زوجتي، وغبت عنها والزوجية باقية لم تنقطع، فهو ولدي؛ لأنها أتت به على فراشي.. لم يلتفت إلى هذه الدعوى، ولحق بالثاني؛ لأنا قد تيقنا براءة رحمها من ماء الأول، فلا يمكن أن يكون منه. وإن قال: كنت عدت إليها في الخفية ووطئتها، وهذا الولد مني، وأمكن أن يكون صادقًا.. عرض الولد على القافة، فإذا ألحقوه بأحدهما.. لحقه. وكل موضع لحق الولد بالثاني.. فليس للزوج الأول أن يمنعها من أن تسقيه اللبأ؛ لأنه لا يعيش إلا بذلك. فإذا سقته اللبأ، فإن لم توجد له امرأة ترضعه وتكفله.. لم يكن له منعها من ذلك؛ لأن ذلك يؤدي إلى تلفه، وإن وجد له امرأة ترضعه وتكفله.. كان له منعها؛ لأنها متطوعة بإرضاعه، وللزوج منع زوجته من فعل التطوع بالصلاة والصوم، فلأن يمنعها من الرضاع أولى.

فرع تربصت زوجة المفقود وفرق الحاكم وتزوجت بعد العدة

فإن أرضعته في موضع منعناها من إرضاعه فيه، فإن أرضعته في بيت زوجها.. فلها النفقة عليه؛ لأنها في قبضته، وإن خرجت من منزله إلى غيره بغير إذنه وأرضعته.. سقطت نفقتها؛ لأنها ناشزة، وإن خرجت إلى غيره بإذن زوجها وأرضعته، فإن كان زوجها معها.. لم تسقط نفقتها، وإن لم يكن معها.. ففيه وجهان، بناءً على القولين في السفر بإذنه. [فرع تربصت زوجة المفقود وفرق الحاكم وتزوجت بعد العدة] وإن تربصت امرأة المفقود، وفرق الحاكم بينهما، وتزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها ودخل بها، ثم مات الثاني، وبان أن زوجها الأول كان حيًا عند نكاحها للثاني، وأن الأول مات بعد ذلك، فإن قلنا بقوله القديم، وأن الحكم بالفرقة صحيح ظاهرًا وباطنًا.. فقد بانت من الأول، ونكاح الثاني صحيح، وقد بانت عنه بموته، واعتدت عنه، فلا تأثير لحياة الأول. وإن قلنا بقوله الجديد: إن الحكم بالفرقة لا يصح، أو قلنا: تقع الفرقة في الظاهر دون الباطن.. فعلى هذا: نكاح الثاني باطل، وعليها العدة بموت الأول أربعة أشهر وعشرًا، وعليها عدة وطء الشبهة للثاني ثلاثة أقراء، ولا يصح أن تعتد عن أحدهما إلا بعد أن يفرق بينها وبين الثاني، وفيه ثلاث مسائل: إحداهن: أن يعلم موت كل واحد من الزوجين في وقت بعينه، ويعلم عين ذلك الزوج. الثانية: أن يعلم أن أحدهما مات في وقت بعينه، ولم يعلم وقت موت الآخر. الثالثة: أن لا يعلم موت كل واحد منهما بعينه. فأما [المسألة] الأولى، وهو: إذا علم موت كل واحد منهما في وقت بعينه.. ففيه مسألتان:

إحداهما: أن يعلم أن الأول مات في أول شهر رمضان، والثاني مات في أول شهر شوال، فيجب عليها أن تعتد هاهنا عن الأول أربعة أشهر وعشرًا، وابتداؤها من أول شوال بعد زوال فراش الثاني؛ لأنه لا يمكن أن تكون فراشًا للثاني معتدة عن الأول، فإذا انقضت عدتها عن الأول.. اعتدت عن الثاني بثلاثة أقراء؛ لأن عدة الأول أسبق، فقدمت، ولأنها أقوى؛ لأنها وجبت بسبب مباح، والثانية وجبت بسبب محظور. وإن مات الثاني في أول رمضان، والأول في أول شوال.. فإن الثاني لما مات شرعت في عدته وإن كانت زوجة الأول؛ لأن النكاح يتأبد فراشه، فلا يمكن قطعه لأجل العدة، بخلاف الفراش في النكاح الثاني، فإنه لا يتأبد، فلذلك وجب قطعه للعدة، ولم تصح العدة مع وجوده، فلما مات الأول في أثناء عدة الثاني.. انتقلت إلى عدة الأول؛ لأنها آكد، فإذا أكملت عدة الأول أربعة أشهر وعشرًا.. أكملت عدة الثاني بالأقراء. المسألة الثانية: أن يعلم أن أحدهما مات في وقت بعينه، ولم يعلم وقت موت الآخر، مثل: أن يعلم أن الثاني مات في أول شوال، ثم جاء الخبر أن الأول حي في بلد كذا، ومات ولم يعلم وقت موته.. فإنه يقال: أقل وقت يمكن أن يصل فيه الخبر من الموضع الذي كان فيه كم هو؟ فإن قيل مثلا: عشرة أيام.. جعل في التقدير كأنه مات قبل مجيء خبره بعشرة أيام، فإن وافق ذلك وقت موت الثاني، بأن كان الخبر ورد لعشر خلون من شوال، وهو وقت موت الثاني.. فقد اتفق موتهما في وقت واحد، فتعتد عن الأول بأربعة أشهر وعشر، وتعتد بعد ذلك عن الثاني بثلاثة أقراء. وإن تقدم موت الثاني، أو تأخر عنه.. فالحكم فيه على ما ذكرناه في المسألة الأولى. المسألة الثالثة: أن لا يعلم وقت موت كل واحد منهما بعينه، مثل: أن يعلم أن أحدهما مات في أول شهر رمضان، والآخر مات في أول شوال، ولا يعلم وقت موت

كل واحد منهما أيهما مات أولًا.. فيجب عليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من بعد موت الثاني، ثم تعتد بعد ذلك بثلاثة أقراء؛ ليسقط الفرض عنها بيقين، هذا إذا لم تحبل من الثاني. فأما إذا حبلت من الثاني، ثم ظهر موت الأول.. فإن الولد لاحق بالثاني؛ لأنها قد اعتدت عن الأول، واستبرأت رحمها منه، وقد مات الأول قبل أن يدعيه، فلم يلحق به، فتعتد بوضع الحمل عن الثاني، فإذا وضعته.. اعتدت عن الأول بأربعة أشهر وعشر، ومتى تبتدئ بها؟ فيه وجهان: أحدهما: من حين انقطاع دم النفاس؛ لأن دم النفاس تابع للحمل من الأول، فهو كمدة الحمل. والثاني - وهو المذهب -: أن ابتداءها من بعد وضع الحمل؛ لأن هذا عدة عن وفاة، وعدة الوفاة لا يراعى فيه الدم وزواله، ولأن وقت دم النفاس ليس من عدة الثاني، فاحتسب به من عدة الأول. وبالله التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل.

باب نفقة الأقارب والرقيق والبهائم

[باب نفقة الأقارب والرقيق والبهائم] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيان أن على الأب أن يقوم بالمؤنة في إصلاح صغار ولده من رضاع ونفقة وكسوة وخدمة دون أمه) . وجملة ذلك: أنه يجب على الأب أن ينفق على ولده. والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] [الإسراء: 31] ، فمنع الله من قتل الأولاد خشية الإملاق، وهو الفقر، فلولا أن نفقة الأولاد عليهم.. لما خافوا الفقر. وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] ، فأوجب أجرة رضاع الولد على الأب، فدل على: أن نفقته تجب عليه. وروى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، عندي دينار؟ فقال: " أنفقه على نفسك "، فقال: عندي آخر؟ فقال: أنفقه على ولدك» . وروي: «أن هندا قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني وولدي إلا ما آخذه منه سرًا ولا يعلم.. فهل علي في ذلك شيء؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ولأن الولد بعض من الأب، فكما يلزمه أن ينفق على نفسه.. فكذلك يلزمه أن ينفق على ولده. فإن لم يكن هناك أب، أو كان ولكنه معسر، وهناك جد موسر.. وجبت عليه نفقة ولد الولد وإن سفل، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (لا تجب نفقة ولد الولد على الجد) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] [الأعراف: 26] ، فسمى الناس بني آدم، وإنما هو جدهم.

وكذلك قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] [يوسف: 38] ، فسماهم آباء، وإنما هم أجداده. ولأن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة، فأوجبت النفقة، كالأبوة، وعكسه الأخوة. وإن لم يكن هناك أحد من الأجداد من قبل الأب.. وجبت النفقة على الأم، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (لا تجب النفقة على الأم) . وقال أبو يوسف، ومحمد: تجب على الأم، ولكن يرجع بها على الأب إذا أيسر. دليلنا - على مالك -: أن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة، فأوجبت النفقة، كالأبوة. ولأن النفقة إذا وجبت على الجد، وولادته من طريق الظاهر.. فلأن تجب على الأم - وولادتها من طريق القطع - أولى، فلم ترجع. وعلى أبي يوسف، ومحمد: أنها نفقة واجبة على من تعين نسبه، فلم يرجع بها، كالجد لا يرجع بما أنفق على الأب. وقولنا: (على من تعين نسبه) احتراز ممن ولد على فراشين، وأشكل الأب منهما. فإن لم يكن أم، وهناك أبو أم، أو أم أمّ.. وجبت عليه نفقة ولد الولد وإن سفل، فتجب نفقة الولد على من يقع عليه اسم الأب أو الأم حقيقة أو مجازًا، سواء كان من قبل الأب أو الأم، ويشترك في وجوبها العصبات وذوو الأرحام؛ لأنها تتعلق بالقرابة من جهة الولادة، فاستوى العصبات وذوو الأرحام من جهة الوالدين، كما قلنا في منع الشهادة، والقصاص، والعتق.

مسألة نفقة الأب واجبة على الابن

[مسألة نفقة الأب واجبة على الابن] ] : وتجب نفقة الأب على الولد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] [الإسراء: 23] ، وقوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] [العنكبوت: 8] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] [لقمان: 15] ، ومن الإحسان والمعروف: أن ينفق عليه. وروى ابن المنكدر: «أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن لي مالًا وعيالًا، ولأبي مال وعيال، ويريد أن يأخذ من مالي؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنت ومالك لأبيك» وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن أولادكم هبة من الله لكم، يهب لمن يشاء إناثًا، ويهب لمن يشاء الذكور، فهم وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها» وروت أيضًا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه» . وروى جابر: «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إن أبي يأخذ مالي فينفقه، فقال الأب: إنما أنفقته يا رسول الله على إحدى عماته أو إحدى خالاته، فهبط جبريل، وقال: يا رسول الله، سل الأب عن شعر قاله، فسأله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال الأب: إن الله - وله الحمد - يزيدنا بك بيانًا يا رسول الله كل يوم، والله: لقد قلت هذا الشعر في نفسي، فلم تسمعه أذناي، ثم أنشأ يقول: غذوتك مولودًا وعلتك يافعًا ... تعل بما أجني إليك وتنهل إذا ليلة ضاقتك بالسقم لم أبت ... لسقمك إلا ساهرًا أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به منه فعيناي تهمل

فرع النفقة على الوالدة

فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما فيك كنت أؤمل جعلت جوابي غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل قال جابر: فقبض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتلابيب الابن، وقال: " أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك " ثلاثًا» . [فرع النفقة على الوالدة] ] : ويجب على الولد نفقة الأم. وقال مالك: (لا يجب) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] [الإسراء: 23] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] [العنكبوت: 8] ، وقَوْله تَعَالَى:

فرع النفقة على القرابة المسلمين وغيرهم

{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] [لقمان: 15] ، ومن الإحسان والمعروف: أن ينفق عليها. وروي: «أن رجلًا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، من أبر؟ فقال: " أمك "، قال: ثم من؟ قال: " أمك " إلى أن قال في الرابعة: أباك» ومن البر: أن ينفق عليها. ولأنها تعتق عليه إذا ملكها، ولا يجب عليها القصاص بجنايتها عليه، ولا تقبل شهادته لها، فوجبت لها النفقة عليه، كالأب. ويجب على الولد نفقة الأجداد والجدات وإن علوا من قبل الأب والأم. وقال مالك: (لا يجب عليه) . دليلنا: أن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة، فأوجبت النفقة، كالأبوة. [فرع النفقة على القرابة المسلمين وغيرهم] نفقة القرابة تجب مع اتفاق الدين ومع اختلافه، فإن كان أحدهما مسلمًا والآخر كافرًا.. لم يمنع ذلك من وجوب النفقة؛ لأنه حق يتعلق بالولادة، فوجب مع اتفاق الدين واختلافه، كالعتق بالملك. ولا تجب النفقة لغير الوالدين والمولودين من القرابة، كالأخ وابن الأخ والعم وابن العم. وقال أبو حنيفة: (تجب لكل ذي رحم محرم، فتجب عليه نفقة الأخ وأولاده، والعم والعمة، والخال والخالة. ولا تجب عليه نفقة أولاد العم، ولا أولاد العمة، ولا أولاد الخال، ولا أولاد الخالة) .

وقال أحمد: (تجب عليه نفقة كل من كان وارثًا، كالأخ وابن الأخ، والعم وابن العم، ولا تجب عليه نفقة ابنة الأخ، والعمة، وابن العمة، وابنة العم) . وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (تجب عليه نفقة كل قريب معروف النسب منه) . دليلنا: ما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، معي دينار؟ فقال: " أنفقه على نفسك "، قال: معي آخر؟ قال: " أنفقه على ولدك "، قال: عندي آخر؟ قال: " أنفقه على أهلك "، قال: معي آخر؟ قال: " أنفقه على خادمك "، قال: معي آخر؟ قال: أنت أعلم به» ولم يأمره أن ينفقه على أقاربه، فدل على: أنه لا يجب عليه نفقة أقاربه. فإن قيل: فلم يذكر الوالد، ومع هذا فنقته واجبة؟ قلنا: قد نص على نفقة الولد فنبه بذلك على نفقة الوالد؛ لأنه أكمل وآكد حرمة من الولد. ولأن من سوى الوالدين والمولودين من القرابة لا يلحق بهم في الحرمة، فلم يلحق بهم بوجوب نفقتهم. ولأنها قرابة لا تستحق بها النفقة مع اختلاف الدين، فلم تستحق بها النفقة مع اتفاق

مسألة النفقة على القريب مواساة

الدين، كابن العم مع أبي حنيفة، وكغير الوارث مع أحمد. وعكسه قرابة الوالدين والمولودين.. [مسألة النفقة على القريب مواساة] ولا يستحق القريب النفقة على قريبه حتى يكون المنفق منهما موسرًا بنفقة قريبه، وهو أن يفضل عن قوت نفسه وقوت زوجته في يومه وليلته؛ لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان أحدكم فقيرًا.. فليبدأ بنفسه، فإن فضل.. فعلى عياله، فإن فضل.. فعلى قرابته» وإنما قدمت نفقة الزوجة على نفقة القريب؛ لأنها تجب لحاجته إليها، ونفقة القريب مواساة، فقدمت نفقتها عليه، كما تقدم نفقة نفسه، ولأن نفقة الزوجة تجب بحكم المعاوضة، فقدمت على نفقة القريب كما يقدم الدين. وإن كان مكتسبًا، فاكتسب ما ينفق على نفسه وزوجته، وفضل عن قوت يومه وليلته فضل.. لزمه أن ينفق على قرابته؛ لأن الكسب في الإنفاق يجري مجرى الغنى بالمال، ولهذا روي: «أن رجلين سألا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعطيهما من الصدقة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أعطيكما بعد أن أعلمكما أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» فجعل الاكتساب بمنزلة الغنى بالمال. وإن كان للمنفق عقار.. وجب أن يبيعه للإنفاق على قرابته. وقال أبو حنيفة: (لا يباع) .

دليلنا: أن نفقة القريب تجب فيما فضل عن قوت المنفق في يومه وليلته، والعقار يفضل عن قوت يومه وليلته، فوجب أن يبيعه للإنفاق على القريب، كالأثاث. ولا يستحق القريب النفقة على قريبه حتى يكون المنفق عليه معسرًا غير قادر على الكسب؛ لصغر، أو جنون، أو زمانة، أو كبر، فإن كان له مال يكفيه.. لم تجب نفقته على قريبه؛ لأن إيجاب نفقة القريب على قريبه مواساة، والغني بماله لا يستحق المواساة. وإن كان له كسب، وهو قادر على أن يكتسب ما يكفيه.. لم تجب له نفقة على قريبه؛ لأن الكسب في باب الإنفاق يجري مجرى الغنى بالمال. وإن كان صحيحًا، إلا أنه غير مكتسب، فإن كان من الوالدين.. ففيه قولان: أحدهما: تجب نفقته على الولد الموسر، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد؛ لأنه محتاج إلى الإنفاق، فأشبه الزمن. والثاني: لا تجب نفقته على الولد؛ لأنه قادر على الاكتساب، فأشبه المكتسب. وإن كان الولد بالغًا صحيحًا محتاجًا غير مكتسب.. ففيه طريقان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالوالدين. و [الطريق الثاني] : منهم من قال: لا تجب نفقته، قولًا واحدًا؛ لأن حرمة الوالد آكد، فاستحق مع الصحة، والولد أضعف حرمة، فلم يستحق مع الصحة. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إذا بلغت الابنة.. لم تسقط نفقتها حتى تتزوج؛ لأنه لا يمكنها الاكتساب، فهي كالصغيرة) . ودليلنا: أن كل معنى أسقط نفقة الابن.. أسقط نفقة الابنة، كاليسار. وما ذكره.. فلا يصح؛ لأنها يمكنها الغزل والخدمة.

مسألة من يقدم في نفقة القريب

[مسألة من يقدم في نفقة القريب] وإن كان هناك قريب يستحق النفقة، واجتمع قريبان موسران، فإن كان هناك ولد صغير فقير، وله أبوان موسران.. كانت نفقته على الأب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] . فجعل أجرة الرضاع على الأب. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند امرأة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ولأنهما تساويا في الولادة، وانفرد الأب بالتعصيب، فقدم على الأم. فإن اجتمع الأب والجد وهما موسران، أو اجتمعت الأم وأمها، أو الأم وأم الأب وهما موسرتان.. قدم الأب على الجد، وقدمت الأم على أمها وأم الأب؛ لأنها أقرب. وإن اجتمعت الأم والجد أبو الأب وهما موسران.. كانت النفقة على الجد دون الأم، وبه قال أبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة: (ينفقان عليه على قدر ميراثهما، فيكون على الأم ثلث النفقة، وعلى الجد الثلثان) . دليلنا: أنه اجتمع عصبة مع ذات رحم ينفق كل واحد منهما على الانفراد، فقدم العصبة، كالأب إذا اجتمع مع الأم. فإن اجتمع الجد أبو الأب وإن علا مع الجد أبي الأم وهما موسران.. وجبت النفقة على الجد أبي الأب؛ لأن الجد يقدم على الأم، فلأن يقدم على أبي الأم أولى. وإن اجتمعت أم الأم وأبو الأم وهما موسران.. كانت النفقة عليهما نصفين؛ لأنهما متساويان في الدرجة، ولا مزية لأحدهما على الآخر في التعصيب، فاستويا في الإنفاق. وإن اجتمعت أم الأم وأم الأب وهما موسرتان.. ففيه وجهان:

فرع نفقة الزمن على الابن أو الأب

أحدهما: تجب النفقة عليهما نصفين، وهو الأصح؛ لأنهما متساويتان في الدرجة، ولا مزية لإحداهما على الأخرى بالتعصيب. والثاني: تجب النفقة على أم الأب؛ لأنها تدلي بعصبة، ولأن الأب لو اجتمع هو والأم.. لقدم الأب في إيجاب النفقة، فقدم من يدلي به على من يدلي بها. وهكذا الوجهان إذا اجتمعت أم الأب وأبو الأم. فإن اجتمعت الأم وأم الأب وهما موسرتان.. قال الشيخ أبو حامد: فإن قلنا: إن أم الأم وأم الأب إذا اجتمعتا تقدم أم الأب؛ لأنها تدلي بعصبة.. قدمت هاهنا أم الأب على الأم؛ لأنها كالعصبة. وإن قلنا هناك: إنهما سواء.. قدمت الأم على أم الأب؛ لأنها أقرب منها. [فرع نفقة الزمن على الابن أو الأب] وإن كان الرجل فقيرًا زمنًا، وله ابن وأب موسران.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: تجب نفقته على الأب؛ لأن وجوب النفقة على الأب منصوص عليها في القرآن، ووجوب النفقة على الابن مجتهد فيها. والثاني: أن نفقته على الابن؛ لأنه أقوى تعصيبًا من الأب. والثالث: تجب نفقته عليهما؛ لأنهما متساويان في الدرجة منه والتعصيب. فإذا قلنا بهذا: فهل تجب عليهما نصفين، أو تعتبر بميراثهما منه؟ فيه وجهان، الأصح: أنها عليهما نصفان. وإن اجتمع ابن وجد.. فمن أصحابنا من قال: هو كما لو اجتمع الابن والأب. ومنهم من قال: يجب على الابن، وجهًا واحدًا؛ لأنه أقرب. وإن كان فقيرا زمنًا، وله ابنان موسران أو ابنتان موسرتان.. وجبت نفقته بينهما نصفين؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. وإن كان له ابن موسر وابنة موسرة.. فقال أصحابنا البغداديون: تجب جميع النفقة

على الابن؛ لأنهما متساويان في الدرجة وللابن مزية بالتعصيب، فقدم في وجوب النفقة عليه، كالأب إذا اجتمع مع الأم. وقال الخراسانيون من أصحابنا: تجب النفقة عليهما. وكيف تجب عليهما؟ فيه وجهان: أحدهما - قال المسعودي [في " الإبانة "] : وهو الأصح -: تجب عليهما نصفين، وبه قال أبو حنيفة. والثاني: تجب عليهما على قدر ميراثهما؛ فيجب على الابن ثلثا النفقة، وعلى الابنة ثلثها، وبه قال أحمد. إذا ثبت هذا: فذكر ابن الصباغ: إذا كان له ابن ذكر وخنثى مشكل موسران.. فإن النفقة على الابن؛ لأن الخنثى يجوز أن تكون أنثى، فلا تجب عليه النفقة، فإن بان أن الخنثى رجل.. رجع عليه الابن بنصف ما أنفق؛ لأنه بان أنه كان مستحقًا عليه. وهذا على طريقة أصحابنا البغداديين. فأما على طريقة الخراسانيين: فكم يجب على الخنثى؟ فيه وجهان: أحدهما: النصف، وهو الأصح. فعلى هذا: لا فرق بين أن يبين أنه رجل أو امرأة. والثاني: يجب عليه بقدر ميراثه. فعلى هذا: يجب عليه ثلث نفقته، وعلى الذكر النصف، ويبقى السدس من النفقة، فإن قال أحدهما: أدفع هذا السدس لأرجع به على من بان أنه عليه.. جاز فإن لم يدفعه أحدهما برضاه.. دفعاه بينهما نصفين. فإذا بان حال الخنثى.. رجع على من بان أنه غير مستحق عليه بما دفع منه. قال ابن الصباغ: وإذا كان له بنت وخنثى مشكل.. ففيه وجهان: أحدهما: تجب النفقة على الخنثى؛ لجواز أن تكون رجلًا، فإذا أنفق، ثم بان أنه رجل.. لم يرجع على أخته بشيء، وإن بان أنه أنثى.. رجعت على أختها بنصف ما أنفقت.

فرع وجوب نفقة الأب على ذكر وخنثيين

والثاني: أن النفقة بينهما نصفان - قال -: وهو الأقيس؛ لأنا لا نعلم كونه رجلًا، فإن بان أنه ذكر.. رجعت عليه البنت بما أنفقت، وإن بان أنه أنثى.. لم ترجع عليها أختها بشيء. وهذا على طريقة أصحابنا البغداديين. فأما على طريقة الخراسانيين.. فعلى أصح الوجهين: تجب النفقة عليهما نصفين، ولا يرجع الخنثى بما أنفق على أخته بشيء، سواء بان أنه رجل أو امرأة. وعلى الوجه الذي يقول: (تجب النفقة بينهما على قدر ميراثهما) يجب على كل واحد منهما ثلث النفقة، ويبقى الثلث، فإن اختار أحدهما أن يدفعه ليرجع به على من بان عليه.. جاز، وإن لم يختر أحدهما دفعه.. دفعاه بينهما، فيدفع كل واحد منهما نصف النفقة، فإن بان أن الخنثى امرأة.. لم ترجع إحداهما على الأخرى بشيء، فإن بان رجلًا.. رجعت عليه المرأة بثلث ما دفعت. [فرع وجوب نفقة الأب على ذكر وخنثيين] وإن كان له ثلاثة أولاد، ذكر وخنثيان.. فعلى طريقة أصحابنا البغداديين: تجب النفقة على الذكر، فإن بان الخنثيان امرأتين.. لم يرجع عليهما بشيء، وإن بانا رجلين.. رجع على كل واحد منهما بثلث ما أنفق، وإن بان أحدهما رجلًا والآخر امرأة.. رجع على الرجل بنصف ما أنفق. وعلى طريقة الخراسانيين: تجب النفقة على الجميع، وكيف تجب عليهم؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو الأصح عندهم -: تجب بينهم بالسوية. فعلى هذا: لا تراجع بينهم بحال. والثاني: تجب عليهم على قدر مواريثهم. فعلى هذا: يجب على الرجل ثلث النفقة، وعلى كل واحد من الخنثيين خمس النفقة؛ لأن ذلك هو اليقين.

فرع نفقة الأب تجب على بنت وخنثيين

قال القاضي أبو الفتوح: ويبقى من النفقة ربعها، تفرض عليهم. وهذا غلط، بل يبقى من النفقة أربعة أسهم من خمسة عشر سهماً، فإن قال أحدهم: أدفعها على أن أرجع بها على من بانت عليه عنده، ودفعها.. كان له الرجوع على من بانت عنده. وإن لم يرض أحدهم بدفعها.. قسمت عليهم أثلاثاً، فتقسم النفقة على خمسة وأربعين سهماً، فيدفع الذكر منها تسعة عشر سهماً، ويدفع كل خنثى منهما ثلاثة عشر سهماً، فإن بانا امرأتين.. رجعا على الذكر بتمام النصف، فترجع عليه كل واحدة منهما بسهم وثلاثة أرباع سهم مما دفعت، وإن بانا رجلين.. رجع الذكر على كل واحد منهما بسهمين، وهو تمام الثلث، وإن بان أحدهما ذكراً والآخر امرأة.. رجعت المرأة على الذي بان رجلاً بأربعة أسهم، ورجع الذكر عليه بسهم. [فرع نفقة الأب تجب على بنت وخنثيين] إذا كان لرجل بنت وولدان خنثيان مشكلان.. فعلى طريقة أصحابنا البغداديين في النفقة وجهان: أحدهما: أن جميع النفقة على الخنثيين، فإن بانا رجلين.. فلا رجوع لهما، وإن بانا امرأتين.. رجعت كل واحدة منهما على أختها التي لم تنفق معها بثلث ما أنفقت، وإن بان أحدهما رجلاً والآخر امرأة.. رجعت التي بانت امرأة على الذي بان رجلاً بجميع ما أنفقت. والوجه الثاني: أن النفقة تجب عليهم أثلاثاً، فإن بانا امرأتين.. فلا تراجع، وإن بانا رجلين.. رجعت البنت بما أنفقت عليهما نصفين، وإن بان أحدهما رجلاً والآخر امرأة.. رجع المرأتان على الذي بان رجلاً بجميع ما أنفقاه. وعلى طريقة الخراسانيين: يكون في النفقة أيضاً وجهان:

فرع وجوب نفقة البنت أو ابنها على أبيها

أحدهما: وهو الأصح عندهم -: أن النفقة تجب على الجميع بالسوية. فعلى هذا: لا تراجع بينهم بحال. والثاني: تجب عليهم على قدر مواريثهم. فعلى هذا: يجب على البنت خمس النفقة، وهي أربعة أسهم من عشرين، وعلى كل واحد من الخنثيين ربع النفقة، وهو خمسة من عشرين؛ لأن هذا هو اليقين، وتبقى ستة أسهم، إن دفعها أحدهم ليرجع بها على من بانت عنده.. جاز، وإلا.. قسمت عليهم أثلاثاً بينهم. فإن بانا امرأتين.. رجع كل واحد من الخنثيين على البنت بثلث سهم، وإن بانا رجلين.. رجعت البنت على كل واحد منهما بسهم، وإن بان أحدهما رجلاً والآخر امرأة.. رجعت البنت الأصلية عليه بسهم، ورجعت عليه البنت الخنثى بسهمين. والمشهور: طريقة أصحابنا البغداديين. [فرع وجوب نفقة البنت أو ابنها على أبيها] وإن كان له بنت وابن بنت موسران.. فحكى الشيخ أبو إسحاق فيه قولين، وحكاهما ابن الصباغ عن القاضي أبي حامد وجهين: أحدهما: تجب النفقة على البنت؛ لأنهما يستويان في عدم التعصيب، والبنت أقرب، فكانت أولى بالإيجاب عليها. والثاني: تجب على ابن البنت؛ لأنه أقدر على النفقة بالذكورية. وإن كان له بنت ابن وابن بنت.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها ابن الصباغ: أحدها: تجب النفقة على بنت الابن؛ لأنها تدلي بعصبة، وقد تكون عصبة من أخيها. والثاني: تجب النفقة على ابن البنت؛ لأنه أقوى على النفقة بالذكورية. والثالث: تجب النفقة عليهما بالسوية؛ لأنهما متساويان في الدرجة وعدم التعصيب.

فرع النفقة على القريب الموسر

وإن كان له أم وبنت موسرتان.. كانت النفقة على البنت. وقال أبو حنيفة، وأحمد: (يكون على الأم ربع النفقة، والباقي على البنت) . دليلنا: أن البنت قد تكون عصبة مع أخيها، بخلاف الأم. [فرع النفقة على القريب الموسر] ] : وإن كان له قريبان موسران، أحدهما أبعد من الآخر، فحضر الأبعد، وغاب الأقرب.. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وجب على الحاضر أن ينفق، فإذا حضر الأقرب.. فهل يرجع عليه بما أنفق؟ فيه وجهان، الأصح: أن له أن يرجع عليه بما أنفق، وهذا إذا لم يوجد للغائب مال ينفق عليه منه، فإن كان له مال حاضر.. أنفق عليه منه، وإن لم يكن له مال وأمكن أن يقترض الحاكم عليه من بيت المال أو من إنسان.. اقترض عليه، ووجب عليه القضاء إذا حضر، وإن لم يمكن ذلك.. كان على الحاضر أن ينفق. فإن بان أن الغائب كان معسراً أو ميتاً وقت النفقة.. لم يرجع عليه بشيء، بل تكون نفقته على الحاضر. وهكذا: إذا كان له ابنان موسران، فحضر أحدهما وغاب الآخر.. كان على الحاضر نصف النفقة، فإن كان للغائب مال.. أنفق منه نصف النفقة، وإن لم يكن له مال، وأمكن أن يقترض عليه من بيت المال أو من إنسان من الرعية.. اقترض عليه الحاكم، فإن لم يمكن ذلك.. قال ابن الصباغ: لزم الحاضر أن يقترض؛ لأن نفقته عليه إذا انفرد. [مسألة النفقة على القريب المعسر] وإن كان من تجب عليه النفقة له قريبان معسران، فإن فضل عن قوت يومه وليلته ما يكفيهما.. لزمه أن ينفق عليهما، وإن لم يفضل عن قوته من نفقته إلا ما يكفي أحدهما،

فرع النفقة على الأب والابن المعسرين

بأن كان له أبوان معسران، ولا يجد إلا نفقة أحدهما.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: تقدم الأم؛ لما روي: «أن رجلاً قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول الله، من أبر؟ قال: " أمك "، قال: ثم من؟ قال: " أمك " إلى أن قال في الرابعة: " ثم أباك» ، ولأن الأم عورة ليس لها بطش، والأب ليس بعورة، فكان تقديم الأم أولى. والثاني: أن الأب يقدم؛ لأنهما متساويان في الولادة، وانفرد الأب بالتعصيب، فكان أولى، كما لو تقدم بدرجة؛ لأنهما لو كانا موسرين وهو معسر.. لكانت نفقته على الأب، فوجب أن يقدم الأب في تقديم نفقته، كما يقدم في وجوب نفقة الابن عليه. والثالث: أنهما سواء، فيقسط ذلك بينهما؛ لاستوائهما في الولادة والإدلاء. [فرع النفقة على الأب والابن المعسرين] وإن كان له أب وابن معسران، ولا يقدر إلا على نفقة أحدهما.. فاختلف أصحابنا. فقال الشيخ أبو حامد: إن كان الابن طفلاً.. فهو أولى بالتقديم؛ لأنه ناقص الخلقة والأحكام، والأب إما أن يكون زمناً أو مجنوناً، فيكون ناقص الخلقة أو ناقص الأحكام دون الخلقة. وإن تساويا، بأن يكون الابن بالغاً زمناً فيكون ناقص الخلقة دون الأحكام، أو مراهقاً صحيحاً فيكون ناقص الخلقة، والأب زمن أو مجنون.. ففيه وجهان:

فرع نفقة الأب والجد المعسرين

أحدهما: أن الابن أحق بالتقديم؛ لأن وجوب نفقة الابن ثبتت بنص الكتاب، ووجوب نفقة الأب على الابن مجتهد فيها. والثاني: يقدم الأب؛ لأن حرمته آكد من حرمة الابن، بدليل: أن الأب لا يقاد من ابنه، والابن يقاد بالأب. وقال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان من غير تفصيل: أحدهما: الابن أولى. والثاني: الأب أولى. وقال القاضي أبو الطيب: فيه ثلاثة أوجه من غير تفصيل: أحدها: الابن أولى. والثاني: الأب أولى. والثالث: هما سواء، فيقسم ذلك بينهما؛ لاستوائهما في الدرجة. [فرع نفقة الأب والجد المعسرين] ] : وإن كان له أب وجد معسران، ولا يقدر إلا على نفقة أحدهما.. ففيه وجهان: أحدهما: يقدم الأب؛ لأنه أقرب، ولأنه يقدم في وجوب النفقة عليه، فقدم في وجوب النفقة له. والثاني: أنهما سواء، فيقسم بينهما؛ لأن الأب لا يمنع وجوب نفقة الجد، بدليل: أنه لو قدر على نفقتهما.. لوجب عليه نفقتهما، فإذا لم يمنع الأب وجوب نفقة الجد وضاق ما في يده عنهما.. قسم بينهما، كالدينين. وهكذا: إذا اجتمع ابن وابن ابن، أو أم وأم أم، ولم يقدر إلا على نفقة أحدهما.. فعلى الوجهين.

مسألة النفقة على القريب غير مقدرة

[مسألة النفقة على القريب غير مقدرة] إذا وجبت عليه نفقة القريب.. فإنها تجب غير مقدرة، بل يجب له ما يكفيه؛ لأنها تجب للحاجة، فتقدرت بالكفاية. وإن احتاج القريب إلى من يخدمه.. وجبت عليه نفقة خادمه، وإن كانت له زوجة.. وجبت عليه نفقتها؛ لأن ذلك من تمام الكفاية. وتجب عليه الكسوة؛ لأن كل من وجبت عليه نفقة شخص.. وجبت عليه كسوته، كالزوجة. وإن احتاج إلى مسكن.. وجب عليه سكناه؛ لأن عليه كفايته، وذلك من كفايته. وإن مضت مدة ولم ينفق فيها على قريبه.. سقطت بمضي الزمان؛ لأنها تجب للحاجة، وقد زالت الحاجة. [فرع هروب الزوج والقريب من النفقة يجعل أمرها في يد الحكام] ] : وإن وجبت عليه نفقة زوجته أو قريبه، فامتنع من إخراجها أو هرب.. فإن الحاكم ينظر في ماله: فإن كان فيه من جنس النفقة.. دفع إليه النفقة منه. وإن كان من غير جنس النفقة، فإن كان مما يحول، كالدراهم، والدنانير.. اشترى الحاكم منها الطعام والأدم، وصرفه إلى من وجبت له نفقته. وإن وجد له متاعاً.. باعه عليه، واشترى بثمنه ما يجب عليه من ذلك. وإن لم يجد له إلا العقار.. باعه عليه. وقال أبو حنيفة: (لا يباع عليه المتاع والعقار إلا في موضع واحد، وهو: إذا جاء رجل إلى الحاكم، وقال: إن لفلان الغائب عندي سلعة أو عقاراً، وهذه زوجته لم ينفق عليها.. فإن الحاكم يبيع عليه السلعة والعقار، وينفق على زوجته من ثمن ذلك) .

مسألة إعفاف من تجب له النفقة

دليلنا: أن ما جاز بيع الناض فيه بغير إذن من عليه الحق.. جاز بيع المتاع والعقار فيه بغير إذنه، كنفقة الزوجة. [مسألة إعفاف من تجب له النفقة] إذا وجبت على الولد نفقة الأب أو الجد من قبل الأب أو من قبل الأم، واحتاج الأب أو الجد إلى الإعفاف بزوجة أو جارية.. وجب على الولد أن يعفه بذلك إذا قدر على ذلك. قال ابن خيران: وفيها قول آخر: أنه لا يجب عليه ذلك. وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه قريب، فلم يستحق الإعفاف، كالابن. والأول أصح؛ لأنه معنى يحتاج إليه ويستضر بفقده، فلزمه، كالنفقة، والكسوة، ويخالف الابن، فإن الأب آكد حرمة منه، فوجب له ما لا يجب له. وإن كان الوالد معسراً صحيحاً غير مكتسب، فإن قلنا: تجب نفقته على الولد.. وجب عليه إعفافه، وإن قلنا: لا تجب نفقته عليه.. ففي إعفافه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه إعفافه؛ لأنه لا تجب عليه نفقته، فلم يجب عليه إعفافه، كالموسر. والثاني: يجب عليه إعفافه؛ لأن نفقته يمكن إيجابها في بيت المال، بخلاف الإعفاف. وإذا وجب على الولد الإعفاف.. فهو بالخيار: بين أن يملكه جارية يحل له وطؤها، أو يدفع له مالاً يشتري به جارية، أو يشتريها له بإذنه، أو يدفع إليه مالاً ليتزوج به، أو يتزوج له بإذنه.

مسألة ما يجب على الأم من الرضاعة للولد

ولا يجوز أن يزوجه أمة؛ لأنه صار مستغنياً به، ولا يعفه بقبيحة ولا بعجوز لا استمتاع بها؛ لأنه لا يحصل المقصود بذلك. فإن ملكه جارية، أو دفع إليه مالاً، فتزوج به امرأة، ثم أيسر الأب.. لم يلزمه رد ذلك؛ لأنه قبض ذلك وهو يستحقه. فإن طلق الزوجة، أو أعتق الأمة.. لم يلزم الولد أن يعفه ثانياً؛ لأنه فوت ذلك على نفسه. وإن ماتت الزوجة أو الأمة.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه إعفافه ثانياً؛ لأنه إنما يجب عليه إعفافه مرة، وقد فعل. والثاني: يلزمه أن يعفه ثانياً، وهو الأصح؛ لأنه لا صنع له في تفويت ذلك. [مسألة ما يجب على الأم من الرضاعة للولد] وإن ولدت المرأة ولداً.. وجب عليها أن تسقيه اللبأ حتى يروى؛ لأنه لا يعيش إلا بذلك. فإن كان للطفل مال.. وجبت أجرة إرضاعه في ماله، كما تجب نفقته إذا كان كبيراً في ماله. وإن لم يكن له مال.. وجبت أجرة إرضاعه على من تجب عليه نفقته لو كان كبيراً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] . ولا يجب إرضاعه إلا في حولين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] . وإن كان الولد من زوجته والأب ممن تجب عليه نفقة الولد.. لم تجبر الأم على إرضاعه، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد. وقال أبو ثور: (تجبر على إرضاعه) . وعن مالك روايتان: إحداهما: كقول أبي ثور.

والثانية - وهي المشهورة عنه -: (إن كانت شريفة.. لم تجبر على إرضاعه، وإن كانت دنيئة.. أجبرت على إرضاعه) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] .. وإذا امتنعت.. فقد تعاسرت. ولأنها لا تجبر على نفقة الولد مع وجود الأب، فكذلك الرضاع. إذا ثبت هذا: فإن تطوعت بإرضاعه.. فالأولى للأب أن لا يمنعها من ذلك؛ لأن الرضاع حق للولد، والأم أشفق عليه، ولبنها أصلح له. وهل يلزمه أن يزيدها على نفقتها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه؛ لأن نفقة الزوجة مقدرة بحال الزوج، فلو قلنا: تجب الزيادة لأجل الرضاع.. لكانت نفقتها مقدرة بحالها، فلم يلزمه ذلك، كما لو كانت رغيبة في الأكل.. فإنه لا تلزمه الزيادة في نفقتها. والثاني: تلزمه الزيادة على نفقتها، وهو قول أبي سعيد الإصطخري، وأبي إسحاق؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] [البقرة: 233] فخص حال الولادة بذكر إيجاب النفقة، ولا فائدة بذكر وجوبها في الولادة إلا وجوب الزيادة. ولأن العادة جرت أن المرضعة تحتاج من الطعام أكثر من غيرها. فعلى هذا: يجتهد الحاكم في قدر الزيادة على ما يراه. وإن استأجر امرأته على الرضاع.. فهل يصح عقد الإجارة؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح، وبه قال أحمد؛ لأن كل عقد صح أن يعقده الزوج مع غير الزوجة.. صح أن يعقده مع الزوجة، كالبيع. والثاني: لا يصح، وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ غيره. وكذلك: لو استأجرها لخدمة نفسه؛ لأن الزوج يملك الاستمتاع بها في جميع الأوقات، إلا في الأوقات المستحقة للعبادات، فإذا أجرت نفسها.. لم يتمكن من استيفاء حقه إلا بتعطيل حقه من الاستمتاع، فلم يصح، كما لو أجر العبد نفسه من سيده.

فرع أبان امرأته المرضعة

فإذا قلنا بهذا: واستأجرها على إرضاعه بعوض، فأرضعته.. فهل تستحق أجرة المثل؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: لا تستحق ذلك؛ لأنها لو استحقت أجرة في ذلك.. لجاز لها عقد الإجارة لذلك. والثاني: تستحق أجرة المثل؛ لأن هذه منفعة لا يجب عليها بذلها، فإذا بذلتها بعوض ولم يحصل لها العوض.. وجب لها عوض المثل، كسائر منافعها. [فرع أبان امرأته المرضعة] وإن أبان الرجل امرأته وله منها ولد يرضع.. لم يملك إجبارها على إرضاعه؛ لأنه إذا لم يملك إجبارها على إرضاعه حال الزوجية.. لم يملك إجبارها بعد الزوجية. فإن تطوعت بإرضاعه.. لم يجز للأب انتزاعه منها؛ لأنها لا حق له في استمتاعها. وإن استأجرها على إرضاعه.. صح ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] ولأنه لا يملك الاستمتاع بها، بخلاف ما لو استأجرها في حال الزوجية. فإن طلبت منه أجرة المثل، ولا يجد الأب من ترضعه بغير أجرة ولا بدون أجرة المثل.. وجب عليه بذل ذلك لها، ولم يجز له انتزاعه منها؛ لأن الرضاع حق للولد، ولبن الأم أنفع له من لبن غيرها. وإن طلبت منه أكثر من أجرة المثل، والأب يجد من يتطوع بإرضاعه بغير أجرة أو بأجرة المثل.. كان له انتزاعه منها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] . وإذا طلبت أكثر من أجرة المثل.. فقد تعاسرت. وإن طلبت أجرة المثل، ووجد الأب من يرضعه بدون أجرة المثل أو من يرضعه بغير أجرة.. فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان:

أحدهما: أن الأم أحق برضاعه بأجرة المثل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] . ولم يفرق. ولما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأم أحق بحضانة ولدها ما لم تتزوج» . ولأن الرضاع حق للولد، ولبن الأم أنفع له وأصلح، فكانت أولى. والثاني: أن للأب أن ينتزعه منها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] [الطلاق: 6] و (التعاسر) : هو الشدة والتضايق، فإذا وجد الرجل من يرضعه بدون أجرة المثل أو بغير أجرة، وطلبت الأم أجرة المثل.. فقد تعاسرت، فكان له نزعه منها. ولأن نفقة إرضاع الطفل كنفقة المراهق، ولو وجد من يتطوع بالإنفاق على المراهق.. لم يجب على الأب نفقته، فكذلك إذا وجد من يتطوع بإرضاع الطفل.. لا تجب أجرة المثل على الأب. وقال أبو إسحاق: للأب انتزاعه منها، قولا ًواحداً، والقول الآخر لا يعرف في شيء من كتب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وقال أبو حنيفة: (للأب انتزاعه، ولكن لا يسقط حق الأم من الحضانة، فتأتي المرضعة وترضعه عند الأم) . ودليلنا: أن الحضانة تابعة للرضاع، فإذا سقط حقها من الرضاع.. سقط حقها من الحضانة. إذا ثبت هذا: فإن ادعى الأب: أنه يجد من يرضعه بغير أجرة أو بدون أجرة

مسألة نفقة العبد والأمة على السيد

المثل، وقلنا: له انتزاعه، فإن صدقته الأم أنه يجد ذلك.. كان له انتزاعه منها، وإن كذبته.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة في ذلك، فقبل قوله مع يمينه، فإذا حلف.. انتزعه من يد الأم، وسلمه إلى المرضعة، ولا تمنع الأم من زيارته؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا توله والدة بولدها» . [مسألة نفقة العبد والأمة على السيد] ويجب على السيد نفقة عبده وأمته وكسوتهما؛ لما «روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الرجل الذي قال: معي دينار، قال: " أنفقه على نفسك "، قال: معي آخر، قال: " أنفقه على ولدك "، قال: معي آخر، قال: " أنفقه على أهلك "، قال: معي آخر، قال: " أنفقه على خادمك» . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق» . وهو إجماع لا خلاف فيه. فإن كان العبد غير مكتسب، بأن كان صغيراً، أو مريضاً، أو كبيراً زمناً.. فنفقته على سيده إلى أن يزول ملكه عنه ببيع، أو هبة، أو عتق، أو موت. وإن كان مكتسباً.. فالسيد بالخيار: بين أن يجعل النفقة في كسبه، وبين أن يأخذ كسبه وينفق عليه من عنده. فإن أنفق عليه من عنده.. أخذ جميع كسبه. وإن اختار أن يجعل نفقته في كسبه، فإن كان كسبه وفق نفقته.. فلا كلام، وإن كان كسبه أكثر من نفقته.. كان الفضل للسيد، وإن كان الكسب أقل من نفقته.. كان على السيد تمام نفقته. ويجب على السيد نفقة العبد من غالب قوت البلد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «للمملوك طعامه

فرع المملوك الطاهي لسيده

وكسوته بالمعروف» . و (المعروف) : هو ما يقتاته أهل البلد. ولا يعتبر بما يأكله السيد؛ لأن السيد قد يأكل أعلى من قوت البلد، وقد يرضى لنفسه بدون قوت البلد. فإن قيل: فقد روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون» . فالجواب: أن هذا خرج جواباً على سؤال سائل، وكان السائل من العرب، وكان طعامهم ولباسهم من جنس واحد. وأما قدر طعامه: فاختلف أصحابنا فيه: فقال أكثرهم: يجعل قدر قوته حكم الغالب، ولا يؤخذ بالشاذ النادر؛ لأنه قد يكون مملوكاً يخرج عن العادة بكثرة الأكل، وقد يكون خارجاً من العادة بقلة الأكل، فيعتبر الغالب ويقال: الغالب في العادة أن قوت هذا في اليوم كذا وكذا، فيدفع إليه. وقال ابن الصباغ: عندي: إذا كان لا يكفيه الغالب واعترف السيد بذلك.. أن يلزمه ما يكفيه، فإذا كان يكفيه أقل من الغالب.. لم يلزمه أن يدفع إليه إلا قدر كفايته؛ لأن العبد لا طريق له إلى تحصيل شيء إلا من جهة كسبه، وكسبه لسيده. [فرع المملوك الطاهي لسيده] وإن كان المملوك يلي إصلاح طعام سيده.. فيستحب للسيد أن يجلسه معه ويطعمه معه منه، أو يطعمه منه؛ لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كفى أحدكم خادمه طعامه، حره ودخانه.. فليدعه، فليجلسه معه، فإن أبى.. فليروغ له لقمة أو

فرع كسوة المملوك

لقمتين» ، ولأن الإنسان إذا ولي طعاماً.. اشتهى أن يأكل منه، فاستحب أن يطعم منه، كما يستحب لمن قسم الميراث أن يرزق من حضر القسمة منها. وأيهما أفضل؟ فيه وجهان: أحدهما: أن الأفضل أن يجلسه معه ليأكل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ به، ولأنه إذا أكل معه أكل قدر كفايته. و [الثاني] : منهم من قال: ليس أحدهما أفضل من الآخر، بل إن شاء.. أجلسه معه، وإن شاء.. أطعمه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيره: بين أن يجلسه وبين أن يروغ له لقمة أو لقمتين، و (الترويغ) : أن يرويه بالدهن والدسم. والأول أصح. [فرع كسوة المملوك] ويجب للملوك كسوته؛ للخبر، وتجب الكسوة من غالب كسوة أهل البلد. فإن كان له جماعة عبيد.. لم يستحب له أن يفضل بعضهم على بعض في الكسوة؛ لأن المقصود منهم جميعاً هو الخدمة. وإن كان له جماعة إماء، فإن لم يتسر واحدة منهن.. لم يستحب له أن يفاضل بينهن في الكسوة، كما قلنا في العبيد. وإن تسرى بعضهن.. فهل يستحب له أن يفضل من تسراها بالكسوة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يستحب له تفضيلها بالكسوة، كما لا يستحب له تفضيلها بالطعام. والثاني: يستحب له تفضيلها بالكسوة، وهو الأصح؛ لأن العرف أن الجارية التي يتسراها تفضل في الكسوة، ولأن غرضه تجميل من يريدها للاستمتاع.

فرع تكليف المملوك بما يقدر عليه

[فرع تكليف المملوك بما يقدر عليه] ولا يكلف عبده وأمته من العمل إلا ما يطيقان الدوام عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق» . قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (يعني: إلا ما يطيق الدوام عليه، لا ما يطيق يوماً أو يومين أو ثلاثة، ثم يعجز) . ولأن ما لا يمكنه الدوام عليه.. يلحقه الضرر بفعله، فلم يكلفه إياه. وإن أتت أمته بولد من نكاح أو زناً، فإن كان لبنها وفق ولدها.. لم يكن للسيد أن يؤاجرها للرضاع؛ لأنها إذا أرضعت مع ولدها آخر.. أضر بولدها، وذلك لا يجوز، وإن كان لبنها فوق كفاية ولدها، أو كان ولدها يستغني عن لبنها بالطعام والشراب.. فللسيد أن يسترضعها فيما لا يحتاجه ولدها؛ لأنه لا ضرر على ولدها بذلك. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فطام ولد أمته حق للسيد، وله أن يفطمه قبل الحولين إذا لم يضر بالولد، بخلاف ولد الزوجين، فإنه لا يفطم قبل الحولين إلا باتفاقهما، وأما بعد الحولين: فمن طلب الفطام منهما أجيب إليه. [فرع طلب العطاء والإتاوة من أجر العبد] وإن أراد السيد أن يخارج عبده أو أمته، فقال السيد: خارجتك على أن تعطيني كل يوم من كسبك كذا، والباقي لك، ورضي العبد بذلك.. نظرت: فإن كان كسبه يفي بما جعله السيد لنفسه وبنفقة العبد.. جاز ذلك، ولم يكره؛ لأنه إذا فعل ذلك.. حرص العبد في الكسب، وربما حصل له أكثر من المعتاد، فيوسع على نفسه في النفقة. وإن كان كسبه لا يفي بهما في العادة.. لم يكن له ذلك، ومنعه السلطان من

مسألة النفقة على البهيمة والحيوان

ذلك؛ لما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال في خطبته: (لا تكلفوا الصغير الكسب، فإنكم متى كلفتموه الكسب.. سرق، ولا تكلفوا الأمة غير ذات الصنعة الكسب، فإنكم متى كلفتموها الكسب.. كسبت بفرجها) . وإن طلب السيد أن يخارج عبده، وامتنع العبد، أو طلب العبد المخارجة وامتنع السيد.. لم يجبر الممتنع منهما على المخارجة؛ لأن المخارجة معاوضة، فلم يجبر الممتنع منهما عليها، كالكتابة. [مسألة النفقة على البهيمة والحيوان] ومن ملك بهيمة.. لزمه القيام بعلفها، سواء كانت مما يؤكل أو مما لا يؤكل؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اطلعت في النار ليلة أسري بي، فرأيت امرأة فيها، فسألت عنها، فقيل: إنها ربطت هرة، فلم تطعمها ولم تسقها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت، فعذبها الله تعالى بذلك» . «واطلعت في الجنة، فرأيت امرأة مومسة - يعني: زانية - فسألت عنها، فقيل: إنها مرت بكلب يلهث من العطش، فأرسلت إزارها في بئر، ثم عصرته في حلقه، فغفر الله لها بذلك» . ولأن للبهائم حرمة بنفسها؛ ولهذا: (نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن تعذيب الحيوان) ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل كبد حرى أجر» . فلو قلنا: لا يجب الإنفاق عليها.. أسقطنا حرمتها.

فإن كان في المصر.. لزمه الإنفاق على علفها. وإن كان في الصحراء، فإن كان فيها من الكلأ ما يقوم بكفايتها، فخلاها للرعي.. لم يجب عليه العلف؛ لأنها تجتزئ بذلك. وقد أومأ الشافعي إلى: أن من البهائم من لا تجتزئ بالكلأ، ولا بد لها من العلف. فقال أصحابنا البغداديون: هذا على عادة أهل مصر؛ لأن صحاريها يقل فيها العلف. وقال الخراسانيون: إن كانت البهيمة مشقوقة الشفة العليا.. فإنها تجتزئ بالرعي عن العلف، وإن كانت غير مشقوقة الشفة العليا.. فلا تجتزئ بالرعي، ولا بد من علفها. وإن لم يكن بها من الكلأ ما يقوم بها.. لزمه من العلف ما يقوم بها، فإن لم يعلفها، فإن كانت مما يؤكل.. جاز له أن يذبحها، وله أن يبيعها، وإن كانت مما لا يؤكل.. كان له بيعها، فإن امتنع من ذلك.. أجبره السلطان على علفها، أو بيعها، أو ذبحها إن كانت مما يؤكل، فإن لم يعلفها ولا باعها.. باعها عليه السلطان، أو أكراها وأنفق عليها من كرائها. وقال أبو حنيفة: (لا يجبره السلطان على ذلك، بل يأمره به، كما يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر) . ودليلنا: أنها نفقة واجبة، فإذا امتنع منها.. أجبره السلطان عليها، كنفقة العبد. وإن كان للبهيمة ولد.. لم يحلب من لبنها إلا ما فضل عن لبن ولدها؛ لأن لبنها غذاء لولدها، فلا يجوز منعه منه، كما قلنا في ولد الجارية. وبالله التوفيق والعون

باب الحضانة

[باب الحضانة] إذا بانت الزوجة، وبينهما ولد.. نظرت: فإن كان بالغاً رشيداً.. لم يجبر على الكون مع أحدهما، بل يجوز له أن ينفرد عنهما، إلا أن المستحب له: أن لا ينفرد عنهما؛ لئلا ينقطع بره وخدمته عنهما، وهل يكره له الانفراد عنهما؟ ينظر فيه: فإن كان رجلا.. لم يكره له الانفراد عنهما. وإن كانت امرأة، فإن كانت بكراً.. كره لها الانفراد عنهما؛ لأنها لم تجرب الرجال، ولا يؤمن أن تخدع، وإن كانت ثيباً فارقها زوجها.. لم يكره لها الانفراد عنهما؛ لأنها قد جربت الرجال، ولا يخشى عليها أن تخدع. وقال مالك: (يجب على الابنة أن لا تفارق أمها حتى تتزوج ويدخل بها زوجها) . دليلنا: أنها إذا بلغت رشيدة.. فقد ارتفع الحجر عنها، فكان لها أن تنفرد

مسألة لا حضانة لرقيق ومعتوه ونحوه

بنفسها، ولا اعتراض عليها، كما لو تزوجت، ثم بانت عنه. وإن كان الولد صغيراً لا يميز - وهو: الذي له دون سبع سنين - أو كبيراً إلا أنه مجنون أو مشتبه العقل.. وجبت حضانته؛ لأنه إذا ترك منفرداً.. ضاع. [مسألة لا حضانة لرقيق ومعتوه ونحوه] ولا تثبت الحضانة لرقيق؛ لأنه لا يقدر عليها مع خدمة مولاه، ولا تثبت لمن لم تكمل فيه الحرية؛ لأنه ناقص بالرق. فإن زوج الرجل أمته فأتت بولد، أو زنت فأتت بولد.. فالولد مملوك لسيد الأمة، فإن تركه مع أمه.. فلا كلام، وإن أراد انتزاعه منها وتسليمه إلى غيرها.. فهل له ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأنه ملكه، يصنع به ما شاء. والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه لما لم يكن له أن يفرق بينهما في البيع لئلا يضر بها.. لم يكن له ذلك في الحضانة. ولا تثبت الحضانة لمعتوه ولا لمجنون؛ لأنه لا يصلح للحضانة. ولا تثبت الحضانة لفاسق؛ لأنه لا يؤمن أن ينشئ الولد على طريقته. وإن كان أحد الأبوين مسلماً.. فالولد للمسلم، ولا تثبت عليه الحضانة للكافر. وقال أبو سعيد الإصطخري: تثبت للكافر على المسلم؛ لما «روى عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه، [عن جده] : أنه قال: أسلم أبي، وأبت أمي أن تسلم، فاختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " يا غلام، اذهب إلى أيهما شئت، إن شئت.. إلى أبيك، وإن شئت.. إلى أمك "، فتوجهت إلى أمي، فلما رآني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. سمعته يقول: " اللهم اهده "، فملت إلى أبي، فقعدت في حجره» .

فرع زواج المطلقة يسقط حقها من الحضانة

والمذهب الأول؛ لأن الحضانة لحظ الولد، ولا حظ له في حضانة الكافر؛ لأنه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه. وأما الحديث: فغير معروف عند أهل النقل، وإن صح.. فيحتمل أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه يختار أباه، فلهذا خيره، فيكون ذلك خاصاً لذلك الولد دون غيره. [فرع زواج المطلقة يسقط حقها من الحضانة] وإذا تزوجت المرأة.. سقط حقها من الحضانة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة. وقال الحسن البصري: لا يسقط حقها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23] [النساء: 23] ولـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج أم سلمة ومعها بنتها زينب، فكانت عندها» . «وروى ابن عباس: أن علياً وجعفراً ابني أبي طالب، وزيد بن حارثة تنازعوا في حضانة ابنة حمزة بن عبد المطلب، واختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال جعفر: أنا أحق بها، أنا ابن عمها، وخالتها تحتي. وقال علي: أنا أحق بها؛ أنا ابن عمها، وابنة

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحتي - يعني: ابنة ابن عمها - وقال زيد: أنا أحق بها؛ لأنها ابنة أخي - وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخى بين حمزة وزيد بن حارثة - فقضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لخالتها، وقال: " الخالة أم ". فقضى بها للخالة وهي مزوجة» . ودليلنا: ما روى «عبد الله بن عمرو بن العاص: أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وإن أباه طلقني، ويريد أن ينزعه مني، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنت أحق به ما لم تنكحي» . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأم أحق بولدها ما لم تتزوج» . ولأنها إذا تزوجت.. استحق الزوج الاستمتاع بها إلا في وقت العبادة، فلا تقوم بحضانة الولد. وأما الآية: فالمراد بها: إذا لم يكن هناك أب يستحق الحضانة، أو كان ورضي. وأما زينب وابنة حمزة: فلأنه لم يكن هناك من النساء من يستحق الحضانة خالية من الأزواج. إذا ثبت هذا: فإن طلقت الزوجة طلاقاً بائناً أو رجعياً.. عاد حقها من الحضانة.

مسألة ثبوت الحضانة للوارثين من ذوي الأرحام

وقال مالك: (لا يعود حقها من الحضانة بحال) . وقال أبو حنيفة، والمزني: (إن كان الطلاق بائناً.. عاد حقها، وإن كان رجعياً.. لم يعد حقها؛ لأن الزوجية باقية بينهما) . ودليلنا: أن حقها إنما سقط باشتغالها عن الحضانة باستمتاع الزوج، ولا يملك الزوج الاستمتاع بها بعد الطلاق البائن والرجعي، فعاد حقها من الحضانة. وإن أعتق الرقيق، أو عقل المجنون والمعتوه، أو عدل الفاسق، أو أسلم الكافر.. عاد حقهم من الحضانة؛ لأن الحضانة زالت لمعنى، وقد زال ذلك المعنى، فعادت الحضانة. [مسألة ثبوت الحضانة للوارثين من ذوي الأرحام] ولا تثبت الحضانة لمن لا يرث من الرجال من ذوي الأرحام، كابن الأخت وابن الأخ للأم، وأبي الأم، والخال، وابن العم للأم؛ لأنه ذكر لا يرث، فأشبه الأجنبي. قال الشيخ أبو إسحاق: لا تثبت الحضانة لابن البنت. وهذا الذي قاله لا يتصور في حضانة الصغير، وإنما يتصور في حضانة الكبير المجنون؛ لأنا قد قلنا: تجب حضانته كما تجب حضانة الصغير. ولا تثبت الحضانة لمن أدلى من النساء والرجال بهؤلاء الرجال؛ لأن الحضانة إذا لم تثبت لهم بأنفسهم.. لم تثبت لمن أدلى بهم. [مسألة الأم تقدم للحضانة مع جماعة النساء] وإذا اجتمع النساء من القرابة، وهن يصلحن للحضانة، ولا رجل معهن، وتنازعن في حضانة المولود. قدمت الأم على غيرها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأم أحق بولدها ما لم تتزوج» ، ولأنها أقرب إليه وأشفق عليه.

فإن عدمت الأم.. انتقلت الحضانة إلى أمها، ثم إلى أم أمها وإن علت. فأما أمهات أبيها.. فلا مدخل لهن في الحضانة. فإن عدمن الجدات من قبل الأم.. ففيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (تنتقل الحضانة إلى الأخوات والخالات، ويقدمن على أمهات الأب؛ لأنهن يدلين بالأم، وأمهات الأب يدلين بالأب، والأم تقدم على الأب، فقدم من يدلي بها على من يدلي بالأب) . فعلى هذا: تكون الحضانة للأخت للأب والأم، ثم للأخت للأم، ويقدمان على الخالة؛ لأنهما أقرب؛ لكونهما ركضا مع الولد في رحم واحد، ثم تنتقل إلى الخالة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخالة أم» . فتكون الحضانة للخالة للأب والأم، ثم للخالة للأب، ثم للخالة للأم. فإذا عدمن الأخوات للأب والأم، أو للأم، والخالات.. انتقلت الحضانة إلى أم الأب، ثم إلى أمهاتها الوارثات، ثم تنتقل إلى الأخت للأب، ثم إلى العمة، وتقدمان على أمهات الجد؛ لأن الأب أقرب من الجد، فقدم من يدلي به على من يدلي بالجد، ثم تنتقل إلى أمهات الجد الوارثات، الأقرب فالأقرب. هكذا ذكر الشيخ أبو إسحاق. وقال ابن الصباغ، والطبري: تقدم الأخت للأب على الأخت للأم على هذا أيضاً. و [الثاني] : قال في الجديد: (إذا عدم من يصلح للحضانة من أمهات الأم.. انتقلت الحضانة إلى أمهات الأب الوارثات، فإن عدم من يصلح لها من أمهات الأب.. انتقلت إلى أمهات الجد، ثم إلى أمهات أبي الجد. فإن عدم من يصلح لها من الجدات من قبل الأب.. انتقلت إلى الأخوات) . وبه قال أبو حنيفة؛ وهو الأصح؛ لأنهن جدات وارثات، فقدمن على الأخوات، كالجدات من قبل الأم. ويقدمن الأخوات على الخالات والعمات؛ لأنهن أقرب، فتكون الحضانة للأخت

مسألة من يقدم للحضانة من الرجال

للأب والأم، ثم للأخت للأب، ثم للأخت للأم؛ لأنهن أقرب. وقال أبو حنيفة، والمزني، وأبو العباس ابن سريج: (تقدم الأخت للأم على الأخت للأب؛ لأنها تدلي بالأم، والأخت للأب تدلي بالأب، فقدم من يدلي بالأم على من يدلي بالأب، كما تقدم الأم على الأب) . والمذهب الأول؛ لأن الأخت للأب تقوم مقام الأخت للأب والأم في التعصيب، فقامت مقامها في الحضانة. ثم تنتقل إلى الخالات، ويقدمن على العمات؛ لأنهن يدلين بالأم، فتكون الحضانة للخالة للأب والأم، ثم للخالة للأب، ثم للخالة للأم، ثم للعمة للأب والأم، ثم للعمة للأب، ثم للعمة للأم. وعلى قول من قدم الأخت للأم على الأخت للأب: تقدم الخالة والعمة للأم على الخالة والعمة للأب. والذي يقتضي المذهب: أن الحضانة لا تنتقل إلى الخالات إلا بعد عدم بنات الأخ وبنات الأخت؛ لأنهن أقرب، ولا تنتقل الحضانة إلى العمات إلا بعد عدم بنات الخالات. [مسألة من يقدم للحضانة من الرجال] وإن اجتمع الرجال ولا نساء معهم، وهم من أهل الحضانة.. قدم الأب على غيره من الرجال؛ لأن له ولاية عليه، ثم تنتقل إلى آبائه الوارثين الأقرب فالأقرب؛ لأنهم يلون عليه بأنفسهم، فقاموا مقام الأب، وهل تثبت الحضانة لغيرهم من العصبات؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا تثبت لهم الحضانة؛ لأنه لا معرفة لهم في

الحضانة، ولا يلون على ماله بأنفسهم، فلم يكن لهم حق في الحضانة، كالأجانب، إلا أن لهم تأديب الولد وتعليمه. و [الثاني] : منهم من قال: تثبت لهم الحضانة، وهو المنصوص؛ لأن علياً وجعفراً ادعيا حضانة ابنة حمزة - لكونهما ابني عم - بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهما دعواهما بذلك. وروى عمارة الجرمي قال: (خيرني علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين عمي وأمي) . ولأن له تعصيباً بالقرابة.. فثبت لها الحضانة، كالأب، والجد. فعلى هذا: إذا عدم الأجداد.. قال الشيخ أبو إسحاق: انتقلت الحضانة إلى الأخ للأب والأم، ثم إلى الأخ للأب، ثم إلى ابن الأخ للأب والأم، ثم إلى ابن الأخ للأب، ثم إلى العم للأب والأم، ثم إلى العم للأب، ثم إلى ابن العم. وقال ابن الصباغ: تنتقل إلى الأخ للأب والأم، ثم إلى الأخ للأب، ثم إلى الأخ للأم. قال: وعلى قول أبي العباس - حيث قدم الأخت للأم على الأخت للأب - يكون هاهنا وجهان: أحدهما: لا يقدم الأخ للأم على الأخ للأب؛ لأنه ليس من أهل الحضانة بنفسه، وإنما يستحق بقرابته بالأم، والأخ للأب أقوى، فقدم عليه. والثاني: يقدم لإدلائه بالأم، وهي أقوى من الأب، فقدم من يدلي بها على من يدلي بالأب. ثم بنو الإخوة وإن سفلوا، ثم العم، ثم بنو العم، ثم عم الأب، ثم بنوه.

مسألة يقدم حق الأم وأمهاتها على غيرهن من النساء والرجال

[مسألة يقدم حق الأم وأمهاتها على غيرهن من النساء والرجال] ] : قال الشافعي: (ولا حق لأحد مع الأب غير الأم وأمهاتها) . وجملة ذلك: أنه إذا اجتمع الرجال والنساء وهم من أهل الحضانة.. نظرت: فإن اجتمع الأب والأم.. قدمت الأم على الأب؛ لما روى عبد الله بن عمرو: «أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنت أحق به ما لم تنكحي» ، ولأن الأم أشفق عليه، وولادتها له من طريق القطع، فقدمت عليه. وإن اجتمع الأب مع أم الأم وإن علت.. قدمن على الأب؛ لأنهن يقمن مقام الأم في تحقق الولادة، ومعرفة الحضانة، فقدمن على الأب، كالأم. وإن امتنعت الأم من الحضانة ولها أم.. ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول ابن الحداد -: أن الحضانة تنتقل إلى الأب، ولا تنتقل إلى أم الأم؛ لأنه لا حق لأم الأم مع بقاء الأم، فلم تنتقل إليها، كالولي إذا عضل عن النكاح.. فإن الولاية لا تنتقل إلى من دونه من الأولياء. والثاني: أن الحضانة تكون لأم الأم، وهو اختيار القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ؛ لأنه لا حق للأب في الحضانة مع وجود أم الأم، فإذا امتنعت الأم من الحضانة.. انتقلت إلى أمهاتها، كما لو ماتت أو فسقت أو جنت، وتخالف ولاية النكاح، فإن الحاكم يقوم مقام العاضل، وهنا لا مدخل للحاكم في الحضانة بنفسه، فلم يقم مقام غيره. وإن اجتمع الأب وأم نفسه.. قدم الأب. ومن أصحابنا من قال: تقدم أم الأب وأمهاتها عليه؛ لأن حضانة النساء أصلح

فرع تعيين من له الحضانة بحضرة الأب

للصغير وأوفق له. قال القاضي أبو الطيب: وهذا يقتضي أن تكون حضانة الأخوات والخالات والعمات أولى من الأب، وهو خلاف النص؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (ولا حق لأحد مع الأب غير الأم وأمهاتها) ، ولأنها تدلي به، فلم تقدم عليه. وإن اجتمع الأب مع الأخت للأم أو مع الخالة.. ففيه وجهان: أحدهما: تقدمان على الأب، وهو قول أبي العباس، وأبي سعيد الإصطخري، وأبي حنيفة؛ لأن لهما معرفة بالحضانة، وتدليان بالأم، فقدمتا على الأب، كأمهات الأم. والثاني - وهو المنصوص -: (أن الأب يقدم عليهما؛ لأن له ولادة وإرثاً، فقدم عليهما، كالأم) . [فرع تعيين من له الحضانة بحضرة الأب] وإن اجتمع الأب وأم الأب والأخت للأم أو الخالة، فإن قلنا بقوله القديم: (إن أم الأب تسقط بالأخوات والخالات) .. بنينا هاهنا على الوجهين في الأب: هل يسقط الأخت للأم والخالة؟ إن قلنا: إنه يسقطهما.. كانت الحضانة للأب. وإن قلنا: إنهما يقدمان عليه.. كانت الحضانة للأخت للأم، ثم للخالة، ثم للأب، ثم لأمه. وإن قلنا بقوله الجديد: (أن أم الأب تسقط الأخوات والخالات) .. بنينا على الوجهين أيضاً في الأب إذا اجتمع مع أم نفسه. فإن قلنا: تقدم عليه.. كانت الحضانة لها. وإن قلنا: إنه يسقطها.. بنيت على الوجهين في الأب إذا اجتمع مع الأخت للأم أو الخالة. فإن قلنا بالمنصوص: (أن الأب يسقطهما) .. كانت الحضانة للأب؛ لأنه يسقطهما ويسقط أم نفسه، فكانت الحضانة له.

وإن قلنا بقول أبي العباس، وأبي سعيد الإصطخري: إنهما يسقطان الأب.. فهاهنا وجهان: [أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: تكون الحضانة للأب؛ لأن الأخت والخالة تسقطان بأم الأب، وأم الأب تسقط بالأب، فصارت الحضانة له، وقد يحجب الشخص غيره من شيء ثم يحصل ذلك الشيء لغير الشخص الحاجب، كما تحجب الأخوات الأم من الثلث إلى السدس ويكون للأب. و [الثاني] : قال أبو العباس: تكون الحضانة للأخت أو الخالة؛ لأن الأب يسقط أم نفسه، والأب يسقط بالأخت أو بالخالة، فبقيت الحضانة لهما. وإن اجتمع الأب والأخت للأب والأم، فإن قلنا: إن الأب يقدم على الخالة.. قدم الأب على الأخت للأب والأم، وإن قلنا: إن الخالة تقدم على الأب.. فهاهنا وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد، عن أبي سعيد الإصطخري: أحدهما: أن الأخت أحق؛ لأن الأخت تسقط الخالة، والخالة تسقط الأب، فإذا سقط الأب مع من تسقطه الأخت.. فلأن يسقط معها أولى. والثاني - وهو الأصح -: أن الأب أحق؛ لأن الأخت تدلي به، فلا يجوز أن يكون المدلي أولى من المدلى به. وإن اجتمع أب وأخت لأب وخالة، فإن قلنا: إن الأب يسقط الخالة.. كانت الحضانة للأب، وإن قلنا: إن الخالة تسقط الأب.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الحضانة للأخت؛ لأن الأخت تسقط الخالة، والأب يسقط بالخالة، فإذا أسقطته الخالة.. فلأن يسقطه من يسقط الخالة أولى. والثاني: أن الحضانة للأب؛ لأن الأخت تسقط الخالة، والأخت تسقط بالأب؛ لأنها تدلي به، فتصير الحضانة للأب، ولا يمتنع أن يسقط الشخص غيره من شيء ثم يحصل ذلك الشيء لغيره، كما قلنا في حجب الإخوة للأم عن الثلث إلى السدس.

فرع من يقدم على الأب يقدم على الجد

والثالث: أن الحضانة للخالة؛ لأن الخالة تسقط الأب، والأب يسقط الأخت، فإذا سقطا.. بقيت الحضانة للخالة. [فرع من يقدم على الأب يقدم على الجد] وإن لم يكن أب، واجتمع الجد، والأم، وأم الأم وإن علت.. قدمن على الجد، كما يقدمن على الأب. وإن اجتمع الجد وأم الأب.. قدمت عليه؛ لأنها مساوية في الدرجة، ولها ولادة، فقدمت عليه، كما تقدم الأم على الأب. وإن اجتمع الجد والأخت للأم أو الخالة.. ففيه وجهان، كما لو اجتمعا مع الأب. وإن اجتمع الجد والأخت للأب.. ففيه وجهان: أحدهما: يقدم عليها؛ لأن له ولادة وتعصيباً، فقدم عليها، كالأب. والثاني: تقدم عليه؛ لأنها تساويه في الولادة، وتنفرد بمعرفة الحضانة، فقدمت عليه، كما قدمت الأم على الأب. [فرع تساوي الرجال والنساء في الحضانة غير الأب والجد] وإن اجتمع رجل من العصبات غير الأب والجد مع من يساويه في الدرجة من النساء كالأخ والأخت، والعم والعمة، وابن العم وابنة العم، وقلنا: إن لهم حقاً في الحضانة.. فأيهما أحق بالتقديم؟ فيه وجهان: أحدهما: أن الرجل أحق بالحضانة؛ لأنه أحق بتأديبه وتعليمه، فكان أحق بحضانته. والثاني: أن المرأة أحق بالحضانة؛ لأنها تساويه في الدرجة، وتنفرد بمعرفة

فرع ثبوت الحضانة للخنثى

الحضانة، فقدمت عليه، كما قدمت الأم على الأب. وإن اجتمع شخصان في درجة واحدة، كالأختين.. أقرع بينهما؛ لأنهما لا مزية لإحداهما على الأخرى. [فرع ثبوت الحضانة للخنثى] قال القاضي: إذا كان لطفل أخت لأب وأم، وخنثى لأب وأم.. فالحضانة للأنثى دون الخنثى. وإن كان له أخت لأب، وخنثى لأب وأم.. ففيه وجهان: أحدهما: أن الخنثى أولى. والثاني: أن الأخت أولى. وإن اجتمع خنثيان: أحدهما خال، والآخر عم.. فالحضانة للخال؛ لأنه لما تقابلت أحوالهما.. قوي الخال لقوة إدلائه بالأم؛ لأن الغالب أن أحكام الخنثى حكم المرأة. فإن عدم من تصلح للحضانة من النساء والعصبات من الرجال، وهناك رجل من رجال ذوي الأرحام.. ففيه وجهان: أحدهما: تثبت له الحضانة؛ لأن الحضانة لحظ الصغير، وهو أشفق عليه من الأجنبي. والثاني: أنه لا حق له في الحضانة، بل يستأجر السلطان من يراه يصلح لها؛ لأنه لا حق له في الحضانة في الأصل، فكانت إلى السلطان، كالميراث. والمستحب للسلطان: أن يقيم لها من يصلح لها منهم؛ لأنهم أشفق عليه من غيرهم.

مسألة ثبوت خيار ابن السبع لأحد أبويه

وإن ثبتت الحضانة لشخص وكان غائباً.. كانت الحضانة لمن بعده في الدرجة؛ لأن الغائب بمنزلة المعدوم، فإذا حضر الغائب نقل الصغير إليه؛ لأن الحضانة له، ولم يسقط حقه بغيبته. [مسألة ثبوت خيار ابن السبع لأحد أبويه] وإن بانت المرأة من زوجها في حال الحياة، وبينهما ولد له سبع سنين فما زاد وهو مميز، وتنازع الأبوان فيمن يكون عنده.. فإنه يخير بينهما، فإذا اختار أحدهما.. كان عنده. وقال أبو حنيفة، ومالك: (لا يخير بينهما) ، إلا أن أبا حنيفة يقول: (إن كانت بنتاً.. فالأم أحق بها إلى أن تبلغ، وإن كان ابناً.. فالأم أحق به إلى أن يبلغ حداً يأكل بنفسه، ويشرب بنفسه، ويستنجي بنفسه، ويلبس بنفسه، ثم الأب أولى به إلى أن يبلغ) . ومالك يقول: (الأم أحق بالبنت إلى أن تتزوج ويدخل بها زوجها، وهي أحق بالابن إلى أن يبلغ) . وقال أحمد: (إن كان ذكراً.. خير بينهما، وإن كان أنثى.. لم تخير، بل الأم أحق بها) . دليلنا: ما روي عن أبي هريرة: «أنه خير غلاماً بين أبويه» .

فرع اختار الوليين أو لم يختر أقرع بينهما

وروى أبو داود في " سننه " [2277] «عن أبي هريرة قال: (كنت جالساً عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتته امرأة، فقالت: يا رسول الله، إن هذا ولدي، وإنه نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة، وإن أباه يريد أن يذهب به. فخيره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، فأخذ بيد أمه، فانطلقت به» . وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خير غلاماً بين أبويه) . وروي عن عمارة الجرمي: أنه قال: (خيرني علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين أمي وعمي، وكنت ابن سبع أو ثمان سنين) . ولا مخالف لهم في الصحابة، فعلم أنه إجماع. وإذا ثبت هذا في الذكر.. قسنا الأنثى عليه. ولا يثبت التخيير بينهما إلا إذا كان كل واحد منهما يصلح للحضانة، فإن كان أحدهما مملوكاً، أو معتوهاً، أو فاسقاً، أو كافراً.. فلا تخيير بينه وبين الآخر؛ لأنه لا حق له في كفالته. [فرع اختار الوليين أو لم يختر أقرع بينهما] وإن خير بينهما، فاختارهما معاً، أو لم يختر واحداً منهما.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، ولا يمكن اجتماعهما على كفالته، ولا قسمته بينهما، فأقرع بينهما.

وإذا خير الولد بين الأبوين، فاختار أحدهما.. نظرت: فإن كان أنثى واختارت الأم.. كانت عندها ليلاً ونهاراً، وإذا أحب الأب أن يزورها وينظر إليها.. جاء إليها من غير أن يتبسط في بيت الزوجة. وإن كان ذكراً.. كان عند أمه بالليل، وبالنهار يأخذه الأب، ويسلمه إلى المكتب أو إلى أهل الصنع ليتعلم؛ لأن الأب أعلم بمصلحته في ذلك. وإن اختار الولد الأب.. كان عند الأب ليلاً ونهاراً، ذكراً كان أو جارية، فإن أرادت الأم نظره، فإن كان الولد جارية.. جاءت الأم إليها؛ لأنهما - وإن كانتا عورتين - فالأم أولى بالخروج؛ لأنه لا يخاف عليها أن تخدع، والبنت يخاف عليها ذلك، ولا تطيل الإقامة في بيت الزوج، ولا تخلو بالزوج. وإن كان ذكراً.. أرسله الأب إلى أمه لتنظر إليه، ولا يكلفها المجيء إليه. وإن مرض الولد عند الأب.. كانت الأم أحق بتمريضه؛ لأنه بالمرض صار كالصغير في الحاجة إلى من يقوم به. قال الشيخ أبو إسحاق: وتمرضه في بيتها. وقال ابن الصباغ: تجيء إليه وتمرضه، ولا تخلو مع الزوجة. وإن مرض أحد الأبوين، والولد عند الآخر.. لم يمنع الولد من زيارة المريض منهما؛ لأن في المنع من ذلك قطع الرحم. وإن اختار الولد أحدهما.. سلم إليه، فإن اختار الآخر.. حول إليه، فإن اختار الأول.. أعيد إليه؛ لأن هذا تخيير شهوة وليس بلازم، بدليل: أنه يصح من الصغير، ولأن ذلك جعل لحظه، وقد يرى الحظ لنفسه في الإقامة عند أحدهما زمانا وعند الآخر في الزمن الآخر.

فرع تخيير الصغير بين الجد والأم

قال الشيخ أبو حامد: فعلى هذا أبداً: متى اختار أن يتحول إلى الآخر.. حول إليه. وأما الجويني: فقال: إذا أكثر من ذلك.. لم يلتفت إليه. [فرع تخيير الصغير بين الجد والأم] وإن لم يكن له أب، وله جد وأم.. خير بينهما كما يخير بين الأب والأم. فإن لم يكن له أب ولا جد، فإن قلنا: لا حق لسائر العصبات غير الأب والجد في الحضانة.. ترك الولد عند الأم. وإن قلنا: إن لهم حقاً في الحضانة.. نظرت في الولد: فإن كان ذكراً خير بين الأم وبين سائر العصبات؛ لما ذكرناه من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وإن كان الولد جارية، فإن كان العصبة محرماً لها، كالأخ وابن الأخ والعم.. خيرت بينه وبين الأم، وإن كان غير محرم لها، كابن العم.. لم تخير بينه وبين الأم؛ لأنه لا تجوز له الخلوة بها، فلم يجز أن تسلم إليه. قال ابن الصباغ: فإن كانت له بنت.. سلمت إلى بنته. [مسألة الأم بائنة وأراد أحد الأبوين السفر بالولد] إذا بانت المرأة من زوجها وبينهما ولد صغير، وأراد أحد الأبوين السفر إلى بلد.. نظرت: فإن كان السفر لحاجة، ثم يعود.. فالمقيم أحق بالولد؛ لأن في السفر إضراراً به. وهكذا ذكر الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ. وذكر الشيخ أبو حامد: إذا سافر الأب لحاجة، فإن كان الولد صغيراً.. ترك مع الأم، وإن كان مميزاً.. خير بينهما، فإن اختار الأب.. لم يسافر به، وإنما يسلمه إلى من يقوم به.

وإن كان السفر للنقلة.. نظرت: فإن كان الطريق الذي يسافر إليه مخوفاً.. فالمقيم منهما أحق بالولد؛ لأن في السفر إضراراً به. وإن كان الطريق آمناً، والسفر مما تقصر فيه الصلاة.. فالأب أحق بالولد، سواء كان المسافر الأب أو المقيم، وسواء كان الولد مميزاً أو غير مميز، وبه قال مالك، وأحمد. وقال أبو حنيفة: (إن كان الأب هو المنتقل.. فالأم أحق به، وإن كانت الأم هي المنتقلة، فإن انتقلت إلى بلد.. فهي أحق به، وإن انتقلت من قرية إلى قرية.. فالأب أحق به) . دليلنا: أن في كون الولد مع الأم حظاً للولد في الحضانة، وفي كونه مع الأب الحظ له في حفظ نسبه وتأديبه وتعليمه، ومراعاة حفظ النسب والتعليم أولى من مراعاة الحضانة، وغير الأم يقوم مقامها في الحضانة، ولا يقوم غير الأب مقامه في حفظ النسب. وإن كان السفر للنقلة، أو إلى مسافة لا تقصر فيها الصلاة.. فذكر الشيخان: أن حكمهما في حضانة الصغير وتخيير المميز حكم المقيمين؛ لأنهما يستويان في انتفاء أحكام السفر، ومراعاة الأب له ممكنة. وقال ابن الصباغ: حكمهما حكم السفر إلى مسافة القصر؛ لأنه لا يمكنه تأديبه وتعليمه في ذلك. وإن كان الأب هو المسافر، فقال الأب: أسافر للنقلة، وقالت الأم: بل تسافر لحاجة.. فالقول قول الأب مع يمينه؛ لأنه أعرف بما أراد. فإن سافر الأب إلى بلد للنقلة، وسافرت الأم معه إلى تلك البلد.. لم يسقط حقها من الحضانة. وإن سافر الأب ولم تسافر الأم معه، ورجع الأب.. عاد حقها؛ لأن حقها سقط لمعنى، وقد زال المعنى.

وإن ثبتت الحضانة لغير الأب من العصبات.. فحكمه حكم الأب فيما ذكرناه من السفر؛ لأنه يقوم مقام الأب في حفظ النسب، وتأديب الولد. وبالله التوفيق

كتاب الجنايات

[كتاب الجنايات] [باب تحريم القتل ومن يجب عليه القصاص ومن لا يجب]

كتاب الجنايات باب تحريم القتل، ومن يجب عليه القصاص ومن لا يجب القتل بغير حق حرام. والأصل فيه: الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] [الأنعام: 151] وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] [النساء: 92] . فأخبر: أنه ليس للمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ. وقَوْله تَعَالَى: {إِلا خَطَأً} [النساء: 92] لم يرد به: أن قتله خطأ يجوز، وإنما أراد: لكن إذا قتله خطأ.. فعليه الدية والكفارة. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] [النساء: 93] . وأما السنة: فما روى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق» .

وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعان على قتل امرئ مسلم ولو بشطر كلمة.. جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق» . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في قتل مؤمن لكبهم الله في النار» . وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أن أهل السماء وأهل

مسألة من قتل عامدا عليه القصاص

الأرض اشتركوا في قتل مؤمن.. لعذبهم الله عز وجل إلا أن لا يشاء ذلك» . وروى عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أول ما يحكم بين العباد يوم القيامة في الدماء» . وأما الإجماع: فإنه لا خلاف بين الأمة في تحريم القتل بغير حق. إذا ثبت هذا: فمن قتل مؤمناً متعمداً بغير حق.. فسق، واستوجب النار، إلا أن يتوب. وحكي عن ابن عباس: أنه قال: (لا تقبل توبة القاتل) . ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] [الفرقان: 68] إلى قوله: {إِلا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70] [الفرقان: 70] . ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التوبة تجب ما قبلها» . ولأن التوبة إذا صحت من الكفر.. فلأن تصح من القتل أولى. [مسألة من قتل عامداً عليه القصاص] وإذا قتل من يكافئه عامداً، وهو: أن يقصد قتله بما يقتل غالباً، فيموت منه.. وجب عليه القصاص؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] . وهذه الآية حجة لنا بلا خلاف؛ لأن من أصحابنا من يقول: شرع

من قبلنا شرع لنا إذا لم يتصل به نكير. ومن قال منهم: ليس بشرع لنا.. فإن الشرع قد ورد بثبوت حكم هذه الآية في حقنا؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للربيع بنت معوذ حين كسرت سن جارية من الأنصار: " كتاب الله القصاص» . وليس للسن ذكر في القصاص في الكتاب إلا في هذه الآية. وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] [البقرة: 178] .

وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] [البقرة: 179] . ومعنى ذلك: أن الإنسان إذا علم أنه يقتل إذا قتل.. لم يقتل، فكان في ذلك حياة لهما. وكانت العرب تقول في الجاهلية: القتل أنفى للقتل، فكان ما ورد به القرآن أحسن لفظاً وأعم معنى.

وقَوْله تَعَالَى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] [الإسراء: 33] و (السلطان) هاهنا: القصاص. وروى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق» . ولا يجب القصاص بـ ": (قتل الخطأ) ، وهو: أن يقصد غيره، فيصيبه، فيقتله؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» . ولا يجب القصاص في (عمد الخطأ) ، وهو: أن يقصد إصابته بما لا يقتل

مسألة لا قصاص على صبي ومجنون

غالباً، فيموت منه؛ لأنه لم يقصد القتل، فلم تجب عليه عقوبة القتل، كما لا يجب حد الزنا على الواطئ بالشبهة. [مسألة لا قصاص على صبي ومجنون] ولا يجب القصاص على الصبي والمجنون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . ولأن القصاص من حقوق الأبدان، وحقوق الأبدان لا تجب على الصبي والمجنون، كما قلنا في الصلاة والصوم. وإن قتل السكران من يكافئه عمداً.. فهل يجب عليه القصاص؟ فيه طريقان، ومن أصحابنا من قال: فيه قولان. ومنهم من قال: يجب عليه القصاص، قولاً واحداً، وقد مضى دليل ذلك في الطلاق. وإن قتل رجلاً وهو عاقل، ثم جن أو سكر.. لم يسقط عنه القصاص؛ لأن القصاص قد وجب عليه، فلا يسقط بالجنون والسكر، كما لا يسقط عنه ذلك بالنوم. [مسألة مكافأة الجاني للمجني عليه] وإذا كافأ الجاني المجني عليه، وهو: أن يكون ممن يحد أحدهما بقذف الآخر.. فقد ذكرنا: أنه يجب القصاص على الجاني. فإن قتل المسلم مسلماً، أو الكافر كافراً سواء كانا على دين أو على دينين، أو قتل الرجل رجلاً، أو المرأة امرأة، أو قتل الحر حراً، أو قتل العبد عبداً.. وجب القصاص على القاتل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] [البقرة: 178] ولأن كل واحد منهما مساو لصاحبه، فقتل به.

ويقتل الكافر بالمسلم، والعبد بالحر، والأنثى بالذكر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] وهو إجماع. ولأنه إذا قتل بمن يساويه.. فلأن يقتل بمن هو أعلى منه أولى. ويقتل الذكر بالأنثى، وهو قول أكثر العلماء. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (لا يقتل بها) . وقال عطاء: يكون ولي المرأة بالخيار: بين أن يأخذ ديتها، وبين أن يقتل الرجل بها ويدفع إلى وليه نصف الدية. وروي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] [البقرة: 179] وقَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] وهذا عام إلا فيما خصه الدليل. وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن: " يقتل الرجل بالمرأة» .

مسألة لا يقتل مسلم بكافر

ولأنهما شخصان يحد كل واحد منهما بقذف صاحبه، فجرى القصاص بينهما، كالرجلين والمرأتين. ويقتل الخنثى بالخنثى، ويقتل الخنثى بالرجل والمرأة، ويقتل الرجل والمرأة بالخنثى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] . [مسألة لا يقتل مسلم بكافر] ولا يقتل المسلم بالكافر، وسواء كان الكافر ذمياً، أو مستأمناً، أو معاهداً. وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن

ثابت وبه قال الحسن، وعكرمة، وعطاء، والأوزاعي، ومالك. وقال الشعبي، والنخعي، وأبو حنيفة: (يقتل المسلم بالذمي، ولا يقتل بالمستأمن) . وهو المشهور عن أبي يوسف. وروي عن أبي يوسف: أنه قال: يقتل بالمستأمن. ودليلنا: ما «روى أبو جحيفة أنه قال: (قلت لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يا أمير المؤمنين، هل عندكم سوداء في بيضاء ليس في كتاب الله؟ قال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ما علمته إلا فهماً يعطيه الله رجالاً في القرآن وما في الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: فيها العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مؤمن بكافر» . وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقتل مؤمن

فرع قتل كافر كافرا ثم أسلم

بكافر، ولا ذو عهد في عهده» . وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده» . ومعنى قوله: «لا يقتل ذو عهد في عهده» ، أي: لا يجوز قتل أهل الذمة. ولأنه مسلم قتل كافراً، فلم يقتل به، كالمستأمن. [فرع قتل كافر كافراً ثم أسلم] وإن قتل الكافر كافراً، ثم أسلم القاتل، أو جرح الكافر كافراً، فمات المجروح، ثم أسلم الجارح.. قتل به. وقال الأوزاعي: (لا يقتل به) . ودليلنا: ما روى ابن البيلماني: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل مسلماً بذمي، وقال: " أنا أحق من وفى بذمته» .

مسألة قتل الحر عبدا

وتأويله: أنه قتله وهو كافر، ثم أسلم، ولأن القصاص حد، والاعتبار بالحد حال الوجوب دون حال الاستيفاء، بدليل: أنه لو زنى وهو بكر، فلم يحد حتى أحصن، أو زنى وهو عبد، فلم يحد حتى أعتق.. اعتبر حال الوجوب، وهذا كان مكافئاً له حال الوجوب، فلم يتغير بما طرأ بعده. وإن جرح الكافر كافراً، فأسلم الجارح، ثم مات المجروح.. ففيه وجهان: أحدهما: لا قصاص عليه؛ لأنه قد أتت عليه حالة لو قتله فيها.. لم يجب عليه القصاص. والثاني: يجب عليه القصاص، وهو المشهور اعتباراً بحالة الإصابة، كما لو مات المجروح، ثم أسلم الجارح. [مسألة قتل الحر عبداً] وإن قتل حر عبداً.. لم يقتل به، سواء كان عبده أو عبد غيره، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وابن الزبير، وبه قال مالك، وأحمد. وقال النخعي: يقتل به، سواء كان عبده أو عبد غيره. وقال أبو حنيفة: (يقتل بعبد غيره، ولا يقتل بعبد نفسه) .

فرع قتل حر كافر عبدا مسلما

دليلنا: ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقتل حر بعبد» . وروي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (من السنة أن لا يقتل حر بعبد» . وإذا قال الصحابي: من السنة كذا وكذا.. اقتضى ذلك سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولأن كل شخصين لم يجز القصاص بينهما في الأطراف.. لم يجز بينهما في النفس، كعبد نفسه، وكالمسلم والمستأمن. [فرع قتل حر كافر عبداً مسلماً] وإن قتل حر كافر عبداً مسلماً.. لم يقتل به؛ لأن الحر لا يقتل بالعبد. وإن قتل عبد مسلم حراً كافراً.. لم يقتل به؛ لأن المسلم لا يقتل بالكافر. وإن قتل عبد عبداً، ثم أعتق القاتل، أو جرح عبد عبداً، فمات المرجوح، ثم أعتق الجارح.. قتل به؛ لأنه كان مساوياً له حال الجناية. وإن أعتق الجارح، ثم مات المجروح.. فهل يجب عليه القصاص؟ فيه وجهان، كما قلنا في الكافر إذا جرح كافراً، فأسلم الجارح، ثم مات المجروح. وإن قتل ذمي عبداً، ثم لحق الذمي بدار الحرب، وأخذه المسلمون واسترقوه، أو جرحه ثم استرق، ثم مات العبد.. لم يقتل به؛ لأنه كان حين وجوب القصاص وحين الجراحة حراً، فلم يتغير حكمه في القصاص بما طرأ بعده.

فرع قتل الحر لمبعض

[فرع قتل الحر لمبعض] وإن قتل الحر من نصفه حر ونصفه مملوك.. لم يقتل به؛ لأن الحر أكمل منه، وإن قتله العبد.. قتل به؛ لأنه أكمل من العبد. وإن قتل من نصفه حر ونصفه عبد حراً.. قتل به؛ لأنه قتل من هو أكمل منه، وإن قتل عبداً.. لم يقتل به؛ لأنه أكمل من العبد. وإن كان رجلان نصفهما حر ونصفهما رقيق، فقتل أحدهما الآخر.. فهل يقتل به؟ فيه وجهان: أحدهما - حكاه الطبري عن الشيخ أبي حامد -: أنه يقتل به، وهو اختيار ابن الصباغ؛ لأنهما متساويان، والقصاص يقع بين الجملتين من غير تفصيل. والثاني - وهو قول القفال، والقاضي أبي الطيب -: أنه لا يقتل به؛ لأن الحرية شائعة فيهما. ولا نقول: قتل بنصفه الحر نصفه الحر، وبنصفه العبد نصفه العبد، ولكن قتل بنصفه الحر ربعه الحر وربعه العبد، ألا ترى أنه لو وجبت الدية.. لكانت تجب ربع الدية وربع القيمة عليه في ماله، وربع الدية وربع القيمة في رقبته؟ فلو قتلناه به.. لكنا قد قتلنا حراً بحر وعبد. [فرع قطع مسلم يد ذمي ثم أسلم] وإن قطع مسلم يد ذمي، ثم أسلم الذمي، ثم مات.. فلا قصاص على المسلم. وكذلك: إذا قطع حر يد عبد، ثم أعتق العبد، ثم مات.. فلا قصاص على الحر؛ لأن القصاص لما سقط في القطع.. سقط في سرايته، ولأن القصاص معتبر بحال الجناية، وحال الجناية هو غير مكافئ له، فلم يجب عليه القصاص، كما

قلنا في الكافر إذا قطع يد الكافر، ثم مات المقطوع، ثم أسلم القاطع، أو قطع العبد يد العبد، ثم مات المقطوع، ثم أعتق القاطع.. أن عليهما القصاص. وإن قطع مسلم يد مرتد أو يد حربي، ثم أسلم المقطوع، ثم مات.. لم يجب على القاطع قود ولا دية؛ لأنه لم يكن مضموناً حال الجناية. ومن أصحابنا من قال: تجب فيه دية مسلم؛ لأنه مسلم حال استقرار الجناية. والأول أصح. وإن رمى مسلم سهما إلى ذمي، فأسلم، ثم وقع به السهم، فمات.. لم يجب به القود، ووجبت فيه دية مسلم. وكذلك: إذا رمى حر سهماً إلى عبد، فأعتق، ثم وقع به السهم، فمات.. لم يجب به القود عليه، وتجب فيه دية حر. وإن رمى سهماً إلى مسلم، فارتد، ثم أصابه السهم.. فلا قود عليه، ولا دية في ذلك؛ لأن جزءا من الجناية كان منه، ولا قصاص فيه، فاعتبر حال إرساله السهم، ولأن القود يجب إذا قصد تلف نفس تكافئ نفسه، وهذا في حال القصد لم يكن مكافئاً له. فإن قيل: فقد قلتم: لو رمى المحرم صيداً، ثم حل من إحرامه، ثم أصاب الصيد.. أنه لا ضمان عليه، ولو رماه وهو محل، فأحرم، ثم أصاب الصيد.. أن عليه الجزاء، فاعتبرتم في الجزاء الإصابة، وفي القود الإرسال؟ قلنا: الفرق بينهما: أن الجزاء مال، فاعتبر فيه حال الإصابة؛ لأنه حال الاستقرار، والقود ليس بمال، فاعتبر فيه حال الإرسال. وإن رمى سهماً إلى حربي أو مرتد، فأسلم، ووقع به السهم، فمات.. لم يجب به القود؛ لما ذكرناه، وتجب فيهما دية مسلم.

مسألة قطع مسلم يد مسلم فارتد

وقال أبو إسحاق: لا تجب عليه الدية في الحربي، وتجب في المرتد؛ لأن الحربي كان له رميه، والمرتد ليس له قتله، وإنما قتله إلى الإمام. ومن أصحابنا من قال: لا دية فيهما، كما لو قطع أيديهما، ثم أسلما، ثم سرى القطع إلى نفوسهما. والأول هو المنصوص؛ لأن الاعتبار في الدية حال الإصابة، وحال الإصابة كان محقون الدم، فوجب ضمانه. [مسألة قطع مسلم يد مسلم فارتد] وإن قطع مسلم يد مسلم، ثم ارتد المجروح، ثم أسلم، ثم مات من الجراحة.. فهل يجب على الجاني القود؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: ينظر فيه: فإن أقام في الردة زماناً تسري الجراحة فيه.. لم يجب عليه القود في النفس، قولاً واحداً؛ لأن الجناية في الإسلام توجب القصاص، والسراية في حال الردة لا توجب القصاص، وقد خرجت الروح منهما، فلم يجب القصاص، وكما لو جرحه جراحة عمدا ًوجراحة خطأ، ومات منهما. وإن أقام في الردة زماناً لا تسري فيه الجراحة.. فهل يجب عليه القصاص في النفس؟ فيه قولان: أحدهما: يجب عليه القصاص؛ لأن الجناية والسراية في حال الإسلام، وزمان الردة لا تأثير لها، فوجب عليه القصاص، كما لو لم يرتد. والثاني: لا يجب عليه القصاص؛ لأنه تخللهما زمان لو مات فيه.. لم يجب عليه فيه القصاص، فهو كما لو طلق امرأته ثلاثاً في مرض موته، ثم ارتدت، ثم مات.. فإنها لا ترثه.

ومن أصحابنا من قال: القولان في الحالين؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " الأم ": (لو قطع ذمي يد مستأمن، فنقض المستأمن العهد، ولحق بدار الحرب، ثم عاد بأمان، ثم سرت إلى نفسه.. فهل على القاطع القود؟ فيه قولان) . ونقض العهد في حق المستأمن كالردة للمسلم، وقد نص فيه على قولين. وإن كان قد لحق بدار الحرب، ثم عاد، وهذا زمان تسري فيه الجناية. والأول هو المشهور. والنص في المعاهد متأول على: أنه كان مجاوراً لدار الحرب، فلحق بها، ثم عاد من وقته قبل أن يمضي زمان تسري الجناية في مثله. فإن قلنا: يجب عليه القصاص في النفس.. فالولي بالخيار: بين أن يقطع يده ثم يقتله، وبين أن يقتله. وإن قلنا: لا يجب عليه القصاص في النفس.. فهل يجب عليه القصاص في اليد؟ فيه قولان، كما لو مات على الردة، ويأتي توجيههما. وأما الكفارة: فإنها تجب عليه على القولين؛ لأن الجناية وقعت والنفس محرمة القتل. وأما الدية: فإذا قلنا: لا يجب القصاص، أو قلنا: يجب وعفا الولي عن القصاص أو كانت الجناية خطأ. فقال البغداديون من أصحابنا: إن لم يبق في الردة زمان تسري الجناية في مثله.. وجبت فيه دية مسلم؛ لأن الجناية مضمونة، والسراية مضمونة، وزمان الردة لا تأثير له. وإن أقام في الردة زماناً تسري الجراحة في مثله.. فحكى الشيخ أبو حامد فيه وجهين، وحكاهما الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ قولين: أحدهما: يجب عليه نصف الدية؛ لأن الجناية مضمونة، والسراية غير مضمونة، والروح قد خرجت منهما، فلم يجب عليه كمال الدية، كما لو جرح رجل مسلماً، ثم ارتد المجروح، وجرحه آخر في حال الردة، ومات.. فإنه لا يجب على الأول إلا نصف الدية.

والثاني: تجب عليه دية كاملة، وهو الأصح؛ لأن الجناية إذا كانت مضمونة.. كان الاعتبار بالدية حال الاستقرار وهو مسلم، فوجبت فيه دية مسلم، كما لو قطع يد عبد، ثم أعتق، ثم مات. وقال الخراسانيون: إن قلنا: يجب عليه القود، فعفا الولي عن القود.. وجبت فيه دية مسلم. وإن قلنا: لا يجب عليه القود.. فكم يجب فيه من الدية؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجب فيه ثلثا الدية - وهو قول ابن سريج - فتوزع الدية على أحواله الثلاثة، فيسقط ثلثها بإزاء السراية في حال الردة. والثاني: يجب نصف الدية، كما لو مات من جراحتين: إحداهما مضمونة، والأخرى غير مضمونة. والثالث: يجب عليه أقل الأمرين من أرش الجناية أو جميع الدية. وإن قطع يد مسلم، فارتد المقطوع، ومات في الردة من القطع.. فلا يجب عليه القصاص في النفس، ولا الدية، ولا الكفارة؛ لأن النفس خرجت ولا حرمة لها، وهل يجب القصاص في اليد؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب؛ لأن اليد تابعة للنفس، فإذا لم يجب القصاص في النفس.. لم يجب في اليد. والثاني: يجب فيها، وهو الأصح، ولم يذكر المسعودي [في " الإبانة "] : غيره؛ لأن القصاص يجب في الطرف مستقراً، ولا يسقط بسقوطه في النفس، بدليل: أنه لو قطع يد رجل، ثم جاء آخر، وقتل المقطوع.. فإنه يجب على الأول القصاص في اليد. وهكذا الحكم فيمن قطع يد مستأمن، فنقض العهد، ولحق بدار الحرب، ومات بها من القطع؛ لأن نقض العهد في حقه كالردة.

مسألة قتل مرتد ذميا

[مسألة قتل مرتد ذمياً] وإن قتل المرتد ذمياً.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان: أحدهما: يجب عليه القود - وهو اختيار الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والمزني - لأنهما كافران، فجرى القصاص بينهما، كالذميين، ولأن الذمي أحسن حالاً من المرتد؛ لأنه مقر على دينه، والمرتد غير مقر على دينه. فعلى هذا: يجب عليه القصاص، سواء رجع إلى الإسلام أو لم يرجع؛ لأن القصاص قد وجب عليه حال الجناية، فلم يسقط بالإسلام، كالذمي إذا جرح الذمي، ثم أسلم الجارح، ثم مات. والثاني: لا يجب عليه القصاص؛ لأنه شخص تجب في ماله الزكاة، فلم يقتل بالذمي، كالمسلم. فعلى هذا: تجب عليه الدية، فإن رجع إلى الإسلام.. تعلقت الدية بذمته، وإن مات أو قتل على الردة.. تعلقت بماله. وإن جرح المسلم ذمياً، ثم ارتد الجارح، ثم مات المرجوح.. لم يجب القصاص، قولاً واحداً؛ لأنه حالة الجرح لم يكن مكافئاً له. وإن قتل الذمي مرتداً.. فهل يجب عليه القود؟ قال الخراسانيون من أصحابنا: يبنى على القولين في المرتد إذا قتل الذمي. فإن قلنا هناك: يجب القود.. لم يجب القود على الذمي؛ لأنه قتل مباح الدم. وإن قلنا هناك: لا يجب القود.. وجب هاهنا القود. وقال البغداديون من أصحابنا: فيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه يجب عليه القود، فإن عفا عنه، أو كانت الجناية خطأ.. وجبت فيه الدية؛ لأن قتله بالردة للمسلمين، فإذا قتله غيرهم.. وجب عليه الضمان، كما لو قتل رجل رجلاً، ثم قتله غير ولي الدم.

فرع قتل من لا يعلم إسلامه

والثاني - وهو قول أبي الطيب بن سلمة، وأبي سعيد الإصطخري -: أنه يجب عليه القود، فإن عفا عنه، أو كانت الجناية خطأ.. لم تجب عليه الدية؛ لأن القود إنما يجب عليه لاعتقاد الذمي أنه مثله، وأنه مكافئ له، ولا تجب عليه الدية؛ لأنه لا قيمة لدمه. والثالث - وهو قول أبي إسحاق، وهو الأصح -: أنه لا يجب عليه القود ولا الدية؛ لأن كل من لا يضمنه المسلم بقود ولا دية.. لم يضمنه الذمي، كالحربي. وإن قتل المرتد مرتداً.. فهل يجب عليه القصاص؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري: أحدهما: يجب عليه القصاص، وهو الأصح؛ لتماثلهما من جميع الوجوه. والثاني: لا يجب عليه القصاص؛ لأنه ربما أسلم القاتل. [فرع قتل من لا يعلم إسلامه] وإن حبس السلطان مرتدا، فأسلم، وخلاه، فقتله رجل قبل أن يعلم بإسلامه، أو علم رجل رجلاً مرتدا، فأسلم المرتد، وقتله الرجل قبل أن يعلم بإسلامه.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القود؛ لأنه لم يقصد قتل من يكافئه. فعلى هذا: تجب عليه دية مسلم. والثاني: يجب عليه القود؛ لأن الظاهر من المرتد أنه لا يخلى من حبس السلطان في دار الإسلام إلا بعد إسلامه. وقال الطبري: وإن أسلم الذمي، ثم قتله مسلم قبل أن يعلم بإسلامه، أو أعتق العبد، ثم قتله حر قبل أن يعلم بعتقه.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان، كالتي قبلها. وأما الزاني المحصن إذا قتله رجل بغير إذن الإمام: ففيه وجهان:

أحدهما: أن عليه القود؛ لأن قتل المحصن إلى الإمام، فإذا قتله غيره بغير إذنه.. وجب عليه القود، كما لو قتل رجل رجلاً، فقتله غير ولي الدم. والثاني: لا يجب عليه القود، وهو المنصوص؛ لما روي: «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلاً، أفأمهله حتى أقيم البينة؟ قال: " نعم» . فدل على: أنه إذا أقام عليه البينة لا يمهله، بل له أن يقتله. وروى ابن المسيب: (أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، فقتله، فأشكل فيه الأمر على معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فكتب في ذلك إلى أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسأله أن يسأل عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن ذلك، فسأله أبو موسى عن ذلك، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما هذا شيء وقع بأرضنا، عزمت عليك إلا أخبرتني، فقال له: كتب إلي بذلك معاوية، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنا أبو الحسن لها - وروي: أنا أبو حسن - إن أقام البينة، وإلا.. أعطى برمته) . و (الرمة) : الحبل الذي يربط به الرجل إذا قدم للقتل. وروي: (أن رجلاً على عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج في بعض غزواته،

مسألة لا يقتل أصل بفرع

واستخلف يهودياً في بيته يخدم امرأته، فلما كان في بعض الليالي.. خرج رجل من المسلمين في سحر، فسمع اليهودي يقول: وأشعث غره الإسلام مني ... خلوت بعرسه ليل التمام أبيت على ترائبها ويمسي ... على جرداء لاحقة الحزام كأن مواضع الربلات منها ... فئام ينهضون إلى فئام فدخل عليه الرجل، فقتله، فأخبر بذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأهدر دم اليهودي) . وهذا يدل على: أن اليهودي كان محصناً. ولأنه قتل مباح الدم، فهو كالمرتد. فعلى هذا: لا تجب عليه الدية؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أهدر دم اليهودي، وإنما يجب بقتله الدية. ولأنا قد قلنا: هو كالمرتد، والمرتد لا تجب على قاتله الدية، فكذلك هذا مثله. و (الربلات) : لحم العضدين والفخذين وما أشبههما. و (الفئام) : الجماعة من الناس. [مسألة لا يقتل أصل بفرع] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يقتل والد بولده؛ لأنه إجماع، ولا جد من قبل أم ولا أب) . وجملة ذلك: أن الأب إذا قتل ولده.. لم يجب عليه القصاص. وبه قال عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في الصحابة، ومن الفقهاء: ربيعة، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن رماه بالسيف، فقتله.. لم يقد به؛ لأنه قد يريد بذلك التأديب، وإن أضجعه وذبحه.. قتل به) .

دليلنا: ما روى عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقاد والد بولده» . ولأن كل من لا يقتل به إذا رماه بالسيف.. لم يقتل به وإن أضجعه وذبحه، كالمسلم إذا قتل الكافر. فإن قيل: فما معنى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لأنه إجماع) ومالك مخالف له؟ فله تأويلان: أحدهما: أنه أراد به إجماع الصحابة؛ لأنه قد روي عن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا مخالف لهما في الصحابة. والثاني: أنه أراد: إذا رماه بالسيف.. فإنه إجماع. ولا تقتل الأم، ولا أحد من الجدات من قبل الأم أو الأب، ولا أحد من الأجداد من قبل الأم أو الأب بالولد وإن سفل.

فرع ادعيا لقيطا ولا بينة فقتلاه

قال الطبري: وذكر صاحب " التلخيص " قولاً آخر: أن غير الأب من الأمهات والأجداد يقتلون بالولد. قال أصحابنا: ولا يعرف هذا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولعله قاس على رجوعهم في هبتهم له، فإن فيه قولين عند الخراسانيين. والدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقاد والد بولده» . والوالد يقع على الجميع. ولأن ذلك حكم يتعلق بالولادة، فشاركوا فيه الأب، كالعتق بالملك، ووجوب النفقة. [فرع ادعيا لقيطاً ولا بينة فقتلاه] وإن ادعى رجلان نسب لقيط ولا بينة لأحد منهما.. عرض على القافة، فإن قتلاه قبل أن يلحق بأحدهما.. لم يجب على أحدهما قود؛ لأن كل واحد منهما يجوز أن يكون أباه، فإن رجعا عن الإقرار بنسبه.. لم يسقط نسبه عن أحدهما؛ لأن من أقر بنسب احتمل صدقه.. لم يجز إسقاطه برجوعه. فإن رجع أحدهما، وأقام الآخر على دعواه.. انتفى نسبه عن الراجع، ولحق بالآخر؛ لأن رجوع الراجع لا يسقط نسبه، ويسقط القصاص عن الذي لحق نسبه به، ويجب القصاص على الراجع؛ لأنه شارك الأب، ولا يكون القصاص للأب، لأنه قاتل، بل يكون لسائر ورثة اللقيط، ويجب على الأب لهم نصف الدية. وإن تزوج رجل امرأة في عدتها من غيره، ووطئها جاهلاً بالتحريم، وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، فقتلاه قبل أن يلحق بأحدهما.. لم يجب على أحدهما قود؛ لجواز أن يكون كل واحد منهما أباه، فإن رجعا.. لم يقبل رجوعهما. فإن رجع أحدهما، وأقام الآخر على الدعوى.. لم يسقط نسبه عن الراجع ولم يجب عليه القود.

فرع قتل رجل زوجة لها ولد منه

ويفارق التي قبلها؛ لأن الأبوة هناك ثبتت بالاعتراف.. فقبل رجوعه مع إقامة الآخر على الدعوى، وهاهنا الأبوة ثبتت بالفراش، فلم تسقط بالرجوع. [فرع قتل رجل زوجة لها ولد منه] وإن قتل رجل زوجته، وله منها ابن.. لم يجب له على الأب القود؛ لأنه إذا لم يقد به إذا قتله.. لم يجب عليه القود بالإرث من أمه أولى. وإن كان لها ابنان: أحدهما من زوجها القاتل لها، والثاني من آخر.. لم يجب على الزوج القود؛ لأن القود يكون مشتركاً بين الابنين، والابن لا يثبت له القود على أبيه، وإذا سقط حقه من القود.. سقط حق شريكه، كما لو ثبت القود عليه لرجلين، فعفا أحدهما. وإن ملك المكاتب أباه.. فإنه لا يعتق عليه، فإن قتل أبو المكاتب عبداً للمكاتب.. لم يجب للمكاتب القود على أبيه؛ لأنه إذا لم يجب عليه القصاص بقتله.. لم يجب عليه القصاص بقتل عبده. [مسألة يقتل الولد بالوالد] ويقتل الولد بالوالد؛ لأن الوالد أكمل منه.. فقتل به، كما يقتل الكافر بالمسلم، والعبد بالحر، والمرأة بالرجل، وذلك كله إجماع. فإن كان هناك رجل له زوجة، وهما متوارثان، وبينهما ابنان، فقتل أحد الابنين أباهما عمداً، ثم قتل الابن الآخر أمهما عمداً.. فإن القصاص يجب على قاتل الأم، ويسقط عن قاتل الأب؛ لأنه لما قتل الابن الأب.. لم يرثه، وإنما ترث الزوجة الثمن، وقاتل الأم الباقي، وملكا عليه القود، فلما قتل الابن الآخر الأم.. لم يرثها، وإنما يرثها قاتل الأب، وقد كانت تملك عليه ثمن القود، وانتقل ذلك إليه، وإذا ملك بعض ما عليه من القود.. سقط عنه القود؛ لأنه لا يتبعض، فسقط الجميع، وكان لقاتل الأب القود على قاتل الأم، لأنه لا وارث لها سواه، ولقاتل الأم على قاتل

الأب سبعة أثمان دية الأب، فإن عفا قاتل الأب عن قاتل الأم.. وجب له عليه دية الأم، وهل يسقط عن كل واحد منهما ما يساوي ما له على الآخر؟ على الأقوال الأربعة في المقاصة. فإذا قلنا: يسقط.. بقي على قاتل الأب لقاتل الأم ثلاثة أثمان دية الأب. فإذا قلنا: لا يسقط.. أدى كل واحد منهما ما عليه للآخر. وإن اقتص قاتل الأب من قاتل الأم، فإن كان لقاتل الأم ورثة غير قاتل الأب.. طالبوه بسبعة أثمان دية الأب، وإن لم يكن له وارث غيره.. فهل يرثه؟ فيه وجهان في القاتل بالقصاص، هل يرث؟ الصحيح: أنه لا يرثه. فأما إذا لم ترث الزوجة من الزوج، بأن كانت بائنة منه، أو كانت غير بائن منه إلا أن أحدهما جرح أباه، وجرح الآخر أمه، ثم خرجت روحاهما في حالة واحدة.. فإن كل واحد من الابنين لا يرث ممن قتله، ولكنه يرثه الابن الآخر. واختلف أصحابنا: هل يثبت القود في ذلك؟ فقال أكثرهم: يجب لكل واحد منهما القود على أخيه؛ لأن كل واحد منهما ورث من قتله أخوه، فوجب له على أخيه القود. فعلى هذا: إن كان قاتل الأب قتله أولاً.. اقتص منه قاتل الأم، فإن كان لقاتل الأب وارث غير قاتل الأم.. اقتص من قاتل الأم، وإن لم يكن له وارث غير قاتل الأم، فإن قلنا: إن القتل بالقصاص لا يمنع الميراث.. ورث القود على نفسه، وسقط، وإن قلنا: إن القتل بالقصاص يمنع الميراث.. انتقل القصاص إلى من بعده من العصبات، فإن لم تكن عصبة.. كان القصاص إلى الإمام. وإن قتلاهما في حالة واحدة، أو جرحاهما وخرجت روحاهما في حالة واحدة.. ثبت لكل واحد منهما القصاص على صاحبه، ولا يقدم أحدهما على الآخر، بل إن تشاحا في البادئ منهما.. أقرع بينهما، فإذا خرجت القرعة لأحدهما، فاقتص، أو

فرع قتل كل من الولدين أحد أبويه

بادر أحدهما، فقتل الآخر من غير قرعة.. فقد استوفى حقه، ولوارث المقتول أن يقتل الابن المقتص. وإن كان المقتص من ورثته.. فهل يرثه؟ على الوجهين، الصحيح: لا يرثه. وقال ابن اللبان: القصاص لا يثبت هاهنا؛ لأنه لا سبيل إلى أن يستوفي كل واحد منهما القصاص من صاحبه. فلو بدأ أحدهما، فاقتص من أخيه.. بطل حق المقتص منه من القصاص؛ لأن حقه ينتقل منه إلى وارثه، إن شاء.. قتل، وإن شاء.. ترك، وفوتنا عليه غرضه من القصاص، وحصل على غير عوض من ماله، وليس أحدهما بأولى من الآخر في البداية. وأما القرعة: فلا تستعمل في إثبات القصاص. فعلى هذا: يكون على قاتل الأب دية الأب، وعلى قاتل الأم دية الأم لقاتل الأب. قال ابن اللبان: فإن مات أحد القاتلين قبل أن يتحاكما.. كان لورثة الميت أن يقتلوا الآخر، ويرجع الآخر أو وارثه في تركة الميت بدية الذي قتله الميت من الأبوين. ولا يقال: إن القصاص سقط، ثم وجب؛ لأنه لم يثبت، لا لأنه لم يجب، ولكن لم يثبت لتعذر الاستيفاء، وإذا أمكن الاستيفاء.. ثبت. والأول هو المشهور. [فرع قتل كل من الولدين أحد أبويه] قال ابن اللبان: إذا كان هناك رجل له زوجة يتوارثان، ولهما ولدان: أحدهما زيد، والآخر عمرو، فقتل أحد الولدين أباهما، والآخر أمهما، ولم يعلم أيهما قاتل الأب، ولا أيهما قاتل الأم، إلا أن الأم قتلت أولاً.. فيجوز أن يكون زيد قتل الأم، فورث الزوج ربع قودها وربع مالها، وورث عمرو ثلاثة أرباع ذلك، فإذا قتل عمرو الأب بعد ذلك.. ورث زيد جميع مال الأب، وورث الربع الذي كان ورثه الزوج من مال زوجته، وسقط عن زيد القصاص في الأم؛ لأنه ورث بعض دمه، وكان له

القصاص على عمرو، أو جميع دية الأب إن عفا عنه. ويجوز أن يكون عمرو هو قاتل الأم، وزيد قاتل الأب، فيكون لعمرو ما كان لزيد إذا كان زيد قاتل الأم، ويكون لزيد ما كان لعمرو، فإذا احتمل هذا.. دفع إلى كل واحد من الولدين ربع ما للأم؛ لأنه يستحقه بيقين، ووقف نصف مالها حتى يعلم من قاتل الأب منهما، فيصرف إليه، ويوقف جميع مال الأب حتى يعلم من قاتل الأم، فيصرف إليه، ويكون لقاتل الأب على قاتل الأم ثلاثة أرباع دية الأم، ولقاتل الأم عليه القصاص أو دية الأب إن عفا عنه، وإن تقاصا.. بقي لقاتل الأم خمسة أثمان دية الأب. قال: ويحتمل إذا لم يعلم من قتل الأب بعينه أن يسقط القصاص في الحكم وإن كنا قد علمنا وجوبه؛ لأن ما لم تعلم عينه.. كالذي لا يعلم أصلاً، كما قلنا في المتوارثين إذا مات أحدهما قبل الآخر ولم يعلم أيهما مات أولاً.. أنهما لا يتوارثان. فإن كانت بحالها، إلا أن الأب قتل أولاً.. فإنه يدفع إلى كل واحد منهما ثمن مال الأب، ويوقف الباقي، ويوقف جميع مال الأم، وتنزيلها على ما مضى. فإن كانت بحالها، وقتل الأب أولاً، ولهما أخ ثالث يقال له: سالم لم يقتل.. فإن تنزيلها على ما مضى، ويدفع لزيد نصف ثمن مال الأب، وإلى عمرو نصف ثمنه، ويدفع إلى سالم نصف مال الأب، ويوقف عليه ثلاثة أثمانه لقاتل الأم، ويدفع إلى سالم نصف مال الأم، ويوقف نصفه لقاتل الأب، ولسالم على من يستحق نصف مال الأم - وهو قاتل الأب - نصف دية الأب، فيدفع إليه ذلك من نصف مالها الموقوف له، ولسالم أيضاً على من يستحق ثلاثة أثمان مال الأب - وهو قاتل الأم - القصاص، فإن عفا عنه.. استحق عليه نصف دية الأم، ويعطى ذلك من الذي وقف له من مال الأب؛ لأن الحاكم يعلم أن له على صاحب هذا المال حقاً وإن لم يعرفه بعينه، فهو كغائب وجب عليه حق، فيباع عليه ماله.

فرع إخوة قتل بعضهم بعضا وهم ورثة

فإن قيل: فهلا أخرجتم ما وجب على قاتل الأب لقاتل الأم مما وقف له، وأخرجتم ما وجب على قاتل الأم مما وقف له؟ قيل: لا نخرجه له؛ لأنه لا مدع له بعينه، وإنما هو بمنزلة مال وقف لزيد، ومال وقف لعمرو، ولم يعلم أن لكل واحد منهما على الآخر حقاً، ولا يعرف أحدهما ماله ولا حقه، فيطالب به، وإذا كانت دعواهما غير معلومة.. لم يلزم ما يدعيان من المجهول، وسالم يعلم قدر حقه، ويدعيه على مالك معلوم ملكه وإن لم يعلم شخصه. [فرع إخوة قتل بعضهم بعضاً وهم ورثة] وإن كان هناك أربعة إخوة يرث بعضهم بعضاً، فقتل الكبير الذي يليه، وقتل الثالث الصغير.. وجب القصاص على الثالث، وعلى الكبير نصف الدية؛ لأن الكبير لما قتل الثاني.. وجب عليه القصاص للثالث والرابع، فلما قتل الثالث الرابع.. وجب القصاص على الثالث للكبير، وسقط القصاص عن الكبير؛ لأنه ورث بعض دم نفسه عن الرابع، فسقط عنه القصاص، ووجب عليه للثالث نصف دية الثاني. وإن قتل رجل ابن أخيه، وورث المقتول أبوه، ثم مات أبو المقتول ولم يخلف وارثاً غير القاتل.. فإنه يرثه، ويسقط عنه القصاص؛ لأنه ملك جميع ما ملكه أبو المقتول، فكأنه ملك دم نفسه، فسقط عنه القصاص. [فرع مكاتب ملك من يعتق عليه] وإن ملك المكاتب أباه.. فإنه لا يعتق عليه، بل يكون موقوفاً على أدائه وعجزه. وإن قطع المكاتب يد أبيه وهو في ملكه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له أن يقتص منه؛ لأن العبد لا يقتص من سيده.

فرع قتل من دونه أو ولده

والثاني: له أن يقتص منه، وهو المنصوص؛ لأن حكمه معه حكم الأحرار، بدليل: أنه لا يجوز له بيعه، فصار كالابن الحر إذا جنى على أبيه الحر. ولا يعرف للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المملوك يقتص من مالكه إلا في هذه. وإن قطع أبو المكاتب يد المكاتب.. فالذي يقتضي المذهب: أن يبنى على هذين الوجهين، فإن قلنا بالأول.. وجب للمكاتب القصاص، وإن قلنا بالثاني.. لم يجب له القصاص، فإن عفا عنه، أو كانت الجناية خطأ.. فهل له بيعه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما: أحدهما: له بيعه؛ لأنه يستفيد بالبيع أرش الجناية. والثاني: ليس له بيعه؛ لأنه مملوك، فلا يثبت له عليه مال. [فرع قتل من دونه أو ولده] وإن قتل مسلم ذمياً، أو قتل حر عبداً، أو قتل الوالد ولده في المحاربة.. ففيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القصاص؛ لعموم الأخبار، ولأن من لا يقتل بغيره في غير المحاربة.. لم يقتل به في المحاربة، كالمخطئ. والثاني: يجب عليه القصاص؛ لأن القتل في المحاربة متحتم لا يجوز للولي العفو عنه، فلم تعتبر فيه المكافأة، كحد الزنا. [مسألة قتل الجماعة بالواحد] وتقتل الجماعة بالواحد، وهو: أن يجني عليه كل واحد منهم جناية لو انفرد بها.. مات منها، ووجب عليه القصاص، وبه قال من الصحابة: عمر،

وعلي، وابن عباس، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين: ابن المسيب، والحسن، وعطاء، وأبو سلمة، ومن الفقهاء: الأوزاعي، والثوري، ومالك، وأحمد، وأبو حنيفة، إلا أن محمد بن الحسن قال: ليس هذا بقياس، وإنما صرنا إليه من طريق الأثر والسنة. وقال الزبير، ومعاذ بن جبل، والزهري، وابن سيرين: (لا تقتل الجماعة بالواحد، بل للولي أن يختار واحداً منهم، فيقتله، ويأخذ من الباقين حصتهم من الدية) . وقال ربيعة، وداود: (يسقط القصاص) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] [البقرة: 179] . فأوجب القصاص لاستبقاء الحياة؛ وذلك: أنه متى علم الإنسان أنه إذا قتل غيره قتل به.. لم يقدم على القتل، فلو قلنا: لا تقتل الجماعة بالواحد.. لكان الاشتراك يسقط القصاص، فسقط هذا المعنى. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] [الإسراء: 33] و (السلطان) : القصاص. ولم يفرق بين أن يقتله واحد، أو جماعة. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا

فرع اشتركا في قتل وعلى أحدهما القود

- والله - عاقله، فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» . وموضع الدليل: قوله: (فمن) ، ومن: تستغرق الجماعة والواحد. [فرع اشتركا في قتل وعلى أحدهما القود] وإن اشترك اثنان في قتل رجل، وأحدهما يجب عليه القود لو انفرد دون الآخر.. نظرت: فإن كان سقوط القود عن أحدهما لمعنى في فعله، مثل: أن كان أحدهما مخطئاً، والآخر عامداً.. لم يجب القصاص على واحد منهما، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد. وقال مالك: (يجب القصاص على العامد منهما) . دليلنا: أن الروح لم تخرج عن عمد محض، فلم يجب عليه القصاص، كما لو جرحه خطأ، فمات منه. وإن كان سقوط القود عن الشريك لمعنى في نفسه، مثل: أن يشترك الأب والأجنبي في قتل الابن.. وجب القصاص على الأجنبي. وكذلك: إذا اشترك الحر والعبد في قتل العبد.. وجب القصاص على العبد، وإن اشترك المسلم والكافر في قتل الكافر.. وجب القصاص على الكافر، وبه قال مالك، وأحمد. وقال أبو حنيفة: (سقوط القصاص عن أحد الشريكين يسقط القصاص عن الآخر، فإذا شارك الأب الأجنبي في قتل الابن.. لم يجب على الأجنبي القصاص) . دليلنا: أنه لو انفرد.. وجب عليه القصاص، فإذا شارك من سقط عنه القصاص

لا لمعنى في فعله.. لم يسقط عنه القصاص، كما لو كانا عامدين. وإن شارك الصبي والمجنون وهما عامدان في الجناية.. بنى ذلك على عمدهما، وفيه قولان: أحدهما: أن عمدهما في حكم الخطأ، وبه قال مالك، وأبو حنيفة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . فأخبر أن القلم مرفوع عنهما، فدل على: أن عمدهما في حكم الخطأ، ولأن عمدهما لو كان في حكم العمد.. لوجب عليهما القصاص. فعلى هذا: لا يجب على من شاركهما في الجناية القصاص. القول الثاني: أن عمدهما في حكم العمد، فيجب على شريكهما القود؛ لأنهما قصدا الجناية، وإنما سقط القصاص عنهما لمعنى في أنفسهما، كشريك الأب، ولأن الصبي لو أكل في الصوم عامداً.. لبطل صومه، فلولا أن لعمده حكماً.. لما بطل صومه. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : المجنون الذي لا يميز، والطفل الذي لا يعقل عقل مثله، عمدهما خطأ، قولا ًواحداً، فلا يجب على شريكهما القصاص. وإن شارك من لا ضمان عليه، مثل: أن جرح رجل نفسه وجرحه آخر، أو جرحه سبع وجرحه آخر، أو قطعت يده بقصاص أو سرقة وجرحه آخره، ومات.. فهل يجب القصاص على الشريك الذي عليه الضمان؟ فيه قولان: أحدهما: يجب عليه القصاص؛ لأنه شارك في القتل عامداً، فوجب عليه القصاص، كشريك الأب. والثاني: لا يجب عليه القصاص؛ لأنه إذا سقط عنه القصاص إذا شارك المخطئ وجنايته مضمونة عليه.. فلأن لا يجب عليه القصاص إذا شارك من لا قصاص عليه أولى.

فرع جرحه جراحة يقتل مثلها فتداوى بقاتل

[فرع جرحه جراحة يقتل مثلها فتداوى بقاتل] وإن جرحه رجل جراحة يقتل مثلها عامداً، فداوى المجروح نفسه بسم، فمات.. نظرت: فإن كان سماً موحياً يقتل في الحال.. لم يجب على الجارح قصاص في النفس؛ لأنه قطع سراية جرحه بالسم، فصار كما لو جرحه رجل، ثم ذبح نفسه. وإن كان السم قد يقتل وقد لا يقتل، والغالب أنه لا يقتل.. لم يجب على الجارح قصاص في النفس؛ لأنه مات من فعلين، وأحدهما عمد خطأ، فهو كما لو شارك العامد مخطئاً. وإن كان السم قد يقتل وقد لا يقتل، والغالب أنه يقتل.. فهل يجب القصاص على الجارح في النفس؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان؛ لأنه شارك قاصداً إلى الجناية، ولا يجب عليه الضمان، فهو كما لو جرح نفسه وجرحه آخر، أو جرحه سبع وجرحه آخر. ومنهم من قال: لا يجب عليه القصاص، قولاً واحداً؛ لأنه لم يقصد الجناية على نفسه، وإنما قصد المداواة به، فصار فعله عمد خطأ، بخلاف شريك السبع، وشريك من جرح نفسه، فإنهما قصدا الجناية. [فرع جرح فخاط جرحه فمات] وإن جرحه رجل، فخيط جرحه، فمات.. نظرت: فإن خيط في لحم ميت، كاللحم إذا قطعه السيف.. فإن القود يجب على الجارح؛ لأنه لا سراية للخياطة في اللحم الميت. وإن خيط في اللحم الحي.. نظرت:

فرع جرحه جرحا وآخر مائة جرح فمات

فإن خاطه المجروح بنفسه، أو خاطه غيره بأمره.. فهل يجب القود على الجارح في النفس؟ فيه طريقان، كما قلنا فيه إذا داوى جرحه بسم قد يقتل وقد لا يقتل إلا أنه يقتل في الغالب. وإن خاطه رجل أجنبي بغير إذنه، أو أكرهه على ذلك.. وجب القود على الجارح والذي خاط الجراحة؛ لأنهما قاتلان. وإن خاطه السلطان، وأكرهه على ذلك، فإن كان لا ولاية له عليه.. كان كغيره من الرعية، فيجب عليه القود في النفس مع الجارح، وإن كان له على المجروح ولاية، بأن كان صغيراً، أو مجنوناً، أو خاطها الولي عليه من غير أمر السلطان، أو كان على المولى عليه سلعة، فقطعها وليه، فمات.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان: أحدهما: يجب عليه القود؛ لأنه جرح جرحاً مخوفاً، فوجب عليه القود. فعلى هذا: يجب على شريكه - وهو الجارح - القود. والثاني: لا يجب عليه القود؛ لأنه لم يقصد الجناية، وإنما قصد المداواة، فصار فعله عمد خطأ. فعلى هذا: لا يجب عليه أو على شريكه القود في النفس، ويجب على كل واحد منهما نصف دية مغلظة، وهل يكون ما وجب على الإمام من ذلك في ماله، أو في بيت المال؟ فيه قولان، يأتي بيانهما إن شاء الله تعالى. [فرع جرحه جرحاً وآخر مائة جرح فمات] وإن جرح رجل رجلاً جرحاً، وجرحه آخر مائة جرح، ثم مات.. فهما شريكان في القتل، فيجب عليهما القود؛ لأنه يجوز أن يموت من الجرح الواحد كما يجوز أن يموت من المائة، وإذا تساوى الجميع في الجواز.. فالظاهر أنه مات من الجميع، فصارا قاتلين، فيجب عليهما القود.

فرع اشتركوا في ذبحه وطعنه وقطعه

فإن عفا عنهما.. وجبت الدية عليهما نصفين، ولا تقسط الدية على عدد الجراحات، كما قلنا في الجلاد إذا زاد جلدة على ما أمر به في أحد القولين؛ لأن الأسواط متماثلة، والجراحات لها مور في البدن، وقد يجوز أن تكون الواحدة منها هي القاتلة وحدها دون غيرها. وإن أجافه رجل جائفة، وجرحه آخر جراحة غير جائفة، ثم مات منهما.. فهما سواء، وكون إحداهما أعمق من الأخرى لا يمنع من تساويهما، كما لا تمنع زيادة جراحات أحدهما في العدد التساوي بينهما. [فرع اشتركوا في ذبحه وطعنه وقطعه] إذا قطع رجل حلقوم رجل أو مريئه، ثم جاء آخر، فقطعه نصفين، أو خرق بطنه وقطع أمعاءه وأبانها منه، ثم جاء آخر، فذبحه.. فالأول قاتل يجب عليه القود، ولا يجب على الثاني إلا التعزير؛ لأن بعد جناية الأول لا تبقى فيه حياة مستقرة، وإنما يتحرك كما يتحرك المذبوح، ولأنه قد صار في حكم الموتى، بدليل: أنه لا يصح إسلامه، ولا تقبل توبته، ولا يصح بيعه، ولا شراؤه، ولا وصيته، ولا يرث، وإن جنى.. لم يجب عليه شيء، فصار كما لو جنى على ميت. وإن قطع الأول يده أو رجله، ثم حز الآخر رقبته، أو أجافه الأول، ثم قطع الثاني رقبته.. فالأول جارح يجب عليه ما يجب على الجارح، والثاني قاتل؛ لأن بعد جناية الأول فيه حياة مستقرة؛ لأنه قد يعيش اليوم واليومين، وقد لا يموت من هذه

الجناية، بدليل: أنه يصح إسلامه، وتوبته، وبيعه، وشراؤه، ووصيته؛ ولهذا: لما طعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في بطنه، فجاءه الطبيب، فسقاه لبناً، فخرج من بطنه، فقال له: اعهد إلى الناس، فـ: (عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الناس، ثم مات) . فعملت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بعهده، فصار كالصحيح. وبالله التوفيق

باب ما يجب به القصاص من الجنايات

[باب ما يجب به القصاص من الجنايات] إذا جرح رجل رجلاً بما يجرح بحده، كالسيف، والسكين، أو بما حدد من الرصاص والقصب والذهب والخشب، أو (بالليطة) وهي: القصبة المشقوقة، أو بما له مور في البدن، كالسنان، والسهم، و (المسلة) وهي: المخيطة، فمات منها.. وجب على الجارح القود، سواء كان الجرح صغيراً أو كبيراً، وسواء مات في الحال أو بقي متألماً إلى أن مات، وسواء كان في مقتل أو في غير مقتل؛ لأن جميع ذلك يشق اللحم ويبضعه، ويقتل غالباً. وأما إذا غرز فيه إبرة، فمات.. نظرت: فإن غرزها في مقتل، مثل: أصول الأذنين، والعين، والقلب، والأنثيين.. وجب عليه القود؛ لأنها تقتل غالباً إذا غرزت في هذه المواضع. وإن غرزت في غير مقتل، كالألية، والفخذ.. قال ابن الصباغ: فإن بالغ في إدخالها فيها.. وجب عليه القود، وإن لم يبالغ في إدخالها، بل غرزها فيه.. فاختلف أصحابنا فيه [على قولين] : فـ[القول الأول] : قال الشيخان - أبو حامد،، وأبو إسحاق -: إن بقي من ذلك متألماً إلى أن مات.. فعليه القود؛ لأن الظاهر أنه مات منه، وإن مات في الحال.. ففيه وجهان: [الأول] : قال أبو إسحاق: يجب عليه القود؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال:

مسألة الضرب بمثقل يقتل

(سواء صغر الجرح أو كبر، فمات المجروح.. فإن القود يجب فيه) ، ولأنه جرحه بحديدة لها مور في البدن، فوجب فيها القود، كالمسلة. و [الثاني] : قال أبو العباس ابن سريج، وأبو سعيد الإصطخري: لا يجب به القود؛ لأن الغالب أن الإنسان لا يموت من غرز إبرة، فإذا مات.. علمنا أن موته وافق غرزها، فهو كما لو رماه ببعرة أو ثوب، فمات. و [القول الثاني] : قال ابن الصباغ: لا وجه لهذا التفصيل عندي؛ لأنه إذا كانت العلة لا تقتل غالباً.. فلا فرق بين أن يبقى ضمناً منه، أو يموت في الحال. فإن قيل: لأنه إذا لم يزل ضمناً منه.. فقد مات منه، وإذا مات في الحال.. فلا يعلم أنه مات منه - قال - فكان ينبغي أن يكون الوجهان في وجوب الضمان دون القود، فيراعى في الفعل أن يكون بحيث يقتل في الغالب، ألا ترى أن الناس يحتجمون ويفتصدون، أفترى ذلك يقتل في الغالب، وهم يقدمون عليه؟ وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يجب عليه القود؟ فيه وجهان: من غير تفصيل. [مسألة الضرب بمثقل يقتل] وإن ضربه بمثقل، فمات منه، فإن كان يقتل مثله، كالحجر الكبير، أو الخشبة، أو الدبوس، أو رمى عليه حائطاً أو سقفاً وما أشبهه.. وجب عليه القود، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد.

وقال النخعي، والشعبي، والحسن البصري، وأبو حنيفة: (لا يجب القصاص بالمثقل) . دليلنا: ما روى طاووس، عن ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العمد قود، إلا أن يعفو ولي الدم، والخطأ دية لا قود فيه» . ولم يفرق. وروى أنس: «أن جارية من الأنصار وجدت وقد رض رأسها بين حجرين وبها رمق، فقيل لها: قتلك فلان؟ قالت: لا، إلى أن ذكر يهودي، فأشارت برأسها - أي: نعم - فدعي اليهودي، فاعترف، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به، فرضخ رأسه بين حجرين» . وفي هذا الخبر فوائد كثيرة: أحدها: أن القود يجب بالقتل بالمثقل. والثانية: أنه يستقاد به. والثالثة: أن اليهودي يقتل بالمسلم.

والرابعة: أن الرجل يقتل بالمرأة. الخامسة: أن للإشارة حكماً؛ لأنها لو لم يكن لها حكم.. لأنكر عليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «وروى حمل بن مالك بن النابغة: أنه قال: (كنت بين جاريتين لي - يعني: زوجتين - فاقتتلتا، فضربت إحداهما بطن الأخرى بمسطح، فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجنين بغرة: عبد أو أمة، وأن تقتل مكانها» . و (المسطح) : الخشبة الكبيرة تركز في وسط الخيمة. وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (العمد قود كله) . ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وإن ضربه بمثقل لا يقتل مثله غالباً، كالقلم، والحصاة، فمات.. لم يجب عليه القود ولا الدية ولا الكفارة؛ لأنا نعلم أنه لا يموت منه، وإنما وافق موته ضربه. وإن ضربه بمثقل قد يقتل وقد لا يقتل، كالسوط، والعصا الخفيف، فمات، فإن

فرع خنقه بيده أو بنحو ذلك

والى عليه الضرب إلى أن بلغ عدداً يقتل مثله في الغالب على حسب حال المضروب، أو رمى به، بأن يضربه خمسمائة أو ألفا.. فإن ذلك يقتل في الغالب، وكذلك: إذا كان المضروب نضو الخلق أو في حر شديد أو في برد شديد، فضربه دون ذلك، فمات.. فإن القود يجب عليه. وإن ضربه ضرباً لا يقتل مثله مثل المضروب في العادة، فمات.. لم يجب عليه القود؛ لأنه عمد خطأ، ويجب عليه الدية. [فرع خنقه بيده أو بنحو ذلك] وإن خنقه بيده أو بحبل، أو طرح على وجهه مخدة أو منديلا ًواتكأ عليه حتى مات، فإن فعل ذلك مدة يموت المخنوق من مثلها غالباً.. وجب على قاتله القود؛ لأنه تعمد قتله بما يقتل مثله غالباً، وإن كان في مدة يجوز أن يموت مثله في مثلها، ويجوز أن لا يموت، والغالب أنه لا يموت.. لم يجب عليه القود، وعليه دية مغلظة؛ لأن فعله عمد خطأ. وإن خنقه خنقاً يموت مثله من مثله، ثم أرسله حياً، ثم مات، فإن كان قد أورثه الخنق شيئاً حتى لا يخرج نفسه، أو بقي متألماً إلى أن مات.. وجب على الخانق القود؛ لأنه مات بسراية فعله، وإن خنقه وأرسله حياً لا يتألم ولا به ضنى، فصبر، فبرأ وصح، ثم مات.. فلا يجب قود على الخانق ولا دية؛ لأنه مات بسبب آخر، كما لو جرحه، فاندمل جرحه، ثم مات. وإن جعل في رقبته خراطة حبل، وتحت رجليه كرسياً، وشد الحبل إلى سقف

مسألة ألقاه في حفرة تأجج نارا

بيت وما أشبهه، ونزع الكرسي من تحت رجليه، فانخنق، ومات.. وجب عليه القود؛ لأنه أوحى الخنق. [مسألة ألقاه في حفرة تأجج ناراً] وإن طرحه في نار في حفير، فلم يمكنه الخروج منها حتى مات.. وجب عليه القود؛ لأنه قتله بما يقتل غالباً. وإن كانت النار في بسيط من الأرض، فإن كان لا يمكنه الخروج منها لكثرتها أو لشدة التهابها، أو بأن كتفه وألقاه فيها، أو بأن كان ضعيفاً لا يقدر على الخروج.. وجب عليه القود؛ لأنه قتله بما يقتل غالباً، وإن أمكنه الخروج منها، فلم يخرج حتى مات، وهو يعلم إمكان الخروج، بأن يقول: أنا أقدر على الخروج ولا أخرج.. لم يجب القود، وهل تجب عليه الدية؟ فيه قولان: أحدهما: تجب عليه الدية؛ لأنه ضمنه بطرحه في النار، فلم يسقط عنه الضمان بتركه الخروج مع قدرته عليه، كما لو جرحه جراحة، وأمكنه مداواتها، فلم يداوها حتى مات. والثاني: لا تجب عليه الدية؛ لأن النفس لم تخرج بالطرح في النار، وإنما خرجت ببقائه فيها باختياره، فهو كما لو خرج منها، ثم عاد إليها، ويفارق ترك المداواة؛ لأنه لم يحدث أمراً كان به التلف، بخلاف بقائه في النار؛ فإنه أحدث أمراً حصل به التلف، ولأن البرء في الدواء أمر مظنون، فلم تسقط به الدية، والسلامة بالخروج أمر متحقق، فسقط بتركه الضمان. فإذا قلنا بهذا: وجب على الطارح أرش ما عملت فيه النار، من حين طرحه فيها، إلى أن أمكنه الخروج فلم يخرج. [فرع طرحه في بحر عميق أو نحوه] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو طرحه في لجة بحر وهو يحسن العوم أو

لا يحسن العوم، فغرق فيها.. فعليه القود) . وجملة ذلك: أنه إذا طرحه في لجة البحر، فهلك.. فعليه القود، سواء كان يحسن العوم - وهو السباحة - أو لا يحسن؛ لأن لجة البحر مهلكة. وإن طرحه في البحر بقرب الساحل، فغرق، فمات.. فإن كان مكتوفاً أو غير مكتوف وهو لا يحسن السباحة.. فعليه القود، وإن كان يحسن السباحة، وأمكنه أن يخرج فلم يخرج حتى غرق ومات، أو طرحه فيما يمكنه الخروج منه، فلم يخرج منه حتى مات.. فلا يجب عليه القود، وهل تجب عليه الدية؟ فيه طريقان: [الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو طرحه في نار يمكنه الخروج منها، فلم يخرج منها حتى مات. و [الطريق الثاني] : منهم من قال: لا تجب عليه الدية، قولاً واحداً؛ لأن العادة لم تجر بأن يخوض الناس في النار، وجرت العادة أن يخوض الناس في الماء في البحر، فنفس الطرح في النار جناية. وإن طرحه في البحر بقرب الساحل وهو ممن يمكنه الخروج منه، فابتلعه حوت.. فلا قود عليه؛ لأنه كان يمكنه الخروج لو لم يبتلعه الحوت، وعليه الدية؛ لأنه كان السبب في موته. وإن طرحه في لجة البحر، فابتلعه حوت قبل أن يصل إلى الماء.. ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه القود؛ لأنه لو لم يبتلعه الحوت.. لما كان يتخلص. والثاني: لا يجب عليه القود، بل عليه الدية؛ لأن الهلاك لم يكن بفعله. والأول أصح.

مسألة حبسه فمات

وإن طرحه في ساحل بحر قد يزيد إليه الماء وقد لا يزيد، فزاد الماء وغرقه.. لم يجب عليه القود؛ لأنه لم يقصد قتله، وتجب عليه دية مغلظة؛ لأنه عمد خطأ. وإن كان الموضع لا يزيد الماء إليه، فزاد وغرقه.. لم يجب عليه القود، وتجب عليه دية مخففة، لأنه خطأ محض. [مسألة حبسه فمات] وإن حبس حراً وأطعمه وسقاه، فمات وهو في الحبس.. فلا قود عليه ولا دية، سواء مات حتف أنفه أو بسبب، كلدغ الحية، وسقوط الحائط، وما أشبهه. وقال أبو حنيفة: (إن كان صغيراً، فمات حتف أنفه.. فلا شيء عليه، وإن مات بسبب، كلدغ الحية، أو سقوط الحائط.. فعليه الدية) . ودليلنا: أنه حر، فلا يضمنه باليد، كما لو مات حتف أنفه. وأما إذا حبسه ومنعه الطعام والشراب أو أحدهما حتى مات.. نظرت: فإن حبسه عن ذلك مدة قد يموت مثله في مثلها غالباً.. وجب عليه القود؛ لأنه قتله بما يقتل مثله غالباً، فهو كما لو قتله بالسيف. وإن كانت مدة قد يموت مثله في مثلها، وقد لا يموت مثله في مثلها.. لم يجب القود، وإنما تجب عليه الدية. وإن كانت مدة لا يجوز أن يموت مثله في مثلها بمنع الطعام والشراب.. فلا قود عليه ولا دية؛ لأنا نعلم أنه مات بسبب آخر، ويعتبر حال المحبوس، فإن حبسه وهو جائع.. فإنه لا يصبر عن الطعام والشراب إلا المدة القليلة، وإن كان شبعان.. فإنه يصبر أكثر من مدة صبر الجائع. ويعتبر الطعام على انفراده، والشراب على انفراده؛ لأن الإنسان يصبر عن الطعام أكثر مما يصبر عن الشراب. وإن أمكنه الخروج إلى الطعام والشراب، فلم يخرج حتى مات.. قال الطبري: فلا قود عليه بحال.

فرع أمسك رجلا فقتله آخر

[فرع أمسك رجلاً فقتله آخر] إذا أمسك رجل رجلاً، فجاء آخر فقتله.. وجب القود على القاتل دون الممسك، إلا أن الممسك إن كان أمسكه مداعبة أو ليضربه.. فلا إثم عليه ولا تعزير، وإن أمسكه ليقتله الآخر.. أثم بذلك وعزر. هذا مذهبنا، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال ربيعة: يقتل القاتل، ويحبس الممسك حتى يموت. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن حبسه ليضربه الآخر، أو أمسكه ليضربه، أو مداعبة، فجاء الآخر فقتله.. فلا قود عليه ولا دية، وإن أمسكه ليقتله الآخر.. فعليه القود) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] [البقرة: 194] فلو أوجبنا على الممسك القود.. كنا قد اعتدينا عليه بأكثر مما اعتدى. وروى أبو شريح الخزاعي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن من أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله، أو طلب بدم الجاهلية في الإسلام، أو بصر عينيه في النوم ما لم تبصر» . فلو قتل الولي الممسك.. لكان قد قتل غير قاتله. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن رجل أمسك رجلاً حتى جاء آخر فقتله، فقال: " يقتل القاتل، ويصبر الصابر» قال أبو عبيد: معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يصبر

مسألة قيد شخصا فأكله سبع

الصابر " أي: يحبس، وأراد بالحبس: التعزير بالحبس. ولأنه سبب غير ملجئ، اجتمع مع المباشرة، فتعلق الضمان بالمباشرة دون السبب، كما لو حفر بئراً، أو نصب سكيناً، فدفع عليها آخر رجلاً، فمات. ولأنه لو كان بالإمساك شريكاً.. لكان إذا مسك الرجل امرأة، وزنى بها آخر.. أن يجب عليهما الحد، فلما لم يجب الحد على الممسك.. لم يجب القود على الممسك. [مسألة قيد شخصاً فأكله سبع] وإن كتف رجلاً أو قيده، فأكله السبع.. ففيه ثلاث مسائل، ذكرها الشيخ أبو حامد: إحداهن: إذا قيده أو كتفه وطرحه في أرض مسبعة، فجاء السبع فأكله.. فإنه لا قود على الطارح له، ولا دية؛ لأن السبع أكله باختياره، ولأن له اختياراً، كما لو أمسكه، فقتله آخر. الثانية: إذا قيده في صحراء، ثم رمى بالسبع عليه، أو رمى به على السبع، فأكله.. فلا قود عليه ولا دية؛ لأن من طبع السبع إذا رمي به على إنسان، أو رمي بإنسان عليه.. أن ينفر عنه، فإذا لم ينفر عنه.. كان أكله له باختياره. الثالثة: إذا كان السبع في مضيق أو بيت أو بئر أو زبية، فرمي بالإنسان عليه،

فرع طرحه في أرض ذات حيات

أو كان الإنسان في المضيق أو في البيت أو في البئر أو في الزبية، فرمي بالسبع عليه، فضربه السبع، فمات، فإن ضربه السبع ضرباً يقتل مثله في الغالب.. وجب على الرامي القود؛ لأنه قد اضطر السبع إلى قتله، وإن ضربه ضرباً لا يقتل مثله في الغالب، فمات.. لم يجب على الرامي القود؛ لأن الغالب منه السلامة، وتجب عليه الدية في ماله. وكذلك حكم النمر، وما في معناه. وإن أمسك السبع أو النمر، وأفرسه إياه، فأكله.. فعليه القود؛ لأنه قد اضطره إلى ذلك. [فرع طرحه في أرض ذات حيات] وإن قيد رجلاً وطرحه في أرض ذات حيات، فنهشته حية منها، فمات.. فلا قود عليه ولا دية، سواء كان في موضع ضيق أو واسع. وكذلك: إذا رمي به على الحية، أو رمي بالحية عليه؛ لأن الحيات والعقارب من طبعها النفور من الإنسان. وإن أخذ الحية أو العقرب بيده، وأنهشها إنساناً.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ضغطها أو لم يضغطها، فنهشته، فمات، فإن كان من الحيات التي تقتل في الغالب، كحيات الطائف، وأفاعي مكة.. وجب عليه القود؛ لأنه توصل إلى قتله بما يقتل غالباً، فهو كما لو قتله بالسيف، وإن كان مما لا يقتل غالباً مثلها، كثعابين مكة والحجاز، وأفاعي مصر.. ففيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القود؛ لأنه لا يقتل مثلها غالباً، ويجب عليه دية مغلظة؛ لأنه شبه عمد. والثاني: يجب عليه القود؛ لأن جنسها يقتل غالباً، فهو بمنزلة الجراح) .

مسألة سقاه سما فمات

[مسألة سقاه سماً فمات] إذا سقى رجلاً سماً، فمات المسقي، فلا يخلو: إما أن يكرهه، أو لا يكرهه. فإن أكرهه على شربه، بأن صبه في حلقه مكرهاً له على ذلك.. نظرت: فإن أقر الساقي: أنه سم يقتل مثله غالباً.. وجب عليه القود؛ لأنه قتله بما يقتل غالباً، فهو كما لو قتله بالسيف. وإن ادعى ولي المقتول: أنه يقتل غالباً، وأنكر الساقي أنه يقتل غالبا، فإن أقام ولي المقتول بينة: أنه يقتل غالباً. وجب القود على الساقي؛ لأنه ثبت أنه يقتل غالبا.. وإن أقام ولي المقتول بينة: أنه يقتل نحيف الخلق، ولا يقتل قوي الخلق.. لم يجب عليه القود، وإنما تجب عليه دية مغلظة. وإن لم يقم ولي المقتول بينة، ولكن أقام الساقي بينة: أنه لا يقتل غالباً.. لم يجب عليه القود، وإنما تجب عليه دية مغلظة. وإن لم يكن هناك بينة.. فالقول قول الساقي مع يمينه: أنه لم يكن يقتل غالباً؛ لأن الأصل عدم القود، فإذا حلف.. لم يجب عليه القود، وعليه دية مغلظة. وإن قامت البينة: أنه كان يقتل غالباً، أو اعترف الساقي بذلك، إلا أنه ادعى: أنه لم يعلم أنه يقتل غالباً وقت السقي.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القود؛ لأن ما ادعاه محتمل، وذلك شبهة توجب سقوط القود عنه. والثاني: يجب عليه؛ لأنه قتله بما يقتل غالباً، فلا يصدق في دعواه، كما لو جرحه. وإن خلط السم بطعام أو شراب، وأكرهه، فأوجره في حلقه، فمات، فإن كان الطعام أو الشراب قد كسر حدة السم، فصار لا يقتل غالباً.. لم يجب عليه

القود، وإن لم يكسر حدته.. فهو كما لو سقاه السم منفرداً. فإن لم يكرهه على ذلك، وإنما ناوله إياه، فشربه.. نظرت: فإن كان الشارب صبياً لا تمييز له، أو كبيراً مجنوناً، أو أعجمياً يعتقد وجوب طاعة الأمر.. فعلى الدافع إليه الضمان؛ لأنه كالآلة له حيث اعتقد طاعته فيه. وإن كان عاقلاً مميزاً.. فلا ضمان على الدافع؛ لأنه قتل نفسه باختياره أو بتفريطه. وإن خلطه به، ولم يكسر الطعام حدة السم، فأكله إنسان، ومات.. نظرت: فإن كان الطعام الذي خلط فيه السم قدمه إلى إنسان، وقال: كله، فأكله.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان: أحدهما: يجب عليه القود؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن يهودية بخيبر أهدت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاة مصلية، فأكل منها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ثم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارفعوا أيديكم، فإنها قد أخبرتني: أنها مسمومة "، فأرسل إلى اليهودية، وقال: " ما حملك على ما صنعت؟ "، فقالت: قلت: إن كنت نبياً.. لم يضرك الذي صنعت، وإن كنت ملكاً.. أرحت الناس منك. فأكل منها بشر بن البراء بن معرور، فمات، فأرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليهودية، فقتلها، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما زالت أكلة خيبر تعادني، فهذا أوان قطعت أبهري» .

ومعنى قوله: " تعادني " أي: يأتيني ألمها لوقت معلوم. و (الأبهر) : عرق متصل بالقلب، متى انقطع.. مات الإنسان. ولأن العادة جرت أن من قدم إليه الطعام.. فإنه يأكل منه، فصار كأنه ألجأه إلى أكله، فوجب عليه القود، كما لو أكرهه عليه. والثاني: لا يجب عليه القود؛ لأنه أكله باختياره، فصار كما لو قتل نفسه بسكين. فإذا قلنا بهذا: فهل تجب عليه الدية؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال القاضي أبو الطيب: فيه قولان: أحدهما: لا تجب عليه الدية؛ لأنه هو الجاني على نفسه. والثاني: تجب عليه الدية؛ لأن التلف حصل بسبب منه، فصار كما لو حفر بئراً في طريق الناس، فهلك فيها إنسان. وقال الشيخ أبو حامد: تجب عليه الدية، قولا ًواحداً؛ لما ذكرناه. ولا يعرف هاهنا قولان. وإن خلط السم بطعام، وقدمه إلى رجل، وقال: فيه سم يقتل غالباً، فأكله، فمات.. فلا قود عليه ولا دية؛ لأنه قتل نفسه. وإن خلط السم بطعام، وقدمه إلى صبي لا يميز، أو إلى بالغ مجنون، أو إلى أعجمي لا يعقل ولا يميز، وقال: كله، فإن فيه سماً قاتلاً، فأكله، فمات.. وجب عليه القود؛ لأنه لا تمييز له، فهو كما لو قتله بيده.

مسألة سحر إنسانا فمات

وإن خلط السم بطعام له، وتركه في بيته، فدخل رجل بيته، وأكل الطعام، ومات.. لم يجب عليه قود ولا دية؛ لأن الآكل فرط وتعدى بأكل طعام غيره بغير إذنه. وإن خلط السم بطعام لغيره، فجاء صاحب الطعام، فأكل طعامه، ولم يعلم بالسم، فمات.. وجب على الذي خلط فيه السم قيمة الطعام؛ لأنه أفسده، وهل يجب عليه القود في الذي أكله؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان، كما لو خلطه بطعام نفسه، وقدمه إلى من أكله؛ لأن الإنسان يأكل طعامه بحكم العادة والحاجة، فصار كما لو خلطه بطعام، ودعاه إلى أكله. ومنهم من قال: لا يجب عليه القود، قولاً واحدا؛ لأنه لم يوجد منه أكثر من إفساد الطعام. [مسألة سحر إنساناً فمات] وإذا سحر رجل رجلاً، فمات المسحور.. سئل الساحر عن سحره، فإن قال: سحري يقتل غالباً، وقد قتلته به.. وجب عليه القود. وقال أبو حنيفة: (لا يجب عليه القود) . دليلنا: أنه قتله بما يقتل غالباً، فهو كما لو قتله بسيف. وإن قال: سحري لا يقتل.. وجب عليه دية مخففة؛ لأنه خطأ.

مسألة أمر بقتل رجل

وإن قال: قد يقتل وقد لا يقتل، والغالب منه السلامة.. وجبت عليه دية مغلظة في ماله. وإن قال الساحر: قتلت بسحري جماعة، ولم يعين من قتل.. لم يقتل. وقال أبو حنيفة: (يقتل حداً؛ لأنه يسعى في الأرض بالفساد) . ودليلنا: أن السعي في الأرض بالفساد هو: إشهار السلاح، وإخافة الطريق، وأما القتل: فليس بالسعي بالفساد، كما لو قتل جماعة مستخفاً بقتلهم. [مسألة أمر بقتل رجل] ] : إذا أمر الإمام رجلاً أن يقتل رجلا بغير حق، فقتله.. فلا يخلو: إما أن يكرهه على قتله، أو لا يكرهه. فإن لم يكرهه، بل قال له: اقتله، فإن كان المأمور يعلم أنه أمر بقتله بغير حق.. لم يجز له قتله؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» ،

وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أمركم من الولاة بغير طاعة الله.. فلا تطيعوه» . فإن خالف وقتله.. فسق المأمور بذلك، ووجب عليه القود والكفارة؛ لأنه قتله بغير حق، ولا يلحق الإمام إلا الإثم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعان على قتل امرئ مسلم ولو بشطر كلمة.. جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله» . هذا نقل البغداديين. وقال الخراسانيون: هل يكون مجرد أمر الإمام أو السلطان إكراهاً؟ فيه وجهان. وأما إذا كان المأمور لا يعلم أنه أمر بقتله بغير حق.. وجب على الإمام القود والكفارة؛ لأن الإمام لا يباشر القتل بنفسه، وإنما يأمر به غيره، فإذا أمر غيره وقتله بغير حق.. تعلق الحكم بالإمام، كما لو قتله بيده، وأما المأمور: فلا يجب عليه إثم ولا قود ولا كفارة؛ لأن اتباع أمر الإمام واجب عليه؛ لأن الظاهر أنه لا يأمر إلا بحق. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب له أن يكفر) . وأما إذا أمره أو أكرهه الإمام على القتل، وعلم المأمور أنه يقتل بغير حق.. فلا يجوز للمأمور القتل؛ لما ذكرناه إذا لم يكرهه، فإن قتل.. فإنه يأثم بذلك ويفسق، ويجب على الإمام القود والكفارة في ماله، وأما المكره المأمور: فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان:

أحدهما: لا يجب عليه القود، وهو قول أبي حنيفة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» ، ولأنه قتله لاستبقاء نفسه.. فلم يجب عليه القود، كما لو قصد رجل نفسه، فلم يمكنه دفعه إلا بقتله. والثاني: يجب عليه القود، وبه قال مالك، وأحمد رحمة الله عليهما، وهو الأصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» . وهذا قاتل، ولأنه قصد قتل من يكافئه لاستبقاء نفسه، فوجب عليه القود، كما لو جاع.. فقتله ليأكله، ولأن رجلين لو كانا في مضيق أو بيت، فدخل عليهما أسد أو سبع، فدفع أحدهما صاحبه إليه خوفاً على نفسه، فأكله الأسد أو السبع.. لوجب القصاص على الدافع. وكذلك: لو كان جماعة في البحر، فخافوا الغرق، فدفعوا واحداً منهم في البحر لتخف السفينة، وغرق، ومات.. وجب عليهم القود وإن كان ذلك لاستبقاء أنفسهم، فكذلك هذا مثله. فإذا قلنا: يجب على المأمور القود.. كان الولي بالخيار: بين أن يقتل المكره، وبين أن يعفو عنهما، ويأخذ منهما الدية. وإن قلنا: لا يجب على المأمور المكره القود.. فعليه نصف الدية؛ لأنه قد باشر القتل، ويجب على كل واحد منهما الكفارة على القولين معاً. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: إذا قلنا: لا يجب على المأمور القود.. فهل يجب عليه نصف الدية؟ فيه وجهان.

فإن قلنا: عليه نصف الدية.. كان عليه الكفارة. وإن قلنا: لا تجب عليه نصف الدية.. فهل تجب عليه الكفارة؟ فيه وجهان. إذا ثبت هذا: فإنه لا فرق بين الإمام وبين النائب عنه في ذلك؛ لأن طاعته تجب كما تجب طاعة الإمام. وكذلك: إذا تغلب رجل على بلد أو إقليم بتأويل، وادعى: أنه الإمام، كالإمام الذي نصبه الخوارج.. فحكمه حكم الإمام في ذلك؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يرد من أفعاله إلا ما يرد من أفعال الإمام العدل، وكذلك قاضيهم. وأما إذا تغلب رجل على بلد بغير تأويل، بل باللصوصية، وأمر رجلاً بقتل رجل بغير حق، أو أمره رجل من الرعية بقتل رجل بغير حق، فإن لم يكرهه الآمر على القتل، فقتله.. وجب على المأمور القاتل القود والكفارة، سواء علم أنه أمره بقتله بحق أو بغير حق؛ لأنه لا يجب عليه طاعته بخلاف الإمام، ولا يلحق الإمام إلا الإثم؛ للمشاركة بالقول. وأما القود والدية والكفارة: فلا تجب عليه؛ لأنه لم يلجئه إلى قتله. وأما إذا أكرهه على قتله: وجب على الآخر القود والكفارة؛ لأنه توصل إلى قتله بالإكراه، فهو كما لو قتله بيده. وأما المأمور: فإن كان يمكنه أن يدفع الآمر بنفسه أو بعشيرته أو بمن يستعين به.. فلا يجوز له أن يقتل، فإن قتل.. فعليه القود والكفارة. وإن لم يمكنه أن يدفع الآمر بنفسه، فقتل.. فهل يجب عليه القود؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال أكثرهم: فيه قولان، كما قلنا في الذي أكرهه الإمام. ومنهم من قال: يجب عليه القود، قولا ًواحداً؛ لأن الذي أكرهه الإمام له شبهة في أمر الإمام؛ لجواز أن يكون الإمام قد علم بأمر يوجب القتل على المقتول وإن لم يعلم به المأمور، وطاعة الإمام تجب، بخلاف المتغلب باللصوصية وآحاد الرعية،

فرع كيفية الإكراه

فإنه لا يجوز له ذلك، ولا يجب على المأمور طاعته. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: لا يجب القود على من أكرهه الإمام، قولاً واحداً، ويجب القود على من أكرهه غير الإمام، قولاً واحداً؛ لما ذكرناه من الفرق بينهما. والطريق الأول أصح. إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " الأم ": (ولو أمر الإمام رجلاً بقتل رجل ظلماً، ففعل المأمور ذلك.. كان عليهما القود) . واختلف أصحابنا في تأويله: فقال أبو إسحاق: أراد: إذا أكرهه وأجاب، على أحد القولين. ومنهم من قال: لم يرد بذلك إذا أكرهه؛ لأنه ذكر الإكراه بعد ذلك، وإنما تأويله: أن يقتل مسلماً بكافر، والإمام والمأمور يعتقدان أنه لا يقتل به، إلا أن المأمور اعتقد أن الإمام قد أداه اجتهاده إلى ذلك.. فيجب عليهما القود؛ أما الإمام: فلأنه ألجأه إلى قتله بأمره؛ لأن طاعة أمره واجبة، وأما المأمور: فلأن القتل إذا كان محرماً.. لم يجز له أن يفعله، وإن كان الإمام يرى إباحته.. فيلزمهما القود. [فرع كيفية الإكراه] واختلف أصحابنا في كيفية الإكراه على القتل: فقال ابن الصباغ: لا يكون الإكراه عليه إلا بالقتل، أو بجرح يخاف منه التلف، فأما إذا أكرهه بضرب لا يموت منه، أو بأخذ مال.. فلا يكون إكراهاً؛ لأن ذلك لا يكون عذراً في إتلاف النفس لحرمتها؛ ولهذا: يجب عليه الدفع عن نفسه في أحد الوجهين، ولا يجب عليه الدفع عن ماله، بل يجب عليه بذله لإحياء نفس غيره. وقال الشيخ الإمام أبو حامد في " التعليق ": إذا أكرهه بأخذ المال عن القتل.. كان إكراهاً، كما قلنا في الإكراه على الطلاق.

فرع أمر الصغير والمطيع

وقال الطبري: إذا أكرهه على القتل بما لا تحتمله نفسه.. كان إكراهاً، كما قلنا في الطلاق. [فرع أمر الصغير والمطيع] فإن أمر عبده الصغير الذي لا يميز، أو كان أعجمياً لا يميز، ويعتقد طاعته في كل ما يأمره به، بقتل رجل بغير حق، فقتله.. وجب القود والكفارة على الآمر، ولا يجب على المأمور شيء؛ لأن المأمور كالآلة للآمر، فصار كما لو قتله بيده. وكذلك: إذا كان المأمور عبداً لغيره، أو حراً يعتقد طاعة كل من أمره.. فالحكم فيه وفي غيره واحد. ولو أمره بسرقة نصاب لغيره من حرز مثله، فسرقه.. لم يجب على الآمر القطع؛ لأن وجوب القصاص آكد من وجوب القطع في السرقة؛ ولهذا: يجب القصاص في السبب، ولا يجب القطع بالسبب. ولو قال للصغير الذي لا يميز، أو للأعجمي الذي يعتقد طاعته في كل ما يأمره به: اقتلني، فقتله.. كان دمه هدراً؛ لأنه آلة له، فهو كما لو قتل نفسه، ويجب عليه الكفارة في ماله. وإن أمر الصغير الذي لا يميز، أو البالغ المجنون أن يذبح نفسه، فذبحها، أو يجرح مقتلاً من نفسه، فجرحه، فمات، فإن كان عبده.. لم يجب عليه ضمانه؛ لأنه ملكه، ولكنه يأثم، وتجب عليه الكفارة، وإن كان عبداً لغيره.. وجب عليه ضمانه والكفارة، ولا يجب عليه القود إن كان الآمر حراً، لأنه لا يكافئه، وإن كان الآمر له عبداً، أو كان المأمور حراً.. وجب على الآمر القود والكفارة، كما لو قتله. وإن قال لأعجمي يعتقد طاعة كل من يأمره: اذبح نفسك، فذبحها.. لم يجب

فرع الإكراه على إتلاف مال آخر

على الآمر الضمان؛ لأنه لا يجوز أن يخفى عليه أن قتل نفسه لا يجوز وإن جاز أن يخفى عليه أن قتل غيره يجوز. وإن أمره أن يجرح مقتلاً من نفسه، فجرحه، ومات.. فإن الشيخ أبا حامد ذكر: أن حكمه حكم ما لو أمره بقتل نفسه. وذكر ابن الصباغ في " الشامل ": أنه يجب على الآمر ضمانه؛ لأنه يجوز أن يخفى عليه أنه يقتله، بخلاف أمره له بقتله لنفسه. وإن أمر عبداً أعجمياً، بالغاً، عاقلاً، لا يعتقد وجوب طاعة من يأمره بغير حق، بقتل إنسان بغير حق، فقتله، فإن لم يكرهه على القتل.. لم يجب على الآمر قود ولا دية ولا كفارة، وإنما عليه الإثم فقط، ويتعلق حكم القتل بالعبد، فيجب عليه القود، وإن عفا عن القود.. تعلقت الدية برقبته، وإن أكرهه على القتل.. وجب على الآمر القود، وهل يجب القود على العبد المأمور؟ على ما مضى في إكراه الحر. وإن أمر عبداً مراهقاً، يعلم أن طاعته لا تجوز بما لا يوافق الشرع بقتل إنسان بغير حق، فإن لم يكرهه على القتل.. لم يجب على كل واحد منهما القود، وتتعلق الدية برقبة العبد، وإن أكرهه على القتل.. لم يجب على الصبي قود، وهل يجب القود على الآمر؟ إن قلنا: إن عمد الصبي عمد.. وجب عليه القود. وإن قلنا: إن عمده خطأ.. لم يجب عليه القود. [فرع الإكراه على إتلاف مال آخر] ] : وإن أكره رجلاً على إتلاف مال لغيره.. فإن الضمان يتقرر على الآمر، وهل للمالك أن يطالب المأمور؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري: أحدهما: له أن يطالبه؛ لأنه باشر الإتلاف.

مسألة إذا قتل بشهادتهما فعليه القود

فعلى هذا: يرجع المأمور على الآمر. والثاني: ليس للمالك مطالبة المأمور؛ لأنه آلة للآمر. [مسألة إذا قتل بشهادتهما فعليه القود] وإن شهد شاهدان على رجل بما يوجب القتل بغير حق، فقتل بشهادتهما، وعمدا الشهادة عليه، وعلما أنه يقتل بشهادتهما.. وجب القود عليهما؛ لما روي: أن رجلين شهدا عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل: أنه سرق، فقطعه، ثم رجعا عن شهادتهما، فقال: (لو أعلم أنكما تعمدتما الشهادة عليه.. لقطعت أيديكما) . وغرمهما دية يده. ولأنهما توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالباً، فهو كما لو جرحاه، فمات. [فرع أمره بقطع يده فقطع فلا قود] لو قال لرجل: اقطع يدي، فقطع يده.. فلا قود على القاطع ولا دية؛ لأنه أذن له في إتلافها، فهو كما لو أذن له في إتلاف ماله، فأتلفه. وإن قال له: اقتلني، فقتله، أو أذن له في قطع يده، فقطعها، فسرى القطع إلى نفسه فمات.. لم يجب عليه القود. وأما الدية: فقال أكثر أصحابنا: تبنى على القولين، متى تجب دية المقتول؟ فإن قلنا: تجب في آخر جزء من أجزاء حياته.. لم تجب هاهنا. وإن قلنا: إنها تجب بعد موته.. وجبت ديته لورثته. قال ابن الصباغ: وعندي في هذا نظر؛ لأن هذا الإذن ليس بإسقاط لما يجب بالجناية، ولو كان إسقاطاً لها.. لما سقط، كما لا يصح أن يقول له: أسقطت عنك

ما يجب لي بالجناية أو إتلاف المال، وإنما سقط لوجود الإذن فيه، ولا فرق بين النفس فيه والأطراف، وهذا يدل على: أن الدية تسقط عنده، قولاً واحداً. وإن فصده أو حجمه، فمات، فإن كان بغير أمره.. وجب عليه القود، وإن كان بأمره.. لم يجب عليه قود ولا دية، قولاً واحداً؛ لأن الفصد مباح، بخلاف القتل. وبالله التوفيق والعون، وهو حسبي ونعم الوكيل

باب القصاص في الجروح والأعضاء

[باب القصاص في الجروح والأعضاء] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (والقصاص فيما دون النفس شيئان: جرح يستوفى، وطرف يقطع) . وجملة ذلك: أن القصاص يجب فيما دون النفس من الجروح والأعضاء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] . ولما روي: «أن الربيع بنت معوذ - وقيل: بنت أنس - كسرت ثنية جارية من الأنصار، فعرضوا عليهم الأرش، فلم يقبلوا، فطلبوا العفو، فأبوا، فأتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر بالقصاص، فقال أنس بن النضر: والذي بعثك بالحق نبياً لا تكسر ثنيتها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كتاب الله القصاص "، فعفا القوم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» . ولأن القصاص في النفس إنما جعل لحفظ النفس، وهذا موجود فيما دون النفس. إذا ثبت هذا: فكل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس.. جرى القصاص بينهما فيما دون النفس، فتقطع يد الحر المسلم بيد الحر المسلم، ويد الكافر بيد الكافر، ويد المرأة بيد المرأة. وهذا إجماع. وتقطع يد المرأة بيد الرجل، ويد الرجل بيد المرأة، ويد العبد بيد الحر والعبد عندنا، وبه قال مالك، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وقال أبو حنيفة: (إذا اختلف الشخصان في الدية.. لم يجز القصاص بينهما فيما دون النفس، فلا تقطع يد الرجل بيد المرأة، ولا يد المرأة بيد الرجل، ولا يد العبد بيد الحر، ولا يد العبد بيد العبد إذا اختلفت قيمتهما) .

مسألة اشتراك جماعة في إبانة عضو

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ولم يفرق. ولأن كل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس.. جرى القصاص بينهما فيما دون النفس، كالحرين المسلمين. [مسألة اشتراك جماعة في إبانة عضو] وإن اشترك جماعة في إبانة عضو، أو جراحة يثبت بها القصاص، ولم يتميز فعل بعضهم عن بعض، مثل: أن أجرى جماعة سيفاً في أيديهم على يد رجل أو رجله، فقطعوها، أو على رأسه، فأوضحوه.. قطعت يد كل واحد منهم، وأوضح كل واحد منهم، وبه قال ربيعة، ومالك، وأحمد. وقال الثوري، وأبو حنيفة: (لا يقتص منهم، بل ينتقل حق المجني عليه إلى الدية) . دليلنا: ما روي: أن رجلين شهدا عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل بالسرقة، فقطع يده، ثم أتياه برجل آخر، وقالا: هذا الذي سرق وأخطأنا في ذلك.. فلم يقبل شهادتهما على الثاني، وغرمهما دية يد، وقال: (لو أعلم أنكما تعمدتما.. لقطعت أيديكما) . وروي: (لقطعتكما) . ولا مخالف له في الصحابة. ولأن كل جناية وجب بها القصاص على الواحد.. وجب بها القصاص على الجماعة، كالنفس. وإن قطع أحدهما بعض العضو وأبانه الثاني، أو وضع أحدهما السكين على المفصل، ووضع الآخر عليه السكين من الجانب الآخر، ثم قطعاه وأباناه.. لم يجب على أحدهما قصاص في إبانة العضو؛ لأن جناية كل واحد منهما وقعت متميزة في بعض العضو، فلا يقتص منه في جميعه.

فرع يعتبر في المجني به ما يعتبر بالنفس

[فرع يعتبر في المجني به ما يعتبر بالنفس] ويعتبر في المجني به على ما دون النفس ما يعتبر في النفس، فإن رماه بحجر كبير يوضحه مثله في الغالب، فأوضحه.. وجب عليه القود. وإن لطمه، وورم، وانتفخ، وصار موضحة.. فلا قود عليه فيها، وتجب فيها الدية. وإن رماه بحجر صغير لا يوضح مثله في الغالب، فأوضحه.. لم يجب عليه القود، ووجبت عليه الدية، كما قلنا في النفس. وحكى ابن الصباغ في " الشامل ": أن الشيخ أبا حامد قال: إذا كان الحجر مما يوضح غالباً، ولا يقتل غالباً.. فإنه يجب القصاص في الموضحة، فإذا مات.. لم يجب القصاص. قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأن من أوضح غيره بحديدة، فمات منها.. وجب عليه القود، فإذا كانت هذه الآلة توضح في الغالب.. كانت كالحديدة. [مسألة القصاص في الجروح والأعضاء] ويجب القصاص فيما دون النفس في شيئين: الجروح والأعضاء. والجروح ضربان: جروح في الرأس والوجه، وجروح فيما سواهما من البدن. فأما الجروح في الرأس والوجه: فتسمى: الشجاج. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (هي عشر: أولها: (الخارصة) : وهي التي تكشط الجلد كشطاً لا يدمي، ومنه يقال: (خرص القصار الثوب) : إذا كشط درنه ووسخه. وبعدها (الدامية) : وهي التي كشطت الجلد، وخرج منها الدم.

وبعدها (الباضعة) : وهي التي تبضع اللحم، أي: تشقه بعد الجلد. وبعدها (المتلاحمة) : وهي التي تنزل في اللحم. وبعدها (السمحاق) : وهي التي وصلت إلى جلدة رقيقة بين اللحم والعظم، وتسمى تلك الجلدة: السمحاق. وبعداه (الموضحة) : وهي التي أوضحت العظم، وكشفت عنه. وبعدها (الهاشمة) : وهي التي هشمت العظم. وبعدها (المنقلة) : قال الشيخ أبو حامد: ولها تأويلان: أحدهما: أن تنقل العظم من موضع إلى موضع. والثاني: أنه في تداويه لا بد من إخراج شيء من العظم منه. وبعدها (المأمومة) : وتسمى: الآمة، وهي التي قطعت العظم، وبلغت إلى قشرة رقيقة فوق الدماغ. وبعدها (الدامغة) : وهي التي بلغت إلى الدماغ) . وحكي عن أبي العباس ابن سريج: أنه زاد الدامغة بعد الدامية، وقال: (الدامية) : التي يخرج منها الدم ولا يجري، و (الدامغة) : ما يخرج منها الدم ويجري. وقال الأزهري: (الدامغة) : قبل الدامية، وهي التي يخرج منها الدم بقطرة، و (الدامية) : هي التي يخرج منها الدم أكثر.

إذا ثبت هذا: فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في " الأم ": (لا قصاص فيما دون الموضحة من الشجاج) ، ونقل المزني: لو جرحه، فلم يوضحه.. اقتص منه بقدر ما شق من الموضحة. واختلف أصحابنا فيه: فقال الخراسانيون: هل يجب القصاص فيما دون الموضحة من الشجاج؟ فيه قولان. وقال أكثر أصحابنا البغداديين: لا يجب القصاص فيما دون الموضحة، وما نقله المزني فيه سهو؛ لأن القصاص هو المماثلة، ولا يمكن المماثلة فيما دون الموضحة، فلو أوجبنا فيها القصاص.. لم نأمن أن نأخذ في موضحة بمتلاحمة؛ لأنه قد يكون رأس المجني عليه غليظ الجلد كثير اللحم، ويكون رأس الجاني رقيق الجلد قليل اللحم، فإذا قدرنا العمق في المتلاحمة في رأس المجني عليه، وأوجبنا قدره في رأس الجاني.. فربما بلغت إلى العظم، وذلك لا يجوز. وقال الشيخ أبو حامد: يمكن عندي القصاص فيما دون الموضحة من الشجاج على ما نقله المزني، بأن يكون في رأس المجني عليه موضحة، وفي رأس الجاني موضحة، فينظر إلى المتلاحمة التي في رأس المجني عليه، وينظر كم قدرها من الموضحة التي في رأس الجاني، فإن كانت قدر نصفها.. نظر كم قدر الموضحة التي في رأس الجاني، فيقتص منه نصف موضحته التي في رأسه. والمشهور: أنه لا قصاص في ذلك. وأما الموضحة: فيجب فيها القصاص؛ لأن المماثلة فيها ممكنة من غير حيف، فتقدر الموضحة بالطول والعرض، ويعلم عليه بخيط أو سواد، ولا يعتبر العمق؛ لأنه يأخذ إلى العظم.

فرع اختلاف كبر الرأس وصغره مع الشجة

وإن كانت الشجة في الرأس، وعلى موضعها في رأس الجاني شعر.. فالمستحب: أن يحلق ذلك الشعر؛ لأنه أسهل في الاستيفاء، وإن اقتص ولم يحلق الشعر.. جاز؛ لأنه لا يأخذ إلا قدر حقه. [فرع اختلاف كبر الرأس وصغره مع الشجة] وإذا شج رجل رجلاً في رأسه شجة.. فلا يخلو: إما أن تستوي رأساهما في الصغر والكبر، أو تختلفا. فإن استوى رأساهما في الصغر أو الكبر.. فإنه يستوفي مثل موضحته بالطول والعرض في موضعها، إما في مقدم الرأس، أو مؤخره، أو بين قرنيه. وإن اختلفا.. نظرت: فإن كان رأس الجاني أكبر، ورأس المجني عليه أصغر، فجنى عليه موضحة من منبت الشعر فوق الأذن إلى منبت الشعر فوق الأذن، وكان قدر طولها وعرضها في رأس الجاني ينتهي إلى أعلى من ذلك الموضع لسعته.. فليس للمجني عليه أن يأخذ إلا قدر موضحته طولاً وعرضاً لا يزيد عليه، ولكن له أن يبتدئ بالاقتصاص من أي الجانبين شاء. وإن أوضح جميع رأسه.. فللمجني عليه أن يقتص قدر موضحته طولاً وعرضاً في أي موضع شاء من رأس الجاني؛ لأنه قد جنى عليه في ذلك الموضع في رأسه. فإن أراد أن يقتص بعضها في مقدم رأس الجاني، وبعضها في مؤخر رأس الجاني، ويكون بينهما فاصل.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له ذلك؛ لأنه يأخذ موضحتين بموضحة. والثاني - وهو قول الشيخ أبي إسحاق -: أنه يجوز؛ لأنه لا يأخذ إلا قدر حقه، إلا إن قال أهل الخبرة: إن في ذلك زيادة ضرر، أو زيادة شين.. فيمنع من ذلك.

فرع يقتص من الموضحة

وإن كان رأس المجني عليه أكبر من رأس الجاني، فأوضحه موضحة في مقدم رأسه، وكان قدر طولها وعرضها في رأس الجاني يزيد على ذلك الموضع.. ففيه وجهان: أحدهما: أن للمجني عليه أن يقتص في مقدم رأس الجاني، ويستكمل قدر طول موضحته وعرضها مما يلي ذلك من مؤخر رأس الجاني؛ لأنه عضو واحد. فإن زادت موضحته على قدر الرأس.. لم يكن له أن يستوفي باقيها في الوجه ولا في القفا، وهو: ما نزل عن منبت شعر الرأس من العنق؛ لأنهما عضوان آخران. والوجه الثاني: أنه لا يجوز له أن يتجاوز عن سمت موضع الشجة؛ لأنه غير موضع الشجة، فلم يتجاوزه، كما لا يجوز له أن يتجاوز عن موضحة الرأس إلى الوجه والقفا. فعلى هذا: إن كانت الموضحة في مقدم الرأس، وزاد قدرها على مقدم رأس الجاني.. لم ينزل إلى مؤخره، وإن كانت بين قرني الرأس - وهما: جانباه - وزاد قدرها على ما بين قرني رأس الجاني. فللمجني عليه أن يقتص إلى ما فوق الأذنين؛ لأنه في سمتها، وليس له أن يستوفي في مقدم الرأس ولا في مؤخره؛ لأنه في غير سمته. [فرع يقتص من الموضحة] وأما الهاشمة والمنقلة والمأمومة: فله أن يقتص في الموضحة منها، وليس له أن يقتص فيما زاد عليها؛ لأن كسر العظم لا يمكن المماثلة فيه؛ لأنه يخاف فيه الحيف، وإتلاف النفس. [فرع جراحة غير الرأس والوجه] وأما الجراحة في غير الرأس والوجه: فينظر فيها: فإن وصلت إلى عظم.. وجب فيها القصاص.

مسألة القصاص في الأطراف

ومن أصحابنا من قال: لا يجب فيها القصاص؛ لأنها لما خالفت موضحة الرأس والوجه في تقدير الأرش.. خالفتها في وجوب القصاص. والمنصوص هو الأول؛ لأنه يمكن القصاص فيها من غير حيف، فهي كالموضحة في الرأس والوجه. فعلى هذا: إن كانت في موضع عليه شعر كثير.. فالمستحب: أن يحلق موضعها، ويعلم على موضعها بسواد أو غيره، ويقدر الطول والعرض على ما ذكرناه في موضحة الرأس. وإن كانت الجراحة في العضد، فزاد قدرها على عضد الجاني.. لم ينزل في الزيادة إلى الساعد. وإن كانت في الفخذ، وزاد قدرها على فخذ الجاني.. لم ينزل في الزيادة إلى الساق. وإن كانت في الساق، وزاد قدرها على ساق الجاني.. لم ينزل في الزيادة إلى القدم، كما لا ينزل في موضحة الرأس إلى الوجه والقفا. وإن كانت فيما دون الموضحة.. لم يجب فيها القصاص، على المشهور من المذهب؛ لأنه لا يمكن المماثلة في ذلك، وعلى ما اعتبره الشيخ أبو حامد، وحكاه الخراسانيون فيما دون الموضحة من الجراحات على الرأس والوجه: يكون هاهنا مثله. وإن كانت الجراحة جائفة، أو كسرت عظماً.. لم يجب القصاص فيها؛ لأنه لا يمكن المماثلة فيها، ويخاف فيها الحيف، بل إن كانت في موضع، ووصلت إلى العظم، ثم كسرت أو أجافت.. وجب القصاص فيها إلى العظم، ووجب الأرش فيما زاد. [مسألة القصاص في الأطراف] وأما الأطراف: فيجب فيها القصاص في كل ما ينتهي منها إلى مفصل، فتؤخذ العين بالعين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] الآية [المائدة: 45] ، ولأنها تنتهي إلى مفصل.

فرع أوضح رأسه فذهب ببصره

فإذا ثبت هذا: فتؤخذ العين الصحيحة بالصحيحة، والقائمة بالقائمة، وهي: التي ذهب ضوءها، وبقيت حدقتها، ولا تؤخذ الصحيحة بالقائمة؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويجوز أن تؤخذ القائمة بالصحيحة؛ لأنه يأخذ أقل من حقه باختياره. [فرع أوضح رأسه فذهب ببصره] وإن أوضح رأسه رجل، فذهب ضوء العين.. فالمنصوص: (أنه يجب القصاص في الضوء) . وقال الشافعي فيمن قطع إصبع رجل، فتآكل الكف وسقط: (إنه لا يجب عليه القصاص في الكف) . واختلف أصحابنا في ضوء العين: فنقل أبو إسحاق جوابه في الكف إلى العين، وجعل في ضوء العين قولين: أحدهما: أنه لا يجب فيه القصاص؛ لأنه سراية فيما دون النفس، فلم يجب فيه القصاص، كالكف. والثاني: يجب فيه القصاص؛ لأنه لا يمكن إتلافه بالمباشرة، وإنما يتلف بالجناية على غيره، فوجب فيه القصاص بالسراية، كالنفس. وقال أكثر أصحابنا: لا يجب القصاص في الكف بالسراية، قولاً واحداً، ويجب القصاص بالضوء في السراية، قولاً واحداً. والفرق بينهما: أن الكف يمكن إتلافه بالمباشرة، فلم يجب فيه القصاص بالسراية، والضوء لا يمكن إتلافه بالمباشرة بالجناية، وإنما يتلف بالجناية على غيره، فوجب القصاص فيه بالسراية، كالنفس.

فرع الجفن بالجفن

[فرع الجفن بالجفن] قال الشيخ أبو إسحاق: ويؤخذ الجفن بالجفن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنه ينتهي إلى مفصل، فيؤخذ جفن البصير بجفن الضرير، وجفن الضرير بجفن البصير؛ لأنهما متساويان في السلامة، وعدم البصر نقص في غيره. [مسألة الأنف بالأنف] ويؤخذ الأنف بالأنف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنه ينتهي إلى مفصل، فيؤخذ الأنف الكبير بالصغير، والغليظ بالدقيق، والأقنى بالأفطس؛ لأن الأطراف يجب القصاص فيها وإن اختلفت بالصغر والكبر. ولا يجب القصاص في الأنف، إلا في المارن وهو: اللين، وأما القصبة: فلا يجب فيها القصاص؛ لأنها عظم. ويؤخذ أنف الشام بأنف الأخشم، وأنف الأخشم بأنف الشام، لأن الخشم ليس بنقص في الأنف، وإنما هو لعلة في الدماغ، والأنفان متساويان في السلامة. ويؤخذ الأنف الصحيح بالأنف المجذوم ما لم يسقط بالجذام شيء منه؛ لأن الطرف الصحيح يؤخذ بالطرف العليل، فإن سقط من الأنف شيء.. لم يؤخذ به الصحيح؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه.

مسألة القصاص في الأذن

فإن قطع من سقط بعض مارنه مارناً صحيحاً.. قطع جميع ما بقي من مارن الجاني، وأخذ منه من الدية بقدر ما كان ذهب من مارنه. وإن قطع بعض مارن غيره.. نظر، كم القدر الذي قطع؟ فإن كان نصف المارن أو ثلثه أو ربعه.. اقتص من مارنه بنصفه أو ثلثه أو ربعه، ولا يقدر بالمساحة بالطول والعرض، كما قلنا في الموضحة؛ لأنه قد يكون أنف الجاني صغيراً، وأنف المجني عليه كبيراً، فإن قلنا: يقطع من أنف الجاني قدر ما قطع من أنف المجني عليه بالمساحة طولاً وعرضاً.. لم يؤمن أن يقطع جميع أنفه ببعض أنف المجني عليه. ويؤخذ المنخر بالمنخر، والحاجز بينهما بالحاجز وإن قطع المارن والقصبة.. اقتص من المارن، وأخذ الحكومة في القصبة؛ لأنه لا يمكن القصاص فيها. [مسألة القصاص في الأذن] ويجب القصاص في الأذن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] . فيؤخذ الكبير بالصغير، والصغير بالكبير، والغليظ بالدقيق، والصحيح بالمجذوم، والأصم بالسميع، والسميع بالأصم؛ لما ذكرناه في الأنف. ويؤخذ المثقوب بالصحيح، والصحيح بالمثقوب؛ لأن الثقب ليس بنقص في الأذن، وإنما تثقب للجمال بالخرص، فإن انخرم الثقب.. صار نقصاً، فلا يؤخذ به الصحيح؛ لأن الكامل لا يؤخذ بالناقص. وإن قطع من أذنه مخرومة أذناً صحيحة.. اقتص منه المجني عليه في المخرومة، وأخذ من دية أذنه بقدر ما انخرم من أذن الجاني.

فرع قطع بعض الأذن

وتؤخذ الأذن المستحشفة وهي: الأذن اليابسة، بالأذن الصحيحة، لأنه يأخذ أنقص من أذنه باختياره، وهل تؤخذ الأذن الصحيحة بالأذن المستحشفة؟ فيه قولان: أحدهما: لا تؤخذ بها، كما لا يجوز أخذ اليد الصحيحة باليد الشلاء. والثاني: تؤخذ بها؛ لأن الأذن المستحشفة تساوي الأذن الصحيحة في المنفعة، فأخذت الصحيحة بها، بخلاف اليد الشلاء، فإنها لا تساوي الصحيحة في المنفعة. [فرع قطع بعض الأذن] وإن قطع بعض أذنه.. اقتص منه، ويقدر ذلك بالجزء، كالنصف والثلث والربع، ولا تقدر بالمساحة بالطول والعرض؛ لما ذكرناه في الأنف. وحكى ابن الصباغ، عن القاضي أبي الطيب: أنه لا يثبت القصاص في بعض الأذن. والأول أصح؛ لأنه يمكن القصاص فيها. [فرع قطع بعض الأذن ثم ألصقه فالتصق] قال الشيخ أبو إسحاق: إذا قطع بعض أذنه وألصقه، فالتصق.. لم يجب القصاص؛ لأنه لا يمكن المماثلة فيما قطع منه. ولعله أراد: إذا اندمل موضع القطع وخفي. وإن قطع أذنه حتى جعلها معلقة.. فله أن يقطع أذنه كذلك، لأن المماثلة ممكنة. وإن قطع أذنه، فأبانها، فأخذها المجني عليه، فألصقها، فالتصقت.. لم يسقط القصاص؛ لأنه وجب بالإبانة، فلم يسقط بالإلصاق.

مسألة في الشفتين القود

وإن قطع أذنه، فأبانها، فاقتص منه كذلك، ثم أخذ الجاني أذنه، فألصقها، فالتصقت.. لم يكن للمجني عليه أن يطالبه بإزالتها؛ لأنه قد استوفى حقه، والإزالة إلى السلطان. وإن قطع أذنه وأبانها، فقطع المجني عليه بعض أذن الجاني، وألصقه الجاني، فالتصق.. فللمجني عليه أن يعود ويقطعه؛ لأن حقه الإبانة، ولم توجد. وإن جنى على رأسه، فذهب عقله، أو شمه، أو سمعه، أو ذوقه، أو نكاحه، أو إنزاله.. لم تجب فيها القصاص؛ لأن هذه الأشياء ليست في موضع الجناية فيمكن القصاص فيها. [مسألة في الشفتين القود] ويجب في الشفتين القود. ومن أصحابنا من قال: لا قود فيهما؛ لأنه قطع لحماً من لحم غير منفصل. والأول هو المنصوص؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأن الشفتين هما اللحم الجافي من لحم الذقن، و (الشدق) : مستدير على الفم طولا ًوعرضاً، وطولهما ما تجافى عن لحم الذقن إلى أصل الأنف، وذلك من لحم له حد معلوم، فوجب القصاص فيه. واختلف أصحابنا في القصاص في اللسان: فمنهم من قال: يجب القصاص في جميعها وفي بعضها؛ لأن له حداً ينتهي إليه، فهو كالأنف والأذن. فعلى هذا: يقتص في بعضها بالجزء، كالنصف والثلث والربع، لا بالمساحة بالطول والعرض؛ لما ذكرناه في الأنف والأذن. وقال أبو إسحاق: لا قصاص فيه. وإليه ذهب بعض أصحاب أبي حنيفة،

مسألة من قلع سنا قلعت سنه

واختاره ابن الصباغ؛ لأن أصله لا يمكن استيفاء قطعه إلا بقطع غيره، وإذا قطع بعضه.. لم يمكن تقدير بعضه من الجملة. هذا ترتيب ابن الصباغ. وأما الشيخ أبو إسحاق فذكر: أن القصاص يثبت في جميعها، وهل يثبت في بعضها؟ على وجهين. [مسألة من قلع سناً قلعت سنه] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن قلع سن من قد أثغر.. قلع سنه، وإن كان المقلوع سنه لم يثغر.. وقف حتى يثغر) . وجملة ذلك: أن القصاص يجب في السن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] . ولما روي: «أن الربيع بنت معوذ كسرت سن جارية، فأمر رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكسر سنها، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع؟ لا والله، لا تكسر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كتاب الله القصاص " فعفا الأنصاري، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن من عباد الله من لو أقسم على الله.. لأبره» . إذا ثبت هذا: فإنه يقال للصبي إذا سقطت رواضعه - وهي: الأسنان التي تنبت له وقت رضاعه -: ثغر، فهو مثغور، فإذا نبتت له مكانها غيرها.. قيل له: أثغر واثّغر، لغتان. فإذا قلع سن غيره.. فلا يخلو المقلوع سنه: إما أن يكون لم يثغر، أو كان قد ثغر. فإن كان لم يثغر.. فإن القصاص لا يجب على الجاني في الحال؛ لأن العادة جرت: أن سن من لم يثغر تعود إذا قلعت، وما كان يعود إذا قلع.. لا يجب فيه القصاص، كالشعور. ويسأل أهل الخبرة: كم المدة التي تعود هذه السن في مثلها؟

وينتظر إلى تلك المدة، فإذا جاءت تلك المدة ولم تعد السن.. وجب على الجاني القصاص؛ لأنه قد أيس من عودها. وإن نبت للمجني عليه سن مكانها في تلك المدة أو أقل منها، فإن نبتت الثانية مثل الأولى، من غير زيادة ولا نقصان.. لم يجب على الجاني قصاص ولا دية، وهل تجب عليه حكومة الجرح الذي حصل بفعله؟ ينظر فيه: فإن جرح موضعاً آخر غير موضع السن بالقلع.. وجبت عليه فيه الحكومة. وإن لم يجرح إلا الموضع الذي قلع منه السن.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه الحكومة؛ لأنه لما قلع السن أدمى، فإذا أدمى.. وجبت فيه الحكومة. والثاني: لا يجب عليه الحكومة؛ لأن الحكومة إنما تجب إذا جرح وأدمى، فأما إذا أدمى من غير جرح.. فلا حكومة عليه، كما لو لطمه فرعف.. فإنه لا يجب عليه لخروج الدم بالرعاف حكومة. وإن كانت السن التي نبتت مكان المقلوعة أنقص من التي تليها.. وجب على الجاني من ديتها بقدر ما نقص منها؛ لأن الظاهر أنها إنما نقصت بجنايته. وإن كانت التي نبتت أزيد من التي قبلها.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يجب على الجاني شيء؛ لأن الزيادة لا تكون من الجناية. و [الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق: تلزمه حكومة للشين الحاصل بالزيادة، كما يلزمه للشين الحاصل بالنقصان؛ لأن الظاهر أن ذلك من جنايته. وإن كانت النابتة خارجة من صف الأسنان، فإن كانت بحيث لا ينتفع بها.. كان كما لو لم تنبت؛ لأن وجودها كعدمها، وإن كانت ينتفع بها.. وجب عليه حكومة للشين الحاصل بها.

وإن نبتت له سن خضراء أو صفراء أو سوداء، وكانت المقلوعة بيضاء.. وجب على الجاني الحكومة؛ للشين الحاصل باللون. وإن مات المجني عليه بعد مضي المدة التي يرجى فيها عود السن قبل أن تعود. فلوليه أن يقتص من الجاني؛ لأنه مات بعد استقرار القصاص. وإن مات قبل مضي المدة التي يرجى عود السن فيها قبل أن تعود.. لم يجب على الجاني القصاص؛ لأنه يجوز أن لو بقي لعادت السن؛ وذلك شبهة تسقط القصاص. وهل تجب له دية سن؟ حكى الشيخ أبو إسحاق فيها قولين، وحكاهما الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ وجهين: أحدهما: تجب دية السن؛ لأنه قلع سناً لم تعد، والأصل عدم العود. والثاني: لا تجب؛ لأن الغالب أنها قد كانت تعود، وإنما قطعها الموت. وأما إذا قلع سن من قد أثغر: فإن قال أهل الخبرة: إنها لا تعود.. وجب له القصاص في الحال، وإن قالوا: إنها تعود إلى مدة.. فهل له القصاص قبل مضي تلك المدة؟ فيه وجهان: [الأول] : قال الشيخ أبو حامد: ليس له أن يقتص قبل مضي تلك المدة، كما قلنا فيمن قلع سن صبي لم يثغر. و [الثاني] : قال ابن الصباغ: له أن يقتص في الحال؛ لأن الظاهر أنها لا تعود. إذا ثبت هذا: فإن قلع سن من قد ثغر، وقيل: إنها لا تعود، فاقتص منه في الحال، أو قلنا: له أن يقتص بكل حال، أو اقتص منه بعد الإياس من عودها، ثم نبت للمجني عليه سن في موضع السن المقلوعة.. ففيه قولان: أحدهما: أن هذا السن من نبات السن المقلوعة من هذا الموضع؛ لأنه مثله في

موضعه، فصار كما لو نتف شعرة، ثم نبتت، أو كما لو قلع سن صبي لم يثغر، ثم نبت مكانه سن، وكما لو لطم عينه، فذهب ضوءها، ثم عاد. فعلى هذا: لا يجب على المجني عليه القصاص للجاني في السن التي اقتص منه بها؛ لأنه قلعها، وكان يجوز له قلعها، وإنما تجب عليه دية سن الجاني. وإن كان المجني عليه عفا عن القصاص، وأخذ دية سنه.. وجب عليه رد الدية إلى الجاني. والقول الثاني: أن السن النابت هبة مجددة من الله تعالى للمجني عليه؛ لأن العادة أن سن من أثغر إذا قلعت لا تعود، فإذا عادت.. علمنا أن ذلك هبة من الله تعالى له. فعلى هذا: إن كان المجني عليه قد اقتص من الجاني، أو أخذ منه الأرش.. فقد وقع ما فعله موقعه، ولا شيء عليه للجاني. وإن قلع سن رجل، فقلع المجني عليه سن الجاني، ثم نبت للجاني سن مكان سنه المقلوعة التي اقتص منه، ولم يعد للمجني عليه مثلها.. فإن قلنا: إن النابت هبة من الله تعالى مجددة.. فلا شيء للمجني عليه، وإن قلنا: إن النابت هو من الأول.. ففيه وجهان: أحدهما: أن للمجني عليه أن يقلعه ولو نبت مراراً؛ لأنه أعدمه سنه، فاستحق أن يعدمه سنه. والثاني: ليس له أن يقلع سنه؛ لأنه يجوز أن يكون من المقلوع، ويجوز أن يكون هبة مجددة من الله تعالى، وذلك شبهة، فسقط بها القصاص. فعلى هذا: للمجني عليه دية سنه على الجاني، فإن خالف المجني عليه وقلع هذه السن للجاني.. وجب عليه ديتها، ويتقاصان. وإن قلع سنه، فاقتص منه، فعاد للمجني عليه سن مكان سنه، ولم يعد للجاني، ثم عاد الجاني فقلعها.. وجب عليه ديتها؛ لأنه ليس له مثلها.

فرع تؤخذ السن الكبيرة بالصغيرة

فإن قلنا: إنه من الأول.. فقد قلنا: إن على المجني عليه دية سن الجاني، فيتقاصان. وإن قلنا: إن النابت هبة مجددة.. فلا شيء على المجني عليه للجاني. [فرع تؤخذ السن الكبيرة بالصغيرة] ] : وتؤخذ السن الكبيرة بالصغيرة، والصغيرة بالكبيرة، كما قلنا في الأنف والأذن. ولا يؤخذ سن صحيح بمكسور؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه. ويؤخذ المكسور بالصحيح؛ لأنه أنقص من حقه. ويأخذ من دية سنه بقدر ما ذهب من سن الجاني. وإن كسر بعض سنه من نصفها أو ربعها.. فهل يجب فيها القصاص؟ اختلف الشيخان: فقال الشيخ أبو إسحاق: إن أمكن أن يقتص.. اقتص، وإن لم يمكن.. لم يقتص. وقال الشيخ أبو حامد: لا يقتص منه؛ لأن القصاص بالكسر لا يجب باتفاق الأمة - قال - وما روي في خبر الربيع بنت معوذ بن عفراء: أنها كسرت ثنية جارية من الأنصار، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تكسر ثنيتها» .. أراد بالكسر: القلع، لا الكسر من بعضها. [فرع قلع سن زائدة] وإن قلع لرجل سناً زائدة، وللجاني سن زائد في ذلك الموضع يساوي السن الذي قلع.. وجب فيها القصاص؛ لأنهما متساويان. وإن لم يكن للجاني سن زائد.. لم يجب عليه القصاص؛ لأنه ليس له مثلها.

مسألة يقطع العضو بالعضو

وإن كان له سن زائد في غير ذلك الموضع.. لم يجب فيه القصاص؛ لأنه ليس له مثلها، لاختلاف المحل. وإن كان له سن زائد في ذلك الموضع، إلا أنه أكبر من سن المجني عليه.. ففيه وجهان: أحدهما: - وهو قول أكثر أصحابنا -: لا يجب فيها القصاص؛ لأن القصاص في العضو الزائد إنما يجب بالاجتهاد، فإذا كانت سن الجاني أزيد.. كانت حكومتها أكثر، فلم يجب قلعها بالتي هي أنقص منها، بخلاف السن الأصلية، فإن القصاص فيها ثبت بالنص، فلا يعتبر فيها التساوي. والثاني - حكاه ابن الصباغ، عن الشيخ أبي حامد، واختاره -: أنه يجب فيها القصاص؛ لأن ما ثبت بالاجتهاد.. يجب اعتباره بما ثبت بالنص. والأول هو المنصوص. [مسألة يقطع العضو بالعضو] وتقطع اليد باليد، والرجل بالرجل، والأصابع بالأصابع، والأنامل بالأنامل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأن لها مفاصل يمكن القصاص فيها من غير حيف. إذا ثبت هذا: فإن قطع أصابعه من مفاصلها.. فله أن يقتص، وإن قطع يده من وسط الكف.. فليس له أن يقتص من وسط الكف؛ لأن كسر العظم لا يثبت فيه القصاص بإجماع الأمة. وإن أراد أن يقتص من الأصابع من أصولها.. كان له ذلك؛ لأن الأصابع يمكن القصاص فيها. فإن قيل: وكيف يضع السكين في غير الموضع الذي وضعه الجاني عليه؟

قلنا: لأنه لا يمكن وضعها في الموضع الذي وضعها الجاني فيه. فإذا اقتص من الأصابع.. فهل له أن يأخذ حكومة فيما زاد على الأصابع من الكف؟ فيه وجهان يأتي بيانهما. وإن قطع يده من الكوع.. كان له أن يقتص من ذلك الموضع؛ لأنه مفصل. وإن قطع يده من بعض الذراع.. فليس له أن يقتص من بعض الذراع؛ لأنه كسر عظم. وإن أراد أن يقتص من الكوع، ويأخذ الحكومة فيما زاد عليه.. كان له ذلك؛ لأنه داخل في الجناية، يمكن القصاص فيه. وإن قطع يده من المرفق.. فله أن يقتص من المرفق، فإن أراد أن يقتص من الكوع، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. لم يكن له ذلك؛ لأنه يمكنه استيفاء حقه بالقصاص. وإن قطع يده من بعض العضد.. فليس له أن يقتص من بعض العضد، فإن أراد أن يقتص من المرفق، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. كان له ذلك، وإن أراد أن يقتص من الكوع، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. فقد اختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو إسحاق: له ذلك؛ لأن الجميع مفصل داخل في الجناية. وقال ابن الصباغ، والطبري في " العدة ": ليس له ذلك؛ لأنه يمكنه أن يقطع من المرفق، ومتى أمكنه استيفاء حقه قصاصاً.. لم يكن له أن يستوفي بعضه قصاصاً وبعضه أرشاً، كما لو قطع يده من الكوع.

فرع قطع عضوا من مفصل وبقيت الجلدة معلقة

وإن أراد أن يقتص من الأصابع، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. فليس له ذلك. قال ابن الصباغ: وهذه لم يذكرها أصحابنا. وإن قطع يده من الكتف: فإن قال اثنان من المسلمين من أهل الخبرة: إنه يمكن القصاص فيه من غير أن يخاف منه جائفة.. فله أن يقتص، وإن أراد أن يقتص من الكوع أو من المرفق، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. لم يكن له ذلك؛ لأنه يمكنه استيفاء حقه قصاصاً. وإن قالا: إنه يخاف من القصاص الجائفة.. لم يكن له أن يقتص من الكتف؛ لأنه لا يمكن أن يأخذ زيادة على حقه، فإن أراد أن يقتص من المرفق، ويأخذ الحكومة فيما زاد.. كان له ذلك. وإن أراد أن يقتص من الكوع، ويأخذ الحكومة فيما زاد على ذلك.. فقال الشيخ أبو إسحاق: له ذلك. وعلى ما قال ابن الصباغ: إذا قطع يده من بعض العضد، وأراد أن يقتص من المرفق.. ليس له أن يقتص هاهنا من الكوع؛ لأنه يمكنه استيفاء حقه قصاصاً من المرفق، ومتى أمكنه أن يأخذ حقه قصاصاً.. فليس له أن يستوفي بعضه قصاصاً وبعضه أرشاً. وحكم الرجل إذا قطعت أصابعها، أو من مفصل القدم، أو الركبة، أو الورك، أو ما بين ذلك.. حكم اليد في القصاص، على ما مضى. [فرع قطع عضواً من مفصل وبقيت الجلدة معلقة] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا قطع يده من المفصل، فتعلقت بالجلد.. وجب القصاص، فتقطع إلى أن تبقى معلقة بمثل ذلك، ويسأل أهل الطب، فإن قالوا: المصلحة في قطعها.. قطعناها، وإن قالوا: المصلحة في تركها.. تركناها) .

فرع قطع يدا شلاء

[فرع قطع يداً شلاء] وإن قطع من له يد صحيحة يداً شلاء.. لم يكن للمجني عليه أن يقتص، بل له الحكومة. وقال داود: له أن يقتص. دليلنا: أن اليد الشلاء لا منفعة فيها، وإنما فيها مجرد جمال، فلا يأخذ بها يداً فيها منفعة. وإن قطع من له يد شلاء يداً صحيحة، فاختار المجني عليه أن يقطع الشلاء بالصحيحة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (له القصاص) . وقال أصحابنا: يرجع إلى عدلين من المسلمين من أهل الخبرة، فإن قالا: إذا قطعت هذه الشلاء لم يخف عليها أكثر مما يخاف عليه إذا قطعت لو كانت صحيحة.. فللمجني عليه أن يقتص. وإن قالا: يخاف عليه أكثر من ذلك، بأن تبقى أفواه العروق منفتحة لا تنحسم، فتدخل الريح فيها، فيخشى على النفس التلف.. لم يكن له أن يقتص؛ لأنه أخذ نفس بيد، وهذا لا يجوز. وهل يجوز أخذ اليد الشلاء باليد الشلاء، أو الرجل الشلاء بالرجل الشلاء؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنهما متماثلان. والثاني: لا يجوز؛ لأن الشلل علة، والعلل يختلف تأثيرها في البدن، فلا تتحقق المماثلة بينهما، ولا يتصور الوجهان إلا إذا قال أهل الخبرة: إنه لا يخاف على الجاني أن تبقى العروق منفتحة لا تنحسم. فأما إذا خيف عليه ذلك: فلا يجوز القصاص، وجهاً واحداً، على ما مضى في أخذ الشلاء بالصحيحة.

فرع قطع لرجل كفه مع خمس أصابع وكان للجاني أصبع زائدة

[فرع قطع لرجل كفه مع خمس أصابع وكان للجاني أصبع زائدة] إذا كان لرجل يد لها ست أصابع، فقطع كف رجل لها خمس أصابع.. نظرت في الإصبع الزائدة للجاني. فإن كانت خارجة عن عظم الكف.. كان للمجني عليه أن يقتص من كف الجاني؛ لأنه يمكنه أن يأخذ مثل كفه من غير أن يتناول محل الزائدة. وإن كانت نابتة على الكف، أو ملتزمة بإحدى الأصابع، أو على إحدى أنامل أصابع اليد.. لم يكن له أن يقتص من الكف؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه، فيكون المجني عليه بالخيار: بين أن يأخذ دية يده، وبين أن يقتص من الأصابع الخمس إذا كانت الزائدة على سائر الأصابع غير ملتزقة بواحدة منهن ولا نابتة على إحداهن، فإذا اقتص منها.. فهل يتبعها ما تحتها من الكف في القصاص؟ فيه وجهان: أحدهما: يتبعها، كما يتبعها في ديتها. والثاني: لا يتبعها، بل يأخذ مع القصاص الحكومة؛ لأن الكف تتبع الأصابع في الدية، ولا تتبعها في القصاص؛ فلهذا: لو قطعت أصابعه، فتآكل منها الكف، واختار الدية.. لم يلزمه أكثر من دية الأصابع، ولو طلب القصاص.. قطعت الأصابع، وأخذ الحكومة في الكف. وإن كانت الإصبع الزائدة نابتة على أنملة من الأصابع الخمس.. فليس للمجني عليه أن يقتص من الكف، وله أن يقتص من الأصابع التي ليس عليها الزائدة. وأما الإصبع التي عليها الزائدة: فإن كانت على الأنملة العليا.. لم يكن له أن يقتص منها، وإن كانت على الوسطى.. فله أن يقتص من الأنملة العليا، ويجب له ثلثا دية إصبع، وإن كانت على الأنملة السفلى.. فله أن يقتص من الأنملتين العليتين

فرع له كف بخمس أصابع فقطع كف من له أربع أصابع

وله ثلث دية إصبع، ويتبعها ما تحتها من الكف، وهل يتبع ما تحت الأصابع الأربع ما تحتها من الكف في القصاص؟ على الوجهين. وإن قطع من له خمس أصابع كف يد لها أربع أصابع.. لم يكن له أن يقتص من الكف؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه، وله أن يقتص من أصابع الجاني الأربع المماثلة لأصابعه المقطوعة. وهل يتبعها ما تحتها من الكف في القصاص، أو يجب له مع ذلك حكومة؟ على الوجهين. [فرع له كف بخمس أصابع فقطع كف من له أربع أصابع] إذا كان لرجل كف فيه خمس أصابع أصلية، فقطع كف يد فيه أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة - وإنما يحكم بأنها زائدة.. إذا كانت مائلة عن بقية الأصابع ضعيفة - فليس للمجني عليه أن يقتص من كف الجاني؛ لأنه ليس له أن يأخذ أكمل من يده. فإن اختار الأرش.. كان له دية الأربع الأصابع الأصلية، وحكومة في الزائدة. وإن أراد أن يقتص من الأربع الأصابع الأصلية.. كان له ذلك، ويأخذ مع ذلك حكومة في الزائدة، ويتبعها ما تحتها من الكف في الحكومة، وهل يتبع ما تحت الأصابع الأصلية ما تحتها من الكف في القصاص، أو تجب له فيه الحكومة؟ على الوجهين. وإن قطع كفا له خمس أصابع أصلية، ويد القاطع لها أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة، فإن اختار المجني عليه أن يقطع كف الجاني.. كان له ذلك؛ لأنها أنقص من كفه. قال المزني في " جامعه ": إنما يجوز له ذلك إذا كانت الزائدة في محل الأصلية، فأما إذا كانت في غير محلها: فليس له أخذها، وهذا صحيح؛ لأنهما إذا اختلفا في المحل.. كانتا كالجنسين. وكذلك: إذا كانت الزائدة أكثر أنامل.. لم تؤخذ بالأصلية.

فرع قطع كفا ذات ثلاث أصابع صحيحة وثنتين شلاوين

وإن قطع يداً وعليها إصبع زائدة، وللقاطع يد عليها إصبع زائدة، فإن اتفق محل الزائدتين وقدرهما.. كان للمجني عليه أن يقتص من الكف؛ لتساويهما، وإن اختلفا في المحل.. لم يكن له أن يقتص من الكف. فإن اتفقتا في المحل واختلفتا في القدر، فإن كانت إصبع الجاني أكثر أنامل.. لم يكن للمجني عليه أن يقتص من الكف؛ لأنه يأخذ أكثر من حقه، وإن كانت أقل أنامل.. كان له أن يقتص، ويأخذ في الزيادة الحكومة. [فرع قطع كفا ذات ثلاث أصابع صحيحة وثنتين شلاوين] وإن قطع كفاً له ثلاث أصابع صحيحة وإصبعان شلاوان، وكف القاطع صحيحة الأصابع.. فليس للمجني عليه أن يقتص من الكف؛ لأنه يأخذ أكمل من يده، وإن رضي الجاني بذلك.. لم يجز؛ لأن القصاص لم يجب فيها، فلم يجز بالبذل، كما لو قتل حر عبداً، ورضي أن يقتل به. وللمجني عليه أن يقتص من الأصابع الثلاث الصحيحة، فإذا اقتص منها.. فهل يتبعها ما تحتها من الكف في القصاص، أو تجب فيها الحكومة؟ فيه وجهان. وأما الإصبعان الشلاوان: فله فيهما حكومة، ويتبعهما ما تحتهما من الكف في الحكومة، وجهاً واحداً. وإن كانت كف المقطوع صحيحة الأصابع، وكف القاطع فيها إصبعان شلاوان.. فالمجني عليه بالخيار: بين أن يأخذ دية يده، وبين أن يقتص من كف الجاني؛ لأنها أنقص من كفه، ولا شيء للمجني عليه؛ لنقصان كف الجاني بالشلل. أما إذا اختار الدية: فله دية يده، لا نعلم فيه خلافاً؛ لأنه عجز عن استيفاء حقه على الكمال بالقصاص، فكانت له الدية، كما لو لم يكن للقاطع يد. وهذا قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد.

فرع يد القاطع ذات أظفار بخلاف المقطوع له

وإن قطع كفاً له خمس أصابع، وكف الجاني لها ثلاث أصابع لا غير، وإصبعان مفقودتان.. فللمجني عليه أن يقتص من كف الجاني، ويأخذ منه دية الإصبعين الناقصتين. وقال أبو حنيفة: (هو بالخيار: بين أن يأخذ دية يده، وبين أن يقتص من يد الجاني، ولا شيء له) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] الآية [البقرة: 194] . ويد الجاني ليست مثل يد المجني عليه. ولأنه استوفى بعض حقه، فكان له أرش ما لم يستوفه، كما لو قطع له إصبعين، ولم توجد له إلا واحدة. [فرع يد القاطع ذات أظفار بخلاف المقطوع له] وإن كانت يد القاطع لها أظفار، ويد المقطوع لا أظفار لها.. لم تقطع بها؛ لأنه يأخذ أكمل من حقه، فإن سقطت أظافيره.. قطعت، ولو لم يكن لواحد منهما أظافير حالة القطع.. يقتص منه. فلو نبت للقاطع أظافير قبل أن يقتص منه.. لا يقتص؛ لطروء الزيادة. ويجوز أن يأخذ اليد التي لا أظفار لها باليد التي لها أظفار؛ لأنها أنقص من يده. [فرع قطع أنملة له طرفان] وإن قطع أنملة لها طرفان، فإن كانت أنملة القاطع لها طرفان من تلك الإصبع بتلك اليد.. فللمجني عليه قطعها؛ لأنها مثل حقه، وإن كانت أنملة القاطع لها طرف واحد.. فللمجني عليه قطعها، ويأخذ حكومة في الطرف الزائد، كما لو كان للمجني عليه إصبع زائدة في يده. وإن قطع أنملة لها طرف، ولتلك الأنملة في القاطع طرفان.. لم يكن للمجني عليه

فرع قطع أنملة المشيرة

القصاص؛ لأنها أزيد من حقه، ويكون للمجني عليه أرش الأنملة. فإن قال المجني عليه: أنا أصبر على القصاص إلى أن تسقط الأنملة الزائدة، وأقتص في الأصلية.. كان له ذلك؛ لأن له تأخير القصاص. هذا ترتيب البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن علمت الأصلية منهما.. قطعت، ولا شيء عليه. وإن لم تعلم الأصلية.. قطعت إحداهما، ويغرم الجاني التفاوت ما بين سدس دية إصبع وثلثها. [فرع قطع أنملة المشيرة] وإن قطع أنملة من سبابة رجل، وقطع الأنملة الوسطى من تلك الإصبع من رجل آخر، فإن جاء المجني عليهما.. قطعت العليا لصاحب العليا، وقطعت الوسطى لصاحب الوسطى، وإن جاء صاحب الوسطى أولاً، وطلب القصاص.. لم يكن له ذلك؛ لأنه لا يمكن قطعها من غير قطع العليا، ويكون بالخيار: بين أن يأخذ دية الأنملة، وبين أن يصبر إلى أن يقتص صاحب العليا، أو تسقط بأكلة. وهكذا: إن عفا صاحب العليا عن القود، أو لم يقطع الأنملة العليا من إنسان لكن قطع الأنملة الوسطى من رجل، وجاء صاحب الوسطى يطلب القصاص، وللجاني الأنملة العليا والوسطى.. فللمجني عليه أن يصبر إلى أن تقطع العليا أو تسقط، ثم يقتص من الوسطى. وقال أبو حنيفة: (لا قصاص له؛ لأنه حين قطعها لم يجب القصاص عليه فيها؛ لتعذر استيفائها، فإذا لم يجب حال الجناية.. لم يجب بعد ذلك) . دليلنا: أن القصاص إنما تعذر لمتصل به، فإذا زال ذلك المتصل.. كان له استيفاء القصاص، كما لو قتلت الحامل غيرها، ثم ولدت.

فرع لو كان للمجني عليه أربع أنامل في أصبع

فإن لم يصبر صاحب الوسطى، وقطع الوسطى والعليا.. فقد فعل ما لا يجوز له، ولا عليا للمقتص، فيجب عليه ديتها، وقد استوفى القصاص في الوسطى. فإن قطع العليا من إصبع زيد، وقطع العليا والوسطى من تلك الإصبع من عمرو، فإن حضرا معاً، وطلبا القصاص.. اقتص زيد من العليا؛ لأنه أسبق، واقتص عمرو من الوسطى، وأخذ دية العليا. وكذلك: إن حضر زيد وحده.. فله أن يقتص من العليا، وإن حضر عمرو.. فليس له أن يقتص؛ لأن حق زيد تعلق بالعليا قبله، فإن خالف واقتص من العليا والوسطى.. فقد أساء بذلك، ولكنه يصير مستوفياً لحقه، ويكون لزيد دية الأنملة العليا على الجاني. [فرع لو كان للمجني عليه أربع أنامل في أصبع] ذكر الطبري في " العدة ": لو كان للمجني عليه أربع أنامل في إصبع.. فله أربعة أحوال: أحدها: أن يقطع من له ثلاث أنامل أنملة من الأربع.. فلا قصاص عليه. و [الثاني] : إن قطع أنملتين من الأربع.. قطع من الجاني أنملة، ويغرم الجاني التفاوت فيما بين النصف والثلث من دية الإصبع، وهو بعير وثلثان. و [الثالث] : إن قطع له ثلاث أنامل.. قطع منه أنملتين، ويغرم ما بين ثلثي دية إصبع وبين ثلاثة أرباع ديتها. و [الرابع] : إن قطع له أربع أنامل.. قطعت أنامل القاطع الثلاث، ووجبت عليه مع ذلك زيادة حكومة. فأما إذا كان للقاطع أربع أنامل، وللمقطوع ثلاث أنامل.. فله ثلاثة أحوال: [أحدها] : إن قطع أنملة منه.. قطعت أنملة منه، ويغرم الجاني ما بين ثلث دية إصبع وبين ربعها، وهو خمسة أسداس بعير.

فرع قطع أصبعا فتآكل الكف منها

و [الثاني] : إن قطع أنملتين.. قطع منه أنملتان، ويغرم التفاوت بين نصف دية الإصبع وثلثها. و [الثالث] : إن قطع جميع أنامله.. قطع منه ثلاث أنامل، ويغرم التفاوت بين ثلاثة أرباع دية الإصبع وجميع ديتها. [فرع قطع أصبعاً فتآكل الكف منها] وإن قطع إصبع رجل، فتآكل منها الكف وسقط.. فللمجني عليه القصاص في الإصبع المقطوعة، وله دية الأصابع الأربع، وما تحت الأصابع الأربع من الكف.. يتبعها في الدية، وما تحت الإصبع التي اقتص فيها.. هل يتبعها في القصاص، أو تجب له حكومة؟ فيه وجهان. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (لا يجب له القصاص في الإصبع المقطوعة) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] . وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) . وقد اعتدى بقطع الإصبع، فوجب أن تقطع منه. ولأنها جناية، لو لم تسر.. وجب فيها القصاص، فوجب إذا سرت إلى ما لا قصاص فيه أن لا يسقط القصاص، كالمرأة إذا قطعت يد المرأة، فأسقطت جنينا، فلا يسقط القصاص في اليد. [فرع قطع قدم زائدة مع الأصلية] قال القفال: لو كان له قدمان على ساق واحدة، يمشي عليهما، أو يمشي على إحداهما، والأخرى زائلة عن سنن منبت القدم، فقطعهما رجل له قدم.. قطعت رجله، وطولب بحكومة للزيادة.

مسألة تؤخذ الأليتان بالأليتين

وإن قطع إحداهما، فإن قطع الزائدة.. فعليه حكومة، وإن استويا في المنبت، وكان يمشي عليهما.. ففي المقطوعة ربع الدية، وزيادة حكومة. وإن كان الجاني هو صاحب القدمين، فإن عرفنا الزائدة من الأصلية، وأمكن قطعها من غير أن تتلف الزائدة.. قطعت، وإن لم تعرف، أو عرفت ولا يمكن قطعها إلا بإتلاف الأخرى.. لم تقطع، وعليه دية الرجل المقطوعة. [مسألة تؤخذ الأليتان بالأليتين] قال الشيخ أبو إسحاق: وتؤخذ الأليتان بالأليتين، وهما: الناتئتان بين الظهر والفخذ. ومن أصحابنا من قال: لا تؤخذ، وهو قول المزني؛ لأنه لحم متصل بلحم، فأشبه لحم الفخذ. والمذهب الأول؛ لأنهما ينتهيان إلى حد فاصل، فهما كاليدين. [مسألة يقطع الإحليل بالإحليل] ويقطع الذكر بالذكر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنه عضو ينتهي إلى مفصل، فوجب فيه القصاص، كاليد. إذا ثبت هذا: فيقطع ذكر الرجل بذكر الصبي، ويقطع ذكر الشاب بذكر الشيخ؛ لأن كل عضو جرى القصاص فيه بين الرجل والرجل.. جرى فيه القصاص بين الصبي والرجل، كاليد والرجل. ويقطع ذكر الفحل بذكر الخصي والعنين. وقال مالك، وأحمد رحمهما الله: (لا يقطع به) . دليلنا: أنهما متساويان في السلامة، وإنما عدم الإنزال والجماع؛ لمعنى في غيره، فلم يمنع القصاص، كأذن السميع بأذن الأصم. ولا يقطع الذكر الصحيح بالذكر الأشل؛ لأنه لا يساويه.

فرع قطع الأنثيين فيقطع منه

وإن قطع بعض ذكره.. اقتص منه. وقال أبو إسحاق: لا يقتص منه، كما قال في اللسان. والأول أصح؛ لأنه إذا أمكن في جميعه.. أمكن في بعضه. فعلى هذا: يعتبر المقطوع بالجزء، كالنصف والثلث والربع، كما قلنا في الأذن والأنف. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويقاد ذكر الأغلف بذكر المختون، كما تقطع اليد السمينة باليد المهزولة، ولأن تلك الجلدة مستحقة للقطع، فلا تمنع من القصاص) . [فرع قطع الأنثيين فيقطع منه] ] : وإن قطع أنثييه.. أقتص منه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنه طرف يمكن اعتبار المماثلة في أخذ القصاص فيه، فشابه سائر الأطراف. فإن قطع إحدى أنثييه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (سألت أهل الخبرة، فإن قالوا: يمكن أن يقتص من إحدى البيضتين من القاطع ولا تتلف الأخرى.. اقتص منه، وإن قيل: تتلف الأخرى.. لم يقتص منه؛ لأنه لا يجوز أخذ أنثيين بواحدة، ويجب له نصف الدية) . وهل تتبعها جلدتها، أو تنفرد بحكومة؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع ". [مسألة القصاص في الشفرين] وهل يجب القصاص في (الشفرين) : وهما اللحم المحيط بالفرج؟ فيه وجهان:

فرع قطع ذكر مشكل مع أخريات

أحدهما: يجب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنهما لحمان محيطان بالفرج من الجانبين يعرف انتهاؤهما، فوجب فيهما القصاص. والثاني: لا يجب، وهو قول الشيخ أبي حامد؛ لأنه لحم، وليس له مفصل ينتهي إليه، فلم يجب فيه القصاص، كلحم الفخذ. والأول هو المنصوص. [فرع قطع ذكر مشكل مع أخريات] إذا قطع قاطع ذكر خنثى مشكل، وأنثييه، وشفريه.. فلا يخلو القاطع: إما أن يكون رجلاً، أو امرأة، أو خنثى مشكلاً. فإن كان القاطع رجلاً.. لم يجب عليه القصاص في الحال؛ لجواز أن يكون الخنثى امرأة، والذكر والأنثيان فيه زائدان، فلا يؤخذ الأصليان بالزائدين، وقيل له: أنت بالخيار: بين أن تصبر إلى أن يتبين حالك، فيجب لك القصاص إن بان أنك رجل، وبين أن تعفو وتأخذ المال، فإن قال: أعطوني ما وجب لي من المال.. نظرت: فإن عفا عن القصاص في الذكر والأنثيين، أو لم يكن للجاني ذكر ولا أنثيان، بأن كانا قد قطعا.. قال أصحابنا البغداديون: فإنه يعطى دية الشفرين، وحكومة للذكر والأنثيين لا تبلغ ديتهما؛ لأنه يستحق ذلك بيقين. وقال الخراسانيون والجويني: يعطى حكومة للذكر والأنثيين، وحكومة للشفرين؛ لأنه يستحق ذلك بيقين، ويشك في الزيادة. وإن قال: لا أقف، ولا أعفو عن القصاص، وطلب المال.. فهل يعطى شيئاً؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: لا يعطى؛ لأنه مطالب بالقود، ولا يجوز أن يأخذ المال وهو مطالب بالقود. و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: يعطى، وهو الأصح؛ لأنه يستحقه بيقين. فإذا قلنا بهذا: فكم القدر الذي يعطى؟ اختلف أصحابنا فيه:

فقال القفال: يعطى حكومة في الشفرين؛ لأنه يستحق ذلك بيقين. وقال القاضي أبو حامد: يعطى دية الشفرين؛ لأنا لا نتوهم وجوب القصاص فيهما. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: يعطى أقل الحكومتين في آلة الرجال أو في آلة النساء؛ لأن ذلك هو اليقين. ومن أصحابنا من قال: يعطى الحكومة في الذي قطعه آخراً. والأول أصح. وإن كان القاطع امرأة، فإن قلنا بقول الشيخ أبي حامد، وأنه لا قصاص في الشفرين.. فإنا لا نتوهم وجوب القصاص، فيعطى حكومة في آلة الرجال، وحكومة في آلة النساء، فإن بان رجلاً.. تمم له دية الذكر ودية الأنثيين وحكومة للشفرين، وإن بان امرأة.. تمم له دية الشفرين وحكومة للذكر والأنثيين. وإن قلنا بالمنصوص، وأنه يجب القصاص فيهما.. فإنه لا يجب للخنثى القصاص في الحال؛ لجواز أن يكون رجلاً، فلا يجب القصاص على المرأة في الفرج الزائد. فإن طلب المال.. نظرت: فإن عفا عن القصاص، أو لم يعف ولكن ليس للقاطعة شفران.. فعلى قول البغداديين من أصحابنا: يعطى دية الشفرين، وحكومة للذكر والأنثيين، فإن بان امرأة.. فقد استوفت حقها، وإن بان رجلاً.. تمم له دية الذكر ودية الأنثيين، وحكومة الشفرين. وعلى قول الخراسانيين: يعطى حكومة للشفرين، وحكومة للذكر والأنثيين. وإن لم يعف عن القصاص، وكان للقاطعة شفران وطلب المال.. فعلى قول أبي علي بن أبي هريرة: لا يعطى، وعلى قول أكثر أصحابنا: يعطى. فإذا قلنا بهذا: فكم يعطى على قول القفال؟ يعطى حكومة للذكر والأنثيين. وعلى قول القاضي أبي حامد: يعطى دية الذكر والأنثيين. وعلى قول بعض أصحابنا الخراسانيين: يعطى أقل الحكومتين في آلة الرجال وآلة النساء.

وإن كان القاطع خنثى مشكلاً.. فإنه لا يجب القصاص في الحال؛ لأنا لا نتيقن عين الزائد من الآلتين فيهما، ولا عين الأصلي، فلو أوجبنا القصاص في الحال.. لم نأمن أن نأخذ أصلياً بزائد، وذلك لا يجوز. فإن طلب حقه من المال.. نظرت: فإن عفا عن القصاص.. قال أصحابنا البغداديون: أعطي دية الشفرين، وحكومة للذكر والأنثيين؛ لأنه يستحق ذلك بيقين. وقال الخراسانيون: يعطى الحكومة في الذكر والأنثيين والشفرين. وإن لم يعف عن القصاص.. فهل يعطى شيئاً من المال؟ إن قلنا بقول الشيخ أبي حامد، وأنه لا قصاص في الشفرين.. أعطي الحكومة فيهما؛ لأنا لا نتوهم وجوب القصاص فيهما، وإن قلنا بالمنصوص، وأنه يجب فيهما القصاص.. فهل يعطى شيئاً؟ إن قلنا بقول أبي علي بن أبي هريرة: أنه لا يعطى شيئاً إذا كان القاطع رجلاً أو امرأة.. فهاهنا أولى أن لا يعطى، وإن قلنا هناك يعطى.. فهاهنا وجهان: أحدهما: لا يعطى، وهو قول القفال؛ لأن القصاص متوهم في جميع الآلات. والثاني: يعطى أقل الحكومتين في آلة الرجال وآلة النساء. والصحيح: أنه لا يعطى هاهنا شيئاً. مسألة: [القصاص لا يعتبر فيه الصحة والكبر] : وكل عضو وجب فيه القصاص.. فإنه يجب فيه وإن اختلف العضوان في الصغر والكبر، والصحة والمرض، والسمن والهزال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] (المائدة: من الآية 45) ولم يفرق. ولأنا لو اعتبرنا هذه الأشياء.. لشق وضاق، فسقط اعتباره، كما سقط اعتبار ذلك في النفس. وما كان من الأعضاء منقسماً إلى يمين ويسار، كالعينين والأذنين واليدين

مسألة قطع عضوه ثم قتله

والرجلين.. لا يجوز أخذ اليمنى منه باليسرى، ولا اليسرى باليمنى. وقال ابن شبرمة: يجوز. دليلنا: أن كل واحد منهما يختص باسم ينفرد به، فلا يؤخذ بغيره، كما لا تؤخذ اليد بالرجل. وكذلك: لا يؤخذ الجفن الأعلى بالجفن الأسفل، ولا الأسفل بالأعلى، وكذلك الشفتان مثله. ولا تؤخذ سن بسن غيرها، ولا إصبع بإصبع غيرها، ولا أنلمة بأنملة غيرها، كما لا تؤخذ نفس بجناية نفس غيرها، ولا يؤخذ ذلك وإن رضي الجاني والمجني عليه. وكذلك: إذا رضي الجاني بأن يؤخذ العضو الكامل بالناقص، والصحيح بالأشل.. لم يجز؛ لأن الدماء لا تستباح بالإباحة. [مسألة قطع عضوه ثم قتله] إذا قطع يد رجل، ثم عاد فقتله.. كان له أن يقطع يده، ثم يقتله، وبه قال أبو حنيفة. وقال أبو يوسف، ومحمد: ليس له إلا القتل. دليلنا: قوله تعلى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) وهذا قد اعتدى بقطع اليد، فلم يمنع من قطع يده. ولأنهما جنايتان يجب القصاص في كل واحدة منهما إذا انفردت، فوجب القصاص فيهما عند الاجتماع، كقطع اليد والرجل. [مسألة قتل جماعة] إذا قتل واحد جماعة.. قتل بواحد، وأخذ الباقون الدية. وقال أبو حنيفة، ومالك: (يقتل بالجماعة، فإن بادر واحد وقتله.. سقط حق الباقين) . وهو قول بعض أصحابنا الخراسانيين.

وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن طلبوا القصاص.. قتل لجماعتهم وإن طلب بعضهم القصاص، وبعضهم الدية.. قتل لمن طلب القصاص، وأعطيت الدية من طلبها) . وقال عثمان البتي: يقتل بجماعتهم، ثم يعطون دية باقيهم، فيقسمونها بينهم، مثل: أن يقتل عشرة، فإنه يقتل، ويعطون تسع ديات، ويقسمونها بين العشرة. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين، إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» . ولأنها حقوق مقصودة لآدميين يمكن استيفاؤها.. فوجب أن لا تتداخل، كالديون. فقولنا: (حقوق مقصودة) احتراز من آجال الدائنين. وقولنا: (لآدميين) احتراز من حقوق الله تعالى، وهي الحدود في الزنا والشرب. إذا ثبت هذا: فإن قتل واحداً بعد واحد.. اقتص للأول، فإن عفا الأول.. اقتص للثاني، فإن عفا الثاني.. اقتص للثالث. وإن كان ولي الأول غائباً أو صغيراً.. انتظر قدوم الغائب، وبلوغ الصغير. وإن قتلهم دفعة واحدة، بأن هدم عليهم بيتاً أو حرقهم فماتوا معاً.. أقرع بينهم، فمن خرجت له القرعة.. قتل به، وكان للباقين الدية. وقال بعض أصحابنا الخراسانيين: يقتل بالجميع، ويرجع كل واحد من الأولياء بحصته الموروثة من الدية. وإن قتلهم واحداً بعد واحد، إلا أنه أشكل الأول منهم، فإن أقر القاتل لأحدهم: أنه الأول.. قبل إقراره، وقتل به، وإن لم يقر.. أقرعنا بينهم؛ لاستواء حقوقهم،

مسألة قطع يد رجل وقتل غيره

فإن بادر واحد منهم فقتله.. فقد استوفى حقه، وانتقل حق الباقين إلى الدية. وحكى الخراسانيون من أصحابنا - أنه إذا قتل واحداً بعد واحد، وكان ولي الأول غائباً أو مجنوناً أو صغيراً - قولين: أحدهما: يستوفي ولي الثاني. والثاني: لا يستوفي، بل ينتظر حضور الغائب، وإفاقة المجنون، وبلوغ الصبي. وإن قتل جماعة في قطع الطريق، وقلنا بالمشهور من المذهب: أنه يقتل بواحد في غير قطع الطريق.. فهاهنا وجهان وحكاهما الخراسانيون قولين: أحدهما: حكمه حكم ما لو قتلهم في غير قطع الطريق؛ لما ذكرناه هناك. والثاني: يقتل بالجميع، ولا شيء للباقين؛ لأنه يقتل حداً، بدليل: أنه لا يصح العفو عنه، وإن قطع عضواً من جماعة.. فحكمه حكم ما لو قتل جماعة، على ما مضى. [مسألة قطع يد رجل وقتل غيره] وإن قطع يد رجل، وقتل آخر.. قطعت يده للمقطوع، ثم قتل للمقتول، سواء تقدم قطع اليد أو تأخر، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد. وقال مالك: (يقتل للمقتول، ولا تقطع يده للمقطوع) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] الآية (المائدة: 45) . فأخبر: أن النفس تؤخذ بالنفس، والطرف بالطرف، فمن قال غير هذا.. فقد خالف الآية. ولأنهما جنايتان على شخصين، فلا تتداخلان، كما لو قطع يدي رجلين، وإنما

فرع قتل ثم ارتد أو قطع ثم سرق

قدمنا القطع هاهنا وإن كان متأخراً؛ لأنه يمكن إيفاء الحقين من غير نقص على أحدهما، ومتى أمكن إيفاء الحقين.. لم يجز إسقاط أحدهما. وإن قطع إصبعاً من يمين رجل، ثم قطع يمين آخر.. قطعت إصبعه للأول، ثم قطعت يده للثاني، ولزمه أن يغرم للثاني دية إصبعه التي لم يقتص منها، ويخالف إذا قتل رجل مقطوع اليد لرجل غير مقطوع اليد؛ فإنه لا يغرم له شيئاً؛ لأن اليد تنقص بنقصان الإصبع؛ ولهذا: لا تؤخذ يد كاملة الأصابع بيد ناقصة الأصابع، والنفس لا تنقص بنقصان اليد، ولهذا: يقتل من له يدان بمن له يد واحدة. وإن قطع يمين رجل، ثم قطع إصبعاً من يمين آخر.. قطعت يمينه للأول، وأخذ الآخر دية إصبعه المقطوعة، ويخالف إذا قطع يمين رجل، ثم قتل آخر؛ حيث قلنا: يقدم القطع وإن كان متأخراً؛ لأن اليد تنقص بنقصان الإصبع، والنفس لا تنقص بنقصان اليد. [فرع قتل ثم ارتد أو قطع ثم سرق] إذا قتل رجلاً وارتد، أو قطع يمين رجل وسرق.. قدم حق الآدمي من القتل والقطع؛ لأنه مبني على التشديد، وحق الله تعالى مبني على المسامحة. وبالله التوفيق

باب استيفاء القصاص

[باب استيفاء القصاص] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولم يختلفوا في أن العقل موروث كالمال) . وجملة ذلك: أنه إذا قتل رجل رجلاً عمداً أو خطأ، وعفا عنه على المال.. فإن الدية تكون لجميع ورثة المقتول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] (النساء: 92) . ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» و (الأهل) : يقع على الذكر والأنثى، وهو إجماع لا خلاف فيه. وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وأرضاه: أنه لم يورث امرأة من دية زوجها، فقال له الضحاك بن قيس - وقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: الضحاك بن سفيان -: كتب إلي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فرجع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه. وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يتوارث أهل ملتين شتى، وترث المرأة من دية زوجها» .

وقال الشيخ أبو إسحاق: ويقضى من الدية دينه، وتنفذ منها وصاياه. وقال أبو ثور: (لا يقضى منها دينه، ولا تنفذ منها وصاياه) . والذي يقتضي المذهب: أن تبنى على القولين، متى تجب الدية؟ فإن قلنا: بآخر جزء من أجزاء حياة المقتول.. قضي منها دينه، ونفذت منها وصاياه، وإن قلنا: تجب بعد موته.. لم يقض منها دينه، ولم تنفذ منها وصاياه. ولعله ذكر ذلك على الأصح عنده. وأما إذا كان القتل يقتضي القصاص.. فإن القصاص موروث، وفيمن يرثه من الورثة ثلاثة أوجه، حكاها ابن الصباغ: أحدها: أنه لا يرثه إلا العصبة من الرجال، وبه قال مالك، والزهري؛ لأن القصاص يدفع العار عن النسب، فاختص به العصبات، كولاية النكاح، فإن اقتصوا.. فلا كلام، وإن عفوا على مال.. كان لجميع الورثة. والثاني: أنه يرثه من يرث بنسب دون سبب، فيخرج من ذلك من يرث بالزوجية، وبه قال ابن شبرمة؛ لأن القصاص يراد للتشفي، والزوجية تزول بالموت. والثالث - وهو المنصوص، ولم يذكر الشيخان غيره -: (أنه يرثه جميع الورثة، من يرثه بنسب، ومن يرثه بسبب) ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد رحمة الله

مسألة قطع طرف رجل فارتد المقطوع

عليهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» و (الأهل) : يقع على الرجال والنساء. ولأنه جعل القود لمن جعل له الدية، ولا خلاف أن الدية لجميع الورثة، فكذلك القود. وروت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأهل القتيل: أن يتحجزوا، الأول فالأول، وإن كانت امرأة» قال أبو عبيد [في " غريب الحديث " (2/160) ] : ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يتحجزوا " يكفوا عن القصاص، ولو لم يكن للمرأة حق في القصاص.. لما جعل لها الكف عنه. وروي: (أن رجلا قتل رجلاً، فأراد أولياء المقتول القود، فقالت أخت المقتول - وكانت زوجة القاتل -: عفوت عن نصيبي من القود، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الله أكبر عتق من القتل) . [مسألة قطع طرف رجل فارتد المقطوع] إذا قطع طرف مسلم، فارتد المقطوع، ثم مات على الردة - وقلنا: يجب القصاص في الطرف - فمن الذي يستوفيه؟ قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لوليه المسلم أن يقتص) . واعترض المزني عليه، فقال: كيف يجوز لوليه أن يقتص وهو لا يرثه؟ واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا يقتص وليه المسلم كما قال المزني؛ لأنه لا يرثه، ولم يرد

الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الولي هاهنا: المناسب؛ وإنما أراد به: الإمام. وقال أكثرهم: بل يجوز لوليه المناسب أن يقتص؛ لأن القصاص للتشفي، وذلك إلى المناسب لا إلى الإمام. وقول الأول غير صحيح؛ لأنه قد يثبت القصاص لمن لا يرث، وهو: إذا قتل رجل وعليه دين يحيط بتركته. فإذا قلنا: إن الإمام هو الذي يقتص.. كان بالخيار: بين أن يقتص، وبين أن يعفو على مال، فإذا عفا على مال.. كان فيئاً. وإذا قلنا: يقتص الولي المناسب، فإن اقتص.. فلا كلام، وإن عفا على مال.. فهل يثبت؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: لا يثبت؛ لأن أرش الطرف يدخل في أرش النفس، فلما لم يجب أرش النفس.. لم يجب أرش الطرف. والثاني: يجب الأرش، وهو الأصح؛ لأن الجناية وقعت في حالة مضمونة، فلا يسقط حكمها بسقوط حكم السراية. فإذا قلنا بهذا: فكم الأرش الذي يجب؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال عامة أصحابنا: يجب أقل الأمرين من أرش الطرف أو دية النفس؛ لأن دية النفس إذا كانت أكثر من أرش الطرف.. لم تجب الزيادة على أرش الطرف؛ لأن الزيادة وجبت بالسراية، وإن كان أرش الطرف أكثر.. لم يجب ما زاد على دية النفس؛ لأنه لو مات وهو مسلم.. لم يجب فيه أكثر من دية مسلم، فكذلك هاهنا مثله. و [الثاني] : قال أبو سعيد الإصطخري: يجب أرش الطرف بالغاً ما بلغ؛ لأن الدية إنما تجب في النفس في الموضع الذي لو كان دون الدية وصار نفساً. وجبت فيه الدية، وهاهنا لا حكم للسراية في الزيادة، فكذلك في النقصان. والأول أصح.

مسألة حق القصاص لقاصر

[مسألة حق القصاص لقاصر] وإن كان القصاص لصغير أو مجنون، أو لغير رشيد.. لم يستوف له الولي، وبه قال أحمد، وأبو يوسف. وقال مالك، وأبو حنيفة، ومحمد: (يجوز للأب والجد أن يستوفيا له القصاص في النفس والطرف، ويجوز للوصي والحاكم أن يستوفيا له في الطرف دون النفس) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» . فجعل الخيرة للأهل، فلو جعلنا للولي استيفاءه.. لفوتنا ما خير فيه. ولأنه لا يملك إيقاع طلاق زوجته، فلا يملك استيفاء القصاص في النفس، كالوصي. وإذا ثبت هذا: فإن القاتل يحبس إلى أن يبلغ الصبي، ويفيق المجنون، ويصلح المفسد؛ لأن في ذلك مصلحة للقاتل؛ بأن يعيش إلى مدة، ويتأخر قتله، وفيه مصلحة لولي المقتول؛ لئلا يهرب القاتل، ويفوت القصاص. فإن أراد الولي أن يعفو عن القود على مال، فإن كان المولى عليه له كفاية.. لم يجز، وإن كان محتاجاً إلى ذلك المال لنفقته.. ففيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه محتاج إلى ذلك. والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يملك إسقاط حقه من القصاص، ونفقته في بيت المال. وإن وثب الصبي أو المجنون، فاقتص.. فهل يصير مستوفياً؟ فيه وجهان: أحدهما: يصير مستوفياً، كما لو كانت له وديعة، فأتلفها. والثاني: لا يصير مستوفياً، وهو الأصح؛ لأنه ليس من أهل الاستيفاء.

فرع كان القصاص لجماعة وبعضهم غائب

وإن كان القصاص لغائب.. حبس القاتل إلى أن يقدم الغائب، كما قلنا فيه إذا كان لصغير أو مجنون. فإن قيل: فهلا قلتم: لا يحبس القاتل للغائب؛ لأنه لا ولاية للحاكم على الغائب، كما لو كان للغائب مال مغصوب.. فليس للحاكم أن يحبس الغاصب، وينتزع منه المال المغصوب؟ فالجواب: أن القود يثبت للميت، وللحاكم على الميت ولاية، وليس كذلك الغائب إذا غصب ماله؛ لأنه لا ولاية له عليه وهو رشيد؛ فوزانه: أن يموت رجل، ويخلف مالاً، وله وارث غائب، فجاء رجل، وغصب ماله.. فللإمام حبس الغاصب إلى أن يقدم الغائب. [فرع كان القصاص لجماعة وبعضهم غائب] فإن كان القصاص لجماعة، وبعضهم حاضر وبعضهم غائب.. لم يجز للحاضر أن يستوفي بغير إذن الغائب، بلا خلاف. وإن كان القصاص بين صبي وكبير، أو بين مجنون وعاقل.. لم يجز للكبير والعاقل أن يستوفي القصاص حتى يبلغ الصبي، ويفيق المجنون، ويأذن في الاستيفاء، وبه قال عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأبو يوسف. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يجوز للكبير والعاقل أن يستوفيا قبل بلوغ الصغير وإفاقة المجنون) . إلا أن أصحاب أبي حنيفة اختلفوا في الذي يستوفيه: فمنهم من قال: يستوفي حقه وحق الصبي والمجنون. ومنهم من قال: يستوفي حقه، ويسقط حق الصغير والمجنون. دليلنا: أنه قصاص موروث، فوجب أن لا يختص باستيفائه بعض الورثة، كما لو كان لحاضر وغائب. وإذا ثبت هذا: فإن القاتل يحبس إلى أن يبلغ الصبي، ويفيق المجنون، كما قلنا فيه إذا كان جميع القود له.

مسألة يستوفي القصاص أحد أصحاب الحق

فإن أقام القاتل كفيلاً ليخلى.. لم يجز تخليته؛ لأن فيه تغريراً لحق المولى عليه، ولأن الكفالة لا تصح في القصاص، فإن فائدتها استيفاء الحق من الكفيل إن تعذر إحضار المكفول به، ولا يمكن استيفاؤه من غير القاتل، فلم تصح الكفالة به، كالحد. وإن وجب القصاص في قتل من لا وارث له غير المسلمين.. كان القصاص إلى الإمام؛ لأنه نائب عنهم. وإن كان هناك من يرث البعض، ويرث المسلمون الباقي.. كان استيفاء القصاص إلى الإمام وإلى الوارث. [مسألة يستوفي القصاص أحد أصحاب الحق] وإن قتل رجل رجلاً، وله أخوان أو ابنان من أهل استيفاء القصاص.. لم يكن لهما أن يستوفيا القصاص جميعاً؛ لأن في ذلك تعذيباً للقاتل، فإما أن يوكلا رجلا يستوفي لهما القصاص، وإما أن يوكل أحدهما الآخر في الاستيفاء. فإن طلب كل واحد منهما أن يوكله الآخر.. أقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فإذا خرجت القرعة لأحدهما.. أمر الآخر أن يوكله، وإن بادر أحدهما وقتل القاتل بغير إذن أخيه.. نظرت: فإن كان الذي لم يقتل لم يعف عن حقه من القصاص.. فهل يجب على القاتل منهما القود؟ فيه قولان: أحدهما: يجب عليه القود؛ لأنه ممنوع من قتله، وقد يجب القتل بإتلاف بعض النفس، كما لو قتل جماعة واحداً. والثاني: لا يجب عليه القود، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وهو الأصح؛ لأن له في قتله حقاً، فلم يجب عليه القود، كما لو وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة. وإن قتله بعد أن عفا أخوه عن القود.. نظرت:

فإن كان قد حكم الحاكم بسقوط القود.. وجب القود على القاتل، قولاً واحداً، قال ابن الصباغ: سواء علم القاتل بذلك أو لم يعلم؛ لأن بحكم الحاكم زالت الشبهة، وحرم عليه قتله، فهو كما لو قتل غير القاتل. وإن كان بعد عفو أخيه، وقبل حكم الحاكم بسقوط القود.. نظرت: فإن لم يعلم بعفو أخيه.. فهل يجب القود على القاتل؟ فيه قولان، كما لو لم يعف أخوه. قال الشيخ أبو حامد: إلا أن الأصح هناك: أن لا يجب عليه القود، والأصح هاهنا: أن عليه القود. وإن قتله بعد أن علم بعفو أخيه، فإن قلنا: يجب عليه القود إذا لم يعلم بعفو أخيه.. فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: لا يجب عليه القود.. فهاهنا قولان: أحدهما: يجب عليه القود؛ لأنه قتله ولا حق له في قتله. والثاني: لا يجب عليه القود؛ لأن على قول مالك لا يسقط القود بعفو أحد الشريكين، فصار ذلك شبهة في سقوط الحد عنه. وهذا ترتيب الشيخ أبي حامد. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قتله قبل عفو أخيه.. فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان. فإذا قلنا: لا يجب عليه القود.. فله معنيان: أحدهما: لاختلاف العلماء في جواز استيفاء أحدهما. والثاني: لأجل حقه في القصاص. وإن قتله بعد عفو أخيه، وهو عالم بعفوه، فإن قلنا في الأولى: يجب القصاص.. فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: لا يجب.. فهاهنا قولان: [أحدهما] : إن قلنا: العلة هناك اختلاف العلماء.. فلا قود هاهنا؛ لأن الاختلاف موجود. و [الثاني] : إن قلنا: العلة هناك حقه في القصاص.. وجب عليه هاهنا القود.

وإن قتله جاهلاً بعفو أخيه، فإن قلنا: لا يجب عليه القود إذا كان عالماً بعفو أخيه.. فهاهنا أولى أن لا يجب، وإن قلنا هناك: يجب القود.. فهاهنا قولان، بناء على القولين فيمن قتل مسلماً ظنه حربياً في دار السلام. إذا ثبت هذا: فإذا قلنا: يجب القود على القاتل.. فلوليه أن يقتص منه، فإذا قتله.. وجبت دية المقتول الأول في تركة القاتل الأول، نصفها للأخ الذي لم يقتل، ونصفها لورثة أخيه المقتول. وإن قلنا: لا يجب القود على الأخ القاتل.. فقد استوفى حقه، وبقي حق أخيه، وقد تعذر استيفاء حقه من القصاص، فيكون له نصف دية أبيه، وعلى من يرجع بها؟ فيه قولان: أحدهما: يرجع بها على أخيه القاتل؛ لأن نفس قاتل أبيه كانت لهما، فإذا قتله أحدهما.. فقد أتلف ما يستحقه هو وأخوه، فوجب عليه ضمان حق أخيه، كما لو كانت لهما وديعة، فأتلفها أحدهما. فعلى هذا: إن أبرأ أخاه.. صح إبراؤه، وإن أبرأ قاتل أبيه.. لم يصح إبراؤه. والقول الثاني: أنه يرجع بها في تركة قاتل أبيه؛ لأنه قود سقط إلى مال، فوجب المال في تركة قاتل الأب، كما لو قتله أجنبي، ويخالف الوديعة، فإنه لو أتلفها أجنبي.. لرجع عليه بضمانها، وهاهنا لو قتله أجنبي.. لم يرجع عليه بشيء. فعلى هذا: إن أبرأ أخاه.. لم يصح إبراؤه، وإن أبرأ قاتل أبيه.. صح إبراؤه، ويكون لورثة قاتل الأب أن يرجعوا على القاتل بنصف دية مورثهم؛ لأنه لا يستحق إلا نصف نفسه. وإن عفا الأخوان جميعاً عنه، ثم عادا فقتلاه، أو عفا عنه أحدهما، ثم عاد فقتله.. وجب القود، قولاً واحداً؛ لأنه لم يبق للقاتل حق بعد عفوه، فصار كما لو قتل أجنبياً. فإن كان القصاص لجماعة، واختلفوا فيمن يقتص منهم.. أقرع بينهم، وهل يدخل في القرعة من لا يحسن؟ فيه وجهان، حكاهما في " العدة ":

مسألة القصاص بإذن الحاكم

أحدهما: لا يدخل؛ لأنه لا فائدة فيه. والثاني: يدخل؛ لأنه يستنيب من شاء. ومتى خرجت القرعة لأحدهم.. لم يستوف القصاص إلا بتوكيل الباقين له. [مسألة القصاص بإذن الحاكم] ومن وجب له القصاص.. لم يجز له أن يقتص بغير إذن السلطان أو بغير حضوره؛ لاختلاف العلماء في وجوب القصاص في مواضع، فلو قلنا: له أن يستوفيه من غير إذن السلطان.. لم نأمن أن يقتص فيما لا يستحق فيه القصاص، فإن خالف واقتص بغير إذن السلطان.. فقد استوفى حقه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويعزر، ولا شيء عليه) . ومن أصحابنا من قال: لا يعزر؛ لأنه استوفى حقه. والأول أصح؛ لأنه افتأت على السلطان. والمستحب: أن يكون ذلك بحضرة شاهدين؛ لئلا ينكر المقتص الاستيفاء، فإن اقتص بغير حضور شاهدين.. جاز؛ لأنه استيفاء حق، فلم يكن من شرطه حضور الشهود، كالدين. ويتفقد السلطان الآلة التي يستوفي بها القصاص، فإن كانت كالة.. منع من الاستيفاء بها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قتلتم.. فأحسنوا القتلة» . فإن استوفى القصاص بآلة كالة.. فقد أساء، ولا تعزير عليه. وإن أراد الاستيفاء بآلة مسمومة.. قال الشيخ أبو حامد: منع من ذلك، سواء كان في الطرف أو في النفس؛ لأنه إذا كان في الطرف.. سرى إلى نفسه، وإن كان في

فرع طلب من له القصاص أن يقتص

النفس.. هرى بدنه، ومنع من غسله، فإن خالف، واقتص بآلة مسمومة.. عزر. وقال القفال: إن كان الاستيفاء في الطرف.. منع منه، وإن كان في النفس.. لم يمنع منه. فإن اقتص في الطرف بآلة مسمومة، وسرى ذلك إلى نفسه.. وجب على المقتص نصف الدية؛ لأنه مات من مباح ومحظور. [فرع طلب من له القصاص أن يقتص] ] : إذا طلب من له القصاص أن يقتص بنفسه، فإن كان القصاص في النفس، وكان يصلح للاستيفاء.. مكنه السلطان من الاستيفاء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] (الإسراء: 33) ، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» . وإن كان لا يحسن الاستيفاء.. أمر بالتوكيل، فإن لم يوجد من يتطوع بالاستيفاء عنه بغير عوض.. استؤجر من يستوفي له القصاص. وقال أبو حنيفة: (لا تصح الإجارة على القصاص في النفس، وتصح في الطرف) . دليلنا: أنه عمل معلوم، فصحت الإجارة عليه، كالقصاص في الطرف. وإن كان القصاص في الطرف.. فقال أصحابنا البغداديون: لا يمكن المجني عليه أن يقتص بنفسه، بل يؤمر بالتوكيل؛ لأن الاقتصاص في الطرف يحتاج إلى التحفظ؛ لئلا يستوفي أكثر من حقه الواجب، والمجني عليه قلبه مغتاظ على الجاني، فلا يؤمن منه - إذا استوفى بنفسه - أن يأخذ أكثر من حقه. وقال الخراسانيون: فيه وجهان: أحدهما: لا يمكن من ذلك؛ لما ذكرناه. والثاني: يمكن منه، كما يمكن من استيفاء القصاص في النفس. والأول أصح؛ لأن المقصود بالقتل إزهاق الروح، فلا معنى للتحفظ، بخلاف الطرف.

فرع استحباب تعيين من يقيم الحدود

[فرع استحباب تعيين من يقيم الحدود] ويستحب للإمام أن يقيم رجلاً يقيم الحدود، ويقتص للناس بإذنهم، ويرزقه من بيت المال، وهو خمس الخمس؛ لأنه للمصالح، وهذا من المصالح، فهو كأجرة الكيال والوزان في الأسواق، فإن لم يكن هناك شيء من سهم المصالح، أو كان ولكنه يحتاج إليه إلى ما هو أهم من ذلك.. كانت الأجرة على المقتص منه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على: (أن أجرة القصاص على المقتص منه) ، ونص: (أن أجرة الجلاد في بيت المال) . واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: فيهما قولان: أحدهما: تجب على المقتص منه وعلى المحدود؛ لأن الإيفاء حق عليه. والثاني: تجب أجرة القصاص على المقتص له، وأجرة الجلاد في بيت المال، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه استيفاء حق، فكانت أجرة الاستيفاء على المستوفي، كما لو اشترى طعاماً وأراد نقله.. والأول أصح. ومنهم من قال: تجب أجرة القصاص على المقتص منه، وأجرة الجلاد في بيت المال؛ لأن في القصاص: الجاني مأمور بالإقرار بالجناية ليقتص منه، فمؤنة التسليم عليه، وفي الحد: هو مأمور بالستر على نفسه. فإن قال الجاني: أنا أقطع طرفي ولا أؤدي الأجرة.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: تجب إجابته إلى ذلك؛ لأن المقصود قطع طرفه، فلا تلحقه رحمة في ذلك.

مسألة لا يقتص من الحامل حتى تضع

والثاني: لا تجب إجابته إلى ذلك - ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غيره - لأن المقصود بالقصاص التشفي، وذلك لا يحصل بفعل الجاني، وإنما يحصل بفعل المجني عليه أو من ينوب عنه غير الجاني. [مسألة لا يقتص من الحامل حتى تضع] وإن وجب القصاص على امرأة حامل.. لم يجز قتلها قبل أن تضع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] (الإسراء: 33) . وفي قتلها في هذه الحالة إسراف؛ لأنه يقتل من قتل ومن لم يقتل. وروي: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبرته: أنها زنت وهي حبلى، فدعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليها، وقال: " أحسن إليها، فإذا وضعت.. فجئني بها "، فلما أن وضعت.. جاء بها، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها فرجمت، وأمرهم فصلوا عليها» . وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمر بقتل امرأة بالزنى وهي حامل، فقال له معاذ بن جبل: إن كان لك عليها سبيل.. فلا سبيل لك على ما في بطنها - يعني: حملها - فترك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتلها، وقال: كاد النساء أن يعجزن أن يلدن مثلك يا معاذ) . إذا ثبت هذا: فولدت.. لم تقتل حتى تسقي الولد اللبأ؛ لأنه لا يعيش إلا به، فإذا سقته اللبأ.. نظرت: فإن وجدت امرأة راتبة ترضعه.. جاز للولي أن يقتص منها؛ لأن الولد يستغني بإرضاعها.

فرع حبس مدعية الحمل حتى يتبين أمرها

فإن لم توجد امرأة راتبة ترضعه، وإنما وجد جماعة نساء يتناوبنه في الرضاع، أو وجدت بهيمة يسقى من لبنها.. فالمستحب له: أن لا يقتص حتى ترضعه أمه حولين؛ لأن على الولد ضرراً باختلاف لبن المرضعات عليه، ولبن البهيمة يغير طبعه، فإن اقتص منها.. جاز؛ لأن بدنه يقوم بذلك. فإن لم توجد من ترضعه، ولا وجدت بهيمة يسقى لبنها.. لم يجز للولي أن يقتص منها إلى وقت يستغني عن لبنها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للمرأة: «اذهبي حتى ترضعيه» ، ولأنه إذا وجب تأخير القصاص لأجله وهو حمل.. فلأن يجب تأخيره لأجله بعد الوضع أولى. قال الشيخ أبو حامد: قال أصحابنا: فإن خالف الولي، واقتص من الأم في هذه الحالة، ثم مات الطفل.. فهو قاتل عمد، وعليه القود؛ لأنه بمثابة من حبس رجلاً، ومنعه الطعام والشراب حتى مات.. فإنه قاتل عمد، ويجب عليه القود. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا وجد من يرضعه، فإن كان القتل لله، كالرجم في الزنا.. لم تقتل حتى تنقضي مدة الرضاع، وإن كان للآدمي.. قتلت. [فرع حبس مدعية الحمل حتى يتبين أمرها] إذا وجب على المرأة القتل، فادعت: أنها حامل.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تحبس حتى يتبين أمرها) . واختلف أصحابنا في ذلك: فقال أبو سعيد الإصطخري: لا تحبس حتى يشهد أربع من القوابل: أنها حبلى، فإن لم يشهدن: أنها حبلى.. قتلت في الحال؛ لأن القصاص قد وجب، فلا يؤخر لقولها.

فرع تمكين المقتص من الحامل يترتب عليه أمور

وقال أكثر أصحابنا: تحبس وإن لم يشهدن: أنها حبلى؛ لأن للحمل أمارات ظاهرة يشاهدها القوابل، وأمارات خفية لا يعلم ذلك منها إلا نفسها، فوجب حبسها إلى أن يتبين أمرها. [فرع تمكين المقتص من الحامل يترتب عليه أمور] فإن مكن الإمام أو الحاكم المقتص من الحامل، فقتلها.. فالكلام في الإثم، والضمان، والكفارة. فأما الإثم: فإن كان الحاكم والمقتص عالمين بأنها حامل.. أثما، وإن كانا جاهلين بحملها.. لم يأثما، وإن كان أحدهما عالماً بحملها والآخر جاهلاً به.. أثم العالم منهما دون الجاهل. وأما الضمان والكفارة: فينظر فيه: فإن كان لما قتلت الحامل لم يخرج الجنين من بطنها.. فلا ضمان ولا كفارة؛ لأنه يجوز أن يكون ريحاً، وهو كما لو ضرب امرأة فماتت، ولم يخرج من بطنها جنين. وإن خرج من بطنها، فإن خرج حياً، ثم مات.. ففيه دية كاملة وكفارة، وإن خرج ميتاً.. ففيه غرة عبد أو أمة وكفارة. وأما من يجب عليه الضمان والكفارة: فإن كانا عالمين بحملها.. فالضمان والكفارة على الإمام أو الحاكم دون الولي؛ لأنه هو الذي مكنه من الاستيفاء، ولأن الحاكم هو الذي يعرف الأحكام، وإنما يرجع الولي إلى اجتهاده. وهكذا: إن كان الحاكم هو العالم لحملها دون الولي.. فالضمان والكفارة على الحاكم؛ لما ذكرناه. وإن كان الولي عالماً والحاكم جاهلاً.. فالضمان والكفارة على الولي دون الحاكم؛ لأن الحاكم إذا لم يعلم.. فلم يسلطه على إتلاف الحمل.

وإن كانا جاهلين بحملها.. ففيه وجهان: أحدهما: أن الضمان والكفارة على الحاكم؛ لأنهما إذا استويا.. كان الضمان عليهما، كما لو كانا عالمين. والثاني: أن الضمان والكفارة على الولي؛ لأن الحاكم إذا لم يعلم.. سقط عنه حكم الاجتهاد فيه، والولي هو المباشر، فلزمه الضمان. هكذا ذكر ابن الصباغ. وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وصاحب " الفروع ": إذا كانا جاهلين بأن ذلك لا يجوز.. فالضمان والكفارة على الإمام، قولاً واحداً. وإن كانا عالمين بأن ذلك لا يجوز.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: الضمان والكفارة على الإمام؛ لأنهما في العلم سواء، وللإمام مزية في التمكين. و [الثاني] : قال غيره من أصحابنا: يكون الضمان والكفارة على الولي؛ لأنه هو المباشر. وإن كان أحدهما عالماً والآخر جاهلاً.. فالضمان على العالم منهما دون الجاهل. وقال المزني: الضمان على الولي بكل حال. وليس بشيء. هذا نقل البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن كان الولي عالماً.. فالضمان على عاقلته، سواء علم القاضي أو جهل. وإن كان الولي جاهلاً.. ففيه وجهان، سواء علم القاضي أو جهل، بناء على القولين في إطعام طعام الغاصب أجنبياً؛ فإن قلنا: إن ضمانه على الطاعم.. فالضمان هاهنا على الولي. وإن قلنا: على المطعم.. كان الضمان هاهنا على الحاكم.

مسألة لا قصاص قبل استقرار الجناية

[مسألة لا قصاص قبل استقرار الجناية] إذا قطع طرفه، وأراد المجني عليه أن يقتص.. فالمستحب له: أن لا يقتص حتى تستقر الجناية بالاندمال أو السراية إلى النفس؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الاستقادة من الجرح حتى يندمل» وروي: «أن رجلاً جرح حسان بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فجاء قوم من الأنصار - يعني: رهطه - إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليقتص لهم، فقال لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اصبروا حتى يستقر الجرح، فإن اندمل.. أخذتم القصاص في الجرح، وإن صار نفساً.. أخذتم القصاص في النفس» فإن اقتص قبل الاندمال.. جاز.

وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (لا يجوز) . وبنوه على أصولهم: أن الطرف إذا صار نفساً.. سقط القصاص فيه؛ للخبرين الأولين. دليلنا: ما روى عمرو بن دينار، عن محمد بن طلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن رجلا طعن رجلاً بقرن في رجله، فجاء المجني عليه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطلب القصاص، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " انتظر حتى تبرأ "، فجاءه ثانياً، فقال: " انتظر حتى تبرأ "، فجاءه ثالثاً، فاقتص له، ثم برئت رجل الجاني وشلت رجل المجني عليه، فجاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: يا رسول الله، برئت رجل الجاني، وشلت رجلي، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اذهب، فلا حق لك ". وفي رواية أخرى: أبعدك الله، فقد خالفت أمري» فدل على: جواز الاقتصاص. فمعنى قوله: (لا حق لك) أي: في القصاص. وأما الخبران الأولان: فمحمولان على الاستحباب، بدليل هذا الخبر. وإن عفا عن القود، وطلب الأرش قبل الاستقرار.. فهل يعطى الأرش؟ فيه قولان:

مسألة المماثلة في القصاص بالآلة

أحدهما: يعطى، كما يجوز له استيفاء القصاص. والثاني: لا يعطى؛ لأن الأرش لا يستقر قبل الاندمال؛ لأنه ربما سرى إلى النفس، فدخل في ديتها، أو يشاركه غيره في الجناية، فمات من الجميع. فإذا قلنا: يعطى قبل الاندمال.. فكم يعطى؟ فيه وجهان: أحدهما: يعطى أقل الأمرين من أرش الجناية أو دية النفس؛ لأن ما زاد على دية النفس لا يتيقن استقراره قبل الاندمال. والثاني: يعطى أرش الجناية بالغاً ما بلغ؛ لأنه قد وجب له في الظاهر. فإن اقتص المجني عليه قبل الاندمال، ثم سرت الجناية على المجني عليه إلى عضو آخر واندمل.. كانت السراية مضمونة بالدية. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا تكون مضمونة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اذهب، فلا حق لك» ودليلنا: أن هذه جناية مضمونة، فكانت سرايتها مضمونة، كما لو لم يقتص، والخبر محمول على أنه أراد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا حق لك في القصاص. [مسألة المماثلة في القصاص بالآلة] ] : إذا قتل بالسيف.. لم يقتص منه إلا بالسيف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) ، ولأنه أوحى الآلات. وإن حرقه، أو غرقه، أو رماه بحجر، أو من شاهق، فمات، أو ضربه بخشبة، أو حبسه ومنعه الطعام والشراب حتى مات.. فللولي أن يقتص منه بهذه الأشياء، وبه قال مالك. وأما أبو حنيفة: فإنه يقول: (هذه الجنايات لا توجب القصاص، إلا التحريق بالنار، فإنه يوجب القصاص، ولكن: لا يجوز أن يقتص منه إلا بالسيف) .

فرع من قتل بالسحر وغيره اقتص منه بالسيف

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) . ولما روى البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غرق.. أغرقناه، ومن حرق.. حرقناه» . وروي: «أن يهودياً رض رأس جارية من الأنصار بين حجرين، فوجدت وفيها رمق، فقيل: من فعل بك هذا؟ أفلان؟ فأومأت برأسها - أي: لا - إلى أن سئلت عن يهودي، فأومأت برأسها - أي: نعم - فأخذوا اليهودي، فاعترف، فأمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرضخ رأسه بين حجرين» . ولأنه معنى يجوز به قتل المشركين، فجاز استيفاء القصاص به، كالسيف، وللولي أن يقتص بالسيف؛ لأنه أوحى وأروح من التعذيب. [فرع من قتل بالسحر وغيره اقتص منه بالسيف] وإن قتله بالسحر.. قتله بالسيف؛ لأن السحر لا مثل له. وإن قتله باللواط.. فهل يجب فيه القصاص؟ فيه وجهان، حكاهما أصحابنا الخراسانيون: أحدهما: لا يجب فيه القصاص؛ لأن المقصود به طلب اللذة، فكان عمده خطأ.

فرع يضربه بالسيف حتى يموت

والثاني - وهو قول البغداديين، وهو الأصح -: أنه يجب به القصاص؛ لأنه قتله بما يقتل مثله غالباً، فوجب عليه القصاص، كما لو قتله بالسيف. فعلى هذا: في كيفية استيفاء القصاص منه وجهان: أحدهما: يقتل بالسيف؛ لأن اللواط محرم، فقتل بالسيف، كالسحر. والثاني: يعمل به مثل ما عمل بخشبة إلى أن يموت؛ لأنه أقرب إلى فعله. وإن قتله بشرب الخمر.. وجب عليه القصاص، وكيف يستوفى منه القصاص؟ فيه وجهان: أحدهما: يقتل بالسيف؛ لأن الخمر محرم، فهو كالسحر. والثاني: يقتل بسقي الماء؛ لأنه أقرب إلى فعله. [فرع يضربه بالسيف حتى يموت] وإن ضربه بالسيف فلم يمت.. فإنه يوالي عليه الضرب إلى أن يموت؛ لأنه أوحى الآلات. وإن فعل به مثل ما فعل به من الضرب بالمثقل والرمي من الشاهق، أو منعه من الطعام والشراب مثل الذي منعه، فلم يمت.. ففيه قولان: أحدهما: يكرر ذلك عليه إلى أن يموت، كما قلنا في السيف. والثاني: لا يكرر عليه ذلك، بل يقتله بالسيف؛ لأنه قد فعل به مثل ما فعله به، ولم يبق إلا إزهاق الروح، فوجب بالسيف. وإن جنى عليه جناية يجب فيها القصاص، بأن أوضح رأسه، أو قطع يده أو رجله من المفصل، فمات.. فللمجني عليه أن يوضح رأسه، ويقطع يده. وقال أبو حنيفة: (ليس له ذلك) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) .

فرع أوضحه بضرب

فإن فعل به مثل ذلك، فمات.. فقد استوفى حقه، وإن لم يمت.. قتله بالسيف؛ لأنه لا يمكنه أن يوضحه موضحة أخرى، ولا أن يقطع له يداً أخرى؛ لأن ذلك أكثر مما فعل به. وإن جنى عليه جناية لا يجب فيها القصاص، مثل: أن هشمه، أو أجافه، أو قطع يده من بعض الساعد أو العضد، فمات.. ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز له الاقتصاص بهذه الجنايات، بل له أن يقتله بالسيف؛ لما روى العباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في المنقلة قصاص» ، ولأنها جناية لا يجب بها القصاص إذا لم تسر إلى النفس، فلم يجب بها القصاص وإن سرت إلى النفس، كاللواط. والثاني: يجوز له الاقتصاص بها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) ، ولقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] ، ولأنها جراحة يجوز بها قتل المشرك، فجاز استيفاء القصاص بها، كالقتل بالسيف. فعلى هذا: إذا فعل به مثل ما فعل به، فلم يمت.. قتله بالسيف؛ لأنه قد فعل به مثل ما فعل به، ولم يبق إلا إزهاق الروح، فكان بالسيف. [فرع أوضحه بضرب] وإن أوضحه بالضرب بالسيف أو بالرمي بالحجر.. لم يوضحه بضرب السيف ولا بالرمي بالحجر، بل يوضحه بحديدة ماضية بعد أن يضبط الجاني؛ لئلا يستوفي منه أكثر مما جنى.

مسألة جناية تذهب بصر العين

[مسألة جناية تذهب بصر العين] وإن جنى عليه جناية ذهب بها ضوء العين.. نظرت: فإن كانت جناية لا يجب فيها القصاص، كالهاشمة والمنقلة.. لم يقتص منه بالهاشمة والمنقلة؛ لأنها لا يجب فيها القصاص، ولكن يذهب ضوء العين بكافور يطرح في العين، أو بإدناء حديدة حامية إليها؛ لأن ذلك أسهل ما يمكن، ولا تقلع الحدقة؛ لأنه لم يقلع حدقته. وإن كانت جناية يجب فيها القصاص، كالموضحة.. اقتص منه في الموضحة، فإن ذهب ضوء عينيه.. فقد استوفى حقه، وإن لم يذهب الضوء.. عولج الضوء بما يذهبه، بالكافور، أو بإدناء حديدة حامية من العين على ما مضى. وإن لطمه، فأذهب ضوء عينه.. فهل له أن يلطمه؟ اختلف أصحابنا فيها: فقال الشيخ أبو إسحاق: ليس له أن يلطمه، وإنما يعالج إذهاب الضوء بما ذكرناه؛ لما روى يحيى بن جعدة: (أن أعرابياً قدم بحلوبة له إلى المدينة، فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فنازعه، فلطمه، ففقأ عينه، فقال له عثمان: هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه، فأبى، فرفعهما إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فدعى علي بمرآة فأحماها، ثم وضع القطن على عينه الأخرى، ثم أخذ المرآة بكلبتين، فأدناها من عينه حتى سال إنسان عينه) ، ولأن اللطم

مسألة تمكين الولي من ضرب عنق الجاني

لا يمكن اعتبار المماثلة فيه؛ ولهذا: لو انفرد من إذهاب الضوء.. لم يجب فيه القصاص. وقال الشيخ أبو حامد: يلطمه كما لطمه، وهو المنصوص في " الأم ". فإن ذهب ضوء عينه.. فقد استوفى حقه، وإن لم يذهب.. عولج بما يذهب الضوء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن لطمه الجاني، فأذهب ضوء عينه، وابيضت، وشخصت - يعني: ارتفعت - فإنه يلطمه مثله، فإن أذهب ضوء عينه، وابيضت، وشخصت.. فقد استوفى حقه، وإن لم تبيض، ولم تشخص، فإن أمكن معالجة العين حتى تبيض وتشخص.. فعل، وإن لم يمكن.. فلا شيء عليه؛ لأن الجناية إنما هي إذهاب الضوء، وأما البياض والشخوص: فإنما هو شين، والشين لا يوجب شيئاً، كما لو شجه موضحة، فاقتص منه مثلها، ثم برئ رأس المجني عليه وبقي عليه شين، وبرئ رأس الشاج ولا شين عليه.. فإنه لا يجب له شيء، فكذلك هذا مثله) . وإن قلع عينه بإصبعه، فإن قلع المجني عليه عينه بحديدة.. جاز؛ لأنه أوحى، وإن أراد أن يقلع عينه بإصبعه.. ففيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (البقرة: 194) . والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه لا يمكن اعتبار المماثلة فيه. [مسألة تمكين الولي من ضرب عنق الجاني] إذا وجب له القصاص بالسيف.. فإن الحاكم يمكن الولي من ضرب عنق الجاني، فإن ضرب عنقه بالسيف، فأبانه.. فقد استوفى حقه، وإن ضربه في غير العنق، فإن مات.. فقد استوفى حقه، وإن لم يمت.. سئل عن ذلك: فإن قال: تعمدت ضرب ذلك الموضع.. عزره الحاكم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

فرع أخذ أو زاد في الاقتصاص فوق حقه

{فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] (الإسراء: 33) . معناه: لا يمثل به في القتل، وقيل: معناه: لا يقتل غير قاتله. ويؤمر أن يوكل من يقتص له، ولا يلزمه ضمان؛ لأن له إتلاف جملته. وإن قال: أخطأت، فإن ضرب موضعاً يجوز أن يخطئ في مثله، مثل: أن أصاب الكتف، وما يلي الرأس من العنق.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن ما يدعيه ممكن، ولا تعزير عليه. وإن أصاب موضعاً لا يجوز أن يخطئ في مثله، مثل: أن أصاب وسط رأسه أو ظهره أو رجله.. لم يقبل قوله؛ لأنه خلاف الظاهر، ويعزر، ولا يضمن أيضاً. وإن قال: لا أحسن الاقتصاص.. أمر بالتوكيل، فإن قال: أنا أحسن، وطلب أن يقتص بنفسه.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (ليس له ذلك، ويؤمر بالتوكيل) . وقال في موضع: (يمكن ثانياً من الاقتصاص) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يمكن؛ لأنه لا يؤمن مثل ذلك منه. والثاني: يمكن؛ لأن الظاهر أنه لا يعود إلى مثله. ومنهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فحيث قال: (يؤمر بالتوكيل) أراد: إذا كان لا يحسن، ولم يوجد منه قبل ذلك. وحيث قال: (يمكن) أراد: إذا علم أنه يحسن الاستيفاء. [فرع أخذ أو زاد في الاقتصاص فوق حقه] وإن وجب له القصاص في أنملة، فاقتص من أنملتين، فإن كان عامداً.. وجب عليه القصاص، وإن كان مخطئاً.. وجب عليه الأرش دون القود. وإن استوفى أكثر من حقه باضطراب الجاني.. لم يلزم المقتص شيء؛ لأنه حصل بفعل الجاني، فهدر.

مسألة اقتص بالشمال بدل اليمين

[مسألة اقتص بالشمال بدل اليمين] إذا وجب له القصاص في اليمين، فقال المقتص للجاني: أخرج يمينك لأقطعها، فأخرج الجاني يساره، فقطعها المقتص.. نظرت في الجاني: فإن قال: تعمدت إخراج اليسار، وعلمت أن قطعها لا يجزئ عن اليمين.. فلا قود على المقتص ولا دية، سواء علم المقتص أنها اليسار أو لم يعلم؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها، فهو كما لو قال: اقطع يدي، فقطعها، غير أن المقتص إن كان عالماً أنها اليسار.. عزر؛ لأنه فعل فعلاً محرماً، وإن لم يعلم.. لم يعزر، وسواء أذن الجاني في قطعها بالقول أو قال له المقتص: أخرج يمينك لأقطعها، فأخرج يساره وهو ساكت ومدها، فقطعها المقتص؛ لأنه بذلها له بإخراجها إليه لا على سبيل العوض، والفعل في ذلك يقوم مقام النطق، كما لو دفع رجل إلى رجل صرة، وقال: ارمها في البحر، فأخذها ورماها.. فلا ضمان عليه. وكذلك: لو قال: ادفع إلى صرتك لأرميها في البحر، فدفعها إليه وهو ساكت، فرماها.. فلا ضمان عليه. وكما لو قدم إليه طعاماً، وقال: كله، فهو كما لو استدعى منه الطعام، وقدمه إليه، وأكله. فإن مات المقطوعة يساره من قطعها.. فلا قود على المقتص. قال ابن الصباغ: ولا يجب عليه دية النفس. وهل تجب الكفارة على المقطوعة يساره؟ قال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه وجهان، بناءً على الوجهين فيمن قتل نفسه. وطريقة أصحابنا البغداديين: أن من قتل نفسه.. وجب عليه الكفارة، وجهاً واحداً. فعلى هذا: يجب عليه الكفارة هاهنا. وإن قال المقتص منه: وقع في سمعي أنه قال: أخرج يسارك، فأخرجتها، أو سمعت أنه قال: أخرج اليمين، ولكن دهشت، فأخرجت اليسار، وظننتها اليمين، أو قال: أخرجت اليسار عامداً، ولكن ظننت أن قطعها يجزئ عن اليمين.. نظرت في المقتص:

فإن لم يعلم أنها اليسار.. فلا قود عليه؛ للشبهة، وهل تجب عليه الدية؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه الدية؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها، فهو كما لو قال: اقطع يدي، فقطعها. والثاني: تجب عليه الدية، وهو الأصح؛ لأن الجاني بذل يساره لتكون عوضاً عن اليمين، فإذا لم تقع عنها.. وجب له قيمتها، كما لو باع سلعة بيعاً فاسداً، وسلمها إلى المشتري، وتلفت. وإن كان المقتص عالماً بأنها اليسار.. فهل يجب عليه القود في يساره؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو حفص بن الوكيل: يجب عليه القصاص؛ لأنه قطع يداً غير مستحقة له مع العلم بتحريمها. و [الثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يجب عليه القصاص، وهو الأصح؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها، ويجب عليه ديتها؛ لأن صاحبها بذلها لتكون عوضاً عن اليمين، فإذا لم تقع.. وجب له قيمتها، كما لو باع سلعة بيعاً فاسداً، وقبضها المشتري، وتلفت عنده. إذا ثبت هذا: فإن القصاص باق للمقتص في يمين الجاني؛ لأنه لم يسقط حقه عنها. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يقتص منه في اليمين حتى تندمل يساره) . وقال فيمن قطع يدي رجل أو رجليه دفعة واحدة: (إنه يقطع يديه أو رجليه دفعة واحدة) . فمن أصحابنا الخراسانيين من جعل المسألتين على قولين، ومنهم من حملهما على ظاهرهما، ولم يذكر أصحابنا البغداديون غيره.

فرع اختلفا ببذل اليسار للقطع

وفرق بينهما؛ بأنه إذا قطع يدي رجل أو رجليه.. فقد جمع عليه بين ألمين، فجاز له أن يجمع عليه بينهما، وهاهنا الجاني لم يجمع عليه بين ألمين.. فلا يجوز له أن يجمع عليه بينهما. فإن قيل: أوليس لو قطع يمين رجل ويسار آخر.. لم يؤخر القصاص عليه في إحداهما إلى اندمال الأخرى؟ قلنا: الفرق بينهما: أن القطعين مستحقان قصاصاً؛ فلهذا جمعنا بينهما، وهاهنا أحدهما غير مستحق عليه، فلم يجمع بينهما. وإن سرى قطع اليسار إلى نفس الجاني في الموضع الذي قال: ظننتها اليمين، أو ظننت أن قطعها يجزئ عن اليمين.. قال ابن الصباغ: فإنه يجب على المقتص دية كاملة، وقد تعذر عليه القصاص في اليمين، فيجب له دية يده، فيقاص بها فيما عليه. قال: وحكي عن الشيخ أبي حامد: أنه قال: عندي: أنه استوفى حقه من اليمين بتلفه، كما لو كان له قصاص في اليد، فقطعها، ثم قتله. ووجه الأول: أن حقه في قطع اليد، ولم يحصل، وإنما قتله، فقد ضمنها مع النفس بالدية. قال ابن الصباغ: ويلزمه أن يقول فيه إذا بذلها مع العلم بها وسرت أيضاً، أن يكون مستوفياً لليمين؛ لأن البذل فيما استحق إتلافه لا يمنع استيفاء الحق به، وإنما تكون سرايتها هدراً فيما لا يستحقه. [فرع اختلفا ببذل اليسار للقطع] ] : وإن اختلفا: فقال المقتص: بذلت لي اليسار وأنت عالم بأنها اليسار، وأنه لا يجزئ قطعها عن اليمين. وقال الجاني: بذلتها ولم أعلم أنها اليسار، أو لم أعلم أن قطعها لا يجزئ عن اليمين.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأنه أعلم بنفسه.

فرع وجب القصاص على قطع اليمين وتراضيا على قطع اليسار

فإن حلف.. كان الحكم فيه حكم ما لو صادقه المقتص على أنه بذلها ولم يعلم أنها اليمين. وإن نكل الجاني.. حلف المقتص، وكان الحكم فيه حكم ما لو أقر الجاني: أنه بذلها مع علمه أنها اليسار، وأنه لا يجزئ قطعها عن اليمين. [فرع وجب القصاص على قطع اليمين وتراضيا على قطع اليسار] ] : وإن وجب له القصاص في اليمين، فاتفقا على أن يقتص منه باليسار بدلاً عنها.. لم يقع عن اليمين؛ لأن ما لا يجوز قطعه بالشرع لا يجوز بالتراضي، كما لو قتل غير القاتل برضاه. ولا قصاص على المقتص؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها، ويجب عليه دية اليسار. فإن كانا عالمين بأن ذلك لا يجوز.. أثما، وإن كانا جاهلين.. لم يأثما. وإن كان أحدهما عالماً والآخر جاهلاً.. أثم العالم منهما، وهل يسقط حق المقتص من القصاص في اليمين؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط؛ لأنه لما رضي بأخذ اليسار عن اليمين.. صار ذلك عفواً منه عن اليمين. فعلى هذا: يجب عليه دية يد، وله دية يد، فيتقاصان إن استويا، وإن تفاضلا، بأن كان أحدهما رجلاً والآخر امرأة، أو كان المقتص مسلما والجاني كافراً.. رجع من له الفضل بما له من الفضل. والثاني: لا يسقط حقه من القصاص في اليمين؛ لأنه إنما رضي بإسقاط حقه من القصاص بأن تكون اليسار بدلاً عن اليمين، فإذا لم يصح أن تكون بدلاً عنها.. كان حقه باقياً في المبدل، كما لو صالح على الإنكار. فعلى هذا: ليس له أن يقتص في اليمين إلا بعد اندمال اليسار. قال ابن الصباغ: والأول أصح؛ لأن غرضه قد حصل له، وهو القطع.

فرع الاعتبار بأهلية المقتص

[فرع الاعتبار بأهلية المقتص] وإن كان المقتص منه مجنوناً، والمقتص عاقلاً، فقال له: أخرج يمينك، فأخرجها المجنون، فقطعها.. فقد استوفى حقه؛ لأن المقتص من أهل الاستيفاء وإن كان المقتص منه ليس من أهل البذل، والاعتبار بالمقتص. وإن قال المقتص: أخرج يمينك، فأخرج المجنون يساره، فقطعها المقتص، فإن كان المقتص عالماً أنها اليسار.. وجب عليه القصاص باليسار، وله القصاص في اليمين، وإن كان المقتص غير عالم بأنها اليسار.. لم يجب عليه القصاص في اليسار؛ للشبهة، ولكن عليه دية اليسار؛ لأن بذل المجنون لا يصح، وله القصاص في اليمين. ولا يقطعها حتى تندمل يساره. وإن كان المقتص منه عاقلاً، والمقتص مجنوناً، فقال له المجنون: أخرج يمينك لأقطعها، فأخرجها العاقل باختياره، فقطعها المجنون.. لم يصر مستوفياً؛ لأنه ليس من أهل الاستيفاء، ولا ضمان عليه؛ لأنه قطعها ببذل صاحبها، ووجب للمجنون على العاقل دية يمينه؛ لأن يمينه قد زالت. وإن أخرج إليه العاقل يساره، فقطعها المجنون.. هدرت اليسار، وكان حق المجنون باقياً في القصاص في اليمين. وأما إذا أكرهه المجنون، فقطع يمينه: فهل يصير مستوفياً لحقه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في الصبي، الصحيح: أنه لا يصير مستوفياً. فإن قلنا: إنه يصير مستوفياً.. فلا كلام. وإن قلنا: لا يصير مستوفياً.. كان للمجنون دية يده على الجاني، ووجب للجاني دية يده، فإن قلنا: إن عمد المجنون عمد.. وجبت الدية في ماله، وإن قلنا: إن عمده خطأ.. وجبت على عاقلته. وإن كان المقتص والمقتص منه مجنونين، وكان القصاص في اليمين، فقطع

مسألة اقتص من الجاني فمات

المقتص يمين المقتص منه.. فهل يصير مستوفياً لحقه؟ على الوجهين، سواء قطعها ببذل المقتص منه أو أكرهه؛ لأن بذله لا يصح. فإن قلنا: يصير مستوفياً.. فلا كلام. وإن قلنا: لا يصير مستوفياً.. وجب للمقتص دية يده في مال الجاني، ويجب للجاني دية يده، فإن قلنا: إن عمد المجنون عمد.. وجبت في ماله، وإن قلنا: إن عمده خطأ، وجبت الدية على عاقلته. وإن قطع المقتص يسار الجاني.. وجب ضمانها بالدية، سواء قطعها ببذل صاحبها أو بغير بذله؛ لأنه لا يصح بذله. وفي محل وجوبها القولان في جنايته، هل هي عمد، أو خطأ؟ ويبقى للمقتص القصاص في اليمين، ولا يقتص من الجاني حتى تندمل يساره. [مسألة اقتص من الجاني فمات] إذا قطع رجل يد رجل، فاقتص المجني عليه من الجاني، فاندملت يد المجني عليه، ومات الجاني.. هدر دمه، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى. وقال أبو حنيفة: (يكون على المجني عليه دية كاملة) . دليلنا: ما روي عن عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: (من مات من حد أو قصاص.. فلا دية له؛ الحق قتله) . ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فثبت: أنه إجماع.

مسألة موت القاتل يوجب الدية

ولأنه جرح مباح غير مجتهد فيه، فلم تكن سرايته مضمونة، كالقطع في السرقة. فقولنا: (مباح) احتراز من القطع بغير حق. وقولنا: (غير مجتهد فيه) احتراز من المولى عليه إذا كان به أكلة أو سلعة، فاجتهد الإمام في قطعها، فقطعها، فمات منه. وإن قطع يد رجل، فقطع المجني عليه يد الجاني، ثم سرى القطع إلى نفس الجناية.. كانت السراية إلى نفس الجاني قصاصاً؛ لأن السراية في النفس لما كانت كالجناية في إيجاب القصاص.. كانت كالجناية في استيفاء القصاص. فإن كانت بحالها إلا أن الجاني مات من القطع أولاً، ثم مات المجني عليه بعده من القطع.. ففيه وجهان: أحدهما: أن السراية إلى نفس الجاني تكون قصاصاً؛ لأن نفسه خرجت مخرج القصاص، فكانت قصاصاً، كما لو مات المجني عليه، ثم مات الجاني. والثاني: أن السراية إلى نفس الجاني لا تكون قصاصاً، وهو الأصح؛ لأن السراية سبقت وجوب القصاص، فلم تقع قصاصاً، وإنما تكون السراية هدراً. فعلى هذا: يجب للمجني عليه في مال الجاني نصف الدية؛ لأنه قد أخذ يداً بنصف الدية. وإن كانت الجناية موضحة.. أخذ منه تسعة أشعار الدية ونصف عشرها؛ لأنه أخذ منه ما يساوي نصف عشر الدية. [مسألة موت القاتل يوجب الدية] إذا قتل رجل رجلاً عمداً، فمات القاتل قبل أن يقتص منه ولي المقتول، أو قتله رجل غير ولي المقتول.. وجبت دية المقتول في مال القاتل، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

فرع وجب قتله فدخل الحرم

وقال أبو حنيفة: (يسقط حقه) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» . وقوله: " بين خيرتين " أي: شيئين، إذا تعذر أحدهما.. تعين له الآخر، كما قلنا في كفارة اليمين. وإن وجب له القصاص في طرف، فزال الطرف قبل استيفاء القصاص.. كان له أرش الطرف في مال الجاني؛ لما ذكرناه في النفس. [فرع وجب قتله فدخل الحرم] ومن وجب عليه قتل بقصاص، أو كفر، أو زنى، والتجأ إلى الحرم.. قتل، ولم يمنع الحرم منه. وقال أبو حنيفة: (لا يستوفى منه القصاص ولا الجرم في الحرم، ولكن لا يبايع، ولا يشارى، ولا يكلم حتى يخرج من الحرم، ويستوفى منه القصاص والحد) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] (المائدة: 45) . ولم يفرق. وقَوْله تَعَالَى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [النساء: 89] (النساء: 89) . وهذا عام. ولأنه قتل لا يوجب الحرم ضمانه، فلم يمنع منه، كقتل الحية والعقرب، وفيه احتراز من قتل الصيد. وبالله التوفيق والعون، وهو حسبي ونعم الوكيل.

باب العفو عن القصاص

[باب العفو عن القصاص] إذا قتل غيره عمداً وهما متكافئان.. فما الذي يجب على القاتل؟ فيه قولان: أحدهما: أن الواجب عليه هو القود وحده، وإنما الدية تجب بالعفو بدلاً عنه، وهو قول أبي حنيفة، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] إلى قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] (البقرة: 178) . فموضع الدليل: أنه قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] ولم يذكر الدية، فعلم أنها لم تجب بالقتل، وأيضاً فإنه قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] فأمره باتباع الدية إذا عفا عن القود، فعلم أن الدية تجب بالعفو لا بالقتل. ولأن ما ضمن بالبدل في حق الآدمي.. ضمن ببدل معين، كالمال. فقولنا: (ضمن ببدل) احتراز من العين المغصوبة إذا كانت باقية. وقولنا: (في حق الآدمي) احتراز من جزاء الصيد. والقول الثاني: أن الواجب عليه أحد شيئين: القود أو الدية. فإن استقاد الولي.. علمنا أن الواجب كان هو القود، وإن عفا عن القود على الدية.. علمنا أن الواجب كان هو الدية. وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» فخيرهم بين القود والدية، فعلم أنهما سواء في الوجوب. إذا تقرر هذا: فقال الولي: عفوت عن القود إلى الدية.. سقط القود، ووجبت الدية على القولين. وإن قال: عفوت عن القود والدية.. سقطا جميعاً على القولين. وإن قال عفوت عن القود على غير مال.. سقط القود، ولم تجب الدية على القولين. وإن

قال: عفوت عن القود وأطلق، فإن قلنا: إن الواجب بقتل العمد أحد شيئين.. وجبت الدية؛ لأنها واجبة لم يعف عنها، وإن قلنا: إن الواجب هو القود وحده.. ففيه طريقان. من أصحابنا من قال: فيه قولان، ومنهم من يحكيهما وجهين: أحدهما: لا تجب الدية؛ لأنها لا تجب على هذا إلا باختياره لها، ولم يخترها، فلم تجب. والثاني: تجب الدية؛ لئلا تهدر الدماء. والأول أصح. ومنهم من قال: لا تجب الدية، قولاً واحداً، وهو قول أبي إسحاق المروزي، والشيرازي؛ لما ذكرناه للأول. فإن قال: عفوت عن القود إلى الدية، أو قال: عفوت عن القود، ولم يقل: إلى الدية، وقلنا: تجب الدية، ثم أراد أن يطالب بالقود.. لم يكن له؛ لأنه قد سقط. وإن قال: عفوت عن الدية، فإن قلنا: إن الواجب هو القصاص وحده.. لم يصح عفوه، وكان له أن يقتص. فإن عفا عن القود بعد ذلك، أو على الدية، أو عفا مطلقاً، وقلنا: تجب الدية بالإطلاق.. استحق الدية؛ لأن عفوه الأول عنها كان قبل وجوبها. وإن قلنا: إن الواجب أحد الشيئين.. سقطت الدية، وتعين حقه في القصاص، فإن اقتص منه.. فلا كلام. وإن مات القاتل قبل أن يقتص منه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (له أن يأخذ الدية؛ لأنه لما سقط القود بغير اختياره.. كان له الرجوع إلى بدله) . وإن كان القاتل حياً، وأراد الولي أن يعفو عن القود إلى الدية.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ليس له ذلك؛ لأنه كان له أن يختار الدية، فلما لم يخترها وتركها.. لم يكن له العود إليها) . وقال أبو إسحاق: له أن يعفو عن القود ويختار الدية؛ لأنه انتقال من البدل الأغلظ إلى الأخف. وإن قال: اخترت القصاص.. فهل له أن يرجع ويعفو عنه إلى الدية؟ فيه وجهان:

أحدهما: له أن يرجع؛ لأن القصاص أعلى، فجاز أن ينتقل عنه إلى الأدنى. والثاني: ليس له أن يرجع إلى الدية؛ لأنه تركها، فلم يرجع إليها، كالقصاص. إذا ثبت هذا: فللولي أن يعفو عن القود إلى الدية، سواء رضي القاتل به أو لم يرض، وبه قال ابن المسيب، وعطاء، والحسن، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى. وقال مالك، وأبو حنيفة: (لا يستحق الولي الدية إلا برضا القاتل) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] وإلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] (البقرة: 178) قيل في التفسير: معناه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} [البقرة: 178] يريد به: القاتل {مِنْ أَخِيهِ} [البقرة: 178] المقتول شَيْءٌ، أي: على شيء {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] يريد به: على مال. {فَاتِّبَاعٌ} [البقرة: 178] ؛ لأنه كان في شريعة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: الذي يجب بالقتل هو القصاص فقط، وفي شريعة عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: الدية فقط، فجعل الله لهذه الأمة القود في القتل، وجعل لهم العفو عنه على مال؛ تخفيفاً منه ورحمة. ومن الدليل عليه: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن قتل بعده قتيلاً.. فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» . ولم يعتبر رضا القاتل. وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: (الولي في ذلك مخير بين القتل والدية) . ولا مخالف له في الصحابة، فدل على: أنه إجماع.

مسألة جناية العبد برقبته

[مسألة جناية العبد برقبته] وإن جنى عبد لرجل على آخر خطأ.. تعلق الأرش برقبته، فإن باعه سيده من المجني عليه بأرش الجناية، فإن لم يعلم المتبايعان أو أحدهما عدد الإبل أو أسنانها.. لم يصح البيع؛ لجهالة الثمن، وإن كانا يعلمان عدد الإبل وأسنانها.. فهل يصح البيع؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: أحدهما: لا يصح؛ لأنها مجهولة الصفة. والثاني: يصح؛ لأنها معلومة السن والعدد. وحكاهما الشيخ أبو حامد في التعليق وجهين، المنصوص: (أنه يصح) . وإن كانت الجناية عمداً تقتضي القصاص، فاشتراه المجني عليه بالأرش.. سقط القود؛ لأن اختياره ليملكه بالأرش، فضمن العفو عنه، وهل يصح الشراء؟ إن كانا جاهلين أو أحدهما بعدد الإبل أو بأسنانها.. لم يصح. وإن كانا عالمين.. فهل يصح؟ على القولين. فإذا قلنا: يصح.. سقط الأرش عن العبد، وإن وجد بالعبد عيباً، فرده.. رجع بالأرش إلى رقبة العبد. قال الشيخ أبو حامد: فإن ابتاع المجني عليه العبد بالحق الواجب من القصاص على العبد.. لم يصح البيع؛ لأن أخذ العوض عن القصاص لا يجوز، ويسقط القصاص؛ لأن تراضيهما بالابتياع إسقاط من المجني عليه حق الاقتصاص، ورضاً بالعدول إلى غيره، فسقط القصاص، وتجب الدية في رقبة العبد، فإن ابتاعه بها.. فعلى ما مضى.

مسألة عفو بعض الجماعة عن القصاص

[مسألة عفو بعض الجماعة عن القصاص] وإن كان القصاص لجماعة، فعفا بعضهم عن القود.. سقط القود عن القاتل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فأهله بين خيرتين: إن أحبوا.. قتلوا، وإن أحبوا.. أخذوا الدية» وهؤلاء لم يحبوا؛ لأن فيهم من يحب وفيهم من لم يحب. وروي: أن رجلاً قتل رجلاً، فأراد ورثة المقتول أن يقتصوا، فقالت زوجة القاتل - وكانت أخت المقتول -: قد عفوت عن نصيبي من القود، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (عتق من القتل) . وكذلك روي عن ابن مسعود، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فدل على: أنه إجماع. ولأن القصاص يقع مشتركاً لا يتبعض، فإذا سقط بعضه.. سقط الجميع، وينتقل حق الباقين إلى الدية؛ لما روي: (أن رجلاً دخل على امرأته، فوجد معها رجلاً، فقتلها، فقال بعض إخوتها: قد تصدقت بنصيبي، فقضى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لسائرهم بالدية) . ولأن حقهم قد سقط من القصاص بغير اختيارهم، فانتقل حقهم إلى البدل مع وجوده، كما ينتقل حق الشريك في العبد إذا أعتقه شريكه إلى القيمة. [مسألة وجب القصاص فباشر أو وكل] وإن وجب له القصاص على رجل، فرمى إليه بسهم أو بحربة، ثم عفا عنه بعد الرمي وقبل الإصابة.. لم يصح العفو؛ لأنه لا معنى لهذا العفو كما لو جرحه ثم عفا عنه. وإن وجب له القصاص.. فقد ذكرنا: أنه يجوز له أن يوكل من يستوفي له القصاص بحضرة الموكل، وهل يصح أن يوكل من يستوفي له القصاص بغيبته - أعني:

الموكل - فيه ثلاث طرق، مضى ذكرها في (الوكالة) ؟ الصحيح: أنه يصح. قال ابن الصباغ: إلا أنا إذا قلنا، لا تصح الوكالة، فاستوفى الوكيل القصاص.. فقد حصل به الاستيفاء؛ لأنه استوفاه بإذنه، كما نقول فيه إذا باع الوكيل في الوكالة الفاسدة، وإنما يفيد فسادها هاهنا أن الحاكم لا يمكن الوكيل من الاستيفاء. فلو وكل في الاستيفاء، ثم عفا الموكل عن القصاص، فإن عفا بعد أن قتله الوكيل.. لم يصح عفوه، وإن عفا قبل أن يقتله الوكيل، ثم قتله الوكيل بعد علمه بالعفو.. فعلى الوكيل القود، وإن لم يعلم، هل كان العفو قبل القتل أو بعده.. فلا شيء على الوكيل، لأن الأصل أن لا عفو. وإن عفا الموكل عن القصاص؛ ثم قتله الوكيل ولم يعلم بالعفو.. فهل يصح العفو؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصح العفو؛ لأنه عفا عنه في وقت لا يمكن تلافيه، فلم يصح، كما لو عفا بعد رمي الحربة إلى الجاني. والثاني: يصح؛ لأنه عفا عن قود غير متحتم قبل أن يشرع فيه الوكيل، فصح، كما لو علم الوكيل بالعفو قبل القتل. واختلف أصحابنا في مأخذ القولين: فمنهم من قال: أصلهما القولان في الوكيل، هل ينعزل قبل أن يعلم بالعزل؟ ولم يذكر ابن الصباغ غيره. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: أصلهما إذا رأى رجلاً في دار الحرب، فظنه حربيا فرماه بسهم، ثم بان أنه كان مسلماً، ومات.. فهل تجب الدية؟ فيه قولان. وقال الشيخ أبو حامد: القولان هاهنا أصل بأنفسهما، ومنهما أخذ الوجهان في الوكيل، هل ينعزل قبل أن يعلم بالعزل؟ فإذا قلنا: إن عفوه لا يصح.. فلا شيء على الموكل والوكيل. وإذا قلنا: إن عفوه يصح.. فلا شيء على الموكل، وأما الوكيل: فلا قصاص عليه، لأن له شبهة في قتله، وتجب عليه الدية، وإن قلنا: لا تجب عليه الدية..

فهل تجب عليه الكفارة؟ فيه وجهان حكاهما الطبري في " العدة ": فـ[الأول] : إن قلنا: إن مأخذ القولين في الدية من الرمي إلى من ظنه حربياً.. فتجب الكفارة؛ لأن الدية هاهنا لم تجب. و [الثاني] : إن قلنا: إن مأخذهما من عزل الوكيل.. فلا تجب عليه الكفارة، وتكون الدية مغلظة؛ لأنها إما دية عمد محض، أو دية عمد خطأ. وهل تجب في مال الوكيل، أو على عاقلته؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد -: أنها تجب في ماله؛ لأنه قصد قتله، وإنما سقط القصاص لمعنى آخر. و [الثاني] : قال أبو علي بن أبي هريرة: هو دية عمد خطأ، فتجب دية مؤجلة على العاقلة؛ لأنه قتله وهو معذور. فإن قلنا: إنها على العاقلة.. لم يرجع بها الوكيل على الموكل. وإن قلنا: إنها تجب على الوكيل.. لم يرجع الوكيل على الموكل؛ لذلك. وقال أبو العباس: فيه قول آخر: أنه يرجع عليه، كما قلنا في من قدم طعاماً مغصوباً إلى رجل، فأكله ولم يعلم أنه مغصوب.. فإنه يرجع على المقدم إليه في أحد القولين، وكما قلنا فيمن غر بحرية امرأة. والمذهب الأول؛ لأن العفو مندوب إليه، والغرور محرم. إذا تقرر هذا: فإن كان الموكل قد عفا عن القود والدية، أو عفا مطلقاً، وقلنا: لا تجب له الدية.. فلا كلام، وإن عفا عن القود إلى الدية، أو عفا مطلقاً، وقلنا: تجب له الدية.. وجبت له الدية في مال الجاني، ويكون لورثة الجاني مطالبة الوكيل بدية الجاني، وليس كالأخوين إذا قتل أحدهما قاتل أبيه بغير إذن أخيه؛ حيث قلنا في محل نصيب الأخ الذي لم يقتل من الدية قولان: أحدهما: في تركة قاتل أبيه. والثاني: في ذمة أخيه.

مسألة سرت الجناية بعد عفو المجني عليه

والفرق بينهما: أن الأخ أتلف حق أخيه، فوجب عليه بدله، وهاهنا أتلفه الوكيل بعد سقوط حق الموكل عنه بالعفو. هذا ترتيب البغداديين. وقال الخراسانيون: إن قلنا: لا دية على الوكيل.. فلا دية للموكل على الجاني، وكأن الوكيل استوفى القصاص، وإن قلنا: عليه الدية.. فله الدية في مال المجني عليه. [مسألة سرت الجناية بعد عفو المجني عليه] إذا أتى عليه جناية يجب فيها القصاص، بأن قلع عينه، أو قطع يده أو رجله، فعفا المجني عليه عن القصاص، ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه.. لم يجب القصاص. وحكي عن مالك: أنه قال: (يجب القصاص؛ لأن الجناية صارت نفساً) . ودليلنا: أنه يتعذر استيفاء القصاص في النفس دون ما عفي عنه، فسقط القصاص في النفس، كما لو عفا بعض الأولياء. ولأن الجناية إذا لم يجب فيها القصاص.. لم يجب في سرايتها، كما لو قطع يد مرتد، ثم مات. إذا ثبت هذا: فإن كان المجني عليه قد عفا على مال وجبت فيه دية كاملة، فإن كان أخذ دية العضو المقلوع.. استوفى الولي باقي دية النفس، وإن لم يأخذ شيئا ًمن الدية.. أخذ الولي جميع الدية. وإن كان المجني عليه عفا عن العين أو اليد أو الرجل على غير مال.. وجب لوليه نصف الدية. وقال أبو حنيفة: (تجب الدية كاملة) . وقال أبو يوسف، ومحمد: لا شيء على الجاني. دليلنا: أن بالجناية وجب عليه نصف الدية، فإذا عفا عن الدية.. سقط ما وجب

فرع قطع يده فعفى المجني عليه عنه

دون ما لم يجب، فإذا صارت نفساً.. وجب بالسراية نصف الدية، ولم يسقط أرشها بسرايتها، وإنما دخل في أرش النفس. وإن كان قد جنى عليه جناية لا يجب القصاص فيها، كالجائفة، وكسر الظهر، فعفا المجني عليه عن القصاص فيها، ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه، فمات.. كان لوليه أن يقتص في النفس؛ لأنه عفا عن القصاص فيما لا قصاص فيه، فلم يؤثر العفو فيه. [فرع قطع يده فعفى المجني عليه عنه] وإن قطع يد رجل، فعفا المجني عليه عن القصاص على مال أو على غير مال، ثم عاد الجاني فقتله قبل الاندمال.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أن للولي القصاص في النفس؛ لأن الجناية الثانية منفردة عن الأولى، فلم يدخل حكمها في حكمها، كما لو قتله آخر، فإن عفا عنه على مال.. كان له كمال الدية؛ لأن الجناية على الطرف إذا وردت عليها الجناية على النفس.. صارت في حكم المندملة، فلم يدخل أرش أحدهما في أرش الآخر. والوجه الثاني: أنه لا يجب القصاص؛ لأن الجناية والقتل كالجناية الواحدة، فإذا سقط القصاص في بعضها.. سقط في جميعها، كما لو سرى قطع اليد إلى النفس، فإن عفا عنه على مال.. كان له نصف الدية؛ لأنه قد وجب له جميع الدية، وقد أخذ نصفها، أو سقط حقه عنه، فبقي حقه في نصف الدية. والثالث - وهو المنصوص -: (أن للولي أن يقتص في النفس) ؛ لأنهما جنايتان عفا عن إحداهما ولم يعف عن الأخرى، فصار كما لو قتله آخر. وإن عفا عنه الولي: كان له نصف الدية؛ لأن أرش الطرف يدخل في أرش النفس، فإذا أخذه أو سقط حقه عنه بالعفو.. بقي الباقي له من الدية.

مسألة قطع إصبع رجل فعفى عنه

[مسألة قطع إصبع رجل فعفى عنه] إذا قطع رجل إصبع رجل عمداً، فقال المجني عليه: عفوت عن هذه الجناية، قودها وديتها.. نظرت: فإن اندمل الجرح، ولم يسر إلى عضو ولا نفس.. سقط القود والدية، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد. وقال أبو يوسف، ومحمد: إن العفو عن الجناية عفو عما يحدث منهما. وممن قال بصحة عفو المجروح عن دمه: مالك، وطاووس، والحسن وقتادة، والأوزاعي. وقال المزني: لا يصح العفو عن الأرش؛ لأنه أسقطه قبل وجوبه، بدليل: أنه لا يملك المطالبة به قبل الاندمال، وهذا خطأ؛ لأنه وجب بالجراحة، فصح إسقاطه، وأما المطالبة به: فإنه يملك المطالبة به في أحد القولين، ولا يملكه في الآخر، فيكون كالدين المؤجل، يصح إسقاطه قبل محل دفعه. وإن سرت الجناية إلى كفه، واندملت.. سقط القود والدية في الإصبع؛ لما ذكرناه. وأما الكف: فلا قود فيه؛ لأن القود في العضو لا يجب بالسراية، ولا تصح البراءة من دية ما زاد على الإصبع. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: تصح؛ لأنه سراية جرح غير مضمون. والأول أصح؛ لأنه إبراء عما لم يجب. وإن سرت الجناية إلى النفس.. نظرت: فإن قال: عفوت عن هذه الجناية قودها وديتها، ولم يقل: وما يحدث منها.. فإن القصاص لا يجب في الإصبع؛ لأنه عفا عنه بعد الوجوب، ولا يجب القصاص في النفس؛ لأن القصاص إذا سقط في الإصبع.. سقط في النفس؛ لأنه لا يتبعض.

وحكى أصحابنا الخراسانيون عن ابن سريج قولا ًآخر مخرجاً: أنه يجب؛ لأنه عفا عن القود في الطرف لا في النفس. وهذا ليس بمشهور. وأما الأرش: فقد عفا عن أرش الإصبع بعد وجوبه، فينظر فيه: فإن كان ذلك بلفظ الوصية، بأن قال: عفوت عن الجاني عن قود هذه الجناية، وأوصيت له بأرشها.. فقد وجد ذلك منه في مرض موته، فإن قلنا: لا تصح الوصية للقاتل.. لم تصح هذه الوصية، وإن قلنا: تصح الوصية للقاتل.. اعتبر أرش الإصبع من ثلث تركته، فإن خرج من الثلث.. صحت الوصية فيه للقاتل، وإن لم يخرج من الثلث.. لم تصح. وإن كان بلفظ العفو أو الإبراء، بأن قال: عفوت عن قود هذه الجناية وديتها، أو قال: أبرأته من أرشها.. ففيه قولان: أحدهما: حكمه حكم الوصية؛ لأنه يعتبر من الثلث. فعلى هذا: تكون على قولين، كالوصية للقاتل بلفظ الوصية. والثاني: ليس بوصية؛ لأن الوصية ما تكون بعد الموت، وهذا إسقاط في حال الحياة. فعلى هذا: يصح الإبراء عن أرش الإصبع، ويجب عليه تسعة أعشار دية النفس؛ لأنه لم يبرأ منها. وأما إذا قال: عفوت عن هذه الجناية قودها وديتها وما يحدث منها.. فإن القود يسقط في الإصبع والنفس؛ لأن العفو يصح عن القصاص الذي لم يجب، بدليل: أنه لو قال لرجل: اقتلني ولا شيء عليك، فقتله.. لم يجب عليه قصاص؛ لما تقدم ذكره. وأما الأرش: فإن كان ذلك بلفظ الوصية، بأن قال: أوصيت له بأرش الجناية وأرش ما يحدث منها، فإن قلنا: تصح الوصية للقاتل، وخرج جميع الدية من الثلث.. صحت الوصية، وإن خرج بعضها من الثلث.. صح ما خرج من الثلث، ووجب الباقي. وإن قلنا: لا تصح الوصية للقاتل.. وجب جميع الدية.

فرع قطع يدي رجل فبرئتا فقطع يد الجاني وعفا عن الأخرى

وإن قال: أبرأته عن أرش هذه الجناية وأرش ما يحدث منها، فإن قلنا: إن حكم الإبراء حكم الوصية.. كان على قولين، كما لو كان بلفظ الوصية، وإن قلنا: إن حكم الإبراء ليس كالوصية.. صحت البراءة في دية الإصبع؛ لأنه إبراء عنها بعد الوجوب، ولم تصح البراءة فيما زاد على دية الإصبع؛ لأنه إبراء عنها قبل الوجوب. هكذا ذكر الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق. وقال ابن الصباغ: في صحة براءته من أرش ما زاد على دية الإصبع قولان، من غير بناء على حكم الوصية: أحدهما: لا تصح البراءة؛ لأنه إبراء عما لم يجب، فأشبه إذا عفا عما يتولد من الجناية، فسرت إلى الكف. والثاني: تصح؛ لأن الجناية على الطرف جناية على النفس؛ لأن النفس لا تباشر بالجناية، وإنما يجنى على أطرافها، فإذا عفا بعد الجناية عليها.. صح، ويفارق الكف؛ لأن الجناية على الإصبع ليس بجناية على النفس؛ لأنه يباشر بالجناية، فإذا قلنا: يصح.. بني على القولين في الوصية للقاتل على ما مضى. [فرع قطع يدي رجل فبرئتا فقطع يد الجاني وعفا عن الأخرى] لو قطع يدي رجل عمداً، فبرئت اليدان، فقطع المجني عليه إحدى يدي الجاني، وعفا عن الأخرى على الدية، وقبضها، ثم انتقضت يد المجني عليه ومات.. لم يكن لورثته القصاص؛ لأنه مات من جراحتين إحداهما لا قصاص فيها وهي المعفو عنها، ولا يستحق شيئاً من الدية؛ لأنه قد استوفى نصف الدية وما قيمته نصف الدية. وإن لم يمت المجني عليه، ولكن الجاني انتقضت عليه يده، ومات.. لم يرجع ورثته على المجني عليه بشيء؛ لأن القصاص لا تضمن سرايته.

مسألة قطع يد رجل فسرى إلى نفسه فقطع الولي يده

وإن قطع إحدى يدي الجاني، فمات من قطعها ولم يأخذ بدل اليد الأخرى.. كان له أن يأخذه؛ لأنه وجب له القصاص في اليدين، وقد فاته القصاص في أحدهما بما لا ضمان عليه فيه، فهو كما لو سقط بأكلة، أو مات حتف أنفه. وإن مات المجني عليه من قطع اليدين، ولم تبرأ، فقطع الوارث إن إحدى يدي الجاني، فمات من قطع يده قبل أن تقطع الأخرى.. لم يرجع بدية اليد الأخرى؛ لأن الجناية إذا صارت نفساً.. سقط حكم الأطراف، وقد سرى قطع يد الجاني إلى النفس، فاستوفى النفس بالنفس، وليس كذلك إذا برئت اليدان ولم يمت، فإن الاعتبار بالطرفين، ولا يسقط بدل أحدهما باستيفاء بدل الآخر. وهكذا حكم كل طرفين متميزين، مثل: الرجلين، والعينين. [مسألة قطع يد رجل فسرى إلى نفسه فقطع الولي يده] ] : وإن قطع يد رجل، فسرى القطع إلى نفسه، فقطع الولي يده، ثم عفا عنه.. فلا ضمان عليه في اليد. وكذلك: لو قتل رجل رجلاً، فبادر الولي فقطع يد الجاني، ثم عفا عنه.. فلا ضمان عليه في اليد. وقال أبو حنيفة: (يلزمه دية اليد) . دليلنا: أنه قطع يده في حال أبيح له قطعها، فلم يلزمه ضمانها، كما لو قطع يد مرتد فأسلم. وأما العفو: فإنما ينصرف إلى ما بقي دون ما استوفى. وإن قطع يهودي يد مسلم، فاقتص المسلم من اليهودي، ثم مات المسلم.. فلوليه أن يقتل اليهودي، فإن عفا عنه على مال.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب له نصف الدية؛ لأن المجني عليه قد أخذ يد اليهودي بيده، واليد تقوم بنصف الدية، فكأنه رضي أن يأخذ يداً ناقصة بيد كاملة.

فرع جرح مرتدا فأسلم المرتد ثم جرحه آخرون

والثاني: يستحق خمسة أسداس دية المسلم؛ لأن دية يد اليهودي سدس دية يد المسلم. وإن قطع اليهودي يدي المسلم، فاقتص المسلم وقطع يدي اليهودي، ثم مات المسلم، واختار وليه العفو على مال.. لم يستحق شيئاً على الوجه الأول على ما مضى، ويستحق على الثاني ثلثي دية مسلم. وإن قطعت امرأة يد رجل، فاقتص منها، ثم مات المجني عليه.. فلوليه أن يقتلها، فإن عفا عنها على مال.. استحق على الوجه الأول نصف الدية، وعلى الثاني ثلاثة أرباع الدية. فإن قطعت يديه، فاقتص منها، ثم مات من الجناية، ولم يقتلها وليه، ولكن عفا عنها على مال.. لم يستحق شيئاً على الوجه الأول، وعلى الوجه الثاني يستحق نصف الدية. وإن قطع رجل يدي رجل وهما متساويان في الدية، فاقتص منه في اليدين، ثم مات المجني عليه، ولم يختر وليه قتله، ولكن عفا عنه على مال.. لم يستحق شيئاً، وجهاً واحداً؛ لأنه يستحق الدية، وقد أخذ ما يساوي الدية. [فرع جرح مرتداً فأسلم المرتد ثم جرحه آخرون] وإن جرح رجل مرتداً جراحة، فأسلم المرتد، ثم عاد الجارح مع ثلاثة رجال، فجرحه كل واحد منهم جراحة يموت من مثلها، ومات من الجراحات الخمس.. لم يجب القصاص في النفس؛ لأنه مات من جراحة مضمونة وغير مضمونة، فيجب فيه سبعة أثمان الدية، وعلى الذي جرحه في حال الردة ثمن الدية، وعلى كل واحد من الثلاثة ربع الدية، لأنه مات من خمس جراحات، إلا أن الذي جرحه في حال الردة سقط عنه ما يخص الجراحة في حال الردة؛ لأن الدية تقسم على عدد الجارحين لا على عدد الجراحات، فكان الذي يخص الجاني الأول ربع الدية، فيسقط عنه الثمن. وإن جنى عليه ثلاثة رجال في ردته، فأسلم، ثم جنى عليه آخر من غيرهم، ومات

من الجراحات.. وجب على الذي جرحه بعد أن أسلم ربع ديته، ويسقط عنه ثلاثة أرباع ديته. وإن كان الذي جنى عليه بعد الإسلام أحد الثلاثة.. وجب عليه سدس الدية، ولم يجب على الباقين شيء. وإن جرحه ثلاثة في حال ردته، ثم عاد إلى الإسلام، وجاء أحد الثلاثة مع أربعة غير الثلاثة وجرحوه، ومات من الجراحات.. فقد مات من جراحة سبعة، فيسقط سبعا الدية، وهما ما يخص الرجلين الجارحين في الردة، ويجب على الأربعة الذين انفردوا بالجراحة في الإسلام أربعة أسباع الدية، ويجب على الذي جرحه في الردة والإسلام نصف سبع الدية. وإن جرحه أربعة في ردته، ثم عاد أحدهم وجرحه بعد إسلامه، ومات من الجراحات.. وجب على الذي جرحه بعد إسلامه ثمن الدية، وتسقط باقي ديته. وبالله التوفيق والعون، وهو حسبي ونعم الوكيل

كتاب الديات

[كتاب الديات] [باب من تجب الدية بقتله وما تجب به الدية من الجنايات]

كتاب الديات باب من تجب الدية بقتله، وما تجب به الدية من الجنايات تجب الدية بقتل المسلم والذمي. والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] الآية (النساء: 92) ومعنى قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] إذا قتله في دار الإسلام. ومعنى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] (النساء: 92) أي: إذا كان رجل من المسلمين في بلاد المشركين، فحضر معهم الحرب، ورماه رجل من المسلمين، فقتله.. تقديره: في قوم عدو لكم.

ومعنى قوله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] (النساء: 92) يعني: أهل الذمة. ومن السنة: ما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن: «وفي النفس مائة من الإبل» .

وهو إجماع، لا خلاف في وجوب الدية. إذا ثبت هذا: فالقتل يتنوع ثلاثة أنواع. خطأ محض، وعمد محض، وشبه عمد. ويقال: عمد الخطأ. فتجب الدية في (الخطأ المحض) ، وهو: أن يكون مخطئاً في الفعل والقصد، مثل: أن يقصد إصابة طير، فيصيب إنساناً؛ للآية. وأمأ (العمد المحض) ، فهو: أن يكون عامداً في الفعل، عامداً في القصد، فهل يجب فيه القود والدية بدل عنه، أو يجب فيه أحدهما لا بعينه؟ فيه قولان، مضى ذكرهما. وأما (شبه العمد) ، فهو: أن يكون عامداً في الفعل، مخطئاً في القصد، مثل: أن يقصد ضربه بما لا يقتل مثله غالباً، فيموت منه، فتجب فيه الدية. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (القتل يتنوع نوعين: خطأ محض، وعمد محض. فأما عمد الخطأ: فلا يتصور؛ لأنه يستحيل أن يكون القائم قاعداً) .

مسألة يرمى الحربيون وإن تترسوا بمسلم

دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا إن في قتل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة، منها أربعون خلفة» . [مسألة يرمى الحربيون وإن تترسوا بمسلم] وإذا أسر المشركون مسلماً، فتتسروا به في القتل؛ يتوقون به الرمي، ويحتمون وراءه في رميهم، فقتله رجل من المسلمين بالرمي.. لم يجب عليه القصاص؛ لأنه يجوز له رميهم. وأما الدية: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (تجب) . وقال في موضع: (لا تجب) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: تجب؛ لأنه ليس من جهته تفريط في الإقامة بينهم، فلم يسقط ضمانه. والثاني: لا تجب؛ لأن القاتل مضطر إلى رميه. ومنهم من قال: إن علم أنه مسلم.. لزمه ضمانه، وإن لم يعلم.. لم يلزمه ضمانه؛ لأنه يلزمه أن يتوقاه عن الرمي إذا علمه، ولا يلزمه أن يتوقاه إذا لم يعلمه.

مسألة قتل جماعة رجلا

وقال أبو إسحاق: إن عينه بالرمي.. ضمنه، وإن لم يعينه.. لم يضمنه وحملهما على هذين الحالين. [مسألة قتل جماعة رجلاً] وإن اشترك جماعة في قتل رجل.. وجبت عليهم دية، وتقسم بينهم على عددهم؛ لأنه بدل متلف يتجزأ، فقسم بينهم على عددهم، كغرامة المتلف. فإن كان القتل موجباً للقود، واختار الولي أن يقتل بعضهم ويعفو عن الباقين على حصتهم من الدية.. كان له ذلك. وإن شهد رجلان على رجل بما يوجب القتل أو القطع بغير حق مخطئين.. وجبت عليهما الدية؛ لما ذكرناه قبل هذا في الشاهدين عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل في السرقة. [فرع غرق مع معلم السباحة] إذا دفع ولده الصغير إلى سابح ليعلمه السباحة، فغرق الصبي.. فعلى عاقلة السابح ديته، وعليه الكفارة في ماله؛ لأنه قد أخذه للتعليم، فإذا تلف في طريق التعليم.. كان عليه ضمانه، كالمعلم إذا ضرب صبياً، فمات، ولأن هذا في الغالب لم يغرق إلا بتفريط من السابح، فيكون عمد خطأ. وإن أسلم البالغ نفسه إلى السابح ليعلمه السباحة، فغرق.. لم يجب ضمانه؛ لأنه في يد نفسه، ولا ينسب التفريط في هلاكه إلى غيره، فلا يجب ضمانه. [مسألة الوقوع والموت بصياح مفزع] وإن كان صبي أو بالغ معتوه على حائط أو حافة نهر، فصاح رجل صياحاً شديداً،

فرع أرعبت امرأة حامل فأسقطت

ففزع من الصياح، فسقط ومات، أو زال عقله.. وجبت ديته على عاقله الصائح؛ لأن صياحه سبب لوقوعه. فإن كان صياحه عليه.. فهو عمد خطأ، وإن كان صياحه على غيره.. فهو خطأ محض. وإن كان الرجل بالغاً عاقلاً، فسمع الصيحة، وسقط ومات، أو زال عقله، فإن كان متيقظاً.. لم يجب ضمانه؛ لأن الله تعالى لم يجر العادة - لا معتاداً ولا نادرا - أن يقع الرجل الكبير العاقل من الصياح، فإذا مات.. علمنا أن صياحه وافق موته، فهو كما لو رماه بثوب، فمات. وإن كان في حال غفلته، فسمع الصيحة، فمات أو زال عقله.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو المنصوص -: (أنه لا يجب ضمانه) ؛ لما ذكرناه. والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة -: أنه يجب ضمانه؛ لأن الإنسان قد يفزع من ذلك في حال غفلته. وإن شهر السيف على بالغ عاقل، فزال عقله.. لم يجب ضمانه. وإن شهره على صبي أو معتوه، فزال عقله.. وجب ضمانه. وقال أبو حنيفة: (لا يجب ضمانه) . دليلنا: أن هذا سبب في تلفه، فإن كان متعدياً.. ضمن، كما لو حفر بئراً، فوقع فيها. [فرع أرعبت امرأة حامل فأسقطت] وإن بعث الإمام إلى امرأة ذكرت عنده بسوء وكانت حاملا، ففزعت، فأسقطت جنيناً ميتاً.. وجب على الإمام ضمانه. وقال أبو حنيفة: (لا يجب ضمانه) .

مسألة السبب غير الملجئ لا يوجب الضمان

دليلنا: ما روي: (أن امرأة ذكرت عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بسوء، فبعث إليها، فقالت: يا ويلها، ما لها ولعمر؟ ! فبينما هي في الطريق إذ فزعت، فضربها الطلق، فألقت ولداً، فصاح صيحتين، ثم مات، فاستشار عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فقال له عثمان، وعبد الرحمن بن عوف: لا شيء عليك، إنما أنت وال ومؤدب. وصمت علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: ما تقول؟ فقال له علي: إن اجتهدا.. فقد أخطآ، وإن لم يجتهدا.. فقد غشاك، إن ديته عليك؛ لأنك أنت أفزعتها، فألقت، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أقسمت عليك لا برحت حتى تقسمها على قومك) . يعني: قوم عمر. ولم ينكر عثمان وعبد الرحمن ذلك فدل على: أنهما رجعا إلى قوله، وصار ذلك إجماعاً. وإن فزعت فماتت.. لم يجب ضمانها؛ لأن ذلك ليس بسبب لهلاكها في العادة. [مسألة السبب غير الملجئ لا يوجب الضمان] إذا طلب رجل رجلاً بصيراً بالسيف، ففر منه، فألقى نفسه من سطح وهو يراه، أو تردى في بئر أو نار وهو يراها، فمات.. لم يجب على الطالب ضمانه؛ لأنه حصل من الطالب بسبب غير ملجئ ومن المطلوب مباشرة، فتعلق الحكم بالمباشرة دون السبب، كما لو خاف منه، فقتل نفسه. وإن طلب أعمى بالسيف، ففر منه، فوقع من سطح أو في بئر أو نار، فمات، فإن كان عالماً بالسطح والبئر والنار.. فلا ضمان على الطالب؛ لما ذكرناه في البصير، وإن كان المطلوب غير عالم بالسطح والبئر والنار، أو كان المطلوب بصيراً ولم يعلم بالسطح والبئر والنار، وفر منه على سطح يحسبه قوياً، فانخسف من تحته،

فرع ألقى رجلا من علو وقطعه آخر

ومات.. وجبت الدية على عاقلة الطالب؛ لأنه ألجأه إلى الهرب. وإن فر منه، فافترسه سبع في طريقه.. لم يجب على الطالب ضمانه؛ لأنه لم يلجئ السبع إلى قتله، وإنما ألجأ المطلوب إلى الفرار، وذلك سبب، وأكل السبع فعل، فإذا اجتمع السبب والفعل.. تعلق الضمان بالفعل دون السبب. وإن طلب صبياً أو مجنوناً بالسيف، ففر منه، وألقى نفسه من سطح، فمات، فإن قلنا: إن عمدهما عمد.. لم يضمن الطالب الدية، وإن قلنا: إن عمدهما خطأ.. ضمن. [فرع ألقى رجلاً من علو وقطعه آخر] وإن رمى رجل رجلاً من شاهق مرتفع يموت منه غالباً إذا وقع، فقطعه رجل نصفين قبل أن يقع.. ففيه وجهان: أحدهما: أنهما قاتلان، فيجب عليهما القود أو الدية؛ لأن كل واحد منهما قد فعل فعلاً لو انفرد به.. لمات من غالباً، فصارا كالجارحين. والثاني: أن القاتل هو القاطع؛ لأن التلف إنما حصل بفعله، فصار كما لو جرحه رجل وذبحه آخر، ويعزر الأول. وإن كان الشاهق مما لا يموت منه غالباً.. كان القاتل هو القاطع، وجهاً واحداً؛ لأن ما فعله الأول لا يجوز أن يموت منه. وإن زنى بامرأة وهي مكرهة، فحبلت منه، وماتت من الولادة.. ففيه قولان: أحدهما: تجب عليه ديتها؛ لأنها تلفت بسبب من جهته تعدى فيه، فضمنها. والثاني: لا تجب عليه؛ لأن السبب انقطع حكمه بنفي النسب عنه.

مسألة جعل حجرا في طريق فعثر به رجل ومات

[مسألة جعل حجراً في طريق فعثر به رجل ومات] إذا وضع رجل حجراً في طريق من طرق المسلمين، أو في ملك غيره بغير إذنه، فعثر بها إنسان لم يعلم بها، ومات منها.. وجبت ديته على عاقلة واضع الحجر، ووجبت الكفارة في ماله؛ لأنه تلف بسبب تعدى فيه، فوجب ضمانه. وهكذا: إن نصب هناك سكيناً، فعثر رجل ووقع عليها، فمات منها.. وجبت عليه الدية؛ لما ذكرناه في الحجر. فأما إذا وضع الحجر أو السكين، فدفع آخر عليها رجلاً ومات.. كان الضمان على الدافع؛ لأن الواضع صاحب سبب، والدافع مباشر، فتعلق الحكم بالمباشر. وإن وضع رجل حجراً في طريق المسلمين، أو في ملك غيره بغير إذنه، ووضع آخر سكيناً بقرب الحجر، فتعثر رجل بالحجر، فوقع على السكين، ومات منها.. وجب الضمان على واضع الحجر. وقال أبو الفياض البصري: إن كان السكين قاطعاً.. وجب الضمان على واضع السكين دون واضع الحجر، وإن كان غير قاطع.. وجب الضمان على واضع الحجر؛ لأن السكين القاطع موح. والأول هو المشهور؛ لأن واضع الحجر كالدافع له على السكين، فوجب عليه الضمان، كما لو نصب رجل سكيناً، ودفع عليها آخر رجلاً، ومات. وإن وضع رجل حجراً في طريق المسلمين، ووضع اثنان حجراً إلى جنبه، فتعثر بهما رجل ومات.. فليس فيها نص لأصحابنا، إلا أن أصحاب أبي حنيفة اختلفوا فيها: فقال زفر: يكون على الرجل الواضع للحجر وحده نصف الدية؛ لأن فعله مساو لفعلهما، وعلى الرجلين الواضعين للحجر الآخر النصف. وقال أبو يوسف: تجب الدية عليهم أثلاثاً. قال ابن الصباغ: وهو قياس المذهب؛ لأن السبب حصل من الثلاثة، فوجب الضمان عليهم وإن اختلفت أفعالهم، كما لو جرحه رجل جراحة، وجرحه آخر جراحتين، ومات منها.

فرع وضع حجرا في ملكه فعثر به رجل

[فرع وضع حجراً في ملكه فعثر به رجل] وإن وضع رجل في ملك نفسه حجراً، أو نصب سكيناً، فتعثر به إنسان ومات.. لم يجب على واضع الحجر أو السكين ولا على عاقلته ضمان؛ لأنه غير متعد بوضع الحجر أو السكين. وإن وضع رجل في ملك غيره حجراً بغير إذنه، ووضع صاحب الملك بقرب الحجر سكيناً، فتعثر رجل بالحجر، ووقع على السكين ومات.. وجب الضمان على عاقلة واضع الحجر؛ لأنه كالدافع للعاثر على السكين. وإن وضع رجل في ملكه حجراً، ووضع أجنبي سكيناً بقرب الحجر، فتعثر رجل بالحجر، ووقع على السكين فمات.. وجبت الدية على عاقلة واضع السكين دون واضع الحجر؛ لأن المتعدي هو واضع السكين دون واضع الحجر. [مسألة حفر بئراً فوقع بها شخص ومات] وإن حفر رجل بئراً، فوقع فيها إنسان ومات.. لم يخل: إما أن يحفرها في ملكه، أو في ملك غيره، أو في طريق المسلمين، أو في موات. فإن حفرها في ملكه، فإن كانت ظاهرة، فدخل رجل ملكه، فوقع فيها، فمات.. لم يجب على الحافر ضمانه، سواء دخل بإذنه أو بغير إذنه؛ لأنه غير متعد بالحفر، وإن كانت غير ظاهرة، بأن غطى رأسها، فوقع فيها إنسان فمات، فإن دخل إلى ملكه بغير إذنه لم يجب ضمانه؛ لأنه متعد بالدخول. وهكذا: لو كان في داره كلب عقور، فدخل داخل داره بغير إذنه، فعقره الكلب.. لم يجب ضمانه؛ لما ذكرناه. وإن استدعاه للدخول ولم يعلمه بالبئر والكلب، فوقع فيها، أو عقره الكلب، فمات.. فهو كما لو قدم إلى غيره طعاماً مسموماً، فأكله، على قولين، وقد مضى دليلهما.

فأما إذا حفرها في ملك غيره، فإن كان بإذنه.. لم يجب عليه ضمان من يقع فيها؛ لأنه غير متعد في الحفر، وإن حفرها بغير إذنه.. وجب عليه ضمان من يقع فيها؛ لأنه متعد بالحفر، فإن أبرأه صاحب الملك عن ضمان من يقع فيها. فهل يبرأ؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يبرأ؛ لأنه إبراء عما لم يجب. والثاني: يبرأ؛ لأنه كما لو أذن له في حفرها. قال أبو علي الطبري: فإن قال صاحب الملك: كان حفرها بإذني.. لم يصدق، خلافاً لأبي حنيفة. وإن حفرها في طريق المسلمين، فإن كان ضيقاً.. وجب عليه ضمان من يقع فيها؛ لأنه تعدى بذلك، وسواء أذن له الإمام في ذلك أو لم يأذن له؛ لأنه ليس للإمام أن يأذن له فيما فيه ضرر على المسلمين، وإن كان الطريق واسعاً لا يستضر المسلمون بحفر البئر فيه، كالطريق في الصحارى، فإن حفرها بإذن الإمام.. لم يجب عليه ضمان من يقع فيها، سواء حفرها لينتفع بها أو لينتفع بها المسلمون؛ لأن للإمام أن يقطع من الطريق إذا كان واسعاً، كما له أن يقطع من الموات. وكذلك: إن حفرها بغير إذن الإمام، فأجاز له الإمام ذلك.. سقط عنه الضمان. وإن حفرها بغير إذن الإمام، فإن حفرها لينتفع هو بها.. وجب عليه ضمان من يقع فيها؛ لأنه ليس له أن ينفرد بما هو حق لجماعة المسلمين بغير إذن الإمام؛ لأن ذلك موضع اجتهاد الإمام. وإن حفرها لينتفع بها المسلمون.. فهل يجب عليه ضمان من يقع فيها؟ حكى الشيخان فيها وجهين، وحكاهما غيرهما قولين: أحدهما - حكاه القاضي أبو حامد عن القديم -: (أنه يجب عليه الضمان) ؛ لأنه حفرها بغير إذن الإمام، فهو كما لو حفرها لنفسه. والثاني - حكاه القاضي أبو الطيب عن الجديد -: (أنه لا يجب عليه الضمان) ؛ لأنه حفرها لمصلحة المسلمين، وقد يحتاجون إلى ذلك، فهو كما لو حفرها بإذن الإمام.

فرع حفر بئرا في طريق وآخر وضع حجرا

وإن حفرها في موات ليتملكها.. لم يجب عليه ضمان من يقع فيها؛ لأنه يملكها بالإحياء، فتصير كما لو حفرها في ملكه. وكذلك: إن حفرها في الموات لا ليتملكها، ولكن لينتفع بها مدة مقامه، فإذا ارتحل عنها كانت للمسلمين.. فلا ضمان عليه؛ لأن له أن ينتفع بالموات، فلا يكون متعدياً بالحفر. [فرع حفر بئراً في طريق وآخر وضع حجراً] وإن حفر بئراً في طريق المسلمين، ووضع آخر حجراً في تلك الطريق، فتعثر بها إنسان، ووقع في البئر ومات.. وجب الضمان على واضع الحجر؛ لأنه كالدافع له في البئر. وإن حمل السيل حجراً إلى رأس البئر، فعثر بها إنسان، فوقع في البئر ومات.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب ضمانه؛ لأنه إنما تلف بعثرته في الحجر، لا بتفريط من الحافر في الحجر. والثاني - وهو قول أبي حنيفة -: (أن الضمان على حافر البئر) ؛ لأنه هو المتعدي، فوجب عليه الضمان، كما لو وضع رجل في ملكه حجراً، ووضع آخر بقربه سكيناً، فتعثر بالحجر، ووقع على السكين ومات.. وجب الضمان على واضع السكين. وإن حفر بئراً في طريق المسلمين، ووضع آخر في أسفلها سكيناً، فتردى رجل في البئر، ووقع على السكين فقتله.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب الضمان على الحافر، وهو قول أبي حنيفة، كما قلنا في رجلين

فرع حفر عبد بئرا فعتق ثم وقع فيها إنسان

وضع أحدهما حجراً والآخر سكيناً، وعثر بالحجر على السكين.. فإن الضمان على واضع الحجر. والثاني: أن الضمان على واضع السكين؛ لأن تلفه حصل بوقوعه على السكين قبل وقوعه في البئر. وإن حفر رجل بئراً في طريق المسلمين وطمها، فجاء آخر، فأخرج ما طمت به.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب الضمان على الحافر؛ لأنه المبتدئ بالتعدي. والثاني: أن الضمان على الثاني؛ لأن تعدي الأول قد زال بالطم. [فرع حفر عبد بئراً فعتق ثم وقع فيها إنسان] وإن حفر العبد بئراً في طريق المسلمين، فأعتقه سيده، ثم وقع في البئر إنسان ومات.. وجب الضمان على العتيق. وقال أبو حنيفة وأصحابه: (يجب الضمان على سيده؛ لأن الجناية حصلت بالحفر، فهو كما لو جرح إنساناً، ثم أعتق، ثم مات المجروح) . ودليلنا: أن التلف حصل بعد الحرية، فكان الضمان عليه، كما لو قتله، ويفارق الجناية؛ لأنها حصلت قبل الحرية. [فرع حفر بئراً في أرض مشاع] ] : وإن حفر بئراً في ملك مشترك بينه وبين رجلين بغير إذنهما، وتلف بها إنسان.. قال ابن الصباغ: فقياس المذهب: أن جميع الدية على الحافر. وقال أبو حنيفة: (تجب عليه ثلثا الدية) .

فرع بنى مسجدا في طريق

وقال أبو يوسف: يجب عليه نصف الدية. ودليلنا: أنه تعدى بالحفر، فضمن الواقع فيها، كما لو حفرها في ملك غيره بغير إذنه. [فرع بنى مسجداً في طريق] وإن بنى مسجداً في طريق واسع، لا ضرر على المسلمين فيه بضيق الطريق، فإن بناه لنفسه.. لم يجز، وإن سقط على إنسان.. ضمنه، وإن بناه للمسلمين، فإن كان بإذن الإمام.. جاز، ولا ضمان عليه فيمن سقط عليه، وإن بناه بغير إذن الإمام.. فهو كما لو حفر فيها بئراً للمسلمين، على ما ذكرناه هناك من الخلاف. وإن كان هناك مسجد للمسلمين، فسقط سقفه، فأعاده رجل من المسلمين بآلته أو بغير آلته، وسقط على إنسان.. لم يجب عليه ضمانه؛ لأنه للمسلمين. وإن فرش في مسجد للمسلمين حصيراً، أو علق فيه قنديلاً، فعثر رجل بالحصير، أو وقع عليه القنديل، فمات، فإن فعل ذلك بإذن الإمام فلا ضمان عليه، وإن فعله بغير إذن الإمام.. فهو كما لو حفر بئراً في طريق واسع للمسلمين بغير إذن الإمام، على الخلاف المذكور فيها. وقال أبو حنيفة: (إن فرش الحصير، وعلق القنديل من الجماعة - يعني: من الجيران - فلا ضمان عليه، وإن كان من غير الجماعة.. فعليه الضمان) . دليلنا: أنه قصد عمارة المسجد متقرباً، فلم يجب عليه الضمان، كما لو وقع السقف، فبناه.

فرع طرح قشور البطيخ ونحوها فزلق بها إنسان

[فرع طرح قشور البطيخ ونحوها فزلق بها إنسان] قال الشيخ أبو حامد: وإن طرح على باب داره قشور البطيخ، أو الباقلاء الرطب، أو الموز، أو رشه بالماء، فزلق به إنسان، فمات.. كان ديته على عاقلته، والكفارة في ماله؛ لأن له أن يرتفق في المباح بشرط السلامة، فإذا أدى إلى التلف.. كان عليه الضمان. وإن ركب دابة، فبالت في الطريق أو راثت، فزلق به إنسان، فمات.. كان عليه الضمان. وكذلك: لو أتلفت إنساناً بيدها أو رجلها أو نابها.. فعليه ضمانه؛ لأن يده عليها، فإذا تلف شيء بفعلها أو بسبب فعلها.. كان كما لو أتلفه بفعله أو بسبب فعله. وإن ترك على حائطه جرة، فرمتها الريح على إنسان، فمات.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه غير متعد بوضعها على ملكه، ووقعت من غير فعله. وكذلك: إذا سجر تنوراً في ملكه، فارتفعت شرارة إلى دار غيره، فأحرقته.. فلا ضمان عليه؛ لما ذكرناه. [مسألة بنى جداراً مستوياً ثم سقط] إذا بنى حائطاً في ملكه مستوياً، فسقط على إنسان من غير أن يبقى مائلاً ولا مستهدماً.. فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يفرط. وإن بناه معتدلاً، فمال إلى ملكه، أو بناه مائلاً إلى ملكه، فسقط على إنسان وقتله.. لم يجب عليه ضمان؛ لأن له أن يتصرف في ملكه كيف شاء. وإن بناه مائلاً إلى الشارع، فسقط على إنسان، فقتله.. وجبت على عاقلته الدية، والكفارة في ماله؛ لأن له أن يرتفق بهواء الشارع بشرط السلامة، فإذا تلف به إنسان.. وجب ضمانه. وإن بناه معتدلاً في ملكه، ومال إلى الشارع، ثم وقع على إنسان، فقتله.. ففيه وجهان.

[الأول] : قال أبو إسحاق: يجب ضمانه على عاقلته، وهو اختيار القاضي أبي الطيب، وقول أصحاب مالك؛ لأنه فرط بتركه مائلاً، فوجب عليه الضمان، كما لو بناه مائلا إلى الشارع. و [الثاني] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يجب ضمانه، وهو المنصوص؛ لأن الميلان حدث من غير فعله، فهو كما لو سقط على إنسان من غير ميل. فإن مال حائطه إلى هواء دار جاره.. فلجاره مطالبته بإزالته؛ لأن الهواء ملك لجاره، فكان له مطالبته بإزالة بنائه عنه، كما قلنا في الشجرة، فإن لم يزله حتى سقط على إنسان، فقتله.. فهو يجب عليه ضمانه؟ على الوجهين إذا مال إلى الشارع. وإن استهدم من غير ميل.. فقد قال أبو سعيد الإصطخري، والشيخ أبو حامد: ليس للجار مطالبته في نقضه؛ لأنه في ملكه، فإن وقع على إنسان.. فلا ضمان عليه. وقال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأنه ممنوع من أن يضع في ملكه ما يعلم أنه يتعدى إلى ملك غيره، كما ليس له أن يؤجج ناراً في ملكه يتعدى إلى ملك غيره مع وجود الريح، ولا يطرح في داره ما يتعدى إلى دار غيره، كذلك هذا مثله؛ لأن الظاهر أنه إذا كان مستهدماً.. أنه يتعدى إلى ملك غيره.. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (إذا بنى الحائط معتدلاً، ثم مال إلى دار الغير، فإن طالبه الغير بنقضه وأشهد عليه، فلم ينقضها حتى سقط وقتل إنساناً.. فعليه الضمان) . وكذلك: إذا مال إلى دار إنسان، فأمره الحاكم بنقضه، وأشهد عليه، وأمكنه نقضه، فلم يفعل حتى سقط على إنسان وقتله.. فعليه الضمان. وإن ذهب ليجيء بالصناع لينقضه، فسقط وأتلف شيئاً.. فلا ضمان عليه، وإن لم يطالب بنقضه ولم يشهد عليه.. فلا ضمان عليه.

مسألة أنشأ على الشارع ساباطا أو شرفة

دليلنا: أنه بناء وضعه في ملكه، فلم يجب عليه ضمان من يقع عليه، كما لو وقع من غير ميل، أو كما لو مال ووقع من غير أن يطالب بنقضه ويشهد عليه. فإن وضع على حائطه عدلاً، فوقع في دار غيره أو في الشارع، أو سقط حائطه في الشارع أو في دار غيره، فعثر به إنسان، فمات.. فهل يجب عليه الضمان؟ على الوجهين. [مسألة أنشأ على الشارع ساباطاً أو شرفة] إذا أخرج إلى الشارع جناحاً أو روشناً يضر بالمارة.. منع منه، وأمر بإزالته، فإن لم يزله حتى سقط على إنسان، فقتله.. وجب عليه الضمان؛ لأنه متعد بذلك. وإن أخرج جناحاً أو روشناً إلى الشارع لا يضر بالمارة.. لم يمنع منه، خلافاً لأبي حنيفة، وقد مضى في (الصلح) . فإن وقع على إنسان، فقتله.. نظرت: فإن لم يسقط شيء من طرف الخشب المركبة على حائطه، بل انقضت من الطرف الخارج عن الحائط، فوقعت على إنسان فقتلته.. وجب على عاقلته جميع الدية؛ لأنه إنما يجوز له الارتفاق بهواء الشارع بشرط السلامة. وإن سقط أطراف الخشب الموضوعة على حائط له، وقتلت إنساناً.. وجب على عاقلته نصف الدية؛ لأنه هلك بما وضعه في ملكه وفي هواء الشارع، فانقسم الضمان عليهما، وسقط ما قابل ما في ملكه، ووجب ما في هواء الشارع.

فرع إخراج الميزاب إلى الشارع

وحكى القاضي أبو الطيب قولاً لآخر: أنه ينظر كم على الحائط من الخشبة، وكم على هواء الشارع منها. وتقسم الدية على ذلك بالقسط. وسواء أصابه الطرف الذي كان موضوعاً على الحائط أو الطرف الخارج منها، فالحكم فيه واحد؛ لأنه تلف بجميعها. والأول هو المشهور. [فرع إخراج الميزاب إلى الشارع] وإن أخرج ميزاباً من داره إلى الشارع.. جاز؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مر تحت ميزاب العباس بن عبد المطلب، فقطرت عليه قطرة، فأمر بقلعه، فخرج العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: (قلعت ميزاباً نصبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده؟! فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: والله لا ينصبه إلا من يرقى على ظهري، فانحنى عمر، وصعد العباس على ظهره، فنصبه) . وهو إجماع لا خلاف فيه. فإن سقط على إنسان فقتله، أو بهيمة فقتلها.. فحكى الشيخ أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: فيه قولين: [أحدهما] : قال في القديم: (لا يجب ضمانه) . وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه مضطر إلى ذلك، ولا يجد بداً منه، فلم يلزمه ضمان ما تلف به. و [الثاني] : قال في الجديد: (يجب ضمانه) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه ارتفق بهواء طريق المسلمين، فإذا تلف به إنسان.. وجب عليه ضمانه، كما قلنا في الجناح. وقول الأول: (لا يجد بداً منه) غير صحيح؛ لأنه يمكنه أن يحفر في بيته بئراً يجري الماء إليها. فإذا قلنا بهذا: وسقط جميع الميزاب الذي على ملكه والخارج منه، وقتل إنساناً.. وجب ضمانه، وكم يجب من ديته؟ على المشهور من المذهب: يجب نصف ديته.

مسألة اصطدام راكبان أو راجلان

وعلى القول الذي حكاه القاضي أبو الطيب: تقسط الدية على الميزاب، فيسقط منها بقدر ما على ملكه من الميزاب، ويجب بقدر الخارج منه عن ملكه. وقال أبو حنيفة: (إن أصابه بالطرف الذي في الهواء.. وجب جميع ديته، وإن أصابه بالطرف الذي على الحائط.. لم يجب ضمانه) . ودليلنا: أنه تلف بثقل الجميع دون بعضه. وإن انقصف الميزاب، فسقط منه ما كان خارجاً عن ملكه، وقتل إنساناً.. وجبت جميع ديته على عاقلته، فيقال في هذه وفي التي قبلها: رجل قتل رجلاً بخشبة، فوجب بعض دية المقتول، ولو قتله ببعض تلك الخشبة.. لوجبت جميع دية المقتول. وقال الشيخ أبو حامد: إذا وقع ميزاب على إنسان، فقتله.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن عليه الضمان. والثاني: لا ضمان عليه. والثالث: على عاقلته نصف الدية، من غير تفصيل. [مسألة اصطدام راكبان أو راجلان] إذا اصطدم راكبان أو راجلان، فماتا.. وجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر، ويسقط النصف، وبه قال مالك، وزفر. وقال أبو حنيفة وصاحباه، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى: (تجب على عاقلة كل واحد منهما جميع دية الآخر) . وروي عن علي كرم الله وجهه المذهبان. دليلنا: أنهما استويا في الاصطدام، وكل واحد منهما مات بفعل نفسه وفعل غيره، فسقط نصف ديته لفعل نفسه، ووجب النصف لفعل غيره، كما لو شارك غيره في قتل نفسه.

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وسواء غلبتهما دابتاهما أم لم تغلباهما، أو أخطآ ذلك أو تعمدا، أو رجعت دابتاهما القهقرى، فاصطدمتا، أو كان أحدهما راجعاً والآخر مقبلاً) . وجملة ذلك: أنهما إذا غلبتهما دابتاهما، أو لم تغلباهما إلا أنهما أخطآ.. فعلى عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر مخففة. وإن قصد الاصطدام.. فلا يكون عمداً محضاً، إنما يكون عمد خطأ، فيكون على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر مغلظة. وقال أبو إسحاق المروزي: يكون في مال كل واحد منهما نصف دية الآخر مغلظة؛ لأنه عمد محض، وإنما لم يجب القصاص؛ لأنه شارك من فعله غير مضمون. والأول هو المنصوص؛ لأن الصدمة لا تقتل غالباً، ولو كان كذلك.. لكان في القصاص قولان. ولا فرق بين أن يكونا مقبلين أو مدبرين، أو أحدهما مقبلاً والآخر مدبراً؛ لأن الاصطدام قد وجد وإن كان فعل المقبل أقوى. وكذلك: لا فرق بين أن يكونا على فرسين أو حمارين أو بغلين، أو أحدهما على فرس والآخر على بغل أو حمار؛ لأن الاصطدام قد وجد منهما وإن كان فعل أحدهما أقوى من فعل الآخر، كما لو جرح رجل رجلاً جراحات، وجرحه الآخر جراحة، ومات منها. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا فرق بين أن يكونا بصيرين أو أعميين، أو أحدهما أعمى والآخر بصيراً؛ لأن الاصطدام قد وجد منهما، ولا فرق بين أن يقعا مكبوبين أو مستلقيين، أو أحدهما مكبوباً والآخر مستلقياً) . وقال المزني: إذا وقع أحدهما مكبوباً على وجهه والآخر مستلقياً على ظهره.. فإن القاتل هو المكبوب على وجهه، فعلى عاقلته جميع دية المستلقي، ولا شيء على عاقلة المستلقي. والمنصوص هو الأول؛ لأنهما قد اصطدما، ويجوز أن يقع مستلقياً على ظهره من

فرع اصطدام صغيرين راكبين وغيرهما

شدة صدمته، ألا ترى أن رجلاً إذا طرح حجراً على حجر.. رجع الحجر إلى خلفه من شدة وقوعه وثبوت الآخر؟ فكذلك هذا مثله. وإن ماتت الدابتان.. وجب على كل واحد منهما نصف قيمة دابة الآخر؛ لأنها تلفت بفعله وفعل صاحبه، ولا تحمله العاقلة؛ لأن العاقلة لا تحمل المال. وإن كان أحدهما راكباً والآخر ماشياً.. فالحكم فيهما كما لو كانا راكبين أو ماشيين، وإنما يتصور هذا إذا كان الماشي طويلاً والراكب أقصر منه. [فرع اصطدام صغيرين راكبين وغيرهما] وإن اصطدم صغيران راكبان.. نظرت: فإن ركبا بأنفسهما أو أركباهما ولياهما.. فهما كالبالغين؛ لأن للولي أن يركب الصغير ليعلمه. وإن أركباهما أجنبيان.. فعلى عاقلة كل واحد منهما من المركبين نصف دية كل واحد منهما؛ لأن كل واحد من المركبين هو الجاني على الذي أركبه وعلى الذي جنى عليه. وإن كان المصطدمان عبدين، وماتا.. فقد تعلق برقبة كل واحد منهما نصف قيمة الآخر، وقد تلف، فسقط ما تعلق برقبته. وإن مات أحدهما، وبقي الآخر.. تعلق برقبة الذي لم يمت نصف قيمة الآخر. وإن كان أحدهما حراً والآخر عبداً.. وجبت نصف قيمة العبد في مال الحر في أحد القولين، وعلى عاقلته في الآخر. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وتجب نصف دية الحر في رقبة العبد) . واختلف أصحابنا فيه. فمنهم من قال: تكون هدراً؛ لأن الرقبة قد فاتت.

فرع اصطدام امرأتين حاملتين

ومنهم من قال: تتعلق بنصف دية الحر بنصف قيمة العبد؛ لأنهما قائمة مقام الرقبة، كما لو جنى عبد على رجل جناية، ثم قتل الرجل العبد. فعلى هذا: إن قلنا: إن نصف قيمة العبد تجب على عاقلة الجاني.. تعلقت بها نصف دية الحر، وإن قلنا: تجب في ماله، قال الشيخ أبو حامد: وتساويا.. صار ذلك قصاصاً. وإن كان نصف القيمة أكثر.. كان الفضل للسيد، وإن كان نصف الدية أكثر.. كانت الزيادة هدراً. قلت: والذي يقتضي المذهب: أنه لا يقع قصاصا؛ لأن قيمة العبد تجب من نقد البلد، والدية وإنما تجب من الإبل، إلا إذا أعوزت.. فيصح ذلك. [فرع اصطدام امرأتين حاملتين] وإن اصطدمت امرأتان حاملان، فماتتا، ومات جنيناهما.. وجب على عاقلة كل واحدة منهما نصف دية الأخرى. وكذلك: يجب على عاقلة كل واحدة منهما نصف دية جنينها، ونصف دية جنين الأخرى؛ لأن كل واحدة منهما قتلت جنينها وجنين الأخرى. وإن خرج جنين إحداهما منها قبل موتها.. لم ترث من ديته؛ لأنها قاتلة له، ويجب على كل واحدة منهما أربع كفارات؛ لأن كل واحدة منهما قاتلة لنفسها ولجنينها، وقاتلة للأخرى وجنينها، فوجب عليها أربع كفارات. وإن كان المصطدمتان أمي ولد لرجلين.. فعلى سيد كل واحدة منهما نصف قيمة الأخرى، ويهدر النصف، وإن كانتا حاملين من سيديهما، فسقط الولدان ميتين.. وجب على كل واحد من السيدين نصف الغرة للآخر.

مسألة اصطدما وأحدهما واقف

وإن لم يكن للجنين وارث سوى السيدين.. تقاصا في الغرة، وإن كان لهما وارث سواهما - ولا يتصور إلا أم أم - فلا يهدر في حقها، وإنما ورثت الجدة هاهنا مع وجود الأم؛ لأنها مملوكة. قال الطبري في " العدة ": وإن جر رجلان رجلاً، فانقطع الحبل وسقطا.. فهما كالمصطدمين. [مسألة اصطدما وأحدهما واقف] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن كان أحدهما واقفاً، فصدمه الآخر، فماتا.. فدية الصادم هدر، ودية صاحبه على عاقلة الصادم) . وجملة ذلك: أن الرجل إذا كان واقفاً في موضع، فصدمه آخر، فماتا.. نظرت: فإن دية المصدوم - وهو: الواقف - تجب على عاقلة الصادم؛ لأنه مات بفعله، وتهدر دية الصادم؛ لأن الواقف غير مفرط بالوقوف في موضعه، وسواء كان الواقف قائماً، أو قاعداً، أو مضجعا، أو نائماً، وسواء كان بصيراً أو أعمى يمكنه أن يحترز، فلم يفعل، أو لا يمكنه؛ لأن فعل الصادم مضمون. وإن أمكن المصدوم الاحتراز منه، كما لو طلب رجلاً ليقتله، وأمكن المطلوب الاحتراز منه، فلم يفعل حتى قتله، فإن انحرف الواقف، فوافق انحرافه صدمة الصادم، فماتا.. فقد مات كل واحد منهما بفعله وفعل صاحبه، فيكونان كالمتصادمين، فيجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر، ويهدر النصف، ولو صدمه بعدما استقر انحرافه.. كان كما لو لم ينحرف. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن انحرف مولياً، فمات.. فعلى عاقلة الصادم ديته كاملة) . وصورته: أن يكون وجه الواقف إلى المقبل، فلما رآه.. انحرف مولياً ليتنحى عن طريقه، فأصابه، فمات.. فجميع ديته على عاقلة الصادم؛ لأنه لا فعل له في قتل نفسه، ودية الصادم هدر.

مسألة اصطدام باخرتين ونحوهما

وأما إذا كان واقفاً في طريق ضيق للمسلمين.. فعلى عاقلة كل واحد منهما جميع دية الآخر؛ أما الصادم: فلأنه قاتل، وأما المصدوم: فلأنه كان السبب في قتل الصادم، وهو وقوفه في الطريق الضيق؛ لأنه ليس له الوقوف هناك. والفرق بين هذا وبين المتصادمين: أن كل واحد من المتصادمين مات بفعله وفعل صاحبه، وهاهنا كل واحد منهما قاتل لصاحبه منفرد بقتله؛ لأن الصادم انفرد بالإصابة، والمصدوم انفرد بالسبب الذي مات به الصادم. ومن أصحابنا من قال: ليس على عاقلة المصدوم شيء بحال. والأول أصح. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذا كان الرجل واقفاً في الطريق، فصدمه آخر، فماتا: (أن دية الصادم هدر، ودية المصدوم - وهو: الواقف - على عاقلة الصادم) . وقال فيمن نام في الطريق، فصدمه آخر، فماتا: (إن دية النائم هدر، ودية الصادم على عاقلة النائم) . فمن أصحابنا من جعل المسألتين على قولين، ومنهم من أجراهما على ظاهرهما، وفرق بينهما بأن الإنسان قد يقف في الطريق ليجيب داعياً وما أشبهه، فأما النوم والقعود: فليس له ذلك. [مسألة اصطدام باخرتين ونحوهما] وإذا اصطدمت سفينتان، فانكسرتا، وتلف ما فيهما.. فلا يخلو القيمان فيهما: إما أن يكونا مفرطين في الاصطدام، أو غير مفرطين، أو أحدهما مفرطاً والآخر غير مفرط. فإن كانا مفرطين، بأن أمكنهما ضبطهما والانحراف، فلم يفعلا.. فقد صارا

جانيين، فإن كانت السفينتان وما فيهما لهما.. وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينة صاحبه، ونصف قيمة ما فيها، ويسقط النصف؛ لأن سفينة كل واحد منهما تلفت بفعله وفعل صاحبه، فسقط ما قابل فعله، ووجب ما قابل فعل صاحبه، كالفارسين إذا تصادما وماتا. وإن كانت السفينتان وما فيهما لغيرهما.. وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينته، ونصف قيمة ما فيها، ونصف قيمة سفينة صاحبه، ونصف قيمة ما فيها؛ لأن كل واحدة منهما تلفت بفعلهما، وسواء كانت السفينتان وديعة أو عارية أو بأجرة، وسواء كان المال فيهما وديعة أو قراضاً أو يحمل بأجرة؛ لأن الجميع يضمن بالتفريط. وإن كان فيهما أحرار، وماتوا، وقصدا الاصطدام، وقال أهل الخبرة: إن مثل ما قصدا إليه وفعلاه يقتل غالباً.. فإنها جناية عمد محض، فقد وجب عليهما القود لجماعة في حالة واحدة، فيقرع بين أولياء المقتولين، فإذا خرجت عليهما القرعة لواحد.. قتلا بواحد، ووجب للباقين الدية في أموالهما. وإن قالوا: لا يقتل مثله غالباً، أو لم يقصدا الاصطدام، وإنما فرطا.. وجب على عاقلة كل واحد منهما نصف ديات ركاب السفينتين. وإن كان فيهما عبيد.. وجبت قيمتهم عليهما. وأما إذا لم يفرط القيمان: مثل: أن اشتدت الريح، واضطربت الأمواج، فلم يمكنهما إمساكهما لطرح الأنجر، ولا بأن يعدل إحداهما عن سمت الأخرى حتى اصطدمتا وهلكتا.. ففيه قولان: أحدهما: أن عليهما الضمان؛ لأنهما في أيديهما، فما تولد من ذلك.. كان عليهما ضمانه، وإن لم يفرطا.. كانا كالفارسين إذا تصادما، وغلبهما الفرسان. ولأن كل من ابتدأ الفعل منه.. فإنه يضمن ذلك الفعل إذا صار جناية وإن كان بمعونة غيره، كما لو رمى سهماً إلى غرض، فحمل الريح السهم إلى إنسان، وقتله.

والثاني: لا ضمان عليهما؛ لأنه لا فعل لهما، ابتداء ولا انتهاء، وإنما ذلك بفعل الريح، فهو كما لو نزلت صاعقة، فأحرقت السفينتين. واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان إذا لم يكن للقيم فعل، لا ابتداء ولا انتهاء، وهو في المراكب التي ينصب القيم الشراع، ويمد الحبال، ويقيمه نحو الريح، حتى إذا هبت الريح.. دفعه، فأما السفن الصغار التي تدفع بالمجذاف: فإنه يجب الضمان، قولا واحداً؛ لأن ابتداء الفعل منهما. ومنهم من قال: القولان إذا لم يكن منهما فعل، بأن كانتا واقفتين، أو لم يسيراهما، فجاءت الريح، فغلبتهما، فأما إذا سيرا، فغلبتهما الريح.. فيجب الضمان، قولاً واحداً. ولم يفرق بين السفن التي تسير بنصب الشراع ومد الحبال، وبين السفن الصغار التي تسير بالمجذاف. ومنهم من قال: القولان في الجميع، سواء كانتا واقفتين، أو سيراهما، وسواء كانتا تسيران بنصب الشراع أو بالمجذاف؛ لأن الفارس يمكنه ضبط الفرس باللجام، والسفينة لا يمكنه أن يسيرها سيراً لا تغلبه الريح عليها. فإذا قلنا: يجب عليهما الضمان.. فالحكم فيهما هاهنا كالحكم إذا فرطا، إلا في القصاص، فإنه لا يجب هاهنا، وإنما تجب لركاب السفينة دية مخففة على عاقلتهما نصفان. وإن قلنا: لا يجب الضمان، فإن كانت السفينتان وما فيهما لهما.. فلا يجب عليهما الضمان. وكذلك: إذا كانت السفينتان معهما وديعة، والمال الذي فيهما قراضاً معهما.. لم يجب عليهما الضمان؛ لأنهما لم يفرطا. وإن استأجرا السفينتين، والمال الذي فيهما حملاه بأجرة.. فلا ضمان عليهما في

السفينتين، وأما المال، فإن كان رب المال معه.. لم يضمنه الأجير؛ لأن يد صاحبه عليه، وإن لم يكن رب المال معه.. فعلى قولين؛ لأنه أجير مشترك. وكذلك: إن كان قد استؤجر على القيام بالسفينتين وما فيهما.. فهما أجيران مشتركان. فإن كان رب السفينة والمال معه.. فلا ضمان، وإن لم يكن معه.. فعلى القولين. وإن كان أحدهما مفرطاً والآخر غير مفرط.. قال الشيخ أبو حامد: فإن المفرط جان، والآخر غير جان. فإن كانت السفينتان وما فيهما لهما.. كان على المفرط قيمة سفينة صاحبه وما فيها؛ لأنها تلفت بفعله، وأما سفينته وما فيها: فلا يرجع به على أحد؛ لأنهما هلكتا بفعله. وإن كانتا وما فيهما لغيرهما.. فإن على المفرط قيمة سفينته وقيمة ما فيها، وعليه قيمة سفينة صاحبه وقيمة ما فيها، ولصاحب السفينة التي لم يفرط قيمها أن يطالب المفرط بذلك. وإن أراد أن يطالب القيم الذي لم يفرط، فإن قلنا: إن القيم يضمن وإن لم يفرط.. فهاهنا له أن يضمنه، ثم يرجع الذي لم يفرط بما غرمه على المفرط. وإن قلنا: إن القيم لا يضمن إذا لم يفرط، فإن كانت السفينة التي معه وديعة، أو المال معه قراضاً.. فلا ضمان عليه، وإن كان ذلك بيده استؤجر على حمله.. فهو أجير مشترك. وإن لم يكن صاحبه معه، فإن قلنا: لا يضمن.. لم يكن له مطالبته، وإن قلنا: يضمن.. فله مطالبته، ثم يرجع هو بما غرمه على المفرط. فإن انكسرت إحداهما دون الأخرى.. فالحكم في المنكسرة كما إذا انكسرتا.

فرع صدمت سفينة من غير تعمد

[فرع صدمت سفينة من غير تعمد] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإذا صدمت سفينة من غير أن يتعمد بها الصدم.. لم يضمن شيئاً مما في سفينته بحال) . واختلف أصحابنا في صورتها: فمنهم من قال: صورتها: أن يكون القيم قد عدل سفينته إلى الشط، وربطها، وطرح الأنجر، فجاءت سفينة أخرى فصدمتها، فتلفت وما فيها، فلا ضمان عليه؛ لأنه لا فعل له يلزمه به الضمان. وهذا القائل يقول قول الشافعي: (صدمت سفينة) إنما هو بضم الصاد: فعل ما لم يسم فاعله. ومنهم من قال: صورتها: إذا لم يكن منه تفريط. وأجاب بأحد القولين، وهو الأصح؛ لأنه قال: صدمت سفينة من غير أن يتعمد بها الصدم، ولا يقال ذلك للمصدوم، وإنما يقال مثله للصادم. [مسألة ثقلت السفينة فألقوا المتاع] إذا كان قوم في سفينة وفيها متاع، فثقلت السفينة من المتاع، ونزلت في الماء، وخافوا الغرق، فإن ألقى بعضهم متاعه في البحر في الماء لتخف السفينة ويسلموا.. لم يرجع به على أحد؛ لأنه أتلف ماله باختياره من غير أن يضمن له غيره عوضاً، فهو كما لو أعتق عبده. وإن طرح مالاً لغيره بغير إذنه لتخف السفينة.. وجب عليه ضمانه؛ لأنه أتلف مال غيره بغير إذنه، فوجب عليه ضمانه كما لو حرق ثوبه. وإن قال لغيره: ألق متاعك في البحر، ولم يضمن له عوضاً، فألقاه.. فقد قال المسعودي [في " الإبانة "] : هل يجب على الذي أمره بالإلقاء ضمانه؟ فيه وجهان،

فرع طلب إلقاء المتاع في البحر وعلى الركاب ضمانه

كما قلنا فيه إذا قال لغيره: اقض عني ديني، ولم يضمن له عوضاً. وقال سائر أصحابنا: لا يلزمه ضمانه، وهو المنصوص؛ لأنه لم يضمن له بدله، فلم يلزمه، كما لو قال: أعتق عبدك، فأعتقه. والفرق بينه وبين قضاء الدين: أن قضاء الدين يتحقق نفعه للطالب؛ لأن ذمته تبرأ بالقضاء، وهاهنا لا يتحقق النفع بذلك، بل يجوز أن يسلموا، ويجوز أن لا يسلموا. وإن قال له: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، أو على أني أضمن لك قيمته، فألقاه.. وجب على الطالب ضمانه، وهو قول الفقهاء كافة، إلا أبا ثور، فإنه قال (لا يلزمه؛ لأنه ضمان ما لم يجب) . وهذا خطأ؛ لأنه استدعاء إتلاف بعوض لغرض صحيح، فصح، كما لو قال: أعتق عبدك وعلي قيمته، أو طلق امرأتك وعلي ألف. [فرع طلب إلقاء المتاع في البحر وعلى الركاب ضمانه] وإن قال لغيره: ألق متاعك في البحر وعلي وعلى ركاب السفينه ضمانه، فألقاه.. وجب على الطالب حصته، فإن كانوا عشرة.. لزمه ضمان عشره. وإن قال: ألق متاعك على أن أضمنه وكل واحد من ركاب السفينة، فألقاه. وجب على الطالب ضمان جميعه؛ لأنه شرط أن يكون كل واحد منهم ضامناً له. وإن قال: ألق متاعك وعلي وعلى ركاب السفينة ضمانه وقد أذنوا لي في ذلك؛ فإن صدقوه.. لزم كل واحد منهم بحصته، وإن أنكروا.. حلفوا، ولزم الطالب ضمان جميعه. وإن قال: ألق متاعك وعلي وعلى ركاب السفينة ضمانه، وعلي تحصيله منهم، فألقاه.. وجب على الطالب ضمان جميعه.

فرع خرق السفينة فغرقت

وإن قال صاحب المتاع للآخر: ألق متاعي وعليك ضمانه، فقال: نعم، فألقاه.. وجب عليه ضمانه؛ لأن ذلك بمنزلة الاستدعاء منه. وإن قال له: ألق متاعك وعلي نصف قيمته، وعلى فلان ثلثه، وعلى فلان سدسه، فألقاه، فإن صدقه الآخران أنهما أذنا للطالب في ذلك.. لزمه نصف قيمته، ولزم الآخرين النصف، وإن أنكر الآخران.. حلفا، ووجب الجميع على الطالب، فإن قال الطالب: ألقي أنا متاعك وعلي ضمانه، فقال صاحب المتاع: نعم، فألقاه.. لم يكن مأثوماً، ووجب عليه ضمانه، فإن قال الطالب: ألقي أنا متاعك وعلي وعلى ركاب السفينة ضمانه، فقال صاحب المتاع: نعم، فألقاه الطالب.. فيه وجهان: أحدهما: لا يلزم الملقي إلا بحصته؛ لأنه قدر ما ضمن. والثاني: يلزمه الجميع؛ لأنه باشر الإتلاف. وإن قال لغيره: ألق متاع فلان وأنا ضامن لك لو طالبك.. لم يصح هذا الضمان، ويلزم الضمان على الملقي؛ لأنه هو المباشر. [فرع خرق السفينة فغرقت] وإن خرق رجل السفينة، فغرق ما فيها، فإن كان مالاً.. لزمه ضمانه، سواء خرقها عمداً أو خطأ؛ لأن المال يضمن بالعمد والخطأ. وإن كان فيها أحرار فغرقوا وماتوا، فإن كان عامداً، مثل: أن يقلع منها لوحاً يغرق مثلها من قلعه في الغالب.. وجب عليه القود بهم، فيقتل بأحدهم، وتجب للباقين الدية في ماله. وإن كان مخطئاً، بأن سقط من يده حجر أو فأس، فخرق موضعاً فيها، فغرقوا.. كان على عاقلته دياتهم مخففة. وإن كان عمد خطأ، مثل: أن كان فيها ثقب، فأراد إصلاحه، فانخرق عليه.. كان على عاقلته دياتهم مغلظة.

مسألة رموا بالمنجنيق ونحوه

[مسألة رموا بالمنجنيق ونحوه] إذا رمى عشرة أنفس حجراً بالمنجنيق، فأصابوا رجلاً من غيرهم، فقتلوه.. فقد اشتركوا في قتله، فإن لم يقصدوا بالرمي أحداً.. وجبت ديته مخففة، على عاقلة كل واحد منهم عشرها، وإن كانوا قصدوه بالرمي، فأصابوه.. لم يكن عمداً محضاً؛ لأنه لا يمكن قصد رجل بعينه بالمنجنيق، وإنما يتفق وقوعه ممن وقع به، فتجب ديته مغلظة، على عاقلة كل واحد منهم عشرها. وإن رجع المنجنيق على أحدهم، فقتله.. سقط من ديته العشر، ووجب على عاقلة كل واحد من التسعة عشر ديته؛ لأنه مات بفعله وفعلهم، فهدر ما يقابل فعله، ووجب ما يقابل فعلهم، وإنما تجب الدية على من مد منهم الحبال ورمى بالحجر، فأما من أمسك خشب المنجنيق إن احتاج إلى ذلك، ووضع الحجر في الكفة، ثم تنحى.. فلا شيء عليه؛ لأنه صاحب سبب، والمباشر غيره، فتعلق الحكم بالمباشر. [مسألة وقع في بئر أو حفرة ثم وقع آخر فوقه] إذا وقع رجل في بئر أو زبية، فوقع عليه آخر، فمات الأول.. وجب ضمان الأول على الثاني؛ لما روي: (أن بصيراً كان يقود أعمى، فوقعا في بئر، ووقع الأعمى فوق البصير، فقضى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه بعقل البصير على الأعمى) ؛ لأنه انفرد بالوقوع عليه، ثم ينظر فيه:

فإن كان الثاني رمى بنفسه عليه عمداً، وكان وقوعه عليه يقتله في الغالب.. وجب على الثاني القود، وإن رمى بنفسه عليه، وكان وقوعه عليه لا يقتله غالباً.. وجبت فيه دية مغلظة على عاقلة الثاني. وإن وقع عليه مخطئاً.. وجبت على عاقلته دية مخففة، وتهدر دية الثاني بكل حال؛ لأنه لم يمت بفعل أحد. وإن وقع الأول، ووقع عليه ثان، ووقع فوقهما ثالث، وماتوا.. قال ابن الصباغ: فقد ذكر الشيخ أبو حامد: أن ضمان الأول على الثاني والثالث؛ لأنه مات بوقوعهما عليه، وضمان الثاني على الثالث؛ لأنه انفرد بالوقوع عليه، ويهدر دم الثالث؛ لأنه لم يمت بفعل أحد. وذكر القاضي أبو الطيب: أن الثالث يضمن نصف دية الثاني، ويهدر النصف؛ لأن الثاني تلف بوقوعه على الأول وبوقوع الثالث عليه. قال ابن الصباغ: وهذا أقيس؛ لأن وقوعه على غيره سبب في تلفه، كوقوع غيره عليه. قال ابن الصباغ: فعلى قياس هذا: إذا وقع على الأول ثان، وماتا.. أن تهدر نصف دية الأول؛ لأنه مات بوقوعه وبوقوع الثاني عليه. وإن وقع رجل في بئر، وجذب ثانياً، وماتا.. هدرت دية الأول؛ لأنه مات بجذبه الثاني على نفسه، ووجبت دية الثاني على الأول؛ لأنه مات بجذبه. وإن جذب الأول ثانياً، وجذب الثاني ثالثاً، وماتوا.. فقد مات الأول بفعله، وهو: جذبه للثاني على نفسه، وبفعل الثاني؛ وهو: جذب الثالث، فسقط نصف دية

الأول، ويجب نصفها على الثاني، ويجب للثاني نصف ديته على الأول، ويسقط نصفها؛ لأنه مات بجذب الأول له وبجذبه للثالث على نفسه، ويجب للثالث جميع ديته؛ لأنه لا صنع له في قتل نفسه. وعلى من تجب؟ فيه وجهان: أحدهما: تجب على الثاني؛ لأنه جذبه. والثاني: تجب على الأول والثاني نصفين؛ لأن الأول جذب الثاني، والثاني جذب الثالث، فكأن الثالث مات بجذبهما. فإن كانت بحالها، وجذب الثالث رابعاً، وماتوا.. فقد حصل هاهنا ثلاث جذبات: فأما الأول: فقد مات بفعله وفعل الثاني وفعل الثالث، فسقط ثلث الدية، لأنه جذب الثاني على نفسه، وتجب على الثاني ثلث الدية لجذبه الثالث عليه، وعلى الثالث ثلث الدية لجذبه الرابع عليه. وأما الثاني: فقد مات بفعله وفعل الأول وفعل الثالث، فيجب له على الأول ثلث الدية وعلى الثالث ثلث الدية، ويسقط الثلث. وأما الثالث: ففيه وجهان: أحدهما: يسقط من ديته النصف، ويجب له على الثاني النصف؛ لأنه مات بفعله، وهو: جذبه الرابع، فسقط النصف لذلك، وبفعل الثاني، وهو: جذبه له. والثاني: يسقط من ديته الثلث؛ لأنه مات بثلاثة أفعال، بجذبه للرابع، وبجذب الثاني له، وبجذب الأول للثاني، فيجب له على الأول ثلث الدية، وعلى الثاني ثلثا الدية. وأما الرابع: فيجب له جميع الدية؛ لأنه لا صنع له في قتل نفسه.. وعلى من تجب؟ فيه وجهان: أحدهما: تجب على الثالث؛ لأنه هو الذي جذبه.

فرع حفر بئرا من غير حق

والثاني: تجب على الأول والثاني والثالث أثلاثاً؛ لأن وقوعه حصل بالجذبات. فإن قيل: فقد روى سماك بن حرب، «عن حنش بن المعتمر الصنعاني: أن قوماً باليمن حفروا زبية ليصطادوا بها الأسد، فوقع فيها الأسد، فاجتمع الناس على رأسها يبصرونه، فتردى رجل فيها فتعلق بثان، وتعلق الثاني بثالث، وتعلق الثالث برابع، فوقعوا فيها، فقتلهم الأسد، فرفع ذلك إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فقضى للأول بربع الدية؛ لأن فوقه ثلاثة، وقضى للثاني بثلث الدية؛ لأن فوقه اثنين، وللثالث بنصف الدية؛ لأن فوقه واحداً، وللرابع بكمال الدية. فرفع ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: هو كما قضى» قال أصحابنا: هذا حديث لا يثبته أهل النقل؛ لأن حنش بن المعتمر ضعيف، والفقه ما قدمناه [فرع حفر بئراً من غير حق] وإن حفر رجل بئراً في موضع ليس له الحفر فيه، فتردى فيها رجل وجذب آخر فوقه، وماتا.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ": أحدهما: يجب للأول على الحافر نصف الدية، ويهدر النصف؛ لأنه مات بسببين: حفر البئر وجذبه للثاني على نفسه، فانقسمت الدية عليهما، وسقط ما قابل فعله. والثاني: حكاه القاضي أبو الطيب عن أبي عبد الله الجويني -: أنه لا يجب له شيء على الحافر؛ لأن جذبه للثاني على نفسه مباشرة، والحفر سبب، وحكم السبب يسقط بالمباشرة. قال الطبري: والأول أصح؛ لأن الجذب سبب أيضاً؛ لأنه لم يقصد به إلقاءه على نفسه، وإنما قصد به التحرز من الوقوع، فلم يكن أحدهما بأولى من الآخر. وبالله التوفيق

باب الديات

[باب الديات] دية الحر المسلم مائة من الإبل؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب في الكتاب الذي كتبه لعمرو بن حزم: «وفي النفس مائة من الإبل» . وهو إجماع. فإن كانت الدية في العمد المحض، أو في شبه العمد.. وجبت دية مغلظة، وهي: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة - و (الخلفة) : الحامل - وبه قال عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، والمغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، وعطاء، ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: (تجب أرباعاً، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة) . وقال أبو ثور: (دية شبه العمد مخففة، كدية الخطأ) . دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم فتح مكة: «ألا إن في قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون خلفة، في بطونها أولادها» . وروى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا إن في الدية العظمى مائة من الإبل، منها أربعون خلفة، في بطونها أولادها» .

وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (دية شبه العمد ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة) . فإن قيل: فما معنى قوله: «منها أربعون خلفة في بطونها أولادها» وقد علم أن الخلفة لا تكون إلا حاملاً؟ قلنا: له تأويلان: أحدهما: أنه أراد التأكيد في الكلام، وذلك جائز، كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] (البقرة: 196) . والثاني: أن الخلفة اسم للحامل التي لم تضع، واسم للتي وضعت ويتبعها ولدها، فأراد أن يميز بينهما. إذا ثبت هذا: فهل تختص الخلفة بسن أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا تختص بسن، بل إذا كانت حاملاً.. فبأي سن كانت جاز؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «منها أربعون خلفة في بطونها أولادها» . ولم يفرق. والثاني: تختص بسن، وهو: أن تكون ثنية فما فوقها؛ لما روى عقبة بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «ألا إن في قتيل شبه العمد بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون خلفة، في بطونها أولادها، ما بين الثنية إلى بازل عامها» . ومراسيل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حجة؛ لأنهم أتقياء لا يتهمون.

مسألة دية جناية الخطأ

وروي عن عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أنهما قالا: (ألا إن في قتيل شبه العمد مائة من الإبل، منها أربعون خلفة، في بطونها أولادها، ما بين الثنية إلى بازل عامها) . ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولأنه أحد أنواع إبل الدية، فاختص بسن، كالحقاق والجذاع. [مسألة دية جناية الخطأ] وإن كانت الجناية خطأ، ولم يكن القتل في الحرم ولا في الأشهر الحرم، ولكن المقتول ذو رحم محرم للقاتل.. فإن الدية تكون مخففة أخماساً، وهي: مائة من الإبل: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وبه قال من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ومن التابعين: عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسار، والزهري رحمة الله عليهم، ومن الفقهاء: مالك، وربيعة، والليث، والثوري - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وقال أبو حنيفة وأصحابه: (هي أخماس، إلا أنه يجب مكان بني لبون عشرون ابن مخاض) . وروي عن عثمان، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أنهما قالا: (تجب من أربعة أنواع: ثلاثون جذعة، وثلاثون حقة، وعشرون بنت لبون وعشرون بنت مخاض) .

وقال الشعبي، والحسن البصري: تجب أرباعاً: خمساً وعشرين جذعة، وخمساً وعشرين حقة، وخمساً وعشرين بنت لبون، وخمساً وعشرين بنت مخاض. وروي مثل ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه. دليلنا: ما روى مجاهد، عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بدية الخطأ مائة من الإبل: عشرين حقة، وعشرين جذعة، وعشرين بنت لبون، وعشرين ابن لبون، وعشرين بنت مخاض» . وقد روي ذلك موقوفاً على ابن مسعود. وروي عن سليمان بن يسار: أنهم كانوا يقولون: دية الخطأ، مائة من الإبل: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. وإن كان قتل الخطأ في الحرم، أو في الأشهر الحرم - وهي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم - أو كان المقتول ذا رحم محرم للقاتل.. كانت دية الخطأ مغلظة كدية العمد، فتجب ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وبه

قال عمر، وعثمان، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ومن التابعين: ابن المسيب، وابن جبير، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وسليمان بن يسار، وجابر بن زيد، والزهري، وقتادة رحمة الله عليهم، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وروي عن طائفة: أنها قالت: لا تتغلظ بحال. وبه قال الشعبي، والنخعي، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، وأبو حنيفة - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. دليلنا: أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - غلظوا دية الخطأ في هذه المواضع الثلاثة. فروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (من قتل في الحرم، أو في الشهر الحرام، أو ذا رحم محرم.. فعليه دية وثلث) . وروي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (أن امرأة وطئت في الطواف، فماتت، فقضى أن ديتها ستة آلاف، وألفا درهم للحرم) . وروى ابن جبير: أن رجلاً قتل رجلاً في البلد الحرام في الشهر الحرام، فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (ديته اثنا عشر ألف درهم، وأربعة آلاف تغليظاً للشهر الحرام، وأربعة آلاف للبلد الحرام، فكلها عشرون ألفاً) . ولا مخالف لهم في

الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. وإن قتل خطأ في حرم المدينة.. فهل تغلظ الدية؟ فيه وجهان: أحدهما: تتغلظ؛ لأنه كالحرم في تحريم الصيد، فكان كالحرم في تغليظ دية الخطأ فيه. والثاني: لا تغلظ، وهو الأصح؛ لأنه دون الحرم في الحرمة؛ بدليل: أنه يجوز قصده بغير إحرام، فلم يلحق به في الحرمة في تغليظ الدية. وإن قتل محرماً خطأ.. فهل تغلظ ديته؟ فيه وجهان: أحدهما: تغلظ، كما تغلظ في القتل في الحرم، وبه قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الإحرام يتعلق به ضمان الصيد، فغلظت به الدية، كالحرم. والثاني: لا تغلظ به؛ لأن الشرع ورد بتغليظ القتل في الحرم دون الإحرام، بدليل: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعتى الناس على الله ثلاثة: رجل قتل في الحرم، ورجل قتل غير قاتله، ورجل قتل بذحل الجاهلية» والإحرام لا يلحق الحرم في الحرمة. إذا ثبت هذا: فإن تغليظ دية الخطأ عندنا بالحرم أو في الأشهر الحرم، أو إذا قتل ذا رحم محرم إنما هو بأسنان الإبل، كما قلنا في دية العمد، ولا يجمع بين تغليظين. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تغلظ بثلث الدية، ويجمع ما بين تغليظين) ؛ لما رويناه عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ودليلنا على أنه لا تغلظ إلا بالأسنان: أن من أوجب التغليظ في دية القتل.. أوجبه بالأسنان، كدية العمد. ودليلنا على أنه لا يجمع بين تغليظين: أن من أوجب التغليظ.. أوجبه في الضمان

فرع قتل الصغير والمجنون عمدا

إذا اجتمع سببان يقتضيان التغليظ لم يجمع بينهما، كما لو قتل المحرم صيداً في الحرم.. فإنه لا يجب عليه إلا جزاء واحد. وأما ما روي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهم قضوا بالدية وثلث الدية في ذلك، وجمعوا بين تغليظين.. فمحمول على أنهم قضوا بدية مغلظة بالأسنان، إلا أنها قومت، فبلغت قيمتها دية وثلثاً من دية مخففة، أو كانت الإبل قد أعوزت، فأوجبوا قيمة الإبل، فبلغت قيمتها ذلك. [فرع قتل الصغير والمجنون عمداً] ً] : وإن قتل الصبي أو المجنون عمداً، فإن قلنا: إن عمدهما عمد.. وجب بقتلهما دية مغلظة، وإن قلنا: عمدهما خطأ.. وجب بقتلهما دية مخففة. وإن كانت الجناية على ما دون النفس.. كان الحكم في التغليظ بديتها حكم دية النفس، قياساً على دية النفس. [مسألة يؤخذ من العاقلة من إبلهم] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا أكلف أحداً من العاقلة غير إبله، ولا نقبل منه دونها) . وجملة ذلك: أنه قد مضى الكلام في قدر الدية وجنسها وأسنانها. وأما نوعها: فإن كان للعاقلة إبل.. وجب عليهم من النوع الذي معهم من الإبل؛ لأن العاقلة تحمل الدية على طريق المواساة، فكان الواجب من النوع الذي يملكونه، كما قلنا في الزكاة. فإن طلب الولي أغلى مما مع العاقلة من النوع، وامتنعت العاقلة، أو طلبت العاقلة أن يدفعوا من نوع دون النوع الذي معها، وامتنع الولي.. لم يجبر الممتنع منهما، كما قلنا في الزكاة. فإن كان عند بعض العاقلة من البخاتي، وعند البعض من العراب.. أخذ من كل

فرع دفع العوض بدل الإبل مع وجودها

واحد من النوع الذي عنده، كما قلنا في الزكاة: أنه يجب على كل إنسان مما عنده من النوع. وإن كان في ملك واحد منهم نوعان من الإبل.. ففيه وجهان: أحدهما: يؤخذ منه من النوع الأكثر، فإن استويا.. دفع من أيهما شاء. والثاني: يؤخذ من كل نوع بقسطه، بناء على القولين في الزكاة إذا كان عنده نوعان من جنس من الماشية. وإن كانت إبلهم أو إبل بعضهم مراضاً بجرب أو غيره، أو مهزولة هزالاً فاحشاً.. لم يجبر الولي على قبولها، بل يكلف أن يسلم إبلا صحاحاً من النوع الذي عنده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في النفس مائة من الإبل» . وإطلاق هذا يقتضي الصحيح. فإن قيل: هلا قلتم: يجبر الولي على قبول ما عند من عليه الدية وإن كانت مراضاً، كما قلنا في الزكاة؟ قلنا: الفرق بينهما: أن الواجب في الزكاة هو واجب في عين المال الذي عنده أو في ذمته والمال مرتهن به؛ فلذلك وجب مما عنده، وليس كذلك هاهنا، فإن الواجب على كل واحد منهم هو من النقد في الذمة والمال غير مرتهن به، وإنما الإبل عوض منه، فلم نقبل منه إلا السليم. فإن لم يكن للعاقلة إبل، فإن كان في البلد نتاج غالب.. وجب عليهم التسليم من ذلك النتاج، وإن لم يكن في البلد إبل.. وجب من غالب نتاج أقرب البلاد إليهم، كما قلنا في زكاة الفطر. [فرع دفع العوض بدل الإبل مع وجودها] فإن أرادت العاقلة أن تدفع عوضاً عن الإبل مع وجودها.. لم يجبر الولي على قبولها. وكذلك: إن طالب من له الدية عوض الإبل.. لم تجبر العاقلة على دفعه؛ لأن ما ضمن لحق الآدمي ببدل.. لم يجبر على غيره، كذوات الأمثال.

فرع وجوب الدية على الجاني يثبت أخذ ما عنده

فإن تراضيا على ذلك.. قال أصحابنا: جاز ذلك؛ لأنه حق مستقر، فجاز أخذ البدل عنه، كبدل المتلفات. والذي يقتضي المذهب: أن هذا إنما يجوز على القول الذي يقول: يجوز الصلح على إبل الدية وبيعها في الذمة. [فرع وجوب الدية على الجاني يثبت أخذ ما عنده] وإن كانت الدية تجب على الجاني، بأن كانت الجناية عمداً، أو خطأ ثبت بإقراره.. فإن الواجب عليه من النوع الذي عنده، قياساً على العاقلة. والحكم فيه إذا كان عنده نوعان أو كانت إبله مراضاً في أخذ العوض عنها.. حكم الإبل إذا كانت واجبة على العاقلة، على ما مضى. [مسألة فقدان الإبل في مكان وجوب الدية] وإن أعوزت الإبل، فلم توجد في تلك الناحية، أو وجدت بأكثر من قيمتها.. ففيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (يعدل إلى بدل مقدر، فتجب على أهل الذهب ألف مثقال، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم) . وبه قال مالك رحمة الله عليه؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الدية بألف دينار، أو اثني عشر ألف درهم» . وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن رجلا قتل رجلا، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ديته اثني عشر ألف درهم» .

وروي: (أن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قتلت جاناً في بيتها - وهي: الحية الصغيرة - فقيل لها في منامها: قتلت رجلاً مسلماً جاء يستمع القرآن؟ فقالت: لو كان مسلماً.. ما دخل على أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقيل لها: دخل عليك وأنت في ثيابك، فأخبرت بذلك أباها، فقال لها: تصدقي دية مسلم، اثني عشر ألف درهم) . وروي: عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (لأن أقعد بعد العصر فأذكر الله إلى أن تغيب الشمس أحب إلي من أن أعتق رقبة من ولد إسماعيل ديتها اثنا عشر ألف درهم) . فعلى هذا: تكون الدية ثلاثة أصول عند إعواز الإبل. و [الثاني] : قال في الجديد: (تجب قيمة الإبل من نقد البلد، بالغة ما بلغت) ؛ لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أنه قال: «كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانمائة دينار - وروي: ثمانية آلاف درهم - فكانت كذلك إلى أن

استخلف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فغلت الإبل، فصعد المنبر خطيباً، وقال ألا إن الإبل قد غلت، ففرض الدية: على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم» فموضع الدليل من الخبر: أنه قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذا وكذا، فدل على: أن الواجب هو الإبل. ولأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قال: (ألا إن الإبل قد غلت) ، وفرض عليهم ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم، فتعلق بغلاء الإبل، فدل على: أن ذلك من طريق القيمة؛ لأن ما وجبت قيمته اختلف بالزيادة والنقصان، ولم يخالفه أحد من الصحابة. وما روي من الأخبار للأول.. فنحمله على أن ذلك من طريق القيمة. فعلى هذا: لا يكون للدية إلا أصل واحد، وهي الإبل، فإن كانت الدية مغلظة وأعوزت الإبل، فإن قلنا بقوله الجديد.. قومت مغلظة ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، وإن قلنا بقوله القديم.. ففيه وجهان، حكاهما في " العدة ". أحدهما: تغلظ بثلث الدية، ولم يذكر في " المهذب " غيره؛ لما ذكرناه عن عمر، وعثمان، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم. والثاني: يسقط التغليظ؛ لأن التغليظ عندنا إنما هو بالصفة في الأصل لا بالزيادة في العدد، وذلك إنما يمكن في الإبل دون النقد، ألا ترى أن العبد لما لم يجب فيه إلا القيمة لم يجب فيه التغليظ؟ وما روي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.. فقد ذكرنا: أنما ذلك هو قيمة ما أوجبوه. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (الواجب في الدية ثلاثة أصول: مائة من الإبل، أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم. فيجوز له أن يدفع أيها شاء مع وجود الإبل ومع إعوازها) .

مسألة دية الذمي

وقال الثوري، والحسن البصري، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (للدية ستة أصول: مائة من الإبل، أو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، أو مئتا بقرة، أو ألفا شاة، أو مئتا حلة) . إلا أن أبا يوسف، ومحمداً يقولان: هو مخير بين الستة، أيها شاء.. دفع مع وجود الإبل ومع عدمها. وعند الباقين: لا يجوز العدول عن الإبل مع وجودها. دليلنا: ما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى أهل اليمن كتاباً فيه الفرائض، والسنن، وأن في النفس مائة من الإبل» . وروي: أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا في قتيل العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل» . وهذا يدل على: أنه لا يجوز العدول عنها إلى غيرها. [مسألة دية الذمي] ودية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، وبه قال عمر، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، وابن المسيب، وعطاء، وإسحاق. وقال عروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ومالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ديته نصف دية المسلم) . وقال الثوري:، وأبو حنيفة وأصحابه: (ديته مثل دية المسلم) . وقد روي ذلك عن عمر، وعثمان، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن قتله خطأ.. فديته مثل نصف دية المسلم، وإن قتله عمداً.. فديته مثل دية المسلم) . دليلنا: ما روى عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم» .

فرع دية المجوسي

[فرع دية المجوسي] ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (ديته مثل دية المسلم) . وقال عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ديته مثل دية اليهودي والنصراني، وهو نصف دية المسلم عنده. دليلنا: ما روي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: أنهم قالوا: (دية المجوسي ثمانمائة درهم، ثلثا عشر دية المسلم) . ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - فدل على: أنه إجماع. وأما عبدة الأوثان إذا كان بيننا وبينهم هدنة، أو دخلوا إلينا بأمان فلا يجوز قتلهم، فمن قتل منهم.. وجبت فيه دية المجوسي؛ لأنه كافر لا يحل للمسلم مناكحة أهل دينه، فكانت ديته ثلثي عشر دية المسلم، كالمجوسي. وأما الكافر الذي لم تبلغه الدعوة، وهو: أنه لا يعلم أن الله بعث رسولاً يقال له: محمد بن عبد الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه أظهر المعجزات، ويدعو إلى عبادة الله، فإن وجد ذلك.. فلا يجوز قتله حتى يعرف أن هاهنا رسولاً يدعو إلى الله، فإن أسلم، وإلا..

مسألة دية المرأة

قتل، فإن قتله قاتل قبل أن تبلغه الدعوة.. وجبت فيه الدية. وقال أبو حنيفة: (لا دية فيه) . دليلنا: أنه قتل محقون الدم، فوجبت فيه الدية، كالذمي. إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في قدر ديته: فمنهم من قال: تجب فيه دية مسلم؛ لأنه مولود على الفطرة. ومنهم من قال: إن كان متمسكاً بدين مبدل.. وجبت فيه دية أهل ذلك الدين، مثل: أن يكون متمسكاً بدين من بدل من اليهود والنصارى. وإن كان متمسكاً بدين من لم يبدل منهم.. وجبت فيه دية مسلم؛ لأنه مسلم لم تظهر منه عبادة. ومنهم من قال: تجب فيه دية المجوسي؛ لأنه يقين، وما زاد.. مشكوك فيه، وهذا هو الأصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (هو كافر لا يحل قتله، وإذا كان كافراً.. وجبت فيه أقل دياتهم؛ لأنه اليقين) . وإن قطع يد ذمي، ثم أسلم، ومات من الجراحة.. وجبت فيه دية مسلم؛ لأن الاعتبار بالدية حال الاستقرار. وإن قطع مسلم يد مرتد، ثم أسلم، ثم مات من الجراحة.. لم يضمن القاطع دية النفس، ولا دية اليد. وقال الربيع: فيه قولا آخر: أنه يضمن دية اليد. والمذهب الأول؛ لأنه قطعه في حال لا يجب ضمانه، وما حكاه الربيع من تخريجه. [مسألة دية المرأة] ودية المرأة نصف دية الرجل، وهو قول كافة العلماء، إلا الأصم، وابن علية، فإنهما قالا: ديتها مثل دية الرجل.

مسألة في الجنين غرة عبد

دليلنا: ما روى عمرو بن حزم: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ودية المرأة نصف دية الرجل» . وروي: عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم: أنهم قالوا: (دية المرأة نصف دية الرجل) . ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، فدل على: أنه إجماع. وإن قتل خنثى مشكلاً.. وجبت فيه دية امرأة؛ لأنه يقين، وما زاد.. مشكوك فهي، فلا تجب بالشك. [مسألة في الجنين غرة عبد] واذا ضرب ضارب بطن امرأة، فألقت جنيناً ميتاً حراً.. ففيه غرة عبد أو أمة. قيل: بإضافة الغرة إلى العبد، وقيل: بتنوين الغرة والصفة.

فرع من تجب فيه الغرة

والأصل فيه: ما روى المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن امرأتين من هذيل اقتتلتا، فضربت إحداهما الأخرى بعمود، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال أحد الرجلين: كيف ندي من لا أكل ولا شرب ولا صاح ولا استهل، ومثل ذلك يطل؟ - وقد قيل: (يطل) أي: يهدر - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " سجع كسجع الأعراب "، وقضى بدية المقتولة على عصبة القاتلة، وقضى بغرة عبد أو أمة لما في جوفها» . وروي: أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قال: «أذكر الله امرأ سمع من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجنين شيئاً، فقام حمل بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين جارتين لي - يعني: زوجتين - فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فقتلتها وما في جوفها، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجنين بغرة عبد أو أمة» . قال أبو عبيد: و (المسطح) : عود من عيدان الخباء. وقال النضر بن شميل: هو الخشبة التي يرقق بها الخبز. إذا ثبت هذا: فلا فرق بين أن يكون الجنين ذكراً أو أنثى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة، ولم يفرق بين أن يكون الجنين ذكراً أو أنثى، ولأنا لو قلنا: تختلف ديتهما.. لأدى ذلك إلى الاختلاف والتنازع؛ لأنه قد يخفى ويتعذر، وقد يخرج متقطعاً، فسوى بين الذكر والأنثى قطعاً للخصومة والتنازع. [فرع من تجب فيه الغرة] والجنين الذي تجب فيه الغرة هو: أن يسقط جنيناً بان فيه شيء من صورة الآدمي، إما يد أو رجل أو عين. وكذلك: إذا أسقطت مضغة لم يتبين فيها عضو من أعضاء الآدمي، ولكن قال

فرع ضرب منتفخة بطن

أربع نسوة من القوابل الثقات: فيها تخطيط الآدمي، إلا أنه خفي.. فتجب فيه المغرة؛ لأنهن يدركن من ذلك ما لا يدرك غيرهم. وإن قلن: لم يتخطط إلى الآن، ولكنه مبتدأ خلق آدمي، ولو بقي.. لتخطط، فهل تجب به الغرة والكفارة، وتنقضي به العدة؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: في الجميع قولان. ومنهم من قال: تنقضي به العدة، ولا تجب به الغرة ولا الكفارة، قولاً واحداً، وقد مضى ذلك. وإن قلنا: هذه مضغة تصلح للآدمي ولغيره، ولا ندري لو بقيت.. هل تتخطط، أم لا؟ فلا تجب به الغرة والكفارة، ولا تنقضي به العدة؛ لأن الأصل براءة الذمة من الضمان وثبوت العدة. وإن ألقت المرأة جنينين.. وجبت عليه غرتان، وإن ألقت ثلاثة.. وجب عليه ثلاث غرر، وإن ألقت رأسين أو أربع أيد.. لم تجب فيه إلا غرة؛ لأنه قد يكون جسدا واحداً له رأسان أو أربع أيد، فلا يجب ضمان ما زاد على جنين بالشك. [فرع ضرب منتفخة بطن] وأما إذا ضرب بطن امرأة منتفخة البطن، فزال الانتفاخ، أو بطن امرأة تجد حركة، فسكنت الحركة.. لم يجب عليه شيء. وإن ضرب بطن امرأة، فماتت، ولم يخرج الجنين.. لم يجب عليه ضمان الجنين. وقال الزهري: إذا سكنت الحركة التي تجد في بطنها.. وجب عليه ضمان الجنين. دليلنا: أنا إنما نحكم بوجود الحمل في الظاهر، وإنما نتحققه بالخروج، فإذا لم يخرج.. لم نتحقق أن هناك حملاً، بل يجوز أن يكون ريحاً فينفش، فلا يلزمه الضمان بالشك.

فرع ضرب حاملا فماتت ثم خرج حملها

[فرع ضرب حاملاً فماتت ثم خرج حملها] وإن ضرب بطن امرأة، فماتت، ثم خرج الجنين منها بعد موتها.. ضمن الأم بديتها، وضمن الجنين بالغرة. وقال أبو حنيفة: (لا يضمن الجنين) . ودليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة» . ولم يفرق بين أن يخرج قبل موت أمه أو بعده. ولأن كل حمل كان مضموناً إذا خرج قبل موت الأم.. كان مضموناً إذا خرج بعد موتها، كما لو ولدته حياً. وإن ضرب بطنها، فأخرج الجنين رأسه، وماتت، ولم يخرج الباقي.. وجب عليه ضمان الجنين. وقال مالك: (لا يجب عليه شيء) . دليلنا: أن بظهور الرأس تحققنا أن هناك جنيناً، والظاهر أنه مات من ضربه، فوجب عليه ضمانه. [فرع ضرب امرأة فخرج جنين وصرخ ومات] وإن ضرب بطن امرأة، فألقت جنيناً ميتاً، فصرخ، ثم مات عقيبه، أو بقي متألما إلى أن مات.. وجبت فيه دية كاملة، سواء ولدته لستة أشهر أو لما دونها. فإن لم يصرخ ولكن تنفس أو شرب اللبن، أو علمت حياته بشيء من ذلك، ثم مات عقيبه، أو بقي متألما إلى أن مات.. وجبت فيه دية كاملة. وقال المزني: إن ولدته حياً لدون ستة أشهر.. لم تجب فيه دية كاملة، وإنما تجب فيه الغرة؛ لأنه لا يتم له حياة لما دون ستة أشهر. وقال مالك، والزهري رحمهما الله: (إذا لم يستهل بالصراخ.. لم تجب فيه الدية الكاملة، وإنما تجب فيه الغرة) .

فرع ضرب حاملا فألقت يدا ثم جنينا ناقصا

دليلنا: أنا قد تحققنا حياته، فوجب فيه دية كاملة، كما لو ولدته لستة أشهر عند المزني، وكما لو استهل صارخاً عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ولو ضرب بطنها، فألقت جنيناً وفيه حياة مستقرة، ثم جاء آخر وقتله.. فالقاتل هو الثاني، فيجب عليه القود إن كان مكافئاً، أو الدية الكاملة. وأما الأول: فلا يجب عليه إلا التعزير بالضرب لا غير؛ لأنه لم يمت من ضربه. وإن ضرب بطنها، فألقت جنيناً، فلم يستهل ولا تنفس ولا تحرك حركة تدل على حياته، ولكنه اختلج.. لم تجب فيه الدية الكاملة، وإنما تجب فيه الغرة؛ لأن هذا الاختلاج لا يدل على حياته؛ لأن اللحم إذا عصر، ثم ترك.. اختلج، ويجوز أن يكون اختلاجه لخروجه من موضع ضيق. [فرع ضرب حاملاً فألقت يداً ثم جنينا ناقصاً] وإن ضرب بطن امرأة، فألقت يداً، ثم أسقطت بعد ذلك جنيناً ناقص يد.. نظرت: فإن بقيت المرأة متألمة إلى أن أسقطت الجنين، فإن ألقته ميتاً.. وجبت فيه الغرة، ويدخل فيها اليد؛ لأن الظاهر أن الضرب قطع يده، وإن ألقته حياً، ثم مات عقيب الوضع، أو بقي متألماً إلى أن مات.. ففيه دية كاملة، وتدخل فيها دية اليد. وإن خرج الجنين حياً وعاش.. لم يجب عليه في الجنين شيء، ووجب عليه ضمان اليد، فتعرض اليد على القوابل، فإن قلن: إنها فارقت جملة لم تنفخ فيها الروح.. وجب فيها نص الغرة، وإن قلن: إنها فارقت جملة نفخ فيها الروح.. وجب فيها نصف دية كاملة. وأما إذا سقطت اليد، ثم زال ألم الضرب، ثم ألقت الجنين.. ضمن اليد دون الجنين؛ لأنه بمنزلة من قطع يد رجل، ثم اندملت، فإن خرج الجنين ميتاً.. وجب في اليد نصف الغرة.

مسألة سن الغرة فوق سبع أو ثمان

وإن خرج حياً، ثم مات أو عاش.. عرضت اليد على القوابل، فإن قلن: إنها فارقت جملة لم تنفخ فيها الروح.. وجب فيه نصف الغرة، وإن قلن: إنها فارقت جملة نفخ فيها الروح.. كان فيها نصف الدية. وإن ضرب بطن امرأة، فألقت يداً، ثم ماتت الأم ولم يخرج الباقي.. وجبت دية الأم، ووجبت في الجنين الغرة؛ لأن الظاهر أنه جنى على الجنين، فأبان يده، ومات من ذلك. [مسألة سن الغرة فوق سبع أو ثمان] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولمن وجبت له الغرة أن لا يقبلها دون سبع سنين أو ثمان سنين؛ لأنها لا تستغني بنفسها) . وجملة ذلك: أن أقل سن الغرة التي يلزم ورثة الجنين قبولها سبع سنين، ولا يلزمه أن يقبل ما لها دون سبع سنين؛ لأن الغرة هي الخيار من كل شيء، وما له دون سبع سنين.. فليس من الخيار؛ لأنه يحتاج إلى من يكفله، ويخالف العتق في الكفارة؛ لأن الله تعالى نص فيها على الرقبة، والصغيرة يقع عليها اسم الرقبة. وأما أعلى سن الغرة: فاختلف أصحابنا فيها: فقال أبو علي بن أبي هريرة: ولا يجبر على قبول الغلام بعد خمسة عشر سنة؛ لأنه لا يلج على النساء ولا على الجارية بعد عشرين سنة؛ لأنها تتغير وتنقص قيمتها. ومنهم من قال: لا يجبر على قبولها بعد عشرين سنة، غلاماً كانت أو جارية؛ لأنها ليست من الخيار. وقال الشيخ أبو حامد: يجبر على قبول ما له خمسون سنة وأكثر ما لم يضعف عن العمل؛ لأنه قد يكون من الخيار وإن بلغ ذلك. قال القاضي أبو الطيب: وقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وليس لهم أن يؤدوا غرة هرمة ولا ضعيفة عن هذا العمل؛ لأن أكثر ما يراد له الرقيق للعمل) . وهذا يدل على وجوب قبولها قبل ذلك.

فرع لا يجبر على قبول الغرة المعيبة

[فرع لا يجبر على قبول الغرة المعيبة] ومن وجبت له الغرة لم يجبر على قبولها إذا كانت معيبة؛ لأن الغرة هي الخيار، والمعيبة ليست من الخيار. فلا يلزمه أن يقبل الخصي وإن زادت قيمته بذلك؛ لأنه ناقص عضو، فهو كما لو كان مقطوع اليد. [مسألة قيمة الغرة عشر دية المسلم] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وقيمتها إذا كان الجنين حراً نصف عشر دية المسلم) . وجملة ذلك: أن الغرة مقدرة بنصف عشر دية الأب، أو بعشر دية الأم؛ لأنه روي ذلك عن عمر، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، ولأنه لا يمكن أن توجب فيه دية كاملة؛ لأنه لم تكمل فيه الحياة، ولا يمكن إسقاط ضمانه؛ لأنه خلق بشر، فقدرت ديته بخمس من الإبل؛ لأنه أقل أرش قدره صاحب الشرع، وهو: أرش الموضحة، ودية السن. فإن كانت الغرة موجودة.. لم يجبر الولي على قبول غيرها؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب في الجنين الغرة كما أوجب في النفس الإبل» . ثم لا يجبر الولي على قبول غير الإبل مع وجودها، فكذلك لا يجبر على قبول غير الغرة مع وجودها. وإن أعوزت الغرة.. فإنه ينتقل إلى غيرها. واختلف أصحابنا فيما ينتقل إليه:

فرع غرم الدية للجنين كدية الخطأ

فقال الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ: ينتقل إلى خمس من الإبل؛ لأنها هي الأصل في الدية، فإن أعوزت الإبل.. انتقل إلى قيمتها في القول الجديد، وإلى خمسين ديناراً أو ستمائة درهم في القول القديم. وقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: إذا أعوزت الغرة.. انتقل إلى قيمتها في قوله الجديد، كما لو غصب منه عبداً فتلف، وينتقل إلى خمس من الإبل في قوله القديم، فإن أعوزت الإبل.. انتقل إلى قيمتها في أحد القولين، وإلى خمسين ديناراً أو ستمائة درهم في الآخر. [فرع غرم الدية للجنين كدية الخطأ] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويغرمها من يغرم دية الخطأ) . وجملة ذلك: أن الجناية على الجنين قد تكون خطأ محضاً، بأن يقصد غير الأم فيصيبها، فتكون الدية مخففة، وقد تكون عمد خطأ، بأن يقصد إصابة الأم بما لا يقتل، فتكون الدية مغلظة على العاقلة. وهل تكون عمداً محضاً؟ اختلف أصحابنا فيها: فقال الشيخ أبو إسحاق: يكون عمدا محضاً. وقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: لا تتصور الجناية على الجنين أن تكون عمداً محضاً وإن قصد الأم؛ لأنه قد يموت منه الجنين وقد لا يموت منه، ولأنه لا يتحقق وجود الجنين. [فرع غرة ولد المسلمين] فإن كان الأبوان مسلمين.. وجبت الغرة مقدرة بنصف عشر دية الأب، أو عشر دية الأم. وإن كانا ذميين.. وجبت الغرة مقدرة بنصف عشر دية الأب، أو عشر دية الأم. وكذلك: إذا كان الأبوان مجوسيين.. فإنما تعتبر من ديتهما.

فرع ضرب نصرانية حاملا ثم أسلمت فأسقطت

وإن كان أحد الأبوين نصرانياً والآخر مجوسياً.. اعتبر دية الجنين بعشر دية النصراني؛ لأنه إذا اتفق في بدل النفس ما يوجب الإسقاط وما يوجب الإيجاب.. غلب الإيجاب، كما قلنا في السبع المتولد بين الضبع والذئب إذا قتله المحرم. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : الجنين اليهودي أو النصراني أو المجوسي؛ لا تجب فيه الغرة، وإنما يجب فيه نصف عشر دية الأب. وإذا كانا مختلفي الدين.. فقد خرج فيه قول آخر: أن الاعتبار بالأب. وقال ابن سلمة: يعتبر بأقلهما دية. والأول أصح. [فرع ضرب نصرانية حاملاً ثم أسلمت فأسقطت] وإن ضرب بطن امرأة نصرانية حامل بنصراني، فأسلمت، ثم أسقطت جنيناً ميتاً.. ففيه غرة مقدرة بنصف عشر دية مسلم؛ لأن الاعتبار بالدية حال الاستقرار، وهي مسلمة حال الاستقرار. وإن ضرب بطن امرأة حربية، فأسلمت، ثم أسقطت جنيناً ميتاً.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يضمنه، وهو قول ابن الحداد؛ لأن الابتداء لم يكن مضموناً. والثاني: يضمنه اعتباراً بحال الاستقرار. [فرع وطئها مسلم وذمي بشبهة ثم ضربت فألقت جنيناً] إذا وطئ مسلم وذمي ذمية بشبهة في طهر واحد، ثم ضرب رجل بطنها، وألقت جنيناً ميتاً.. عرض على القافة، على الصحيح من المذهب. فإن ألحقته بالمسلم.. وجب فيه غرة عبد أو أمة مقدرة بنصف عشر دية المسلم.

فرع الغرة يرثها ورثة الجنين

وإن ألحقته بالذمي.. وجبت فيه غرة مقدرة بنصف عشر دية اليهودي. وإن أشكل الأمر عليها.. وجب فيه ما يجب في الجنين اليهودي؛ لأنه يقين، فإن كان يرجو انكشاف الأمر.. لم يورث هذا المال أحداً، ووقف إلى أن يتبين الأمر، وإن لم يرج انكشاف الأمر.. ترك حتى يصطلحوا عليه. فإن أراد الذمي والذمية أن يصطلحا في قدر الثلث.. لم يجز؛ لجواز أن يكون الجميع للمسلم، لا حق لهما فيه. وإن أراد المسلم والذمية أن يصطلحا في قدر الثلث.. جاز؛ لأنه لا حق للذمي فيه، ولا يخرج هذا القدر من بينهما. [فرع الغرة يرثها ورثة الجنين] الغرة الواجبة في الجنين الحر يرثها ورثته، وبه قال أبو حنيفة. وقال الليث بن سعد: (لا يورث عنه، وإنما يكون لأمه؛ لأنه كعضو منها) . ودليلنا: أنها دية نفس، فورثت عنه، كما لو خرج حياً. وإن ضرب بطن نصرانية، فألقت جنينا ميتاً، فادعت: أن هذا الجنين من مسلم زنى بها.. لم يجب فيه أكثر من دية جنين نصرانية؛ لأن ولد الزنى لا يلحق بالزاني. قال الطبري: وإن قالت: وطئني مسلم بشبهة، فكذبها الجاني والعاقلة.. حلفوا على نفي العلم؛ لأن الظاهر أنه تابع لها، وإن صدقوها.. وجبت غرة مقدرة بنصف عشر دية مسلم، وإن صدقها العاقلة دون الجاني.. لم يؤثر تكذيب الجاني، وإن صدقها الجاني وكذبها العاقلة.. حملت العاقلة دية جنين النصرانية، ووجب الباقي في مال الجاني؛ لأنه وجب باعترافه. وبالله التوفيق

باب أروش الجنايات

[باب أروش الجنايات] الجنايات على ما دون النفس شيئان: جراحات، وأعضاء. فأما الجراحات: فضربان: شجاج في الرأس والوجه، وجراحات فيما سواهما من البدن. فأما الشجاج في الرأس والوجه: فعشرة: الخارصة، والدامية، والباضعة، والمتلاحمة، والسمحاق، والموضحة، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، والدامغة، وقد مضى بيانها. والتي يجب فيها أرش مقدر من هذه الشجاج: الموضحة، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة. وأما الموضحة: فيجب فيها خمس من الإبل، صغيرة كانت أو كبيرة، وبه قال أكثر الفقهاء. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن كانت في الأنف أو اللحى الأسفل.. وجبت فيها حكومة) . وقال ابن المسيب رحمة الله عليه: يجب في الموضحة عشر من الإبل. دليلنا: ما روى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الموضحة خمس من الإبل» . وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي المواضح خمس من الإبل» .

مسألة في تعدد الموضحة

وروى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الكتاب الذي كتبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أهل اليمن: «وفي الموضحة خمس من الإبل» . ولأنه قول أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، ولا فرق بين الظاهرة والمستورة بالشعر، لعموم الخبر. [مسألة في تعدد الموضحة] فإن أوضحه موضحة أو موضحتين أو ثلاثاً أو أربعاً.. وجبت لكل موضحة خمس من الإبل؛ لعموم الخبر، فإن كثرت المواضح حتى زاد أرشها على دية النفس.. ففيه وجهان لأصحابنا الخراسانيين: أحدهما: لا يجب أكثر من دية النفس؛ لأن ذلك ليس بأكثر حرمة من نفسه. والثاني: يجب لكل موضحة خمس من الإبل، وهو المشهور؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الموضحة خمس من الإبل» . ولم يفرق. ولأنه يجب في كل واحدة أرش مقدر، فوجب وإن زاد ذلك على دية النفس، كما لو قطع يديه ورجليه. [فرع أوضحا موضحتين بينهما حاجز] وإن أوضحه موضحتين بينهما حائل - حاجز - ثم خرق الجاني الحاجز بينهما.. لم يجب عليه أكثر من أرش موضحة؛ لأن فعل الإنسان يبنى بعضه على بعض، كما لو قطع يديه ورجليه، ثم مات. وكذلك: إن تآكل ما بينهما بالجناية.. صار كما لو خرق ما بينهما؛ لأن سراية فعله كفعله، فصار كما لو قطع يديه ورجليه، وسرى ذلك إلى نفسه. وإن خرق أجنبي ما بينهما.. وجب عليه أرش موضحة إن بلغ إلى العظم، ووجب

فرع أوضحا في رأس موضحتين وخرق أحدهما ما بينهما

على الأول أرش موضحتين؛ لأن فعل الإنسان لا يبنى على فعل غيره. وإن خرق المجني عليه ما بينهما.. صار ما فعله هدراً، ولم يسقط بذلك عن الجاني شيء. [فرع أوضحا في رأس موضحتين وخرق أحدهما ما بينهما] ] : وإن أوضح رجلان في رأس رجل موضحتين واشتركا فيهما، ثم جاء أحدهما وخرق ما بينهما.. وجب على الخارق نصف أرش موضحة، وعلى الذي لم يخرق أرش موضحة؛ لأنهما لما أوضحاه أولاً.. وجب على كل واحد منهما أرش موضحته، فإذا خرق أحدهما الحاجز بينهما.. صار في حقه كأنهما أوضحاه موضحة واحدة، فكان عليه نصف أرشها، ولم يسقط بذلك مما وجب على الآخر شيء. [فرع شج رجلاً موضحة وباضعة ومتلاحمة] وإن شج رجل آخر شجة، بعضها موضحة، وبعضها باضعة، وبعضها متلاحمة.. لم يجب عليه أكثر من أرش موضحة؛ لأنه لو أوضحها جميعها.. لم يجب عليه أكثر من أرش موضحة، فلأن لا يلزمه - والإيضاح في بعضها - أولى. وإن أوضحه موضحتين، وخرق اللحم الذي بينهما، ولم يخرق الجلد الظاهر.. ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه أرش موضحتين؛ اعتباراً بالظاهر. والثاني: لا يلزمه إلا أرش موضحة؛ اعتباراً بالباطن. وإن أوضحه موضحتين، وخرق الجلد الذي بينهما، ولم يخرق اللحم.. لم يلزمه إلا أرش موضحة، وجهاً واحداً؛ لأنه لو خرق الظاهر والباطن بينهما.. لم يلزمه إلا أرش موضحة، فلأن لا يلزمه إلا أرش موضحة - ولم يخرق إلا الظاهر - أولى. [فرع أوضحه في الرأس ونزل إلى القفا] وإن أوضح موضحة في الرأس، ونزل فيها إلى القفا - وهو: العنق - وجب عليه

فرع اختلاف رقعتي الرأس وقت الاقتصاص

أرش موضحة في الرأس، وحكومة فيما نزل إلى القفا؛ لأنهما عضوان مختلفان. وإن أوضحه موضحة بعضها في الرأس وبعضها في الوجه.. ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه أرش موضحتين؛ لأنهما عضوان مختلفان، فهما كالرأس والقفا. والثاني: لا يلزمه إلا أرش موضحة؛ لأن الجميع محل للموضحة، بخلاف القفا. والأول أصح؛ لأنهما مختلفان في الظاهر. [فرع اختلاف رقعتي الرأس وقت الاقتصاص] وإن أوضح جميع رأسه، ورأس المجني عليه عشرون إصبعاً، ورأس الجاني خمس عشرة إصبعاً، فاقتص منه في جميع رأسه.. فإنه يجب للمجني عليه فيما بقي الأرش؛ لأنه لم يستوف قدر موضحته، وكم يجب له؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب له أرش موضحة؛ لأنه لو أوضحه قدر ذلك.. لوجب فيه أرش موضحة. والثاني - وهو الأصح -: أنه لا يجب له إلا ربع أرش موضحة؛ لأنه أوضحه موضحة وقد استوفى ثلاثة أرباعها، فبقي له ربع أرشها. [فرع ما يجب في الموضحة المغلظة] وإذا وجب له أرش موضحة مغلظة.. فإنه يجب له خلفتان وثلاثة أبعرة من النوعين الآخرين. قال القاضي أبو الطيب: فيكون له بعير ونصف من الحقاق، وبعير ونصف من الجذاع. قال ابن الصباغ: وهذا يقتضي أن يأخذ قيمة الكسرين، إلا أن يرضى أن يأخذهما من السن الأول، وهو: أن يأخذ حقتين وجذعة.

مسألة ما يجب في الهاشمة

[مسألة ما يجب في الهاشمة] ] : ويجب في الهاشمة عشر من الإبل، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يجب فيها خمس من الإبل، وحكومة في كسر العظم) . دليلنا: ما روي عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (وفي الهاشمة عشر من الإبل) . ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، فدل على: أنه إجماع. وإن ضرب رأسه أو وجهه بمثقل، فهشم العظم من غير أن يقطع جلداً ولا لحماً. ففيه وجهان. [أحدهما] : قال أبو علي بن أبي هريرة: يجب فيها حكومة؛ لأنها ليست بموضحة ولا هاشمة، وإنما هو كسر عظم، فهو كما لو كسر يده. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: يجب عليه خمس من الإبل، وهو الأصح؛ لأنه لو أوضحه وهشمه.. لوجب عليه عشر من الإبل، ولو أوضحه ولم يهشمه.. لم يجب عليه إلا خمس من الإبل، فدل على: أن الخمسة الزائدة لأجل الإيضاح. [فرع شجه موضحة وهاشمة ودون موضحة] وإن شجه شجة، بعضها موضحة، وبعضها هاشمة، وبعضها دون موضحة.. لم يجب عليه إلا عشر من الإبل؛ لأنه لو هشم الجميع.. لم يجب عليه إلا عشر من الإبل، فلأن لا يلزمه - والهشم في البعض - أولى. وإن هشمه هاشمتين بينهما حاجز.. لزمه أرش هاشمتين. وإن أوضحه موضحتين، وهشم العظم بكل واحدة منهما، واتصل الهشم في الباطن.. وجب عليه أرش هاشمتين، وجهاً واحداً.

مسألة ما يجب في المنقلة

والفرق بينهما وبين الموضحتين إذا اتصلتا في الباطن: أن الحائل قد ارتفع بين الموضحتين في الباطن، وهاهنا اللحم والجلد بينهما باق، فكانتا هاشمتين، وإنما الكسر اتصل، ولا اعتبار به. [مسألة ما يجب في المنقلة] ويجب في المنقلة خمس عشرة من الإبل؛ لما روى عمر بن الخطاب، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل» . ولأنه قول علي، وزيد بن ثابت، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. [مسألة ما يجب في المأمومة] ] : ويجب في المأمومة ثلث الدية؛ لما روى عمر بن الخطاب، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الآمة ثلث الدية» . وهو قول علي، وزيد بن ثابت، ولا مخالف لهما في الصحابة. ويجب في الدامغة ثلث الدية. وقال أبو الحسن الماوردي البصري من أصحابنا: يجب فيه حكومة مع ثلث الدية؛ لخرق الغشاوة التي على الدماغ. [فرع أوضحه رجل وهشمه آخر ونقله ثالث وآمه رابع] وقال أبو العباس: وإن أوضحه رجل، وهشمه آخر، ونقله آخر، وآمه آخر في موضع واحد.. وجب على الذي أوضحه خمس من الإبل، وعلى الذي هشمه خمس من الإبل، وعلى الذي نقله خمس من الإبل، وعلى الذي آمه ثماني عشرة من الإبل وثلث؛ لأن ذلك قدر أرش جناية كل واحد منهم. [فرع شجه دون الموضحة أو أكثر منها] وأما الشجاج التي قبل الموضحة: فلا يجب فيها أرش مقدر؛ لما روى مكحول - مرسلا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل في الموضحة خمساً من الإبل، ولم يوقت فيما دون

مسألة جراحات غير الرأس والوجه

ذلك شيئاً» . ولأن تقدير الأرش يثبت بالتوقيف، ولا توقيف هاهنا. فإن أمكن معرفة قدرها من الموضحة؛ بأن كان في رأس المجني عليه موضحة، ثم شج في رأسه دامية أو باضعة، فإن عرف قدر عمقها من عمق الموضحة التي في رأسه.. وجب فيها بقدر ذلك من أرش الموضحة، وإن لم يمكن معرفة قدر عمقها من عمق الموضحة.. وجب فيها حكومة تعرف بالتقويم، على ما يأتي بيانه. فإن تيقنا أنها نصف الموضحة، وشككنا: هل تزيد، أم لا؟ فإنه يقوم، فإن خرجت حكومتها بالتقويم نصف أرش الموضحة لا غير.. لم تجب الزيادة؛ لأنا علمنا أن الزيادة لا حكم لها. وإن خرجت حكومتها أكثر من نصف أرش الموضحة.. وجب ذلك؛ لأنا علمنا أن الشك له حكم. وإن خرجت حكومتها أقل من نصف أرش الموضحة.. وجب نصف أرش الموضحة؛ لأنا قد تيقنا وجوب النصف، وعلمنا أن التقويم خطأ. [مسألة جراحات غير الرأس والوجه] وأما الجراحات في غير الرأس والوجه: فضربان: جائفة، وغير جائفة. فأما (غير الجائفة) ، وهي: الموضحة، والهاشمة، والمنقلة، وما دون الموضحة من الجراحات: فلا يجب فيها أرش مقدر، وإنما تجب فيه حكومة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر الموضحة وما بعدها من الجراحات، وذكر بعدها المأمومة، والمأمومة لا تكون إلا في الرأس، فعلم أن ما قبلها لا يكون إلا في الرأس، والوجه في معنى الرأس. ولأن هذه الجراحات في سائر البدن لا تشارك نظائرها في الرأس والوجه في الشين والخوف عليه منها، فلم يشاركها في تقدير الأرش. وأما (الجائفة) : فهي الجراحة التي تصل إلى الجوف من البطن، أو الصدر، أو ثغرة النحر، أو الورك، فيجب فيها ثلث الدية.

فرع أجافه رجل فأدخل فيها رجل سكينا

وقال مكحول: إن تعمدها.. وجب فيها ثلثا الدية. دليلنا: ما روى عمر بن الخطاب، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الجائفة ثلث الدية» . وهو قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، ولا مخالف له في الصحابة. فإن أجافه جائفتين بينهما حاجز.. وجب عليه أرش جائفتين، وإن طعنه، فأنفذه من ظهره إلى بطنه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه إلا أرش جائفة؛ لأن الجائفة هي: ما ينفذ من خارج إلى داخل، فأما الخارج من داخل إلى خارج: فليس بجائفة، فيجب فيها حكومة. والثاني: يجب عليه أرش جائفتين، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وهو المذهب؛ لأنه روي ذلك عن أبي بكر الصديق، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولأنهما جراحتان نافذتان إلى الجوف، فهو كما لو نفذتا من خارج إلى داخل. [فرع أجافه رجل فأدخل فيها رجل سكيناً] ً] : وإن أجاف رجل رجلاً جائفة، ثم جاء آخر وأدخل السكين في تلك الجائفة، فإن لم يقطع شيئاً.. فلا شيء عليه، وإنما يعزر به. وإن وسعها في الظاهر والباطن.. وجب عليه أرش جائفة؛ لأنه أجاف جائفة أخرى. وإن وسعها في الظاهر دون الباطن أو في الباطن دون الظاهر، أو أصاب بالسكين كبده أو قلبه، وجرحه.. وجبت عليه حكومة. وإن قطع أمعاءه، أو أبان حشوته.. فهو قاتل؛ لأن الروح لا تبقى مع هذا، والأول خارج. وإن وضع السكين على فخذه، فجره حتى بلغ به البطن وأجافه، أو وضعه على

فرع أجافه جائفة فخاطها ثم فتقها غيره

كتفه وجره حتى بلغ به الظهر وأجافه.. وجب عليه أرش جائفة، وحكومة للجراحة في الفخذ والكتف؛ لأنهما جراحة في غير محل الجائفة. وإن وضع السكين على صدره وجره حتى بلغ به إلى بطنه أو ثغرة النحر، وأجافه.. لم يجب عليه إلا أرش جائفة؛ لأن الجميع محل للجائفة، ولو أجافه في الجميع.. لم يلزمه إلا أرش جائفة، فلأن لا يلزمه ولم يجفه إلا في بعضه أولى. [فرع أجافه جائفة فخاطها ثم فتقها غيره] ] : إذا أجافه جائفة فخيط الجائفة، فجاء آخر وفتق تلك الخياطة، فإن كان الجرح لم يلتحم ظاهرًا ولا باطنًا.. لم يلزم الثاني أرش، وإنما يعزر، كما لو أدخل سكينًا في الجائفة قبل الخياطة، وتجب عليه قيمة الخيط وأجرة المثل، وإن كانت الجراحة قد التحمت فقطعها ظاهرًا أو باطنًا.. وجب عليه أرش جائفة؛ لأنه عاد كما كان. وإن التحمت الجراحة في الظاهر دون الباطن أو في الباطن دون الظاهر، ففتقه.. وجبت عليه الحكومة. وكل موضع وجب عليه أرش الجائفة أو الحكومة.. فإنه يجب عليه معه قيمة الخيط، وتدخل أجرة الخياطة في الأرش أو في الحكومة. [فرع ضرب وجنته وكسر عظمها] ] : وإن ضرب وجنته، فكسر العظم، ووصل إلى فيه.. ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه أرش جائفة؛ لأنها جراحة وصلت إلى جوف الفم، فهو كما لو وصلت إلى جوف البطن أو الرأس. والثاني: لا يجب عليه إلا أرش هاشمة لهشم العظم، وحكومة لما زاد عليه؛ لأن هذه دون الجائفة إلى البطن أو الرأس في الخوف عليه منها. وإن جرحه في أنفه، فخرقه إلى باطنه.. قال أبو علي الطبري: ففيه قولان، كما لو هشم عظم وجنته، فوصلت إلى فيه.

فرع أدخل خشبة في إسته

وإن خرق شدقه إلى داخل فيه.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان، كما لو هشم وجنته، فوصل إلى فيه. وقال ابن الصباغ: لا يجب عليه أرش جائفة، قولًا واحدًا. [فرع أدخل خشبة في إسته] ] : وإن أدخل خشبة في دبر إنسان، فخرق حاجزًا في البطن.. فهل يلزمه أرش جائفة؟ فيه وجهان، كما قلنا فيمن خرق الباطن بين الموضحتين دون الظاهر. وإن أذهب بكارة امرأة بيده أو بخشبة.. فليست بجائفة؛ لأنه لا يخاف عليها من ذلك، فإن كانت أمة.. وجب عليه ما نقص من قيمتها، وإن كانت حرة.. ففيها حكومة، فإن أكرهها على الزنا.. وجب عليه حكومة، ولإذهاب البكارة المهر. [مسألة ما يجب في العين] ] : وأما الأعضاء: فيجب في العينين الدية؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي العينين الدية» . ويجب في إحداهما نصف الدية؛ لما روى معاذ، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي إحدى العينين خمسون من الإبل» ، ولأنه قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. وإن قلع عين الأعور.. لم يجب عليه إلا نصف الدية، وبه قال النخعي، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه. وقال الزهري، ومالك، والليث، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يجب فيها جميع الدية) . وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.

فرع جنى على عينه فأذهب بصرها

دليلنا: حديث معاذ، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولم يفرق. وقد روي ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه. ولأن ما ضمن ببدل مع بقاء نظيره.. ضمن به مع فقد نظيره، كاليد. وإن قلع الأعور عين من له عينان، وللجاني مثلها.. كان للمجني عليه القصاص. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ليس له القصاص منه) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] [المائدة: 45] . ولم يفرق. وإن عفا المجني عليه عن قلع عين الأعور.. لم يستحق عليه إلا نصف الدية. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يستحق عليه جميع الدية) . دليلنا: أنه قلع له عينًا واحدة، فإذا عفا عن القصاص.. لم يجب له أكثر من ديتها، كما لو كانتا سليمتين. [فرع جنى على عينه فأذهب بصرها] ] : وإن جنى على عينه أو رأسه، فذهب ضوء بصره والحدقة باقية.. وجبت عليه الدية؛ لما روى معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي البصر مائة من الإبل» ، ولأنه أذهب المنفعة المقصودة بالعين، فوجب عليه أرشها، كما لو جنى على يده، فشلت. وإن أذهب البصر من إحدى العينين.. وجب عليه نصف الدية، كما لو أشل إحدى يديه.

فرع عودة البصر بعد أخذ الدية

وإن قلع عينًا عليها بياض، فإن كان على غير الناظر، أو على الناظر إلا أنه رقيق يبصر بها من تحته.. وجب عليه جميع ديتها؛ لأن البياض لا يؤثر في منفعتها، وإنما يؤثر في جمالها، فهو كما لو قطع يدًا عليها ثآليل. وإن كان لا يبصر.. لم يجب عليه الدية، وإنما تجب عليه الحكومة، كما لو قطع يدًا شلاءً. وإن نقص بصرها بالبياض.. وجب عليه من ديتها بقدر ما بقي من بصرها. [فرع عودة البصر بعد أخذ الدية] ] : وإن جنى على عينه، فذهب ضوؤها، فأخذت منه الدية، ثم عاد ضوؤها.. وجب رد ديتها؛ لأنا علمنا أنه لم يذهب ضوؤها. وإن ذهب ضوؤها، وقال رجلان من أهل الخبرة: ترجى عودته، فإن لم يقدرا ذلك إلى مدة.. لم ينتظر، وإن قدراه إلى مدة.. انتظر، فإن عاد الضوء.. لم تجب الدية، وإن انقضت المدة ولم يعد الضوء.. أخذ الجاني بموجب الجناية، وإن مات المجني عليه قبل انقضاء تلك المدة.. لم يجب القصاص؛ لأنه موضع شبهة، وهل تجب عليه الدية؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما قلنا في السن. ومنهم من قال: تجب الدية، قولًا واحدًا؛ لأن عود الضوء غير معهود، وعود السن معهود. [فرع نقص بصر العين بالجناية] ] : وإن جنى على عينيه، فنقص ضوؤهما.. نظرت: فإن عرف أنه نقص نصف ضوئهما، بأن كان يرى الشخص من مسافة، فصار لا يراه إلا من نصفها.. وجبت عليه نصف الدية.

فرع الجناية على عين القاصر

وإن لم يعرف قدر النقصان، وإنما ساء إدراكه.. وجبت عليه حكومة. وإن نقص بصره في إحدى العينين.. وجب عليه من دية تلك العين بقدر ما نقص من ضوئها. وإن أمكن معرفة قدر ذلك.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والإمكان: أن تعصب عينه العليلة، وتطلق الصحيحة، ويقام له شخص على ربوة من الأرض، ثم يقال له: انظر إليه، ثم يتباعد الشخص عنه إلى أن ينتهي إلى غاية يقول: لا أرى إلى أكثر منها، ثم يعلم على ذلك الموضع، ويغير عليه ثياب الشخص؛ لأنه متهم، فإذا غير عليه، وأخبر به.. علمنا صحة ذلك، ثم تطلق العين العليلة، وتعصب الصحيحة، ويوقف له الشخص على ربوة، ثم لا يزال يبعد عنه إلى الغاية التي يقول: أبصره إليها ولا أبصره إلى أكثر منها، فيعلم على ذلك الموضع، ويوقف له الشخص من جميع الجهات، فإن أخبر أنه يبصره على أكثر من تلك الغاية أو أقل.. علمنا كذبه؛ لأن النظر لا يختلف باختلاف الجهات، فإذا اتفقت الجهات.. علمنا صدقه، ثم ننظر كم الغاية الثانية من الأولى؟ فيؤخذ بقدر ما نقص من الدية) . [فرع الجناية على عين القاصر] ] : وإن جنى على عين صبي أو مجنون، فقال أهل الخبرة: قد زال ضوؤها، ولا يرجى عوده.. ففيه وجهان.

مسألة أزال أجفانه الأربعة

أحدهما: يحكم على الجاني بموجب الجناية؛ لأن الجناية قد وجدت، فتعلق بها موجبها. والثاني: لا يحكم عليه بموجبها حتى يبلغ الصبي، ويفيق المجنون، ويدعي زوال الضوء؛ لجواز أن الضوء لم يذهب. وإن جنى على عين رجل، فشخصت - أي: ارتفعت - أو احولت، ولم يذهب من ضوئها شيء.. وجبت عليه الحكومة؛ لأنه أذهب جمالًا من غير ذهاب منفعة. وإن قلع عينًا قائمة، وهي: العين التي ذهب ضوؤها، وبقيت حدقتها.. وجبت عليه الحكومة دون الدية؛ لأنه أذهب عضوًا فيه جمال من غير منفعة. [مسألة أزال أجفانه الأربعة] ] : وإن قطع أجفان عيني رجل الأربعة.. وجبت عليه دية، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (لا تجب عليه إلا الحكومة) . دليلنا: أن فيها جمالا ًومنفعة، فوجب فيها الدية، كالعينين. وإن قطع بعضها.. وجب فيها من الدية بقسطه، كما لو قلع إحدى العينين. وإن قطع أهداب العينين، ولم تعد.. فعليه الحكومة. وقال أبو حنيفة: (عليه الدية) . دليلنا: أنه أذهب جمالًا من غير منفعة، فلم تجب فيه الدية، كالأظفار. وإن قطع الأجفان وعليها الأهداب.. ففيه وجهان: أحدهما: تجب عليه الدية للأجفان، والحكومة للأهداب، كما لو قطع الأهداب، ثم الأجفان. والثاني: تجب عليه الدية لا غير، كما لو قطع يدًا وعليها شعر وأظفار. وإن قلع العينين والأجفان.. وجبت عليه ديتان، كما لو قطع يديه ورجليه.

فرع قلع الحاجبين

[فرع قلع الحاجبين] ] : وإن قلع الحاجبين.. لم تجب فيهما الدية. وقال أبو حنيفة: (تجب فيهما الدية) . دليلنا: أن فيهما جمالًا من غير منفعة، فلم تجب فيهما الدية، كلحم الوجه، وتجب فيهما الحكومة. [مسألة في الأذنين الدية] ] : وتجب في الأذنين الدية، وفي إحداهما نصف الدية، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد رحمهما الله، وإحدى الروايتين عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في الرواية الثانية: (لا تجب فيهما إلا الحكومة) . وحكاه أصحابنا الخراسانيون قولًا آخر للشافعي، وليس بمشهور. وروي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنه قال: (وفي الأذن خمس عشرة من الإبل) . والدليل على وجوب الدية فيهما: ما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الأذن خمسون من الإبل» . فدل على: أنه يجب فيهما مائة. ولأنه روي ذلك عن عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما. ولأن فيهما جمالًا ومنفعة، فوجبت فيهما الدية، كالعينين.

مسألة قطع بعض الأذن

[مسألة قطع بعض الأذن] فرع: [قطع بعض الأذن] : وإن قطع بعض الأذن.. وجب عليه من ديتها بقدر ما قطع منها؛ لأنه يمكن تقسيط الدية عليها. وإن جنى على أذنه، فاستحشفت - أي: يبست - ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه ديتها، كما لو جنى على يده، فشلت. والثاني: لا تجب عليه إلا الحكومة؛ لأن منفعتها باقية مع استحشافها، وإنما نقص جمالها. وإن قطع أذنًا مستحشفة.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: إن قلنا: إنه إذا جنى عليها فاستحشفت وجبت عليه الدية.. وجب هاهنا على قاطع المستحشفة الحكومة، كما لو قطع يدًا شلاء، وإن قلنا هناك: لا يجب عليه إلا الحكومة.. وجب هاهنا على قاطعها ديتها. وقال الشيخ أبو حامد: هذا تخليط لا يحكى، بل تجب عليه الحكومة، قولًا واحدًا، كما قلنا فيمن قلع عينًا قائمة، أو قطع يدا شلاء. وإن قطع أذن الأصم.. وجب عليه ديتها؛ لأن ذهاب السمع، لعلة في الرأس لا في الأذن. [مسألة وجوب الدية في ذهاب السمع] ] : ويجب في السمع الدية؛ لما روى معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي السمع دية» . وروى أبو المهلب: (أن رجلًا ضرب رجلًا بحجر في رأسه، فذهب سمعه وبصره وعقله ونكاحه، فقضى فيه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه بأربع ديات وهو حي) . ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

فرع ادعاء ذهاب حواسه أو بعضها

فإن أذهب سمعه من إحدى الأذنين.. وجب عليه نصف الدية، كما لو أذهب الضوء من إحدى العينين. فإن أذهب سمعه، فأخذت منه الدية، ثم عاد السمع.. وجب رد الدية؛ لأنا علمنا أنه لم يذهب. [فرع ادعاء ذهاب حواسه أو بعضها] ] : وإن جنى عليه جناية، فادعى: أنه ذهب بها سمعه أو بصره أو شمه.. أري اثنين من أهل الخبرة بذلك من المسلمين، فإن قالا: مثل هذه الجناية لا يذهب بها السمع والبصر والشم.. فلا شيء له على الجاني؛ لأنا علمنا كذب المدعي، وإن قالا: مثلها يذهب بها السمع أو البصر أو الشم، فإن كان في البصر.. رجع إلى قولهما، أو إلى اثنين من أهل الخبرة، فإن قالا: قد ذهب البصر ولا يعود.. حكمنا على الجاني بموجب الجناية، وإن كان في السمع والشم.. لم يرجع إلى قولهما في ذهابه؛ لأنه لا طريق لهما إلى المعرفة بذهابه، بخلاف البصر. فإذا ادعى المجني عليه ذهاب السمع أو الشم، فإن قال اثنان من أهل الخبرة من المسلمين: لا يرجى عوده.. حكم على الجاني بموجب الجناية، وإن قالا: يرجى عوده إلى مدة.. فهو كما لو قالا: يرجى عود البصر، وقد مضى بيانه. فإن كانت الجناية عمدًا.. لم يقبل فيه إلا قول رجلين، وإن كانت خطأ، أو عمد خطأ.. قبل فيه قول رجل وامرأتين، كما قلنا في الشهادة بذلك.

فرع ما يجب في نقص السمع

[فرع ما يجب في نقص السمع] ] : وإن جنى عليه جناية، فنقص سمعه بها، فإن عرف قدر نقصانه.. وجب فيه من الدية بقدره، وإن لم يعرف قدر نقصانه، وإنما ثقل.. وجبت في الحكومة. وإن ادعى نقصان السمع من إحدى الأذنين.. سدت الأذن العليلة، وأطلقت الصحيحة، وأمر من يخاطبه وهو يتباعد منه إلى أن يبلغ إلى غاية يقول: لا أسمعه إلى أكثر منها، ويعلم عليها، ويمتحن بذلك من جميع الجهات؛ لأنه متهم، فإذا اتفقت الجهات.. أطلقت العليلة، وسدت الصحيحة، وخاطبه كمخاطبته الأولى وهو يتباعد منه إلى أن يقول: لا أسمعه إلى أكثر منها، ويمتحن بمخاطبته أيضًا في ذلك من جميع الجهات، فإذا اتفقت.. علم على ذلك الموضع، وينظر كم قدر ذلك من المسافة الأولى؟ ويجب له من دية الأذن بقدر ما بقي من المسافة التي لم يسمع منها في العليلة. وإن قطع أذنيه، فذهب سمعه منهما.. وجبت عليه ديتان، كما لو قطع يديه ورجليه. [مسألة في الأنف الدية] ] : وتجب في الأنف الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الأنف إذا أوعى مارنه مائة من الإبل» ، ولأنه قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، ولا مخالف له في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. والذي تجب به الدية من الأنف هو (المارن) ، وهو: المستلان منها دون القصبة؛ لما «روى ابن طاووس، عن أبيه: أنه قال: كان في كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند أبي: " وفي الأنف إذا أوعى مارنه جدعًا الدية» . ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أوعى "،

فرع جنى على أنفه فيبس

أي: استوعب. ولأن المنفعة والجمال فيه، فوجبت فيه الدية. وإن قطع بعض المارن.. وجب فيه من الدية بقسط ما قطع منه. وإن قطع أحد المنخرين.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه نصف الدية؛ لأنه أذهب نصف الجمال ونصف المنفعة. والثاني: لا يجب عليه إلا ثلث الدية؛ لأن المارن يشتمل على المنخرين والحاجز بينهما. والأول هو المنصوص. فإن قطع الحاجز بين المنخرين.. وجب عليه على الوجه الأول حكومة، وعلى الثاني ثلث الدية. وإن قطع أحد المنخرين والحاجز بينهما.. وجب عليه على الوجه الأول نصف الدية وحكومة، وعلى الثاني ثلثا الدية. وإن قطع المارن وقصبة الأنف.. وجب عليه دية في المارن، وحكومة في القصبة، كما لو قطع يده من المرفق. وإن قطع المارن والجلدة التي تحته إلى الشفة.. وجبت عليه دية في المارن، وحكومة للجلدة التي تحته. وإن أبان مارنه، فأخذه المجني عليه، فألصقه، فالتصق.. لم تسقط الدية عن الجاني؛ لأنها وجبت عليه بالإبانة، والإلصاق لا حكم له؛ لأنه يجب إزالته، فلم تسقط به الدية. وإن قطع المارن ولم ينته، فألصقه، فالتصق.. كان للمجني عليه أن يقتص، فيقطع مارنه حتى يجعله معلقًا كمارن المجني عليه. وإن عفا عن القصاص.. لم تجب له الدية، وإنما تجب له الحكومة؛ لأنها جناية لم تذهب بها منفعة، وإنما نقص بها جمال. [فرع جنى على أنفه فيبس] وإن جنى على أنفه، فاستحشف.. فهل تجب عليه الدية أو الحكومة؟ فيه

مسألة في إزالة الشم الدية

قولان، كما قلنا في الأذن إذا استحشفت بالجناية. وإن قطع أنفًا مستحشفًا.. ففيه طريقان، كما قلنا فيمن قطع أذنًا مستحشفًا. وإن قطع أنفًا أخشم.. وجبت عليه الدية؛ لعموم الخبر، ولأن ذهاب الشم لمعنى في غير الأنف. [مسألة في إزالة الشم الدية] ] : ويجب في الشم الدية؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في كتاب عمرو بن حزم: «وفي الشم الدية» ، ولأنه حاسة تختص بمنفعة، فأشبه السمع والبصر. وإن أذهب الشم من أحد المنخرين.. وجب عليه نصف الدية، كما قلنا فيه إذا أذهب البصر من إحدى العينين. وإن نقص شمه من المنخرين أو من أحدهما.. فهو كما قلنا فيمن نقص سمعه من الأذنين أو من إحداهما.. وإن لم يعرف قدر نقصه.. وجبت فيه الحكومة. وإن قطع مارنه، فذهب شمه.. وجبت عليه ديتان؛ لأن الدية تجب في كل واحد منهما إذا انفرد.. فوجبت في كل واحد منهما الدية وإن اجتمعا، كما لو قطع يديه ورجليه. [مسألة فيما يجب بإذهاب العقل] ] : وإن جنى عليه، فذهب عقله.. لم يجب فيه القصاص؛ لأنه لا يعرف محله؛ لأن من الناس من قال: محله الرأس، ومنهم من قال: محله القلب، ومنهم من قال: هو بينهما. وتجب فيه الدية؛ لما روى عمرو بن حزم: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي العقل الدية» ، ولأنه قول عمر، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف

مسألة ما يجب بإزالة الشفتين

لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأن التكليف يزول بزوال العقل، كما يزول بخروج الروح، فلما وجبت الدية بخروج الروح.. وجبت بزوال العقل. فإن ذهب بعض عقله وعرف قدر الذاهب، بأن صار يجن يومًا ويفيق يومًا.. وجبت فيه نصف الدية، وإن لم يعرف قدر الذاهب، بأن صار يفزع مما لا يفزع منه العقلاء.. وجبت فيه الحكومة. إذا ثبت هذا: فإن كانت الجناية التي ذهب بها العقل مما لا أرش لها، بأن لطمه، أو لكمه، أو ضربه بحجر أو غيره، ولم يجرحه.. وجبت دية العقل، على ما مضى، وإن كان لها أرش.. ففيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (يدخل الأقل منهما في الأكثر، مثل: إن أوضحه فذهب عقله.. فإن أرش الموضحة يدخل في دية العقل.. وإن قطع يديه من المرفقين.. دخلت دية العقل في دية اليدين، والحكومة فيهما) . وبه قال أبو حنيفة؛ لأن العقل معنى يزول التكليف بزواله، فدخل في ديته أرش الطرف، كالروح. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يدخل أحدهما في الآخر) . وهو الأصح؛ لأنها جناية أذهبت منفعة حالة في غير محل الجناية مع بقاء النفس، فلم يتداخل الأرش، كما لو أوضحه وذهب بصره. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد. وذكر الشيخ أبو إسحاق: إن كانت الجناية وجبت بها دية كاملة.. لم تدخل إحدى الديتين في الأخرى، قولًا واحدًا؛ لما تقدم من خبر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [مسألة ما يجب بإزالة الشفتين] ] : وتجب في الشفتين الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الشفتين الدية» . وهو قول أبي بكر،

وعلي، وزيد بن ثابت، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم. ولأن فيهما جمالًا ومنفعة، أما الجمال: فظاهر، وأما المنفعة: فلأنهما يقومان الكلام، ويمسكان الطعام والريق. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وحد الشفة: ما زاد عن جلد الذقن والخدين من أعلى وأسفل) . ولا فرق بين أن تكونا غليظتين، أو دقيقتين، أو ناتئتين، أو صغيرتين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الشفتين الدية» . ولم يفرق. فإن قطع إحداهما.. وجب عليه نصف الدية، وبه قال أبو بكر الصديق، وعلي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم. وقال زيد بن ثابت: (إن قطع العليا.. وجب عليه ثلث الدية، وإن قطع السفلى.. وجب عليه ثلثا الدية) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الشفتين الدية» . فأوجب فيهما الدية، والظاهر أنهما متساويان، كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو. وإن قطع بعض الشفة.. وجب فيه من الدية بقدره.

مسألة في اللسان الدية

وإن جنى عليهما، فشلتا، بأن صارتا مسترخيتين لا تنقبضان، أو تقلصتا، بحيث لا تنبسطان ولا تنطبق إحداهما على الأخرى.. وجبت الدية فيهما، كما لو جنى على يديه، فشلتا. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن جنى على شفته حتى صارت بحيث إذا مدها امتدت، وإذا تركها تقلصت.. ففيها حكومة؛ لأنها إذا انبسطت وامتدت إذا مدت.. فلا شلل فيها، بل فيها روح، فلم تصر شلاء، وإنما فيها نقص، فوجبت فيها الحكومة) . وإن شق شفتيه.. فعليه الحكومة، سواء التأم الشق أو لم يلتئم؛ لأن ذلك جرح، والجروح تجب فيها الحكومة. [مسألة في اللسان الدية] ] : وتجب في اللسان الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي اللسان الدية» . وهو قول أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولأن فيه جمالًا ومنفعة. أما المنفعة: فإنه يتكلم به، وأما الجمال: «فروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنه قال: قلت: يا رسول الله، فيم الجمال؟ قال: " في اللسان» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للعباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أعجبني جمالك يا عم "،

فرع في ذهاب بعض الكلام

قال: يا رسول الله، وما الجمال في الرجل؟ قال: " اللسان» . فإن لم يقطع اللسان، ولكن جنى عليه، فخرس وذهب كلامه.. وجبت عليه الدية؛ لأنه أذهب منفعة اللسان، كما لو جنى على يده، فشلت. [فرع في ذهاب بعض الكلام] ] : فإن ذهب بعض كلامه.. وجب عليه من الدية بقدر ما ذهب من كلامه، وبماذا تعتبر؟ فيه وجهان. [أحدهما] : قال عامة أصحابنا: تعتبر بجميع حروف المعجم، وهي ثمانية وعشرون حرفًا، ولا اعتبار بـ (لا) ؛ لأنها مكررة، وهي: لام وألف. فإن تعذر عليه النطق بحرف منها.. وجب عليه جزء من ثمانية وعشرين جزءًا من الدية. و [الثاني] : - على هذا -: قال أبو سعيد الإصطخري: تعتبر بحروف اللسان، وهي ثمانية عشر حرفًا لا غير. ولا تعتبر حروف الحلق، وهي ستة: الهمزة،

والهاء، والحاء، والخاء، والعين، والغين. ولا تعتبر حروف الشفة، وهي أربعة: الباء، والميم، والفاء، والواو؛ لأن الجناية على اللسان، فاعتبرت حروفه دون غيرها. والمنصوص هو الأول؛ لأن هذه الحروف وإن كانت مخارجها من الحلق والشفة، إلا أنه لا ينطق بها إلا باللسان. إذا ثبت هذا: فإن لم يذهب من كلامه إلا حرف واحد، لكنه تعطل بذهابه جميع الاسم الذي فيه ذلك الحرف، مثل: أن تتعذر الميم لا غير، فصار لا ينطق بـ: محمد.. لم يجب عليه إلا حصة الميم من الدية؛ لأن الجاني إنما يضمن ما أتلفه، فأما ما لم يتلفه بفعله وكان سليمًا إلا أن منفعته تعطلت لتعطل التالف.. فلا يضمنه، كما لو قصم ظهره، فلم تشل رجلاه، إلا أنه لا يمكنه المشي بهما لقصم ظهره.. فلا يلزمه إلا دية قصم ظهره، فكذلك هذا مثله. وإن جنى عليه، فذهب من كلامه حرف إلا أنه استبدل به حرفًا غيره، بأن ذهب منه الراء، وصار ينطق بالراء لامًا في موضعه.. وجبت عليه دية الراء؛ لأن ما استبدل به لا يقوم مقامه. فإن جنى عليه آخر، فأذهب هذا الحرف الذي استبدله بالذاهب.. وجب عليه دية ذلك الحرف، لا لأجل أنه أتلف عليه حرفًا قام مقام الأول، ولكن لأجل أن هذا الحرف إذا تلف في هذا الموضع.. تلف في موضعه الذي هو أصله. وإن لم يذهب بجنايته حرف، وإنما كان ألثغ، فزادت لثغته بالجناية، أو كان خفيف اللسان، سهل الكلام، فثقل كلامه، أو حصلت بكلامه عجلة، أو تمتمة.. وجب على الجاني حكومة؛ لأنه أذهب كمالًا من غير منفعة.

فرع فيمن قطع بعض لسانه

[فرع فيمن قطع بعض لسانه] ] : وإن قطع بعض لسانه، فذهب بعض كلامه.. نظرت: فإن استويا، بأن قطع ربع لسانه، فذهب ربع كلامه.. وجب عليه ربع الدية، وإن قطع نصف لسانه، فذهب نصف كلامه.. وجب عليه نصف الدية؛ لأن الذي فات منهما سواء. وإن اختلف.. اعتبرت الدية بالأكثر، مثل: أن يقطع ربع اللسان، فيذهب نصف الكلام، فتجب عليه نصف الدية، أو يقطع نصف اللسان، فيذهب ربع الكلام، فيجب عليه نصف الدية، بلا خلاف بين أصحابنا في الحكم، وإنما اختلفوا في علته: فمنهم من قال: لأن منفعة اللسان - وهو الكلام - مضمونة بالدية، واللسان مضمون بالدية، فإذا اجتمعا.. اعتبر أكثر الأمرين منهما، كما لو جنى على يده، فشلت.. ففيها جميع دية اليد، ولو قطع خنصره وبنصره.. وجب فيهما خمسا دية اليد وإن كانت منفعتهما أقل من خمسي منفعة اليد، ولكن اعتبارًا بأكثر الأمرين من منفعة اليد، وعضوها. وقال أبو إسحاق: الاعتبار باللسان؛ لأنها هي المباشرة بالجناية، إلا أنه إذا قطع ربع لسانه، فذهب نصف كلامه.. فإنما وجب عليه نصف الدية؛ لأنه دل ذهاب نصف كلامه على شلل ربع آخر منها غير المقطوع. إذا ثبت هذا: فقطع رجل ربع لسان رجل، فذهب نصف كلامه.. فقد ذكرنا: أنه يجب عليه نصف الدية، فإن جاء آخر، فقطع الثلاثة الأرباع الباقية من لسانه.. فإنه يجب عليه على التعليل الأول ثلاثة أرباع الدية؛ اعتبارًا بما بقي من اللسان، وعلى تعليل أبي إسحاق: يجب عليه نصف الدية وحكومة؛ لأنه قطع نصف لسان صحيحًا، وربعاَ أشل. وإن قطع رجل نصف لسان رجل، فذهب ربع كلامه.. فقد ذكرنا: أنه يجب عليه نصف الدية، فإن جاء آخر، فقطع ما بقي من اللسان.. وجب عليه على التعليل الأول ثلاثة أرباع الدية؛ اعتبارًا بما بقي من الكلام، وعلى تعليل أبي إسحاق: يجب عليه نصف الدية لا غير؛ اعتبارًا بما بقي من اللسان.

فرع قطع أحد طرفي لسان

وإن قطع رجل نصف لسان رجل، فذهب نصف كلامه، وقلنا: له أن يقتص منه في نصف اللسان، فاقتص منه، فذهب نصف كلام الجاني.. فقد استوفى المجني عليه حقه، فإن ذهب ربع كلام الجاني.. وجب للمجني عليه ربع الدية، وإن ذهب ثلاثة أرباع كلام الجاني.. لم يجب على المقتص شيء؛ لأن التالف بالقود غير مضمون عندنا. [فرع قطع أحد طرفي لسان] ] : وإن كان لرجل لسان له طرفان، فقطع قاطع أحدهما.. نظرت: فإن ذهب كلامه.. وجبت عليه الدية. وإن ذهب بعض كلامه، فإن كان الطرفان متساويين، فإن كان ما قطعه بقدر ما نقص من الكلام.. وجب فيه من الدية بقدره، وإن كان أحدهما أكبر.. اعتبر الأكبر، على ما مضى في التي قبلها. وإن لم يذهب من الكلام شيء.. وجب بقدر ما قطع من اللسان من الدية. وإن قطعهما قاطع.. وجب عليه الدية، وإن كان أحدهما منحرفًا عن سمت اللسان.. فهي خلقة زائدة تجب فيها الحكومة، وفي الأخرى الدية. [فرع في لسان الأخرس حكومة] وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وفي لسان الأخرس حكومة) . وقال النخعي: تجب فيه الدية. دليلنا: أن لسان الأخرس قد ذهبت منفعته، فلم تجب فيه الدية، كاليد الشلاء.

فرع جنى عليه فذهب ذوقه

وإن قطع لسان طفل، فإن كان قد تكلم ولو بكلمة واحدة، أو قال: بابا أو ماما، أو تكلم في بكائه بالحروف.. وجبت عليه الدية؛ لأنا قد علمنا أنه لسان ناطق. وإن كان في حد لا يتلكم مثله بحرف، مثل: أن يكون ابن شهر وما أشبهه ولم يتكلم، فقطع قاطع لسانه.. وجبت فيه الدية. وقال أبو حنيفة: (لا دية فيه؛ لأنه لسان لا كلام فيه، فهو كلسان الأخرس) . دليلنا أن ظاهره السلامة، وإنما لم يتكلم لطفوليته، فوجبت فيه الدية، كما تجب الدية بأعضائه وإن لم يظهر بها بطش. وإن بلغ حدًا يتكلم فيه مثله، فلم يتكلم، فقطع قاطع لسانه.. لم تجب عليه الدية، وإنما تجب فيه الحكومة؛ لأن الظاهر من حاله أنه أخرس. [فرع جنى عليه فذهب ذوقه] ] : وإن جنى عليه، فذهب ذوقه.. قال الشيخ أبو حامد: فلا نص فيه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولكن يجب فيه الدية؛ لأنه أحد الحواس التي تختص بمنفعة، فهو كحاسة السمع والبصر. وقال القاضي أبو الطيب: قد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (على إيجاب الدية فيه) . قال ابن الصباغ: قلت أنا: قد نص الشافعي: (على أن لسان الأخرس فيه حكومة وإن كان الذوق يذهب بذهابه) . واختار الشيخ أبو إسحاق وجوب الدية في الذوق، وقال: إنما تجب في لسان الأخرس الحكومة إذا بقي ذوقه بعد قطع لسانه، فأما إذا لم يبق ذوقه: ففيه الدية. إذا ثبت هذا: فقال الشيخ أبو إسحاق: إذا لم يحس بالحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة والعذوبة.. وجب على الجاني عليه الدية. وإن لم يحس بواحد منها، أو باثنين.. وجب فيه من الدية بقدره. وإن كان يحس بها، إلا أنه لا يحس بها على الكمال.. وجب في ذلك الحكومة دون الدية.

فرع أخذ دية ذهاب الكلام ثم عاد

[فرع أخذ دية ذهاب الكلام ثم عاد] ] : وإن جنى عليه، فذهب كلامه، ثم عاد كلامه.. وجب رد الدية؛ لأنا علمنا أن الكلام لم يذهب. وإن قطع لسانه، فأخذت منه الدية، ثم نبت له لسان مكانه.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هل يجب رد الدية؟ فيه قولان، كما قلنا في السن. ومنهم من قال: لا يجب رد الدية، قولًا واحدًا؛ لأن عود السن معهود، وعود اللسان غير معهود، فعلم أنه هبة محددة. [فرع قطع لهاته] ] : قال في " الأم " [6/106] : (فإن قطع لهاة رجل.. قطعت لهاته. فإن أمكن، وإلا.. وجبت حكومة) . و (اللهاة) : لحم في أصل اللسان. [مسألة ما يجب في قلع السن] ] : ويجب في السن خمس من الإبل؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في السن خمس من الإبل» . وروى عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي كل سن خمس من الإبل» . إذا ثبت هذا: فإنه لا فرق بين الثنايا والأضراس والرباعيات، وبه قال علي، وابن عباس، ومعاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.

وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (في الثنايا خمس خمس، وفي الأضراس بعير بعير) . وقال عطاء: في الثنيتين والرباعيتين والنابين خمس خمس، وفي الباقي بعيران بعيران. وهي الرواية الثانية عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل سن خمس من الإبل» . ولم يفرق. وروي: أن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان أصيب بأضراسه، فقال: (أنا أعرف بالأضراس من عمر) ، يعني: بمنفعتها. ولأنه جنس ذو عدد، فلم تختلف ديتها، كدية الأصابع. والسن الذي يجب فيه خمس من الإبل: هو ما ظهر من اللثة، وهو: اللحم الذي ينبت فيه السن؛ لأن المنفعة والجمال في ذلك، كما تجب دية اليد في الأصابع وحدها. وإن قلع ما ظهر من السن، ثم قلع هو أو غيره (سنخ السن) ، وهو: أصلها النابت في اللحم.. وجب على قالع السنخ الحكومة، كما لو قطع رجل أصابع رجل، ثم قطع هو أو غيره الكف. وإن قلع السن وسنخها.. وجبت عليه دية سن لا غير؛ لأن السنخ يتبع السن في

فرع كسر بعض سن

الدية إذا قلع معها، كما لو قطع الأصابع مع الكف. فإن ظهر السنخ المغيب بعلة.. اعتبر المكسور من الموضع الذي كان ظاهرًا قبل العلة، لا بما ظهر بالعلة. فإن اتفقا: أنه كسر القدر الذي كان ظاهرًا قبل العلة.. فعليه خمس من الإبل. وإن قال الجاني: كسرت بعض الظاهر، فعلي أقل من خمس من الإبل، وقال المجني عليه: بل كسرت كل الظاهر.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به. [فرع كسر بعض سن] ] : وإن كسر بعض سنه من نصف أو ثلث أو ربع.. وجب عليه من ديتها بقدر ما كسر منها؛ لأن ما وجب في جميعه الدية.. وجب في بعضه بقسطه من الدية، كالأصابع. فإن قلع قالع ما بقي من السن مع السنخ.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم " [6/114] : (وجب على الثاني بقدر ما بقي من السن من ديتها، ووجب في السنخ الحكومة؛ لأن السنخ إنما يتبع جميع السن، فأما بعض السن: فلا يتبعها) . وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: وهذا فيه تفصيل: فإن كسر الأول نصف السن في الطول، وبقي النصف، فقلع الثاني الباقي منهما مع السنخ.. وجب نصف دية السن، ويتبعه ما تحته من السنخ في نصف ديته، ووجبت في نصف السنخ الباقي الحكومة، كما لو قطع إصبعين وجميع الكف.. فإنه تجب عليه دية إصبعين، ويتبعهما ما تحتهما من الكف وحكومة في الباقي. وإن كسر الأول نصف السن في العرض، وقلع الآخر الباقي مع السنخ.. تبعه ما تحته من السنخ، كما لو قطع قاطع من كل إصبع من الكف أنملة، فجاء آخر، فقطع ما بقي من أنامل الأصابع مع الكف.. فإنه يجب عليه أرش ما بقي من الأنامل، ويتبعها الكف، كذلك هذا مثله. [فرع اضطراب سن لمرض] ] : إذا اضطربت سن رجل لمرض أو كبر، ونقصت منفعتها، فقلعها قالع.. ففيه قولان:

فرع قلع سنه بسنخها

أحدهما: تجب فيه الدية؛ لأن جمالها باق، ومنفعتها باقية، وإنما نقصت منفعتها، ونقصان المنفعة لا يوجب سقوط الدية، كاليد العليلة. والثاني: لا يجب فيها الدية، وإنما تجب فيها الحكومة؛ لأن معظم منفعتها تذهب بالاضطراب، فصارت كاليد الشلاء. وإن ضرب سن رجل، فاضطربت، فإن قيل: إنها تستقر إلى مدة.. انتظر إلى تلك المدة، فإن استقرت ولم يذهب شيء من منفعتها.. فلا شيء على الجاني. وإن سقطت.. وجبت عليه ديتها. فإن قلعها قالع قبل استقرارها.. فهل تجب عليه الدية، أو الحكومة؟ فيه قولان، كما لو قلعها وهي مضطربة بمرض أو كبر. قال الشيخ أبو حامد: إلا أنا إذا أوجبنا الحكومة هاهنا.. فإنها تكون أقل من الحكومة في التي قبلها؛ لأن المجني عليه لم ينتفع بالاضطراب الحادث من المرض، وهاهنا المجني عليه قد انتفع بالاضطراب الحادث من الجناية الأولى. وإن قلع رجل سنًا فيها شق أو أكلة، فإن لم يذهب من أجزائها شيء.. وجب فيها دية سن، كاليد المريضة، وإن ذهب من أجزائها شيء.. سقط من ديتها بقدر الذاهب، ووجب الباقي. [فرع قلع سنه بسنخها] ] : وإن قلع رجل سن رجل بسنخها وأبانها، ثم ردها المجني عليه إلى مكانها، فنبتت وعادت كما كانت.. وجب على الجاني الدية؛ لأن الدية وجبت عليه بإبانته السن، ورده لها لا حكم له؛ لأنه تجب إزالتها، فإن قلعها قالع.. فلا شيء عليه؛ لأنه يجب قلعها. وإن لم يرد المقلوعة، وإنما رد مكانها عظمًا طاهرًا، أو قطعة ذهب أو فضة، فنبت عليه اللحم، ثم قلعها إنسان.. ففيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد. أحدهما: لا يجب عليه شيء؛ لأنه أزال ما ليس من بدنه، فلم يجب عليه

فرع اختلاف السن طولا وقصرا

شيء، كما لو أعاد سنه المقلوعة، ثم قلعها قالع. والثاني: يجب عليه حكومة؛ لأنه أبيح له أن يتخذ سنًا من عظم طاهر أو ذهب أو فضة، وقد حصل له في ذلك جمال ومنفعة، وقد أزالها، فلزمه الحكومة لذلك. [فرع اختلاف السن طولًا وقصرًا] وإن نبتت أسنان رجل أو أضراسه قصارًا أو طوالا، فقلع رجل بعضها.. وجب في كل سن ديتها. وكذلك: إن كانت أضراسه قصارًا أو ثناياه طوالًا.. وجب في كل سن ديتها؛ لأن العادة أن الأضراس أقصر من الثنايا. وإن كان بعض الأضراس طوالًا وبعضها قصارًا، أو كان بعض الثنايا طوالًا وبعضها قصارًا، أو بعض الرباعيات طوالًا وبعضها قصارًا.. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن كان النقصان قريبًا.. ففي كل سن ديتها؛ لأن هذا من خلقة الأصل، وإن كان النقصان كثيرًا.. ففيها بقسطها من الدية، فإن كانت القصيرة نصف الطويلة.. وجب فيها نصف دية السن، وإن كانت ثلثيها.. ففيها ثلث ديتها؛ لأن هذا القدر من النقص لا يكون إلا من سبب مرض أو غيره) . [فرع نبات الأسنان سودًا مرة ثانية] ] : إذا نبتت أسنان الصبي سوداء، فسقطت، ثم نبتت سوداء، فإن كانت كاملة المنفعة غير مضطربة، فقلع قالع بعضها.. ففي كل سن ديتها؛ لأن هذا السواد من أصل الخلقة، فهو كما لو كانت العين عمشاء. من أصل الخلقة. فأما إذا نبتت أسنانه بيضاء، فسقطت، ثم نبتت سوداء، ثم قلع قالع بعضها.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (سألت أهل الخبرة، فإن قالوا: لا يكون هذا من مرض.. ففيها الحكومة؛ لأنها ناقصة الجمال والمنفعة، وإن قالوا: قد يكون من

فرع قلع لرجل جميع أسنانه

مرض وغيره.. وجبت في كل سن ديتها؛ لأن الأصل سلامتها من المرض) . وإن ضرب رجل سن رجل، فاحمرت أو اصفرت ولم يذهب شيء من منفعتها.. وجبت فيها الحكومة؛ لأنه أذهب جمالًا من غير منفعة، وإن اسودت.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (فيها الحكومة) ، وقال في موضع: (فيها الدية) . فقال المزني: فيها قولان. وقال سائر أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فحيث قال: (تجب فيها الدية) أراد: إذا ذهبت منفعتها. وحيث قال: (تجب فيها الحكومة) أراد: إذا لم تذهب منفعتها. وكل موضع قلنا: تجب فيه الحكومة إذا اسودت.. فإنه يجب فيها أكثر من الحكومة إذا احمرت أو اصفرت؛ لأن الشين في السواد أكثر. [فرع قلع لرجل جميع أسنانه] ] : وإن قلع رجل جميع أسنان رجل، فإن قلعها واحدة بعد واحدة.. وجب عليه لكل سن خمس من الإبل، فيجب عليه مائة وستون بعيرًا؛ لأن الأسنان اثنان وثلاثون سنًا: أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربعة أنياب، وأربعة أضراس، واثنتا عشرة رحًا - وتسمى: الطواحن - وأربعة نواجز، وهي: آخر ما ينبت من الأسنان. وإذا قلع أسنانه دفعة واحدة.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه إلا دية نفس، وهي مائة من الإبل؛ لأن كل جنس من البدن يجب فيه أرش مقدر لم يجب فيه أكثر من دية النفس، كأصابع اليدين والرجلين. والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يجب عليه أرش مقدر في كل سن خمس من الإبل) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي كل سن خمس من الإبل» . ولم يفرق. ولأن ما ضمن بأرش مقدر.. لم تنقص ديته بانضمامه إلى غيره في غير النفس، كالموضحة. وما قاله الأول.. يبطل به إذا قطع أصابع يديه ورجليه دفعة واحدة.

مسألة ما يجب في اللحيين

[مسألة ما يجب في اللحيين] ] : ويجب في (اللحيين) - وهما: العظمان اللذان ينبت عليهما الأسنان - الدية؛ لأن فيهما منفعة وجمالًا، وفي أحدهما نصف الدية؛ لأن ما وجبت الدية في اثنين منه.. وجب في أحدهما نصفها، كالعينين. وإن قلع اللحيين وعليهما الأسنان.. فحكى المسعودي [في " الإبانة "] فيه وجهين: أحدهما: لا يجب عليه إلا دية واحدة، كما لو قطع الأصابع مع الكف. والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا العراقيين -: أنه يجب في اللحيين الدية، وفي كل سن خمس من الإبل؛ لأن كل واحد منهما يجب فيه دية مقدرة، فلم يدخل أحدهما في الآخر، كدية الأسنان والشفتين، ولأن اللحيين كانا موجودين قبل الأسنان، فلم يتبعا ما حدث عليهما من الأسنان، والكف والأصابع وجدا معًا، فتبع الكف الأصابع. [مسألة في اليدين الدية] ] : وفي اليدين الدية، وفي إحداهما نصف الدية؛ لما روى معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي اليدين الدية، وفي الرجلين الدية» . وروى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي اليد خمسون من الإبل، وفي الرجل خمسون من الإبل» . وهو قول عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولأن فيهما جمالًا ومنفعة.

فرع ما يجب في الإصبع

إذا ثبت هذا: فاليد التي تجب فيها الدية هي من مفصل الكوع، فإن قطعها من بعض الساعد، أو من المرفق، أو من المنكب.. وجبت الدية في الكف، وفيما زاد عليه الحكومة. وقال أبو يوسف: ما زاد على الأصابع إلى المنكب يتبع الأصابع كما يتبعها الكف. وقال أبو عبيد بن حربويه - من أصحابنا -: اليد التي تجب بقطعها الدية هي اليد من المنكب. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] فأمر الله بقطع يد السارق مطلقًا، وقطعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مفصل الكوع، فكان فعله بيانًا للآية؛ لأن المنفعة المقصودة باليد من الأخذ والدفع تحصل بالكف، فوجبت الدية فيه. وإن جنى على كف فشلت.. وجبت عليه ديتها؛ لأنه قد أذهب منفعتها، فهو كما لو قطعها. [فرع ما يجب في الإصبع] ] : ويجب في كل إصبع من أصابع اليدين عشر من الإبل، ولا يفضل إصبع على إصبع، وبه قال علي، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه روايتان: إحداهما: مثل قولنا: والثانية: يجب في الخنصر ست من الإبل، وفي البنصر تسع، وفي الوسطى عشر، وفي السبابة اثنتا عشرة، وفي الإبهام ثلاث عشرة، فقسم دية اليد على الأصابع.

دليلنا: ما روى عمرو بن شعيب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في كل إصبع بعشر من الإبل» . وروى عمر بن حزم في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل إصبع مما هنالك من اليد والرجل عشر من الإبل» . وقيل: إن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه لما وجد هذا في الكتاب عند آل حزم.. رجع عن التفصيل. وروي: (أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يقول: في كل إصبع عشر من الإبل، فوجه إليه مروان، وقال له: أما سمعت قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه؟ فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولى من قول عمر) . ولأن الدية إذا وجبت بعدد.. قسمت عليه على عدده لا على منافعه، كاليدين والرجلين. ويجب في كل أنملة من الأصابع ثلث دية الإصبع، إلا الإبهام.. فإنه يجب في كل أنملة منها نصف دية الإصبع، وهو قول زيد بن ثابت. وحكي عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أنه قال: (للإبهام أيضًا ثلاث أنامل، إحداهن باطنه) . دليلنا: أن كل إصبع لها أنملة باطنة، ولا اعتبار بها، وإنما الاعتبار بالأنامل الظاهرة ووجدنا لكل إصبع غير الإبهام ثلاث أنامل، وللإبهام أنملتين، فقسمت الدية عليهما. وإن جنى على إصبع فشلت، أو على أنملة فشلت.. وجب عليه ديتها؛ لأنه أذهب منفعتها، فهو كما لو قطعها.

فرع له كفان من كوع ونحوهما

[فرع له كفان من كوع ونحوهما] ] : إذا خلق له كفان على كوع أو يدان على مرفق أو منكب، فإن لم يبطش بواحدة منهما.. فهما كاليد الشلاء، فلا يجب فيهما قود ولا دية، وإنما تجب فيهما الحكومة. وإن كان يبطش بإحداهما دون الأخرى.. فالباطشة هي الأصلية، والأخرى زائدة، سواء كانت الباطشة على مستوى الذراع أو منحرفة عن سمت الذراع؛ لأن الله تعالى جعل البطش في اليد كما جعل البول في الذكر، فاستدل بالبطش على الأصلية، كما استدل على الخنثى بالبول. وإن كان يبطش بهما، إلا أن إحداهما أكثر بطشا من الأخرى.. فالتي هي أكثر بطشا هي الأصلية، والأخرى خلقة زائدة. وإن كانا في البطش سواء، فإن كانت إحداهما على مستوى الخلقة، والأخرى زائلة عن المستوى.. فالمستوية هي الأصلية، والزائلة هي الزائدة، وإن كانتا على مستوى الخلقة، فإن كانت إحداهما لها خمس أصابع وللأخرى أربع أصابع.. فالأصلية هي كاملة الأصابع، والأخرى زائدة. فإن استويا في ذلك كله إلا أن في إحداهما إصبعًا زائدة.. لم يحكم بكونها أصلية بذلك؛ لأن الإصبع الزائدة قد تكون في اليد الأصلية وفي الزائدة، ومتى حكمنا أن إحداهما أصلية والأخرى زائدة.. أوجبنا في الأصلية القود والدية الكاملة، وفي الأخرى الحكومة. وإن تساويا ولم تعلم الزائدة منهما من الأصلية.. قال الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ: (فهما أكثر من يد وأقل من يدين، فإن قطعهما قاطع.. قطعت يده، ووجب عليه مع القصاص حكومة للزيادة، وإن عفا عن القصاص، أو كانت الجناية خطأ.. وجب على الجاني دية يد وزيادة حكومة. وإن قطع قاطع إحداهما.. لم يجب عليه القصاص؛ لأنه ليس له مثلها، ولكن يجب عليه نصف دية يد وحكومة.. وإن قطع

مسألة في الرجلين الدية

إصبعًا من إحداهما.. وجب عليه نصف دية إصبع وحكومة. وإن قطع أنملة منهما.. وجب عليه نصف دية أنملة وحكومة) . [مسألة في الرجلين الدية] وتجب في الرجلين الدية، وفي إحداهما نصف الدية؛ لما ذكرناه من حديث معاذ، وعمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو قول عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. والرجل التي تجب بقطعها الدية: هي القدم، فإن قطعها من نصف الساق أو من الركبة أو من الورك.. وجب الدية في القدم، والحكومة فيما زاد؛ لما ذكرناه في اليد، ويجب في كل إصبع منها وفي كل أنملة منها ما يجب في أصابع اليد وأناملها؛ لما ذكرناه في اليد. [فرع فيمن كان له قدمان على كعب] ] : وإن خلق له قدمان على كعب واحد، أو ساقان على ركبة، أو ركبتان على فخذ واحد.. فالحكم فيه كالحكم فيمن خلق له كفان على مفصل، إلا أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال هاهنا: (إذا كان أحد القدمين أطول من الأخرى، وكان يمشي على الطويلة.. فالظاهر أن الأصلية هي الطويلة التي يمشي عليها. فإن قطع قاطع القدم الطويلة.. لم يجب على القاطع في الحال الدية، بل ننظر في المقطوع: فإن لم يمش على القصيرة، أو مشى عليها مشيًا ضعيفًا.. وجبت الدية في الطويلة؛ لأنا علمنا أن الأصلية هي الطويلة، والقصيرة زائدة، فيجب على قاطعها الحكومة.. وإن مشى على القصيرة مشي العادة.. وجب على قاطع الطويلة الحكومة؛ لأنا علمنا أن الأصلي هو القصيرة، وإنما منعه من المشي عليها الطويلة، وإن قطع قاطع القصيرة.. وجبت عليه الدية) .

فرع في يد الأعسم ورجل الأعرج الدية

فإن جنى رجل على الطويلة، فشلت.. وجبت عليه الدية؛ لأنها هي الأصلية في الظاهر، فإن قطعها قاطع بعد الشلل.. وجبت عليه الحكومة، ثم ينظر فيه: فإن لم يمش على القصيرة، أو مشى عليها مشيًا ضعيفًا.. فقد علمنا أن الأصلية هي الطويلة، واستقر ما أخذه. وإن مشى على القصيرة مشي العادة.. علمنا أن القصيرة هي الأصلية، فيجب عليه أن يرد على الجاني الأول على الطويلة ما زاد على الحكومة إلى الدية، وإن قطع قاطع القصيرة.. كان عليه الدية. [فرع في يد الأعسم ورجل الأعرج الدية] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وفي يد الأعسم ورجل الأعرج إذا كانتا سالمتين الدية) . وجملة ذلك: أنه يجب في يد الأعسم وقدم الأعرج إذا كانتا سالمتين الدية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي اليد خمسون من الإبل، وفي الرجل خمسون من الإبل» . ولم يفرق. ولأن العرج إنما يكون لقصر الساق أو لمرض فيه أو في غيره من الرجل، والقدم سالم بنفسه، فلم تنقص دية القدم لذلك. وأما الأعسم: فاختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد: هو (الأعسر) : وهو الذي يكون بطشه بيساره أكثر. وقال ابن الصباغ: (الأعسم) : هو الذي يكون في رسغه مثل الاعوجاج. و (الرسغ) : طرف الذراع مما يلي الكوع. وهو ظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق. [فرع لا تفاضل بين يسار ويمين] ] : ولا تفضل يمين على يسار في الدية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي اليد خمسون من الإبل، وفي الرجل خمسون من الإبل» . ولم يفرق.

مسألة ما يجب في الأليتين

فإن كسر يده، فجبرت، فانجبرت، فإن عادت مستقيمة.. وجبت عليه حكومة للشين، وإن عادت غير مستقيمة.. وجبت عليه الحكومة أكثر مما لو عادت مستقيمة؛ لأنه أحدث بها نقصًا، فإن قال الجاني: أنا أكسرها وأجبرها فتعود مستقيمة.. لم يمكن من ذلك؛ لأن ذلك ابتداء جناية، فإن بادر وكسرها وجبرها، فعادت مستقيمة.. لم يجب رد الحكومة الأولى إليه؛ لأنها استقرت عليه بالانجبار الأول. قال الشيخان: ويجب عليه للكسر الثاني الحكومة. وقال ابن الصباغ: فيه وجهان، كالجناية إذا اندملت، ولم يكن لها شين. [مسألة ما يجب في الأليتين] ويجب في (الأليتين) الدية - وهما: المأكمتان المشرفتان على الظهر إلى الفخذين - لأن فيهما جمالًا ومنفعة، ويجب في إحداهما نصف الدية؛ لأن الدية إذا وجبت في اثنتين.. وجب في إحداهما نصفها، كاليدين. وإن قطع بعض إحداهما، وعرف قدر المقطوع.. وجب فيه من الدية بقدره، وإن لم يعرف، أو جرحها.. وجبت عليه الحكومة؛ لأن الجرح إذا اندمل.. وجبت فيه الحكومة دون الدية. ولا فرق بين أليتي الرجل والمرأة في ذلك وإن كان الانتفاع بأليتي المرأة أكثر؛ لأن الدية لا تختلف باختلاف المنفعة، كما قلنا في اليمين واليسار. [مسألة ما يجب في كسر الصلب] ] : وإن كسر صلبه، فأذهب مشيه.. وجبت فيه الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الصلب الدية» . وقال زيد بن ثابت: (إذا كسر ظهره، فذهب مشيه.. ففيه الدية) . ولا مخالف له.

فرع ما يجب في ذهاب الجماع

ولأن المشي منفعة جليلة، فشابه البصر والسمع. وإن لم يذهب المشي، وإنما يحتاج في مشيه إلى عكازة.. وجب فيه حكومة، وإن لم يحتج إلى عكازة ولكنه يمشي مشيًا ضعيفًا.. وجبت عليه حكومة أقل من الحكومة الأولى. وإن عاد مشيه كما كان إلا أن ظهره أحدب.. لزمته حكومة للشين الحاصل بذلك. [فرع ما يجب في ذهاب الجماع] ] : وإن كسر صلبه، فذهب جماعه.. وجبت عليه الدية؛ لأنه روي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم، ولأنه منفعة جليلة، فشابه السمع والبصر. وإن كسر صلبه، فذهب ماؤه وبعد.. فقد قال القاضي أبو الطيب: الذي يقتضي المذهب: أنه يجب فيه الدية، وهو قول مجاهد؛ لأنه منفعة مقصودة، فوجب في

فرع ما يجب في اعوجاج العنق

إذهابه الدية، كالجماع. وإن كسر صلبه، فذهب مشيه وجماعه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه إلا دية واحدة؛ لأنهما منفعتا عضو واحد. والثاني: تجب عليه ديتان، وهو المنصوص؛ لأنهما منفعتان تجب في كل واحدة منهما الدية عند الانفراد، فوجب في كل واحدة منهما دية عند الاجتماع، كالسمع، والبصر. [فرع ما يجب في اعوجاج العنق] ] : وإن جنى على عنقه، فأصابه (صعر) -: وهو التواء لا يمكنه أن يحول وجهه - لزمته الحكومة؛ لأنه إذهاب جمال من غير منفعة. وإن يبس عنقه، فلا يمكنه أن يلتفت يمينًا ولا شمالًا.. ففيه حكومة أقل من الحكومة بالصعر؛ لأن الشين فيه أقل، وإن أمكنه أن يلتفت التفاتًا قليلًا.. لزمته حكومة دون الحكومة إذا لم يمكنه الالتفات أصلًا؛ لأن الضرر في هذا أقل. وإن جنى على عنقه، فيبست حتى لا يدخل فيها الطعام والشراب.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن هذا لا يعيش، فعلى الجاني إن مات القود أو الدية، وإن لم يمت.. فحكومة) . هذا نقل البغداديين. وقال الخراسانيون: عليه الدية وإن لم يمت.. وكذلك قالوا: إذا ضرب عنقه، فأذهب منفعة المضغ.. ففيه الدية.

مسألة في الإحليل الدية

[مسألة في الإحليل الدية] ] : وفي الذكر الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الذكر الدية» . وهو قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، ولا مخالف له. ولأن فيه منفعة وجمالًا، فوجبت فيه الدية. وسواء قطع ذكر صبي أو شيخ أو شاب، أو ذكر خصي أو عنين؛ لعموم الخبر. وإن جنى عليه، فصار أشل، إما منبسطًا لا ينقبض، أو منقبضًا لا ينبسط.. وجبت عليه الدية، كما لو جنى على يد، فشلت. وإن قطع رجل ذكرًا أشل.. وجبت عليه الحكومة، كما لو قطع يدًا شلاء. والذكر الذي تجب فيه الدية هو الحشفة؛ لأن منفعة الذكر تذهب بذهابها. فإن قطع قاطع باقي الذكر.. وجبت عليه الحكومة، كما لو قطع رجل أصابع رجل، ثم قطع آخر كفه. وإن قطع رجل الحشفة والقضيب.. فقال أصحابنا البغداديون: تجب فيه الدية، ولا يفرد القضيب بالحكومة؛ لأن اسم الذكر يقع على الجميع، فهو كما لو قطع يده من مفصل الكوع. وقال الخراسانيون: هل يفرد القضيب بالحكومة؟ فيه وجهان. وكذلك عندهم إذا قطع المارن مع القصبة، أو قلع السن مع السنخ.. فهل تفرد القصبة عن المارن، والسنخ عن السن بالحكومة؟ فيه وجهان. [فرع قطع بعض الحشفة] ] : وإن قطع بعض الحشفة.. ففيه قولان:

مسألة ما يجب في الخصيتين

أحدهما: ينظر كم قدر تلك القطعة من الحشفة بنفسها؟ فيجب فيها من الدية بقدرها من الحشفة؛ لأن الدية تجب بقطع الحشفة وحدها. والثاني: ينظر كم قدر تلك القطعة من جميع الذكر؟ فيجب فيها من دية الذكر بقدرها؛ لأنه لو قطع جميع الذكر.. لوجبت فيه الدية، فإذا قطع بعضه.. اعتبر المقطوع منه. وإن قطع رجل قطعة مما دون الحشفة والحشفة باقية.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (نظر فيه: فإن كان البول يخرج على ما كان عليه.. وجب بقدر تلك القطعة من جميع الذكر من الدية. وإن كان البول يخرج من موضع القطع.. وجب عليه أكثر الأمرين من حصة القطعة من الدية من جميع الذكر، أو الحكومة) . وإن جرح ذكره، فاندمل ولم يشل، فادعى المجني عليه: أنه لا يقدر على الجماع.. لم تجب الدية، وإنما تجب الحكومة؛ لأن الجماع لا يذهب مع سلامة العضو، فإذا لم يقدر عليه.. كان لعلة أخرى في غير الذكر، فلا يلزم الجاني دية الجماع. وإن جرح ذكره، فوصلت الجراحة إلى جوف الذكر.. لم يجب أرش الجائفة، وإنما يجب فيه الحكومة؛ لأنه وإن كان له جوف إلا أنه جوف لا يخاف من الوصول إليه التلف. [مسألة ما يجب في الخصيتين] ] : ويجب في الأنثيين الدية؛ لما روى عمرو بن حزم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي الأنثيين الدية» . وروي ذلك عن عمر، وعلي، وزيد بن ثابت

فرع قطع القضيب والخصيتين

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم، ولا مخالف لهم. ولأن فيهما جمالًا ومنفعة، فهما كاليدين، ويجب في كل واحدة منهما نصف الدية. وقال ابن المسيب: في اليسرى ثلثا الدية؛ لأن النسل منها، وفي اليمين ثلث الدية؛ لأن الإنبات منها، ومنفعة النسل أكثر. ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الأنثيين الدية» . وظاهر هذا: أن الدية مقسطة عليهما بالسوية. وأما قوله: (إن النسل من اليسرى) فلا يصح؛ لأنه روي عن عمرو بن شعيب: أنه قال: عجبت ممن يقول: إن النسل من اليسرى! كان لي غنيمات، فأخصيت، فألقحت. وإن صح.. فإن العضو لا تفضل ديته بزيادة المنفعة، كما لا تفضل اليد اليمنى على اليسرى، وكما لا يفضل الإبهام على الخنصر في الدية. [فرع قطع القضيب والخصيتين] ] : وإن قطع الذكر والأنثيين معًا، أو قطع الذكر ثم الأنثيين.. وجبت عليه ديتان بلا خلاف. وإن قطع الأنثيين أولًا، ثم قطع الذكر بعدهما.. وجب عليه ديتان عندنا.

مسألة جراحات الرجل والمرأة

وقال أبو حنيفة: (تجب عليه دية الأنثيين، وحكومة في الذكر؛ لأن بقطع الأنثيين قد ذهبت منفعة الذكر؛ لأن استيلاده قد انقطع) . ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الذكر الدية» . ولم يفرق. ولأن كل عضوين لو قطعا معًا.. وجبت فيهما ديتان، فإذا قطع أحدهما بعد الآخر.. وجبت فيهما ديتان، كما لو قطع الذكر، ثم الأنثيين. وما قاله.. لا نسلمه؛ لأن منفعة الذكر باقية؛ لأنه يولجه. وأما الماء: فإن محله في الظهر لا في الذكر. وقد قيل: إنه بقطع الأنثيين لا ينقطع الماء، وإنما يرق، فلا ينعقد منه الولد. [مسألة جراحات الرجل والمرأة] ] : قد ذكرنا: أن دية نفس المرأة على النصف من دية الرجل، وأما ما دون النفس: فاختلف الناس فيه: فذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في الجديد إلى: (أن أرشها نصف أرش الرجل في جميع الجراحات والأعضاء) . وبه قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، والليث بن سعد، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه. وقال في القديم: (تساوي المرأة الرجل إلى ثلث الدية، فإذا زاد الأرش على ثلث الدية.. كانت على النصف من الرجل) . وبه قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، وربيعة؛ لما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عقل المرأة كعقل الرجل إلى ثلث الدية وهو المأمومة» .

وقال ابن مسعود: (تساوي المرأة الرجل إلى أن يبلغ أرشها خمسًا من الإبل، فإذا بلغ خمسًا.. كانت على النصف من أرش الرجل، فيكون من أرش موضحتها بعيرين ونصفًا) . وبه قال شريح. وقال زيد بن ثابت: (تساويه إلى أن يبلغ أرشها خمس عشرة من الإبل، فإذا بلغ ذلك.. كانت على النصف) . وبه قال سليمان بن يسار. وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (تساوي المرأة الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت إلى ثلث الدية.. كانت على النصف) . وبه قال ابن المسيب، ومالك، وأحمد، وإسحاق.

مسألة دية ثديي المرأة

وروي: أن ربيعة الرأي قال: قلت لابن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل، قلت: فكم في إصبعين؟ قال: عشرون، قلت: فكم في ثلاث؟ قال: ثلاثون، قلت: فكم في أربع؟ فقال: عشرون من الإبل، فقلت: لما عظمت مصيبتها قل أرشها؟! قال: هكذا السنة يا ابن أخي. وقال الحسن البصري: تساوي المرأة الرجل إلى نصف الدية، فإذا بلغت نصف الدية.. كانت على النصف من الرجل. دليلنا: ما روى عمرو بن حزم: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «دية المرأة على النصف من دية الرجل» . ولم يفرق بين القليل والكثير. ولأنه جرح له أرش مقدر، فوجب أن يكون في أرشه على النصف من أرش الرجل أصله مع كل طائفة ما وافقتنا عليه. وأما حديث عمرو بن شعيب، وابن المسيب: فهما مرسلان، وعلى أن قول ابن المسيب: هكذا السنة، يحتمل أن يريد به غير سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [مسألة دية ثديي المرأة] ] : وتجب في ثديي المرأة الدية؛ لأن فيهما جمالًا ومنفعة، أما الجمال: فظاهر، وأما المنفعة: فإن الصبي يعيش منهما. ولأن الدية إذا وجبت في أذنها وهي أقل منفعة من ثديها.. فلأن تجب في الثدي أولى. ويجب في أحدهما نصف الدية؛ لأن كل اثنين وجبت الدية فيهما.. وجب في أحدهما نصفها، كاليدين. والثديان اللذان تجب فيهما الدية هما (الحلمتان) -: وهما رأس الثدي اللتان

فرع فيمن قطع الثدي وأجافه

يلتقمهما الصبي - لأن الجمال والمنفعة توجد فيهما. وإن قطع قاطع الحلمتين، ثم قطع آخر باقي الثديين.. وجب على الأول الدية، وعلى الثاني الحكومة، كما لو قطع رجل الأصابع، وقطع آخر بعده الكف. وقد أوهم المزني أن في الثديين بعد الحلمتين الدية حين قال: وفي الثديين الدية، وفي حلمتهما ديتها. وليس بشيء، وقد بينه في " الأم " [6/114] . وإن قطع الحلمتين والثديين من أصلهما.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] : أحدهما: تجب الدية في الحلمتين والحكومة في الثديين، كما لو قطع الحلمتين، ثم قطع الثديين. والثاني - وهو قول البغداديين من أصحابنا -: أنه لا يجب عليه إلا دية، كما لو قلع السن مع سنخها. [فرع فيمن قطع الثدي وأجافه] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن قطع ثديها، فأجافها.. فعليه نصف الدية للثدي، وثلث دية للجائفة، وإن قطع ثدييها، وأجافهما.. فعليه في الثديين كمال الدية، وفي الجائفتين ثلثا الدية؛ لأن كل واحد منهما فيه دية مقدرة إذا انفرد، فإذا اجتمعا.. وجب في كل واحد منهما ديته، كما لو قطع أذنه، فذهب سمعه) . وإن قطع ثديها وشيئًا من جلد صدرها.. ففي الثدي الدية، وفي الجلد الحكومة. وإن جنى عليهما، فشلًا.. وجبت فيهما الدية؛ لأن كل عضو وجبت الدية في قطعه، وجبت في شلله، كاليدين، وإن لم يشلا، ولكن استرخيا وكانا ناهدين.. وجبت فيهما الحكومة؛ لأنه نقص جمالهما.

فرع ما يجب في قطع الحلمتين للرجل

وإن كان لهما لبن، فجنى عليهما، فانقطع لبنهما أو نقص.. وجبت عليه الحكومة؛ لأنه نقص منفعتهما. وإن جنى عليهما قبل أن ينزل بهما اللبن، فلم ينزل اللبن فيهما في وقته، فإن قال أهل الخبرة: إن انقطاع اللبن لا يكون إلا من الجناية.. وجبت عليه الحكومة، وإن قالوا: قد ينقطع من غير جناية.. لم تجب الحكومة؛ لأنه لا يعلم أن انقطاعه من الجناية. [فرع ما يجب في قطع الحلمتين للرجل] ] : وإن قطع حلمتي الرجل.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (فيهما الحكومة) ، وقال في موضع آخر: (قد قيل: إن فيهما الدية) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: تجب فيهما الدية؛ لأن كل عضو اشترك فيه الرجل والمرأة، وكانت الدية تجب فيه من المرأة.. وجبت فيه من الرجل، كاليدين، والرجلين. والثاني: لا تجب فيهما الدية؛ لأنه لا منفعة فيهما من الرجل، وإنما فيهما جمال. ومنهم من قال: لا تجب فيهما الدية، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه، وما ذكره.. فليس بقول له، وإنما حكى قول غيره. [فرع وجود الثديين يدل على الأنوثة] ] : وإن كان للخنثى المشكل ثديان، كثدي المرأة.. فهل يكونان دليلًا على أنوثيته؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو علي الطبري: يكونان دليلًا على أنوثيته؛ لأنهما لا يكونان إلا للمرأة.

مسألة في الشفرين دية

و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يكونان دليلًا على أنوثيته؛ لأنهما قد يكونان للرجل. فإن قطعهما قاطع، فإن قلنا بقول أبي علي.. وجبت على قاطعه دية ثدي امرأة، وإن قلنا بقول عامة أصحابنا.. فإن قلنا: تجب الدية في ثدي الرجل.. وجبت هاهنا دية ثدي امرأة؛ لأنه اليقين، وإن قلنا: لا تجب الدية في ثدي الرجل. لم تجب هاهنا إلا الحكومة. وإن ضرب ثدي الخنثى وكان ناهدًا، فاسترسل ولم يجعله دليلًا على أنوثيته. قال القاضي أبو الفتوح: لم تجب على الجاني حكومة؛ لأنه ربما كان رجلًا، ولا جمال له فيهما، ولا يلحقه نقص باسترسالهما، فإن بان امرأة.. وجبت عليه الحكومة. وإن كان للخنثى لبن، فضرب ضارب ثديه، وانقطع لبنه، فإن قلنا بقول أبي علي.. وجبت عليه الحكومة، وإن قلنا بقول عامة أصحابنا.. بني على الوجهين في لبن الرجل، هل يحكم بطهارته، ويثبت التحريم والحرمة بإرضاعه، ويجوز بيعه، ويضمن بالإتلاف؟ فإن قلنا: تثبت هذه الأحكام.. وجبت هاهنا فيه الحكومة. وإن قلنا: لا تثبت هذه الأحكام.. لم تجب هاهنا الحكومة، ولكن يعزر به الجاني إذا كان عامدًا؛ للتعدي. [مسألة في الشفرين دية] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وفي إسكتيها - وهما: شفراها جانبا فرجها - إذا أوعبتا.. ديتها) . وجملة ذلك: أن (الإسكتين) - وهما: اللحمان المحيطان بالفرج كإحاطة الشفتين بالفم، ولم يفصل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بين الإسكتين والشفرين، وأهل اللغة يقولون: الشفران حاشية الإسكتين، كما أن أشفار العينين أهدابهما - فإذا

مسألة فيما يجب بالإفضاء

قطعهما قاطع.. وجبت عليه الدية؛ لأن فيهما جمالًا ومنفعة، أما الجمال: فظاهر، وأما المنفعة: فإن لذة الجماع بهما. وإن قطع أحدهما.. وجب عليه نصف الدية؛ لأن كل اثنين وجب فيهما الدية.. وجبت في أحدهما نصف الدية، كاليدين، والرجلين. ولا فرق بين شفري الصغيرة والعجوز، والبكر والثيب، وسواء كانا صغيرين أو كبيرين، رقيقين أو غليظين، كما قلنا في الشفتين، وسواء كانت قرناء أو رتقاء؛ لأن ذلك عيب في غيرهما، وسواء كانت مخفوضة أو غير مخفوضة؛ لأن الخفض لا تعلق له بالشفرين. فإن جنى على شفريها، فشلا.. وجبت عليه الدية؛ لأن كل عضو وجبت الدية بقطعه.. وجبت بشلله، كاليدين. وإن قطع الشفرين و (الركب) - وهو: عانة المرأة التي ينبت عليها الشعر - وجبت الدية في الشفرين، والحكومة في الركب. [مسألة فيما يجب بالإفضاء] ] : وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن أفضاها ثيبًا.. كان عليه ديتها) . وجملة ذلك: أنه إذا أراد: وطئ امرأة فأفضاها، أو أفضاها بغير الوطء، وجبت عليه الدية. واختلف أصحابنا في كيفية الإفضاء:

فقال الشيخ أبو حامد: هو أن يجعل مسلك البول ومسلك الذكر واحدًا؛ لأن ما بين القبل والدبر فيه بعد وقوة فلا يرفعه الذكر، ولأنهم فرقوا بين أن يستمسك البول أو لا يستمسك، وهذا إنما يكون إذا انخرق الحاجز بين مسلك البول ومدخل الذكر. وقال أبو علي بن أبي هريرة: وهو أن يزيل الحاجز بين الفرج والدبر، وهو قول القاضي أبي الطيب والجويني. قال الشيخ أبو إسحاق: لأن الدية لا تجب إلا بإتلاف منفعة كاملة، ولا يحصل ذلك إلا بإزالة الحاجز بين السبيلين، فأما إزالة الحاجز بين الفرج وثقبة البول: فلا تتلف بها المنفعة، وإنما تنقص بها المنفعة، فلا يجوز أن تجب فيه دية كاملة. وذكر ابن الصباغ له علة أخرى، فقال: لأنه ليس في البدن مثله، ولو كان المراد به ما بين مسلك البول ومسلك الذكر.. لكان له مثل، وهو ما بين القبل والدبر، ولا تجب فيه الدية. فإن أفضاها واسترسل البول ولم يستمسك.. وجب عليه مع دية الإفضاء حكومة للشين الحاصل باسترسال البول. إذا ثبت هذا: فلا تخلو المرأة المفضاة: إما أن تكون زوجته، أو أجنبية أكرهها على الوطء، أو وطئها بشبهة. فإن كانت زوجته، فوطئها وأفضاها، فإن كان البول مستمسكًا.. فقد استقر عليه المهر بالوطء، ووجبت عليه دية الإفضاء، وإن أفضاها بالوطء واسترسل البول.. وجب عليه المهر، ودية الإفضاء، والحكومة؛ لاسترسال البول. وقال أبو حنيفة: (لا تجب عليه دية الإفضاء، وإنما عليه المهر فقط) . دليلنا: أنها جناية وقعت بالوطء، فلم يسقط حكمها باستحقاق الوطء، كما لو وطئها وقطع ثديها أو شجها. وإن كانت أجنبية، فأكرهها على الوطء وأفضاها.. وجب عليه المهر، ودية الإفضاء، وإن استرسل البول.. وجب عليه الحكومة مع دية الإفضاء. وقال أبو حنيفة: (لا يجب المهر، وأما الإفضاء: فإن كان البول لا يحتبس..

فعليه دية، وإن كان البول يحتبس.. فعليه ثلث دية) . وبه قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما. دليلنا على إيجاب المهر: أنه وطء في غير ملك لا حد فيه على الموطوءة، فوجب عليه المهر، كما لو وطئها بشبهة. وعلى إيجاب الدية: أنه إفضاء مضمون، فوجبت فيه الدية، كما لو لم يحتبس البول. فقولنا: (مضمون) احتراز منه إذا وطئ أمته، فأفضاها. إذا ثبت هذا: فإن كانت ثيبا.. وجب عليه مهر ثيب، وإن كانت بكرًا.. وجب عليه المهر والدية، ويدخل أرش البكارة في الدية. ومن أصحابنا من قال: لا يدخل أرش البكارة، كما لو أكره بكرًا، فوطئها وافتضها.. فإن أرش البكارة لا يدخل في المهر. المذهب الأول: لأن الدية تجب بإتلاف عضو، وأرش البكارة بإتلاف العضو، فتداخلا، والمهر يجب بغير ما تجب به الدية، وهو الوطء، فلم يتداخلا. وإن وطئها بشبهة أو في عقد فاسد وأفضاها.. وجب عليه المهر والدية، فإن كان البول مسترسلًا.. وجبت عليه الحكومة مع الدية. وإن كانت بكرًا.. فهل يدخل أرش البكارة في الدية؟ على وجهين، كما لو أكرهها. وقال أبو حنيفة: (إن كان البول مسترسلًا.. وجبت الدية، ودخل فيها المهر، وإن كان البول مستمسكًا.. وجب المهر وثلث الدية) . دليلنا: أن هذه جناية ينفك الوطء عنها، فلم يدخل بدله فيها، كما لو وطئها، فكسر صدرها. وإن طاوعته على الزنا، فأفضاها.. فلا مهر لها، وعليه دية الإفضاء، وإن كانت بكرًا.. لم يجب لها أرش البكارة؛ لأنها أذنت في إتلافها. وقال أبو حنيفة: (لا تجب له دية الإفضاء؛ لأنه تولد من مأذون فيه، وهو الوطء، فهو بمنزلة إذهاب البكارة) .

فرع إفضاء الخنثى

ودليلنا: أن الإفضاء ينفك عنه الوطء، فكان مضمونًا مع الإذن في الوطء، ككسر الصدر. ويخالف إذهاب البكارة، فإنه لا ينفك عن الوطء. [فرع إفضاء الخنثى] ] : وإن افضى الخنثى المشكل.. قال القاضي أبو الفتوح: فإن قلنا: إن الإفضاء ما ذكره الشيخ أبو حامد.. لم تجب الدية؛ لأنه ليس بفرج أصلي، وإنما تجب الحكومة إن وجد في فرج الخنثى المشكل المسلكان، وإن لم يوجد فيه إلا مسلك البول.. فلا يتصور فيه الإفضاء على هذا. وإن قلنا: إن الإفضاء ما ذكره القاضي أبو الطيب.. فعلى تعليل ابن الصباغ - حيث قال: لأنه ليس في البدن مثله - تجب هاهنا دية الإفضاء. وعلى تعليل الشيخ أبي إسحاق - حيث قال: لا تجب الدية إلا بإتلاف منفعة كاملة - فلا تجب الدية بإفضاء الخنثى، وإنما تجب الحكومة. وإن افتض البكارة من فرج الخنثى المشكل.. قال القاضي أبو الفتوح: فإن الحكومة تجب، ولكن لا بموجب حكومة البكارة، وإنما بموجب حكومة جراح وأرش جناية وألم؛ لأن البكارة لا تكون إلا في الفرج الأصلي. [فرع يكون العمد بالإفضاء] ] : وكل موضع قلنا: تجب الدية بالإفضاء، فإن العمد المحض يتصور في الإفضاء، وهو: أن يطأها صغيرة أو ضعيفة، الغالب إفضاؤها، فتجب الدية مغلظة في ماله، ويتصور فيه عمد الخطأ، مثل: أن يقال: قد يفضيها وقد لا يفضيها، والغالب أنه لا يفضيها، فإن أفضاها.. فهو عمد خطأ، فتجب فيه دية مغلظة على عاقلته، وهل يتصور فيه الخطأ المحض بالوطء؟ فيه وجان: أحدهما: أنه يتصور، مثل: أن يقال: لا يفضي بحال، فأفضاها، أو كان له زوجة قد تكرر وطؤه لها، فوجد امرأة على فراشه، فظنها زوجته، فوطئها،

مسألة لا قصاص في الشعور ولا دية

فأفضاها، فيكون خطأ محضًا، كما لو رمى هدفًا فأصاب إنسانًا، فتجب فيه دية مخففة على العاقلة. والثاني: لا يتصور فيه الخطأ المحض؛ لأنه يكون قاصدًا إلى الفعل بكل حال. [مسألة لا قصاص في الشعور ولا دية] ] : وأما الشعور: فلا يجب فيه قصاص ولا دية، وبه قال أبو بكر الصديق، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وقال أبو حنيفة: (تجب في شعر الرأس الدية، وفي شعر الحاجبين الدية، وفي أهداب العينين الدية، وفي اللحية الدية، وهو إذا لم تنبت هذه الشعور بعد حلقها؛ لما روي: أن رجلًا أفرغ على رجل قدرًا، فتمعط شعره، فأتى عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فقال له: اصبر سنة، فصبر سنة، فلم ينبت شعره، فقضى فيه بالدية) . ودليلنا: أنه إتلاف شعر، فلم يكن فيه أرش مقدر، كشعر الشارب والصدر. وما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.. يعارضه ما روي عن أبي بكر الصديق، وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أنهما لم يوجبا الدية. إذا ثبت هذا: فإنه إذا حلق شعر رجل، أو طرح عليه شيئًا فتمعط، فإن نبت كما

فرع أزال لحية امرأة

كان من غير زيادة ولا نقصان.. لم يجب على الجاني شيء، كما لو قلع سن صغير، ثم نبت. وإن لم ينبت أصلًا، وأيس من نباته.. وجبت فيه حكومة؛ للشين الحاصل بذهابه، وتختلف الحكومة باختلاف الجمال في ذلك الشعر. وإن نبت الشعر، إلا أنه أقل من الأول.. ففيه حكومة، وإن كان الثاني أحسن من الأول؛ لأنه بعضه. وإن نبت أكثر مما كان، وكان فيه قبح.. وجبت فيه الحكومة؛ لأن فيه شينًا. [فرع أزال لحية امرأة] ] : وإن نبت للمرأة لحية، فحلقها حالق، فلم تنبت.. فهل تجب فيها الحكومة؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي العباس ابن سريج -: أنه لا حكومة فيها؛ لأن بقاء اللحية في حقها شين، وزوالها في حقها زين. والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يجب فيها الحكومة) ؛ لأن ما ضمن من الرجل.. ضمن من المرأة، كسائر الأعضاء، قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إلا أن الحكومة فيها أقل من الحكومة في لحية الرجل؛ لأن للرجل جمالًا بها، ولا جمال في اللحية للمرأة، وإنما الحكومة للألم والعدوان) . وإذا ثبت هذا: فإن نبت للخنثى المشكل لحية.. فهل يكون دليلًا على ذكوريته؟ فهي وجهان: [أحدهما] : قال أبو علي الطبري: تكون دليلًا على ذكوريته. فعلى هذا: إذا نتفها رجل ولم تنبت.. كان عليه حكومة، كالحكومة في لحية الرجل. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا تكون دليلًا على ذكوريته. فعلى هذا: إذا نتفها رجل ولم تنبت.. كان في وجوب الحكومة فيها وجهان، كلحية المرأة.

مسألة ما يجب في الترقوة والضلع

[مسألة ما يجب في الترقوة والضلع] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وفي الترقوة جمل، وفي الضلع جمل) ، وقال في موضع: (تجب في كل واحد منهما حكومة) . واختلف أصحابنا فيهما: فذهب المزني، وبعض أصحابنا إلى: أن فيهما قولين: أحدهما: يجب في كل واحد منهما أرش مقدر، وهو جمل، وبه قال أحمد، وإسحاق؛ لما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قضى في الترقوة بجمل، وفي الضلع بجمل) . والثاني: لا يجب فيهما أرش مقدر، وإنما تجب فيهما حكومة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، واختاره المزني، وهو الأصح؛ لأنه كسر عظم باطن لا يختص بجمال ومنفعة، فلم يجب فيه أرش مقدر، كسائر عظام البدن. وما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.. فيحتمل أنه قضى بذلك على سبيل الحكومة. ومنهم من قال: لا يجب فيه أرش مقدر، وإنما تجب الحكومة، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه. إذا ثبت هذا: فإن الضلع معروف، وأما (الترقوة) : فهي العظم المدور من النحر إلى الكتف. وللإنسان ترقوتان، الواحدة: ترقوة - بفتح التاء - على وزن: فعلوة. وقيل: ليس في كلام العرب على هذا الوزن إلا ترقوة. و (عرقوة الدلو) : وهي العود المعترض فيه.

مسألة يعزر الجاني إذ لم يكسر ولم يضيع منفعة أو جمالا

[مسألة يعزر الجاني إذ لم يكسر ولم يضيع منفعة أو جمالًا] ] : فإذا جنى على رجل جناية لم يحصل بها جرح ولا كسر ولا إتلاف حاسة، بأن لطمه الجاني، أو لكمه، أو ضربه بخشبة، فلم يجرح ولم يكسر.. نظرت: فإن لم يحصل به أثر، أو حصل به سواد أو خضرة ثم زال.. لم يجب على الجاني أرش؛ لأنه لم ينقص شيئًا من جماله ولا من منفعته، ويعزر الجاني لتعديه. وإن اسود موضع الضرب أو اخضر أو احمر.. ينظر إلى الوقت الذي يزول مثل ذلك في العادة، فإن لم يزل.. وجبت على الجاني الحكومة؛ لأن في ذلك شينًا، فإن أخذت منه الحكومة، ثم زال ذلك الشين.. وجب رد الحكومة، كما لو كان ابيضت عينه، فأخذ أرشها، ثم زال البياض. وإن جنى على حر جناية نقص بها جمال أو منفعة ولا أرش لها مقدر.. فقد ذكرنا: أنه تجب فيها الحكومة. وكيفية ذلك: أن يقوم هذا المجني عليه لو كان عبدًا قبل الجناية، ثم يقوم بعد اندمال الجناية، فإن بقي للجناية شين ونقصت قيمته به.. وجب على الجاني من الدية بقدر ما نقص من القيمة، وإن نقص العشر من قيمته.. وجب العشر من ديته، وإن نقص التسع من قيمته.. وجب التسع من ديته؛ لأنه لما اعتبر العبد بالحر في الجنايات التي لها أرش مقدر.. اعتبر الحر بالعبد في الجنايات التي ليس لها أرش مقدر، ولأن جملته جملة مضمونة بالدية، فكانت أجزاؤه مضمونة بجزء من الدية، كما أن المبيع لما كان مضمونًا على البائع بالثمن.. كان أرش العيب الموجود فيه مضمونًا بجزء من الثمن، ولا سبيل إلى معرفة ما ليس فيه أرش مقدر إلا بالتقويم، كما أنه لا يعلم أرش المبيع إلا من جهة التقويم. وحكى الشيخ أبو إسحاق: أن من أصحابنا من قال: يعتبر ما نقص من القيمة من دية العضو المجني عليه، لا من دية النفس، فإن كان الذي نقص هو عشر القيمة، والجناية على اليد.. وجب عشر دية اليد، وإن كان على الإصبع.. وجب عشر دية

فرع يؤخذ بالأكثر من الشين أو الجراح

الإصبع، وإن كان على الرأس أو الوجه فيما دون الموضحة.. وجب عشر دية الموضحة، وإن كان على البدن فيما دون الجائفة.. وجب عشر دية الجائفة. والمذهب الأول؛ لأنه لما وجب تقويم النفس.. اعتبر النقص من ديتها، ولأن القيمة قد تنقص بالسمحاق عشر القيمة، فإذا أوجبنا عشر أرش الموضحة.. تقاربت الجنايتان، وتباعد الأرشان. إذا ثبت هذا: فإنه لا يبلغ بالحكومة أرش العضو المجني عليه، فإن كانت الجناية على الإصبع، فبلغت حكومتها دية الإصبع، أو على البدن مما دون الجائفة، فبلغت الحكومة أرش الجائفة.. نقص الحاكم من الحكومة شيئًا بقدر ما يؤديه إليه اجتهاده؛ لأنه لا يجوز أن تجب فيما دون الإصبع ديتها، ولا فيما دون الجائفة ديتها. وإن قطع كفًا لا إصبع له.. ففيه وجهان حكاهما الخراسانيون. أحدهما: لا يبلغ بحكومته دية إصبع. والثاني: لا يبلغ بحكومته دية خمس أصابع. [فرع يؤخذ بالأكثر من الشين أو الجراح] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن جرحه، فشان وجهه أو رأسه شينًا يبقى، فإن كان الشين أكثر من الجراح.. أخذ بالشين، وإن كان الجراح أكثر من الشين.. أخذ بالجراح ولم يرد للشين) . وجملة ذلك: أنه إذا شجه في رأسه أو وجهه شجة دون الموضحة، فإن علم قدرها من الموضحة.. وجب بقدرها من أرش الموضحة، وإن اختلف قدرها من الموضحة والحكومة.. وجب أكثرهما، وقد مضى بيان ذلك ولا تبلغ الحكومة فيما دون الموضحة أرش الموضحة. وإن كانت الموضحة على الحاجب فأزالته، وكان الشين أكثر من أرش

فرع زال العيب أو بقي أثر لا تنقص به القيمة

الموضحة.. وجب ذلك؛ لأن الحاجب تجب بإزالته حكومة، فإذا انضم إلى ذلك الإيضاح.. لم ينقص عن حكومته. [فرع زال العيب أو بقي أثر لا تنقص به القيمة] ] : وإن لم يبق للجناية شين بعد الاندمال، أو بقي لها شين لم تنقص به القيمة.. فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس: لا تجب فيها الحكومة؛ لأن الحكومة إنما تجب لنقص القيمة، ولم تنقص به القيمة، فلم تجب الحكومة، كما لو لطمه، فاسود الموضع، ثم زال السواد. و [الثاني] : قال أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: تجب عليه الحكومة، وهو المنصوص؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (وإن نتف لحية امرأة أو شاربها.. فعليه الحكومة أقل من حكومة في لحية الرجل؛ لأن الرجل له فيها جمال، ولا جمال للمرأة فيها، ولأن جملة الآدمي مضمونة، فإذا أتلف جزءًا منها.. وجب أن يكون مضمونًا، كسائر الأعيان) . فإذا قلنا بهذا: فإنه يقوم في أقرب أحواله إلى الاندمال؛ لأنه لا بد أن ينقص، فإن لم ينقص منه.. قوم قبله، فإن لم ينقص.. قوم والدم جار، كما قلنا في ولد الأمة إذا غر رجل بحريتها: أنه يقوم حالة الوضع؛ لأنه أول حالة إمكان تقويمه. وإن نتف لحية امرأة وأعدمها النبات.. قال أبو إسحاق المروزي: اعتبرتها بعبد كبير، فأقول: هذا العبد الكبير كم قيمته وله مثل هذه اللحية؟ فإن قيل: مائة.. فكم قيمته ولا لحية له؟ فإن قيل: تسعون.. وجب على الجاني عشر دية المرأة. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: يجب ما رآه الحاكم باجتهاده. وإن قطع أنملة لها طرفان.. فإنه يجب في الطرف الأصلي ديته، ويجب في الزائدة حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده، ولا يبلغ به أرش الأصلي. هذا نقل أصحابنا

فرع كسر عظما فانجبر وعاد كما كان

البغداديين. وقال الخراسانيون: إذا قطع إصبعًا زائدة.. فيه وجهان: أحدهما: يجب ما رآه الحاكم باجتهاده. والثاني: يقال: كم ينقص من قيمة العبد وقت الجناية؟ وإن قلع سنًا زائدًا - وهو: الخارج عن سمت الأسنان ومن ورائه إلى داخل الفم سن أصلية - فلم ينقص قيمته بقلعها.. فإنه يقال: لو كان هذا عبدًا.. كم كانت قيمته وله هذا السن الزائدة وليس له ما وراءه من السن الأصلي؛ لأن الزائد يسد الفرجة إذا لم يكن له السن الأصلية؟ فإن قيل: مائة.. قيل: فكم قيمته وليس له السن الزائد ولا الأصلي الذي من ورائه؟ فإن قيل: تسعون.. علم أنه نقص عشر قيمته، فيجب له عشر الدية. [فرع كسر عظمًا فانجبر وعاد كما كان] ] : وإن كسر له عظمًا في غير الرأس والوجه، فجبره، فانجبر، فإن عاد مستقيمًا كما كان.. فقد قال القاضي أبو الطيب: هل تجب فيه الحكومة؟ فيه وجهان، كما قلنا فيه إذا جرحه جراحة لا أرش لها مقدر، واندملت ولم يبق لها شين. وقال الشيخ أبو حامد: تجب الحكومة، وجهًا واحدًا؛ لأنه لا بد أن يبقى في العظم بعد كسره وانجباره ضعف. قال ابن الصباغ: والأول أصح. وإن انجبر وبقي له شين.. وجبت فيه الحكومة أكثر مما لو عاد مستقيمًا. وإن انجبر وبقي معوجًا.. وجبت فيه الحكومة أكثر من الحكومة إذا بقي الشين من غير اعوجاج. [فرع أفضى امرأة بعد جرحها فعليه حكومة] ] : وإن أفضى امرأة، ثم التأم الجرح.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لم تجب الدية، ووجبت الحكومة) .

فرع فزع شخصا فأحدث في ثيابه

وإن أجافه جائفة، فالتأمت الجائفة.. ففيه وجهان، حكاهما أبو علي في " الإفصاح ": أحدهما: لا يجب أرش الجائفة، وإنما تجب الحكومة، كما قلنا فيه إذا أفضى امرأة، والتأم الجرح. والثاني - وهو اختيار القاضي أبي الطيب، ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غيره -: أن أرش الجائفة يجب؛ لأن أرش الجائفة إنما وجب لوجود اسمها، فلم يسقط بالالتئام، كأرش الموضحة والهاشمة. ودية الإفضاء إنما وجبت لإزالة الحاجز، فإذا عاد الحاجز.. لم تجب الدية، كما لو ذهب ضوء العين، ثم عاد. [فرع فزع شخصًا فأحدث في ثيابه] ] : فإن فزع إنسانًا، فأحدث في الثياب.. لم يلزمه ضمان؛ لأنه لم يحدث نقصًا في جمال ولا منفعة. [مسألة في قتل القن وجوب قيمته] ] : وإن قتل حر عبدًا أو أمة لغيره.. وجبت عليه قيمته، سواء بلغت دية حر أو أكثر، وسواء قتله عمدًا، أو خطأ، أو عمد خطأ، وسواء ضمنه باليد أو بالجناية، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وقال أبو حنيفة، ومحمد: (إن كانت قيمته دون دية الحر.. وجبت، وإن كانت مثلها أو أكثر منها.. نقصت عن دية الحر عشرة دراهم. وإن كانت أمة، فبلغت قيمتها دية حرة.. نقصت عشرة دراهم - في إحدى الروايتين، وفي الأخرى: خمسة دراهم - هذا إذا ضمنه بالجناية، وإن ضمنه باليد، بأن يغصب عبدًا، فيموت في يده.. ضمنه بقيمته بالغة ما بلغت) . كقولنا. دليلنا: أنه مضمون بالإتلاف؛ لحق الآدمي بغير جنسه، فضمن بقيمته بالغة ما بلغت، كسائر الأموال.

فرع يضمن من القن ما يضمن من الحر

فقولنا: (بالإتلاف) احتراز مما لو غصب عبدًا وهو باق في يده؛ فإنه مضمون يَردُّهُ. وقولنا: (لحق الآدمي) احتراز من الكفارة، ومن جزاء الصيد الذي له مثل. وقولنا: (من غير جنسه) احتراز ممن غصب شيئًا من ذوات الأمثال وتلف أو أتلفه. [فرع يضمن من القن ما يضمن من الحر] ] : وأما ما دون النفس من العبد: فهو معتبر بالحر، فكل شيء وجب فيه من الحر الدية.. وجب فيه من العبد قيمته، وكل شيء مضمون من الحر بحر، ومقدر من الدية.. ضمن من العبد بمثل ذلك الجزء من قيمته، وكل شيء ضمن من الحر بالحكومة. ضمن من العبد بما نقص من قيمته، وبه قال عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، وابن المسيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وعن أبي حنيفة روايتان: إحداهما: كقولنا. والثانية: ما لا منفعة فيه، كالأذنين، واللحية، والحاجبين.. فإن فيه ما نقص من قيمته. ونحن نوافقه على الحاجبين في العبد، إلا أنه يخالفنا في الحاجبين من الحر. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يضمن بما نقص من قيمته إلا الموضحة والمنقلة والمأمومة والجائفة، فإنه يضمن بجزء من قيمته) . وقال محمد بن الحسن: يضمن جميع أطرافه وجراحاته بما نقص من قيمته. وحكاه أصحابنا الخراسانيون قولًا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وليس بمشهور. والدليل على صحة ما قلناه: أنه قول عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فدل على: أنه إجماع.

فرع قتل وجناية عبد على قن

ولأنه حيوان يضمن بالقصاص والكفارة، فكانت أطرافه وجراحاته مضمونة ببدل مقدر من بدله، كالحر. [فرع قتل وجناية عبد على قن] ] : وإن قتل عبد عبدًا عمدًا.. فقد ذكرنا: أن لسيده أن يقتص منه؛ لأنه مساو له، فإن عفا عنه على مال، أو كانت الجناية خطأ أو عمد خطأ.. تعلق الأرش برقبة الجاني، ولا شيء على سيده، فيكون سيده بالخيار: بين أن يسلمه ليباع، أو يفديه. فإن سلمه للبيع، فبيع.. نظرت: فإن كان ثمنه أكثر من أرش الجناية.. كان الفضل لسيده. وإن كان الأرش أكثر.. لم يجب على سيد الجاني الزيادة؛ لأنه ليس عليه أكثر من تسليم عبده. وإن اختار أن يفديه، فإن كانت قيمة القاتل مثل قيمة المقتول أو أكثر.. فداه بقيمة المقتول، وإن كانت قيمة المقتول أكثر.. ففيه قولان: أحدهما: لا يلزمه إلا قدر قيمة القاتل؛ لأنه إنما يفدي رقبته، فلم يلزمه أكثر من قيمتها. والثاني: يلزمه قيمة المقتول بالغة ما بلغت، أو يسلم عبده للبيع؛ لأنه ربما رغب من يشتري عبده بأكثر من قيمته. [فرع قتل جماعة عبيد عبدًا] ] : وإن قتل عشرة أعبد عبدًا لرجل عمدًا.. فسيد المقتول بالخيار: بين أن يقتل جميع العبيد، أو يعفو عنهم. فإن قتلهم.. فلا كلام، وإن عفا عنهم.. تعلق برقبة كل واحد منهم عشر قيمة المقتول. وإن قتل بعضهم، وعفا عن بعضهم.. جاز، وتعلق برقبة كل واحد ممن عفا عنه عشر قيمة المقتول. وإن قتل عبد لرجل عبدين لرجلين، لكل واحد منهما عبد، عمدًا.. ثبت لهما القصاص عليه، فيقتل بالأول منهما، فإذا قتل به.. سقط حق سيد العبد المقتول

فرع قتل قن عبدا لرجلين

ثانيًا، وإن عفا سيد العبد المقتول أولًا عن القصاص على مال.. تعلق برقبة القاتل قيمة العبد المقتول أولًا، ولسيد العبد المقتول ثانيًا أن يقتص منه؛ لأن تعلق المال برقبته لا يمنع من وجوب القصاص عليه، كما لو قتل العبد المرهون غيره. وإن عفا سيد العبد المقتول ثانيًا عن القصاص، أو كانت الجنايتان خطأ.. تعلق برقبة العبد الجاني قيمة العبدين، فيباع، فإن اتسع ثمنه لقيمتهما، وإلا.. قسم بينهما على قدر قيمتهما. ولا يقدم سيد العبد المقتول أولًا كما يقدم في القصاص؛ لأن القصاص لا يتبعض، والمال يتبعض، فهو كما لو أتلف على جماعة أموالًا. وإن قتلهما معًا عمدًا.. أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. كان كما لو جنى عليه أولًا. وإن عفوا على مال، أو كانت الجنايتان خطأ.. تعلقت قيمة المقتولين برقبة العبد القاتل. [فرع قتل قن عبدًا لرجلين] ] : وإن قتل عبد لرجل عبدًا لرجلين عمدًا.. ثبت لهما القصاص، فإن عفوا، أو عفا أحدهما.. سقط القصاص، وحكم المال في العفو قد مضى. وإن قتل عبد مكاتبًا.. وجب القصاص. وقال أبو حنيفة: (إن خلف وفاء وله وارث غير المولى.. لم يجب القصاص) . دليلنا: أنه لو كان قنًا.. لوجب له القصاص، كما لو لم يخلف وفاء. [مسألة قطع حر يد عبد فأعتق] ] : وإن قطع حر يد عبد وأعتق العبد، ثم مات من القطع.. لم يجب القصاص؛ لأنه غير مكافئ له في حال الجناية، ويجب فيه دية حر؛ لأن الاعتبار بالأرش حال استقرار الجناية، وهو حر حال الاستقرار. ويجب للسيد من ذلك أقل الأمرين من نصف القيمة أو جميع الدية؛ لأن نصف القيمة إن كان أقل.. لم يجب للسيد أكثر

فرع قطع حر لعبد عضوين فيهما الدية

منها؛ لأنها هي التي وجبت له في ملكه، وإن كانت الدية أقل.. لم يجب للسيد أكثر منها؛ لأن نصف القيمة نقصت بفعل السيد، وهو إعتاقه للعبد. وهكذا ذكر أصحابنا. وذكر القاضي أبو الطيب فيه قولين: أحدهما: هذا. والثاني: له أقل الأمرين من جميع قيمته أو جميع ديته. وقال: إن أوضحه رجل، ثم أعتق أو مات.. وجب فيه دية حر، وكم للمولى منها؟ فيه قولان: أحدهما: الأقل من نصف عشر قيمته، أو جميع ديته. والثاني: الأقل من جميع قيمته أو جميع ديته. والطريق الأول هو المشهور. [فرع قطع حر لعبد عضوين فيهما الدية] ] : وإن قطع رجل يدي عبد أو رجليه، أو فقأ عينيه، وقيمته مثل قيمة ديتين.. نظرت: فإن مات من الجناية قبل الاندمال والعتق.. وجبت قيمته. وإن اندملت الجناية أو عتق، ثم مات.. وجبت قيمته لسيده، سواء اندملت الجناية قبل العتق أو أعتق قبل الاندمال. وهكذا: إن اندملت الجناية ولم يعتق؛ لأن الجناية استقرت بالاندمال. وإن أعتق ومات من الجناية.. لم تجب فيه إلا دية حر. وقال المزني: تجب قيمته؛ لأنها وجبت بالجناية. وهذا خطأ؛ لأن الاعتبار بالأرش حال الاستقرار، وحال الاستقرار بالجناية هو حر، كما لو كانت قيمته دون الدية، فقطعت يده وأعتق، ثم مات.. فإن الواجب فيه دية حر، وتجب الدية هاهنا للسيد؛ لأنها وجبت في ملكه، وإنما نقصت بإعتاقه. وإن قطع رجل يد عبد، ثم جاء آخر فقطع يده الأخرى، ومات من الجنايتين.. فإنه يجب على الأول نصف قيمته سليما؛ لأنه قطعه وهو سليم، ويجب على الثاني نصف قيمته مجروحا؛ لأنه جرحه وهو مجروح، فيكون على الأول أكثر. [فرع قطع حر يد عبد فأعتق ثم قطع الأخرى رجل فمات] ] : وإن قطع حر يد عبد، فأعتق، ثم قطع آخر يده الأخرى، ومات من الجنايتين..

لم يجب على الأول قصاص في الطرف ولا في النفس؛ لأنه غير مكافئ له في حال الجناية، وعليه نصف الدية؛ لأن المجني عليه حر وقت استقرار الدية، وأما الثاني: فيجب عليه القصاص في الطرف؛ لأنه مكافئ له وقت الجناية، وهل يجب عليه القصاص في النفس؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو الطيب بن سلمة: لا يجب عليه القصاص في النفس؛ لأن الروح خرجت من سراية جنايتين: إحداهما توجب القصاص، والأخرى لا توجبه، فلم يجب القصاص، كحرين قتلا من نصفه حر ونصفه عبد. والثاني - وهو المذهب -: أنه يجب عليه القصاص في النفس؛ لأنه مكافئ له حال الجناية، وإنما سقط القصاص عن شريكه لمعنى يختص به، فلم يسقط القصاص عنه، كما لو قتل عبد وحر عبدًا. فإن عفا عنه عن القصاص إلى المال، أو كانت الجنايتان أو إحداهما خطأ.. وجب على الجانيين دية حر، على كل واحد منهما نصفها؛ لأن الاعتبار بالأرش حال الاستقرار، ويكون للسيد أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية؛ لأن نصف القيمة إن كانت أقل.. فهو الذي وجب في ملكه، والزيادة حصلت بالحرية، لا حق له فيها، ويكون الباقي من الدية لورثة المقتول، وإن كان نصف الدية أقل.. لم يجب له أكثر منه؛ لأن نصف القيمة نقصت بإعتاقه، ويكون النصف الثاني لورثة المقتول. فإن قطع حر يد عبد، فأعتق العبد، ثم قطع آخر يده الأخرى، ثم قطع آخر رجله، ومات من الجنايات.. لم يجب على الأول قصاص في الطرف ولا في النفس، وأما الآخران: فيجب عليهما القصاص في الطرفين، وهل يجب عليهما القصاص في النفس؟ على الوجهين. فإن عفا عنهما عن القصاص على مال، أو كانت الجنايات أو بعضها خطأ.. وجب فيه دية حر، وكم يستحق المولى؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يستحق أقل الأمرين من أرش الجناية، وهو: نصف القيمة هاهنا، أو ما يجب على الجاني في ملكه، وهو: ثلث الدية؛ لأن الذي وجب في ملكه هو أرش جناية الأول، فقوبل بين الذي وجب عليه حال الجناية، وحال استقرارها،

ووجب للسيد أقلهما، كما لو لم يجن عليه غيره، وأما الآخران: فإنهما جنيا عليه وهو في غير ملكه، فكانت جنايتهما هدرًا في حقه. فعلى هذا: إن كان جناية الأول قطع إصبع.. قوبل بين عشر قيمة العبد، وبين ثلث الدية، ووجب له أقلهما. والقول الثاني: أنه يجب له أقل الأمرين من ثلث القيمة أو ثلث الدية؛ لأن الذي جنى عليه في ملكه هو الأول، وجناية الآخرين في غير ملكه، فكانت هدرًا في حقه. ولو مات عبد وهدرت جناية الآخرين في حق السيد.. لم يجب على الأول إلا ثلث القيمة، مثل: أن يجني عليه الأول وهو مسلم، ثم يرتد العبد ويجني عليه الآخران بعد الردة، ثم يموت، فإن جناية الآخرين هدر في حق السيد، فكذلك: لما أعتق، ثم جنى الآخران عليه.. أهدرنا جنايتهما في حقه، وقابلنا بين ثلث القيمة وثلث الدية، ووجب للسيد أقلهما. وقد ينسرق أحد القولين في الآخر، وهو: إذا جنى عليه الأول في الرق جائفة أو مأمومة، ثم جنى عليه اثنان بعد الحرية، ومات من الجنايات.. فإنه يجب للسيد أقل الأمرين من أرش الجائفة، وهو: ثلث القيمة، أو ثلث الدية هاهنا، قولًا واحدًا. وإن جنى عليه في حال الرق واحد، وفي حال الحرية ثلاثة، فمات من الجنايات.. فعلى القول الأول: يجب للسيد على الأول الأقل من أرش الجناية أو ربع الدية. وعلى القول الثاني: يجب له أقل الأمرين من ربع القيمة أو ربع الدية. وإن جنى عليه واحد في الرق، وتسعة بعد الحرية، ومات من الجنايات.. فعليهم الدية بينهم، ويستحق السيد على القول الأول أقل الأمرين من أرش الجناية أو عشر الدية، وعلى الثاني أقل الأمرين من عشر القيمة أو عشر الدية. وإن كان بالعكس من هذا، بأن جنى عليه اثنان في حال الرق، وواحد بعد

فرع قطع يد عبد فأعتق ثم اشترك وآخر وقطعا الثانية فمات

الحرية، ومات من الجنايات.. فعليهم الدية بينهم أثلاثًا، ويستحق السيد على القول الأول أقل الأمرين من أرش الجناية أو ثلثي الدية، وعلى الثاني أقل الأمرين من ثلثي القيمة أو ثلثي الدية. وإن جنى عليه تسعة في حال الرق، وواحد في حال الحرية، ومات من الجنايات.. استحق السيد على الأولين على القول الأول أقل الأمرين من أرش الجنايات التسع الأول والتسعة أعشار الدية، وعلى الثاني يستحق أقل الأمرين من تسعة أعشار القيمة أو تسعة أعشار الدية. [فرع قطع يد عبد فأعتق ثم اشترك وآخر وقطعا الثانية فمات] ] : وإن قطع حر يد عبد، فأعتق، ثم عاد الجاني الأول هو وآخر وقطعا يده الأخرى، ومات من الجنايتين.. وجبت عليهما دية حر، وكم يستحق السيد؟ على القولين: أحدهما: أنه يستحق أقل الأمرين من نصف قيمته أو ربع دية حر. والثاني: له أقل الأمرين من ربع قيمته أو ربع الدية. [فرع قطع يد عبد فلما أعتق قطع رجله فمات] ] : وإن قطع حر يد عبد لغيره، فأعتق العبد، ثم عاد الجاني فقطع رجله، ومات من الجنايتين.. لم يجب على الجاني القصاص في النفس؛ لأنه مات من سراية جنايته، وإحداهما توجب القصاص والأخرى لا توجب، ولا تتميز إحداهما عن الأخرى، فهو كما لو جنى عليه جناية خطأ وجناية عمد، ومات منهما، ويجب عليه القصاص في الرجل. فإن عفا عن القصاص عنه، أو كانت الجنايتان أو إحداهما خطأ.. وجب على الجاني دية حر؛ اعتبارًا بحال المجني عليه عند استقرار الجناية، ويجب للمولى هاهنا أقل الأمرين من نصف قيمته أو نصف الدية؛ لأن الجناية الثانية في حال الحرية، فصارت هدرًا في حق السيد. وإن اندملت الجراحتان.. وجب للسيد نصف القيمة، وللمجني عليه القصاص في الرجل أو نصف الدية إن عفا.

فرع قطع يد عبد فأعتق ثم قطع آخر رجله ثم ذبحه الأول

[فرع قطع يد عبد فأعتق ثم قطع آخر رجله ثم ذبحه الأول] ] : وإن قطع حر يد عبد، ثم أعتق، ثم جاء آخر فقطع رجله، ثم عاد الأول فذبحه.. فإن ذبحه بعد اندمال يده التي قطعها.. فإن على الذابح للسيد نصف القيمة، وعليه للورثة القصاص في النفس، وإن عفوا عنه.. كان عليه جميع الدية، وعلى قاطع الرجل القصاص للورثة، وإن عفوا عنه.. كان عليه لهم نصف الدية. وإن ذبحه قبل اندمال جراحة يده.. فقد قال أبو سعيد الإصطخري، وأبو العباس: لا يدخل أرش الطرف في بدل النفس، فتكون عليه نصف القيمة للسيد، وعليه القصاص للورثة في النفس، وإن عفوا عنه.. كان عليه جميع الدية لهم. والمذهب: أن أرش الطرف يدخل في دية النفس؛ لأنه مات بفعله قبل الاندمال، فهو كما لو سرت جنايته إلى النفس. فعلى هذا: يجب عليه القصاص في النفس للورثة، فإن اقتصوا منه في النفس.. سقط حق السيد؛ لأن الذي وجب للسيد أرش الطرف، وقد دخل في ضمان النفس. وإن عفا الورثة عن القصاص على الدية.. كان على الذابح دية حر، وللسيد منها أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية. وأما الثاني: فإنه يجب عليه القصاص للورثة في الرجل، فإن عفوا.. فقد استحقوا عليه نصف الدية، ولا حق للسيد فيها؛ لأنها وجبت في غير ملكه. وإن كان الثاني هو الذي ذبحه.. فإن بذبحه استقرت جناية الأول، فيجب على الأول للسيد نصف القيمة. وأما الثاني: فإن ذبحه بعد اندمال جنايته على رجله.. لم يدخل بدل الرجل في النفس، فيكون لورثة المقتول أن يقتصوا منه في الرجل، فإن عفوا عنها.. استحقوا عليه نصف الدية للرجل، ولهم أن يقتصوا منه في النفس، وإن عفوا عنه.. استحقوا عليه جميع دية النفس. وإن ذبحه قبل اندمال الرجل، فعلى قول أبي سعيد، وأبي العباس: لا تدخل دية الرجل في دية النفس، فيكون كما لو اندملت. وعلى المذهب: تدخل دية الرجل في دية النفس، فيجب عليه القصاص، وإن عفوا عنه.. استحقوا عليه الدية. وإن كان الذابح له أجنبيًا.. فإن بذبحه قد استقرت جناية الأول والثاني، فيجب

مسألة جنى عبد جناية أرشها أكثر من ثمنه فبيع فيها

على الأول نصف القيمة للسيد، وعلى الثاني القصاص في الرجل، أو نصف الدية إن عفا عنه الورثة، وعلى الذابح القصاص في النفس، أو جميع الدية إن عفا عنه الورثة. [مسألة جنى عبد جناية أرشها أكثر من ثمنه فبيع فيها] ] : وإن جنى العبد جناية أرشها أكثر من قيمته، فبيع في الجناية، وسلم الثمن إلى المجني عليه، وبقي من أرشه بقية، أو اختار السيد أن يفديه، وقلنا: لا يلزمه إلا قدر قيمته، فدفع قدر قيمته، وبقي من الأرش بقية، ثم أعتق العبد.. فهل يطالب ببقية الأرش؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب: أحدهما: لا يطالب به؛ لأنه لم يجب إلا قدر قيمته. والثاني: يطالب بباقي الأرش، قال القاضي أبو الطيب: وهو الأصح؛ لأن الذي وجب بالجناية هو جميع الأرش، وإنما لم يجب على السيد أكثر من قيمة العبد، والباقي في ذمة العبد، إلا أنه كان قبل العتق كالمعسر، فإذا أعتق وملك المال.. طولب به، كالحر إذا أيسر. ولأن العبد لو أقر بجناية خطأ أو سرقة مال ولم يصادقه المولى ولا قامت به بينة.. فإنه لا يقبل قوله على السيد، ولو أعتق.. لزمه ما أقر به، فدل على: أن الجناية تعلقت بذمته. [فرع جناية عبد على يد حر ثم عتق فعاد وآخر فقطعا يده الأخرى] ] : إذا قطع عبد يد حر، فأعتق العبد، ثم عاد العبد المعتق هو وآخر وقطعا يد ذلك الحر، ومات قبل الاندمال.. فقد قال ابن الحداد: تجب على شريك العبد المعتق نصف الدية، ويجب على العبد المعتق وعلى سيده نصف الدية، إلا أن على السيد الأقل من ربع الدية أو قيمة عبده الجاني، وهذا على القول الأصح: أنه إذا اختار السيد أن يفدي عبده.. فداه بأقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمة عبده الجاني. فأما على القول الذي يقول: يلزمه جميع الأرش.. فإنه يلزمه هاهنا ربع الدية.

فرع قطع عبد يد حر ثم حر يد العبد ثم قطع العبد الجاني يد حر آخر فماتوا

فإذا قلنا بهذا: فقد استوفى وارث المقتول حقه؛ لأنه يأخذ من الشريك نصف الدية، ومن السيد ربعها، ومن العبد المعتق ربعها. وإذا قلنا بالأول: وكانت القيمة أقل من ربع الدية.. فهل يكون ما بقي من الدية في ذمة العبد؟ على الوجهين الأولين. وإن أوضح عبد رأس حر، فأعتق العبد، ثم عاد بعد إعتاقه وجرح هو وآخر المجني عليه، ومات من الجنايات.. قال ابن الحداد: وجب على شريك العبد المعتق نصف الدية، وعلى العبد المعتق وسيده نصف الدية، على السيد منها الأقل من أرش الموضحة أو قيمة العبد الجاني. وهذا على الصحيح من القولين، وإنما اعتبر أرش الجناية هاهنا مع تلف النفس لحق السيد؛ لأن الأرش هو الذي وجب في ملكه، وما زاد على ذلك.. في ذمة العبد المعتق. وإن جرح عبد عبدًا، فأعتق الجاني، ثم عاد الجاني بعد العتق فجرح العبد الأول، ومات من الجنايتين.. لم يجب عليه القصاص في النفس، وعليه القصاص في الجناية الأولى إن كانت مما يجب بها القصاص، فإن عفا عنه على مال.. كان عليه جميع الدية، وعلى السيد منها أقل الأمرين من أرش الجناية في ملكه أو قيمة الجاني. [فرع قطع عبد يد حر ثم حر يد العبد ثم قطع العبد الجاني يد حر آخر فماتوا] وإن قطع عبد يد حر، ثم قطع حر يد هذا العبد الجاني، ثم قطع العبد الجاني يد حر آخر، وماتوا جميعًا قبل الاندمال، وقيمة العبد الجاني اثنا عشر ألف درهم، ونقص بالقطع ستة آلاف درهم.. فإن الذي قطع يد العبد الجاني يجب عليه جميع قيمته، وهو: اثنا عشر ألف درهم، فيدفع ما نقص بالقطع - وهو: ستة آلاف درهم - إلى وارث المقطوع أولًا؛ لأن المقطوع الثاني لم يتعلق به حقه، ويتضارب وارثًا الحرين المقتولين في الباقي على الثلث والثلثين؛ لأنه بقي للأول نصف الدية، وللثاني جميع الدية، فيحصل مع الأول ثمانية آلاف، ومع الثاني أربعة آلاف.

مسألة ضرب بطن أمة فأسقطت جنينا ميتا

فإن كانت بحالها، ونقص العبد بقطع اليد ثلث قيمته، وهو: أربعة آلاف.. فإن الأول ينفرد به، ويتضارب الأول والثاني في الثمانية الآلاف الباقية على ثلثي دية الأول، وجميع دية الثاني، وذلك خمسة أسهم، فيكون للأول خمسا الثمانية آلاف، وهو: ثلاثة آلاف ومائتان، وللثاني ثلاثة أخماسها، وهو: أربعة آلاف وثمانمائة. [مسألة ضرب بطن أمة فأسقطت جنينًا ميتًا] ] : وإن ضرب ضارب بطن أمة حامل بمملوك، وألقت جنينًا ميتًا.. وجب فيه عشر قيمة أمة، سواء كان الجنين ذكرًا أو أنثى، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق. وقال الثوري، وأبو حنيفة، ومحمد: (إن كان الجنين ذكرًا.. وجب فيه نصف عشر قيمته - يعني: الجنين - وإن كان أنثى.. وجب فيه عشر قيمتها) . دليلنا: أنه جنين، فاستوى في ضمانه الذكر والأنثى، كجنين الحر. إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في الوقت الذي يعتبر فيه قيمة الأم: فقال المزني، وأبو سعيد الإصطخري: تعتبر قيمتها يوم الإسقاط؛ لأنه حال استقرار الجناية، والاعتبار بالجناية حال الاستقرار، بدليل: أنه لو جرح عبدًا، ثم مات من الجراحة.. وجبت فيه دية حر. وقال أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: تعتبر قيمتها يوم الجناية. وهو المنصوص؛ لأن المجني عليه هو الجنين، ولم تتغير صفته تغيرًا يختلف به بدل نفسه، فكان الاعتبار بحاله يوم الجناية، وإنما تغير غيره، فاعتبر بنفسه، كما لو جرح عبدًا قيمته مائة، ثم رخص العبيد لكثرة الجلب حتى صارت قيمة مثله خمسين، ثم مات.. فإن قيمته تعتبر يوم الجناية. [فرع ضرب أمة فأعتقت ثم أسقطت ميتًا] وإن ضرب بطن أمة حامل بمملوك، فأعتقت، ثم ألقت جنينًا ميتًا.. وجب فيه دية جنين حر.

فرع وطء أمة بشبهة يكون ولدها حرا

وكذلك: لو ضرب بطن نصرانية حامل بنصراني، فأسلمت، ثم ألقت جنينًا ميتًا.. وجب فيه دية جنين مسلم؛ لأن الاعتبار بالجناية حال استقرار الجناية. وإن ضرب بطن أمة حامل بمملوك، فألقت جنينًا ميتًا، ثم أعتقت، وألقت جنينًا آخر من ذلك الضرب.. وجب في الجنين الأول عشر قيمة الأم، وفي الثاني دية جنين حر؛ لأن الأول مملوك، والثاني حر. وإن ضرب بطن أمة حامل بمملوك، فأعتقها سيدها، ثم أسقطت جنينًا ميتًا.. فإنه تجب فيه الغرة. قال ابن الحداد: ويكون للسيد من ذلك أقل الأمرين من عشر قيمة الأم أو الغرة؛ لأن الغرة إن كانت أكثر.. لم يستحق الزيادة؛ لأنها زادت بالحرية وزوال ملكه، وإن كانت الغرة أقل.. كانت له؛ لأن النقصان إنما حصل بإعتاقه، فلا يضمن له. وهذا: كما لو قطع يد عبد، فأعتقه سيده، ثم مات.. فإنه يجب فيه دية حر، للسيد منها أقل الأمرين من نصف قيمته أو ديته. قال القاضي أبو الطيب: هذا عندي غير صحيح، بل لا يكون للسيد شيء؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قد قال: (لو ضرب بطن أمة، فألقت جنينًا ميتًا، ثم أعتقت وألقت جنينًا آخر.. فعليه عشر قيمة أمه لسيدها في الأول، ويجب في الآخر ما يجب في جنين حر يرثه ورثته) . ولم يجعل للسيد منها شيئًا. ووجهه: أن الإسقاط حصل في حال الحرية. ويخالف إذا قطع يد عبد ثم أعتق؛ لأن الجناية كانت في حال الرق وقد وجب بها الأرش، وهاهنا الضرب لا يتعلق به أرش، وإنما يتعلق ذلك بالإسقاط. [فرع وطء أمة بشبهة يكون ولدها حرًا] ] : وإن وطئ حر أمة غيره بشبهة، فأحبلها.. كان الولد حرًا، وعلى الواطئ قيمة الولد يوم الولادة.

فرع ضربت أم الولد بطنها فألقت جنينا لا ضمان

فإن ضرب ضارب بطنها، فألقت جنينًا ميتًا.. وجبت فيه غرة مقدرة بنصف عشر دية أبيه، وعلى الواطئ عشر قيمة الأمة لسيدها، سواء كان عشر قيمة الأمة أقل من قيمة الغرة، أو مثلها، أو أكثر؛ لأن ضمان أحدهما ضمان حر، وضمان الثاني ضمان مملوك، ولا يمتنع ذلك فيهما، كما يقول في قيمة العبد ودية الحر المقتولين. [فرع ضربت أم الولد بطنها فألقت جنينًا لا ضمان] ] : وإن ضربت أم ولد لرجل بطنها، فألقت جنينًا ميتًا.. فقد قال ابن الحداد: لا ضمان، إلا أن تكون أمها حرة باقية.. فيكون على السيد الأقل من قيمة أم ولده أو سدس الغرة؛ لأن جناية أم الولد على سيدها، وهو وارث الجنين، فلا يجب عليه لنفسه ضمان، وإنما يجب ضمان نصيب الحرة. [مسألة أمة مشتركة حملت من زوج فضربت وأسقطت] ] : إذا كانت أمة بين رجلين نصفين، فحملت من زوج أو زنا، فضربها رجل، فأسقطت جنينًا ميتًا.. وجب عليه عشر قيمة الأم لسيدها. وإن ضربها أحد الشريكين، فأسقطت جنينًا ميتًا.. وجب عليه لشريكه نصف عشر قيمة الأم، وهدر نصيبه. فإن ضربها أحد الشريكين، ثم أعتقها الضارب، ثم ألقت جنينًا ميتًا، فإن كان المعتق معسرًا حال الإعتاق.. فقد عتق نصفها ونصف جنينها لا غير، فيجب عليه نصف عشر قيمة الأم لشريكه بنصف الجنين الرقيق، وهل يجب عليه ضمان نصفه الحر؟ فيه وجهان: [الأول] : قال ابن الحداد: لا يلزمه ضمانه؛ لأنه حين الجناية لم يكن مضمونًا عليه، والاعتبار في الضمان بحال الجناية، وحال الجناية حال الضرب؛ ولهذا اعتبرنا قيمة الأم حال الضرب. و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: يلزمه ضمانه بنصف غرة، وهو المنصوص في " الأم "؛ لأن الجناية على الجنين حال الإسقاط، وإنما الضرب سبب الجناية؛ لأنه

يحصل بالأم، ولمن يكون نصف هذه الغرة؟ يبنى على القولين فيمن نصفه حر ونصفه مملوك، إذا مات.. فهل يورث؟ وفيه قولان: أحدهما: يورث عنه، فيكون لورثته، ولا ترث أمه منها شيئًا؛ لأنه لم تكمل فيها الحرية، ولا يرث السيد منها؛ لأنه قاتل. والثاني: لا يورث عنه. فعلى هذا: يكون لمالك نصفه على المنصوص. وقال أبو سعيد الإصطخري: يكون لبيت المال. وإن كان المعتق موسرًا، فإن قلنا: يعتق نصيب شريكه بنفس اللفظ.. ضمن الضارب الجنين بغرة عبد أو أمة، وتكون موروثة عنه. وإن قلنا: إنه لا يعتق نصيب شريكه إلا بدفع القيمة، فإن دفع القيمة قبل الإسقاط.. كان الحكم فيه حكم ما لو قلنا: يعتق باللفظ، وإن لم يدفع القيمة إلا بعد الإسقاط.. كان حكمه حكم المعسر. وإن قلنا: إنه مراعى.. نظرت: فإن دفع القيمة.. كان حكمه حكم ما لو قلنا: يعتق باللفظ. وإن لم يدفع القيمة.. كان حكمه حكم المعسر. وإن أعتقها، ثم ضربها المعتق.. سقط قول ابن الحداد هاهنا، ولم يبق إلا الوجه المنصوص؛ لأنه جنى عليها، فلم يملك شيئًا منها. فأما إذا أعتقها أحدهما، وضربها الشريك الآخر، وأسقطت من ضربه جنينًا ميتًا، فإن كان المعتق معسرًا.. فقد عتق نصيب المعتق من الجارية وحملها، وأما نصيب الشريك منهما: فلا يعتق، ولا يجب على الضارب في نصيبه شيء؛ لأن الإنسان لا يضمن نصيبه بالإتلاف. وأما النصف الحر من الجنين: فإن قلنا: لا يورث عنه، بل يكون لمالك نصفه.. لم يجب على الضارب فيه شيء؛ لأنه لو وجب فيه شيء.. لكان له، ولسنا نجعله له من طريق الإرث فنحرمه إياه بالقتل، وإنما يستحقه بسبب ملكه. وإن قلنا: يرثه عنه

ورثته.. وجب فيه نصف غرة، ولا تستحق الأم منها شيئًا؛ لأن الحرية لم تكمل فيها. وإن قلنا بقول أبي سعيد الإصطخري: يكون لبيت المال.. كان نصف الغرة لبيت المال. وإن كان المعتق موسرًا، فإن قلنا: يعتق باللفظ.. فقد أتلف جنينًا حرًا، فيجب عليه فيه غرة، وتكون موروثة عنه، وتستحق أمه ميراثها منها؛ لأن جميعها حر. وإن قلنا: إنه يعتق بأداء القيمة، فإن أداها قبل الإسقاط.. كان كما لو قلنا: يعتق باللفظ، وإن أداها بعد الإسقاط.. كان الحكم كما لو كان معسرًا. وإن قلنا: إنه مراعى.. نظرت: فإن أدى القيمة.. كان الحكم فيه كما لو كان موسرًا. وإن لم يؤد القيمة.. كان كما لو كان معسرًا. فإن كانت بحالها، فضربها السيدان ضربة واحدة، ثم أعتقاها بكلمة واحدة، أو وكلا وكيلًا فأعتقها.. فقد قال ابن الحداد: على كل واحد منهما ربع الغرة؛ لأن بدل النفس يتغير بالحرية، وبدل الجنين إذا كان مملوكًا.. فهو عشر قيمة أمه، وإذا كان حرًا.. فهو غرة عبد أو أمة قيمتها عشر دية أمه، فإذا جنى عليه سيداه.. صار كل واحد منهما متلفًا نصف ملكه - وهو: الربع - وصاحبه متلفًا للنصف الآخر، وما أتلفه في ملكه.. فهو غير مضمون وسرايته غير مضمونة، وإذا كان كذلك.. سقط ضمان نصف النصف الذي لكل واحد منهما، وبقي النصف مضمونًا، وقد صار بدله بالعتق من الغرة، فوجب على كل واحد منهما ربع الغرة، ويكون للمولى منه أقل الأمرين من ربع عشر قيمة الأم أو ربع الغرة. قال القاضي أبو الطيب: وكثير من حفاظ أصحابنا ردوا ذلك، وقالوا: هذا خطأ على مذهب الشافعي، والذي يجيء على المذهب: أن يكون على كل واحد منهما نصف الغرة؛ لأن الجناية على الجنين حال الإسقاط، ولا يكون لها فيها حق؛ لأن

فرع ضرب أمته الحامل على بطنها ثم أعتقها ثم ألقت جنينا ميتا

الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو ضرب أمة، فألقت جنينًا ميتًا، ثم أعتقها مولاها، ثم ألقت جنينًا ميتًا آخر من ذلك الضرب.. وجب على الضارب في الجنين الأول عشر قيمة أمه لسيده، وفي الثاني غرة عبد أو أمة موروثة لورثته) . [فرع ضرب أمته الحامل على بطنها ثم أعتقها ثم ألقت جنينًا ميتًا] ] : وإن ضرب رجل بطن أمته الحامل، ثم أعتقها، فألقت جنينًا ميتًا.. فعلى قول ابن الحداد في التي قبلها: لا ضمان عليه. وعلى قول أكثر أصحابنا: عليه الضمان. وإن ضرب بطن حربية حامل، ثم أسلمت وألقت جنينًا ميتًا.. فعلى قول ابن الحداد: لا ضمان عليه. وعلى قول أكثر أصحابنا: عليه الضمان. وإن ارتدت امرأة وهي حامل، فضربها رجل، ثم رجعت إلى الإسلام، وألقت جنينًا ميتًا.. وجب على الضارب ضمانه، سواء أسقطته قبل الرجوع إلى الإسلام أو بعده؛ لأن جنينها محكوم بإسلامه، ولا يصير مرتدًا بارتدادها. قال ابن الصباغ: وإن ضرب ذمي بطن زوجته الذمية وهي حامل فأسلم، ثم أسقطت من ضربه جنينًا ميتًا.. فعلى قول ابن الحداد: يجب على عاقلته من أهل الذمة بقدر ما يجب في الجنين الكافر، وما زاد بالإسلام.. يكون في مال الجاني. وعلى قول سائر أصحابنا: تكون الغرة على عاقلته المسلمين؛ اعتبارًا بحال إسقاط الجنين. قال ابن الصباغ: فلو كان هناك حر، أمه معتقة، وأبوه مملوك ضرب بطن امرأة حامل، ثم أعتق أبوه فجر ولاءه من مولى الأم، ثم أسقطت المرأة جنينًا ميتًا.. فعلى قول ابن الحداد: يتحمل بدل الجنين مولى الأم؛ لأنه كان مولاه حال الجناية، فهي على عاقلته. وعلى قول سائر أصحابنا: تكون على مولى الأب؛ لأن الاعتبار بحال الإسقاط.

فرع ضرب عبد زوجة سيده المتوفى فأسقطت جنينا ميتا

[فرع ضرب عبد زوجة سيده المتوفى فأسقطت جنينًا ميتًا] ] : وإن مات رجل، وخلف عبدًا، وزوجة حاملًا، وأخا من أب وأم، فضرب العبد الزوجة، فأسقطت جنينًا ميتًا.. وجب فيه غرة عبد أو أمة، ويتعلق برقبة العبد، إلا ما صادف من جنايته حق مواليه.. فإنه يكون هدرًا، وجناية هذا العبد صادفت حقها في ربع الثلث؛ لأن لها ثلث بدل الجنين؛ لأنها أمه، فورثت الثلث منه، وحقها من العبد ربعه بإرثها من زوجها، فسقط ضمانه، وصادفت جنايته في الثلثين، للعم ثلاثة أرباعها؛ لأن له ثلثي الغرة، وله ثلاثة أرباع العبد، فسقط ذلك، وكان ثلاثة أرباع ثلثها مضمونًا على العم في هذا العبد، وربع ثلثيه مضمونًا على الأم في هذا العبد، فتصح من اثني عشر: ثلثها أربعة، هدر منها ربعها: سهم، ووجب على العم ثلاثة أسهم، وثلثاها ثمانية، هدر منها ثلاثة أرباعها: ستة، ووجب على الأم ربعها: سهمان، فيقاص سهمين بسهمين، وبقي لها عليه سهم، وهو: نصف سدس، فيجب عليه أقل الأمرين من نصف سدس قيمة العبد أو نصف سدس الغرة، والعبد ملكهما على ثلاثة أرباع، وربع كما كان. وبالله التوفيق

باب العاقلة وما تحمله من الديات

[باب العاقلة وما تحمله من الديات] العقل: اسم للدية. قال الشاعر: وما أبقت الأيام للمال عندنا ... سوى حذم أذواد محذفة النسل ثلاثة أثلاث فأثمان خيلنا ... وأقواتنا أو ما نسوق إلى العقل وإنما سميت الدية: العقل؛ لأنها تعقل بباب ولي المقتول. والعصبة الذين يتحملون الدية يسمون: العاقلة، وإنما سموا بذلك؛ لأنهم يأتون بالدية، فيعقلونها عند باب الولي. وقيل: لأنهم يمنعون من القاتل. و (العقل) : المنع، ولهذا سمي العقل عقلًا؛ لأن يمنع صاحبه من فعل القبيح. إذا ثبت هذا: فقتل الحر حرًا خطأ محضًا أو عمد خطأ.. كانت دية المقتول على عاقلة القاتل.. وبه قال أكثر أهل العلم. وقال الأصم، وابن علية، والخوارج: يجب الجميع في مال القاتل. وقال علقمة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وعثمان البتي، وأبو ثور: (دية الخطأ المحض على العاقلة، وأما دية عمد الخطأ: ففي مال القاتل) . دليلنا: ما روى المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل، فاقتتلتا، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح - وقيل: رمتها بحجر - فقتلتها

مسألة ما تحمله العاقلة من دية أو غيرها

وأسقطت جنينها، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعقلها على عاقلة القاتلة، وفي جنينها غرة عبد أو أمة» . فإذا حملت العاقلة دية عمد الخطأ.. فلأن تحمل دية الخطأ المحض أولى. وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه ذكرت عنده امرأة معينة بسوء، فأرسل إليها رسولًا، فأجهضت ذا بطنها في الطريق من فزعها منه، فاستشار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم في ذلك، فقال عثمان وعبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: إنما أنت مؤدب، ولا شيء عليك. فقال لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: ما تقول؟ فقال: إن اجتهدا.. فقد أخطآ، وإن علما.. فقد غشاك، عليك الدية. فقال عمر: عزمت عليك لتقسمنها على قومك) - يعني: على عاقلتي - ولم ينكر عليهما عثمان ولا عبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم. وروي: (أن مولاة لصفية جنت جناية، فقضى عمر بأرش جنايتها على عاقلة صفية) . ولا مخالف لهم في الصحابة، فدل على: أنه إجماع. [مسألة ما تحمله العاقلة من دية أو غيرها] ] : وهل تحمل العاقلة ما دون دية النفس؟ قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد: (تحمل العاقلة ما قل أو كثر من الأرش) . وبه قال عثمان البتي. وقال في القديم: (تحمل العاقلة دية النفس، ولا تحمل ما دون دية النفس، بل تجب في مال الجاني) . وحكى بعض أصحابنا: أن قوله في القديم: (إن العاقلة تحمل ثلث الدية فأكثر، ولا تحمل ما دون ثلث الدية) . وبه قال مالك، وابن المسيب، وعطاء، وأحمد، وإسحاق. وقال الزهري: تحمل العاقلة ما فوق ثلث الدية، فأما ثلث الدية فما دونه.. ففي مال الجاني. وقال أبو حنيفة: (تحمل أرش الموضحة مما زاد، وما دون أرش الموضحة.. ففي مال الجاني) .

فرع قتل أو جنى على عبد غيره فهل تحمله العاقلة

فإذا قلنا بقوله القديم.. فوجهه: أن ما دون دية النفس يجري ضمانه مجرى ضمان الأموال، بدليل: أنه لا تثبت فيه القسامة، ولا تجب فيه الكفارة، فلم تحملها العاقلة، كما لو أتلف عليه مالًا. وإذا قلنا بقوله الجديد.. فوجهه: أن من حمل دية النفس حمل ما دون الدية، كالجاني، ولأن العاقلة إنما حملت الدية عن القاتل في الخطأ وعمد الخطأ؛ لئلا يجحف ذلك بماله، وهذا يوجد فيما دون دية النفس. قال الشيخ أبو حامد: وهل تحمل العاقلة دية الجنين؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في الجديد: (تحمل ديته بكل حال) ؛ لما ذكرناه من حديث المغيرة بن شعبة. و [الثاني] : قال في القديم: (لا تحملها، بل تكون في مال الجاني) . وبه قال مالك؛ لأن العاقلة لا تحمل ما دون ثلث الدية. فإن وجب له القصاص في الطرف، فاقتص بحديدة مسمومة، فمات.. وجب على المقتص نصف الدية، فهل تحمل عنه العاقلة؟ فيه وجهان: أحدهما: تحمله عنه؛ لأنه ليس بعمد محض. والثاني: لا تحمله العاقلة؛ لأنه قصد قتله بغير حق. [فرع قتل أو جنى على عبد غيره فهل تحمله العاقلة] ؟] : وإن قتل الحر عبدًا لغيره خطأ أو عمد خطأ، أو جنى على طرفه خطأ أو عمد خطأ.. فهل تحمل عاقلته بدله؟ فيه قولان: أحدهما: لا تحمله العاقلة، بل تكون في ماله، وبه قال مالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحمل العاقلة عمدًا ولا عبدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا» . ولأنه يضمن

بالقيمة، فلم تحمله العاقلة، كالبهيمة. والثاني: تحمله العاقلة، وبه قال الزهري، والحكم، وحماد، وهو الأصح؛ لأنه يجب بقتله القصاص والكفارة، فحملت العاقلة بدله، كالحر لحر. وأما الخبر: فقيل: إنه موقوف على ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والقياس مقدم عليه، وإن صح.. كان تأويله: لا تحمل العاقلة عن عبد إذا جنى. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (تحمل العاقلة بدل نفس العبد، ولا تحمل ما دون بدل النفس) .

مسألة جنى الرجل على نفسه أو طرفه

دليلنا: أن من حملت العاقلة بدل نفسه.. حملت ما دون بدل نفسه، كالحر، وعكسه البهيمة. [مسألة جنى الرجل على نفسه أو طرفه] ] : وإن قتل الرجل نفسه أو جنى على طرفه عمدًا.. كان ذلك هدرًا، وهو إجماع؛ لأن أرش العمد في مال الجاني، والإنسان لا يثبت له مال على نفسه. وإن قتل نفسه خطأ أو جنى على طرفه خطأ.. كان ذلك هدرًا، وبه قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه. وقال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: (تكون على عاقلته، فإن كانت الجناية على نفسه.. كانت ديته لورثته، وإن كانت على طرفه.. أخذها لنفسه) . وروي ذلك عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. دليلنا: ما روي: «أن عوف بن مالك ضرب مشركًا بالسيف، فرجع عليه السيف فقتله، فامتنع أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصلاة عليه، وقالوا: قد أبطل جهاده، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بل مات مجاهدًا شهيدًا» . ولم يقل: إن ديته على عاقلته، ولو

فرع أرش خطأ الإمام على عاقلته أو في بيت المال

وجبت عليهم.. لبينها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه وقت الحاجة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وقيل: إن الذي رجع عليه سيفه فقتله هو أبو عوف، وهو مالك. [فرع أرش خطأ الإمام على عاقلته أو في بيت المال] ] : وما يجب من الأرش بخطأ الإمام.. ففيه قولان: أحدهما: أن عاقلته تحمل ذلك عنه؛ لما ذكرناه من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه. والثاني: يجب ذلك في بيت المال؛ لأن الخطأ يكثر منه في اجتهاده وأحكامه، فلو أوجبنا ذلك على عاقلته.. لأجحف بهم. فإذا قلنا: تحمله عاقلته.. وجبت كفارة قتله في الخطأ وعمد الخطأ في ماله. وإذا قلنا: تجب دية ذلك في بيت المال.. ففي الكفارة وجهان: أحدهما: تجب في بيت المال؛ لما ذكرناه في الدية. والثاني: تجب في ماله؛ لأن الكفارة لا تحمل العاقلة بحال. [مسألة دية المقتول عمدًا في مال الجاني] ] : وإن قتل غيره عمدًا، أو جنى على طرفه عمدًا.. وجبت الدية في مال الجاني، سواء كانت الجناية مما يجب فيها القصاص أو مما لا يجب فيها القصاص. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كانت لا قصاص فيها، مثل: الهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، والجائفة.. فإن العاقلة تحمله وإن كانت الجناية عمدًا) .

دليلنا: أن الخبر إنما ورد في حمل العاقلة دية الخطأ تخفيفًا على القاتل؛ لأنه لم يقصد القتل، والعامد قصد القتل، فلم يلحق به في التخفيف، ولأنه أرش جناية عمد محض، فلم تحمله العاقلة، كما لو قتل الأب ابنه. إذا ثبت هذا: فإن أرش العمد يجب حالًا. وقال أبو حنيفة: (يجب مؤجلًا في ثلاث سنين) . دليلنا: أن ما وجب بالعمد المحض كان حالًا، كالقصاص، وأرش أطراف العبيد. وأما الأرش الذي يجب بعمد الخطأ أو بالخطأ المحض؛ فإن كان دية كاملة.. فإنه يجب مؤجلًا في ثلاث سنين. وقال بعض الناس: يجب حالًا. وقال ربيعة: يجب مؤجلًا في خمس سنين. دليلنا: ما روي عن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهما قالا: (دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين) . ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم. ولأن العاقلة تحمل الدية على سبيل الرفق والمواساة، وما وجب على سبيل الرفق والمواساة.. لم يكن وجوبه حالًا، كالزكاة. إذا ثبت هذا: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولم أعلم خلافًا فيما علمته «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين» . وأنكر أصحاب الحديث

فرع ابتداء الأجل لأداء الدية

ذلك، وقالوا: لم يرو في تأجيل الدية على العاقلة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خبر صحيح ولا سقيم، فأجاب أصحابنا عن ذلك بجوابين: أحدهما: أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قد روى ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والثاني: أن لكلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تأويلًا، ومعنى قوله: (ولم أعلم خلافًا في الدية التي قضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على العاقلة) أنها في ثلاث سنين، لا أنه قضى بها في ثلاث سنين، وقد بينه في " الأم " [6/103] هكذا، وإنما المزني اختصر. [فرع ابتداء الأجل لأداء الدية] ] : أما أول ابتداء الأجل: فإن كانت الجناية على النفس.. كان ابتداء الأجل من حين الموت؛ لأنه حال استقرار الجناية. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال أصحابنا الخراسانيون: من حين الترافع إلى القاضي. وإن كانت الجناية على الطرف، فإن لم يسر إلى طرف آخر.. كان ابتداء الأجل من حين الجناية؛ لأنه حين وجوبه، وإن سرت إلى طرف آخر، مثل: أن قطع إصبعه، فسرت الجناية إلى كفه.. كان ابتداء الأجل من حين الاندمال؛ لأنه وقت استقرار الجناية.

فرع وقت أداء ما دون الدية

وحكى أصحابنا الخراسانيون وجهًا آخر: أن دية الإصبع من حين الجناية، ودية ما زاد عليها من وقت الاندمال. والأول أصح. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (أول مدة الأجل من حين يحكم القاضي على العاقلة بالدية) . دليلنا: أنه مال يحل بحلول الأجل، فكان أول الأجل من حين وجوب الأجل، كالثمن في البيع. [فرع وقت أداء ما دون الدية] ] : وإن كان الواجب أقل من الدية.. نظرت: فإن كان ثلث الدية فما دون.. وجب في آخر السنة الأولى؛ لأن العاقلة لا تحمل حالًا. وإن كان أكثر من الثلث، ولم يزد على الثلثين.. وجب في آخر السنة الأولى ثلث الدية، وفي آخر السنة الثانية الباقي. وإن كان أكثر من الثلثين، ولم يزد على الدية. وجب في آخر السنة الأولى ثلث الدية، وفي آخر السنة الثانية الثلث، وفي آخر الثالثة الباقي. وإن كان الواجب أكثر من الدية، بأن وجب بجنايته ديتان، فإن كانت لاثنتين.. حملت العاقلة لكل واحد من المجني عليهما ثلث الدية في كل سنة. هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: فيه وجهان: أحدهما: هذا، وهو الأصح. والثاني: أن العاقلة لا تحمل في كل سنة إلا ثلث الدية للمجني عليهما. وإن كانتا لواحد، مثل: أن قطع يديه ورجليه.. لم تحملهما العاقلة إلا في ست سنين، في كل سنة ثلث الدية. وهذا نقل أصحابنا العراقيين.

فرع كيفية دفع الدية الناقصة

وقال الخراسانيون: فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: أن العاقلة تحملها في ثلاث سنين. [فرع كيفية دفع الدية الناقصة] ] : وإن وجب بالخطأ أو بعمد الخطأ دية ناقصة عن دية الحر المسلم، كدية المرأة، ودية الجنين، والكافر.. ففيه وجهان: أحدهما: أنها تقسم في ثلاث سنين؛ لأنها بدل نفس، فكانت في ثلاث سنين، كدية الحر المسلم. والثاني: أنه يجب في آخر كل سنة ثلث دية حر مسلم؛ لأنه ينقص عن الدية الكاملة، فكان كأرش الطرف. وإن قتل العبد خطأ أو عمد خطأ، وقلنا: تحمل العاقلة قيمته.. ففيه وجهان: أحدهما: أنها تقسم على العاقلة في ثلاث سنين وإن زادت حصة كل سنة على ثلث الدية أو نقصت؛ لأنه بدل نفس. والثاني: أنه كأرش الطرف، فتحمل في كل سنة ثلث دية الحر المسلم؛ اعتبارًا بما تحمله من دية الحر المسلم. [مسألة من هم العاقلة] ؟] : و (العاقلة) : هم العصبة. ولا يدخل فيهم أبو الجاني ولا جده وإن علا، ولا ابنه ولا ابن ابنه وإن سفل. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يدخلون فيهم) . دليلنا: ما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن امرأتين من هذيل اقتتلتا، ولكل واحدة منهما زوج وولد، فقتلت إحداهما الأخرى، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية المقتولة على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها، فقالت عصبة المقتولة: ميراثها لنا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لا، [ميراثها] لزوجها ولولدها» .

«وروى أبو رمثة قال: دخلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعي ابن لي، فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من هذا؟ " فقلت: ابني، فقال: " أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه» . ومعلوم أنه لم يرد: أنه لا يجرحك ولا تجرحه، وإنما أراد: أنك لا تؤخذ بجنايته ولا يؤخذ بجنايتك. وروى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، ولا يؤخذ أحد بجريرة ابنه، ولا يؤخذ ابن بجريرة أبيه» . ولأن مال الولد والوالد كماله، بدليل: أن نفقتهما تجب في مالهما، كما تجب في ماله، فلما لم تجب في ماله.. لم يحمل عنه. فإن كان للمرأة ابن هو ابنُ ابنِ عمها.. لم يعقل عنها؛ لعموم الخبر.

فرع الدية على العاقلة وليس على الجاني شيء

وقال أبو علي السنجي: ويحتمل أن يقال: يحمل عنها؛ لأن فيه شيئين يحمل في أحدهما دون الآخر، فغلب الآخر، كولايته في النكاح على أمه. والأول هو المشهور. [فرع الدية على العاقلة وليس على الجاني شيء] ] : ولا يحمل القاتل مع العاقلة من الدية شيئًا. وقال أبو حنيفة: (يحمل ما يحمل أحدهم) . دليلنا: ما ذكرناه من خبر جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المرأتين. فإن لم يكن للجاني عصبة وله مولى من أعلى.. حمل عنه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» . والنسب يعقل به، فكذلك الولاء، ولا يحمل المولى إلا بعد العاقلة من النسب، كما لا يرث إلا بعدهم. فإن كان المعتق له جماعة.. لم يحملوا إلا ما يحمله الشخص الواحد من العصبة؛ لأنهم يقومون مقام الواحد من العصبة. فإن لم يكن معتق.. حمل عصبة المعتق، كالأخ وابن الأخ، والعم وابن العم، وهل يحمل ابن المعتق وأبوه؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] : أحدهما: لا يحملان، كما لا يحمل ابن الجاني ولا أبوه. والثاني: يحملان؛ لأن المعتق عصبة يحمل لو كان باقيًا، فحمل ابنه وأبوه، بخلاف ابن الجاني وأبيه، فإن الجاني لا يحمل، فكذلك لم يحملا. فإن لم يكن للمعتق عصبة.. حمل معتقه، ثم عصبته، على ما ذكرناه في الإرث. فإن لم يكن للجاني عصبة ولا مولى ولا عصبة مولى ولا مولى مولى، فإن كان مسلمًا.. حملت عنه الدية في بيت المال؛ لأنه لما نقل ماله إلى بيت المال إذا مات إرثًا.. حمل عنه بيت المال، كالعصبة. وإن كان كافرًا.. لم يحمل عنه في بيت المال؛ لأن مال بيت المال للمسلمين، وليس هو منهم، وإنما ينقل ماله إلى بيت المال إذا لم يكن له وارث فيئًا لا إرثًا. وإن كان للجاني مولى من أسفل.. فهل يحمل عنه؟ فيه قولان:

أحدهما: لا يحمل عنه، وهو الأصح؛ لأنه لا يرثه، فلم يحمل عنه، كالأجنبي. والثاني: يحمل عنه، وبه قال أبو حنيفة، وأصحاب مالك رحمة الله عليه؛ لأنه لما حمل عنه المولى الأعلى عن الأسفل.. حمل الأسفل عن الأعلى، كالأخوين. فعلى هذا: لا يحمل إلا بعد عدم المولى من أعلى، ويقدم على بيت المال؛ لأنه من العاقلة الخاصة له. وأما عصبة المولى من أسفل: فلا يحملون، قولًا واحدًا؛ لأن الجاني لا يحمل عنهم، فلم يحملوا عنه. وإن كان للمولى من أسفل مولى من أسفل.. فهل يحمل عن الجاني؟ الذي يقتضي المذهب: أنه على قولين، كمولاه من أعلى؛ لأن الجاني يحمل عنه. فإن لم يكن للجاني عصبة من النسب، ولا من يحمل من جهة الولاء، وليس هناك بيت مال.. فهل تجب الدية في مال الجاني؟ فيه قولان، بناء على أن الدية هل تجب على العاقلة ابتداء، أو على الجاني ثم تحمل العاقلة عنه؟ فيه قولان: أحدهما: أنها تجب على العاقلة ابتداءً؛ لأنهم هم المطالبون بها. فعلى هذا: لا تجب في مال الجاني. والثاني: أنها تجب على الجاني ابتداء، ثم تتحملها العاقلة عنه؛ لأنه هو المباشر للجناية. فعلى هذا: يجب أداء الدية من ماله. فإذا قلنا بهذا: وكان له أب وابن.. فهل يحملان؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو علي الطبري: يحملان، ويقدمان على الجاني؛ لأنا إنما لم نحمل عليهما؛ إبقاء على الجاني، فإذا حمل الجاني.. كانا أولى بالحمل و [الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق: لا يحملان؛ لأنا إنما قلنا يحمل الجاني على هذا؛ لأن الدية وجبت عليه ابتداء، فإذا لم يوجد من يتحمل عنه.. بقي الوجوب في محله، والأب والابن لم تجب الدية عليهما في الابتداء، ولا هما من أهل التحمل، فلم يحملا بحال.

مسألة جماعة لا يتحملون العقل

[مسألة جماعة لا يتحملون العقل] ] : ولا يعقل (العديد) ، وهو: الرجل القريب الذي يدخل في قبيلة ويعد فيهم. ولا يحمل (الحليف) ، وهو: أن يحالف رجل رجلًا على أن ينصر أحدهما الآخر، ويعقل أحدهما عن الآخر، ويرث أحدهما الآخر. ووافقنا أبو حنيفة في العديد، وخالفنا في الحليف إذا لم يكن له قرابة من النسب.. فإنه يرث، ويعقل. دليلنا: قَوْله تَعَالَى {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] [الأنفال: 75] . فجعل الله القرابات أولى من غيرهم، وهذا ليس منهم. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حلف في الإسلام» . ولم يرد بذلك: أنه لا يجوز التحالف بين المسلمين على النصرة، بل ذلك من مقتضى الدين، وإنما أراد: لا حكم للحلف في الإسلام. [فرع لا يعقل أهل الديوان إلا العصبات] ] : ولا يعقل أهل الديوان من غير أهل العصبات. وقال مالك، وأبو حنيفة رحمهما الله: (إذا حزب الإمام الناس، وجعلهم فرقًا

فرع العصبة من يعرف اتصال نسبه

تحت يد كل عريف فرقة، فإذا جنى واحد من أهل تلك الفرقة خطأ أو عمد خطأ.. حمل أهل ديوانه من فرقته عنه) . دليلنا: أنهم لا يرثون، فلم يعقلوا كالأجانب. [فرع العصبة من يعرف اتصال نسبه] ] : ولا يعقل عن الجاني إلا من يعرف اتصال نسبه إليه، فإن عرف رجل أنه من قبيلة بعينها، ولكن لا يعرف اتصال نسبه ونسبهم إلى أب.. لم يعقلوا عنه؛ لأن معرفته أنه منهم إذا لم يعرف اجتماع نسبه ونسبهم إلى أب.. لا يقتضي أن يعقلوا عنه، كما لا يعقل عنه سائر بني آدم من غير تلك القبيلة وإن علمنا أن الجميع من ولد آدم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه. وإن كان هناك رجل مجهول النسب، فانتسب إلى قبيلة، وأمكن صدقه وصادقوه على ذلك.. ثبت نسبه منهم، وعقلوا عنه. فإن قال جماعة من الناس: سمعنا أنه ليس منهم، وشهدوا بذلك.. لم ينتف نسبه منهم بذلك. وقال مالك: (ينتفي نسبه) . وهذا غلط؛ لأنه نفي نسب محض، فلم يزل به نسب حكم بثبوته. فإن جاء آخر من غيرهم، وقال: هو ابني وولد على فراشي، وأقام على ذلك بينة.. ثبت نسبه منه، وانتفى نسبه من الأولين؛ لأن البينة أقوى من مجرد الدعوى. [مسألة المسلم والكافر يعقل أحدهما عن الآخر] وعقل أهل الذمة والحرابة عن بعضهم] : ولا يعقل مسلم عن كافر، ولا كافر عن مسلم؛ لأنهما لا يتوارثان. ويعقل أهل الذمة بعضهم عن بعض إذا ثبت اتصال نسبهم إلى أب، سواء كانوا على ملة واحدة، كاليهودية، أو على ملتين، كاليهودية والنصرانية. وقال أبو حنيفة: (ولا يعقل ذمي عن ذمي) . دليلنا: أنهم يتوارثون، فتعاقلوا، كالمسلمين.

فرع رمى ذمي غرضا وأسلم ثم أصاب شخصا

ولا يعقل ذمي عن حربي؛ ولا حربي عن ذمي وإن جمعتهما ملة واحدة وأب واحد؛ لأنهما لا يتوارثان، فلم يتعاقلا، كالأجنبيين. فإن لم يكن للذمي عاقلة من النسب، وله مولى من أعلى.. حمل عن إذا كان يرثه، وكذلك: إن كان له عصبة: مولى أو مولى مولىً، وهل يحمل عنه المولى من أسفل؟ على القولين، فيمن لم يكن له عاقلة، أو كان له عاقلة لا تقدر على جميع الدية. فهل تجب في ماله؟ على القولين في المسلم. فإن قلنا: تجب في ماله.. فهل يحمل عنه أبوه وابنه؟ على الوجهين في المسلم. [فرع رمى ذمي غرضًا وأسلم ثم أصاب شخصًا] ] : وإن رمى ذمي سهمًا إلى غرض، فأسلم، ثم وقع السهم في إنسان فقتله.. وجبت الدية في ماله؛ لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين؛ لأن الرمي وجد منه وهو ذمي، ولا يمكن إيجابها على عاقلته من أهل الذمة؛ لأن الإصابة وجدت وهو مسلم، فلم يبق إلا إيجابها في ماله. وإن رمى مسلم سهمًا إلى صيد، فارتد، ثم أصاب السهم إنسانًا فقتله.. وجبت الدية في ماله؛ لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين؛ لأن الإصابة وجدت وهو مرتد، ولا يمكن إيجابها على عاقلته من الكفار؛ لأنه لا عاقلة له منهم. فإن قطع ذمي يد رجل خطأ، فأسلم الذمي، ثم مات المقطوع من الجناية.. قال الشيخ أبو إسحاق: عقلت عنه عصباته من أهل الذمة دون المسلمين؛ لأن الجناية وجدت وهو ذمي؛ ولهذا يجب بها القصاص، ولا يسقط عنه بالإسلام. وقال ابن الحداد: يجب على عاقلته من أهل الذمة أرش الجراحة لا غير، ولا تحمل ما زاد؛ لأنه وجب بعد الإسلام، وتجب الزيادة في مال الجاني، ولا تحمله عاقلته من المسلمين؛ لأن سببها كان في الكفر. قال ابن الحداد: وإن جني ذمي على رجل خطأ، ثم أسلم الجاني، ثم جنى على المجني عليه جناية أخرى خطأ، ومات من الجنايتين.. فإن على عاقلته من المسلمين

فرع قطع ولد عبد ومعتقة يد إنسان خطأ ثم عتق أبوه

نصف الدية، وعلى عاقلته من أهل الذمة أقل الأمرين من أرش الجناية في حال الذمة أو نصف الدية، فإن كان نصف الدية أقل.. لزمهم ذلك، وإن كان أرش الجناية أقل.. لزمهم قدر الأرش، وما زاد عليه إلى تمام نصف الدية.. يجب في مال الجاني؛ لأنه وجب بعد الإسلام. ولا فرق بين أن يجرحه في حال الذمية جراحة وبعد الإسلام جراحات، أو يجرحه في حال الذمة جراحات وبعد الإسلام جراحة واحدة، فإن الدية مقسومة على الحالين، فيجب على عاقلته من المسلمين نصف الدية، وعلى عاقلته من أهل الذمة أقل الأمرين من نصف الدية أو أرش الجناية وأرش الجراحة أو الجراحات في حال الذمة. وإن جرحه في حال الذمة جراحة خطأ ثم أسلم، ثم قتله خطأ.. دخل الأرش في دية النفس على المذهب، فكانت الدية على عاقلته من المسلمين. وعلى قول أبي سعيد الإصطخري، وأبي العباس: لا يدخل، فيكون أرش الجراحة على عاقتله من أهل الذمة، ودية النفس على عاقلته من المسلمين. وإن جرح مسلم إنسانًا خطأ، ثم ارتد الجارح، وبقي في الردة زمانًا يسري في مثله الجرح، ثم أسلم، ثم مات المجروح.. وجبت الدية، وعلى من تجب؟ فيه قولان: أحدهما: تجب على عاقلته؛ لأن الجراحة والموت وجدا في الإسلام. والثاني: يجب على العاقلة نصف الدية، وفي مال الجاني النصف؛ لأنه وجد سراية في حال الإسلام وسراية في حال الردة، فحملت ما سرى في الإسلام ولم تحمل ما سرى في الردة. [فرع قطع ولد عبد ومعتقة يد إنسان خطأ ثم عتق أبوه] ] : وإن تزوج عبد معتقة لآخر، فولدت منه ولدًا، فقطع الولد يد إنسان خطأ، ثم أعتق الأب، ثم سرت الجناية إلى نفس المقطوع ولا عصبة لأبي الولد.. قال ابن الحداد: وجب على مولى أم الولد دية اليد؛ لأنه وجب وهو مولاه، ووجب باقي الدية في مال الجاني؛ لأنه لا يمكن إيجابها على مولى الأم؛ لأنه وجب بعد انتقال

مسألة جناية المعتوه وأضرابه خطأ

ولاء الولد عنه، ولا يمكن إيجابه على مولى الأم؛ لأنه وجب بعد انتقال ولاء الولد عنه، ولا يمكن إيجابه على معتق الأب؛ لأن سببه وجد وهو غير مولى له، فكان في مال الجاني. [مسألة جناية المعتوه وأضرابه خطأ] ] : وإن جنى الصبي أو المجنون أو المعتوه جناية خطأ، أو عمد خطأ، أو عمدًا محضًا، وقلنا: إن عمده خطأ.. فإن عاقلته تحمل عنه الدية؛ لأن تحمل العاقلة للدية جعل بدلًا عن التناصر في الجاهلية بالسيف، وهو ممن لا تنصرهم عاقلتهم. وإن جنى أحد من عصبة الصبي والمجنون والمعتوه خطأ أو عمد خطأ.. لم يحمل الصبي والمجنون والمعتوه؛ لأنهم ليسوا من أهل النصرة. وإن جنت المرأة أو الخنثى المشكل خطأ أو عمد خطأ.. حملت عاقلتهما عنهما الدية. وإن جنى أحد من عصباتهما.. لم يحملا عنه الدية؛ لما ذكرناه في الصبي والمجنون. فإن بان الخنثى رجلًا.. تحمل العقل. وإن أعتقت امرأة عبدًا أو أمة، فجنى المعتق على غيره خطأ.. لم تحمل المولاة عنه؛ لأنها إذا لم تحمل بالنسب.. فلأن لا تحمل بالولاء أولى. قال المسعودي [في " الإبانة "] : ولكن تحمل عصبتها الذين يحملون جنايتها إذا جنت. [فرع لا يحمل الزمن ولا الهرم] ] : ويحمل المريض إذا لم يبلغ الزمانة، والشيخ إذا لم يبلغ الهرم؛ لأنهما من أهل النصرة، فإن بلغ الشيخ الهرم والشاب المريض الزمانة.. فهل يحملان الدية؟ قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان، بناء على القولين في جواز قتلهما إذا أسرا. وقال ابن أبي هريرة: إن كانت الزمانة من اليدين والرجلين.. لم يحملا. وذكر الشيخ أبو حامد: أنهما يحملان، وجهًا واحدًا.

مسألة لا يحمل العقل إلا الغني والمتوسط

[مسألة لا يحمل العقل إلا الغني والمتوسط] ] : ولا يحمل العقل من العاقلة إلا الغني والمتوسط، فأما (الفقير) : وهو من لا يملك ما يكفيه على الدوام.. فإنه لا يحمل العقل. وقال أبو حنيفة: (يحمل) . دليلنا: أن العاقلة إنما تحمل الدية عن القاتل على طريق الرفق والمواساة، والفقير ليس من أهل المواساة. ولأن الدية إنما نقلت إلى العاقلة تخفيفًا عن القاتل؛ لئلا يجحف بماله، فلو أوجبنا ذلك على الفقير.. لدفعنا الضرر عن القاتل، وألحقناه بالفقير، والضرر لا يزال بالضرر. ويجب على المتوسط ربع دينار مثقال؛ لأنه لا يمكن إيجاب الكثير عليه؛ لأنه يجحف به، فقدر ما يؤخذ منه بربع دينار؛ لأنه ليس في حد التافه؛ ولهذا قالت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (ما كانت اليد تقطع على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشيء التافه) . وقد ثبت أن اليد لا تقطع بدون ربع دينار. ويجب على الغني نصف دينار؛ لأنه لا يجوز أن يكون ما يؤخذ من الغني والمتوسط واحدًا، فقدر ما يؤخذ من الغني بنصف دينار؛ لأنه أول قدر يؤخذ منه في زكاة الذهب. إذا ثبت هذا: فهل يجب هذا القدر على المتوسط والغني مقسومًا في الثلاث سنين، أو يجب هذا القدر في كل سنة من الثلاث سنين؟ فيه وجهان: أحدهما: أن هذا القدر يجب مقسومًا في ثلاث سنين لا غير. فعلى هذا: لا يجب على المتوسط أكثر من ربع دينار، في كل سنة نصف سدس

دينار. ويجب على الغني نصف دينار في ثلاث سنين، في كل سنة سدس دينار؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (يحمل من كثر ماله نصف دينار) . وهذا يقتضي أن هذا جميع ما يحمله. ولأن إيجاب ما زاد على ذلك عليه يجحف به. والثاني - وهو الأصح -: أن هذا القدر يجب في كل سنة من الثلاث سنين، فيكون جميع ما يجب على المتوسط في الثلاث سنين ثلاثة أرباع دينار، وجميع ما يجب على الغني في الثلاث سنين دينار ونصف دينار؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (يحمل الغني نصف دينار، والمتوسط ربع دينار حتى يشترك النفر في بعير) . وظاهر هذا أنهم يحملون هذا القدر كل سنة من الثلاث. ولأنه حق يتعلق بالحول على سبيل المواساة، فتكرر بتكرر الأحوال، كالزكاة. إذا ثبت هذا: فإن الجماعة من العاقلة يشتركون في شراء بعير؛ لأن الواجب عليهم الإبل لا الدنانير. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (الفقير والغني والمتوسط سواء، فأكثر ما يحمله الواحد منهم أربعة دراهم، وأقله ليس له حد) . ودليلنا: أنه حق مخرج على وجه المواساة، فاختلف بكثرة المال وقلته، كالزكاة. ويعتبر حال كل واحد منهم بالبلوغ، والعقل، واليسار، والإعسار، والتوسط عند حلول الحول، كما يعتبر النصاب في آخر الحول، فإن كان معسرًا عند حلول الحول.. لم يجب عليه شيء، فإن أيسر بعد ذلك.. لم يجب عليه شيء من الثلث الواجب قبل يساره، فإن كان موسرًا عند حلول الحول الثاني.. وجب عليه. وإن كان موسرًا عند حلول الحول، فأعسر قبل دفع ما عليه.. كان دينًا في ذمته إلى أن يوسر؛ لأنه قد وجب عليه. وإن مات واحد منهم بعد الحول وهو موسر.. لم يسقط عنه، بل يجب قضاؤه من تركته. وقال أبو حنيفة: (يسقط) . دليلنا: أنه مال استقر وجوبه في حال الحياة، فلم يسقط بالموت، كالدين.

مسألة معرفة العاقلة وأقربهم الإخوة

[مسألة معرفة العاقلة وأقربهم الإخوة] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ومعرفة العاقلة: أن ينظر إلى إخوته لأبيه وأمه فيحملهم) . وجملة ذلك: أن الحاكم إذا أراد قسمة العقل.. فإنه يبدأ بالإخوة للأب والأم أو للأب؛ لأنهم أقرب العاقلة، فيؤخذ من الغني منهم نصف دينار، ومن المتوسط ربع دينار، فإن وفى ذلك بثلث الدية.. لم يحمل على من بعدهم، وإن لم يف ذلك.. حمل على بني الإخوة وإن سفلوا، فإن لم يف ذلك.. حمل على الأعمام، فإن لم يف ذلك.. حمل على بني الأعمام إلى أن يستوعب جميع القبيل الذين يتصل أبو الجاني بأبيهم، فإن لم يف ما حمل عليهم بثلث الدية.. حمل عنه المولى ومن أدلى به، فإن لم يف ما حمل عليهم بثلث الدية.. حملت تمام الثلث في بيت المال. وعلى هذا في الحول الثاني والثالث. وقال أبو حنيفة: (يقسم على القريب والبعيد منهم، ولا يقدم القريب) . دليلنا: أنه حكم يتعلق بالتعصيب، فاعتبر به الأقرب فالأقرب، كالميراث. إذا ثبت هذا: فاجتمع في درجة واحدة اثنان: أحدهما يدلي بالأب والأم، والآخر بالأب لا غير، كأخوين أو ابني أخ أو عمين أو ابني عم.. ففيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (هما سواء؛ لأنهما متساويان في قرابة الأب، وأما الأم: فلا مدخل لها في النصرة وحمل العقل، فلم يرجح بها) . و [الثاني] : قال في الجديد: (يقدم من يدلي بالأب والأم؛ لأنه حق يستحق بالتعصيب، فقدم فيه من يدلي بالأبوين على من يدلي بأحدهما، كالميراث) . [فرع اجتماع جماعة من العاقلة بدرجة] ] : وإن اجتمع جماعة من العاقلة في درجة واحدة، فكان الأرش الواحد بحيث إذا قسم عليهم.. خص الغني منهم دون نصف دينار، والمتوسط منهم دون ربع دينار.. ففيه قولان:

فرع وجود العاقلة في بلد القاتل أو غيابهم

أحدهما: يقسم عليهم على عددهما؛ لأنهم استووا في الدرجة والتعصيب، فقسم المال بينهما على عددهم، كالميراث. والثاني: يخص به الحاكم من رأى منهم؛ لأنه ربما كان العقل قليلًا، فخص كل واحد منهم فلس، وفي تقسيط ذلك مشقة. [فرع وجود العاقلة في بلد القاتل أو غيابهم] ] : إذا كان جميع العاقلة حضورًا في بلد القاتل.. فإن الحاكم يقسم الدية عليهم على ما مضى. وإن كانوا كلهم غائبين عن بلد القاتل، وهم في بلد واحد.. فإن حاكم البلد الذي فيه القاتل إذا ثبت عنده القتل.. يكتب إلى حاكم البلد الذي فيه العاقلة ليقسم الدية عليهم. وإن كان بعض العاقلة حضورًا في بلد القاتل وبعضهم غائبًا عنه في بلد آخر.. نظرت: فإن حضر معه الأقربون إليه، وأمكن أن يحمل ثلث الدية على الأقربين.. لم يحمل على من بعدهم، وإن لم يمكن حمل ثلث الدية على الأقربين.. حمل على من بعدهم وإن كانوا غائبين. وإن كان جماعة من العاقلة في درجة واحدة، وبعضهم حاضر في بلد القاتل وبعضهم غائب عنه في بلد آخر، فإن لم يكن في الحضور سعة لاستغراق الدية.. فإن الدية تحمل عليهم وعلى من غاب، وإن كان في الحاضرين سعة لاستغراق الدية.. ففيه قولان: أحدهما: أن الحاكم يقسم الدية على الحاضرين دون الغائبين، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لأن الحاضرين أحق بالنصرة من الغائبين. والثاني: تقسم الدية على الجميع، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه حق مال يستحق بالتعصيب، فاستوى فيه الحاضر والغائب، كالميراث. وإن حضر معه الأبعدون، وغاب الأقربون.. فاختلف أصحابنا فيه:

مسألة تقويم النجوم وقت الحلول

فقال الشيخ أبو إسحاق، والمسعودي [في " الإبانة "] : هي على القولين في التي قبلها. وقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: يقدم الأقربون، قولًا واحدًا؛ لأنه مبني على التعصيب، فكل من قرب.. كان أولى، كالميراث. [مسألة تقويم النجوم وقت الحلول] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يقوم نجم إلا بعد حلوله) : وجملة ذلك: أن الدية إذا وجبت على العاقلة، فإن كانت الإبل موجودة معهم أو في بلدهم بثمن مثلها عند الحول.. وجب عليهم أن يجمعوا ما وجب على كل واحد منهم ويشتروا به إبلًا، وإن كان معدومة أو موجودة بأكثر من ثمن مثلها.. انتقلوا إلى بدلها، وبدلها في قوله القديم: (اثنا عشر ألف درهم أو ألف مثقال) ، وفي قوله الجديد: (قيمتها) . فإذا قلنا: تجب قيمتها.. فإنها تقوم عليهم عند حلول الحول أقل إبل، لو بذلوها.. لزم الولي قبول ذلك، فإن أخذ الولي القيمة، ثم وجدت الإبل.. لم يكن له المطالبة بالإبل؛ لأن الذمة قد برئت بالقيمة، وإن قومت الإبل، ثم وجدت الإبل قبل قبض القيمة.. كان للولي أن يطالب بالإبل؛ لأن حقه في الإبل لم يسقط بالتقويم. وبالله التوفيق

باب اختلاف الجاني وولي الدم

[باب اختلاف الجاني وولي الدم] إذا قتل حر رجلًا، فقال القاتل: كان المقتول عبدًا، وقال ولي المقتول: بل كان حرًا، ولا بينة.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هاهنا: (القول قول الولي) ، وقال فيمن قذف رجلًا، فقال القاذف: هو عبد، وقال المقذوف: بل أنا حر: (القول قول القاذف) . فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: القول قول الجاني والقاذف مع يمينه؛ لأن الأصل حقن دمه وحمى ظهره. والثاني: القول قول الولي والمقذوف مع يمينه؛ لأن الظاهر منه الحرية. ومنهم من حملهما على ظاهرهما وفرق بينهما، وقال: لأنا إذا جعلنا القول قول الجاني.. أسقطنا عنه القصاص، فيكون ذلك إسقاطًا للقصاص الذي يقع به الردع، وإذا جعلنا القول قول القاذف.. سقط الحد، ولم يسقط التعزير، فيقع به الردع. وإن قال الجاني: قتلته وأنا صبي، وقال الولي: بل قتلته وأنت بالغ، ولا بينة.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل فيه الصغر. وإن قال القاتل: قتلته وأنا مجنون، وقال الولي: بل قتلته وأنت عاقل، فإن لم يعرف له حال جنون.. فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الجنون، وإن عرف له حال جنون ولم يعلم أنه قتله في حال الجنون أو في حال العقل.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأنه أعرف بحاله، والأصل براءة ذمته مما يدعى عليه. وحكى ابن الصباغ وجهًا آخر: أن القول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل السلامة، والأول أصح.

مسألة وجب قصاص في إصبع فقطع اثنتين

فإن أقام الولي شاهدين: أنه قتله وهو عاقل، وأقام القاتل شاهدين: أنه قتله وهو مجنون.. تعارضت البينتان وسقطتا. وإن اتفق الجاني والولي أنه قتله وهو زائل العقل، ولكن اختلفا بما زال به عقله: فقال الجاني: زال بالجنون، وقال الولي: بل زال بالسكر، وقلنا: يجب القصاص على السكران.. فالقول قول الجاني؛ لأنه أعرف بحاله، ولأن الأصل عدم وجوب القصاص عليه. [مسألة وجب قصاص في إصبع فقطع اثنتين] مسألة: [وجوب قصاص في إصبع فقطع اثنتين] : وإن وجب له القصاص في إصبع، فقطع له إصبعين، وقال المقتص: أخطأت، وقال المقتص منه: بل تعمدت.. فالقول قول المقتص مع يمينه؛ لأنه أعلم بفعله. وإن قال المقتص: حصلت الزيادة باضطراب الجاني، وقال الجاني: بل قطعتها عامدًا.. ففيه وجهان: أحدهما: القول قول الجاني؛ لأن الأصل عدم الاضطراب. والثاني: القول قول المقتص؛ لأن الأصل براءة ذمته من الضمان. [فرع جرح ثلاثة رجلًا فمات واختلفوا بأيها مات] ] : وإن جرح ثلاثة رجلًا ومات، فقال أحدهم: اندملت جراحتي ثم مات من جراحة الآخرين، وصدقه الولي، وكذبه الآخران، فإن كانت الجنايات موجبة للقصاص، فأراد الولي القصاص.. لم يؤثر تكذيب الآخرين؛ لأن القصاص يجب عليهما بكل حال. وإن عفا الولي عن القصاص إلى الدية، أو كانت الجنايات غير موجبة للقصاص.. قبل تصديق الولي في حق نفسه دون الآخرين؛ لأن عليهما في ذلك ضررًا؛ لأنه إذا مات من جراحة ثلاثة.. وجب على كل واحد منهم ثلث الدية، وإذا مات من جراحة اثنين.. وجب على كل واحد منهما نصف الدية.

مسألة قطع عضو شخص ثم اختلفا بحاله

وإن قد رجلًا ملفوفًا، فقال الضارب: كان ميتًا، وقال الولي: بل كان حيًا.. ففيه قولان: أحدهما: القول قول الجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته. والثاني: القول قول الولي؛ لأن الأصل فيه الحياة. [مسألة قطع عضو شخص ثم اختلفا بحاله] ] : وإن قطع رجل عضو رجل، ثم اختلفا: فقال الجاني: قطعته وهو أشل، وقال المجني عليه: قطعته وهو سليم.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: القول قول الجاني، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن الأصل براءة ذمته من الضمان. والثاني: القول قول المجني عليه، وهو قول أحمد؛ لأن الأصل سلامته من الشلل. ومنهم من قال: إن كان اختلافهما في الأعضاء الظاهرة، كاليد، والرجل، واللسان، والبصر، وما أشبهها.. فالقول قول الجاني، وإن كان اختلافهما في الأعضاء الباطنة، كالذكر، والأنثيين.. فالقول قول المجني عليه؛ لأن الأعضاء الظاهرة يمكن للمجني عليه إقامة البينة على سلامتها، فلم يقبل قوله في سلامتها، والباطنة لا يمكنه إقامة البينة على سلامتها، فقبل قوله في سلامتها، كما قلنا فيمن علق طلاق امرأته على دخول الدار.. فإنه لا يقبل قولها، ولو علق طلاقها على حيضها.. قبل قولها. فإذا قلنا: القول قول الجاني في الأعضاء الظاهرة، وإنما لا يكون ذلك إذا لم يقر الجاني: أن المجني عليه كان صحيحًا، فأما إذا أقر: أنه كان صحيحًا، ثم ادعى: أنه طرأ عليه الشلل وجنى عليه وهو أشل، وقال المجني عليه: بل كان صحيحا وقت الجناية.. ففيه قولان:

فرع أوضحه اثنتين وأزال الحاجز بينهما

أحدهما: القول قول الجاني مع يمينه؛ لأن البينة لا تتعذر على المجني عليه على سلامته، فلم يقبل قوله في سلامته. والثاني: القول قول المجني عليه؛ لأنهما قد اتفقا على سلامته قبل الجناية، والأصل بقاء سلامته، فلم يقبل قول الجاني. ومتى قلنا القول قول الجاني، فأراد المجني عليه إقامة البينة على سلامة العضو المجني عليه.. نظرت: فإن شهدت: أن الجاني جنى عليه وهو سليم.. قبلت. وإن شهدت عليه: أنه كان غير سليم قبل الجناية، فإن قلنا: إن الجاني إذا أقر بسلامته قبل الجناية فإن القول قوله.. لم تقبل هذه البينة، وإن قلنا هناك: القول قول المجني عليه.. قبلت؛ لأن المجني عليه يحتاج أن يحلف معها؛ لجواز أن يحدث عليها الشلل بعد الشهادة وقبل الجناية. [فرع أوضحه اثنتين وأزال الحاجز بينهما] ] : وإن أوضحه موضحتين ثم زال الحاجز بينهما، فقال الجاني: تأكَّل ما بينهما بجنايتي، فلا يلزمني إلا أرش موضحة، وقال المجني عليه: لم يتأكل ما بينهما، وإنما أنا خرقت ما بينهما أو جنى عليه آخر.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء وجوب الأرشين على الجاني. وإن أوضح رأسه، فقال الجاني: أوضحته موضحة، وقال المجني عليه: بل أوضحتني موضحتين، وأنا خرقت ما بينهما.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على أرش موضحة. وإن قطع إصبعه، ثم زال كفه، فقال المجني عليه: سرى القطع إليه، وقال

مسألة قطع أطرافه الأربعة فمات

الجاني: لم يسر إليه القطع، وإنما زال بسب آخر.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل عدم السراية. فأما إذا داوى المجني عليه موضع القطع، فقال الجاني: تأكَّلت بالدواء، وقال المجني عليه: تأكلت بالقطع.. سئل أهل الخبرة بذلك الدواء؟ فإن قالوا: إنه تأكل اللحم الميت والحي.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الظاهر أنه تأكل به. وإن قالوا: إنه تأكل الميت دون الحي.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه، فإن لم يعرف ذلك.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه أيضًا؛ لأنه أعلم بصفة الدواء، ولأن الظاهر أنه لا يداوي الجرح بما يضره ويزيد فيه. [مسألة قطع أطرافه الأربعة فمات] ] : فإن قطع رجل يدي رجل ورجليه، ومات المجني عليه، فقال الجاني: مات من الجناية، فلا يلزمني إلا دية واحدة، وقال الولي: بل اندملت الجراحتان، ثم مات بسبب آخر، فعليك ديتان.. فإن كان بين الجناية والموت زمان لا يمكن أن تندمل فيه الجراحات.. فالقول قول الجاني بلا يمين؛ لأنا قد علمنا صدقه. وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال في " التعليق ": يحلف مع ذلك؛ لجواز أن يكون مات بحادث آخر، كلدغ الحية والعقرب. قال ابن الصباغ: والأول أولى؛ لأن الولي ما ادعى ذلك، وإنما ادعى الاندمال، وقد علم كذبه، فأما إذا ادعى: أنه مات بسبب آخر.. حلفنا الجاني؛ لإمكانه. وإن كان بينهما زمان لا تبقى إليه الجراحات غير مندملة، كالسنين الكثيرة.. فالقول قول الولي بلا يمين. وإن كان بينهما زمان يمكن أن تندمل فيه الجراحات ويمكن أن لا تندمل فيه.. فالقول قول الولي فيه مع يمينه؛ لأن الديتين قد وجبتا بالقطع، وشك في سقوط إحداهما بالاندمال، والأصل بقاؤهما. وإن أقام الجاني بينة: أنه لم يزل ضمنًا من حين الجراحة إلى أن مات.. القول قوله مع يمينه، ولا يجب عليه إلا دية؛ لأن الظاهر أنه مات من الجنايتين.

وإن اختلفا في مضي مدة تندمل في مثلها الجراحات.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل عدم مضيها. وإن كان بينهما زمان لا تندمل في مثله الجراحات، وادعى الولي: أنه مات بسبب آخر، بأن قال: ذبح نفسه أو ذبحه آخر، وقال الجاني: بل مات من سراية الجناية.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق المروزي -: أن القول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء الجناية وحصول الموت منها. والثاني - وهو قول أبي علي الطبري -: أن القول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء الديتين. وإن قطع يده، ثم مات، فقال الولي: مات من سراية الجناية، فعليك الدية، وقال الجاني: بل اندملت الجناية، ثم مات بسبب آخر، فلا يلزمني إلا نصف الدية، فإن لم يمض من الزمان ما تندمل في مثله الجراحات.. فالقول قول الولي؛ لأن الظاهر أنه مات من سراية الجناية، وهل يحلف على ذلك؟ يحتمل وجهين: أحدهما: يحلف؛ لجواز أن يكون قتله آخر، أو شرب سمًا، فمات منه. والثاني: لا يحلف، كما قال ابن الصباغ في التي قبلها؛ لأنا قد علمنا كذب الجاني، ولأنه لم يدع الموت في ذلك، وإنما ادعى الاندمال. وإن كان قد مضى من الزمان ما تندمل في مثله الجراحات، فإن كان مع الولي بينة: أنه لم يزل ضمنًا من حين الجناية إلى الموت.. فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأن الظاهر أنه مات بذلك، وإن لم يكن معه بينة على ذلك.. فالقول قول الجاني، وهل يلزمه اليمين؟ يحتمل الوجهين في التي قبلها. وإن مضى زمان يمكن أن تندمل في مثله الجراحات ويمكن أن لا تندمل.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على نصف الدية. وإن قطع يده، ومات في زمان لا تندمل فيه الجراحة، فقال الولي: مات من سراية الجناية، فعليك الدية، وقال الجاني: بل شرب سمًا، فمات منه، أو قتله آخر.. ففيه وجهان، كالتي قبلها.

مسألة جنى على عين إنسان واختلفا في وجود الرؤية بها

[مسألة جنى على عين إنسان واختلفا في وجود الرؤية بها] ] : وإن جنى على عين رجل، ثم اختلفا: فقال الجاني: جنيت عليها وهو لا يبصر بها، وقال المجني عليه: بل كنت أبصر بها.. نظرت: فإن قال الجاني: خلقت عمياء لا يبصر بها.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأنه لا يتعذر على المجني عليه إقامة البينة على أنه كان يبصر بها. وإن قال الجاني: قد كان يبصر بها، ولكن طرأ عليها العمى قبل الجناية.. ففيه قولان، كما قلنا في الجاني إذا أقر بصحة العضو، ثم ادعى: أن الشلل طرأ عليه قبل الجناية. وإذا أراد المجني عليه أن يقيم البينة: أنه كان يبصر بها.. فيكفي الشاهدين أن يشهدا: أنه كان يبصر بها، ويسوغ لهما أن يشهدا بذلك إذا رأياه يبصر الشخص ويتبعه في النظر، كلما عطف الشخص جهة.. أتبعه ببصره، أو يتوقى البئر إذا أتاها، أو يغمض عينه إذا جاء إنسان يتحسسها؛ لأن الظاهر ممن فعل هذا أنه يبصر، ويسعهما أن يشهدا على سلامة اليد إذا رأياه يرفع بها ويضع. وليس للحاكم أن يسألهما إذا شهدا لرجل عن الجهة التي تحملا بها الشهادة على ذلك، كما ليس له أن يسألهما إذا شهدا لرجل بملك عين عن الجهة التي علما بها ملكه. [فرع جنى على عين فذهب نور بصرها] ] : وإن جنى على عين رجل، فذهب ضوؤها، وقال أهل الخبرة: إنه يرجى عوده إلى مدة، فمات المجني عليه، وادعى الجاني: أن ضوءها قد عاد قبل موته، وقال الولي: لم يعد.. فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل عدم العود، فيحلف: أنه لا يعلم أن ضوء عين مورثه قد عاد؛ لأنه يحلف على نفس فعل غيره. وإن جنى على عين رجل جناية ذهب بها ضوء عينه وبقيت الحدقة، ثم جاء آخر، فقلع الحدقة، فادعى الجاني الأول: أن الثاني قلع الحدقة بعد أن عاد ضوؤها، وقال الجاني الثاني: قلعتها قبل عود ضوئها، فإن صدق المجني عليه الجاني الأول.. قبل تصديقه في حق الأول؛ لأن ذلك يتضمن إسقاط حقه عنه، ولا يقبل قوله على

مسألة جنى على أذن فأذهب سمعها

الثاني؛ لأن ذلك يوجب الضمان عليه، والأصل براءة ذمته من الضمان، فيحلف الثاني: أنه قلعها قبل أن عاد ضوؤها، ولا يلزمه إلا الحكومة. [مسألة جنى على أذن فأذهب سمعها] ] : وإن جنى على أذنه جناية، وادعى المجني عليه: أنه ذهب بها سمعه، وكذبه الجاني.. فإن المجني عليه يراعى أمره في وقت غفلاته، فإن كان يضطرب عند صوت الرعد، أو إذا صيح به وهو غافل أجاب أو اضطرب أو ظهر منه شيء يدل على أنه سامع.. فالقول قول الجاني؛ لأن الظاهر أنه لم يذهب سمعه، ويحلف الجاني: أنه لم يذهب سمعه؛ لجواز أن يكون ما ظهر منه اتفاقًا لا أنه يسمع. وإن كان لا يضطرب لصوت الرعد، ولا يجيب إذا صيح به مع غفلته ولا يضطرب لذلك.. فالقول قول المجني عليه؛ لأن الظاهر أنه لا يسمع، ويحلف: أنه قد ذهب سمعه؛ لجواز أن يكون قد تصنع لذلك. وإن ادعى: أنه ذهب سمعه في إحدى الأذنين دون الأخرى.. سدت الصحيحة، وأطلقت العليلة، وامتحن في أوقات غفلاته على ما ذكرناه. وإن ادعى: أنه نقص سمعه بالجناية ولم يذهب.. فالقول قوله مع يمينه في قدر نقصه؛ لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهته. [فرع جنى على منخريه فادعى ذهاب شمه] ] : وإن جنى على أنفه جناية، فادعى المجني عليه: أنه ذهب بها شمه، وأنكر الجاني: أنه لم يذهب شمه.. قربت إليه الروائح الطيبة والمنتنة في أوقات

فرع قطع لسان امرئ وادعى بكمه

غفلاته، فإن هش إلى الروائح الطيبة وعبس للروائح المنتنة.. فالقول قول الجاني مع يمينه، وإن لم يظهر منه ذلك.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لما ذكرناه في السمع. وإن ادعى ذهاب شمه من أحد المنخرين، أو ادعى نقصان شمه.. فعلى ما ذكرناه في السمع. وإذا حلف المجني عليه: أن سمعه أو شمه قد ذهب بالجناية، وأخذ الدية، فاضطرب عند صوت رعد، فإن ادعى الجاني: أن سمعه قد عاد، أو ارتاح إلى رائحة طيبة، أو غطى أنفه عند رائحة منتنة، فادعى الجاني: أن شمه قد عاد، وادعى المجني عليه: أنه لم يعد.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لأن الأصل عدم عوده، وما ظهر منه.. يحتمل أن يكون اتفاقًا، أو غطى أنفه لغبار أو لريح دخل بها. [فرع قطع لسان امرئ وادعى بكمه] ] : وإن قطع لسان رجل، فادعى الجاني: أنه كان أبكم قبل الجناية، وادعى المجني عليه: أنه لم يكن أبكم.. نظرت: فإن ادعى الجاني: أنه خلق أبكم.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأنه لا يتعذر على المجني عليه إقامة البينة على الكلام. وإن أقر الجاني: أنه كان يتكلم بلسانه، وادعى: أن البكم طرأ عليه قبل الجناية.. ففيه قولان، كما قلنا فيمن أقر بصحة العضو، وادعى طريان الشلل عليه قبل الجناية. وإن جنى على ظهره، فادعى المجني: أنه ذهب بذلك جماعه، وأنكر الجاني.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لأنه لا يتوصل إلى العلم بذلك إلا من جهته. [مسألة ادعت إسقاط جنين ميت من ضربه] إذا أسقطت امرأة جنينًا ميتًا، فادعت على إنسان: أنه ضربها وأسقطت من ضربته، فإن أنكر الضرب، ولا بينة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم

فرع أسقطت من ضربه جنينا ثم مات

الضرب، وإن أقر بالضرب، وأنكر: أنها أسقطت جنينًا.. فعليها أن تقيم البينة بأنها أسقطت جنينًا؛ لأنه يمكنها إقامة البينة على ذلك، فإن لم يكن معها بينة.. فالقول قول الضارب مع يمينه؛ لأنه لا يعلم أنها أسقطت جنينًا؛ لأن الأصل عدم الإسقاط. وإن أقامت البينة: أنها أسقطت جنينًا، أو أقر الضارب: أنها أسقطت جنينًا، إلا أنه أنكر: أنها أسقطته من ضربه.. نظرت: فإن أسقطت عقيب الضرب، أو بعد الضرب بزمان، إلا أنها بقيت متألمة من حين الضرب إلى أن أسقطت.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الظاهر أنها أسقطته من ضربه. وإن أسقطته بعد الضرب بزمان وكانت غير متألمة بعد الضرب.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الضمان. وإن اختلفا: فادعت: أنها بقيت متألمة بعد الضرب إلى أن أسقطت، وأنكر ذلك، ولا بينة لها على التألم.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التألم. [فرع أسقطت من ضربه جنينًا ثم مات] ] : فإن أسقطت من ضربه جنينًا حيًا، ثم مات، فقال ورثة الجنين: مات من الضرب، وقال الجاني: مات بسبب آخر، فإن مات عقيب الإسقاط، أو بعد الإسقاط بزمان إلا أنه بقي متألمًا إلى أن مات.. فالقول قول ورثة الجنين مع أيمانهم؛ لأن الظاهر أنه مات من الضرب، وإن مات بعد الإسقاط بزمان وكان غير متألم بعد الإسقاط.. فالقول قول الضارب مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الضمان. وإن اختلفوا في تألمه.. فالقول قول الضارب مع يمينه؛ لأن الأصل عدم تألمه. وإن ادعى ورثة الجنين: أنه سقط حيًا ومات من الضرب، وقال الجاني: بل سقط ميتًا.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحياة فيه، فإن أقام ورثته بينة: أنه سقط حيًا، وأقام الجاني أو عاقلته بينة: أنه سقط ميتًا.. قدمت بينة ورثة الجنين؛ لأن معها زيادة علم.

مسألة ادعى قتلا يثبت الدية فكذبته العاقلة

وإن أسقطت من ضربه جنينًا حيًا، ومات من الضرب، فقال ورثة الجنين: إنه كان ذكرًا، فعليك دية ذكر، وقال الجاني: بل كان أنثى.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على دية أنثى. وإن أسقطت من ضربه جنينين ذكرًا وأنثى، فاستهل أحدهما ومات من الضرب، وأحدهما سقط ميتًا، فإن عرف المستهل منهما.. وجبت فيه الدية الكاملة، وفي الآخر الغرة، وإن لم يعرف المستهل منهما.. لم يلزم العاقلة إلا دية أنثى وغرة عبد أو أمة؛ لأنه اليقين، وما زاد مشكوك فيه. [مسألة ادعى قتلًا يثبت الدية فكذبته العاقلة] ] : وإن ادعى على رجل قتلًا تثبت فيه الدية على عاقلته، فإن أقر بذلك، وكذبته العاقلة.. كانت الدية في ماله؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحمل العاقلة عمدًا، ولا عبدًا، ولا صلحًا، ولا اعترافًا» ، ولأنا لو قبلنا إقراره على العاقلة.. لم يؤمن أن يواطئ من يقر له بقتل الخطأ؛ ليدخل الضرر على عاقلته، فلم يقبل إقراره. فإن ضرب بطن امرأة، فأسقطت من ضربه جنينًا، فادعى ورثة الجنين: أنه سقط حيًا ومات من ضربته، وصدقهم الجاني، وقالت العاقلة: بل سقط ميتًا.. فالقول قولهم مع أيمانهم، فإذا حلفوا.. لم يلزمهم أكثر من قدر الغرة، ويجب تمام الدية في مال الجاني؛ لأنه وجبت باعترافه. وهكذا: لو أسقطت جنينًا حيًا، ومات من الضرب، فقال ورثة الجنين: كان ذكرًا، وصدقهم الجاني، وقالت العاقلة: بل كان أنثى.. فالقول قول العاقلة مع أيمانهم، فإذا حلفوا.. لم يلزمهم إلا دية امرأة، ووجب في مال الجاني تمام دية الرجل؛ لأنه وجب باعترافه. [فرع في قتل العمد يجب الحوامل من الإبل] ] : إذا وجب على قاتل العمد الخلفات، فأحضر إبلا ليدفعها، وقال: هن

خلفات، وقال الولي: ليست بخلفات.. عرضت على أهل الخبرة بالإبل، فإن قالوا: هن حوامل.. كلف الولي أخذها، وإن قالوا: ليست بحوامل.. كلف الجاني إحضار الحوامل ودفعهن. فإن أخذ الولي الإبل - بقول أهل الخبرة: إنهن حوامل - أو اتفق هو والقاتل: أنهن حوامل، فإن صح أنهن حوامل.. فقد استوفى حقه، وإن خرجن غير حوامل.. نظرت: فإن كانت الإبل حاضرة ولم يغيبها.. كان للولي ردها والمطالبة بحوامل. وإن كان الولي قد غيبها مدة يمكن أن تضع فيها، فقال القاتل: كن حوامل وقد وضعن في يدك، وقال الولي: لم يكن حوامل، فإن كان الولي قد أخذ الإبل باتفاقهما لا بقول أهل الخبرة.. فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحمل، وإن كان قد أخذها بقول أهل الخبرة.. ففيه وجهان: أحدهما: القول قول الولي مع يمينه؛ لأن أهل الخبرة إنما يخبرون من طريق الظن والاستدلال، ويجوز أن لا يكون صحيحًا، فكان القول قول الولي مع يمينه، كما لو أخذها الولي باتفاقهما. والثاني: أن القول قول الجاني مع يمينه؛ لأنا قد حكمنا بكونها حوامل بقول أهل الخبرة، فإذا ادعى الولي: أنها ليست بحوامل.. كان قوله مخالفًا للظاهر، فلم يقبل قوله. وبالله التوفيق

باب كفارة القتل

[باب كفارة القتل] الأصل في وجوب الكفارة في القتل: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] الآية [النساء: 92] . فذكر الله تعالى في الآية ثلاث كفارات. إحداهن: إذا قتل مسلم مسلمًا في دار الإسلام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . الثانية: إذا قتل مؤمنًا في دار الحرب، بأن كان أسيرًا في صفهم أو مقيمًا باختياره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . ومعناه: في قوم عدو لكم. والثالثة: إذا قتل ذميًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . إذا ثبت هذا: فظاهر الآية أنه ليس له أن يقتله عمدًا، وله قتله خطأ؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات. قال الشيخ أبو حامد: ولا خلاف بين أهل العلم أن قتل الخطأ محرم كقتل العمد، إلا أن قتل العمد يتعلق به الإثم، وقتل الخطأ لا إثم فيه. واختلف أصحابنا في تأويل قوله: {إِلا خَطَأً} [النساء: 92] : فمنهم من قال: هو استثناء مقطوع من غير الجنس، فيكون تقديره: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ، معناه: لكن إن قتله خطأ.. فتحرير رقبة؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} [النساء: 29] [النساء: 29] . وتقديره: لكن كلوا بالتجارة؛ لأنه لو كان استثناء من الجنس.. لكان تقديره: إلا أن تكون تجارة بينكم عن تراض منكم.. فكلوها بالباطل، وهذا

مسألة القتل بأنواعه تجب فيه كفارة

لا يجوز. ومنهم من قال: هو استثناء من مضمر محذوف، فيكون تقديره: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا، فإن قتله.. أثم، إلا أن يكون خطأ، فاستثنى الخطأ من الإثم المحذوف المضمر في الآية. ومنهم من قال: تأويل قَوْله تَعَالَى: {إِلا خَطَأً} [النساء: 92] بمعنى: ولا خطأ؛ كقوله تعالى: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] [البقرة: 150] . يعني: ولا الذين ظلموا منهم. قال ابن الصباغ: وهذا التأويل بعيد؛ لأن الخطأ لا يتوجه إليه النهي. قال: وقول الشيخ أبي حامد: إن قتل الخطأ محرم لا إثم فيه.. مناقضة؛ لأن حد المحرم ما يأثم فيه، والخطأ لا يوصف بالتحريم ولا بالإباحة، كفعل المجنون والبهيمة. [مسألة القتل بأنواعه تجب فيه كفارة] ] : وإن قتل من يحرم قتله لحق الله تعالى عمدًا، أو خطأ، أو عمد خطأ.. وجبت عليه بقتله الكفارة، وبه قال الزهري. وقال ربيعة، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (تجب الكفارة بقتل الخطأ، ولا تجب بقتل العمد المحض، ولا بعمد الخطأ) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . فنص على وجوب الكفارة في قتل الخطأ؛ لينبه بذلك على وجوبها في العمد المحض وعمد الخطأ؛ لأن الخطأ أخف حالًا من قتل العمد؛ لأنه لا قود فيه ولا إثم، والدية فيه مخففة، فإذا وجبت فيه الكفارة.. فلأن تجب في قتل العمد المحض وعمد الخطأ أولى. «وروى واثلة بن الأسقع، قال: أتينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعتقوا عنه رقبة.. يعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار» . ولا يستوجب النار إلا في قتل العمد.

وروي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قال: يا رسول الله، إني وأدت في الجاهلية؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعتق بكل موءودة رقبة» و (الموءودة) : البنت المقتولة عندما تولد، كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك مخافة العار والفقر. ولأنه حيوان يضمن بالكفارة إذا قتل خطأ، فوجب أن يضمن بالكفارة إذا قتل عمدًا، كالصيد. وعكسه المرتد، فإن قتل نساء أهل الحرب وذراريهم.. لم تجب عليه الكفارة؛ لأن قتلهم إنما حرم لحق المسلمين لا لحق الله، فلم تجب به الكفارة، كما لو ذبح بهيمة غيره بغير إذنه.

فرع تجب الكفارة في قتل العبد والذمي والمعاهد

[فرع تجب الكفارة في قتل العبد والذمي والمعاهد] ] : وإن قتل عبدًا لنفسه أو لغيره، أو قتل ذميًا أو معاهدًا.. وجبت عليه الكفارة. وقال مالك رحمة الله عليه: (لا تجب في ذلك كله الكفارة) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . وهذا عام في الحر والعبد. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . وهذا يقع على الذمي والمعاهد. ولأنه آدمي يجري القصاص بينه وبين نظيره، فوجبت بقتله الكفارة، كالحر المسلم. وإن قتل نفسه.. وجبت الكفارة عليه في ماله. وقال بعض أصحابنا الخراسانيين: لا تجب الكفارة. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . وهذا عام. ولأنه يحرم عليه قتل نفسه، بل لا يجوز له قتل نفسه بحال، فإذا وجبت عليه الكفارة بقتل غيره.. فلأن تجب بقتل نفسه أولى. [فرع ضرب بطن امرأة فألقت جنينًا فعليه كفارة] ] : وإن ضرب بطن امرأة، فألقت من ضربه جنينًا ميتًا.. وجبت عليه الكفارة، وبه قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، والزهري، والنخعي، والحسن، والحكم - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.

فرع الكفارة فيمن حرم قتله لحقه تبارك وتعالى

وقال أبو حنيفة: (لا تجب فيه الكفارة) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . وقد حكمنا للجنين بالإيمان تبعًا لأبويه، فيكون داخلًا في عموم الآية. ولأنه آدمي محقون الدم بحرمته، فوجبت فيه الكفارة كغيره. فقولنا: (آدمي) احتراز من غير الآدمي من الحيوان. وقولنا: (محقون الدم) احتراز من المرتد، والحربي، ومن جاز له قتله. وقولنا: (لحرمته) احتراز من نساء أهل الحرب وذراريهم، فإنه ممنوع من قتلهم لا لحرمتهم، ولكن لحق الغانمين. [فرع الكفارة فيمن حرم قتله لِحَقِّه تبارك وتعالى] ] : وإن قتل من يحرم قتله لحقِّ الله تعالى بسبب يجب به ضمانه، بأن حفر بئرًا في غير ملكه متعديًا، فسقط فيها إنسان ومات.. وجبت عليه الكفارة. وقال أبو حنيفة: (لا تجب الكفارة إلا بالمباشرة) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . ولم يفرق بين أن يقتله بالمباشرة أو بالسبب. ولأنه قتل آدميًا ممنوعًا من قتله لحرمته، فوجبت عليه الكفارة، كما لو قتله بالمباشرة. [فرع وجوب الكفارة على القاتل ولو صبيًا أو كافرًا] ] : وإن كان القاتل صبيًا أو مجنونًا أو كافرًا.. وجبت عليه الكفارة. وقال أبو حنيفة: (لا تجب على واحد منهم الكفارة) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . ولم يفرق بين أن يكون القاتل صبيًا أو مجنونًا أو كافرًا.

فرع يكفر جماعة قتلوا إنسانا

فإن قيل: الصبي والمجنون لا يدخلان في الخطاب؟ قلنا: إنما لا يدخلان في خطاب المواجهة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] [الأحزاب: 70] ، ويدخلان في خطاب الإلزام، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي كل أربعين شاةً شاةٌ» . وروي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قال: يا رسول الله، إني وأدت في الجاهلية؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعتق بكل موؤدة رقبة» . وهذا نص في إيجاب الكفارة على الكافر. ولأنه حق مال يتعلق بالقتل، فتعلق بقتل الصبي والمجنون، كالدية. ولأن الكفارة تجب على المسلم للتكفير، وعلى الكافر عقوبة، كما أن الحدود تجب على المسلم كفارات، وعلى الكافر عقوبة. [فرع يكفر جماعة قتلوا إنسانًا] إذا اشترك جماعة في قتل واحد.. وجب على كل واحد منهم كفارة. قال عثمان البتي: تجب عليهم كفارة واحدة. وحكى أبو علي الطبري: أن هذا قول آخر للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنها كفارة تتعلق بالقتل، فإذا اشترك الجماعة في سببها.. وجبت عليهم كفارة واحدة، كما لو اشتركوا في قتل صيد. والأول هو المشهور؛ لأنها كفارة وجبت لا على سبيل البدل عن النفس، فوجب أن تكون على كل واحد من الجماعة إذا اشتركوا في سببها ما كان يجب على الواحد إذا انفرد، ككفارة الطيب للمحرم. وقولنا: (لا على سبيل البدل) احتراز من جزاء الصيد. [مسألة كفارة القتل] ] : و (كفارة القتل) : عتق رقبة مؤمنة لمن وجدها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]

[النساء: 92] . ولا خلاف في ذلك. فإن لم يجد الرقبة.. وجب عليه صوم شهرين متتابعين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] [النساء: 92] . فإن لم يقدر على الصوم.. ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه أن يطعم ستين مسكينًا؛ لأن الله تعالى ذكر الإطعام في كفارة الظهار، ولم يذكره في كفارة القتل، فوجب أن يحمل المطلق في القتل على المقيد في الظهار، كما قيد الله الرقبة في القتل بالإيمان، وأطلقها في كفارة الظهار، فحمل مطلق الظهار على مقيد القتل. والثاني: لا يجب عليه الإطعام، وهو الأصح؛ لأن الله تعالى أوجب الرقبة في كفارة القتل، ونقل عنها إلى صوم الشهرين، ولم ينقل إلى الإطعام، فدل على: أن هذا جميع الواجب فيها. وما ذكره الأول.. فغير صحيح. ولأن المطلق إنما يحمل على المقيد إذا كان

الحكم مذكورًا في موضعين، إلا أنه قيده في موضع بصفة، وأطلقه في الموضع الآخر، كما ذكر الله تعالى الرقبة في كفارة القتل مقيدة بالإيمان، وذكرها في الظهار مطلقة، فحمل مطلق الظهار على مقيد القتل، وكما ذكر الله تعالى اليدين في الطهارة وقيدهما إلى المرفقين، وذكرهما في التيمم مطلقًا، فحمل مطلق التيمم فيهما على ما قيده فيهما في الطهارة. وهاهنا الإطعام لم يذكره في الموضعين، وإنما ذكره في الظهار، فلم يجز نقل حكمه إلى كفارة القتل، كما لم يجز نقل حكم مسح الرأس وغسل الرجلين إلى التيمم، وحكم الرقبة والصوم والإطعام إذا أوجبناه، على ما قد تقدم في كفارة الظهار. والله أعلم بالصواب

كتاب قتال أهل البغي

[كتاب قتال أهل البغي] يجب نصب الإمام. وقال بعض المتكلمين: لو تكافَّ الناس عن الظلم.. لم يجب نصب الإمام. وهذا خطأ؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم اجتمعوا على

نصب الإمام. ولأن الظلم من طبع الخلق، وإنما تظهره القدرة ويخفيه العجز. ولأنهم وإن تكافُّوا عن الظلم فإنه يفتقر إليه لتجهيز الجيوش في جهاد الكفار، وأخذ الجزية والصدقة ووضعها في مواضعها. إذا ثبت هذا: فمن شرط الإمام: أن يكون ذكرا، بالغا، عاقلا، مسلما، عدلا، عالما من الفقه ما يخرجه عن أن يكون مقلدا؛ لأن هذه الشروط تعتبر في حق القاضي.. فلأن تعتبر في حق الإمام أولى. ومن شروط الإمام: أن يكون شجاعا له تدبير وهداية إلى مصالح المسلمين؛ لأنه لا يكمل لتحمل أعباء الأمة إلا بذلك.

ومن شرطه: أن يكون قرشيا، من أي بيوت قريش كان. وقال أبُو المعالي الجويني: من أصحابنا من يجوز أن يكون من غير قريش. وهذا خطأ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأئمة من قريش» . ولأن الأمة أجمعت على ذلك. قال القاضي أبُو الفتوح: ومن شرطه: أن لا يكون أعمى، ويجوز أن يكون النَّبي أعمى؛ لأن شعيبا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أعمى.

فإذا اجتمعت في الرجل شروط الإمامة.. فإن الإمامة لا تنعقد إلا بأن يستخلفه الإمام الذي كان قبله، أو بأن لم يكن هناك إمام فيقهر الناس بالغلبة، أو بأن يعقد له الإمامة أهل الحل والعقد، ولا يلتفت إلى إجماع العامة على عقده؛ لأنهم أتباع لأهل الاجتهاد. قال الشيخُ أبُو إسحاق في " التنبيه ": ولا ينعقد إلا بعقد جماعة من أهل الحل والعقد. ومقتضى كلامه: أن أقلهم ثلاثة؛ لأن ذلك أقل الجمع عندنا. وقال القاضي أبُو الفتوح: ينعقد بعقد واحد من أهل الحل والعقد. ومن شرط العاقد: أن يكون ذكرا، بالغا، عاقلا، مسلما، عدلا، مجتهدا. وهل من شرط العقد أن يكون بحضرة شاهدين؟ فيه وجهان. ومن شرط العاقد والشاهد إذا اعتبرناه: أن يكون عدلا ظاهرا وباطنا؛ لأنه لا يشق مراعاة ذلك فيهما. ولا يجوز نصب إمامين. وقال الجويني: يجوز عقد الإمامة لإمامين في صقعين متباعدين. وهذا خطأ؛ لإجماع الأمة: أن ذلك لا يجوز. فإن عقدت الإمامة لرجلين: فإن علم السابق منهما.. صح العقد الأول، وبطل العقد الثاني، ثم ينظر في الثاني: فإن عقد له مع الجهل بالأول، أو مع العلم به لكن بتأويل سائغ.. لم يعزر المعقود له ولا العاقد، وإن عقد للثاني مع العلم بالأول من غير تأويل

سائغ.. عزر العاقد والمعقود له؛ لما رُوِي: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا بويع لخليفتين.. فاقتلوا الآخر منهما» . وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (من دعا إلى إمارة نفسه أو غيره.. فاقتلوه) . قال الخطابي: ولم يرد القتل، وإنما أراد: اجعلوه كمن مات أو قتل، فلا تقبلوا له قولا. وقيل: أراد: اخلعوا الثاني وأَلغوا بيعته؛ حتى يكون في عداد من قتل. وإن وقع العقدان معا.. بطلا، ويستأنف العقد لأحدهما. والمستحب: أن يعقد لأفضلهما وأصلحهما، فإن عقدت الإمامة للمفضول.. صح، كما يصح في إمامة الصلاة أن يؤم من يصلح للإمامة وإن كان هناك من هو أولى منه بها.

وإن تيقن سبق أحدهما ولم يعرف.. بطلا، واستؤنف العقد؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. وإن عرف السابق منهما ولكن نسي، فإن رجي معرفة السابق في مدة يوم أو يومين أو ثلاثة.. انتظر؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه أوصى بالخلافة إلى أهل الشورى، وانتظروا في العقد أياما، ولم يُنكر عليهم. وإن لم يُرج انكشاف ذلك إلا بأكثر من ذلك.. استؤنف العقد؛ لأن في ترك العقد إضرارا. وإذا انعقدت الإمامة لرجل.. كان العقد لازما، فإن أراد أن يخلع نفسه.. لم يكن له. فإن قيل: فكيف خلع الحَسَن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما نفسه؟

قلنا: لعله علم من نفسه ضعفا عن تحملها، أو علم أنه لا ناصر له ولا معين.. فخلع نفسه تقية. وإن أراد أهل الحل والعقد خلع الإمام.. لم يكن لهم ذلك إلا أن يتغير. وإن فسق الإمام.. فهل ينخلع؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الجويني: أحدها: ينخلع بنفس الفسق، وهو الأصح، كما لو مات. والثاني: لا ينخلع حتى يحكم بخلعه، كما إذا فك عنه الحجر، ثم صار مبذرا.. فإنه لا يصير محجورا عليه إلا بالحكم. والثالث: إن أمكن استتابته وتقويم أوده.. لم يخلع، وإن لم يمكن ذلك.. خلع.

فإن كان هناك إمام، فقهره رجل - يصلح للإمامة - بالسيف وغلبه.. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن كانت إمامة الأول ثبتت باستخلاف إمام قبله، أو بعقد أهل الحل والعقد.. لم ينعزل الأول، وإن ثبتت إمامة الأول بغلبة السيف.. انعزل الأول؛ وثبتت إمامة الثاني؛ لأن إمامة الأول ثبتت بالغلبة، وقد زالت غلبته. وإذا تقرر هذا: فلا يجوز خلع الإمام بغير معنى موجب لخلعه، ولا الخروج عن طاعته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] [النساء: 59] . ورُوِي عن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «بايعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله» . ورَوَى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نزع يده من طاعة إمامه.. فإنه يأتي يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية» ورَوَى ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من فارق الجماعة شبرا فكأنما خلع من عنقه ربقة الإسلام» .

مسألة: بغي طائفة على الإمام

ورَوَى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حمل علينا السلاح فليس منا» . [مسألة: بغي طائفة على الإمام] ] : إذا بغت على الإمام طائفة من المسلمين، وأرادت خلعه، أو منعت حقا عليها.. تعلقت بهم أحكام يختصون بها دون قطاع الطريق والخوارج. ولا تثبت هذه الأحكام في حقهم إلا بشروط توجد فيهم:

أحدها: أن يكونوا طائفة فيهم منعة يحتاج الإمام في كفهم إلى عسكر، فإن لم يكن فيهم منعة، وإنما هم عدد قليل.. لم يتعلق بهم أحكام البُغاة، فإنما هم قطاع الطريق، لما رُوِي: أن عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله قتل علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان متأولا في قتله، فأقيد به، ولم ينتفع بتأويله؛ لأنه لم يكن في طائفة ممتنعة، وإنما كانوا ثلاثة رجال تبايعوا على أن يقتلوا عليا ومعاوية وعمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في يوم واحد، فأما صاحب عمرو بن العاص: فذهب إلى مصر، فلم يخرج عمرو ذلك اليوم، وأمَّا صاحب معاوية: فذهب إليه إلى الشام، فلم يتمكن من قتله، وإنما جرحه في أليته، فأراه الطبيب، فقال له: إن كويته.. برئ، ولكن ينقطع النسل، فقال: (في يزيد كفاية) ، وكواه وبرئ، وأمَّا عبد الرحمن بن ملجم: فجرح عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - فمات - رَحِمَهُ اللَّهُ -. الشرط الثاني: أن يخرجوا من قبضة الإمام، فإن لم يخرجوا من قبضته.. لم يكونوا بُغاة، لما رُوِي: أن رجلا قال على باب المسجد - وعلي يخطب على المنبر -: لا حكم إلا لله ورسوله، تعريضا له في التحكيم في صفين، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: (كلمة حق أريد بها باطل) ثم قال: (لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدؤكم بقتال) . فأخبر: أنهم ما لم يخرجوا من قبضته.. لا يبدؤهم بقتال.

ولأن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتعرض للمنافقين الذين كانوا معه في المدينة، فلأن لا يتعرض لأهل البغي وهم مسلمون أولى. الشرط الثالث: أن يكون لهم تأويل سائغ، مثل: أن تقع لهم شبهة يعتقدون عنها الخروج على الإمام، أو منع حق عليهم، وإن أخطئوا في ذلك، كما تأوَّل بَنُو حَنِيفَة منع الزكاة بقوله تَعالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103] [التوبة: 103] . قالوا: فأمر الله بدفع الزكاة إلى من صلاته سكن لنا،

وهو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأما ابن أبي قحافة: فليست صلاته سكنا لنا، ولهذا: لما انهزموا.. قالوا: والله ما كفرنا بعد إيماننا، وإنما شححنا على أموالنا. فأما إذا لم يكن لهم تأويل سائغ، فحكمهم حكم قطاع الطريق. وهل من شرطهم أن ينصبوا إماما؟ فيه وجهان: أحدهما: أن ذلك من شرطهم؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وإن ينصبوا إماما) . فعلى هذا: إذا لم ينصبوا إماما.. كانوا لصوصا وقطاعا للطريق. والثاني - وهو المذهب -: أن ليس من شرطهم أن ينصبوا إماما؛ لأن أحكام أهل البصرة وأهل النهروان مع عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - أحكام البُغاة، ولم ينصبوا إماما، وأمَّا ما ذكره الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنما ذكره؛ لأن الغالب من أمرهم أنهم ينصبون إماما. قال القفال: وسواء كان الإمام عادلا أو جائرا.. فإن الخارج عليه باغ، إذ الإمام لا ينعزل بالجور، وسواء كان الخارج عليه عادلا أو جائرا.. فإن خروجه على الإمام جور. وإذا اجتمعت هذه الشروط في الخارجين على الإمام.. قاتلهم الإمام، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] . وفى الآية خمسة أدلة: أحدها: أن البغي لا يخرج عن الإيمان؛ لأن الله سماهم مؤمنين في حال بغيهم. والثاني: وجوب قتالهم، حيث قال تَعالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] . والثالث: أنهم إذا رجعوا إلى الطاعة.. لم يقاتلوا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] .

الرابع: أنه لا يجب عليهم ضمان ما أتلفوا في القتال. الخامس: وجوب قتال كل من عليه حق فمنعه. ويدل على جواز قتال البُغاة: ما رُوِي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قاتل مانعي الزكاة وكانوا بُغاة؛ لأنهم كانوا مُتأوِّلين) . و: (قاتل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه أهل الجمل وأهل صفين والخوارج بالنهروان) . ولا يبدؤهم الإمام بالقتال حتى يراسلهم ويسألهم: ما ينقمون؟ فإن ذكروا مظلمة ردها، وإن ذكروا شبهة.. كشفها، وبين لهم وجه الصواب. وقال أبُو حَنِيفَة: (يبدؤهم بالقتال) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] . فبدأ بالصلح قبل القتال وفي هذا إصلاح. ورُوِي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - لما كاتب معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحكَّم.. خرج من معسكره ثمانية آلاف، ونزلوا بحروراء، وأرادوا قتاله، فأرسل إليهم ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقال لهم: ما تنقمون منه؟ قالوا: ثلاث، فقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إن رفعتها رجعتم؟ قالوا: نعم، قال: وما هي؟ قالوا: حكَّم في دين الله، ولا حكم إلا لله، وقتل ولم يسب، فإن حل لنا قتلهم.. حل لنا

سبيهم. ومحا اسمه من الخلافة، فقد عزل نفسه من الخلافة، يعنون اليوم الذي كتب فيه الكتاب بينه وبين أهل الشام، فكتب فيه: أمير المؤمنين، فقالوا: لو أقررنا بأنك أمير المؤمنين.. ما قاتلناك، فمحاه من الكتاب. فقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أما قولكم: إنه حكَّم في دين الله.. فقد حكَّم اللهُ في الدين، فقال الله تَعالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] [النساء: 35] . فحكَّم الله بين الزوجين. وقال الله تَعالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] [المائدة 95] . فحكَّم الله في أرنب قيمتها درهم، فلأن يجوز أن يحكِّم في هذا الأمر العظيم بين المسلمين أولى. وأمَّا قولكم: إنه قتل ولم يسب.. فأيكم كان يأخذ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في سهمه وقد قال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] ، وإذا ثبت أن سبي عائشة لا يجوز.. كان غيرها من النساء مثلها. وأمَّا قولكم: إنه محا اسمه من الخلافة، فقد عزل نفسه.. فغلطٌ؛ لـ: (أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محا اسمه من النبوة) . وذلك: أنه «لما قاضَى سهيل بن عمرو يوم الحديبية.. كتب الكتاب: " هذا ما قاضَى به محمد رسول الله، سهيل بن عمرو "، فقال: لو اعترفنا بأنك رسول الله.. لما احتجت إلى كتاب، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للكاتب - وكان علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: " امحُ رسول الله "، فلم يفعل، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أين رسول الله؟ "، فأراه إياه، فمحاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإصبعه» . فرجع منهم أربعة آلاف، وقاتل الباقين.

فرع: طلب إنظار البغاة

[فرع: طلب إنظار البُغاة] ] : وإذا أراد الإمام أن يقاتلهم، فسألوه أن ينظرهم.. نظرت: فإن سألوه أن ينظرهم أبدا.. لم يجز له ذلك؛ لأنه لا يجوز لبعض المسلمين ترك طاعة الإمام. وإن سألوه أن ينظرهم مدة.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخُ أبُو إسحاق: إن سألوه أن ينظرهم يوما أو يومين أو ثلاثا.. أنظرهم؛ لأن ذلك مدة قريبة، ولعلهم يرجعون إلى الطاعة، وإن طلبوا أكثر من ذلك.. بحث عنه الإمام، فإن كان قصدهم الاجتماع على الطاعة.. أنظرهم.. وإن كان قصدهم الاجتماع على القتال.. لم ينظرهم؛ لما في ذلك من الإضرار. وقال ابن الصبَّاغ: إذا سألوه أن ينظرهم مدة مديدة.. كشف الإمام عن حالهم، فإن كانوا إنما سألوا ذلك ليجتمعوا أو يأتيهم مدد.. عاجلهم بالقتال ولم ينظرهم، وإن سألوا ليتفكروا ويعودوا إلى الطاعة.. أنظرهم؛ لأنه يجوز أن يلحقهم مدد في اليوم واليومين والثلاث، كما يلحقهم فيما زاد على ذلك. وكل موضع قلنا: لا يجوز إنظارهم، فبذلوا على الإنظار مالا.. لم يجز إنظارهم؛ لأنه يأخذ المال على إقرارهم فيما لا يجوز إقرارهم عليه، ولأن فيه إجراء صغار على المسلمين، فلم يجز. وإن بذلوا على الإنظار رهائن منهم أو من أولادهم، لم يجز قبول ذلك منهم؛ لأنهم ربما قويت شوكتهم على أهل العدل، فهزموهم وأخذوا الرهائن. وإن كان في أيديهم أُسارى من أهل العدل، فسألوا الكف عنهم على أن يطلقوا الأسارى من أهل العدل، وأعطوا بذلك رهائن من أولادهم.. قبل الإمام ذلك منهم،

مسألة: رجوع البغاة إلى طاعتنا يمنع قتالهم

واستظهر لأهل العدل، فإن أطلق أهل البغي الأسارى الذين عندهم.. أطلق الإمام رهائنهم، وإن قتلوا من عندهم من الأسارى.. لم يقتل رهائنهم؛ لأنهم لا يقتلون بقتل غيرهم، فإذا انقضت الحرب.. خلى رهائنهم. وإن كان في أهل العدل ضعف عن قتالهم.. أخر الإمام قتالهم إلى أن يكون بهم قوة؛ لأنه إذا قاتلهم مع الضعف.. لم يؤمن الهلاك على أهل العدل. [مسألة: رجوع البُغاة إلى طاعتنا يمنع قتالهم] ] : وإن قال أهل البغي: رجعنا إلى طاعة الإمام ... لم يجز قتالهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] . و (الفيئة) : الرجوع. وهكذا: إذا ألقوا سلاحهم.. لم يجز قتالهم؛ لأن الظاهر من حالهم ترك القتال والرجوع إلى الطاعة، فإن انهزموا.. نظرت: فإن انهزموا لغير فيئة.. لم يجز اتباعهم، ولا يجاز على جريحهم، لما رَوَى ابن عمر، عن ابن مَسعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا ابن أم عبد.. ما حكم من يفيء من أمتي؟ " فقلت: الله ورسوله أعلم. فقال: " لا يتبع مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يقسم فيؤهم» . ورَوَى علي بن الحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: دخلت على مروان بن الحكم، فقال: ما رأيت أكرم علينا من أبيك، ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل حتى نادى مناديه:

(لا يقتل مدبر ولا يذفف على جريح) . (يذفف) : يروى بالدال والذال، ومعناه: لا يجاز عليه. ورُوِي عن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (شهدت صفين، فكانوا لا يجهزون على جريح، ولا يطلبون موليا، ولا يسلبون قتيلا) . ولأن قتالهم للدفع والكف عن القتال، وقد حصل ذلك. وإن انهزموا إلى فيئة ومدد ليستغيثوا بهم.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي حَنِيفَة، واختيار أبي إسحاق المَروَزِي -: (أنهم يتبعون ويقتلون) ؛ لأنهم إذا لم يتبعوا.. لم يؤمن أن يعودوا على أهل العدل، فيقاتلوهم ويظفروا بهم. والثاني - وهو ظاهر النص -: أنه لا يجوز أن يتبعوا ويقاتلوا؛ لعموم الخبر، ولأن دفعهم وكفهم قد حصل، وما يخاف من رجوعهم لا يوجب قتالهم، كما لو تفرقوا. وإن حضر معهم من لا يقاتل - ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز قتله؛ لأن قتالهم للكف، وقد كف نفسه. والثاني: يجوز قصد قتله؛ لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - نهاهم عن قصد قتل

فرع: يقتل مع البغاة نساؤهم وصبيانهم المقاتلين

محمد بن طلحة السجاد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، فقتله رجل، ولم ينكر عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - قتله، ولأنه صار ردءا لهم. [فرع: يقتل مع البُغاة نساؤهم وصبيانهم المقاتلين] ] : وإن قاتل مع أهل البغي نساؤهم وعبيدهم وصبيانهم.. جاز قتلهم مقبلين؛ لأن هذا القتال لدفعهم عن النفس، كما يجوز له قتل من قصد نفسه في غير البغي. وإن كان لرجل من أهل العدل قريب في أهل البغي يقاتل.. فيستحب له أن ينحرف عن قتله ما دام يمكنه ذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] [لقمان: 15] . فأمره بمصاحبتهما بالمعروف في أسوأ أقوالهما، وهو: إذا دعواه إلى الشرك، وليس من المصاحبة بالمعروف أن يقتله.

وقال الله تَعالَى: لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] [طه: 44] . يعني به: فرعون، وقيل: إنما أمرهما الله بذلك؛ لأن فرعون كان قد تبنى موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فإن كان ذلك في حق من تبناه ... فلأن يكون في حق أبيه أولى. ورُوِي: «أن أبا بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - أراد أن يقتل أباه يوم أحد، فكفه النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: " دعه يتولى ذلك غيرك» . و: «أراد أبُو حذيفة بن عتبة أن يقتل أباه، فكفه النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك» . فإن لم يمكنه قتال أهل البغي إلا بقتل أبيه، فقتله.. فلا شيء عليه؛ لما رُوِي: (أن أبا عبيدة قتل أباه، وقال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سمعته يسبك) . وإذا ثبت هذا في حق المشرك.. كان في حق أهل البغي مثله.

مسألة: يحبس شباب أهل البغي ما دامت الحرب قائمة

[مسألة: يحبس شباب أهل البغي ما دامت الحرب قائمة] وإن أسر أهل العدل من أهل البغي حرا بالغا، فإن كان شابا جلدا.. فإن للإمام أن يحبسه ما دامت الحرب قائمة إن لم يرجع إلى الطاعة، فإن بذل الرجوع إلى الطاعة.. أخذت منه البيعة وخلي، وإن انقضت الحرب أو انهزموا إلى غير فيئة.. فإنه يخلى، وإن انهزموا إلى فيئة.. خلي، على المذهب، ولم يخلَّ على قول أبي إسحاق، ولا يجوز قتله. وقال أبُو حَنِيفَة: (يجوز قتله) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا يقتل أسيرهم» . فإن قتله رجل من أهل العدل عامدا.. فهل يجب عليه القصاص؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه القصاص؛ لأنه صار بالأسر محقون الدم، فصار كما لو رجع إلى الطاعة، وللولي أن يعفو عن القود إلى الدية. والثاني: لا يجب عليه القصاص؛ لأن قول أبي حَنِيفَة شبهة تسقط عنه القصاص. فعلى هذا: تجب فيه الدية. وإن كان الأسير شيخا لا قتال فيه أو مجنونا أو امرأة أو صبيا أو عبدا.. لم يحبسوا؛ لأنهم ليسوا من أهل البيعة على القتال. ومن أصحابنا من قال: يحبسون؛ لأن في ذلك كسرا لقلوبهم، وإقلالا لجمعهم، والمنصوص هو الأول. [مسألة: لا يرمى أهل البغي بالنار] ] : ولا يجوز رمي أهل البغي بالنار ولا بالمنجنيق من غير ضرورة؛ لأن القصد بقتالهم كفهم وردهم إلى الطاعة، وهذا يهلكهم، ولأن هذا يقتل من يقاتل ومن لا يقاتل، وإنما يجوز قتل من يقاتل من البُغاة. فإن أحاط أهل البغي بأهل العدل من كل جهة، ولم يمكنهم التخلص منهم إلا

فرع: لا يستعان بمن يرى قتل أهل البغي مدبرين

بالرمي بالنار أو بالمنجنيق، جاز لهم ذلك؛ لأن هذا موضع ضرورة. وقال ابن الصبَّاغ: وكذلك إن رماهم أهل البغي بالنار أو بالمنجنيق، جاز لأهل العدل رميهم بمثل ذلك. [فرع: لا يستعان بمن يرى قتل أهل البغي مدبرين] ] : ولا يجوز للإمام أن يستعين على قتال أهل البغي بمن يرى جواز قتلهم مدبرين من المسلمين؛ لأنه يعرف أنهم يظلمون، فإن كان لا يقدر على قتال أهل البغي إلا بالاستعانة بهم.. جاز إذا كان مع الإمام من يمنعهم من قتلهم مدبرين. ولا يجوز للإمام أن يستعين على قتالهم بالكفار؛ لأنهم يرون قتل المسلمين مدبرين تشفيا لما في قلوبهم. [مسألة: افتراق أهل البغي واقتتالهم] ] : وإن افترق أهل البغي فرقتين واقتتلوا، فإن قدر الإمام على قهرهما.. لم يعاون إحداهما على الآخر؛ لأنهما على الخطأ، والمعونة على الخطأ خطأ، وإن كان لا يقدر على قهرهما.. ضم إلى نفسه أقربهما إلى الحق، وقاتل معها الطائفة الأخرى، ولا يقصد بقتاله معاونة الطائفة التي ضمها إلى نفسه، وإنما يقصد رد الذين يقاتلون إلى طاعته. فإذا انهزمت الطائفة الذين قاتلهم أو رجعت إلى طاعته.. لم يقاتل الطائفة التي ضم إلى نفسه حتى يدعوهم إلى طاعته؛ لأن بضمهم إليه صار ذلك أمانا لهم منه، فإذا امتنعت من الدخول في طاعته.. قاتلهم. فإن استوت الطائفتان.. اجتهد في أقربها إلى الحق، وضم نفسه إليها.

فرع: لا تستحل أموال أهل البغي

[فرع: لا تستحل أموال أهل البغي] ] : ولا يجوز لأهل العدل أخذ أموال أهل البغي، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا يقسم فيؤهم» . ورُوِي: أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - استؤذن يوم الجمل في النهب، فقال: (إنهم يحرمون بحرمة الإسلام، ولا يحل مالهم) . فإن انقضت الحرب، ورجعوا إلى الطاعة، وكان في يد أهل العدل مال لأهل البغي، أو في يد أهل البغي مال لأهل العدل.. وجب رد كل مال إلى مالكه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» . ورَوَى ابن قيس: (أن منادي عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - نادى: ألا من عرف من ماله شيئا.. فليأخذه. فمر بنا رجل، فعرف قدرا له يطبخ به، فأراد أخذها، فسألناه أن يصبر حتى نفرغ منها، فلم يفعل، فرمى برجلها وأخذها) .

مسألة: ضمان الفريقين المال والنفس

ولا يجوز الانتفاع بسلاحهم وكراعهم بغير إذنهم من غير ضرورة. وقال أبُو حَنِيفَة: (يجوز ذلك ما دامت الحرب قائمة) . دليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» . ولأنه مسلم، فلم يجز الانتفاع بماله من غير إذن، كغير الكراع والسلاح، وكأهل العدل. فإن دعته على ذلك ضرورة، بأن ذهب سلاحه، أو خاف على نفسه.. جاز أن يدفع عن نفسه بسلاحهم. وكذلك: إن خاف على نفسه، وأمكنه أن ينجو على دابة لهم.. جاز له ذلك؛ لأنه لو اضطر إلى ذلك من مال أهل العدل.. لجاز له الانتفاع به، فكذلك إذا اضطر إلى ذلك من أموال أهل البغي. [مسألة: ضمان الفريقين المال والنفس] وإن أتلف أحد الفريقين على الآخر نفسا أو مالا قبل قيام الحرب أو بعدها.. وجب عليه الضمان؛ لأنه أتلف عليه مالا محرما بغير القتال، فلزمه ضمانه، كما لو أتلفوه قبل البغي. وإن أتلفوه في حال القتال.. نظرت: فإن أتلف ذلك أهل العدل.. لم يلزمهم ضمانه بلا خلاف؛ لأنهم مأمورون بقتالهم، والقتال يقتضي إتلاف ذلك. وإن أتلف ذلك أهل البغي على أهل العدل ... ففيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (يجب عليهم ضمان ذلك) . وبه قال مالك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] [الإسراء: 33] . والباغي ظالم، فوجب

مسألة: عقد أهل البغي مع أهل الحرب لا يصح

أن يكون عليه السلطان، وهو القصاص، ولأن الضمان يجب علي آحاد أهل البغي، فوجب أن يكون على جماعتهم، وعكسه أهل الحرب. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجب عليهم الضمان) ، وبه قال أبُو حَنِيفَة، وهو الأصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] الآية [الحجرات: 9] . فأمر بقتالهم، ولم يوجب ضمان ما أتلفوه عليهم. وروي: أن هشام بن عبد الملك أرسل إلى الزهري يسأله عن امرأة من أهل العدل ذهبت إلى أهل البغي، وكفرت زوجها، وتزوجت من أهل البغي، ثم تابت ورجعت، هل يقام عليها الحد؟ فقال الزهري: كانت الفتنة العظمى بين أصحاب النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيهم البدريون، فأجمعوا على: أنه لا حد على من ارتكب فرجا محظورا بتأويل القرآن، وأن لا ضمان على من سفك دما محرما بتأويل القرآن، وأن لا غرم على من أتلف مالا بتأويل القرآن. وروي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - قاتل أهل الجمل، وقتل منهم خلقا عظيما، وأتلف مالا عظيما، ثم ملكهم) . ولم ينقل: أنه ضمن أحدا منهم ما أتلف من نفس أو مال، فدلَّ على: أنه إجماع. ومن أصحابنا من قال: القولان في الأموال والديات، فأما القصاص: فلا يجب، قولا واحدا؛ لأنه يسقط بالشبهة. [مسألة: عقد أهل البغي مع أهل الحرب لا يصح] ] : إذا عقد أهل البغي لأهل الحرب الذمة والأمان بشرط: أن يعاونوهم على قتال أهل العدل.. لم يصح هذا العقد في حق أهل العدل، فيجوز لهم قتلهم مقبلين ومدبرين،

ويجاز على جريحهم، ويجوز سبي ذراريهم، ويتخير الإمام فيمن أسر منهم بين القتل والمن والاسترقاق والفداء؛ لأن شرط صحة العقد لهم: أن لا يقاتلوا المسلمين، فإذا وقع العقد على شرط قتال المسلمين.. لم يصح؛ لأن أمانهم لو كان صحيحا، فقاتلوا المسلمين.. انتقض أمانهم، فإذا وقع أمانهم على شرط قتال المسلمين.. لم يصح. وإن أتلفوا على أهل العدل نفسا أو مالا.. لم يجب عليهم ضمانه، قولا واحدا، كما لو قاتلوا المسلمين منفردين، وهل يكونون في أمان من أهل البغي؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] . أحدهما - ولم يذكر الشيخ أبُو إسحاق، وابن الصبَّاغ غيره -: أنهم في أمان منهم؛ لأنهم قد بذلوا لهم الأمان، فلزمهم الوقاية. والثاني: أنهم لا يكونون في أمان منهم؛ لأن من لم يصح أمانه في حق بعض المسلمين.. لم يصح في حق بعضهم، كمن أمنه صبي أو مجنون. وأمَّا إذا استعان أهل البغي بأهل الذمة على قتال أهل العدل، فأعانوهم.. فهل تنتقض ذمتهم في حق أهل العدل؟ ينظر فيهم: فإن قالوا: لم نعلم أنهم يستعينون بنا على المسلمين، وإنما ظننا أنهم يستعينون بنا على أهل الحرب، أو قالوا: اعتقدنا أن قوما من المسلمين، إذا استعانوا بنا على قتال قوم منهم.. جاز لنا أن نعينهم على ذلك، أو قالوا: علمنا أن يجوز لنا إعانتهم عليكم إلا أنهم أكرهونا على ذلك.. لم تنتقض ذمتهم؛ لأن عقد الذمة قد صح، فلا ينتقض بأمر محتمل. وإن لم يدعوا شيئا من ذلك.. فهل تنتقض ذمتهم؟ فيه قولان: أحدهما: تنتقض، كما لو انفردوا بقتال المسلمين. والثاني: لا تنتقض؛ لأن أهل الذمة لا يعلمون المحق من المبطل، وذلك شبهة لهم. وقال أبُو إسحاق المَروَزِي: القولان إذا لم يكن الإمام قد شرط عليهم في عقد

الذمة الكف عن القتال لفظا، فإن شرط عليهم الكف عن ذلك، انتقضت ذمتهم، قولا واحدا. والطريق الأول هو المنصوص. فإذا قلنا: تنتقض ذمتهم.. لم يجب عليهم ضمان ما أتلفوا على أهل العدل من نفس ومال، قولا واحدا، كأهل الحرب. قال الشيخُان: ويجوز قتلهم على هذا مقبلين ومدبرين، ويتخير الإمام في الأسير منهم، كما قلنا في أهل الحرب. وقال ابن الصبَّاغ: هل يجوز قتلهم على هذا مقبلين ومدبرين؟ فيه قولان، بناء على القولين فيهم إذا نقضوا الذمة.. فهل يقتلون في الحال، أو يجب ردهم إلى مأمنهم؟ وهل تنتقض ذمتهم في حق أهل البغي؟ ينبغي أن يكون على الوجهين اللذين مَضَيا في صحة أمان أهل البغي لأهل الحرب. وإذا قلنا: لا تنتقض ذمتهم.. فحكمهم حكم أهل البغي، فيجوز قتلهم مقبلين، ولا يجوز قتلهم مدبرين، ولا يجاز على جريحهم، ولا يجوز سبي أموالهم، ومن أسر منهم.. كان كمن أسر من أهل البغي، إلا أنهم إذا أتلفوا على أهل العدل نفسا أو مالا.. لزمهم ضمانه، قولا واحدا. والفرق بينهم وبين أهل البغي: أن لأهل البغي شبهة، فلذلك سقط عنهم الضمان في أحد القولين، وليس لأهل الذمة شبهة، فوجب عليهم الضمان، ولأن في إيجاب الضمان على أهل البغي تنفيرا عن رجوعهم إلى الطاعة، وقد أمرنا بإصلاحهم، وأهل الذمة لا نخاف من نفورهم، ولم نؤمر بالإصلاح بيننا وبينهم. وإن استعان أهل البغي بمن بيننا وبينهم هدنة، فأعانوهم.. انتقض أمانهم، إلا

مسألة: لا يصح نصب قاض من أهل البغي يستحل دماء أهل العدل

إن ادعوا: أنهم أكرهوا على ذلك، وأقاموا على ذلك بينة. والفرق بينهم وبين أهل الذمة: أن أهل الذمة أقوى حكما، ولهذا لا تنتقض الذمة لخوف جنايتهم، والهدنة تنتقض بخوف جنايتهم، فلأن تنتقض بنفس الإعانة أولى. وإذا انتقض أمانهم.. كان حكمهم حكم أهل الحرب. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن جاء أحدهم تائبا.. لم يقتص منه؛ لأنه مسلم محقون الدم) . فمن أصحابنا من قال: أراد بذلك: الحربي، والمستأمن، وأهل الذمة إذا قلنا: تنتقض ذمتهم.. فإن الواحد من هؤلاء إذا قتل أحدا من أهل العدل، ثم رجع إليهم تائبا.. لم يقتص منه؛ لأنه قتله قبل إسلامه، فأما أهل البغي: فلا يسقط عنهم الضمان بالتوبة؛ لأنهم مسلمون. ومنهم من قال: ما أراد الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بذلك إلا أهل البغي، وقد نص عليه في " الأم "، ويجوز أن نعلل: بأنه مسلم محقون الدم؛ لأن قتله كان بتأويل، فلم يزل خفر ذمته، وإنما سقط عنه القصاص في أحد القولين. [مسألة: لا يصح نصب قاضٍ من أهل البغي يستحل دماء أهل العدل] ] : وإذا نصب أهل البغي قاضيا، فإن كان يستحل دماء أهل العدل وأموالهم.. لم يصح قضاؤه؛ لأنه ليس بعدل، وإن كان لا يستحل دماء أهل العدل وأموالهم.. نفذ من أحكامه ما ينفذ من أحكام قاضي أهل العدل، ورد من أحكامه ما يرد من حكم قاضَي أهل العدل، سواء كان القاضي من أهل العدل أو من أهل البغي. وقال أبُو حَنِيفَة: (إن كان من أهل العدل.. نفذ حكمه، وإن كان من أهل البغي.. لم ينفذ حكمه) بناء على أصله: أن أهل البغي يفسقون بالبغي. وعندنا: لا يفسقون بالبغي.

فرع: قبول شهادة العدل من أهل البغي

ودليلنا: أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - لما غلب أهل البغي، وقد كانوا حكموا مدة طويلة بأحكام، وما رُوِي: أنه رد شيئا منها. ولأن لهم تأويلا، فلم يفسقوا به، ولم يرد قضاء قاضيهم، كقاضي أهل العدل. إذا ثبت هذا: فإن حكم قاضي أهل البغي بسقوط الضمان عن أهل البغي فيما أتلفوا على أهل العدل من نفس ومال، فإن كان قال: قد حكمت بأن كل ما يتلفونه لا شيء عليكم فيه.. فليس هذا بحكم، ولا يلتفت إليه. وإن جاء العدل المتلف عليه بالذي أتلف عليه إلى قاضيهم لينظر بينهما، فقضى: بأن لا ضمان على الباغي فيما أتلفه، فإن كان فيما أتلفه قبل قيام الحرب أو بعدها.. لم ينفذ حكمه؛ لأنه لا يسوغ فيه الاجتهاد، وإن كان فيما أتلفه في حال قيام الحرب.. نفذ حكمه؛ لأنه يسوغ في الاجتهاد. فإن كتب قاضي أهل البغي إلى قاضي أهل العدل بحكم.. فالمستحب له: أن لا يقبل كتابه، استهانة بهم، وكسرا لقلوبهم، فإن قبله.. جاز. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجوز) . دليلنا: أنا قد دللنا: أنه ينفذ حكمه، ومن نفذ حكمه.. جاز قبول كتابه، كقاضي أهل العدل. هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: إن كان قد نفذ القضاء قبل كتابه، وإن لم ينفذ القضاء.. فهل يقبل كتابه؟ فيه قولان. [فرع: قبول شهادة العدل من أهل البغي] ] : وإن شهد عدل من أهل البغي.. قبلت شهادته، ووافقنا أبُو حَنِيفَة على ذلك؛ لأنهم وإن كانوا فسقة عنده.. ففسقهم عنده من جهة التدين، وذلك لا يوجب رد

مسألة: صحة تصرف أهل البغي إذا استولوا

الشهادة عنده، وإنما قبلت شهادتهم عندنا؛ لأنهم ليسوا بفسقة، فهم كأهل العدل المختلفين في الأحكام. [مسألة: صحة تصرف أهل البغي إذا استولوا] ] : وإن استولى أهل البغي على بلد، وأقاموا فيه الحدود، وأخذوا الزكوات والجزية والخراج.. وقع ذلك موقعه. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه لا يعتد بما أخذوه من الجزية، وليس بشيء؛ لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - لما ظهر على أهل البغي.. لم يطالب بشيء مما قد كانوا جبوه من ذلك. إذا ثبت هذا: فظهر الإمام على البلد التي كانوا غلبوا عليها، فادَّعى من عليه الزكاة: أنه قد كان دفع إليهم الزكاة، فإن علم الإمام بذلك، أو قامت به عنده بينة.. لم يطالبه بشيء، وإن لم يعلم الإمام بذلك، ولا قامت به بينة.. فإن دعوى من عليه الزكاة مخالفة للظاهر، فيحلفه، وهل تكون يمينه واجبة، أو مستحبة؟ فيه وجهان مَضَى ذكرهما في الزكاة. وإن ادَّعى من عليه الجزية: أنه دفعها إليهم، فإن علم الإمام بذلك، أو قامت به بينة.. لم يطالبه بشيء، وإن لم يعلم الإمام بذلك، ولا قامت به بينة.. لم يقبل قول من عليه الجزية؛ لأنه يجب عليه الدفع إلى الإمام؛ لأنهم كفار ليسوا بمأمونين، ولأن

مسألة: لا يقاتل الخوارج على رأيهم

الجزية عوض عن المساكنة، فلا يقبل قولهم في دفعها من غير نية، كثمن المبيع والأجرة. فإن ادَّعى من عليه الخراج: أنه دفعه إليهم، فإن علم الإمام بذلك، أو قامت به بينة.. لم يطالب بشيء، وإن لم يعلم بذلك، ولا قامت به بينة.. ففيه وجهان: أحدهما: يقبل قوله مع يمينه؛ لأنه مسلم، فقبل قوله مع يمينه فيما دفعه، كما قلنا فيمن عليه الزكاة. والثاني: لا يقبل قوله؛ لأن الخراج ثمن أو أجرة، فلا يقبل قوله في دفعه من غير بينة، كالثمن والأجرة في غير ذلك. [مسألة: لا يقاتل الخوارج على رأيهم] ] : وإن أظهر قوم رأي الخوارج، فتجنبوا الجماعات، وسبوا السلف وكفروهم، وقالوا: من أتى بكبيرة.. خرج من الملة، واستحق الخلود في النار، ولكنهم لم يخرجوا من قبضة الإمام.. فإنه لا يقاتلهم في ذلك، كما رَوَيْنَاهُ في الرجل الذي قال لعلي على باب المسجد وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - يخطب: لا حكم إلا لله، وكان خارجيا؛ لأن هذا من كلامهم. ورُوِي: أنه حُمِلَ ابن ملجم إلى عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - وقيل له: إنه يريد أن يقتلك، فلم يقتله، وكان ابن ملجم خارجيا. ورُوِي: أن عاملا لعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إليه: أن قوما يرون رأي الخوارج، يسبُّونك؟! فقال: إذا سَبُّوني.. سُبُّوهم، وإذا حملوا السلاح، فاحملوا عليهم السلاح، وإذا ضربوا.. فاضربوهم.

فرع: انفراد أهل البغي بدار وارتكابهم ما يوجب الحدود

وإن سَبُّوا الإمام أو غيره.. عزروا. وإن عرَّضوا بسبِّ الإمام.. ففيه وجهان. أحدهما: لا يعزرون؛ لـ: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - صَلَّى الفجر، فسمع رجلا خلفه من الخوارج يقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] [الزمر: 65] ورفع بها صوته تعريضا له بذلك، فأجابه عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - وكان في الصلاة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] [الروم: 60] . ولم يعزره) . ولأن التعريض يحتمل السبَّ وغيره. والثاني: يعزرون؛ لأنه إذا لم يعزرهم بالتعريض بالسب.. ارتقوا إلى التصريح بالسب، وإلى أعظم منه. فإن بعث إليهم الإمام واليا، فقتلوه.. وجب عليهم القصاص، لما رُوِي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - بعث عبد الله بن خباب إلى أهل النهروان واليا، فسلموا وأطاعوا، ثم قتلوه، فبعث إليهم أن ابعثوا بقاتله، فأبوا وقالوا: كلنا قتله، فسار إليهم وقاتلهم) . وهل يتحتم القصاص على القاتل؟ فيه وجهان: أحدهما: يتحتم؛ لأنه قتل بتشهير السلاح، فصار بمنزلة قاطع الطريق. والثاني: لا يتحتم؛ لأنه لم يقصد بذلك إخافة الطريق، وأخذ الأموال، فأشبه من قتل رجلا منفردا. [فرع: انفراد أهل البغي بدار وارتكابهم ما يوجب الحدود] ] : إذا انفرد أهل البغي بدار، وباينوا الإمام، وارتكبوا ما يوجب الحدود، وحصل

معهم فيها أسير من أهل العدل، أو تأخر وارتكب فيها ما يوجب الحد، ثم ظهر عليهم الإمام.. أقام عليهم حدود ما ارتكبوا. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليهم) . بناه على أصله في المسلمين: إذا ارتكبوا ما يوجب الحد في دار الحرب.. فإنهم لا يحدون. دليلنا: أن كل موضع تجب فيه العبادات في أوقاتها.. وجب فيه الحدود عند وجود أسبابها، كدار أهل العدل. وبالله التوفيق

باب حكم المرتد

[باب حكم المرتد] الردة محرمة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] . الآية [البقرة: 217] . وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] الآية [آل عمران: 85] . وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] الآية [المائدة: 5] . وقَوْله تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] الآية [الزمر: 65] . إذا ثبت هذا: فإن الردة إنما تصح من كل بالغ، عاقل، مختار، فأما الصبي، والمجنون، فلا تصح ردتهما. وقال أبُو حَنِيفَة: (تصح ردة الصبي، ولكن لا تقبل حتى يبلغ) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . وهل تصح ردة السكران؟ ذكر الشيخ أبُو إسحاق فيه طريقين: أحدهما: أنها على قولين. والثانية: لا تصح ردته، قولا واحدا. ولم يذكر الشيخ أبُو حامد، وابن الصبَّاغ، وأكثر أصحابنا غير هذه الطريقة.

ومن أكره على كلمة الكفر.. فالأفضل أن لا يأتي بها. ومن أصحابنا من قال: إن كان مِمَّن يرجو النكاية في أمر العدو أو القيام في أمر الشَّرع.. فالأفضل أن يدفع القتل عن نفسه، ويتلفظ بها، وإن كان لا يرجو ذلك من نفسه.. اختار القتل. والمذهب الأول؛ لما رَوَى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث من كن فيه.. وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ وإن يحب المرء لا يحبه إلا لله؛ وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن توقد نار فيقذف فيها» . فإن أكره على التلفظ بكلمة الكفر، فقالها، وقصد بها الدفع عن نفسه ولم يعتقد الكفر بقلبه.. لم يحكم بردته؛ وبه قال مالك، وأبو حَنِيفَة. وقال أبُو يوسف: يحكم بردته. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] [النحل: 106] . وفيها تقديم وتأخير، وتقديرها: من كفر بالله من بعد إيمانه، وشرح بالكفر

صدرا.. فعليهم غضب من الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. ورُوِي: «أن رجلا أسلم على عهد النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم أكره على الكفر، فقالها، فأتى النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخبره بالذي عُوقبَ به، فلم يقل له شيئا» .

مسألة: المرتد يقتل

وإذا أكره الأسير على كلمة الكفر، فقالها.. لم يحكم بكفره؛ لما ذكرناه. فإن مات ورثه ورثته المسلمون؛ لأنه محكوم ببقائه على الإسلام، فإن عاد إلى دار الإسلام.. عرض عليه الإسلام، وأمر بالإتيان به، لاحتمال أن يكون قال ذلك اعتقادا، فإن أتى بكلمة الإسلام.. عَلِمنا أنه أتى بكلمة الكفر مكرها، وإن لم يأت بالإسلام.. علمنا أنه أتى بكلمة الكفر معتقدا له. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن قامت بينة على رجل: أنه تلفظ بكلمة الكفر وهو محبوس أو مقيد، ولم تقل البينة: إنه أكره على التلفظ بذلك.. لم يحكم بكفره؛ لأن القيد والحبس إكراه في الظاهر) . وهكذا قال في الإقرار: (إذا أقر بالبيع أو غيره من العقود، وهو محبوس أو مقيد، ثم قال بعد ذلك: كنت مكرها على الإقرار.. قُبِل قوله في ذلك؛ لأن القيد والحبس إكراه في الظاهر) . وإن قامت بينة: أنه كان يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير في دار الكفر.. لم يحكم بكفره؛ لأنها معاص، وقد يفعلها المسلم وهو يعتقد تحريمها، فلم يحكم بكفره، وإن مات ورثه ورثته المسلمون؛ لأنه محكوم ببقائه على الإسلام. [مسألة: المرتد يقتل] ] . وإذا ارتد الرجل.. وجب قتله، سواء كان حرّا أو عبدا، لما رَوَى عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنَى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس» .

ورُوِي: أن معاذا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قدم على أبي موسى باليمن، ووجد عنده رجلا موثقا، كان يهوديا فأسلم، ثم تهود منذ شهرين، فقال: (والله لا أقعدن حتى تضرب عنقه، قضى الله ورسوله: أن من رجع عن دينه.. فاقتلوه) ورُوِي: أن قوما ارتدوا، فقبض عليهم عبد الله بن مَسعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكتب إلى عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - فيهم، فكتب عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إليه: (أن اعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن أتوا به.. فخلهم، وإن أبوا.. فاقتلهم) فعرض عليهم، فمنهم من رجع فتركه، ومنهم من لم يرجع فقتله. ورُوِي: أن قوما قالوا لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنت الإله، فأحرقهم بالنار،

فبلغ ذلك ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقال: لو كنت أنا لقتلتهم، سمعت النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من بدَّل دينه.. فاقتلوه، ولا تعذبوا بعذاب الله تَعالَى» ؛ فدلَّ على: أنه إجماع. وإن ارتدت امرأة حرة أو أمة.. وجب قتلها، وبه قال أبُو بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - والحسن، والزهري، والأَوزَاعِي، والليث، ومالك، وأحمد، وإسحاق. وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (إذا ارتدت المرأة.. استرقت) . وبه قال

فرع: طلب المرتد المناظرة

قتادة، وهي إحدَى الروايتين عن الحَسَن. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا تقتل، وإنما تحبس وتطالب بالرجوع إلى الإسلام، وإن لحقت بدار الحرب.. سبيت واسترقت، وإن كانت أمة.. أجبرها سيدها على الإسلام) . ويروَى ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. دليلنا: ما رَوَى ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من بدَّل.. دينه فاقتلوه» وقال معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «قضى الله ورسوله: أن من رجع عن دينه.. فاقتلوه» ، وهذا عام في الرجال والنساء. ورَوَى جابر: «أن امرأة يقال لها: أم رومان، ارتدت عن الإسلام، فبلغ أمرها إلى النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر أن تستتاب، فإن تابت، وإلا.. قتلت» . [فرع: طلب المرتد المناظرة] ] : وإذا قال المرتد ناظروني أو اكشفوا لي الحجة.. فهل يناظر؟ قال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه وجهان: أحدهما: يناظر؛ لأنه هو الإنصاف. والثاني: لا يناظر؛ لأن الإسلام قد وضح، فلا معنى لحجته عليه.

فرع: استتابة المرتد

[فرع: استتابة المرتد] قبل القتل] : ويستتاب المرتد قبل أن يقتل. وقال الحَسَن البَصرِي: لا يستتاب، وإنما يقتل في الحال. وقال عطاء: إن كان مولودا على الإسلام، ثم ارتد.. فإنه لا يستتاب، وإن كان كافرا، فأسلم، ثم ارتد.. فإنه يستتاب. دليلنا: أنه لما ورد على عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - فتح تستر.. قال لهم: (هل من مغربة خبر؟) قالوا: نعم، رجل ارتد عن الإسلام، ولحق بالمشركين، فلحقناه وقتلناه. قال: (فهلا أدخلتموه بيتا، وأغلقتم عليه بابا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستتبتموه ثلاثا؟ فإن تاب، وإلا.. قتلتموه؛ اللهم إنِّي لم أشهد، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني) . قوله: (مغربة خبر) ، يروى بفتح الغين وتشديد الراء وكسر الراء وفتحها، ومعناه: هل من خبر غريب عنا. ورُوِي: أن ابن مَسعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - في قوم ارتدوا، فكتب إليه عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: (اعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن أجابوا.. فخلهم، وإن أبوا.. فاقتلهم) إذا ثبت هذا: فهل الاستتابة مستحبة، أو واجبة؟ فيه قولان، قال الشيخُ أبُو حامد: وقيل هما وجهان: أحدهما: أنها مستحبة، وبه قال أبُو حَنِيفَة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدَّل دينه فاقتلوه» ؛ فأوجب قتله، ولم يوجب استتابته، ولأنه لو قتله قاتل قبل الاستتابة.. لم

يجب عليه ضمانه، ولهذا: لم يوجب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - الضمان على الذين قتلوا المرتد قبل استتابته، فلو كانت الاستتابة واجبة.. لوجب ضمانه. فعلى هذا: لا يأثم إذا قتله قبل الاستتابة. والثاني: أن الاستتابة واجبة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] [الأنفال: 38] . فأمر الله تَعالَى بمخاطبة الكفار بالانتهاء، ولم يفرق بين الأصلي والمرتد. ولما رَوَيْنَاهُ عن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما - ولأن من لم تبلغه الدعوة.. يجب أن يُدعَى إلى الإسلام قبل القتل، فكذلك المرتد. وأمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من بدَّل دينه.. فاقتلوه» فمعناه: بعد الاستتابة، بدليل: ما ذكرناه. وأمَّا قوله: (لو وجبت الاستتابة.. لوجب على قاتله قبل الاستتابة ضمانه) ؛ فيبطل بقتل نساء أهل الحرب وذراريهم، فإنه يحرم قتلهم، ولو قتلهم.. لم يجب ضمانهم. فعلى هذا: إذا قتله قبل الاستتابة.. أَثم لا غير، وفي قدر مدة الاستتابة قولان، سواء قلنا: إنها مستحبة أو واجبة: أحدهما: يستتاب ثلاثة أيام، وبه قال مالك، وأبو حَنِيفَة، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تَعالَى - ووجهه: ما رَوَيْنَاهُ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - ولأن الاستتابة تراد لزوال الشبهة، فقدر ذلك بثلاث؛ لأنها آخر حد القلة وأول حد الكثرة. والثاني: يستتاب في الحال، فإن تاب.. وإلا.. قتل. وهو الذي نصره الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لحديث أم رومان، ولأنه استتابة، فلم يتقدَّر بالثلاث، كاستتابة الحربي، هذا مذهبنا. وقال عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: (يستتاب شهرا) .

فرع: يستتاب المرتد السكر بعد إفاقته

وقال الزهري: يستتاب ثلاث مرات في حالة واحدة. وقال أبُو حَنِيفَة: (يستتاب ثلاث مرات في ثلاث جمع، كل جمعة مرة) . وقال الثوري: يستتاب أبدا، ويحبس إلى أن يتوب أو يموت. ودليلنا عليه: ما مَضَى. [فرع: يستتاب المرتد السكر بعد إفاقته] ] : وأمَّا السكران: فإنه لا يستتاب في حال سكره، وإنما يؤخر إلى أن يفيق، ثم يستتاب؛ لأن استتابته في حال إفاقته أرجى لإسلامه، فإن استتيب في حال سكره، فلم يتب وقتل.. جاز؛ ولكن الأحوط أن يترك حتى يفيق. وإن أسلم في حال سكره.. صح إسلامه. وقال أبُو علي بن أبي هُرَيرَة: لا يصح إسلامه، وبه قال أبُو حَنِيفَة، والمنصوص هو الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] [النساء: 43] . فخاطبهم في حال السكر، فدلَّ على: أنه مخاطب مكلف، فكل من كان مخاطبا مكلفا.. صح إسلامه، كالصاحي. وإذا أسلم في حال السكر.. فالمستحب: أن لا يخلى، بل يحبس إلى أن يفيق، فإن أفاق وثبت على إسلامه.. خلِّي، وإن عاد إلى الكفر.. قتل. فإن ارتد الرجل، ثم جن أو تبرسم.. لم يقتل حتى يفيق من جنونه، ويبرأ من

مسألة: قبول إسلام المرتد ولا يهدر دمه

برسامه؛ لأن المرتد لا يقتل إلا بالردة والمقام عليها باختياره، والمجنون والمبرسم لا يعلم إقامته على الردة باختياره، فلم يقتل. [مسألة: قبول إسلام المرتد ولا يهدر دمه] ] : إذا أسلم المرتد صح.. إسلامه ولم يقتل، سواء كانت ردته إلى كفر يتظاهر به أهله كاليهودية والنصرانية وعبادة الأصنام، أو إلى كفر يستتر به أهله، كالزندقة و (الزنديق) : هو الذي يظهر الإسلام، ويبطن الكفر، فمتى قامت بينة: أنه تكلم بما يكفر به.. فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا.. قتل، فإن استتيب، فتاب.. قبلت توبته. وقال بعض الناس: إذا أسلم المرتد.. لم يحقن دمه بحال، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدَّل دينه.. فاقتلوه» ، وهذا قد بدَّل. وقال مالك، وأحمد، وإسحاق: (لا تقبل توبة الزنديق، ولا يحقن دمه بذلك) ، وهي إحدَى الروايتين عن أبي حَنِيفَة، والرواية الأخرى عنه كمذهبنا. ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة: 74] إلى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة: 74] الآية [التوبة: 74] . فأثبت الله لهم التوبة بعد الكفر وبعد الإسلام. ورُوِي: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها.. عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها» وهذا قد قالها. ورَوَى عبيد الله بن عدي بن الخيار: «أن رجلا سارَّ النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم نَدرِ ما سارَّه به، حتى جهر النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصوته، فإذا هو قد استأذنه في قتل منافق، فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أليس هو يشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال: بلى، ولا شهادة له، قال: " أليس يشهد أنِّي رسول الله؟ " قال: بلى، ولا شهادة له] فقال: " أليس يصَلَّي؟ "

فرع: كيفية إسلام الكافر والمرتد ونحوهما

قال: بلى.. ولا صلاة له؛ فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أُولئِكَ الَّذِينَ نَهانِي الله عن قتلهم» . «ورَوَى المقداد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله - صَلَّى الله عليك وسَلَّم - أرأيت لو أن مشركا لقيني وقطع يدي، ثم لاذ عني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أفأقتله؟ فقال: " لا "، قال: فقد قالها بعدما قطع يدي؟! فقال: " إنما هو مثلك قبل أن تقتله» . ولأن المنافقين في زمان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يظهرون الإسلام ويُسِرُّون الكفر، و (كان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرفهم بأعيانهم، والآيات تنزل عليه بأسمائهم وكناهم ولا يتعرض لهم) . [فرع: كيفية إسلام الكافر والمرتد ونحوهما] ] : إسلام الكافر الأصلي والمرتد سواء، وينظر فيه: فإن كان لا تأويل له في كفره، مثل: عَبَدَة الأوثان.. فيكفيه في الإسلام: أن يأتي بالشهادتين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا قالوها.. عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» . وإن كان متأولا في كفره، بأن يقول: إن محمدا رسول الله، ولكنه رسول الله إلى الأميين دون أهل الكتاب، أو يقول: هو نبي، إلا أنه لم يبعث بعد.. فلا يحكم بإسلامه حتى يأتي بالشهادتين، ويبرأ معهما من كل دين مخالف دين الإسلام؛ لأنه إذا اقتصر على الشهادتين.. احتمل أن يريد ما يعتقده. وإن ارتد بجحود فرض مُجمَعٍ عليه، كالصلاة، والزكاة؛ أو باستباحة محرم مُجمَعِ

فرع: مكررالردة ثم الإسلام يعزر

عليه كالخمر، والخنزير، والزنا.. لم يحكم بإسلامه حتى يأتي بالشهادتين، ويقر بوجوب ما جحد وجوبه، وتحريم ما استباحه من ذلك؛ لأنه كذب الله ورسوله بما أخبرا به، فلم يحكم بإسلامه حتى يقر بتصديقهما بذلك. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن صَلَّى الكافرُ الأصلي في دار الحرب.. حكم بإسلامه، وإن صَلَّى في دار الإسلام.. لم يحكم بإسلامه؛ لأن الإنسان في دار الإسلام مطالب بإقامة الصلاة، محمول على فعلها، فإذا فعلها الكافر هناك.. فالظاهر أنه فعلها تقية لا اعتقادا، فلم يحكم بإسلامه، وفي دار الكفر هو غير مطالب بإقامة الصلاة، فإذا فعلها فيه.. فالظاهر أنه فعلها اعتقادا لا تقية.. فحكم بإسلامه) . وهكذا: إن ارتد في دار الحرب، ثم شهد شاهدان: أنه يصلي هناك.. فإنه يحكم بإسلامه؛ لما ذكرناه في الحربي، وإن ارتد في دار الإسلام، ثم شهد شاهدان: أنه يصلي.. فإنه لا يحكم بإسلامه؛ لما ذكرناه في الحربي، ولأن المرتد في دار الحرب لا يمكن معرفة إسلامه إلا بالصلاة؛ لأنه لا يمكنه إظهار الشهادتين، والمرتد في دار الإسلام يمكن معرفة إسلامه بإظهار الشهادتين. وإن أكره الذمي على الإسلام.. لم يصح إسلامه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] [البقرة: 256] . وإن أكره الحربي أو المرتد على دين الإسلام.. صح إسلامه؛ لأنه أكره بحق. [فرع: مكررالردة ثم الإسلام يعزر] فرع: [مكرر الردة ثم الإسلام يعزر] : إذا ارتد ثم أسلم ثم ارتد ثم أسلم، وتكرر ذلك منه.. فإنه يحكم بصحة إسلامه، إلا أنه لا يعزر في الردة الأولى؛ لجواز أن يكون عرضت له شبهة، ويعزر فيما بعدها؛ لأنه لا شبهة له، ووافقنا أبُو حَنِيفَة على صحة إسلامه، إلا أنه قال: (يحبس في الثانية) ؛ والحبس نوع من التَّعزِير.

مسألة: الإمام يقتل الحر وفي قتل السيد لمولاه المرتد

وقال أبُو إسحاق المَروَزِي: إذا تكرر منه الردة.. لم يصح إسلامه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا} [النساء: 137] [النساء: 137] ، فأخبر: أنه لا يغفر لهم في الثالثة. ودليلنا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] [الأنفال: 38] . وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] ، ولم يفرق. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يَجُبُّ ما قبله» . ولم يفرق. وأمَّا الآية: فلها تأويلان: أحدهما: أن معناها: إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا به، ثم آمنوا بعيسى ثم كفروا به، ثم آمنوا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم كفروا به.. لم يكن الله ليغفر لهم. والثاني: أن معناها: إن الذين آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا، وأصروا على الكفر ولم يسلموا، الآية، قال: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] [النساء: 137] . [مسألة: الإمام يقتل الحر وفي قتل السيد لمولاه المرتد] مسألة: [الإمام يقتل الحر المرتد، وفي قتل السيد لمولاه المرتد] : إذا ارتد الحر وأقام على الردة.. فإن قتْلَه إلى الإمام؛ لأن قتْلَه حق للمسلمين، وفيهم من يحسن القتل وفيهم من لا يحسن، والإمام نائب عنهم. فإن قتَله بعضهم بغير إذن الإمام.. فلا قَوْد عليه ولا دية ولا كفارة؛ لأنه مستحق للقتل، فإن رأَى الإمام تعزيره.. فعل؛ لأنه افتأت عليه ذلك. وإن ارتد العبد.. فهل لسيده أن يقتله؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك، كما له أن يقيم عليه حد الزِّنَا.

مسألة: حكم مال المرتد

والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه لا يتصل بصلاح ملكه، بخلاف حد الزِّنَا. [مسألة: حكم مال المرتد] ] : وإن ارتد وله مال.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (يوقف ماله) . وقال في الزكاة: (فيه قولان: أحدهما: أنه موقوف على إسلامه أو قتله. والثاني: أن ملكه ثابت، فتؤخذ زكاة ماله حولا فحولا) . وقال في التدبير: (إذا دبر المرتد عبدا.. ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن تدبيره صحيح. والثاني: تدبيره موقوف. والثالث: أن تدبيره باطل؛ لأن ماله خارج منه) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: في بقاء ملك المرتد على ماله، وفي جواز تصرفه قبل الحجر ثلاثة أقوال. أحدها: أن ماله باق على ملكه، وتصرفه فيه قبل الحجر عليه صحيح؛ لأن الردة معنى يوجب القتل، فلم يزل بها الملك، ولم يبطل بها تصرفه، كزنى المحصن. والثاني: وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -: أن ملكه يزول عن ماله بالردة. فعلى هذا: لا يصح تصرفه فيه، لما رُوِي: أن أبا بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - قال لوفد بزاخة من أسد وغطفان: (نغنم ما أصبنا منكم، وتردون إلينا ما أصبتم منا) ، ولأنه عصم دمه وماله بالإسلام، فلما ملك المسلمون دمه بردته.. وجب أن يملكوا ماله بردته.

والثالث: أن ملكه وتصرفه موقوفان، فإن أسلم.. تبين أن ملكه لم يزل، وتصرفه صحيح، وإن مات على الردة أو قتل عليها.. تبينا أن ملكه زال بالردة، وإن تصرفه باطل؛ لأنه نوع ملك للمرتد، فكان موقوفا، كملكه لبضع زوجته. ومن أصحابنا من قال: في ملكه قولان لا غير: أحدهما: أنه موقوف. والثاني: أنه باق. ومعنى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لأن ماله خارج منه) أي: في التصرف. وأمَّا تصرفه قبل الحجر: فعلى الأقوال الثلاثة، على ما مَضَى. إذا ثبت هذا: فإن قلنا: إن ملكه زال عن ماله بالردة.. لم يحتج إلى الحجر عليه، وإن قلنا: إن ملكه باق على ماله، أو قلنا: إنه موقوف.. فإن القاضي يحجر عليه في ماله؛ لأنه تعلق بماله حق المسلمين، وهو متهم في إضاعته، فحجر عليه، كالمفلس. هذا نقل البغداديين. وقال الخراسانيون: إن قلنا: إن ملكه زال بالردة.. صار محجورا عليه بنفس

فرع: ما لزم على المرتد يؤخذ من ماله

الردة، وإن قلنا: إن ملكه باق.. حجر عليه القاضي، وإن قلنا: إنه موقوف.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه صار محجورا عليه بنفس الردة؛ لأنا لا نحكم له بالإسلام، فينفذ تصرفه: والثاني: يحجر عليه الحاكم؛ لأنا لم نقطع ملكه بالرِّدة بعد. وإن تصرف المرتد في ماله بعد الحجر، فإن قلنا: إن ملكه زال بالردة.. لم يصح تصرفه. وإن قلنا: إن ملكه باق أو موقوف.. ففي تصرفه القولان في تصرف المفلس بعد الحجر؛ لأن تعلق حق المسلمين بماله كتعلق حق الغرماء بمال المفلس بعد الحجر. وإن زوج المرتد أمته، فإن قلنا: يصح تصرفه.. صح النكاح، وإن قلنا: لا يصح تصرفه.. لم يصح النكاح، وإن قلنا: إن تصرفه موقوف.. لم يصح النكاح أيضا؛ لأن النكاح لا يقع موقوفا عندنا. [فرع: ما لزم على المرتد يؤخذ من ماله] ] : وما لزم على المرتد من دين أو أرش جناية، أو نفقة زوجة أو قريب.. فإنه يجب أداؤه من ماله على الأقوال كلها؛ لأنا إن قلنا: إن ملكه باق أو موقوف.. فلا محالة يقضي منه أو من ماله، وإن قلنا أن ملكه زال بالردة.. إلَّا أنه لم يَزُل زوالا مستقرا؛ لأنه يَعود إليه بإسلامه. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخرسانيون: إن قلنا: إن ملكه باق.. أخذت هذه الحقوق من ماله، وإن قلنا: إن ملكه زال بالردة.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول الإصطخري، وهو الأصح عندهم -: أنها لا تؤخذ من ماله؛ لأنه لا ملك له.

فرع: إقرار المرتد بدين ونحوه

والثاني: أنها تؤخذ منه؛ لأنا إنما نحكم بزوال ملكه فيما لم يكن تعلق به حق الغير، كما لو استدان، ثم ارتد.. فإن الدين يقضى من ماله. فإن مات أو قتل على الردة، فإن بقي من ماله بعد قضاء ديونه وأرش جناياته ونفقة زوجاته شيء.. صرف ذلك إلى بيت المال فيئا للمسلمين. وقال أبُو يوسف، ومحمد: يرث عنه ورثته المسلمون جميع أمواله. وقال أبُو حَنِيفَة: (يرث عنه ورثته المسلمون ما اكتسبه في حال الإسلام، وأمَّا ما اكتسبه بعد الردة.. فلا يورث عنه) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يرث المسلم الكافر» ولم يفرق. وإن قتل المرتد رجلا، فإن كان عمدا.. كان الولي بالخيار: بين أن يقتص منه، وبين أن يعفو عنه، فإن اقتص منه.. سقط القتل بالردة، وإن عفا عنه على مال.. تعلقت الدية بماله على طريقة أصحابنا البغداديين. وعلى طريقة الخراسانيين: على ما مَضَى. وإن كان القتل خطأ.. قال الشيخُ أبُو حامد: فإن الدية تجب في ماله في ثلاث سنين، ولا تتحملها العاقلة؛ لأنه لا عاقلة له، فإن مات أو قتل قبل الثلاث.. أخذ ولي المقتول الدية في الحال؛ لأن الدين المؤجل يحل بموت من عليه. [فرع: إقرار المرتد بدين ونحوه] فرع: [لا يصح إقرار المرتد بدين ونحوه] : قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن أقر المرتد لرجل بدَيْن أو عين، فإن قلنا: إن ملكه زال بالردة.. لم يصح إقراره، وإن قلنا: إن ملكه باق.. ففي صحة إقراره القولان في إقرار المفلس، وسواء أقرَّ قبل الحجر أو بعد الحجر. [فرع: اختلاف الورثة أمات كافرا أو مسلما] ] : فإن عرف إسلام رجل، فمات وخلف ورثة، فأقر بعضهم: أنه مات كافرا، وأقر بعضهم: أنه مات مسلما.. دفع إلى من أقر: أنه مات مسلما نصيبه؛ لأنه لا محالة

فرع: ارتد ولحق بدار حرب وأمواله في دار الإسلام

محكوم بإسلامه، ولا يدفع نصيب من أقر: أنه مات كافرا إليه؛ لأنه أقر: أنه لا يستحقه، وماذا يصنع به؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبُو حامد: أحدهما: يوقف إلى أن يتبين الحال فيه؛ لأنه لا يمكن دفعه إليه؛ لأنه أقر: أنه لا يستحقه، ولا يمكن صرفه إلى بيت المال؛ لأنه إنما ينقل إليه مال كافر، وهذا محكوم بإسلامه؛ ولهذا ورثنا بعض ورثته منه. والثاني: أنه ينقل إلى بيت المال؛ لأنه حق للوارث المقر في الظاهر، وقد أقر به لبيت المال، فقُبِل إقراره فيه. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا أقر مسلم: أن أباه مات كافرا.. سئل عن ذلك، فإن قال: تكلم بكلمة الكفر عند موته.. قبل ولم يرثه، وإن لم يقر بذلك بل أطلق.. ففيه قولان: أحدهما: لا يرثه؛ لأنه أقر: أنه لا يرثه. والثاني: لا يقبل إقراره؛ لأنه قد يعتقد تكفير أهل البدع. [فرع: ارتد ولحق بدار حرب وأمواله في دار الإسلام] ] : إذا ارتد رجل ولحق بدار الحرب، وترك أموالا في دار الإسلام.. فإن الإمام يحفظها؛ لأنه متردد: بين أن يسلم ويرجع إليه ماله، وبين أن يموت على الردة أو يقتل، فيكون فيئا، فإن كان ماله من العروض أو الدراهم أو الدنانير.. حفظها الإمام، وإن كان حيوانا.. فعل الإمام ما رأى فيه الحظ من بيعه وحفظ ثمنه، أو إكرائه وإنفاق كرائه عليه. وقال أبُو حَنِيفَة: (إذا لحق بدار الحرب.. كان كما لو مات، فتعتق أم ولده ومدبره، ويحل دينه المؤجل، ويقسم ماله بين ورثته عنده، فإن رجع إلى الإسلام.. لم ينتقض من هذه الأحكام شيء، إلا أن يكون عين ماله قائمة في يد ورثته، فيأخذه منهم) .

مسألة: استرقاق المرتد

دليلنا: أن كل حالة لو أسلم فيها.. رد ماله إليه لم يقسم ماله فيها، كما لو كان بدار الإسلام. [مسألة: استرقاق المرتد] مسألة: [لا يجوز استرقاق المرتد] : ولا يجوز استرقاق المرتد، رجلا كان أو امرأة. وقال أبُو حَنِيفَة: (إن كان المرتد امرأة ولحقت بدار الحرب.. جاز استرقاقها؛ لأن أم محمد ابن الحنفية كانت من بني حَنِيفَة، وكانوا مرتدين، فملكها عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - واسترقها) . دليلنا: أن الكفر بعد الإيمان يمنع الاسترقاق كالرجل، وأمَّا الخبر: فقد رُوِي: أنها كانت أمة، فسبيت. وإذا قتل مالكها على الردة كانت فيئا. وأمَّا ولد المرتد: فإن ولد قبل ردة أبويه أو أحدهما، أو ارتد أبواه وهو حمل.. فإنه محكوم بإسلامه؛ لأنه قد حكم بإسلامه تبعا لأبويه، فلم يزل إسلامه بردة أبويه، بدليل: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يعلو ولا يُعلَى» .

فإن بلغ هذا الولد، ووصف الإسلام.. فلا كلام، وإن امتنع من أن يصف الإسلام، أو وصف الكفر بعد بلوغه.. حكم بردته، ويقتل. وقال أبُو العباس: وفيه قول آخر: أنه إذا لم يصف الإسلام بعد بلوغه.. أنه لا يقتل ويترك على كفره؛ لأن الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو قتله قاتل بعد بلوغه وقبل أن يصف الإسلام.. لم يكن على قاتله القود) فلو حكم له بالإسلام بعد بلوغه.. لأوجب على قاتله القود، وهذا خطأ؛ لأنه محكوم له بالإسلام؛ ولهذا لو قتله قاتل قبل أن يبلغ.. وجب عليه القود، وإنما لم يوجب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - القود على من قتله بعد بلوغه وقبل أن يصف الإسلام، لأجل شبهة عرضت، وهو: أنه لم يصف الإسلام، لا لأنه لم يحكم له بالإسلام. وأمَّا إذا ارتد الأبوان، ثم حملت به الأم في حال ردتهما، ووضعته قبل أن يسلما أو أحدهما، أو تزوج مسلم ذمية وارتد، ثم حملت بولد في حال ردته، ووضعته قبل أن يسلما أو أحدهما.. فإن الولد محكوم بكفره؛ لأنه ولد بين كافرين، وهل يجوز استرقاقه؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز سبيه؛ لأن حكم الولد الصغير في الدين حكم أبويه، وإذا لم يجز سبي أبويه.. لم يجز سبيه، كولد المسلمين. فعلى هذا: يترك حتى يبلغ، فإن لم يصف الإسلام.. قتل. والثاني: يجوز سبيه؛ لأنه ولد بين كافرين، ولا يجوز إقرارهما على الكفر، فجاز سبيه، كولد الكافرين الحربيين. فعلى هذا: إذا سبي.. كان الإمام فيه بالخيار: بين القتل، والاسترقاق،

مسألة: قتال المرتدين قبل قتال أهل الحرب

والمن، والفداء، غير أنه إذا استرقه.. لم يجز إقراره على الكفر؛ لأنه انتقل إلى الكفر بعد نزول القرآن. هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: فيه قولان، واختلفوا فيهما: منهم من قال: أحدهما: أنه كالكافر الأصلي. والثاني: أنه كأبويه. ومنهم من قال: أحدهما: أنه كالأصلي. والثاني: أنه مسلم؛ لأنه متولد من شخص حرمة الإسلام فيه باقية، وهو مطالب بجميع أحكام الإسلام، إلا أنه ممتنع من أدائها بالردة، والولد لم يوجد منه امتناع بالكفر. هذا مذهبنا. وقال أبُو حَنِيفَة: (إن ولد في دار الحرب.. سبي واسترق، وإن ولد في دار الإسلام.. لم يسب ولم يسترق) . دليلنا: أن الدار لا تأثير لها في إثبات الاسترقاق ومنعه، كما لو ولد بين الحربيين ولد في دار الإسلام، أو ولد بين المسلمين في دار الحرب ولد. [مسألة: قتال المرتدين قبل قتال أهل الحرب] ] : وإذا ارتدت طائفة أو امتنعت.. قاتلهم الإمام؛ لأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - قاتل المرتدين، ويبدأ بقتالهم قبل قتال أهل الحرب؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهز جيش أسامة، ثم مات قبل إنفاذه، فلما ولي أبُو بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -.. أراد إنفاذه، فقالت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم -: يا خليفة رسول الله! إن العرب قد ارتدت حول المدينة، فلو أخرت هذا الجيش؟ فقال: والله لو انثالت

المدينة سباعا.. ما أخرت جيشا جهزه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -. فموضع الدليل منه: أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رأت أن قتال المرتدين أولى من

مسألة: لزوم الضمان على المرتد فيما أتلفه على المسلمين

قتال أهل الحرب، ولم ينكر عليهم أبُو بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - ذلك، وإنما اعتذر إليهم، بأن ذلك الجيش جهزه النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يؤخر، بدليل: أن أبا بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - بدأ بقتال المرتدين بغير جيش أسامة، ثم رجع إلى قتال غيرهم. ويتبع في الحرب مدبرهم، ويجاز على جريحهم؛ لأنه إذا وجب ذلك في قتال أهل الحرب.. فلأن يجب في قتال المرتدين ـ وكفرهم أغلظ ـ أولى. فإن أسر منهم أسير.. استتيب، فإن تاب.. وإلا قتل؛ لأنه لا يجوز إقراره على الكفر. [مسألة: لزوم الضمان على المرتد فيما أتلفه على المسلمين] ] : وإن أتلف المرتد على المسلمين نفسا أو مالا، فإن كان في غير منعة، أو كان في منعة إلا أنه أتلفه قبل قيام الحرب أو بعدها.. لزمه الضمان؛ لأنه التزم ذلك بالإسلام، فلم يسقط عنه بالردة. وإن كان في منعة، وأتلفه في حال قيام الحرب.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أكثرهم: فيه قولان، كأهل البغي: قال الشيخُ أبُو حامد: إلا أن الصحيح في أهل البغي: أنه لا يجب عليهم الضمان، والصحيح في أهل الردة: أنه يجب عليهم الضمان. وقال الشيخ أبو حامد: إلا أن الصحيح في أهل الردة: أنه لا يجب عليهم الضمان؛ لأن أبا بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - لما قاتل المرتدة وهزمهم، وسألوه الصلح، قال: (تدون قتلانا، وقتلاكم في النار) فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: لا يدون قتلانا، إن أصحابنا عملوا لله، وأجورهم على الله، وإنما الدنيا دار بلاغ) .

مسألة: السحر حق وقد يقتل صاحبه

فرجع أبُو بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - إلى قوله، وأجمعت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على ذلك. وقال القاضي أبُو حامد: يجب الضمان على المرتدين، قولا واحدا؛ لأنه لا ينفذ قضاء قاضيهم، وليس لهم تأويل سائغ. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: إن قلنا: لا يجب الضمان على أهل البغي.. لم يجب على المرتدين، وإن قلنا: يجب الضمان على أهل البغي.. ففي المرتدين قولان. والفرق بينهما: أن المرتد كافر، فهو كالحربي، والباغي مسلم. [مسألة: السحر حق وقد يقتل صاحبه] ] : للسحر حقيقة وهو: أن الساحر يوصل إلى بدن المسحور ألما قد يموت منه، أو يغير عقله، ويفرق بين المرء وزوجه. وقد يكون السحر قولا، كالرقية، وقد يكون فعلا، كالتدخين. وبه قال أكثر الفقهاء. وقال أبُو جعفر الإستراباذي من أصحابنا: لا حقيقة للسحر، وإنما هو خيال يخيل إلى المسحور، وهو قول المقدسي من أصحاب داود؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] [طه: 66] ، ولأنه لو كان حقيقة.. لكان في ذلك نقض العادات، فيؤدي إلى إبطال معجزات الأنبياء، - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -.

دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] [الفلق: 4] . وهن السواحر. فلو لم يكن السحر حقيقة.. لما أمرنا بالاستعاذة منه. وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] الآية [البقرة 102] . وقيل: إن سليمان صلوات الله على نبينا وعليه وسلامه، كان جمع كتب السحرة ودفنها تحت مقعدته، حتى لا يعلمها الشياطين الناس. فقيل: إن الشيطان دفن ذلك تحت سرير سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فلما مات سليمان، على نبينا وعليه الصلاة والسلام. جاء إبليس ـ لعنه الله ـ فقال: إن سليمان كان يسحر. وأمرهم أن يحفروا ذلك الموضع.. فحفروه، فأخرجوا تلك الكتب فقال بعض الناس: كان بهذا يفعل، وأنكر بعضهم ذلك، فكذب الله من صدق إبليس - لعنه الله - بقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102] الآية. ويدل على أن له حقيقة: ما روت عائشة أم المؤمنين، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكث أياما يخيل إليه أنه يأتي النساء، ولا يأتي. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فدخل علي رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما بال الرجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبَّه؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي، قال: فيم؟ قال: في جف طلعة تحت راعوفة بئر كذا وكذا، قال: فأتيت تلك البئر، فإذا هو الذي رأيته، وإذا ماؤها كنقاعة الحناء، فأخرج فحل، فشفاني الله» وفي رواية: «فلما حُلَّ.. كأني أُنْشطت من عقال» .

ورُوِي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - أمر بقتل كل ساحر وساحرة) . ورُوِي: (أن حفصة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قتلت جارية لها سحرتها) . و: (باعت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جارية لها سحرتها) . ورَوَى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما -: «أنه قال: ساقى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل خيبر، فكان على ذلك زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر الصدِّيق وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما - فبعث بي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - لأقسم الثمرة بينهم، فسحروني، فتكوعت يدي، فأجلاهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه» فأخبر: أن يده تكوعت

بسحرهم، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فدلَّ على: أنه إجماع. وأمَّا ما ذكره من سحرة فرعون: فلا حجة فيه؛ لأنه لم ينقل: أن الساحر يقدر على نفخ الروح في الجمادات، وسحرة فرعون أرادوا أن يقابلوا عصا موسى التي يطرحها فتصير حية، فأخذوا حبالا وعصيا، وطلوا عليها الزئبق وتركوها، فلما طلعت عليه الشمس.. تحرك الزئبق، فخيل إلى موسى أنها تسعى، ليقولوا: قد فعلنا مثل فعله، وليس بصحيح؛ لأن ذلك لا يقدر عليه إلا الله. وأمَّا قولهم: إن ذلك يؤدي إلى إبطال المعجزات.. فغير صحيح؛ لأن المعجزة هي ما أظهره الله للأنبياء مما يخالف العادة حين ادعاء النبوة وتحدي الناس، وليس كذلك السحرة؛ فإنهم لا يدعون النبوة، وقد منعهم الله من ادعائهم، ولو ادعوها.. لأبطل الله سحرهم الذي يأتون به. إذا ثبت هذا: فإن تعليم السحر، وتعلمه، وفعله حرام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102] الآية [البقرة: 102] . ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس منا من سحر أو سحر له، أو تكهن، أو تكهن له، أو تطير أو تطير له» .

فإذا اعترف رجل: أنه ساحر.. قلنا له: صف سحرك، فإن وصفه وقال: ولا يمكن تعلمه إلا بالكفر، بأن يَترك الصلاة أربعين يوما، أو يعتقد أن الكواكب السبعة هي المدبرة، فيتقرب إليها لتفعل له ما يلتمس منها.. فقد اعترف بالكفر.. فيستتاب، فإن تاب، وإلا.. قتل؛ لأنه مرتد. وإن قال: يمكن تعلمه من غير كفر، إلا أنه قال: تعلمه مباح.. فهو كافر؛ لأنه استحل محرما مجمعا عليه. وإن قال: تعلمه محرم، إلا أنِّي قد تعلمته، ولكني لا أستعمله.. فهو فاسق، وليس بكافر، ولا يقتل. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يقتل؛ لأنه زنديق) .

وقال أصحاب أبي حَنِيفَة: إن اعتقد أن الشيطان يفعل له ما شاء.. فهو كافر، وإن اعتقد أنه تلبيس وتمويه.. لم يكفر. دليلنا: أن الكفر بالاعتقاد، وهذا اعتقاده صحيح. ولأن بكونه يحسن السحر لا يجب عليه شيء، كما لو قال: أنا أحسن السرقة ولا أسرق.. فلا شيء عليه، كذلك هذا مثله. وبالله التوفيق

باب صول الفحل

[باب صول الفحل] إذا قصد رجل رجلا يطلب دمه أو ماله أو حريمه، فإن كان في موضع يلحقه الغوث إذا صاح بالناس.. لم يكن له أن يقاتله ولا يضربه، بل يستغيث بالناس ليخلصوه منه؛ لأنه يمكنه التخلص منه بذلك. وهكذا: إذا كان بينه وبينه حائل يعلم أنه لا يقدر على الوصول إليه، من نهر، أو حائط، أو حصن.. لم يجز قتاله وضربه؛ لأنه لا يخاف منه. وإن كان في موضع لا يلحقه الغوث، مثل: أن يكون في برية، أو بلد، فخاف منه إلى أن يلحقه الغوث، أو كان بينهما حصن أو نهر أو حائط، إلا أنه يبلغه رميه أو رمحه.. فله أن يدفعه عن نفسه بأسهل ما يمكنه، فإن اندفع باليد.. لم يضربه بالعصا، وإن لم يندفع إلا بالعصا.. فله أن يضربه بالعصا. فإن لم يندفع عنه إلا بالضرب بالسيف أو بالرمي بالسهم أو بالحجر.. فله أن يدفعه بذلك وإن أتى على نفسه؛ لما رُوِي: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قاتل دون أهله وماله،

فقتل.. فهو شهيد» والشهادة بالقتل لا تكون إلا بقتال جائز. ورُوِي: أن امرأة خرجت لتحتطب، فتبعها رجل، فراودها عن نفسها، فرمته بفهر فقتلته، فرفع ذلك إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - فقال: (هذا قتيل الحق، والله لا يُودَى أبدا) . ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فدلَّ على: أنه إجماع. وهل يجب عليه الدفع؟ ينظر فيه: فإن طلب أخذ ماله.. لم يجب عليه الدفع؛ لأن المال يجوز إباحته. وإن طلب يزني بحريمه.. وجب عليه دفعه؛ لأنه لا يجوز إباحته بالإباحة. وإن طلب دما ... ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه دفعه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] [البقرة: 195] . ولأنه لو اضطر إلى الأكل، وعسر به الطعام.. لوجب عليه أكله لإحياء نفسه، فوجب عليه الدفع عن نفسه لإحيائها.

والثاني: لا يجب عليه الدفع؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل» ورُوِي: أن عُثمانَ بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - حصر في الدار، ومعه أربعمائة عبد، فجردوا السيوف ليقاتلوا عنه، فقال: (من أغمد سيفه.. فهو حُرّ، فأغمدوا سيوفهم، ودخل عليه الحَسَن والحسين، ابنا علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم - ليدفعا عنه فمنعهما من القتال، وترك القتال حتى قتل) ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فدلَّ على: أنه إجماع، ولأن له غرضا في ترك القتال لتحصل له الشهادة، فجاز له التعرض لها. وفي هذا المعنى ما رُوِي: «أن رجلا قال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرأيت لو انغمست في المشركين، فقتلت صابرا محتسبا، أإلى الجنة؟ قال: " نعم "، فانغمس فيهم، فقاتل حتى قتل» .

ويخالف الامتناع من أكل الطعام؛ لأنه ليس له غرض في الامتناع من أكله إلا قتل نفسه بغير الشهادة، فلم يكن له ذلك. فإن أمكن المقصود أن يهرب ممن قصده.. فقد قال الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (عليه أن يهرب) وقال في موضع آخر: (له أن يهرب، وله أن يقف) . واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرق: فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيه قولان: [أحدهما] : لا يجب عليه أن يهرب؛ لأن إقامته في هذا الموضع مباح، فلا يلزمه الانصراف عنه. الثاني: يجب عليه أن يهرب، وليس له أن يقاتله؛ لأنه ليس له أن يدفعه إلا بأسهل ما يمكنه، ويمكنه التخلص منه هاهنا بالهرب. و [الطريق الثاني] : منهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين. فحيث قال: (يلزمه أن يهرب) ، إذا كان يتحقق أنه ينجو منه بذلك. وحيث قال: (لا يلزمه) ، إذا كان لا يتحقق أنه ينجو منه بذلك. و [الطريق الثالث] : منهم من قال: يُبنى ذلك على وجوب دفعه عن نفسه، فإن قلنا: يجب عليه الدفع.. لزمه أن يهرب، وإن قلنا: لا يجب عليه الدفع.. لم يلزمه أن يهرب. فعلى هذا الطريق: يلزمه أن يهرب بحريمه إذا علم أن القاصد يطلب ذلك؛ لأنه يجب عليه أن يدفع عن حريمه. وإن قصد رجل رجلا، فقاتله، فولَّى القاصد عنه.. لم يكن له اتباعه ورميه، فإن فعل.. لزمه ضمان ما جنى عليه؛ لأنه قد اندفع عنه. وهكذا: إن دخل اللصوص داره وخرجوا منه.. لم يأخذوا شيئا من ماله، أو قصده قطاع الطريق، ثم انصرفوا عنه.. لم يكن له اتباعهم ولا رميهم؛ لما ذكره.

مسألة: صائل يمكن دفعه بالعصا فضربه بالسيف

[مسألة: صائل يمكن دفعه بالعصا فضربه بالسيف] ] : وإذا قصده رجل وأمكنه دفعه بالعصا، فضربه بالسيف، أو أمكنه دفعه بقطع عضو منه، فقتله.. وجب عليه الضمان؛ لأنه جنى عليه بغير حق، فهو كما لو جنى عليه قبل أن يقصده. فإن أخذ رجل ماله.. فله أن يقاتله حتى يخلي ماله وإن أتى على نفسه، فلو طرح ماله وهرب.. فليس له أن يتبعه، فيضربه. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن اتبعه وقطع يده، وعلم أن قطع السرقة كان قد وجب عليه.. لم يضمن؛ لأن تلك اليد بعينها مستحقة في الإتلاف، بخلاف ما لو وجب عليه جلد الزِّنَا، فجلده غير الإمام.. فإنه يضمن؛ لأن الجلد مجتهد في كيفية إقامته، والمواضع التي تجلد من البدن، وشدة الضرب. [فرع: قطع رجل يد صائل ونحوها] ] : فإن قصده رجل، فقطع المقصود يد القاصد، أو رجله، أو أثخنه بالجراح، فصار بحيث لا يمكنه قتله وقتاله.. لم يجز للمقصود أن يجيز عليه ولا يتبعه؛ لأنه قد صار لا يخاف منه، فإن قصده، فقطع يده، فولى القاصد، ثم اتبعه المقصود، فقطع يده الأخرى، فإن اندمل الجرحان.. لم يجب على المقصود ضمان اليد الأولى، ويجب عليه ضمان الثانية بالقصاص أو الدية؛ لأن الأولى مقطوعة بحق، والثانية بغير حق؛ وإن مات من الجراحتين.. لم يجب على المقصود قصاص في النفس؛ لأنه مات من جراحتين: إحداهما مباحة، والأخرى محظورة، فهو كما لو مات من قطع السرقة وجناية أخرى، وللولي أن يقتص من اليد الثانية، وإن عفا عنها.. كان له نصف الدية. فإن قصده، فقطع يده فولَّى عنه، ثم قطع رجله، ثم قصده القاصد ثانيا، فقطع

يده الأخرى، فإن اندملت الجراحات.. وجب عليه ضمان الرجل بالقصاص أو الدية، ولا يجب عليه ضمان قطع اليدين؛ وإن مات من الجراحات.. لم يجب عليه قصاص في النفس؛ لأنه مات من ثلاث جراحات بعضها لا يوجب القصاص، وللولي أن يقتص من رجل المقصود، فإن عفا عن القصاص فيها.. لم يجب له إلا ثلث الدية؛ لأنه مات من ثلاث جراحات: فالأولى مباحة، والثانية محظورة، والثالثة مباحة، فقسمت الدية عليها. فإن قصده، فقطع يده، فلم يندفع عنه، فقطع يده الثانية، فولى القاصد، ثم تبعه المقصود، فقطع رجله، ومات من الجراحات.. لم يجب عليه القصاص في النفس، لما مَضَى، وللولي أن يقتص من الرجل، وإن عفا عنها.. وجب له نصف الدية. والفرق بينها وبين التي قبلها: أن الجراحتين المباحتين متواليتان، فكانتا كالجناية الواحدة، وفي الأولى: لما ولى بعد الجراحة الأولى.. استقر حكمها، فلما جرحه بعد أن ولى عنه جراحة ثانية وقعت محظورة.. فاستقر حكمها، فلما جرحه الثالثة في حال قصده.. استقر حكمها، فقسطت الدية عليها. وإن قصده، فقطع يده، فولى عنه، ثم تبعه فقتله.. كان لوليه القصاص في النفس؛ لأنه لما ولى عنه.. لم يكن له قتله. قال الطبري في " العُدة ": ولورثة المقصود أن يرجعوا في تركة القاصدة بنصف الدية؛ لأن القصاص سقط عنه بهلاكه. قلت: والذي يقتضي المذهب: أنهم لا يرجعون بشيء، كما لو اقتص منه بقطع يده، ثم قتله. ولأن النفس لا تنقص بنقصان اليد؛ ولهذا: لو قتل رجل له يدان رجلا ليس له إلا يد.. قتل به، ولا شيء لورثة القاتل. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وسواء كان القاصد صغيرا أو كبيرا، عاقلا أو مجنونا، ذكرا أو أنثى.. فله أن يدفعه عن نفسه؛ لأنه إنما جوز له ذلك؛ لأنه يخافه على نفسه، وهذا المعنى موجود في جميع هؤلاء) .

فرع: عض يد رجل فندرت سنه

[فرع: عض يد رجل فندرت سنه] ] : وإن عض رجل يد رجل، وانتزع المعضوض يده، فندرت ثنية العاض أو انكسرت.. فلا شيء على المعضوض، وبه قال أكثر أهل العلم، إلا ابن أبي ليلى، فإنه قال: يجب عليه الضمان. دليلنا: ما «رَوَى يعلى بن أمية، أنه خرج مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، وكان له أجير، فخاصم رجلا، فعض أحدهما يد صاحبه، فانتزع يده من فم العاض، فذهبت ثنيته، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبره بذلك، فأهدر ثنيته، وقال: " أيدع يده في فيك تعضها كأنها فِي فيْ فحل» . ورُوِي: (أن رجلا خاصم رجلا، فعض يده، فانتزع يده من فيه، فانكسرت ثنيته، فرفع إلى أبي بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأهدرها) . ولأن حرمة النفس آكد من حرمة السن. ثم ثبت أنه لو قصد قتله فلم يمكنه دفعه عن

فرع: تجارحا فالقول قول كل واحد مع يمينه ويضمناه

نفسه إلا بقتله، فقتله.. لم يلزمه ضمانه، فلأن لا يلزمه ضمان السن أولى. فإن لم يمكنه أن ينتزع يده إلا بأن يفك لحييه.. فله أن يفك لحييه، فإن لم يمكنه ذلك إلا بان يبعج جوفه.. كان له ذلك. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن عض رجل قفا رجل.. فإنه ينزع ذلك من فيه، فإن لم يمكنه.. فله أن يضربه برأسه مصعدا أو منحدرا، فإن لم يتخلص منه.. فله أن يضرب فكه بيديه، فإن لم يتخلص منه.. فله أن يبعج بطنه، فإن قتله.. فلا شيء عليه) . هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : لو وجأه بسكين فقتله.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه يضمن) ، فأخطأ بعض أصحابنا وأجرى ذلك على ظاهره، وقال: يضمن الطاعن وإن لم يمكنه الدفع إلا به؛ لأن القاصد قصده بغير سلاح، فليس له دفعه بالسلاح. والمذهب الأول: أنه لا ضمان عليه؛ لأنه لا يمكنه تخليص نفسه منه إلا بذلك، والنص محمول عليه إذا أمكنه دفعه بغير القتل، فقتله. [فرع: تجارحا فالقول قول كل واحد مع يمينه ويضمناه] وإن تجارح رجلان، وادعى كل واحد منهما، أن الآخر قصده وجرحه دفعا عن نفسه، وأنكر الآخر.. فالقول قول كل واحد منهما مع يمينه: أنه ما قصد صاحبه؛ لأن الأصل عدم القصد، ويجب على كل واحد منهما ضمان جراحته.

مسألة: تعين القتل على من رأى شخصا يزني بحريمه

[مسألة: تعين القتل على من رأى شخصا يزني بحريمه] ] : وإن وجد رجلا يزني بامرأته، أو بأمته ولم يمكنه دفعه إلا بقتله.. فله أن يقتله، بكرا كان الزاني أو محصنا؛ لأنه إذا جاز له قتله إذا لم يندفع عن ماله إلا بقتله.. فلأن يجوز له في حريمه أولى. وإن اندفع عنها بغير القتل، فقتله.. نظرت: فإن كان الزاني بكرا.. وجب على القاتل القصاص. وإن كان الزاني محصنا.. لم يجب عليه القصاص فيما بينه وبين الله تَعالَى؛ لأنه مستحق للقتل، فهو كالمرتد، وأمَّا في الظاهر: فإنه يجب عليه القصاص إلا أن يصادقه الولي أنه زنَى وهو محصن، أو أقام البينة على زناه وإحصانه؛ لما رَوَى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن سعدا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - قال: يا رسول الله، أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلا، أأمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نعم» . وفي رواية: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " كفى بالسيف شاهدا ". وقال: " لولا أن يتتابع فيه الغيران والسكران ". ثم قال: " أمهله حتى تأتي بأربعة شهداء» فأراد

مسألة: صيال البهائم

أن يقول: شاهدا، فأمسك، وأمره أن لا يقتله حتى يأتي بأربعة شهداء، فدلَّ على: أنه لا يجوز قتله قبل ذلك. ورَوي: (أن رجلا قتل رجلا بالشام، وادعى: أنه وجده مع امرأته، فرفع إلى معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأشكل عليه الحكم في ذلك، فكتب إلى أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليسأل عنه عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - فسأله عنه، فقال عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: ما هذا شيء كان بأرضنا، عزمت عليك لتخبرني به، فقال: كتب إلي معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسألني أن أسألك عنه، فقال عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: أنا أبُو حسن، إن جاء بأربعة شهداء، وإلا.. فليعط برمته) . ولا مخالف له، فدلَّ على: أنه إجماع. [مسألة: صيال البهائم] ] : إذا صال على الرجل فحل من البهائم، فخافه على نفسه، ولم يمكنه دفعه عن نفسه إلا بقتله، فقتله.. فلا يجب عليه ضمانه، وبه قال ربيعة، ومالك، وأحمد، وإسحاق، رحمة الله عليهم.

مسألة: الاطلاع إلى عورة يسقط الضمان

وقال أبُو حَنِيفَة: (يجوز له قتله، ولكن يجب عليه ضمانه) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91] [التوبة: 91] ، وهذا محسن بقتله البهيمة. ولأنه لو قصده آدمي، ولم يمكنه دفعه إلا بقتله، فقتله.. لم يجب عليه ضمانه، فلأن لا يجب عليه ضمان البهيمة أولى. [مسألة: الاطلاع إلى عورة يسقط الضمان] ] : وإن اطلع رجل أجنبي على بيت رجل من شق أو جحر، فنظر إلى حريمه.. فله أن يرمي عينه بما يفقؤها من حصاة أو شيء خفيف، فإذا فقأها.. فلا ضمان عليه. وقال أبُو حَنِيفَة: (ليس له أن يرميه بذلك، فإن فعل وفقأ عينه.. لزمه الضمان) . دليلنا: ما رَوَى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أن امرأ اطلع عليك، فحذفته بحصاة، ففقأت عينه.. فلا جناح عليك» . ورَوَى سهل بن سعد الساعدي: «أن رجلا اطلع من جحر في حجرة النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان في يد النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مدرى يحك به رأسه، فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لو علمت أنك تنظر.. لطعنت بها عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر» .

فرع: النظر لمن يحل له النظر

وهل له أن يرميه قبل أن ينهاه عن النظر؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له، كما لا يجوز له قتل من يقصده إذا اندفع بغير القتل. والثاني: يجوز له؛ للخبر. [فرع: النظر لمن يحل له النظر] ] : قال المسعودي [" في الإبانة "] : ولو كان للناظر زوجة في الدار ينظر إليها أو محرم.. فليس لصاحب الدار فقؤ عينه، فإن فعل.. ضمن؛ لأن للناظر شبهة في النظر. قال: وإن كان لصاحب الدار حرم في الدار مستترات.. فهل له فقؤ عيني الناظر إليهن؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك، فإن فعل.. ضمن؛ لأنه لا أذى على صاحب الدار بنظر إلى الحرام المستترات. والثاني: له فقؤ عين الناظر إليهن؛ لأن الإنسان يتأذى بنظر غيره إلى حرمه وإن كن مستترات. وإن كان الناظر امرأة.. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فلصاحب الدار فقؤ عينها؛ لأن الإنسان قد يستر حريمه عن نظر الرجال والنساء. وإن كان المطلع أعمى.. لم يكن له رميه؛ لأنه لا ينظر. وإن كان المطلع على داره ذا رحم محرم لحريمه، فإن كان حريمه مستترات.. لم

يكن له رميه؛ لأنه غير ممنوع من نظرهن، وإن كن متجردات.. فله رميه؛ لأنه ممنوع من نظرهن متجردات. وسواء وقف الناظر في ملك نفسه، أو في ملك صاحب الدار، أو في قارعة الطريق، وجعل ينظر.. فله رميه؛ لأن الأذى يحصل بنظره، وذلك يحصل منه، ولا اعتبار بالموضع الذي هو واقف فيه. فإن أخطأ الناظر النظر إلى حريم رجل.. لم يكن له رميه مع العلم بحاله؛ لأن الرمي عقوبة على قصد الاطلاع والنظر، ولم يوجد منه ذلك، فإن رماه حين اطلع، فأصاب عينه، ثم قال المطلع: لم أقصد الاطلاع والنظر، وقال الرامي: بل قصدت ذلك.. فالقول قول الرامي مع يمينه؛ لأن الظاهر ممن اطلع في دار غيره أنه قصد النظر. فإن نظر إلى حريمه من باب مفتوح أو كوة واسعة، فإن نظر وهو على اجتيازه.. لم يكن لصاحب الدار رميه؛ لأن المفرط هو صاحب الدار بفتح الباب وتوسيع الكوة، وإن وقف وجعل ينظر.. ففيه وجهان: أحدهما: يجوز له رميه؛ لأنه مفرط في الاطلاع والنظر، فهو كما لو قصد إلى النظر من حجر. والثاني: لا يجوز له رميه؛ لأن صاحب الدار فرط في فتح الباب وتوسعة الكوة. ولو لم يكن في الدار المنظور فيها حريم لصاحب الدار، ففقأ عين من ينظر فيها.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] . أحدهما ـ وهو قول البغداديين من أصحابنا ـ: أنه يضمن؛ لأن الإنسان إنما يستضر بنظر غيره إلى حريمه، وإلى حريم غيره. الثاني: لا يضمن؛ لأن الرجل قد يستتر أيضا عن أبصار الناس، كما يستر

فرع: يرمى المطلع على حريم بشيء خفيف

فإن كان حريم رجل في الطريق، فنظر غيره إليهن.. لم يكن لصاحب الحريم رميه؛ لأن الموضع الذي فيه الحريم مباح يملك كل واحد النظر إليه، فلم يستحق إتلاف عضو الناظر إليه. [فرع: يرمى المطلع على حريم بشيء خفيف] ] : وإذا اطلع رجل على داره، ونظر حريمه.. فليس له رمي عينه إلا بشيء خفيف يفقأ عينه، فإن رمى عينه بشيء خفيف، ففقأها وسرى إلى نفسه.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه مات من جناية مباحة، إن رماه بشيء ثقيل، فهشم وجهة وسرى إلى نفسه.. لزمه الضمان؛ لأنه ليس له رميه بما يودي إلى إتلاف نفسه. إن رمى غير عينه، فأصابه.. وجب عليه الضمان؛ لأن المتعدي هي العين، فلم يجز له إتلاف غيرها. قال المسعودي [في " الإبانة "] : إلا أن يكون الناظر بعيدا، فرمى عينه وقصدها، فأصابت موضعا آخر، فحينئذ لا يضمن. فإن اطلع رجل على حريم غيره في داره، فقبل أن يرميه صاحب الدار، انصرف المطلع.. لم يكن لصاحب الدار أن يتبعه ويرميه؛ لأنه إنما يجوز ليصرفه، فإذا انصرف.. لم يكن له رميه بعد ذلك. فإن رمى المطلع على داره، فلم ينصرف.. استغاث عليه بالناس، فإن انصرف عنه بالغوث.. فلا كلام، وإن لم ينصرف بذلك.. كان له أن يصرفه بما يصرف به من قصد نفسه أو ماله، حتى لو لم ينصرف إلا بقتله، فقتله.. فلا شيء عليه؛ لأنه تلف بدفع جائز.

مسألة: دخل دارا فأمره صاحبها بالخروج

[مسألة: دخل دارا فأمره صاحبها بالخروج] ] : فإن دخل رجل دار غيره بغير إذنه.. أمره صاحب الدار بالخروج، فإن لم يخرج.. خوفه بالله تَعالَى، فإن لم يخرج.. استغاث عليه بالناس، فإن لم يخرج بالغوث.. فله أن يدفعه باليد، فإن لم يخرج.. فله ضربه، فإن لم يخرج إلا بضرب يودي إلى قتله، فقتله.. فلا شيء عليه، كما قلنا فيمن قصد نفسه أو ماله، وبأي عضو يبدأ بضربه؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] : أحدهما: يبدأ بضرب رجله؛ لأنها هي الجانية، فبدأ بإتلافها، كما يبدأ بإتلاف عين الناظر؛ لأنها هي الجانية. والثاني: له أن يبدأ بأي عضو أمكنه من بدنه؛ لأنه دخل بجميع بدنه، فجميع بدنه في تحريم الدخول سواء. فإن دخل رجل داره، فقتله، فادعى القاتل: أنه قتله للدفاع عن داره، وأنكر ولي المقتول ذلك.. لم يقبل قول القاتل من غير بينة؛ لأن القتل متحقق، وما يدعيه خلاف الظاهر، وإن أقام بينة: أنه دخل داره مقبلا عليه بسلاح شاهر.. لم يضمن؛ لأن الظاهر أنه قصد قتله، وإن أقام بينة: أنه دخل داره بسلاح غير شاهر.. ضمنه بالقود أو الدية؛ لأن القتل متحقق، وليس هاهنا ما يدفعه. [فرع: إزالة المنكر تبيح اقتحام البيوت وقتالهم] قال المسعودي [في " الإبانة "] : ولو أعلم بخمر في بيت رجل أو طنبور، أو علم بشربه أو ضربه.. فله أن يهجم على صاحب البيت بيته، ويريق الخمر، ويفصل

مسألة: ضمان ما تتلف البهائم

الطنبور، ويمنعه من شرب الخمر والضرب، فإن لم ينته أهل الدار.. فله قتالهم، وإن أتى القتال عليهم.. فهو مثاب على ذلك. [مسألة: ضمان ما تتلف البهائم] وإن أفسدت ماشيته زرعا لغيره.. نظرت: فإن لم يكن عليها يد لمالكها ولا لغيره.. فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: إن أتلفت ذلك نهارا.. لم يجب على مالكها الضمان، وإن أتلفته ليلا.. وجب على مالكها الضمان، لما «رَوَى البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (كانت لي ناقة ضارية، فدخلت حائطا، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن على أهل الحوائط حفظها نهارا، وعلى أهل المواشي حفظها ليلا، وإن عليهم ضمان ما تتلفه مواشيهم ليلا» . ومن أصحابنا من قال: إن كان في بلد لها مرعى في موات حول البلد.. لم يجب على مالك الماشية حفظها بالنهار، بل على أهل الزرع حفظ الزرع نهارا، وإن كان في بلد يكون الرعي في حريم السواقي وحوالي الزرع، ويعلم صاحب الماشية أنه متى

أطلق ماشيته دخلت زرع غيره وأفسدته.. فعليه حفظ ماشيته نهارا. وأمَّا بالليل: فإن كان في بلد ليس لبساتينها ومزارعها حيطان.. فإنه يجب على مالك الماشية حفظ ماشيته ليلا. وإن كان في بلد لبساتينها ومزارعها حيطان.. فعلى صاحب البستان والزرع إغلاق باب بستانه ومزرعته، فإن لم يغلقه.. فلا ضمان على رب الماشية فيما أتلفته من ذلك ليلا، إلا أن يكون صاحب البستان قد أغلق الباب، ولكن الماشية اقتحمت فدخلت، فيجب على مالكها الضمان. وتأول هذا القائل الخبر على: أنه كان للمدينة مراع حولها ولا حيطان على بساتينها. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : يعتبر عرف البلد؛ فلو جرت عادة أهل البلد: أن لا يرسلوا النعم نهارا إلا مع راع يحفظها، وأن لا يحفظ أصحاب الزرع زرعهم نهارا، فأفسدت نعم رجل زرعا نهارا.. ضمن مالكها. والأول هو المشهور؛ لأن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفرق، ولأن العادة جرت: أن أرباب الزرع يحفظون زروعهم نهارا، فإذا أتلفت الماشية نهارا.. نسب التفريط إلى صاحب الزرع. وجرت العادة: أن أرباب الماشية يحفظونها ليلا، فإذا أتلفت زرعا بالليل.. كان التفريط من أصحاب الماشية، فكان عليهم الضمان. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب على رب الماشية ضمان ما تتلفه ماشيته، نهارا كان أو ليلا، إذا لم يكن معها) . ودليلنا عليه: ما مَضَى. وإن أغلق الباب على ماشيته بالليل، فانهدم الحائط، وخرجت الماشية من غير علم صاحبها، وأتلفت على غيره زرعا أو مالا.. لم يجب على مالكها ضمانه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «العجماء جبار» و (العجماء) : الدابة. و (جبار) : هَدَر. ولأنه

فرع: ضمان ما تتلفه الدابة

غير مفرط بذلك، فلم يلزمه الضمان. فأما إذا كانت يد صاحب الماشية عليها، أو يد غيره عليها. إما أجيرا عليها، أو مستأجرا لها، أو مستعيرا لها، أو مودعة عنده، أو مغصوبة عنده، فأتلفت شيئا بيدها أو رجلها أو نابها.. فضمان ذلك على من كانت يده عليها، سواء كان ذلك ليلا أو نهارا، وسواء كان راكبا لها أو سائقا أو قائدا، أو كان راكبا لدابة وسائقا لغيرها، أو كان معه قطار يقوده أو يسوقه.. فعليه ضمان ما يتلفه الجميع؛ لأن يده على الجميع. ووافقنا أبُو حَنِيفَة إذا كان سائقا لها، فأما إذا كان راكبها أو قائدها.. فقال: (عليه ضمان ما تتلفه، بيدها أو بفيها، فأما ما تتلفه برجلها أو بذنبها.. فلا يلزمه ضمانه) . دليلنا: أن يده ثابتة عليها، فكانت جنايتها كجنايته، فوجب عليه ضمانه كما يجب ضمان ما أتلف بنفسه، أو ما أتلفت بيدها أو بفيها عند أبي حَنِيفَة. [فرع: ضمان ما تتلفه الدابة] على سائقها وقائدها] : وإن كان مع الدابة قائد وسائق.. كان ضمان ما أتلفت عليهما بالسوية؛ لأن يدهما عليها، وإن كان عليها راكب وسائق.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصبَّاغ: أحدهما: أن الضمان عليهما؛ لأن كل واحد منهما لو انفرد.. ضمن ما أتلفت، فإذا اجتمعا.. استويا في الضمان، كالسائق والقائد. والثاني: أن الضمان على الراكب وحده؛ لأن يده أقوى عليها، وهو أقوى تصرفا بها. قال: والأول أقيس. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : ولو كان في يده دابة، فهربت غالبة له، فأتلفت

فرع: ربط دابة في طريق ونحوه فأتلفت شيئا

شيئا.. لم يضمن؛ لأنه ليس بمفرط، وإن كان راكبا لها، فعضت على اللجام وركبت رأسها غالبة له، فأتلفت شيئا.. ففيه قولان: أحدهما: لا يضمنه كما لو لم يكن راكبا لها، فانفلتت منه، وأتلفت شيئا. والثاني: يضمنه؛ لأن الراكب يكون معه سوط يصرف بذلك مركوبه، فإذا لم يكن معه هذه الآلة.. فهو مفرط، وإن غلبته مع ذلك.. فهو مفرط أيضا، حيث لم يروضها للركوب. وذكر صاحب " التلخيص " في الدابة إذا غلبت صاحبها قولين، سواء كان راكبا لها أو غير راكب لها، كما قلنا في السفينتين إذا تصادمتا من غير تفريط من القيمين. قال الطبري: وعلى هذا خرج أصحابنا إذا سد باب بيته بالليل، ففتحت الدابة الباب، فانفلتت، فأفسدت زرع إنسان.. هل على صاحبها الضمان؟ على وجهين من هذين القولين. وإن أركب رجل صبيا دابة، فأتلفت شيئا والصبي راكب عليها، فإن أركبه أجنبي.. كان الضمان على الذي أركبه؛ لأنه تعدى بالإركاب، وإن أركبه وليه أو الوصي عليه لمصلحة الصبي، بأن يضعف الصبي عن المشي.. كان ضمان ما تتلفه البهيمة على الصبي دون الولي والوصي، وإن لم يكن للصبي في الإركاب مصلحة.. كان الضمان على الولي أو الوصي. [فرع: ربط دابة في طريق ونحوه فأتلفت شيئا] ] : وإن ربط دابة أو أوقفها في غير ملكه أو في طريق المسلمين، فأتلفت شيئا.. وجب عليه ضمانه، سواء كان معها أو غائبا عنها، وسواء كان الطريق واسعا أو ضيقا؛ لأنه إنما يملك الارتفاق بطريق المسلمين بشرط السلامة، فأما إذا أفضى إلى التلف.. وجب عليه الضمان، كما لو أخرج إلى أهل الطريق روشنا أو جناحا، فوقع على إنسان، فأتلفه. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [" في الإبانة "] : إن كان الطريق ضيقا، بحيث لا يوقف بمثله..

فرع: نخس دابة مركوبة فقتلت أو كسرت فعليه الضمان

ضمن ما أتلفته؛ لأن مثل هذا الطريق لا توقف فيه الدواب، وإن كان واسعا.. لم يضمن؛ لأنه لا يضر وقوفها، وهو غير متعد بوقوفها فيه. وأمَّا إذا ربط الدابة أو أوقفها في ملكه أو في موات.. لم يجب عليه ضمان ما أتلفته؛ لأن له التصرف في ملكه وفي الموات على الإطلاق، كما لو وقف في ملكه، فعثر به إنسان، فمات. وإذا كان مع الدابة ولدها.. فحكمه حكم أمه في ذلك. [فرع: نخس دابة مركوبة فقتلت أو كسرت فعليه الضمان] ] : قال في " الإفصاح ": إذا كان الرجل راكبا لدابة، فجاء آخر فنخسها، فرفست إنسانا فقتلته.. كان الضمان على الذي نخسها دون الراكب؛ لأنه هو الذي حملها على ذلك. [فرع: ابتلاع الدابة جوهرة لرجل] ] : وإن مرت بهيمة بجوهرة لرجل؛ فابتلعتها، فإن كان على الدابة يد مالكها أو غيره ... وجب ضمان الجوهرة على صاحب اليد. وقال أبُو علي بن أبي هُرَيرَة: إن كانت شاة.. لم يضمن، وإن كان بعيرا.. ضمن؛ لأن العادة جرت في البعير أن يضبط وفي الشاة أن ترسل. وهذا خطأ؛ لأن فعلها منسوب إليه، ولأنه لا فرق في الزرع بين الجميع، فكذلك في غير الزرع. وإن لم يكن عليها يد لأحد.. ففيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول أبي علي بن أبي هُرَيرَة ـ: إن كان ذلك نهارا.. لم يضمن صاحبها، وإن كان ليلا.. ضمن، كما قلنا في الزرع. والثاني ـ وهو قول القاضي أبي حسن الماوردي: أنه يضمن، ليلا كان أو نهارا؛ لأن رعي الزرع مألوف، فلزم صاحبه حفظه منها، وابتلاع الجوهرة غير مألوف، فلم يلزم صاحبها حفظها.

فرع: ضمان ما يؤذيه الكلب أو يأكله السنور من الطير

فعلى هذا: إن كانت البهيمة غير مأكولة، وطلب صاحب الجوهرة ذبحها بإخراج الجوهرة.. لم تذبح، بل يغرم مالكها قيمة الجوهرة، فإن دفع القيمة، ثم ماتت البهيمة، وأخرجت الجوهرة من جوفها.. وجب ردها إلى مالكها، واسترجعت القيمة منه، فإن نقصت قيمتها.. ضمن صاحب البهيمة ما نقصت من قيمتها. وإن كانت البهيمة مأكولة.. فهل يجب ذبحها؟ فيه وجهان، بناء على القولين فيمن غصب خيطا، وخاط به جرح حيوان مأكول. [فرع: ضمان ما يؤذيه الكلب أو يأكله السنور من الطير] ] : وإن كان له كلب عقور أو سنور يأكل حمام الناس.. لزمه ربطهما وحفظهما، فإن أطلقهما.. وجب ضمان ما أتلفا من ذلك، ليلا كان أو نهارا؛ لأنه مفرط في ترك حفظهما. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه لا يلزمه ذلك ليلا أو نهارا؛ لأن العادة لم تجر بتقييد الكلاب والسنانير في البيوت. والمشهور هو الأول. وإن كانا غير معروفين بذلك.. ففيه وجهان: أحدهما: أنهما كغيرهما من البهائم، على ما مَضَى. والثاني: لا يجب عليه ضمان ما أتلفا؛ لأن العادة لم تجر بتقييدهما وحفظهما. وإن ربط في داره كلبا، فدخل رجل داره بغير إذنه، فأكله الكلب، فإن لم يشل الكلب عليه.. فلا ضمان عليه؛ لأن المفرط هو الداخل، وإن أشلى عليه الكلب.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو حامد: أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه يلزمه الضمان؛ لأن يده على الكلب، فهو

فرع: التقاط الطائر حب جاره أو غيره

كآلة له، فإذا أشلاه عليه، فجنى عليه.. كان كما لو جنى عليه بيده. والثاني: لا يلزمه الضمان؛ لأن الكلب له قصد واختيار، فكانت جنايته عليه باختياره. وإن دخل الدار بإذن صاحب الدار، فإن أعلمه صاحب الدار أن الكلب عقور، أو ربط دابة عضوضا، فأذن له بالدخول وأعلمه بإعضاضها، فأكله الكلب أو عضته الدابة.. لم يجب على صاحب الدار الضمان؛ لأنه لم يفرط حيث أعلمه. وإن أذن له ولم يعلمه بعقر الكلب وإعضاض الدابة، فعقره الكلب أو عضته الدابة.. فهل يجب على صاحب الدار الضمان؟ فيه قولان: أحدهما: لا يضمن؛ لأنه غير مفرط في ربطها بملكه. والثاني: يضمن؛ لأنه لما أذن له في الدخول.. فقد صارت الدار للداخل في حكم ملكه أو في حكم الموات. [فرع: التقاط الطائر حب جاره أو غيره] ] : قال ابن الصبَّاغ: إذا كان له طير، فأرسله، فلقط حبا لغيره.. لم يضمنه؛ لأن تخلية الطير بالنهار معتادة. والله أعلم بالصواب.

كتاب السير

[كتاب السير]

كتاب السير قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لما مضت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مدة من هجرته.. أنعم الله فيها على جماعات باتباعه، حدثت لهم ـ مع عون الله ـ قوة بالعدد لم يكن قبلها فرض الله عليهم الجهاد) . وجملة ذلك: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قبل أن يبعث متمسكا بدين إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولم يعبد صنما ولا وثنا؛ ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما كفر بالله نبي قط» . فـ: «أول ما ابتدأه الله بالوحي: بالمنامات الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. وكان قد حببت إليه الخلوة، وكان يصعد إلى حراء ـ جبل

بمكة ـ وكان كل شجر وحجر مر به يقول له: السلام عليك يا رسول الله، فلا يرى أحدا ففزع من ذلك.. فبينما هو ذات يوم إذ أتاه جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال: يا محمد، اقرأ. فقال: " وما أقرأ؟ قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2] [العلق: 1 - 2] ، ففزع من ذلك وراح إلى بيت خديجة، فقال: (زملوني دثروني) ، وأخبر خديجة قصته، وقال: (أتاني شخص، أترين بي جنة؟) قالت له: ما كان الله ليفعل بك هذا، ثم قالت له: إذا جاءك فعرفني. فلما جاء جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.. قال لها: " قد جاءني " فجاءت وأقعدته على فخذها الأيمن، وقالت له: أين هو؟ قال: " واقف "، فدارته إلى فخذها الأيسر، وقالت: أين هو؟ قال: " واقف "، فكشفت عن رأسها وقالت: أين هو؟ قال: " قد غاب " قالت له: أبشر، فإنه ملك؛ حيث

غاب عندما كشفت العورة، ولو كان شيطانا.. لم يغب لذلك» . ثم أمره الله تَعالَى بالإنذار وأن يدعو الناس إلى الله، فقال تَعالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] [المدثر: 1 - 4] وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] [الكافرون: 1] إلى آخرها، وقال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] [الشعراء: 214] . «وكان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتخوف أن يدعو قريشا إلى الله فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] [المائدة: 67] ، فضمن له العصمة من الناس، فقام النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجمع قومه ودعاهم إلى الله تَعالَى، فقال أبُو لهب: ألهذا دعوتنا، تبا لهذا الحديث، فأنزل الله تَعالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] [المسد: 1] إلى آخرها» . فأمره الله تَعالَى بالإعراض عنهم، فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] [الأنعام: 68] وقال تَعالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا} [الأنعام: 108] الآية [الأنعام: 108] ، فكان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرض عنهم، فكثر تأذي النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فأذن الله تَعالَى لهم في الهجرة، ولم يوجبها عليهم، فقال تَعالَى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100] الآية [النساء: 100] فهاجر بعض أصحاب النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الحبشة، وبعضهم

إلى الشام، وتفرقوا. وكان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج في المواسم ومعه أبُو بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيعرض نفسه على قبائل العرب، فلم يقبله أحد حتى قدم مكة الأوس والخزرج ـ قوم من المدينة ـ فعرض النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفسه عليهم، فقالوا: وراءنا رهط من قومنا، وإنا نرجع إليهم ونعرفهم ذلك، فإن قبلوك.. انتقلت إلينا ونصرناك. فلما رجعوا إلى المدينة.. أخبروا قومهم به وعرفوهم حالة فقبلوه. فلما كان وقت الموسم.. قدموا مكة، وقالوا: قد أخبرنا قومنا بخبرك فقبلوك، فسر معنا. فوجه معهم مصعب بن عمير؛ ليعلمهم الإسلام، فعلمهم الإسلام، وكان يصَلَّى بهم. ثم هاجر النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم، فلما استقر بالمدينة، وأسلم خلق كثير، أذن لهم الله تَعالَى بالقتال، ولم يفرضه عليهم بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] الآية [الحج: 39] ، فلما كثر المسلمون واشتدت شوكتهم بعد مدة.. فرض الله عليهم القتال، فقال عز وجل: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 41] [التوبة: 41] وقال عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] وقال تَعالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] ، وفي ذلك آي كثير. فهذا معنى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لما مضت برسول الله مدة من هجرته) إلى آخر كلامه. ثم أوجب الله على من بقي من المسلمين مع الكفار الهجرة، وقيل - إن سبب وجوبها -: أن قريشا لما خرجوا إلى بدر لقتال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. أكرهوا من معهم من المسلمين على الخروج معهم والقتال، فقيل: إنه قتل من المسلمين الذين معهم ناس، فقال الله تَعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] [النساء: 97] الآية، فتواعدهم على ترك الهجرة، والتواعد لا يكون إلا على واجب. وقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

«أنا بريء من كل مسلم مع مشرك» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسلم والكافر: «لا تراءى ناراهما» . إذا ثبت هذا: فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب: أحدهما: أن يكون ممن أسلم وله عشيرة تمنع منه، ولكنه يقدر على الهجرة، ويقدر على إظهار دينه، ولا يخاف الفتنة في دينه.. فهذا يستحب له أن يهاجر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] [المائدة: 51] ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تراءى ناراهما» . ولا تجب عليه الهجرة. والضرب الثاني: أن يكون ممن أسلم ولا عشيرة له تمنع منه، ولا يقدر على الهجرة لعجزه عن المشي، ولا له مال يمكنه أن يكتري منه ما يحمله.. فهذا لا تجب عليه الهجرة، بل يجوز له المقام مع الكفار.

والضرب الثالث: أن يكون ممن أسلم ولا عشيرة له تمنع منه، ولكنه يقدر على الهجرة بالمشي، وله مال يمكنه أن يكتري منه ما يحمله.. فهذا تجب عليه الهجرة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] [النساء: 97] الآية. فأخبر الله: أن من كان مستضعفا بين المشركين وهو يقدر على الخروج من بينهم فلم يفعل.. فإن مأواه النار. فدليل خطابه: أن من لم يكن مستضعفا بينهم، بل يتمكن من إظهار دينه.. أنه لا شيء عليه، فثبت وجوب الهجرة على المستضعف الذي يقدر على الخروج بنص الآية، وسقوط الهجرة عمن ليس بمستضعف بدليل خطابها، ثم استثنى فقال: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98] [النساء: 98] الآية، فأخبر: أن المستضعف الذي لا يقدر على الخروج خارج من الوعيد. فإن وجبت الهجرة على رجل من بلد، ففتح ذلك البلد وصار دار إسلام.. لم تجب عليه الهجرة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا هجرة بعد الفتح» وأراد به: لا هجرة من مكة

مسألة: الجهاد فرض على الكفاية وماذا لو كان في الأشهر الحرم؟

بعد أن فتحت، ولم يرد: أن الهجرة تنقطع من جميع البلاد بفتح مكة؛ بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» . [مسألة: الجهاد فرض على الكفاية وماذا لو كان في الأشهر الحرم؟] ؟] : الجهاد فرض من فروض الكفاية منذ فرضه الله تَعالَى إلى وقتنا هذا. فإذا قام به بعض المسلمين.. سقط الفرض عن الباقين. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه كان فرضا على الأعيان في أول الإسلام لقلتهم. والأول هو المشهور. وقال ابن المسيب: هو فرض على الأعيان في كل زمان. دليلنا: قَوْله تَعَالَى:

{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] [النساء: 95] الآية، فمنها دليلان: أحدهما: أنه فاضل بين المجاهدين والقاعدين، والمفاضلة لا تكون إلا بين جائزين. والثاني: قَوْله تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] [النساء: 95] ، فلو كان القاعد تاركا لفرض.. لما وعد بالحسنى. ولـ: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج عام بدر وأحد، وبقي ناس لم يخرجوا معه، فلم ينكر عليهم» . وقد: «كان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج بنفسه تارة، وتارة يبعث بالسرايا» . فدلَّ على أنه ليس بفرض على الأعيان. وبعث النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بني لحيان، وقال: «ليخرج من كل رجلين رجل، ويخلف الآخر الغازي في أهله وماله» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير.. كان له مثل نصف أجر الخارج» . ورُوِي: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من جهز غازيا.. فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله وماله بخير.. فقد غزا» . ولأنا لو قلنا: إنه فرض على الأعيان.. لانقطع الناس به عن معاشهم، فدخل الضرر عليهم. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن دخل المشركون بلدا من بلاد الإسلام.. وجب الجهاد على أعيان من يقرب عن ذلك البلد.

فرع: يستحب للإمام أن يكثر من الجهاد إذا توفرت أمور

أراد: وإن لم يجد زادا وراحلة. قال: ويجب الجهاد على أعيان من كان بعيدا من ذلك البلد إذا وجد الزاد والراحلة، وهل يجب على أعيان من كان بعيدا من ذلك البلد وإن لم يجدوا زادا ولا راحلة؟ فيه وجهان. أحدهما: يجب على أعيانهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] [التوبة: 41] ، فيجب عليهم أن يتحركوا للقتال. والثاني: لا يجب عليهم؛ لأن عليهم مشقة عظيمة في ذلك، فلم يجب عليهم، كما لا يجب عليهم الحج. إذا ثبت هذا: فإن الجهاد في سبيل الله كان محرما في الأشهر الحرم في أول الإسلام، وفي البلد الحرام إلا إن ابتدئوا بالقتال. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 217] [البقرة: 217] الآية، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] الآية، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] [البقرة: 191] . ثم نسخ ذلك كله، فقال تَعالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] ، ولم يفرق. ولـ: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الطائف في ذي القعدة فقاتلهم، وسار إلى مكة ليفتحها من غير أن يبدؤوه بقتال» . [فرع: يستحب للإمام أن يكثر من الجهاد إذا توفرت أمور] ] : ومتى علم الإمام في المسلمين قوة، وعددا، وقوة نية في القتال.. فالمستحب له: أن يكثر من الجهاد؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال:

" الإيمان بالله ورسوله، ثم جهاد في سبيل الله» . وروى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والذي نفسي بيده، لوددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا» ، فكان أبُو هُرَيرَة، يقول ثلاثا: أشهد. ورَوَى أبُو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا أبا سعيد، من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبيا.. وجبت له الجنة "، فقال: أعدها يا رسول الله، ففعل، ثم قال: " وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: " الجهاد في سبيل الله» ورُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزا سبعا وعشرين غزوة، وبعث خمسا وثلاثين سرية» .

مسألة: لا يجاهد عن غيره بعوض ولا بغير عوض

وأقل ما يجزئ الإمام أن يغزو بنفسه أو بسراياه في السنة مرة؛ لأن الجهاد يسقط ببذل الجزية، والجزية تجب في كل سنة مرة، فكذلك الجهاد، فإن دعت الحاجة إلى القتال في السنة أكثر من مرة.. وجب ذلك. وإن علم الإمام في المسلمين قلة عدد، أو ضعفا في نياتهم، أو فيما يحتاجون إليه.. جاز له أن يؤخر الجهاد أكثر من سنة إلى أن يكثر عددهم، وتقوى نياتهم أو يوجد ما يحتاج إليه في القتال؛ لأن القصد بالقتال النكاية في العدو، فإذا قاتلهم مع وجود هذه الأشياء.. لم يؤمن أن تكون النكاية في المسلمين. [مسألة: لا يجاهد عن غيره بعوض ولا بغير عوض] ] : ولا يجوز أن يجاهد أحد عن غيره بعوض ولا بغير عوض. فإن فعل.. وقع الجهاد عن المجاهد، ووجب عليه رد العوض؛ لأن الجهاد فرض على الكفاية، فإذا حضر المجاهد الصف.. تعين عليه الجهاد بنفسه ولم يقع عن غيره، كما لو استأجر شخصا يحج عنه من لم يحج عن نفسه. [مسألة: الجهاد على الرجال الأحرار دون غيرهم] ] : ولا يجب على المرأة الجهاد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] [الأنفال: 65] ، وهذا خطاب للذكور. ورُوِي: «أن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سألت رسول الله: هل على النساء جهاد؟ فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " جهادكن الحج " أو قال: " حسبكن الحج» .

ورُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى امرأة مقتولة، فقال: " ما بالها تقتل وإنها لا تقاتل؟!» . ولا يجب الجهاد على الخنثى المشكل؛ لجواز أن يكون امرأة. ولا يجب الجهاد على العبد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] [التوبة: 41] ، والعبد لا مال له، ولقوله تَعالَى:

فرع: لا يجب الجهاد على صغير ولا مجنون

{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] [التوبة: 91] ، والعبد لا يجد ما ينفق. ورُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جاءه من يسلم ولم يعرفه قال له: " أحر أنت أو عبد؟» ، فإن قال: حر.. بايعه على الإسلام والجهاد. وإن قال: عبد.. بايعه على الإسلام فقط. «وروى عبد الله بن عامر قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزاة، فمررنا بقوم من مزينة، فتبعنا مملوك امرأة منهم، فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أستأذنت مولاتك؟ "، فقال: لا. قال: " إن مت.. لم أصل عليك، ارجع واستأذنها وأقرئها سلامي» ، فرجع العبد إليها وأقرأها السلام من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأذنت له في الخروج، ولأن الجهاد قربة يتعلق بقطع مسافة بعيدة، فلم يجب على العبد، كالحج. وفيه احتراز من الهجرة؛ قال الشيخُ أبُو حامد: فإنها تجب على العبد؛ لأن الهجرة عبادة هي قطع المسافة؛ لأن قطع المسافة هو أداء العبادة. ولا يجب الجهاد على من بعضه حر وبعضه عبد؛ لأنه ناقص بالرق، فهو كالقن. [فرع: لا يجب الجهاد على صغير ولا مجنون] ] : ولا يجب الجهاد على صبي ولا مجنون؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ورُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد أنسا وابنَ عُمر، وعشرين من أصحابه؛

مسألة: لا جهاد على الأعمى وماذا لو كان في بصره أو جسده علة؟

استصغرهم» . ولأن الجهاد عبادة بدنية، فلم تجب على الصبي والمجنون، كالصلاة والصوم. [مسألة: لا جهاد على الأعمى وماذا لو كان في بصره أو جسده علة؟] ؟] : ولا يجب الجهاد على الأعمى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] [النور: 61] ، ولم يختلف أهل التفسير أنها في الفتح [وهي في سورة الفتح: 17] : نزلت في الجهاد. ولقوله تَعالَى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة: 91] [التوبة: 91] . قال ابن عبَّاس: (أنا ضعيف وأمي ضعيفة ـ يعني: أنا أعمى وأمي امرأة ـ فلا حرج علينا بترك الجهاد) . ورُوِي: أنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] [النساء: 95] . قال ابن أم

مكتوم: فضل الله المجاهدين علينا، فنزل قَوْله تَعَالَى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] ، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " اكتبوها بين الكلمتين؛ بين قَوْله تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] ، وبين قوله: {وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء: 95] . ولأن المقصود من الجهاد القتال، والأعمى ممن لا يقاتل. ويجب الجهاد على الأعور؛ لأنه يدرك بالعين الواحدة ما يدركه البصير في القتال. ويجب الجهاد على الأعشى ـ وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار ـ لأنه يدرك ما يدرك البصير في القتال. وإن كان في بصره سوء، فإن كان يدرك الشخص وما يتقيه من السلاح.. وجب عليه الجهاد؛ لأنه يقدر على القتال. وإن كان لا يدرك الشخص وما يتقيه من السلاح.. لم يجب عليه الجهاد؛ لأنه لا يقدر على الجهاد. ولا يجب الجهاد على الأعرج. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والأعرج هو: المقعد) وقيل: هو الذي يعرج من إحدَى رجليه. وهذا ينظر فيه: فإن كان مقعدا ولا يمكنه الركوب والنزول، أو لم يكن مقعدا ولكن عرج في إحدَى رجليه بحيث

مسألة: وجود الزاد والراحلة وماذا لو كان معسرا وبذل له ذلك؟

لا يمكنه الركوب ولا النزول مسرعا ولا المشي مسرعا.. لم يجب عليه الجهاد؛ للآية. وإن كان عرجه يسيرا، كالذي يخمع، ويمكنه الركوب والنزول والمشي مسرعا.. وجب عليه الجهاد؛ لأنه يتمكن من القتال. ولا يجب الجهاد على مقطوع اليد أو أشل اليد، ولا على من قطعت أكثر أصابع يده؛ لأنه لا يتمكن من القتال. وأمَّا المريض: فإن كان مرضه ثقيلا.. لا يجب عليه الجهاد للآية، ولأنه لا يقدر على القتال. وإن كان مرضا يسيرا، كالصداع اليسير والحمى اليسيرة.. وجب عليه الجهاد؛ لأنه يقدر على القتال. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن حضر الكفار.. وجب على المرأة والعبد والأعمى والأعرج أن يتحركوا على أنفسهم ويدفعوا عن أنفسهم وعمن يحضرهم. ولا يتصور الوجوب على الصبيان والمجانين بحال. [مسألة: وجود الزاد والراحلة وماذا لو كان معسرا وبذل له ذلك؟] ؟] : وأمَّا وجود الزاد والراحلة: فهل يعتبران في المجاهد؟ قال الشيخُ أبُو إسحاق: إن كان القتال على باب البلد وحواليه.. لم يعتبرا في حقه؛ لأنه لا يحتاج إليهما. وقال الشيخُ أبُو حامد: إن كان العدو منه على مسافة لا تقصر إليها الصلاة.. فلا يجب عليه الجهاد حتى يجد نفقة الطريق، ولا يعتبر فيه وجود الراحلة. وإن كان بينه وبين العدو مسافة تقصر إليها.. فلا يجب عليه الجهاد حتى يجد نفقة الطريق والراحلة فاضلا عن قوت عياله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] [التوبة: 91] .

مسألة: جهاد المدين

وقوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] [التوبة: 92] . فإن كان معسرا، فبذل له الإمام ما يحتاج إليه من ذلك.. وجب عليه قبوله ووجب عليه الجهاد؛ لأن ما بذله له.. حق له. وإن بذل له ذلك غير الإمام.. لم يجب عليه قبوله؛ لأن عليه منة في ذلك. [مسألة: جهاد المدين] حالا أو مؤجلا وماذا لو كان من المرتزقة؟] : وإن كان على الرجل دين.. نظرت: فإن كان الدين حالا.. لم يكن له أن يجاهد من غير إذن من له الدين؛ لما روى أبُو قتادة: «أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا ألي الجنة؟ فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نعم إلا الدين؛ بذلك أخبرني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» ، فأخبر: أن الدين يمنع الجنة، فعلم أنه يمنع الاستشهاد؛ فإذا منع الاستشهاد.. علم أن جهاده ممنوع منه. فإن استناب من يقضيه من مال له حاضر.. جاز له أن يجاهد من غير إذن الغريم؛ لأنه يصل إلى حقه. وإن كان من مال غائب.. لم يجز له أن يجاهد من غير إذن غريمه؛ لأنه قد يتلف المال فلا يصل الغريم إلى دينه. وإن كان الدين مؤجلا.. ففيه وجهان: أحدهما: يجوز له أن يجاهد من غير إذن الغريم، كما يجوز له أن يسافر للتجارة والزيارة من غير إذنه. والثاني: ليس له أن يجاهد من غير إذنه، وهو المذهب؛ لأن القصد من الجهاد

مسألة: الجهاد بإذن الأبوين

طلب الشهادة، والدين يمنع الاستشهاد، فلم يجز من غير إذن من له الدين. هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: إن كان الدين مؤجلا، فإن كان لم يخلف وفاء.. فليس له أن يجاهد بغير إذن الغريم وجها واحدا. وإن خلف وفاء.. فهل له أن يغزو بغير إذن الغريم؟ فيه وجهان. قالوا: وإن كان على أحد من المرتزقة دين مؤجل.. فهل له الخروج بغير إذن الغريم إن لم يخلف وفاء للدين؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له، كغير المرتزقة. والثاني: له ذلك؛ لأنه قد استحق عليه هذا الخروج بكتب اسمه في الديوان، ولعله لا يمكنه أداء الدين إلا بما يأخذه من الرزق أو بما يصيب من المغنم. [مسألة: الجهاد بإذن الأبوين] وإن كان لرجل أبوان مسلمان أو أحدهما.. لم يجز له أن يجاهد من غير إذن المسلم منهما؛ لما روى أبُو سعيد الخدري: «أن رجلا هاجر إلى النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من اليمن، فقال له النَّبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " هجرت الشرك وبقي هجرة الجهاد "، ثم قال له: " ألك أحد باليمن؟ " فقال أبواي، فقال: " أذنا لك؟ " فقال لا، فقال: " مر إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك.. فجاهد. وإن لم يأذنا لك.. فبرهما» . ورُوِي: «أن رجلا أتى النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليبايعه على الجهاد فقال له النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ألك أبوان؟ " قال: نعم، قال: " ارجع، ففيهما فجاهد» ورُوِي: «أن رجلا أتى

النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليبايعه على الجهاد، فقال: تركت أبوي يبكيان، فقال له النَّبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما» . «ورَوَى ابن مَسعُودٍ، قال: سألت النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الأعمال أفضل؟ فقال: " الصلاة لميقاتها " قلت: ثم ماذا؟ قال: " بر الوالدين " قلت: ثم ماذا؟ قال: " الجهاد في سبيل الله» فدلَّ على: أن بر الوالدين مقدم على الجهاد. فإن خرج بغير إذنهما.. فله أن يرجع قبل أن يلتقي الزحفان، وإن التقيا.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] : أحدهما: يجب عليه أن يرجع؛ لأن ابتداء السفر كان معصية، فالرجوع عنه أبدا واجب. والثاني: ليس له أن يرجع؛ لأنه التزم الجهاد بحضوره التقاء الزحفين. وإن لم يكن له أبوان، وله جد وجدة مسلمان.. لزمه استئذانهما؛ لأنهما يقومان مقام الأبوين في البر والشفقة. وإن كان له أب وجد وأم وجدة.. فهل يلزمه استئذان الجد مع الأب، واستئذان الجدة مع الأم؟ فيه وجهان.

فرع: سفر الولد للتجارة والعلم بغير إذن الوالدين

أحدهما: لا يلزمه؛ لأن الأب والأم يحجبان الجد والجدة عن الولاية والحضانة. والثاني: ـ وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق ـ: أنه يلزمه استئذانهما؛ لأن وجود الأبوين لا يسقط بر الجد والجدة ولا ينقص شفقتهما عليه. وإن كان الأبوان كافرين.. جاز له أن يجاهد من غير إذنهما؛ لأن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول كان يجاهد مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبوه منافق يخذل الناس عن الخروج مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعلوم أنه كان لا يأذن له. ولأن الكافر متهم في الدين فلم يعتبر إذنه. وإن كان الأبوان مملوكين.. ففيه وجهان: أحدهما: يجوز له أن يجاهد من غير إذنهما؛ لأن المملوك لا إذن له في نفسه، فلا يعتبر إذنه في حق غيره. والثاني: ـ وهو قول الشيخ أبي إسحاق ـ: أنه لا يجوز له أن يجاهد من غير إذنهما؛ لأن الرق لا يمنع بره لهما، ولا شفقتهما عليه. [فرع: سفر الولد للتجارة والعلم بغير إذن الوالدين] فرع: [جواز سفر الولد للتجارة والعلم الذي يحتاج إليه كالصلاة ونحوها بغير إذن] : قال الشيخُ أبُو إسحاق: وإن أراد الولد أن يسافر في تجارة أو طلب علم.. جاز من غير إذن الأبوين؛ لأن الغالب من سفره السلامة. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا أراد الولد الخروج لطلب العلم.. نظر فيه:

مسألة: رجوع الغريم والأبوين عن الإذن في الجهاد

فإن كان يطلب ما يحتاج إليه لنفسه من العلم، كالطهارة والصلاة والزكاة، وله مال ولم يجد ببلده من يعلمه ذلك.. فقد تعين عليه الخروج لتعلمه، وليس للأبوين منعه منه. وأمَّا ما لا يحتاج إليه لنفسه، كالعلم بأحكام النكاح ولا زوجة له، وبالزكاة ولا مال له ونحو ذلك، فإن لم يكن ببلده من يعلمه ذلك.. فهذا النوع من العلم فرض على الكفاية، وله أن يخرج لتعلم هذا العلم بغير رضا الأبوين. فإن كان ببلده من يعلم هذا النوع.. فهل له أن يخرج لطلبه من غير إذن الأبوين؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له ذلك؛ لأن هذا ليس بفرض عليه، فصار كالجهاد. والثاني: يجوز له أن يخرج بغير إذنهما؛ لأنه طاعة ونصرة للدين، ولا خوف عليه في المسافرة لأجله، بخلاف الجهاد. [مسألة: رجوع الغريم والأبوين عن الإذن في الجهاد] وماذا لو أحاط بهم العدو أو مرض؟] : وإن أذن له الغريم في الجهاد ثم رجع الغريم، أو أذن له أبواه ثم رجعا، أو كانا كافرين ثم أسلما، فإن كان ذلك قبل التقاء الزحفين.. وجب عليه أن يرجع؛ لأنه في هذه الحالة كما لو كان في وطنه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إلا أن يخاف إن رجع تلفا.. فلا يرجع) . قال: (وأحب أن يتوقى موضع الاستشهاد؛ لأنه يجاهد بغير إذن أبويه، فلا ينبغي له أن يطلب الاستشهاد) . قال المسعودي [في " الإبانة "] : وكذلك إن خاف أن تنكسر قلوب المسلمين لرجوعه.. فليس له أن يرجع بحال. وإن كان ذلك بعد التقاء الزحفين.. ففيه قولان: أحدهما: ليس له أن يرجع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16]

فرع: الجهاد والغزو بإذن الإمام

[الأنفال: 16] الآية. وهذا ليس بمتحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة، ولأن رجوعه في هذه الحالة ربما كان سببا لهزيمة المسلمين، فلم يكن له ذلك. والثاني: يجب عليه الرجوع؛ لأن طاعة الوالدين واجب والجهاد فرض، إلا أن طاعة الوالدين أسبق، فكانت بالتقديم أحق. فإن أحاط بهم العدو.. جاز له الجهاد من غير إذن الوالدين، ومن غير إذن الغريم؛ لأن ترك الجهاد في هذه الحال يؤدي إلى الهلاك. وإن مرض المجاهد مرضا يمنع وجود الجهاد عليه، أو عمي أو عرج، فإن كان قبل التقاء الزحفين.. جاز له أن يرجع. وإن كان بعد التقاء الزحفين.. جاز له أن يرجع أيضا على المشهور من المذهب. وخرج بعض أصحابنا الخراسانيين وجها آخر: أنه ليس له أن يرجع، كما قلنا في أحد القولين في رجوع الغريم والأبوين بعد التقاء الزحفين. والأول أصح؛ لأنه لا يمكنه الجهاد مع المرض والعمى والعرج، بخلاف رجوع الغريم والأبوين. [فرع: الجهاد والغزو بإذن الإمام] ] : ويكره الغزو بغير إذن الإمام أو الأمير من قبله؛ لأن الغزو على حسب الحاجة؛ وهما أعلم بالحاجة إليه. ولا يحرم؛ لأن التغرير بالنفس يجوز في الجهاد. [مسألة: توزيع الجيش وقواده] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (وأحب للإمام أن يبعث إلى كل طرف من أطراف بلاد الإسلام جيشا، ويجعلهم بإزاء من يليهم من المشركين، ويولي عليهم

رجلا عاقلا دينا قد جرب الأمور؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك.. فربما خرج عسكر المشركين وأضروا بمن يليهم إلى أن يجتمع عسكر من المسلمين) هكذا حكى الشيخ أبُو حامد. وذكر الشيخ أبُو إسحاق: أنه يجب على الإمام أن يشحن ما يلي الكفار بجيوش يكفون من يليهم. وإن احتيج إلى حفر خندق أو بناء حصن وأمكن الإمام ذلك.. استحب له أن يفعله؛ لـ: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حفر الخندق حول المدينة» ، ولأن المشركين ربما أغاروا على المسلمين على غفلة أو بيتوهم ليلا، فإن لم يكن هناك خندق ولا حصن.. نكوا فيهم. ويبتدئ الإمام بقتال من يليه من الكفار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] [التوبة: 123] ، ولأن ذلك أخف مؤنة، إلا أن يكون أبعد منهم قوم من المشركين فيهم قوة وإن غفل عن قتالهم.. اشتدت شوكتهم وخيف منهم، فحينئذ يبتدئ بقتالهم؛ لأنه موضع ضرورة. وقال في " الأم ": (وإذا غزا الإمام في هذا العام جهة.. غزا في العام القابل جهة أخرى؛ ليعمهم بالنكاية، إلا أن يكون في جهة من الجهات عدو شديد.. فيجوز له أن يقصده في كل عام؛ ليكسر قلوبهم) . فإذا أراد الإمام أن يغزو المشركين.. فإنه يغزو بكل قوم إلى من يليهم من الكفار، ولا ينقل أهل الجهة إلى جهة أخرى؛ لأنهم بقتال من يليهم أخبر، ولأنه أخف مؤنة، إلا أن يكون العدو في جهة من الجهات كبيرا شديد الشوكة، وليس بإزائهم من المسلمين من يقوم بقتالهم، فحينئذ له أن ينقل إليهم قوما من جهة أخرى؛ لأنه موضع ضرورة.

مسألة: عرض الجيش على الإمام قبل الخروج

[مسألة: عرض الجيش على الإمام قبل الخروج] وماذا لو كان فيه تخذيل ونحوه؟] : وإذا أراد الإمام الخروج.. عرض الجيش، ولا يجوز له أن يأذن بالخروج لمن ظهر منه تخذيل للمسلمين، أو إرجاف بهم، أو من يعاون الكفار. فـ (المخذل) : هو أن يقول: بالمشركين كثرة، وخيولهم جياد، وسلاحهم جيد، ولا طاقة لنا بهم؛ لأنه يجبن الناس إذا سمعوا ذلك. و (الإرجاف) : هو أن يقول: وراء المشركين مدد ونصرة، ووراءهم كمين وما شاكله. و (العون) : هو أن ينقل أخبار المسلمين إلى المشركين، ويوقفهم على عوراتهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} [التوبة: 47] [التوبة: 46 - 47] يعني: ضررا وفسادا. و: {وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} [التوبة: 47] [التوبة: 47] قيل: لأوقعوا بينكم الخلاف. وقيل: لأسرعوا في تفريق جمعكم. فإن قيل: فقد كان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج معه عبد الله بن أبي بن سلول وهو رأس المنافقين وكان مخذلا؟ فالجواب: أنه كان مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عدد كثير من الصحابة الأبرار الأتقياء لا يلتفتون إلى تخذيله، بخلاف غير النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولأن الله تَعالَى كان يطلع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على كيد المنافقين وتخذيلهم فلا يستضر به، بخلاف غيره. [فرع: لا يستعين إمام المسلمين بالكفار] ] : ولا يجوز للإمام أن يستعين بالكفار على قتال الكفار من غير ضرورة؛ لما «رُوِي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: خرجت مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض غزواته، فلما بلغ في

موضع كذا.. لقينا رجل من المشركين موصوفا بالشدة، فقال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أقاتل معك؟ فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنا لا أستعين برجل من المشركين "، قالت: فأسلم وانطلق معنا» . وإن دعت إلى ذلك حاجة؛ بأن يكون في المسلمين قلة، ومن يستعين به من الكفار يعلم منه حسن نية في المسلمين.. جاز له أن يستعين به؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بصفوان بن أمية وهو مشرك على قتال هوازن، واستعار منه أدرعه» ؛ لأنه كان له فيه حسن نية في المسلمين؛ بدليل: ما رُوِي: أنه لما ولى المسلمون في قتال هوازن.. سمع رجلا يقول: غلبت هوازن وقتل محمد، فقال صفوان: بفيك الحجر، لرب من قريش أحب إلينا من رب من هوازن. وأراد بالرب هاهنا: المالك. ورُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بقوم من يهود بني قينقاع، فرضخ لهم ولم يسهم» .

فرع: استئجار الكفار للقتال والإذن بخروج النساء ومن اشتد من الصبيان

[فرع: استئجار الكفار للقتال والإذن بخروج النساء ومن اشتد من الصبيان] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويستأجر الكافر من مال لا مالك له بعينه، وهو سهم النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما كان كذلك؛ لأن الجهاد لا يقع له. وفي القدر الذي يستأجر به وجهان: أحدهما: لا يجوز أن تبلغ الأجرة سهم الراجل؛ لأنه ليس من أهل فرض الجهاد فلا يبلغ سهم راجل، كالصبي والمرأة. والثاني - وهو المذهب -: أنه يجوز أن تبلغ به سهم الراجل؛ لأنه عرض في الإجارة، فجاز أن يبلغ به سهم الراجل، كالإجارة في سائر الإجارات. إذا ثبت هذا: فإنه لا يفتقر في الإجارة هاهنا إلى بيان المدة ولا العمل؛ لأن القتال لا ينحصر، فعفي عن ذلك لموضع الحاجة. فإن لم يكن قتال. لم يستحق الكافر شيئا. وإن كان هناك قتال، فإن قاتل الكافر.. استحق، وإن لم يقاتل.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يستحق شيئا؛ لأنه لم يفعل ما استؤجر عليه.

فرع: أخذ الميثاق على المقاتلين وبعث العيون وعقد الرايات ونحوه

والثاني: يستحق؛ لأن الاستحقاق هاهنا بالحضور، وقد حضر. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن أكره الإمام الكفار على أن يقاتلوا معه، فقاتلوا معه.. استحقوا أجرة المثل، كما لو أكرهوا على سائر الأعمال) . ويجوز للإمام أن يأذن للنساء بالخروج معه ولمن اشتد من الصبيان؛ لأن فيهم معونة. ولا يأذن للمجانين؛ لأنه لا معونة لهم؛ لأنه يعرضهم للهلاك. ويتعاهد الخيل، ولا يأذن بإخراج الفرس الكبير ولا الصغير ولا الكسير ولا المهزول؛ لأنه لا فائدة بحضورهم. [فرع: أخذ الميثاق على المقاتلين وبعث العيون وعقد الرايات ونحوه] ] : ويأخذ الإمام البيعة على الجيش أن لا يفروا؛ لما روى جابر، قال: «كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة رجل، فبايعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على: أن لا يفروا، ولم نبايعه على الموت» . ويوجه الطلائع، ومن يتجسس أخبار الكفار؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم الخندق: " من يأتيا بخبر القوم؟ " فقال الزبير: أنا، فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن لكل نبي حواريا، وإن حواري الزبير» . والحواري: الناصر، وإنما سمي بذلك؛

مسألة: الدية في قتل الكفار باعتبار بلوغ الدعوة وعدمه

لأن حواري عيسى ابن مريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا الحواريين؛ وهم الذين يبيضون الثياب. ويستحب أن يخرج يوم الخميس؛ لـ: «أن أكثر أسفار النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج فيها يوم الخميس» ، ويعقد الرايات ويجعل تحت كل راية عريفا؛ لـ: (أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك يوم الفتح) ، ويدخل دار الحرب على هيئة الحرب؛ لـ: (أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك) . ولأنه أبلغ في الإرهاب. [مسألة: الدية في قتل الكفار باعتبار بلوغ الدعوة وعدمه] ] : وإذا غزا الإمام قوما من الكفار.. نظرت: فإن كانوا لم تبلغهم الدعوة؛ بأن لم يعلموا أن الله بعث محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولا إلى خلقه، وأظهر المعجزات الدالة على صدقه، وأنه يدعو إلى الإيمان بالله.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا أعلم أن أحدا لم

يبلغه هذا الأمر إلا أن يكون قوم وراء الترك لم يعلموا، فإن وجد قوم كذلك.. لم يجز قتالهم حتى يدعوهم إلى الإسلام؛ لأنهم لا يلزمهم الإسلام قبل العلم ببعث الرسول، فإن قتل منهم إنسان قبل ذلك.. ضمن بالدية والكفارة. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا دية فيه ولا كفارة) ؛ لأن الخلق عنده محجوجون بعقولهم قبل بعث الرسل وعندنا ليسوا بمحجوجين قبل بعث الرسل. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] [الإسراء: 15] ، ولأنه ذكر بالغ محقون الدم، فكان مضمونا، كالمسلم. إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن كان يهوديا أو نصرانيا.. ففيه ثلث دية المسلم، وإن كان مجوسيا.. ففيه ثلثا عشر دية المسلم. وإن لم يعرف دينه، أو كان من عَبَدَة الأوثان.. ففيه دية المجوسي) . قال أبُو إسحاق: إنما أوجب الشافعي في اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم إذا كان من أولاد من غير التوراة والإنجيل وبدلها، فأما إذا كان من أولاد من لم يغيرها ولم يبدلها.. ففيه دية المسلم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] [الأعراف: 159] وأراد به: من لم يغير ولم يبدل. والأول أصح، وقد مَضَى ذلك في (الجنايات) . وإن كان الكفار ممن بلغتهم الدعوة.. فالمستحب للإمام: أن لا يقاتلهم حتى يدعوهم إلى الإسلام؛ لما روي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم خيبر: " إذا نزلت بساحتهم.. فادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم؛ فوالله: لأن يهدي الله بهداك رجلا واحدا.. خير لك من حمر النعم» . فإن قاتلهم قبل أن

فرع: الاستنصار بالضعفة والتحريض على القتال والدعاء والتكبير عند لقاء العدو

يدعوهم إلى الإسلام.. جاز؛ لـ: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغار على بني المصطلق وهم غافلون» ولأن الدعوة قد بلغتهم وإنما عاندوا. وإذا قاتل الإمام الكفار، فإن كانوا ممن لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب، كمن يعبد الأوثان والشمس والقمر والنجوم.. فإن يقاتلهم إلى أن يسلموا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فإذا قالوها.. عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» . وإن كانوا ممن لهم كتاب، كاليهود والنصارى، أو ممن لهم شبهة كتاب كالمجوس.. قاتلهم إلى أن يسلموا أو يبذلوا الجزية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] . [فرع: الاستنصار بالضعفة والتحريض على القتال والدعاء والتكبير عند لقاء العدو] ] : قال الشيخُ أبُو إسحاق: ويستحب الاستنصار بالضعفاء؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ائتوني بضعفائكم؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم» .

وقال: ويستحب أن يدعو عند التقاء الصفين؛ لما روى أنس: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دعا قال: " اللهم أنت عضدي وناصري، وبك أقاتل» . وروى أبُو موسى: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خاف قال: " اللهم إنِّي أجعلك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم» . ويستحب أن يحرض الجيش على القتال؛ لما روى أبُو هُرَيرَة: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " يا معشر الأنصار، هذه أوباش قريش، إذا لقيتموهم غدا.. فاحصدوهم» «ورَوَى سعد، قال: نثل لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد كنانته وقال: " ارم فداك أبي وأمي» ، وقيل: إن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل ذلك إلا لسعد. ويستحب أن يكبر عند لقاء العدو؛ لما روى أنس: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزا خيبر فلما رأى القرية.. قال: " الله أكبر، خربت خيبر» .

مسألة: حالات وجوب مصابرة المسلمين

ولا يرفع الصوت بالتكبير؛ لما روى أبُو موسى، قال: كان الناس في غزاة، فأشرفوا على واد، فجعلوا يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم بذلك، فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيها الناس، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا إنه معكم» وفي رواية أخرى: " أقرب إليكم من حبل الوريد ". [مسألة: حالات وجوب مصابرة المسلمين] ] : وإذا التقى المسلمون والمشركون وقاتلوهم.. نظرت: فإن كان عدد المشركين مثلي عدد المسلمين أو أقل منهم ولم يخف المسلمون بقتالهم.. وجب عليهم مصابرتهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] [الأنفال: 15] . فأوجب على المسلمين مصابرة المشركين في هذه الآية على العموم، ثم خص هذا العموم في آية أخرى، فقال تَعالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] [الأنفال: 65] . فأوجب على كل مسلم مصابرة عشرة من الكفار، وكان ذلك في أول الإسلام؛ حيث كان المسلمون قليلا، فشق ذلك على المسلمين، فنسخ ذلك بآية أخرى، فقال تَعالَى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] [الأنفال: 66] ، فأوجب على المسلم مصابرة الاثنين، واستقر الشَّرع على ذلك؛ بدليل: ما رُوِي عن ابن عبَّاس أنه قال: (من فر من ثلاثة.. فلم يفر، ومن فر من اثنين.. فقد فر) وأراد: من فر من ثلاثة.. فلم يفر الفرار المذموم في القرآن. ومن فر من

اثنين.. فقد فر الفرار المذموم في القرآن. فإن قيل: فصيغة الآية صيغة الخبر، فكيف جعلتموها أمرا؟ فالجواب: أن الخبر من الله عما يقع بالشرط لا يجوز أن يقع بخلاف ما أخبر به، وقد يوجد الواحد من الكفار يغلب الاثنين والثلاثة والعشرة من المسلمين، فدلَّ على: أنها أمر بلفظ الخبر. ولأن الله تَعالَى قال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] [الأنفال: 66] والتخفيف يقع في الأمر لا في الخبر. ومن تعين عليه فرض الجهاد.. فلا يجوز له أن يولي إلا في حالتين: أحدهما: أن يولي متحرفا للقتال؛ وهو: أن يرى المصلحة في الانتقال من موضع ضيق إلى موضع متسع، أو من موضع متسع إلى موضع ضيق وما أشبهه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] [الأنفال: 16] ورُوِي عن ابن مَسعُودٍ، أنه قال: «لما ولى المسلمون يوم حنين.. بقي مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانون نفسا، فنكصنا على أعقابنا قدر أربعين خطوة، ثم قال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعطني كفا من تراب " فأعطيته، فرماه في وجوه المشركين، فقال لي: " اهتف بالمسلمين " فهتفت بهم، فأقبلوا شاهرين سيوفهم» . وإنما ولوا متحرفين للقتال من مكان إلى مكان. والثاني: أن يولي متحيزا إلى فئة ليعود معهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] [الأنفال: 16] وسواء كانت الفئة قريبة منه أو بعيدة مسيرة يومين أو أكثر؛ لعموم الآية، ولما رُوِي عن ابن عمر: أنه قال: «كنت في سرية من سرايا النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحاص الناس حيصة عظيمة، وكنت فيمن حاص، فلما فررنا.. قلت: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بغضب ربنا؟ فجلسنا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل صلاة الفجر، فلما خرج.. قمنا إليه، فقلنا: نحن الفرارون، فقال: " لا، بل أنتم العكارون ". فدنونا فقبلنا يده، فقال: " أنا فئة المسلمين» يروى هذا: (فجاض القوم) بالجيم والضاد

المعجمة، ويروى: بالحاء والصاد غير المعجمة. ويروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «أنا فئة كل مسلم» وهو بالمدينة وجيوشه بالآفاق. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن كان هربه على غير هذا المعنى.. خفت عليه إلا أن يعفو الله تَعالَى ـ أن يكون باء بغضب من الله) وهذا صحيح؛ إذا تعين عليه فرض الجهاد وولى غير متحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة.. فقد أثم وارتكب كبيرة؛ لما روى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الكبائر سبع: أولهن الشرك بالله، وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا، وفرار يوم الزحف، ورمي المحصنات، والانتقال إلى الأعراب» . وهذا تصريح من الشافعي، بأن مذهبه

كمذهب أصحاب الحديث؛ أن من ارتكب كبيرة.. فقد أثم، ولكن الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه. وقالت المعتزلة: من ارتكب كبيرة. استوجب النار، ويكون مخلدا، ولا يجوز أن يعفوا الله عنه. وهذا موضعه في أصول الدين. ومن تعين عليه الجهاد، وغلب على ظنه: أنه إن لم يفر هلك.. فلا خلاف: أنه لا يلزمه الفرار؛ لأن التغرير بالنفس جائز في الجهاد، ولكن: هل يجوز له أن يولي غير متحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة؟ فيه وجهان. أحدهما: لا يجوز له ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] [الأنفال: 16] الآية: ولم يفرق. والثاني: يجوز له ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] [البقرة: 195] ، وفي بقائه على القتال تهلكة لنفسه. وإن زاد عدد المشركين على مثلي عدد المسلمين.. لم يجب على المسلمين مصابرتهم؛ لأن الله تَعالَى لما أوجب على الواحد مصابرة الاثنين.. دل على: أنه لا يجب عليه مصابرة ما زاد عليهما. ولما رَوَيْنَاهُ عن ابن عبَّاس. فإن علم المسلمون أنهم إذا ثبتوا لقتالهم غلبوا الكفار أو ساووهم، ولم يخشوا منهم القتل ولا الجراح ... فالمستحب لهم: أن يثبتوا لقتالهم؛ لأنهم إذا انهزموا.. اشتدت شوكة الكفار. وإن غلب على ظن المسلمين أنهم إن ثبتوا لقتالهم هلكوا.. ففيه وجهان: أحدهما: يلزمهم الهرب منهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] [البقرة: 195] .

فرع: جواز الفرار من اثنين إذا طلباه للقتال

والثاني: لا يلزمهم الهرب منهم؛ لما رُوِي: «أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت لو انغمست في المشركين فقاتلت فقتلت، ألي الجنة؟ فقال: " نعم، إن قاتلت وأنت مقبل غير مدبر» . فانغمس الرجل في صف المشركين، فقاتل حتى قتل، ومعلوم أن الواحد من المسلمين إذا انغمس في صف المشركين أنه يهلك، فدلَّ على أنه يجوز. فعلى هذا: يجوز لهم الفرار. [فرع: جواز الفرار من اثنين إذا طلباه للقتال] ] : وإن لقي رجل من المسلمين رجلين من المشركين، فإن طلباه للقتال.. جاز له أن يفر منهما؛ لأنه غير متأهب للقتال.. وإن طلبهما للقتال.. فهل له أن يفر منهما؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز له أن يفر منهما؛ لأن فرض الجهاد في الجماعة دون الانفراد. والثاني: لا يجوز له أن يفر منهما؛ لأنه مجاهد لهما حيث ابتدأهما بالقتال. [مسألة: استحباب توقي قتل الأب والرحم المحرم المشرك] إذا كان للمسلم أب مشرك.. فيستحب له أن يتوقى قتله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] [لقمان: 15] فأمره بمصاحبتهما بالمعروف عند دعائهما له إلى الشرك، وقتلهما ليس من المصاحبة بالمعروف. ولأن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي بكر حين أراد قتل ابنه: «دعه يتولى

مسألة: لا تقتل نساء الكفار إذا لم يقاتلن ولا الذراري

قتله غيرك» وكذلك قال لأبي حذيفة حين أراد قتل أبيه". فإن سمعه يسب الله ورسوله.. لم يكره له قتله؛ لما روي: «أن أبا عبيدة بن الجراح سمع أباه يسب النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقتله، ولم ينكر عليه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . [مسألة: لا تقتل نساء الكفار إذا لم يقاتلن ولا الذراري] ] : ولا يجوز قتل نساء الكفار ولا صبيانهم إذا لم يقاتلوا؛ لما رَوَى ابن عمر: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل النساء والولدان» ووجد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، امرأة مقتولة في بعض غزواته، فقال: «ما بال هذه تقتل وإنها لا تقاتل؟» .

ولا يجوز قتل الخنثى المشكل إذا لم يقاتل؛ لجواز أن يكون امرأة. فإن قتلهم قاتل.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنهم مشركون لا أمان لهم ولا ذمة. فإن قاتلوا.. جاز قتلهم؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال: "من قتل هذه؟ " فقال رجل: أنا يا رسول الله، غنمتها فأردفتها خلفي، فلما رأت الهزيمة فينا.. أهوت إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها، فلم ينكر عليه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ولأنه إذا جاز قتلهن إذا قاتلن وهن مسلمات.. فلأن يجوز قتلهن إذا قاتلن وهن مشركات أولى. وإن أسر منهم مراهق وشك فيه، هل هو بالغ أم لا.. كشف عن مؤتزره، فإن كان قد نبت على عانته الشعر الخشن.. فحكمه حكم البالغ على ما يأتي ذكره. وإن كان لم ينبت.. فحكمه حكم الصبي؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم سعدًا في بني قريظة، فقال سعد: فكشفنا عن مؤتزرهم، فمن أنبت. قتلناه، ومن لم ينبت.. جعلناه في الذرية، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» والأرقعة: السماوات، واحدها رقيع. وفي بعض الروايات: «من فوق سبع سماوات» .

مسألة: لا يقتل شيوخهم إلا عند القتال أو التدبير له وجرت السنة بعدم قتل الرسل

[مسألة: لا يقتل شيوخهم إلا عند القتال أو التدبير له وجرت السنة بعدم قتل الرسل] ] : وأمَّا شيوخ الكفار: فإن كان منهم قتال.. فهم كالشبان، وإن كان لا قتال منهم ولكن فيهم رأي وتدبير في الحرب.. فهم كالشباب ويجوز قتلهم؛ لما روي: «أن دريد بن الصمة قتل يوم حنين، وكان يومئذ ابن مائة وخمس وخمسين سنة، وكان له رأي في الحرب، وإنما أحضرته هوازن ليدبر لهم الحرب، وكان أمير هوازن مالك بن عوف، وقد أحضر النساء والذراري والأموال خلف العسكر، فقال له دريد: أخر هذه الذراري، والأموال أصعدها إلى الجبل، فإن كانت لنا.. أنزلناها، وإن كانت علينا.. لم تؤخذ. فقال له مالك بن عوف: لا، إن العرب تقاتل على الأهل والمال أشد. فقال دريد: تبًا لك مع هذا التدبير. وتركه وانصرف وصعد الجبل، فلما ولت هوازن وأخذ نساؤهم وأموالهم وذراريهم.. قال دريد في ذلك. أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد فكان الناس يمرون به ويقول لمن معه: من هذا؟ فيخبره، فمر به رجل فقال: من هذا؟ فقال: فلان بن فلان، فقال: إنه قاتلي، فجاءه الرجل ليقتله، فقال: من أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان، فقال له: إذا رجعت إلى أمك فقل لها: قتلت دريد بن الصمة وإنه قد أعتق أربعة من أحمائك، ولم ينكر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قتله» . وإن لم يكن فيهم رأي ولا قتال في الحرب.. ففيهم وفي أصحاب الصوامع والرهبان قولان:

أحدهما: لا يجوز قتلهم ـ وبه قال أبو حَنِيفَة ـ لما رَوَى ابن عبَّاس: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا «تقتلوا المرأة ولا أصحاب الصوامع» وروي ذلك عن أبي بكر؛ لأنهم ممن لا يقاتل فلم يجز قتلهم، كالنساء. والثاني: يجوز قتلهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] ، ولم يفرق. ورَوَى سمرة: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم» . وأراد بـ (شرخهم) : أحداثهم الذين لم يبلغوا. ولأنه كافر ذكر مكلف حر حربي، فجاز قتله، كما لو كان له رأي. ولا يقتل رسولهم؛ لما رَوَى ابن مَسعُودٍ: «أن رجلين أتيا النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رسولين

مسألة: تترس الكفار بمن لا يقتل

لمسيلمة الكذاب لعنه الله، فقال لهما: "أتشهدان أني رسول الله؟ " فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله. فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو كنت قاتلًا رسولًا.. لضربت أعناقكما» فجرت السنة أن لا يقتل الرسل. [مسألة: تترس الكفار بمن لا يقتل] إذا تترس المشركون بأطفالهم ونسائهم، فإن كان بالمسلمين حاجة إلى رميهم، بأن كان ذلك في حال التحام القتال، وخاف المسلمون إن لم يرموهم غلبوهم.. جاز للمسلمين رميهم، ولكن يقصد بالرمي المتترس دون المتترس به. وإن كان يعلم أنه لا يصل إلى المتترس إلا بأن يقتل المتترس به.. جاز قتله؛ لأنا لو منعناه من ذلك.. لأدى إلى تعطيل الجهاد، وظفر المشركون بالمسلمين. وإن لم يكن بالمسلمين حاجة إلى رميهم وقتالهم.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبُو إسحاق: يكره لهم الرمي؛ لأن فيه قتل النساء والصبيان بغير ضرورة، ولا يحرم ذلك؛ لأنهم لا يقصدون قتلهم. ومن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: لا يجوز قتلهم؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل النساء والولدان» . ولأنهم لا حاجة بهم إلى ذلك.

والثاني: يجوز رميهم؛ لأنا لو منعنا من ذلك.. منعنا من الجهاد، فأدى إلى الظفر بالمسلمين. هذا نقل الشيخ أبي حامد. وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا لم يكن ضرورة إلى رميهم.. فهل يكره رميهم؟ فيه قولان. فأما إذا تترس المشركون بمن معهم من أسارى المسلمين: فهل يجوز رميهم للمسلمين؟ نظرت: فإن لم يكن بالمسلمين حاجة إلى رميهم؛ بأن كان ذلك في غير التحام القتال.. لم يجز لهم رميهم؛ لأنه لا حاجة بهم إلى ذلك. فإن رمى مسلم إليهم وقتل مسلمًا.. وجب عليه القود والكفارة؛ لأنه قتل مسلمًا لغير ضرورة. وإن دعت الحاجة إلى قتالهم؛ مثل أن يكون في حال التحام القتال، أو خاف المسلمون إن لم يقاتلوهم غلبوهم.. جاز رميهم، ويتوقون المسلمين ما أمكنهم، ويقصدون رمي المشركين دون المسلمين؛ لأن حفظ من معنا من المسلمين أولى من حفظ من معهم. وكل موضع قلنا: (يجوز رميهم) فرماهم مسلم وقتل المسلم الذي تترسوا به.. فلا يجب على الرامي القصاص؛ لأنا قد جوزنا له الرمي. قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (وعليه الكفارة) . وقال في موضع: (عليه الدية والكفارة) واختلف أصحابنا فيه. فقال المزني: هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال فيه: (عليه الكفارة) إذا لم يعلم أنه مسلم، فرماه فقتله فبان مسلمًا. والموضع الذي قال: (عليه الكفارة والدية) إذا رماه وعرف أنه مسلم. وقال أبُو إسحاق: هي على اختلاف حالين آخرين غير هذين: فحيث قال: (عليه الكفارة والدية) إذا قصده بالرمي.

مسألة: محاصرة المشركين في بلادهم

وحيث قال: (عليه الكفارة) إذا لم يقصده بالرمي. ومن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: يجب عليه الكفارة والدية؛ لأنه غير مفرط في المقام بين المشركين. والثاني: عليه الكفارة، ولا دية عليه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنا بريء من كل مسلم مع مشرك قيل: لم يا رسول الله؟ قال: لا تراءى ناراهما» ولأن الرامي مضطر إلى الرمي. هذا ترتيب أصحابنا البغداديين. وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إن أمكن المسلمين قصد المتترس واتقاء المتترس به.. جاز قتالهم، ويتوقون المتترس به حسب جهدهم. وإن لم يمكنهم قصد المتترس إلا بقصد المتترس به.. لم يجز قصد الترس بحال سواء كانت ضرورة أو لم تكن. فلو قصده وقتله.. فهل يجب عليه القود؟ بنيناه على من أكرهه السلطان على القتل ظلمًا فإن قلنا يجب هناك القود.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: لا يجب القود.. فهاهنا قولان. والفرق: أنه هناك ملجأ إلى القتل وهاهنا غير ملجأ؛ لأنه قد كان يمكنه الهرب. وإذا تترسوا بأهل الذمة، أو بمن بيننا وبينه أمان.. فحكمهم حكم المسلمين إذا تترسوا بهم في جواز الرمي وفي الدية والكفارة. [مسألة: محاصرة المشركين في بلادهم] ] : يجوز للإمام أن يحاصر المشركين في بلد أو حصن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] ولـ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاصر أهل الطائف» . وأمَّا رميهم بالمنجنيق والحيات والعقارب، وتغريقهم بالماء، وتحريقهم بالنار

وغير ذلك مما يعمهم بالقتل، والهجم عليهم ليلًا، فإن لم يكن معهم أُسارى من المسلمين.. جاز له ذلك وإن كان فيهم نساء وأطفال؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصب المنجنيق على أهل الطائف» وإن كانوا لا يخلون من نساء وأطفال. ورَوَى ابن عبَّاس: «أن الصعب بن جثامة سأل النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن المشركين يبيتون وفيهم النساء والصبيان، فقال: "إنهم منهم» . وإن كان فيهم أسارى من المسلمين.. فهل يجوز رميهم بهذه الأشياء؟ ينظر من ذلك. فإن كان الإمام مضطرًا إلى ذلك؛ مثل أن يخشى إن لم يرمهم غلبوا المسلمين.. جاز رميهم؛ لأن استبقاء من معنا من المسلمين أولى من استبقاء من معهم. وإن لم يكن مضطرًا إلى ذلك، فإن كان المسلمون الذين معهم قليلًا، كالواحد والثلاثة والجماعة الذين يقل عددهم فيما بينهم.. جاز رميهم؛ لأنه ليس الغالب أن الحجر يصيب المسلمين دونهم. وإن كان عدد المسلمين مثل عدد المشركين أو أكثر منهم. لم يجز رميهم؛ لأن الغالب أنه يصيب المسلمين. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إن لم يكن فيهم أسارى من المسلمين، فإن دعت إلى ذلك ضرورة، أو كان الفتح لا يحصل إلا بذلك.. جاز رميهم من غير كراهية، وإلا.. كره ولم يحرم.

مسألة: قتل دواب الكفار وتخريب بيوتهم وغيره

وإن كان فيهم أُسارى من المسلمين، فإن دعت إلى ذلك ضرورة، أو كان الفتح لا يحصل إلا بذلك.. جاز رميهم بالمنجنيق والنار. وإن لم يكن هناك ضرورة ويحصل الظفر بغير ذلك.. فهل يجوز رميهم؟ فيه قولان. أحدهما: لا يجوز؛ لأنه يخشى قتل المسلمين ولا ضرورة إلى ذلك. والثاني: يجوز؛ لأن إصابة المسلمين متوهمة. [مسألة: قتل دواب الكفار وتخريب بيوتهم وغيره] ويجوز قتل ما يقاتل عليه الكفار من الدواب؛ لما روي: «أن حنظلة بن الراهب عقر دابة أبي سفيان بن حرب، فسقط عنها، فقعد حنظلة بن الراهب على صدره ليذبحه، فرآه ابن شعوب، فقتل حنظلة واستنقذ أبا سفيان، ولم ينكر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، على حنظلة عقر دابة أبي سفيان» وروي: «أن رجلًا اختبأ لرومي خلف صخرة، فلما مر عليه.. خرج فعقر دابته، فسقط عنها، فقتله وأخذ سلبه. ولم ينكر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ذلك عليه» . وأمَّا قطع أشجار المشركين وتحريقها بالنار وتخريب منازلهم.. فينظر فيه: فإن

دخل الإمام بلاد المشركين وقهرهم عليها وأخرجهم منها.. لم يجز قطع أشجارهم وتخريب منازلهم؛ لأنها صارت غنيمة للمسلمين. وهكذا: إن دخلها صلحا على أن تكون الدار لهم أو لنا.. لم يجز قطع أشجارهم وتخريب منازلهم. وأمَّا إن دخلها غارة، ولا يريد أن يقر فيها.. فاختلف الشيخان فيها. فقال الشيخ أبُو حامد: يجوز قطع أشجارهم وتحريقها وتخريب منازلهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] [الحشر: 5] قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (واللينة: النخلة) ، وقال ابن عبَّاس: (اللينة: النخلة) ، وقيل: الجعرور، وقال بعض الناس: (اللينة) : الدقل ولقوله تَعالَى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] [الحشر: 2] . وروي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرق نخيل بني النضير» و: «حرق الشجر بخيبر وبالطائف» وهي آخر غزاة غزاها.

فرع: إتلاف ما غنم من الكفار

وقال الشيخ أبُو إسحاق: إن احتيج إلى ذلك ليظفروا بهم.. جاز ذلك. وإن لم يحتج إليه، فإن لم يغلب على الظن أنها تملك.. جاز فعله وتركه. وإن غلب على الظن أنها تملك.. ففيه وجهان. أحدهما: لا يجوز؛ لأنها تصير غنيمة. والثاني: أن الأولى أن لا يفعل فإن فعل.. جاز؛ لما مَضَى. [فرع: إتلاف ما غنم من الكفار] فإن غنم المسلمون شيئًا من أموال الكفار.. نظرت: فإن لم يخش عودها إلى الكفار لم يجز للإمام إتلافها؛ لأنها صارت غنيمة للمسلمين، وإن خشي عودها إليهم؛ مثل أن يخاف من كرتهم على المسلمين وغلبتهم لهم، فإن كان غير الحيوان.. جاز للإمام إتلافها؛ لأنه لا يؤمن أن يأخذها الكفار ويتقووا به على المسلمين، وإن كان حيوانًا.. لم يجز قتله أو عقره. وبه قال الأَوزَاعِي. وقال أبو حَنِيفَة: (يجوز) . دليلنا: ما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل الحيوان صبرًا» وهذا قتل الحيوان صبرًا.

مسألة: عقد الأمان للكفار

ورُوِي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل عصفورًا بغير حقه..حوسب عليه" قيل: يا رسول الله، ما حقه؟ قال: "يذبحه ليأكله، ولا يرمي برأسه» . ولأن كل حيوان لا يجوز قتله إذا لم يخش عليه كرة المشركين.. لم يجز قتله وإن خشي عليه كرة المشركين، كالنساء والصبيان. وإن كان الذي أصابه المسلمون خيلًا.. فهل يجوز للمسلمين إتلافها إذا خافوا كرة المشركين عليهم؟ اختلف الشيخان فيه. فقال الشيخ أبُو حامد: لا يجوز إتلافها؛ لما ذكرناه. وقال الشيخ أبُو إسحاق: إذا لم يكن للكفار خيل وخيف أن يأخذوا ما غنم منهم من الخيل ويقاتلوا عليها.. جاز قتلها؛ لأنها إذا لم تقتل.. أخذها الكفار وقاتلوا عليها المسلمين. [مسألة: عقد الأمان للكفار] يجوز عقد الأمان للمشركين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] [التوبة: 6] قال الشافعي: (يعني: بعد مَضَي مدة الأمان يبلغ إلى مأمنه) . وإذا عقد الأمان لمشرك..حقن بذلك دمه وماله، كما يحقن ذلك بالإسلام. إذا ثبت هذا: فإن كان الذي يعقد الأمان هو الإمام.. جاز أن يعقد الأمان لآحاد المشركين ولجماعتهم ولأهل إقليم أو صقع، كالترك والروم، ويأتي بيان ذلك. ويجوز للأمير من قبل الإمام أن يعقد الأمان لآحاد المشركين ولأهل صقع يلي ولايته ولا يجوز أن يعقد لأهل صقع لا يلي ولايته. وإن كان الذي يعقد الأمان واحد من الرعية.. لم يجز أن يعقد الأمان لجماعات

المشركين ولا لأهل صقع، لأنا لو جوزنا ذلك لغير الإمام والأمير الذي من قبله.. لأدى ذلك على تعطيل الجهاد، ويجوز أن يعقد الأمان لآحاد المشركين الذين لا يتعطل الجهاد بعقد الأمان لهم، كالواحد والعشرة والمائة وأهل قلعة؛ لما رَوَى عبد الله بن مسلمة: «أن رجلًا أجار رجلًا من المشركين، فقال عمرو بن العاص وخالد بن الوليد: لا نجير ذلك، فقال أبُو عبيدة بن الجراح: ليس لكما ذلك؛ سمعت رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقول: "يجير على المسلمين بعضهم» فأجاروه. ورُوِي «عن عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: ما عندي شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أن ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلمًا.. فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» . ويصح عقد الأمان من المرأة لما رُوِيَ: «أن أم هانئ بنت أبي طالب أجارت حموين لها من المشركين يوم الفتح، فأراد عليّ قتلهما، وقال لها: أتجيرين على المشركين، والله لأقتلنهما، فقالت: يا رسول الله، يزعم ابن أمي أنه قاتل من أجرت. فقال له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس لك ذلك، من أجرت.. أجرناه؛ ومن أمنت.. أمناه» ورُوِيَ: (أن أبا العاص بن الربيع لما وقع في الأسر.. قالت زينب بنت رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي زوجته: قد أجرته، فخلِّيَ لها) ، ومعنى قولها (قد

فرع: من يصح أمانه من المسلمين وماذا لو عقده كافر يقاتل مع المسلمين؟

أجرته) : أني قد كنت أجرته قبل الأسر. ورَوَى الساجي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ذمة المسلمين واحدة، فإذا أجارت جارية.. فلا تخفروها؛ فإن لكل غادر لواء من نار يوم القيامة» . ويصح أمان الخنثى؛ لأنه لا يخلو: إما أن يكون رجلًا أو امرأة، وأمانهما يصح. [فرع: من يصح أمانه من المسلمين وماذا لو عقده كافر يقاتل مع المسلمين؟] ويصح عقد الأمان من العبد، سواء كان مأذونًا له في القتال أو غير مأذون له فيه، وبه قال الأَوزَاعِي ومالك. وقال أبو حَنِيفَة: (إن كان مأذونًا له في القتال.. صح أمانه. وإن كان غير مأذون له في القتال.. لم يصح أمانه) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يجير على المسلمين بعضهم» ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذمة المسلمين واحدة» وهذا مسلم. ورَوَى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن

النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المسلمون «تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم» وأدنى المسلمين عبيدهم. وروي ذلك عن عمر ولا مخالف له في ذلك. ولأنه مسلم مكلف، فصح أمانه كما لو كان مأذونًا له في القتال. ولا يصح عقد الأمان من الصبي والمجنون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ؛ وعن النائم حتى يستيقظ؛ وعن المجنون حتى يفيق» فإذا كان القلم مرفوعًا عنه.. لم يصح أمانه. هذا نقل البغداديين. وقال الخراسانيون: هل يصح عقد الأمان من المراهق؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح ـ وبه قال أبو حَنِيفَة ـ لما ذكرناه. والثاني: يصح ـ وبه قال محمد بن الحَسَن ـ لأنه عقد شرعي، فصح من المراهق كالصلاة. وإن كان المسلم أسيرًا في أيدي الكفار، فأكره على عقد الأمان فعقده.. لم يصح، كما لو أكره على سائر العقود. وإن عقد الأمان غير مكره. فهل يصح أمانه؟ فيه وجهان، حكاهما المسعوديُّ [في " الإبانة "] . أحدهما: يصح أمانه؛ لأنه مسلم مكلف، فهو كغير الأسير. والثاني: لا يصح؛ لأنه محبوس لا يشاهد الأحوال ولا يرى المصالح. وقال القفال: لا يتصور الأمان من الأسير؛ لأن الأمان يقتضي أن يكون المؤمن

فرع: عقد الأمان للكافر وإقرار المسلم به

آمنًا وهذا الأسير غير آمن في أيديهم، فصار عقده للأمان يقترن به ما يضاده، فلم يصح. فإن دخل مشرك دار الإسلام على أمان صبي أو مجنون أو مكره، فإن عرف أن أمانهم لا يصح.. كان حكمه حكم ما لو دخل بغير أمان. وإن لم يعرف أن أمانهم لا يصح.. لم يحل دمه إلى أن يرجع إلى مأمنه؛ لأنه دخل على أمان فاسد، وذلك شبهة. ولا يصح عقد الأمان من الكافر وإن كان يقاتل مع المسلمين؛ لأنه متهم في ذلك وليس هو من أهل النظر للمسلمين. [فرع: عقد الأمان للكافر وإقرار المسلم به] ويصح عقد الأمان للكافر، سواء كان في دار الحرب، أو في حال القتال، أو في حال الهزيمة؛ لأنه لا يد عليه للمسلمين. وإن أقر مسلم أنه أمن هذا المشرك.. قبل إقراره؛ لأنه يملك عقد الأمان فملك الإقرار به. [فرع: أمان الكافر في الأسر] وإن وقع كافر في الأسر، فأمنه رجل من الرعية.. لم يصح أمانه. وقال الأَوزَاعِي: (يصح) . دليلنا: أن صحة الأمان فيه تبطل ما ثبت للإمام فيه من القتل والاسترقاق والمن والفداء. وإن وقع في الأسر فقال رجل من الرعية: قد كنت أمنته قبل ذلك.. لم يقبل إقراره؛ لأنه لا يصح أمانه له في هذه الحالة، فلم يقبل إقراره فيه. وإن شهد له بذلك شاهدان.. قبلت شهادتهما.

فرع: ألفاظ الأمان وصحة الأمان من الإمام للأسير

قال الشيخ أبُو حامد: وإن قال جماعة: نشهد أنا قد كنا أمناه قبل الأسر.. يقبل قولهم؛ لأنهم يشهدون على فعل أنفسهم. [فرع: ألفاظ الأمان وصحة الأمان من الإمام للأسير] وإذا قال رجل من المسلمين لرجل من المشركين: قد أجرتك، أو أمنتك، أو أنت مجار، أو أنت آمن.. صح؛ لما ذكرناه في حديث أم هانئ؛ ولأن هذا صريح في الأمان. وإن قال لا تخف، أو لا تفزع، أو لا بأس عليك، أو قال: بالعجمية مترس.. فهو أمان؛ لما رُوِيَ: (أن الهرمزان لما حمله أبُو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: تكلم. فقال الهرمزان: كلام حي أو ميت؟ فقال له عمر: لا تفزع، لا بأس عليك، مترس. فتكلم به الهرمزان، ثم أراد عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قتله، فقال له أنس بن مالك: ليس لك قتله. فقال: كيف أتركه وقد قتل البراء بن مالك؟ فقال: قد أمنته. فتركه) .

فإن قيل: فهو أسير، فكيف يصح عقد الأمان له؟ فالجواب: أن عمر الإمام يومئذ، والإمام يصح منه الأمان للأسير. ورُوِي عن ابن مَسعُودٍ: أنه قال: (إن الله تَعالَى يعلم كل لسان، فمن أتى منكم أعجميًا فقال له مترس.. فقد أمنه) . وإن قال: من أكفأ سلاحه. فهو آمن، أو من دخل داره.. فهو آمن، ففعل رجل ذلك.. صار آمنًا؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم الفتح: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن» . ويصح الأمان بالإشارة التي يفهم منها الأمان، لما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: والذي نفس عمر بيده: لو أن أحدكم أشار بإصبعه إلى مشرك، ثم نزل إليه على ذلك ثم قتله.. لقتلته) فإن أشار مسلم إلى مشرك بشيء، فنزل المشرك إليه ظنًا

مسألة: ما يصنع الإمام بالأسرى من فداء ونحوه

منه أنه أشار إليه بالأمان؛ فإن اعترف المسلم أنه أراد بالإشارة الأمان له.. كان آمنا وإن قال لم أرد الأمان.. قبل قوله؛ لأنه أعلم بما أراد، ويعرف المشرك أنه لا أمان له، فلا يحل قتله حتى يرجع إلى مأمنهم؛ لأنه دخل على شبهة أمان. وإن أمن مشركًا، فرد الأمان.. لم يصح الأمان؛ لأنه إيجاب حق لغيره، فلم يصح مع الرد، كالإيجاب في البيع والهبة. [مسألة: ما يصنع الإمام بالأسرى من فداء ونحوه] وإن أسر صبي أو امرأة.. رقًا بالأسر؛ لـ: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلهم) و: (قسم سبي بني المصطلق) ، و: (اصطفى صفية من سبي خيبر) . وإن أسر حر بالغ من أهل القتال.. فاختلف الناس فيه على أربعة مذاهب: فـ[الأول] : مذهبنا أن الإمام بالخيار: بين القتل، والمن، والفداء بالمال أو بمن أسر من المسلمين، والاسترقاق. ولسنا نريد أنه بالخيار على أنه يفعل ما شاء وإنما نريد أنه يفعل ما فيه المصلحة للمسلمين في ذلك؛ مثل أن يكون الأسير فيه بطش وقوة ويخاف من شره إن خلاه، أو من مكره إن استرقه.. فالمصلحة في قتله. وإن كان

ضعيفًا نحيفًا ذا مال.. فالمصلحة أن يفادي.. وإن كان ذا صنعة أو حسن الوجه فالمصلحة أن يسترق، وإن كان ضعيفًا ذا قوم.. فالمصلحة أن يمن عليه ليسلم قومه، وبه قال الأَوزَاعِي والثوريُّ وأحمد. و [الثاني] : قال أبو حَنِيفَة: (هو بالخيار: بين القتل والاسترقاق، ولا يجوز المن والفداء) . و [الثالث] : قال مالك: (هو بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين القتل، والاسترقاق، والفداء بالنفس. فأما الفداء بالمال أو المن.. فلا يجوز) . و [الرابع] : قال أبُو يوسف ومحمد: هو بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين القتل، والاسترقاق، والفداء بالنفس والمال. وأمَّا المن.. فلا يجوز. والدليل: على أن له القتل: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] [البقرة: 191] وروي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وابن الخطل، وهو متعلق بأستار الكعبة» ورُوِي: «أن أبا عزة الجمحي وقع في الأسر يوم

بدر، فقال: يا محمد إني ذو عيلة، فمن عليّ، فمن عليه رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخلاه على أن لا يعود إلى قتاله، فلما عاد إلى مكة. قال: سخرت بمحمد، وعاد إلى القتال يوم أحد، فوقع في الأسر، فقال: يا محمد إني ذو عيلة فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يلسع المؤمن من جحر مرتين، أخليك حتى تقول في نادي قريش: سخرت من محمد؟ !. فقتله بيده، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . والدليل: على جواز المن: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] [محمد: 4] ، فأمر بقتل الكفار وأسرهم وبين حكم الأسير وإن له عليه المن والفداء، وجعل الغاية: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] [محمد: 4] . قال أهل التفسير: حتى لا يبقى على وجه الأرض ملة غير ملة الإسلام، وهو إذا نزل عيسى ابن مريم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. ولـ: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من على أبي عزة الجمحي) . ورُوِي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم بدر: «لو كان مطعم بن عدي حيًا فكلمني في أمر هؤلاء ـ يعني: أسارى بدر ـ لأطلقتهم» فدلَّ على جواز ذلك. ورُوِى أبُو هُرَيرَة: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وجه سرية قبل نجد، فأسروا رجلًا من بني حَنِيفَة يقال له: ثمامة بن أثال، وكان سيد بني حَنِيفَة، فشده إلى سارية في المسجد، فمر به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا محمد، إن تقتل.. تقتل ذا دم، وإن تنعم.. تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال.. فسل تعط، فلم يجبه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقالها ثانيًا وثالثًا، فأطلقه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فخرج فتطهر وأسلم» .

وأمَّا الدليل على جواز الافتداء بالمال: فروى ابن عبَّاس: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استشار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، في أسارى بدر، فقال أبُو بكر: هم قومك وعشيرتك تأخذ منهم المال، فتقوي به المسلمين على المشركين فلعل الله أن يهديهم، وقال عمر: سلمهم إلينا لنقتلهم، فاختلف الناس فيما قال أبُو بكر وعمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، حتى ارتفعت ضجتهم فقال قوم: قصدوا قتل رسول الله، ويشير أبُو بكر بتخليتهم؟! وقال قوم: لو كان لعمر فيهم أب أو أخ.. ما أشار بقتلهم، فمال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلى رأي أبي بكر، وأخذ منهم المال» . قال ابن عبَّاس: (فدى كل واحد منهم بأربعة آلاف) . وروت عائشة أم المؤمنين، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن أهل مكة لما وجهوا فداء أسراهم.. وجهت زينب بنت رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فداء زوجها أبي العاص بن الربيع، فكان فيما وجهت قلادة أدخلتها بها خديجة على أبي العاص، فلما رآها رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عرفها فرق لها، وقال للمسلمين: "إن رأيتم: أن تخلوا لها أسيرها وتردوا عليها

مالها" ففعلوا ذلك. فأنزل الله تَعالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] [الأنفال: 68] . قال النَّبيّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، "لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر بن الخطاب» . وأمَّا الدليل على جواز الفداء لمن أسر من المسلمين: ما رَوَى عمران بن الحصين: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسرى سرية، فأسر رجل من بني عقيل، فاستوثق منه وشد وترك في الحرة فقال: يا محمد، بم أخذت وأخذت سابقة الحاج؟ ـ يعني: ناقته ـ فقال: "بجريرة حلفائك من ثقيف " فقال: يا محمد، إني جائع فأطعمني، وإني عطشان فاسقني، وإني قد أسلمت. فأطعمه وسقاه وقال له: "لو قلت هذه الكلمة قبل هذا. أفلحت كل الفلاح» يعني: جمعت الإسلام والحرية. ثم فادى به برجلين من المسلمين أسرتهم ثقيف. وأمَّا الاسترقاق: فإن كان الأسير من غير العرب.. نظرت: فإن كان ممن له كتاب أو شبهة كتاب.. جاز استرقاقه. والدليل عليه: ما رُوِيَ عن ابن عبَّاس: أنه قال في قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] الآية [الأنفال: 67] : (إن ذلك كان يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم.. أنزل الله تَعالَى في الأسارى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] [محمد: 4] قال ابن عبَّاس: فجعل الله النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار: إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم، وإن شاءوا فادوهم) . وأيضًا فهو إجماع.

وإن كان الأسير من غير العرب من عَبَدَة الأوثان.. فهل يجوز استرقاقه؟ فيه وجهان: أحدهما ـ وهو قول أبي سعيد الإصطخري ـ: أنه لا يجوز. بل يكون الإمام فيه بالخيار: بين القتل والمن والفداء؛ لأن كل من لم يجز حقن دمه ببذل الجزية.. لم يجز حقن دمه بالاسترقاق، كالمرتد. والثاني: يجوز استرقاقه، وهو المنصوص؛ لما رَوَيْنَاهُ عن ابن عبَّاس؛ فإنه لم يفرق. ولأن كل من جاز للإمام المفاداة به والمن عليه.. جاز استرقاقه، كأهل الكتاب، وما قاله الأول: ينتقض بالصبيان. فإن كان الأسير من العرب.. فهل يجوز استرقاقه؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في الجديد: (يجوز استرقاقه) ؛ لما رَوَيْنَاهُ عن ابن عبَّاس، ولأن من جاز المن عليه والمفاداة به.. جاز استرقاقه كغير العرب. والثاني: قال في القديم: (لا يجوز استرقاقه، بل يكون الإمام فيه بالخيار: بين القتل والمن والفداء) ؛ لما رَوَى معاذ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حنين: "لو كان الاسترقاق ثابتًا على العرب.. لكان اليوم، وإنما هو إسار وفداء» . فإن تزوج مسلم عربي بأمة مسلمة لرجل، فأتت منه بولد.. فعلى القول الجديد: الولد مملوك لسيدها. وعلى القول القديم: الولد حر ولا ولاء عليه لأحد، وعلى الزوج قيمة الولد لسيده يوم الولادة.

فرع: طلب الأسير بذل الجزية وأن تعقد له الذمة

[فرع: طلب الأسير بذل الجزية وأن تعقد له الذمة] ] : وإن بذل الأسير الجزية، وطلب أن تعقد له الذمة، وهو ممن يجوز أن تعقد له الذمة.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب قبولها؛ كما إذا بذلها في غير الأسر. والثاني: لا يجب قبولها؛ لأن ذلك يسقط ما ثبت للإمام فيه من اختيار القتل والمن والفداء والاسترقاق. والذي يقتضي المذهب: أنه لا خلاف أنه يجوز قبول ذلك منه، وإنما الوجهان في الوجوب؛ لأنه إذا جاز أن يمن عليه من غير مال أو بمال يؤخذ منه مرة واحدة.. فلأن يجوز بمال يؤخذ منه في كل سنة أولى. [فرع: قتل الأسير أو إسلامه قبل أن يبت في أمره وماذا لو كان شيخًا كبيرًا] ] : وإن أسر رجل من المشركين، فقبل أن يختار فيه الإمام أحد الأشياء الأربعة قتله رجل.. عزر القاتل؛ لأنه افتأت على الإمام، ولا ضمان عليه. وقال الأَوزَاعِي: (عليه الضمان) . دليلنا: أنه بنفس الأسر لا يصير غنيمة، وإنما هو كافر لا أمان له، فلم يجب على قاتله الضمان، كالمرتد. وإن أسلم الأسير قبل أن يختار الإمام فيه أحد الأشياء الأربعة.. لم يجز قتله لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها.. عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» . وهل يجوز المن عليه والمفاداة به؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز المن عليه والمفاداة به، بل يصير رقيقًا بنفس إسلامه؛ لأنه أسير لا يجوز قتله فصار رقيقًا، كالصبي والمرأة. والثاني: يكون الإمام فيه بالخيار: بين الاسترقاق والمن والفداء؛ لـ: (أن

فرع: كيفية قتل الأسير وحكم التمثيل بالمشركين

النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فادى بالأسير العقيلي بعد أن أسلم) . ولأن من خير فيه بين أشياء، إذا سقط بعضها.. لم يسقط الباقي، كالمكفر عن اليمين إذا عجز عن الرقبة.. لم يسقط تخييره في الإطعام. فعلى هذا: لا يجوز أن يفادى به إلا أن يكون له عشيرة يأمن على نفسه بينهم على إظهار دينه. وإذا أسر شيخ من الكفار ممن لا قتال منه ولا رأي، فإن قلنا: يجوز قتله.. خير الإمام فيه بين الأربعة الأشياء، كالشباب. وإن قلنا: لا يجوز قتله.. فاختلف الشيخان فيه: فقال الشيخ أبُو إسحاق: هو كغيره من الأسارى إذا أسلم. وأراد: أنه يكون على القولين. وقال الشيخ أبُو حامد: يبنى على القولين في الأسير إذا أسلم. فإن قلنا: يرق بنفس الأسر.. فهذا أولى أن يرق، ولا خيار للإمام فيه. وإن قلنا: لا يرق الأسير بنفس الأسر، بل يخير الإمام فيه بين الثلاثة الأشياء.. ففي هذا وجهان: أحدهما: يكون الإمام فيه مخيرًا بين الأشياء الثلاثة؛ لم ذكرناه في الأسير إذا أسلم. والثاني: لا يخير فيه، بل يرق. والفرق بينهما: أن الأسير كان قد ثبت للإمام فيه الخيار بين الأشياء الأربعة، فإذا سقط القتل بالإسلام.. لم تسقط الأشياء الثلاثة، وهذا لم يثبت فيه للإمام الخيار في القتل في الأصل، فهو كالصبي وبالمرأة أشبه. [فرع: كيفية قتل الأسير وحكم التمثيل بالمشركين] فرع: [قتل الأسير يكون بضرب عنقه ولا يمثل بالمشركين وماذا لو فاداه أو من عليه أو كان عبدًا؟] : وإن اختار الإمام قتل الأسير.. ضرب عنقه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] [محمد: 4] الآية. ولا يمثل به، بقطع يد ولا رجل ولا غير ذلك

لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قتلتم.. فأحسنوا القتلة» ورُوِي: أنه كان إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية.. قال: «اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تغلوا» . قال الشيخ أبُو حامد: وأمَّا نقل رؤوس من قتل من الكفار إلى بلاد الإسلام فليست منصوصة لنا، ولكن أجمع أهل العلم على: أنه مكروه؛ لما رُوِيَ عن الزهريّ: أنه قال: لم يحمل إلى رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يوم بدر ولا غيره رأس مشرك، ولقد حمل إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رؤوس مشركين كثيرة، فأنكر ذلك وقال: (لم تحمل جيفهم إلى مدينة رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .

ورُوِي: (أن عقبة بن عامر أتى أبا بكر بفتح دمشق، ومعه جماعة رؤوس من المشركين، فقال له أبُو بكر: ما أصنع بهذه؟! كان يكفيك كتاب أو خبر) . وحمل إلى عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رؤوس المشركين، ففزع من ذلك وقال: (ما كان يصنع هذا في عهد رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا في عهد أبي بكر، ولا في عهد عمر) . وإن اختار الإمام أن يفادي الأسير بمال.. كان ذلك المال للغانمين؛ لأنه لو استرقه.. لكان للغانمين، والمال بدل عن رقبته. وإن أراد أن يسقط المال.. لم يجز إلا برضا الغانمين؛ لما رُوِيَ: أن وفد هوازن جاءوا مسلمين، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن إخوانكم هؤلاء قد جاءوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب بذلك.. فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا.. فليفعل" فقال الناس: قد طيبنا لك يا رسول الله» . ورُوِي:

مسألة: المبارزة وأحكامها وماذا لو صال مسلم على آخر؟

(أنه، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رد عليهم ستة آلاف من الرجال والنساء والصبيان) . وإن أسر عبد فهو غنيمة؛ لأنه مال. ولا يجوز للإمام أن يمن عليه إلا برضا الغانمين. قال الشيخ أبُو إسحاق: وإن رأى الإمام قتله لشره وقوته.. قتله وضمن قيمته للغانمين؛ لأنه مال لهم. [مسألة: المبارزة وأحكامها وماذا لو صال مسلم على آخر؟] ؟] : قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا بأس بالمبارزة) . وجملة ذلك: أن المبارزة على ضربين: مستحبة، ومباحة غير مستحبة. فأما (المستحبة) : فهو أن يخرج رجل من المشركين ويطلب المبارزة.. فيستحب أن يبرز إليه رجل من المسلمين؛ لما رُوِيَ: أنه تقدم يوم بدر عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وقال عتبة: من يبارز؟ فخرج إليه شاب من الأنصار، فقال: ممن أنت؟ فقال: من الأنصار، فقال: لا حاجة لي فيك، وإنما أريد بني عمي. ويروى أنه قال: لا أعرف الأنصار، أين أكفاؤنا من قريش؟ فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لحمزة وعبيدة بن الحارث وعلي بن أبي طالب: "اخرجوا إليهم"، فخرج حمزة إلى عتبة، وعلي إلى شيبة وعبيدة إلى الوليد فقتل حمزة عتبة، وقتل عليّ شيبة، واختلفت الضربتان بين الوليد وعبيدة، فأثخن كل واحد منهما صاحبه. قال علي: فملنا على الوليد فقتلناه، وأخذنا عبيدة. وروي: (أن عليّ بن أبي طالب بارز عمرو بن عبد ود العامري،

فقال له عمرو: من أنت؟ فقال: عليّ بن أبي طالب، فقال: ما أحب أن أقتلك يا ابن أخي، فقال علي: أنا أحب أن أقتلك، فغضب عمرو وبارزه، فقتله عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) . وأمَّا (المبارزة المباحة التي ليست بمستحبة ولا مكروهة) : فهو أن يدعو المسلم أولًا إلى المبارزة إذا عرف من نفسه شدة في القتال؛ لأن فيه تقوية لقلوب المسلمين. وإنما قلنا: إنها ليست بمستحبة؛ لأنه ربما قتل فانكسرت قلوب المسلمين. وحكي عن أبي عليّ بن أبي هُرَيرَة أنه قال: إنها مكروهة. وليس بصحيح؛ لأن «النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن المبارزة بين الصفين، فقال: "لا بأس» . فإن بارز ضعيف في الحرب.. جاز وكره. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز؛ لأن القصد بالمبارزة إظهار القوة، وذلك لا يحصل بمبارزة الضعيف. والصحيح هو الأول؛ لأن التّغرِير بالنفس في الجهاد يجوز. وهل يجوز أن يبارز من غير إذن الأمير؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ربما طرأ عليه ما ينكسر به الجيش. والثاني: يجوز؛ لأن التَّغرِير بالنفس في الجهاد يجوز، إلا أنه يستحب أن لا يبارز

إلا بإذنه؛ لأنه ربما احتاج منه إلى معاونة في حال القتال. وإن بارز المشرك، وشرط أن لا يقاتله أحد غير من يبرز إليه.. لم يجز لأحد أن يرميه غير من يبرز إليه ليوفى له بالشرط. فإن ولى أحدهما عن الآخر مثخنًا أو مختارًا.. جاز لكل واحد رميه؛ لأنه شرط أن لا يقاتله أحد غير من برز إليه في القتال، إلا أن يشرط أن لا يقاتله أحد حتى يرجع إلى موضعه، فيوفى له بشرطه. وإن ولى المسلم عنه فتبعه المشرك.. جاز لكل واحد رميه؛ لأنه نقض الشرط فسقط أمانه. وإن استعان المشرك بأصحابه في القتال فأعانوه، أو أعانوه من غير أن يسألهم فلم يمنعهم.. جاز لكل واحد رميه؛ لأنه لم يف بالشرط، فلم يوف له. وإن أعانه أصحابه فمنعهم، فلم يمتنعوا.. لم يجز لغير من برز إليه أن يرميه؛ لأنه لم ينقض الشرط. وإن لم يشرط شيئا ً، ولم تجر العادة في المبارزة أن لا يقاتله غير من برز إليه.. جاز لكل واحد رميه؛ لأنه حربي لا أمان له. وإن لم يشرط شيئًا ولكن جرت العادة أن لا يقاتله غير من برز إليه.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: يجوز لكل واحد رميه؛ لأنه حربي لا أمان له. و [الثاني] : قال الشيخ أبُو إسحاق: لا يجوز لغير من برز إليه أن يرميه، لأن العادة كالشرط. قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : فلو قصد كافر مسلمًا ليقتله.. لم يجز للمسلم

مسألة: للقاتل السلب

الاستسلام ليقتله الكافر، بل يجب عليه قتاله. ولو قصده مسلم ليقتله.. فهو بالخيار: بين أن يقاتله دفاعًا عن نفسه، وبين أن يستسلم له ليقتله. ولأصحابنا البغداديين في هذا وجه آخر: أنه يجب عليه أن يمنعه عن نفسه، وقد مَضَى. [مسألة: للقاتل السلب] والسلب للقاتل، سواء شرطه الإمام له أو لم يشرطه. قال مالك وأبو حَنِيفَة: (إن شرط الإمام في أول القتال أن السلب للقاتل.. كان له. وإن لم يشرطه.. لم يكن له) . دليلنا: ما رَوَى أنس: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حنين: «من قتل قتيلًا.. فله سلبه» ، فقتل أبُو طلحة يومئذ عشرين رجلًا، وأخذ أسلابهم، فقضى رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بأن السلب للقاتل، ولم يفرق. ورَوَى أبُو قتادة قال: «خرجنا مع رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في غزاة

حنين، فلما التقينا بالمشركين.. كان للمسلمين جولة ـ يعني: اضطرابًا ـ فرأيت رجلًا من المشركين قد علا رجلًا من المسلمين، فاستدرت إليه من ورائه وضربت على حبل عاتقه بالسيف، فأرسله، ورجع إلي فضمني ضمة شممت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلقيت عمر بن الخطاب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقلت: ما بال الناس؟! قال: أمر الله، ثم رجعنا، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قتل قتيلًا له به بينة.. فله سلبه"، فقمت وقعدت، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما لك يا أبا قتادة؟ "، فقلت: قتلت قتيلًا، فقال رجل من القوم: صدق، وسلب ذلك القتيل عندي فأرضه منه، فقال أبُو بكر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لاها الله، إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله، يقاتل عن الله ورسوله، فيعطيك سلبه! اردده، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صدق، فأعطه إياه" فأعطانيه، فبعث الدرع فابتعت به مخرفًا في بني سلمة، وإنه أول مال تأثلته في الإسلام» . فموضع الدليل: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن شرط يوم حنين في أول القتال أن السلب للقاتل؛ لأنه لو شرطه.. لأخذه أبُو قتادة. إذا ثبت هذا: فإن السلب لا يكون للقاتل إلا بشروط. أحدها: أن يكون القاتل ممن يستحق السهم في الغنيمة. فأما إذا كان لا يسهم له لتهمة فيه، كالمخذل والمرجف، والكافر إذا حضر عونًا للمسلمين.. فإنه لا يستحق السلب؛ لأنه إذا لم يستحق السهم الراتب.. فلأن لا يستحق السلب أولى.

وإن كان لا يسهم له لنقص فيه، كالصبي والعبد والمرأة.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يستحق السلب؛ لأنه لا يستحق السهم الراتب، فلم يستحق السلب، كالمخذل والمرجف. والثاني: يستحق السلب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلًا وله به بينة.. فله سلبه» . ولم يفرق. الشرط الثاني: أن يقتله والحرب قائمة، سواء قتله مقبلًا أو مدبرًا. فأما إذا انهزموا ثم قتله.. فلا يستحق سلبه. والشرط الثالث: أن يغرر القاتل بنفسه في قتله؛ بأن يبارزه فيقتله، أو يحمل على صف المشركين ويطرح بنفسه عليه فيقتله.. فأما إذا رمي إلى الصف فقتل رجلًا.. لم يستحق سلبه. الشرط الرابع: أن يكون المقتول ممتنعًا. فأما إذا قتل أسيرًا.. فلا يستحق سلبه. الشرط الخامس: أن يكفي المسلمين شره؛ بأن يكون المقتول حين قتله صحيحًا غير زمن. فأما إذا قتل مقعدًا أو زمنًا لا يقاتل.. فلا يستحق سلبه. فإن قطع يديه ورجليه.. استحق سلبه؛ لأنه قد كفي المسلمين شره؛ لأنه لا يقدر بعد ذلك على القتال. فإن قطع إحدَى يديه، أو إحدَى رجليه.. لم يستحق سلبه؛ لأنه لم يكف المسلمين شره؛ لأنه يقدر على القتال. وإن قطع يديه أو رجليه.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق. أحدهما: يستحق سلبه؛ لأنه قد كفى المسلمين شره. والثاني: لا يستحق سلبه؛ لأنه لم يكف المسلمين شره، لأنه بعد قطع يديه قد يعدو على رجليه ويصيح، وللصياح أثر في الحرب، وبعد قطع رجليه يرمي بيديه ويصيح. وإن أثخن رجل مشركًا، ولم يكف المسلمين شره لو بقي، فقتله آخر.. لم

فرع: المقصود بالسلب

يستحق أحدهما سلبه؛ لـ: (أن ابن مَسعُودٍ، قتل أبا جهل، وقد كان أثخنه غلامان من الأنصار، فلم يدفع النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سلبه إلى ابن مَسعُودٍ، ولا إليهما) . وإن اشترك اثنان في قتله.. اشتركا في سلبه؛ لأنهما قاتلان. فإن قطع أحدهما يديه أو رجليه، ثم قتله الآخر.. ففيه قولان حكاهما الشيخ أبُو حامد: أحدهما: أن السلب للأول؛ لأنه هو الذي كفى المسلمين شره. والثاني: أن السلب للثاني؛ لأن شره لم ينقطع عن المسلمين إلا بفعل الثاني. وإن غرر بنفسه من له سهم، فأسر رجلًا مقبلًا على الحرب.. ففيه قولان: أحدهما: يستحق سلبه؛ لأن ذلك أبلغ من قتله. والثاني: لا يستحق سلبه؛ لأنه لم يكف المسلمين شره. فإن استرقه الإمام أو فاداه. كان في رقبته أو المال المفادى به القولان في سلبه. [فرع: المقصود بالسلب] ] : و (السلب) : هو ما كان معه من جنة القتال أو آلة الحرب، كالثياب التي عليه، والدرع، والبيضة، والمغفر، والسيف، والسكين، والقوس، والرمح، وما أشبه ذلك؛ لأن ذلك كله جنة وزينة وآلة للقتال. فأما ما لم يكن جنة ولا زينة، كالمتاع والخيمة، أو آلة قتال ليست بمشاهدة تحت يده، كالسلاح والقوس الذي في خيمته.. فليس من السلب. وأمَّا ما كان مشاهدًا في يده مما ليس بجنة ولا آلة للقتال ولكنه زينة، كالمنطقة، والخاتم، والسوار، والتاج، والجنيب الذي معه، والنفقة التي في وسطه.. فهل

فرع: لا يخمس السلب عندنا ويعطى من أصل الغنيمة

ذلك من السلب؟ قال الشيخ أبُو حامد فيه وجهان، وحكاهما الشيخ أبُو إسحاق قولين: أحدهما: أنه ليس من السلب؛ لأنه ليس بجنة للقتال ولا آلة للحرب، فهو كالمتاع والخيمة. والثاني: أنه من السلب؛ لما روي: (أن عمر لما قسم خزائن كسرى بن هرمز.. دعا بسراقة بن مالك بن جعشم، وأعطاه سواري كسرى، وقال له: البسهما، فلبسهما، وقال له: قل الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما أعرابيًا من بني مدلج) فسمى السوارين سلبًا، ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة. ولأن يده عليه، فهو كجنة الحرب. [فرع: لا يخمس السلب عندنا ويعطى من أصل الغنيمة] ] : ولا يخمس السلب. وقال ابن عبَّاس: (يخمس) . وقال عليّ بن أبي طالب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إن كان كثيرًا.. خمس، وإن كان قليلًا.. لم يخمس) .

مسألة: المعاقدة بعد الحصار للحكم في أمرهم

دليلنا: ما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالسلب للقاتل» وهو عام. ويستحق القاتل السلب من أصل الغنيمة. وقال مالك: (يستحقه من خمس الخمس) . دليلنا: ما رَوَى سلمة بن الأكوع قال: «خرجنا مع رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في غزاة، فأتانا رجل على جمل أحمر، فنزل وأطلق الناقة وأكل مع القوم، ثم قام وركب وانطلق، فقالوا: طليعة القوم، فانطلقت وراءه، فأخذت بزمام ناقته وقلت: إخ، فبركت، فاخترطت السيف، فقتلته، وأخذت سلبه، فاستقبلني الناس، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قتله؟ " فقالوا: سلمة بن الأكوع، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "له سلبه أجمع» . [مسألة: المعاقدة بعد الحصار للحكم في أمرهم] قال أبُو العباس: وإن حاصر الإمام أهل بلد أو حصن أو قرية، فعقد بينه وبينهم عقدًا على أن ينزلوا على حكم حاكم.. جاز؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاصر بني قريظة، فعقد لهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ» . إذا ثبت هذا: فيفتقر الحاكم في ذلك إلى سبع شرائط، وهي: أن يكون رجلًا، حرًا، مسلمًا، بالغًا، عاقلًا، عدلًا، فقيهًا؛ كما يشترط في حق القاضي إلا أنه يجوز أن يكون أعمى؛ لأن عدم بصره هاهنا لا يضر بالمسلمين؛ لأن الذي يقتضي الحكم هو المشهور من أمرهم، وذلك يدركه بالرأي مع فقد البصر. وإن حكموا رجلًا يعلم أن قلبه يميل إليهم.. كره ذلك وصح حكمه؛ لأن شروط الحكم موجودة فيه. وإن نزلوا على حكم رجلين أو أكثر.. جاز، كما يجوز التحكيم في اختيار الإمام إلى اثنين. ولا يكون الحكم إلا على ما اتفقا عليه.

وإن نزلوا على حكم حاكم غير معين يختاره الإمام.. جاز؛ لأنه لا يختار إلا من يصلح للحكم. وإن نزلوا على حكم حاكم يختارونه.. لم يجز؛ لأنهم ربما اختاروا من لا يصلح للحكم. فإن نزلوا على حكم حاكم يصح حكمه فمات الحاكم قبل الحكم، أو نزلوا على حكم حاكم لا يصلح للحكم؛ فإن اتفقوا هم والإمام بعد نزولهم على حكم حاكم يصلح للحكم.. جاز ذلك. وإن لم يتفقوا على ذلك.. وجب ردهم إلى الموضع الذي نزلوا منه، ورجع الإمام إلى حصارهم. وكذلك: إذا تركوا على حكم رجلين فمات أحدهما، فإن اتفقوا على من يقوم مقامه. جاز وإن لم يتفقوا عليه وجب ردهم إلى حيث كانوا. وأمَّا صفة حكم الحاكم فيهم: فإن حكم فيهم بقتل مقاتلهم وسبي نسائهم وأطفالهم.. صح حكمه؛ لأن سعد بن معاذ حكم في بني قريظة بذلك، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» . وإن حكم بقتل مقاتلتهم، وترك نسائهم وأطفالهم، أو بترك الجميع.. صح حكمه، كما يجوز المن على الأسارى وكذلك: إن حكم فيهم بإطلاق مقاتلتهم بمال يدفعونه. صح حكمه، كما يجوز مفاداة الأسير بمال. وإن حكم على مقاتلتهم وترك نسائهم وأطفالهم، أو بترك الجميع.. صح حكمه، كما يجوز المن على الأساري. وكذلك: إن حكم فيهم بإطلاق مقاتلتهم بمال يدفعونه.. صح حكمه، كما يجوز مفاداة الأسير بمال. وإن حكم على مقاتلتهم بعقد الذمة وإعطاء الجزية.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن ذلك عقد، فلم يصح إلا برضا منهم. والثاني: يصح ويلزمهم ذلك؛ لأنهم قد رضوا بحكمه. وإن حكم باسترقاقهم.. صح حكمه؛ لأنه إذا صح حكمه بقتل مقاتلتهم.. فلأن يصح باسترقاهم أولى. فإن حكم عليهم بالقتل وأخذ أموالهم، فعفا الإمام عن واحد منهم وماله.. صح

مسألة: إسلام الكفار قبل الأسر

عفوه؛ لـ: (أن سعد بن معاذ حكم بقتل رجال بني قريظة وسبي نسائهم وأموالهم فسأل ثابت بن قيس بن الشماس رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن يعفو عن واحد من بني قريظة فأجابه إلى ذلك) . وإن حكم الحاكم باسترقاقهم، ثم أراد المن عليهم.. لم يجز إلا برضا الغانمين لأنهم قد صاروا مالًا لهم. وإن حكم بقتل مقاتلتهم، ثم أرادوا استرقاقهم.. قال الشيخ أبُو إسحاق: لم يجز؛ لأنهم لم ينزلوا على ذلك. [مسألة: إسلام الكفار قبل الأسر] إذا أسلم الكافر قبل الأسر.. عصم دمه وأمواله وأولاده الصغار، سواء خرج إلى دار الإسلام أو لم يخرج. وقال مالك: (إذا أسلم في دار الحرب.. حقن دمه وماله الذي في دار الإسلام، وأمَّا ماله الذي في دار الحرب.. فيغنم) . وقال أبو حَنِيفَة: (يحقن بالإسلام دمه وماله الذي يده المشاهدة ثابتة عليه. وما كان وديعة له عند ذمي ويد الذمي عليه.. فيغنم. فأما ما لم تكن يده المشاهدة ثابتة عليه، مثل الدواب والعقار والضياع.. فيغنم) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد

فرع: سبي واسترقاق الحربية التي زوجها مسلم أو حربي فأسلم

رسول الله، فإذا قالوها.. عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ، ولم يفرق. ولأن «الأسير العقيلي قال للنبي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا محمد، إني جائع فأطعمني، وإني عطشان فاسقني، وإني أسلمت، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو تكلمت بهذه الكلمة قبل هذا أفلحت كل الفلاح ـ يعني: حقنت دمك ومالك ـ وأمَّا الآن: فلا تحقن إلا دمك» . وروي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاصر بني قريظة، فأسلم ابنا سعية، فحقنا دماءهما وأموالهما وأولادهما الصغار» ولأن كل من لم يجز أن يغنم ماله، إذا كانت يده ثابتة عليه.. لم يجز أن يغنم وإن لم تكن يده ثابتة عليه، كالمسلم. وإن كان للكافر منفعة تملك بالإجارة فأسلم.. لم تملك عليه؛ لأنها كالمال. [فرع: سبي واسترقاق الحربية التي زوجها مسلم أو حربي فأسلم] وإن تزوج المسلم حربية، أو تزوج الحربي حربية فأسلم.. فالمنصوص: (أنه يجوز سبيها واسترقاقها) ؛ لأنه لما جاز أن يطرأ على هذا النكاح الفسخ بالعيوب.. جاز أن يكون هذا السبي والاسترقاق سببًا لفسخه. ومن أصحابنا من قال لا يجوز سبيها؛ لأن فيها حقًا للمسلم وهو الاستمتاع. وليس بشيء؛ لأن الاستمتاع ليس بمال ولا يجري مجرى المال؛ ولهذا لا يضمن بالغصب. [فرع: أسلم وله حمل وماذا لو تزوج المسلم ذمية أو حربية؟] ؟] : وإن أسلم وله حمل.. لم يجز استرقاقه. وقال أبو حَنِيفَة: (يجوز) . دليلنا: أنه مسلم بإسلام أبيه، فلم يجز استرقاقه، كما لو كان منفصلًا.

فرع: إسلام المحاصرين وماذا لو أسلم رجل وله ابن صغير؟

وإن كانت الحامل به حربية وقلنا بالمنصوص: (أنه يجوز استرقاقها إذا كانت حائلًا) .. فهل يجوز استرقاقها هاهنا؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز ـ وبه قال أبو حَنِيفَة ـ لأنها حربية لا أمان لها. والثاني: لا يجوز استرقاقها؛ لأنه لما لم يجز استرقاق حملها.. لم يجز استرقاقها. ألا ترى أن الأمة إذا كانت حاملًا بحر.. فإنه لا يجوز بيعها، كما لا يجوز بيع حملها؟ فإن تزوج حربي بحربية، فحملت منه وسبيت المرأة.. استرقت وولدها، فإن أسلم أبوه.. حكم بإسلام الحمل ولا يبطل رقه؛ لأن الإسلام طرأ على الرق فلم يبطله. فإن تزوج المسلم ذمية أو حربية، فحملت منه.. فالولد مسلم، فإن سبيت الأم رقت ولا يرق الحمل؛ لأنه مسلم، فيجوز بيعها بعد ولادتها وإن كان الولد صغيرًا لأنهما غير مجتمعين في الملك، فجاز التفريق بينهما. ويحتمل وجهًا آخر: أنه لا يجوز استرقاقها، كما قلنا في التي قبلها. [فرع: إسلام المحاصرين وماذا لو أسلم رجل وله ابن صغير؟] فإن حصر الإمام قومًا من المشركين في بلد أو حصن، فأسلموا.. فهو كما لو أسلموا قبل الحصار؛ لـ: (أن ابني سعية أسلما في الحصر فحقن إسلامهما دمهما وأموالهما وأولادهما الصغار) . قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : فإن أسلم رجل وله ولد ابن صغير.. فهل يحرره؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يحرره، كالأب. والثاني: لا يحرره؛ لأن الجد لما خالف الأب في الميراث.. خالفه هاهنا. واختلف قول القفال في هذين الوجهين؛ فقال في مرة: الوجهان هاهنا إذا كان الأب حيًا، فأما إذا كان الأب ميتًا.. فيحرره الجد وجهًا واحدا. وقال في مرة:

مسألة: يحكم بإسلام الصغير لو أسلم أحد أبويه ولكن ماذا لو سبي؟

الوجهان إذا كان الأب ميتًا، فأما إذا كان الأب حيًا.. فلا يحرره الجد وجهًا واحدًا. [مسألة: يحكم بإسلام الصغير لو أسلم أحد أبويه ولكن ماذا لو سبي؟] وإن أسلم أحد الأبوين ولهما ولد صغير.. تبع الولد المسلم منهما، وقد تقدم ذكرها في (اللقيط) . وإن سبي صغير، فإن سبي معه أبواه أو أحدهما.. تبعهما في الدين، ولا يتبع السابي. وبه قال أبو حَنِيفَة. وقال الأَوزَاعِي: (يتبع السابي في الإسلام) . وقال مالك: (إن سبي معه الأب.. تبعه في الدين دون السابي. وإن سبيت معه الأم.. تبع الولد السابي دون الأم) . دليلنا: ما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مولود يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، فأخبر أن الأبوين يهودانه وينصرانه ويمجسانه، فمن قال: إنهما لا يهودانه ولا ينصرانه ولا يمجسانه إذا سبي معهما، أو أن الأم لا تهوده ولا تنصره ولا تمجسه.. فقد خالف ظاهر الخبر. ولأن الولد مخلوق من ماء الأب والأم، فإذا تبع الأب في الدين.. وجب أن يتبعها أيضًا. إذا ثبت هذا: فسبي الصغير وأحد أبويه وبلغا دار الإسلام، ثم مات الوالد وبقي

فرع: لا يحكم بإسلام الصبي والمجنون

الولد.. كان باقيًا على الكفر؛ لأنه قد حكم بكفره في دار الإسلام تبعًا لوالده، فلم يحكم بإسلامه بموت والده. فأما إذا سبي الصغير وحده.. فقد اختلف الشيخان فيه: فقال الشيخ أبُو حامد: يحكم بإسلامه تبعًا للسابي ـ قال ـ: وهذا إجماع؛ لأنه لا يستقل بنفسه، بكونه لا حكم لكلامه. وقال الشيخ أبُو إسحاق: فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني أنه باق على كفره ـ قال ـ: وهو ظاهر المذهب؛ لأن يد السابي يد ملك، فلا توجب إسلامه، كيد المشتري. [فرع: لا يحكم بإسلام الصبي والمجنون] وإن وصف الكافر المجنون، أو صبي غير مميز من أولاد الكفار الإسلام.. لم يحكم بإسلامه؛ لأنه لا حكم لقوله. وإن وصف الإسلام صبي مميز من أولاد الكفار.. فهل يحكم بإسلامه؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها الشيخ أبُو حامد. أحدها: يصح إسلامه؛ لما روي: (أن عليًا، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أسلم قبل أن يبلغ) . ولأنه تصح صلاته وصومه، فصح إسلامه، كالبالغ. والثاني: لا يصح إسلامه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ولأنه غير مكلف، فلم يصح إسلامه، كالمجنون والصبي الذي لا تمييز له. والثالث: أن إسلامه موقوف. فإن بلغ ثم وصف الإسلام.. حكمنا بصحة إسلامه

مسألة: لا يفرق في السبي بين أم وولدها

من حين أسلم قبل بلوغه. وإن وصف الكفر بعد بلوغه، أو لم يصف الإسلام.. لم يحكم بصحة إسلامه؛ لأنه لا يتبين ما كان منه في الصغر إلا بما انضاف إليه بعد البلوغ. والصحيح: أنه لا يصح إسلامه، وما رُوِيَ عن عليّ.. فقد روي: (أنه كان يوم أسلم ابن إحدَى عشرة سنة) فيحتمل أنه أقر بالبلوغ ثم أسلم. فعلى هذا: يحال بينه وبين أبويه؛ لئلا يزهداه في الإسلام. فإن بلغ ووصف الإسلام.. حكم بإسلامه من حين وصفه بعد البلوغ. وإن وصف الكفر.. قرع فإن أقام على ذلك.. رد إلى أهله. [مسألة: لا يفرق في السبي بين أم وولدها] وإن سبيت امرأة وولدها الصغير.. لم يجز أن يفرق بينهما؛ لما رَوَى أبُو أيوب الأنصاري: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من فرق بين والدة وولدها.. فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» ورَوَى عمران بن الحصين: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ملعون، ملعون من فرق بين والدة وولدها» ورَوَى أبُو سعيد الخدري: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع امرأة تبكي، فقال: "ما لها؟ قيل له: فرق بينها وبين ولدها، فقال، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا توله والدة بولدها» . قال الشيخ أبُو حامد: وهذا الإجماع لا خلاف فيه.

فرع: التفرقة بين الرجل وولده أو بينه وبين جده أو جدته

وإلى أي سن لا يجوز التفرقة بينهما؟ فيه قولان: أحدهما: إلى أن يبلغ الولد سبع سنين. والثاني: إلى أن يبلغ. وقد مَضَى توجيههما في البيوع. وقال مالك: (تحرم التفرقة بينهما إلى أن يسقط سنه وينبت) . وقال الليث: إلى أن يأكل بنفسه ويلبس بنفسه. وقولهما قريب من قولنا في بلوغه سبع سنين. وقال أحمد: (تحرم التفرقة بينهما أبدًا) . وهذا خطأ؛ لأنه إذا بلغ.. استغنى بنفسه، فلم تحرم التفرقة بينهما. [فرع: التفرقة بين الرجل وولده أو بينه وبين جده أو جدته] ] : وإن سبي الرجل وولده الصغير.. فهل تحرم التفرقة بينهما؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تحرم؛ لأنا إنما منعنا التفرقة بينه وبين الأم؛ لئلا يفقد لبنها وحضانتها، وهذا لا يوجد في حق الأب. والثاني: تحرم، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لما رُوِيَ عن عُثمانَ بن عفان، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: (لا يفرق بين الوالد وولده) . ولأن الأب وإن لم يكن له لبن.. فله حضانة؛ لأنه يكتري له الحاضنة ويشرف عليه. فإذا فرق بينهما.. استضر بذلك. وتحرم التفرقة بين الولد الصغير وبين جدته أم أمه وإن علت. وتحرم التفرقة بينه وبين جدته أم أبيه وأم أبي أبيه؛ لأن لها لبنًا وحضانة، فهي بمنزلة أم أمه. وأمَّا التفرقة بينه وبين جده.. فعلى الوجهين في التفرقة بينه وبين الأب.

فرع: التفرقة بين الأخوين ونحوهما

[فرع: التفرقة بين الأخوين ونحوهما] ولا تحرم التفرقة بين الولد الصغير وبين أخيه، وعمه، وخاله، وعمته، وخالته. وقال أبو حَنِيفَة: (تحرم) . وروي ذلك عن عمر. دليلنا: أنهما شخصان تقبل شهادة أحدهما للآخر، فلم تحرم التفرقة بينهما، كابني العم. [مسألة: السبي وفسخ النكاح] ] : إذا سبي الزوج وحده.. لم ينفسخ نكاحه حتى يسترقه الإمام. وإن سبيت الزوجة وحدها.. انفسخ نكاحها.. ووافقنا أبو حنيفة في الحكم في هذا وخالفنا في العلة؛ فالعلة عندنا: حدوث الرق، والعلة عنده: اختلاف الدارين. وإن سبي الزوجان معًا.. انفسخ نكاحهما. وبه قال الليث والثوريُّ وأبو ثور. وقال أبو حَنِيفَة: (لا ينفسخ النكاح؛ لأن اختلاف الدارين لم يوجد) . دليلنا: ما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث سرية إلى أوطاس، فأصابوا نساء ذات أزواج، فتأثم ناس من وطئهن لأجل أزواجهن، فنزل قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] » . والمراد بالمحصنات هاهنا: الزوجات، فاستحلوا وطأهن، ولم يفرق بين أن يسبى زوجها أو تسبى وحدها. ورُوِي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم سبي أوطاس وبني المصطلق، وقال: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض» ولم يفرق بين ذات زوج

فرع: سبيت زوجة مشرك وعنده أسرى من المسلمين

وغير ذات زوج. ولأنها ملكت بالقهر والغلبة، فبانت من زوجها، كما لو سبي أحدهما دون الآخر. وإن سبي الزوجان أو أحدهما وهما مملوكان.. فهل ينفسخ نكاحهما؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: ينفسخ نكاحهما؛ لأنه حدث سبب يوجب الاسترقاق، كما أن الزِّنَى يوجب الحد وإن صادف حدًا. و [الثاني] : قال الشيخ أبُو إسحاق: لا ينفسخ نكاحهما؛ لأنه لم يحدث بالسبي رق، وإنما حدث انتقال ملك، فلم ينفسخ النكاح، كما لو انتقل الملك فيهما بالبيع. [فرع: سبيت زوجة مشرك وعنده أسرى من المسلمين] إذا سبيت زوجة مشرك فجاء زوجها يطلبها وقال: عندي فلان وفلان من المسلمين مأسورين، فإن أطلقتموها أطلقتهما.. قال الشيخ أبُو حامد: فإن الإمام يقول له: أحضرهما، فإذا أحضرهما.. أطلقهما الإمام ولم يطلق له زوجته؛ لأنهما حران، فلا يجوز أن يكونا ثمن مملوكة له، بل يقال له: إن اخترت أن تشتريها.. فاشترها. [مسألة: اغتنام ما يؤكل] إذا دخل المسلمون دار الحرب، وغنموا منها ما يؤكل، كالحب والخبز واللحم والعسل وما أشبهه، واحتاجوا إلى أكله.. جاز لهم أكله ولا قيمة عليهم فيه؛ لما روي: عن عبد الله بن أبي أوفى، أنه قال: «أصبنا مع رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بخيبر طعامًا، فكان كل واحد منا يأخذ قدر كفايته منه» ، ورُوِي عن ابن عمر: «أن جيشًا على

فرع: قرض طعام الغنيمة

عهد رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، غنموا طعامًا وعسلًا، فلم يؤخذ منهم الخمس» يعني: مما أكلوا ولأن الحاجة إلى إباحة ذلك للغانمين؛ لأنه يشق عليهم حمل ما يقتاتون إلى دار الحرب ويشق عليهم أن يشتروا من المشركين. ولأنه ربما فسد إذا حمل إلى دار الإسلام، وربما كانت المؤنة بنقله أكثر من قيمته، فكانت إباحته للغانمين من غير عوض أولى. وهل لهم أن يأكلوا منه من غير حاجة لهم إلى الأكل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لهم أكله، كما لا يجوز للإنسان أكل مال غيره بغير إذنه من غير حاجة به إليه. والثاني ـ وهو ظاهر المذهب ـ: أنه يجوز لهم أكله؛ لما رُوِيَ عن عبد الله بن مغفل، أنه قال: «ولي جراب فيه شحم يوم خيبر، فأتيته فالتزمته، ثم قلت: لا أعطي أحدًا منه شيئًا، فالتفت فإذا برسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خلفي يبتسم» ، فلو لم يجز أكل ما زاد على الحاجة.. لنهاه عن ذلك. [فرع: قرض طعام الغنيمة] قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإذا أقرض غيره شيئًا من ذلك الطعام.. جاز) . قال أصحابنا: لم يرد بذلك أنه قرض في الحقيقة؛ لأنه لا يملكه، وإنما أبيح له أخذه، فإذا أخذه. كان أحق به من غيره. فأما إذا أقرضه غيره من الغانمين ودفعه إليه. صار الثاني أحق به من الأول؛ لأن يد الأول زالت عنه وثبتت يد الثاني عليه. فإذا رده إلى الأول.. صار أحق به أيضًا. وإن دفعه لغير الغانمين.. وجب عليه رده إلى الغنيمة.

فرع: علف المركوب وغيره وماذا لو رجع ومعه بقية طعام؟

قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن باع شيئًا من ذلك الطعام من بعض الغانمين بطعام آخر.. جاز) . وقال أصحابنا: لم يرد به لأنه ليس ببيع في الحقيقة؛ لما ذكرناه فيما لو أقرضه، وإنما أراد: أن الثاني يصير أحق به من الأول؛ لثبوت يده عليه، ولا يلزمه بدله. وإن باع منه صاع طعام بصاعين أو أكثر.. جاز للثاني أكله؛ لأنه ليس ببيع فلا يكون ربًا. وإن باعه من غير الغانمين.. لم يجز؛ لأن الأول لا يملكه والثاني لا يستحقه. فإذا أخذه بعض الغانمين من المشتري أو دفعه إليه.. صار أحق به. [فرع: علف المركوب وغيره وماذا لو رجع ومعه بقية طعام؟] ويجوز للمجاهد أن يعلف مركوبه وما يحمل عليه رحله من البهائم من العلف الذي يؤخذ من المشركين في دار الحرب، ولا ضمان عليه فيه؛ لأن الحاجة إلى ذلك كحاجته إلى الطعام. وإن كان مع المجاهد بزاة، أو صقور، أو كلاب صيد.. فليس له أن يطعمها من الغنيمة؛ لأنه لا حاجة به إلى حملها إلى دار الحرب. وإن خرج المجاهد إلى دار الإسلام ومعه بقية من الطعام.. فقد قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، في موضع: (يرده إلى المغنم؛ لأن حاجته إليه قد زالت) ، وقال في موضع آخر: (يكون له) . فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: يلزمه رده إلى المغنم؛ لأن حاجته إليه قد زالت.

فرع: غنيمة الأدوية وتوقيح الدابة ولبس ثياب وركوب دابة الغنيمة

والثاني: يكون أحق به؛ لأنه لما جاز له أكله في دار الحرب.. جاز له أكله في دار الإسلام. ومنهم من قال: إن كان كثيرًا.. وجب عليه رده إلى المغنم قولًا واحدًا، وإن كان قليلًا.. فعلى القولين. والطريق الأول أصح. وقال الأَوزَاعِي وأبو حَنِيفَة: (إن كان قبل القسمة.. رده إلى المغنم. وإن كان بعد القسمة.. باعه وتصدق بثمنه) . دليلنا: أنه إن كان له.. فلا يجب عليه أن يتصدق به. وإن كان للغانمين.. لم يجز له أن يتصدق به. [فرع: غنيمة الأدوية وتوقيح الدابة ولبس ثياب وركوب دابة الغنيمة] ] : وإن غنموا أدوية.. لم يجز لأحد منهم أن يتناول منها شيئًا؛ لأنها ليست بقوت والحاجة إليها نادرة. فإن احتاج بعض الغانمين إلى تناول شيء منها لعلة فيه.. جاز له ذلك، وكان عليه ضمانه. قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وليس له أن يوقح دابته بدهن من الغنيمة) . و (التوقيح) : أن يدهن حافر الدابة؛ لأن هذا دواء وليس بقوت، وكذلك ليس له أن يدهن من دهن الغنيمة؛ لما ذكرناه. وإن كان في الغنيمة ثياب وفي الغزاة عار.. فليس له أن يلبس شيئًا منها من غير أن يضمنه، ولا لأحد أن يركب شيئًا من دواب الغنيمة من غير ضرورة؛ لما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر.. فلا يركب دابة من فيء المسلمين، حتى إذا أعجفها.. ردها فيه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر.. فلا يلبس ثوبًا من فيء المسلمين حتى إذا خلق.. رده فيه» .

فرع: غنموا حيوانا مأكولا أو ركاء وسطائح

[فرع: غنموا حيوانًا مأكولًا أو ركاء وسطائح] ] : فإن غنموا شيئًا من الحيوان المأكول واحتاجوا إلى ذبحه لأكله.. ففيه وجهان: أحدهما: لهم ذلك، ولا ضمان عليهم فيه، كما لو وجدوا طعامًا أو لحمًا. والثاني: ليس لهم ذلك؛ لأن الحاجة إليه نادرة، والأول أصح. فأما جلد هذا الحيوان: فلا يجوز لهم الانتفاع به؛ لأنه ليس بقوت. قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن اتخذوا منه سيورًا أو ركاء، أو سطائح.. كان عليهم ردها، وأجرة مثلها للمدة التي أقامت في أيديهم، وأرش ما نقصت) . وقال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يجوز أن يذبحوا دابة من دواب الغنيمة لأجل الركاء والسطائح) ؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة» . وإن غنموا ركاء وسطائح.. لم يكن لهم استعمالها؛ لأنها ليست بقوت. [فرع: غنيمة الكتب] وإن غنم المسلمون من المشركين كتبًا، فإن كان فيها طب أو نحو أو شعر مباح.. فهي غنيمة؛ لأنها مال. وإن كان فيها كفر، أو التوراة، أو الإنجيل.. لم يجز تركها؛ لئلا تقع في يد مسلم فتغويه.

فرع: أصابوا خمرا أو خنزيرا أو كلابا أو ما يباح تملكه كالصقر ونحوه

فعلى هذا: ينظر فيها: فإن أمكن محو كتابتها، والانتفاع بما كتب عليه.. فعل ذلك. وإن لم يمكن ذلك.. مزقت، ولا تحرق بالنار؛ لأنه ربما انتفع بالمكتوب عليه بعد التمزيق، ولا يمكن ذلك بعد التحريق. ولأنها لا تخلو من أن يكون فيه اسم الله تَعالَى. [فرع: أصابوا خمرًا أو خنزيرًا أو كلابًا أو ما يباح تملكه كالصقر ونحوه] وإن أصاب المسلمون في دار الحرب خمرًا في دنان.. فإن الخمر يراق، كما لو وجدت في يد مسلم. وأمَّا الدنان: فإن كان المسلمون قد غلبوا على الدار.. فإن الدنان غنيمة. وإن لم يغلبوا على الدار، فإن أمكنهم أخذ الدنان.. أخذوها، وإن لم يمكنهم ذلك كسرت؛ لئلا يعصوا الله بها ويتقووا بها على المعاصي. وإن أصابوا خنازير.. قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (تقتل، ولا أترك عاديًا عليّ مسلم وأقدر على قتله) . فمن أصحابنا من قال: إن كان فيها عدو.. قتلت؛ لما فيها من الضرر. وإن لم يكون فيها عدو.. لم تقتل؛ لأنه لا ضرر فيها. ومنهم من قال: تقتل بكل حال؛ لأنه يحرم الانتفاع بها، فوجب إتلافها، كالخمر. وإن أصابوا كلابًا، فإن كان عقارة.. قتلت؛ لما فيها من الضرر. وإن كانت ينتفع بها للصيد والماشية والزرع.. قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (قسمت بين الغانمين) يعني: تقر أيديهم عليها، لا أنهم يتملكونها؛ لأن الكلاب لا تملك عندنا. فإن كان في الغانمين وأهل الخمس أهل صيد أو ماشية أو زرع.. دفعت إليهم. وإن لم يكن فيهم من ينتفع بها.. قال الشيخ أبُو حامد: قتلت أو تركت؛ لأن اقتناء الكلب لا يجوز لغير حاجة. وإن وجد في دار الحرب سنانير، أو بزاة، أو صقور.. كانت غنيمة؛ لأنها مملوكة مباحة.

فرع: ما وجد مباحا أو لقطة في دار الحرب فهو كالمباح في دار الإسلام

[فرع: ما وجد مباحًا أو لقطة في دار الحرب فهو كالمباح في دار الإسلام] وكل ما كان مباحًا في دار الإسلام، كالصيد الذي لا علامة عليه في البرية، والأشجار في الموات، والأحجار في الجبال؛ فإن وجد شيء من ذلك في دار الحرب.. فهو لمن أخذه، كما قلنا فيمن وجد ذلك في دار الإسلام. وإن كان على ذلك أثر يد؛ مثل الصيد المقرط أو الموسوم، أو الشجر في الموات المحوط عليه، والتراب المحوط، والأحجار في البناء.. فهو غنيمة؛ لأن الظاهر من هذه العلامات ثبوت اليد عليها، فكانت غنيمة. قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن وجد في دار الحرب ما يمكن أن يكون ملكًا للمشركين، ويمكن أن يكون سقط من المسلمين.. أحببت لمن وجده أن يعرفه اليوم واليومين، فإن لم يظهر مالكه.. فهو غنيمة) . هكذا ذكر الشيخ أبُو حامد. وذكر الشيخ أبُو إسحاق: أنه يعرفه سنة. [فرع: موات دار الحرب وفتحت مكة عندنا صلحًا لا عنوة] وإن فتحت أرض عنوة وأصيب فيها موات، فإن لم يمنع الكفار منها.. فهي لمن أحياها، وإن منعوا منها.. ففيها وجهان مَضَى ذكرهما في إحياء الموات. وإن فتحت صلحًا على أن تكون الأرض لهم.. لم يجز للمسلمين أن يملكوا فيها مواتًا بالإحياء؛ لأن الدار للكفار، فلا يملك المسلمون إحياءها. إذا ثبت هذا: فإن مكة دخلها رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يوم الفتح صلحًا عندنا لا عنوة، ولسنا نريد بذلك أنه عقد الصلح مع جميع أهل مكة، وإنما عقد الصلح مع أبي سفيان وحده، وعقد لهم الأمان بشرط، ثم وجد الشرط فلزمه الأمان، ولم يكن للنَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سبي أموالهم وذراريهم، ولا قتل من وجد فيه منهم شرط الأمان إلا من استثناه. وبه قال مجاهد.

وقال مالك والأَوزَاعِي وأبو حَنِيفَة: (دخلها رسول، الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عنوة، وكان له أن يقتل ويسبي ويغنم، ولكنه عفا عنهم) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} [الرعد: 31] [الرعد: 31] الآية. فأخبر أن مشركي قريش لا يزال تصيبهم القوارع من سرايا رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلى أن يحل رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قريبًا بقرب ديارهم وتنقطع عنهم القوارع، وهذا لا يكون إلا على قولنا. ولقوله تَعالَى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] إلى قوله: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} [الفتح: 21] [الفتح: 20-21] والتي عجل لهم: هي غنائم حنين والتي لم يقدروا عليها: قال بعض أهل التفسير: هي غنائم مكة؛ لأنها فتحت صلحًا لا عنوة. ولما رُوِيَ: أن النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سار إلى مكة.. نزل بمر الظهران. قال العباس: فقلت في نفسي: إن دخل رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مكة قبل أن يخرجوا إليه فيستأمنوه.. إنه لهلاك قريش، فركبت بغلة رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لعلي أجد ذا حاجة أخبره بذلك، فيخبر أهل مكة ليخرجوا إليه فيستأمنوه، فبينا أنا سائر إذا أنا بأبي سفيان بن حرب وبديل بن ورقاء، فقلت: أبا حنظلة، فقال أبا الفضل؟ ! قلت نعم. قال: بأبي أنت وأمي، ما لك؟ فقلت: رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والناس، فقال: ما ترى؟ قلت: اركب خلفي، فركب خلفي، ورجع بديل بن ورقاء، فأتيت به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمنه، وقال لي: خذه إلى الغد، فلما أن كان من الغد.. جئت به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلقيني عمر، فقال: الحمد لله الذي أمكن من هذا المنافق بغير إيمان ولا أمان، فقلت له: إن رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قد أمنه، ثم دخلت على رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا، فقال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من دخل دار أبي سفيان.. فهو آمن" قال: "وما تغني داري؟ فقال: "ومن دخل المسجد فهو آمن"، فقال: وما يغني المسجد؟ فقال: "ومن أغلق عليه بابه.. فهو آمن، ومن ألقى

السلاح.. فهو آمن". قال العباس: فقلت له: النجاء إلى قومك فحذرهم، فقال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أوقفه في المضيق؛ ليرى جند الله"، فأوقفته في المضيق، فمرت به القبائل على راياتها، فمرت بنا مزينة وغطفان، فقال: من هؤلاء؟ فقلت: مزينة وغطفان، فقال: ما لي ومزينة، فأقبل رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في الكتيبة الخضراء من المهاجرين والأنصار لا تبين منهم إلا الحدق، فقال: من هؤلاء؟! فقلت: رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في المهاجرين والأنصار، فقال لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكًا عظيمًا فقلت: ما هذا بملك، إنما هو نبوة، فقال: نعم. ثم سار أبُو سفيان إلى مكة، وقال: إن محمدًا قد أتاكم بعسكر لا قبل لكم به. قالوا: فمه؟ قال: من دخل داري.. فهو آمن قالوا: وما تغني دارك؟ قال: ومن دخل المسجد الحرام.. فهو آمن. قالوا: وما يغنى المسجد؟ قال: ومن أغلق عليه بابه.. فهو آمن، ومن ألقى السلاح.. فهو آمن ـ قال ابن عبَّاس ـ: فتفرق الناس إلى دورهم والمسجد. وفي رواية أخرى: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نزل بمر الظهران.. قال لهم: "إن أبا سفيان بالقرب منكم"، فتفرق الناس يطلبونه، فوجده العباس، فأتى به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له: "أسلم"، فقال: قومي قومي؟ فقال: "من ألقى سلاحه.. فهو آمن ". قال: فما لي؟ قال: "من دخل دارك.. فهو آمن". ورُوِي: أن العباس لما أوقفه في المضيق فمرت به القبائل.. استشعر أبُو سفيان فقال: أغدرا يا بني عبد مناف؟ ! قال العباس: لا. وهذا يدل على تقدم عقد الأمان.

مسألة: غلول بعض الغانمين لا قطع فيه وماذا لو كان من غيرهم؟

ورَوَى مصعب بن سعد عن أبيه: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمن يوم الفتح الناس كلهم إلا ستة أنفس: مقيس بن صبابة، وعكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، وابن خطل، والقينتين جاريتين كانتا لعبد الله بن سعد تغنيان بهجو رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . ولـ: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة ولم يقتل غير من استثناه، ولم يسب، ولم يغنم الأموال والديار، بل عفا عن بعض من أمر بقتلهم) ، وهذه علامات الصلح لا علامات العنوة. [مسألة: غلول بعض الغانمين لا قطع فيه وماذا لو كان من غيرهم؟] ؟] : إذا سرق بعض الغانمين نصابًا من الغنيمة قبل إخراج الخمس.. لم يقطع؛ لأن له حقًا في الخمس وفي الأربعة الأخماس. وإن سرق نصابًا بعد إخراج الخمس، فإن سرقه من الخمس.. لم يقطع؛ لأن له فيه حقًا. وإن سرقه من أربعة أخماسها، فإن سرق قدر حقه أو دونه.. لم يقطع؛ لأن له فيما سرقه شبهة. وإن سرق أكثر من حقه، والزائد على حقه نصاب.. ففيه وجهان: أحدهما: يقطع؛ لأنه لا شبهة له في سرقة النِّصَاب. والثاني: لا يقطع؛ لأن حقه شائع في الجميع. وإن سرق غير الغانمين نصابًا من الغنيمة، فإن سرق منها قبل إخراج الخمس أو من الخمس بعد إخراجه.. لم يقطع؛ لأن له شبهة في الخمس. وإن سرق من أربعة أخماسها، فإن لم يكن في الغانمين من له شبهة في ماله، كالولد والوالد والسيد.. قطع؛ لأنه لا شبهة له فيه. وإن كان في الغانمين من له شبهة في ماله.. قال الشيخ أبُو إسحاق: لم يقطع؛ لأن له شبهة فيما سرق.

مسألة: وطء أحد الغانمين جارية من السبي

والذي يقتضي المذهب: أنه ينظر: فإن سرق قدر نصيبه أو دونه.. لم يقطع. وإن سرق أكثر من نصيبه.. ففيه وجهان، كما لو كان السارق من الغانمين. [مسألة: وطء أحد الغانمين جارية من السبي] إذا غنم المسلمون أموال الكفار وحازوها، فإن كان فيها جارية، فوطئها رجل من الغانمين.. نظرت: فإن كان عددهم غير محصور.. لم يجب عليه الحد. وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة وأكثر الفقهاء. وقال الأَوزَاعِي وأبو ثور: (عليه الحد) . دليلنا: أنه ملك أن يملك سهمًا منها، وإن كان ذلك السهم غير معلوم.. فصار ذلك شبهة، فسقط به الحد عنه. وأمَّا التَّعزِير: فإن كان قد نشأ في بلاد الإسلام، وعلم تحريم ذلك.. عزر. وإن نشأ في بادية بعيدة، ولم يعلم تحريم ذلك.. لم يعزر. ويجب عليه جميع المهر؛ لأنه وطء في غير ملك يسقط فيه الحد عن الموطوءة، فوجب عليه المهر، كما لو وطئ في نكاح فاسد. فإن ملكها بعد ذلك.. لم يسقط عنه شيء من المهر، كما لو وطئ جارية غيره بشبهة ثم ملكها. فإن كانت بحالها، وأخرج الإمام الخمس لأهل الخمس، وقسم أربعة أخماسها بين الغانمين، فدفع جارية من المغنم إلى عشرة من الغانمين بحصتهم من الغنيمة؛ لأن له أن يفعل، فوطئها أحدهم.. نظرت: فإن وطئها بعد أن اختاروا تملكها.. فهي كالجارية بين الشركاء يطؤها أحدهم، فلا يجب عليه الحد، ويجب عليه تسعة أعشار المهر، ويسقط العشر؛ لأن ذلك حصة ملكه. وإن وطئها قبل أن يختاروا تملكها.. فلا حد عليه، وعليه جميع المهر. فإن لم يختر الواطئ تملك نصيبه منها بعد وطئه.. أخذ منه جميع المهر.

وإن اختار تملك نصيبه منها بعد وطئه.. سقط عنه عشر مهرها؛ لأنه لا معنى في أن يؤخذ منه جميع المهر، ثم يرد إليه العشر منه. قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن أحضر المغنم، فعلم كم قدر حقه منها.. سقط عنه من المهر بقدر حصته) . قال أبُو إسحاق: يحتمل أنه أراد هاتين المسألتين: الأولى والثانية. وقال الشيخ أبُو حامد: الظاهر أنه أراد به الثانية وحدها؛ لأن المهر في الثانية قد وجب كله، ثم سقط منه حصته، وفي الأولى لم تجب حصته من المهر أصلًا. وأمَّا إذا كان عدد الغانمين محصورًا، فوطئ رجل منهم الجارية قبل القسمة، واختار التملك.. لم يجب عليه الحد للشبهة، ويجب عليه جميع المهر، ثم ينظر فيه. فإن لم يختر نصيبه منها بعد ذلك.. استوفي منه جميع المهر للغانمين. وإن اختار تملك نصيبه منها.. أخرج من المهر الخمس لأهل الخمس، ويسقط من أربعة أخماسه ما يخص نصيبه من الجارية، وأخذ الباقي منه للغانمين. والفرق بين هذه وبين الأولى: أن عدد الغانمين إذا كان غير محصور.. لا يعلم قدر حصته من الغنيمة، فلم يسقط عنه قدر نصيبه من المهر. وإذا كان عددهم محصورًا.. علم قدر حصته منها.. فلذلك سقط عنه ما يخص نصيبه من المهر. هذا الكلام إذا لم يحبلها، فأما إذا أحبلها الواطئ.. نظرت: فإن كان عدد الغانمين غير محصور.. فإن الولد حر، ويلحق الواطئ نسبه. وقال أبو حَنِيفَة: (لا يلحقه نسبه، ويكون مملوكًا للغانمين) . دليلنا: أنه وطء يسقط فيه الحد عن الواطئ للشبهة، فلحقه نسبه، كما لو وطئ امرأة بنكاح فاسد. ولا تصير الجارية أم ولد له في الحال؛ لأنها علقت منه بحر في غير

ملكه. فإن ملكها بعد ذلك.. فهل تصير أم ولد؟ فيه قولان. وهل تقوم الجارية على الواطئ، أو تقسم بين الغانمين؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: إن قلنا: إنها تصير أم ولد له إذا ملكها فيما بعد.. قومت عليه، لأن الذي يمنع من كونها أم ولد له هو أنها ليست بمملوكة له، وقد يمكن أن تصير مملوكة بالقيمة حتى تصير أم ولد له. وإن قلنا: لا تصير أم ولد له فيما بعد.. لم تقوم عليه. وقال أبُو إسحاق: تقوم عليه قولًا واحدًا لأنه لا يجوز قسمتها بين الغانمين ولا بيعها؛ لأنها حامل بحر، ولا يجوز أن تؤخر قسمتها إلى أن تضع؛ لأن فيه ضررًا على الغانمين، فلم يبق إلا التقويم. فإذا قلنا: لا تقوم عليه.. فلا كلام. وإن قلنا: تقوم عليه، فإن كانت قيمتها قدر حقه.. أخذها. وإن كانت قيمتها أقل من حقه من الغنيمة.. أخذها وأخذ تمام حقه من الغنيمة. وإن كانت قيمتها أكثر من حصته من الغنيمة. وجب عليه دفع الفضل إلى الغانمين، فإن لم يكن معه الفضل.. قال الشيخ أبُو حامد: بقي منها قدر الزيادة رقيقًا للغانمين، وصار الباقي أم ولد له. وهل تلزمه قيمة الولد؟ إن قلنا: تقوم الجارية عليه، فقومت عليه، ثم وضعت الولد.. لم يجب عليه قيمته؛ لأنها وضعته في ملكه. وإن قلنا: لا تقوم عليه الأم، أو قلنا: تقوم ولكن لم تقوم حتى وضعت.. فعليه قيمة الولد؛ لأنها وضعته في غير ملكه. فأما إذا أفرد الجماعة منهم جارية، فاختاروا تملكها، ثم وطئها أحدهم وأحبلها.. فالحكم فيها كالحكم في الجارية المشتركة إذا أحبلها أحدهم، وقد مَضَى بيانها في (العتق) .

فرع: وجد في المغنم من يعتق على بعضهم

[فرع: وجد في المغنم من يعتق على بعضهم] وإن كان في الغنيمة من يعتق على بعض الغانمين إذا ملكه.. نظرت: فإن كان عدد الغانمين غير محصور.. فإن الغانم لا يملك شيئًا من الغنيمة إلا بالقسمة واختيار التملك. فإن قسمت الغنيمة، فخرج في سهمه من يعتق عليه واختار تملكه.. عتق عليه.. وإن خرج بعضه في سهمه واختار تملكه.. عتق عليه منه سهمه، وقوم عليه الباقي وعتق إن كان موسرًا به، ولا يقوم عليه ولا يعتق إذا كان معسرًا. وإن كان عدد الغانمين محصورًا.. فإن الغانم لا يملك شيئًا قبل اختيار التملك. فإن اختار التملك.. عتق عليه نصيبه منه، وقوم عليه الباقي إن كان موسرًا، ولا يقوم عليه إن كان معسرًا. [فرع: أسر من يعتق عليه] قال ابن الحداد: إذا أسر أباه منفردًا به.. لم يعتق عليه؛ لأن الأسير لا يصير رقيقًا إلا باسترقاق الإمام واختياره. فإن اختار الإمام استرقاقه واختار الولد تملكه.. عتق عليه أربعة أخماسه، وقوم عليه الخمس إن كان موسرًا، ولا يقوم عليه إن كان معسرًا. وأمَّا إذا أسر الرجل أمه أو ولده الصغير.. فإنهما يصيران رقيقين بنفس الأسر، فإن اختار تملكهما.. عتق عليه أربعة أخماسهما، وقوم عليه الباقي إن كان موسرًا، ولا يقوم عليه إن كان معسرًا. وإن لم يختر تملكهما.. كان أربعة أخماسهما لأهل المصالح، والخمس لأهل الخمس. [فرع: بيع الحربي وزوجته أو أصوله أو فروعه] قال ابن الحداد: ولو أن حربيًا باع من المسلمين امرأته وقد قهرها.. جاز. ولو باع أباه أو ابنه وقد قهرهما.. لم يجز؛ لأنه إذا قهر زوجته.. ملكها، فإذا باعها.. صح بيعه، وإذا قهر أباه أو ابنه.. عتق عليه، فإذا باعه.. لم يصح بيعه.

مسألة: موجب الحد في دار الحرب

[مسألة: موجب الحد في دار الحرب] ] : من فعل في دار الحرب معصية يجب عليه فيها الحد إذا فعلها في دار الإسلام، كالزنا والقذف والسرقة.. وجب عليه الحد فإن كان الإمام في دار الحرب، أو الأمير من قبله على الإقليم وهو غير مشغول بالقتال.. أقام عليه الحد، وإن كان مشغولًا بالقتال.. أخر إقامته إلى أن يفرغ من القتال، أو إلى الخروج إلى دار الإسلام. وإن لم يكن في دار الحرب إلا الأمير على الجيش، فإن جعل الإمام إليه إقامة الحد.. أقام عليه الحد. وإن لم يجعل إليه إقامة الحد.. لم يقمه عليه، فيقيمه الإمام إذا خرج إلى دار الإسلام. وقال أبو حَنِيفَة: (إن كان معهم الإمام في دار الحرب أو الأمير على الإقليم.. أقام عليه الحد. وإن لم يكن معهم إلا الأمير على الجيش.. لم يقم عليه الحد، ولا يقيمه عليه إلا الإمام بعد خروجه إلى دار الإسلام) . دليلنا: الظواهر في وجوب هذه الحدود، ولم تفرق. ولأن كل دار لو كان فيها إمام أقيم فيها الحد.. وجب إذا لم يكن فيها إمام أن يقام فيها الحد، كدار الإسلام. [فرع: قتل مسلم مسلما في دار الحرب] ] : وإن قتل مسلم مسلما في دار الحرب.. وجب عليه بقتله ما يجب عليه بقتله في دار الإسلام. وقال أبو حنيفة: (إن كان المقتول حربيًا أسلم ولم يخرج إلى دار الإسلام، أو كان أسيرًا.. فلا قَوْد على قاتله ولا دية عليه، بل عليه الكفارة. وإن كان حرًا.. ففيه الدية والكفارة) . دليلنا: الظواهر في وجوب القود والدية، ولم تفرق. ولأنه حكم يتعلق بالقتل في دار الإسلام، فجاز أن يتعلق بالقتل في دار الحرب كالكفارة.

فرع: نقل أخبار المسلمين إلى الكفار

[فرع: نقل أخبار المسلمين إلى الكفار] ] : إذا تجسس المسلم للكفار، وأوقفهم على أخبار المسلمين، ودلهم على عوراتهم.. فلا يجب قتله بذلك؛ لما رُوِيَ: «أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إليهم عام الفتح وأرسله مع امرأة، فأمر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من تبعها، فأخرجت الكتاب من عقاصها ـ وهي: ضفيرة رأسها ـ وأتى به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما حملك على هذا يا حاطب؟ ! "فقال: "والله يا رسول الله، ما تغيرت منذ أسلمت، ولكن لكل أحد من المهاجرين عشيرة، ولي فيها مال، وليس لي فيها أهل ولا عشيرة، فأردت أن أصطنع إليهم وأتخذ عندهم يدًا أحفظ بها مالي. فقام عمر فقال: دعني يا رسول الله، أضرب عنق هذا المنافق، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك: لعل الله قد اطلع على أهل بدر؟ فقال: "اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم» . [مسألة: غنيمة المشركين من المسلمين] إذا قهر المشركون المسلمين، وأخذوا شيئًا من أموالهم.. لم يملكه المشركون بذلك، ومتى ظهر المسلمون عليهم وأخذوا ذلك المال.. فمالكه أحق به، فإنه كان وجده قبل القسمة.. أخذه، وإن لم يجده إلا بعد القسمة.. أخذه ممن وقع في سهمه، وأعطى الإمام من وقع في سهمه عوضه من سهم المصالح. هذا مذهبنا، وبه قال أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعبادة بن الصامت، وإحدى الروايتين عن عمر

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو قول ربيعة والزهريُّ. وقال عمرو بن دينار: إذا حازه المشركون إلى دار الحرب.. ملكوه، فإذا ظهر المسلمون عليهم وغنموه.. فهو للغانمين، سواء كان قبل القسمة أو بعد القسمة. وقال الأَوزَاعِي ومالك وأبو حَنِيفَة وأصحابه: (إذا حازه المشركون إلى دار الحرب.. ملكوه، فإذا ظهر المسلمون عليهم وغنموه، فإن وجده صاحبه قبل القسمة.. فهو أحق به، فيأخذه بلا شيء. وإن وجده بعد القسمة.. فهو أحق به بالقيمة، فيرد قيمته على من وقع في سهمه) ، إلا أن أبا حَنِيفَة قال: (إذا أسلم هذا الكافر الذي حصل في يده.. فإنه أحق به من صاحبه. وإن دخل مسلم دار الشرك متلقصا وسرق ذلك المال.. فصاحبه أحق به بالقيمة.. وإن ملكه مسلم من المشرك ببيع.. فصاحبه أحق به. ويرد الثمن على المشتري. وإن ملكه مسلم منه بهبة.. فصاحبه أحق به بقيمته. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب: 27] [الأحزاب: 27] . فامتن علينا بأن ملكنا أرض المشركين وأموالهم بالقهر والغلبة، فلو كان المشركون يملكون ذلك علينا بالقهر والغلبة.. لساوونا في ذلك وبطل موضع الامتنان. ورَوَى عمران بن الحصين: «أن المشركين أغاروا على سرح رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذهبوا به وذهبوا بالعضباء ـ ناقة النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأسروا امرأة من المسلمين وأوثقوها، فانفلتت من وثاقها ذات ليلة، فأتت الإبل، فكلما مست بعيرًا.. رغى، حتى أتت العضباء فمستها فلم ترغ، فركبتها

مسألة: المسلم يأسره الكفار ويقدر على الهروب

وصاحت بها، فانطلقت، فطلبت فلم يروها، فركبوا خلفها، فنذرت إن نجاها الله عليها.. لتنحرنها، فلما قدمت المدينة.. عرفت الناقة: أنها ناقة رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرت نذرها، فأخبر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بذلك فقال: "سبحان الله! بئس ما جزتها، لا وفاة لنذر ينذر في معصية الله، ولا فيما لا يملكه ابن آدم» . فلو كانوا قد ملكوها.. لما جاز للنبي أخذها من المرأة. [مسألة: المسلم يأسره الكفار ويقدر على الهروب] إذا أسر المشركون مسلما ً، وحملوه إلى دار الحرب، ثم أطلقوه، وأمنوه بلا ثمن.. نظرت: فإن أطلقوه وأمنوه على أن يكون في ديارهم.. فلا يجوز له المقام في دار الشرك لأن مقامه فيها معصية، فيجب عليه أن يهرب، ولكن لا يجوز له أن يسبي أحدا منهم ولا يقتله ولا يأخذ شيئًا من أموالهم؛ لأنهم إذا أمنوه.. اقتضى أن يكونوا منه في أمان. وحكى الشيخ أبُو إسحاق عن أبي عليّ بن أبي هُرَيرَة أنه قال لا أمان لهم منه لأنهم لم يستأمنوه. والأول هو المشهور. وإن أطلقوه على أن يقيم في أرضهم ولم يؤمنوه.. وجب عليه الهرب منهم وجاز له قتلهم وسبيهم وأخذ أموالهم؛ لأنه لا أمان بينه وبينهم. وإن أطلقوه على أن يقيم في أرضهم وحلفوه على أن لا يخرج، فإن أكرهوه على اليمين.. لم يلزمه حكم اليمين، وعليه أن يخرج. قال الشيخ أبُو حامد: ولا يجوز له أن يقتل منهم ولا يسبي ولا يأخذ شيئًا من أموالهم؛ لأن إحلافهم له أمان منهم.

فرع: وعد الأسير المسلم أن يدفع للمشركين مالا

وإن لم يكرهوه على اليمين، بل حلف من عند نفسه.. ففيه وجهان: أحدهما: أنها يمين إكراه. فإن خرج.. لم تلزمه الكفارة؛ لأنه لا يقدر على الخروج إلا باليمين، فهو كما لو أكرهوه عليها. والثاني: أنها ليست بيمين إكراه، وهو المشهور؛ لأنه حلفها باختياره، إلا أنها يمين على فعل ما لا يجوز له فعله، فيلزمه الخروج، وإذا خرج.. لزمته كفارة. [فرع: وعد الأسير المسلم أن يدفع للمشركين مالًا] وإن أطلقوه على أن ينفذ إليهم من دار الإسلام مالًا اتفقوا عليه، فإن لم ينفذه إليهم.. عاد إليهم، وهل يلزمه إنفاذ المال إليهم إذا وجده؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبُو إسحاق: لا يلزمه؛ لأنه ضمان مال بغير حق، إلا أن المستحب، أن ينفذه إليهم؛ ليكون ذلك طريقًا إلى إطلاق الأسارى. وقال الشيخ أبُو حامد، وأكثر أصحابنا: يلزمه إنفاذ المال إليهم؛ لأن فيه مصلحة؛ لأنه إذا لم ينفذه إليهم.. لم يثقوا بقول الأسارى في ذلك، فلا يطلقوهم. والذي يقتضي المذهب: أنه متى أنفذ إليهم المال، إما مستحبًا على قول الشيخ أبي إسحاق، أو واجبًا على قول غيره.. فإنهم لا يملكونه، بل يكون كالذي أخذوه منه قهرًا على ما مَضَى؛ لأنهم أخذوه بغير حق. وإن لم يقدر على المال الذي شرطوه عليه.. لم يلزمه العود إليهم. وقال الأَوزَاعِي: (يلزمه العود إليهم) . دليلنا: أن مقامه في دار الشرك معصية، فلا يلزمه العود إليها. [فرع: أخذ الأسير مالا من أحد المشركين على أن يرده وماذا لو وكله المشرك] ] : وإن أخذ الأسير مالا من بعض المشركين على أن ينفذ إليهم عوضه من دار

مسألة: في إظهار الله تعالى للإسلام

الإسلام.. لزمه أن ينفذ إليهم عوضه؛ لأنه أخذه منهم بعقد، وعقد المسلم مع الكافر صحيح؛ بدليل: أنه لا يصح أن يبتاع منه درهمين بدرهم. وإن أعطاه المشرك شيئا ليبيعه له في دار الإسلام ويرده عليه.. كان وكيلا ًله، كما لو وكله مسلم على بيع ماله. [مسألة: في إظهار الله تَعالَى للإسلام] قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: قال الله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] [التوبة: 33] . فاعترض على هذا، وقيل: كيف أخبر الله تَعالَى: أنه يظهر دين الإسلام على الأديان كلها وقد وجدنا الأديان كلها باقية؛ مثل دين اليهود والنصارى والمجوس؟ فأجاب أصحابنا عن ذلك بأربعة أجوبة: أحدها: أنه أراد إظهار الإسلام بالحجج والبراهين؛ لأنه ما من أحد يتفكر في معجزات النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي أتى بها في حياته.. إلا ويعلم أن دين الإسلام حق، وإن غيره باطل. والثاني: أنه أراد بالآية إظهار الإسلام في الحجاز دون غيره من البلاد؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث فيه وكانت فيه أديان مختلفة، فأسلم بعضهم، وقتل بعضهم، ودخل تحت الجزية والصغار بعضهم. والثالث: أن الإسلام قد ظهر على كل دين؛ لأنه ما من دين إلا وقد أثر الإسلام فيه، وإن كان قد بقي منه بقية. والرابع: أنه أراد بالآية: أنه إذا نزل عيسى ابن مريم؛ لأنه لا يبقى على وجه الدنيا دين غير دين الإسلام؛ بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يوشك أن ينزل عيسى ابن مريم،

فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب» . وهذا موافق لما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» . وإنما يكون ذلك إذا نزل عيسى ابن مريم، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقوله: «زويت لي الأرض» أي: جمعت. وبالله التوفيق

باب الأنفال

[باب الأنفال] واحد الأنفال: نفل، يقال: بتحريك الفاء وسكونها. وإنما سمي بذلك؛ لأنه زائد على السهم الراتب، كما سميت صلاة التطوع نافلة؛ لأنها زائدة على الصلاة الواجبة. والنفل: أن يعلق الإمام أو الأمير على الجيش استحقاق مال من الغنيمة بفعل يفضي إلى الظفر بالعدو؛ بأن يقول: من دلنا على القلعة الفلانية، أو من فتحها، أو من تقدم في السرية الفلانية.. فله كذا. فإذا فعل رجل ذلك.. استحق ما شرطه له

الإمام؛ لما رَوَى ابن عمر قال: «بعث رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سرية قبل نجد فيها عبد الله بن عمر، فأصابوا إبلًا كثيرة، فبلغت سهامهم اثني عشر بعيرًا، ونفلهم رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بعيرا بعيرًا» . ورَوَى عبادة بن الصامت: (أن «النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل في البدأة الربع، وفي القفول الثلث» . وروي: «في الرجعة الثلث» . و (القفول) : الرجوع. واختلف تأويل البدأة والرجعة. فقيل: (البدأة) : هي السرية التي ينفذها الإمام أول ما يدخل بلاد العدو، و (الرجعة) : هي السرية التي ينفذها بعد رجوع الأولى؛ لأن عمل الثانية أشق من عمل الأولى؛ لأن الأولى تدخل والعدو وعلى غفلة، والثانية تدخل والعدو على حذر. وقيل: (البدأة) : هي السرية التي ينفذها الإمام وقت دخوله بلاد العدو. و (الرجعة) : التي ينفذها بعد رجوعه من بلاد العدو. ولأن حال الأولى أسهل؛ لأن الإمام من ورائهم يعضدهم، والثانية ليس وراءها من يعضدها. إذا ثبت هذا: فالنفل عندنا غير مقدر، بل هو إلى رأي أمير الجيش، ويختلف باختلاف قلة العمل وكثرته؛ لـ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل في البدأة الربع، وفي الرجعة الثلث» وإنما خالف بينهما؛ لأن العمل فيهما يختلف على ما مَضَى.

مسألة: مصدر النفل من خمس الخمس من الغنيمة

[مسألة: مصدر النفل من خمس الخمس من الغنيمة] النفل مستحق من خمس الخمس؛ لما رُوِيَ عن سعيد بن المسيب أنه قال: كانوا يعطون النفل من الخمس، ومعناه: من خمس الخمس. ولأنه مال يدفع لمصلحة المسلمين، فأشبه ما يصرف في المساجد والقناطر. وما رُوِيَ في الخبر: (أنه نفل في البدأة الربع، وفي القفول الثلث) .. فله تأويلان: أحدهما: أنه شرط لكل واحد منهم قدر ربع سهمه الذي يصيبه في البدأة، وقدر ثلث سهمه الذي يصيبه في القفول. والثاني ـ وعليه أكثر أهل العلم ـ: أنه جعل لهم في البدأة قدر ربع ما يغنمون بعد الخمس، وقدر ثلث ذلك في القفول، ويخرجه في الحالين من الخمس؛ لما رُوِيَ عن رجل من فهر: أنه قال: «شهدت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نفل في البدأة الربع، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس» . فإن قيل: قد رُوِيَ عن ابن عمر: أنه قال: «كنت في سرية فنفلهم رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بعيرًا بعيرًا، وبلغت سهامهم اثني عشر بعيرًا» ، وهذا أكثر من خمس الخمس؟. قلنا: فيه تأويلان: أحدهما: أنه كان في الغنيمة غير الإبل، فخرجت الإبل التي صرفها في النفل من خمس خمس تلك الغنيمة. والثاني: أن الإبل التي صرفها في النفل.. لم تكن تخرج من خمس تلك الغنيمة، وإنما تممها رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من سهم المصالح في بيت المال، وللإمام أن يفعل ذلك. وأمَّا دفع رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في هذا النفل بعيرًا بعيرًا.. فله تأويلان أيضًا:

مسألة: جعل الإمام جارية لمن دله على قلعة فدله واحد

أحدهما: أنه كان قد شرط لهم بعيرًا بعيرًا. والثاني: أنه كان قد شرط لهم نصف سدس سهامهم، فبلغ سهم كل واحد منهم اثني عشر بعيرًا، وكان نصف سدس سهمه بعيرًا. [مسألة: جعل الإمام جارية لمن دله على قلعة فدله واحد] إذا قال: الإمام أو الأمير على الجيش: من دلنا على القلعة الفلانية فله منها الجارية الفلانية وسماها، أو قال له منها جارية ولم يسمها.. فإن ذلك جعالة صحيحة؛ لما رَوَى عدي بن حاتم: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كأني بالحيرة قد فتحت" فقال رجل: يا رسول الله، هب لي جارية منها، فقال: "قد فعلت"، فلما فتحت الحيرة بعد رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أعطي ذلك الرجل جارية منها، فقال له أبوها: بعنيها بألف درهم، فقال: نعم، فقيل له: لو طلبت بها ثلاثين ألفًا لأعطاك، فقال: وهل عدد أكثر من ألف؟!!» فلما وهب له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها جارية مجهولة لا يملكها؛ لأنها من المشركين.. جاز عقد الجعالة عليها. وروي: (أن أبا موسى الأشعري عاقد دهقانًا على أن يفتح له قلعة على أن يختار أربعين نفسًا منها، فلما فتحها لهم.. كان يختار، وأبو موسى يقول: اللهم أنسه نفسه، فلما اختار الأربعين ولم يختر نفسه.. أخذه أبُو موسى فقتله) . ولا مخالف له في الصحابة.

فإن قيل: كيف صحت هذه الجعالة بمال لا يملكه الباذل وهو مجهول أيضًا؟ فالجواب: أن الجعالة إنما تفتقر إلى عوض معلوم يملكه الباذل، إذا عقد ذلك في أموال المسلمين، فأما إذا عقد في أموال المشركين.. فيصح أن يكون العوض مجهولًا لا يملكه الباذل، كما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل في البدأة الربع، وفي القفول الثلث» ، وإنما يأخذونه من خمس الخمس وإن كان غير مملوك وقت العقد ولا معلوم. قال أصحابنا البغداديون: ولا فرق بين أن يكون الدليل مسلمًا أو كافرًا. وقال الخراسانيون: إن كان الدليل مسلمًا.. فهل يصح هذا العقد معه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن الشافعي، إنما نص فيها على دلالة العلج، و (العلج) : لا يكون إلا كافرًا. ولأنه عقد فيه نوع غرر فلم يجز مع المسلمين، كسائر العقود. والثاني: يصح، وهو المشهور؛ لأنه عقد جعالة يصح مع الكافر فصح مع المسلم، كالجعالة على رد الآبق. وإنما نص الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على دلالة العلج؛ لأنه هو الذي يعرف طرقهم في الغالب. إذا ثبت هذا، فدلهم رجل على هذه القلعة.. فينظر فيه: فإن لم تفتح القلعة.. لم يستحق الدليل شيئًا. ومن أصحابنا من قال: يرضخ له لدلالته. وليس بشيء؛ لأنه لما قال: من دلنا على القلعة الفلانية فله جارية منها.. فالظاهر أنه جعل له الجارية بشرطين: الدلالة والفتح، فإذا لم يوجد أحدهما.. لم يستحق شيئًا. وإن فتحت القلعة.. نظرت: فإن فتحت عنوة وكان الشرط على جارية معلومة وهي فيها، أو كان الشرط على جارية مجهولة وليس في القلعة غير جارية واحدة، فإن

كانت الجارية كافرة.. سلمت إلى الدليل، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، ولا يستحق أهل الخمس ولا الغانمون منها شيئًا؛ لأن الدليل استحقها بسبب سابق، وسواء كانت حرة أو أمة للمشركين. وإن أسلمت الجارية الحرة قبل أسرها.. لم تسلم إلى الدليل سواء كان مسلمًا أو كافرًا؛ لأن إسلامها قبل أسرها يمنع من استرقاقها. قال أبُو العباس: وفيها قول آخر: أنها تسلم إلى الدليل؛ لأنه قد استحقها قبل إسلامها. وليس بشيء. فإذا قلنا: لا تسلم إليه. فهل يستحق الدليل شيئًا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يستحق شيئًا؛ لأنها صارت كالمعدومة. والثاني ـ وهو قول أصحابنا البغداديين، وهو الأصح ـ: أنه يستحق قيمتها؛ لأن الشَّرع لما منع استرقاقها لإسلامها.. أوجب دفع قيمتها، كما: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صالح أهل مكة على أن يرد إليهم من جاءه من المسلمات ومنعه الله تَعالَى من ردهن.. أمره برد مهورهن إليهم) . وإن أسلمت بعد ما أسرت، فإن كان الدليل مسلما ً.. سلمت إليه. وإن كان كافرًا. فإن قلنا: يصح شراء الكافر للجارية المسلمة.. سلمت إليه، وأجبر على إزالة ملكه عنها. وإن قلنا: لا يصح شراؤه لها.. لم تسلم إليه، وسَلَّم إليه قيمتها، وقسمت بين الغانمين. فإن فتحت عنوة، وكانت الجارية قد ماتت.. ففيه قولان: أحدهما: أن للدليل قيمتها؛ لأن تسليمها قد تعذر بموتها، فوجبت له قيمتها كما لو أسلمت.

والثاني: لا يجب له قيمتها؛ لأنه إنما استحقها بعينها، فإذا ماتت.. لم يستحق شيئًا، كما لو قال من رد عبدي الآبق فله هذا العبد.. فمات العبد المبذول. هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: إن ماتت قبل الظفر بها.. لم يستحق الدليل شيئًا. وإن ماتت بعد الظفر بها، وأرادوا قبل تسليمها إليه.. فهل يستحق قيمتها؟ فيه قولان. وإن لم يكن في القلعة من المال غير الجارية.. ففيه وجهان، حكاهما المسعوديُّ [في " الإبانة "] : أحدهما: تسلم إلى الدليل للشرط السابق. والثاني: لا تسلم إليه؛ لأن هذا تنفيل، ولا يجوز للإمام أن ينفل جميع الغنيمة، وهذه الجارية جميع الغنيمة. وإن فتحت القلعة صلحًا.. نظرت: فإن شرط على أن يكون جميع ما فيها لنا، أو كان الصلح على أن ما في القلعة لأهلها إلا الجارية.. فهو كما لو فتحت القلعة عنوة. وإن كان على أن لصاحب القلعة أهله وعشيرته أو من يختاره منها، وكانت الجارية من أهله وعشيرته أو ممن اختاره.. قال الشيخ أبُو حامد: فإن أبا إسحاق قال الصلح صحيح والجعالة صحيحة، ثم يقال للدليل: هذه الجارية التي جعلناها لك قد صالحنا عليها، أفترضى بقيمتها؟ فإن رضي بقيمتها.. دفعت إليه القيمة وأمضينا الصلح. وإن لم يرض إلا بالجارية.. قيل لصاحب القلعة: صالحناك على ما جعلناه لغيرك، أفتسلم الجارية ونعطيك قيمتها؟ فإن سلمها.. سلمت إلى الدليل، ودفع إلى صاحب القلعة قيمتها، وأمضينا الصلح. وإن لم يسلمها صاحب القلعة.. قيل له: صالحناك على شيء ولا يمكن الوفاء به، فترد عليك ونتركك حتى تمتنع كما كنت، وتصير حربًا لنا.

فرع: جعل الأمير جارية لمن دل على موقع فدله جماعة

وأمَّا الشيخ أبُو إسحاق: فحكى فيها وجهين: أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق المَروَزِيُّ ـ: أن الجارية للدليل، وشرطها في الصلح لا يصح. والثاني: شرطها في الصلح صحيح؛ لأن الدليل لو عفا عنها.. أمضي الصلح ولو كان العقد فاسدا ً.. لافتقر إلى عقد آخر. [فرع: جعل الأمير جارية لمن دل على موقع فدله جماعة] إذا قال الأمير: من دلنا على القلعة.. فله منها جارية، فدله عليها اثنان أو ثلاثة أو أكثر.. استحقوا الجارية، كما قلنا في رد العبد الآبق. [فرع: شرط الإمام بأن من أخذ شيئًا فهو له] قال في " الأم ": (إذا قال الإمام قبل التقاء الفريقين: من أخذ شيئًا.. فهو له بعد الخمس.. فذهب بعض الناس إلى جوازه؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم بدر: «من أخذ شيئًا فهو له» قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وهذا الحديث لا يثبت،

والصحيح في السنة: أنه يقسم الخمس لأهل الخمس وأربعة أخماسها للغانمين، ولو قال قائل بذلك.. كان مذهبًا) ، فأومأ فيه إلى قولين: أحدهما: يكون على ما شرطه الإمام ـ وبه قال أبو حَنِيفَة ـ لما ذكرناه من الخبر يوم بدر. والثاني: لا يصح شرط الإمام في ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغنيمة لمن شهد الوقعة» ، وهذا يقتضي: اشتراكهم فيها من غير تخصيص، وهو قول النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في يوم بدر؛ لأن الغنائم كلها كانت له يومئذ برمتها. وبالله التوفيق

باب قسم الغنيمة

[باب قسم الغنيمة] الغنيمة: ما أخذه المسلمون من أهل الحرب بالقهر. وكانت الغنيمة محظورة في شرع من قبلنا، تنزل نار من السماء فتحرقها. وكانت في شرعنا في أول الإسلام للنبي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] [الأنفال: 1] الآية. ثم نسخت هذه الآية بقوله تَعالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية.

فإذا قهر الجيش الذي مع الإمام، أو الجيش الذي خرج بإذنه أهل الحرب على شيء.. نظر فيه: فإن كان مما ينقل، كالدراهم والدنانير وما أشبههما، فإن كان فيه مال للمسلم.. دفعه إليه. وإن كان فيه سلب لقاتل.. دفعه إليه ـ على ما مَضَى ـ ثم يدفع من الباقي أجرة النقال والحافظ؛ لأنه مصلحة للغانمين. ثم يدفع الرضخ من الباقي إذا قلنا: يرضخ من رأس الغنيمة. وما بقي.. قسم على خمسة أسهم: سهم لأهل الخمس، والباقي للغانمين على ما يأتي بيانه إن شاء الله عز وجل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية. فأضاف الغنيمة إلى الغانمين، ثم قطع الخمس لأهله، فكان الظاهر أن ما بقي بعد الخمس على مقتضى الإضافة. وإن كانت الغنيمة مما لا ينقل، كالأرض والدور.. فمذهبنا: أن الحكم فيها كالحكم فيما ينقل. وبه قال الزبير وبلال. وقال عمر، ومعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وسفيان الثوريُّ، وابن المبارك: (الإمام فيها بالخيار: إن شاء قسمها كما قلنا، وإن شاء وقفها على المسلمين) . وقال أبو حَنِيفَة وأصحابه: (الإمام فيها بالخيار: إن شاء قسمها بين الغانمين، وإن شاء وقفها على المسلمين، وإن شاء أقرها في أيدي أهلها وضرب عليهم الخراج على وجه الجزية، وإذا أسلموا.. لم يسقط عنهم ذلك، ويجوز أن يخرج عنها أهلها ويسكنها قومًا آخرين ويضرب عليهم الخراج) . وقال مالك: (تصير وقفًا على المسلمين بنفس الفتح) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية، ولم يفرق بين ما ينقل وما لا ينقل.

مسألة: ما يغنم بغير إذن الإمام

[مسألة: ما يغنم بغير إذن الإمام] وإن غزت سرية من المسلمين دار الحرب بغير إذن الإمام فغنمت مالًا.. فإنه يخمس. وحكى الشيخ أبُو حامد: أن من أصحابنا من قال لا يخمس. وليس بشيء. وقال أبو حَنِيفَة: (إن كانت لهم منعة.. خمس. وإن لم تكن لهم منعة.. لم يخمس) . وقال أبُو يوسف: إن كانوا تسعة أو أكثر.. خمس. فإن كانوا أقل.. لم يخمس. وقال الحَسَن البَصرِيّ: يؤخذ منهم جميع ما غنموه عقوبة لهم؛ حيث غزوا بغير إذن الإمام. وقال الأَوزَاعِي: (الإمام بالخيار: بين أن يخمسه وبين أن لا يخمسه) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية، ولم يفرق بين أن يغزوا بإذن الإمام أو بغير إذنه. ولأنه مال مأخوذ من حربي بالقهر فكان غنيمة، كما لو غزوا بإذن الإمام. [فرع: شروط تملك الغنيمة] ومكان تقسيمها على الغانمين] : وإذا غنم المسلمون من المشركين مالًا وحازوه وانقضى القتال.. فإنهم لا يملكونه بذلك، وإنما ملكوا أن يملكوه، ولا يملك أحد منهم سهمه إلا بأن يختار التملك، أو بأن يقسم له الإمام سهمه ويسلمه إليه ويقبله.

فإن كان الإمام والجيش في دار الحرب بعد انقضاء القتال وحيازة الغنيمة.. نظرت: فإن كان هناك عذر يدعو إلى تأخير قسمة الغنيمة إلى أن يخرجوا إلى دار الإسلام؛ بأن كانوا يخافون كرة المشركين عليهم عند اشتغالهم بالقسمة، أو كانوا في موضع قليل العلف أو الماء مع حاجتهم إليه.. لم يكره تأخير القسمة إلى أن يزول العذر، أو إلى الخروج إلى دار الإسلام. وإن لم يكن هناك عذر يدعو إلى تأخير القسمة.. قسم الإمام الغنيمة، ويكره له تأخيرها إلى الخروج إلى دار الإسلام. وقال أبو حَنِيفَة: (يكره له قسمة الغنيمة في دار الحرب مع التمكن من القسمة فيها، فإن قسمها هناك.. صحت القسمة، إلا أن يحتاج الغانمون إلى شيء من الغنيمة مثل الثياب وغيرها.. فلا تكره قسمتها في دار الحرب) . دليلنا: ما روي: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم غنائم بدر في شعب من شعاب الصفراء قريب من بدر) ، وبدر كانت دار شرك؛ لأنه قريب من مكة. وروي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم غنائم بني المصطلق على مياههم» و: «غنائم

مسألة: تقسيم الأربعة الأخماس

هوازن في ديارهم، وغنائم حنين في أوطاس» ، وهو واد من حنين ولم يزل الخلفاء بعده يقسمون الغنائم حيث يأخذونها. [مسألة: تقسيم الأربعة الأخماس] وإذا أخرج الإمام خمس الغنيمة لأهل الخمس.. فإنه يقسم الأربعة الأخماس الباقية بين الغانمين، وينظر فيهم: فإن كانوا فرسانًا كلهم أو رجالة كلهم.. قسمها بينهم بالسوية؛ لأن الله تَعالَى أضاف أربعة أخماس الغنيمة إلى الغانمين، والإضافة تقتضي التسوية. وإن كان بعضهم فرسانًا وبعضهم رجالة.. فإنه يقسم للفارس ثلاثة أسهم؛ سهمًا له وسهمين لفرسه، وللراجل سهمًا. وبه قال من الصحابة: عمر وعلي، ومن التابعين: الحَسَن، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، ومن الفقهاء: مالك وأهل المدينة، والأَوزَاعِي، وأهل الشام، والليث، وأبو يوسف، ومحمد، وأكثر أهل العلم.

فرع: مصرف الأربعة الأخماس

وقال أبو حَنِيفَة وحده: (يقسم للفارس سهمين؛ سهمًا له وسهمًا لفرسه، وللراجل سهمًا، وقال: لا أفضل بهيمة على مسلم) . دليلنا: ما رَوَى ابن عمر وابن عبَّاس: (أن «النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم للفارس ثلاثة أسهم؛ سهمًا له، وسهمين لفرسه» وهذا نص. ورُوِي: (أن الزبير بن العوام كان يضرب في المغنم بأربعة أسهم: سهم له وسهمين لفرسه، وسهم لأمه صفية؛ لأنها من ذوي القربى) . ولأن السهم إنما يستحق بما يلزم من المؤنة والتأثير في القتال، ومؤنة الفرس أكثر من مؤنة الفارس، وتأثيره في القتال أكثر، فيجب أن يزيد سهمه على سهمه. وأمَّا قوله: (لا أفضل بهيمة على مسلم) فيقال له: فلا تساو بينهما! فلما جازت المساواة بينهما.. جازت المفاضلة بينهما. [فرع: مصرف الأربعة الأخماس] ولا يجوز أن يصرف الإمام شيئًا من أربعة أخماس الغنيمة إلى غير الغانمين، ولا يفضل فارسًا على فارس، ولا راجلًا على راجل، ولا يفضل من قاتل على من لم يقاتل.

فرع: الإسهام للخيل

وقال أبو حَنِيفَة: (يجوز أن يصرف منها شيئًا إلى غير الغانمين) . وقال مالك: (يجوز أن يصرف شيئًا منها إلى غير الغانمين، ويجوز تفضيل بعضهم على بعض) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية. فأضاف الغنيمة إلى الغانمين بلام التمليك، ثم قطع الخمس منها لأهل الخمس، فدلَّ على: أن الباقي لهم. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغنيمة لمن شهد الوقعة» فدلَّ على: أنه لا شيء لغيرهم فيها إلا ما خصه الدليل، ولم يفرق بين من قاتل ومن لم يقاتل. ولأن من لم يقاتل.. فقد أرصد نفسه للقتال ويحصل به الإرهاب، فهو كالمقاتل. [فرع: الإسهام للخيل] ولا يسهم لمركوب غير الخيل، وهو إجماع؛ ولأن غير الخيل لا يغني غناء الخيل ولا يسد مسدها في القتال، فلم يلحق بها في السهم. ويسهم للفرس العربي: وهو الذي أبواه من الخيل العراب، ويسمى: العتيق. ويسهم للبرذون: وهو الفرس الذي أبواه نبطيان، وللهجين: وهو الذي أبوه عربي وأمه نبطية، وللمقرف: وهو الذي أبوه نبطي وأمه عربية. وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة. وحكى المسعوديُّ [في " الإبانة " ق \ 454] قولًا آخر: أنه لا يسهم للبرذون والهجين الذي لا يصلح للكر والفر، كالبغل. والأول هو المشهور. وقال الأَوزَاعِي: (لا يسهم للبرذون، ويسهم للهجين سهمًا واحدًا) . وقال أحمد: (يسهم للعربي سهمين، ولغيره سهمًا واحدًا) وهي إحدَى الروايتين عن أبي يوسف والأخرى كقولنا.

دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» وأراد به الغنيمة، ولم يفرق. ولأنه حيوان يسهم له، فلم يختلف باختلاف أنواعه، كالرجل. فإن نفل الإمام رجلا حضر الحرب بفرس حطم: وهو الذي قد تكسر وضعف، أو بفرس قحم: وهو الهرم، أو بفرس ضرع: وهو الصغير الذي لم يبلغ مبلغ القتال عليه، أو بفرس أعجف: وهو المتناهي في الهزال.. فقد قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (قد قيل: لا يسهم له، وقيل: يسهم) . فمن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: يسهم له؛ لأنه حيوان يسهم له، فلم يسقط سهمه لضعفه وكبره، كالرجل.

فرع: لا يسهم إلا لفرس واحد

والثاني: لا يسهم له؛ لأن القصد من الفرس القتال عليه، فإذا لم يمكن القتال عليه كان كالبغل. وقال أبُو إسحاق المَروَزِيُّ: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فحيث قال: (يسهم له) إذا كان يمكن القتال عليه مع ضعفه. وحيث قال: (لا يسهم له) إذا كان لا يمكن القتال عليه بحال. [فرع: لا يسهم إلا لفرس واحد] عندنا] : وإذا حضر الرجل بفرسين أو أكثر.. فإنه لا يسهم له إلا لفرس واحد، وهو قول كافة العلماء، إلا الأَوزَاعِي وأحمد، فإنهما قالا: (يسهم له لفرسين، ولا يسهم له لأكثر) . دليلنا: ما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حضر في بعض غزواته بثلاثة أفراس، فلم يأخذ السهم إلا لفرس واحد» وروي: «أن الزبير حضر يوم حنين بأفراس، فلم يسهم له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلا لفرس واحد» ، ولأنه لا يقاتل إلا على واحد، وما زاد عليه يحمل للزينة، فلم يستحق السهم إلا لواحد.

فرع: اغتصب أو استعار أو اكترى فرسا للقتال

وقال في " الأم ": (وإن كان القتال في الماء أو على حصن، فحضر رجل بفرس.. أسهم له وإن لم يحتج إلى الفرس للقتال عليه؛ لأنه ربما ينزل الناس من الحصن أو يخرجون من الماء، فيحتاج إلى القتال على الفرس) . [فرع: اغتصب أو استعار أو اكترى فرسًا للقتال] ] : وإن غصب فرسًا وحضر به القتال.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أكثرهم: يسهم للفرس وجهًا واحدًا، ولكن من يستحقه؟ فيه وجهان: أحدهما: الغاصب. والثاني: المغصوب منه. بناء على القولين فيمن غصب من رجل دراهم، فابتاع به شيئًا في ذمته، ثم نقد الدراهم في الثمن، ثم باع ما اشتراه وربح.. فمن يستحق الربح؟ فيه قولان. وقال القاضي أبُو الطيب: هل يسهم للفرس هاهنا؟ فيه وجهان: وإن استعار فرسًا أو اكتراه وحضر به القتال.. أسهم له واستحقه المستعير والمكتري؛ لأنه ملك القتال عليه فملك السهم عليه، كما لو حضر بفرس يملكه. [فرع: دخول المقاتل دار الحرب بفرس ثم نفق أو غار أو بدون فرس] وإن دخل رجل دار الحرب بفرس فنفق الفرس ـ أي مات ـ أو وهبه لغيره أو باعه، فإن كان قبل انقضاء الحرب.. لم يسهم له لفرسه. وحكى القفال عن الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أنه يسهم له إذا نفق) . والمشهور هو الأول. فإن دخل دار الحرب ولا فرس معه، ثم اشترى فرسًا، أو اتَّهَبَهُ، أو استأجره، أو استعاره وحضر به القتال فانقضت الحرب وهو معه.. أسهم له ولفرسه. وقال أبو حَنِيفَة: (الاعتبار بدخوله دار الحرب، فمتى دخل دار الحرب، وهو فارس ثم نفق فرسه أو باعه أو وهبه وما أشبهه.. أسهم له ولفرسه، وإن دخل دار

فرع: حضر الوقعة فمرض أو مات أو فر من القتال

الحرب ولا فرس معه، ثم حصل له فرس.. لم يسهم له للفرس) . دليلنا: على الفعل الأول: أن فرسه نفق قبل انقضاء الحرب، فلم يسهم له لفرسه، كما لو كان القتال في دار الإسلام وعلى الفعل الثاني: أن فرسه وجد عند انقضاء الحرب، فاستحق السهم له، كما لو دخل دار الحرب فارسًا. وإن حضر القتال بفرس، ثم غار فرسه ولم يجده إلا بعد تقضي الحرب.. لم يسهم له. ومن أصحابنا من قال: يسهم له؛ لأنه خرج عن يده بغير اختياره. والمذهب الأول؛ لأن خروج الفرس من يده قبل انقضاء القتال يسقط سهمه وإن كان بغير اختياره، كما لو نفق. [فرع: حضر الوقعة فمرض أو مات أو فر من القتال] قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إذا حضر القتال ثم مرض.. أسهم له) . واختلف أصحابنا البغداديون فيه: فقال أكثرهم: إن كان مرضًا قليلا ً، كالحمى الخفيفة والصداع اليسير وما أشبههما مما لا يمنعه القتال.. أسهم له؛ لأن ذلك لا يمنعه عن القتال، وإن كان مرضًا كثيرًا، كالزمانة وقطع اليدين والرجلين.. لم يسهم له؛ لأنه ليس من أهل القتال. وقال الخراسانيون: إن كان مرضًا يرجى زواله.. استحق السهم وإن لم يقاتل وإن كان مرضًا لا يرجى زواله.. ففيه قولان:

فرع: إسقاط حق الغانم أو هبته أو بيعه

أحدهما: لا يسهم له لأنه خرج عن أن يكون من أهل القتال. والثاني: يسهم له؛ لأنه في الجملة من أهل القتال، إلا أنه عرض له عارض، فهو كالمرض الذي يرجى زواله. قال المسعوديُّ [في " الإبانة " ق \ 453] : فإن مات رجل من المجاهدين، أو قتل في حال القتال، أو قبل انقضاء القتال.. لم يرث ورثته سهمه، وبطل حقه. وإن مات بعد انقضاء القتال.. ورث ورثته سهمه. وإن فر غير متحرف للقتال ولا متحيز إلى فئة.. لم يستحق السهم، فإن عاد قبل انقضاء القتال.. استحق السهم. وإن فر متحرفًا للقتال أو متحيزًا إلى فئة.. لم يسقط سهمه وإن لم يقاتل؛ لأنه مشغول بأمر القتال. ولو قيل له: فررت لغير التحرف والتحيز، وقال: بل فررت متحيزًا أو متحرفًا.. فالقول قوله؛ لأنه أعلم بحال نفسه. [فرع: إسقاط حق الغانم أو هبته أو بيعه] قال ابن الصبَّاغ: لو قال بعض الغانمين قبل القسمة: أسقطت حقي من الغنيمة: سقط حقه؛ لأن حقه لم يستقر. وإن قال: وهبت نصيبي من الغانمين.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبُو إسحاق: يصح، ويكون ذلك إسقاطًا لحقه؛ لأن الإسقاط يصح بلفظ الهبة. وقال أبُو عليّ بن أبي هُرَيرَة: إن أراد به الإسقاط.. سقط به حقه. وإن أراد به التمليك والهبة.. لم يصح؛ لأن حقه مجهول ولم يستقر ملكه عليه.

مسألة: لا يقسم لمخذل أو ناقل الأخبار

والأول أصح؛ لأن الملك لم يحصل له، وإنما له حق التملك، فانصرفت الهبة إلى إسقاطه. وإن باع حقه من الغنيمة قبل القسمة، فإن كان قد اختار التملك، وكان معلومًا صح البيع. وإن لم يختر التملك.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبُو إسحاق: يصح البيع إذا كان معلومًا؛ لأنه ملك حقه بالحيازة. و [الثاني] : من أصحابنا من قال لا يصح؛ لأن ملكه لم يستقر عليه. [مسألة: لا يقسم لمخذل أو ناقل الأخبار] ويقسم لمن حضر بغير إذن والديه أو غريمه وماذا لو كان كافرًا؟] : وإن حضر القتال مخذل، أو مرجف، أو من يعاون المشركين بالمكاتبة وحمل الأخبار.. لم يسهم له ولم يرضخ له؛ لأن السهم والرضخ للمقاتلة أو لمن يعينهم، وهؤلاء ليسوا من المقاتلة ولا ممن يعينهم، بل الضرر في حضورهم. وإن حضر رجل القتال بغير إذن والديه، أو من عليه دين فحضر بغير إذن الغريم.. استحق السهم. والفرق بينه وبين المخذل والمرجف: أن المعصية في حضور المخذل والمرجف تؤثر في الجهاد فهي كالمعصية بالصلاة في الثوب النجس، والمعصية بحضور الولد ومن عليه دين بغير إذن غريمه لا يؤثر في الجهاد، فهو كالمعصية في الصلاة في الدار المغصوبة.

فرع: حضور العبد أو النساء أو الصبيان القتال

وإن حضر مشرك مع المسلمين في القتال بغير إذن الإمام.. لم يسهم له، ولم يرضخ له؛ لأن ضرره أعظم من ضرر المخذل والمرجف بالمسلمين. وإن حضر بإذن الإمام.. رضخ له ولم يسهم له، وهو قول كافة العلماء، إلا الأَوزَاعِي؛ فإنه قال: (يسهم له) . دليلنا: ما رَوَى ابن عبَّاس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بيهودي من بني قينقاع في بعض غزواته.. فرضخ له ولم يسهم له» . وإن دخل أهل الكتاب دار الحرب وغنموا منه.. فقال أبُو إسحاق المَروَزِيُّ: ينظر فيه: فإن كان الإمام أذن لهم في الدخول إلى دار الحرب.. كان الحكم فيما غنموا على ما شرط لهم منه، وإن لم يأذن لهم في الدخول.. احتمل وجهين: أحدهما: يرضخ لهم منه وينزع الباقي؛ لأنهم لا يستحقون السهم من الغنيمة. والثاني: يقرون عليه ولا يخمس، ولا ينزع منهم، وهو المنصوص، كما إذا غلب المشركون على مال بعضهم وأخذوه في دار الحرب. [فرع: حضور العبد أو النساء أو الصبيان القتال] ] : وإن حضر العبد القتال.. لم يسهم له، وإنما يرضخ له، سواء قاتل بإذن مولاه أو بغير إذنه، لما رَوَى عمير مولى آبي اللحم قال: «غزوت مع رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنا عبد مملوك، فلما فتح الله على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خيبر.. قلت: يا رسول الله، سهمي؟ فلم يضرب لي سهمًا، وأعطاني سيفًا» وقال ابن عبَّاس: (العبد يرضخ له ولا يسهم

له) . ولا مخالف له في ذلك من الصحابة. ولأنه ليس من أهل القتال؛ ولهذا: لو حضر الصف.. لم يتعين عليه القتال. وإن حضر صبيان المسلمين أو نساؤهم القتال.. رضخ لهم ولم يسهم لهم. وهو قول كافة العلماء إلا الأَوزَاعِي، فإنه قال: (يسهم للنساء والصبيان) . دليلنا: أن نجدة الحروري كتب إلى ابن عبَّاس: هل كان رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يحمل النساء إلى الجهاد، وهل كان يسهم لهن؟ فكتب إليه ابن عبَّاس: (كان رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يحملهن معه ليسقين الماء ويداوين الجرحى، وكان لا يسهم لهن، بل كان يرضخ لهن) ولأن السهم للمقاتلة، والنساء والصبيان ليسوا من المقاتلة، بدليل أنهم لو حضروا الصف.. لم يتعين عليهم القتال، فلم يستحقوا السهم وإن حضروا، كالعبيد والكفار. وإن خرج نساء أهل الذمة مع الإمام بإذنه.. فهل يرضخ لهن؟ فيه وجهان حكاهما المسعوديُّ [في " الإبانة "] : أحدهما: يرضخ لهن، كنساء المسلمين.

مسألة: مصدر الرضخ ومقداره

والثاني: لا يرضخ لهن؛ لأنهن لا قتال فيهن ولا بركة بحضورهن، بخلاف نساء المسلمين؛ فإنه يتبرك بدعائهن إذا حضرن. وإن دخل العبيد، أو النساء، أو الصبيان إلى دار الحرب منفردين وغنموا.. ففيه ستة أوجه: أحدها: أنه يخمس، ويقسم الإمام الباقي بينهم على ما يراه من المفاضلة، كما يقسم الرضخ بينهم. والثاني: يخمس، ويقسم الباقي بينهم بالسوية، كما لو غنمت الرجالة من الرجال. والثالث: يرضخ لهم منه، ويرد الباقي إلى بيت المال؛ لأنه لا حق لهم إلا الرضخ. والرابع: يخمس هذا المال، ويرضخ لهم من الباقي، ثم يرد الباقي إلى بيت المال؛ لما ذكرناه في الذي قبله. والخامس: يخمس، ويقسم الباقي بينهم: للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم، كما لو كانوا رجالًا بالغين أحرارًا. والسادس: أنه لا يحكم لهذا المال بحكم الغنيمة، بل حكمه حكم المسروق، فيكون كله لهم وقتالهم كلا قتال. [مسألة: مصدر الرضخ ومقداره] ومن أين يخرج الرضخ؟ من أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أوجه، ومنهم من قال: هي أقوال للشافعي: أحدها أنه يخرج من أصل الغنيمة؛ لأن في أهل الرضخ مصلحة للغانمين، فكان ما يستحقونه من أصل الغنيمة، كأجرة الحافظ والنقال. والثاني: أنه يخرج من أربعة أخماس الغنيمة؛ لأنه يستحقه بالحضور، فهو كسهم الفارس والراجل.

مسألة: خروج الأجير مع المقاتلين

والثالث: أنه يخرج من خمس الخمس؛ لأن أربعة أخماس الغنيمة لأهلها، وإنما يرضخ لأهل الرضخ للمصلحة، فكان من سهم المصالح. ومن أصحابنا من قال: هذا القول يختص بأهل الذمة؛ لأنهم ليسوا من أهل الجهاد. إذا ثبت هذا: فإن الرضخ غير مقدر، بل هو موكول إلى اجتهاد الإمام، ويختلف باختلاف قلة العمل وكثرته. قال الشيخ أبُو إسحاق: ولا يبلغ به سهم راجل؛ لأنه تابع لمن له سهم فنقص عنه، كالحكومة لا يبلغ بها أرش العضو. [مسألة: خروج الأجير مع المقاتلين] وإن خرج مع المقاتلين أجير.. نظرت: فإن كانت إجارته على عمل في الذمة وحضر القتال.. فإنه يسهم له؛ لأن العمل في ذمته، فلا يمنع استحقاق السهم إذا حضر القتال، كما لو كان عليه دين في ذمته. وإن كانت الإجارة على مدة بعينها، فحضر الأجير للقتال في تلك المدة.. ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: يستحق الأجرة، ويسهم له؛ لأن الأجرة مستحقة بالتمكين من العمل، والسهم مستحق بالحضور، وقد وجد الجميع. والثاني: لا يسهم له، بل يرضخ له، ويستحق الأجرة مع الرضخ؛ لأن منفعته مستحقة لغيره وقت القتال، فلم يستحق السهم، كالعبد. والثالث: يخير الأجير: بين السهم والأجرة. فإن اختار السهم.. استحقه وسقطت الأجرة. وإن اختار الأجرة.. استحقها ولم يسهم له، بل يرضخ له؛ لأن منفعته في ذلك الوقت واحدة فلا يستحق بها حقين، هذا قول أكثر أصحابنا. وقال أبُو عليّ الطبري: القول في تخيير الأجير إنما يأتي في الإمام إذا استأجر من سهم الغزاة من الصدقات أجيرًا للغزاة لحفظ دوابهم وما أشبهه.. فإن الإمام يخيره؛ ليوفر سهمه أو أجرته على الغزاة، فأما إذا كان الأجير لواحد

بعينه.. فلا معنى لتخييره؛ لأنه لا معنى لتوفير الأجرة عليه ودفع السهم من نصيب الغانمين وإنما يكون فيه القولان الأولان. ومن أصحابنا من قال لم يرد الشافعي بما ذكره من التخيير للأجير في الحقيقة، وإنما أراد المجاهدين الذين يغزون إذا نشطوا؛ فإنهم إذا حضروا.. يقول لهم الإمام: أنتم بالخيار: بين أن تأخذوا كفايتكم من الصدقات، وبين أن تأخذوا السهم من الغنيمة. والأصح هو الطريق الأول: فإذا قلنا: يخير.. فإن أصحابنا البغداديين قالوا: يخير قبل القتال وبعده. فأما قبل القتال: فيقال له: إن أردت الجهاد.. فاقصده واطرح الأجرة. وإن أردت الأجرة.. فاطرح الجهاد. ويقال له بعد القتال: إن كنت قصدت الجهاد.. أسهم لك وتركت الأجرة، وإن كنت قصدت الخدمة.. أعطيت الأجرة دون السهم. وإنما تسقط الأجرة إذا اختار السهم في الحالة التي حضر فيها القتال وترك خدمة المستأجر، فأما قبل ذلك.. فإنه يستحق الأجرة؛ لأنه قد وجد منه التمكين من العمل فيها. وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا اختار السهم واطرح الأجرة.. فمن أي وقت تطرح؟ فيه وجهان: أحدهما: من حين دخوله دار الحرب؛ لأنه يصير مجاهدًا بنفس دخوله دار الحرب. والثاني: من حين حضوره الوقعة؛ لأن ذلك حقيقة القتال. قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وهذا إذا حضر وقاتل، فأما إذا لم يقاتل.. فإنه لا يسهم له قولا ًواحدًا.

فرع: حضور التجار في المعركة

[فرع: حضور التجار في المعركة] ] : وإن كان مع المجاهدين تجار، فانقضى القتال وهم معهم.. فهل يسهم لهم؟ فيه قولان: أحدهما: يسهم لهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغنيمة لمن شهد الوقعة» ، وقد شهدوها. والثاني: لا يسهم لهم؛ لأن السهم إنما يستحقه المجاهدون، وهؤلاء لم يقصدوا الجهاد، وإنما قصدوا التجارة. واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان إذا حضروا ولم يقاتلوا، فأما إذا حضروا وقاتلوا.. فإنه يسهم لهم قولًا واحدًا؛ لأن الجهاد هو القتال، وقد وجد منهم. ومنهم من قال: القولان إذا حضروا وقاتلوا، فأما إذا لم يقاتلوا.. فإنه لا يسهم لهم قولًا واحدًا؛ لأنهم وإن قاتلوا.. فلم يقصدوا الجهاد عند دخول دار الحرب. ومن أصحابنا من قال: القولان في الحالين، سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا. [مسألة: انفلات الأسير من المشركين ولحوقه بجيش المسلمين] أو حصول مدد لهم] : إذا انفلت أسير من المشركين فلحق بجيش المسلمين، أو لحق بجيش المسلمين مدد.. فهل يشاركونهم في الغنيمة؟ ينظر فيه: فإن لحقهم قبل انقضاء الحرب.. فإنه يشاركهم في الغنيمة قولًا واحدًا؛ لأنه أدرك وقت استحقاق الغنيمة. وإن لحقهم بعد انقضاء القتال وبعد حيازة الغنيمة.. فإنه لا يشاركهم قولًا واحدًا؛ لأن الغانمين قد ملكوا أن يملكوا الغنيمة، وتعلقت بها حقوقهم فلم يشاركهم

غيرهم فيها. وإن لحق بهم بعد انقضاء القتال وقبل حيازة الغنيمة.. فهل يشاركهم فيها غيرهم؟ فيه قولان: أحدهما: لا يشاركهم فيها؛ لأنه لم يشهد الوقعة. والثاني: يشاركهم؛ لأنه قد حضر قبل أن يملكوا الغنيمة. وهذان القولان مبنيان على القولين، متى يملكون أن يملكوا الغنيمة؟ أحدهما: أنهم لا يملكون أن يملكوا إلا بعد انقضاء القتال وحيازة الغنيمة. فعلى هذا: يشاركهم من لحقهم. والثاني: أنهم يملكون أن يملكوا الغنيمة بعد انقضاء القتال وقبل حيازة الغنيمة. فعلى هذا: لا يشاركهم من لحقهم. هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: إذا لحقهم مدد بعد انقضاء القتال.. لم يشاركهم به المدد. وإن لحقهم في حال القتال.. فما أحرزوه من المال بعد لحوق المدد.. شاركهم به المدد، وما كانوا قد أحرزوه من المال قبل لحوق المدد بهم.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يشاركهم فيه؛ لأنهم انفردوا بإحرازه، فهو كما لو لحقهم بعد انقضاء القتال. والثاني: يشاركهم فيه؛ لأن ذلك المال كالمتداول بين المسلمين والمشركين، ولأن القتال قائم، فلعلهم يستردونه فما لم ينقض القتال.. لم يكمل الإحراز. وأمَّا الأسير إذا انفلت وانضاف إلى المقاتلين، فإن كان من هذا الجيش.. فإنه يشاركهم، سواء قاتل أو لم يقاتل. وإن كان من جيش آخر وقاتل.. شاركهم، وإن لم يقاتل.. ففيه قولان: أحدهما: لا يسهم له؛ لأنه لحقهم هاربًا وقصد الخلاص من الكفار قبل القتال، فإذا لم يوجد منه نفس القتال ولا قصده.. لم يستحق السهم. والثاني: يسهم له، كسائر من شهد الوقعة ولم يقاتل.

مسألة: شتراك السرايا بالغنيمة

قال: وخرج فيه قول آخر: أنه لا يسهم له وإن قاتل، تخريجًا من الأجير. هذا مذهبنا، وقال أبو حَنِيفَة: (إذا لحقهم مدد بعد انقضاء القتال وقبل القسمة وهم في دار الحرب.. فإنه يشاركهم، إلا الأسارى.. فإنهم لا يشاركونهم) . دليلنا: أنه مدد لحقهم بعد انقضاء القتال فلم يشاركهم، كما لو لحقهم بعد القسمة، ولأن كل حالة لو لحق الأسير فيها لم يشارك، فإذا لحق غيره فيها.. لم يشارك، كما لو لحق المدد بعد إخراج الغنيمة إلى دار الإسلام. [مسألة: شتراك السرايا بالغنيمة] مسألة: [اشتراك السرايا بالغنيمة] : إذا خرج الأمير بالجيش من البلد، ثم أنفذ سرية إلى الجهة التي يقصدها أو إلى غيرها، أو أنفذ سرية من البلد، ثم سار بالجيش بعدها، فغنمت السرية بعد خروج الجيش من البلد، أو غنم الجيش.. فإن الجيش والسرية يتشاركان فيما غنما، وهو قول كافة العلماء، إلا الحَسَن البَصرِيّ، فإنه قال لا يتشاركان. دليلنا: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فتح هوازن بحنين بعث سرية من الجيش قبل أوطاس فغنمت، فقسم رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، غنائمهم بينهم وبين الجيش» ورُوِي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المسلمون يد واحدة على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وترد سراياهم على قاعدهم» . ولأن الجميع جيش واحد. وهكذا: إذا أنفذ الأمير سريتين من الجيش إلى جهة واحدة من طريق أو من طريقين.. فإن الجيش والسريتين يتشاركون فيما غنموا أو غنم بعضهم؛ لأنهم جيش واحد

وإن أنفذ الأمير سريتين إلى جهتين.. فإن الجيش يشاركهما فيما يغنمان، ويشاركانه فيما يغنم، وهل تشارك كل واحدة منهما الأخرى؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يتشاركان؛ لأن إحداهما ليست بأصل للأخرى. والثاني: يتشاركان، وهو المذهب؛ لأنهما من جيش واحد. وإن أنفذ الأمير سرية وهو مقيم في البلد، فغنمت السرية.. لم يشاركها الجيش الذي مع الإمام؛ لـ: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث السرايا من المدينة ويقيم هو بها، فلا يشارك بينهم) . وإن بعث سريتين من البلد إلى جهتين مختلفتين، وأقام هو مع الجيش في البلد.. فإن كل واحدة من السريتين لا تشارك الأخرى فيما تغنمه إلا أن يلتقيا في طريق فيجتمعا على جهة واحدة.. فإنهما يصيران جيشًا واحدًا. وإن بعث الأمير سرية من الجيش من البلد، وعزم على المسير وراءها مع الجيش، فغنمت السرية قبل خروج الإمام من البلد.. فلا يشاركها الجيش؛ لأن الغنيمة إنما يستحقها المجاهد، والجيش قبل خروجه من البلد غير مجاهد. هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: إذا بعث الإمام سرية أو سرايا إلى قلاع، فغنم بعضهم.. شاركهم سائر السرايا والإمام في الغنيمة إن كانوا متقاربين، بحيث يصلح بعضهم أن يكون عونًا لبعض. وإن كانوا متباعدين، بحيث لا يوجد منهم التناصر إن احتيج إلى ذلك.. لم تشارك السرية التي لم تغنم السرية التي غنمت. وقال القفال: يشاركهم الإمام ومن لم يغنم إذا كانوا كلهم في دار الحرب، فأما إذا كان الإمام في دار الإسلام وبعث سرية إلى دار الحرب فغنمت.. فالإمام لا يشاركهم. قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وليس بشيء، بل الاعتبار بالتقارب والتباعد.

فرع: إرسال الإمام جاسوسا إلى المشركين

[فرع: إرسال الإمام جاسوسًا إلى المشركين] إذا بعث الإمام جاسوسًا إلى المشركين لينظر عدتهم وينقل أخبارهم، فغنم الجيش قبل رجوعه إليهم ثم رجع إليهم.. ففيه وجهان حكاهما ابن الصبَّاغ: أحدهما: لا يشاركهم؛ لأنه لم يحضر الاغتنام. والثاني: يشاركهم؛ لأنه كان في مصلحتهم وخاطر بما هو أعظم من الثبات في الصف. والله أعلم

باب قسم الخمس

[باب قسم الخمس] قد ذكرنا أن الغنيمة تقسم على خمسة أسهم، وقد مَضَى الكلام في قسمة أربعة أخماسها بين الغانمين، وأمَّا خمسها: فإنه يقسم عندنا على خمسة أسهم: سهم لرسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. وقال أبُو العالية الرياحي: يقسم الخمس على ستة أسهم: سهم لله يصرف في رتاج الكعبة وزينتها، وخمسة أسهم على ما ذكرناه. وقال مالك: (خمس الغنيمة موكول إلى اجتهاد الإمام) . وقال أبو حَنِيفَة: (خمس الغنيمة يقسم على ثلاثة أسهم: سهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل، ويسقط سهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بموته. وأمَّا سهم ذوي القربى: فقد كان لذوي القربى الذين كانوا في عهد رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد سقط بموتهم) . فقال بعض أصحابه: كان يفرقه عليهم بمعنى الفقر والمسكنة، لا على جهة استحقاقهم له بالقرابة، ويسقط بموتهم. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية. فموضع الدليل منها على أبي العالية: أن الله تَعالَى قسم الخمس على خمسة أسهم، وأبو العالية يقسمه على ستة. وموضع الدليل منها على مالك: أن الله أضاف الخمس إلى جميع الأصناف المذكورين في الآية، فلا يجوز صرفه إلى غيرهم.

مسألة: سهم ذوي القربى

وعلى أبي حَنِيفَة: أن الله جعل لنبيه، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سهمًا ولذوي القربى سهمًا في خمس الغنيمة، فاقتضى أن ذلك على التأبيد. إذا ثبت هذا: فإن سهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصرف عندنا بعد موته في مصالح المسلمين. ومن الناس من قال: يكون للإمام أن يصرفه في نفقته ونفقة عياله؛ إذ هو خليفة رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومن الناس من قال: يصرف إلى باقي الأصناف المذكورين في الآية. دليلنا: ما رَوَى جبير بن مطعم: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» وهذا يقتضي رده على جميع المسلمين، ولا يمكن ذلك إلا إذا صرف إلى مصالحهم. [مسألة: سهم ذوي القربى] فأما سهم ذوي القربى: فإنه لمن ينتسب إلى هاشم والمطلب ابني عبد مناف ولأن عبد مناف كان له خمسة أولاد: هاشم جد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمطلب جد الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعبد شمس جد عُثمانَ بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ونوفل جد جبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأبو عمرو ولا عقب له. فقسم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم ذوي القربى بين بني

هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل. «قال جبير بن مطعم: فأتيت أنا وعثمان إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقلنا له: يا رسول الله، هؤلاء بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» وشبك بين أصابعه. إذا ثبت هذا: فإنه يشترك في هذا السهم الأغنياء والفقراء من ذوي القربى؛ لـ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعطى منه العباس بن عبد المطلب وكان موسرًا، وكان يعول أكثر بني عبد المطلب» . ويستحقه الرجال والنساء منهم، لـ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم لأم الزبير منه» . ولأنه مستحق بالقرابة، فاشترك فيه الرجال والنساء، كما لو وصى بماله لقرابته. ولا يفضل رجل على رجل، ولا امرأة على امرأة، كما قلنا في الوصية للقرابة. ويعطى الرجل مثل حظ الأنثيين. وقال المزني وأبو ثور: (يسوى بين الرجل والمرأة؛ لأنه مال مستحق بالقرابة، فلا يفضل فيه الذكر على الأنثى كالوصية للقرابة) . وهذا خطأ؛ لأنه مال مستحق بقرابة الأب بالشَّرعِ، ففضل فيه الذكر على الأنثى، كميراث ولد الأب. فقولنا: (بقرابة الأب) احتراز من ميراث الإخوة من الأم.

فرع: اشتراك ذوي القربى فيما وجد من خمس الخمس وإن قل

وقولنا: (بالشَّرعِ) احتراز من الوصية للقرابة. ويدفع ذلك إلى من ينتسب إلى هاشم والمطلب من أولادهما وأولاد أولادهما وإن سفلوا من الأعلى والأسفل، من قبل البنين دون أولاد البنات؛ لأن أولا البنات ينسبون إلى آبائهم دون أمهاتهم. [فرع: اشتراك ذوي القربى فيما وجد من خمس الخمس وإن قل] ومتى لاح درهم من خمس الخمس.. فهو لجميع ذَوِي القربى في جميع أقاليم الأرض. وقال أبُو إسحاق: ينفرد من كان في إقليم من ذوي القربى بما حصل من خمس الخمس في مقر ذلك الإقليم؛ لأنه يشق نقل ما حصل في إقليم إلى جميع ذَوِي القربى في جميع الأقاليم. والمنصوص هو الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية [لأنفال: 41] . فجعل خمس الخمس لجميع ذَوِي القربى، فاقتضى اشتراكهم فيه. ولأنه مال مستحق بالقرابة، فاستوى فيه القاصي والداني، كالميراث. وما ذكره أبُو إسحاق من المشقة.. فلا يلزم الإمام تفريقه على ما قرره، ولكن إذا حصل سهم لذوي القربى في مقر إقليم.. فرقه على ذَوِي القربى في ذلك الإقليم، وإذا حصل سهم لذوي القربى في إقليم غيره.. فرقه أيضًا على ذوي القربى فيه، ثم كذلك في جميع الأقاليم، ثم يقابل بين ما فرقه عليهم في كل إقليم وبين عددهم، فإن كان قد وصل إلى كل من في إقليم قدر حقه في جميع الأقاليم.. فلا كلام، وإلا.. رد الفضل على من بقي له، كالرجل إذا دفع زكاته إلى الإمام.. فليس على الإمام أن يوصل زكاة الرجل الواحد إلى جميع الأصناف، بل لو أوصلها إلى رجل واحد.. أجزأ، ولكن على الإمام أن يساوي بين الأصناف فيما يعطيهم من زكاة الرعية كلها.

مسألة: سهم اليتامى

[مسألة: سهم اليتامى] وأمَّا سهم اليتامى: فإنه يصرف إلى كل صغير لا أب له إذا كان محتاجًا؛ لأن اليتيم من بني آدم من فقد الأب، والبالغ لا يسمى يتيمًا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد الحلم» وهل يدخل فيه الصغير الذي لا أب له إذا كان غنيًا؟ فيه وجهان: أحدهما: يدخل فيه؛ لأن اليتم في بني آدم: فقد الأب، وذلك يقع على الغني والفقير. والثاني: لا يدخل فيه؛ لأن غناه بالمال أكثر من غناه بالأب. إذا ثبت هذا: فإن سهم اليتامى يصرف إلى القاصي والداني من اليتامى في جميع الأقاليم على المنصوص، ولكن لا يكلف الإمام النقل من إقليم إلى إقليم، بل على ما ذكرناه في ذَوِي القربى. وعلى قول أبي إسحاق: يختص يتامى كل إقليم بما يحصل في مغزاهم. وهل يختص يتامى المرتزقة بهذا السهم؟ وفيه وجهان: [أحدهما] : قال القفال: يختصون به، كما يختص المرتزقة بأربعة أخماس الغنيمة. و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يختصون به؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [الأنفال: 41] [لأنفال: 41] ولم يفرق.

مسألة: سهم المساكين

[مسألة: سهم المساكين] وأما سهم المساكين: فإنه يصرف إلى الفقراء والمساكين؛ لأنهما متقاربان في المعنى، فمتى ذكر أحدهما.. تناولهما، وإن ذكرا معًا.. قسم بينهما. ويصرف هذا السهم إلى الفقراء والمساكين في جميع الأقاليم، ولكن لا يكلف الإمام النقل من إقليم إلى إقليم، بل بالحساب على المنصوص. وعلى قول أبي إسحاق: يختص مساكين كل إقليم وفقراؤه بما يحصل من هذا السهم في مغزاهم. وقال أبُو عليّ في " الإفصاح ": إن اتسع سهم اليتامى والمساكين لجميع يتامى البلدان ومساكينهم، وإلا.. فرق على حسب الإمكان. [مسألة: سهم ابن السبيل] وأمَّا سهم ابن السبيل: فهو لكل مسافر أو منشئ للسفر وهو محتاج، على ما مَضَى في الزكاة. ولا يفضل سهم على سهم، كما قلنا في سهام الأصناف في الصدقات. ويقسم سهم اليتامى والمساكين وأبناء السبيل على جميع الصنف على قدر حاجاتهم، على ما ذكرناه في الصدقات. ولا يجوز دفع شيء من الخمس إلى كافر من جميع الأصناف؛ لأنه عطية من الله، فلم يكن للكافر فيها حق، كالزكاة. والله أعلم

باب الفيء

[باب الفيء] الفيء: هو المال الذي يأخذه المسلمون من الكفار بغير قتال، سمي بذلك؛ لأنه يرجع من المشركين إلى المسلمين. يقال: فاء الفيء: إذا رجع، و: فاء فلان: إذا رجع. والفيء ينقسم قسمين: أحدهما: أن يتخلى الكفار عن أوطانهم خوفًا من المسلمين، ويتركوا فيها أموالًا فيأخذها المسلمون، أو يبذلوا أموالًا للكف عنهم.. فهذا يخمس ويصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة على ما مَضَى. والثاني: الجزية التي تؤخذ من أهل الذمة، وعشور تجارة أهل الحرب إذا دخلوا دار الإسلام، ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له، ومال من مات أو قتل على الردة.. ففي هذا قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (لا يخمس؛ لأنه مال مأخوذ من غير قتال، فلم يخمس، كالمال المأخوذ منهم بالبيع) . و [الثاني] : قال في الجديد: (يخمس) ، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] الآية [الحشر: 7] وأراد به الخمس؛ لأنها نزلت في أموال بني النضير، وإنما كانت لرسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وأمَّا أربعة أخماس الفيء: فقد كان للنَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في حياته، ينفق منها على أهله سنة، وما بقي يصرفه في السلاح والكراع عدة في سبيل الله. والدليل عليه: ما رَوَى [مالك بن أوس بن الحدثان] قال: (اختصم عليّ والعباس في أموال بني النضير إلى عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال عمر: إن أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله خاصة مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ينفق منها على أهله وعياله سنة، وما بقي يصرفه في الكراع والسلاح، فتوفي رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوليها أبُو بكر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بمثل ذلك) . وكان هذا القول بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد، فدلَّ على: أنه إجماع. إذا ثبت هذا: فما كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في حياته من الفيء والغنيمة.. لا ينتقل إلى ورثته، وكذلك جميع الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لا يورثون. قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولم أعلم أن أحدًا من أهل العلم قال: إن ذلك لورثتهم) . وذهب قوم لا يعتد بخلافهم ـ وهم الشيعة وأتباعهم ـ إلى: أن الأنبياء، صَلَّى الله

عليهم وسَلَّم، يورثون، وأن نبينا، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورثته ابنته فاطمة وحجبت العباس. دليلنا: ما ذكرناه من حديث عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ورُوِي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقسم ورثتي من بعدى دينارًا. ما تركته بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي.. فهو صدقة ألا إن الأنبياء لا يورثون» . قال الشيخ أبُو حامد: ومعنى قوله هاهنا (عاملي) أي: مؤنة تجهيزي. وفيما يفعل بأربعة أخماس الفيء بعد موت النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وموت زوجاته قولان: أحدهما: أنه يصرف إلى المرتزقة، ويسمون أهل الديوان، وهم المرابطون للثغور، المقيمون فيها، دون الذين يغزون إذا نشطوا؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان يستحق ذلك؛ لما ألقى الله به في قلوب الكفار من الرعب والهيبة، وهذا المعنى بعد موته لا يوجد إلا في المرتزقة، فوجب أن يكون لهم. والثاني: أنه يصرف إلى جميع مصالح المسلمين؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان يستحقه في حياته لفضيلته وشرفه، وهذا لا يوجد في غيره بعد موته، فوجب أن يصرف إلى المصالح، كما قلنا في سهمه من الخمس: وحكى المسعوديُّ [في " الإبانة "] قولًا ثالثًا: أن جميع الفيء يصرف إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] الآية [الحشر: 7] . وهذا ليس بشيء؛ لأن المراد بالآية في الفيء: الخمس منه؛ بدليل: ما ذكرناه من إجماع الصحابة فيه. فإذا قلنا: إنها تكون للمرتزقة.. فإنه يصرف جميعه إليهم، ولا يصرف ما زاد على كفايتهم منه إلى غيرهم.

مسألة: وضع سجل بأسماء الغزاة ورواتبهم وعريف على كل طائفة

وإن قلنا: إنه يصرف إلى مصالح المسلمين.. فإنه يبتدئ بالأهم فالأهم، والأهم هو أرزاق المقاتلة، فيصرف إليهم منه قدر كفايتهم، وما زاد على قدر كفايتهم.. يصرف في أرزاق القضاة وبناء القناطر والمساجد وما أشبهها. [مسألة: وضع سجل بأسماء الغزاة ورواتبهم وعريف على كل طائفة] ويكون العطاء مرة في السنة] : وينبغي للإمام أن يضع ديوانًا ـ وهو دفتر فيه أسماء المقاتلة، وقدر أرزاقهم لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كان له ديوان فيه أسماء المقاتلة) . ويستحب أن يجعل على كل طائفة من المقاتلة عريفًا يستدعيهم للغزو ويقبض أرزاقهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

فرع: يبدأ بالعطاء بأقارب المصطفى صلى الله عليه وسلم

{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] [الحجرات: 13] ولـ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل على كل عشرة يوم حنين عريفًا» . ويجعل الإمام العطاء في السنة مرة أو مرتين؛ لأنه يشق العطاء في كل أسبوع أو في كل شهر. [فرع: يبدأ بالعطاء بأقارب المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] َ -، ويقدر العطاء على حسب كفايتهم] : إذا أراد الإمام وضع الديوان وإعطاء مال الفيء.. فإنه يبدأ بقريش قبل سائر الناس؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قدموا قريشًا ولا تتقدموها» ، ولما رَوَى أبُو هُرَيرَة، قال: (قدمت إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، من عند أبي موسى الأشعري بثمانمائة ألف درهم، فلما صَلَّى الصبح.. اجتمع إليه نفر من أصحاب النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لهم: قد جاء الناس مال لهم لم يأتهم مثله منذ كان الإسلام، أشيروا علي بمن أبدأ؟ فقالوا: بك يا أمير المؤمنين؛ إنك ولي ذلك، فقال لا، ولكن أبدأ برسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأقرب فالأقرب. فوضع الديوان على ذلك) . ومعنى قولهم: (بك يا أمير المؤمنين) أي بقرابتك. ومعنى قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أبدأ برسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أي بقرابته. ويقدم بني هاشم وبني المطلب على سائر قبائل قريش؛ لأن بني هاشم بنو أجداد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبني المطلب بنو أعمامه. ولا يقدم هاشمي على مطلبي، ولا مطلبي على هاشمي إلا بالسن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد» . ورُوِي: (أن عمر لما أراد قسمة المال قال: أبدأ ببني هاشم، ثم قال: حضرت رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يعطيهم وبني المطلب، فإذا كان السن في الهاشمي.. قدمه على المطلبي.. وإذا كان في المطلبي.. قدمه على الهاشمي) . فوضع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

الديوان على ذلك، وأعطاهم عطاء القبيلة الواحدة. ثم يعطي بعد بني هاشم وبني المطلب بني عبد شمس ـ وهم بنو أمية ـ ويقدمهم على بني نوفل؛ لأن عبد شمس أخو هاشم والمطلب لأب وأم، ونوفلًا أخوهم لأب لا غير. ثم يعطي بني عبد العزى وبني عبد الدار، ويقدم بني عبد العزى على بني عبد الدار؛ لأن خديجة زوج النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بني أسد بن عبد العزى. ولأن فيهم حلف المطيبين وحلف الفضول: وهم قوم اجتمعوا في الجاهلية، فتحالفوا على: أن يدفعوا الظالم وينصروا المظلوم، وقالوا: إن بيتنا هذا يقصده الناس من الآفاق فأخرجوا من طيب أموالكم وأعدوه لأضيافكم.

وروت عائشة: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «شهدت حلف الفضول، ولو دعيت إليه لأجبت» . واختلف الناس: لم سمي حلف المطيبين؟ فقال بعضهم: إنما سموا بذلك؛ لأنهم أخرجوا من طيب أموالهم ما أعدوه للضيف. وقال بعضهم: إنما سموا بذلك؛ لأن عاتكة بنت عبد المطلب أخرجت قدحًا فيه طيب فطيبتهم به. واختلفوا: لما سمي حلف الفضول؟ فقال بعضهم: إنما سموا بذلك؛ لأنهم أخرجوا ما أعدوه للضيف من فضول أموالهم. وقال بعضهم إنما سموا بذلك؛ لأنه كان فيهم جماعة اسمهم فضل. وقال بعضهم: بل اجتمع فيهم فضل وفضيل وفضالة. ثم يعطي الأقرب فالأقرب، حتى يستكمل سائر قبائل قريش، فإن استوى اثنان في درجة واحدة في النسب.. قدم أسنهمًا؛ لما ذكرناه في حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، في بني هاشم وبني المطلب. فإن استويا في السن.. قدم أقدمهما هجرة وسابقة إلى الإسلام. فإذا انقضت قريش.. قدم الأنصار على غيرهم من العرب؛ لأن لهم الآثار الحميدة في الإسلام؛ لأنهم آووا النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونصروه وآثروه وأصحابه على أنفسهم في المنازل والأموال. ثم يعطي سائر قبائل العرب قبل العجم، ولا يقدم أحدًا منهم على غيره إلا بالسن والسابقة إلى الإسلام. ثم يعطي العجم بعدهم، ولا يقدم أحدًا على أحد إلا بالسن والسابقة إلى الإسلام والهجرة، وهذا التقديم إنما هو في بداية العطاء.

فرع: لا يمنح عبد وغيره ممن لا يجب عليهم القتال

فأما قدر العطاء: فإن الإمام يتعرف عيال كل واحد منهم وأسعار البلاد، ويعطي كل واحد منهم قدر كفايته، فإن استوى اثنان في قدر الكفاية.. لم يفضل أحدهما على الآخر بشرف ولا سابقة إلى الإسلام ولا هجرة؛ لما روي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لما ولي الخلافة.. سوى بين الناس في العطاء وأعطى العبيد، فقال له عمر: أتجعل من هاجر في سبيل الله كمن دخل في الإسلام كرهًا؟ فقال أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنما عملوا لله، وأجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ، فلما ولي عمر الخلاقة.. فاضل بين الناس وأعطى العبيد، ولما أفضت الخلافة بعد عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه إلى علي سوى بين الناس وأسقط العبيد) ، فاختار الشافعي، مذهب عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن العطاء إنما هو لأنهم أرصدوا أنفسهم للجهاد وهم متساوون في ذلك فوجب أن يساوي بينهم. [فرع: لا يمنح عبد وغيره ممن لا يجب عليهم القتال] ] : ولا يعطى من الفيء عبد. وبه قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال أبُو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (يعطى العبيد الذين يشتغلون بالجهاد ويخدمون السادة فيما يتعلق بالقتال) . دليلنا: أن العبد ليس من أهل القتال، بدليل: أنه لا يتعين عليه القتال وإن حضر الصف.

فرع: المرض الذي يصيب بعض المقاتلة ولا يرجى زواله

ولا يعطى من الفيء صبي، ولا مجنون، ولا امرأة، ولا ضعيف لا يقدر على الجهاد؛ لأنه ليس من أهل القتال. قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وهل يجب تمليك زوجات المرتزقة وأهليهم ما يخصهم؟ فيه قولان: أحدهما: يجب، كما يجب تمليك المرتزقة. والثاني: لا يجب؛ لأنهم أتباع المرتزقة. [فرع: المرض الذي يصيب بعض المقاتلة ولا يرجى زواله] يسقط الحق من الفيء] : وإن مرض بعض المقاتلة، فإن كان مرضًا يرجى زواله وإن طال.. فإن حقه لا يسقط من الفيء، بل يعطى كما كان يعطى قبل المرض؛ لأن الإنسان لا يخلو في الغالب من المرض. فلو قلنا: إن حقه يسقط بالمرض.. أدى إلى الضرر. وإن كان مرضًا لا يرجى زواله، كالفالج والزمانة.. سقط حقه؛ لأنه قد خرج عن أن يكون من المقاتلة بحال، فيصير كالذرية. [فرع: موت فرد من المرتزقة وقد خلف ذرية] وإن مات أحد المرتزقة وخلف زوجة وأولادًا صغارًا.. فهل يعطون بعد موته؟ فيه قولان: أحدهما: لا يعطون؛ لأنهم إنما أعطوا في حياته تبعًا له، فإذا مات المتبوع.. سقط التابع. والثاني: أنهم يعطون. قال أصحابنا البغداديون: لأن في ذلك مصلحة للجهاد؛ لأن المجاهد: متى علم أن ذريته وزوجته يعطون بعد موته.. اشتغل بالجهاد، ومتى علم أنهم لا يعطون بعد موته.. اشتغل بالكسب لهم، فيتعطل الجهاد.

مسألة: إعطاء الورثة من الفيء باعتبار القسمة والحول

وقال الخراسانيون: العلة فيه: أن الصغير لعله إذا بلغ.. أثبت اسمه في ديوان المرتزقة. فعلى علة البغداديين: تعطى الذرية، ذكورًا كانوا أو إناثًا. فإن كانوا ذكورًا.. أعطوا إلى أن يبلغوا، فإذا بلغوا وكانوا يصلحون للجهاد.. قيل لهم: أنتم بالخيار: بين أن تثبتوا أنفسكم في ديوان المرتزقة وتأخذوا كفايتكم من الفيء، وبين أن لا تثبتوا أنفسكم في ديوان المرتزقة بل تكونوا من أهل الصدقات الذين إذا نشطوا.. غزو، فتكون كفايتكم في الصدقة. وإن بلغوا زمنى أو عميًا.. أعطوا الكفاية من الفيء؛ لأنهم لا يصلحون للجهاد. وإن كانت الذرية إناثًا.. فإنهن يعطين الكفاية إلى أن يبلغن ويتزوجن، أو يكون لهن كسب يستغنين به. وأمَّا الزوجة: فإنها تعطى إلى أن تتزوج. وإن كانت الذرية خنثى مشكلًا.. فعلى علة أصحابنا البغداديين هو كالبنت، وعلى علة الخراسانيين: هل يعطى بعد موت أبيه؟ فيه وجهان خرجهما القاضي أبُو الفتوح: أحدهما: لا يعطى شيئًا؛ لأنه لا يتوهم إثبات اسمه؛ لأنه ليس من أهل القتال. والثاني: يعطى؛ لجواز أن يزول إشكاله ويثبت اسمه. وعلة البغداديين: أصح؛ لأنها تجمع الذرية من الذكور والإناث. وعلة الخراسانيين تختص بالذرية من الرجال. [مسألة: إعطاء الورثة من الفيء باعتبار القسمة والحول] ] : قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإذا صار مال الفيء إلى الوالي، ثم مات رجل قبل أن يأخذ عطاءه.. أعطيته ورثته. وإذا مات قبل أن يصير إليه المال ذلك العام.. لم يعطه ورثته) .

واختلف أصحابنا فيه. فقال الشيخ أبُو حامد، وأكثر أصحابنا: إذا مات رجل من المرتزقة بعد حؤول الحول.. وجب صرف نصيبه إلى ورثته؛ لأنه مات بعد وجوب القسمة، وسواء حصل في يد الإمام أو لم يحصل في يد الإمام، لأن أهل الفيء معينون معلومون. وإن مات قبل حلول الحول.. لم يجب صرف نصيبه إلى ورثته؛ لأنه مات قبل أن يستحق نصيبه، وقول الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إذا صار مال الفيء إلى الوالي) أراد: إذا استحقه في يد الوالي. وقال القاضي أبُو الطيب: بل هي على ظاهرها. فإذا مات رجل من المرتزقة بعد أن صار مال الفيء في يد الوالي.. دفع عطاؤه إلى ورثته، وإن مات قبل أن يصير في يده.. لم يدفع. هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: إن مات بعد جمع المال وبعد الحول.. وجب دفع نصيبه إلى ورثته. وإن مات قبل الحول وقبل جمع المال.. فلا حق له. وإن مات بعد جمع المال وقبل حؤول الحول.. ففيه قولان: أحدهما: لا شيء له؛ لأن الاعتبار بحؤول الحول كالزكاة، ولم يعش إلى ذلك الوقت. والثاني: يعطى وارثه بقدر ما مَضَى من الحول؛ لأن المال قد جمع وقد حصل من المجاهد الجهاد بما مَضَى من الحول. وهذان القولان مأخوذان من القولين في الذمي إذا مات أو أسلم في أثناء الحول.. فهل تؤخذ منه الجزية لما مَضَى من الحول؟

فرع: طلب التطوع في المرتزقة

[فرع: طلب التطوع في المرتزقة] قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : لو جاء رجل وطلب إثبات اسمه في ديوان المرتزقة، فإن كان غناء في القتال، وفي المال سعة.. أثبت الإمام اسمه، وإلا.. لم يثبت اسمه. [مسألة: مصرف ما فضل من الفيء بعد العطاء] قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن فضل من الفيء شيء بعد ما وصفت من إعطاء العطاء.. وضعه الإمام في إصلاح الحصون والازدياد في الكراع والسلاح) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا: فمنهم من قال: هذا على القول الذي يقول: (إن أربعة أخماس الفيء للمقاتلة) . فعلى هذا: يعطيهم الإمام من الفيء أولًا كفايتهم، وما فضل عن كفايتهم.. فإنه يشتري به السلاح والكراع ويصلح به الحصون؛ لأن ذلك من مصالحهم ولا بد لهم منه، فإذا لم يفعله الإمام.. فعلوه من أموالهم، فإن فضل من الفيء شيء بعد ذلك.. صرفه إليهم على قدر كفايتهم. فأما على القول الذي يقول: (إنه للمصالح) .. فلا يزيدهم على قدر كفايتهم. ومنهم من قال: إنما قال هذا على القول الذي يقول: إن أربعة أخماس الفيء للمصالح. فعلى هذا: يبدأ بكفايتهم، فإن فضل منه فضل.. فإنه يصرف في سد الثغور، وشراء السلاح، والكراع وإصلاح الحصون. وأمَّا على القول الذي يقول: إن أربعة أخماس الفيء للمقاتلة.. فإن جميعه يصرف إليهم.

فرع: يعطى من الفيء أرزاق الحكام وولاة الصلاة والأحداث لأهل الفيء

قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن ضاق عن مبلغ العطاء.. فرقه بينهم بالغًا ما بلغ) . وأراد بذلك: إذا حصل في يد الإمام شيء من الفيء يضيق عن قدر كفايتهم.. فإنه يدفع لكل واحد منهم ما يخصه منه على قدر كفايته، ويتم له الباقي من بيت المال. [فرع: يعطى من الفيء أرزاق الحكام وولاة الصلاة والأحداث لأهل الفيء] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويعطى من الفيء أرزاق الحكام، وولاة الأحداث والصلاة لأهل الفيء، وكل من قام بأمر أهل الفيء ممن لا غنى لأهل الفيء عنه) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا: فمنهم من قال: هذا على القول الذي يقول: (إن أربعة أخماس الفيء للمصالح) .. فيبدأ بكفاية أهل الفيء، ثم يصرف الباقي في الكراع، والسلاح، وسد الثغور، وأرزاق الحكام. فأما على القول الذي يقول: (إنه للمقاتلة) . فإن جميعه يصرف إليهم. ومنهم من قال: هذا على القول الذي يقول: (إنه للمقاتلة) ؛ لأن حكام أهل الفيء ومن يصلي بهم وولاة أحداثهم ـ وهم من يلي مصالحهم منهم- فوجب أن يرزقوا من الفيء إذا لم يوجد من يتطوع لهذه الأمور. [فرع: كون الفيء مما لا ينقل] وإن كان في الفيء ما لا ينقل، كالأرض والدور.. فخمسه لأهل الخمس. وأمَّا أربعة أخماسه: فقد قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (تكون وقفًا للمسلمين، تستغل وتقسم عليهم في كل عام) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا: فمنهم من قال: هذا على القول الذي يقول: (إن أربعة أخماس الفيء تكون للمصالح) ؛ لأن المصلحة فيها أن تكون وقفا ًتستغل كل سنة. فأما على القول الذي يقول: (إن أربعة أخماس الفيء للغانمين) .. فلا تكون وقفًا، بل يجب قسمتها بين الغانمين ليتصرفوا فيها بما شاءوا، كأربعة أخماس الغنيمة.

ومنهم من قال: بل تصير وقفًا على القولين؛ لأنا إن قلنا: إنها للمصالح.. فالمصلحة فيها أن تكون وقفًا، وإن قلنا: إنها للمقاتلة.. فإنها تصير وقفًا ليصرف الإمام غلتها في مصالحهم. والفرق بينها وبين الغنيمة: أنه لا مدخل لاجتهاد الإمام في الغنيمة، ولهذا لا يجوز أن يفضل بعضهم على بعض في الغنيمة، ولاجتهاده مدخل الفيء؛ ولهذا يجوز أن يفضل بعضهم على بعض في القسمة، فتحصل من هذا: أنا إذا قلنا: إنها للمصلحة.. كانت وقفًا وجهًا واحدًا، وإن قلنا: إنها للمقاتلة.. فهل تصير وقفًا؟ فيه وجهان: وأمَّا خمس الأرض: فإن سهم المصالح، وسهم اليتامى، وسهم المساكين، وسهم ابن السبيل، يكون وقفًا وجهًا واحدًا، وفي سهم ذَوِي القربى وجهان. وكل موضع قلنا: يكون وقفًا.. فهل يفتقر إلى تلفظ الإمام بالوقف؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصبَّاغ: أحدهما: يفتقر إلى ذلك، كسائر الوقوف. والثاني: لا يفتقر إلى ذلك؛ لأن وقفه وجب بالشَّرعِ، فلم يحتج إلى اللفظ به، كما أنه لو وجب رق النساء والصبيان من أهل الحرب.. لم يحتج إلى لفظ الإمام باسترقاقهم، فهذا مثلها. إذا ثبت هذا: فروى الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (ما من أحد إلا وله في هذا المال حق أعطيه أو منعه إلا ما ملكت أيمانكم) . فتأوله أصحابنا ثلاثة تأويلات:

أحدها: أنه أراد به المحتاجين لا الأغنياء. الثاني: أنه أراد به المحتاجين والأغنياء؛ لأن ما يأخذه المجاهدون من المال ينتفع به الأغنياء؛ لأنهم يسقطون الجهاد عنهم لقيامهم به. والثالث: أنه أراد ما من أحد إلا وله في بيت المال حق، فللفقراء حق في الصدقات، وللأغنياء حق في الفيء يأخذونه إذا كانوا مرابطين، وإن لم يكونوا مرابطين.. أخذوه من سهم الغزاة. وبالله التوفيق

باب الجزية

[باب الجزية] الكفار على ثلاثة أضرب: ضرب: لهم كتاب ـ وهم اليهود والنصارى ـ فيجوز إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم. وضرب: لهم شبهة كتاب ـ وهم المجوس ـ فيجوز إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم أيضًا. وضرب: لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب ـ وهم عَبَدَة الأوثان ـ فلا يجوز إقرارهم على دينهم ببذل الجزية. وقال مالك: (تؤخذ الجزية من كل مشرك إلا مشركي قريش؛ لأنهم ارتدوا بعد أن أسلموا) .

وقال أبو حَنِيفَة: (تؤخذ الجزية من كل مشرك إلا من عَبَدَة الأوثان من العرب، فلا تؤخذ منهم الجزية) . وقال أبُو يوسف: لا تؤخذ الجزية من العرب، سواء كانوا من أهل الكتاب، أو من عَبَدَة الأوثان. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يبذلوا الجزية، ولم يفرق. والدليل على: أن الجزية تؤخذ من المجوس ما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من مجوس هجر البحرين» ورُوِي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - توقف في أخذ الجزية منهم، فقال له عبد الرحمن بن عوف: «شهدت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من مجوس هجر وقال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب» . إذا ثبت هذا: فإن كتاب اليهود التوراة، وكتاب النصارى الإنجيل، وأمَّا المجوس: فلا خلاف أنه ليس لهم كتاب اليوم، وهل كان لهم كتاب؟ فيه قولان:

أحدهما: أنه لم يكن لهم كتاب ـ وبه قال أبو حَنِيفَة ـ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] [الأنعام: 156] ، ولما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كتب إلى قيصر، كتب إليه: (من محمد بن عبد الله إلى عظيم الروم {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ} [آل عمران: 64] الآية [آل عمران: 64] . ولما كتب إلى كسرى كتب إليه: (من محمد بن عبد الله إلى كسرى) . ولم يخاطبهم بأنهم أهل كتاب، وهم مجوس، فدلَّ على أنهم لا كتاب لهم. والثاني: أنهم كان لهم كتاب، وهو الأصح؛ لما رُوِيَ عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (أنا أعلم من على وجه الأرض بأمر المجوس، كان لهم علم يعلمونه، وكتاب يدرسونه، وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته، فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فجاءوا ليقيموا عليه الحد، فامتنع، ودعا أهل مملكته، وقال: ما أعلم دينًا خيرًا من دين آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقد أنكح بناته بنيه، وأنا على دينه، فبايعه قوم، وقاتل الذين يخالفون حتى قتلهم، فأصبح وقد أسري بكتابهم ومحي العلم من صدورهم فأصبحوا أميين) . وأمَّا الآية: فلا تدل على أنه لم ينزل الكتاب على غير اليهود والنصارى، لأن الله تَعالَى قال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} [الأعلى: 18] [الأعلى: 18] ولقوله تَعالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] [الشعراء: 196] وأمَّا كتاب النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلأن الروم كان لهم كتاب موجود؛ فلذلك خاطبهم به، والمجوس ليس لهم كتاب موجود، فلذلك لم يخاطبهم به.

مسألة: تؤخذ الجزية من نسل الكتابيين

[مسألة: تؤخذ الجزية من نسل الكتابيين] ] : ويجوز أخذ الجزية من أولاد من له كتاب أو شبهة كتاب، ومن نسلهم أبدًا، سواء بدلوا أو لم يبدلوا، أو غيروا أو لم يغيروا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] . فأمر الله النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أن يقاتلوا أهل الكتاب إلى أن يبذلوا الجزية، ومعلوم: أن الكفار الذين أنزل عليهم الكتاب لم يدركهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما أدرك نسلهم، فثبت: أن الآية تناولت نسلهم ولم يفرق، ولأن لهم حرمة بآبائهم، فجاز إقرارهم ببذل الجزية. هذا الكلام في أولاد إسرائيل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأما من دخل في دين أهل الكتاب بعد أن لم يكن منهم، مثل عَبَدَة الأوثان من العرب.. فينظر فيه: فإن دخل معهم قبل نسخ الدين الذي دخل فيه بشريعة بعده، فإن دخل معهم قبل أن يبدلوا.. كان حكمه وحكم نسله حكمهم. وقال أبُو يوسف: لا تؤخذ منهم الجزية. دليلنا: ما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث خالدًا، فأغار على دومة الجندل، وأخذ أكيدر بن حسان رجلًا من كندة أو غسان، فصالحه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بذل الجزية» . وروي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذًا إلى اليمن، فأخذ منهم الجزية وعامتهم عرب» ، و «صالح أهل نجران على بذل الجزية وهم عرب» .

وإن دخل في دينهم بعد تبديله.. نظرت: فإن دخل في دين من لم يبدل.. فحكمه وحكم أولاده حكمهم. وإن دخل في دين من بدَّل منهم.. لم تؤخذ منه ولا من أولاده الجزية؛ لأنه لم تلحقه فضيلة الكتاب ولا حرمة لآبائه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا. وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : هل تؤخذ الجزية من أولاده؟ فيه قولان، بناءً على القولين في أولاد المرتدين: هل تؤخذ منهم الجزية؟ وإن دخل في دينهم بعد أن نسخ بشريعة بعده.. لم يقر على دينه ببذل الجزية. وقال المزني: يقر ببذل الجزية، وكذلك قال: تؤخذ ممن دخل في دين من بدَّل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] [المائدة: 51] . ودليلنا: أنه دخل في دين باطل، فلم تؤخذ منه الجزية، كالمسلم إذا ارتد. وأمَّا الآية: فالمراد بها في الكفر والإثم. وإن دخل داخل في دينهم بعد التبديل، ولم يعلم: هل دخل في دين من بدَّل منهم أو في دين من لم يبدل، أو لم يعلم: هل دخل في دينهم قبل نسخه أو بعد نسخه، كنصارى العرب وهم: بهراء وتنوخ وتغلب.. أقروا على دينهم بالجزية تغليبًا لحقن دمائهم، ولم تحل مناكحتهم ولا ذبائحهم للمسلمين تغليبًا للحظر؛ لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذ الجزية من نصارى العرب وحرم على المسلمين مناكحتهم وذبائحهم) .

فرع: المتمسكون بالصحف الأولى قبل التوراة وفرقتا السامرة والصابئين

[فرع: المتمسكون بالصحف الأولى قبل التوراة وفرقتا السامرة والصابئين] واختلف أصحابنا في المتمسكين بصحف آدم وإبراهيم وإدريس، وزبور داود: فمنهم من قال لا يقرون ببذل الجزية، ولا تحل مناكحتهم ولا ذبائحهم، واختلف هؤلاء في تعليله. فمنهم من قال لأن كتبهم ليست بكلام الله منزل، وإنما هي بعض أحكام أنزلت بالوحي، ومثل هذا موجود في شرعنا مثل ما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أتاني جبريل وأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية» . ومنهم من قال: كانت كلامًا لله، ولكن كانت مواعظ ولم تكن أحكامًا، فلم تكن لها حرمة الكتب المنزلة. وقال أبُو إسحاق: يقرون ببذل الجزية وتحل مناكحتهم وذبائحهم؛ بقوله تَعالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] إلى قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] ولم يفرق. ولأن المجوس يقرون ببذل الجزية ولهم شبهة كتاب.. فلأن يقر هؤلاء ولهم كتاب موجود أولى. وأمَّا السامرة والصابئون: فقطع الشافعي، في موضع: (أن السامرة من اليهود، وأن الصابئين من النصارى) ، وتوقف في حكمهم في موضع آخر، وقال: (إن كانوا يوافقونهم في أصول دينهم.. فهم منهم، وإن خالفوهم في الفروع، أو خالفوهم في أصول دينهم.. فليسوا منهم) . فقال أكثر أصحابنا: إنما توقف الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في حكمهم؛ لأنه لم يكن يعرف مذهبهم، ثم اتضح له مذهبهم، وأنهم يوافقونهم في أصول دينهم، وأنهم أهل كتاب.

فرع: لا تعقد الذمة للكبير بعد النسخ وتعقد للصغير

وقال أكثر المتكلمين: إنهم يخالفونهم في أصول دينهم، ويقولون: الفلك حي ناطق مدبر، والكواكب السبعة آلهة. وبه قال أبُو سعيد الإصطخري؛ فإنه أفتى القاهر بالله بقتلهم، فضمنوا له مالًا، فتركهم. ومن كان أحد أبويه وثنيًا والآخر كتابيًا.. فقد مَضَى بيان حكمه في (النكاح) . [فرع: لا تعقد الذمة للكبير بعد النسخ وتعقد للصغير] وماذا لو غزا الإمام قومًا لا يعرفهم؟] : قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إذا مات كتابي وخلف ابنين؛ أحدهما كبير لا يدين بدين أهل الكتاب، والآخر صغير، ثم لما نزل القرآن دخل الكبير في دين أهل الكتاب.. لم يقر عليه ولم تؤخذ منه الجزية؛ لأنه دخل في دين أهل الكتاب بعد النسخ. فإن بلغ الصغير وأظهر دين أهل الكتاب.. أقر عليه وأخذت منه الجزية؛ لأنه تابع لأبيه في الدين) . وإن غزا الإمام قومًا من المشركين لا يعرف دينهم، وادعوا أنهم من أهل الكتاب من بني إسرائيل، وأن آباءهم دخلوا في دين أهل الكتاب قبل نسخه، أو دخلوا في دين غير مبدل.. أقرهم وأخذ منهم الجزية؛ لأنه لا يعرف دينهم إلا من جهتهم. فإن رجعوا كلهم وقالوا: لسنا من أهل الكتاب، أو دخل آباؤنا في دين منسوخ أو مبدل، أو أسلم اثنان منهم وعدلًا وشهدا بذلك.. نبذ إليهم عهدهم وصاروا حربًا لنا. وإن رجع بعضهم دون بعض.. نبذ العهد إلى من رجع دون من لم يرجع. فإن شهد بعضهم على بعض بذلك.. لم تقبل شهادتهم؛ لأن شهادتهم غير مقبولة قبل إسلامهم. [مسألة: أقل الجزية] وأقل ما يقبل من الذمي دينار في كل سنة، فإن لم يبذل إلا دينارًا في كل سنة قبل منه، غنيًا كان أو فقيرًا.

وقال أبو حَنِيفَة: (يجب على الغني في كل سنة ثمانية وأربعون درهمًا، من صرف اثني عشر بدينار فيكون عليه أربعة دنانير، وعلى المتوسط أربعة وعشرون درهمًا وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر درهمًا) . وقال مالك: (إن كان من أهل الذهب.. فالواجب عليه في كل سنة أربعة دنانير. وإن كان من أهل الورق.. فالواجب عليه في كل سنة ثمانية وأربعون درهمًا) . وقال الثوريُّ: الجزية ليست بمقدرة، وإنما الواجب ما رآه الإمام باجتهاده من قليل أو كثير. دليلنا: ما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذًا إلى اليمن، وقال: «خذ من كل حالم دينارًا، أو عدله معافريا» . ورَوَى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب من كل حالم دينارًا أو عدله معافريا» . والمعافري: ثوب منسوب إلى المعافر. ولم يفرق بين الغني والفقير والمتوسط. إذا ثبت هذا: فإن المستحب للإمام أن لا يخبر الذمي: أن أقل الواجب عليه دينار، بل يماكسه ليزيد عليه، ويجعل الجزية عليهم على ثلاث طبقات: على الفقير المعتمل دينار، وعلى المتوسط ديناران، وعلى الغني أربعة دنانير، لما رُوِيَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه صالح أهل الشام على أن يأخذ من الغني ثمانية وأربعين درهمًا، ومن المتوسط أربعة وعشرين درهمًا، وممن دونه دينارًا) . ولأنه يخرج بذلك من الخلاف لأبي حَنِيفَة. وإن التزم رجل منهم أكثر من دينار.. لزمه، فإن امتنع بعد ذلك من التزام ما زاد

فرع: امتناع أهل الكتاب من اسم الجزية وطلب أخذها باسم الصدقة

على الدينار.. أجبر عليه إلا أن يلحق بأهل الحرب ويمتنع، ثم يبذل الدينار، فإنه يجب قبوله. [فرع: امتناع أهل الكتاب من اسم الجزية وطلب أخذها باسم الصدقة] وإن امتنع قوم من أهل الكتاب من أداء الجزية باسم الجزية.، وطلبوا أن تؤخذ منهم الجزية باسم الصدقة، وتؤخذ منهم مثلي ما يؤخذ من المسلمين، ورأى الإمام أن يصالحهم على ذلك.. جاز؛ لما رُوِيَ: (أن ثلاث قبائل من العرب، وهم: تنوخ وبهراء وبنو تغلب دانوا بدين النصارى، وأشكل أمرهم: هل دخلوا في النصرانية قبل التبديل أو بعده؟ فأقرهم عمر على دينهم، وطلب أن يأخذ منهم الجزية، فامتنعوا وقالوا: نحن عرب لا نؤدي الجزية كما تؤدي العجم ولكن خذها منا باسم الصدقة كما تأخذ من العرب، فامتنع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن ذلك وقال: الصدقة على المسلمين، ولا أقركم إلا بالجزية، فقالوا: خذ منا ضعف ما تأخذه من المسلمين، فامتنع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ففروا من ذلك ولحق بعضهم بالروم، فقال له النعمان بن زرعة ـ أو زرعة بن النعمان ـ: يا أمير المؤمنين، إن فيهم بأسا وشدة، وإنهم عرب يأنفون من الجزية، فلا تعن عدوك عليك بهم، فخذ منهم الجزية باسم الصدقة، فبعث إليهم عمر وردهم وأضعف عليهم الصدقة) . قال المسعوديُّ: [في " الإبانة "] : ولو استصوب الإمام أن يضرب عليهم نصف الصدقة.. جاز. فإن صالحهم على أن يأخذ منهم الجزية باسم الصدقة، وكان لصبي من أهل الذمة أو لامرأة منهم مال يبلغ النِّصَاب.. لم تؤخذ منهما. وقال أبُو حَنِيفَة: (تؤخذ منهما) .

دليلنا: أنها جزية في الحقيقة، ولا صدقة ولا جزية عليهما. وإن أضعف الصدقة.. فإنه يأخذ من كل خمس من الإبل شاتين، ومن خمس وعشرين من الإبل ابنتي مخاض، ولا يأخذ منها حقة كما لو كانت خمسين. وإن ملك رجل منهم عشرين من الغنم، أو بعيرين ونصفا.. فهل يؤخذ منه شيء؟ فيه قولان حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] : أحدهما: لا يؤخذ منه شيء؛ لأن ما يؤخذ منه إنما يؤخذ باسم الصدقة، والصدقة لا تؤخذ إلا من نصاب. والثاني: يؤخذ منه ما يؤخذ من النِّصَاب؛ لأن من ملك ما تجب فيه الشاة من الإبل.. أخذت منه، كالمسلم إذا ملك خمسا من الإبل. وإن وجبت عليه حقتان فلم يوجدا معه.. أخذ منه ابنتا لبون، وهل يضعف عليه الجبران؟ فيه قولان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] : أحدهما: يضعف عليه، فيؤخذ منه ثماني شياه، كما تضعف الصدقة. والثاني: لا يضعف؛ لأن هذا تضعيف التضعيف، وذلك أنا ضعفنا حتى إذا أخذنا مكان الحقة حقتين، ثم إذا انتقلنا إلى ابنتي لبون فأخذنا منه مع ابنتي لبون أربع شياه.. فهذا جبران مضاعف، ولولا التضعيف.. لأخذنا منه شاتين كما يؤخذ من المسلم. وما يؤخذ منهم باسم الصدقة.. يصرف مصرف الفيء لا مصرف الصدقة؛ لأنه جزية في الحقيقة؛ ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فرض الله الصدقة على المسلمين، والجزية على المشركين) وقال عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا آخذ من مشرك صدقة) . فإن بلغ ما يؤخذ منهم باسم الصدقة دينارين أو أكثر، فطلبوا أن يؤخذ منهم من كل واحد منهم دينار باسم الجزية.. وجب حط ما زاد على الدينار وأخذ الدينار؛ لأن الزيادة على الدينار لتغير الاسم، وقد رضوا باسم الجزية.

فرع: لا يصح أخذ الجزية باسم الصدقة بأقل من دينار

[فرع: لا يصح أخذ الجزية باسم الصدقة بأقل من دينار] وماذا لو حصل بيع أرض؟] : وإذا صالحهم الإمام على أن يأخذ منهم الجزية باسم الصدقة.. فلا بد أن يكون ما يؤخذ من كل واحد منهم يبلغ دينارا؛ لأن أقل الجزية دينار. فإن شرط ذلك في العقد.. صح، وإن لم يشرط ذلك، ولكن غلب على ظن الإمام أن ما يؤخذ من كل واحد منهم لا ينقص عن دينار.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأن الظاهر أن الثمار والمواشي لا تختلف. والثاني: لا يصح؛ لأنه قد ينقص عن الدينار. واختلف أصحابنا في كيفية صلح عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لنصارى العرب على إضعاف الصدقة: فقال أبُو إسحاق: إنما صالحهم على ذلك؛ لأنه علم أن لهم أموالا ظاهرة من المواشي والزروع يحصل من زكاتها قدر الدينار وأكثر. ومنهم من قال: صالحهم على ذلك وشرط: إن بلغ ما يأخذه من كل واحد منهم باسم الصدقة قدر الدينار.. فلا كلام، وإلا وجب عليهم تمام الدينار. فإن ضرب الجزية على ما يخرج من الأرض من الزروع والثمار باسم الصدقة، فباع رجل منهم أرضه من مسلم أو ذمي.. صح البيع، فإن بقي مع البائع من الأموال الزكاتية ما يبلغ ما ضرب عليها من الجزية باسم الصدقة الدينار أو أكثر.. لم يطالب بأكثر من ذلك. وإن لم يبق له مال، أو بقي له مال لا يفي ما ضرب عليه بالدينار.. انتقلت الجزية إلى رقبته. وأمَّا الذي باعه إلى مسلم.. فلا يطالب بما ضرب على الأرض من الجزية؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الجزية» .

مسألة: وجوب الجزية في آخر الحول

وإن باعها من ذمي.. نظرت: فإن كان ممن وقع عقد الذمة معه على أن تؤخذ منه الجزية باسم الصدقة.. ازدادت جزيته لما اشتراه من أرض وماشية وما أشبهه، وكذلك لو اشترى شيئا من أموال الزكاة من مسلم أيضا. وإن وقع عقد الذمة معه بشيء يؤديه باسم الجزية.. لم تزدد جزيته بما اشتراه من المال من مسلم ولا ذمي؛ لأن جزيته على رقبته. [مسألة: وجوب الجزية في آخر الحول] وتجب الجزية في آخر الحول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارا في كل سنة» فإن مات الذمي أو أسلم بعد انقضاء الحول.. لم تسقط عنه الجزية. وقال أبُو حَنِيفَة: (تسقط) . دليلنا: أنه حق ثبت في الذمة، فلم يسقط بالموت والإسلام كالدين. وإن مات أو أسلم في أثناء الحول.. ففيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه شيء ـ وبه قال أبُو حَنِيفَة ـ لأنه حق يعتبر في وجوبه الحول، فلم يتعلق حكمه ببعض الحول، كالزكاة. والثاني: يجب عليه من الجزية بقدر ما مَضَى من الحول، وهو الأصح؛ لأنه حق يجب بالمساكنة، فوجب عليه بقدر ما سكن، كما لو استأجر دارا ليسكنها سنة، فسكنها بعض السنة وفسخت الإجارة. فإن مات وعليه ديون وجزية، وضاقت تركته عن الجميع.. فهو كما لو مات وعليه دين وزكاة.

مسألة: اشتراط الضيافة على أهل الذمة

[مسألة: اشتراط الضيافة على أهل الذمة] وإذا عقد الإمام الذمة لقوم.. جاز أن يشترط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح أهل أيلة على ثلاثمائة دينار وكانوا ثلاثمائة رجل، وعلى ضيافة من يمر بهم من المسلمين» . ورُوِي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وضع الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق ثمانية وأربعين درهما وضيافة ثلاثة أيام لكل من مر بهم من المسلمين) ، ولأن في ذلك مصلحة للغني والفقير من المسلمين. أما الغني: فلأنه إذا دخل إليهم.. فلا بد له من شيء يشتريه لقوته وقوت دوابه، فإذا لم يكن عليهم ضيافة.. ربما امتنعوا من البيع إليه للإضرار به، وإذا كانت عليهم الضيافة.. بادروا إلى البيع منه مخافة أن ينزل عليهم. وأمَّا الفقير: فإذا لم تكن عليهم ضيافة.. لا يطعمونه، فيهلك جوعا. إذا ثبت هذا: فإنما تكون الضيافة زيادة على أقل الجزية؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح أهل أيلة على ثلاثمائة دينار ـ وكانوا ثلاثمائة رجل ـ وضيافة من يمر بهم من المسلمين» ، ولأنا لو جعلنا الضيافة من الدينار.. لم يتحقق استيفاء الدينار منه؛ لأنه قد لا يمر به أحد من المسلمين. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: هل تحتسب الضيافة من الجزية؟ فيه وجهان:

أحدهما: تحتسب؛ إذ لا شيء عليهم سوى الجزية، والضيافة مال ينتفع به المسلمون. والثاني: لا تحتسب؛ لأن للجزية مصارف معلومة، وقد ينزل بهم من لا تصرف إليه الجزية. ولا يشترط عليهم الضيافة إلا برضاهم؛ لأنها زائدة على أخذ الجزية، فلا يلزمهم ذلك إلا برضاهم. ويشترط عليهم أن يكون عدد من يضاف من الفرسان والرجالة من المسلمين معلوما، وعدد أيام ما يضاف كل رجل من المسلمين معلوما، فيقال: يضاف المسلم يوما أو يومين أو ثلاثا. ولا تزاد ضيافة الواحد من المسلمين على ثلاثة أيام لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الضيافة ثلاثة أيام وما زاد.. فهو صدقة» ويشترط قدر الطعام والأدم لكل رجل من المسلمين. فيقال لكل رجل من المسلمين كذا وكذا رطلا من الخبز، وكذا وكذا رطلا من الأدم، ويكون ذلك من جنس طعامهم وإدامهم؛ لما رُوِيَ: أن أهل الشام من أهل الجزية أتوا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقالوا: إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم، فقال لهم عمر: (أطعموهم مما تأكلون ولا تزيدوهم على ذلك) .

ويذكر علف الدواب، تبنا أو شعيرا أو قتا، فإن أطلق ذكر العلف.. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (اقتضى التبن والحشيش؛ لأنه أقل العلف بالإطلاق) . ويجوز شرط الضيافة على الغني منهم والمتوسط، وأمَّا الفقير: فاختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخُ أبُو إسحاق: لا تشترط الضيافة عليه وإن كانت عليه الجزية؛ لأن الضيافة تتكرر، فلا يمكنه القيام بها. وقال الشيخُ أبُو حامد وبعض أصحابنا: يجوز شرطها على الفقير، كما يجوز شرطها على الغني والمتوسط، ولكن لا يساوي بينهم في عدد من يضيف كل واحد منهم من المسلمين، ولكن يجعل عدد من يضيفون على مراتب، كما قلنا في قدر جزيتهم، فإن شرط على الغني ضيافة عشرين.. كان على المتوسط ضيافة عشرة، وعلى الفقير ضيافة خمسة، ولكن يتساوون في جنس الطعام إلا إن كانوا يتساوون في قدر الجزية.. فإنهم يتساوون في عدد من يضيفونه. قال المسعودي [في " الإبانة "] : ولو حال الحول وقد بقي على واحد منهم شيء من الضيافة.. استوفي منه. إذا ثبت هذا: فإن وفوا بما شرط عليهم من الضيافة.. فقد أدوا ما عليهم. وإن امتنع بعضهم منها.. أجبره الإمام عليها. وإن امتنعوا كلهم وقاتلوا الإمام.. فقد نقضوا العهد والذمة، فإن طلبوا بعد ذلك أن تعقد لهم الذمة بأقل الجزية من غير ضيافة.. وجب العقد لهم بذلك، ولكن يلزمهم الوفاء بالضيافة إلى حين الامتناع؛ لأنه قد لزمهم بالالتزام الأول، وإنما يسقط عنهم بالامتناع الضيافة بعد الامتناع.

مسألة: لا يكلف الصبي بالجزية

[مسألة: لا يكلف الصبي بالجزية] ولا تؤخذ الجزية من صبي؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] . فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يعطوا الجزية، والصبي لا يقاتل. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارا» ورُوِي: عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن لا يأخذوا الجزية من النساء والصبيان) . قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن بذل الذمي الجزية عن ولده الصغير.. قيل له: أتبذله من مال للصغير أو من مالك؟ فإن قال: أبذله من مال الصغير.. لم يجز أخذه؛ لأن الصغير لا جزية عليه. وإن قال: أبذله من مالي.. أخذ منه؛ لأنه بذل زيادة على جزيته) . إذا ثبت هذا: فإن ولد الذمي تابع لأبيه في الأمان ما لم يبلغ، فإذا بلغ.. زال حكم التبع، وقيل له: لا يجوز إقرارك في بلاد الإسلام بغير جزية، فإن لم يبذل الجزية.. صار حربا لنا، وإن اختار أن يبذل الجزية.. فهل يفتقر إلى استئناف عقد الذمة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يفتقر إلى استئناف عقد الذمة؛ لأنه عقد دخل فيه قبل البلوغ، فإذا بلغ.. لزمه، كإسلام أبيه. فعلى هذا: يلزمه جزية أبيه، فإن كان أبوه قد بذل في جزيته أكثر من دينار.. لزم الولد مثل ذلك. فإن قال الابن: لا ألتزم إلا دينارا.. لم يقبل منه إلا أن يمتنع بالقتال ثم يبذل الدينار، فيجب قبوله منه. ولا يلزم الولد جزية جده من قبل الأم؛ لأنه لا جزية على أمه، فلا يلزمه جزية أبيها.

فرع: امتناع السفيه ووليه من دفع الجزية يخرجهما من ديار المسلمين

والوجه الثاني: أنه يفتقر إلى استئناف عقد، وهو الأصح؛ لأن عقد الأب إنما كان لنفسه وإنما تبعه الولد لصغره، فإذا بلغ.. زال التبع. فعلى هذا: يرفق الإمام به ليلتزم أكثر من الدينار، فإن لم يرض إلا بالتزام الدينار لا غير.. وجب قبول ذلك منه وإن كان أبوه قد التزم أكثر منه. [فرع: امتناع السفيه ووليه من دفع الجزية يخرجهما من ديار المسلمين] فإن بلغ الذمي غير رشيد.. فإن الحجر لا يفك عنه. فإن اتفق السفيه ووليه على عقد الذمة له وبذل الجزية.. عقدت له الذمة، وإن امتنعا من ذلك.. أخرجا من دار الإسلام. وإن اختلف السفيه ووليه. فطلب أحدهما أن تعقد الذمة للسفيه بالجزية وامتنع الآخر.. كان الاعتبار بإرادة السفيه من ذلك؛ لأنه سبب لحقن دمه. [مسألة: لا جزية على المجنون] ] : ولا تؤخذ الجزية من المجنون المطبق. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: تؤخذ منه الجزية؛ لأن حالات جنونه كحالات نومه. وليس بشيء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] وفيها أربعة أدلة: أحدها: قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [التوبة: 29] والمجنون لا يقاتل. الثاني: قوله {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة: 29] والمجنون لا يدين. الثالث: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] ومعناه حتى يضمنوا، والمجنون لا يصح ضمانه.

مسألة: لا جزية على المرأة

الرابع: قوله {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ومعناه: راضون بجريان أحكام الإسلام عليهم، والمجنون لا رضا له. وإن كان يجن يوما ويفيق يوما، أو يجن في بعض الحول دون بعض.. لفقت أيام الإفاقة، فمتى بلغت حولا.. وجبت عليه الجزية. فإن أفاق النصف الأول من الحول وجن الثاني.. فهل يجب عليه الجزية للنصف الأول؟ فيه قولان. كما لو كان مشركا فأسلم أو مات في نصف الحول. وإن جن النصف الأول من الحول وأفاق الثاني بعد ذلك، فإن اتصلت به الإفاقة حولا.. وجبت عليه الجزية في آخره. وإن لم تتصل.. لفقت له الإفاقة على ما مَضَى.. هذا نقل الشيخ أبي حامد. وقال القفال: إذا جن يوما وأفاق يوما، أو جن في بعض الحول وأفاق في البعض.. فإن الاعتبار بآخر الحول، فإن كان مفيقا فيه.. لزمته الجزية للحول، وإن كان مجنونا فيه.. لم تلزمه الجزية للحول، كما أن الاعتبار في يسار العاقلة وإعسارهم في آخر الحول. وقال أبُو حَنِيفَة: (يعتبر أكثر الحول) . دليلنا: أن أيام الجنون لا جزية فيها؛ بدليل: أنها لو اتصلت.. لم تجب عليه جزية، ولا مزية لأحدهما على الآخر، فاعتبر كل واحد منهما بنفسه. [مسألة: لا جزية على المرأة] ولا تؤخذ الجزية من المرأة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] ، والمرأة لا تقاتل. ولقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارا» ، والحالم اسم للرجل. ولما رَوَيْنَاهُ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن لا يأخذوا الجزية من النساء والصبيان) .

فرع: لا تقبل الجزية من النساء والصبيان بدل الرجال

ولا تؤخذ الجزية من الخنثى المشكل؛ لجواز أن تكون امرأة. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن بذلت المرأة الجزية.. عرفها الإمام أنها لا تجب عليها، فإن بذلتها بعد ذلك.. قبلها الإمام منها، وتكون هبة منها تلزم بالقبض) . فإن شرطت على نفسها الجزية ثم امتنعت بعد ذلك من بذلها.. لم تجبر عليها؛ لأنها لم تلزم بالبذل. فإن دخلت المرأة دار الإسلام بأمان للتجارة.. لم يؤخذ منها شيء من تجارتها؛ لأن لها المقام في دار الإسلام بغير عوض على التأبيد. وإن دخلت الحجاز للتجارة بأمان.. جاز أن يشترط عليها العوض؛ لأنها ممنوعة من المقام في الحجاز. [فرع: لا تقبل الجزية من النساء والصبيان بدل الرجال] وإن حاصر الإمام حصنا فيه رجال ونساء وصبيان، فإن امتنع الرجال من أداء الجزية وبذلوا أن يؤدوا الجزية عن النساء والصبيان.. لم يقبل ذلك؛ لأنه لا يجوز أن تؤخذ الجزية ممن لا تجب عليه وتترك ممن تجب عليه. وإن كان في الحصن نساء لا رجال معهن، وطالبن الإمام أن يعقد لهن الذمة، وبذلن الجزية.. ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز أن تعقد لهن الذمة، بل يتوصل إلى فتح الحصن ويسبيهن؛ لأنهن غنيمة للمسلمين. والثاني: يلزمه أن يعقد لهن الذمة بغير جزية على أن تجري عليهن أحكام الإسلام، كما قلنا في الحربية. فإن أخذ الإمام منهن على ذلك مالا، فإن لم يعلمهن أن الجزية لا تجب عليهن..

مسألة: لا تجب الجزية على العبد

وجب رده إليهن، وإن أعلمهن أو علمن ذلك لم يجب رده إليهن؛ لأنه هبة لزمت بالقبض. [مسألة: لا تجب الجزية على العبد] ولا تجب الجزية على العبد ولا على سيده بسببه؛ لما رُوِيَ: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا جزية على العبد» ، ورُوِي ذلك عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا مخالف لهذا، والعمل عليه. وإن كان بعضه حرا وبعضه عبدا.. لم تجب عليه الجزية. ومن أصحابنا من قال: يجب عليه من الجزية بقدر ما فيه من الحرية، وليس بشيء؛ لأنه لا يقتل بالكفر، فلم تجب عليه الجزية، كالصبي والمرأة. فإن أعتق العبد، فإن كان من أولاده عَبَدَة الأوثان.. قيل له: إقرارك في دار الإسلام مشركا لا يجوز، فإما أن تسلم، وأمَّا أن نبلغك دار الحرب وتكون حربيا لنا.

فرع: إجراء الجزية على الشيوخ وأصحاب الصوامع والفقير غير المعتمل

وإن كان من أولاد أهل الذمة.. قيل له: إقرارك في دار الإسلام بغير جزية لا يجوز، فإن اخترت أن ترجع إلى دار الحرب وتكون حربا لنا.. فارجع، وإن اخترت عقد الذمة ببذل الجزية.. أقررناك. فإن اختار عقد الذمة ببذل الجزية.. نظرت: فإن كان الذي أعتقه مسلما.. كانت جزيته ما يقع عليها التراضي، وإن كان الذي أعتقه ذميا.. فهل يفتقر إلى عقد الذمة بما يقع عليه التراضي من الجزية، أو لا يفتقر إلى عقد الذمة بل تلزمه الجزية لمولاه؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق، ووجههما ما ذكرناه في الصبي إذا بلغ. [فرع: إجراء الجزية على الشيوخ وأصحاب الصوامع والفقير غير المعتمل] وهل تؤخذ الجزية من الشيوخ الذين لا قتال فيهم، ومن الزمنى، وأصحاب الصوامع المشتغلين بالعبادة؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على القولين في جواز قتلهم إذا أسروا. ومنهم من قال: لا يقرون بغير جزية قولا واحدا. والفرق بين القتل والجزية: أن القتل يجري مجرى القتال، فإذا لم يكن فيه قتال.. لم يقتل. والجزية أجرة المسكن، فلم تسقط عنهم. وهل تجب الجزية على الفقير الذي ليس بمعتمل؟ فيه قولان: أحدهما: لا تجب عليه الجزية - وبه قال أبُو حَنِيفَة ـ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل أهل الجزية طبقات، وجعل أدناهم الفقير المعتمل، فدلَّ على أنه لا جزية على غير المعتمل، ولأنه حق يجب بالحول، فلم يجب على الفقير، كالزكاة. فعلى هذا: إن طلب من الإمام أن يعقد له الذمة.. عقدت له الذمة على شرط جريان أحكام الإسلام عليه، فإذا أيسر.. استؤنف له الحول، فإذا تم.. طولب بالجزية. والقول الثاني: تجب عليه الجزية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] [التوبة: 29] فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يعطوا الجزية، ومعناه: حتى

مسألة: ضبط أسماء وصفات أهل الذمة بالديوان وتعيين العرفاء

يضمنوا، ولم يفرق، ولأنه مشرك مكلف حر، فلم يجز إقراره بدار الإسلام بغير جزية، كالمعتمل. فإذا قلنا بهذا: ففيه وجهان: أحدهما: تعقد له الذمة بالجزية في ذمته، وينظر بها إلى أن يوسر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] [البقرة: 280] . والثاني: لا نقره عليه إلا بدفع الجزية. فإن قدر على تحصيلها، وإلا.. رددناه إلى دار الحرب؛ لأنه يمكنه أن يمنع وجوبها عليه بالإسلام. هذا ترتيب العراقيين من أصحابنا. وقال الخراسانيون: في الفقير غير المعتمل قولان، واختلفوا في موضع القولين فمنهم من قال: القولان في الدفع، وأمَّا الوجوب.. فيجب قولا واحدا. ومنهم من قال: القولان في الوجوب. [مسألة: ضبط أسماء وصفات أهل الذمة بالديوان وتعيين العرفاء] وأخذ الجزية برفق] : إذا عقد الإمام الذمة لقوم.. فإنه يكتب أعدادهم في الديوان، ويكتب أسماءهم، ويصف كل واحد منهم بالصفة التي لا تختلف على طول الأيام، من الطول والقصر أو البياض والسواد وما أشبه ذلك. ويجعل لكل عشرة أو عشرين ـ على ما يراه ـ عريفا؛ ليخبره بمن يخرج منهم من الجزية بالموت أو الإسلام، وبمن يدخل من أولادهم بالبلوغ في الجزية. والذي يقتضي المذهب: أن العريف يكون مسلما؛ لأن أهل الذمة غير مأمونين على ذلك. وتؤخذ منهم الجزية كما يؤخذ الدين من غير أذى في قول ولا فعل، ويكتب لمن أخذ منه جزيته كتابا، ليكون له حجة إذا طلبه.

مسألة: نظر الإمام الجديد في شأن أهل الذمة

[مسألة: نظر الإمام الجديد في شأن أهل الذمة] إذا مات الإمام أو عزل، وقام غيره مقامه.. فإنه ينظر في أهل الذمة: فإن كان الإمام الذي قبله عقد لهم الذمة عقدا صحيحا.. أقرهم عليه؛ لأنه عقد مؤبد. وإن كان فاسدا.. غيره إلى الصحة؛ لأنه منصوب لمصالح المسلمين، وهذا من مصالحهم. فإن ادعى قوم من أهل الذمة أن الإمام عقد لهم الذمة ولا بينة.. رجع إليهم؛ لأنه لا يمكن التوصل إلى ذلك إلا من جهتهم. فإن ادعوا أنه عقد لهم الذمة على أقل من دينار.. قيل لهم: هذا عقد فاسد، فإما أن تعقدوا عقدا صحيحا، وإلا.. رددناكم إلى دار الحرب وكنتم حربا لنا؛ لأن أقل الجزية دينار. قيل للشيخ أبي حامد: أليس الثوري يجيز العقد بما أداه إليه اجتهاد الإمام، فيجب إذا صح عقد الإمام لهم بدون الدينار أن لا ينقض حكمه؟ فقال: إن الإجماع قد حصل بعد الثوريّ: أن الجزية لا تجوز أن تنقص عن دينار. وإن ادعوا أن الأول عقد لهم الذمة على الدينار عن كل رجل منهم.. فالقول قولهم مع أيمانهم. واليمين هاهنا مستحبة؛ لأن دعواهم لا تخالف الظاهر. فإن أسلم منهم اثنان وعدلا وشهدا أن الإمام الأول عقد لهم الذمة على أكثر من دينار، أو شهد بذلك رجلان مسلمان من غيرهم.. أخذوا بما عقد عليهم الأول؛ لأن ذلك قد لزمهم. فإن قال بعضهم: عقد لنا الذمة على دينارين عن كل رجل، ولكن لا نؤدي إلا دينارا.. أخذ كل واحد بدينارين إلا أن يمتنعوا بالقتال ثم يبذلوا الدينار عن كل رجل منهم، فيجب قبوله. وإن قالوا: كنا نؤدي إلى الأول عن كل رجل دينارين دينارا جزية ودينارا تطوعا.. فالقول قولهم مع أيمانهم؛ لأنه لا يعلم إلا من جهتهم. واليمين هاهنا واجبة؛ لأن

دعواه تخالف الظاهر، فمن حلف.. لم يلزمه إلا دينار، ومن نكل.. لزمه الديناران. وإن غاب ذمي سنين، ثم قدم وهو مسلم، وادعى أنه أسلم من حين غاب.. ففيه قولان: أحدهما: يؤخذ منه جزية ما مَضَى من السنين التي في غيبته؛ لأن الأصل بقاؤه على الكفر. والثاني: يقبل قوله مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الجزية. وبالله التوفيق

باب صفة عقد الذمة

[باب صفة عقد الذمة] لا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو من النائب عنه؛ لأنه من المصالح العظام. وإذا طلب قوم من الكفار أن تعقد لهم الذمة وهم ممن يجوز عقد الذمة لهم.. قال أصحابنا البغداديون: وجب على الإمام عقدها لهم. وقال الخراسانيون: فيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه إلا أن يرى المصلحة في عقدها لهم، كما قلنا في الهدنة. والثاني: يجب عليه، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] . فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يبذلوا الجزية، فدلَّ على: أنهم إذا بذلوا الجزية.. وجب رفع القتال عنهم. ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا بعث أميرا على سرية أو جيش، أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين وقال: إذا لقيت عدوك من المشركين.. فادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك.. فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا.. فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك.. فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا.. فاستعن بالله وقاتلهم» . [مسألة: عقد الذمة من حيث التأبيد وشرطاه وتفسير اليد والصغار] قال أصحابنا البغداديون: ولا يصح عقد الذمة إلا مؤبدا.

وقال الخراسانيون: فيه وجهان: أحدهما: يصح مؤقتا؛ لأنه عقد أمان، فصح مؤقتا، كالهدنة. والثاني: لا يصح إلا مؤبدا، وهو الأصح؛ لأن عقد الذمة إنما يصح بالتزام أحكام المسلمين، وذلك يقتضي التأبيد. إذا ثبت هذا: فإن عقد الذمة إنما يصح بالتزام شرطين: أحدهما: أن تجعل عليهم جزية في كل حول، على ما مَضَى. والثاني: أن يلتزموا أحكام المسلمين في حقوق الآدميين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] . ومعنى قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] أي: يلتزموها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] والمراد به: التزموا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وسميت الجزية جزية لأنها من جزى يجزي: إذا قضى، قال الله تَعالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] [البقرة: 48] أي: لا تقضي. وتقول العرب: جزيت ديني، أي قضيته. ومعنى قَوْله تَعَالَى: {عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] أي: عن قوة المسلمين، وقيل: عن منة عليهم بحقن دمائهم، واليد: يعبر بها عن القدرة والمنة، وقيل: عن يد: يعطيه من يده إلى يده، ولا يبعث بها. وقيل: يعطيه نقدا لا نسيئة. وأمَّا (الصغار) : فقال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " المختصر ": (هو جريان أحكام الإمام عليهم؛ لأنهم إذا تحاكموا إليه.. حكم عليهم بحكمه، وهو ذل لهم وصغار؛ لأنهم يعتقدون بطلانه، ولا يقدرون على الامتناع منه) . وقال: في " الأم ": (الصغار: هو التزامهم بجريان أحكامنا عليهم في عقد الذمة) . فيكون الصغار على ما قاله في " الأم ": هو نفس التزامهم بجريان أحكام

فرع: لا فرق في الجزية بين أهل الكتاب

الإسلام. وعلى ما قاله في " المختصر ": (الصغار) : هو جريان أحكام الإسلام عليهم. والصحيح: ما قاله في " الأم ". وقال غير الشافعي: (الصغار) : هو أن تؤخذ منهم الجزية وهم قيام والآخذ جالس، وقال بعضهم: (الصغار) : أن تؤخذ منهم الجزية وهم قيام باليسار. [فرع: لا فرق في الجزية بين أهل الكتاب] ولا فرق في الجزية بين يهود خيبر وغيرهم، وما يدعيه أهل خيبر: أن معهم كتابا من علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بإسقاط الجزية عنهم.. لا يصح؛ لأنه لم يذكره أحد من علماء المسلمين، ولأنهم ادعوا فيه شهادة سعد بن معاذ ومعاوية، وتأريخه بعد موت سعد وقبل إسلام معاوية. [مسألة: طلب مخالفة الذمي في الزي وغيره] ] : وإذا عقد الإمام الذمة لقوم من المشركين.. فإنه يأمرهم أن يخالفوا المسلمين في الزي والملبس، فيكون فيما يظهرون من ثيابهم لون يخالف لون ثيابهم، واللون الأصفر أولى باليهود، واللون الأدكن أولى بالنصارى، واللون الأسود أولى بالمجوس؛ لأن ذلك عادتهم. ويشدون الزنار ـ وهو: خيط غليظ فوق ثيابهم ـ وإن لبسوا القلانس.. جعلوا فيها خرقا، وإن لبسوا الخفاف.. كانت من لونين. ويجعل في رقبة كل واحد منهم خاتم من رصاص أو صفر. وإن كان لهم شعر.. أمروا بجز النواصي؛ لما رَوَى عبد الرحمن بن غنم في الكتاب الذي كتبه لعمر حين صالح

نصارى أهل الشام: (فشرطنا: أن لا نتشبه بهم في لباسهم في شيء من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين، وأن نشد الزنانير في أوساطنا، وأن نجز مقاديم رؤوسنا، ولا نتشبه بهم في مراكبهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله) ، ولأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير» . وقال النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إذا «لقيتم المشركين في طريق.. فلا تبدؤوهم بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق.. فاضطروهم إلى أضيقها» . وإذا خالف أهل الذمة المسلمين في الزي والملبس بما ذكرناه.. أمكن المسلم أن يأتي بالسنة المشروعة في حق المسلم والذمي، وإذا لم يخالفوهم بذلك.. ربما ابتدأ المسلم بالسلام على الذمي ظنا منه أنه مسلم، أو ترك السلام على المسلم، أو اضطره إلى أضيق الطرق ظنا منه أنه ذمي، فأمر الذمي بالغيار في اللباس، والزي،

فرع: يمنع أهل الذمة من ركوب الخيل

والزنار؛ ليتميز. وإن شرط عليهم أحدها.. أخذوا به؛ لأن التميز يحصل به. وإنما أمروا بالخاتم في رقابهم؛ ليتميزوا عن المسلمين في الحالة التي يتجردون فيها عن الثياب، وربما اجتمع موتى المسلمين وموتى أهل الذمة ولا ثياب عليهم، فلا يتميزون للصلاة عليهم إلا بذلك. ولا يمنع أهل الذمة من لبس العمامة والطيلسان. وقال أبُو حَنِيفَة وأحمد: (يمنعون) . دليلنا: أن التمييز يحصل بالغيار والزنار، فلم يمنعوا من لبسهما، كالقميص. وهل يمنعون من لبس الديباج، والذهب؟ فيه وجهان: أحدهما: يمنعون؛ لما فيه من التجبر والتعظيم. والثاني: لا يمنعون، كما لا يمنعون من لبس المرتفع من القطن والكتان. [فرع: يمنع أهل الذمة من ركوب الخيل] ] : ويمنعون من ركوب الخيل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] [الأنفال: 60] وأهل الذمة: عدو الله وعدونا، فلو كانوا يركبونها.. لكانوا يرهبوننا بها، ولأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» وأراد به: الغنيمة. فينبغي أن تكون الخيل لمن يسهم له ويستحق الغنيمة. ويمنعون أن يتقلدوا السيوف والسكاكين؛ لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قال المسعودي [في " الإبانة "] ويمنعون من ركوب البغال، كالخيل. وقال سائر أصحابنا: لا يمنعون من ركوب البغال والحمير، ولكن يركبونها

فرع: مغايرة نساء أهل الذمة في اللباس وغيره

بالأكف دون السروج، ويكون الركابان من خشب، ويركبونها على شق؛ لما رُوِي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كتب إلى عماله يأمرهم أن يجعل أهل الكتاب المناطق في أوساطهم) وأراد به: الزنانير، و: (أن يركبوها على شق) أي: عرضا: هذا قول أكثر أصحابنا. وقال الشيخُ أبُو حامد: يركبون مستويا، قال: لأن أصحابنا قالوا: تكون الركابان من خشب، وهذا يدل على أنهم يركبون مستويا. [فرع: مغايرة نساء أهل الذمة في اللباس وغيره] وتؤخذ نساء أهل الذمة بلبس الغيار والزنار والخاتم في رقابهن، وإن لبسن الخفاف.. كانت من لونين؛ لما رُوِي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كتب إلى أمراء الآفاق أن مروا نساء أهل الأديان أن يعقدن زنانيرهن) . قال الشيخُ أبُو حامد: ويكون زنارها فوق ثيابها. وذكر الشيخ أبُو إسحاق وابن الصبَّاغ: أن زنارها يكون تحت إزارها؛ لأنه إذا كان فوق الإزار.. فإنه يكشف ويصف جسمها. والذي يقتضي المذهب: أنهما أرادا بذلك الإزار الظاهر الذي تستر به رأسها وعنقها فوق الثوب الذي تشد به حقويها ليحصل التمييز به، فأما إذا كان مستورا لا يظهر.. فلا فائدة فيه. [فرع: فيما يتأدب به أهل الذمة مع المسلمين] ولا يبدؤون بالسلام، ويضطرون إلى أضيق الطريق؛ لما ذكرناه من الخبر. وإن قعدوا مع المسلمين في مجلس.. لم يقعدوا في صدر المجلس؛ لأن في ذلك إعزاز لهم. وإن قعدوا في مجلس، وأراد المسلمون القعود فيه.. قاموا منه

مسألة: لا يرتفع أهل الذمة بالبناء على المسلمين

للمسلمين؛ لما رُوِي في كتاب أهل الشام لعمر: (وشرطنا: أن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس) . [مسألة: لا يرتفع أهل الذمة بالبناء على المسلمين] وإذا أراد أهل الذمة بناء منزل في محلة المسلمين.. منعوا أن يكون بناؤهم أعلى من بناء من يليهم من المسلمين؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» ، وهل يمنعون من مساواتهم في البناء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يمنعون؛ لأنهم لا يستطيلون بذلك على المسلمين. والثاني ـ وهو الأصح ـ: أنهم يمنعون؛ لأنه لا تتميز دار الذمي عن دار المسلم إلا بذلك. فعلى هذا: يكون أقصر من بناء من حواليه من المسلمين. وهل يمنعون من الاستعلاء في البناء في غير محلة المسلمين؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق: أحدهما: لا يمنعون؛ لأنه يؤمن، مع البعد، أن يعلوا على المسلمين. الثاني: يمنعون؛ لأنهم يتطاولون على المسلمين. وإن ملك الذمي دارا أعلى من دور جيرانه من المسلمين ببيع أو هبة.. أقرت كما هي على ملكه؛ لأنه هكذا ملكها. فإن انهدمت أو نقضها وأراد بناءها.. لم يكن له أن يعليها على بناء جيرانه من المسلمين. وهل له أن يساوي بناءهم؟ على الوجهين: [فرع: لا يظهرون شرب الخمر ونحوه من المحرمات] ويمنعون من إظهار شرب الخمور، وأكل الخنازير وبيعها، وضرب الناقوس، والجهر بالتوراة والإنجيل، وإظهار عبادة الصليب، وإظهار أعيادهم، ورفع الصوت على موتاهم؛ لما رُوِيَ: (أن نصارى العرب شرطوا ذلك لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أنفسهم)

مسألة: تصنيف البلاد الإسلامية من حيث تنفيذ الأحكام وبناء الكنائس ونحوها

[مسألة: تصنيف البلاد الإسلامية من حيث تنفيذ الأحكام وبناء الكنائس ونحوها] قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويشرط عليهم أن لا يحدثوا كنيسة، ولا بيعة، ولا مجتمعا لصلواتهم) . وجملة ذلك: أن البلاد التي ينفذ فيها حكم الإسلام على ثلاثة أضرب: أحدها: بلد بناها المسلمون كبغداد والكوفة والبصرة؛ لأن الكوفة والبصرة بناهما عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فهذا لا يجوز لأهل الذمة أن يحدثوا فيها كنيسة، ولا بيعة، ولا صومعة؛ لما رُوِيَ: (أن عمر لما صالح النصارى.. كتب بينه وبينهم: وأن لا يحدثوا في بلادهم وما حولها ديرا ولا بيعة، ولا صومعة راهب) . ورُوِي عن ابن عبَّاس: أنه قال: (أيما مصر مصرته العرب.. فليس للعجم أن يبنوا فيه كنيسة) ولا مخالف له في الصحابة. وأمَّا الكنائس والبيع وبيوت النار الموجودة في هذه البلاد في زماننا.. فيحتمل أن تكون بناها المشركون في قرية أو برية فأقرهم الإمام عليها، فلما بناها المسلمون.. اتصل البناء بذلك. والضرب الثاني: بلد بناه المشركون ثم ملكه المسلمون بالقهر، فإن لم يكن فيها كنائس ولا بيع، أو كانت ولكن هدمها المسلمون حين ملكوها.. فحكمها حكم البلد الذي بناه المسلمون، فإن عقد الإمام الذمة لقوم وشرط لهم أن يبنوا فيها البيع والكنائس، ويظهروا فيها الخمر والخنزير والصليب.. كان العقد فاسدا. وإن كان فيها بيع وكنائس لم يهدمها المسلمون حين ملكوها، فإذا أراد الإمام أن يقرهم عليها.. فهل يجوز؟ فيه وجهان:

أحدهما: يجوز؛ لأنا إنما نمنع من إحداث البيع والكنائس فيها، فأما إقرارهم على ما كان فيها.. فلا يمنع منه. والثاني: لا يجوز، وهو الأصح؛ لأن المسلمين قد ملكوا جميع البلاد، وتلك البيع والكنائس ملك للغانمين، ولا يجوز إقرارها في أيدي الكفار. والضرب الثالث: بلد بناه المشركون ثم فتحه الإمام صلحا، فينظر فيه: فإن صالحهم على أن تكون الدار لهم دوننا وإنما يؤدون إلينا الجزية.. فلهم أن يحدثوا فيها البيع والكنائس، ويظهروا فيها الخمر والخنزير والصليب؛ لأن هذه الدار دار شرك، فلهم أن يفعلوا فيها ما شاؤوا. وأمَّا إن صالحهم على أن تكون الدار لنا دونهم، فإن صالحهم على أن لهم إحداث البيع والكنائس فيها.. كان لهم ذلك؛ لأنه إذا جاز أن يصالحهم على أن لهم نصف الدار ولنا النصف.. فلأن يجوز أن تكون لنا الدار ولهم البيع والكنائس أولى. وكل موضع قلنا: يجوز إقرار البيع والكنائس في بلد وانهدمت.. فهل يجوز إعادتها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لما رُوِيَ: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا تبنى كنيسة في دار الإسلام، ولا يجدد ما خرب منها ".

مسألة: حماية أهل الذمة ممن يؤذيهم

والثاني: يجوز، وبه قال أبُو حَنِيفَة؛ لأنه إذا جاز تشييد ما تشعث منها.. جاز إعادة ما انهدم منها. [مسألة: حماية أهل الذمة ممن يؤذيهم] وإذا عقد الإمام الذمة لقوم من المشركين.. وجب عليه منع من قصدهم من المسلمين وأهل الحرب وأهل الذمة، سواء كانوا في بلد الإسلام أو بلد لهم منفردين بها، وسواء شرطوا عليه المنع في العقد أو أطلقوه؛ لأنهم إنما بذلوا الجزية لحفظهم وحفظ أموالهم، فلزم الإمام ذلك بمقتضى العقد. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: إن كانوا في بلد لهم منفردين.. فهل يجب على الإمام منع الكفار عنهم من غير أن يشرطوا عليه المنع؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه؛ لأن ذلك من مقتضى العقد. والثاني: لا يلزمه؛ لأن الطائفتين كفار، ولا يضرون بالمسلمين ولا بدارهم. وكل موضع قلنا: يلزمه المنع عنهم، فلم يمنع عنهم حتى مَضَى الحول.. لم تجب عليهم جزية ذلك الحول، وإن لم يمنع عنهم بعض الحول.. لم تجب عليهم جزية تلك المدة التي لم يمنع فيها؛ لأن الجزية عوض عن المنع ولم يوجد. فإن أخذ المسلمون منهم مالا لهم بغير حق.. وجب على الإمام استرجاعه إن كان باقيا، أو استرجاع عوضه إن كان تالفا إلا الخمر؛ فإنها إذا تلفت.. فلا يجب عوضها؛ لأنه لا قيمة لها. وإن أخذ أهل الحرب منهم مالا لهم وظفر به الإمام.. رده إليهم. فإن قتلوا منهم أو أتلفوا عليهم مالا.. لم يجب عليهم ضمان ذلك؛ لأنهم لم يلتزموا أحكام الإسلام.

فرع: شرط عدم المنع من أهل الذمة في العقد

وإن أغار أهل الهدنة على أهل الذمة فأخذوا منهم مالا.. رده الإمام منهم إن كان باقيا، أو رد عوضه منهم إن كان تالفا؛ لأنهم قد التزموا بالهدنة حقوق الآدميين. وإن نقضوا الهدنة وامتنعوا عن الإمام بالقتال.. فهل يجب عليهم ضمان ما أتلفوه من نفس ومال؟ فيه قولان، كأهل البغي. [فرع: شرط عدم المنع من أهل الذمة في العقد] وإن شرط في عقد الذمة أن لا يمنع عنهم أهل الحرب.. نظرت: فإن كان أهل الذمة في وسط بلاد الإسلام أو في طرف منها.. كان الشرط والعقد باطلين؛ لأنه عقد على تمكين أهل الحرب من بلاد الإسلام. وإن كانوا في دار الحرب، أو فيما بين دار الحرب ودار الإسلام.. كان الشرط والعقد صحيحين؛ لأن ذلك لا يتضمن تمكين أهل الحرب من دخول دار الإسلام. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (ويكره هذا الشرط) وقال في موضع: (لا يكره) . قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فحيث قال: (يكره) أراد: إذا كان الإمام هو الذي طلب الشرط؛ لأن في ذلك إظهار وهن على المسلمين. وحيث قال: (لا يكره) أراد: إذا كان أهل الذمة هم الذين طلبوا الشرط؛ لأنه لا وهن على المسلمين في ذلك. [مسألة: الحكم بين المشركين أو بينهم وبين المسلمين] وإن تحاكم مشركان إلى حاكم المسلمين، فإن كانا معاهدين.. لم يلزمه الحكم بينهما، بل هو بالخيار: بين أن يحكم بينهما وبين أن لا يحكم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] الآية [المائدة: 42] وهذا الآية نزلت في من وادعهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يهود المدينة قبل فرض الجزية. وقيل: نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، ثم جاءا إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسألانه عن ذلك فرجمهما. قال الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وهذا أشبه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة: 43] [المائدة: 43] يعنى: أنهم تركوا حكم الله في التوراة الذي حكم به من رجم الزاني. فإن حكم الحاكم بين المعاهدين.. لم يلزمهما حكمه.. وإن دعا الحاكم أحدهما ليحكم بينهما.. لم يلزمه الحضور. وإن كانا ذميين على دين واحد.. فهل يلزمه الحكم بينهما؟ فيه قولان: أحدهما: لا يلزمه الحكم بينهما، بل هو بالخيار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] [المائدة: 42] ولم يفرق. ولأنهما لا يعتقدان شريعته، فلم يلزمه الحكم بينهما، كالمعاهدين. والثاني: يلزمه الحكم بينهما؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] الآية [المائدة: 49] وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. ولقوله تَعالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] . و (الصغار) : جريان أحكامنا عليهم، فلولا أنه يلزمه الحكم بينهما.. لم تجر عليهم أحكام الإسلام. ولأنه يلزمه الدفع عنهما، فلزمه الحكم بينهما كالمسلمين، بخلاف المعاهدين؛ فإنه لا يلزمه الدفع عنهما. فعلى هذا: إذا حكم بينهما.. لزمهما حكمه. وإن استدعاه أحدهما على الآخر فأحضره.. لزمه الحضور. وإن كانا على دينين.. ففيه طريقان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: هي على قولين. و [الثاني] : منهم من قال: يلزمه الحكم بينهما قولا واحدا؛ لأن كل واحد منهما

فرع: جناية الذمي بما يوجب حدا أو تعزيرا

لا يرضى بحكم حاكم من أهل دين الآخر، بخلاف إذا كانا على دين واحد؛ فإننا إذا لم نحكم بينهما.. ترافعا إلى حاكم من أهل دينهما، فحكم بينهما. واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان إذا وقع منه التداعي في حقوق الله تَعالَى، فأما في حقوق الآدميين.. فيلزمه الحكم بينهما قولا واحدا؛ لأن حقوق الله تقبل المسامحة، بخلاف حقوق الآدميين. ومنهم من قال: القولان في حقوق الآدميين، فأما في حقوق الله تَعالَى.. فيلزمه الحكم بينهما فيها قولا واحدا؛ لأن حق الله إذا لم يحكم به.. ضاع، وحق الآدمي يطالب به الآدمي، فلا يضيع. ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو الأصح؛ لأنه يجب على الحاكم أن يحكم بين المسلمين في الجميع، فكذلك بين أهل الذمة. وإن تحاكم إليه ذمي ومعاهد.. فهو كما لو تحاكم إليه ذميان. وإن تحاكم إليه مسلم مع ذمي أو معاهد.. لزمه الحكم بينهما قولا واحدا؛ لأنه لا يجوز أن يتحاكم المسلم مع خصمه إلى حاكم من الكفار. وإذا حكم بينهما.. لم يحكم إلا بحكم الإسلام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] [المائدة: 49] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] [المائدة: 42] . [فرع: جناية الذمي بما يوجب حدا أو تعزيرا] وإذا فعل الذمي شيئا محرما عليه في شرعنا وشرعهم، كالقتل، والزنا، والقذف، والسرقة.. وجب عليه ما يجب على المسلم من العقوبة؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل يهوديا قتل جارية على أوضاح لها» .

مسألة: ما يشترط عليهم كحرمة كتاب الله ورسوله

و: «رجم يهوديين زنيا بعد إحصانهما» وإن كان محرما في شرعنا، غير محرم في شرعهم، كشرب الخمر.. لم يجب عليه الحد؛ لأنه مباح عندهم، لكن: إن أظهر شربه.. عزره على ذلك؛ لأنه إظهار منكر في دار الإسلام. [مسألة: ما يشترط عليهم كحرمة كتاب الله ورسوله] وتصنيف ما يذكر في العقد من حيث الوجوب وعدمه] : قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويشرط عليهم: أن من ذكر كتاب الله أو محمدا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسوء) إلى آخر كلامه. وجملة ذلك: أن ما يجب على أهل الذمة على خمسة أضرب: أحدها: ما يجب ذكره في العقد، وإن لم يذكر في العقد.. لم يصح العقد، وهو: بذل الجزية، والتزام أحكام المسلمين. فإن امتنعوا من أداء الجزية أو التزام أحكام المسلمين.. انتقضت ذمتهم؛ لأن الذمة لم تنعقد إلا بهما. الضرب الثاني: ما لا يجب ذكره في العقد، ولكن إطلاق العقد يقتضيه، فإذا ذكر في العقد.. كان تأكيدا، وهو: تركهم قتال المسلمين، فمتى قاتلوا المسلمين منفردين أو مع أهل الحرب.. انتقضت ذمتهم، سواء شرط عليهم في العقد أو لم يشرط؛ لأن الأمان هو: أن نأمن منهم ويأمنوا منا، وهذا ينافي الأمان. الضرب الثالث: ما لا يجب ذكره في العقد. قال ابن الصبَّاغ: ولا يقتضيه الإطلاق. وقال الشيخُ أبُو حامد: بل يقتضيه الإطلاق. ونص الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - من ذلك على ستة أشياء:

أحدها: أن لا يزني الذمي بمسلمة. الثاني: أن لا يصيبها باسم النكاح. الثالث: أن لا يفتن مسلما عن دينه. الرابع: أن لا يقطع عليه الطريق. الخامس: أن لا يؤوي عينا للمشركين. السادس: أن لا يعين على المسلمين بدلالة. وأضاف إليها أصحابنا: أن لا يقتل مسلما. فمتى فعل الذمي شيئا من هذه الأشياء.. نظرت: فإن لم يشترط عليه في العقد ترك هذه الأشياء.. لم تنتقض ذمته بذلك، بل يجب عليه الحد فيما يوجب الحد منها، والتَّعزِير فيما لا يوجب الحد؛ لبقاء ما يقتضيه العقد: من التزام أداء الجزية، والتزام الأحكام، والكف عن قتال المسلمين. وإن شرط عليهم ترك هذه الأشياء في العقد، ففعلوا شيئا منها.. فهل تنتقض ذمتهم؟ قال الشيخُ أبُو حامد: فيه قولان، وأكثر أصحابنا ذكرهما وجهين: أحدهما: لا تنتقض ذمتهم بذلك؛ لأن ما لا تنتقض الذمة بفعله إذا لم يشرط تركه.. لم تنتقض بفعله وإن شرط تركه، كإظهار الخمر والخنزير، وعكسه قتال المسلمين. والثاني: تنتقض ذمتهم، وهو الأصح؛ لما رُوِيَ: أن نصرانيا استكره مسلمة على الزِّنَى، فرفع إلى أبي عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: (ما على هذا صالحناكم، وضرب عنقه) . ولأن فيها ضررا على المسلمين. فإذا شرط عليهم تركها، فخالفوا.. كانوا ناقضين للذمة، كالامتناع من الجزية. والضرب الرابع: اختلف أصحابنا في وجوب ذكره في العقد؛ وهو: أن لا يذكروا الله تَعالَى ولا رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا دينه بما لا يجوز.

فقال أبُو إسحاق: لا يصح عقد الذمة حتى يشترط عليهم ذلك في العقد، فمتى ذكر في العقد، فخالفوا.. انتقضت ذمتهم، كما قلنا في التزام الجزية، والتزام أحكام الإسلام. وقال أكثر أصحابنا: حكمه حكم الأشياء السبعة، لا يجب ذكره في العقد. فإن لم يشترط عليهم تركه في العقد.. لم تنتقض ذمتهم بفعله. وإن شرط عليهم تركه.. فهل تنتقض ذمتهم؟ على القولين أو على الوجهين؛ لأن في ذلك ضررا على المسلمين، فكان حكمه حكم الأشياء التي فيها ضرر عليهم. وقال أبُو بكر الفارسي من أصحابنا: من سب رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. وجب قتله حدا؛ لا لأنه انتقضت ذمته - ولم يذكر الشيخ أبُو حامد في " التعليق " غيره - ولـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يؤمن ابن خطل والقينتين» ؛ لأنهم كانوا يسبونه. ورُوِي: أن رجلا قال لابن عمر: سمعت راهبا يشتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (لو سمعته.. لقتلته؛ إنا لم نعطه الأمان على هذا) . والأول أصح؛ لأن ابن خطل والقينتين كانوا مشركين لا أمان لهم قبل هذا. الضرب الخامس: أنا قد ذكرنا أنه لا يجوز إحداث كنيسة ولا بيعة في دار الإسلام، ولا يرفعون أصواتهم بالتوراة والإنجيل، ولا يضربون الناقوس، ولا يظهرون الخمر والخنزير، ولا يطيلون بناءهم فوق بناء المسلمين، ولا يتركون لبس الغيار والزنار.. فهذه الأشياء لا يجب ذكرها في العقد. فإن خالفوا وفعلوا شيئا منها.. لم تنتقض ذمتهم سواء شرطت عليهم في العقد أو لم تشرط. واختلف أصحابنا في علته: فمنهم من قال: لأنه لا ضرر على المسلمين في ذلك.

مسألة: لا يقيم مشرك في الحجاز

ومنهم من قال: لأنهم يتدينون بأكثرها. هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا آووا عينا للمشركين، أو زنوا بمسلمة، أو سبوا مسلما، أو سرقوا ماله.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: تنتقض ذمتهم بذلك. والثاني: لا تنتقض. والثالث: إن شرط عليهم أن لا يفعلوا ذلك، فخالفوا.. انتقضت ذمتهم. وإن لم يشرط عليهم.. لم تنتقض ذمتهم. إذا ثبت هذا: فكل من فعل منهم ما يوجب نقض ذمته.. ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز قتله ولا استرقاقه، بل يجب رده إلى مأمنه؛ لأنه كافر حصل في دار الإسلام، فصار كالكافر إذا دخل بأمان صبي. فعلى هذا: يستوفى ما وجب عليه من الحد، ثم يرد إلى مأمنه. والثاني: أن الإمام فيه بالخيار: بين القتل، والاسترقاق، والمن، والفداء، وهو الأصح؛ لأن أبا عبيدة بن الجراح قتل النصراني الذي استكره المرأة المسلمة على الزِّنَى قبل أن يرده إلى مأمنه، ولا مخالف له. ولأنه كافر لا أمان له، فهو كالحربي إذا دخل دار الإسلام متلصصا. [مسألة: لا يقيم مشرك في الحجاز] ولا يجوز لأحد من الكفار الإقامة في الحجاز، ولا يجوز للإمام أن يصالحهم على ذلك، فإن فعل.. كان الصلح فاسدا؛ لما رَوَى ابن عبَّاس: أنه قال: «أوصى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلاثة أشياء؛ قال: " أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» قال ابن عبَّاس: ونسيت الثالث! ورُوِى عمر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

قال: «لأخرجن اليهود من جزيرة العرب» وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» . والمراد بجزيرة العرب في هذه الأخبار: الحجاز؛ وهي: مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها. وسمي حجازا؛ لأنه حجز بين تهامة ونجد. والحجاز بعض جزيرة العرب؛ فإن جزيرة العرب - في قول الأصمعي - من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام في العرض. وفي قول أبي عبيدة: ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمين في الطول، وما بين يبرين إلى السماوة في العرض. و (حفر أبي موسى) : قريب من البصرة.

والدليل على أن المراد بهذه الأخبار الحجاز لا غير: ما روى أبُو عبيدة بن الجراح: أن آخر ما تكلم به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن قال: «أخرجوا اليهود من الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب» ؛ لـ: (أنه صالحهم على ترك الربا، فنقضوا العهد) . ورُوِي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجلى أهل الذمة من الحجاز، فلحق بعضهم بالشام، وبعضهم بالكوفة) . و: (أجلى أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوما من

اليهود من الحجاز، فلحقوا بخيبر. وأجلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوما فلحقوا بخيبر أيضا، وأقروا فيها وهي من جزيرة العرب) . وما رُوِي أن أحدا من الخلفاء الراشدين أجلى من في اليمن من أهل الذمة وإن كانت من جزيرة العرب، فدلَّ على ما ذكرناه. ورُوِي: (أن نصارى نجران أتوا عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالوا له: إن الكتاب بيدك والشفاعة على لسانك، وإن عمر أخرجنا من أرضنا، فردنا إليها. فقال عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن عمر كان رشيدا في فعله، وإني لا أغير شيئا فعله عمر) . ونجران ليست من الحجاز، وإنما لنقضهم الصلح الذي صالحهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ترك الربا. فإن دخل داخل منهم الحجاز بغير إذن الإمام.. أخرجه وعزره إن كان عالما أن دخوله لا يجوز. وإن استأذن الإمام بعضهم في الدخول.. نظر الإمام: فإن كان في دخوله مصلحة للمسلمين؛ إما لأداء رسالة، أو عقد ذمة، أو هدنة، أو حمل ميرة، أو متاع فيه منفعة للمسلمين.. جاز له أن يأذن له في الدخول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] [التوبة: 6] . فأجاز: أن يسمع المسلمون المشرك القرآن، وذلك يتضمن الدخول. فإن كان في تجارة لا يحتاج المسلمون إليها.. لم يأذن له في الدخول إلا بشرط أن

فرع: لا يمنع أهل الذمة من ركوب البحر الأحمر

يأخذ من تجارته شيئا؛ لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمر أن يؤخذ من أنباط الشام من حمل القطنية من الحبوب العشر، ومن حمل الزيت والقمح نصف العشر) . ولا يجوز لمن دخل منهم الحجاز بإذن الإمام أن يقيم في موضع أكثر من ثلاثة أيام؛ لما رُوِيَ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجلى اليهود والنصارى من الحجاز، وأذن لمن دخل منهم تاجرا أن يقيم ثلاثا) . ولأنه لا يصير مقيما بالثلاث، ويصير مقيما بما زاد. فإن أقام في موضع ثلاثة أيام، ثم انتقل منه إلى موضع وأقام فيه ثلاثة أيام، ثم كذلك يقيم في كل موضع ثلاثا فما دون.. جاز؛ لأنه لم يصر مقيما في موضع. فإن كان له دين في موضع ولم يمكنه أن يقبضه في ثلاث.. لم يمكن من الإقامة أكثر من ثلاث، بل يوكل من يقبضه له. وإن دخل الحجاز بإذن الإمام ومرض.. جاز له أن يقيم في موضع حتى يبرأ وإن زادت إقامته على ثلاث؛ لأن المريض يشق عليه الانتقال. فإن مات فيه وأمكن نقله إلى غير الحجاز من غير تغير.. لم يدفن في الحجاز؛ لأنه إذا لم يجز له أن يقيم فيه وهو حي.. فلأن لا يجوز دفن جيفته فيه أولى. وإن لم يمكن نقله إلا مع التغير.. دفن؛ لأنه إذا لم يجب نقل المريض للمشقة.. فالميت أولى. [فرع: لا يمنع أهل الذمة من ركوب البحر الأحمر] قال الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يمنع أهل الذمة من ركوب بحر الحجاز والاجتياز فيه؛ لأنه لا حرمة للبحار، ولهذا لم يبعث أحد من الأنبياء صلوات الله

مسألة: لا يدخل أحد من الكفار الحرم

عليهم إلى البحار. ويمنعون من الإقامة في سواحل بحر الحجاز وجزائره؛ لأن لها حرمة أرض الحجاز) . [مسألة: لا يدخل أحد من الكفار الحرم] ولا يجوز لأحد من الكفار دخول الحرم بحال. وحكى ابن الصباغ: أن أبا حَنِيفَة قال: (يجوز لهم دخوله، ولهم أن يقيموا فيه مقام المسافر، ويجوز لهم - عنده - دخول الكعبة) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] [التوبة: 28] . ففيها ثلاثة أدلة: أحدها: قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] [التوبة: 28] ولم يرد أنهم أنجاس الأبدان؛ لأنهم إذا أسلموا.. فهم طاهرون، وإنما أراد نجس الأديان. فنزه الحرم عن دخولهم إليه لشرفه. ولأنه رُوِيَ: «أن الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كانوا إذا حجوا وبلغوا الحرم.. نزعوا نعالهم ودخلوا حفاة؛ إجلالا للحرم» . والثاني: قَوْله تَعَالَى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] [التوبة: 28] وأراد به: الحرم؛ لأن كل موضع ذكر الله المسجد الحرام.. فالمراد به: الحرم. والدليل عليه: قوله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] [الإسراء: 1] وأراد به: الحرم؛ لأنه أسرى به من بيت خديجة. وقال الله تَعالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27] [الفتح: 27] ، وقال تَعالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] وأراد به: الحرم. الثالث: أنه قال في سياق الآية: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] [التوبة: 28] . وإنما خافوا العيلة بانقطاع المشركين عن التجارة في الحرم، لا عن المسجد نفسه. ورُوِي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحجن مشرك بعد عامي هذا» .

فرع: يدخل الكافر المسجد بإذن مسلم

ورُوِي: أنه قال: «لا يدخلن مشرك المسجد الحرام» . إذا ثبت هذا: فإن جاء بعضهم يحمل ميرة إلى الحرم.. خرج إليه من يشتري منه. وإن جاء ليسلم رسالة.. خرج إليه من يستمع منه ذلك، فإن قال: لا أؤدي الرسالة إلا إلى الإمام.. خرج إليه الإمام، ولا يأذن له في الدخول. فإن دخل منهم داخل إلى الحرم.. أخرج، فإن كان عالما أن ذلك لا يجوز.. عزر، وإن كان جاهلا.. نهي عن العود، فإن عاد.. عزر. فإن صالحه الإمام على الدخول إلى موضع من الحرم بعوض.. لم يجز. فإن دخل إلى ذلك الموضع.. أخذ منه الإمام العوض المشروط عليه؛ لأنه قد حصل له المعوض. وإن دخل إلى دون ذلك المكان.. استحق عليه من العوض بقدر ما دخل. فإن مرض.. أخرج، وإن مات.. لم يدفن فيه؛ لأن جيفته أعظم من دخوله. فإن دفن فيه.. نبش وأخرج إلى الحل إلا أن يكون قد تقطع.. فلا يخرج؛ لـ: (أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر بنقل من مات منهم ودفن فيه قبل الفتح) . إذا ثبت هذا: فإن الحرم من طريق المدينة على ثلاثة أميال، ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال، ومن طريق العراق على تسعة أميال، ومن طريق نجد على عرفة على تسعة أميال، ومن طريق جدة على عشرة أميال. [فرع: يدخل الكافر المسجد بإذن مسلم] فأما سائر المساجد: فلا يجوز للكفار دخولها بغير إذن المسلمين؛ لأنهم ليسوا من أهلها. فإن استأذن أحد منهم مسلما في الدخول، فإن كان للأكل أو النوم.. لم

يأذن له في الدخول؛ لأنه يرى ابتذال المسجد تدينا. وإن كان لاستماع القرآن أو علم أو ذكر.. أذن له في الدخول؛ لأنه ربما كان سببا لإسلامه. ورُوِي: (أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اجتاز بباب أخته، فسمعها تقرأ سورة (طه) .. فأسلم) . وقال جبير بن مطعم: (سمعت القرآن، فكاد قلبي أن يتصدع.. فأسلمت) . وكذلك: إن كان له حاجة إلى مسلم في المسجد، أو للمسلم إليه حاجة.. جاز له أن يدخل إليه. وإن قدم على الإمام وفد من المشركين، فإن كان للمسلمين فضول منازل.. أنزلوهم فيها. وإن لم يكن لهم فضول منازل، وكان للإمام دار مرسوم للوفد.. أنزلهم فيها. وإن لم يكن لهم شيء من ذلك.. جاز له أن ينزلهم في المسجد، لما روي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد» و: «لما قدم سبي بني قريظة وبني النضير.. أنزلهم في المسجد إلى أن وجه بهم، فبيعوا» . وهل يجوز للمسلم أن يأذن للكافر الجنب في دخول المسجد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه إذا منع المسلم الجنب من دخوله وإقامته فيه.. فلأن يمنع الكافر الجنب من دخوله أولى.

مسألة: منع أهل الحرب دخول دار الإسلام بغير إذن الإمام

والثاني: يجوز له، لأن الكافر لا يعتقد تعظيمه فلم يمنع منه، والمسلم يعتقد تعظيمه فمنع منه. فإن دخل الكافر المسجد بغير إذن ولا حاجة له إلى مسلم فيه.. عزر إن كان عالما، ولا يعزر إن كان جاهلا، بل ينهى عن ذلك، فإن عاد.. عزر، لما رُوِيَ: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان على المنبر فنظر مجوسيا دخل المسجد، فنزل وضربه وأخرجه) هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: إن شرط عليه أن لا يدخل.. عزره، وإن لم يشرط عليه.. فهل يعزره؟ فيه وجهان. [مسألة: منع أهل الحرب دخول دار الإسلام بغير إذن الإمام] أو رسالة وماذا لو اتجروا؟] : ويمنع أهل الحرب من دخول دار الإسلام بغير إذن الإمام؛ لأن في دخولهم ضررا على المسلمين؛ لأنهم يتجسسون أخبارهم ويطلعون على عوراتهم، وربما اجتمعوا أو غلبوا على شيء من بلاد الإسلام. فإن دخل منهم رجل دار الإسلام.. سئل، فإن قال: دخلت بغير أمان ولا رسالة.. كان الإمام فيه بالخيار: بين القتل والاسترقاق، والمن، والفداء، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما رأى أبا سفيان بن حرب.. قال: «يا رسول الله، هذا أبُو سفيان، قد أمكن الله منه بلا أمان، ولا إيمان، فقال العباس: قد أمنته» وإن قال: دخلت برسالة.. قبل قوله؛ لأنه يتعذر إقامة البينة على الرسالة. وإن قال: دخلت بأمان مسلم.. ففيه وجهان: أحدهما: يقبل قوله؛ لأن الظاهر أنه لا يدخل من غير أمان، والأصل حقن دمه. والثاني: لا يقبل قوله؛ لأنه يمكنه إقامة البينة على الأمان. والأول أصح. وإن استأذن رجل منهم الإمام في الدخول، فإن كان للمسلمين مصلحة في دخوله؛ بأن يدخل لأداء رسالة، أو عقد ذمة، أو هدنة، أو حمل ميرة، أو متاع يحتاجه المسلمون.. جاز له أن يأذن له في الدخول بغير عوض يؤخذ منه. وإن كان

لتجارة لا يحتاج إليها المسلمون.. فالمستحب للإمام أن يأذن لهم في الدخول، ويشترط عليهم عشر تجارتهم؛ لـ (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أذن لهم في الدخول واشترط عليهم عشر تجارتهم) . فإن اشترط عليهم أقل من ذلك أو أكثر.. جاز؛ لأن ذلك إلى اجتهاد الإمام. وإن رأى أن يأذن لهم في الدخول من غير شرط عوض.. جاز، وإن أذن لهم في الدخول مطلقا من غير أن يشترط دفع العوض ولا عدمه.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يجوز للإمام أن يطالبهم بعوض؛ لأنه إنما يستحق العوض عليهم بالشرط ولم يشترط، فهو كما لو أذن لهم بغير عوض. و [الثاني] : منهم من قال: يستحق عليهم العشر؛ لأن مطلق الإذن يحمل على المعهود في الشَّرع، وقد تقرر ذلك بفعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فحمل الإطلاق عليه. هذا مذهبنا: وقال أبُو حَنِيفَة: (إن كان أهل الحرب لا يأخذون من المسلمين العشر إذا دخلوا بلادهم.. لم يأخذ الإمام منهم شيئا. وإن كانوا يأخذون من المسلمين العشر.. أخذ منهم الإمام العشر) . دليلنا: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذ منهم العشر) ، ولم ينقل أنه سأل: هل يأخذون من المسلمين العشر أو لا يأخذون؟ ولا مخالف له في الصحابة. وأمَّا أهل الذمة: فيجوز لهم أن يتجروا في بلاد المسلمين بغير عوض يؤخذ منهم إلا أن يشترط عليهم مع الجزية: إن اتجروا في بلاد الإسلام أخذ منهم نصف العشر.. فيجب عليهم ذلك؛ لما رُوِيَ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شرط على أهل الذمة مع الجزية إذا اتجروا في بلاد الإسلام نصف العشر من تجارتهم) .

فرع: كتابة ما يأخذه الإمام من تجار أهل الذمة

وأمَّا دخولهم أرض الحجاز للتجارة: فهم كأهل الحرب إذا دخلوا دار الإسلام للتجارة، وقد مَضَى. وإن دخل أهل الذمة إلى أرض الحجاز لتجارة لا يحتاج المسلمون إليها، ولم يشرط عليهم الإمام عوضا، ولا شرط أنهم يدخلونها بغير عوض.. فهل يجب عليهم نصف العشر لتجارتهم؟ فيه وجهان، كما قلنا في أهل الحرب إذا دخلوا بلاد الإسلام من غير شرط. وما يؤخذ من أهل الذمة بالشرط لدخولهم أرض الحجاز أو لتجارتهم في بلاد الإسلام إن اشترط عليهم.. فإنه يؤخذ منهم في السنة مرة، كما قلنا في الجزية. وأما ما يؤخذ من أهل الحرب لدخولهم دار الإسلام.. ففيه وجهان: أحدهما: يؤخذ منهم في السنة مرة، كما قلنا في أهل الذمة. والثاني: يؤخذ منهم في كل مرة يدخلون؛ لأن أهل الذمة في قبضته، فلا يضيع الحق بتأخيره، وأهل الحرب ليسوا في قبضته، فلا يؤمن أن يتجروا أكثر السنة، فإذا قاربوا آخر السنة.. رجعوا إلى دار الحرب، ثم لا يعودون، فيضيع المال المشروط عليهم. وأمَّا الذي يؤخذ منهم: ينظر في الإمام: فإن شرط عليهم أن يأخذ من تجارتهم.. أخذ من متاعهم الذي معهم، سواء باعوه أو لم يبيعوه. وإن شرط عليهم أن يأخذ من ثمن تجارتهم، فإن باعوه.. أخذ منهم، وإن كسد ولم يبيعوه.. لم يأخذ منهم شيئا. [فرع: كتابة ما يأخذه الإمام من تجار أهل الذمة] وإذا أخذ الإمام من أهل الحرب العشر، أو من أهل الذمة نصف العشر.. كتب لهم كتابا بما أخذه؛ لأنه ربما مات الإمام وخلفه غيره فيطالبهم، فإذا كان معهم كتاب.. لم يطالبهم بشيء. قال الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وأحب للإمام أن يحدد في كل وقت وثائق أهل

الذمة وأهل الحرب بما كان بينهم من ذمة، وجزية، وأمان، وفي أي وقت استوفى ذلك؛ ليكون ظاهرا يرجع إليه، ويشهد على ذلك؛ لأنه ربما مات الشهود الأولون، كما يستحب للقضاة تجديد السجلات والوقوف، والإشهاد عليها كلما مَضَى وقت يخاف فيه موت الشهود؛ لئلا تنسى شروطها) . وبالله التوفيق

باب الهدنة

[باب الهدنة] الهدنة والمهادنة والمعاهدة والموادعة شيء واحد؛ وهو: العقد مع أهل الحرب على الكف عن القتال مدة، بعوض وبغير عوض. والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] إلى قوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] [التوبة: 1-4] . ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح سهيل بن عمرو على ترك القتال عشر سنين» . إذا ثبت هذا: فلا يصح عقد الهدنة لجميع المشركين، أو لصقع إلا للإمام أو للوالي من قبله على إقليم يهادن أهل إقليمه.

فأما آحاد الرعية: فلا يجوز لهم ذلك؛ لأن ذلك من الأمور العظام التي تتعلق بمصلحة المسلمين، فلو جوزنا ذلك لآحاد الرعية.. لتعطل الجهاد. فإذا أراد الإمام أن يعقد الهدنة مع جميع المشركين، أو مع أهل إقليم أو صقع عظيم.. نظرت: فإن كان مستظهرا عليهم، ولم ير مصلحة في عقد الهدنة.. لم يجز له عقدها، بل يقاتلهم إلى أن يسلموا، أو يبذلوا الجزية إن كانوا من أهل الكتاب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] [التوبة: 41] ولقوله تَعالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] . فأمر بالجهاد والقتال، والأمر يحمل على الوجوب. ولقوله تَعالَى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد: 35] [محمد: 25] . وإن رأى الإمام مع استظهاره المصلحة في الهدنة؛ بأن يرجو أن يسلموا، أو يبذلوا الجزية، أو يعينوه على قتال غيرهم.. جاز له أن يعقد لهم الهدنة أربعة أشهر فما دونها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1] إلى قَوْله تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] [التوبة: 1-2] . قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وكان ذلك في أقوى ما كان رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فتح مكة.. هرب منه صفوان بن أمية، فقال له النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سح في الأرض أربعة أشهر» وكان مستظهرا عليه وعلى جميع الكفار، وإنما كان يرجو إسلامه، فأسلم بعد ذلك. ولا يجوز للإمام أن يعقد الهدنة مع استظهاره سنة فما زاد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] . وهذا عام في جميع الأوقات، إلا ما خصه الدليل. ولأن السنة مدة تجب فيها الجزية، فلم يجز إقرارهم فيها بغير جزية. وهل يجوز عقد الهدنة فيما زاد على أربعة أشهر ودون السنة؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز؛ لعموم الأمر بالقتال إلا ما خصه الدليل، ولم يرد الدليل إلا في أربعة أشهر.

والثاني: يجوز؛ لأنها مدة تقصر عن مدة الجزية، فجاز فيها عقد الهدنة، كأربعة أشهر. وإن كان الإمام غير مستظهر على المشركين؛ أما لقلة عدد المسلمين، أو كثرة عدد المشركين، أو لضعف ثبات المسلمين في القتال، أو لقلة ما في يده من المال بالنسبة لما يحتاج إليه من المال في قتالهم.. فللإمام أن يهادنهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] [الأنفال: 61] و (السلم) : الصلح. وله أن يهادنهم مع استظهارهم ما يرى فيه المصلحة من السنة وما زاد عليها إلى عشر سنين لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح سهيل بن عمرو في الحديبية على ترك القتال عشر سنين، وكتب في الكتاب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو: على وضع القتال عشر سنين» وإنما هادنهم هذه المدة؛ لأنه جاء إلى المدينة ليقيم لا ليقاتل، وكان بمكة مسلمون مستضعفون، فهادنهم حتى أظهر من بمكة إسلامه، فكثر المسلمون فيهم. قال الشعبي: لم يكن في الإسلام فتح مثل صلح الحديبية. هذا ترتيب الشيخ أبي إسحاق وابن الصبَّاغ. وذكر الشيخ أبُو حامد في " التعليق ": أن القرآن ورد بجواز الهدنة أربعة أشهر، و «عقد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الهدنة مع سهيل بن عمرو عشر سنين، ثم نقض الهدنة قبل انقضاء العشر» . واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: نقض النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الهدنة.. نسخ للهدنة فيما زاد على أربعة أشهر. ومنهم من قال: ليست بنسخ. وهو الأصح؛ لأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقد الهدنة سنة ست

من الهجرة عشر سنين على أن يعود معتمرا سنة سبع ويقيم بمكة ثلاثا، فعاد في سنة سبع واعتمر، وأخلت له قريش مكة وخرجوا منها، فقال لهم: " إنِّي أريد أن أتزوج فيكم وأطعم "، فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج، فخرج فسار إلى سرف على عشرة أميال من مكة، فتزوج ميمونة وبنى بها في ذلك الموضع، وأقام على الهدنة بعد ذلك قدر سنة، ثم وقع بعد ذلك بين بني بكر وبين خزاعة شر، وكانت خزاعة حلفا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبنو بكر حلفا لقريش، فأعانت قريش حلفاءها على حلفاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فانتقضت هدنتهم، فسار إليهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفتح مكة. فثبت أن الهدنة فيما زاد على

أربعة أشهر غير منسوخة، لأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام على الهدنة قدر سنتين. فإذا قلنا: إن الهدنة منسوخة فيما زاد على أربعة أشهر.. لم يجز عقدها فيما زاد على أربعة أشهر لا لحاجة ولا لضرورة. وإن قلنا: إنه ليس بمنسوخ، فإن زاد الإمام عقد الهدنة كحاجة الضرورة؛ بأن كان المدد بعيدا عنه ويخاف سير المشركين.. فكم المدة التي يجوز عقد الهدنة إليها؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز عقدها لأقل من السنة، ولا يجوز إلى سنة؛ لأن السنة مدة الجزية، فلا يجوز إقرارهم فيها من غير عوض. والثاني: يجوز عقدها لسنة؛ لأنهم إنما لا يجوز إقرارهم في دار الإسلام سنة بغير عوض، وأمَّا الهدنة.. فهي كف عن القتال، فجاز إلى سنة من غير عوض. وإن كان ذلك لضرورة؛ بأن كان العدو قد نزل على المسلمين وخافهم الإمام.. ففي المدة قولان: أحدهما: لا تجوز إلا إلى سنة. والثاني: تجوز إلى عشر سنين. ولا يجوز عقد الهدنة إلى أكثر من عشر سنين بحال، بلا خلاف على المذهب. وقال أبُو حَنِيفَة وأحمد بن حنبل: (يجوز ذلك على ما يراه الإمام، كما يجوز الصلح على أداء الخراج من غير تقدير مدة) . دليلنا: أن الله تَعالَى أمر بالقتال عاما في جميع الأوقات، وإنما خصصناه بما قام عليه الدليل، ولم يقم الدليل إلا في عشر سنين؛ بفعل النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلح الحديبية، فبقي ما زاد على مقتضى عموم الأمر. فإن عقد الهدنة إلى أكثر من عشر سنين.. لم

مسألة: عقد الهدنة مطلقا

يصح العقد فيما زاد على العشر. وهل يصح العقد في العشر؟ على القولين، بناء على تفريق الصفقة. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: يصح في العشر، وتبطل فيما زاد قولا واحدا؛ لأنه يجوز فيما بين المسلمين والكفار ما لا يجوز بين المسلمين وحدهم. والأول هو المشهور. إذا ثبت هذا: فإن المسعودي قال: [في " الإبانة "] : إذا طلب المشركون عقد الهدنة.. فالظاهر: أنه لا يجب على الإمام عقدها؛ إذ لا منفعة للمسلمين في ذلك. ومن أصحابنا من قال: إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك؛ بأن يرجو إسلامهم.. وجب عليه ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] الآية [التوبة: 6] . [مسألة: عقد الهدنة مطلقا] وإذا عقد الإمام الهدنة مطلقا.. لم يصح العقد؛ لأن الإطلاق يقتضي التأبيد، والهدنة لا يصح عقدها على التأبيد. هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: يصح العقد، فإن كان الإمام مستظهرا.. انصرف إلى أربعة أشهر في أحد القولين، وإلى سنة في الثاني. وإن كان غير مستظهر.. انصرف العقد إلى عشر سنين. [فرع: الهدنة من غير مدة ولكنها علقت بالمشيئة] ] : وإن هادنهم الإمام إلى غير مدة على أن له أن ينقض متى شاء.. جاز؛ لأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح أهل خيبر مطلقا، ولكن قال: «أقركم ما أقركم الله تَعالَى» . وفي بعض الأخبار: " أقركم ما شئنا ". فإن قال غير النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أقركم ما أقركم الله أو إلى أن يشاء الله.. لم تصح الهدنة؛ لأن ذلك لا يعلم إلا بالوحي، وقد انقطع الوحي بموت النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

فرع: المدة التي يقر الحربي بها في دار الإسلام

وإن قال: هادنتكم إلى أن يشاء فلان - وهو رجل، مسلم، أمين، عاقل، له رأي - جاز، فإذا شاء فلان أن ينقض.. نقض. وإن قال: هادنتكم إلى أن تشاءوا أو إلى أن يشاء رجل منكم.. لم يصح؛ لأنه جعل الكفار محكمين على الإسلام، وقد قال النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» . [فرع: المدة التي يقر الحربي بها في دار الإسلام] وإن دخل رجل من دار الحرب إلى دار الإسلام برسالة، أو بأمان، أو لحمل ميرة يحتاجها المسلمون، أو تاجرا.. قال الشيخُ أبُو حامد: فإنه يجوز للإمام أن يقره في دار الإسلام ما دون السنة بغير عوض؛ لأنه في حكم العقود، ولا يجوز له أن يقره سنة؛ لأن الجزية تجب فيها. فإذا قارب السنة.. قال له الإمام: إقرارك في دار الإسلام سنة بلا عوض لا يجوز، فإن كان وثنيا.. أمره أن يلحق بدار الحرب. وإن كان كتابيا.. قال له: إما أن تلحق بدار الحرب، أو تعقد لك الذمة وتبذل الجزية. وقال ابن الصبَّاغ: يجوز له أن يقره أربعة أشهر بلا عوض، ولا يجوز له أن يقره سنة بغير عوض. وهل له أن يقره ما زاد على أربعة أشهر ودون السنة بغير عوض؟ على القولين في الهدنة مع استظهار الإمام. [فرع: عقد الهدنة إلى مدة بشرط عوض] ويجوز عقد الهدنة إلى مدة على أن يؤخذ من الكفار مال؛ لأن في ذلك مصلحة للمسلمين. وأمَّا عقد الهدنة على مال يؤخذ من المسلمين، فإن لم يكن هناك ضرورة، لكن كان الإمام محتاجا إلى ذلك؛ بأن بلغه سير العدو وخافهم، أو كانوا قد ساروا ولم يلتقوا، أو التقوا ولم يظهروا على المسلمين ولا خيف ظهورهم.. فلا يجوز بذل العوض لهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة: 111] [التوبة: 111] .

قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فأخبر الله تَعالَى: أن المؤمنين إذا قتلوا أو قُتلوا.. استحقوا الجنة، فاستوى الحالتان في الثواب، فلم يجز دفع العوض لدفع الثواب، ولأن في ذلك إلحاق صغار بالمسلمين، فلم يجز من غير ضرورة) . وإن كان هناك ضرورة بأن أسروا رجلا من المسلمين.. فيجوز للإمام ولغيره أن يبذل مالا لتخليصه؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فادى العقيلي برجلين من أصحابه بعدما أسلم العقيلي واسترق وحصل من جملة الأموال» فدلَّ على جواز بذل الأموال لاستنقاذ الأسارى من المسلمين. وإن كان المسلمون في حصن، وأحاط المشركون بهم ولم يمكنهم الخروج منه ولا المقام فيه، أو التقى المسلمون والمشركون في مكان، وأحاط المشركون بهم من جميع الجهات، وكان المسلمون قليلا والمشركون كثيرا، وخاف الإمام هلاك المسلمين، أو التقوا وخاف الإمام هزيمة المسلمين.. فيجوز له في هذه المواضع أن يبذل للمشركين مالا ليتركوا قتالهم؛ لما رُوِيَ: «أن الحارث بن عمرو الغطفاني - رأس غطفان - قال للنبي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن جعلت لي يا محمد شطر ثمار المدينة، وإلا.. ملأتها عليك خيلا ورجلا؟ فقال له النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حتى أشاور السعود " - يعني: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وسعد بن زرارة - فشاورهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، فقالوا: يا رسول الله، إن كان هذا بأمر من السماء.. فتسليما لأمر الله، وإن كان هذا برأيك.. فرأينا لرأيك تبع، وإن لم يكن بأمر من السماء ولا برأيك.. فوالله ما كنا نعطيهم في الجاهلية بسرة ولا تمرة إلا قراء أو شراء، فكيف وقد أعزنا الله بالإسلام وبك يا رسول الله؟! وفي رواية: أن الحارث أنفذ إليه رسولا بذلك، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرسوله: " أوتسمع؟ " ولم يعطه شيئا.» .

وذكر الشيخ أبُو حامد: أن القبائل لما أحاطت بالمدينة عام الخندق.. وافق النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشركين على أن يجعل لهم ثلث ثمار المدينة وعلى أن ينصرفوا. ثم استشار سعد بن معاذ رئيس الأوس وسعد بن عبادة رئيس الخزرج، فأجاباه بنحو ما ذكرناه، فلم يعطهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئا. فإن قيل: فإن كان النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون مضطرين إلى ذلك وقد فعله.. فكيف جاز له نقضه؟ وإن لم يكونوا مضطرين.. فكيف فعله؟ فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظن أن الحال حال ضرورة، وأن الأنصار قد ملوا القتال، فلما بان له قوة نياتهم في القتال.. علم أن الحال ليس بحال ضرورة، فنقض ما كان فعله، كما رُوِيَ: «أنه أقطع الأبيض بن حمال ملح مأرب، فقيل له: إنه كالماء العد من ورده.. أخذه، قال: فلا إذن» ؛ لأنه كان ظن في الابتداء أنه من المعادن التي يحتاج فيها إلى الحفر، فلما تبين له الحال.. نقض ما كان فعله. والثاني: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن عقد الهدنة، ولم يكن بذل المال لهم، وإنما كان هَايَأَ المشركين على ذلك وهم بالعقد، فلما علم قوة نية الأنصار.. لم يعقد. فلو لم يجز بذل المال عند الضرورة.. لما شاورهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك. إذا ثبت هذا: فهل يجب بذل المال عند الضرورة؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين في وجوب الدفع عن نفسه بالقتال، أو بأكل الميتة إذا اضطر إليها. قال الشيخُ أبُو إسحاق: وإن قبض الكفار منهم المال على ذلك.. لم يملكوه؛

مسألة: لا ترد المسلمات لأجل الهدنة

لأنه مال مأخوذ بغير حق، فلم يملكوه، كالمأخوذ بالقهر. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : لا يجوز أن يشترط الإمام للكفار مالا على المسلمين بحال، وكذلك: إذا كان في أيدي الكفار مال للمسلمين.. فلا يجوز للإمام أن يعاقدهم على أن يترك ذلك المال لهم. ولو كان في أيديهم أسير.. فلا يجوز أن يعاقدهم على أن يردوا ذلك الأسير إليهم. وإن انفلت منهم.. لم يجز معاقدتهم على أن يرد ذلك الأسير إليهم. [مسألة: لا ترد المسلمات لأجل الهدنة] ولا يجوز عقد الهدنة على رد من جاء من المسلمات منهم إلينا؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقد الصلح في الحديبية، ثم جاءته بعد ذلك أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مسلمة، فجاء أخواها يطلبانها، فأراد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يردها عليهما، فمنعه الله من ردها بقوله تَعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] الآية [الممتحنة: 10] فقال النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الله تَعالَى قد منع من الصلح في النساء» ولم يردها عليهم، ولأنه لا يؤمن أن تزوج بمشرك، أو تفتن عن دينها لنقصان عقلها. واختلف أصحابنا على أي وجه عقد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الهدنة: فقال أبُو إسحاق: يحتمل معاني: أحدها: أنه كان عقدها بشرط أن يرد عليهم من جاءه من المسلمات، وكان ذلك الشرط صحيحا حال العقد، إلا أن الله تَعالَى نسخه ومنع من ردهن بالآية. والثاني: أنه كان شرط ردهن في العقد، ولكن كان ذلك الشرط فاسدا، وهل كان النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم فساده؟ فيه وجهان:

فرع: عقد الهدنة لرد المسلمين المهاجرين

أحدهما: أنه لم يكن علم فساده، بل ظنه صحيحا، ثم بين الله تعالى فساده. والنَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجوز عليه الخطأ لكن لا يقر عليه، وغير النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجوز عليه الخطأ ويقر عليه. والوجه الثاني: أنه كان علم فساده، ولكن اضطر إلى ذلك العقد فعقده، واعتقد أنه لا يفي به ولكن اعتقد أنه يفي بموجبه وهو: رد المهر. والاحتمال الثالث: أنه كان عقد الهدنة مطلقا من غير شرط رد المسلمات، ولكن العقد اقتضى الكف والأمان وأن نكف عن أموالهم ليكفوا عن أموالنا، والبضع يجري مجرى الأموال. هذا ترتيب الشيخ أبي حامد. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل كان شرط النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد المسلمات؟ فيه قولان، وفائدة ذلك نذكرها فيما بعد إن شاء الله تَعالَى. [فرع: عقد الهدنة لرد المسلمين المهاجرين] ] : ولا يجوز عقد الهدنة على رد من جاء من المسلمين منهم إلينا، ممن لا عشيرة له تمنع عنه. ويجوز عقدها على رد من جاء من المسلمين منهم إلينا، ممن له عشيرة تمنع عنه. ولا يجوز عقدها على رد من جاء من المسلمين منهم إلينا مطلقا؛ لأنه يدخل فيه من له عشيرة ومن لا عشيرة له؛ لأن من لا عشيرة له يخاف عليه أن يفتن عن دينه؛ ولهذا تجب عليه الهجرة. ومن له عشيرة تمنع عنه لا يخاف عليه أن يفتن عن دينه؛ ولهذا يستحب له أن يهاجر ولا يجب عليه؛ ولهذا المعنى: «فادى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العقيلي بعد أن أسلم برجلين من أصحابه» ؛ لأن العقيلي كان له عشيرة تمنع منه. ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن ينفذ أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى مكة عام الحديبية، فامتنع وقال: ليس لي بها رهط ولا عشيرة، وأراد أن ينفذ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال

مثل ذلك، فأنفذ عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه كان له بها رهط وعشيرة، وهم: بَنُو أمية، فلما دخل مكة.. أكرموه، واستمعوا رسالته، وقالوا له: إن اخترت أن تطوف بالبيت.. فطف، فقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فثاروا عليه وهموا بقتله» هذا ترتيب أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : يجوز عقدها على رد من جاء منهم مسلما من غير تفصيل. إذا ثبت هذا: فإن عقدت الهدنة على ما لا يجوز، مثل: أن عقدت على بذل مال لهم في غير حال الضرورة، أو على أن لا يردوا ما حصل في أيديهم من أموال المسلمين، أو على أن نرد إليهم من جاءنا من المسلمين والمسلمات، وما أشبه ذلك، أو عقدت الذمة على ما لا يجوز عقدها عليه.. كان العقد فاسدا؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل عمل ليس عليه أمرنا.. فهو رد» ورُوِي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (ردوا الجهالات إلى السنة) . وإن عقدت الهدنة عقدا صحيحا.. وجب الوفاء بها إلى انقضاء مدتها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] [المائدة: 1] ، ولقوله تَعالَى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] [التوبة: 4] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] [التوبة: 7] . «ورَوَى سليمان بن عامر: أنه كان بين معاوية وبين الروم هدنة، فأراد أن يغير عليهم، فقال له عمرو بن عبسة: سمعت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من كان بينه وبين قوم عهد.. فلا يحل عقدة ولا يشدها حتى يمضي أمدها، أو ينبذ إليهم عهدهم على سواء» . فانصرف معاوية ذلك العام.

فرع: عقد الهدنة مع المشركين ومنعهم

وإذا عقد الإمام الهدنة، ثم مات أو عزل، ثم ولي إمام بعده.. وجب عليه الوفاء بما عقده الإمام قبله؛ لما رُوِيَ: أن نصارى نجران قالوا لعلي كرم الله وجهه: إن الكتاب بيديك، والشفاعة إليك، وإن عمر قد أجلانا من أرضنا، فردنا إليها، فقال علي: (إن عمر كان رشيدا في أمره، وإني لا أغير أمرا فعله عمر) . ولأن الأول فعله باجتهاده، فلم يجز لمن بعده نقضه باجتهاده. [فرع: عقد الهدنة مع المشركين ومنعهم] إلا من بعضهم على بعض وأهل الحرب] : إذا عقد الإمام الهدنة لقوم من المشركين.. فعليه أن يمنع عنهم كل من قصدهم من المسلمين وأهل الذمة؛ لأن عقد الهدنة اقتضى ذلك. ويجب على المسلمين وأهل الذمة ضمان ما أتلفوه عليهم من نفس ومال، والتَّعزِير بقذفهم، ولا يجب على الإمام أن يمنع بعضهم من بعض، ولا يمنع عنهم أهل الحرب؛ لأن الهدنة لم تعقد على حفظهم، وإنما عقدت على ترك قتالهم، بخلاف أهل الذمة؛ فإنهم قد التزموا أحكام المسلمين، فلذلك وجب على الإمام منع كل من قصدهم، وهؤلاء لم يلتزموا أحكام المسلمين. [مسألة: جاءت حرة مسلمة إلى بلد له إمام وتفسير آية الممتحنة] إذا جاءت منهم حرة مسلمة إلى بلد فيه الإمام أو نائب عنه.. فقد ذكرنا: أنه لا يجوز ردها إليهم. فإن جاء بعض قرابتها، مثل أبيها أو أخيها يطلبها.. فإنها لا ترد إليه، ولا يجب أن يرد إليه مهرها. فإن كان لها زوج وجاء يطلبها.. فإنها لا ترد إليه، وهل يجب على الإمام أن يرد إليه مهرها؟ فيه قولان: أحدهما: يجب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] الآية إلى قوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] .

والثاني: لا يجب - وهو اختيار الشافعيُّ، والمزني، وبه قال أبُو حَنِيفَة وأحمد ـ وهو الأصح، لأن البضع ليس بمال، والأمان لا يدخل فيه إلا المال، ولهذا: لو أمن مشركا.. لم تدخل امرأته في الأمان. ولأنه لو ضمن البضع بالحيلولة.. لضمنه بمهر المثل، ولا خلاف أنه لا يضمنه بمهر المثل. وهذان القولان مأخوذان من كيفية هدنة النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية: فإن قلنا: إنه كان شرط في العقد رد من جاءه من المسلمات، ثم نسخه الله تَعالَى ونهاه عن ردهن، وأمره برد مهرهن.. فعلى هذا: لا يجب على غير النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأئمة رد المهر؛ لأن ذلك إنما لزم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشرط. وإن قلنا: إن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عقد الهدنة مطلقا، واقتضى الإطلاق الكف عن المال، والبضع يجري مجرى المال.. وجب على غيره من الأئمة رد المهر، لأن هذا يوجد في منع غير النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ردها إليهم. قال ابن الصبَّاغ: ورأيت بعض أصحابنا ذكر: أنه إن كان قبل الدخول.. وجب رد المهر قولا واحدا؛ لأن المرأة إذا أسلمت قبل الدخول تحت الكافر.. سقط مهرها. قال: وهذا سهو من هذا القائل؛ لأن كلامنا في رد الإمام المهر: من سهم المصالح، فأما المرأة: فلا يجب عليها رد ما غلبت عليه الكفار. ولو كانت أمة فجاءت مسلمة.. فإنه يحكم بحريتها. إذا ثبت هذا: فتكلم الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في تفسير هذه الآية وهي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] فمعنى قوله: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] أي: اختبروهن، فإن علمتموهن مؤمنات، يعني: إن ظننتم ذلك بقولهن، والعلم يعبر به عن الظن؛ لأنه جار مجراه في وجوب العمل به. {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] لأن بالإسلام وقع التحريم بينهن وبين الكفار. فإن كان قبل الدخول. فقد انفسخ النكاح، وإن كان بعد الدخول.. وقف الفسخ على انقضاء العدة. {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] وهو: رد المهر

{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] أباح الله تَعالَى للمسلمين التزوج بهن، وأراد: إذا كان قبل الدخول أو بعد الدخول وبعد انقضاء العدة وقبل إسلام زوجها الأول {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] يعني: مهورهن. {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وهن المسلمات إذا ارتددن عن الإسلام، وأراد: قبل الدخول أو بعد الدخول إذا لم ترجع إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] وأراد بذلك: أن المسلمة إذا ارتدت وهربت إلى دار الحرب، أو الذمية إذا نقضت العهد ولحقت بدار الحرب، والزوج مقيم في دار الإسلام.. فلزوجها أن يطالبهم بمهرها. وإذا جاءت منهم امرأة مسلمة إلى دار الإسلام.. فلزوجها أن يطالبهم بمهرها. وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10] . قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يحتمل هذا تأويلين: أحدهما: أنه أراد بذلك المسلمة إذا ارتدت وهربت إلى دار الحرب وزوجها في دار الإسلام، وجاءت امرأة منهم مسلمة، وجاء زوجها يطلبها.. فإن الإمام يكتب إلى ملك الكفار فيقول: ادفعوا مهر المرأة التي هربت من عندنا إليكم إلى زوج المرأة التي هربت من عندكم إلينا، ونحن ندفع إليكم مهر المرأة التي هربت من عندكم إلينا إلى زوج المرأة التي هربت من عندنا إليكم. فإن تساوى المهران.. فلا كلام، وإن اختلفا.. رجع صاحب الفضل بما بقي له، فالمعاقبة المقاصة. والتأويل الثاني: أنه أراد بذلك: أن المرأة إذا هربت إلى دار الحرب مرتدة.. فلم يرد على زوجها مهرها، فإن المسلمين إذا غنموا منهم غنيمة.. وجب دفع مهرها إلى زوجها من تلك الغنيمة) . قال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا ارتدت امرأة منا وهربت إليهم، فإن كان الإمام

فرع: جاءت مسلمة ولحقها زوجها يطلبها

قد اشترط أن من جاءهم منا كافرا لم يردوه علينا.. لم تسترد تلك المرأة، وغرم الإمام مهرها لزوجها؛ لأنه هو الذي حال بينه وبينها بعقد الهدنة. [فرع: جاءت مسلمة ولحقها زوجها يطلبها] إذا جاءت منهم امرأة مسلمة، وجاء زوجها في طلبها، فإن قلنا: لا يجب رد مهرها.. فلا تفريع، وإن قلنا: يجب رد مهرها عليه.. فإنما يجب ذلك إذا كان الزوج قد سمى لها مهرا صحيحا ودفعه إليها، فأما إذا لم يسم لها مهرا صحيحا، أو سمى لها مهرا صحيحا ولم يدفعه إليها، أو سمى لها مهرا فاسدا كالخمر والخنزير سواء دفعه أو لم يدفعه.. فلا يجب رده إليه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] وهذا لم ينفق. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإنما يرد الإمام عليه ما دفعه إليها مهرا، فأما ما أنفقه على العرس أو ما دفعه إليها بالنفقة والكسوة.. فلا يجب رده إليه؛ لأن ذلك ليس ببدل عن البضع، وإنما هو بدَّل عن التمكين من الاستمتاع بها؛ ولا يجب ذلك إلا إذا جاءت إلى بلد فيه الإمام أو النائب عنه ومنع منها، فيجب دفعه من سهم المصالح؛ لأنه من المصالح. فأما إذا جاءت إلى بلد ليس فيه الإمام ولا النائب عنه وإنما فيه المسلمون، ثم جاء زوجها يطلبها.. وجب عليهم منعه منها؛ لأن ذلك أمر بالمعروف، ولا يجب رد مهرها إلى زوجها؛ لأنه لا نظر لهم في سهم المصالح) . هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن كان الإمام شرط أن من جاءني منكم مسلما رددته.. لم يجب غرامة مهرها؛ لأنها لم تجئ إليه. وإن كان قد شرط أن من جاء المسلمين منكم مسلما رددناه.. غرم مهرها. [فرع: قبضت مهرها ثم وهبته له ثم أسلمت وهاجرت] وإن قبضت صداقها من زوجها، ثم وهبته له، ثم أسلمت وجاءت إلى بلد فيه

فرع: جاءت امرأة من الكفار وجنت

الإمام، وجاء زوجها يطلبها.. فهل يجب رده عليه؟ فيه قولان بناء على القولين في غير المدخول بها إذا وهبت لزوجها صداقها وطلقها قبل الدخول.. فهل يجب عليها أن تغرم نصفه له؟ فيه قولان. [فرع: جاءت امرأة من الكفار وجنت] إذا جاءت امرأة منهم وجنت.. نظر فيها: فإن أسلمت عندهم ثم جاءت عاقلة ثم جنت، أو جاءت إلى دار الإسلام عاقلة ثم أسلمت ثم جنت.. فإنه لا يجوز ردها إليهم؛ لأن إسلامها قد صح، ويجب رد مهرها؛ لأن الحيلولة حصلت بالإسلام. وإن جاءت مجنونة ولم يعلم إسلامها قبل الجنون إلا أنها وصفت الإسلام في حال جنونها.. فإنه لا يجوز ردها إليهم؛ لجواز أن تكون قد أسلمت قبل جنونها، ولا يجب رد مهرها إليهم قبل إفاقتها؛ لجواز أنها وصفت الإسلام في حال جنونها. فإن أفاقت ووصفت الإسلام.. وجب رد مهرها، وإن وصفت الكفر.. ردت إلى زوجها، ولم يجب رد مهرها. وإن جاءت وهي مجنونة ولم يعلم إسلامها قبل جنونها ولا وصفت الإسلام حال جنونها.. قال الشيخُ أبُو حامد: فإنه لا يجوز ردها؛ لأن الظاهر منها لما جاءت إلى دار الإسلام أنها قد أسلمت. ولا يجب رد مهرها قبل الإفاقة؛ لجواز أنها غير مسلمة. فإن أفاقت ووصفت الإسلام.. وجب رد مهرها، وإن وصفت الكفر.. ردت، ولم يجب رد مهرها. [فرع: جاءت صغيرة إلى دار الإسلام] وإن جاءت منهم صغيرة ووصفت الإسلام.. فإنه لا يجوز ردها إليهم وإن لم يحكم بإسلامها؛ لأن الظاهر أنها تصف الإسلام بعد البلوغ، فإذا ردت إليهم فتنوها وزهدوها عن الإسلام. فإذا بلغت ووصفت الإسلام.. رد مهرها إلى زوجها، وإن

فرع: قدمت لدار الإسلام ثم ارتدت

وصفت الكفر.. قرعت وأنبت، فإن أقامت على ذلك.. ردت إلى زوجها. وإن جاء زوجها يطلبها قبل بلوغها.. فهل يجب رد مهرها؟ قال الشيخُ أبُو حامد وابن الصبَّاغ: فيه قولان، وحكاهما الشيخ أبُو إسحاق وجهين: أحدهما: لا يجب رده إليه، لأنا لم نتحقق إسلامها، فلم يجب رد مهرها، كالمجنونة. والثاني: يجب رده إليه، لأن وصفها الإسلام منع ردها إليه، فوجب دفع مهرها إليه كالبالغة. فعلى هذا: إذا بلغت ووصفت الكفر.. ردت إليه واسترجع منه ما دفع إليه من المهر. [فرع: قدمت لدار الإسلام ثم ارتدت] وإن قدمت امرأة مسلمة منهم ثم ارتدت.. لم ترد إليهم؛ لأنه يجب قتلها. فإن جاء زوجها يطلبها، فإن جاء بعد قتلها.. لم يجب رد مهرها إليه؛ لأن الحيلولة بينهما حصلت بالقتل، وإن طلبها قبل قتلها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق: أحدهما: لا يجب دفعه إليه؛ لأن منعه منها لإقامة الحد عليها لا بالإسلام. والثاني - ولم يذكر ابن الصبَّاغ غيره -: أنه يجب دفعه إليه؛ لأن الحيلولة بينهما حصلت بحكم الإسلام. [فرع: جاءت لدار الإسلام مسلمة ولها زوج فمات أحدهما] وإن جاءت امرأة منهم مسلمة ولها زوج، فمات أو ماتت.. نظرت: فإن مات، أو ماتت قبل وصول الزوج إلى دار الإسلام أو بعد وصوله له وقبل مطالبته بها.. لم يجب رد المهر؛ لأن الحيلولة بينهما حصلت بالموت. وإن وصل إلى البلد وطالب

فرع: جاءت منهم مسلمة أو كافرة أسلمت ثم طلقت

بها، ثم مات أو ماتت.. وجب رد المهر؛ لأن الحيلولة وجدت حال الحياة. فإن كانت هي الميتة.. وجب دفع المهر إليه، وإن كان الزوج هو الميت.. دفع المهر إلى ورثته. [فرع: جاءت منهم مسلمة أو كافرة أسلمت ثم طلقت] إذا جاءت منهم امرأة مسلمة، أو كافرة ثم أسلمت، ثم طلقها الزوج.. نظرت: فإن كان الطلاق بائنا، فإن طلقها قبل المطالبة.. لم يجب دفع المهر إليه؛ لأن الحيلولة حصلت بإبانته لها لا بالمنع. وإن طالب بها فمنع، ثم أبانها.. وجب دفع المهر إليه؛ لأنه لما طالب بها فمنع.. استحق المهر، فلم يسقط ذلك بالبينونة. وإن طلقها طلاقا رجعيا.. قال الشيخُ أبُو حامد: فإن طلقها بعد المطالبة والمنع.. وجب دفع المهر إليه؛ لأنه استحقه بالمنع، فلم يسقط بالطلاق الرجعي. فإن طلقها قبل المطالبة.. لم يجب دفع المهر إليه؛ لأنه غير ممسك لها زوجة، فإن راجعها في عدتها ثم طالب بها.. وجب دفع المهر إليه. وذكر الشيخ أبُو إسحاق: إذا طلقها طلاقا رجعيا.. لم يجب المهر؛ لأنه تركها برضاه. ولعله أراد: إذا طلقها قبل المطالبة. [فرع: جاءت مسلمة ثم أسلم زوجها] إذا جاءت منهم امرأة مسلمة ثم أسلم زوجها، فإن كان بعد الدخول.. نظرت: فإن أسلم قبل انقضاء عدتها.. فهما على النكاح، ولا يجب له المهر. فإن كان قد طالب بمهرها قبل إسلامه وأخذه.. رده؛ لأن البضع قد عاد إليه. وإن أسلم بعد انقضاء عدتها.. فقد وقعت الفرقة بينهما، وأمَّا المهر: فإن كان قد طالب بها قبل إسلامه وأخذه.. لم يرده، وإن طالب بها قبل إسلامه فمنع منها، ثم أسلم قبل أن يأخذ مهرها.. وجب دفع المهر إليه؛ لأنه قد وجب له بمنعها منه قبل إسلامه، فلم يسقط بإسلامه.

فرع: يدفع المهر إذا صادقته المرأة على الزوجية

وحكى القاضي أبُو الطيب في " المجرد " عن أبي إسحاق وجها آخر: أنه لا مهر له؛ لأنه لم يستقر له بالقبض، فهو كما لو أسلم قبل قبض العوض في البيع الفاسد.. فإنه لا يستحق قبضه. والأول أصح. وإن أسلم قبل أن يطالب بها.. لم يجب دفع المهر إليه؛ لأنه لما أسلم.. التزم أحكام الإسلام، وليس من أحكام الإسلام المطالبة بالمهر لأجل الحيلولة بالإسلام. وهكذا ذكر الشيخ أبُو حامد وابن الصبَّاغ. وذكر الشيخ أبُو إسحاق: إذا أسلم بعد انقضاء العدة، فإن كان قد طالب بها قبل انقضاء العدة.. وجب المهر؛ لأنه قد وجب قبل البينونة. وإن لم يطالب إلا بعد انقضاء العدة.. لم يجب؛ لأن الحيلولة حصلت بالبينونة باختلاف الدين. فيأتي على تعليل الشيخ أبي إسحاق هذا: أن المرأة إذا دخل بها وأسلمت وجاءت إلى بلاد الإسلام، ولم يطالب بها زوجها إلا بعد انقضاء عدتها.. أنه لا يجب دفع المهر. وإن أسلم الزوج قبل الدخول.. فذكر الشيخ أبُو حامد في " التعليق ": أن حكمه حكم ما لو أسلم بعد انقضاء عدتها وكانت مدخولا بها.. فتقع الفرقة بينهما، وأمَّا المهر: فإن طالب بها ثم أسلم.. وجب له المهر، فإن أسلم ثم طالب بها.. لم يجب له المهر. وذكر ابن الصبَّاغ: أنه لا يجب له المهر؛ لأنها بانت بإسلامها. فإذا أسلم بعد ذلك.. لم يكن له المطالبة بالمهر. [فرع: يدفع المهر إذا صادقته المرأة على الزوجية] كل موضع قلنا: يجب فيه دفع المهر إليه.. فإنما يجب دفعه إليه إذا صادقته المرأة على الزوجية، وأنها قبضت منه المهر الذي ادعاه. وإن أنكرت عين النكاح.. لم يقبل قوله حتى يقيم شاهدين، ذكرين، مسلمين، عدلين. فإن أقام شاهدا وأراد أن يحلف معه، أو أقام شاهدا وامرأتين.. لم يثبت النكاح؛ لأن النكاح لا يثبت بذلك. وإن صادقته على الزوجية، أو أقام البينة عليها واختلفا فيما قبضته منه من الصداق، وأقام على ذلك شاهدا وحلف معه، أو شاهدا وامرأتين.. حكم له به؛ لأنه

فرع: جاءت أمة لهم مسلمة

مال. وإن لم يكن معه بينة.. قال ابن الصبَّاغ: فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم القبض. وذكر الشيخ أبُو حامد في " التعليق ": أنهما إذا اختلفا.. قال الشافعي: (نظر الإمام قدر مهر مثل المرأة - ويمكن معرفة ذلك من التجار المسلمين الذين يدخلون دار الحرب، أو من أسارى المسلمين الذي يتخلصون منهم- واستحلف الرجل أنه أصدقها ذلك القدر، وسَلَّمه إليها) ؛ لأنه لا يجوز أن يكون أصدقها أقل من مهر مثلها. فإن أقامت بينة بعد ذلك أنه كان أصدقها أقل من ذلك.. استرجع منه الفضل، وإن أقام بينة أنه أصدقها أكثر منه.. سلم إليه الفضل. [فرع: جاءت أمة لهم مسلمة] وإن جاءت أمة لهم مسلمة إلى بلد فيه الإمام.. فقد صارت حرة؛ لأنها ملكت نفسها بالقهر، فإن جاء مولاها يطلبها.. فإنها لا ترد إليه؛ لأنها قد صارت حرة، وهل يجب رد قيمتها؟ قال الشيخُ أبُو حامد: فيه قولان، كما قلنا في المهر. وقال القاضي أبُو الطيب: لا يجب دفع القيمة إليه قولا واحدا؛ لأنها صارت حرة، وليس المانع الإسلام، كما لو أسلمت قبل الدخول ثم جاء زوجها يطلب مهرها. قال ابن الصبَّاغ: والأول أصح؛ لأن الإسلام هو المانع من ردها إليه، ولو كانت حرة غير مسلمة.. لم يمنع منها. وقول القاضي: (أنها إذا أسلمت قبل الدخول.. لم يجب دفع المهر إليه) ليس بصحيح، بل في وجوب دفع المهر إليه بإسلامها قبل الدخول قولان، وإنما لا يجب إذا أسلم الزوج؛ لأنه التزم أحكام الإسلام. هكذا ذكر الشيخ أبُو حامد وابن الصبَّاغ. وأمَّا الشيخ أبُو إسحاق فقال: إن فارقتهم وهي مشركة ثم أسلمت.. صارت حرة؛ لأن الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض، ولا يجوز ردها إلى سيدها، وهل يجب رد قيمتها؟ فيه طريقان: أحدهما: أنه على قولين.

مسألة: أسلم وهاجر إلى دار الإسلام وجواز رده إن كان له عشيرة تمنعه

والثاني: لا يجب قولا واحدا، وهو الصحيح. وإن أسلمت وهي عندهم ثم هاجرت.. لم تصر حرة؛ لأنهم في أمان منا، وأموالهم محظورة علينا، فلم يزل الملك فيها بالهجرة. فإن جاء سيدها يطلبها.. لم ترد إليه؛ لأنها مسلمة، فلم يجز ردها إلى مشرك، فإن طالب بقيمتها.. وجب دفعها إليه، كما لو غصب منهم مال وتلف. قلت: والذي يقتضي المذهب في هذا: أنه لا يجب دفع قيمتها إليه من بيت المال، بل يؤمر بإزالة ملكه عنها ببيع أو غيره؛ لأنه لا يحكم لها بحرية، فتكون كأمة الكافر إذا أسلمت وهي تحت يده. فإن كانت هذه الأمة مزوجة فجاء زوجها يطلبها.. فإنها لا ترد إليه، فإن كان قد دفع مهرها إلى سيدها، فإن كان زوجها حرا.. فهل يجب دفع المهر إليه؟ على القولين. وإن كان زوجها عبدا.. فلها أن تختار الفسخ إذا أعتقت، فإن فسخت النكاح.. لم يجب رد مهرها؛ لأنا لم نحل بينه وبينها، وإنما حال بينهما الفسخ، وإن لم تختر الفسخ.. وجب رد مهر مثلها، ولكن لا يجب رده إلا إن حضر العبد وطالب بها وحضر سيده وطالب بالمهر؛ لأن المهر له. هذا ترتيب أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: إذا جاءت منهم الأمة مسلمة، فجاء زوجها في طلبها.. لم نغرم له مهرها؛ لأنه غير مالك لبضعها على الحقيقة. ولو جاء سيدها.. لم نغرم له شيئا؛ لأنا نقول له: قد عقدت عليها عقدا جعلت غيرك أحق بها منك. وإن جاء الزوج والسيد.. غرمنا قيمتها لسيدها، ومهرها لزوجها. [مسألة: أسلم وهاجر إلى دار الإسلام وجواز رده إن كان له عشيرة تمنعه] وإن أسلم حر منهم وهاجر إلى دار الإسلام، فإن كانت له عشيرة تمنع عنه.. جاز له العودة إليهم. فإن لم تكن له عشيرة تمنع عنه.. لم يجز له الرجوع إليهم.

وإن عقد الإمام الهدنة على رد من جاء من الرجال مسلما ممن له عشيرة، فأسلم رجل منهم له عشيرة وهاجر إلى الإمام وجاء من يطلبه.. فإنه يرده إليهم؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد أبا بصير وأبا جندل على من جاء يطلبهما» ، ولسنا نريد بالرد أنه يكرهه على الرجوع؛ لأنه لا يجوز إجبار المسلم على الإقامة في دار الحرب، ولكن الإمام يقول لطالبه: لا نمنعك من رده إن قدرت، ولا نعينك عليه، ويقول للمسلم في الظاهر: إن اخترت الرجوع.. لم نمنعك منه. ويشار عليه في الباطن: أن يهرب من البلد إذا علم أنه قد جاء من يطلبه، فإن جاء من يطلبه وأخذه.. أشير عليه في الباطن: أن يهرب منه في الطريق. وعلى هذا يحمل ما روي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد أبا بصير وأبا جندل» . أي: خلى بينهم وبين الرجوع؛ لا أنه أكرههما. وقيل: إن أبا بصير قتل اثنين في الطريق ورجع وقال: قد وفيت لهم يا رسول الله، ونجاني الله منهم. هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا جاء من يطلبه، فإن كان له أب شفيق أو قرابة يعلم أنه لا يستذل بينهم.. رد إليهم. وإن لم يكن له قرابة، وخفنا أن يستذل بينهم.. لم يرد إليهم. وأمَّا كيفية الرد: فإن كان الإمام قد شرط لهم أن كل من أتى مسلما حمله إليهم.. وجب حمله إليهم، وإن شرط أن يخلي بينه وبينه.. لم يجب حمله، وخلي سبيله، ثم يحملونه إن شاؤوا. ولا بأس أن يشار على المطلوب بقتل طالبه أو الهرب منه تعريضا لا تصريحا؛ لأجل العهد؛ لما رُوِيَ: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأبي جندل حين رد إلى أبيه: (إن دم الكافر مثل دم الكلب) يعرض له بقتل طالبه الكافر.

فرع: جاء صبي أو مجنون وجاء من يطلبه

[فرع: جاء صبي أو مجنون وجاء من يطلبه] وإن جاء صبي منهم ووصف الإسلام وجاء من يطلبه.. لم يجز رده إليهم؛ لأنه إن لم يكن له عشيرة.. ربما قتل، وإن كانت له عشيرة.. ربما فتن عن دينه إذا بلغ. وهكذا: إن جاء منهم مجنون فوصف الإسلام في حال جنونه.. لم يجز رده إليهم؛ لئلا يفتنوه عن دينه. وكذلك لو لم يصف الإسلام؛ لأن الظاهر أنه مسلم. فإذا بلغ الصبي، وأفاق المجنون، ووصفا الإسلام، فإن لم يكن لهما عشيرة تمنع عنهما.. لم يجز له ردهما. وإن كان لهما عشيرة تمنع منهما.. جاز له ردهما. وإن كانا وصفا الكفر.. رددناهما إلى مأمنهما. [فرع: جاء عبد مسلم فطلبه مولاه] قال الشيخُ أبُو حامد وابن الصبَّاغ: وإن جاءنا عبد لهم مسلم، ثم جاء سيده يطلبه.. لم يجز رده إليه؛ لأنه قد صار حرا بقهره لسيده، وهل يجب رد قيمته إليه؟ فيه قولان، كما قلنا في مهر المرأة. وعلى ما ذكره الشيخ أبُو إسحاق في الأمة: إن فارقهم مشركا ثم أسلم.. صار حرا، وهل يجب رد قيمته؟ على الطريقين، الصحيح: لا يجب قولا واحدا. وإن أسلم عندهم.. لم يصر حرا، ولم يجز رده إليهم، بل يجب رد قيمته. [مسألة: أمور تنقض الهدنة] إذا عقد الإمام الهدنة لقوم من المشركين فقاتلوا المسلمين، أو آووا عينا عليهم، أو كاتبوا أهل الحرب بأخبارهم، أو قتلوا مسلما أو ذميا، أو أخذوا لهم مالا..

انتقضت هدنتهم، فيجوز للإمام غزوهم وقتالهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] [التوبة: 7] فدلَّ على: أنهم إذا لم يستقيموا لنا.. لم نستقم لهم. ولقوله تَعالَى: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} [التوبة: 4] [التوبة: 4] فدلَّ على: أنهم إذا ظاهروا علينا.. لم نتم لهم عهدهم إلى مدتهم. ولا يفتقر نقض الهدنة هاهنا إلى حكم الإمام بنقضها؛ لأن ما تظاهروا به لا يحتمل غير نقض الهدنة. وإن نقض الهدنة بعض المعاهدين دون بعض.. نظرت في الذين لم ينقضوا: فإن لم ينكروا على الناقضين بقول ولا فعل.. انتقضت هدنتهم جميعا؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وادع بني قريظة، فأعان منهم حيي بن أخطب وأخوه وآخر أبا سفيان بن حرب على النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الخندق، وسكت الباقون، فجعل النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك نقضا للهدنة في حق جميعهم وسار إليهم، فقتل رجالهم وسبى ذراريهم» وأيضا: فـ: (إن

النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صالح مشركي قريش عام الحديبية.. دخل بَنُو بكر في جملة قريش وكانوا حلفاءهم، ودخلت خزاعة في جملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحالفوه، فحارب بَنُو بكر خزاعة، وأعان نفر من قريش بني بكر على خزاعة، وأمسك سائر قريش، فجعل النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك نقضا لعهدهم، وسار إلى مكة وفتحها) . وقيل: لم يعن أحد من قريش بني بكر، وإنما قتل رجل من بني بكر رجلا من خزاعة، فسكتت قريش ولم تنكر على بني بكر، فجعل النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك نقضا لعهدهم. ولأنه لما كان عقد الواحد للهدنة عقدا لجميعهم؛ بدليل: أن سهيل بن عمرو لما عقد الهدنة له ولمشركي قريش، وعقد أبُو سفيان الأمان له ولقريش.. كان نقض الواحد نقضا له وللراضي بنقضه. وإن نقض بعضهم العهد، وأنكر الباقون على الناقضين نقضهم بقول أو فعل ظاهر، أو اعتزلوهم، أو أرسلوا إلى الإمام بأنا منكرون ما فعلوه مقيمون على العهد.. انتقض العهد في حق الناقضين دون الآخرين؛ لأن المنكرين لم ينقضوا العهد ولا رضوا بنقضه. فإن كان الذين لم ينقضوا غير مختلطين بالناقضين.. غزا الإمام الناقضين دون الذين لم ينقضوا. وإن كانوا مختلطين بهم.. لم يجز أن يبيتهم ويقتلهم؛ لأنه يقتل من نقض ومن لم ينقض، بل يرسل إلى الذين لم ينقضوا بأن يتميزوا عن الناقضين أو بتسليم الناقضين إن قدروا، فإن لم يفعلوا أحد هذين الأمرين

فرع: ظهور أمارة نقض أو غدر

مع القدرة عليه.. انتقضت الهدنة في حق الجميع؛ لأنهم صاروا مظاهرين لأهل الحرب. فإن لم يقدروا على أحدهما.. كان حكمهم حكم الأسارى من المسلمين مع المشركين، وقد مَضَى بيانه. ومن اعترف منهم أنه نقض العهد، أو قامت عليه البينة.. فلا كلام. ومن لم تقم عليه البينة أنه نقض وادعى أنه لم ينقض.. قبل قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم نقضه. إذا ثبت هذا: وفعلوا ما يوجب النقض.. نظرت: فإن كان ذلك الفعل لا يجب به حق؛ مثل: أن آووا عينا للمشركين على المسلمين، أو كاتبوا المشركين بأخبار المسلمين.. فقد صاروا حربا لنا، ويجب ردهم إلى مأمنهم، ولا شيء عليهم فيما فعلوه. وإن فعلوا ما يجب به حق، فإن كان الحق محضا للآدمي، كالقصاص، وضمان المال، وحد القذف.. استوفي منهم؛ لأن عقد الهدنة اقتضى الكف عن أموالنا وأعراضنا وأموالهم وأعراضهم، فإذا لم يكفوا.. لزمهم الضمان. وإن كان الحق محضا لله تَعالَى؛ بأن زنوا بمسلمة، أو شربوا الخمر.. لم يجب عليهم الحد؛ لأنهم لم يلتزموا بالهدنة حقوق الله تَعالَى. وإن كان الحق لله إلا أنه يتعلق بحق الآدمي؛ بأن سرق سارق منهم نصابا من مال مسلم أو ذمي أو معاهد من حرز مثله.. فهل يجب عليه القطع؟ فيه قولان، مَضَى ذكرهما. [فرع: ظهور أمارة نقض أو غدر] وإن ظهر من المعاهدين أمارة تدل على نقضهم وغدرهم.. قال الشيخُ أبُو حامد: انتقضت هدنتهم. وقال الشيخُ أبُو إسحاق وابن الصبَّاغ: جاز للإمام أن ينبذ إليهم عهدهم، وهو المنصوص؛ لأن الشافعيَّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ينبذ إليهم عهدهم) ؛

مسألة: دخول الحربي دار الإسلام بأمان يشمل النفس والمال والولد

لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] [الأنفال: 58] . قال ابن الصبَّاغ: ولا يكفي أن يقع في نفس الإمام خوف منهم حتى يكون ذلك عن دلالة. قال الشيخُ أبُو إسحاق: ولا تنتقض الهدنة هاهنا إلا بحكم الإمام بنقضها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} [الأنفال: 58] . فإن خاف الإمام من أهل الذمة الخيانة.. لم ينبذ إليهم عهدهم؛ لأن عقد الذمة معاوضة يقتضي التأبيد، فلم ينتقض بخوف الخيانة، وعقد الهدنة مؤقت ويقتضي الكف عن القتال، فإذا خيف منهم الخيانة.. جاز نقضه. [مسألة: دخول الحربي دار الإسلام بأمان يشمل النفس والمال والولد] إذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان.. فإن الأمان ينعقد له ولماله وأولاده الصغار؛ لأن الأمان يقتضي الكف عن ذلك. فإن عقد الأمان لنفسه وماله وأولاده الصغار.. كان ذلك تأكيدا. فإن رجع إلى دار الحرب وترك ماله في دار الإسلام، فإن رجع إليها بإذن الإمام لشغل له ثم يعود له أو برسالة من الإمام.. فإن الأمان يكون باقيا لنفسه وماله، كالذمي إذا رجع إلى دار الحرب تاجرا. وإن رجع إلى دار الحرب ليستوطنها.. انتقض أمانه في حق نفسه، ولم ينتقض في ماله وأولاده الصغار الذين في دار الإسلام؛ لأن الأمان قد ثبت في حق الجميع، فإذا انتقض في حق نفسه.. لم ينتقض في ماله وأولاده الصغار، كأم الولد إذا بطل حقها بموتها.. لم يبطل حق ولدها. وأمَّا ولده الصغير: فإنه ما لم يبلغ.. فهو في أمان، فإن بلغ.. قيل له: قد كنت في أمان تبعا لغيرك، والآن فقد زال تبعك لغيرك، فإما أن تسلم وإمَّا أن تعقد

الذمة ببذل الجزية- إن كان من أهل الجزية- وإمَّا أن تلحق بدار الحرب. وأمَّا ماله: فيحفظ له، فإن مات أو قتل في دار الحرب.. انتقل إلى ورثته الحربيين، ولا ينتقل إلى ورثته من أهل الذمة. وهل يبطل حكم الأمان في ماله؟ فيه قولان: أحدهما: لا يبطل الأمان - وبه قال أحمد، وهو اختيار المزني - لأن من ورث مالا.. ورثه بحقوقه، والأمان من حقوقه، فورث. وإن لم يكن له وارث.. كان فيئا. والثاني: يبطل الأمان في ماله - وبه قال أبُو حَنِيفَة، وهو اختيار أبي إسحاق المَروَزِيّ - لأنه لما مات.. انتقل إلى وارثه وهو كافر لم يكن بيننا وبينه أمان، فلم يكن له أمان، كسائر أمواله. فإذا قلنا بهذا: فنقل المزني أنه يكون مغنوما. قال أصحابنا: وليس هذا على ظاهره؛ لأن الغنيمة ما أخذ بالقهر والغلبة، وهذا أخذ بغير قهر ولا غلبة، فيكون فيئا. وقال أبُو علي ابن خيران: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فحيث قال: (يغنم) أراد: إذا عقد الأمان لنفسه ولم يشترطه لوارثه بعده. وحيث قال: (لا يغنم) أراد: إذا شرط الأمان لنفسه ولوارثه بعده. والطريق الأول أصح. وإن مات أو قتل في دار الحرب، وله أولاد صغار في دار الإسلام.. فهل يبطل الأمان فيهم؟ على الطريقين في ماله. وكذلك الحكم في الذمي إذا نقض الذمة ولحق بدار الحرب وترك ماله وأولاده الصغار في دار الإسلام.. فهو كالحربي على ما مَضَى.

فرع: أعطي أمانا فاكتسب أو خلف مالا ومات

[فرع: أعطي أمانا فاكتسب أو خلف مالا ومات] وإن دخل الحربي علينا بأمان ومعه مال أو اكتسب مالا في دار الإسلام، ومات في دار الإسلام وهو على أمانه.. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في (السير) : (فإن ماله يرد إلى وارثه) . واختلف أصحابنا فيها: فمنهم من قال: فيه قولان، كما لو رجع إلى دار الحرب للاستيطان. ومنهم من قال: يرد إلى وارثه قولا واحدا؛ لأنه مات على أمان، فكان الأمان باقيا في المال. فإذا رجع إلى دار الحرب للاستيطان فمات فيها.. فقد مات بعد بطلان الأمان في حق نفسه، فبطل في ماله في أحد القولين.. وإن رجع إلى دار الحرب للاستيطان، ولكن رجع بإذن الإمام لتجارة أو رسالة، فمات في دار الحرب.. ففي ماله الذي في دار الإسلام الطريقان فيه إذا مات في دار الإسلام وهو على الأمان. [فرع: جاء بأمان وعاد للاستيطان وماله عندنا ثم أسر] وإن دخل الحربي إلينا بأمان، فرجع إلى دار الحرب للاستيطان، وترك ماله في دار الإسلام وأسر.. فإن ملكه لا يزول بالأسر، فإن فادى به الإمام أو من عليه.. فماله باق على ملكه، وإن قتله.. فهو كما لو مات أو قتل في دار الحرب على ما مَضَى، وإن استرقه.. زال ملكه عن ماله؛ لأن الاسترقاق يزيل التملك وهل يبطل الأمان في ماله؟ يبنى على القولين فيه إذا مات في دار الحرب: فإذا قلنا: يبطل.. نقل إلى بيت المال. وإن قلنا: لا يبطل.. كان ماله موقوفا ولا ينتقل إلى وارثه؛ لأنه حي. فإن عتق.. كان المال له. وإن مات على الرق.. قال أكثر أصحابنا: ينتقل إلى

فرع: دخل بأمان فنقضه ورجع لدار الحرب ثم رجع إلى دارنا

بيت المال فيئا؛ لأن العبد لا يورث. وحكى الشيخُ أبُو إسحاق: أن أبا علي بن أبي هُرَيرَة حكى قولا آخر: أنه لوارثه؛ لأنه ملكه في حريته. [فرع: دخل بأمان فنقضه ورجع لدار الحرب ثم رجع إلى دارنا] فرع: [دخل بأمان فنقضه ورجع لدار الحرب للاستيطان ثم رجع إلى دارنا] : وإن دخل الحربي بأمان، فنقض العهد ورجع إلى دار الحرب للاستيطان وترك ماله، ثم رجع إلى دار الإسلام بغير أمان ليأخذ ماله.. فهل يجوز سبيه؟ قال ابن الحداد: لا يجوز سبيه؛ لأنا لو سبيناه.. أبطلنا ملكه وأسقطنا حكم الأمان في ماله. فمن أصحابنا من وافقه، ومنهم من خالفه، وقال: يجوز سبيه؛ لأن أمانه في نفسه قد بطل، وبثبوت الأمان في ماله لا يثبت الأمان لنفسه، كما لو أدخل ماله إلى دار الإسلام بأمان.. فإن الأمان لا يثبت لنفسه. ولهذا: لو أرسل ماله بضاعة مع رجل له أمان في نفسه ولما معه من المال.. فإن الأمان لا يثبت لصاحب المال. [فرع: دخل دار الحرب بأمان وأعطاه حربي مالا يتجر به عندنا] فرع: [دخل مسلم أو ذمي دار الحرب بأمان وأعطاه حربي مالا يتجر به عندنا] : إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان، فدفع إليه حربي مالا ليشتري به شيئا من دار الإسلام.. فإن مال الحربي يكون في أمان؛ لأن المسلم يصح أمانه وقد أخذه على ذلك. وإن دخل الذمي دار الحرب بأمان، فدفع إليه الحربي مالا ليشتري به شيئا من دار الإسلام، فرجع الذمي به إلى دار الإسلام.. فقد حكى الربيع فيه قولين: أحدهما: يكون الأمان لذلك المال، كما لو كان دفعه إلى مسلم. والثاني: لا يكون له أمان؛ لأن أمان الذمي لا يصح. قال أصحابنا: هذا القول من كيس الربيع، بل يجب رده إلى الحربي قولا واحدا؛ لأن الذمي وإن لم يصح أمانه إلا أن الحربي قد اعتقد صحة الأمان لماله، فوجب رده إليه، كما لو دخل الحربي بأمان صبي.

مسألة: دخل مسلم دار حرب بأمان فاقترض أو سرق مالا

[مسألة: دخل مسلم دار حرب بأمان فاقترض أو سرق مالا] وإن دخل المسلم دار الحرب بأمان، فاقترض من حربي مالا أو سرقه، أو كان أسيرا فخلوه وأمنوه، فسرق لهم مالا وخرج.. وجب عليه رده. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يلزمه) . دليلنا: أنه منهم في أمان فكانوا منه في أمان فلزمه رده، كما لو اقترض أو سرق من ذمي مالا. [فرع: اقترض حربي مالا فأسلم المستقرض أو دخل إلينا بأمان] وإن اقترض حربي من حربي مالا، فأسلم المستقرض أو دخل إلينا بأمان، وجاء المقرض يطالبه بما أقرضه.. قال أبُو العباس: لزمه أن يرد عليه ما أقرضه، كما قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا تزوج حربي بحربية فأصدقها، ثم أسلما وجاءا إلى دار الإسلام.. لزمه المهر) ، فإذا لزمه المهر في حال الشرك.. وجب أن يلزمه رد القرض في حال الشرك. قال أبُو العباس: ويحتمل قولا آخر: أنه لا يلزمه رد القرض؛ لأن الشافعيَّ، قال: (إذا تزوج حربي بحربية ودخل بها، ثم أسلم وخرج إلى دار الإسلام فماتت، فجاء ورثتها يطالبونه بمهرها.. لم يلزمه مهرها؛ لأنه فات في حال الشرك) . قال أبُو العباس: وهذا ضعيف في القياس، ويشبه أن يكون تأويل هذا: أنه تزوجها بغير مهر.. فلا يلزمه شيء؛ لأنه فات في حال الشرك. [فرع: الهدية حال الحرب غنيمة] قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " حرملة ": (إذا أهدى المشرك إلى الأمير أو إلى رجل من المسلمين هدية والحرب قائمة.. كانت غنيمة؛ لأنه أهدى ذلك خوفا من الجيش. وإن أهدى إليه قبل أن يرتحلوا من دار الإسلام.. لم تكن غنيمة، وينفرد بها المهدى

فرع: أخذ مشرك جارية مسلم فوطئها فأتت بولد ثم ظهر المسلمون عليه

إليه) . وبه قال محمد بن الحَسَن. وقال أبُو حَنِيفَة: (تكون للمهدى إليه بكل حال) . دليلنا: أنه مال حصل بظهور الجيش، فأشبه ما أخذوه قهرا. [فرع: أخذ مشرك جارية مسلم فوطئها فأتت بولد ثم ظهر المسلمون عليه] ] : قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأسارى: (لو أخذ مشرك جارية مسلم، فوطئها وأتت منه بولد، ثم ظهر المسلمون عليه.. كانت الجارية والولد للمسلم. فإن أسلم واطئها. دفع ثمن الجارية إلى مالكها. ويأخذ من واطئها عقرها وقيمة أولادها يوم سقطوا) . قال أبُو العباس: أما قوله: (إن الجارية والولد ملك للمسلم) فلأن المشرك لم يملكها بالحيازة، فهو كالغاصب، إلا أنه لم يلزمه المهر؛ لأنه ليس من أهل الضمان للمسلم؛ ولهذا: لو أتلفها.. لم يلزمه ضمانها. وأمَّا قوله: (إذا أسلم واطئها دفع ثمن الجارية إلى مالكها، ولزمه عقرها وقيمة أولادها) فتأويلها: أن يكون وطئها بعدما أسلم، فيكون عليه المهر، والولد حر للشبهة؛ وهو قوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم على شيء.. فهو له» ولزمه قيمة الولد؛ لأنه أتلفه بالشبهة. [فرع: ابتاع حربي عبدا مسلما ورجع به لدار الحرب ثم ظهر المسلمون] وماذا لو حصل وصية؟] : وإن دخل حربي دار الإسلام، وابتاع عبدا مسلما ورجع به إلى دار الحرب، ثم ظهر المسلمون عليه، فإن قلنا: لا يصح ابتياع الكافر للعبد المسلم.. رد إلى من

باعه، وإن قلنا: يصح ابتياعه له.. كان غنيمة. وإن أوصي بعبد مسلم لكافر، فإن قلنا: يصح شراؤه له.. صحت الوصية له به، وإن قلنا، لا يصح شراؤه له.. ففي الوصية له به وجهان: أحدهما: لا يصح، كالشراء. فعلى هذا: إن أسلم الموصى له قبل موت الموصي.. لم يكن له أن يقبل الوصية؛ لأنها قد وقعت باطلة. والثاني: إن قلنا: إن الوصية موقوفة، فإن أسلم الموصى له قبل موت الموصي.. فله أن يقبل الوصية. وإن مات الموصي قبل إسلام الموصى له.. لم يكن له أن يقبل الوصية؛ لأن لزوم الوصية حال موت الموصي، فاعتبر حال الموصى له بتلك الحال. وإن أوصي بعبد كافر لكافر.. صحت الوصية، فإن أسلم العبد قبل موت الموصي.. فهو كما لو أوصى له بعبد مسلم على ما مَضَى، وإن أسلم بعد موت الموصي، وقبل قبول الموصى له به.. بني على القولين: متى يملك الموصى له الوصية؟ فإن قلنا: إنه يملك بالموت، أو نتبين بالقبول أنه ملكه بالموت.. صحت الوصية. وإن قلنا: تملك بالقبول.. كانت مبنية على القولين في الشراء. وبالله التوفيق

باب خراج السواد

[باب خراج السواد] سواد العراق من الموصل إلى عبادان في الطول، ومن القادسية إلى حلوان في العرض. ولا تدخل البصرة في حكم أرض السواد وإن دخلت في هذا الحد؛ لأنها كانت أرضا سبخة وأحياها عُثمانَ بن أبي العاص وعتبة بن غزوان بعد الفتح، إلا موضعا من شرقي دجلتها يسمى الفرات، ومن غربي دجلتها يسمى نهر المرأة.. فإنه داخل في حكم أرض السواد.

وإنما سميت هذه الأرض أرض السواد؛ لأن الجيش لما خرجوا من البادية.. رأوا هذه الأرض والتفاف شجرها فسموها السواد. ولا خلاف: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فتحها عنوة وردها إلى أهلها، واختلف الناس في كيفية ردها إلى أهلها: فمذهب الشافعي: (أنه قسمها بين الغانمين، ثم استنزل الغانمين عنها برضاهم، فنزلوا عنها وردوها إلى أهلها) . وقال الأَوزَاعِي ومالك: (لم يقسمها، وإنما صارت وقفا بنفس الغنيمة) . وقال أبُو حَنِيفَة: (لم يقسمها بين الغانمين، وإنما أقرها في أيدي أهلها وهم المجوس، وضرب عليهم الجزية) . دليلنا: ما رُوِيَ: عن جرير بن عبد الله البجلي أنه قال: كانت بجيلة ربع الناس يوم القادسية، فقسم لهم عمر ربع السواد، فاستغلوها ثلاث سنين أو أربعا، ثم قدمت على عمر، فقال عمر: (لولا أنِّي قاسم مسؤول.. لتركتكم على ما قسم لكم، ولكني أرى أن تردوها عليّ، قال: فعاوضني عن حقي نيفا وثمانين دينارا) . فثبت أنها لم تصر وقفا، وإنما قسمها وعاوضه عن حقه. فإن قيل: فقد ملكوها بالقسمة، فكيف استردها منهم؟ فالجواب: أنه لم يكرههم على الرد، وإنما سألهم أن يردوها برضاهم، فمنهم من طابت نفسه برد حقه بغير عوض، ومنهم من لم يرد نصيبه إلا بعوض؛ بدليل

ما رُوِيَ: (أن أم كرز قدمت على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالت: إن أبي قتل يوم القادسية، وإن سهمه ثابت ولا أترك حقي، فقال عمر: قد علمت ما فعل قومك، فقالت: لا أترك حقي حتى تركبني ناقة ذلولا عليها قطيفة حمراء، وتملأ كفي ذهبا. قال: ففعل عمر لها ذلك، فعدت الدنانير التي في كفها، فإذا هي ثمانون دينارا) . وهذا «كما رُوِيَ: أن وفد هوازن لما سبيت ذراريهم.. وفدوا إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسألوه أن يرد عليهم، فخيرهم بين الأحساب والأموال، فاختاروا الأحساب، فقال: " أما نصيبي ونصيب أهلي.. فهو لكم، وأسأل سائر الناس " فسأل الناس أن يردوا عليهم عن طيب أنفسهم، فردوه عليه» . وأمَّا قول عمر: (لولا أنِّي قاسم مسؤول.. لتركتكم على ما قسم لكم) فله تأويلان: أحدهما: أنه رأى إن تركهم على ما قسم لهم من تلك الأرض.. انشغلوا بعمارتها عن الجهاد، وتعطل الجهاد؛ لأن أكثر الصحابة قد كان غنم منها. والثاني: أنه نظر في العاقبة وخشي أن من جاء بعد ذلك من المسلمين لا شيء لهم؛ لأن أرض السواد قد صارت لأولئك الذين غنموا، فأحب عمر أن يكون لمن يأتي من المسلمين فيها نفع؛ بدليل: ما رَوَى زيد بن أسلم، عن أبيه: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (لولا أنِّي أخشى أن يبقى الناس ببانا لا شيء لهم.. لتركتكم على ما قسم لكم، ولكني أحب أن يلحق آخر الناس أولهم) ، وتلا قَوْله تَعَالَى:

{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] [الحشر: 10] قال: يعني ما تركوا لنا وخلفوا علينا. و (الببان) : أن يتساوى الناس في الشيء، إما في الغنى أو في الفقر. إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا فيما فعله عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أرض السواد: فقال أبُو العباس وأبو إسحاق: باعها إلى أهلها المجوس بثمن مجهول القدر، يؤخذ منهم في كل سنة جزء معلوم؛ لأن الناس يتبايعون في أرض السواد من عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى وقتنا هذا ولا ينكره أحد من العلماء، فثبت أنه باعها منهم. فعلى هذا: يجوز بيعها وهبتها ورهنها. وقال أبُو سعيد الإصطخري وأكثر أصحابنا: وقفها على المسلمين، ثم أجرها من المجوس على أجرة مجهولة القدر، يؤخذ منهم كل سنة شيء معلوم. وهذا هو المنصوص في " سير الواقدي "؛ لما رُوِي عن سفيان الثوري أنه قال: (جعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أرض السواد وقفا على المسلمين ما تناسلوا) . ورَوَى بكير بن عامر: (أن عتبة بن فرقد اشترى أرضا من أرض السواد، فأتى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخبره، فقال: ممن اشتريتها؟ فقال: من أهلها، فقال: فهؤلاء أهلها المسلمون، أبعتموه شيئا؟ قالوا: لا، قال: فاذهب واطلب مالك) . وأمَّا قوله: (إنها تباع من غير إنكار) فغير صحيح؛ لما رَوَيْنَاهُ من حديث عمر. وقال شبرمة: لا أجيز بيع أرض السواد، ولا هبتها، ولا وقفها.

فعلى هذا: لا يجوز بيعها ولا وقفها ولا هبتها. فإن قيل: فالبيع عندكم لا يصح إلا بثمن معلوم، وكذلك الإجارة لا تصح إلا إلى مدة معلومة وأجرة معلومة، فكيف صح بيعها أو إجارتها على ما ذكرتم؟ فالجواب: أن البيع لا يصح إلا بثمن معلوم، والإجارة لا تصح إلا إلى مدة معلومة وبأجرة معلومة إذا كانت المعاملة في أموال المسلمين، فأما إذا كانت في أموال الكفار.. فلا يفتقر إلى ذكر ذلك؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل في البدأة الربع، وفي الرجعة الثلث» وهذا عوض مجهول؛ لأنه معاملة في أموال الكفار. فإذا قلنا: إنها مبيعة إليهم.. فالمنازل في أرض السواد دخلت في البيع. وإن قلنا: إنها وقف.. فهل دخلت المنازل في الوقف؟ فيه وجهان: أحدهما: أنها وقف.. كالمزارع. والثاني: أنها لم تدخل في الوقف؛ لأنا لو قلنا: إنها دخلت في الوقف.. أدى إلى خرابها. قال الشيخُ أبُو إسحاق: وأمَّا الثمار: فهل يجوز لمن هي في يده الانتفاع بها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، وعلى الإمام أن يأخذها ويبيعها، ويصرف ثمنها في مصالح المسلمين؛ لما رُوِيَ: عن أبي الوليد الطيالسي أنه قال: أدركت الناس بالبصرة يحمل إليهم التمر من الفرات.. فلا يقدمون على شرائه. والثاني: يجوز لمن في يده الأرض الانتفاع بثمرتها؛ لأن الحاجة تدعو إليه، فجاز كما تجوز المساقاة والمضاربة على جزء مجهول. وعندي: أن هذين الوجهين إنما يكونان في ثمرة الأشجار التي كانت موجودة في أرض السواد يوم ردها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أهلها. فإذا قلنا: إن الأرض وقف، وأجرها ممن هي في يده؛ لأن الأرض إذا

مسألة: في مساحة أرض السواد ومبلغ ما جبي منه ومصرفه

استأجرها إنسان وفيها أشجار.. لم تدخل الأشجار في الإجارة، ولم يملك المستأجر ثمرتها، فتكون على الوجه الأول غير داخلة في الإجارة، بل هي وقف على المسلمين، فتصرف في مصالح المسلمين. وعلى الوجه الثاني: دخلت في الإجارة؛ لموضع الحاجة إلى ذلك. فأما إذا قلنا: إن عمر باعها.. فإن الأشجار الموجودة يوم البيع وما غرس فيها بعد ذلك ملك لمن ملك الأرض، وثمرتها ملك له وجها واحدا. [مسألة: في مساحة أرض السواد ومبلغ ما جبي منه ومصرفه] ] : وأمَّا مساحة أرض أهل السواد: فقد مسحها عُثمانَ بن حنيف وارتفعت اثنين وثلاثين ألف جريب. وقال أبُو عبيد: ارتفعت ستة وثلاثين ألف ألف جريب. وأمَّا قدر ما يؤخذ منها من الخراج في كل سنة: فإنه يؤخذ من جريب الشعير درهمان، ومن جريب الحنطة أربعة دراهم، ومن جريب الشجر والقضب ستة دراهم، ومن جريب النخل ثمانية دراهم، ومن جريب الكرم عشرة دراهم. ومن أصحابنا من قال: يؤخذ من جريب الكرم ثمانية دراهم، ومن جريب النخل عشرة دراهم. والأول هو المشهور: لما رُوِيَ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعث إلى الكوفة ثلاثة: عمار بن ياسر أميرا على الجيش والصلاة، وعبد الله بن مَسعُودٍ قاضيا وحافظا لبيت المال، وعثمان بن حنيف ماسحا. وفرض لهم كل يوم شاة، نصفها مع السواقط

لعمار بن ياسر، والنصف الآخر بين عبد الله بن مَسعُودٍ وعثمان بن حنيف، ثم قال: وإن قرية يؤخذ منها كل يوم شاة لسريع خرابها. فمسح عُثمانَ بن حنيف أرض السواد وضرب عليها الخراج، فجعل على جريب الشعير درهمين، وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم، وعلى جريب الرطبة والشجر ستة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، وعلى جريب الكرم عشرة دراهم، وأنفذه إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فرضي به وأجازه) . ووافقنا أبُو حَنِيفَة في هذا كله إلا في الشعير والحنطة؛ فإنه قال: (يؤخذ من جريب الشعير قفيز ودرهم، ومن جريب الحنطة قفيز ودرهمان) . وقال أحمد: (يؤخذ من كل واحد منهما قفيز ودرهم) . دليلنا: ما ذكرناه من الخبر؛ فإنه لم يجعل عليهم قفيزا. وما يؤخذ من الخراج يصرف في مصالح المسلمين، الأهم فالأهم؛ لأنه للمسلمين، فصرف في مصالحهم. وأمَّا مبلغ ما جبي من أرض العراق: فقد ذكر الشيخ أبُو إسحاق: أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بلغ جباؤها معه ألف ألف وسبعة وثلاثين ألف ألف درهم. وذكر الشيخ أبُو حامد وابن الصبَّاغ: أن عمر بن الخطاب جباها في كل سنة مائة ألف ألف وستين ألف ألف درهم، ولم يزل يتناقص حتى بلغ زمن الحجاج ثمانية عشر ألف ألف درهم، فلما ولي عمر بن عبد العزيز.. عاد في السنة الأولى إلى ثلاثين ألف ألف درهم، وفي السنة الثانية إلى ستين ألف ألف درهم، وقال: لئن عشت.. لأبلغن

به إلى ما كان في أيام عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فمات في تلك السنة. هكذا ذكر الشيخ أبُو حامد وابن الصبَّاغ. وأمَّا الشيخ أبُو إسحاق: فذكر: أن عمر بن عبد العزيز جباها مائة [ألف] وأربعة وعشرين ألف ألف درهم. والله أعلم، وبالله التوفيق

كتاب الحدود

[كتاب الحدود] [باب حد الزِّنَى]

كتاب الحدود باب حد الزِّنَى الزِّنَى محرم، والدليل على تحريمه: الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تَعالَى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32] [الإسراء: 32] وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] [الفرقان: 68] . وأمَّا السنة: فروي عن عبد الله بن مَسعُودٍ «أنه قال: سألت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: " أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك " قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك» .

وأمَّا الإجماع: فإن الأمة أجمعت على تحريمه، ولم يحله الله في شرع نبي من الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وسلامه، وكان أهل الجاهلية يتشرفون عنه. إذا ثبت هذا: فإن الحد يجب في الزِّنَى. وكان الحد في الزِّنَى في أول الإسلام: الحبس والإيذاء بالكلام. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] الآية [النساء: 15] . قال أكثر أصحابنا: المراد بالحبس: للثيب، والمراد بالأذى بالكلام: للأبكار من الرجال والنساء؛ بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] فأضافهن إلينا، وأراد بذلك: من أحصن بكم؛ إذ لا فائدة في إضافة ذلك إلى الزوجات إلا اعتبار الثيوبة. ولأن الله تَعالَى جعل حد الثيب في الانتهاء أغلظ من حد البكر، فدلَّ على: أن حد الثيب في الابتداء كان أغلظ أيضا. وقال أبُو الطيب ابن سلمة: لم تتناول الآية الثيب قط، وإنما المراد بالحبس: للأبكار من النساء، وبالأذى بالكلام: للأبكار من الرجال. وقد نسخ الحد بالحبس والأذى، فجعل حد البكر الجلد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] [النور: 2] ، وجعل حد الثيب الرجم. وهو إجماع الأمة إلا قوما من الخوارج؛ فإنهم قالوا: لا يرجم الثيب وإنما يجلد. والدليل على أن الثيب يرجم إذا زنَى: ما رُوِي «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خطب وقال: (إن الله بعث محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبيا، وأنزل عليه كتابا، وكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فتلوناها ووعيناها: " الشيخ والشيخة إذا زنيا.. فارجموهما البتة " وقد رجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده، وإني أخشى أن يطول بالناس زمان فيقول قائل: لا رجم في كتاب الله، فيضل قوم بترك فريضة أنزلها الله، الرجم حق على كل من زنى من رجل أو امرأة إذا أحصنا، ولولا أنِّي أخشى أن يقول الناس: زاد عمر في المصحف

كتاب الله. لأثبتها في حاشية المصحف) ،» وكان هذا في ملأ من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فلم ينكر عليه أحد ذلك. وروى عبادة بن الصامت: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خذوا عني، خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» ورَوَى ابن عمر: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم يهوديين زنيا» . وروى أبُو هُرَيرَة، وزيد بن خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن رجلين اختصما إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله. وقال الآخر: أجل - وكان أفقههما - اقض يا رسول الله بيننا وأذن لي أن أتكلم. فقال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تكلم " فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا - يعني: أجيرا- فزنى بامرأته، فأخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة وجارية، ثم سألت رجلا من أهل العلم، فقال: الرجم على امرأة هذا، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام؟ فقال النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لأقضين بينكما بكتاب الله: أما غنمك وجاريتك.. فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام.

واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت به.. فارجمها فغدا إليها، فاعترفت، فرجمها» ورُوِي: «أن ماعز بن مالك الأسلمي اعترف عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزِّنَى أربع مرات، فرجمه» وروى بريدة: «أن امرأة من غامد أتت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: فجرت، فقال، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارجعي " فرجعت، فلما كان من الغد.. أتته وقالت: أتريد يا رسول الله، أن تردني كما رددت ماعزا؟ فوالله إنِّي لحبلى. فقال لها: " ارجعي حتى تضعي " فلما وضعته.. أتته، فقال لها: " ارجعي حتى تفطمي " فلما فطمته.. أتته ومعها ولدها وفي يده كسرة، فقالت: قد فطمته وهو هذا، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجمها، فحفر لها إلى صدرها ورجمت. وكان فيمن رجمها خالد بن الوليد، فرماها بحجر فقطر عليه قطرة من دمها فسبها، فقال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تسبها يا خالد! فلقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس.. لغفر الله له " ثم أمر بها فصَلَّى عليها، ثم دفنت» . و (صاحب المكس) : هو صاحب الضريبة. وروى عمران بن الحصين: «أن امرأة من جهينة اعترفت بالزِّنَى عند النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي حبلى، فدعا النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليها، وقال: " أحسن إليها حتى تضع، فإذا وضعت. فَجِئْ بها " فلما وضعت.. جاء بها، فأمر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجمها، وأن يصلى عليها» .

ورُوِي: أن عمر وعليا، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رجما، ولا مخالف لهما في الصحابة. فإن قيل: فإذا كان الحد ثبت بالقرآن بالحبس والأذى، ثم ثبت الرجم بالسنة.. فكيف جاز نسخ القرآن بالسنة، والشافعيُّ لا يجيز نسخ القرآن بالسنة، وإن كان بعض أصحابنا يجيزه؟ فالجواب: أن على قول أبي الطيب ابن سلمة لا يوجد نسخ القرآن بالسنة هاهنا؛ لأن الآية في الحبس والأذى لم تتناول الثيب، وإنما تتناول البكر، وقد نسخ ذلك بالقرآن؛ وهو قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] [النور: 2] . وعلى قول أكثر أصحابنا: أن الآية تتناول الثيب فلم ينسخ القرآن بالسنة، وإنما نسخت بالقرآن وهي الآية التي ذكرها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنها التي نزلت: (الشيخ والشيخة) ثم نسخ رسم هذه الآية وبقي حكمها. وقيل: إن الحبس المذكور في القرآن ليس بحد، وإنما هو أمر بالحبس لكي يذكر الحد فيما بعد؛ لأنه قال تَعالَى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] [النساء: 15] ، ثم وردت السنة ببيان السبيل المذكور، ولهذا قال، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذوا عني، خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . ولا يجلد المحصن مع الرجم، وهو قول أكثر أهل العلم. وقال أحمد وإسحاق وداود: (يجلد ثم يرجم) . واختاره ابن المنذر، لحديث عبادة بن الصامت. ورُوِي: أن عليا كرم الله وجهه جلد شراحة يوم الخميس،

مسألة: لا يحد الصغير والمجنون ولا يرجم المملوك عندنا

ورجمها يوم الجمعة، وقال: (جلدت بكتاب الله، ورجمت بسنة رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . دليلنا: ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم ماعزا ولم يجلده» فدلَّ على: أن الجلد مع الرجم منسوخ. «ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرجل الذي سأله: " على ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمها " فغدا عليها فاعترفت، فرجمها.» ولم يذكر الجلد. و: «رجم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهوديين اللذين زنيا، ولم يجلدهما» وحديث عبادة منسوخ؛ لأنه كان أول ما نقل عن الحبس؛ بدليل «قوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قد جعل الله لهن سبيلا» وأمَّا حديث علي: فمحمول على أنها زنت وهي بكر، فلم يجلدها حتى صارت ثيبا، ثم زنت. ويحتمل أنه ظن أنها بكر فجلدها، ثم بان أنها ثيب فرجمها. وقد رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بامرأة زنت فجلدها، فقيل له بعد جلدها: إنها ثيب، فرجمها» . [مسألة: لا يحد الصغير والمجنون ولا يرجم المملوك عندنا] ولا يجب حد الزِّنَى على صغير ولا على مجنون؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» ، ولأنهما إذا سقط عنهما التكليف في العبادات والإثم في المعاصي.. فلأن لا يجب عليهما حد الزِّنَى - ومبناه على الإسقاط - أولى. فأما المملوك: فلا يجب عليه الرجم، سواء كان بكرا أو ثيبا.

وقال أبُو ثور: (يجب عليه الرجم إذا زنَى بعد أن صار ثيبا؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» ولم يفرق بين الحر والمملوك) . ولأنه حد لا يتبعض فاستوى فيه الحر والمملوك، كالقطع في السرقة. وهذا خطأ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] [النساء: 25] فجعل على الأمة مع إحصانها نصف ما على المحصنات من العذاب، والرجم لا يتنصف. ومعنى قَوْله تَعَالَى: {أحصن} بفتح الهمزة أي: أسلمن. وعلى قراءة من قرأها بضم الهمزة، أي: تزوجن. وروى أبُو هُرَيرَة، وزيد بن خالد الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» «إذا زنت أمة أحدكم.. فليجلدها، فإذا زنت.. فليجلدها، فإذا زنت.. فليبعها ولو بضفير ". قال ابن شهاب: لا أدري " فليبعها» «قاله في الثالثة أو في الرابعة؟» و (الضفير) : هو الحبل الخلق من الشعر. ولأن الحد بني على التفضيل، فإذا لم يتبعض.. سقط فيه المملوك، كالشهادة والميراث. ومعنى قولنا: (بني على التفضيل) أي: أن حد المملوك في الجلد على النصف من حد الحر؛ لأن الحر أفضل، وحد الثيب أغلظ من حد البكر؛ لأن الثيب أفضل، ونساء النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضاعف عليهن العذاب لو أتين بفاحشة؛ لأنهن أفضل. وفيه احتراز من القطع في السرقة؛ لأنه لم يبن على المفاضلة، بل يستوي فيه الجميع.

مسألة: شروط الإحصان والرجم

وقولنا: (إذا لم يتبعض) احتراز من الجلد، ومن عدد الزوجات، والطلاق في حق المملوك؛ فإن ذلك يتبعض. [مسألة: شروط الإحصان والرجم] ] : قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإذا أصاب الحر، أو أصيبت الحرة بعد البلوغ بنكاح صحيح.. فقد أحصنا، فمن زنَى منهما.. فحده الرجم) . وجملة ذلك: أن البكر عبارة عمن ليس بمحصن، والثيب عبارة عن المحصن. و (الإحصان) في اللغة: يقع على المنع؛ قال الله تَعالَى: {فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} [الحشر: 14] [الحشر: 14] أي: مانعة. وقال تَعالَى: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] [الأنبياء: 80] أي: لتمنعكم. والإحصان في القرآن يقع على أربعة أشياء: أحدها: الحرية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] [المائدة: 5] يعني: الحرائر من الذين أوتوا الكتاب. والثاني: الزوجية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] [النساء: 23-24] وأراد بالمحصنات هاهنا: المزوجات. فمنع من وطء المزوجات من النساء، وأباح ما ملكت أيماننا إذا كن مزوجات، يعني: المسبيات. والثالث: الإسلام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] [النساء: 25] يعني: فإذا أسلمن. الرابع: العفة عن الزِّنَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] [النساء: 24] يعني: أعفاء عن الزِّنَا. وأمَّا المحصن الذي يجب عليه الرجم إذا زنَى فهو: البالغ العاقل الحر إذا وطئ في نكاح صحيح. واختلف أصحابنا في شرائط الإحصان والرجم: فمنهم من قال: إن للإحصان أربع شرائط: البلوغ، والعقل، والحرية،

والإصابة بنكاح صحيح. وللرجم شرطان: الإحصان والزنى. فعلى هذا: إذا وطئ في نكاح صحيح وهو بالغ عاقل حر.. صار محصنا، فإذا زنَى بعد ذلك.. وجب عليه الرجم. وإن وطئ في نكاح صحيح وهو صغير أو مجنون أو مملوك.. لم يصر محصنا، فإذا زنَى بعد ذلك.. لم يجب عليه الرجم. ومنهم من قال: ليس للإحصان إلا شرط واحد؛ وهو الوطء في نكاح صحيح، فأما البلوغ والعقل والحرية.. فإنها من شرائط وجوب الرجم. فعلى هذا: للرجم خمس شرائط: الإحصان- وهو الوطء في نكاح صحيح- والبلوغ، والعقل، والحرية، والزنى. فإذا وطئ في نكاح صحيح وهو صغير أو مجنون أو مملوك.. صار محصنا، فإذا بلغ أو أفاق أو أعتق، ثم زنَى.. وجب عليه الرجم؛ لأنه وطئ في نكاح صحيح. ولأنه لو وطئ امرأة في نكاح صحيح وهو صغير أو مجنون أو مملوك يحصل به الإحلال للزوج الأول، فوجب أن يحصل به الإحصان، كما لو وطئ وهو بالغ عاقل حر. ولأن عقد النكاح لا يعتبر فيه الكمال، فكذلك الوطء. وحكى الشيخُ أبُو حامد أن من أصحابنا من قال: الرق مانع من الإحصان، والصغر ليس بمانع من الإحصان. فعلى هذا: إذا وطئ الصغير في نكاح صحيح. صار محصنا، وإذا وطئ المملوك في نكاح صحيح.. لم يصر محصنا. والفرق بينهما: أن الصغر ليس بنقص في النكاح؛ ولهذا يجوز أن يتزوج الحر الصغير بأربع. والرق نقص في النكاح؛ ولهذا لا يجوز أن يتزوج العبد بأكثر من اثنتين. ومنهم من قال: الصغر مانع من الإحصان، والرق ليس بمانع من الإحصان؛ لأن الصغير غير مكلف، والمملوك مكلف. والصحيح هو الأول، وقد نص عليه الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة، وعامة الفقهاء - لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» فأوجب الرجم

فرع: الإسلام ليس بشرط في الإحصان عندنا

على الثيب، وقد قلنا: إن المراد بالثيب: المحصن، فلو كان الإحصان يحصل بالوطء في حال الصغر والجنون والرق.. لأدى إلى إيجاب الرجم على الصغير والمجنون والمملوك. ولأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنَى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس» فأثبت القتل بالزِّنَى بعد الإحصان. وقد ثبت: أن الصغير والمملوك والمجنون لا يقتلون بالزِّنَى، فدلَّ على: أن عدم الصغر والجنون والرق شرط في الإحصان. هذا إذا كان الزوجان ناقصين، سواء اتفق نقصهما أو اختلف. فأما إذا كان أحدهما كاملا والآخر ناقصا؛ بأن كان أحدهما بالغا عاقلا حرا والآخر صغيرا أو مجنونا أو مملوكا.. فهل يصير الكامل منهما محصنا؟ فيه قولان: أحدهما: لا يصير محصنا- وبه قال أبُو حَنِيفَة - لأنه وطء لم يصر به أحدهما محصنا، فلم يصر الآخر محصنا، كوطء الشبهة. والثاني: يصير الكامل منهما به محصنا، وهو الصحيح؛ لأنه حر مكلف وطئ في نكاح صحيح، فكان محصنا، كما لو كانا كاملين. هذا ترتيب القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق، وقال الشيخُ أبُو حامد: إذا كان الزوج حرا عاقلا، والزوجة أمة.. فإن الزوج يصير محصنا قولا واحدا. وكذلك: إذا كان الزوج عبدا، والزوجة حرة بالغة عاقلة.. فإنها تصير محصنة قولا واحدا. فأما إذا كان أحدهما حرا بالغا عاقلا، والآخر صغيرا أو مجنونا.. فهل يصير الحر البالغ العاقل محصنا؟ على القولين. [فرع: الإسلام ليس بشرط في الإحصان عندنا] ] : الإسلام ليس بشرط في الإحصان في الزِّنَا، فإذا زنَى ذمي وجدت فيه شرائط إحصان المسلم.. وجب عليه الرجم. وقال مالك وأبو حَنِيفَة: (الإسلام شرط في الإحصان في الزِّنَا، فلا يجب الرجم على الذمي إذا زنَى) . دليلنا: ما رَوَى ابن عمر: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم يهوديين زنيا» . ولقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . ولم يفرق.

فرع: المسلم المحصن إذا ارتد لا يبطل إحصانه

[فرع: المسلم المحصن إذا ارتد لا يبطل إحصانه] المسلم المحصن إذا ارتد.. لم يبطل إحصانه. وقال أبُو حَنِيفَة: (يبطل إحصانه) . دليلنا: أنه محصن، فلا يبطل إحصانه بالردة، بل إذا أسلم ثم زنَى.. لزمه حكم المحصن، كإحصان القذف. [فرع: وطء امرأته في دبرها أو أمته لا يثبت الإحصان] وماذا لو كان بشبهة أو بنكاح فاسد؟] : إذا وطئ امرأته في دبرها، أو وطئ أمته.. لم يصر محصنا. وإن وطئ امرأة بشبهة أو في نكاح فاسد.. فهل يصير محصنا؟ فيه قولان حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] : أحدهما: لا يصير محصنا؛ لأنه وطء في غير ملك صحيح. والثاني: أنه يصير محصنا؛ لأن حكمه حكم الوطء في النكاح الصحيح في العدة والنسب، فكذلك في الإحصان. [مسألة: حد الزاني غير المحصن] مسألة: [غير المحصن إذا زنَى فحده الجلد والتغريب عندنا] : وأمَّا البكر - وهو: من ليس بمحصن - رجلا كان أو امرأة وإن كانت قد ذهبت عذرتها، فإذا زنَى أحدهما وكان حرا.. كان حده مائة جلدة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] [النور: 2] ، ويغربان سنة. وبه قال أبُو بكر وعمر وعثمان وعلي، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق. وقال أبُو حَنِيفَة وحماد: (لا يجب التغريب على الرجل ولا على المرأة، وإنما هو على سبيل التَّعزِير إن رأى الإمام.. فعله، وإلا.. لم يجب التغريب على الرجل ولا المرأة) . وقال مالك: (يجب التغريب على الرجل دون المرأة) . دليلنا: ما رَوَى عبادة بن الصامت: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البكر بالبكر جلد مائة

فرع: حد العبد والأمة إذا زنيا الجلد

وتغريب عام» ولم يفرق بين الرجل والمرأة. وروى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل الذي سأله: «على ابنك جلد مائة وتغريب عام» ولفظه على الإيجاب. ولأن ما كان حدا للرجل.. كان حدا للمرأة، كالجلد والرجم. [فرع: حد العبد والأمة إذا زنيا الجلد] ] : وأمَّا العبد والأمة إذا زنيا.. فإنه يجب على كل واحد منهما خمسون جلدة، سواء تزوجا أو لم يتزوجا. وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة وأحمد. وقال ابن عبَّاس: (إن لم يتزوجا.. فلا حد عليهما، وإن تزوجا- يعني: وطئا في نكاح صحيح- فحد كل واحد منهما إذا زنَى خمسون جلدة) . وبه قال طاووس وأبو عبيد القاسم بن سلام. وقال داود: (إذا تزوجت الأمة ثم زنت.. وجب عليها خمسون جلدة، وأمَّا العبد إذا زنَى.. فيجب عليه مائة جلدة) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] [النساء: 25] والمراد بقوله: {فإذا أحصن} بفتح الهمزة على قراءة من قرأ بالفتح: إذا أسلمن، وعلى قراءة من قرأ بالضم: إذا تزوجن، فنجعل القراءتين كالآيتين، فأفادت الآية: أنه لا يجب عليها الرجم، وإن كانت متزوجة.. فإنما يجب عليها نصف ما على المحصنات من العذاب وهن مسلمات وأراد به من الجلد؛ لأن الرجم لا يتنصف، فإذا ثبت هذا في الأمة.. قسنا العبد عليها؛ لأن حدها إنما نقص لنقصها بالرق، وهذا موجود في العبد، فساواها في الجلد. [فرع: مقدار تغريب المملوك لو قلنا بوجوب تغريبه] وهل يجب التغريب على المملوك؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب - وبه قال مالك وأحمد - لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا زنت أمة أحدكم.. فليجلدها الحد» فأمر بالجلد ولم يأمر بالتغريب، فاقتضى الظاهر: أن الجلد جميع

فرع: زنى البكر ثم أحصن ثم زنى

حدها. ولأن في تغريبه تفويت منفعة على السيد. ولأن التغريب يراد لإلحاق العار به والنَكَال ولا عار عليه في ذلك؛ لأن للسيد تغريبه متى يشاء. والثاني: يجب عليه التغريب، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] [النساء: 25] وهذا عام في الجلد والتغريب. ولما رُوِيَ: (أن ابن عمر جلد أمة له زنت ونفاها إلى فدك) . ولأنه حد يتبعض، فوجب على المملوك، كالجلد. وأمَّا الخبر: فليس سكوته عنه يدل على أنه لا يجب. وقول الأول: (إن في ذلك تفويت منفعة على سيده) لا يصح؛ لأن لسيده أن يستخدمه وإن كان مغربا بالإجارة وغيرها، والعار والنَكَال يلحق بالمملوك إذا علم أنه غرب بالزِّنَا. فإذا قلنا: لا يجب تغريب المملوك.. فلا كلام. وإذا قلنا: يجب تغريبه.. فكم يجب تغريبه؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: يجب تغريبه سنة؛ لأنها مدة مقدرة بالشَّرعِ، فاستوى فيها الحر والعبد، كمدة العنة والإيلاء. والثاني: لا يجب تغريبه إلا نصف السنة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] [النساء: 25] . ولأنه حد يتبعض، فكان المملوك فيه على النصف من الحر كالجلد، وما ذكره الأول.. ينتقض بعدة الوفاة. وقال أبُو إسحاق: يغرب نصف السنة قولا واحدا. قال الشيخُ أبُو حامد: وهو الأصح مذهبا وحجاجا، فأما الحجاج: فما ذكرناه. وأمَّا المذهب: فكل موضع ذكر الشافعيُّ فيه تغريب المملوك قال: (يغرب نصف السنة) . [فرع: زنَى البكر ثم أحصن ثم زنَى] فإن زنَى وهو بكر، فلم يحد حتى أحصن ثم زنَى.. ففيه وجهان:

مسألة: فيما يوجب الحد من الإيلاج

أحدهما: يرجم ويدخل فيه الجلد والتغريب؛ لأنهما حدان يجبان بالزِّنَى فتداخلا، كما لو زنَى ثم زنَى وهو بكر. والثاني: لا يدخل الجلد في الرجم، بل يجلد، ثم يرجم؛ لأنهما حدان مختلفان فلم يتداخلا، كحد السرقة والشرب. فعلى هذا: يجلد ثم يرجم ولا يغرب؛ لأن التغريب يحصل بالرجم. [مسألة: فيما يوجب الحد من الإيلاج] والوطء الذي يجب به الحد: أن يغيب الحشفة في الفرج؛ لأن أحكام الوطء تتعلق بذلك ولا تتعلق بما دونه، والحد من أحكام الوطء، فتعلق بذلك ولم يتعلق بما دونه. فإن وجدت امرأة أجنبية مع رجل في لحاف واحد ولم يعلم منهما غير ذلك.. لم يجب عليهما الحد. وقال إسحاق ابن راهويه: يجب عليهما الحد؛ لما رُوِي عن عمر وعلي أنهما قالا: (يجلد كل واحد منهما مائة جلدة) . دليلنا: ما رَوَى ابن مَسعُودٍ: «أن رجلا أتى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إنِّي وجدت امرأة في البستان، فأصبت منها كل شيء غير أنِّي لم أنكحها.» ورُوِي: «نلت منها - حراما- ما ينال الرجل من امرأته إلا الجماع، فقال النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] » [هود: 114] ورُوِي أنه قال له: " استغفر الله وتوضأ "، ولم يوجب عليه الحد. وما رُوِي عن عمر وعلي، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.. فقد رُوِي عن عمر خلاف ذلك في قصة المغيرة بن شعبة؛ فإن زيادا قال: رأيت استا تنبو ونفسا يعلو،

فرع: وجدت الخلية حاملا

ورجليها في عنقه كأنهما أذنا حمار، ولم أعلم ما وراء ذلك. فلم يوجب الحد على المغيرة. ويعزران على ذلك؛ لأنه معصية ليس فيها حد ولا كفارة، فوجب فيه التَّعزِير. [فرع: وجدت الخلية حاملا] إذا وجدت امرأة حاملا ولا زوج لها.. سئلت، فإن اعترفت بالزِّنَى.. وجب عليها الحد. وإن أنكرت الزِّنَى.. لم يجب عليها الحد. وقال مالك: (يجب عليها الحد) . وقد رُوِي عن عمر: أنه قال: (الرجم واجب على كل من زنَى من الرجال والنساء إذا كان محصنا إذا ثبت هذا بشهادة، أو اعتراف أو حمل) . دليلنا: أنه يحتمل أنه من وطء بشبهة أو إكراه، و: (الحد يدرأ بالشبهة) . وما رُوِي عن عمر.. فقد رُوِي عنه خلافه؛ وذلك أنه رُوِيَ: أنه أتي بامرأة حامل، فسألها، فقالت: لم أحس حتى ركبني رجل، فقال عمر: (دعوها) . [مسألة: الإكراه على الزِّنَى] إذا أكره رجل امرأة على الزِّنَى.. وجب عليه الحد دونها؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، ولما ذكرناه عن عمر في التي قبلها. ويجب لها المهر عليه. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب) . دليلنا: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مهر البغي» ، و (البغي) : الزانية، وهذه ليست

مسألة: الجهل في تحريم الزنى

بزانية ولا هي ملكه، فوجب لها المهر، كما لو وطئها بشبهة. وإن أكره رجل على الزِّنَى، فزنا.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق والمسعودي [في " الإبانة "] : أحدهما: يجب عليه الحد؛ لأن الوطء لا يتأتى إلا بالشهوة، ولا يوجد ذلك إلا من المختار. والثاني: لا يجب عليه الحد - ولم يذكر ابن الصبَّاغ غيره- لأنه مكره على الزِّنَى، فلم يجب عليه الحد، كالمرأة. وقال أبُو حَنِيفَة: (إن أكرهه السلطان أو الحاكم.. لم يجب عليه الحد. وإن أكرهه غيرهما.. وجب عليه الحد استحسانا) . دليلنا: أنه مكره على الوطء، فلم يجب عليه الحد، كما لو أكرهه السلطان. [مسألة: الجهل في تحريم الزِّنَى] ولا يجب حد الزِّنَا على من زنَى وهو لا يعلم تحريم الزِّنَى؛ لما رُوِيَ: أن رجلا قال: زنيت البارحة، فسئل، فقال: ما علمت أن الله حرمه، فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فكتب عمر: (إن كان علم أن الله قد حرمه.. فحدوه، وإن لم يعلم.. فأعلموه، فإن عاد.. فارجموه) . وكذلك رُوِي عن عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه. فإن زنَى رجل وادعى أنه لم يعلم تحريمه، فإن كان قد نشأ بين المسلمين.. لم

مسألة: وجد امرأة على فراشه فظنها زوجته

يقبل قوله؛ لأن ذلك خلاف الظاهر، وإن كان قريب العهد بالإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة من المسلمين.. قبل قوله؛ لأن الظاهر أنه لا يعلم. فإن وطئ المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن، وادعى أنه لم يعلم تحريمه.. فيه وجهان: أحدهما: لا تقبل دعواه إلا أن يكون قريب العهد بالإسلام أو نشأ في بادية، كما لو وطئ غير المرهونة، أو وطئ المرهونة بغير إذن الراهن وادعى الجهل بتحريم الزِّنَا. والثاني: يقبل قوله؛ لأن معرفة ذلك يحتاج إلى فقه. [مسألة: وجد امرأة على فراشه فظنها زوجته] وإذا وجد رجل امرأة على فراشه فظنها زوجته أو أمته فوطئها.. لم يجب عليه الحد. وقال أبُو حَنِيفَة: (يجب عليه الحد، إلا إن زفت إليه امرأة ليلة الزفاف، فقيل له: زففنا إليك امرأتك، فوطئها.. فلا يجب عليه الحد) . دليلنا: أنه وطئ امرأة معتقدا أنها زوجته، فلم يجب عليه الحد، كما لو زفت إليه امرأة وقيل له: هذه امرأتك، فوطئها. [فرع: من يجب عليه الحد إذا زنَى بمن لا يجب عليه وعكسه] وإن زنَى بالغ بصغيرة، أو عاقل بمجنونة، أو مستيقظ بنائمة، أو مختار بمكرهة، أو عالم بالتحريم بجاهلة بالتحريم.. وجب الحد على الرجل دون المرأة- وبه قال أبُو حَنِيفَة - لأنه من أهل وجوب الحد عليه، فوجب الحد عليه، كما لو كانت مساوية له. وإن زنَى حربي مستأمن بمسلمة.. وجب الحد على المرأة دون الرجل؛ لأنها من أهل وجوب الحد. وإن زنَى مجنون بعاقلة فمكنته من نفسها، أو زنَى صغير بكبيرة، أو جاهل بالتحريم بعالمة، أو استدخلت ذكر نائم في فرجها.. وجب الحد على المرأة دون الرجل. وقال أبُو حَنِيفَة: (الاعتبار بالرجل، فإذا سقط عنه الحد.. لم يجب عليها؛ لأنها تابعة له) .

مسألة: استأجرها للزنى أو تزوج ذات رحم محرم

دليلنا: أن سقوط الحد عن أحد الواطئين بمعنى يخصه لا يوجب سقوطه عن الآخر، كما لو زنَى المستأمن بمسلمة. وإن كان أحد الزانيين ثيبا والآخر بكرا.. وجب على الثيب الرجم، وعلى البكر الجلد والتغريب؛ لأن كل واحد منهما منفرد بسبب ذلك. [مسألة: استأجرها للزنَى أو تزوج ذات رحم محرم] إذا استأجر امرأة ليزني بها، فزنى بها، أو تزوج ذات رحم محرم، كأمه، أو أخته، أو امرأة أبيه، أو امرأة ابنه، أو امرأة طلقها ثلاثا ولم تتزوج بزوج غيره، أو امرأة معتدة في عدتها، أو تزوج خامسة فوطئها مع علمه بتحريمها.. وجب عليه الحد. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه الحد بجميع ذلك) . دليلنا: ما رَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وقع على ذات رحم محرم له.. فاقتلوه» ولأنه وطء في غير ملك، محرم بدواعيه غير مختلف فيه، فإذا تعمده.. وجب عليه الحد، كالزنى.

فرع: الوطء في النكاح الفاسد لا يوجب الحد

فقولنا: (في غير ملك) احتراز من وطء أحد الشريكين للجارية المشتركة بينهما. ومنه إذا وطئ أخته التي ملكها. وقولنا (محرم بدواعيه) احتراز من وطء زوجته الحائض. وقولنا: (غير مختلف فيه) احتراز من الأنكحة الفاسدة. وإن ملك أمه أو أخته فوطئها.. فهل يجب عليه الحد؟ فيه قولان، وحكاهما الخراسانيون وجهين: أحدهما: لا يجب عليه الحد؛ لأنه وطء في ملكه، فلم يجب عليه الحد وإن كان محرما، كما لو وطئ امرأته الحائض. والثاني: يجب عليه الحد؛ لأن ملكه لها لا يبيح له وطأها بحال، فوجب عليه فيه الحد، كوطء الأجنبية. [فرع: الوطء في النكاح الفاسد لا يوجب الحد] وإن تزوج امرأة بنكاح فاسد بولي غير مرشد، أو بنكاح متعة، أو نكح امرأة بغير ولي فوطئها.. لم يجب عليه الحد. وقال الصيمري: إن كان شافعيا يعتقد أن النكاح بلا ولي لا يصح، وجب عليه الحد بوطء المرأة في النكاح بلا ولي. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: إذا وطئها في النكاح بلا ولي.. وجب عليه الحد بكل حال؛ لأن الأخبار في بطلانه ظاهرة. والأول أصح؛ لأنه مختلف في صحته، فلم يجب به الحد، كما لو نكح امرأة من ولي فاسق ووطئها.

فرع: وطء جارية الغير أو المشتركة بينهما

[فرع: وطء جارية الغير أو المشتركة بينهما] إذا أباح له الغير وطء جاريته فوطئها.. وجب عليه الحد إذا كان عالما بتحريم ذلك. وقال أبُو حَنِيفَة: (إن أباحت له زوجته جاريتها فوطئها.. لم يجب عليه الحد) . دليلنا: أنه وطء مجمع على تحريمه، فوجب به الحد، كما لو كانت لغير زوجته. وإن زنَى بجارية له عليها قصاص.. وجب عليه الحد. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه الحد) . دليلنا: أنه زنَى بجارية لا يملكها، ولا له فيها شبهة ملك، فوجب عليه الحد، كما لو كانت مرهونة عنده. وإن زنَى بجارية مشتركة بينه وبين غيره.. لم يجب عليه الحد، سواء علم بتحريمها أو لم يعلم. وقال أبُو ثور: (يجب عليه الحد) . دليلنا: أنه اجتمع في الوطء ما يوجب الحد والإسقاط، فغلب الإسقاط؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهة، وملكه لبعضها شبهة في إسقاط الحد فسقط. [مسألة: حرمة اللواط وحده] اللواط محرم- وهو: إتيان الذكور في أدبارهم - وهو من الكبائر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [النمل: 54] [النمل: 54] فسماه فاحشة، وقد قال الله تَعالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] [الأعراف: 33] ، ولأن الله تَعالَى قال: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165] {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166] [الشعراء: 165-166] فوبخهم الله تَعالَى على ذلك وسماهم بذلك عادين، ولأن الله تَعالَى عاقب على هذا الفعل في الدنيا بما لم يعاقب على ذنب؛ قال الله تَعالَى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود: 82] [الآية: هود: 82] .

ورَوَى حذيفة: «أن جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - احتمل أرضهم فرفعها حتى سمع أهل سماء الدنيا صوت كلابهم، وأوقد تحتهم نارا، وقلبهم عليها» . وروى معاوية بن قرة: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لجبريل: ما أحسن ما أثنى عليك ربك بقوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21] [التكوير: 20-21] فما قوتك وما أمانتك؟! فقال جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أما أمانتي: فما أمرت بشيء قط عدوت به إلى غيره، وأمَّا قوتي: فهو أنِّي قلعت مدائن قوم لوط من الأرض السفلى، وكانت أربع مدائن، في كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فهويت بها في الهواء حتى سمع أهل السماء الدنيا صياح الدجاج ونباح الكلاب، ثم ألقيتها» . وروى ابن عبَّاس: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط - قالها ثلاثا- من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط. فاقتلوا الفاعل والمفعول به» .

وأجمع المسلمون: على تحريمه. إذا ثبت هذا: فمن فعله وهو ممن يجب عليه الحد.. وجب عليه الحد، وفي حده قولان: أحدهما: يقتل، بكرا كان أو ثيبا- وبه قال ربيعة ومالك وأحمد وإسحاق - ولما رَوَى ابن عبَّاس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله من يعمل عمل قوم لوط - ثلاثا- ثم قال: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط.. فاقتلوا الفاعل والمفعول به» . ورُوِي: (أن خالد بن الوليد وجد رجلا في بعض ضواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، فكتب بذلك إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فذكر أبُو بكر ذلك للصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فكان علي كرم الله وجهه أشدهم فيه قولا، فقال: هذا ذنب لم تعص الله به أمة من الأمم إلا أمة واحدة وقد علمتم ما صنع الله بها، وأرى أن يحرق بالنار. فكتب أبُو

بكر بذلك إلى خالد فأحرقه) ، فأخذ بذلك ابن الزبير في إمارته. ورُوِي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه أحرق لوطيا) . ورُوِي عنه أنه قال: (يرجم) . وعن ابن عبَّاس روايتان: إحداهما: (أنه يرجم) . والثانية: (أنه ينظر أطول حائط في تلك القرية، فيرمى منه منكسا، ثم يتبع بالحجارة) . ورُوِي عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (يرمى عليه حائط) . وهذا إجماع من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على قتله، وإن اختلفوا فيما يقتل به. والقول الثاني: أنه كالزنى في الفرج، فيجلد ويغرب إن كان بكرا، ويرجم إن كان ثيبا. وهو المشهور من المذهب - وبه قال الحَسَن البَصرِيّ، وعطاء، والنخعي، وقتادة، والأَوزَاعِي، وأبو يوسف، ومحمد - لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى الرجل الرجل.. فهما زانيان» فسماه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زنَى، وقد تقرر حد الزِّنَى في البكر والثيب، ولأنه

فرع: وطء امرأة في دبرها أو عبد

فرج يجب في الإيلاج فيه الحد، ففرق فيه بين البكر والثيب، كفرج المرأة. وما رُوِي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.. محمول على أنهم فعلوا ذلك في الثيب. هذا مذهبنا، وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب فيه الحد، وإنما يجب فيه التَّعزِير) . قال الشيخُ أبُو حامد: ولا يوافقه على هذا المذهب أحد. وأمَّا المسعودي [في " الإبانة "] : فقال: خرج في هذا قولا ثالثا في إتيان البهيمة، وليس بمشهور. وما ذكرنا للقولين دليل على أبي حَنِيفَة. فأما إذا قلنا: إنه كالزاني في الفرج.. فلا كلام. وإذا قلنا: إنه يقتل بكل حال.. قال الشيخُ أبُو إسحاق: فكيف يقتل؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] قولين: أحدهما: أنه يقتل بالسيف؛ لأن إطلاق القتل ينصرف إلى القتل بالسيف، كما قلنا في قتل الردة. والثاني: يقتل بالرجم؛ لأنه قتل يجب بالزِّنَى، فكان بالرجم، كقتل الثيب إذا زنَى في الفرج. [فرع: وطء امرأة في دبرها أو عبد] وإذا وطئ امرأة أجنبية في دبرها.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخُ أبُو إسحاق والمسعودي [في " الإبانة "] : هو كما لو وطئها في قبلها. وقال الشيخُ أبُو حامد: هو كما لو وطئ رجل في دبره؛ لأنهما فرجان محرمان لا يستباحان بحال. فإن وطئ امرأته في دبرها.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخُ أبُو حامد وبعض أصحابنا الخراسانيين: لا يجب عليه الحد قولا واحدا؛ لأنها محل لشهوته، ولأنه مختلف في إباحته، فكان مالك يبيحه!

فرع: من حرم مباشرتها بالوطء حرم ما دونه

وقال بعض أصحابنا الخراسانيين: هو كما لو وطئ أخته في ملكه.. هل يجب عليه الحد؟ على قولين: فإن لاط الرجل بعبده.. فاختلف أصحابنا الخراسانيون فيه: فمنهم من قال: هو كما لو لاط بعبد غيره؛ لأنه لا يستباح بحال. ومنهم من قال: هو كما لو وطئ أخته في ملكه، فيكون على قولين. [فرع: من حرم مباشرتها بالوطء حرم ما دونه] ومن حرمت مباشرته بالوطء في الفرج بحكم الزِّنَى واللواط.. حرمت مباشرته فيما دون الفرج بشهوة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ} [المؤمنون: 6] [المؤمنون: 5-6] وهذا ليس بواحد منهم. وقولنا: (بحكم الزِّنَى) احتراز من امرأته الحائض والمحرمة والصائمة. فإن باشر من يحرم عليه مباشرته فيما دون الفرج بشهوة.. لم يجب عليه الحد؛ لحديث الرجل الذي أخبر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أصاب من امرأة كل شيء غير الجماع، ولم يوجب عليه الحد. ويجب عليه التَّعزِير؛ لأنه معصية لا حد فيها ولا كفارة. [رع: يحرم السحاق وفيه التَّعزِير] فرع: يحرم السحاق وفيه التَّعزِير] : ويحرم إتيان المرأة المرأة؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتت المرأة المرأة.. فهما زانيتان» . فإن ساحقت المرأة المرأة.. لم يجب عليها الحد.

مسألة: إتيان البهيمة فيه التعزير

وقال مالك: (يجب على كل واحدة منهما حد؛ وهو مائة جلدة) . دليلنا: أنها مباشرة لا إيلاج فيها، فلم يجب فيها الحد، كما لو باشر الرجل المرأة فيما دون الفرج. ويعزران؛ لأنها معصية لا حد فيها ولا كفارة. [مسألة: إتيان البهيمة فيه التَّعزِير] ويحرم إتيان البهيمة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] [المؤمنون: 5-7] . فإن فعل ذلك من يجب عليه حد الزِّنَى.. فما الذي يجب عليه؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يجب قتله، بكرا كان أو ثيبا- وبه قال أبُو سلمة بن عبد الرحمن - لما رَوَى ابن عبَّاس: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتى بهيمة.. فاقتلوه، واقتلوا البهيمة» قيل لابن عبَّاس: ما شأن البهيمة تقتل؟ فقال: لأنها ترى، فيقال: هذه وهذه، وقد فعل بها ما فعل. وروى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وقع على بهيمة.. فاقتلوه، واقتلوا البهيمة» . ولأن هذا الفرج لا يستباح بحال، فغلظ فيه الحد.

فعلى هذا: كيف يقتل؟ فيه وجهان: أحدهما: بالسيف. والثاني: بالرجم، وقد مضى دليلهما. والقول الثاني: أنه كالزنى في فرج المرأة، فيجلد ويغرب إن كان بكرا، ويرجم إن كان ثيبا؛ لأنه فرج يجب بالإيلاج فيه الغسل، ففرق فيه بين البكر والثيب كفرج المرأة. والثالث: أنه لا يجب فيه الحد، وإنما يجب فيه التَّعزِير، وبه قال أكثر أهل العلم؛ لأن الحد إنما يجب بالإيلاج في فرج يبتغي منه كمال اللذة، وفرج البهيمة مما تعافه النفس ولا يفعله إلا السفهاء، فلم يجب به الحد، كشرب البول. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: لا يجب فيه التَّعزِير قولا واحدا. وأمَّا البهيمة المفعول بها.. فاختلف أصحابنا فيها: فذكر الشيخ أبُو حامد: أنها إن كانت مما تؤكل.. فلا خلاف أنها تذبح. ولأي معنى تذبح؟ فيه وجهان: أحدهما: تذبح؛ لكي لا تلد ولدا مشوها؛ لما رُوِيَ: أن راعيا أتى بهيمة فولدت ولدا مشوها. والثاني: أنها تذبح؛ لئلا يقال: هذه وهذه قد فعل بها؛ لما رَوَيْنَاهُ عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فإذا ذبحت.. فهل يحل أكلها؟ يبنى على العلتين: فإن قلنا: تذبح لئلا تأتي بولد مشوه.. حل أكلها. وإن قلنا: تذبح لكي لا يعير بها.. لم يحل أكلها. وإن كانت مما لا يحل أكلها.. فهل تذبح؟ فيه وجهان:

أحدهما: تذبح؛ لما ذكرناه من العلتين في التي يؤكل لحمها. والثاني: لا تذبح؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة» ، وهذه تذبح لا لمأكلة. وذكر الشيخ أبُو إسحاق وابن الصبَّاغ: هل تذبح البهيمة المفعول بها؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجب ذبحها للخبرين. والثاني: لا يجب ذبحها؛ لأن البهيمة لا تذبح لغير مأكلة، والخبرين ضعيفان. والثالث: إن كانت مما يؤكل.. وجب ذبحها. وإن كانت مما لا يؤكل.. لم يجب ذبحها. فإذا قلنا: يجب ذبحها وكانت مملوكة.. فهل يحل أكلها؟ فيه وجهان. فإذا قلنا: يجب ذبحها، فذبحت.. نظرت: فإن كان الذي فعل بها مالكها.. فلا ضمان عليه، كما لو أتلفها. وإن فعل بها غيره.. فهل يجب عليه ضمانها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] : أحدهما: لا يجب عليه ضمانها؛ لأنها تقتل حدا، كما يقتل المملوك حدا. والثاني: يجب عليه ضمانها، وهو قول العراقيين من أصحابنا؛ لأنه حيوان أتلف من غير جناية. فعلى هذا: إن كانت مما لا يؤكل.. وجب عليه جميع قيمتها. وإن كانت مما يؤكل، فإن قلنا: لا يحل أكلها.. وجب عليه جميع قيمتها. وإن قلنا: يحل أكلها.. وجب عليه ما بين قيمتها حية ومذبوحة. وعلى من يجب؟ فيه وجهان، حكاهما أبُو علي الطبري والمسعودي [في " الإبانة "] : أحدهما: يجب في بيت المال؛ لأنها قتلت في مصلحة المسلمين. والثاني: يجب على الفاعل بها، وهو المشهور من المذهب؛ لأنه هو السبب في إتلافها.

مسألة: الإقرار بالزنى

[مسألة: الإقرار بالزِّنَى] إذا أقر من يجب عليه حد الزِّنَى مرة واحدة أنه زنَى.. وجب عليه الحد. وبه قال مالك، وأبو ثور، والحسن البَصرِيّ، وعثمان البتيُّ، وحماد بن أبي سليمان. ورُوِي ذلك عن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق: (لا يجب عليه الحد حتى يقر أربع مرات) . فأما ابن أبي ليلى وأحمد فقالا: (إذا أقر أربع مرات في مجلس واحد أو مجالس.. لزمه الحد) . وأمَّا أبُو حَنِيفَة وأصحابه فقالوا: (لا يجب عليه الحد حتى يقر أربع مرات في أربعة مجالس) . دليلنا: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل الذي سأله: «على ابنك جلد مائة وتغريب عام. واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمها» والاعتراف يقع على المرة الواحدة. ورُوِي: «أن الغامدية قالت: يا رسول الله، إنِّي قد فجرت، فقال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارجعي " فلما كان من الغد أتته، وقالت: أتريد أن تردني كما رددت ماعزا؟ والله إنِّي لحبلى، فقال لها: " ارجعي " فجاءت في اليوم الثالث، فقال لها: " ارجعي حتى تضعي ". فلما وضعت.. قال لها: " ارجعي حتى تفطمي ولدك " فلما فطمته.. أتته، فأمر برجمها.» ولم ينقل أنها اعترفت عنده إلا مرة واحدة. وروى عمران بن الحصين: «أن امرأة من جهينة جاءت إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعترفت بالزِّنَى وهي حبلي، فدعا النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليها وقال له: " أحسن إليها حتى تضع، فإذا وضعت.. فجئ بها " فلما وضعت.. جاء بها، فأمر بها النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشبكت عليها ثيابها - يعني شدت- ورجمت» . ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أتى من هذه القاذورات شيئا.. فليستتر بستر الله؛ فإن من أبدى لنا صفحته.. أقمنا عليه حد الله» و (الصفحة) : الاعتراف. ولم يفرق.

فرع: إقرار الأخرس بالزنى

[فرع: إقرار الأخرس بالزِّنَى] إذا أقر الأخرس أنه زنَى.. وجب عليه الحد. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه الحد) . دليلنا: أن من صح إقراره بغير الزِّنَى.. صح إقراره بالزِّنَى، كالناطق. [فرع: أقر الرجل بالزِّنَى وأنكرت المرأة] وإذا أقر رجل أنه زنَى بامرأة، وأنكرت.. وجب عليه الحد دونها. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه الحد) . دليلنا: ما روى سهل بن سعد الساعدي: «أن رجلا اعترف أنه زنَى بامرأة، وجحدت المرأة، فحد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل» . ولأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل السائل: «على ابنك جلد مائة وتغريب عام» فجلده النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغربه، وقال: «اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمها» ، ولا يجوز أن يكون جلد الابن وغربه إلا بإقراره دون أبيه، وعلق رجم المرأة على اعترافها. [فرع: رجوعه في الإقرار بالزِّنَى يقبل] ] : وإن أقر أنه زنَى، ثم رجع عن إقراره، وقال: لم أزن.. قبل رجوعه ولم

يحد. وبه قال أبُو حَنِيفَة، وهو إحدَى الروايتين عن مالك. وقال أبُو ثور: (لا يقبل رجوعه) . وهي الرواية الأخرى عن مالك. دليلنا: ما رُوِي عن نعيم بن هزال أنه قال: «كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي، فوقع على جارية من الحي، فأخبر بذلك أبي، فقال له: بادر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن ينزل فيك قرآن، فأتى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعترف عنده بالزِّنَى فأعرض عنه، ثم اعترف فأعرض عنه، فقال له النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الآن أقررت أربعا، فبمن؟ " قال: بفلانة. فقال النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لعلك لمست؟ " قال: لا، قال: " لعلك قبلت؟ " قال: لا، قال: " لعلك نظرت؟ " قال: لا، قال: " جامعتها؟ " قال: نعم، فأمر برجمه فرجم، فلما أصابه حر الحجارة.. قال: ردوني إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن قومي غروني - يعني: هزالا حين قال له: بادر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبروا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك فقال: هلا رددتموه» . ورُوِي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لهزال: «هلا سترته بثوبك يا هزال» فموضع الدليل: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعرض عنه ليرجع، فلما لم يرجع.. عرض له بالرجوع، ثم قال: «هلا رددتموه؟» وإنما قال ذلك لعله أن يرجع، فلو لم يقبل رجوعه.. لم يكن لذلك فائدة. والمستحب للإمام: أن يعرض للمقر بالزِّنَى بالرجوع؛ للخبر. والله أعلم وبالله التوفيق

باب إقامة الحد

[باب إقامة الحد] إذا وجب حد الزِّنَى أو السرقة أو الشرب على حر.. لم يجز استيفاؤه إلا للإمام أو لمن فوض إليه الإمام ذلك؛ لأن الحدود في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي زمن الخلفاء الراشدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لم تستوف إلا بإذنهم، ولأن استيفاءها يفتقر إلى نظر واجتهاد، فلا يصح استيفاؤها إلا من الإمام أو النائب عنه. وأمَّا حد القذف: فيصح استيفاؤه للإمام، فإن تحاكم المتقاذفان إلى رجل من الرعية يصلح أن يكون حاكما.. فهل يصح حكمه فيه واستيفاؤه له؟ فيه وجهان، نذكرهما في موضعهما إن شاء الله. [مسألة: حكم حضور الإمام والشهود موضع الرجم وابتداؤهم به] ويجوز للإمام أن يحضر موضع الرجم، ولا يلزمه الحضور. وحكي: أن أبا حَنِيفَة قال: (يلزمه الحضور) . دليلنا: أنه رجم في زمن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماعز، والغامدية، والجهنية، واليهوديان، ولم يرو: (أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حضر رجم أحدهم) . وإن ثبت الزِّنَى بالبينة.. لم يلزم البينة حضور الرجم، فإن حضروا.. لم يلزمهم البداية بالرجم. وكذلك إذا حضر الإمام.. لم يلزمه البداية بالرجم، وبه قال مالك. وقال أبُو حَنِيفَة: (يلزم البينة الحضور ويلزمهم البداية بالرجم، ثم الإمام، ثم الناس) . وإن ثبت الزِّنَى باعتراف الزاني.. لزم الإمام البداية بالرجم، ثم الناس. دليلنا: أنه قد رجم جماعة في زمن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يرو: (أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ برجم

فرع: استحباب حضور طائفة ليروا الحد ومقدار عددهم

أحدهم) . ولأنه قتل بحق الله تَعالَى، فلم يكن من شرطه أن يبتدئ به الإمام أو الشهود، كالقتل بالردة. [فرع: استحباب حضور طائفة ليروا الحد ومقدار عددهم] والمستحب للإمام إذا أراد أن يقيم الحد: أن يحضره طائفة من المسلمين يشهدون إقامته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] [النور: 2] . واختلف الناس في عددهم: فمذهبنا: أن الطائفة هاهنا أربعة. وذهب ابن عبَّاس إلى: (أن الطائفة هاهنا واحد فما فوقه) . وذهب عطاء وأحمد إلى: (أن الطائفة هاهنا اثنان فما فوقهما) . وذهب الزهري إلى: أنها ثلاثة. وذهب ربيعة إلى: أنها خمسة. وذهب الحَسَن البَصرِي إلى: أنها هاهنا عشرة. دليلنا: أن الأربعة هو العدد الذي يثبت به الزِّنَى، فوجب أن يكونوا هم العدد الذين يحضرون إقامة الحد. قال الشيخُ أبُو حامد: قال الشافعي: (جعل الطائفة هاهنا أربعة فأكثر، وفي صلاة الخوف ثلاثة فأكثر، وقَوْله تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] [التوبة: 122] واحدا فأكثر) . [مسألة: تخيير السيد في إقامة الحد على العبد] ] : وإن وجب الحد على مملوك.. فللمولى أن يجعل إقامة الحد على ذلك إلى الإمام أو إلى النائب عنه. وإن أراد أن يقيم ذلك بنفسه، فإن كان حد الزِّنَى أو القذف أو الشرب وجب على المملوك بإقراره.. جاز للمولى إقامته. وبه قال جماعة من الصحابة، ومن التابعين: الحَسَن والنخعي وعلقمة والأسود. ومن الفقهاء: مالك وسفيان والأَوزَاعِي.

وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه: (لا يجوز للمولى إقامة الحد على مملوكه، وإنما يجوز له تعزيره) . دليلنا: ما روى علي بن أبي طالب: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أقيموا الحدود على من ملكت أيمانكم» . ورَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها.. فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت.. فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الثالثة فتبين زناها.. فليبعها ولو بحبل من شعر» . ومعنى قوله: (لا يثرب عليها) أي: لا يوبخها ولا يعيرها. وقيل: معناه لا يبالغ في جلدها حتى تدمى. ورُوِي: أن رجلا جاء إلى ابن مَسعُودٍ، فقال له: إن أمة لي زنت؟ فقال: (اجلدها) ، فقال: الرجل: إنها لم تحصن؟ فقال عبد الله بن مَسعُودٍ: (إحصانها إسلامها) . ورُوِي: (أن أمة لأنس زنت، فأمر بعض أولاده أن يقيم عليها الحد) . ورُوِي: (أن غلاما لابن عمر سرق، فقطع يده) . و: (زنت أمة له، فجلدها ونفاها إلى فدك) . و: (سرقت أمة لعائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -

فرع: تغريب المملوك وسماع المولى للبينة

فقطعتها) . ورَوَى الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أن فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت لها أمة فزنت فجلدتها) . ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فدل على: أنه إجماع لا خلاف فيه. [فرع: تغريب المملوك وسماع المولى للبينة] وهل للمولى أن يغرب مملوكه بالزِّنَى؟ إذا قلنا: يجب عليه التغريب.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي العباس -: أنه ليس له أن يغربه، وإنما يغربه الإمام؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا زنت أمة أحدكم.. فليجلدها الحد» ولم يذكر التغريب. والثاني - وهو المذهب -: أن للمولى أن يغربه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» والتغريب من الحد. ولما رَوَيْنَاهُ عن ابن عمر. وحكى الشيخ أبُو حامد: أن من أصحابنا من قال: يغربه من جلده، فإن جلده الإمام.. غربه. وإن جلده المولى.. غربه. وإن شهدت البينة على المملوك بما يوجب الحد.. فهل يملك المولى سماعها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يملك ذلك؛ لأن البينة تحتاج إلى البحث عن العدالة، وذلك أمر يفتقر إلى الاجتهاد، فكان إلى الحاكم. فعلى هذا: يسمع الحاكم البينة، فإذا ثبت عدالتها وحكم بها الحاكم.. أقام المولى الحد. والثاني: أن للمولى أن يسمع البينة بذلك، ويقيم بها الحد، وهو المذهب؛ لأن من جاز له إقامة الحد.. جاز له سماع البينة فيه، كالحاكم. وأمَّا البحث عن

فرع: قطع السيد يد عبده في السرقة

العدالة: فيمكن المولى ذلك كما يمكن الحاكم. وهل للمولى أن يقيم الحد بعلمه؟ هو كالحاكم: هل له أن يقضي في الحدود بعلمه؟ على ما يأتي في القضاء، إن شاء الله تَعالَى. [فرع: قطع السيد يد عبده في السرقة] وهل للمولى أن يقطع مملوكه في السرقة؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبُو العباس: ليس له ذلك؛ لأن ما يقطع به السارق مختلف فيه، فافتقر إلى الحاكم، بخلاف الحد في الزِّنَى؛ فإنه مجمع على سببه، ولأن السيد يملك على عبده من جنس الجلد في الحد؛ وهو التَّعزِير، ولا يملك عليه من جنس القطع. والثاني: يجوز له القطع، وهو المنصوص؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» ولم يفرق. ولـ " أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، قطع عبدا له سرق ". و: (قطعت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أمة لها سرقت) . ولا مخالف لهما في الصحابة. ولأن من ملك إقامة حد الزِّنَى.. ملك إقامة حد السرقة، كالحاكم. وإن ارتد المملوك.. فليس للسيد أن يقتله على قول أبي العباس، وله أن يقتله على المنصوص؛ لـ: (أن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قتلت أمة لها سحرتها) . والقتل بالسحر لا يكون إلا بالردة. [فرع: شروط إقامة السيد الحد على مملوكه] وأمَّا المولى الذي يملك إقامة الحد على مملوكه. فلا خلاف على المذهب: أن المولى إذا كان رجلا، بالغا، عاقلا، عالما، مسلما، حرا، عدلا.. فله إقامة الحد على مملوكه؛ لما ذكرناه. وهل للوصي أن يقيم الحد على رقيق الصغير؟ فيه وجهان حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] بناء على أن له تزويج أمته أو عبده؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق: إن كان المولى يقيم الحد بنفسه.. فيحتاج أن يكون عدلا، عالما، قويا، له بطش. فإن وكل من يقيم له الحد.. فيحتاج أن يكون

عدلا، عاقلا، عالما. وإن كان فاسقا أو جاهلا.. لم يكن له إقامة الحد؛ لأنها ولاية في إقامة الحد، فمنع الفسق والجهل منه، كولاية الحاكم. والثاني: يجوز أن يكون فاسقا جاهلا، وهو المنصوص في القديم؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» . وهذا خطاب يعم الجميع، ولأنها ولاية بحق الملك، فلم يمنع الفسق والجهل منها، كولاية النكاح. وهل للكافر أن يقيم الحد على مملوكه؟ فيه وجهان حكاهما الخراسانيون، وتعليلهما ما ذكرناه في الفاسق. وهل للمرأة أن تقيم الحد على مملوكها؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو المذهب: أن لها أن تقيم الحد؛ لما رُوِيَ: (أن فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلدت أمة لها زنت) ، و: (قطعت عائشة أمة لها سرقت) . ولا مخالف لهما في الصحابة. والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هُرَيرَة: أنه ليس لها ذلك؛ لأنه ولاية على الغير، فلم تملكه المرأة، كولاية النكاح. فعلى هذا: فيمن يقيم الحد على مملوكها وجهان: أحدهما: ولي المرأة، كما يزوج أمتها. والثاني: لا يملكه إلا الحاكم؛ لأن ذلك يستفاد بالولاية العامة وبولاية الملك، فإذا بطلت ولاية الملك في ذلك.. بقيت الولاية العامة في ذلك؛ وهي ولاية الحاكم. وإن كان المولى مكاتبا.. فهل له أن يقيم الحد على مملوكه؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه ليس من أهل الولاية. والثاني: له ذلك؛ لأنه يستفاد بالملك، فملكه المولى، كسائر التصرفات.

مسألة: هيئة الجلد وصفته

وإن كان عبد بين اثنين شريكين.. لم يجز لأحدهما أن يقيم عليه الحد بغير إذن شريكه؛ لأنه ليس له أن يحكم في ملك شريكه. [مسألة: هيئة الجلد وصفته] إذا كان المحدود بكرا.. نظرت فيه: فإن كان صحيحا قويا، والزمان معتدل الحر والبرد.. فإنه يجلد ولا يجرد ولا يقيد. وقال أبُو حَنِيفَة: (يجرد عن الثياب) . دليلنا: ما رُوِي عن ابن مَسعُودٍ: أنه قال: (ليس في هذه الأمة مد، ولا تجريد، ولا غل، ولا صفد) . ولا مخالف له في الصحابة. ويفرق الضرب على أعضائه ويتوقى الوجه والمذاكير؛ لما رَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ضرب أحدكم.. فليتوق الوجه» . ورُوِي: أن عليا كرم الله وجهه حد رجلا، فقال للجلاد: (اضربه وأعط كل عضو منه حقه، واتق وجهه ومذاكيره) . ورُوِي ذلك عن ابن عمر. ولأن الوجه يتبين فيه

الشين، والمذاكير مقتل. وهل يتوقى الرأس؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول الماسرجسي واختيار ابن الصبَّاغ: أنه يتوقاه؛ لأنه مقتل، ويخاف منه العمى وزوال العقل. وكذلك الخاصرة مثله. والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا: أنه لا يتوقى الرأس؛ لما رُوِي عن أبي بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال للجلاد: (اضرب الرأس؛ فإن الشيطان فيه) ، ولأنه يكون مغطى في العادة فلا يخاف تشويهه، ولأن ضربه بالسوط لا يخاف منه الموت. ويضرب بسوط بين سوطين، لا جديد فيجرح، ولا خلق فلا يؤلم؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يجلد رجلا، فأتي بسوط خلق، فقال: " فوق هذا " فأتي بسوط جديد، فقال: " بين هذين " فأتي بسوط قد لان فضرب به» وكذلك رُوِي عن علي وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

ويضرب ضربا بين ضربين، فلا يرفع الجلاد يده حتى يرى بياض إبطه، ولا يضعها وضعا يسيرا، ولكن يرفع ذراعه ويضرب؛ لما رُوِي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (سوط بين سوطين، وضرب بين ضربين) . وعن عمر وعلي وابن مَسعُودٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أنهم قالوا للجلاد: (لا ترفع يدك حتى يرى بياض إبطك) . ولأنه إذا رفع يده.. وقع الضرب شديدا، وربما جرحه، وإذا وضع يده وضعا يسيرا.. لم يحصل به الألم. ويضرب الرجل قائما، وتترك له يده يتقي بها، ولا يقيد ولا يمد ولا يجرد عن ثيابه، بل يترك عليه قميص أو قميصان، ولا تترك عليه جبة محشوة ولا فرو؛ لأنه يمنع من وصول الألم إليه. وتجلد المرأة جالسة. وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: تجلد قائمة، كالرجل. دليلنا: ما رُوِي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (تضرب المرأة جالسة) ، ولأن ذلك أستر لها. وتشد عليها امرأة ثيابها في حال الضرب؛ لئلا ينكشف بدنها، وتضرب ضربا بين ضربين، لما رَوَيْنَاهُ عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ورُوِي: أن جارية أقرت عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالزِّنَى، فقال: (أذهبت الجارية حسنها وجمالها) . ثم قال لرجلين: (اضرباها ولا تخرقا لها جلدا) .

وإن كان البكر مريضا أو مقطوعا أو محدودا.. أخر جلده حتى يبرأ من مرضه أو قطعه ويسكن ألم حده الأول، وكذلك: إن كان الزمان شديد الحر أو البرد.. أخر جلده إلى أن يعتدل الزمان؛ لأن المقصود من جلده النَكَال والردع لا القتل، فلو جلدناه في هذه الأحوال.. لم يؤمن أن يموت من ذلك. وإن كان نضو الخلق لا من علة لكنه نحيف الخلقة، أو كان به مرض لا يرجى زواله كالمسلول والزمن.. فإنه لا يحد حد الأقوياء، ولكن يضرب بإثكال النخل؛ وهو قضبانه. فيجمع مائة شمراخ، فيضرب بها دفعة واحدة، أو يضرب بأطراف الثياب والنعال. وقال مالك: (لا يضرب إلا بالسوط مائة مفرقة، فإن لم يمكن.. أخر جلده) . وقال أبُو حَنِيفَة: (يجمع مائة سوط، ويضرب بها دفعة واحدة) . دليلنا: ما رَوَى أبُو داود بإسناده، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، «أنه أخبره بعض أصحاب النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأنصار: أنه اشتكى رجل منهم حتى ضني، فعاد جلده على عظمه، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش إليها، فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه.. أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالوا: ما رأينا أحدا من الناس نزل به من الضر مثل الذي هو به، فلو حملناه إليك.. لتفسخت عظامه، ولم يبق عليه إلا جلد على عظم، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذوا مائة شمراخ واضربوه بها ضربة واحدة» وهذا نص في موضع

فرع: وقت الحد على الحامل وماذا لو مات المحدود؟

الخلاف. ولأنه لا يمكن ضربه بالسوط؛ لأنه يؤدي إلى تلفه، ولا يمكن تركه؛ لأنه يؤدي إلى تعطيل الحد. فإن سرق نضو الخلق أو المريض الذي لا يرجى زوال مرضه.. فهل يقطع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقطع؛ لأنه ليس المقصود من الحد القتل، كما أنه ليس المقصود من الجلد القتل، فلما لم يجز جلده بالسوط.. لم يجز قطعه. والثاني: يقطع، وهو المذهب؛ لأنه لا يمكننا أن نقطعه قطعا لا يخاف منه؛ إذ كل القطع يخاف منه السراية، فتركه يؤدي إلى إسقاط الحد، بخلاف الجلد. [فرع: وقت الحد على الحامل وماذا لو مات المحدود؟] وإن وجب الجلد على امرأة وهي حبلى.. لم تجلد حتى تضع؛ لأن جلدها ربما كان سببا لتلف ولدها، وربما كان سببا لتلفها؛ لأنها تضعف بالحمل. وكذلك: إذا ولدت.. لم يجز حدها ما دامت نفساء؛ لأن خروج الدم منها يضعفها، فهي كالمريضة.

إذا ثبت هذا: فكل موضع قلنا: (يجوز فيه إقامة الحد) فأقامه الإمام فمات المحدود.. لم يجب ضمانه؛ لأن الحق قتله. وكل موضع قلنا: (لا يجوز إقامة الحد فيه) فأقامه الإمام فيه، فإن كانت المرأة حاملا ثم تلف حملها.. وجب على الإمام ضمانه؛ لأنه متعد بذلك. فإن لم يعلم الإمام بكونها حاملا.. فهل يجب ضمانه في ماله أو في بيت المال؟ فيه قولان مَضَى توجيههما. وإن علم الإمام بكونها حاملا.. ففيه طريقان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: يجب ضمانه في ماله قولا واحدا؛ لأن بيت المال إنما يحمل خطأ الإمام، وهذا عمد إليه. و [الثاني] : منهم من قال: فيه قولان، وهو الأصح؛ لأن إتلاف الجنين لا يتأتى فيه العمد المحض، وإنما يتلف بعمد الخطأ. وإن تلف المحدود.. فقد نص الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على: (أن الإمام إذا أقام الحد على رجل في شدة حر أو برد، فمات المحدود.. أنه لا يجب ضمانه) . ونص الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على: (أنه إذا أمر الخاتن، فختنه في شدة حر أو برد، فمات المختون.. وجب ضمانه) . فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى وخرجهما على قولين: أحدهما: لا يجب عليه ضمانه؛ لأنه تلف بما هو مستحق عليه. والثاني: يجب عليه ضمانه؛ لأنه تعدى بذلك. ومنهم من قال لا يجب عليه ضمان المحدود؛ لأن الحد منصوص عليه، ويجب عليه ضمان المختون؛ لأن الختان مجتهد فيه. فإذا قلنا: يجب الضمان.. فكم يجب؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب جميع الدية؛ لأنه مفرط. والثاني: لا يجب عليه نصف الدية؛ لأنه مات من واجب ومحظور. وفي محل الوجوب قولان:

مسألة: تغريب البكر

أحدهما: في ماله. والثاني: في بيت المال. [مسألة: تغريب البكر] ويغرب البكر الحر سنة مع الجلد، وفي العبد قولان، وقد مَضَى الدليل عليهم. ولا تجوز الزيادة على السنة للخبر. وأقل مسافة التغريب ما تقصر إليه الصلاة. وقال أبُو عليّ بن أبي هُرَيرَة: يكفي التغريب إلى دون مسافة القصر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وتغريب عام» . ولم يفرق. والمذهب الأول؛ لأن ما دون مسافة القصر في حكم بلد الإقامة. وإن رأى الإمام أن يغرب إلى أكثر من مسافة القصر.. جاز؛ لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، غرب من المدينة إلى الشام) ، و: (غرب عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، منها إلى مصر) . وإن كان الزاني غريبا في البلد الذي زنَى فيه.. لم يقنع منه بالإقامة في تلك البلد، بل يخرج منها إلى بلد تقصر إليه الصلاة من البلد الذي زنَى فيه. فإن أراد أن يرجع إلى وطنه وبينهما مسافة القصر أو أكثر.. منع من ذلك؛ لأن المقصود بالتغريب تعذيبه، وذلك لا يحصل برجوعه إلى وطنه. وهل يجزئ التغريب سنة متفرقة؟ يحتمل أن يكون على وجهين، كتعريف اللقطة سنة متفرقة.

فرع: تغريب المرأة

فإذا انقضت السنة.. كان بالخيار: بين أن يرجع إلى وطنه، وبين أن لا يرجع؛ لأن الواجب قد حصل. [فرع: تغريب المرأة] وهل تغرب المرأة وحدها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعوديُّ [في " الإبانة "] : أحدهما: تغرب وحدها؛ لأنه سفر واجب، فهو كالهجرة. والثاني: لا تغرب وحدها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسافر المرأة إلا ومعها زوجها، أو ذو رحم محرم لها» . فإذا قلنا بهذا: فهل يجب على ذي رحمها أن يسافر معها؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أكثر أصحابنا: لا يلزمه السفر معها؛ لأن السفر وجب عليها، فلم يجب على ذي رحمها، كما قلنا في سفرها للحج. و [الثاني] : قال أبُو العباس: يلزمه الخروج معها، ولا يمتنع أن يجب على الإنسان قطع مسافة لأجل الغير، كما لو أمر الإمام قوما في الغزو وكان على طريقهم عدو يخافونه.. فإن على الإمام أن يبعث معهم جيشا ليجوزوا بهم على ذلك العدو. والأول أصح. فعلى هذا: أن تطوع ذو رحمها بالخروج معها، أو لم يتطوع ولكن وجدت امرأة ثقة فتطوعت بالخروج معها وكان الطريق آمنا.. لزمها السفر بذلك. وإن لم يتطوع ذو رحمها بالخروج، ولا وجدت امرأة ثقة تطوع بالخروج معها في طريق مأمون.. فإنه يستأجر ذو رحمها أو امرأة ثقة لتخرج معها. ومن أين يستأجر؟ فيه وجهان: أحدهما: من مالها؛ لأن ذلك واجب عليها، فإن لم يكن لها مال.. فمن بيت المال؛ لأن في ذلك مصلحة. والثاني: يستأجر من بيت المال؛ لأنه حق الله تَعالَى فكانت مؤنته من بيت المال،

مسألة: يعتبر حال الزاني لإقامة الحد

فإن لم يكن فيه شيء، أو كان ولكنه يحتاج إليه لما هو أهم من ذلك.. كان من مالها؛ لأن ذلك واجب عليها. [مسألة: يعتبر حال الزاني لإقامة الحد] وإن كان الزاني ثيبا.. نظر فيه: فإن كان صحيحا قويا، والزمان معتدل الحر والبرد.. رجم. وإن كان مريضا، أو كان في شدة حر أو برد.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال ابن الصبَّاغ: إن ثبت زناه بالبينة.. رجم. وإن ثبت بإقراره.. ففيه وجهان: أحدهما: يؤخر رجمه إلى أن يبرأ من مرضه ويعتدل الزمان؛ لأنه لا يؤمن أن يرجع عن إقراره بعد أن رجم بعض الرجم، فيؤدي ذلك مع المرض الشديد أو مع شدة الحر أو البرد إلى إتلاف نفسه. والثاني: يرجم ولا يؤخر؛ لأن الزِّنَى قد ثبت عليه ووجب رجمه، فلم يؤخر كما لو ثبت زناه بالبينة. وما ذكره الأول: يبطل بالزِّنَى إذا ثبت بالبينة؛ فإنه يجوز أن يرجع الشهود بهد أن رجم بعض الرجم، فيسقط عنه الرجم، ومع هذا لا يؤخر الرجم. وقال الشيخُ أبُو إسحاق: هل يؤخر الرجم مع شدة المرض أو شدة الحر أو البرد؟ فيه وجهان، ولم يفرق بين أن يثبت الزنى بالبينة أو بالإقرار، إلا أن تعليله يدل على أنه أراد إذا ثبت الزِّنَى بالإقرار؛ لأنه قال: يؤخر؛ لأنه ربما يرجع عن إقراره في حال الرجم. وقال الشيخُ أبُو حامد: إن كان مريضا.. فإن الرجم يؤخر بكل حال، سواء كان مما يرجى زواله أو مما لا يرجى زواله. وإن كان في شدة الحر أو البرد.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يرجم في الحال.

فرع: حفر للمرجومة دون المرجوم

الثاني: إن ثبت بالإقرار.. لم يرجم، وإن ثبت بالبينة.. رجم، ودليلهما ما مَضَى. الثالث: إن ثبت زناه بالبينة.. أخر رجمه، وإن ثبت بالإقرار.. رجم، لأنه هتك نفسه بإقراره. والأول أصح. [فرع: حفر للمرجومة دون المرجوم] فرع: [يحفر للمرجومة دون المرجوم] : وإذا أريد رجم الزاني.. نظرت: فإن كان رجلا.. لم يحفر له، سواء ثبت زناه بالبينة أو بالإقرار؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحفر لماعز بن مالك» . فيدور الناس حوله ويرجمونه. وإن كان المرجوم امرأة.. فهل يحفر لها؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخُ أبُو حامد: إن ثبت زناها بالبينة.. حفر لها؛ لأنها عورة. وإن ثبت زناها بإقرارها.. لم يحفر لها؛ لأنها ربما هربت فيكون رجوعا، ولا يمكنها ذلك. وقال القاضي أبُو حامد: إن ثبت زناها بالبينة.. فهو بالخيار: بين أن يحفر لها وبين أن لا يحفر لها. وإن ثبت زناها بإقرارها.. لم يحفر لها. وقال القاضي أبُو الطيب: هو بالخيار: بين أن يحفر لها أو لا يحفر لها، وسواء ثبت زناها بالبينة أو بالإقرار؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حفر للغامدية إلى ثدييها» ، و: (لم يحفر للجهنية) . وكان ثبت زناهما بالإقرار. وقال الشيخُ أبُو إسحاق: يحفر للمرأة، ولم يفرق بين أن يثبت زناها بالبينة أو بالإقرار؛ لأن ذلك أستر لها. [فرع: إقامة الرجم على الحبلى] وإن وجب الرجم على امرأة حبلى.. لم ترجم حتى تضع؛ لما ذكرناه في الغامدية والجهنية.

فرع: هرب الزاني من الرجم

ورُوِي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، أراد أن يرجم امرأة حاملا، فقال له معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن كان لك سبيل عليها.. فليس لك سبيل على ما في بطنها فتركها) . فإن وجد للولد من ترضعه.. رجمت بعد ما تسقيه الأم اللِّبَأ، لأنه لا يعيش إلا بذلك. وإن لم توجد له من ترضعه.. لم ترجم حتى تفطمه؛ لما ذكرناه في الخبر في الغامدية. [فرع: هرب الزاني من الرجم] وإن هرب المرجوم في حال الرجم.. نظرت: فإن ثبت زناه بالبينة.. اتبع ورجم إلى أن يموت؛ لأنه لا سبيل إلى تركه. وإن ثبت زناه بإقراره.. لم يتبع؛ لما رُوِيَ: «أن ماعز بن مالك لما وجد ألم الحجارة.. فر من بين أيديهم، فتبعوه ورجموه حتى مات، ثم ذكروا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هلا خليتموه حين سعى من بين أيديكم» . ولأنه لو رجع عن إقراره.. لقبل رجوعه، فكان الظاهر من حاله: أنه لما هرب منهم.. أنه رجع عن إقراره. فإن هرب ولم يصرح بالرجوع، فتبعوه ورجموه حتى قتلوه.. لم يجب عليهم ضمانه؛ لـ: (أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يوجب عليهم ضمان ماعز بن مالك) . ولأن هربه يحتمل الرجوع وغيره، فلم يجب عليهم الضمان بالشك.

فرع: يغسل المرجوم ويصلى عليه إن كان مسلما

[فرع: يغسل المرجوم ويصَلَّى عليه إن كان مسلماً] ويغسل المرجوم ويصَلَّى عليه إن كان مسلما. وقال مالك: (لا يصَلَّى عليه) . دليلنا: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالغامدية فرجمت، وصَلَّى عليها، ودفنت» . و: «أمرهم أن يصلوا على الجهنية) ، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: نصلي عليها وقد زنت؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة.. لوسعتهم، وهل وجدت شيئا أفضل من أن جادت بنفسها لله تَعالَى!» . [فرع: لا يقام الحد في المسجد] ] : ويكره إقامة الحد في المسجد. وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة. وقال ابن أبي ليلى: لا يكره. دليلنا: ما رُوِيَ «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود» . فإن أقيم الحد في المسجد.. سقط به الفرض؛ لأن النهي يعود إلى المسجد لا إلى الحد، فسقط به الفرض، كالصلاة في الدار المغصوبة. وبالله التوفيق

باب حد القذف

[باب حد القذف] القذف محرم، وهو من الكبائر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية (النور: 4) فأوجب فيه الحد، وجعله مانعاً من قبول الشهادة لا للتهمة، وسمى القاذف فاسقاً، وأثبت منه التوبة، وكل واحد من هذه الأشياء يدل على تحريمه. ولقوله تَعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} [النور: 23] الآية (النور: 23) ورَوَى حذيفة بن اليمان: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قذف محصنة يبطل عمل مائة سنة» . «ورَوَى ابن عمر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أقام الصلوات الخمس، واجتنب الكبائر السبع.. نودي يوم القيامة ليدخل من أي أبواب الجنة شاء" فقال رجل لابن عمر: أحفظتهن عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: نعم: "الشرك بالله تَعالَى، وعقوق

مسألة: يعتبر وجوب الحد بالمقذوف ومقداره بالقاذف

الوالدين، والقتل، وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والزنا» وقيل: أكل الربا، والزنا أشهر. ورَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله. وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله تَعالَى، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات» . وأجمعت الأمة: على تحريم قذف المحصنة والمحصن. [مسألة: يعتبر وجوب الحد بالمقذوف ومقداره بالقاذف] قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإذا قذف البالغ حراً بالغاً مسلماً، أو حرة بالغة مسلمة.. حد ثمانين) . وجملة ذلك: أن القاذف يجب عليه الحد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية (النور: 4) وروت عمرة «عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: (لما أنزل الله سبحانه عذري.. صعد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر فذكر الله تَعالَى، ثم تلا - تعني: آيات من كتاب الله تَعالَى - ثم نزل فأمر بأن يجلد الرجلان والمرأة حدودهم» تعني: حسان بن ثابت، ومسطح ابن أثاثة، وحمنة بنت جحش.

إذا ثبت هذا: فلا يجب حد القذف إلا على مكلف. فإن كان القاذف صغيراً أو مجنوناً.. لم يجب عليه الحد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ، ولأن الصغير والمجنون لا حكم لقولهما، فلا يجب به الحد. ويجب الحد بقذف المحصنة والمحصن، فإن قذف من ليس بمحصن.. لم يجب على القاذف الحد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية (النور: 4) فاشترط الإحصان في المقذوفة، فدلَّ على: أنه لا يجب الحد بقذف من ليس بمحصن. وللإحصان في حق المقذوف خمس شرائط: البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، والعفة عن الزِّنَى.

فإن قذف صغيراً أو مجنوناً.. لم يجب عليه حد القذف، لأن ما رماهما به من الزِّنَى لو تحقق.. لم يجب عليهما به حد، فلم يجب على قاذفهما به حد. وإن قذف مملوكاً.. لم يجب عليه به حد، لأن الرق يمنع من كمال حد الزِّنَى، فمنع من وجوب الحد على قاذفه. وإن قذف كافراً.. لم يجب عليه الحد، لما رَوَى ابن عمر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أشرك بالله.. فليس بمحصن» وإن قذف من عرف زناه ببينة أو بإقراره.. لم يجب عليه الحد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية (النور: 4) فلما وجب الحد على القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء على زنَى المقذوف.. فدلَّ على: أنه إذا أتى بأربعة شهداء على زناه أنه لا حد عليه. وقسنا إقرار المقذوف بالزِّنَى على ثبوت زناه بالبينة. إذا تقرر هذا: فإن وجوب الحد يعتبر بالمقذوف. وأمَّا كمال الحد ونقصانه.. فيعتبر بالقاذف، فإن كان القاذف حراً.. وجب عليه ثمانون جلدة للآية، وإن كان مملوكاً.. لم يجب عليه إلا أربعون جلدة. وبه قال أبُو بكر الصدِّيق وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأرضاهم، وأكثر أهل العلم. وقال عمر بن عبد العزيز: يجب على المملوك ثمانون جلدة. وبه قال الزهريُّ وداود، وحكى ذلك عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. دليلنا: ما رُوِيَ عن عبد الله بن عامر بن ربيعة: أنه قال: أدركت أبا بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف إلا

فرع: المقذوف أو القاذف إذا كان مبعضا

أربعين سوطاً، وما رأيت أحداً ضرب المملوك المفتري على الحر ثمانين جلدة قبل أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فدلَّ على: أنه إجماع. ولأنه حد يتبعض، فكان المملوك فيه على النصف من الحر، كالجلد في الزِّنَى. وفيه احتراز من القطع في السرقة. [فرع: المقذوف أو القاذف إذا كان مبعضاً] فإن كان المقذوف بعضه حر وبعضه مملوك.. لم يجد الحد على قاذفه. وكذلك: إذا كان القاذف بعضه حر وبعضه مملوك.. لم يجب عليه حد الحر، وإنما يجب عليه حد المملوك، لأنه ناقص بالرق، ولهذا لا تثبت له الولاية ولا تقبل شهادته ولا يقتل الحر به، فكان كالمملوك في ذلك. [فرع: قذف امرأة أو رجل وطئ وطئاً حراماً] ً) : وإن قذف رجل رجلاً وطئ وطئاً حراماً، أو امرأة وطئت وطئاً حراماً، والوطء الحرام على أربعة أضرب: ضرب: حرام محض، وهو: الزِّنَى. وكذلك: إذا وطئ أمه أو أخته بعقد النكاح وهو عالم بتحريمه، أو وطئ المرتهن الجارية المرهونة وهو عالم بتحريمه، أو وطئ جارية والده مع العلم بتحريمه.. أو وطئ الجارية التي أصدقها لزوجته مع العلم بتحريمه.. فهذا الوطء يجب به الحد على الواطئ ويسقط به إحصانه، فلا يجب الحد على قاذفه. والضرب الثاني: وهو وطء حرام لعارض، وهو: إذا وطئ زوجته الحائض أو

فرع: قذف الوالد ولده

النفساء أو الصائمة أو المحرمة.. فهذا لا يجب عليه الحد بهذا الوطء، ولا يسقط به إحصانه، فيجب الحد على قاذفه. والضرب الثالث: وطء حرام بكل حال إلا أنه في ملك، كمن وطئ أمه أو أخته في ملكه، فإن قلنا: يجب عليه الحد بوطئها.. سقط إحصانه بذلك، فلا يجب الحد على قاذفه. وإن قلنا: لا يجب عليه الحد.. لم يسقط إحصانه بذلك، فيجب الحد على قاذفه. والضرب الرابع: وطء حرام في غير ملك إلا أنه مختلف فيه، كمن وطئ امرأة في نكاح بلا ولي ولا شهود، أو في نكاح الشغار، أو نكاح المتعة، أو وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره.. فهذا الوطء لا يجب به الحد على الواطئ، ولكن هل يسقط به إحصانه؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط به إحصانه، فلا يجب الحد على قاذفه، لأنه وطء محرم في غير ملك، فهو كالزنا. والثاني: لا يسقط به إحصانه ويجب الحد على قاذفه، لأنه وطء لا يجب به الحد على الواطئ، فهو كما لو وطئ امرأته الحائض. وكذلك: إذا وطئ امرأة أجنبية ظنها زوجته.. فهو كما لو وطئ في النكاح بلا ولي. [فرع: قذف الوالد ولده] وإن قذف الوالد ولده وإن سفل.. لم يجب عليه الحد. وبه قال أبُو حَنِيفَة وأحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يكره له أن يحده، فإن حده.. جاز) وقال أبُو ثور وابن المنذر: (يجب له الحد عليه) .

فرع: ما يصنعه الحاكم إذا رفع إليه القاذف

دليلنا: أن الحد يسقط بالشبهة، وما يسقط بالشبهة.. لا يثبت للولد على الوالد، كالقصاص. وإن قذف أم ابنه وكانت محصنة أجنبية منه.. وجب لها عليه حد القذف. فإن ماتت قبل أن تستوفيه، ولا وارث لها غير ابنه منها.. سقط الحد عن أبيه، لأنه إذا لم يثبت له الحد على أبيه ابتداء.. لم يثبت له عليه إرثا، كالقصاص. وإن كان لها وارث مع ابن القاذف.. كان له أن يستوفي جميع الحد، لأن حد القذف يثبت لبعض الورثة. [فرع: ما يصنعه الحاكم إذا رفع إليه القاذف] وإذا رفع القاذف إلى الحاكم، فإن علم أن المقذوف غير محصن.. لم يكن له أن يحد القاذف. وإن أقر القاذف بإحصان المقذوف، أو قامت به بينة.. حد القاذف. وإن جهل الحاكم حال المقذوف.. فهل يجب عليه السؤال عن حاله؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه السؤال عن إحصانه، لأنه شرط في الحكم بالحد على القاذف، فوجب على الحاكم السؤال عنه، كعدالة الشاهد. والثاني: لا يجب عليه، لأن البلوغ والعقل يعلمان بالنظر إليه، والظاهر من حاله الإسلام والحرية والعفة عن الزِّنَى. وإن أقام القاذف بينة على زنَى المقذوف.. لم يجب الحد على القاذف. فإن طولب القاذف بالحد، فسأل أن ينظر إلى أن يقيم البينة على زنَى المقذوف.. أنظر ثلاثة أيام، لأن ذلك قريب. وإن قال: القاذف للمقذوف: احلف أنك ما زنيت.. لم يحد القاذف حتى يحلف المقذوف أنه ما زنَى، لأن اليمين تعرض عليه ليخاف فيقر. ولو خاف المقذوف من

فرع: سقوط حق المحصن من حد القاذف بزنا ونحوه

اليمين فأقر أنه زنَى.. لم يجب الحد على القاذف. فإن حلف المقذوف أنه ما زنَى.. وجب الحد على القاذف. وإن نكل عن اليمين.. ردت اليمين على القاذف، فإن حلف أن المقذوف زنَى.. سقط الحد عن القاذف، لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كإقرار المدعى عليه في أحد القوانين، أو كبينة يقيمها المدعي، ولو ثبت زنَى المقذوف بإقراره أو بالبينة.. لم يجب الحد على القاذف، وكذلك هذا مثله. ولا يجب حد الزِّنَى على المقذوف بيمين المدعي، لأن يمينه لإسقاط حد القذف، وحد الزِّنَى حق لله تَعالَى، فلا يثبت بيمين القاذف. [فرع: سقوط حق المحصن من حد القاذف بزنا ونحوه] وإن قذف رجل رجلاً محصناً أو امرأة محصنة، فلم يحد القاذف حتى زنَى المقذوف أو وطئ وطئاً حراماً سقط به إحصانه.. سقط حد القذف عن القاذف. وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة. وقال المزني وأبو ثور) لا يسقط عنه حد القذف، لأن الاعتبار بالحدود في حال الوجوب لا فيما يؤول إليه الحال، كما لو قذف مسلماً وقبل أن يقام عليه الحد ارتد المقذوف، وكما لو زنَى عبد فقبل أن يقام عليه الحد عتق، أو زنَى بكر فقبل أن يقام عليه الحد صار ثيباً) . وهذا خطأ، لأن العفة عن الزِّنَى لا يعلمها الحاكم من المقذوف إلا بغلبة الظن. فإذا زنَى المقذوف قبل إقامة الحد على القاذف.. احتمل أن يكون الزِّنَى حادثاً بعد القذف، فلم يسقط إحصانه حال القذف، واحتمل أن يكون هذا الزِّنَى كاشفاً لزنا كان يستتر به، لأن العادة أن الإنسان يظهر الطاعات ويستر المعاصي، فإذا أكثر من المعاصي.. أظهرها الله عليه، ولهذا رُوِيَ: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كان يجلد رجلاً في الزِّنَى فقال: والله يا أمير المؤمنين ما زنيت قبل هذا. فقال عمر (كذبت، إن الله تَعالَى أكرم من أن يهتك عبده في أول دفعة) . وإذا كان الأمر كذلك.. صار إحصانه

مسألة: القذف بلفظ صريح يوجب الحد وماذا لو كان غير صريح؟

مشكوكاً فيه حال القذف، وذلك شبهة، فيسقط به الحد عن القاذف. وأمَّا استدلالهما بردة المقذوف قبل إقامة الحد.. فإن فيها وجهين: أحدهما: يسقط إحصانه، كالزنا والثاني: لا يسقط إحصانه. والفرق بينها وبين الزِّنَى: أن الردة طريقها الديانات، ولم تجر العادة أن الإنسان يخفي دينه بل يظهره، ولهذا يبذل أهل الكتاب الجزية لإظهار دينهم، فلم تكن ردته قادحة في إسلامه المتقدم قبل القذف، وليس كذلك الزِّنَى، فإن العادة كتمانه، فإذا ظهر.. دل على تقدم مثله. وأمَّا استدلالهما بحرية الزاني وثيوبته قبل إقامة الحد عليه: فلا يشبه مسألتنا، لأن هذا تغير حال من يقام عليه الحد، وفي مسألتنا: لو تغير حال من يقام عليه الحد.. لم يتغير الحد، وإنما كلامنا فيه إذا تغير حال من يقام عليه الحد لأجله. [مسألة: القذف بلفظ صريح يوجب الحد وماذا لو كان غير صريح؟] إذا قذف غيره بلفظ صريح، كقوله: زنيت، أو أنت زان، أو يا زاني، أو ما أشبه ذلك.. وجب عليه حد القذف، سواء نوى به القذف أو لم ينو، لأنه لا يتحمل غير القذف. وإن قذفه بلفظ ليس بصريح في القذف ولكنه كناية يحتمل الزِّنَى وغيره، بأن يقول لغيره: يا فاجر، يا خبيث، يا حلال يا ابن الحلال. أو يقول: أما أنا فلست بزان، أو لم تحمل بي أمي من زنَى، أو لم تزن بي أمي، وما أشبه ذلك، فإن أقر أنه نوى به القذف.. وجب عليه الحد، لأن ما لا يعتبر فيه الشهادة.. كانت الكناية فيه مع النية بمنزله الصريح، كالطلاق والعتاق. وفيه احتراز من النكاح، فإنه تعتبر فيه الشهادة

ويصح بلفظ الإنكاح والتزويج، ولا يصح بالكناية عنهما وهو ما يؤدي معناهما. وإن لم ينوِ به القذف.. فإنه لا يكون قذفاً، سواء قال: ذلك في حال الرضا أو في حال الغضب والخصومة. وبه قال الثوريُّ وأبو حَنِيفَة وأصحابه. وقال مالك وأحمد وإسحاق: (إن قال: ذلك في حال الرضا.. لم يكن قذفاً من غير نية، وإن قال: ذلك في حال الغضب والخصومة.. كان قذفاً من غير نية) . دليلنا: ما رُوِيَ: «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترد يد لامس؟ فقال له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "طلقها" قال: أنِّي أحبها. فقال: "أمسكها» . فعرض الرجل بقذف امرأته بالزِّنَى، ولم يجعله النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاذفاً بالتعريض. ورُوِي: «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن امرأتي أتت بولد أسود ونحن أبيضان؟ فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل لك من إبل؟ " قال: نعم، قال: "وما ألوانها؟ " قال: حمر، قال"هل فيها من أورق؟ " قال: نعم، إن فيها لورقاً، قال: "فأنى ترى ذلك؟ " فقال لعل عرقاً نزعها. فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وهذا لعل عرقاً نزعه» فعرض الرجل بقذف امرأته بالزِّنَى، ولم يجعله النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاذفاً لها بظاهر التعريض". ولأن التعريض بالقذف لا يكون قذفاً، كما أن التعريض بالسب لا يكون سباً، بدليل ما رُوِيَ: أن المشركين كانوا يعرضون بسب النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقولون: مذمما عصينا ... وأمره أبينا فكنوا عن محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ: (مذمم) فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أما ترون كيف عصمني الله منهم؟ وإنهم ليسبون مذمماً وإنما أنا محمد»

فرع: ألفاظ لا تعتبر قذفا

ولأنه يحتمل القذف وغيره، فلم يجعل قذفاً بظاهره، كما لو قاله حال الرضا. [فرع: ألفاظ لا تعتبر قذفاً] وإن قال لرجل: يا قواد، يا مؤاجر.. فهو كناية في القذف. وإن قال له: بارك الله عليك، وما أحسن وجهك، وما أشبه ذلك.. لم يكن قذفاً وإن نوى به القذف بالزِّنَى، لأنه لا يحتمل القذف، فلو أوقعنا فيه القذف.. لوقع القذف بالنية من غير لفظ، وهذا لا يصح. [فرع: الرمي باللواطة] وإن قال رجل أو امرأة: لطت، أو لاط بك فلان باختيارك.. فهو قذف، لأنه قذفه بزنا يوجب الحد، فهو كما لو قذفه بالزِّنَى في الفرج. وإن قال لرجل: يا لوطي.. فقال: القاضي أبُو الطيب والشيخ أبُو إسحاق: يرجع إليه: فإن قال: أردت أنه على دين قوم لوط.. لم يجب عليه الحد، لأنه يحتمل ذلك. وإن قال: أردت أنه يعمل عمل قوم لوط.. وجب عليه الحد. قال ابن الصبَّاغ: وهذا فيه نظر؛ لأن هذا مستعمل في الرمي بالفاحشة، فينبغي أن لا يقبل قوله: (إنِّي أردت أنه عليّ دينهم) ، بل يكون قذفا، وبه قال مالك. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يكون قذفا بحال) وبناه على أصله: أن اللواط لا يوجب الحد، فكذلك القذف به، وقد مَضَى الدليل على: أنه يوجب الحد. [مسألة: قوله لأنثى يا زانية فقالت له يا زان أو بك زنيت] وإن قال رجل لامرأته أو غيرها: يا زانية، فقالت له: يا زان.. كان كل واحد منهما قاذفاً لصاحبه.

وقال أبُو حَنِيفَة: (يصير قصاصاً، فلا يجب على واحد منهما حد) دليلنا: أن القصاص لا يجب في القذف، فلم تقع به المقاصة. فإن قال رجل لامرأته: يا زانية فأجابته فقالت: زنيت بك، أو: بك زنيت.. فإنه يكون قاذفاً لها بظاهر القول، فيجب عليه الحد. فإن أقام البينة أو لاعنها، وإلا.. حد لها. وأمَّا جوابها له بقولها: بك زنيت أو زنيت بك.. فلا يكون قذفاً له بظاهره من غير نية، لأنه يحتمل القذف له، ويحتمل الإقرار على نفسها بالزِّنَى دونه، ويحتمل الجحود والإنكار عن الزِّنَى. فاحتمال القذف له أنها أرادت أنك زنيت بي قبل النكاح، فيكون ذلك قذفاً له واعترافا على نفسها بالزِّنَى. واحتمال الاعتراف على نفسها بالزِّنَى دونه: أنها أرادت أنك وطئتني قبل النكاح وأنت مجنون، أو استدخلت ذكرك وأنت نائم قبل النكاح، أو وطئتني قبل النكاح وأنت تظن أنِّي زوجتك وقد علمت أنك أجنبي. واحتمال جحودها عن الزِّنَى من وجهين: أحدهما: أنها أرادت لم يصبني غيرك بالنكاح، فإن كان ذلك زنَى.. فبك زنيت. والثاني: أنها أرادت إن كنت زنيت.. فمعك زنيت، أي: فكما لم تزن أنت.. لم أزن أنا، كما لو قال رجل لغيره: سرقت، فيقول: معك سرقت، أي أنِّي لم أسرق كما لم تسرق. فإذا احتمل قولها هذه الاحتمالات.. لم يجعل قذفاً له من غير نية منها لقذفه، فيرجع إليها: فإن قالت: إنِّي أردت به الاحتمال الأول وأنه زنَى بي قبل النكاح.. فقد قذفته بالزِّنَى واعترفت على نفسها بالزِّنَى، فيجب عليها حد الزِّنَى وحد القذف للزوج، ويسقط عن زوجها حد قذفها. وإن قالت: أردت الاحتمال الثاني.. فقد اعترفت على نفسها بالزِّنَى، فلا يجب على الزوج حد القذف لها، ولا تكون قاذفة له.

فرع: قال لامرأة: يا زانية فأجابته أنت أزنى مني

وإن قالت: أردت به الجحود عن الزِّنَى على أي الوجهين كان، فإن صدقها الزوج على ذلك.. سقط عنها عهدة هذا الكلام. وإن كذبها وادعى أنها أرادت قذفه.. فالقول قولها مع يمينها، لأنها أعلم بما أرادت. فإن حلفت.. برئت، وكان على الزوج حد القذف لها، وله إسقاطه بالبينة أو باللعان. وإن نكلت عن اليمين.. ردت اليمين على الزوج فيحلف: أنها أرادت قذفه بالزِّنَى أو الاعتراف على نفسها بالزِّنَى، فإذا حلف.. سقط عنه حد القذف، ووجب عليها حد القذف له، ولا يجب عليها حد الزِّنَى، لأن ذلك من حقوق الله تَعالَى، فلا يثبت بيمينه عليها. وإن قال رجل لامرأة أجنبية: يا زانية، فقالت: بك زنيت أو زنيت بك.. فإنه يكون قاذفاً لها بظاهر هذا القول. قال المسعوديُّ (في الإبانة) : ولا يرجع إليها بهذا، بل يكون قولها قذفاً له. [فرع: قال لامرأة: يا زانية فأجابته أنت أزنى مني] وإن قال رجل لامرأته: يا زانية، فقالت له: أنت أزنى مني.. فإنه يكون قاذفاً لها بظاهر هذا القول، ولا تكون قاذفة له بظاهر هذا القول من غير نية، لأنه يحتمل القذف وغيره. فاحتمال القذف: أنها أرادت أنِّي زانية وأنت زان، وأنت أكثر زنَى مني. واحتمال غير القذف: أنه ما وطئني غيرك في النكاح، فإن كان ذلك زنَى.. فأنت أزنى مني، لأنك أحرص على ذلك، والعمل لك. فيرجع إليها، فإن أرادت الاحتمال الأول.. فقد اعترفت على نفسها بالزِّنَى وبالقذف له، فيجب عليها حد الزِّنَى وحد القذف، ويسقط عنه حد القذف لها. وإن قالت: أردت به الاحتمال الثاني، فإن صدقها على ذلك سقط عنها عهدة هذا الكلام، ووجب لها عليه حد القذف، وله إسقاطه بالبينة أو باللعان. وإن كذبها، وادعى أنها أرادت قذفه.. فالقول قولها مع يمينها على ما مَضَى. وإن قال رجل لامرأة أجنبية: يا زانية، فقالت: أنت أزنى مني.. فإنه يكون قاذفاً لها بظاهر هذا القول. والذي يقتضي المذهب: أنها لا تكون قاذفة له بظاهر هذا

فرع: قوله: هي أزنى من فلان أو هو أزنى الناس

القول، بل يرجع إليها، فإن قالت: أردت أنِّي زانية وهو أزنى مني.. فقد اعترفت على نفسها بالزِّنَى واعترف بقذفه، فيجب عليها حد الزِّنَى وحد القذف، ويسقط عنه حد القذف. وإن قالت: لست بزانية ولا هو بزان، فإن صدقها على ذلك.. سقط عنها عهدة هذا الكلام، فيجب لها عليه حد القذف. وإن كذبها وادعى: أنها أرادت أنها زانية وأنه أزنى منها.. فالقول قولها مع يمينها. فإن حلفت.. وجب لها عليه حد القذف، وإن نكلت وحلف.. وجب عليها حد القذف، وسقط عنه حد القذف، ولا يجب عليها حد الزِّنَى بيمينه، لأنه حق لله تَعالَى، فلا يثبت بيمينه. [فرع: قوله: هي أزنى من فلان أو هو أزنى الناس] وإن قال رجل لامرأته أو لغيرها: أنت أزنى من فلان أو من فلانة.. فإنه يكون قاذفاً بظاهر هذا القول، لأن قوله: (أزنى) على وزن أفعل، ولفظة: (أفعل) لا تستعمل إلا فيما يشتركان فيه ثم ينفرد أحدهما بزيادة - كما لو أن رجلاً قال: زيد أفقه من عمرو.. اقتضى قوله هذا: أنهما مشتركان في الفقه إلا أن زيدا أكثر فقهاً منه - فيرجع إليه، فإن قال: أردت أن فلاناً زان، وأنت أزنى منه.. فقد اعترف لهما بالقذف. وإن قال لا أعرف فلاناً، أو أعرفه وليس هو بزان، فإن صدقته على ذلك.. سقط عنه عهدة هذا الكلام. وإن كذبته.. حلف لها: أنه ما قذفها. وإن قال لغيره: أنت أزنى الناس.. لم يكن هذا قذفاً بظاهره، فيرجع إليه، فإن قال: أردت أنه أزنى من جميع الناس.. لم يكن ذلك قذفاً، لأنا نعلم أن جميع الناس ليسوا بزناة، فيكون هذا أزنى منهم. وإن قال: أردت به أنه أزنى من زناة الناس، أو قال له ابتداء: أنت أزنى من زناة الناس.. كان قاذفاً له، فيجب عليه حد القذف لهذا المخاطب، ولا يجب عليه الحد لزناة الناس، لأنه قد قذف جماعة غير معينين.

مسألة: قوله لامرأة: يا زان

[مسألة: قوله لامرأة: يا زان] قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو قال لها: يا زان.. كان قذفاً، وهذا ترخيم منه) وجملة ذلك: أنه إذا قال لامرأته أو غيرها: يا زان.. فإنه يكون قاذفاً لها بظاهر هذا القول، لأن المفهوم من قوله: أنه أراد رميها بالفاحشة، فكان قذفاً، كما لو قذفها بالعجمية. إذا ثبت هذا: فاعترض ابن داود على الشافعيُّ، في هذا بشيئين: أحدهما: بقوله (وهذا ترخيم) فقال: الترخيم إنما يصح بأسماء الألقاب، فأما بالأسماء المشتقة من الفعل: فلا يصح فيها الترخيم. والثاني: أنه قال: الترخيم إنما يصح بإسقاط حرف من الكلام، فأما بإسقاط حرفين.. فلا يصح. فأجاب أصحابنا عن اعتراضه الأول بأن قالوا: هذا باطل، لترخيمهم لمالك وحارث، فإنهما اسمان مشتقان من الفعل. وأجابوا عن الثاني بأجوبة منها: أن الشافعيَّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال في بعض كتبه: (إذا قال لها: يا زاني.. كان قاذفاً) وإنما غلط المزني فنقل: (إذا قال لها: يا زان) . ومنهم من قال: إذا كان الحرف الذي قبل الحرف الأخير حرف اعتلال.. سقط في الترخيم، كقولهم في عُثمانَ: يا عثم. ومنهم من قال: إذا كان المراد منه مفهوماً.. صح الترخيم وإن سقط حرفان أو أكثر، لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لأبي هُرَيرَة: "يا أبا هر» . [فرع: قوله لرجل: يا زانية] ) : إذا قال لرجل: يا زانية.. كان صريحاً في القذف عندنا في ظاهر هذا القول. وبه

فرع: قوله زنأت في الجبل كناية

قال محمد. وقال أبُو حَنِيفَة وأبو يوسف: (لا يكون قذفاً) . دليلنا: أن كل كلمة فهم معناها.. لزم المتكلم حكمها وإن كان لحنا، كما لو قال لامرأة: زنيت يا هذا، أو لرجل: زنيت يا هذه. وقوله لرجل: يا زانية مفهوم المعنى، وهو: أنه رماه بالفاحشة وألحق به المعرة، فلزمه حكم هذه الكلمة، لأن لها مخرجاً في اللغة، وذلك أنه قد يشير إلى نفسه وذاته، فيكون معناه: يا نفسا زانية ويا ذاتاً زانية، فيصح التأنيث في هذا فوجب الحكم فيها بالقذف. [فرع: قوله زنأت في الجبل كناية] وإن قال لغيره: زنأت في الجبل.. فإنه لا يكون قاذفاً بظاهر هذا القول، إلا أن يقر أنه أراد به الزِّنَى.. فيكون قذفاً. وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه: (يكون قاذفاً بظاهره) . دليلنا: أن قوله: زنأت في الجبل حقيقة في الصعود والارتقاء، يقال: زنأت تزنأ زنئاً وزنوئاً. ويقال: في الزِّنَى الذي هو الوطء: زنيت تزني زنَى، فإذا كان ذلك حقيقة في الصعود.. حمل على الإطلاق، ولم يحمل على المجاز إلا بدليل. فأما إذا قال لغيره: زنأت ولم يقل: في الجبل.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه يكون قذفاً بظاهره، لأنه لم يقترن به ما يدل على الصعود. والثاني: - وهو قول أبي الطيب ابن سلمة -: إن كان هذا القائل عامياً.. كان هذا القول قذفاً بظاهره، لأن العامي لا يفرق بين زنيت وزنأت. وإن كان لغوياً.. لم يكن

مسألة: قوله زنى فرجك أو يدك أو بدنك أو نحو ذلك

قذفاً بظاهره، لأن حقيقة هذا القول عنده: الصعود، كما قلنا فيمن قال لامرأته: أنت طالق أن دخلت الدار - بفتح الهمزة-. وإن قال: زنأت في الجبل.. ففيه ثلاثة أوجه حكاها المسعوديُّ [في " الإبانة "] : أحدها: أنه قذف، وقوله: (في الجبل) بيان المحل. والثاني: لا يكون قذفاً بظاهره. والثالث: إن كان لا يعرف العربية.. لا يكون قذفاً، وإن كان يعرف العربية.. كان قذفاً. [مسألة: قوله زنَى فرجك أو يدك أو بدنك أو نحو ذلك] إذا قال رجل لامرأة: زنَى فرجك، أو قال لرجل: زنَى ذكرك أو أيرك.. كان صريحاً في القذف، لأن ذلك صريح في الفاحشة. وإن قال لرجل أو لامرأة: زنَى دبرك.. كان صريحاً في القذف. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يكون ذلك قذفاً) بناء على أصله: أن الحد لا يجب بالوطء في الدبر، وقد دللنا عليه، ونقول هاهنا: لأنه أضاف الزِّنَى إلى سبيل يجب بالزِّنَى فيه الحد، فكان قذفاً صريحاً، كما لو قال لامرأة زنَى فرجك. وإن قال: زنت عينك، أو يدك، أو رجلك.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه صريح في القذف- وهو ظاهر ما نقله المزني - لأنه أضاف الزِّنَى إلى بعض منه، فهو كما لو أضافه إلى الفرج أو إلى الذكر. والثاني: أنه ليس بصريح في القذف، وإنما هو كناية فيه. قال الشيخُ أبُو حامد: ولعله أصح، لأن لهذه الأعضاء زنايين: زنا ليس بفاحشة، وهو النظر من العينين، والبطش من اليدين، والمشي من الرجلين. وزنا هو فاحشة، وهو مشاركة هذه الأعضاء للفرج، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، ويصدق ذلك ويكذبه الفرج»

فبين: أن الزِّنَى لا يتحقق من هذه الأعضاء إلا بمعاونة الفرج. فإذا احتمل الزِّنَى بهذه الأعضاء هذين الاحتمالين.. لم يكن إضافة الزِّنَى إليها صريحاًَ في القذف، كقوله: يا حلال يا ابن الحلال، ولأنه لو قال: زنت عيني، أو يدي، أو رجلي.. لم يكن ذلك إقراراً منه بالزِّنَى، فإذا أضاف ذلك إلى غيره.. لم يكن صريحاً في القذف. فإن قلنا: أنه صريح وادعى أنه لم يرد به الزِّنَى الحقيقي.. لم يقبل منه. وإن قلنا: إنه كناية.. رجع إليه، فإن قال: أردت به الزِّنَى الحقيقي.. لزمه حد القذف، وإن قال لم أرد به الزنى الحقيقي.. فالقول قوله مع يمينه، لأنه أعلم بما أراده، وإن قال لرجل: زنَى بدنك.. قال الشيخُ أبُو إسحاق: فهل هو صريح أو كناية؟ فيه وجهان، والذي يقتضي المذهب في هذا: أن يقال: يبنى على الوجهين الأولين: فإذا قلنا: إنه إذا أضاف الزِّنَى إلى عضو من أعضاء البدن غير القبل والدبر يكون صريحاً في القذف.. فيكون هاهنا صريحاً وجهاً واحداً. وإن قلنا هناك: يكون كناية.. فهاهنا وجهان: أحدهما: أنه صريح في القذف، لأنه أضاف الزِّنَى إلي جميع البدن، والقبل والدبر داخل فيه. والثاني: أنه كناية في القذف، لأنه أضاف الزِّنَى إلى جميع البدن، والزنا بجميع البدن إنما يكون بالمباشرة، فلم يكن صريحاً في القذف.

فرع: قذف الخنثى

[فرع: قذف الخنثى] ) : وإن قال للخنثى المشكل: زنيت أو يا زاني.. كان صريحاً في القذف، لأنه رماه بالفاحشة. وإن قال له: زنَى فرجك، أو زنَى ذكرك.. فالذي يقتضيه المذهب: أن يكون فيه وجهان: أحدهما: أنه صريح. والثاني: أنه يكون كناية، كما لو أضاف الزِّنَى إلى اليد أو الرجل من المرأة أو الرجل، لأن كل واحد منهما يحتمل أن يكون عضواً زائداً، فهو كسائر أعضاء البدن. وإن قال له: زنَى فرجك وذكرك.. كان صريحاً في القذف، لأنه لا بد أن يكون أحدهما أصلياً، وقد أضاف الزِّنَى إليه. وإن قال له: زنَى دبرك.. كان صريحاً في القذف، لأن إضافة الزِّنَى إلى الدبر من الرجل أو المرأة صريح في القذف، ولا بد أن يكون الخنثى أحدهما. [فرع: قوله: لا ترد يد لامس] وإن قال: فلانة لا ترد يد لامس.. لم يكن صريحاً في القذف، لـ «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترد يد لامس» ، فلم يجعله النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاذفاً لها بذلك. [فرع: قوله زُنَي بك وأنت مكرهة] إذا قال لامرأة: زنَى بك رجل وأنت مكرهة.. كان قاذفاً لرجل غير معين، ولا يجب عليه الحد، لأنه غير معين، ولا يكون قاذفاً للمرأة، لأنه رماها بوطء ليست بزانية فيه وهل يعزر لها؟ فيه وجهان

فرع: قوله: زنيت بصبي أو ركبت رجلا أو ساحقت امرأة

أحدهما: لا يعزر لها، لأنه رماها بوطء لا حد عليها فيه ولا عار. والثاني: يعزر، لأنه قد آذاها بحصول ماء حرام في رحمها، وذلك طعن عليها فلزمه التَّعزِير لها. [فرع: قوله: زنيت بصبي أو ركبت رجلاً أو ساحقت امرأة] وإن قال: زنيت بفلان وهو صبي يجامع مثله.. كان قاذفاً لها، لأنه يوجد منه الوطء الذي يجب به الحد عليها. وإن كان صبياً لا يجامع مثله.. لم يكن قاذفاً لها، لأن القذف ما احتمل الصدق والكذب، وفي هذا الموضع يعلم كذبه لا غير، فلم يكن به قاذفاً. وإن قال لامرأة: ركبت رجلاً حتى دخل ذكره في فرجك.. كان قاذفاً لها، لأنه رماها بالفاحشة. وإن قال لامرأة: ساحقت فلانة أو زنيت بفلانة.. لم يكن قاذفاً لها، لأنه لو تحقق ذلك منهما.. لم يجب عليهما الحد، فلم يكن قاذفاً بذلك، ويعزر، لأنه آذاها بذلك. [مسألة: إنكار نسبة الولد له] قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو ولدت امرأته ولداً، فقال: زوجها: ليس بابني.. فإنه لا يكون عليه حد ولا لعان حتى ينفيه) . وجملة ذلك: أن الرجل إذا أتت امرأته بولد، فقال: هذا الولد ليس مني أو ليس بابني.. فإنه لا يكون قاذفاً لها بظاهر هذا القول، لأنه يحتمل: أنه أراد به ليس مني أو ليس بابني وأنه من الزِّنَى. ويحتمل: أنه ليس مني أو ليس بابني لا لأنه من الزِّنَى ولكنه ليس يشبهني خلقاً ولا خلقاً، ويحتمل: أنه ليس مني أو ليس بابني، بل من زوج قبلي. ويحتمل: أنه ليس بابني وليس مني وأنها استعارته أو التقطته. وإذا احتمل هذا القول القذف وغيره.. لم يكن قذفاً بظاهره، كما لو قال له: يا حلال يا بن الحلال، ويرجع في تفسير ذلك إليه، فإن قال: أردت أنه من الزِّنَى.. كان قاذفاً لها. وإن قال: أردت أنه

فرع: قذف زوجته ونفى ولدها باللعان ثم قال: أجنبي للولد: لست بابنه

ليس بابني، لأنه لا يشبهني خلقاً ولا خلقا، فإن صدقته على ذلك.. فلا كلام وإلا.. كان القول فيه قوله مع يمينه، لأنه أعلم بما أراد. وإن قال: أردت أنه من زوج قبلي، فإن لم يعرف لها زوج قبله.. قيل له: لا يقبل منك هذا التفسير، لأنك فسرته بما لا يحتمله، فعليك أن تفسره بما يحتمله. وإن كان قد عرف لها زوج قبله وصدقته على أنه أراد به ذلك.. لم يكن قاذفاً لها - والكلام في نفي نسب الولد عنه في ذلك قد مَضَى في اللعان - وإن كذبته في ذلك، فقالت: ما أردت بذلك إلا القذف؟ كان القول قوله مع يمينه، لأنه أعلم بما أراد. وإن قال: أردت أنه ليس بابني، بل استعارته أو التقطته، وصدقته على أنه أراد ذلك، أو كذبته وحلف أنه أراد ذلك.. لم يكن قاذفاً لها، والكلام في نفي نسبه عنه قد مَضَى في اللعان. [فرع: قذف زوجته ونفى ولدها باللعان ثم قال: أجنبي للولد: لست بابنه] وإن قذف رجل زوجته ونفى نسب ولدها باللعان، ثم قال رجل أجنبي لذلك الولد: لست بابن فلان.. لم يكن ذلك صريحاً في القذف، لأنه يحتمل: أنه أراد لست بابن فلان، لأنه لا بنوة بينكما، ويحتمل: أنه أراد لست بابن فلان، بل إنك من الزِّنَى، فيرجع إليه، فإن قال: أردت أنه ليس بابنه، لأنه لا بنوة بينهما في الشَّرع، فصدقته المرأة على ذلك، أو كذبته وحلف على ذلك.. لم يكن قاذفاً لها. وإن قال: أرد أنك لست بابنه، بل من الزِّنَى.. كان قاذفاً للمرأة، فيجب لها عليه حد القذف. وإن قذف امرأة ونفى نسب ولدها باللعان، ثم أكذب نفسه.. لحقه نسب الولد. فإن قال رجل أجنبي لهذا الولد بعد أن أكذب الزوج نفسه: لست بابن فلان.. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (حد) ، وقال: في الزوج - إذا قال لهذا الولد: لست بابني -: (لا يكون صريحاً في القذف، وإنما يرجع إليه في التفسير) ، واختلف أصحابنا فيهما على أربعة طرق:

مسألة: قوله لعربي يا نبطي

فـ (الطريق الأول) : منهم من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى، وجعلهما على قولين: أحدهما: أنه صريح في القذف فيهما، لأن الظاهر من هذا القول نفي النسب. والثاني: أنه كناية فيهما، لأنه يحتمل: أنه أراد لست بابنه - أي -: لا تشبهه في الخلق أو الخلق. و (الطريق الثاني) : منهم من قال: بل هو كناية فيهما، لأنه يحتمل القذف وغيره. فإذا احتملهما.. لم يجعل قذفاً بظاهره، وحمل كلامه في الأجنبي عليه إذا اعترف: أنه أراد به القذف. وقوله في الأب إذا لم يعترف: أنه لم يرد القذف. و (الطريق الثالث) : منهم من حملهما على ظاهرهما، فجعل ذلك كناية في الأب، لأنه قد يحتاج إلى تأديب ولده بالفعل والقول، فيقول: لست بابني على سبيل الردع والزجر، وجعل ذلك صريحاً من الأجنبي، لأنه ليس له أن يؤدب ولد غيره بفعل ولا بقول. و (الطريق الرابع) : قال أبُو إسحاق: هي على اختلاف حالين: فحيث جعله كناية أراد: إذا قال ذلك قبل استقرار نسب الولد، بأن يقول ذلك الأب أو الأجنبي حال وضع الولد، لأنه لم يستقر نسبه من الأب، لأن له أن ينفيه باللعان. وحيث جعله صريحاً أراد: إذا قال: ذلك الأب أو الأجنبي بعد استقرار نسب الولد بتكذيب الأب نفسه بعد ذلك، لأنه لا سبيل إلى نفيه بحال. قال الشيخُ أبُو حامد: وهذا أسد الطرق، والله أعلم. [مسألة: قوله لعربي يا نبطي] وعكسه] : وإن قال لعربي: يا نبطي.. لم يكن قاذفا بظاهر الكلام، لأنه يحتمل القذف

وغيره، فيرجع إليه في تفسيره، فإن قال: أردت أنه نبطي اللسان، لأنه لا فصاحة له، أو نبطي الدار، لأنه ولد في دارهم، وصدقه المقذوف أنه أراد ذلك، أو كذبه وحلف القاذف أنه أراد ذلك.. لم يلزمه الحد، ولكن يلزمه التَّعزِير، لأنه قد أوهم أنه قذفه. وإن قال: أردت إن جدته زنت بنبطي وأتت بأبيه من نبطي، أو أن أمه زنت بنبطي وأتت به منه.. فقد قذف جدته أو أمه، فإن كانت محصنة.. وجب لها عليه حد القذف. وإن كانت غير محصنة.. لم يجب عليه حد القذف. وإن قال: أردت نفي نسبه من العرب إلى النبط بغير زنا.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه الحد - وبه قال أبُو حَنِيفَة - لما رُوِيَ: أن ابن عبَّاس سئل عمن قال لنبطي: يا عربي، فقال: (لا حد عليه) . وعن الشعبي أنه قال: كلنا أنباط، يريد به: في الأصل. ولأن الله تَعالَى أوجب حد القذف بالقذف في الزِّنَى، وهذا لم يقذف بالزِّنَى، فلم يجب عليه الحد. والثاني: يجب عليه حد القذف، وهو ظاهر النص، لأن الشافعيَّ، قال: (فإن قال: عنيت نبطي الدار أو اللسان.. أحلفته: ما أراد أن ينسبة إلى النبط. فإن نكل.. حلف المقذوف: أنه أراد نفيه، وحد له) . وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، والليث، وأحمد، وإسحاق، واختاره ابن الصبَّاغ، لما رَوَى الأشعث بن قيس: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا أوتى برجل يقول: إن كنانة ليست من قريش.. ألا جلدته» ورُوِي عن ابن مَسعُودٍ: أنه قال: (لا حد إلا في اثنين: قذف المحصنة، أو نفي رجل من أبيه) . ومثل هذا لا يقوله إلا توقيفاً. قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : فإن قال لقرشي: لست من قريش، أو لتيمي: لست من تيم.. نظرت: فإن قال: أردت به أنه ليس من صلب قريش.. لم يصدق، وكان قاذفاً. وإن قال: أردت أن واحدة من أمهاته في الجاهلية زانية.. لم يكن قذفاًًًً؛

فرع: قذف غير محصن وعرض به لمحصن

لأنها غير محصنة. وإن قال: أردت أن واحدة من أمهاته في الإسلام زانية.. لم يكن قذفا، لأنها غير معينة، فصار كما لو قال: في هذا البلد زان. [فرع: قذف غير محصن وعرض به لمحصن] وإن قذف غير محصن بالزِّنَى، أو عرض بالقذف للمحصن، ولم يقر أنه أراد به الزِّنَى.. فإنه يعزر على ذلك، لأنه آذاه بذلك. [مسألة: حد القذف حق للمقذوف] عندنا] : حد القذف حق للمقذوف، ولا يستوفى إلا بمطالبته، ويسقط بعفوه أو إبرائه. وإن مات قبل الاستيفاء أو العفو أو إبرائه.. ورث عنه. وقال أبُو حَنِيفَة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (حد القذف حق لله تَعالَى لا حق للمقذوف فيه، فلا يسقط بعفوه وإبرائه. ولا يورث عنه) . إلا أنه وافقنا: أنه لا يستوفى إلا بمطالبته. دليلنا: ما رُوِيَ: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا أن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» فأضاف العرض إلينا، والحد إنما يجب بتناول العرض، فإذا كان العرض للمقذوف.. وجب أن يكون ما وجب في مقابلته، كما أنه أضاف الدم والمال إلينا، ثم المال والدم ملك لنا، وما وجب في مقابلتهما.. ملك لنا. وأيضاً ما رُوِيَ: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان يقول: تصدقت بعرضي» والتصدق بالعرض لا يكون إلا بالعفو عما وجب له

فرع: طلب القذف من القاذف وموت المقذوف قبل الاستيفاء أوالعفو

فيه ولأنه حق على البدن، إذا ثبت بالاعتراف.. لم يسقط بالرجوع، فكان للآدمي كالقصاص. وفيه احتراز من حد الزِّنَى وحد الشرب. ولأنه لا خلاف أنه لا يستوفى إلا بمطالبة الآدمي فكان حقاً له، كالقصاص. [فرع: طلب القذف من القاذف وموت المقذوف قبل الاستيفاء أوالعفو] فرع: [طلب القذف من القاذف وموت المقذوف قبل الاستيفاء أو العفو] : إذا قال رجل لآخر: اقذفني فقذفه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه الحد، كما لو قال له: اقطع يدي، فقطع يده.. فإنه لا يجب عليه القصاص. والثاني: يجب عليه الحد، لأن العار يلحق بعشيرته، فلم يملك الإذن فيه. وإن قذف حياً محصناً، فمات المقذوف قبل استيفاء الحد أو العفو.. فقد قلنا: أنه ينتقل إلى وارثه، وفيمن يرث ذلك عنه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يرثه جميع الورثة، لأنه موروث، فكان لجميع الورثة كالمال. والثاني: يرثه جميع الورثة إلا من يرثه بالزوجية.. فإن لا يرثه، لأن الحد يجب لدفع العار، ولا يلحق أحداً من الزوجين عار الآخر بعد الموت، لأنه لا زوجية بينهما بعد الموت.

فرع: قذف المملوك أو الحر وحصول موت أو جنون ونحوه قبل الاستيفاء أو العفو

والثالث: يرثه من كان يرثه من الرجال بالتعصيب، لأنه حق ثبت لدفع العار، فاختص به الرجال من العصبات، كولاية النكاح. وإن قذف ميتاً.. كان الحد لوارثه فإن كان في الورثة زوج أو زوجة وقلنا: إنه إذا قذف حياً ثم مات فإنه لم يورث الحد عنه بالزوجية.. فها هنا أولى. وإن قلنا هناك: يورث عنه بالزوجية.. فهاهنا وجهان. والفرق بينهما: أن هناك الزوجية كانت قائمة عند ثبوت الحد، وهاهنا الزوجية قد ارتفعت بالموت، فلا يثبت للباقي منهما الإرث بالزوجية. وإذا انتقل الحد إلى جماعة من الورثة، فعفا بعضهم عن حقه من الحد.. ثبت جميع الحد لباقي الورثة، لأن الحد جعل للردع، ولا يحصل الردع إلا بما جعله الله تَعالَى للردع. هذه طريقة أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن لباقي الورثة أن يستوفوا جميع الحد، لما ذكرناه. والثاني: يسقط جميع الحد، كما قلنا في القصاص. والثالث: تسقط من الحد حصة العافي، وتبقى حصة من لم يعف، لأنه يتبعض، فتسقط حصة العافي دون الباقي، كالدين والدية. وإن قذف رجلاً، فمات المقذوف ولا وارث له، أو قذفه بعد موته ولا وارث له معين.. ثبت الحد للمسلمين، ويستوفيه السلطان، لأنه ينوب عنهم في الاستيفاء كما ينوب عنهم في القصاص. [فرع: قذف المملوك أو الحر وحصول موت أو جنون ونحوه قبل الاستيفاء أو العفو] ] : وإن قذف مملوكا.. ثبتت المطالبة بالتَّعزِير للمملوك، والعفو عنه دون السيد، لأنه ليس بمال ولا له بدَّل هو المال، فكان للمملوك دون السيد، كفسخ النكاح بالعيب، فإن مات المملوك قبل الاستيفاء أو العفو.. ففيه ثلاثة أوجه:

فرع: أقر بزناه من امرأة ثم أكذب نفسه

أحدها: أنه ينتقل إلى مولاه، لأنه ثبت للعبد، فانتقل إلى مولاه بعد موته، كمال المكاتب. والثاني: يسقط، لأن العبد لا يورث، وإنما المولى يملك عنه من جهة الملك، فلما لم يملك ذلك في حياته.. لم يملكه عنه بعد موته. والثالث: يكون لعصباته، لأنه ثبت لنفي العار، فكان عصباته أحق به. وإن ثبت لرجل الحد، فجن أو أغمى عليه قبل الاستيفاء أو العفو.. لم يكن لوليه استيفاؤه، لأنه حق ثبت للتشفي فلم يكن لوليه استيفاؤه في حال الجنون والإغماء، كالقصاص. [فرع: أقر بزناه من امرأة ثم أكذب نفسه] إذا قال: الرجل: زنيت بفلانة.. وجب عليه حد الزِّنَى، وإن كانت المرأة محصنة.. وجب لها عليه حد القذف، فلو قال: الرجل: كذبت ولم أزن.. سقط عنه حد الزِّنَى، لأنه إذا ثبت بالإقرار.. فإنه يسقط بالرجوع، وهل يسقط عنه حد القذف؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة " أحدهما: لا يسقط، لأنه حق لآدمي، فلم يسقط بالرجوع، كما لو رماها بالزِّنَى بغيره ثم أكذب نفسه. والثاني: يسقط عنه، لأن قوله: (زنيت بفلانة) إقرار واحد، وكلام واحد، والمقصود منه الإقرار بالزِّنَا، فإذا رجع في الزِّنَا.. قبل رجوعه في جميع موجب الإقرار. [مسألة: قذف جماعة رجال أو نساء] ] : إذا قذف الرجل جماعة رجال أو جماعة نساء.. نظرت: فإن قذف كل واحد منهم بكلمة، بأن قال لكل واحد منهم: زنيت، أو يا زاني.. وجب لكل واحد منهم حد

فرع: خاطب زوجة وأجنبية بأنهما زناة أو أن زوجته زنت بفلان

وإن قذفهم بكلمة واحدة.. نظرت فإن كانوا جماعة لا يجوز أن يكونوا كلهم زنَاة، كأهل اليمن أو أهل بغداد.. لم يجب عليه الحد لأن القذف هو ما احتمل الصدق أو الكذب ونحن نقطع بكذبه هاهنا، ويعزر على الكذب، لحق الله تَعالَى، وإن كانوا جماعة يجوز أن يكونوا كلهم زناة، كالعشرة والمائة وما أشبه ذلك.. ففيه قولان: (أحدهما) قال في القديم: (يجب لهم حد واحد) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية (النور: 4) فأوجبت ثمانين جلدة بقذف المحصنات، وذلك اسم للجمع. ولأن الحد يجب على القاذف لإزالة المعرة عن المقذوف، والمعرة تزول عن الجماعة إذا حد القاذف ثمانين جلدة، ولأن الحدود، إذا كانت من جنس واحد.. تداخلت، كما لو زنَى ثم زنَى والثاني: قال في الجديد: (يجب لكل واحد منهم حد) . وهو الصحيح لأنها حقوق مقصودة لآدميين، فإذا ترادفت.. لم تتداخل كالقصاص. فقولنا: (مقصودة) احتراز من الآجال في الديون، وقولنا: (لآدميين) احتراز من الحدود لله تعالى. وأمَّا الآية: فلم تتضمن قذف الواحد لجماعة من المحصنات، وإنما تضمنت قذف جماعة لجماعة، لأنه قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور: 4] الآية: [فرع: خاطب زوجة وأجنبية بأنهما زناة أو أن زوجته زنت بفلان] وإن قال لزوجته وأجنبية: زنيتما.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: يجب لكل واحدة منهما هاهنا حد قولا واحداً لأن مخرجه عن قذفه لهما مختلف، لأن حد الأجنبية لا يسقط إلا بالبينة أو إقرار المقذوف، وحد الزوجة يسقط بالبينة أو باللعان. وإن قال لزوجته: زنيت بفلان. ولم يلاعن اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان. ومنهم من قال: يجب لهما حد واحد قولا واحداً، لأنه رماها بزنا واحد، هذا إذا اجتمعا على المطالبة.

فرع: وجوب حدين على القاذف أو أكثر

فأما إذا جاءت الزوجة فطالبت بحدها فحد لها، ثم جاء الرجل فطالب بحده.. بني على ما يجب عليه لهما، فإن قلنا: يجب لهما حدان.. حد له حد آخر، وإن قلنا: لا يجب لهما إلا حد واحد.. لم يحد له هاهنا. وإن عفت الزوجة عن حدها.. سقط حدها ولا يسقط حده، لأنهما حقان لآدميين، فلم يسقط حق لأحدهما بسقوط حق الآخر كالديون فيحد له إذا طلب. [فرع: وجوب حدين على القاذف أو أكثر] وإذا وجب على القاذف حدان لاثنين.. نظرت فإن وجب لأحدهما بعد الآخر حد للأول، ثم يحد للثاني، لأن حق الأول أسبق فإن كان المحدود حرا.. لم يحد له حتى يبرأ ظهره من ألم الحد الأول لأن الموالاة بينهما ربما أدت إلى قتلة وإن كان عبداً ففيه وجهان. أحدهما: يوالي بينهما، لأنهما كالحد الواحد على الحر. والثاني: لا يوالي بينهما عليه، لأنهما حدان فلا يوالي بينهما كالحر. وإن وجب لهما الحد في حالة واحدة.. أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. حد له أولا، والكلام في الموالاة على ما مضى. وإن قال لزوجته: يا زانية بنت الزانية.. فقد قذف شخصين بكلمتين، فيجب لكل واحدة منهما حد، فإن جاءت إحداهما وطالبت بحدها والأخرى غائبة، أو حاضرة ولم تطالب.. حد للتي طالبت بحدها. وإن جاءتا وطالبت كل واحدة منهما بحدها.. ففيه وجهان: (أحدهما) : من أصحابنا من قال: نبدأ بحد البنت، لأنه بدأ بقذفها والثاني: - وهو المنصوص -: (أنه يبدأ بحد الأم، لأن حدها مجمع عليه، وحد

مسألة: قذف رجلا فحد ثم قذفه فيعزر وماذا لو قذفه أو زوجته بزنايين؟

البنت مختلف في وجوبه. ولأن حد الأم آكد، لأنه لا يسقط إلا بالبينة، وحد البنت يسقط بالبينة أو اللعان) . وإن قال لها: يا زانية بنت الزانيين.. وجب لها حد وهل للأبوين حد أو حدان؟ على قولين. والكلام في الاستيفاء على ما مضى. [مسألة: قذف رجلا فحد ثم قذفه فيعزر وماذا لو قذفه أو زوجته بزنايين؟] إذا قذف رجل رجلا أو امرأة ليست بزوجة له بزنا، فحد القاذف، ثم قذفه بذلك الزِّنَى الذي حد للمقذوف فيه.. لم يجب عليه الحد، وإنما يعزر للأذى. وقال بعض الناس: يجب عليه الحد. دليلنا: ما رُوِيَ: (أن أبا بكرة، ونافعا، وشبل بن معبد، شهدوا على المغيرة بالزِّنَى عند عمر، ولم يصرح زياد بالشهادة على الزِّنَى عليه، فجعل عمر الثلاثة قذفة، فحدهم، ثم قال أبُو بكرة للمغيرة بعد ذلك: قد كنت زنيت، فهم عمر بجلده، فقال له عليّ: إن كنت تريد تحده.. فأرجم صاحبك - يعني: إن جعلت قوله هذا هو القذف الأول.. فقد حددته له وإن جعلته استئناف شهادة أخرى.. فقد تمت الشهادة، فارجم المغيرة - فتركه عمر، وأقرته الصحابة على ذلك) ولأن القذف: ما احتمل الصدق والكذب، وقد علم كذبه، فلا معنى لإيجاب الحد عليه. وإن قذفه بزنا، ثم قذفه بزنا آخر، فإن كان قد أقيم عليه الحد للأول أو عفا عنه المقذوف.. أقيم عليه الحد للثاني.. وإن لم يقم عليه الحد للأول ولا عفا عنه المقذوف.. ففيه قولان: (أحدهما) : قال في القديم: (يجب عليه حدان، لأنهما حقان لآدمي، فلم يتداخلا، كالدينين) والثاني: قال في الجديد: (يجب عليه حد واحد) ، وهو الصحيح، لأنهما حدان من جنس لمستحق واحد فتداخلا، كما لو زنى ثم زنى، أو شرب ثم شرب

مسألة: قذفت فأقرت ثم حدت ثم قذفت

وإن قذف امرأة بزنا فلم يحد لها ولم تعف عنه، ثم تزوجها، ثم قذفها بزنا آخر.. ففيه طريقان: (أحدهما) : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالأولى. (والثاني) : منهم من قال: يجب عليه هاهنا لها حدان قولا واحداً، لأن مخرجه من القذفين مختلف. [مسألة: قذفت فأقرت ثم حدت ثم قذفت] وإذا قذف الرجل امرأته أو قذفها أجنبي فأقرت بالزِّنَى فحدت، أو قامت البينة على زناها، ثم قذفها الزوج أو غيره بذلك الزِّنَى أو بغيره.. لم يجب عليه الحد، لأنها غير محصنة، ويعزر للأذى. وإن قذف الرجل زوجته ولاعنها وأجابت لعانه.. فقد سقط إحصانها في حقه فإن قذفها بذلك الزِّنَى أو بزنا آخر أضافه إلى ما بعد اللعان.. لم يجب عليه الحد، لأن الحد لدفع المعرة عنها، ولم تدخل عليها معرة بهذا القذف، لأنها قد دخلت عليها بالقذف الأول، فلم يؤثر هذا القذف شيئا آخر. وإن قذفها بزنا آخر أضافه إلى حال الزوجية أو إلى ما قبل القذف الأول أو بعده ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه الحد، وإنما يعزر، لأن اللعان حجة يسقط بها إحصانها في حق الزوج، فوجب أن يسقط إحصانها في الحال وفيما بعد وفي حال الزوجية كلها، كما لو أقام عليها البينة، وكما لو قذف أجنبيا ولم يطالب بحده حتى مر زمان طويل فطالب بحده فأقام القاذف بينة على زناه، فإن حصانته تسقط في الحال وفيما قبل. والثاني: يجب عليه الحد لأن اللعان إنما يسقط إحصانها في حقه في الحالة التي

فرع: قذفها زوج فأجابت اللعان ثم قذفها أجنبي

يوجد فيها وفيما بعدها، ولا يسقط فيما تقدم، فوجب عليه الحد لما رماها به. هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: إذا لاعنها ثم رماها بذلك الزِّنَى.. فلا حد عليه، وإن رماها بزنا آخر.. ففيه وجهان. أحدهما: لا حد عليه، لأنه أقام الحجة على زناها مرة فهو كما لو أقام عليها البينة. والثاني: يجب عليه الحد لأن، هذا قذف بغير ذلك الزِّنَى. وإن قذف زوجته فلم يلاعن وحد لها ثم قذفها بذلك الزِّنَى.. لم يحد، وإنما يعزر، لما ذكرناه في قصة المغيرة. وإن قذفها بزنا آخر.. ففيه وجهان. أحدهما - وهو قول ابن الحداد -: أنه لا يحد لها، لأنه قد حد لها مرة. والثاني: يحد لها، لأنه رماها بزنا آخر. [فرع: قذفها زوج فأجابت اللعان ثم قذفها أجنبي] وإن قذف رجل زوجته، فلاعنها وأجابت لعانه، ثم قذفها أجنبي.. نظرت فإن كان قذفها بزنا آخر غير الذي قذفها به الزوج.. حد لها بلا خلاف، وإن قذفها بالزِّنَى الذي قذفها به الزوج.. حد لها إلا إن أقام البينة على زناها.. فلا يحد لها بحال. وقال أبُو حَنِيفَة: (إن لاعنها الزوج، ونفى حملها، وكان الحمل حيا.. حد الأجنبي. وإن لم ينف حملها، أو نفاه ولكن مات الولد.. لم يحد لها الأجنبي) دليلنا: ما رَوَى عكرمة عن ابن عبَّاس: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق بين المتلاعنين، وقضى: أن لا يدعى الولد لأب، وأنها لا ترمى ولا ولدها، فمن رماها أو ولدها فعليه الحد» . ولم يفرق بين أن يكون الولد حيا أو ميتا. ولأن اللعان إنما جعل حجة في حق الزوج، فلم يسقط إحصانها به إلا في حق الزوج.

فرع: قذف زوجته فلاعنها ولم تجب فحدت ثم قذفها هو أو أجنبي

[فرع: قذف زوجته فلاعنها ولم تجب فحدت ثم قذفها هو أو أجنبي] وإن قذف الرجل امرأته، فلاعنها ولم تجب لعانه، فحدت في الزِّنَى، ثم قذفها الزوج.. لم يحد لها، لأنها محدودة بإقامة الحجة عليها، فهو كما لو أقام البينة على زناها. وإن قذفها أجنبي بذلك الزِّنَى.. ففيه وجهان: أحدهما: لا حد عليه، لأنه قذفها بزنا حدت فيه، فهو كما لو حدت بالبينة. والثاني: يجب عليه الحد، لأن اللعان حجة يختص بإقامتها الزوج، فأختص بسقوط إحصانها به دون الأجنبي [مسألة: سماع الإمام للقذف] قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: [وليس للإمام إذا رمى رجل رجلا بالزِّنَى أن يبعث إليه فيسأله عن ذلك] وجمله ذلك: أن السلطان أو الحاكم إذا سمع رجلا يقول: زنى رجل.. لم يحده، لأن المقذوف غير معين، ولا يسأله عن المقذوف، لأن الحد يدرأ بالشبهة. وإن سمع رجلا يقول: قال رجل: إن فلانا زنى.. لم يكن قاذفا لأنه حاك فإن اعترف المحكي عنه أنه قال: فلان زنى.. كان قاذفا، وإن أنكر.. لم يلزمه القذف بقول الذي قال: سمعته - وحده - لأن القذف لا يثبت بشاهد، ولا يلزم الحاكي بذلك شيء، لأن كل واحد منهما يكذب صاحبه والحد يدرأ بالشبة. فأما إذا سمع السلطان أو الحاكم رجلا يقول: زني فلان.. قال الشيخُ أبُو حامد المستحب له: أن يبعث على المقذوف ويعلمه بذلك، لأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أنيسا إلى المرأة التي قال: الرجل إن ابني كان عسيفا على هذا وإنه زني بامرأته، فقال:

«يا أنيس اغد على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمها» وأمَّا قول الشافعي: (ليس للإمام إذا رمى رجل رجلا بالزِّنَى.. أن يبعث إليه فسأله عن ذلك) فله ثلاثة تأويلات: أحدها: أن تأويله: أن يذكر للإمام: أنه استفاض في الناس أن فلانا زنى، فلا يبعث إليه لأنه ليس له قاذف بعينه. ويفارق حديث أنيس، لأنه كان لها قاذف بعينه. (والثاني) : قال أبُو العباس: تأويله، أن رجلا قذف زوجته برجل بعينه، فلاعنها الزوج لعانا مطلقا، وقلنا: إن حد المرمي يسقط بلعانه.. فإن الإمام لا يبعث إلى المرمي، لأن حده قد سقط. ويفارق حديث أنيس لأن هناك لم يسقط حدها. (والثالث) : قال أبُو إسحاق: تأويله، إذا قذف الرجل امرأته برجل بعينه.. فإن الإمام لا يبعث إلي المرمي ويعرفه بثبوت الحد له قبل أن يلتعن الزوج، لأن صحة لعانه لا تفتقر إلى مطالبة المرمي به بالحد، بل إذا طالبت المرأة بذلك، فلاعنها الزوج. صح اللعان ويسقط حدهما. ويفارق حديث أنيس، لأن هناك لا يسقط حدها بلعان قاذفها. هكذا ذكره الشيخ أبُو حامد. وأمَّا الشيخ أبُو إسحاق فقال: هل يلزم السلطان أن يبعث إلى المقذوف ويعلمه بذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه - لأنه قد ثبت له حق لا يعلم به، فلزمه إعلامه به، كما لو ثبت له عنده مال لا يعلم به، فإن كذبه المقذوف.. حد القاذف له، وإن صدقه المقذوف.. حد المقر بالزِّنَى به. والثاني: لا يلزمه إعلامه؛ لقول النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»

مسألة: قذف رجل رجلا آخر بالعبودية

[مسألة: قذف رجل رجلا آخر بالعبودية] وإن قذف رجل رجلا، فقال: القاذف للمقذوف: أنت عبد فقال: المقذوف: بل أنا حر.. نظرت فإن كان المقذوف حراً معروف الحرية، مثل أن يعرف أن أبويه حران.. فالقول قوله بلا يمين. وإن عرفت عبودية المقذوف، فادعى أنه قد أعتق.. فالقول قول القاذف، لأن الأصل عدم العتق. فإن اتفقا على أنه كان عبداً ثم أعتق، واختلفا في وقت القذف، فادعى القاذف أن القذف كان قبل العتق، وادعى المقذوف أن العتق كان قبل القذف.. فالقول قول القاذف مع يمينه، لأن الأصل بقاء العبودية عليه وبراءة ظهره من الحد. وإن كان المقذوف مجهول الحال.. ففيه طريقان مَضَى ذكرهما في (الجنايات) . [فرع: أقام بينة على قذفه أو أقر القاذف بقذفه وادعى الجنون وقتها] وإن أقام رجل على رجل البينة أنه قذفه، أو أقر القاذف بقذفه، وقال: قذفته وعقلي ذاهب من الجنون، وقال: المقذوف: بل قذفتني وأنت ثابت العقل. فإن لم يعلم للقاذف حال جنون.. فالقول قول المقذوف مع يمينه، لأن القاذف يدعي طرآن الجنون عليه، والأصل عدمه وإن عرف للقاذف حالة جنون ففيه قولان. أحدهما: أن القول قول المقذوف مع يمينه؛ لأن صحته موجودة في الحال وهو يدعي طرآن الجنون عليه حالة القذف والأصل عدم الجنون. والثاني: أن القول قول القاذف مع يمينه، وهو الأصح، لأنه قد ثبت له حالة جنون، وما يدعيه كل واحد منهما ممكن، والأصل براءة ذمة القاذف من الحد

فرع: قوله زنيت يوم كنت نصرانية

[فرع: قوله زنيت يوم كنت نصرانية] وإن قال لامرأة مسلمة: زنيت وكنت نصرانية يوم الزِّنَى، فقالت: صدقت قد كنت نصرانية ولكني ما زنيت.. لم يجب عليه الحد، لأنه أضاف الزِّنَى إلى حال ليست بمحصنه فيه ويعزر للأذى. فإن قال لها: زنيت، ثم قال: أردت في الحال التي كنت فيه نصرانية، وقالت: بل أردت في الحال.. فالقول قولها مع يمينها، لأن الظاهر يخالف قوله، فإذا حلفت.. لزمه الحد، وإن قال لها: زنيت يوم كنت نصرانية، وقالت: لم أكن نصرانية ولا بينة معه أنها كانت نصرانية.. ففيه قولان: أحدهما: القول قولها مع يمينها، لأن الظاهر ممن بدار الإسلام أنه مسلم، فإذا حلفت.. حد لها. والثاني: أن القول قوله مع يمينه، وهو الأصح، لأن دار الإسلام تجمع المسلمين والنصارى، وما قاله محتمل، والأصل براءة ذمته من الحد، فإذا حلف.. لم يلزمه الحد، ويلزمه التَّعزِير. وإن أقرت أنها كانت نصرانية، وادعت أنها أسلمت.. فالقول قول القاذف مع يمينه، لأن الأصل بقاؤها على النصرانية. وكذلك: لو اتفقا على إسلامها وقد قذفها، واختلفا في السابق منهما.. فالقول قول القاذف مع يمينه، لأن الأصل عدم إسلامها وبراءة ظهره من الحد. وإن قذف مسلمة وادعى أنها ارتدت وأنكرت.. فالقول قولها مع يمينها، فإذا حلفت.. لزمه الحد؛ لأن الأصل عدم ردتها. [فرع: قوله زنيت وكنت مملوكة] وإن قال لامرأة: زنيت وكنت مملوكة يومئذ، فقالت: كنت مملوكة ولم أزن فلا حد عليه، لأنه أضاف الزِّنَى إلى حالة ليست بمحصنة فيها ويعزر، لأنه آذاها وإن قال لها: زنيت، ثم قال: أردت في الحال الذي كنت أمة فيها ثم أعتقت بعد

مسألة: ادعى على آخر أنه قذفه أو أكل ماله وأقام شاهدين أو شاهدا واحدا

ذلك، فقالت: بل أردت القذف في الحال.. فالقول قولها مع يمينها، فإذا حلفت لزمه الحد، لأن الظاهر معها. فإن قالت: لم أكن أمة.. ففيه قولان: أحدهما: القول قول المقذوفة مع يمينها، لأن الظاهر ممن في الدار الحرية. والثاني: القول قول القاذف، وهو الأصح، لأن الدار تجمع الأحرار والمماليك، والأصل براءة ذمته من الحد. [مسألة: ادعى على آخر أنه قذفه أو أكل ماله وأقام شاهدين أو شاهدا واحداً] وإن ادعى رجل على آخر أنه قذفه فأنكر، فأقام عليه شاهدين أنه قذفه، فإن عرف الحاكم عدالتهما.. حكم بشهادتهما وحد القاذف وإن عرف فسقهما.. لم يحكم بشهادتهما. وإن جهل حالهما فسأل المقذوف الحاكم أن يحبس القاذف إلى أن يعرف حالهما.. حبسه لأن البينة قد كملت، والظاهر منهما العدالة. وإن أقام المقذوف شاهداً واحداً، فسأل الحاكم أن يحبس له القاذف إلى أن يقيم الآخر.. ففيه قولان: أحدهما: يحبسه، لأن جنايته قد قويت بإقامة الشاهد فهو كما لو أقام شاهدين، ولأنه لو ادعى على رجل حقا وقدمه إلى الحاكم ولم يتفرغ الحاكم لهما فإن له أن يلازمه إلى أن يتفرغ الحاكم ويحكم بينهما، وهذا ضرب من الحبس، فدلَّ على ما ذكرناه. والثاني: لا يحبسه لأن البينة لم تكمل، فلم يحبس. وإن ادعى رجل مالا، وأقام عليه شاهدين، ولم يعلم الحاكم عدالتهما ولا فسقهما.. فهل للحاكم أن يحبسه إلى أن يبحث عن حالهما؟ فيه وجهان: المذهب: أن له أن يحبسه، لما ذكرناه في الحد. والثاني: قال أبُو سعيد الإصطخري: ليس له أن يحبسه

فرع: قذفه وادعى أنه كان صغيرا

والفرق بينهما: أن القاذف ربما هرب ففات الحد. والمال لا يفوت بهربه. وإن ادعى عليه مالا وأقام عليه شاهداً.. فليس له أن يحلف المدعي مع شاهده حتى يبحث عن عدالته، وهل يحبس المدعى عليه إلى أن يعرف عدالته؟ إن قلنا بقول الإصطخري في التي قبلها: لا يحبس.. فهاهنا أولى وإن قلنا هناك بالمذهب.. حبس هاهنا لأن الشاهد مع اليمين حجة في المال. [فرع: قذفه وادعى أنه كان صغيرا] وإن قذف غيره، فقال: القاذف: قد قذفتك وكنت صغيراً يوم القذف، وقال: المقذوف بل كنت بالغا يومئذ ولا بينة لهما.. فالقول قول القاذف مع يمينه، لأن الأصل عدم البلوغ. فإذا حلف.. كان عليه التَّعزِير. وكذلك إن أقام القاذف.. البينة أنه كان صغيرا يوم القذف. وإن أقام المقذوف بينة أنه كان بالغا يوم القذف.. وجب عليه الحد. وإن أقام كل واحد منهما بينة، فإن كانتا مطلقتين، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة.. فهما قذفان، لأنه يمكن استعمالهما على ذلك فيجب على القاذف التَّعزِير بقذفه وهو صغير، والحد بقذفه وهو كبير إن ادعاهما المقذوف. وإن كانتا مؤرختين تأريخا واحداً.. فهما متعارضتان، فإن قلنا: إنهما تسقطان.. كان كما لو لم يكن لهما بينة، ويحلف القاذف، ولا يحد بل يعزر، وإن قلنا تستعملان.. فلا تجيء القسمة، لأن القسمة لا تجيء في القذف، ولا يجيء الوقف، لأن القذف لا يجوز وقفه، ولكن يقرع بينهما، فإن خرجت القرعة للقاذف.. لم يحد ولكن يعزر، وإن خرجت للمقذوف.. حد القاذف. وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ على قولين يأتي بيانهما إن شاء الله تَعالَى. وبالله التوفيق

باب قطع السرقة

[باب قطع السرقة] الأصل في ثبوت القطع في السرقة: الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب: فقوله تَعالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] (المائدة: 38) ورُوِي: عن ابن مَسعُودٍ: (أنه كان يقرأ: "والسارقون والسارقات فاقطعوا أيديهما ") ورُوِي: " فاقطعوا أيمانهما " وأمَّا السنة: فما «رُوِيَ: أنه قيل لصفوان بن أمية: إن من لم يهاجر هلك، فهاجر إلى المدينة فنام في المسجد، فسرق رداؤه من تحت رأسه، فانتبه فصاح، فأخذ

السارق وجاء به إلى النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "فقطع يده، فقال: يا رسول الله، ما أردت هذا، هو عليه صدقة، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هلا قبل أن تأتينا به!» وأمَّا الإجماع: فلا خلاف في ثبوت القطع في السرقة. إذا ثبت هذا: فـ (السارق) : من يأخذ الشيء عليّ وجه الاستخفاء و (المختلس) : من يأخذ الشيء عيانا مثل أن يمد يده إلي منديل إنسان فيأخذه من رأسه. و (المنتهب) من يأخذ الشيء عيانا بالغلبة، ولا يجب القطع على المختلس والمنتهب والجاحد والخائن وقال أحمد: (يجب عليهم القطع) دليلنا: ما روى جابر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على المختلس، ولا على المنتهب، ولا على الجاحد، ولا على الخائن قطع» ، ولأن السارق يأخذ المال

مسألة: شروط القطع وماذا لو كان السارق أو الزاني حربيا أو معاهدا؟

على وجه الاستخفاء، فلا يمكن انتزاع الحق منه بالحكم، فجعل القطع ردعا له، والمنتهب والمختلس والجاحد والخائن يأخذون المال على وجه يمكن انتزاع الحق منهم، فلا حاجة إلى إيجاب القطع عليهم. [مسألة: شروط القطع وماذا لو كان السارق أو الزاني حربيا أو معاهداً؟] ولا يجب القطع في السرقة إلا على من يسرق وهو بالغ، عاقل، مختار، مسلماً كان أو كافراً، ملتزما لأحكامهم نصابا من المال يقصد إلى سرقته من حرز مثله لا شبهة له فيه، على ما يأتي تفصيل ذلك. فإن سرق صبي أو مجنون.. لم يجب عليه القطع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] (المائدة: 38) والصبي والمجنون لا كسب لهما، ورُوِي أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ورَوَى ابن مَسعُودٍ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بجارية قد سرقت، فوجدها لم تحض، فلم يقطعها» ورُوِي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه أتي بغلام قد سرق، فقال: اشبروه، فكان ستة أشبار إلا أنملة واحدة، فلم يقطعه فسماه: نميلة)

وعن عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه أتي بغلام قد سرق فشبروه، فنقص عن خمسة أشبار، فلم يقطعه) و: (عن عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، مثله) ولا مخالف لهم في الصحابة، وإن سرق وهو سكران. فهل يجب عليه القطع؟ فيه قولان، مَضَى تعليلهما في الطلاق، ولا يجب القطع على من أكره على السرقة. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وإن نقب رجل دار رجل، وأخرج منه مالا قيمته النِّصَاب وهو يظن أنه الدار دار نفسه والمال ماله.. وجب عليه القطع خلافا لأبي حنيفة ويجب القطع على المسلم بسرقة مال الذمي، وعلي الذمي بسرقة مال المسلم، وقد مَضَى بيان ذلك. وأمَّا الحربي: فلا يجب عليه القطع بسرقة مال المسلم، لأنه لم يلتزم أحكام الإسلام. وهل يجب القطع على المعاهد، ومن دخل إلينا بأمان، بسرقة مال المسلم؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القطع، لأنه حد لله تَعالَى، فلم يجب عليه، كحد الزِّنَى والشرب. والثاني: يجب عليه لأنه يجب لصيانة مال المسلم. هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: هل يجب عليه القطع؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يجب.

فرع: سرقة العبد من غير مال سيده

والثاني: لا يجب. والثالث: إن شرط عليه عند المعاهدة والأمان أنه لا يسرق، فسرق.. قطع وإن لم يشرط عليه.. لم يقطع ومنهم من قال: هو على القول الثالث قولا واحداً وأمَّا الحد في الزِّنَى: فأختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هو كقطع السرقة، على ما مَضَى. ومنهم من قال لا يجب الحد في الزِّنَى قولا واحدا بكل حال لأنه حق محض لله تَعالَى. [فرع: سرقة العبد من غير مال سيده] وإن سرق العبد من غير مال سيده.. نظرت: فإن كان غير آبق من سيده.. وجب عليه القطع بلا خلاف. وإن كان آبقا من سيده.. وجب عليه القطع عند أكثر أهل العلم. وقال ابن عبَّاس وسعيد بن العاص: (لا يقطع) دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] (المائدة: 38) وهذا عام. ورُوِي: (أن ابن عمر أبق له عبد، فسرق، فبعث به إلى سعيد بن العاص ليقطعه، فامتنع من ذلك، وقال لا أقطع آبقا، فقطعة ابن عمر، وقال: في أي كتاب الله تَعالَى وجدتم أن الآبق لا يقطع؟ !) ولأنه إذا وجب القطع على غير الآبق.. فلأن يجب على الآبق أولى، لأنه يحتاج إلى حراسة المال عنه لحاجته إليه. [مسألة: نصاب القطع في السرقة] وأمَّا قدر المال الذي يقطع به السارق.. فاختلف العلماء فيه: فمذهبنا: أنه لا يقطع فيما دون ربع دينار، ويقطع في سرقة ربع دينار فصاعداً فإن سرق غير الذهب من المتاع.. قوم به، فإن بلغت قيمته ربع دينار - والدينار هو

مثقال الإسلام - قطع. وإن نقص عن ذلك.. لم يقطع، وبه قال أبُو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وعائشة في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وفي الفقهاء: الليث، والأَوزَاعِي، وأحمد، وإسحاق. وذهب داود وشيعته إلى: أن القطع يجب في سرقة ما قل وكثر من المال) . وبه قال الخوارج، والحسن البَصرِيّ واختاره ابن بنت الشافعي. وذهب عُثمانَ البتيُّ إلى: أنه يقطع في سرقة درهم من دراهم الإسلام، ولا يقطع فيما دون ذلك، وذهب زياد بن أبي زياد إلى: أنه يقطع بسرقة درهمين، ولا يقطع بما دونهما. وذهب أبُو هُرَيرَة، وأبو سعيد الخدري إلى: (أنه يقطع بسرقة أربعة دراهم، ولا يقطع بسرقة ما دونها) وذهب النخغي إلى: أنه يقطع بسرقة خمسة دراهم، ولا يقطع بما دونها. وذهب مالك: (إلي أنه يقطع في ربع دينار أو ثلاثة دراهم، فإن سرق غير الذهب والفضة قوم بالدراهم، فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم. قطع، وإن لم تبلغ قيمته ثلاثة دراهم.. لم يقطع) وذهب أبُو حَنِيفَة إلى: (أنه لا يقطع إلا في سرقة عشرة دراهم) وهي قيمة الدينار عنده. وبه قال ابن مَسعُودٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقطعوا السارق في ربع دينار، فأما بدون ربع دينار.. فلا تقطعوه» وهذا يبطل قول جميع المخالفين.

فرع: سرقة ربع دينار تبرا ونحوه

[فرع: سرقة ربع دينار تبرا ونحوه] فإن سرق ربع دينار تبرا - وهو الذهب الذي ليس بخالص - لم يقطع، لأنه إذا خلص.. لم يأت منه ربع دينار، وإن سرق ربع دينار ذهبا مضروبا.. قطع للخبر. وإن سرق ربع دينار ذهبا خالصا غير مضروب، أو حليا من ذهب وزنه ربع دينار وقيمته أقل من ربع دينار مضروب.. ففيه وجهان. [أحدهما] : قال أبُو سعيد الإصطخري، وأبو علي بن أبي هُرَيرَة: لا يقطع، لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب القطع في ربع دينار» . والدينار: إنما يقع على المضروب، وربع دينار خالص لا يجيء منه ربع دينار. والثاني: قال أكثر أصحابنا: يجب عليه القطع، وهو المذهب، لأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا قطع إلا في ربع دينار» ولم يرد أنه يختص بربع دينار مضروب، وإنما يريد ما يقوم مقامه أو ما يقع به عليه اسم الربع، وهذا يقع عليه اسم ربع دينار، وقيمته ربع دينار مضروب. [فرع: قطع السارق للثمار والبقول والطبيخ ونحوه] ويجب القطع بسرقة الثمار الرطبة، كالرطب والعنب والتين والتفاح وما أشبهها، وبسرقة البقول والرياحين والطعام الرطب كالشواء والطبيخ والهريسة، إذا بلغت قيمته نصابا، وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب القطع بسرقة شيء من ذلك بحال) وقال الثوريُّ: إن مما يبقى يوما ويومين وأكثر، مثل الفواكه.. وجب عليه القطع بسرقتها. وإن كان مما لا يبقى، مثل الشواء والهريسة وما أشبههما.. لم يجب القطع. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] (المائدة: 38) فعم

ولم يخص، «ورُوِى عمر بن شعيب عن أبيه، عن جده أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الثمر المعلق؟ هل فيه قطع؟ فقال؟ "لا قطع إلا فيما آواه الجرين، أو بلغ قيمته قيمة المجن ففيه القطع» ، وقيمة المجن كانت يومئذ ربع دينار أو ثلاثة دراهم، وصرف الدينار باثني عشر. ورُوِي: (أن عُثمانَ قطع في أترجة قيمتها ثلاثة دراهم) ولأنه سرق ما قيمته نصاب من حرز مثله لا شبهة له فيه، فقطع، كما لو سرق ربع دينار. وأمَّا ما رُوِيَ عن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا قطع في ثمر ولا كثر» فـ: (الثمر)

فرع: القطع فيما يتمول إذا بلغ ثمنه نصابا

هو معروف، و: (الكثر) هو جمار النخيل، وقيل: هو الفسلان الصغار من النخل، وإنما لم يوجب فيهما القطع على عادة أهل الحجاز، لأن بساتينهم لا حوائط عليها فهي غير محروزة. [فرع: القطع فيما يتمول إذا بلغ ثمنه نصاباً] ويجب القطع بسرقة كل ما يتمول إذا بلغت قيمته نصابا، سواء كان أصله على الإباحة، مثل الصيود، والطيور، والخشب، والحشيش، والقار، والنفط أو غير ذلك، وقال أبُو حَنِيفَة: (ما كان أصله على الإباحة إذا ملك ثم سرق.. لا يجب فيه القطع، إلا الساج فإنه يجب فيه القطع) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] (المائدة 38) فعم، ولم يخص. ورُوِي: (أن «النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم» ، فنقل الحكم والسبب، وأجمعنا على: أن القطع لم يجب بسرقة المجن بعينه، وإنما كان ذلك، لأن قيمته نصاب، فاقتضى الظاهر: أن كل من سرق ما تبلغ قيمته هذا القدر.. أنه يجب عليه القطع. وإن سرق ترابا أو ما قيمته نصاب.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه القطع، لما ذكرناه.

مسألة: نقب جماعة حرزا واشتركوا في إخراج المال

والثاني: لا يجب عليه القطع، لأنه عام الوجود لا يتمول في العادة، فلا تدعو النفس إلى سرقته. وإن سرق مصحفا أو كتاب فقه أو غير ذلك يساوي نصابا، أو عليه حلية تبلغ قيمته مع ذلك نصابا.. وجب عليه القطع. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه القطع) دليلنا: أنه نوع مال فتعلق بسرقته القطع، كسائر الأموال. [مسألة: نقب جماعة حرزا واشتركوا في إخراج المال] وإن نقب جماعة حرزا، ودخلوا وأخرجوا منه المال، فإن بلغت قيمة ما أخرجوه ما يصيب كل واحد منهم نصابا.. وجب عليهم القطع. وإن نقص عن ذلك.. فلا قطع على واحد منهم. وبه قال أبُو حَنِيفَة والثوريُّ وإسحاق، وقال مالك وأحمد وأبو ثور: (يجب القطع على جميعهم، كما لو اشتركوا في قتل إنسان) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقطعوا السارق في ربع دينار، فأما بدون ربع دينار.. فلا تقطعوه» وكل واحد منهم لم يسرق ربع دينار فلم يقطع، ويخالف اشتراكهم في القتل، فإنا لو لم نوجب عليهم القصاص.. لجعل الاشتراك طريقا إلى إسقاط القصاص، بخلاف السرقة لأن كل واحد منهم لا يقصد في العادة إلى سرقة ما دون الربع لقلته. [فرع: نقبوا حرزا وانفرد كل واحد منهم بإخراج المال] وإن اشترك جماعة في نقب حرز، فدخلوه وأخرج كل واحد منهم مالا انفرد بإخراجه، فإن بلغت قيمة ما أخرجه كل واحد منهم نصابا بنفسه.. وجب عليه القطع وإن لم يبلغ نصابا.. لم يقطع. وبه قال مالك. وقال أبُو حَنِيفَة: (يضم ما أخرجوه بعضه إلى بعض، فإن كان قيمة الجميع مما يصيب كل واحد منهم نصاب.. وجب عليه القطع)

فرع: نقب حرزا على طعام أو مال فأخذه شيئا فشيئا

دليلنا: أن كل واحد منهم سرق دون النِّصَاب، فلم يجب عليه القطع، كما لو انفرد بالنقب. وإن نقب جماعة حرزاً ودخلوا، فأخرج بعضهم المال، ولم يخرج الباقون شيئا.. فإن بلغت قيمة ما أخرجه كل واحد منهم نصابا.. وجب عليهم القطع، ولم يجب على الذين لم يخرجوا. وقال أبُو حَنِيفَة: (القياس: أن لا يجب القطع إلا على المخرج، وإن كان ما أخرجه بعضهم يبلغ قيمة ما يصيب كل واحد منهم نصابا قطعتهم كلهم استحسانا) . دليلنا: أن من لم يخرج المال.. ليس بسارق، فلم يجب عليه القطع، كما لو لم يدخل. [فرع: نقب حرزا على طعام أو مال فأخذه شيئا فشيئا] وإن نقب رجل حرزا على طعام، فأخرج الطعام قليلا قليلا حتى بلغ قيمة ما أخذه ربع دينار.. ففيه وجهان. أحدهما: لا يجب عليه القطع، لأن ما أخذه في المرة الأولى لا يبلغ نصابا وما أخذه بعده أخذه من حرز مهتوك فلم يجب عليه القطع. والثاني: يجب عليه القطع، وهو الأصح، لأنه أخذ نصابا من حرز هتكه، فوجب عليه القطع، كما لو أخذه دفعة واحدة. وإن نقب حرزا وأخذ منه ثمن دينار وخرج، ثم عاد وأخذ منه ثمنا آخر.. ففيه ثلاثة أوجه: [أحدها] : قال أبُو إسحاق المَروَزِيُّ: لا يلزمه القطع، لأن الذي سرقه أولا دون النِّصَاب، والذي سرقه ثانيا أخذه من حرز مهتوك. و [الثاني] : قال أبُو العباس: يلزمه القطع، وهو الأصح، لأنه أخذ نصابا من حرز هتكه بنفسه، فلزمه القطع، كما لو أخذه دفعة واحدة. و [الثالث] : قال أبُو عليّ ابن خيران: إن أخذ الثمن الثاني بعد أن علم صاحب

مسألة: السرقة من غير حرز

الدار بالنقب، أو علم الناس به.. لم يجب عليه القطع لأنه أخذه من حرز مهتوك. وإن أخذه قبل أن يعلم بالنقب.. وجب عليه القطع، لأنه أخذ النِّصَاب من حرز هتكه بنفسه وهذا طريق أصحابنا البغداديين، وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إن كان المسروق منه عالما بإخراج الثمن الأول قبل أن يخرج الثمن الثاني.. فلا يجب على السارق القطع وإن كان غير عالم بالثمن الأول قبل إخراج الثمن الثاني.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يجب عليه القطع، كما لو أخرج الثاني بعد علم المسروق منه بالأول. والثاني: يجب عليه القطع، لأن المتاع المسروق قد لا يمكن السارق إخراجه دفعة واحدة، فصار كما لو بطَّ جيب رجل فيه دراهم، فجعلت الدراهم تخرج منه درهما درهما. والثالث: ينظر فيه: فإن أخرج الأول ووضعه على باب النقب ثم عاد ليأخذ الثاني.. وجب عليه القطع، لأن هذا يعد في العادة سرقة واحدة. وإن أخرج الأول فذهب به إلى داره، ثم عاد وأخرج الثاني.. لم يقطع، لأنهما سرقتان. [مسألة: السرقة من غير حرز] ولا يجب القطع فيما سرق من غير حرز، وبه قال مالك، وأبو حَنِيفَة وأحمد. وقال داود: (يجب عليه الحد) دليلنا: ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن رجلا من مزينة قال: يا رسول الله، كيف ترى في حريسة الجبل فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس في شيء من الماشية

قطع، إلا ما آواه المراح وليس في شيء من الثمر المعلق قطع إلا ما آواه الجرين، فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن.. ففيه القطع» . فأسقط القطع في الماشية إلا ما آواه المراح وفي الثمر المعلق إلا ما آواه الجرين وليس بين الحالين فرق إلا أن الشيء محرز في أحد الوضعين دون الآخر، فدلَّ على أن الحرز شرط في إيجاب القطع. وقوله: (حريسة الجبل) لها تأويلان: أحدهما: أنه أراد سرقة الجبل، لأن السارق يسمى: الحارس، و (الحريسة) : السرقة. والثاني: أنها مسروقة الجبل. إذا ثبت هذا: فالحرز يختلف باختلاف المال المحرز، وقد يكون الحرز حرزاً لبعض الأموال دون بعض. وقال أبُو حَنِيفَة: (ما كان حرزا لشيء من الأموال.. كان حرزا لجميع الأموال) دليلنا: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل حرز الماشية المراح، وجعل حرز الثمر المعلق الجرين» ، لأنهما مالان فدلَّ على: أن الحرز يختلف باختلاف الأموال. ولأن كل ما ورد به الشَّرع مطلقا وليس له حد في اللغة ولا في الشَّرع.. كان المرجع في حده إلى العرف والعادة. كما قلنا في التفرق والقبض في البيع، ووجدنا في العرف والعادة أن الأحراز تختلف باختلاف الأموال، فكان الاعتبار في الحكم بالقطع بذلك. إذا تقرر هذا نظرت: فإن كان المال من الذهب، أو الفضة، أو الجواهر، أو من متاع البزازين أو العطارين، أو الصيادلة فإن ترك في الدكان في السوق، وأغلق عليه الباب وأقفل.. فهو محرز بالنهار. وأمَّا الليل: فإن كان الأمن ظاهرا ً.. فهو محرز بذلك، وإن كان الأمن غير ظاهر، فإن كان في الدكان أو في

فرع: حكم أبواب الغرف في الدور وبيوت الشعر والخيام

السوق حافظ.. فهو مَحرُوز بذلك، وإن لم يكن فيه حافظ.. فهو غير مَحرُوز. وإن لم يقفل عليه فإن كان في الدكان أو في السوق حافظ متيقظ.. فهو مَحرُوز، وإن لم يكن فيه حافظ، أو كان فيه حافظ نائم.. فهو غير مَحرُوز. وإن ترك ذلك في بيت.. نظرت: فإن كان البيت في البلاد والقرى المسكونة، فإن كان البيت مغلقا.. فهو مَحرُوز، سواء كان في البيت حافظ أو لم يكن، لأن العادة جرت بإحراز المال فيها هكذا. وإن كان البيت غير مغلق، فإن كان في البيت حافظ متيقظ.. فهو مَحرُوز. وإن لم يكن في الدار حافظ أو كان فيه حافظ نائم.. فليس بمحرز إلا أن يكون في الدار خزانة مغلقة.. فما فيها محرز وإن لم يكن في الدار حافظ. فإن كان البيت في الصحراء أو في البستان فإن كان فيه حافظ متيقظ.. فهو حرز لما فيه وإن لم يكن فيه حافظ.. فهو غير حرز لما فيه، سواء كان البيت مفتوحا أو مقفلا لأن العادة لم تجر بإحراز المال فيه من غير حافظ. فإن كان البيت فيه حافظ نائم، فإن كان البيت مقفلا.. فهو حرز لما فيه، وإن كان غير مقفل.. فليس بحرز لما فيه. قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وإن كان داره في ناحية بعيدة من البلد بقرب الصحراء أو الخرابات، فأغلق بابها وغاب عنها.. لم تكن حرزا لما فيها وإن كانت مفتوحة الباب وهو فيها مستيقظ.. فهي حرز لما فيها. وإن كان فيها وهو نائم.. فهل هي حرز لما فيها؟ فيه وجهان. وإن كان الباب مفتوحا لكن أذن للناس في الدخول، مثل الخبازين، فسرق سارق من هذه الدار ورب الدار فيها مستيقظ.. فهل يقطع؟ فيه وجهان. [فرع: حكم أبواب الغرف في الدور وبيوت الشعر والخيام] وأمَّا أبواب البيوت في الدار.. فحكمها حكم المتاع في البيوت، فإن كان باب الدار مغلقا.. فهي محرزة، سواء كان في الدار حافظ أو لم يكن إذا كانت الدار في العمران، وسواء كانت أبواب البيوت مفتوحة أو مغلقة

فرع: حرز الحنطة

وإن كان باب الدار مفتوحا، فإن كان في الدار حافظ.. فأبواب البيوت محرزة، مغلقة كانت أو مفتوحة. وإن لم يكن في الدار حافظ، فإن كانت أبواب البيوت مغلقة.. فهي محرزة بذلك، وإن كانت غير مغلقة.. فهي غير محرزة. فأما باب الدار: فهو مَحرُوز بنصبه على الدار، مغلقا كان أو مفتوحا. وأمَّا الحلقة التي على الباب: فإن كانت مسمرة.. فهي محرزة بذلك وإن كانت غير مسمرة.. فهي غير محرزة. وأمَّا الآجر والحجارة واللبن: فإنها محرزة ببنيانها على الحائط، لأن العادة جرت بحفظ ذلك كذلك. وإن ضرب فسطاطا أو خيمة في صحراء أو برية وشد أطنابه وترك فيه متاعا، فإن كان في الفسطاط أو على بابه حافظ مستيقظ أو نائم.. فالفسطاط وما فيه محرز، لأن عادة الفسطاط وما فيه هكذا يحرز. وإن لم يكن فيه ولا على بابه حافظ فالفسطاط وما فيه غير محرز، لأن العادة لم تجر بأن الفسطاط يضرب في الصحراء ولا يكون فيه أحد. هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال: المسعودي [في " الإبانة "] : إن ضرب الفسطاط في الصحراء مع الجماعة.. فهو بمنزلة الدور ويكون حرزا لما فيها إذا كانت مشدودة الأذيال. وإن ضرب فسطاطا في مفازة وحده ولم يكن معه من يتقوى به.. فذلك الفسطاط لا يكون حرزاً. [فرع: حرز الحنطة] فرع: [ما هو حرز الحنطة؟] قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والحنطة حرزها أن تكون في الجوالقات وتطرح في وسط السوق، ويضم بعضها إلى بعض ويخاط رأسها، أو تشد ويطرح

فرع: أخذ حب من أرض مبذورة

بعضها إلى بعض ويطرح عليها حلس أو أكسية وتشد) فمن أصحابنا من قال: هذا الذي قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على عادة أهل مصر لأنهم هكذا يحرزون الحنطة في موضع البيع، فأما في العراق وخراسان: فلا تكون محرزة إلا في البيوت والأقفال. ومنهم من حمله على ظاهرة في جميع البلاد، لأن ما ثبتت له العرف أنه حرز لشيء في بلد.. كان ذلك حرزا له في جميع البلدان. وأمَّا الحطب.. فحرزه أن يعبأ بعضه على بعض، ويربط بحبل بحيث لا يمكن أن يسل منه شيء إلا بحل رباطه، ومن أصحابنا من قال: هذا حرزه نهارا، وأمَّا بالليل فلا بد من باب يغلق عليه أو ما يقوم مقام الباب والأول أصح. وأمَّا الأجذاع: فإحرازها أن تطرح على أبواب المساكن لأن العادة جرت بإحرازها كذلك. [فرع: أخذ حب من أرض مبذورة] وإن دخل رجل إلى أرض غيره وأخذ من حب مبذور فيها ما يساوي نصابا.. ففيه وجهان حكاهما المسعوديُّ [في " الإبانة "] : أحدهما: يجب عليه القطع، لأنه سرق البذر من حرز. والثاني: لا يجب عليه القطع، لأن حرز كل حبة غير حرز الحبة الأولى. [مسألة: نبش القبر وسرقة ما فيه] قال الشيخُ أبُو إسحاق: وإن نبش قبرا وسرق منه الكفن فإن كان في برية لم يقطع - لأنه ليس بحرز للكفن وإنما يدفن في البرية للضرورة، وإن كان في مقبرة تلي العمران.. قطع

وقال الشيخُ أبُو حامد وابن الصبَّاغ: إذ نبش قبرا وسرق منه الكفن.. قطع من غير تفصيل. وبه قال ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، والحسن البَصرِيّ، والنخعي، وربيعة، وحماد، ومالك، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق. وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا سرق كفنا من القبر، فإن كان القبر في موضع حريز، بحيث لو كان هناك مال، فوضع على ظهر الأرض فسرق وجب على سارقه القطع.. قطع سارق الكفن منه. وإن كان القبر في موضع بعيد من العمران. مثل مفازة لا يحتاج السارق في السرقة إلى انتهاز الفرصة.. لم يقطع. وإن كان القبر في مقبرة قريبة من العمران يمر بها الناس، بحيث يحتاج السارق في سرقة الكفن إلى انتهاز الفرصة في السرقة منها.. فهل يقطع؟ فيه وجهان وكذلك ما هو مدفون هناك غير الكفن. هذا مذهبنا، وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه، والثوريُّ، والأَوزَاعِي: (لا يجب القطع على سارق الكفن من القبر بحال) . دليلنا: قول تَعالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] (المائدة: 38) و (السارق) : اسم جنس يتناول كل من أخذ الشيء على وجه الاستخفاء، وإن كان كل نوع من السرقة يختص باسم، فيقال لمن نقب: نقاب، ولمن أخذ شيئا من الجيب: طرار، ولمن أخذ الكفن من القبر: نباش، ويسمى: المختفي.

فرع: سرقة ما زاد على الكفن أو الطيب المستحب

ولهذا: رُوِيَ أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله المختفي والمختفية» وأراد به النباش. وقال: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «من اختفى ميتا.. فكأنما قتله» ومن الدليل على وجوب القطع عليه: ما روى البراء بن عازب: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: «من حرق.. حرقناه ومن غرق غرقناه ومن نبش.. قطعناه» ورُوِي: (أن ابن الزبير قطع نباشا بعرفات) ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فدلَّ على أنه إجماع. ولأن القطع إنما وجب إحرازا للمال وصيانة له، وكفن الميت أحق بذلك لأن الحي إذا أخذت ثيابه.. استخلف بدلها، والميت لا يستخلف، فكان إيجاب القطع لصيانة ثيابه أولى. [فرع: سرقة ما زاد على الكفن أو الطيب المستحب] فإن كفن الميت في أكثر من خمسة أثواب، أو دفن في تابوت، فسرق سارق ما زاد على خمس أثواب أو سرق التابوت من القبر.. لم يقطع، لأن ذلك غير مشروع في الكفن والدفن، فلم يجعل القبر حرزا له، كما لو دفن في القبر دنانير أو دراهم. قال: الماسرجسي: وإن أخذ السارق من الطيب الذي طيب به الميت ما يساوي نصابا.. قطع، إلا أن يزيد على القدر المستحب في الطيب.. فلا يقطع السارق بسرقة ما زاد على المستحب،

فرع: مالكي الكفن

قال ابن الصبَّاغ: وعندي: أنه لا يجتمع من الطيب المستحب ما يساوي نصابا، لأن المستحب في تطيبه: التجمير بالعود وإن يطرح مع الحنوط وذلك لا يجتمع وإن كان مجتمعاً.. فلا قطع فيه [فرع: مالكي الكفن] ] واختلف أصحابنا فيمن يملك الكفن: فمنهم من قال: الكفن باق على ملك الميت لأنه محتاج إليه فكان باقيا على حكم ملكه وإن كان لا يجوز أن يدخل شيء في ملكه ابتداء، كما إذا مات وعليه دين؛ فإن الدين يكون باقيا في ذمته، وإن كان لا يجوز أن يثبت في ذمته دين ابتداء. ومنهم من قال: إنه غير مملوك لأحد بل لله تَعالَى: لأنه لا يجوز أن يكون مملوكا لورثته، لأنهم لا يملكون التصرف فيه، ولا يجوز أن يكون مملوكا للميت، لأن الميت لا يملك. ومنهم من قال: إنه مملوك للورثة، وهو الأصح لأنهم يملكون التركة والكفن من جملتها. فإن كفن الميت بكفن من تركته، فأكل السبع الميت، أو ذهب به سيل وبقي الكفن، فإن قلنا: إن الكفن ملك للورثة.. قسم بينهم. وإن قلنا: إنه ملك للميت، أو لا مالك له.. نقل إلى بيت المال. ومن الذي يطالب بقطع سارق الكفن؟ إن قلنا: إنه ملك للورثة.. فهم المطالبون بقطعة. وإن قلنا: أنه لا مالك للكفن. فإن الإمام أو الحاكم يقطع سارقه من غير مطالبة أحد، كما لو سرق سارق سارية من سواري المسجد وإن قلنا: إن الكفن باق على حكم ملك الميت.. ففيه وجهان. أحدهما: أن الحاكم لا يقطع السارق إلا بمطالبة الورثة، لأنهم يخلفون الميت. والثاني: أن الحاكم يقطعه من غير مطالبة منهم، كما يقطع سارق مال الطفل والمجنون الذين لا ولي لهما.

مسألة: النوم على الشيء أو الثوب حرز له

وإن كفن السيد عبده فلمن يكون الكفن ملكا؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه ملك للسيد. والثاني: أنه لا يملكه أحد، ولا يجيء فيه أنه ملك للعبد، لأنه لا يملك إلا بتمليك السيد - على القول القديم - ولم يملكه إياه. [مسألة: النوم على الشيء أو الثوب حرز له] وماذا لو كان معه متاع؟] إذا كان معه ثوب أو شيء خفيف فتركه تحت رأسه ونام عليه، أو فرشه تحته ونام عليه فسرقه سارق من تحت رأسه أو من تحت جنبيه.. قطع لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع سارق رداء صفوان من تحت رأسه» . ولأن العادة في الأشياء الخفيفة أنها تحرز هكذا: فإن تزحزح عنه في النوم وخرج من تحته، فسرقة سارق.. لم يقطع، لأنه خرج عن أن يكون محرزا. وإن ترك الثوب أو المتاع بين يديه وهو ينظر إليه فهو محرز به. فإن تغفله إنسان وسرقة.. قطع - لأنه محرز به وإن نام أو تشاغل عنه فهو غير مَحرُوز - فإن سرقه إنسان.. لم يقطع. قال الشيخُ أبُو إسحاق: فكذلك لو تركه خلفه بحيث لا تناله اليد فسرقه سارق.. لم يقطع، لأنه غير مَحرُوز. وقال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (ولو ترك متاعه بين يديه فسرق.. لم يقطع سارقه) قال أصحابنا: أراد بذلك: إذا نام هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: إذا ترك متاعه في موضع وقعد بقربه بحيث يقع بصره عليه، فإن كان ذلك الموضع لا يمر الناس فيه غالبا، مثل صحراء متباعدة عن الشارع، فتغفله إنسان فسرقة.. قطع وإن كان ذلك الموضع يمر الناس فيه غالبا، أو كان مشتركا بين جماعة الناس، كالمسجد أو قارعة الطريق ففيه وجهان:

فرع: علق ثيابه في الحمام أو المسبح فسرقت

أحدهما: لا يجب عليه القطع، لأن ذلك الموضع منتاب للناس، فلا يكون حرزاً. والثاني: يجب عليه القطع، كالتي قبلها. وإن وضع متاعه في موضع غير محاط بالجدران، أو كان محاطاً لكن الباب مفتوح، ونام بقربه، فإن كان ذلك الموضع ليس بملك له.. لم يقطع سارق متاعه منه، لأن المكان لا يملكه، فلم يحفظ متاعه بل ضيعه. وإن كان المكان ملكاً له.. ففيه وجهان: أحدهما: أن المال مَحرُوز، لأن المكان ملكه وهو فيه، وقد جرت العادة بأن ينام صاحب الدار الساعة والساعتين والباب مفتوح. والثاني: أنه غير مَحرُوز، لأن المكان وإن كان ملكه.. فإن الباب مفتوح والنائم كالغائب. [فرع: علق ثيابه في الحمام أو المسبح فسرقت] وإن علق ثيابه في الحمام، فسرقها سارق من هناك، فإن أمر الحمامي أو غيره بمراعاتها فرعاها، وسرقها سارق في حال مراعاته لها.. قطع السارق، لأنها محرزة بمن يراعيها. فإن لم يراعها أحد.. لم يقطع السارق، لأنها غير محروزة، لأن الحمام مستطرق. [مسألة: أحوال سرقة الجمال] وإن سرق سارق من الإبل.. فلا يخلو: إما أن يسرق منها وهي في المرعى، أو يسرق منها وهي مناخة، أو يسرق منها وهي مقطرة.

فإن سرق منها وهي في المرعى.. نظرت: فإن كان معها راع وهو ينظر إلى جميعها أو يبلغها صوته إذا زجرها.. قطع، لأنها محرزة. وإن كان لا ينظر إليها، بأن غابت عنه بجبل أو غيره، أو نام عنها، أو تشاغل، أو كان ينظر إليها ولا يبلغها صوته إذا زجرها، لم يقطع لأنها غير محرزة، وإن كان ينظر إلى بعضها دون بعض.. قطع سارق الذي ينظر إليه دون الذي لا ينظر إليه. وإن سرق منها وهي مناخة، فإن كان معها حافظ ينظر إليها.. فهي محرزة. وإن كان لا ينظر إليها ولكنها معقولة، أو معها حافظ لها بقربها.. فهي محرزة، سواء كان مستيقظاً أو مشتغلاً عنها أو نائماً، لأن العادة جرت: أن الرعاة والمسافرين إذا أرادوا النوم.. عقلوا إبلهم وناموا بقربها، لأن حل العقال: يوقظ النائم وينبه المتغافل. وإن كانت غير معقلة وحافظها نائم بقربها، أو كانت معقلة ولا حافظ معها نائم ولا مستيقظ.. لم يقطع سارقها، لأنها غير محرزة، لأن العادة لم تجر بإحرازها هكذا. وإن سرق منها وهي مقطرة، فإن كان معها سائق ينظر إليها، ويبلغها صوته إذا زجرها، أو كان لها قائد ينظر إليها إذا التفت وأكثر الالتفات إليها ويبلغها صوته إذا زجرها.. قطع سارقها، لأنها محرزة به. هكذا ذكر الشيخ أبُو إسحاق. وأمَّا الشيخ أبُو حامد، وأكثر أصحابنا: فلم يشترطوا بلوغ صوته إليها في شيء من ذلك كله. وقال أبُو حَنِيفَة) إذا كان قائدا لها، فليس فيها محرز إلا التي بيده زمامها) . دليلنا: أن العادة جرت في حفظ الإبل بمراعاتها بالالتفات، فكان ذلك حرزاً لها كالتي زمامها بيده. إذا ثبت هذا: فإن أصحابنا العراقيين لم يقدروا القطار بعدد، بل اشترطوا ما مَضَى. وأمَّا المسعوديُّ [في " الإبانة "] : فاشترط أن لا يزيد القطار الواحد على تسع، لأن هذا هو العرف في القطار، فإن زاد القطار على ذلك.. كان ما زاد غير محرز.

فرع: سرقة جمل مع راكبه

قال: وإن كان القطار تسعاً، إلا أن الجمال يقوها في سكة مبنية متقاربة البناء، بحيث يغيب عن الجمال بعض الإبل، فمن سرق مما قد غاب عن عينه شيئاً.. لم يقطع. [فرع: سرقة جمل مع راكبه] وإن سرق سارق جملا وعليه راكب، فقال أصحابنا البغداديون: إن كان الراكب له حراً.. لم يقطع السارق، نائما كان الراكب أو مستيقظاً، لأن اليد على الجمل للراكب، ولا يلزم السارق ضمان الجمل، لأنه لم تزل يد الراكب عنه، وإن كان الراكب عليه عبداً.. قطع السارق، لأن اليد ثبتت على العبد وعلى ما في يده. وقال الخراسانيون: فيه أربعة أوجه: أحدها: يجب عليه القطع بكل حال، لأنه سرق من المال نصاباً محرزاً عنه لا شبهة له فيه. والثاني: لا يجب عليه القطع بحال، لأن يد الراكب عليه لم يزلها. والثالث: ينظر فيه: فإن كان الراكب قوياً، بحيث لو انتبه لم يقدر السارق عليه. لم يقطع السارق، وإن كان ضعيفاً، بحيث لو انتبه يقدر على السارق.. قطع السارق. والرابع: إن كان الراكب حراً.. لم يقطع، وإن كان عبداً.. قطع، لما مَضَى. [فرع: السرقة من المتاع المحمول على الإبل المقطرة] وإن سرق سارق من المتاع المحمول على الإبل المقطرة.. فحكمه حكم من سرق من الأجمال المقطرة. وكذلك: إن سرق الجمل والمتاع المحمول عليه.. قطع. وقال أبُو حَنِيفَة: (إن سرق الجمل والمتاع المحمول عليه.. لم يقطع، وإن فتق الجوالق على الجمل وسرق منه المتاع.. قطع) .

فرع: سرقة الأنعام ونحوها

دليلنا: نأن الجَمَل وما عليه محرز بصاحبه، فقطع سارقه، كما لو سرق متاعا محرزا بالبيت. [فرع: سرقة الأنعام ونحوها] وإن سرق سارق من ماشية غير الإبل، كالبقر والغنم والخيل والبغال والحمير.. فلا يتصور أن تكون مقطرة ولا مناخة، وإنما يتصور أن تكون راعية أو في موضع تأوي إليه. فإن كانت راعية.. فحكمها حكم الإبل الراعية على ما مَضَى. وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا أرسل الراعي غنمه في سكة، وفي السكة دور وأبوابها مفتوحة إلى تلك السكة.. لم تكن محرزة به، فإذا أوت إلى موضع.. فالحكم فيها وفي الإبل إذا أوت إلى أعطانها واحد، فلا يخلو: إما أن تكون في البلد، أو في الصحراء. فإذا كانت في البلد في بيت، فإن كان معها حافظ مستيقظ.. فهي محرزة، سواء كان باب البيت مغلقاً أو مفتوحاً. وإن كان الحافظ نائما، فإن كان البيت مقفلاً.. فهي محرزة، وإن كان مفتوحاً.. فهي غير محرزة. وإن كان البيت في الصحراء، فإن لم يكن معها حافظ.. فليست بمحرزة، سواء كان البيت مقفلاً أو مفتوحا. وإن كان معها حافظ مستيقظ.. فهي محرزة، سواء كان باب البيت مفتوحاً أو مقفلا. وإن كان نائما، فإن كان البيت مغلقا.. فهي محرزة، وإن كان مفتوحا.. فهي غير محرزة، كما قلنا في المتاع في البيت. وإن دخل رجل مراحا لغنم، أو كانت في غير مراح إلا أنها محرزة بحافظ، فحلب من ألبانها أو أخذ من أصوافها ما يساوي نصابا.. قطع؛ لأن حرز الغنم حرز لما فيها من اللبن ولما عليها من الصوف. [مسألة: لا يجب القطع على السارق إلا بإخراجه المال من الحرز بفعله] ولا يجب القطع على السارق إلا بأن يخرج المال من الحرز بفعله. فإن دخل مراح غنم ونفرها حتى خرجت.. قطع، لأنها خرجت بفعله. وإن خرجت من غير

فرع: نقب حرزا وأخذ مالا ثم ألقاه ثم أخذه وماذا لو بط جيبا أو طعاما

تنفير.. لم يقطع، لأنها لم تخرج بفعله. وإن أخذ منها شاة لا تساوي نصابا، فخرج في إثرها شاة تم بها النِّصَاب.. فهل يقطع؟ قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : ينظر فيه: فإن كان الأغلب أنها تخرج على إثرها؛ مثل ولدها، أو كانت الشاة التي أخرجها هادية الغنم فتبعها غيرها.. قطع؛ لأن إخراج التابع لها منسوب إليه. وإن لم يكن الأغلب ذلك.. لم يقطع، لأن التي أخرج لا تساوي نصابا، والتي تبعتها لا ينسب خروجها إليها. [فرع: نقب حرزا وأخذ مالا ثم ألقاه ثم أخذه وماذا لو بطَّ جيبا أو طعاما] وإن نقب رجل حرزا، ودخل وأخذ المال، ورمى به من النقب إلى خارج الحرز، أو رمى به من فوق حائط الدار، أو فتح الباب ودخل ورمى به، ثم خرج وأخذه.. وجب عليه القطع، لأن المال خرج بإخراجه. وإن نقب الحرز ولم يدخل الحرز، بل أدخل يده في النقب وأخذ المال، أو دخل في البيت محجنا وتناول به المال أو أخرجه.. وجب عليه القطع. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه القطع إلا إن كان النقب صغيراً لا يمكنه الدخول منه) . دليلنا: أنه أخرج المال بفعله، فوجب عليه القطع، كما لو كان النقب صغيرا. وإن كان في جيب رجل أو كمه مال، فبط رجل أسفله، وأخرج منه نصابا.. قطع. وكذلك: إن كان هناك بيت فيه طعام فنقبه رجل، فانثال من الطعام ما يساوي نصابا.. قطع، لأنه خرج بسبب فعله. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: هذه مبنية على من نقب حرزا وسرق منه ثمن دينار، ثم عاد

فرع: أخرج المال من الحرز بواسطة

وسرق منه ثمنا آخر، فإن قلنا هناك: يجب القطع.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: لا يجب القطع.. فهاهنا وجهان. والفرق: أن هذا ما أخرجه في الدفعة الأولى متميز عما أخرجه في الدفعة الثانية، وهاهنا: الحنطة المنثالة متصلة بعضها ببعض، فصارت كالمنديل يجره من الكيس فيخرج شيء بعد شيء. وحكى صاحب " الفروع " فيها وجهين على الإطلاق. أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه هكذا يخرج. والثاني: لا يجب عليه القطع؛ لأنه لم يخرج بفعله. [فرع: أخرج المال من الحرز بواسطة] وإن نقب حرزا فدخل وترك المال في ماء جار في الحرز وخرج المال بجريان الماء من الحرز.. قطع؛ لأن المال خرج بسبب فعله. وحكى الشيخُ أبُو حامد وجها آخر: أنه لا يقطع، وليس بشيء. وإن تركه من ماء راكد في الحرز، وحرك الماء حتى خرج المال من الحرز.. قطع؛ لما ذكرناه. وإن حركه غيره.. لم يقطع؛ لأنه لم يخرج بفعله. وإن تفجر الماء وخرج بالمال.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه أخرجه بوضعه في الماء، فهو كما لو وضعه في الماء الجاري. والثاني: لا يجب عليه القطع، لأن الماء لم يكن آلة لإخراجه، وإنما خرج به بسبب حادث. وإن نقب حرزا وأخذ المال وتركه على النقب في وقت هبوب الريح، فأطارته الريح حتى أخرجته من الحرز.. قطع، كما لو تركه في ماء جار. وإن تركه على النقب.

ولا ريح، ثم هاجت ريح فأطارته حتى أخرجته.. ففيه وجهان، كما لو تركه في ماء راكد، فتفجر الماء وأخرجه. وإن نقب حرزا فدخله وأخذ المال وتركه على بهيمة، فساق البهيمة أو قادها حتى خرجت بالمال.. قطع؛ لأنها خرجت بسبب فعله. وحكى الشيخُ أبُو حامد: أن من أصحابنا من قال: إنه لا يقطع، وليس بشيء. وإن لم يسق البهيمة ولم يقدها، بل خرجت باختيارها.. فأختلف أصحابنا فيه: فقال أكثرهم: فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه القطع، لأن البهيمة إذا أحست بالمتاع على ظهرها.. سارت في العادة، فصار فعله سببا في إخراج المال. والثاني: لا يجب عليه القطع، وهو الأصح، لأن للبهيمة قصدا واختيارا، وقد خرجت باختيارها. وقال أبُو عليّ السنجي: إن وقفت البهيمة بعد وضع المال عليها ساعة، ثم سارت.. لم يقطع وجها واحدا. وإن سارت عقيب الوضع.. فهل يقطع؟ فيه وجهان. قال: وهكذا لو وضع لؤلؤا على جناح طائر، فإن هيجه حتى خرج من الحرز.. فعليه القطع. وإن لم يهيجه، فمكث الطائر بعد أن شد عليه ساعة، ثم طار.. لم يجب عليه القطع. وإن طار عقيب الشد.. ففيه وجهان. وإن نقب رجل حرزا وأمر صبيا لا يميز، حرا كان أو عبدا، فأخرج منه نصابا، أو دخل هو ودفع النِّصَاب إلى الصغير وخرج به.. وجب فيه القطع على الرجل، لأن الصغير كالآلة له؛ ولهذا لو أمره بقتل إنسان فقتله.. وجب عليه القتل. هكذا ذكر

فرع: ذبح شاة أو شق ثوبا في الحرز وخرج به

بعض أصحابنا. وحكى صاحب " الفروع " في وجوب القطع على الرجل وجهين، كما لو وضع المال على بهيمة، فخرجت به من غير سوق ولا قَوْد. وإن نقب رجل حرزا، وأمر صغيرا عاقلاً مميزا، فأخرج النِّصَاب.. لم يجب القطع على واحد منهما؛ لأن الرجل لم يخرج المال بفعله، والمميز له اختيار صحيح، فلا يجعل بمنزلة الآلة له، وإنما لم يجب عليه القطع؛ لأنه ليس من أهل التكليف. [فرع: ذبح شاة أو شق ثوبا في الحرز وخرج به] وإن نقب رجل حرزا، فدخل وأخذ شاة فذبحها في الحرز، أو ثوبا فشقه في الحرز، ثم خرج بذلك. فإن كان اللحم والثوب بعد شقه يساوي نصابا.. قطع. وإن لم يساوي نصابا.. لم يقطع. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه القطع بالشاة) ؛ لأن الأشياء الرطبة لا يجب القطع بسرقتها عنده. وقال: في الثوب: (إن خرقه طولا.. لم يجب عليه القطع؛ لأنه بالخيار: بين أن يدفع قيمته ويتملكه. وإن خرقه عرضا.. وجب عليه القطع إذا كانت قيمته نصابا بعد الخرق) . دليلنا: أنه سرق نصابا لا شبهة له فيه من حرز مثله، فوجب عليه القطع، كما لو وجده مخروقا. وإن سرق ما يساوي نصابا، ثم نقصت قيمته بعد ذلك فصار لا يساوي نصابا.. لم يسقط القطع عنه. وبه قال مالك. وقال أبُو حَنِيفَة: (يسقط عنه القطع) . دليلنا: أنه نقصان حدث بعد وجوب القطع، فلم يسقط به القطع، كما لو استعمله السارق فنقصت قيمته.. فإن القطع لا يسقط عنه بلا خلاف.

فرع: سرق فضة أو ذهبا فصاغها دراهم ودنانير

[فرع: سرق فضة أو ذهبا فصاغها دراهم ودنانير] فرع: [سرق فضة أو ذهبا فصاغها دارهم ودنانير] : وإن سرق فضة تساوي نصابا فضربها دراهم، أو سرق نصابا من الذهب فضربه دنانير.. قطع، ووجب عليه رد الدراهم والدنانير. وبه قال أبُو حَنِيفَة. وقال أبُو يوسف ومحمد: لا يلزمه رد الدراهم والدنانير، وبنيا ذلك على أصلهما فيمن غصب فضة فضربها دراهم، أو ذهبا فضربه دنانير.. أنه يسقط حق صاحبها منها. دليلنا: أن هذه عين المال المسروق منه، فوجب ردها، كما لو لم يضربها. [فرع: نقب حرزا وابتلع فيه جوهرة أو تطيب ثم خرج] وإن نقب حرزا فدخله فابتلع فيه جوهرة تساوي نصابا، أو ابتلع ربع دينار ثم خرج.. فإن الشيخ أبا حامد وابن الصبَّاغ قالا: إن لم تخرج منه الجوهرة أو ربع الدينار.. لم يجب عليه القطع؛ لأنه أهلك النِّصَاب في الحرز بالابتلاع، فلم يجب عليه القطع، كما لو أكل في الحرز طعاما يساوي نصابا. وإن خرجت منه الجوهرة أو ربع الدينار وهو يساوي نصابا.. فهل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه أخرجه من الحرز، فهو كما لو أخرجه بيده أو في فيه. والثاني: لا يجب عليه القطع، وهو الأصح؛ لأنه بالابتلاع صار في حكم المستهلك؛ بدليل: أن لمالكه أن يطالبه ببدله، فصار بمنزلة ما لو أتلفه في الحرز. وذكر الشيخ أبُو إسحاق والمسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا ابتلع الجوهرة في الحرز وخرج.. هل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان، من غير تفصيل. ولعلهما أرادا: إذا خرجت منه بعد الخروج من الحرز. وإن دخل السارق الحرز وأخذ منه طيبا، فتطيب به في الحرز، ثم خرج، فإن لم يمكن أن يجمع منه من الذي تطيب به عند خروجه ما يساوي نصابا.. لم يقطع؛ لأن الذي أخرجه من الحرز لا يساوي نصابا. وإن أمكن

مسألة: وجوب القطع بعد خروج جميع العين المسروقة من الحرز

أن يجمع منه ما يساوي نصابا.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه قد أخرج من الحرز ما يساوي نصابا، فوجب عليه القطع، كما لو أخرجه في إناء. والثاني: لا يجب عليه القطع؛ لأنه قد أتلفه في الحرز بالتطيب. [مسألة: وجوب القطع بعد خروج جميع العين المسروقة من الحرز] ولا يجب القطع على السارق حتى تنفصل جميع العين المسروقة عن جميع الحرز بفعل السارق، أو بسبب فعله. فإن نبش قبرا وأخرج الكفن من اللحد، ولم يخرجه عن باقي القبر، ثم خرج وتركه، أو نقب حرزا ودخل وقبض المال في الحرز، ولم يخرج به.. لم يجب عليه القطع؛ لأنه لم يخرجه عن حرزه، ولكن يجب عليه ضمانه؛ لأنه قد قبضه. وإن أخذ طرف جذع أو طرف عمامة أو ثوب من حرز وجره، فأخرج بعضه عن الحرز، فلحقه الصراخ قبل أن ينفصل جميع الجذع أو العمامة أو الثوب عن جميع الحرز.. لم يجب عليه القطع وإن كان قد خرج من الحرز ما يساوي نصابا؛ لأن بعض العين لا ينفرد عن بعض؛ ولهذا: لو كان على رأسه عمامة وطرفها على نجاسة، فصَلَّى فيها.. لم تصح صلاته، كذلك هذا. قال: القاضي أبُو الطيب: وكذلك إذا أخذ طرفا من العين، والطرف الآخر في يد صاحبها.. فإنه لا يضمنها؛ لأنه لم تزل يد المالك عن جميع العين. وإن أخرج نصابا من الحرز ثم رده إليه.. لم يسقط عنه القطع. وقال أبُو حَنِيفَة: (يسقط) . دليلنا: أن القطع قد وجب عليه بالإخراج، فلم يسقط بالرد. [فرع: اشتركا في نقب حرز وأخرج أحدهما المال وناوله للثاني أو سرقه آخر] وإن اشترك اثنان في نقب حرز، ودخل أحدهما الحرز وأخذ المال وأخرج يده من جميع الحرز بالمال وناوله الآخر، أو رمى المال من الحرز إلى خارج الحرز فأخذه

الآخر.. فإن الضمان يجب عليهما، وأمَّا القطع.. فإنما يجب على الداخل دون الخارج. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب القطع على أحد منهما) . دليلنا: أنه قد أخرج المال بفعله، فوجب عليه القطع، كما لو خرج هو به. وإن اشتركا في نقب الحرز، ودخل أحدهما فأدنى المال إلى النقب من داخل الحرز ولم يخرجه، فأدخل الخارج يده في النقب وأخرج المال.. فإن الضمان يجب عليهما، وأمَّا القطع: قال المسعوديُّ [في" الإبانة "] : فإنه يجب على الخارج لإخراجه المال من الحرز، ولا يجب على الداخل؛ لأنه لم يخرج المال من الحرز. وإن اشترك اثنان في نقب حرز، فدخل أحدهما وأخذ نصابين وتركهما على بعض النقب، وتناولها الآخر من خارج الحرز.. فحكى أصحابنا العراقيون فيها قولين، وحكاهما المسعوديُّ في [" الإبانة "] وجهين: أحدهما: يجب عليهما القطع؛ لأنهما اشتركا في النقب وإخراج المال فلزمهما القطع، كما لو نقب معا ودخلا معا وخرجا معا فأخرجا المال. والثاني: لا يجب عليهما القطع وهو الأصح؛ لأن كل واحد منهما لم يخرج المال من كمال الحرز، فلم يجب عليهما القطع، كما لو دخل أحدهما وأخرج المال إلى قرب النقب ولم يخرجه، وقد مَضَى وتركه. وإن نقب أحدهما الحرز وحده، ودخل الآخر وأخذ المال.. ففيه طريقان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان كالتي قبلها؛ لأن السرقة تمت بهما، فهي كالأولى. و [الثاني] : منهم من قال لا يجب عليهما القطع هاهنا قولا واحدا؛ لأن في الأولى اشتركا في النقب وإخراج المال من الحرز، وهاهنا لم يشتركا في ذلك، وإنما انفرد أحدهما بالنقب والآخر بإخراج المال.

فرع: مقعد وأعمى يشتركان في سرقة

وإن نقب أحدهما الحرز ودخل، فأخذ المال ورمى به من داخل الحرز إلى خارجه، وخرج ليأخذه وقد أخذه سارق آخر.. فمن أصحابنا الخراسانيين من قال: هو كما لو اشتركا في النقب، وأخرج أحدهما المال إلى بعض النقب، وأخذه الآخر. ووجه الشبه بينهما: أن الرامي لم يتناول المسروق بعد إخراجه إياه من الحرز. كما أن من أخرج المتاع إلى بعض النقب.. لم يتناوله مخرجا. وقال أصحابنا العراقيون وبعض الخراسانيين: يجب القطع هاهنا على الذي رمى بالمال قولا واحدا؛ لأنه أخرج المال من جميع الحرز، فوجب عليه القطع، كما لو خرج وأخذ المال وغصب منه. إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا الخراسانيون في كيفية اشتراكهما في نقب الحرز الذي يختلف فيه الحكم في السارقين على ما مَضَى: فمنهم من قال لا يكونان مشتركين إلا بأن يأخذ آلة واحدة بأيديهما فينقبا الحرز بها معا، كما أنه لا يجب عليهما القود في اشتراكهما في قطع العضو إلا بأن يأخذا آلة واحدة بأيديهما ويقطعا بها العضو معا. فأما إذا نقب كل واحد منهما بعض الحرز بآلة منفردا بها.. فلا يكونان مشتركين في النقب، كما لو أخذ كل واحد منهما آلة، فقطع بها جانبا من العضو وأبانه الآخر.. فإنه لا قَود على واحد منهما في العضو. ومنهم من قال: يصيران مشتركين في النقب إذا أخذا آلة واحدة بأيديهما ونقبا بها الحرز معا، كما مَضَى. ويصيران شريكين أيضا إذا أخذ كل واحد منهما آلة وانفرد بنقب بعض الحرز، وهو الأصح؛ لأنهما قد اشتركا في نقب الحرز، فهو كما لو اشتركا في النقب بآلة واحدة معا. [فرع: مقعد وأعمى يشتركان في سرقة] وإن حمل أعمى مقعدا وأدخله حرزا، وكان المقعد يدل الأعمى على المال، فأخذا منه ما يساوي نصابا.. ففيه وجهان:

مسألة: إخراج متاع من بيت في الدار أو الخان إلى رحبتها

أحدهما: يجب عليهما القطع؛ لأن المال لم يخرج إلا بهما، فهو كما لو اشتركا في إخراجه بالمباشرة. والثاني: لا يجب القطع إلا على الأعمى، وهو الأصح؛ لأنه هو المباشر لإخراجه. [مسألة: إخراج متاع من بيت في الدار أو الخان إلى رحبتها] إذا أخرج السارق المتاع من البيت إلى حجرة الدار - وهي: الصحن - نظرت: فإن كان الصحن مشتركا بين سكان في الدار.. وجب القطع على السارق، سواء كان باب الدار مغلقا أو مفتوحا؛ لأن ما في البيت إنما هو مَحرُوز في البيت لا بباب الدار. وإن كانت الدار جميعها لواحد.. ففيه أربع مسائل: إحداهن: أن يكون باب البيت الذي أخرج منه المتاع مفتوحا وباب الدار مغلقا.. لم يجب القطع هاهنا؛ لأن ما في البيت مَحرُوز بباب الدار دون باب البيت، ولم يخرج المال عن حرزه. الثانية: أن يكون باب البيت مغلقا وباب الدار مفتوحا.. فيجب القطع؛ لأن ما في البيت محرز بباب البيت لا بباب الدار، وقد أخرج المال عن حرزه. الثالثة: أن يكون باب البيت مفتوحا وباب الدار مفتوحا.. فلا يجب عليه القطع؛ لأن المال غير مَحرُوز. الرابعة: أن يكون باب الدار مغلقا وباب البيت مغلقا.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأن المال مَحرُوز بباب البيت، فإذا خرج منه.. وجب عليه القطع، كما لو أخرجه من الدار إلى السكة. والثاني: لا يجب عليه القطع، وهو الأصح؛ لأن المال محرز بباب البيت وباب الدار، ولم يخرج المال من كمال الحرز، فلم يجب عليه القطع، كما لو كان المتاع في صندوق مقفل في البيت، فأخرجه من الصندوق إلى البيت.

مسألة: سرقة الضيف

هذا نقل أصحابنا العراقيين: وقال الخراسانيون: إذا كان لرجل بيت في دار له، فأخرج السارق المتاع من البيت إلى الدار، وكان باب البيت مفتوحاً وباب الدار مفتوحاً.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه أخرجه من حرزه الذي أحرز فيه وإن أخرجه إلى حرز آخر. والثاني: لا يجب عليه القطع، لأن المتاع أحرز بالبابين جميعاً، فلما لم يخرجه منهما.. لم يكمل الإخراج. وإن كان في الخان بيوت لجماعة، لكل واحد منهم بيت، وكانت أبواب البيوت مغلقة، وباب الخان مغلقاً، فسرق سارق من ساحة الخان وأخرجه من الخان، فإن لم يكن للسارق بيت في الخان.. قطع. وإن كان له بيت في الخان.. لم يقطع؛ لأنه سرق ما هو غير محرز عنه. إن كان المتاع في بعض بيوت الخان، فأخرجه من لا بيت له في الخان من البيت المغلق إلى ساحة الخان، والخان مغلق الباب.. فهل يقطع؟ فيه وجهان على ما مَضَى. [مسألة: سرقة الضيف] وإن نزل رجل ضيفاً برجل، فسرق الضيف من مال صاحب البيت نصاباً.. نظرت: فإن سرق من متاع في البيت الذي أنزل فيه، أو من موضع غير محرز عنه.. لم يقطع؛ لما رَوَى أبُو الزبير، عن جابر أنه قال: أضاف رجل رجلاً، فأنزله في مشربة له، فوجد متاعاً له قد اختانه، فأتى به أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: (خل عنه فليس بسارق، وإنما هي أمانة اختانها) . ولأنه غير مَحرُوز عنه، فلم يقطع فيه، كما لو أخذ الوديعة التي عنده.

مسألة: سرق اختصاصا لا يعد مالا ككلب ونحوه أو مما يستهان به كالقشور

وإن سرقه من موضع مَحرُوز عنه.. قطع، وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يقطع) . دليلنا: أنه سرق نصاباً، لا شبهة له فيه، محرزاً عنه، فقطع كغير الضيف. وعلى هذا يحمل ما روي: (أن رجلاً مقطوع اليد والرجل قدم المدينة ونزل بأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكان يكثر الصلاة في المسجد، فقال أبُو بكر: ما ليلك بليل سارق، فلبثوا ما شاء الله، ففقدوا حليا لهم، فجعل ذلك الرجل يدعو على من سرق أهل هذا البيت الصالح، فمر رجل بصائغ في المدينة، فرأى عنده حلياً، فقال: ما أشبه هذا بحلي آل أبي بكر! فقال للصائغ: ممن اشتريته؟ فقال: من ضيف أبي بكر، فأخذ ذلك الرجل، فأقر أنه سرقه، فبكى أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقلت: ما يبكيك من رجل سرق؟! فقال: أبكي لغرته بالله، ثم أمر فقطعت يده) ، ولم يأمر بقطعه إلا لأنه كان محرزاً عنه، بدليل الحديث الأول عنه. [مسألة: سرق اختصاصاً لا يعد مالا ككلب ونحوه أو مما يستهان به كالقشور] وإن سرق ما ليس بمال، كالكلب والخنزير والخمر.. لم يجب عليه القطع. وقال عطاء: إن سرق الخمر أو الخنزير من الذمي.. وجب عليه القطع. دليلنا: أن ذلك ليس بمال؛ بدليل: أنه لا يجب على متلفه قيمته، فلم يجب فيه القطع، كالميتة. فإن سرق إناء يساوي نصابا فيه خمر أو بول.. ففيه وجهان:

فرع: سرقة آلات اللهو أو إناء أو صنم من ذهب أو فضة

أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه سرق نصاباً. والثاني: لا يجب عليه القطع - وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها سرقة، سقط القطع في بعضها فسقط في جميعها، كما لو سرق مالا مشتركا بينه وبين غيره، والأول أصح؛ لأن سقوط القطع في الخمر لا يوجب سقوط القطع في الإناء. وإن سرق قشور الرمان وما أشبهها مما يستهان به.. فهل يجب فيه القطع؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع " و " التجريد ": أحدهما: لا يجب عليه فيه القطع؛ لأنه لا يتمول. والثاني: يجب فيه القطع، وهو المذهب؛ لأنه مال. [فرع: سرقة آلات اللهو أو إناء أو صنم من ذهب أو فضة] قال الشيخُ أبُو حامد وابن الصبَّاغ: إذا سرق طنبوراً، أو مزماراً، أو غير ذلك من آلة اللهو، فإن كانت قيمته على حاله ربع دينار، وإذا أزيل تأليفه كانت قيمته أقل من ربع دينار.. لم يجب فيه القطع؛ لأن تأليفه محرم لا قيمة له. وإن كان إذا نقض تأليفه وصار خشباً يستعمل في أشياء مباحة يساوي ربع دينار فصاعداً.. وجب القطع بسرقته؛ لأنه سرق ما يساوي ربع دينار. وكذلك: إن كانت قيمته بعد نقضه لمنفعة مباحة لا تبلغ ربع دينار إلا أن عليه حلية تبلغ نصاباً بنفسها، أو تبلغ مع قيمته نصاباً.. وجب بسرقته القطع. وذكر الشيخ أبُو إسحاق: إن كان إذا فصل.. صلح لمنفعة مباحة، وأراد: إذا بلغت قيمته نصاباً بعد ذلك.. فهل يجب بسرقته القطع؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجب؛ لما تقدم ذكره. والثاني: لا يجب بسرقته القطع - وبه قال أبُو حَنِيفَة - لأنه آلة معصية، فلم يجب بسرقته القطع، كالخمر. والثالث: وهو قول أبي علي بن أبي هُرَيرَة -: إن أخرجه مفصلاً.. قطع، لزوال المعصية. وإن أخرجه غير مفصل.. لم يقطع؛ لبقاء المعصية. وإن سرق إناء من ذهب أو فضة، فإن كانت قيمته من غير صنعته تبلغ نصاباً..

مسألة: سرقة العبيد

وجب بسرقته القطع. وإن كانت قيمته لا تبلغ نصاباً إلا بصنعته.. بني على القولين: هل يجوز اتخاذه؟ فإن قلنا: يجوز اتخاذه.. وجب بسرقته القطع. وإن قلنا: لا يجوز اتخاذه.. لم يجب بسرقته القطع. وإن سرق صنما من ذهب أو فضة، فإن كانت قيمته لا تبلغ نصابا إلا بصنعته.. لم يجب فيه القطع؛ لأن صنعته لا حكم لها؛ لأنه لا يجوز اتخاذه. وإن كانت قيمته تبلغ نصاباً مفصلاً.. فهو كما لو سرق طنبوراً أو مزماراً، على ما مَضَى. [مسألة: سرقة العبيد] وإن سرق عبداً نائماً.. وجب عليه القطع، سواء كان صغيراً أو كبيراً. وإن كان العبد مستيقظاً.. نظرت: فإن كان صغيرا لا يفرق بين طاعة مولاه وبين طاعة غيره.. وجب عليه القطع. وإن كان كبيراً.. نظرت: فإن كان مجنوناً أو أعجمياً لا يفرق بين طاعة مولاه وبين طاعة غيره.. وجب عليه القطع. وبه قال أبُو حَنِيفَة ومالك. وقال أبُو يوسف: لا يجب القطع بسرقة الآدمي بحال. دليلنا: أنه حيوان مملوك لا يميز، فوجب بسرقته القطع، كالبهيمة. وإن كان العبد صغيرا مميزا أو كبيراً عاقلاً مميزاً.. لم يجب بسرقته القطع، لأنه إذا قيل له: تعال إلى موضع كذا.. فذلك خدعة وليس بسرقة بحال. قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إلا أن أكرهه على الذهاب به.. فيجب عليه القطع. وإن سرق أم ولد نائمة، أو مجنونة، أو أكرهها على طريقة المسعوديّ. هل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنها مال مقوم؛ بدليل: أنه لو أتلفها.. لوجبت عليه قيمتها، فهي كالأمة القنة. والثاني: لا يجب عليه القطع؛ لأن معنى المال فيها ناقص؛ بدليل أنه لا يملك نقل ملك الرقبة فيها إلى غيره.

فرع: سرق حرا صغيرا

[فرع: سرق حرا صغيراً] وإن سرق حراً صغيراً:.. لم يجب عليه القطع. وبه قال أبُو حَنِيفَة. وقال مالك: (يجب عليه القطع) دليلنا: أنه ليس بمال، فلم يجب عليه القطع، كالحر الكبير. وإن سرق حراً صغيراً عليه حلي يبلغ نصاباً فصاعداً.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه سرق الحلي مع الصبي، فوجب عليه القطع، كما لو سرق الحلي منفرداً. والثاني: لا يجب عليه القطع. وبه قال أكثر أصحابنا وأبو حَنِيفَة، وهو الأصح؛ لأن يد الصبي ثابتة على ما معه من الحلي؛ ولهذا: لو وجد منبوذاً ومعه حلي.. كان له الحلي، فلم يجب القطع بسرقته، كما لو سرق متاعاً ومالكه نائم عليه. إذا ثبت هذا: فإن حرز العبد الصغير المستيقظ، والحر الصغير- إذا سرقه مع الحلي، وقلنا: يجب عليه القطع - دار السيد والولي وما يقرب من الدار، فإن كان يلعب مع الصبيان وسرقه سارق من هناك.. وجب عليه القطع؛ لأن السيد والولي لا ينسبان إلى التفريط بتركهما هنالك.. فأما إذا تباعدا عن باب الدار؛ بأن دخلا سكة أخرى، فسرقهما سارق من هنالك.. لم يجب عليه القطع؛ لأن السيد والولي ينسبان إلى التفريط بتركهما له هناك. [فرع: سرقة العين الموقوفة] وإن وقف رجل عينا مما ينقل، فسرقها سارق من غير الموقوفة عليهم، فإن قلنا: إن الملك ينتقل في الوقف إلى الموقوف عليه.. فهل يجب القطع على سارقها؟ فيه وجهان، كالوجهين فيمن سرق أم ولد لغيره نائمة أو مجنونة.

مسألة: سرق الأموال العامة أو ما فيها شبهة ملك للسارق

وإن قلنا: إن الملك في الوقف ينتقل إلى الله تَعالَى.. فهل يجب القطع بسرقتها؟ فيه وجهان أيضا حكاهما الشيخ أبُو حامد: أحدهما: لا يجب فيها القطع؛ لأنها غير مملوكة لآدمي، فلم يجب بسرقتها القطع، كالصيود. والثاني: يجب بسرقتها القطع؛ لأنه مال ممنوع من أخذه، فوجب بسرقته القطع وإن لم يكن له مالك معين، كستارة الكعبة. وإن وقف نخلا أو شجراً على قوم، فسرق سارق من غير أهل الوقف عليها ما يساوي نصابا.. وجب عليه القطع وجها واحداً؛ لأن ذلك ملك للموقوف عليه، فوجب بسرقته القطع، كغلة الوقف. [مسألة: سرق الأموال العامة أو ما فيها شبهة ملك للسارق] ولا يجب القطع بسرقة مال له فيه شبهة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» . فإن سرق مسلم من مال بيت المال.. لم يقطع، لما رُوِيَ: أن رجلا سرق من بيت المال، فكتب بعض عمال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إليه بذلك، فقال: (خلوه، لا قطع عليه، ما من أحد إلا وله فيه حق) . ورُوِي: (أن رجلا سرق من خُمس الخمس، فرفع إلى عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، - فلم يقطعه ".

فرع: سرقة الشريك من المال المشترك

هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا سرق مسلم من بيت المال.. فهل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه القطع؛ لما مَضَى. والثاني: يجب عليه القطع؛ لأنه مال من جملة الأموال. قال: والصحيح: أنه ينظر فيه: فإن كان المال الذي سرقه منه من مال الصدقات والسارق فقير.. فلا قطع عليه. وإن كان غنيا.. قطع، لأنه لا حق له فيه.. وإن كان المسروق من مال المصالح، فإن كان السارق فقيرا.. فلا قطع عليه، وإن كان غنيا.. فهل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه لا يجوز للإمام أن يملك الغني من مال المصالح شيئا، فلا شبهة له فيه. والثاني: لا يجب عليه القطع؛ لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، - (ما من مسلم إلا وله في بيت المال حق) وقد يصرف هذا المال في عمارة القناطر والمساجد، فيكون للغني الانتفاع بها، كما يجوز ذلك للفقير. وإن سرق ذمي من بيت المال.. قطع؛ لأنه لا حق له فيه بحال. وإن كفن الإمام رجلا بثوب من بيت المال، فنبشه سارق وأخذ الكفن.. قطع؛ لأن الإمام إذا صرف شيئا من مال بيت المال في جهة.. اختص بها، وانتفت الشبهة فيه لسائر الناس. [فرع: سرقة الشريك من المال المشترك] ] إذا سرق سارق من مال مشترك بينه وبين غيره.. فذكر الشيخ أبُو حامد: أنه لا يقطع؛ لأن له شبهة في كل جزء منه؛ لأنه لا يحرز عنه. وحكى المسعوديُّ [في " الإبانة "] فيه قولين: أحدهما: لا يقطع؛ لأنه ما من جزء إلا وهو مشاع بينهما. والثاني: يقطع؛ لأن مال شريكه لا شبهة له فيه.

فرع: السرقة من غلة الوقف

فإذا قلنا بهذا.. نظرت: فإن كان المال متساوي الأجزاء؛ بحيث يجبر الشريك على قسمته بالأجزاء بالقرعة، كالدنانير والدراهم والحنطة والشعير.. ففيه وجهان: أحدهما: إن كانت الدنانير بينهما نصفين، فسرق نصف دينار.. قطع؛ لأنه تحقق أن ربع الدينار ملك الشريك خاصة. والثاني: لا يقطع بهذا؛ ولكن يجمع حقه فيما سرق؛ فإن كان المشترك دينارين.. لم يقطع إلا بأن يسرق دينارا وربعا.. ولا يقطع إذا سرق دينارا؛ لأن الدينار حقه، والدنانير متماثلة الأجزاء. وإذا امتنع أحد الشريكين من القسمة.. فللآخر أن يأخذ نصيب نفسه، فيجعل هذا السارق كأنه أخذ نصيب نفسه. وإن كان المال المشترك غير متساوي الأجزاء؛ مثل الثياب ونحوها.. فإنه يقطع إذا سرق ما يساوي نصف دينار. والفرق بينهما: أن المال إذا كان متساوي الأجزاء، وأخذ دينارا، وله في جملة المال دينار.. صار كأنه أخذ مال نفسه. وإذا كان متفاوت الأجزاء.. فلا يجوز له أخذ شيء منه بحال إلا بإذن شريكه، فإذا سرق ما يساوي نصف دينار.. جعل سارقا لربع دينار، فقطع. وإن سرق السيد من مال من نصفه حر ونصفه عبد له.. ينظر: فإن سرق من المال الذي له بنصفه الحر وقد أخذ السيد نصيبه منه.. قال القفال: لم يقطع؛ لأن له شبهة في ذلك المال؛ لأن المال إنما يكون في الحقيقة لجميع البدن، ونصف بدنه له، فهو كسرقة مال ولده. وقال أبُو عليّ السنجي: يجب عليه القطع؛ لأنه لا شبهة له في هذا المال؛ لأن العبد يملكه بنصفه الحر ملكا تاما؛ ولهذا: يجب عليه فيه الزكاة، ويورث عنه على الصحيح. [فرع: السرقة من غلة الوقف] وإن سرق إنسان من غلة الوقف على الناس.. لم يقطع؛ لأنه من الناس. وإن كان الوقف على الفقراء والمساكين، فسرق من غلته فقير أو مسكين.. لم يقطع؛ لأنه من أهل الوقف. وإن سرق منها غني.. قطع؛ لأنه ليس من أهل الوقف.

فرع: السرقة لستارة الكعبة أو ما يخص المساجد

[فرع: السرقة لستارة الكعبة أو ما يخص المساجد] وإن سرق ستارة الكعبة.. فنص الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أنه يجب عليه القطع) . وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه القطع) . دليلنا: ما رُوِيَ: (أن رجلا سرق قبطية من منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقطعه عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) . ومثل هذا لا يخفى على الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، فدلَّ على: أنه إجماع. ولأن ستارة الكعبة تراد للزينة، وإحرازها نصبها عليها، فإذا سرقها سارق.. فقد سرق نصابا لا شبهة له فيه من حرز مثله، فوجب عليه القطع كسائر الأموال. قال أصحابنا: وعلى قياس هذا: إن سرق سارية من سواري المسجد أو سرق سقف المسجد أو بابه أو تأزيره.. وجب عليه القطع؛ لأن ذلك يراد لحفظ المسجد وزينته، فهو كستارة الكعبة. فإن سرق مسلم من قناديل المسجد أو حصره.. لم يجب عليه القطع؛ لأن له أن ينتفع بها، فكان ذلك شبهة في سقوط القطع عنه بسرقتها. [مسألة: سرقة الوالد من مال ولده وعكسه وسرقة ذَوِي الأرحام] ] : وإن سرق الوالد من مال ولده وإن سفل من قبل البنين أو البنات.. لم يجب عليه القطع. وكذلك: إن سرق الولد من مال أحد آبائه أو أمهاته وإن علوا.. لم يجب عليه

فرع: لا قطع على العبد في سرقته من مال سيده

القطع. قال الشيخُ أبُو حامد: وهذا إجماع. وحكى الشيخُ أبُو إسحاق وابن الصبَّاغ: أن أبا ثور قال: (يجب القطع على جميعهم؛ لعموم الآية) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» فأخبر: أن مال الولد للوالد، فلم يجب عليه القطع بسرقته، كما لو أخذ مال نفسه. وإذا ثبت ذلك في الوالد.. ثبت في الولد؛ لأن لكل واحد منهما شبهة في مال الآخر في وجوب النفقة عليه. وأمَّا الآية: فمخصوصة بما ذكرناه. وإن سرق من مال ذَوِي رحمه غير الوالدين والأولاد؛ بأن سرق من مال أخيه، أو ابن أخيه، أو عمه، أو من أشبههم.. وجب عليه القطع. وقال أبُو حَنِيفَة: (إذا سرق من مال ذي رحم محرم له، كالأخ، وابن الأخ، والعم، والخال، ومن أشبههم. لم يجب عليه القطع. وإن سرق من مال ابن العم، وابن الخال، وما أشبههما.. وجب عليه القطع) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القطع في ربع دينار» وهذا عام. ولأنهما قرابة لا تمنع قبول الشهادة، فلم تمنع القطع في السرقة، كقرابة ابن العم. [فرع: لا قطع على العبد في سرقته من مال سيده] ولا على السيد من مال مكاتبه أو المأذون] : وإن سرق العبد من مال سيده.. لم يقطع. قال الشيخُ أبُو حامد: وهو إجماع. وحكى الشيخُ أبُو إسحاق: أن أبا ثور قال: (يجب عليه القطع) وحكاه ابن الصبَّاغ عن داود. دليلنا: ما روى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سرق العبد..

فرع: سرقة أحد الزوجين من مال الآخر

فَبِعهُ ولو بِنَش» . و (النَّش) : عشرون درهما، فأمر ببيعه ولم يأمر بقطعه، فدلَّ على: أن القطع لا يجب عليه. ورُوِي عن السائب بن يزيد: أنه قال: (شهدت عبد الله بن عمرو الحضرمي أتى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، - بغلام له، فقال: اقطعه فإنه سرق، فقال: ما الذي سرق؟ قال: مرآة لامرأتي، قيمتها ستون درهما، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أرسله، فلا قطع عليه، خادمكم سرق مالكم) . وكذلك: رُوِيَ عن ابن مَسعُودٍ، ولا مخالف لهما في الصحابة، فدلَّ على: أنه إجماع. ولأن له شبهة في مال سيده؛ لاستحقاقه النفقة في ماله، كالأب إذا سرق مال ابنه. والآية مخصوصة بما ذكرناه. قال المسعوديُّ [في" الإبانة "] : وإن سرق السيد من مال مكاتبه أو عبده المأذون.. لم يجب عليه القطع. [فرع: سرقة أحد الزوجين من مال الآخر] وإن سرق أحد الزوجين من مال الآخر نصابا.. نظرت: فإن سرق من مال غير محرز عليه.. لم يجب عليه القطع. وإن سرق من مال محرز عنه.. فقد قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (لا يجب عليهما القطع) . وقال: في موضع آخر: (يجب عليهما القطع) . واختلف أصحابنا في ترتيب المذهب فيها: فقال الشيخُ أبُو حامد: فيها طريقان:

أحدهما: أنهما على حالين: فالموضع الذي قال: (لا يجب عليهما القطع) أراد: إذا كان مال كل واحد منهما مختلطا بمال الآخر؛ لأنه غير محرز عنه. والموضع الذي قال: (يجب عليهما القطع) أراد: إذا كان مال واحد منهما منفردا عن مال الآخر محرزا عنه. والطريق الثاني: إذا كان مال أحدهما مختلطا بمال الآخر.. فلا يجب على أحدهما القطع بسرقة مال الآخر قولا واحدا؛ لأنه غير محرز عنه. وإن كان مال أحدهما منفردا عن مال الآخر محرزا عنه.. ففيه قولان - قال: وهو الأصح -: أحدهما: لا يجب عليه القطع - وهو قول أبي حَنِيفَة - لأن ما لم يقطع عبده بسرقة ماله.. لم يقطع سيده بسرقته. وقد رُوِيَ عن عمر: أنه قال: في غلام الحضرمي الذي سرق مرآة امرأته: (أرسله: فلا قطع عليه، خادمكم أخذ متاعكم) . ولأن كل واحد من الزوجين له شبهة في مال الآخر؛ أما الزوجة: فلاستحقاقها النفقة في مال الزوج، وأمَّا الزوج: فلأنه يملك الحجر عليها ومنعها من التصرف في مالها- على قول بعض الفقهاء - ولأن العادة أن كل واحد من الزوجين لا يحرز ماله عن الآخر، وإن فعل ذلك.. كان نادرا، فألحق النادر بالغالب. والثاني: يجب عليهما القطع، وهو الصحيح؛ لعموم الآية والخبر. ولأن الزوجية عقد تستباح به المنفعة، فلم تؤثر في إسقاط القطع، كالإجارة.. وما رُوِيَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.. فيحمل على: أنه سرق من موضع ليس بمحرز عنه. وذكر القاضي أبُو الطيب والشيخ أبُو إسحاق: إذا سرق أحد الزوجين من مال الآخر ما هو محرز عنه.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجب عليه القطع.

فرع: سرقا معا وأحدهما ولد صاحب الحرز أو والده

والثاني: لا يجب عليهما القطع؛ لما ذكرناه. والثالث: يجب القطع على الزوج بسرقة مال الزوجة؛ لأنه لا يستحق حقا في مالها. ولا يجب القطع على الزوجة بسرقة مال الزوج؛ لأن الزوجة تستحق حقا في ماله. فإذا قلنا: لا يقطع أحدهما بسرقة مال الآخر.. لم يقطع عبد أحدهما بسرقة مال الآخر؛ لما رَوَيْنَاهُ من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأرضاه. وإذا قلنا: يقطع أحدهما بسرقة مال الآخر.. قطع عبد أحدهما بسرقة مال الآخر. [فرع: سرقا معا وأحدهما ولد صاحب الحرز أو والده] أو أحدهما صبي والآخر بالغ] : وإن نقب رجلان حرزا لرجل، ودخلا وأخذا نصابين، وأحدهما ولد صاحب الحرز أو والده، أو نقب صبي وبالغ حرزا وأخذا نصابين.. وجب القطع على الأجنبي والبالغ. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليهما القطع) . دليلنا: أنه يجب عليه القطع بانفراده بالسرقة، فمشاركة الآخر له في السرقة لا تسقط القطع عنه، كما لو سرق شيئين يجب القطع في أحدهما دون الآخر. [مسألة: سرقة الرهن من حرز المرتهن ونحوه أو السارق من السارق والغاصب] إذا سرق السارق الرهن من حرز المرتهن أو العدل، أو سرق العين المستأجرة من حرز المستأجر، أو العين المودعة من حرز المودع، أو العين المستعارة من حرز المستعير، أو مال القراض من حرز العامل.. وجب على السارق القطع؛ لأن المالك قد رضي بهذا الحرز حرزا لماله؛ إلا أن المطالب بالمال أو القطع هو مالك المال دون المرتهن والمستأجر والمودع والمستعير؛ لأنه هو المالك للمال. فإن سرق سارق نصابا من حرز مثله، فأحرزه في حرز له، فسرقه سارق آخر من حرز هذا السارق.. فإن السارق الأول قد وجب عليه القطع بسرقته، وأمَّا السارق الثاني.. فليس للسارق الأول مطالبته برد النِّصَاب إليه ولا بالقطع؛ لأنه لا حق له فيه -

وهذا وفاق بيننا وبين أبي حَنِيفَة - ولمالك النِّصَاب أن يطالب السارق الثاني برده، وهل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه سرق نصابا لا شبهة له فيه من حرز مثله، فوجب عليه القطع، كالسارق الأول. والثاني: لا يجب عليه القطع، وهو الصحيح؛ لأن مالك النِّصَاب لم يرض بهذا الحرز حرزا لماله. وإن غصب رجل من رجل نصابا وأحرزه في حرز مثله، فسرقه سارق من ذلك الحرز.. فإن الغاصب لا قطع عليه، وليس للغاصب مطالبة السارق برد العين المغصوبة إليه قبل أن يطالبه المالك برد النِّصَاب. وقال أبُو حَنِيفَة: (له المطالبة بذلك) . دليلنا: أنه غير مالك للنصاب، فلم يكن له المطالبة برده إليه كالسارق. إذا ثبت هذا: فللمالك مطالبة أيهما شاء برد النِّصَاب، وهل يجب القطع على السارق من الغاصب؟ على الوجهين. وإن غصب رجل من رجل شيئا وأحرزه بحرز مثله، فنقب المغصوب منه حرز الغاصب، فإن أخذ مال نفسه لا غير.. فلا قطع عليه؛ لأنه يستحق أخذه. وإن سرق معه نصابا من مال الغاصب.. نظرت: فإن كان المال المغصوب منه مخلوطا بمال الغاصب غير مميز عنه.. قال الشيخُ أبُو حامد، وابن الصبَّاغ، وأكثر أصحابنا: لم يجب القطع على المغصوب منه وجها واحداً؛ لأنه لا يمكنه أخذ مال نفسه إلا بأخذ مال الغاصب، وذلك شبهة له في سرقة مال الغاصب، فلم يجب عليه القطع. وإن كان مال الغاصب غير مختلط بمال المغصوب منه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه القطع؛ لأن له هتك الحرز لأخذ مال نفسه، فإذا أخذ مال الغاصب.. فقد أخذه من حرز مهتوك، فلم يجب عليه القطع.

فرع: نقب من له دين على حرز من عليه الدين

والثاني: يجب عليه القطع؛ لأنه لما أخذ مال الغاصب.. علمنا أنه هتك الحرز ليسرق، فإذا سرق.. وجب عليه القطع. وذكر الشيخ أبُو إسحاق: إذا سرق المغصوب منه من مال الغاصب نصابا مع مال نفسه.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يجب عليه القطع. والثاني: يجب عليه القطع؛ لما مَضَى. والثالث: إن كان ما سرقه متميزا عن ماله.. قطع؛ لأنه لا شبهة له في سرقته. وإن كان مختلطا بماله.. لم يقطع؛ لأنه لا يتميز ما يجب فيه القطع بما لا يجب فيه القطع، فعلى قوله.. في المال المخلوط وجهان، وفي غير المختلط وجهان. [فرع: نقب من له دين على حرز من عليه الدين] وإن كان لرجل على رجل دين، فنقب من له الدين حرزا لمن عليه الدين، وأخذ من ماله قدر دينه، وهو نصاب.. فقد قال الشافعي: (لا قطع عليه) . وقال أصحابنا: إنما لا يجب عليه القطع إذا كان من عليه الدين مماطلا بما عليه له من الدين مانعا له عنه؛ لأن له أن يتوصل إلى أخذ دينه عند منعه بأي وجه قدر عليه. وإن كان من عليه الدين باذلا له دينه.. وجب عليه القطع؛ لأنه لا حاجة به إلى هتك الحرز، وأخذ ذلك من غير رضا من عليه الدين. قال ابن الصبَّاغ: فإن كان من عليه الدين غير باذل له دينه، فأخذ من له الدين أكثر من دينه.. كان كالمغصوب منه إذا سرق من مال الغاصب مع مال نفسه على ما ذكرناه، وأراد كما لو سرق المغصوب منه من مال الغاصب نصابا متميزا عن ماله.. فهل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان.

فرع: سرقة الطعام في المجاعة

[فرع: سرقة الطعام في المجاعة] وإن سرق سارق الطعام عام المجاعة.. نظرت: فإن كان الطعام موجودا، وإنما هو غال.. وجب عليه القطع؛ لأنه إذا كان موجودا.. فليس لأحد أخذه بغير إذن مالكه، فهو كالطعام في غير المجاعة. وإن كان الطعام غير موجود.. فلا قطع على من سرقه ليأكله؛ لما رُوِيَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (لا قطع في عام المجاعة) ، ورُوِي عنه: أنه قال: (لا قطع في عام السنة) ، وعام القحط يسمى: السنة. ورُوِي عن مروان: أنه أتي بسارق فلم يقطعه، وقال: أراه مضطرا إليه. ولأن من اضطر إلى طعام غيره.. فله أن يأخذه ويقاتل صاحبه، وهذا السارق مضطر إليه، فلم يقطع بسرقته. [فرع: سرقة المؤجر من المستأجر أو المعير من المستعير] وإن استأجر رجل بيتا فأحرز فيه ماله، فنقبه المؤجر وسرق منه نصابا للمستأجر.. وجب عليه القطع. وبه قال أبُو حَنِيفَة. وقال أبُو يوسف ومحمد: لا يجب عليه القطع.

مسألة: هبة أو بيع المسروق منه

دليلنا: أنه سرق نصابا لا شبهة له فيه من حرز مثله، فوجب عليه القطع، كما لو سرقه من بيت صاحب المال. فإن أعار رجل رجلا بيتا، فأحرز فيه المستعير ماله، فنقبه المعير وسرق منه نصابا.. قال الشيخُان: أبُو حامد وأبو إسحاق: فهل يجب عليه القطع؛ فيه وجهان: أحدهما: لا يجب عليه القطع؛ لأن له الرجوع في عاريته متى شاء، فإن نقب البيت.. فقد رجع في عاريته فهتك حرز نفسه، فلم يجب عليه القطع بالسرقة منه. والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يجب عليه القطع) ، لأنه لما أعاره.. ملك المستعير إحراز ماله فيه، فإذا سرق منه المعير.. فقد سرق من حرز حق، فوجب عليه القطع، كما لو أحرزه في داره. وقال ابن الصبَّاغ والمسعوديُّ [في " الإبانة "] : الوجهان إذا نوى المعير الرجوع في العارية عند النقب، فإذا لم ينو الرجوع عند ذلك.. قطع وجها واحدا. وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه: (لا يجب عليه القطع) وقد مَضَى الدليل عليه. [مسألة: هبة أو بيع المسروق منه] السارق العين المسروقة] : وإذا وهب المسروق منه العين المسروقة من السارق أو باعها منه.. لم يسقط القطع. قال أصحابنا: سواء وهبها منه أو باعها، قبل أن يترافعا إلى الحاكم أو بعد أن يترافعا؛ فإنه لا يسقط القطع، إلا أنه إذا وهبها منه أو باعها منه بعد أن يترافعا إلى الحاكم.. فلا يسقط القطع ويستوفيه الحاكم منه. وإذا وهبها منه أو باعها منه قبل أن يترافعا إلى الحاكم.. فإن القطع لا يسقط، ولكن لا يمكن استيفاؤه منه؛ لأنه بالهبة والبيع قد سقطت مطالبته له، والإمام لا يقطع السارق إلا بمطالبة المسروق منه به، فإذا لم يكن من يطالب بالقطع.. لم يكن استيفاء القطع. هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق.

مسألة: إقرار السارق بدعوى من المسروق منه أو بدونها

وقال أبُو حَنِيفَة: (إذا وهبها منه وأقبضه إياها.. سقط عنه القطع، سواء كان قبل الترافع إلى الحاكم أو بعد الترافع) . وقال: قوم من أصحاب الحديث: إن وهبها منه قبل الترافع.. سقط القطع، وإن وهبها منه بعد الترافع.. لم يسقط القطع. وحكي ذلك عن أبي يوسف وابن أبي ليلى. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القطع في ربع دينار» . ولم يفرق بين أن يهبها منه أو لا يهبها. «ورُوِي: أن صفوان بن أمية نام في مسجد المدينة متوسدا رداءه، فسرقه رجل من تحته، فانتبه صفوان وصاح، وأخذ السارق وأتى به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقطعه، فقال: صفوان: يا رسول الله، ما أردت هذا، هو عليه صدقة، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فهلا قبل أن تأتيني به" وقطعه» . فلو كانت الهبة تسقط القطع.. لنبه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على إتمامها. وأمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فهلا قبل أن تأتيني به» ففيه تأويلان: أحدهما: أنه أراد: فهلا سترت عليه ولم تأتني به. والثاني: أنه أراد: فهلا وهبت له قبل أن تأتيني به؛ فيسقط استيفاء القطع لسقوط المطالبة. ولأنه ملك حدث بعد وجوب الحد، فلم يسقط الحد، كما لو زنَى بأمة ثم اشتراها. إذا ثبت هذا: فذكر الشيخ أبُو إسحاق: أنه إذا وهبها بعد ما رفع إلى السلطان.. لم يسقط القطع. ولا يجوز أن يقال: إنه أراد: إذا وهبها منه قبل أن يرفع إلى السلطان.. يسقط القطع؛ لأنه لم يذكر ذلك، وليس لكلامه دليل خطاب، وإنما أراد به: أنه يسقط الاستيفاء، كما قال سائر أصحابنا. [مسألة: إقرار السارق بدعوى من المسروق منه أو بدونها] إذا ادعى رجل على رجل أنه سرق منه نصابا منه حرز مثله، فأقر المدعى عليه بذلك.. لزمه غرم النِّصَاب، والقطع بإقراره مرة. وبه قال مالك، وأبو حَنِيفَة، وأكثر أهل العلم.

وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو يوسف، وزفر، وأحمد، وإسحاق: (لا يلزمه القطع إلا بأن يقر بالسرقة مرتين) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أتى من هذه القاذورات شيئا.. فليستتر بستر الله؛ فإن من أبدى لنا صفحته.. أقمنا عليه حد الله» ولم يفرق بين أن يقر مرة أو مرتين. فإن رجع عن إقراره.. سقط عنه القطع. وبه قال أكثر أهل العلم. وقال ابن أبي ليلى وداود: (لا يسقط عنه القطع) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لأنه يتعلق به صيانة أموال الآدميين. والمذهب الأول؛ لما «رَوَى أبُو أمية المخزومي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى بسارق، فاعترف بالسرقة ولم يوجد معه متاع، فقال له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أخالك سرقت". فقال: بلى، فكرر عليه ذلك ثلاثا وهو يقول: بلى، ثم أمر بقطعه فقطع، ثم قال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تب إلى الله واستغفره" فقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم اغفر له وتب عليه» ، فلولا أن القطع يسقط بالرجوع.. لما عرض له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرجوع. فإن قطعت بعض يده ثم رجع، فإن كانت يده إذا لم يتم قطعها رجي اندمالها ومنفعتها.. لم يجز قطعها. وإن كانت إذا لم يتم قطعها لا يرجى في تركها منفعة، بل يخشى ضررها.. فالسارق بالخيار: بين أن يقطعها ليستريح منها، وبين أن يتركها.

فرع: ادعاء رجل على آخر أنه سرقه

إذا ثبت هذا: فإن المال لا يسقط برجوعه. هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: هل يسقط المال برجوعه عن إقراره بالسرقة؟ فيه قولان: أحدهما: لا يسقط، كما لو أقر أنه غصب من غيره عينا ثم رجع. والثاني: يسقط عنه؛ لأنه إقرار واحد، فإذا قبلنا رجوعه فيه في بعض أحكامه.. قبلنا رجوعه في الجميع. وإن أقر أنه سرق نصابا لرجل من حرز مثله من غير دعوى، فصادقه المقر له.. وجب عليه ضمان النِّصَاب والقطع. وإن كذبه المقر له وقال: كنت وهبته أو أبحته له أو للناس.. لم يجب القطع؛ لأن القطع لا يجب إلا بمطالبة المسروق منه، ولا مطالبة مع ذلك. [فرع: ادعاء رجل على آخر أنه سرقه] وإن ادعى رجل على رجل أنه سرق منه نصابا من حرز مثله، وأنكر المدعى عليه، فأقام المدعي شاهدين ذكرين.. وجب عليه الضمان والقطع، ولا يجب عليه ذلك حتى يبين الشاهدان جنس المال وقدر النِّصَاب وصفة الحرز؛ لأن الناس مختلفون في ذلك، فوجب بيانه لينظر الحاكم فيه. قال: القاضي أبُو الطيب: ويقولا: ولا نعلم أن له فيه شبهة. قال ابن الصبَّاغ: وينبغي أن يكون هذا تأكيدا، لأن الأصل عدم الشبهة. فإن قال: المشهود عليه: كذب الشاهدان، ولم أسرق.. لم يلتفت إلى قوله ولم يسقط القطع. وإن قال: المشهود عليه: صدق الشاهدان، كنت أخذته من حرز مثله ولكنه مال لي غصبه مني، أو كنت ابتعته منه أو وهبه لي وأذن لي بقبضه، أو أباحه لي أو للناس، فأنكر المسروق منه ذلك.. لم يسمع قول السارق في إسقاط حقه من المال فيحلف المسروق منه؛ لأن الأصل عدم ما ادعاه السارق، ويأخذ المسروق منه ماله. وأمَّا القطع.. فيسقط.

فرع: شهدا أنه سرق نصابا من رجل غائب أو أقر بذلك

وقال أبُو إسحاق: لا يسقط؛ لأن هذا يؤدي إلى: أن كل من ثبت عليه قطع السرقة ادعى ذلك، فيسقط القطع. والمذهب الأول؛ لأن القطع حد، والحد يسقط بالشبهة، وذلك شبهة؛ لأنه يجوز صدقه. وهكذا: لو وجد مع امرأته رجلا يزني بها، فقال: هذه زوجتي، فكذبته.. فإنه يسقط الحد عنه. وإن ادعى عليه أن سرق منه نصابا من حرز مثله، فأنكر المدعى عليه، فأقام المدعي على ذلك شاهدا وامرأتين، أو شاهدا وحلف معه.. ثبت للمدعي المال الذي ادعاه؛ لأنه يثبت بذلك المال، وأمَّا القطع: فلا يثبت؛ لأن القطع ليس بمال ولا المقصود منه المال. هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: لا يثبت القطع، وهل يثبت المال؟ فيه قولان: أحدهما: يثبت؛ لما ذكرناه. والثاني: لا يثبت؛ لأن المال هاهنا تبع للقطع، فإذا لم يثبت القطع.. لم يثبت المال؛ لأنها شهادة واحدة، فلم تتبعض. وإن ادعى على رجل أنه سرق نصابا من حرز مثله، فأنكر المدعى عليه، ولا بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه. فإن حلف.. لم يجب عليه غرم ولا قطع. وإن نكل.. حلف المدعي وثبت له الغرم، ولا يثبت القطع؛ لأنه حد لله تَعالَى، فلا يثبت بيمين المدعي. [فرع: شهدا أنه سرق نصابا من رجل غائب أو أقر بذلك] أو أنه غصبه منه غصبا] : وإن شهد شاهدان على رجل أنه سرق نصابا من حرز مثله لرجل، والمسروق منه غائب.. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لا يقطع السارق حتى يحضر المسروق منه) وقال: (لو شهد أربعة على رجل بأنه زنَى بأمة لرجل وهو غائب.. حد، ولا يعتبر حضور السيد) . واختلف أصحابنا فيهما على ثلاثة طرق: فـ[الطريق الأول] : قال أبُو العباس: لا يقطع حتى يحضر المسروق منه، ولا يقام الحد حتى يحضر سيد الأمة قولا واحدا؛ لأن الحد يسقط بالشبهة، ويجوز أن

يكون عند الغائب شبهة يسقط بها الحد؛ بأن يقول في السرقة: كنت وهبته له أو أوقفته عليه، وفي الزِّنَى يجوز أن يقول: كنت وقفتها عليه، ومن نقل إقامة الحد قبل حضور السيد.. فخطأ. و [الطريق الثاني] : نقل أبُو إسحاق جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: لا يجوز إقامة الحدين قبل حضور المالكين؛ لما ذكرناه. والثاني: يجوز، لأن الحد قد وجب في الظاهر، فلا يجوز تأخيره. و [الطريق الثالث] : حملهما أبُو الطيب ابن سلمة على ظاهرهما، فقال لا يجوز القطع قبل حضور المالك، ويجوز إقامة حد الزِّنَى قبل حضور السيد؛ لأن الحد في السرقة يسقط بإباحة المالك، والحد في الزِّنَى لا يسقط بالإباحة. ولأن قطع السرقة أوسع في الإسقاط؛ ولهذا: لو سرق مال والده.. لم يقطع، ولو زنَى بأمة والده.. حد. وإن أقر رجل أنه سرق نصابا من حرز مثله لرجل غائب، أو زنَى بجارية لرجل وهو غائب.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: تبنى هذه على التي قبلها، وهو: إذا ثبتت بالسرقة والزنا بالبينة، فإن قلنا: يقطع السارق ويحد الزاني قبل حضور المالك.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: لا يقطع السارق ولا يحد الزاني حتى يحضر المالك.. فهاهنا وجهان. والفرق بينهما: أن ذلك إذا ثبت بالبينة.. جاز أن تكون البينة كاذبة. وإذا ثبت ذلك بإقراره.. فقد أقر على نفسه. وذكر الشيخ أبُو حامد: إذا أقر بالسرقة ابتداء من غير دعوى.. لم يقطع حتى يحضر المسروق منه، فيطالبه. وقال أبُو إسحاق: يقطع ولا ينتظر حضوره؛ لأن القطع قد لزم بإقراره، فلا معنى لانتظاره. والمذهب: أنه لا يقطع؛ لأن الحد يسقط بالشبهة، ويجوز أن يكون عند الغائب

فرع: أقرا بسرقة عين ذات نصاب أو ادعى السارق أنها ملك لسيده

شبهة يسقط بها القطع. فإذا قلنا: يقطع.. فلا كلام. وإذا قلنا: لا يقطع.. فهل يحبس السارق إلى أن يحضر المسروق منه؟ قال الشيخُان: فيه وجهان: أحدهما: يحبس؛ لأن الحد قد وجب في الظاهر، وإنما أخر استيفاؤه خوف أن يكون هناك شبهة يسقط بها القطع، فوجب حبسه، كما لو وجب القطع لصبي أو مجنون. والثاني: إن كانت غيبة المسروق منه قريبة.. حبس السارق إلى أن يقدم. وإن كانت بعيدة.. لم يحبس؛ لأن على السارق ضررا في الحبس إلى أن يحضر من الغيبة البعيدة، ولا ضرر عليه في الحبس إلى أن يحضر من الغيبة القريبة. فإن أقر رجل أنه غصب من رجل غائب مالا.. لم يحبسه الحاكم. والفرق بينهما: أن من أقر بالغصب.. أقر بحق للمغصوب منه، فلا يتعلق للحاكم به مطالبة، فلم يستحق حبسه. ومن أقر بالسرقة.. أقر بما يتعلق به للحاكم مطالبة، وهو القطع، فملك حبسه. وقال ابن الصبَّاغ: هل يحبس السارق؟ فيه وجهان: أحدهما: يحبس؛ لما مَضَى. والثاني: إن كانت العين المسروقة تالفة.. حبس. وإن كانت باقية.. نظرت: فإن كانت غيبته قريبة.. أخذت منه العين وحبس. وإن كانت بعيدة.. أخذت منه العين ولم يحبس. [فرع: أقرا بسرقة عين ذات نصاب أو ادعى السارق أنها ملك لسيده] أو لفلان أذن له فيها] : وإن أقر رجلان بسرقة عين قيمتها نصاب من حرز مثلها.. وجب عليهما القطع. فإن رجع أحدهما عن إقراره، وأقام الآخر على إقراره.. سقط القطع عن الراجع ولم يسقط عن الآخر؛ لأن حكم كل واحد منهما معتبر بنفسه. وإن قال أحدهما: هذه العين لي، وصدقه شريكه، أو ادعاها شريكه لنفسه، وكذبهما المسروقة منه.. لم يقبل قولهما في ملك العين، ويسقط القطع عنهما على المذهب. وأمَّا إذا ادعاها لنفسه وكذبه شريكه، وقال: بل سرقناها.. فإن القطع يسقط عن الذي ادعاها أنها له، وهل يسقط القطع عن شريكه المكذب؟ فيه وجهان:

مسألة: قيام البينة على سرقة عبد نصابا أو أقر هو أو سيده بذلك

[أحدهما] : قال ابن القاص وابن الصبَّاغ: لا يسقط عنه القطع؛ لأنه مقر بالسرقة ولا يدعي شبهة. و [الثاني] : قال القفال: يسقط عنه القطع؛ لجواز صدق شريكه المدعي أنها له. ألا ترى أن رجلا لو سرق عينا من رجل، فقال: المسروق منه: العين للسارق، كنت وهبتها له أو أبحتها له.. سقط القطع؟ وكذلك هذا مثله. فأما إذا قال أحدهما: هذه العين لشريكي الذي أخذها معي وأخذتها مع بإذنه، فقال: شريكه: ليست لي، وإنما سرقناها.. قال: الطبري في " العدة ": فلا قطع على هذا المدعي؛ لأن ما ادعاه محتمل. وهل يجب القطع على شريكه؟ فيه وجهان بناء على الوجهين، إذا شهدا على رجل بما يوجب القتل فقتل، ثم رجعا عن الشهادة، وقال أحدهما: تعمدنا الشهادة عليه ليقتل، وقال الآخر: بل أخطأنا.. فلا قَود على الذي قال: أخطأنا، وهل يجب الوقود على المقر بعمدها؟ فيه وجهان. وإن شهد شاهدان على عبد لرجل أنه سرق نصابا لرجل من حرز مثله.. وجب عليه القطع. فإن قال: العبد: المال الذي سرقته لسيدي، فإن صدقه السيد.. سقط القطع عن العبد. وإن قال: السيد: المال ليس لي.. فقد قال ابن القاص: يسقط القطع عن العبد. فمن أصحابنا من سلم له ذلك؛ لأن العبد ادعى ما لو ثبت.. سقط عنه به القطع، فصار كالحر إذا سرق وادعى أنه يملك ما سرقه. ومنهم من قال لا يسقط عنه القطع؛ لأنه لا يدعي لنفسه شيئا، وإنما ادعى ملكه لمن لا يدعيه، فلم يسقط عنه القطع. وإن قال: السارق: هذه العين لفلان وقد أذن لي في أخذها، فقال: فلان: ليست لي.. فهل يسقط القطع عن السارق؟ على الوجهين في العبد. [مسألة: قيام البينة على سرقة عبد نصابا أو أقر هو أو سيده بذلك] إذا قامت البينة على عبد لرجل أنه سرق لغيره نصابا.. وجب عليه القطع. فإن كان

باقيا.. وجب رده، سواء كان في يد العبد أو في يد سيده. وإن كان تالفا.. بيعت رقبة العبد لإيفاء حق المسروق منه. وإن أقر السيد على عبده أنه سرق لغيره نصابا وكذبه العبد.. لم يقطع العبد؛ لأن السيد لا يملك من عبده إلا المال، والقطع ليس من المال، ويقبل إقرار السيد عليه بالمال، فيباع به. وإن أقر العبد أنه سرق من غير سيده أقل من نصاب، أو نصابا من غير حرز، فإن صدقه المولى.. كان كما لو قامت عليه البينة في وجوب ضمان ذلك في رقبته. وإن كذبه المولى.. لم يقبل إقرار العبد على السيد في تعلق ذلك برقبته؛ لأنه متهم في إزالة ملك السيد عنه، فتعلق ذلك بذمته إلى أن يعتق. وإن أقر العبد بسرقة تقتضي القطع، فإن صدقه المولى.. فلا كلام، وإن كذبه المولى.. لزمه القطع. وقال المزني وأحمد ومحمد بن جرير الطبري وأبو يوسف وزفر: (لا يقبل إقراره) . دليلنا: أنه لا يتهم في الإقرار بما يوجب قطعه. فإن كان المسروق في يد السيد.. لم يقبل إقرار العبد عليه، بل يتعلق بذمته إلى أن يعتق. وإن كان المسروق في يد العبد أو تالفا.. فهل يقبل إقراره على المولى بالمال المسروق؟ فيه قولان: أحدهما: يقبل؛ لأنه إقرار واحد، وقد زالت التهمة عنه فيه، فإذا قبل في بعضه.. قبل في جميعه. والثاني: لا يقبل؛ لأنه إقرار بالمال، فلم يقبل على السيد، كما لو أقر بالمال في غير السرقة. واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان إذا كان المال المسروق باقيا في يد العبد، فأما إذا كان

مسألة: لا عفو ولا شفاعة إذا ثبتت السرقة الموجبة للقطع لدى السلطان

تالفاً.. فلا يقبل إقراره قولا واحدا في حق المولى في تعلق المال برقبته، بل يتعلق بذمته إلى أن يعتق؛ لأن المسروق إذا كان باقيا.. فالإقرار يتعلق به، وإذا كان تالفا.. لم يتعلق الإقرار بالمسروق، وإنما يتعلق برقبة العبد، فلم يقبل إقراره، كما لو أقر بغصب مال أو إتلافه. ومنهم من قال: القولان إذا كان المسروق تالفا: أحدهما: يقبل على المولى، فتباع رقبته. والثاني: لا يقبل، فيتعلق بذمته إلى أن يعتق. فأما إذا كان المسروق باقيا في يده.. فلا يقبل على المولى قولا واحدا، بل يتعلق بذمته إلى أن يعتق؛ لأن يد العبد كيد المولى. ولو أقر بعين في يد المولى.. لم يقبل، فكذلك إذا أقر بعين في يده. ومنهم من قال: القولان في الحالين، سواء كان المسروق باقيا أو تالفا؛ لأن العبد وما في يده في حكم ما في يد المولى، فإذا قبل إقرار العبد على المولى في أحدهما.. قبل في الآخر، وإذا لم يقبل إقراره في أحدهما.. لم يقبل في الآخر. [مسألة: لا عفو ولا شفاعة إذا ثبتت السرقة الموجبة للقطع لدى السلطان] وإذا ثبتت السرقة الموجبة للقطع عند السلطان أو الحاكم.. لم يجز له أن يعفو عنه، ولا لغيره أن يشفع إليه في ذلك؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق، فأمر به فقطع، فقيل: يا رسول الله، ما كنا نرى أنك تبلغ به هذا؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو كانت فاطمة بنت محمد.. لأقمت عليها الحد» . ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقطع امرأة من بني مخزوم، فاجتمع أهلها وأقرباؤها، وقالوا: نسأل أسامة بن زيد، فإنه حب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل رسول الله، في أمرها، فسألوه، فسأله، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "لا تسألوني في حد" ثم صعد المنبر، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم؛ لأنهم كانوا: إذا سرق فيهم الشريف..

مسألة: ما يقطع من السارق وماذا لو سرق ثم قطع ثم سرق وهكذا؟

تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع.. قطعوه. والذي بعثني بالحق نبيا: لو سرقت فاطمة.. لقطعتها» . ورُوِي: «أن الزبير شفع في سارق، فقيل له: حتى يأتي السلطان، فقال: إذا بلغ السلطان.. فلعن الله الشافع والمشفع، كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . ولأن الحد لله، فلا يجوز العفو عنه ولا الشفاعة فيه: كسائر حقوق الله. [مسألة: ما يقطع من السارق وماذا لو سرق ثم قطع ثم سرق وهكذا؟] إذا سرق أول مرة.. قطعت يده اليمنى؛ لقول تَعالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] ، ورُوِي عن ابن مَسعُودٍ: أنه كان يقرؤها: "فاقطعوا أيمانهما". والقراءة الشاذة تجري مجرى أخبار الآحاد. ورُوِي «عن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: في السارق: "إذا سرق.. فاقطعوا يده اليمنى". و: (أتي النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسارق، فقطع يمينه»

ورُوِي ذلك عن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولا مخالف لهما. وإن سرق ثانيا بعد أن قطعت يده اليمنى.. قطعت رجله اليسرى. وبه قال عامة أهل العلم إلا عطاء؛ فإنه قال: تقطع يده اليسرى. دليلنا: ما رُوِيَ: «أن نجدة الحروري كتب إلى ابن عبَّاس يسأله: هل قطع رسول الله، في المرة الثانية اليد أو الرجل؟ فكتب إليه: (بل قطع الرجل بعد اليد» . فإن سرق بعد أن قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى.. قطعت يده اليسرى. فإن سرق بعد ذلك.. قطعت رجله اليمنى. وبه قال مالك وأحمد وإسحاق. وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه والأَوزَاعِي: (لا يقطع في الثالثة ولا في الرابعة، بل

يحبس) . ورُوِي ذلك عن عليّ بن أبي طالب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] واسم اليد يقع على اليمنى واليسرى. وروى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: في السارق: «إن سرق.. فاقطعوا يده، ثم إن سرق.. فاقطعوا رجله، ثم إن سرق.. فاقطعوا يده، ثم إن سرق.. فاقطعوا رجله» . وروى جابر: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق فقطع يده، ثم أتي به ثانيا فقطع رجله، ثم أتي به ثالثا فقطع يده، ثم أتي به رابعا فقطع رجله، ثم أتي به خامسا.. فقتله» و: (قطع أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، يد الرجل الذي سرق من بيته الحلي- وكان مقطوع اليد والرجل- عند ذلك) ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة. وكذلك فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فإن سرق خامسا.. فإنه يحبس ويعزر، ولا يقتل.

فرع: مكان قطع اليد والرجل حدا

وقال: عُثمانَ بن عفان وعبد الله بن عمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز: (يقتل) ؛ لحديث جابر. دليلنا: ما ذكرناه من حديث أبي هُرَيرَة؛ فإنه بين حكم السارق ولم يذكر القتل. وأمَّا حديث جابر.. فمحمول على أنه قتله بزنا أو ردة. [فرع: مكان قطع اليد والرجل حدا] وإذا أراد الإمام قطع يد السارق.. فإنه يقطعها من مفصل الكوع. ورُوِي عن بعض السلف أنه قال: تقطع الأصابع دون الكف. وهي إحدَى الروايتين عن عليّ. وقالت الخوارج: يقطع من المنكب. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] . وإطلاق اسم اليد ينصرف إلى اليد من الكوع؛ بدليل ما رُوِيَ: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في اليد خمسون من الإبل» ، واليد التي يجب بها خمسون إنما هي اليد من الكوع. ورُوِي عن أبي بكر: أنه قال: (إذا سرق.. فاقطعوا يده اليمنى من الكوع) . وكذلك رُوِيَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. ولأن البطش يقع بذلك. وإذا أراد قطع رجله.. فإنه يقطعها من مفصل القدم. ورُوِي عن عليّ: أنه قال: (يقطع من شطر القدم) . وبه قالت الرافضة وأبو ثور. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن سرق.. فاقطعوا رجله» ، وإطلاق اسم الرجل إنما ينصرف إلى الرجل من مفصل القدم، بدليل: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الرجل خمسون من الإبل» ، وذلك إنما ينصرف إلى الرجل من مفصل القدم.

فرع: قطع السارق الذي فقد إحدى يديه ونحو ذلك

[فرع: قطع السارق الذي فقد إحدَى يديه ونحو ذلك] إذا قطعت يده اليمنى بجناية أو قصاص، أو سقطت بآكلة، ثم سرق.. قطعت رجله اليسرى، كما لو سرق فقطعت يده اليمنى ثم سرق ثانيا. وإن سرق ويده اليمنى غير مقطوعة، فقطعت ظلما أو بقصاص، أو سقطت بآكلة.. قال أصحابنا البغداديون: سقط عنه القطع في هذه السرقة. وبه قال أبُو حَنِيفَة. وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : تقطع رجله اليسرى. والأول هو المشهور؛ لأن القطع في السرقة تعلق بيده اليمنى، فإذا سقطت.. سقط القطع. ويخالف: إذا سرق ولا يمين له؛ فإن القطع لم يتعلق بها وإنما يتعلق بالعضو الذي يقطع بعدها. وإن سرق وله يد يمين تامة الأصابع، وله يد يسار شلاء أو ناقصة الأصابع، أو لم يكن له يسار.. قطعت يده اليمنى. وقال أبُو حَنِيفَة: (إن لم يكن له يسار، أو كانت له يسار ناقصة الإبهام أو ناقصة إصبعين من الأصابع الأربع، أو كانت شلاء.. لم تقطع يده اليمنى) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السارق: «إذا سرق.. فاقطعوا يمينه» ولم يفرق. وإن سرق وله كف يمين لا أصابع لها.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز قطعها، بل تقطع رجله اليسرى؛ لأن الكف ليس له بدَّل مقدر، فأشبه الذراع. والثاني: يقطع كف يده، وهو المذهب؛ لأنه بقي بعض ما يقطع في السرقة، فلم ينتقل إلى العضو بعدها مما بعده مع وجوده، كما لو بقي في كفه أنملة. وإن سرق وله يد شلاء، فإن قال: أهل الخبرة: لا يخاف من قطعها هلاكه.. قطعت ولم ينتقل إلى العضو الذي بعدها، كالصحيح. وإن قالوا: يخاف من قطعها هلاكه.. لم يقطع، وقطعت رجله اليسرى؛ لأنها كالمعدومة. [فرع: تداخل حدود السرقة] وإن سرق من رجل سرقة تقتضي القطع، ثم سرق من آخر سرقة تقتضي القطع قبل

فرع: كيفية قطع اليد

القطع، ثم سرق ثالثا ورابعا.. فإنه يقطع العضو الذي وجب قطعه للسرقة الأولى ويقع ذلك عن جميع السرقات؛ لأنها حقوق لله تَعالَى فتداخلت، كما لو زنَى ثم زنَى. وإن سرق من رجل عينا فقطعت يده فيها، ثم ردت العين إلى مالكها فسرقها هذا السارق مرة ثانية.. قطعت رجله. وكذلك: إذا سرقها ثالثا.. قطعت يده. وإن سرقها رابعا.. قطعت رجله. وقال أبُو حَنِيفَة: (إذا قطع بسرقة عين مرة.. لم يقطع بسرقتها، سواء سرقها من مالكها الأول أو من غيره) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سرق.. فاقطعوا يده، ثم إن سرق.. فاقطعوا رجله، ثم إن سرق.. فاقطعوا يده، ثم إن سرق.. فاقطعوا رجله» ولم يفرق. [فرع: كيفية قطع اليد] ويجلس السارق إذا أريد قطعه؛ لأنه أمكن. ويضبط؛ لئلا يتحرك فيتعدى القطع إلى موضع آخر. ويخلع كفه، وهو: أن يشد حبل في يده من فوق كوعه، وحبل في كفه، ثم يجر الحبل الذي فوق كوعه إلى جانب مرفقه، والحبل الذي بكفه إلى جانب أصابعه حتى يبين مفصل الكف، ويقطع بسكين حاد أو بحديدة حادة قطعة واحدة، ولا يقطع بسكين غير حاد، ولا قليلا قليلا؛ لأن القصد إقامة الحد دون التعذيب. ثم يحسم موضع القطع، وهو: أن تترك يده بعد القطع في زيت أو سمن مغلي؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي برجل أقر أنه سرق شملة، فقال: " اقطعوه واحسموه» ، ورُوِي ذلك: عن أبي بكر وعمر، ولا مخالف لهما. ولأن بالحسم ينقطع الدم، فلا يتلف. والمستحب: أن يأمر الإمام من يتولى ذلك الحسم. ولا يحسم السارق إلا بإذنه؛ لأنه مداواة، فإن لم يأذن.. لم يحسم. ويكون ثمن

مسألة: قطع اليسرى بدل اليمنى

الدهن وأجرة القاطع من بيت المال؛ لأنه فيه مصلحة، فإن لم يكن في بيت المال شيء.. كان ذلك من مال السارق. فإن قال: السارق: أنا أقطع يدي بنفسي.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يمكن من ذلك، كما قلنا في (القصاص) . والثاني: يجوز تمكينه من ذلك؛ لأن القصد ردعه، وذلك يحصل بقطعه بنفسه، بخلاف القطع في القصاص؛ فإن القصد منه التشفي، وذلك لا يحصل بقطعه. والمستحب: أن تعلق يده على رقبته بعد القطع، ويترك ساعة؛ لما روى فضالة بن عبيد: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق، فأمر به فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه» ، ولأن في ذلك ردعا له ولغيره من الناس. [مسألة: قطع اليسرى بدَّل اليمنى] إذا وجب على السارق قطع يمينه، فقال له القاطع: أخرج يمينك، فأخرج يساره ظنا منه أنها يمينه أو أن قطعها يجزئ عن قطع اليمين فقطعها.. اختلف أصحابنا فيه: فذكر القاضي أبُو الطيب والشيخ أبُو إسحاق فيه وجهين: أحدهما: يجزئ قطعها عن اليمين، وهو المنصوص؛ لأن الحق لله تَعالَى ومبناه على المسامحة. والثاني: لا يجزئ؛ لأنه قطع غير العضو الذي تعلق به القطع فلم يجزه، كما قلنا في (القصاص) . فعلى هذا: إن قال: القاطع: علمت أنها اليسار أو أن قطعها لا يجزئ عن اليمين.. وجب عليه القصاص في اليسار. وإن قال: ظننتها اليمين، أو أن قطعها يجزئ عن اليمين.. وجب عليه

مسألة: في السرقة القطع ورد المسروق معا

ديتها. وقال الشيخُ أبُو حامد: يرجع إلى القاطع، فإن قال: علمت أنها اليسار، أو أنها لا تجزئ عن اليمين وعمدت إلى قطعها.. وجب عليه القصاص في اليسار، ووجب قطع يمين السارق. وإن قال: القاطع: لم أعلم أنها اليسار، أو علمتها اليسار وظننتها تجزئ عن اليمين.. فالقول قوله مع يمينه، ولا قصاص عليه، بل عليه دية اليسار، وهل يسقط القطع عن يمين السارق؟ فيه قولان. قال أبُو إسحاق المَروَزِيُّ: إذا وجب على السارق القطع في يمينه، فسقطت يساره بآكلة.. سقط القطع عن اليمين. قال الشيخُ أبُو حامد: وأظنه أخذه من أحد القولين في هذه المسألة. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الشافعيَّ، إنما أسقط القطع عن اليمين فيها على أحد القولين - إذا أخذت اليسار بنية القطع عن اليمين بسرقة- وهذا المعنى غير موجود فيه إذا سقطت اليسار بآكلة. [مسألة: في السرقة القطع ورد المسروق معا] إذا سرق نصابا يجب فيه القطع، فإن كان النِّصَاب باقيا.. وجب قطع السارق، ووجب عليه رد المال المسروق بلا خلاف. وإن كان تالفا.. لزمه القطع والغرم عندنا. وبه قال الحَسَن البَصرِيّ، وحماد، وأحمد، وإسحاق. وقال أبُو حَنِيفَة والثوريُّ: (لا يجمع بين الغرم والقطع، فإذا ثبت المسروق منه السرقة عند الحاكم.. فإنه يقطعه ولا غرم عليه. وإن طالبه المسروق منه بالغرامة، وغرم.. سقط القطع عنه) . وقال مالك: (يقطع بكل حال، فإن كان موسراً.. كان عليه الغرم، وإن كان معسراً.. فلا غرم عليه) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القطع في ربع دينار» ولم يفرق. ولأنه حد لله تَعالَى يجب بإيقاع فعل في عين، فإذا وجب رد العين مع بقائها.. جاز أن يجب الحد وغرم العين مع تلفها، كما لو غصب جارية وزنا بها. وبالله التوفيق

باب حد قاطع الطريق

[باب حد قاطع الطريق] الأصل في حد قاطع الطريق: قوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] [المائدة: 33] . وهذه الآية نزلت في قطاع الطريق. وبه قال ابن عبَّاس، ومالك، وأبو حَنِيفَة وأكثر أهل العلم. وقال بعض الناس: نزلت في أهل الذمة إذ نقضوا الذمة ولحقوا بدار الحرب. وقال ابن عمر: (نزلت في المرتدين من العرنيين) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] [المائدة: 34] فأمر بقتلهم وصلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم، وأسقط عنهم بالتوبة من قبل أن يقدر عليهم هذه الأحكام، وهذا إنما يكون في قطاع الطريق. فأما أهل الذمة والمرتدون إذا أسلموا.. حقنوا دماءهم قبل القدرة عليهم وبعد القدرة عليهم. إذا ثبت هذا: فاختلف العلماء في ترتيب الأحكام المذكورة في هذه الآية في قطاع الطريق: فمذهبنا: أنهم إذا أشهروا السلاح وأخافوا السبيل حتى صار الناس يفزعون من الاجتياز فيها خوفاً منهم.. فقد صاروا محاربين بذلك وإن لم يأخذوا شيئا، فيجب

على الإمام طلبهم؛ لأنه إذا تركهم.. أفسدوا بأخذ الأموال والقتل. فإن هربوا.. تبعهم إلى أن يخرجوا من بلاد الإسلام، فإن أدركهم.. عزرهم بما أداه اجتهاده إليه، ويحبسهم. قال أبُو العباس: والأولى أن يحبسهم في غير بلدهم؛ لتلحقهم الوحشة. فإن أخذوا المال ولم يقتلوا.. قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإن قتلوا ولم يأخذوا المال.. قتلهم ولم يصلبهم. وإن قتلوا وأخذوا المال.. قتلهم وصلبهم. وإن فعلوا شيئا من ذلك وهربوا.. تبعهم الإمام، فإن ظفر بهم.. أقام عليهم من الحدود ما وجب عليهم، وإن لم يظفر بهم.. تبعهم حتى يخرجوا من بلاد الإسلام. وحكى المسعوديُّ [في " الإبانة "] : أن أبا الطيب ابن سلمة خرج قولا آخر: أنهم إذا أخذوا المال وقتلوا.. فإنه يقطعون لأخذ المال، ثم يقتلون لأجل القتل، ويصلبون للجمع بين ذلك. والمشهور هو الأول، وبه قال ابن عبَّاس، وقتادة، وحماد، وأبو مجلز، والليث، وأحمد، وإسحاق. وقال أبُو حَنِيفَة: (إذا أخافوا السبيل.. وجب عليهم التَّعزِير- كما قلنا- وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال.. وجب عليهم القتل- كما قلنا- وإن أخذوا المال ولم يقتلوا.. قطعوا- كما قلنا - وإن قتلوا وأخذوا المال.. فالإمام فيهم بالخيار: بين أن يقتلهم ويصلبهم، أو يصلبهم ويقطعهم، أو يقطعهم ويقتلهم ويصلبهم) ، والنفي عنده الحبس. وقال مالك: (إذا أشهروا السلاح وأخافوا السبيل.. فقد لزمتهم هذه الأحكام المذكورة في الآية، إلا أنها تختلف باختلاف أحوالهم، فينظر الإمام فيهم: فمن كان منهم ذا رأي.. قتله، وإن كان جلدا ولا رأي له.. قطعه، ومن لم يكن ذا رأي ولا جلد.. حبسه) . وقال ابن المسيب والحسن ومجاهد: إذا شهروا السلاح وأخافوا السبيل.. فالإمام فيهم بالخيار بين أربعة أشياء: بين أن يقتلهم، أو يقتلهم ويصلبهم، أو يقطع أيديهم وأرجلهم، أو يحبسهم. دليلنا: ما رُوِيَ عن ابن عبَّاس: أنه قال: في قطاع الطريق: (إذا قتلوا وأخذوا المال.. قتلوا وصلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال.. قتلوا ولم يصلبوا. وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا.. قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، و [إذا أخافوا السبيل ولم

مسألة: الأمكنة التي تعتبر فيها جناية قطاع الطريق وشروط تعلق الأحكام بهم

يأخذوا مالا] .. ينفيهم، وإذا هربوا.. يطلبهم حتى يؤخذوا فتقام عليهم الحدود) . ولا يقول مثل هذا إلا توقيفا، وإن قاله تفسيرا للآية.. فهو ترجمان القرآن وأعرف بالتأويل. ولأن العقوبات تختلف باختلاف الأجرام؛ ولهذا اختلف حد الزِّنَى في البكر والثيب، واختلف حد الزِّنَى والقذف والشرب. ولأن الله تَعالَى بدأ في الآية بالأغلظ فالأغلظ، وهذا يدل على أنها على الترتيب، كما أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ في كفارة الظهار لما كانت على الترتيب، ولما كانت كفارة اليمين على التخيير.. بدأ بالأخف فالأخف. [مسألة: الأمكنة التي تعتبر فيها جناية قطاع الطريق وشروط تعلق الأحكام بهم] ] : وحكم قطاع الطريق إذا أخذوا المال وقتلوا، أو أخذوا المال ولم يقتلوا، أو قتلوا ولم يأخذوا المال من المصر أو البلد.. حكمهم إذا فعلوا ذلك في الصحراء. وبه قال الأَوزَاعِي، والليث، وأبو ثور، وأبو يوسف. وقال مالك: (قطاع الطريق الذين تتعلق بهم هذه الأحكام هو: أن يفعلوا ذلك على ثلاثة أميال من المصر فصاعدا، فإن فعلوا ذلك على أقل من ثلاثة أميال أو كانوا في المصر.. لم تتعلق بهم هذه الأحكام) . وقال أبُو حَنِيفَة: (لا تتعلق بهم هذه الأحكام إلا إذا كانوا في البرية، فأما إذا كانوا في مصر أو قرية، أو بين قريتين متقاربتين.. فلا تتعلق بهم هذه الأحكام) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية [المائدة: 33] . ولم يفرق بين أن يكون ذلك في الصحراء أو في المصر. ولأنه إذا وجبت عليهم هذه الحدود إذا فعلوا ذلك في الصحراء وهو موضع الخوف.. فلأن يجب عليهم ذلك إذا فعلوا ذلك في المصر وهو موضع الأمن أولى. إذا ثبت هذا: فإنما تتعلق بهم هذه الأحكام في المصر إذا كان قوم عددهم يسير في قرية، فاجتمع قوم من قطاع الطريق وأشهروا السلاح عليهم وغلبوا أهل القرية ولم

فرع: أخذ نصاب السرقة من حرز المثل على وجه القهر

يتمكنوا من دفعهم، وأخذوا منهم المال وقتلوا، أو فعلوا أحدهما، وكذلك إذا غلبوا على طرف من المصر. فأما إذا أمكن أهل القرية منعهم، فلم يمنعوهم.. فلا تتعلق بهم هذه الأحكام. قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وإن اجتمع عدد يسير على آخر القافلة في المواضع المنقطعة، فأخذوا المال وقتلوا، أو خرج الواحد والاثنان والثلاثة على آخر القافلة واستلبوا منهم شيئا، أو اعترضوهم بغير سلاح.. لم يكن حكمهم حكم قطاع الطريق؛ لأنهم غير ممتنعين ولا قاهرين لمن يقصدونهم، فهم كالمختلسين. قال القفال: والمكابرون بالليل، وهو أن يهجم جماعة بالليل على بيت رجل بالمصابيح ويخوفونه بالقتل إن صاح أو استغاث.. حكمهم حكم قطاع الطريق. وقال سائر أصحابنا: ليسوا بقطاع الطريق؛ لأنهم يرجعون إلى الخفية ولا يجاهرون، بل يبادرون مخافة أن يتشاعر الناس بهم. وإن خرج قطاع الطريق بالعصي والحجارة.. فهم محاربون. وقال أبُو حَنِيفَة: (ليسوا بالمحاربين) . دليلنا: أن العصي والحجارة من جملة السلاح الذي يأتي على النفس، فأشبه الحديد. [فرع: أخذ نصاب السرقة من حرز المثل على وجه القهر] والغلبة يثبت حكم قطع الطريق] : ولا يتعلق حكم قطع الطريق بأخذ المال إلا إن كان المال المأخوذ نصابا، فأما بدون النِّصَاب.. فلا يتعلق به حكم قطع الطريق. وخرج أبُو عليّ ابن خيران قولا آخر: أنه لا يعتبر فيه النِّصَاب، كما لا يعتبر التكافؤ في القتل في المحاربة في أحد القولين. والأول أصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القطع في ربع دينار» ولم يفرق بين السرقة وبين قطع الطريق. ولأنا لو لم نعتبر النِّصَاب في قطع الطريق.. لأوجبنا تغليظَيْن؛ قطع الرجل وسقوط اعتبار النِّصَاب، وهذا لا سبيل إليه. ويعتبر فيه الحرز: فإن أخذ المال من غير حرز؛ لأن أخذ مالا مضيعا.. لم يتعلق

فرع: حكم الردء الذي لم يباشر في أخذ المال أو القتل

به حكم قاطع الطريق. ولا يعتبر أن يأخذ المال فيه على وجه الاستخفاء، بل إذا أخذ النِّصَاب من حرز مثله بالقهر والغلبة مع إشهاره السلاح وإخافته السبيل.. تعلق به حكم قاطع الطريق؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه، فوجب عليه القطع، كالسارق. قال المسعوديُّ [في" الإبانة "] : وسواء أخذ النِّصَاب من مالك واحد أو ملاك. فأما في السرقة: فإذا سرق ربع دينار من مالكين: فإن كان من حرز واحد.. قطع. وإن كان من حرزين.. لم يقطع. وسواء كان ربع الدينار الذي في الحرزين ملك واحد أو ملك جماعة؛ فإنه لا يوجب القطع. ولو أخذ في قطع الطريق ثلث دينار، وكان معه ردء وأخذ سدس دينار.. قطع الذي أخذ الثلث دون الذي أخذ السدس. وإذا قطع قاطع الطريق على الواحد أو الجماعة.. تعلق به حكم قاطع الطريق إذا كان قاهرا لهم. [فرع: حكم الردء الذي لم يباشر في أخذ المال أو القتل] وماذا لو كان القاطع للطريق امرأة؟] : ولا يجب حد قطع الطريق إلا على من باشر أخذ المال والقتل، فأما من حضر فكثر وهيب، وكان ردءا لهم أو طليعة.. فلا يجب عليه قطع ولا قتل، وإنما يعزر ويحبس. وقال أبُو حَنِيفَة: (يجب على المكثر والمهيب - وهو الردء - ما يجب على من أعانه من القطع والقتل) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنَى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق» . وهذا لم يفعل أحد هذه الأشياء الثلاثة، فلم يجز قتله. ولأنه حد يجب بارتكاب معصية، فلم يجب على المعين، كما لو شد رجل امرأة لآخر حتى زنَى بها. وإن كان في قطاع الطريق امرأة فأخذت المال أو قتلت.. وجب عليها حد قطاع الطريق. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليها ولا على من كان ردءا لها) .

فرع: أخذ المحارب المال وما يترتب عليه من قطع

دليلنا: أن كل من يلزمه الحد في السرقة.. لزمه حكم قطاع الطريق، في قطع الطريق كالرجل. وإن كان قطاع الطريق جماعة فأخذوا المال.. اعتبر أن يكون قدر ما أخذه كل واحد منهم يبلغ نصابا، فإن كان فيهم صبي أو مجنون.. فإنه يجب على شريكه في أخذ المال القطع إذا بلغت حصته نصابا، وهل يجب على شريكه في القتل القتل؟ فيه قولان بناء على القولين في عمد الصبي: هل هو عمد أو خطأ؟ [فرع: أخذ المحارب المال وما يترتب عليه من قطع] وإذا أخذ المحارب المال ولم يقتل.. قطعت يده اليمنى من مفصل الكوع، ورجله اليسرى من مفصل القدم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] [المائدة: 33] . وهو قول ابن عبَّاس ولا مخالف له. ولأن المحارب يساوي السارق في أخذ المال على وجه لا يمكن الاحتراز منه فساواه في قطع اليد وزاد عليه في شهر السلاح وإخافة السبيل فغلظ عليه بقطع الرجل. فإذا قطعت يده اليمنى.. فإنها تحسم بالنار، ثم تقطع رجله اليسرى وتحسم بالنار في مكان واحد؛ لأنهما حد واحد. فإن لم يكن له إلا إحداهما.. قطعت لا غير. وإن لم يكن له واحدة منهما.. قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى؛ لأنه قد فقد ما يتعلق به القطع ابتداء، فانتقل إليه ما بعدهما، كما لو سرق ولا يمين له. فإن أخذ المال وليس له إلا كف يده اليمنى أو قدم رجله اليسرى، أو ليس على أحدهما أنملة من الأصابع.. فهل يقطعان، أو ينتقل عنهما إلى اليد اليسرى والرجل اليمنى؟ فيه وجهان، كما قلنا فيه إذا سرق وليس له إلا كف اليد اليمنى ولا أنملة عليها. [فرع: قتل المحارب وماذا لو عفا ولي المقتول عنه؟] وإن قتل المحارب ولم يأخذ المال.. وجب قتله قودا لولي المقتول ويتحتم قتله

لحق الله تَعالَى، فلا يجوز للإمام تركه؛ فوجوب القتل عندنا حق للآدمي وانحتامه حق لله تَعالَى. وقال بعض الناس: لا يتحتم القتل، بل إن شاء الولي قتل، وإن شاء عفا عنه، كالقتل في غير المحاربة. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية [المائدة: 33] . فعين القتل، فمن قال: إنه على التخيير.. خالف ظاهر الآية. ولأن الله تَعالَى ذكر القتل هاهنا وأطلقه ولم يضفه إلى ولي المقتول، فلو كان ذلك إلى اختيار ولي المقتول.. لأضافه إليه، كما أضاف إليه القتل في غير المحاربة في قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] [الإسراء: 33] فعلم أن المخاطب بالقتل في المحاربة هم الأئمة دون الأولياء. ورُوِيَ «عن ابن عبَّاس: أنه قال: (نزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالحد فيهم: أن من قتل ولم يأخذ المال.. قتل» . والحد لا يكون إلا حتما، ولا مخالف له من الصحابة. ولأن ما أوجب عقوبة في غير المحاربة.. تغلظت العقوبة فيه بالمحاربة، كأخذ المال. وإن قتل المحارب من لا يكافئه.. فهل يجب قتله به؟ فيه قولان مَضَى ذكرهما في (الجنايات) . الصحيح: لا يجب. هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: هل القتل في المحاربة حق لله تَعالَى أو للآدمي؟ فيه قولان: أحدهما: أنه حق لله لا حق للآدمي فيه، إذ لو كان حقا للآدمي.. لسقط بعفوه، ولا خلاف أنه لا يسقط بعفوه. والثاني: أنه حق للآدمي؛ لأن القصاص في غير المحاربة حق للآدمي.. فلأن يكون له في المحاربة أولى، إلا أن انحتام القتل وجب تغليظا عليه؛ لقطعه الطريق.

فرع: ارتكاب المحارب جناية لا توجب حدا كقطع مفصل ونحوه

ولهذين القولين فوائد: منها: إذا قتل في المحاربة من لا يكافئه.. فإن قلنا: أنه حق لله تَعالَى.. قتل به. وإن قلنا: أنه حق للآدمي.. لم يقتل به. الثانية: إذا قتل المحارب جماعة.. فإن قلنا: إنه حق لله تَعالَى.. قتل بجميعهم، ولا شيء للأولياء؛ لأن الحدود تتداخل. وإن قلنا: أنه حق للآدمي.. قتل بأولهم، ووجب للباقين الدية في ماله. الثالثة: إذا عفا ولي الدم عن القاتل، فإن قلنا: إن القتل حق لله تَعالَى.. كان كما لو لم يعف، فيقتل ولا شيء لولي المقتول. وإن قلنا: أنه حق للآدمي.. سقط بعفوه ما كان حقا له؛ وهو قتله قصاصا، ووجبت له الدية في ماله، إلا أن المحارب يقتل لله تَعالَى، كما لو كان عليه قتل قصاص وقتل ردة وعفا ولي القصاص.. فإنه يقتل للردة. [فرع: ارتكاب المحارب جناية لا توجب حدا كقطع مفصل ونحوه] وإن قتل قاطع الطريق رجلا خطأ أو عمد خطأ، أو أخافه عمدا أو خطأ.. فإنه لا يجب عليه القصاص بذلك قولا واحدا؛ لأن هذه الجنايات لا يجب بها القصاص في غير المحاربة، فلم يجب بها في المحاربة. وإن قطع يده من المفصل، أو جرحه جراحة يثبت بها القصاص.. وجب عليه القصاص، وهل يتحتم قطعه؟ فيه قولان: أحدهما: يتحتم؛ لأن ما أوجب العقوبة في غير المحاربة.. تغلظ بالمحاربة بانحتام القود، كالنفس. والثاني: لا يتحتم؛ لأن الله تَعالَى ذكر حدود المحاربة؛ وهي: القتل، وقطع اليد والرجل من خلاف، والصلب. فدلَّ على أن ذلك جميع حدود المحاربة، فلو

فرع: أخذ المحارب المال مع القتل وما يترتب عليه من الحد

كان انحتام القصاص في ما دون النفس من حدود المحاربة. لذكره كما ذكر غيره. هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: إن كانت الجناية في المحاربة فيما دون النفس مما يوجب حدا في غير المحاربة، كقطع اليد والرجل.. انحتم القصاص بها في المحاربة بلا خلاف على المذهب؛ لأنها تجب حدا في غير المحاربة، فانحتم القود فيها في المحاربة، كالنفس. وإن كانت الجناية فيما دون النفس لا توجب حدا في غير المحاربة، كالموضحة وقطع الأذن وما أشبههما.. فهل يتحتم القصاص بها في المحاربة؟ فيه وجهان؛ لأن ذلك لا يوجب حدا في الشَّرع. [فرع: أخذ المحارب المال مع القتل وما يترتب عليه من الحد] وإذا أخذ المحارب المال وقتل.. فقد ذكرنا: أنه يقتل ويصلب. وخرج أبُو الطيب ابن سلمة قولا آخر: أنه تقطع يده ورجله، ثم يقتل، ثم يصلب. وحكى ابن القاص في " التلخيص " عن الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه قال: (يصلب قبل القتل ثلاثا، ثم ينزل ويقتل) . ومن أصحابنا من قال لا يقتل، بل يصلب حيا حتى يموت جوعا وعطشا؛ لأن الصلب يراد للزجر، ولا ينزجر بصلبه بعد موته. وقال أبُو يوسف: يصلب حيا ثلاثا، فإن مات، وإلا.. قتل وهو مصلوب. والمذهب الأول، وما حكاه ابن القاص لا يعرف للشافعي؛ لأن كل معصية توجب عقوبة في غير المحاربة.. غلظت تلك العقوبة في المحاربة تغليظا واحدا، كما قلنا فيه إذا أخذ المال ولم يقتل.. فإنه تقطع يده ورجله، فكذلك إذا أخذ المال وقتل.. فإنه يغلظ بالقتل والصلب. وقول أبي الطيب: إنه يقطع ثم يقتل.. لا يصح؛ لأن القتل يحصل به من النَكَال أكثر من القطع. وقول من قال: يصلب حيا حتى يموت.. باطل أيضا؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن تعذيب الحيوان» . وهذا حيوان، وقال: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قتلتم.. فأحسنوا القتلة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» . وقوله: إن الصلب يراد لزجره.. غير صحيح؛

إنما يراد لزجر غيره، وذلك يحصل بصلبه بعد موته. إذا ثبت أنه يصلب بعد موته.. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإنه يصلب على خشبة ثلاثة أيام، ثم ينزل ويغسل ويكفن ويصَلَّى عليه ويدفن في مقابر المسلمين؛ لأنه مسلم قتل بحق، فهو كالمقتول في القصاص) . قال: القاضي أبُو الطيب: قال الماسرجسي: إنما نص الشافعيُّ، على صلبه ثلاثا في البلاد الباردة أو البلاد المعتدلة، فأما في البلاد الحارة.. فإنه إذا خيف تغيره قبل الثلاث.. فإنه يحنط ليمكن غسله وتكفينه. وقال أبُو عليّ ابن أبي هُرَيرَة: يصلب حتى يسيل صديده، ولا يحنط أبدا. وليس بشيء؛ لأن هذا يؤدي إلى إبطال وجوب غسله وتكفينه ودفنه. هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: يصلب ثلاثا، وهل ينزل بعد الثلاث إن لم يسل صديده؟ فيه قولان: أحدهما: لا ينزل حتى يسيل صديده؛ لأن الصلب إنما يسمى صلبا بسيلان صديد المصلوب، وهو الودك، فما لم يتغير لا يذوب صديده. والثاني: ينزل بعد الثلاث؛ لئلا يتغير فيتأذى به الناس. فإذا قلنا بهذا: فخيف تغيره قبل الثلاث.. فهل ينزل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا ينزل؛ لأن التنكيل لا يحصل بدون الثلاث. والثاني: ينزل؛ لأنا إنما ننزله بعد الثلاث حتى لا يتغير على الصليب، فإذا خيف ذلك قبل الثلاث.. أنزل. وإن مات قبل أن يقتل.. فهل يجب صلبه بعد موته؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق: أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد: أنه لا يصلب؛ لأن الصلب صفة للقتل وتابع له، وقد سقط القتل بالموت فسقط الصلب.

مسألة: اجتماع حد محاربة وقصاص

والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب: إنه يصلب بعد موته؛ لأنهما حقان، فإذا تعذر أحدهما.. وجب الآخر. [مسألة: اجتماع حد محاربة وقصاص] إذا لزمه قتل في المحاربة وقصاص فيما دون النفس في غير المحاربة، فإن عفا من وجب له القصاص فيما دون النفس.. ثبت له الدية في ماله وقتل في المحاربة. وإن اختار أن يقتص منه فيما دون النفس.. اقتص منه، ثم قتل في المحاربة حتما. ويقدم القصاص في الطرف، سواء تقدم القتل عليه أو تأخر. فإن لزمه القصاص فيما دون النفس في المحاربة، وقتل في المحاربة.. فإنه يقتص منه فيما دون النفس، ويقتل في المحاربة. وقال أبُو حَنِيفَة: (يدخل الجرح في القتل) . دليلنا: أنهما حقان مقصودان لآدميين، فلم يتداخلا، كما لو وجبا في غير المحاربة. وإن قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى من رجل في غير المحاربة، وأخذ المال في المحاربة ولم يقتل.. فمن قطعت يده ورجله بالخيار: بين أن يعفو عنه، وبين أن يقتص. فإن عفا عنه.. قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى؛ لأخذ المال في المحاربة. وإن اختار به القصاص.. قدم القصاص على القطع في المحاربة، سواء تقدم أخذ المال أو الجناية؛ لأن حق الآدمي آكد، فإذا اقتص منه.. لم يقطع للمحاربة حتى يبرأ من قطع القصاص؛ لأنهما حقان يجبان بسببين مختلفين. وإن قطع اليد اليسرى والرجل اليمنى من رجل في المحاربة، وأخذ المال في المحاربة ولم يقتل، فإن قلنا: إن القصاص فيما دون النفس لا يتحتم في المحاربة؛ فإن عفا عن القصاص.. قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى؛ لأخذ المال في المحاربة. وإن اختار القصاص، أو قلنا: إنه يتحتم.. قدم القطع للقصاص في اليد اليسرى

مسألة: توبة قطاع الطرق

والرجل اليمنى على القطع في المحاربة، سواء تقدمت الجناية أو أخذ المال؛ لأن حق الآدمي آكد، ولكن لا يقطع للمحاربة حتى يبرأ من قطع القصاص؛ لأنهما حقان يجبان بسببين مختلفين. وأمَّا إذا قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى من رجل في غير المحاربة، وأخذ المال في المحاربة ولم يقتل، فإن اختار المجني عليه العفو عن القصاص وعفا.. قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى للمحاربة. وإن اختار القصاص.. قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في القصاص، وسقط القطع للمحاربة؛ لأن العضو الذي تعلق به القطع قد فات. وإذا قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى من رجل في المحاربة، وأخذ المال في المحاربة ولم يقتل، فإن قلنا: إن القصاص فيما دون النفس لا يتحتم في المحاربة.. فهو كما لو قطعها في غير المحاربة، وقد مَضَى. وإن قلنا: يتحتم.. قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى للقصاص، وسقط القطع للمحاربة؛ لأن القصاص حق آدمي، والقطع في المحاربة حق لله تَعالَى.. فقدم حق الآدمي عليه. هكذا ذكر الشيخ أبُو حامد وابن الصبَّاغ. وذكر الشيخ أبُو إسحاق: أنه إذا قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى في المحاربة، وأخذ المال ولم يقتل، وقلنا: يتحتم القصاص فيما دون النفس في المحاربة.. نظرت: فإن تقدم أخذ المال.. سقط قطع المحاربة؛ لما مَضَى. وإن تقدمت الجناية.. لم يسقط القطع للمحاربة، بل تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى؛ لأن اليد اليمنى والرجل اليسرى استحقا بالجناية قبل أخذ المال، فيصير كمن أخذ المال بالمحاربة وليس له يد يمنى ولا رجل يسرى، فتعلق قطع المحاربة باليد اليسرى والرجل اليمنى. [مسألة: توبة قطاع الطرق] وإذا تاب قاطع الطريق.. نظرت: فإن تاب بعد قدرة الإمام عليه.. لم يسقط عنه شيء مما وجب عليه من حدود المحاربة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] [المائدة: 34] فشرط في الغفران وفي سقوط أحكام المحاربة عنهم أن تكون التوبة قبل القدرة عليهم، فدلَّ على أنها إذا كانت بعد

القدرة عليهم.. لم يؤثر ذلك؛ لأن المحارب إذا حصل في قبضة الإمام.. وجب عليه إقامة الحد عليه، وإذا تاب في هذه الحال.. فالظاهر: أنه تاب للتقية من إقامة الحد عليه، فلم يسقط. فأما إذا تاب قبل قدرة الإمام عليه.. فإنه تسقط عنه الحدود التي يختص وجوبها بالمحاربة قولا واحدا؛ وهي: قطع الرجل، وانحتام القتل عليه، والصلب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] [المائدة: 34] . ولا تسقط حقوق الآدميين - وهو: حد القذف، وضمان الأموال، والقصاص- بالتوبة بحال، سواء كان محاربا أو غير محارب. وأمَّا الحدود التي تجب لحق الله تَعالَى ولا يختص وجوبها بالمحاربة؛ كحد الزِّنَى، واللواط، وحد الخمر، والسرقة.. فهل تسقط بالتوبة عن المحارب وغير المحارب؟ فيه قولان: أحدهما: لا تسقط بالتوبة - وبه قال أبُو حَنِيفَة - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] [النور: 2] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شرب الخمر.. فاجلدوه» ولم يفرق بين أن يتوب وبين أن لا يتوب. ولأنه حد لا يختص بالمحاربة، فلم يسقط بالتوبة، كحد القذف. والثاني: يسقط بالتوبة، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] [المائدة: 34] فأخبر: أن المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه.. غفر له جميع ما كان منه، وقال تَعالَى:

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] إلى قوله: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39] [المائدة: 38-39] فأخبر: أنه إذا تاب وأصلح.. فإن الله يتوب عليه ويغفر له. والظاهر: أنه لا يتعلق عليه شيء بعد ذلك. وقال في الزِّنَى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16] [النساء: 16] . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التوبة تجب ما قبلها» . ورُوِي: «أن رجلا أتى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أنِّي أصبت حدا فأقمه عليّ، فقال: "أليس توضأت فصليت؟ " فقال: بلى، قال: "فلا حد عليك» فالظاهر: أنه إنما سقط عند الحد بصلاح العمل. ولأنه حد خالص لله، فسقط بالتوبة، كالحد الذي يختص بالمحاربة. فإذا قلنا بهذا: فإن كانت هذه الحدود وجبت عليه في حال المحاربة.. سقطت عنه بالتوبة، ولا يشترط عليه في سقوط الحد مع التوبة إصلاح العمل. وإن كانت وجبت عليه في غير المحاربة.. لم تسقط عنه حتى يقرن مع التوبة إصلاح العمل. والفرق بينهما: أن المحارب مظهر للمعاصي، فإذا تاب.. فالظاهر من حاله أنه لم يتب تقية، وإنما رجع عما كان عليه. وغير المحارب غير مظهر للمعاصي، فإذا تاب.. فالظاهر: أنه تاب تقية، فلم يحكم بصحة توبته حتى يقترن به إصلاح العمل، ويشترط إصلاحه للعمل مدة يوثق بتوبته فيها. وأمَّا قطع اليد لأخذ المال في المحاربة.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبُو إسحاق: لا يختص بالمحاربة؛ لأنه لا يجب إلا بأخذ نصاب، فهو كالقطع في السرقة. وقال أبُو عليّ بن أبي هُرَيرَة، وأبو عليّ الطبري: يختص بالمحاربة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية [المائدة: 33] فعلق قطع اليد والرجل

بالمحاربة، فدلَّ على أنهما يختصان معا بالمحاربة. ولأنه وجب لأخذ المال مجاهرة، وقطع اليد في السرقة يجب لأخذ المال من حرزه على وجه الاستخفاء.. فكانا مختلفين. فعلى قول أبي إسحاق: إذا تاب قاطع الطريق قبل القدرة عليه.. هل يسقط عنه قطع اليد؟ على قولين. وعلى قول أبوي عليّ: يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه قولا واحدا. هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا تاب قاطع الطريق قبل الظفر به.. فالصحيح: أن ما كان حقا لله تَعالَى كالقطع ونحوه.. فإنه يسقط، وما كان حقا لآدمي، كانحتام القصاص.. لا يسقط. وقيل: يسقط القصاص أيضا. وليس بشيء. وإن تاب بعد الظفر به.. ففيه قولان: أحدهما: حكمه حكم ما لو تاب قبل الظفر به؛ لأن ما يسقط بتوبة أو غيرها لا فرق فيه قبل الظفر به أو بعد الظفر به، كسقوط قطع السرقة الواجب بالإقرار، وعكسه القصاص. والثاني: لا يسقط؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] [المائدة: 34] . قال: وعلى هذا خرج أصحابنا وجهين في حد الزِّنَى والشرب: هل يسقط بالتوبة؟ وبالله التوفيق

باب حد الخمر

[باب حد الخمر] الخمر محرم، والأصل فيه: الكتاب والسنة والإجماع. والخمر المجمع على تحريمه هو: عصير العنب الذي قد اشتد وقذف زبده. أما الكتاب: فقوله تَعالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] [البقرة: 219] فأخبر: أن فيهما منفعة وإثما، وأن الإثم أكبر من المنفعة. وهذا يدل على التحريم. وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ} [المائدة: 90] إلى قَوْله تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] [المائدة: 90-91] . وفي هاتين الآيتين سبعة أدلة: أحدها: أن الله تَعالَى قرن بين الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وقدمه عليها، وهذه الأشياء كلها محرمة، فدلَّ على تحريم الخمر. والثاني: أن الله تَعالَى سماها رجسا، و (الرجس) : اسم للشيء النجس، وكل نجس حرام.

الثالث: قَوْله تَعَالَى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] ، وما كان من عمل الشيطان فهو محرم. الرابع: قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ، ولا يأمر باجتناب محرم. الخامس: قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] وضد الفلاح الفساد. السادس: قَوْله تَعَالَى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91] وما صدَّ عن ذلك فهو محرم. السابع: قَوْله تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وهذا أبلغ كلمة في الزجر عن الشيء. ويدل على تحريمه من الكتاب قَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] [الأعراف: 33] و (الإثم) : هو الخمر، قال الشاعر: شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول واختلف الناس في سبب نزول تحريم الخمر: فقيل: إن السبب أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: (لا ينتهى عن هذه الخمور حتى يأتي أحدنا وقد ضرب فجرح وكلم) ، فأنزل الله تَعالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] الآية [البقرة: 219] ، فاختلف الناس فيها، فقال بعضهم: هي مباحة لذكر المنفعة فيها. وقال بعضهم: هي محرمة لذكر الإثم فيها. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اللهم بين لنا بيانا شافيا، فأنزل الله تَعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] [النساء: 43] الآية. فقالوا: إنما حرم شربها في وقت الصلاة دون غيره، فقال عمر: اللهم بين لنا بيانا شافيا، فأنزل الله تَعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ} [المائدة: 90] الآيتين إلى قَوْله تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] [المائدة: 90-91] فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: انتهينا يا ربنا) . وقيل: إن سبب نزول تحريم الخمر: «أن رجلا من

الأنصار شوى بعيرا ودعا سعدا، فأكل وشرب معه وسكر، فرمى وجه سعد بلحي البعير، فكسر أنفه، فنزل تحريمها» . وأمَّا السنة: فما رَوَى الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإسناده عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شرب الخمر في الدنيا.. حرمها في الآخرة» . ورَوَى ابن عمر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله الخمرة، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومشتريها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه» . ورَوَى عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الخمر أم الخبائث» .

ورُوِي «عن أنس: أنه قال: (كنت أسقي أبا طلحة وأبي بن كعب وأبا أيوب الأنصاري، فأتاهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبُو طلحة: قم إلى الجرار فاكسرها، فقمت إليها، فضربت أسفلها بمهراس فكسرتها» . ورُوِي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «شارب الخمر كعابد وثن» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله حرم الكلب وحرم ثمنه، وحرم الخنزير وحرم ثمنه، وحرم الخمر وحرم ثمنها» . وأمَّا الإجماع: فأجمعت الصحابة ومن بعدهم من المسلمين: على تحريمها. ورُوِي عن قدامة بن مظعون وعمرو بن معد يكرب: أنهما قالا: (هي حلال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93] الآية [المائدة: 93] فقال قدامة: فلنشرب ونتق، فأنكر عليهما الصحابة ذلك، فرجعا عن ذلك) . وأمَّا الآية.. فلها تأويلان:

أحدهما: أنه أراد ذلك قبل تحريمها. والثاني: أنه أراد: فيما طعموا من المباحات الطيبات. فمن استحل شربها بعد ذلك.. فهو كافر، وعليه يتأول قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شارب الخمر كعابد وثن» يعني: إذا اعتقد إباحتها. إذا ثبت هذا: فمن شرب منها وهو مسلم، عاقل، بالغ، مختار.. وجب عليه الحد، سواء شرب منها قليلا أو كثيرا، سكر أو لم يسكر؛ لما رَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شرب الخمر.. فاجلدوه، فإن عاد.. فاجلدوه، فإن عاد.. فاجلدوه، ثم إن عاد.. فاقتلوه» والقتل في الرابعة منسوخ؛ لما روى قبيصة بن ذؤيب: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي برجل شرب الخمر فجلده، فأتي به ثانيا وقد شرب فجلده، فأتي به ثالثا وقد شرب فجلده، فأتي به رابعا وقد شرب فجلده، ولم يقتله» . وأجمعت الأمة: على ذلك أيضا.

مسألة: حرمة ما أسكر كثيره وقليله وأنواعه

[مسألة: حرمة ما أسكر كثيره وقليله وأنواعه] وما عدا الخمر من الأشربة المسكرة؛ كعصير العنب المطبوخ، ونبيذ التمر والزبيب والذرة والشعير، وغير ذلك.. فيحرم قليلها وكثيرها، ويجب بشربها الحد. وبه قال عمر، وعلي، وابن عبَّاس، وابن عمر، وأبو هريرة، وسعد ابن أبي وقاص، وابن مَسعُودٍ، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن الفقهاء: مالك، والأَوزَاعِي، وأحمد، وإسحاق، وقال أبُو حَنِيفَة: (الأشربة على أربع أضرب: أحدها: الخمر - وهو عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده - فيحرم قليله وكثيره، ويجب على شاربه الحد- ولم يشترط أبُو يوسف ومحمد أن يقذف زبده، وقالا: إذا اشتد وغلى.. كان خمرا-. والثاني: المطبوخ من عصير العنب، فإذا ذهب أقل من ثلثيه.. فهو حرام، ولا حد على شاربه إلا إذا سكر. وإن ذهب ثلثاه.. فهو حلال إلا ما أسكر منه. وإن طبخه عنبا.. ففيه روايتان: إحداهما: أنه يجري مجرى عصيره. والمشهور: أنه حلال وإن لم يذهب ثلثاه. الثالث: نقيع التمر والزبيب، فإن طبخ بالنار.. فهو مباح، ولا حد على شاربه إلا إذا أسكر، فيحرم القدر الذي يسكر، وفيه الحد. وإن لم تمسسه النار.. فهو حرام، ولا حد على شابه إلا إذا أسكر. الرابع: نبيذ الحنطة والذرة والشعير والأرز والعسل ونحو ذلك.. فهو حلال،

سواء كان نيئا أو مطبوخا، إلا أنه يحرم المسكر منه، ولا حد على شاربه سكر أو لم يسكر) . دليلنا: ما رَوَى النعمان بن بشير: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البر خمرا، وإن من الشعير خمرا» . ورَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والكرم» . ورَوَى ابن عمر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» . ورُوِي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حرمت الخمرة بعينها، والمسكر من كل شراب» . ورُوِي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أسكر كثيره.. فقليله حرام» .

وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أسكر الفرق منه.. فملء الكف منه حرام» . و (الفرق) بسكون الراء -: مكيال يسع مائة وعشرين رطلا. وبنصب الراء: يسع ستة عشر رطلا. والخبر رُوِيَ بنصب الراء. ولأن الله تَعالَى حرم الخمر ونبه على المعنى الذي حرمها لأجله؛ وهو: أن الشيطان يوقع فيها العداوة والبغضاء ويصد بها عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذه المعاني موجودة في هذه الأشربة، فوجب أن يكون حكمها حكم الخمر في التحريم والحد. إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في هذه الأشربة: هل يقع عليها اسم الخمر؟ فمنهم من قال: يقع عليها اسم الخمر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من الشعير خمرا، وإن من البر خمرا» . ورُوِي عن عمر وأبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: (الخمر ما خامر العقل) . فعلى هذا: يحتج على تحريم هذا الأشربة بالآية. وقال أكثر أصحابنا: لا يقع عليها اسم الخمر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمت الخمرة بعينها، والمسكر من كل شراب» فلو كان اسم الخمر يطلق على هذه المسكرات.. لاكتفى بقوله: «حرمت الخمرة بعينها» . فعلى هذا: لا يدل على تحريم هذه الأشربة إلا السنة والقياس.

فرع: بيع المسكر

[فرع: بيع المسكر] كل شراب مسكر لا يجوز بيعه، وهو نجس. وقال أبُو حَنِيفَة: (يجوز بيعه إلا الخمر) . وقال أبُو يوسف ومحمد: لا يجوز بيع نقيع التمر والزبيب، ويجوز بيع باقيها. دليلنا: أنه شراب فيه شدة مطربة، فلم يجز بيعه، كالخمر. [فرع: طبخ اللحم أو عجن الدقيق والند بخمر] قال ابن الصبَّاغ: وإن طبخ لحما بخمر وأكل مرقها.. حد. وإن أكل اللحم.. لم يحد؛ لأن عين الخمر موجود في المرقة وليس بموجود في اللحم، وإنما فيه طعمه. وإن عجن دقيقا بخمر وخبزه، فأكل الخبز.. لم يحد؛ لأن عين الخمر أكلتها النار. قال ابن الصبَّاغ: وإن استعطَى الخمر أو احتقن.. لم يحد؛ لأنه ليس بشرب ولا أكل. وفيما قاله ابن الصبَّاغ نظر؛ لأن حكم الاستعاط والاحتقان حكم الشرب في إبطال الصوم، فكان حكمه حكم الشرب في الحد. قل ابن الصبَّاغ: وإن ثرد بالخمر وأكله، أو اصطبغ بها.. حد؛ لأنها غير مستهلكة. وإن عجن الند بالخمر.. كان نجسا، ولم يجز بيعه. وإذا تبخر به.. فهل ينجس؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين في دخان سائر النجاسات. [مسألة: حد الحر أو العبد في شرب الخمر] فإن كان المحدود في الخمر حرا.. جلد أربعين جلدة. ورُوِي ذلك عن أبي بكر

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال مالك وأبو حَنِيفَة والثوريُّ: (الواجب عليه ثمانون جلدة، ولا يجوز النقصان عنه) . واختاره ابن المنذر. دليلنا: ما روى عبد الرحمن بن الأزهر قال: «أتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشارب الخمر، فقال: "اضربوه"، فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، وحثوا عليه التراب، ثم قال: "بكتوه".. فبكتوه» . و (التبكيت) : أن يقال للرجل: أما خشيت الله، أما اتقيت الله؟ فلما كان زمن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.. أتي بشارب، فسأل من حضر ذلك الضرب، فقومه، فضرب أبُو بكر في الخمر أربعين جلدة، ثم عمر، ثم تتابع الناس في الخمر، فاستشار عمر الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فضربه ثمانين) . ورَوَى أنس: (أن «النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بشارب خمر، فأمر عشرين رجلا فضربه كل واحد ضربتين بالجريد والنعال» . روى أبُو ساسان قال: (شهدت عُثمانَ بن عفان وقد أتي بالوليد بن عقبة وقد شهد عليه حمران وآخر معه بالخمر، فشهد أحدهما أنه شربها

وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عُثمانَ: ما تقيأها حتى شربها، فقال لعلي: دونك ابن عمك فاجلده، فقال علي للحسن: اجلده، فقال: ولِّ حارها من تولى قارها- يعني: ولِّ شديدها من تولى هينها ولينها - فقال عليّ: لا، ولكنك ضعفت وعجزت، قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده، فأخذ السوط وجلده وعلي يعد، فلما بلغ أربعين.. قال: «حسبك، جلد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين» وجلد أبُو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين وكلاهما سنة، وهذا أحب إلي) . وإن كان المحدود عبدا.. فالواجب عليه عشرون جلدة؛ لأنه حد يتبعض، فكان العبد على النصف من الحر، كالجلد في الزِّنَى. فإن رأى الإمام أن يحد الحر أكثر من الأربعين إلى الثمانين، وتكون الزيادة على الأربعين تعزيرا، أو يحد العبد أكثر من عشرين إلى أربعين، وتكون الزيادة على العشرين تعزيرا.. جاز؛ لما رَوَى أبُو وبرة الكلبي قال: (أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر، فأتيته ومعه عُثمانَ وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير، فقلت: إن خالدا يقرأ عليك السلام، ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه؟ فقال عمر: فما ترون؟ فقال عليّ: إنه إذا شرب.. سكر، وإذا سكر.. هذى، وإذا هذى.. افترى، فيحد حد المفتري، فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال. فجلد خالد ثمانين، وجلد عمر ثمانين، وكان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا أتي بالرجل المنهمك بالشرب.. جلدة ثمانين، وإذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة.. جلده أربعين) ، ويدل عليه قول عليّ: «جلد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين» وأبو بكر أربعين

فرع: جلد الشارب فمات

، وعمر ثمانين، وكلاهما سنة، وهذا أحب إلي) . ومعناه: الاقتصار على حد الخمر سنة، وضم التَّعزِير إليه سنة، فإن قيل: فالتَّعزِير لا يبلغ عندكم أربعين؟ قلنا: لا يجوز له أن يبلغ به الأربعين على زلة واحدة، فأما إذا كانت زلات.. فلا يمنع أن يبلغ به أربعين، وهاهنا منه زلات الهذيان والافتراء. [فرع: جلد الشارب فمات] فإن جلد الإمام الحر في الخمر أربعين فمات منه، أو جلد العبد عشرين فمات.. كان دمه هدرا؛ لما رُوِيَ: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لما جلد ابنه عبيد الله في الخمر.. جعل عبيد الله يقول: قتلتني، فقال عمر: (الحق قتلك) . ولأنه مات من حد، فلم يضمنه، كما لو مات من حد الزِّنَى. وإن رأى الإمام أن يبلغ في الحر ثمانين أو بالعبد أربعين، فبلغ به ذلك فمات.. لم يهدر دمه؛ لما رُوِيَ عن عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (ما أحد أقيم عليه حدا فيموت فأجد في نفسي منه شيئا إلا الخمر؛ فإنه شيء أحدثناه بعد موت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمن مات منه.. فديته في بيت المال، أو على عاقلة الإمام) . وأراد به الزيادة على الأربعين؛ لأنه قد ذكر: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلد في الخمر أربعين» . إذا ثبت هذا: فلا خلاف أنه لا يضمن جميع الدية؛ لأنه مات من حد ومن غير حد، فينظر فيه: فإن جلده ثمانين فمات.. وجب عليه نصف ديته، وهدر نصف ديته. وإن جلده إحدَى وأربعين جلدة فمات.. ففيه قولان:

أحدهما: يجب نصف ديته ويهدر النصف؛ لأنه مات من مضمون وغير مضمون، فسقط نصف ديته ووجب نصفها، كما لو جرح نفسه جراحات، وجرحه آخر جراحات، ومات من الجميع. والثاني: أن الدية تقسم على عدد الجلدات، فيسقط من ديته أربعون جزءا، ويجب جزء من واحد وأربعين جزءا؛ لأن السياط تتساوى في الظاهر في السراية والألم، بخلاف الجراحات. وما وجب من ديته.. فهل يجب في بيت المال، أو على عاقلة الإمام؟ فيه قولان، مَضَى ذكرهما في (الجنايات) . وإن أمر الإمام رجلا، أن يجلد رجلا في القذف ثمانين جلدة، فجلده إحدَى وثمانين جلدة، فمات المحدود.. وجب على الجلاد الضمان. وكم يجب عليه؟ على هذين القولين: أحدهما: يجب عليه نصف الدية. والثاني: يجب عليه جزء من واحد وثمانين جزءا من الدية، إلا أن يكون الإمام قد قال للجلاد: اضرب وأنا أعد، فتركه حتى زاد على الثمانين ومات المحدود.. فإن الضمان يجب على الإمام؛ لأنه هو الذي اختار الزيادة؛ إذ لم يأمره بالقطع. وكم يجب عليه؟ على القولين. فإذا قال الإمام للجلاد: اضرب ما شئت وما اخترت.. لم يكن له أن يزيد على الحد، فإن زاد عليه.. ضمن. وإن أمر الإمام الجلاد أن يجلد في الخمر ثمانين، فجلد إحدَى وثمانين جلدة، فمات المحدود، فإن قلنا: تقسم الدية على عدد الجلدات.. سقط من ديته أربعون جزءا من أحد وثمانين جزءا، ووجب على الإمام أربعون جزءا من هذا الأصل، وعلى الجلاد جزء من هذا الأصل. وإن قلنا: تقسم الدية على أنواع الجلد.. ففيه وجهان: أحدهما: يسقط من ديته الثلث، ويجب على الإمام الثلث، وعلى الجلاد الثلث؛ لأنه اجتمع في الجلد ثلاثة أنواع: حد واجب، وتعزير، ومحرم.

مسألة: آلة ضرب المحدود

والثاني: يسقط من ديته النصف، ويجب النصف على الإمام والجلاد بينهما نصفين؛ لأن الجلد نوعان: مضمون وغير مضمون، فسقط النصف لأجل ما ليس بمضمون، ووجب النصف لأجل ما هو مضمون، فكان بين الضامنين نصفين. [مسألة: آلة ضرب المحدود] ] : وبم يضرب المحدود في الخمر؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أكثر أصحابنا - أنه يضرب بالنعال والأيدي وأطراف الثياب؛ لما روى عبد الرحمن بن أزهر: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بشارب فقال: "اضربوه" فضربوه بالنعال والأيدي وأطراف الثياب وحثوا عليه التراب» . وروى أنس: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بشارب، فأمر عشرين رجلا، فضربه كل واحد منهم ضربتين بالجريد والنعال» . ولأن حد الخمر لما كان أخف من غيره في العدد.. فوجب أن يكون أخف من غيره في الصفة. والثاني - وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد -: أنه يضرب بالسوط؛ لما رُوِيَ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، جلد ابنه عبيد الله بالسوط لما شرب الطلاء) . و: (ضرب عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، الوليد بن عقبة بالسوط) . ومن قال بهذا.. تأوَّل الخبرين الأولين: على أن المحدود كان مريضا أو نضو الخلق ضعيفا. فإذا قلنا: يضرب بالسوط، فضرب به فمات.. لم يجب ضمانه. وإذا قلنا: يضرب بالنعال والأيدي، فضرب بالسوط فمات.. فهل يضمن؟ فيه وجهان - حكاهما ابن الصبَّاغ مأخوذان من القولين إذا ضربه في شدة حر أو برد: أحدهما: يضمن؛ لأنه فعل ما ليس له. والثاني: لا يضمن؛ لأنه وقع موقع الحد. فإذا قلنا: يضمن.. فكم يضمن؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يضمن جميع الدية؛ لأنه تعدى بجميع الضرب، فضمن جميع الدية، كما لو ضربه بما يجرح فمات. والثاني: يضمن بقدر ما زاد ألم السوط على ألم النعال.

مسألة: الإقرار والشهادة من غير تفسير في الخمر والشم

والثالث: يضمن نصف الدية؛ لأن قدر الضرب بالأيدي والنعال مستحق، وما زاد عليه متعد به، فصار بعضه مضمونا وبعضه غير مضمون، فسقط النصف لما هو غير مضمون، ووجب النصف لما هو مضمون. وهل يجب ذلك في بيت المال، أو على عاقلة الإمام؟ على القولين. [مسألة: الإقرار والشهادة من غير تفسير في الخمر والشم] مسألة: [الإقرار والشهادة من غير تفسير يوجبان الحد في الخمر بخلاف الشم ونحوه] : ولا يجب حد الخمر حتى يقر أنه شرب خمرا، أو أنه شرب مسكرا، أو شرب شرابا يسكر منه غيره، أو تقوم عليه بينة بذلك. ولا يفتقر في الشهادة عليه إلى أن يقول الشاهد: إنه شرب شرابا مسكرا وهو غير مكره، ولا مع علمه أنه يسكر؛ لأن الظاهر من فعله الاختيار والعلم. والفرق بينه وبين الشهادة على الزِّنَى حيث قلنا: لا يحكم عليه حتى يفسر الشاهد الزِّنَى.. أن الزِّنَى يعبر به عن الصريح وعن دواعيه، وشرب الخمر لا يعبر به عن غيره. فإن وجد الرجل سكران، أو شم منه رائحة الخمر، أو تقيأ خمرا أو مسكرا.. لم يقم عليه الحد. وبه قال أكثر أهل العلم. ورُوِي عن عُثمانَ: (أنه لما شهد عنده رجلان على الوليد بن عقبة، فشهد أحدهما عليه أنه شرب الخمر، وشهد الآخر أنه تقيأها، فقال: ما تقيأها إلا وقد شربها، فحده) . ورُوِي: (أن ابن مَسعُودٍ، قدم حمص، فسألوه أن يقرأ لهم شيئا من القرآن، فقرأ سورة يوسف، فقال له رجل: ما هكذا أنزلت! فقال ابن مَسعُودٍ: قرأت عليكم كما قرأت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل الرجل ينازعه، فشم منه ابن مَسعُودٍ، رائحة الخمر، فقال: أتشرب النجس وتكذب بالقرآن؟! والله لا أبرح حتى أحدك، فحده) .

مسألة: تداخل حد الشرب يوجب حدا واحدا وماذا لو تقادم العهد قبل إقامته؟

دليلنا: أنه يحتمل أنه أكره على شربها، ويحتمل أنه ظن أنه لا يسكر، فلا يلزمه الحد بالشك. وما رُوِيَ عن عُثمانَ وابن مَسعُودٍ. فقد رُوِيَ عن عمر: (أنه شم من ابنه عبيد الله رائحة الشراب فسأله، فقال: شربت الطلاء، فقال عمر: إنِّي سائل عنه، فإن كان مسكرا.. حددتك، فسأل عنه، فقيل: إنه مسكر، فحده، ولم يحده بشم الرائحة) . وكذلك رُوِيَ عن ابن الزبير. [مسألة: تداخل حد الشرب يوجب حدا واحدا وماذا لو تقادم العهد قبل إقامته؟] إذا شرب الخمر، فلم يحد حتى شرب ثانيا وثالثا.. حد للجميع حدا واحدا، كما قلنا في حد الزِّنَى. وإن شرب الخمر، فمضى عليه زمان ولم يحد ولم يتب.. فإن الحد لا يسقط عنه، وكذلك سائر الحدود. وقال أبُو حَنِيفَة: (يسقط بتقادم العهد حد الشرب وحد الزِّنَى دون حد القذف) . دليلنا: أنه حد فلم يسقط بتقادم العهد، كحد القذف. [مسألة: اجتماع أسباب الحدود] وإن اجتمع عليه حدود بأسباب؛ بأن زنَى وهو بكر، وسرق، وشرب الخمر، وقذف.. فإنها لا تتداخل؛ لأن أسبابها مختلفة. فإن اجتمع عليه الحد في الزِّنَى، وحد القذف.. قدم حد القذف، سواء تقدم القذف أو تأخر. واختلف أصحابنا في علته: فقال أبُو إسحاق وغيره: إنما قدم؛ لأنه حق آدمي. وقال أبُو عليّ بن أبي هُرَيرَة: إنما قدم؛ لأنه أخف. والأول أصح.

وإن اجتمع حد القذف وحد الشرب. فعلى تعليل أبي إسحاق: يقدم حد القذف. وعلى تعليل أبي عليّ بن أبي هُرَيرَة: يقدم حد الشرب. فإن اجتمع مع ذلك القطع في السرقة.. قدمت هذه الحدود على القطع؛ لأنها أخف. ولا يقام عليه حد حتى يبرأ ظهره من ألم الحد الذي قبله. فإن سرق نصابا في غير المحاربة ونصابا في المحاربة.. قطعت يمينه لأحد النصابين، وتقطع رجله لأخذ المال في المحاربة، وهل يوالى بين قطع اليد والرجل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يوالى بينهما، بل لا يقطع حتى تندمل اليد؛ لأن اليد قد قطعت في السرقة بغير المحاربة، والرجل قطعت لأخذ المال في المحاربة، وهما سببان مختلفان. والثاني: يوالى بينهما، وهو الأصح؛ لأنهما حد واحد. فإن اجتمع عليه حد الزِّنَى، وحد القذف، وحد الشرب، والقطع لأخذ المال في المحاربة، والقتل في غير المحاربة.. فإن هذه الحدود تقام عليه على ما مَضَى، ثم تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى. قال الشيخُ أبُو حامد: فإذا اندملتا.. قتل قصاصا. وقال ابن مَسعُودٍ: (يقتصر على القتل وحده) . وبه قال النخعي. دليلنا: الظواهر في وجوب هذه الحدود، ولم تفرق. وإن اجتمع عليه حد الزِّنَى، وحد القذف والشرب، وأخذ المال في المحاربة، والقتل في المحاربة.. فإن هذه الحدود تقام عليه، ثم يقتل ولا يقطع للمحاربة؛ لأن المحارب إذا أخذ المال وقتل.. لم يلزمه القطع، وإنما يقتل ويصلب. وهل يجب التفريق بين هذه الحدود؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب التفريق بينها؛ لأنه إذا والى بين حدين.. لم يؤمن أن يموت قبل استيفاء ما بعدهما.

و [الثاني] : قال أبُو إسحاق: تجوز الموالاة بينهما؛ لأن القتل في المحاربة متحتم عليه، فلا معنى للتفريق. والأول أصح. وإن اجتمعت عليه هذه الحدود، وقتل في المحاربة، وقتل في غير المحاربة.. فإن هذه الحدود تقام عليه على ما مَضَى، ولا تقطع اليد والرجل للمحاربة؛ لما مَضَى. فإن كان القتل للمحاربة وجب عليه قبل القتل في غير المحاربة.. قتل للمحاربة وصلب، ووجبت الدية في ماله للقتل في غير المحاربة. وإن كان القتل في غير المحاربة وجب عليه القتل للمحاربة.. فولي المقتول بالخيار: بين أن يقتص منه وبين أن يعفو؛ فإن عفا عنه.. قتل للمحاربة وصلب. وإن اقتص منه الولي للقتل في غير المحاربة.. صلب للقتل في المحاربة. وروى الحارث بن سريج البقال عن الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه قال: (لا يصلب؛ لأن الصلب إنما يجب إذا قتل للقتل في المحاربة) وهذا يدل على صحة قول الشيخ أبي حامد إذا مات قاطع الطريق: أنه لا يصلب. والله أعلم وبالله التوفيق

باب التعزير

[باب التَّعزِير] التَّعزِير: اسم يختص بالضرب الذي يضربه الإمام أو خليفته؛ للتأديب في غير الحدود. فأما ضرب الرجل زوجته، وضرب المعلم للصبي.. فلا يسمى تعزيرا، وإنما يسمى تأديبا. فإذا فعل الإنسان معصية ليس فيها حد ولا كفارة، كوطء الأجنبية فيما دون الفرج، والسرقة فيما دون النِّصَاب أو من غير حرز، أو القذف بغير الزِّنَى، أو الجنايات التي ليس فيها أرش.. فللإمام أن يعزره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] [النساء: 34] فأجاز للزوج أن يضرب زوجته للنشوز، والنشوز معصية، فدلَّ على: أن كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.. يجوز الضرب لأجلها. ورَوَى عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا قطع في الثمر المعلق إلا ما آواه الجرين، فإذا آواه الجرين وبلغت قيمته ثمن المجن.. ففيه القطع، وإن لم تبلغ قيمته ثمن المجن.. ففيه الغرم وجلدات نَكَالا» . ورَوَى أبُو بردة بن نيار: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجلد أحد فوق عشر جلدات في غير حد من حدود الله» . فدلَّ على: أنه يجوز ضرب عشر جلدات في غير الحدود. ورُوِي: «أن

النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عزر إنسانا» . ورُوِي: (أن معن بن زائدة زور على عمر كتابا، فعزره) . ورُوِي: أن علياً سئل عن قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا خبيث، فقال: (هن فواحش، فيهن تَعزِير، وليس فيهن حد) . إذا ثبت هذا: فإن التَّعزِير غير مقدر، بل إن رأى الإمام أن يحبسه.. حبسه. وإن رأى أن يجلده.. جلده. ولا يبلغ به أدنى الحدود؛ فإن كان حرا.. لم يبلغ به أربعين جلدة، بل ينقص منها ولو جلدة. وإن كان عبدا.. لم يبلغ به عشرين جلدة. وبه قال أبُو حَنِيفَة ومحمد. وحكى الشيخُ أبُو حامد: أن من أصحابنا من قال لا يبلغ بتعزير الحر عشرين جلدة. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: ينظر في المعصية التي يعزر لأجلها، فإن كانت من جنس الشرب، مثل أن يكون قد أدار كأس الماء على جماعة على هيئة إدارة كأس الخمر.. عزر دون الأربعين. وإن كانت من جنس القذف؛ بأن يشتم إنسانا بما ليس بقذف.. فإنه يضرب دون الثمانين. وإن كانت من جنس الزِّنَى؛ مثل أن يطأ أجنبية فيما دون الفرج أو يقبلها.. فإنه يضرب دون المائة. وقال أبُو يوسف وابن أبي ليلى: يجوز أن يبلغ بالتَّعزِير خمسا وسبعين، ولا يزاد عليه. وقال مالك والأَوزَاعِي: (له أن يضرب في التَّعزِير أي عدد شاء على حسب ما يؤدي إليه اجتهاده) . والأول أصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بلغ بما ليس بحد حدا.. فهو من المعتدين» .

فرع: جواز التعزير وتركه

ورَوَى أبُو بردة بن نيار أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجلد أحد فوق عشر جلدات في غير حد من حدود الله» . وعند المخالف: يجوز أن يجلد مائة في غير الحد. فإن قيل: فالخبر يدل على أنه لا يجوز الزيادة على العشر في غير الحد؟ قلنا: قد أجمعت الأمة: على أنه يجوز الزيادة على العشر ما لم يبلغ به أدنى الحدود، فيستدل بالإجماع على نسخ ظاهر الخبر. ورُوِي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه كتب إلى أبي موسى: (أنه لا يبلغ بنَكَال أكثر من عشرين سوطا) . ورُوِي: (ثلاثين سوطا) . ورُوِي: (ما بين الثلاثين إلى الأربعين) . ولأن العقوبة إذا علقت في الشَّرع بجرم.. لم تتعلق بما دونه، كالقطع لما علق بسرقة النِّصَاب لم يتعلق بما دونه. ويكون الضرب في التعزير بين الضربين، كما قلنا في الحد. وقال أبُو حَنِيفَة: (الضرب في التَّعزِير يكون أشد من الضرب في الزِّنَى، ثم الضرب في الشرب دون الضرب في الزِّنَى، ثم الضرب في القذف) . وقال الثوريُّ: الضرب في القذف أشد من الضرب في الشرب. دليلنا: أن التَّعزِير أخف من الحد في عدده، فلا يجوز أن يزاد عليه في إيلامه ووجعه. [فرع: جواز التَّعزِير وتركه] قال الشيخُ أبُو إسحاق: إن رأى السلطان ترك التَّعزِير.. جاز تركه إذا لم يتعلق به حق آدمي. وقال الشيخُ أبُو حامد: التَّعزِير ليس بواجب، بل الإمام بالخيار: إن شاء فعله، وإن شاء تركه. ولم يفرق بين أن يتعلق به حق آدمي أو لا يتعلق. وقال أبُو حَنِيفَة: [إن غلب على ظن الإمام أنه لا يصلح الرجل إلا التَّعزِير.. فالتَّعزِير واجب،

ولا يجوز للإمام تركه. وإن غلب على ظنه أنه يصلحه الجلد وغيره.. فليس ذلك بواجب] . دليلنا: ما رُوِيَ: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أقيلوا ذَوِي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود» . ورُوِي: «أن الزبير ورجلا من الأنصار اختصما إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شراج الحرة- و (الحرة) : هي الأرض الملبسة بالحصى، و (الشراج) : هي الساقية التي فيها الماء - فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اسق يا زبير أرضكم، ثم أرسل الماء إلى جارك". فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك يا رسول الله؟! فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى تبلغ أصول الجدر» . فموضع الدليل: أن الأنصاري اتهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قضى للزبير؛ لأنه ابن عمته، وهذا يستحق به القتل فضلا عن التَّعزِير، فترك النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعزيره. فمن أصحابنا من قال: إنما أمر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزبير أن يسقي أرضه إلى أن يبلغ الماء إلى الجدر، وذلك زائد على ما تستحقه من الشرب، تعزيرا للأنصاري حين قال ما قال، وكان ذلك حين كانت العقوبات في الأموال. ومنهم من قال: بل كان أمر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير في المرة الأولى أن يأخذ أقل من حقه من السقي، فلما قال الأنصاري ما قال.. أمره النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يستوفي جميع حقه، وهو: أن يبلغ الماء إلى أصول الجدر، وإذا بلغ ذلك.. كان إلى الكعب. وكان قول الأنصاري هذا يقتضي التَّعزِير، وإنما ترك النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعزيره على ما مَضَى. ولأنه ضرب غير محدود، فلم يكن واجبا، كضرب الزوج زوجته، وكما لو غلب على ظن الإمام أنه يصلحه الضرب وغير الضرب.

فرع: موت المعزر يوجب الضمان

[فرع: موت المعزر يوجب الضمان] إذا عزر الإمام رجلا فمات.. وجب ضمانه. وحكى الطبري في " العدة " وجها آخر: أن التَّعزِير نوعان: [أحدهما] : نوع واجب، كتعزير من قذف أمة أو ذمية، أو وطئ أجنبية فيما دون الفرج، فإذا عزر فيه الإمام فأدى إلى التلف.. لم يضمنه الإمام. و [الثاني] : نوع لا يجب؛ مثل: أن يسيء أدبه في مجلس القاضي، فإذا عزره القاضي ومات.. وجب ضمانه. والأول أصح. وقال أبُو حَنِيفَة: (إن غلب على ظن الإمام أنه لا يصلحه إلا الضرب، فضربه فمات.. لم يجب ضمانه؛ لأنه تَعزِير واجب. وإن غلب على ظنه أنه يصلحه الضرب وغيره، فضربه ومات.. وجب ضمانه) . دليلنا: ما رُوِيَ عن عليّ: أنه قال: (ما من أحد أقيم عليه الحد فيموت، فأجد في نفسي منه شيئا إلا حد الخمر - ورُوِي - إلا ما كان من شارب الخمر؛ فإنه شيء أحدثناه بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمن مات منه.. فديته على عاقلة الإمام) . أو قال: (في بيت المال) ، والذي أحدثوه بعد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الزيادة على الأربعين، وهو التَّعزِير، فثبت أنه إذا مات من التَّعزِير.. وجب ضمانه. وكذلك في قصة المرأة التي أرسل إليها عمر فأسقطت جنينا ميتا، فحكم عليّ بـ (أن دية الجنين على عاقلة عمر) . ولم يخالفه أحد، فدلَّ على أنه: إجماع. ولأنه ضرب غير محدود، له عنه مندوحة، فكان مضمونا، كالضرب في النشوز. فقولنا: (غير محدود) احتراز من الضرب في الحد؛ فإنه محدود. وقولنا: (له عنه مندوحة) احتراز من ضرب الرائض للدابة؛ فإنه لا مندوحة له عنه؛ لأنه لا يمكن

مسألة: أزال السلعة من رجل فمات

تأديبها إلا بالضرب، وهذا قد كان يمكنه تأديبه بالزجر بالكلام والحبس. وهل يجب ذلك على عاقلة الإمام، أو في بيت المال؟ على القولين. [مسألة: أزال السلعة من رجل فمات] إذا كان على إنسان سلعة - وهي: كالجوزة تكون بين الجلد واللحم، تكون على الرأس والبدن، قال ابن الصبَّاغ: وهي بكسر السين، والسلعة - بفتح السين-: هي الشجة - فإن قطعها منه إنسان فمات.. نظرت: فإذا كانت على إنسان غير مولى عليه، فإن قطعها بإذنه.. فلا ضمان عليه. وإن قطعها بغير إذنه، أو أكرهه على قطعها.. لزمه القود إن كان ممن يجب له عليه القود. وإن كانت على مولى عليه، فإن قطعها من لا ولاية له عليه.. فعليه القود، أو الدية إن لم يكن ممن يجب له عليه القود. وإن قطعها ولي عليه، فإن كان أبا أو جدا.. لم يلزمه القود، ووجبت عليه ديته. وإن كان غيرهما من الأولياء.. ففيه قولان، مَضَى ذكرهما في (الجنايات) . وإن كان القاطع إماما.. فهل تجب الدية في ماله، أو على عاقلته؟ على القولين. وبالله التوفيق [كتاب الأقضية] [باب أدب القضاء]

كتاب الأقضية

كتاب الأقضية باب أدب القضاء القضاء واجب. والأصل في ثبوته في الشرع: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. أما الكتاب: فقوله تعالى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] [ص: 26] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] [النساء: 65] وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء: 58]

[النساء: 58] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48] [المائدة: 48] . ولأن الله تعالى ذم قوما امتنعوا من الحكم، ومدح قوما أجابوا إلى الحكم، فقال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] [النور: 48] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] [النور: 51] . وأما السنة: فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم بين الناس و: «بعث عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى اليمن للقضاء بين الناس» . وأما الإجماع: فإن الخلفاء الراشدين حكموا بين الناس و: (بعث أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنس بن مالك إلى البحرين ليقضي بين الناس) ، و: (بعث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أبا موسى الأشعري إلى البصرة قاضيا) ، و: (بعث عبد الله بن مسعود إلى الكوفة قاضيا) .

وأما القياس: فلأن الظلم من شيم النفوس، وطبع العالم، ولهذا قال الشاعر: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم فإذا كان كذلك.. فلا بد من حاكم لينصف المظلوم من الظالم. إذا تقرر هذا: فقد وردت أخبار تدل على ذم القضاء، وأخبار تدل على مدحه. فأما التي تدل على ذمه: فما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم قال: «من استقضى.. فكأنما ذبح بغير سكين» قيل لابن عباس: وما الذبح؟ قال: (نار جهنم) . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يؤتى بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من

شدة الحساب ما يود أنه لم يكن قضى بين اثنين» . «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: " إني أحب لك ما أحب لنفسي: فلا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم» . وأما الأخبار التي تدل على مدحه: فما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب.. فله أجران، وإن أخطأ.. فله أجر واحد» . وروى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» . وتأويل ذلك: أن الأخبار التي تدل على ذمه محمولة على من علم من نفسه أنه لا يقوم بالقضاء؛ إما لجهله أو لقلة أمانته. والأخبار التي تدل على مدحه محمولة على من علم من نفسه القيام بالقضاء لعلمه وأمانته. والدليل على صحة هذا التأويل: ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القضاة ثلاثة،

مسألة أحوال الناس في القضاء وطلب الإمام تولية رجل منهم

واحد في الجنة واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة: فرجل علم الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فجار في حكمه، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار» . وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من طلب القضاء حتى يناله، فإن غلب عدله جوره.. فهو في الجنة، وإن غلب جوره عدله.. فهو في النار» . وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جلس القاضي.. بعث الله إليه ملكين يسددانه، فإن عدل.. أقاما، وإن جار.. عرجا وتركاه» . [مسألة أحوال الناس في القضاء وطلب الإمام تولية رجل منهم] ] : الناس في القضاء على ثلاثة أضرب: منهم من يجب عليه القضاء، ومنهم من لا يجوز له القضاء، ومنهم من يجوز له القضاء ولا يجب عليه. فأما (من يجب عليه) فهو: أن يكون رجل من أهل الاجتهاد والأمانة، وليس هناك من يصلح للقضاء غيره، فيجب على الإمام أن يوليه القضاء، وإذا ولاه الإمام..

لزمه القبول، فإن امتنع.. أجبره. فإن لم يعرفه الإمام.. لزمه أن يعرف الإمام حاله، وأن يعرض نفسه عليه للقضاء؛ لأن ذلك يجري مجرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو لم يكن من يصلح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا واحد.. لتعين ذلك عليه. وأما (من لا يجوز له القضاء) فهو: أن يكون الرجل ليس من أهل الاجتهاد، أو كان من أهل الاجتهاد إلا أنه فاسق.. فهذا لا يجوز له القضاء، وإن ولاه الإمام.. لم تنعقد ولايته، وإن حكم.. لم يصح حكمه، خلافا لأبي حنيفة، ويأتي الدليل عليه في موضعه. وأما (الذي لا يجب عليه القضاء ويجوز له) فهو: أن يكون هناك رجلان أو جماعة يصلح كل واحد منهم للقضاء.. فإن القضاء لا يجب على واحد منهم بعينه، بل وجوب القضاء عليهم على طريق الكفاية، وإذا قام به أحدهم.. سقط الفرض عن الباقين، وإن امتنعوا كلهم عن القضاء.. أثموا؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقدس الله أمة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه» . فإن طلب الإمام أن يولي رجلا منهم.. فهل يتعين عليه القضاء بتولية الإمام له، وهل يجوز للإمام أن يجبر واحدا منهم؟ فيه وجهان: أحدهما: يتعين عليه، ويجوز للإمام إجباره؛ لأنه دعاه إلى واجب فتعين عليه، ولأنه إذا امتنع هذا.. فربما امتنع الباقون، فيؤدي ذلك إلى تعطيل القضاء. والثاني: لا يتعين عليه، ولا يجوز له إجباره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا لا نجبر على

الحكم أحدا» ، ولأنا لو قلنا يتعين عليه، ويجوز له إجباره.. لصار القضاء والقصاص متعينا عليه. ومن جاز له الدخول في القضاء ولم يجب عليه.. فهل يستحب له القضاء إذا دعي إليه؟ ينظر فيه: فإن كان له مال يكفيه وهو مشهور يقصده الناس للفتيا والتدريس.. لم يستحب له ذلك؛ لأنه لا يأمن على نفسه من الخطأ، والأولى له أن يشتغل بالفتيا والتدريس؛ لأن ذلك أسلم. وعلى هذا يحمل امتناع ابن عمر حين دعاه عثمان إلى القضاء. وكذلك روي: (أن أبا ذر طلب للقضاء فهرب، فقيل له: لو وليت وقضيت بالحق؟ فقال: من يقع في البحر إلى كم يسبح؟) . وإن كان لا مال له يكفيه ويرجو بالقضاء أخذ الرزق عليه من بيت المال.. يستحب له القضاء؛ لأنه لا بد له من مكتسب، واكتسابه بتولي الطاعة أولى من الاكتساب بغيره. وكذلك: إذا كان معه مال يكفيه إلا أنه خامل الذكر لا يقصده الناس للفتيا والتدريس.. فيستحب له القضاء؛ ليشتهر في الناس وينتفع بعلمه. ومن استحب له ولاية القضاء إذا دعي إليه.. فهل يستحب له طلبه وبذل العوض منه لذلك؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يستحب له طلبه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إخبارا عن يوسف:

فرع أخذ الرزق على القضاء

{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] الآية [يوسف: 55] فطلب الاستئمان. ويجوز له بذل العوض؛ ذلك لأنه يتوصل به إلى مطلوبه. ومنهم من قال: لا يستحب له ذلك، ولا يجوز له بذل العوض؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الرحمن بن سمرة: " يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة.. وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة.. أعنت عليها» . وروى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من طلب القضاء فاستعان عليه.. وكل إليه، ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه.. أنزل الله تعالى إليه ملكا ليسدده» . ومن قال بالأول.. حمل الخبر على من طلب ذلك محبة للرياسة، فأما إذا طلب ذلك للقربة أو لحصول كفايته.. فلا بأس عليه بذلك. [فرع أخذ الرزق على القضاء] ] : وأما أخذ الرزق على القضاء.. فينظر فيه: فإن كان قد تعين عليه القضاء، فإن كان له كفاية.. لم يجز له أخذ الرزق عليه؛ لأنه فرض توجه عليه، فلا يجوز له أخذ الرزق عليه مع الاستغناء عنه. وإن لم يكن له كفاية، أو كان مكتسبا وإذا اشتغل بالقضاء تعطل عليه الكسب.. جاز له أخذ الرزق عليه؛ لأنه إذا اشتغل بالقضاء.. بطل عليه كسبه وذهب معاشه. وإن لم يتعين عليه القضاء، فإن كانت له كفاية.. فالمستحب له: أن لا يأخذ عليه رزقا؛ لأنه قربة في حقه، فكره له أخذ العوض عليه. وإن أخذ الرزق عليه.. جاز؛

لما روي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما ولي الخلافة.. خرج إلى السوق برزمة ثياب، فقالوا: ما هذا؟ فقال: أنا كاسب أهلي، فقالوا: لا يصلح هذا مع الخلافة، فاجتمعت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وقدروا له كل يوم درهمين من بيت المال) . وروي: (أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جعلوا له كل يوم شاتين؛ شاة لغدائه وشاة لعشائه، وألف درهم في كل سنة. فلما ولي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا يكفيني ذلك، فأضعفوا له ذلك) . وإذا ثبت ذلك في الإمامة.. كان في القضاء مثله؛ لأنهما في معنى واحد. وروي: أن عمر قال: أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة ولي اليتيم: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] [النساء: 6] . وروي: (أن عمر رضي الله بعث إلى الكوفة عمار بن ياسر واليا، وعبد الله بن مسعود قاضيا، وعثمان بن حنيف ماسحا، وفرض لهم كل يوم شاة؛ نصفها وأطرافها لعمار، والنصف الآخر بين عبد الله وعثمان، وقال: إن بلدا يخرج منها كل يوم شاة لسريع خرابها) ، و: (لما ولى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شريحا القضاء.. أجرى له كل شهر مائة درهم) ، و: (لما ولاه علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.. أجرى له ذلك) . ولأن مال بيت المال للمصالح، وهذا من المصالح. ولا يكون ما يأخذه القاضي أجرة، وإنما هو رزق، كالذي يأخذه الإمام والمؤذن. وإن عقد الإجارة على القضاء.. لم يصح؛ لأنه عمل غير معلوم. وإن وجد الإمام من يتطوع للقضاء من غير رزق يأخذه.. لم يول القضاء من يطلب الرزق. ويدفع إلى القاضي مع رزقه شيء للقراطيس التي يكتب بها المحاضر والسجلات من

فرع تولية الإمام قاضيا في بلده أو غيره

بيت المال؛ لأن ذلك من المصالح. فإن لم يكن في بيت المال شيء، أو كان وهناك ما هو أهم منه يحتاج إليه لذلك.. قال القاضي لمن ثبت له الحق: إن اخترت أن تأتي بكاغد أكتب لك ذلك.. فافعل. ويدفع للقاضي مع رزقه لمن يكون على بابه من الوكلاء؛ لأنه يحتاج إلى ذلك كما يحتاج إلى العامل في الصدقات. [فرع تولية الإمام قاضيا في بلده أو غيره] ] : ويجوز للإمام أن يولي قاضيا في البلد الذي هو فيه؛ لما روي: «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن العاص: " اقض بينهما " فقال: أقضي بينهما وأنت حاضر! قال: " اقض بينهما، فإن أصبت.. فلك أجران، وإن أخطأت.. فلك أجر واحد» وفي رواية: «إن أصبت.. فلك عشر حسنات، وإن أخطأت.. فلك حسنة واحدة» . وروي: (أن رجلين أتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال أحدهما: يا رسول الله، إن لي حمارا، ولهذا بقرة، فإن بقرته قتلت حماري، فأرسلهما إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: لا ضمان على البهائم، فأرسلهما إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال مثل ذلك، فأرسلهما إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: أكانا مشدودين؟ فقالا: لا، قال: أفكانا مرسلين؟ قالا: لا، قال: فكانت البقرة مشدودة والحمار مرسلا؟ قالا: لا، قال: أكان الحمار مشدودا والبقرة مرسلة؟ قالا: نعم، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: على صاحب البقرة الضمان) ، فدل على جواز القضاء بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأما الخبر فتأويله: أن أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حملا الأمر على الظاهر

مسألة الشروط المطلوبة في القاضي والمفتي

وأنهما كانا مرسلين، لا يد لأحد عليهما، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استفصلهما وأوجب الضمان على صاحب البقرة، ويحتمل أنها كانت تحت يد صاحبها. وإن كان الإمام ببلد واحتاج أهل بلد آخر إلى قاض.. وجب على الإمام أن يبعث إليهم قاضيا؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث عليا إلى اليمن قاضيا» . ولأنهم يشق عليهم قصد بلد الإمام لخصوماتهم. فإن كان الإمام يعرف أهل الاجتهاد والعدالة.. بعث قاضيا منهم، وإن كان لا يعرفهم.. جمع أهل المذاهب في مجلسه وسألهم أن يتناظروا بين يديه، فإذا علم المجتهد منهم.. بحث عن عدالته، فإذا ثبتت عدالته.. ولاه القضاء وبعثه إليهم. [مسألة الشروط المطلوبة في القاضي والمفتي] ] : ويشترط في القاضي والمفتي أن يكونا من أهل الاجتهاد، وهو: أن يكون عالما بالكتاب، والسنة، والإجماع، والاختلاف، ولسان العرب والقياس. فأما الكتاب: فلا يشترط أن يكون عالما بجميع ما فيه من القصص والأخبار،

وإنما يشترط أن يكون عالما بأحكامه، وهو: أن يعرف العام منه، والخاص، والمحكم، والمتشابه، والمجمل، والمفسر، والمطلق، والمقيد، والناسخ، والمنسوخ. وأما السنة: فلا يشترط معرفة المغازي ولا الآثار التي تتعلق بالأحكام، بل يعلم الأحكام منها التي ذكرناها في الكتاب، ويعرف الآحاد، والمتواتر، والمسند، والمرسل. وأما الإجماع: فيعرف أقوال العلماء وما أجمعوا فيه وما اختلفوا فيه، ويعرف طرفا من لسان العرب ليمكنه أن يعرف أحكام الكتاب والسنة؛ لأنهما عربيان.

ويعرف القياس على ما بين في أصول الفقه. قال ابن داود: شرط الشافعي في الحاكم والمفتي شروطا لا توجد إلا في الأنبياء. ومن أصحابنا من قال: شرط الشافعي شروطا في الحاكم والمفتي تمنع أن يكون أحد بعده حاكما أو مفتيا. وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد يسهل تعلمه الآن؛ لأنه قد دون وجمع. هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: أما القاضي: فعلى ما مضى، وأما المفتي: فإن الرجل إذا عرف مذهب إمام حبر ولم يبلغ مبلغ المجتهدين.. فهل يجوز له أن يفتي على مذهب ذلك الإمام؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، وهو اختيار القفال. والثاني: لا يجوز. وأصل هذا: أن المستفتي، هل هو مقلد للمفتي أو للميت وهو صاحب المذهب؟ فيه وجهان. فإن قلنا: إنه مقلد لصاحب المذهب.. جاز له أن يفتي. وإن قلنا: إنه مقلد للمفتي.. لم يجز له أن يفتي. هذا مذهبنا، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (لا تشترط هذه الشرائط في القاضي، بل يجوز أن يكون عاميا ويقلد العلماء ويحكم) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48] [المائدة: 48] ، والتقليد ليس مما أنزل الله. ولما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان

في النار، فأما الذي في الجنة: فرجل عرف الحق وحكم به فهو في الجنة، ورجلا عرف الحق فجار في حكمه فهو في النار، ورجل قضى بين الناس على جهل فيه فهو في النار» ، والمقلد يقضي بجهل. ولأن الحكم آكد من الفتيا؛ لأن المفتي لا يلزم المستفتي ما يفتيه به، فإذا لم يجز أن يكون المفتي عاميا.. فلأن لا يجوز أن يكون القاضي عاميا أولى. ويشترط أن يكون القاضي مع كونه مجتهد - عدلا كاملا. فأما (العدل) : فلا يجوز أن يكون كافرا ولا فاسقا، فإن تولى القضاء وهو عدل ثم فسق.. بطلت ولايته. وقال الأصم: يجوز أن يكون فاسقا. دليلنا: أن القضاء يتضمن الولاية في التزويج والنظر في أموال السفهاء واليتامى والوقوف، والفسق ينافي هذه الولايات، فلم ينعقد مع القضاء. وأما (الكمال) : فيشترط أن يكون كاملا في الحكم والخلق. و: (الكمال في الحكم) : أن يكون ذكرا، بالغا، عاقلا، حرا. وقال ابن جرير: يجوز أن تكون المرأة قاضية في جميع الأحكام، كما يجوز أن تكون مفتية. وقال أبو حنيفة: (يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود، ولا يجوز أن تكون قاضية في الحدود) . دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أفلح قوم وليتهم امرأة» . وروي: «ولوا أمرهم امرأة» ، وضد الفلاح الفساد، فاقتضى الخبر: أنها إذا وليت القضاء.. فسد أمر من وليتهم.

وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في النساء: " أخروهن من حيث أخرهن الله» ، والمرأة إذا وليت القضاء.. كانت مقدمة والرجال مؤخرين عنها، فلم يجز. ولأن حال القضاء آكد من حال الإمامة في الصلاة، فإذا لم يجز أن تكون المرأة إمامة للرجال.. فلأن لا يجوز أن تكون قاضية أولى. ولا يجوز أن يكون الخنثى المشكل قاضيا؛ لجواز أن يكون امرأة. وأما (الكمال في الخلق) : فلا يجوز أن يكون القاضي أعمى، ولا أصم، ولا أخرس؛ لأن فقد هذه الحواس يمنع من استيفاء الحكم بين الخصمين. وحكى الشيخ أبو إسحاق في الأخرس وجها آخر: أنه يصح أن يكون قاضيا إذا فهمت إشارته. والمشهور هو الأول. وهل يصح أن يكون القاضي أميا لا يكتب؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه من أهل الاجتهاد والعدالة، وفقد الكتابة لا يؤثر فيه، كما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يكتب وهو إمام الأئمة وحاكم الحكام. والثاني: لا يجوز؛ لأنه يحتاج أن تقرأ عليه المحاضر والسجلات، ويقف على ما يكتب كاتبه، فإذا لم يكن كاتبا.. ربما غير القارئ والكاتب. ويفارق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإن كونه لا يكتب من معجزاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن أصحابه كانوا عدولا تؤمن منهم الخيانة في الكتاب له، ولو خان أحد منهم في ذلك.. أعلمه الله به. ويستحب أن يكون القاضي مع هذه الشرائط حليما، ذا فطنة وتيقظ، عالما بلغات أهل قضائه، جامعا للعفاف، بعيدا عن الطمع، لينا في الكلام، ذا سكينة ووقار؛ لما روي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولى أبا الأسود القضاء ساعة ثم عزله، فقال له: لم

مسألة يعقد القضاء الإمام أو نائبه وماذا لو عزله

عزلتني، فوالله ما خنت؟! فقال: بلغني أن كلامك يعلو كلام الخصمين إذا تحاكما إليك) . ويستحب ألا يكون القاضي جبارا متكبرا؛ لأن ذلك يمنع الخصم من استيفاء حجته. ويستحب ألا يكون القاضي ضعيفا مهينا؛ لأنه إذا كان بهذه الصفة.. انبسط الخصمان بالشتائم، وذكر السخف بين يديه، وربما انبسط عليه بالكلام. ويستحب أن يكون بين هاتين الحالتين؛ لما روي عن بعض السلف: أنه قال في صفة القاضي: (شدة من غير عنف، ولين من غير ضعف) . وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (لقد هممت أن أنزع هذا الأمر من هؤلاء وأضعه فيمن إذا رآه الفاجر فزع منه) . وروي: (فرق منه) . [مسألة يعقد القضاء الإمام أو نائبه وماذا لو عزله] ؟] : ولا يصح عقد القضاء إلا من الإمام أو النائب عنه. فإن عقد الإمام القضاء لرجل يصلح للقضاء، ثم عزله وهو يصلح للقضاء.. فهل ينعزل؟ فيه وجهان:

فرع التحاكم عند من له أهلية القضاء

أحدهما: لا ينعزل، كما لو عقد أهل العقد والحل الإمامة لمن يصلح لها، ثم عزلوه من غير سبب. والثاني: ينعزل؛ لما ذكرناه من عزل علي لأبي الأسود. فإن قلنا بهذا: فقال له الإمام: قد عزلتك.. انعزل بذلك. وإن كتب إليه: عزلتك.. فهل ينعزل قبل أن يعلم بالعزل؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما قلنا في الوكيل. وقال الشيخ أبو زيد المروزي: لا ينعزل حتى يبلغه العزل قولا واحدا؛ لأنا لو قلنا: ينعزل قبل أن يبلغه العزل.. أدى إلى فساد عظيم؛ لأنه يزوج ويقيم الحدود. وإن كتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا فأنت معزول.. لم ينعزل قبل أن يأتيه الكتاب. فإن كتب إليه: إذا قرأت كتابي هذا فأنت معزول.. لم ينعزل قبل أن يقرأ كتابه. وإذا ولى الإمام قاضيا ثم مات الإمام.. لم ينعزل القاضي؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولوا قضاة فلم ينعزلوا بموتهم. [فرع التحاكم عند من له أهلية القضاء] فرع: [صحة التحاكم عند من له أهلية القضاء] : وإن تحاكم رجلان عند رجل يصلح للقضاء وليس بقاض، فحكم بينهما.. صح حكمه؛ لما روي: (أن عمر وأبي بن كعب تحاكما إلى زيد بن ثابت) ، و: (تحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم) . فإن قيل: كان عمر وعثمان الإمامين في وقتهما، وإذا ردا ذلك إلى غيرهما.. صار حاكما؟ فالجواب: أنه لم ينقل عنهما أكثر من الرضا بالحكم، وبذلك لا يصير حاكما. وبأي شيء يلزم حكمه بينهما؟ فيه قولان: أحدهما: لا يلزمهما حكمه إلا برضاهما بحكمه بعد الحكم؛ لأنه لما اعتبر رضاهما في ابتداء الحكم عنده.. اعتبر رضاهما بلزوم حكمه.

والثاني: يلزمهما حكمه بنفس الحاكم؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حكم بين اثنين تراضيا بحكمه، فلم يعدل.. فعليه لعنة الله» ، فلما توعده على ترك العدل في الحكم.. دل على أنه إذا عدل.. لزم حكمه، ولأن من صح حكمه.. لزم حكمه بنفس الحكم، كالحاكم إذا ولاه الإمام. فعلى هذا: إذا حكم بينهما.. لم يكن لأحدهما الامتناع، وإن امتنع أحدهما بعد شروعه في الحكم وقبل تمامه.. ففيه وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأن رضاهما لم يوجد حال الحكم، فهو كما لو امتنع أحدهما قبل شروعه في الحكم. والثاني: ليس له ذلك؛ لأنا لو جوزنا له ذلك؛ لأدى إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحاكم ما لا يوافقه.. رجع، فيؤدي إلى إبطال المقصود. واختلف أصحابنا في الموضع الذي يصح فيه حكمه: فمنهم من قال: يصح في جميع الأحكام؛ لأن من صح حكمه في حكم من الأحكام، صح في جميع الأحكام، كالحاكم إذا ولاه الإمام. والثاني: يصح حكمه في جميع الأحكام إلا في أربعة أحكام: النكاح، واللعان، وحد القذف، والقصاص؛ لأن هذه الأحكام غلظ بها في الشرع، فلا يجوز أن يتولاها إلا الإمام أو من ولاه الإمام. هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال المسعودي [في " الإنابة "] : إذا حكما بينهما حاكما، فحكم.. فهل ينفذ حكمه؟ فيه قولان.

مسألة تعدد القاضي

إذا ثبت هذا: فإن التحكيم من الخصمين يجوز، سواء كان في البلد حاكم أو لم يكن حاكم. وإذا رفع حكمه إلى الحاكم الذي ولاه الإمام.. لم ينقض حكمه إذا كان مثله لا ينقض. وقال أبو حنيفة: (إذا رفع حكم إلى الحاكم الذي ولاه الإمام.. فله أن ينقضه إذا خالف رأيه، وإن كان مما لا ينقض مثله على الحاكم الذي ولاه الإمام.. قبله) . دليلنا: أنه حكم قد صح ولزم، فلم يكن له فسخه لمخالفته رأيه، كما لو كان من حاكم قبله ولاه الإمام. [مسألة تعدد القاضي] مسألة: [جواز تعدد القاضي] : ويجوز للإمام أن يجعل قضاء بلد إلى اثنين أو أكثر على أن يحكم كل واحد منهما في موضع، أو على أن يحكم أحدهما في حق والآخر في حق آخر، أو على أن يحكم كل واحد منهما في زمان؛ لأنهما يملكان الحكم بإذنه، فكان على حسب ما أذن فيه لهما. وهل يجوز أن يجعل إليهما القضاء في مكان واحد، في زمان واحد، وحق واحد؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، كما يجوز ذلك في سائر الأشياء التي يجوز النيابة فيها. والثاني: لا يجوز؛ لأنهما قد يختلفان في الحكم فيبطل المقصود. ولا يجوز أن يعقد القضاء على أن يحكم بمذهب إمام بعينه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] [ص: 26] ، والحق لا يتعين في مذهب إمام بعينه، بل الحق ما دل عليه الدليل. [مسألة ما يستحب للإمام أو القاضي بعد توليته] ] : إذا ولى الإمام رجلا القضاء على بلد.. فالمستحب له: أن يكتب له كتاب العهد والتولية؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث عمرو بن حزم إلى اليمن.. كتب له

عهدا» ، و: (كتب أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنس حين بعثه إلى البحرين) . ويأمره في العهد بتقوى الله، والتثبت في القضاء، ومشاورة أهل العلم، وما يحتاج إليه من القيام بحفظ أموال اليتامى والوقوف، ومراعاة حال الشهود، وغير ذلك. فإن كان البلد الذي ولاه القضاء عليه بعيدا عن البلد الذي فيه الإمام؛ بحيث لا ينتشر الخبر بتوليته إليهم.. أحضر شاهدين عدلين وقرأ عليهما كتاب العهد، أو قرئ عليهما بحضرته وهما ينظران الكتاب لئلا يغير القارئ شيئا، وقال لهما الإمام: أشهدكما أني قد وليت فلانا القضاء على البلد الفلاني وأني تقدمت إليه بما في كتاب العهد، ويمضيان معه إلى البلد الذي ولي القضاء عليها ليقيما له الشهادة بها على توليته. وإن كان البلد الذي ولي القضاء عليها قريبا من بلد الإمام؛ بحيث ينتشر الخبر إليهم بتوليته.. ففيه وجهان. [أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يفتقر إلى الإشهاد؛ لأن الخبر ينتشر إلى البلد القريب فيقع لهم العلم بتوليته ذلك. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: يفتقر إلى الإشهاد؛ لأنه عقد، فلم يثبت بالاستفاضة، كالبيع. وهذا مثل اختلافهما في الوقف، والعتق، والنكاح: هل يثبت بالاستفاضة؟ وإذا أراد الحاكم أن يسير إلى بلد ولايته.. فإنه يبحث عمن ببلد الإمام من ذلك البلد، فإن وجد فيها ثقة.. سأله عن البلد الذي ولي عليها ومن فيها من العلماء والأمناء والشهود العدول. فإن لم يجد ببلد الإمام من يخبره عن ذلك.. بحث عن ذلك في طريقه ليقدم له الخبر بذلك، فإن لم يجده في طريقه.. بحث عنه في البلد. والمستحب: أن يدخل البلد الذي ولي القاضي عليها يوم الاثنين؛ لـ: «أن

مسألة الإذن في الاستخلاف للقاضي

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل المدينة لما هاجر إليها يوم الاثنين» . والمستحب: أن ينزل وسط البلد ليتساوى أهل البلد في قصده، ثم يأمر مناديا ينادي في البلد: ألا إن فلانا بن فلان القاضي قد قدم إليكم قاضيا، فاجتمعوا لسماع عهده لوقت كذا. فإن كان البلد كبيرا.. نودي يومين أو ثلاثا ليتصل بجميعهم النداء. وإن كان صغيرا.. نودي فيه يوما. وإن كانت قرية يمكن جمع أهلها في ساعة.. جمعهم فيها في موضع بارز وقرأ عليهم العهد، ثم رجع إلى منزله وابتدأ في النظر على ما نذكره فيما بعد. [مسألة الإذن في الاستخلاف للقاضي] مسألة: [استحباب الإذن في الاستخلاف للقاضي] : وإن ولى الإمام رجلا القضاء على بلد.. فالمستحب له: أن يأذن له أن يستخلف فيما يمكنه القيام به وفيما لا يمكنه؛ لأنه قد يحتاج إليه. فإذا أذن له في الاستخلاف.. جاز له أن يستخلف، وإن نهاه عن الاستخلاف.. قال الشيخ أبو إسحاق: فليس له أن يستخلف؛ لأنه نائب عنه فتبع أمره ونهيه. وقال القاضي أبو الطيب: إن كان ما ولاه يمكنه القيام به.. لم يجز له أن يستخلف، وإن كان لا يمكنه القيام به.. فوجود النهي هاهنا وعدمه سواء. وإن كان ولاه ولم يأذن له في الاستخلاف ولا نهاه عنه.. نظرت: فإن كان ما ولاه يمكنه النظر فيه بنفسه.. فهل يجوز له أن يستخلف؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه يجوز له أن يستخلف؛ لأن الغرض بتولية القضاء الفصل بين الخصمين، فإذا فعله بنفسه أو بغيره.. جاز. ولأنه ينظر في مصالح المسلمين، فجاز أن ينظر بنفسه وبغيره.

مسألة مدى صلاحية حكم القاضي في بلده أو غيرها

والثاني: لا يجوز أن يستخلف، وهو الأصح؛ لأنه نائب عن الإمام فلم يجز له الاستخلاف فيما يقدر عليه، كالوكيل في البيع. وإن كان ما ولاه لا يقدر على النظر فيه بنفسه؛ بأن يولي الإمام رجلا القضاء على اليمن.. فله أن يستخلف فيما لا يمكنه النظر فيه بنفسه - كما قلنا فيمن وكل وكيلا في بيع ما لا يقدر عليه بنفسه - وهل له أن يستخلف فيما يقدر على النظر فيه بنفسه؟ على الوجهين الأولين: فكل موضع قلنا: له أن يستخلف فيه، فاستخلف وحكم الخليفة بحكم.. فإنه يلزم بنفس الحكم، كالحكم الحاكم الذي ولاه الإمام. وكل موضع قلنا: ليس له أن يستخلف فيه، فاستخلف وحكم الخليفة فيه.. فهو كما لو تحاكم خصمان إلى من يصلح للقضاء وليس بقاض على ما مضى. [مسألة مدى صلاحية حكم القاضي في بلده أو غيرها] ] : وإذا ولى الإمام رجلا القضاء على بلد، فحضر إليه خصمان في البلد الذي ولي القضاء عليها من غير أهل ذلك البلد.. جاز أن يحكم بينهما. وإن خرج القاضي عن البلد الذي ولي القضاء عليها إلى بلد آخر.. لم يجز له أن يكتب إلى حاكم آخر بما ثبت عنده ليحكم به، أو بما حكم فيه لينفذه، فإن فعل ذلك.. لم يعتد بكتابه. وهكذا: إن وصل إليه كتاب من حاكم، فقرأه في بلد غير بلد عمله وشهد به عنده شاهدان بذلك.. لم يجز له العمل بموجب ما كتب إليه حتى يرجع إلى بلد عمله ويقرأ الكتاب ثانيا ويعيد الشاهدان الشهادة؛ لأنه في غير بلد عمله كسائر الرعية. وإن حضر إليه خصمان في غير بلد عمله، فحكم بينهما.. لم يعتد به سواء كانا من بلد عمله أو من غيرها؛ لأنه هناك كسائر الرعية. هكذا قال أصحابنا. والذي يقتضي المذهب: أنه يكون كما لو تحاكم رجلان إلى من يصلح للقضاء وليس بقاض على ما مضى.

مسألة لا يجوز للقاضي الحكم لنفسه

ولو أذن الإمام للقاضي أن يحكم بين أهل ولايته حيثما كانوا.. جاز له أن يحكم بينهم وإن كانوا في ولاية غيره. وإن اجتمع حاكمان في غير عملهما، فأخبر أحدهما الآخر بحكم حكم به أو بشيء ثبت عنده.. لم يصح ذلك الإخبار، ولا يجوز للسامع أن يحكم بما أخبره به الآخر بثبوته عنده، ولا أن ينفذ ما أخبره أنه حكم به؛ لأن الخبر وسماعه لم يصح. وأما إذا التقيا في عمل أحدهما؛ بأن اجتمع قاضي الجند وقاضي زبيد في الجند، فإن أخبر قاضي زبيد قاضي الجند بشيء ثبت عنده أو بحكم حكم به.. لم يصح إخباره، ولا يجوز لقاضي الجند العمل بموجب خبره؛ لأن قاضي زبيد في الجند كسائر الرعية. وإن أخبر قاضي الجند قاضي زبيد بشيء ثبت عنده أو بحكم حكم به.. صح الإخبار؛ لأن قاضي الجند في موضع عمله، فصح إخباره. فإذا رجع قاضي زبيد إلى موضع عمله.. فهل يجوز له أن يعمل بموجب ما أخبره به قاضي الجند؟ فيه قولان بناء على القولين في القاضي، هل يجوز له أن يحكم بعلمه، ويأتي بيانهما في موضعهما. [مسألة لا يجوز للقاضي الحكم لنفسه] وماذا يترتب عليه تجاه أصله أو فرعه؟] : ولا يجوز للقاضي أن يحكم لنفسه، كما لا يجوز أن يشهد لنفسه. فإن اتفق بينه وبين غيره خصومة.. تحاكما إلى الإمام أو إلى بعض القضاة الذين ولاهم الإمام، فإن تحاكما إلى خليفة القاضي المخاصم.. صح؛ لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تحاكم مع أبي بن كعب إلى زيد بن ثابت) ، و: (تحاكم عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع طلحة إلى

مسألة أخذ الرشوة بالنسبة للقاضي

جبير بن مطعم) ، و: (تحاكم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع يهودي في درع إلى شريح) . ولا يجوز له أن يحكم لوالده وإن علا، ولا لولده وإن سفل. وقال أبو ثور: (يجوز) . دليلنا: أنه لا تقبل شهادة له، فلم يصح حكمه له، كنفسه. وإن تحاكم إليه والده وولده.. فهل يصح حكمه بينهما؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح، كما لا يصح حكمه بين أحدهما وبين أجنبي. والثاني: يصح؛ لأنهما سواء في البعضية منه، فارتفعت عنه تهمة الميل. فإن أراد القاضي أن يستخلف والده أو ولده.. جاز؛ لأنهما يجريان مجرى نفسه. وإن فوض إليه الإمام أن يختار قاضيا.. لم يجز أن يختار أحدهما، كما لا يجوز أن يختار نفسه. [مسألة أخذ الرشوة بالنسبة للقاضي] مسألة: [حرمة أخذ الرشوة] : ويحرم على القاضي أخذ الرشوة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم» . ولأنه إذا أخذ الرشوة في الحكم ليحكم بغير الحق..

فرع الهدية للقاضي أو العامل

فالحكم بغير الحق محرم، وكذلك الأخذ عليه. وإن أخذ الرشوة ليوقف الحكم.. فإمضاء الحكم واجب عليه، فحرم الأخذ على إيقافه. وإن أخذ الرشوة ليحكم بالحق.. لم يجز؛ لأنه يأخذ الرزق من الإمام، فلم يجز له أن يأخذ عوضا آخر. وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد والقاضي أبا الطيب قالا: إذا كان القاضي لا يأخذ رزقا من الإمام، فقال: لست أقضي بينكما حتى تجعلا لي عوضا.. جاز. قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون أخذه لذلك من أحدهما ليحكم بالحق، ويجري مجرى الهدية على ما نذكرها. وأما الراشي: فإن كان الراشي يطلب بما يدفعه أن يحكم له بغير الحق أو على إيقاف الحكم.. حرم عليه ذلك، وعليه تحمل لعنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للراشي. وإن كان يطلب بما يدفعه وصولا إلى حقه.. لم يحرم عليه ذلك وإن كان ذلك حراما على آخذه، كما لا يحرم عليه فكاك الأسير وإن كان ذلك يحرم على آخذه. [فرع الهدية للقاضي أو العامل] ] : وإن أهدي للقاضي أو إلى العامل في الصدقة هدية.. نظرت: فإن كان المهدي ممن لم تجر له العادة بالهدية إليه قبل الولاية.. حرم عليه قبول الهدية منه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وليناه ورزقناه فما أخذه بعد ذلك..

فهو غلول» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل على الصدقة رجلا من الأعراب يقال له: ابن اللتبية، فلما قدم، قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فصعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر وخطب، فقال: " ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي! ألا جلس في بيت أمه -وروي: على أريكته - فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ منها شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته» . قال ابن الصباغ: وأصحابنا يحتجون بهذا الخبر، وليس فيه حجة ظاهرة؛ لأن العامل قبل الهدية ممن له عليه الصدقة، وكلامنا فيمن لا يكون له عليه شيء. ولأن من لم تجر العادة له بالهدية إلى القاضي قبل الولاية إذا أهدى إليه شيئا.. فالظاهر أنه أهدى له ذلك بخصومة حاضرة، فلم يجز له قبولها. وأما إذا أهدى له من كانت له عادة بالهدية إليه قبل الولاية بقرابة أو بصداقة، فإن كانت له حكومة.. لم يجز قبولها؛ لما روي: (أن زيد بن ثابت كان يهدي إلى عمر بن الخطاب في كل عشية لبنا، ثم إنه استقرض منه من بيت المال فأقرضه مائتي دينار، فأهدى زيد لعمر من عشيته شيئا من اللبن، فلم يقبل وقال: لعله إنما قدم لنا لما أقرضناه، فلم يقبل ذلك حتى قضى زيد دينه) . وإن لم يكن له حكومة.. فهل يجوز له قبولها؟ حكى ابن الصباغ والطبري فيه وجهين:

أحدهما: لا يجوز له قبولها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هدايا العمال غلول» ، وروي: «سحت» ولم يفرق. الثاني - وهو المنصوص، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره -: (أن الأولى له أن لا يقبل؛ لجواز أن يكون قد أهدى إليه لحكومة منتظرة. فإن قبلها.. جاز؛ لأن العادة قد جرت بإهدائه إليه لا لأجل الحكومة، فلم تلحقه التهمة) . وذكر الشيخ أبو إسحاق: إذا لم يكن له حكومة، فإن كان أكثر مما كان يهدي إليه أو رفع منه.. لم يجز له قبوله. وإن كان مثل ما كان يهدي إليه.. جاز له قبولها. هذا ترتيب أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: إن كان المهدي أحد المتحاكمين.. لم يجز له قبول الهدية منه. وإن كان غير المتحاكمين، فإن كان من أهل ولايته.. لم يقبل منه، سواء كان يهدي إليه قبل الولاية أو لا يهدي إليه. وإن كان من غير أهل ولايته.. فالأولى أن لا يقبل منه. فإن قبل منه.. جاز، والأولى إذا قبل منه.. أن يثيبه عليها. وإن خرج القاضي عن بلد ولايته، فأهدي إليه.. فهل يجوز له قبولها؟ فيه وجهان:

مسألة استجابة القاضي لدعوة الوليمة

المنصوص: (أنه يجوز له قبولها) ؛ لأنه هناك كسائر الرعية. والثاني: لا يجوز له قبولها، كما لا يجوز له أخذ الرشوة هناك. وكل موضع قلنا: لا يجوز له قبول الهدية فقبلها.. فإنه لا يملكها؛ لأنا قد حكمنا بتحريمها عليه. وإلى من يردها؟ فيه وجهان: أحدهما: يردها إلى المهدي؛ لأن ملكه لم يزل عنها. والثاني: يردها إلى بيت المال، وهو ظاهر المذهب؛ لأنه أهدى إليه لمكان ولايته وهو منتصب لمصلحة المسلمين، وكأن المهدي أهدى إلى المسلمين فصرف ذلك في مصالحهم. وكذلك الوجهان في العامل إذا قبل الهدية: أحدهما: يردها إلى المهدي. والثاني: يجعلها في الصدقات. هذا ترتيب أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: هل يملكها المهدى إليه؟ فيه وجهان: [مسألة استجابة القاضي لدعوة الوليمة] ] : إذا دعي القاضي إلى الوليمة.. فالمستحب له: أن يجيب؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أهدي إلي ذراع.. لقبلت، ولو دعيت إلى كراع.. لأجبت» . ولأن الإجابة من فرائض الكفايات والقاضي من أهل الكفايات. وإن كثرت عليه الدعوات إلى الولائم وكان حضوره فيها يشغله عن الحكم.. لم يحضرها؛ لأن حضورها فرض على الكفاية ولم يتعين عليه، والحكم قد تعين عليه لما صار قاضيا. والمستحب له: أن يعتذر إلى من دعاه، ويعرفه اشتغاله بالحكم، ويسأله أن يحلله من الحضور.

فرع شهود القاضي الجنائز

ولا يختص بالإجابة قوما دون قوم؛ لأن في ذلك ميلا إلى من حضر عنده، وكسرا لمن لم يحضر عنده. قال الطبري في " العدة ": وقد قيل: إن هذا عند تساوي أحوال أصحاب الولائم وتقارب أحوالهم وفضلهم وعلمهم وصلاحهم، فأما من ليس في درجتهم من الفساق أو السوقة.. فلا بأس عليه أن لا يجيبهم وإن كان يجيب غيرهم. والأول هو المشهور. هذا ترتيب أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: إن دعاه الخصمان أو أحدهما إلى الضيافة.. لم يجب؛ لأن أحدهما ربما زاد في إكرامه ما لا يزيده الآخر. وإن دعاه غير الخصمين إلى الضيافة، فإن دعاه إلى غير الوليمة.. لم يجب. وإن دعاه إلى الوليمة، فإن كانت الدعوة حفلا؛ بأن فتح الباب لكل من أراد أن يدخل.. لم يجب. وإن كانت الدعوة نقرى؛ بأن يخص قوما من أهل كل طائفة بأعيانهم.. لم يجب. فإن دعا كل طائفة واستوعبهم، فإن كان الحاكم يجد من طبعه أنه يجيب غيره.. أجابه. وإن كان يجد من طبعه أنه لا يجيب غيره.. لم يجبه. [فرع شهود القاضي الجنائز] وعيادة المرضى] : ويجوز للقاضي أن يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويأتي مقدم الغائب؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عائد المريض على مخارف الجنة حتى يرجع» ، و: «عاد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعدا وجابرا وغلاما يهوديا كان في جواره، وعرض عليه الإسلام فأسلم» ، و: «كان يصلي على الجنائز» . فإن كثر ذلك عليه، وخاف أن يشغله عن الحكم.. فله أن يفعل من ذلك ما لا يقطعه عن الحكم، ويترك ما يشغله.

مسألة تولي القاضي البيع ونحوه

والفرق بينه وبين حضور الولائم: أن الحضور في الولائم لحق أصحابها، فإذا حضر عند بعضهم دون بعض.. كان في ذلك ميل. والحضور في هذه الأشياء لطلب الثواب، فجاز أن يحضر بعضها دون بعض. [مسألة تولي القاضي البيع ونحوه] مسألة: [كراهة تولي القاضي البيع ونحوه] : ويكره للقاضي أن يتولى البيع والشراء بنفسه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما عدل وال اتجر في رعيته» ، وروي عن شريح أنه قال: (شرط علي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين ولاني القضاء أن لا أبتاع، ولا أبيع، ولا أرتشي، ولا أقضي وأنا غضبان) . ولأنه إذا تولى ذلك بنفسه.. حاباه من عامله، والمحاباة بمنزلة الهدية، وقبول الهدية محرم عليه. ولأنه إذا اشتغل بالبيع والشراء.. شوش خاطره. وإن احتاج إلى البيع والشراء.. اتخذ وكيلا مجهولا، لا يعرف أنه وكيله؛ لئلا يحابى. فإن عرف أنه وكيله.. استبدل به غيره. فإن باع واشترى بنفسه.. صح؛ لأن المحاباة أمر مظنون، فلا يبطل البيع بأمر مظنون. قال الشافعي: (وأكره للإمام النظر في أمر ضيعته ونفقة منزله وعياله، بل يوكل وكيلا؛ لأنه إذا تولى ذلك بنفسه.. اشتغل به وشوش خاطره) .

مسألة القضاء في حالة الغضب والجوع

[مسألة القضاء في حالة الغضب والجوع] مسألة: [كراهية القضاء في حالة الغضب والجوع وغيره] : ويكره للقاضي أن يقضي وهو غضبان؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقضي القاضي [بين اثنين] وهو غضبان» ، وروت أم سلمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتلي بالقضاء بين المسلمين.. فلا يقضين وهو غضبان» . وقال شريح: (شرط علي عمر أن لا أقضي وأنا غضبان) ، وكان شريح إذا غضب.. قام ولم يقض. ولأن الغضب يغير العقل والفهم، وذلك يمنعه من الاجتهاد ويورثه النسيان. ويكره أن يقضي في كل حالة ويشوش فيه فهمه، مثل أن يصيبه الجوع الشديد، أو العطش الشديد، أو الغم الشديد، أو الفرح الشديد، أو النعاس الغالب له، أو كان يدافع الأخبثين، أو بحضرة الطعام ونفسه تتوق إليه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقضي القاضي وهو غضبان، ولا مهموم، ولا مصاب حزين، ولا جائع» . وحكي: أن الشعبي كان يأكل مع طلوع الشمس، فقيل له في ذلك، فقال: آخذ حلمي، ثم أخرج إلى الحكم. ولأن هذه الأشياء تمنع من التوفر على الاجتهاد، فكره فيها القضاء، كحالة الغضب.

مسألة القضاء على منصة وفي مكان واسع ومريح

فإن حكم في حالة الغضب.. صح؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم على الأنصاري في حالة الغضب» . [مسألة القضاء على منصة وفي مكان واسع ومريح] مسألة: [استحباب القضاء على منصة وفي مكان واسع ومريح] : ويستحب أن يقضي في مكان بارز للناس؛ ليصل إليه كل أحد. ويستحب أن يكون الموضع واسعا؛ لئلا يلحقه الملل والضجر من ضيقه فيمنعه من التوفر على الاجتهاد، ويلحق المتخاصمين ذلك فلا يمكنهم استيفاء الحجة. ويستحب أن لا يكون بقربه ما يتأذى به من دخان أو رائحة منتنة وما أشبهه؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى أبي موسى الأشعري: (إياك والقلق والضجر) ، وهذه الأشياء تفضي إلى الضجر، وتمنع الحاكم من التوفر على الاجتهاد، وتمنع الخصوم من استيفاء الحجة. فإن حكم في هذه المواضع المكروهة.. صح حكمه، كما يصح في حال الغضب. [فرع كراهة اتخاذ المسجد محكمة] وماذا لو كان في بيته أو اتخذ حاجبا؟] : ويكره للقاضي أن يجلس في المسجد للحكم. وبه قال عمر وابن المسيب. وقال الشعبي ومالك وأحمد وإسحاق: (لا يكره) . وعن أبي حنيفة روايتان: إحداهما: (يكره) . والثانية: (لا يكره إلا في المسجد الأعظم) .

دليلنا: ما روى معاذ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جنبوا مساجدكم: صبيانكم، ومجانينكم، ورفع أصواتكم، وخصوماتكم، وحدودكم، وسل سيوفكم، وبيعكم، وشراءكم» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلا ينشد ضالته في المسجد، فقال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " لا وجدتها، إنما بنيت المساجد لذكر الله والصلاة» . فدل على أنه ما عدا هذين ينهى عنه في المساجد. ولأنه قد يكون في الخصوم من لا يمكنه اللبث في المسجد، كالجنب والحائض. ولأن الخصوم يجري بينهم التكاذب والتشاتم، فينزه المسجد عن ذلك. فإن دخل الحاكم المسجد للصلاة أو الاعتكاف، أو كان ينتظر الصلاة، فحضر خصوم.. لم يكره له أن يحكم بينهم؛ لما روي: (أن عمر حكم بين الناس في المسجد) . وروى الحسن قال: (دخلت مسجد المدينة، فرأيت عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد كوم كومة من حصى، فوضع عليها رداءه ونام، فجاء سقاء ومعه قربه ومعه خصم له، فتحاكما إليه، فجلس وقضى بينهما) . وروي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قضى في المسجد) . وإن جلس الحاكم في بيته لغير الحكم وحضره خصمان.. لم يكره أن يحكم بينهما؛ لما روي عن أم سلمة: أنها قالت: «اختصم رجلان من الأنصار في مواريث متقادمة فقضى بينهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتي» . وروي: (أنه كان بين عمر بن الخطاب وأبي بن كعب خصومة في مواريث، فأتيا زيد بن ثابت في منزله ليحكم

فرع اتخاذ السجن والدرة

بينهما، فقال زيد: يا أمير المؤمنين، لو أمرتني لأجبتك، فقال عمر: في بيته يؤتى الحكم) . ولا يحتجب القاضي من غير عذر؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ولي من أمور المسلمين شيئا، فاحتجب دون فاقتهم وحاجتهم.. احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره» . وروي: (أن عمر ولى سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قضاء الكوفة، فقضى زمانا بلا حاجب، ثم اتخذ حاجبا، فعزل عمر حاجبه) . ولأن الحاجب لا يؤمن منه أن يقدم المتأخر من الخصوم، ويؤخر المتقدم. فإن دعته حاجته إلى اتخاذ حاجب.. اتخذ حاجبا أمينا بعيدا من الطمع، ويوصيه بتقديم الأول فالأول من الخصوم؛ لأنه موضع حاجة. ولا يكره للإمام أن يتخذ حاجبا؛ لـ: (أن عمر وعثمان وعليا اتخذ كل واحد منهم حاجبا) ؛ لأنه موضع حاجة، ولأنه ينظر في جميع المصالح، وقد تدعوه الحاجة إلى الاحتجاب في وقت؛ لينظر في مصلحة من المصالح. [فرع اتخاذ السجن والدرة] فرع: [استحباب اتخاذ السجن والدرة] : ويستحب للحاكم أن يتخذ سجنا؛ لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اتخذ سجنا)

مسألة كتابة القاضي بنفسه أو يستعين بآخر وشروط الكاتب

و: (اتخذ علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سجنا) . ولأنه قد يحتاج إليه للتأديب ولاستيفاء الحق به من المماطل مع الغنى. ويستحب له أن يتخذ درة يؤدب بها؛ لأن عمر اتخذ درة يؤدب بها. [مسألة كتابة القاضي بنفسه أو يستعين بآخر وشروط الكاتب] ] : فإن تولى القاضي الكتابة بنفسه بين الناس.. جاز. وإن اتخذ كاتبا.. جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له كتبة منهم علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت. وروي «عن زيد بن ثابت: أنه قال: قال لي النبي: " أتحسن السريانية؟ فإن اليهود يكتبون إلي وما أحب أن يقف على كتبي كل أحد " فقلت: لا، قال: " فتعلمها "، فتعلمتها في

نصف شهر -وروي في بضعة عشر يوما - فكنت أقرأ كتبهم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأكتب له إليهم» . ولأن الحاكم يشتغل بالاجتهاد وتنفيذ الحكم، وقد يحتاج إلى كاتب يكتب له المحاضر والسجلات، فجاز له اتخاذ الكاتب. ومن شرط الكاتب أن يكون حافظا؛ لئلا يغلط وأن يكون ثقة لئلا يزور عليه وينقل عليه سره وأخبار مجلسه إلى غيره. ويستحب أن يكون فقيها ليعرف مواقع الألفاظ، ويفرق بين الجائز والواجب. ويستحب أن يكون فصيحا، عالما بلغات الخصوم، فطنا، متيقظا، لا يخدع بغرة، منزها من الطمع، ولا يستمال بهدية، قوي الخط قائم الحروف. وهل يشترط أن يكون مسلما أو لا يشترط؟ فيه وجهان: أحدهما: أن الإسلام شرط فيه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} [آل عمران: 118] [آل عمران: 118] ، وقَوْله تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] [الممتحنة: 1] . وإذا كان الكاتب كافرا.. فقد اتخذه بطانة ووليا. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تستضيئوا بنار المشركين» أي برأيهم. وهذا قد استضاء بهم في الكتابة.

مسألة اتخاذ شهود راتبين

وروي: (أن أبا موسى قدم على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ومعه كاتب له نصراني، فأعجب به عمر لما رأى من حفظه، فقال له: قل لكاتبك يدخل حتى يقرأ على الناس كتابا في المسجد، فقال له: إنه نصراني لا يدخل المسجد، فانتهره عمر، وهم به، وقال: لا تأمنوهم وقد خونهم الله، ولا تدنوهم وقد أقصاهم الله، ولا تعزوهم وقد أذلهم الله) . ولأنهم أعداء المسلمين، فلا يؤمن أن يكتب ما يبطل به حقوقهم. فعلى هذا: لا يجوز أن يتخذ كاتبا فاسقا. والثاني: أن ذلك ليس بشرط فيه، بل هو مستحب؛ لأنه لا بد أن يقف الحاكم على ما يكتب. فعلى هذا: يجوز أن يتخذ كاتبا فاسقا. والأول أصح. [مسألة اتخاذ شهود راتبين] مسألة: [عدم اتخاذ شهود راتبين] : ولا يجوز للحاكم أن يتخذ شهودا راتبين يسمع شهادتهم ولا يسمع شهادة غيرهم. وقيل: إن أول من اتخذ هذا إسماعيل بن إسحاق المالكي. والدليل -على أنه لا يجوز له ذلك -: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] الآية. فعم ولم يخص. ولأن في هذا ضررا على الناس؛ لأنه ربما لا يمكن الناس إشهادهم، وربما إذا علم الشهود الراتبون أن الحاكم لا يقبل غير شهادتهم.. لا يتحملون الشهادة إلا بعوض فيؤدي إلى الضرر بالناس. [مسألة العلم بحال الشهود وصفاتهم] ] : وإن ادعى رجل على آخر حقا فأنكره، وأقام عليه المدعي شاهدين بما ادعاه.. نظرت: فإن علم الحاكم فسقهما ظاهرا وباطنا، أو فسقهما في الباطن.. لم يقبل

شهادتهما. وإن علم عدالتهما ظاهرا وباطنا.. قبل شهادتهما بلا خلاف بين أهل العلم في ذلك. وإن جهل الحاكم حالهما.. نظرت: فإن جهل إسلامهما.. رجع في ذلك إلى قولهما؛ لما روي: «أن أعرابيا شهد عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برؤية الهلال، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أتشهد أن لا إله إلا الله؟ " فقال: نعم. قال: " أتشهد أن محمدا رسول الله؟ " فقال: نعم، فصام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر الناس بالصيام» . وإن جهل حريته.. ففيه وجهان: أحدهما: يرجع في ذلك إلى قوله، كما يرجع إليه في إسلامه. والثاني: لا يرجع إلى قوله؛ لأن حريته لا تثبت بقوله، وإسلامه يثبت بقوله. وإن عرف الحاكم إسلام الشاهدين وحريتهما، وجهل عدالتهما.. فلا يجوز أن يحكم بشهادتهما، حتى يبحث عن عدالتهما في الظاهر والباطن، سواء شهدا بحد أو قصاص أو مال. وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد. وقال أبو حنيفة: (إن شهد بحد أو قصاص.. لم يحكم بشهادتهما حتى يبحث عن عدالتهما. وإن شهدا بمال أو نكاح أو غير ذلك.. فإنه يقتصر في العدالة على الظاهر ولا يسأل عن ذلك في الباطن، إلا أن يجرحهما الخصم، أو يقول: هما فاسقان، أو غير ذلك.. فحينئذ يحتاج أن يسأل عن عدالتهما في الباطن) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] إلى قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] ، ولا يعلم أنه مرضي حتى يبحث عن عدالته. وروي: (أن رجلا ادعى على رجل حقا عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأنكر، فشهد بذلك شاهدان، فقال عمر: لا أعرفكما ولا يضركما أن لا أعرفكما، فأتياني بمن يعرفكما، فأتياه برجل، فقال: أتعرفهما؟ فقال: نعم، فقال: أكنت معهما في السفر الذي يتبين فيه جواهر

الناس؟ قال: لا، قال: هل عرفت صباحهما ومساءهما؟ قال؟ لا، قال: هل عاملتهما في الدراهم والدنانير التي تقطع بها الرحم؟ قال: لا، قال: يا ابن أخي ما تعرفهما. ائتياني بمن يعرفكما) . ولا مخالف له في الصحابة. ولأنه حكم شهادة، فلم يجز له تنفيذ إلا بعد معرفة عدالة الشهود في الباطن، كما لو شهدا بحد أو قصاص. إذا ثبت هذا: فلا يخلو الشهود: إما أن يكون لهم عقول وسمت حسن وعفاف في الظاهر لا تسبق التهمة إليهم، أو كانوا بخلاف ذلك بحيث تسبق التهمة إليهم: فإن كانوا بحيث تسبق التهم إليهم.. فالمستحب للحاكم: أن يفرقهم قبل البحث عن عدالتهم، فإذا فرقهم.. سألهم عن الشهادة، وعن كيفية تحملها، وفي أي موضع وقعت وغير ذلك من الأمور التي يرى الحاكم السؤال عنها. فإن اختلفوا.. علم كذبهم. وقيل: إن أول من فرق الشهود دانيال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ وذلك: أن شهودا شهدوا عنده أن امرأة زنت، ففرقهم، ثم استدعى واحدا منهم، فشهد أنها زنت تحت شجرة كمثرى، وشهد آخر أنها زنت تحت شجرة تفاح، فعلم كذبهم، فدعا الله عليهم فنزلت نار من السماء فأحرقتهم. وروي: (أن داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اتخذ حاجبا فجاءته امرأة في خصومة لها، فحجبها الحاجب وراودها عن نفسها، فامتنعت عليه، ثم وضع أربعة من الشهود فشهدوا: أن كلبا أتاها، فهم داود برجمها، فبلغ ذلك ابنه سليمان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ -، فدعا أربعة من الصبيان، فلقنهم حتى شهدوا على

امرأة أن كلبا أتاها، ثم دعاهم متفرقين، فسألهم عن كيفية الحال وصفة الكلب فاختلفوا، فبلغ ذلك داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فدعا بالشهود على المرأة متفرقين وسألهم عن كيفية الحال وكيفية الكلب فاختلفوا، فدرأ الحد عنها) وروي: (أن سبعة نفر خرجوا في سفر، فعاد ستة منهم وفقد السابع، فجاءت امرأته إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخبرته، فدعاهم فسألهم فأنكروا، فأقام كل واحد منهم عند سارية ووكل به من يحفظه، ثم استدعى واحدا منهم فسأله فأنكر، فقال علي: الله أكبر ونحاه، فظن الباقون أنه قد اعترف فاعترفوا، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أما هؤلاء فقد أقروا على أنفسهم بالقتل، وأما أنت فقد شهدوا عليك بالقتل، فاعترف فقتلهم) . فدل على أن تفرقه الشهود عند الارتياب بهم مستحبة. ولأن الشهادة إذا كانت صحيحة.. لم يختلف الشهود عند التفرقة، وإذا كانت زورا.. اختلفوا؛ لأنه قد سألهم عن شيء لم يتواطؤوا عليه. فإن فرقهم وسألهم لم يختلفوا.. فالمستحب للحاكم: أن يعظهم ويخوفهم من شهادة الزور؛ لما روي: (أن شاهدين شهدا عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل بالسرقة، فقال المشهود عليه: والله ما سرقت ولقد شهدا علي لتقطع يدي، فأقبل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على الشاهدين يعظهما ويخوفهما، وازدحم الناس فدخلا في الزحمة، فدعاهما فلم يجيبا، فقال: لو صدقا لثبتا) . وروي: أن أبا حنيفة قال: (كنت عند محارب بن دثار قاضي الكوفة، فشهد عنده شاهدان على رجل بحق، فقال المشهود عليه: والذي قامت به السموات والأرض لقد كذبتما علي في شهادتكما، والذي قامت به السموات والأرض لو سألت عنهما الناس.. ما اختلف فيهما اثنان. قال: وكان محارب بن دثار متكئا فاستوى جالسا، ثم قال: سمعت ابن عمر يقول: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الطير لتخفق بأجنحتها وترمي بما في

حواصلها من هول يوم القيامة، وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار» فإن كنتما صدقتما.. فاثبتا، وإن كنتما كذبتما.. فغطيا رؤوسكما وانصرفا، فغطيا رؤوسهما وانصرفا) . فإن وعظهم ورجعوا عن الشهادة.. سقطت شهادتهم، وإن ثبتوا على الشهادة.. فهم بمنزلة من لهم سمت حسن وعفاف ظاهر، فيسأل الحاكم عن عدالتهم في الباطن، ولا يمكنه السؤال عنهم بنفسه، ولكنه يتخذ قوما من أصحاب المسائل، ويبعثهم للسؤال عنهم. ويسأل عنهم في السر دون الجهر؛ لأن القصد معرفة عدالتهم دون فضيحتهم، فإن سأل عنهم جهرا ربما جرحوا فافتضحوا، ولأنه إذا سأل عنهم جهرا.. ربما استحيا المسؤول عنهم فعدلهم وليسوا بعدول، أو خاف من المشهود عليه فجرحهم وهم عدول، أو خاف من المشهود له فعدلهم وهم غير عدول، فكان السؤال عنهم في السر أولى. فيكتب الحاكم أربعة أشياء: أحدهما: اسم الشاهد، ونسبه، وحليته، وصنعته، ومسكنه؛ حتى لا يشتبه بغيره. والثاني: اسم المشهود عليه؛ لأنه قد يكون بينه وبين الشاهد عداوة، فلا يقبل شهادته عليه. والثالث: اسم المشهود عليه؛ لأنه قد يكون ولده أو والده، ولا تقبل شهادته له. الرابع: قدر المال الذي شهد به؛ لأن من الناس من يزكى في شهادته في الحق اليسير ولا يزكى في الحق الكثير. ويكتب ذلك في رقعتين، ويدفع كل رقعة إلى رجل من أصحاب المسائل. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويخفي عن كل واحد منهم ما دفعه إلى صاحبه؛ لئلا يتواطأ على الجرح والتعديل) .

مسألة ثبوت الجرح والتعديل بعدلين

ويشترط أن يكونا عدلين؛ لأن الخير لا يقبل إلا من عدل، ويكونا ذوي تيقظ وفهم؛ لئلا يسألا عدوا للشاهد ولا صديقا عن حاله؛ لأن العدو ربما جرحه وهو غير مجروح، والصديق ربما عدله وهو غير عدل. ثم يأمرهما الحاكم يسألان عن الشاهد في جيران منزله؛ لأنه إن كان فيه فسق.. عرفه جيرانه فأخبروا عنه. ويسألان عنه في موضع صلاته؛ لأنهم يعلمون توفره على الصلوات ولزوم الجماعة وتهاونه بها. ويسألان عنه في سوقه؛ ليعرف كيف معاملته. والحاكم بالخيار: بين أن يقول للذين بعثهم: اسألا فلانا وفلانا عنه، وبين أن يقول: اسألا عنه من شئتما من جيران منزله وجماعته وأهل سوقه. ويكون المسؤولون عنه غير معروفين عند الشاهد والمشهود له والمشهود عليه؛ لأنهم إذا كانوا معروفين عند الشاهد والمشهود له.. ربما أعطاهم شيئا ليعدلوا الشاهد وهو غير عدل، وإذا عرفهم المشهود عليه.. ربما أرشاهم ليجرحوا له الشاهد وهو عدل. ويكون المسؤولون عنه عدولا، وافري العقول، برآء من الشحناء فيما بينهم وبين الناس، بعداء من التعصب في نسب أو مذهب؛ لئلا يجرحوا عدلا ولا يعدلوا مجروحا. والمستحب: أن لا يعرف بعضهم بعضا؛ لئلا يجمعهم الهوى على تعديل مجروح أو جرح عدل. [مسألة ثبوت الجرح والتعديل بعدلين] ] : قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ولا يثبت الجرح والتعديل إلا من اثنين) ، واختلف أصحابنا في تأويل هذا: فقال أبو إسحاق: أراد: أن التعديل لا يحكم به إلا بشهادة اثنين من الجيران، ولا يحكم به بقول أصحاب المسائل؛ لأنه شهادة على شهادة، فلم يصح مع حضور شاهد الأصل.

فعلى هذا: إذا بعث الحاكم أصحاب المسائل للبحث عن حال الشاهد، فرجع واحد منهم وأخبر الحاكم بجرح الشاهد.. فإن الحاكم لا يتوقف عن الحكم بشهادة الشاهد، ويقول للمشهود له: زدني في شهودك. ولا يستحضر الحاكم الذي جرحه من الجيران ويسأله عنه؛ لأن الغرض معرفته بحال الشاهد دون فضيحته. هكذا حكي عن أبي إسحاق. وقال الشيخ أبو حامد: والذي يجيء على قياس قوله: أنه لا يتوقف عن الحكم بشهادة الشاهد حتى يخبره بالجرح اثنان. وإن رجع واحد أو اثنان من أصحاب المسائل بعدالة الشاهد.. فإن الحاكم لا يحكم بعدالته بقولهما، ولكن يسألهما عن الذي عدله من الجيران، ويستدعي اثنين منهم ليشهدا على تعديله بلفظ الشهادة. وقال أبو سعيد الإصطخري: بل أراد الشافعي: أن الجرح والتعديل يثبت بقول اثنين من أصحاب المسائل، وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولا يقبل إلا من اثنين ويخفي من كل واحد منهما ما دفع إلى الآخر) . وهذا إنما يكون في أصحاب المسائل دون الجيران؛ لأن المزكي من الجيران لا يلزمه الحضور إلى الحاكم للتزكية، ولا يجوز للحاكم إجباره على ذلك، فجاز الحكم بقول أصحاب المسائل في ذلك. فعلى هذا: إذا بعث الحاكم اثنين من أصحاب المسائل للسؤال عن الشاهد على ما مضى.. نظرت: فإن رجعا فأخبرا الحاكم بعدالته.. حكم بعدالته. وإن أخبراه بجرحه.. توقف عن الحكم بشهادته، ولا يظهر جرحه؛ لأنه ليس الغرض فضيحته، وإنما الغرض معرفة حاله، ولكن يقول للمشهود له: زدني في شهودك. وإن جاء أحدهما فأخبر بجرحه، وأخبر الآخر بتعديله.. لم يحكم بجرحه ولا بتعديله؛ لأن الجرح والتعديل لا يثبتان بقول واحد. قال الشيخ أبو إسحاق: ويبعث ثالثا، فإن عاد بالجرح.. كملت بينة الجرح، وإن عاد بالتعديل.. كملت بينة التعديل.

وقال غيره من أصحابنا: يبعث آخرين، فإن عادا بالجرح.. ثبتت بينة الجرح وسقط التعديل. وإن عادا بالتعديل.. تمت بينة التعديل وسقط الجرح. وإن عاد أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل.. قدمت بينة الجرح على بينة التعديل؛ لأن من شهد بالتعديل.. شهد بأمر ظاهر، ومن شهد بالجرح.. شهد بأمر باطن خفي على بينة التعديل، فقدمت شهادته، كما لو شهد شاهدان: أن لرجل على رجل دينارا، وشهد آخر: أنه قد قضاه ذلك الدين.. فإن بينة القضاء تقدم. قال أصحابنا: ولا تقدم بينة التعديل على بينة الجرح إلا في مسألتين: إحداهما: إذا شهد شاهدان على رجل بالجرح في بلد آخر، وانتقل ذلك الرجل إلى بلد آخر وشهد شاهدان على تعديله بالبلد الذي انتقل إليه.. فيقدم التعديل هاهنا؛ لأن العدالة هاهنا طارئة على الجرح، والتوبة ترفع المعصية. الثانية: إذا شهد اثنان أنه زنى أو سرق، وشهد آخران أنه تاب من ذلك وحسنت حالته.. فإن العدالة هاهنا مقدمة؛ لأن التوبة رفعت المعصية. واختلف أصحابنا في موضع الوجهين في اعتبار العدد في أصحاب المسائل: فقال ابن الصباغ: الوجهان إذا عين الحاكم لهم من يسألونه، فأما إذا لم يعين لهم من يسألونه وإنما رد إليهم الأمر.. فإن العدد شرط فيهم وفيمن يسألونه، فلا يقبلا إلا من اثنين، فإن عادوا إليه فشهدوا بالجرح أو التعديل بشهادة أنفسهم، فيسمع ذلك من اثنين. وقال سائر أصحابنا: لا فرق بين أن يعين لهم من يسألونه أو لا يعين لهم، فالحكم في اعتبار العدد فيهم على الوجهين. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يكون المزكي واحدا) . دليلنا: أنه إثبات صفة، فافتقر إلى العدد، كالحصانة في الزاني والمقذوف.

فرع تفسير الجرح ضروري لقبوله

[فرع تفسير الجرح ضروري لقبوله] ] : ولا يقبل الجرح إلا مفسرا، فإن قال: هو مجروح أو فاسق.. لم يحكم بجرحه في ذلك. وقال أبو حنيفة: (يحكم بجرحه) . دليلنا: أن الناس مختلفون فيما يفسق به الإنسان وما يصير به مجروحا: فمنهم من يقول: إن من شرب النبيذ مستحلا بشربه.. يفسق به، ومن وطئ في نكاح المتعة.. يصير به فاسقا. ومنهم من قال: لا يفسق به، فلم يجز أن يقبل من الشاهد مطلقا؛ لجواز أن يكون قد اعتقد فسقه بشيء لا يرى الحاكم أنه يفسق به، والاعتماد على اجتهاد الحاكم. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولقد شهدت بعض من يعرف بالصلاح وهو يجرح رجلا فصرح بجرحه، وقيل له: بم جرحته؟ فقال: لا يخفى علي ما يجرح به الشهود، فألح عليه في ذلك، فقال: رأيته يبول قائما، فقيل: ما في ذلك؟ فقال: ينضح البول على ثيابه، فيصلي ولا يغسله، فقيل له: رأيته يصلي ولا يغسله؟ فقال: أراه يفعل ذلك) . فدل على أنه لا بد من ذكر السبب. إذا ثبت هذا: فسئل الجارح عن سبب الجرح، فذكر أن الشاهد زنى.. لم يكن قاذفا، سواء كان بلفظ الشهادة أو بغير لفظ الشهادة؛ لأنه لم يقصد بشهادته إثبات الزنى ولا إدخال المعرة عليه بالقذف، وإنما قصد بيان صفته عند الحاكم ليتبين للحاكم حكمه، فلم يجب عليه الحد. [فرع الجرح بالمعاينة أو السماع] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يقبل الجرح إلا بالمعاينة أو بالسماع) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا:

فقال الشيخ أبو حامد: تأويلها على قول أبي إسحاق: إن صاحب المسألة إذا أخبر الحاكم بالجرح.. لا يعتمد على قوله، ولكن يستدعى الذي جرح من الجيران فيسأله عن ذلك، ولا يقبل منه الجرح إلا أن يصف معاينة فيقول: رأيته يزني أو يشرب، أو: إلى السماع، فيقول: أقر عندي بذلك. وأما على قول أبي سعيد: فإنه يعتمد على قول أصحاب المسائل في الجرح، فإذا شهد صاحب المسألة أنه زنى أو سرق أو غير ذلك.. لم يسأله الحاكم أنه شاهد ذلك منه أو سمعه، ولكن لا يجوز لصاحب المسألة أن يشهد بذلك إلا إذا شاهده يفعل ذلك، أو سمع ذلك مستفيضا في الناس أنه زان فاسق، فيجوز له أن يجرحه بذلك. وقال ابن الصباغ: ليس للحاكم أن يسأل الشاهد إذا شهد بالجرح من أين شهد بذلك بل يسمع منه الشهادة لا غير، كما يسمع شهادته في سائر الأشياء. وقول الشافعي عائد إلى صاحب المسألة؛ فإنه لا يصير عالما إلا بمشاهدة منه لذلك أو بسماع متواتر، فإن لم يكن متواترا ولكن شاع في الناس.. فيجوز له أن يؤدي الشهادة مطلقا، كما يشهد بالموت والنسب. فأما إن كان بخبر الواحد والعشرة.. فلا يصير عالما بذلك لكنه يشهد عند الحاكم بما يسمع ويكون شاهد فرع والذي يسمع منه شاهد أصل، ولا يثبت شاهد الأصل إلا باثنين. وذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه يجوز أن يكون الذي يخبر أصحاب المسائل من الجيران واحدا إذا وقع في نفوسهم صدقه، ويجب أن يشهد أصحاب المسائل عند الحاكم على شروط الشهادة.

فرع قبول عدالة الشاهد بقول المزكي

[فرع قبول عدالة الشاهد بقول المزكي] : هو عدل لي وعلي] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يقبل التعديل حتى يقول: هو عدل علي ولي) . واختلف أصحابنا في هذا: فقال أبو سعيد الإصطخري: يكفي أن يقول: هو عدل. وبه قال أبو علي الطبري وأهل العراق؛ لأن القصد إثبات عدالته عند الحاكم، وعدالته تثبت بذلك، وقول الشافعي: (علي ولي) تأكيدا لا شرطا. وقال أكثر أصحابنا: إن قوله: (علي ولي) شرط في التعديل، واختلفوا في تعليله: فقال أبو إسحاق: إن قوله: عدل لا ينبئ عن العدالة في كل شيء، بل يجوز أن يكون عدلا في شيء دون شيء، كما يجوز إذا قلت للإنسان: أنت صادق.. جاز أن يكون صادقا في شيء دون شيء، فإذا قال: عدل علي ولي.. ثبتت عدالته على الإطلاق. ومنهم من قال: لأن التزكية لا تقبل إلا ممن تقبل شهادته له، ولا تقبل من الولد والوالد. وكذلك الشهادة بالجرح، لا تقبل إلا ممن تقبل شهادته عليه ولا تقبل من العدو. فأما إذا قال: عدل علي ولي.. انتفى بذلك أن يكون بينهما ولادة أو عداوة. وهذا أشبه؛ لأن من كان عدلا في شيء دون شيء لا يوصف بالعدالة ولا يفتقر في التعديل إلى ذكر السبب الذي صار به عدلا؛ لأن أسبابها في الظاهر والباطن لا تنضبط. فإن قال المزكي: لا أعلم منه إلا خيرا.. لم تحصل بذلك التزكية. وحكي عن أبي يوسف: أن التزكية تحصل بذلك. دليلنا: أنه لم يصرح بالعدالة، فلا يكون تعديلا، كما لو قال: أعلم فيه خيرا.

فرع الجهر بتزكية الشاهد بعد السؤال عنه سرا

ولا يقبل التعديل إلا ممن له خبرة باطنة وخبرة طويلة بالشاهد؛ لأن المقصود معرفة حال الشاهد في الباطن، وذلك لا يدركه إلا من خبر باطنه وطالت خبرته به، فأما من يعرفه في شهر أو شهرين.. فلا يقبل منه التعديل؛ لأنه ربما يكون قد تقدم منه فسق لم يعرفه، فلم يقبل تزكيته. وأما الشهادة بالجرح: فتقبل ممن يخبر باطنه وممن لا يخبر باطنه؛ لأن الجرح يحصل بفعل واحد، فإذا علمه.. جرح به. [فرع الجهر بتزكية الشاهد بعد السؤال عنه سرا] فرع: [طلب الحاكم الجهر بتزكية الشاهد بعد السؤال عنه سرا] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويسأل عمن جهل عدالته سرا، فإذا عدل.. سأل عن تعديله علانية؛ ليعلم أن المعدل سرا هو هذا؛ لئلا يوافق اسمه اسما) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا على حسب اختلافهم في المزكين: فقال أبو إسحاق: أراد به: أن أصحاب المسائل إذا أخبروا الحاكم بعدالة الشاهد سرا.. لا يقتصر على ذلك، بل يحضر المزكين من الجيران ويقول لهم: هذا الذي سألناكم عن عدالته، فيخبروه عن عدالته جهرا؛ لئلا يوافق اسمه اسما آخر ونسبه نسبا آخر. وقال أبو سعيد الإصطخري: وأراد بذلك: أن أصحاب المسائل إذا أخبروا الحاكم بعدالة الشاهد سرا.. سألهم عن عدالته جهرا. وإن ادعى رجل على رجل حقا فأنكره، فشهد له بذلك شاهد مجهول الحال عند الحاكم، فقال المشهود عليه: هو عدل.. فهل يجوز للحاكم أن يحكم عليه بشهادته؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن البحث عن عدالته لحق المشهود عليه، وقد شهد له بالعدالة. والثاني: لا يجوز أن يحكم بشهادته حتى يبحث عن عدالته؛ لأن اعتبار العدالة في الشهادة حق لله تعالى؛ ولهذا: لو رضي المشهود عليه بالحكم عليه بشهادة الفاسق..

فرع شهادة المسافرين

لم يجز للحاكم أن يحكم بذلك. ولأن الحكم بشهادته حكم بتعديله، والتعديل لا يثبت بقول واحد منهما. وإن عرف الحاكم عدالة الشاهد في وقت ثم شهد عنده بعد ذلك.. نظرت: فإن كان بينهما مدة قريبة، كاليوم واليومين والثلاث.. فإنه يحكم بشهادته ولا يفتقر إلى السؤال عنه؛ لأن عدالته لا تتغير في مثل ذلك، والأصل بقاؤها إلى أن يعلم خلافها. وإن مضى له مدة طويلة.. ففيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: يحكم بشهادته ولا يسأل عن حالته؛ لأن عدالته قد ثبتت، والأصل بقاؤها إلى أن يعلم خلافها. [والثاني] : قال أبو إسحاق: لا يحكم بشهادته حتى يسأل عن عدالته؛ لأن مع طول الزمان قد يتغير الحال. فعلى هذا: ليس له حد مقدر، ولكن يرجع في ذلك إلى العرف والعادة في كل مدة يجوز أن يتغير حال الإنسان فيها. وحكى أبو إسحاق: أن بعض الناس قال: يسأل عنه في كل ستة أشهر. وليس هذا مذهبنا، ولكن على ما يراه الحاكم. [فرع شهادة المسافرين] ] : وإن شهد مسافران عند الحاكم بشهادة وهو لا يعرفهما.. لم يحكم بشهادتهما حتى يزكيهما رجلان من أهل الرفقة، أو من أهل البلد ممن يعرفهما الحاكم. وقال مالك: (إذا رأى الحاكم فيهما سيماء الخير.. حكم بشهادتهما وإن لم يعرف عدالتهما في الباطن ولا زكاهما من يعرفهما) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] ومن لا يعرف عدالته غير مرضي. ولأن عدالتهما في الباطن مجهولة عند الحاكم، فلم يصح الحكم بشهادتهما، كشاهدي الحضر.

مسألة حضور أهل الفقه عند القاضي لمشاورتهم

[مسألة حضور أهل الفقه عند القاضي لمشاورتهم] ] : والمستحب: أن يكون بحضرة القاضي قوم من أهل الفقه من أهل مذهبه وغيرهم، حتى إذا حدثت حادثة.. ألقاها عليهم؛ ليذكر كل واحد منهم ما عنده فيها فيسهل عليه الاجتهاد فيها إذا سمع حجتهم. وهو بالخيار: إن شاء.. أقعدهم معه في مجلسه، وإن شاء.. أقعدهم بالقرب من مجلسه حتى إذا احتاجهم.. استدعاهم. فإن حكم بحكم لم يشاورهم فيه.. فليس لأحد منهم أن ينكر عليه؛ لأنه افتيات عليه، إلا أن يحكم بما يخالف نص الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي. وإذا أراد الحاكم أن يحكم بشيء، فإن كان أمرا واضحا لا يحتاج فيه إلى الاجتهاد؛ مثل الحكم الذي دل عليه النص: وهو الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي.. فإنه يحكم به ولا يشاور به من بحضرته من الفقهاء؛ لأنه لا يحتمل إلا معنى واحدا، فلم يحتج فيه إلى المشاورة. وإن كان يحتاج فيه إلى الاجتهاد.. فالمستحب له: أن يشاور فيه من بحضرته من الفقهاء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال الحسن: إن كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغنيا عن مشاورتهم ولكن أراد: أن يستن الحكام بعده بذلك، ولم يرد أنه يشاورهم في الشرع:؛ لأن الشرع يؤخذ منه، وإنما أراد أن يشاورهم في تدبير الحرب. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاور الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في أسارى

بدر، فقال بعضهم: يقتلون، وقال بعضهم: يفادون» . و: «شاور أهل المدينة يوم الخندق فيما قاله مالك بن عوف» . و: (شاور أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في الجدة) . و: (شاورهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في الجنين) . ولأن الإنسان لا يحيط علما بالشرع كله، وإنما يعلم البعض، وقد يخفى عليه البعض، فربما ذكر له من يستشيره ما يخفى عليه منه. ولا يستحب له أن يشاور إلا من بلغ درجة الاجتهاد في الفقه؛ لأن القصد معرفة الأدلة، وهذا لا يدركه إلا من بلغ مبلغ الاجتهاد. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويشاور الموافق والمخالف، ويذكر كل واحد ما عنده فيها من المذهب والدليل؛ ليسهل عليه الاجتهاد) . وإذا شاور من عنده، وذكروا ما عندهم.. نظرت: فإن اتفق اجتهاد الحاكم واجتهادهم.. حكم بذلك ولا كلام. وإن أداه اجتهاده إلى خلاف ما أداهم اجتهادهم إليه.. حكم بما أداه اجتهاده إليه، وليس لهم أن يعترضوا عليه؛ لأن في ذلك افتئاتا عليه. وإن لم يؤد اجتهاده إلى شيء.، فإن كان الوقت ضيقا وخاف فوات الحكم إن اشتغل بالاجتهاد؛ بأن تحاكم إليه مسافران وخاف إن اشتغل بالاجتهاد فوات الرفقة.. فهل يجوز له أن يقلد غيره؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس: يجوز له أن يقلد غيره ويحكم بقوله. [والثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يجوز. وأصل هذا الاختلاف بينهم: في البصير إذا لم يعرف القبلة وضاق عليه الوقت.. هل له أن يقلد غيره؟ فإن كان الوقت واسعا.. فلا يجوز له أن يقلد غيره ويحكم به،

وكذلك: لا يجوز للعالم أن يقلد غيره فيما يعمل به ولا فيما يفتي به وإن كان من يقلده أعلم منه. قال أبو حنيفة: (يجوز للحاكم أن يقلد غيره ويحكم به) ، وكذلك: (يجوز للعالم -عنده - أن يقلد غيره فيما يعمل به، ولا يجوز له أن يقلد غيره ليفتي به) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] [النساء: 59] ، فأمر بالرد عند الاختلاف إلى الكتاب والسنة، فمن قال: إنه يرد إلى التقليد.. فقد خالف ظاهر الآية. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: " بم تقضي؟ " قال: بكتاب الله، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: بسنة رسول الله، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله» ولم

مسألة الاجتهاد في الأصول والفروع وأقوال العلماء في تعدد الحق فيهما

يذكر التقليد. ولأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قد اختلفوا في مسائل كثيرة، فما روي أن أحدا منهم قلد أحدا. ولأن كل واحد منهم معه آلة للاجتهاد، فلم يجز لأحدهم تقليد الآخر، كالعالم والعامي في معرفة الله تعالى. [مسألة الاجتهاد في الأصول والفروع وأقوال العلماء في تعدد الحق فيهما] ] : إذا اجتهد اثنان أو أكثر في حادثة، فأدى كل واحد منهم اجتهاده إلى خلاف ما أدى الآخر اجتهاده إليه.. نظرت: فإن كان ذلك في أصول الدين؛ مثل الرؤية، وخلق القرآن، وخلق الأفعال، وما أشبه ذلك.. فإن الحق في واحد من الأقوال؛ لأن الله تعالى قد نصب دليلا عليها كلف المجتهد إصابته، فإن أخطأه.. كان مذموما عند الله، وبه قال عامة أهل العلم. وقال عبيد الله بن الحسن العنبري: كل مجتهد في ذلك مصيب. وهذا خطأ؛ لأن الخلاف في ذلك يعود إلى الاعتقاد، ولا يجوز أن يعتقد اثنان في شيء واحد اعتقادين مختلفين ويكونا مصيبين. وإن كان في الفروع.. اختلف أهل العلم فيه على ثلاثة مذاهب:

فـ[الأول] : منهم من قال: الحق عند الله في واحد من الأقوال وقد نصب الله عليه دليلا وأمر بالتوصل إليه والنظر فيه، فمن أداه اجتهاده إليه.. كان مصيبا عند الله ومصيبا في الحكم، وله أجران: أجر لاجتهاده وأجر لإصابته الحق. وإن أخطأه.. كان مخطئا عند الله مخطئا في الحكم، إلا أنه لا يأثم وله أجر. وبه قال مالك وجماعة من أهل العلم. و [المذهب الثاني] : منهم من قال: الحق عند الله تعالى في واحد من الأقوال، فمن أداه اجتهاده إليه.. كان مصيبا عند الله في الحكم، وله أجران. فإن أخطأه.. كان مخطئا عند الله ومصيبا في الحكم وذلك فرضه وله أجر عليه. وبه قال أبو حنيفة وأهل العراق. و [المذهب الثالث] : منهم من قال: كل مجتهد مصيب، والحق في قول كل واحد من المجتهدين، وفرض كل واحد من المجتهدين ما يغلب على ظنه ويؤديه إليه اجتهاده. وبه قالت الأشعرية والمعتزلة وأكثر المتكلمين. واختلف أصحابنا في حكاية مذهب الشافعي في ذلك: فذهب أبو إسحاق المروزي، والقاضي أبو الطيب، وأكثر أصحابنا: إلى أن مذهبه هو الأول، قولا واحدا. ومنهم من قال: بل له في ذلك قولان: أحدهما: أن الحق عند الله في واحد من الأقوال، إن أصابه.. كان مصيبا للحق عند الله وفي الحكم، وإن أخطأه.. كان مخطئا عند الله وفي الحكم، ولا إثم عليه. والثاني: أن الحق عند الله في واحد من الأقوال، إن أصابه المجتهد.. كان مصيبا عند الله وفي الحكم، وإن أخطأه.. كان مخطئا عند الله مصيبا في الحكم. واختار الشيخ أبو حامد هذا الطريق، قال: لأن للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مسائل مثلها على قولين: منها: إذا اجتهد في القبلة، فصلى إلى جهة، ثم تيقن بعد الفراغ منها أنه صلى إلى غير جهة القبلة.

مسألة تبين خطأ الحاكم بعد الحكم

ومنها: إذا اجتهد الأسير فصام شهرا، فبان أنه صام قبل شهر رمضان. ومنها: إذا دفع الصدقة إلى من ظاهره الفقر، ثم بان أنه غني. والمشهور من المذهب هو الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] [الأنبياء: 79] . وذلك: (أن غنما لقوم دخلت كرم قوم فأفسدته، فترافعوا إلى داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقضى بالغنم لصاحب الكرم، فأخبر سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بذلك، فقال: لا، ولكن يدفع الغنم إلى صاحب الكرم لينتفع بها ويدفع الكرم إلى مالك الغنم ليعمره، فإذا عاد إلى حالته.. رده إلى صاحبه، وردت الغنم إلى صاحبها، فبلغ ذلك داود، فرجع إليه، فأخبر الله سبحانه: أنه فهم القضاء سليمان. فلو كان الحق في قول كل واحد منهما.. لكان كل واحد منهما قد فهم القضاء) . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب.. فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ.. فله أجر واحد» . فجعل أحدهما مصيبا والآخر مخطئا. ولأنه فاضل بينهما في الثواب، فدل على اختلافهما في الإصابة. إذا ثبت هذا: فإن المخطئ يؤجر للخبر، وبماذا حصل له الأجر؟ فيه وجهان حكاهما أصحابنا العراقيون، وحكاهما الخراسانيون قولين: أحدهما: أنه يؤجر على قصد الاجتهاد، كمن اشترى عبدا فأعتقه، فبان حرا.. فإن عتقه لم يقع موقعه ولكنه يؤجر على القصد، وكما لو رمى رجلان كافرا، فأصابه أحدهما.. فإن المصيب يؤجر للقصد والإصابة، والمخطئ يؤجر للقصد. والثاني: أنه يؤجر للاجتهاد، كرجلين سلكا إلى الجامع أو إلى مكة طريقين بالاجتهاد، فضل أحدهما عن الطريق فلم يصل.. فإنه يؤجر على ما أتى به من الفعل. والأول أصح. [مسألة تبين خطأ الحاكم بعد الحكم] وإن حكم الحاكم بحكم، ثم بان أنه أخطأ في ذلك الحكم، أو رفع إليه حكم غيره، وبان أنه أخطأ في حكمه.. نظرت: فإن كان الحكم الأول مما لا يسوغ فيه

الاجتهاد؛ مثل أن يكون قد خالف نص الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي.. نقض الحكم الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] [النساء: 59] . وأراد به الكتاب والسنة. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] [المائدة: 49] . وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] [الشورى: 10] . وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من أدخل في ديننا ما ليس فيه.. فهو رد» . يعني: مردودا. وعن عمر: أنه قال: (ردوا الجهالات إلى السنة) ، وكتب إلى أبي موسى: (لا يمنعنك قضاء قضيت به، ثم إذا راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق؛ فإن الحق قديم لا يبطله شيء، وإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل) . وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان لا يورث المرأة من دية زوجها حتى قال له الضحاك بن قيس: «كتب إلي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها» . فرجع عمر. «وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يفضل دية الأصابع بعضها على بعض، فقيل له: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: في كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل. فرجع عن ذلك» . فإن كان الحكم الأول مما يسوغ فيه الاجتهاد؛ بأن لم يخالف نص الكتاب أو السنة، أو إجماعا، أو قياسا جليا.. لم ينقضه على نفسه أو على غيره؛ لما روي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حكم في مسائل باجتهاده، ثم خالفه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيها ولم ينقض ما حكم به أبو بكر) . وروي: أن عمر قال: (لا أشرك بين الإخوة من الأب والأم، وبين الإخوة من الأم، ثم شركهم، فقيل له في ذلك،

مسألة لا يتعقب القاضي حكم الذي قبله

فقال: ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي) . وروي عنه: (أنه قضى في الجد بسبعين قضية) ، وقيل: بمائة قضية، وكذلك روي عن علي ولا مخالف لهما في ذلك. ولأن الاجتهاد الثاني كالأول، فلو نقض الأول بالثاني.. أدى إلى أن لا يثبت حكم؛ لأنه قد يتغير الثاني إلى غيره. قال المسعودي [في " الإبانة "] : واختلف أصحابنا في مسائل لأبي حنيفة: هل ينقض الحكم فيها على أصحاب أبي حنيفة، منها: النكاح بلا ولي، والحكم ببيع أم الولد، وحصول اللعان بأكثر كلمات اللعان، وحيث قالوا: لا تقبل شهادة المحدود في القذف بعد التوبة، وقولهم: لا قصاص بين طرف الرجل والمرأة، وقولهم: لا يجب الحد بوطء الأم بالنكاح، وحكمهم بالشفعة للجار فمن أصحابنا من قال: ينقض حكمهم في ذلك كله؛ لأن الخطأ ظاهر في ذلك بدليل قاطع من الكتاب والسنة. ومنهم من قال: لا ينتقض حكمهم في ذلك؛ لأن الخطأ فيها إنما ظهر بقياس غير جلي. وأما إذا بان له الخطأ في اجتهاده قبل أن ينفذ حكمه.. فلا يجوز أن يحكم بالاجتهاد الأول؛ لأنه يعتقده خطأ، فلا يجوز له الحكم به. [مسألة لا يتعقب القاضي حكم الذي قبله] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وليس للقاضي أن يتعقب حكم من قبله) . وجملة ذلك: أن القاضي إذا عزل وولي بعده قاض، فإن كان الأول لا يصلح للقضاء.. نقضت أحكامه كلها، أصاب فيها أو أخطأ؛ لأنه لا يصح حكمه. وإن كان يصلح للقضاء.. فلا يجب على الثاني أن يتصفح أحكامه من غير متظلم؛ لأن الظاهر منها الصحة. وهل يجوز له أن يتصفحها من غير متظلم؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن فيه احتياطا. والثاني: لا يجوز؛ لأن فيه ضربا من التجسس.

فإن خالف وتصفحها ووجد فيه منتقضا.. قال ابن الصباغ: فإن كان يتعلق بحق الله؛ كالطلاق والعتاق.. نقضها؛ لأن النظر في حقوق الله تعالى إليه. وإن كان يتعلق بحق آدمي له عليه ولاية نقضها؛ لأنه لا مطالب له بحقه غيره. وإن كان يتعلق بحق آدمي لا ولاية له عليه.. لم يجز نقضه؛ لأنه لا يستوفى من غير مطالبة من له الحق. وإن تظلم منه متظلم وسأل القاضي أن يحضره.. لم يجز للقاضي الثاني أن يحضره حتى يسأل المتظلم منه عن دعواه عليه؛ لأنه ربما لا يكون له عليه حق، وإنما قصد ابتذاله بالحضور، وللقاضي أعداء، فلم يجز إحضاره من غير تحقيق الدعوى. وإن سأله عما يدعي عليه، فقال: غصب مني مالا، أو عليه لي دين، أو أخذ مني رشوة على حكم.. أحضره إلى مجلسه وحكم بينهما بذلك. وإن قال: حكم علي بغير الحق، أو حكم علي بشهادة عبدين أو فاسقين.. ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحضره، كما لو قال: غصب مني مالا. والثاني: لا يجوز له إحضاره حتى يقيم البينة بما ادعاه؛ لأن المحكوم عليه بذلك لا يتعذر عليه إقامة البينة عليه. فإذا قلنا بهذا: فاختلف أصحابنا في كيفية الشهادة التي لا يجوز إحضاره إلا بها: فمنهم من قال: لا يحضره حتى يقيم بينة على إقرار القاضي المعزول: أنه حكم عليه بغير حق، أو على حكمه بشهادة عبدين فاسقين؛ لأن من شرط البينة أن تكون موافقة للدعوى. ومنهم من قال: إذا أقام بينة: أنه قضى عليه قضاء ما.. أحضره؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على ما زاد على ذلك. فإن قلنا: لا يحتاج إلى البينة في إحضاره، أو قلنا: يجوز أن يحضره إذا أقام عليه بينة: أنه قضى عليه قضاء ما، فأحضره بذلك.. نظرت: فإن أقر: أنه حكم عليه

فرع الادعاء على القاضي المعزول بالقتل أو إخراج العقار ظلما

بغير حق، أو أقر: أنه حكم عليه بشهادة فاسقين أو عبدين.. لزمه الضمان. وإن أنكر فأقام المدعي بينة ذلك.. لزمه الضمان. وإن قال: ما حكمت عليه إلا بشهادة حرين عدلين.. فالقول قول القاضي المعزول مع يمينه، وهل يقبل قول من غير يمين؟ فيه وجهان: أحدهما -وهو قول أبي سعيد -: أنه يقبل قوله من غير يمين؛ لأن قوله: (قضى علي) إقرار له بالأمانة، والأمين إذا ادعيت عليه خيانة.. قبل قوله من غير يمين. والثاني: لا يقبل قوله من غير يمين، وهو الأصح؛ لجواز أن يخاف من اليمين فيقر فيلزمه الغرم. هذا مذهبنا: وقال أبو حنيفة: (إذا أقر أنه قضى عليه.. لزمه الضمان حتى يقيم البينة أنه قضى عليه بحق) . دليلنا: أن قوله: (قضى علي) إقرار منه بالأمانة له، والأمين إذا ادعيت عليه خيانة.. كان القول قوله كالمودع. وإن قال المدعي: جار علي في الحكم.. نظر الحاكم فيما حكم عليه به: فإن كان مما لا يسوغ فيه الاجتهاد.. نقضه. وإن كان مما يسوغ فيه الاجتهاد، فإن أدى الثاني اجتهاده إلى ما أدى الأول اجتهاده إليه.. نفذ حكمه وأمضاه. وإن أداه اجتهاده إلى خلاف ما أدى الأول اجتهاده إليه بعد.. ففيه قولان يأتي بيانهما. [فرع الادعاء على القاضي المعزول بالقتل أو إخراج العقار ظلما] ] : قال ابن القاص: إذا ادعى رجل على القاضي المعزول: أنه قتل ابنه ظلما.. فإنه يستحضره ويسأله، فإن أقر.. حكم عليه بموجب إقراره، وإن أنكر فأقام عليه المدعي بينة.. حكم له، وإن لم يكن له بينة.. لم يستحلف القاضي المعزول.

فرع شهدا على رجل بطلاق ونحوه فادعى كذبهما وطلب إحضارهما

قال ابن الصباغ: وهذه يجيء فيها الوجهان، كالوجهين في التي قبلها: أحدهما: لا يحضره إلا ببينة. والثاني: يحضره من غير بينة. وهل يحلف القاضي؟ على الوجهين في التي قبلها أيضا. وإن قال المدعي: أخرج من يدي عقارا أو عينا فدفعها إلى فلان بغير حق، فقال المعزول: بل فعلت ذلك بحق.. كان القول قول المعزول بلا يمين. وأما الذي في يده العقار أو العين، فإن صدق القاضي بأنه حكم له بذلك.. لم يقبل قوله من غير بينة. وهل يكون قول القاضي بعد عزله: حكمت له بذلك شهادة مقبولة؟ فيه وجهان: أحدهما: تكون شهادته مقبولة؛ لأنه ليس فيه أكثر من أنه شهد على فعل نفسه بما لا يجز به إلى نفسه نفعا فقبل، كما لو شهدت المرضعة على إرضاعها. والثاني: لا تكون شهادة مقبولة؛ لأن شهادته بالحكم تضمنت إثبات العدالة لنفسه، فلم يصح. وإن قال الذي في يده العقار أو العين هذا ملكي.. لم يحكم لي به القاضي.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الظاهر مما في يده أنه يملكه. [فرع شهدا على رجل بطلاق ونحوه فادعى كذبهما وطلب إحضارهما] قال ابن الصباغ: إذا شهد شاهدان على رجل بعتاق أو طلاق أو حد، فادعى عليهما أنهما شهدا عليه في ذلك زورا وسأل إحضارهما.. فإنهما يحضران؛ لجواز أن يقرا فيلزمهما الغرم. فإذا حضرا، فإن أنكرا، فأقام المدعي عليهما البينة.. لزمهما الغرم، وإن لم يقم بينة بذلك.. فإنهما لا يستحلفان؛ لأن إحلافهما يطرق عليهما الدعوى في الشهادة والامتهان، وربما منع ذلك من إقامة الشهادة.

مسألة آداب القضاء وهيئة القاضي

[مسألة آداب القضاء وهيئة القاضي] ] : وإذا أراد القاضي الخروج إلى مجلس حكمه.. فإنه يخرج راكبا إن كان له مركوب، وإن لم يكن له مركوب.. خرج ماشيا. ويستحب له أن يدعو بما روت أم سلمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج من بيته.. قال: " اللهم إني أعوذ بك من [أن أضل أو أضل] أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي» . ويسلم على من في طريقه من المسلمين في يمينه ويساره وبين يديه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " يسلم الراكب على القائم والماشي، والقائم على القاعد، والماشي على القائم، والقليل على الكثير» . فإذا بلغ إلى موضع حكمه، فإن كان قد سبق إليه قوم.. سلم عليهم؛ لما ذكرناه من الخبر. فإن لم يكن مسجدا.. لم تسن له الصلاة لتحيته، وإن كان مسجدا.. سن له أن يصلي ركعتين قبل أن يجلس. فإذا أراد أن يجلس.. بسط له بساط ليجلس عليه؛ لأنه أهيب له. ويجلس منفردا على الناس؛ ليهتدي إليه الخصوم. ويستحب له أن يجلس مستقبل القبلة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير المجالس ما استقبل به القبلة» .

ويستحب أن يجلس وعليه السكينة والوقار؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا متكئا على يساره، فقال: " هذه جلسة المغضوب عليهم» . ويستحب أن يكون على رأسه محضر يقدم المتقدم من الخصوم، ويؤخؤ المتأخر، ويكون ثقة أمينا؛ لئلا يقدم المتأخر ويؤخر المتقدم. ويكون القمطر بين يديه مختوما؛ ليجعل فيه ما يجتمع من المحاضر والسجلات. وإن كان له كاتب.. فهو بالخيار: إن شاء أجلسه عنده، وإن شاء أجلسه بالبعد منه. فإن أجلسه عنده.. فالمستحب: أن يجلسه بين يديه؛ لينظر ما يكتب ولا يحتاج أن يلتفت إليه. وإن أجلسه بالبعد منه وأقر الخصم.. بعثه إليه ليكتب إقراره. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويكتب الحاكم اسم المقر؛ لئلا يجحد الإقرار عند الكاتب) . قال أبو بكر الصيرفي: كنت عند بعض الحكام، فتقدم إليه خصمان، فادعى أحدهما على الآخر، فأقر المدعى عليه بذلك، فبعث بهما إلى الكاتب ليكتب إقرار المقر منهما، فلما حصلا عند الكاتب.. قال كل واحد منهما للآخر: أنت الذي أقررت، فردا إلى الحاكم، فلم يعرف عين المقر منهما، فضاع الحق المقر به. ويستحب للقاضي أن يجمع الشهود في موضع قضائه، فإن قلنا: إن للقاضي أن يحكم بعلمه.. فهو بالخيار: إن شاء أجلسهم بحضرته، وإن شاء أجلسهم بالبعد منه حتى إذا احتاج إلى إشهادهم.. أحضرهم. وإن قلنا: ليس له أن يقضي بعلمه..

مسألة للقاضي النظر في المسجونين

احتاج أن يجلسهم بالقرب منه ليسمعوا كلام المتخاصمين، فيحفظوا إقرار المقر منهما، فيشهدوا عليه إذا أنكر الإقرار. [مسألة للقاضي النظر في المسجونين] مسألة: [يستحب للقاضي النظر في المسجونين أو لا ثم الأهم فالأهم] : وإذا جلس القاضي في مجلس حكمه.. فالمستحب: أن يبدأ بالنظر في المحبسين؛ لأن الحبس عذاب، وربما يكون فيهم من يجب إطلاقه، فينفذ ثقة إلى حبس القاضي الذي كان قبله، ويكتب اسم كل محبوس ولمن حبسه وبماذا حبس في رقعة، ثم يأمر القاضي مناديا فينادي في البلد يومين أو ثلاثا على قدر البلد، فيقول المنادي: ألا إن فلان بن فلان القاضي يريد النظر في أمر المحبسين في موضع كذا وكذا، وفي وقت كذا وكذا، فمن كان له محبوس.. فليحضر ذلك الوقت. فإذا كان ذلك الوقت وحضر القاضي وحضر الناس.. ترك الرقاع التي فيها أسماء المحبسين بين يديه، ومد يده وأخذ واحدة منها ونظر اسم من فيها من المحبسين، وقال: من خصم فلان بن فلان؟ فإذا قال رجل: أنا.. بعث معه ثقة إلى الحبس فأخرج خصمه، ويفعل ذلك في قدر ما يعلم أنه يمكنه النظر بينهم في ذلك اليوم، فيخرجهم من الحبس ولا يخرج معهم غيرهم، وينظر فيهم الأول فالأول. فإذا حضر المحبوس وخصمه.. فإن الحاكم لا يسأل خصم المحبوس بم حبسه؛ لأن الظاهر أنه حبسه بحق، ولكن يسأل المحبوس، فيقول له: بم حبست؟ فإن قال: حبست له بدين وأنا مقر علي به.. فإن الحاكم يقول له: اقضه دينه وإلا رددناك إلى الحبس. فإن قال: حبست له بدين وأنا مقر به إلا أني معسر، فإن كان الدين قد ثبت عليه بعوض؛ مثل القرض أو البيع، أو ثبت عليه من غير عوض؛ كالمهر أو الجناية، إلا أنه قد عرف له مال.. لم يقبل قوله: إنه معسر من غير بينة؛ لأن الأصل بقاء المال في

يده. فإن لم يعرف له مال.. فالقول قوله مع يمينه: إنه معسر؛ لأن الأصل فيه الإعسار، فإذا حلف.. أمر القاضي من ينادي: هل له خصم غيره؟ فإذا كان له خصم يدعي عليه جناية أو حدا.. نظر بينهما، وإن لم يحضر له خصم.. أطلقه من غير استحلاف بأنه لا خصم له؛ لأن الظاهر أنه لا خصم له غيره. وإن أقام خصمه بينة أن للمحبوس الدار الفلانية، فإن صدقه المحبوس.. فلا كلام، وإن قال: ليست لي، وإنما هي لغيري، ولم يعين المقر له.. لم يلتفت إلى إقراره وبيعت في الدين. وكذلك إن قال: ليست لي ولا أدري لمن هي.. لم يلتفت إلى قوله وبيعت، وقضى صاحب الدين دينه من ثمنها. وإن قال: هي لزيد.. نظرت: فإن كذبه زيد.. لم يلتفت إلى إقراره وبيعت، وقضى صاحب الدين دينه من ثمنها. وإن ادعى زيد أنها له، فإن أقام زيد بينة أنها له.. حكم له بها؛ لأنه معه بينة وقد أقر له صاحب اليد -وهو المحبوس - باليد، فاجتمع له بينة ويد. فإن لم يكن مع زيد بينة. ففيه وجهان: أحدهما: لا تباع في الدين، بل يحكم بها لزيد؛ لأن البينة شهدت بملكها للمحبوس وهو لا يدعيها، فلم يحكم له بها، وقبل إقراره بها لزيد؛ لأنها في يده. والثاني: تباع في الدين؛ لأن البينة شهدت للمحبوس بالملك، وللخصم بقضاء الدين من ثمنها، فإذا أسقط المحبوس حقه.. بقي حق الخصم. فإذا قلنا: تباع.. بيعت. أو قلنا: لا تباع.. فإنه ينادي عليه: هل له خصم آخر، فإن لم يحضر له خصم آخر.. أطلق من غير استحلاف. فإن قال المحبوس: حبست في حق واجب في بدني، إما قصاص أو حد.. فيستوفى

ذلك الحق منه، ثم ينادى عليه: هل له خصم آخر، فإن لم يحضر له خصم آخر.. خلي من غير استخلاف. وإن قال المحبوس: حبست بحق شهد به علي شاهدان لم تثبت عدالتهما، فإن قلنا: يجوز حبسه لذلك.. رده إلى الحبس إلى أن يكشف عن عدالة الشاهدين. وإن قلنا لا يجوز حبسه لذلك.. أمر من ينادي عليه: هل له خصم، فإن لم يحضر له خصم.. خلاه. وإن قال المحبوس: حبسني بقيمة كلب قتلته عليه على قول مالك، أو بقية خمر أتلفتها على ذمي على مذهب أبي حنيفة. فإن أدى هذا الحاكم اجتهاده إلى ما أدى الأول اجتهاده إليه في ذلك.. أنفذ حكم الأول وأمضاه. وإن كان أداه اجتهاده إلى خلاف اجتهاد الأول في ذلك.. فالحكم في هذا كالحكم في القاضي إذا تصفح حكم القاضي قبله فوجد في حكمه ما يسوغ فيه الاجتهاد وخالف اجتهاده اجتهاده، وفي ذلك قولان: أحدهما: يمضي حكم الأول؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله. والثاني: لا يمضيه؛ لأنه يعتقد بطلانه، ولا ينقضه؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله، ولكن يتوقف فيه ويجتهد أن يصطلحا بينهما. وعلى القولين يرد المحبوس إلى الحبس. وإذا قال المحبوس: حبست لغير خصم.. فإن الحاكم يأمر مناديا ينادي: من كان خصما لفلان بن فلان فليحضر، فإن حضر رجل وقال: أنا خصمه وحبس لي، فإن أقر المحبوس بذلك.. نظر بينهما على ما مضى، وإن أنكر وقال: لست بخصم له ولا أعرفه، فإن كان مع المدعي بينة تشهد أنه حبس بحقه.. كان الجواب على ما مضى. وإن لم يكن معه بينة.. قيل للمدعي: ادع عليه الآن، ويحكم الحاكم بينهما.

وإن لم يظهر له خصم.. لم يطلقه الحاكم من الحبس حتى يحلفه: أنه لم يحبس لخصم له عليه حق؛ لأن الظاهر أنه لم يحبسه إلا بحق عليه. فإذا فرغ الحاكم من النظر في أمر المحبسين.. نظر في أمر الأوصياء؛ لأنهم ينظرون في أمر من لا يمكنه أن يطالب بحقه.. فيستدعي الوصي ويسأله عن وصيته، فإن أقام بينة أن الحاكم الأول قد أنفذ الوصية إليه.. لم يعزله ولم يسأل عن حاله؛ لأن الظاهر أنه لم ينفذ الوصية إليه إلا وهو ممن يصلح أن يكون وصيا، إلا أن يظهر فسقه فيعزله؛ لأن العدالة شرط في الوصي.. وإن كان عدلا ضعيفا.. ضم إليه الحاكم عدلا أمينا لينظر معه. فإن لم يقم البينة أن الأول أنفذ الوصية إليه، إلا أنه قد أقام البينة على أن الوصية إليه.. نظر الحاكم فيه: فإن كان عدلا قويا.. أنفذ الوصية إليه، وإن كان فاسقا.. عزله وجعل الأمر إلى عدل قوي، وإن كان عدلا ضعيفا.. ضم إليه غيره. وإن كان قويا ولم يثبت عنده فسقه ولا عدالته.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يقر المال في يده؛ لأن الظاهر منه أنه لما أوصي إليه أنه عدل أمين. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: ينزع المال من يده حتى يعلم عدالته؛ لأن الذي رضيه ليس بحاكم يسكن إلى فعله، والأصل عدم العدالة حتى تعلم. وإن ادعى رجل: أن فلانا أوصى له بالنظر في أولاده، ولم يقم على ذلك بينة.. لم يقبل قوله؛ لأن الأصل عدم الوصية إليه. فإن كان عدلا قويا.. فالأولى للحاكم أن يجعل أمرهم إليه؛ لجواز أن يكون قد أوصى إليه بهم. وإن جعل أمرهم إلى غيره.. جاز. وكذلك: إذا قامت بينة عند الحاكم أن رجلا أوصى بتفرقة ثلث ماله إليه، وادعى

آخر: أنه أوصى إليه بذلك ولم يقم بينة على ذلك.. فهو كما لو ادعى: أنه أوصى إليه بالنظر في أولاده الصغار، ولم يقم بينة على ذلك على ما مضى. وإن ادعى فاسق: أن رجلا أوصى إليه بدفع شيء من ماله إلى قوم، فدفعه إليهم، وأقام بينة على ذلك.. نظرت: فإن كانت الوصية لقوم معينين وقد وصل إليهم ما وصى لهم به وهم من أهل القبض.. صح الدفع إليهم، ولا ضمان عليه؛ لأن المقصود وصول ذلك إليهم وقد وصل. وكذلك لو أخذهم الموصى لهم بأنفسهم.. صح قبضهم. وإن كانت الوصية لغير معينين؛ مثل: أن أوصى للفقراء والمساكين، فأوصل إليهم.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: لا يلزمه الضمان؛ لأنه دفع المال إلى مستحقه، فأشبه إذا كانت الوصية لمعينين. والثاني - وهو المشهور -: أنه يلزمه الضمان؛ لأن التفرقة على هؤلاء تفتقر إلى الاجتهاد، والفاسق ليس من أهل الاجتهاد، فإذا فرق.. لزمه الضمان. قال ابن الصباغ: وإن أقام رجل البينة أن فلانا أوصى بثلث ماله ولم يوص إليه، لكنه فرقه خوفا عليه، فإن كانت الوصية لمعينين.. فلا ضمان عليه، وإن كان لغير معينين.. ففيه وجهان، ودليلهما ما مضى. فإذا فرغ القاضي من النظر في أحوال الأوصياء.. نظر في أمر الأمناء -والأمين: من نصبه الحاكم لينظر أمر الأطفال والمجانين والسفهاء ويعرفه بيت المال - فمن كان منهم من أهل الولاية والنظر.. أقره، ومن علم فسقه.. عزله وأقام غيره مقامه، وإن عرف ضعفه مع عدالته.. ضم إليه غيره. فإذا فرغ من النظر في ذلك.. نظر في اللقطة والضالة، فمن كانت عنده.. أمره بتعريفها إن اختار تملكها، وإن لم يختر تملكها.. أمر أمينا بقبضها وحفظها على صاحبها، فما خاف عليه التلف.. باعها وحفظ ثمنها، وما لا يخاف عليه التلف.. حفظه على صاحبه.

قال ابن الصباغ: وإن رأى أن يخلط الضالة بمال بيت المال، حتى إذا جاء صاحبها أعطاه قيمتها من بيت المال.. فعل. ثم ينظر في الأوقاف العامة، وغير ذلك من المصالح، يبدأ الأهم فالأهم. وبالله التوفيق

باب ما على القاضي في الخصوم والشهود

[باب ما على القاضي في الخصوم والشهود] المستحب: للقاضي أن يقدم رجلا إلى مجلس حكمه، يكتب أسماء الحاضرين للدعوى، الأول فالأول. فإذا حضر القاضي وقد حضر هناك جماعة من الخصوم، أو حضروا بعد جلوسه في مجلس الحكم.. فإنه يقدم الأول في الحضور في الحكم؛ لأن له مزية بالسبق، والاعتبار بسبق المدعي في الحضور دون المدعى عليه؛ لأن الحق للمدعي. وإن حضر مدعيان أو مدعون في وقت واحد، أو سبق بعضهم بعضا، وأشكل السابق منهم.. أقرع الحاكم بينهم، فمن خرجت له القرعة.. قدم. وإن شاء الحاكم.. كتب اسم كل واحد منهم في رقعة، وجعلها بين يديه مطوية، ومد يده إلى واحدة منها، فمن خرج اسمه.. قدمه في الحكم؛ لأنه لا مزية لبعضهم على بعض. وإن ثبت التقديم لأحدهم بالسبق أو بالقرعة، فاختار من ثبت له التقديم أن يقدم غيره على نفسه.. جاز؛ لأن الحق له. فإذا ثبت التقديم لواحد، فنظر الحاكم في خصومة بينه وبين رجل، فقال له المدعي: لي دعوى أخرى.. لم يسمع منه؛ لأنه قد قدمه لسبقه في خصومة، فيقدم من بعده، ويقول له: اجلس حتى إذا لم يبق أحد من الحاضرين.. نظرت في دعواك هذه. فإذا نظر فيهم واحدا بعد واحد، فقال الأخير -بعد أن نظر بينه وبين خصمه -: لي دعوى أخرى.. لم يسمع منه هذه الدعوى حتى يسمع الدعوى الثانية من الأول؛ لأنه قد سبق إليها، ثم يسمع الدعوى الثانية من الأخير. هذا ترتيب أصحابنا العراقيين.

مسألة حضر مسافرون ومقيمون عند القاضي أو نساء ورجال

وقال الخراسانيون: إذا ثبت التقديم لواحد وله خصمان.. لم يقدم إلا في الدعوى على أحدهما، ولا يمكن من الدعوى على الثاني حتى تخرج له القرعة الثانية، وإن أراد أن يدعي بالدعوى الثانية على الخصم الذي ادعى عليه بالأولى.. فهل يمكن منها قبل خروج القرعة له ثانيا؟ فيه وجهان. [مسألة حضر مسافرون ومقيمون عند القاضي أو نساء ورجال] ] : وإن حضر عند القاضي مسافرون ومقيمون للحكم.. نظرت: فإن سبق المسافرون.. قدمهم لسبقهم. وإن حضر المسافرون والمقيمون في وقت واحد، فإن كان المسافرون قليلين لا يدخل على المقيمين ضرر بتقديمهم وهم على الخروج.. جاز للحاكم أن يقدمهم على المقيمين. وحكى الشيخ أبو إسحاق وجها آخر: أنه لا يجوز له تقديمهم إلا برضا المقيمين؛ لتساويهم في الحضور. والأول هو المنصوص؛ لأن الله تعالى خص المسافرين بالتخفيف في العبادة، فجاز للحاكم تقديمهم. قال ابن الصباغ: وإن سبق المقيمون المسافرين في الحضور، والمسافرون قليلون.. جاز للحاكم تقديم المسافرين؛ لما ذكرناه. وإن كان المسافرون كثيرون يساوون أهل البلد أو يزيدون عليهم.. لم يجز للحاكم تقديمهم على المقيمين؛ لأن على المقيمين ضررا بتقديمهم عليهم. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وكذلك إذا حضر رجال ونساء في وقت واحد.. جاز للحاكم أن يقدم النساء على الرجال.

فرع سبق أحد الخصمين في الدعوى أو ادعاؤهما دفعة واحدة

[فرع سبق أحد الخصمين في الدعوى أو ادعاؤهما دفعة واحدة] ] : فإن حضر خصمان عند القاضي، فادعى أحدهما على الآخر بدعوى، فقال المدعى عليه: أنا الذي أحضرته لأدعي عليه.. قدم السابق بالدعوى؛ لأنه قد ثبت له السبق بالدعوى، فإن أجاب عن دعواه.. كان له أن يدعي عليه. وإن حضر خصمان وادعى كل واحد منهما على الآخر دفعة واحدة.. فقد حكى ابن المنذر اختلاف الناس فيه: فمنهم من قال: يقرع بينهما. ومنهم من قال: يقدم الحاكم من شاء. ومنهم من قال: يصرفهما الحاكم إلى أن يصطلحا. ومنهم من قال: يسمع منهما، ويحلف كل واحد منهما: أنه سبق صاحبه. قال الشيخ أبو حامد: ولا نص فيها، والذي يجيء على أصلنا: أنه يقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فأقرع بينهما، كما لو جاءا في وقت واحد. [مسألة تسوية الحاكم بين الخصمين] ] : ويسوي الحاكم بين الخصمين في دخولهما عليه، فلا يقدم أحدهما على الآخر في الدخول عليه للحكم، وفي الإقبال عليهما، ورد السلام، والاستماع منهما، ولا يرفع صوته على أحدهم دون الآخر؛ لما روت أم سلمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتلي منكم بالقضاء بين المسلمين.. فليسو بين الخصمين في المجلس، والكلام، والإشارة، والنظر، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين دون الآخر» .

وروي: أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري: (آس بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك) . وروي: (أنه كان بين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبين أبي بن كعب حكومة، فترافعا إلى زيد بن ثابت ليحكم بينهما، فقال زيد: لو أمرنا أمير المؤمنين لأتيناه، فقال عمر: (في بيته يؤتى الحكم، فأومأ زيد إلى مخدة، فقال عمر: هذا جور! سو بيننا في المجلس، فلما توجهت اليمين على عمر.. جعل زيد يشفع إلى أبي بن كعب ويقول: لو عفوت عن أمير المؤمنين عن اليمين، فقال عمر: ما تدري ما القضاء حتى تسوي بين الخصمين) . ولا مخالف له، ولأنه إذا قدم أحدهما عن الآخر بشيء من ذلك.. انكسر قلب الآخر، وربما عجز بذلك عن إيراد حجته. فإن كان الخصمان مسلمين أو كافرين.. أجلسهما بين يديه؛ لما روى ابن الزبير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن يقعد الخصمان بين يدي القاضي» . ولأنه أمكن للقاضي في الإقبال عليهما. وإن كان أحدهما مسلما والآخر كافرا.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق والمسعودي [في " الإبانة "] : أحدهما: يسوي بينهما في المجلس كما يسوي بينهما في دخولهما عليه وإقباله عليهما. والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد والصباغ غيره -: أنه يرفع المسلم عليه في المجلس؛ لما روي: أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى درعه مع يهودي، فقال: هذه درعي، سقطت مني يوم الجمل، فقال اليهودي: درعي وفي يدي، فترافعا إلى شريح ليحكم بينهما، فلما رآه شريح.. قام من مجلسه وأجلسه فيه،

فرع لا يضيف القاضي أحد الخصمين وغير ذلك مما فيه ميل لأحدهما ظاهر

وجلس شريح مع اليهودي بين يديه، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لولا أني سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تسووا بينهما في المجلس، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تشيعوا جنائزهم، واضطروهم إلى أضيق الطرق» لجلست معه بين يديك. إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في ذلك: واجب أو مستحب؟ فذكر الشيخ أبو حامد: أنه يجب على الحاكم أن يسوي بينهما في الدخول والإقبال والاستماع والمجلس؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وينبغي للقاضي أن ينصف بين الخصمين في المدخل عليه للحكم والإنصات) . وقال ابن الصباغ: هو مستحب غير واجب. [فرع لا يضيف القاضي أحد الخصمين وغير ذلك مما فيه ميل لأحدهما ظاهر] ] : قال الشافعي: (ولا ينبغي أن يضيف الخصم دون خصمه) . وجملة ذلك: أنه لا يجوز للقاضي أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر؛ لما روي: أن رجلا ورد على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأقام عنده أياما، ثم إنه أدلى بخصومة -يعني: ذكر خصومة - فقال علي: ألك خصم؟ قال: نعم، قال: تحول عنا؛ فإني سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يضيف القاضي أحد الخصمين إلا ومعه خصمه» .

ولأنه إذا ضيف أحدهما.. انكسر قلب الآخر، وربما لا يمكنه استيفاء حجته. ولا يسار أحدهما دون الآخر؛ لأن ذلك يكسر قلب الآخر. ولا يجوز له أن يلقن أحدهما حجته؛ لأن عليه أن يسوي بينهما، وإذا لقن أحدهما الإقرار.. أضر به، وإن لقنه الإنكار.. أضر بخصمه الآخر. وكذلك لا يجوز له أن يلقن الشاهد الامتناع من الشهادة إذا أراد أن يشهد؛ لأن فيه إضرارا بالمشهود له، ولا يلقنه الشهادة إذا رآه ممتنعا منها؛ لأن فيه إضرار بالمشهود عليه. ويجوز للقاضي أن يدفع ما وجب على أحد الخصمين من مال نفسه؛ لأن في ذلك نفعا لهما، ويجوز له أن يشفع لأحدهما إلى الآخر بالإنظار أو بالإسقاط؛ لما روي: «أن بريرة لما أرادت أن تفسخ النكاح.. قال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لو راجعتيه؛ فإنه أبو ولدك " فقالت: أبأمرك يا رسول الله؟ قال: لا، إنما أنا شفيع» . فدل على: أنه يجوز للحاكم أن يشفع، وأن للمشفوع إليه أن يجيبه وله أن يرده، فلا ضرر عليه في ذلك. ولا يجب على القاضي أن يسوي بين الخصمين في محبة القلب، بل لو أحب أحدهما ولم يظهر منه ذلك بقول ولا فعل.. لم يأثم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] [النساء: 129] . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أي: لا تتبعوا أفعالكم أهواءكم) . وإذا ثبت هذا في النساء؛ لأنه لا يمكنه ذلك.. ثبت بين الخصمين مثله.

فرع لا ينتهر القاضي أحد الخصمين أو كلاهما أو شاهدا إلا بحق

[فرع لا ينتهر القاضي أحد الخصمين أو كلاهما أو شاهدا إلا بحق] ] : ولا يجوز للقاضي أن ينتهر الخصمين أو أحدهما، ولا يصيح عليهما؛ لأنه إذا فعل ذلك.. انكسر قلب من انتهره، وربما منعه ذلك من استيفاء حجته. فإن بان من أحد الخصمين لدد، وهو: الالتواء في الخصومة وشدة الخصومة، قال الله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204] [البقرة: 204] ، وقال الله تعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97] [مريم: 97] ، وذلك بأن لا يستوي على وجهة واحدة؛ مثل: أن يسأل الحاكم أن يستحلف له خصمه، فلما استحلفه بعض اليمين.. قال له: اقطع اليمين، فلي بينة أقيمها، فانصرف، ثم عاد ورفعه ثانيا ولم يقم عليه بينة وما أشبه ذلك، فإذا فعل الخصم ذلك مرة.. نهاه الحاكم عن ذلك، فإن عاد إليه.. زجره بالكلام، فإن فعله ثالثا.. أدبه بالضرب أو بالحبس على ما يرى فيه من المصلحة. فإن أغلظ الخصم للحاكم بالقول؛ مثل أن يقول: جرت علي في الحكم أو حكمت علي بغير حق وما أشبه ذلك.. فعلى الحاكم ما يرى فيه من المصلحة من تعزيره أو ترك تعزيره. فإن كان الخصم جاهلا يرى أن ترك تعزيره للعجز عنه.. عزره؛ لئلا ينبسط عليه بأكثر من ذلك. وإن كان عاقلا، إلا أنه أخطأ في ذلك.. زجره بالكلام. ولا يتعنت شاهدا، وهو: أن الحاكم متى شهد عنده شاهدان وتوسم فيهما سيما الخير والعدالة.. لم يفرقهما، ولم يسألهما: أين شهدتما؟ ولا في أي موضع شهدتما؟. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا ينتهر شاهدا ولا يعنفه) . و (الانتهار) : أن

مسألة وجوب القدوم لدعوة القاضي وماذا لو استعدى إليه رجل

يصيح عليه، و (التعنيف) هو: أن يداخله في كلامه ويتعقبه في ألفاظه؛ لأن ذلك كله يكسر قلب الشاهد ويمنعه من إقامة الشهادة، وربما دعاه ذلك إلى ترك تحمل الشهادة خوفا من ذلك الأذى، فيؤدي إلى ضياع الحقوق. [مسألة وجوب القدوم لدعوة القاضي وماذا لو استعدى إليه رجل] ؟] : إذا كان بين رجلين خصومة، ودعا أحدهما الآخر إلى مجلس الحاكم.. وجبت عليه الإجابة إلى الحكم ومدح من أجاب إلى الحكم، فقال: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] [النور: 48] . وقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] [النور: 51] . وإن استعدى رجل الحاكم على رجل في البلد.. وجب عليه أن يعديه، سواء بين دعواه أو لم يبين. ومن أصحابنا من قال: إذا كان الرجل المستعدى عليه من أهل الصيانة والمروءة واستعدى عليه من يتهم أنه قصد ابتذاله بذلك.. لم يستحضر إلى مجلس الحاكم، لكن ينفذ إليه الحاكم من يحكم بينهما ويحلفه له إن وجبت له عليه يمين في مسجده أو منزله. والمشهور هو الأول، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (لا يعديه عليه إلا إذا علم أن بينهما معاملة) . وروي ذلك عن علي كرم الله وجهه. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» ، ولم يفرق بين أن يكون بينهما معاملة أو لا يكون بينهما معاملة. ولأنه قد يكون له عنده وديعة أو عارية جحدها، أو غصب منه شيئا، فوجب عليه أن يعديه عليه، كما لو علم بينهما معاملة.

والمستحب: أن يكون عند القاضي خواتم من طين على كل واحد منها مكتوب اسمه، أو: أجب القاضي فلانا، فيدفع إلى من استعداه خاتما من تلك الخواتم ليدفعه إلى الذي استعدى عليه، فإذا دفعه إليه.. وجب عليه أن يجيب معه للآية. قال أبو العباس: فإذا حضر، فإن كان الرجل من أهل الصيانة والمروءة.. أدخله القاضي إلى داره وحكم بينهما هناك صيانة له. وإذا دفع إليه الختم وامتنع من الحضور أو كسر الختم.. بعث إليه القاضي عونا من أعوانه وسأله أن يحضر، فإن حضر، وإلا.. أرسل القاضي إلى صاحب الشرطة ليحضره، وإذا حضر.. سأل القاضي شاهدين على امتناعه عن الحضور أو على كسر الخاتم. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويسأل عن عدالتهما ويحقق السؤال، فإذا ثبت ذلك.. عزره على حسب ما يرى في حاله من الزجر بالكلام أو كشف العمامة أو الحبس أو الضرب) . فإن اختفى على من يحضره.. بعث القاضي من ينادي على بابه ثلاثة أيام: أنه إن لم يحضر.. سمر بابه وختم عليه. ويستحب له: أن يجمع أماثل جيرانه ويشهدهم على إعدائه، فإن لم يحضر، وإلا.. سمر بابه وختمه. وقال ابن القاص: ومذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يوكل عليه وكيلا بعد أن يبعث الحاكم من ينادي على بابه بحضرة شاهدي عدل: إن لم يحضر مع خصمه فلان بن فلان، وإلا.. وكل عليه. والمستحب: أنه يعزز إليه في ذلك ثلاثا، فإن لم يحضر.. وكل عليه وكيلا ليناظر عنه المدعي، فإن ثبت عليه حق ووجد له مالا.. قضاه منه. وإن كان الحق على بدنه وعرف له مكانا.. أمر القاضي بالاقتحام عليه،

فينفذ الخصيان والغلمان الذين لم يبلغوا والثقات من النساء، ويبعث معهم ذوي عدل من الرجال، فيدخل النساء والغلمان، فإذا حصلوا في صحن الدار.. دخل الرجال، ويؤمر الغلمان والنساء بالتفتيش عنه، والنساء يتفقدن النساء، فإذا وجد.. أخرج، وحكم عليه بما وجب عليه. وأما إذا كان المستعدى عليه غائبا عن البلد، فإن كان في بلد ليس للقاضي المستعدى إليه ولاية عليها.. لم يجب عليه الإعداء عليه، بل لو أقام عليه المدعي البينة وحكم عليه القاضي.. كان حكما على غائب على ما يأتي بيانه. وإن كان في بلد ولاية القاضي المستعدى إليه، فإن كان للحاكم في ذلك البلد خليفة.. لم يحضره بل يكتب إلى خليفته لينظر بينهما، فإن لم يكن هناك خليفة له، وهناك رجل من الرعية يصلح للقضاء ورأى القاضي أن يكتب إليه لينظر بينهما.. فعل. وإن أراد أن ينفذ من يحكم بينهما هناك.. فعل. وإن لم يمكن شيء من ذلك وسأل الخصم إحضاره.. نظرت: فإن لم يحرر دعواه.. لم يجز له إحضاره؛ لجواز أن يدعي عليه بما لا حق عليه، مثل أن يقول: سعى بي إلى السلطان، أو يدعي عليه بالشفعة للجار، أو بقيمة كلب، والحاكم لا يرى وجوب ذلك. ويخالف الحاضر في البلد حيث قلنا: يلزمه أن يعديه عليه وإن لم يحرر الدعوى عليه؛ لأنه لا مشقة على من في البلد في الحضور، وعلى الغائب عن البلد مشقة في الحضور. وإن حرر دعوى صحيحة عليه.. وجب على القاضي أن يعديه عليه، سواء كانت المسافة بينهما قريبة أو بعيدة. وقال أبو يوسف: لا يحضره إلا إذا كان يمكنه أن يحضر وينصرف في يومه. وقال بعض الناس: لا يحضره إلا إذا كانت في مسافة يوم وليلة، ولا يحضره إذا كانت المسافة أكثر من ذلك. وقال بعضهم: يحضره من مسافة ثلاثة أيام، ولا يحضره في مسافة أكثر من ذلك.

فرع استعداء الرجل للحاكم على المرأة

دليلنا: أنه إذا لم يكن هناك من يحكم بينهما.. ضاع الحق إذا لم يعده، فوجب عليه أن يعديه، كالمسافة المتفق عليها. [فرع استعداء الرجل للحاكم على المرأة] ] : وإن استعدى رجل الحاكم على امرأة.. نظرت: فإن كانت برزة - وهي التي تخرج لحوائجها - فإن الحاكم يعدي عليها ويحضرها في مجلس الحكم ويحكم بينهما. وإن كانت مخدرة - وهي التي لا تخرج لحوائجها - لم يكلفها الحاكم الحضور، بل يأمرها أن توكل من ينوب عنها في الخصومة، أو يبعث الحاكم من يحكم بينهما؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أن ترجم الغامدية وهي ظاهرة» ، «وأمر أنيسا أن يغدو على امرأة الرجل التي أقر عسيفه أنه زنى بها، وقال: " إن اعترفت فارجمها» . فأمر برجمها وهي غير ظاهرة، وإنما فرق بينهما؛ لأن الغامدية كانت برزة، والأخرى غير برزة. وإن كانت المرأة غير برزة وحضر من يحكم بينها وبين خصمها، وكان الحاكم أو الخصم من غير ذوي رحمها.. فإنه يكون بينه وبينها سترة وتتكلم من ورائها. فإن اعترفت أنها خصمه.. حكم بينهما. وإن قال: ليست هذه خصمي، فإن شهد شاهدان أنها خصمه.. حكم بينهما. وإن لم يكن لها بينة.. كلفت أن تتلفح بإزارها وتخرج من وراء الستر؛ لأنه موضع حاجة. والله أعلم

باب صفة القضاء

[باب صفة القضاء] إذا حضر خصمان عند القاضي.. جاز للقاضي أن يقول لهما: تكلما أو يتكلم المدعي منكما، أو يقول ذلك القائم على بابه؛ لأنهما ربما هاباه من ابتداء الكلام. ولا يجوز أن يقول لأحدهما: تكلم؛ لأن في ذلك كسرا لقلب الآخر. ويجوز له أن يسكت إلى أن يتكلم المدعي منهما؛ لأنهما ما حضرا إلا للكلام. فإذا ابتدأ أحدهما بالدعوى، فأراد الآخر أن يداخله بالكلام في حال كلامه.. منعه من ذلك؛ لأن المداخلة تمنع المدعي من بلوغ غرضه في الدعوى. فإذا ادعى أحدهما على الآخر بدعوى، فإن كانت غير صحيحة.. قال له القاضي: صحح دعواك. وهل له أن يلقنه كيف يصححها؟ فيه وجهان: أحدهما -وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: يجوز له ذلك؛ لأنه لا ضرر على المدعى عليه في تصحيح الدعوى عليه. والثاني - وهو المذهب -: أنه لا يجوز للقاضي ذلك؛ لأن قلب الآخر ينكسر بذلك. وإن كانت الدعوى صحيحة، فإن لم يجبه المدعى عليه بعد الدعوى.. نظرت: فإن قال المدعي للقاضي: كلفه الخروج عن دعواي.. قال له القاضي: أجب عن دعواه. وإن لم يسأله المدعي ذلك.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له ذلك؛ لأن سؤال المدعى عليه حق للمدعي، فلا يستوفيه القاضي من غير إذنه. والثاني: يجوز له ذلك، وهو المذهب؛ لأنه ما ادعى عليه إلا ليجيبه، فكان شاهد الحال يدل عليه.

فإن طولب بالجواب فأجاب، أو أجاب من غير مطالبة.. فلا يخلو: إما أن يقر أو ينكر. فإن أقر بما ادعى عليه، فإن سأله المقر له أن يحكم له على المقر بما أقر له به.. حكم له بذلك. وإن لم يسأله ذلك.. لم يجز له أن يحكم له بذلك؛ لأن الحكم حق للمقر له، فلا يفعله بغير إذنه. فإن أنكر المدعى عليه، فإن كان الحاكم يعلم أن المدعي لا يعلم أن هذا موضع إقامة البينة.. فإنه يقول له: ألك بينة تشهد لك عليه؟ وإن كان يعلم أن ذلك موضع إقامة البينة.. فله أن يقول له ذلك، وله أن يسكت. وحكي: أنه كان بالبصرة شابان يتفقهان على مذهب الشافعي، وكان أول من تفقه فيها على مذهب الشافعي، فلما ولي عيسى بن أبان قضاء البصرة أراد أن يعرفاه بأنفسهما، فتواطآ على أن يدعي أحدهما على صاحبه شيئا بين يديه، فتقدما إليه وادعى أحدهما على الآخر حقا، فبادر عيسى بن أبان فقال للمدعى عليه: ما تقول فيما ادعاه عليك؟ فقال المدعي: ما سألتك أن تستفهم منه، وقال الآخر: أيها القاضي إن كان خصمي لم يسألك مطالبتي فلم تسألني؟ فقال للمدعي: أأسأله عما ادعيت؟ فقال: سله، فلما سأله.. قال: ليس له علي شيء، فقال عيسى بن أبان: قد أنكر، فقال المدعي: أنا أقرب إليه أيها القاضي! تعرفني شيئا أنا به خبير، فتحير عيسى، وقال: من أنتما؟ فقالا: نحن من أصحاب الشافعي ونتفقه على مذهبه، وإنما أردنا أن نعرف أنفسنا إليك لنعمل في ديوان الحكم، قال: فأحسن إليهما وقبلهما، وارتفع بذلك شأنهما عنده. إذا ثبت هذا: فإن لم يكن للمدعي بينة، وكانت الدعوى في غير دم.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لما روى وائل بن حجر: «أن رجلا حضرميا ادعى على رجل من كندة أرضا في يده، فقال الكندي: أرضي وفي يدي أزرعها، لا حق له فيها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: " ألك بينة؟ "، فقال: لا، قال: " لك يمينه "،

فقال: إنه لا يبالي بما يحلف؛ لأنه لا يتورع عن شيء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ليس لك إلا ذلك» . ولأن جنبة المدعى عليه هاهنا أقوى؛ لأن الأصل براءة ذمته، فكان القول قوله. ولا يجوز للقاضي أن يحلفه إلا بسؤال المدعي؛ لأن الحق له فلا يستوفيه إلا بإذنه، فإن حلفه بغير إذنه.. لم يعتد بيمينه، وللمدعي أن يطالب بإعادة اليمين؛ لأنها لم تقع موقعها. فإن قال المدعي للمدعى عليه: أبرأتك من اليمين.. سقط حقه منها في هذه الدعوى، وله أن يستأنف الدعوى، فإذا أنكره.. فله أن يحلفه، فإذا حلف له المدعى عليه.. سقطت عنه الدعوى في ظاهر الحكم، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين.. لم يحكم عليه بنكوله بالحق المدعى به عليه، بل يرد اليمين على المدعي، فإذا حلف.. حكم له بما ادعاه. وبه قال الشعبي والنخعي. وقال مالك: (إن كان ذلك الحق مما يقبل فيه الشاهد والمرأتان، أو الشاهد واليمين.. ردت اليمين على المدعي، وإن كانت مما لا يقبل فيه إلا الشاهدان.. لم ترد اليمين على المدعي، بل يحبس المدعى عليه حتى يقر أو يحلف) . وقال أبو حنيفة: (إن كانت الدعوى في المال ونكل المدعى عليه عن اليمين.. كرر الحاكم عليه ثلاثا، فإن حلف، وإلا.. حكم عليه بنكوله، ولزمه المال. وإن كان في القصاص.. لم يحكم عليه بالقصاص بالنكول، بل يحبس حتى يقر أو يحلفه) .

وقال أبو يوسف: (يقضى عليه بالنكول بالدية) . دليلنا -على فوات رد اليمين على المدعي -: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108] [المائدة: 108] . وبالإجماع: أن اليمين لا ترد بعد اليمين، فثبت أن المراد بذلك: أن ترد أيمان بعد وحوب أيمان. وروى زيد بن ثابت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من طلب طلبة.. فالمطلوب أولى باليمين من الطالب» و (أولى) على وزن أفعل، وذلك موضوع في اللغة لاشتراك الشيئين في الحكم وانفراد أحدهما عن الآخر بمزية، فدل على أن الطالب والمطلوب شريكان في اليمين، وأن المطلوب أولى. وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد اليمين على طالب الحق» . وروي: (أن المقداد اقترض من عثمان دراهم، فقضاه أربعة آلاف درهم، فقال عثمان: إنما أخذت مني سبعة آلاف، فاختصما إلى عمر، فقال المقداد لعثمان: احلف أني أخذت سبعة آلاف، فقال عمر: إنه أنصفك، فامتنع عثمان عن اليمين، فلما ولى المقداد.. قال عثمان: والله إنه أخذ مني سبعة آلاف، فقال عمر: ما منعك أن تحلف؟ والله إن هذا القضيب بيدي، ووالله إن هذا ثوب! فقال عثمان: خشيت أن

توافق قدر بلاء فيقال: بيمينه) ، ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. والدليل -على أنه لا يقضي عليه بنكوله -: أنه نكول عن يمين، فلم يقض بالحق بالنكول عن اليمين كالنكول عن القصاص. فإن امتنع المدعى عليه عن اليمين.. لم يسأل عن سبب امتناعه، بل ترد اليمين على المدعي؛ لأنه بامتناعه.. سقطت اليمين عن جنبته وصارت في جنبة المدعي. وإن سأل المدعى عليه أن يمهل عن اليمين لينظر في حسابه.. أمهل ثلاثة أيام؛ لأن ذلك قريب. وإذا نكل المدعى عليه عن اليمين، ثم بذل اليمين بعد ذلك.. لم يسمع منه ذلك؛ لأن حقه قد سقط منها. وإن كان القاضي يعلم أن المدعي لا يعلم أن اليمين قد صارت في جنبته.. قال له: أتحلف وتستحق؟ وإن كان يعلم ذلك.. فله أن يقول له ذلك، وله أن يسكت عنه. وإن حلف المدعي.. استحق ما ادعاه في ظاهر الحكم، كما تسقط الدعوى عن المدعى عليه إذا حلف في ظاهر الحكم. فإن امتنع المدعي عن اليمين.. سئل عن سبب امتناعه، فإن قال: امتنعت؛ لأن لي بينة أقيمها، أو لأنظر في حسابي ثم أحلف.. ترك ما شاء؛ لأن الحق له، ولا تسقط اليمين عن جنبته، بل متى شاء.. حلف واستحق. وإن قال: امتنعت لأني لا أختار أن أحلف.. سقطت اليمين عن جنبته، ولا يعود اليمين إليه إلا إن ادعى ثانيا ونكل المدعى عليه عن اليمين. والفرق بينهما حيث قلنا: (إنه لا يسأل المدعى عليه عن سبب امتناعه ويسأل

مسألة ادعاء يثبت بشاهد ويمين

المدعي) أن المدعى عليه إذا امتنع عن اليمين.. انتقلت اليمين إلى المدعي، ففي سؤاله إضرار بالمدعي، وإذا امتنع المدعي.. لم تنتقل اليمين إلى جنبة غيره، فلا ضرر في سؤاله على أحد. وإن حلف المدعي عند نكول المدعى عليه.. ففي يمينه قولان: أحدهما: يجري مجرى بينة يقيمها؛ لأنها حجة من جهته. والثاني: يجري مجرى إقرار المدعى عليه، وهو الأصح؛ لأن اليمين إنما ترد لنكوله، فصارت يمين المدعي كإقرار المدعى عليه. [مسألة ادعاء يثبت بشاهد ويمين] وإن ادعى حقا يثبت بالشاهد واليمين، وأقام شاهدا، فإن حلف.. حكم له بما ادعاه. وإن قال: لست أختار أن أحلف معه.. سقطت اليمين عن جنبته، وصارت في جنبة المدعى عليه، فإن أراد المدعي أن يحلف مع شاهده.. لم يكن له ذلك في هذا المجلس، إلا أن يتفرقا عن ذلك المجلس ويدعي عليه ثانيا وينكر، فله أن يقيم شاهده ويحلف معه؛ لأن يمينه قد سقطت في هذه الدعوى، فلم تعد إليه إلا في دعوى أخرى. وإن انتقلت اليمين إلى جنبة المدعى عليه هاهنا.. نظرت: فإن حلف.. سقطت عنه المطالبة، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين.. لم يقض عليه بالنكول بالحق المدعى به عليه مع شاهد المدعي. وقال مالك: (يقضي عليه هاهنا بنكوله بالحق المدعى به عليه مع شاهد المدعي) .

مسألة لا يقضى بالنكول عن اليمين إلا في مسائل وبسبب مقدم

دليلنا: أن الشاهد معنى تقوى به جنبة المدعي، فلم يقض به مع نكول المدعى عليه كاللوث في القسامة. وإذا ثبت هذا: فهل ترد اليمين على المدعي؟ فيه قولان: أحدهما: لا ترد عليه؛ لأنها قد كانت في جنبته وقد أسقطها بالنكول، فلم ترد عليه، كما لو ادعى حقا ولا شاهد معه، فنكل المدعى عليه عن اليمين، فردت على المدعي، فنكل.. فإنها لا ترد على المدعى عليه. فعلى هذا: يحبس المدعى عليه حتى يقر أو يحلف. والثاني: ترد على المدعي، وهو الأصح؛ لأن هذه اليمين غير تلك اليمين التي نكل عنها؛ لأن تلك لقوة جنبته بالشاهد، وهذه لقوة جنبته بنكول المدعى عليه، ألا ترى أن تلك لا يقضى بها إلا في المال وما يقصد به المال، وهذه يقضى بها في جميع الحقوق؟ [مسألة لا يقضى بالنكول عن اليمين إلا في مسائل وبسبب مقدم] ] : قال ابن القاص: ولا يقضى بالنكول من غير يمين على قول الشافعي إلا في ست مسائل: إحداهن: إن كان لرجل مال تجب فيه الزكاة، وحال عليه الحول، وجاء الساعي وطالب بزكاته، فقال رب المال: قد بعته ثم اشتريته ولم يتم عليه الحول.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. برئ من الزكاة، وإن لم يحلف.. وجبت عليه الزكاة بنكوله.

الثانية: إذا كان له أربعون من الغنم، فحال عليها الحول، فجاء الساعي يطلب زكاتها، فقال: قد دفعتها إلى ساع غيرك، أو كان له ثمانون شاة في بلدين، فجاء الساعي يطلب منه الزكاة في بلد، فقال: قد دفعتها في البلد الآخر.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. برئ من الزكاة، وإن نكل.. وجبت عليه الزكاة بنكوله. الثالثة: إذا كان له ثمار فخرصت عليه وضمن الزكاة، فجاء الساعي يطلب منه الزكاة، فادعى رب المال أن الثمرة سرقت أو هي أقل مما خرصت.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. سقطت عنه زكاة ما سرق وما نقص، وإن نكل.. وجبت عليه زكاة ذلك بنكوله. الرابعة: إذا غاب رجل من أهل الذمة زمنا، ثم قدم بعد حؤول حوله، فطالبه الإمام بالجزية، فادعى أنه أسلم قبل الحول فسقطت عنه الجزية.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. سقطت عنه. وإن نكل.. أخذت منه الجزية بنكوله. الخامسة: إذا وقع في الأسر غلام مراهق من أولاد الكفار وكان قد أنبت، فادعى أنه إنما أنبت لمعالجة عالج بها نفسه وأنه لم يبلغ الآن.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. حكم بأنه لم يبلغ وجعل في الذراري، وإن لم يحلف.. حكم عليه بنكوله أنه بالغ، فيجعل في المقاتلة. السادسة -ولم يحكها الشيخ أبو حامد عنه -: إذا حضر القتال غلام مراهق من أولاد المسلمين، وذكر أنه بالغ فطلب سهمه مع المقاتلين.. حلف وأخذ، وإن نكل.. حكم عليه بالنكول أنه غير بالغ ولم يعط السهم. قال أصحابنا: أما المسائل الأربعة الأولى.. فهل اليمين عليه فيها واجبة أو مستحبة؟ على وجهين: أحدهما: أنها مستحبة، فإن لم يحلف.. فلا شيء عليه.

والثاني: أنها واجبة عليه، فإن حلف.. فلا شيء عليه، وإن نكل.. وجبت عليه الزكاة والجزية، ولم يجب عليه ذلك بالنكول كما قال ابن القاص، ولكن بالظاهر المتقدم وهو سبب الوجوب للزكاة والجزية، كما أن الزوج إذا قذف زوجته.. وجب عليه الحد، فإن لاعن.. سقط عنه الحد، وإن نكل.. وجب عليه الحد لا بالنكول ولكن بالقذف المتقدم. وأما المسألة الخامسة: فقال الشيخ أبو حامد: اليمين واجبة فيها وجها واحدا؛ لأن دعواه تخالف الظاهر، فإن حلف.. حكم بأنه لم يبلغ، وإن لم يحلف.. حكم ببلوغه لا بالنكول ولكن بالظاهر المتقدم، وهو: أن الظاهر أن الشعر ينبت من غير علاج. قال أبو علي السنجي: وفيه وجه آخر: أنه لا يجوز قتله حتى يتحقق بلوغه. قال أبو علي: وفي تحليفه شيء؛ لأن اليمين إنما تصح من البالغ، فكيف يثبت بيمينه صغره وسقوط القتل عنه إذا حلف؟ قال: ولعله إنما حلف؛ لأن معه أمارة تدل على بلوغه في الظاهر، وهو: الإنبات، فلا يكون كمن ادعى على مراهق شيئا، وادعى المراهق أنه غير بالغ.. لم يجز إحلافه إذ لا دليل على بلوغه. وأما المسألة السادسة: فمن أصحابنا من خالفه وقال: إذا ادعى أنه بالغ واحتمل ما قال.. فالقول قوله بلا يمين؛ لأن احتلامه لا يعرف إلا من جهته، ويعطى من سهم المقاتلة. ومنهم من وافقه وقال: يحلف؛ لاحتمال أن يكون كاذبا. وهل اليمين واجبة أو مستحبة؟ على وجهين: فـ[الأول] : إن حلف.. أعطي، وإن نكل، فإن قلنا: إنها واجبة.. لم يعط، ولا يكون هذا قضاء بالنكول ولكن بالأصل المتقدم، وهو: عدم البلوغ. والثاني: أنها مستحبة، فعلى هذا: يعطى.

فرع مسائل لا يمكن فيها رد اليمين

[فرع مسائل لا يمكن فيها رد اليمين] ] : ذكر أصحابنا ثلاث مسائل لا يمكن فيها رد اليمين على المدعي: إحداهن: إذا مات رجل ولا وارث له غير المسلمين، فوجد في دفتره أن له دينا على رجل، أو شهد له بذلك شاهد واحد، وأنكر من عليه الدين ونكل عن اليمين.. فلا يمكن رد اليمين هاهنا على أحد وماذا يفعل فيه؟ قال أبو سعيد الإصطخري: فيه وجهان: أحدهما: يحكم على المدعى عليه هاهنا بالنكول، فيجب عليه الدين؛ لأنه موضع ضرورة. والثاني: يحبس المدعى عليه حتى يقر أو يحلف، وهو الأصح؛ لأنه لا يمكن رد اليمين على القاضي؛ لأن النيابة في اليمين لا تصح، ولا على المسلمين؛ لأنهم لا يتعينون، ولا يحكم عليه بالنكول؛ لأن ذلك لا يجوز عندنا، فإن تعذر ذلك.. لم يبق إلا حبس المدعى عليه إلى أن يحلف أو يقر. الثانية: أن يموت رجل، فادعى رجل أن الميت وصى إليه بتفرقة ثلثه على الفقراء والمساكين، فأنكر الورثة.. فإن شهادة الوصي لا تقبل، فإن حلف الورثة.. فلا كلام، وإن نكلوا.. فلا يمكن رد اليمين على الوصي؛ لأن النيابة لا تصح في اليمين، ولا على المساكين والفقراء؛ لأنهم لا يتعينون، وماذا يفعل؟ على الوجهين في التي قبلها. الثالثة: أن يموت رجل وله طفل، فأوصى به إلى آخر، فادعى الوصي أن للطفل على رجل دينا ولا شاهد له به.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل.. فلا يمكن رد اليمين على الصبي؛ لأن يمينه لا تصح، ولا على الوصي، لأن النيابة في اليمين لا تصح، فتوقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي فيحلف ويستحق. قال في " الفروع ": وقيل: يحكم هاهنا بالنكول أيضا. والمشهور هو الأول.

فرع كراهة إعادة اليمين

[فرع كراهة إعادة اليمين] ] : قال الطبري في " العدة ": فإذا حلف المدعى عليه مرة على دعوى.. كره له أن يحلفه عليها ثانيا، فإن أراد تحليفه، فقال المدعى عليه: قد حلفني مرة، فأنكره المدعي، فقال المدعى عليه: حلفوه أنه لم يحلفني عليه.. فإنه يحلف المدعي عن اليمين أنه ما حلفه، فإن حلف المدعي أنه ما حلفه.. حلف له المدعى عليه، وإن نكل المدعي عن اليمين وقال: أحلفوه أني قد أحلفته.. قال الطبري في " العدة ": فإنه لا يجاب إلى اليمين؛ لأنه يؤدي بينهم إلى الدور. [فرع لزوم اليمين عند عدم البينة في حقوق المتداعين وماذا عن الدعوى] الموجبة للحد؟] : وكل حق لزم المدعى عليه الإجابة فيه عن الدعوى ولا بينة للمدعي فيه.. فإن اليمين تعرض على المدعى عليه، كالأموال والنكاح والطلاق والعتق والنسب وما أشبه ذلك، وبه قال أبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: (لا يستحلف في النكاح وما يتعلق به من الدعوى في الطلاق والرجعة والإيلاء، ولا في العتق وما يتعلق به من الاستيلاد والولاء، ولا في النسب، فإن كان مع المدعي بينة.. لم يحلف المدعى عليه) . وقال مالك: (إن كان مع المدعي في غير الأموال شاهد.. استحلف المدعى عليه، وإن لم يكن معه شاهد.. لم يستحلف) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» . ولم يفرق. ولـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استحلف ركانة بن عبد يزيد على الطلاق» . ولأنها دعوى صحيحة مسموعة، فعرضت اليمين فيها على المدعى عليه، كالدعوى في المال. وأما الدعوى بما يوجب الحد: فإن كان فيها حد القذف.. سمعت فيه الدعوى

وعرضت اليمين على المدعى عليه إذا لم يكن مع المدعي بينة. وقال أبو حنيفة: (حد القذف حق لله تعالى، فلا تعرض فيه اليمين على المدعى عليه) ، وقد مضى الدليل عليه: أنه حق لآدمي. وهكذا: إن ادعى عليه شتما يوجب التعزير.. عرضت فيه اليمين على المدعى عليه، فإن لم يحلف.. حلف المدعي، وعزر الشاتم. وأما حد الشرب: فلا تسمع فيه الدعوى ولا تلزم الإجابة عليه؛ لأن الدعوى لا تسمع إلا من خصم أو وكيل له، وهذا ليس بواحد منهما. وأما الدعوى في الزنى: فلا تسمع ولا تعرض فيه اليمين على المدعى عليه إذا لم يتعلق به حق آدمي؛ لأنه مندوب فيه إلى الستر؛ ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هلا سترته بثوبك يا هزال» . ولأنه لا فائدة بذلك. ولهذا: لو أقر ورجع.. قبل رجوعه وإن تعلق به حق آدمي، مثل أن يقذف رجلا فيطالب المقذوف بحد القاذف، فإن قال القاذف للحاكم: يحلف المقذوف أنه ما زنى.. سمعت منه هذه الدعوى ولزم المقذوف أن يحلف؛ لجواز أن يخاف من اليمين فيقر بالزنى فيسقط عن القاذف حد القذف. وإن حلف المقذوف أنه ما زنى.. وجب على القاذف حد القذف. فإن نكل المقذوف عن اليمين.. ردت اليمين على القاذف فيحلف أن المقذوف زنى، فإن حلف.. سقط حد القذف ولا يجب على المقذوف بذلك حد؛ لأن ذلك حق لله تعالى فلا يجب بيمين القاذف، سواء قلنا: يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة أو كالإقرار؛ لأنا إن قلنا: إنها كإقرار المدعى عليه.. فالحد يسقط بالإنكار بعد الإقرار. وإن قلنا: إنها كالبينة.. فهي كالبينة في حق المتداعين، والحد لله تعالى وليس هو من حقوق المتداعين. وأما الدعوى في السرقة: فإن كان المسروق منه قد وهب العين المسروقة من السارق، أو تلفت فأبرئ منها، أو استوفاها منه.. فلا تسمع فيها الدعوى ولا تعرض فيها اليمين؛ لأنه لم يبق إلا القطع وهو حق لله تعالى، فلا تسمع فيها الدعوى.

مسألة البينة مقدمة على اليمين في ثبوت الحق

وإن كان المسروق منه لم يستوف حقه.. سمعت فيه الدعوى ولزمت عليه الإجابة، فإن أقام المدعي البينة أو أقر المدعى عليه.. لزمه الغرم والقطع، وإن لم تكن بينة ولا إقرار.. فالقول قول السارق مع يمينه، وإن حلف.. فلا غرم عليه ولا قطع، وإن نكل عن اليمين.. ردت اليمين على المسروق منه، فإذا حلف.. ثبت الغرم له، ولا يثبت القطع؛ لأنه حق لله تعالى، فلا يثبت بيمين المدعي. [مسألة البينة مقدمة على اليمين في ثبوت الحق] وتكفي لوحدها بشرط العدالة] : وإن كان مع المدعي بينة فيما ادعاه.. حكم له بها، وقدمت على يمين المدعى عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» ، «وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: " ألك بينة؟ " قال: لا، قال: " لك يمينه» . فبدأ بالبينة على اليمين، فثبت أنها مقدمة. ولأن البينة حجة من غير جهة المدعي فلم تلحقها التهمة، واليمين قول واحد، وقول اثنين أقوى من قول واحد، فقدم القوي على الضعبف. إذا ثبت هذا: فأحضر المدعي شاهدين.. فإن الحاكم لا يسألهما حتى يقول له المدعي: قد حضر الشاهدان فاسألهما؛ لأن الحق في سماع البينة له، فلا يفعله الحاكم بغير إذنه. فيقول لهما القاضي: ما تقولان، أو أي شيء عندكما؟ ولا يقول لهما: اشهدا؛ لما روي عن شريح: أنه قال للشاهدين: ما دعوتكما، فإن قمتما.. لم أمنعكما، وأنا أتقي الله فيكما فاتقيا الله في أنفسكما. فإن شهدا شهادة غير صحيحة.. فإن القاضي يقول للمدعي: زدني في شهودك. وإن شهدا شهادة صحيحة.. فإن القاضي يتعرف عدالتهما إن كان لا يعرفهما، على ما مضى. فإذا ثبتت عدالتهما عنده.. فإنه لا يجوز له أنه يحكم بشهادتهما حتى يسأله المدعي أن يحكم بشهادتهما؛ لأن الحكم بذلك حق له فلا يفعله إلا بإذنه. فإن سأل المدعى عليه أن يحلف المدعي مع شاهديه أنه يستحق ما شهدا له به عليه.. لم يلزمه أن يحلف، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.

فرع للمدعي بينة غائبة أو حاضرة ولم يقمها أو كذبها

وقال ابن أبي ليلى: لا يجوز للحاكم أن يحكم للمدعي حتى يحلف مع شاهديه. دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» . فجعل على المدعي البينة فقط، ومن قال: عليه مع البينة اليمين.. فقد خالف الظاهر. «ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: " ألك بينة؟ " قال: لا، قال: " لك يمينه، ليس لك إلا ذلك» . وهذا نص أنه ليس له عليه البينة واليمين؛ لأنه لم يقل: ألك بينة ويمين. ولأن البينة قد سمعت، واستحلاف الخصم على ما شهدت به البينة طعن فيها، فلم تجب. وإن ادعى عليه دينا، فقال المدعى عليه: قد قضيتك كذا أو أبرأتني منه.. فإن هذا إقرار منه له بالدين، ويكون المدعى عليه مدعيا للبراءة أو القضاء. فإن أقام على ذلك البينة.. برئ، وإن لم يقم البينة وسأل أن يحلف المدعي أنه لم يقض ولم يبرئه.. لزمه أن يحلف؛ لأن الأصل عدم القضاء أو البراءة، ولا يكون ذلك طعنا في البينة؛ لأنها يمين في دعوى غير ما شهدت به البينة. [فرع للمدعي بينة غائبة أو حاضرة ولم يقمها أو كذبها] ] : وإن كان للمدعي بينة غائبة وقال: لا أتمكن من إقامتها.. فهو بالخيار: إن شاء استحلف خصمه، وإن شاء تركه. فإن استحلفه.. جاز، وإن لم يستحلفه وتركه.. لم يجز له ملازمته ولا مطالبته بالكفيل. وقال أبو حنيفة: (له ملازمته ومطالبته بالكفيل إلى أن يقيم البينة) . دليلنا: «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: " ألك بينة؟ " قال: لا، قال: " لك يمينه، ليس لك إلا ذلك» "، فجعل له اليمين ولم يجعل له الملازمة، فمن قال: له ملازمته.. فقد خالف ظاهر الخبر. فإن حلف له المدعى عليه، ثم حضرت بينة المدعي بالحق الذي حلف عليه

المدعى عليه.. حكم للمدعي بها. وبه قال شريح، والشعبي، ومالك، وأبو حنيفة، وأكثر أهل العلم. وقال ابن أبي ليلى، وداود: (لا يجوز سماعها ولا الحكم بها بعد ذلك) . دليلنا: ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة) . ولأنها حالة لو اعترف المدعى عليه بالحق الذي حلف عليه.. لحكم به عليه، فإذا قامت البينة.. حكم عليه بها كما قبل اليمين. وإن قال المدعي: لي بينة حاضرة وأتمكن من إقامتها، ولكني لا أقيمها، بل يحلف لي المدعى عليه.. أحلف له؛ لأنه ربما يرجو منه أن يخاف من اليمين فيقر، وإثبات الحق من جهة الإقرار أسهل من إثباته بالبينة. ولأنه قد يكون له غرض في أن يحلفه ثم يقيم عليه البينة ليفضحه، فإذا حلف المدعى عليه، ثم أقام عليه البينة.. سمعت؛ لما مضى. فإن قال المدعي: ليس لي بينة حاضرة ولا غائبة، أو قال: كل بينة تشهد لي فهي كاذبة، وطلب يمين المدعى عليه فحلف له، ثم أقام المدعي بينة بالحق الذي حلف عليه المدعى عليه.. فهل تسمع بينته ويحكم له بها؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها - وبه قال محمد بن الحسن -: أنه لا يحكم له بها؛ لأنه قد كذبها. والثاني: إن كان المدعي هو الذي تولى الإشهاد بنفسه.. لم تسمع بينته بعد ذلك؛ لأنه قد كذبها. وإن كان وكيله هو الذي تولى الإشهاد، أو كان الشاهدان تحملا الشهادة له ولم يشهدهما ولا علم له بهما.. سمعت بينته وحكم له بها؛ لأنه لم يكن عالما بها. والثالث: أنها تسمع ويحكم له بها بكل حال، وبه قال أبو يوسف، وهو الأصح؛

فرع إقامة المدعي البينة وجرح المدعى عليه لها

لأنه يجوز أن يكون تولى الإشهاد له غيره، أو تولى الإشهاد بنفسه ثم نسيه، أو تحملت البينة الشهادة من غير أن يتولى استشهاد أحد، فيكون قوله: (لا بينة لي) راجعا إلى ما يعتقده. إذا ثبت هذا: فإن أقام شاهدين.. حكم له بالحق، وإن أقام شاهدا وحلف معه، أو شاهدا وامرأتين، والحق مما يقبل فيه ذلك.. حكم له به. وإن نكل المدعى عليه عن اليمين فردت اليمين على المدعي، وقال: لست أختار أن أحلف، وأقام شاهدا واحدا، وأراد أن يحلف معه وكانت الدعوى في مال.. فهل له أن يحلف معه؟ على القولين فيمن ادعى مالا وأقام شاهدا ولم يحلف معه، فردت اليمين على المدعى عليه فلم يحلف.. فهل ترد اليمين على المدعي، وقد مضى توجيههما. [فرع إقامة المدعي البينة وجرح المدعى عليه لها] ] : وإذا أقام المدعي البينة بما ادعاه وثبتت عدالتهما عند الحاكم، فإن كان الحاكم يعلم أن المشهود عليه لا يعلم أن له دفع البينة بالجرح.. قال له: قد شهد عليك فلان وفلان وقد ثبتت عدالتهما عندي، فهل تعرف فيهما شيئا يجرحهما فإن ادعى جرحهما، أو سأل أن يمهل إلى أن يقيم البينة على جرحهما.. أمهل يوما أو يومين أو ثلاثا؛ لأنه قريب ولا يجوز أن يمهل أكثر من ثلاث إلا برضا المشهود له؛ لأن ما زاد على الثلاث كثير. فإن أقام البينة على جرحهما.. لم يحكم بشهادتهما. فإن مضت المدة التي استمهل لإقامة البينة فيها فلم يقم البينة على جرحهما.. حكم بشهادتهما؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في كتابه إلى أبي موسى الأشعري: (واجعل لمن ادعى حقا غائبا أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة.. أخذت له حقه، وإلا استحللت له القضية عليه؛ فإنه أتقى للشك وأجلى للعمى) . قال الشيخ أبو إسحاق: وللمدعي أن يلازم المدعى عليه إلى أن يقيم البينة

مسألة القضاء بعلم القاضي

بالجرح، وكذلك إذا ادعى البينة بالقضاء أو البراءة.. فله أن يلازمه إلى أن يقيم البينة بذلك. فإن ادعى المدعى عليه: أن المدعي يعلم أن الشهود الذين أقامهم مجروحون، وسأله أن يحلف على ذلك.. فهل يلزمه أن يحلف على ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] : أحدهما: لا يلزمه أن يحلف، كما لا يلزم المزكي والقاضي أن يحلف. والثاني: يلزمه أن يحلف، كما لو قذف ميتا فطالبه وارث المقذوف بحد القذف، فسأله أن يحلف: ما يعلم أن مورثه زنى.. فإنه يلزمه أن يحلف، فكذلك هذا مثله. وإن طلب المشهود عليه يمين الشاهد: ما هو مجروح.. لم يلزمه أن يحلف؛ لأنا لو حلفناه.. صار خصما، فيؤدي إلى أن يصير جميع الشهود خصوما. وإن أقام المدعي شاهدين ولم تثبت عدالتهما، وسأل أن يحبس له الخصم إلى أن تثبت عدالتهما، أو أقام شاهدا وسأل أن يحبس له الخصم إلى أن يقيم الآخر؛ وقد مضى بيانه في (حد القذف) . [مسألة القضاء بعلم القاضي] إذا علم القاضي حال المحكوم فيه، ولم تقم عنده بينة؛ مثل أن يعلم أن رجلا غصب من رجل مالا أو اقترض منه، أو علم أن رجلا زنى أو سرق.. فهل يجوز له أن يقضي فيه بعلمه؟ نظرت: فإن كان في حقوق الآدميين.. ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز له أن يقضي فيه بعلمه.. وبه قال شريح، والشعبي، ومالك، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية [النور: 4] . فأمر بجلد القاذف إذا لم يأت بأربعة

شهداء على القاذف، ولم يفرق بين أن يعلمه الحاكم أو لا يعلمه. «ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: " شاهداك أو يمينه، ليس لك إلا ذلك» ، فاقتضى أنه لا يجوز الحكم بغير ذلك. وروي: أن رجلا ادعى على رجل عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حقا، فقال عمر: (من يشهد لك؟) فقال: أنت، فقال عمر: (إن شئت شهدت لك ولم أحكم، وإن شئت حكمت لك ولم أشهد) . ولأنه لو كان علم الحاكم بمنزلة الشاهدين.. لانعقد النكاح به وحده. والثاني: يجوز له أن يحكم بعلمه. وبه قال أبو يوسف، واختاره المزني، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] [ص: 26] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] [المائدة: 42] ، والحق هو ضد الباطل، ولم يفرق بين أن يحكم القاضي بالبينة أو بعلمه. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمنعن أحدكم هيبة الناس أن يقول في حق إذا رآه أو سمعه» . وروي: «أن هندا قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه سرا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، فقضى لها رسول الله بأن تأخذ نفقتها من ماله؛ لكونها زوجته بعلمه، ولم يقم على ذلك بينة. ولأنه إذا جاز أن يقضي بالشاهدين وأنه إنما يعلم صحة ما شهد به من طريق

الظن.. فلأن يجوز أن يقضي بما علمه بنفسه من طريق القطع أولى. وإن كان ما يقضي به من حقوق الله تعالى، كالحد في الزنا، والقطع في السرقة.. فهل يجوز له أن يقضي فيه بعلمه من غير بينة؟ يبنى على القولين في حقوق الآدميين: فإن قلنا: لا يجوز له أن يقضي علمه في حقوق الآدميين.. لم يجز له أن يقضي به في حقوق الله تعالى. وإن قلنا: يجوز له أن يقضي في حقوق الآدميين.. ففي حقوق الله تعالى قولان: أحدهما: يجوز له أن يقضي فيه بعلمه؛ لما ذكرناه. والثاني: لا يجوز له، وهو الأصح؛ لما روي عن أبي بكر: أنه قال: (لو رأيت رجلا على حد.. لم آخذه به حتى تقوم به البينة عندي) . ولأن الحد مندوب إلى الستر فيه، فلم يجز أن يحكم فيه بعلمه. إذا ثبت هذا: فقد قال الربيع: مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن القاضي يحكم بعلمه، وإنه يوقف فيه لفساد القضاة، ولا فرق عندنا بين أن يعلم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته، في عمله أو في غير عمله. وقال أبو حنيفة، ومحمد: (إن علمه قبل ولايته أو في غير عمله.. لم يجز أن يقضي فيه بعلمه، وإن علمه بعد ولايته في عمله.. جاز له أن يقضي فيه بعلمه) . دليلنا: أنه يعلم صحة ذلك، فجاز له القضاء به، كما لو علمه بعد ولايته في عمله، هذا الكلام في المدعى عليه إذا أقر وأنكر، فأما إذا سكت فلم يقر ولم ينكر.. فإن القاضي يقول له: أجب عن دعواه، فإن أجبت، وإلا.. جعلناك ناكلا وردت

فرع شروط المترجم في القضاء

اليمين على المدعي، فإذا حلف.. قضيت عليك بالحق الذي ادعاه. والمستحب: أن يقول له ذلك ثلاثا، فإن أجاب، وإلا.. جعله ناكلا، ورد اليمين على المدعي، فإذا حلف.. قضى له بالحق الذي ادعاه؛ لأنه لا يخلو إذا أجاب: إما أن يقر أو ينكر، فإن أقر.. فقد حكم عليه بما يجب على المقر، وإن أنكر.. فقد وصل إنكاره بالنكول، وقد قضى عليه بما يجب على الناكل. [فرع شروط المترجم في القضاء] ] : إذا كان القاضي عربيا فتحاكم إليه أعجميان لا يعرف لسانهما، أو كان القاضي أعجميا فتحاكم إليه عربيان لا يعرف لسانهما.. لم يقبل الحاكم في الترجمة إلا شاهدين عدلين. وقال أبو حنيفة: (يقبل في الترجمة واحدا) . دليلنا: أنه يثبت إقرارا فافتقر إلى العدد، كما لو شهد على إقراره في غير مجلس الحكم. فعلى هذا: إن كان الحق لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين.. لم يقبل في الترجمة عنه إلا شاهدان ذكران. وإن كان مما يقبل فيه الشاهد والمرأتان.. قبل في الترجمة عنه الشاهد والمرأتان. فإن كان إقراره بالزنا.. فهل يقبل عنه في الترجمة شاهدان، أو لا يقبل فيه إلا أربعة؟ فيه قولان، بناء على أنه: هل يحكم بالإقرار بشاهدين؟ وفيه قولان يأتي بيانهما. [مسألة الادعاء على الغائب بما لا يوجب حدا] ] : إذا ادعى على غائب عن مجلس الحكم بحق، فإن لم يكن مع المدعي بينة بما ادعاه.. لم يسمع الحاكم دعواه.. لأنه لا فائدة في سماعها.

فإن كان معه بينة بما ادعاه.. نظرت في المدعى عليه: فإن كان غائبا عن البلد.. وجب على الحاكم أن يسمع الدعوى عليه والبينة. وكذلك: لو كان المدعى عليه حاضرا في البلد مستترا لا يصل المدعي إليه.. فإنه يجب على الحاكم أن يسمع الدعوى والبينة عليه. وكذلك: لو حضر مجلس الحكم فلما ادعى عليه أنكر، فلما أراد المدعي إقامة البينة عليه قام المدعى عليه وهرب.. فإن الحاكم يسمع البينة عليه. وأما إذا كان المدعى عليه حاضرا في البلد غائبا عن مجلس الحكم غير ممتنع عن الحضور.. فهل يجوز سماع الدعوى عليه والبينة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، وهو المذهب؛ لأنه يمكن إحضاره في مجلس الحكم، فلم يجز سماع الدعوى عليه والبينة. والثاني: يجوز؛ لأنه غائب عن مجلس الحكم، فهو كما لو كان غائبا عن البلد. فإذا قلنا بهذا: وكان المدعى عليه حاضرا في مجلس الحكم.. فهل يجوز للحاكم أن يسمع البينة عليه ويقضي عليه قبل سؤاله؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه حاضر يمكن سؤاله. والثاني -حكاه أبو علي السنجي -: أنه يجوز أن يسمع البينة عليه ويقضي عليه قبل سؤاله؛ لأنه لا يخلو من: أن يقر بعد سماع البينة عليه والقضاء أو ينكر، فإن أقر.. فهذا قضاء على المنكر، فلم يكن في سؤاله فائدة، فإن أنكر.. فقد زاد البينة قوة. والأول هو المشهور. فإذا قلنا: لا تسمع الدعوى إلا على الغائب عن البلد.. فإن أصحابنا العراقيين لم يشترطوا حدا في الغيبة، وإنما اشترطوا خروجه عن البلد لا غير. وأما الخراسانيون: فاختلفوا في حد الغيبة في ذلك: فمنهم من قال: أقلها مسافة القصر. ومنهم من قال: إذا كانت المسافة من موضع المدعى عليه إلى موضع القاضي بحيث لا يمكن قطعها والرجوع إليها بالليل.. فهذا يجوز سماع الدعوى عليه والبينة، وإن كانت دون ذلك.. فهو بمنزلة الحاضر.

وكل موضع قلنا: يجوز سماع الدعوى على الغائب.. فإن الحاكم إذا سمع الدعوى عليه، وشهدت البينة عنده بالحق وعرف عدالتهما، وسأله المدعي أن يحكم له بذلك.. فلا يجوز له أن يحكم له بذلك حتى يحلف المدعي: أن هذا الحق -ويسميه - ثابت له إلى الآن، ما اقتضاه بنفسه ولا بغيره ولا شيئا منه، ولا أبرأه منه بنفسه ولا بغيره ولا شيئا منه، ولا أحال به بنفسه ولا بغيره ولا بشيء منه. هذا مذهبنا في القضاء على الغائب، وبه قال مالك، والليث، والأوزاعي، وابن سيرين، وأحمد، إلا أن أحمد قال: (لا تجب اليمين) . دليلنا عليه: أن الحاكم مأمور بالاحتياط في حق الغائب، ومن الاحتياط أن يحلف له المدعي، كما لو كان حاضرا فادعى ذلك. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يجوز القضاء على الغائب) . دليلنا: ما روى أبو موسى الأشعري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا حضرا الخصمان وتواعدا موعدا، فوفى أحدهما ولم يوف الآخر.. قضى للذي وفى على الذي لم يوف» . ومعلوم أنه لم يرد أنه يقضي له بدعواه، وإنما يقضي له بالبينة، فدل على أن القضاء على الغائب جائز. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» ، ولم يفرق بين أن يكون المدعى عليه حاضرا أو غائبا. ولأنه لو لم يجز القضاء على الغائب.. لجعلت الغيبة والاستنظار طريقا إلى إبطال الحقوق. إذا ثبت هذا: فقدم الغائب.. نظرت: فإن قدم بعد سماع البينة وقبل الحكم عليه.. فإن الحاكم يستدعيه ويخبره: بأن فلانا قد ادعى عليك بكذا، وقد شهد عليك بذلك فلان وفلان، وقد ثبتت عدالتهما عندي، فإن كانت لك بينة بالجرح أو بالإبراء أو بالقضاء.. فأحضرها. فإن استمهل ثلاثة أيام.. أمهل، فإن لم يأت بالبينة.. حكم عليه.

فرع القضاء على غائب بحد ببينة

فإن قدم بعد الحكم.. استدعاه وأخبره: بأن فلانا ادعى عليك بكذا، وشهد له بذلك فلان وفلان، وثبتت عدالتهما عندي، وحكمت له بذلك، فإن كانت لك بينة بالجرح أو الإبراء أو القضاء.. فأحضرها. فإن أحضر بينة بشيء من ذلك.. نقض الحكم، وإن لم يحضر بينة بذلك.. استقر الحكم. [فرع القضاء على غائب بحد ببينة] ] : وأما القضاء على الغائب بالحدود بالبينة: فنقل أصحابنا العراقيون: أنه لا يجوز؛ لأنه ليس بمأمور بالاحتياط فيها، بل إن قامت البينة على رجل غائب بالسرقة.. حكم عليه بالغرم دون القطع. وقال الخراسانيون: هل يقضى بالحدود على الغائب؟ فيه قولان: أحدهما: لا يقضى بها؛ لما ذكرناه. والثاني: يقضى بها عليه، فيكتب القاضي المشهود عنده بذلك إلى القاضي في بلد المشهود عليه، ليقيم عليه الحد؛ لما ذكرناه في حقوق الآدميين. والأول هو المشهور. [فرع ادعى على ميت أو صبي أو مجنون حقا وأقام بينة] ] : وإن ادعى رجل على ميت حقا وأقام عليه البينة.. سمعت الدعوى والبينة عليه. فإن كان له وارث معين.. كان إحلاف المدعي إليه إن ادعى عليه قضاء أو إبراء، وإن لم يكن له وارث معين.. وجب على الحاكم أن يحلف المدعي مع بينته؛ لأن الوارثين له لا يتعينون فقام الحاكم مقامهم. وإن كانت الدعوى على صبي أو مجنون، وكان للمدعي بينة.. وجب على الحاكم سماعها والحكم بها بعد يمين المدعي؛ لأن الجواب متعذر من جهتهما، فجاز القضاء

مسألة كتابة قاض إلى آخر بحكم ثبت أو بشهادة شهدت عنده

عليهما بالبينة مع اليمين، كالغائب. ويكتب القاضي في المحضر على الغائب والصبي والمجنون؛ لأن المدعى عليه على حجته، فإذا بلغ الصبي وأفاق المجنون، وأقام البينة على جرح الشهود عند الشهادة، أو على الإبراء، أو على القضاء.. نقض الحكم. [مسألة كتابة قاض إلى آخر بحكم ثبت أو بشهادة شهدت عنده] ] : يجوز للقاضي أن يكتب إلى القاضي فيما حكم به وفيما ثبت عنده. وكذلك: يجوز للإمام أن يكتب إلى القاضي، وللقاضي أن يكتب إلى الإمام. ويجوز للمكتوب إليه أن يعمل بما كتب إليه به؛ والدليل -على ذلك -: قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] الآية [النمل: 29] . «وروي عن الضحاك بن قيس -وقيل: الضحاك بن سفيان - أنه قال: (ولاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعض الأعراب، ثم كتب إلي أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فورثتها» . وكان عمر لا يورث المرأة من دية زوجها حتى «قال له الضحاك بن قيس: (إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلي بذلك» ، فورثها عمر من دية زوجها. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهز جيشا، فأمر عليه عبد الله بن رواحة، ودفع إليه كتابا مختوما، وقال: " لا تفكه إلا بعد ثلاث، فإذا مضت ثلاث.. ففكه واعمل بما فيه» . «وروى عبد الله بن حكيم قال: (أتانا كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل موته بشهر: ألا لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى قيصر: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمد رسول الله إلى عظيم الروم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} [آل عمران: 64] الآية [آل عمران: 64] "، فلما وصل إليه الكتاب.. قبله ووضعه على رأسه ووضعه في المسك، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " ثبت ملكه» . و: «كتب إلى كسرى بن هرمز: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمد رسول الله إلى

كسرى بن هرمز، أما بعد.. أسلموا تسلموا "، فلما بلغه الكتاب.. مزقه، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " تمزق ملكه» فملك الروم باق إلى اليوم، وملك المجوس تمزق وذهب. وأجمعت الأمة: على جواز الكتاب والعمل به؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك. إذا ثبت هذا: فإن كتب القاضي بما حكم به.. قبله المكتوب إليه ونفذ حكمه، سواء كانت بينهما مسافة قريبة أو بعيدة. وإن كتب إليه يعلمه بشهادة شاهدين على رجل قبل أن يحكم بشهادتهما.. فإنه يقول: شهدا عندي بكذا، ولا يقول: ثبت عندي؛ لأن ثبوته عنده حكم منه به، فلا يجوز للمكتوب إليه العمل به إلا إذا كان بينهما مسافة تقبل فيها شهادة الفرع على شهادة الأصل، وفي قدرها وجهان: أحدهما: مسافة القصر. والثاني: ما لا يمكنه أن يمضي من أحد الموضعين إلى الآخر أول النهار ويأوي إليه بالليل من حيث مضى. وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة: (أنه يجوز له العمل به في المسافة القريبة والبعيدة) . دليلنا: أن القاضي الكاتب كشاهد الأصل، والشهود على الكتاب كشاهد الفرع، وشاهد الفرع لا يقبل على شاهد الأصل فيما قرب من المسافة، فكذلك هذا مثله. والفرق بين أن يكتب إليه فيما حكم به، وفيما شهد به عنده ولم يحكم به هو: أن ما حكم به.. قد لزم الحكم به، فوجب على كل أحد تنفيذه وإمضاؤه. وما شهد به

فرع قبول كتاب القاضي يحتاج لشاهدين

عنده لم يحكم به، وإنما هو إخبار وإعلام، فهو بمنزلة الشهادة على الشهادة، فلم يعمل به إلا في المسافة التي تعمل فيها الشهادة على الشهادة. [فرع قبول كتاب القاضي يحتاج لشاهدين] ] : ولا يجوز له قبول الكتاب والعمل بموجبه إلا أن يشهد عليه شاهدان على ما بينته، ولا يقنع فيه بمعرفة الخط والختم، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه. وقال أبو ثور: (يجوز قبوله والعمل به من غير شهادة عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكتب ويعمل بكتبه من غير شهادة عليها) . وقال مالك والحسن البصري وسوار القاضي وعبيد الله بن الحسن العنبري: (إذا عرف المكتوب إليه خط الكاتب وختمه.. جاز له قبوله والعمل به) . وبه قال أبو سعيد الإصطخري من أصحابنا. دليلنا: أن الخط يشبه الخط، والختم يشبه الختم، فلا يؤمن أن يزور على خطه وختمه، ويمكن إثبات الكتابة بالشهادة، فلا يقتصر فيها على معرفة الخط والختم، كإثبات الشهادة. إذا ثبت هذا: وكتب القاضي الكتاب.. استدعى رجلين عدلين يخرجان غلى البلد الذي فيه القاضي المكتوب إليه ويقرأ القاضي الكاتب عليهما الكتاب، أو يقرؤه غيره بحضرته وهو يسمع. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب للشاهدين أن ينظرا في الكتاب عند قراءته؛ لئلا يغير منه شيء، فإن لم يفعلا ذلك.. جاز؛ لأن الاعتماد على ما يسمعان) . فإذا قرئ الكتاب عليهما.. قال لهما: أشهدكما أني كتبت إلى فلان بن فلان بما سمعتماه فيه، وإن قال: هذا كتابي إلى فلان بن فلان.. أجزأه. فإن كان

المكتوب قليلا يحفظانه.. اعتمدا على حفظهما، وإن كان كثيرا.. كتب كل واحد منهما ما سمعه في نسخة وقابله بالكتاب ليتذكر به ما أشهد عليه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويقبضا الكتاب قبل أن يغيبا عنه) . وقال أبو حنيفة: (إنه لا يصح العمل بالكتاب، إلا أن يكتب ويقول: هذا كتابي إلى فلان بن فلان القاضي وإلى كل قاض من قضاة المسلمين يبلغه هذا الكتاب) . دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكتب كتبا إلى أقوام بأعيانهم ولم يقل فيها إلى كل من بلغ إليه ويعملون بها، فدل على: أنه لا يشترط ما ذكره. فأما إذا كتب الكتاب وختمه واستدعاهما، وقال: هذا كتابي إلى فلان بن فلان، ولقد أشهدتكما بما فيه على نفسي، ولم يقرأ الكتاب.. لم يصح التحمل، وبه قال أبو حنيفة. وقال أبو يوسف: إذا ختمه بختمه وعنونه.. جاز لهما أن يتحملا الشهادة عليه مدرجا. دليلنا: أنهما تحملا الشهادة بما لم يعلماه، فلم يصح. وإذا وصل الشاهدان إلى المكتوب إليه.. قرآ الكتاب عليه أو قرأه القاضي أو غيره وهما يسمعان، ثم قالا: نشهد أن هذا كتاب فلان بن فلان القاضي إليك، وأشهدنا على نفسه بما فيه في مجلس حكمه. وإن لم يقرآ الكتاب ولكن دفعاه إلى المكتوب إليه، وقالا: نشهد أن فلان بن فلان كتب إليك هذا الكتاب وأشهدنا على نفسه بما فيه.. لم يصح؛ لأنه ربما زور عليهما الكتاب. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولقد حضرت بعض الحكام ورد عليه كتاب مختوم من بعض القضاة وشهد به شاهدان، ففضه وقرأه فتوقف فيه، وقال: قد ورد إلي

فرع كتب إلى قاض وأشهد على نفسه بما فيه ولم يذكر اسمه

كتاب في مثل هذا المعنى بخلاف هذا، ثم كتب إلى ذلك القاضي كتابا يخبره بذلك، فكتب إليه القاضي يخبره: أنه كتب إليه كتابا ووضعه بين يديه، فأخذ الكتاب من بين يديه وزور كتاب آخر مكانه فظن أنه الكتاب الذي أنفذه) . فإن انكسر الختم.. لم يؤثر؛ لأن المعول على ما في الكتاب، فإن محي الكتاب أو بعضه، فإن كان الشاهدان يحفظان ما في الكتاب أو معهما نسخة أخرى.. جاز أن يشهدا. وإن كانا لا يحفظانه ولا معهما نسخة أخرى.. لم يجز أن يشهدا؛ لأنهما لا يعلمان الذي كان في الكتاب. وإن أشهد على الكتاب رجلا وامرأتين.. لم يعمل بشهادتهم؛ لأن ذلك ليس بمال؛ لأن المقصود إثبات الكتاب عند المكتوب إليه. [فرع كتب إلى قاض وأشهد على نفسه بما فيه ولم يذكر اسمه] ] : إذا كتب كتابا إلى قاض، وأشهد على نفسه بما فيه، ولم يكتب اسم المكتوب إليه في عنوان الكتاب ولا في باطنه.. جاز للمكتوب إليه العمل به. وقال أبو حنيفة: (إذا لم يكتب اسمه في باطن الكتاب؛ بأن يقول: هذا كتاب من فلان بن فلان.. فلا يجوز قبوله. وكذلك إذا ذكر اسمه في العنوان دون باطنه.. لم يكفه ذلك) . دليلنا: أن المعول فيه على شهادة الشهود على الكتاب وذلك موجود. [فرع معرفة القاضي الكاتب والمكتوب إليه لعدالة الشهود] ] : قال المسعودي [في " الإبانة "] : ومعرفة القاضي الكاتب لعدالة شهود الحق تكفي، فيكتب: ثبت عندي بشهادة شهود عدول، ولا يفتقر إلى ذكر أسمائهم. فإن لم تثبت عدالتهم عنده.. كتب أسماءهم وأنسابهم، أو خلاهم ليبحث المكتوب إليه عن عدالتهم.

فرع ادعاء دين في الذمة أو عين وثبوته عند القاضي

فأما عدالة شهود الكتاب: فيجب أن تثبت عند المكتوب إليه، فإن عدلهم الكاتب.. لم تثبت. وقال القفال الشاشي: تثبت. وهذا غلط؛ لأنه يؤدي إلى تزكية الشاهد بقوله، فلم تصح. [فرع ادعاء دين في الذمة أو عين وثبوته عند القاضي] ] : إذا كان المدعى دينا في الذمة وثبت عند القاضي بإقرار أو بينة.. جاز أن يكتب به على ما مضى، ويعمل المكتوب إليه بموجب ما كتب به إليه. وإن كان المدعى عينا في بلد المكتوب إليه، فإن كانت عينا متميزة عن غيرها، كالعقار المحدود، أو العبد المشهور الاسم والصفة، أو دابة مشهورة الاسم والصفة.. جاز قبول الكتاب والعمل به في ذلك؛ لأنها متميزة عن غيرها فيمكن إلزام تسليمها. وإن كانت العين غير مشهورة، مثل أن يشهد الشاهدان عند الكاتب له بعبد من صفته كذا وكذا.. فهل يجوز قبول الكتاب فيه والعمل به؟ فيه قولان، حكاهما أصحابنا العراقيون: أحدهما: لا يجوز قبول الكتاب فيه ولا العمل به. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، واختاره المزني؛ لأن المشهود به مجهول العين فلا يكفي فيه الوصف، ألا ترى أنه لا يصح أن يكون المشهود له موصوفا؟ فكذلك المشهود به. والثاني: يجوز قبول الكتاب به؛ لأنه يمكن ضبطه بالصفة؛ ولهذا يثبت في الذمة بالعقد، فأشبه الدين، ويخالف المشهود له؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك. فعلى هذا: يأمر المكتوب إليه المشهود عليه أن يحضر تلك العين، فإن أحضر عينا بالصفة التي شهد بها الشهود عليه عند الكاتب وادعاها المدعي.. ختم عليها المكتوب إليه بختمه وأنفذها مع المشهود له إلى الكتاب، وكانت في ضمان المدعي.

فرع كتب القاضي كتابا لقاض آخر ثم مات أو عزل

فإذا وصل الكاتب.. أحضر الشاهدين اللذين شهدا للمدعي بها ونظرا إلى العين، فإن شهدا أنها هي العين التي شهدا بها أنها له.. أخذها المشهود له وبرئ من ضمانها، وإن لم يشهدا على عينها.. ردها الكاتب إلى المكتوب إليه، وكان على المشهود له قيمتها إن تلفت وأجرة منفعتها تلك المدة. فإذا قلنا بهذا: وكان المشهود به جارية.. فهل يبعث بها إلى القاضي الكاتب؟ فيه وجهان، المشهور: أنه يبعث بها. وحكى أصحابنا الخراسانيون فيها قولا ثالثا: أن العين تنزع من يد المشهود عليه ويدفع المشهود له قيمتها، فإن شهد الشاهدان له بها.. رد المشهود عليه ما أخذه من القيمة، وإن ضاعت العين في الطريق.. استقر ملك المدعى عليه على القيمة. [فرع كتب القاضي كتابا لقاض آخر ثم مات أو عزل] ] : إذا كتب قاض كتابا إلى قاض بشيء، ثم مات القاضي الكاتب أو عزل قبل وصول الكتاب إلى المكتوب إليه.. فإن المكتوب إليه يقبل الكتاب ويعمل به. وبه قال أبو حنيفة وأحمد. وقال أبو يوسف: إن مات قبل خروجه من يده.. لم يعمل به المكتوب إليه، وإن مات بعد أن خرج من يده.. عمل به المكتوب إليه. دليلنا: أن المعول فيه على ما شهد به الشاهدان وهما حيان، فلم يؤثر موت الكاتب، كما لو مات شاهد الأصل. ولأنه إن كان الكتاب مما حكم به.. فيجب على كل واحد إمضاؤه، وإن كان فيما شهد به عنده عليه.. جرى مجرى الشهادة على الشهادة، وموت شاهد الأصل لا يؤثر في الشهادة عليه. وأما إذا فسق القاضي الكاتب.. نظرت:

فرع كتب القاضي لآخر فوصل كتابه إلى من ولي القضاء بعده

فإن كان الكتاب فيما حكم به.. لم يؤثر فسقه وجاز قبول الكتاب والعمل به؛ لأن فسقه بعد حكمه لا يؤثر في حكمه. وإن كان الكتاب فيما ثبت عنده.. نظرت: فإن فسق بعد وصول الكتاب إلى المكتوب إليه وبعد حكمه به.. لم يؤثر فسق الكاتب، كما لا يؤثر فسقه في حكمه، وإن فسق قبل وصول الكتاب إلى المكتوب إليه، أو بعد وصوله وقبل حكمه به.. لم يجز له الحكم به، كما لا يجوز الحكم بشهادة الفرع بعد فسق شاهد الأصل. [فرع كتب القاضي لآخر فوصل كتابه إلى من ولي القضاء بعده] فرع: [كتب القاضي لآخر فوصل كتابه إلى من ولي القضاء بعد عزل المكتوب إليه] : وإن كتب القاضي كتابا إلى قاض، فمات المكتوب إليه أو عزل أو فسق، وولي غيره ووصل الكتاب إليه.. فإنه يقبل الكتاب ويعمل به. وبه قال الحسن البصري؛ وذلك: أن قاضي الكوفة كتب إلى إياس بن معاوية وكان قاضيا بالبصرة، فوصل الكتاب وقد عزل وتولى مكانه الحسن البصري، فقبل الكتاب. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز للثاني قبول الكتاب ولا العمل به) . دليلنا: أن المعمول فيه على ما شهد به الشهود، فإن كان الكتاب فيما حكم به.. فعلى كل من بلغه إمضاؤه، وإن كان فيما ثبت عنده.. فهو بمنزلة الشهادة على الشهادة، وعلى كل أحد أن يحكم بالشهادة على الشهادة. [فرع كتابة الإمام أو القاضي لخليفته ثم موته أو عزله قبل وصول الكتاب] ] : إذا كتب الإمام إلى خليفته كتابا، فمات الإمام أو خلع نفسه قبل وصول كتابه، ثم وصل كتابه.. فإن المكتوب إليه يقبل الكتاب فيعمل به؛ لأنه لا ينعزل بموته. وإن كتب قاض إلى خليفته كتابا، ثم مات الكاتب أو عزل، ثم وصل كتابه.. فهل يعمل بكتابه؟ فيه وجهان -حكاهما الشيخ أبو حامد -:

فرع كتب إلى قاض آخر بحكم على رجل سماه

أحدهما: أن الخليفة القاضي لا ينعزل بانعزاله، كما لا ينعزل القاضي بانعزال الإمام الذي ولاه ولا بموته. فعلى هذا: يجوز له قبول كتابه والعمل به. والثاني: أنه ينعزل بانعزاله؛ لأنه نائب عنه، وإذا بطلت ولاية المنوب عنه.. بطلت ولاية النائب عنه. والفرق بينه وبين الإمام: أنا لو قلنا: إن القضاة ينعزلون بموت الإمام أو عزله.. لأدى ذلك إلى الضرر بالمسلمين. فعلى هذا: لا يقبل كتابه. [فرع كتب إلى قاض آخر بحكم على رجل سماه] ] : إذا كتب القاضي إلى قاض بحكم حكم به على رجل سماه في بلد المكتوب إليه، فوصل الكتاب إلى المكتوب إليه فاستدعاه الحاكم وأخبره بكتاب القاضي، فقال: ألست فلان بن فلان؟ فإن لم يكن مع المدعي بينة أنه فلان بن فلان.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإذا حلف.. سقطت عنه المطالبة بالدعوى؛ لأن الأصل براءة ذمته. وإن أقام المدعي بينة أنه فلان بن فلان، أو أقر المدعى عليه بذلك إلا أنه قال: لست فلان بن فلان الذي ذكره القاضي في كتابه، وإنما ذلك رجل غيري.. لم يقبل منه حتى يقيم البينة أن له من يشاركه في ذلك الاسم والصفة؛ لأن الأصل عدم من يشاركه. فإن أقام البينة على أنه له من يشاركه في ذلك الاسم والصفة التي وصفه بها.. أحضره الحاكم وسأله، فإن اعترف أنه المحكوم عليه وصادقه المدعي على ذلك.. لم يسأل عن الأول، وإن أنكر أن يكون المحكوم عليه.. توقف الحاكم حتى يعرف من المحكوم عليه منهما، وكتب إلى الحاكم الكاتب ليرجع إلى الشاهدين الذين شهدا عنده على المدعى عليه؛ ليزيدا في وصف المشهود عليه منهما. فإن أقام صاحب الاسم والصفة بينة أنه كان له من يشاركه في الاسم والصفة التي يسمى بها إلا أنه ميت، فإن لم يعاصر المشارك المدعى عليه؛ بأن مات قبل أن يولد المدعي.. فهو كما لو لم يكن هناك مشارك. وإن عاصر المدعي، فإن كان موته بعد

مسألة كتابة القاضي للمحاضر والسجلات

الحكم.. فهو كما لو كان حيا على ما مضى، وإن كان موته قبل الحكم.. ففيه وجهان: أحدهما: يقع الإشكال؛ لجواز أن يكون الميت هو المحكوم عليه. والثاني: لا إشكال فيه؛ لأن الظاهر أن الحاكم إنما حكم على حي؛ إذ لو حكم على ميت.. لذكر ورثته. وإذا ألزم المكتوب إليه المشهود عليه الحق فدفعه فقال: اكتب لي كتابا إلى القاضي الكاتب بذلك، أو ليكون في يدي؛ لئلا يدعي علي خصمي مرة أخرى.. ففيه وجهان: أحدهما -وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه يلزمه أن يكتب له إليه ليتخلص من الحق المدعى المشهود به عليه. والثاني: أنه لا يلزمه؛ لأن الحاكم إنما يكتب بما حكم به أو ثبت عنده، وهذا لم يحكم عليه بشيء، ولا ثبت عنده عليه شيء، وإنما كان ذلك عند الكاتب. وأما تخليصه من الحق المشهود به: فيمكنه ذلك؛ بأن يشهد على الأداء. وإن طالبه أن يدفع إليه الكتاب الذي ثبت به الحق.. لم يلزمه دفعه. وكذلك كل من كان له كتاب بدين فاستوفاه أو بعقار فباعه.. لم يلزمه دفع الكتاب إليه؛ لأنه ملكه. [مسألة كتابة القاضي للمحاضر والسجلات] ] : إذا حضر عند القاضي خصمان، فادعى أحدهما على الآخر حقا، فأقر له به.. لزمه ما أقر به، فإن سأل المقر له الحاكم أن يشهد له شاهدين على إقراره.. لزمه أن يشهد له؛ لأن القاضي إن كان لا يحكم بعلمه.. فربما جحد المقر، وإن كان يحكم بعلمه.. فربما نسي الإقرار أو عزل فلزمه أن يشهد. فإن قال المقر له: اكتب لي محضرا بذلك.. كتب له:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حضر القاضي فلان بن فلان، وهو يلي القضاء من قبل الإمام فلان بن فلان، أو: خليفة القاضي فلان بن فلان قاضي الإمام فلان بن فلان، أو من يلي القضاء من قبل فلان بن فلان وفلان بن فلان، إذ حكمه الخصمان فلان بن فلان وفلان بن فلان -يعني الخصمين - ويرفع في أسمائهما وأنسابهما حتى يتميزا عن غيرهما، وإن كان يعرفهما.. فالمستحب: أن يحليهما مع ذلك، فادعى فلان بن فلان على فلان بن فلان بكذا وكذا، فأقر له به في وقت كذا وكذا، شهد عليه بذلك فلان وفلان. ولا يحتاج أن يقول: في مجلس حكمه؛ لأن الإقرار يصح في غير مجلس حكمه. ويكتب تحت المحضر: أقر بذلك عندي، ويكتب على رأسه علامة: حسبي الله، أو الحمد لله رب العالمين، أو ما أشبه ذلك. وإن أنكر المدعى عليه، فأقام المدعي البينة بما ادعاه.. حكم له بذلك على ما مضى، فإن سأل المدعي الحاكم الإشهاد له على ذلك.. فهل يلزمه الإشهاد له عليه؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق: أحدهما: لا يلزمه الإشهاد؛ لأن للمدعي بالحق بينة، فلا يلزم القاضي تجديد بينة له أخرى. والثاني: يلزمه الإشهاد؛ لأن في إشهاده على نفسه بذلك تعديلا للبينة الأولى وإلزاما لخصمه. فإن سأله أن يكتب له بذلك محضرا.. كتب له: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حضر القاضي فلان بن فلان -ويذكر من ولاه القضاء - فلان بن فلان وفلان بن فلان في مجلس قضائه، فادعى فلان بن فلان على فلان بن فلان بكذا وكذا فأنكر، فسأل

الحاكم المدعي البينة فأحضر فلان بن فلان وفلان بن فلان -يعني الشاهدين - وسأل الحاكم سماع شهادتهما فشهدا بكذا وكذا، وعرف الحاكم عدالتهما لما رأى قبول شهادتهما، فسأل فلان بن فلان أن يحكم له بشهادتهما فحكم له بذلك في وقت كذا، ويكتب العلامة على رأس المحضر، وتحت المحضر: شهدا عندي بذلك. وإن كان للمدعي في هذه والتي قبلها كتاب بالإقرار أو بالشهادة.. جعله القاضي محضرا، وكتب العلامة في رأسه، وكتب تحته: شهد عندي بذلك. فإن لم يكن للمدعي بينة، فحلف المدعى عليه على ما مضى، وسأل المدعى عليه الحاكم أن يكتب له بيمينه محضرا، ليكون له وثيقة حتى لا يدعي عليه بذلك الحق مرة ثانية.. كتب له: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حضر القاضي فلان بن فلان -ويذكر من ولاه القضاء - فلان بن فلان في مجلس حكمه وقضائه، وادعى المدعي على فلان بن فلان بكذا وكذا فأنكره، فطالب القاضي المدعي بالبينة فلم تكن له بينة، ثم طالب المدعي القاضي بإحلاف خصمه فحلفه له -فيذكر كيف حلفه له - في وقت كذا وكذا، ويكتب العلامة على رأسه. فإن نكل المدعى عليه عن اليمين ورد اليمين على المدعي فحلف، وسأل المدعي الحاكم أن يشهد له على ذلك.. لزمه أن يشهد على ذلك؛ لأنه لا حجة له غير الإشهاد. فإن سأله أن يكتب له بذلك محضرا.. كتب له: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حضر القاضي فلان بن فلان -ويذكر من ولاه القضاء - فلان بن فلان في مجلس حكمه، وادعى على فلان بن فلان بكذا فأنكره، فسأل القاضي المدعي البينة فلم تكن له بينة، فسأل المدعي الحاكم استحلاف المدعى عليه، فعرض عليه اليمين فلم

يحلف، ورد اليمين على المدعي فحلف له على كذا في وقت كذا، ويكتب العلامة في أوله، ويكتب تحته: حلف عندي. وإن سأل صاحب المحضر القاضي أن ينفذ الحكم له ويسجله له، ويشهد عليه.. كتب له: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا ما أشهد عليه القاضي فلان بن فلان -ويذكر من ولاه القضاء - في مجلس حكمه: أن فلان بن فلان ثبت له حق بكتاب نسخته كذا -ويكتب الذي ذكر في المحضر - فحكم به وأنفذه وأمضاه بسؤال فلان بن فلان المدعي، وشهد على إنفاذ القاضي فلان بن فلان بجميع ما في هذا الكتاب في وقت كذا فلان بن فلان، ويكتب العلامة في رأسه. وإن كان القاضي لا يعرف الخصمين.. حضر رجل ذكر أنه فلان بن فلان، وأحضر رجلا ذكر أنه فلان بن فلان، ولا بد من ذكر حليتهما؛ لأن الاعتماد عليها. وقال ابن جرير: إذا لم يعرفهما القاضي.. لم يجز له أن يسجل؛ لأنهما ربما يزوران النسب والاسم. وهذا غلط؛ لأنه لا بد أن يذكر حليتهما، ولا يمكنهما تزوير الحلية. إذا ثبت هذا: فهل يلزم القاضي كتب المحضر والسجل؟ ينظر فيه: فإن لم يجعل له شيء من بيت المال لما يشتري به الورق، ولا أحضر الخصم ورقة يكتب له بها.. لم يلزم القاضي ذلك؛ لأن الذي يلزمه: أن يحكم، ولا يلزمه أن يغرم الورق للمحكوم له. وإن سلم إليه شيئا لثمن الورق، أو أتاه المحكوم له بورقة وسأله أن يكتب له فيها.. ففيه وجهان:

فرع حكم القاضي بحجة بخطه وختمه أو بحجة الذي قبله

أحدهما: يلزمه؛ لأنه وثيقة للمحكوم له، فلزمت الحاكم، كالإشهاد. والثاني: لا يلزمه؛ لأن الوثيقة فيما يثبت به الحق من الإقرار أو البينة أو اليمين دون المحضر والسجل. فعلى هذا: يستحب له أن يكتب له؛ لأنه زيادة في الوثيقة. فإذا قلنا: يلزمه أو يستحب له.. فإنه يستحب له أن يكتب ذلك نسختين: نسخة تكون مع المحكوم له، ونسخة تكون مع القاضي في ديوان الحكم، فإذا هلكت إحداهما.. اكتفي بالأخرى، ويكتب على ظهرها: سجل فلان بن فلان المحكوم له، ويضم ما يجتمع عنده من السجلات، ويشدها إضبارة على قدر اجتماعها في اليوم أو الأسبوع أو الشهر أو السنة، ويختم على الإضبارة بختمه، ويكتب على ظهرها: محاضر أو سجلات يوم كذا في شهر كذا في سنة كذا، أو: سجلات أسبوع كذا في شهر كذا من سنة كذا، حتى إذا حضر من يطلب شيئا منها.. سأله عن وقت ذلك، فيسهل عليه استخراجها، ولا يشتغل بتفتيش جميع الكتب. فإذا عزل القاضي وكانت عنده محاضر وسجلات للناس.. سلمها إلى الذي ولي القضاء بعده؛ لأنه كان له نظر وولاية، وقد صار النظر والولاية للثاني، فكان أولى بذلك. [فرع حكم القاضي بحجة بخطه وختمه أو بحجة الذي قبله] ] : إذا حضر خصمان عند القاضي فادعى أحدهما على الآخر حقا فأنكر، فقال المدعي: لي حجة في ديوان الحكم، فطلبها الحاكم، فوجد له حجة بخطه وختمه.. نظرت: فإن كان الحاكم ذاكرا لحكمه له بذلك، ولم يشهد عنده بذلك شاهدان.. قال الشيخ أبو حامد: فهل يجوز له أن يحكم له بذلك؟ فيه قولان، بناء على القولين في أن القاضي له أن يقضي بعلمه. وقال ابن الصباغ: لا يكون هذا قضاء بالعلم، وإنما هو إمضاء ما حكم به.

وإن كان غير ذاكر لما حكم به، ولم يشهد عنده بذلك شاهدان، إلا أنه عرف خطه وختمه.. فلا يجوز له أن يحكم له بذلك، وبه قال أبو حنيفة ومحمد. وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: يجوز له أن يحكم له به إذا عرف خطه وختمه. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] [الإسراء: 36ٍ] يعني: لا تقل ما ليس لك به علم، وما لا يذكره ولا شهد عنده به.. ليس له به علم. ولأنه لا يؤمن أن يكون قد زور على ختمه وخطه. وإن رأى بخطه شهادة له وهو لا يذكرها.. لم يجز له أن يشهد بها، وحكى أصحابنا العراقيون: أن أبا يوسف وافق على ذلك. وحكى أصحابنا الخراسانيون: أن أبا يوسف قال: يجوز له أن يشهد بذلك. ودليلنا عليه: ما مضى. وإن رأى بخط أبيه دينا له بعد موته.. جاز له أن يحلف عليه؛ لأنه يمكنه الرجوع بما حكم به إلى الذكر واليقين؛ لأنه فعل نفسه، وما وجده بخط أبيه لا يمكنه الرجوع إلى اليقين، فكفى فيه الظن. قال ابن الصباغ: وإن وجد بخط نفسه حقا له على غيره.. لم يجز له أن يطالب به ويحلف عليه، إلا أن يتيقنه وإن وجد له سماعا بخطه ولا يذكره. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن لم يغب عنه ذلك.. جاز له أن يرويه؛ لأن الإخبار أوسع من الحكم والشهادة. وإن غاب عنه.. لم يجز له أن يرويه؛ لجواز أن يكون قد زور عليه. وإن شهد عنده شاهدان للمدعي.. نظرت: فإن شهدا على إقرار المدعى عليه.. حكم له بشهادتهما؛ لأنهما لو شهدا على إقراره في غير مجلس الحكم. لحكم له بهما، فكذلك إذا شهدا على إقراره في مجلس الحكم. وإن شهدا على حكمه له بذلك على المدعى عليه وهو لا يذكر ذلك.. لم يجز له أن يحكم له بذلك، وبه قال أبو حنيفة.

فرع يندب للحاكم أن يوجه للصلح

وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: يجوز له أن يحكم له بذلك. دليلنا: أنهما لو شهدا على رجل أنه شهد لفلان بكذا، والشاهد لا يذكر ذلك.. لم يجز له أن يشهد بذلك، فكذلك الحاكم لا يجوز له أن يحكم له بشهادتهما إذا كان غير ذاكر له. وإن كانت الحجة بخط القاضي قبله وختمه.. فلا يجوز له أن يحكم للمدعي بذلك حتى يشهد بذلك شاهدان على حكم القاضي قبله له بذلك. فإن كان القاضي الثاني قد حضر عند الأول عند حكمه لهذا المدعي بهذه الحكومة.. فهل يجوز له أن يقضي له بذلك؟ فيه قولان، بناء على القولين في الحكم بالعلم. وإن أقام المدعي بينة على أن القاضي الأول حكم له بذلك، وأقام المدعى عليه بينة أن القاضي الأول توقف في ذلك.. لم يجز للثاني أن يحكم له بذلك. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه يجوز له أن يحكم له بذلك. والمشهور هو الأول؛ لأن الثاني فرع للأول، فلا يجوز للثاني إنفاذ الحكم مع توقف الأول، كما لو شهد شاهدان على شهادة رجل، وشهد آخران على توقف شاهد الأصل.. فإنه لا يجوز الحكم بشهادة من شهد على شهادته. [فرع يندب للحاكم أن يوجه للصلح] ] : قال في " الأم ": (إن بان للحاكم وجه الحكم.. ندبهما إلى الصلح، وأخر الحكم اليوم واليومين) ؛ لأن الصلح مندوب إليه. ويسألهما أن يحللاه من تأخير الحكم، فإن لم يجتمعا على تحليله وطالباه بالحكم.. وجب عليه الحكم؛ لأن الحكم إذا بان وجهه.. وجب على القاضي إنفاذه. هكذا ذكر ابن الصباغ، والذي يقتضي المذهب: أن التحليل بتأخير الحكم إنما يطلب من المحكوم له، وكذلك

مسألة إقرار القاضي بحكمه لفلان قبل عزله أو بعده وشهادته عند غيره

وجوب الحكم إنما يتوجه بطلبه دون المحكوم عليه؛ لأن الحق في الحكم للمحكوم له دون المحكوم عليه. [مسألة إقرار القاضي بحكمه لفلان قبل عزله أو بعده وشهادته عند غيره] ] : إذا قال القاضي في حال ولايته: حكمت لفلان على فلان بكذا بإقرار المدعى عليه، أو بقيام بينة عليه وثبتت عدالتهما عندي، أو بيمين المدعي بعد نكول المدعى عليه.. قبل قول القاضي بذلك، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف وأحمد. وحكي عن محمد بن الحسن أنه قال: لا يقبل قوله حتى يشهد بحكمه شاهدان، أو رجل عدل معه. دليلنا: أنه يملك الحكم فملك الإقرار به، كالزوج لما ملك الطلاق.. ملك الإقرار به. فأما إذا عزل، فقال بعد العزل: قد كنت حكمت لفلان بكذا.. فإنه لا يقبل قوله. وقال أحمد: (يقبل قوله) . دليلنا: أنه لا يملك الحكم فلا يملك الإقرار به، كسائر الرعية. وهل يكون شاهدا حتى لو شهد معه آخر عند قاض آخر حكم له به؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يكون شاهدا فيه، كما تقبل شهادة المرضعة على إرضاعها مع ثلاث نسوة معها. و [الثاني] : المذهب: أنه لا تقبل شهادته في ذلك؛ لأن ذلك يتضمن إثبات العدالة لنفسه؛ لأن الحكم لا يصح إلا من عدل، فلم يصح ذلك بقوله، بخلاف الرضاع؛ فإنه يصح من غير عدل، فلم يتضمن إثبات العدالة لنفسه. فإذا قلنا بهذا: فقال هذا المعزول: أشهد أن حاكما يجوز حكمه حكم لفلان بكذا، ولم يخبر بذلك عن نفسه.. ففيه وجهان:

أحدهما: تقبل شهادته فيه؛ لأنه إذا أضاف ذلك لنفسه.. لحقته التهمة بتزكية نفسه. وإذا أطلق ذلك.. لم تحصل به تهمة. والثاني: لا تقبل؛ لأنه يحتمل أنه أراد نفسه بذلك، فلم تقبل حتى يصرح بالحاكم أنه غيره. فأما إذا قال المعزول: أشهد أن فلانا أقر لفلان في مجلسي بكذا.. قبلت شهادته له وجها واحدا؛ لأنه لا يجر بذلك إلى نفسه نفعا، ولا يدفع عنها ضررا. وبالله التوفيق

باب القسمة

[باب القسمة] قسمة الأموال المشتركة جائزة، والأصل فيها: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} [النساء: 8] الآية [النساء: 8] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28] [القمر: 28] . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم غنائم خيبر على ثمانية عشر سهما» ، و: «قسم غنائم بدر بشعب يقال له: الصفراء» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة في كل ما لم يقسم» . ولأن بالشركاء حاجة إلى القسمة؛ ليتمكن كل واحد منهم من التصرف في نصيبه منفردا. إذا ثبت هذا: فإن تقاسم الشريكان بأنفسهما.. جازت، ولا تفتقر القسمة إلى عقد، بل إذا عدلا السهام وأقرعا على ما يأتي بيانه.. صحت القسمة ولزمت؛ لأن المقصود إفراد نصيب كل واحد منهما عن نصيب الآخر، وذلك يحصل بما ذكرناه. وإن دعا أحدهما صاحبه إلى القسمة فامتنع، فرفع الطالب الأمر إلى الحاكم فقسم بينهما، أو بعث قاسما فقسم بينهما، أو تراضيا بالرفع إلى الحاكم، فبعث قاسما ليقسم بينهما فقسم بينهما.. جاز. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (القسام: حكام) . وأراد بذلك: أنهم في معنى الحكام، وأن قسمتهم تلزم بنفس الإقراع، كما يلزم

حكم الحاكم بنفس الحكم؛ لأن كل واحد منهما مجتهد فيما ولي عليه من ذلك. وأراد: أن القاسم الذي نصبه الحاكم يجب أن يكون بالغا، عاقلا، حرا، عدلا، عالما بالقسمة، كما يجب أن يكون الحاكم بالغا، عاقلا، حرا، عدلا، عالما بالأحكام. ولم يرد: أن القاسم يجب أن يكون من أهل الاجتهاد؛ لأن ذلك لا يفتقر إليه في القسمة. وإن نصب الشريكان قاسما يقسم بينهما ممن يحسن القسمة.. جاز، كما يجوز أن يحتكما إلى من ليس بقاض ممن يصلح للقضاء. والمنصوص: (أن قسمته لا تلزم إلا بتراضي الشريكين بالقسمة بعد خروج القرعة) ؛ لأن هذه القسمة مبناها على التراضي في الابتداء، فاعتبر التراضي بها في الانتهاء. ومن أصحابنا من خرج فيه قولا آخر: أن قسمته تلزم بنفس القرعة، كما قال الشافعي -في الرجلين إذا تحاكما إلى من ليس بقاض ممن يصلح للقضاء -: (أن حكمه يلزم بنفس الحكم) في أحد القولين. ويجوز أن يكون هذا الذي نصبه الشريكان عبدا أو فاسقا؛ لأنه وكيل لهما. هكذا ذكره أكثر أصحابنا، وقال ابن الصباغ: إذا نصب الشريكان قاسما فقسم بينهما.. لم تلزم قسمته إلا بتراضيهما بقسمته بعد القرعة، وجاز أن يكون عبدا أو فاسقا. وإن حكما رجلا ليقسم بينهما فقسم بينهما.. ففيه قولان، كالقولين إذا حكما رجلا ليحكم بينهما. فإذا قلنا: يلزم.. وجب أن يكون على الشرائط التي ذكرناها في قاسم القاضي. وإن قلنا: لا تلزم قسمته إلا بتراضيهما بعد القرعة.. جاز أن يكون عبدا أو فاسقا. ففرق بين النصب والتحكيم. والطريق الأول أقيس. وأما عدد من يقسم: فإن لم يكن في القسمة تقويم.. جاز أن يكون واحدا، وإن

مسألة أجرة القاسم جائزة

كان فيها تقويم.. لم يجز أن يكون أقل من اثنين، كما قلنا في تقويم المتلفات. وإن كان فيها خرص.. ففيه قولان، كما قلنا في الخرص في الزكاة. [مسألة أجرة القاسم جائزة] ويجوز استئجار القاسم بأجرة معلومة؛ لأن القسمة عمل معلوم، بخلاف الإجارة على الحكم، فإنه لا يجوز؛ لأنه عمل غير معلوم. ويجوز أن يدفع الإمام إلى القاسم الذي نصبه الرزق من بيت المال؛ لما روي: (أنه كان لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قاسم يقال له: عبد الله بن لحي، يعطيه رزقه من بيت المال) . ولأن ذلك من المصالح . فإن لم يكن في بيت المال شيء، أو كان فيه ولكنه يحتاج إلى صرفه فيما هو أهم من ذلك.. فإن أجرة القاسم على الشركاء؛ لأن القسمة حق لهم. فإن استأجره كل واحد منهم بعقد منفرد ليقسم له نصيبه.. جاز، ولزم كل واحد منهم ما استأجره به، سواء كان قليلا أو كثيرا. وإن استأجروه بعقد واحد ليقسم بينهم بأجرة.. وجبت عليهم الأجرة على قدر أملاكهم، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (تجب الأجرة عليهم، وتقسم بينهم على عدد الرؤوس) . وقال أبو يوسف ومحمد: القياس يقتضي: أن تقسم بينهم على عدد رؤوسهم، ولكنا نقسمها عليهم على قدر أملاكهم استحسانا. دليلنا: أن الأجرة مؤنة تتعلق بالملك فقسمت على قدر الأملاك، كنفقة العبد. وإن طلب أحدهما القسمة وامتنع الآخر، فرفع الطالب الأمر إلى الحاكم فنصب قاسما، فقسم بينهما.. فإن أجرته على الشريكين، وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد. وقال أبو حنيفة: (تجب جميع أجرته على الطالب) . دليلنا: أن الأجرة تجب لإقرار النصيبين، وهما في ذلك سواء، فوجبت الأجرة عليهما، كما لو تراضيا بالرفع إلى الحاكم.

مسألة أنواع قسمة الأملاك المشتركة

[مسألة أنواع قسمة الأملاك المشتركة] إذا كان في القسمة رد؛ وذلك بأن يكون المملوك بين الشريكين لا يمكن أن يجعل جزأين إلا بعوض يكون مع أحدهما؛ بأن يكون بينهما عبدان نصفين، وقيمة أحدهما عشرون درهما، وقيمة الآخر ثلاثون درهما.. فإنه لا يمكن تعديلهما جزأين إلا بأن يجعل مع الذي قيمته عشرون خمسة دراهم، يدفعها من خرج له الذي يساوي ثلاثين، فهذه القسمة تفتقر إلى تراضيهما بها في ابتداء القسمة، فلو طلبها أحدهما وامتنع الآخر منها.. لم يجبر عليها. وتفتقر إلى تراضيهما بها بعد القسمة؛ وذلك أنهما إذا تراضيا عليها في الابتداء وأقرع بينهما فخرجت قرعة كل واحد منهما على عبد.. افتقر إلى تراضيهما في هذه الحال. وقال أبو سعيد الإصطخري: يفتقر إلى تراضيهما بها قبل القسمة، وأما بعد خروج القرعة: فلا يفتقر إلى تراضيهما بها. والمذهب هو الأول؛ لأنه لما افتقر إلى تراضيهما بها في الابتداء.. افتقر إلى تراضيهما بها بعد خروج القرعة. ولأنها تتضمن دفع العوض، فافتقر إلى تراضيهما بها بعد خروج القرعة؛ ليلزم البيع والشراء. إذا ثبت هذا: فإن هذه القسمة بيع لما فيها من المعاوضة، إلا أنها لا تفتقر إلى لفظ التمليك والقبول. وإن لم يكن في القسمة رد.. ففيه قولان: أحدهما: أن القسمة بيع؛ لما فيها من المعاوضة، إلا أنها لا تفتقر إلى لفظ الإيجاب والقبول؛ لأن كل جزء من المال مشترك بينهما، فإذا أخذ أحدهما أحد الجزأين.. فقد باع حقه في الجزء الآخر بحق صاحبه في الجزء الذي أخذه.

مسألة اشتراك اثنين أو جماعة في شيء وطلب قسمته

والثاني: أنها فرز النصيبين، وهو الأصح؛ لأنها لو كانت بيعا.. لافتقرت إلى الإيجاب والقبول، كالبيع، ولأنها لو كانت بيعا.. لما تعين حق كل واحد منهما بالقرعة، كما لا يصح أن يقول: بعتك أي عبد خرجت عليه قرعتك. فإن قلنا: إنها بيع.. لم يجز قسمة ما لا يجوز بيع بعضه ببعض -كالرطب والعسل الذي انعقدت أجزاؤه بالنار- بالقرعة. فإن كان بين اثنين شيء من ذلك مشترك، وأرادا قسمته.. جعل جزأين واشترى أحدهما نصيب شريكه من أحد الجزأين بدرهم، واشترى الآخر نصيب شريكه من الجزء الآخر بدرهم وتقاصا، أو أبرأ كل واحد منهما صاحبه. وإن تقاسما ما يحرم فيه الربا مما لا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا.. لم يجز قسمته إلا بالكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، ولا بد أن يقبض كل واحد منهما ما حصل له قبل أن يتفرقا. وإن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين.. صحت القسمة فيما لا يجوز بيع بعضه ببعض بالقرعة، وصحت قسمته بالكيل فيما يوزن، وبالوزن فيما يكال إذا أمكن، وجاز أن يتفرقا قبل القبض. وإن كان المشترك ثمرة على شجرة، وأرادا قسمتها: فإن قلنا: إن القسمة بيع..لم يجز قسمتها بالقرعة، ولكن يحتال في إفراز النصيبين بالبيع على ما مضى. وإن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين: فإن كانت الثمرة رطبا أو عنبا.. صحت قسمتها بالخرص؛ لأن الخرص يدخلهما. وإن كانت غيرهما من الثمار.. لم يصح قسمتها بالخرص؛ لأن الخرص لا يدخلها. [مسألة اشتراك اثنين أو جماعة في شيء وطلب قسمته] إذا كان الشيء مشتركا بين اثنين أو جماعة، فطلب بعضهم قسمته، وامتنع البعض.. نظرت: فإن لم يكن في قسمته ضرر على أحدهما؛ بأن كانت قيمة نصيب كل واحد منهم بعد القسمة مثل قيمته قبل القسمة، وينتفع به بعد القسمة كما كان ينتفع

به قبل القسمة.. فإن الممتنع من القسمة يجبر عليها؛ لأن كل واحد منهم يريد الانتفاع بنصيبه منفعة تامة بعد القسمة، ولأن الشركة فيها ضرر لاختلاف الأيدي. فإذا دعا بعضهم إلى إزالة ذلك من غير ضرر يلحق فيما طلبه.. وجبت إجابته إلى ما طلب. وإن كان في القسمة ضرر.. نظرت: فإن كان الضرر فيها على جميع الشركاء؛ بأن كانت قيمة نصيب كل واحد منهم ومنفعته بعد القسمة تنقص عن قيمته ومنفعته قبل القسمة.. لم يجبر الممتنع منهما. وقال مالك: (يجبر) . دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن القيل وقال، وعن إضاعة المال» ، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا ضرر ولا ضرار» ، وفي هذه القسمة إضاعة المال وإضرار، فلم يجبر الممتنع منهما عليها. إذا ثبت هذا: فإن تراضى الشركاء على هذه القسمة التي فيها ضرر عليهم، وسألوا الحاكم أن يبعث من يقسم بينهم، فإن كان فيها إتلاف مال؛ بأن كانت جوهرة بين جماعة فطلبوا كسرها.. لم يجبهم الحاكم إلى ذلك؛ لأن ذلك سفه. وإن لم يكن فيها إتلاف مال، كالدار والأرض.. جاز أن يبعث من يقسمها بينهم. وإن كان في القسمة ضرر على بعض الشركاء دون بعض؛ مثل أن كانت دار بين اثنين، لأحدهما تسعة أعشارها وللآخر عشرها، وكانت قيمة عشرها ومنفعته بعد القسمة تنقص عن قيمته ومنفعته قبل القسمة، ولا تنقص قيمة نصيب صاحب الأكثر ولا منفعته.. نظرت: فإن دعا إلى القسمة من لا يستضر بها وامتنع الآخر منهما.. أجبر الممتنع، وبه قال عامة أهل العلم. وقال ابن أبي ليلى: لا يجبر الممتنع، ولكن يباع ويقسم الثمن بينهما.

مسألة طلب إزالة الشيوع في الأعيان المشتركة

وقال أبو ثور: (لا يجبر الممتنع منهما، ويوقف الملك مشاعا إلى أن يتراضيا على القسمة) . دليلنا: أنها قسمة لا ضرر فيها على الطالب، فوجب إجابته إليها، كما لو كان لا ضرر فيها على أحد في القسمة. ولأنه يطلب ما ينتفع به فوجبت إجابته إليه وإن كان فيها ضرر على غيره، كما لو كان له دين على غيره ولا يملك من عليه الدين إلا قدر الدين. وإن طلب القسمة من يستضر بها، وامتنع الآخر منها.. ففيه وجهان: أحدهما: يجبر الممتنع عليها - وبه قال أبو حنيفة - لأنها قسمة فيها ضرر على بعض الشركاء دون بعض، فأجبر الممتنع منهما عليها، كما لو كان الضرر على الممتنع وحده. والثاني: لا يجبر الممتنع منهما عليها، وهو المذهب؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن إضاعة المال» ، وفي هذه القسمة إضاعة المال. ولأنه يطلب ما يستضر به، وإجابته على ذلك سفه، فلم تجب. هذا ترتيب أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: إن دعا إلى القسمة من يستضر بها، وامتنع منها من لا يستضر بها.. لم يجبر الممتنع وجها واحدا. وإن دعا إليها من لا يستضر بها من الشركاء، وامتنع منها من يستضر بها.. فهل يجبر الممتنع؟ فيه وجهان. إذا ثبت هذا: فإن كان نصف الدار لواحد، ونصفها لعشرة: لكل واحد منهم نصف عشرها، وطلب العشرة أن يقسموا نصيبهم من الدار مجموعا، وامتنع صاحب النصف.. أجبر على ذلك؛ لأنها قسمة لا ضرر فيها. وكذلك: إذا طلب صاحب النصف أن يفرد نصيبه عن العشرة.. أجبر شركاؤه على ذلك. [مسألة طلب إزالة الشيوع في الأعيان المشتركة] ] : إذا كان بين رجلين أعيان مشتركة، فطلب أحدهما أن تقسم كل عين على الانفراد جزأين، وطلب الآخر أن تقوم كل عين ويأخذ كل واحد منهم أعيانا منها بقيمتها.. نظرت:

فإن كان المشترك دارا واحدة فيها بيوت، وطلب أحدهما أن يقسم كل بيت جزأين، وطلب الآخر أن تقسم البيوت بالقيمة فيأخذ كل واحد منهم بيوتا بالقيمة.. قدم قول من دعا إلى القسمة بالقيمة؛ لأن قسمة كل بيت جزأين تنقص به قيمته ومنفعته. وإن كان المشترك بينهما دورا متفرقة، وطلب أحدهما أن تقسم كل دار بانفرادها، وطلب الآخر أن تجعل كل دار نصيبا.. قدم قول من دعا إلى أن تقسم كل دار بانفرادها، سواء كانت الدور في محلة أو في محال، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (إن كانت الدور في محال.. قدم قول من دعا إلى قسمة كل دار وحدها-كما قلنا- فإن كانت الدور في محلة واحدة.. قدم قول من دعا إلى أن يجعل كل دار نصيبا) . وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان الحظ في أن تقسم كل دار.. قسمت كل دار، وإن كان الحظ في أن تجعل كل دار نصيبا.. جعلت كل دار نصيبا. دليلنا: أنها قسمة تتضمن نقل حقه من عين إلى عين غيرها فلم يجبر عليها، كما لو كانت الدور في محال، على مالك، وعلى أبي يوسف ومحمد: كما لو كان الحظ في قسمة كل دار. إذا ثبت هذا: فإن كان بينهما خان ذو بيوت ومساكن.. جازت قسمته وإفراد بعض المساكن عن بعض؛ لأنه يجري مجرى الدار الواحدة فيها بيوت. وإن كان بينهما دكاكين.. فهي كالدور. وأما إذا كان بينهما عضائد صغار متلاصقة -وهي البيوت من الدكاكين في الأسواق التي سكنها التجار- فطلب أحدهما أن تقسم بالقيمة، وامتنع الآخر.. فهل يجبر الممتنع؟ فيه وجهان: أحدهما: يجبر؛ لأن هذه العضائد تجري مجرى الدار فيها بيوت، أو تجري

فرع تقسيم الدار ذات علو وسفل

مجرى الخان فيها بيوت، ومعلوم أن كل من دعا إلى أن يجعل كل بيت في الدار أو الخان نصيبا.. فإنه يجاب إلى ذلك، فكذلك هذا مثله. والثاني: لا يجبر الممتنع؛ لأن كل عضادة مسكن، ولأنها أعيان متميزة فلا يقسم بعضها في بعض، كالدور المتفرقة. فعلى هذا: إن كانت كل عضادة مما يمكن قسمتها جزأين.. قسمت كل عضادة، وإن كان لا يمكن ذلك إلا بضرر يلحق في القسمة أو المنفعة.. لم تقسم. [فرع تقسيم الدار ذات علو وسفل] وإن كان بينهما دار فيها علو وسفل، فطلب أحدهما أن يجعل العلو والسفل بينهما، وامتنع الآخر.. أجبر الممتنع؛ لأن البناء في الأرض يجري مجرى الغراس في الأرض؛ لأنهما يتبعان في البيع والشفعة، ولو كان بينهما أرض فيها غراس، فطلب أحدهما أن تقسم الأرض والغراس بينهما، وامتنع الآخر.. أجبر الممتنع. وإن طلب أحدهما أن يجعل العلو نصيبا والسفل نصيبا ويقرع بينهما، فإن رضي الآخر.. جاز ويكون الهواء لصاحب العلو، وله أن يحمل على علوه ما لا يضر بصاحب السفل. وإن امتنع أحدهما من هذه القسمة.. لم يجبر؛ ولأن العلو تبع للسفل، فلم يجز أن يجعل التابع متبوعا، ولأن العلو والسفل كالدارين المتجاورتين، ثم لو كان بينهما داران متجاورتان، وطلب أحدهما أن تجعل كل دار نصيبا، وامتنع الآخر.. لم يجبر الممتنع، فكذلك هذا مثله. وإن طلب أحدهما أن يقسم السفل بينهما ويترك العلو على الإشاعة، وامتنع الآخر.. لم يجبر على ذلك؛ لأن القسمة تراد لتمييز حق أحدهما عن حق الآخر، وإذا كان العلو مشتركا.. لم يحصل التمييز؛ لأنهما قد يقتسمان فيحصل ما لأحدهما على ما للآخر فلا يتميز الحقان. وإن تراضيا على ذلك.. جاز.

مسألة تقاسما عرصة جدار أو نفس الجدار

[مسألة تقاسما عرصة جدار أو نفس الجدار] وإن كان بينهما حائط فهدماه وأرادا قسمة عرصته، فإن تراضيا على أن يكون لأحدهما نصف الطول في كمال العرض، أو نصف العرض في كمال الطول.. جاز. وإن طلب أحدهما قسمة طوله فيكون لأحدهما نصف طوله في كمال عرضه، وامتنع الآخر.. أجبر الممتنع، ويكون لكل واحد منهما ما خرجت عليه قرعته. فإن أراد كل واحد منهما أن يبني فيما خرج له.. جاز. فإن بقي بينهما فرجة.. لم يجبر من هي في ملكه على سدها. وإن طلب أحدهما أن يكون لأحدهما نصف العرض في كمال الطول، وامتنع الآخر.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجبر على ذلك؛ لأن هذه القسمة لا تدخلها القرعة؛ لأنا لو أقرعنا بينهما.. لم نأمن أن يخرج نصيب أحدهما مما يلي ملك الآخر، فلم يجبر الممتنع منهما عليها، كالقسمة التي فيها رد. والثاني: يجبر الممتنع، وهو الأصح؛ لأنها قسمة لا ضرر فيها، فأشبهت قسمة الطول في كمال العرض، ويخالف القسمة التي فيها الرد؛ لأن دخول الرد فيها يجعلها بيعا، والبيع لا يجبر عليه من امتنع منه. فعلى هذا: إذا قسم بينهما.. لم يقرع بينهما، ولكن يجعل لكل واحد منهما ما يلي ملكه. وإن طلب أحدهما أن يقسم طولها في كمال عرضها، وطلب الآخر أن يقسم عرضها في كمال طولها، فإن قلنا: لا يجبر من امتنع من قسمة عرضها في كمال طولها.. أجبر من دعا إلى قسمة طولها في كمال عرضها. وإن قلنا: يجبر من امتنع من قسمة عرضها في كمال طولها.. لم يجبر أحدهما، بل يتركان حتى يصطلحا؛ لأن قول أحدهما ليس بأولى من قول الآخر.

مسألة قسمة الأرض المشتركة

وأن أرادا قسمة الحائط بينهما، فإن تراضيا على قسمة طوله في كمال عرضه، أو على قسمة عرضه في كمال طوله.. جاز. وإن طلب أحدهما أن يقسم عرضه في كمال طوله، وامتنع الآخر.. لم يجبر؛ لأن الحائط إن قطع.. كان في ذلك إتلاف. وإن لم يقطع وعلم على نصف العرض علامة ليضع عليه ما يريده.. جاز، فإن وضع على جميع الحائط.. كان منتفعا في نصيب شريكه. وإن طلب أحدهما أن يقسم طوله في كمال عرضه فامتنع الآخر.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجبر الممتنع؛ لأن الحائط إن قطع.. فقد أتلف جزء من الحائط، فلم يجبر الممتنع من ذلك عليه، كما لو كان بينهما ثوب فطلب أحدهما قطعه نصفين. والثاني: يجبر الممتنع، وهو الأصح، كما يجبر على قسمة العرصة لذلك. فعلى هذا: إن كان القطع يضر بالحائط.. لم يقطع، ويجعل بين النصيبين علامة، وإن كان القطع لا يضر به.. قطع بمنشار إن كان لبنا أو طينا، كالثوب إذا كان قطعه لا يضره. [مسألة قسمة الأرض المشتركة] وإن كان المشترك أرضا.. قال أصحابنا: وإن كانت قراحا واحد- وأحسبهم أرادوا بالقراح الذي نسميه الجول- فإن كانت متساوية الأجزاء، قيمة الذراع في أولها كقيمة الذراع في وسطها وفي آخرها.. فإنها تقسم بالتعديل بالأجزاء. وإن كان فيها نخل وكرم وشجر.. قال ابن الصباغ: فإنه يقسم بالتعديل،

ولا يجب قسم كل جنس على حدته؛ لأن القراح واحد، فهو بمنزلة الدار يكون فيها البناء والأبواب؛ فإنه لا يجب قسمة كل نوع منها، بل تقسم جميعها، كذلك هذا مثله. وإن كانت أجزاء الأرض مختلفة، بأن كانت قيمة كل ذراع من أولها يساوي درهمين، وقيمة ذراع من أوسطها يساوي درهما، وقيمة ذراع من آخرها يساوي نصف درهم، أو في بعض الأرض نخل أو كرم أو شجر وبعضها بياض، أو بعضها يسقى بالسيح وبعضها يسقى بالناضح.. نظرت: فإن أمكن التسوية بين الشركاء في جيدها ورديئها، وشجرها وبياضها، وما يسقى بالسيح والناضح بالتعديل بالأجزاء.. قسمت بالتعديل بالأجزاء. وإن لم تمكن قسمة ذلك بالتعديل بالأجزاء.. فقد ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا: أنها تقسم بينهم بالتعديل بالقيمة - على ما يأتي بيانه - فإن امتنع أحدهم من ذلك.. أجبر عليه؛ لأنه ليس فيه أكثر من اختلافها في القيمة، وذلك لا يمنع من القسمة، كما قلنا في الدار الواحدة. وذكر الشيخ أبو إسحاق: إذا كانت الأرض ثلاثين جريبا، وقيمة عشرة أجربة

من جيدها كقيمة عشرين جريبا من رديئها، فدعا أحدهما إلى قسمتها بالتعديل بالقيمة - ومعناه: أن تكون العشرة الأجربة نصيبا والعشرون جريبا نصيبا - ففيه قولان: أحدهما: يجبر الممتنع؛ لوجود التساوي بينهما في القيمة. والثاني: لا يجبر؛ لتعذر التساوي في الذرع. وأحسبه أراد بذلك: إذا كان في الجول الواحد، وأراد بـ: (الجريب) : أذرعا معلومة عندهم، فإن كان أراد هذا.. فهو خلاف ما مضى؛ لأنهم قالوا: يقسم بالتعديل بالقيمة، وقد ذكر الشيخ أبو إسحاق في غير هذا الموضع: أن الأرض تعدل بالقيمة، ولعله أراد على القول الأول، وهو المشهور. فإذا قلنا بالأول.. ففي أجرة القاسم وجهان: أحدهما: يلزم على كل واحد منهما نصفها؛ لأنهما متساويان في أصل الملك. والثاني: يجب على من خرجت له العشرة ثلث الأجرة، وعلى الآخر ثلثاها؛ لتفاضلهما في المأخوذ بالقسمة. وإن أمكن قسمة الأرض بالرد وأمكن قسمتها بالتعديل، فدعا أحدهما إلى أن تقسم بالرد ودعا الآخر إلى أن تقسم بالتعديل بالقيمة، فإن كانت أرضا بين شريكين نصفين،

فرع قسمة الأرض المزروعة

وذرعها ستمائة ذراع، وقيمة مائتي ذراع من أولها أربعمائة درهم، وقيمة الأربعمائة الذراع الباقية منها أربعمائة درهم، كل مائة ذراع تساوي مائة درهم، فطلب أحدهما أن يجعل مائتا ذراع من أولها جزءا، وتكون الأربعمائة الذراع الباقية جزءا، ودعا الآخر إلى أن يجعل ثلاثمائة ذراع من أولها جزءا وقيمته خمسمائة درهم، والثلاثمائة الذراع الباقية من آخرها جزءا وقيمته ثلاثمائة درهم، فمن خرج له الثلاثمائة الذراع من أولها رد على الآخر مائة درهم، فإن قلنا: إن من امتنع من قسمة التعديل بالقيمة يجبر عليها.. وجب إجابة من قال: تجعل مائتا ذراع من أولها جزءا، والباقي منها جزءا. وإن قلنا: لا يجبر من امتنع من قسمة التعديل بالقيمة.. لم يجبر هاهنا أحدهما، بل يتركان إلى أن يتراضيا على القسمة. وإن كانت الأرض أقرحة.. قال ابن الصباغ: فإن أبا إسحاق ذكر في " الشرح ": إذا كانت متجاورة.. جرت مجرى القراح الواحد، وجاز أن يقسم قراح في نصيب شريك وقراح في نصيب شريك آخر قسمة الإجبار. وقال غيره من أصحابنا: إنما تجري الأقرحة مجرى القراح الواحد في ذلك إذا كان شربها واحدا وطريقها واحدا، فأما إذا كان لكل واحد شرب منفرد وطريق منفرد.. لم يقسم بعضها في بعض قسمة الإجبار. قال ابن الصباغ: وهذا أشبه بكلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى. [فرع قسمة الأرض المزروعة] وإن كانت بينهما أرض مزروعة، فطلب أحدهما قسمة الأرض دون الزرع، وامتنع الآخر.. أجبر الممتنع، سواء كان الزرع بذرا لم يخرج أو قد خرج؛ لأن الزرع في الأرض كالقماش في الدار، والقماش في الدار لا يمنع من قسمتها، فكذلك الزرع في الأرض.

مسألة أحوال قسمة القراح الواحد من الأرض

فإن طلب أحدهما قسمة الزرع دون الأرض، وامتنع الآخر.. نظرت: فإن كان الزرع بذرا لم يخرج.. لم يجبر الممتنع؛ لأنه مجهول. وكذلك إن كان الزرع قد ظهر واشتد حبه.. لم يجبر الممتنع أيضا؛ لأنه لا يمكن خرصه. وإن كان الزرع قد ظهر ولم يصر حبا.. فحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: لا يجبر الممتنع؛ لأنه لا يمكن تعديله. وحكى عن القاضي أبي الطيب أنه قال: إن قلنا: إن القسمة بيع.. لم يجبر؛ لأنه لا يمكن بيعه إلا بشرط القطع. وإن قلنا: إن القسمة فرز الحقين.. جازت قسمته - قال: وهذا أشبه؛ لأنه إذا أمكن تعديله مع الأرض.. أمكن تعديله وحده. وأما إذا طلب أحدهما قسمة الأرض والزرع.. لم يجبر الممتنع؛ لأن الزرع لا يمكن تعديله. فإن تراضيا على ذلك.. نظرت: فإن كان بذرا لم يخرج، أو كان الزرع قد صار حبا مشتدا.. لم يجز؛ لأنه مجهول. وإن كان قد ظهر ولا ربا فيه.. صحت القسمة في الزرع مع الأرض تبعا لها، كما لا يجوز بيعه مع الأرض من غير شرط القطع تبعا للأرض. [مسألة أحوال قسمة القراح الواحد من الأرض] وإذا أريد قسمة القراح الواحد من الأرض.. فلا تخلو من أربعة أحوال: إما أن تكون الأرض متساوية الأجزاء والأنصباء متساوية، أو تكون الأرض مختلفة الأجزاء والأنصباء متساوية، أو تكون الأرض متساوية الأجزاء والأنصباء مختلفة، أو تكون الأرض مختلفة الأجزاء والأنصباء مختلفة. فـ[الأول] : إن كانت الأرض متساوية الأجزاء والأنصباء متساوية؛ بأن تكون أرضا بين رجلين نصفين، أو بين ثلاثة أثلاثا، وقيمة الذراع في أولها كقيمة الذراع في

جميعها.. فهاهنا تعدل بالأجزاء في المساحة، فإن كانت بين ثلاثة أثلاثا وكانت ستمائة ذراع.. جعل كل مائتي ذراع منها جزءا ويقرع بينهم، ويمكن هاهنا إخراج الأسماء على الأجزاء، أو إخراج الأجزاء على الأسماء. فأما إخراج الأسماء على الأجزاء فهو: أن يكتب اسم كل شريك في رقعة، وتكون الرقاع متساوية، ثم تدرج كل رقعة في بندقة من شمع أو طين وتجفف، ثم تترك في حجر رجل لم يحضر الكتابة والبندقة، ويقال له: أخرج بندقة على الجزء الأول، فإذا أخرج عليه بندقة.. كسرت ونظر اسم من فيها من الشركاء، فمن خرج فيها اسمه.. كان له ذلك الجزء، ثم يخرج بندقة على الجزء الثاني من الأرض، ثم تكسر البندقة فينظر من فيها اسمه فيكون له الجزء الثاني من الأرض، ويتعين الجزء الثالث للشريك الثالث، ولا يفتقر إلى إخراج البندقة عليه ولا إلى كسرها؛ لأنه لا فائدة في ذلك. وأما إخراج الأجزاء على الأسماء فهو: أن يكتب في رقعة: الجزء الأول، وفي الثانية: الجزء الثاني، وفي الثالثة: الجزء الثالث، وتجعل عليها البنادق كما مضى، ثم تكتب أسماء الشركاء في ثلاثة مواضع، في كل موضع اسم واحد، ثم يأمر رجلا لم يحضر الكتابة والبندقة أن يخرج ببندقة على اسم أحد الشركاء أو عليه بنفسه إذا لم يكتب أسماءهم، فيكسر البندقة وينظر اسم أي أجزاء الأرض فيها، فيكون لمن خرجت على اسمه أو عليه بنفسه، ثم تخرج بندقة على اسم الشريك الثاني أو عليه بنفسه وتكسر البندقة وينظر أي اسم أجزاء الأرض فيها وتكون لمن خرجت على سهمه أو عليه، ويتعين الجزء الثالث على الشريك الثالث ولا يفتقر إلى إخراج البندقة الثالثة على اسمه ولا عليه؛ لأنه لا فائدة في ذلك.

و [الثاني] : إن كانت الأرض مختلفة الأجزاء والأنصباء متساوية؛ بأن تكون الأرض بين ثلاثة أثلاثا، قيمة الذراع من أول الأرض تساوي درهمين، وقيمة الذراع من وسطها تساوي درهما، وقيمة الذراع في آخرها تساوي نصف درهم، فلا يمكن تعديلها هاهنا بتساوي المساحة في الأجزاء ولكن تعدل بالقيمة، فينظر كم قيمة جميع الأرض، وينظر كم قدر ثلث القيمة وإلى أي موضع تنتهي من الأرض قليلا كان أو كثيرا فيجعل جزءا، ثم ينظر إلى أي موضع ينتهي من الأرض ما قيمته قيمة الثلث أيضا فيجعل جزءا، ثم يجعل الباقي جزءا، ثم يقرع بينهم على ما مضى في التي قبلها من كتب الأسماء والأجزاء. و [الثالث] : إن كانت الأجزاء متساوية والأنصباء مختلفة؛ بأن تكون أرض متساوية الأجزاء بالقيمة بين ثلاثة، لرجل النصف، وللثاني الثلث، وللثالث السدس.. فإنها تقسم بينهم على أقل السهام، وهي السدس، فتعدل الأرض بالمساحة بالأجزاء ستة أجزاء، فإن كانت ستمائة ذراع.. جعل كل مائة ذراع جزءا، ويعلم عليه بعلامة، ويكتب عليه أسماء الشركاء، ويجعل في بنادق - على ما مضى- وتخرج بندقة على الجزء الأول ثم ينظر من فيها، فإن خرج فيها اسم صاحب السدس.. أخذه، ثم تخرج بندقة على الجزء الثاني ثم ينظر من فيها، فإن خرج اسم صاحب الثلث فيها.. أخذ الثاني والثالث، وتعينت الأجزاء الثلاثة الباقية لصاحب النصف، وإن خرج على الجزء الثاني اسم صاحب النصف.. أخذ الثاني والثالث والرابع، وتعين الجزء الخامس والسادس لصاحب الثلث. وإنما قلنا: يأخذه وما يليه؛ لئلا يتبعض حقه فيستضر بذلك. وكم يكتب هاهنا من الرقاع؟ فيه وجهان: أحدهما: تكتب ثلاث رقاع لا غير، فيكتب اسم كل واحد في رقعة؛ لأن صاحب النصف والثلث إنما يأخذ جزءا واحدا بالقرعة، وما يليه يأخذه بغير قرعة، فلا فائدة في كتب ما زاد عليه. والثاني - وهو المنصوص -: (أن يكتب ست رقاع، فيكتب اسم صاحب النصف في

مسألة قسمة المشترك غير الدور والأرض

ثلاث رقاع، واسم صاحب الثلث في رقعتين، واسم صاحب السدس في رقعة) ؛ لأن لصاحبي النصف والثلث مزية بكثرة الملك، فكان لهما مزية بكثرة الرقاع، ولأنه قد يكون لهما غرض في أن يأخذا من أول الأرض، فإذا كانت رقاعهما أكثر.. كان أقرب إلى خروج اسميهما. ولا يمكن في هذا القسم أن تكتب الأجزاء وتخرج على أسماء الشركاء؛ لأنا لو كتبنا الأجزاء وأخرجنها على الأسماء.. فربما خرج الجزء الثاني أو الخامس لصاحب السدس، فلا بد أن نقطع على صاحب النصف أو الثلث نصيبه، ولأنه ربما خرج الجزء الرابع لصاحب النصف فيقول: آخذه وجزأين بعده، ويقول الآخر: بل تأخذه وجزأين قبله، ولا مزية لقول بعضهم على بعض فيؤدي إلى الخصومة؛ فلذلك قلنا: لا يجوز إلا كتب الأسماء وإخراجها على الأجزاء على ما مضى. و [الرابع] : إن كانت أجزاء الأرض مختلفة والأنصباء مختلفة؛ بأن كان هناك جريب قيمة أجزائه مختلفة بين ثلاثة، لواحد النصف والآخر الثلث وللثالث السدس.. فلا يمكن تعديلها بالمساحة في الأجزاء، ولكن تعدل بالقيمة، فينظر كم جميع قيمة الأرض؟ وينظر كم قدر سدس قيمتها؟ ويجعل ما قيمته ذلك من الأرض جزءا، ثم كذلك حتى تنتهي الستة الأجزاء، ويكتب أسماء الشركاء ويخرجها على الأجزاء على ما مضى في التي قبلها، ولا يمكن كتب الأجزاء وإخراجها على الأسماء؛ لما مضى في التي قبلها. [مسألة قسمة المشترك غير الدور والأرض] وإن كان المشترك غير الدور والأرض، فإن كان من أموال الربا.. فقد مضى حكمه. وإن كان من غير أموال الربا، كالثياب والصفر والحديد وما أشبهه، فإن كانت أجناسا، فطلب أحد الشريكين أن يجعل أحد الجنسين جزءا والجنس الآخر جزءا،

وامتنع الآخر.. لم يجبر الممتنع؛ لأن الأغراض تختلف في ملك الأجناس. وإن طلب أحدهما أن تقسم العين الواحدة من ذلك جزأين، وامتنع الآخر، فإن كانت قيمتها لا تنقص بذلك، كالثياب الغليظة وما أشبهها.. أجبر الممتنع على ذلك. وإن كانت قيمتها تنقص بذلك، كالثياب الرقيقة..لم يجبر الممتنع على ذلك؛ لأن فيه ضررا. فإن تراضيا على ذلك وقسماها.. جاز. وإن طلب أحدهما أن يعدل الجنس الواحد بالقيمة وأمكن تعديله بذلك، وامتنع الآخر.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي علي بن خيران وأبي علي بن أبي هريرة -: أنه لا يجبر الممتنع؛ لأنها أعيان متفرقة، فلا يجبر على قسمة بعضها ببعض، كالدور. والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا، وهو المذهب -: أنه يجبر على ذلك؛ لأنه لا يمكن قسمتها من غير ضرر إلا بذلك، فوجبت قسمتها كذلك، كالدار الواحدة. وإن كان المشترك حيوانا غير الرقيق، فإن كان أجناسا.. لم يقسم جنس في جنس إلا بالتراضي، وإن طلب أحدهما أن يقسم الجنس الواحد بعضه ببعض بالتعديل بالقيمة وامتنع الآخر.. فهل يجبر الممتنع؟ على الوجهين في التي قبلها. وإن كان رقيقا.. فقد ذكر الشيخ أبو إسحاق: أنها على الوجهين، كغير الرقيق. وقال ابن الصباغ: يجبر الممتنع وجها واحدا - وبه قال أبو يوسف ومحمد - لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جزأ العيد الستة الذين أعتقهم الرجل في مرض موته ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم» ، ولأن الرقيق لما وجب تكميل الحرية فيه.. دخلته قسمة الإجبار بالقيمة، بخلاف غيره. وقال أبو حنيفة: (الرقيق لا يقسم؛ ولأنه تختلف منافعه) . ودليلنا عليه: الخبر، ولأنه يمكن تعديله بالقيمة، كسائر الأموال.

مسألة قسمة المنافع المشتركة والمهايأة

[مسألة قسمة المنافع المشتركة والمهايأة] وإن كان المشترك بينهما منفعة؛ بأن أوصي لهما بمنفعة دار أو أرض أو عبد، فطلب أحدهما أن يتهايآها فينتفع بها أحدهما مدة والآخر مدة، وامتنع الآخر.. لم يجبر. ومن أصحابنا من قال: يجبر على ذلك، كما يجبر على قسمة الأعيان. والمذهب الأول؛ لأن حق كل واحد منهما متعجل في المنفعة، فلم يجبر على تأخير حقه في المهايأة بخلاف الأعيان؛ فإنها لا يتأخر بها حقه. فإن تراضيا على ذلك.. جاز، ويختص كل واحد منهما بالمنفعة في المدة التي اتفقا عليها. فإن كان ذلك عبدا وكسب كسبا معتادا.. كان ذلك الكسب لمن هو في يومه، وإن كسب كسبا نادرا، كاللقطة والركاز.. ففيه قولان: أحدهما: أنه لمن هو في يومه؛ لأنه كسب له، فكان له كالكسب المعتاد. والثاني: لا يكون له، بل يكون بين الشريكين؛ لأن المهايأة بيع؛ لأنه يبيع حقه في الكسب في يوم شريكه بحق شريكه من الكسب في يومه، والبيع لا يدخل فيه إلا ما يقدر على تسليمه في العادة، والنادر لا يقدر عليه في العادة، فلم يدخل. فعلى هذا: لا يحسب على الذي هو في يومه في المدة التي كسب فيها ذلك من مدته. [فرع طلب المهايأة في الدار والأرض المشتركة] وإن كان بينهما دار أو أرض، فطلب أحدهما المهايأة ولم يطلب قسمتها، وامتنع الآخر.. لم يجبر الممتنع. وقال مالك وأبو حنيفة: (يجبر) .

فرع انتفع أحدهما بالمهايأة ثم هلكت العين

دليلنا: أن الأصل مشترك بينهما، فلا يجبر الممتنع على أن ينفرد أحدهما ببعض المنفعة مع اشتراكهما في الأصل؛ لأن التمييز لا يحصل بذلك. [فرع انتفع أحدهما بالمهايأة ثم هلكت العين] ] : وإن تهايآه، فانتفع أحدهما مدة، ثم هلكت العين قبل أن ينتفع الآخر بها مثله.. رجع عليه بحصته من أجرة مثلها لا بما انتفع بها. [مسألة طلبا من الحاكم قسمة مشترك في أيديهما واعتبار البينة] إذا كان في يد رجلين شيء فترافعا إلى الحاكم لينصب من يقسمه بينهما، فإن أقاما بينة أنه ملكهما.. نصب الحاكم قاسما يقسمه بينهما، وإن لم يقيما بينة على ملكه.. ففيه طريقان: [الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: يجوز له أن يبعث قاسما يقسم بينهما؛ لأن الظاهر من أيديهما الملك. فعلى هذا: يكتب في كتاب القسم: قسمت ذلك بينهما بغير بينة لهما، بل بدعواهما. والثاني: لا يجوز أن يبعث من يقسم بينهما؛ لأنه قد يكون ملكا لغيرهما، فإذا قسمه الحاكم بينهما.. كان حجة لهما في الملك. و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يجوز له أن يبعث من يقسم بينهما قولا واحدا؛ لما ذكرناه. وحيث قال: (يبعث من يقسم بينهما) حكاه عن غيره. وقال أبو حنيفة: (إن كان غير العقار.. قسمه، وإن كان عقارا ولم ينسباه إلى

مسألة ادعاء أحد الشريكين الغلط بالقسمة

الميراث.. قسمه بينهما، وإن نسباه إلى الميراث.. لم يقسمه بينهما حتى يقيما البينة على موته وعدد ورثته) . دليلنا عليه: ما مضى، ولا فرق بين العقار وغيره، فلا معنى للتفرقة بينهما. [مسألة ادعاء أحد الشريكين الغلط بالقسمة] إذا كان بينهما أرض فاقتسماها، ثم ادعى أحدهما غلطا في القسمة عليه.. نظرت: فإن قسمت بينهما قسمة إجبار؛ بأن نصب الحاكم بينهما قاسما فقسمها.. لم يقبل قول المدعي من غير بينة؛ لأن الظاهر صحة القسمة وأداء الأمانة فيها، فهو كالحاكم إذا ادعى المحكوم عليه غلطا في الحكم. فإن أقاما المدعي شاهدين عدلين من أهل المعرفة بالقسمة بالغلط عليه.. نقضت القسمة، كما لو حكم الحاكم بما يخالف النص. وإن لم يقم المدعي بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فيحلف أنه لا فضل معه له، أو لا يستحق عليه ما يدعيه ولا شيئا منه. وإن كان ذلك في غير قسمة الإجبار.. نظرت: فإن اقتسما بأنفسهما.. لم يقبل قول المدعي؛ لأنه إن كان كاذبا.. فلا حق له، وإن كان صادقا.. فيجوز أن يكون قد رضي بدون حقه. فإن أقام على ذلك بينة.. لم يسمع ما يدعيه؛ لأنه رضي بأخذ حقه ناقصا. وإن نصبا قاسما، أو وكلا من يقسم بينهما، فإن قلنا: إنه يفتقر إلى تراضيهما بقسمته بعد القسمة.. لم تقبل دعواه ولا تسمع بينته بالغلط في ذلك؛ لأنه قد رضي بأخذ حقه ناقصا. وإن قلنا: إنه لا يفتقر إلى تراضيهما بقسمته بعد القسمة.. قبلت دعواه إذا أقام بينة، وإن لم يقم بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه. وإن اقتسما قسمة فيها رد.. لم يقبل قول المدعي للغلط على المذهب؛ لأنها تفتقر إلى تراضيهما بها بعد القسمة، وتقبل الدعوى فيها على قول الإصطخري بالبينة.

فرع تنازع المقتسمان

[فرع تنازع المقتسمان] فإن تنازع المقتسمان في بيت في دار اقتسماها، وادعى كل واحد منهما أنه خرج في سهمه ولا بينة.. تحالفا ونقضت القسمة، كالمتبايعين. فإن قال القاسم في حال القسمة: قسمت بينهما وعدلت السهام بينهما وخرج لفلان كذا.. قبل قوله؛ لأنه يملك القسمة فقبل قوله فيها، كالحاكم في حال ولايته. وإن انصرف القاسم وقال: قسمت بينهما وخرج لفلان كذا، ولفلان كذا، أو ادعى أحدهما القسمة وأنكرها الآخر فشهد القاسم للمدعي.. فهل تقبل شهادته؟ فيه وجهان، كالحاكم إذا قال بعد العزل: حكمت لفلان بكذا. وإن تقاسما وخرج بما صار لأحدهما عيب لم يعلم به.. كان له فسخ القسمة، كما قلنا في البيع. [مسألة اقتسما أرضا وفيها مستحق لغيرهما] إذا اقتسم الشريكان أرضا، ثم استحق شيء منها.. نظرت: فإن كان المستحق قطعة بعينها من الأرض، فإن كانت من نصيب أحدهما.. بطلت القسمة؛ لأنها إذا خرجت من نصيبه.. بقي معه أقل من حقه. وإن كانت القطعة من النصيبين، فإن كان في نصيب أحدهما منها أكثر مما في نصيب الآخر.. بطلت القسمة؛ لما مضى. وإن كان في نصيب كل واحد منهما نصفها.. لم تبطل القسمة؛ لأن ما بقي لكل واحد منهما بعد المستحق هو قدر حقه. وإن كان المستحق مشاعا؛ بأن اقتسما أرضا بينهما نصفين، فبان أن الآخر ثلثها.. بطلت القسمة في المستحق، وهل تبطل في الباقي.. اختلف أصحابنا فيه: فقال أبو علي بن أبي هريرة: فيه قولان، بناء على تفريق الصفقة في البيع. وقال أبو إسحاق: تبطل القسمة قولا واحدا؛ لأنه بان أن الشركاء ثلاثة، فإذا

فرع اقتسام التركة قبل تأدية الديون ونحوها

اقتسم الشريكان دون الثالث.. لم يصح، ولأنهما إذا اقتسما.. فلا بد أن يحدثا ما يتميز به نصيب كل واحد منهما عن نصيب الآخر وذلك في حق المستحق، فكان له نزعه فتعود الإشاعة. [فرع اقتسام التركة قبل تأدية الديون ونحوها] إذا اقتسم الورثة التركة قبل قضاء الدين عن الميت، فإن قلنا: إن القسمة بيع.. فهل تصح القسمة؟ يبنى ذلك على جواز بيع التركة قبل قضاء الدين، وفيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد وابن الصباغ، وحكاهما الشيخ أبو إسحاق هنا وجهين، وقد مضى ذكرهما في (التفليس) . فإن قلنا: لا يصح البيع.. لم تصح القسمة أيضا. وإن قلنا: يصح البيع.. صحت القسمة، فإن قضى الورثة الدين.. استقرت القسمة، وإلا.. نقضت القسمة. وإن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين.. صحت القسمة قولا واحدا، فإن قضى الورثة الدين.. استقرت القسمة قولا واحدا، وإن لم يقضوا الدين.. نقضت القسمة. وأما إذا اقتسم الورثة التركة، ثم بان أن الميت قد كان أوصى لوصية تخرج من ثلثه، فإن كانت الوصية بشيء معين من التركة.. لم يجز، أو بجزء مشاع منها.. فهو كما لو اقتسم التركة، ثم استحق شيء منها على ما مضى. وإن كانت الوصية بشيء مبهم.. فهو كما لو اقتسم الورثة، ثم ظهر على الميت دين على ما مضى. والله أعلم

كتاب الدعاوى والبينات

[كتاب الدعاوى والبينات]

كتاب الدعاوى والبينات المدعي في اللغة: هو من ادعى شيئا لنفسه، سواء كان في يده أو في يد غيره. وأما المدعي في الشرع: فهو من ادعى شيئا في يد غيره، أو دينا في ذمته. والمدعى عليه في اللغة والشرع: هو من ادعي عليه شيء في يده أو في ذمته. هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : قال الشافعي في موضع: (المدعي: من يدعي أمرا باطنا، والمدعى عليه: من يدعي أمرا ظاهرا) . وقال في موضع آخر: (المدعي: من إذا سكت. ترك وسكوته، والمدعى عليه: من لا يترك وسكوته) . قال المسعودي [في " الإبانة "] : وهذا اختلاف في العبارة ولا فائدة له إلا في الزوجين إذا ادعى أحدهما: أنهما أسلما معا قبل الدخول، وادعى الآخر: أن أحدهما أسلم بعد الآخر، وقد مضى ذلك في نكاح المشرك. إذا ثبت هذا: فإن دعوى المجهول في غير الوصية والإقرار لا تصح؛ لأن المدعى عليه ربما صدقه فيما ادعاه فلا يعلم الحاكم بماذا يحكم عليه. فإن ادعى عليه شيئا من الأثمان.. فلا بد من أن يذكر الجنس والقدر والصفة

فيقول: لي ألف دينار، ويبين الغرائب؛ فإنها تختلف. فإن اختلف الوزن في ذلك.. فلا بد من ذكر الوزن. وإن ادعى شيئا من غير الأثمان، فإن كان مما يضبط بالصفة.. وصفه بما يوصف به في السلم، ولا يفتقر إلى ذكر قيمته مع ذلك؛ لأنه يصير معلوما من غير ذكر قيمته. فإن ذكر قيمته.. كان آكد. وإن كان مما لا يضبط بالصفة، كالجواهر.. فلا بد من ذكر قيمته. وإن كان المدعى تالفا، فإن كان له مثل.. ذكر مثله، وإن ذكر قيمته مع ذلك.. كان آكد. وإن لم يكن له مثل.. لم يدع إلا بقيمته من نقد البلد؛ لأنه لا يجب له إلا ذلك. وإن كان المدعى أرضا أو دارا.. فلا بد أن يذكر اسمه، واسم الوادي، والبلد الذي هو فيه، وحدوده التي تليه. وإن ادعى عليه سيفا محلى بالفضة.. قومه بدنانير من الذهب. وإن كان محلى بالذهب.. قومه بدراهم من الفضة.. وإن كان محلى بالذهب والفضة.. قومه بالذهب أو الفضة؛ لأنه موضع ضرورة. وإن ادعى عليه مالا مجهولا من وصية أو إقرار.. صحت الدعوى؛ لأن الوصية والإقرار يصحان في المجهول، فصحت الدعوى بالمجهول منهما. وإن ادعى عليه دينا في ذمته أو عينا في يده.. فلا تفتقر إلى ذكر السبب الذي ملك به ذلك -قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع - ولأن المال يملك بجهات مختلفة من الابتياع والهبة والإرث والوصية وغير ذلك، وقد يملك ذلك من جهات ويشق عليه ذكر سبب كل درهم. وإن ادعى قتلا أو جراحا.. فلا بد من ذكر سببه، فيقول: عمدا أو خطأ أو عمد خطأ، ويصف العمد، والخطأ، وعمد الخطأ، ولا بد أن يذكر أنه انفرد بالجناية أو شاركه غيره فيها؛ لأن القصاص يجب بذلك. فإذا لم يذكر سببه.. لم يؤمن أن يستوفي القصاص فيما لا قصاص فيه. وإن ادعى عليه جراحة فيها أرش مقدر، كالموضحة من الحر.. لم يفتقر إلى ذكر الأرش في الدعوى. وإن لم يكن لها أرش مقدر، كالجراحة التي ليس لها أرش مقدر من الحر والجراحات كلها في العبيد.. فلا بد من ذكر الأرش في الدعوى؛ لأن الأرش غير مقدر في الشرع، فلم يكن بد من تقديره في الدعوى.

مسألة ادعاء رجل نكاح امرأة

[مسألة ادعاء رجل نكاح امرأة] وإن ادعى رجل على امرأة نكاحا.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا تسمع دعواه حتى يقول: نكحتها بولي، وشاهدي عدل، ورضاها) . فاختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة أوجه: فـ[الأول] : منهم من قال: لا يجب ذكر ذلك في الدعوى، وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.. فإنه ذكره على طريق الاستحباب - وبه قال مالك وأبو حنيفة - كما يستحب له أن يمتحن الشهود إذا ارتاب بهم؛ لأنها دعوى ملك، فلم يفتقر إلى ذكر سببه، كدعوى المال، ولأنه لما لم يفتقر في الدعوى في النكاح إلى أنها خالية من العدة والإحرام والردة.. لم يفتقر إلى ذكر الولي والشاهدين ورضاهما؛ لأن الجميع شرط في صحة النكاح. و [الثاني] : منهم من قال: يجب ذكر ذلك في دعوى النكاح - وبه قال أحمد - لأن الناس مختلفون في شروط النكاح، فمنهم من شرط الولي والشهود، ومنهم من شرط الولي دون الشهود، ومنهم من لم يشرط الولي والشهود، فلم يكن بد من ذكر الشرائط التي وقع عليها ذكر العقد؛ لئلا يكون النكاح وقع على جهة يعتقد الحاكم بطلانها. ولأن النكاح يحصل فيه الوطء ولا يمكن تلافيه إذا وقع، فكان كالقتل لا بد من ذكر سببه في الدعوى. و [الثالث] : منهم من قال: إن كان يدعي عقد النكاح.. وجب ذكر هذه الأسباب؛ لأنها شرط في العقد. وإن كان لا يدعي العقد وإنما يدعي استدامة النكاح؛ بأن يقول: هي زوجتي.. لم يجب ذكر هذه الأسباب في الدعوى؛ لأن هذه الشرائط لا تشترط في استدامة النكاح، ولأن استدامة النكاح ثبتت بالاستفاضة، والعقد لا يثبت بالاستفاضة.

هذا ترتيب أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: هل يستحب ذكر هذه الأسباب في الدعوى في ابتداء النكاح؟ فيه وجهان: أحدهما: يستحب. والثاني: يجب. فإذا قلنا: يجب.. ففيه معنيان: أحدهما: لاختلاف الناس في هذه الأشياء في عقد النكاح. والثاني: لأجل الاحتياط في الأبضاع. وإن ادعى استدامة النكاح.. فهل يجب ذكر هذه الأسباب في الدعوى؟ إن قلنا: إن المعنى في الدعوى في ابتداء النكاح اختلاف الناس فيها.. لم يجب ذكرها هاهنا؛ لأنه لا خلاف بينهم فيها في الاستدامة. وإن قلنا: المعنى هناك الاحتياط في الأبضاع.. وجب ذكرها في الدعوى في الاستدامة؛ لأن هذا المعنى موجود هاهنا. فإن ادعى نكاح أمة، وقلنا: يجب ذكر الشروط في الدعوى في النكاح.. فهل يجب عليه أن يذكر في دعوى نكاح الأمة عدم الطول وخوف العنت؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يجب ذكر ذلك؛ لأنهما شرطان في النكاح فوجب ذكرهما، كما قلنا في الولي والشاهدين. ومنهم من قال: لا يجب ذكرهما، كما لا يجب ذكر خلوها من العدة والردة والإحرام. والأول أصح. إذا ثبت هذا: وادعى رجل على امرأة نكاحا.. نظرت: فإن أقرت له بالنكاح.. ففيه قولان، حكاهما القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والمسعودي [في " الإبانة "] : [أحدهما] : قال في القديم: (لا يثبت النكاح) ؛ لأنها ليست من أهل مباشرة عقد النكاح، فلم يقبل إقرارها به، كالصبي. قال ابن الصباغ: فعلى هذا: لا يثبت النكاح إلا بالبينة، إلا أن يكون في الغربة لتعذر البينة.

فرع دعوى امرأة نكاح رجل

و [الثاني] : قال في الجديد: (يثبت النكاح) . ولم يحك الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا غيره، وهو الأصح؛ لأنها مقبولة الإقرار، فقبل إقرارها في النكاح، كالرجل. وأما ما قاله الأول: يبطل بالمحرم؛ فإنه لا يملك عقد شراء الصيد ويصح إقراره بشرائه. فإن أنكرت النكاح ولا بينة.. كان القول قولها مع يمينها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» . فإن حلفت له.. سقطت دعواه، وإن نكلت.. ردت اليمين عليه، فإذا حلف.. ثبت النكاح. فإن قلنا بقوله القديم، وأن النكاح لا يثبت بإقرارها.. فهل تحلف؟ قال ابن الصباغ: لا تحلف؛ لأن اليمين إنما يعرض لتخاف فتقر، ولو أقرت.. لم يقبل إقرارها، فلا فائدة في عرض اليمين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : وهل تحلف على هذا القول؟ فيه قولان، بناء على أن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه: هل تحل محل إقرار المدعى عليه، أو تحل محل البينة من جهة المدعي؟ فإن قلنا: إنها تحل محل إقرار المدعى عليه.. لم تحلف؛ لأنها إن نكلت وردت اليمين، فحلف.. كانت يمينه كإقرارها، وإقرارها لا يقبل. وإن قلنا: إن يمينه كبينة يقيمها المدعي.. عرضت عليها اليمين؛ لجواز أن تنكل عن اليمين فيحلف الزوج فتكون كبينة أقامها، وبينته مسموعة. [فرع دعوى امرأة نكاح رجل] وإن ادعت امرأة على رجل نكاحا.. فهل تسمع دعواها؟ ينظر فيها: فإن ادعت مع النكاح حقا من حقوق النكاح، كالمهر والنفقة أو غير ذلك.. سمعت دعواها، وإن لم تدع غير النكاح.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تسمع دعواها؛ لأن النكاح حق للزوج عليها؛ لأن الملك له ومن أقر لغيره بملك شيء في يده وأنكر المقر له.. لم يقبل إقراره له. والثاني: تسمع دعواها؛ لأن النكاح يتضمن وجوب حقوق لها عليه من المهر والنفقة،

فرع ادعاء عقد بيع أو صلح أو هبة في عبد ونحوه

فصارت دعواها للنكاح متضمنة لدعواها في هذه الحقوق، فسمعت دعواها. وكل موضع سمعت دعواها في النكاح.. فهل يجب ذكر شروط العقد في الدعوى؟ على الأوجه التي ذكرناها في دعوى الرجل. ثم ينظر في الرجل: فإن أقر بالنكاح.. ثبت النكاح، وإن أنكر.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال القاضي أبو الطيب في " شرح المولدات ": إنها تحرم عليه بإنكاره وإن أقامت البينة على النكاح. وقال الشيخ أبو حامد: لا يكون إنكاره طلاقا، وهو المنصوص في " الأم "؛ فإنه قال: (إذا أنكر.. كلفت البينة، فإن أقامت البينة.. ثبت النكاح، وإن لم تقم البينة.. فالقول قول الزوج مع يمينه، فإن حلف لها.. سقطت دعواها، وإن نكل.. ردت اليمين عليها، فإن حلفت.. ألزمته النكاح) . وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا أنكر.. جعل كأنه لا نكاح بينهما، فإن رجع عن الإنكار.. قبل رجوعه، وجعلت زوجة له، وهذا كما لو قال: راجعتك قبل انقضاء العدة، فقالت: لا، بل بعد انقضاء العدة.. فالقول قولها، ويجعل كأنه لا رجعة له فيه، فلو رجعت عن الإنكار.. ثبتت الرجعة. قال: ونص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما يقرب من هذه، وهو: (لو أن حرا تزوج أمة، ثم قال: كنت واجدا للطول عند التزويج.. فرق بينهما، وهل تلك الفرقة تكون طلاقا أو فسخا؟ فيه قولان) . قال القفال: فلو رجع عن قوله وقال: كذبت، بل كنت عادما للطول.. قبل قوله. [فرع ادعاء عقد بيع أو صلح أو هبة في عبد ونحوه] وإن ادعى عليه عقد بيع في عبد أو أرض، أو عقد صلح أو إجارة، وما أشبه ذلك.. فهل يجب فيه ذكر شروط العقد في الدعوى؟ إن قلنا: لا يجب ذكر شروط عقد النكاح في دعوى النكاح.. لم يجب هاهنا. وإن قلنا: يجب في النكاح.. فهاهنا وجهان:

فرع ادعى القرض أو الغصب أو البيع أو الهبة ونفاه الآخر

أحدهما: يجب؛ لأنه دعوى عقد، فافتقر إلى ذكر شروطه في الدعوى، كدعوى عقد النكاح. فعلى هذا القول: يقول: عقدنا بثمن معلوم من جائزي التصرف وتفرقنا عن تراض. والثاني: لا يجب ذكر شروط العقد في الدعوى؛ لأن الدعوى متعلقة بالمال، فلم يفتقر إلى ذكر سبب الملك، كما لو ادعى المال مطلقا. فإذا قلنا بهذا: وكانت الدعوى في البيع أو الشراء في الجارية.. فهل يفتقر إلى ذكر الشروط في الدعوى؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يفتقر؛ لأنه يدعي مالا، فهو كما لو ادعى ذلك في العبد. والثاني: يفتقر إلى ذكر الشروط في الدعوى؛ لأنه عقد يستباح به البضع، فأشبه عقد النكاح. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : وإذا ادعى عليه أنه وهب منه شيئا أو باع منه شيئا.. فلا تسمع هذه الدعوى حتى يقول المدعي: يلزمه تسليمه إلي؛ لجواز أنه وهب منه شيئا، ثم رجع عن الهبة قبل القبض، أو فسخ البيع بعد القبض. [فرع ادعى القرض أو الغصب أو البيع أو الهبة ونفاه الآخر] وإن ادعى عليه أنه أقرضه أو غصب منه شيئا، فإن قال المدعى عليه: ما أقرضتني، أو ما غصبت منك شيئا.. صح الجواب؛ لأنه أجاب عما ادعى عليه. وإن قال: لا تستحق علي شيئا، أو لا يلزمني شيء مما ادعيت به علي.. صح الجواب، ولا يكلف الجواب: أنه ما اقترض منه؛ لأنه قد يقترض منه ثم يقضيه أو يبرئه. فإن أنكره.. كان كاذبا، وإن أقر له بذلك.. احتاج أن يقيم البينة على القضاء أو البراءة، فيستضر بذلك. وإن ادعى عليه أنه باع منه شيئا أو وهب منه شيئا، فإن قال المدعى عليه: ما بعت منك ولا وهبت منك.. صح الجواب. فإن قال: لا تستحق ذلك علي، أو لا يلزمني تسليمه إليك.. صح الجواب ولا يستحق؛ لأنه قد يبيعه أو يهبه منه، ثم يفسخ، فلم يكلف الجواب على نفي البيع والهبة.

مسألة ادعى على رجل دينا في ذمته أو عينا في يده فأنكره

[مسألة ادعى على رجل دينا في ذمته أو عينا في يده فأنكره] وإن ادعى رجل على رجل دينا في ذمته، فأنكره ولا بينة للمدعي.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أن الناس أعطوا بدعواهم.. لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم، لكن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه» ، ولأن الأصل براءة ذمته، فكان القول قوله. وإن ادعى رجل على رجل عينا في يده، فأنكره ولا بينة للمدعي.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لما روى وائل بن حجر: «أن رجلا من حضرموت أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه رجل من كندة، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: أرضي، وفي يدي أزرعها، ولا حق له فيها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: "ألك بينة؟ " فقال: لا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لك يمينه"، فقال: إنه فاجر لا يبالي على ما حلف، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ليس لك منه إلا ذلك» ، «وروي عن الأشعث: أنه قال: كانت أرض بيني وبين يهودي فجحدني، فأتيت به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لي: " ألك بينة؟ " فقلت: لا، فقال اليهودي: أحلف، فقلت: إذن يحلف ويذهب بالمال» ولأن اليد تدل على الملك، فكانت جنبته أقوى، فكان القول قوله. [فرع اختلفا في عين أنها لكل ولا بينة] وإن كان في يد رجلين عين، فادعى كل واحد منهما جميعها ولا بينة لأحدهما..

مسألة تداعيا عينا وأقام واحد بينة

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (حلف كل واحد منهما لصاحبه على نفي ما ادعاه) . قال أصحابنا: ليس هذا على ظاهره؛ لأن كل واحد منهما يدعي جميعها، وليس في يد كل واحد منهما إلا نصفها، بل يجب على كل واحد منهما أن يحلف لصاحبه على النصف الذي هو في يده، فإن حلف كل واحد منهما لصاحبه.. قسمت العين بينهما نصفين؛ لما روى أبو موسى الأشعري: «أن رجلين تنازعا دابة، وليس لأحد منهما بينة، فجعلها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما [نصفين] » ، ولا يكون ذلك إلا إذا حلف كل واحد منهما لصاحبه. فإن حلف أحدهما لصاحبه ونكل الآخر.. ردت اليمين على الحالف، فإن حلف على النصف الذي في يد الناكل.. قضي له بجميعها. [مسألة تداعيا عينا وأقام واحد بينة] وإن تداعيا عينا وأقام أحدهما بينة.. قضي بها لصاحب البينة، سواء كانت العين في يد صاحب البينة أو في يد المدعي الآخر أو في يد ثالث أو لا يد لأحد عليها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» ، فبدأ بالحكم بالبينة، فدل على أنها أقوى حجة، وهذا قد أقام البينة فحكم له بها. وإن ادعيا عينا في يد أحدهما، وأقام كل واحد منهما بينة.. حكم بها لصاحب اليد. وبه قال شريح، والنخعي، والحكم، ومالك، وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: (إذا أقام المدعي البينة، ثم أراد المدعى عليه أن يقيم البينة في مقابلته.. نظرت: فإن كانت تشهد بملك مطلق أو بملك مضاف إلى سبب يتكرر ذلك السبب؛ مثل أن تكون الدعوى في آنية تسبك وتصاغ ثانيا وثالثا، أو في ثوب كتان أو صوف ينقض ثم ينسج.. لم تسمع بينته. وإن كانت بينته تشهد بملك مضاف إلى سبب

لا يتكرر؛ مثل أن تكون الدعوى في الدابة وشهدت بينة المدعي أن الدابة له نتجت في ملكه، وشهدت بينة المدعى عليه أنها له نتجت في ملكه.. فهاهنا بينة الذي لا يد له عليها أولى من بينة صاحب اليد) . وقال أحمد: (بينة من لا يد له أولى بكل حال) . دليلنا: ما روي: «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دابة، وأقام كل واحد منهما بينة أنها له نتجت في ملكه، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدابة لمن هي في يده» . ولأن كل واحد منهما معه بينة، ومع أحدهما ترجيح باليد فقدمت بينته، كالخبرين إذا تعارضا ومع أحدهما ترجيح. إذا ثبت هذا: فهل يجب على صاحب اليد أن يحلف مع بينته؟ حكى أكثر أصحابنا فيها وجهين، المنصوص: (أنه لا يجب عليه أن يحلف مع بينته) . وحكى ابن الصباغ في ذلك قولين، بناء على البينتين إذا تعارضتا، وفيهما قولان: أحدهما: تسقطان. فعلى هذا: لا بد أن يحلف صاحب اليد. والثاني: تستعملان. فعلى هذا: ترجح بينة صاحب اليد بيده، فلا يجب عليه أن يحلف، وإنما تسمع بينة صاحب اليد بعد أن يقيم المدعي الذي لا يد له بينته؛ ليعارض بها بينة الخارج. فإن أراد صاحب اليد أن يقيم بينته قبل أن يقيم الذي لا يد له بينة.. فهل تسمع بينته؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي العباس بن سريج -: أنها تسمع؛ لأنها مسموعة في الحكم، فسمعت كما لو أقامها بعد أن أقام خصمه بينته. والثاني: لا تسمع، وهو ظاهر المذهب؛ لأنه محكوم له بالملك بمجرد

فرع إقامة من ليس له يد بينة ثم إقامة صاحب اليد بينة

اليد، فلا فائدة في إقامة البينة. وهل تقبل بينة صاحب اليد بالملك له مطلقا من غير ذكر سبب الملك؟ فيه وجهان، حكاهما بعض أصحابنا قولين: [أحدهما] : قال في القديم: (لا تقبل حتى يضيفه إلى سبب) ؛ لأنها قد تشهد له بالملك لأجل اليد. و [الثاني] : قال في الجديد: (تقبل مطلقا) ، وهو الأصح؛ لأن الظاهر من حالهم أنهم لم يتعمدوا في شهادتهم يدا منازعة، وإنما شهدوا بالملك بأمر عرفوه غير اليد. [فرع إقامة من ليس له يد بينة ثم إقامة صاحب اليد بينة] وإن كانت العين في يد أحدهما، فأقام الذي لا يد له بينة، فحكم له بها وسلمت العين إليه، ثم أقام صاحب اليد بينة أنها له.. نقض الحكم الأول وسلمت العين إلى صاحب اليد الأول؛ لأنا حكمنا لمن لا يد له ظنا منا أنه لا بينة لصاحب اليد، فإذا أقام البينة.. فقد بان أن له يدا وبينة، فقدمت بينته على بينة الآخر. [مسألة ادعيا عينا لا يد لهما عليها أو كانت في يد ثالث] إذا ادعى رجلان عينا في يد ثالث، أو لا يد لأحدهما عليها، وأقام كل واحد من المدعيين بينة أن جميعها له.. ففيه قولان: أحدهما: أن البينتين تسقطان، فيكون كما لو لم تكن معهما بينة - وبه قال مالك - لأن كل واحدة من البينتين أثبتت الملك لمن شهدت له، ولا يمكن أن يكون الشيء ملكا للاثنين في حالة واحدة ولا مزية لإحداهما على الأخرى فسقطتا، ولأنهما أوقعتا إشكالا في حق المالك منهما فسقطتا، كما لو شهدت البينة بملك عين لأحد الرجلين لا بعينه.

والثاني: لا تسقطان، بل تستعملان؛ لأنهما حجتان تعارضتا، فإذا أمكن استعمالهما.. لم يسقطا، كالخبرين إذا تعارضا في الحادثة وأمكن استعمالهما. فإذا قلنا: تستعملان.. ففي كيفية استعمالهما ثلاثة أقوال: أحدها: يوقف الأمر إلى أن يصطلحا. قال الربيع: وهو الأصح؛ لأن إحداهما صادقة في الباطن والأخرى كاذبة، ويرجى انكشاف الصادقة منهما، فوجب التوقف إلى أن نتبين الصادقة، كما لو زوج المرأة وليان لها من رجلين وسبق أحدهما وأشكل السابق. والثاني: تقسم العين بين المدعيين - وبه قال ابن عمر وابن الزبير والثوري وأبو حنيفة - لما روى تميم الطائي: «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شيء، فأقام كل واحد منهما بينة أنه له، فقسمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما نصفين» . وروى أبو موسى الأشعري: «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعير، فأقام كل واحد منهما بينة أنه له، فقسمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما» ، ولأن البينة حجة كاليد، ولو كان لكل واحد منهما يد.. لقسمت العين بينهما، فكذلك إذا كان لكل واحد منهما بينة. والقول الثالث: أنه يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. حكم له بالعين؛ لما روى سعيد بن المسيب: «أن قوما اختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتساوت بيناتهم في العدالة والعدد، فأسهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم، وقضى للذي خرج له السهم» ، ولأن المدعيين

فرع زيادة بينة أحدهما على الآخر بعدد أو غيره

قد تساويا في الدعوى والبينة فأقرع بينهما، كما لو أعتق رجل في مرض موته عبيدا لا يخرجون من ثلثه. فإذا قلنا بهذا: فهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه قولان: أحدهما: يحلف؛ لأن القرعة ضعيفة، فرجحت باليمين ورجحت بهما البينة، فيكونان بمجموعهما قائمين مقام اليد التي تترجح بها إحدى البينتين. والثاني: لا يجب عليه أن يحلف، وهو الأصح؛ لأن البينة ترجحت بالقرعة؛ لأن كل دليلين تقابلا ووجد مع أحدهما ترجيح.. قدم ولم يطلب ترجيح آخر، كما لو كان مع إحدى البينتين يد. والصحيح هو الأول: أنهما تسقطان، وحديث تميم الطائي ضعيف، وحديث أبي موسى الأشعري محمول على أن البعير كان في أيديهما، وحديث ابن المسيب مرسل وعلى أنه لم يذكر عن أي شيء كان، ويحتمل أنه كان في العتق. [فرع زيادة بينة أحدهما على الآخر بعدد أو غيره] وأنواع البينة] : وإن كانت بينة أحدهما شاهدين، وبينة الآخر أربعة أو أكثر.. فنقل أصحابنا البغداديون: أنهما متعارضتان ولا ترجح بكثرة العدد. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] : أن الشافعي قال في القديم: (ترجح البينة بكثرة عدد الشهود) ، وحكى: أنه مذهب مالك. والمشهور عن الشافعي ومالك وأكثر أهل العلم هو الأول. وقال الأوزاعي: (تقسم العين بيد المدعيين على عدد الشهود، فيكون لصاحب الشاهدين ثلث العين ولصاحب الأربعة ثلثاها) . دليلنا: أن عدد الشهود أمر مقدر في الشرع، وما قدر في الشرع لا يدخل الاجتهاد فيه كالدية لما قدرت في الشرع.. لم يجز أن يدخل فيها الاجتهاد، باختلاف

فرع عين في يد رجل وادعى آخر ملك جميعها وثالث ملك نصفها

المقتول في الطول والعرض والقصر.. وإن أقام كل واحد منهما بينة عادلة إلا أن بينة أحدهما أعلم وأعف وأشهر في العدالة.. فإنها لا تقدم على بينة الآخر فيما تعارضتا فيه. وقال مالك: (تقدم البينة التي هي أعف وأعلم وأشهر في العدالة) . وحكى المسعودي [في " الإبانة "] : أنه قول آخر للشافعي. والمشهور عنه هو الأول؛ لأنهما متساويتان في العدالة المعتبرة، فكانتا متعارضتين، كما لو استويا في العدالة. فإن أقام أحدهما شاهدين، وأقام الآخر شاهدا وأراد أن يحلف معه، أو شاهدا وامرأتين.. ففيهما قولان: أحدهما: أنهما متعارضتان؛ لأنهما متساويتان في إثبات المال. والثاني: يقضي لمن معه الشاهدان على من معه الشاهد واليمين، ولمن معه الشاهد والمرأتان على من معه الشاهد واليمين؛ لأنها بينة مجمع عليها، والشاهد واليمين مختلف فيها. [فرع عين في يد رجل وادعى آخر ملك جميعها وثالث ملك نصفها] إذا كانت عين في يد رجل، فادعى رجل ملك جميعها، وأقام على ذلك بينة، وادعى آخر ملك نصفها، وأقام على ذلك بينة.. فإن للذي ادعى جميعها نصفها؛ لأنه لم تعارض بينته فيه بينة الآخر. وأما النصف الآخر.. فقد تعارض فيه البينتان. فإن قلنا: إن البينتين إذا تعارضتا، سقطتا.. رجع إلى مَنِ الْعَيْنُ في يده، فإن ادعى ذلك النصف لنفسه.. حلف لكل واحد منهما يمينا. وإن أقر به لأحدهما.. كان له، وهل يحلف للآخر؟ فيه قولان، يأتي بيانهما. وإن أقر به لهما.. كان بينهما، وهل يحلف لكل واحد منهما على الربع؟ على القولين. وإن قلنا: تستعملان، فإن قلنا بالوقف.. وقف ذلك النصف إلى أن يصطلحا عليه. وإن قلنا: يقسم.. قسم ذلك النصف بينهما نصفين، فيكون لمدعي الجميع ثلاثة أرباع العين،

فرع في يديهما عين وادعاها كلاهما والآخر ثلثها

ولمدعي النصف ربعها. وإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما عليه، وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ على قولين. وقال أبو العباس بن سريج: إذا قلنا: إن البينتين تسقطان في النصف الذي تعارضتا فيه.. فهل تسقط بينة مدعي الجميع في النصف الآخر؟ فيه قولان، بناء على أن البينة إذا ردت في بعض شيء.. فهل ترد في الباقي؟ فيه قولان، وهو اختيار القاضي أبي الطيب والمسعودي [في " الإبانة "] . وقال الشيخ أبو حامد: والأول أصح؛ لأن القولين إنما هما إذا ردت الشهادة في بعض الشيء للتهمة، فأما للتعارض.. فلا ترد قولا واحدا، ألا ترى أنا إذا قلنا: يقسم المشهود به.. فقد أسقطنا البينة في بعض ما شهدت به، ولا تسقط في الباقي؟. [فرع في يديهما عين وادعاها كلاهما والآخر ثلثها] وإن كانت العين في يد رجلين، فادعى كل واحد منهما جميعها، وأقام على ما ادعاه بينة.. فقد ذكر الشيخ أبو إسحاق: أن الحكم فيه كما لو ادعى كل واحد منهما جميعها وأقام على ذلك بينة، والعين في يد غيرهما أو لا يد لأحدهما عليها. وقال الشيخ أبو حامد: تكون العين بينهما، وهل يحتاج كل واحد منهما أن يحلف على النصف الذي في يده مع بينته؟ فيه قولان؛ لأن لكل واحد منهما يدا وبينة على النصف، فهو كما لو أقام كل واحد منهما بينة والعين في يد أحدهما؛ فإنه يقضى بها لصاحب اليد، وهل يحلف مع بينته؟ فيه قولان. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قلنا: تسقط البينتان عند التعارض.. كان كما لو لم يقيما بينة، فيحلفان وتقسم بينهما. وإن قلنا: تستعملان.. فيجيء فيه قول القسمة، ولا يجيء فيه قول الوقف؛ لأنه لا معنى للوقف مع ثبوت اليد، وهل تجيء فيه القرعة؟ فيه وجهان. وإن كانت العين في يد رجلين، فادعى أحدهما جميعها، وادعى الآخر ثلثها، وأقام كل واحد منهما بينة على ما ادعاه.. فإنه يقضى لمدعي ثلثها بثلثها؛ لأن له اليد على نصفها إلا أن بينته لم تشهد له إلا بثلثها، فقضي له بها. ويقضى لمدعي الجميع بثلثيها؛ لأن له يدا وبينة على نصفها، وله بينة بسدسها وللآخر فيه يد بلا بينة، والبينة مقدمة على اليد.

مسألة دار بيد ثلاثة وادعى كل منهم حصة

[مسألة دار بيد ثلاثة وادعى كل منهم حصة] قال الشافعي: (ولو كانت الدار في يد ثلاث أنفس، فادعى أحدهم النصف، والآخر الثلث، والآخر السدس وجحد بعضهم بعضا.. فهي لهم على ما في أيديهم، ثلثا ثلثا) . فاعترض معترض على الشافعي، فقال: كيف يجعل لمدعي السدس الثلث وهو لا يدعي إلا السدس؟ فقال أصحابنا: أراد الشافعي بما ذكره: إذا كانت الدار بين ثلاثة، فادعى كل واحد منهم جميع الدار إلا أن أحدهم قال: نصفها ملكي والنصف الآخر وديعة في يدي لرجل غائب أو عارية، وقال الآخر: ثلثها ملكي وثلثاها وديعة عندي أو عارية، وقال الثالث: سدسها ملكي والباقي منها وديعة عندي أو عارية.. فإنه يجعل لكل واحد منهم هاهنا ثلث الدار، كما قال الشافعي؛ لأن يده ثابتة عليه. والدليل على أنه أراد ذلك: أنه قال: (وجحد بعضهم بعضا) ، ولا يتصور التجاحد بينهم إلى على ما ذكرناه. فأما إذا كانت في أيديهم وادعى أحدهم ملك نصفها لا غير، وادعى الثاني ملك ثلثها لا غير، وادعى الثالث ملك سدسها لا غير، وأقام كل واحد منهم بينة على ما ادعاه.. فإنه يحكم لمدعي الثلث بالثلث؛ لأن له فيه يدا وبينة، ويحكم لمدعي السدس بالسدس؛ لأن له فيه يدا وبينة، وأما مدعي النصف.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: أنه يحكم له بنصف الدار؛ لأن له يدا على الثلث وبينة، وله بينة على السدس في يد مدعي السدس، وليس لمدعي السدس عليه إلا يد ولا يدعيه، فيحكم به لمدعي النصف. والثاني: أنه يحكم لمدعي النصف بالثلث الذي في يده، ويحكم له بنصف السدس مما في يد مدعي السدس، فبقي في يد مدعي السدس السدس ونصف السدس؛ لأن مدعي النصف إنما يدعي السدس الزائد على الثلث مما في يد مدعي

فرع دار في يد ثلاثة وادعاها أحدهم والثاني نصفها والثالث ثلثها

الثلث ومدعي السدس؛ بدليل: أنه لو لم يكن معه بينة.. لكان له أن يستحلفهما عليه، فإذا كان ذلك مشاعا بينهم.. لم يكن له أن يأخذ شيئا مما في يد مدعي الثلث؛ لأن له فيه يدا وبينة، فلم يبق له إلا نصف السدس مما في يد صاحب السدس. [فرع دار في يد ثلاثة وادعاها أحدهم والثاني نصفها والثالث ثلثها] فرع: [دار في يد ثلاثة وادعاها أحدهم والثاني نصفها ولهما بينة والثالث ثلثها ولا بينة] : وإن كانت الدار في يد ثلاثة، فادعى أحدهم ملك جميعها وأقام على ذلك بينة، وادعى الثاني ملك نصفها وأقام على ذلك بينة، وادعى الثالث ملك ثلثها ولا بينة له.. فإنه يحكم لمدعي الكل بالثلث الذي في يده؛ لأن له فيه يدا وبينة. ويحكم لمدعي النصف بالثلث الذي في يده؛ لأن له فيه يدا وبينة. وأما الثلث الذي في يد الثالث.. فإنه يحكم بنصفه -وهو السدس- لمدعي جميعها؛ لأن له فيه بينة لا تعارضها فيه بينة الآخر. وأما السدس الباقي في يد مدعي الثلث.. فقد تعارضت فيه بينة مدعي الجميع وبينة مدعي النصف، فإذا قلنا: تسقطان.. رجع فيه إلى قول من هو في يده. وإن قلنا: تستعملان: فإن قلنا بالوقف.. وقف، وإن قلنا: بالقسم.. قسم بينهما، وإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما. [فرع دار في يد أربعة أو يد غيرهم وادعى كل منهم حصة] وإن كانت دار في يد أربعة رجال، فادعى أحدهم ملك جميعها، وادعى الثاني ملك ثلثيها، وادعى الثالث ملك نصفها، وادعى الرابع ملك ثلثها، فإن لم تكن مع واحد منهم بينة.. فالقول قول كل واحد منهم مع يمينه في الربع الذي في يده وتقسم بينهم أرباعا. وإن أقام كل واحد منهم بينة بما ادعاه.. قضي لكل واحد منهم بالربع الذي في يده؛ لأن له فيه يدا وبينة. وإن كانت الدار في يد غيرهم، فإن لم يقم أحد منهم بينة.. فالقول قول من الدار في يده مع يمينه. وإن أقام كل واحد منهم بينة بما ادعاه.. فإنه يحكم لمدعي الجميع بثلث الدار؛ لأن له فيه بينة لا تعارضها فيه بينة.

وأما الثلثان: ففيه تعارض بالسدس الذي بين النصف والثلثين، تعارض فيه بينتان؛ بينة مدعي الجميع وبينة مدعي الثلثين. والسدس الذي بين النصف والثلث تعارض فيه ثلاث بينات؛ بينة مدعي الجميع، وبينة مدعي الثلثين، وبينة مدعي النصف. والثلث الباقي تعارض فيه الأرب البينات، فيبنى على القولين في البينتين إذا تعارضتا. فإن قلنا: تسقطان.. صار كما لو لم تكن بينة في الثلثين، فيكون القول قول من الدار في يده مع يمينه، فإن أنكرهم.. حلف لكل واحد منهم، وإن أقر به أو بشيء منه لبعضهم.. قبل إقراره له وهل يحلف للباقين؟ فيه قولان. وإن قلنا: إن البينتين إذا تعارضتا استعملتا.. ففي كيفية الاستعمال الأقوال الثلاثة. فإن قلنا بالوقف.. وقف الثلثان بينهم إلى أن يصطلحوا عليه. وإن قلنا بالقسمة.. قسم السدس الذي بين النصف والثلثين: بين مدعي الجميع ومدعي الثلثين نصفين، ويقسم السدس الذي بين النصف والثلث: بين مدعي الجميع ومدعي الثلثين ومدعي النصف أثلاثا، ويقسم الثلث الباقي بين الأربعة أرباعا، فتصح من ستة وثلاثين سهما؛ لمدعي الجميع عشرون؛ اثنا عشر سهما منها ثلث الدار الذي لا ينازعه فيه غيره، وثلاثة أسهم هي نصف السدس الذي بين النصف والثلثين، وسهمان: ثلث السدس الذي بين النصف والثلث، وثلاثة أسهم هي ربع الثلث.

مسألة عين في يد رجل أو يد أحدهما وشهدت البينة بملك متقدم لأحدهما

ويحصل لمدعي الثلثين ثمانية أسهم؛ ثلاثة: نصف السدس الذي بين النصف والثلثين، وسهمان: ثلث السدس الذي بين النصف والثلث، وثلاثة أسهم: ربع الثلث الباقي. ويحصل لمدعي النصف خمسة أسهم؛ سهمان: ثلث السدس الذي بين النصف والثلث، وثلاثة: ربع الثلث الثالث الباقي. ويحصل لمدعي الثلث ثلاثة أسهم لا غير، وهي ربع الثلث. وإن قلنا بالقرعة.. فعلى هذا: يقرع في ثلاثة مواضع: أحدها: في السدس الذي بين النصف والثلثين، بين مدعي الجميع ومدعي الثلثين. والثاني: في السدس الذي بين النصف والثلث، بين مدعي الجميع ومدعي الثلثين ومدعي النصف. والثالث: في الثلث الباقي بين الأربعة. فمن خرجت قرعته على شيء من ذلك.. كان ذلك الشيء له. [مسألة عين في يد رجل أو يد أحدهما وشهدت البينة بملك متقدم لأحدهما] وإن كانت عين في يد رجل، فادعى رجل ملكها وأقام بينة على أنها ملكه منذ سنتين لا يعلم أنه زال عنه إلى الآن، وادعى آخر أنها ملكه وأقام بينة أنها ملكه منذ سنة لا يعلم أنه زال عنه إلى هذه الحالة.. ففيه قولان: أحدهما: يحكم لمن شهدت له البينة بالملك المتقدم - وبه قال أبو حنيفة والمزني - وهو الأصح؛ لأن البينة أثبتت له الملك في وقت لا تعارضها فيه البينة الأخرى؛ ولهذا: يجب له على المشهود عليه نماء تلك العين وأجرتها في تلك

المدة، وإنما تعارضتا في إثبات الملك فيما بعد ذلك، فإذا سقطتا فيما تعارضتا فيه.. بقي إثبات الملك له فيما قبل ذلك، فوجب استدامته. والثاني: أنهما سواء؛ لأن الاعتبار بالبينة إثبات الملك في الحال وهما متساويتان في ذلك. فإذا قلنا بهذا: فهما متعارضتان، فإن قلنا: تسقطان عند التعارض.. كان القول قول من العين في يده، فإن ادعاه لنفسه.. حلف لكل واحد منهما يمينا، وإن أقر بها لأحدهما.. كانت له، وهل يحلف للآخر.. فيه قولان. وإن أقر بها لهما.. قسمت بينهما، وهل يحلف لكل واحد منهما على النصف؟ فيه قولان. وإن قلنا: لا تسقطان، بل تستعملان، فإن قلنا بالوقف.. وقفت العين بينهما إلى أن يصطلحا عليها، وإن قلنا بالقسمة.. قسمت بينهما، وإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما. فإن كانت بحالها وشهدت بينة أحدهما أنها ملكه في الحال، وشهدت بينة الآخر أنها ملكه منذ شهر إلى هذه الحال.. فقال أكثر أصحابنا: هي على قولين كالتي قبلها. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: هما سواء قولا واحدا. وإن كانت العين في يد أحد المتداعيين، وشهدت بينة أحدهما أنها ملكه منذ سنة إلى هذه الحال، وشهدت بينة الآخر أنها ملكه منذ شهر إلى هذه الحال.. نظرت: فإن كانت الدار في يد من شهدت له البينة بالملك المتقدم.. حكم له بالعين قولا واحدا؛ لأن معه ترجيحين باليد والشهادة بتقادم الملك. وإن كانت في يد الآخر.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق: يبنى على القولين فيها إذا كانت العين في يد غيرهما. فإن قلنا هناك: إنهما متعارضتان من جهة البينة ومع الآخر ترجيح.. فحكم بها لصاحب اليد؛ لأن البينتين قد تساويتا وانفرد صاحب اليد باليد، فحكم له بها. وإن قلنا: إنه يحكم بها لمن شهدت له البينة بالملك المتقدم.. حكم له بها هاهنا أيضا؛ لأن معه ترجيحا من جهة البينة، ومع الآخر ترجيحا من جهة اليد،

فرع دابة أو زرع في يد رجل فادعاهما آخران وتقديم بينة الملك على اليد

والترجيح من جهة البينة يقدم على الترجيح من جهة اليد. ومن أصحابنا من قال: يحكم بها لصاحب اليد قولا واحدا، وهو ظاهر المذهب؛ لأنهما متساويان في إثبات الملك في الحال، ولأحدهما مزية في إثبات الملك المتقدم، وللآخر مزية باليد الموجودة، واليد الموجودة أولى من إثبات الملك المتقدم. ألا ترى أنه لو كان في يد رجل عين وادعاها آخر وأقام بينة أنها كانت له منذ سنة.. فإنه لا يحكم له بها؟ فكذلك هذا مثله. [فرع دابة أو زرع في يد رجل فادعاهما آخران وتقديم بينة الملك على اليد] وإن كانت دابة في يد رجل، فادعاها رجلان، وأقام أحدهما بينة أنها ملكه في هذه الحال، وأقام الآخر بينة أنها ملكه في هذه الحال وأنها نتجت في ملكه.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو العباس: فيه قولان، كما لو شهدت بينة أحدهما بملك متقدم: أحدهما: أنهما سواء، فتكونان متعارضتين، والحكم في المتعارضتين ما ذكرنا فيما مضى. والثاني: أن الذي شهدت بينته بالملك المتقدم أولى، فتقدم هاهنا بينة من شهدت له بالنتاج؛ لأن الشهادة بالنتاج كالشهادة بالملك المتقدم. وقال أبو إسحاق: يحكم بها لمن شهدت البينة له بالنتاج قولا واحدا؛ لأن التي شهدت بالملك المتقدم لا تنفي أن يكون الملك لغيره فيما قبل هذه المدة ويجوز أن يكون الملك فيها لخصمه، والتي شهدت له بالنتاج في ملكه نفت أن يكون الملك فيها لغيره قبل النتاج. وإن ادعيا زرعا في يد غيرهما، فأقام أحدهما بينة أنه ملكه في هذه الحال، وأقام الآخر بينة أنه ملكه في هذه الحال وأنه زرعه في ملكه.. ففيه طريقان، كما قلنا فيمن شهدت له بينة بالملك وشهدت للآخر بينة بالملك والنتاج.

فرع عين في يد رجل وادعاها زيد وأقام بينة وسلمت له ثم ادعاها عمرو

قال في " الأم ": (وإن ادعى رجل دابة، وأقام بينة أنها ملكه منذ عشر سنين، فنظر الحاكم إلى الدابة فإذا لها سنتان.. لم يحكم للمدعي بالدابة؛ لأنه بان كذب بينته فيما شهدت به؛ لأن الدابة التي لها سنتان لا يجوز أن تكون ملكه منذ عشر سنين) . وإن كان في يد رجل عين وادعاها آخر وأقام بينة أنها له منذ سنة، وأقام صاحب اليد بينة أنها في يده منذ سنتين.. قدمت بينة الخارج؛ لأنها تشهد بالملك، وبينة الآخر تشهد باليد، والملك مقدم على اليد. [فرع عين في يد رجل وادعاها زيد وأقام بينة وسلمت له ثم ادعاها عمرو] إذا كانت عين في يد رجل، فجاء زيد فادعاها وأقام عليها بينة، فحكم له بها وسلمت إليه، ثم جاء عمرو فادعاها وأقام عليها بينة.. قال أبو العباس: فقد تعارضت البينتان، فإن قلنا: تسقطان.. كان كما لو لم يكن بينة. وإن قلنا: تستعملان.. فهل يحتاج زيد إلى إقامة بينة ليعارض بها بينة عمرو؟ يبنى على القولين في البينتين إذا كانت إحداهما تشهد في ملك متقدم: فإن قلنا: إن التي شهدت بالملك المتقدم تقدم على الأخرى.. لم يحتج زيد إلى إعادة بينة؛ لأنها ثابتة له في الحال وفيما قبل، فيكون كما لو أقامها في الحال. وإن قلنا: إن البينة التي شهدت بالملك المتقدم تساوي البينة الأخرى.. فهل يحتاج زيد إلى إعادة بينته؟ فيه قولان: أحدهما: لا يحتاج إلى إعادتها - وبه قال أبو حنيفة - لأنها قد أثبتت الملك له يوم الشهادة، والأصل بقاء ذلك الملك إلى أن يعلم خلافه. والثاني: يحتاج إلى إعادة بينته؛ لأن حكم التعارض في الملك في الحال، وبينة زيد لم تشهد له بالملك في الحال، وإنما شهدت له بالملك في وقت متقدم، فلا بد أن يثبت له الملك في الحال؛ لتعارض البينة التي شهدت لعمرو بالملك في الحال.

مسألة ادعى عينا في يد آخر مع بينة أنها له فأنكرها الخصم

[مسألة ادعى عينا في يد آخر مع بينة أنها له فأنكرها الخصم] مسألة: [ادعى عينا في يد آخر مع بينة أنها له أمس فأنكرها الخصم أو أقر أنها كانت في يده] : وإن كان في يد رجل عين وادعاها آخر، فأنكر من هي في يده، وأقام المدعي بينة أنه كانت في يده أمس.. فقد نقل المزني والربيع: (أنه لا يحكم له بهذه الشهادة) ، ونقل البويطي: (أنه يحكم بها) . ولا فرق بين أن تشهد له باليد أو بالملك، إلا أن الشافعي لم ينص إلا على اليد، واختلف أصحابنا فيها على طريقين: فقال أبو العباس: فيه قولان، قال: وأصلهما القولان في الرجلين إذا ادعيا عينا في يد غيرهما، وأقام أحدهما بينة أنها ملكه منذ سنة إلى هذه الحال، وأقام الآخر بينة أنها ملكه منذ شهر إلى هذه الحال: فإذا قلنا: إنهما سواء.. لم يحكم بهذه البينة. وإن قلنا: إن التي شهدت بالملك المتقدم أولى.. حكم بهذه البينة. فإذا قلنا: يحكم بها - وهو اختيار البويطي وأبى العباس - فوجهه: أن البينة أثبتت له اليد أو الملك أمس، والأصل بقاء ذلك إلى أن يعلم خلافه. وإذا قلنا: لا يحكم له بها -كما قال الشيخان: أبو حامد وأبو إسحاق - وهو الأصح.. فوجهه: أنه ادعى الملك في الحال، والبينة إنما شهدت له باليد أو بالملك أمس، فلم يحكم له بذلك، كما لو ادعى دارا وشهدت له بينة بغيرها. ولأنه لو ادعى أن هذه الدار كانت ملكا له أمس، ولم يدع ملكها في هذه الحال.. لم تسمع هذه الدعوى، فكذلك: إذا شهدت له البينة بملكها أمس ولم تثبت الملك له في هذه الحال.. فإنها لا تسمع، كالدعوى والشهادة بالمجهول. قال أبو إسحاق: لا يحكم بها قولا واحدا - لما ذكرناه- وما ذكره البويطي.. فهو مذهبه لا مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد حكى الربيع في "الأم" ما يدل على صحة ذلك؛ لأنه حكي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها: (أنه لا يحكم بالبينة) ، ثم قال: وقال أبو يعقوب البويطي: أنه يحكم بها، فتبين أنه مذهب البويطي، ويخالف الشهادة بالملك المتقدم؛ لأنهما قد شهدتا بالملك في الحال، وإنما انفردت إحداهما بإثبات الملك في زمان ماض فرجحت بذلك، وهاهنا لم تثبت البينة في الحال، فلم يحكم بها. فإن شهدت البينة أنها كانت في يد المدعي أو في ملكه أمس، وأن فلانا أخذها منه أو قهره عليها أو غصبها منه، أو كانت العين عبدا فأبق.. قال أصحابنا: فإنه يحكم

فرع ادعى عينا موروثة في يد رجل فأنكره آخر فأقام بينة

بهذه البينة قولا واحدا؛ لأنه لو علم أن سبب يد الثاني من جهته، فكان موجب قولها: (إن فلانا أخذها منه) أن له اليد لهذا، أو أن يد الثاني بغير حق، ويخالف إذا لم يذكر السبب؛ لأن اليد تدل على الملك والاستحقاق. قال أبو العباس: وإن ادعى رجل دارا في يد غيره، فأقر المدعى عليه أن هذه الدار كانت في يد المدعي، فإن قلنا: إن البينة إذا قامت له بذلك تقبل.. حكم له بها هاهنا بالإقرار. وإن قلنا: لا تقبل في البينة.. فهل يحكم له بها بالإقرار؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحكم له بها، كما لو قامت البينة بذلك. والثاني: يحكم له بها؛ لأن البينة لا تنفي أن تكون في يد غيره قبل ذلك، فقد تعارضت البينتان في الوقت المتقدم، وانفرد من بيده الدار بيد موجودة في هذه الحال، فحكم له بها، فأسقط حكم البينة. وليس كذلك إذا أقر أن الدار كانت في يد المدعي؛ لأن بإقراره أسقط يد نفسه فجعلت اليد للمدعي، والأصل بقاؤها إلى أن يعلم زوالها. قال أبو العباس: إذا قال المدعى عليه: إنها كانت للمدعي.. فإنه يحكم بها للمقر له وجها واحدا؛ لأنه إذا أقر أنها كانت في يده.. لم يتضمن الإقرار بملكها، وإذا أقر أنها كانت في ملكه.. فلأنه أثبت الملك لغيره، فأسقط حق نفسه منها، فحكم بها للمقر له، وجها واحدا. [فرع ادعى عينا موروثة في يد رجل فأنكره آخر فأقام بينة] إذا ادعى رجل عينا في يد آخر فأنكره، فأقام المدعي بينة أنها ملك أبيه إلى أن مات وخلفها موروثة وهو وارثه.. فاختلف أصحابنا المتأخرون فيها: فمنهم من قال: هو كما لو أقام بينة أنها كانت في يده أو في ملكه أمس. ومنهم من قال: يحكم بها، وهو الأصح عندي مذهبا وحجاجا. أما (المذهب) : فلأن المزني والربيع نقلا: (لو أقام بينة أن أباه هلك وترك هذه الدار ميراثا له ولأخيه الغائب.. أخرجتها من يد من هي في يده) . ونقل المزني والربيع: (أنها إذا شهدت أنها كانت في يده.. لا تسمع) .

فرع في يديهما شاتان وادعى كل شاة صاحبه

ولم يقل أحد من أصحابنا المتقدمين: أنهما نقلا أن البينة بالملك بالأمس تسمع، بل أضافوا ذلك إلى البويطي. وأما (الحجاج) : فلأنه روي: أن الحضرمي «قال: يا رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن هذا غلبني على أرض ورثتها من أبي - وروي: أنه قال: كانت لأبي- فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألك بينة؟ " فقال: لا» فدل على أنه لو أقام بينة على ما ادعاه.. لسمعت. ولأنه لو أقام بينة أنه اشتراها من مالكها.. حكم له بها، فلأن يحكم له بها إذا أضافها إلى الميراث أولى؛ لأنه أقوى. [فرع في يديهما شاتان وادعى كل شاة صاحبه] أو ادعاهما وماذا لو كانت شاة مسلوخة بينهما؟] : إذا كان في يد رجلين شاتان في يد كل واحد منهما شاة، فادعى كل واحد منهما الشاة التي في يد صاحبه وأنها بنت الشاة التي في يده، وأقام كل واحد منهما البينة بذلك.. فإن البينتين متعارضتان في النتاج دون الملك، فيقضى لكل واحد منهما بالشاة التي في يد صاحبه؛ لأنه قد يملك الشاة ولا يملك أمها؛ بأن يوصى له بما في بطنها. وإن كان في يد رجل شاتان، سوداء وبيضاء، فادعاهما رجل وأن السوداء ولدت البيضاء وأقام على ذلك بينة، وادعى آخر ملكهما وأن البيضاء ولدت السوداء وأقام على ذلك بينة.. فقد تعارضت البينتان في النتاج والملك، فإن قلنا: إن البيتين إذا تعارضتا سقطتا.. رجع فيهما إلى قول من هما في يده. وإن قلنا: تستعملان.. فعلى الأقوال الثلاثة. وإن كان في يد رجل شاة مسلوخة، وفي يد آخر جلدها وسواقطها، فادعى كل واحد منهما ملك الشاة، وأقام على ذلك بينة.. حكم لكل واحد منهما بما في يده. وقال أبو حنيفة: (يقضى لكل واحد منهما بما في يد الآخر) . دليلنا: أن لكل واحد منهما يدا وبينة بما معه، ولصاحبه فيه بينة بلا يد.. فحكم لمن اجتمعت له اليد والبينة في شيء واحد. [فرع عند عمرو شاة حكم له بها وادعاها زيد] إذا كان في يد عمرو شاة، فادعاها زيد، فقال عمرو: هذه لي حكم لي بها حاكم وسلمها إلي، وأقام على ذلك بينة، وأقام زيد بينة أنها له.. قال أبو العباس: نظر

فرع ادعى ثوبا في يد آخر فأنكره وأقام البينة أنه غصب منه

كيف وقع الحكم بها لعمرو؟ فإن كان قد حكم بها لعمرو على زيد؛ لأن البينة قامت لعمرو ولم تقم لزيد بينة وكانت في يد زيد.. فإنه ينقض ذلك الحكم؛ لأنه بان أن لزيد فيها يدا وبينة، ولعمرو فيها بينة بلا يد، فيقضى بها لصاحب اليد والبينة. وإن كان حكم بها لعمرو؛ لأن بينة عمرو عادلة، وبينة زيد غير عادلة.. أقرت في يد عمرو. وإن كان حكم بها لعمرو؛ لأنها كانت في يد زيد وقد أقام كل واحد منهما بينة، وكان الحاكم يرى الحكم ببينة الجارح.. لم ينقض حكمه؛ لأنه حكم بما يسوغ فيها الاجتهاد. وإن كان الحاكم حكم بها لعمرو بأنه سبق بالبينة، فقال: لا أسمع بينة بعدها.. نقض الحكم؛ لأنه حكم مخالف للإجماع. وإن لم يعلم كيف حكم بها الحاكم لعمرو.. قال أبو العباس: فيه وجهان: أحدهما: أنه ينقض الحكم؛ لحصول بينة زيد. والثاني: لا ينقض، وهو الأصح؛ لأن الظاهر أنه حكم بها لعمرو حكما صحيحا. [فرع ادعى ثوبا في يد آخر فأنكره وأقام البينة أنه غصب منه] قطنا ثم غزله ثم نسجه] : قال أبو العباس: وإن ادعى رجل ثوبا في يد رجل فأنكره، فأقام المدعي بينة أنه غصب منه قطنا وغزل منه غزلا ونسج منه هذا الثوب.. حكم له بذلك؛ لأنه قد أثبت بالبينة أن هذا عين ماله وإنما تغيرت صفته، ثم يقابل بين قيمة القطن والغزل والثوب، فإن كان الثوب أكثر قيمة.. أخذ المغصوب منه الثوب ولا شيء للغاصب بزيادة قيمة الثوب. وإن كانت قيمة الثوب أنقص من قيمة القطن أو من قيمة الغزل.. كان للمغصوب فيه الثوب وما نقص من قيمة القطن أو الغزل. وإن كانت قيمة الغزل أنقص من قيمة القطن، وقيمة الثوب مثل قيمة القطن أو أكثر.. فالذي يقتضي المذهب: أنه يلزمه رد الثوب وما نقص من قيمة الغزل عن قيمة القطن؛ لأن بنقصان قيمة الغزل عن قيمة القطن.. لزم الغاصب ضمان ذلك، فلا يسقط عنه ذلك بزيادة قيمة الثوب.

مسألة ادعى عينا على رجل هي في يده فقال المدعى عليه هي لغيري

[مسألة ادعى عينا على رجل هي في يده فقال المدعى عليه هي لغيري] وإن ادعى رجل على رجل عينا في يده، فقال من بيده العين: ليست لي، وإنما هي لفلان، فإن كان المقر له حاضرا وصدق المقر أنها له.. انتقلت الخصومة في العين إليه، فإن كان مع المدعي بينة.. حكم له بالعين، وإن لم يكن معه بينة.. كان القول قول المقر له مع يمينه، فإن حلف.. سقطت عنه الدعوى، وإن نكل عن اليمين.. حلف المدعي واستحق العين. فإن لم تحصل العين للمدعي، وسأل من كانت العين في يده أن يحلف له: ما يعلم أن العين له.. فهل تلزمه اليمين؟ فيه قولان، بناء على من أقر بدار لزيد ثم أقر بها لعمرو.. فإن الدار تسلم إلى زيد ولا يقبل إقراره لعمرو في الدار، ولكن: هل يلزمه أن يغرم قيمة الدار لعمرو؟ فيه قولان. فإن قلنا: يلزمه أن يغرم.. لزمه هاهنا أن يحلف؛ لأنه قد يخاف من اليمين فيقر بالعين للمدعي، فيغرم له قيمتها. وإن قلنا: لا يلزمه أن يغرم لعمرو شيئا.. لم يلزمه هاهنا أن يحلف؛ لأنه لو خاف من اليمين فأقر بها للمدعي.. لم يفد إقراره شيئا، فلا فائدة في عرض اليمين. فإن قال المقر له: ليست العين لي، ولا بينة للمدعي.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الحاكم ينتزعها ممن هي في يده ويحفظها إلى أن يجيء من يدعيها ويقيم عليها البينة؛ لأن من في يده العين قد أسقط حقه منها بالإقرار، والمقر له قد أسقط حقه منها برد الإقرار، ولا بينة للمدعي، فصارت كلقطة لا يعرف مالكها، فكان على الحاكم حفظها. والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنها تسلم إلى المدعي؛ لأنه ليس هاهنا من يدعيها غيره. والثالث - حكاه ابن الصباغ -: أنه يقال له: من أقررت له قد رده، فإما أن تدعيها لنفسك فتكون الخصم، أو تقر بها لمن يصدقك فيكون الخصم، فإن لم تفعل.. جعلناك ناكلا، وحلفنا المدعي وسلمناها إليه. والأول أصح؛ لأن على ما قال أبو إسحاق: تدفع العين إلى المدعي بمجرد الدعوى، وهذا لا يجوز. وعلى قول من قال: إن المقر يدعيها لنفسه.. لا يصح؛

لأنه قد أقر أنه لا يملكها، فكيف يقبل قوله بعد ذلك أنه يملكها؟ وإن أقر بها من هي في يده لغائب معروف.. نظرت: فإن لم يكن مع المدعي بينة.. سقطت الخصومة بينه وبين من في يده العين؛ لأنه له حجة له، ويوقف الأمر إلى أن يقدم الغائب. فإن قال المدعي: يحلف لي من العين في يده: ما يعلم أن العين لي.. فهل يلزمه أن يحلف؟ فيه قولان، مضى ذكرهما. وإن كان مع المدعي بينة فأقامها، ولا بينة مع من بيده العين.. فإنه يحكم ببينة المدعي، وهل يحتاج إلى أن يحلف مع البينة؟ فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: يحتاج أن يحلف مع البينة؛ لأنه قضاء على الغائب، والقضاء على الغائب لا بد فيه من اليمين. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا يجب عليه أن يحلف، وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (فإذا أقام المدعي البينة.. قضي له على الذي هي في يده) ، ولم يذكر اليمين. ولأنه قضاء على الحاضر. وإن كان مع المقر بينة أن العين للمقر له وأقامها.. فإنها تسمع، فإن لم يدع المقر أنه وكيل للغائب ولا أن العين في يده وديعة ولا إجارة.. فإن بينة المدعي تقدم على بينة الغائب؛ لأن البينة إنما يحكم بها إذا أقامها المدعي أو وكيله. فلم يحكم بها كما لو أفلس رجل وأراد الحاكم قسمة ماله بين غرمائه، أو مات رجل وأراد الحاكم قسمة ماله بين ورثته، وشهد شاهدان: أن هذه العين لفلان الغائب.. فإنه لا يحكم بهذه العين للغائب. فإن قيل: فإذا كانت هذه البينة إذا أقامها المقر لا يحكم له بها.. فلم قلتم: يسمعها الحاكم؟ فالجواب: أن سماعها يفيد أمرين: أحدهما: أنه ينفي عن نفسه التهمة بالإقرار إذا أقامها. والثاني: أنه إذا أقامها.. فلا يقضي للمدعي ببينته إلا مع يمينه وجها واحدا؛ لأنه قضاء على الغائب. وإن ادعى المقر: أن العين في يده رهن أو إجارة من الغائب، وأقام البينة أن العين للغائب.. ففيه وجهان: أحدهما: تقدم بينة الغائب على بينة المدعي؛ لأنه يدعي حقا لنفسه ومعه يد وبينة، فقدمت على بينة بلا يد.

مسألة ادعى ملك جارية أو ثمرة نخلته وهي في يد غير

والثاني - وهو المنصوص -: (أنه لا يحكم ببينة المقر) ؛ لأن الرهن والإجارة إنما يثبتان بعد ثبوت الملك للراهن والمؤاجر، ولم يثبت له ملك العين. وإن ادعى من بيده العين: أنه وكيل للغائب وأقام على ذلك بينة، ثم أقام للغائب البينة بملك العين.. قدمت بينة الغائب على بينة المدعي؛ لأن للغائب يدا وبينة. وكل موضع حكمنا للمدعي بالبينة على الغائب وسلمت العين إلى المدعي، ثم حضر الغائب وادعى ملك العين وأقام بينة.. فإن العين تنزع من الأول؛ لأنه بان أن للغائب بينة ويدا، فقدمت على من له بينة بلا يد. وإن أقر بها المدعى عليه لمجهول؛ بأن قال: هي لغيري، ولم يعين المقر له.. قيل له: ليس هذا يسقط عنك الدعوى في العين، فإما أن تقر بها لمعروف ويكون خصما في العين، أو نجعلك ناكلا، وترد اليمين على المدعي ويحلف ويحكم له بالعين. فإن أقر بها لمعروف.. كان الحكم فيه ما مضى. وإن ادعاها لنفسه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يقبل؛ لأنه قد اعترف أنها لغيره، فيتضمن ذلك أنه لا يملكها. والثاني: يقبل؛ لأن إقراره الأول لم يصح، فلا يمنعه ذلك من أن يدعيها لنفسه. [مسألة ادعى ملك جارية أو ثمرة نخلته وهي في يد غير] هـ] : وإن ادعى رجل ملك جارية في يد غيره فأنكره المدعى عليه، وأقام المدعي بينة.. نظرت: فإن شهدت البينة: أن الجارية له أو ملكه.. حكم له بها. وإن شهدت: أنها له ولدتها أمته في ملكه.. حكم له بها؛ لأن هذا آكد من قولها: إنها له. وإن شهدت بينة: أنها بنت أمته ولدتها في ملكه، أو ادعى ثمرة في يد رجل وشهدت بينة: أنها ثمرة نخلته حملت بها في ملكه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (حكمت بذلك) . وقال فيمن ادعى عينا وشهدت له البينة: أنها كانت في يده أمس: (إنه لا يحكم بها) . واختلف أصحابنا فيه: فنقل أبو العباس جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى، وجعلهما على قولين في الشهادة بالملك المتقدم.

وحملهما أبو إسحاق وسائر أصحابنا على ظاهرهما، فقالوا: يحكم بالبينة هاهنا قولا واحدا، ولا يحكم بها هناك قولا واحدا. والفرق بينهما: أن الشهادة هاهنا بنماء الملك، والشهادة بنماء الملك لا تفتقر إلى إثبات ملكه في الحال، بل إذا ثبت حدوثها في ملكه.. اكتفى بذلك؛ لأن النماء تابع للأصل. والشهادة هناك على أصل الملك، فلم يحكم بها حتى يثبت الملك في الحال. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو شهد أن هذا الغزل من قطن فلان.. جعلته له. وإن شهد أن هذه الجارية بنت أمته، وأن هذه ثمرة نخلته.. لم يحكم له بها) . والفرق بينهما: أن البينة إذا شهدت أن هذا يغزل من قطنه.. فالغزل هو نفس القطن، وإنما تغيرت صفته، فكأنما شهدت أن هذا غزله. وليس كذلك إذا شهدت أنها بنت أمته أو أنها ثمرة نخلته؛ لأن الأمة قد تلدها وهي في غير ملكه، والنخلة قد تثمر وهي في غير ملكه، ثم يملك الأمة والنخلة، ولا يملك الولد والثمرة؛ لأنه لا يمكن أن يكون الغزل حاصلا قبل حصول القطن له، فإذا أثبتت البينة له ملك القطن.. تضمن ذلك إثبات ما حدث منه، وهو الغزل، فحكم له بملكه. وليس كذلك إذا شهدت أن هذه الجارية بنت أمته، أو أن هذه الثمرة من نخلته؛ لأنهما قد يحدثان قبل حدوث ملك الجارية والنخلة، فليس فيه إثبات ملك الجارية له. ولأنه قد يوصي لرجل بما تلد الجارية وتثمر النخلة، فيحدث الولد والثمرة في ملك الموصى له مع كون الجارية والنخلة ملكا لغيره. قال الشيخ أبو إسحاق: وهكذا إذا ادعى طيرا أو آجرا، فأقام بينة أن الطير من بيضه وأن الآجر من طينه.. فإنه يحكم به له؛ لما ذكرناه في الغزل. قال أبو العباس: وإن شهد له شاهدان أن هذا الثوب من غزله، وأن هذه الثمرة من نخلته.. حكم له بذلك. قال الشيخ أبو حامد: وهذا تفريع من أبي العباس على القول الذي اختاره إذا شهدت له البينة: أنه كان في ملكه أمس.. أنه يحكم له بذلك.

مسألة ادعاء شراء عين من غير من هي في يده

[مسألة ادعاء شراء عين من غير من هي في يده] إذا كان في يد زيد دار، فادعى عمرو أنها له وأقام بينة أنه اشتراها من خالد.. لم يحكم لعمرو بالدار حتى تشهد بينته: أنه اشتراها من خالد وهو يملكها، أو: أنه اشتراها من خالد وسلمها خالد إليه؛ لأن الظاهر أنه لا يسلم إلا ملكه. وإن شهدت أنه ملك لعمرو واشتراها من خالد.. حكم له بها؛ لأنها قد أثبتت الملك لعمرو. فأما إذا شهدت بينته أنه اشتراها من خالد وأطلقت.. لم يحكم له بها؛ لأنه قد يبيع ما لا يملك بيعه. فإن قيل: فإذا شهدت أنه اشتراها من خالد وهو يملكها.. فقد حكمتم بالشهادة بملك ماض، وقد قلتم: إن البينة إذا شهدت له أنها كانت في ملكه أمس.. لم يحكم له بها على الصحيح من المذهب. قلنا: الفرق بينهما: أن ملك المشتري إنما يثبت من جهة البائع، فإذا ثبت ملك البائع.. كان الملك الآن ثابتا للمشتري؛ لأن الأصل بقاؤه، فصار كما لو شهدت له البينة: أنه يملك العين منذ سنة، ويخالف إذا شهدت له البينة: أنها كانت في ملكه أمس؛ لأن ذلك لا يقتضي بقاء ملكه الآن. [فرع ادعى زيد ملك عين في يد رجل أنه ملكها منذ سنة وادعى آخر شراءها منه منذ خمس سنين] وإن ادعى زيد ملك عين في يد رجل وأقام بينة أنها ملكه منذ سنة، وادعى آخر أنه ابتاعها من هذا المدعي منذ خمس سنين وكان مالكا لها وقت البيع.. فإنه يحكم ببينة الابتياع؛ لأن البائع قد أقام بينة أنه يملكها منذ سنة، وثبوت الملك لها منذ سنة لا ينفي الملك قبل ذلك، فإذا أقام المدعي للابتياع بينة بالابتياع.. فقد ثبت أنه ابتاعها هذا من المدعي من مالك، فقدمت على بينة البائع؛ لأن بينة البيع شهدت بأمر حادث خفي على البينة التي شهدت للبائع بأصل الملك فقدمت، كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل.

فرع ادعى ملك الدار من سنتين وادعى آخر شراءها منه منذ سنتين

وهكذا: لو شهدت بينة المدعي: أنه ابتاعها من هذا المدعي فسلمها إليه.. فإنه يحكم بها للمدعي للابتياع؛ لأن بينة البائع قد أثبتت له الملك، وبينة المبتاع قد أثبتت له البيع والتسليم، فثبت أن اليد كانت للبائع في حال البيع. وهاتان المسألتان وفاق بيننا وبين أبي حنيفة، وأما إذا أقام المدعي للابتياع بينة، فشهدت أنه ابتاعها من زيد فحسب.. فإنه يحكم بها للمبتاع. وقال أبو حنيفة: (يحكم بها لزيد، ولا يحكم بها للمبتاع إلا أن شهدت البينة أن زيدا باع ما يملكه أو ما في يده؛ لأن البيع المطلق ليس بحجة) . دليلنا: أنه قد ثبتت بالبينة الأولى إزالة يد من الدار بيده، وإثبات الملك لزيد، فإذا قامت البينة على زيد بالبيع.. فالظاهر أنه لا يبيع إلا ما ملكه فحكم بذلك، وصار بمنزلة أن يقيم رجل البينة أن هذه الدار له، وأقام آخر البينة أنه ابتاع الدار منه.. فإنه يحكم بها للمبتاع منه. [فرع ادعى ملك الدار من سنتين وادعى آخر شراءها منه منذ سنتين] قال في " الأم ": (وإن ادعى رجل: أن هذه الدار ملك له منذ سنتين وأقام على ذلك بينة، وادعى آخر: أنه ابتاعها منه منذ سنتين وأقام على ذلك بينة.. حكم بها للمبتاع؛ لأن بينته شهدت بأمر حادث ربما خفي على شاهدي الملك فقدمت، كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل) . [فرع في يد رجل دار فادعاها آخر وأنه كان قد أجره إياها] فرع: [في يد رجل دار فادعاها آخر وأنه كان قد أجره أو أودعه إياها أو غصبها منه] : قال أبو العباس: إذا كان في يد رجل دار، فادعاها آخر وأقام بينة أنها له أجرها ممن هي في يده، أو أودعه إياها، أو غصبها منه، فأقام على ذلك بينة، وأقام من في يده الدار بينة أنها ملكه.. قدمت بينة الجارح؛ لأنها شهدت له بالملك واليد، وأثبتت أن يد صاحب الدار نائبة عنه في الإجارة أو الوديعة، وإذا شهدت بالغصب.. فقد شهدت بأمر خفي على بينة الملك فقدمت، كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل.

فرع في يد رجل دار فادعاها اثنان أنه غصبها أو أجراها إياه

[فرع في يد رجل دار فادعاها اثنان أنه غصبها أو أجراها إياه] فرع: [في يد رجل دار فادعاها اثنان أحدهما أنه غصبها منه والآخر أنه أجره إياها] : وإن كان في يد رجل دار فادعاها اثنان، وأقام أحدهما بينة أن الذي في يده الدار غصبها منه، وأقام الآخر بينة أن هذه الدار أقر له بها من هي بيده.. حكم للدار للمغصوب منه؛ لأنه قد ثبت بالبينة أن من في يده الدار غاصب لها، وإقرار الغاصب لها غير مقبول. ولا يلزم المقر أن يغرم للمقر له قيمة الدار قولا واحدا، بخلاف ما لو قال: هذه الدار لزيد، لا بل لعمرو.. فإنه يلزمه أن يغرم لعمرو قيمة الدار في أحد القولين. والفرق بينهما: أنه إذا أقر بها لزيد ثم أقر بها لعمرو.. فقد أتلفها على عمرو بإقراره فيها لزيد وحال بينها وبينه، وهاهنا لم يتلف على المقر له شيئا، وإنما لزمه تسليمها بالبينة. فإن ادعى رجلان دارا في يد رجل، وأقام أحدهما بينة أنها له أودعها عند من هي في يده، وأقام الآخر بينة أنها له أجرها ممن هي في يده.. فقد تعارضت البينتان: فإن قلنا: يسقطان.. رجع إلى من هي في يده، فإن ادعاها لنفسه.. حلف لكل واحد منهما، وإن أقر بها لأحدهما.. سلمت إليه، وهل يحلف للآخر؟ فيه قولان. وإن أقر لهما بها.. قسمت بينهما، وهل يحلف لكل واحد منهما على النصف؟ فيه قولان. وإن قلنا لا يسقطان، وإنما يستعملان.. ففي الاستعمال الأقوال الثلاثة، وقد تقدم ذكرها. [مسألة تنازعا دارا في يد رجل وادعاها كل منهما وأنه اشتراها منه ونقده الثمن] إذا تنازع رجلان دارا، وادعى كل واحد منهما أنه اشتراها من زيد وهو يملكها بثمن معلوم ونقده الثمن، وأقام كل واحد منهما بينة، فإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا مختلفا؛ بأن شهدت بينة أحدهما بأنه اشتراها في المحرم، وشهدت بينة الآخر بأنه اشتراها في صفر.. قدمت بينة الذي اشتراها في المحرم؛ لأنه بان أنه باعها في صفر بعد زوال ملكه عنها بالبيع في المحرم، ويطالب البائع برد الثمن للمشتري الثاني الذي قبضه. وإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا واحدا، أو مطلقتين، أو إحداهما مؤرخة

والأخرى مطلقة، فإن كانت الدار في يد أحد المدعيين.. قضي له بها؛ لأنه اجتمع له اليد والبينة. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه لا يرجح باليد هاهنا؛ لأنهما تقارا على أن اليد كانت قبل ذلك لغيرهما، وكل واحد منهما يدعي أن اليد انتقلت إليه، فلم يقر الثاني أن هذه اليد يده. والأول هو المشهور. وإن كانت الدار في يد البائع.. تعارضت البينتان: فإن قلنا: يسقطان.. رجع إلى البائع، فإن كذبهما.. حلف لكل واحد منهما، وهل لهما استرداد الثمن منه؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] : أحدهما: لهما ذلك؛ لأنا قد حكمنا بالبينة أن كل واحد منهما قد سلم الثمن ولم يحصل له المثمن. والثاني: ليس لهما ذلك؛ لأنا قد حكمنا بسقوط البينتين. فإن أقر بالبيع لأحدهما.. سلمت الدار إليه بالثمن الذي ادعى أنه ابتاعها به، وهل يحلف للآخر؟ فيه قولان. وإن أقر بالبيع لهما.. كان لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، وهل يحلف لكل واحد منهما على النصف الذي للآخر؟ فيه قولان. وإن قلنا إن البينتين لا تسقطان، وإنما تستعملان، فإن صدق البائع أحدهما.. فهل تقدم بينة من صدقه؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو العباس: تقدم بينته؛ لأن اليد للبائع، فإذا صدق أحدهما.. فكأنه نقل يده إليه، فاجتمعت له اليد والبينة فقدمت، كما لو كانت الدار في يد أحد المتداعيين. والثاني: لا تقدم بينة المصدق، وهو قول أكثر أصحابنا، وهو الأصح؛ لأن البينتين قد اتفقتا على إزالة يد البائع. فإذا قلنا بهذا: ولم يصدق البائع أحدهما.. ففي كيفية الاستعمال الأقوال الثلاثة: أحدها: الوقف، ولا يتأتى الوقف هاهنا؛ لأنهما يتداعيان عقدا والعقد لا يمكن وقفه. والثاني: القرعة.

فعلى هذا: يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. حكم له بالدار بالثمن الذي اشتراه به، وهل يحلف مع خروج القرعة له؟ على القولين. ويرجع الآخر بالثمن الذي دفعه. والثالث: القسمة. فعلى هذا: تقسم بينهما الدار، ويكون لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاعه به، ولكل واحد منهما الخيار في فسخ البيع؛ لأن الصفقة تبعضت عليه. فإن اختارا جميعا الفسخ وفسخا.. رجعت الدار إلى المدعى عليه، ورجع عليه كل واحد منهما بالثمن الذي دفع. وإن اختار جميعا الإمساك.. أمسك كل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، ورجع على البائع بنصفه. وإن اختار أحدهما الفسخ واختار الآخر الإمساك.. قال الشيخ أبو حامد: فينظر فيه: فإن اختار أحدهما الفسخ أولا، ثم اختار الآخر الإمساك.. فإنه يمسك الدار بجميع الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به؛ لأنه قد ادعى أنه ابتاع جميع الدار وشهدت له البينة بذلك، وإنما لم يحكم له بالجميع لمزاحمة غيره، فإذا سقط حق غيره.. كان له إمساك الجميع. وإن اختار أحدهما الإمساك أولا، ثم اختار الآخر الفسخ.. فإن الأول يستقر ملكه على نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، وليس له أن يأخذ النصف الذي فسخ الثاني البيع فيه؛ لأنه قد أمسك النصف وحكم الحاكم بإمضاء البيع فيه وفسخه في النصف الآخر، فلم ينتقض الحكم فيه، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا فسخ أحدهما البيع في نصف الدار.. فهل على البائع تسليم ذلك النصف إلى المدعي الآخر؟ فيه وجهان من غير تفضيل: أحدهما: عليه ذلك؛ لأنه قد أقام البينة على أنه يستحق جميع الدار، إلا أنه تعذر تسليم الكل إليه لأجل صاحبه، فإذا ارتفع ذلك.. سلم إليه. والثاني: لا يسلم إليه؛ لأن بينة الذي فسخ شهدت له بالملك، فإذا فسخ البيع.. انتقل الملك فيه إلى المدعى عليه.

مسألة خصمان ادعيا شراء دار كل واحد من بائع

[مسألة خصمان ادعيا شراء دار كل واحد من بائع] وإن تنازع رجلان دارا، فادعى أحدهما أنه ابتاعها من زيد بمائة وهو يملكها ونقده الثمن ولم يسلم إليه الدار وأقام على ذلك بينة، وادعى الآخر أنه ابتاعها من عمرو بمائة وهو يملكها ونقده الثمن ولم يسلم إليه الدار وأقام على ذلك بينة، فإن كانت الدار في يد أحد المتداعيين.. قضي له بالدار بالثمن الذي ادعى أنه ابتاع به؛ لأنه اجتمع له اليد والبينة. وإن كانت الدار في يد أحد البائعين أو في يد أجنبي.. فالبينتان متعارضتان؛ لأنه لا يجوز أن تكون جميع الدار ملكا لاثنين ويبيع كل واحد منهما جميعا من واحد. فإن قلنا: إنهما تسقطان، وكانت الدار في يد أحد البائعين أو كانت في يد أجنبي.. كان القول قول من كانت الدار في يده، فإن ادعاها لنفسه.. حلف لكل واحد منهما يمينا، وإن أقر بها لأحدهما.. سلمت إليه وسلم الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به إلى الذي ادعى أنه باعه، وهل يحلف المقر للآخر؟ فيه قولان. وإن أقر لهما بها.. كان لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، وهل يحلف لكل واحد منهما على النصف الآخر؟ فيه قولان. وإن قلنا: إن البينتين تستعملان، وكانت الدار في يد أحد البائعين، فإن صدق الذي ادعى: أنه ابتاع منه.. فهل ترجح بينته بذلك؟ فيه وجهان. فإذا قلنا: لا ترجح أو لم يصدقه.. استعملتا، ولا يجيء الوقف هاهنا؛ لأن العقود لا توقف. وإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. حكم له بالدار بالثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، ورجع الآخر بالثمن الذي دفعه. وإن قلنا بالقسمة.. كان لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، وثبت لكل واحد منهما الخيار في فسخ البيع؛ لأن الصفقة تبعضت عليه. فإن اختار الإمساك.. رجع كل واحد منهما بنصف الثمن الذي دفع؛ لأنه لم يسلم له إلا نصف الدار. وإن اختار الفسخ.. رجع كل واحد منهما بما دفع من الثمن. وإن اختار أحدهما الفسخ والآخر الإمساك.. قال الشيخ أبو حامد: فإن الذي اختار الفسخ

مسألة في يد رجل دار فادعى أحد الخصمين أنه باعها منه بمائة وادعى الآخر مثله

يرجع بجميع الثمن الذي دفع ولا يسلم هذا النصف الذي فسخ فيه البيع إلى الذي اختار الإمساك. والفرق بينهما وبين التي قبلها: أن البائع هناك واحد، وكل واحد من المدعيين قد أقام البينة أنه اشترى منه، وإنما لم يمسك جميعه لمزاحمة غيره له، فإذا سقطت المزاحمة.. كان له إمساك، وهاهنا البائع اثنان، والمشتري اثنان، وكل واحد منهما يدعي أنه ابتاع من واحد، فإذا فسخ أحدهما البيع مع بائعه.. لم يكن للآخر أن يأخذه؛ لأنه لا يأخذه من غير بائعه. وأما إذا ادعى كل واحد من المشتريين: أنه قبض الدار وقامت عليه البينة بذلك.. فالحكم فيه ما ذكرناه إذا لم يقبض الدار إلا في شيء واحد، وهو: أنه لا يرجع على الذي باعه بالثمن الذي دفعه إليه ولا ببعضه؛ لأنه إذا لم يقبض المبيع.. فقد تعذر عليه قبض المبيع، فصار ضمان عهدته على بائعه، فيرجع عليه بالثمن الذي دفعه إليه. فإذا قبض المبيع.. فقد استقر عليه الثمن وإنما غصب منه الدار بعد ذلك، فلا يلزم البائع ضمان عهدته. [مسألة في يد رجل دار فادعى أحد الخصمين أنه باعها منه بمائة وادعى الآخر مثله] وإن كان في يد رجل دار، فادعى زيد أنه باعها منه بمائة وأقام على ذلك بينة، وادعى عمرو أنه باعها منه بمائة وأقام على ذلك بينة.. نظرت: فإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا واحدا.. فهما متعارضتان؛ لأنه يستحيل أن يكون جميع الدار ملكا لاثنين في وقت واحد. فإن قلنا: إنهما يسقطان.. رجع إلى المدعى عليه، فإن أنكرهما من الشراء.. حلف لكل واحد منهما يمينا، وإن أقر أنه ابتاع جميع الدار من كل واحد منهما.. لزمه الثمنان؛ لأنه يجوز أن يبتاعه من أحدهما، ثم يخرج من ملكه إلى ملك الآخر ثم يبتاعه منه. وإن أقر أنه ابتاعه من أحدهما.. لزمه الثمن له وحلف للآخر قولا واحدا؛ لأنه لو أقر أنه ابتاعه منه.. لزمه الثمن له. وإن قال: ابتعته منكما.. فقد أقر لكل واحد منهما بنصف الثمن الذي ادعى أنه باعه منه، ويلزمه أن يحلف لكل واحد منهما على النصف الآخر قولا واحدا. وإن قلنا: إنهما يستعملان.. فلا يجيء هاهنا الوقف؛ لأن العقود لا توقف،

مسألة ادعى ملك عين أو عبد وادعى آخر أنه باعه إياها أو وقفها عليه

ولكن تجيء القرعة أو القسمة. فإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما، فإذا خرجت لأحدهما القرعة.. حكم له بالثمن الذي ادعاه، وهل يحلف مع خروج القرعة له؟ على القولين، ويكون للذي لم تخرج له القرعة أن يحلف المشتري؛ لأنه لو أقر له بعد ذلك.. لزمه الثمن له. وإن قلنا بالقسمة.. لزمه لكل واحد منهما نصف الثمن الذي ادعاه، ولا خيار للمشتري؛ لأن جميع الدار قد حصلت له، ولا فرق بين أن تحصل من واحد منهما أو من اثنين. ولكل واحد من البائعين أن يحلفه على نصف الثمن؛ لأنه لو أقر لكل واحد منهما.. لزمه ما أقر به له. وإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا مختلفا؛ بأن شهدت بينة أحدهما: أنه باعها منه في المحرم، وبينة الآخر: أنه باعها منه في صفر.. لزمه الثمنان؛ لأنه يجوز أن يبتاعها منه في المحرم، ثم تخرج من ملكه، ثم يبتاعها من الآخر في صفر وهي في ملكه. وإن كانت البينتان مطلقتين، أو إحداهما مطلقة، والأخرى مؤرخة.. ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه الثمنان؛ لأنه يمكن أن يكون قد اشتراها منهما في وقتين. والثاني: أنهما تتعارضان، فيكونان كما لو كانتا مؤرختين تأريخا واحدا؛ لأنه يحتمل أن يكونا في وقتين فيلزمه الثمنان، ويحتمل أن يكونا في وقت واحد، فتكونان متعارضتين، والأصل براءة ذمته من الثمنين. هكذا: ذكر الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ، وأما الشيخ أبو حامد.. فقال: فيه وجهان: أحدهما: يلزمه الثمنان؛ لما مضى. والثاني: لا يلزمه إلا ثمن واحد وهو المتيقن وجوبه، ويسقط الثمن الآخر بالشك في وجوبه. [مسألة ادعى ملك عين أو عبد وادعى آخر أنه باعه إياها أو وقفها عليه] وإن ادعى رجل ملك عين وأقام على ذلك بينة، وادعى آخر على هذا المدعي أنه باعه تلك العين أو وقفها عليه، أو كانت العين عبدا فادعى أن المدعي أعتقه وأقام

المدعي الثاني بينة بما ادعاه.. قدمت بينة المدعي الثاني على بينة المدعي الأول؛ لأن بينة الأول شهدت بأصل الملك، وبينة الثاني شهدت بأمر حادث ربما خفي عن بينة الملك فقدمت. وإن كان في يد رجل عبد، فادعى رجل أنه ابتاع منه هذا العبد وأقام على ذلك بينة، وادعى العبد أن سيده الذي هو في يده أعتقه وأقام على ذلك بينة.. نظرت: فإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا مختلفا.. قضي بالبينة الأولى، سواء كانت بيعا أو عتقا؛ لأن صحة الأول تمنع صحة الثاني. وإن كانتا مطلقتين أو مؤرختين تأريخا واحدا، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة.. فهما متعارضتان. فإن كان العبد في يد المشتري.. قدمت بينته؛ لأن له يدا وبينة. وقال المزني: تقدم بينة العبد؛ لأن يده ثابتة على نفسه. وهذا ليس بصحيح؛ لأن العبد لا تثبت له يد على نفسه؛ بدليل: أنه لو كان له عبد في يد رجل فادعاه آخر، وأقام كل واحد منهما بينة، وصدق العبد الخارج.. فإنه لا يحكم له به، فلو ثبت للعبد يد على نفسه.. لكان قد اجتمع للخارج يد وبينة. وإن كان العبد في يد المدعى عليه، فإن قلنا: إنهما يسقطان. رجع إليه، فإن كذبهما.. فالقول قوله مع يمينه، فيحلف لكل واحد منهما يمينا. وإن صدق أحدهما وكذب الآخر.. حكم للذي صدقه بما ادعاه، ولا يحلف للآخر قولا واحدا؛ لأنه لا يلزمه له غرم؛ لأنه إن صدق العبد أولا.. فإقراره بالبيع بعده لا يحكم به، إلا أنه يلزمه رد الثمن إن كان قد قبضه، وإن صدق المشتري أولا.. فإقراره بالعتق لا يصح ولا يلزمه غرم للعبد. وإن قلنا: إنهما يستعملان، فصدق السيد المشتري أو العبد.. فهل ترجح بينة المصدق منهما؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. فإن قلنا: لا ترجح بينة المصدق منهما، أو لم يصدق أحدهما.. فلا يجيء في الاستعمال هاهنا الوقف؛ لأن الاختلاف بالعقد والعقود لا توقف، ولكن تجيء القرعة أو القسمة. فإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما، فإن خرجت القرعة للعبد.. عتق، ورجع المشتري بالثمن على البائع إن كان قد دفعه إليه. وإن خرجت القرعة للمشتري.. ملك العبد. وإن قلنا بالقسمة.. حكم للمبتاع بنصف العبد بنصف

مسألة علق عتق عبده بقتله أو علق عتق عبديه بصفتين متغايرتين

الثمن، ورجع بنصف الثمن إن كان قد دفعه، وحكم بعتق نصف العبد، ويكون المبتاع بالخيار؛ لأن الصفقة تبعضت عليه. فإن اختار الفسخ.. حكم بعتق جميع العبد على البائع؛ لأن البينة قد شهدت بعتقه، وإنما لم يحكم بعتق جميعه لمزاحمة المبتاع له، فإذا سقطت المزاحمة.. حكم بعتق جميع العبد. وإن اختار الإمساك، فإن كان البائع معسرا.. لم يقوم عليه باقي العبد، وإن كان موسرا.. فهل يقوم عليه باقي العبد؟ فيه قولان، وقيل: هما وجهان: أحدهما: لا يقوم عليه؛ لأنه لم يعتق عليه باختياره، فلم يقوم عليه كما لو ورث نصف من يعتق عليه؛ فإنه لا يقوم عليه الباقي. والثاني: يقوم عليه الباقي؛ لأن البينة قد شهدت عليه: أنه أعتق جميعه باختياره. [مسألة علق عتق عبده بقتله أو علق عتق عبديه بصفتين متغايرتين] قال في " الأم": (إذا قال لعبده: إن قتلت فأنت حر، فأقام العبد بينة أنه قتل، وأقام الورثة بينة أنه مات حتف أنفه.. ففيه قولان: أحدهما: تقدم بينة العبد فيعتق؛ لأن معها زيادة صفة؛ لأن كل قتل موت، وليس كل موت قتلا. والثاني: أنهما متعارضتان، فتسقطان ويرق العبد؛ لأن بينة القتل تثبت القتل وتنفي الموت، وبينة الموت تنفي القتل وتثبت الموت، فتسقطان ويرق العبد) . هكذا ذكر الشيخان: أبو حامد وأبو إسحاق. قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون على قوله الجديد: (أن البينتين إذا تعارضتا سقطتا) ، ويجيء على قوله القديم إذا قلنا: (تستعملان) الأقوال الثلاثة في الاستعمال. قال في " الأم ": (وإن كان له عبدان، سالم وغانم، فقال لسالم: إن مت في رمضان فأنت حر، أو قال لغانم: إن مت في شوال فأنت حر، ثم مات وأقام سالم بينة أنه مات في رمضان، وأقام غانم بينة أنه مات في شوال.. ففيه قولان:

أحدهما: تقدم البينة التي شهدت أنه مات في رمضان فيعتق سالم؛ لجواز أن يكون مات في رمضان وخفي موته فلم يظهر إلا في شوال، فشهدت بينة غانم بموته في شوال عند ظهوره، فبينة سالم معها زيادة علم فقدمت. والثاني: أنهما متعارضتان؛ لأنه لا يجوز أن يموت في رمضان وشوال. قال الشيخ أبو إسحاق: فعلى هذا: يرق العبدان. قلت: وينبغي أن يقال هاهنا كما قال ابن الصباغ في التي قبلها: إن هذا على القول الجديد: (إن البينتين إذا تعارضتا.. سقطتا) . فأما إذا قلنا بالقول القديم: (تستعملان) فإنه وجب أن يكون هاهنا في الاستعمال ثلاثة أقوال. قال في " الأم ": (وإن قال لعبده سالم: إن مت من مرضي هذا فأنت حر، وقال لعبده غانم: إن برأت من مرضي هذا فأنت حر، ثم مات وأقام سالم بينة أنه مات من مرضه ذلك، وأقام غانم بينة أنه برأ من مرضه ذلك ومات من غيره.. فهما متعارضتان قولا واحدا؛ لأن كل واحدة منهما تكذب الأخرى) . قال الشيخ أبو إسحاق: فيرق العبدان. قلت: وينبغي أن يقال هاهنا ما قاله ابن الصباغ في الأولى: إن هذا على القول الجديد، فأما على القول القديم: فيأتي فيه الأقوال الثلاثة في الاستعمال. هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قامت بينة أنه مات من مرضه، وبينة ببرئه من مرضه.. ففيه قولان: أحدهما: أنهما متعارضتان. والثاني: أنه يحكم بالبينة التي شهدت بموته من مرضه ذلك. وإن قال رجل لعبده: إن لم أحج هذا العام فأنت حر، فأقام السيد بينة أنه وقف على عرفات تلك السنة، وأقام العبد بينة أن السيد كان يوم النحر في بغداد.. فإنه

مسألة اختلاف المتكاريين في الكراء أو المتبايعين في الثمن

لا يحكم بعتق العبد. وقال أبو حنيفة: (يعتق) . دليلنا: أنه يحتمل أنه حصل له ذلك من طريق الكرامة، وأنه سار من عرفات ومكة إلى بغداد بليلة واحدة. وإن أقام السيد بينة أنه وقف على عرفات تلك السنة، وأقام العبد البينة أنه كان في بغداد يوم عرفة.. فلا أعلم فيها نصا، والذي يقتضي المذهب: أنهما متعارضتان؛ لأن كل واحدة منهما تكذب الأخرى، فيرق العبد على القول الجديد الذي يقول: يسقطان عند التعارض، وعلى القول القديم يكون على الأقوال الثلاثة في الاستعمال: أحدها: الوقف إلى أن ينكشف الحال. والثاني: القرعة. والثالث: القسمة. فإذا قلنا بهذا: أعتق جميع العبد؛ لأنه عتق نصفه بالبينة، وعتق نصفه الآخر بالسراية؛ لأنه موسر بباقيه. [مسألة اختلاف المتكاريين في الكراء أو المتبايعين في الثمن] وإن اختلف المتكاريان في قدر الكراء، أو في قدر المكرى، أو في قدر المدة، أو في جنس الكراء، أو في عين المكرى، أو اختلف المتبايعان في قدر الثمن، أو في قدر المثمن، أو في قدر الأجل، أو في جنس الثمن، فإن لم يكن مع أحدهما بينة.. فقد مضى ذكره في (اختلاف المتبايعين) . وإن كان مع أحدهما بينة دون الآخر.. قضي لصاحب البينة. وإن كان مع كل واحد منهما بينة، فإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا مختلفا.. قضي بالأولى منهما؛ لأن العقد الأول يمنع صحة الثاني. وإن كانتا مطلقتين، أو مؤرختين تأريخا واحدا، أو إحداهما مطلقة والأخرى

مؤرخة، فإن كان الاختلاف في جنس الكراء، أو في عين المكرى، أو في جنس الثمن.. فهما متعارضتان بلا خلاف على المذهب؛ لأن كل واحدة منهما تكذب الأخرى. وإن كان الاختلاف في قدر الكراء، أو في قدر المكرى، أو في قدر المدة، أو في قدر الثمن، أو في قدر المثمن، أو في قدر الأجل.. فالمنصوص: (أنهما متعارضتان) . وقد خرج أبو العباس قولا آخر: أنهما غير متعارضتين، بل يقضى بالبينة التي تشهد بالزائد من ذلك كله، كما لو شهد شاهدان: أن لفلان على فلان ألف درهم، وشهد آخر: أن له عليه ألفين.. فإنه يحكم عليه بالألفين. وهذا خطأ؛ لأن كل واحدة من البينتين مكذبة للأخرى، فهو كما لو شهدت بينة لرجل بملك عين وشهدت بينة أخرى لآخر بملكها، وتخالف البينتين في الألف والألفين؛ لأن كل واحدة منهما لا تكذب الأخرى. وكل موضع قلنا: إنهما متعارضتان.. ففيهما قولان: أحدهما: تسقطان. فعلى هذا: يكون كما لو لم يكن لأحدهما بينة فيتحالفان. والثاني: تستعملان، ولا يجيء هاهنا الوقف؛ لأن العقود لا توقف، ولا تجيء القسمة؛ لأنهما يختلفان في عقد والعقد لا ينقسم، وتجيء القرعة، فيقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. قضى له. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن كانت كل واحدة من البينتين زائدة من وجه ناقصة من وجه؛ مثل أن يقول المكري: أكريتك بيتا بعشرين، وقال المكتري: بل اكتريت منك جميع الدار بعشرة.. ففيه قولان: أحدهما: أنهما متعارضتان. والثاني: يجمع بين الزيادتين، فيجعل جميع الدار مكراة بعشرين. وأظن المسعودي فرع هذا على قول أبي العباس: أنه يقضي بالبينة التي تشهد بالزيادة، فأما على المذهب: فهما متعارضتان قولا واحدا. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن قال أحدهما: استأجرت هذه الدار من زيد في شهر رمضان لسنة كذا بكذا، وأقام على ذلك بينة، وقال الآخر: استأجرتها من زيد

مسألة ادعيا دارا وأضافا سببا يقتضي اشتراكهما فيها أو لا يقتضي ذلك

في شوال سنة كذا بكذا، وأقام على ذلك بينة.. ففيه قولان: أحدهما: أن بينة رمضان أولى؛ لأنها أسبق. والثاني: أن بينة شوال أولى؛ لأنها ناسخة للأولى، فيجعل كأنهما تقايلا في الإجارة في رمضان، ثم أجرها من الثاني في شوال. وأراد المسعودي بهذين القولين: إذا تنازع المتكاريان لدار من رجل في مدة واحدة، فادعى كل واحد منهما أنه اكتراها من مالكها تلك المدة، وبينة أحدهما أقدم تأريخا. والذي يقتضي المذهب: أن الأول أصح، كما قلنا في الرجلين إذا ادعيا أنهما ابتاعا من رجل دارا وبينة أحدهما أقدم تأريخا.. فإنه يقضى له. [مسألة ادعيا دارا وأضافا سببا يقتضي اشتراكهما فيها أو لا يقتضي ذلك] وإن ادعى رجلان دارا في يد رجل وأضافا الدعوى إلى سبب يقتضي اشتراكهما فيها؛ بأن قالا: ورثناها من أبينا وغصبتها منا قبل أن نقبضها، أو غصبتها من أبينا في حياته، فأقر المدعى عليه بنصفها لأحدهما.. شارك المدعي الثاني المقر له في هذا النصف المقر به؛ لأنهما أضافا الدعوى إلى سبب يوجب اشتراكهما في كل جزء منها، ولهذا: لو كان طعاما فهلك بعضه.. كان هالكا منهما، فكان الباقي بينهما. فإذا أقر بالنصف وجحدهما عن النصف.. كان الذي أقر به بينهما، والذي أنكر منه بينهما. وإن قالا: ابتعناها صفقة واحدة وغصبتها منا قبل أن نقبضها، فأقر لأحدهما بالنصف.. فهل يشارك المدعي الثاني المقر له في هذا النصف؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -: أنه يشاركه فيه؛ لأن ابتياعهما لها في صفقة واحدة سبب يوجب اشتراكهما في كل جزء منها، فهو كما لو قالا: ورثناها. والثاني - وهو اختيار القاضي أبي الطيب، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره -: أنه لا يشاركه فيه؛ لأن البيع من اثنين بمنزلة البيع في صفقتين.

فرع ادعيا دارا في يد رجل كل ادعى نصفها ولم يبينا سببا للشركة

قال الشيخ أبو حامد: وإن قالا: ورثناها من أبينا وقبضناها ثم غصبتها علينا، فأقر لأحدهما بنصفها.. لم يشارك المدعي الثاني المقر له بالنصف المقر به؛ لأن بعد القبض يجوز أن يغصب نصيب أحدهما دون نصيب الآخر. وأما الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: فلم يشترطا عدم قبضهما لها في اشتراكهما في النصف المقر به لأحدهما. وإن ادعيا العين وأضافا الدعوى إلى سببين، أو أطلقا الدعوى، أو أضاف أحدهما إلى سبب وأطلق الآخر دعواه، فأقر لأحدهما بنصفها.. لم يشارك المدعي الثاني المقر له في هذا النصف؛ لأن دعوى المقر له لا تقتضي أن الثاني يشاركه فيما أقر له به منها. [فرع ادعيا دارا في يد رجل كل ادعى نصفها ولم يبينا سببا للشركة] فرع: [ادعيا دارا في يد رجل كل ادعى نصفها ولم يضيفا سببا يقتضي اشتراكهما] : وإن كانت دار في يد رجل، وادعى رجلان كل واحد منهما نصفها ولم يضيفا الدعوى إلى سبب يقتضي اشتراكهما، فأقر المدعى عليه لأحدهما بجميع الدار.. نظرت: فإن كان قد سمع من المقر له إقرار للمدعي الثاني بنصفها قبل ذلك، أو أقر له الآن بنصفها.. لزمه تسليم النصف إليه؛ لأنه أقر له بذلك، فإذا صارت الدار بيده.. لزمه تسليم ما أقر له به. وإن لم يسمع من المقر له إقرار قبل ذلك بنصفها للمدعي الثاني، ولا أقر له به الآن، بل ادعى المقر له أن جميعها له.. حكم له بجميعها؛ لأنه يجوز أن يكون الجميع له، ودعواه في نصفها صحيحة؛ لأن من له الجميع.. فله النصف، وإنما خص النصف بالدعوى؛ لأنه عالم أنه يقر له بالنصف أو له بالنصف بينة، فادعى ما فيه خلف بينهما. ولأنه يجوز أن يكون له النصف في حال الدعوى، ثم يحدث له ملك النصف بعد الدعوى بإرث أو ابتياع، فيكون له الجميع. وإن أقر المدعى عليه لأحدهما بجميعها ولم يسمع من المقر له إقرار للمدعي الثاني بنصفها ولا ادعى الجميع لنفسه، بل قال: لي النصف لا غير، والنصف الثاني لا أدري لمن هو.. ففيه ثلاثة أوجه:

مسألة مات عن ابنين نصراني ومسلم وكلاهما يدعي أن أباه مات على دينه

أحدها: أنه يبقى على ملك المدعى عليه؛ لأنه أقر به لمن لا يدعيه، فيبقى على ملكه. والثاني: يدفع إلى المدعي الثاني؛ لأن بإقرار المدعى عليه بجميع الدار للمدعي الثاني أخبر أنه لا يملك شيئا من الدار، وبرد المقر له إقراره في هذا النصف أخبر أنه لا يملكه، فلم يبق له هاهنا مدع له إلا المدعي الثاني، فوجب تسليمه إليه. والثالث: أن الحاكم ينتزعه من يد المدعى عليه، ويحفظه إلى أن يجيء من يدعيه ويقيم عليه البينة؛ لأن الذي في يده الدار لا يدعيه، والمقر له به لا يدعيه، ولا يجوز أن يسلم إلى المدعي الثاني بالدعوى، فلم يبق إلا أن يحفظه الحاكم. قال ابن الصباغ: فعلى هذا: يؤاجره الحاكم ويحفظ أجرته. وقال أبو علي في " الإفصاح ": يفرقها الحاكم في مصالح المسلمين. وليس بشيء؛ لأن الأجرة تابعة للأصل. والأول أصح. [مسألة مات عن ابنين نصراني ومسلم وكلاهما يدعي أن أباه مات على دينه] وإن مات رجل وخلف ابنين، مسلما ونصرانيا، لا وارث له غيرهما، وادعى كل واحد منهما أن أباه مات على دينه وأقام على ذلك شاهدين مسلمين عدلين.. فلا يخلو حال الميت: إما أن يعرف أصل دينه أنه كان نصرانيا، أو لا يعرف أصل دينه. فإن عرف أصل دينه وأنه كان نصرانيا.. نظرت في البينتين: فإن كانتا مطلقتين أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة.. حكم بأنه مات مسلما، ويكون ميراثه لابنه المسلم؛ لأن التي شهدت بالنصرانية ربما شهدت بالنصرانية؛ لأنه أصل دينه؛ لأنها إذا لم تعرف إسلامه.. جاز لها أن تشهد بأنه مات نصرانيا، والتي شهدت بالإسلام شهدت بأمر حادث على النصرانية وربما خفي على الأخرى، فقدمت كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل. وإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا واحدا؛ بأن شهدت إحداهما أن آخر كلامه التلفظ بالإسلام، وشهدت الأخرى أن آخر كلامه التلفظ بالنصرانية.. فهما متعارضتان؛ لأنهما متنافيتان. فإن قلنا: إن البينتين إذا تعارضتا سقطتا.. كان كما لو لم يكن لأحدهما بينة، ويكون القول قول النصراني مع يمينه؛ لأنه لا يعلم أنه مات

مسلما؛ لأن الأصل بقاؤه على النصرانية وعدم الإسلام، فإن حلف.. كان الميراث له، وإن نكل عن اليمين.. ردت اليمين على الثاني فيحلف أنه مات مسلما، فإذا حلف.. كان الميراث له. وإن قلنا: إنهما تستعملان، فإن قلنا بالوقف.. وقف المال؛ لأنه هو المتداعى. وإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. حكم ببينته، وهل يحلف مع القرعة؟ فيه قولان. وإن قلنا بالقسمة.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق: لا يجوز أن يقسم بينهما الميراث؛ لأنا نتيقن الخطأ في توريث أحدهما. وقال أكثر أصحابنا: يقسم بينهما - وهو المنصوص - كما لو ادعيا ملكا من غير الميراث، وأقام كل واحد منهما بينة وقلنا: بالاستعمال بالقسمة. وما قاله أبو إسحاق من الخطأ في القسمة غير صحيح؛ لأنه يجوز أن يكون مات الأب نصرانيا وهما نصرانيان، ثم أسلم أحدهما وادعى أن أباه مات مسلما ليحوز جميع ميراثه. وإن لم يعرف أصل دين الميت.. فإن البينتين متعارضتان، سواء كانتا مؤرختين تأريخا واحدا أو مطلقتين، أو إحداهما مؤرخة والأخرى مطلقة؛ لأنه ليس له أصل دين يبنى عليه حتى تكون إحداهما أثبتت أمرا حادثا بعد ذلك الأصل. فإن قلنا: إن البينتين إذا تعارضتا سقطتا.. صار كأن لم يقم أحدهما بينة، فإن كان الشيء الذي يتداعيانه في يد غيرهما.. كان القول قوله، وإن كان في يد أحدهما.. فهو أحق به ويحلف للآخر، وإن كان في يدهما.. قسم بينهما ويحلف كل واحد منهما لصاحبه على النصف الذي حصل له. هكذا ذكر الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق. قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأنه إذا كان في يد أحدهما.. فإنه يعترف أنه للميت الذي ادعى أنه يرثه والآخر يدعي مثل ذلك، فلا ينبغي أن يكون ليده حكم، بل ينبغي أن يكون موقوفا أو مقسوما بينهما. وإن كان في يدها..فينبغي أن يوقف وتكون يدهما عليه، أو يقسم بينهما بحكم اليد ولا يتحالفان. وإن قلنا: إن البينتين تستعملان، فإن قلنا بالوقف.. وقفت التركة، وإن قلنا

مسألة مات وهو مسلم وخلف ابنين أو مات وخلف أبوين وابنين واختلفوا

بالإقراع.. أقرع بينهما، وإن قلنا بالقسمة.. فالمذهب: أنها تقسم بينهما، وقال أبو إسحاق: لا تقسم بينهما، وقد مضى دليلهما. ويصلى على الميت، وينوى بالصلاة عليه إن كان مسلما، ويدفن في مقابر المسلمين تغليبا للإسلام، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار ولم يتميزوا) . هذا مذهبنا، وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: (يقضي ببينة الإسلام بكل حال) . دليلنا: أنهما إذا تعارضتا.. كانت كل واحدة منهما مكذبة للأخرى، وليس مع إحداهما زيادة علم فسقطتا، كما لو شهدتا بعين في يد غير المدعيين. [مسألة مات وهو مسلم وخلف ابنين أو مات وخلف أبوين وابنين واختلفوا] إذا مات رجل وخلف ابنين ودارا، واتفقا على أن أباهما مات مسلما في أول شهر رمضان، وأن أحدهما أسلم في شعبان، واختلفا في إسلام الثاني، فقال الثاني: أنا أسلمت في شعبان أيضا، فلي الميراث معك، وقال أخوه: بل أسلمت في رمضان بعد موت أبي، ولا بينة لمن ادعى الإسلام في شعبان.. فالقول قول المتفق على إسلامه في حياة الأب، فيحلف أنه لا يعلم أن أخاه أسلم في حياة أبيه، ويكون له جميع الميراث؛ لأن الأصل عدم إسلامه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وهكذا إذا مات رجل وخلف ابنين واتفقا على أن أباهما مات حرا، وأن أحدهما أعتق قبل موت الأب، واختلف في وقت عتق الآخر، فادعى أنه أعتق أيضا في حياة أبيه، وقال أخوه: بل أعتقت أنت بعد موت أبينا.. فالقول قول المتفق على عتقه في حياة الأب، فإذا حلف.. كان له جميع الميراث) ؛ لما ذكرناه. وإن اتفق الابنان أن أحدهما أسلم في أول شعبان، وأن الآخر أسلم في أول شهر رمضان، واتفقا بأن أباهما مات مسلما، إلا أنهما اختلفا في وقت موته، فقال الذي أسلم في شعبان: مات أبي في شعبان، فلي الميراث دونك، وقال الذي أسلم في رمضان: بل مات أبي في رمضان بعد أن أسلمت، فالميراث بيننا.. فالقول قول الذي أسلم في رمضان

فرع مات عن زوجة وأخ مسلمين وابن كافر

مع يمينه؛ لأن الأصل حياة الأب وعدم موته، فإذا حلف.. كان الميراث بينهما. وإن مات رجل وخلف أبوين كافرين وابنين مسلمين، فادعى الأبوان أنه مات كافرا فهما أحق بميراثه، وادعى الابنان أنه مات مسلما فهما أحق بميراثه.. قال أبو العباس: فيحتمل قولين: أحدهما: أن القول قول الأبوين؛ لأن الأبوين إذا كانا كافرين.. فولدهما قبل البلوغ كافر تبعا لهما، والأصل بقاؤه على الكفر إلى أن يعلم إسلامه. قال: وهذا أشبه بقول العلماء. والثاني: أن الميراث يوقف إلى أن يصطلحوا أو ينكشف الحال فيه؛ لأن الولد يتبع أبويه في الكفر قبل البلوغ، فأما بعد البلوغ.. فله حكم نفسه، ويحتمل أنه مات كافرا ويحتمل أنه مات مسلما، وليس هاهنا أصل يبنى عليه، فوقف إلى أن يصطلحوا أو ينكشف حاله. [فرع مات عن زوجة وأخ مسلمين وابن كافر] وإن مات رجل وخلف زوجة مسلمة وأخا مسلما وابنا كافرا، فقالت الزوجة والأخ: مات مسلما فالميراث لنا، وقال الابن: بل مات كافرا فالميراث لي، فإن أقام كل واحد منهم بينة بما ادعاه.. فالحكم فيها كالحكم في الرجل إذا مات وخلف ابنين أحدهما نصراني والآخر مسلم، فادعى كل واحد منهما أن أباه مات على دينه، على ما مضى. وإن لم يكن لهم بينة، فإن عرف أصل دينه أنه كان كافرا.. فالقول قول الابن؛ لأن الأصل بقاؤه على الكفر. وإن لم يعرف أصل دينه.. وقف الأمر إلى أن ينكشف الحال أو يصطلحوا. [مسألة ادعى دارا في يد رجل أنها ميراث له ولأخيه الغائب من أبيهما أو دينا] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو أقام رجل بينة أن أباه هلك وترك هذه الدار ميراثا له ولأخيه الغائب.. أخرجتها من يد من هي في يده، وأعطيته منها نصيبه، وأخذت نصيب الغائب) .

وجملة ذلك: أنه إذا كانت في يد رجل دار، فجاء رجل وادعى أن أباه مات وترك هذه الدار له ولأخيه الغائب، فأنكر من بيده الدار، فإن لم يكن مع المدعي بينة.. فالقول قول من الدار في يده مع يمينه. وإن أقام الابن الحاضر بينة أن أباه مات وخلف ابنين هذا والغائب، وقالت البينة: لا نعلم له وارثا سواهما، والبينة من أهل الخبرة الباطنة بالميت.. فإن الحاكم يسمع هذه البينة ويحكم بالدار للميت، وينتزعها ممن هي في يده، ويسلم إلى الحاضر نصفها ويسلم النصف الذي للغائب إلى أمين يحفظه له إلى أن يقدم، وإن أمكن إكراؤه له.. أكراه له وحفظ أجرته، وكذلك إذا كانت العين المدعى بها مما تنقل وتحول.. وبه قال أبو يوسف وأحمد ومحمد. وقال أبو حنيفة: (إذا كانت العين المدعى بها مما تنقل وتحول.. فكما قلنا، وإن كانت مما لا تنقل ولا تحول كالدار والأرض.. فإنه لا ينتزع نصيب الغائب من يد المدعى عليه حتى يقدم الغائب ويدعيه، كما لو ادعى رجل أن هذه الدار له ولشريكه وأقام على ذلك بينة.. فإن نصيب الغائب لا ينتزع) . دليلنا: أن هذه الدار إذا ثبتت.. فإنها تثبت للميت، ثم تنتقل إلى ورثته، وما كان حقا للميت.. فعلى الحاكم سماع البينة فيه؛ لأنه يلي على الأموات، بخلاف الدار بين الشريكين؛ فإنه لا ولاية له على الغائب. ولأن نصيب أحد الأخوين الوارثين متعلق بسلامة نصيب الآخر؛ لأنه لو أخذ الحاضر النصف ثم قدم الغائب فجحده من هو في يده على النصف الباقي ولم تقم له بينة.. فإنه يشارك أخاه في النصف الذي حصل له، فكذلك [إذا] سمعها وحكم بها. ولأن كل ما كان للحاكم أن ينتزعه إذا كان مما ينقل.. كان له أن ينتزعه وإن كان مما لا ينقل، كما لو كان أخوه صغيرا أو مجنونا. وإن كان المدعى به دينا.. ففيه وجهان: أحدهما: يأخذ نصيب الغائب ويحفظه عليه، كما لو كان المدعى به عينا. والثاني: أنه ليس له أن يأخذه؛ لأن تركه في الذمة أحوط لصاحبه. وإذا دفع إلى الحاضر نصيبه من الدين أو العين في هذا القسم.. لم يجب أن يؤخذ منه ضمين؛ لأن في ذلك طعنا على البينة. فأما إذا لم تكن البينة من أهل الخبرة الباطنة بالميت، أو كانت من أهل الخبرة

الباطنة بالميت إلا أنها لم تشهد بأنها لا تعلم له وارثا غيرهما، أو شهدت بأنه مات وخلف هذين الابنين ولم تقل وهما وارثان.. فإن الدار تثبت للميت ولكن لا يسلم شيء إلى الابن الحاضر من الدار بمجرد هذه الشهادة؛ لأنها لم تشهد بما يستحقه من الدار، ولكن يبعث الحاكم إلى البلاد التي كان يسافر إليها الميت ويقيم بها ويسأل فيها: هل له وارث فيها؟ فإن سأل عن ذلك وغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له وارث آخر.. لظهر، فإن لم يظهر له وارث.. فإنه يدفع إلى الحاضر نصيبه؛ لأن الظاهر أنه لو كان له وارث لظهر، فصار هذا الظاهر مع البينة بمنزلة ما لو شهدت البينة بأنها لا تعلم أن له وارثا غيرهما وهي من أهل الخبرة الباطنة بالميت. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويؤخذ منه ضمين) ، وهذا يقتضي وجوب أخذ الضمين. وقال في " الأم ": (وأحب أن يؤخذ منه الضمين) . واختلف أصحابنا فيها على طريقين: فمنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: يجب أخذ الضمين منه؛ لأنه ربما ظهر له وارث آخر، وربما كان المدفوع إليه غائبا أو ميتا، فوجب أخذ الضمين منه للاستيثاق. والثاني: يستحب ولا يجب؛ لأن الظاهر أنه لا وارث له غير هذا الحاضر والغائب؛ إذ لو كان له وارث غيرهما.. لظهر. ومن أصحابنا من قال: إن كان الحاضر غير ثقة.. وجب أخذ الضمين منه؛ لأنه لا يؤمن أن يضيع حق من يظهر. وإن كان ثقة.. لم يجب أخذ الضمين منه وإنما يستحب؛ لأنه يؤمن أن يضيع حق من يظهر، وحمل القولين على هذين الحالين. وإن كان المدعي ممن يحجب عن الميراث، كالأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم، وأقام بينة أن أخاه مات وخلفه وارثا، فإن شهد الشاهدان بأنهما لا يعلمان له وارثا غيره، وهما من أهل الخبرة الباطنة بالميت.. دفع الدار إلى الأخ، ولم يؤخذ منه ضمين، كالابن. وإن لم يشهد الشاهدان بأنهما لا يعلمان له وارثا سواه، أو شهدا بذلك ولكنهما ليسا من أهل الخبرة الباطنة بالميت.. فإن الدار تثبت للميت ولا تدفع

إلى الأخ؛ لجواز أن يكون هناك وارث يحجبه، ولكن يبعث الحاكم إلى البلاد التي كان يدخلها الميت ويقيم بها ويسأل: هل له وارث؟ فإن لم يظهر له وارث.. دفع الدار إلى الأخ، كما قلنا في الابن، وهل يجب أخذ الضمين منه؟ إن قلنا: يجب أخذ الضمين من الابن.. فمن الأخ أولى. وإن قلنا: لا يجب أخذ الضمين من الابن.. ففي الأخ وجهان: أحدهما: لا يجب، كما لا يجب أخذه من الابن، ولكن يستحب. والثاني: يجب؛ لأن الابن لا يجوز أن يحجب بحال، والأخ يجوز أن يكون هناك من يحجبه. فإن شهد الشاهدان أن هذا أخوه ولم يشهدا أنه وارث.. قال أبو العباس: لم يجز للحاكم أن يدفع إليه المال وأن يسأل عن وارث له آخر حتى يشهدا أنه وارث. والفرق بينه وبين الابن، حيث قلنا: إذا شهد أنه ابنه ولم يشهدا أنه وارث.. أنه يدفع إليه المال بعد أن يسأل عن وارث آخر؛ لأن الابن يتيقن كونه وارثا، والأخ لا يتيقن أنه وارث؛ لجواز أن يكون هناك وارث يحجبه. وإن كان المدعي ممن له فرض يتقدر.. نظرت: فإن شهد الشاهدان: أنه وارثه لا نعلم له وارثا سواه، وهما من أهل الخبرة الباطنة بالميت.. دفع إليه نصيبه كاملا، ولا يؤخذ منه ضمين. وإن شهدا بأنه وارثه ولم يقولا: ولا نعلم له وارثا غيره، أو شهدا بذلك وليسا من أهل الخبرة الباطنة بالميت.. فإن الحاكم يدفع إليه القدر الذي يتيقنه من الميراث له، فإن كان زوجا.. دفع إليه ربعا عائلا، وهو: ثلاثة أسهم من خمسة عشر سهما. وإن كانت زوجة.. دفع إليها ربع الثمن عائلا، وهو: ثلاثة أسهم من مائة وثمانية أسهم. وإن كان أبا.. دفع إليه السدس عائلا، وهو: سهمان من خمسة عشر

فرع شهدا أنه ابن لزيد ولا يعلمان ولدا غيره وشهد غيرهما لآخر بعكسها

سهما. وإن كانت أما.. دفع إليها السدس عائلا، وهو: سهم من عشرة أسهم؛ لأن ذلك أقل حق كل واحد منهم. ويوقف الباقي حتى يسأل عن الميت في البلاد التي كان يسافر إليها ويقيم بها، فإن لم يظهر له وارث ينقصه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يكمل له فرضه؛ لعدم البينة. والثاني: يكمل لصاحب الفرض فرضه. وهو الأصح؛ لأن الظاهر بعد البحث أنه لو كان هناك وارث ينقصه.. لظهر. [فرع شهدا أنه ابن لزيد ولا يعلمان ولدا غيره وشهد غيرهما لآخر بعكسها] إذا شهد شاهدان لرجل: أنه ابن زيد ولا نعلم له ابنا غيره، وشهد شاهدان آخران لآخر: أنه ابن زيد لا نعلم له ابنا غيره.. ثبت نسبهما من زيد ولا يكونان متعارضين؛ لأنه يجوز أن تعرف كل واحدة منهما ما لا تعرف الأخرى. [مسألة ماتت الزوجة عن زوج وابن وأخ واختلفوا] وإن كانت له زوجة وله ابن منها ولها أخ، فماتت الزوجة وابنها، فاختلف الزوج والأخ، فقال الزوج: ماتت الزوجة أولا فورثتها أنا وابنها، ثم مات ابنها فورثته، وقال الأخ: بل مات الابن أولا فورثته الأم، ثم ماتت الأم فورثتها أنا وأنت، فإن كان لأحدهما بينة بما يدعيه ثبت ما ذكره. وإن لم تكن بينة.. فالقول قول الأخ مع يمينه في إرثه من أخته؛ لأن الزوج يدعي حجبه عن ميراثها والأصل عدم حجبه. والقول قول الزوج مع يمينه في إرثه من ابنه؛ لأن الأخ يدعي إرث الأم منه والأصل عدم إرثها، فلا ترث الزوجة

فرع خلف رجل دارا لابن وزوجة فاختلفا في الدار أهي إرث أم مهر

من ابنها، بل يكون ماله كله لأبيه، ولا يرث الابن من مال أمه، بل يكون مالها للأخ والزوج؛ لأن من لم تتيقن حياته عند موت مورثه.. لم يرث منه شيئا، وكل واحد منهمما لا يتيقن حياته عند موت مورثه، فلم يرث أحدهما من الآخر، كالغرقى. [فرع خلف رجل دارا لابن وزوجة فاختلفا في الدار أهي إرث أم مهر] وإن مات رجل وخلف ابنا ودارا وزوجة، وادعى الابن أن أباه ترك الدار ميراثا، وادعت الزوجة أنه أصدقها الدار في حياته، وأقام كل واحد منهما بينة على ما ادعاه.. قدمت بينة الزوجة؛ لأن بينة الابن تشهد بأصل الملك، وبينة الزوجة تشهد بأمر حادث خفي على بينة الابن، فقدمت كما لو كان الزوج حيا وأقام بينة أن الدار ملكه، وأقامت الزوجة بينة أنه أصدقها الدار. [مسألة تداعيا جدارا بين داريهما] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا تداعى رجلان جدارا بين داريهما، فإن كان متصلا ببناء أحدهما اتصال البنيان الذي لا يحدث إلا من أول البناء.. جعلته له دون المنقطع منه) . وجملة ذلك: أن الرجلين إذا تنازعا في جدار بين ملكيهما، وادعى كل واحد منهما أنه ملكه، فإن كان لأحدهما بينة دون الآخر.. قضي لصاحب البينة. وإن لم يكن لأحدهما بينة.. نظرت: فإن كان لأحدهما عليه بناء لا يمكن إحداثه بعد كمال البناء؛ بأن كان له عليه أو فيه أزج معقود.. فالقول قول صاحب الأزج مع يمينه. قال الشيخ أبو حامد: لأن جدار الأزج يبتدئ أولا بالاعوجاج أو بالاستواء ثم يعوج عن قليل، وإنما حلفناه لجواز أن يكونا قد اشتركا في بناء الأساس، ثم عقد

أحدهما الأزج عليه بإذن صاحبه. قال ابن الصباغ: فإن كان مبنيا على تربيع بناء أحدهما متصلا به مساويا له في السمك دون الآخر.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الظاهر أنه له. قال أبو إسحاق المروزي: وإن كان الجدار خمسة عشر ذراعا، وعشرة منه بين داريهما، ولأحدهما خمسة أزرع متصلة بالعشرة، ثم تنازعا في العشرة.. فالقول قول صاحب الخمسة مع يمينه في العشرة؛ لأنه لا يمكن إحداث ما ينفرد به دون الذي تنازعا فيه، فعلم أن الجميع له، كما لو كان لأحدهما عليه أزج. وقال الشيخ أبو حامد: وهذا غلط لا يجيء على المذهب؛ لأن انفراده ببعض الحائط لا يدل على أن جميع الحائط له؛ لأنه يجوز أن يكونا قد اشتركا في بناء الذي بينهما وانفرد صاحب الزيادة ببنائها، ويخالف إذا كان لأحدهما عليه أزج؛ لأن الأزج موضوع على الجدار، فالظاهر أنه وضعها في ملكه. فإن كان الحائط على خشبة طويلة، فأقر أحدهما لصاحبه بالخشبة الطويلة وتنازعا في الحائط، أو تنازعا في الخشبة والحائط، وقامت لأحدهما بينة بالخشبة، أو كان بعض الخشبة في ملك أحدهما.. فالقول قول صاحب الخشبة - أو من بعضها في ملكه- مع يمينه في الحائط؛ لأنها لا تتبعض، فإذا حكم له ببعضها.. حكم له بجميعها، وحكم له بالحائط؛ لأن الظاهر أنه وضع ملكه على ملكه. وإن كان الجدار غير متصل ببناء أحدهما، وإنما هو حاجز زج بين ملكيهما ويدهما عليه، أو لا يد لأحدهما عليه ولا بينة لأحدهما.. حلف كل واحد منهما، فإن حلفا أو نكلا.. قسم بينهما، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر.. كان الجميع للحالف. وهكذا إذا كان متصلا ببنائهما. ولا ترجح دعوى من إليه داخل الحائط أو خارجه، ولا من إليه معاقد القمط؛ وهو: مشاد خيوط الخص. وبه قال أبو

فرع تنازعا جدارا في عرصة لأحدهما وعكسه

حنيفة. وقال مالك وأبو يوسف: (يحكم به لمن إليه وجه الحائط ومعاقد القمط) . ودليلنا: أن من إليه ذلك لا يدل على أن له ملك الحائط، فلم يرجح به دعوى من هي إليه، كما لو كان إلى أحدهما النقوش والتجصيص. وكذلك: إذا كان لأحدهما على الحائط تجصيص أو نقوش.. فإنه لا يحكم له بالحائط بذلك؛ لأنه يمكن إحداثه بعد كمال البناء. وإن كان عليه لأحدهما جذع أو جذوع.. لم ترجح بذلك دعواه. وقال مالك: (إذا كان لأحدهما جذع.. رجحت دعواه، فيحلف على الحائط أنه له) . وقال أبو حنيفة: (يرجح بجذعين فما زاد، ولا يرجح بدون الجذعين) . دليلنا: أن وضع الجذع معنى حادث بعد تمام الحائط، فلم ترجح به الدعوى، كالتجصيص والتزويق. [فرع تنازعا جدارا في عرصة لأحدهما وعكسه] وإن تنازع رجلان جدارا في عرصة لأحدهما.. فالقول قول صاحب العرصة؛ لأن الظاهر مما في ملك الإنسان أنه ملكه. وإن تنازعا عرصة، لأحدهما عليها جدار.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: أنه لا يرجح قول صاحب الجدار، بل يتحالفان على العرصة، كما قلنا فيهما إذا تنازعا حائطا عليه لأحدهما جذوع. والثاني: أن القول قول صاحب الجدار؛ لأن الظاهر أنه لا يضع ملكه إلا على ملكه؛ لأن أحدا لم يجوز وضع الجدار في عرصة غيره بغير إذنه، بخلاف الجذوع وهكذا الوجهان: إذا تنازعا عرصة، لأحدهما فيها نخلة.

مسألة تنازعا في حيطان السفل أو العلو أو السقف لدارهما

[مسألة تنازعا في حيطان السفل أو العلو أو السقف لدارهما] ] : إذا كانت سفل الدار في يد رجل والعلو في يد آخر، فإن تنازعا في حيطان السفل.. فالقول قول من السفل بيده مع يمينه. وإن تنازعا في حيطان العلو.. فالقول قول من العلو في يده مع يمينه؛ لأن كل واحد منهما هو الذي ينتفع بما في يده، فكان القول قوله فيه. فإن تنازعا السقف الذي بينهما.. حلفا، وجعل بينهما نصفين. وقال أبو حنيفة: (هو لصاحب السفل) ، وحكاه أصحاب مالك عنه، وأصحابنا يحكون عنه: (أنه لصاحب العلو) . دليلنا: أنه حاجز بين ملكيهما غير متصل ببناء أحدهما اتصال البنيان، فكان بينهما كالحائط بين المالكين. [فرع دار له علو وسفل وتنازعا درج السفل] وإن كانت الدار علوها لرجل وسفلها لآخر، وتنازعا في الدرجة المبنية في السفل التي يصعد عليه صاحب العلو، فإذا ادعى كل واحد منهما أنها ملكه ولا بينة لأحدهما.. نظرت: فإن كانت معجمة ولا منفعة لصاحب السفل تحتها.. فالقول قول صاحب العلو فيها مع يمينه؛ لأنها من انتفاعه خاصة. وكذلك: لو اختلفا في ملك السلم المنصوب الذي يصعد عليه صاحب العلو؛ لما ذكرناه. وإن كانت الدرجة معقودة وهي سقف لبيت صاحب السفل.. فقال الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق: فهي بينهما، وأرادا: إذا حلفا أو نكلا. وإن كانت ليست بسقف لصاحب السفل إلا أن تحتها موضع جب لصاحب السفل.. ففيه وجهان: أحدهما: أنهما يحلفان ويجعل بينهما؛ لأنهما يرتفقان بها. والثاني: أن القول قول صاحب العلو وحده فيها؛ لأن الانتفاع بها إنما هو لصاحب العلو، وانتفاع صاحب السفل في ذلك غير مقصود.

فرع دار علوها لرجل وسفلها لآخر وفيها عرصة وادعى كل واحد ملكها

وقال القاضي أبو الطيب: فيها وجهان، سواء كانت سقفا لبيت صاحب السفل أو سقفا لموضع الجب. قال ابن الصباغ: وهو الأشبه. [فرع دار علوها لرجل وسفلها لآخر وفيها عرصة وادعى كل واحد ملكها] وإن كانت الدار علوها لرجل وسفلها لآخر، وفي السفل عرصة، وتنازعا في العرصة وادعى كل واحد منهما ملكها، فإن كانت الدرجة لصاحب العلو في آخر العرصة.. حلفا وجعلت العرصة بينهما؛ لأنها في أيديهما وتصرفهما. وإن كانت الدرجة لصاحب العلو في الدهليز في أول العرصة.. ففيما جاوز الدرجة من العرصة وجهان: أحدهما: أنهما يحلفان وتجعل بينهما؛ لأن لكل واحد منهما يدا على العرصة. والثاني: أن القول فيها قول صاحب السفل؛ لأنه ليس لصاحب العلو إلا الاستطراق فيها فيما جاوز الدرجة، فكانت اليد فيها والانتفاع لصاح السفل وحده. وإن كانت الدرجة في وسط العرصة.. فإن أول العرصة إلى حد الدرجة في يديهما، فيحلفان وتقسم بينهما. وما جاوز الدرجة من العرصة على وجهين. ومثل هذا: زقاق لا ينفذ وفيه بابان لرجلين، باب لأحدهما في أوله، وباب للآخر في وسطه، فمن أول الزقاق إلى باب الأول بينهما، وما جاوزه من الزقاق إذا تنازعاه على وجهين، وقد مضى ذكرهما في "الصلح". [فرع اختلفا على مسناة نهر] قال في " الأم ": (وإن كان لرجل نهر وإلى جنبه أرض لآخر وبينهما مسناة، فقال صاحب النهر: هي لي بنيتها لتجمع الماء في النهر ويكثر فأنتفع به. وقال صاحب الأرض:

فرع تنازعا دابة أحدهما راكب والآخر آخذ بزمامها أو جملا أو عمامة

بل هي لي بنيتها لتمنع الماء من دخول أرضي.. حلفا وجعلت بينهما) . وقال أبو حنيفة: (تكون لصاحب النهر) . وقال أبو يوسف ومحمد: تكون لصاحب الأرض. دليلنا: أن لكل واحد منهما فيها منفعة وهي مجاورة لملكيهما، فحلفا وجعلت بينهما، كالسقف إذا تنازع فيه: صاحب العلو وصاحب السفل. [فرع تنازعا دابة أحدهما راكب والآخر آخذ بزمامها أو جملا أو عمامة] وإن تنازعا دابة وأحدهما راكبها والآخر آخذ بلجامها، ولا بينة لأحدهما.. فالقول قول الراكب فيها مع يمينه. ومن أصحابنا من قال: يحلفان وتجعل بينهما. والأول أصح؛ لأن الراكب هو المنفرد بالتصرف فقضي له. وإن تنازعا جملا ولأحدهما عليه حمل، ولا بينة لأحدهما عليه.. فالقول قول صاحب الحمل مع يمينه؛ لأنه هو المنتفع به، والظاهر أنه لا يحمل إلا على ملكه. وإن تداعيا عبدا ولأحدهما عليه ثوب.. فهما فيه سواء؛ لأن صاحب الثوب لا ينتفع بلبس العبد لثوبه، وإنما العبد هو الذي ينتفع بلبسه، بخلاف الحمل على الجمل. فإن تداعيا عمامة وفي يد أحدهما ذراع منها وفي يد الآخر الباقي.. فهما سواء، فيحلفان ويجعل بينهما نصفين؛ لأن إمساك الذراع يد؛ بدليل: أنه لو كان في يد رجل ذراع منها وباقيها على الأرض فادعاها عليه آخر.. كان القول قوله فيها مع يمينه، كما لو كان جميعها في حجره. [مسألة ادعى طفلا أو صبيا مميزا في يده أنه مملوكه أو صبية صغيرة أنها زوجته] ] : وإن كان في يد رجل طفل لا تميز له، فادعى أنه مملوكه ولا يعرف حريته.. قبل قوله؛ لأنه في يده، فقبل قوله فيه وحكم له بملكه. فإن بلغ هذا الطفل وقال: لست بمملوك له.. لم يقبل قوله من غير بينة؛ لأنا قد حكمنا بملكه فلا يسقط لقوله. وحكى القاضي أبو الطيب في " شرح الفروع " وجها آخر: أنه يقبل قول الطفل بعد

بلوغه مع يمينه، بناء على الوجهين في اللقيط إذا حكم بإسلامه بالدار، ثم بلغ ووصف الكفر.. فإنه يقبل منه في أحد الوجهين. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الإسلام الحق فيه لله تعالى فقبل قوله فيما يسقطه، والرق حق للآدمي لا يقبل قوله فيما يسقطه. وهكذا: إذا كان في يده صبي يستخدمه ولم يدع ملكه في صغره ولا أقر بحريته، فلما بلغ هذا الصبي ادعاه من هو في يده أنه مملوكه.. قبل قوله في ذلك؛ لأن كونه في يده وتصرفه يدل على ملكه. فإن جاء رجل وادعى أنه ابنه وهو مجهول النسب.. لم يقبل إقراره ولم يلحق به؛ لأن في ذلك إضرارا بالسيد؛ لأنه ربما يعتقه فيثبت له عليه الولاء، فإذا كان نسبه ثابتا من رجل.. لم يرثه بالولاء. فإن أقام المدعي بينة أنه ابنه.. ثبت نسبه بذلك؛ لأن البينة شهدت له بذلك، ولا يزول ملك السيد عنه؛ لأنه يجوز أن يكون ابنا لرجل ومملوكا لآخر، إلا أن يكون الذي ادعى بنوته وأقام عليه البينة عربيا وقلنا بقوله القديم: (أن العرب لا يسترقون) فإنه يحكم بحريته على هذا. وإن كان في يد رجل صبي عاقل يميز، وادعى أنه مملوكه، وأنكره الصبي.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يحكم له بملكه؛ لأنه يعبر عن نفسه، فلم يحكم له بملكه مع إنكاره، كالبالغ. والثاني: أنه يحكم له بملكه، وهو الأصح؛ لأنه صغير، فقبل قوله عليه كالطفل. وإن كان في يد رجل صبية صغيرة، فادعى زوجيتها ولا بينة له.. لم تقر يده عليها ولا يخلى بينه وبينها؛ لأن الحرة لا تثبت عليها اليد والمنافع، فلا يتصور ثبوت اليد عليها، فإذا لم يكن له بينة ولا يد ولا يصح من الصغيرة التصديق.. لم يجز أن تقر في يده ليخلو بها. فإن بلغت وأقرت له بالنكاح.. ثبت النكاح على قوله الجديد، ولم يثبت على قوله القديم إلا أن يكونا في الغربة، فإن أنكرت.. حلفت على الجديد، ولم تحلف على القديم.

فرع في يده رجل وادعى أنه مملوكه

[فرع في يده رجل وادعى أنه مملوكه] أو كان هو أو طفل بين رجلين فاختلفا فيه] : وإن كان في يده رجل بالغ عاقل، فادعى أنه مملوكه، فأنكره ولا بينة للمدعي.. فالقول قول المدعى عليه؛ لأن الظاهر منه الحرية. وإن صدقه أنه مملوكه.. حكم له بملكه. وإن كان الكبير البالغ العاقل في يد رجلين، وادعى كل واحد منهما ملكه، فأنكرهما.. حلف لكل واحد منهما. وإن صدقهما معا.. كان بينهما نصفين. وإن صدق أحدهما وكذب الآخر.. حكم بملكه لمن صدقه دون من كذبه. وقال أبو حنيفة: (يحكم بملكه بينهما نصفين) . دليلنا: أنه لا حكم ليدهما عليه قبل ثبوت رقه، وإنما يحكم برقه بإقراره، فإذا أقر برق نفسه لأحدهما.. لم يشاركه الآخر. وإن أقام كل واحد منهما بينة برقه، فصدق المملوك أحدهما أنه ملكه دون الآخر.. لم ترجح بينة المصدق؛ لأنه لا يد له على نفسه وإنما حكم برقه بالبينة، فلم يقبل تصديقه لأحدهما. وإن كان طفل في يد رجلين، فادعى كل واحد منهما ملك جميعه ولا بينة.. تحالفا وجعل بينهما نصفين؛ لأن اليد ثبتت عليه، ويد كل واحد منهما ثابتة على نصفه، فحكم له بملك نصفه وحلف عليه لصاحبه. [فرع اشترى جارية فادعت حريتها] وماذا لو كانت عينا واستحقت وما حكم الرجوع بالثمن؟] : وإن اشترى رجل من رجل جارية وقبضها، وادعت على المشتري أنها حرة الأصل، وادعى المشتري أنها مملوكته، ولا بينة للمشتري على إقرارها بالرق، ولا بينة لها على أصل الحرية.. قال ابن الحداد: فالقول قولها مع يمينها، لأن الأصل الحرية، والرق طارئ عليها.

فرع ادعى على رجل بيده جارية فأنكره

قال ابن الحداد: فإذا حلفت.. حكم بحريتها، ولا يرجع المشتري على البائع بالثمن؛ لأن يمينها للمشتري فلا يتعدى حكمها إلى البائع، ولأن المشتري قد أقر أنها أمته ومملوكته وهذا إقرار منه بصحة البيع وثبوت ملك البائع على الثمن، فلم يكن له الرجوع عليه فيه. قال القاضي أبو الطيب: وقد قال بعض أصحابنا: إنه إذا قال في كتاب الابتياع: اشترى فلان من فلان جميع ما هو له وفي ملكه وهو كذا، ثم استحقه مستحق.. فإن المشتري لا يرجع بالثمن على البائع؛ لأن المشتري إذا أشهد على نفسه بذلك.. فقد أقر أن البائع باعه ما يملكه ولا يقبل رجوعه. وكذلك: إذا قال في البيع: تسلم فلان من فلان -يعني: المشتري- جميع كذا -يعني: المبيع- فصار في ملكه.. يكون إقرارا منه بصحة البيع، فلا يرجع بالثمن إذا استحق؛ لما ذكرناه. وقال ابن الحداد: إذا اشترى من رجل شيئا وقبضه، فادعى مدع أنه ملكه.. فالقول قول المشتري مع يمينه، فإن نكل عن اليمين وردت اليمين على المدعي فحلف.. استحق المدعى به، ولا يرجع المشتري على البائع بشيء؛ لأن ذلك يحري مجرى إقرار المشتري له بذلك، فلا يرجع على البائع بالثمن بإقراره. وإن قلنا: إنه كالبينة.. فإن ذلك يخص المدعى عليه، ولا يتعدى إلى غيره من البائع وغيره، ويخالف إذا قامت البينة بالاستحقاق؛ لأنها ثبتت في حق جميع الناس. [فرع ادعى على رجل بيده جارية فأنكره] وإن ادعى رجل على رجل جارية في يده، فأنكره ونكل عن اليمين، فحلف المدعي وسلمت الجارية إليه فوطئها وأولدها أولادا، ثم قال المدعي: كنت كاذبا والجارية للمدعى عليه.. فلا يقبل قوله في إبطال حق الجارية وأولادها؛ لأنها صارت أم ولد له، وأولادها أحرارا، فلا يقبل قوله فيما يسقط حقهم، كما لو اشترى عبدا فأعتقه وادعى أنه كان مغصوبا. ويجب عليه للمدعى عليه قيمة الجارية أكثر ما كانت

فرع شهدا بعتق عبد أو أمة

من حين قبضها إلى أن تقوم عليه، ويجب عليه له مهرها، ويجب عليه قيمة أولادها حين سقطوا؛ لأنه حكم بحريتهم في ذلك الوقت، ولا يجوز له وطؤها؛ لأنه مقر بتحريمها عليه، فإن اشتراها من المدعى عليه أو اتهبها منه.. حلت له؛ لأنا تيقنا إباحتها له. [فرع شهدا بعتق عبد أو أمة] إذا شهد شاهدان بعتق عبد أو أمة.. ثبت عتقهما، سواء صدقهما المشهود عليه بعتقه أو لم يصدقهما، ولا تفتقر الشهادة بالعتق إلى تقدم الدعوى، ووافقنا أبو حنيفة في الأمة وخالفنا في العبد. دليلنا: أنها شهادة بعتق، فلا تفتقر إلى تقدم الدعوى، كعتق الأمة. [فرع ادعى قرضه ألفا وادعى الخصم قضاءه أو أنكره] لو ادعى عليه أنه أقرضه ألفا، فقال المدعى عليه: لا يستحق علي شيئا، وأقام المدعي على ذلك بينة، وأقام المدعى عليه بينة أنه قضاه ألفا ولم يعرف التاريخ.. قال ابن القاص: قضي ببينة القضاء؛ لأنه لم تثبت إلا الألف، وقد ثبتت بينة القضاء، ولا يكون القضاء إلا بما عليه. وإن أنكر المدعى عليه القرض، وأقام المقرض البينة بالقرض، وأقام المنكر بينة بالقضاء.. فبينة المقرض أولى؛ لأنه أنكر القرض فلا تسمع بينته أنه قضى القرض، وإنما يكون القضاء بغير ذلك. [مسألة اختلف الزوجان أو ورثتهما في أثاث البيت] وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت الذي يسكنان فيه، فادعى كل واحد منهما أنه له ولا بينة لأحدهما.. فإنهما يحلفان ويقسم بينهما، سواء كان المتاع يصلح للرجال دون النساء كالسلاح، أو كان يصلح للنساء دون الرجال كالحلي، أو كان يصلح لهما

فرع تنازع المكري والمكتري في متاع

كالدنانير والدراهم، وسواء كان في أيديهما من طريق المشاهدة، أو في أيديهما من طريق الحكم، وسواء اختلفا في حال الزوجية أو بعد البينونة. وكذلك: إذا ماتا واختلف ورثتهما، أو مات أحدهما واختلف الثاني وورثة الميت.. وبه قال ابن مسعود وعثمان البتي. وقال الثوري وابن أبي ليلى وأحمد: (إن كان الشيء المتنازع فيه مما يصلح للرجال دون النساء.. فالقول قول الزوج فيه، وإن كان مما يصلح للنساء دون الرجال.. فالقول قول المرأة فيه، وإن كان مما يصلح لهما.. كان بينهما) . وقال مالك: (ما كان يصلح لأحدهما دون الآخر.. فالقول قوله فيه، وما كان يصلح لهما.. فالقول فيه قول الزوج، وسواء كان في أيديهما من طريق الحكم أو من طريق المشاهدة) . وقال أبو حنيفة ومحمد: (ما كان في أيديهما من طريق المشاهدة.. فهو بينهما، وما كان في أيديهما من طريق الحكم، فما كان يصلح للرجال دون النساء.. فالقول قول الزوج فيه، وما كان يصلح للنساء دون الرجال.. فالقول قولها فيه، وما كان يصلح لهما.. فالقول فيه قول الزوج. وإن اختلف أحدهما وورثة الآخر.. كان القول قول الباقي منهما) . وقال أبو يوسف: القول قول المرأة فيما جرت العادة أنه قدر جهازها. دليلنا: أنهما تساويا في ثبوت اليد على الشيء المتنازع فيه، فكان القول قولهما فيه، كما لو تنازعا في الدار التي يسكنانها. [فرع تنازع المكري والمكتري في متاع] وإن تنازع المكري والمكتري في المتاع الذي في الدار المكراة، فادعى كل واحد منهما ملك جميعه ولا بينة.. فالقول قول المكتري مع يمينه؛ لأن يده ثابتة عليه. وكذلك: إذا تنازعا في السلالم التي ليست بمسمرة في الدار.. فالقول قول المكتري مع يمينه؛ لأنها كالقماش.

مسألة أقر لآخر بحق وبذله له

وإن تنازعا في السلالم المسمرة والرفوف المسمرة.. فالقول قول المكري مع يمينه؛ لأنها متصلة بالدار، فهي كأجزاء الدار. وإن تنازعا في الرفرف التي ليست بمسمرة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تحالفا وجعلتها بينهما) . والفرق بينهما وبين القماش: أن العادة لم تجر أن الإنسان إذا انتقل من دار يترك فيها قماشه، فكان الظاهر أنها للمكتري، وجرت العادة أن من انتقل من الدار أن يترك فيها الرفوف، ويجوز أن يكون المكتري عملها، فإذا احتملت الأمرين.. تحالفا وجعلت بينهما. [مسألة أقر لآخر بحق وبذله له] إذا كان لرجل على رجل حق، فإن كان مقرا له به باذلا له.. لم يجز له أن يأخذ من ماله شيئا بغير إذنه؛ لأنه مخير في أعيان ماله الذي يقضيه منها، فإن أخذ شيئا من ماله.. لزمه رده عليه. فأما إذا كان جاحدا له في الظاهر والباطن، أو جاحدا له في الظاهر مقرا له في الباطن، فإن لم يكن لصاحب الحق بينة بحقه.. فله أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه. وإن كان له بينة.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له أن يأخذ شيئا من ماله بغير إذنه؛ لأنه يقدر على الوصول إلى حقه بإقامة البينة عند الحاكم. والثاني: يجوز له؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان بقدر حقها» ، وقد كان يمكنها التوصل إلى استيفاء حقها منه بالحكم، ولأن على صاحب الحق مشقة في المحاكمة. وإن كان مقرا له في الظاهر والباطن، إلا أنه غير باذل لدفعه وممتنع بقوة.. فله أن يأخذ من ماله قدر حقه. وقال أحمد: (لا يأخذ من ماله شيئا بغير إذنه) . وعن مالك روايتان:

إحداهما: مثل قول أحمد. والثانية -وهي المشهورة عنه-: (إن لم يكن على من عليه الحق دين لغيره.. جاز له أن يأخذ من ماله بغير إذنه بقدر حقه. وإن كان عليه دين لغيره.. أخذ بحصته من ماله) . دليلنا: ما روي: «أن هندا امرأة أبي سفيان أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي بالمعروف إلا ما أخذته منه سرا؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» إذا ثبت هذا: فإن له أن يأخذ من ماله، سواء كان من جنس حقه، أو من غير جنس حقه. وقال أبو حنيفة: (له أن يأخذ من ماله من جنس حقه، وليس له أن يأخذ من غير جنس حقه) . وحكى الشيخ أبو حامد ذلك عن بعض أصحابنا. والمذهب الأول؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان» ، ولم يفرق بين أن يكون من جنس حقها، أو من غير جنس حقها. إذا ثبت هذا: فإن كان الذي أخذه من ماله من جنس حقه.. لم يأخذ إلا قدر حقه، فإذا أخذه.. تملكه. وإن كان الذي أخذه من غير جنس حقه.. فلا يجوز له أن يتملكه؛ لأنه من غير جنس حقه، ولكن يباع ويستوفي حقه من ثمنه. وفي كيفية بيعه وجهان: أحدهما: يبيعه بنفسه؛ لأنه لو أداه إلى الحاكم وأخبره بذلك.. لم يجز للحاكم بيعه حتى يقيم عنده البينة على حقه وعلى امتناعه، وربما تعذر عليه ذلك، فجوز له بيعه بنفسه؛ لأنه موضع ضرورة. والثاني: لا يجوز له بيعه بنفسه؛ لأنه لا ولاية له على مالكه. والحيلة في بيع الحاكم ذلك عليه إذا لم يمكنه إقامة البينة على حقه: أن يواطئ رجلا فيقر له بما أخذه من مال الآخر، ويدعي عليه بدين عند الحاكم، ويقر له به ويمتنع من أدائه، فيأمر الحاكم من يبيع ذلك عليه.

والأول أصح؛ لأنه لا يؤمن ممن يواطئه على ذلك أن لا يقر له بالدين ويدعي العين التي أقر له بها، فيتعذر عليه الوصول إلى حقه. فإذا باع ذلك بنفسه أو باعه الحاكم، فإن كان ثمنه قدر دينه.. فلا كلام. وإن كان أقل من دينه.. فله أن يتوصل إلى أخذ شيء من ماله ليستوفي حقه. وإن كان أكثر من حقه، فإن كان مما ينقسم.. باع منه بقدر حقه ورد الباقي عليه على حسب إمكانه؛ بأن يقول: وهبت لك، أو غير ذلك. وإن كان مما لا ينقسم.. باع جميعه وأخذ منه قدر حقه ورد عليه بقية الثمن على حسب إمكانه. فإن تلف ما أخذه قبل أن يبيعه من غير تفريط.. ففيه وجهان: أحدهما: لا ضمان عليه، بل له أخذ حقه ممن عليه الحق؛ لأنه استحق أخذه وصرف ثمنه في حقه، فلم يضمنه، كالرهن. والثاني: عليه ضمانه؛ لأنه أخذ مال غيره بغير إذنه، فلزمه ضمانه وإن جاز له أخذه، كما لو اضطر إلى طعام غيره، فأخذه وتلف في يده قبل أن يأكله.. فإن عليه ضمانه، كذلك هذا مثله. وبالله التوفيق

باب اليمين في الدعاوى

[باب اليمين في الدعاوى] إذا ادعى رجل على رجل حقا، فأنكره ولا بينة للمدعي.. نظرت: فإن كانت الدعوى في غير القتل.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف.. سقطت عنه الدعوى، وإن نكل عن اليمين وحلف المدعي.. قضي له بما ادعاه، وقد مضى بيان ذلك. وإن كانت الدعوى في القتل ولا بينة للمدعي، فإن كان هناك لوث - وهو: معنى يغلب معه على الظن صدق المدعي؛ مثل أن يوجد الرجل مقتولا في محلة أعدائه أو ما أشبه ذلك، على ما يأتي بيانه- فإن الأيمان تثبت في جنبة ولي المقتول أولا، فيحلف خمسين يمينا على المدعى عليه، سواء كان في المقتول جراحة أو لا جراحة به. وبه قال ربيعة ومالك والليث وأحمد. وقال أبو حنيفة: (إذا وجد الرجل مقتولا في محلة قوم، فإن لم تكن به جراحة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإذا حلف.. فلا شيء عليه. وإن كان به جراحة.. فإنه يؤخذ من صالحي المحلة أو القرية خمسون رجلا، فيحلف كل واحد منهم يمينا ما قتلناه ولا نعلم من قتله. فإن لم يكن في المحلة خمسون من

الصالحين، فإن كانوا خمسة وعشرين.. حلف كل واحد منهم يمينين. فإن لم يكن فيها إلا رجل واحد.. حلف خمسين يمينا. فإذا حلفوا.. وجبت دية المقتول على باقي المحلة، سواء كان قد زال ملكه عنها أو لم يزل إن كان موجودا. فإن لم يكن موجودا.. كانت الدية على عاقلة سكان المحلة من حلف منهم ومن لم يحلف) . وقال أبو يوسف: تكون الدية على السكان بكل حال. قالوا: فإن وجد القتيل في مسجد المحلة.. حلف منهم خمسون رجلا، وكانت الدية في بيت المال. وإن وجد المقتول في دار نفسه.. فديته على عاقلته. وإن وجد بين قريتين.. نظر إلى أيتهما أقرب، ويكون حكمه كما لو وجد فيها. دليلنا: ما روى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بإسناده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه إلا في القسامة» . وروى سهل بن أبي حثمة: أن عبد الله ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما، فتفرقا في حوائجهما، فأخبر محيصة: أن عبد الله قتل وطرح في قفير أو عين، فأتى يهود، فقال: أنتم قتلتموه؟ فقالوا: والله ما قتلناه، فقدم محيصة على قومه فأخبرهم، فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن أخو المقتول فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وكان أصغرهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كبِّر كبِّر» ، وروي: «الكبر الكبر» ، وروي: «الكبير الكبير» يريد السن، فتكلم حويصة ثم محيصة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لليهودي: «إما أن تدوا صاحبكم أو تأذنوا بحرب من الله» ، فكتب إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فكتبوا إليه: إنا والله ما قتلناه. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟» فقالوا: لا، قال: «أفتحلف لكم يهود؟» قالوا: ليسوا بمسلمين! فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من

عنده، فبعث إليهم بمائة ناقة. قال سهل: لقد ركضتني منها ناقة حمراء. وفي رواية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقسم منكم خمسون على رجل منهم، فيدفع برمته» فقالوا: أمر لم نشهده، فكيف نحلف عليه؟ قال: «تبريكم اليهود بخمسين يمينا» قالوا:. كيف نحلفهم وهم مشركون؟ فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده. قلنا: من الخبر ثلاثة أدلة: أحدها: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بأيمان الأنصار وهم مدعون. والثاني: أنه علق الاستحقاق بأيمان المدعين، وأبو حنيفة يقول: (الاستحقاق بأيمان المدعى عليهم) . والثالث: أن الأنصار لما امتنعوا من اليمين.. قال: «تبريكم اليهود بخمسين يمينا» فأخبر: أنهم يبرؤون بأيمانهم. وعند أبي حنيفة: (لا يبرؤون) . وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إما أن تدوا صاحبكم، أو تأذنوا بحرب من الله» فكان يظن أنهم مقرون بالقتل. ولأن اللوث معنى يغلب معه على الظن صدق المدعي، فقويت جنبته بذلك فكانت اليمين في جنبته كالمدعى عليه في غير اللوث، وكالمتداعيين في ملك العين وهي في يد أحدهما. إذا ثبت هذا: وحلف ولي المقتول، فإن كانت الدعوى بقتل الخطأ أو عمد الخطأ.. وجبت له الدية على عاقلة المدعى عليهم، كما لو قامت له البينة بالقتل بذلك. وإن كانت الدعوى بقتل يقتضي القود.. ففيه قولان:

[أحدهما] : قال في القديم: (يجب القود على المدعى عليه) -وبه قال ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والليث، وأحمد - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» ، و (الرمة) : الحبل الذي يقاد به للقتل، وقيل: هو عبارة عن التسليم للقتل. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم» ، ومعلوم أن صاحبهم المقتول قد أريق دمه ولا يمكنهم استحقاقه، فثبت أنه أراد دم صاحبكم القاتل. وروي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل رجلا في القسامة من بني مالك» . ولأنها حجة يثبت بها قتل العمد، فثبت بها القود، كالشاهدين. و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجب القود، وإنما تجب الدية) - وبه قال ابن عباس ومعاوية والحسن البصري، وهو الأصح - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إما أن تدوا صاحبكم، وإما أن تأذنوا بحرب من الله» ، فلو كان موجب القتل في القسامة مع اللوث القود.. لقال: إما أن تسلموا صاحبكم ليقاد منه. ولأنها حجة لا يثبت بها النكاح، فلا يثبت بها القود كالشاهد واليمين، وفيه احتراز من الشاهدين. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يقسم «خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» فمحمول على: أنه يسلم برمته لتؤخذ منه الدية. وقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم» أي: بدل دم صاحبكم وهو الدية؛ لأن صاحبكم في الحقيقة هو الأنصاري دون اليهودي. وأما رواية عمرو بن شعيب.. فمحمولة على: أن المدعي حلف بعد نكول المدعى عليه في غير اللوث. وسميت القسامة لتكرار الأيمان فيها. فإذا قلنا بقوله الجديد، وأقسم الولي.. وجبت له الدية مغلظة في مال الجاني. وإن قلنا بقوله القديم: فإن كان المدعى عليه واحدا.. أقيد منه. وإن كانت الدعوة على جماعة يصح اشتراكهم في القتل؛ كالعشرة وما أشبههم، وأقسم عليهم الولي.. فإنهم يقتلون به. وبه قال مالك.

مسألة كون المدعي في اللوث واحدا أو أكثر وعدد الأيمان التي يحلفونها

وحكى الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: أن أبا العباس ابن سريج قال: إذا حلف الولي على جميعهم.. اختار منهم واحدا وقتله، وأخذ من الباقين بحصتهم من الدية. وحكى الشيخ أبو إسحاق عن أبي إسحاق مثله، ولم يذكر: أنه يرجع عليهم بشيء؛ ووجهه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للأنصار: «يقسم منكم خمسون على رجل منهم، فيدفع برمته» . فلم يجعل لهم استحقاق القود بالقسامة إلا على واحد، فدل على: أن القود لا يستحق بالقسامة على أكثر من واحد. والمذهب الأول؛ لأنها حجة يقتل بها الواحد، فقتل بها الجماعة، كالشاهدين. وأما الخبر: فإنما أمرهم بتعيين المدعى عليه للقتل؛ لأن اليهود الذين ادعوا عليهم القتل كانوا جماعة لا يتأتى منهم الاشتراك في القتل. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليقسم خمسون منكم» فيجوز أنه كان له خمسون وليا. [مسألة كون المدعي في اللوث واحدا أو أكثر وعدد الأيمان التي يحلفونها] إذا كان المدعي للقتل في اللوث واحدا.. فإنه يحلف خمسين يمينا، سواء كانت دعواه على الواحد، أو على جماعة يصح اشتراكهم في القتل. فإن كان المدعي للقتل مع اللوث أكثر من واحد.. ففيه قولان: أحدهما: يجب أن يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا؛ لأن هذه الأيمان مع اللوث أقيمت مقام اليمين الواحدة مع الشاهد في الأموال، وقد ثبت أن الورثة لو ادعوا مالا عن مورثهم وأقاموا شاهدا واحدا.. فإن كل واحد منهم يحلف معه يمينا، فكذلك هذا مثله. ولأن اللوث حجة ضعيفة فغلظت الأيمان معها بالعدد؛ لكي لا يقدم على اليمين الواحدة، وهذا المعنى موجود إذا ادعى القتل جماعة. والثاني: أن الخمسين يمينا تقسم بينهم على حصصهم من الدية، فإن حصل فيها كسر.. جبر الكسر، وهو الأصح؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للأنصار: «تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم» . فأوجب على جماعتهم خمسين يمينا.

فرع خلف المقتول في اللوث ولدا وبنتا أو ولدا وخنثى

ولأنهم كلهم يثبتون الدية التي كان يثبتها الواحد إذا انفرد، والواحد لا يحلف أكثر من خمسين يمينا، فكذلك الجماعة. وتخالف اليمين مع الشاهد؛ فإنها لا تتبعض، وهذه تتبعض. فإذا قلنا: إن كل واحد منهم يحلف خمسين يمينا.. فلا تفريع. وإذا قلنا: إن كل واحد منهم يحلف على قدر حصته من الدية - وعليه التفريع- فإن كان المدعي ابني المقتول.. حلف كل واحد منهما خمسا وعشرين يمينا. وإن كان أولاده ثلاثة.. حلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا؛ لأن اليمين لا يمكن تبعيضها، فيجبر الكسر منها. وإن كان أولاده أكثر من خمسين رجلا.. حلف كل واحد منهم يمينا. [فرع خلف المقتول في اللوث ولدا وبنتا أو ولدا وخنثى] إذا قتل رجل في موضع اللوث وخلف ابنا وبنتا، وقلنا: يحلف كل واحد منهم على قدر حصته من الدية.. حلف الابن أربعا وثلاثين يمينا وأخذ ثلثي الدية، وحلفت البنت سبع عشرة يمينا وأخذت ثلث الدية. وإن خلف المقتول ابنا واحدا وولدا خنثى مشكلا.. حلف الابن ثلثي الأيمان؛ وهو: أربع وثلاثون يمينا؛ لاحتمال أن الخنثى امرأة، وأخذ من الدية نصفها؛ لاحتمال أن يكون الخنثى رجلا، وحلف الخنثى نصف الأيمان؛ وهي خمس وعشرون يمينا وأخذ ثلث الدية؛ لاحتمال أن يكون امرأة، ويوقف سدس الدية؛ فإن بان الخنثى ذكرا.. دفع ذلك السدس إليه وقد حلف عليه. وإن بان أنه امرأة.. دفع ذلك السدس إلى الابن وقد حلف عليه. وإنما حلف كل واحد منهما أكثر مما يجب عليه من الأيمان، وأعطي أقل مما يجب له من الدية؛ لأنه لا يجوز الحكم بالدية بأقل من خمسين يمينا ممن تجب عليه. وإن خلف المقتول بنتا وولدا خنثى مشكلا.. حلفت البنت ثلث الأيمان وأعطيناها ثلث الدية؛ لأنه الواجب عليها ولها في الحالين. ويحلف الخنثى ثلثي الأيمان ويعطى ثلث الدية. والذي يقتضي المذهب: أن العصبة يحلفون ثلث الأيمان ولا يدفع إليهم شيء.

فرع خلف المقتول بنتا وجدا وخنثى

فإن خلف المقتول ولدين ذكرين وولدا خنثى مشكلا.. حلف كل ذكر خمسي الأيمان وأعطي ثلث الدية، وحلف الخنثى المشكل ثلث الأيمان وأعطي خمس الدية، ويوقف من الدية سهمان من خمسة عشر سهما؛ فإن بان الخنثى ذكرا.. دفعا إليه، وإن بان الخنثى امرأة.. دفع إلى كل ابن سهم. وإن خلف المقتول ابنتين وولدا خنثى مشكلا.. حلفت كل ابنة ربع الأيمان وأعطيت ثلث ثلثي الدية، وحلف الخنثى نصف الأيمان وأعطي ثلث ثلثي الدية، وتحلف العصبة ثلث الأيمان؛ لجواز أن لهم حقا في الدية؛ فإن بان الخنثى ذكرا.. أخذ من الموقوف تمام النصف، وأخذت كل بنت تمام الربع. وإن بان امرأة.. أخذ العصبة الموقوف. [فرع خلف المقتول بنتا وجدا وخنثى] وإن خلف المقتول بنتا وجدا وخنثى مشكلا لأب وأم أو لأب.. حلف كل واحد منهم على أكثر نصيبه، وأعطي أقلهما من الدية، ويوقف الباقي، فتحلف البنت نصف الأيمان وتأخذ نصف الدية وذلك أكثر ما يجب لها وعليها، ويحلف الجد ثلث الأيمان ويأخذ ربع الدية، ويحلف الخنثى المشكل ربع الأيمان ويأخذ سدس الدية، ويوقف نصف سدس الدية؛ فإن بان أن الخنثى ذكر.. دفع إليه ذلك، وإن بان امرأة.. دفع ذلك إلى الجد. [فرع خلف جدا وأختا وخنثى] فإن خلف المقتول جدا، وأختا لأب وأم، وخنثى مشكلا لأب.. فإن الجد يحلف نصف الأيمان ويأخذ خمسي الدية؛ لجواز أن يكون الخنثى ذكرا، وتحلف الأخت نصف الأيمان وتأخذ نصف الدية؛ لأنها تستحق ذلك بكل حال، ويحلف الخنثى عشر الأيمان؛ لجواز أن يكون رجلا فيستحق عشر الدية، ويوقف العشر ولا يدفع

فرع خلف جدا وأخا شقيقا وآخر لأب أو جدا وخنثيين

إليه؛ فإن بان الخنثى رجلا.. أخذه، وإن بان امرأة.. أخذه الجد. وإن خلف المقتول جدا، وأختا لأب وأم، وخنثى مشكلا لأب وأم.. فإن الجد يحلف نصف الأيمان ويأخذ خمسي الدية، وتحلف الأخت ربع الأيمان وتأخذ خمس الدية، ويحلف الخنثى خمس الأيمان ويأخذ ربع الدية، وتصح من عشرين: للجد ثمانية، وللأخت أربعة، وللخنثى خمسة، وتوقف ثلاثة أسهم؛ سهمان مترددان بين الجد والخنثى، وسهم بين الأخت والخنثى؛ فإن بان الخنثى رجلا.. أخذ الثلاثة، وإن بان امرأة.. أخذ الجد من الثلاثة سهمين، وأخذت الأخت سهما. قال القاضي أبو الطيب: فإن طلب الجد والخنثى أن يصطلحا على سهمين من الثلاثة الموقوفة قبل أن يتبين حال الخنثى.. جاز، وسواء اصطلحا عليه على التساوي أو على التفاضل بشرط أن يكون السهم الباقي للأخت؛ لأنه لا يجوز للحاكم أن يطلق لهما التصرف في بعض الموقوف والمشارك لم يتيقن حقه، فلا يجوز أن يصطلحا على أكثر من سهمين؛ لجواز أن يكون السهم للأخت. وهذا كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا أسلم وتحته ثماني نسوة، فأسلمن معه، ومات قبل أن يختار أربعا منهن.. فإنه يوقف لهن ميراث زوجة؛ فإن جاء منهن أربع يطلبن الميراث.. لم يدفع إليهن شيء، وإن جاء خمس منهن يطلبن الميراث.. دفع إليهن ربع الميراث بشرط أن يكون الباقي للثلاث الباقيات) . قال ابن الصباغ: وفي هذا نظر؛ لأن ما اصطلحا عليه لا حق للأخت فيه، فلا يلزمهما إسقاط حق الخنثى من السهم الذي يحتمل أن يكون للخنثى ويحتمل أن يكون للأخت، وهكذا ذكره في (ميراث الزوجات) . [فرع خلف جدا وأخا شقيقا وآخر لأب أو جدا وخنثيين] وإن خلف المقتول جدا، وأخا لأب وأم، وأخا لأب.. فإن الأخ للأب والأم مع

الجد يحجبان الأخ للأب، ولا يستحق الأخ للأب شيئا من الدية بحال، فيحلف الجد ثلثي الأيمان ويأخذ ثلث الدية، ويحلف الأخ للأب والأم ثلثي الأيمان ويأخذ ثلثي الدية. وإن خلف المقتول جدا وخنثيين مشكلين، أحدهما لأب وأم والثاني لأب.. فإن الجد يحتمل أن يستحق نصف الدية؛ بأن يكون الخنثيان امرأتين، ويحتمل أن يستحق ثلث الدية؛ وهو إذا بانا رجلين، ويحتمل أن يستحق خمسي الدية؛ وهو إذا بان أحدهما ذكرا والآخر امرأة، فيحلف الجد أكثر ما يجب عليه؛ وهو نصف الأيمان، ويدفع إليه من الدية أقل ما يستحقه؛ وهو: ثلث الدية. وأما الخنثيان: فيحتمل أن يكونا رجلين، فيستحق الأخ للأب والأم ثلثي الدية ولا شيء للأخ من الأب. ويحتمل أن يكونا امرأتين، فيكون للأخت للأب والأم نصف الدية ولا شيء للأخت للأب. ويحتمل أن يكون الذي للأب والأم رجلا، والذي للأب امرأة، فيكون للأخ للأب والأم ثلاثة أخماس الدية، ولا شيء للأخت للأب. ويحتمل أن يكون الذي للأب والأم امرأة، والذي للأب رجلا، فيكون للأخت للأب والأم نصف الدية، وللأخ للأب عشر الدية. فإذا تقرر هذا: فإن الخنثى للأب والأم يحلف ثلثي الأيمان؛ لأن ذلك أكثر ما يجب عليه من الأيمان، ويدفع إليه نصف الدية؛ لأن ذلك أقل ما يستحقه من الدية، ويحلف الخنثى للأب عشر الأيمان؛ لجواز أن يكون له عشر الدية، ولا يدفع إليه شيء؛ لجواز أن لا يستحقها، وتصح المسألة في ثلاثين: فيدفع إلى الجد عشرة، وإلى الذي للأب والأم خمسة عشر، وتوقف خمسة أسهم؛ سهمان مترددان بين الجد والخنثى للأب والأم، وثلاثة مترددة بينهم جميعا؛ فإن بان الخنثيان رجلين.. دفعت الخمسة إلى الأخ للأب والأم، وإنا بانا امرأتين.. دفعت الخمسة إلى الجد، وإن بان الذي للأب والأم رجلا والذي للأب امرأة.. دفع إلى الأخ من الأب

فرع قتل رجل وهناك لوث وخلف أولادا فمات أحدهم

والأم ثلاثة أسهم - وهي: تمام ثلاثة أخماس- وإلى الجد سهمان، تمام الخمسين. وإن بان الذي للأب والأم امرأة والذي للأب رجلا.. دفع إلى الجد سهمان وإلى الأخ للأب ثلاثة أسهم؛ فإن أراد الجد والخنثى للأب والأم أن يصطلحا على سهمين من الخمسة الأسهم قبل أن يتبين الحال.. جاز؛ لأنهما لا يخرجان منهما، وإن أرادوا جميعا أن يصطلحوا على الخمسة الأسهم قبل أن يتبين الحال.. جاز؛ لما ذكرناه. [فرع قتل رجل وهناك لوث وخلف أولادا فمات أحدهم] وله ابنان وحكم البناء على الأيمان] : إذا قتل رجل وهناك لوث، وخلف ثلاثة أولاد، فمات واحد منهم وخلف ابنين: فإن مات قبل أن يقسم.. فإن ابنيه يقسمان؛ فإن قلنا: إن كل واحد من الورثة يحلف خمسين يمينا.. فإن الابنين وابني الابن يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، وإن قلنا: يقسم كل واحد منهم على قدر حصته من الدية.. فإن كل واحد من ابني المقتول يحلف ثلث الأيمان، ويجبر الكسر، ويحلف كل واحد من ابني الابن سدس الأيمان، ويجبر الكسر. وإن مات الابن بعدما أقسم بعض الأيمان.. لم يجز لابنيه أن يبنيا على أيمانه، بل يستأنفان الأيمان؛ لأن الأيمان في القسامة كاليمين الواحدة، فلا يجوز البناء عليها من اثنين. وإن أقسم رجل بعض الأيمان، ثم جن أو أغمي عليه.. لم يصح إقسامه في حال الجنون والإغماء؛ لأنه غير مكلف، فإذا أفاق.. بنى على أيمانه؛ لأن فعل الواحد يبنى بعضه على بعض. [مسألة وعظ الحاكم للحالف قبل الحلف أو النكول] وإذا أراد الولي أن يقسم.. فإنه يستحب للحاكم أن يعظه ويقول له: اتق الله، ولا تقدم على الأيمان على أمر، وربما كان الأمر بخلاف ما ادعيت. ويقرأ عليه قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] الآية [آل عمران: 77] . ويعرفه ما في اليمين الغموس من الإثم، كما يستحب له أن يعظ الزوجين عند اللعان.

فإن لم ينزجر عن الأيمان، وطلب أن يحلف.. فإن الحاكم يحلفه على ما يأتي بيانه. وإن نكل الولي عن الأيمان.. فإن الأيمان تصير في جنبة المدعى عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأنصار حين امتنعوا عن اليمين: «فتبرئكم اليهود بخمسين يمينا» . فإن كان المدعى عليه واحدا.. حلف خمسين يمينا، وإن كانوا أكثر من واحد.. ففيه قولان: أحدهما: تقسم عليهم الخمسون يمينا على عدد رؤوسهم، فإن كان فيها كسر.. جبر الكسر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تبرئكم اليهود بخمسين يمينا» . والثاني: يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، وهو الأصح؛ لأن كل واحد منهم ينفي عن نفسه ما ينفي عن نفسه إذا كانت الدعوى عليه وحده، والخبر محمول على: أن كل واحد منهم ممن ادعيتم عليه أنه قتل يحلف لكم خمسين يمينا. بخلاف الأولياء؛ حيث قلنا: الصحيح: أن الأيمان الخمسين تقسم عليهم على قدر مواريثهم؛ لأن كل واحد منهم يثبت لنفسه - إذا كان معه وارث- غير ما يثبته لها إذا انفرد بالإرث. فإن نكل المدعى عليه عن اليمين في هذه الحالة.. فهل ترد الأيمان على المدعي ثانيا؟ وإن قلنا: إن أيمان المدعي ابتداء توجب المال دون القود.. فإن الأيمان هاهنا ترد على الولي قولا واحدا إذا كان القتل موجبا للقود، ويجب له القود؛ لأن أيمان الولي هاهنا كبينة يقيمها على القتل في أحد القولين، أو كإقرار المدعى عليه في الثاني، والقود يثبت بالجميع. وإن قلنا: إن أيمان الولي ابتداء توجب القود وكانت الدعوى بقتل لا يوجب القود.. فهل ترد عليه الأيمان؟ فيه قولان: أحدهما: لا ترد عليه؛ لأن الأيمان قد كانت في جنبته وقد أسقطها بالنكول عنها، فلم ترد عليه، كالمدعى عليه إذا نكل عن اليمين فردت على المدعي فنكل.. فإنها لا ترد على المدعى عليه، فلم ترد.

مسألة ادعاء القتل في مكان لا لوث فيه

والثاني: ترد عليه، وهو الأصح؛ لأن سبب هذه الأيمان غير سبب تلك الأيمان؛ لأن سبب تلك الأيمان قوة جنبة الولي باللوث، وسبب هذه قوة جنبته بنكول المدعى عليه. [مسألة ادعاء القتل في مكان لا لوث فيه] وإن ادعى القتل في موضع لا لوث فيه ولا بينة مع المدعي.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أن الناس أعطوا بدعواهم.. لادعى ناس دماء ناس وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» . ولأن الأيمان إنما تثبت في جنبة المدعي أولا مع اللوث؛ لقوة جنبته باللوث، فإذا لم يكن هناك لوث.. كانت جنبة المدعى عليه أقوى؛ لأن الأصل براءة ذمته، فكانت الأيمان في جنبته ابتداء، وهل تغلظ عليه الأيمان بالعدد؟ فيه قولان: أحدهما: لا تغلظ عليه، بل يحلف يمينا واحدة -وهو اختيار المزني - لأنها يمين توجهت في جنبة المدعى عليه ابتداء فكانت يمينا واحدة، كاليمين في سائر الدعاوى. ولأن التغليظ بالعدد بالأيمان إنما وجب في حق المدعي لأجل اللوث، فإذا لم يكن هناك لوث.. سقط التغليظ. والثاني: يغلظ عليه بالعدد، وهو الأصح؛ لأن الأيمان إنما تغلظ بالعدد في القتل لحرمة النفس، وهذا موجود في الأيمان إذا توجهت في جنبة المدعى عليه ابتداء. وقول الأول: إنها إنما غلظت على المدعي لأجل اللوث غير صحيح؛ لأن اللوث معنى تقوى به جنبة المدعي، وما قويت به جنبته.. يجب أن يقع به التخفيف عليه لا التغليظ. فإن قلنا: لا تغلظ الأيمان بالعدد على المدعى عليه: فإن كان واحدا.. حلف يمينا واحدة. وإن كانوا جماعة.. حلف كل واحد منهم يمينا. وإن نكل المدعى عليه عن اليمين.. ردت على الولي؛ فإن كان واحدا.. حلف يمينا واحدة، وإن كانوا جماعة.. حلف كل واحد منهم يمينا.

مسألة دعوى قتل على اثنين أو على أحدهما لوث

وإن قلنا: تغلظ الأيمان بالعدد على المدعى عليه: فإن كان واحدا.. حلف خمسين يمينا. وإن كانوا جماعة.. فهل يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، أو تقسم الخمسون يمينا بينهم على عدد رؤوسهم ويجبر الكسر؟ فيه قولان مضى ذكرهما، والصحيح هاهنا: أن يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا. وإن نكل المدعى عليه عن الأيمان.. ردت على الولي، فإن كان واحدا.. حلف خمسين يمينا. وإن كانوا جماعة.. فهل يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، أو تقسم الخمسون يمينا بينهم على قدر مواريثهم ويجبر الكسر؟ فيه قولان، مضى ذكرهما، الصحيح: يحلف كل واحد منهم على قدر ميراثه من الدية. فإذا حلف الولي عند نكول المدعى عليه، فإن كانت الدعوى في قتل العمد.. وجب له القصاص قولا واحدا؛ لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة في أحد القولين، وكالإقرار في القول الآخر، والقصاص يثبت بكل واحد منهما. وإن كانت الدعوى في قتل الخطأ أو عمد الخطأ.. وجبت الدية، وهل تحملها العاقلة؟ قال القفال: إن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة.. كانت على عاقلة المدعى عليه. وإن قلنا: إنها كإقرار المدعى عليه.. كانت في ماله؛ لأن العاقلة لا تحمل ما يثبت بالإقرار. ومن أصحابنا من قال: تجب في مال المدعى عليه قولا واحدا؛ لأنها إنما تكون كالبينة في حق المتداعيين لا في حق غيرهما. [مسألة دعوى قتل على اثنين أو على أحدهما لوث] أو على جماعة لا يصح اشتراكهم] : وإن كانت الدعوى في القتل على اثنين، أو على أحدهما لوث دون الآخر.. حلف الولي على الذي عليه اللوث خمسين يمينا؛ لأن القسامة لا يحكم بها بأقل من خمسين يمينا. فإن كانت الدعوى في قتل العمد.. وجب له عليه القود في قوله القديم،

مسألة ادعى على رجل أو اشترك معه آخران بقتل وليه عمدا

ونصف الدية على الجديد، ويحلف الذي لا لوث عليه على ما مضى. وإن ادعى القتل على جماعة لا يصح اشتراكهم في القتل، كأهل بلد أو أهل قرية كبيرة.. لم تسمع الدعوى. وقال أبو حنيفة: (تسمع) . دليلنا: أن هذه الدعوى محال فلم تسمع، كما لو ادعى على رجل أنه قتل وليه، والمدعى عليه ولد بعد قتل مورثه. وإن قال الولي لجماعة: أنا أعلم أن القاتل أحد هؤلاء، ولا أعلم من هو منهم.. لم تسمع هذه الدعوى؛ لأن تعيين المدعى عليه شرط في صحة الدعوى. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن قال لجماعة: أنتم القاتلون أو بعضكم ولا أتحقق القاتل منكم، ولكن يحلف كل واحد منكم.. فهل تسمع هذه الدعوى ويجب تحليفهم؟ فيه وجهان، بناء على من أضل خاتما أو غيره بين اثنين أو جماعة وقال: لا أعرف الآخذ منكم، ولكن يحلف كل واحد منكم.. فهل له ذلك؟ فيه وجهان. [مسألة ادعى على رجل أو اشترك معه آخران بقتل وليه عمدا] وإن ادعى رجل على رجل أنه قتل وليه عمدا محضا، وهناك لوث، وأقسم الولي.. فقد ذكرنا: أنه هل يجب على المدعى عليه القود أو الدية؟ على قولين. وإن ادعى عليه أنه قتله خطأ فأنكر، فأقسم المدعي.. وجبت له الدية مخففة على عاقلة المدعى عليه. وإن ادعى أنه قتله عمد خطأ وأنكر المدعى عليه، فأقسم الولي.. وجبت له دية مغلظة على عاقلة المدعى عليه. وإن قال الولي: قتله هذا ومعه غيره.. ففيه أربع مسائل: إحداهن: أن يقول: قتله هذا أو آخران معه عمدا، إلا أن شريكيه غائبان.. فإن الولي يقسم على الحاضر خمسين يمينا؛ لأنه لا يجوز استفتاح الحكم بالقسامة بأقل من خمسين يمينا، فإذا حلف عليه.. استحق عليه القود على قوله القديم، واستحق ثلث الدية مغلظة في مال الجاني على القول الجديد.

فإذا حضر أحد الغائبين فأنكر القتل.. أقسم عليه الولي، وكم يجب عليه أن يحلف عليه؟ حكى الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق - فيها وجهين، وحكاهما ابن الصباغ قولين: أحدهما: يحلف عليه خمسا وعشرين يمينا؛ لأنه لو حضر مع الأول.. لأقسم عليهما خمسين يمينا، فدل على أن لكل واحد منهما نصف الخمسين. والثاني: لا يجزئه إلا خمسون يمينا، وهو الأصح؛ لأن الأيمان الأولى لم تتناول الثاني، فيجب أن يذكرها؛ لأنه لا يجوز الحكم في القسامة بأقل من خمسين يمينا. ويخالف إذا حضر الثاني مع الأول؛ فإنه قد أقسم عليه خمسين يمينا. فإذا أقسم على الثاني.. استحق عليه القود في قوله القديم، وثلث الدية مغلظة في ماله في قوله الجديد. فإذا حضر الثالث وأنكر القتل.. فهل يقسم عليه خمسين يمينا، أو ثلث الخمسين ويجبر الكسر؟ على الوجهين في الثاني. فإذا أقسم عليه.. استحق عليه ما استحق على الثاني. المسألة الثانية: إذا قال: قتله هذا عمدا وآخران معه خطأ.. فإنه يقسم على الحاضر خمسين يمينا، ولا يستحق عليه القود قولا واحدا؛ لأن شريكيه مخطئان، ويستحق عليه ثلث الدية مغلظة في ماله. فإذا حضر الثاني وأنكر القتل.. أقسم عليه، وهل يقسم عليه خمسين يمينا أو نصفها؟ على الوجهين في التي قبلها، فإذا أقسم عليه.. استحق ثلث الدية مخففة على عاقلته. فإذا حضر الثالث فأنكر القتل.. فهل يقسم عليه خمسين يمينا أو ثلثها؟ على الوجهين، فإذا أقسم عليه.. استحق على عاقلته ثلث الدية المخففة. المسألة الثالثة: إذا قال: قتله هذا عمدا وآخران معه، لا أدري كيف قتلاه.. فإنه يقسم على الحاضر خمسين يمينا ويستحق ثلث الدية المغلظة في ماله على قوله الجديد، وأما على القول القديم: فيوقف الأمر إلى أن يقدم الغائبان، فإذا حضرا

واعترفا بقتل العمد المحض.. وجب عليهما القود قولا واحدا ووجب على الأول القود على قوله القديم. وإن اعترفا بقتل الخطأ.. وجب في مال كل واحد منهما ثلث دية مخففة وعلى الأول ثلث دية مغلظة قولا واحدا. وإن اعترفا بعمد الخطأ.. وجب في مال كل واحد منهما ثلث دية مغلظة. وإن اعترف أحدهما بقتل عمد الخطأ، والآخر بقتل الخطأ.. اعتبر حكم كل واحد منهما في نفسه في تغليظ الدية وتخفيفها. وإن أنكرا القتل.. فهل يجوز للولي أن يقسم عليهما؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز أن يقسم عليهما؛ لأنه إذا أقسم عليهما.. لم يعلم الحاكم ما يحكم به عليهما. والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يجوز للولي أن يقسم عليهما؛ لأن جهل الولي بصفة قتلهما ليس بجهل في القتل، فإذا أقسم عليهما.. حبسا حتى يفسرا صفة القتل؛ لأنه لا يعلم إلا من جهتهما. فإذا أقرا بقتل العمد المحض.. وجب عليهما القود قولا واحدا، وهل يجب القود على الأول؟ فيه قولان. وإن أقرا بقتل الخطأ، أو أقر أحدهما بقتل الخطأ وأقر الآخر بقتل العمد.. لم يجب القود على واحد منهما قولا واحدا، وحكم الدية على ما مضى، وكم يقسم الولي عليهما؟ على الوجهين. المسألة الرابعة: إذا قال: قتله هذا عمدا ونفر يصح اشتراكهم في القتل، لكني لا أعلم عددهم، فإن كانت الدعوى في قتل الخطأ، أو عمد الخطأ، أو في العمد المحض وقلنا: لا يجب القود بأيمان الولي.. لم يكن للولي أن يقسم على الحاضر؛ لأنه إذا أقسم عليه.. لم يعلم كم القدر الذي يجب بجنايته من الدية. وإن كانت الدعوى بقتل العمد المحض، وقلنا: يجب القود بأيمان الولي.. فهل يجوز للولي أن يقسم على الحاضر؟ فيه وجهان: أحدهما: له أن يقسم عليه؛ لأن الجماعة يقتلون بالواحد عندنا. والثاني: ليس له أن يقسم عليه؛ لأنه ربما عفا على الدية عن الحاضر، فلا يعلم ما يستحقه عليه من الدية.

مسألة غلبة الظن على صدق المدعي تثبت اللوث

[مسألة غلبة الظن على صدق المدعي تثبت اللوث] واللوث الذي تثبت به الأيمان في جنبة المدعي هو: أن يوجد هناك سبب يغلب معه على الظن صدق المدعي، وذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك سبعة أسباب: أحدها: إذا وجد قتيل في محلة قوم أو في قرية أو قبيلة ولا يشاركهم غيرهم في السكنى - وإن كان قد يدخل غيرهم إليهم في تجارة - وبينهم وبين المقتول عداوة ظاهرة، وسواء كان المقتول منهم أو من غيرهم.. فإن ذلك لوث على أهل المحلة أو القرية؛ لأن خيبر كانت دارا محصنة لليهود ولا يسكنها غيرهم، وكان أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخلونها للتجارة، وكان بينهم وبين الأنصار عداوة ظاهرة، فلما وجد عبد الله بن سهل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيها مقتولا.. جعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوثا، وجعل للأنصار أن يقسموا عليهم. وإن اختل أحد هذين الشرطين؛ بأن كان يسكنها غيرهم، أو لا عداوة ظاهرة بين المقتول وبينهم.. لم يكن لوثا. السبب الثاني: أن يوجد قتيل في دار قوم أو قريتهم أو حصن أو قبيلة ولا يخالطهم غيرهم في السكنى ولا يدخل إليهم غيرهم في تجارة ولا غيرها.. فإن هذا يكون لوثا عليهم، سواء، كان بينهم وبين المقتول عداوة ظاهرة أو لم يكن، وسواء كان القتيل منهم أو من غيرهم. والفرق بينها وبين الأولى: أنه إذا كان يدخل إليهم غيرهم في تجارة أو غيرها.. جاز أن يكون الذي قتله هو الداخل إليهم، فلهذا قلنا: يشترط أن يكون بينه وبينهم عداوة ظاهرة، وإن كان لا يدخل إليهم غيرهم.. فالظاهر أنه لم يقتله غيرهم. السبب الثالث: أن يوجد قتيل في الصحراء، وفيه مسألتان: إحداهما: أن تتفرق عنه جماعة وهو طري، ولم يكن يقربهم أحد ولا مضى - من

حين تفرقهم عنه إلى أن روعي أمرهم- مدة يمكن أن يكون القاتل قد هرب أو اختفى. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وليس هناك أثر ولا عين) أراد بـ: (الأثر) أثر قدم آدمي. وبـ: (العين) السبع؛ لأنه إن كان هناك سبع.. جاز أن يكون هو الذي قتله، وإذا كان هناك أثر آدمي.. جاز أن يكون هو الذي قتله دون الجماعة الذين تفرقوا عنه، فإن لم يوجد شيء من ذلك.. كان لوثا على الجماعة الذين تفرقوا من عنده؛ لأن الظاهر أنهم قتلوه. الثانية: أن يوجد القتيل طريا في الصحراء وبقربه رجل معه سيف مخضوب بالدم أو غيره من السلاح، وليس هناك غيره.. فإنه يكون لوثا عليه؛ لأن الظاهر أنه قتله. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وكذلك إذا رأى رجلا يحرك يده كالضارب، ووجد بقربه قتيل.. فإنه يكون لوثا عليه؛ لأن الظاهر أنه قتله. السبب الرابع: أن يوجد قتيل في أحد صفي القتال، فإن كان الصفان قد التقيا بحيث يقتتلون بالسيوف أو الرماح أو الرمي.. فهو لوث على أهل الصف الثاني؛ لأن الظاهر أنهم قتلوه دون أهل صفه. وإن كانوا متباعدين؛ بحيث لا يمكن قتالهم بالسيوف والرماح والرمي.. فهو لوث على أهل صفه؛ لأن الظاهر أنهم قتلوه. السبب الخامس: إذا ازدحم جماعة في مسجد أو طواف أو سوق فوجد بينهم قتيل.. فهو لوث عليهم؛ لأن الظاهر أنهم قتلوه. السبب السادس: أن يوجد رجل قتيلا، فتشهد جماعة نساء أو عبيد أن فلانا قتله، فإن جاؤوا متفرقين واتفقت أقوالهم على صفة قتله، ولم يمض من وقت قتله إلى أن قالوا هذه مدة يمكنهم أن يجتمعوا ويتفرقوا.. فإن ذلك يكون لوثا على المشهود عليه؛ لأن الله تعالى لم يجر العادة أن الجماعة يكذبون في شيء واحد من غير تواطؤ منهم على الكذب. وإن كانت قد مضت مدة من حين قتله يمكن أن يجتمعوا فيها ويتفرقوا.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أكثرهم: لا يكون لوثا على المشهود عليه؛ لأنه يجوز أن يكونوا قد اجتمعوا وتواطؤوا على الكذب.

وقال ابن الصباغ: فيها نظر؛ لأنه متى وجد عدد مجتمع على ذلك.. غلب على الظن أنه قتله، وتجويز تواطئهم على الكذب لا يمنع الظن، كتجويز كذب العدل في الظاهر. وإن شهد بذلك صبيان أو فساق أو كفار كشهادة النساء والعبيد.. ففيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا يكون لوثا على المشهود عليه؛ لأن أخبارهم غير مقبولة في الشرع. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يكون لوثا على المشهود عليه، وهو الأصح؛ لأنا إنما جعلنا قول الجماعة من النساء والعبيد لوثا؛ لأن الله تعالى لم يجر العادة أن الجماعة يكذبون في شيء واحد من غير تواطؤ على الكذب، وهذا المعنى موجود في هؤلاء، ولأن لقولهم حكما في الشرع؛ بدليل أن قولهم يقبل في قبول الهدية وفي الإذن في دخول الدار. السبب السابع: أن يشهد رجل عدل على رجل أنه قتل فلانا.. فإنه يكون لوثا. هذا مذهبنا، وقال مالك: (جميع هذه الأسباب لا يكون لوثا إلا إذا شهد رجل عدل أنه قتل فلانا.. فإنه يكون لوثا) . دليلنا: أن قتيل الأنصار وجد في خيبر وهي مسكن اليهود ولا يسكن معهم غيرهم وهم أعداء الأنصار، فجعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوثا، والمعنى في ذلك: أنه يغلب على الظن مع ذلك أنهم قتلوه، وهذا المعنى موجود في هذه الأسباب، فكانت لوثا، كما لو شهد رجل عدل على رجل أنه قتل رجلا. إذا ثبت هذا: فشهد رجل عدل على رجل أنه قتل رجلا، وكان القتل موجبا للمال.. حلف المدعي يمينا واحدة وقضي له بالمال؛ لأن ذلك يثبت بالشاهد واليمين. وإن كان القتل موجبا للقود.. فإنه يحلف خمسين يمينا ويجب له القود على القديم، وعلى الجديد لا تثبت له إلا الدية.

فرع وجد قتيلا ومعه عبده

[فرع وجد قتيلا ومعه عبده] إذا وجد الرجل قتيلا في دار ومعه عبده.. فلورثته أن يقسموا عليه؛ لأنه يغلب على الظن صدقهم، ويكون لهم القود على القديم، وعلى الجديد الدية، ويستفاد به فكه من الرهن. [فرع قول المجروح جرحني أو دمي عند فلان] فأما إذا قال المجروح: جرحني فلان، أو دمي عند فلان، ثم مات.. فإنه لا يكون لوثا عليه. وقال مالك: (يكون لوثا عليه) . دليلنا: أن من لم يقبل إقراره على غيره بالمال.. لم يقبل إقراره في الجرح، كما لو برئ من الجراحة. [فرع ادعى على رجل قتل وليه فأنكر فأقام شاهدين لم يتفقا] على فعل واحد ولكن اتفقا على القتل] : وإن ادعى رجل على رجل أنه قتل وليه فأنكر، فأقام عليه شاهدين، فشهد أحدهما أنه قتله بالسيف، وشهد الآخر أنه قتله بالعصا، أو شهد أحدهما أنه قتله غدوة، وشهد الآخر أنه قتله عشية.. لم يثبت القتل بشهادتهما؛ لأن شهادتهما لم تتفق على فعل واحد. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (ويكون ذلك لوثا) . وقال في موضع: (لا يكون لوثا) واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق: فـ[الطريق الأول] : قال أبو إسحاق: يكون لوثا قولا واحدا؛ لأنهما اتفقا على إثبات القتل، وإنما اختلفا في صفته، فغلب على الظن صدق الولي. و [الطريق الثاني] : قال أبو الطيب بن سلمة، وأبو حفص ابن الوكيل: لا يكون لوثا قولا واحدا؛ لأن كل واحد من الشاهدين يكذب الآخر، فلا يغلب على الظن صدق الولي.

فرع شهدا على أنه قتل من قبل أحد اثنين وعكسه

و [الطريق الثالث] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، ووجههما ما ذكرناه. وإن شهد أحدهم أنه قتله وشهد الآخر أنه أقر بقتله.. لم يثبت القتل بشهادتهما؛ لأنهما لم يتفقا على فعل واحد؛ لأن أحدهما شهد على القتل والآخر على الإقرار، ويثبت اللوث هاهنا قولا واحدا؛ لأن أحدهما لا يكذب الآخر، فيحلف الولي مع أي الشاهدين شاء منهما. فإن كان القتل خطأ.. حلف يمينا واحدة وتثبت له الدية، فإن حلف مع من شهد بالقتل.. وجبت الدية على العاقلة، وإن حلف مع من شهد بالقتل على الإقرار.. وجبت الدية في مال الجاني. وإن كان عمدا.. حلف خمسين يمينا، ووجب القصاص في القول القديم، والدية في القول الجديد. [فرع شهدا على أنه قتل من قبل أحد اثنين وعكسه] وإن شهد شاهدان أن رجلا قتله أحد هذين الرجلين.. كان ذلك لوثا، وللولي أن يقسم على أيهما غلب على ظنه أنه قتل مورثه؛ لأنه قد ثبت أن أحدهما قتله.. فهو كما لو وجد بينهما مقتول. وإن شهد شاهدان أن هذا الرجل قتل أحد هذين الرجلين.. لم يثبت اللوث؛ لأن اللوث ما يغلب معه على الظن صدق ما يدعيه المدعي ولا يعلم لمن شهدا من الوليين. فإن كان وليهما واحدا وديتهما مستوية.. فالذي يقتضي المذهب: أن له أن يقسم على المشهود عليه؛ لأنه يستحق بكل واحد منهما ما يستحقه بالآخر. [مسألة وجد مقتولا في موضع لوث وله ولدان فاختلفا في تعيين القاتل] إذا قتل رجل في موضع فيه لوث وله ابنان، فادعى أحدهما على رجل بأنه قتله،

وكذبه أخوه وقال: لم يقتله هذا.. سقط اللوث في حق المكذب وأما المدعي.. ففيه قولان: أحدهما: يسقط اللوث في حقه؛ لأن اللوث أمر يحكم فيه بغلبة الظن، وتكذيب أحد الابنين لأخيه لا يدل على صدق المدعي من جهة غلبة الظن، فتعارضا وسقطا، وبقي القتل بغير لوث. فعلى هذا: يحلف المدعى عليه. والثاني: لا يسقط اللوث - وهو اختيار المزني - لأن اللوث في الأيمان في القسامة كالشاهد واليمين في سائر الدعاوى في الأموال، ثم ثبت أن أحد الأخوين لو ادعى على رجل مالا لأبيه، وأقام على ذلك شاهدا وكذبه الآخر.. لم تسقط اليمين في حق المدعي، وله أن يحلف معه، كذلك هاهنا مثله. فعلى هذا: يحلف المدعي ويستحق على المدعى عليه نصف الدية. إذا ثبت هذا: فإن المزني نقل في تكذيب أحدهما للآخر: (أن يكون المكذب عدلا، وأن يقول المكذب: إن المدعى عليه كان في الوقت الذي قتل فيه ببلد لا يمكن أن يصل إليه.. ففيه قولان) ، واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: هذا شرط في القولين كما نقله المزني؛ لأن إبطال اللوث إنما يكون بما هو صحيح في الظاهر، فلا يبطل بقول الفاسق. وقال أكثر أصحابنا: ليس ذلك شرطا، وإنما أراد تصويرها بذلك، وقد تتصور بغير ذلك، وقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (والعدل والفاسق سواء؛ لأنه جحود في حق نفسه) . وإن قال أحد الابنين: قتله هذا وحده، وقال الابن الثاني: قتله هذا وآخر معه.. فإن هذا تكذيب له في نصف الدية. فإن قلنا: إن التكذيب لا يؤثر في اللوث.. فإن الذي ادعى أنه قتله وحده يقسم

فرع ادعى قتل رجل لوليه وهناك لوث وشهد اثنان أنه لم يقتله

عليه ويستحق عليه نصف الدية، ويقسم عليه الآخر ويستحق عليه ربع الدية. وإن قلنا: إن التكذيب يؤثر في اللوث.. فإن كل واحد منهما يقسم عليه ويستحق عليه ربع الدية. وإن قال أحد الابنين: قتل أبي زيد ورجل آخر لا أعرفه، وقال الابن الثاني: قتل أبي عمرو ورجل معه آخر لم أعرفه.. فإن كل واحد منهما غير مكذب للآخر؛ لجواز أن يكون الذي لا يعرفه هو الذي عينه أخوه فيقسم كل واحد منهما على الذي عينه خمسين يمينا ويستحق عليه ربع الدية. فإن قال كل واحد منهما بعد ذلك: الذي لم أعرفه هو الذي عينه أخي.. حلف عليه وأخذ منه ربع الدية، وهل يحلف عليه خمسين يمينا أو نصف الخمسين؟ على وجهين، مضى ذكرهما. وإن قال أحدهما للآخر: الذي لا أعرفه هو خالد، وقال الآخر: بل الذي لا أعرفه هو بكر.. فقد صار كل واحد منهما مكذبا لأخيه. فإن قلنا: إن التكذيب لا يؤثر.. حلف كل واحد منهما على من عينه واستحق عليه ربع الدية. وإن قلنا: إن التكذيب يؤثر في اللوث.. رد كل واحد منهما ما أخذ من الذي عينه أولا. [فرع ادعى قتل رجل لوليه وهناك لوث وشهد اثنان أنه لم يقتله] أو أقر رجل بقتله] : وإن قتل رجل، فادعى وليه أن فلانا قتله، وهناك لوث، فحلف عليه الولي ثم شهد شاهدان عدلان أن هذا الذي أقسم عليه.. لم يقتله وكان وقت القتل غائبا في البلد كذا بحيث لا يمكن وصوله إليه بذلك الوقت.. وجب على الولي رد الدية إن كان أخذها؛ لأن الدية إنما استحقت باللوث والأيمان، وما قامت فيه البينة.. يبطل اللوث، فسقطت الأيمان.

فرع قتل في زحمة أو نحوها فادعى وليه على رجل فأنكر

وأما إذا شهدا أنه لم يقتله وأطلقا.. لم يبطل اللوث، لأن الشهادة على النفي لا تصح. وإن قالا: ما قتله هذا، وإنما قتله فلان.. بطل اللوث ووجب رد الدية؛ لأن هذه الشهادة تضمنت الإثبات، ولا يحكم للولي على الذي شهدا عليه ثانيا؛ لأنه لا يدعي عليه شيئا. وإن قال رجل.. لم يقتله هذا، وأنا الذي قتلته، فكذبه الولي.. لم يجب على الولي رد الدية، ولا يبطل اللوث؛ لأنه لا يبطل ما حكم له بقول واحد. وإن صدقه الولي.. وجب عليه رد الدية إلى الأول، وهل للولي مطالبة المقر؟ فيه قولان: أحدهما: ليس له مطالبته؛ لأن دعواه على الأول أنه انفرد بالقتل إبراء لغيره من الناس. والثاني: له مطالبته لأن دعواه على الأول ظن وإقرار الثاني على نفسه يقين، فجاز له الرجوع من الظن إلى اليقين. [فرع قتل في زحمة أو نحوها فادعى وليه على رجل فأنكر] أنه كان هناك وقت قتله] : إذا قتل رجل في قرية أو في زحمة أو في صف قتال أو ما أشبه ذلك، فادعى وليه بقتله على رجل، فقال المدعى عليه: لم أكن في القرية أو في الزحمة أو في الصف وقت قتله.. لم يكن للولي أن يقسم عليه حتى يقيم البينة على المدعى عليه أنه كان هنالك عند قتله، فإذا أقام البينة أو أقر المدعى عليه أنه كان هنالك ولكنه قال: لم أقتله.. أقسم عليه الولي. وإن لم يقم عليه البينة ولا أقر.. فالقول قول المدعى عليه أنه لم يكن هنالك، فإن حلف فلا كلام، وإن نكل.. حلف المدعي أنه كان هنالك، ثم أقسم عليه. [فرع لورثة القتيل أن يقسموا ولو كانوا غائبين عن موضع القتل] ولورثة القتيل أن يقسموا وإن كانوا غيبا عن موضع القتل، لأنه يمكن أن يعلموا ذلك باعتراف القاتل أو ببينة؛ لأن عبد الله بن سهل قتل بخيبر وعبد الرحمن بن سهل بالمدينة ولم يشاهده، فقال لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم» .

فرع ادعى قتل عمد وقيل له صفه فوصفه خطأ أو بعمد خطأ

فدل على أنه يجوز. ولأن اليمين تكون تارة على يقين وتارة على غلبة الظن. فاليقين: أن يقرض إنسانا شيئا فينكره، فيحلف أنه أقرضه. وغلبة الظن: أن يجد شيئا بخطه على إنسان ولا يعلم ذلك متى وقع، أو يجده بخط أبيه ويعلم أن أباه لا يكتب إلا بما كان له وأنه يمحو ما استوفاه. وكذلك الرجل إذا وكل وكيلا يشتري له عبدا، فأتاه الوكيل بعبد فقال: قد اشتريت هذا، وجاء آخر وادعى ملكه وأنه غصبه منه.. فللموكل أن يقول: هو لي ويحلف عليه؛ لأنه يغلب على ظنه صدق الوكيل. [فرع ادعى قتل عمد وقيل له صفه فوصفه خطأ أو بعمد خطأ] وإن ادعى على رجل قتل رجل عمدا وهناك لوث، فقيل له: صف العمد، فوصفه بالخطأ المحض أو بعمد الخطأ.. فقد نقل المزني: (أنه لا يقسم) . ونقل الربيع: (أنه يقسم) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: ليس له أن يقسم؛ لأنه إذا ادعى قتل العمد.. فقد أقر ببراءة العصبة، وإذا وصفه بالخطأ أو بعمد الخطأ.. فقد أقر ببراءة المدعى عليه. والثاني: أن له أن يقسم على ما فسره؛ لأن دعواه قد تحددت بذلك، وليس إذا اعتقد في الخطأ أو عمد الخطأ أنه عمد تبطل دعواه؛ لأن ذلك قد يشتبه عليه. ومنهم من قال: يقسم قولا واحدا؛ لما ذكرناه. وحيث قال: (لا يقسم) أراد: على ما ادعاه. وإن ادعى على رجل أنه قتل وليه وهناك لوث، فلم يسأله الحاكم عن صفة القتل ثم حلفه قبل ذلك.. لم تصح هذه الأيمان؛ لأن الأيمان قبل وقتها لا يعتد بها، كما لو حلف المدعى عليه قبل أن يسأله المدعي تحليفه.

مسألة القسامة للمسلم على الكافر وللذمي على المسلم

[مسألة القسامة للمسلم على الكافر وللذمي على المسلم] مسألة: [تثبت القسامة للمسلم على الكافر وللذمي على المسلم] : إذا ادعى مسلم على كافر أنه قتل وليه المسلم وأنكر الكافر في موضع فيه لوث.. فللمسلم أن يقسم عليه، والدليل على ذلك: قصة الأنصاري. وإن ادعى الذمي على المسلم أنه قتل وليه وأنكر في موضع فيه لوث.. كان له أن يقسم عليه؛ لأن القتل يثبت بالبينة، وباللوث والقسامة، ثم ثبت أنه لو أقام عليه البينة.. لثبتت دعواه، فوجب أن تثبت له عليه القسامة. [فرع قتل عبد وهناك لوث] وإن قتل عبد وهناك لوث.. فقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن للسيد أن يقسم) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان، بناء على القولين في العاقلة: هل تحمل قيمته؟ فإن قلنا: تحملها.. أقسم السيد. وإن قلنا: لا تحملها.. لم يقسم، بل القول قول المدعى عليه. ومنهم من قال: له أن يقسم عليه قولا واحدا على ما نص عليه؛ لأن القسامة إنما تثبت مع اللوث لحرمة النفس، وهذا المعنى موجود في قتل العبد. فإن قلنا بهذا: فقتل للمكاتب عبد وهناك لوث.. فللمكاتب أن يقسم؛ لأن المكاتب في عبده كالحر في عبده، فإن لم يقسم حتى عجز.. فللسيد أن يقسم. وإن أذن لعبده في التجارة، واشترى عبدا وقتل وهناك لوث، وقلنا: للسيد أن يقسم في عبده.. فإن الذي يقسم هو السيد دون المأذون له؛ لأن المالك له في الحقيقة هو السيد. [فرع أوصى لأم ولده بعبد فقتل وهناك لوث] وإن أوصى الرجل لأم ولده بعبد، فقتل العبد وهناك لوث.. فللسيد أن يقسم

مسألة انكشف زحام عن مجروح فارتد ومات أو رجع إلى الإسلام ومات

عليه، فإذا أقسم.. كانت قيمته موصى بها. وإن مات السيد قبل أن يقسم.. فللورثة أن يقسموا؛ لأنهم يقومون مقامه في إثبات حقه، فإن حلفوا.. كانت قيمته لأم الولد إن خرجت من الثلث، وإن لم يقسموا.. فهل لأم الولد أن تقسم؟ فيه قولان، بناء على القولين في الرجل إذا مات وله دين له به شاهد وعليه دين، ولم يحلف الورثة مع الشاهد.. فهل للغرماء أن يحلفوا؟ على القولين. فإن قلنا: لها أن تقسم فأقسمت.. استحقت قيمة العبد، وإن لم تقسم.. كان لها مطالبة المدعى عليه باليمين. وإن قلنا: ليس لها أن تقسم.. قال القاضي أبو الطيب: فليس لها مطالبة المدعى عليه باليمين. وإن دفع السيد إليها عبدا ليخدمها ولم يملكها إياه، فقتل العبد وهناك لوث.. فليس لها أن تقسم، وإنما الذي يقسم عليه هو السيد؛ لأنه هو المالك في الحقيقة. وإن ملكها إياه، فإن قلنا: إنها لا تملك.. فهو كما لو لم يملكها. وإن قلنا: إنها تملكه.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: أنها تقسم؛ لأنها تملكه، فهو كعبد المكاتب. والثاني: أنها لا تقسم - ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره - لأن ملكها عليه غير مستقر؛ ولهذا: يجوز للسيد أن ينتزعه متى شاء، ولا يجوز لها التصرف فيه بغير إذنه، بخلاف عبد المكاتب. فإذا أقسم كانت القيمة لها. [مسألة انكشف زحام عن مجروح فارتد ومات أو رجع إلى الإسلام ومات] وإن انكشف الزحام عن مسلم وهو مجروح، فارتد ومات من جراحته.. لم تثبت فيه القسامة؛ لأنه إنما يقسم وارثه، والمرتد لا وارث له، وإنما ينتقل ماله إلى بيت مال المسلمين وهم لا يتعينون. فإن رجع إلى الإسلام ومات من الجراحة.. فلورثته أن يقسموا؛ لأنهم يرثون ماله، ثم ينظر فيه: فإن أقام في الردة زمانا لا تسري في مثله الجناية.. فهل يجب في القود في الجناية إذا قامت بها البينة أو الإقرار؟ فيه قولان. وأما الدية.. فتجب قولا واحدا.

مسألة كون المقتول مسلما أو عبدا وله ولي ولم يقسم حتى ارتد

فإذا قلنا هناك: لا يجب القود.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: يجب القود.. فهاهنا قولان. وكل موضع قلنا: لا يجب فيه القود.. فإن الدية تثبت. وإن أقام في الردة زمانا تسري فيه الجناية.. فإن القود لا يجب قولا واحدا، وهل تجب الدية أو نصفها؟ فيه قولان، مضى ذكرهما في (الجنايات) . فإن قلنا: تجب فيه جميع الدية.. كان ذلك لورثته. [مسألة كون المقتول مسلما أو عبدا وله ولي ولم يقسم حتى ارتد] إذا قتل مسلم وله ولي، فلم يقسم الولي حتى ارتد.. فالأولى أن لا يعرض عليه الحاكم القسامة؛ لأنه لا يتورع مع ردته عن الأيمان الفاجرة، فإن حلفه في حال ردته.. صحت القسامة. وقال المزني: لا تصح أيمانه؛ لأنه كافر فلم تصح يمينه. وهذا خطأ؛ لأن الكافر تصح يمينه، فإذا أقسم.. وجب القود على المدعى عليه على القول القديم، والدية على القول الجديد، ويكون ذلك موقوفا، فإن رجع إلى الإسلام.. استحقه، وإن مات أو قتل على الردة.. كان ذلك للمسلمين واستوفاه لهم الإمام. وحكي عن أبي حفص بن الوكيل وأبي علي بن خيران أنهما قالا: إنما تجب الدية بأيمانه على القول الذي يقول: لا يزول ملكه بالردة، أو قلنا: إنه موقوف فرجع إلى الإسلام. فأما على القول الذي يقول: إن ملكه يزول بالردة.. فإنه لا يحلف ولا تجب الدية بأيمانه. وهذا خطأ؛ لأن اكتسابه للمال يصح في حال ردته على الأقوال كلها، وهذا من جملة الاكتساب. وإن كان مرتدا عند قتل وليه.. فإنه لا يقسم. وكذلك: إذا أسلم بعد موت المقتول.. فإنه لا يقسم؛ لأنه ليس بوارث له. فإن كان المقتول عبدا، فارتد سيده.. فإن الأولى أن لا يعرض الحاكم عليه الأيمان؛ لما مضى. فإن استحلفه في حال ردته.. ثبتت القيمة وكانت موقوفة، سواء ارتد بعد موت العبد أو قبله؛ لأنه يستحق القيمة بالملك لا بالإرث.

فرع زال زحام عن عبد مجروح فأعتق ثم مات

[فرع زال زحام عن عبد مجروح فأعتق ثم مات] وإن زال الزحام عن عبد مجروح فأعتق، ثم مات العبد من الجراحة.. وجبت فيه دية حر، وللسيد أقل الأمرين: من أرش الجراحة أو الدية. فإن كانت الدية أقل.. أقسم السيد واستحقها، وإن كان الأرش أقل.. أقسم السيد والورثة، وهل يقسم كل واحد خمسين يمينا، أو يقسم كل واحد على قدر حصته من الدية؟ فيه قولان قد مضى ذكرهما. وقال أبو إسحاق: لا يقسم السيد، لأنه يقسم على إثبات أرش الطرف. والمنصوص هو الأول؛ لأن الطرف قد يسري إلى النفس. [مسألة ادعى على المحجور عليه قتل عمد أو خطأ أو عمد خطأ] وإن ادعى على المحجور عليه للسفه قتل عمد، فإن أقام عليه البينة.. حكم عليه بموجبه، وإن أقر المدعى عليه.. قبل إقراره؛ لأن القتل يتعلق ببدنه، فقبل إقراره فيه. وإن أنكر، فإن كان مع المدعي بينة.. حكم عليه بموجب القتل، وإن كان معه لوث أو شاهد.. أقسم عليه الولي خمسين يمينا، واستحق عليه القود في قوله القديم، والدية في قوله الجديد. فإن لم يكن هناك مع المدعي لوث ولا شاهد.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف.. برئ، وإن نكل.. ردت اليمين على المدعي، وهل تغلظ عليه الأيمان؟ فيه قولان. فإن حلف.. استحق عليه القود، وله العفو عنه على الدية. وإن ادعى عليه قتل الخطأ أو عمد الخطأ، فأقر له بذلك.. فإن الشيخ أبا حامد وأصحابنا العراقيين قالوا: لا يقبل إقراره؛ لأنه حجر عليه لحفظ ماله، فلو قلنا: يقبل إقراره.. لبطلت فائدة الحجر. وقال الخراسانيون: هل يقبل إقراره؟ فيه قولان. فإن قلنا: لا يقبل إقراره.. لم يلزمه حكمه، وإن فك عنه الحجر في ظاهر الحكم، وأما فيما بينه وبين الله تعالى، فإن أقر بجنايته أو إتلاف مال.. لزمه، وإن أقر بدين معاملة.. لم يلزمه.

مسألة دعوى في جناية دون نفس

وإن كان مع المدعي لوث.. حلف خمسين يمينا واستحق الدية على العاقلة، فإن كان معه شاهد عدل.. حلف معه يمينا واستحق الدية على العاقلة؛ لأن المال يثبت بالشاهد واليمين. فإن لم يكن معه لوث ولا شاهد.. فهل تسمع دعواه؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، بناء على أن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه، هل تحل محل البينة أو محل الإقرار؟ فإن قلنا: تحل محل البينة.. سمعت دعواه؛ لأن فيه فائدة؛ وهو: أن المدعى عليه إذا نكل.. ردت اليمين على المدعي، فإذا حلف.. كان كما لو أقام البينة. وإن قلنا: تحل محل إقرار المدعى عليه.. لم تسمع الدعوى عليه؛ لأن إقراره غير مقبول. وقال ابن الصباغ: تسمع الدعوى عليه قولا واحدا؛ فإن حلف المدعى عليه.. برئ من الدعوى، وإن نكل.. لم ترد اليمين على المدعي قولا واحدا؛ لأن ذلك بمنزلة إقراره، وإقراره لا يقبل. [مسألة دعوى في جناية دون نفس] وإن كانت الدعوى في جناية دون النفس.. فإن اليمين لا تكون في جنبة المدعي ابتداء، سواء كان هناك لوث أو لم يكن؛ لأن الأيمان إنما تكون في جنبة المدعي ابتداء مع اللوث في القتل لحرمة النفس، وهذا لا يوجد فيما دون النفس. فإن لم يكن مع المدعي بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أن الناس أعطوا بدعواهم.. لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم، لكن اليمين على المدعى عليه» . وهل تغلظ اليمين عليه بالعدد؟ على قولين بناء على القولين في الدعوى عليه في القتل إذا لم يكن هناك لوث.

فإن قلنا هناك: لا تغلظ عليه بالعدد.. فهاهنا أولى، وإن قلنا: تغلظ هناك عليه بالعدد.. فهاهنا قولان: أحدهما: لا تغلظ عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكن اليمين على المدعى عليه» . و (اليمين) : اسم للواحدة. ولأن التغليظ لحرمة النفس، وهذا لا يوجد فيما دون النفس. والثاني: تغلظ عليه بالعدد؛ لأنه تغليظ لا يتعلق بالنفس، فتعلق بما دون النفس، كتغليظ الدية. فإن قلنا: لا تغلظ بالعدد، فإن كان المدعى عليه واحدا.. حلف يمينا واحدة، وإن كانوا جماعة.. حلف كل واحد منهم يمينا واحدة. فإن رد المدعى عليه اليمين على المدعي، فإن كان واحدا.. حلف يمينا واحدة، وإن كانوا جماعة.. حلف كل واحد منهم يمينا. وإن قلنا: تغلظ بالعدد، فإن كان أرش الجناية دية كاملة أو أكثر.. حلف المدعى عليه خمسين يمينا. وإن كان الأرش أقل من دية النفس.. ففيه قولان: أحدهما: يحلف خمسين يمينا؛ لأن التغليظ لحرمة الدم، وهذا المعنى موجود فيما قل أرشه أو كثر. والثاني: تقسم الخمسون على الدية، فيحلف من الخمسين بقدر ما يدعى عليه من دية النفس. وإن كان في الأيمان كسر.. دخله الجبر؛ لأن ديته دون دية النفس، فلا يجب عليه أن يحلف عليه ما يحلف على النفس. فعلى هذا: إن كان المدعى عليه واحدا.. حلف القدر المغلظ عليه، إما خمسين يمينا في أحد القولين، أو بقسط الأرش من الخمسين في الآخر. وإن كان المدعى عليه جماعة.. فهل يحلف كل واحد منهم ما يحلفه الواحد إذا كان مدعى عليه، أو تقسم الأيمان التي كان يحلفها الواحد على عدد رؤوسهم ويجبر الكسر؟ فيه قولان مضى ذكرهما.

مسألة تغليظ الحاكم اليمين على الولي وصيغة اليمين

فتحصل من هذا: أنه إذا ادعى قطع يد على جماعة.. فكم يحلف كل واحد منهم؟ فيه خمسة أقوال: أحدها: أن كل واحد منهم يحلف خمسين يمينا. والثاني: أن كل واحد منهم يحلف خمسا وعشرين يمينا. والثالث: أن تقسم الخمسون يمينا عليهم على عدد رؤوسهم ويجبر الكسر. والرابع: تقسم الخمس والعشرون يمينا عليهم على عدد رؤوسهم ويجبر الكسر. والخامس: أن كل واحد منهم يحلف يمينا واحدة. فإن كان المدعى عليه واحدا، فنكل ورد اليمين، فإن كان المدعي واحدا.. حلف ما يحلفه المدعى عليه. وإن كانوا جماعة.. فهل يحلف كل واحد منهم ما يحلفه المدعى عليه، أو تقسم الأيمان التي يحلفها المدعى عليه على المدعيين على قدر مواريثهم ويجبر الكسر؟ فيه قولان، مضى ذكرهما. قال ابن الصباغ: وهذا في دعوى جناية العمد المحض، فأما الدعوى في الخطأ المحض أو في عمد الخطأ.. فإن اليمين فيه واحدة على المدعى عليه وعلى المدعي عند النكول قولا واحدا؛ لأن ذلك دعوى في المال. وأما الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: فلم يذكرا الفرق بين العمد والخطأ وعمد الخطأ. [مسألة تغليظ الحاكم اليمين على الولي وصيغة اليمين] وإذا أراد الولي أن يحلف في القسامة.. فإنه يستحب للحاكم أن يغلظ عليه باللفظ. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فيقول: والله، أو بالله، أو تالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية لقد قتل

فلان بن فلان بن فلان الفلاني - ويشير إليه إن كان حاضرا - فلان بن فلان الفلاني عمدا أو خطأ أو عمد خطأ - على حسب ما ادعاه - منفردا بقتله ما شاركه فيه غيره، إن كان ادعى عليه أنه انفرد بقتله) . وإن ادعى القتل على اثنين.. قال: لقد قتل فلان وفلان -ويرفع في نسبهما- فلان بن فلان - ويرفع في نسبه- منفردين بقتله ما شاركهما فيه غيرهما، فتعد هذه يمينا، ثم يحلف كذلك حتى يكمل الخمسين يمينا. ويكون اسم الله مخفوضا، فإن رفع الحالف اسم الله أو نصبه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أحببت للحاكم أن يعيد عليه) فإن لم يفعل.. أجزأه، سواء تعمده أو لم يتعمده؛ لأن ذلك لحن لا يحيل المعنى ولا يحتمل غير ذلك. فإن اقتصر الحاكم على قوله: والله.. أجزأه؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقتصر في تحليف ركانة على قول: والله» . وكذلك: إذا حلفه بصفة من صفات الذات؛ كقوله: وعزة الله، وعظمة الله، وعلم الله، وما أشبه ذلك.. أجزأه؛ لأنها يمين بالله؛ فهي كقوله: والله. وأما قوله: لقد قتل فلان بن فلان، فلان بن فلان منفردا بقتله - إذا ادعى أنه انفرد بقتله- فهو شرط في القسامة؛ لأن الجماعة إذا اشتركوا في قتل رجل.. فكل واحد منهم قاتل إلا أن كل واحد منهم لا يجب عليه من الدية إلا بقسطه، فإذا لم يقل: منفردا بقتله.. يتأول أنه قتله فتؤخذ منه الدية كاملة ولا يجب عليه إلا بقسطه، وإذا قال: منفردا بقتله.. نفى ذلك. وأما قوله: ما شاركه فيه غيره.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: إن ذلك تأكيد لا شرط، وقوله: (منفردا بقتله) يكفي.

فرع ما يقوله أو ينفيه المدعى عليه إذا حلف أنه ما قتل

ومنهم من قال: إن ذلك شرط في القسامة؛ لأنه قد ينفرد بقتله فعلا إلا أن غيره أكرهه على قتله، فيكون المكره له مشاركا له في قتله حكما، ويجب عليه نصف الدية بلا خلاف على المذهب. وقد يتأول الحالف بقوله: (منفردا بقتله) ، أي: فعلا، فلا يحنث. فإذا قال: ما شركه فيه غيره.. انتفى الاشتراك فعلا وحكما. فإن قيل: فالاعتبار عندكم بنية الحاكم لا بنية الحالف، والحنث يقع على ما نواه الحاكم لا على ما نواه الحالف.. قيل: قد يكون هذا الحالف جاهلا لا يعلم ذلك، وربما ظن أن الاعتبار بما نواه الحالف فيقدم على اليمين الكاذبة ويعتقد أنه لا يحنث إلا على ما نواه، فإذا حلفه الحاكم مثل ما ذكرناه.. لم يقدم على اليمين الكاذبة. [فرع ما يقوله أو ينفيه المدعى عليه إذا حلف أنه ما قتل] وإن حلف المدعى عليه أنه ما قتل.. فإنه يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وينفي ستة أشياء، فيقول: ما قتلت فلان بن فلان الفلاني، ولا أعنت على قتله، ولا ناله من فعلي، ولا من سبب فعلي شيء جرحه، ولا وصل إلى شيء من بدنه، ولا أحدثت شيئا مات منه) . فأما قوله: (ما قتلته) فإنه ينفي أنه ما باشر قتله وحده. وأما قوله: (ولا أعنت على قتله) فإنه ينفي أنه ما جرحه هو وغيره جراحات فيموت منها، وإذا لم يقل ذلك.. فربما اعتقد بقوله: (ما قتلته) ؛ أني: ما انفردت بقتله. وأما قوله: (ولا ناله من فعله) يعني: أنه لم يصبه سهم ولا حجر. وأما قوله: (ولا ناله من سبب فعله شيء جرحه) ؛ لأنه قد يرمي حجرا بحجر

فرع استحباب تغليظ اليمين على غير المسلم

فتصيب الحجر فتقع الحجر المصابة على الإنسان فتقتله، فيكون قد أصابه بسبب فعله. وأما قوله: (ولا وصل إلي شيء من بدنه) يعني: أنه لم يسقه سما، فمات منه. وأما قوله: (ولا أحدثت شيئا مات منه) يعني: أنه لم يحفر بئرا في طريق الناس أو ينصب له سكينا، فيموت منه بذلك. فإن قيل: فعندكم لا تصح الدعوى في القتل إلا مفسرة أنها عمد أو خطأ أو عمد خطأ، فتكون يمين المدعى عليه على نفي ما ادعي عليه من ذلك.. فلم يذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أنه يحلف على نفي جميع الأسباب، فيكون نافيا لقتل العمد والخطأ وعمد الخطأ؟ فاختلف أصحابنا في الجواب: فمنهم من قال: إنما صور الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هذا في الدعوى إذا كانت لصغير أو مجنون أو سفيه.. فإن الحاكم يستظهر له في اليمين على المدعى عليه كذلك، فأما إذا كانت الدعوى لمن لا ولاية للحاكم عليه.. فإنه لا يحلفه إلا على نفي دعواه عليه. وقال أبو إسحاق: ما ذكره الشافعي هاهنا يدل على قول آخر له: (أن الدعوى تصح في القتل مطلقة ومقيدة) . ووجهه: أن الدعوى في ذلك تكون بالظن دون العلم والمشاهدة. فعلى هذا: إن كانت الدعوى مقيدة.. لم يحلف المدعى عليه إلا على نفي ما ادعاه المدعي. وإن كانت الدعوى مطلقة.. فإن الحاكم يحلفه على نفي جميع أنواع القتل على ما مضى. قال أصحابنا: وهذا خلاف المذهب. [فرع استحباب تغليظ اليمين على غير المسلم] وإن كان الحالف يهوديا.. فإنه يستحب أن يغلظ عليه في يمينه باللفظ، فيقول: والله الذي أنزل التوراة على موسى وأنجاه من الغرق؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلف يهوديا فقال له: "قل: والله الذي أنزل التوراة على موسى: ما له عليك حق» .

فرع حلف الولي في اللوث وأخذ الدية فقال ظلمته

ولأنهم يعتقدون تعظيم ذلك، فغلظ عليهم به. وإن كان نصرانيا.. أحلفه بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى؛ لأنهم يعتقدون تعظيم ذلك، فغلظ عليهم به. وإن كان مجوسيا.. أحلفه بالله الذي خلقه وصوره ورزقه؛ لأنهم يعتقدون تعظيم ذلك. وإن كان وثنيا.. أحلفه بالله فحسب؛ لأنه لا يعظم لفظا. [فرع حلف الولي في اللوث وأخذ الدية فقال ظلمته] ] : وإذا حلف الولي مع اللوث وأخذ الدية، ثم قال: الذي أخذته حرام.. سئل عن ذلك، فإن قال: ظلمته في الأيمان ولم يكن المدعى عليه في المحلة وقت قتل مورثي، أو كان فيها ولم يقتل مورثي.. وجب على الولي رد الدية. وإن قال: أردت أن الذي أعطانيه مغصوب، فإن عين الذي غصب منه.. لزمه رده عليه، ولا يكون له الرجوع بذلك على الذي أخذ منه الدية؛ لأنه لا يقبل قوله عليه، وإن لم يعين الذي غصبه منه.. لم يلزمه رده على أحد. وإن قال: أردت أني اعتقدت أن الأيمان مع اللوث في جنبة المدعى عليه -كقول أبي حنيفة - قلنا له: اجتهاد الحاكم أولى من اجتهادك. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وهكذا لو مات رجل وخلف ابنا، فقال الابن لا أرثه؛ لأنه كان معتزليا أو رافضيا، والمعتزلي والرافضي كافران.. فقد قال القفال والشيخ أبو حامد: المعتزلي والرافضي ليسا بكافرين. ومن أصحابنا من قال بتكفير أهل الأهواء، وعليه أكثر أهل الأصول.

مسألة مقدار المال الذي لأجله تغلظ اليمين

وكذلك: لو قضى قاض حنفي لشافعي بالشفعة بالجوار.. فقال المقضي له: أخذت باطلا.. قلنا له: أنت مخطئ، ويحل لك اعتبارا بحكم الحاكم لا باجتهادك. فإن ادعى المدعى عليه أن الولي أراد بقوله ذلك: أن المدعى عليه ليس بقاتل، وقال الولي: بل أردت أحد التفسيرين الآخرين.. فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأنه أعلم بما أراد. [مسألة مقدار المال الذي لأجله تغلظ اليمين] بأربعة أشياء] : ومن توجهت عليه يمين، فإن كانت فيما ليس بمال، ولا المقصود منه المال؛ كالقصاص، والنكاح، والطلاق، وحد القذف وما أشبه ذلك.. غلظت عليه اليمين. وإن كانت في مال أو ما يقصد منه المال، فإن كان المال عشرين مثقالا أو مائتي درهم.. غلظت عليه اليمين. وإن كان دون ذلك.. لم تغلظ فيه اليمين. وقال أبو علي بن خيران: تغلظ فيه اليمين بالقليل والكثير من المال؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على منبري يمينا فاجرة ولو على سواك من أراك.. لقي الله وهو عليه غضبان» . وقال مالك: (يغلظ اليمين فيما تقطع فيه يد السارق) .

ودليلنا: ما روي: (أن عبد الرحمن بن عوف مر بقوم يحلفون بين الركن والمقام، فقال: أعلى دم؟ قالوا: لا، قال: أفعلى عظيم من المال؟ قالوا: لا، قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام) يعني: يستخفون بحرمته. ففرق بين العظيم وغيره، والعظيم هاهنا أراد به الكثير؛ لأنه قرنه بالدم، وذلك يحتمل القليل والكثير، فكان حمله على النصاب الذي تجب فيه الزكاة أولى؛ لأنه القدر الذي يحتمل المواساة. والخبر الذي احتج به ابن خيران.. فالمراد به: ضرب المثل والمبالغة في التحذير؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة.. بنى الله له بيتا في الجنة» ، والمراد به: ضرب المثل والمبالغة في الترغيب. فإذا كانت اليمين في العتق، فإن كان الذي يحلف هو العبد.. غلظت عليه اليمين، سواء قلت قيمته أو كثرت؛ لأنه يثبت بيمينه العتق. وإن كان الذي يحلف هو السيد، فإن كانت قيمته أقل من النصاب.. لم تغلظ عليه اليمين. وإن كانت قيمته نصابا.. غلظت عليه اليمين؛ لأن المقصود بيمينه إثبات المال. إذا ثبت ما ذكرناه: فإن التغليظ في الأيمان يقع بأربعة أشياء: بالعدد، واللفظ، والزمان، والمكان. فأما العدد: فإنما يكون بالقسامة واللعان، وقد مضى بيانهما.

فرع يمين العاجز والزمن والمرأة

وأما اللفظ: فقد مضى بيانه أيضا. وأما التغليظ بالمكان والزمان: فهو مشروع عندنا فيما ذكرناه. وبه قال أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وعبد الرحمن بن عوف، وأكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة: (هو غير مشروع في الأيمان) . دليلنا - على التغليظ بالزمان -: قَوْله تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] الآية [المائدة: 106] . قال أهل التفسير: أراد به العصر. وعلى التغليظ بالمكان ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على منبري هذا يمينا فاجرة ولو على سواك من أراك.. لقي الله وهو عليه غضبان» . وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على منبري هذا يمينا فاجرة.. فليتبوأ مقعده من النار» . فثبت أنه يتعلق به تأكيد اليمين. والمكان الذي تغلظ فيه اليمين: أن يكون بأشرف موضع في البلد الذي فيه اليمين، والزمان الذي تغلظ فيه اليمين: أن يكون بعد العصر. وهل يستحب التغليظ بالمكان أو يجب؟ فيه قولان، وقد مضى بيان ذلك في (اللعان) . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ورأيت ابن مازن وهو قاض بصنعاء يغلظ اليمين بالمصحف. وروي ذلك عن ابن عباس، وهو حسن) . قال أصحابنا: ويستحب أن يغلظ عليه بإحضار المصحف، ويضع الحالف عليه يده؛ لأنه يشتمل على أسماء الله وكلامه. [فرع يمين العاجز والزمن والمرأة] وإن كانت اليمين على رجل زمن أو مريض لا يقدر على الخروج إلى الموضع

فرع حلف بالطلاق أو غيره أنه لا يحلف يمينا مغلظة

الشريف.. لا يكلف الخروج إليه؛ لأن في ذلك مشقة، وقد سقط عنه بعض الواجبات بالعجز عنه، كالقيام في الصلاة. وإن كانت اليمين على امرأة، فإن كانت برزة - وهي: التي تبرز في حوائجها - فإنه يغلظ عليها اليمين بالمكان والزمان إلا أن تكون حائضا فلا يجوز أن تدخل المسجد، بل تحلف على باب المسجد. وإن كانت غير برزة - وهي: التي لا تخرج في حوائجها - فإن الحاكم يبعث إليها من يحلفها، وهل يغلظ يمينها بالمكان؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: أنها تحضر إلى المكان الشريف فتحلف فيه؛ لأنه تغليظ مشروع في اليمين فشرع في حقها، كالتغليظ بالزمان والألفاظ. والثاني: أنها لا تحضر إلى المكان الشريف، بل تحلف في بيتها؛ لأن خدرها إذا منع من إحضارها إلى مجلس الحكم.. جرى مجرى المرض، فيسقط به التغليظ بالمكان. [فرع حلف بالطلاق أو غيره أنه لا يحلف يمينا مغلظة] وإن حلف رجل يمينا بالطلاق أو غيره: أنه لا يحلف يمينا مغلظة، فتوجهت عليه يمين مغلظة بالزمان أو بالمكان، فامتنع من ذلك، فإن قلنا: إن التغليظ بذلك واجب.. قيل له: إما أن تحلف يمينا مغلظة بذلك وتحنث في يمينك، وإلا.. جعلناك ناكلا. وإن قلنا: إن التغليظ بذلك مستحب.. لم يكلف أن يحلف يمينا مغلظة، ولا يحكم عليه بالنكول بالامتناع من ذلك، وإن امتنع من التغليظ باللفظ.. لم يحكم عليه بالنكول بذلك. هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : لو امتنع من التأكيد بالزمان أو المكان.. كان نكولا منه، ولو امتنع من التأكيد باللفظ.. ففيه وجهان. [مسألة لا تقبل اليمين إلا بعد الاستحلاف من الحاكم] ] : ولا تصح اليمين إلا بعد أن يستحلفه الحاكم؛ لما روي: «أن ركانة بن عبد

يزيد قال: يا رسول الله، إني طلقت امرأتي سهيمة البتة، والله: ما أردت إلا واحدة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " والله ما أردت إلا واحدة " فقال: والله ما أردت إلا واحدة» . فموضع الدليل: أن ركانة حلف قبل أن يستحلفه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يعتد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيمينه، بل استدعى منه اليمين ثانيا. ولأن اليمين تقع على نية الحاكم حتى لا يمكن الحالف أن يتأول فيها فيخرج منها، فلو قلنا: تصح يمينه قبل أن يستحلفه الحاكم.. لم يؤمن أن يحلف وينوي ما لا يحنث به. قال أصحابنا: وفي خبر ركانة اثنتا عشرة فائدة: إحداها: أنه يجوز الاقتصار في اليمين على اسم الله. الثانية: يجوز حذف حرف القسم؛ لأنه روي فيه في بعض الأخبار: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الله ما أردت إلا واحدة؟ " فقال ركانة: الله ما أردت إلا واحدة» . الثالثة: أن اليمين قبل استحلاف الحاكم لا تصح. الرابعة: أن الثلاث لا تقع بقوله: البتة. الخامسة: أنه لو أراد إيقاع ما زاد على واحدة.. لوقع. السادسة: أن إيقاع الثلاث ليس بمحرم. السابعة: أن الطلاق يقع بـ: (البتة) طلقة رجعية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ردها عليه. الثامنة: أن المرجع إلى نية المطلق. التاسعة: أن الطلاق يقع بالصفات والمصادر؛ لأن قوله: (البتة) مصدر. العاشرة: أن اليمين تعرض في الطلاق. الإحدى عشرة: أن الإشهاد ليس بشرط في الرجعة؛ لأنه لم ينقل أنه كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيره. الإثنتا عشرة: أن الرجعة لا تفتقر إلى رضا المرأة والولي؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعتبر رضاهما.

فرع الحلف والاستثناء أو كون الحالف أخرس

[فرع الحلف والاستثناء أو كون الحالف أخرس] ] : قال في " الأم ": (إذا حلف واستثنى بيمينه؛ مثل أن يقول: والله، إن شاء الله.. أعيدت عليه اليمين؛ لأن الاستثناء يرفع اليمين. وكذلك: إذا وصل بيمينه شرطا أو كلاما لم يفهم.. أعيدت عليه اليمين؛ لجواز أن يكون قد صرف اليمين عما نواه الحاكم. وإن كان من وجبت عليه اليمين أخرس لا تفهم إشارته.. وقفت اليمين إلى أن تفهم إشارته، فإن سأل المدعي أن ترد عليه اليمين.. لم ترد عليه اليمين؛ لأنه لم يتحقق نكوله) . [مسألة الحلف على البت والقطع على فعل نفسه] ، وماذا لو حلف على فعل غيره؟] : وإذا توجهت اليمين على إنسان وأراد أن يحلف، فإن كان يحلف على فعل نفسه.. فإنه يحلف على البت والقطع، سواء حلف على الإثبات أو على النفي. وإن كان يحلف على فعل غيره.. نظرت: فإن حلف على الإثبات.. حلف على البت والقطع، وإن حلف على النفي.. حلف على نفي العلم. وبه قال عامة أهل العلم. وذهب الشعبي والنخعي إلى: أن الأيمان كلها على البت والقطع. وذهب ابن أبي ليلى إلى: أن الأيمان كلها على نفي العلم. دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلف رجلا، فقال: " قل: والله الذي لا إله إلا هو ما له عليك هذا الحق» فجعله على البت؛ لأنه حلفه على فعل نفسه. وروى الأشعث بن قيس: «أن رجلا من حضرموت ادعى على رجل من كندة أرضا بالمدينة بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الحضرمي: اغتصبنيها أبوك، فقال الكندي: أرضي وفي يدي أزرعها، فقال الحضرمي: تحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما تعلم أن

فرع ادعى أن له على أبيه دينا وقال المدعى عليه قد أبرأتني منه

أباك اغتصبنيها؟ فتهيأ الكندي لليمين، فلم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سؤال الحضرمي للكندي أن يحلف على نفي علمه» . فدل على: أن حكم اليمين على نفي فعل الغير هكذا. ولأن الإنسان يمكنه الإحاطة بما فعل وبما لم يفعل؛ فلذلك كلف أن يحلف على فعل نفسه على البت والقطع في الإثبات والنفي، ويمكنه التوصل إلى العلم بما فعل غيره فكلف اليمين فيه على الإثبات على البت، ولم يتوصل إلى العلم بما لم يفعل غيره فلم يكلف اليمين فيه على الإثبات. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن حلف بعض الحكام على القطع واليقين فيما يحتاج أن يحلف فيه على نفي العلم.. جاز ذلك، وينصرف ذلك إلى الاستحلاف على نفي العلم دون القطع واليقين) . [فرع ادعى أن له على أبيه دينا وقال المدعى عليه قد أبرأتني منه] فرع: [ادعى أن له على أبيه دينا أو له على رجل دينا وقال المدعى عليه قد أبرأتني منه] : وإن ادعى رجل على رجل أن له على أبيه دينا.. لم تسمع دعواه عليه إلا بعد أن يدعي موت أبيه، وأن في يده تركة له، وأنه يستحق ذلك الحق فيها؛ لأنه إذا لم يكن في يده تركة لأبيه.. لم يلزمه قضاء الدين من مال نفسه. فإن أنكر المدعى عليه موت أبيه.. فالقول قوله مع يمينه، ويحلف على نفي العلم. وقال ابن القاص: يحلف على القطع؛ لأنه يمكنه الإحاطة بذلك. والأول أصح؛ لأنها يمين على نفي فعل الغير. فإن أنكر أن التركة في يده.. حلف أنه ما وصل إليه ما فيه وفاء بالدين ولا ببعضه. ولا يلزمه أن يحلف: ما خلف أبوه شيئا؛ لأنه قد يخلف شيئا ولم يصل إليه. فإن ادعى رجل على رجل دينا، فقال المدعى عليه: قد أبرأتني من الدين.. فقد أقر بالدين عليه؛ لأن دعواه البراءة تتضمن ثبوت الدين عليه، فإن أقام بينة على البراءة.. برئ، وإن لم يقم بينة.. فالقول قول من له الدين مع يمينه؛ لأن الأصل عدم البراءة.

مسألة ادعى رجل على آخر أنه غصب منه أو أقرضه شيئا

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويحلف بالله: إن هذا الحق - ويسميه بما يصير به معلوما - لثابت عليه، وإنه ما اقتضاه ولا شيئا منه ولا أبرأه منه ولا من شيء منه، وإنه لثابت عليه إلى أن حلفت هذه اليمين) . وقال في موضع آخر: (يحلف بالله: إن هذا الحق - ويسميه - لثابت عليه وما اقتضاه ولا شيئا منه، ولا اقتضاه أحد بأمره ولا شيئا منه، ولا اقتضى بغير أمره فوصل إليه) . واختلف أصحابنا في هذا: فقال بعضهم: إن كان المدعى عليه قد ادعى البراءة بجهة خاصة؛ بأن يقول: قبض هذا الحق مني، أو أبرأني منه، أو أحال به علي.. فإن المدعى عليه يحلف على نفي تلك الجهة فحسب. وإن ادعى البراءة مطلقا.. فيحتاج إلى أن يحلف على نفي جميع هذه الجهات لنفي الاحتمال من جميع الوجوه. قال الشيخ أبو حامد: وإنما حلف أنه ما اقتضى بغير أمره فوصل إليه؛ لأنه إذا قبضه غيره بغير أمره ووصل إليه.. برئ. ومن أصحابنا من قال: يكفيه أن يحلف أنه ما أبرأ إليه منه، أو أنه لم يبرأ من ذلك الحق بقول ولا فعل؛ لأنه يدخل تحت ذلك سائر جهات البراءة. وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ فإنما ذكره على سبيل الاستحباب لا على سبيل الشرط. [مسألة ادعى رجل على آخر أنه غصب منه أو أقرضه شيئا] ] : وإن ادعى رجل على رجل أنه غصب منه شيئا أو أقرضه شيئا، فقال المدعى عليه: لا حق لك علي من ذلك، أو لا تستحق علي ذلك.. صح الجواب. فأما إذا أراد المدعى عليه أن يحلف.. فإنه يحلف أنه لا يستحق عليه ذلك. ولا يكلف اليمين: أنه لم يغصبه منه أو لم يقترض منه؛ لأنه قد يغصب منه أو يقترض منه، ثم يقضيه إياه أو يبرئه منه ولا بينة له على ذلك، فإذا حلف على أنه لم يغصب منه أو لم يقترض منه.. كان حانثا في يمينه. وإن أقر له بذلك.. لم يقبل قوله، فيلزمه

مسألة ادعاء جماعة على شخص حقا

الحق المدعى به عليه. وإن قال المدعى عليه في الجواب: ما غصبت منك أو ما اقترضت منك، وسأل المدعي إحلافه، فإن قال المدعى عليه: أحلف ما غصبت منك أو ما اقترضت منك.. كان له ذلك. فإن قال: أحلف أنك لا تستحق علي ذلك أو لا حق لك علي.. فهل له ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: أن له ذلك؛ لما ذكرناه في التي قبلها. والثاني: ليس له ذلك، بل يكلف اليمين: أنه ما غصب منه ولا اقترض منه؛ لأنه لما أجاب بذلك.. علم أنه يمكنه أن يحلف عليه، فلزمه أن يحلف عليه. ولا بد أن يحلف المدعى عليه: أنه لا يستحق عليه ذلك ولا بعضه؛ لأنه إذا حلف أنه لا يستحق عليه ذلك.. فقد يستحق عليه بعضه، فلا يحنث على نفي استحقاق الجميع. [مسألة ادعاء جماعة على شخص حقا] إذا ادعى رجلان أو جماعة على رجل حقا، فأنكر المدعى عليه ولا بينة لهم.. فإن الحاكم يحلفه لكل واحد منهم يمينا، فإن حلفه يمينا لهم بغير رضاهم.. لم يعتد بهذه اليمين. وحكي: أن إسماعيل القاضي المالكي حلف رجلا يمينا بحق لرجلين، فخطأه أهل عصره. وإن رضي المدعيان أو الجماعة أن يحلف لهم المدعى عليه يمينا واحدة.. ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأن الحق لهم وقد رضوا. والثاني: لا يصح، وهو الأصح؛ لأن اليمين حجة في حق كل واحد منهم، فإذا رضي بها الجماعة في حقوقهم.. صارت الحجة ناقصة في حق كل واحد منهم، والحجة الناقصة لا تكمل برضا الخصم، كما لو رضي الخصم أن يحكم عليه بشاهد واحد.. فإنه لا يصح. والله أعلم

كتاب الشهادات

[كتاب الشهادات]

كتاب الشهادات الأصل في تعلق الحكم بالشهادة: الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الآية [البقرة: 282] . وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] . فمنع من كتمان الشهادة، فدل على: أنه إذا أدى الشهادة.. تعلق الحكم بها. وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] [النور: 4] . وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] . وغير ذلك من الآيات. وأما السنة: فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: " ألك بينة ". وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الشهادة، فقال: " هل ترى الشمس؟ " فقال: نعم! قال: " على مثلها فاشهد أو دع» وغير ذلك من الأخبار.

وأما الإجماع: فإنه لا خلاف بين الأمة في تعلق الحكم بالشهادة. إذا ثبت هذا: فتحمل الشهادة فرض؛ وهو: إذا دعي الرجل ليتحمل الشهادة على نكاح أو دين.. وجبت عليه الإجابة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] [البقرة: 282] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] وقد قرئ برفع (يضار) وبنصبه، فمن قرأ بالرفع.. فمعناه: لا يضار الكاتب والشهيد بمن يدعوه فيمتنع من إجابته بغير عذر. وقيل: لا يكتب الكاتب ما لم يستكتب، ولا يشهد الشاهد ما لم يُشهَّد عليه. ومن قرأ بالنصب.. فمعناه: لا يضار بالكاتب والشهيد؛ بأن يدعوهما للكتابة والشهادة من غير حاجة إلى ذلك فيقطعهما عن حوائجهما. وهو فرض على الكفاية، إذا دعي إلى الشهادة جماعة فأجاب شاهدان.. سقط الفرض عن الباقين؛ لأن القصد من الشهادة التوثيق، وذلك يحصل بشاهدين.. فإن امتنع جماعتهم عن الإجابة.. أثموا. فإن لم يكن في موضع إلا شاهدان، فدعيا إلى تحمل الشهادة.. تعينت عليها الإجابة، فإن امتنعا.. أثما؛ لأن المقصود لا يحصل إلا بهما. وكذلك أداء الشهادة فرض؛ وهو: إذا كان مع رجل شهادة آخر، فدعاه المشهود له إلى أدائها عند الحاكم.. وجب عليه أداؤها عند الحاكم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

مسألة عرض الشهادة إذا كان صاحبها يعلمها

{وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] فنهى عن كتمان الشهادة وتوعده على كتمها، فدل على: أنه يجب إظهارها. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] [البقرة: 282] ، وهذا يعم حال التحمل وحال الأداء. وهو فرض على الكفاية، إذا أدى الشهادة اثنان من الشهود.. سقط الفرض عن الباقين؛ لأن القصد منه إثبات الحق، وذلك يحصل بهما. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه إذا دعي لأداء الشهادة.. تعين عليه الأداء وإن كان هناك غيره؛ لأنه إذا امتنع.. ربما امتنع غيره، فيؤدي إلى الإضرار بالمشهود له. والأول هو المشهور. فإن امتنع جميع الشهود من الأداء.. أثموا. وقد يتعين الأداء على شاهدين، فإن لم يشهد على الحق إلا اثنان، أو شهد عليه جماعة لكنهم غابوا أو ماتوا أو كانوا فساقا إلا اثنين.. فإنه يتعين عليهما الأداء إذا دعيا للأداء؛ لأن المقصود لا يحصل إلا بهما. ومن تعين عليه فرض تحمل الشهادة أو أدائها.. لم يجز له أن يأخذ على ذلك أجرة؛ لأنه فرض توجه عليه، فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، كالصلاة. فإن لم يتعين عليه.. فهل يجوز له أن يأخذ عليه أجرة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه وثيقة بالحق لم يتعين عليه، فجاز له أخذ الأجرة عليها، ككتب الوثيقة. والثاني: لا يجوز له ذلك؛ لأن التهمة تلحقه بأخذ العوض. [مسألة عرض الشهادة إذا كان صاحبها يعلمها] مسألة: [استحباب عرض الشهادة إذا كان صاحبها يعلمها وإلا فلا وماذا لو كانت بحد؟] : ومن كانت عنده شهادة لآدمي، فإن كان صاحبها يعلم بها.. استحب له أن لا يعرضها عليه.

وإن كان صاحبها لا يعلم بها.. استحب له أن يعلمه بها؛ لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب، فيحلف الرجل اليمين لا يسألها، ويأتي بالشهادة قبل أن يسألها» وروى زيد بن خالد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا أخبركم بخير الشهود؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها» . قال أصحابنا: وكيفية استعمال الخبرين: أن يحمل المدح على الذي يشهد بالشهادة قبل أن يسألها إذا كان صاحبها لا يعلم بها، ويحمل الذم على الذي يشهد بالشهادة قبل أن يسألها إذا كان صاحبها يعلم بها. وقيل: بل يحمل المدح هاهنا على الشاهد الصادق في شهادته، ويحمل الذم على الكاذب في شهادته؛ ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ثم يفشو الكذب ".

مسألة الشهادة للنكاح والرجعة

قال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا شهد بحق لآدمي قبل أن يستشهد.. فهل تصح شهادته؟ فيه وجهان. فإذا قلنا: لا تصح.. فهل يقدح في عدالته؟ فيه وجهان. الأصح: أنه لا يقدح في عدالته إلا أنه أساء. وإن كانت عنده شهادة بحق لله تعالى.. فالمستحب له: أن لا يشهد بها؛ لأنه مندوب إلى ستره، فإن شهد بها.. جاز؛ لما روي: (أن أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد شهدوا على المغيرة بالزنا عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم ينكر عليهم عمر ولا غيره من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) . [مسألة الشهادة للنكاح والرجعة] مسألة: [تشترط الشهادة للنكاح والرجعة في أحد القولين ولا تشترط في غيرهما عند الأكثرين] : العقود على ضربين: ضرب يشترط الشهادة في صحتها، وضرب لا يشترط الشهادة في صحتها عندنا. فأما الضرب الذي يشترط الشهادة في صحتها، فالنكاح، وفي الرجعة قولان، وقد مضى ذكر ذلك. وأما الضروب التي لا يشترط الشهادة في صحتها: فهو ما عدا النكاح والرجعة، كالبيع والرهن والإجارة وغير ذلك من العقود. وبه قال أكثر أهل العلم. وقال ابن المسيب: يجب الإشهاد على البيع، وبه قال الشعبي والضحاك وأهل الظاهر، فمن أهل الظاهر من قال: هي شرط في صحة البيع، ومنهم من قال: ليست بشرط. واختلفوا في كيفية الإشهاد، فمنهم من قال: يجب على المتعاقدين أن يقولا: أشهدناكم. ومنهم من قال: إحضارهم يكفي. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] الآية [البقرة: 282] فمنها دليلان:

أحدهما: قَوْله تَعَالَى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] ومعناه: فلم تجدوا من يشهد على الكتاب؛ لأن مجرد الكتابة لا تقع به الوثيقة. والثاني: أن الله تعالى ذكر الوثائق في الآية ثم قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] فأخبر أنه إذا لم يستوثق بهذه الوثائق وأمن به.. فإنه يجوز، وندب المؤتمن إلى أداء الأمانة في ذلك. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابتاع من أعرابي فرسا فتبعه ليوفيه الثمن فطفق الناس يعترضونه ويساومونه ولا يشعرون أنه باع، فنادى النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن ابتعته وإلا بعته؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أليس قد بعته؟! " فقال الأعرابي: هلم شهيدا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من يشهد لي؟ " فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد عليك بالبيع، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بم تشهد ولم تحضر؟! " فقال: نصدقك على أخبار السماء ولا نصدقك على أخبار الأرض! فسماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ذا الشهادتين» . إذا ثبت هذا: فإنه يستحب الإشهاد على البيع؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاثة لا يستجاب لهم دعوة: رجل باع ولم يشهد عليه، ورجل له امرأة سوء ولم يطلقها، ورجل دفع ماله إلى سفيه» . وهذا نهي إرشاد لا نهي تحريم.

فرع شهدا لرجل بمال عند الحاكم وبيانهما سبب الشهادة

[فرع شهدا لرجل بمال عند الحاكم وبيانهما سبب الشهادة] ] : وإن شهد شاهدان لرجل بمال عند الحاكم؛ فإن أضافاه إلى سبب؛ بأن قالا: هو من ثمن مبيع أو ما أشبهه.. فلا كلام. وإن أطلقا الشهادة.. استحب للحاكم أن يسألهما عن جهة الشهادة إن كان لا يثق بسداد عقولهما، كما يستحب له تفريق الشهود إذا ارتاب بهم. وإن كان لهما عقول وافرة.. لم يستحب له أن يسألهما، كما لا يستحب له تفريق الشهود إذا لم يرتب بهم. والله أعلم

باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل

[باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل] لا تقبل الشهادة إلا من عدل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] [الحجرات: 6] فدل على: أنه إذا جاء من ليس بفاسق لا يتبين. ولقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] فدل على: أن شهادة من ليس بعدل لا تقبل. إذا ثبت هذا: فـ (العدل) في اللغة هو: الذي استوت أحواله واعتدلت. يقال: فلان عديل فلان، إذا كان مساويا له. وسمي العدل عدلا؛ لأنه يساوي مثله على البهيمة. وأما العدل في الشرع فهو: العدل في أحكامه ودينه ومروءته. فـ (العدل في الأحكام) : بأن يكون بالغا، عاقلا، حرا. و (العدل في الدين) : بأن يكون مسلما مجتنبا للكبائر غير مصر على الصغائر. و (العدل في المروءة) : أن يجتنب الأمور الدنيئة التي تسقط المروءة على ما يأتي بيانه. فأما الصبي: فلا تقبل شهادته بحال. وبه قال ابن العباس وشريح وعطاء والحسن وطاووس والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه.

مسألة شهادة من يكثر سهوه وغلطه

وقال ابن الزبير والنخعي ومالك: (تقبل شهادة بعضهم على بعض في الجراح إذا كانوا مجتمعين على الصفة التي تجارحوا عليها، فأما إذا تفرقوا ثم جاؤوا وشهدوا.. فلا تقبل شهادتهم) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والصبيان ليسوا من الرجال) . ولأنه قال: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] الآية [البقرة: 283] فتوعد على كتمان الشهادة، والوعيد لا يلحق بالصبي. ولأنها شهادة من غير مكلف فلم تصح، كما لو شهد بالمال. ولا تقبل شهادة المجنون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . ولأنه لا حكم لقوله في ماله، فلأن لا يكون له حكم في حق غيره أولى. [مسألة شهادة من يكثر سهوه وغلطه] ] : إذا كان الشاهد ممن يكثر منه السهو والغلط، فشهد بحق.. فهل تقبل شهادته؟ ينظر فيه: فإن كان السهو والغلط نادرا منه.. قبلت شهادته؛ لأن أحدا لا يخلو من ذلك، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسهو ويغلط.

مسألة شهادة العبد

وإن كان يكثر منه السهو والغلط - وهو الذي يسمى بالمغفل - لم تقبل شهادته؛ لأن في قبول شهادته تضييعا للحقوق؛ لأنه لا يؤمن أن يسهو ويغلط في شهادته على ما هو الأغلب في أمره. هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال أصحابنا الخراسانيون: تقبل شهادة المغفل إذا كانت مفسرة؛ مثل أن يقول: أشهد أن لفلان على فلان كذا أقر له به، أو اقترضه منه وما أشبهه. ولا تقبل شهادته إذا كانت غير مفسرة؛ مثل أن يقول: أشهد أن لفلان على فلان كذا وكذا، فلا تقبل شهادته. وهل تقبل شهادة الأخرس إذا كانت له إشارة مفهومة؟ فيه وجهان: أحدهما: تقبل؛ لأن إشارته كعبارة غيره؛ ولهذا جعلت إشارته كعبارة غيره في البيع وغيره. والثاني: لا تقبل؛ لأن إشارته إنما جعلت كعبارة غيره للضرورة، ولا ضرورة هاهنا في شهادته؛ لأنها تصح من الناطق. [مسألة شهادة العبد] ولا تقبل شهادة العبد بقليل ولا كثير على حر ولا عبد. وبه قال عمر، وابن عمر، وابن عباس، والحسن البصري، وعطاء، ومجاهد، وشريح، ومالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه. وروي عن أنس: أنه قال: (تقبل شهادة العبد في كل قليل وكثير على الحر والعبد) . وقال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (تقبل شهادة العبد على العبد، ولا تقبل على الحر) . وبه قال عثمان البتي، وأحمد، وإسحاق، وداود.

مسألة شهادة أهل ملة على ملة أخرى

وقال النخعي والشعبي: تقبل شهادة العبد في القليل، ولا تقبل في الكثير. دليلنا: أن الشهادة أمر لا يتبعض بني على المفاضلة، فلم يكن للعبد فيه مدخل، كالميراث والرجم. فقولنا: (لا يتبعض) احتراز من النكاح والطلاق والعدة والجلد، فإن هذه الأمور للعبد فيها مدخل؛ لأنها تتبعض. وقولنا: (بني على المفاضلة) احتراز من القطع في السرقة، فإن للعبد فيه مدخلا؛ لأنه لم يبن على المفاضلة. وقولنا: (كالميراث والرجم) لأنهما بنيا على المفاضلة؛ لأن ميراث الرجل كميراث امرأتين، وشهادة رجل كشهادة امرأتين، وكذلك الرجم يجب على الكامل ولا يجب على الناقص. [مسألة شهادة أهل ملة على ملة أخرى] ولا تقبل شهادة الكفار على المسلمين ولا على الكفار. وبه قال مالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وأحمد. وقال أبو حنيفة: (تقبل شهادة بعضهم على بعض، سواء شهد على أهل ملته، أو على غير أهل ملته) . وبه قال الحسن البصري، وسوار بن عبد الله القاضي، وعثمان البتي، وحماد. وقال الزهري، والشعبي، وقتادة، والحكم، وإسحاق، وأبو عبيد: تقبل شهادة أهل الملة على بعضهم، ولا تقبل شهادة أهل ملة على أهل ملة أخرى، ولا تقبل شهادة اليهودي على النصراني، ولا شهادة النصراني على اليهودي. وأجمعوا: على أن شهادتهم لا تقبل على مسلم. وحكي عن أحمد أنه قال: (تقبل شهادتهم على المسلم في الوصية وحدها إذا

مسألة شهادة الفاسق

لم يكن هناك مسلم، ولا تقبل شهادة بعضهم على بعض) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] [الحجرات: 6] فأمر بالتبين في نبأ الفاسق، وهو خبره، والكافر فاسق، فاقتضى وجوب التبين في خبره، والشهادة خبر. وروى معاذ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقبل شهادة أهل دين على غير أهل دينهم إلا المسلمين؛ فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم» . ولأن من عرف بالكذب وأكل السحت لا تقبل شهادته، وقد أخبر الله تعالى: أن الكفار يفعلون ذلك. قال الله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] [المائدة: 42] فلم تقبل شهادتهم. [مسألة شهادة الفاسق] مسألة: [لا تقبل شهادة الفاسق] : ولا تقبل شهادة الفاسق؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الآية [الحجرات: 6] فأمر بالتبين في نبأ الفاسق؛ وهو خبره، والشهادة خبر. ومن ارتكب شيئا من الكبائر؛ وهي: الكفر بالله أو ببعض أنبيائه - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وسلامه أو ببعض كتبه، والقتل بغير الحق، والزنى، واللواط، وشرب الخمر، والسرقة، والغصب، وشهادة الزور، والقذف.. فسق وردت شهادته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا} [النور: 4] الآية [النور: 4] . فأمر الله تعالى برد شهادة القاذف لينبه على رد شهادة القاتل والزاني واللائط؛ لأنها أعظم منه، وأعظم حدا وأغلظ جناية.

فرع مؤخر الصلاة وعدالته

وروى أبو داود في " سننه ": أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقبل شهادة خائن ولا خائنة، ولا زان ولا زانية، ولا ذي غمر على أخيه» . و (الخائن) : الغاصب. ولأن من استجاز ركوب كبيرة.. استجاز مثلها، ومن كانت هذه صفته.. لم يؤمن أن يشهد بالزور، فلم تقبل شهادته بذلك. [فرع مؤخر الصلاة وعدالته] أو جلوس الرجل على الديباج عند عقد النكاح] : قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن ترك صلاة واحدة؛ بأن اشتغل عنها بشيء.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تسقط عدالته، كما لو تركها ساهيا. والثاني: تسقط؛ لاشتغاله بأمر من أمور الدنيا عن الصلاة. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن جلس على الديباج أو شرب من إناء فضة أو ذهب.. سقطت عدالته وفسق ما دام جالسا عليه، حتى يقوم. قال بعض أصحابنا: لو جلس على الديباج عند عقد النكاح.. لم ينعقد النكاح؛ لأن التحمل للشهادة كالأداء. وقال سائر أصحابنا: ينعقد. [مسألة خلط العمل الصالح بالسيئ] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وليس أحد من الناس يعمل بمحض الطاعة حتى لا يخلطها بالمعصية، ولا بمحض المعصية حتى لا يخلطها بالطاعة، فاعتبر الأغلب من حاله) .

مسألة شهادة أهل الأهواء

قال أصحابنا: وأراد بذلك الصغائر دون الكبائر، فإذا كان الإنسان مجانبا للكبائر وارتكب بعض الصغائر، فإن كان الغالب من أحواله مواقعة الصغائر.. لم تقبل شهادته؛ لأن من استجاز مواقعة الصغائر في غالب أحواله.. استجاز مواقعة الكبائر، فلم تقبل شهادته. وإن كان الغالب من أحواله ترك ارتكاب الصغائر، وإنما يواقعها نادرا.. لم ترد شهادته بذلك؛ لأنا لو قلنا: ترد شهادته.. أدى إلى أن لا تقبل شهادة أحد؛ لأن أحدا لا ينفك من مواقعة الصغائر نادرا، حتى الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وسلامه؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] [طه: 121] ، وقال الله تعالى في قصة داود: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] [ص: 24] . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما منا إلا من عصى أو هم بمعصية، إلا يحيى بن زكريا» وإذا لم يمكن الاحتراز منها.. علق الحكم على الأغلب من الحال؛ لأن للغلبة تأثيرا في الشرع؛ ولهذا قال الله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 9] الآية [الأعراف: 8 - 9] ، وقال: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة: 6] {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة: 7] {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة: 8] {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 9] [القارعة: 6 - 9] فاعتبر الأغلب. [مسألة شهادة أهل الأهواء] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا ترد شهادة أحد من أهل الأهواء إذا كان لا يرى أن يشهد لموافقيه بتصديقه وقبول يمينه، ولشهادة من يرى أن كذبه شرك بالله

ومعصية تجب بها النار أولى أن تطيب النفس بقبولها ممن يخفف المآثم في ذلك) . فنص بهذا على قبول شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية. وقال في " الأم ": (ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث والقياس أو من ذهب منهم إلى أمور اختلفوا فيها، فتباينوا فيها تباينا شديدا، واستحل فيها بعضهم من بعض ما تطول حكايته، فكان ذلك منهم متقادما عن السلف ومن بعدهم إلى اليوم، فلم يعلم أن أحدا ممن سلف من هذه الأمة يقتدى به، ولا من التابعين بعدهم رد شهادة أحد بتأويل وإن خطأه وضلله ورآه استحل منه ما حرم عليه، ولا ترد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله وإن بلغ فيه استحلال الدم والمال أو المفرط من القول، فكذلك أهل الأهواء) . وجملة ذلك: أنه لا خلاف بين أصحابنا في أن شهادة الخطابية غير مقبولة؛ وهم: أصحاب أبي الخطاب الكوفي، يعتقدون أن الكذب لا يجوز، فإذا ذكر بعضهم لبعض أن له على رجل حقا.. حلفه وصدقه على ذلك، وشهد له بالحق الذي حلفه عليه؛ لأنهم يشهدون بقول المدعي. قال المسعودي [في " الإبانة "] : إلا أن يفسر الشهادة فيقول: أشهد أن فلانا أقر لفلان بكذا.. فحينئذ يقبل. والأول أصح؛ لأنه يجوز أن يشهد بالحق مفسرا معتمدا في تفسيره على يمين المدعي الذي حلف له. قال الشيخ أبو حامد: وكذلك إذا كان الرجل يعتقد أن رجلا مباح الدم يحل قتله فيشهد عليه بالقتل.. فلا تقبل شهادته عليه؛ لأنها شهادة بالزور.

واختلف أصحابنا في قبول شهادة سائر أهل الأهواء غير الخطابية. فقال ابن القاص والقفال: لا ترد شهادة واحد منهم. قال ابن الصباغ: وهو ظاهر قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن لهم شبهة فيما يقولون لا يصل الإنسان إلى حلها إلا بعد إتعاب الفكر، فلم ترد شهادتهم بذلك. وقال الشيخ أبو حامد: أهل الأهواء على ثلاثة أضرب: ضرب نخطئهم ولا نفسقهم، وضرب نفسقهم ولا نكفرهم، وضرب نكفرهم. فأما (الضرب الذي نخطئهم ولا نفسقهم) : فهم الذين اختلفوا في الفروع التي يسوغ فيها الاجتهاد؛ مثل أصحاب مالك وأبي حنيفة وغيرهما من أهل العلم الذين يخالفون في نكاح المتعة وفي النكاح بلا ولي ولا شهود وغير ذلك، فهؤلاء لا نفسقهم ولا نرد شهادتهم. قال: وهذا الضرب هو الذي أراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأهل الأهواء الذين لم ترد شهادتهم دون غيرهم؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اختلفوا في مسائل كثيرة في الفروع، وخطأ بعضهم بعضا، وأغلظ بعضهم على بعض في القول في الخطأ في ذلك، ولم يرد بعضهم شهادة بعض. وأما (الضرب الذي نفسقهم ولا نكفرهم) : فهم الروافض الذين يسبون أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والخوارج الذين يسبون عثمان وعليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فلا تقبل شهادتهم؛ لأنهم يذهبون إلى شيء لا يسوغ فيه الاجتهاد، فهم معاندون مقطوع بخطئهم وفسقهم، فلم تقبل شهادتهم. وأما (الضرب الذين نكفرهم) : فهم القدرية الذين يقولون: إنهم يخلقون

أفعالهم دون الله تعالى، ومن يقول بخلق القرآن، ويقولون: إن الله لا يُرى يوم القيامة، والجهمية النافون عن الله تعالى الصفات؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال في مواضع من كتبه: (من قال بخلق القرآن.. فهو كافر) . وإذا حكم بكفرهم.. فلا معنى لقبول شهادتهم. والدليل على ذلك: ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القدرية مجوس هذه الأمة، فإذا مرضوا.. فلا تعودوهم، وإذا ماتوا.. فلا تشهدوهم» . وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من سب نبيا.. فقد كفر، ومن سب صاحب نبي.. فقد فسق» . وروي عن عمر: أنه قال: (لا تجالسوا

مسألة تارك المروءة وشهادته

القدرية) . وأقل ما في هذا أن لا تقبل شهادتهم. وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن) . وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد. ولأن هذه المسائل قد نصب الله تعالى عليها أدلة إذا تأملها المتأمل.. حصل له العلم بها، فنسبوا في مخالفتها إلى العناد كما ينسب المخالف في التوحيد. وقال أبو إسحاق في " الشرح ": من قدم عليا على أبي بكر وعمر في الإمامة.. فسق؛ لأنه خالف الإجماع، ومن فضل عليا على أبي بكر وعمر وعثمان أو فضل بعضهم على بعض.. لم أفسقه وأقبل شهادته. وأما قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولشهادة من يرى كذبه شركا بالله) فهم الخوارج؛ لأنهم يرون الكذب معصية وكفرا تجب به النار، ولم يرد به أن شهادتهم تقبل، وإنما أراد أن شهادتهم لا ترد لذلك؛ لأن ذلك أدعى إلى قبول شهادتهم، وإنما ترد شهادتهم لقولهم بخلق القرآن، وأنهم يخلقون أفعالهم وغير ذلك. [مسألة تارك المروءة وشهادته] مسألة: [تارك المروءة وماذا عن أصحاب الحرف؟] : ومن ترك المروءة، فإن كان ذلك نادرا من أفعاله.. لم ترد شهادته بذلك. وإن كان غالب أحواله.. ردت شهادته؛ لأنه إذا لم يستح من ترك المروءة.. لم يستح مما فعل. والدليل عليه: ما روى أبو مسعود البدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن مما أدرك

الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح.. فاصنع ما شئت» . وإذا كان غير مستح في ذلك.. لم يؤمن أن يشهد بالزور. وقال أصحابنا العراقيون: ترك المروءة هو: أن يأكل في السوق، أو يمد رجله بين الناس، أو يلبس الثياب المعصفرة، أو ثياب النساء. قال ابن الصباغ: أو يكشف من بدنه ما ليس بعورة منه بحضرة الناس، وما أشبهها. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : المروءة يرجع فيها إلى العرف والعادة، فقد يكون الشيء مروءة لقوم وتركه مروءة لقوم. بيانه: أن الكناس والشرطي لو تطيلسا.. كان ترك مروءة، والفقيه لو تطيلس.. لكان مروءة، ولو تقلنس الشرطي وتمنطق.. كان مروءة، ولو تقلنس الفقيه أو تمنطق.. لكان ترك مروءة. ومن أكل من التجار الشيء اليسير من الطعام عند باب حانوته عند تفرق الزحمة عنه وخلوته بمن لا يحتشمه من أصحابه.. فلا يؤثر ذلك في عدالته. ومن كان يهازل زوجته أو جاريته بحيث يسمع غيره.. فهو ترك مروءة. ومن كان رقاصا أو قوالا.. فقد ترك المروءة. وأما أصحاب الحرف الدنيئة مثل: الحجام والكناس والدباغ والقيم بالحمام.. فهل تقبل شهادتهم؟ ينظر فيهم: فإن كانوا يتوانون في الصلاة والطهارة من الحدث أو النجس.. لم تقبل شهادتهم. وإن حسنت طريقتهم في الدين.. فهل ترد شهادتهم لأجل حرفهم؟ فيه وجهان: أحدهما: ترد شهادتهم؛ لأن من رضي لنفسه بمثل هذه الحرف الدنيئة.. سقطت مروءته، ومن لا مروءة له.. لا تقبل شهادته.

والثاني: تقبل شهادتهم، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] [الحجرات: 13] فعلق الحكم بالتقوى. ولأن هذه مكاسب مباحة، وبالناس إليها حاجة، فلو تجنبها جميع الناس لأجل الشهادة.. لاستضروا بذلك. وأما الحائك: فإن قلنا: إن شهادة الحجام والكناس والدباغ تقبل.. فالحائك أولى بالقبول. وإن قلنا: لا تقبل شهادتهم.. ففي الحائك وجهان. الصحيح: أنها تقبل. وأما الصباغون والصواغون: فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «أكذب الناس الصباغون والصواغون» فقيل: فيه تأويلان: أحدهما: أنه أراد أنهم يكذبون في مواعيدهم. والثاني: أنهم يسمون الأشياء بغير أسمائها؛ لأن الصباغ يقول: أصبغ فاحما أو مسكيا وسماويا وزرعيا، ويقول الصواغ: أصوغ طيرا أو سمكة، فهم يقولون ما لا يفعلون. فينظر فيه: فإن تكرر منه الكذب في المواعيد وصار ذلك غالب أحواله.. ردت شهادته بذلك. وإن كذب في التسمية.. لم ترد شهادته؛ لأن هذه الأسماء مجاز، ويجوز استعمال الأسماء مجازا. قال أكثر أصحابنا: لا ترد شهادتهم لأجل حرفهم؛ لأنها ليست بدنيئة. وقال صاحب " الفروع ": شهادتهم كشهادة الحائك على ما مضى.

مسألة شهادة لاعب الشطرنج

[مسألة شهادة لاعب الشطرنج] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (واللاعب بالشطرنج بغير قمار - وإن كرهنا ذلك - أخف حالا ممن يرى استباحة نكاح المتعة وبيع الدرهم بالدرهمين، وإيتاء النساء في أدبارهن) . وجملة ذلك: أن اللعب بالشطرنج ينظر فيه: فإن كان على غير عوض ولم يشتغل به عن الصلاة.. فإنه لا يحرم ولكنه مكروه كراهة تنزيه. والدليل على أنه لا يحرم: أنه روي عن ابن عباس جوازه، وعن سعيد بن المسيب أنه قال: لا بأس به. وروي: أن سعيد بن جبير كان يلعب به استدبارا يعني: أنه كان يولي ظهره، ويقول لصاحبه: بأي شيء لعبت؟ فإذا قال بكذا.. قال للآخر: ألعب بكذا. والدليل على أنه مكروه: ما روى الحسن عن جماعة من الصحابة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن اللعب بالشطرنج» . وروي: أن عليا كرم الله وجهه مر بقوم يلعبون بالشطرنج، فقال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] [الأنبياء: 52] . وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (اللاعب بالشطرنج أكذب الناس، يقول: قتلت، والله ما قتل) . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولأنه ليس من أفعال المروءات والديانات، وإنما يفعله من لا ديانة له) فكرهه. ولأنه يأتي بألفاظ لا حقيقة لها، كقوله: شاه مات،

وأكلت الفرس، وأكلت الفيل. ولا يفسق بذلك، ولا ترد به الشهادة. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (ترد به الشهادة) . دليلنا: أن الشطرنج موضوع على تعلم تدبير أمر الحرب، وربما يتعلم الإنسان بذلك القتال، وكل سبب يتعلم به أمر الحرب والقتال.. كان مباحا؛ بدليل ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (مررت ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوم من الحبشة يلعبون بالحراب، فوقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينظر إليهم، ووقفت من خلفه، فكنت إذا عييت.. جلست، وإذا قمت.. أتقي برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . ولأنه أخف ممن يرى استباحة نكاح المتعة، وبيع الدرهم بالدرهمين، وإتيان النساء في أدبارهن، فإذا لم ترد الشهادة بهذه الأسباب.. فلأن لا ترد باللعب بالشطرنج أولى. وإن لعب به فنسي الصلاة حتى خرج وقتها، فإن كان ذلك نادرا من أفعاله.. لم ترد به الشهادة. وإن أكثر من ذلك.. ردت به شهادته. وإن لعبه على الطريق، أو تكلم في لعبه بما يسخف من الكلام.. فهو من الصغائر، فإن أكثر منه.. ردت به شهادته، وإن لم يكثر منه.. لم ترد شهادته. وإن لعب فيه على عوض؛ بأن أخرج كل واحد منهما عوضا على أن من غلب منهما أخذه.. فسق بذلك وردت به شهادته؛ لأنه قمار، والقمار محرم. وإن أخرج أحدهما العوض دون الآخر على أن من غلب منهما أخذه.. لم يصح؛ لأنه ليس من آلات الحرب، وحكم رد شهادته كحكم ما لو لم يخرج فيه عوض على ما مضى؛ لأنه ليس فيه قمار.

فرع اللعب بالنرد والشارده

[فرع اللعب بالنرد والشارده] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وأكره اللعب بالنرد؛ للخبر) واختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق: لا يحرم اللعب به، إلا أنه يكره كراهية تنزيه أشد من كراهة اللعب بالشطرنج، والحكم في الفسق باللعب به ورد الشهادة.. حكم اللعب بالشطرنج، على ما مضى. وقال أكثر أصحابنا: يحرم اللعب به، وهو المنصوص في " الأم "، ويفسق به وترد به شهادته؛ لما روى أبو موسى الأشعري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لعب بالنرد.. فقد عصى الله ورسوله» . وروى سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لعب بالنردشير.. فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بقوم يلعبون بالنرد، فقال: " قلوب ساهية، وألسن لاغية، وأيد عاملة» . وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (أنه كان لها دار فيها سكان، فبلغها أن عندهم نردا، فأنفذت إليهم أن أخرجوه وإلا أخرجتكم فأخرجوه) . ولأن أصل النرد وضع على القمار، والقمار محرم، ويخالف الشطرنج؛ فإنه موضوع على تدبير الحرب والقتال، وذلك مباح.

فرع اتخاذ الحمام

ويحرم اللعب بالأربعة عشر؛ وهو: قطعة من خشب يحفر فيها ثلاثة أسطر، فتجعل في تلك الحفر حصى صغار يلعبون بها؛ لأنها كالنرد. [فرع اتخاذ الحمام] ] : وإن اتخذ رجل الحمام للأنس به.. جاز ولم ترد به الشهادة؛ لما «روى عبادة بن الصامت: أن رجلا أتى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشكا إليه الوحدة، فقال: " اتخذ زوجا من حمام» . فإن اتخذها لحمل الكتب والاستفراخ.. جاز؛ لأن الحاجة تدعوا إلى ذلك. وإن اتخذها للتطيير والمسابقة عليها.. كان حكمها في القمار حكم الشطرنج على ما مضى. وقال أبو حنيفة ومالك: (يفسق بذلك كله، وترد به الشهادة) ، وقد مضى الدليل عليهما لذلك كله في الشطرنج. [مسألة شهادة شارب الخمر والأنبذة] ] : ومن شرب شيئا من الخمر - وهو عصير العنب الذي اشتد وأسكر - فسق وردت به شهادته؛ لأنه محرم بالنص والإجماع.

ومن اشتراها أو باعها.. فسق وردت به شهادته؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن بائعها ومشتريها» ... ) . فأما عاصرها وممسكها: فقد قال الشيخ أبو حامد: لا يفسق بذلك ولا ترد به شهادته؛ لجواز أن يرجع عن إرادته فيتخذها خلا. قال ابن الصباغ: ويحتمل أنه إذا اعترف أنه قصد بعصرها أن تصير خمرا ليشربها.. كان محرما وترد به شهادته؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن عاصرها ومعتصرها ... ) . وأما ما عدا الخمر من الأنبذة: فعلى ضربين: مسكر وغير مسكر. فأما المسكر: فإنه يحرم شرب قليله وكثيره، فإن شرب نبيذا مسكرا وسكر.. فسق وردت شهادته؛ لأنه معصية بالإجماع. فإن لم يسكر.. لم يفسق ولم ترد به شهادته، سواء اعتقد تحليله أو تحريمه.

مسألة شهادة المغني والمستمع له

وحكى القاضي في " المجرد ": أنه إذا كان يعتقد تحريمه.. ردت به شهادته. والمذهب الأول. وقال مالك: (ترد به الشهادة بكل حال) . دليلنا: أنه مختلف في إباحته، ومن أقدم على مختلف فيه.. لم ترد به شهادته، كمن تزوج امرأة من ولي فاسق. ولأن استحلاله أعظم من شربه؛ بدليل أن من قال: يحل شرب الخمر.. يحكم بكفره، ومن شربها معتقدا لتحريمها.. لم يكفر، وقد ثبت أن من قال: يحل شرب النبيذ للمسكر من غير أن يسكر.. لا ترد شهادته بذلك، فلأن لا ترد شهادة من شرب منه ما لم يسكر به أولى. ويجب به الحد. وقال المزني: لا يجب به الحد، وقد مضى ذلك في " الحدود ". قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والمستحل للأنبذة يحضر مع أهل السفه الظاهر، ويترك لها حضور الصلوات وغيرها، وينادم عليها.. ترد شهادته لطرح المروءة وإظهار السفه) . وأما ما لا يسكر من عصير العنب ونبيذ التمر والزبيب: فلا يحرم شربها، إلا أنه يكره شرب المنصف والخليطين. و (المنصف) : النبيذ من التمر والزبيب. و (الخليطين) : النبيذ من البسر والرطب؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المنصف والخليطين» . ولأن كل شراب إذا قارب الإسكار.. تتبين فيه مرارة يعلم بها مقاربة الاشتداد، فيجتنب إلا المنصف والخليطين فإنهما يشتدان، وهما حلوان، فلا يتميز للشارب، هل هو مسكر أم لا؟ فكره شربه؛ لأنه لا يؤمن أنه صار مسكرا. [مسألة شهادة المغني والمستمع له] ] : أما الغناء - وهو: التغني بالألحان - فإن لم يكن معه آلة مطربة.. فهو مكروه عندنا، غير محرم ولا مباح.

قال الشافعي: (وهو مكروه يشبه الباطل) . وبه قال مالك وأبو حنيفة. وذهب سعيد بن إبراهيم الزهري وعبيد الله بن الحسين العنبري إلى: أنه مباح؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان تغنيان، فقال: مزمور الشيطان - وروي: مزمار الشيطان - في بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دعهما فإنها أيام عيد» ولولا أنه مباح لما أقرهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: (الغناء من زاد الراكب) . وعن عثمان أنه كان عنده جاريتان تغنيان، فلما كان وقت السحر.. قال لهما: (أمسكا فإن هذا وقت الاستغفار) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] [الحج: 30] . قال محمدابن الحنفية: هو الغناء. وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] [لقمان: 6] . قال ابن مسعود: (لهو الحديث: هو الغناء) . وقال ابن عباس: (لهو الحديث: هو الغناء وأشباهه) ، وشراء المغنيات والملاهي. وروى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل» . وروى أبو أمامة الباهلي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع المغنيات

وشرائهن، وثمنهن حرام» ، فحصل الإجماع أن ثمنهن لا يحرم، وأقل ما في هذه الأخبار أنها تقتضي الكراهة. وروي: (أن رجلا سأل ابن عباس عن الغناء: أحلال هو؟ قال: لا، قال: أحرام هو؟ قال: لا، قال: فما هو؟ قال: إذا كان يوم القيامة وجمع الله الحق والباطل أيكون الغناء مع الحق؟ قال: لا، قال: فإذا لم يكن مع الحق كان مع الباطل؟ قال: لا، قال: أفتيت نفسك) . وهذا تصريح منه أنه ليس بمباح. وأما الأخبار التي استدلوا بها على إباحته: فإنها لا تدل على أنه مباح، بدليل ما ذكرناه، بل تدل على أنه غير محرم، وعلى أنا نحملها على نشيد الأعراب دون التغني بالألحان التي تطرب. إذا ثبت هذا: فإن اتخذ الرجل الغناء صناعة يغشاه الناس في منزله ليسمعوه أو يستدعونه إلى منازلهم ليسمعهم ذلك.. ردت شهادته؛ لأن ذلك سفه وترك مروءة. وإن كان لا يسعى إليه، بل يترنم لنفسه، ولا يغني للناس.. لم ترد شهادته بذلك؛ لأن مروءته لا تذهب بذلك. وإن اتخذ الرجل غلاما مغنيا أو جارية مغنية، فإن كان يدعو الناس إلى سماعهما.. ردت شهادته بذلك؛ لأن ذلك سفه وترك مروءة، والجارية أشد كراهية من الغلام؛ لأنه دناءة.

فرع أصوات الآلات على أنواع

وأما سامع الغناء، فإن كان يغشى بيوت المغنين أو يستدعيهم إلى يته ليغنوا له، فإن كان في خفية.. لم ترد شهادته لذلك؛ لأن مروءته لا تسقط بذلك. وإن أكثر من ذلك.. ردت شهادته بذلك؛ لأن ذلك سفه. قال ابن الصباغ: ولم يفرق أصحابنا بين سماع الغناء من الرجل والمرأة، وينبغي أن يكون سماع الغناء من المرأة الأجنبية أشد كراهة من سماعه من الرجال أو من جاريته أو زوجته أو ذات رحم محرم؛ لأنه لا يؤمن الافتتان بصوتها وإن كان صوتها ليس بعورة، كما أن وجهها ليس بعورة ولا يجوز له النظر إليه. إذا ثبت هذا: فإن الغناء من التغني ممدود مكسور الغين، وأما الغنى بالمال: فإن كسرت الغين.. كان مقصورا، وإن فتحها.. كان ممدودا. [فرع أصوات الآلات على أنواع] ] : وأما الأصوات المكتسبة بالآلات: فعلى ثلاثة أضرب: ضرب محرم، وضرب مكروه، وضرب مباح. فأما (الضرب المحرم) : فهي الآلة التي تطرب من غير غناء؛ كالعيدان، والطنابير، والطبول، والمزامير، والمعازف، والنايات، والأكبار، والرباب، وما أشبهها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] [لقمان: 6] . قال ابن عباس: (هو الغناء وشراء المغنيات والملاهي) . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تمسخ أمة من أمتي بشربهم الخمر، وضربهم الكوبة والمعازف» .

وروى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ظهر في أمتي خمس عشرة خصلة.. حل بهم البلاء: إذا كانت الغنيمة دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وأطاع صديقه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، ولبسوا الحرير، وشربوا الخمور، واتخذوا القينات، والمعازف، ولعن آخر الأمة أولها.. فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وخسفا ومسخا» . وروي: (أن ابن عمر كان يسير راكبا في طريق ومعه نافع، فسمع مزمار راع، فأدخل أصبعيه في أذنيه، وعدل عن الطريق وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع، ثم جعل يقول لنافع: أتسمع يا نافع ... ؟ حتى قال: لا أسمع فرجع ابن عمر إلى الطريق) . والمستحب لمن سمع ذلك أن يفعل كما فعل ابن عمر، فإن سمع ذلك من غير أن يقصد إلى سماعه.. لم يأثم بذلك؛ لأن ابن عمر لم ينكر على نافع سماعه لذلك. وأما رد الشهادة بذلك: فإن أكثر من ذلك.. ردت شهادته، وإن كان نادرا من أفعاله.. لم ترد شهادته؛ لأنه من الصغائر، ففرق فيه بين القليل والكثير. وأما (الضرب المكروه) : فهو القصب الذي يزيد الغناء طربا، ولا يطرب بانفراده.. فلا يحرم؛ لأنه تابع للغناء، فلما كان الغناء مكروها غير محرم، فكذلك ما يتبعه، وحكمه في رد الشهادة حكم الشطرنج على ما مضى. وأما (الضرب المباح) : فهو الدف، ويجوز ضربه في العرس والختان، ولا يجوز ضربه في غيرهما؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالغربال» ، يريد به الدف.

مسألة حداء الركبان وحكمه

وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فصل ما بين الحلال والحرام ضرب الدف في النكاح» . وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان إذا سمع صوت الدف.. سأل عنه، فإن كان لعرس أو ختان.. أمسك، وإن كان في غيرهما.. عمد إليهم بالدرة) . ومن أصحابنا من قال: إن صح ما روي: «أن امرأة جاءت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، إني نذرت: إن رجعت من سفرك سالما أن أضرب على رأسك بالدف، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أوف بنذرك» .. دل على: أنه لا يكره ضربه في جميع الأحوال. والمشهور هو الأول. [مسألة حداء الركبان وحكمه] مسألة: [حداء الركبان] : وأما الحداء - وهو ما يقوله الجمالون ليحثوا به الإبل على السير - فهو مباح؛ لما روي «عن ابن عباس أنه قال: كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الليلة التي نام فيها عن الصلاة حاديان» . وروي «عن عائشة: أنها قالت: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال، وكان أنجشة مع النساء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابن رواحة: " حرك بالقوم " فاندفع يرتجز، فتبعه أنجشة فأعنقت الإبل في السير - يعني: أسرعت - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " رويدك يا أنجشة رفقا بالقوارير» يعني: النساء.

فرع استماع الشعر وأحكامه

وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في سفر، فلقي ركبا من تميم، فقال لهم: " مروا حاديكم أن يحدوا للإبل أول الليل؛ فإن حادينا ينام أول الليل ويحدو آخره " قالوا: نحن أول العرب حداء، فقال: " ولم ذلك؟ " قالوا: كان بعضنا يغير على بعض، فأغار رجل منا على قوم فاستاق إبلهم، فندت الإبل عليه، فضرب غلامه على يده، فصاح: وا يداه، وا يداه، فاجتمعت الإبل لصوته، فاتخذ الحداء من ذلك، فتبسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " ممن أنتم؟ " فقالوا: من مضر، فقال: " وأنا من مضر» . والحداء ممدود؛ لأنه من الأصوات كالدعاء والرغاء. [فرع استماع الشعر وأحكامه] ] : ويجوز استماع نشيد الأعراب وهو الشعر إذا لم يكن فيه فحش ولا كذب ولا مدح مفرط؛ لما «روى عمرو بن الشريد قال: أردفني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلفه، ثم قال: " هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ " فقلت: نعم، فقال: " هيه " يعني: هات، فأنشدته بيتا، فقال: " هيه " فأنشدته وهو يقول: " هيه " حتى أنشدته مائة

بيت» . «وروى جابر بن سمرة قال: (حضرت عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من مائة مرة وأصحابه ينشدون الأشعار ويتذاكرون أمر الجاهلية، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربما سكت وربما أنشد» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنشد بيتا لطرفة بن العبد: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك من لا تزود بالأخبار فقال له أبو بكر: ما هكذا يا رسول الله، وإنما هو: ويأتيك بالأخبار ما لم تزود فقال: " يا أبا بكر، ما لي وللشعر، وأين الشعر مني؟» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة.. تلقاه شباب الأنصار وجعلوا يقولون: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسمعهم ولم ينكره، فدل: على جوازه. ويجوز قول الشعر إذا لم يكن فيه فحش ولا هجو ولا مدح مفرط ولا كذب؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن للشعر لمنزلة كمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في غزوة حنين: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب » فمن الناس من قال: ليس هذا شعرا، وإنما هو كلام موزون. ومنهم من قال: إنما هو شعر. ولـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفد عليه الشعراء ومدحوه وأعطاهم، فأعطى كعب بن زهير

مسألة تحسين الصوت بالقرآن

بردة كانت عليه) ، (ابتاعها منه معاوية بعشرة آلاف درهم) . قال الشيخ أبو إسحاق: وهي التي مع الخلفاء إلى اليوم. فإن هجا إنسانا في شعر، فإن هجا مسلما.. فسق بذلك وردت شهادته؛ لأن هجوهم محرم. وإن هجا مشركا.. فلا بأس به؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لحسان بن ثابت: " اهجهم وجبريل معك» . وروي أنه قال: «اهج قريشا؛ فإن الهجو أشد عليهم من رشق النبل» . وإن شبب بامرأة، فإن ذكرها بفحش.. فسق بذلك وكان قاذفا. وإن لم يذكرها بفحش ولكن وصفها، فإن كانت امرأة معينة وكانت غير زوجته وجاريته.. فسق بذلك؛ لأنه ليس له تعريضها. وإن ذكر امرأة مطلقة.. لم ترد به شهادته؛ لأنه يحتمل أنه أراد به زوجته أو جاريته. وإن مدح إنسانا وأفرط في مدحه.. ردت شهادته؛ لأنه كذب. [مسألة تحسين الصوت بالقرآن] ] : ويستحب تحسين الصوت بالقرآن؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «زينوا القرآن بأصواتكم» . وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أذن الله

لشيء كأذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن» ، ومعنى قوله: (أذن) أي: استمع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 2] [الانشقاق: 2] أي: استمعت من ربها، قال الشاعر: أيها القلب تعلل بدون ... إن همي في سماع وأذن وروى عبد الله بن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» . قال أبو عبيدة: أراد به الاستغناء بالقرآن. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أراد به تحسين الصوت بالقرآن، ولو أراد به الاستغناء.. لقال: من لم يتغان) .

فرع الطفيلي يأتي الدعوة

والمستحب لمن يقرأ القرآن: أن يقرأ ترتيلا، وحدرا، وتحزينا من غير تطريب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} [المزمل: 4] [المزمل: 4] . قال ابن الصباغ: وينبغي ألا يشبع الحركات حتى تصير حروفا. وأما القراءة بالألحان: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (لا أكرهه) وقال في موضع: (أكرهه) . قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فحيث قال: (لا أكرهه) إذا لم يمطط، ويفرط في المد، ولم يدغم حرفا في حرف. وحيث قال: (أكرهه) أراد إذا أفرط في المد، وأدخل حرفا في حرف، أو أسقط بعض الحروف. [فرع الطفيلي يأتي الدعوة] وحكم نثر المال في الفرح] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (ومن ثبت عليه أنه يغشى الدعوة بغير دعاء من غير ضرورة، ولا يستحل صاحب الطعام، وتتابع ذلك منه.. ردت شهادته بذلك؛ لأنه يأكل طعاما حراما، وإنما اعتبر تكرار ذلك منه؛ لأنه قد يكون له شبهة حيث لم يمنعه صاحب الطعام، فإذا تكرر ذلك منه.. صار دناءة منه وسقوط مروءة) . قال في " الأم ": (وإن نثر على الناس في الفرح، وأخذ منه إنسان.. لم ترد شهادته بذلك؛ لأن من الناس من يحل ذلك) . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأنا أكرهه) . [فرع من تلف ماله حلت له المسألة وماذا لو أعطي الإنسان بدون مسألة] وإذا أصابت ماله جائحة أو لزمه غرم، فسأل الناس.. حلت له المسألة، ولم ترد شهادته به، وإن كان سؤاله أكثر عمره؛ لأنه يجوز له السؤال. وإن كان يسأل لغير

مسألة شهادة ولد الزنا والمحدود التائب

حاجة وشكوى.. ردت شهادته؛ لأنه يكذب ويأخذ مالا حراما. فإن أعطي من غير سؤال فأخذ وكان غنيا، فإن كان تطوعا.. لم ترد به شهادته. وإن كان فرضا، فإن كان جاهلا.. لم ترد شهادته به، وإن كان عالما.. ردت به شهادته. [مسألة شهادة ولد الزنا والمحدود التائب] ] : وتقبل شهادة ولد الزنا إذا كان عدلا. وإذا تاب المحدود في الزنا أو القذف أو الشرب وشهد به أو بغيره.. قبلت شهادته. وقال مالك: (لا أقبل شهادة ولد الزنا في الزنا، ولا أقبل شهادة المحدود في الزنى والقذف والشرب فيما حد به) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] الآية [النور: 4] ولم يفرق بين أن يشهد به ولد الزنا أو غيره. ولأن كل من قبلت شهادته في القتل.. قبلت شهادته في سائر الحقوق، كولد الحلال. ولأن كل من غصب ثم تاب من الغصب.. قبلت شهادته في الغصب، وكذلك القاذف والزاني والشارب. [فرع شهادة القروي والبدوي] ] : وتقبل شهادة القروي على القروي والبدوي بلا خلاف، وتقبل شهادة البدوي على البدوي والقروي عندنا. وقال مالك: (لا تقبل شهادة البدوي على القروي إلا في القتل والجراح) . دليلنا: ما روي: «أن أعرابيا شهد عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رؤية الهلال، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مناديا أن ينادي بالصوم» وذلك قبول الشهادة على أهل الحضر. ولأن من قبلت شهادته في القتل والجراحات.. قبلت شهادته على غيره، كالقروي. [مسألة شاهد الزور] وإذا شهد بالزور.. فسق وردت شهادته؛ لأنه من أكبر الكبائر.

والدليل عليه: ما روى خريم بن فاتك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله " قاله ثلاثا، ثم تلا قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] [الحج: 30] .» وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار» . وإنما يثبت أنه شاهد زور بأن يقر بأنه شاهد زور، أو تقوم البينة بأنه شاهد زور، أو يشهد بما يتيقن الحاكم كذبه، مثل أن يشهد على رجل أنه قتل فلانا في وقت كذا والمشهود عليه في ذلك الوقت عند الحاكم. فأما إذا شهد لرجل بشيء ثم قال: أخطأت في الشهادة.. لم يكن شاهد زور؛ لأنه يحتمل أنه أخطأ به، وكذلك إذا شهد لرجل بملك عين وشهد آخر بملكها لآخر.. لم يكن أحدهما شاهد زور؛ لأن كل واحد منهما يقول: أنا صادق. فإذا ثبت أنه شاهد زور.. عزره الحاكم؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (شاهد الزور عليه أربعون سوطا) . ولأنه فعل كبيرة لا حد فيها، فشرع فيها التعزير. وتعزيره إلى اجتهاد الحاكم، فإن رأى أن يضربه.. ضربه دون الأربعين؛ لأن التعزير عندنا دون أقل الحدود، وإن كان كبيرا أو ضعيفا ورأى أن يحبسه.. فعل؛ لأن الردع يحصل به، ويشهر أمره، وتشهير أمره هو: أن

يعرف الناس حاله. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن كان من قبيلة.. ففي قبيلته - والقبيلة هم الجماعة من آباء متفرقين - وإن كان من أهل العلم والحديث.. شهره بين أهل العلم والحديث. وإن كان من أهل المساجد.. شهره في المساجد. وتشهيره: أن يأمر معه الحاكم رجلا ثقة إلى الجماعة الذين يراد تشهيره فيهم، فيقول: السلام عليكم؛ إن القاضي فلانا يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: إن هذا شاهد زور، فاعرفوه) . وقال أبو علي بن أبي هريرة: إن كان من أهل الصيانة.. لم يناد عليه؛ لما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود» . وليس بشيء. وقال أبو حنيفة: (لا يعزر ولا يشهر من أمره) . دليلنا: ما روى بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اذكروا الفاسق بما فيه تعرفه الناس» . ولأنه إذا اشتهر أمره.. تجنبه الناس في الإشهاد، وإذا لم يشهره.. اغتر الناس به وأشهدوه. وما ذكره أبو علي غير صحيح؛ لأنه قد خرج بشهادة الزور عن أن يكون من أهل الصيانة. هذا مذهبنا. وقال شريح: يركب على حمار وينادي على نفسه: هذا جزاء من شهد بالزور. وحكي عن عبد الملك بن يعلى - قاضي البصرة -: أنه أمر بحلق نصف رؤوسهم، وتسخيم وجوههم، ويطاف بهم في الأسواق.

مسألة شهادة من يجر بشهادته لنفسه نفعا أو يدفع عنها ضررا

وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (يجلد أربعين سوطا، ويسخم وجهه، وتحلق رأسه، ويطاف به، ويطال حبسه) . دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المثلة» ، وهذا مثلة. ولأنها معصية، فلا توجب المثلة، كسائر المعاصي. [مسألة شهادة من يجر بشهادته لنفسه نفعا أو يدفع عنها ضررا] مسألة: [لا تقبل شهادة من يجر بشهادته لنفسه نفعا أو يدفع عنها ضررا] : ولا تقبل شهادة من يجر إلى نفسه نفعا بشهادته، ولا شهادة من يدفع عن نفسه ضررا بشهادته؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقبل شهادة خصم، ولا ظنين، ولا ذي غمر على أخيه» ، و (الظنين) : المتهم، ومن جر إلى نفسه نفعا

فرع شهادة قريب الجريح والضامن

بشهادته أو درأ عنها ضررا متهم، فلم تقبل شهادته. إذا ثبت هذا: فالجار إلى نفسه نفعا هو: أن يشهد السيد لعبده المأذون له في التجارة بماله، فلا يقبل؛ لأن المال إذا ثبت.. يستحقه السيد، وكذلك إذا شهد السيد لمكاتبه بمال.. لم تقبل؛ لأنه قد يعجز فيرجع ذلك المال إلى السيد. وإن شهد الموكل لوكيله فيما وكله فيه.. لم تقبل؛ لأنه شهادة لنفسه. وإن شهد الوكيل لموكله بما وكله فيه، أو شهد الوصي لليتيم بشيء.. لم تقبل شهادته؛ لأنه يجر بذلك إلى نفسه نفعا؛ لأنه إذا ثبت ما شهد به.. استحق التصرف فيه. وإن وكله في شيء ثم عزله، ثم شهد به الوكيل لموكله؛ فإن كان الوكيل قد خاصم فيه قبل العزل.. لم تقبل شهادته، وإن كان لم يخاصم فيه.. ففيه وجهان: أحدهما: تقبل؛ لأنه لا تلحقه تهمة. والثاني: لا تقبل؛ لأنه بعقد الوكالة ملك الخصومة فيه. وإن حجر على رجل للفلس، فشهد بعض غرمائه له بدين على رجل.. لم تقبل شهادته. وكذلك إذا مات وعليه ديون تحيط بتركته، فشهد بعض غرمائه له بدين.. لم تقبل شهادته؛ لأن الدين إذا ثبت.. تعلق به حق الشاهد. وإن شهد لمن له عليه دين قبل أن يحجر عليه، وكان من عليه الدين موسرا.. قبلت شهادته له؛ لأن دين الشاهد لا يتعلق به. وإن كان من عليه الدين معسرا.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تقبل؛ لأنه قد ثبت له حق المطالبة. والثاني: تقبل؛ لأنه لا يتعلق بما شهد به حقه. [فرع شهادة قريب الجريح والضامن] ونحوه] : وإن ادعى على رجل أنه جرحه فأنكره، فشهد له بذلك رجلان من ورثته من غير الوالدين والمولودين، فإن كانت الجراحة قد اندملت.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما

فرع جرح عاقلة المدعى عليه لشهود المدعي بجراحته

لا يجران إلى أنفسهما نفعا بشهادتهما. وإن كانت لم تندمل.. لم تقبل شهادتهما؛ لجواز أن تسري الجراحة إلى نفسه، فتجب الدية لهما. وإن ادعى المريض مالا على رجل فأنكره، فشهد له بذلك رجلان من ورثته من غير الوالدين والمولودين.. ففيه وجهان: أحدهما: لا تقبل شهادتهما، كما قلنا في الجراحة. والثاني: تقبل؛ لأن المال يثبت للمريض، بخلاف الدية؛ فإنها تثبت للورثة. وإن شهد رجلان لأخيهما بجراحة لم تندمل، وللمجروح وارث يحجبهما.. قبلت شهادتهما. فإن مات من يحجبهما قبل موت المشهود له.. نظرت: فإن مات من يحجبهما قبل الحكم بشهادتهما.. لم يجز الحكم بشهادتهما؛ لأنهما صارا مستحقين للميراث، فلم يجز الحكم بشهادتهما، كما لو فسقا قبل الحكم بشهادتهما. وإن مات من يحجبهما بعد الحكم بشهادتهما.. لم يؤثر موته في شهادتهما، كما لو فسقا بعد الحكم بشهادتهما. وأما شهادة الدافع عن نفسه ضررا بشهادته؛ فمثل أن يشهد الضامن على المضمون له أنه اقتضى الدين الذي ضمن به عن المضمون عنه أو أبرأه منه.. فإنها لا تقبل؛ لأنه يدفع بهذه الشهادة ضررا عن نفسه؛ وهو مطالبة المضمون له. وكذلك إذا شهد شاهدان على رجل لرجل باستحقاق عين في يده، فشهد وكيل المشهود عليه بجرح الشاهدين عليه، أو شهد الوصي بجرح الشهود على الصبي باستحقاق عين في يده.. فلا تقبل شهادتهما؛ لأن العين إذا استحقت.. انقطع تصرف الوكيل والوصي بها. وكذلك إذا شهدا بإبراء الغريم.. لم تقبل شهادتهما؛ لما ذكرناه. [فرع جرح عاقلة المدعى عليه لشهود المدعي بجراحته] ] : وإن ادعى على رجل أنه جرحه فأنكر، وأقام عليه شاهدين، وأقام المدعى عليه من عاقلته شاهدين بجرح شاهدي الجراحة عليه، فإن كانت الدعوى عليه في جناية العمد.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما نفعا ولا يدرآن بها ضررا. وإن كانت في الخطأ أو عمد الخطأ، فإن كان الشاهدان بالجرح موسرين.. لم تقبل

مسألة شهادة الخصم والعدو

شهادتهما؛ لأنهما يدفعان بشهادتهما عن أنفسهما ضررا؛ وهو تحمل الدية، وإن كانا فقيرين.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (لا تقبل شهادتهما) ، وقال في موضع آخر: (إن كان في عاقلته من هو أقرب منهما بحيث لا يحملان إلا بعد عدم من هو أقرب منهما.. قبلت شهادتهما) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى وخرجها على قولين: أحدهما: تقبل شهادتهما؛ لأنهما لا يحملان العقل في هذه الحال، فلم تلحقهما تهمة في الشهادة. والثاني: لا تقبل شهادتهما؛ لأنه يجوز أن يكونا عند الحول ممن يحمل الدية، فالتهمة تلحقهما في الشهادة، فلم يقبلا. ومنهم من حملهما على ظاهرهما فقال: تقبل شهادتهما إذا كان هناك من العاقلة من هو أقرب منهما؛ لأنهما غير معدودين في العاقلة، ولا تقبل شهادتهما إذا لم يكن هناك أقرب منهما؛ لأنهما معدودان في العاقلة، ولا اعتبار بفقرهما؛ لأن المال غاد ورائح، ويجوز أن يكونا غنيين عند الحول. [مسألة شهادة الخصم والعدو] ] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا خصم؛ لأن الخصومة موضع عداوة) . وقال أصحابنا: العداوة على ضربين؛ عداوة دينية، وعداوة دنيوية. فأما (العداوة الدينية) : فمثل عداوة المسلمين للكفار، وعداوة أهل الحق لأهل الباطل، فهذه لا تمنع قبول الشهادة. وأما (العداوة الدنيوية) : فإنها تمنع قبول الشهادة؛ وذلك مثل أن يقذف رجل رجلا، فيشهد المقذوف على القاذف، فلا تقبل شهادته. وكذلك إذا قطع رجل على رجل الطريق، فشهد المقطوع عليه على القاطع.. فلا تقبل شهادته. وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (العداوة لا تمنع قبول الشهادة بحال) . دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقبل شهادة خصم، ولا ظنين، ولا ذي غمر على أخيه،

فرع فسق الشاهدين أو حصول عداوة بعد شهادتهما وقبل الحكم

ولا القانع لأهل البيت» . والعدو خصم. وقوله: (ولا ظنين) والظنين: المتهم، والعدو متهم. وقوله: (ذي غمر) أي: ذي حقد، والعدو ذو حقد. وأما قوله: (ولا القانع لأهل البيت) فقيل: هو السائل، وقيل: هو الوكيل للموكل. فأما إذا كان بينهما خصومة على مال أو ميراث، فشهد أحدهما على الآخر بحق.. قبلت شهادته عليه؛ لأنا لو قلنا: لا تقبل شهادته عليه.. لكان من عليه حق بشهادة شهود يذهب فيدعي على الشهود مالا لئلا تقبل شهادتهم عليه، فيؤدي ذلك إلى إبطال فائدة الشهود. [فرع فسق الشاهدين أو حصول عداوة بعد شهادتهما وقبل الحكم] ] : وإن شهد شاهدان على رجل بحق فسمعهما الحاكم، فقذف المشهود عليه الشاهدين قبل الحكم بشهادتهما.. فإن الحاكم يحكم بشهادتهما. ولو فسق الشاهدان بعد الشهادة وقبل الحكم بها.. لم يجز الحكم بشهادتهما. والفرق بينهما: أن الفسق بعد الشهادة يورث التهمة في الشهادة، والعداوة بعد الشهادة لا تورث التهمة في الشهادة. [مسألة شهادة الآباء للأبناء وبالعكس] ] : ولا تقبل شهادة الوالدين - وإن علوا - للمولودين، ولا شهادة المولودين - وإن سفلوا - للوالدين. وبه قال: شريح، والحسن، والشعبي، والثوري، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه. وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعمر بن عبد العزيز: (تقبل شهادة بعضهم لبعض) . وبه قال داود، وأبو ثور، والمزني، وابن المنذر، وحكاه ابن القاص

عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في القديم، وعن أحمد ثلاث روايات: إحداهن: (لا تقبل) ، كمذهبنا. والثانية: (تقبل شهادة الولد للوالد، ولا تقبل شهادة الوالد للولد) . والثالثة: (تقبل شهادة بعضهم لبعض إذا لم يكن فيها تهمة، كشهادته له بالنكاح، والطلاق، والمال إذا كان الشاهد مستغنيا عنه، ولا تقبل شهادته له بالمال إذا كان فقيرا) . دليلنا: ما روى الساجي بإسناده عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقبل شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا ظنين في قرابة ولا ولاء» ، و (الظنين) : المتهم، وكل واحد منهم متهم في الشهادة للآخر، فلم تقبل. وتقبل شهادة الوالد على ولده في كل شيء؛ لأنه لا يتهم في ذلك. وتقبل شهادة الولد على الوالد في غير الحدود والقصاص، وهل تقبل شهادته عليه في الحدود والقصاص؟ فيه وجهان، ومن أصحابنا من حكاهما قولين: أحدهما: لا تقبل؛ لأن الأب لا يلزمه الحد بقذف الولد، ولا القصاص بجنايته عليه، فلم يلزمه ذلك بقوله. والثاني: يلزمه، وهو الأصح؛ لأن التهمة لا تلحقه بذلك، ولا يمتنع أن لا يلزمه

فرع شهادة غير الوالدين والمولودين

ذلك بفعله به، ويلزمه بقوله. ألا ترى أن الإنسان لو قذف نفسه أو قطع عضوا من نفسه.. لم يلزمه بذلك حد ولا قصاص، ولو أقر على نفسه بما يوجب الحد أو القصاص.. لزمه؟. فإن شهد رجلان على زوج أمهما أنه قذف ضرة لأمهما.. ففيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (لا تقبل شهادتهما) ؛ لأنهما يجران بذلك إلى أمهما نفعا؛ لأنه يلزمه بذلك حد القذف، فيحتاج أن يلاعن لإسقاط الحد عنه، فتقع الفرقة بينه وبين ضرة أمهما. و [الثاني] : قال في الجديد: (تقبل شهادتهما) ؛ لأن حق أمهما لا يزداد بمفارقة ضرتها. وإن شهدا عليه أنه طلق ضرة أمهما.. فهل تقبل شهادتهما؟ على القولين ووجههما ما ذكرناه. [فرع شهادة غير الوالدين والمولودين] ] : ومن عدا الوالدين والمولودين من الأقارب؛ كالأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم، ومن أشبههم.. تقبل شهادة بعضهما لبعض. وبه قال أبو حنيفة. وقال الثوري: لا تقبل شهادة كل ذي رحم محرم من النسب. وقال مالك: (لا تقبل شهادة الأخ لأخيه في النسب، وتقبل في غير النسب) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الآية [البقرة: 282] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] ولم يفرق. وروي عن عمر وابن عمر: أنهما قالا: (تقبل شهادة الأخ لأخيه في النسب) ولا مخالف لهما. ولأنه لو ملكه لم يعتق عليه.. فقبلت شهادته له، كابن العم.

فرع شهادة المولى

[فرع شهادة المولى] ] : وتقبل شهادة المولى من أعلى للمولى من أسفل؛ وشهادة المولى من أسفل للمولى من أعلى. وقال شريح: لا تقبل شهادة المولى من أعلى للمولى من أسفل. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الآية [البقرة: 282] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] ولم يفرق. وروي عن علي كرم الله وجهه: أنه قال لشريح: (في أي كتاب الله وجدت أن شهادة المعتق لا تقبل لمعتقه؟!) ، ولا مخالف له في الصحابة. [فرع شهادة الزوج لزوجه] وتقبل شهادة أحد الزوجين للآخر. وبه قال الحسن وأبو ثور. وقال مالك وأبو حنيفة: (لا تقبل شهادة أحدهما للآخر) ، وحكاه المسعودي [في " الإبانة "] قولا للشافعي، وليس بمشهور. وقال النخعي وابن أبي ليلى والثوري: تقبل شهادة الزوج للزوجة، ولا تقبل شهادة الزوجة للزوج. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] ولم يفرق. وروى سويد بن غفلة: (أن يهوديا كان يسوق بامرأة على حمارة، فنخسها فرمت بها، فوقعت عليها، فشهد عليه أخوها وزوجها بقتلها، فقتله عمر وصلبه. قال سويد: وهو أول مصلوب صلب بالشام) . ولأن كل واحد منهما لو ملك الآخر.. لم يعتق عليه، فقبلت شهادته له، كابني العم. [فرع شهادة الصديق لصديقه] ] : وتقبل شهادة الصديق لصديقه، سواء كان بينهما مهاداة وملاطفة، أو لا مهاداة بينهما ولا ملاطفة. وبه قال أبو حنيفة وأكثر أهل العلم.

فرع مودة المؤمنين وتهاديهم وحب الرجل لقومه

وقال مالك: (إذا كان بينهما مهاداة وملاطفة.. لم تقبل شهادته له) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الآية [البقرة: 282] ، وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] ولم يفرق. ولأنه لا يعتق أحدهما على الآخر إذا ملكه، فقلت شهادته له، كما لو لم يكن بينهما مهاداة ولا ملاطفة. [فرع مودة المؤمنين وتهاديهم وحب الرجل لقومه] ] : وإذا كان الرجل يحب عشيرته وقومه وأهل مذهبه وأهل بلده.. فليس بمكروه، بل هو مندوب إليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تهادوا تحابوا» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون كالبنيان، يشد بعضهم بعضا» ، و: «آخى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين المهاجرين والأنصار لما قدم المدينة» .

فرع رد بعض الشهادة

وإنما العصبية المذمومة: أن يبغض الرجل قوما لأنهم من بني فلان من غير إساءة منهم إليه. فإن أبغضهم بقلبه دون أن يظهر ذلك على لسانه.. لم يؤثر في شهادته عليهم؛ لأن ما في القلب لا يمكن الاحتراز منه، فإن ظهر ذلك على لسانه؛ بأن يؤلب عليهم ويدعو إلى عداوتهم من غير أن يظهر منه فيهم فحش ولا شتم.. قال ابن الصباغ: فإن كان ذلك في أمر الدين.. لم ترد شهادته بذلك، وإن كان ذلك في أمر الدنيا.. فهو عدو لهم، ولا تقبل شهادته عليهم خاصة لأجل العداوة. وقال الشيخ أبو حامد: إذا تكرر ذلك منه.. فسق وردت شهادته. وإن كان يشتمهم ويفحش عليهم بالقول.. فهو فاسق ولا تقبل شهادته على أحد. [فرع رد بعض الشهادة] ] : وإذا جمع في الشهادة بين أمرين، فردت شهادته في أحدهما.. فهل ترد في الآخر؟ ينظر فيه: فإن ردت للعداوة؛ مثل أن يشهد على رجل أنه قذفه وأجنبيا، أو قطع عليه الطريق وعلى غيره.. ردت شهادته؛ لأن هذه الشهادة تتضمن الإخبار عن عداوة. وإن ردت لغير العداوة؛ بأن يشهد على رجل أنه غصب من أبيه ومن أجنبي عينا.. فإن شهادته ترد في حق أبيه، وهل ترد في حق الأجنبي؟ فيه قولان:

مسألة توبة القاذف وقضية قبول شهادته

أحدهما: ترد، كما لو شهد أنه قذفه وأجنبيا. والثاني: لا ترد؛ لأنها ردت في حق أبيه للتهمة، ولا تهمة عليه في شهادته للأجنبي. [مسألة توبة القاذف وقضية قبول شهادته] ] : إذا قذف الرجل محصنة أو محصنا، فوجب عليه الحد ولم يسقط ذلك عن نفسه ببينة ولا لعان.. فقد ذكرنا: أنه يفسق بذلك وترد به شهادته. وإذا تاب.. فإنه لا يسقط عن نفسه الحد ويزول عنه التفسيق بلا خلاف، وتقبل شهادته عندنا. وبه قال عمر من الصحابة. ومن التابعين: عطاء وطاووس والشعبي. ومن الفقهاء: ربيعة ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق. وقال شريح والنخعي والثوري وأبو حنيفة: (لا تقبل شهادته أبدا) إلا أن أبا حنيفة يقول: (لا ترد شهادة القاذف حتى يجلد ثمانين، فإن جلد ثمانين إلا جلدة.. كانت شهادته مقبولة) . والدليل على أن شهادته ترد بنفس القذف قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية [النور: 4] فذكر الله القذف وعلق عليه حكمين: الجلد ورد الشهادة، والظاهر أنهما متعلقان به وحده، كما لو قال قائل: من دخل الدار.. فأعطه دينارا وأكرمه، فالظاهر أنه يلزمه أن يعطيه الدينار ويكرمه بنفس الدخول، فمن علق رد الشهادة بمعنى غير القذف.. فقد خالف ظاهر الآية. ولأن الحد كفارة وتطهير؛ بدليل: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحدود كفارات لأهلها» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أمر برجم الغامدية فرجمت.. فسبها رجل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تسبها، فلقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس.. لقبلت منه» . فإذا كان الحد كفارة.. لم يكن سببا لرد الشهادة، كاستيفاء الديون منه. والدليل على أن شهادة القاذف تقبل إذا تاب قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] [النور: 4 - 5]

مسألة التوبة عقب المعصية وشروطها

، فذكر الله تعالى الاستثناء عقيب رد الشهادة والتفسيق، فاقتضى الظاهر رجوعه إلى كل واحد منهما؛ لأنه يصلح لكل واحد منهما، كما لو قال رجل لامرأته: هي طالق وعبده حر إن شاء الله.. فإن الاستثناء يرجع إليهما، وعود الاستثناء إلى رد الشهادة أحرى؛ لأنه حكم، والتفسيق خرج مخرج الخبر، والاستثناء إنما يرجع إلى الحكم دون الخبر، كما لو قال لرجل: أعط زيدا درهما - وقد قدم عمرو - إلا أن يدخل الدار.. فإن الاستثناء يرجع إلى الحكم دون الخبر. وروى عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «توبة القاذف إكذابه نفسه، فإذا تاب.. قبلت شهادته» وهذا نص. [مسألة التوبة عقب المعصية وشروطها] ] : وكل من فعل معصية.. فإنه يلزمه التوبة منها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر: «يا أيها الناس! توبوا إلى ربكم من قبل أن تموتوا» وإذا تاب.. قبل الله توبته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 135] الآية [آل عمران: 135] . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التوبة تجب ما قبلها» . إذا ثبت هذا: فالتوبة توبتان: توبة في الظاهر، وتوبة في الباطن. فأما التوبة في الباطن - وهي: التوبة فيما بينه وبين الله تعالى - فينظر في المعصية التي فعلها:

فإن لم يجب بها حق لآدمي ولا لله تعالى؛ بأن قبل امرأة أجنبية أو مسها بشهوة وما أشبه ذلك.. فالتوبة من ذلك أن يندم على ما فعل، ويعزم على أن لا يعود إلى مثل ذلك في المستقبل، فإذا أتى بذلك.. فقد أتى بما يجب عليه، ثم القبول إلى الله تعالى. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135] الآية [آل عمران: 135] فجعل التوبة من ذلك الاستغفار وأن لا يصروا على ما فعلوا. وإن وجب بها حق.. فلا يخلو: إما أن يكون لآدمي أو لله تعالى. فإن كان لآدمي: فالتوبة من ذلك: أن يندم على ما فعل، ويعزم على أن لا يعود إلى مثل ذلك في المستقبل، ويؤدي حق الآدمي، فإن كان مالا باقيا.. رده، وإن كان تالفا.. وجب عليه ضمانه، وإن لم يقدر عليه سأل صاحبه أن يبرئه منه، فإن لم يبرئه منه أو وجد المال ولم يقدر على صاحبه.. نوى أنه إذا لقيه.. وفاه إياه. وإن كان الحق على البدن؛ كحد القذف والقصاص.. اشترط مع الندم والعزم على أن لا يعود إلى مثله أن يمكن صاحب الحق من استيفاء الحق منه ويعرض ذلك عليه؛ لما روى النخعي: (أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى رجلا يصلي مع النساء، فضربه بالدرة، فقال له الرجل: والله إن كنت أحسنت.. فقد ظلمتني، وإن كنت أسأت.. فما علمتني، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اقتص، قال: لا أقتص، قال: فاعف، قال: لا، فافترقا على ذلك، ثم لقيه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من الغد، فتغير لون عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين، أرى ما كان مني قد أسرع فيك؟ قال: أجل، قال: فاشهد أني قد عفوت عنك) . فإن لم يقدر على صاحب الحق.. نوى أنه إذا قدر عليه.. سلمه نفسه لحقه. فإن وجب بالمعصية حق لله تعالى؛ كحد الزنا واللواط والشرب والسرقة، فإن لم يظهر ذلك.. فالأولى أن يسره في نفسه ولا يظهره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أتى من هذه

القاذورات شيئا.. فليستتر بستر الله؛ فإن من أبدى لنا صفحته.. أقمنا عليه حد الله» ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هلا سترته بثوبك يا هزال؟» . فإن لم يستر ذلك، بل أظهره على نفسه.. لم يكن محرما؛ لأن ماعزا والغامدية أقرا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزنا ولم ينكر عليهما. فإذا ظهر ذلك عليه.. احتاج أن يطهر نفسه ويحضر إلى الإمام ويعترف به حتى يستوفي منه الحد؛ لأنه لا معنى لستره مع ظهوره عليه. وأما التوبة الظاهرة التي يتعلق بها قبول الشهادة وعود الولاية.. قال الشيخ أبو حامد: فلا تخلو المعصية إما أن تكون قولا أو فعلا: فإن كانت فعلا، كالزنا واللواط وشرب الخمر والغصب.. فالتوبة من ذلك بالفعل؛ لأن فسقه لما كان بالفعل.. كانت التوبة منه بالفعل، فتمضي عليه مدة يصلح فيها عمله فيأتي بضد تلك المعصية من العمل الصالح، وقدر أصحابنا هذه المدة بسنة، ومن الناس من قدرها بستة اشهر وما ذكرناه أولى؛ لأن السنة قد تعلق بها أحكام في الشرع: وهي الزكاة، والدية، والجزية، ومدة العنة. وإن كانت المعصية قولا.. نظرت: فإن كانت كفرا.. فالتوبة منها أن يأتي بالشهادتين، فإذا فعل ذلك.. حكم بتوبته، وعاد إلى حالة عدالته؛ لأنه إنما حكم بفسقه بالقول، فإذا أتى بما يضاد ذلك.. فقد أتى بالتوبة. وإن كانت المعصية قذفا صريحا.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فالتوبة منه إكذابه لنفسه) ، واختلف أصحابنا فيما يحصل به تكذيب نفسه: فقال أبو سعيد الإصطخري: يحتاج أن يقول كذبت فيما قلت، ولا أعود إلى مثله، وبه قال أحمد بن حنبل؛ لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «توبة القاذف إكذابه نفسه» ولأنه قد تقدم منه القذف، فيحتاج أن يرجع عنه بأن يكذب نفسه فيه. وقال أبو إسحاق وأبو علي ابن أبي هريرة: يقول: القذف محرم ولا أعود إليه؛ لأنه قد تقدم منه القذف، فإذا قال: هو محرم.. كان مضادا له. ولا يقول: كذبت فيما قلت؛ لأنه قد يكون صادقا، فلا يؤمر بالكذب. والخبر محمول على الإقرار بالبطلان؛ فإنه نوع إكذاب أيضا.

مسألة: شهادة العبد والذمي ونحوهما إذا أعادوا الشهادة بعد كمالهم

وهل يحتاج إلى إصلاح العمل مع ذلك سنة؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ: أحدهما: لا يفتقر إلى ذلك - وبه قال أحمد - لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن المعصية قول فكفرت بالتوبة منها بالقول، كالردة. والثاني: يفتقر مع ذلك إلى إصلاح العمل سنة - ولم يذكر الشيخان: أبو حامد وأبو إسحاق غيره - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5] [النور: 4 - 5] وهذا نص. وأما إذا شهد على غيره بالزنى ولم يتم العدد: فإن قلنا: لا يجب عليه الحد.. فهو على عدالته. وإن قلنا: يجب عليه الحد.. فالتوبة منه بالقول، وهو أن يقول: ندمت على ما كان مني، ولا أعود إلى ما أتهم فيه. فإذا قال ذلك.. قبلت شهادته، ولا يشترط فيه إصلاح العمل؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأبي بكرة حين شهد على المغيرة بالزنى ولم يتم العدد: (تب أقبل شهادتك) ، ولم يشترط عليه إصلاح العمل، ولم ينكر عليه أحد. والفرق بينه وبين القذف الصريح: أن الفسق بالقذف الصريح علم نصا، والفسق هاهنا بالشهادة علم بالاجتهاد. وتقبل أخباره قبل التوبة؛ لأن أبا بكرة كانت أخباره مقبولة، ولأن الخبر أوسع من الشهادة؛ بدليل: أن الخبر يقبل من الرقيق ولا تقبل منه الشهادة. فإن كانت المعصية بشهادة الزور.. فالتوبة منه أن يقول: كذبت فيما قلت، ولا أعود إلى مثله. قال الشيخ أبو إسحاق: ويشترط إصلاح العمل على ما ذكرناه. ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ إصلاح العمل. [مسألة: شهادة العبد والذمي ونحوهما إذا أعادوا الشهادة بعد كمالهم] مسألة: [شهادة العبد والذمي والصبي والفاسق بعد التوبة إذا أعادوا الشهادة بعد كمالهم] : وإن شهد صبي أو عبد أو ذمي بشهادة.. لم يسمعها الحاكم، فإن سمعها ثم بان

فرع شهادة المولى لمكاتبه بعد أدائه لمال الكتابة

حالهم.. ردها، فإن بلغ الصبي أو أعتق العبد أو أسلم الكافر، ثم أعادوا تلك الشهادة.. قبلت. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (لا تقبل) . دليلنا: أن هؤلاء لا عار عليهم في رد شهادتهم، فإذا زال نقصهم وأعادوا تلك الشهادة.. لم تلحقهم التهمة في إعادتها، فقبلت. وإن شهد فاسق بشهادة، فردت شهادته، ثم تاب وأعاد تلك الشهادة، فإن كان فسقه غير ظاهر.. لم تقبل الشهادة التي أعادها، وإن كان فسقه الذي تاب منه كان يظهره ولا يستره.. فهل تقبل شهادته إذا أعادها بعد التوبة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تقبل؛ كما لو كان غير ظاهر. والثاني: تقبل؛ لأنه كان يظهره، فقبلت شهادته بعد زواله، كالعبد إذا أعاد شهادته بعد العتق. وقال داود: (تقبل شهادته بعد التوبة بكل حال) . دليلنا: أن الفاسق يلحقه العار والنقص برد شهادته، فإذا تاب وأعاد تلك الشهادة.. كان متهما أنه إنما تاب لتقبل شهادته ليزول عنه العار الذي لحقه، وكل شهادة فيها تهمة.. لم تقبل، كشهادة الوالد للولد. [فرع شهادة المولى لمكاتبه بعد أدائه لمال الكتابة] ] : وإن شهد المولى لمكاتبه، فردت شهادته، ثم أدى المكاتب مال الكتابة فعتق، ثم أعاد تلك الشهادة.. فهل تقبل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تقبل؛ لأنها إنما ردت للتهمة، فإذا أعادها.. لم تقبل، كالفاسق إذا أعاد شهادته بعد التوبة. والثاني: تقبل؛ لأنها إنما ردت؛ لأنه يجر بها إلى نفسه نفعا وقد زال هذا المعنى، فإذا أعادها.. قبلت. والأول أصح.

فرع إعادة الشهادة التي ردت للتهمة أو للعداوة بعد زوالهما

[فرع إعادة الشهادة التي ردت للتهمة أو للعداوة بعد زوالهما] ] : قال الشيخ أبو إسحاق: وإن شهد رجل على رجل بأنه قذفه وزوجته، فردت شهادته، ثم عفا عن قذفه وحسنت الحال بينهما، ثم أعاد تلك الشهادة للزوجة.. لم تقبل؛ لأنها شهادة ردت للتهمة فلم تقبل وإن زالت التهمة، كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد الشهادة. قال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا ردت شهادته لعداوة ظاهرة، فزالت تلك العداوة وأعاد تلك الشهادة.. فهل تقبل؟ فيه وجهان، كالفسق الظاهر. وإن شهد لرجل أخوان له بجراحة لم تندمل وهما وارثاه، فردت شهادتهما فاندملت الجراحة وأعادا تلك الشهادة: ففيه وجهان: أحدهما: تقبل؛ لأنها ردت للتهمة، وقد زالت التهمة. والثاني: لا تقبل، وهو ظاهر المذهب؛ لأنها ردت للتهمة فلم تقبل، كالفاسق إذا أعاد شهادته بعد التوبة. والله أعلم

باب عدد الشهود

[باب عدد الشهود] الحقوق على ضربين: حقوق لله تعالى، وحقوق للآدميين. فأما (حقوق الله تعالى) : فعلى ثلاثة أضرب: ضرب: لا يثبت إلا بأربعة شهود؛ وهو حد الزنى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية [النور: 4] فأخبر أنه: لا يسقط حد القذف عن القاذف إلا بأن يأتي بأربعة شهداء على الزنى، فدل على: أن الزنى لا يثبت بأقل من أربعة شهداء، ولقوله تعالى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] الآية [النساء: 15] فذكر الله: أنه لا يثبت الزنى إلا بأربعة شهداء، وأوجب فيه حكما، ثم نسخ ذلك الحكم ولم ينسخ الشهادة فيه، فبقي عدد الشهادة على مقتضى الآية. وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن سعدا قال: يا رسول الله، أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلا، أفأمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: " نعم» فثبت أنه: لا يثبت إلا بأربعة شهداء. ولأن الزنى لا يتم إلا من نفسين فيصير كالشهادة على فعلين، فاعتبر فيه أربعة أنفس، ولا مدخل للنساء في الشهادة بذلك. وحكي عن عطاء وحماد بن أبي سليمان أنهما قالا: يجوز ثلاثة رجال وامرأتان. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] [النور: 4] ، والهاء بعد الثلاثة إلى العشرة إنما تدخل في عدد المذكر دون المؤنث. وروي «عن الزهري: أنه قال: (مضت سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخليفتين من بعده ألا تقبل شهادة النساء في الحدود» . وأما اللواط: فلا يثبت إلا بأربعة شهداء. وقال أبو حنيفة: (يثبت بشاهدين) فبنى ذلك على أصله: أن اللواط لا يوجب الحد.

مسألة قبول الشهادة لحقوق الله من غير دعوى

دليلنا: أن الله تعالى سماه فاحشة؛ لقوله: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] [الأعراف: 80] وأخبر: أن الفاحشة لا تثبت إلا بأربعة شهداء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] الآية [النساء: 15] . ولأنا نبني على أصلنا وأنه يوجب حد الزنى وأغلظ منه، فلم يثبت إلا بأربعة شهداء كالزنى. وأما إتيان البهيمة: فإن قلنا: أن الواجب فيه القتل أو حد الزنى.. لم يثبت إلا بأربعة شهود، كحد الزنى. وإن قلنا: إن الواجب فيه التعزير.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يثبت إلا بأربعة؛ لأنه فرج حيوان تجب بالإيلاج فيه العقوبة، فاعتبر في الشهادة عليه أربعة، كالزنى. والثاني: أنه يثبت بشاهدين؛ لأنه لا يلحق بالزنى في الحد، فلم يلحق به في الشهادة. والأول أصح. والقسم الثاني من حقوق الله تعالى وهو: حد الخمر والقتل في المحاربة والردة.. فلا يثبت إلا بشاهدين؛ لأنه يتم من فرد، فجاز إثباته بشهادة رجلين، بخلاف الزنى. القسم الثالث: هو الإقرار بالزنى، وفيه قولان: أحدهما: يثبت بشاهدين؛ لأنه إثبات إقرار، فقبل من اثنين، كالإقرار بسائر الحقوق. والثاني: لا يثبت إلا بأربعة شهداء؛ لأنه سبب يثبت به حد الزنى، فاعتبر فيه أربعة شهود، كالشهادة على الفعل. وإن كان المقر أعجميا.. ففي عدد المترجمين عنه وجهان، بناء على القولين في الإقرار بالزنى. ولا مدخل لشهادة النساء في هذين القسمين؛ لما ذكرناه من حديث الزهري. [مسألة قبول الشهادة لحقوق الله من غير دعوى] وماذا لو تطاول الزمان على شهادة الزنى؟] : تقبل الشهادة على حقوق الله عز وجل؛ مثل الزنى، وشرب الخمر، والقتل في المحاربة، والردة، من غير دعوى؛ لأن الحق لله تعالى وليس هناك مدع.

فرع شهادة أربعة على زان وحكم تعدد المجلس أو موتهم قبل الحكم

وإذا شهد أربعة على الزنى بعد تطاول الزمان من وقت الزنى إلى وقت الشهادة.. قبلت شهادتهم. وقال أبو حنيفة: (لا تقبل) . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية [النور: 4] ولم يفرق. ولأنه حد يثبت بالشهادة على الفور، فوجب أن يثبت مع تطاول الزمان، كسائر الحقوق. [فرع شهادة أربعة على زان وحكم تعدد المجلس أو موتهم قبل الحكم] فرع: [شهادة أربعة على زان وحكم تعدد المجلس أو غيبتهم أو موتهم قبل الحكم] : وإذا شهد أربعة على الزنى.. وجب الحد على المشهود عليه، سواء شهدوا في مجلس واحد أو في مجالس. وقال أبو حنيفة: (إذا شهدوا في مجالس.. لم يثبت الزنى وكانوا قذفة) . وحد المجلس عنده ما دام الحاكم جالسا وإن طال جلوسه. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية [النور: 4] ولم يفرق. ولأن كل حق يثبت بالشهود إذا شهدوا به في مجلس.. ثبت وإن شهدوا به في مجالس كسائر الحقوق. وإن شهد أربعة بالزنى ثم غابوا أو ماتوا قبل الحكم بشهادتهم.. جاز للحاكم أن يحكم بشهادتهم. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز أن يحكم بشهادتهم) . دليلنا: أن كل شهادة جاز للحاكم أن يحكم بها مع حضور الشهود وحياتهم.. جاز مع موتهم وغيبتهم، كسائر الشهادات. [مسألة نقصان نصاب الشهادة في الزنى] ] : وإذا شهدوا على الزنى ولم يتم العدد؛ بأن شهد على زنى ثلاثة أو أقل.. لم يجب حد الزنى على المشهود عليه، وفي الشهود قولان: أحدهما: أنهم ليسوا بقذفة، ولا يفسقون، ولا ترد به شهادتهم، ولا يحدون؛

لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية [النور: 4] فذكر الله القاذف وبين حكمه، وأنه إذا لم يأت بأربعة شهداء.. جلد ثمانين جلدة، وكان فاسقا، وردت شهادته. وهذه الآية لا تتناول الشاهد في الزنى؛ لأنه قد لا يحد ولا يفسق ولا ترد شهادته وإن لم يأت بأربعة شهداء؛ وهو: إذا أتى بثلاثة شهداء معه، فدل على: أنه ليس بقاذف إذ لو كان قاذفا.. لما خالف سائر القذفة. ولأنه أضاف الزنا إليه بلفظ الشهادة عند الحاكم فلم يكن قاذفا، كما لو تم عدد الأربعة. ولأنا لو قلنا: يجب عليهم الحد إذا لم يتم العدد.. لأدى ذلك إلى أن لا تقام الشهادة على الزنى أصلا؛ لأن الشهود لا يمكنهم التلفظ بالشهادة على الزنى دفعة واحدة، وإنما يشهد واحد بعد واحد، وكذلك كل واحد منهم يتوقف عن الشهادة خوفا من أن لا يتم العدد فيجب عليهم الحد، وإذا كان ذلك يفضي إلى هذا.. لم يصح. والقول الثاني: أنهم قذفة، ويجب عليهم حد القذف، ويفسقون، وترد به شهادتهم - وهو المشهور من المذهب وبه قال مالك وأبو حنيفة - لما روي: (أن أربعة حضروا عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليشهدوا على رجل بالزنى، فصرح ثلاثة منهم بالشهادة بالزنى عليه ولم يصرح الرابع، بل قال: رأيتهما في ثوب واحد، فإن كان هذا زنى.. فهو زان، فجلد علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الثلاثة الذين صرحوا بالشهادة بالزنى، وعزر الرجل والمرأة) . وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استخلف المغيرة بن شعبة على البصرة، فكان نازلا في سفل دار، وكان أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد وزياد في علو الدار، فهبت ريح ففتحت الباب ورفع الستر، فرأوا المغيرة بين رجلي امرأة فلما كان من الغد.. تقدم المغيرة ليصلي بهم، فأخره أبو بكرة، وقال: تنح عن مصلانا، فكتب بذلك إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فاستحضر عمر المغيرة بن شعبة إليه والشهود، فلما قدموا على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.. شهد أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بالزنى وصرحوا عليه به، فلما أراد زياد أن يشهد.. قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هذا رجل شاب ولا يشهد إلا

فرع رد شهادة أحد الأربعة الشهود بالزنا بسبب الزوجية

بحق إن شاء الله، فقال زياد: أما زنى.. فلا أشهد به، ولكني رأيت أمرا منكرا قبيحا؛ رأيت استا تنبو، ونفسا يعلو، ورجلين كأنهما أذنا حمار، ولا أدري ما وراء ذلك، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الله أكبر، وجلد الثلاثة الذين صرحوا بالزنى) . وكان ذلك بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولم ينكر عليه أحد. ولأنهم أدخلوا المعرة عليه بإضافة الزنى إليه بسبب لم يسقطوا به إحصانه، فجاز أن يجب عليهم الحد، كما لو قذفوه صريحا. فقولنا: (بسبب لم يسقطوا به إحصانه) احتراز من العدد إذا تم، ولأنا لو لم نوجب عليهم الحد.. لجعلت الشهادة على الزنى طريقا إلى القذف؛ لأنه يؤدي إلى أن الإنسان يقذف إنسانا بالزنى ولا يجب عليه الحد حتى ولو شهد عليه عند الحاكم، ولا سبيل إلى ذلك شرعا. فإن قيل: فالصحابة كلهم عدول لا فاسق فيهم ولا بد هاهنا من تفسيق المغيرة أو الشهود عليه؟ فالجواب: أنا لا نقطع بتفسيق أحدهم؛ لأنه يجوز أن يكون المغيرة تزوج تلك المرأة سرا، وكان من مذهب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلد من نكح سرا، فلما رأوه.. قالوا: هذه زوجتك؟ قال: لا؛ خوفا من أن يجلده عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه أراد ما تزوجتها ظاهرا، وحمل الشهود الأمر على الظاهر: أن هذا الفعل بامرأة ليست بزوجة له زنى. [فرع رد شهادة أحد الأربعة الشهود بالزنا بسبب الزوجية] أو غيره] : وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وأحدهم الزوج.. فإن شهادة الزوج لا تقبل عليها

فرع شهد أربعة بالزنا ثم رجع أحدهم أو كلهم

ولا يجب عليها الحد، وهل يجب حد القذف على الشهود الثلاثة غير الزوج؟ على القولين.. وأما الزوج: فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان؛ لأنه أضاف الزنا إليها بلفظ الشهادة، فهو كالثلاثة. ومنهم من قال: يجب عليه الحد قولا واحدا؛ لأنه ممن لا تقبل شهادته عليها، فهو كما لو قذفها صريحا. وإن شهد أربعة على رجل بالزنا، فرد الحاكم شهادة أحدهم.. فإن الحد لا يجب على المشهود عليه بالزنى؛ لأن عدم العدالة كعدم تمام العدد. وهل يجب الحد على الثلاثة العدول؟ ينظر في الرابع الذي ردت شهادته: فإن ردت شهادته لسبب ظاهر، كالصغر والرق والكفر والأنوثية.. ففي وجوب الحد عليهم قولان؛ لأنهم مفرطون في الشهادة معه. قال الشيخ أبو حامد: وينبغي أن يجب الحد على الرابع مع هذه الأسباب قولا واحدا؛ لأنه لما شهد مع علمه أنه لا يقبل.. فكأنه قصد قذفه صريحا. وإن ردت شهادته بأمر خفي؛ بأن كان عدلا في الظاهر، فلما بحث الحاكم عن حاله وجده فاسقا في الباطن.. ففي وجوب الحد على الثلاثة طريقان، ومن أصحابنا من قال: فيهم قولان؛ لأن العدالة الباطنة معتبرة كالعدالة الظاهرة. ومنهم من قال: لا يجب عليهم الحد قولا واحدا؛ لأنهم غير مفرطين في الشهادة؛ لأن العدالة الباطنة لا يعلمها إلا الحاكم عند البحث عنه. [فرع شهد أربعة بالزنا ثم رجع أحدهم أو كلهم] ] : وإن شهد أربعة على رجل بالزنا، فرجع واحد منهم قبل أن يحكم بشهادتهم.. لم يلزم المشهود عليه حد الزنا؛ لأن البينة عليه بالزنا لم تتم، وهل يجب حد القذف على الراجع؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال القاضي أبو الطيب: فيه قولان؛ لأنه أضاف الزنا إليه بلفظ الشهادة عند الحاكم. وقال أكثر أصحابنا: يجب عليه الحد قولا واحدا، وهو الأصح؛ لأنه إن قال: عمدت إلى الشهادة.. فقد اعترف بالقذف، وإن قال: أخطأت.. فهو مفرط كاذب.

مسألة أنواع البينة في حقوق الآدميين المالية وغيرها مما يطلع عليه الرجال

وأما الثلاثة الذين لم يرجعوا.. فالمنصوص: (أنهم لا يحدون) . ومن أصحابنا من قال: في وجوب الحد عليهم قولان. قال الشيخ أبو حامد: وينبغي أن لا يحكى هذا؛ لأنه لا شيء. وإن رجعوا كلهم.. وجب عليهم الحد قولا واحدا. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان. والأول أصح. وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا، وشهد أربع نسوة أنها بكر.. لم يجب الحد على المرأة. وقال مالك: (يجب عليها الحد) . دليلنا: أنه يحتمل أن البكارة أصلية، وذلك شبهة في سقوط الحد عنها، ولا يجب الحد على الشهود؛ لجواز أن تكون البكارة عائدة، وذلك شبهة في درء الحد عنهم. [مسألة أنواع البينة في حقوق الآدميين المالية وغيرها مما يطلع عليه الرجال] ] : وأما حقوق الآدميين: فتنقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: ما هو مال أو المقصود منه المال؛ مثل: البيع، والرهن، والضمان، والغصب، والشفعة، والعارية، والإجارة، والوصية له، وما أشبهه.. فهذا يثبت بشاهدين أو بشاهد وامرأتين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] الآية [البقرة: 282] ، والدين المؤجل لا يكون إلا الثمن في البيع أو المسلم فيه أو الأجرة أو الصداق أو عوض الخلع، فإذا ثبت ذلك في الدين.. ثبت في غيره من المال مثله. القسم الثاني: ما ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال؛ كالنكاح، والرجعة، والطلاق، والعتاق، والوكالة، والوصية إليه، وقتل العمد، والحدود وما أشبهه.. فلا تثبت إلا بشاهدين، ولا تثبت بشاهد وامرأتين، وبه قال الزهري والنخعي ومالك. وقال أبو حنيفة: (النكاح يثبت بشاهد وامرأتين) . وقد مضى الدليل عليه.

فرع ثبوت مقدار المهر بشاهد وامرأتين

وقال الحسن البصري: لا يثبت القصاص في النفس إلا بأربعة. ودليلنا: أنه أحد نوعي القصاص فيثبت بالشاهدين، كالقصاص في الطرف. [فرع ثبوت مقدار المهر بشاهد وامرأتين] وماذا عن الخلع] : وإن اتفق الزوجان على النكاح واختلفا في الصداق.. فإنه يثبت بالشاهد والمرأتين، لأنه مال. وإن ادعت المرأة الخلع وأنكر الزوج.. لم يثبت إلا بشاهدين؛ لأنه ليس بمال وإن ادعى الزوج الخلع وأنكرت المرأة.. ثبت ما ادعاه الزوج عليها بشاهدين وامرأتين؛ لأنه يدعي المال. [فرع ادعاء العبد المكاتبة] ] : وإن ادعى العبد على سيده أنه كاتبه وأنكر السيد.. لم يحكم عليه بشاهد وامرأتين؛ لأنه يتضمن العتق. فإن اتفقا على الكتابة واختلفا في قدر المال، أو ادعى المكاتب أنه قد أدى إليه النجم الأول، أو أنه أبرأه منه، وأنكر السيد.. ثبت ذلك بالشاهد والمرأتين؛ لأنه شهادة على المال. وإن ادعى المكاتب أنه أدى إليه النجم الأخير أو أبرأه منه وأنكر السيد، فأقام المكاتب على ذلك شاهدا وامرأتين.. ففيه وجهان: أحدهما: يحكم بذلك؛ لأنها شهادة على المال. والثاني: لا يحكم بذلك؛ لأنه في الحقيقة شهادة على العتق.

فرع ادعى على رجل سرقة نصاب أو اغتصاب مال منه

[فرع ادعى على رجل سرقة نصاب أو اغتصاب مال منه] ] : وإن ادعى على رجل أنه سرق منه نصابا من حرز مثله ممن يقطع بسرقة ماله، وأنكر السارق، فأقام عليه شاهدا وامرأتين.. لم يجب على السارق قطع؛ لأنه ليس بمال، ويحكم على السارق بالمال المشهود به. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] قولا آخر: أنه لا يحكم عليه بالمال، كما لا يحكم عليه بالقطع. والمشهور هو الأول؛ لأن هذه البينة تعلق بها حكمان: القطع والغرم، وقد ينفرد الغرم عن القطع؛ وهو: إذا سرق من مال أبيه. فإذا ادعى رجل على رجل أنه غصب منه مالا فأنكر، وحلف المدعى عليه بطلاق امرأته أنه ما غصب منه، ثم أقام المدعي شاهدا وامرأتين.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإنه يحكم للمدعي بالمال الذي شهد به الرجل والمرأتان، ولا يحكم على المدعى عليه بالطلاق؛ لأنه ليس بمال) . قال أبو العباس: هذا إذا حلف بطلاق امرأته قبل ثبوت الغصب، فأما إذا أقام المدعي شاهدا وامرأتين أنه غصب منه، ثم حلف المدعى عليه بطلاق امرأته: أنه ما غصب منه.. فإنه يحكم عليه بالطلاق؛ لأنا قد حكمنا عليه بالغصب قبل الطلاق، فإذا حلف.. حكمنا عليه بالحنث. [فرع ادعى على رجل قتلا أو جناية] فإن ادعى على رجل قتلا يقتضي القود فأنكر، فأقام عليه شاهدا وامرأتين.. لم يثبت القصاص ولا الدية. فإن قيل: فهلا أوجبتم الدية كما قلتم فيمن أقام شاهدا وامرأتين أنه سرق منه نصابا: أنه لا يجب عليه القطع ويجب عليه الغرم؟

فرع ادعى رجل على آخر جراحة أو قتلا ثم عفا ثم أقام شاهدا وامرأتين

قلنا: الفرق بينهما: أن الشهادة بالسرقة توجب القطع والغرم على سبيل الجمع، فإذا كانت البينة مما لا يثبت بها القطع.. بقي الغرم والجناية التي يجب بها القود - في أحد القولين - والأرش بدلا عنه. والثاني: يجب أحدهما لا بعينه، وإنما يجب أحدهما بالاختيار، فلو أوجبنا الدية.. أوجبنا في العمد حقا معينا، وهذا خلاف مقتضى الجناية التي يجب بها القود. وإن ادعى عليه جناية لا يجب بها القصاص، وإنما يجب بها المال، كقتل الخطأ وعمد الخطأ وقتل المسلم للكافر وما أشبه ذلك.. فإن ذلك يثبت بالشاهد والمرأتين؛ لأنه مال. وهل تثبت الهاشمة والمنقلة بالشاهد والمرأتين؟ فيه قولان: أحدهما: لا يثبتان؛ لأنها شهادة تتضمن إثبات الموضحة، والموضحة يثبت فيها القصاص، وكل جناية يثبت فيها القصاص: فإنها لا تثبت بالشاهد والمرأتين. والثاني: يثبتان؛ لأنه لا قصاص فيهما وإنما القصاص في ضمنهما. [فرع ادعى رجل على آخر جراحة أو قتلا ثم عفا ثم أقام شاهدا وامرأتين] ] : وإن ادعى على رجل أنه جرحه جراحة يثبت فيها القصاص، أو قتل وليه قتلا يثبت به القصاص، فأنكر المدعى عليه، وقال المدعي: قد عفوت عن القصاص، وأقام على الجناية شاهدا وامرأتين.. قال في " الأم ": (فإنه لا يحكم له بهذه الشهادة؛ لأن عفوه عن القصاص كلا عفو؛ لأنه عفا عنه قبل ثبوته، فإذا لم يصح عفوه.. فهو مدع جناية تقتضي القصاص، فلم تثبت بالشاهد والمرأتين) . [فرع رمى رجلا بسهم فقتله ثم نفذ فيه فأصاب رجلا فقتله] ] : إذا رمى رجل رجلا بسهم فأصابه، ونفذ فيه السهم فأصاب رجلا فقتله، فادعى

فرع ادعى ولدا وجارية أو عبدا في يد آخر

ولي الرجلين على الرامي أنه قتلهما، وأقام عليه شاهدا وامرأتين، فإن كانت الدعوى عليه على الأول جناية لا تقتضي القود.. فإن الجنايتين على المقتولين خطأ فيثبتان بالشاهد والمرأتين. وإن كانت الدعوى عليه على الأول جناية تقتضي القود.. لم تثبت بالشاهد والمرأتين، ولكن إذا شهد له الرجل والمرأتان.. كان ذلك لوثا تثبت به الأيمان في جنبة الولي. وأما الجناية على الثاني: فالمنصوص في " الأم ": (أنها جناية خطأ) ، فيقضى فيها بالشاهد والمرأتين. وحكى ابن الصباغ قولا آخر: أنها لا تثبت إلا بعد ثبوت جنايته على الأول؛ لأنها جناية واحدة فلا يثبت بعضها دون بعض. والأول أصح؛ لأن الجناية على الثاني خطأ محض فقضي فيها بالشاهد والمرأتين. [فرع ادعى ولدا وجارية أو عبدا في يد آخر] ] : إذا كان في يد رجل جارية ولها ولد، فادعى رجل أنها مملوكته استولدها في ملكه هذا الولد، فأنكر المدعى عليه، وأقام المدعي شاهدا وامرأتين.. فإنه يحكم له بالجارية؛ لأن أم الولد في حكم المملوكة؛ بدليل: أنه يجوز له وطؤها واستخدامها وإجارتها. وترد إليه، ويحكم بأنها أم ولد له، فتعتق بموته. وأما الولد: فإنه لا يدعي ملكه، وإنما يدعي حريته وثبوت نسبه منه، وهل يحكم له بذلك بالشاهد والمرأتين؟ فيه قولان: أحدهما: لا يحكم بذلك؛ لأن الحرية والنسب لا يثبتان بالشاهد والمرأتين. فعلى هذا: يكون باقيا على ملك المدعى عليه. والثاني: يحكم بذلك - وهو اختيار المزني - لأنه قد حكم بملك الجارية، والولد من نمائها، ومن ثبت له ملك عين.. حكم له بملك نمائها. وإن ادعى رجل أن العبد الذي في يد فلان كان له وأنه كان قد أعتقه، وأنكر من هو بيده فأقام المدعي بذلك شاهدا وامرأتين.. فاختلف أصحابنا فيه:

مسألة الشهادة على ما ليس بمال ولا يطلع عليه الرجال

فمنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يحكم له بهذه الشهادة؛ لأنها شهادة بملك متقدم فلم تقبل، كما لو ادعى ملك عين وأقام بينة أنها كانت له. والثاني: يحكم له بها؛ لأن البينة شهدت موافقة لدعواه، فحكم بها. ويفارق إذا ادعى ملك العين في الحال، وشهدت له البينة أنها كانت له ملكا؛ فإن البينة لم تشهد موافقة لدعواه. ومنهم من قال: يحكم بها هاهنا قولا واحدا، وهو المنصوص في " المختصر "، واحتج بها المزني على ما اختاره في الأولى. والفرق بينها وبين الأولى: أنه هاهنا ادعى أن العبد كان ملكا له، وإنما قد أعتقه، فحكم فيه بالشاهد والمرأتين، وفي التي قبلها: لم يدع ملك الولد، وإنما ادعى حريته ونسبه، فلم يحكم بذلك بالشاهد والمرأتين. [مسألة الشهادة على ما ليس بمال ولا يطلع عليه الرجال] ] : قد ذكرنا: أن حقوق الآدميين على ثلاثة أقسام، ومضى الكلام على قسمين، وبقي الكلام على القسم الثالث؛ وهو: ما ليس بمال ولا المقصود منه المال ولا يطلع عليه الرجال، وهو مثل: الرضاع، والولادة، واستهلال الولد، وعيوب النساء تحت الثياب كالرتق والقرن.. فهذا كله وما أشبهه يثبت بالشاهدين، أو بالشاهد وامرأتين، أو بأربع نسوة منفردات، وبه قال أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلي: (لا يثبت الرضاع بشهادة النساء منفردات) . دليلنا: أن الرجال لا يطلعون على ذلك في العادة، فلو لم تقبل فيه شهادة النساء منفردات.. لبطل. والدليل على أن شهادة النساء منفردات تقبل في الرضاع: أنها شهادة على عورة يثبت فيها تحريم أو حرمة، فقبل فيها شهادة النساء منفردات، كالولادة. وفيه احتراز من الشهادة على الزنا.

وكل موضع تقبل فيه شهادة النساء منفردات.. فاختلف أهل العلم في عددهن: فمذهبنا: أنه لا يقبل إلا من أربع نسوة عدول، وبه قال عطاء. وقال عثمان البتي: تقبل من ثلاث. وقال مالك والأوزاعي: (تقبل من اثنتين) . وقال أبو حنيفة: (تقبل شهادة القابلة وحدها في الولادة) . وقال ابن عباس والزهري: (تقبل شهادة الواحدة في الرضاع) ؛ لما «روى عقبة بن الحارث: أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت امرأة سوداء فذكرت: أنها قد أرضعتهما، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كيف وقد شهدت السوداء أنها قد أرضعتكما؟» . دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن " فقالت امرأة: يا رسول الله، ما ناقصات العقل والدين؟ قال: " أما نقصان العقل: فشهادة امرأتين بشهادة رجل، وأما نقصان الدين: فإنها تمكث شطر دهرها لا تصلي» . فأخبر الله ورسوله: أن شهادة امرأتين شهادة رجل، وقد ثبت أن هذه الحقوق لا يقبل فيها من الرجال إلا رجلان، فثبت أنه لا تقبل فيها من النساء إلا أربع. وأما الخبر الذي احتج به لابن عباس: فإنما أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك المرأة استحبابا لا وجوبا، بدليل قوله: " كيف وقد شهدت السوداء؟ " أي: اترك ذلك، كيف وقد انضاف إلى ما قلت لك من الترك بشهادة السوداء، ولو أمره بتركها موجبا.. لقال له: اتركها؛ لأن السوداء قد شهدت بأنها قد أرضعتكما.

فرع شهادة المرضعة

[فرع شهادة المرضعة] ] : وإن شهدت المرضعة بأنها أرضعت طفلا مع ثلاث نسوة معها وهن عدول.. حكم بكونه ابنا لها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " كيف وقد شهدت السوداء؟ " فسماها شهادة. ولأنها لا تجر بهذه الشهادة إلى نفسها نفعا ولا تدفع بها عنها ضررا، فقبلت هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: إن شهدت المرضعة على أنها أرضعت طفلين، فإن ادعت أجرة.. لم تقبل. وإن لم تدع أجرة.. نظرت: فإن شهدت على فعل نفسها؛ بأن قالت: أشهد أني أرضعتهما.. لم تقبل؛ لأنها تشهد على فعل نفسها. وإن قالت: أشهد أنهما ارتضعا مني.. قبلت شهادتها. [فرع تزوجا واتفقا على رضاع بينهما أو أنكر أحدهما] ] : إذا تزوج رجل امرأة، واتفقا على أن بينهما رضاعا يحرم.. انفسخ النكاح، فإن كان قبل الدخول.. فلا شيء لها، وإن كان بعد الدخول.. وجب لها مهر مثلها. وإن ادعى الزوج أن بينهما رضاعا يحرم، وأنكرت المرأة.. انفسخ النكاح؛ لأنه قد أقر بتحريمها عليه، ولا يقبل قوله فيما يسقط حقها، فإن كان قبل الدخول.. وجب لها نصف المسمى، وإن كان بعد الدخول.. وجب لها المسمى. وإن أقام عليها بينة بالرضاع، فإن كان قبل الدخول.. فلا شيء لها عليه، وإن كان بعد الدخول.. قال أصحابنا: حكم لها بمهر مثلها. ويحتمل وجها آخر: أنه يحكم لها بأقل الأمرين: من المسمى أو مهر المثل؛ لأن مهر المثل إن كان أقل.. لم يحكم لها بأكثر منه؛ لأنا قد حكمنا ببطلان النكاح، وإن كان المسمى أقل.. لم يحكم لها بأكثر منه؛ لأنها لا تدعيه. وإذا أقام الزوج عليها ابنتها أو أمها.. قبلتا؛ لأنهما يشهدان عليها. وإن ادعت الزوجة رضاعا يحرم، وأنكر الزوج ولا بينة.. فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف.. لم يحكم بانفساخ النكاح عليه. قال المسعودي [في " الإبانة "] : ويحلف الزوج: أنه لا يعلم أن بينهما رضاعا، فإن نكل.. ردت اليمين عليها، وتحلف على البت والقطع.

مسألة ما ثبت بشاهد وامرأتين يثبت بشاهد ويمين

[مسألة ما ثبت بشاهد وامرأتين يثبت بشاهد ويمين] ] : كل حق يثبت بالشاهد والمرأتين على ما مضى.. فإنه يثبت بالشاهد ويمين المدعي. وبه قال أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي بن كعب، وعمر بن عبد العزيز، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والشعبي، وشريح، وفقهاء المدينة، وربيعة، ومالك، وأحمد، وإسحاق. وقال الزهري، والنخعي، وابن شبرمة، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يقضى بالشاهد واليمين بحال) . دليلنا: ما روى عمرو بن دينار، عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشاهد مع اليمين» . قال عمرو بن دينار: وكان ذلك في الأموال. وروى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بشهادة الشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق» . وروى

فرع لا تكفي أربع نسوة ولا امرأتان مع اليمين

جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " أتاني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأمرني: أن أقضي باليمين مع الشاهد» . ولأنه أحد المتداعيين، فجاز أن يثبت اليمين في جنبته ابتداء كالمدعى عليه. [فرع لا تكفي أربع نسوة ولا امرأتان مع اليمين] وبيان كيفية اليمين مع الشاهد في شهادة الأموال] : وإن ادعى رجل مالا أو ما المقصود منه المال، وأقام على ذلك أربع نسوة منفردات.. لم يحكم له بذلك بلا خلاف. وإن أقام امرأتين وأراد أن يحلف معهما.. لم يكن له ذلك. وقال مالك: (يكون له ذلك) . دليلنا: أنها بينة لا تقبل في النكاح، فلم تقبل مع اليمين، كالنساء منفردات. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وكيفية اليمين مع الشاهد: أن يحلف المدعي أن شاهده لصادق، وأنه لمحق. [فرع ادعى قطع يده من الساعد فأقام شاهدا وطلب الحلف] ] : وإن ادعى عليه أنه قطع يده من الساعد عمدا فأنكره، فأقام عليه شاهدا وأراد أن يحلف معه.. فحكى ابن الصباغ فيها وجهين: أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أن له أن يحلف ويحكم له بما ادعاه؛ لأنها جناية لا قصاص فيها، فهي كالجائفة. والثاني: - وهو قول القاضي أبي الطيب -: ليس له أن يحلف؛ لأن من قطعت يده من الساعد.. له أن يقتص من الكوع، وكل جناية وجب فيها القصاص.. فإنها

مسألة ادعوا لأبيهم دينا فأقاموا شاهدا وكان بعضهم صغيرا أو غائبا

لا تثبت بالشاهد واليمين. ويشبه أن يكون هذان الوجهان مأخوذين من القولين في الهاشمة والمنقلة، وهل يثبتان بالشاهد والمرأتين؟ [مسألة ادعوا لأبيهم دينا فأقاموا شاهدا وكان بعضهم صغيرا أو غائبا] مسألة: [ادعوا لأبيهم دينا فأقاموا شاهدا أو ادعى جماعة حقا وأقام بعضهم شاهدا وكان بعضهم صغيرا أو غائبا] : إذا مات رجل وخلف جماعة ورثة، فادعوا أن لأبيهم على رجل دينا فأنكر، فأقاموا شاهدا، فإن حلفوا معه.. استحقوا الدين، فإن كان على الميت دين.. قضي منه دينه، وإن وصى بوصية.. نفذت منه وصيته. وإن حلف بعضهم دون بعض.. استحق الحالف قدر نصيبه من الدين، ولا يشاركه من لم يحلف من الورثة. وحكى ابن الصباغ: أن ابن القاص قال: وفيها قول آخر: أنهم يشاركونه؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (إذا ادعى رجلان دارا ورثاها من أبيهما في يد رجل، فأقر لأحدهما بنصفها.. شاركه الآخر فيه) . وهذا ليس بصحيح؛ لأن الذي لم يقر له بالدار.. لم يسقط حقه؛ ولذلك شارك أخاه، وهاهنا الذي امتنع من اليمين.. أسقط حقه، فلم يستحق بيمين غيره. فإن امتنع جميع الورثة من اليمين، فإن كان على الميت دين، فإن كان للميت مال غير هذا المال المدعى به يفي بالدين.. لم يكن لصاحب الدين أن يحلف مع الشاهد؛ لأنه يمكنه استيفاء دينه من المال. وإن لم يكن له مال غير هذا الدين الذي يشهد به الشاهد.. فهل له أن يحلف مع الشاهد؟ فيه قولان: [أحدهما] : قال في القديم: (له أن يحلف معه) ؛ لأن حقه متعلق به؛ لأنه إذا ثبت.. استوفى منه دينه. و [الثاني] : قال في الجديد: (ليس له أن يحلف مع الشاهد) ؛ لأن المال إذا

ثبت.. استحقه الورثة، ولا يجوز أن يحلف لإثبات المال لغيره. قال ابن الصباغ: فإذا قلنا: له أن يحلف فحلف، ثم أبرأ الميت من دينه.. فإن المال الذي حلف عليه يرد على المدعى عليه، ولا يرد إلى ورثة الميت. وإن لم يكن على الميت دين، ولكنه قد أوصى بوصايا تتعلق بالمال المشهود به.. فهل للموصى له أن يحلف مع الشاهد عند امتناع الورثة من اليمين؟ فيه قولان، كما قلنا في الغريم. فإن حلف بعض الورثة، وعلى الميت دين.. فهل يقضى جميع الدين مما يستحقه الحالف؟ قال ابن الصباغ: عندي أنه ينبني على يمين الغريم، فإن قلنا: إنه يحلف إذا امتنع الورثة.. لم يلزم الحالف من الورثة إلا قدر نصيبه من الدين. وإن قلنا: إن الغريم لا يحلف، فإن قلنا بالقول الذي حكاه ابن القاص: أن الورثة يشاركونه.. قضي جميع الدين منه؛ لأنه تركة. وإن قلنا: الورثة لا يشاركونه.. بني على أن بعض الورثة إذا أقر بدين على مورثهم وجحد الباقون.. فهل يلزمه جميع الدين؟ فيه قولان، يأتي بيانهما في موضعهما. وإن كان في الورثة صغير أو معتوه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وقف حقه) . قال أبو إسحاق: أراد: وقفت يمينه حتى يبلغ الصغير ويعقل المعتوه؛ لأن يمينه لا تصح ووليه لا ينوب عنه في اليمين. وقال أبو علي في " الإفصاح ": يجب أن يوقف حقه من المال، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أحد القولين، إذا ادعى مالا وأقام شاهدا، وطلب أن يحبس له الخصم أو الكفيل إلى أن يقيم الآخر. فإن مات الصغير أو المعتوه.. قام وارثه مقامه، فإذا حلف.. استحق نصيبه. وإن كان لجماعة حق على رجل، فأقام بعضهم شاهدا، وكان بعضهم صغيرا أو غائبا.. فهل يحتاج الصغير إذا بلغ، أو الغائب إذا حضر إلى إعادة الشاهد؟

مسألة ادعى وقف عين وأقام شاهدا وطلب اليمين

قال المسعودي [في " الإبانة "] : إن كان الحق من جهة واحدة كالإرث عن شخص واحد.. لم يفتقر إلى إعادة الشاهد، وإلا.. فتعاد. [مسألة ادعى وقف عين وأقام شاهدا وطلب اليمين] إذا ادعى رجل وقف عين عليه، وأقام شاهدا وأراد أن يحلف معه.. فهل له ذلك؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق وأكثر أصحابنا: يبنى على القولين في الوقف، هل ينتقل إلى الله سبحانه أو إلى الموقوف عليه؟ فإن قلنا: ينتقل إلى الله تعالى.. لم يكن له أن يحلف مع الشاهد، كما قلنا في العتق. وإن قلنا: إنه ينتقل إلى الموقوف عليه.. كان له أن يحلف مع الشاهد، كالبيع. وقال أبو العباس: له أن يحلف مع الشاهد قولا واحدا؛ لأنا وإن قلنا: إنه ينتقل إلى الله تعالى، إلا أن القصد بالوقف تمليك الموقوف عليه منفعة الوقف، فهو كالإجارة، بخلاف العتق؛ فإن المقصود منه تكميل أحكام العبد دون المال. [مسألة أقام شاهدا على أن أباه أوقف عليه وعلى أخويه دارا] ثم على أولادهم من بعدهم ثم على الفقراء والمساكين] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: [ولو أقام شاهدا أن أباه تصدق عليه بهذه الدار صدقة محرمة موقوفة وعلى أخوين له، فإذا انقرضوا فعلى أولادهم، ثم على الفقراء والمساكين، فمن حلف منهم.. ثبت حقه وصار ما بقي ميراثا، فإن حلفوا معا.. خرجت الدار من ملك صاحبها) . واختلف أصحابنا في صورتها: فقال أبو إسحاق وغيره من أصحابنا: صورتها: أن يموت رجل ويخلف دارا وثلاثة أولاد ومعهم وارث غيرهم، فادعى أحد الأولاد أن أباه وقف الدار عليه وعلى أخويه ثم على أولادهم

بعدهم، ثم على الفقراء والمساكين، وصدقه أخواه على ذلك وأنكر الوارث الذي معهم، فأقام المدعي شاهدا.. فهل للمدعي أن يحلف مع الشاهد؟ إن قلنا: لا يقضى بالشاهد مع اليمين في الوقف.. لم يحلف. وإن قلنا: يقضى بالشاهد مع اليمين في الوقف.. نظرت: فإن حلف الأولاد الثلاثة.. صار جميع الدار وقفا عليهم. وإن لم يحلف واحد منهم.. لم يحكم بالوقف قبل القسمة، بل تكون الدار موروثة، فإن كان على الميت دين.. قضي منها دينه، وإن كان له وصية.. نفذت منها وصيته، فإن لم يكن عليه دين ولا وصية.. قسمت الدار بين الورثة، فما أصاب سائر الورثة الذين ينكرون الوقف.. يكون مطلقا يتصرفون فيه بما شاؤوا، وما أصاب الأولاد الذين ادعوا الوقف.. حكم بوقفه عليهم بإقرارهم. فأما إذا حلف واحد من الأولاد ولم يحلف الآخران.. حكم بثلث الدار وقفا على الحالف، والثلثان الباقيان من الدار يكون موروثا يقضى منه دين الميت وتنفذ منه وصاياه، وما بقي بعد ذلك.. يقسم بين الأولاد الثلاثة والوارث معهم المنكر للوقف. فما أصاب المنكر للوقف من الدار.. يكون مطلقا يتصرف فيه بما شاء، وما أصاب الأولاد الثلاثة من الدار.. يكون وقفا على الولدين اللذين لم يحلفا؛ لأن الحالف يعترف لهما بذلك؛ لأنه لا يدعي إلا ثلث الدار وقد حصل له ذلك بيمينه. قال أبو إسحاق: فأما إذا خلف الميت ثلاثة أولاد، وادعوا أن أباهم وقف عليهم دارا يملكها وقد صارت في يد رجل، فادعوا أنه غصبها وأقاموا شاهدا.. فإن لهم أن يحلفوا مع الشاهد قولا واحدا؛ لأنهم ادعوا الغصب، والغصب يحكم فيه بالشاهد واليمين. فإذا حلفوا مع شاهدهم.. نزعت الدار ممن هي في يده وصارت وقفا عليهم قولا واحدا بإقرارهم، وهذا كما لو أقر رجل أن أباه أعتق عبدا، وأن فلانا غصبه، وأقام عليه شاهدا وحلف معه.. فإنه يحكم على الغاصب بالعبد ويحكم بعتق العبد.

ومن أصحابنا من قال: صورتها: أن يموت رجل ويخلف ثلاثة أولاد، فادعى أحد الأولاد الثلاثة على رجل أجنبي في يده دار أن أباه وقف عليه الدار وعلى أخويه ثم على أولادهم ثم على الفقراء، وأنكر من بيده الدار، وأقام المدعي شاهدا، فإن قلنا: لا يحكم بالشاهد واليمين في الوقف.. فلا كلام. وإن قلنا: يحكم بالشاهد واليمين في الوقف.. نظرت: فإن حلف الأولاد الثلاثة.. حكم بجميع الدار وقفا عليهم. وإن لم يحلف واحد منهم.. كانت الدار ميراثا لمن هي في يده. وإن حلف أحد الأولاد وامتنع الآخران من اليمين.. حكم بثلث الدار وقفا على الحالف، وكان ثلثاها ميراثا لمن هي في يده. قال: والدليل على أن هذه صورتها: قوله: (فمن حلف منهم.. ثبت نصيبه وقفا، وصار ما بقي ميراثا) . وهذا إنما يتصور على هذه الطريقة، وأما على الطريقة الأولى: فمن لم يحلف من الأولاد.. صار نصيبه وقفا بإقراره. وقال الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا: الصحيح: أن صورتها ما ذكره أبو إسحاق، والدليل عليه قوله: (وأقام عليه شاهدا أن أباه تصدق عليه) ، وهذا كناية ترجع على المذكور، وليس هاهنا مذكور إلا المدعي، وأما ما احتج به الأول وهو قوله: (صار ما بقي ميراثا) فله تأويلان: أحدهما: أنه أراد أن نصيب من حلف نحكم بأنه وقف من الواقف، ونصيب من لم يحلف لا يحكم بأنه وقف منه وإنما يصير وقفا بإقراره. والثاني: أنه أراد أن نصيب من أنكر الوقف من الورثة، فأما نصيب الأولاد.. فلم يتعرض له. إذا ثبت هذا، وحلف الأولاد الثلاثة مع الشاهد ثم ماتوا دفعة واحدة وخلفوا أولادا وقد كان الواقف شرط انتقال الوقف إلى أولادهم بعدهم.. فهل يحتاج أولاد الأولاد أن يحلفوا؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، وأكثر أصحابنا -: أنهم لا يحتاجون أن يحلفوا، وهو ظاهر المذهب؛ لأن الوقف إذا ثبت للأصل بيمينه مع الشاهد.. لم يحتج في

انتقاله إلى من هو دونه إلى اليمين، كما لو ادعى رجل حقا وأقام عليه شاهدا وحلف معه، ثم مات وخلف ولدا.. فإن ولده لا يحتاج إلى اليمين بعده. والثاني - وهو قول أبي العباس -: أنه لا بد أن يحلف ولد الولد؛ لأنه يأخذ الوقف عن الواقف، فلما لم يستحق الولد إلا باليمين.. فكذلك ولد الولد، كما لو شرك بين الولد وولد الولد في الوقف. وهذان الوجهان مأخوذان من القولين في البطن الثاني، هل يتلقون الوقف من الواقف أو من البطن الأول؟ وفيه قولان حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] . فإن مات الأولاد متفرقين بعيد أن حلفوا.. فإن الأول لما مات.. لا ينتقل نصيبه إلى ولده؛ لأن الواقف شرط أن لا ينتقل الوقف إلى أولاد الأولاد إلا بعد انقراض الأولاد، فيصرف نصيبه إلى أخويه الباقيين، وهل يحتاجان إلى أن يحلفا ثانيا على نصيب الميت؟ إن قلنا: إن الأولاد إذا ماتوا كلهم انتقل الوقف إلى أولادهم ولا يحتاجون أن يحلفوا.. لم يحتج الأخوان أن يحلفا على نصيب أخيهما الذي مات قبلهما. وإن قلنا: إن أولاد الأولاد يحتاجون أن يحلفوا.. فهل يحلف الولدان الباقيان هاهنا؟ فيه وجهان: أحدهما: يحلفان؛ لأن نصيب أخيهما ينتقل إليهما بموته، كما ينتقل الوقف إلى أولاد الأولاد بعد موت الأولاد. والثاني: لا يحتاجان أن يحلفا؛ لأنهما قد حلفا وحكم بأنهما من أهل الوقف بأيمانهما، بخلاف أولاد الأولاد؛ فإنه لم يحكم بأنهم من أهل الوقف. وإن حلف الأولاد الثلاثة وماتوا وأمضي الوقف إلى الفقراء والمساكين؛ بأن مات أولاد الأولاد بعدهم، أو لم يخلف الأولاد أولادا، فإن قلنا يظاهر المذهب، وأن أولاد الأولاد لا يحتاجون أن يحلفوا بعد موت الأولاد.. حكم بالوقف هاهنا على الفقراء والمساكين. وإن قلنا بقول أبي العباس، وأن أولاد الأولاد لا بد أن يحلفوا.. فلا يمكن إيجاب اليمين هاهنا على الفقراء والمساكين؛ لأنهم لا يتعينون ولا

ينحصرون، وأما الحكم في الوقف؟ ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يحكم ببطلان الوقف؛ لأنا قد قلنا: لا يمكن الحكم بالوقف إلا بعد يمين المستحق له، واليمين متعذرة من جهة الفقراء والمساكين، فحكم ببطلان الوقف. والثاني: أنه يحكم بالوقف للفقراء والمساكين؛ لأنه قد ثبت كونه وقفا، وإنما يحكم ببطلانه لامتناع الموقوف عليه من اليمين إذا كان الموقوف عليه متعينا، فأما إذا كان أهل الوقف غير متعينين.. لم يمكن إيجاب اليمين عليهم، فسقط اعتبارها في حقهم. والثالث - ذكره القاضي أبو الطيب -: أنها تكون وقفا، وتصرف إلى أقرب الناس بالواقف؛ لأن اليمين شرط في استحقاق الوقف، واليمين متعذرة من جهة الفقراء والمساكين فخرجوا من الوقف، وقد حكم بكونه وقفا، فيصير كالمنقطع الانتهاء، فيرجع إلى أقرب الناس بالواقف. والذي يقتضي المذهب: أنه يعتبر يمين أقرب الناس بالواقف - على هذا - إذا حلف جميع الورثة الأولاد، فأما إذا حلف واحد منهم وامتنع الآخران من اليمين.. فقد ذكرنا: أن ثلث الدار تصير وقفا على الحالف، ويقسم ثلثا الدار على الأولاد الثلاثة ومن معهم من الورثة، فما خص الأولاد الثلاثة.. صار وقفا على الولدين الآخرين اللذين لم يحلفا، فإن مات الحالف.. نظرت: فإن مات بعد موت أخويه.. فإن نصيبه ينتقل إلى ولد الولد، وهل يحلف معه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما. وإن مات الحالف قبل موت أخويه.. فإلى من ينتقل ثلث الدار الذي يحكم بوقفه عليه؟ فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: ينتقل إلى أخويه؛ لأنه لا ينتقل إلى ولد الولد إلا بعد انقراض الأولاد، ولم ينقرضوا. فعلى هذا: هل يفتقر الأخوان إلى أن يحلفا على ذلك؟ فيه وجهان، كما قلنا في الوجهين في أولاد الأولاد. والوجه الثاني: أن ينتقل إلى أقرب الناس بالواقف؛ لأنه لا يمكن نقله إلى ولد الولد؛ لأن شرط الانتقال إليهم هو انقراض الولد ولم يوجد، ولا يمكن نقله إلى الولدين الباقيين؛ لأنهما قد أسقطا حقهما من الوقف بامتناعهما من اليمين، فيصير كالوقف المنقطع الوسط. فعلى هذا: هل يحلف الأقرب؟ قال ابن الصباغ: على الوجهين المذكورين في أولاد الأولاد بعد أيمان الأولاد. والوجه الثالث: أنه ينتقل إلى ولد الولد؛ لأن الولدين أسقطا حقهما من الوقف بامتناعهما عن اليمين، فصارا كالمعدومين، ولو عدما.. لنقل الوقف إلى ولد الولد. فعلى هذا: هل يحلف ولد الولد؟ على الوجهين. فإن امتنع جميع الأولاد عن اليمين.. فقد ذكرنا: أن جميع الدار تقسم بين جميع الورثة، فما خص الأولاد منها.. يكون وقفا، وما خص الوارث معهم.. يكون طلقا. فإن خلف الأولاد أولادا فقالوا: نحن نحلف مع الشاهد ليكون جميع الدار وقفا علينا.. ففيه قولان: أحدهما: ليس لهم ذلك؛ لأن الولد أصل وولد الولد تابع، فإذا لم يحلف الأصل.. لم يثبت الوقف للأصل، فلم يثبت للتبع. والقول الثاني: أن لهم أن يحلفوا - وهو اختيار الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وهو الأصح - لأن ولد الولد يأخذ الوقف من الواقف كما يأخذه منه الولد، فإذا امتنع الولد.. أسقط به حقه دون حق ولد الولد، فكان له أن يحلف عليه. ولأنا لو قلنا:

لا يحلفون.. لكنا قد جعلنا للولد إبطال الوقف على من بعده، وهذا لا سبيل إليه. وهكذا: لو حلف أحد الأولاد وامتنع الآخران، ثم ماتا وخلفا أولادا فأرادوا أن يحلفوا مع الشاهد.. فهل لهم ذلك؟ على القولين. وهذا إنما يكون بعد موت الولد الحالف، فأما قبل موت الحالف.. فليس لهم أن يحلفوا؛ لأن الوقف إنما ينتقل إلى ولد الولد بعد انقراض جميع الأولاد. وهل لهذا الحالف أن يحلف على نصيب أخويه؟ يحتمل أن يكون على هذين القولين، واختلف أصحابنا في أصل هذين القولين: فمنهم من قال: أصلهما الوقف إذا كان متصل الابتداء منقطع الانتهاء.. فهل يصح؟ فيه قولان. فإذا قلنا: إنه صحيح.. كان لأولاد الأولاد أن يحلفوا. وإن قلنا: إنه باطل.. لم يكن لهم أن يحلفوا. ومنهم من قال: القولان أصل في نفسيهما غير مبنيين على غيرهما. هذا كله إذا وقف الواقف الوقف على الأولاد ثم على أولادهم من بعدهم، فأما إذا أشرك بينهم؛ مثل أن ادعى الأولاد الثلاثة أنه قال: وقفت هذه الدار على أولادي وأولاد أولادي ما تناسلوا، ثم على الفقراء والمساكين، فجاء الأولاد فادعوا ذلك وأقاموا شاهدا، فإن كان هناك ولدُ ولدٍ معهم.. فإنه لا يستحق شيئا من غير يمين وجها واحدا؛ لأنهم يستحقون الوقف من جهة الواقف من غير واسطة، بخلاف الأولى. وإن لم يكن هناك غير الأولاد الثلاثة فحلفوا.. استحقوا الوقف. فإن حدث ولدُ ولدٍ.. عزل له ربع غلة الوقف من حين ولد؛ لأن الأولاد قد أقروا أنه شريك لهم، فوقف إلى أن يبلغ، فإن حلف.. استحقه ولا يحتاج إلى إعادة الشاهد، وإن لم يحلف.. رد على الأولاد الثلاثة. فإن قيل: هلا قلتم: إن نصيب ولد الولد من الغلة يسلم إلى وليه؛ لأن الأولاد قد اعترفوا له به؟

فالجواب: أنهم إنما أقروا بذلك إقرارا مضافا إلى سبب؛ وهو الوقف، وقد ثبت أن أهل الوقف لا يستحقون شيئا منه إلا بعد اليمين. وإن مات ولد الولد قبل بلوغه.. كان ما عزل له من الغلة لورثته إذا حلفوا، أو تقسم غلة الوقف بعد موت ولد الولد بين الأولاد الثلاثة؛ لأنه ليس هناك من يشاركهم. وإن مات أحد الأولاد الثلاثة قبل بلوغ ولد الولد.. فإنه يعزل لولد الولد قبل موت الولد من غلة الوقف الربع، ويعزل له من غلة الوقف بعد موت الولد الثلث، فإن بلغ ولد الولد وحلف.. استحق ما عزل له من غلة الوقف، وإن مات قبل أن يبلغ.. كان لوارثه أن يحلف ويستحقه، ولا يستحق شيئا من غلة الوقف بعد موته، بل يكون للولدين الباقيين. وإن بلغ ولد الولد وامتنع من اليمين.. فإن الربع المعزول من غلة الوقف قبل موت الولد يقسم بين الأولاد الثلاثة أثلاثا، فما خص الولد الميت.. يكون لورثته، والثلث المعزول من غلة الوقف بعد موت الولد يرد على الولدين الباقيين. وإن كان هناك حين الدعوى ولد ولد صغير.. فإن الأولاد الثلاثة إذا حلفوا.. استحقوا ثلاثة أرباع الوقف، ويعزل ربع الوقف إلى أن يبلغ ولد الولد، فإن حلف.. استحقه، وإن لم يحلف.. لم يستحقه. وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد والقاضي أبا الطيب قالا: يرد ذلك على الأولاد الثلاثة، كما قلنا فيما عزل لولد الولد الحادث. قال ابن الصباغ: وهذا غير صحيح؛ لأن الواقف شرك في الوقف بين الأولاد وأولاد الأولاد، وقد ثبت أن الأولاد الثلاثة إذا كانوا بالغين فحلف اثنان منهم وامتنع الثالث.. فإن نصيبه يكون مقسوما بين الورثة، ولا فرق بين الممتنع والصغير، ويفارق ولد الولد الحادث؛ لأن بأيمان الأولاد الثلاثة مع شاهدهم حكمنا بأن جميع الدار وقف، فلا يبطل بامتناع من حدث، وفي حق الموجود لا يمكن الحكم فوقف جميعه بيمين بعض الموقوف عليهم. والله أعلم

باب تحمل الشهادة وأدائها

[باب تحمل الشهادة وأدائها] لا يجوز لأحد أن يتحمل الشهادة على شيء ولا يؤديها إلا بعد حصول العلم له بذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] الآية [الإسراء: 36] . فحكي عن قتادة في تفسيرها أنه قال: لا تقل ما لم تسمع، وما لم تر، وما لم تعلم. وقَوْله تَعَالَى: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] [الزخرف: 86] ، فمدح من يشهد بما يعلم، فثبت أن العلم شرط. وقوله: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19] [الزخرف: 19] ، وهذا وعيد يوجب التحفظ في الشهادة. وروي: «أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الشهادة فقال: " هل ترى الشمس؟ " قال: نعم، قال: " على مثلها فاشهد أو فدع» . إذا ثبت هذا: فالأشياء التي يحصل من جهتها العلم بالشهادة ثلاثة أشياء: أحدها: ما لا يحصل العلم به إلا بالمشاهدة. والثاني: ما لا يحصل العلم به إلا بالمشاهدة والسماع. والثالث: ما لا يحصل العلم به إلا بالسماع. فأما (الذي لا يحصل العلم به إلا بالمشاهدة) فهي: الشهادة على الأفعال؛ مثل القتل والغصب وإتلاف المال والزنى والسرقة والولادة، فهذه الأشياء وما أشبهها إذا شاهدها إنسان.. يحصل له العلم بالمشهود عليه قطعا ويقينا، وجازت له الشهادة بذلك، ولا يجوز تحمل الشهادة عليها بالسماع من طريق الاستفاضة؛ لأنه يمكن مشاهدتها يقينا، فلا يجوز الرجوع فيها إلى الظن. ولا خلاف أن الرجل إذا وقع

نظره على فرج امرأة ورجل وهما يزنيان، أو على فرج امرأة في حال الولادة، أو على ثديها وهي ترضع، أو على عيب في بدنها تحت ثيابها من غير أن يقصد النظر إلى ذلك.. جاز له أن يشهد بما شاهد من ذلك. وإن أراد أن يقصد إلى النظر في ذلك إلى العورة ليتحمل الشهادة على ذلك.. فهل يجوز له ذلك؟ فيه أربعة أوجه: [الأول] : قال أبو إسحاق: يجوز له أن يتعمد النظر في جميع ذلك ليتحمل الشهادة، وهو المنصوص؛ لما روي: أن أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد تعمدوا النظر إلى فرج المغيرة والمرأة وشهدوا بذلك عند عمر، ولم ينكر عليهم عمر ولا غيره من الصحابة ذلك، فدل على أنه إجماع. [الوجه الثاني] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يجوز له أن يتعمد النظر إلى العورة في جميع ذلك؛ لأن الزنى مندوب إلى ستره، والولادة والرضاع والعيوب تحت الثياب تقبل فيها شهادة النساء متفرقات، فلا حاجة به إلى تحمل الشهادة في ذلك. [الوجه الثالث] : من أصحابنا من قال: يجوز له النظر إلى فرج الزاني ليتحمل الشهادة عليه، ولا يجوز له التعمد إلى النظر إلى الفرج عند الولادة ولا إلى الثدي عند الرضاع ولا إلى ما تحت الثياب من العيوب؛ لأن الزنى لا يثبت بشهادة النساء فكان بالرجال حاجة إلى النظر إلى ذلك ليشهدوا، وفي غير الزنى يجوز فيه شهادة النساء متفرقات فلا حاجة للرجال إلى النظر فيها. ولأن الزاني هتك حرمة الله تعالى فجاز أن يتعمد النظر إلى فرجه لتهتك حرمته، وغير الزاني لم يهتك حرمة الله، فلم يجز التعمد إلى النظر إلى عورته. [الوجه الرابع] : من أصحابنا من قال: لا يجوز أن بتعمد النظر إلى فرج الزاني، ويجوز التعمد للنظر إلى عورة غيره؛ لأن الحق في الزنا لله، وحقوق الله مبنية على المسامحة ومندوب إلى سترها، والحق في تلك الأشياء للآدميين، وهي مبنية على التأكيد ولا تقبل المسامحة.

وأما (الذي لا يحصل العلم به إلا بالمشاهدة والسماع) فهي: الشهادة على العقود؛ مثل البيع والرهن والصلح والإجارة والنكاح، فلا يحصل له العلم بالشهادة في ذلك إلا بمشاهدة الشاهد للعاقدين وسماعه لقولهما. وكذلك الشهادة على الطلاق والقذف والإقرار وغير ذلك من الأقوال.. فإنه لا يحصل العلم إلا بمشاهدة القائل وسماعه لقوله، ولا يجوز له أن يتحمل الشهادة على ذلك بالاستفاضة؛ لأنه يمكنه الرجوع في ذلك إلى اليقين والإحاطة، فلا يجوز له الرجوع فيها إلى الظن. وأما (الذي يحصل العلم به بالسماع من غير أن يشاهد المشهود عليه) فهي ثلاثة أشياء: النسب، والموت، والملك المطلق. فأما (النسب) : فإنه إذا استفاض في الناس أن فلانا ابن فلان، وسمع رجل هذه الاستفاضة.. جاز له أن يشهد أن فلانا ابن فلان - وبه قال أبو حنيفة وأحمد - لأن إلحاق النسب بالأب إنما يكون من طريق الظاهر؛ وهو: إذا ولد على فراشه ولا يمكن إلحاقه به من طريق القطع، فجاز التحمل بالشهادة في ذلك من طريق الظاهر أيضا. وأما (الموت) : فإنه إذا استفاض في الناس أن فلانا مات، وسمع رجل هذه الاستفاضة.. جاز له أن يشهد أن فلانا مات؛ لأنه قد يموت في السفر والحضر، فيشق أن يشهد على موته الشهود، ولأنه مأمور بتعجيل دفنه ولا ينتظر به الشهود، ولأنه يتعذر معرفة موته قطعا؛ لأنه قد يموت بعلة معروفة وغير معروفة، والموت يشبه السكتة، فجاز تحمل الشهادة على ذلك من طريق الظن. وأما (الملك المطلق) : فيجوز تحمل الشهادة فيه بالسماع، فإذا استفاض في الناس أن هذه الدار لفلان، وسمع ذلك رجل.. جاز له أن يشهد بملك الدار له. وقال أبو حنيفة وأصحابه: (لا يجوز تحمل الشهادة على ذلك بالسماع؛ لأنه شهادة بمال، فلم يجز تحملها بالسماع من غير المشهود عليه، كالدين) . دليلنا: أن الملك يقع بأسباب مختلفة؛ مثل البيع والهبة والإرث والإحياء والاصطياد وغير ذلك، وقد يتعذر معرفة سببه، فجازت الشهادة عليه بالاستفاضة كالنسب والموت.

قال ابن الصباغ: وأما الدين.. فإن أصحابنا لا يسلمونه، ويمكن أن يفرق بينهما: بأن قدره لا يقع فيه استفاضة، وإنما يستفيض الدين في الجملة من حيث المطالبة والملازمة، بخلاف الأعيان. فإن قيل: فقد يمكنه أن يعلم الملك بمشاهدة سببه، فلا حاجة به إلى الشهادة عليه بالاستفاضة؟ فالجواب: أن وجود السبب لا يثبت به الملك قطعا ويقينا؛ لأنه يجوز أن يشتري من إنسان شيئا لا يملكه، أو يصطاد صيدا قد اصطاده غيره وانفلت منه، وإنما يتصور ذلك نادرا؛ مثل: أن يشاهد رجل ماء نزل من السماء فأخذه إنسان ولم يغب عن عين الشاهد من حين نزل إلى أن أخذه من أخذه، وكذلك إذا شاهد رجلا أخذ ماء من ماء دجلة أو من البحر.. فقد قال بعض أصحابنا: يجوز أن يكون هذا الماء أخذه غيره قبله ثم رده إلى دجلة أو إلى البحر بعد أن ملكه الأول، وهذا ضعيف. ولا يجوز أن يشهد بملك مضاف إلى سبب، كالبيع والهبة وما أشبههما بالاستفاضة، فيقول: أشهد أنه ملكه بالبيع أو الهبة؛ لأنه يمكنه مشاهدة العاقدين إلا الميراث؛ فإنه يجوز له إذا سمع الناس يقولون: ورث فلان هذه الدار.. جاز له أن يشهد أنها ملكه ميراثا؛ لأن الموت يثبت بالاستفاضة وكذلك ما يتعلق بسببه، بخلاف سائر أسباب الملك، مثل: البيع والهبة وغيرهما من العقود؛ فإنه لا تجوز الشهادة عليها بالاستفاضة، وكذلك ما يتعلق بسببها. وكل موضع قلنا: يجوز تحمل الشهادة فيه بالسماع بالاستفاضة.. اختلف أصحابنا في أقل عدد يجوز للشاهد الرجوع إليهم وتحمل الشهادة عن قولهم: فقال الشيخ أبو حامد: أقل ذلك أن يسمع الشاهد ذلك من رجلين عدلين. قال ابن الصباغ: ويسكن قلبه إلى خبرهما على هذا؛ لأن الحقوق تثبت بشهادة اثنين. وقال القاضي أبو الحسن الماوردي: لا يقبل إلا من عدد يقع العلم بخبرهم؛

مسألة إخباره عن أبوة صبي والشهادة بمجرد السماع

لأن ما دون ذلك من أخبار الآحاد. فلا يقع العلم من جهتهم. وظاهر كلامه أنه أراد: ما يقع به خبر التواتر، وهذا بعيد. وقال ابن الصباغ: ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقتضي: أن تكثر به الأخبار؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (العلم من ثلاثة أوجه: منها: ما عاينه وشهد به) وأراد به الشهادة على الأفعال، (ومنها: ما تظاهرت به الأخبار، وتثبت معرفته في القلوب) وأراد بذلك ما يعلم بالاستفاضة. (ومنها: ما أثبته سماعا مع إثبات حضور من المشهود عليه) وأراد به الشهادة على العقود، فشرط في الاستفاضة ظاهر الأخبار، وذلك يكون بانتشارها وكثرتها. وظاهر قول ابن الصباغ: أنه أراد إذا سمع ذلك من عدد فوق الاثنين ووقع في نفسه صدقهم.. جاز له أن يشهد بذلك وإن كان دون العدد الذي يقع به خبر التواتر. [مسألة إخباره عن أبوة صبي والشهادة بمجرد السماع] ] : وإن سمع رجلا يقول لصبي صغير مجهول النسب: هذا ابني، وكان الصبي ممن يجوز أن يكون ابنا له، أو سمع رجلا مجهول النسب يقول لرجل: هذا أبي، فسمعه الأب وسكت وهو ممن يجوز أن يكون ابنا له.. جاز له أن يشهد بذلك النسب؛ لأن سكوت الأب بمنزلة إقراره، والإقرار جهة يثبت بها النسب. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يشهد بالنسب حتى تتكرر الدعوى من أحدهما والسكوت من الآخر، وليس بشيء. وإن كذبه الأب.. لم يجز له أن يشهد؛ لأن النسب لا يثبت مع التكذيب. [فرع تصرف شخص بدار كهدم ونحوه والشهادة له بالملك] ] : إذا رأى رجل دارا في يد رجل يتصرف فيها بالهدم والبناء والإعارة والإجارة.. فله أن يشهد له بها باليد، وهل يجوز له أن يشهد له بملكها؟ ينظر في المدة التي رآها في يده: فإن كانت قليلة - قال الشيخ أبو حامد: كالشهر والشهرين - فليس له أن يشهد له

فرع الشهادة على النكاح والوقف والعتق والولاء بمجرد الاستفاضة

بملكها بلا خلاف على المذهب. وإن كانت في يده مدة طويلة.. فهل يجوز له أن يشهد له بالملك؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يجوز؛ لأن اليد تدل على الملك، والتصرف يقوي ذلك، فجازت الشهادة بالملك لأجله. و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا يجوز. وقال الشيخ أبو حامد: وهو الأشبه؛ لأن اليد قد تكون بملك وغير ملك، فلا يجوز له أن يشهد له بالملك بمجرد اليد. وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يشهد بالملك في المدة القليلة والطويلة) . ودليلنا عليه: ما مضى. [فرع الشهادة على النكاح والوقف والعتق والولاء بمجرد الاستفاضة] ] : واختلف أصحابنا في أربعة أشياء، هل تجوز الشهادة عليها بالاستفاضة؟ وهي: النكاح، والوقف، والعتق، والولاء. فقال أبو إسحاق: لا يجوز - وهو اختيار الشيخ أبي حامد - لأنها شهادة على عقد، فلم تجز بالاستفاضة، كالشهادة على البيع. وقال أبو سعيد الإصطخري: يجوز - وبه قال أحمد، وهو اختيار ابن الصباغ - لأن الناس يقولون: عائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونافع مولى ابن عمر، وإن لم يعاينوا ذلك، وإنما حصل لهم معرفة ذلك بالسماع والاستفاضة، كما حصل لهم العلم بأن فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدل على أن ذلك جائز. ولأن الشهادة بهذه الأشياء ليست بشهادة بالعقود، وإنما هي شهادة بالملك الحاصل بتلك العقود، فهي بمنزلة الشهادة على الملك. ولأن هذه الأشياء تتأبد ويموت شهودها، فلو لم تجز الشهادة فيها بالاستفاضة.. أدى إلى ضياعها. وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز في الولاء إذا اشتهر، مثل: عكرمة مولى ابن عباس. وقال أبو حنيفة وأصحابه: (يجوز في النكاح والدخول؛ لأن ذلك يستفيض في الناس) . دليلنا عليهم: ما مضى.

مسألة تحمل الشهادة لمن ليس من أهل أدائها

[مسألة تحمل الشهادة لمن ليس من أهل أدائها] مسألة: [يجوز تحمل الشهادة لمن ليس من أهل أدائها] : يجوز لمن ليس من أهل أداء الشهادة أن يتحملها، كالصبي والعبد والفاسق والكافر؛ لأن الاعتبار في الحكم بالشهادة حال الأداء لا حال التحمل كالصبي، فلم يعتبر حال الشاهد حال التحمل. وإن رأى الشاهد رجلا قتل إنسانا، أو أتلف عليه مالا، أو تبايع رجلان عند رجل وسمعهما.. جاز أن يشهد عليهما وإن لم يشهداه. وكذلك: لو حضر رجل عند رجلين فتبايعا أو تحاسبا عنده وقالا له: لا تشهد علينا.. فله أن يشهد عليهما؛ لأن الاعتبار بحصول العلم للشاهد بالذي يشهد به، والعلم قد حصل له، فجاز له أن يشهد. وإن أقر رجل بحق عند رجل ولم يشهده على نفسه.. فهل له أن يشهد عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له أن يشهد عليه، كما لو سمعه يشهد بحق مطلق، فلا يجوز له أن يشهد على شهادته من غير أن يستدعيه. والثاني: يجوز له أن يشهد عليه، وهو المشهور؛ لأن العلم قد حصل له بذلك، بخلاف الشهادة على الشهادة؛ فإنه يجوز أن يكون شهد عليه بحق وعده به. [فرع شهادة المختفي] ] : وتقبل شهادة المختفي عندنا؛ وهو: أن يكون لرجل عند رجل حق يقر له به في الباطن ويجحده في الظاهر، فأحضر من له الحق شاهدين وأخفاهما في موضع، وأحضر من عليه الحق وسأله أن يقر له بما عليه فيما بينه وبينه ولم يعلم المقر بالشاهدين، فأقر له بالحق والشاهدان ينظران إلى المقر ويسمعان إقراره.. فيجوز لهما أن يشهدا عليه بإقراره. وبه قال ابن أبي ليلى وأبو حنيفة. وقال شريح والشعبي والنخعي: لا تقبل شهادتهما.

مسألة شهادة الأعمى

وقال مالك: (إن كان المشهود عليه جلدا باطشا لا يمكن أن يخدع ليقر.. صح تحمل الشهادة عليه بذلك، وإن كان ضعيفا يمكن أن يخدع بالإقرار.. لم يصح تحمل الشهادة عليه) . هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: مذهب مالك: (أنه لا تقبل شهادة المختفي بكل حال) وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم. والمشهور من المذهب هو الأول؛ لأن طريق تحمل الشهادة حصول العلم للشاهد، وقد حصل له العلم بما شهد به فقبلت شهادته، كما لو شهد المختفي بالقتل والغصب.. فإنه يقبل بلا خلاف. وإذا ثبت هذا: فالمستحب للشاهدين المختفيين أن يظهرا للمقر ويخبراه بأنا قد شهدنا على إقرارك؛ حتى لا يكذبهما فيعذر لأجل ذلك. [مسألة شهادة الأعمى] ] : كل موضع قلنا: لا يصح تحمل الشهادة إلا بمشاهدة المشهود عليه؛ كالشهادة على القتل والغصب والزنى وما أشبه ذلك.. فلا يجوز أن يكون الأعمى شاهدا في ذلك بلا خلاف؛ لأن العلم في هذه الأشياء يحصل من طريق حاسة النظر، والنظر معدوم منه. وأما الأشياء التي يحصل بها العلم للشاهد من طريق الاستفاضة؛ كالشهادة على النسب والموت والملك المطلق.. فهل يصح للأعمى أن يتحمل الشهادة في ذلك في حال العمى ويؤديها به؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال أكثر أصحابنا: يصح أن يتحمل الشهادة في ذلك في حال العمى، ويشهد به؛ لأن العلم يحصل له بذلك من طريق السماع، والأعمى كالبصير في السماع. و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح ذلك منه - وهو اختيار ابن الصباغ وقول أبي حنيفة - لأنه لا يصح له تحمل الشهادة بالسماع إلا ممن تعرف عدالته، والأعمى لا يمكنه معرفة العدل بالمشاهدة، فلم يجز أن يتحمل الشهادة عن قول من لا يعرفه.

فرع تحمل الأعمى شهادة قول أو فعل أو مضبوط ثم عمي

وأما ما لا يحصل العلم به للشاهد إلا بمشاهدة المشهود عليه وسماع قوله، كالشهادة على البيع وغيره من العقود.. فلا يصح أن يكون الأعمى شاهدا في شيء من ذلك. وبه قال علي بن أبي طالب، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وسوار القاضي، وعثمان البتي. وذهبت طائفة إلى: أنه إذا عرف العاقد وميزه عن غيره.. صح أن يكون شاهدا في هذه الأشياء - وهو قول ابن عباس، وشريح، وعطاء، والزهري، وربيعة، ومالك، والليث، والمزني - كما يجوز أن يستمتع بامرأته إذا عرف صوتها. قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون إذا ألف وعرف صوت العاقدين: أنه يجوز له أن يشهد عليه بذلك، كما قال أصحابنا في شهادته بما ثبت بالاستفاضة. والمشهور هو الأول؛ لأنها شهادة على عقد عدم فيه رؤية العاقد، فلم يصح كما لو كانت الشهادة على العقد بالاستفاضة، ويخالف وطء امرأته؛ لأن أمر الوطء يخالف الشهادة؛ ولهذا قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا لمس امرأة فعرف أنها امرأته بعلامة فيها.. حل له وطؤها وإن لم يسمع صوتها) وتحمل الشهادة بمثل ذلك لا يصح. وقال أصحابنا: ولو أن رجلا تزوج امرأة فزفتها إليها امرأة وقالت له: هذه زوجتك.. حل له وطؤها. ومثل هذا في الشهادة لا يجوز، فدل على: أن الوطء أوسع من الحكم في الشهادة. [فرع تحمل الأعمى شهادة قول أو فعل أو مضبوط ثم عمي] وغير ذلك] : وإن تحمل الشهادة على رجل بالفعل أو بالقول هو مبصر، ثم عمي وأراد أن يؤدي الشهادة، فإن كان يعرف المشهود عليه بعينه واسمه ونسبه.. جاز أن يشهد عليه عند الحاكم. وإن كان لا يعرفه إلا بعينه، وهو خارج عن يده حال الأداء.. لم يجز أن يشهد عليه.

مسألة كيفية أداء الشهادة في النكاح والرضاع

وقال أبو حنيفة: (إذا تحمل الشهادة وهو بصير ثم عمي.. بطلت شهادته، سواء كان يعرف المشهود عليه بعينه أو باسمه أو نسبه) . دليلنا: أن البصر معنى لا يزول التكليف بزواله، فلم يمنع زواله من أداء الشهادة على من يعرفه باسمه ونسبه، كحاسة السمع. وأما شهادة الأعمى على المضبوط وهو: أن يشهد رجل بصير على رجل لا يعرفه إلا بعينه بفعل أو قول، وأمسكه الشاهد بيده، ثم عمي الشاهد وجاء به إلى الحاكم، فشهد عليه بما فعل أو سمع، أو وضع رجل فاه على أذن الأعمى فأقر لرجل بشيء معروف، أو طلق امرأته، أو وضع الأعمى يده على رأسه وضبطه إلى أن أتى به إلى الحاكم فشهد عليه بما سمع منه.. فتقبل شهادته في ذلك ويحكم بها. حكى المسعودي [في " الإبانة "] في ذلك وجها آخر: أن شهادته في ذلك لا تقبل، وبه قال أبو حنيفة. والمنصوص هو الأول؛ لأنه شهد بذلك على علم. وتقبل شهادة الأعمى في الترجمة؛ لأنه يعبر بما سمعه عند الحاكم. وإن شهد البصير بشهادة عند الحاكم، فقبل أن يحكم بها الحاكم عمي الشاهد.. لم تبطل شهادته. وقال أبو حنيفة: (تبطل) . دليلنا: أن ذهاب بصره لا يورث شبهة في شهادته، فلم تبطل شهادته، كما لو ذهب سمعه. [مسألة كيفية أداء الشهادة في النكاح والرضاع] ] : قد مضى الكلام في تحمل الشهادة، وأما الكلام في أدائها.. فينظر في الشاهد: فإن شهد في النكاح.. فلا بد أن يقول: أشهد أنه نكحها من ولي مرشد بلفظ الإنكاح أو التزويج، وقبل الزوج على الفور؛ لأن الناس يختلفون فيما ينعقد به النكاح، والنظر في ذلك إلى الحاكم.

مسألة كيفية أداء الشهادة في الجناية

ومن شهد بالرضاع.. لم تقبل شهادته حتى يشهد: أنه ارتضع من لبنها، أو سقي من لبنها، وله دون الحولين خمس رضعات متفرقات، ووصل اللبن في كل مرة إلى جوفه؛ لأن الناس يختلفون في الرضاع الذي يثبت به التحريم، فلم يكن بد من ذكر ذلك ليحكم الحاكم فيه باجتهاده. فإن قيل: كيف اعتبرتم في الشهادة وصول اللبن إلى الجوف والشاهد لا يعلم ذلك مشاهدة؟ قلنا: إنما يعتبر علم الشاهد فيما يشهد به مشاهدة فيما يمكن مشاهدته، وأما ما لا يمكن مشاهدته.. فإنما يعتبر علم الشاهد فيه من طريق الظاهر، فمتى علم الشاهد أن المرأة ذات لبن ورأى الصبي التقم ثديها وحرك شفتيه فامتصه وقتا يعلم أن اللبن يصل إلى جوفه.. فقد حصل له العلم بذلك من طريق الظاهر. فإن شهدت أمه أو أخته من الرضاع، أو أن بينهما رضاعا يحرم.. لم يحكم بهذه الشهادة؛ لجواز أن تعتقد التحريم بما لا يقع به التحريم عند الحاكم. وإن رأى امرأة أدخلت صبيا تحت ثيابها، وسمعه يمتص شيئا.. لم يجز له أن يشهد بالرضاع؛ لجواز أن تكون قد أعدت له شيئا فيه لبن من غيرها على هيئة الثدي، فسمع الصبي يمتص ذلك. [مسألة كيفية أداء الشهادة في الجناية] وإن شهد الشاهدان في الجناية.. فلا تقبل شهادتهما في إثبات القصاص إلا مع زوال الشبهة في لفظهما. فإن كانت الشهادة بالقتل، فقالا: نشهد أنه ضربه بالسيف فمات، أو فوجدناه ميتا.. لم يثبت القتل بهذه الشهادة؛ لجواز أن يكون ضربه فمات بسبب آخر. فإن قالا: ضربه بالسيف فمات منه، أو ضربه بالسيف فقتله.. ثبت القتل بشهادتهما؛ لأنهما قد صرحا بإضافة القتل إليه. فإن قالا: ضربه بالسيف فأنهر دمه ومات مكانه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يثبت القتل بشهادتهما؛ لأنه قوله: فأنهر دمه يبين أنه مات منه) . وإن كانت الشهادة بالجراح، فإن قالا: ضربه بالسيف فاتضح رأسه، أو فوجدناه

موضحا.. لم تثبت الموضحة بشهادتهما؛ لأنه قد يضربه بالسيف ولا يوضحه، ثم تتضح رأسه بعد ضربه. وإن قالا: ضربه بالسيف فأوضحه، أو قالا: ضربه بالسيف فاتضح رأسه منه، أو فوجدناه موضحا من ضربه.. تثبت الموضحة بشهادتهما؛ لأنهما قد أضافا الإيضاح إليه. ولا بد أن ينعتا الموضحة ليجب القصاص فيها. فإن كان في رأسه موضحتان.. احتاج الشاهدان إلى بيان الموضحة التي شهدا أنه أوضحه إياها، فإن قالا في شهادتهما: أوضحه في موضع كذا من رأسه قدرها كذا وكذا.. قبلت شهادتهما. وإن قالا: أوضحه موضحة لا نعلم موضعها ولا قدرها.. لم يجب القصاص؛ لأنه يتعذر مع الجهالة بها، ويجب له أرش الموضحة. وإن قالا: ضربه بالسيف فسال دمه.. لم تقبل شهادتهما في الدامية؛ لأنهما لم يضيفا إسالة الدم إليه. وإن قالا: ضربه بالسيف فأسال دمه، أو فسال دمه من ضربه.. ثبتت الدامية بشهادتهما؛ لأنهما أضافا إسالة الدم إليه. وإن قالا: ضربه بالسيف فأسال دمه ومات.. لم يثبت القتل بشهادتهما؛ لأنهما لم يضيفا القتل إليه. وإن قالا: ضربه بالسيف فأسال دمه فمات منه.. تثبت شهادتهما بالقتل؛ لأنهما أضافا القتل إليه. وإن قالا ضربه بالسيف فأسال دمه ومات مكانه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لم يثبت القتل بشهادتهما) . والفرق بين هذه وبين قوله: (فأنهر دمه ومات مكانه) حيث قلنا: يثبت القتل بشهادتهما.. أن إنهار الدم يكون منه الموت في العادة، وسيلان الدم لا يكون منه الموت في العادة. وإن قالا: ضربه فأسال دمه، فوجد في رأس المجروح موضحة.. لم يلزم المشهود عليه القصاص في الموضحة ولا أرشها؛ لأنهما لم يضيفا الإيضاح إليه، ويجوز أن يكون أوضحه غير الجاني.

فرع شهدا أنه قطع يد رجل مقطوع اليدين ولم يعينا اليد

[فرع شهدا أنه قطع يد رجل مقطوع اليدين ولم يعينا اليد] ] : وإن قالا: نشهد أنه قطع يده، ولم يعينا اليد، وكان المشهود عليه مقطوع اليدين، فإن طلب المجني عليه القصاص.. لم يكن له ذلك؛ لأن الشاهدين لم يعينا اليد. وإن طلب دية اليد.. كان له؛ لأن ديتهما لا تختلف. [فرع شهدا أنه ضربه ملففا فقده نصفين] ] : ولو شهدا أنه ضربه ملففا فقده نصفين، فإن أثبتا الحياة.. فقد ثبت القتل ولا يشترط أن يقولا: ضربه وهو حي، بل يقولان: تلفف وهو حي ثم ضربه.. فإنه يكفي. فإن لم يشهدا بالحياة.. فقد قال في موضع: (يثبت القتل) وقال في موضع: (لا يثبت) واختلف أصحابنا الخراسانيون: فمنهم من قال: فيه قولان. أحدهما: يثبت القتل؛ لأن الأصل حياة المضروب. والثاني: لا يثبت؛ لأن الأصل براءة ذمة الضارب. ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين: فإن كان ملففا في ثياب الأموات.. فلا يثبت القتل. وإن كان ملففا في ثياب الأحياء.. ثبت القتل. والأول أصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص على: (أنه لو هدم بيتا على جماعة فاختلفوا، هل كانوا أحياء؟ على قولين) . وأصل هذا اعتراض الأصل والظاهر، فإذا قلنا: القول قول الولي.. حلف ويستحق الدية ولا يجب القصاص بيمينه. وقال القاضي أبو الطيب: ينبغي أن يكون في القصاص قول آخر، كما قلنا في (القسامة) . قال ابن الصباغ: ويمكن عندي أن يفرق بينهما: بأن القسامة تتكرر فيها الأيمان وفي مسألتنا يمين واحدة.

مسألة أسئلة يوجهها الحاكم للشهود عن ملابسات الزنى

[مسألة أسئلة يوجهها الحاكم للشهود عن ملابسات الزنى] ] : وإن شهد أربعة على رجل بالزنى.. سألهم الحاكم عن أربعة أشياء: عمن زنى بها، وعن كيفية الزنى، وعن المكان الذي زنى به، وعن الزمان. فأما سؤاله (عمن زنى بها) : فلأنهم قد يرونه يطأ جارية ولده، أو جارية مشتركة بينه وبين غيره فيعتقدون أن ذلك زنى وليس ذلك بزنى، أو يرونه على بهيمة فيعتقدون أن ذلك زنى ولا يعتقده الحاكم زنى. فإن ذكروا أنه وطئ امرأة أجنبية.. سألهم (عن كيفية الزنى) ؛ لأنه قد يطؤها فيما دون الفرج أو يقبلها أو يلمسها، وقد يقع عليه اسم الزنى ولا يجب به الحد. فإن قالوا: رأيناه أدخل ذكره في فرجها.. فهذا هو التصريح بالزنى، وإن قالوا مع ذلك: مثل المرود في المكحلة والرشاء في البئر.. فهو آكد؛ والدليل عليه: ما روى أبو هريرة: «أن ماعز بن مالك الأسلمي شهد على نفسه عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أصاب امرأة أجنبية حراما أربع مرات، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرض عنه، فلما كان في الخامسة.. قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنكتها؟ " قال نعم، قال: " حتى دخل ذلك منك في ذلك منها مثل المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟ " قال: نعم، فقال له: " أتعرف الزنى؟ " قال: نعم، قال: " وما هو؟ " قال: هو أن ينال الرجل من امرأة حراما مثل ما ينال من امرأته حلالا، فلما ذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما تريد؟ " قال: طهرني، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجمه» . فاستفسر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإقرار حتى أتى بالصريح الذي لا يحتمل غير الزنى، فإذا وجب ذلك في الإقرار.. فلأن يجب في الشهادة أولى. ولما روي: (أن أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد وزيادا لما شهدوا على المغيرة عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.. صرح أبو بكرة ونافع وشبل بالزنا عليه، وأتى زياد ليشهد فقال عمر: إنك شاب، وأرجو أن لا يفضح الله على يديك رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال زياد: رأيت استا تنبو ونفسا تعلو، ورأيت رجليها على كتفيه كأنهما أذنا حمار، ولا أدري ما وراء ذلك، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (الله

فرع يشهد في السرقة والردة على أمور

أكبر) ، ودرأ الحد عن المغيرة وجلد الثلاثة وإنما لم يجلد المغيرة؛ لأن زيادا لم يصرح بالشهادة في الزنى عليه. الشرط الثالث: أن يسألهم (عن المكان الذي زنى به) ؛ لأنهم قد يختلفون فيدرأ عنه الحد. والشرط الرابع - ذكره ابن الصباغ ولم يذكره الشيخ أبو حامد -: أن يسألهم (عن الزمان) ؛ لأنهم قد يختلفون فيدرأ عنه الحد. إذا ثبت هذا: فقد ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مسائل في ذلك: إحداهن: إذا جاء أربعة ليشهدوا على رجل بالزنى، فصرح ثلاثة في الشهادة بالزنى عليه ولم يصرح الرابع بالزنى عليه.. فلا يحد المشهود عليه؛ لأن البينة لم تكمل عليه ولا يحد الرابع الذي لم يصرح بالزنى؛ لأنه لم يقذفه، وهل يحد الثلاثة؟ فيه قولان. الثانية: إذا شهد أربعة بالزنى على رجل، فسألهم الحاكم عن تفسير الشهادة، فصرح ثلاثة منهم في الشهادة بالزنى عليه، وفسر الرابع ما ليس بزنى.. فلا يحد المشهود عليه؛ لأن البينة عليه بالزنى لم تكمل، ويحد الرابع قولا واحدا؛ لأنه قاذف، وهل يحد الثلاثة؟ على قولين. الثالثة: إذا شهد أربعة على رجل بالزنى، فلما سألهم الحاكم. صرح ثلاثة بالشهادة عليه بالزنى ومات الرابع قبل أن يفسر.. فلا يحد المشهود عليه؛ لأن البينة لم تكمل، ولا يحد الثلاثة قولا واحدا؛ لجواز أن يكون ما شهد به الرابع زنى. الرابعة: إذا شهد أربعة بالزنى، ثم استفسرهم الحاكم ففسروا ما ليس بزنى.. فلا يحد المشهود عليه؛ لأنهم لم يصرحوا بالزنى عليه، ويحد الشهود قولا واحدا؛ لأنهم قذفة. الخامسة: إذا لم يشهدوا بالزنى وإنما عرضوا بالشهادة به.. فلا يحد المشهود عليه؛ لأن ما شهدوا به ليس بزنى، ولا يحد الشهود؛ لأنهم لم يقذفوه بالزنى. [فرع يشهد في السرقة والردة على أمور] ] : ومن شهد بالسرقة.. فيشترط في وجوب القطع على السارق أن يذكر الشاهدان:

فرع يتعرض للشهود بالتوقف من قبل الحاكم

السارق، والمسروق منه، والحرز، والنصاب، وصفة السرقة؛ لأن الناس مختلفون في ذلك. وإن شهد شاهدان على رجل بالردة.. اشترط أن يذكرا ما سمعا منه؛ لاختلاف الناس فيما يصير به مرتدا. [فرع يتعرض للشهود بالتوقف من قبل الحاكم] ] : وهل يجوز للحاكم أن يعرض للشهود في حدود الله بالتوقف عن الشهادة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن فيه قدحا بالشهادة. والثاني: يجوز؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عرض لزياد في التوقف عن الشهادة على المغيرة ولم ينكر عليه أحد من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولأنه يجوز للحاكم أن يعرض للمقر في التوقف عن الإقرار بذلك، فجاز له التعريض للشاهد بالتوقف. فإن قيل: كيف ساغ لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يعرض لزياد في التوقف عن الشهادة لدرء الحد عن المغيرة، وفي ذلك إيجاب الحد على الثلاثة الشهود الذين صرحوا بالزنا قبله؟ قيل: إنما ساغ له ذلك لثلاثة معان: أحدها: أن الحد الذي كان يجب على المغيرة الرجم، وفيه إتلاف النفس، والحد الذي يجب على الشهود هو حد القذف وليس فيه إتلاف النفس، فجاز دفع أعظم الضررين بأخفهما. والثاني: أن الثلاثة الذين شهدوا على الزنى تركوا أمرا مندوبا إليه؛ وهو الستر؛ بدليل: «أن ماعزا لما ذكر لهزال أنه زنى، فقال له: بادر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن ينزل الله عز وجل فيك قرآنا، فلما أتى ماعز رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخبره بقول هزال.. قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هلا سترته بثوبك يا هزال» فلما خالفوا المندوب.. غلظ عليهم. والثالث: أن سكوت الرابع عن الشهادة لم يسقط به الحد عن المشهود عليه؛ لأنه لم يجب بعد، فلم يجب به الحد على الثلاثة؛ لأن الحد إنما وجب عليهم بقولهم. والله أعلم

باب الشهادة على الشهادة

[باب الشهادة على الشهادة] الشهادة على الشهادة جائزة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] ، ولم يفرق بين الإشهاد على أصل الحق أو على شهود الحق. ولأن الشهادة في الأصل إنما جوزت للحاجة إليها، وهو الاستيثاق بالحق؛ لأن من عليه الحق قد يموت أو يغيب أو يجحد، وكذلك شاهد الأصل قد يغيب أو يموت أو يمرض، فدعت الحاجة إلى الإشهاد عليه للتوثيق. إذا ثبت هذا: فالحقوق على ضربين: حقوق الله، وحقوق الآدميين. فأما (حقوق الآدميين) : فتقبل الشهادة على الشهادة في جميعها، كالمال والنكاح والطلاق والرجعة وحد القذف والقصاص وغير ذلك. وقال أبو حنيفة: (لا تقبل الشهادة على الشهادة في القصاص، وتقبل في غيره من حقوق الآدميين) . قال المسعودي [في " الإبانة "] : وهو قول مخرج لنا من الشهادة على الشهادة في حقوق الله تعالى، وليس بمشهور. والدليل على أن الشهادة على الشهادة في هذا تقبل: لأنه حق آدمي فقبلت فيه الشهادة على الشهادة، كالمال. ولأن الشهادة على الشهادة إنما جوزت للاستيثاق وهذا المعنى موجود في القصاص وغيره من حقوق الآدميين. وأما (حقوق الله تعالى) : فذكر الشيخ أبو إسحاق: أن الشهادة على الشهادة يقبل منها فيما لا يسقط بالشبهة. ولعله أراد الشهادة على هلال رمضان للصوم وهلال ذي الحجة للحج، والشهادة على الزكاة فيما يتعلق من الأحكام بالشهادة فيها. وأما حقوق الله تعالى التي تسقط بالشبهة؛ وهي: حد الزنى وحد السرقة وحد قطع

مسألة الحالات التي تقبل فيها شهادة الفرع بدل شهادة الأصل

الطريق وحد الخمر.. فهل تقبل فيه الشهادة على الشهادة؟ فيه قولان: أحدهما: لا تقبل فيه - وبه قال أبو حنيفة - لأنه مندوب إلى سترها، وفي الشهادة على الشهادة فيها إبانتها فلم تصح. والثاني: تقبل - وبه قال مالك، واختاره الشيخ أبو حامد - لأن كل ما يثبت بالشهادة.. يثبت بالشهادة على الشهادة، كحقوق الآدميين. وما قاله الأول يبطل.. بأصل الشهادة؛ فإن لها مدخلا في هذه الحقوق وإن كانت تراد للاستيثاق. قال ابن القاص: وفي الشهادة على الشهادة في إحصان من ثبت عليه الزنى قولان، كالشهادة على الشهادة في حد الزنى، قلته تخريجا. ويجوز الشهادة على الشهادة بأن الحاكم قد حد فلانا - قولا واحدا - لأن هذا حق لآدمي؛ لأنه يسقط به عنه الحد. وكل حق قبلت فيه الشهادة على الشهادة.. قبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وكل حق لا تقبل فيه الشهادة على الشهادة.. لا يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي؛ لأن الكتاب لا يثبت إلا بتحمل الشهادة من جهة القاضي الكاتب، فكان كالشهادة على الشهادة. [مسألة الحالات التي تقبل فيها شهادة الفرع بدل شهادة الأصل] إذا شهد شاهدان على شهادة رجل بحق.. فلا يجوز للحاكم أن يسمع شهادة شاهدي الفرع مع حضور شاهدي الأصل؛ لأن على الحاكم أن يبحث عن عدالة شاهدي الفرع وشاهدي الأصل، وإذا أمكنه سماع شهادة شاهدي الأصل.. استغنى عن البحث عن عدالة شاهدي الفرع.

وإن مات شاهد الأصل أو غاب أو مرض مرضا يشق عليه معه الوصول إلى مجلس الحاكم، أو كان محبوسا في موضع لا يقدر على الوصول إلى مجلس الحاكم.. جاز للحاكم سماع شهادة شاهدي الفرع عليه والحكم بها. وقال الشعبي: لا تسمع شهادة شاهدي الفرع إلا إذا مات شاهد الأصل. دليلنا: أنه قد تعذر حضور شاهد الأصل، فجاز سماع شهادة شاهدي الفرع والحكم بها، كما لو مات شاهد الأصل. واختلف أصحابنا في حد غيبة شاهد الأصل التي يجوز فيها سماع شهادة شاهدي الفرع والحكم بها: قال بعضهم: هو أن يكون شاهد الأصل في موضع من موضع الحاكم لو حضر منه إلى مجلس الحكم وأقام الشهادة فيه.. لم يمكنه أن يأوي في الموضع الذي خرج منه، فأما بدون ذلك.. فلا تقبل فيه شهادة شاهدي الفرع على شاهد الأصل - وبه قال أبو يوسف - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] ، وفي تكليف الشاهد سفر يوم إلى الليل إضرار به. وقال القاضي أبو الطيب: إذا كان بين الشاهد وموضع الحاكم مسافة القصر.. جاز سماع شهادة شاهدي الفرع، وإن كان بينهما أقل من ذلك.. لم يجز سماع شهادة شاهدي الفرع - وبه قال أبو حنيفة، إلا أن مسافة القصر عنده: ثلاثة أيام، وعندنا: يومان - لأن ما دون مسافة القصر في حكم الحضر. وقال الشيخ أبو حامد: لا يعتبر في ذلك حد، وإنما يعتبر خوف المشقة غالبا، فإن كان شاهد الأصل لا تلحقه مشقة غالبا في الحضور.. لم تسمع شهادة شاهدي الفرع عليه، وإن كان يلحقه مشقة غالبا في الحضور.. سمعت شهادة شاهدي الفرع عليه. وقوله قريب من الوجه الأول إلا أنه غير محدود عنده.

مسألة شهادة النساء في الشهادة على الشهادة

[مسألة شهادة النساء في الشهادة على الشهادة] ] : ولا تقبل في الشهادة على الشهادة، ولا في كتاب القاضي إلى القاضي شهادة النساء في جميع الحقوق. وقال أبو حنيفة: (إن كان الحق مما تقبل فيه شهادة النساء على أصل الحق.. قبل فيه شهادة النساء) إلا أن عندنا لا تقبل شهادة النساء فيما ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال، وعنده تقبل شهادتهن في ذلك، وقد مضى الدليل عليه. والدليل على صحة قولنا هاهنا: أن الشهادة على الشهادة ليست بمال ولا المقصود منها المال، وإنما هي إثبات قول الشاهد وذلك مما يطلع عليه الرجال، فلم يكن فيه للنساء مدخل، كالقصاص والحدود. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: إن كان المشهود به مالا يثبت بشاهد وامرأتين.. قبل. وليس بشيء. [مسألة عدد شهود الفرع على الأصل] وأما عدد شهود الفرع: فإن كان عدد شهود الأصل شاهدين، فشهد شاهدان على شهادة أحد الشاهدين، ثم يشهد شاهدان آخران على شهادة الشاهد الآخر.. ثبتت شهادة شاهدي الأصل بالإجماع؛ لأن قول كل واحد منهما قد ثبت بشاهدين. وإن شهد على شهادة كل واحد من شاهدي الأصل شاهد واحد.. لم تثبت شهادة الأصل ولا أحدهما عندنا. وبه قال شريح والشعبي، والنخعي، وربيعة، ومالك، والثوري، وأبو حنيفة. وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وعثمان البتي، وعبيد الله بن الحسن العنبري، وإسحاق: تثبت شهادة شاهدي الأصل. دليلنا: أن الشهادة على الشهادة ليست بمال ولا المقصود منها المال، وإنما هي إثبات قول الشاهد، فلا يثبت قول الشاهد إلا بشاهدين، كالشهادة على الطلاق.

وإن شاهد شاهدان على شهادة أحد شاهدي الأصل، ثم شهدا على شهادة شاهد الأصل الثاني.. ففيه قولان: أحدهما: لا يثبتان شهادة شاهدي الأصل، وإنما يثبتان شهادة أحدهما - وهو اختيار المزني - لأن من ثبت به أحد طرفي الشهادة.. لا يجوز أن يثبت به الطرف الآخر، كما لو شهد رجل بحق وكان أصلا في الشهادة، ثم شهد مع آخر على شهادة أصل آخر.. فإنه لا يقبل، فكذلك هذا مثله. والثاني: يثبتان شهادة شاهدي الأصل - وبه قال ربيعة ومالك وأبو حنيفة، وهو الأصح - لأنهما شهدا على قول اثنين فقبلا، كما لو شهدا على إقرار رجلين. ويخالف إذا شهد بشهادة وكان أصلا فيها، ثم شهد مع آخر على شهادة آخر.. فإنها لا تقبل؛ لأنه يجر بشهادته الثانية إلى نفسه نفعا؛ وهو تصديق شهادته الأولى. إذا ثبت هذا: فقال الشيخ أبو حامد: أصل هذين القولين: هل شهود الفرع يقومون مقام شهود الأصل، ويثبت الحق بشهادة شهود الفرع كما يثبت بشهادة شهود الأصل، أو لا يقومون مقام شهود الأصل وإنما يثبتون شهادة شهود الأصل، ولا يثبت الحق إلا بشهادة شهود الأصل دون شهود الفرع؟ وفيه قولان. فإن قلنا: إن شهود الفرع يقومون مقام شهود لأصل.. فلا بد أن يقوم مقام كل واحد من شاهدي الأصل شاهدان منفردان. وإن قلنا: إنهم لا يقومون مقام شهود الأصل، وإنما يثبتون شهادة شهود الأصل.. جاز أن يشهد على شهادة شهود الأصل شاهدان. قال ابن الصباغ: ولا معنى لقوله: إنهم يقومون مقام شهود الأصل، ويثبت الحق بشهادة شهود الفرع؛ لأنهم لا يشهدون بالحق وإنما يثبتون شهادة شهود الأصل، ولو قاموا مقامهم.. لقام كل واحد منهم مقام واحد.

فرع شهدا على شهادة رجل أو بدار لرجل ثم شهدا ضدها

فإن كان شهود الأصل شاهدا وامرأتين، فإن قلنا: إن قول كل واحد من الشاهدين لا يثبت إلا بشاهدين.. لم يثبت قول كل واحد من هؤلاء إلا بشاهدين، فيفتقر إلى ستة شهود. وإن قلنا: إن قول الشاهدين معا يثبت بقول شاهدين.. ثبت قول الرجل والمرأتين بشاهدين أيضا. وإن كان شهود الأصل أربع نسوة في الرضاع والولادة، فإن قلنا: إن قول كل واحد من شاهدي الأصل لا يثبت إلا بشاهدين.. لم يثبت قول كل واحدة من النساء إلا بشاهدين. وإن قلنا: يثبت قول الشاهدين بشاهدين.. ثبت قول الأربع بشاهدين. [فرع شهدا على شهادة رجل أو بدار لرجل ثم شهدا ضدها] ] : وإن شهد شاهدان على شهادة رجل: أن هذه الدار لزيد، ثم شهدا على شهادة رجل آخر: أن هذه الدار بعينها لعمرو.. قال الشيخ أبو حامد: قبلا قولا واحدا. فيكون قد ثبت لزيد في الدار شاهد ولعمرو فيها شاهد؛ لأنهما يثبتان قول كل واحد من الشاهدين لواحد ولا تناقض في شهادتهما. وإن شهد شاهدان: أن هذه الدار لزيد، ثم شهدا: أن هذه الدار لعمرو.. كان ذلك تناقضا ورجوعا عن الشهادة الأولى. [فرع إثبات شهادة الشهود على الزنى بالشهادة] وإن أرادا إثبات شهادة الشهود في الزنا بالشهادة، فإن قلنا: إن الحدود لله لا تقبل فيها الشهادة على الشهادة.. فلا تفريع عليه. وإن قلنا: تقبل فيها الشهادة على الشهادة، فإن قلنا: إن قول شاهدي الأصل في غير الزنا يثبت بشاهدين.. ففي القدر الذي يثبت به شهادة شهود الزنا قولان: أحدهما: يثبت قول الأربعة بشاهدين، كما يثبت قول الشاهدين في غير الزنا بشاهدين. فعلى هذا: يكون عدد شهود الفرع أقل من عدد شهود الأصل.

مسألة شهادة شهود الفرع بتعديلهم وتسميتهم لشهود الأصل

والثاني: أنه لا يثبت قول الأربعة إلا بأربعة؛ لأن أصل الحق هاهنا لا يثبت إلا بأربعة فافتقر إلى ذلك العدد في إثبات قول الأربعة، كما أن قول الشاهدين في غير حد الزنا لا يثبت إلا باثنين. وإن قلنا: إن قول كل واحد من شاهدي الأصل في غير الزنا لا يثبت إلا بشاهدين.. فهاهنا قولان. أحدهما: لا يثبت قول كل واحد من الأربعة إلا بشاهدين، كما قلنا في الشاهدين في غير الزنا، فيكون عدد شهود الفرع على هذا ثمانية. والثاني: لا يثبت قول كل واحد من الأربعة إلا بأربعة؛ لأن الحق الذي يثبت بشاهدين لا يثبت قول كل واحد من الشاهدين إلا بالعدد الذي يثبت به أصل الحق، وأصل الحق هاهنا لا يثبت إلا بأربعة، فلم يثبت قول كل واحد من الأربعة إلا بذلك العدد، فيكون عدد شهود الفرع هاهنا ستة عشر، فيحصل في هذه الشهادة على الشهادة في الزنا خمسة أقوال: أحدها: لا يقبل فيها الشهادة على الشهادة. والثاني: يقبل فيها شاهدان على شهادة الأربعة. والثالث: لا يقبل إلا أربعة على أربعة. والرابع: لا يقبل إلا ثمانية في الشهادة على الأربعة. والخامس: لا يقبل إلا ستة عشر على الأربعة. [مسألة شهادة شهود الفرع بتعديلهم وتسميتهم لشهود الأصل] ] : وإذا شهد شهود الفرع على شهود الأصل.. لم يجز الحكم بشهادتهم حتى يعلم الحاكم عدالة شهود الفرع والأصل؛ لأن معرفة عدالة الشهود شرط في الحكم. فإن شهد شهود الفرع على شهادة رجل وسمياه باسم يتميز به عن غيره وعدلاه،

مسألة تحمل الشهادة على الشهادة

وعرف الحاكم عدالة شهود الفرع.. قبل الحاكم شهادتهم في ذلك كله بلا خلاف؛ لأن شهود الفرع غير متهمين في تعديلهم لشاهدي الأصل. وإن قال شهود الفرع: نشهد على شهادة عدلين بكذا ولم يسموهما.. لم يجز الحكم بهذه الشهادة حتى يسموا شاهدي الأصل. وبه قال أكثر أهل العلم، إلا ابن جرير؛ فإنه قال: يحكم بهذه الشهادة. وهذا خطأ؛ لأن الناس يختلفون في تعديل الشهود، وقد يكون شاهدا الأصل عدلين عند شهود الفرع ولا يكونان عدلين عند الحاكم، فلا بد من تسميتهما ليعرفهما الحاكم. ولأن المشهود عليه قد يجرح شهود الأصل، فإذا لم يعرفهما.. لم يمكنه جرحهما. وإن سمى شهود الفرع شاهدي الأصل، ولم يعدلوهما.. فإن الحاكم يسمع هذه الشهادة ويسأل عن عدالة شاهدي الأصل. وبه قال أكثر أهل العلم. وقال الثوري وأبو يوسف: إذا لم يعدلوهما.. لم يسمع الحاكم شهادتهم. دليلنا: أنها شهادة، فجاز سماعها وإن لم يعرف عدالة الشهود، كشهود الأصل. [مسألة تحمل الشهادة على الشهادة] مسألة: [وجوه يصح فيها تحمل الشهادة على الشهادة] : وتحمل الشهادة على الشهادة يصح من وجوه: أحدها: أن يسمع رجلان رجلا يشهد لرجل بحق مضاف إلى سبب يقتضي وجوب الحق؛ مثل أن يسمعه يقول: أشهد أن لفلان على فلان كذا من ثمن مبيع أو أجرة؛ لأنه مع ذكر السبب لا يقتضي غير الوجوب. والثاني: أن يسمع رجلان رجلا يشهد عند الحاكم لرجل بحق على آخر.. فيجوز لهما أن يشهدا على شهادته وإن لم يسترعهما ولا أضاف الحق إلى سبب؛ لأن الشهادة عند الحاكم لا تكون إلا بحق واجب. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وكذلك يجوز لهذا الحاكم أن يشهد على شهادته

عند حاكم آخر إذا عزل. قال: وكذلك: إذا سمع رجلان رجلا يشهد بحق لرجل عند محكم لهما، سواء قلنا: ينفذ حكمه أو لا ينفذ. الثالث: إذا استرعاهما على الشهادة؛ بأن يقول رجل لرجلين: أنا أشهد أن لفلان على فلان كذا، فاشهدا على شهادتي؛ لأن الاسترعاء وثيقة، والوثائق لا تكون إلا على واجب. وحكى ابن الصباغ: أن من أصحابنا من قال: لا بد أن يقول في الاسترعاء: اشهدا على شهادتي وعن شهادتي؛ ليكون إذنا في التحمل والأداء. وهذا كاختلاف أصحابنا في المزكي: هل يحتاج إلى أن يقول: عدل علي ولي، أو يكفيه أن يقول: عدل. وقد حكى المسعودي [في " الإبانة "] عن بعض العلماء ما يوافق هذا، فقال: لا بد أن يقول في الاسترعاء: اشهد على شهادتي إذا استشهدت أنت فاشهد. والأول أصح؛ لأن الغرض زوال الشبهة، وإذا أذن له في التحمل.. فقد زالت الشبهة؛ لأن التحمل للأداء. والرابع - حكاه ابن القاص والمسعودي [في " الإبانة "]-: أن يسمع رجل رجلا يسترعي غيره على شهادة، فيجوز للسامع أن يشهد بها وإن لم يسترعه عليها؛ لأنه لما استرعى غيره.. دل على أنه ما استرعاه إلا على واجب، فجاز له الشهادة عليها، كما لو سمع رجل رجلين يتبايعان.. فله أن يشهد عليهما وإن لم يشهداه. فأما إذا سمع رجلان رجلا يقول: أشهد أن لفلان على فلان كذا غير مضاف إلى سبب ولم يسترعهما، وكان بغير حضور الحاكم.. فلا يجوز لهما أن يشهدا على شهادته بذلك. وعلله الشافعي: (بأنه يحتمل أنه أراد أن ذلك واجب عليه، ويحتمل أنه غير واجب عليه، بل من وعد وعده به، فلم يصح تحمل الشهادة عليه بذلك) . وعلله أصحابنا: أن قوله: (أشهد) يحتمل أنه أراد الشهادة عليه بالحق، ويحتمل أن قوله: (أشهد) أني أعلم ذلك بالسماع، فلم يجز أن يتحمل الشهادة عليه بذلك.

فرع طلب شاهد من اثنين أن يتحملا عنه ما يشهد به

هذا مذهبنا، وقال أبو حنيفة وأصحابه: (لا يجوز أن يتحمل الشهادة على الشهادة إلا أن يسترعيه على الشهادة، وأما بغير ذلك.. فلا يصح) . ودليلنا عليهم: ما مضى. [فرع طلب شاهد من اثنين أن يتحملا عنه ما يشهد به] إذا قال شاهد الأصل لرجلين: اشهدا أني أشهد أن لفلان على فلان كذا.. فلا نص فيه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلا أن أبا حنيفة قال: (لا يشهدان على شهادته إلا أن يقول: اشهدا على شهادتي أني أشهد أن لفلان على فلان كذا؛ لأنه إذا قال لهما: اشهدا أن لفلان على فلان كذا.. فقد أمرهما بالشهادة ولم يسترعهما) . وقال أبو يوسف: يجوز لهما أن يشهدا على شهادته؛ لأن معنى قوله ذلك: اشهدا على شهادتي. قال ابن الصباغ: وهذا أشبه. [فرع طلب الرجل من الآخر أن يشهد بما يخبره به] ] : قال في " الأم ": (إذا قال رجل لآخر: اشهد أن لفلان على فلان كذا، فاشهد عليه بذلك.. لم يصح من الثاني تحمل الشهادة عليه؛ لأنه لم يسترعه على الشهادة) . [مسألة كيفية أداء شهادة شاهد الفرع] ] : وأما كيفية أداء شاهد الفرع: فإنه يؤدي الشهادة ويضيفها إلى الوجه الذي تحملها منه، فإن سمع شاهد الأصل يشهد بحق مضاف إلى سبب.. فإنه يقول: أشهد على شهادة فلان أن لفلان على فلان كذا من ثمن مبيع أو أجرة أو غير ذلك مما سمعه يضيفه إليه. فإن سمعه يشهد عند الحاكم أو المحكم.. ذكر ذلك. وكذلك: إذا استرعاه أو استرعى غيره.. ذكر ذلك في الأداء ليؤدي الشهادة كما تحملها.

مسألة حضور شاهد الأصل قبل الحكم بشهادة الفرع

وإذا أشهده شاهد الأصل عل عين رجل، وشاهد الفرع يعرف عينه ولا يعرف نسبه واسمه.. فإنه لا يشهد إلا على عينه فحسب، وإن كان يعرف اسمه ونسبه.. كان له أن يشهد على اسمه ونسبه. وإن أشهداه على الاسم والنسب، وكان شاهد الفرع لا يعرف عين المشهود له والمشهود عليه.. فإنه يشهد على الاسم والنسب. قال المسعودي [في " الإبانة "] : وكل من جاءه فادعى أنه فلان بن فلان.. فعليه أن يؤدي الشهادة له، ثم ينظر القاضي: فإن أقر الخصم أنه هو.. فلا كلام، وإن تناكرا.. فعلى المدعي إقامة البينة على اسمه ونسبه، فإذا أقام البينة على ذلك.. حكم به. [مسألة حضور شاهد الأصل قبل الحكم بشهادة الفرع] وماذا لو رجع شاهد الأصل عن شهادته وغير ذلك؟] : وإن شهد شاهدان على شهادة رجل عند غيبته أو مرضه، فقبل أن يحكم الحاكم بشهادة شاهدي الفرع حضر شاهد الأصل.. لم يجز الحكم بشهادة شاهدي الفرع حتى يسأل شاهد الأصل؛ لأنه إنما جاز الحكم بشهادة شاهدي الفرع لتعذر سماع الشهادة من شاهدي الأصل وقد قدر عليها، كما لا يجوز التيمم مع وجود الماء. فإن شهد رجلان على شهادة رجل، فقبل أن يحكم الحاكم بشهادتهما رجع شاهد الأصل أو فسق.. فلا يجوز الحكم بشهادتهما؛ لأن شاهد الأصل لو رجع وفسق قبل الحكم بشهادته.. لم يجز الحكم بها، وكذلك شاهد الفرع. وإن خرس شاهد الأصل أو عمي قبل الحكم بشهادة شهود الفرع عليه.. جاز الحكم بشهادة شهود الفرع عليه؛ لأن ذلك لا يؤثر في شهادته. والله أعلم

باب اختلاف الشهود في الشهادة وإذا ادعى رجل على رجل ألفين، وأضاف كل ألف إلى سبب فأنكر، وأقام شاهدين، فشهد أحدهما له بألف مضاف إلى سبب كما ادعى، وشهد الثاني له بالألف الآخر.. لم تتم الشهادة على أحد الألفين، ولكن يحلف مع كل واحد من الشاهدين ويستحق الألفين؛ لأن كل واحد منهما يشهد بغير الذي شهد به الآخر. وكذلك: إذا ادعى عليه ألفين من سكتين، فشهد بكل ألف شاهد.. فإنه يحلف مع كل واحد من الشاهدين يمينا ويستحق الألفين؛ لما ذكرناه. فأما إذا ادعى عليه ألفين بسبب واحد أو أطلق، فشهد له شاهد بألف وشهد له شاهد بألفين، وأضافا إلى السبب الذي أضاف الدعوى إليه أو أطلقا، أو أضاف أحدهما إلى ذلك السبب وأطلق الآخر.. فإن البينة قد تمت على ألف ويحلف مع الشاهد الثاني - الذي شهد بالألفين - ويستحق الألف الثاني. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (لا تتم له البينة على الألف كما لو أضافا إلى سببين مختلفين) . دليلنا: أنهما مالان من نوع واحد غير مضافين إلى سببين مختلفين، فإذا شهد به اثنان.. ثبت الأقل منهما، كما لو شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة.. فإنه وافقنا على ذلك. وإن ادعى على رجل ألفا فأنكره، فأقام شاهدين، فشهد أحدهما له بألف وشهد له الآخر بألفين.. ففيه وجهان: أحدهما: تصح شهادة من شهد له بالألف؛ لأنه شهد له بما ادعاه، وتبطل شهادة من شهد له بألفين؛ لأنه مكذب له.

مسألة شهدوا على رجل بالزنى في بيت واختلفوا في تحديد الزاوية

فعلى هذا: يحلف مع من شهد له بالألف. والثاني: تثبت له الألف التي ادعاها بشهادتهما؛ لأنهما اتفقا عليها، وله أن يحلف مع الذي شهد بالألف الثانية؛ لأنه غير مكذب له؛ لأن من له حق يجوز أن يدعي بعضه ويترك بعضه؛ لعلمه أن من عليه الحق مقر له به، أو يجوز أنه لم يعلم أن هناك من يشهد له به. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن ادعى على رجل ألفا فأنكره، وأقام شاهدين فشهد أحدهما: أنه أقر له بألف، وشهد آخر: أنه أقر له بألف ولكن قضى منها خمسمائة.. ففيه وجهان: أحدهما: تثبت خمسمائة؛ لأن شهادتهما اتفقت عليها. والثاني: لا تثبت؛ لأنهما لم يتفقا على ما يدعيه المدعي. [مسألة شهدوا على رجل بالزنى في بيت واختلفوا في تحديد الزاوية] ] : إذا شهد أربعة على رجل أنه زنى بامرأة في بيت فشهد كل واحد منهم أنه زنى بها في زاوية غير الزاوية لتي شهد الآخر أنه زنى بها، أو شهد اثنان: أنه زنى بها في زاوية، وشهد الآخران: أنه زنى بها في زاوية أخرى.. فإنه لا يجب الحد على المشهود عليه، وهل يجب حد القذف على الشهود؟ على قولين، وقال أبو حنيفة: (القياس: أنه لا يجب الحد على المشهود عليه، ولكن يجب عليه الحد استحسانا) . دليلنا: أن الشهادة لم تتم على فعل واحد، فلم يجب الحد على المشهود عليه، كما لو شهد اثنان: أنه زنى بها في الغداة، وشهد آخران: أنه زنى بها في العشي. [فرع شهد اثنان أنه زنى بالبصرة وشهد آخران أنه زنى بالكوفة] ] : وإن شهد اثنان: أنه زنى بها في البصرة، وشهد آخران: أنه زنى بها في الكوفة.. لم يجب الحد على المشهود عليه، وهل يجب الحد على الشهود؟ على القولين.

فرع اختلفا بأنها كانت مطاوعة أو مكرهة

وقال أبو حنيفة: (لا يجب الحد على الشهود) . ومذهبه: أن الشهود إذا نقص عددهم.. وجب عليهم الحد. قال: (لأن عددهم هاهنا قد كمل فلم يحدوا) . وهذا غلط؛ لأن عددهم لم يكمل على فعل واحد وإنما كمل على فعلين، فهو كما لو نقص عددهم. [فرع اختلفا بأنها كانت مطاوعة أو مكرهة] ] : وإن شهد اثنان على رجل: أنه زنى بامرأة وهي مطاوعة له، وشهد آخران: أنه زنى بها وهي مكرهة.. فلا خلاف أنه لا يجب الحد على المرأة؛ لأن البينة لم تكمل في حقها. وأما الرجل: فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يجب عليه الحد) . وبه قال أبو يوسف. وقال أبو العباس: يجب عليه الحد - وبه قال أبو حنيفة - لأن حكمه إذا طاوعته أو أكرهها لا يختلف. ووجه المذهب: أن البينة لم تكمل على فعل واحد؛ لأن زناه بها وهي مطاوعة غير زناه بها وهي مكرهة، فهو كما لو شهد اثنان: أنه زنى بها في بيت، وشهد آخران: أنه زنى بها في بيت آخر. وأما الشهود: فالذي يقتضي المذهب: أن في وجوب الحد عليهم للمرأة القولين، وأما وجوب الحد عليهم للرجل: فإن قلنا: إنه لا يجب عليه الحد.. كان في وجوب الحد عليهم له القولان. وإن قلنا: يجب عليه الحد.. لم يجب له عليهم حد قولا واحدا. [مسألة ادعى قذفه فأنكر فأقام بينة مختلفة] ] : وإن ادعى رجل على رجل أنه قذفه فأنكر، فأقام المدعي شاهدين، فشهد أحدهما: أنه قذفه بالعربية وشهد الآخر: أنه قذفه بالعجمية، أو شهد أحدهما: أنه قذفه يوم الخميس، وشهد الآخر: أنه قذفه يوم الجمعة.. لم يجب الحد؛ لأن البينة لم تكمل على قذف واحد.

مسألة شهادة واحد أو اثنين على سرقة كبش واختلفوا

وإن شهد أحدهما: أنه أقر بقذفه بالعربية، وشهد الآخر: أنه أقر بالعجمية بقذفه، أو شهد أحدهما: أنه أقر يوم الخميس أنه قذفه، وشهد الآخر: أنه أقر يوم الجمعة أنه قذفه.. وجب الحد؛ لأن المقر به واحد وإن اختلفت العبارة عنه، أو اختلف وقت الإقرار به. [مسألة شهادة واحد أو اثنين على سرقة كبش واختلفوا] في الوقت أو اللون أو العدد] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو شهد: أنه سرق من هذا البيت كبشا لفلان بكرة، وقال الآخر: عشية، أو قال أحدهما: الكبش الأبيض، وقال الآخر: الأسود.. لم يقطع) . وجملة ذلك: أنه إذا شهد رجل: أن فلانا سرق من فلان كبشا غدوة، وشهد الآخر: أنه سرق منه ذلك الكبس عشية، أو شهد أحدهما: أنه سرق منه كبشا أبيض وقت الزوال، وشهد آخر: أنه سرق منه كبشا أسود ذلك الوقت.. فهما شهادتان بسرقتين مختلفتين؛ لأنه لا يمكن أن يسرق كبشا واحدا بالغداة والعشي، ولا يمكن أن يكون أبيض أسود، فلا يجب القطع على المشهود عليه؛ لأن البينة لم تتم على سرقة كبش، ولكن يحلف المشهود له مع أي الشاهدين شاء، ويحكم له بالكبش. وإن شهد رجلان: أنه سرق منه كبشا من صفته كذا وكذا بالغداة، وشهد رجلان آخران: أنه سرق منه ذلك الكبش بعينه بالعشي.. فهما بينتان متعارضتان، فلا يحكم للمشهود له بشيء. والفرق بينها وبين الأولى: أن الشاهدين حجة يثبت بها الحق وقد عارضها مثلها فسقطتا، وفي الأولى: الشاهد الواحد ليس بحجة، فلم يقع فيها تعارض. وإن شهد رجل: أنه سرق منه كبشا بالغداة ولم يصف الكبش، وشهد شاهد آخر: أنه سرق منه كبشا بالعشي ولم يصف الكبش، أو قال أحدهما: إنه سرق منه بالغداة كبشا أبيض، وشهد الآخر: أنه سرق منه بالعشي كبشا أسود.. فهما شهادتان بكبشين، فلا يجب على المشهود عليه القطع؛ لأن البينة لم تتم على كل كبش وللمشهود له أن يحلف مع كل واحد من الشاهدين ويستحق الكبشين.

فرع شهد واحد أو اثنان على رجل سرقة ثوب واختلفوا في لونه أو قيمته

وإن شهد رجلان: أنه سرق منه كبشا بالغداة ولم يصفا الكبش، وشهد شاهدان: أنه سرق منه كبشا بالعشي ولم يصفا الكبش، أو شهد رجلان: أنه سرق منه كبشا أبيض بالغداة، وشهد آخران: أنه سرق منه كبشا أسود بالعشي.. فقد تمت البينتان على سرقتين، فيجب على السارق القطع، ويجب عليه غرم الكبشين. قال الشيخ أبو حامد: وإن شهد شاهد: أنه سرق منه كبشا، وشهد آخر: أنه سرق منه كبشين.. فيجب القطع على السارق إذا كان قيمة كل واحد من الكبشين نصابا؛ لأنه قد شهد بسرقة النصاب شاهدان، وللمشهود له أن يحلف مع الشاهد الثاني، ويجب له ضمان الكبش الثاني. وإن شهد رجلان: أنه سرق منه كبشا، وشهد آخران: أنه سرق منه كبشا.. حكم له بالكبشين؛ لأنه شهد بكل واحد منهما شاهدان، ويجب القطع على المشهود عليه. ومن أصحابنا من صحف وقال: أراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بذلك: كيسا. وهذا خطأ، بل أراد كبشا بالشين المعجمة؛ لأنه قال في " الأم ": (كبشا أقرن) ، والحكم لا يختلف بالكبش والكيس إلا أن الغالب من قيمة الكيس: أنه لا يبلغ نصابا فيجب به القطع. [فرع شهد واحد أو اثنان على رجل سرقة ثوب واختلفوا في لونه أو قيمته] ] : وإن شهد رجل: أنه سرق من رجل ثوبا من صفته كذا وكذا وقيمته ربع دينار، وشهد آخر: أنه سرق منه ذلك الثوب بعينه وقيمته ثمن دينار.. فإن القطع لا يجب على المشهود عليه؛ لأن البينة لم تتم على سرقة ما قيمته نصاب، ويجب على المشهود عليه ثمن دينار؛ لأن الشاهدين قد اتفقا عليه، وللمشهود له أن يحلف مع الشاهد الذي شهد أن قيمته ربع دينار، ويجب له ثمن آخر. وإن شهد رجلان على رجل: أنه سرق من رجل ثوبا من صفته كذا وكذا وقيمته ثمن دينار، وشهد آخران: أنه سرق ذلك الثوب بعينه وقيمته ربع دينار.. فإن القطع

لا يجب على المشهود عليه؛ لأن البينة لم تكمل عليه بسرقة ما قيمته نصاب، ولا يجب على المشهود عليه إلا ثمن دينار، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: (يجب عليه ربع دينار) . وكذلك الخلاف إذا أتلف عليه ثوبا فشهد رجلان: أن قيمته ثمن دينار، وشهد رجلان: أن قيمته ربع دينار.. فإنه لا يجب على المشهود عليه إلا ثمن دينار عندنا، وعند أبي حنيفة يجب عليه ربع دينار. دليلنا: أن الشاهدين اللذين شهدا أن قيمته ثمن دينار نفيا أن تكون قيمته ربع دينار، والشاهدين اللذين شهدا أن قيمته ربع دينار أثبتا الربع، فقد تعارضت البينتان في الثمن الثاني، فسقط وثبت ما اتفقا عليه. وأما إذا شهد رجل: أنه سرق منه ثوبا أبيض قيمته ثمن دينار، وشهد آخر: أنه سرق منه ثوبا أسود قيمته ربع دينار.. فهما شهادتان مختلفتان، فلا يجب القطع على المشهود عليه؛ لأن البينة لم تتم على سرقة ما قيمته نصاب، وللمشهود له أن يحلف مع الشاهدين ويحكم له بثمن دينار وربع دينار. وإن شهد رجلان: أنه سرق منه ثوبا أبيض قيمته ثمن دينار، وشهد آخران: أنه سرق منه ثوبا أسود قيمته ربع دينار.. فهما بينتان تامتان على سرقتين مختلفتين، فيجب له ثمن الدينار وربع الدينار، ويجب القطع على المشهود عليه. فأما إذا شهد شاهد واحد: أنه سرق منه ثوبا قيمته ثمن دينار، وشهد شاهد آخر: أنه سرق منه ثوبا قيمته ربع دينار.. قال الشيخ أبو حامد: والذي يجيء على المذهب: أن الحكم في هذه كالحكم فيه إذا عينا الثوب واختلفا في قيمته، فيثبت له الثمن بشهادتهما، ويحلف مع الشاهد الآخر على ثمن دينار، ولا يجب القطع على المشهود عليه. وإن شهد رجلان: أنه سرق منه ثوبا قيمته ثمن دينار، وشهد شاهدان: أنه سرق

مسألة تقديم الشهادة على الدعوى

منه ثوبا قيمته ربع دينار، لزمه ثمن دينار لا غير، ولا يجب عليه القطع؛ لأنه يحتمل: أنهما شهدا بثوبين مختلفين، ويحتمل: أنهما شهدا بثوب واحد وإنما اختلفا في قيمته، فلم يحكم له إلا بالمتقين وهو ثمن دينار. [مسألة تقديم الشهادة على الدعوى] مسألة: [صور يصح فيها تقديم الشهادة على الدعوى] : وإن شهد رجلان على رجلين أنهما قتلا رجلا، وشهد المشهود عليهما على الشاهدين أنهما قتلاه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (سألت الولي، فإن صدق الأولين وكذب الآخرين.. وجب عليهما القتل ولا يسمع قولهما؛ لأن الولي يكذبهما، ولأنهما يدفعان عن أنفسهما ضررا بشهادتهما. وإن صدق الآخرين وكذب الأولين.. لم يثبت القتل؛ لأنه كذب الأولين فبطلت شهادتهما، والآخران يدفعان ضررا عن أنفسهما بشهادتهما فلم تقبلا. وكذلك: إذا صدق الأولين والآخرين.. بطلت شهادة الجميع؛ لأنه كذب كل واحدة منهما بتصديق الآخرين) . فإن قيل: هذا لا يتصور؛ لأن الشهادة لا تسمع إلا بعد الدعوى، فكيف يسأل الولي بعد شهادتهم؟ واختلف أصحابنا في الجواب: فقال أبو إسحاق: إنما يفتقر إلى الدعوى أن تكون قبل الشهادة إذا كانت الدعوى ممن يعبر عن نفسه، فأما إذا كانت الدعوى لميت أو صغير أو مجنون.. فيصح أن تكون الشهادة سابقة للدعوى، والحق هاهنا للميت؛ لأنه يقضى دينه من ديته وتنفذ منها وصاياه. ومن أصحابنا من قال: يحتمل أن يكون الولي لم يعلم من قتل وليه ولا يعرف من يشهد له بذلك، فيصح أن تتقدم الشهادة على الدعوى. ومنهم من قال: يحتمل أن يكون الولي ادعى على الآخرين القتل، فشهد له الأولان، ثم شهد له الآخران على الأولين، فأورث ذلك شبهة، والشبهة تؤثر في الدم، فاحتاط الحاكم بسؤال الولي لينظر ما يقول.

مسألة شهد شاهد على آخر بقتل عمد وشهد آخر أنه خطأ أو شهدا على إقراره

ومن أصحابنا من قال: إنما يتصور ذلك في وكيلين للولي، ادعى أحدهما القتل على هذين، وادعى الآخر على هذين. [مسألة شهد شاهد على آخر بقتل عمد وشهد آخر أنه خطأ أو شهدا على إقراره] ] : وإن شهد رجل على رجل: أنه أقر بقتل رجل عمدا، وشهد آخر: أنه أقر بقتله خطأ.. فقد تمت البينة على القتل ولم تتم على صفة القتل، فيسأل المشهود عليه، فإن أنكر القتل.. لم يلتفت إلى إنكاره. وإن أقر بقتل العمد.. حكم عليه بموجب قتل العمد بإقراره. وإن أقر بقتل الخطأ وصدقه الولي على ذلك.. وجبت الدية في ماله، وإن كذبه الولي.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل عدم العمد، فإن حلف.. ثبت قتل الخطأ، وإن نكل.. حلف المدعي ويثبت قتل العمد. وإن أقر المشهود عليه بقتل العمد وكذبه الولي وقال: بل كان خطأ.. لم يجب القود؛ لأن الولي لا يدعيه، وتجب فيه دية الخطأ. قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون في مال الجاني؛ لأنها لم تثبت بالبينة. وإن شهد أحدهما: أنه قتله عمدا، وشهد الآخر: أنه قتله خطأ.. ثبت القتل بشهادتهما ولم تتناف الشهادتان؛ لأن الفعل الواحد قد يعتقده أحدهما عمدا والآخر خطأ، ويسأل الجاني، فإن أقر بقتل العمد.. حكم عليه بموجبه. وإن أقر بالخطأ وصدقه الولي.. وجبت الدية، وإن كذبه الولي.. فللولي أن يحلف؛ لأنه أقام بما يدعيه شاهدا، وذلك لوث، ويخالف الأولى؛ فإن الشهادة هناك على الإقرار ولا لوث في الإقرار. فإن لم يحلف الولي.. حلف الجاني ووجبت الدية في ماله مؤجلة؛ لأنها تثبت بإقراره. فإن لم يحلف الجاني.. فهل ترد اليمين على الولي؟ فيه قولان مضى ذكرهما. فإن قلنا: ترد عليه فحلف.. ثبت موجب قتل العمد. وإن قلنا: لا ترد عليه، أو قلنا ترد وامتنع عن اليمين.. تثبت دية الخطأ مؤجلة في مال الجاني؛ لأنها متيقنة.

مسألة قتل عمدا وله وارثان شهد أحدهما أن أخاه عفا عن القصاص والدية

[مسألة قتل عمدا وله وارثان شهد أحدهما أن أخاه عفا عن القصاص والدية] وإن قتل رجل وله وارثان ابنان أو أخوان، فشهد أحدهما: أن أخاه عفا عن القود والدية.. سقط القصاص، سواء كان الشاهد عدلا أو فاسقا؛ لأن شهادته بعفو أخيه تضمنت سقوط حقه من القصاص، ويكون نصيب الشاهد من الدية ثابتا، وأما نصيب المشهود عليه من الدية: فإن كان الشاهد غير مقبول الشهادة.. فالقول قول المشهود عليه مع يمينه. وإن كان الشاهد عدلا.. حلف معه الجاني. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويحلف: لقد عفا عن القصاص والمال) واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال بظاهره: ويجب أن يحلف: أنه عفا عن القصاص والدية؛ لأن العفو عن الدية لا يصح إلا بعد العفو عن القصاص، وهو إذا قلنا: إن قتل العمد لا يوجب غير القود. ومنهم من قال: يكفيه أن يحلف: لقد عفا عن الدية؛ لأن القصاص قد حكم بسقوطه بكل حال، فلا معنى ليمينه عليه. قال في ((الأم)) : (إذا ادعى رجل عبدا في يد آخر فأنكره، فأقام شاهدين، فشهد أحدهما: أنه ملكه، وشهد الآخر: أنه أقر بغصبه.. لم يحكم بالشهادة؛ لأنها شهادة بسببين مختلفين، ويحلف المشهود له مع أيهما شاء ويقضى له به. وهكذا إن شهد أحدهما: أنه غصبه، وشهد الآخر: أنه أقر بغصبه.. لم يحكم له بالشهادة؛ لأنها شهادة على فعلين مختلفين، ويحلف المشهود له مع أيهما شاء ويحكم له بالعبد) . [مسألة شهدا أنه أوصى بعتق غانم وشهد الوارثان لسالم] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو شهد أجنبيان لعبد: أن فلانا المتوفى أعتقه وهو الثلث في وصيته، وشهد وارثان لعبد غيره: أنه أعتقه وهو الثلث في وصيته.. فسواء، ويعتق من كل واحد منهما نصفه) . قال المزني: قياس قوله: أن يقرع

بينهما. واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة وحكمها: فقال أبو العباس وأبو إسحاق وأكثر أصحابنا: صورتها: أن يشهد أجنبيان أن فلانا المتوفى أوصى بعتق عبده غانم وهو ثلث ماله، وشهد وارثان: أنه أوصى بعتق سالم وهو ثلث ماله، فعبر الشافعي عن الوصية بالعتق؛ لأن الوصية وقعت بالعتق، فإذا كان هذا صورتها.. فإنه يقرع بينهما كما قال المزني. وقول الشافعي: (فسواء، ويعتق من كل واحد منهما نصفه) لم يرد به تبعيض العتق فيهما، وإنما أراد: أن شهادة الأجنبيين كشهادة الوارثين لا مزية لأحدهما على الآخر، وأن العبدين سواء يجب أن يقسم الثلث بينهما كما يقسم في الوصايا غير العتق في القياس، إلا إن السنة منعت من قسم الثلث في العتق ووردت في الإقراع. ومن أصحابنا من قال: صورتها: كما قال أبو العباس وأبو إسحاق، ولكن الحكم ما ذكره الشافعي، وهو: أن يعتق من كل واحد منهما نصفه، ولكن لا يعتق من كل واحد منهما نصفه، إلا إذا كان في كلام الموصي ما يدل على أنه قصد تبعيض الحرية في العبدين؛ بأن يشهد الأجنبيان أنه قال: أعتقوا هذا العبد وإن لم يحتمل الثلث إلا نصفه فأعتقوا نصفه، وشهد الوارثان بمثل ذلك لعبد آخر؛ لأنه قد علم من الموصي أنه أراد تبعيض الحرية فيهما، كما لو أوصى أن يعتق من كل واحد منهما نصفه، فأما إذا لم يكن في كلام الموصي ما يدل على أنه قصد تبعيض الحرية فيهما.. فإنه يقرع بينهما. ومن أصحابنا من خالف أبا إسحاق وأبا العباس في صورتها وحكمها وقال: صورتها: أن الشهادتين وقعتا بالعتق المنجز لا بالوصية، والحكم في ذلك: أنه إن عرف المعتق منهما أولا.. عتق ورق الثاني، وإن لم يعرف السابق منهما.. ففيه قولان: أحدهما: أنه يقرع بينهما، فأيهما خرج له سهم العتق.. عتق ورق الآخر؛ لأن كل واحد منهما يحتمل أن يكون هو الذي أعتقه أولا فيعتق ويرق الآخر، وليس لأحدهما مزية على الآخر فأقرع بينهما، كما لو أعتقهما معا. والثاني: يعتق من كل واحد منهما نصفه؛ لأنا نعلم أن أحدهما حر والآخر رقيق، فإذا أقرعنا بينهما.. لم نأمن أن تخرج الحرية لمن هو رقيق، والرق على من هو حر، ولا مزية لأحدهما على الآخر، فأعتق من كل واحد منهما نصفه لتساويهما. ويخالف

إذا أعتقهما؛ لأن الحرية لم تقع لأحدهما. قال الشيخ أبو حامد: وهذا الطريق أشبه بالمذهب وعليه التفريع. هذا إذا كانت البينتان عادلتين، فإن كانت إحداهما غير عادلة.. نظرت: فإن كان الأجنبيان فاسقين، والوارثان عدلين.. فلا تعارض شهادة العدلين بشهادة الفاسقين، فيرق العبد الذي شهد الأجنبيان بعتقه، ويعتق العبد الذي شهد الوارثان بعتقه. وإن كان الأجنبيان عدلين، والوارثان فاسقين.. فلا تعارض شهادة العدلين بشهادة الفاسقين، فإن كان الوارثان لم ينفيا ما شهد به الأجنبيان.. عتق العبد الذي شهد بعتقه الأجنبيان، وأما العبد الذي شهد بعتقه الوارثان.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يعتق نصفه عليهما؛ لأنهما يقولان: لو قبلت شهادتنا وشهادة الأجنبيين.. لعتق النصف من كل واحد من العبدين لا غير - على القول الذي يقول: يقسم العتق بينهما - والنصف الثاني من العبد الذي شهد الأجنبيان بعتقه مغصوب علينا وهو رقيق لنا، وإنما نصف هذا الذي شهدنا له حر، فيلزمهما عتق نصف العبد الذي شهدا له بإقرارهما. قال ابن الصباغ: وهذا سهو، وينبغي أنه إذا كان قد غصب منهما نصف العبد الذي شهد به الأجنبيان أن لا يعتق عليهما إلا خمسة أسداس عبد؛ لأن سدس التركة مغصوب عليهما، ويدخل النقص على ما يستحقه الأول بالوصية فيحصل هاهنا دور، ويقال: عتق من الأول - وهو ثلث التركة - نصف شيء والباقي منه مغصوب، وعتق من الثاني نصف شيء تمام الوصية، وبقي في يد الورثة ثلث التركة إلا نصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدل ثلث التركة شيئين ونصف شيء، الشيء الكامل أربعة أخماس عبد وهو ثلث التركة، فيكون قد عتق من العبد الذي أقر له الوارثان خمساه ورق ثلاثة أخماسه، وعتق من العبد الذي شهد له الأجنبيان بالوصية خمساه والباقي منه مغصوب من حق الورثة، ويبقى في يد الورثة عبد وثلاثة أخماس

عبد، وذلك مثلا ما عتق منهم بالوصية. وأما إذا نفى الوارثان ما شهد به الأجنبيان؛ بأن قال الأجنبيان: إنه أعتق عبده غانما وقيمته ثلث التركة، وقال الوارثان: لم يعتق غانما وإنما أعتق سالما وقيمته ثلث التركة، وكان الأجنبيان عدلين والوارثان فاسقين.. فشهادة الوارثين: أنه لم يعتق غانما لا تقبل لفسقهما، ولأنها شهادة على نفي، فيعتق غانم بشهادة الأجنبيين، والوارثان يقران: أن المعتق هو سالم، وغانما مغصوب عليهما. قال الشيخ أبو حامد: فيعتق عليهما سالم بإقرارهما. قال ابن الصباغ: وهذا سهو أيضا، ويجب أن يقال: يعتق ثلثاه؛ لأن غانما كالمغصوب، فلا يحتسب عليهما في التركة. وإن اختلفت قيمة العبدين، فشهد أجنبيان: أنه أعتق غانما في مرض موته وقيمته ثلث ماله، وشهد الوارثان: أنه أعتق سالما وقيمته سدس ماله، والبينتان عادلتان: فإن قلنا: لا يقرع بينهما.. عتق من كل واحد مهما ثلثاه، وهو ثلث التركة. وإن قلنا: يقرع بينهما.. أقرع بينهما، فإن خرج سهم الحرية للعبد الذي شهد له الأجنبيان.. عتق ورق الآخر، وإن خرج سهم الحرية للعبد الذي شهد له الوارثان.. عتق جميعه ونصف الآخر تمام الثلث.

فرع شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق غانم وشهد الوارثان لغيره

[فرع شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق غانم وشهد الوارثان لغيره] وبرجوعه وكلاهما ثلث التركة] : وإن شهد أجنبيان: أن فلانا أوصى بعتق عبده غانم وقيمته ثلث ماله، وشهد وارثان: أنه رجع عن وصيته بعتق غانم وأوصى بعتق سالم وقيمته ثلث ماله، والبينتان عادلتان.. فإن شهادة الوارثين تقبل بإبطال عتق غانم وبإثبات العتق لسالم؛ لأنهما لا يجران إلى نفسهما بذلك نفعا ولا يدفعا عنهما ضررا؛ لأن قيمة العبدين متساوية. وإن كان الأجنبيان عدلين والوارثان فاسقين.. لم تقبل شهادة الوارثين بالرجوع عن عتق غانم، ولكنهما يقولان: غانم لا يستحق العتق، وإنما الذي يستحق العتق سالم، فيكون غانم كالمغصوب عليهما. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فيعتق عليهما ثلثا سالم وهو ثلث التركة مما بقي من المال في أيديهما) . وهذا يؤيد قول ابن الصباغ في الأولى. وإن كان الأجنبيان فاسقين والوارثان عدلين.. فلا تعارض شهادة الأجنبيين الفاسقين شهادة العدلين، فيعتق العبد الذي شهد له الوارثان بالوصية. [فرع شهد بوصية عتق وشهد الوارثان برجوعه لغيره] فرع: [شهد بوصية عتق بسدس التركة وشهد الوارثان برجوعه لغيره وبغير السدس] : وإن شهد أجنبيان: أنه أوصى بعتق غانم وقيمته سدس التركة، وشهد الوارثان: أنه رجع عن عتق غانم وأوصى بعتق سالم وقيمته ثلث التركة، وهم عدول.. عتق سالم ورق غانم. وإن كان الوارثان فاسقين.. عتق غانم؛ لأن الوارثين لا تقبل شهادتهما في الرجوع عن وصيته وهما يقران: أن غانما ملكهما وهو مغصوب عليهما، ويقران: أن الوصية إنما هي لسالم، فيعتق من ثلث التركة التي حصلت في أيديهما وهي خمسة أسداس سالم. وإن كانت قيمة غانم ثلث التركة، وقيمة سالم سدس التركة، والوارثان عدلان..

فرع شهد أنه أوصى بعتق عبد وشهد الوارثان لغيره

فإن شهادتهما لا تقبل في نصف غانم؛ لأنهما يجران بها إلى أنفسهما نفعا بالرجوع عن الوصية بالسدس، وهل تقبل شهادتهما في نصفه الآخر؟ فيه قولان؛ لأنها شهادة اشتملت على شيئين فردت في أحدهما للتهمة. فإن قلنا: ترد شهادتهما في الجميع.. حكم بعتق العبد الذي شهد له الأجنبيان، إلا أن الوارثين يقولان: هو مغصوب علينا، وإنما الموصى بعتقه هو سالم فيعتق عليهما أيضا بإقرارهما؛ لأنه ثلث ما بقي في أيديهما من التركة. وإن قلنا: إنها ترد في نصفه وتقبل في نصفه.. عتق نصف غانم ورق نصفه، وعتق جميع سالم؛ لأن الثلث يحتمله. وإن كان الوارثان فاسقين.. عتق غانم بشهادة الأجنبيين، وعتق سالم بإقرار الوارثين. [فرع شهد أنه أوصى بعتق عبد وشهد الوارثان لغيره] من دون رجوع أو رجع وشهدت بينة ثالثة] : وإن شهد أجنبيان: أنه أوصى بعتق غانم وقيمته ثلث التركة، وشهد الوارثان: أنه أوصى بعتق سالم وقيمته ثلث التركة ولم يشهدا برجوعه عن عتق غانم وهم عدول.. أقرع بين العبدين، فمن خرج له سهم الحرية.. عتق ورق الآخر. وإن كانت قيمة غانم ثلث التركة، وقيمة سالم سدس التركة.. أقرع بينهما، فإن خرج سهم الحرية على غانم.. عتق ورق سالم، وإن خرج سهم العتق على سالم.. عتق جميعه وعتق من غانم نصفه، وهو تمام الثلث. وإن شهد أجنبيان: أنه أوصى لزيد بثلث ماله، وشهد الوارثان: أنه أوصى لعمرو بثلث ماله ولم يشهدا على رجوعه عن وصية لزيد.. قسم الثلث بين زيد وعمرو نصفين. وإن شهد أجنبيان: أنه أوصى بثلث ماله لزيد، وشهد الوارثان: أنه رجع عن وصيته لزيد وأوصى بثلث ماله لعمرو وهم عدول.. بطلت وصيته لزيد وثبتت وصيته لعمرو. فإن كانت بحالها وشهد آخران: أنه رجع عن وصية عمرو وزيد وأوصى بثلثه

فرع شهدا بوصية لزيد بثلث وشهد واحد لغيره

لخالد.. بطلت وصية زيد وعمرو وثبتت وصية خالد. وإن شهد أجنبيان: أنه أوصى بثلثه لزيد، وشهد الوارثان: أنه رجع عن وصيته لزيد وأوصى بثلثه لعمرو، وشهد آخران: أنه رجع عن إحدى الوصيتين ولم يعيناها.. بطلت شهادة من شهد بالرجوع من غير تعيين وثبتت الوصية لعمرو. [فرع شهدا بوصية لزيد بثلث وشهد واحد لغيره] وإن شهد رجلان: أنه أوصى لزيد بثلث ماله، وشهد واحد: أنه أوصى لعمرو بثلث ماله.. فهل يحلف عمرو ويساوي زيدا في قسمة الثلث بينهما؟ فيه قولان، مضى بيانهما. فأما إذا شهد رجلان: أنه أوصى بثلث ماله لزيد، وشهد آخر: أنه رجع عن وصيته لزيد ووصى بثلث ماله لعمرو.. فلعمرو أن يحلف مع شاهده، ويحكم ببطلان وصية زيد، وثبوت وصية عمرو قولا واحدا؛ لأن البينتين هاهنا لم يتعارضا، وإنما الشاهدان شهدا بالوصية، والشاهد شهد بالرجوع وهو يشهد بغير ما شهدا له به، والمقصود بالرجوع المال فثبت بالشاهد واليمين. [فرع ادعى عليهما أنهما رهنا عبدا بدين] وإن ادعى رجل على رجلين: أنهما رهنا عبدا لهما عنده بدين له عليهما، فصدقه كل واحد منهما على حق شريكه وكذبه في حق نفسه.. فيه وجهان: أحدهما: لا تقبل شهادتهما، لأنه يدعي أن كل واحد منهما، كاذب. والثاني: تقبل شهادتهما ويحلف مع كل واحد منهما ويصير العبد رهنا عنده؛ لأن كذب كل واحد مهما غير معلوم؛ لجواز أن يكون نسي رهنه لنصيبه. والله أعلم.

باب الرجوع عن الشهادة

[باب الرجوع عن الشهادة] إذا شهد الشهود عند الحاكم، ثم رجعوا عن الشهادة.. لم يخل رجوعهم من ثلاثة أحوال: إما أن يكون قبل الحكم بشهادتهم، أو بعد الحكم وقبل استيفاء ما شهدوا به، أو بعد الحكم وبعد استيفاء ما شهدوا به. فإن كان قبل الحكم.. لم يجز للحاكم أن يحكم بشهادتهم. قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع، إلا ما حكي عن أبي ثور أنه قال: (يحكم بشهادتهما؛ لأن الشهادة قد حصلت فلم تبطل بالرجوع، كما لو رجعوا بعد الحكم) . وهذا خطأ؛ لأن الحاكم إنما يحكم بشهادتهم، فإن رجعوا.. لم تبق هناك شهادة يحكم بها، ولأن الحاكم إنما يجوز له أن يحكم بشهادة يغلب على ظنه صدق شهودها، فإذ رجعوا عن الشهادة.. احتمل أن يكونوا صادقين في الشهادة كاذبين في الرجوع، واحتمل أن يكونوا كاذبين في الشهادة وصادقين في الرجوع، وذلك يوقع شكا في شهادتهم فلم يجز الحكم بشهادتهم، كما لو فسقوا بعد الشهادة وقبل الحكم بها. وإن شهدوا بحق، فقالوا للحاكم قبل الحكم: توقف في الحكم حتى نتثبت في شهادتنا، ثم عادوا وقالوا: قد أثبتنا شهادتنا.. فهل يجوز للحاكم أن يحكم بها؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز أن يحكم بها؛ لأنهم لم يرجعوا عن الشهادة. والثاني: لا يجوز أن يحكم بها؛ لأن قولهم هذا يورث ريبة في شهادتهم. فإن رجعوا بعد الحاكم بشهادتهم وقبل استيفاء ما شهدوا به، فإن كان

مسألة ما يترتب على الشهود فيما لو رجعوا عن شهادتهم وبعد استيفاء الحكم

ما شهدوا به مما يسقط بالشبهة؛ كالحدود والقصاص.. لم يجز استيفاؤه؛ لأن هذه الحقوق تسقط بالشبهة، ورجوع الشهود أقوى شبهة فلم يجز استيفاؤها. وحكى المسعودي [في ((الإبانة)) ] وجها آخر في القصاص: أنه يستوفى؛ لأنه حق للآدمي. والمشهور هو الأول. وإن كان المشهود به حقا لآدمي لا يسقط بالشبهة؛ كالمال والنكاح وما أشبهه.. فالمنصوص: (أنه يجوز للمشهود له استيفاؤه) . ومن أصحابنا من قال: لا يجوز له استيفاؤه؛ لأن الحكم غير مستقر قبل استيفاء المشهود به، فرجوع الشهود في هذه الحالة كرجوعهم قبل الحكم. وليس بشيء؛ لأن الحكم قد نفذ والشبهة لا تؤثر فيه، فجاز استيفاؤه. وإن رجعوا بعد الحكم وبعد استيفاء المشهود به.. لم ينقض الحكم، ولم يجب على المشهود له رد ما أخذه. وهو قول كافة العلماء، إلا ابن المسيب والأوزاعي؛ فإنهما قالا: ينقض الحكم ويجب على المشهود له أن يرد ما أخذه. وهكذا قالا: إذا رجع الشهود بعد الحكم وقبل الاستيفاء.. فإنه ينقض الحكم ولا يستوفى الحق المشهود به. دليلنا: أن الشهود يجوز أن يكونوا صادقين في الشهادة كاذبين في الرجوع، ويجوز أن يكونوا كاذبين في الشهادة صادقين في الرجوع، فليس أحدهما بأولى من الآخر، فلا يجوز نقض الحكم لأمر محتمل. [مسألة ما يترتب على الشهود فيما لو رجعوا عن شهادتهم وبعد استيفاء الحكم] وإذا شهد الشهود بحق ثم رجعوا بعد الحكم وبعد الاستيفاء.. فقد ذكرنا: أنه لا ينقض الحكم ولا يجب على المشهود له رد ما حكم له به ولا ضمانه، والكلام هاهنا

فيما يجب على الشهود؛ فلا يخلو المشهود به: إما أن يكون إتلافا أو في معنى الإتلاف، أو يكون مالا. فإن كان إتلافا؛ كالشهادة فيما يوجب القتل والقطع والرجم.. وجب على الشهود الضمان؛ لأن المشهود عليه قتل أو قطع بسبب ملجئ من قبل الشهود.. فوجب عليهم ضمانه، كما لو أتلفوه بأيديهم. إذا ثبت هذا: ففيه ثمان مسائل: إحداهن: أن يشهد رجلان أو جماعة على رجل بما يوجب القتل فقتل، أو بما يوجب القطع فقطع، ثم رجعوا عن الشهادة، فإن قالوا: تعمدنا الشهادة عليه ليقتل أو ليقطع.. وجب عليهم القتل أو القطع، وبه قال ابن سيرين وأحمد وإسحاق. وقال ربيعة والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يجب عليهم القتل ولا القطع، وإنما يجب عليهم الأرش) . دليلنا: ما روي: أن رجلين شهدا عند أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل بالسرقة فقطع يده، ثم رجعا عن الشهادة وقالا: أخطأنا، فقال: (لو أعلم أنكما تعمدتما.. لقطعتكما) . وروي: (أن رجلين شهدا عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل بالسرقة فقطع يده، ثم أتياه بآخر فقالا: هذا هو السارق وأخطأنا بالأول، فرد شهادتهما على الثاني، وغرمهما دية يده، وقال: لو أعلم أنكما تعمدتما.. لقطعتكما) . ولا مخالف لهما في الصحابة، ولأنه نوع إتلاف يضمن بالفعل فضمن بالقول كالعتق، ولأنهما ألجآ الحاكم إلى إتلافه فصارا كالمكرهين له على إتلافه شرعا، والقود يجب عندنا وعنده على المكره الآمر، وكذلك هذا مثله. المسألة الثانية: أن يقول الشهود: تعمدنا الشهادة عليه بالقتل والقطع والزنى، وما ظننا أنه يقتل أو يقطع بشهادتنا، وإنما ظننا أنه يجلد أو يحبس، وهم ممن يجوز أن يجهلوا ذلك.. فلا يجب عليهم القود؛ لأنهم لم يعترفوا بما يوجب القود، وتجب عليهم دية مغلظة من أموالهم؛ لأنها عمد خطأ، ولا تحملها العاقلة؛ لأنها وجبت باعترافهم، وهل تجب الدية حالة أو مؤجلة؟

قال المسعودي - رَحِمَهُ اللَّهُ -[في ((الإبانة)) ] : نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنها تجب حالة) وبه قال القفال؛ لأنهم متعمدون من كل وجه، وقولهم: (ولم نعلم أنه يقتل) كقول من يقول: رميته قصدا ولم أعلم أن السهم يبلغه. وذكر الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: أنها تجب مؤجلة؛ لما فيها من الخطأ. وبه قال صاحب ((التقريب)) وحمل النص عليه إذا مضى من وقت القتل إلى وقت المطالبة ثلاث سنين. المسألة الثالثة: أن يقول الشهود: أخطأنا في الشهادة عليه وظننا أنه القاتل أو الزاني، وإنما القاتل والزاني غيره.. فلا يجب عليهم القود وتجب عليهم الدية في أموالهم مؤجلة. المسألة الرابعة: إذا اتفقوا أن بعضهم تعمد الشهادة عليه ليقتل، وأن بعضهم أخطأ في الشهادة عليه.. فلا يجب على العامد قود لمشاركته المخطئ، ويجب عليه قسطه من الدية المغلظة في ماله، ويجب على المخطئ قسطه من الدية المخففة في ماله؛ لأنها وجبت باعترافه. المسألة الخامسة: إذا اختلفوا فقال بعضهم: تعمدنا كلنا الشهادة عليه ليقتل، وقال بعضهم: أخطأنا كلنا بالشهادة عليه أو أخطأنا دونهم؛ فمن أقر بعمد الجميع.. وجب عليه القود؛ لأنه أقر أنه عامد هو وشريكه، ولا يجب القود على من أقر بالخطأ؛ لأنه لا يقبل عليه إقرار غيره، ويلزمه قسطه من الدية المخففة. المسألة السادسة: إذا شهد أربعة على رجل بما يوجب القتل فقتل، ثم رجعوا عن الشهادة، فقال اثنان منهم: تعمدنا كلنا الشهادة عليه ليقتل، وقال الآخران: تعمدنا نحن الشهادة عليه ليقتل وأخطأ الأولان.. فإن الأولين اللذين أقرا بعمد الجميع يجب عليهما القود؛ لأنهما أقرا على أنفسهما بذلك، وهل يجب القود على الآخرين؟ حكى الشيخ أبو إسحاق فيها قولين، وحكاهما الشيخ أبو حامد وابن الصباغ والمسعودي [في ((الإبانة)) ] وجهين:

فرع اعتبار عدد الراجعين عن شهادة على إتلاف بعد الاستيفاء

أحدهما: يجب عليهما القود؛ لأنهما اعترفا على أنفسهما بالعمد وأضافا الخطأ إلى من اعترف على نفسه بالعمد، فصار كما لو اعترفوا جميعا بالعمد. والثاني: لا يجب عليهما القود، وهو الأصح؛ لأنهما أقرا بعمد شاركهما فيه مخطئ، ومقتضى هذا: لا يجب عليهما القود، فلا يجب عليهما القود بقول غيرهما. فعلى هذا: يجب عليهما نصف الدية مغلظة في أموالهما. المسألة السابعة: إذا قال اثنان منهم: تعمدنا الشهادة عليه ليقتل وأخطأ هذان، وقال الآخران: بل تعمدنا نحن الشهادة عليه ليقتل وأخطأ هذان.. فهل يجب على جميعهم القود، أو لا يجب عليهم القود بل الدية مغلظة؟ فيه قولان حكاهما الشيخ أبو إسحاق، ووجههما ما ذكرناه في التي قبلها. المسألة الثامنة: أن يقول بعضهم: تعمدت الشهادة عليه ليقتل ولا أدري: هل تعمد أصحابي أو أخطؤوا؟ فإنه يرجع إليهم، فإن أقروا جميعا بالعمد.. وجب القود على جميعهم. وإن أقروا بالخطأ، أو أقر واحد منهم بالخطأ والباقون بالعمد.. لم يجب على واحد منهم القود؛ لأن العامد شريك للمخطئ، ويجب على من أقر العمد قسطه من الدية المغلظة في ماله، وعلى من أقر بالخطأ قسطه من الدية المخففة مؤجلة في ماله. [فرع اعتبار عدد الراجعين عن شهادة على إتلاف بعد الاستيفاء] وإن رجع بعض من شهد بإتلاف بعد استيفاء المشهود به.. نظرت: فإن: فإن لم يزد عدد الشهود على عدد البينة؛ بأن شهد اثنان على رجل: أنه قتل رجلا عمدا فقتل به، ثم رجع أحد الشاهدين وقال: تعمدنا الشهادة عليه ليقتل.. وجب عليه القود، ولا يجب على الآخر شيء. وإن قال الراجع: أخطأنا بالشهادة عليه، أو أخطأت وتعمد صاحبي.. لم يجب على الراجع قود، ووجب عليه نصف دية مخففة. وكذلك: إذا شهد أربعة على رجل بالزنى وهو محصن فرجم، ثم رجع واحد منهم، فإن قال: تعمدنا كلنا الشهادة عليه ليقتل.. وجب عليه القود، ولم يجب على

الثلاثة شيء. وإن قال الراجع: أخطأنا كلنا، أو أخطأ بعضنا.. وجب عليه ربع دية مخففة. وإن رجع اثنان.. وجب عليهما نصف الدية. وإن زاد عدد الشهود على عدد البينة.. نظر في ذلك: فإن كان الشهود في غير الزنى؛ بأن شهد ثلاثة رجال على رجل: أنه قتل رجلا عمدا، فقتله ولي الدم، ثم رجع أحد الثلاثة وقال: شهدت بالزور وعمدت إلى ذلك ليقتل وتعمد شريكاي.. قال ابن الحداد: وجب على الراجع القود، فإن اختار الولي أن يعفو عنه على مال.. وجب عليه ثلث الدية. وإن كان ذلك في الشهادة على الزنا؛ بأن شهد خمسة رجال على رجل: أنه زنى وهو محصن، فرجم بشهادتهم، ثم رجع واحد منهم وقال: شهدت بالزور وعمدت إلى ذلك ليقتل، وعمد أصحابي إلى الشهادة عليه بالزور ليقتل.. فإنه لا يجب على الراجع قود. والفرق بينها وبين الأولى: أن قيام البينة عليه يوجب القتل في غير الزنا، ولا يسقط ضمانه عن الأجنبي؛ لأنه لا يكون مباح الدم؛ بدليل: أنه لو قتله غير ولي الدم.. وجب عليه القود، فلم يكن مسقطا لضمان نفسه. وإذا قامت البينة عليه بالزنى وهو محصن.. كان وجوب رجمه يوجب سقوط ضمانه ويصير مباح الدم؛ بدليل: أنه لو قتله قاتل.. لم يجب عليه القود. قال الشيخ أبو حامد: ولا يجب حد القذف على الراجع؛ لأن حصانه المقذوف ساقطة ببقاء قيام الأربعة عليه بالزنى. وهل يجب على الراجع شيء من الدية؟ فيه قولان، حكاهما المسعودي [في ((الإبانة)) ] ، وحكاهما أصحابنا العراقيون وجهين: أحدهما - حكاه المزني في ((المنثور)) واختاره أبو إسحاق المروزي -: أنه يجب عليه خمس الدية؛ لأنه مقر أنه أتلف جزءا منه وهو مضمون، فلزمه من ضمانه بقدر ما أقر من إتلافه.

مسألة شهد أربعة على شخص بالزنى وشهد اثنان بإحصانه فرجم ثم رجع الشهود

والثاني - وهو قول ابن الحداد والقاضي أبي حامد -: أنه لا يجب عليه شيء، وهو الصحيح؛ لأن البينة قائمة على إباحة نفسه وسقوط ضمانه بالشهود الأربعة، فهو كما لو قتل رجل رجلا فقامت بينة على زنى المقتول وهو محصن.. فإنه لا يجب على قاتله شيء وكذلك هذا مثله. فإن رجع اثنان من الخمسة وقالا: شهدنا بالزور عليه وتعمدنا بالشهادة عليه ليقتل، وتعمد أصحابنا الشهادة بالزور ليقتل.. وجب عليهما القود. وإن قالا: أخطأنا.. فعلى قول أبي إسحاق: تجب عليهما خمسا الدية، وعلى قول ابن الحداد: يجب عليهما ربع الدية بينهما نصفين؛ لأن البينة لم ينخرم إلا ربعها. وإن شهد عليه ثمانية بالزنا وهو محصن فرجم، فرجع واحد منهم، أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة، وقالوا: قد تعمدنا الشهادة عليه بالزور ليقتل.. فلا خلاف: أنه لا يجب عليهم القود؛ لما مضى، وأما الدية: فتجب على قول أبي إسحاق: على كل واحد منهم ثمن الدية، وعلى قول ابن الحداد: لا يجب على الأربعة شيء. وإن رجع خمسة منهم وقالوا: تعمدنا بالشهادة عليه بالزور ليقتل، وتعمد أصحابنا.. وجب عليهم القود. وإن قالوا: أخطأنا.. وجب عليهم ربع الدية بينهم أخماسا. وإن رجع ستة.. وجب عليهم نصف الدية، وإن رجع سبعة.. وجب عليهم ثلاثة أرباع الدية، وإن رجعوا كلهم.. وجبت الدية عليهم على كل واحد منهم ثمنها. [مسألة شهد أربعة على شخص بالزنى وشهد اثنان بإحصانه فرجم ثم رجع الشهود] وإن شهد أربعة على رجل بالزنى، وشهد اثنان من غيرهم: أنه محصن، فرجم، ثم رجعوا كلهم، فقال شهود الزنا: أخطأنا وما كان زنى، وقال شاهدا الإحصان: أخطأنا ما كان وطئ في نكاح صحيح.. فهل يجب الضمان على شاهدي الإحصان؟ فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: لا يجب عليهما الضمان - وبه قال أبو حنيفة - لأن شهود الزنى شهدوا بفعله، وشاهدي الإحصان إنما يشهدان بصفته، وإنما قتل بفعله لا بصفته. والثاني: يجب عليهما الضمان؛ لأنه إنما قتل بالزنى والإحصان؛ بدليل: أنه لو انفرد أحدهما عن الآخر.. لم يقتل. والثالث: ينظر في شاهدي الإحصان: فإن شهدا بإحصانه قبل قيام البينة عليه بالزنى.. لم يجب عليهما الضمان؛ لأنهما إنما أثبتا صفته. وإن شهدا بعد قيام البينة عليه بالزنى.. وجب عليهما الضمان؛ لأنهما إنما شهدا عليه ليقتل. فإذا قلنا: يجب الضمان على شاهدي الإحصان. فكم يجب عليهما؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب عليهما نصف الدية، على كل واحد منهما ربع الدية، ويجب على شهود الزنى نصفها على كل واحد منهم ثمنها؛ لأنه قتل بنوعين من البينة. والثاني: يجب على شاهدي الإحصان ثلث الدية، وعلى شهود الزنى ثلثاها؛ لأنه قتل بشهادة ستة، فكان على كل واحد منهم سدس الدية. وقال أبو ثور: (لا يجب على شهود الزنى هاهنا شيء من الدية، ويجب جميع الدية على شاهدي الإحصان) . وهذا خطأ؛ لأنه قتل بشهادة الجميع.. فكان ضمانه على الجميع. وإن شهد أربعة رجال على رجل بالزنى، وشهد اثنان منهم أنه محصن.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما لا يجران بذلك إلى أنفسهما نفعا. فإن رجم ثم رجعوا كلهم عن الشهادة. فإن قلنا: لا يجب الضمان على شاهدي الإحصان في التي قبلها.. فهاهنا أولى. وإن قلنا: يجب الضمان على شاهدي الإحصان في التي قبلها.. فهاهنا وجهان: أحدهما: لا يجب عليهما الضمان؛ لأن الشاهدين اللذين شهدا بالزنا لا غير، وجد من كل واحد منهما جناية، وهو شهادته بالزنى، وود من اللذين شهدا بالإحصان والزنى جنايتان، فإذا تلف المشهود عليه بجنايتهم.. قسم الضمان عليهم على عدد رؤوسهم لا على عدد جناياتهم، كما لو جرح رجل رجلا جراحة وجرحه آخر جراحتين ومات.

فرع شهدوا على زنى رجل فزكاهما اثنان فرجم ثم بان عدم أهلية الشهود

والثاني: يجب عليهما الضمان؛ لأنه تلف بسببين؛ بالشهادة بالزنى والشهادة بالإحصان، فقسمت الدية عليهما. فإذا قلنا بهذا، وقلنا في التي قبلها: إنه يجب على شاهدي الإحصان نصف الدية.. وجب هاهنا على الشاهدين اللذين شهدا بالزنا والإحصان ثلاثة أرباع الدية وعلى الشاهدين اللذين شهدا بالزنا لا غير.. ربع الدية. وإن قلنا في التي قبلها: يجب على شاهدي الإحصان ثلث الدية.. وجب هاهنا على الشاهدين اللذين شهدا بالزنا والإحصان ثلثا الدية، وعلى الشاهدين اللذين شهدا بالزنا لا غير ثلث الدية. [فرع شهدوا على زنى رجل فزكاهما اثنان فرجم ثم بان عدم أهلية الشهود] وإن شهد أربعة على رجل بالزنى، فجهل الحاكم عدالتهم، فزكاهم رجلان، فقبل الحاكم تزكيتهما ورجم المشهود عليه، ثم بان أن الشهود كانوا عبيدا أو كفارا.. فإنه يجب ضمان نفس المشهود عليه؛ لأنه رجم بغير حق، ووليه بالخيار: إن شاء طالب الحاكم؛ لأنه أمكن من قتله، وإن شاء طالب المزكيين؛ لأنهما ألجآ الحاكم إلى قتله. فإن طالب الحاكم.. رجع على المزكيين؛ لأنهما غراه، وإن طالب المزكيين.. لم يرجعا على غيرهما؛ لأنهما لم يلجئهما إلى التزكية أحد. [مسألة رجوع الشهود عن شهادتهم بما فيه معنى الإتلاف وبعد الاستيفاء] وإن كان المحكوم به ليس بإتلاف وإنما هو بمعنى الإتلاف؛ وهو: إتلاف الحكم، كالشهادة بالطلاق والعتاق وما أشبههما.. وجب على الشهود الضمان إذا رجعوا كما قلنا في شهود القتل. فإذا شهد شاهدان على رجل: أنه أعتق عبدا له، فقبل الحاكم شهادتهما وحكم

بعتقه، ثم رجعا عن الشهادة.. وجب عليهما قيمة العبد؛ لأنهما أتلفا عليه رقبة العبد، فوجب عليهما قيمته، كما لو قتلاه. وسواء قالا: تعمدنا الشهادة أو أخطأنا؛ لأن المال يضمن بالعمد والخطأ. وإن شهد عليه: أنه كاتب عبده، فحكم الحاكم بالكتابة، ثم رجعا عن الشهادة.. ففيه وجهان - حكاهما الصباغ -: أحدهما: يرجع عليهما بما بين قيمته وعوض الكتابة؛ لأن مال الكتابة قد رجع إليه. والثاني: يرجع عليهما بجميع قيمته؛ لأن مال الكتابة الذي أداه إنما هو كسبه والسيد يملكه. قال ابن الصباغ: وهذا ينبغي أن يكون إذا أدى وعتق، فأما قبل ذلك.. فلا يضمن. وإن شهدا لأمة باستيلاد سيدها لها، ثم رجعا، فإذا مات السيد.. عتقت ورجع ورثة سيدها عليهما بقيمتها. قال ابن الحداد: وإن شهد شاهدان على رجل: أنه أعتق عبده على ضمان مائة درهم، وقيمة العبد مائتا درهم، فضمن العبد المائة، وحكم الحاكم بعتق العبد، ثم رجعا عن شهادتهما.. فإن الحاكم لا ينقض حكمه، ويرجع السيد عليهما بتمام القيمة وهي مائة درهم؛ لأن الشاهدين قد أقرا برجوعهما أنهما أتلفا عليه نصف العبد وهو ما يقابل المائة الثانية من قيمته، فلزمهما ضمان ذلك. وإن شهد ثلاثة على رجل: أنه أعتق عبده، فحكم الحاكم بعتقه، ثم رجع واحد منهم.. لم يرجع عليه بشيء على قول ابن الحداد والقاضي أبي حامد، وعلى ما حكاه المزني في ((المنثور)) وقول أبي إسحاق المروزي.. يرجع عليه بثلث القيمة. وإن رجعوا كلهم.. رجع عليهم بقيمة العبد، على كل واحد ثلث قيمته بلا خلاف على المذهب.

فرع شهدا على رجل أنه طلق بائنا فطلقت زوجته ثم رجعا

[فرع شهدا على رجل أنه طلق بائنا فطلقت زوجته ثم رجعا] وإن شهد رجلان على رجل: أنه طلق امرأته طلاقا بائنا، وحكم الحاكم عليه بالطلاق، ثم رجعا عن الشهادة.. نظرت: فإن كان بعد الدخول.. رجع الزوج عليهما بمهر مثلها، على كل واحد منهما بنصف مهر مثلها. وبه قال ربيعة وعبيد الله بن الحسن العنبري. وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يرجع عليهما بشيء) . دليلنا: أنهما أتلفا عليه بضعها، فوجب عليهما مهر مثلها، كما لو كان قبل الدخول. فإن كان ذلك قبل الدخول.. وجب عليهما الضمان؛ لأنهما أتلفا عليه بضعها، وبكم يرجع عليهما؟ روى المزني: (أنه يرجع عليهما بجميع مهرها) ، وروى الربيع: (أنه يرجع عليهما بنصف مهر مثلها) . واختلف أصحابنا فيها على طريقين: فـ[الأول] : منهم من قال: فيه قولان: أحدهما: يرجع عليهما بنصف مهر مثلها - وهو اختيار القاضي أبي الطيب - لأن الفرقة إذا وقعت قبل الدخول.. فالزوج مالك لنصف البضع؛ بدليل: أنه لا يلزمه إلا نصف المهر، فكأنهما لم يتلفا عليه إلا بنصف البضع، فلم يلزمهما أكثر من قيمة نصف مهر مثلها. والثاني: يلزمهما جميع مهر مثلها - وهو اختيار الشيخ أبي حامد - لأن ملك الزوج على البضع قبل الدخول كملكه عليه بعد الدخول؛ بدليل: أنه يملك المعاوضة عليه قبل الدخول كما يملك ذلك بعد الدخول، فلما ثبت أنهما إذا شهدا عليه بعد الدخول وجب عليهما مهر مثلها.. فكذلك قبل الدخول. و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:

فرع ادعت نكاحه ودخوله وطلاقه فأنكر ذلك وشهد لها شهود فغرم ثم رجعوا

فحيث قال: (يرجع عليهما بجميع مهر مثلها) أراد: إذا كان قد سلم إليها جميع مهرها، ثم شهدا عليه بالطلاق. وحيث قال: (يرجع عليهما بنصف مهر مثلها) أراد: إذا لم يسلم إليها شيئا من المهر، ثم شهدا عليه بالطلاق قبل الدخول. والفرق بينهما: أنه إذا سلم إليها صداقها، ثم شهدا عليه بالطلاق.. فهو يقول: هي زوجتي وقد سلمت إليها ما تستحقه، ولا أستحق الرجوع عليها بشيء مما سلمته إليها؛ فلذلك استحق الرجوع على الشاهدين بجميع مهر مثلها، وإذا لم يسلم إليها صداقها؛ فالزوجة تقول: قد وقعت الفرقة بيننا قبل الدخول، فلا أستحق عليه إلا نصف المهر المسمى، فلا يغرم الزوج غير ذلك، فلا يرجع على الشاهدين إلا بقدر ذلك من مهر المثل. والصحيح هو الطريق الأول؛ لأن الاعتبار بما أتلف الشاهدان على الزوج من البضع لا بما سلمه الزوج؛ بدليل: أنه إنما يرجع عليهما بمهر المثل أو بنصفه، ولا اعتبار بالمسمى. [فرع ادعت نكاحه ودخوله وطلاقه فأنكر ذلك وشهد لها شهود فغرم ثم رجعوا] وإن ادعت امرأة على رجل: أنه نكحها ودخل بها فطلقها ومهر مثلها ألفان، فأنكر الزوج النكاح والإصابة والطلاق، فشهد عليه شاهدان بالنكاح، وآخران بإقراره بالإصابة، وآخران بالطلاق، فحكم عليه الحاكم بذلك كله، ثم رجع جميع الشهود.. قال ابن الحداد: يرجع الزوج على شاهدي الطلاق؛ لأنهما حالا بشهادتهما بينه وبين بضعها وأتلفاه عليه. فمن أصحابنا من خطأه في ذلك وقال: لا يرجع عليهما بشيء؛ لأنه منكر للنكاح والإصابة، فصار مقرا بأنه لم يملك بضعها، وإذا لم يملك بضعها.. فلم يتلف عليه شاهدا الطلاق شيئا؛ فلم يرجع عليهما بشيء.

فرع شهدا عليه بطلاق زوجته قبل الدخول ففرق بينهما ثم رجعا عن الشهادة

[فرع شهدا عليه بطلاق زوجته قبل الدخول ففرق بينهما ثم رجعا عن الشهادة] وإن شهد عليه رجلان: أنه طلق امرأته قبل الدخول، وكان قد فرض لها صداقا، ففرق الحاكم بينهما وألزمه نصف المسمى، ثم رجع شاهدا الطلاق عن شهادتهما، ثم قامت بينة أنها ابنته أو أخته من الرضاع.. قال ابن الحداد: فإنه لا يجب على شاهدي الطلاق له شيء؛ لأنا تبينا أنه لم يكن بينهما نكاح، ويجب عليها أن ترد على الزوج ما أخذت منه؛ لأنا تبينا أن ذلك غير واجب عليه. وإن شهدا عليه بالطلاق قبل الدخول ولم يكن الزوج فرض لها مهرا، فحكم الحاكم بالفرقة وألزم الزوج المتعة، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما.. فإن الزوج لا يرجع بما دفع من المتعة عليهما؛ لأنه لا يرجع بما غرم، وإنما يرجع عليهما بقيمة البضع، وفي قدر ذلك طريقان، مضى ذكرهما. فإذا طلقها قبل الدخول وكان قد فرض لها مهرا.. قال ابن الحداد: وإن شهدا عليه أنه طلق امرأته على ضمان ألف ومهر مثلها ألفان، ثم رجعا عن الشهادة.. فإنه يرجع عليهما بألف وهو تمام مهر المثل. [فرع شهدا على طلاق رجعي فحكم بشهادتهما ثم رجعا] وإن شهد رجلان على رجل بطلاق رجعي، فحكم بشهادتهما، ثم رجعا عن شهادتهما.. فحكى ابن الصباغ فيها وجهين: أحدهما: يرجع عليهما بما يرجع عليهما بالطلاق البائن؛ لأن الطلاق يزيل ملكه عنها بانقضاء العدة. والثاني: لا يرجع عليهما بشيء؛ لأنه يمكنه تلافي ذلك بالرجعة، وإنما تبين باختياره. [فرع شهدا على امرأة بنكاح فحكم به ثم رجعا] وإن شهد رجلان على امرأة بنكاح لرجل، فحكم الحاكم عليها بالنكاح، ثم رجع

فرع شهد رجل وعشر نسوة على رضاع بين زوجين ثم حصل رجوع

الشاهدان.. فقد قال بعض أصحابنا: إن كان قبل الدخول.. لم ترجع عليهما بشيء، وإن كان بعد الدخول.. غرما ما نقص من المسمى عن مهر مثلها. فال ابن الصباغ: وينبغي أن يقال: إن كان قبل الدخول.. رجعت على الشهود - إن كان المهر المسمى دون مهر المثل - ببقيته. [فرع شهد رجل وعشر نسوة على رضاع بين زوجين ثم حصل رجوع] وإن شهد رجل وعشر نسوة على رجل: أن بينه وبين زوجته رضاعا يحرم فحكم الحاكم بالفرقة بينهما، ثم رجع الرجل وسبع نسوة.. قال ابن الحداد: فإن الزوج يرجع على الراجعين بربع مهر مثلها؛ لأنه انخرم ربع البينة وبقي ثلاثة أرباعها. وعلى قول المزني في ((المنثور)) وأبي إسحاق المروزي: يجب على الراجعين ثلاثة أرباع مهر مثلها، على الرجل سهمان، وعلى كل امرأة سهم. وإن رجع الرجل وست نسوة.. فعلى قول ابن الحداد: لا شيء على الراجعين. وعلى قول المزني وأبي إسحاق: يرجع عليهم بثلثي مهر المثل. وإن رجع الرجل: قال القاضي أبو الطيب: فعلى قول ابن الحداد.. لا يجب على الراجع شيء؛ لأن البينة قائمة. وعلى قول المزني وأبي إسحاق.. يرجع عليه بسدس مهر مثلها. [مسألة رجوع الشهود عن مال الرجل] وإن كان المشهود به مالا؛ بأن شهدا عليه بمال لرجل وحكم الحاكم بالشهادة، ثم رجع الشهود عن الشهادة.. فقد ذكرنا: أن الحكم لا ينقض، ولا يجب على المشهود

له رد ما أخذ، وهل يجب على الشهود الضمان؟ نقل المزني: (أنه لا ضمان عليهم) . وقال فيمن أقر بدار في يده لزيد، ثم أقر بها لعمرو: إنها تسلم إلى زيد، وهل يغرم لعمرو شيئا؟ فيه قولان. واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: لا يجب على الشهود في المال إذا رجعوا الضمان قولا واحدا؛ لأن أيديهم لم تثبت على المال، فلم يلزمهم غرم بخلاف المقر؛ فإن يده ثبتت على الدار. وقال أكثرهم: فيه قولان: أحدهما: لا يجب عليهم الضمان؛ لما ذكرناه. والثاني: يلزمهم الضمان - وبه قال مالك وأبو حنيفة - وهو الأصح؛ لأنهم حالوا بين المشهود عليه وبين ماله بغير حق فلزمهم الضمان، كما لو غصبوه منه. وما قاله الأول.. غير صحيح؛ لأن المال قد يضمن بغير اليد والإتلاف، وهو: إذا حفر بئرا في طريق الناس، فوقع فيها بهيمة أو عبد لرجل.. فإنه يجب على الحافر ضمانه. فإذا قلنا بهذا: فإن شهد رجلان عليه بمال، فحكم الحاكم بشهادتهما عليه، ثم رجعا عن الشهادة.. وجب الضمان عليهما نصفين. وإن رجع أحدهما دون الآخر.. وجب على الراجع نصف المشهود به عليه. وإن شهد عليه ثلاثة رجال بمال، وحكم الحاكم بشهادتهم، ثم رجع واحد منهم وبقي اثنان.. لم يجب عليه الضمان على قول ابن الحداد، وعلى ما حكاه المزني في ((المنثور)) وقول أبي إسحاق: يجب عليه ضمان ثلث المشهود به. فإن رجع اثنان منهم وبقي الثالث.. رجع عليهما على قول ابن الحداد بضمان نصف المشهود به، وعلى ما حكاه المزني في ((المنثور)) وقول أبي إسحاق: يرجع عليهما بضمان ثلثيه. وإن رجع الثلاثة كلهم.. رجع عليهم بالمشهود به بينهم أثلاثا.

فرع شهد أربعة على رجل بمال فحكم بها ثم رجعوا واحدا بعد واحد

[فرع شهد أربعة على رجل بمال فحكم بها ثم رجعوا واحدا بعد واحد] وإن شهد أربعة رجال على رجل بأربعمائة درهم وحكم الحاكم بشهادتهم، ثم رجع واحد منهم عن مائة، ورجع الثاني عن مائتين، ورجع الثالث عن ثلاثمائة، ورجع الرابع عن أربعمائة.. فعلى ما حكاه المزني وقول أبي إسحاق: يلزم كل واحد منهم بحصته مما رجع عنه؛ فيلزم الراجع عن مائة خمسة وعشرون درهما، ويلزم الراجع عن مائتين خمسون، ويلزم الراجع عن ثلاثمائة خمسة وسبعون، ويلزم الراجع عن أربعمائة مائة. وعلى قول ابن الحداد: لا يرجع عليهما بمائتين؛ لأن البينة قائمة فيهما، فإذا رجع الأول والثاني.. لا يرجع عليهما بشيء بنفس رجوعهما، فإذا رجع على الثالث والرابع.. فإن البينة قائمة في مائتين، وقد رجع الأربعة عن مائة، فيجب على الأربعة على كل واحد منهم ربعها، وقد رجع الثاني والثالث والرابع من المائة الثانية وبقي فيها الأول شاهدا، وكم يجب على الثاني والثالث والرابع من المائة التي رجعوا بها، فيه وجهان: [أحدهما] : من أصحابنا من قال: يرجع عليهم بثلاثة أرباعها؛ لأنها لزمته بشهادة أربعة، وقد بقي منهم واحد ثابتا على الشهادة. والثاني: يجب عليهم نصفها؛ لأنه لم ينخرم إلا نصف البينة التي يلزم بها الحق. [فرع شهد رجل وامرأتان أو أكثر على رجل بمال فحكم بها ثم رجعوا] وإن شهد رجل وامرأتان على رجل بمال، فحكم الحاكم بشهادتهم، ثم رجعوا عن الشهادة.. وجب على الرجل ضمان النصف وعلى المرأتين ضمان النصف؛ لأن شهادة الرجل كشهادة المرأتين. وإن شهد رجل وعشر نسوة بمال، فحكم بشهادتهم، ثم رجعوا عن الشهادة.. ففيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي العباس وأبي يوسف -: أنه يجب على الرجل ضمان

فرع حكم بشهادة الفرع ثم رجع شاهدا الأصل

النصف وعلى النساء ضمان النصف؛ لأن النساء لا يحكم بشهادتهن بانفرادهن في المال، وإنما يحكم بشهادتهن في ذلك مع الرجل، فدل على أنهن حزب والرجل حزب، فوجب عليهن ضمان النصف وعلى الرجل ضمان النصف. والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا، وبه قال أبو حنيفة -: أنه يجب على الرجل ضمان السدس وعلى النسوة ضمان خمسة أسداس. وهو الأصح؛ لأن شهادة كل امرأتين بشهادة رجل، فهو كما لو شهد بالمال ستة رجال، ثم رجعوا. فإن رجع ثمان نسوة.. لم يجب عليهن شيء على قول ابن الحداد، وعلى قول المزني وأبي إسحاق: يجب عليهن ثلثا المال. وإن رجع منهن تسع.. وجب على التسع على قول ابن الحداد ربع المال، وعلى قول أبي إسحاق: يجب ثلاثة أرباع المال. [فرع حكم بشهادة الفرع ثم رجع شاهدا الأصل] وإن شهد شاهدان على شهادة رجلين بحق، فشهد شاهد الفرع بالحق، وحكم الحاكم بشهادتهما، فاعترف شاهدا الأصل: أنهما ادعياهما وأنهما رجعا عن الشهادة، وإنما ادعياهما لزور.. فإن الضمان يجب على شاهدي الأصل عندنا، وبه قال أبو حنيفة. وقال محمد: يجب الضمان على شاهدي الفرع. دليلنا: أن الحق إنما يثبت بشهادة شاهدي الأصل، وشاهدا الفرع إنما يثبتان شهادتهما، فإذا رجعا.. لزمهما الضمان، كما لو شهدا بها عند الحاكم فحكم بها، ثم رجعا. [فرع رجوع الشهود وتعزيرهم وماذا عن قبول شهادتهم] وإذا شهد الشهود بحق ثم رجعوا.. فهل يعزرون؟ ينظر فيهم: فإن وجب عليهم عند رجوعهم قصاص في نفس أو طرف.. لم يعزروا؛ لأن التعزير للردع، والذي يفعل بهم أبلغ من التعزير بالردع.

مسألة موت الشهود أو طرو جنون أو إغماء

وإن لم يلزمهم قصاص، وإنما لزمهم مال.. نظرت: فإن ذكروا أنهم أخطؤوا في الشهادة.. لم يعزروا؛ لأنهم معذورون في الخطأ، وإن قالوا: تعمدنا.. عزروا؛ لأنهم أقروا بارتكاب كبيرة مع العلم بها فاستحقوا التعزير. وهل تقبل شهادتهم بعد رجوعهم؟ أما في الذي رجعوا عنه: فلا تقبل شهادتهم فيه بحال؛ لأنهم قد رجعوا عن الشهادة فيه. وأما في غيره: فينظر فيه: فإن قالوا: تعمدنا الشهادة بالزور عليه.. لم تقبل شهادتهم إلا بعد التوبة والإصلاح، كما قلنا في شهادة الزور. وإن قالوا: أخطأنا.. قبلت شهادتهم في غيره؛ لأنهم معذورون في الخطأ، فلا تسقط به عدالتهم. [مسألة موت الشهود أو طرو جنون أو إغماء] أو فسق عليهم] : وإذا شهد الشهود بحق، ثم ماتوا قبل أن يعرف الحاكم عدالتهم، ثم قامت البينة بعدالتهم بعد موتهم، أو ماتوا بعد ثبوت عدالتهم وقبل الحكم بشهادتهم، أو جنوا قبل ثبوت عدالتهم ثم ثبتت عدالتهم بعد جنونهم، أو جنوا بعد ثبوت عدالتهم وقبل الحكم بشهادتهم.. فللحاكم أن يحكم بشهادتهم في جميع ذلك؛ لأن الموت أو الجنون ليس بفسق، فلم يورث ذلك شكا في شهادتهم، فجاز الحكم بها، كما لو كانوا أحياء عقلاء. وكذلك: إذا أغمي عليهم أو ارتدوا أو خرسوا أو عموا.. فإنه يجوز الحكم بشهادتهم. وقال أبو حنيفة: (إذا عموا قبل الحكم بشهادتهم.. لم يجز الحكم بشهادتهم) . وقد مضى ذلك والدليل عليه. وأما إذا شهد الشهود بحق، ثم فسقوا قبل الحكم بشهادتهم.. لم يجز الحكم بشهادتهم؛ لأن الفسق إذا ظهر قبل الحكم.. أوقع شكا في العدالة حال الشهادة؛ لأن العادة في الناس أنهم يستترون في المعاصي ويظهرون الطاعات، فإذا ظهر الفسق.. دل على تقدم أمثاله، فلم يجز الحكم بشهادتهم.

مسألة قضية نقض الحكم بسبب بيان أن الشهود ممن لا تصح شهادتهم

وإن شهد الشهود بحق، فحكم الحاكم بشهادتهم واستوفى ذلك الحق، ثم فسق الشهود. لم يؤثر الفسق، سواء كان ذلك الحق لله تعالى أو للآدمي؛ لأن الحق قد استوفى والفسق ظهر بعد استيفاء الحق، فيجوز أن يكونوا فساقا حال الشهادة، ويجوز أن يكونوا عدولا، وقد استوفى الحق ونفذ فلا ينقض بأمر محتمل. وإن فسق الشهود بعد الحكم وقبل استيفاء الحق، فإن كان الحق له تعالى كحد الزنى والسرقة والشرب.. لم يستوف؛ لأنها تسقط بالشبهة، والفسق يوقع شكا في حال الشهادة. وإن كان الحق لآدمي.. نظرت: فإن كان حقا لا يسقط بالشبهة؛ كالمال والنكاح.. فله استيفاؤه؛ لأن الحكم قد نفذ فلا ينقض بأمر محتمل. وإن كان مما يسقط بالشبهة، كالحد والقصاص.. ففيه وجهان - حكاهما ابن الصباغ -: أحدهما - ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غيره -: أنه لا يجوز استيفاؤه؛ لأن ذلك ما يسقط بالشبهة، والفسق شبهة، فلم يجز استيفاؤه بعد فسق الشهود، كحد الزنى. والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره -: أن له استيفاؤه؛ لأنه حق لآدمي فلم يمنع فسق الشهود بعد الحكم به من استيفائه كالديون. [مسألة قضية نقض الحكم بسبب بيان أن الشهود ممن لا تصح شهادتهم] وإذا حكم الحاكم بشهادة رجلين، ثم بان أنهما عبدان أو كافران.. فإنه ينقض حكم نفسه وينقضه غيره؛ لأنه إنما حكم بشهادة من يعتقدهما حرين مسلمين، فأما إذا بانا عبدين أو كافرين.. فقد تحقق أنه حكم بشهادة من لا يجوز الحكم بشهادته فنقضه، كما لو حكم بحكم ثم وجد النص بخلافه. فإن قيل: كيف ينقض حكم من حكم بشهادة عبدين وقد ذهب إلى جواز شهادة العبيد بعض السلف؟ قلنا: عنه جوابان:

أحدهما: أن الإجماع قد حصل بعد الاختلاف على رد شهادة العبيد، فيرتفع الاختلاف ويصير إجماعا. والثاني: أن من قال بقبول شهادة العبيد يخالف القياس الجلي؛ لأنه لا يجوز أن يكون الرق مانعا عن الميراث والولاية والرجم ولا يكون مانعا من قبول الشهادة، وكل حكم خالف القياس الجلي.. فإنه ينقض. فأما إذا حكم الحاكم بشهادة رجلين ظاهرهما العدالة ثم شهد شاهدان أنهما فاسقان: فإن شهدا بفسق مطلق غير مضاف إلى حال الشهادة، أو شهدا بفسق حادث بعد الحكم والاستيفاء.. لم ينقض الحكم بشهادتهما. وإن شهدا بفسقهما حال شهادتهما بالحق الذي شهد به.. فقد قال الشافعي في موضع: (ينقض الحكم بشهادتهما) . وقال في موضع: (إن الحاكم ينظر المشهود عليه بجرح الشهود ثلاثا فإن أتى بالجرح بعده.. لم يقبله) وهذا يدل على أنه إذا أقام البينة بفسقهم بعد الحكم.. لا يقبله، واختلف أصحابنا فيها على طريقين: فـ[الطريق الأول] : قال أبو العباس: فيها قولان: أحدهما: لا ينقض الحكم بشهادتهما - وبه قال أبو حنيفة - لأن عدالتهما عرفت من طريق الاجتهاد، وعدالة الشاهدين اللذين شهدا بفسقهما علمت من طريق الاجتهاد، فلا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد. والثاني: ينقض الحكم بشهادتهما، وهو الأصح؛ لأنه لو بان رقهما.. لنقض الحكم بشهادتهما، ولا نص في رد شهادة العبد ولا إجماع، فلأن ينقض الحكم بشهادتهما إذا بانا فاسقين وقد ثبت النص برد شهادة الفاسق والإجماع أولى. فأما النص: فقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] .

وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] [الحجرات: 6] . فأمر بالتبين في نبأ الفاسق وهو خبره، والشهادة خبر فوجب ردها. وأما الإجماع: فإن أحدا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم لم يجز شهادة الفاسق. و [الطريق الثاني] : قال أبو إسحاق: ينقض الحكم بشهادتهما قولا واحدا؛ لما ذكرناه. وحيث قال: (إذا أتى المشهود عليه بالجرح.. لم يقبل) أراد: إذا كان الفسق حادثا، أو كانت الشهادة بفسقهما مطلقة غير مضافة إلى حال الشهادة. إذا ثبت هذا، وقلنا: ينقض الحكم بشهادة الفاسق، أو بانا عبدين أو كافرين.. فلا يخلو المحكوم به: إما أن يكون إتلافا أو مالا. فإن كان إتلافا، مثل الشهادة بما يوجب القتل فقتل، أو بما يوجب القطع فقطع.. فلا يجب الضمان على الشاهدين؛ لأنهما مقيمان على أنهما صادقان في الشهادة، وإنما الشرع منع من قبول شهادتهما. ويخالف إذا رجعا عن الشهادة؛ لأنهما اعترفا بالكذب، ولا يجب على المشهود له ضمان؛ لأنه يقول: استوفيت حقي، ويجب الضمان على الحاكم؛ لأنه حكم بذلك بشهادة من لا يجوز الحكم بشهادته. وقال أبو سعيد الإصطخري: هذا إذا كان الحاكم تولى الاستيفاء بنفسه، أو أمر من تولى ذلك، فأما إذا كان الولي استوفاه بأمر الحاكم.. فالضمان على الولي. والمذهب الأول؛ لأن الحاكم سلطة على ذلك وأجازه له. وقال أبو حنيفة: (يجب الضمان على المزكيين) . دليلنا: أن المزكيين يقولان: ما ثبت بشهادتنا شيء وإنما شهدنا بصفة، والحكم إنما وقع بشهادة الشاهدين، فلا يلزمنا الضمان، وإنما وجب على الحاكم الضمان؛ لأنه مفرط حيث حكم بشهادة من لا يعرف عدالته ظاهرا وباطنا.

مسألة حكم الحاكم لا يحيل الأمور

إذا ثبت هذا: فإن القصاص لا يجب على الحاكم؛ لأنه مخطئ، وتجب عليه الدية، وهل تجب على عاقلته أو في بيت المال؟ على قولين، مضى ذكرهما. وإن كان المحكوم به مالا، فإن كان المحكوم به باقيا في يد المحكوم له.. وجب عليه رده. وإن كان تالفا، فإن كان المحكوم له موسرا.. غرمه، وإن كان معسرا.. وجب ضمانه على الحاكم، وهل يجب في ماله أو في بيت المال؟ على قولين. ولا يمكن إيجابه على العاقلة؛ لأن العاقلة لا تحمل المال. فإذا غرم الحاكم المال.. كان المال ثابتا في ذمة المشهود له، فإذا أيسر.. غرم الحاكم أقل الأمرين: مما دفع أو الحق المشهود به. والفرق بين المال وإتلاف النفس والعضو: أن المال يضمن بالإتلاف واليد، وقد حصل المال في يد المشهود له فلزمه ضمانه، وضمان النفس والعضو إنما يجب إذا أتلف بغير حق، وتمكين الحاكم المشهود له من إتلاف ذلك.. أخرج إتلافه عن أن يكون إتلافا بغير حق، فلم يلزمه الضمان. [مسألة حكم الحاكم لا يحيل الأمور] حكم الحاكم لا يحيل الأمور عما هي عليها، فإذا ادعى رجل على رجل حقا، فأنكر المدعى عليه، وأقام المدعي شاهدين وحكم الحاكم بشهادتهما، فإن كانا قد شهدا بحق.. صح الحكم ظاهرا وباطنا وحل للمشهود له ذلك. وإن شهدا بغير حق، أو حكم له الحاكم بشيء بيمين فاجرة.. فإن الحكم ينفذ في الظاهر، ولا ينفذ في الباطن، ولا يحل للمحكوم له ما حكم له به. وبه قال شريح ومالك وأبو يوسف ومحمد وأكثر أهل العلم.

وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (حكم الحاكم يحيل الشيء عما هو عليه في الباطن، فإذا ادعى رجل على امرأة أجنبية أنها زوجته فأنكرت، فشهد بذلك شاهدان أنها زوجته وهما شاهدا زور، فحكم له الحاكم بشهادتهما.. فإن الحكم ينفذ ظاهرا وباطنا، وتحل له المرأة. وهكذا: إذا ادعت امرأة على زوجها أنه طلقها فأنكر، فأقامت على طلاقها شاهدي زور، وحكم الحاكم بشهادتهما.. بانت منه، وحل لكل واحد من الشاهدين أن يتزوجها ولو كان عالما أنه لم يطلقها. وكذلك ما أشبه ذلك) . دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأنا أقضي بما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء.. فلا يأخذ به؛ فإنما أقطع له قطعة من النار» . فموضع الدليل منه: قوله: «فمن قضيت له من حق أخيه بشيء.. فلا يأخذه» ، وحق أخيه قد يكون مالا وقد يكون طلاقا ونكاحا، فلو كان حكمه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يغير الشيء عما هو عليه في الباطن.. لم يمنع المحكوم له من أخذه. وروي: «أن سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة ادعيا على وليدة زمعة، فقال سعد: يا رسول الله، إن أخي عتبة عهد إلي أنه ألم بها في الجاهلية، وأن ولدها ابنه، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" ثم رأى به شبها بعتبة، فقال لسودة بنت زمعة: "احتجبي عنه يا سودة» وقد كان حكم بأنه أخوها، فلما رأى به شبها بالزاني.. أمرها أن تحتجب عنه، فلو كان حكم الحاكم يغير الشيء عما هو عليه في الباطن.. لما أمرها بالاحتجاب عنه، ولأنه حكم بسبب غير صحيح في الباطن، فوجب أن لا ينفذ الحكم به في الباطن، كالأموال. والله أعلم وبالله التوفيق

كتاب الإقرار

[كتاب الإقرار]

كتاب الإقرار الحكم يتعلق بالإقرار، والأصل فيه: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] إلى قوله {أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 81] [آل عمران: 81] وقَوْله تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] [التوبة: 102] وقَوْله تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] [الأعراف: 172] . وأما السنة: فروي: أن ماعزا والغامدية أقرا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزنا، فأمر برجمهما وقال: «اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمهما» . وأما الإجماع: فلا خلاف بين الأمة في تعلق الحكم بالإقرار. وأما القياس: فلأن الإقرار آكد من الشهادة؛ لأنه لا يتهم فيما يقر به على نفسه، فإذا تعلق الحكم بالشهادة.. فلأن يتعلق بالإقرار أولى.

مسألة يجوز الإقرار إلا من مكلف

إذا ثبت هذا: فهل يجب الإقرار؟ ينظر في الحق المقر به: فإن كان لآدمي، أو حقا لله تعالى لا يسقط بالشبهة - كالزكاة والكفارة - ودعت الحاجة إلى الإقرار به.. لزمه الإقرار به؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] [النساء: 135] ، ولا يكون شهيدا على نفسه إلا بالإقرار. وإن كان حقا لله تعالى يسقط بالشبهة - كحد الزنا والسرقة والشرب - ولم يظهر عليه.. لم يجب عليه أن يقر به، بل يستحب له أن يكتمه، وقد مضى بيان ذلك. [مسألة يجوز الإقرار إلا من مكلف] مسألة: [لا يجوز الإقرار إلا من مكلف] : قال الشافعي: (ولا يجوز الإقرار إلا من بالغ رشيد) . وجملة ذلك: أن الناس على ضربين: مكلف وغير مكلف. فأما (غير المكلف) : فهو الصبي والمجنون، فلا يصح إقرارهما بحق من الحقوق. وقال أبو حنيفة: (إذا كان الصبي مميزا.. صح إقراره إذا أذن الولي له بالبيع والشراء، فيصح إقراره به) . دليلنا: أنه لا يصح منه ذلك، وقد مضى. فإن أقر مراهق وادعى أنه غير بالغ، وادعى المقر له أنه بالغ.. لم نحكم بصحة إقراره حتى يقيم المقر له البينة على بلوغه؛ لأن الأصل عدم بلوغه. فإن سأله المقر له أن يحلف له.. لم يتوجه عليه اليمين؛ لأنا حكمنا أنه غير بالغ. فإذا ثبت بلوغه بعد ذلك وادعى المقر له أنه كان بالغا وقت إقراره له وسأله أن يحلف له بعد بلوغه.. توجهت عليه اليمين؛ لأنه قد صار بالغا. ولا يصح إقرار المكره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولأن المكره غير داخل في التكليف. ولا يصح إقرار المغمى عليه؛ لأنه غير مكلف. وأما (المكلف) : فعلى ضربين: محجور عليه وغير محجور عليه. فأما (غير المحجور عليه) فإقراره صحيح.

فرع اعترف بأنه باع عبده من نفسه

قال ابن الصباغ: سواء كان عدلا أو فاسقا؛ لأنه غير متهم في حق نفسه. فإن أقر السكران في حال سكره.. فهل يصح منه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه زائل العقل، فلم يصح إقراره كالمغمى عليه. والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأن الشافعي قال: (ولو شرب خمرا أو نبيذا فسكر، فأقر في حال سكره.. لزمه ما أقر به) . وإن أكره رجل على شرب خمر فشربها حتى زال عقله ثم أقر.. لم يلزمه إقراره وجها واحدا؛ لأنه معذور في ذهاب عقله. وأما (المحجور عليه) : فعلى أربعة أضرب: ضرب محجور عليه للفلس، ومحجور عليه للسفه، ومحجور عليه للرق، ومحجور عليه للمرض. فأما (المحجور عليه للفلس) : فإن أقر بحق يتعلق ببدنه أو بذمته.. صح؛ لأنه لا ضرر على الغريم بذلك، وهل يشارك المقر الغرماء بالدين؟ على قولين مضى بيانهما في (التفليس) . وإن أقر بعين في يده.. فهل يقبل إقراره على الغرماء؟ على القولين. وأما (المحجور عليه للسفه) : فيقبل إقراره فيما يتعلق ببدنه، ولا يقبل إقراره بالمال، وقد مضى ذلك في (الحجر) . وأما (المحجور عليه للرق) فإقراره مقبول فيما يتعلق ببدنه، ولا يقبل إقراره بالمال في حق سيده، لكن إذا عتق.. طولب به، وقد مضى بيان ذلك في (الحدود) . [فرع اعترف بأنه باع عبده من نفسه] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو أقر أنه باع عبده من نفسه بألف، فصدقه

فرع إقرار المحجور عليه لمرض بحق

العبد.. عتق والألف عليه، وإن أنكر. فهو حر والسيد مدع والعبد منكر) وجملة ذلك: أن السيد قال لعبده: بعتك نفسك بألف، فقال العبد: قبلت.. فنقل المزني: (أنه يصح ويعتق، فيجب عليه الألف) ، قال الربيع: وفيه قول آخر: (أنه لا يصح) واختلف أصحابنا فيه: فذهب أكثرهم أنها على قولين. أحدهما: لا يصح البيع؛ لأن البيع لا بد أن يكون الثمن فيه عينا أو دينا، والعبد لا يملك العين، والدين لا يثبت في ذمته لسيده، فيكون كالكتابة الفاسدة. الثاني: يصح البيع، وهو الصحيح؛ لأنه لو قال له: إن ضمنت لي ألفا فأنت حر، فقال العبد على الفور: ضمنت.. صح ذلك وعتق، ووجب عليه المال. وكذلك: إذا قال له: أنت حر على ألف، فقبل العبد على الفور.. عتق ووجب المال في ذمته، وشراؤه لنفسه إنما هو من ضمانه المال في مقابلة الحرية؛ لأن الإنسان لا يملك نفسه وإنما ذلك عبارة عن إسقاط حق الرق عنه، فجرى مجرى عتقه على مال. وقال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة: يصح البيع قولا واحدا؛ لما ذكرناه. إذا ثبت هذا: فادعى السيد أنه باعه نفسه بألف، وقلنا: يصح البيع، فإن صدقه العبد.. عتق وثبت الألف في ذمته. وإن أنكره العبد ولا بينة للسيد.. حلف العبد: أنه ما اشترى نفسه ولم يجب عليه شيء، وعتق بإقرار سيده. وهكذا الحكم إذا قال رجل لحر: بعتك ولدك أو والدك، فأنكر المدعى عليه.. فإنه يحلف ويسقط عنه الثمن ويعتق العبد بإقرار سيده. [فرع إقرار المحجور عليه لمرض بحق] وأما (المحجور عليه لمرض) فإن أقر بحق يتعلق ببدنه؛ كالحدود والقصاص.. قبل: لأنه لا ضرر على الورثة بذلك. وإن أقر بدين أو عين لغير الورثة.. قبل: لأنه غير متهم. وإن أقر بدين في صحته وبدين في مرضه واتسع ماله للجميع.. قسم بينهم، وإن ضاق ماله.. فإنه يقسم بينهم على قدر ديونهم. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (يقدم الدين المقر به في الصحة) . وحكى أبو زيد المروزي عن بعض أصحابنا: أنه قول للشافعي. وليس بمشهور؛

لأنهما دينان ثبتا في ذمته ولم يختص أحدهما برهن، فاستويا في حق من وجب عليه، كما لو أقر بالجميع في الصحة أو في المرض. وإن أقر في مرض موته لوارثه.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فمن أجاز الإقرار لوارثه.. أجازه، ومن أبى.. رده) واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان: أحدهما: لا يصح - وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد - لأنه محجور عليه في حق غيره، ومن كان محجورا عليه في حق إنسان.. لم يصح إقراره له، كالصبي في حق جميع الناس. والثاني: يصح إقراره له. وبه قال الحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، وأبو عبيد، وأبو ثور. قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: وهو الأصح؛ لأنه يصح إقراره بوارث، فصح إقراره للوارث، كالصحيح. ولأنه يصح إقراره لغير الوارث، فصح إقراره للوارث، كالأجنبي. وقال الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني: يصح إقراره له قولا واحدا - كما ذكرناه - والقول الآخر حكاه عن غيره. فإذا قلنا: يصح إقراره للوارث.. فلا تفريع عليه. وإن قلنا: لا يصح إقراره للوارث.. فالاعتبار بالوارث كونه وارثا حال موت المقر دون حال الإقرار. فإن أقر لأخيه في مرض موته، ثم حدث له ابن قبل موته.. قبل إقراره لأخيه. وإن أقر لأخيه وله ابن، فمات ابنه قبله وصار الأخ وارثا له.. لم يصح إقراره له. هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: هل الاعتبار في الإقرار بكونه وارثا حال موت المقر، أو حال إقراره؟ فيه قولان. المشهور: أن الاعتبار بكونه وارثا عند الموت؛ لأن ما يرد لأجل الورثة إنما هو حال الموت كالوصية.

مسألة إقرار من ثبت له الحق الذي أقر به إذا لم يكذبه المقر له

قال الشيخ أبو إسحاق: وإن ملك رجل أخاه، ثم أقر في مرض موته: أنه كان أعتقه في صحته وهو أقرب عصبته.. نفذ عتقه، وهل يرث؟ فإن قلنا: الإقرار للوارث لا يصح.. لم يرثه؛ لأن توريثه يوجب إبطال الإقرار بحريته، وإذا بطلت الحرية.. سقط الإرث، فتثبت الحرية وسقط الإرث. وإن قلنا: الإقرار للوارث يصح.. نفذ العتق بإقراره، وثبت الإرث بنسبه. فإن أقر المريض: أنه أعتق عبدا في صحته، وكان عليه دين يستغرق تركته.. صح إقراره وحكم بعتقه؛ لأن الإقرار ليس بإيقاع للعتق، وإنما هو إخبار بما تقدم وقوعه. [مسألة إقرار من ثبت له الحق الذي أقر به إذا لم يكذبه المقر له] مسألة: [صحة إقرار من ثبت له الحق الذي أقر به إذا لم يكذبه المقر له] : يصح الإقرار لكل من ثبت له الحق المقر به، فإذا أقر رجل لحر بحق في ذمته أو في يده أو في بدنه.. صح إقراره، ولا نعتبر فيه قبول المقر له، وإنما يعتبر فيه تصديقه له أو سكوته، فإن كذبه المقر له.. بطل إقراره. فإن كان المقر به دينا في ذمته أو حقا في يديه، وكذبه المقر له.. لم يلزم المقر شيء. وإن كان المقر به عينا.. ففيه وجهان. أحدهما: يأخذها الحاكم من المقر إلى أن يأتي من يدعيها ويقيم عليها البينة؛ لأن المقر والمقر له لا يدعيانها، فكان على الحاكم حفظها كالمال الضائع. والثاني: يقر في يد المقر؛ لأنه محكوم له بملكها باليد، فإذا أقر بها لغيره وكذبه المقر له.. بقيت على ملكه بحكم اليد. فإن أقرت المرأة لعبد بالنكاح، أو أقر له رجل بالقصاص أو تعزير القذف.. ثبت له ذلك بتصديقه، ولا يعتبر فيه تصديق السيد؛ لأن الحق للعبد في ذلك دون السيد. وإن أقر له بمال.. فذكر الشيخ أبو إسحاق: إن قلنا: إنه يملك المال.. صح الإقرار له، وإن قلنا: لا يملك.. كان الإقرار لمولاه، يلزم بتصديقه ويبطل برده.

مسألة الإقرار لحمل امرأة

وذكر ابن الصباغ: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال في الإقرار بالحكم الظاهر: (إذا قال: لعبد فلان عندي ألف درهم.. كان ذلك إقرارا صحيحا لسيده، سواء كان مأذونا له في التجارة أو غير مأذون له؛ لأن غير المأذون له يثبت له المال بالوصية) . وإن قال: لهذه الدار أو لهذه البهيمة ألف.. لم يصح إقراره. وإن قال: لمالك هذه الدابة بسببها ألف درهم.. كان إقراره بذلك صحيحا، ويحمل على أنه جنى عليها. وإن قال: له ألف بسبب حملها.. لم يصح؛ لأن الحمل لا يجب بسببه شيء ما دام حملا، فإذا قال: بسبب ولدها.. لزمه. [مسألة الإقرار لحمل امرأة] وإن أقر لحمل امرأة بمال.. فلا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يضيف ذلك إلى جهة صحيحة، أو يطلق، أو يضيف إلى جهة باطلة. فإن أضاف ذلك إلى جهة صحيحة؛ بأن قال: عندي له كذا من ميراث أو وصية له.. صح الإقرار؛ لأن الحمل يملك بالإرث والوصية. وإن أطلق؛ بأن قال: له عندي كذا.. ففيه قولان: أحدهما: لا يصح الإقرار - وبه قال أبو يوسف - لأن الحمل لا يملك المال إلا من جهة الإرث والوصية، فإذا لم يضف الإقرار إلى ذلك.. جاز أن يريد من غيرهما، فلم يصح. والثاني: يصح الإقرار - وبه قال محمد بن الحسن - وهو الأصح؛ لأن من صح له الإقرار مضافا إلى جهة.. صح الإقرار له مطلقا، كالطفل. وإن أضاف ذلك إلى جهة باطلة؛ بأن قال: له علي كذا من معاملة بيني وبينه، أو من جناية عليه، فإن قلنا: إنه لو أطلق الإقرار له لا يصح.. فها هنا أولى أن لا يصح. وإن قلنا: إن الإقرار المطلق له يصح.. فهل يصح الإقرار له هاهنا؟ فيه

فرع إقراره بمال لمسجد

قولان، كالقولين فيمن وصل إقراره فيما يسقطه، ويأتي توجيههما. وكل موضع قلنا: يصح الإقرار للحمل.. نظرت: فإن وضعته ميتا.. لم يصح الإقرار؛ لأن الميت لا يملك من جهة الإرث والوصية. وإن وضعته حيا، فإن تيقن أنه كان موجودا حال الوصية.. لزم الإقرار له، وإن لم يتيقن وجوده حال الإقرار.. لم يلزم الإقرار، وقد مضى تيقن وجوده في مواضع قبل هذا. فإن وضعت ولدا واحدا.. فجميع المقر به له، سواء كان ذكرا أو أنثى. وإن وضعت ولدين، فإن كانا ذكرين أو أنثيين.. فهو بينهما نصفان. وإن كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى. فإن أضاف المقر ذلك إلى الوصية.. فهو بينهما بالسوية. وإن أضاف ذلك إلى الميراث: فإن كانا أخوين لأم.. فهو بينهما بالسوية، وإن كان إلى غيره من الميراث.. فللذكر مثل حظ الأنثيين. وإن أطلق الإقرار لهما، وقلنا: يصح.. فاختلف أصحابنا فيه. فقال الشيخ أبو حامد: يكون بينهما بالسوية. وقال ابن الصباغ: يرجع إلى بيان المقر. فإن وضعت ولدين حيا وميتا.. فالإقرار للحي؛ لأن الميت كالمعدوم، ويسلم إلى ولي الحي. [فرع إقراره بمال لمسجد] وإن أقر لمسجد بمال، فإن قال: من غلة وقف عليه أو وصية له، أو من معاملة بيني وبين وليه في ماله.. صح الإقرار. وإن أطلق الإقرار.. ففيه وجهان، بناء على القولين في الإقرار المطلق للحمل. [مسألة إقراره بحق لله تعالى أو لآدمي ثم رجع عن إقراره] وإن أقر بحق لآدمي، أو بحق لله لا يسقط بالشبهة؛ كالزكاة والكفارة، ثم رجع.. لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق ثبت لغيره، فلم يملك إسقاطه بغير رضاه. وإن أقر بحق لله تعالى يسقط بالشبهة، ثم رجع.. فقد مضى بيانه في (الحدود) .

مسألة إجابة المقر بلفظ صريح أو محتمل

[مسألة إجابة المقر بلفظ صريح أو محتمل] إذا ادعى رجل على رجل ألف درهم، فقال المدعى عليه: نعم، أو أجل، أو صدقت، أو لعمري.. كان ذلك إقرارا؛ لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق. وإن قال المدعى عليه: لا أنكر ما تدعيه، أو أنا مقر بما تدعيه، أو لا أنكر أن تكون محقا في دعواك.. كان ذلك إقرارا؛ لأنه لا يحتمل غير التصديق. وإن قال المدعى عليه: بلى.. كان إقرارا. قال في " الفروع ": وقيل: إن هذا ليس بجواب؛ لأنه يصلح للنفي. وإن قال المدعى عليه: أنا أقر بما تدعيه، أو: أنا أقر.. لم يكن إقرارا؛ لأنه يحتمل: أنه أراد الوعد بالإقرار في المستقبل. وإن قال المدعى عليه: لا أنكر.. لم يكن إقرارا؛ لأنه لم يسم ما لم ينكره، فيحتمل أن يكون أراد: لا أنكر فضلك، أو لا أنكر وحدانية الله. وكذلك: إذا قال المدعى عليه: لا أقر ولا أنكر.. لم يكن إقرارا؛ لما مضى. وإن قال المدعى عليه: أنا مقر.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يكون إقرارا؛ لأنه يحتمل: أني مقر ببطلان دعواك. والثاني: يكون إقرارا؛ لأنه جواب عن الدعوى، فانصرف الإقرار إلى ما ادعي عليه. وإن قال المدعى عليه: لعل، أو عسى، أو أظن، أو أحسب، أو أقدر.. لم يكن إقرارا؛ لأن هذه الألفاظ وضعت لشك. [فرع أجوبة تحتمل الإقرار وغيره] وإن ادعى عليه ألف درهم، فقال المدعى عليه: لفلان علي أكثر مما لك علي..

فرع أجوبة أخرى يحتمل فيها الإقرار وعدمه

قال المسعودي [في ((الإبانة)) ] : لم يكن إقرارا لواحد منهما؛ لاحتمال أنه قاله على سبيل السخرية. وإن قال المدعى عليه: لي مخرج من هذه الدعوى.. لم يكن إقرارا. وقال ابن أبي ليلى: يكون إقرارا. دليلنا: أنه لم يقر له بالحق، وإنما حكى: أن له مخرجا من هذه الدعوى، فهو كما لو قال: لا حق علي لك. وإن ادعى عليه ألف درهم، فقال المدعى عليه: إن كنت تدعي بها من ثمن متاع.. فلا يلزمني ذلك، وإن كنت تدعي بها من جهة القرض.. فحتى أجيب، وإن كنت تدعي ألفا مطلقا.. فلا يلزمني ذلك، وإن كنت تدعي ألفا برهن لي عندك.. فحتى أجيب.. صح وينفعه هذا التفصيل؛ لأنه لو أقر بألف، ثم ادعى الرهن.. أخذ منه الألف ولا يصدق في الرهن. وكذلك: لو ادعى على المرتهن عبدا.. فمن حقه أن يقول: إن كنت تدعي عبدا مطلقا.. فلا يلزمني التسليم، وإن كنت تدعي عبدا مرهونا بألف درهم فحتى أجيب.. صح. [فرع أجوبة أخرى يحتمل فيها الإقرار وعدمه] وإن ادعى عليه بألف درهم، فقال المدعى عليه: خذ أو اتزن.. لم يكن إقرارا؛ لأنه يحتمل: خذ الجواب مني، أو اتزن من غيري إن كانت عليه. وإن قال المدعى عليه: خذها أو اتزنها.. ففيه وجهان: أحدهما: يكون إقرارا؛ لأن هاء الكناية ترجع إلى ما تقدم من الدعوى. والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا -: لا يكون إقرارا؛ لأن الصفة ترجع إلى المدعى به، ولم يقر أنه واجب. وإن ادعى عليه ألف درهم، فقال المدعى عليه: وهي صحاح.. فاختلف أصحابنا فيه:

فقال أبو عبد الله الزبيري: يكون ذلك إقرارا منه؛ لأنه إقرار منه بصفة المدعى به عليه، والإقرار بالصفة إقرار بالموصوف. وقال أكثر أصحابنا: لا يكون إقرارا منه؛ لأن الصفة ترجع إلى المدعى به، ولم يقر بوجوبه عليه. وإن ادعى عليه ألف درهم، فقال المدعى عليه: ما أكثر ما تتقاضاني، أو لقد أهممتني، أو ليست بحاضرة اليوم، أو والله لأقضكه.. قال الطبري: لم يكن إقرارا. وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) . وبه قال بعض أصحابنا. دليلنا: أنه لم يقر بوجوبها عليه بشيء من هذه الألفاظ، فلم تلزمه. وإن قال: لفلان علي ألف درهم في علمي.. كان إقرارا؛ لأن ما في علمه لا يحتمل إلا الوجوب. وإن قال رجل لرجل: اقض الألف التي لي عليك، أو أعطني عبدي هذا، أو اشتر مني عبدي هذا، فقال: نعم.. فهل يكون ذلك إقرارا منه بالألف والعبد؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون إقرارا، كما لو قال له: عندك لي ألف، أو هذا العبد لي، فقال: نعم. والثاني: لا يكون إقرارا؛ لأن الجواب يرجع إلى القضاء والعطية والشراء، وقد يقضي الإنسان ما لا يجب عليه، ويعطيه ويشتري منه ما لا يملكه. والأول أصح. وإن قال: أعطني الألف التي لي عليك، فقال: غدا.. قال الطبري: لك يكن إقرارا. وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) . دليلنا: أن قوله: (غدا) موعد جواب الدعوى، فصار كما لو قال: غدا أجيب.

فرع كتب لزيد علي ألف

وإن قال: لفلان علي ألف درهم، أو لا؟ لم يكن إقرارا؛ لأنه يشك أن عليه الألف أو لا شيء عليه، فلا يلزمه شيء بالشك. وإن قال لرجل: أخبر فلانا: أن له عليك ألف درهم؟ فقال المسؤول: نعم.. قال الطبري: لا يكون إقرارا. وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) . دليلنا: أنه أذن له في الخبر المنقسم إلى الصدق والكذب، فلم يكن إقرارا. وكذلك: إذا قال لرجل: لا تخبر فلانا: أن له علي ألف درهم.. لم يكن إقرارا. وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) . دليلنا: أنه منعه من أن يضيف إليه حقا، والمنع من الإخبار ليس بإقرار، كما لو قال: ليس لفلان علي شيء لا تخبره به. وإن قال: لي عليك ألف درهم أقرضتكها، فقال المدعى عليه: والله لا اقترضت منك غيرها، أو لم تمن بها علي.. قال الصيمري: كان إقرارا. ولو قال: ما أعجب هذا أو نتحاسب.. لم يكن إقرارا. [فرع كتب لزيد علي ألف] لو كتب رجل: لزيد علي ألف درهم، ثم قال للشهود: اشهدوا علي بما فيه.. لم يكن إقرارا. وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) . دليلنا: أنه ساكت عن الإقرار بالمكتوب فلم يكن إقرارا، كما لو كتب عليه غيره فقال: اشهدوا بما كتب فيه، أو كما لو كتب على الأرض.. فإن أبا حنيفة وافقنا في ذلك. [مسألة الاستثناء والتعليق على شرط في الإقرار] فإن قال: له علي ألف إن شاء الله.. لم يلزمه شيء؛ لأن ما علق بمشيئة الله تعالى

فرع علق إقراره على شاهدين

لا يعلم، فهو كما لو قال: امرأته طالق، أو عبده حر إن شاء الله. وإن قال: له علي ألف إن شاء زيد، أو إذا قدم الحاج.. لم يكن إقرارا؛ لأن الإقرار إخبار عن حق واجب فلم يصح تعليقه على الشرط. وإن قال لرجل: لك علي ألف إن شئت.. لم يكن إقرارا؛ لأن ما لا يلزمه لا يصير واجبا عليه بوجود الشرط. وإن قال: لك علي ألف درهم إن قبلت إقراري.. قال ابن الصباغ: فعندي أنه لا يكون إقرارا. وإن قال: هذا لك بألف إن شئت أو إن قبلت، فقال: قبلت أو شئت.. كان ذلك بيعا صحيحا. والفرق بينهما: أن الإيجاب في البيع يقع متعلقا بالقبول، فإذا لم يقبل.. لم يصح، فجاز تعليقه عليه، والإقرار لا يتعلق بالقبول، وإنما هو إخبار عن حق سابق، فلم يصح تعليق وجوبه بشرط القبول. [فرع علق إقراره على شاهدين] وإن قال: لك علي ألف إن شهد لك بها شاهدان، أو قال: إن شهد لك شاهدان بألف علي فهي علي.. لم يكن إقرارا؛ لأنه إقرار معلق بشرط مستقبل. وإن قال: إن شهد لك علي شاهدان، أو فلان وفلان بألف فهما صادقان.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يكون إقرارا؛ لأنه إقرار معلق على شرط، فلم يكن إقرارا لازما، كما لو قال: إن شهد علي فلان بألف.. صدقته، أو وزنته لك. والثاني - وهو قول ابن القاص واختيار القاضي أبي الطيب -: أنه يكون إقرارا؛ لأنه أخبر أنهما إذا شهدا بذلك.. كانا صادقين، ولا يكونان صادقين إلا إذا كانت الألف واجبة عليه، فوجبت عليه وإن لم يشهدا. ويخالف قوله: إن شهد لك فلان بألف علي صدقته أو وزنته لك؛ لأنه قد يصدق من ليس بصادق وقد يزن ما لا يجب عليه.

فرع علق معسر إقراره على اليسار

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن قال: لفلان علي ألف إن شهد بها فلان وفلان.. فإنه لا يكون إقرارا؛ لأنه إقرار معلق على شرط مستقبل، فإن شهد بها فلان وفلان وهما عدلان.. لزمه الألف بالشهادة دون الإقرار) . [فرع علق معسر إقراره على اليسار] قال الطبري: لو قال معسر: لفلان علي ألف درهم إن رزقني الله مالا.. كان إقرارا. وقال أبو حنيفة: (لا يكون إقرارا) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لأنه إقرار معلق على شرط. والأول أصح؛ لأن اليسار ميقات لأداء ما على المعسر، وبيان ميقات الأداء لا يبطله، كما لو قال: له علي ألف إلى رأس الشهر. [فرع علق إقراره على شرط مقدم أو مؤخر أو على الموت] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا قال: له علي ألف درهم إذا جاء رأس الشهر.. كان ذلك إقرارا. وإن قال: إن جاء رأس الشهر فله علي ألف درهم.. لم يكن إقرارا) . قال أصحابنا: والفرق بينهما: أنه إذا قال: له علي ألف.. فقد أقر بالألف، فإذا قال بعد ذلك: إذا جاء رأس الشهر.. احتمل أن يكون أراد محلها.. فلم يبطل إقراره بذلك، وإذا بدأ بالشرط فقال: إذا جاء رأس الشهر فله علي ألف.. لم يقر بالحق وإنما علقه بالشرط، فلم يكن إقرارا. وقال القاضي أبو الطيب: في ذلك نظر، ولا فرق بين تقديم الشرط وتأخيره. وإن قال: له علي ألف إلا أن يبدو لي.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ". وإن قال: له علي ألف إن مت.. لم يكن إقرارا. وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) . دليلنا: أنه إقرار معلق بالموت فلم يكن إقرارا، كما لو علقه بقدوم زيد.

فرع صحة الإقرار بغير لسان قومه

[فرع صحة الإقرار بغير لسان قومه] يصح الإقرار بالعجمية، كما يصح بالعربية، فإن أقر أعجمي بالعربية، أو عربي بالعجمية، واعترف أنه عالم بما أقر به.. لزمه ما أقر به. وإن قال: لم أعلم ما معناه، فإن صدقه المقر له على ذلك.. سقط الإقرار، وإن كذبه ولا بينة مع المقر له أن المقر يعلم ما أقر به.. فالقول قول المقر مع يمينه؛ لأن الظاهر من حال العجمي أنه لا يعرف العربية، ومن العربي أنه لا يعرف العجمية. [مسألة الإقرار بالدين والوصية] إذا مات رجل وخلف ابنا لا وارث له غيره، وخلف عبدا قيمته ألف درهم لا مال له غيره، فحضره رجلان فقال له أحدهما: لي على أبيك ألف درهم فصدقه، ثم قال الثاني: أوصى لي أبوك بثلث ماله فصدقه.. قدم إقراره لصاحب الدين، فيباع العبد ويقضى صاحب الدين دينه. فإن رجع العبد إلى الابن ببيع أو هبة أو إرث.. لم يلزمه شيء للموصى له؛ لأن الدين إذا استغرق التركة.. لم تصح الوصية. وإن صدق الموصى له أولا، ثم صدق صاحب الدين.. قال القفال وابن الحداد: فللموصى له ثلث العبد، ولصاحب الدين ثلثا العبد يتعلق به دينه؛ لأنه أقر أولا للموصى له فلزمه إقراره بثلث العبد، فلا يقبل رجوعه عنه إلى الإقرار لصاحب الدين. وإن صدقهما معا.. قال القفال وابن الحداد: إذا قسم العبد على أربعة أسهم: سهم للموصى له، وثلاثة تباع لصاحب الدين؛ لأنه لا مزية لأحدهما في التصديق، فصار كما لو أوصى لأحدهما بالعبد وللآخر بثلثه وأجاز لهما الابن. وقال الشيخ أبو الحسين الطبري: عندي أنه لصاحب الدين؛ إذ حكمهما إذا صدقهما حكم ما لو أقاما البينة، ولو أقاما البينة.. لقدم صاحب الدين، فكذلك إذا صدقهما. والمشهور هو الأول. فإذا قلنا بالمشهور، وسلم إلى الموصى له في الأولى ثلث العبد، وفي الثانية

فرع إقرار الوارث بعتق اثنين من التركة وبدين على أبيه

ربعه، ثم رجع إلى ملك الابن ببيع أو هبة أو إرث.. لزمه تسليمه ليباع فيما بقي من الدين؛ لأن الوصية لم تبطل الدين، وإنما قدمت الوصية لإقرار المدعى عليه. وإن حضره رجلان، فقال أحدهما: أوصى لي أبوك بثلث ماله، وقال الآخر: أوصى لي أبوك بثلث ماله، فقال لهما: صدقتما.. قسم الثلث بينهما نصفين؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. وإن صدق أحدهما قبل الآخر.. قال القاضي أبو الطيب: انفرد الأول بثلث جميع التركة بإقرار الابن من غير مزاحمة له، وإقراره للثاني إذا لم يصادقه الأول.. لم يثبت حقه، ولا ينقص ما ثبت له بإقراره؛ لأنه لا يقبل رجوعه عنه، ويكون للثاني سدس جميع المال يأخذه مما في يد الابن؛ لأنه ثبت له بإقراره له، فيبقى للابن نصف التركة. وإن صدق الابن الأول وكذب الثاني، فأقام الثاني شاهدين.. ثبت للثاني ثلث جميع التركة بالبينة ولا يشاركه الأول فيه؛ لأن إقرار الوارث لا يعارض البينة، وثبت للأول ثلث ما بقي من التركة، وهو سهمان من تسعة أسهم من جميع التركة؛ لأنه يقر بأنه مستحق لثلث جميع التركة إلا أن الثلث الذي قبضه صاحب البينة كالمغصوب؛ لأنه يكذب البينة، فلزمه ثلث ما بقي في يده من التركة. وإن صدق الابن الثاني، وأراد الثاني أن يقيم البينة.. سمعت بينته؛ لأنه يستفيد بذلك استحقاق ثلث جميع التركة، وإذا لم يقم البينة.. لم يستحق إلا سدسها. وأما الأول.. فلا يعارض الثاني؛ لأن الإقرار لا يعارض البينة، ويكون للأول نصف الثلث؛ لأن البينة قد ثبتت عليه في حق المدعي وفي حق الوارث، فرجع حقه إلى نصف الثلث. [فرع إقرار الوارث بعتق اثنين من التركة وبدين على أبيه] وإن مات رجل وخلف ابنا ولا وارث له غيره، وخلف ثلاثة أعبد قيمتهم سواء لا مال له غيرهم، فقال أحدهم: قد أعتقني أبوك في مرض موته فلم يجبه، وقال

فرع يقدم صاحب البينة في الدين على الإقرار

العبد الثاني: أعتقني أبوك في مرض موته، فقال الابن: صدقتما.. قال ابن الحداد: أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. عتق ورق الآخر. وإن صدق الأول ثم صدق الثاني.. عتق الأول بغير قرعة؛ لأنه ثبت له العتق بإقراره من غير مزاحمة، ولا يقبل رجوعه عنه بتصديقه للثاني. وأما الثاني: فإنه أقر له بالعتق مع المزاحمة فيقرع بينه وبين الأول، فإن خرجت القرعة على الأول.. رق الثاني، وإن خرجت على الثاني.. عتق أيضا. وإن مات رجل وخلف ابنا لا وارث له غيره، وخلف عبدا قيمته ألف لا مال له غيره، فادعى العبد على الابن أن أباه أعتقه في حال صحته، وادعى رجل: أن له على أبيه ألف درهم دينا، فقال الابن: صدقتما.. قال ابن الحداد: عتق نصف العبد وبيع نصفه في الدين؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر في التصديق. وإن صدق العبد أولا ثم صدق صاحب الدين.. عتق العبد وبطل إقراره لصاحب الدين. وإن صدق صاحب الدين أولا، ثم صدق العبد.. بيع العبد في الدين، ولا يصح إقراره بالعتق. فإن كانت بحالها إلا أن العبد ادعى أن أباه أعتقه في مرض موته، فإن صدق العبد أولا.. عتق ثلث العبد وبيع ثلثاه في الدين، وإن صدقهما معا.. عتق ربع العبد وبيع ثلاثة أرباعه في الدين، وإن صدق صاحب الدين أولا.. بيع العبد في الدين وبطل العتق. [فرع يقدم صاحب البينة في الدين على الإقرار] وإن مات رجل وخلف ابنا لا وارث له غيره، وخلف ألف درهم لا مال له غيرها، فادعى رجل على الابن أن له على أبيه ألف درهم دينا فصدقه، ثم ادعى آخر على الابن أن له على أبيه ألف درهم دينا فكذبه، فأقام الثاني بينة بدينه.. قال ابن الحداد: قدم صاحب البينة؛ لأن البينة مقدمة على الإقرار.

فرع الإقرار بما يستحقه لغيره

[فرع الإقرار بما يستحقه لغيره] قال الطبري في " العدة ": إذا أقرت المرأة بصداقها الذي في ذمة زوجها لغيرها، أو أقر الزوج بالمال الذي ثبت له على الزوجة بالخلع لغيره، أو أقر المجني عليه بأرش الجناية على الجاني لغيره.. فقال صاحب " التلخيص ": لا يقبل إقراره في جميع هذه المسائل؛ لأنا قد علمنا ثبوته على من هو عليه لمالكه فلا يجوز أن يكون لغيره، والإقرار لا ينقل الملك؛ ولهذا: لو شهد رجلان أن فلانا أقر بدار لفلان وهو يملكها يوم الإقرار.. لم تصح هذه الشهادة. قال أبو علي السنجي: وقعت هذه المسألة فأفتيت فيها هكذا، ثم رأيتها لأصحابنا بنيسابور هكذا؛ لأن الدار إذا كانت ملكا له فإقراره بها لغيره كذب، إلا أن يقولا وكانت في يده، وتصرفه فيها تصرف المالك، ولم يكن له فيها منازع.. فحينئذ يقبل. قال أبو علي السنجي: وهذه المسائل كلها إذا قلنا: لم تصح هبة الدين، ولا بيعه من غير من هو عليه في أحد الوجهين. قال الطبري: وقد تعود الناس اليوم الإقرار للوارث بمال في مرض الموت يقصدون به قطع الميراث عن غيره من غير عقد ولا سبب، وذلك حرام ويكون موروثا. ولو حدث مثل هذا وادعى سائر الورثة على المقر له: أن أبانا قد أقر لك بذلك وظن أنك تملكه بإقراره، فاحلف أنه أقر لك بحق لازم.. لزمه أن يحلف. وكذلك: لو أقر البائع بقبض الثمن وأشهد على نفسه بذلك، ثم قال: قد أقررت به على ما جرت العادة أن المشتري لا يدفع الثمن ما لم يكتب البائع الصك ويشهد عليه، فحلفوه أني كنت قبضته منه.. حلف. والله أعلم

باب جامع الإقرار

[باب جامع الإقرار] إذا أقر بمجهول؛ بأن قال: له علي شيء.. صح إقراره. وتخالف الدعوى، حيث قلنا: لا تصح بالمجهول؛ لأن الإقرار حق عليه، فلذلك صح مع الجهالة به. وفي الدعاوى لا يمكن الحكم بالمجهول. ثم يطالب المقر بتفسير ما أقر به؛ لأنا لا نعلم إلا من جهته. فإن امتنع عن التفسير.. قلنا للمقر له: بين أنت ما أقر لك به، فإن قال: أقر لي بكذا.. قلنا للمقر: قد فسر المقر له إقرارك بكذا، فإن صدقه.. لزمه، وإن كذبه أو امتنع عن الجواب.. قلنا: إن فسرت ما أقررت به وحلفت عليه، وإلا.. جعلناك ناكلا وحلفنا المقر له على ما يدعيه وأوجبناه عليك، فإن فسر المقر إقراره.. فلا كلام، وإن لم يفسر.. حلفنا المقر له على ما فسره وأوجبناه عليه، وإن امتنع المقر له عن اليمين.. قيل له: انصرف فلا حكم لك عندنا. وهذا هو المشهور: وحكى الشيخ أبو إسحاق: أن من أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: هذا. والثاني: يحبس المقر إلى أن يفسر. ولم يذكر المسعودي [في ((الإبانة)) ق \ 293] غير هذا. وإن فسر المقر الشيء الذي أقر به.. نظرت: فإن فسره بما يتمول في العادة وإن قل؛ كالدرهم والفلس.. قبل تفسيره ورجع إلى المقر له، فإن صدقه على ذلك.. ثبت ذلك، وإن كذبه في القدر وادعى أكثر مما أقر به من جنس ما فسر به إقراره وأنه أراده بإقراره.. ثبت القدر المقر به وحلف المقر على نفي الزيادة، فيحلف: أنه لا يستحق عليه ما ادعاه وأنه لم يرده بإقراره، يمينا واحدة. وإن ادعى المقر له جنسا آخر غير الجنس الذي أقر به المقر.. سقط ما أقر به

المقر؛ لأنه كذبه، وكان القول قول المقر مع يمينه في نفي ما ادعاه عليه، فإذا حلف.. سقط حكم الإقرار، وإن نكل المقر عن اليمين.. ردت على المقر له. قال أصحابنا العراقيون: فيحلف: أنه أراد بقوله ما ادعاه المقر له وأنه يستحقه عليه. وقال المسعودي [في ((الإبانة)) ق \ 296] : يحلف أن لي عليه كذا، ولا يحلف أنه أراد بإقراره؛ لأنه لا يمكنه الإطلاع على مراده. وإن فسره بما لا يتمول؛ بأن فسره بقشر جوزة أو قمع باذنجانة أو قشر رمانة أو قشر لوزة.. لم يقبل تفسيره؛ لأن إقراره يقتضي ثبوت حق عليه، وهذا مما لا يثبت في الذمة فيطالب بتفسير إقراره. وإن فسر إقراره بما ليس بمال في الشرع؛ كلحم الميتة والدم وجلد الكلب أو كلب غير معلم.. لم يقبل تفسيره؛ لأن ذلك لا ينتفع به. وإن فسره بالكلب المعلم أو الخنزير أو الخمر أو السرجين أو جلد الميتة قبل الدباغ.. فهل يقبل تفسيره؟ فيه ثلاثة أوجه - حكاها الشيخ أبو إسحاق -: أحدها: يقبل؛ لأنه يقع عليها اسم الشيء. والثاني: لا يقبل؛ لأن الإقرار إخبار عما يجب ضمانه؛ وهذه الأشياء لا تثبت في الذمة ولا يجب ضمانها. والثالث: إن فسره بالخمر أو بالخنزير.. لم يقبل؛ لأنه لا يجب تسليمه. وإن فسره بالكلب أو بالسرجين أو جلد الميتة قبل الدباغ.. قبل؛ لأن هذه الأشياء يجب تسليمها. وإن فسر إقراره بحق الشفعة.. قبل؛ لأنه حق عليه يؤول إلى المال. وإن فسره برد السلام وجواب الكتاب.. لم يقبل؛ لأن ذلك لا يثبت في ذمته؛ لأن رد السلام - وإن كان واجبا - فإنه يسقط بفواته.

وإن فسره بحد القذف.. ففيه وجهان - حكاهما ابن الصباغ -: أحدهما: يقبل؛ لأنه حق لآدمي. والثاني: لا يقبل؛ لأنه لا يؤول إلى المال بحال. وإن فسره برد وديعة عنده له.. قال المسعودي [في ((الإبانة)) ق \ 296] : قبل؛ لأن الرد شيء واجب عليه. هذا مذهبنا، وقال أبو حنيفة: (إذا قال: له علي شيء.. لم يقبل منه تفسيره بغير المكيل والموزون) . دليلنا: أن غير المكيل والموزون مملوك يدخل تحت العقد، فجاز أن يفسر به الإقرار المجهول، كالمكيل والموزون. وإن قال: غصبتك شيئا، ثم قال: غصبتك نفسك.. لم يقبل؛ لأن الإقرار يقتضي غصب شيء منه، ويطالب بتفسيره. وإن شهد شاهدان على رجل لرجل بمال مجهول.. فهل تقبل شهادتهما؟ فيه وجهان: أحدهما: تصح شهادتهما. وتعلق هذا القائل بأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو رهن عنده رهنا على مائة، ثم ادعى أن المرتهن أقر بقبض شيء من الحق، أو قال: قد أقبضته بعض الحق، وقامت البينة بذلك.. فالقول قول المرتهن في قدره، فإذا لم يحلف.. قام وارثه مقامه بها) . والثاني: لا تصح هذه الشهادة؛ لأن البينة سميت بينة؛ لأنها تبين ما شهدت به، وهذه ما أبانت. ومن قال بهذا.. تأول ما قاله الشافعي على أنه أراد: إذا شهدت البينة على إقرار المقر بحق مجهول.. فإن الشهادة مقبولة.

مسألة الإقرار بشيء عليه لفلان يوجب التفسير

[مسألة الإقرار بشيء عليه لفلان يوجب التفسير] وإن ادعى على رجل ألف درهم، فقال المدعى عليه: علي له شيء.. فهو كما لو أقر له ابتداء بشيء، فيطالب بتفسيره على ما مضى، فإن امتنع من التفسير.. جعله الحاكم ناكلا. قال الشيخ أبو حامد: ويحلف الحاكم المدعي أنه أراد بقوله: (له علي شيء) ألف درهم وأنه يستحق ما ادعاه عليه. وإن قال: أردت به درهما.. قيل للمقر له: ما تقول؟ فإن قال: نعم أراد هذا بإقراره ولكن لي عليه ألف درهم.. قيل له: خذ هذا الدرهم وحلفه على الباقي. وإن قال المدعي: ما أراد بإقراره بالشيء الدرهم، وإنما أراد الألف الذي ادعيت عليه.. فقد ادعى عليه بشيئين: أحدهما: الألف، والثاني: أنه اعترف له به. قال الشيخ أبو حامد: فله أن يحلفه على شيئين: أنه لم يرد بقوله: له علي شيء ألفا، وأنه لا يستحق عليه من الألف إلا درهما، ويكفيه يمين واحدة؛ لأنهما حقان لشخص واحد. وإن فسر إقراره بجنس غير الدرهم؛ بأن قال: له علي ثوب أو عبد.. قيل للمدعي: ما تقول؟ فإن قال: نعم أراد به هذا ولي عليه هذا والألف الدرهم أيضا.. ثبت له ما أقر له به، وحلف المقر على الألف المدعى بها عليه. وإن قال المقر له: صدق أنه أراد بقوله له علي شيء هذا الذي فسره، ولكن ما لي عليه هذا وإنما لي عليه ألف درهم.. بطل إقراره بالثوب؛ لأنه كذبه، وحلف المقر: أنه لا يستحق عليه ألف درهم. وإن قال المقر له: كذب في التفسير، بل أراد بقوله: له علي شيء الألف الدرهم التي ادعيت.. فقد ادعى عليه بشيئين: الألف درهم والاعتراف بها، فيحلف المقر يمينا واحدة أنه ما أراد بقوله: له علي شيء ألف درهم وأنه لا يستحق عليه ألف

مسألة الإقرار بمال يوجب المطالبة بالتفسير

درهم، ويسأل المقر له عما فسر به المقر إقراره، فإن قال: هو لي.. أخذه، وإن قال: ليس لي.. بطل الإقرار له. [مسألة الإقرار بمال يوجب المطالبة بالتفسير] وإن قال: له علي مال.. طولب بتفسيره، فإذا فسره بما يقع عليه اسم المال - وإن قل - قبل منه، والكلام في الرجوع إلى المقر له على ما مضى في الإقرار بالشيء. وإن فسره بخمر أو خنزير أو كلب معلم أو جلد ميتة قبل الدباغ أو سرجين.. لم يقبل وجها واحدا؛ لأن ذلك وإن وقع عليه اسم الشيء.. فلا يقع عليه اسم المال. هذا مذهبنا، وقال أبو حنيفة: (إذا قال: له علي مال.. فلا يقبل في تفسيره إلا المال الذي تجب فيه الزكاة) . واختلف أصحاب مالك فيه: فمنهم من قال كقولنا. ومنهم من قال: لا يقبل أقل من نصاب في الزكاة من نوع أموالهم. ومنهم من قال: لا يقبل منه إلا ما يستباح به البضع، أو ما يقطع به السارق. دليلنا: أن اسم المال يقع على القليل والكثير مما يتمول به في العادة، فقبل تفسيره فيه كالذي سلموه. [فرع إقراره بمال عظيم ونحوه] وإن قال: له علي مال عظيم، أو كثير، أو جليل، أو نفيس، أو عظيم جدا، أو عظيم عظيم.. فإنه لا يتقدر بمقدار، بل إذا فسره بما يقع عليه اسم المال.. قبل منه. واختلف أصحاب أبي حنيفة فيه: فمنهم من قال: لا يقبل فيه أقل من عشرة دراهم. وقيل: إنه مذهب أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يقبل فيه أقل من مائتي درهم. ومنهم من قال: لا يقبل فيه أقل من قدر الدية.

فرع أقر بأن عليه أكثر من مال فلان

وقال الليث بن سعد: (لا يقبل فيه أقل من اثنين وسبعين درهما؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التوبة: 25] [التوبة: 25] وكانت غزواته وسراياه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثنتين وسبعين) . دليلنا: أن ما من قدر من المال إلا وهو عظيم وكثير بالإضافة إلى ما هو دونه فقبل تفسيره فيه كالذي سلمه كل واحد منهم، وما احتج به الليث.. فلا حجة فيه؛ لأن ذلك ليس بحد لأقل الكثير، ولا يمتنع وقوع الكثير على أقل من ذلك. [فرع أقر بأن عليه أكثر من مال فلان] وإن قال: له علي أكثر من مال فلان، أو أكثر من المال الذي في يد فلان.. رجع في تفسيره إليه، فإذا فسره بأي قدر من المال.. قبل منه، سواء فسره بمثل مال فلان أو بأقل منه، وسواء علم مبلغ مال فلان أو لم يعلم؛ لأنه يحتمل أن قوله: (أكثر) أي: أكثر من مال فلان نفعا؛ لكونه حالا أو لكونه في الذمة. وإن قال: له علي أكثر من مال فلان عددا، أو علي له مال عدده أكثر من عدد مال فلان، فإن أقر أنه يعرف قدر مال فلان.. لزمه قدر مال فلان، ورجع في الزيادة إليه، فبأي قدر فسر الزيادة من المال.. قبل منه؛ لأنه يحتمل ما قاله. وإن قال: لا أعلم قدر مال فلان إلا كذا.. لزمه قدر ما أقر أنه يعرف أنه مال فلان، ورجع في الزيادة عليه إليه. وإن قال: لا أعلم قدر مال فلان، وحلف أنه لا يعلم قدر مال فلان.. قبل تفسيره وإن كان بأقل من مال فلان؛ لأنه إذا لم يعلم قدر مال فلان.. فقد أقر بمجهول فرجع في تفسيره إليه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (فإن أقام المقر له بينة أن المقر يعرف قدر مال فلان وهو كذا.. لم أحكم بهذه البينة، بل لا يلزمه إلا ما أقر به؛ لأنه يجوز أن يكون قد عرف قدر مال فلان، ثم اعتقد بعد ذلك أنه قد ذهب بعضه ولا يدري كم ذلك

مسألة إقراره بأن لفلان درهما

البعض، وكل من أقر بشيء.. فإنه يلزمه ما تحقق إقراره فيه، ويرجع في المحتمل إليه وهذا محتمل، فكان القول فيه قوله) . [مسألة إقراره بأن لفلان درهما] وإن قال: لفلان علي درهم، فإن كان في بلد يتعاملون فيه بالدراهم الوازنة - وهي دراهم الإسلام التي في كل درهم منها ستة دوانيق، وكل عشرة دراهم منها وزن سبعة مثاقيل - فإنه يلزمه درهم من دراهم الإسلام؛ لأن إطلاق الدراهم ينصرف إلى الدراهم الوازنة. وإن فسره بدرهم ناقص، كالدراهم الطبرية التي وزن كل درهم أربعة دوانيق، أو دراهم خوارزم التي وزن كل درهم أربعة دوانيق ونصف، فإن كان ذلك منفصلا عن إقراره.. لم يقبل منه؛ لأن إطلاق الدراهم إنما ينصرف في البدل التي يتعامل فيها بالدراهم الوازنة إليها. وإن كان ذلك متصلا بإقراره.. قبل منه، كما لو قال: له علي درهم إلا دانقين. وحكى ابن الصباغ عن بعض أصحابنا أنه قال: هل يقبل منه ذلك؟ فيه قولان، كما لو قال: له علي ألف درهم قضيتها. وليس بصحيح؛ لأن الدراهم يعبر بها عن الوازنة والناقصة، وإنما حملت على الوازنة؛ لأن عرف الإسلام قائم بها، فإذا فسرها بأنقص منها متصلا بكلام.. كان كالاستثناء فقبل منه. وأما إذا كان المقر في بلد يتعاملون فيها بالدراهم الناقصة الوزن عن دراهم الإسلام.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب (الإقرار والمواهب) : (ولو كان ببلد دراهمهم كلها نقص، ثم أقر بدرهم.. كان درهما من درهم البلد) .

فرع اعترف له بدرهم كبير أو صغير

ووجهه: أنه إذا كان هذا عرفا عندهم.. انصرف الإطلاق إليه، كما ينصرف الإطلاق إليه في البيع. فمن أصحابنا من قال: يلزمه من دراهم الإسلام؛ لأن ذلك وزن الإسلام. هكذا ذكر ابن الصباغ: أن إطلاق الإقرار بالدرهم في البلد التي يتعاملون فيها بالدراهم الناقصة.. هل ينصرف الإقرار إليها؟ على الوجهين.. المنصوص: (أنه ينصرف إليها) . وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن إطلاق الإقرار بالدرهم ينصرف إلى دراهم الإسلام في كل موضع، فإن فسره المقر بدرهم ناقص عن وزن درهم الإسلام وكان المقر في بلد يتعاملون فيها بالدراهم الناقصة.. فهل يقبل منه؟ فيه وجهان. المنصوص: (أنه يقبل منه) . [فرع اعترف له بدرهم كبير أو صغير] فإن قال: له علي درهم كبير.. لزمه درهم من دراهم الإسلام؛ لأنه هو الكبير في العرف، فإن كان في البلد دراهم كبار القدر.. لزمه ذلك.. وإن فسره بما هو أكبر منه من وزن دراهم الإسلام.. قبل منه؛ لأنه يحتمل ما قاله. وإن قال: له علي درهم صغير أو دريهم.. قال ابن الصباغ: فإن كان للناس دراهم صغار.. لزمه درهم صغير، وإن كانت دراهمهم وازنة.. لزمه درهم وازن صغير. يريد: صغير القدر. وذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه إذا قال: درهم صغير أو دريهم.. فإنه يلزمه درهم وازن، فإن كان في البلد دراهم صغار ففسره بها.. قبل. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الإقرار والمواهب) : (إذا قال: له علي مائة درهم عددا.. فهي وازنة) . قال ابن الصباغ: ومعنى ذلك: أنه إذا كان في بلد يتعاملون فيها بالوزانة، فقال: عددا.. اقتضى أن يكون عددا بحكم اللفظ، ووزانة بحكم الاسم، وهما لا يتنافيان.

فرع أقر بدراهم ففسرها بالمزيفة

[فرع أقر بدراهم ففسرها بالمزيفة] وإن أقر له بدراهم، ففسرها بدراهم زيف.. نظرت: فإن فسرها بدراهم كلها نحاس أو رصاص لا فضة فيها.. لم يقبل منه، سواء وصل ذلك بإقراره أو فصله؛ لأن النحاس والرصاص لا يسمى دراهم. وإن فسرها بدراهم فضة مغشوشة برصاص أو نحاس.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال القاضي أبو الطيب: يقبل منه، سواء وصل ذلك بإقراره أو فصله؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (ولو قال: من سكة كذا وكذا.. صدق مع يمينه، كانت أردأ الدراهم أو أوسطها) . قال القاضي: وأردأ الدراهم المغشوشة. وقال الشيخان - أبو إسحاق الشيرازي وأبو حامد الإسفرائيني -: حكمه حكم النقص، فإن وصلها بإقراره.. قبل، وإن لم يصلها.. لم يقبل؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو قال: له علي درهم، ثم قال: نقص أو زيف.. لم يصدق) . وما احتج به القاضي.. فإنها تعود إلى أدنى الدراهم سكة. ولأن الدراهم المغشوشة خارجة عن ضرب الإسلام، كالنقص. قال ابن الصباغ: فإن كان المقر ببلد يتعامل فيه بالدراهم المغشوشة.. فينبغي إذا أطلق أن لا يلزمه إلا منها، كما قلنا في النقص. [فرع أقر بغصب ألف درهم أو بأنها وديعة عنده] وإن قال: غصبته ألف درهم، أو عندي له ألف درهم وديعة، ثم قال: هي نقص أو زيف.. قال ابن الصباغ: والذي يقتضي المذهب: أنه لا يقبل منه، كما لو قال: له علي ألف درهم. وقال أبو حنيفة: (يقبل منه في الغصب والوديعة) . دليلنا: أن الاسم يقتضي الوازنة غير الزيف، فلم يقبل ما يخالف الاسم، كما لو قال: له علي ألف درهم.

فرع أقر بدراهم ثم فسر نوع سكتها

[فرع أقر بدراهم ثم فسر نوع سكتها] وإن قال: له علي دراهم، ثم فسرها بسكة دراهم البلد.. قبل منه، وإن فسرها بغير سكة البلد.. فالمنصوص: (أنه يقبل منه) . وقال المزني: لا يقبل منه؛ لأن إطلاق اسم الدراهم ينصرف إلى سكة دراهم البلد، كما قلنا في البيع. وليس بشيء؛ لأن الإقرار إخبار، فإذا كان مطلقا.. قبل تفسيره بما يحتمله، بخلاف البيع؛ فإنه إيجاب في الحال فاعتبر فيه عرف البلد. [مسألة الإقرار بدرهم أو أكثر من مرة مطلقا أو مقيدا] إذا أقر له يوم السبت بدرهم، وأقر له يوم الأحد بدرهم، وأطلق الإقرارين.. لم يلزمه إلا درهم واحد إلا أن يعترف أنه أراد بالثاني غير الأول. وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: (يلزمه درهمان) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا فرق بين المجلس والمجلسين. ومنهم من فرق بين المجلس والمجلسين. دليلنا: أن الإقرار إخبار، فإذا أقر، ثم أقر.. احتمل أن يكون الثاني هو الأول، واحتمل أن يكون غيره، وكان المرجع إليه فلم يلزمه ما زاد على درهم بالشك. وإن قال: له علي درهم من ثمن عبد، ثم قال: له علي درهم من ثمن ثوب.. لزمه درهمان؛ لأن الثاني غير الأول. وإن قال: له علي درهم من ثمن عبد، ثم قال: له علي درهم وأطلق.. لم يلزمه إلا درهم واحد؛ لأن الثاني يجوز أن يكون هو الأول، ويجوز أن يكون غيره، فلا يلزمه غير الأول بالشك، كما لو أطلق الإقرار فيهما. [فرع أقر بدرهم ودرهم وما أشبه ذلك من حروف العطف] وإن قال: له علي درهم ودرهم.. لزمه درهمان؛ لأن الواو لا تحتمل غير العطف، وحكم المعطوف حكم المعطوف عليه.

وإن قال: له علي درهم ودرهمان.. لزمه ثلاثة دراهم، لما ذكرناه. وإن قال: له علي درهم، ثم درهم.. لزمه درهمان؛ لأن ثم للعطف وإن كانت تقتضي الترتيب مع العطف. وإن قال: له علي درهم فدرهم.. رجع إليه: فإن قال: أردت العطف.. لزمه درهمان، وإن قال: لم أرد العطف.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يقبل منه) ، وقال: (إذا قال لامرأته: أنت طالق فطالق.. يلزمه طلقتان) . فنقل أبو علي بن خيران جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى وخرجهما على قولين: أحدهما: يلزمه درهمان وطلقتان - وبه قال أبو حنيفة - لأن الفاء من حروف العطف، فهو كما لو عطف بالواو. والثاني: لا يلزمه إلا درهم وطلقة؛ لأن قوله يحتمل الصفة والإيجاب، فلم يلزمه ما زاد على درهم وطلقة بالشك. وقال سائر أصحابنا: يلزمه درهم وطلقتان قولا واحدا. والفرق بينهما: أن الدراهم تدخلها الصفة والتفضيل، فيجوز أن يريد: فدرهم أجود منه، والطلاق إيقاع لا تدخله الصفة والتفضيل. قال أبو علي في " الإفصاح " فوزان الإقرار من الطلاق أن يقول: أنت طالق مطلقة، ويريد بذلك الصفة.. فيقبل منه، كما قلنا في الإقرار. وإن قال: له علي درهم ودرهم ودرهم.. فالمنصوص: (أنه تلزمه ثلاثة دراهم) . وقال في (الطلاق) : (إذا قال: أنت طالق وطالق وطالق.. فإنه يلزمه طلقتان، ويرجع إليه في قوله: وطالق الأخير: فإن قال: أردت به تأكيد الثانية.. لم يلزمه إلا طلقتان. وإن قال: لم أنو شيئا.. ففيه قولان: أحدهما: يلزمه ثلاث طلقات. والثاني: لا يلزمه إلا طلقتان) . وقال أبو علي بن خيران: الإقرار هاهنا مثل الطلاق، فإن قال: أردت تأكيد الثاني

فرع أقر بدرهم فوق درهم ونحوه

بالثالث.. لم يلزمه إلا درهمان، وإن لم تكن له نية.. فعلى قولين كالطلاق. وقال سائر أصحابنا: يلزمه ثلاثة دراهم بكل حال قولا واحدا. والفرق بينهما: أن الطلاق يدخله التأكيد للتخويف والإرهاب، ويؤكد بالمصدر فيقول: أنت طالق طلاقا، فقبل قوله أنه أراد تأكيده، والإقرار لا يدخله التأكيد، فلم يقبل قوله أنه أراده. وإن قال: له علي درهم، ثم درهم، ثم درهم.. لزمه ثلاثة دراهم، فإن قال: أردت بالثالث تأكيد الثاني.. قبل قوله عند أبي علي بن خيران، ولا يقبل عند سائر أصحابنا؛ لما مضى في التي قبلها. [فرع أقر بدرهم فوق درهم ونحوه] فإن قال: له علي درهم فوق درهم أو تحت درهم، أو فوقه درهم أو تحته درهم، أو مع درهم أو معه درهم، أو قبل درهم أو قبله درهم، أو بعد درهم أو بعده درهم، أو على درهم أو عليه درهم.. فاختلف أصحابنا في ذلك. فمنهم من قال: في الجميع قولان: أحدهما: يلزمه درهمان؛ لأن هذه الألفاظ تقتضي ضم درهم إليه، فأفادت ما أفادت حروف العطف. والثاني: لا يلزمه إلا درهم؛ لأن قوله: فوق درهم أو فوقه درهم؛ أي: في الجودة، وقوله: تحت درهم أو تحته درهم؛ أي: في الرداءة، وقوله: مع درهم أو معه درهم؛ أي مع درهم لي أو معه درهم لي، وكذلك قوله: علي درهم أو عليه درهم، وقوله: قبل درهم أو قبله درهم؛ أي: قبل درهم أملكه، وقوله: بعد درهم أو بعده درهم؛ أي: بعد درهم لي ملكته، وإذا احتمل هذا.. لم يلزمه ما زاد على درهم بالشك. ومنهم من قال: يلزمه في قوله: قبل درهم أو قبله درهم، أو بعد درهم أو بعده درهم درهمان قولا واحدا، وفي باقيها لا يلزمه إلا درهم؛ لأن قبل وبعد لا تحتمل إلا التأريخ، فصار أحد الدرهمين مضموما إلى الآخر.

فرع أقر بدرهم ثم قال: لا بل درهم أو درهمان

وقال أبو حنيفة وأصحابه: (إنه إذا قال: فوق درهم.. لزمه درهمان، وإذا قال: تحت درهم.. لم يلزمه إلا درهم؛ لأن قوله: فوق درهم يقتضي الزيادة، وقوله: تحت يقتضي الدون) . ودليلنا عليهم: ما مضى. وإن قال: له علي درهم في عشرة، فإن أراد الحساب في الضرب.. لزمه عشرة، وإن لم يرد ذلك.. لم يلزمه إلا درهم؛ لأنه يحتمل أنه أراد في عشرة لي. [فرع أقر بدرهم ثم قال: لا بل درهم أو درهمان] وإن قال: له علي درهم، لا بل درهم.. لم يلزمه إلا درهم واحد. وإن قال: له علي درهم، لا بل درهمان.. لم يلزمه إلا درهمان. وقال زفر وداود: (يلزمه في الأولى درهمان، وفي الثانية ثلاثة دراهم) . دليلنا: أن الأول من جنس الثاني، وقد نفى الأول وأثبت الثاني، فلم يلزمه إلا ما أثبته، كما لو قال: له علي درهمان إلا درهم. وإن قال: له علي هذا الدرهم - وأشار إلى درهم - لا بل هذان الدرهمان - وأشار إلى درهمين آخرين - لزمه الدراهم الثلاثة؛ لأن الأول غير داخل في الدرهمين الآخرين، فلزمه الجميع، بخلاف قوله: له علي درهم، لا بل درهمان ولم يشر إلى دراهم بأعيانها؛ فإن الدرهم الأول داخل في الدرهمين الآخرين. [فرع أقر بدرهم ثم قال لا بل دينار] ونحو ذلك] : وإن قال: له علي درهم، لا بل دينار، أو قال: له علي درهم، لا بل قفيز حنطة.. لزمه الدرهم والدينار والقفيز؛ لأن الثاني غير الأول فصار راجعا عن الأول مقرا بالثاني، فلم يقبل رجوعه، ولزمه حكم إقراره الثاني.

مسألة الإقرار بدراهم بصيغة الجمع

وكذلك إذا قال: له علي درهم ودينار، أو درهم وقفيز حنطة.. لزمه الدرهم والدينار والقفيز؛ لأنه عطف الثاني على الأول فلزمه الجميع. وإن قال: له علي دينار فقفيز حنطة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لم يلزمه إلا دينار) . ووجهه: أنه أراد: له علي دينار فقفيز حنطة خير منه. ويأتي فيه قول أبي علي بن خيران في قوله: له علي درهم فدرهم على ما مضى. وإن قال: له علي درهم أو دينار.. ففيه وجهان، حكاهما في " العدة ": أحدهما - ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غيره -: أنه لا يلزمه إلا أحدهما ويلزمه تعيينه؛ لأنه لم يقر إلا بأحدهما. والثاني: لا يلزمه شيء، كما لو قال: لزيد أو لعمرو علي دينار. وإن قال: له علي درهم في دينار.. لم يلزمه إلا درهم؛ لأنه يحتمل أنه أراد: في دينار لي. وإن قال: له علي عشرة دراهم، لا بل تسعة.. قال ابن الصباغ: لزمه عشرة؛ لأنه أقر بها، ثم أضرب عنها فلم يقبل. ويخالف إذا قال: له علي درهم، لا بل درهمان؛ لأنه أضرب عن الإقرار بالدرهم إلا أنه أدخله في الثاني، فلم يلزمه الزيادة. وإن قال: له علي عشرة دراهم أو تسعة.. قال الطبري: لا يلزمه إلا الأقل؛ لأنه يقين. [مسألة الإقرار بدراهم بصيغة الجمع] إذا قال: له علي دراهم.. لزمه أن يفسر، فإن فسر ذلك بثلاثة دراهم أو بأكثر منها.. قبل منه. وإن فسرها بدون الثلاثة.. لم يقبل منه. وحكي عن بعض الناس أنه قال: يقبل منه التفسير بالدرهمين.

فرع أقر بما بين درهم وعشرة

دليلنا: أن العرب وضعت للعدد صيغة، فقالوا: رجل للواحد، ورجلان للاثنين، ورجال للثلاثة فما زاد، فدل على أن أقل الجمع ثلاثة. فإن قال: له علي دراهم عظيمة أو كثيرة.. قبل في تفسير ذلك منه الثلاثة. وقال أبو حنيفة: (لا يقبل منه أقل من عشرة) . وقال أبو يوسف ومحمد: لا يقبل منه أقل من مائتي درهم. دليلنا: أن أقل الجمع ثلاثة، ووصفه لها بالكثرة والعظم لا يقتضي زيادة في العدد، كما لو قال: له علي حنطة عظيمة أو كثيرة. [فرع أقر بما بين درهم وعشرة] وإن قال: له علي ما بين الدرهم والعشرة أو إلى العشرة.. لزمه ثمانية؛ لأن الواحد والعاشر حدان فلا يدخلان في المحدود. قال ابن الصباغ: فمن أصحابنا من قال: يلزمه تسعة - وحكي ذلك عن أبي حنيفة - لأن الأول ابتداء الغاية والعاشر هو الحد، فدخل الابتداء فيه ولم يدخل الحد. وقال محمد بن الحسن: يلزمه العشرة. قال ابن الصباغ: فهذا له وجه؛ لأنا قد ذكرناه في (المرافق) : أن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه. [فرع أقر بما لا يزيد على مائة أو بألف في الكيس أو على جدار] قال الطبري في " العدة ": إذا قال: ما لزيد علي أكثر من مائة درهم.. لم يكن مقرا بالمائة. وقال أبو حنيفة: (يكون مقرا بالمائة) . دليلنا: أن قوله: (ما) نفي لا إثبات فيه، فلا يكون إقرارا، كما لو قال: ما له علي قليل ولا كثير.

مسألة أقر بكذا ولم يفسره

قال الطبري في " العدة ": إن قال: له علي ألف درهم في هذا الكيس.. فحكى أبو ثور أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (فإن كان في الكيس ألف درهم أو أكثر.. لزمه ألف درهم، وإن لم يكن في الكيس ألف درهم.. لم يلزمه غير ما في الكيس) . وحكى أبو علي السنجي: أن القفال قال: يلزمه الألف ولا يسقط عنه شيء بالإضافة إلى الكيس، ألا ترى أنه لو اقتصر على الإقرار بالألف فلم يضف إلى الكيس.. كان يلزمه الألف. ولو قال: له علي الألف الذي في هذا الكيس.. فهاهنا يخرج على قولين: أحدهما: يلزمه الألف إذا لم يكن فيه شيء. والثاني: لا شيء عليه إلا أن يكون فيه شيء فيلزمه، بناء على ما لو حلف ليشربن ماء هذا الكوز ولم يكن فيه شيء.. فهل يحنث؟ على قولين. قال الطبري: وإن قال: له علي ألف أو على هذا الجدار.. لم يلزمه الألف. وقال أبو حنيفة: (يلزمه) . دليلنا: أن إيصال الشك ممن عليه غير ملزم للإقرار، فهو كما لو قال: علي له أو على أخي أو شريكي ألف. [مسألة أقر بكذا ولم يفسره] وإن قال: له علي كذا ولم يفسره.. كان كما لو قال: له علي شيء، فيرجع في تفسيره إليه، فإن قال: له علي كذا درهم - برفع الدرهم - لزمه درهم، وتقديره: له علي شيء هو درهم. وإن قال: له علي كذا درهما - بنصب الدرهم - لزمه درهم، ويكون الدرهم منصوبا على التفسير. وإن قال: له علي كذا درهم - بخفض الدرهم - ففيه وجهان: [أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: يلزمه بعض درهم، ويرجع في بيان البعض إليه؛ لأن كذا تكون كناية عن جزء من الدرهم مضاف إليه.

و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: يلزمه درهم. وإن قال: له علي كذا درهم، ووقف ولم يعرب الدرهم.. قال ابن الصباغ: فعندي أنها على الوجهين في خفض الدرهم؛ لأن المجرور يوقف عليه ساكنا، كما يوقف على المرفوع، وإذا احتمل ذلك.. لم يلزمه إلا اليقين. وإن قال: له علي كذا كذا، ولم يفسره.. رجع في تفسيره إليه، كما لو قال: له علي شيء شيء، ولا يفيد تكراره. وإن قال: له علي كذا كذا درهم أو درهما.. لزمه درهم. وإن قال: له علي كذا كذا درهم، بخفض الدرهم أو بوقفه.. فعلى الوجهين في التي قبلها في خفض الدرهم ووقفه. وإن قال: له علي كذا وكذا ولم يفسره بشيء.. رجع في تفسيره إليه. فإذا فسر ذلك بأي شيء كان.. قبل منه، كما لو قال: له علي شيء وشيء. فإن قال: له علي كذا وكذا درهما.. فقد نقل المزني فيه قولين: أحدهما: (يلزمه درهمان) . والثاني: (لا يلزمه إلا درهم) . واختلف أصحابنا فيه على أربعة طرق: فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيه قولان: أحدهما: يلزمه درهمان؛ لأنه ذكر جملتين، فإذا فسر ذلك بدرهم.. عاد التفسير إلى كل واحدة من الجملتين، كما لو قال: له علي عشرون درهما.. فإن التفسير يعود إلى العشرين. والثاني: لا يلزمه إلا درهم؛ لأن (كذا) يجوز تفسيره بأقل من درهم، فإذا فسر

كذا وكذا بدرهم.. جاز أن يريد لكل واحد منهما نصف درهم فلم يلزمه أكثر من درهم بالشك. و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين. فحيث قال: (يلزمه درهمان) أراد: إذا قال: كذا وكذا درهما بنصب الدرهم؛ لأنه جعل الدرهم مفسرا لكل واحدة من الجملتين، فرجع إلى كل واحدة منهما. وحيث قال: (لا يلزمه إلا درهم) أراد: إذا قال: كذا وكذا درهم برفع الدرهم؛ لأنه خبر عن المبهمين، فيكون معنى ذلك: هما درهم. وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على هذا الطريق في (الإقرار والمواهب) . و [الطريق الثالث] : من أصحابنا من قال: هي على اختلاف حالين آخرين: فحيث قال: (يلزمه درهمان) أراد: إذا فسره بالدرهم ولم ينو شيئا. وحيث قال: (يلزمه إلا درهم) أراد: إذا فسره بالدرهم وقال: نويت الدرهم. و [الطريق الرابع] : منهم من قال: هي على اختلاف حالين آخرين: فحيث قال: (لا يلزمه إلا درهم) أراد: إذا قال: له علي كذا وكذا أو كذا درهم، كما لو قال: له علي درهمان أو درهم. وقال محمد بن الحسن: إذا قال: له علي كذا كذا درهما.. لزمه أحد عشر درهما. وإن قال: له علي كذا وكذا درهما.. لزمه أحد وعشرون درهما. ووجهه: أن أقل عددين لم يدخل فيهما حرف عطف يفسران بالواحد أحد عشر، وأقل عددين يعطف أحدهما على الآخر يفسران بالواحد أحد وعشرون. قال أبو إسحاق المروزي: يحتمل إذا كان المقر من أهل العربية أن يحمل إقراره على ما قاله محمد بن الحسن، والطريق الثالث والرابع يبعدان عن كلام الشافعي

مسألة الإقرار بألف من دون تفسير

- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وما قاله محمد بن الحسن.. خطأ؛ لأنه لو كان كما قال.. لوجب عليه إذا قال: له علي درهم - بخفض الدرهم - مائة درهم؛ لأن أقل عدد يخفض مما فسر به مائة. [مسألة الإقرار بألف من دون تفسير] وإن قال: له علي ألف، ولم يبين من أي شيء.. رجع في تفسيره إليه؛ لأنه قد أقر بمبهم، فبأي جنس من المال فسره.. قبل منه. قال ابن الصباغ: حتى لو فسره بحبات الحنطة.. قبل منه. وإن فسره بألف كلب.. فهل يقبل منه؟ على وجهين، مضى بيانهما. قال الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني: وإن فسره بأجناس.. قبل منه. وإن قال: له علي ألف ودرهم، أو ثوب وعبد.. لزمه الدرهم والثوب والعبد، ورجع في تفسير الألف إليه، وبه قال مالك. وقال أبو ثور: (يكون المعطوف تفسيرا للمعطوف عليه، وهو الألف) . وقال أبو حنيفة: (إن عطف على العدد المبهم مكيلا أو موزونا.. كان تفسيرا له، وإن كان مذروعا أو معدودا، كالثوب والعبد.. لم يكن تفسيرا له) . دليلنا على أبي ثور: أن المعطوف لا يقتضي أن يكون من جنس المعطوف عليه؛ لأنه قد يعطف الشيء على غير جنسه، فلم يكن تفسيرا له. وعلى أبي حنيفة: أنه مفسر معطوف على مبهم فلم يكن تفسيرا للمبهم، كما لو قال: له علي مائة وثوب. [فرع أقر بألف وثلاثة دراهم أو بخمسة عشر درهما] وإن قال: له علي ألف وثلاثة دراهم، أو له علي مائة وخمسون درهما، أو علي له خمسة وعشرون درهما، أو خمسون وألف درهم، أو مائة وألف درهم.. ففيه وجهان:

فرع أقر بألف وكر حنطة

[أحدهما] : قال أبو علي بن خيران وأبو سعيد الإصطخري: يكون تفسيرا لما يليه من الجملتين، وما قبل ذلك يرجع في تفسيره إليه، كما لو قال: له علي ألف ودرهم. و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: يكون ذلك تفسيرا للجملتين؛ لأنه ذكر الدرهم للتفسير؛ ولهذا لا تجب به زيادة عدد، فكان راجعا إلى ما تقدمه من الجملتين، بخلاف قوله: ألف ودرهم؛ فإنه عطفه على الألف؛ ولهذا يجب الدرهم مع الألف. فإن باعه شيئا بمائة أو خمسين درهما وبخمسة وعشرين درهما أو ما أشبه ذلك.. لم يصح البيع على قول أبي علي بن خيران وأبي سعيد الإصطخري، ويصح البيع على قول سائر أصحابنا. وإن قال: له علي خمسة عشر درهما.. لزمه خمسة عشر درهما بلا خلاف بين أصحابنا؛ لأن هذين العددين ركبا عددا واحدا ليس أحدهما معطوفا على الآخر. [فرع أقر بألف وكر حنطة] وإن قال: له علي ألف وكر حنطة.. قال الشيخ أبو حامد: فإن الحنطة تكون تفسيرا للكر، ويرجع في تفسير الألف إليه. فإن قال: له علي ألف وثلاثة دراهم.. كانت الدراهم تفسيرا والثلاثة؛ لأن الدراهم تصلح لكل واحد منهما؛ ولهذا لو قال: له علي ألف درهم.. صح، والحنطة لا تصلح للألف؛ ولهذا لو قال: له علي ألف حنطة.. لم يصح. [مسألة الاستثناء في الإقرار] يصح الاستثناء في الإقرار؛ لأن القرآن ورد بالاستثناء، وهو لغة العرب فالاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات.

فإذا قال: له علي عشرة دراهم إلا درهما.. لزمه تسعة دراهم. وإن قال: له علي عشرة دراهم إلا تسعة.. لزمه درهم. وحكي عن ابن درستويه النحوي أنه قال: لا يصح استثناء الأكثر. وإليه ذهب أحمد بن حنبل. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] [الحجر: 42] وقال تعالى في موضع آخر: قَالَ {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] [ص: 82 - 83] فاستثنى الغاوين من العباد، واستثنى العباد من الغاوين، ولا بد أن يكون أحدهما أكثر من الآخر. وإن قال: له علي عشرة دراهم إلا عشرة دراهم.. لزمه عشرة دراهم؛ لأن الاستثناء إذا رفع جميع المستثنى منه.. لم يكن له حكم. وإن قال: له علي عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهمين.. كان المقر به تسعة؛ لأنه لما استثنى ثلاثة من العشرة المثبتة.. كان نافيا للثلاثة، فإذا استثنى الدرهمين من الثلاثة.. كان مثبتا لهما مع السبعة الباقية، فصار عليه تسعة. وإن قال: له علي ثلاثة دراهم إلا درهمين.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يلزمه ثلاثة دراهم؛ لأن الاستثناء الأول يرفع جميع المستثنى منه فبطل، والثاني معلق به فبطل ببطلانه. والثاني: يلزمه درهم؛ لأن الاستثناء الأول باطل فسقط وبقي الاستثناء الثاني فصح. والثالث: يلزمه درهمان. قال ابن الصباغ: وهو الأقيس؛ لأن الاستثناء مع المستثنى منه عبارة عما بقي، وذلك عبارة عن استثناء درهمين من ثلاثة.

مسألة كون المستثنى من غير جنس المستثنى منه

وإن قال: له علي عشرة دراهم إلا خمسة وخمسة.. ففيه وجهان: أحدهما: يبطل الاستثناءان. والثاني: يصح الأول دون الثاني. قال الطبري: وإن قال: له علي ألف درهم - أستغفر الله - إلا مائة درهم.. صح الاستثناء. وقال أبو حنيفة: (لا يصح الاستثناء) . دليلنا: أن الفصل اليسير بين الاستثناء والمستثنى منه إذا لم يكن حرف إبطال الاستثناء.. لا يبطله، كما لو قال: له علي ألف - يا فلان - إلا مائة. [مسألة كون المستثنى من غير جنس المستثنى منه] يجوز أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه؛ بأن يقول: له علي مائة درهم إلا دينار. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (إن استثنى مكيلا أو موزونا.. جاز، وإن استثنى عبدا أو ثوبا من مكيل أو موزون.. لم يجز) . وقال زفر ومحمد: لا يجوز بحال. وبه قال أحمد. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] [الكهف: 50] وقال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25] {إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة: 26] [الواقعة: 25-26] ، وقال الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس فاستثنى اليعافير - وهي: ذكور الظباء - والعيس - وهي: الجمال البيض - من الأنيس.

فرع استثنى من جنسين كل على حدى

إذا ثبت هذا: فقال: له علي ألف إلا درهما.. قيل له: قد أقررت بألف مبهم وفسرت المستثنى منه ففسر الألف المقر بها، فإن فسره بجنس قيمته أكثر من درهم.. سقط منه قدر الدرهم، وبقي الباقي عليه. وإن فسره بجنس قيمته درهم أو أقل.. ففيه وجهان: أحدهما: يبطل التفسير؛ لأن الاستثناء قد صح، فإذا فسر الإقرار المبهم بما يرفع الاستثناء.. لم يصح التفسير، ويطالب بالتفسير على ما مضى. والثاني: يصح التفسير، ويبطل الاستثناء؛ لأنه فسره بما يقبل منه، فإذا كان الاستثناء يرفعه.. حكم ببطلان الاستثناء. وإن قال: له علي ألف درهم إلا ثوبا.. قلنا له: بين قيمة الثوب، فإن بين قيمته بقدر يبقى بعده من الألف شيء.. قبل منه. قال ابن الصباغ: وعندي أنه ينبغي أن يكون ذلك قدر ما يجوز أن يكون قيمة الثوب. وإن فسره بما قيمته أغلى من الثوب وكانت قدر ألف.. ففيه الوجهان الأولان: أحدهما: يلزمه الألف، ويبطل الاستثناء. والثاني: يبطل التفسير، ويطالب بتفسير قيمة الثوب بقدر يكون أقل من ألف درهم. وإن قال: له علي ألف إلا ثوبا.. فقد أقر بمبهم واستثنى منه مبهما، فيطالب بتفسيرهما، والكلام فيه إذا فسر على ما مضى. [فرع استثنى من جنسين كل على حدى] إذا قال: له علي ألف درهم إلا مائة درهم، وعشرة دنانير إلا قيراطا.. فيه وجهان: أحدهما: يلزمه تسعمائة درهم وعشرة دنانير إلا قيراطا؛ لأن الظاهر أنه أقر

فرع استثنى من جنسين معا

بمالين، وهما ألف درهم وعشرة دنانير وعقب كل واحد منهما استثناء. والثاني - وهو قول أبي حنيفة -: أنه يلزمه تسعمائة درهم وقيراط إلا قيمة عشرة دنانير؛ لأنه أقر له بألف درهم واستثنى منه مائة درهم، وعطف على المائة عشرة دنانير فكانت قيمتها مستثناة مع المائة، ثم استثنى من الدنانير قيراطا فكان باقيا عليه؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات. [فرع استثنى من جنسين معا] وإن قال: له علي ألف درهم ومائة دينار إلا مائة درهم وعشرة دنانير.. ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه ألف درهم، ويكون الاستثناء يرجعان إلى المائة الدينار؛ لأنهما يعقبانها فرجعا إليها. والثاني - وهو قول أبي حنيفة -: أن المائة الدرهم تكون مستثناة من ألف درهم، والعشرة الدنانير مستثناة من المائة الدينار؛ لأن الظاهر أنه استثنى كل جنس من جنسه. [فرع استثنى عبدا من عبيد أو كان بيده عبد وجارية وأقر بأحدهما] وإن كان في يده عشرة عبيد، فقال: هؤلاء العبيد لزيد إلا واحدا.. صح الإقرار، ويطالب بتعيين العبيد الذين للمقر له، فإن قال: له هؤلاء التسعة.. صح، وإن قال: ليس له إلا هذا.. كان الباقي منهم للمقر له. وإن كذبه المقر له في التعيين.. كان القول قول المقر مع يمينه؛ لأنه أعرف بما أقر. فإن مات من العبيد تسعة وبقي واحد، فقال المقر: هذا الذي بقي ليس له، فإن كان العبيد غير مضمونين على المقر.. فهل يقبل منه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقبل منه؛ لأن هذا تفسير برفع جميع المقر به فلم يقبل، كما لو قال: له علي درهم إلا درهما. والثاني: يقبل قوله، وهو الأصح؛ لأن التفسير يرفع إلى وقت الإقرار وقد كان التفسير لو لم يمت التسعة صحيحا وكذلك إذا ماتوا، فصار كما لو قال: هؤلاء العبيد له إلا غانما ثم

فرع أقر بدار لفلان إلا بيتا وعينه أو أقر بإعارتها له

ماتوا إلا غانما. ويخالف إذا استثنى الجميع؛ فإن ذلك مضاد للإقرار فسقط. وإن كانوا مضمونين على المقر؛ بأن أقر أنه غصبهم.. قبل وجها واحدا؛ لأنه يجب عليه قيمة التالفين. وكذلك إذا قتلهم أو قتلهم غيره.. فإنه يقبل قوله وجها واحدا؛ لما ذكرناه. وإن كان في يده عبد وجارية، فقال: أحد هذين لزيد.. صح إقراره وطولب بالبيان، فإن قال: العبد له وصادقه المقر له.. سلم إليه العبد. وإن قال المقر له: بل الجارية لي دون العبد.. فالقول قول المقر مع يمينه في الجارية. وأما العبد: فقد أقر به لمن كذبه، فالحكم فيه على ثلاثة أوجه: أحدها: يبقى على ملك المقر؛ لأنه على ملكه، فإذا أقر به لمن لا يدعيه.. بقي على ملكه. والثاني: ينتزعه الحاكم ويحفظه إلى أن يجيء من يدعيه. والثالث: يحكم بعتقه. [فرع أقر بدار لفلان إلا بيتا وعينه أو أقر بإعارتها له] إذا قال: هذه الدار لزيد إلا هذا البيت، أو هذه الدار لزيد وهذا البيت لي.. فإن البيت يكون للمقر؛ لأنه بمنزلة الاستثناء أو أصرح منه، فقبل. فإن قال: هذه الدار لفلان هبة عارية أو هبة سكنى.. لم يكن إقرارا بالدار، بل يكون إقرارا بإعارة الدار، فإن رجع المعير في العارية.. صح رجوعه في المستقبل، ولا يصح رجوعه فيما استوفى المستعير من المنفعة. فإن قيل: قوله: هذه الدار لفلان إقرار بالدار، فإذا قال: هبة عارية أو هبة سكنى.. كان ذلك منه رجوعا عن الإقرار بالدار، فلم يقبل. قلنا: إنما يكون إقرارا لو اقتصر في الإقرار على قوله: هذه الدار لفلان، فأما إذا

مسألة أقر بثوب في منديل ونحوه أو أقر بغصبه

وصله بقوله: هبة عارية أو هبة سكنى.. لا يكون إقرارا بالدار، وإنما هو إقرار بهبة منافعها. ولأنه مقر بالعين والمنفعة، فإذا استثنى العين وبقاء المنفعة.. صح، كما لو قال: هذه الدار له إلا هذا البيت. [مسألة أقر بثوب في منديل ونحوه أو أقر بغصبه] وإن قال: عندي لفلان ثوب في منديل، أو تمر في جراب.. كان إقرارا بالثوب دون المنديل، وبالتمر دون الجراب؛ لأنه يحتمل في منديل لي، وفي جراب لي. وكذلك: إذا قال: غصبت منه ثوبا في منديل، أو زيتا في زق.. كان مقرا بغصب الثوب دون المنديل، والزيت دون الزق. وكذلك: إذا قال: غصبت زقا فيه زيت، وجرة فيها خل.. كان مقرا بغصب الزق دون الزيت، والجرة دون الخل. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (إذا قال: غصبت منه ثوبا في منديل، أو زيتا في زق.. كان مقرا بغصبهما) . دليلنا: أنه يحتمل أن يكون المنديل له، فقوله: (غصبت ثوبا في منديل) يحتمل في منديل لي، ولو قال ذلك.. لم يكن غاصبا لهما، فإذا أطلقه.. كان قوله محتملا له، فلم يكن مقرا بغصبهما، كما لو قال: عندي له ثوب في منديل، وكما لو قال: غصبت دابة في إصطبلها. وإن قال: عندي له خاتم.. لزمه الخاتم بفصها؛ لأن اسم الخاتم يجمعهما. وإن قال: له عندي ثوب مطرز.. لزمه الثوب بطرازه، سواء كان الطراز منسوجا مع الثوب أو مركبا عليه.

فرع أقر بدار مفروشة أو بدابة عليها سرج أو بعبد عليه عمامة أو ثوب

ومن أصحابنا من قال: إن كان الطراز مركبا على الثوب بعد النسج.. ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه الثوب مع طرازه؛ لأنه من أجزاء الثوب. والثاني: لا يلزمه الطراز؛ لأنه متميز عن الثوب. [فرع أقر بدار مفروشة أو بدابة عليها سرج أو بعبد عليه عمامة أو ثوب] وإن قال: عندي له دار مفروشة.. كان مقرا بالدار دون الفراش؛ لأنه يجوز أن تكون مفروشة بفراش للمقر. قال الطبري: فإن قال: عندي له دابة بسرجها، أو سفينة بطعامها.. كان مقرا بالدابة والسرج والسفينة والطعام؛ لأنه لا يحتمل إلا الإقرار بالأمرين جميعا. قال ابن القاص في " التلخيص ": فإن قال: له عندي دابة عليها سرج.. كان مقرا بالدابة دون السرج. وإن قال: له عندي عبد عليه عمامة أو ثوب.. كان مقرا بالعبد والعمامة والثوب. فوافق على ذلك أكثر أصحابنا، وفرقوا بينهما؛ بأن قالوا: الدابة لا يد لها على السرج، وللعبد يد على العمامة والثوب فكان مقرا للعبد وبما في يده. قال أبو علي السنجي: لا يكون مقرا بالسرج ولا بالعمامة والثوب؛ لأن ابن القاص قد ذكر الفرس والعبد في " المفتاح " ولم يفرق بينهما. ولأنه يحتمل أن قوله: عليه عمامة أو ثوب لي، ومتى احتمل قوله دخوله وعدم دخوله.. لم يدخل بالشك. ولأن يده ثابتة على الجميع فلم يدخل في الإقرار إلا ما تيقن. [مسألة الإقرار وملابسات الوديعة] وإن قال: له علي ألف درهم وديعة.. قبل قوله؛ لأن الوديعة عليه ردها. فإن قال: له علي ألف درهم - بعد ذلك - كنت أظنها باقية وقد كانت تلفت قبل إقراري..

لم يقبل قوله؛ لأنه قد أقر بوجوب ردها، فلا يقبل رجوعه. وإن قال: أتلفت بعد إقراري.. قبل قوله مع يمينه؛ لأنه يحتمل ما يدعيه. وإن قال: علي لزيد ألف درهم، ثم جاء بألف ثم قال: هذه الألف التي أقررت بها وكانت وديعة له عندي، فإن صدقه زيد.. فلا كلام، وإن كذبه وقال: هذه وديعة لي عندك والتي أقررت بها لي غيرها.. ففيه قولان - حكاهما الشيخ أبو إسحاق -: أحدهما: لا يقبل قوله - وحكى ابن الصباغ: أنه قول أبي حنيفة - لأن معنى قوله: (علي) للإيجاب وذلك يقتضي كونها في ذمته. ألا ترى أنه إذا قال: ما على فلان علي.. كان ضامنا؟ والوديعة ليست بواجبة عليه، فلم يقبل تفسيره بها. والثاني: يقبل قول المقر مع يمينه - ولم يذكر ابن الصباغ ولا المسعودي [في ((الإبانة)) ق \ 296] غيره - لأن الوديعة عليه حفظها وردها، فإذا فسر إقراره بقوله: (علي) بالوديعة.. قبل، كما لو قال: عندي له ألف درهم، ثم قال هي وديعة.. فإنه يقبل، و (علي) : بمعنى عندي؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} [الشعراء: 14] [الشعراء: 14] أي: عندي ذنب. وإن قال: له علي ألف درهم في ذمتي، فجاء بألف وقال: الألف التي كنت أقررت لك بها كانت وديعة وتلفت عندي، وهذه بدلها.. قبل قوله؛ لأنه يجوز أن تكون تلفت بتعديه، أو بتفريطه فتكون بدلها في ذمته. وأما إذا جاء بألف وقال: التي أقررت بها هي هذه وهي وديعة عندي، فقال المقر له: هذه وديعة لي عندك وتلك دين لي في ذمتك.. فهل يقبل قول المقر؟ إن قلنا في التي قبلها: لا يقبل قوله.. فهاهنا أولى. وإن قلنا: تقبل هناك.. فهاهنا وجهان. أحدهما: لا يقبل؛ لأن الوديعة لا تثبت بالذمة، بخلاف ما لو قال: علي ألف درهم ثم فسرها بالوديعة؛ لأنه لم يصرح بكونها في ذمته.

فرع أقر بألف وديعة أو مضاربة

والثاني: يقبل قوله مع يمينه؛ لجواز أن تكون وديعة تعدى بها فكان ضمانها في ذمته. [فرع أقر بألف وديعة أو مضاربة] إذا قال: له علي ألف درهم وديعة أو مضاربة دينا.. قبل قوله؛ لأنه قد يتعدى بالوديعة، وأما مال المضاربة: فيكون مضمونا عليه. وإن قال: له علي ألف أخذتها منه.. فقد اختلف أصحابنا الخراسانيون فيه: فمنهم من قال: هو كما لو قال: دفعها إلى وديعة، فلو ادعى بعد ذلك أنها تلفت.. قبل قوله فيها مع يمينه؛ لأنه قد تضاف الوديعة إلى آخذها كما تضاف إلى دافعها. وقال القفال: لا يقبل قوله: إنها وديعة عنده، بل تكون مضمونة عليه - وهو قول أبي حنيفة - لأن الأخذ يقتضي الغصب، فإذا فسره بالوديعة.. لم يقبل. [فرع أقر بألف عارية] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو قال: له عندي ألف درهم عارية.. كانت مضمونة) . قال أصحابنا: هل تصح عارية الدراهم والدنانير؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها. والثاني: لا يصح؛ لأنه لا ينتفع بها مع بقاء عينها انتفاعا مقصودا. فإذا استعارها.. كانت مضمونة عليه على الوجهين، فإذا أقر بذلك.. كانت مضمونة عليه، سواء قلنا: تصح إعارتها أو لا تصح؛ لأن ما ضمن بالعقد الصحيح.. ضمن بالعقد الفاسد كالبيع. [مسألة الإقرار بحصة في العبد أو السلعة] وإن قال: له في هذا العبد ألف، أو من هذا العبد ألف.. قلنا له: بين ما أردت بهذا؟

فإن قال: أردت: أنه وزن عني ألفا في ثمنه قرضا.. كان مقرا بألف في ذمته. وإن قال: نقد في ثمنه عن نفسه ألف درهم.. قيل له: بين كم كان ثمن العبد، وكيف وقع الشراء؟ فإن قال: اشتريته أنا وهو صفقة واحدة.. قلنا: فكم نقدت أنت من الثمن؟ فإن قال: نقدت ألفا.. كان مقرا له بنصف العبد. وإن قال: نفدت ألفين.. كان مقرا بثلث العبد، وسواء كان ذلك قيمة العبد أو أقل أو أكثر. فإن قال: اشترى ربعه أو ثلثه بألف بعقد، واشتريت الباقي أو اتهبته أو ورثته.. قبل قوله. فإن كذبه المقر له في شيء من ذلك.. كان القول قول المقر مع يمينه؛ لأن ما قاله محتمل. وإن قال: جنى عليه العبد جناية أرشها ألف درهم.. قبل قوله في ذلك. وإن قال: وصى له بألف درهم من ثمنه.. استحق الألف من ثمنه. وإن قال: هو مرهون عنده بألف.. فهل يقبل قوله؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقبل؛ لأن الدين في الرهن يتعلق بالذمة، والرهن وثيقة فيكون تفسيره مخالفا لظاهر إقراره. والثاني: يقبل؛ لأن الدين يتعلق بالرهن والذمة. إذا ثبت هذا: فقال صاحب " التلخيص " إذا قال: لفلان علي ألف درهم في هذه السلعة.. سئل، فإن قال: نقد في ثمنها ألف درهم.. قيل له: وأنت كم نقدت؟ فإن قال: ألفين.. كانت بينهما أثلاثا. قال أصحابنا: هذا غلط، وإنما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هذا: إذا قال: له علي في هذا العبد ألف.. (سئل عن قوله) فأما إذا قال: له علي ألف في هذه السلعة.. فالألف لازمه له بكل حال؛ لأن قوله: (له علي ألف) إقرار، فإضافة إلى السلعة لا تغيره.

فرع أقر بأن له في هذا العبد شرك

[فرع أقر بأن له في هذا العبد شرك] وإن قال: له في هذا العبد شرك.. صح إقراره ورجع إليه في تفسير ذلك الشرك منه، فبأي قدر فسره.. قبل منه. وبه قال محمد بن الحسن. وقال أبو يوسف: يكون له النصف. دليلنا: أن الشرك يقع على القليل والكثير فقبل قوله فيه، كما لو قال: له فيه شيء. [مسألة أقر بأن له حصة من ميراث أبيه أو من ميراثه من أبيه] وإذا قال: له في ميراث أبي، أو من ميراث أبي ألف.. كان مقرا له على أبيه بدين. وإن قال: له في ميراثي من أبي، أو من ميراثي من أبي ألف.. رجع في تفسيره إليه: فإن قال: أردت الإقرار.. قبل منه. وإن قال: أردت الهبة مني.. قبل قوله، ويكون بالخيار: بين أن يسلم له ما وهب له، وبين أن لا يسلم له. والفرق بينهما: أنه إذا أطلق ولم يصف الميراث إلى نفسه.. اقتضى وجوبها في التركة لحق كان على أبيه، فإذا أضاف الميراث إلى نفسه ثم جعل له منها جزءا, احتمل أن يكون ذلك هبة منه له، والهبة لا تلزم عليه إلا بالتسليم. وكذلك إذا قال: له في هذه الدار نصفها، أو له نصف هذه الدار.. كان إقرارا بنصفها. وإن قال: له في داري نصفها.. لم يكن إقرارا؛ لما ذكرناه. وإن قال: له في ميراثي أو من ميراثي من أبي ألف بحق، أو في داري أو من داري نصفها بحق.. لزمه ذلك إقرارا؛ لأنه قد اعترف أن المقر له يستحق ذلك فلزمه. وإن قال: له في هذا المال ألف.. كان ذلك إقرارا. وإن قال: له في مالي، أو من مالي ألف.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (أنه لا يكون إقرارا، بل يرجع إليه في تفسيره) كما قال في قوله: له في ميراثي من أبي، أو من ميراثي من أبي ألف. وقال في (الإقرار والمواهب) : (لو قال: له في

مسألة تخلل الإقرار بسكوت

مالي ألف.. كان إقرارا) واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: في قوله: (له في مالي ألف) قولان: أحدهما: يكون إقرارا؛ لأن الألف التي في ماله وفاؤها عليه وماله ظرف لها؛ كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] [المعارج: 24] وأراد به حق الله تعالى، وهو واجب عليهم. والثاني: لا يكون إقرارا، وهو الصحيح؛ لأنه أضاف المال إلى نفسه ثم جعل لغيره منه ألفا فلا يحمل على غير الهبة، والهبة لا تلزم عليه إلا بالقبض. ومنهم من قال: لا يكون إقرارا قولا واحدا؛ لأنه لا فرق بين قوله: له في مالي ألف، وبين قوله: له من مالي ألف، وكذلك: له في داري أو من داري، وفي ميراثي أو من ميراثي. وما قاله في (الإقرار والمواهب) يحتمل: أن يكون سهوا من الكاتب أو متأولا على أنه قال: علي له في مالي ألف؛ لأنه إذا قال: علي له.. فقد صرح بوجوبه عليه، فكان إقرارا. [مسألة تخلل الإقرار بسكوت] إذا قال: له عندي ألف وسكت، ثم قال بعد ذلك: من ثمن مبيع لم أقبضه.. لم يقبل قوله، ويكون القول قول المقر له، فإذا حلف: أنه ليس له عنده مبيع بالألف المقر بها.. استحق الألف؛ لأنه فسر إقراره بما يسقط وجوب تسليمه منفصلا عنه فلم يقبل. وإن قال: له عندي ألف درهم من ثمن مبيع وسكت، ثم قال بعد ذلك: لم أقبضه.. قبل قوله، فإن خالفه المقر له.. كان القول قول المقر مع يمينه؛ لأن إقراره تعلق بالمبيع، والأصل عدم القبض فقبل قوله فيه. وإن قال: له عندي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه.. قبل قوله، فإن أنكر المقر له وقال: بل هي عنده دين من غير ثمن مبيع.. فالقول قول المقر مع يمينه، ولا فرق

فرع أقر له بخمسة دراهم في ثوب لسنة

بين أن يعين المبيع أو لا يعينه. وبه قال أبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: (إن عين المبيع.. قبل قوله، وسواء وصل بإقراره أو لم يصل فإن أطلق.. لم يقبل منه) . دليلنا: أنه أقر بحق عليه في مقابلة حق له لا ينفك أحدهما عن الآخر، فإذا لم يثبت ما له.. لم يثبت ما عليه، كما لو عين المبيع. [فرع أقر له بخمسة دراهم في ثوب لسنة] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في (الإقرار والمواهب) : (إذا قال: عندي له خمسة دراهم في ثوب اشتريته منه إلى سنة) . ومعناه: أني أسلمت إليه في ثوب خمسة دراهم إلى سنة، وصدقه المقر له.. نظرت: فإن قال ذلك بعد التفرق من مجلس السلم.. فقد بطل السلم. وإن كان قبل التفرق.. فلكل واحد منهما الخيار في فسخه. وإن كذبه المقر له وقال: بل عنده لي خمسة دراهم دين لا عن سلم.. فالقول قول المقر له مع يمينه؛ لأن المقر وصل بإقراره ما يرفعه، فلم يقبل. وإن قال: له عندي ثوب في خمسة دراهم، ومعنى ذلك: دفع إلي ثوبا بخمسة دراهم.. كان مقرا بخمسة دراهم. وإن قال: له عندي ثوب فيه خمسة دراهم.. كان مقرا له بالثوب دون الدراهم، كما قلنا في قوله: له عندي جراب فيه تمر. [مسألة أقر بحق ثم وصله بما يسقطه] إذا أقر له بحق ثم وصله بما يسقطه لا من الوجه الذي أثبته؛ مثل أن يقول: تكفلت ببدن فلان على أني بالخيار، أو له عندي ألف من ثمن خمر أو كلب، أو من ثمن مبيع

فرع ادعى عليه مائة فقال قضيتك منها خمسين

هلك قبل القبض، أو له علي ألف قضيته إياها.. فهل يقبل قوله في ذلك؟ فيه قولان: أحدهما: يقبل قوله - وبه قال أبو حنيفة - لأنه يحتمل ما قاله، كما لو قال: من ثمن مبيع لم أقبضه. والثاني: لا يقبل قوله؛ لأنه وصل إقراره بما يسقطه فلم يقبل منه، كما لو قال: له علي ألف درهم إلا ألف درهم. فأما إذا وصله بما يرفعه من الوجه الذي أثبته؛ بأن قال: له علي ألف درهم إلا درهما.. فإنه لا يقبل. وإن قال: له علي ألف درهم إلى سنة.. فاختلف أصحابنا فيه. فمنهم من قال: هي على قولين، كما لو قال: له علي ألف درهم قضيته إياها. ومنهم من قال: يقبل منه قولا واحدا؛ لأن ذلك لا يسقط الإقرار وإنما يؤخره. وقال أبو حنيفة: (يكون مدعيا للأجل، والقول فيه قول المقر له مع يمينه) . دليلنا: أن الأجل أحد نوعي الدين، فوجبت أن يثبت بالإقرار كالحلول. [فرع ادعى عليه مائة فقال قضيتك منها خمسين] وإن ادعى على رجل مائة درهم، فقال المدعى عليه: قد قضيتك منها خمسين.. فقد صار مقرا له بهذه الخمسين ومدعيا لقضائها، وهل يقبل قوله في القضاء؟ على القولين. وأما الخمسون الأخرى: فالقول قول المدعى عليه مع يمينه فيها؛ لأن الأصل براءة ذمته منها. [فرع الإقرار بملكه أو قبضه عبدا من فلان] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في (الإقرار والمواهب) : (إذا قال: ملكت هذا

مسألة أقر لزيد ثم قال: لا بل لعمرو

العبد من فلان أو قبضته منه.. كان إقرارا له بالملك واليد، فإن كذبه فلان في انتقاله إليه.. كان القول قوله مع يمينه، فإذا حلف.. رد إليه. وإن قال: ملكته على يد فلان أو أخذته أو قبضته أو وصل على يديه.. لم يكن إقرارا له بالملك ولا باليد؛ لأن قوله: (على يده) يقتضي معاونته. وإن قال أودعني ألفا فلم أقبضها، أو أقرضني أو أعطاني أو أنقدني ألفا فلم أقبضها.. قبل قوله إذا كان متصلا، ولا يقبل إذا كان منفصلا) . وقال أبو يوسف: لا يقبل قوله في أنقدني ألفا. دليلنا: أنه لم يقر بالقبض فلم يلزمه، كما لو قال: أقرضني فلم أقبضه. [مسألة أقر لزيد ثم قال: لا بل لعمرو] وغير ذلك] : إذا قال: هذه الدار لزيد، لا بل لعمرو، أو غصبت هذه الدار من زيد، لا بل من عمرو، أو قال: غصبتها من زيد وغصبها زيد من عمرو.. فالحكم في ذلك كله واحد، ويلزمه تسليم الدار إلى زيد؛ لأنه أقر له بها. وهل يلزمه أن يغرم لعمرو قيمة الدار؟ فيه قولان: أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه أقر للثاني بما عليه، وإنما منع الشرع من قبوله، وذلك لا يوجب الضمان. والثاني: يجب عليه أن يغرم لعمرو قيمة الدار، وهو الأصح؛ لأنه حال بينه وبين الدار بإقراره الأول، فلزمه أن يغرم له، كما لو شهد رجلان عل رجل بعتق عبده، فحكم الحاكم بشهادتهما ثم رجعا عن الشهادة. وحكى المسعودي [في ((الإبانة)) ق\297] : أن من أصحابنا من قال: إذا قال: هذه الدار لزيد، بل لعمرو ولم يقل: غصبتها.. أنه لا يغرم لعمرو شيئا قولا واحدا؛ لأنه لم يقر بالجناية على نفسه. والصحيح هو الأول.

ولا فرق بين أن يوالي الإقرار لهما، أو أن يفصل بينهما بفصل طويل أو قصير. واختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال: القولان إذا سلمها الحاكم إلى زيد، أو حكم عليه الحاكم بالتسليم وأجبره على تسليمها. فأما إذا سلمها المقر بنفسه إلى زيد.. فإنه يغرم لعمرو قيمتها قولا واحدا؛ لأنه ضمنها بالتسليم. ومنهم من قال: القولان في الحالين، وهو الصحيح؛ لأن الحاكم إنما يسلمها أو يخبره بإقراره. وإن باع من رجل عينا وأخذ ثمنها، ثم أقر بها لغيره.. لم يقبل إقراره بها للثاني لحق المشتري. وهل يلزمه أن يغرم قيمتها للثاني؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان كالأولى. ومنهم من قال: يلزمه أن يغرم له قيمتها قولا واحدا؛ لأنه قد أخذ عوضها. وإن أقر رجل أن الدار التي في تركة أبيه لزيد، لا بل لعمرو، وسلمت إلى زيد.. فهل يغرم لعمرو قيمتها؟ قال ابن الصباغ: من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو قال: غصبتها من زيد، لا بل من عمرو. ومنهم من قال: لا يغرم لعمرو شيئا قولا واحدا. والفرق بينهما: أن هاهنا أقر بما يغلب على ظنه، ولا يوجد ذلك منه بالعلم والإحاطة، وإذا أقر بمال نفسه.. حمل أمره على العلم والإحاطة، فلم يعذر في الرجوع. فإن كان في يده دار، فقال: غصبتها من زيد وملكها لعمرو.. وجب عليه تسليمها إلى زيد؛ لأن قوله: (غصبتها من زيد) يقتضي: أنها كانت في يده بحق، وقوله: (وملكها لعمرو) لا ينافي ذلك؛ لأنها قد تكون في يد زيد بإجارة أو موصى له بمنفعتها وملكها لعمرو. ولا تقبل شهادته لعمرو؛ لأنه قد أقر أنه غاصب، وشهادة الغاصب غير مقبولة، ولا يلزمه أن يغرم لعمرو قيمتها قولا واحدا؛ لأنه لم يكن منه تفريط إلا أن يعلم المقر أنها في يد زيد بغير حق.. فلا يجوز له تسليمها إليه فيما بينه وبين الله تعالى، فإن سلمها إليه ضمنها.

فرع أقر بغصب عبد من أحد رجلين

فأما إذا قال: هذه الدار ملكها لعمرو وغصبتها من زيد.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: الحكم فيها كالحكم في التي قبلها؛ لأنه لا فرق بين أن يقدم ذكر الغصب أو الملك؛ لأنهما لا يتنافيان على ما مضى. ومنهم من قال: يلزمه هاهنا أن يسلمها إلى زيد، وهل يلزمه أن يغرم لعمرو؟ فيه قولان، كما قلنا فيه إذا قال: هذه الدار لزيد، لا بل لعمرو. وحكى ابن الصباغ: أن من أصحابنا من قال: يلزمه أن يسلمها إلى عمرو، وهل يضمنها لزيد؟ على قولين؛ لأنه أقر بالملك لعمرو، فلم يقبل إقراره باليد لزيد. [فرع أقر بغصب عبد من أحد رجلين] إذا قال: غصبت هذا العبد من أحد هذين الرجلين.. فإنه يطالب بتعيين المغصوب منه منهما. فإن قال: لا أعرف عينه.. نظرت: فإن صدقاه على ذلك.. انتزع العبد من يده وكانا خصمين فيه. وإن كذباه وادعى كل واحد منهما أنه يعلم أنه غصبه منه.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بفعله، فإذا حلف.. انتزع منه العبد وكانا خصمين فيه، وإن نكل.. حلف المدعي وكان كما لو أقر له. وإن قال المقر له: هو لهذا.. فإنه يكون له لا ويغرم للآخر شيئا قولا واحدا؛ لأنه لم يقر له بشيء. فإن قال الآخر: أحلفوه أنه لا يعلم أنه لي.. فهل يلزمه أن يحلف؟ يبنى على القولين فيه إذا أقر له به بعد الأول: فإن قلنا: يلزمه أن يغرم له قيمته.. لزمه أن يحلف له؛ لجواز أن يخاف اليمين فيقر. وإن قلنا: لا يلزمه أن يغرم له قيمته.. لم يلزمه أن يحلف؛ لأنه لا فائدة في عرض اليمين عليه.

مسألة ادعى عبده أن سيده أعتقه فأنكر السيد فأقام العبد شاهدين ثم اشتراه أحدهما

[مسألة ادعى عبده أن سيده أعتقه فأنكر السيد فأقام العبد شاهدين ثم اشتراه أحدهما] وإن كان في يده عبد، فادعى عليه أنه أعتقه فأنكر، فأقام عليه شاهدين بأنه أعتقه، فإن قبلت شهادتهما.. عتق، وإن ردت شهادتهما.. فالقول قول السيد مع يمينه، فإذا حلف.. استقر ملكه عليه. فإن اشتراه الشاهدان أو أحدهما.. حكم بصحة البيع من جهة البائع؛ لأنه محكوم له بملكه، ويكون الشراء من جهة المشتري ابتداء، كما إذا وجد المسلم مع المشرك أسيرا مسلما فاشتراه.. فإنه يكون استنقاذا. فإذا أنفذ البيع.. حكم بعتقه على المشتري؛ لتقدم إقراره بعتقه، ويثبت عليه الولاء؛ لأن العتق لا ينفك عن الولاء، ويكون موقوفا؛ لأن المشتري لا يدعيه والبائع لا يدعيه. فإن مات هذا العبد وخلف مالا، فإن كان له وارث مناسب أو من له فرض.. ورث ميراثه. وإن لم يكن له وارث.. نظرت: فإن أقر البائع أنه قد كان أعتقه.. قبل قوله ولزمه رد الثمن على المشتري، وكان مال المعتق أو ما بقي عن أهل الفرض له؛ كما إذا لاعن امرأته ونفى نسب ولدها، ثم مات الولد وخلف مالا.. فأكذب الرجل نفسه. وإن لم يقر البائع أنه قد كان أعتقه، لكن اعترف المشتري أنه كان قد كذب في الشهادة في العتق.. لم يقبل قوله في إبطال العتق، ولكن يكون له أخذ مال المعتق بالولاء؛ لأنه حكم بعتقه عليه. وإن أقر البائع أنه كان أعتقه، وأقر المشتري أنه كان شهد بالزور.. فالذي يقتضي المذهب: أن ماله يوقف بينهما إلى أن يصطلحا عليه؛ لأنه لا مزية لقول أحدهما على الآخر. وإن لم يقر البائع بعتقه، ولا رجع المشتري عن شهادته بالعتق.. فنقل المزني أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (أوقفت المال حتى يجيء من يدعي الولاء) .

قال المزني: ينبغي أن يكون للمشتري أن يأخذ من مال المعتق أقل الأمرين: من ثمنه أو المال؛ لأنه إن كان صادقا.. فالثمن له دين على البائع، وما ترك المعتق.. فهو للبائع، فكان للمشتري أخذ ما دفع من الثمن من مال البائع، كمن له على رجل حق وامتنع من دفعه ووجد من له الحق مالا له. وإن كان المشتري كاذبا في الشهادة.. فقد عتق عليه، فكان له أخذ ماله. فمن أصحابنا من غلط المزني وقال: ليس للمشتري ذلك؛ لأنه يقول: إن كنت صادقا في شهادتي.. فقد خلصته من الرق وتطوعت بدفع الثمن فلا أرجع به. وإن كنت كاذبا في الشهادة.. فلا حق لي على البائع. ومن أصحابنا من قال: بل ما قاله المزني هو الصحيح، وقد نص عليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الإقرار) بالحكم الظاهر كما ذكره المزني، ودفعه للثمن على وجه القربة لا يسقط رجوعه عنه. ألا ترى أن مسلما لو افتدى مسلما من أيدي المشركين بمال، ثم غلب المسلمون المشركين ووجد ماله.. فإن له أخذه ويختص به من بين سائر المسلمين؟ فإن كانت بحالها فمات البائع وخلف ابنا، ثم مات المعتق.. فالذي يقتضي المذهب: أن ابن البائع إذا أقر أن أباه كان قد أعتق العبد في حياته.. أن له أن يأخذ مال المعتق ويرد إلى المشتري ما دفع من الثمن إن وجده بعينه أو بدله إن ترك أبوه معه تركة، وإن لم يترك أبوه معه تركة.. لم يلزمه أن يغرم. وإن لم يقر ابن البائع بأن أباه أعتقه في حياته، لكن أقر المشتري أنه كذب في الشهادة بالعتق.. فإن له أخذ مال المعتق بالولاء. وإن لم يقر ابن البائع بالعتق، ولا رجع المشتري عن الشهادة.. فليس للمشتري أن يأخذ من مال المعتق شيئا؛ لأنه يقر أنه مال لابن البائع، ولا يستحق عليه شيئا، وإنما يدعي بالثمن على أبيه. وإن مات المشتري وخلف ابنا.. فالذي يقتضي المذهب: أنه إذا أقر أن أباه كذب

مسألة مات وخلف تركة وابنين فادعى رجل دينا فصدقه أحدهما

في شهادته.. كان له مال المعتق؛ لأنه قد يتوصل إلى ذلك بإخبار أبيه له في حياته، فكان كما لو أقر الأب بذلك. [مسألة مات وخلف تركة وابنين فادعى رجل دينا فصدقه أحدهما] وإن مات رجل وخلف ابنين وتركه، فادعى رجل أن له على أبيهما دينا، فأنكره أحدهما وصدقه الآخر، فإن كان عدلا.. قبلت شهادته له وحلف معه.. استحق دينه. وإن كان غير عدل.. فالمنصوص: (أنه لا يلزم المقر إلا حصته من الدين) . قال أبو عبيد ابن حربويه وأبو جعفر الاستراباذي: وفيها قول آخر: أنه يلزمه جميع الدين. فجعلاها على قولين - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -: أحدهما: يلزمه جميع الدين - وبه قال أبو حنيفة - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] [النساء: 12] فرتب الميراث على الوصية والدين، فاقتضى الظاهر: أنه لا يحصل للمقر شيء من التركة إلا من بعد قضاء جميع الدين. ولأن المقر يقول: أخي ظالم بجحوده الدين وغاصب لما أخذه من التركة، ولو غصب بعض التركة غاصب.. لتعلق جميع الدين بالباقي، فكذلك هذا مثله. والثاني: لا يزم المقر إلا حصته من الدين، وهو الأصح؛ لأن إقرار المقر تضمن تعلق جميع الدين بجميع التركة، كما لو قامت به بينة. فإذا لم يقبل إقراره في حق أخيه.. لم يلزمه أكثر مما يتعلق بنصيبه، كما لو قال: له علي وعلى أخي كذا وكذا.. فإنه لا يلزمه إلا حصته. ولأنه لا خلاف أنه إذا أقر أحد الابنين أن أباه أوصى لرجل بثلث ماله وكذبه أخوه.. فإنه لا يلزم المقر إلا ثلث ما بيده من التركة، فكذلك هذا مثله. ولأنه لا خلاف أن شهادته مقبولة، فلو كان جميع الدين يتعلق بنصيبه.. لم تقبل شهادته؛ لأنه يدفع بها عن نفسه ضررا. وقال أكثر أصحابنا: لا يلزم المقر إلا حصته من الدين قولا واحدا؛ لما ذكرناه. قال الشيخ أبو حامد: وأظن أن أبا عبيد وأبا جعفر أخذا هذا القول من قول

مسألة الإقرار بالنسب وشروطه

الشافعي: (إذا قتل رجل وعليه دين، وخلف ابنين وهناك لوث، فحلف أحد الابنين خمسين يمينا.. فإنه يقضى له بنصف الدية ويقضى جميع الدين من ذلك النصف) . والفرق بينهما: أن الميت هناك لم يثبت له تركة إلا نصف الدية، فكان جميع دينه فيها، وهاهنا للمنكر نصف التركة، فلم يتعلق جميع الدين بنصف التركة. ولأن في القسامة قد أقر الابنان بالدين، وهاهنا أحد الابنين منكر عين الدين. [مسألة الإقرار بالنسب وشروطه] الإقرار بالنسب جائز ويثبت النسب به. وذهب بعض الناس إلى: أن النسب لا يثبت بالإقرار. دليلنا: ما روي: «أن سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة اختصما في ابن أمة زمعة، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الولد للفراش، وللعاهر الحجر» فقضى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد بالإقرار. إذا ثبت هذا: فر يخلو المقر: إما أن يقر بالنسب على نفسه، أو على غيره. فإن أقر على نفسه؛ بأن ادعى بنوة غيره، فإن كان المقر به صغيرا أو مجنونا.. لم يثبت نسبه إلا بثلاث شرائط: إحداهن: أن يكون المقر به مجهول النسب، فأما إذا كان معروف النسب من رجل.. لم يحكم بصحة إقرار المقر؛ لأن في ذلك إبطال نسبه الثابت. الشريطة الثانية: إذا كان لا ينازع المقر فيه أحد، فأما إذا كان هناك غيره يدعي بنوته حال الدعوى.. لم يحكم بثبوت نسبه من أحدهما إلا بالإقرار؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.

فرع أقر بأن مملوكه وهو أكبر منه أنه ابنه

الشريطة الثالثة: إذا كان المقر به يمكن أن يكون ابنا للمقر؛ بأن يقر من هو ابن خمس عشرة سنة ببنوة من هو ابن خمس سنين أو أقل، فأما إذا أقر ببنوة من هو ابن سبع سنين أو أكثر.. لم يحكم بصحة إقراره؛ لأنا نقطع بكذبه. إذا ثبت هذا: وأقر رجل ببنوة صغير أو مجنون مجهول النسب مما يجوز أن يكون ابنا للمقر، ثم بلغ الصغير أو عقل المجنون، فأنكر نسبه من المقر ولم يصادقه المقر على إنكاره.. لم يسمع إنكاره؛ لأن نسبه قد ثبت من المقر فلا يبطل بإنكاره، كما لو ادعى ملك صغير في يده مجهول الحرية، ثم بلغ الصغير وأنكر الرق.. فإنه لا يقبل إنكاره. فإن صادقه المقر أنه ليس بابنه.. فهل يسقط نسبه؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط نسبه، كما لو أقر بمال فكذبه المقر له وصدقه المقر. والثاني: لا يسقط، وهو الأصح؛ لأن النسب إذا ثبت.. لم يسقط، كالنسب الثابت بالفراش. وإن كان المقر به بالغا عاقلا.. لم يثبت نسبه إلا بالشرائط المتقدمة، ويشترط مع ذلك شريطة رابعة؛ وهو: أن يصادقه المقر به؛ لأنه يمكن تصديقه فاعتبر ذلك، بخلاف الصغير والمجنون. [فرع أقر بأن مملوكه وهو أكبر منه أنه ابنه] إذا أقر رجل لمن هو أكبر منه أنه ابنه، وكان المقر به مملوكا للمقر.. فقد قلنا: إنه لا يثبت نسبه منه، ولا يعتق عليه عندنا. وقال أبو حنيفة: (يعتق عليه) . دليلنا: أنه أقر بما يقطع بكذبه فيه، فلم يتعلق به حكم، كما لو قال لامرأته: إنها ابنته وهي أكبر منه.. فإن النكاح لا ينفسخ بينهما.

فرع إقراره ببنوة صغير وعلاقته بإثبات زوجية أمه

[فرع إقراره ببنوة صغير وعلاقته بإثبات زوجية أمه] وإن أقر ببنوة صغير.. لم يكن إقرار بزوجية أمه. وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا بزوجية أمه إذا كانت مشهورة الحرية) . دليلنا: أنه أقر بولد فلم يكن إقرارا بزوجية أمه، كما لو تكن مشهورة الحرية. [فرع أقر ببنوته لميت مجهول النسب] وإن أقر ببنوة ميت مجهول النسب يجوز أن يكون ابنا له، فإن كان المقر به صغيرا أو مجنونا.. ثبت نسبه من المقر وورثه. وقال أبو حنيفة: (لا يثبت نسبه؛ لأنه متهم أنه قصد أخذ ماله) . دليلنا: أنه سبب يثبت به نسبه كما لو كان حيا، فيثبت به نسبه إذا كان ميتا كالبينة. وأما ثبوت التهمة.. فلا يمنع من صحة الإقرار، ألا ترى أنه يقبل إقراره بنسبه في حياته وإن كان متهما ليتصرف في ماله، وتجب نفقته فيه إذا كان معسرا؟ فإما إذا كان الميت المقر به بالغا عاقلا.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يثبت نسبه؛ لأنه يعتبر في ثبوت نسبه تصديقه، وذلك غير ممكن بعد موته. والثاني: يثبت، وهو الأصح؛ لأن تصديقه متعذر منه بعد موته، فسقط اعتباره، كالصغير والمجنون. [فرع الإقرار بالنسب على غيره] وإن كان المقر بالنسب يحتمل نسب المقر به على غيره.. لم يثبت بذلك النسب بينه وبينه. فإن كان من بينه وبينه حيا.. لم يصح إقرار المقر؛ لأنه فرع لغيره، فلا يثبت النسب إلا بعد ثبوته من الأصل. وإن كان من بينه وبينه ميتا؛ بأن يقر برجل أنه

فرع مات وخلف ابنين فأقر أحدهما بأخ له من أبيه

أخوه لأبيه أو لأمه أو لأب وأم ميتين، فإن كان المقر لا يرث أباه أو أمه؛ بأن كان عبدا أو كافرا أو قاتلا.. لم يثبت إقراره بأخيه؛ لأنه إذا لم يقبل إقراره على أبيه أو أمه بدين.. فلأن لا يقبل إقراره عليهما بابن لهما أولى. وإن كان يجوز ميراثهما.. نظرت في المقر به: فإن كان بحيث لو أقر به الأب أو الأم لم يثبت نسبه منه؛ بأن كان المقر به أكبر أو ثابت النسب من غيرهما.. لم يصح الإقرار. وإن كان بحيث لو أقر به الأب أو الأم قبل إقراره.. نظرت: فإن كان الأب أو الأم قد نفى نسبه عن نفسه.. فذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه لا يقبل إقرار الأخ به؛ لأنه يريد أن يحمل على غيره نسبا قد نفاه عن نفسه. وذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: أنه إذا نفى نسب ولده باللعان، ثم مات الأب وأقر به وارثه.. ثبت نسبه؛ لأن تركته قد صارت له، فقبل إقراره. وإن لم ينف الأب أو الأم نسب المقر به.. ثبت نسبه بإقرار الوارث لهما. وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يثبت) . دليلنا: ما روي: «أن سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة تنازعا في ابن أمة زمعة، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فقضى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد بن زمعة» . [فرع مات وخلف ابنين فأقر أحدهما بأخ له من أبيه] إذا مات رجل وخلف ابنين، فأقر أحدهما بأخ له من أبيه، وأنكر الثاني ذلك.. لم يثبت نسب المقر به؛ لأن النسب لا يتبعض فلا يمكن إثباته في حق المقر دون المنكر، وهو إجماع. وهل يشارك المقر به المقر فيما في يده من التركة؟ قال أصحابنا الخراسانيون: فيه قولان: أحدهما: لا يشاركه. وهو المشهور.

والثاني: يشاركه. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد. وقال سائر أصحابنا العراقيين: لا يشاركه في الحكم قولا واحدا؛ لأنه أقر بنسب لم يثبت فلم يشارك في الميراث، كما لو أقر بنسب مشهور النسب. وهل يلزم هذا المقر إذا كان صادقا في إقراره فيما بينه وبين الله تعالى أن يدفع إليه ما يستحق مما في يده؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه إنما يستحق ذلك بالنسب، ولم يثبت نسبه. والثاني: يلزمه، وهو الأصح؛ لأن نسبه ثابت فيما بينه وبين الله تعالى. فإذا قلنا بهذا: فكم يلزمه أن يدفع إليه؟ فيه وجهان: أحدهما: نصف ما في يده - وهو قول أبي حنيفة - لأنهما اتفقا على أن المنكر أخذ الذي أخذه وهو لا يستحقه فصار كالغاصب. والثاني: لا يلزمه أن يدفع إليه إلا ثلث ما في يده - وهو قول مالك - لأن التركة بينهم أثلاث فلا يستحق مما في يده إلا الثلث، كما لو قامت بينة على نسبه. وأصل هذين الوجهين: القولان في أحد الابنين إذا أقر بدين على أبيه فكذبه أخوه. وحكى ابن اللبان وجها ثالثا: أنه يدفع إليه ثلث ما في يده ويضمن له سدس ما بيد أخيه؛ لأن يده قد ثبتت على نصف جميع التركة وسلم إلى أخيه ذلك. ولو كان الحاكم حكم عليه بالقسمة وأقرع بينه وبين أخيه.. لم يلزمه ضمان ذلك. فعلى هذا: لو لم يعلم بالأخ المجهول حين قاسمه أخوه.. فهل يضمن له؟ فيه وجهان: أحدهما: يضمن؛ لأنه قاسمه وسلمه. والثاني: لا يضمن؛ لأن القسمة وجبت في الظاهر.

فرع مات وخلف ورثة وأنكر بعضهم النسب من الميت

[فرع مات وخلف ورثة وأنكر بعضهم النسب من الميت] وإن مات رجل وخلف جماعة ورثة، فإن أقر اثنان منهم بنسب الميت وأنكر الباقون.. لم يثبت نسب المقر به، سواء كان المقران عدلين أو فاسقين. وقال أبو حنيفة: (يثبت؛ لأن قولهما بينة) . دليلنا: أنه إقرار من بعض الورثة، فلم يثبت به النسب، كما لو كانا فاسقين. ولأنه لو كانت بينة.. لاعتبر فيها لفظ الشهادة. [فرع ادعى مجهول أنه أخ لجماعة من أبيهم] وإن مات رجل وخلف أولادا معروفي النسب منه، فادعى رجل مجهول النسب أنه أخوهم لأبيهم فأنكروه، فإن أقام بينة.. قضي له. وإن لم يكن معه بينة.. فالقول قولهم مع أيمانهم؛ لأن الأصل عدم ثبوت نسبه. فإن حلفوا له.. فلا كلام، وإن ردوا عليه فحلف.. ثبت نسبه ويشاركهم في الميراث. وإن حلف له البعض، ونكل البعض عن اليمين.. فهل يحلف المدعي على الذي رد عليه اليمين؟ إن قلنا: إنه يشاركه في الميراث لو أقر له.. حلف. وإن قلنا: لا يشاركه.. فهل يحلف له؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحلف؛ لأن يمينه لا تفيد لأجل من حلف. والثاني: يحلف؛ لأن الحالفين قد يقرون فتثبت يمينه على الناكلين، ولا يؤمن إذا لم يحلف أن لا ينكلوا بعد ذلك. [فرع إقرار أحد الابنين بزوجة لأبيهما] وإن مات رجل وخلف ابنين، فأقر أحدهما بزوجة لأبيه وارثة وأنكر أخوه:

فرع مات وخلف بنتا فأقرت بأخ لها من أبيها ولا وارث غيرها

فإن قلنا: لو أقر بأخ ثالث وأنكره الآخر شاركه فيما في يده.. فهاهنا أولى. وإن قلنا: لا يشاركه الأخ.. فهل تشاركه الزوجة فيما في يده؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تشاركه، كما لو أقر بأخ. والثاني: تشاركه؛ لأن المقر به حصتها من الميراث. أما الزوجية: فقد زالت بالموت، فإذا قلنا: تشاركه.. فبكم تشاركه؟ على الأوجه الثلاثة في الأخ. [فرع مات وخلف بنتا فأقرت بأخ لها من أبيها ولا وارث غيرها] وإن مات رجل وخلف بنتا لا غير، فأقرت بأخ لها من أبيها ولم يكن هناك عصبة، فإن كانت تحوز جميع الميراث؛ بأن كانت مولاة.. ثبت نسب الابن المقر به وورث معها. وإن كانت لا تحوز جميع الميراث.. فإن باقي الميراث للمسلمين. فإن لم يقر معها الإمام.. لم يثبت النسب، فإن قلنا: لا يشاركها فيما بيدها.. فلا كلام. وإن قلنا: يشاركها، فإن قلنا: إن الأخ الذي أقر به الأخ مع إنكار أخيه يأخذ منه ثلث ما بيده.. قال القاضي أبو الفتوح: أخذ الأخ هاهنا خمسي ما بيدها. والذي يقتضي المذهب: أنه يأخذ ثلث ما بيدها لا غير على هذا. وإن قلنا: إن الأخ يأخذ من أخيه نصف ما بيده.. أخذ الأخ هاهنا ثلثي ما بيدها. وإن أقر معها الإمام.. فهل يثبت نسب المقر به؟ فيه وجهان - حكاهما الشيخ أبو إسحاق -: أحدهما: لا يثبت نسب المقر به؛ لأن الإمام لا يرث المال، وإنما هو نائب عن المسلمين في القبض فلم يثبت إقراره، كالوكيل إذا أقر على موكله بغير إذنه. والثاني: يثبت نسبه - ولم يذكر ابن الصباغ غيره - لأنه نافذ الإقرار في بيت المال.

فرع أقرت امرأة أو خنثى بولد

[فرع أقرت امرأة أو خنثى بولد] فإن أقرت المرأة بولد يمكن أن يكون منها.. ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يقبل. والثاني: لا يقبل. والثالث: إن كانت غير فراش لرجل.. قبل، وإن كانت فراشا.. لم يقبل، وقد مضت هذه الأوجه بعللها في (اللقيط) . قال ابن اللبان: فمن قبل إقرار المرأة بالولد.. قبل إقرار ورثتها بولدها، ومن لم يقبل إقرارها.. لم يقبل إقرار ورثتها إلا أن يصدقهم زوجها. قال: وكذلك من قبل إقرار المرأة.. قبل الإقرار بالأم، ومن لم يقبل إقرار المرأة.. لم يقبل الإقرار بالأم لإمكان إقامة البينة. وإن أقر الخنثى بولد، فإن بان رجلا.. فهو كالرجل، وإن بان امرأة.. فقد مضى بيان حكم إقرار المرأة. وإن كان باقيا على الإشكال: فإن قلنا: للمرأة دعوى في النسب.. ثبت نسبه؛ لأنه إن كان رجلا.. ثبت، وإن كان امرأة.. صح. فعلى هذا: إذا مات الولد المقر به قبل أن يتبين حال الخنثى.. ورث منه ميراث أم ووقف الباقي على البيان. وإن قلنا: لا دعوى للمرأة.. قال القاضي: احتمل أن لا يقبل إقرار الخنثى لاحتمال كونه امرأة، ويحتمل أن يقبل، وهو الصحيح. ويثبت النسب بقوله؛ لأن النسب يحتاط لإثباته ولا يحتاط لإسقاطه. فإن مات الخنثى المقر، ثم مات الولد المقر به وللخنثى إخوة.. فهل يرثون الولد إذا كان خلف مالا؟ قال القاضي: الذي يقتضيه المذهب: أنهم لا يرثون؛ لأنهم يحتملون أن يكونوا أعماما فيرثوا، ويحتمل أن يكونوا أخوالا فلا يرثوا، فلم يرثوا مع الشك. ولو مات هذا الخنثى وخلف أبويه، ثم مات الولد المقر به.. فإن الأب لا يرث من ولد الخنثى، وترث أم الخنثى منه. ولو قتل هذا الولد.. لم يكن لإخوة الخنثى ولا لأبيه القصاص. ولو أبرأ أبو الخنثى القاتل.. احتمل أن يقال: سقط القصاص عن هذا القاتل؛ لأن القصاص

فرع مات عن زوجة وأخ لأب وأقرت الزوجة بابن

يسقط بالشبهة، ويحتمل أن يكون جدا أبا أب، ولسنا نقطع بكونه غير وارث أصلا. قال: ويحتمل أن لا يسقط القصاص وهو الظاهر. [فرع مات عن زوجة وأخ لأب وأقرت الزوجة بابن] وإن مات رجل وخلف زوجة وأخا لأب، فأقرت الزوجة بابن للميت وأنكر الأخ.. لم يثبت نسب الابن. فإن كان المال في يد الأخ.. لم تأخذ الزوجة منه إلا الثمن؛ لأنه لا تدعي سواه. وإن كان في يدها.. لم يأخذ الأخ إلا ثلاثة أرباعه. هكذا ذكر أكثر أصحابنا. قال ابن الصباغ: لها أن تأخذ الربع من الأخ؛ لأن ذلك لا يلزمها في الحكم. فإذا أخذت الربع.. وجب عليها فيما بينها وبين الله تعالى أن تدفع نصفه إلى الابن الذي أقرت به. [فرع مات عن ابنين أحدهما مجنون فأقر العاقل بثالث] وإن مات رجل وخلف ابنين، أحدهما بالغ عاقل والآخر مجنون أو صغير، فأقر البالغ العاقل بأخ ثالث.. لم يثبت نسبه؛ لأنه لا يحوز جميع الميراث. فإن أفاق المجنون أو بلغ الصبي وأقر معه بالأخ الذي أقر به.. ثبت نسبه. وإن مات الصغير أو المجنون: فإن كان لهما وارث غير الأخ البالغ المقر.. قام مقامهما في الإقرار. وإن لم يكن لهما وارث غير الأخ البالغ العاقل.. ثبت نسب المقر به بإقراره الأول؛ لأنه قد صار جميع الورثة. وإن مات رجل وخلف ابنين عاقلين بالغين، فأقر أحدهما بأخ ثالث وأنكره أخوه، ثم مات المنكر ولا وارث له غير المقر.. فهل يثبت نسب المقر به؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يثبت؛ لأن النسب لا يثبت مع إنكار الورثة، وقد كان الأخ منكرا لنسبه. والثاني: يثبت نسبه، وهو المذهب؛ لأن المنكر سقط إنكاره بموته، وقد صار المقر جميع الورثة. فعلى هذا: إن خلف المنكر ولدا.. اعتبر إقراره مع عمه؛ لأنه يقوم مقام أبيه.

فرع أقر بالغ عاقل بأخ مثله ثم أقر بثالث

[فرع أقر بالغ عاقل بأخ مثله ثم أقر بثالث] وإن مات رجل وخلف ابنا بالغا عاقلا فأقر بأخ بالغ عاقل فصدقه.. ثبت نسبه. فإن أقرا معا بنسب أخ ثالث بالغ عاقل.. ثبت نسب الثالث. فإن أنكر الثالث نسب الثاني.. ففيه وجهان - حكاهما الشيخ أبو إسحاق -: أحدهما: لا يقبل إنكاره؛ لأنه فرع له، فلا يسقط بقوله. والثاني - ولم يذكر ابن الصباغ غيره -: أنه يسقط نسب الثاني؛ لأن الثالث ابن وارث، فاعتبر إقراره في ثبوت نسب الثاني، وهاهنا يقول الثالث: أدخلني أخرجك. [فرع مات مسلم أو كافر وخلف ابنين مسلما وكافرا فأقر أحدهما بثالث] وإن مات مسلم وخلف ابنين وكافرا، فأقر الابن المسلم بأخ ثالث.. ثبت نسبه؛ لأنه هو الوارث. فإن كان المقر به مسلما.. ورث معه، وإن كان كافرا.. لم يرث. وإن مات كافر وخلف ابنين مسلما وكافرا، فأقر الكافر بأخ ثالث.. ثبت نسبه. فإن كان المقر به كافرا.. ورث، وإن كان مسلما.. لم يرث. [فرع مات وخلف ابنا فأقر بأخوين أو بتوأمين] وإن مات رجل وخلف ابنا، فأقر بأخوين في وقت واحد، فصدق كل واحد منهما صاحبه.. ثبت نسبهما. وإن كذب كل واحد منهما صاحبه.. لم يثبت نسبهما. وإن صدق أحدهما صاحبه وكذبه الآخر.. ثبت نسب المصدق دون المكذب. وإن أقر الابن بنسب أحد التوأمين.. ثبت نسبهما، فإن أقر بهما وكذب أحدهما الآخر.. لم يؤثر التكذيب في نسبهما؛ لأنهما لا يفترقان في النسب. [فرع الإقرار بعم] فرع: [في الإقرار بعم] : وإن كان بين المقر والمقر به اثنان؛ مثل أن يقر بعم. فقد قال بعض أصحابنا: يعتبر تصديق الأب والجد.

مسألة خلف أخا لأب فأقر بابن

والذي يقتضي المذهب: أنه لا يعتبر تصديق الأب هاهنا، بل يكفي تصديق الجد؛ لأنه هو الأصل الذي يثبت النسب منه، ولو كذبه ابنه لم يؤثر تكذيبه، فلا معنى لاعتبار تصديقه الابن. [مسألة خلف أخا لأب فأقر بابن] وإن مات رجل وخلف أخا لأب، فأقر بابن للميت.. ثبت نسب الابن، وهل يرث؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال أبو العباس: يرث - واختاره ابن الصباغ - لأنه إذا ثبت نسبه.. فالميراث مستحق بالنسب، فلا يجوز أن يثبت النسب ولا يثبت الميراث. وقال سائر أصحابنا: لا يرث، وهو الأصح؛ لأنا لو ورثنا الابن.. لخرج الأخ عن أن يكون وارثا، وإذا لم يكن وارثا.. لم يقبل إقراره بالنسب؛ وإذا لم يقبل إقراره بالنسب.. لم يثبت نسب الابن ولا ميراثه؛ فإثبات الميراث له يؤدي إلى نفي نسبه وميراثه، فأثبتنا النسب وأسقطنا الميراث، ولنا مثل هذه المسألة ثمان مسائل: إحداهن: إذا تزوجت الحرة بعبد بألف في ذمته، وضمن السيد عن المهر، ثم باعه منها بالألف التي ضمنها قبل الدخول.. فلا يصح البيع، وقد مضى بيانها في (الصداق) . الثانية: إذا أعتق في مرض موته جارية وتزوجها، ثم مات.. فإنها لا ترثه، وقد مضى ذكرها. الثالثة: إذا أعتق في مرض موته جارية قيمتها مائة وتزوجها على مائة، ومات وخلف مائتين لا غير.. فلا ميراث لها ولا صداق، وقد مضت أيضا. الرابعة: إذا كانت له جارية قيمتها مائة، وزوجها من عبد على مائة وأعتقها قبل الدخول، وخلف مائة لا غير.. فلا يثبت لها الفسخ، وقد مضت أيضا. الخامسة: إذا أعتق عبدين، ثم ادعى رجل أن المعتق كان غصبهما منه، وقد صارا عدلين فشهدا للمدعي بذلك.. فلا تقبل شهادتهما؛ لأنا لو قبلنا شهادتهما.. بطل عتقهما، وإذا بطل عتقهما.. بطلت شهادتهما.

فرع خلف أخا لأب فجاء مجهول وادعى أنه ابن الميت

السادسة: إذا أعتق عبدين في مرض موته وخرجا من ثلثه، فادعى رجل أن له على الميت دينا ينقص الثلث عن قيمتها وشهد له بذلك العبدان.. لم تقبل شهادتهما؛ لما مضى في التي قبلها. السابعة: إذا اشترى أباه أو ابنه في مرض موته.. فإنه لا يرثه، وقد مضى بيانها. الثامنة: إذا أوصى له بأبيه أو بابنه فقبل الوصية في مرض موته.. فإنه لا يرثه، وقد مضت. [فرع خلف أخا لأب فجاء مجهول وادعى أنه ابن الميت] وإن مات رجل وخلف أخا لأب، فجاء رجل مجهول النسب فادعى أنه ابن الميت، وأنكر الأخ، فإن كان مع الابن بينة.. قضي له، وإن لم يكن معه بينة.. فالقول قول الأخ مع يمينه.. فإن حلف الأخ.. انصرف المدعي، وإن نكل الأخ عن اليمن فحلف الابن.. ثبت نسبه، وهل يرث؟ إن قلنا: إن يمينه بمنزلة بينة يقيمها.. ورث. وإن قلنا: إنها كإقرار الأخ.. لم يرث على قول أكثر أصحابنا، ويرث على قول أبي العباس وابن الصباغ. [مسألة إقرار مسلم بولد جاء مع امرأة رومية إلى دار الإسلام] وإن خرجت امرأة من أرض الروم إلى دار الإسلام ومعها ولد صغير، فأقر رجل في دار الإسلام أنه ولده منها.. لحقه نسبه وإن لم يعرف الرجل أنه خرج إلى دار الروم، ولا عرفت المرأة أنها خرجت إلى دار الإسلام؛ لإمكان أن يكون الرجل خرج إلى دار الروم ولم يعلم به فأصابها بنكاح أو شبهة، أو خرجت إلى دار الإسلام ولم

مسألة ادعاء نسب لأجل إرث

يعلم بها فأصابها بنكاح أو شبهة، ويجوز أن يكون تزوجها وهي في دار الروم وبعث إليها بمائة فاستدخلته. هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال القفال: إنما يلحق به الولد إذا كان إمكان الوطء بنكاح أو بشبهة نكاح حاصلا؛ بأن لا يعرف حاله، فأما إذا عرف حاله؛ بأن لم يغب عن أعيننا، أو غاب مدة لا يتصور بلوغه إلى تلك الأرض، وعلم أيضا أن المرأة لم تغب طوال عمرها إلى دار الإسلام إلى الآن، فلا يثبت النسب. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (لا يلحقه نسبه) . وقال في موضع: (يلحقه نسبه) . وليست على قولين وإنما هي على اختلاف حالين: وحيث قلنا: يثبت النسب.. فلا اعتبار بتصديق المرأة وتكذيبها؛ لأن النسب حقه وحق الولد وقد أقر به. قال المسعودي [في ((الإبانة)) ق\299] : إذ صارت المرأة فراشا لرجل ومعها ولد، فأقرت أنه ولد لغيره.. لم يقبل قولها، بل القول قول صاحب الفراش. [مسألة ادعاء نسب لأجل إرث] إذا مات رجل ولا وارث له معروف، فجاء رجل وادعى أنه وارثه.. لم تسمع دعواه حتى يبين سبب الميراث؛ لأنه قد يعتقد أنه وارث بسبب لا يورث به كالمحالفة، أو يكون من ذوي الأرحام. فإن بين سببا يورث به.. لم يحكم له بالميراث حتى يقيم البينة وشاهدين ذكرين عدلين ويذكرا نسبا أو سببا يورث به، فإن ذكرا وقالا: لا نعلم له وارثا سواه وهما من أهل الخبرة الباطنة بحاله.. حكم للمدعي بالميراث. وحكي عن ابن أبي هريرة أنه قال: لا يثبت الإرث حتى يقولا: لا وارث له غيره على وجه القطع؛ لأنهما إذا قالا: لا نعلم له وارثا سواه.. فلم ينفيا غيره ويجوز أن يكون هناك وارث غيره موجود لا يعلمانه. وهذا خطأ؛ لأنهما لا يمكنهما

ذلك؛ لجواز أن يكون تزوج امرأة سرا، أو وطئ امرأة بشبهة وأتت منه بولد. فإن قالا: نشهد أنه لا وارث له غيره.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (سألتهما عن ذلك، فإن قالا: أردنا أنا لا نعلم له وارثا غيره.. كان كما لو صرحا به. وإن قالا: نريد به قطعا ويقينا.. قيل لهما: قد أخطأتما؛ لأنه قد يجوز أن يكون له وارث لا تعلمانه، ولا ترد شهادتهما بذلك) . وقال أبو حنيفة: (القياس أن ترد شهادتهما؛ لأنهما كذبا، ولكن لا ترد استحسانا) . دليلنا: أنهما إذا صحباه الزمن الطويل وعرفا حاله.. جرى ذلك مجرى القطع، فلم ينسبا إلى الكذب. وإن لم يكونا من أهل الخبرة الباطنة بالميت، أو كانا من أهل الخبرة الباطنة به إلا أنهما لم يقولا: لا نعلم له وارثا سواه.. فإنه يثبت بذلك نسب المدعي، ولا يثبت بذلك نفي نسب غيره. فإن كان له فرض لا يحجب عنه، كالأبوين والزوجين.. أعطي أقل فرض يستحقه بحال، فيعطى كل واحد من الأبوين سدسا عائلا، ويدفع إلى الزوج ربع عائل. قال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: ويدفع إلى الزوجة ثمن عائل. وقال أبو علي في " الإفصاح ": يدفع إليها ربع ثمن عائلا، وقد مضى مثل ذلك في (الدعاوى) . وإن كان المدعي ممن له تعصيب.. بعث الحاكم إلى البلاد التي كان يسافر إليها الميت ويقيم بها فيسأل بها: هل له وارث؟ فإن لم يوجد له وارث ومضت مدة لو كان له وارث لظهر.. نظر في المدعي، فإن كان ممن لا يحجب، كالأب والابن.. دفعت التركة إليه.. وإن كان ممن يحجب، كالأخ وابن الأخ.. ففيه وجهان:

مسألة له أمتان ولكل ولد فألحق أحدهما لا بعينه بنسبه

أحدهما: لا يدفع إليه شيء؛ لجواز أن يكون هناك وارث يحجبه. والثاني: يدفع إليه؛ لأن الظاهر مع البحث أنه لا وارث له؛ إذ لو كان له وارث.. لظهر. ويؤخذ منه كفيل بما أخذه. وهل يجب أخذ الكفيل منه أو يستحب؟ فيه وجهان، مضى بيانهما في (الدعاوى) . [مسألة له أمتان ولكل ولد فألحق أحدهما لا بعينه بنسبه] إذا كان لرجل أمتان، لكل واحدة منهما ولد، فقال السيد: أحدهما ابني.. لحقه نسب أحدهما لا بعينه وطولب بتعيينه. وإنما يتصور هذا بشرطين: أحدهما: إذا لم يكن لإحداهما زوج. والثاني: إذا لم يقر السيد بوطء إحداهما. فأما إذا كان لكل واحدة منهما زوج، أو لإحداهما زوج وأمكن أن يكون الولد منه.. فإن الولد يلحق به دون السيد. فإن أقر السيد بوطئهما أو بوطء إحداهما.. فإن التي أقر بوطئها تكون فراشا له، فإذا أتت بولد لأقل مدة الحمل.. لحقه من غير إقرار. فإذا عدم الشرطان.. فإنه يطالب ببيان ولده منهما، فإن قال: هذا ولدي.. حكم بحريته ويسئل عن سبب استيلاده: فإن قال: استولدتها في ملكي.. ثبت لأمه حرمة الاستيلاد، ولا ولاء على الولد. وإن قال: استولدتها في نكاح.. كانت أمه قنا، وثبت له على ولده الولاء؛ لأنه ملكه، ثم عتق عليه. فإن قالت الأمة الأخرى: بل أنا التي أقررت بحرية ولدي، فإن صدقها.. كان الحكم فيها وفي ولدها كالذي أقر به أولا، ولا يبطل بذلك إقراره للأمة الأولى ولولدها. وإن كذب الثانية.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. سقطت دعوى الثانية ورقت ورق ولدها. فإن مات.. ورثه الابن المقر به، فإن كان أقر أنه استولد أمه في ملكه.. عتقت بموته. وإن أقر أنه استولدها في نكاح.. لم تعتق عليه بموته، وإن لم يكن له وارث غير ابنها.. عتقت على ابنها، وإن كان مع الابن وارث.. عتق على الابن

نصيبه ولا يقوم عليه الباقي. وإن مات السيد قبل أن يبين.. قام وارثه مقامه في البيان، فإن بين الولد منهما وكيفية الاستيلاد.. كان الحكم فيه كما لو بين السيد. وإن بين الوارث الولد منهما وقال: لا أدري كيف كان الاستيلاد.. ففيه وجهان: أحدهما: تكون الأم رقيقة؛ لأن الأصل فيها الرق. والثاني: تكون أم ولد؛ لأن الظاهر ممن أقر بولد أمته أنه استولدها في ملكه. وإن امتنع الورثة من التعيين، فإن لم يدع الولدان عليهم بالعلم.. فلا كلام. وإن ادعيا عليهم بالعلم.. حلفوا أنهم لا يعلمون، ويعرض الولدان على القافة، فإن ألحقت القافة به أحدهما.. لحقه وكان حرا. فإن كان السيد قد أقر أن أحدهما ابنه استولد أمه في ملكه.. لم يكن على الولد الذي ألحقته القافة به ولاء وعتقت أمه بموت السيد. وإن كان قد أقر أنه ابنه من نكاح.. كان على الولد الولاء ولم تعتق أمه بموت السيد. وإن لم يتقدم منه إقرار بكيفية الاستيلاد.. فهل تكون أمه أم ولد؟ على الوجهين إذا عين الوارث الولد ولم يبين كيفية الاستيلاد، ويحتمل أن يكون في ثبوت الولاء على الولد الذي ألحقته القافة به هذان الوجهان. وإن لم يكن هناك قافة، أو كانت هناك قافة وأشكل عليها الولد منهما.. أقرع بين الولدين للحرية؛ لأن للقرعة مدخلا في تمييز الحر من الرقيق. فإذا خرجت القرعة لأحدهما.. عتق، ويحتمل أن يكون في ثبوت الولاء عليه الوجهان، ولا يثبت نسبه من المقر؛ لأن النسب لا يثبت بالقرعة، ولا يحكم لأحدهما بالميراث؛ لأنه لم يثبت نسب أحدهما. وهل يوقف من ماله ميراث ابن؟ فيه وجهان: [أحدهما] : قال المزني: يوقف؛ لأنا نتيقن أن أحدهما ابن وارث. و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يوقف؛ لأن الشيء إنما يوقف إذا رجي انكشافه، وهذا لا يرجى انكشافه، ويحتمل أن يكون الحكم في أم ذلك الولد حكم أم من ألحقت به القافة منهما. هذا مذهبنا، وقال أبو حنيفة: (يعتق من كل واحد منهما نصفه، ويستسعى في قيمة باقيه، ولا يرثان) . وقد مضى الدليل عليه في (العتق) .

مسألة أقر بإلحاق أحد أولاد أمته الثلاثة من دون تعيين

[مسألة أقر بإلحاق أحد أولاد أمته الثلاثة من دون تعيين] وإن كان لرجل أمه لها ثلاثة أولاد، فقال سيدها: أحد هؤلاء ولدي.. فهو إقرار صحيح، ويرجع إليه في بيان الولد منهم، وإنما يتصور هذا بشرطين: أحدهما: أن لا يكون للأمة زوج، فإن كان لها زوج وأتت بولد يمكن أن يكون منه.. لحق به، ولا يقبل إقرار السيد به. والثاني: إذا لم يقر السيد بوطئها في وقت، فأما إذا أقر بوطئها في وقت.. فما أتت به من ولد لأقل مدة الحمل من ذلك الوقت لحق به من غير إقرار. فإذا ثبت أنه يرجع إليه في بيان الولد منهم.. نظرت: فإن أقر أن الأصغر منهم ولده.. حكم بحريته ويثبت نسبه منه، ويطالب بكيفية الاستيلاد. فإن قال: استولدتها في ملكي.. لم يثبت على الولد الولاء، وكانت الجارية أم ولد له والولدان الآخران مملوكين. وإن قال: استولدتها في نكاح.. فالولد حر، وعليه له الولاء، والأمة مملوكة. وإن قال: استولدتها بشبهة.. فالولد حر، وعليه له الولاء، وهل يثبت للأمة حرمة الاستيلاد؟ على قولين. وإن لم يعين جهة الاستيلاد.. فهل يثبت للأمة حرمة الاستيلاد؟ على وجهين، مضى ذكرهما في التي قبلها، ويحتمل أن يكون في ثبوت الولاء على الولد هذان الوجهان. وأما إذا قال: الولد الأوسط ولدي.. حكم بحريته وثبوت نسبه منه فإن قال: استولدتها في ملكي.. فلا ولاء على الولد، وتثبت للأم حرمة الاستيلاد فيه، وهل يثبت للولد الأصغر ما يثبت للأمة من حرمة الاستيلاد؟ فيه وجهان: أحدهما: يثبت له ذلك؛ لأنه ولد أم ولد. والثاني: لا يثبت له؛ لأنه يجوز أن يكون استولدها وهي مرهونة، فلم يثبت لها حرمة الاستيلاد في الحال، ثم بيعت في الرهن، ثم أتت بالولد الأصغر في غير ملكه، ثم ملكها بعد ذلك، فثبت لها حرمة الاستيلاد دون الولد الأصغر.

وإن قال: استولدتها في نكاح.. ثبت على الأوسط الولاء، ولا يثبت للأم حرمة الاستيلاد، والأصغر مملوك. وإن قال: استولدتها بشبهة.. فعلى الوسط الولاء، وهل تثبت للأم حرمة الاستيلاد؟ على القولين. فإن قلنا: لا تثبت لها.. فالأصغر مملوك. وإن قلنا: تثبت لها.. فهل تثبت للأصغر حرمة الاستيلاد؟ على وجهين. وأما الولد الأكبر: فمملوك بكل حال. وإن قال: الولد الأكبر ابني.. حكم بحريته وثبوت نسبه منه، والحكم في الأوسط والأصغر حكم الأصغر إذا عين الأوسط على ما مضى. فإن مات السيد قبل أن يبين.. قام وارثه مقامه في البيان، فإن بين الوارث الولد وكيفية الاستيلاد.. فهو كما لو بينة السيد، وإن بين الولد ولم يبين جهة الاستيلاد.. حكم بحرية الولد الذي بينه الوارث وثبوت نسبه من السيد، وهل يثبت للأمة حكم الاستيلاد؟ على الوجهين في التي قبلها. فإن بين الولد الأصغر.. فالولد الأكبر والأوسط مملوكان. وإن بين الأكبر.. فهل يثبت للأوسط والأصغر حرمة الاستيلاد؟ إن قلنا: لا يثبت للأمة حرمة الاستيلاد.. لم يثبت لهما. وإن قلنا: يثبت للأمة حرمة الاستيلاد.. فهل يثبت لهما حرمة الاستيلاد؟ على الوجهين اللذين مضى بيانهما. وإن لم يبين الوارث الولد منهم، أو لا وارث له.. عرض الأولاد الثلاثة على القافة، فإذا ألحقت به أحدهم.. لحقه نسبه وحكم بحريته. فإن كان قد تقدم من السيد إقرار أنه استولدها في ملك أو نكاح أو شبهة.. كان الحكم فيه كما لو عين السيد الولد منهم وبين جهة الاستيلاد على ما مضى. وإن لم يتقدم من السيد إقرار بجهة الاستيلاد.. فهل يثبت للأمة حرمة الاستيلاد؟ على وجهين، قد مضى بيانهما. فإن ألحقت القافة به الأصغر.. فالولد الأكبر والأوسط مملوكان، وإن ألحقت به الأكبر: فإن قلنا: لا يثبت للأمة حرمة الاستيلاد.. فالولد الأوسط والأصغر مملوكان. وإن قلنا: يثبت للأمة حرمة الاستيلاد.. فهل تثبت حرمة الاستيلاد للأوسط والأصغر؟ على وجهين. وإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها الولد منهم.. أقرع بين الأولاد الثلاثة؛ لأن للقرعة مدخلا في تمييز الحر من الرقيق، فإذا خرجت القرعة لأحدهما.. حكم بحريته، ولا يثبت نسبه من السيد؛ لأنه لا مدخل للقرعة في إثبات النسب، وهل يوقف من ماله ميراث ابن؟ على وجهين، مضى بيانهما في التي قبلها.

مسألة اختلفا في كون الجارية بيعت أم زوجت

[مسألة اختلفا في كون الجارية بيعت أم زوجت] ] : إذا كان في يد رجل جارية فانتقلت منه إلى رجل فوطئها ولم يحبلها، فاختلفا في جهة انتقالها إليه، فقال من انتقلت منه: بعتكها بألف لم أقبضها منك، وقال من هي في يده: بل زوجتنيها بألف.. فإن كل واحد منهما يحلف على نفي ما ادعى عليه؛ لأن الأصل عدمه. فيحلف الذي انتقلت منه أني ما زوجتكها، ويحلف من هي بيده أني ما اشتريتها. فإن حلفا معا.. حكمنا بزوال العقدين، ولا يستحق من انتقلت منه على من هي بيده مهرا؛ لأن من هي بيده مقر به لمن لا يدعيه، وترد الأمة إلى الذي انتقلت منه. واختلف أصحابنا لأي معنى رجعت إليه: فمنهم من قال: رجعت إليه بمعنى: من اشترى جارية بثمن، فأفلس المشتري ورجع البائع إلى جاريته فعلى هذا: يفسخ البيع وتعود إليه الجارية ويملك وطأها. ومنهم من قال: رجعت إليه بمعنى: من كان له على غيره حق ولم يقدر عليه، ووجد له شيئا من ماله من غير جنس حقه. فعلى هذا: تباع الجارية ويستوفي البائع من ثمنها الثمن الذي حلف عليه، وهل يملك بيعها بنفسه، أو لا يصح منه بيعها إلا من الحاكم؟ فيه وجهان، مضى بيانهما. فإن فضل فضلة من ثمنها على ما يدعيه البائع من الثمن.. ردت إلى من انتقلت إليه، وإن نقص ثمنها عما يدعيه البائع من الثمن.. كان له أن يأخذ من مال المبتاع. فأما إن حلف من انتقلت منه الجارية: أنه ما زوجها، ونكل من انتقلت إليه عن اليمين: أنه ما اشتراها.. ردت اليمين على البائع، فيحلف: أنه لقد باعها منه بألف، ولزم المبتاع الألف. وإن حلف من هي بيده: أنه ما اشتراها، ولم يحلف من انتقلت منه: أنه ما زوجها.. حلف من هي بيده: لقد تزوجها وهذا زوجها، وحكم

له بزوجيتها، وأقرت في يده، وعاد حكم الرق عليها للبائع. فإذا زال النكاح بطلاق أو وفاة.. رجعت إلى من انتقلت منه. فإذا كان من انتقلت منه صادقا: أنه باعها وهي ملك للمشتري.. لا يحل للبائع وطؤها وقد عادت إليه، وكيف يكون الحكم بعودتها إليه؟ على الوجهين اللذين مضيا. وإن كان من انتقلت منه كاذبا في دعواه: أنه باعها.. عادت إلى ملكه وتصرفه بالوطء وغيره. وأما إن كان الذي انتقلت إليه قد استولدها.. فإن من انتقلت منه يقر بحقين عليه ويدعي حقا له. فأما الحقان اللذان يقر بهما على نفسه: فإنه يقر أنها صارت أم ولد لمن انتقلت إليه، وأن ولدها حر، وهذان يضران به فيقبل إقراره بهما على نفسه. وأما الحق الذي يدعيه: فإنه يدعي أنه باعها بألف في ذمة من هي بيده، وهذا ينفعه فلم يقبل قوله فيه. فيحلف من هي في يده: أنه ما اشترى الجارية؛ ليسقط عنه الثمن الذي يدعي به عليه من انتقلت منه، فإذا حلف.. حكمنا بزوال البيع وسقوط الثمن عنه، وكانت الجارية أم ولد له وولدها حرا، ومن بيده الجارية يقر بالمهر لمن انتقلت منه وهو لا يدعيه ولكن يدعي عليه الثمن، وهل يرجع عليه من انتقلت منه بالأقل: من المهر الذي أقر به من انتقلت إليه الجارية، أو الثمن الذي يدعيه من انتقلت منه؟ فيه وجهان: أحدهما: يرجع عليه بأقلهما؛ لأنهما متفقان على استحقاقه. والثاني: لا يرجع عليه بشيء؛ لأن من بيده الجارية لما خلف.. زال عنه حكم الثمن، وقول من انتقلت منه: ما زوجتكها.. يسقط استحقاقه المهر، فلم يرجع عليه بشيء. على الوجهين معا لا ترد الجارية إلى من انتقلت منه، بل تقر في يد من انتقلت إليه؛ لأن من انتقلت منه أقر بزوال ملكه عنها، وأنها قد تلفت في يد من انتقلت إليه

بالإحبال فلم ترد إليه، كما لو قال: بعت عبدي من ويد، وأعتقه. إذا تقرر هذا: فإنه يقال لمن انتقلت إليه: إن علمت بأنها زوجتك.. حل لك وطؤها فيما بينك وبين الله تعالى، وهل يحل له وطؤها في ظاهر الحكم؟ فيه وجهان: أحدهما: يحل له؛ لأنهما اتفقا على إباحة وطئها له وإن اختلفا في سببه. والثاني: لا يحل له وطؤها؛ لأن من هي في يده قد حلف: أنه لا يملكها، فبطل أن تحل له بالملك ويدعي أنها زوجته، ومن انتقلت منه غير مسلم أنها تحل له بالزوجية، فما اتفقا عل إباحتها له.. فمنع من وطئها. وإن نكل من انتقلت إليه عن اليمن.. حلف من انتقلت منه: أنه باعها، ووجب على من انتقلت إليه الثمن لمن انتقلت منه.. وهذا الكلام في جنبة من انتقلت منه، وأما من انتقلت إليه.. فإنه يدعي على من انتقلت منه أنه زوجة إياها، ويجب بهذا أنها مملوكة لمن انتقلت منه، وولدها مملوك لمن انتقلت منه، وعلى من انتقلت إليه المهر، فيسقط قوله: إن الجارية والولد مملوكان لمن انتقلت منه؛ لأنه يقر أن الجارية أم ولد لمن هي بيده وأن ولدها حر، ويكون القول قول من انتقلت منه: إنه ما زوجها، وهل يحلف على ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحلف؛ لأنه لو رجع وأقر أنه قد زوجها.. لم يقبل، فلا معنى لاستحلافه. والثاني: يحلف؛ لأنه ربما ينكل، فيحلف من هي بيده: أنه زوجها منه ويحكم له بالزوجية. فإن حلف كل واحد منهما لصاحبه.. حكمنا بزوال العقدين، وأنها غير مبيعة ولا مزوجة، والكلام على النفقة والميراث، فأما نفقة الولد.. فعلى الواطئ؛ لأنه ابنه وقد حكمنا بحريته، وأما نفقة الجارية.. ففيها قولان حكاهما أبو إسحاق في " الشرح ": أحدهما: أنها على البائع؛ لأنه أقر بأمرين، أحدهما عليه وهو كونها أم ولد

الخاتمة

للغير، والآخر حق له وهو سقوط نفقتها عنه، فقبل قوله فيما عليه ولا يقبل فيما له. والثاني - وهو الأصح - أن نفقتها في كسبها؛ لأنه لا يمكن إيجابها على البائع؛ لأنا قد حكمنا أنها أم ولد للغير، ولا على المشتري؛ لأنه لا يدعي أنها أم ولد له، فلم يبق إلا إيجابها في كسبها، فإن بقي من كسبها شيء.. كان موقوفا. وأما الميراث: فإن ماتت الجارية قبل الوطء.. فللبائع أن يأخذ من مالها قدر الثمن الذي يدعي أنه باعها به؛ لأن من انتقلت إليه يقر له بجميع مالها، وهو يقر به لمن انتقلت إليه ويدعي عليه الثمن، وما بقي من مالها حتى يصطلحا عليه. فإن ماتت بعد موت من هي بيده.. كان إرثها لولدها، فإن كان ولدها قد مات قبلها.. كان مالها لمناسبها، فإن لم يكن لها مناسب.. فميراثها موقوف؛ لأن ولاءها موقوف لا يدعيه أحدهما، وليس للبائع أن يأخذ منه شيئا؛ لأنه يدعي الثمن على الواطئ وقد مات قبلها. وإن رجع أحدهما عن إقراره، فإن رجع البائع.. لم يقبل قوله في إسقاط حقها ولا حق ولدها من الحرية، ويقبل قوله في سقوط الثمن عن المشتري ورجوع الولاء إليه فيأخذ مالها. وإن رجع الواطئ.. وجب عليه الثمن، وكانت الجارية على ما ثبت لها من حرمة الاستيلاد، والولد على ما ثبت له من الحرية. والله أعلم، وبالله التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ونعم الولي ونعم النصير، وصلى الله على رسوله سيدنا محمد النبي الأمي وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن الصحاب أجمعين. [الخاتمة] تم الكتاب بحمد الله تعالى منه، وكرمه ولطفه وعونه، وتيسيره وهدايته وفضله، وصلواته على رسوله سيدنا محمد النبي وآله وصحبه، وسلامه عليهم أجمعين وبه تم كتاب " البيان ". وقع الفراغ من تمام هذا الجزء الآخر ليلة الخميس ثلاث عشرة من شهر رجب الفرد من شهور سنة اثنتين وثلاثمائة وألف من الهجرة المطهرة على صاحبها الصلاة والسلام.

بخط أسير الذنوب المستغفر من ربه، الراجي ثوابه: محمد بن عبد الله بن عبد العزيز المفتي الحبيشي الإصابي الساكن في نفس مدينة جبلى المحمية بالله تعالى، والله أسأل، وبنبيه أتوسل أن يسعدنا في الدارين بحق محمد وآله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.

§1/1