البواكير

علي الطنطاوي

علي الطنطاوي البواكير جمع وترتيب حفيد المؤلف مجاهد مأمون ديرانية دار المنارة للنشر والتوزيع

حقوق الطبع محفوظة يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر الطبعة الأولى 2009 دار المنارة للنشر والتوزيع ص ب 1250 جدة 21431 المملكة العربية السعودية هاتف 6603652 فاكس 6603238 المستودع 6675864

المقدمة

المقدمة المقالة الأولى في هذا الكتاب كتبها فتى في العشرين من عمره اسمه علي الطنطاوي، والأخيرة فيه كتبها شاب في السادسة والعشرين يحمل الاسم ذاته، وبين عشرين وست وعشرين كتب علي الطنطاوي ونشر سائرَ مقالات هذا الكتاب. هذه أولى الحقائق التي أرجو أن يذكرها قارئ هذا الكتاب وهو يطوي صفحاته ويتنقّل بين مقالاته، والثانية: أن هذه المقالات قد كُتبت ونُشرت كلها أيامَ الانتداب الفرنسي على الشام، يوم كان الأمر والنهي للفرنسيين وبيد مفوَّضهم السامي الحكم والسلطان. فمن الأولى جاء ما سترونه في مقالات هذا الكتاب من حدّة وشدّة، وهما صفتان غالبتان في سن الشباب، ومن الثانية تولدت تلك الروح الوطنية الوثّابة التي تملأ مادة الكتاب كله. ومن ثالثة سواهما: الشجاعة التي كانت من صفات علي الطنطاوي الظاهرة، شجاعة كثيراً ما وصلت إلى درجة التهور، من هذه الثالثة جاء ما تجدونه من صراحة وجَراءة قد يُعَجِّبُ كثيراً من الناس صدورُهما عن شاب في مثل تلك السن وفي مثل هاتيك الظروف. ومن علة رابعة، من النشأة الأولى التي وفّقه الله إليها حين أنشأه في بيئة علم ودين، جاء ما تحفل به عامة مقالات الكتاب من عاطفة إسلامية فَيّاضة وحماسة دينية فَوّراة. أما ما تفيض به

كثير من المقالات من اعتزاز بالعربية وغَيرة عليها واستماتة في الدفاع عنها فقد نشأ عن علة خامسة غير كل ما ذُكر، عن حادثة جليلة مما لا يمرّ في أعمار الأمم الطويلة إلا مرات معدودات، فأي شيء هذا؟ * * * في يوم الثلاثاء، السابع والعشرين من نيسان (أبريل) سنة 1909 (السادس من ربيع الثاني 1327)، خلع الاتحاديون السلطان عبد الحميد الثاني، وبذلك انتهت أيام الخلافة العثمانية وبدأ عهد الاتحاديين. وبعد ستة وأربعين يوماً من ذلك اليوم المشؤوم -الذي آذن بنهاية آخر إمبراطورية إسلامية في التاريخ المشهود- وُلد علي الطنطاوي، فقُدِّر له أن يعيش سني طفولته المبكرة تحت سلطة الاتحاديين الذين سعوا إلى «تَتْريك» الممالك الإسلامية غير التركية، من عربية وغيرها، والذين قذفوا الدولة العثمانية المريضة في محرقةِ حربٍ لا ناقة لها فيها ولا بعير، فأجهزوا عليها، وسقطت أراضيها كلها -إلا قليلاً- في أيدي المستعمرين الأوربيين. لقد كانت تلك سنوات عجافاً، عانى فيها الناس في الشام من عسف الاتحاديين ودفعوا من أرواحهم وأقواتهم ثمناً لسياستهم الخرقاء. وحين أرادوا تتريك الولايات العربية التي كانوا يحكمونها أعلنوا الحرب على اللغة العربية، فَثَمَّ نشأ في نفس علي الطنطاوي هذا الحرص الغريب عليها والحميّة الشديدة لها. قال في مقالة له اسمها «عام 1960» (وهي منشورة في كتاب «هتاف المجد»): "كنّا ونحن صغار نرى الحكّام كلهم من الترك، لهم السيادة ولهم التكرمة ولهم النعيم، ولغتهم التركية هي اللغة الرسمية،

فمَن كلّمهم بالعربية ازدرَوه واحتقروه، ودروس المدرسة تُلقَى بالتركية، فمن لم يعرفها ويفهم بها عاقبوه وأسقطوه! وكنا نسمع بآذاننا احتقار «ابن العرب» وسبّه وتقديم التركي وتعظيمه! كنا من حكم الاتحاديين المارقين في ظلام، فأصبحنا يوماً فإذا الظلام قد انقشع، وإذا العلم الأحمر الذي كان يرفرف على بناية السُّوَيْقات، حيث كان الشباب يُساقون إلى الموت في سبيل الألمان وكان الأموات من الجوع مرميين في الطرقات، إذا هذا العَلَم قد اختفى وعُلِّق مكانه علمٌ جديد له أربعة ألوان، وإذا الهتاف الذي كنا نُلزَم به كل صباح قد خفت وانقطع وارتفع مكانه هتافٌ جديد ما سمعنا بمثله من قبل: الهتاف بحياة الاستقلال العربي". (¬1) * * * ¬

_ (¬1) الذين يذمّهم علي الطنطاوي هنا هم الاتحاديون الذين تنكروا للعربية وعادَوا الإسلام، لا الأتراك العثمانيون الذين عاشت الشام في سلطانهم من قبل لعدة قرون؛ قال: "ما يسمّيه السفهاء منا «الاستعمار العثماني» لم يكُن استعماراً، لأن حكم المسلم (ولو كان تركياً) لبلد مسلم (ولو كان عربياً) لا يسمّى في شرعنا حكماً أجنبياً، والمسلم لا يكون أبداً أجنبياً في ديار الإسلام. ونحن ما كرهنا الاتحاديين لأنهم أتراك، بل لأنهم حادوا عن جادة الإسلام فأساؤوا للمسلمين جميعاً، من عرب وأتراك" (انظر الحلقة الحادية عشرة في الجزء الأول من «الذكريات»). وقال: "ما كان الترك العثمانيون الأوَّلون أمةَ سوء، ولقد تسلموا الحكم والأرضُ الإسلامية مِزَق مرقَّعة ورُقَع ممزَّقة، في كل مدينة مَلِكٌ وعلى كل رابية عَلَم، مماليكها ملوكها وعبيدها سادتها، فأقاموا للإسلام دولة كانت ثالثة الدولتين الكبيرتين: الأموية والعباسية في صدر تاريخها، وكان منها أولَ الأمر ملوكٌ صالحون كبار، ثم =

وبعد، فهذه هي المرة الأولى التي أُخرج فيها كتاباً لعلي الطنطاوي -رحمه الله- لا جامعة تجمع مقالاته إلا الزمن، ولا رابطة تربط بينها إلا سِنُّه يومَ نشرَها أولَ مرة. ولكنها ليست المرة الأولى التي يقرأ فيها القرّاء مقالات قديمة له؛ فقد نشر في أول حياته كتباً ثلاثة أودع فيها بواكير مقالاته، فأصدر «الهيثميات» سنة 1930، ثم أصدر «في بلاد العرب» سنة 1939 و «من التاريخ الإسلامي» في السنة التي بعدها. هذه الكتب ضمت عشرات من المقالات التي نشرها في تلك السنوات المبكرة من حياته، ورغم أنها قد نفدت نسخُها واختفت من الأسواق من عهد بعيد ولم يُعِدْ طباعتها قط، إلا أن مادتها لم تَضِعْ، فأكثر ما فيها من مقالات انتقل إلى الكتب التي أخرجها لاحقاً والتي ما زالت تُنشَر ويتداولها الناس؛ ولو أنكم فتحتم كتاب «من حديث النفس» مثلاً وراجعتم مقالاته لوجدتم أن نصفها قد كُتب بين سنتَي 1931 و1939، وقريبٌ من ذلك كتاب «فِكَر ومباحث»، أما كتاب «قصص من التاريخ» فتكاد تكون مادته كلها مما نُشر في تلك الأيام. بل إني قد أحصيت في الكتب المنشورة أكثرَ من مئة وعشرٍ ¬

_ = خالف آخرُها سيرةَ أولها، ودبّ الفساد إليها من يوم تركت قوانين الإسلام الذي كان به وحدَه عزُّها وأخذت قوانين أعدائها، حتى كان عهد الاتحاديين، فكانوا قوماً كفَرَة فجَرَة لا يرضى بحكمهم مسلمٌ تركي، بَلْهَ المسلم العربي الذي حرصوا على تجريده من عربيّته كما حرصوا على إخراجه من إسلامه" (انظر مقالة «مكتب عنبر» في كتاب «دمشق»). وانظر أيضاً مقالة «رقم مكسور» في كتاب «صور وخواطر»، وفي آخرها يقول: "الاتحاديون الذين شوّهوا اسم السلطان عبد الحميد هم الذين أساؤوا إلينا وإلى الترك على السواء".

من المقالات التي نشرها علي الطنطاوي في الجرائد والمجلات قبل نهاية عام 1939. لقد وجدَتْ كثيرٌ من بواكير علي الطنطاوي طريقَها إلى الكتب التي نُشرت وقرأها الناس، وبقيت في يدي بقية مما لم يُنشَر في كتاب قط، فلما عزمت على جمعها وإخراجها في هذا الكتاب أردت أن أضمّ إليها ما أستطيع الوصول إليه مما نُشر من قديم ثم ضاع فلم يبق له أصل، فانتدبت مَنْ تكرّم مشكوراً بمراجعة قسم الدوريات القديمة في مكتبة الأسد بدمشق، وأمضى فيها أسابيع طويلة غارقاً في سجلاتها المحفوظة حتى استخرج منها طائفة من المقالات لم تكن في يدي، فاشتغلت فيها وفيما كان معي من قبل، ومن هذه وتلك جاء هذا الكتاب. على أني لم أنشر كل ما وصلت إليه من «البواكير»، بل إن الذي طويته يزيد على ما أنشره منها اليومَ في هذا الكتاب؛ فقد وجدت أن مقالاتٍ كثيرةً منها كانت مرتبطة بحوادث عابرة أو بقضايا يوميّة، وأمثالُ هذه المقالات قصيرة العمر وأكثرها من النوع السياسي الذي يعالج مشكلات وقتيّة، ثم تنقضي الحادثة وتنتهي القضية فلا تبقى للمقالة قيمة، ولا يبقى بعد هذه السنين الطويلة من يذكر الحادثة أو يهتم بها أو يفهم الإشارة إليها. وأخيراً واجهت مشكلة ترتيب مقالات الكتاب، فهممت حيناً بأن أرتبها حسب موضوعاتها، ثم وجدت أن الموضوع لم يكن هو الأساس الذي بُني عليه الكتاب فأعرضت عن هذا الخاطر، وفكرت حيناً آخر بترتيبها اعتماداً على الجريدة التي نُشرت فيها، فأضم مقالات «القبس» بعضها إلى بعض وأجمع

مقالات «فتى العرب» معاً، وهكذا، لكني أعرضت عن هذا الخاطر أيضاً. ثم انتهيت إلى ترتيبها في الكتاب كترتيب نشرها، فما دام الجامع الذي جمع هذه المقالات معاً وأنشأ منها هذا الكتاب هو الزمان الذي نُشرت فيه فليكن أساس ترتيب المقالات هو الزمان، وكذلك كان. وقد بدأت الكتاب بأقدم «البواكير» نشراً، وكلما مضى القارئ في الكتاب قُدُماً سيتقدم في السنوات. ثم اجتهدت فعملت في هذا الكتاب ما لم أعمله في سواه مما نشرته من قبل، وهو أنني حرصت على أن أثبت في أول كل مقالة موضعَ نشرها وتاريخَه، فذكرت اسم الجريدة التي نُشرت فيها وتاريخ نشرها باليوم والشهر والسنة، وإنما حملني على ذلك أنني ما زلت أحس -وأنا أشتغل بهذا الكتاب- أنني أقدم فيه تاريخ علي الطنطاوي نفسه، وليس فقط سجلاً لكتاباته في تلك السنوات المبكرة من حياته! * * * لقد ظن جدي -رحمه الله- أن إنجاز هذا العمل من المستحيلات، لكن الله ذلل الصعب وجعل -بفضله- المستحيلَ ممكناً. قال في أول الحلقة السادسة والثلاثين من «الذكريات»: "في الأشهر الخمسة التي لازمت فيها «فتى العرب» كنت أكتب كل يوم مقالة، منها سلسلة كان عنوانها «أحاديث ومشاهدات» ... هذه المقالات ضاعت مني، ما بقي لديّ منها إلاّ أربع. ولو كان يتحقق في الدنيا المستحيل وخطر على بال أحد يوماً (بعد موتي) أن يطبع كل ما كُتب، واستطاع أن يجد مجموعة أعداد «فتى العرب» لوجدها فيها".

على أنه لم يَتَمَنَّ فقط صدور هذا الكتاب، بل اختار له العنوان أيضاً؛ قال في أول الحلقة الثانية والستين من «الذكريات»: "المقالات التي كتبتها في هذه المدة كثيرة جداً، لكنْ لا تسألوني عن عددها لأني لم أجمعها كلها، فهل يأتي -يوماً- من يكون أحرصَ على جمعها مني أنا صاحبها، فيبحث في مجموعات الصحف الشامية: فتى العرب، والمقتبس، والقبس، وألف باء، والجزيرة، والناقد، فيأخذ ما كتبته فيها فيجعل منه المجموعة الكاملة «لبواكير» كتاباتي؟ ". ثم شاء الله أن يكتب لمقدمة هذا الكتاب كلمةَ الختام! فقد وجدت بخطه كلمات كتبها على حاشية دفتر مخطوط ضم بعض المقالات القديمة، فكأنه ما كتبها إلا لأضعها في هذا الموضع! قال فيها: "هذا شيء قليل جداً من كثير جداً كتبته في تلك الأيام، ولو جمعت كل الذي كتبته لكان لي إلى الآن أكثر من ستين كتاباً. على أني إذا ربحت منه قليلاً من ثواب أو سبّبَ لي دعوة صالحة تنفعني في آخرتي فذاك، وإلا فهو سراب، وكل الذي فوق التراب تراب إذا لم ينفع صاحبَه يومَ الحساب. اللهُمَّ حُسْنَ الخاتمة والمغفرة. علي الطنطاوي: مكة المكرمة، آخر سنة 1389". وبعد كتابة هذه الكلمات بأربعين سنة وشهور جئت أنا لأثنّي فأقول: اللهُمَّ آمين، اللهُمَّ اغفر له وارحمه، وارحم معه اللهُمَّ حفيدَه الذي جمع مادة هذا الكتاب، وصهرَه الذي ينشره اليوم على الناس. مجاهد مأمون ديرانية جدة: جمادى الآخرة 1430

كلمات

كلمات (¬1) (1) الحياة المادية أمر تافه يشاركنا فيه أدنى الحيوان، ولكن الحياة المعنوية والتطلع إلى الخلود هما ما امتاز به الإنسان. (2) الأمة ليست بما عندها من مال ولا بما في أرضها من جمال، ولكن بما فيها من رجال. (3) إذا أرادت الأمة شيئاً فلا قوة في العالم تضطرها إلى تركه، لأنها إنْ أعجَزَها النضال فلن يعجزها الموت. (4) لا حياة للأمم الضعيفة بغير القوة، لأن الحياة حق للأقوى بحكم الواقع. (5) المُحِق الضعيف مجرم، لأنه يضيع حقه بضعفه! (6) من فرَّ من الموت فرَّت منه الحياة. ¬

_ (¬1) اخترت هذه الكلمات من مجموعة خواطر دَوَّنها علي الطنطاوي في شبابه في دفتر صغير، قال في أوله: "هذه كلمات كانت تخطر على بالي فلا ألقي لها بالاً، حتى رأيت أن في تدوينها بعض نفع، فبدأت به في غرة جُمادى الأولى من عام 1348 هجرية، وأسأل الله التوفيق. علي الطنطاوي (القاهرة) " (مجاهد).

(7) التربية الشرقية لا تنجب رجالاً أكفاء! (8) الرجال كثيرون، ولكن الرجل هو الذي يعيش لدينه وأمته. (9) الشاب الذي لا يعرف في الحياة إلا الغزل ليس إلا جرثومة سل في جسم الأمة، أما الشاب المتعلم القوي الإيمان الحديدي الإرادة الثابت على المبدأ فهو الذي يبني أمة. (10) الحرية أحلى ما في الكون، فهل نحن أحرار؟ هل نستطيع أن نأكل ما نشاء ونلبس ما نشاء ونقول ما نشاء؟ مسكين الإنسان، يعلل نفسه بأنه حر ويغالطها فيزعم أن القيد لا ينافي الحرية، فهو يقول: قيدوني وكبلوني بالأغلال ثم قولوا إنّي حر! * * *

خواطر غريب

خواطر غريب كُتبت في مصر سنة 1929 [بعثت بهذا الفصل من القاهرة إلى «القبس» الغراء، فنشرته بعد أن أرسلتُ لها فصلاً قبله مزقه أحد محرريها لأنه رآه -حفظه الله- لا يشبه إنشاء الصحفيين، وإذن لا يصلح! فبقي هذا، وليس فيه من الخيال أو المبالغة ذرة واحدة، ولم أغير فيه حرفاً واحداً. (¬1)] كانت لي آمال وكنت أسعد بها، فأصبحت وليس لي إلا أمل واحد: وقفة على قاسيون أو رشفة من بردى! آه، لقد ضاقت بي مصر على رحبها وسعتها، وصغرت في عينيّ حتى لقد رأيت غرفتي الصغيرة في دمشق أوسع منها وأكبر، واسودَّت في بصري حتى ما أرى فيها إلا الظلام، ولو كان في نور الشمس الذي يملؤها نوراً، بل لقد انصرفت نفسي عن العلم ¬

_ (¬1) لم أعرف تاريخ «القبس» الذي نُشرت فيه هذه المقالة، ولم أعثر على أصل المقالة، إنما أخذتها من كتاب «الهيثميات» الذي ضم مجموعة من المقالات التي نشرها علي الطنطاوي في صحف الشام في تلك السنة والتي بعدها (مجاهد).

ورغبت عن ورود مناهله، ولم أعد أؤمل إلا أن أرى مرة ثانية هذه الصخورَ الخالدة من رَبْوَة دمشق. ما لي ولآثار أيدي البشر؟ ما لي وللحضارة والعمران؟ إنني أبيع هذا كله بشَعَفة من تلك الشُّعوف (¬1)، أجلس عليها فأرى الجمال الذي خطته يد الله على صحائف الكون، وإنها لسعادة لا تُشترى بملء الأرض ذهباً ولا بملء الصحف علماً. أما الآن فقد تغير عليّ كل شيء. لقد انتقلت إلى عالم آخر أقيم فيه وحيداً، بعيداً عن ذلك البلد الذي نشأت به فعشقت أرضه وسماءه، وهِمْتُ بجباله ورُباه، بعيداً عن تلك الغرفة الصغيرة الخالية من كل شيء إلا من رفوف الكتب ومقاعد الدرس، والتي كنت أغلق بابها عليّ وعلى إخوان لي يفهمون الحياة كما أفهمها، نقطع فيها هذه المراحل من عمرنا على مطيّة الكتب تارة والحديث أخرى، نحيا في عالم أسمى من عالم الناس، ذلك هو عالم الخيال ... في تلك البقاع خلّفت نفسي وسعادتي، وحييت هنا شقياً مسلوبَ الفؤاد. * * * هبطت مصر لأدرس وأعمل، والأفق واسع والمكان رحب، ¬

_ (¬1) تتكرر هذه المفردة كثيراً في كتابات علي الطنطاوي المبكرة، وهي اليوم قليلة الدوران على الألسنة والأقلام. والشَّعَفَة أعلى الجبل أو رأسه (وهي أيضاً الخصلة في أعلى الرأس وأعلى القلب، فكأنها من كل شيء أعلاه)، وجمع الشعفة شِعاف وشَعَفات وشُعوف، وسوف نمر بهذه الجموع كلها في مقالات الكتاب (مجاهد).

ولكني أضعت قلبي فأضعت كل شيء. كنت أجد في دمشق صدراً أودِعه كل آلامي (¬1)، فأصبحت وآلامي تنوء بفؤادي الملتاع لا يجد من يبثّه إياه. ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يُسليك أو يتوجّعُ منظر واحد لا يفارقني في جيئتي وذُهوبي وقَومتي وقَعدتي، ذلك هو منظر وطني، يتمثل لي في كل طريق ويتراءى لي في كل مذهب، أقضي نهاري مُطْرقاً مفكراً، حتى إذا جَنَّ الليل وأويت إلى فراشي انصبَّتْ عليّ الذكريات المؤلمة صبّاً، فما أزال بها أدفعها فتزداد إقداماً وأطردها فتزداد ثباتاً، حتى أُغلب على أمري، فألقي الوسادة وأثور من الفراش أفزع إلى النور، وأنتصب ¬

_ (¬1) كانت أمه يومئذ في قيد الحياة، وتلك المرة الثانية التي فارقها فيها، الأولى كانت في سفرته الأولى إلى مصر، وانظر الوصف المؤثر لذلك الفراق الأول في مقالة «ذكريات» في كتاب «من حديث النفس»، قال: "وصفر القطار الذي يحملنا إلى مصر، فازداد القلب خفقاناً واضطراباً ... هناك تلفّتُّ فرأيتني وحيداً، ورأيت القطار يَجِدّ لينأى بي عن أهلي وبلدي، فهممت بإلقاء نفسي من نافذة القطار، أردت أن ألقي بنفسي لأني لم أكن أتخيل أن في استطاعتي الحياة يوماً واحداً بعيداً عن أمي". ثم توفاها الله بعد عودته من مصر بسنة وشهور، في الثامن من تموز 1931 (22 صفر 1350). وقصة وفاتها المفجعة تمتد في «الذكريات» بطول ثلاث حلقات، من أواخر الحلقة السادسة والأربعين إلى أواسط التاسعة الأربعين، فمن شاء قرأها هناك، أما أنا فلقد قرأتها عشرين مرة أو ثلاثين أو أكثر، وما قرأتها مرة إلا واستعبرت، ولو قرأتها اليوم لفاضت عيناي من جديد! (مجاهد).

قائماً مدة لا أدري مداها، ولكني أرى النوم لا يغلب عليّ حتى يغلب الموت على الليل ويقوم الفجر لِيَنْعيَه، هنالك أنام بضع ساعات نوماً مضطرباً ممزوجاً بأفظع الأحلام. أنا لا أشكو إلا هذه الذكرى، فلقد أقضَّت مضجعي ونغَّصَت عليّ حياتي، وإنني وإياها كصاحب الحمّى تعاوده حُمّاه، فإذا جاءتني خفق لها قلبي ووَنَتْ أعصابي، ودارت بي الأرض حتى أجهل مكاني منها، وأستغرق في سبات عميق من التأمل المُمِضّ والتفكير المؤلم. رباه، أخلقتني رزمة من عواطف لسعادتي أم لشقائي؟ وهل بنيتني من شعور وإحساس لأعيش متألماً أو لأعيش جاهلاً؟ ماذا أصنع؟ إن عاطفتي استأثرت بنفسي حتى ما يملك عقلي من أمرها شيئاً، وكأني أسمعها تتفلسف قائلة: أيها الرجل، لماذا تعيش؟ إن كنت تعيش لنفسك فاطلب لها السعادة، وإن كنت تعيش للناس فهيهات أن تفيدهم ولك من شواغل نفسك وآلامها ما يصرفك عنهم، ومهما يكن فدعك من هذه الغربة وعد إلى بلدك! أما أنا فلا أفهم مما تقول شيئاً، وكأن هذه الآلام التي تنتابني تستقطر ماء حياتي قطرة قطرة، وستأتي ساعةٌ يجف فيها فأغمض عيني إلى الأبد شاخصاً إلى السماء، أرى صورة وطني في مرآتها الخالدة فأودعه الوداع الأخير، ثم أرقد! ليس لي هنا من عمل إلا الدأب على المطالعة، أطالع كتباً وروايات أروي صفحاتها بدمعي وأغذيها بسواد قلبي وثمرة فؤادي، حتى تجنح الشمس للمغيب، فأخرج فأقف على «كوبري الزمالك»،

أنظر إلى النيل تارة وإلى ذلك الأفق البعيد أخرى، فأبصر فيه خيال وطني يلقي النور والحياة على تلك الخمائل الخضراء التي لا حدَّ لها، فأقف أمامه كأنني أمام محرابي، ولا أنتبه حتى تتوارى هذه الصورة في طيّات الظلمات فأعود إلى الدار أسيّاً حزيناً. ولا إخال الأمد يطول بي على هذه الحال، وما هي إلا واحدة من اثنتين: إما الشام وإما الحِمام! اذكرونا مثلَ ذِكْرانا لكم ... رُبَّ ذِكْرى قَرَّبَتْ مَن نَزَحا واذكروا صَبَّاً (¬1) إذا غنّى بكم ... شَرِبَ الدّمعَ وعافَ القَدَحا * * * ¬

_ (¬1) الصَبّ هو المشتاق، من قولنا: صَبّ إليه صَبَابَة. وقد كتب علي الطنطاوي مقالته هذه وهو في مصر في زيارته الثانية لها سنة 1929، حين ذهب إليها عازماً على الإقامة والدراسة فيها، فقدم أوراقه إلى الجامعة المصرية أولاً، ثم عدل عنها وانتسب إلى «دار العلوم»، ثم لم يلبث أن ترك ذلك كله وعاد إلى دمشق. انظر تفصيل ذلك كله في الحلقة الرابعة والثلاثين من «الذكريات»، وفيها يقول: "أصبحت يوماً فإذا خاطر قويّ لم أملك له دفعاً يدفعني لترك دار العلوم والعودة إلى دمشق، وكان هذا الخاطر هو الموجة التي حوّلَت زورقي إلى ما هو خير لي، فاللهُمّ لك الحمد" (الذكريات 1/ 359). والمقالات الثماني الآتية جميعاً كتبها ونشرها في «الفتح» وهو مقيم في مصر في تلك السنة أيضاً (مجاهد).

طلاب دمشق

طلاب دمشق نشرت سنة 1929 (¬1) انقضى العام المدرسي، وطُويت صفحته في الواقع لتُفتَح صفحته في التاريخ. انقضى العام وغربت شمسه، ولكنها غربت في دمشق على طلاب قد قاموا بالواجب وعملوا في سبيل الله والوطن والأمة. نظر الطلاب في دمشق، فإذا يدٌ غريبة تلعب بمعارف بلادهم (¬2)، وإذا هي أشبه بالسفينة العظيمة يراها الرائي فيحسب أن لها عقلاً يسوقها وإرادة تسيّرها، ولكنه يقترب منها فيرى شيئاً صغيراً ليس منها في شيء يسوقها ويصرّفها كما يشاء، وهو ربانها! نظر الطلاب، فإذا جهود عظيمة ومَساعٍ كبيرة تُبذَل لتفرّق ¬

_ (¬1) في مجلة «الفتح»، العدد 158 من السنة الرابعة، الصادر بتاريخ 1/ 8/1929 (25 صفر 1348). (¬2) وزارة المعارف، وكان مستشارها هو المسيو راجه، الذي وصفه علي الطنطاوي في «الذكريات» بأنه كان في الشام مثل دنلوب المشهور في مصر (مجاهد).

جمعهم وتلقي الشقاق بينهم، فعاجلوها بيقظة سريعة وحَّدَت صفوفهم، فإذا هي كالبنيان المرصوص. علّمتهم العمل لنهضة الأمة، فاتفقوا على مساعدتها أدبياً بتحذيرها من الخطر الداهم، وتعليمها الاتحاد والتعاون بذلك المثل الذي ضربوه لها من أنفسهم، وعلى مساعدتها اقتصادياً بعهد قطعوه على أنفسهم أن لا يشتروا إلاّ بضائعها ولا يُقبلوا على غير مصنوعاتها. قد استيقظوا، ولكنهم لم يَعْدلوا بالعروبة والإسلام شيئاً، ولم تخدعهم عنهما فرعونية خدعت بعضاً من طلاب مصر، ولا فنيقية خدعت بعضاً من سخفاء لبنان! * * * فيا إخواني طلابَ دمشق: سيروا إلى غايتكم قُدُماً بهمّة عظيمة وإيمان قوي، وثابروا على عملكم، وأفهموا العالم كله أنكم طلاّبٌ بَرَرة بماضيكم وأمتكم، وأنكم لا تنقضون لها عهداً ولا تبخلون عليها بشيء، والله ناصركم ومؤيدكم. * * *

في ذكرى مولد فخر الكائنات

في ذكرى مولد فخر الكائنات نشرت سنة 1929 (¬1) ما الثورة الفرنسية؟ ما سقوط الدولة الرومانية؟ ما حوادث التاريخ؟ إنه حادث أعظم من التاريخ وأكبر من البشرية؛ إنه ميلاد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قف أيها الفلك ساعة من زمان إجلالاً لهذه الذكرى وإعظاماً لهذا اليوم، وتخشّعي أيتها البشرية، فهذا يومك الذي خُلِّصتِ فيه من ظلمات الجهل وأُطلقتِ فيه من قيود الاستبداد، وليهتف أبناؤك بصوت واحد ترتجّ منه جوانب الأبدية ويردده الدهر في فضاء النهاية: صلى الله على محمد، رسول الله ومخلّص العالم، والله أكبر. ما كان محمد نبي المسلمين وحدهم، وما كانت هدايته ¬

_ (¬1) نشرت هذه المقالة في مجلة «الفتح»، العدد 160 من السنة الرابعة، الصادر بتاريخ 15/ 8/1929 (10 ربيع الأول 1348). كان علي الطنطاوي في العشرين يومئذ، وقد صدّرَ محب الدين الخطيب بمقالته هذه ذلك العددَ من «الفتح»! وهي منشورة في كتاب «الهيثميات» (مجاهد).

مقصورة عليهم دون غيرهم، بل هو رحمة للعالمين وهادٍ للناس أجمعين. بُعث وفي قلبه نور الله، ففاض على الحياة فكان منه نعيمها وسعادتها، وفاض على الصحابة فكان منه هذا الإيمان الذي ملأ قلوبهم. بهذا الإيمان جاهدوا، بهذا الإيمان انتصروا، بهذا الإيمان دكّوا صرح كسرى وعرش قيصر، وبه ملكوا ما بين قلب فرنسا وقلب الصين وعليه شادوا مدنيّة بغداد وحضارة الأندلس. وإن يوماً تُطوى فيه هذه البشرية طَيّ السجلّ للكتب ولا يبقى إلا نور الله، هنالك وقد خشعت الأصوات للحي القيوم، هنالك وقد عُرضوا على ربك صفاً، هنالك وقد ذهب كل شيء ولم يبقَ إلا سعادة الأبد أو شقاء الأبد ... هنالك يعرف الناس قيمة ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ فيحمد المؤمن ربَّه ويشكر، ويندم الكافر ويقول: {يَا لَيْتَني كُنْتُ تُرَاباً}، وهنالك ينادي منادي الله: {لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ؟ للهِ الوَاحِدِ القَهّار}. هنالك الدليل الراجح والحجة البالغة على أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على سعادة الحياة الدنيا، ولو اقتصر لاقتصر مجدُ محمد على أنه رجل عظيم -كما يراه مَن قَصُرَ بصره وضرب الله على قلبه- بل تعداها، وهي شكل من أشكال الفناء، إلى أمر أبعد، إلى غاية أسمى هي سعادة الحياة الأخرى، حياة الخلود، فكان رسولَ الله ورحمةً للعالمين. * * * هذا اليوم عيد البشرية الأكبر، لأنه ليس في أبنائها مَنْ لم يَهْتَدِ بنور الإسلام ويستمدَّ مِن معانيه، ولو كان يدين بغير

الإسلام. فمَن وافَقَنا منهم اليوم على عيدنا فقد أدّى الواجب، ومَن غفل عنه فقد غفل عن أدائه. وأمّا من ران التعصب على قلبه فجحد هذا الفضل الأعظم فهو الخائن الجاحد النعمة، المُنكِرُ الشّمسَ في الضحى وشعاعُها يملأ الأرض والسماء ويملأ عينيه، ولكنه يفتحهما له زاعماً أنه لا شعاع، فيُغشى على بصره فيصبح أعمى! وعمى الجهل أشد وأنكى، ولو كان الجاهل من أوربا. أوربا؟ ومتى كانت لأوربا حضارة؟ الحضارة لاح فجرها في الشرق وبرزت شمسها تحت سمائه، فهي من الشرق وإلى الشرق، فإن غَرَّبت فإنما ذلك سحابة صيف عمّا قريب تقشع. قامت الحضارة في أوربا للمرة الأولى بقيام اليونان والرومان، ولكنها فروع والأصل راسٍ في الشرق يُسقى من نيل وفرات. ثم قامت حضارة أوربا الثانية، ولكنها وإن طالت وأورقت فهي فرع، والأصل ثابت في الشرق، يغذيه الإسلام ويُسقى بتعاليمه وهدايته. وكيف؟ أوَلم ندخل الأندلس، والأندلس خير بلاد أوربا إذ ذاك، فلا نرى فيها إلا جهلاً وظلاماً؟ ألم نعامل أهلها، ونحن الظافرون المنتصرون، خير معاملة؟ ألم يكونوا في ظلال سلطاننا أحراراً في دينهم؟ ألم نثقّفهم ونعلمهم؟ فكيف عاملونا بعد أن دخلوها؟ أعطونا العهود والمواثيق على حفظ أرواحنا وتركنا وشأننا في عباداتنا، فكان قسمهم حنثاً، ووعدهم خُلفاً، وأمانتهم خيانة! عرضوا المسلمين على السيف والنار يقتلونهم ويحرقونهم أو يكفروا بما أنزل الله. كذلك فعلوا في الأمس بأفرادنا، وكذلك يفعلون اليوم بشعوبنا. هؤلاء

هم المتمدنون المتحضرون! فقلدوهم -أيها المفتونون بالتجديد الكاذب- وسيروا في أذنابهم، بارك الله لكم فيهم، فاتخذوهم إماماً! أما نحن، نحن الشبان المسلمين، فنتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، وسنتعاهد من هذا اليوم الأكبر على التمسك بشريعته واتخاذه إماماً. ثم نلتقي يوم الحساب فنرى أيُّنا أقْوَم سبيلاً وأقرب رشداً. * * *

ألا ليشهد العالم كله!

ألا ليشهد العالم كله! نشرت سنة 1929 (¬1) ألا لتعلم حكومتا لندن وفلسطين (¬2): أن المسجد الأقصى حق صريح من حقوق المسلمين، وأنهم لا يتنازلون عن شبر منه لمخلوق، لأن في ذلك تنازلهم عن دينهم وعربيتهم، عن آبائهم وشرفهم، وهذا ما لا يكون قط، أو تُبدَّلَ (¬3) الأرضُ غيرَ الأرض والسماوات! ¬

_ (¬1) في مجلة «الفتح»، العدد 162 من السنة الرابعة، الصادر بتاريخ 29/ 8/1929 (23 ربيع الأول 1348). (¬2) يريد حكومة الانتداب في فلسطين. وكانت فلسطين يومئذ تحت الانتداب البريطاني -شأنها شأن العراق وشرق الأردن- وسوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وذلك ما اتفق عليه الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى في مؤتمرهم الذي عقدوه في سان ريمو سنة 1920. وهكذا صنع الأقوياء، انتهبوا أوطان الضعفاء في غفلة من الزمان، ثم تجد من يثق بعدالة الرجل الأبيض ويبني عليها الآمال! (مجاهد). (¬3) إذا نصبت «أو» الفعلَ المضارع بعدها فهي بمعنى «إلا أن»، ونقول في إعراب الفعل إنه منصوب بأنْ مُضمَرة وجوباً (مجاهد).

ليس في العالم كله مسلم واحد يستطيع أن يمر بهذه الحوادث: حوادث الزِّراية على الإسلام في ثالث مساجده، حوادث الاعتداء على المسلمين في عقر دارهم، ولا تثور في رأسه الحميّة الإسلامية وفي نفسه النخوة العربية، فيغضب لله ويغضب لدينه، وإذن لا يتأخر لحظة واحدة عن أن يبيع نفسه وماله من الله بأنّ له الجنة. لا والله، ما كان الإسلام أبداً دين ذِلّة وخضوع، وما كان أبداً دين ضعف وعجز، فلا يَغُرَّنّ هذه السنانير من هذا السبع نَومَتُه، فهو والله إن نهض لهم ما أبقى منهم باقية! ثم ما لهؤلاء اليهود والإسلام، وما لهم وللتهلكة يلقون بأيديهم إليها؟ أم يريدون أن يأذنوا بحرب إذا قامت سُوقها كانوا أولَّ ما يَنْفَق فيها؟ وأنّى لهم بالحرب، وما عرفناهم قطّ أبطالها، وما عرفهم التاريخ إلا ضعافاً خاضعين، راضين بالدنيّة مستسلمين إلى الذلة؟ فليُبقوا على أنفسهم، وليُقلعوا عن غيّهم، وإلا وإنْ لم تَردَعْهم الحكومةُ وتغلّ أيديهم عن الاعتداء علينا، وضعنا أفواهَنا في بوق العالم فصحنا بمُسلميه: "النفيرَ النفير" ... وعندها يعلم الناس أين هي مقبرة العنصر الصهيوني ومتى كان انقراضه! * * * هذه كلمة صغيرة، ولكن فيها قوة الحق لا نقصد بها إلاّ إحقاقه، وقوة الإسلام لا نرمي بها إلاّ إلى نصرته. وما على مُحِقٍّ للحق من سبيل. * * *

قطعة من حديث (1)

اسمعوا يا عباد الله قطعةٌ من حديث (1) نشرت سنة 1929 (¬1) [هذه قطعة من حديث سمعتها بين اثنين، أنقلها كما سمعتها:] - ... وإن مَثَلهم في ذلك كمثل الإخوة والعمليق. قال: وكيف كان ذلك؟ قال: زعموا أن إخوة سبعة ورثوا عن أبيهم قصراً عظيماً وأموالاً طائلة، فأطلقوا لأنفسهم فيها العنان تبذيراً وإسرافاً. وكان بجوارهم عمليق قوي العضل مفتول الساعد، رأى ما هم فيه فاتصل بهم وخالطهم، فعرف دخيلة أمرهم وعَجْز حيلتهم، فبيّتهم في نفر من أصحابه، فما استطاعوا لهم دفعاً، ثم تقاسموا أموالهم، وحبسوا كلاً منهم في غرفة وضمّوا إليه أحدهم ليكون وصياً عليه؛ يبتز أمواله ويتصرف به كما يشاء! ¬

_ (¬1) في مجلة «الفتح»، العدد 164 من السنة الرابعة، الصادر بتاريخ 12/ 9/1929 (9 ربيع الثاني 1348).

ثم عرض لأصغر الإخوة عدو يريد أن ينتزع غرفته زاعماً أنها كانت معبداً لأسلافه قبل أن يمتلك أبوهم القصر فهو يريد أن تعود إليه، فأبى ذلك عليه الأخ، وأصر هذا على غرضه، فتخاصما ... وكان مع العدو سلاح وعُدّة وليس عند ذاك إلا هراوته. فدافعه بها ما استطاع واستصرخ إخوته، فهاجوا وصاحوا بالعمالقة: إننا نحتج وننكر هذا الاغتصاب ونعلم أننا محقون، وإن لم تردعوا هذا العدو فعلنا وفعلنا ... وما زالوا يصيحون حتى بُحَّتْ أصواتهم وانشقّت حناجرهم، ثم أوَوا إلى غرفهم فناموا هادئين يحسبون أنهم صنعوا شيئاً، وملأ أهل العدو وشيعته الدنيا شكاة وعويلاً. قال: فماذا كان بعدُ، وَيْحَك؟ قال: وماذا يكون بعدُ إلا ما كان قبلُ؟ سيصبحون فيجدون الأخَ مقتولاً، والعدوَّ الدخيل مالكاً، والعمليقَ باديةً نواجذُه من الضحك عليهم والأمل في القضاء على ما بقي من عزهم! * * * هذا ما سمعته من حديثهما، والفَطِن من فَهِم. * * *

قطعة من حديث (2)

اسمعوا يا عباد الله قطعةٌ من حديث (2) نشرت سنة 1929 (¬1) - ... كالذي زعموا أن رجلاً برع في فن «الميكانيكيات» وتسيير القاطرات، وذاع خبره وانتشر صيته. وكان له ولد فأراده على تعلم هذا الفن حتى تبقى لهذه الأسرة شهرتها بإتقانه ولا تتبدد بموت هذا الشيخ، فاعتذر الولد بأنه صغير وأنه سيَجِدّ فيه بعدُ. فتركه حيناً ثم عاد إلى دعوته، فعاد الولد إلى اعتذاره ... وبين «دعا» و «اعتذَرَ» تصرَّمت حياة الأب فمات. وطلب صاحب العمل من يقوم مقامه، فقام إليه الولد، فقال صاحب العمل: الولد أحق بمكان أبيه، ولكنّ سَوق القاطرة شاق لا يقوم به إلا خبير، وفي الطريق عقبة لا يجتازها إلا حاذق. فما بلغ من معرفتك أيها الفتى؟ فقال: إنني كأبي، وأفوقه بقوة الشباب. ¬

_ (¬1) في مجلة «الفتح»، العدد 165 من السنة الرابعة، الصادر بتاريخ 19/ 9/1929 (16 ربيع الثاني 1348).

فسُرَّ صاحب العمل وذهب به إلى القاطرة ليسوقها، فدُهش وارتبك وقال: أما هذه فلا أعرفها، ولكني كأبي ... وأفوقه بقوة الشباب، وأنت حليم! فقال: إذن أنت تحذق تصليحها؛ فهَلُمَّ إلى المصنع. ولم يكن رآه قبلُ فهالَهُ وأعظم ما فيه فقال: أما هذه فلا أعرفها، ولكني كأبي ... وأفوقه بقوة الشباب، وأنت حليم! فقال: إذن أنت تبصر أمر الاختراع وترقيه، فهناك ... فقطع عليه كلامه قائلاً: أما هذه فلا أعرفها، ولكني كأبي ... وأفوقه بقوة الشباب، وأنت حليم! وما زال يعرض عليه كل عمل فيجيبه بالجواب نفسه، حتى برم به فقال له: أيها الغرّ الأحمق! لا السَّوق تعرفه، ولا التصليح تحذقه، ولا الاختراع تعلمه، فبماذا كنت كأبيك؟! وطرده. * * * قال المحدَّث: إنه ولد أبله رقيع! فمَثَلُ منْ هذا؟ قال: مَثَلُ المسلم؛ لا الصلاة يقيمها، ولا الأحكام يعرفها، ولا السنّة يَتبعها، ولكنه يقول: "إني مسلم كأبي وأفوقه بمعرفة الفنون والعلوم ... وفضل الله واسع! ". ولله المثل الأعلى. ثم ذهبا فانقطع عني حديثهما. * * *

قطعة من حديث (3)

اسمعوا يا عباد الله قطعةٌ من حديث (3) نشرت سنة 1929 (¬1) - ... الوَيْل لكَ يا هذا، ما تنفكّ تحدثني وتعمى عن هذا الرجل يقتطع من أحاديثنا قِطَعاً، ولا أدري والله ما يصنع، غير أني خائف أن ينالنا بِشَرّ، وإني أراه يتربص بنا الدوائر. وليس بالرجل الحكيم من وثق بعدوّه وركن إليه، وقد قالت الحكماء: ثلاثٌ من ارتجاهنّ من ثلاث فهو أحمق: الماء من النار، والرزق من المخلوق، والنفع من العدوّ ... وإن مثلك -في هذا- كمثل المعارف والغراب، حين وثقن به فأهلكهن. قال: وكيف كان ذلك؟ قال: زعموا أنه كان بمدينة كذا جماعة من المعارف (¬2)، وكان عليهنّ وزير منهنّ، وكنّ قد شَدَدْنَ وَكْرَهُنّ إلى شريعة ¬

_ (¬1) في مجلة «الفتح»، العدد 166 من السنة الرابعة، الصادر بتاريخ 26/ 9/1929 (23 ربيع الثاني 1348). (¬2) المعارف هنا نوعٌ من الطير، ورُوي غير ذلك.

ولغة (¬1) قائمتين على ضفّة نهر جارٍ، فَعِشْنَ فيه دهراً على خير عيشة، حتى نزل بهن -ذات يوم- غرابٌ جائع اسمه «رَوْجَة»، فشفقن عليه ورأفنَ به، فأطعمنه وسقينه، فلما شبع وروي رأى ما عندهن من الحب؛ فطمع بهن، فقام فيهن خطيباً فقال: إنكنّ قد أحسنتُنّ إليّ وإني مكافئكنّ على إحسانكنّ، اعلمْنَ أني آتٍ من بلد أرقى من بلدكن، وعندي من العلم ما ليس عندكن، فاتّبِعْنَني واتخِذْنَني مستشاراً لوزيرتكنّ أنهضْ بكنّ فتصِرن أمة من الإوز. فقلن له: أنظرنا حتى نرى رأينا. وانتحين ناحية يتشاوَرْنَ، فقالت حكيمتُهنّ: إن هذا الغراب يُفسد عليكنّ أمركنّ، وهو عامل على إهلاككنّ بقطعِكُنّ عن أصلكنّ، فقُمْنَ إليه فافقَانَ عينيه، واعلمْنَ أنّ مَن صادق ما ليس من طبعه أصابه ما أصاب البيت من النار. قُلنَ: وكيف كان ذلك؟ قالت: إنه كان في روضة غَنّاء بيت جميل أمام نهر جارٍ، وإنه لبث ما شاء الله أن يلبث، ثم بدا له فقال: "ما أشَقَّ الحياة بلا رفيق ولا أنيس، وما أشقى من يقيم وحده لا يجد من يشاطره سرّاءه وضرّاءه! وإني منطلقٌ فمبتغٍ لي صديقاً". ولكنه لم يجد إلا النار فخاللها، وباتا متعانقين، فلم يصبحا حتى أصبح رماداً. وإني خائفة عليكنّ صُحبةَ هذا الغراب، فأطعنَني اليوم واعصينَني آخر الدهر. ¬

_ (¬1) هما هنا نوع من الشجر، وقيل غير ذلك.

فأَبَيْنَ ذلك عليها وأعرضْنَ عنها، وذهبن إلى رَوجَة فاتخذْنَه مستشاراً (¬1). فقال لهن: المُستشار مؤتمَن؛ وأنا واضع لكنّ برنامجاً إذا أنتنّ عملتُنّ به صيَّرَكنّ أمة راقية من الإوز. فقُمْنَ إلى هذه الأسباب التي تربطكنّ بهذه اللغة وهذه الشريعة فاصرمْنَها، واتركن وكركنّ يسبح بالماء، فإنه لا ينتهي النهر إلى مصبّه حتى ينتهي أمركن إلى ما أردتنّ. فأطعنَه وفعلن ما أراد لهن، فما شَعَرن إلا وهنّ يتخبطنَ في الماء، والغرابُ ناجٍ بما اختزنَّ من الحب. * * * هذا ما سمعته من حديثهما، وإن فيه لعظة لقومي لو كانوا يفقهون. * * * ¬

_ (¬1) الفرنسي راجه كان مستشار وزارة المعارف أيام الانتداب، وصفه علي الطنطاوي في ذكرياته فقال: "كان المستشار الفرنسي هو الوزير الحقيقي وهو الآمر الناهي" (الذكريات 1/ 214)، وانظر الرسالة العاشرة من رسائل «سيف الإسلام» التي ستأتي في هذا الكتاب (مجاهد).

أنا ونفسي

أنا ونفسي نشرت سنة 1929 (¬1) الآن وقد هجعت المدينة وسكن الجو، وترك الإنسان حلبة هذا النضال، وأوى إلى مضجعه يستريح من عنائه، الآن وقد خَفَتَ صوت الإنسان، ارتفع صوتٌ من نفسي يُؤذنني بالوداع، ونظرت إليها وهي تَسْبح بحلّتها البيضاء في هذا الفضاء الواسع، فضاء الكواكب والنيِّرات، تستطرق منه إلى عالم أوسع: عالم اللانهاية، لتأنس ساعة بلقاء أشباهها ونظائرها، وتبتعد قليلاً عن عالم ليست منه وليس منها في شيء، فوقفت ذاهلاً شاخصاً ببصري إلى السماء ... وفي السماء قبل الفجر مُستَقَرُّ العواطف، وسرُّ الأمل، وباب الأبدية. ولبثت على هذا ساعة، لا أعلم من أمرها إلا ما يبقى في نفسي بعد أن أصحو، وما هو إلا ما يبقى في نفس الحالم بعد تبدُّدِ حلمه. أصحو وأعود إلى هذا العالَم، لا حباً به، بل لأن الإنسان أفاق فَسَدَّ بشروره بابَ التأمل أمام نفسي، فعادت أدراجها، ¬

_ (¬1) نشرت في مجلة «الفتح»، العدد 168 من السنة الرابعة، الصادر بتاريخ 10/ 10/1929 (7 جُمادى الأولى 1348).

عادت إليّ متمرّدة عَصِيَّة، ساخطة على الإنسان، وطامحة إلى الخروج من هذا السجن الذي وُضعت فيه. عادت إليّ تسألني غَضْبَى: من أتى بي إلى هنا؟ من أسكنني في جوارك أيها الإنسان الشرير؟ لولاك ما سُجنت، أنت سبب شقائي! ويحك! لماذا تعيش في هذا العالم الفاسد؟ إنني لا أحبه ولا أطيق أهله. دعني أرحل! تسألني فأصمت، وتلحّ في السؤال فأزيد في الصمت، فتحنق وتمسك بخناقي فتَسْوَدّ الدنيا في عيني وأكاد أفارقها. ثم أرى الفرج في أشد ساعات الخطر؛ لقد فُتحت أمامها كوّة إلى عالم الخلود، فأفرَجَت عني وتمتعت بالهناء. وما ذلك إلا لأنها سمعت صوت المؤذّن يرنّ في سكون الليل: «الله أكبر، الله أكبر»، فأصغت إليه، ثم حملتُها فوقفت بها في الصلاة فاتصلت بعالم التأمل. وبقيت سعيدة خاشعة حتى سمعت قولة: «السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله» فعادت لإشقائي، فأنا لا أسعد إلا في الصلاة! * * *

على قارعة الطريق

في القدس على قارعة الطريق نشرت سنة 1929 (¬1) -1 - - إليّ، إليّ يا بُنَيّ. ما لك؟ - أين أبي؟ أين أمي؟ هذا جواب ذلك الطفل الصغير الضالّ، أفصحت عنه عيناه الباكيتان ومنظره المُشْجي إذ قد عَيَّ به لسانه المتلعثم الذي ما يكاد يُبِين. ناديته، فأقبل إليّ وحدّق إلى وجهي، فلمّا لم يَرَني أباه ولّى وله منظر تدمى له أقسى القلوب وآهات تتقطّع لها نياطها، إلا قلوب بني صهيون فإنها لا تحركها رحمة ... أو يحرّكَ (¬2) النسيمُ الرقيقُ الصخرةَ الجلمود. ¬

_ (¬1) نشرت في مجلة «الفتح»، العدد 169 من السنة الرابعة، الصادر بتاريخ 17/ 10/1929 (14 جمادى الأولى 1348). (¬2) أي: إلا إذا حرك النسيمُ الصخرةَ! انظر الحاشية التي سبقت في صفحة 22 (مجاهد).

مضى على وجهه وقد توردت عيناه من البكاء وتورمت قدماه من السير، يصيح: بابا، ماما، ماما، بابا ... حتى انقطع عن عيني مرآه وعن أذني مسمعه. -2 - - هل رأيت طفلاً صغيراً أضلّ أبويه وأضلّه أبواه؟ ... لا، لا، بل أضلّته أمُّه وأضلّت أباه. أباه ... آه، أين أبوه، هل ذبحوه؟ ربّاه، انتقم لنا من هؤلاء الوحوش. إنهم أخرجونا من دارنا وقتلوا رجالنا و ... امرأة شاحبة اللون، مخطوفة البصر كأن بها مسّاً، ألقت عليّ هذا السؤال ثم ذهبت لا تلوي على شيء ولا تسمع مني جواباً. -3 - - جنازة من هذه؟ فوالله ما رأيت باكياً ولا باكية كاليوم! - فلان، ذبحه اليهود في داره. -4 - - الجامعة العربية ... أخبار محلية ... - هات عدداً. "فاجعة: تسوَّرَ اليهود على فلان دارَه فأحرقوها عليه، وفرَّت زوجته وطفله لا يجدون مأوى يؤويهم ولا طعاماً يقيم صلبهم ... "

-5 - كأني بك وقد قرأت هذا -وليكن خيالاً، فهو والله عين الحقيقة- فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنّا لله ... إلى آخر ما تعوّدتَ أن تقوله. ثم قمت إلى بطنك فملأته من أطايب الطعام، وهم لا يجدون ما يتبلّغون به، وإلى إخوانك فحدثتهم مُسِرّ الأحاديث، وأولئك لا أصحاب لهم، وإلى فراشك الوثير فتمددت فيه، وأولئك لا يجدون إلا المَدَر فراشاً، ثم أصبحت فقلت: الحمد لله على دين الإسلام. وأي إسلام هذا لعمري؟! * * *

رسائل الإصلاح (3) دمشق بعد تسعين عاما

رسائل في سبيل الإصلاح (3) دمشق بعد تسعين عاماً (¬1) ماذا يكون يومئذ إذا لم نبادر إلى الإصلاح اليوم؟ أخرج هذا «الطنطاوي» أولى رسائله فأغضبت وأرضت، ثم قفّى على إثرها بالثانية فلم تدع راضياً عنه أحداً، ولم يدع الناسُ لفظةً في دواوين اللغة تدل على الانتقاص والشتيمة إلا رموه بها غيبة وحضوراً، حتى ضاق بخصومتهم ذرعاً، فحدّث عن نفسه فقال: لفظتني النوادي وجانبني الرفاق، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، حتى لا أرى فيها إلا وجوهاً تعلوها سيما الغضب وأصواتاً تملؤها كلمات الشتم. ¬

_ (¬1) هذه هي الرسالة الثالثة من رسائل «في سبيل الإصلاح»، صدرت في دمشق في رجب سنة 1348 (كانون الأول (ديسمبر) 1929)، وقد سبقتها اثنتان: الأولى عنوانها «في الإصلاح الديني» والثانية «كلمة إلى طلاب دمشق». فأما الثانية فقد مضى موضوعها مع الأيام، وأما الأولى فتجدون خلاصتها وأجزاء منها في الحلقة الثامنة والثلاثين من «الذكريات»، فمن شاء الاطلاع عليها فليرجع إلى تلك الحلقة، وفيها تحدث عن هذه الرسائل فقال: "كانت «رسائل الإصلاح» أول كتبي صدوراً، من يقرؤها الآن لا يستطيع أن يدرك الأثر الذي كان =

ذهبت إلى منزلي فراراً من الناس، فلم يستقرّ بي المقام فيه حتى خرجت منه مَوْهناً، وكانت ليلة ظلماء لا نور فيها إلا هذه النجوم المتلألئة في سمائها الصافية، ولا صوت إلا صوت قدمي على بلاط شارع بغداد الذي أسير فيه مغرّباً، لا أعرف لي قصداً ولا غاية، وقد تاه بصري في دجى الليل وفكري فيما وراء المادة. كدت أسير إلى الصباح ما دمت لا أفكر في شيء وأفكر في كل شيء، لولا أن استوقفني شعور برهبة اعتراني، فعادت إليّ نفسي، فبصرت ما حولي فإذا أنا بين الأموات! وإذا أنا قد قطعت هذه الأسلاك الشائكة التي تفصل شارع بغداد عن مقبرة الدَّحْداح ودخلت المقبرة، فتمثلت لي شواهدها الماثلة أشباحاً مخيفة، فمُلئتُ رعباً وفزعاً، وخانتني رجلاي فسقطت مكاني، وأحسست بشيء سقط عليه رأسي فكان له كالوسادة، وإذا هو قبر! وأُحسّ حركة، فألتفتُ فأرى القبر ينشقّ فيخرج منه ميت قد تقطع كفنه، ويقترب مني فأجمد في مكاني ولا يبقى حياً مني إلا ¬

_ = لها يوم صدورها. إنها كانت حَجَراً، أو قُل «حصاة» أُلقِيَت في بركة ساكنة. ألا ترون الحصاة -على صِغَرها- ترسم على وجه البركة دائرة بعدها دائرة أوسع منها، ثم تتعاقب الدوائر حتى تبلغ حَفافي البركة كلها؟ " (الذكريات 1/ 403). ورسائل الإصلاح هذه أربع، غلبت الشدة في اللفظ والأسلوب على أكثر مادتها، حتى لقد وصَفَها في ذكرياته فقال: "الناس يبدؤون باللين وأنا بدأت الكتابة بالعنف، وهم يكتبون للفنّ والأدب وأنا بدأت للنقد والإصلاح؛ بدأت برسائل الإصلاح فهِجْت على نفسي حرباً لا طاقة لي بها، حرباً ما لي فيها نفع ولا لي في غنائمها أمل" (الذكريات 2/ 5) (مجاهد).

سمعي، فأسمعه يقول: أيها الولد الخبيث! ما أنت ونقد الشيوخ وإصلاحهم، وهلا أصلحت إخوانك وأترابك من الشبّان؟ أيها الشرير، ألا تبصر أخلاقهم؟ ألا ترى تقليدهم الغربيين؟ أعَميتَ عن كل هذا ولم يبقَ محتاجاً إلى الإصلاح إلا الشيوخ؟ ويلك! ألست تزعم أنك من صالحي الشبان، وأنت لا تزيد على فرضك، وربما تهاونت به أحياناً؟ فهلا عمدت إلى نفسك فبدأت بإصلاحها؟ الويل لك الليلة من انتقامي وبطشي! ويُعقَد لساني فلا أرد عليه حرفاً، ويقترب مني، حتى إذا لم يبقَ بيني وبينه إلا ذراع أحسّ بحركة، وأرى سحابة كبيرة تمر من فوقنا، فيلامسه ريحها فيسقط ميتاً وأغوص في الأرض عشرة أذرع. * * * مرَّت مدة الله أعلم بمداها، ثم صحوت، فرأيت البلاد تغيَّرَت ومَن عليها، فلم يعد هناك مقبرة ولا بساتين، بل شارع ضخم على جانبيه القصور الفخمة ذات العشرين طبقة، وأهله كلهم يلبسون القبعات واللباس الأوربي، فعرفت في الحال أنني في باريس! اقتربت من أحد الناس فقلت له بالفرنسية التي أعرف منها شيئاً: بونجور. فصعّدَ فيّ نظره وصوّب، وتأملني باسماً متهكماً، ثم سار ولم يردّ علي شيئاً. فرجعت إلى نفسي فوجدتني غريباً في زيي، وكيف لا يكون غريباً من يلبس الطربوش ومن لم يقص شاربيه؟ فأسرعت إلى حلاق فحلقت، واشتريت قبعة، وخرجت

أنظر متعجباً، لا أجرؤ على السؤال عن اسم المدينة وعن تاريخ اليوم لما لاقيت من الرجل الأول. وأرى شيخاً هِمّاً فأتخيل أني أعرفه، وأتقرب منه فأجده صديقي فلان، وقد كانت سنه حينما فارقته عشر سنوات، فأتعجب من شيخوخته وشيبه وأنا أكبر منه ولا أزال شاباً! ولا أعرف بأي لغة أخاطبه فأقول له: السلام عليكم بونجور غودمورنينغ! فيرد عليّ قائلاً: وعليكم السلام ورحمة الله. ويعجب من سلامي، فأنتسب له فيعرفني ويهشّ لي ويقول: كيف عدت إلينا وقد حسبناك متّ منذ تسعين سنة؟ - إن لي لخبراً طويلاً، ولكن أخبرني قبلُ: في أي سنة نحن الآن؟ - في السنة 2019 ميلادية. - وما هذه المدينة؟ - عجيب منك، ألا تعرفها؟ هذه دمشق. - دمشق؟ ماذا تقول؟ أرجوك أن لا تهزأ بي. - جِدّاً أقول إنها دمشق. - ومتى كان لدمشق مثل هذا الغنى وهذه العظمة والرقي؟ - لا تغترّ، فما لدمشق منه شيء، ولكنه شارع الأجانب، والأجانب -تجاراً وصنّاعاً- هم سادة المدينة وعظماء أهلها ومالكو زمام أمورها.

- وماذا فعل أهلها؟ فلقد تركتهم على أبواب نهضة اقتصادية كبرى، ولقد أسسوا معامل للدباغة والنسيج و ... - آه، لقد أذكرتني عهداً كنت له ناسياً، ولا يعرفه ممن ترى غيري. إن ما تقوله صحيح، ولكن ... آه! عمَّ أحدثك؟ هلمَّ، هلمَّ إلى أحد المقاهي فإنني لا أطيق الوقوف. * * * وندخل المقهى فتأتينا فتاة كأنها فلقة البدر تسألنا طلبنا، ويجيبها رفيقي بلغة لا أدري ألاتينية هي أم هي لغة الصين، فتنحني قليلاً وتنصرف. فأقول له: ما هذه الفتاة؟ وبأي اللغات تكلمها؟ - إنك قد قطعت عليّ حديثي الأول، ولكني مخبرك عن سؤالك. ليس من كلمت بفتاة ولكنه شاب. - شاب؟ شاب؟! وما هذا الشعر الطويل؟ وما هذه الثياب القصيرة؟ وما هذه الأصبغة؟ وما هذا الكحل في العينين؟ - نعم يا سيدي، إنه شاب، وهكذا كل الشبان اليوم، لا يعرفون إلا التجمل والرقة، أما الأعمال الكبرى والمشروعات العظيمة فكلها بيد المرأة! - ماذا تقول؟ أبُدِّلَت الأرضُ غيرَ الأرض؟ أم قامت الساعة؟ أم طلعت الشمس من مغربها؟ أم ماذا؟ - إن شيئاً من ذلك لم يكن، ولكن هذه «الموضة» التي بدأت في زمانكم بحلق شاربَي الرجل وشعر المرأة، وحضورها

في الكليات وعقدها المجامع، واشتغاله بالزينة وعكوفه عليها، قد جرّنا إلى ما ترى، وما خفي عنك أعظم. وأما هذه اللغة فما هي إلا خليط من اللغة العامية واللغات الأجنبية، وأما الفصحى فلم يعد يعرفها إلا المنقطعون لدراستها، وقليل ما هم! ودعني أتمّ لك حديثي الأول: إن هذه النهضة الاقتصادية التي بدأت في زمنك، والتي سارت سيراً حسناً حينما أقبل الطلاب على مساعدتها، لم تلبث أن ركد ريحها وتقاربت خطاها لانقطاع الناس عن مساعدتها ومثابرتهم على شراء البضائع الأجنبية، فضعفت، ثم اضمحلّت فلم يبقَ لها أثر. وخلا الجو لقُبَّرة أوربا، ولكن لا صائد لها! وهنا جاءت (أو جاء) الكارسون بقدحين من الخمر، فقلت: خمر؟ أأنا أشرب الخمر؟! - مهلاً يا أخي، فما في المدينة شراب سواه، وإن هذه الحانات التي كانت في زقاق رامي (الذي يُرى اليوم في مخططات دمشق الأثرية) وإهمال الحكومة أمر إغلاقها وتحريم تعاطي ما فيها قد سبّبَ لنا هذا البلاء العام والشر المستطير. - ولكني لا أشربه. - ولماذا؟ - عجيب! أليس بحرام؟ - حرام؟ هاهاها! ما بقي من يقول حرام وحلال. - ماذا؟ وهل ذهب الدين؟

- أليس لك بذهابه علم؟ هاك المسجد الأموي، لا يدخل إليه إلا المتفرجون، لا المصلون. ولا تعجب من هذا، فإنك تعرف أن شبان زمانك كانوا يتهاونون بأمور الدين ويتغافلون عنها، وسار أولادهم في طريقهم، فنشأ هذا النشء الذي لا يعرف من الدين إلا الاسم. * * * وطلب إليّ صديقي أن أقوم معه لندور في المدينة، فامتطينا سيارة، فرأيت ميداناً عظيماً فيه تمثال، فقلت له: تمثال من هذا؟ - ليس تمثالاً لبشر، ولكنه تمثال الحرية. - وما تمثال الحرية؟ - هو ... وهنا صدمتنا سيارة أخرى، فصحت: وارأساه! ففُتح عليّ الباب، وأفقت فإذا أنا في الفراش. وإذا هي دمشق لا باريس، وسنة 1929 لا سنة 2019، لا بنايات ولا تماثيل، ولا تهتك ولا إلحاد، وإذا كل ما رأيت رؤيا منام وأضغاث أحلام! * * *

رسائل الإصلاح (4) الحركة الفكرية في الشام

رسائل في سبيل الإصلاح (4) الحركة الفكرية في الشام نشرت في مطلع عام 1930 (غرة شعبان 1348) نحن والماضي إن التاريخ -ولا سيما التاريخ المحزن- سبب أكيد من أسباب تكوين الأمة، ونحن لنا رؤية واحدة ونظرة عامة تتجلى بأجلى مظاهرها عندما تتجه نحو الماضي وتتغلغل في أعماق التاريخ، حتى إنه ليصحّ قولنا: إنّ نظرنا إلى الماضي واحدٌ مهما اختلفت بيئاتنا وثقافاتنا. كيف لا؟ ومَن منا لا يفخر بوقعة القادسية وفتح الشام؟ ومن لا يحزن لمعركة بلاط الشهداء وسقوط الأندلس؟ إن الآلام تجمع، والذكريات المحزنة وسيلة عظمى من وسائل الاتحاد. ولكن اتجاهنا إلى الماضي قد شغَلَنا عن كل ما عداه حتى ما نكاد نلتفت إلى المستقبل، وحتى صَحَّتْ فينا كلمة صاحب كتاب «حضارات تونس» الفرنسي: العرب ينظرون دوماً إلى الوراء

فيقولون «كنا» و «كانت دولتنا» و «هذا تاريخنا» ولا يصنعون شيئاً، وأما اليهود فلا ينظرون إلا إلى الأمام فيقولون «يجب أن نكون» ويسعون ليكونوا كما يريدون. وما حالتنا إلا كما قال من قال: ألهَى بَني تَغْلبٍ عن كل مَكْرُمَة ... قصيدةٌ قالها عمرو بنُ كلثومِ إن تاريخنا -مهما كان زاهراً باهراً- لا يغني عنا من الآتي شيئاً، وإن الفخر بالرِّمَم البالية والأيام الخالية لا يردّ عزاً ولا يرجع مجداً، فحسبنا نظراً إلى الماضي، ولننظر إلى المستقبل، إلى الأمام. يا قوم: ماذا يردّ عليكم عزَّ أوّلكم ... إنْ ضاع آخِرُه، أو ذَلَّ واتّضَعا؟ نحن والمستقبل ما هو المثل الأعلى العام لمستقبل سوريا في نفوس أبنائها؟ إنك لا تجد جواباً على هذا السؤال إلا قولك: ليس لسوريا مثل أعلى عام تلتقي فيه آمال أبنائها. وأعني بالمثل الأعلى الأدبي والاجتماعي، لا السياسي الذي نكاد نكون متفقين فيه. إن منا من يرى المثل الأعلى التحاقنا بأوربا واصطناعنا عاداتها وأخذنا بعوائدها، حتى نكون منها ونتبرأ من شرقيتنا وديننا ولغتنا، وهؤلاء هم المجددون المتطرفون. ومنا من يرى المثل الأعلى العودة إلى ما كنا عليه قبل عشرات السنين، ومحاربة كل غربي ولو كان علماً صحيحاً أو رُقيّاً نافعاً، وينتظر «المهدي»

ليساعده على ذلك! وهؤلاء هم المحافظون المتطرفون. وإذن فإذا أردنا أن يكون لنا مثل أعلى عام فلنقضِ على هذين الرأيين على السواء، ولنجنح لرأي المعتدلين الذين لا يزهدون بكل غربي لأنه غربي ولا يتمسكون بكل شرقي لأنه شرقي، بل يأخذون النافع شرقياً كان أو غربياً، وهذا هو الحزب الضعيف اليوم. إنه لا غُنْية لنا عن أوربا نأخذ الحسن من عاداتها والصحيح من علومها، ولا بقاء لنا بالانصراف عن ديننا الصحيح ولغتنا الشريفة، لأن هذه حياتنا، فإن ذهبت ذهبت حياتنا. والمثل الأعلى للمستقبل هو التوفيق بين هذين الرأيين المتطرفين وإيجاد الرأي المعتدل من بينهما، ولكن دون هذا خَرْط القَتاد (¬1)، بل ما هو أشد من ذلك: سخط الجمهور من المتطرفين ومعارضتهم. هذا هو الأساس في الإصلاح المنشود، ولكن هذا ما لا يؤمن به إلا نفر قليل وسائر الناس منكر له. وإن لهذا الاضطراب أسباباً نرى أن من أهمها ما يأتي: (1) نقص أدوات الثقافة الثقافة شيء غير الحضارة ومستقلة عنها تماماً، وإن كان الكثير من الناس عندنا لا يفرقون بينهما، فيحسبون كل متحضر ¬

_ (¬1) تعبير يتداوله الناس ويفهمون معناه، لكن قَلَّ مَن يعرف: هذا القتاد ما هو؟ وهو نبات شَوْكي صُلب أشواكه مثل الإبَر، يستخرجون منه نوعاً جيداً من الصمغ فلا ينالونه إلا بجهد ومشقة، فضربوا به المثل لكل أمر شاق يصعب الوصول إليه (مجاهد).

في عاداته ولباسه وطرق معيشته مثقفاً، وكل مثقف مطّلع على نتائج العقول وآخذ من العلم بأوفر نصيب متحضراً. الثقافة هي الحجر الأول من بناء الحركة الفكرية والخطوة الأولى في طريق تطورها، ونقص أدواتها ووسائلها في قوم إنما هو ضعفها، فإذا أردنا أن نبحث عن السبب الأول لاضطراب الحركة الفكرية في سوريا فإنا لا نجده إلا في نقص التثقيف. ووسائل التثقيف هي المدارس والصحف، فأما مدارسنا فهي ناقصة، أو هي -بعبارات أخرى- لا تُعنى إلا بالثقافة العملية، وأما الثقافة الأدبية (الفكرية) فهي خلو منها. وأما صحفنا فإنها لا تعنى إلا بالسياسة والأخبار. وإن المثقفين من رجالنا لا يعدو واحدهم أن يكون طبيباً أو محامياً أو مدرّساً أو صحفياً، على أنّ واحداً من هؤلاء لا يستطيع أن ينصرف إلى الأدب فينشئ منه أدباً سورياً يعين سوريا على نهضتها وتقدمها. (2) فساد التربية التربية السورية لا تنجب رجالاً، لأنها تربية فاسدة مَبنيّة على القهر والقوة وملقاة على عواتق الجهلاء من الآباء والأمهات، وهي -فوق هذا- تربية اتّكالية، المثل الأعلى للابن فيها أن يكون آلة يصرّفها الأب حسب ميوله وأهوائه! وكثيراً ما رأينا أبناء ضاعت مواهبهم السامية لأن آباءهم صرفوهم عن إتمام التحصيل وعن متابعة الفن الذي يميلون إليه وفيهم الاستعداد الفطري له. هذا في التربية القديمة، وأما التربية الحديثة فهي على العكس، وهي ليست أقل شراً من هذه لأنها تجعل الابن حاكماً على أبيه وأرفع منه منزلة.

على أن الحقيقة التي يجب أن نقولها أن هذه التربية لا يصحّ أن تسمى تربية إلا مجازاً، لأنها على الحقيقة إهمال من الآباء واستسلام للظروف وخضوع للأقدار، دونَما غاية معينة وطريقة مختارة. والتربية عندنا تختلف باختلاف الأسر وطبقتها في الهيئة الاجتماعية، فتكون تارة بيد الأب وأخرى بيد الأم، وهي في كل أحوالها بيد جاهلين! ولقد خبرت التعليم قليلاً فعرفت كم يقاسي المدرّسون من عَناء في إصلاح تربية التلاميذ، ثم لا يصلون إلى نتيجة لأن التربية المنزلية متمكنة منهم. وكيف يُقلع التلميذ عن السباب والملاعنة وهو يرى والديه كل ليلة يتلاعنان ويتشاتمان؟ وكيف يَصْدق وليس في داره صادق؟ وكيف يتعلم الاتحاد وهو يبصر أباه وأمه وعمّته وجدّته يشكلون في الدار أحزاباً سياسية يكيد بعضها لبعض وينصب بعضها لبعض شَرَك الخديعة؟ وإذن فلا بد من إصلاح التربية. وإصلاحها لا يكون إلا باصطناع طرق التربية الحديثة بعد تحويرها بحيث توافق محيطنا وديننا، ودينُنا وحدَه كفيل بذلك، إذ هو دين الحضارة ودين العقل ودين الاجتماع. ويا حبّذا لو استُخلصت آراء الدين في التربية فنُشرت بأسلوب عصري فعمَّتْ فائدتها الناس كلهم، وأنى لنا بهذا؟ (3) اختلاف العادات إن أكثر ما يدهش الغريب -إذا حضر اجتماعاً عاماً عندنا- ذلك الاختلاف في الأزياء والألبسة الذي يجعل الشام كأنها حقاً

في يوم المحشر! فمِن متعمّم بجبة طويلة ذات أكمام عريضة، ومن مُطربَش بلباس أوربي ضيق يكاد يُظهر منه ما أخفى، ومن «زكرتي» يلبس شروالاً ضخماً، ومن شيوخ «على الموضة» يلبسون البدلة الإفرنجية وربطة العنق والعمامة! ومن ومن ... وليس هذا الاختلاف في الألبسة فقط، بل في فرش البيت وطرق المعيشة. زرت أمس جدتي، فلم تدعني حتى خلعتُ نعلي وجلست على طرّاحتها، فتقطعت هذه السراويل الضيقة التي ألبسها، وخرجت إلى الشارع بأقبح هيئة أكيل اللعنات جزافاً لمن لبس هذه البدلة لأول مرة في الشام! في حين أنني أزور ابن عمي فلا يكلفني شيئاً من هذا العناء، بل يسمح لي أن أدوس بحذائي الذي أسير فيه في الشارع على بساط غرفته، ثم يجلسني على كرسي أو أريكة. وتُدعى إلى وليمة فتجلس إلى نَضَد ويقدَّم لك صحن خاص وشوكة وملعقة وسكين وبشكير، في حين أن وليمة أخرى توضع الأطعمة فيها على خوان ويأكل القوم كلهم من إناء واحد. أي الشكلين أحسن؟ أنا لا أدري، ولكني لا أحب الاختلاف. وليس هذا الاختلاف بين حارة وحارة وحي وحي، هذا لهؤلاء وذاك لأولئك، بل بين غرفة وغرفة من منزل واحد، هذه إفرنجية وهذه شرقية عربية! أنا لا أقول للناس البسوا كلكم بدلات أو افرشوا دوركم بالكنبات، لا، ولكني أريد أن أقول إن هذا الاختلاف في العادات يجرّ إلى الاختلاف في طرق التفكير والاضطراب في الثقافة

العامة، لأن الزكرتي والأفندي يختلفان تماماً في طريق تفكيرهما ونتائجه، وإن كانت ثقافتاهما واحدة، وإن هذه نقطة تستحق من عناية الكتّاب والمفكرين الكثير. خاتمة إن للدين الأثر الأعظم في سير الحركة الفكرية، وإنني إذا أنحيت باللائمة على العلماء مرة لجمودهم، فإنني ألوم الشبّان ألفاً لإهمالهم أمر الدين واستحيائهم من تنفيذ شعائره والقيام بواجباته! وأقول لهم بصوت عال وجرأة عظيمة، وإن غضبوا وسخطوا: إن من لا يفي لربه بخمس صلوات في اليوم لا يفي لأمته بالتضحية في سبيلها. فإلى ربط الماضي المجيد بالآتي السعيد، وإلى العمل متّحدين، وإلى التمسك بأهداب الدين أدعو رجالَ الأمة العالمين العاملين والمجاهدين المخلصين، والسلام عليهم أجمعين. * * *

خطرات وكلمات: الشهرة

خطرات وكلمات الشهرة نشرت سنة 1930 (¬1) يبصرون الماء، وكلهم هالكٌ عطشاً في هذا المَهْمَه القَفْر، في هذه الرَّمْضاء المحرقة، فيسعون إليه لا يلوون على شيء. وصل جماعة إلى الماء فرأوه سراباً، فرجعوا يصيحون بالناس أن ارجعوا، ولكنه صوت ضاع في أصوات الناس العالية: إلى الأمام، إلى الأمام ... تركتهم في ضلالهم يعمهون، وانتحيت ناحية أفكر في هذا الذي يحسبونه شراباً وما هو إلا السراب، وأقول: ما أشبهه بالشهرة، وما أشبه هؤلاء بمن يسعى إليها! * * * ¬

_ (¬1) في «القبس» بتاريخ 25/ 2/1930 (27 رمضان 1348).

أم الذكريات

أم الذكريات نشرت سنة 1930 (¬1) في مثل هذا اليوم، منذ ثلاثة عشر قرناً ونصف قرن دارت مع الفلك وغاصت في أعماق الأبدية، وفي هذا المكان المقفر الذي يقف فيه اليوم مئات الألوف من الناس عراةً مكشوفي الرؤوس: في عَرَفة، في حجّة الوداع، وقف «سيد قريش» محمد صلى الله عليه وسلم للمرة الأخيرة، ليودّع تلك البقاع التي أودعها سر طفولته ومطلع نجمه، وهذه الأمة الذي ضحى لأجلها بنفسه ووقف لسعادتها حياتَه، وقف ليقرر قاعدة الإخاء الكامل والمساواة التامة والسلام العام، فقرر وأوضح وكان له ما أراد. إن الصوت الذي يصيح: «لبَّيكَ اللهمّ لبيك»، فتهتز من صياحه بطحاء مكة ويرنّ صداه في جوانب العالم، لَدليلٌ قاطع على تلك المساواة وذلك الإخاء. وإن هذا الجمع الهائل الذي يرتدي غنيُّه وفقيرُه، رفيعُه ووَضيعُه، ثوباً واحداً، وينادي بصوت واحد ويقف في مكان واحد، لَحجّةٌ بالغة على تلك الإنسانية وذلك العدل. وإن هذه التحية التي يتبادلها الناس مُنصرَفَهم من ¬

_ (¬1) في «فتى العرب» بتاريخ 7/ 5/1930 (8 ذي الحجة 1348)، وهي منشورة في كتاب «الهيثميات».

الموقف ويتبادلها المسلمون في كل مكان وفي كل آن، لَبرهانٌ ساطع على تلك الطمأنينة وذلك السلام. لقد ضحَّتْ أوربا من أبنائها ما ضحَّت في سبيل هذه الأسس الثلاثة: الديمقراطية والمساواة والسلام، ثم لم تصل إليها، وقررها سيد قريش ونَعِمَ بها المسلمون منذ حجة الوداع، منذ ألف وثلاثمئة سنة. فلنقدّس ذلك الصوت وتلك الدعوة، ولنعظّم هذا النبي الجليل، سيد العالم صلى الله عليه وسلم. * * * إن الأمم تحتفظ بذكريات يتوارثها الناس، ذكريات تتكاثف في بقعة من البقاع وحادثة من الحوادث، فالقادسية عبقرية سعد، واليرموك خلود خالد، وأوسترلتز عظمة نابليون، وواترلو مجد ولنغْتُن ... ولكن «عَرَفة» هي عظمة البشرية وانتصار الأخوّة والعدل المساواة، ولكن عرفة هي «أمّ الذكريات» وموطن العروبة والإسلام. لبثت عَرَفة ردحاً من الزمن تشهد حجيج عرب الجزيرة في جاهليتها، على اختلاف مذاهبها ونِحَلها وتباين أديانها ومعبوداتها، يجتمعون في صعيد واحد فيلقى الرجل قاتلَ أبيه ومن يبذل حياته ليلقاه فيُعرض عنه ولا يمسّه بسوء، لأنه الحج ولأنها بقعة مقدَّسة، ولأنه عربي ولأن الوفاء يجري منه موضع الدم. ثم سطع في بطحائها ذلك النور، ورَنَّ في جوانبها ذلك الصوت الذي بدأ ضعيفاً خافتاً ثم ما زال يقوى ويشتد حتى صار كأنه الرعد، وحتى ارتجَّتْ منه أقطار الأرض وهوت لهوله أعلى

العروش وخرَّتْ لعظمته أعظم التيجان، ثم ظهر سيد قريش، فلم يلبث أن انتشر دينه وعمَّت دعوته، وأصبح سيد العالم، وأصبحت «عرفة» تشهد مئات الألوف يأتونها مكشوفي الرؤوس لا يحملون معهم دنياهم ولا يلوون على شيء وراءهم، ولا يميّز بينهم فقرٌ أو غِنىً ولا يفرّق أفرادَهم جاهٌ أو منصب، يأتونها وقد تجردوا من كل شيء، يأتون إلى الله فيقفون بين يديه في حِجْر الطبيعة الواسع فينادون: لبّيك اللهم لبيك! فلا يبقى في العالم صخرة ولا شَعْفَة، ولا حجر ولا مَدَر، ولا نبت ولا شجر، إلا ويردد: لبيك اللهم لبيك! * * * هنالك تخشع القلوب وتموت المطامع وتخنس الشياطين، ولا يبقى إلا الفضيلة ترفرف على رؤوس الناس فيتصلون بالعالم الآخر، عالم العواطف والأفكار، عالم السماء. أي رجل يرى هذا المنظر ويشهد هذا المشهد ثم لا تهزّه روح الاجتماع، روح الاتحاد والتديّن، فيضحي في سبيل المجموع بكل شيء؟ أي رجل قاسي القلب ميت العاطفة، يستطيع أن يقف بقلبه ساكناً لا يحركه هذا التيار الذي يجري في القلوب، فيوحد غاياتها ويجمع آمالها ويسوقها في طريق واحدة إلى هدف واحد؟ أي مؤتمر؟ أي جمعية أمم؟ أي محكمة دولية تملك من قلوب الناس وأفئدتهم، وتعمل على تعميم السلام بينهم ونزع الأحقاد من أكبادهم، كما تملك وتعمل عرفة بموقفها المتواضع الساذج؟ اللهمّ إنها حكمة سامية، وسبب عظيم من أسباب قوتنا

وعزّنا لو عرفنا كيف ننتفع منه ونفهم غايته. مَن من المسلمين يرى الكعبة ويشهد الصفا والمروة وينظر إلى أبي قُبَيْس، فلا يذكر محمداً وأصحابه ولا يذكر سُراة قريش ووجهاءها، وتتجسم هذه الذكرى في نفسه حتى لكأنه يراهم جالسين حِلَقاً حول الكعبة يتحدثون، أو قائمين في مقام إبراهيم يصلّون، أو خارجين من الحرم يتناشدون الأشعار ويتفاخرون؟ * * * إذا كان لنا في مَطاوي الغد يومُ سعادة أو عهدُ رخاء فإنما مبعثه «عرفة». عرفة التي بدأ منها تاريخنا ووُلد فيها عزنا، وانتصرت فيها الإنسانية وانفجرت منها ينابيع الحضارة التي نشرها في العالم أهلها المسلمون، ستعود فيكون لها في الغد ما كان لها في الأمس، وستعود فنبني عليها صرح مستقبلنا العظيم الزاهر بإذن الله. في عرفة وموقفها الجليل سر نجاحنا وخَبيئة مستقبلنا، فلنكشف عنها بحكمة، ولنستفد من هذا الموقف بإخلاص واجتهاد. إن الله يدعوكم إلى العمل في الحياة، ويدعوكم إلى الاتحاد والإخاء، فأجيبوا بأفعالكم كما تجيبون بألسنتكم: لبَّيكَ اللهم لبَّيكَ. * * *

استفتاء لغوي

استفتاء لغوي نشرت سنة 1930 (¬1) لم أشعر منذ أيام إلا والباب يُقرَع قَرْعَ الشرطة، وصديقي الشاعر العبقري أنور العطار يطلب بلهفة واستعجال أن: هات لسان العرب، هات تاج العروس، هات الأساس ... قلت: تفضل ادخل المكتبة وقل لي قبلُ: ماذا تريد؟ ولكنه لم يجبني، وأكبَّ على الكتب يطالع فيها ويقلب صفحاتها حتى وجد ضالّته، فألقاها مبتسماً ابتسامةَ الظفر متنفساً الصعداء وقال: ها هي كما قلت! لقد قلت للأستاذ معروف إن لفظة «الحادر» تُستعمَل في الغلام الجميل لا في الروضة الجميلة. - ولكن الحق يا صديقي مع الأستاذ، ولا يغني عنك شيئاً أن يخصّصها القاموس بالغلام دون الروضة. وعَمَّن روى القاموس؟ إنهم أولئك البدو الرُّحَّل الذين لم يروا روضة ولا شاهدوا جنة! وعلامَ لا تُنقَل اللفظة من معنى خاص إلى عام ما دامت الحاجة تضطرنا إلى ذلك؟ وهل ... ¬

_ (¬1) في «فتى العرب» بتاريخ 18/ 5/1930 (20 ذي الحجة 1348).

فقطع عليّ كلامي غاضباً بقوله: أنت إذن متحرر في اللغة تريد أن تتصرف فيها كما تريد وتضرب بدواوينها وعلمائها عرض الحائط؟ قلت: لا يا صديقي، أنا لا أريد أن نقطع صلتنا بها ولا أن نستبدل بها لهجاتنا العامية، بل أريد أن توضَع لتوسيعها وتنميتها قواعد تسير في ذلك عليها. وليس من المعقول أن تخرج هذه اللغة على قانون التجدّد والتغيّر الذي تخضع له الكائنات بأسرها وتبقى واقفةً عند حد واحد لا تغيره. وماذا يكون إذا استُعمل «الحادر» في الرَّوض بدل الغلام؟ نعم، لا أنكر أن عملاً كهذا العمل لا يقوم به إلا مَجْمَع لغوي، ولكن ما حيلتنا في هذا المجمع الذي يُحسَب علينا وليس لنا منه جدوى ولا فائدة؟ وما هو إلا كالطبل العظيم يملأ صوتُه الفضاءَ وهو فارغ! ولكن صديقي أبى عليّ الموافقة، فاتفقنا على استفتاء اللغويين. وهذه هي صيغة الاستفتاء: ما قولكم -دام فضلكم- في الخروج على السماع، واتّباع قواعد معينة في استعمال كلمة وُضعت لمعنى خاص في معنى عام، إذا خالف ذلك دواوين اللغة وكان فيه تنميتها وتوسيعها؟ مع العلم بأن الجمود على شيء واحد ممقوتٌ مخالف للطبيعة، وأنه لا بد من التجدد والتطور. أفتونا مأجورين. * * *

مشاهدات وأحاديث: إلى مجلس المعارف الكبير

مشاهدات وأحاديث (3) إلى مجلس المعارف الكبير نشرت سنة 1930 (¬1) قال الراوية الفرنسي ألفونس دوده في قصة عنوانها «الدرس الأخير»: حدَّث صبي من الألزاس فقال: غدوت إلى المدرسة صبيحة يوم من الأيام الأخيرة من العام ولمّا أحفظْ درسي، فخشيت أن يقرّعني أستاذي ويعاقبني، فأخذت طريق الحقول ¬

_ (¬1) نشرت المقالة في جريدة «فتى العرب» بتاريخ 20/ 5/1930 (22 ذي الحجة 1348)، وقد أشار إليها في «الذكريات» فقال: "في الأشهر الخمسة التي لازمت فيها «فتى العرب» كنت أكتب كل يوم مقالة، منها سلسلة كان عنوانها «أحاديث ومشاهدات» ... منها مقالة «إلى مجلس المعارف الكبير» الذي كان يُعقَد أحياناً، نقدتُ فيها وزارة المعارف نقداً صادقاً صريحاً حمَل مستشار المعارف (راجِه) وجبّارها، دنلوب الشام، على زيارة الجريدة نفسها ليقابل كاتب المقالة ويوضّح له ما غمض عليه ... وقد لَخّصتُ في المقالة قصة ألفونس دوده «الدرس الأخير» الذي يصوّر فيها ضياع الألزاس من فرنسا بعد حرب السبعين (1870)، وجعلتها مدخلاً للكلام". لقراءة تفصيلات الحادثة بتمامها راجع الذكريات: 1/ 377 - 386 من الطبعة الجديدة (مجاهد).

علّني أقطع النهار في اللعب واللهو، ثم بدا لي فعدت عن هذه الفكرة الخبيثة، وذهبت إلى المدرسة قلقَ الفكر مشغولَ البال، فما استلفت نظري إلا إسراع الناس مُصْفَرَّةً ألوانُهم، تبدو عليهم أمارات الخوف والألم، إلى حيث لا أعلم. فتبعتهم حتى وصلوا دار الحاكم، ثم لم أدرِ ماذا كان بعد ذلك لأني أسرعت إلى المدرسة، فذهبت سعياً إلى قاعة الدرس، فوجدت الأستاذ يروح ويغدو فيها قلقاً، وقد ارتدى حلته الرسمية التي ما كان يلبسها إلا في يوم احتفاء أو عند قدوم مفتش، ورأيت بعضاً من أهل القرية قد جلسوا على المقاعد واجمين شاخصين بوجوه كئيبة مكفَهِرّة، فانسللت إلى مكاني وأنا أكثر ما أكون وجلاً وحيرة، وعلا الأستاذ المنبرَ فقال بصوت مرتجف ورنّة حزينة كأنها بكاء ونحيب: أولادي، هذه آخر ساعة أراكم فيها، ثم نفترق إلى غير تلاق، لأن بلادكم قد احتلها الألمان وأبدلوا لغتهم الجرمانية بلغتكم الفرنسية، فلا فرنسية بعد اليوم ... وخنقته العبرات فما استطاع أن يتم كلامه، فانقطعت نياط قلبي من هذه الطعنة النجلاء، وعلمت لِمَ كان يسرع الناس إلى دار الحاكم. واأسفاه عليك يا لغتي الفرنسية، ويا لغة أمتي المحبوبة! ثم عاد الأستاذ فقال: والآن أصغوا إليّ لأتلو الدرس الأخير. قم يا ... فلم أسمع اسمي حتى ارتجفت وقمت، ولم أكن حفظت درسي، فوقفت ساكناً، فقال: اجلس يا بني، أنا لا أعنّفك ولا ألومك، ولكن اعلموا، اعلموا يا أولادي أنكم أضعتم بلادكم

وسلّمتموها لعدوكم بإهمالكم لغتكم. اسمعوا، اسمعوا، سألقي عليكم الدرس الأخير. وراح يلقيه، حتى قُرع الجرس، فوقف ليودعنا ويودع عهد استقلال بلاده ولا تكاد رجلاه تحملانه، وقف فقال: أيها الأحباب الأعزاء، إنني ... ثم غلبه البكاء فأسلم نفسه إليه، وراح إلى اللوح فكتب عليه بحروف كبيرة: «ليحيَ الوطن»! وخرج (¬1). * * * «إذا استُعبِدت أمة ففي يدها مفتاح قَيدها ما احتفظت بلغتها» ... الآن تستطيع أن تفهم معنى هذه الكلمة، والآن تَقْدر أن تعلم أن نشر اللغة وإذاعتها بين الناشئين، وأن إبراز صحائف التاريخ بيضاءَ ناصعةً للطالبين، أنفعُ لهذه الأمة وأَعْوَدُ بالنفع عليها من خمسين مظاهرة شعبية ومئة خطبة سياسية، لأن في ذلك حفظ حياتها وضَمانة ولاء أبنائها لها وحدبهم عليها. هذا هو التعديل الذي نطلبه من مجلس المعارف الكبير الذي سيُعقَد في هذا الشهر، ولكنّا نعتقد أن هنالك قوة تسيطر على أعضاء هذا المجلس وتستغل اسمهم لما تريد، فهل يخيب الواقعُ اعتقادَنا هذا؟ وهل نرى في أعضاء المجلس من يكون ¬

_ (¬1) عاد علي الطنطاوي إلى هذه القصة فنقل طرفاً منها في مقالة «لغتكم يا أيها العرب» وعلق عليها تعليقاً حسناً، فليرجع إليها من شاء من القراء، وهي منشورة في كتاب «فِكَر ومباحث» (مجاهد).

له من الجرأة على القيام بالواجب ما يدفعه إلى أن يقف موقف المؤيد له، المدافع عن لغة هذه الأمة وتاريخها، ولو أدى قيامه بذلك إلى إخراجه من «المعارف» وقطع راتبه؟ هل نرى ذلك الرجل الشريف في أعضاء المجلس؟ أما أنا فأظن أنني لا أراه، ولكن أرجو أن يخيب الله ظني وأراهم كلهم ذلك الرجل. * * * ليست غاية المدارس الابتدائية علمية، وليس القصد منها حشو دماغ الطالب بأكبر قسط مستطاع من المعارف؛ بل إن القصد منها إنما هو التهذيب والتربية قبل كل شيء، فيجب إذن على «المجلس الكبير» أن ينظر إلى هذه البرامج ويناقشها من ناحية التربية الوطنية التي تنشئ من الأطفال رجالاً قد عرفوا لغتهم ودرسوا تاريخهم، ولم تفتنهم حضارة الغرب وزخارفه عن شرقيتهم وعروبتهم. إننا لم ننسَ بعدُ تلك الضجةَ الهائلة التي أحدثها صدور هذا البرنامج، ولم ننسَ أن «المعارف» وعدت بتعديله حين ينعقد هذا المجلس؛ وها هو قد انعقد أو كاد، فهاتوا تعديلكم إن كنتم صادقين ... صادقين في خدمة الأمة عاملين على نجاحها. إن المَواطن التي نشكو منها في هذا البرنامج هي اللغة العربية وقلة العناية بها، والتاريخ والدين الإسلامي وإهمالهما. أما اللغة فإنني أنقل للقارئ رأياً فيها لمدرّس من خيرة المدرسين وأشدهم غيرة على العربية وأكثرهم اطلاعاً عليها، أدلى به إليّ

فوجدت فيه ضالّتي، وهذا هو نصه: "تأخر التعليم العربي في المدارس الابتدائية خلال المدة الأخيرة إلى درجة صار من الممكن فيها أن نجد بين تلاميذ الصف السادس الثانوي، وحتى الخامس أيضاً، من لا يفرّقون بين الاسم والحرف! وحتى صار من النادر وجود أناس لا يلحنون في القراءة ولا يخطئون في الإملاء، أو تسلم لهم جُمَل صغيرة -يُنشئونها- من الأغلاط. ولا ريب في أن السبب الوحيد في ذلك هو تراخي قانون الفحص الابتدائي (¬1) (وأزيد أنا: وغيره من الفحوص، ولا سيما في البكالوريا (¬2)) تراخياً جعل نجاح الذي تكون علامته في العربية نصفاً من عشر أمراً مستطاعاً. إن الواضح أن كل المقصود من المدارس الابتدائية هو تعليم القراءة والكتابة قبل أي شيء آخر، والطالب الضعيف فيهما هو في العرف غيرُ متمِّمٍ تحصيلَه، فمن المأمول -تلافياً لهذا الأمر- تحوير القانون إلى صورة تكفل المصلحة العامة أكثر وتصون اسم التحصيل الابتدائي السوري من هذا الضعف المخجل، بحيث لا ينجح إلا من كان يحسن القراءة والكتابة. والذي أراه: (1) أن يُجعَل للقواعد العربية علامة خاصة في الفحص التحريري مع وضع أسئلة تطبيقية على الإملاء. (2) أن تستقل علامات الفروع الأربعة -الإملاء والإنشاء والقواعد ¬

_ (¬1) كانوا يعقدون للطلاب في نهاية مرحلة الدراسة الابتدائية امتحاناً عاماً كامتحان الثانوية العامة الذي تعرفونه اليوم، وكان يُدعى «السّرْتفيكا»، وهو امتحان أُلغي في وقت مبكر فلم أدركه (مجاهد). (¬2) هو امتحان الثانوية العامة، وما زال يُدعى في الشام باسمه هذا إلى اليوم (مجاهد).

والقراءة- بعضها عن بعض، بحيث إن المقصّر في أحدها لا ينجح. (3) أن تكون علامة النجاح في كل الفروع المذكورة خمساً على الأقل. وغيرُ خاف أن اللغة آلة فهم الدروس جميعاً، فلا يتم للمقصّر فيها فَهمُ درسٍ ما، وإذا نحن أمنّا إخراج تلاميذ متينين في العربية من مدارسنا الابتدائية فقد أمنّا استعدادهم للتضلع في كل الفروع على الإطلاق". من هذا التقرير تعرف مقدار استهانة هذا البرنامج باللغة العربية وإهماله أمرها، وابحث في حامليها ما شئت فإنك لا تجد فيهم عشرين في المئة يقرؤون صفحة عربية بلا خطأ. أما التاريخ فحسبك أن تعلم أن التلاميذ قاطبة (نعم، قاطبة؛ إنّي أبصر ما أقول، هل تسمع؟) لا يعلمون من تاريخ قُتَيبة بن مسلم أو المُهَلَّب ربع ما يعلمون من تاريخ نابليون أو الإسكندر، ولا من أنباء الأدارسة أو ابن طولون ما يعلمون من أبناء ملوك الفرنسة من بني البورْيون! هذه هي نتيجة من نتائج تدريس التاريخ في مدارسنا، فانظر إذن -هداك الله- وقدِّرْ ما تريد، وبالغ في الظن بإهماله ما شئت، فلن تكون مخطئاً! وكذلك نقول في إهمال الدين وعلومه. * * * هذا هو برنامج التعليم الابتدائي وهذه هي نتائجه، وهذا هو الواجب المُلقَى على عاتق أعضاء المجلس، وهذه هي دعوتي إياهم للنهوض به. * * *

مشاهدات وأحاديث: عقوق

مشاهدات وأحاديث (4) عقوق نشرت سنة 1930 (¬1) - من هو البطل الذي تحبه وتُعجَب به؟ هل تحب خالد ابن الوليد بطل اليرموك؟ هل تعجب بسعد بن أبي وقاص بطل القادسية؟ هذا ما قلته له يوم زرت والده. وهو غلام ذكي شديد الانتباه قوي الذاكرة، على أن سنَّه لا تعدو العشر. دخل عليّ فحياني، وأردت أن أباسطه وأرى مبلغه من العلم بالتاريخ فسألته هذا السؤال. تورّدت وجنتا الغلام وخجل، ثم طفق يقول: بَرْدون مسيو! أنا لا أعرف خالد بن أبي البليد وسعد بن عقاص، لأن الأستاذ قال لنا إنه لا بطل يستحق إعجابنا ومحبتنا إلا سان بيير وجان دارك، والقديسين طبعاً. - وعمر بن الخطاب، ألا تعرفه أيضاً؟ ¬

_ (¬1) في «فتى العرب» بتاريخ 21/ 5/1930 (23 ذي الحجة 1348).

- لا أدري إذا كان يأتي دوره بعد أبطال الغرب أم لا؟ على أن الأستاذ أخبرنا أن الشرق لا ينجب عظماء. - إذن أنت لا تحب الشرق، ولا تحب وطنك سوريا؟ - أحبها؟ لا؛ لا أحبها لأنها لا تزال في الظلمات، لم تدخل في أنوار الغرب! * * * التفتُّ عندئذ إلى والد الغلام، وستطير دهشاً إذا أخبرتك أن والده من أسرة عريقة في العلم والزعامة الدينية في الإسلام! التفتُّ إليه وقد هالني ما سمعت من الغلام، وتصورت أبناء هذه البلاد الذين نبتوا في أرضها وعاشوا فيها، ينقلبون عليها وتعمل فيهم هذه السموم الخبيثة التي يبثّها هؤلاء المبشرون، لا بالديانة النصرانية فحسب، بل بديانة الخيانة للوطن واحتقار تاريخه وازدراء لغته. تصورت هذا فأحسست كأنما قلبي كاد -لكثرة ما يخفق- يخرج من صدري، فرحت أسأل نفسي: من المجرم؟ من الخائن؟ وراحت تجيبني بأنه هذا الذي يجلس أمامك، بأنه والد الغلام! فقلت له وأنا لا أتمالك نفسي من الحدة: لماذا لا ترسل ولدك إلى مدرسة وطنية؟ ولماذا آثرت مدرسة «الفرير» الأجنبية؟ ألم تأتِك أخبار ما فعل الطلاب فيها في العام المنصرم؟ ألم يبلغك نبأ تلك الدعوة القدسية إلى مقاطعة هذه المدارس وتلبية أبناء الوطن الأبرار لها، مسلمين ومسيحيين على السواء؟ أترضى بأن تكون ... آه، ماذا أقول؟

- دعني يا سيدي أقصّ عليك، دعني لا تغضب! إنني لم أؤثرها على غيرها لأنني كاره لأمتي أو عدو لوطني، ولم أجهل غايتها السيئة التي أُنشئت من أجلها، ولم يذهب عني أنها لم تعد ترى لسمومها مكاناً إلا في نفوس الشرقيين ... كل ذلك أعرفه، ولكني اضطررت إلى إرسال ولدي إليها اضطراراً. - اضطراراً؟! من اضطَرّك إلى ذلك؟ هذا غير معقول. - مهلاً يا سيدي، لا تغضب ولا تقطع عليّ حديثي. اسمع تتمة كلامي: أنا امرؤ أحب النظام وأشغف به، وقد وجدته على أتمّه في هذه المدارس. وأهوى اللغات الأجنبية وأميل إليها، وقد رأيت أنها تتقنها وتعتني بها. وأحب أن ينشأ ابني متحضراً مثقفاً، وفيها الثقافة والحضارة. - لقد فهمت ما تريد، فأخبرني: متى يذهب ولدك إلى المدرسة ومتى يعود منها؟ وكم ساعة يجالسك فيها؟ - يذهب في الساعة السادسة صباحاً ويعود في مثلها مساء، ولا أحسب أنني أجالسه ساعة أو بعض ساعة في اليوم. - حسن جداً، هذا ما كنت أريد أن تقوله لي. والآن أخبرني: هل تأمن معلمي «الفرير» على نفسك إذا رافقتهم عشرة أشهر متوالية من المطلع إلى المغيب، هل تأمن أن يفتنوك عن وطنيتك ودينك؟ قل لي الحقيقة، لا تحاول التملص. - أما وقد قلت ذلك، فأخبرك أنْ «لا». - أفأنت أصلب عوداً وأثبت على مبدأ أو طفلك هذا؟

- بل أنا. ولِمَ هذه الأسئلة؟ - حسن، وهل تظن أن تلاميذ «الفرير» وأشباهها أقوى في الفرنسية من تلاميذ «التجهيز»؟ ربما تقول إنهم أقوى في الكلام والتحدث، وربما كان هذا مسلَّماً، أمّا أن تقول أو يقول امرؤ إنهم أقوى في الإنشاء والترجمة فلا، وإنني أتحدى ذلك القائل وأدعوه إلى المباراة والمسابقة، إن شاء في عدد الأفراد النابغين في كلٍّ وإن شاء في المجموع. وأما هذا النظام الذي تهواه وتراه على أتمه في الفرير فأظن أنه يعجبك منه أن ولدك يبقى اثنتي عشرة ساعة كل يوم في حفظ المدرسة، وهذا دليل على قِصَر نظرك وضعف محاكمتك، ولو عقلت لعلمت أن ذلك شر ما تكسبه لولدك. وأما هذه الثقافة وهذا التحضر فما أدري قصدك منه، فإذا كنت تقصد بالثقافة العلومَ والمعارفَ ذهب كلامك كله هدراً، لأن أدنى طالب في «التجهيز» يصلح أستاذاً لأحسن طالب في الفرير وأشباه الفرير. والآن: اعتَرِفْ، اعترف أمامي بأنك تضحي بوطنية ابنك عمداً، اعترف بأنك تخون هذه الأمة بتمهيدك السبل لابنها البارّ بها ليصبح عدواً لها لدوداً وخصماً مؤذياً، اعترف أنك ... آه، إنني أستحي أن أقولها: أنك خائن! * * * هذا هو الحديث الذي دار بيني وبين صديق لي، رجل من سُراة البلد ووجهائه! وقد عرفتَ -أيها القارئ- من ثناياه كيف تفجعنا هذه المدارس بأبنائنا وكيف تعمل بنا ما لا تعمله الطيّارات والمدافع، لأن صاحب الطيارات نعلم أنه عدو لنا فنجتنبه، ولكن معلّمي هذه المدارس يخدعوننا حتى نحسن بهم الظن ونسلّمهم

أبناءنا (وما أحمق من يسلمهم أبناءه!) فلا يردّونهم إلينا إلا أعداء لنا خارجين على ديننا هازئين بلغتنا ساخرين من عاداتنا! أيها الناس: اتقوا الله في أبنائكم، لا تقذفوا بهم في هاوية سحيقة لا قرار لها ولا مخلص لهم من ويلاتها. اتقوا الله في هذه الأمة، لا تفجعوها بأبنائها وترزؤوها بفلذات أكبادها. اختاروا لأبنائكم خير المدارس كما تختارون لكم خير الدور وخير الأطعمة. كونوا أوفياء لأوطانكم في آرائكم وعاداتكم، في تجارتكم وصناعتكم، في أبنائكم وبناتكم، واعلموا أن هذا المستقبل لا يُبنى إلا على عواتق هؤلاء الأطفال، فلا تُجهزوا عليهم وتصيّروهم أعداء لبلادهم. أيها الناس: إن مَن يرسل ابنه إلى مدارس الأعداء كمَن يأخذ في حومة الوغى عَلَم أمته فيمزقه تمزيقاً ويقطعه إرباً، أو كمن يدع موقفه في ساحة الحرب للعدو المهاجِم حتى يحلّ فيه دونه ويقتل منه إخوانه. إن من يرسل ابنه إلى هذه المدارس خائن لأمته، حانث بعهده لوطنه، وخليق بنا أن نحتقره ونزدريه ولا نقيم له وزناً. وما هذه المدارس؟ هل تعلمون؟ إنها جيوش أجنبية اقتحمت دياركم لتزهق أرواحكم. ماذا؟ بل هو أمرٌ أشد من قتل الفرد، إنه إهلاك أمة! أيها الناس: انصرفوا عن هذه المدارس باسم الدين، باسم الوطنية، مسلمين كنتم أو مسيحيين، فهي عدوة لكم جميعاً وأنتم جميعاً شرقيون. هنا محكّ الوطنية، وهنا ميزان الإخلاص. * * *

مشاهدات وأحاديث: البراق

مشاهدات وأحاديث (6) البُراق نشرت سنة 1930 (¬1) جاء في كتاب كليلة ودمنة (النسخة التي لم تُطبَع!) ما يأتي (¬2): قال كليلة: ألا تضرب لي يا دمنة مَثَل الرجل اللئيم يُحسن إليه القوم ويُكرمونه، فيأبى إلا الإساءة إليهم والغلبة على أموالهم؟ قال دِمْنَة: زعموا أنه كان في مدينة «كذا» ستة أبناء ورثوا عن أبيهم قصراً عظيماً وأموالاً طائلة، أمضى الرجل عمره وأمضَّ نفسه في جمعها وتحصيلها، وأخذ عليهم عهد الله وميثاقه: ¬

_ (¬1) في «فتى العرب» بتاريخ 25/ 5/1930 (27 ذي الحجة 1348). (¬2) كثيراً ما عقد علي الطنطاوي فصولاً على لسانَي كليلة ودمنة في تلك الأيام، صنع ذلك كلما أراد التورية وضرب الأمثال، فلا يَظُنَّنّ قارئٌ لهذه الفصول أن مِن كتاب «كليلة ودمنة» نسخاً مفردة أو مفقودة أو غير ذلك، إنما هي النسخة الوحيدة التي تُنشَر أبداً ويعرفها الناس (مجاهد).

أن يحافظوا عليها ولا يبدّدوها، فلما اطمأن إلى أَيْمانهم ووثق بعهودهم أغمض عينيه وأسلم روحه، وهو أروَح ما يكون نفساً وأهدأ بالاً. قال كليلة: ويحك يا دمنة! ألا تخبرني ماذا كان بعد ذلك؟ قال: نعم، مات الأب، وعاش أولاده من بعده بنعمة وراحة لا يَشْكون ولا يختصمون، حتى نزل بهم في ليلة من ليالي الشتاء، حالكة الظلام شديدة القُرّ، ضيفٌ مسكين يشكو ألماً ويطلب دِفأً ويرجو طعاماً، فأطعموه وأدفَؤوه وداوَوه، ومنحوه ما شاء من عطايا ومِنَح، فلما ذاق طعم الغِنى والسعادة وأحس بلذة الترف والنعيم اقترب من أحدهم فقال له: إنك قد أحسنت إليّ وأكرمتني، ولا بد لي من مكافأتك على إحسانك ومن إنذارك بإخلاء الدار وترك الأموال قبل أن أسطو عليك وأعمل فيك سلاحي، فامنحني ما أريد طوعاً أو لا فامنحه كرهاً! * * * رأيت هذا المَثَل مَثَل فلسطين وصهيون، في كتاب «كليلة ودمنة» (في نسخة غير التي في أيدي الناس)، فرأيت فيه ما أفتتحُ به مقالي عن «البُراق». والبراق جدار بيت الله، فيه أولى القبلتين وهو ثالث الحرمين الشريفين، والبراق جدار بيت الله الذي ضحى المسلمون في سبيله بأنفسهم وأزهقوا من أجله أرواحهم وأراقوا ثمناً له دماءهم، والبراق جدار بيت الله، شهد الله وتشهد ألف وثلاثمئة عام أنه

للمسلمين لا يشاركهم فيه مشارك، تشهد أنه لهم وحدهم خالصاً من دون الناس أجمعين (¬1). الفلسطينيون حرّاس على هذا المُلك العام لكل المسلمين، فإذا فرّطوا فيه أو مكّنوا هؤلاء المتشردين، شُذّاذ الآفاق، من امتلاكه فقد خانوا هذه الأمانة وحنثوا بذلك العهد. وما كانوا ليفعلوا. وما كان عجيباً ثباتهم في الدفاع عنه، ولكن العجيب الذي لا أعجب منه ميل الإنكليز إلى الصهيونية وعطفهم عليها، وانصرافهم عن نصرة المسلمين أهل الحق الصريح! * * * إننا هنا لنتحدث بهدوء عن هذا العطف وهذا المَيل، وننظر: أفيه فائدة إنكلترا ونفعها، أم فيه ضررها والوبال عليها؟ ونمهّد ¬

_ (¬1) «حائط البراق» هو الجدار الغربي للمسجد الأقصى في القدس، ويمتد بطول تسعة وأربعين متراً وارتفاع اثني عشر متراً، ويسميه اليهود «حائط المبكى»، وقد كان هو السبب في اندلاع ثورة عام 1929 في فلسطين، وعلى تلك الأحداث وما بعدها بُنيت هذه المقالة. ففي تلك السنة حاول اليهود الاستيلاء على الجدار وتغيير معالمه ونشر الأعلام اليهودية عليه، فهَبَّ مسلمو القدس أولاً للدفاع عنه، ثم تبعهم مسلمو فلسطين جميعاً، واندلعت شرارة «انتفاضة» شعبية عارمة، وتصاعد الغضب من اليهود حتى فتك العرب في الخليل بيهود المدينة جميعاً وعددهم ستون، وكذلك صنع أهل صفد بيهود صفد، فتدخلت حكومة الانتداب وأعانت اليهود ونصرتهم، وانتهت الانتفاضة بمقتل وإصابة نحو خمسمئة من اليهود بأيدي العرب، ونحو أربعمئة من العرب بأيدي الإنكليز واليهود معاً (مجاهد).

لهذا الحديث بحادثتين تاريخيتين: الحادثة الأولى: وقع في سنة 525 للميلاد أن أراد الإمبراطور البيزنطي جوستنيان ما تريده إنكلترا اليوم، فأعطى اليهود فلسطين وأجاز لهم، بل ساعدهم، على إنشاء حكومة يهودية خاضعة لرقابة الروم. فكيف كافؤوه؟ اسمع أقُلْ لك: إنهم كافؤوه بشق عصا الطاعة وبقتل الجنود الرومانية التي أقامها حامية لهم. وعندئذ أيقن -وسيأتي يوم توقن فيه إنكلترا أيضاً- بأن هذا الشعب اليهودي لا يصلح أن يعيش مستقلاً أبداً ولا أن يكون له وطن قومي! وعندها أرسل إلى اليهود حليفَه الملك الغساني الحارث بن جَبَلة، فأبادهم وأسر منهم خمسة وعشرين ألفاً أودعهم الحبشة وقتل منهم مثلهم! وهذه هي الآونة الوحيدة التي تمتع فيها هذا الشعب باستقلال شبه حقيقي بعد ميلاد المسيح عليه السلام. أما الحادثة الثانية: فليست بعيدة عنا، بل هي حادثة مشهورة وقعت في عهد الملكة فكتوريا والسلطان عبد الحميد، وذلك أن الهند ثارت على إنكلترا ثورة عظيمة كاد ينهار لهولها صرح النفوذ الإنكليزي في الهند، وأعيت إنكلترا الحيلة ولم تَرَ لها مخلصاً إلا بالالتجاء لخليفة المسلمين، فأرسل الخليفة كتاباً لثوار الهند يأمرهم فيه -باسم الدين! - بالإخلاد إلى السكينة، فسكنوا! سامح الله

عبد الحميد، ولولا ذلك لم يكن لإنكلترا من منجى (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أذكر أنني سمعت هذه القصة الغريبة من قبل فأثارت عجبي وملت إلى إنكارها، فلما قرأتها اليوم ازددت منها عجباً ولها إنكاراً، ورأيتها بعيدة عن منهج السلطان عبد الحميد وعن شخصيته، ومن أجل ذلك لم أدّخر وسعاً في البحث عن الأصل التاريخي لها من باب التوثق من صدقها، وأعترف بأن الحيلة أعيتني بالعثور على أي سند تاريخي لها -على طول بحثي في كتب تاريخ الهند وتاريخ الدولة العثمانية- ومن ثَمّ فلا أملك إلا الشك في الرواية من أساسها. على أنها إن كان لها أصل فلن تكون في أيام السلطان عبد الحميد الثاني الذي نعرفه، بل في أيام السلطان عبد الحميد الأول الذي حكم الإمبراطورية العثمانية بين عامَي 1839 و1861، فالثورة الكبرى التي عرفتها الهند اشتعلت سنة 1857، وهي الثورة العظيمة التي كادت تنتهي إلى النجاح لولا تفرق كلمة المسلمين في الهند ونجاح مساعي الإنكليز في ضرب بعضهم ببعض، وانتهت بأسر السلطان المسلم بهادُرْ شاه، آخر الملوك المغول في الهند، ونفيه وقتل أبنائه وتشريد أسرته، فلم تقم لهذه الأسرة قائمة من بعد. وتجدون ملخّصاً لقصة هذه الثورة في الحلقة 145 من ذكريات علي الطنطاوي (5/ 266 وما بعدها). وكانت أيامُ السلطان عبد الحميد الأول أيامَ ضعف وهوان، ففيها فقدت الدولة شبهَ جزيرة القرم، وفيها كانت الحادثة المشؤومة في جدة، وهي التي قرأتم خبرها في مقالة «حادثة من التاريخ» في كتاب «فصول في الثقافة والأدب» الذي صدر منذ وقت قريب. وفي أيام السلطان عبد الحميد الأول أيضاً وقعت الفتنة الطائفية في جبل لبنان، فتدخلت الدول الأوربية وفرضت على الدولة العثمانية منح الجبل الحكمَ الذاتي، يحكمه حاكم من النصارى، فكان صنيعهم =

أستنتجُ من هاتين الحادثتين أن إنكلترا في حاجة إلى إرضاء العالم الإسلامي ومصادقته أكثر من حاجتها إلى إرضاء بني صهيون، وذلك لأن فلسطين قلبُ العالم الإسلامي، وكل حادث يسوء مسلمي فلسطين يسوء المسلمين أجمعين ويغضبون له كلهم في كل أنحاء الأرض. وإن إنكلترا التي تحيا بالهند وأكثرُ أهلها مسلمون، ويهمّها مضيقا السويس وباب المندب وحولهما المسلمون، إنها تلقى -والحالة هذه- من جرّاء غضب العالم الإسلامي عناء طويلاً وتعباً مُمِضّاً. إن إنكلترا تسعى لصداقة العالم الإسلامي منذ القديم ولا تزال تجاهر بهذه الصداقة أملاً بما ينالها منها من منافع، فعلامَ إذن تؤيد، ولو بالباطن، الصهيونيين؟ وماذا يفيدها الصهيونيون إذا خسرت هذه الصداقة؟ وهل تستطيع إنكلترا الوثوق من بقاء الصهيونيين على الولاء لها إذا هم استقلوا في فلسطين؟ هل تأمُل أن يبقوا -إذا كان ذلك- على الصداقة لها؟ إن اليهود الذين خرجوا على جوستنيان بعد أن أحسن إليهم لا يتقاعسون أن يخرجوا على إنكلترا، بل هم لا يتأخرون منذ الآن عن أن يكيلوا لها السباب جزافاً كلما ساءهم منها أمرٌ أو رأوا فرصة مناسبة! ما هو إذن نفع إنكلترا من العطف على الصهيونية؟ هذا ما ¬

_ = هذا بالأمس البعيد كصنيعهم في أندونيسيا التي انتزعوا منها تيمور بالأمس القريب، وهو الذي يسعون إليه اليوم في دارفور في السودان، لا قدّر الله لمسعاهم النجاح! (مجاهد).

نتساءل عنه وقد علمنا أن لجنة التحقيق التي وقفت موقفاً عادلاً، وحكمت (أو كادت) للعرب قد أغضبت الصهيونيين فأحبوا أن يعاد التحقيق (¬1)، وأطاعتهم إنكلترا ورَدَّت وفد العرب على أعقابهم خاسرين! نتساءل عن هذا ونحن نعلم أن فلسطين أصرّت على مقاطعة هذه اللجنة الجديدة، وأن العالم الإسلامي كله يؤيد فلسطين فيما أصرت عليه من حقوقها، بل حقوق المسلمين جميعاً. نتساءل عن هذا، ولا ندري من يجيب. * * * ¬

_ (¬1) هذه هي لجنة «شو» التي تألفت بعد انتفاضة عام 1929، وقد اعتبرت أن حكومة الانتداب هي المسؤولة عن تلك الأحداث، وأوصت بضرورة تعديل سياسة الحكومة وتقييد الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وغير ذلك من التوصيات التي اعتُبرت في حينها في صالح العرب. فثار اليهود ثورة عارمة في فلسطين وغير فلسطين وسيَّروا مظاهرات حاشدة في بريطانيا وأميركا حتى استجابت الحكومة البريطانية لهم، وسرعان ما شكلت لجنة أخرى أعادت التحقيق ودفعت الحكومةَ البريطانية إلى إصدار ما سُمّي بالكتاب الأسود، وهو وثيقة بريطانية رسمية مؤكِّدة لوعد بلفور ومتمِّمة له. وكانت هذه الأحداث كلها سبباً في اندلاع ثورة عام 1933 التي قادها الشيخ عز الدين القسّام واستُشهد فيها هو وأصحابه، ويعتبر المؤرخون أن ثورته هذه هي المقدمة التي قادت إلى اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936 (مجاهد).

مشاهدات وأحاديث: ضاع الأمل!

مشاهدات وأحاديث (8) ضاع الأمل! نشرت سنة 1930 (¬1) عُقد مجلس المعارف الكبير، حضره أعضاؤه من الآفاق، خُصِّصت له دار المَجْمَع العلمي العربي، نُشرت أخباره في الجرائد، انفضّ المجلس بعد أن أقيمت له حفلة شاي إكراماً لجهوده! ولكن ماذا صنع؟ ما هي أعماله ومقرراته؟ لا شيء! وما هي إلا أن قام صاحب الدعوة خطيباً في أعضائه، فأمالوا أعناقهم وخفضوا رؤوسهم وقالوا: آمين، فجزاهم بما أمّنوا حفلة شاي! * * * ما هذا؟ أهكذا يكتب الناس عن مجلس المعارف؟ عفواً يا أسيادي، فإن شيطان الكتابة (إن صحّ أن للكتابة شيطاناً) (¬2) هو الذي أملاها عليّ، وإنما أريد أن أقول إن مجلس ¬

_ (¬1) في «فتى العرب» بتاريخ 27/ 5/1930 (29 ذي الحجة 1348) (¬2) يعرّض بما يزعمونه عن شيطان الشعر، وهو من خرافات الجاهلية، قال الجاحظ في «الحيوان»: "كانوا يزعمون أن مع كل فحل من =

المعارف الذي انتظرناه عاماً كاملاً لنرى على يده التعديل المنتظَر لهذا البرنامج، وبنينا على انعقاده الآمال الجسام، لم يصنع شيئاً ولم يغيّر في البرنامج حرفاً! وأعجب من هذا أنْ قد صَدَق ظنُّنا السوءَ بأعضائه وبأنهم -إلا أفراداً قلائل منهم- لا يجرؤون حتى على إبداء آرائهم في الأمور التي اجتمعوا لإبداء آرائهم فيها! ولم نكسب من هذا المجلس إلا أننا كنا نأمل لهذه البرامج إصلاحاً فمات أملنا، وكنا نرفّه عن أنفسنا بأنها من وضع غيرنا، فصادَقْنا نحن عليها، وانفضّ المجلس وقد كسب لقومه شراً عظيماً. * * * البرنامج لا يزال كما كان: يُهمل التاريخ العربي الإهمالَ كله، فيبدأ الطالبُ الصغير في الصف الثاني الابتدائي بدراسة تاريخ سوريا القديم، تاريخ الفنيقيين وأشباههم، قبل أن يدرس تاريخ الأمويين والخلفاء الراشدين. وأنت تعلم أنهم يريدون من هذا غرس بذور الفنيقية في نفوس الناشئين، حتى ينادوا بها وحتى يَدْعوا إلى قومية سوريّة تكون وبالاً على الجامعة العربية والإسلامية المنشودة وبلاء على سوريا وأخواتها. وليس هذا كل ما نشتكي منه في برنامج التاريخ، بل نشكو من جهل الطالب الذي يحمل الشهادة الابتدائية الجهلَ المطلق ¬

_ = الشعراء شيطاناً يقول على لسانه الشعر"، وفي ثمار القلوب للثعالبي: "كانت الشعراء تزعم أن الشياطين تلقي على أفواهها الشعر وتلقنها إياه، وتدّعي أن لكل منهم شيطاناً، وبلغ من تصديقهم بهذا أن جعلوا لهم أسماء". وهذا كله تخريف لا أصل له لا في عقل ولا نقل! (مجاهد).

بدول إسلامية عظيمة كان لها أعظم وأجلّ الآثار في خدمة الحضارة الإنسانية وتشييد بناء العمران البشري، في حين أنه على علم مفصَّل بتاريخ أوربا ودولها. بل إن الجهل لأفظع من ذلك، جهل حتى بتاريخ الأمويين والعباسيين أنفسهم، فتجد من الطلاب من لا يعرف عن قادة الفتوح الإسلامية أكثر من أسمائهم، مع أنه يعرف عن نابليون وروبسبير الشيء الكثير! أليس من العار على الوزارة أن تدرّس التاريخ الإسلامي كله في عامين اثنين؟ وماذا يستطيع الطالب الصغير (في الصف الثالث أو الرابع، تصور!) أن يفهم من التاريخ الإسلامي، تاريخ ثلاثة عشر قرناً، في أقل من مئة وثلاثين حصة هي مجموع ما يخصَّص للتاريخ في هاتين السنتين؟ إن هذه القضية -على وضوحها وأهميتها- لم تجد لها من أعضاء المجلس واحداً يؤيدها ويدافع عنها. * * * وهكذا مرت جلسات المجلس، وأُعلن اختتامه كما أُعلن افتتاحه والعقدة لم تُحَلّ والمُراد لم يحصل. ولينظر القارئ في اكتفاء المجلس بثلاث جلسات فقط، مع أنه دُعي للبحث في أمر جليلٍ البحثُ فيه مستفيض واسع الجنبات، أليس معنى هذا أن المجلس إنما دُعي للمصادقة والتأمين لا للبحث والدرس؟ أوْ لا فما الذي حال بينه وبين هذا التعديل المنتظَر؟ إن تلك الدهشة العامة وتلك البرقيات والوفود التي تتالت على الوزارة يوم نشرت البرنامج تعرب عن تلك الدهشة وذلك الاستياء، إن هذا كله لم يهدأ إلا طمعاً بموقف شريف يقفه هذا المجلس، أما وقد انقضى

ولم يعمل شيئاً فليس إلا اليأس من معونته والانصراف لجهة ثانية تحقق هذا الغرض المنشود. لقد تكلمنا في المقال الثاني من هذه «المشاهدات والأحاديث» عن الإهمال العظيم للّغة العربية الذي سبّبه هذا البرنامج، وبينّا لهم القصور الكبير الذي بدأ يعتري الطلاب في لغة الضاد. ولا نريد أن نعود هنا فنعيد ما قلناه، بل نريد أن نُعْلم الناس أن هذه البرامج لم تهمل التاريخ واللغة فقط، بل أهملت الدين قبل كل شيء، فنزعت من علومه كل صبغة رسمية ولم تجعل لها دخلاً في الفحص، ولا ينال الطالبَ من جراء جهله بها شيء من العقاب أو الجزاء. * * * خاب الأمل وضاع كل رجاء في تعديل هذه البرامج على يد المجلس، وليس لدينا طريق آخر لتعديله، فماذا نصنع؟ أنرضى بأن ينشأ أبناؤنا منشأ فيه من العقوق لدينهم ولغتهم وتاريخهم ما فيه؟ أنرضى بأن يكون بناء مستقبلنا مزعزعاً مضطرباً يقوم على عواتق أناس لا نثق بهم؟ أنرضى بهذا كله ولا نصنع شيئاً، أم نكتفي بأن ننادي (ونعلم أنه لا حياة لمن ننادي)؟ أنا لا أدري ما الجواب، فليقله لي القارئ إن كان يعلم، وسلام عليه إن فهم ما أريد! * * *

مشاهدات وأحاديث: من للعربية؟

مشاهدات وأحاديث (10) مَن للعربية؟ نشرت سنة 1930 (¬1) أترى يفيد الكلام في هذا الموضوع، أم السكوتُ عنه خيرٌ لنا وأجدى علينا؟ لقد قلنا حتى انشقَّت من القول حناجرنا، وكتبنا حتى نضب مدادنا وتكسرت أقلامنا، ولم نرَ لما كتبنا وقلنا نتيجة ولا أثراً، فلم يبقَ علينا إلا أن نخاطب هؤلاء المعلّمين، معلمي العربية، بالصراحة وبالقلم العريض، فنقول لهم: إنكم آثمون -بالكلمة الواضحة- حانثون بعهد العروبة ما دمتم تتساهلون في فحوص العربية، وتدرّسونها على طريقة قديمة، على أصول جافة تنفّر التلاميذَ منها وتبغّضها إليهم، وما دمتم لا تصطنعون في تدريسها الطرقَ المصطنَعة في اللغة الفرنسية مثلاً، ولا تفهمون أنه لا فرق بين تدريس النحو العربي والنحو الفرنسي. النحو الفرنسي يُدرَّس غالباً على شكل جميل تطبيقي يستطيع به الطالب أن يقرأ بلا خطأ ويكتب بصحّة ويحلل ¬

_ (¬1) في «فتى العرب» بتاريخ 5/ 6/1930 (9 محرم 1349).

ما يقرأ، وتدرّسون أنتم النحوَ على طريقة ما أدري والله ما هي، وما أظنها تصلح لتدريس لغة الزنوج! تحفّظون التلاميذ التعاريفَ بالحرف وتقسرونهم على استظهارها قسراً، دون أن تعلّموهم كيف يطبّقونها على القراءة والإنشاء، فيرون اللغة ونحوها شبحاً مخيفاً، فينفرون عنها ولا يستمرئونها ما عاشوا. وليس هذا موضوع كلمتي هذه، بل هو موضوع كلمة أخرى سأقولها في حينها، وأقصر الآن الكلام على الفحص: بدا لنا في أول الفحص نجمٌ من الأمل وهّاجٌ حين قال المستشار للجنة اللغة العربية ما معناه: "إن هذا الطنطاوي يكتب في «فتى العرب» يشكو من تساهلكم في فحص العربية، فيجب عليكم أن تكذّبوه وتعنوا بها وتستعملوا ما أمكن من الحزم فيها" ... وكان في اللجنة أعضاء صالحون حكّموا وجدانهم في هذا الأمر وعدلوا في تقدير العلامات ولم يتهاونوا في ذلك شعيرة، فماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أن سقط في العربية عدد هائل من الطلاب! * * * هل رضي من بيدهم الأمر بهذا، وهو دليل على ضعف العربية وفساد برنامجها وعلى التهاون فيها؟ لا، إنهم لم يرضوا به، فماذا صنعوا؟ اسمع: إنهم نقلوا الأعضاء الصالحين ذوي الغيرة على العربية إلى لجان الدروس الأخرى، وأتوا بسواهم فراحوا يمنحون العلامات جزافاً! ولا أريد أن أقول إنهم كانوا هم أنفسهم جاهلين، فحسب القارئ أن يعلم أن موضوع الإنشاء الذي أُملي على التلاميذ -ولا يتجاوز السطرين- كان فيه خمس

غلطات من مثل «أَوْصِفْ» بدل «صِفْ»! ولم يدركها هؤلاء الفاحصون ... تبارك الله أحسن الخالقين! ماذا يُنتظَر من هؤلاء؟ وكم من الضحايا ذهبت دموعها هدراً من جرّاء جهلهم وتهاونهم؟ لا، ليس كلهم جاهلاً ففيهم أناس متعلمون، بل فيهم العالِمون، ولكن السواد يطغى فتضيع كلمات العالِمين الهادئة وسط ضجيجه العالي؛ وهكذا خُتم الفصل الأول من الرواية، ونجح كل الساقطين في المرة الأولى! * * * إنه لشيء غريب، والحقيقة أنها أشياء كثيرة كلها غريب وعجيب في فحص الشهادة الابتدائية، ولكني لا أتحدث إليك عن شيء منها، ولا أروي لك شيئاً من حوادث الالتماس، ولا أقول لك إننا كنا نحمد للمستشار عملَه لو راقب هؤلاء مراقبة شديدة كما يفعل كل مرة، إذ ليس غيره بقادر على منع حوادث الالتماس واعتبار الكفاءة أساس النجاح! كل ذلك لا أقوله لأنه ليس من موضوع كلمتي هذه، إنما أريد أن أقول: غداً يدخل هؤلاء في «التجهيز»، وغداً يأخذون البكالوريا، وبعد غد يدخلون غمار هذه الحياة وتكون بيدهم مقدَّرات الأمة، فماذا يكون حالها إذا استلم مقاليدَ أمورها مَن لا يعرف لغتَها، بل من يبغض لسانها وينفر منه؟ وماذا يكون حال الطلاب في اللغة العربية بعد خمسة أعوام؟ إننا نظلم الوزارة إذا طالبناها بهذا الإصلاح، وليس إهمال اللغة من شأنها، ولم يهملها ويفسد علينا أبناءنا إلا معلّمو العربية!

ولو كان فيهم من يغار عليها ومن له وجدان يحثّه على القيام بواجبه نحوها لما بلغنا هذا الانحطاط الهائل، ولكان الإصلاح أمراً ميسوراً. فيا معلمي العربية: إياكم أعني وأنتم أخاطب، فما لكم؟ أماتت فيكم كل غيرة عربية؟ أضاع من نفوسكم كل حس وطني؟ أم غَرَّتكم الرواتب والأموال؟ أينفعكم المال إذا ضيّعتم اللغةَ، واللغةُ قوام حياة الأمة؟ اللهمّ لقد عجزت عن أن أُفهم هؤلاء، فهَبْ لهم من عندك فهماً وعزماً وجرأة ... أو فأرِحْنا منهم! فلأن يُضيع لغتَنا مَن ليس منا خيرٌ لنا والله من أن نضيعها بأنفسنا ونصوّب إلى مقاتلها السهامَ بأكفّنا. ويا أيها الطلاب، أنصتوا إليّ وعُوا قولي: إن هؤلاء لن يفهموا (أو هم لا يريدون أن يفهموا) فكونوا أئمة لهم في الوفاء للعربية؛ أقبلوا عليها قبل الدروس جميعاً، فلا يضيركم إذا حفظتموها أن لا تحفظوا شيئاً غيرها، لأن ذلك حياة أمتكم، أما إذا أهملتموها فقد قتلتم الأمة، ومن قتل الأمة فهو مجرم عابث. * * *

على أطلال الخضراء

على أطلال الخضراء نشرت سنة 1930 (¬1) في زقاق القباقبية، في الجهة الجنوبية من «الأموي»، باب من أبوابه قديم ومصبغة من مصابغ الشام صغيرة، نعرفها كلنا ونمرّ بها كثيراً دون أن نلقي لها بالاً ودون أن نعلم ما فيها. هذه المصبغة التي تأنف أن تطيل الوقوف بها، وتفزعك ظلمتها وتنفّرك رائحتها، كانت قبل ثلاثة عشر قرناً قصراً شامخ الذرى، عالي الشرفات، قوي الدعائم، تحف به الأبَّهة والوقار ويفوح منه رَوْح النَّدّ والعنبر. وهذا الزقاق الضيق المظلم الذي تمسك بأنفك إذا جزته لتنجو من روائحه الممقوتة، وتحترس في نقل خطاك إذا سرت فيه كَيْلا توحل، كان في عهد عز القصر شارعاً عظيماً تملؤه صفوف الحُجّاب وفصائل الحرس ووفود الملوك. لنعد فنقطع في جادة الزمن ثلاث عشرة مرحلة، لنرجع إلى عهد بني أمية حيث القصر زاهٍ في دمشق، وسكانه: ¬

_ (¬1) في «فتى العرب» بتاريخ 4/ 6/1930 (8 محرم 1349)، وهي منشورة في كتاب «الهيثميات».

عالونَ كالشمس في أطراف دولتها ... في كل ناحيةٍ مُلْكٌ وسلطانُ وحيث مسجد بني أمية خالص لبني أمية، ومنبره يسعى -لو كان به سعي- لخطباء بني أمية، والمسلمون يهتفون في مشارق الأرض ومغاربها للخلفاء من بني أمية. وحيث رب القصر ينطق بالكلمة، فتحملها الرياح إلى البوادي والفلوات والمدن والبلاد والجبال والتلال، فلا تبقى في الأرض بقعة لا تبلغها ولا في الدنيا جبار لا يخضع لها ويطأطئ برأسه لجلالها. وحيث راية بني أمية يحملها قُتَيبة والمغاوير من جنده إلى الهند فيرفعها على جبالها، وطارق والأشاوس من رجاله إلى الأندلس فينشرها في أرجائها، وحيث الناس ما بين الهند والأندلس رعية بني أمية، يدعون لبني أمية ويعيشون بالأمن والسعادة في ظلال بني أمية. لبني أمية الله! لقد هُدمت قصورهم الشمّاء وعَفَتْ آثارها، وحالت مصبغة! (¬1) * * * ¬

_ (¬1) في آخر الحلقة الثامنة عشرة من «ذكريات» علي الطنطاوي قال: "سوق القباقبية كان في موضعه «الدار الخضراء»، دار معاوية وأكثر الخلفاء من بني أمية ... كل ما في الدنيا يولد ويموت ويعزّ ويذل، فالدار الخضراء التي كانت يوماً عاصمة الدنيا وسرّة الأرض، ومنزل الخلفاء من بني أمية الذين كانوا يحكمون ما بين قلب فرنسا وقلب تركستان وأطراف باكستان، وكانت محط الآمال ومطمح أنظار الرجال، صارت سوقاً للقباقيب! ولم يبقَ من اسم «الخضراء» إلا مصبغة صغيرة تحت الأرض هي المصبغة الخضراء! " (مجاهد).

لبني أمية الله! بعد العظمة والجلال يصبحون غرباء في أوطانهم، لا يُرى لهم أثر ولا يُعرَف لهم تاريخ. أتنسين يا دمشق أيامك الزاهرة التي كنت فيها درة العالم ومدينة الجلال؟ أتنسين أهليك من بني أمية فلا تقيمين لهم أثراً ولا تبنين لهم ذكراً؟ أتنسين يا دمشق معاوية وعمر والوليد، وقد ساقوا إليك أعظم الملوك خاضعاً خانعاً، وأورثوك أغنى الخزائن حلالاً سائغاً، وجعلوك مدينة العلم والقوة والعمران؟ ألم تثبّت أميةُ أركان الإسلام؟ ألم توثّق عراه؟ ألم يفتح قوّادها العالمَ كله ينشرون الإسلام في أهله ويهدونهم سبيله؟ لقد طوى الدهرُ أميةَ فيما طواه، وأغرقت لُجّة بحره الطامي القصورَ والديار والأطلال والآثار، فكأنّما عِزُّ أمية رواية مُثِّلَت على صفحة الزمان ثم انتهت، فعادت الصفحة بيضاء لا شيء فيها! ولكن لا بأس، ولا يضيركم يا بني أمية أن تُهدم قبوركم وتندثر آثاركم، فقبوركم في التاريخ وفي الأفئدة: إن تسل أين قبورُ العظماء ... فعلى الأفواهِ أو في الأنفسِ * * *

سيف الإسلام في أعناق أعدائه (1)

رسائل سيف الإسلام (¬1) الرسالة الأولى سيف الإسلام في أعناق أعدائه (1) [خَسَأ المجدِّدون إذا كان التجديد رِدّة عن الدين] دعاني ليلةَ أمس صديقٌ لي أديب إلى لقاء في فندق فكتوريا يضم طائفة من كبار الأدباء والشعراء، فأجبته مسروراً وذهبت مسرعاً، ولكني لم أجد أديباً ولا شاعراً، بل وجدت طائفة ممن أعرفهم مسلمين ينتسبون إلى أكبر الأسر الإسلامية قد عكفوا على مائدة الخمر، يتساقَون كؤوسها ويترشّفون رحيقها، ويتعللون بين الكأس والكأس بحديث -علم الله- بارد ممل وتعليقات ثقيلة بغيضة! فغمزت صاحبي ليخرج -وأنا أعهده أبعدَ الناس عن هذه المواطن التي ثوى بها الشيطان- فإذا هو قد تغيّر بعدي، وإذا هو يضحك ويجلس لا يبالي! فخرجت لا ألوي على شيء، وفررت ¬

_ (¬1) أصدر علي الطنطاوي سنة 1348 (1929) أربعاً من «رسائل الإصلاح»، ثم انتقل في السنة التالية إلى رسائل «سيف الإسلام»، قال: "ثم أصدرتُ السنةَ التي بعدها «رسائل سيف الإسلام» التي كانت تُطبع على نفقة طائفة من خيار التجار وتوزَّع بالمجان، هجمتُ فيها =

وكأنما من ثعبان، ولا والله ما كان الثعبان بأقبح مرأىً وأشدّ ضرراً من هؤلاء الفَسَقة المُجّان! مسلمون يشربون الخمر، وهم يعلمون أنها محرَّمة في دينهم! مسلمون لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا يمتّون إليه بصلة أوثق من صلة اللقب والأسرة والبلد! وماذا ينفع لقبٌ إسلامي وأسرةٌ إسلامية وبلدٌ إسلامي رجلاً يتجاوز حدود الله، فيحرّم ما أحل ويُحِلّ ما حرّم، ويأمر بالمنكر وينهى عن المعروف؟! وأين هو الإسلام في رجل يستحيي أن يقوم إلى الصلاة إذا كان في القوم المهذَّبين خشيةَ أن يقولوا إنه رجعي؟ وأين هو الإسلام في رجل يتقاعس عن الغضب لدينه إذا شتمه ونال منه الجاهلون خوفاً من أن يُرمى بالتعصب؟ إن الإسلام سلسلة متماسكة الأجزاء، لا سبيل لكم إلاّ إلى ¬

_ = على الشبان الجاحدين كما هجمت في الرسائل الأولى على الشيوخ الجامدين، فوضعتُ نفسي بين حجرَي الرحى، وصرت كالواقف في الحرب بين الصفّين يتلقى السهام من الجانبَين" (الذكريات 8/ 392). وقد ذكر قصة هذه الرسائل بتفصيل جيد في الحلقة التاسعة والثلاثين من الذكريات، فمن شاء من القراء قرأها هناك، وهي في الجزء الثاني (ص 9 - 13). ولما أصدر تلك الرسائل ذيّلها باسم: «أبي الهيثم، محمد علي الطنطاوي»؛ قال في الذكريات: "كنت أتكنّى بأبي الهيثم وأُمضي مقالاتي بهذه الكنية" (1/ 389) وقال: "كنت أكتب في ذيلها «أبو الهيثم» يوم لم يكُن في دمشق من أعلم أن اسمه هيثم" (2/ 88). وهذه الرسائل جميعاً صدرت في النصف الثاني من سنة 1930 (النصف الأول من السنة الهجرية 1349)، وإن كنت لا أعرف تاريخ نشر كل منها بالشهر واليوم على التحقيق (مجاهد).

قبولها جملة أو رفضها جملة، أمّا أنكم تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويومَ القيامة يُرَدّون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما تعملون. وليس الإسلام كالنصرانية، وليس يكفي صاحبَه ما يكفي صاحبَها من أن يحضر صلواتها ويعترف لقُسُسها وبطارقها، ثم يعيش في الحياة كالسائمة يُلقى حبلُها على غاربها فترعى ما ضرّها ونفعها وأفادها وآذاها! بل الإسلام دين كامل يُنير لمتّبعيه كل خطوة من خطى الحياة، ويدلّهم على كل غاية فيها لهم صلاح وهدى؛ فهو دين، وهو قانون، وهو كل شيء. فهما ثنتان أيها القوم ولا ثالثة لهما، إما أن تكونوا مسلمين في سرّكم وجهركم، وجِدِّكم وهزلكم، وبيوتكم ومجامعكم، وفي كل أمر من أموركم ووقت من أوقاتكم، وإما أن تخرجوا من الإسلام وتخلعوا رِبْقَتَه (¬1) من أعناقكم وتنفضوا منه أياديكم، ثم تقولوا للناس إنكم كافرون مرتدّون، وإذن تخسرون كل شيء إذ تخسرون الإسلام ولا يخسر الإسلام -وربّ محمد- إذ يخسركم شيئاً. وإن ديناً تعهّد الله بحفظه لا يضيره أن يخرج منه أقوام علم الله أنهم لم يدخلوا فيه أبداً! * * * ¬

_ (¬1) الربقة (بكسر الراء وفتحها) عروة في حبل تُجعَل في عنق البهيمة أو يدها، والحبل كله اسمه الرِّبْق (بكسر الراء لا غير). وأصل هذا التشبيه من حديث للنبي صلى الله عليه وسلم فيه: «من فارق الجماعة قِيد شبر فقد خلع رِبْقَةَ الإسلام من عنقه، إلا أن يرجع» (مجاهد).

لقد ظهر الفساد في البر والبحر، وانتشر الإلحاد والفسوق في الأرض، وعطس الشيطان في مناخر أهله وزيّنَ لهم ونطق على ألسنتهم، فحسبوا أن الله تاركهم وضلالهم، وظنوا أنه لا يبعث لهم من يدمغ بالحق قلوبهم ويضرب به على أيديهم، فيَزهق الباطل ويعلو الحق، وكان الباطل زَهوقاً. فالويل لكم يا رجال السوء، تُراؤون بالإلحاد كما كان يرائي الناس بالصلاح، وتجحدون ربكم وكلُّ جارحة من جوارحكم تشهد -لو أنطقها الله- إنكم كاذبون! وتبرؤون من دينكم وشرقيتكم حتى تُرضوا هؤلاء الغربيين وتتزلفوا إليهم، وهم لا يلتفتون إليكم ولا يقيمون لكم وزناً. أفيكم واحدٌ يصمد لمقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل؟ هل فيكم واحد يبرهن للناس على أنه مسلم وهو يكفر ويفسق، ويجهل من الإسلام كل ما جاوز اسمه؟ فافهموا إذن أن الله لا يقبل ديناً لا يُخلَص له، ولا يقبل ديناً تشركون فيه معه قوماً كافرين، حتى إذا لقيتم الذين آمنوا قلتم آمنّا وإذا خلوتم إلى شياطينكم قلتم إنا معكم إنما نحن مستهزئون! * * * لقد قدّرَ الله أن نكون في عصر أصبح فيه شُبّان العرب لا يرون لأنفسهم فخراً أكبر من تقليد الغربيين واقتفاء أثرهم فيما يضر وما ينفع، ولا وصمةً أكبر من الوفاء بحق العربية والقيام بشعائر دينها! قدّرَ الله أن نرى الرجل المسلم العربي تبلغ منه المدنية الغربية مبلغها، فإذا هو ملحد في دينه أعجمي في لغته،

غريب بأطواره بين أهله وعترته! قدّرَ الله أن يكون لنا من أنفسنا عدوٌّ لها صديقٌ لعدوّها، يعمل فيها عَمَلَ النار في الحطب إذا خالطته وهي ليست منه، أو عَمَلَ المجدِّدين في هذه الأمة إذا ادّعَوا إصلاحها وهم أبعد عنها من الأرض عن السماء! نعم، قدّرَ الله كل ذلك لأن لله في الكون سنّة لا تتبدل، ولكنه أمرنا باليقظة والانتباه والسعي وإعمال الرأي وتحكيم العقل. فانتبهنا، فإذا نحن واقفون على حافة الهُوَّة، وإذا الهُوّة لا قرار لها، وإذا حبُّنا الغربيين وأخذُنا بعاداتهم يَنْقُض علينا موقفَنا حجراً حجراً، حتى يسقط بنا فنسقط فيها. إذن فلتُطْوَ من تاريخنا تلك الصحيفة المشؤومة التي سجَّلْنا فيها على أنفسنا العجز والخضوع لهؤلاء الغربيين، ولنعد إلى ديننا فإن دينَنا الحقُّ لا حق سواه، ولنجهَرْ به في كل موطن من المواطن ونصدَعْ بأوامره في كل زمن من الأزمان، ولنتمسَّكْ بشعائره ونحافظ عليه، ونذبّ عنه ونبرأ ممّن لا يغضب له. نحن مؤمنون دائماً، مؤمنون أبداً، فلتَنْشَقّ مرارة الملحدين من الغيظ وتتمزق حناجرهم من رَمْينا بالرجعية والتعصب، فلن نبالي بهم، ولن يُدْلوا بحجة على كفرهم أو تُبدَّلَ الأرضُ غيرَ الأرض والسماوات! اللهم ثبت علينا دينك، وثبتنا على دينك. * * *

سيف الإسلام في أعناق أعدائه (2)

رسائل سيف الإسلام الرسالة الثانية سيف الإسلام في أعناق أعدائه (2) [هذه هي الكلمة الثانية نقذف بها في وجوه هؤلاء الذين يحسبون أنفسهم مجدِّدين، بعد أن داخلناهم وعرفنا طواياهم واكتشفنا دخائل أمورهم، فعلمنا أن ذلك الجمود الذي أنكرناه على بعض المشايخ خيرٌ بألف مرة من هذا الإلحاد وهذا الفسوق الذي ننكره اليوم على كثير من الشبان الناهضين.] عرفنا هؤلاء «الناهضين» فعرفنا شراً على الأمة لا شرَّ وراءه! وأيُّ شر وراء قوم مسلمين بأسمائهم وألقابهم كافرين بأفعالهم وأعمالهم؛ لا يقيمون الصلاة، ولا يُؤتون الزكاة، ولا يصومون رمضان، ولا يَحُجّون البيت وإن استطاعوا إليه سبيلاً! يقولون إنهم مسلمون، وأنت ترى بيوتهم ونساءهم وأولادهم وأقرباءهم فترى تَفَرْنُجاً وسفوراً، وتراهم أبعدَ عن الإسلام من الحق عن الباطل والأرض عن السماء! مسلم امرأته سافرة، تبدي للناس نَحْرها وسَحْرها وذراعيها

وساقيها! (¬1) مسلم أولاده باديةٌ عوراتُهم إفرنجيةٌ مدارسُهم، يعرفون عن المسيح أكثر مما يعرفون عن محمد عليه صلاة الله وسلامه! مسلم يدخل المسجد مرة في العام، ولا يلبث يوماً لا يدخل فيه مقهى أو مسرحاً! مسلم تقول له: قم فَصَلِّ، فيقول لك: أهي بالصلاة؟ تقول له: صُمْ، فيقول لك: أهو بالصوم؟ تقول: اذكر الله وصلِّ على محمد، فيقول: أهي بالذكر والصلاة على محمد؟ فيا ابن اللَّخْناء، يا أحمق! إذا لم يكن الدين بالصلاة وإذا لم يكن بالصوم وإذا لم يكن بالسنن والأذكار، فهل يكون الدين بحضور حفلات الرقص والجلوس إلى موائد الخمر؟ لا، نحن لا نريد أن نَحْمل الناس كلهم على الإسلام، ولكننا نريد أن نبيّن للناس أن المسلم لا يستطيع أن يشرب الخمر وهو مسلم، ولا يستطيع أن يسمح لنسائه بالسفور وهو مسلم! نريد أن نعلن براءة الإسلام من هؤلاء «المسلمين الجغرافيين»، الذين هم مسلمون في تذاكر النفوس وأسماء الآباء، وكافرون فيما وراء ذلك. نريد أن نعود إلى الدين. نعم، إن الصحافة صاحبة الجلالة تسدّ بابها في وجه أنصار الدين لأنهم غير مجدِّدين كتجديدها، ولكن الدين لا يموت إذا ¬

_ (¬1) السَّحْر هو أعلى البطن الذي يتصل بالمريء، ومنه قول عائشة في وصف وفاته عليه الصلاة والسلام: «مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سَحْري ونَحْري»، والنحر هو أعلى الصدر أو موضع القلادة منه؛ أي أنه قُبض صلى الله عليه وسلم وهو مستند إلى صدرها رضي الله عنها (مجاهد).

لم تنصره الصحافة، لأن الله ينصره، والله أكبر. نعم، إن الجمهور من المتعلمين يسمّي الدفاع عن الدين تعصباً ورجعية، ولكننا نفخر بهذا التعصب وهذه الرجعية ونرفع بها رؤوسنا. نعم، إن الدين بدأ غريباً وسيعود غريباً. * * * ألا ليعلم الناس أننا مسلمون، لنا كتاب الله وسنة رسول الله، وسينصرنا الله، وسيؤيد بنا دينه ويؤيدنا بدينه: {وكانَ حَقّاً عَليْنَا نَصْرُ المُؤْمِنين}. أيها المسلمون: اتحدوا، أزيلوا ما بينكم من ضغائن، ارفعوا ما في قلوبكم من أحقاد، فكلّكم مسلم وكلكم يشهد أن لا إله إلا الله. وقابلوا عدوكم صفاً واحداً كأنه البنيان المرصوص، كما يقابلكم صفاً واحداً. ثقوا بنصر الله وتأييده، فلقد آن للحق أن يعلو وللباطل أن يزهق، لقد آن للدين أن يظفر وينفذ حكمه وللشيطان أن يخنس ويُعصى، لقد آن لأنصار الدين أن تكون لهم العزة والجلال: ألا لله العزة ولرسوله وللمؤمنين. * * *

سيف الإسلام في أعناق أعدائه (3)

رسائل سيف الإسلام الرسالة الثالثة سيف الإسلام في أعناق أعدائه (3) لله الحمد والمنّة، ومنه التوفيق والإنعام، وعلى رسوله الصلاة والسلام. نحمدك اللهم على نعمة العقل التي خصصتنا بها دون هؤلاء الملحدين، ونعوذ بك من التقليد الأعمى الذي ابتليتهم به حتى أصبحوا يتّبعون آثار أوربا شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلَت جُحر ضَبّ لدخلوه ولو سكنت وِجار كلب لسكنوه. ولا غرو، فإنها رقصت فرقصوا، وتعرّت فتعرّوا، وزنت فزنوا، وانتحرت فانتحروا! لا نعني الشبان كلهم فأكثرهم بحمد الله مؤمن، بل نعني المتنوِّرين الناهضين -كما يسمون أنفسهم- وما هم بالناهضين إلا إلى شر، وما هم بالمتنورين إلا بلهيب السعير الذي جلبته عليهم أوربا فأَصْلَتهم جحيمه، فهم أبداً أصحاب وجهين: وجه مجدِّد مخترع، وهذا ما يولونه أهلَ الدين، ووجه مقلِّد خاضع، وهذا ما يولونه أوربا، صدق والله الشاعر: «أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة»! وما لهم يَغضبون علينا ويُغضبوننا، ونحن لم نصنع شيئاً أكثر من الانتصار للإسلام والدعوة إلى الله؟ وعلامَ يغضبون من نصرة

الإسلام إذا كانوا مؤمنين موحِّدين؟ من يدري جواب هذا؟ هذا ما لا يعلمه إلا الراسخون في التجديد، والغائصون في حمأته إلى أعناقهم ومناخرهم! * * * وما لهم يخنسون وقد قلنا لهم: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين في تجديدكم، فكان جوابهم: إن أنت إلا رجعي وأنت جامد! كأن هذه الرجعية وهذا الجمود سلاح يلقونه في وجه من يطبع بالحق على قلوبهم ويَظهر عليهم ويخزيهم، وما أهون ذلك علينا ما داموا لا يجدون ذلك الرجل الذي وهبه الله البيان ووقاه من عيّ اللسان ليدافع عنهم ويثبت للناس صحة تجديدهم وسلامة عقولهم. إن هذه الفئة قد فُتنت بأوربا وجُنَّت بها جنوناً، ولم تعد تعرف للخير والشر مقياساً إلا أنّ الأول غربي والثاني شرقي! وأعرف واحداً من هؤلاء، بل من أساطينهم، رويت له حادثة وأنبأته أن قد ذكرها ابن جرير في تاريخه وابن هشام في سيرته، فكذّبها وسخر منها، فلما كان بعد أيام رأيته فأقبل عليّ يقول: لقد كذّبتُ منذ أيام تلك الحادثة، ولكني وجدت أنها صحيحة. قلت: وكيف كان ذلك؟ قال: علمت صحتها لأني رأيت مسيو فلان ينقلها في كتابه «تاريخ محمد»! بل أعرف كثيرين منهم يقدّرون الرجل ويقيسون عقله بمقدار ما يدور على لسانه من ذكر أوربا وثقافتها وآدابها ومذاهبها، ورجالها وعظمائها وجيوشها وأساطيلها! وعندهم أن مَن يحمل

شهادة من باريس أو لندن -ورأسه فارغ- خير ممّن يفيض علماً ولا يحمل شهادة! وثلاثة أرباع النابغين المبرزين إن أنت أحصيتهم وجدتهم من غير حَمَلة الشهادات. اسمعوا وأجيبوني: ألا أستطيع أن أكون مسلماً مؤمناً بالله، مقيماً لفروضه مجتنباً نواهيه، وأكون عالماً إن شئت أو أديباً إن أردت؟ وهل يمنعني الدين من الإخصاء في علم أو التبريز في أدب؟ وهل حسبتم أن الثقافة قد قُصرت عليكم فكانت لكم خالصة من دون الناس أجمعين؟ لا، وأنا لم أدرس في الأزهر ولا في جامع الزيتونة، بل درست كما درستم وحصلت ما حصلتم، وأستطيع أن أتم درسي وأوالي تحصيلي حتى أكون كأحسنكم، ولا ينقص ذلك من ديني شيئاً. * * * أما والله لو عرف هؤلاء المجدِّدون أيّ لذة يشعر بها المؤمن -إذ يلتجئ إلى الله أو يقف خاشعاً بين يديه- لباعوا دنياهم كلها بصلاة واحدة. إنهم يصبحون وقد أضحى النهار، فيغسل أحدهم وجهه ويديه ثم يتناول طعامه ويذهب إلى عمله، حتى إذا كان المساء انصرف إلى مقهى ساء هواؤه وفسد جوُّه وقبح مشهده، فقضى فيه ثلثاً من ليله ثم فارقه وهو تَعِب محطم إلى الفراش! ويصبح المؤمن قبل الفجر أو بعده بقليل، فيشهد جمال الطبيعة التي خطّت سطورَها في صفحة الكون يدُ الله، فيمتلئ قلبه تعظيماً لله فيقف فيصلي خاشعاً خاضعاً، ثم يشهد بزوغ الشمس ويرقب أشعتها الذهبية إذ تتساقط على الأشجار والبُنى والبطاح، ثم يتناول طعامه بادئاً باسم الله خاتماً بحمد الله، ويذهب إلى عمله ... أيّ

فرق بين صباح هذا وصباح ذاك، وأيّ جزاء يصيب به الله هؤلاء أكثر من حرمانهم هذه اللذة التي تتقطع دونها الأعناق؟ ويصاب الملحد بالمصيبة فتضيق به الدنيا، فلا يجد مخلصاً له إلا الانتحار أو الفرار، ويصاب المؤمن فيقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهمّ أنت وهبت وأنت أخذت، فلا حول ولا قوة إلا بك"، ثم يدعها لله فيبدله الله خيراً منها ويرزقه الصبر على فقدها. ألا إن السعادة والهناءة في هذه الحياة الدنيا لا تأتي إلا من طريق الإيمان، ولا يعرف الإيمانَ إلا مَن ذاق لذته وخالطت قلبَه حلاوتُه، وأما من طمس الله على قلبه وضرب على فؤاده فلا يشتمّ ريحه ولا يدرك له مغزى. ألا فليأذن هؤلاء المجدِّدون بحرب من الله ورسوله، فقد وقفنا أنفسَنا على كشف عيوبهم وإبداء سوءاتهم، حتى يعرفهم الناس كما هم لا كما يريدون أن يعرفوهم! وفّقَنا الله إلى التنكيل بهم أو وفّقَهم إلى الرجوع إلى دينه، إنه سميع يجيب الدعاء. * * *

رسائل سيف الإسلام: وجوب الدعوة إلى الله

رسائل سيف الإسلام الرسالة الخامسة وجوب الدعوة إلى الله ألا تشعر معي -أيها القارئ الكريم- بأن الإسلام في حاجة إلى دعوة واسعة النطاق متنائية الأطراف، يكون فيها مبشِّرون مخلصون ينشرون في الناس فضائله ويبيّنون لهم محاسنه، ومجاهدون مُجِدّون يدرؤون عنه كيد الخصوم وافتراء الأعداء؟ ألا تضحّي في سبيل هذه الدعوة وفي سبيل إنمائها وتقويتها بالشيء القليل من وقتك ومالك؟ لقد بلغ الأمر حدّه ولم يبق إلى تجاهله من سبيل، واسمع أقصص عليك نبأ حادث وقع معي منذ أمد قريب، وأمثاله كثير غير أنّا لا نَنْبَه (¬1) له ولا ندري به. حادث كان في «بَسِّيمة» (¬2)، ¬

_ (¬1) نَبِهَ يَنْبَه، وتَنَبَّه يتنَبَّه، وانْتَبَه ينتبه، كلها بمعنى واحد، وكثيراً ما استعمل علي الطنطاوي هذا الفعل بصورته الأولى (نَبِهَ يَنْبَه) في كتاباته المبكّرة (مجاهد). (¬2) يمر بردى في طريقه إلى دمشق بمواقع صارت من مُتنَزَّهات الشام التقليدية: عين الفيجة والهامة وبَسّيمة ودُمَّر والرَّبْوة، وبَسّيمة من أجمل البقاع التي يتدفق فيها بردى قبل دخوله إلى دمشق (مجاهد).

وبسّيمة مُتَنَزَّه فَتّان حوى من جمال الطبيعة وبهائها ما لا يحيط به وصف، وأهل بسّيمة قوم ما أحسب أن في الناس أطهر منهم قلوباً وأصفى نفوساً وأقوى إيماناً. ذهبت إلى «بَسّيمة» في يوم عطلة، فلم أكد أصلها حتى يمّمت وجهي -وكان ذلك مساء- شطر العين الخضراء، وعهدي بالعين ومرجتها بقعة إسلامية، تقام فيها الصلوات وتُتلى فيها آي الله ويرفرف عليها الخشوع بجناحيه الطاهرين، فرأيت فيها ما لا عهد لي به ولا يخطر لي ببال: نساء متبرّجات يعرضن للناس زينتهن وعوراتهن، ورجال مُبَرْنَطون يترصّدون لهن فيكلمونهن ويغازلونهن، وآخرون يشربون ويطربون ثم يسكرون ويعربدون، والصلاة تقام، فلا هم يصلّون ولا هم يكفّون عن ضجيجهم وغنائهم حتى يصلي المصلون! وما لم أحدثك به أدهى وأمر: فَظُنَّ شَرّاً ولا تسألْ عن الخَبَرِ! هذا في مَصِيف كنا نعده إسلامياً، فما ظنك بالزَّبَداني وبلودان؟ بل ما ظنك بلبنان؟ وأعاذك الله من لبنان! لقد كنا وكان الناس يراؤون بالصلاح، فأصبحنا والناس يراؤون بالإلحاد. وكنا وكان العاصي يتنحّى ناحية ليعصي ويفسق، فأصبحنا والصالح يتنحّى ليطيع ويعبد! صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد عاد الدين غريباً، وآضَ المتمسّك بدينه كالقابض على الجمر! الإسلام غريب، وأين؟ في دمشق! ظئر الإسلام ودار التقى والصلاح، فيكف نرضى بالسكوت، ومن يخلّصنا من الله غداً إذا سألَنا: لِمَ لمْ تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر؟ بماذا

نجيب؟ أنقول له: "ربنا شغلتنا أموالنا وأهلونا، فأهملنا دينك وتركنا كتابك"؟ أنبقى على هذه الحال حتى تأتينا آجالنا فنموت موت البهيمة؟ أندع هذه الشرذمة القليلة تجهر بإلحادها وكفرها، وتحسب أن الجوّ قد خلا لها وأن دين الله لم يبقَ له من نصير؟ أتخيفكم هذه الفئة الضالة بكلمة واحدة قد اتخذتها سلاحاً لها وجِنّة، وهي كلمة «التعصب»؟ إن التعصب في عُرف هؤلاء كل أمر فيه تأييد الدين ونصرته، فأنت لا تزال عندهم متعصباً حتى تدع دينك وتنبذ إيمانك وتسير -كما ساروا- في أذناب الغربيين، ولن يرضى عنك هؤلاء المجدِّدون حتى تتبع سخافتهم وجنونهم ... وخير لك لو ألقيت كيدهم في نحورهم وقلت لهم بجَنان ثبت ولسان طلق: أنا متعصب! وها أنَذا أقولها، فليسمعني الثقلان، وليمت من الغيظ الملحدون: أنا -الطنطاوي- متعصب، متعصب، متعصب ... أكرّرها ألفاً! والتعصب ضروري على رغم أنوفكم، بل إن أمة لا عصبية لها لا بقاء لها، فهل سمعتم يا مجددون؟ إن كان رفضاً حُبُّ آل محمّدٍ ... فليشهدِ الثَّقَلان أنّي رافضي! * * * إن المسلمين اليوم في معركة حامية نتيجتُها الحياة أو الموت، وإن العدو قد أحاط بهم من كل ناحية وأخذ عليهم كل طريق، ولا سبيل لهم إلى الظفر إلا بالاتحاد والجهاد. ألا يجب أن نتحد، ويجب أن تتغاضى عمّا بيننا من خلاف في الرأي وبُعد في المذاهب، ما دمنا جميعاً نشهد أن لا إله

إلا الله، وما داموا يهاجموننا جميعاً. يجب أن نحارب الإلحاد والفسق والسفور والتهتك والخمور، وكل ما حرّمَ الله، ونقاطع كل من يدعو إليها أو يحبّذها، فإذا لم نفعل لم نكن مسلمين حقاً. وكيف يحضر المسلم مجالس الخمر دون أن يكسر كأسَها على رأس شاربها -كائناً من كان- إذا كان قديراً على ذلك، أو ينسحب إذا كان ضعيفاً عاجزاً؟ وكيف يصادق المسلم من إذا أقيمت الصلاة جلس ناحيةً ينتظر فراغها كأنه من النصارى؟ وكيف يبقى المسلم في مجلس يُهان فيه الإسلام دون أن يصدع فيه بالحق، فيقوّضه على أهله أو يدعه للشيطان؟ إننا نعيد ما قلناه ونسأل الله أن يثبّتنا عليه، وما قلناه حق صَراح لا مرية فيه: هذا هو الإسلام، وهذه حدوده وشعائره، وهذه أصوله ومصادره: كتاب الله، وسُنّة نبيه، وإجماع المسلمين، وقياس العقل السليم، وهو دين الحق، دين المنطق، دين العلم، دين الحضارة، ولا سبيل إلا إلى قبوله جملةً أو نبذه جملة. فهل في هؤلاء الذين يحسبون أنهم مجددون واحد، واحد فقط، يستطيع أن يدلل على هذا التجديد بدليل عقلي ويثبته بإثبات منطقي؟ إنْ «نعم» فأرونا، وإنْ «لا» فاخنسوا واخجلوا من الناس إذا كنتم لا تخجلون من الله. * * * أيها الناس، لا تحسبوا هؤلاء المجددين شيئاً مذكوراً، فما هم إلا بضعة أشخاص متهوّسين يقذفون من أفواههم خبثَ أنفسهم، فلا تحسبوا لهم حساباً ولا تقيموا لهم وزناً، فهم أهون

على الله وعلى الحقّ من جناح بعوضة! دعوهم وانصرفوا إلى العمل. ليعمل كل فرد منكم جهده وليجاهد ما استطاع. نعم، إن ما يقدر عليه الفرد لا يقوم به عمل ولا يأتي منه كبير فائدة، ولكن الأفراد كثيرون، ويستطيعون -إذا وحّدوا جهودهم وعملوا جميعاً- أن يوجِدوا من قليلٍ كَلٍّ كثيراً له أثره وعمله في هذه الدعوة المنشودة. فلِمَ لا نتفاهم إذن، ولِمَ لا نسعى إلى العمل جميعاً؟ إننا نحتاج إلى شيئين اثنين قبل كل شيء، وهذان الشيئان قوام حياتنا وأصل نجاحنا: مدرسة إسلامية تنجب للمستقبل رجالاً هم مسلمون قبل أن يكونوا وطنيين وقبل أن يكونوا متعلمين، وتقي أبناءنا وإخواننا شر هذه المدارس التبشيرية وأشباه التبشيرية، التي تفجعنا بهم وتعيدهم إلينا مارقين من دينهم، متجردين من قوميتهم جاهلين بلغتهم وتاريخهم ... وجريدة إسلامية تخلّصنا من هذه الجرائد التي طلّقت الدين ثلاثاً، وأصبحت -إلا القليل منها- ترى الدعوة إليه والبيان لمحاسنه عاراً عليها ومَثلبة، وترى الدعوة إلى أوربا والترغيب في خبائثها فخراً لها ومكرمة! فإذا وجدنا هذه الجريدة الإسلامية استطعنا أن نبيّن حكم الله في هذه الأمور التي تمرّ بنا، وأن نحارب هؤلاء المارقين أعداء الله بمثل السلاح الذي يحاربوننا به. وإذا وجدنا تلك المدرسة الإسلامية قَدِرْنا أن ننظر إلى المستقبل ونحن مطمئنون إلى نجاحنا فيه وظفرنا عليه. * * *

رسائل سيف الإسلام: الصلاة وأسرارها

رسائل سيف الإسلام الرسالة السابعة الصلاة وأسرارها قال الله تبارك وتعالى: {إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلى المُؤْمنينَ كِتاباً مَوْقوتاً}، {إنَّ الصّلاةَ تَنْهَى عَن الفَحْشَاء والمُنْكَر}، {فَوَيْلٌ للمُصَلّينَ الذينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهون}، {وَأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْري}، {وأقيمُوا الصَّلاةَ وَلا تكونوا منَ المُشْركين}، {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أضَاعوا الصّلاةَ واتَّبَعوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً، إلاّ مَنْ تَابَ}، {مَا سَلَكَكُمْ في سَقَر؟ قالوا: لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلّين}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وما ينطق عن الهوى): «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة»، «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر»، «لا دين لمن لا صلاة له، إنما موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد»، «من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله ورسوله»، «من ترك الصلاة فإنما وُتر أهلَه ومالَه»، «من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأُبَيّ بن

خلف»، «أول ما يُحاسَب به العبد صلاته، فإن كان أتمّها كُتبت له تامة، وإن لم يكن أتمّها قال الله عز وجل لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملوا بها فريضته؟»، «أسوأ الناس سَرِقة الذي يسرق من صلاته. قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يُتِمّ ركوعها ولا سجودها». * * * هذه بعض الآثار الواردة في الصلاة بياناً لمكانها من الدين، جمعتها وعرضتها ردّاً على من أهملها وهَوَّنَ خطرها وزعم أن له في غيرها غِنىً عنها. وكثير من الناس يرون هذا الرأي ويدينون بهذا المذهب، ولقد أتاني منذ أيام واحدٌ منهم يمتّ بنَسَبه إلى أسرة معروفة في دمشق بأنها أسرة علم وتقوى وورع وصلاح، فحدثني وحدثته، فكان من حديثه إليّ أن قال: لو أن امرأً نفع الناس وسعى في مصلحتهم، وأهمل صلاته ومنع زكاته، ما كان هذا ليضرّه شيئاً في جانب ما صنع! فحركت شفتي لأقول شيئاً، ولكنه لم ينتظرني وعاد يقول: وإني لأعلم أن هؤلاء الجامدين لا يقرُّونني على هذا الرأي ولا ... وهنا لم أجد بداً من قطع حديثه بقولي: ولكن قل لي أولاً، أمسلم أنت؟ - يا الله! ألا تعرفني؟ - وتفهم ما هو الإسلام؟ - عجيب؟ ما هذه الأسئلة؟

- هي جواب كلامك يا صاحبي! إذ كيف تقول «هؤلاء الجامدين» وأنت تعلم أنه رأي الإسلام وأنه الذي جاء به محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم؟ إنك لا تعرف الدين، وهذه بليّتنا مع أمثالكم؛ لا هم يعرفون فينطقون بعلم، ولا هم يسكتون فيريحون الناسَ وأنفسَهم. نعم يا سيدي، إن من يترك صلاته وصومه وحجّه لا يُعَدّ مسلماً ولو خدم البشرية ألف عام، لأن هذه أركان الإسلام، وكيف يقوم الصرح على غير ما أركان؟ * * * لقد آن لهؤلاء الذين يجهلون الدين أن يفهموا حقيقته ويعرفوا أصله، أو يعترفوا بجهلهم ويجهروا بقصورهم! إن الإسلام دين كامل، ومعنى «دين كامل» أنه ينير لمتَّبِعه كل خطوة يخطوها في الحياة، فهو أرأف به من أبيه وأحنى عليه من أمه، وأعرف بمنفعته ومصلحته من نفسه التي بين جنبيه، يدلّه على كل ما فيه خير له وصلاح وينهاه عن ما فيه ضير عليه ووبال. والدين ثلاث شعب: إيمان وإسلام وإحسان. فالإيمان حق الله، والإسلام حق النفس، والإحسان حق الناس. وليست هذه الشُّعَب متباينة مفترقة، بل هي متلازمة متقارنة لا تفترق أبداً، فالصلاة ركن من أركان الإسلام، ولكنها إذا تجردت عن الإيمان، عن التفكير بجلال الله وكماله وعن حضور القلب وخشوعه، أصبحت ضرباً من القيام والقعود لا مغزى له ولا فائدة. والصيام ركن من أركان الإسلام، ولكنه إذا خلا من الإيمان، من الإخلاص لله وابتغاء وجهه، من مراقبته والابتعاد عن عصيانه، آضَ نوعاً من

الشقاء، شقاء نفس ليس لله حاجة بتركها طعامَها وشرابَها إذا هي لم تدع قول الزور والعمل به. والزكاة ركن من أركان الإسلام، ولكنها إذا ابتعدت عن الإيمان وداخلَها الرياء والفخر تحولت معصيةً لا ثواب عليها. ومثل هذا يقال في كل طاعة من الطاعات، ما دام الأصل فيها توحيد الله وأن تكون خالصة لله. ولا يجوز لامرئ أن يقوم بحق الناس ويدع حق الله وحق النفس، بل إن من يهمل هذا لا يقوم بذاك، ومن لا يفي لربه بخمس صلوات في اليوم لا يفي لأمته وبلاده، ومن لا ينفع نفسه لا ينفع وطنه. وإذا كسل عن القيام للصلاة -وهو يعلم أنها خير له من كل خير- فكيف ينشط للتضحية بنفسه وماله في سبيل وطنه؟ ومَن الذي يعمل للوطن لا يريد من وراء علمه شهرة ولا ذكراً في الناس حسناً؟ إن هذا من طبائع النفس البشرية التي لا انفكاك لها عنها، وإني لأحاول -عَلِمَ الله- حين أكتب أن لا أفكر إلا في ابتغاء الأجر من الله، فتغافلني نفسي وتفكر في استقبال الناس لما أكتب وسرورهم به ... هذا فيمَن يؤمن بأنه يعمل في سبيل دينٍ له ربُّه القادر على كل شيء، فكيف بأولئك الذين لا يكادون يعرفون لهم رباً؟ وما أدري كيف نعامل تارك الصلاة ونثق به؟ إنها لحماقة منا أن لا نكون منه على حذر وأن لا نسيء به الظن ونرقب منه الغدر، وقد أساء إلى نفسه وغدر بها، فمنع عنها خيراً كثيراً وسَدَّ في وجهها باب السعادة الأبدية بتركه الصلاة! * * *

ولنترك هذا الآن ونسأل: هل نحن نصلي؟ قبل أن أجيب على هذا أقصّ على القارئ قصة الشاعر والأمير: وذلك أن شاعراً أراد الدخول على أمير كريم يعطي المال الجزيل من يمدحه على شرط أن يخلص في مدحه ولا يذكر في حضرته غيره، فسأل حاجبه عن الوقت الذي يؤذَن له فيه والهيئة التي يلقاه عليها، فقال له: إذا كان صباح غد فتطيّبتَ ولبست كذا وكذا من الثياب ثم جئت إليّ أوصلتك إليه، وعليك بعد ذلك مدحه والثناء عليه. فراح فصنع ما قال له، لم يخرم منه حرفاً، فلما دخل على الأمير نسي كل شيء إلا أُمْدوحة قالها في أعدائه، فطرده! هذا هو مثلنا إذ نصلي، ولله المَثَل الأعلى: بيّنَ لنا الفقهاء ما من شأنه تطهير ظاهرنا وصلاحه وتركوا لنا الخشوع وحضور القلب، فتركناه وحسبنا ما ذكره الفقهاء كل شيء في الصلاة، فاستحالت صلاتنا قياماً وقعوداً، وأصبحنا نتلو قوله تعالى: {إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعينُ} والله يعلم أين قلوبنا وماذا نعبد: مالاً؟ أم تجارة؟ أم أهلاً؟ أم ولداً؟ ولو أقمنا الصلاة على وجهها وفهمناها على حقيقتها لنَهَتْنا عن الفحشاء والمنكر وأصلحَتْ لنا أمرنا كله. وأيّ منكَر يُقْدم عليه مَن لا يغيب عن الله طرفة عين، ومن يقف خاشعاً خمس مرات كل يوم بين يدي رب العالمين الذي يعلم السرّ والخفي؟ يفكر في عظمته وجلاله، فيتضاءل العالم في عينيه حتى يصبح -بجانب ما يفكر فيه- كالحلم من الحقيقة والفناء من البقاء، فلا يرى إلا الله الحي الباقي، فيسأله أن يا ربّ {اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقيمَ} ووفِّقْنا إلى الطريق السويّ، {صِراطَ الذينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهم} فوفقتهم وهديتهم، فيجيب الله دعاءه ويمنحه

ما طلب، لأنه قال: ادعوني، ووعدنا بالاستجابة. أي مسلم يذوق حلاوة الصلاة ثم يتأخر لحظة واحدة عن إجابة داعي الله إذ ينادي: "حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح"، ولا يدع عمله وشغله مهما عظم وكبر؟ وماذا يضرّه تركه وهو ذاهب ليجيب داعي الله، والله قادر على أن يمنحه بدلاً عنه عشرة أمثاله؟ ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه. * * * لو كنا نصلي الصلاة التي أمر بها ربُّنا إذن ما بقي فينا -والله- ضعيف ولا فقير ولا بائس. لو كنت أنا الذي أعظ الناس قادراً على نفسي ... إنني لأعظهم وهم أحسن مني، وإنّي لأتصور هذا فأَهُمّ بكسر القلم وتمزيق القرطاس حياءً من الله، ثم يبدو لي فأقول: لعلّ الله يرحمني فيهديني ويهدي بي (ولأن يهدي بي الله رجلاً واحداً أحب إليّ من حمر النَّعَم (¬1)). اللهم يا ربّ لقد غلبَتنا أنفسنا، فقوِّنا عليها وأعِذْنا منها ومن الشيطان الرجيم، يا الله. والله لو كنا نبتدر باب المسجد حين نسمع الأذان ما بقي فينا من يُخلف الوعد أو يكذب إذا قال، لأننا نكون أقوياء الإرادة حافظين للمواعيد. ولو كنا نسبغ الوضوء لكل صلاة ونأتي بسننها ونوافلها ما بقي فينا مريض ولا واهن القوى، لأنها تقوّي أجسامنا ¬

_ (¬1) النعم (بفتح النون) مفرد الأنعام، وهي الإبل أو الشاء والغنم، وكانوا يرون خيرَها ما كان أحمر اللون فضربوا به المثل (مجاهد).

وتشحذ أدمغتنا، وتثبتنا وتشد من أزرنا. ولو كنا ندرك الحكمة من صلاة الجماعة ونتذاكر في شؤون المسلمين وأحوالهم وما وقع لهم وعليهم، ما نزلت بنا هذه النكبات التي نضجّ اليومَ بالشكوى منها ولا نطيق لها دفعاً. الصلاة مِلاك الإسلام وعموده، فحافظوا عليها وأقيموها لأول أوقاتها، لا تؤخروها، واخشعوا فيها واطمئنوا، واذكروا أنكم واقفون بين يدي خالقكم الذي يعلم سركم ونجواكم، ونَبِّهوا إليها أهلكم ونساءكم، ورَبُّوا عليها أولادكم وبناتكم، وقاطعوا كل تارك لها مقصر فيها، ولكم في الله عنه غنى، هو حسبكم ونعم الوكيل. * * *

رسائل سيف الإسلام: البلاء الأعظم في المغرب الأقصى

رسائل سيف الإسلام الرسالة الثامنة البلاء الأعظم في المغرب الأقصى يا أيها الناس من ذكر وأنثى وكبير وصغير: من كان في قلبه ذرة واحدة من الإيمان فليحرص اليوم على دينه وليصلح أهله وداره، فوالله إن ثابرتم على غفلتكم ولم تَنْبَهوا من إغفاءتكم، أوشك أن يعمّكم الله ببلاء من عنده يصيبكم به، فلا تقوم لكم قائمة إلى يوم القيامة! إنكم في يوم عصيب أصبح فيه إيمان أحدكم كالشعلة الضعيفة تتنازعها الرياح الأربعة، إذا لم يحفظها ويدرأ عنها أُطفئت في لحظة واحدة وعمَّ ظلام لا نور بعده، فاعتبروا مما سأقصه عليكم وأحدّثكم به. مَن منكم يستطيع أن يملك قلبه، لا ينفجر لهول ما سأقص عليه؟ من منكم يطيق أن يمسك فؤاده، لا يتقطع لعظم ما سأحدثه به؟ من منكم يقدر أن يسمع خبر الإسلام تُنتهَك حرماته، والقرآن تُعطَّل آياته، والمسلمين يكفَّرون بقوة السيف ومكر السياسية، دون أن يغضب لدينه وينهض لنصرته، حتى لا يصيبه ما أصاب المغاربة المساكين؟

هل بلغكم نبأهم؟ إنه نبأ جليل وخطب عظيم: ألا ترون إلى ما في رِباط سَلا؟ (¬1) ... ألا ترون إليها كيف تُحتَضَرُ؟ الكفرُ من خلفهمْ والموتُ دونَهُمُ ... فهم سيُبْلَون إن فَرّوا أو اصْطبَروا يا للبلادِ استباح القومُ حرمتَها ... يا للديانةِ! هل للدين مُنتصرُ؟ يا أيها الناس: اذهبوا إلى بيوت ربكم فتطهروا، ثم توبوا إلى الله توبة نصوحاً واسألوا الله اللطف بإخوانكم المغاربة. إنهم إخوانكم، يعبدون الله ربكم، ويصلّون إلى الكعبة قبلتكم، ويؤمنون بمحمد نبيكم، فقولوا: اللهمّ الطُفْ بهم وبنا يا لطيف! يا أيها الناس: ماذا تكون حالكم لو أرسل الله عليكم بلاء من عنده، فأحرق عليكم مدينتكم ودمّر دوركم وذهب بأموالكم، ثم ترككم في العراء لا ظل ولا ماء؟ إن ذلك كله أهون -ورب الكعبة- من أن يضيع عليكم دينكم وينزع منكم إيمانكم! وأين المجدِّدون اليوم؟ أين هؤلاء الذين يتهموننا بالتعصب والجمود إذا صلينا أو صمنا، وينكرون علينا كلمة نكتبها في الدفاع عن ديننا، ويسمّون الأوربيين متمدنين أحراراً ولو كَفَّروا الناس جهاراً وأخرجوهم من دينهم قوة واقتداراً؟ ما لهؤلاء المجددين لا يسمعون، وإذا سمعوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا ينطقون، وإذا ¬

_ (¬1) الرِّباط وسَلا من مدن المغرب الأقصى.

نطقوا لا يَصْدقون، وإذا صدقوا لا يثبتون، وإذا ثبتوا لا يخلصون؟ صدق الله، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمي القلوب. * * * يا أيها الناس: أتدرون ماذا حل بالمغاربة؟ أصيخوا إليّ بأسماعكم، وأمسكوا بقلوبكم، واحبسوا أنفاسكم، وأعدّوا مآقيكم، فستبكون كثيراً وستحزنون طويلاً: أمة مسلمة من البربر تبلغ السبعة الملايين (تصوروا ضخامة هذا العدد: سبعة ملايين. ضعف سكان سوريا!) أصدر سلطان المغرب (المسلم) أمراً منه تنازل فيه عن حقه في الإشراف على أمورها الدينية إلى الفرنجة المستعمرين! أتدرون ماذا صنعوا بعد ذلك؟ قام النصارى في الرباط عاصمة المغرب بصلاة الشكر في أعظم كنائسهم، ثم أخرجوا من هذه القبائل قُرّاءَها وحَمَلةَ القرآن فيها فأجلوهم عن البلاد، وحظروا على المسلمين قراءة القرآن والصلاة وكل أعمال الإسلام، وأغلقوا المساجد، وهددوا كل من يتكلم بالعربية أمام العموم بصارم العقاب، وأجبروا الوِلْدان الصغار على الذهاب إلى كنائسهم وأداء طقوسهم، وصاروا يشيدون الكنائس في كل جهة من مال الأوقاف الإسلامية ... الأوقاف الإسلامية، هل فهمتم؟! (¬1) ¬

_ (¬1) هذه هي حادثة «الظهير البربري» المشهورة. و «الظَّهير» هو القرار أو المرسوم بلغة المغاربة. وقد صدر «الظهير البربري» في السادس عشر من أيار (مايو) 1930 بتوقيع السلطان محمد الخامس، ونَصَّ على وضع مناطق البربر تحت سلطة الإدارة الاستعمارية الفرنسية، وعلى =

هذا ما يقوم به رجال التمدّن فيعده مجدِّدونا تقدماً ومدنيّة، وندعوهم إلى ما جاء به الدين فيعدّونه رجعية وجموداً، ويقولون بعد هذا إنهم عقلاء؟ * * * ¬

_ = إنشاء محاكم خاصة بالبربر تعتمد في أحكامها على أعرافهم المحلية بدلاً من الشريعة الإسلامية (على اعتبار أن عادات البربر وأعرافهم كانت سابقة على الإسلام)! وبهذا المرسوم فَقَدَ السلطانُ المغربي حقَّ الإشراف الرسمي على البربر، وفقد البربرُ الغطاءَ الإسلامي العربي الذي كانوا يعيشون في ظله طوال القرون السابقة. لقد أرادت فرنسا بإصدار هذا القانون «فَرْنَسَة» وتنصير البربر والتفريق بينهم وبين العرب وعزلهم عن العربية وعن الإسلام، وسرعان ما مُنعت اللغة العربية في تلك المناطق وفُتحت مدارس أمازيغية دُرِّس فيها التاريخ واصفاً العرب الفاتحين بالغُزاة ومؤكداً على الهوية البربرية لأصحاب البلاد الأصليين! واعتبر الفرنسيون أن تنصير البربر هدف غير قابل للتراجع، حتى لقد قال واحد من قادتهم في كتاب أصدره سنة 1923: "يجب محو إسلام البربر وفَرْنَستهم". لكن الذي حصل غير ما كان يرجوه الفرنسيون، فقد أجَّجَ صدورُ «الظهير البربري» الروحَ الإسلامية والوطنية وأشعل في طول البلاد وعرضها ثورةَ غضبٍ عارمة، فانطلقت المظاهرات في أكثر المدن الكبرى -مثل فاس وسلا وطنجة وتطوان- وشاركت طبقاتُ الأمة كلها في النضال بلجوئها إلى مقاطعة البضائع الفرنسية مقاطعة صارمة. وامتدّت هذه الروح إلى أنحاء العالم الإسلامي كافة، فكانت حملة مدوّية قادها محب الدين الخطيب والأمير شكيب أرسلان في مجلة «الفتح» ومحمد رشيد رضا في «المنار»، وشارك فيها «الأزهر» والجمعيات الكبرى كجمعية «الشبان المسلمين» وجمعية «الهداية =

هذا ما وقع في المغرب الأقصى، وهذا ما سيقع لكم إذا أنتم أسلمتم أبناءكم إلى هذه المدارس العاملة على التبشير بالنصرانية والتشكيك بالإسلام، وهذا ما سيقع لكم إذا أنتم ثابرتم على غفلتكم وتفرّقكم واشتغالكم بمصالح أنفسكم، لا تفكرون أبداً في مصالح أمتكم وطرق تقوية دينكم. فيا أيها الناس ممّن آمن بالله واليوم الآخر: عودوا إلى دينكم، طهِّروا من الفساد بيوتَكم ومن صحبة أهل الضلال نفوسَكم، امنعوا من التبرّج نساءكم ومن مدارس التبشير والإلحاد بناتكم وأولادكم، اعكفوا على كتاب ربكم وسنّة نبيكم، فذلك أولى بكم، ورَحِمَ الله من سمع فوعى وعمل فأخلص. * * * ¬

_ = الإسلامية»، وتتابعت المقالات الغاضبة والمندِّدة بحكومة فرنسا و «سياستها الصليبية» في كل جرائد الشرق الإسلامي، في مصر والعراق والشام وفلسطين والحجاز وليبيا وتونس، بل لقد وصل الغضب إلى أندونيسيا التي شاركت جمعياتها الإسلامية الكبرى في تلك الحملة. ورغم أن هذه الردود العنيفة كلها لم تفلح في إلغاء «الظهير» -الذي بقي معمولاً به بشكل رسمي حتى ألغاه السلطان محمد الخامس في أواسط الخمسينيات- إلا أن الأثر الذي رجاه له الفرنسيون لم يتحقق ولم يترك البربرُ الإسلامَ الذي ارتضوه من قبل لهم ديناً (مجاهد).

رسائل سيف الإسلام: الرسالة العاشرة

رسائل سيف الإسلام الرسالة العاشرة لك الحمد ربنا على ما أنعمت علينا بأن جعلتنا من أمة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، ومنك التوفيق وإليك الإنابة، ولك الحول وعليك الاتكال. هذه عشر رسائل، علم الله كم قاسينا من أجلها من متاعب وعانينا من مصاعب، فهل لنا من مغبَّتها في الإصلاح عُقْب مما نالنا، ومن عاقبتها في الخير بديل مما لحق بنا؟ نعم، إنني لست على رأي من يعمل ثم ينظر رأي الناس فيه ورضاهم عنه، فيتابع ويواصل إن وجد حسناً ويصدّ ويحيد إن وجد سيئاً. ولست أرجو صلاح أمة قد عَرَقَ فيها الفساد (¬1) وتمكن منها الداء بخَطّة قلم ونقطة مداد، ولا يكون ذلك ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث في قومه سنين يدعوهم فلا يستجيبون له، ويناديهم فلا يلتفون إليه، وهو الأمين المأمون وسيد العالمين، وقومه على الفطرة النقية، فما قولك بأمة كلها فساد، وداع هو أحوج إلى الإصلاح والنصح ممّن يدعوهم؟ هل يثمر عمله في يوم أو شهر ¬

_ (¬1) أعرَقَ الشجرُ في الأرض وعَرَق فيها: امتدت فيها عروقه (مجاهد).

أو عام؟ لا. فهل يفرّ وينهزم إذا لم يثمر عمله في شهر؟ لا، إن شاء الله. وإنّا متابعون السير في هذه الرسائل، علّ الله تعالى يوفق أثرياءنا وأغنياءنا إلى بذل قليل من مالهم ننشئ به مجلة إسلامية، يكون فيها متّسَع لما لا تتسع له هذه الرسائل، فيكتب فيها رجال مختلفون يعالج كلٌّ منهم ناحيةً من النواحي التي نحتاج إلى معالجتها في قضيتنا الإسلامية. إن هذه المجلة من أحسن ما يقوم به مسلم لخدمة القضية الإسلامية، لأن الجرائد والمجلات هي المعلّم السيَّار الذي يكلم كل إنسان ويدخل كل دار، ويبث الشرور والمفاسد إذا كان فاسداً شريراً، والصلاحَ والخير إذا كان صالحاً خيّراً. فمن أي النوعين جرائدنا ومجلاتنا؟ ليُجِبْ القارئ كما يريد، وإنما ليسمح لي أن أقول له: (1) إن قضية البربر -على عظمها وجلالها- لم تنل من صفحات جرائدنا «الإسلامية!» إلا بضعة أسطر من الصفحة الثالثة نُشرت كخبر بسيط بجانب خبر قدوم جوقة موسيقية وخبر الدعوة إلى راقصة أو مغنية! (2) وإن بلاغ الحكومة الرسمي بترخيصها لناد من النوادي بتعاطي القمار قد مَرَّ دون أن تعلّق الجرائد عليه شيئاً، ومعنى هذا أنهم أحلّوا القمار وقد حرّمَه الله، ومن استحلَّ حرمات الله فقد كفر! * * *

يجب أن تخرج قضية المجلة من دَوْر التفكير إلى دَوْر العمل، ويجب أن يجتمع بعض من يهمه هذا الأمر للمداولة والبحث، ثم يقرروا منهاج العمل ويسيروا فيه. ولا يَفهَمَنَّ أحدٌ -إذا دعوت إلى إنشاء المجلة أو سعيت لها- أنني أدعو لأكون صاحبها أو محررها. لا، وإنما أعمل كأقلّ عامل فيها. أقول هذا لأن الناس اعتادوا أن يفسروا كل عمل للمصلحة العامة بأنه للمصلحة الخاصة، فيخاف العامل من هذا فلا يعمل شيئاً، وما ذلك إلا نوع من الحسد الممقوت والخلق السيئ. ولقد قالوا إننا نقوم بهذه الرسائل من أجل التجارة وإننا جمعنا مبلغاً عظيماً من المال من طريق التبرعات، فأفهمناهم أن التبرعات لا تكفي أبداً وأن الرسائل كانت تنقطع منذ رسالتين لو لم يتبرع أحد المحامين المسلمين بنفقة رسالة برمّتها ولو لم يتبرع شاب أديب بنفقات أخرى، وأنذرَنا أن لا نذكر اسمه كما أنذرَنا الأولُ. وأنه ليس معنا الآن شيء لإصدار ما يلي هذه، فأين هو هذا المال؟ هذه واحدة، وأما الأخرى فهي قضية المدارس. وإذا أطلقت كلمة «المدارس» فإنما أقصد منها المدارس التجهيزية التي تقدم طلابها لفحص البكالوريا، وهذه في دمشق على أقسام: أجنبية وأهلية وحكومية. أما الأجنبية فلا أحاول أن أقول كلمة عن منهجها والغرض من تأسيسها وعن صنيعها بأبناء المسلمين، لأن هذا شيء يعرفه القارئ فلا يحتاج إلى تعريف به، أو لا يعرفه إلى الآن فلا يمكن أن يعرفه الآن! بقي علينا المدارس الأهلية والحكومية، وليس للحكومة في دمشق إلا مدرسة واحدة هي المدرسة التجهيزية (مكتب عنبر)، وهذه -على ما فيها من نقائص- أحسن

مدرسة تجهيزية، لا في سوريا فقط بل وفي العراق ومصر أيضاً، لأنها جمعت في سلك معلّميها من العلماء المبرزين ما يندر أن يجتمع في غيرها، ولأن فيها إلى جنب هذا روحاً وطنية عالية ونبوغاً عجيباً في الطلاب. ولكن هذا الذي أقوله خبر تاريخي لم يبقَ منه الآن شيء، لأنهم ضربوها ضربة أليمة فرّقت أجزاءها وبعثرت أوصالها؛ أسقطوا من طلابها ظلماً وعدواناً ثمانين (أو أكثر من ذلك) في المئة، وصمُّوا آذانهم عن سماع شَكاة هؤلاء الطلاب المظلومين. (¬1) وإلى هنا انتهى الدور الأول من هذه المأساة. وأما الدور الثاني فقد بدأ بإبدال مستشار المعارف الذي أساء إلى الإسلام والعروبة في دمشق إساءة لا تمحى أبداً، فسُرَّ الناس وحمدوا الله على أن خلّصهم منه ومن صنيعته عدو الله ترجمانه (¬2)، ولكن ¬

_ (¬1) انظر رسالة «قضية التجهيز: أسبابها ونتائجها»، وهي تأتي في هذا الكتاب. وفي وقت قريب من نشرها نشر علي الطنطاوي مقالة في «فتى العرب»، بتاريخ 1/ 7/1930 (4 صفر 1349)، عنوانها «أنقذوا رجال الغد: السقوط المريع في فحوص التجهيز»، وقد أعرضت عن نشرها لذهاب مناسبتها ولتكرار معانيها (مجاهد). (¬2) المستشار هو الفرنسي راجه، وترجمانه ميشيل السبع. لهما أخبار متفرقة في «الذكريات»، قال: "كان المستشار الفرنسي هو الوزير الحقيقي وهو الآمر الناهي، وترجمانه ميشيل السبع، وكان معاونوه كلهم من النصارى (وما كان ذلك اتفاقاً بل كان شيئاً مقصوداً، وكان مستمراً مع كل حاكم أجنبي أو ماشٍ على مذهب الأجنبي) " (الذكريات 1/ 214). وانظر الرسالة الآتية، وانظر أيضاً مقالتَي «إلى مجلس المعارف الكبير» و «قطعةٌ من حديث (3)» في هذا الكتاب (مجاهد).

سرورهم لم يطل، ولم يلبثوا أن رأوا بليّة جديدة: بلاغ رسمي يخوّل المدارس الأجنبية حق إعطاء شهادة مقبولة كالبكالوريا ويَحْرم المدارس الوطنية من هذا الحق، فكانت النتيجة أن تسجل ثلث طلاب التجهيز في تلك المدارس، وربما لحقهم الثلث الآخر عما قريب. حقاً إنكم لم تعلموا هذا، لأنكم نائمون لا تعرفون شيئاً! إذن فقد خسرنا «التجهيز». وأما المدارس الأهلية فهي على قسمين: ناجحة ومقصِّرة؛ فالناجحة لا تفترق إلا قليلاً عن المدارس التبشيرية، ولا يغرّنَّ الناسَ أن فيها الشيخ عَمْراً أو العلاّمة زيداً، فهؤلاء فيها إنما يُقدَّمون ليُصرَعوا وليكونوا جُنَّةً تَرُدّ عن المدرسة سِهامَ النقد! ومن كان في شك مما أقول فلينظر من يعلّم، بل من يربي أطفالَ المسلمين فيها، الأطفال الذين هم أنقى من الصفحة البيضاء يرتسم في نفوسهم كل ما يلقى عليهم، إنما تربّيهم امرأة، نصرانية أو يهودية ... لا أدري! وما لنا ولهذا؟ أخبروني: أليس لسان المدرسة الرسمي هو اللسان الإفرنجي، أليست دروس الفقه والقرآن فيها سُخرية ولعباً؟ أنا لا أحمل على هذه المدارس لغرض في نفسي، وإنما أتهمها بأشياء هذا بعضها، فلتبرّئ نفسها إذا استطاعت، وأنا أُسَرّ أن أكون كاذباً وأن تكون صادقة إذا كان في كذبي وصدقها صلاح مدرسة يعود صلاحها على الأمة بالنفع العميم. على أنها معذورة فيما تفعل، لأنها تقبض من أجله من السلطة ألوف الفرنكات في العام، فهل يعطيها ربعَها المسلمون إذا هي أرضتهم وأحسنت إلى دينهم؟!

هذه مدارسنا كما رأيتم، وهؤلاء أبناؤكم ذهبوا إلى مدارس الكفر والتبشير، وسيرجعون إليكم غرباء عنكم، على دينٍ غير دينكم، وملّةٍ غير ملتكم، ولغةٍ غير لغتكم. وأنتم؟ غافلون! * * * ولنترك المدارس قليلاً، لننظر إلى الطبقة الوسطى والدنيا من الناس: كيف حالها وما هو مبلغ تمسّكها بالدين؟ صليت الجمعة الماضية في جامع السادات (مسجد الأقصاب)، وهو -كما يعلم الناس- من المساجد الكبيرة في دمشق، فلما انقضت الصلاة وخرجنا وجدنا في صحن الجامع خمسة رجال مسلمين أقوياء أشدّاء لو أراد أحدهم حمل بغل لفعل، وهم جالسون يأكلون في بيت الله وصلاةُ الجمعة تقام، وهم يسمعون قراءة الإمام وأصوات الركوع والسجود ولا يصلّون، والناس يمرّون بهم كأنْ لم يكن في الأمر شيء! لا تَهيج فيهم حَميّة الإسلام، ولا يغارون على حرمات الله التي تُنتهَك في بيت الله أمام عباد الله! أنا لا أعجب من صنع هؤلاء الأجلاف، وإنما أعجب من الناس: كيف لا يغضبون لله، ولا يزيلون المنكر من بيته وهم على إزالته قديرون! فأين هو الإسلام أيها الناس؟ أهو في المساجد؟ انظروا إلى «الأموي» بعد صلاة الجمعة وشاهدوا الناس كيف يتحدثون فيه عن أمور الدنيا، ويغتابون فيه الخلق، ويكذبون ويقسمون ويحنثون! في الأسواق؟ انظروا الباعة في سوق الحرير كيف يصفّفون شعورهم ويصقلون خدودهم

ويتزيّنون كأنهم الفتيات ليلة زفافهن، وانظروا ما يكون بعد ذلك من منكرات ومفاسد! في المدارس؟ وماذا في المدارس؟ إن فيها الداهية الدَّهْياء مما يجري في طي الخفاء من الأمور المخلّة بالشرف والعفاف، فضلاً عما فيها (أو في أكثرها) من فشوّ المنكر وزوال المعروف. في البيوت؟ وبيوت أكثر الرجال تتغلب فيها النساء فيصنعن ما يشأن، وانظر بعد ذلك ما في البيوت من تبرّج وعورات باديات وصلوات معطَّلات، وما وراء ذلك أدهى وأمَرّ. في القرى والمتَنَزّهات؟ هذه شر ما في الأمر! كل هذا في دمشق، ودمشق جنة إذا قيست بمصر! ألا لا بد من أن يجتمع الغُيُر على الإسلام، فيتحدثوا فيما لحق به ويختاروا أقرب الطرق لإصلاح أهله، ولا بد من أن نتناصح وينكر كلٌّ على أخيه ما يراه مخالفاً للدين، ولا بد من أن ننصر الدين في كل موطن نقدر على نصرته فيه، فإذا فعلنا صلح أمرنا، وما صلاحه إلا بيد الله، اللهمّ أصلح الحال. * * * انتهت الحلقة الأولى من «سيف الإسلام» ووقعت في عشر رسائل، وإنّا نسأل الله التوفيق لجعل الثانية أكثر فائدة وأكبر حجماً وأجود طباعة. (¬1) * * * ¬

_ (¬1) عثرت على الرسائل العشر جميعاً إلا واحدة، وهي التاسعة. وقد رأيتم فيما مضى من هذا الكتاب سبعاً منها، فالذي نقص رسالتان،=

¬

_ = الرابعة وعنوانها «في ذكرى المولد»، والسادسة وهي قصة اجتماعية إصلاحية اسمها «صدقي بك»، وكلاهما ستجدان طريقهما بإذن الله إلى مواضع مناسبة في الكتب الجديدة التي أرجو أن يوفقني الله إلى إصدارها عمّا قريب. والظاهر أن جدي رحمه الله كان يعتزم المضيّ في إصدار رسائل «سيف الإسلام» في مجموعات متتابعات سمّاها «حلقات»، فلما أتم هذه العشر الأولى وَعَدَ القرّاء بحلقة ثانية من عشر أُخَر. وليس عندي علمُ يقين بما آل الأمر إليه من بعد، لكن الرسالة الأولى والوحيدة التي وجدتها من الحلقة الثانية جعلتني أخمّن أنها رسالة مُفرَدة من تلك الحلقة لا ثاني لها، وإذن فيكون كل الذي أصدره من رسائل «سيف الإسلام» إحدى عشرة رسالة فحسب. وها هي ذي الرسالة تأتي في الصفحة الآتية، عنوانها «المدارس الأميرية»، وقد نُشرت في تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه الذي نُشرت فيه سائر الرسائل، 1930 (مجاهد).

رسائل سيف الإسلام: المدارس الأميرية

رسائل سيف الإسلام الحلقة الثانية-الرسالة الأولى المدارس الأميرية كان شارع «المِسْكيّة» (¬1) مساء السبت الماضي أشبه بالمحشر، حُشر إليه طلاب المدارس من كل حدب وصوب ليتداركوا حوائجهم المدرسية في مطلع عامهم الجديد؛ فمن غلام يصيح ورجل يساوم وشاب ينادي، إلى فتاة تلحّ وامرأة تهتف وعجوز تهذي! وكلهم يريد أن يسبق رفيقه إلى نيل حاجته وبلوغ طِلْبَته. وإنهم في تزاحمهم لأشبه شيء بتزاحم الناس على الأفران أيام الحرب العامة ليفوزوا برغيف يدفعون به عن أنفسهم غائلة الجوع في تلك الأيام السوداء! (¬2) ¬

_ (¬1) المسكية سوق (أو سُوَيق) بين سوق الحميدية والباب الغربي للجامع الأموي كان مخصصاً لبيع الكتب، وقد أُزيل منذ سنين على ما سمعت (مجاهد). (¬2) يريد الحرب العالمية الأولى، وكان اسمها «الحرب العامة»، سُمِّيت كذلك يوم لم تكن الدنيا عرفت حرباً عالمية ثانية، وكذلك بقي يدعوها جدي رحمه الله إلى آخر أيامه. وانظر الحديث عن الحرب وما سبَّبَته في الشام من جوع وخوف في الحلقة الرابعة من =

كان معي رفيق لي يرى ما أرى فقال: أما ترى كثرة طلاب العلم وروّاد مناهله؟ أما تسرّ بذلك وتؤمل لسوريا منه النجاح والهناء؟ حقاً إنه مشهد يفرح النفس. وسكت ينتظر جوابي، فلم أردّ عليه، فعاد إلى إتمام خطبته فقال: ولمَ لا؟ أليس بالعلم تنهض الأمم؟ أليس كل معهد من هذه المعاهد حجراً جديداً في صرح عزنا وبناء مجدنا؟ أليس هؤلاء رجال المستقبل وقادة الغد؟ أليس علمهم مناراً يهديهم سواء السبيل ويدلّهم على طريق الرشاد؟ وراح يهذي بهذا وشبهه. وما أكثر ما يعاني المرء من هؤلاء الذين لا يعرفون الأشياء على حقيقتها فينطقون بعلم، ولا يسكتون فيسترون ما هم عليه من جهل، بل ينطقون، ويُكثرون إذ ينطقون، ويُضجرونك إذ يُكثرون؛ فأنت منهم بين جهل وإضجار! وليس أثقل عليّ من رجل يناقش في الفلسفة ويبحث في أعضل مسائلها وهو لم يسمع بها ولم يعرف من الدنيا إلا تجارة وسوقاً، وآخر يبحث في الدين ويتعرض لتفسير الآيات وتخريج النصوص وهو لا يفقه من الدين إلا أن في الدنيا شيئاً اسمه الدين! ولو عقل هؤلاء لأخذوا فيما خُلقوا له وتركوا ما ليس من شأنهم فاستراحوا وأراحوا. وما لهم ولما لم يعرفوه؟ ما للطبيب وللبلاغة، والتاجر والفلسفة، والمهندس والأصول؟ ولكن الخوض في كل شيء ¬

_ = «الذكريات»، قال: "كنت أمشي إلى المدرسة من داري في العُقَيبة فأرى الفرن مسدودةً واجهتُه بالخشب ما فيها إلا طاقة صغيرة، والناس يسدّون نصف عرض الطريق، يطلبون أرغفة من الخبز الأسود فلا يكادون يصلون إليها" (مجاهد).

صفة تمكنت من كثير من الأنفس فكانت لها طبعاً وسجيّة، وإن منها لنفس صاحبي الذي حَسِبَ سكوتي عنه رضا بما يقول، فأطال القول واشتد فيه، وأثبت ودلّل وأفصح وأجزل، حتى إذا حسب أنه وفّى كل شيء حقه ولم يدع في البحث مجالاً لقائل سكت وتنفس الصعداء، والتفت إليّ يرقب مني كلمة التشجيع والثناء على حسن بيانه وبلاغة لسانه وحدّة جنانه، فقلت له: أتحسب هؤلاء يُخلصون للعروبة والإسلام ويدافعون عنهما إذا هم صاروا رجال المستقبل وأُلقيت إليهم مقاليد الأمور؟ أتظن هذه المدارس تعمل على خدمة الوطن وتهيئة رجاله العالمين؟ أترى هذا العلم الذي يتلقفه هؤلاء خيراً من الجهل المطبق؟ قلت هذا ولحظته، فوجدته يكاد ينفجر بصيحة إنكار مرعبة تجمع علينا الناس وتقوّض الشارع على من فيه، يقول فيها: أتهين العلم؟ أتحتقر المدارس؟ يا جاهل، يا متعصب، يا رجعي! فسرت في حديثي ولم أدع له وقتاً يقذف فيه هذه الصيحة المنكرة التي اتخذها أشباهه من الشبان «الناهضين» و «المتنورين» سلاحاً يغمدونه في صدور أمثالنا من الشبان «الجامدين»! تابعت حديثي، ولكني التفتُّ فلم أجد صاحبي لأنه فرّ وانهزم، أو هو - على التعبير الجديد- أعلن استياءه مني بالانسحاب! وقد أراح الله قرّاء هذه الرسائل من حديثه وأخباره، فليسمعوا ما هو أهم منها، وليصغوا إلى ما أحدثهم به، فإني بادئ بصلب الموضوع. * * * أشرت في الرسالة الماضية (الرسالة العاشرة من الحلقة

الأولى من هذه الرسائل) إلى المدارس الثانوية وأثبَتُّ أنه ليس في دمشق مدرسة ثانوية واحدة تخلص للعروبة والإسلام وتنجب رجالاً يحترمونهما ويضحون في سبيلهما، وأريد الآن أن أتكلم عن المدارس الابتدائية. المدارس الابتدائية في دمشق أميرية (حكومية) وأهلية وأجنبية، أما الأجنبية فهي -بالاختصار- قلاع نصبها العدو في بلادنا وسلّط مدافعها على قلوب أبنائنا، فهي تستعمرها إلى الأبد وتمتلكها إلى يوم القيامة، ومن يبعث بابنه إلى واحدة منها خائنٌ للوطن عدوٌّ له، يجب أن يُنبَذ ويُطرَح ولا يُحفَل به، كائناً مَن كان. وأما الأهلية فصالحة نوعاً، وإذا كانت بها علّة فهي علّة الفقر والعجز المالي، وعلّة الفوضى والاضطراب الإداري، ولكنها -مع هذا كله- الوفية للدين والوطن المخلصة للّغة والماضي. وأما الأميرية (ونستطيع أن نقول إنها كل شيء عندنا) فسنتكلم عنها بنوع من الإسهاب والتفصيل. يعلم القارئ من كان يقوم بأمر وزارة المعارف ويتولى شؤونها، دقيقها وجليلها، حتى ما يفوته منها صغير ولا كبير ... أو هو لا يعلم، فأُخبرُه أنه «المستشار». وأشهد أن هذا المستشار، المسيو راجه، على جانب من الذكاء والفطنة عظيم جداً، وبهذا الذكاء وهذه الفطنة استطاع أن يخدم قومَه خدمة لم يقوَ عليها كلُّ ما عندهم من قوة وجُنْد وعتاد، فقد عرف كيف يأكل الكتفَ، بل ويُتبعها بالرقبة! وقَدِر أن يضمن لقومه أمة تُنشَّأ في سوريا تكون

وفية مخلصة، لا للعروبة والإسلام، هيهات، بل لفرنسا! ما للقارئ يعجب ويستغرب ما أقول؟ إنه في منتهى الجلاء والوضوح. أبناؤكم الآن هم رجال المستقبل، فإذا ربّاهم كما يريد وأنشأهم كما يشاء أصبحت أمة المستقبل كما يشاء. ولا تعجبوا، فقد بلغ من حرصه على طمس معالم الإسلام أنه أغلق مدرسة لأنها تسمى مدرسة «التهذيب الإسلامي»! وأخرج مدرّساً من خيرة المدرسين وأقدرهم، هو الشاعر سليم الزركلي، لأنه ألقى قصيدة له في محفل فيها ذكر حضارة العرب والمسلمين ومجدهم! ولندع هذه القصص الفردية، ولنأخذ في الكلام على القضايا الجوهرية التي نأخذها على المدارس الأميرية. * * * إنما تقوم حياة الأمم على ثلاث دعائم: الدين واللغة والتاريخ. فلننظر مبلغ عناية الوزارة بهذه الدعائم الثلاث. (1) الدين: ماذا فعلت «المعارف» بالدين؟ هل تريدون الجواب الواضح الموجز؟ إنها نبذته وأهملته! لقد كتبنا في «الفتح» منذ عامين، يوم ظهر برنامج المعارف الجديد، فصلاً كشفنا فيه الستار عن إهمال الدين في المدارس، ولقد كان له أثره المحمود، وأذكر أن الناس قاموا له وقعدوا وذهب وفد منهم إلى الوزارة يراجع ويتثبت، فوعدوه خيراً وطبعوا برنامج الدروس الدينية على حدة ليرضوا به كل من ينازع ويشكو. ولكن ماذا كانت النتيجة؟

كانت النتيجة أنه بقي حبراً على ورق (كما يقولون)، ولبثت العلوم الدينية مهمَلة على حالها. نعم، إنها تُدَرَّس، ولكن ما الفائدة من تدريسها إذا لم تكن درساً رسمياً يُفحَص به الطالب ويسقط إذا قصّر فيه؟ وهذا فحص الشهادة الابتدائية: هل في دروسه الرسمية شيء من علوم الدين؟ ومن يقول إن الطالب يجتهد على الدرس ويُعنى به إذا علم أنه لا شأن له في ترفيعه من صفّه أو بقائه فيه؟ هل يدرس الطلاب إلا لأجل الفحص؟ نحن الطلاب في المدارس العالية لا نطالع إلا لأجل الفحص والشهادة، فما قولك بالأطفال؟ وما تكون دروس الدين إذا عرف الطلاب أنها دروس ثانوية لا قيمة لها؟ طبعاً إنها تكون لعباً وسخرية. هذا هو الواقع! (2) التاريخ: إن المدة المخصصة لدراسة التاريخ العربي كله لا تكفي لدولة واحدة من دوله، فيضطر المدرّس إلى الكلام على الدولة الطولونية أو الحمدانية مثلاً في ساعة واحدة أو ساعتين على الأكثر، بل يضطر إلى إهمال كثير من الدول الكبرى، فلا يذكر للتلاميذ أكثرَ من اسمها. والطالب الصغير يدرس في الصف الثاني تاريخ الفنيقيين قبل أن يدرس الخلفاء الراشدين، بل قبل أن يعرف شيئاً عن سيرة محمد عليه الصلاة والسلام! ويخرج الطالب من المدرسة الابتدائية وقد عرف عن نابليون أكثر مما عرف عن عمر بن الخطاب أو قُتَيبة بن مسلم، وقد علم من تاريخ فرنسا أكثر مما علم من تاريخ الأمويين! وهاكم التلاميذ: سلوا أشدَّهم نَباهةً عن نابليون وسَلُوه عمّن شئتم من رجال المسلمين، فإذا عرف عنه كما عرف عن ذاك فأنا الكاذب وأنتم الصادقون!

(3) اللغة: كلمة واحدة لا أقول أكثر منها: أطلب تسوية اللغة العربية باللغة الفرنسية، وأن يعنوا بها عنايتهم بتلك! فإذا كان هذا (وهيهات أن يكون ونحن نائمون!) فقد صلح الأمر. إذن فهو فاسد الآن، وإذن فعنايتهم بها أقل من عنايتهم بالفرنسية؟ نعم، ومن شاء تفصيلاً فليطلبه في أعداد «فتى العرب» ففيها كل ما يطلب، ولقد أوسعنا هذا الأمر كتابة يومئذ، ولكن لم تُجْدِ عملاً (¬1). ولو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقتُ، ولكنّ ........... (¬2) * * * هذه هي حالة المدارس الأميرية أيها القارئ، وهذا كله ولم أخبرك بشيء من السقوط الأخلاقي المريع الذي وقع فيها، ولم أنبئك بشيء من أخلاق المعلمين وصفاتهم! أيها الناس: لا تحسبوا أن في القضايا كلها ما هو أهم من قضية المدارس. إنها قضية حياة أو موت للأمة كلها، وإن لكل منكم الحق في أن يطالب بإصلاحها ما دام ابنه أو بنته فيها؛ فلا ¬

_ (¬1) انظر من سلسلة «مشاهدات وأحاديث»: «إلى مجلس المعارف الكبير» و «عقوق» و «ضاع الأمل» و «مَن للعربية؟»، وقد مضت كلها في هذا الكتاب (مجاهد). (¬2) «ولكنّ الرِّماحَ أَجَرَّتِ»، والبيت لعمرو بن معديكرب. قال في «اللسان»: "أي لو قاتلوا وأبلَوا لفخرت بهم، ولكن رماحهم أجَرَّتْني، أي قطعت لساني عن الكلام بفرارهم وعدم قتالهم. وهو من قولهم: أجررت الفَصيلَ إذا شققت لسانه لئلا يرضع". والفَصيل ولد الناقة إذا فُطم (مجاهد).

تقرؤوا هذه الرسالة لتقبعوا في بيوتكم وتثابروا على أعمالكم كأن شيئاً لم يكن، بل اهتموا بهذا الأمر واسعوا جهدكم لإصلاحه. أيها الناس: إن الجهل خير من هذه المدارس! ويجب أن تنشئوا مدرسة إسلامية وطنية، ولو بثمن الخبز الذي تأكلونه والرداء الذي تلبسونه، ولو بقيتم اليومين والأيام بلا طعام ولا لباس! أيها التجار المسلمون، أيها الأغنياء، أيها الموسرون: أناشدكم الله أن تبذلوا من أموالكم ما تقدرون عليه لإنشاء هذه المدرسة. والله إنني لا أملك في الدنيا إلا بعضاً من خزانة كتب هي أعز عليّ من نفسي، ولكنني أبذلها راضياً في هذا السبيل. أنفقوا ولو قليلاً من مالكم، فإن القليل إلى القليل كثير. إن الله سيسألكم عن أبنائكم أين قذفتم بهم، فاتقوا الله فيهم. أناشد الله كلَّ من تقع في يده هذه الرسالة من المسلمين أن يبذل أكبر مقدار من المال يقدر عليه لإنشاء هذه المدرسة، وأن يسعى لتكوين جمعية تتولى أمرَ تأسيسها. أناشد الله كل من يقرأ هذه الرسالة أن يحدّث بها أصدقاءه وذويه ويحثهم على نصرة هذه المدرسة وإخراجها إلى الوجود. اللهُمَّ هل بلّغتُ؟ اللهُمَّ اشهد. * * *

لماذا أنا مسلم؟

لماذا أنا مسلم؟ نشرت سنة 1930 (¬1) الحمد لله على نِعَمه التي لا تُحصى ونعمة الإسلام، والصلاة والسلام على رسله وأنبيائه ومحمد خاتم الرسل وسيد الأنام، وعلى آله وصحبه وكل متمسك بما جاء به. اللهم أزح بنور هُداك ظلامَ ضلالنا، وبدّد بشمس توفيقك دُجى حيرتنا، واهدنا إلى الصراط المستقيم والطريق القويم، واجعلنا في زمن الفساد من أهل الصلاح، وفي وسط الشاكّين من ذوي اليقين، وثبِّتْنا على الهدى حتى نلقاك يا رب العالمين. وبعد، فإني أستخير الله وأستهديه فيما انبعث له عزمي ¬

_ (¬1) نُشرت هذه الرسالة سنة 1349 وفي صدرها عبارة: «كتاب كبير في بيان حقيقة الإسلام ومحاسنه يصدر متتالياً في هذه الرسائل، بقلم: أبي الهيثم، محمد علي الطنطاوي». إلا أن الذي صدر منه قد اقتصر على هذه الرسالة المفرَدة. قال في أول كتاب «تعريف عام بدين الإسلام»: "ثم صحَّ العزمُ منّي على إصدار كتاب في هذا الموضوع، وجعلتُ عنوانه: «لماذا أنا مسلم؟»، وأعددت فصوله وأعلنت عنه، ونشرت مقدمته في رسائل «سيف الإسلام» التي كنت أصدرها يومئذ، ولكنْ تعذر الطبع وضاعت الأصول ولم يصدر الكتاب" (مجاهد).

من تأليف كتاب في الدين يفهمه الناشئون من أبناء المسلمين، فيفهمون حقيقة هذا الدين التي طالما جهلوها وسَخِروا منها لِمَا أنشأتهم عليه مدارس الشيطان من ازدرائه والتهاون به. وإنني دَعِيٌّ في المؤلفين دخيل على المصنِّفين، وإن دون بلوغي هذه المنزلة مراحل ومحطات، ولكنّي برزت ولمّا أنضج وتزبَّبْتُ ولمّا أتحصرم (¬1) خشيةَ أن يستفحل الداء ويعم البلاء فلا يبقى الحصرم ولا الزبيب! وإن ذلك لَكائنٌ ما دامت هذه المدارس جادَّة في تكفير الأبناء، مستفيدة من غفلة الآباء، والعلماءُ الذين هم ورثة الأنبياء قد أصبح أكثرهم بعاجل حظه مَشْغوفاً، وصار يرى المعروف منكَراً والمُنكَر معروفاً، فلا يأمر ولا ينهى، حتى ظلّ عَلَم الدين مندرساً ومنار الهدى في أقطار الأرض منطمساً، وأحكام الله تعطَّل جهاراً وحدوده تُتجاوَز علناً. مدارس التبشير تَجِدّ في التبشير، ومدارس البلاد تسوق إلى الإلحاد، وأبناء المسلمين بين مَيّال إلى النصرانية وجاحد بالكليّة، وللأوقاف الإسلامية مالٌ لو صُرف في سبيله لكان لنا منه عشرات الجامعات ومئات ¬

_ (¬1) العنب يكون أول ما يكون حصرماً حامضاً، ثم يصير عنباً حلواً، فإذا تُرك جفَّ ماؤه وذبلت قشرته وصار زبيباً. إن التدرج من مرحلة إلى أخرى سنة من سنن الوجود، وليس الإنسان استثناء منها، فهو كذلك لا بد له أن يمر بالبدايات ليصل إلى النهايات، فإذا تخطاها وقفز من فوره إلى النهاية ضربوا له هذا المثل فقالوا: «تزبَّبَ قبل أن يتحصرم». وما أكثر المتزبِّبين ولمّا يتحَصْرَموا في عالمنا، أولئك أنصافُ العلماء وأرباعُ العلماء الذين هم شرٌّ من الجَهَلة والأمّيين! (مجاهد).

المؤسسات، وللشريعة الإسلامية أحكام لو تمسَّكْنا بها لكنا خير أمة أُخرجت للناس وأقوى شعب عاش تحت الشمس، وللنجاح طريق معبَّدة وسبيل واضحة سلكها أجدادنا فكانوا سادة الأرض، وتنكّبناها فصرنا عبيدها، تلك هي سبيل الدين. * * * كان العرب في جاهليتهم أهل إبل وشاة ومضارب وخيام، ليس لهم حضارة الروم ولا عظمة فارس ولا عِلْم يونان، قَطْر السماء أقصى سعادة يرونها، والكفاف من العيش أبعد غاية يؤملونها، وكانوا منشَقّين على أنفسهم متباينين في قبائلهم ومساكنهم، يثيرون الحرب الزَّبون من أجل ناقة لَبون، ويحملون شقاء الدهر لإدراك الثأر، لا ملك يقودهم ولا راية تجمعهم ولا حكومة تنظم أمورهم، حكمهم لسيوفهم وظفرهم برماحهم، آلهتهم شتى وأربابهم أصنام، يخشون كسرى ويرجون قيصر، قبعوا في باديتهم وقنعوا بجزيرتهم، لا يطمحون إلى تاج ولا يطمعون في سرير، إذا فارقوا صحراءهم وغادروا جزيرتهم بَدَوا ضعافاً وكانوا خاضعين لمن يعرض لهم من الملوك والخَواقين. لبثوا على تلك الحال ما شاء الله أن يلبثوا، وغَبَرت دهورٌ وهم على شأنهم لم يتحولوا، ثم كان أمر وكانت عشيّة أو ضحاها، فإذا الافتراق اتحاد والضعف قوة والبداوة حضارة، وإذا هذا الشعب الجاهل خير الشعوب وأفضل العالَمين. ماذا حدث؟ وكيف كان؟ من هو ذلك الرجل العظيم الذي هَزَّ هذه الصحراء الجَدْباء فأخرج منها أمة عالمة قوية مهذبة؟ من

هو ذلك العظيم الذي صاح في بطحاء مكة، فرنَّتْ صيحته في أنحاء الجزيرة فهَبَّت كلها تسير تحت لوائه؟ طأطئوا الرؤوس وقفوا خاشعين، فإنه محمد بن عبد الله، سيد العالم ورسول رب العالمين، صلى الله عليه. جاء محمد بالقرآن هدى من الله ونبراساً، فاهتدى العرب بهديه وساروا على سَننه، فأعزهم الله به ونصرهم، فكانوا ظاهرين. حملوه في صدورهم ووعوه في قلوبهم، ثم خرجوا من الجزيرة ليجاهدوا في سبيل الله كسرى وقيصر العظيمَين الجليلين، فمكّنهم الله منهما، فثَلّوا عرشيهما وهوت على أقدامهم تيجانهما، وخَلَفوهما في دارهما. بالقرآن حاربوا، وبالإيمان جاهدوا، وبهما ظفروا وبهما انتصروا. انتصروا فلم يبيدوا الحضارة ولم يبدّدوا العلم، لأن دينهم دين الحضارة وشريعتهم شريعة العلم، فأقبلوا على نشرهما وترقيتهما، جاعلين الدين لهما مقياساً والشريعة ميزاناً، فلم يَمُرّ زمن حتى مكّنَ الله لهم في الأرض، فأصبحوا ملوكها وسادتها. امتدت دولتهم ما بين مونبلْيِه في قلب فرنسا والتُّبَّت في قلب الصين، وخفقت رايتهم على العالم كله فخفقت لها القلوب وارتجَّت منها الدنيا، وكانت عاصمتهم بغداد منار الهدى وموئل العلماء ودار العمران، والكلمةُ تخرج من قصر خليفتهم فيكون لها في آفاق الأرض دويّ الرعد في آفاق السماء، فلا يبقى من عظيم إلا ويخضع لها، ولا جبار إلا ويهلع قلبه لجلالها. كان قائدهم يجاهد في سبيل الله حتى يبلغ البحر ولا يرى أمامه من سبيل، فيخوضه بفرسه فيلامس الماء بطنها، ثم يقول:

اللهمّ لولا هذا البحر لمضيت مجاهداً في سبيلك حتى أفتح العالم أو أفارقه إلى جنانك! وكان ملكهم -على عظمه وجلاله- يقف بين يدي القاضي مع أحطّ السُّوقَة وأقل الناس، فلا يناديه إلا باسمه ولا يحكم عليه إلا بالحق، لأن الحق فوق الملك، والله فوق الجميع، والله أكبر. وكان الواعظ يدخل على أمير المؤمنين، فلا يزال يعظه ويخوّفه من الله حتى تقطر دموعه من لحيته، ثم ينصرف عنه لا يرزؤه من ماله شيئاً، لأنه دخل لله ولا يبتغي الجزاء إلا من الله. كان إسلامٌ، فكان عزٌّ، وكان ظفر. ثم مالوا عن السَّنَن القويم وتنكبوا الطريق المستقيم، فأمر الله الفلك فدار دورته، فإذا العزّ ذل والقوة ضعف، والأسياد خدم والملوك خَوَل! وإذ كل شيء قد ذهب، كأنه سطور خُطَّت على الماء ثم ماج الماء موجةً فمحا كل شيء. * * * ألا إن كل ذلك هَيِّن على أمة تشعر وتحس، أما إذا فقدت حسّها وشعورها فقد فقدت كل أمل بنجاحها. وهذا ما كان، وهذا ما تسعى له مدارسنا، وقد نجحت في سعيها فتمّ -أو كاد يتم- صرف أبنائنا جميعاً عن الدين! أضعنا المجد فصبرنا، وخسرنا العز فسكتنا، فإذا كانت الثالثة وفُجعنا بأبنائنا متنا ولم نجد من يندبنا أو يترحّم علينا. نحن وسط الحريق ولكنّا نائمون، نحن بين الضواري من الوحوش ولكنّا غافلون، نحن على شفا الجحيم ولكنّا ضاحكون لاعبون!

نحن ندعو ونصيح ولكن قومنا صُمٌّ لا يسمعون، فلنعمل إذن وحدنا، ولنجاهد ما استطعنا. وهذا الكتاب عملي، أسأل الله أن يجعله خالصاً له نافعاً لعباده، وأن يوقظ به قومي من نومهم، وينبّههم من غفلتهم، ويعلّمهم أنْ لا صلاح لآخِر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولا نجاح لها إلا من طريق دينها. ودينُها شامل لكل نافع جامع لكل ما فيه المصلحة، ما ترك شيئاً ولا غادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. اللهمّ أعدنا إلى دينك وأمِتْنا عليه، ووفِّقْ وأثِبْ وثَبِّتْ، وصلِّ على محمد. * * *

التعليم في دمشق: قضية التجهيز، أسبابها ونتائجها

رسائل التعليم في دمشق (1) قضية التجهيز: أسبابها ونتائجها نشرت سنة 1930 (1349) [لا يَغُرَّنّ أسيادَنا المعلّمين ظَفَرُ باطلهم على حقنا، فإن للباطل جولة ثم يزهق، وإن للحق الظفر ولو بعد حين، وإن القوة للحق وإن حسبوا الحق للقوة.] نوديت أمس، وأنا في شارع بغداد في طريقي إلى الدار، فتلفَّتُّ فإذا أنا بستة من إخواننا الطلاب، وإذا أحدهم يبتدرني قائلاً: كيف تزعم أن تعلم الجغرافيا حرام؟ وكيف ... - انتظر قليلاً وأخبرني: متى زعمتُ هذا؟ - إنه في كتاب «الهيثميات»! - وهل رأيته أنت؟ - لا، وإنما حدثني بهذا فلان، الطالب في المعهد الطبي. - إذن فاقرأه من فضلك، لتعلم أن من روى لك ذلك كاذب أو أنه لا يفهم ما يقرأ.

سقت لك هذه القصة لتعلم مبلغ انقياد الرأي العام إلى الخطأ وتتصور الأثر الذي ستحدثه رسالتي هذه. لا أعني الأثر الذي تتركه في نفس قارئها، ولا أخافه، بل أعني ما يكون في نفس من لم يقرأها! وستسمع غداً قائلاً يقول لرفيقه: أعلمت؟ الطنطاوي أخرج رسالة يسبّ فيها معلّمي «التجهيز» ووزارة المعارف! ويزيد هذا القائل في نبأ ذلك السبّ الموهوم ويضخّمه، ثم يحمله إلى شخص آخر، وهكذا دواليك، فيستفحل الأمر ويعظم وأكون مؤاخَذاً في نظر الناس بجريرة لم آتِ بها! وأنا أطلب سلفاً إلى كل من يبلغه أمر هذه الرسالة أو غيرها مما أكتبه (أو يكتبه غيري في هذا الموضوع أو في غيره) أن لا يتعجل في الحكم حتى يقرأ ما يتحدث عنه بنفسه ويمعن فيه، أما أن يتلقى حكمه من أفواه الناس فليس هذا من العقل في شيء. وعجيب أن أضطر إلى هذا التنبيه، وأعجب منه أن أضطر إلى الكتابة في موضوع كهذا، موضوع طلب حق صريح ودفع ظلم واضح! وأعجب من ذا وذا أن يُسَدّ في وجه الطلاب كل سبيل إلى حقهم، ويوصَد دونهم كل باب للمراجعة، وتُصَمّ عن سماع شَكاتهم كل أذن! وأعجب ما في الأمر (وكل ما في الأمر عجيب) أن يقضى على مستقبل ثلاثمئة طالب وتنهار آمال ثلاثمئة أسرة، ويبقى ذوو الكراسي في كراسيهم يلهون ويلعبون، وذوو الأعمال في أعمالهم يغدون ويروحون لا يبالون، كأن شيئاً لم يكن وكارثة لم تقع!

ولقد كان كل ذاك، فاسمع أقصص عليك ما كان: لبثت «التجهيز» عشرات السنين وهي خير معهد علمي في سوريا كلها (¬1)، حتى ابتلاها الله برجال لا يعرفون إلا الرواتب ونيلها وأولي الأمر وإطاعتهم، ولا يدرون ما هو الواجب وما هو الوجدان، فكان من بركة قدومهم عليها أن استحال تقدمها تأخراً، وازدهارها خموداً، ونجاحها فشلاً، وكانت نتيجة هذا القدوم ¬

_ (¬1) مدرسة التجهيز هي الثانوية الرسمية يومئذ، وهي المعروفة باسم «مكتب عنبر»، وفيها درس جدي رحمه الله وأمضى بعضاً من أخصب أيامه وأثراها وأبقاها أثراً في حياته الطويلة من بعد؛ قال: "لقد عشت في هذا المكتب ستّ سنين كانت أحفل سِني حياتي بالعواطف وأغناها بالذكريات، وكانت لنفسي كأيام البناء في تاريخ الدار، لو عاشت الدار بعدها ألف سنة لكانت كلها تَبَعاً لهذه الأيام التي يُرسَم فيها المخطَّط وتُحدَّد الغرف ويُرسى الأساس" (الذكريات 1/ 141). وانظر أخباره فيها في الحلقات 13 - 16 في الجزء الأول من «الذكريات»، وانظر أيضاً فصل «مكتب عنبر» في'آخر كتاب «دمشق: صور من جمالها وعِبَر من نضالها» وفيه يقول: "لقد عاش مكتب عنبر من أواخر القرن الذي مضى إلى أوائل الحرب الثانية وهو يضم جمهرة المتعلمين في هذا البلد؛ كان هو الثانوية الرسمية المفردة في دمشق، فكان يمرّ عليه كل شاب في دمشق، يدخل إليه ثم يخرج منه، فيعلو في مدارج الحياة أو يغوص في أوحالها، حتى ما تكاد تجد اليوم كبيراً في دمشق ولا صاحب اسم ولا ذا منزلة إلا وقد جاز يوماً بمكتب عنبر". وقد أنشئت التجهيز في «مكتب عنبر» سنة 1305 هجرية (نحو سنة 1888 ميلادية)، وهو مبنى قديم كبير في دمشق القديمة شرق الأموي، ثم نُقلت سنة 1932 إلى المبنى الجديد قرب زقاق الصخر وسميت مدرسة «جودت الهاشمي» (مجاهد).

المبارك سقوط ثمانين في المئة من طلاب هذا المعهد الممتاز! هل في الدنيا كلها رجل واحد وَهَبَه الله عقلاً راجحاً وفهماً مستقيماً، يقول بأن هذا السقوط ناشئ عن قصور التلاميذ؟ دعني من أولئك الذين باعوا ضمائرهم وعقولهم بخمسين ليرة سورية وأصبحوا لا يستحيون بعد قبضها أن يتكلموا بغير منطق، دعني من هؤلاء وقل لي: هل تعتقد أن كراسي المناصب ومنصّات التدريس تسدل على الباطل ثوباً أبيض، ثم تخدع الناس جميعاً عن أبصارهم فلا يرونه إلا حقاً؟ هل تؤمن بأن الوزير إذا قال شيئاً صدّقه الناس وأمّنوا على كلامه، ولو خالف ما يدلّون على صحته بألف دليل ودليل؟ تقول: «لا»، وهذا ما أنتظره منك، فأصغِ إليّ: يقول أساطين التربية وكبار علمائها إن الصف إذا سقط أكثر من نصف طلابه كان سبب هذا السقوط عجز المعلمين لا قصور الطلاب. وتقول الوزارة ومديرية المدرسة إن الصف إذا سقط ثلاثة أرباعه أو أربعة أخماسه كان سبب السقوط كسل الطلاب، وأما المعلمون فمبرَّؤون من كل ذنب وخالون من كل عيب، حرسهم الله! فهل علم التربية باطل وأساطينه كاذبون؟ إذا كان كذباً فكيف تدرّسه الوزارة في مدارسها؟ وإذا كان حقاً فهل يكون نقيض الحق إلا الباطل، وهل يكون عكس الصدق إلا الكذب؟ * * * هذه واحدة، وأخرى: أليس من حق الطلاب مراجعة الإدارة وطلب الأوراق إذا اعتقدوا أنهم مظلومون؟ أليس هذا

الحق ممنوحاً لهم بنصّ القانون؟ فلماذا إذن تخالفون القانون؟ أم تقولون إنكم لا تخالفونه؟ حسناً، هذا ما نبتغيه، إذن هاتوا أوراقنا كلها لأننا نشك في صحة الفحص، ونبني هذا الشك على الأسباب الآتية: 1 - كانت السنّة المتَّبَعة قديماً في «التجهيز» دعوة مميِّزين من خارج المدرسة يشاركون المدرّس في وضع العلامات، وكانت سنّة حسنة، ولكنها تُركت وأصبح المدرّس وبيده وحده مقدَّرات التلاميذ، يلعب بها كما شاء وشاء له هواه ورؤساؤه الذين يعبدهم من دون الله! 2 - علمنا أن كثيرين من المعلمين هددوا الطلاب بالفحص جَهاراً وأنبؤوهم أنهم سيثأرون فيه منهم لأحقاد في نفوسهم وأغراض يبتغونها من وراء إسقاطهم، ثم اتضحت هذه الأغراض حينما دعا بعضُ المدرسين بعضَ التلاميذ إلى دروس خاصة يتلقونها عليهم بأجور باهظة حتى يضمنوا لهم النجاح. 3 - لم تتغير اللجنة الفاحصة طول السنة، ومع هذا فقد كانت مقاييس الفحوص تختلف جداً في آخر السنة عنها في وسط السنة، حتى بلغ الاختلاف حداً جعل الطالب الذي كان مجلّياً (أولياً) في الفحوص الأولى راسباً في الأخيرة، وحتى إن صفّاً برمته (هو الصف السادس، ويتجاوز مجموع طلابه الستين) لم ينجح منه إلا طالب واحد! وكان سبب هذا الاختلاف بلاغ الوزير إلى المعلمين، ذلك البلاغ الذي يأمرهم بتشديد الفحوص ووضع العثرات في سبيل نجاح الطلاب. لماذا؟ لأن الميزانية -كما يقول معالي الوزير في بلاغه- لم تعد تساعد على تكثير عدد الطلاب!

4 - كان المدرّسون يسألون الطلاب في الفحص عمّا لم يدرسوه وما ليس مقرراً عليهم، فتكون النتيجة سقوط أكثر الصف. 5 - بقيت «التجهيز» أكثرَ من ثلاثين سنة والنجاح فيها مستمر، فهل كانت كل تلك الفحوص باطلة؟ طبعاً لا، إذن هذا الفحص باطل. إما هذه وإما هذه، أما أن يجتمع الأمران فلا. وأخيراً فإن في الساقطين من طلاب «التجهيز» من يستطيع أن ينازل في الفحص معلّمي المدارس الأخرى التي نجح طلابها، فضلاً عن الطلاب أنفسهم! فكيف يكون هذا الاختلاف في مقاييس الفحوص في بلدة واحدة ومدارس من درجة واحدة؟ هذا بعض ما لنا من حجج على فساد مقاييس الفحص، وإنّ لنا لَغيرها، ولكنّا آثرنا إهمالها هذه المرة حفظاً لحرمة المدير والأساتذة، وسنظلّ مُهمليها حتى يَضِح لنا أنْ لا حرمة لهم وأنهم لا يؤثرون على الراتب الوجدانَ وعلى الإطاعة الواجبَ، وإذن ننشرها في الناس ونقول للمدير وللمدرّس: ذُقْ إنك أنت العزيز الكريم! * * * هذه هي أدلتنا أيها الناس، فهل فيها دليل باطل؟ وهل فيها غير الحق؟ فكيف إذن يضيع الحق في رابعة النهار، وفي مجتمع فيه -كما يقولون-عدل وإنصاف؟ كأني بك أيها القارئ تقول: ولِمَ يحملون على «التجهيز»؟ وماذا يريدون منها؟ وأنا أجيبك: إنهم يريدون منها أن تموت. تموت؟ نعم. ولماذا؟ لأنها مدرسة إسلامية ولأن فيها روحاً عربية!

نعم، يريدون أن تموت، وليست هذه الإرادة فكرة جديدة، بل هي برنامج واسع الأطراف طويل الذيول، بُدئ بتنفيذه -فيما أحسب- منذ ذلك اليوم الذي زار فيه المفوض السامي السابق مدرسة التجهيز. هل تذكر ذلك الموقف الذي وقفَته «التجهيز» أمامه؟ هل تذكر ذلك الخطاب الذي ألقاه أحد أبنائها يومئذ؟ (¬1) ¬

_ (¬1) في كتاب «هُتاف المجد» مقالة عنوانها «عام 1960» قال فيها: "وقف مكتب عنبر موقفاً لا يُنسى لما جاء المفوض السامي جوفنيل يزور المدرسة، فاتفق الطلاب سرّاً على عدم استقباله، فدخل من الباب ومعه أركان الحكومة، ودعونا إلى الصف فما تحرك أحدٌ ولذنا بالجدران، فدخل مرتجفاً، فخطب أحد الطلاب بالفرنسية خطبة زلزلت أركانه، فقطع الزيارة ورجع من فوره! وكان التحقيق، فكانت الإدارة والطلاّب جميعاً على قلب رجل واحد، ما استطاعوا أن يعرفوا من دبّر الأمر ومن كان السبب فيه". وفي كتاب «دمشق» إشارة إلى هذه القصة وتفصيل لها، قال: "ومن مناقبه (أي الأستاذ جودة الهاشمي، مدير مكتب عنبر في ذلك الوقت) أنهم فتحوا باب تحقيق واسع إثر زيارة المسيو جوفنيل، وأعدوا أسئلة يسألونها التلاميذ ليعرفوا من دبّر الأمر ومن تولى كبره، واستدعوا التلاميذ كلهم واحداً بعد واحد ليجيب عليها. وكنت فيمن دُعي، فلما صرت في غرفة المدير وأخذت القلم لأكتب اقترب مني وقال لي هامساً: ما بتعرف شيء، مو هيك؟ قلت: نعم يا سيدي. وكتبت تحت كل سؤال: «لا أدري». وتبين أن التلاميذ كلهم أجابوا بـ «لا أدري»، وكان ذلك بتوجيه الأستاذ الهاشمي. ومرّ الحادث -على جلاله وعظمه- بسلام ولم ينل أحداً من التلاميذ كبيرُ سوء، ولو كان المدير غيرَه لقُوِّضت المدرسة على رؤوس مَن فيها" (دمشق، ص195 من الطبعة الجديدة) (مجاهد).

هذا الموقف وهذا الخطاب هما سبب انتباههم للتجهيز وإرادتهم القضاء عليها، أو على هذه الروح، فأكثروا من الموظفين الأجانب فيها، ورفعوا دروس الفقه والتوحيد منها، ووضعوا فيها نوّاباً يتحكمون في التلاميذ كما يشاؤون. ولكنهم وجدوا كل ذلك لم يُفِدْهم شيئاً، فأتوها بالكارثة الكبرى، بحادث الفحص الأخير، فنجح قصدهم وتَمّ لهم مرادهم، واستحالت قضيةُ «التجهيز» قضيةَ مستقبل الأمة. ولا يُبنى المستقبل إلا على العلم، ولا يُشاد صرحه إلا على عواتق الطلاب المبرّزين في دروسهم المخلصين لأمتهم وبلادهم، فإذا عدمت أمة مدارسها الوطنية وقذفت بأبنائها في هذه المدارس الأجنبية أضاعت أمانيّها وخسرت آمالها. وإن هذه المدارس لم تُنشَأ للتثقيف والتعليم، بل أُنشئت لتكفّر الأبناء بدين الآباء، وتعيدهم إليهم هازئين بقوميتهم، ساخرين من تاريخهم، تاركين للغتهم، جاهلين بسِيَر عظمائهم وجَلال ماضيهم ... فهل يرضيكم أيها الناس أن تكون هذه المدارس هي العاملة على تربية أبنائكم؟ وهل يسرّكم أن تفتحوا لها بأيديكم قلوبَهم لتستعمرَها بسمومها وخبائثها؟ وإن استعمار القلوب لأنكى من استعمار البلاد، وإن سلاح العلم المزيف لأقطع في جسم استقلالنا من سلاح الجيوش والمدمرات، فمن منكم يرضى بهذا؟ من منكم أيها الناس يرضى بما سيكون من انتقال ثلاثمئة من أبناء «التجهيز» المسلمين إلى مدارس الفرير والعازارية واللاييك؟ لقد أصبح هذا الانتقال في حكم الواقع إذا لم يُعَد لهؤلاء فحصهم، وإذا لم يُرجَع إليهم حقهم. ثلاثمئة بين

الإسلام والكفر، بين الوفاء والخيانة، فهل تتقاعسون عن الأخذ بيدهم، وتقفون مكتوفين لتنظروا إليهم وهم يَهوون في هاوية مدارس التنصير السحيقة؟ من منكم أيها الناس يستطيع أن يمر بهذه الحوادث دون أن يتقطع قلبه حزناً ويتشقق كبده أسفاً؟ الدين والتمسك به، والعروبة والوفاء لها! فإذا خسرناهما فلا مرحباً بالعلم ولا أهلاً به! العلم سلاح ذو حدّين، يضرّ وينفع ويؤذي ويفيد، فعليه لعنة الله إذا كان سبباً في خسراننا دينَنا وعروبتنا. أيها الناس: تداركوا أبناءكم، تداركوا مستقبلكم. وأنتم أيها المعلمون: لِيُهْنِكم أنكم أرضيتم ولاة أموركم وأسخطتم ربكم وواجبكم ووجدانكم، فبورك لكم فيما صنعتم. وأنتم أيها الطلاب: لا تَنُوا في المطالبة بحقكم والسعي وراءه، فلن يضيع الحق ولن يموت مهما طال خذلانه. ولننتظر ما سيطلع به علينا الغد، فإن غداً لناظره قريب. * * *

التعليم في دمشق: الأدب القومي

رسائل التعليم في دمشق (2) الأدب القومي نشرت سنة 1930 (1349) الأديب في الأمة هو لسانها الناطق بمحاسنها الذائد عن حماها، وقائدها إلى مواطن فخرها وذرى مجدها، فهو ذخر لها لا يعدله ذخر، وقصيدةٌ أو مقالة تحرّرها أنملة أديب بليغ -مؤمن بما يقول مخلص لما يدعو إليه- أنفع للأمة المظلومة وأَعْوَن على نيلها حقَّها من مئة جندي مدجَّج بالسلاح! فهل عندنا من أمثال هذا الأديب أحد؟ هل عندنا الأديب الذي عرف آلام الأمة وآمالها، وبحث فيما يسرّها وما يسيئها، ثم انتدب نفسه لتصوير آلامها والسعي لإبلاغها آمالها؟ هل عندنا الأديب الذي قتل التاريخ علماً، وغاص على خفاياه ومعضلاته فأحاط بها فهماً، ثم عمد إلى مواطن الفخر ومواقف الأسى فصاغها قصيدة عصماء، تكون كل قطرة من المداد أريقت على صفحتها بمثابة قطرة من الدم أُهرقت على مذبح الحرية والاستقلال؟ هل عندنا الأديب الذي آمن بعقيدة سامية فيها مصلحة الوطن وفائدته، ثم وقف نفسَه على الدفاع عنها وتأييدها؟ هل عندنا الأديب «الأديب» الذي ترفّع

بنفسه عن أقوال الناس، فلا يثيره مدح ولا ذم ولا يستفزّه نقد ولا تقريظ، ما دام سالكاً الصراط المستقيم ومتبعاً الطريق القويم؟ كنا نأمل أن ينشأ فينا هذا الأديب، وكان يقوّي هذا الأملَ ما نراه من الشبان المبرزين في الأدب المخلصين للوطن، ولبث ينمو ويزداد ثباتاً حتى فاجأنا صوتٌ يقول لأدبائنا: دعوا الوطن وشأنه، لا تسخّروا أدبكم له ولا تتعبوا أنفسكم من أجله، بل الهُوا والعبوا، فما الأدب إلا أُلْهِيَّة! هذا ما قاله الأستاذ جبري لتلاميذه في الكلية، وأفهمهم أن هذه الكلية لم تنشأ لمثل ما أنشئت له كلية الحقوق وكلية الطب من تخريج رجال عاملين لمنفعة الأمة، بل لإخراج أناس يدركون جمال هذا العالم! قال الأستاذ ما نصه: "إن الثقافة الأدبية لا تكون غايتها الكسب (وزد أنت: ولا منفعة الأمة!) فلا يدرس الإنسان الأدب ليعيش به (وزد أنت: أو لتعيش به أمته) كما يدرس الطب مثلاً، وإنما يحصل الأدب لِلَذَّته، وما ينبغي للأدب أن يكون إلا أُلْهِيَّة يتلاهى بها العقل"! فالأستاذ يدعو إلى أدب مجرَّد يُدرَك به جمال العالم، ويستمد من النفس عواطفها وميولها وآلامها وآمالها، ومن الطبيعة جمالها وجلالها وحبها وإلهامها، ولا يعنيه أخلاق ولا عادات ولا يهمّه أمة ولا وطن، فهو ليس إلا ألهيّة، شأنها شأن الملاهي الأخرى، وإن قال إنها ألهيّة شريفة! وهو يريد من شبّاننا الأدباء أن لا يروا الحياة إلا وسيلة من وسائل اللهو واللعب، وأن يسعوا للذتهم فيها ويفتشوا على

الجمال أين يقع منها، ويمضوا في طريقهم هذا دون أن يلتفتوا لأمتهم الملقاة على جانبه تئنّ وتشتكي، ودون أن يمدوا إليها يداً بمساعدة، وإنهم على مساعدتها لقديرون. وهو يريد من شباننا أن يستغنوا بوصف أحزان نفوسهم وأشجانها عن وصف شقاء الأمة وعذابها، وأن يصبّوا شعرهم ومواهبهم على قدمَي فتاة يعشقونها (أو يتخيلون أنهم يعشقونها) وربما كانت ساقطة أو بغيّاً، عن أن يصبوا بعضها على قاعدة بنيان الوطنية العظيم! وهو يرى أن هذه الأمة قد بلغت من كل شيء ما تريد وأصبح لها كيانها واستقلالها، ولم يبق عليها إلا أن تلهو وتلعب، فهو يدلها على هذه الألهيّة الشريفة! بل هو يريد أن يُحِلّ هذا النوع من الأدب (وما هو إلا اتباع الهوى) محل الدين ووحي السماء! فيقول في محاضرته الأولى نقلاً عن أحد العلوج: "لقد ضَعُفَ الدين في كثير من رجال العصر وبَعُدَ أفق العلم عن كثير من الناس، فالأدب وحده (هذا الأدب الذي ذكره وحده من غير دين ولا علم!) هو الذي ينزع بنا عن الأثَرة الضيقة التي تغرس فينا غرائز الحيوانية". * * * على رسلك أيها الأستاذ، واعلم أننا في حرب، في نضال مستمر، في جهاد على البقاء وكفاح على الحياة، وأدباؤنا قادتنا، فماذا تكون الحال في جيش تركه قادتُه تحت أزيز الرصاص ودويّ القنابل، وراحوا يفتشون عن الجمال في بقعة الحرب ليلهوا ويلعبوا ويفرّجوا عن أنفسهم غمَّ هذه المعركة وهمّها؟ هؤلاء قادتنا، فيجب أن يَدَعوا اللعب واللهو جانباً، ويشمّروا

عن ساعد الجِدّ والعمل، ويلقوا بأنفسهم في غمرات هذه الحرب الزَّبون، متخذين من أدبهم عدّة لأمتهم قوية ولواء لها مرفوعاً، ومثيراً لها وشادّاً من عزمها، لا مخدِّراً لأعصابها وصارفاً لها عن سبيل نجاحها كما فعلت أنت بأدبك! حتى إذا ما انجلى الغبار وآبوا بالنصر، وعُقد على جبينهم غار الظفر وأصبح لهم في الدنيا كيان ووجود، حُقَّ لهم أن يلعبوا ما شاؤوا ويتلهّوا ما أرادوا. هؤلاء قادتنا، فيجب أن يتولى كل واحد منهم ثغراً من الثغور، ثم يرابط فيه حتى لا ينفذ البلاء من جهته إلا على جثته. * * * ألا إن أدباً تكون غايته الجمال واللذة لَهو أدب زائف لا يليق بأمة تريد أن تَجِدّ وتكافح وتريد أن تتبوأ تحت الشمس مكاناً لها سامياً، وهو -فوق هذا- أدب مضطرب مزعزع لأن الجمال واللذة شيء لا قاعدة له ولا مقياس، بل إن مقياسه الذوق، والذوق يتبدل بتبدل الأزمان والأمكنة والأفراد والأمم. وهَبْ أن الفن يؤيد الأستاذ فيما دعا إليه ويقول به، فما هو هذا الفن؟ ولماذا ندرسه ونحترمه إذا كنا لا نريد به صلاح أمرنا وخدمة قضيتنا؟ أندرسه للهو واللعب؟ أنحترمه لأنه يخدّر أعصابنا ويقعد بنا عن العمل حتى ينزل الدمار برؤوسنا وتقع الخطوب على عواتقنا؟ ومن يقيس الأديب الذي يصور آلام الفرد بالذي يصور آلام الأمة، ومَن يستمد إلهامه من ذكرياته بمَن يستمده من ماضي الأمة الجليل، ومن يفكر في مستقبله مع حبيبته بمن يفكر في مصير

الأمة، ومن يجثو بين يدي امرأة ويصب عقله في كأس من الخمر بمن يسير على رأس أمة عظيمة في حومة حرب ضروس إلى قمة الظفر وذروة الانتصار؟ أنلهو وأيّامنا تذهبُ ... ونلعبُ والدهر لا يلعبُ؟ * * * لقد طغى الأدب الفرنسي على طائفة من أدبائنا وأغراهم به ما فيه من لذة ومتعة، فأقبلوا عليه وغاصوا على جواهره ولآلئه، وأصبحوا يتفاخرون بما لديهم منه وما عندهم من معرفة بمذاهبه وفنونه، فكان من ذلك ما نشكوه اليوم من ضعف العزة العربية في نفوسهم وهوان القضية الوطنية عليهم، وكان من ثمرة ذلك احتقارهم الأدب العربي وازدراؤهم إياه. وأنا لا أنكر أن الأدب الفرنسي خليق بالدرس، ولا أنكر أنه لذيذ وممتع وأننا في حاجة إليه لنقوّي فينا ملكة الوصف ونتعلم فن القصة. أنا لا أنكر شيئاً من هذا، ولكني أنكر على أدبائنا أن يؤمنوا ببعض منه ويكفروا ببعض! إنهم يأتمّون بلامارتين ويَقْفون أثره في هذا الأدب المجرد، ناسين أن لامارتين نفسه يقول إن من يعيش في عالم الأحلام ويحيا في الخيال وغيرُه يسعى ويعمل إنما هو أضحوكة من أضاحيك الحياة خُلقت ليتسلى بها العقلاء العاملون! هذا في أمة بلغت في الميدان الاجتماعي مبلغاً جعل لها مكانتها السامية وقوتها العظيمة، فما قولك بأمة تعمل على أن يكون لها في الدنيا وجود كالوجود؟ * * *

ألا إن الأدب لا يجدي إذ لم يكن أدب الحياة، ولا يكون أدب الحياة حتى يتصل بها ويداخلها، فيعرف أمكنة ضعفها ومحالّ فسادها ويسعى لإصلاحها وتقويتها. ألا إن الأديب الذي يلهو بنفسه ويقنع بأحلامه -والأمة أحوج إلى أدبه في حياتها ونمائها- لَهو خائن بعهد الأمة كافر بدينها. ألا إن هذا الأدب المجرد، أدب الألهيّة الشريفة، ضرر علينا، وفي دعوتنا إليه عقوق وطننا، بل طعنة في صدره. فلنتركه غيرَ مأسوف عليه، ولننفض عن أنفسنا غبار الكسل ولندخل في دَور العمل. إن الغلالة الرقيقة من الحرير لا تُلبَس يوم المعركة، فلنستبدل بها درعاً ولامة! إن درس الأدب للتلهّي سمّ زعاف تبثّه فينا أيدٌ معادية لتقعد بنا عن الجهاد وتسوقنا إلى الهلاك. ألا إن أخذنا بهذا المذهب، ونحن أبناء شعب في دَور التكوين والنضال لأجل الحياة، قتلٌ لشعبنا وقضاء على مستقبلنا. إن الأدب المنتِج هو الأدب الذي يخدم القضية الوطنية الكبرى، ويربط ماضي الأمة بحاضرها ويعينها على النجاح في مستقبلها. فإن كان هذا، وإلا فسلام على أدب لا يُقصَد منه إلا التلهّي واللذة، وسلام على أصحابه المخلصين العاملين! (¬1) * * * ¬

_ (¬1) اقرأ مع هذه المقالة المقالةَ الأخرى: «الأستاذ شفيق جبري والوظيفة»، وهي في الصفحة 308 في هذا الكتاب، وانظر الحاشية في آخرها (مجاهد).

جمعية «الهداية الإسلامية» في دمشق

جمعية «الهداية الإسلامية» في دمشق نشرت سنة 1930 (¬1) أحمَدُ الله أن قدرت على مقالة واحدة أكتبها راضياً قريرَ النفس لا ساخطاً ولا متذمراً، وقد كان ما أكتب بنفثات المصدور وأنّات الحزين أَشْبَه. وكيف يرضى كاتبٌ يلقي بصره على كل مكان وبداخل كل إنسان، فلا يرى -حيثما سار وأنّى تلفّتَ- إلا الشقاء والآلام والمصائب والرزايا؟ هَلُمَّ أذهب بك حيث تريد أن أذهب بك، وأسايرك من مطلع الشمس إلى مغيبها، ومن جنوب المدينة إلى شمالها، فإن وجدتَ في كل ما ترى غير ما أقول فلك حكمك! وما أرى لنا مثلاً إلا صِبْيَة صغاراً مقيمين في دار ... لا، أخطأت، بل هم نائمون والدار تأكل جوانبَها النيرانُ وتندلع في أركانها ألسنةُ اللهيب، فلا يحسّون ولا يفيقون حتى تلعب في سرابيلهم وأجسامهم، وإذن لا يفيدهم حسُّهم فتيلاً ولا ينفعهم شيئاً. لقد أحاطت بنا الأرزاء واتفقت علينا الحوادث، فدخلت ¬

_ (¬1) في جريدة «القبس» بتاريخ 29/ 11/1930 (8 رجب 1349).

كل دار وامتدت إلى كل نفس ونسجت على كل وجه خيوطاً من الكآبة والغم لا سبيل إلى سترها: لم تَنجُ منها السياسة ولا الاقتصاد ولا الأخلاق؛ فالشركات الأجنبية تستعمر أسواقنا، والأقمشة الأجنبية تستعمر أجسامنا، والأفكار الأجنبية تستعمر نفوسنا، وقد سُلبنا كلَّ ما ندفع به عن أنفسنا البلاء، حتى الألسنةَ التي تنطق بالتحذير من الشر المستطير! هذا قرن النور والحياة يفيض بهما على الشعوب جميعاً إلا نحن، فكأن شؤم طالعنا وسوء حظنا حوّل النورَ علينا ظلاماً والحياةَ موتاً، فنحن أسوأ الناس في أفضل العصور وأشقى البشر في أسعد الأيام. وماذا ينفعنا أن يرتفع البنيان في نيويورك إلى السماء مئة طبقة ونَبيت في كوخ لا يمنع عنّا قَطْرَ السماء؟ وماذا يفيدنا أن تبلغ ثروة روكفلر الملايين ولا يملك غنيُّنا إلا دَيْناً يعجز عن قضائه وشقاء يهيم في فضائه؟ وماذا يعنينا أن يطير الناس في الهواء ويغوصوا في أعماق الماء إذا كنا لا نقدر على السير في الأرض ولا على قطع الجداول؟ لقد كان هذا القرن نوراً وحياة، ولكن على غيرنا، أما نحن فما نبصر فيه إلا الظلمة ولا نرى فيه إلا قبوراً مفتَّحة تنتظرنا. إننا نلبس كما يلبسون ونتكلم كما يتكلمون، ولكنك إن كشفت عن بواطننا وأعلنت سرائرَنا وجدتنا كالمُحتضَر، يقوم ويقعد ويصيح ويهتف ويأمر وينهى كأشد ما يكون في حياته، ولكن الدهر ما مَدَّ له في قوته إلا ليقصر من أجله. إن هذه حال إن دامت واستمرت أوشكت عاقبتُها أن تكون هلاكنا ودمارنا، أو أن نندمج في شعب آخر فلا يُعرَف لنا أصل

ولا يُرى لنا كيان، أو أن نعيش فقراء عاجزين (والفقر أخو الموت وحليف الدمار)، أو أن نخرج من بلادنا وندع أوطاننا ثم نذهب بين سمع الأرض وبصرها فنصبح أحاديث! كأني بالقارئ يصيح بي وقد بلغت به إلى هنا مَغيظاً محنقاً: إذا كان هذا مقالك وأنت راض قرير العين، فماذا تقول لو سخطت وغضبت؟ وما خبر هذه الجمعية التي عقدت عليها مقالك؟ أَعْلِمْنا علمَها فقد أطلتَ علينا مقدمتك حتى لتظننا قد مللنا. * * * مهلاً يا سيدي القارئ، فهذا خبر الجمعية يأتي. ولكن قل لي قبلُ: ألستَ تشعر بأن هذا زمان الجماعات، وأنه لا بد لنا إذا أردنا أن نضرب في الحياة بالسهم الوافر من إنشاء الجمعيات تعمل على تحسين الأخلاق وإصلاح المجتمع، وتأليف الشركات تَجِدّ في رفع مستوى صناعتنا وتوسيع نطاق تجارتنا؟ إنك تشعر بهذا كله لا أشك في ذلك أبداً، ويسرك كما يسرني أن أقدم إليك جمعية جديدة، لا بل الجمعية الأولى التي أُنشئت في دمشق لتعمل على نشر الفضيلة ودرء الرذيلة وبث الأخلاق الفاضلة، والتي تتوسل إلى هذه الأغراض -كما جاء في قانونها- بالطرق الأدبية، فتنشئ نادياً لإلقاء المحاضرات الأدبية والعلمية والدينية وتنشر وتكتب، وتلقي المحاضرات في المساجد والأسواق والمجتمعات، على أن لا تتدخل في السياسة. وما هي هذه السياسة؟ ما هو حدّها؟ أيُّ الأعمال يُعَدّ سياسياً؟ هذا ما لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم! ولا بأس

يا سيدي القارئ، فماذا يضير الأمة أن تنصرف إحدى جمعياتها للأمور الأخلاقية والاقتصادية، وماذا يفيد الاشتغالُ بالسياسة الضعيفَ المغلوبَ على أمره؟ ولا أحب أن أطيل عليك القول، فسترى التفصيل في مقالات ستأتي إن شاء ربك وفيها بيان موجز عن هذه الجمعية، جمعية الشبّان المسلمين الذين جمعوا بين علوم الدنيا والآخرة، أو على الأصح بين العلم والدين، «جمعية الهداية الإسلامية» التي أُسِّسَت في دمشق في غرة ربيع الأنور من عام 1349هـ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) في «الذكريات» خبر هذه الجمعية وقصة تأليفها، تجدونها في الحلقة 33 في الجزء الأول، وفيها: "وأُلِّفت الجمعية وأعلنّا عنها في ردهة المجمع العلمي العربي (في المدرسة العادلية الأثرية)، سمح لنا بذلك رئيس المجمع أستاذنا محمد كرد علي. وكنت أنا الذي تَشرّف بالإعلان عنها في محاضرة دُعيَ الناس إليها، وأعلنت -أيضاً- عنها وذكرت قصة إنشائها وخلاصة قانونها في مقالة (عندي نسخة منها) نُشرت في «القبس» عند صديقنا الأستاذ نجيب الريّس في عدد 29/ 11/ 1930" (مجاهد).

مقدمة كتاب «البعث»

مقدمة كتاب «البعث» نشرت سنة 1931 (¬1) ظهر الفساد في البر والبحر، وذاع الإلحاد والفسوق في الأرض، حتى أصبح المعروف منكَراً والمنكَر معروفاً والقابض على دينه كالقابض على الجمر، واستطال هؤلاء «المجدِّدون» أعداء الله على الدين واللغة، يريدون أن يصير الدين إلحاداً واللغة عامية، ويجادلون في ذلك ويناضلون عنه، وما لهم من حجة ¬

_ (¬1) هذه هي مقدمة العدد الأول من كتاب «البعث» الذي صدر في غرة المحرم سنة 1350 (19/ 5/1931)، وهو غير مجلة «البعث» التي صدرت بعد ذلك بشهور، صدر عددها الأول في غرة جمادى الأولى من السنة نفسها. وقد روى جدي رحمه الله قصة «البعث» في آخر الحلقة الخمسين من ذكرياته فقال: "وممّا كان سنة 1931 من أحداث في تاريخ حياتي إصدار مجلة «البعث» ... أصدرتُها وحدي أولاً بعنوان: «البعث، كتاب إسلامي يصدر في أجزاء متتالية»، ثم كان الاتفاق مع «جمعية التهذيب والتعليم» على أن تأخذ الرخصة بإصدارها وتنفق عليها، وتعيّن لها مديراً مسؤولاً من أعضائها، ويكون لي أمر التحرير كله ... ثم جاء بعد خمس عشرة سنة مَن أخذ اسم المجلة الإسلامية، فجعله اسماً لحزب غير إسلامي" (الذكريات 2/ 162) (مجاهد).

في استنكار الشرقي إلا أنه شرقي، ولا في اقتباس الغربي إلا أنه غربي، فإذا خالفتَهم وكشفت بنور دليلك عن سَوأة آرائهم، وأتيتهم بالحجّة الدامغة لا رَدّ لها واليقين المطلق لا شك معه، وخانهم المنطق والعقل، وضعوا أصابعهم في آذانهم وصاحوا بك أن: اسكت يا جامد! وشَدَّ من أزرهم وأعانهم على أمرهم أن بعض الصحف والمجلات معهم، يحرّرها أناس منهم، قد أعطوا الشيطان عهداً أن لا ينصروا الدين بحال، وأن لا يدَّخروا وسعاً في مناوأته والنَّيل منه، فتراهم لا يتقاعسون عن رميك بالتعصب إذا أنت تمسكت بدينك وأقمت شعائره عن هَدي وبصيرة، ويتمسكون بكل ما جاء من أوربا عن تقليد واحتذاء، ولو كان سخافة وسفالة وتهتكاً وفجوراً، ويزعمون أنهم المتمدنون. كأنّ التعصبَ -في رأيهم الفائل (¬1) ومنطقهم المنكوس- هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه وأنبيائه، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، وصدق المعاملة وحسن الأخلاق ... وهذا هو الإسلام. وكأن التمدّن هو الإلحاد والزندقة، وسفور النساء وعبادة الأزياء، وتبذير الأموال وسكنى القهوات، والمغازلة والغرام والسكر والعربدة، وصقل الخدين وتصفيف الشعر والرقص والتدخين ... وهذا ما هم فيه! فأي الفريقين أهدى سبيلاً: المؤمنون أم الجاحدون؟ والرجال ¬

_ (¬1) الرأي الفائل هو الرأي التافه الضعيف، نقول: فال (يفيل) رأيُ الرجل، وفال الرجل في رأيه (مجاهد).

أم المخنَّثون؟ والعلماء أم الجاهلون؟ والصادقون أم المنافقون؟ أما فنحن فإنّا متعصبون، ندافع عن التعصب وننتصر له على رغم أنف من يأبى، لأن فيه حفظ ديننا وبقاء كياننا وسعادتنا ونجاحنا، ولأن هؤلاء المجددين يراؤون بالإلحاد رياء وقلوبهم وجوارحهم تشهد -لو أنطقها الله- إنهم لكاذبون، ويجذبون إليهم هؤلاء الشبان الذين جهلوا الدين فلم يعرفوه، فنبذوه وعادَوه، ثم ذهبوا فتعلقوا من الأوربي بذنَب فرسه، فهي أبداً تجرّهم وهم أبداً معها، ولكن نصيبهم منها ما يخرج منها! يمسحون به رؤوسهم ويغسلون به وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين، وينادون: لتحيَ الحضارة وليسقط الجمود! وقد سوَّلَت لهم أنفسهم أنهم قادرون على هدم الدين بمقالاتهم وفصولهم، ورُبّ مقالة تنطق -لو نطقت- بخزي صاحبها ولعنه! ورُبّ كاتب ما خلقه الله في عيّه وضعفه إلا لتظهر منزلة البليغ في قوّته واقتداره! وقَلَّ فيهم مَن يبصر مداخل الكلام ومخارجه ويميز شريفَه من مرذوله وبليغَه من ساقطه. وما كل مَنْ خَطَّ بالقلم كاتباً ولا كل مَن لوّحَ بالسيف بطلاً! وإن هناك لشيئاً اسمه الغرور، وإن وراءه لشيئاً اسمه العجز. على أن الخطب قد عَمَّ والبلية قد عظمت، حتى إن امرأة في حماة عطس الشيطان في منخرها وزيّن لها، فأخرجت وُرَيقات سمَّتْهَا «مجلة»، عملت فيها على إحلال قرارات المؤتمر النسائي (أو ما لست أدري أيّ شيء يُسمّى مَجْمَع نسوة سافرات متبرّجات مائلات مميلات) محلَّ آيِ الله وَوَحْيه، وحَسِبَت كما حسب

القاديانيون الكفرة أن الله تاركهم وضلالهم، لا يبعث لهم من يطبع بالحق على قلوبهم ويضرب على أيديهم فيخزيهم ويمحقهم. ولو كان الأمر أمر هذه المجلة وحدها لحَطَمْنَاها وأهلَها حَطْمَة واحدة، ولكن للشر أنصاراً، والشر مخذولٌ وأنصارُه، والله غالبٌ على أمر وخاذلٌ أعداءَه، ولو كانوا مبشِّرين كافرين، أو مجددين مارقين، أو مرتدّين قاديانيين. * * * ألا إن هؤلاء المجددين أعدى علينا من عدوّنا لأنهم منا، وهم وباء علينا وسُبَّة لنا. وما ندري ما هذه العقول التي يفكرون بها، وما نعلم ما هذا المنطق الذي يعتمدون عليه: ترى الرجل منهم فترى ما شئت من علم وفهم، فإذا جاء ذكر الدين وجدتَه -حين يذمه بالباطل- أجهل الناس وأشدّهم عُراماً (¬1) وحماقة. ولقد سمعت بأذني -على ندرة ما أختلط بالناس وأسمع أحاديثهم- واحداً ممن تَعُدّهم هذه الأمة قادتها ومَن تراه أخلص الناس لها، وكنت في داره فسمعته يذمّ أكبر عالم في دمشق في حين أنه يمدح بطريق النصارى، لا يذم ذاك لجهل ولا يمدح هذا لعلم، أستغفر الله عشراً أن أنسب لذاك الجهل، ولكنّما هو العداء للدين، بل هو العداء للإسلام خاصة لا للدين عامة! وويل المجددين ما أجهلهَم! يبيعون دينهم وشرفهم برضا هؤلاء الأوربيين، ثم لا يرضون عنهم ولا يلتفتون إليهم، فهم أبداً ¬

_ (¬1) شدة وشراسة وخصومة (مجاهد).

يلحقونهم ولكنهم لا يرون إلا أدبارهم ... صدق الأعشى: عُلِّقْتُها عَرَضاً وعُلِّقَتْ رَجُلاً ... غَيري، وعُلِّقَ أُخرى غيرَها الرَّجُلُ يقولون لنا: لا تذكروا الدين، بل فاذكروا الوطنية، اذكروا العروبة، نحن عرب قبل أن نكون مسلمين ... ولكن أخبروني أيها الأذكياء: ماذا كان العرب لولا الإسلام؟ وأيّ مجدٍ لهم لولاه؟ أليس بالإسلام قد فتحوا العالم ودكّوا العروش؟ أليس بالإسلام قد أنشؤوا الحضارة وشادوا العمران؟ أكانت هذه اللغة -وهي ركن العروبة- تبقى حية لولا القرآن كتاب الله الخالد؟ أكانت تَسْلم لكم لو لم ينشئ القرآنُ هذه الأمةَ المجاهدة، التي رفعت دعائم حضارة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من بداوة لم يكن في البداوة أعرق منها، وشادت مَدَنيّة دونها كل مدنية من بَيداء قاحلة ومَهْمَهٍ قَفْر، ثم أورثتكم صرحَ مجد شامخ الذرى أقامت أركانه على دماء أبنائها وأرواحهم ورفعت أسسه على الإسلام وتعاليمه، فنزعتم منه حجر الأساس حين نزعتم من رقابكم ربقة الإيمان، فهوى وتفرقتم تحته، فأصبحتم مختلفين بعد الاتفاق، ضعفاء بعد القوة، أذلاّء بعد العز، وطمع فيكم العدوّ فامتلك أزمَّتكم وصرّفكم تصريف العَجْماوات؟ فأولى لكم ما أنتم فيه وأجمل بكم! * * * ألا إننا لم نجد بداً -وهذه هي الحال- من أن نتقدم فنقف من هؤلاء موقف الخصم من خصمه، لا يصوّبون لهذا الدين

سهماً إلاّ رددناه عليهم فجعلناه في نحورهم، ولا ندّخر طاقة في نشر محاسن الإسلام وكشف مفاخر التاريخ ونبش كنوز الأدب، حتى يروا بأعينهم أن التراث العربي (أو بالكلمة الأخرى: التراث الإسلامي) قيّم وجليل، ثم ليرضوا أو ليغضبوا: إذا رَضِيَتْ عنّي كِرامُ عشيرتي ... فلا زال غَضْبَاناً عليّ لئامُها ونحن ظافرون بعون الله مؤيَّدون بقوته، لأننا ندافع عن دينه، ولأنه ليس في هؤلاء مَن يصمد لمقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل. وما نريد منهم إلا أن يعترفوا بكفرهم وارتدادهم (ونعوذ بالله) أو يكونوا مسلمين حقاً، لا مسلمين جغرافيين (كما يقول سيد المجاهدين الأمير شكيب). وكيف يكون مسلماً من يجهل من الإسلام كل ما جاوز اسمه، ويستحيي أن يقيم شعائره وأن ينتصر له إذا نال منه الجاهلون؟ وقد قلنا لهم: هما ثِنْتان أيها القوم، ولو اجتمع الإنس والجن ما أتوا لهما بثالثة: إما أن تكونوا مسلمين في سرّكم وجهركم وجِدّكم وهَزْلكم وبيوتكم ومجامعكم، وإما أن تخرجوا من الإسلام وتخلعوا ربقته من أعناقكم وتنفضوا منه أياديكم ... وإذن يجد الإسلام عِوَضاً منكم ولا تجدون منه عِوَضاً، لأن ديناً تعهّد الله بحفظه وأهلُه ثلاثمئة مليون (¬1) لا يضيره أن يصبحوا ثلاثمئة مليون إلا مئة! ¬

_ (¬1) كانوا كذلك يوم نشر جدي هذه المقالة، وهم اليوم خمسة أضعاف ذلك أو يزيدون (مجاهد).

هذا هو هدفنا الذي نرمي إليه: نشر محاسن الإسلام، ومحاربة خصومه بأقلامنا وألسنتنا لا بسيوفنا وبنادقنا، ولكنهم سيجدون -بعون الله- كلاماً أشدَّ عليهم من وقع السهام. وما ذاك إلا أننا نكتب حفظاً لغيرهم من الإلحاد، لا طمعاً بهم أن يعودوا إلى الإيمان، ولن يعودوا ... إلا بقوة من الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم. الطنطاوي (أبو الهيثم) * * *

أرجال ... أم نساء؟

أرجال ... أم نساء؟ نشرت سنة 1931 (¬1) أنا امرؤ لا أعرف إلا الحق سبيلاً، ولا أبالي -إذا ما قلته وأرضيت ربي- أن أُسخط الناس أجمعين. ولقد كنت من أكثر الناس انتصاراً للشباب ودفاعاً عنهم وتأييداً لهم، ولكني وجدت الكَيْل قد طفح والحوض قد امتلأ، ولم يبقَ في الصبر على تأنّثهم بقية، فقذفت بهذه الكلمة في وجوههم. أستغفر الله أن أعني الشبان جميعاً، بل أولئك وحدهم، ولأولئك وحدهم أقول: إذا لم تعجبكم مقالتي فاذهبوا فانطحوا برؤوسكم صخر «قاسيون»، وابتلعوا بأفواهكم ماء «بَرَدى»، فإنكم لا تكسبون -إن فعلتم- إلا قطع رؤوسكم المحطمة، وما يحفل بكم إلا أخرق من أمثالكم. إنني سأقول كلمتي بصراحة وإيجاز، لا أزخرف الجُمَل ولا أنمّق العبارات، فما هو بمَوطن خيال ولا هو بميدان بلاغة، بل هو موقف المُنذر بالشر المستطير والبلاء العميم. وأيّ بلاء ¬

_ (¬1) نشرت هذه المقالة في العدد الأول من كتاب «البعث» الذي صدر في غرة المحرم سنة 1350 (19/ 5/1931).

يعدل خُسران الأمة مستقبلَها وضياع استقلالها؟ وأَولى به يضيع إذا رجالُه هؤلاء! ويلَكم، أَساءَكم أن الله خلقكم رجالاً، فأنتم تَسْعَوْن أبداً لتعودوا بنات، وأنتم أبداً تَحُفّون وجوهكم وتُرَجِّلون شعوركم وتطيّبون ريحكم، وتليّنون كلامكم وتُكثرون ابتسامكم، وتَميلون وتُميلون وتَغمزون وتغنجون، وإذا سقطتم تفخرون ولا تستحيون ... و ... ممّا لست أذكره: فظُنَّ شرّاً ولا تسألْ عن الخَبَرِ! * * * «فلان» (وما أكثر أشباه فلان) طالب أعرفه، من أسرة محترمة ذات شرف ووجاهة، دخل «التجهيز» وكأنه في حسن أخلاقه وطيب عنصره وجمال صورته الملاك الطاهر. ولكن الجمال شرٌّ على الطالب، ولا سيّما إذا كان -كصاحبنا- ليّنَ الكلام سهلَ القِياد طيّبَ القلب، لأن جماله يُطمع فيه ذوي الأغراض، ولينه يُبلّغهم منه ما يريدون. عاش صاحبنا حيناً ما ننكر من أمره شيئاً، ثم فسد بين عشية وضحاها، وذلك أنه راح يعاشر ويخالل، فيجره أخلاّؤه من مكان إلى مكان حتى يبلغوا به السينما، وهي مصدر الداء وأصل كل بلاء، فلا يخرج منها إلا ملوَّث السمعة مذموم الأخلاق، وقد كان ممدوح السيرة. وأعلمُ أنا بذلك، فأجهد نفسي في نصحه وإصلاحه، وأبذل وُسْعي لأقنعه بترك من يصاحب، فلا أصنع في ذلك شيئاً رغم ما أوتيتُه من بَسْطة اللسان وقوة العارضة،

ورغم ما هو عليه من سرعة الانقياد، لأن القوم قد ملكوا عليه لُبَّه فلا يكاد يستقل دونهم بتفكير. فأذهب إلى أبيه فأحذّره وأنذره، فيهتمّ بالأمر أياماً ثم ينسى، فأيأس فأدع الولد والوالد وأوليهما ظهري. على أن هذا من صالحي الآباء، وهناك من يضحك إذا قلت له: إن ابنك قد سقط، ويقول: "ما عليه شي، شو هوّه ولد"! كأن النخوةَ قد ذهبت من رؤوس الناس والشرفَ قد امَّحى من الوجود، وأصبحنا إباحيين لا يهمّنا عِرض ولا يردعنا دين! * * * وعلامَ يتجمّل الشبان إذا كانوا رجالاً، وهم يعلمون أن الجمال مفخرة النساء يتقربن به من الرجال؟ وأين آباؤهم وأمهاتهم؟ أهم نائمون غافلون، أم هم يعلمون كل شيء ويسكتون؟ وإن غفلوا عن أبنائهم وناموا عن اللص يسرق أعراضهم، فعلامَ يسهرون ولماذا ينتبهون؟ وكيف يقتل الأب ابنتَه إذا صارت بَغِيّاً، ولا يبالي بابنه يصبح قريباً من ذلك؟ أفلم يَانِ لنا أن نفهم أن هذه عاقبة التجدّد الزائف والرقيّ المزعوم؟ ألم يأنِ لنا أن نفهم أنه لا صلاح لهذا الفساد إلا بالدين، فنعود إليه ونقف عند أمره ونهيه؟ لو رُبِّيَ هؤلاء تربية دينية -يعلمون معها أن التشبه بالنساء حرام- لما نشأ ما كان ممّا نشكو منه اليوم فلا نجد مُشْكياً (¬1) ولا ¬

_ (¬1) يقال: أشكاه على ما يشكوه، أي أعانه وأزال سبب شكواه (مجاهد).

مُغيثاً، ولو كان هؤلاء يقيمون الصلاة على وجهها ويعرفون من أمر دينهم ما يجب أن يعرفوا لما سقطوا هذا السقوط الأخلاقي المريع. ألا ليعلم من نزع العلوم الدينية من برنامج «المعارف» أن هذا كله جريمة من جرائمه وسقطة من سقطاته! ألا لتنتبه الأمة إلى تلافي هذا الأمر قبل أن تصبح المدارس كلها مواخير! ألا لا يَدَعَنَّ امرؤ ابنَه يذهب إلى السينمات ولو قالوا له إن فيها رواية أدبية ... كذبوا، ما فيها أدبي وما في أهلها صالح! ولا يغفَلَنَّ عن مراقبة ابنه مهما بلغ. ومن كان من أحلاس (¬1) السينمات والمقاهي ومن عُبّاد الموضات فاحتقره، ولو كان آباؤه الخلفاء الراشدين وأسرته الأئمة المطهَّرين، وليسمع هذا من له أُذُنان، وسلام على من سمع فوعى. * * * ¬

_ (¬1) من قولنا: حَلِس بالمكان وفيه: لزمه وأقام فيه، فهو حَلِس وأحْلَس، ويقال: هو حِلْس بيته: لا يفارقه، والجمع أحلاس (مجاهد).

محاسن الإسلام: الصلاة

محاسن الإسلام الصلاة نشرت سنة 193 (¬1) لم أجد أسخف ممّن يقول: "نحن لا نحتاج إلى الصلاة لأنها نوع من الرياضة، ولأننا نتريّض كل يوم" ... لأن هذا القائل لم يدرِ ما هي الصلاة. الصلاة رياضة، ولكنها رياضة للنفس الخالدة لا لهذا الجسد الفاني، هي اتصال بالله وانقطاع عن هذا العالم. وإن المصلي لا يزال يرى الدنيا تتضاءل في عينيه وتصغر حتى لا يبقى لها من أثر، فلا يفكر إلا في الله جلَّ وعزّ، مؤمناً بأنه ليس في الوجود من يقدر على نفعه وضرّه إلا هو، ويستقر هذا الإيمان في نفسه ثم يفيض على لسانه فيقول: «لا إله إلا الله»، أي لا موجود غيره يؤثّر في هذا الكون، فلأرجعنَّ إليه ولأقِفَنَّ ببابه وعند أمره ونهيه، فإذا فعلت أغناني وأرضاني وأبلغني من كل شيء ما أريد. هذه هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلا يُقْدم ¬

_ (¬1) نشرت هذه المقالة في العدد الأول من كتاب «البعث» الذي صدر في غرة المحرم سنة 1350 (19/ 5/1931).

عليهما من يعلم أن الله مطّلع عليه وأنه سيقف عما قليل بين يديه، وأنه إن سأل عباده ولم يسأله كان كالذي يدخل على الملك فلا يسأله حاجته ثم يخرج فيتوسل إلى خادمه ويطلبها منه، ولا يقدر عليها هذا إلا بأمر سيده! لقد اختلفوا في عقاب تارك الصلاة، ولكن أكبر عقاب له هو حرمانه من هذه اللذة العظيمة، لذة الإيمان والاطمئنان التي لا توصَف ولا تدرَك بوصف: لا يعرف العشقَ إلا مَن يكابده ... ولا الصَّبابةَ إلا من يعانيها المصلي جريء شجاع، لا يرهب مخلوقاً ولا يطمع فيه لأنه يسمع صوت الخالق يدعوه أن سلني أُجِبْك، واطلب مني أُعْطِك، وادعُني أستجِبْ لك. أفتدع الله وتقصد العبد الضعيف؟ * * * المصلي إنسان كامل رقيق الشعور حي العاطفة، لأنه يفيق كل يوم سَحَراً، والليل خاشع ساكن، والكون صامت هادئ لا يُسمَع فيه إلا صدى صوت المؤذن العذب، فيرى جمال الطبيعة ويشهد ساعة التجلي والنور، في حين أن تارك الصلاة يغط في نومه غطيط البَكْر! (¬1) المصلي صادق المواعيد قوي الإرادة، لأنه يريد النهوض، ¬

_ (¬1) البَكْر هو الفَتِيّ من الإبل، والأنثى بَكْرة، ومنه قولهم: «جاؤوا على بَكرة أبيهم» (ولا تقل: عن بكرة أبيهم) أي جاؤوا جميعاً (مجاهد).

فيدع فراشه الوثير وما فيه من راحة ودفء ثم يعمد من فوره إلى الماء البارد، في حين أن تارك الصلاة يريد أن يقوم، فلا يزال يتمطّى كالكلاب ويقوم ويقعد كمن به مَسّ، فإذا ترك السرير استقبل الأريكة، وإذا قام عن الأريكة ابتدر الكرسي! ومن أراد أن يطلب من تارك الصلاة وفياً مخلصاً كان كطالب من الماء جذوة نار! فإنه ليس في الناس من يقدر على التدليل والإثبات بأن الصلاة مُضرّة أو غير لازمة، بل هو يعترف بفائدتها ويتركها. إنه يضر نفسه، ومن ضَرَّ نفسه فأَوْلى به أن يضر غيره، ومن لا يفي لربه بخمس صلوات في اليوم لن يفي لأمته وبلاده. الصلاة ليست ركوعاً وسجوداً وقياماً وقعوداً، بل إن هذا كله بمثابة الجسد منها، أما روحها فهي الخشوع؛ فمن لم يخشع في صلاته كان كمن يرفع إلى الله جسداً ميتاً، ولا خشوع لمن عقله في بيته أو دكانه، وفي تجارته أو ولده. * * * لا تحاول أن تقنع تارك الصلاة بلزومها وتسرد له فوائدها وما ورد فيها، بل اسعَ لتذيقه لذّتها. وكثيراً ما كنت أنصح الرجل ثم أضطر أن أقول له: لو كنتَ تفهم ما أقول عذرتني ... أو كنتُ أطمع أن تبوء عذلتُكا لكنْ جهلتَ مقالتي فعذلتني ... وعلمتُ أنك جاهل فعذرتُكا وصلى الله على محمد، لقد كانت قرة عينه في الصلاة. * * *

الفاجعة

الفاجعة نشرت سنة 1931 (¬1) لقد وقعت الواقعة في طرابلس (¬2) ... لقد داسوا على المصاحف، لقد شتموا الرسول، لقد قتلوا الرجال وهتكوا أعراض النساء ونصَّروا الأطفال. لقد سخروا من الموت وأتوا كل منكر وفظيع! كل ذلك نزل بالمسلمين في طرابلس الغرب، وهم إخواننا يعبدون الله ربنا، ويصلّون إلى الكعبة قبلتنا، وينطقون بالعربية لغتنا، وما حل بهم يَحِلّ بنا، فماذا صنعنا من أجلهم؟ وبماذا ساعدناهم؟ هل بعثنا بالمال إلى منكوبيهم؟ هل قاطعنا بضائعَ ظالميهم؟ هل أرسلنا الاحتجاجات -وقلّما تنفع- على ما نزل بهم؟ ¬

_ (¬1) نشرت هذه المقالة في العدد الأول من كتاب «البعث» الذي صدر في غرة المحرم سنة 1350 (19/ 5/1931). (¬2) أي في ليبيا، وكانت تدعى طرابلس الغرب في أيام العثمانيين، واسمها القديم هو لوبيا، أو لوبيَّة (بتشديد الياء) كما في معجم ياقوت. وكانت يومئذ تحت الاحتلال الإيطالي الذي سام أهلَها ألوانَ الخسف والعذاب (مجاهد).

لا، ولكنّا قمنا بأعظم منه: خطبنا خطبتين، وسرنا في مظاهرة خطوتين، ثم نسينا كل شيء! إلا إن فاجعتنا بنسياننا أمرَ إخواننا أَجَلُّ من فاجعتهم بما وقع عليهم. اللهمّ ردّنا إلى دينك وقوِّنا به، آمين. * * *

ما وراء الأكمة

ما وراء الأكمة نشرت سنة 1931 (¬1) لقد كان لنا بد من كتابة هذا المقال قبل أن يستفحل الأمر ويعم البلاء، أما وقد كان كل ذاك فلا بد من الصدع بالحقيقة والجهر بها، حتى يعلم الناس أن كثيراً من هذه الفحوص وهذه الامتحانات إنما تنطوي على الخديعة وتُبنَى على الباطل، وأن كثيراً من حَمَلة الشهادات ما أخذوا شهاداتهم لتبريز في علم أو نَبْغ في فن، ولكنّما هو النَّبْغ في فن الاحتيال والمهارة في صناعة «الالتماسات»، وإلى القارئ البيان: قرأت مرة -ولا أذكر أين ولا لِمَن- هذه الكلمة: «إن بلاء البشرية وتأخر العلم إنما سببه هذه الشهادات»! وأذكر أنني عجبت منها وحسبت أن بصاحبها جِنّة، وإلاّ فعلامَ يكون الفساد نتيجة الصلاح والشرّ ثمرة الخير؟ وهل يكون في نبذ الشهادات إلا إهمال العلم والقضاء على أهله؟ ثم كَرَّت الأيام وتبدلت على مسرح الحياة فصولٌ إثر فصول، فإذا ما كنت أنكره أنا أشدّ الناس إيماناً بصحته ودفاعاً ¬

_ (¬1) في «الأيام» بتاريخ 18/ 6/1931 (1 صفر 1350).

عنه. إن الشهادة أول مرحلة من مراحل العلم، ولكن هنالك من يحسبونها آخرها! وهل للعلم من آخر؟ لم يحظَ بالعلم طُرّاً أحدٌ (¬1) ... لا ولو مارسه ألفَ سنه إنّما العلمُ كبحر زاخر ... فاتَّخِذْ من كل شيء أحسنَه سقراط شيخ الفلاسفة، الذي أنفق في سبيل العلم حياته، قال حينما أدركته الوفاة: الآن علمت أني لا أعلم شيئاً. ونيوتن العلامة الإنكليزي قال: إننا في العلم كأطفال على شاطئ بحر زاخر، يقذف إليهم الموج حين يموج بقِطَع من الصدف فيحسبونها كل ما في البحر، وفي البحر ما تعلم. فإذا كان هذا حظ نيوتن وأمثال نيوتن من العلم، فما هو حظك أنت أيها العلاّمة الجليل صاحب شهادة البكالوريا والليسانس (¬2)؟ على أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، حد ضرر الشهادات على العلم، ولو وقف لكان نصيبنا فيه نصيب عباد الله جميعاً. ولكنّ هناك شيئاً نميز منهم به، وهو أن الفحوص أيضاً لا تكاد تتم على عدل. وما أحب أن أطيل فأقول: إن مصدر الشر أمران: الالتماس والاحتيال. أما الالتماس فحدِّثْ عنه ولا حرج ولا إثم، بل قل إن شئت -وأنت صادق- إن الالتماس فوق الكفاية وفوق الحق وفوق كل ¬

_ (¬1) طراً (بضم الطاء) أي جميعاً، وهو منصوب على المصدر أو الحال، تقول: جاؤوا طراً ومررت بهم طراً، إلخ (مجاهد). (¬2) «البكالوريا» هي الثانوية العامة، والليسانس هي شهادة الجامعة الدنيا، أو هي التي يسميها الناس اليوم «البكالوريوس» (مجاهد).

شيء، وإن قرابة كبير وصحبة وزير خيرٌ لصاحبها من علم العالمين وذكاء الناس أجمعين، وما في الناس من يجهل هذا. وأما الاحتيال فعلى لونين: الاحتيال في الفحص، والاحتيال خارج الفحص. فالاحتيال في الفحص تتجلّى فيه العبقريات ويبدو الذكاء، ولولا أن يكون تعدادي هذه الطرقَ مُعرِّفاً بها مَن لا يعرفها لفعلت. وأما الاحتيال خارج الفحص فلا يكاد يقف عند حد. * * * على أن الذي يهمنا هو البحث في طريق الإصلاح، وهذا بعض ما ينبغي على الوزارة الاهتمام به: 1 - مراقبة الطلاب أثناء الفحص. ولا بد لذلك من تهيئة مراقبين أوفياء، وإفهام الطلاب قيمة الأمانة وأهمية الصدق والإخلاص. 2 - مراقبة المدارس الأهلية الثانوية والإشراف على فحوصها، حتى تتم التسوية العلمية (وما لها الآن من وجود) بين صفوفها وصفوف مدرسة التجهيز الحكومية. 3 - أخذ العهود والمواثيق على أُمَناء أسئلة الفحص أن لا يخبروا بها أحداً من الطلاب، وإنهم الآن ليُخبرون! 4 - تأليف لجنة في وزارة المعارف تسمى «لجنة الفحوص» لتتولى تحقيق هذا المشروع وتأمين الغرض الأصلي من الفحص. وما هذا كله إلا طرف يسير مما هو في الحقيقة والواقع، وربما عدنا وأسهبنا وفصّلنا ما أوجزناه هنا وأجملناه. * * *

في سبيل المقاطعة

في سبيل المقاطعة نشرت سنة 1931 (¬1) الأمة قد تعاقدت على المقاطعة، فمن قصر فيها أو حاد عنها فقد نقض العهد، ومن نقض عهد الأمة فهو: خائن! أقولها لا أجمجم (¬2) فيها القول، وأرسلها إرسالاً لا أبالي على أي رأس وقعت! وإنهم ليقولون: المقاطعة فشلت. خَسَأ هؤلاء، إن شيئاً تريده الأمة لا تستطيع قوة في الدنيا أن تحول بينها وبين إكماله، وما اختصمت الأمة وقوة أخرى، حكومةً كانت أو شركة أو هما معاً، إلا كان الظفر -كما يقول أحد كتّاب الثورة الفرنسية- للأمة لا محالة. ولا غرو، فالحكومة إنما تسطو وتحكم وتأمر فتُطاع لأن الأمة قد منحتها شيئاً من سلطتها وخوّلتها حق ممارستها، وما مثلها ومثلها إلا كمثل إخوة كُثُر ورثوا عن أبيهم أراضي وقصوراً فوكّلوا واحداً بأمر إدارتها وتنظيمها، فقام بذلك ¬

_ (¬1) في «الأيام» بتاريخ 29/ 6/1931 (12 صفر 1350). (¬2) جَمْجَمَ فلانٌ: لم يبين كلامه، وجمجم كلامَه: أخفاه. وهذه المفردة تدور كثيراً في بواكير علي الطنطاوي، وهي اليوم مهجورة أو تكاد (مجاهد).

على أحسن ما يقوم به وكيل، ثم قال لهم: هذه الأرض أرضي لا ينازعني فيها منازع وما لكم منها شيء! فإذا جَبُنوا عنه وهابوه خسروا مالهم وأضاعوه، وإن ثاروا به فطردوه أخذوا إرثهم واستعادوه. فلا خوف على المقاطعة من تدخّل الحكومة ما دامت لا تملك ذلك السلاح الذي تقلب به الحق باطلاً وتنزع به من القلوب إيمانَها، وما دمنا نجاهد بإيماننا الذي لا يتزعزع وبقلوبنا التي لا ترضى بالاستقلال بديلاً، وما دمنا نطالب بحق لنا صريح، ولا بد للحق أن يظفر ولو بعد حين. المقاطعة مظهر من مظاهر هذا الإيمان وشكل من أشكاله، ولا يضيرها أن يهملها فلان من الصحفيين أو علاّن من الموظفين أو غيرهما من رجال الحكومة البارزين، لأن هؤلاء كافرون بعهد الوطنية، وليس بعد الكفر ذنب! * * * إننا ينقصنا خلق التضحية، فلنتعلمه، ولنحمل بعضاً من الألم والشقاء في سبيل المصلحة العامة. إن الأمة الحية توقد السّراج لتنبذ شركة أجنبية كهذه، طمّاعة متعجرفة تأكل خبزنا وتسخر منا! (¬1) والأمة الحية تلبس جلود الحيوان إذا كان كل ما يُلبَس من صنع أمة تؤذيها وتضرها كأمة إيطاليا! (¬2) ¬

_ (¬1) كانت شركة الكهرباء في تلك الأيام بلجيكية (مجاهد). (¬2) انظر مقالة «الفاجعة»، وقد مرت في الكتاب قبل قليل (مجاهد).

قُطعت ذراع أحد الصحابة في غزوة وبقيت معلَّقة بكتفه بجلد رقيق فعاقته عن القتال، فوضع أصابعها تحت قدميه ثم تمطّى حتى تقطعت، فألقاها كما يلقي الخشبة وعاد إلى جهاده ... هذه هي التضحية التي يُسمَّى صاحبُها بطلاً من أبطال التاريخ وعظيماً من عظماء الدنيا، فماذا يُسمَّى من يتقاعس عن تضحية بسيطة في سبيل الوطن؟ ماذا يُسمّى من يشعل الكهرباء أيام المقاطعة؟ خائن! وليسقط الخائنون وليقاطعهم الناس أجمعون. * * *

افتتاحية مجلة «البعث»

افتتاحية مجلة «البعث» نشرت سنة 1931 (¬1) اللهم عونك وغفرانك، الحمد لك والصلاة على رسولك، والإنابة إليك، والحول والقوة بك، لا إله إلا أنت سبحانك. أما بعد، فطالما انتظرت هذه الساعة لأكتب فيها مقدمة المجلة الإسلامية، وطالما بذلت في سبيل الحصول عليها من جهد وحملت من عناء، ثم ما كنت أقدر على شيء، حتى حسبتني أنفخ في رماد وأدعو ميتاً، وكدت أيأس ... لولا أن تدراكَنا الله بهذه المجلة، فله الحمد معطياً ومانعاً. إن غاية «البعث» لا تخرج عما يراه القارئ في عنوانها: «بيان ¬

_ (¬1) هذه قطعة من افتتاحية العدد الأول من مجلة «البعث». وقد علمتم أنها صدرت مجلّةً بترخيص حصلت عليه «جمعية التهذيب والتعليم» بعدما بدأها علي الطنطاوي كتاباً «يصدر في أجزاء متتالية» كما وصفه (انظر ص 156 من هذا الكتاب)، ولم أعثر من العدد الأول كله على غير هذه القطعة اليتيمة من مقدمته، فأثبتُّها هنا لقيمتها التاريخية، ولأنها تعبر عن فكر علي الطنطاوي وتوجهه الإصلاحي العميق منذ تلك الأيام المبكرة من حياته. وقد نُشر العدد الأول من المجلة في غرة جمادى الأولى سنة 1350 (14/ 9/1931) (مجاهد).

محاسن الإسلام، والرد على أعدائه، ونشر التاريخ الإسلامي والأدب العربي»، فإذا وجدَت السبيلَ إلى هذه الغاية لم تنظر إلى غيرها. وسواءٌ لديها حين تنصر مشروعاً إسلامياً أكان صاحبه زيداً أم كان عَمْراً. وسواء لديها حين تردّ على عدو للإسلام أكان ذلك العدو مبشِّراً كافراً، أم مجدِّداً ملحداً، أم قاديانياً مرتداً، أم شيوعياً رقيعاً، أم سفورياً فاسقاً، أم حشوياً جاهلاً ... وهي تَحْملهم جميعاً على خطة واحدة، فتسوق لهم الأدلة والبراهين على صحة ما تدعوهم إليه وبطلان ما هم فيه، فإذا اتّبعوا الحق وتابوا إلى الله وأنابوا كفَّتْ عنهم، وإن أبَوا إلا إصراراً ومكابرة فضحَتهم وكشفت للناس عن حقيقتهم، حتى يعرفوهم فلا ينخدعوا بهم. وهي تُصغي إلى كل نقد صادق وتفتح له أبوابها، وتُعرض عمّا لم يكن فيه إلا الحسد والذم والهراء. ومن سنن «البعث» التي تحرص عليها الأسلوب البيّن الذي يتفق مع أَفهام الناس ويتواءم مع أذواقهم، فهي ترجو من كتّابها أن لا يجعلوا مقالاتهم ركيكة عامية مَرذولة، ولا قطعاً أدبية مَلأى بالأخْيِلَة والتشابيه، ودواوين لغوية فيّاضة بالعويص والغريب، بل مقالات وقصصاً نافعة جميلة لا يملّها قراؤنا ولا يمرون بها دون أن يستفيدوا منها، أو ما هو قريب منها. * * *

على إثر الخسوف: احتجاجاتنا كطبولنا!

على إثر الخسوف: احتجاجاتنا كطبولنا! نشرت سنة 1931 (¬1) ليلة الأحد في منتصف جمادى الأولى سنة 1350: عدت إلى منزلي، ومنزلي في شارع بغداد على شاطئ الغوطة (¬2)، والشمس قد عادت إلى خِدْرها فهي تسحب عن الشارع ذيلها الأخير، فيُرى للسائرين فيه ظلالٌ مستطيلة كأنما هي ظلال الأشجار الباسقة التي تكتنف الشارع من ضفتيه، وتبدأ منهما فلا تنتهي إلا على حدود البادية، فيكون منها هذه الجنة الفَيْنَانة التي حفزت بجمالها الفاتحين إلى امتلاكها منذ فجر ¬

_ (¬1) في العدد الثالث من مجلة «البعث» التي أصدرها علي الطنطاوي، وقد صدر هذا العدد بتاريخ 14/ 10/1931 (غرة جمادى الآخرة سنة 1350). (¬2) قال في ذكريات سنة 1931: "كانت داري في شارع بغداد يوم كان طريقاً خالياً وسط البساتين ما على حاشيته شيء من هذه العمارات التي تقف اليوم ... " (الذكريات 2/ 291)، وهو اليوم شارع في وسط المدينة، لا غوطة تحف به ولا بساتين (مجاهد).

التاريخ، والتي سقاها المسلمون بدمائهم يوم الفتح بعد بدر، ويوم الثورة بعد ميسلون. لبثت ساعة في شرفتي أطلّ على هذه الخمائل المتتالية، فترجع بي إلى الماضي، وأرى صورَه تَتَابَعُ أمام عيني فتلهيني عن الشارع الفيّاض بالآنسات والآنسين المتكشّفات والمتكشّفين! وتشغلني عما هناك من حديث وقهقهة وغناء ... ثم تتكاثر عليّ فأقوم إلى غرفة المكتبة -وقد اتخذتها في الجانب الآخر من المنزل، جانب الحقول الهادئة والطبيعة الساكنة، لأنعم بسكونها وجلالها- وجلست أفكر، فرأيت أن هذا القصر العظيم الذي لمحته من خلال الذكرى قد انهار وتداعى، فقلت في نفسي: ما تصنع أمة مُرَزَّأة؟ وماذا أعدت من وسائل الدفاع و ... ولكني لم أتمّ كلمتي حتى سمعت الفونوغراف (¬1) من دار أحد الجيران، فقلت: هذه أول وسائل الدفاع! ثم سمعت من الشارع: "يا ليل يا ليل ... "، فقلت: هذه الثانية. ثم: طا، طي، طا، طب طب، طي، طا ... ماذا حدث؟ أزُلزلت الأرض زلزالها؟ أقامت الساعة؟ وإنّي لفي دهشتي وارتياعي وإذا بي أرى الجيران قد عمدوا إلى طِباق الغسيل و «تنكات» الماء والطبول، فانهالوا عليها ضرباً وقرعاً. ¬

_ (¬1) لم تكن في تلك الأيام أشرطة التسجيل، إنما كانت الأصوات -من أغان وغيرها- تُسجَّل على أسطوانات صلبة كبيرة، فإذا أرادوا سماعها شغّلوها بجهاز اسمه «الفونوغراف»، وقد انقرض اليوم فلا يكاد يوجد في غير المتاحف (مجاهد).

لماذا؟ ليطردوا الحوت الخبيث الذي جاء يفترس القمر! * * * دعهم يضربوا ما أرادوا وتعال نتحدث. لا أتحدث إليك عن الحوت أهو حقيقة أم خرافة، هذا لا يهمني، ولكن أخبرني: لو كان في السماء حوت وعمد إلى القمر يريد أن يأكله، هل كان يخاف من طبولنا؟ هل كانت تُنتج إلا إتعاب أنفسنا وتثقيب آذاننا وإزعاجنا؟ إذن فعلامَ هذا العمل؟ إنك تقول ولا شك: إنه سخف! ولكن يا سيدي، أليس مثله احتجاجنا وبرقياتنا ومراجَعاتنا؟ أليست كلها سخفاً في سخف ما دامت لا تنفعنا، ولا تردّ علينا بلادَنا المغصوبة ودماءنا المُهراقة وأموالَنا الضائعة؟ قتل الطليان المسلمين، ألقوا الزعماء من الطيّارات، هتكوا أعراض النساء، داسوا على المصاحف، سبّوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فعلوا بالمسلمين كل منكر وأتوا معهم كل فظيع، فماذا صنعنا؟ احتججنا، كتبنا المقالات الحامية، خطبنا الخطب النارية، ثم نسينا كل شيء، ورجعنا نشتري بضائع الطليان وندفع لهم أموالنا جزاء ما فعلوه! حُكي أن أعرابياً أرسلته أمه ليرعى مئة من الإبل، فعرض له لص يريد أخذها، فتغافل عنه وتركه، حتى إذا ذهب بها وقف يسبّه ويشتمه، ثم عاد إلى أمه فقال لها: «أوسعتُه شتماً وأَوْدى بالإبل»! وهكذا نحن؛ إنّ احتجاجاتنا على الظالمين كاحتجاجنا على الحوت، ومقالاتنا كطبولنا!

انتهى الاحتجاج وانتهى ضرب الطبول، ونمنا مرة ثانية لنستريح من آلام الجهاد، ولكن الحوت لا يزال في السماء وإيطاليا لا تزال في الأرض، ولم يتغير شيء، وضحك منّا العالم وعلم أننا أمة خطب ومقالات ... الله يعطينا العافية! * * * اعلموا -يا سادتي القراء- أن الجهاد ليس هذه الجعجعة الفارغة التي تسمعونها من بعض الشباب في «الأموي» عقب صلاة الجمعة، ولا هذه المظاهرات الزائفة التي ترونها تخرج منه فتمشي خمسين متراً ثم تضمحلّ! ولا هذه المقالات التي تقرؤونها ... بل هو «المقاطعة الاقتصادية»، فما هو رأيكم فيها؟ تقولون: إنها حسنة جداً، عظيم. ولكن اسمحوا لي أقل لكم: إنكم أمة كلام! وإلا فهل تتعاهدون على أنكم لا تشترون بضاعة طليانية ولا فرنسية ولا إنكليزية مهما كانت ضرورية، وعلى أنكم تقاطعونها مهما كانت حاجتكم إليها؟ أوَنبقى دائماً واحتجاجاتنا كطبولنا؟ ونبقى مشغولين بسماع الفونوغراف والغناء عن البلاد والواجب والعمل؟ الجواب لديكم يا سادتي القراء. * * *

من رسائل العطلة

من رسائل العطلة نشرت سنة 1931 (¬1) إلى صديقي «م»: سأحدثك في هذه الرسالة جَمّ الأحاديث، ولكني لا أرتبها وأنمقها وأهيئ الأفكار التي سأفضي بها إليك، بل أسوق لك كل ما يخطر على بالي بأسلوب واضح بيّن، لا أبدل فيه كلمة بكلمة ما دامت الأولى وافية بالغرض دالّة على المعنى، وما أريد أن أبعث إليك بمباحث أدبية وعبارات شعرية، ولكن برسائل. لا أدري من أين أبدأ أحاديثي الكثيرة التي تجيش بها نفسي، ويحق لي أن لا أدري، لأنني أصبحت أشعر في هذه الأيام بضيق في صدري عظيم، وتعب في جسمي مُضْنٍ، ولعل سبب ذلك اضطراب أفكاري وقلة العمل إبّان العطلة الصيفية. وأنت تعلم ما يداخل الشاب من وساوس وآلام إذا كان خالياً من عمل يملأ وقته ويستنفد جهده، وتعلم ما هي أضرار البطالة وأثرها في نفس صاحبها. وما أدري كيف يحسبها أناسٌ غايةَ السعادة، وما هي إلا غاية الشقاء ... لو كان للشقاء غاية! ¬

_ (¬1) في العدد الرابع من مجلة «البعث» التي أصدرها علي الطنطاوي، وقد صدر في منتصف جمادى الثانية 1350 (28/ 10/1931).

لماذا نشقى في الحياة؟ وما هي سبيل السعادة؟ فكرت في هذا طويلاً، ثم علمت أن سبيل السعادة أن لا نذكر ولا نتأمل، فالذكرى والأمل باب الشقاء، وما كان دانتي مخطئاً حين قال: «إن ذكرى اللذات الماضية تؤلمنا». ولكن هل نقدر على ذلك؟ هل أستطيع أن أقف بنفسي عند الحاضر وحده؟ هل أقدر أن أتجرد من الماضي وهو كامن فِيّ؟ هل أطيق أن أغمض عيني عن التفكير في المستقبل وبذورُه مخبوءة في طيّات الحاضر؟ هل نتمكن من اتّباع الشاعر الذي يقول: ما مضى فات والمؤمَّل غَيْب ... ولك الساعةُ التي أنت فيها لا، وما النفس البشرية إلا سيّال دائم الحركة، ومَن حاول أن يقف بفكره عند حد واحد فقد حاول أن يصبح بلا فكر. الحياة أخت الشقاء، تلك سنّة الله. ولكن إذا كانت الذكرى سبب الألم فإن الأمل يُزيل هذا الألم، ولو رأيتَني -يا صديقي- وأنا أفكر ساعةَ أضطجع في فراشي في المستقبل، وأبني لنفسي -كما يقول المثل الفرنسي- قصوراً في إسبانيا! ولكني أبنيها على أساس متهافت، على الشهادة ... ومتى كانت الشهادة سبب السعادة؟ إني لأذكر آمالنا التي بنيناها على تحصيل البكالوريا يوم كنا نُحيي الليالي الطِّوال من أجلها، وكيف انهارت هذه الآمال كلها ساعةَ أخذناها فما وجدنا إلا ورقة لا تضر ولا تنفع، ولا تدل إلا على أن حاملها جاهل مركَّب أو عالم مغرور! * * *

لقد أُنسيتُ يا صديقي أن أسألك: كيف أنت؟ وهل أنت مطمئن إلى حياتك ساكن إليها، أم أنت متبرِّم بالعيش ضَيِّق الصدر؟ وهل أنت في مَصِيفك -بين الجبال والأنهار والسهول والمروج- أسعد حالاً مني وأنا غارق في لُجّة المدينة؟ وهل الطبيعة -كما يقولون- سر السعادة وبابها؟ أما أنا فأحسب ذلك خيالاً، وأعتقد أن الإنسان لا ينظر إلى الطبيعة إلا بعين بصيرته. فالرجل المتألم الضَّجِر يرى الطبيعة باكية كابية، والسعيد الطَّرِب يراها باسمة بهيّة، وما تغيرت الطبيعة ولكن نحن تغيرنا! (¬1) وإني لأجد مناسبة لأقول لك: ما أشدَّ بلاهَةَ الكتّاب والمعلمين الذين يحسبون الوصف تصويراً، ويريدون ممّن يصف رَوْضة أن يضع لها مخططاً ويكتب لها وصفاً ثابتاً، في حين أن المخطط يدل على الروضة كما هي في ذاتها، والوصف يدل على الروضة كما هي في نفس الواصف ... وشتّان بين من يرى الشيء على الأرض وبين من يراه في مرآة نفسه! ولو كان ¬

_ (¬1) في كتاب «صور وخواطر» مقالة عنوانها «السعادة»، بدأها بقصة الفيلسوف الألماني الشهير «كانْت» مع ديك كان يزعجه بكثرة صياحه، فأمر خادمه بشرائه وذبحه ... إلى آخر القصة، وبعدها قال: "فكّرت في هذا الفيلسوف العظيم، فرأيته قد شقي بهذا الديك لأنه كان يصيح وسَعِدَ به وهو لا يزال يصيح، ما تبدّل الواقع، ما تبدّل إلا نفسه؛ فنفسه هي التي أشقته لا الديك، ونفسه هي التي أسعدته. وقلت: ما دامت السعادة في أيدينا فلماذا نطلبها من غيرنا؟ وما دامت قريبة منا فلماذا نبعدها عنا، إذ نمشي إليها من غير طريقها ونَلِجُها من غير بابها؟ ". وهي مقالة لطيفة نافعة فاقرؤوها (مجاهد).

القمر كما وصفه ابن المعتز والمنفلوطي في مناجاته لما كان للقمر هذه الصورة الحسناء في نفوسنا. وماذا يعنيني من القمر إذا كان كالعروس وهذه الأَنْجُمُ أَترابُها، أو كالملك وهي خُدّامه؟ وماذا يعنيني إذا كان زورقاً من فضة قد أثقلته حمولة من عنبر أو كان غير ذلك؟ إن كل ما يعنيني من القمر -حين أصفه- هو ماضيَّ الذي يثيره في نفسي، ذكرياتي التي أحسّ بها عند رؤيته، آمالي التي يُهيجها في صدري منظره ... وما سوى ذلك فسخف في سخف! فكيف نمدح الكاتب بعد هذا فنقول: هو مصوِّر؟! * * * لقد صار موعد مطالعتي، فاسمح لي أن أقطع هذه الرسالة التي ما أدري: أتحمل إليك شيئاً جديداً أم لا تحمل إلا تصديع رأسك بتلاوتها؟ وإلى الغد. * * *

ذكرى يوم الاستقلال

ذكرى يوم الاستقلال نشرت سنة 1931 (¬1) [لم يبقَ في أيدينا إلا الذكرى، فعودوا بنا نفتح بيد الذكرى ثلاث عشرة صفحة من سجلّ الحياة طوتها يد القدر، تعالوا نحدّق إلى ظلمات الماضي، حتى نرى من خلال الدموع شبح هذه الذكرى الأبيض المنير. انظروا إليها، إنها تتغلغل في ضباب الماضي الفاحم، ويلفّها الزمان بأردية النسيان ليلقيها في هوّة العدم. ولكنه لا يستطيع، إن يوم الاستقلال ليس يُنسَى.] إني لأذكر: كان القمر يرسل أشعته الكابية فلا تقوى على تبديد ظلمة الليل، فلما كان الفجر، فجر يوم الاستقلال، توَّقد وأضاء، بل لقد استحال بدراً. وكانت المدينة خاشعة ساكنة، لا تسمع في أرجائها نَامَة (¬2) ولا يَبين بين جنباتها صوت. فلما كان الفجر، فجر يوم الاستقلال، أفاقت فَرِحة مَرِحة سعيدة طَرِبة، وأضحى كل شيء فيها يقول: أنا حي، أنا متيقظ، أنا مستقل! ¬

_ (¬1) في جريدة «ألف باء» بتاريخ 1/ 11/1931 (18 جمادى الآخرة 1350). (¬2) النأمة: الصوت الضعيف الخفي (مجاهد).

بزغت الشمس، ولكن لا كما تبزغ كل يوم؛ لقد شهدتها -وكنت طفلاً في العاشرة- أكثرَ اتّقاداً وتوهجاً، حتى لقد أضاءت جوانب الزمان فرأيت على نورها جلال مُلْك أميّة الداثر، وأنصتَت الصخور من قاسيون، ووقفَت الأمواهُ من بردى، وسكت كل ما في الكون ليسمع الكلمة الخالدة: «إعلان استقلال سوريا» ... لا، بل «إعلان الاستقلال العربي»! * * * إني لأذكر: كان مرفوعاً بألوانه الأربعة على بناء البلدية. خفق، فخفقت معه قلوبُ أمّة في الشام وأمم في الجزيرة والعراق. علا، فرفعوا رؤوسهم فخراً، ثم أحنوها له إعظاماً. بدت ألوانه الأربعة، فكانت رمزاً لأعلام أربعة ركبت هامَ الدهر قروناً (¬1)، وظهر نجمُه الوضّاء فكان نجم الأمل، نجم الاستقلال، نجم الظفَر. إني لأذكر: الأعلام العربية، أقواس النصر، أمارات البشائر ... في كل مكان وعلى كل وجه ولسان. شيب وشبّان، رجال ونسوان، بنات وصبيان، في الطرقات وعلى السطوح، تشهد المظاهرات الشعبية وتردد نشيدها ... أصوات تبلغ السماء، هتاف يهزّ الفيحاء، تدافع بالمناكب وتزاحم بالأقدام، هرج ومرج. ¬

_ (¬1) قال في «الذكريات» (1/ 67): "ورأينا العلم الأحمر ذا الهلال والنجم الذي عشنا إلى ذلك اليوم تحته قد نزل، ورأينا في مكانه علماً جديداً فيه الألوان الأربعة: الأبيض للأمويين، والأسود للعباسيين، والأخضر للهاشميين، والأحمر ما عدت أدري لمن هو" (مجاهد).

أقامت الساعة؟ أزُلزلت الأرض زلزالها؟ أكان يوم الحشر؟ لا، فما على الوجوه إلا سيماء الفرح والطرب، إذن فماذا؟ إنه يوم الاستقلال. * * * الاستقلال العربي، سقى الله ذكراه! لقد مرّ عليها عشرة أعوام وعام، ها هي تبدو بثوبها الأبيض الناصع تتغلغل في ظلمات الماضي، ها هي قد وقفت على رأس المرحلة الثانية عشرة، فالتفتت لترى ماذا حل بنا بعدها، ثم تحولت عنا ومقلتاها تفيضان بالدمع. الاستقلال العربي؟ واأسفاه! لقد فقدناه، لقد أصبح أثراً بعد عين. أيتها الذكرى، سيري في طريقك ولا تلقي علينا نظراً حتى لا تأسي وتحزني، وما أحزنَ الأمَّ ترى أبناءها مُصفَّدين بالحديد مكبَّلين بالأغلال! لقد سقطنا في أعماق الهاوية، لقد خسرنا الاستقلال وخسرنا كل شيء! لقد عَمَّ الظلام، فهل لهذا الليل من صبح؟ نعم، نعم، نعم ... أكررها ثلاثاً! فإنْ تَكُنِ الأيّامُ فينا تبدَّلَتْ ... ببُؤْسَى ونُعْمَى، والحوادثُ تفعلُ فما لَيَّنَتْ منّا قَناةً صَليبة ... ولا ذَلَّلَتْنا للّتي ليس تَجْمُلُ * * * يا يوم الاستقلال، سقى الله أطلالك. لقد كنت لنا عيداً فصار عيدك مأتماً! لقد كان يومك هناءنا فصار عزاءنا! لقد تغير كل شيء

وبُدِّلَت الأرض غيرَ الأرض والسماوات، فابقَ في ذمة التاريخ. يا يوم الاستقلال، لقد فقدناك، فعليك وعلى من فقدنا معك ومن أجلك السلام! (¬1) * * * ¬

_ (¬1) بعد الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني صارت بلاد الشام تحت حكم الاتحاديين، وهؤلاء أساؤوا إلى الإسلام وأساؤوا إلى العربية، وما كانوا منه ولا كانوا منها. ثم قذفوا الدولة العثمانية المريضة في حرب طاحنة لا علاقة لها بها فأجهزوا عليها، وحين هُزموا في الحرب انسحبت بقايا جيوشهم من الولايات العربية. في تلك الظروف الحالكة وُلد في الشام ما بدا لأهل ذلك الزمان استقلالاً، لكنّ اليد الغريبة كانت تدير المؤامرة من وراء الستار: لقد قرر المنتصرون في الحرب العامة (العالمية الأولى) اقتسامَ أملاك الدولة كما يقتسم الجائعون رغيفاً من الخبز! وما لبث الفرنسيون أن دخلوا الشام ولمّا يَمْضِ غيرُ عامين على ما حسبه الناس استقلالاً، فثَمّ وُئد هذا الاستقلال وضاعت البلاد (مجاهد).

لا قوة إلا قوة الحق، ولا مجد إلا مجد التضحية

لا قوة إلا قوة الحق ولا مجد إلا مجد التضحية نشرت سنة 1931 (¬1) لقد اتضح الأمر وظهر الخبيء، وعلمنا أن الحارس لص والحامي غاصب، ولكن دمشق لم تمت. كلا، بل هي حية تدافع عن حقها وتبذل مهجتها في سبيل حريتها. ولقد كاد ينفجر البركان، وإذا هو انفجر فسيحرق أعداء الحق فيبيدهم فلا يُبقي لهم أثراً. لقد رأينا من هؤلاء الطلاب، الذين نخشى عليهم النسيم أن يؤذيهم، أسوداً يفتحون صدورهم للرصاص ويصيحون بخصومهم: اقتلونا، فعلى أجسادنا سيُبنى استقلال سوريا! * * * أما بعد، فهذا يوم العمل. هذا يوم يقف فيه الشعبُ بحقه وخصمُه بباطله ليتنازعا، وقد تنازعا، ولكن الحق هو الظافر أبداً. إن للباطل أعواناً ولكن عون الحق هو الله، والله أكبر. وإذا أتَوْنا بالصفوف كثيرةً ... جئنا بِصَفٍّ واحدٍ لن يُكسَرَا ¬

_ (¬1) في جريدة «اليوم» بتاريخ 22/ 12/1931 (11 شعبان 1350).

ذلك هو صف أبناء الوطن، صف يدعمه الحق، صف يؤيده الإخلاص، صف لا يهاب الموت في سبيل الله والوطن! ألا أعدّوا ما شئتم من قوة، من رصاص ومدافع، من رشاشات ودبابات، فسنُعِدّ صدوراً تخفق فيها قلوب تفيض بالإيمان، وتتفجر بالوطنية، وترغب في التضحية ... وسنفتحها لكم. لا قوة إلا قوة الحق، ولا مجد إلا مجد التضحية، وسيأتي يوم تزول فيه القوة وتَدول فيه الدولة الظالمة، ولا يتبقى إلا الحق. فجاهدي يا دمشق، وها هم رجالك يجاهدون معك ويعرّضون أنفسهم للموت دونك، وها هم أبناؤك الطلاب يحمونك بأرواحهم، وها هي تلك الأرواح الطاهرة، أرواح الشهداء، تخطب من السماء خطبة الوطنية والإخلاص. إن هذه الدماء دفعة جديدة من ثمن الاستقلال، إنها أُريقَت لغسل صفحة الذل التي خَطّها عليها الأقوياء! والله معك، والله أكبر. * * * أيها الشهداء، هذه الجنة قد أُعِدَّت لكم فادخلوها آمنين. إننا لن ننساكم أبداً. إنكم خالدون لم تموتوا، ويا ليتني كنت معكم فأفوز فوزاً عظيماً. ويا إخوان الشهداء وأهليهم، إنكم إن خسرتم إخوانكم وذويكم فقد ربحتم شرف التضحية، قد كسبتم حمد التاريخ، قد بؤتم بثواب الله ... وكلنا إخوانكم وذووكم. إننا تجمعنا الآلام وتوحّد بيننا الضحايا. ألا فلنهتف جميعاً: لا قوة إلا قوة الحق، ولا مجد إلا مجد التضحية، وعلى الشهداء السلام. * * *

يا أمة الحرية

يا أمة الحرية نشرت سنة 1931 (¬1) يا بني السين (¬2)! وسواء لديّ أبَلَغَ صوتي -أنا الطالب الضعيف- مسامعكم، أم تكسّرت أمواجه على صخرة القوة فتبددت، لأن المستقبل سيجمعها فيكون لها في نضال سوريا وجهادها دويّ وصدى. إننا بشر أمثالكم، لنا قلوب تحسّ وعواطف تتألم ولسنا من صخر ولا حديد، فلا تَحْملونا على هذه الشِّرْعة التي يُحمَل عليها ¬

_ (¬1) في جريدة «اليوم» بتاريخ 27/ 12/1931 (16 شعبان 1350). وقد أشار إلى هذه المقالة في «الذكريات» فقال: "كانت دمشق هذه السنة، بل كانت سوريا كلها، كأنها تعيش بجوار بركان يفور أحياناً فتفتح أبواب جهنّم ويهدأ أحياناً، تسكن دمشق قليلاً فتتحرك حلب أو تهيج حمص أو حماة. وكنت ممّن يُضرِم هذه النار وينفخ فيها بلساني وبقلمي كما يصنع كثير من أقراني وأمثالي. ما كنت في ذلك وحدي، وإن كنت من أحدّهم لساناً وأمضاهم قلماً، وأنا أشير (على سبيل المثال) إلى مقالة عنوانها: «يا أمة الحرية» ... " (الذكريات 2/ 363). (¬2) هو نهر فرنسا الذي يخترق باريس كما يخترق النيل القاهرة، أراد بالكناية شعب فرنسا (مجاهد).

العبيد، فلا والله لن يُعْجِزنا أن نموت أشرافاً إذا نحن عجزنا أن نعيش أشرافاً. يا أمة الحرية، يا فرنسا، اسمعي! فإني لا أُجَمجم الكلام ولا أديره على وجوهه التي ترضين عنها خوفاً أو طمعاً، فقد والله يئست حتى ما في نفسي مكان لأمل ولا متّسَع لخوف، وما بعد الذي كان يوم الأحد أمل ولا يأس ولا خوف. لقد قُضي علينا أن نهبط من عليائنا وأن نُسلَب حرّيتنا ونفقد استقلالنا، ولكنه لم يأتِ بعد، ولن يأتي أبداً، ذلك اليوم المشؤوم الذي نخسر فيه إيماننا وشرفنا. فما بالك تسخّرين عبيدك السنغال لإذلالنا وازدرائنا؟ (¬1) لقد كنا نسير في رابعة النهار -ونحن فريق من طلاب الحقوق- أمام بردى، لا نحمل عصيّاً ولا مسدسات، لا نتأبط إلا كتباً خُدِعنا بها وحسبنا أنها صادقة وأن في الدنيا شيئاً اسمه «الحق»! ففَجَأَنا عبدٌ أسود، فانتهرَنا وسبّنا وكاد يُعمل حربته في بطوننا! أمّا ذنبنا الذي أتيناه فهو أن أيدينا كانت من البرد في جيوبنا، وإذن فنحن نخفي فيها قنبلة تنسف الانتداب من بلادنا! قد كان هذا ونحن في القرن العشرين، قرن النور والحضارة، وويل له من قرن! لقد كان نوراً ولكن على غيرنا، لقد كانت فيه ¬

_ (¬1) أتى الفرنسيون إلى الشام بفرقة من الجنود السنغاليين، وكانوا أشدَّ على أهل الشام من الفرنسيين أنفسهم، ذكرهم علي الطنطاوي في ذكرياته فقال: "ما أضعف الثورةَ إلاّ الذين خُدعوا من أبناء الشركس الذين تطوعوا للقتال وجنود السنغال الذين أُجبِروا عليه، ويوم القيامة يُبعثون على نيّاتهم ويؤاخَذون هم وغيرهم بأعمالهم، وفي رحمة الله متّسَع لكل من مات على الإيمان" (الذكريات 1/ 278) (مجاهد).

حضارة، ولكننا لم نرَ منها إلا المدافع والرشاشات والدبابات، وهاكم انظروا: في كل رابية جُسومٌ مُزِّقَت ... وبكلِّ نادٍ رنّةٌ وعَويلُ * * * يا بني السين: إننا اليوم كما قال ملككم فرنسوا الأول من قبل: «قد خسرنا كل شيء إلا الشرف»، وإذن فلم نخسر شيئاً! ولن تقوى قوة في العالم على سلبنا الشرف والإيمان، فاصنعوا ما شئتم. املؤوا المرجة دبّابات، واقتلوا منّا المئات، واكذبوا فانشروا ما شئتم بلاغات، فكل ما هو آتٍ آت. قد رأينا الموت وقاسينا الفقر وشاهدنا الخراب، وأصبحت مدينتا بَلْقعاً وأهلها مفجوعين ونساؤها ثاكلات، فماذا نخاف بعد هذا؟ هل بعد الموت منزلة نحابيكم عليها؟ هل عندكم أشدّ من الرصاص؟ فقد فتحنا له صدورنا! هل عندكم أغلى من الأرواح؟ لقد أعددناها ثمناً للاستقلال! ثمنُ المجدِ دمٌ جُدنا به ... فانظروا كيف بذلنا الثمنا انظروا كيف سقينا بدمنا صحراء ميسلون وجِنان الغوطة! إن حصاد الدم هو الاستقلال، وإن الشهادة خير بألف مرة من حياة يذلنا فيها العبيد. حتى العبيد تُذِلّنا في دارنا ... هذا -لَعَمرك- منتهى حدّ الشَّقا * * *

وبعد يا أيها الأقوياء: إن الهرّة إذا حُبست وضويقت انقلبَت لبؤة، والبركان إن سُدّت فوهته كان الانفجار، والشعب إذا استُذِلّ ثار، والنار ولا العار، وللشهداء عقبى الدار، وستردّون إلى الله الملك الجبار. (¬1) * * * ¬

_ (¬1) في أصل المقالة تعليق بخط جدي في آخرها قال فيه: "نشرتُ هذه الكلمة بتوقيعي الصريح إثر حوادث 20 كانون الانتخابية، وكان لها أثر في البلد واضح ودويّ شديد، ودُعيت من أجلها إلى الدوائر الفرنسية في وقت حرج، ولكن الله سلّم" (مجاهد).

مشاهدات وأحاديث: ما هذا برلمان أمة

مشاهدات وأحاديث (¬1) ما هذا برلمانَ أمة، هذا برلمان المستعمرين! نشرت سنة 1932 (¬2) أريد أن أكون عند وعدي للقراء، فأبتعد في هذه الفصول عن السياسة وأقصرها على الأدب والاجتماع، ولكن لا أستطيع إلى ذلك سبيلاً. وما أنا إلا من غَزيَّةَ، إن غَوَتْ ... غويتُ وإنْ تَرْشُدْ غَزيّةُ أَرْشُدِ ¬

_ (¬1) نشر علي الطنطاوي سلسلة من المقالات بهذا العنوان (مشاهدات وأحاديث) سنة 1930 في «فتى العرب»، وقد مرت بنا مجموعة منها في هذا الكتاب، ثم توقف عن نشرها هناك في تاريخ لا أعرفه واستأنف نشرها في «الأيام» في هذه السنة، 1932، وهو ما ترونه في هذه المقالة، ثم تابع نشرها في «ألف باء» كما سترون في مقالتَي «صحفي» و «عندنا نهضة ولكنها ضعيفة» اللتين ستأتيان في الكتاب بعد قليل (مجاهد). (¬2) في جريدة «اليوم» بتاريخ 8/ 1/1932 (28 شعبان 1350).

وهل للبلاد وأهلها حديثٌ اليومَ إلا حديث الانتخابات؟ وأي انتخابات هذه؟ إنما نسميها على المجاز، وما فيها إلا موظفون يعيَّنون ليجلسوا على هذه المقاعد في هذا القصر الشامخ الذي يسمونه «البرلمان»، ولينطقوا بما يريده هؤلاء الذين عيّنوهم. أما الأمة، الأمة التي بَرِئَت منهم وأشهدت على براءتها الملأ كله، فإنها تعود اليوم فتُشهد الله والتاريخ أنْ ما هؤلاء بنوّابها ولا اختارتهم وكلاءَ عنها، وليس في العالم قوة تضطرها إلى الاعتراف بهم اضطراراً. ومَن يستطيع أن يحملني أنا على أن أعترف بعدوي وكيلاً عني وأسلمه أمري ليقودني حيث يشاء إذا لم أرضَ به وكيلاً ولا نائباً؟ وهل يستمد النائب قوّته إلا من الشعب؟ وهل فوق إرادة الشعب إرادة (حاشا إرادة الله)؟ يستطيع القوي أن يُلزم الضعيف ما لا يريده ويحمله على الشِّرعة التي يعزف عنها، ويضطر الضعيف إلى الإذعان والامتثال، كل ذلك تستطيعه القوة، ولكنها لا تستطيع أن تجعل الباطل حقاً ولو دافعت عنه بقِراب الأرض مدافع ورشاشات. فلا يَغُرَّنّ هؤلاء أن أصبحوا نُوّاباً، فكم سجّلَ التاريخ في صحائفه من مجالسَ نُوّابُها من أمثالهم، وكم فرحوا بها وتاهوا، ولكن القدر كان يسخر منهم، ثم أهوى عليها بيده فإذا هو قد حَطَمَ المجلس والنوّاب! إن قوة النائب من قوة الشعب، فإذا خسر هذه القوة لم يكن إلا شخصاً ضعيفاً لا حول له ولا طول. * * * كانت دمشق أمس كأنها موسكو حين دخلها نابليون،

وكانت أسواقها خالية ليس فيها إلا هؤلاء الجنود، يجولون ببنادقهم وأسنَّتِهم ليدافعوا عن هذا الانتخاب الحر! انتخاب يحميه الجنود، ونُوّاب يبلغون المجالس على عواتق الجنود، وأمة تُرغَم على الاعتراف بهم بقوة الجنود! ويل للخائنين! أبَعْدَ هذا الإضراب الشامل، أبعدَ هذا التضامن العجيب يعودون فيقولون إنهم وكلاء الأمّة! وعلامَ أضربت الأمة وحزنت؟ وعلامَ بذلت نفوسَ أبنائها ودماءهم إذا كانت ترضى بهم نواباً عنها؟ ومن يستطيع أن يرى في دمشق (وغير دمشق) في هذه الأيام وطنياً لا ينطق وجهه بالألم، ويجهر صمته بهذه الشكوى المريرة وهذا الغضب الشديد؟ * * * كلا، ما هذا برلمانَ أمة، هذا برلمان المستعمرين. إن الشام أمة لها إرادة، وإرادة الأمة فوق كل إرادة، ليست فوقها إرادة إلا إرادة الله. فاقبضوا رواتبكم مباركةً يا نُوّاب، فما لكم إلا هذا من عمل! أما الأمة فلها نوابها الذين تثق بهم، وما أنتم منهم. * * *

أندية الطلاب في العالم

أندية الطلاب في العالم نشرت سنة 1932 (¬1) [لقد كنت أول داع لإنشاء لجنة الطلبة (وكان ذلك في صيف سنة 1928) ومن العاملين على خدمتها هذه السنوات الأربع، فكان من حقي أن أدلي برأيي في أعمال هذه اللجنة بعد أن بدأ تأليفها.] أندية الطلبة ذائعة ومنتشرة في الجامعات الكبيرة والصغيرة كلها في أوربا، ولها الشأن الأكبر في نشر الثقافة والعمل على تأمين مستقبل الطلاب، بل هي لا تقل انتشاراً في المدارس الثانوية والابتدائية عنها في هذه الجامعات. ولا تقتصر هذه الأندية على اللجان العلمية فحسب، بل إن منها ما هو للخطابة أو العلوم أو غيرها من الأنشطة النافعة. وهذه الأندية منتشرة في مصر انتشاراً كبيراً، وفي كل مدرسة نواد تشرف عليها إدارة المدرسة ويديرها الطلاب، وقد أُعجبت بهذه الترتيبات يوم زرت مصر لأول مرة منذ أربعة أعوام، وكتبت إلى جريدة «المقتبس» رسالة أتمنى فيها لدمشق مثلها. ¬

_ (¬1) في «فتى العرب» بتاريخ 25/ 2/1932 (17 شوال 1350).

وقد نجحت بحمد الله هذه الأمنيّة وأصبح في دمشق هيئة تدعى «لجنة الطلبة»، وأصبح من الواجب علينا أن نقدم إليها الرأي الذي نراه لنجاحها، بعد أن نقدم لها شكرنا على اهتمامها بأمر المصلحة العامة في وقت شغلت الناسَ فيه مصالحُهم الخاصة. * * * وأنا أعتقد أن من الواجب على كل سوري أن يعمل في سبيل القضية كما يعتقد بذلك إخواننا أعضاء اللجنة، ولكني أختلف معهم بأنهم يرون العمل منحصراً في الإضراب، وأراه أنا أوسع من ذلك وأشمل. وأحسب الحق فيما أرى، لأن الجبهة الوطنية -كما تشتمل الكتّاب والصحفيين والزعماء- تشمل الأستاذَ الذي يبثّ روح الوطنية في ثنايا دروسه وينشئ من الثقافة الصحيحة أدمغة وعقولاً، والتلميذَ الذي يَجِدُّ في درسه ويتسلح بسلاح العلم يقوده الإيمان، والصانعَ الذي يُغني أمته عن مصنوعات الأجانب، والتاجرَ الذي يفسح المجال للمنتجين الوطنيين والمستهلكين الوطنيين ويحفظ الأموال الوطنية من التسرب إلى الخارج، والموظفَ الشريف الذي لا يعرف إلا واجبه ولا يراقب إلا ربه ... وقانون توزيع الأعمال هو الناظم لسير هذه الجبهة، فلو أن المدرس جلس في دكان التاجر، والموظف أخذ مكان الصانع، والتلميذ استولى على منبر الزعيم، لفسدت الأعمال واضطرب كل شيء. وإذن تكون مهمة التلميذ هي الدرس قبل كل شيء، والدرس لا يكون إلا في هدوء؛ فيجب على لجنة الطلبة أن يكون ضمان الهدوء أولَ غاية لها لتؤمّن الغاية المتوخّاة من المدارس، وهي الثقافة.

نعم، إن الطلاب في دمشق -كالطلاب في فرنسا والطلاب في الصين وغيرها- ذوو حماسة مُتَّقِدة وإيمان وطني يقودهم على الرغم منهم إلى مساعدة الأمة في ساعات الحرج والضيق، ولا أحد يطلب منهم أن يمروا بالحوادث الجسام التي تتوقف عليها حياة المستقبل دون أن يلتفتوا إليها، فلا نقول لهم حينئذ: هذا لا يعنيكم، اشتغلوا بجيب زاوية «ب» وعلاقة النيتروجين بالأستلين! ولكن ألا يرى إخواني الطلاب وأعضاء لجنتهم أنه لم يعد لاستمرار الإضراب في المدارس وتعطيل الدروس معنى؟ وأنه ليس من مصلحة الوطن ولا من مصلحة القضية أن تسود الفوضى بعض المدارس، وأن يشتم بعض الطلاب مديريهم ومعلميهم؟ فلماذا لا تقوم لجنة الطلبة إذن بمنع ذلك كله واستئصاله؟ إن هذه الحالة لا يصحّ أن يُسكَت عليها وأن يُرضى بها، ولا يحق أن يُهمَل البحث في تلافي هذا الأمر من الطريق المعقولة السديدة. وأعود فأجهر برأيي في أن اشتغالَ الطالب بغير الواجب عليه وإهمالَه لعلمه ودروسه وازدراءَه لمعلميه عملٌ يضر هذه الأمة بقدر ما يزعمون أنه ينفعها. فيا أيها الإخوان، إن الأمور لا تقاس بضخامتها وضجيجها وإنما بنتائجها وعواقبها، فاعلموا أنكم إنما كنتم أبناء الأمة البررة وأشجع جنودها بعلمكم واطّلاعكم، فلا تخسروهما فتخسروا كل شيء. هذه كلمة إخلاص لا أبالي أسُمِعَت أم سُدَّت دونها الآذان ولُويت منها الشفاه، وما عليّ إلا البلاغ. * * *

أليس فيكم رجل رشيد؟

إلى مستشاري لجنة الطلبة أليس فيكم رجل رشيد؟ نشرت سنة 1932 (¬1) أما الآن فقد وجب عليّ أن أتقلد السلاح وأنزل إلى الميدان، فأدلي برأيي بصراحة وأنازل من يخالفه أو يعمل على ردّه. وها أنَذا أسوقه دون أن أجمجم القول أو أخشى، فأقول: إن اشتغال الطلاب بالسياسة، وتسرب الفوضى إلى مدارسهم وامتلاء رؤوسهم بفكرة التمرد والعصيان، وجرأتهم بالسباب والشتائم على أساتذتهم ومديريهم ... كل هذا أعمال تضرّ الأمة، ولا يكون مَن يحثّ عليها أو يشجّعها إلا مجرماً، بل خائناً لأمته وبلاده! وأنا أردّ سلَفاً على من يزعم أنني رجعي أو مدفوع بأني لا أنتسب إلى حزب من الأحزاب، وأني أول من دعا إلى توحيد ¬

_ (¬1) في «ألف باء» بتاريخ 28 شباط 1932 (20 شوال 1350). وفي أصل المقال تعليق بخط جدي قال فيه: "ربما كان هذا المقال أشدَّ مقال كتبته أثراً وأعمقَه، وذلك أني كنت رأس حركة الطلاب ورئيس لجنتهم العامة، فانسحبت لمّا تدخل بهذه الحركة أولئك الأشخاص وأحالوها إلى حركة جهل وإفساد" (مجاهد).

أمر الطلاب ورفع شأنهم وعمل على ذلك أربع سنوات، وأنني -فوق هذا- صديق الوطنيين؛ ولكن هذه الصداقة لا تطمس عيني فتجعلني أبيع من أجلها وجداني وأرى من أجلها الحق باطلاً والباطل حقاً، ولا تمنعني -إذا اعتقدت أمراً وكان فيه مصلحة أمتي- أن أقوله، ولو لويت منه الشفاه والوجوه وسخط من أجله أقوام! وأنا أعتقد أن مهمة الطالب هي درسه قبل كل شيء، وأن العلم الصحيح أكبر سلاح نواجه به أعداءنا، وأنه ليس من الحق ولا من المصلحة الوطنية أن يُضيع الطلاب دروسهم ليسيروا في الشوارع متظاهرين يصيحون: "يعيش فلان، ويسقط فلان" ... ثم يُقبَض على طائفة منهم فيودَعون السجون، فيعاشرون فيها مَن تفسد بمعاشرته أخلاقهم، ويخرجون منها وقد خُلقوا خلقاً جديداً، ولكنه خَلْق شرٍّ وبلاء، ويتمرد إخوانهم ويُضربون من جرّاء اعتقالهم، فتغلق المدرسة ويتشرد طلابها بين سمع الأرض وبصرها، فيصيروا في غدٍ من أحلاس المقاهي ورُوّاد الحانات، وقد كانوا بالأمس على مقاعد الدرس يقطفون من ثمر العلم كل شهي ويبنون من الثقافة الصحيحة دعائم المستقبل الزاهر، فتتأخر قضية البلاد ويخسر الوطن الخسران المبين، ونكون قد ربحنا حادثة تافهة يستغلها حزب من الأحزاب وتنشر خبرَها الجرائدُ وتكتب أسماء مَن كانوا أكثر جنوناً فيها فيصبحوا زعماء، ولا يقرؤون بعد اليوم درساً ولا يفتحون كتاباً وإنما يفتشون على مظاهرة جديدة أو اضطراب حديث، فإذا لم يجدوه أوجدوه، فازدادت العناصر الجاهلة في المدينة وازداد الاضطراب!

بل الأنكى من هذا أن طائفة كبرى من الطلاب أصبحت تفخر بسبّ الأساتيذ والتمرد عليهم وكسر أبواب المدارس ومقاعد الدرس ... وها هو معهد «التجهيز»، أكبر معهد علمي في البلد، قد ضاعت فيه الدروس سنة كاملة وعمَّ فيه العصيان، ولا تزال المنشورات تتدفّق تترا (¬1) في كل مناسبة وغير مناسبة تزيد هذه النار اضطراماً، توقّعها اللجنة التنفيذية لمؤتمر الطلاب. وما هذا المؤتمر إلا عشرون شخصاً ممّن أصبحوا بفضل الجرائد والسجون زعماء، في حين أن عضو اللجنة لا بدّ له من ثلاث صفات لا يكون إلا بها عضواً في اللجنة: أولاها أن يكون عميق الثقافة واسع المدارك لتكون آراؤه سديدة، وثانيها أن يكون ذا منزلة بين رفاقه وله احترام في نفوسهم لتكون آراؤه مسموعة، وثالثها وأهمّها أن يكون مستقيم السيرة حسن الأخلاق ليكون قدوة لهم حسنة ومثالاً كاملاً. * * * ومن العجيب في هذا الباب أن بعضاً من هؤلاء «الزعماء» قابلوني مساء أمس، فنصحتهم بالعودة إلى الهدوء والاستهداء بهدي العقل، فقالوا لي: أوَلم تكن أنت قبل أن تخرج من ¬

_ (¬1) تُكتب هكذا بالألف الممدودة، وبالمقصورة أيضاً: «تترى»، كلا الوجهين صحيح، وهي ليست من وزن «تَفْعَلُ» بل من وزن «فَعْلى»، أصلها «وَتْرَى». وقولنا: "جاؤوا تَتْرى" أي متواترين (متتابعين وبينهم فجوات وفترات). وقد نبّه جدي في مواطن عدة من أحاديثه وكتاباته إلى أنها اسم وليست فعلاً كما يظن عامة الناس، قارئهم وكاتبهم على السواء! (مجاهد).

«التجهيز» ممن يشاغب؟ قلت: بلى يا سادة، ولكنّ هذا هو «القياس مع الفارق» الذي ذُكِر في كتب المنطق التي لم تقرؤوها قط! كنا نشاغب من أجل قضية مدرسية، وأنتم تشاغبون (واسمحوا لي أن أستعمل هذه الكلمة) من أجل قضية سياسية. ونحن لم نتجاوز حدود اللباقة والأدب في مشاغبتنا، وأنتم تفخرون بهذا التجاوز! وكان حولنا طلاب هادئون عقلاء، وحولكم طلاب قد فاضت رؤوسهم بحب الثورة والتهور. وكنا نسترشد بعقولنا، وأنتم تسترشدون بهوى غيركم! وهذا هو الفارق «البسيط» بيننا وبينكم. وأعجب من هذا أنني كتبت مقالة أدعو فيها إلى التعقل والانصراف إلى العلم، فسبقني «إلحاحٌ» على الجرائد كلها أن لا تنشرها، رغم أنها معقولة وصحيحة ورغم أن من عادة الجرائد أن تنشر لي ... وكان لهم ما أرادوا! أرأيتَ بلداً تضيع فيه الحقائق وتغلب فيه الأغراض الخاصة والحزبية على المصلحة العامة إلا هذا البلد؟! أرأيت بلداً إلا هذا البلد تغلق مدارسه من أجل هتاف لفلان أو لنجاح فلان في البرلمان؟! أرأيت بلداً إلا هذا البلد يقود طلابَه كلَّهم طائفةٌ من الغلمان، ومن ورائهم طائفة من الشبّان، لا هم يعقلون ولا يسمعون كلام من يعقل؟! لقد قلنا لهم خمسين مرة: إن الوطنية وخدمة الأمة ليست في ترك الدروس والصياح في الطرقات، بل هي عند الطالب في اجتهاده على درسه وإقباله على علمه، وعند الأستاذ في إعداد

محاضراته وبثّ روح الوطنية الصحيحة في ثنايا العلم الصحيح، وعند التاجر في إيثاره مصنوعات الوطن على مصنوعات الخارج، وعند الموظف في مراقبة وِجدانه واتّباعه سبيلَ الشرف والواجب ... أي أن الوطني المخلص هو الذي يقوم بواجبه جهاراً. وواجبي أنا، طالب الحقوق، لا ينافي اشتغالي بالقضية العامة بحيث لا يثنيني ذلك عن درس، ولكن واجب الطالب التجهيزي، ولا سيما طالب الصف السادس الذي لم تكتمل مداركه بعد، يمنعه من أن يكون رئيس مؤتمر أو قائد مظاهرة! فضلاً عن أن يكون شاتماً لأستاذه عاملاً على هدم مدرسته وبث روح التمرد فيها! فهل في الناس مَن يُثبت لنا أن هذا باطل، وأن الحق فيما يقوم به هؤلاء؟ إذن فما لهذه الجرائد -وهمّها نجاح القضية وتقدم الوطن- لا تدعو إلى حفظ الحياة العلمية ولا تكفّ عن تشجيع الفوضى؟ وما للآباء -إذا كان يعنيهم أخلاق أبنائهم وحفظ مستقبلهم- لا يردعونهم عن الاسترسال في هذا التمرد، أو على الأصح: في هذه المهازل التي يُدفَعون إلى تمثيلها لتنقلب عليهم مآسي ويستغلها مَن دفعهم إليها؟ * * * أمَا إن هذه حال إن دامت قضت على الروح العلمية في البلاد وأخّرتها في سَيْرها إلى الغاية المنشودة مراحلَ كثيرة. وهَبْنا قد ربحنا بعد ذلك برلماناً وطنياً، فماذا نصنع به؟ أمَا والله لَهذه «التجهيز» أجدى على الأمة من برلمان تحميه حِراب المحتل

الأجنبي! ولو جاء برلمان أعضاؤه من الأولياء وكانت الأمة جاهلة والنشء متشرداً في الطرقات والمقاهي لما نفعَنا ذلك شيئاً! فالعقلَ العقلَ أيها الناس، ولا تكونوا من هذه الأمة كذلك الصديق الذي أراد أن يطرد الذباب عن وجه صديقه فطرده بصخرة حطمت وجهه! وارقبوا الله في هؤلاء الطلاب، لا تَرْزؤوهم في مستقبلهم وترزؤوا الأمة بهم، فتضيعوا عليها جيل المستقبل من أجل مظاهرة لا معنى لها ومن أجل "يحيا فلان ويسقط فلان"! وبعد، فهذا رأي أسوقه، يشهد الله عليّ أنني لا أبتغي من ورائه فائدة أو نفعاً من نفع الدنيا، وما ابتغيت ذلك من قبل، ويشهد الله عليّ أنني أرضخ للحق وأكُفُّ إذا رأيت من الدليل القاهر ومن الحجة الدامغة ما يجعلني على خطأ ويجعل هؤلاء الطلاب على صواب. وأرجو من إخواننا الطلبة العقلاء أن يتلقّوا كلمتي كما يجب أن يتلقى المرء كلمة معتدلة سيقت من المصلحة، أو يُثبتوا بُطلانها ... أما غير العقلاء منهم فسيكون ردهم عليّ «أنني رجعي»، ويا لها من بلاغة! * * *

دع السياسة!

دع السياسة! [قطعة مقتبَسة عن اللغة الروسية] نشرت سنة 1932 (¬1) دع السياسة، وتعال معي نبتعد عن واديها المظلم الصاخب. تعال معي نجلس على حافة هذه الصخرة المنيفة نتمتع بنور الشمس، شمس الحقيقة التي حالت سحب التدجيل بينها وبين سكان الوادي، ولنُصغِ إلى قيثارة الحياة التي ابتلعت أنغامَها العذبة تلك الضوضاءُ المريبة فلم نسمع منها شيئاً. * * * هنا، في حِجر الطبيعة، تشعر بلذة الحياة وتدرك جمال الوجود، وتستريح من نفاق المنافقين وكذب الدجّالين وبَلادة الزعماء الزائغين. من هنا تطل على الوادي البغيض، فترى القوم في هرج ومرج وتدافع وانجذاب، ثم في قتال تسيل منه الدماء، دماء الأبرياء، وتزهق منه الأرواح، أرواح الشهداء. وترى أشخاصاً قد ركبوا طبولاً كبيرة، فهي تتدحرج بهم فيكون لها دوي مزعج، فيتبعهم الناس يحسبونهم جبابرة، قولهم مثل أصواتهم وإخلاصهم مثل دعواهم! يتبعهم الناس، حتى إذا ¬

_ (¬1) في «ألف باء» بتاريخ 6/ 4/1932 (30 ذي القعدة 1350).

هلك من هلك وشقي من شقي، وتطلع الناس إليهم ينتظرون ما يكون منهم، والتفّوا حولهم ينافقون لهم كما يريدون، صعدوا على أكتافهم فوثبوا على الكراسي، ولكنهم وثبوا وهم يخطبون خطبة الانتصار للأمة وذم أصحاب الكراسي! * * * دع السياسة، تعال معي، ابتعد عن الوادي؛ إن رائحة التدجيل والنفاق لا تزال تملأ الجو. لنبتعد حتى ينقطع آخر صدى، وحتى لا تسمع رنة واحدة من صيحات الغلمان المجانين وخطب الزعماء الزائفين ومقالات الصحفيين الدجالين، ثم افتح كتابك واقرأ. اقرأ، اقرأ ... أريد أن أسمع أقوال الفلاسفة والعلماء، أريد أن أعاشر الأذكياء والعقلاء، فإني قد مللت السياسة ولغة السياسة ورجال السياسة! إني قد سئمت هذه الكلمات المكررة المعادة: «الأمة معنا»، «الشعب يؤيدنا»، «الرأي العام»، «الوطن»، «الإخلاص» ... كلمات متباينة، ولكن معناها واحد، هو «الكذب»! * * * ها لقد وصلنا، لقد بلغنا شقة عالية تتبدد فيها أصوات الحمقى الذين يشتموننا، فتضيع قبل أن تبلغ أقدامنا. فلنجلس إذن، ولنفتح عيوننا للنور فحسبها هذا الظلام، وآذانَنا لنغمات الطبيعة الصادقة، يكفيها ما سمعت من هراء وتدجيل. * * *

مقدمة مجلة

مقدمة مجلة نشرت سنة 1932 حمل إليّ البريد وأنا في هذه العزلة النائية في السلمية (¬1)، أعيش بعيداً عن المدن الصاخبة وضوضائها وسط الصحراء الصامتة الرهيبة، أتمتع بجمال الطبيعة وجلالها دون أن أتعب نفسي بالتفكير في شيء أو أحمل هَمّ شيء. حمل إليّ البريد رسالة من إخوان في دمشق أعزاء عليّ يطلبون مني فيها أن أقدّم للناس مجلة عزموا على إصدارها (¬2)، ¬

_ (¬1) سمها الشائع بين الناس هو السلميّة (بالتعريف وبتشديد الياء)، والصحيح فيه أنه بلا تعريف وبميم ساكنة بعدها ياء مفتوحة: «سَلَمْيَة»، كذا وردت في معجم ياقوت، وهكذا ضبطها جدي رحمه الله في ذكرياته. وتقرؤون أخباره فيها -وقد أمضى تلك السنة معلّماً في مدرستها الابتدائية- في الحلقتين السادسة والخمسين والسابعة والخمسين من «الذكريات»، في الجزء الثاني (مجاهد). (¬2) هي مجلة «بلاغة الشباب»، وهذه هي مقدمة العدد الأول منها الصادر يوم الثلاثاء 1 حزيران سنة 1932 (26 محرم 1351)، وهي مجلة أدبية أصدرها أنور العش ومعه عدد من الطلاب الأدباء، الشبان يومئذ، منهم أمجد طرابلسي وناجي الطنطاوي وعبد الرؤوف الأسطواني. ويغلب على ظني (ولا أجزم) أن هذه هي المجلة =

وتفضلوا فبعثوا إليّ بمواد العدد الأول لأبدي فيها رأيي. وقد أحسنوا بي الظن وحسبوا أن لي رأياً يُنشَر ويتناقله الناس! ولم أجد بداً من إجابتهم إلى ما يطلبون، وإن كنت أودّ لو كلّفوني بشيء غير المقدمة، كقصة أترجمها أو أجتهد أن أصنعها، أو قطعة وصفية أو نقدية، إذن لهان الأمر ولم أرَ هذه الصعوبة التي اعترضت سبيلي إلى كتابة المقدمة. وما ذاك إلا لأنني بعيد عن ¬

_ = التي قصدها جدي حين وصف في ذكرياته أنور العش فقال عنه: "وهو رجل عالم عامل دائب، واجه معركة الحياة قبل أن يستكمل عدّة مواجهتها وقبل أن يتقلّد السلاح لها. وقد أصدر وهو طالب -بإشراف مني- مجلّة «رسالة الطالب» ... " (الذكريات 4/ 117)؛ فسماها «رسالة الطالب» سهواً وإنما هي «بلاغة الشباب»، ولعل منشأ السهو أنه كتب في الاثنتين. والذي يقوّي ظني ما نراه هنا، حيث يستعين أنور العش بعلي الطنطاوي في كتابة مقدمة العدد الأول، ثم هو يصدر العدد الثاني (في الأول من تموز 1932) وفي أوله كلمة اعتذار قال فيها: "ساءنا أن نقدم للناس «بلاغة الشباب» التي وصفها أناس بأنها لا قيمة لها وآخرون بأنها مجلة مدرسية، ونحن -الطلاب الذين أصدرناها- إنما أردنا نشر الثقافة والأدب بين ناشئتنا ... ولا بد من الاعتذار عن ضعف عددها الأول لأنه صدر ونحن مشغولون بفحوص السنة الأخيرة، ومَنْ كنّا نعتمد عليه كان نائياً عنّا في السلمية"، وهذه إشارة إلى علي الطنطاوي الذي أمضى تلك السنة معلّماً في السلمية كما علمتم. وقد حفل ذلك العدد الثاني بأكثر من مقالة كتبها علي الطنطاوي، منها مقالة «كيف تكون كاتباً» المنشورة في كتاب «فِكَر ومباحث»، و «أنشودة الظلام» التي تأتي في هذا الكتاب بعد قليل، ومقالة ثالثة فيها تعليق على امتحانات البكالوريا (الثانوية العامة) في تلك السنة (مجاهد).

دمشق، لا أعرف عن هذا المشروع إلا أن القائمين به من خيرة شُبّان «التجهيز»، وأن قصدهم تمرين الطلاب على الكتابة، وأن لهم روحاً أدبية سامية واستعداداً كبيراً. وهذا القَدْر من المعرفة لا يكفي من كان في مثل موضعي. ثم إن السوق الأدبية في دمشق جامدة لا يروج فيها شيء، لأن الناس بين أديبٍ يقرأ ويقدّر، ولكنك إن وجدته وجدته مفلساً ليس معه قرش -كما هي سنة الله في الأدباء- وجاهلٍ لا يقرأ، وإذا قرأت عليه لا يفهم، وإذا أفهمتَه لم يَشْتَرِ أدبك بقرش! فلمَن نكتب؟ ومن أجل مَن تصدر هذه المجلات الأدبية، وننفق عليها من نفوسنا ومن مالنا؟ هذه هي الحقيقة، وهي مؤلمة، ولكني لم أجد بداً من ذكرها، وليس غرضي منها تثبيط الهمم وسد الطريق في وجوه إخواننا الذين يُقْدمون على العمل بحَمِيّة الشباب وثورته ويستسهلون في سبيل غايتهم كل صعب. ولست أريد أن أَحول بينهم وبين إصدارها، وإنما أريد أن أعتذر عن كتابة المقدمة، وأدلي لهم برأيي عن الأسلوب الذي يجب عليهم اتّباعه دون أن أحملهم على ذلك. * * * أذكر أن أستاذنا في دار العلوم العليا في مصر كان إذا تكلم في الشعر قرر أنه ميّزة للعرب لا يشاركهم فيها غيرهم من الأمم، وأنهم ذهبوا به دون الناس جميعاً، وأذكر أنه كان يردّ علينا -إذا عارضناه في رأيه وتَلَوْنا من أشعار الفرنسيين والإنكليز- بأن الجاحظ قد قال هذا، وليس بعد الجاحظ متّسَع لقائل. وأرى اليوم فئة من شبابنا المجدِّدين في الأدب الذين يجهلون

(وتلك هي الحقيقة) من الأدب العربي ما جاوز اسمه، ينكرون على العرب شعرهم ونثرهم مرة واحدة، ويزعمون أنْ لا شعر إلا شعر لامارتين، ولا أدب إلا أدب غوته، ومن لفَّ لفَّهما وجرى مجراهما، كأنما الأدب ليس ببراعته وجماله وإنما بهذا الطابع الغربي الذي عليه. وبين هؤلاء وأولئك ضاع الأدب العرب، ضاع بين الجامدين والجاحدين: الجامدين الذين يغمضون عيونهم عن النور ويزعمون أنه ظلام، والجاحدين الذين لا يريدون أن يعلموا، ولا يعترفون للعالِمين بعلمهم. ومِنَ البَليّةِ عَذْلُ من لا يَرْعَوي ... عن جهله، وخطابُ من لا يفهمُ وكلا الفريقين على ضلال. ولست أحب لإخواننا أن يعتقدوا أن أدبنا خير الآداب وأنه في غنى عن الاقتباس من آداب الغرب، ولا أن يروه خالياً من كل ميزة عاطلاً من كل جمال، بل أحب لهم أن يروا معي بأن احتذاء أساليب القدماء كما هي شيء لا يفيد، وأنه لا بد من التجديد في الأدب العربي، وإنما بالقصد والعقل، وبأن نقتبس المعنى الجيد والصورة الجميلة والطريقة النافعة من أدب الغرب فنذيبها في لغتنا، لا بأن نضيع لغتنا فيها كما يفعل السخفاء من المجدِّدين في الآداب! وبأن نتعلم من آداب الغرب فن القصة، وهو ضعيف في آدابنا في حين أنه دعامة الأدب الحي في هذا العصر ومرآة تقدمه وازدهاره. وإذا نحن دعونا إلى الاقتباس من أدب الغرب فما ذلك إلا

لاعتقادنا أن الأدب فن من الفنون الجميلة، والفن لا وطن له ولا جنسية، ليس فيه شرقي وغربي ولا قديم وحديث، بل هو التعبير عن العواطف والأفكار السامية بلغة سامية، فهل تختلف هذه العواطف عند الفرنسي والصيني؟ هل يبكي الفرنسي عند الألم وينتحب، ويضحك الصيني ويمرح؟ لا، إن النفس البشرية واحدة في آلامها وآمالها وحبها وبغضها، والأدب ملك للإنسانية جمعاء، وليس أدب هوغو وقفاً على الفرنسيين ولا أدب غوته وقفاً على الألمان، بل هو مشاع بين كل البشر فيجب أن ننال نصيبنا منه. * * * ولست أفرض على إخواننا القيام بهذا الإصلاح الكبير وحدهم، فبدايته يجب أن تكون بإصلاح برامج الأدب والإنشاء في مدارسنا، فتُلغى هذه الكتب السخيفة التي تسمى كتب تاريخ الأدب، ويعيَّن لتدريس الإنشاء أساتذة يفهمون الروح الجديدة في الأدب ويكتبون هم أنفسهم، وإلا فمن المستحيل أن يعلّم الناسَ الكتابةَ من لا يعرف الكتابة، أو يدلهم على الأساليب الجديدة من لا يدري ما هذه الأساليب الجديدة! هذا وإني أحث كل طالب يجد في نفسه الكفاءة للكتابة أن يكتب في أي موضوع أراد فيكون ذلك له تمريناً مفيداً، وأشكر مرة أخرى لإخواننا مساعيهم الكبيرة، وأرجو لمشروعهم النجاح والتوفيق. * * *

معلم القرية

معلم القرية نشرت سنة 1932 (¬1) ذهبت منذ أشهر إلى بيروت، فلما كنت في بعض الطريق وقف بنا القطار على محطة من المحطات منفردة على الطريق، كأنّما أُقيمت في هذا المكان الخالي لتغذّي القطار بالفحم لا لتنقل الركاب إلى مدينة كبيرة. وكنت نائماً من الضجر، فلما وقف القطار أفقت ونظرت من الشبّاك لأرى هذه القرية التي وقفنا عليها، فإذا هي المحطة وحدها، فأدرت بصري في ذلك الفضاء الواسع، فإذا هناك على سفح الجبل البعيد ظلال بيوت أو أكواخ تلوح لي حيال الأفق. وأنا قد اعتدت أن أرى من القرى ما لا يتجاوز العشرين بيتاً قائمة وسط البرية ليس فيها شيء من مظاهر الحياة الاجتماعية التي لا بد منها للرجل الحضري، فأعرضت عنها وكدت أعود إلى نومي حين صفر القطار وكاد يعود إلى مسيره، لولا أن شيئاً راعني ونفى عني رقادي، فقمت من مكاني كالمشدوه أحدق إليه لأتبيّن حقيقته ... وكان ذلك الشيء وجه صديقي فلان! صديقي فلان؟ أتراه هو؟ لا. واقتربت منه وأنا بين مصدق ¬

_ (¬1) في «ألف باء» بتاريخ 2/ 6/1932 (27 محرم 1351).

وشاكّ، ولكن الشك أغلب على نفسي لأن صديقي فلاناً الشاب المتأنق الذكي -الذي يفيض صحة ونشاطاً وتلمع عيناه بنور الأمل- يستحيل أن يكون ذلك الرجل المحطم المكدود، المتهدل الثياب الأصفر اللون الشارد النظرات، يقلب عينيه في الفضاء كالذي به جِنّة! يستحيل أن يخمد نور ذكائه وتنطفئ أشعة أمله وتحطمه السنون وهو في هذه السن! ولكنه كان هو! ولم يدرك معنى سؤالي إياه، ولم يتبين وجهي إلا بالجهد، فلما عرفني بكى وفتح فمه ليقول، ولكن القطار بدأ يتحرك فلم أسمع منه إلا هذه الكلمة: "لقد عيّنوني في هذه القرية، فانهارت آمالي ومتُّ من قبل الممات" ... ورأيته وهو يمسح بيده دموعَه ويوليني ظهره ليعود إلى ذهوله وحيرته، ثم توارى عني ... وصفر القطار. * * * وقذفت بي الأيام مرة إلى حوران أمر بها في القطار في طريقي إلى مصر، وكنت ممتلئ النفس ألماً وحزناً على فراق موطني والابتعاد عن أهلي وأذكر كيف أعود إلى مصر وحيداً منفرداً، أقف على شاطئ النيل العظيم فأذكر بردى الصغير المتواضع المحبَّب إلي، وأعلو قمة المقطم الشيخ المحطم فأذكر قاسيون الشامخ الشاب ... فلا يلهيني هذا عن ذاك، فأحس في قلبي لوعة الأسى، وألقي برأسي بين يدي لا أرفعه إلا في محطة القطار إذ يقف، وأنظر فأرى رجلاً جالساً إلى إفريز المحطة رأسه على ركبته، فأحزن وأرثي لحاله وأقول في نفسي: لعله بائس أو فقير! ويعاود القطار سيره وأنا أفكر في هذا الذي لا أعرفه،

فيقترب مني فضوليٌّ فيخبرني خبره، وإذا هو ... يا لروعة ما قال: معلم المدرسة، صديقنا المَرِح الفَرِح فلان! * * * وأسافر إلى السلمية فأعيَّن في مدرستها الكبرى الجميلة، وأتحدث إلى مَن فيها من المدرسين ويتحدثون إليّ، فيخبروني أن في قرية صغيرة قاحلة مدرسة فيها دون العشرة من التلاميذ، وفيها معلم من خريجي دار المعلمين، شاب قوي الأمل بادي النبوغ، يُقذَف به إليها فلا يجد أنيساً يأنس به ولا ضرورة من ضرورات المعيشة، بل لا يجد تلاميذ يلقي عليهم دروسه! وتتكاثر عليه ذكرياته المُمِضّة فيعتريه نوع من مرض السماء (الذي يصفه لامارتين) فيُمضي نهاره كله يروح ويغدو في الطرقات، ينظر في الفضاء البعيد نظرات شاردة مبهمة وقد انطفأ في نفسه نور الأمل والحياة! * * * هذه مشاهدات ليس فيها مبالغة ولا غلوّ الكُتّاب في الوصف، ولكن فيها الحقيقة الواقعة. يخرج الشاب الغر من دار المعلمين ونفسه تفيض بالأمل، وهو لا يعرف من الحياة إلا محيط المدرسة العلمي البعيد عن الآلام، الذي كان يعيش فيه وسط رفاقه وأساتذته الذين يطمئن إليهم ويأنس بهم، في المدينة الكبرى التي يألفها ويجد فيها راحته، فلا تكون إلا ليلة وضحاها حتى يُقذَف به إلى قرية نائية ما رآها ولا يعرفها، ولا يجد فيها إنساناً ولا غذاء ولا مسكناً!

وللوزارة بعض الحق حين تقول إن هذا شاب قوي متعلم والقرية أحوج ما تكون إليه، ولكن هذه النظرية قاسية خاطئة، فلتنظر الوزارة فيها ولتعدلها، فليس من العدل ولا من الرحمة ولا من مصلحة البلاد أن تموت هذه النفوس الفيّاضة بالحياة وتنطفئ فيها جذوة الأمل، وليس من الحكمة أن يكلَّف الشاب مثل هذا العمل الشاق، وأَوْلى به أن يعمل في سنيه الأولى في المركز تحت إشراف رجال الوزارة وذوي الخبرة والسبق من المعلمين المدربين. هذه واحدة، ثم إن هناك قضية نخاطب فيها مستشار المعارف خاصة، وهي أن من المعلمين من له عشر سنين في القرى لم يَرَ المدينة، ومنهم من له مثل هذا المقدار في المدن، ومَرَدّ ذلك كله إلى المصادفات والأقدار، وليس من العدل في شيء. فليوضع تشريع يجعل معلمي المعارف في تبدل مستمر حتى لا يفوت امرءاً نصيبُه من اليسر ولا من العسر، ولا ينبغي أن يبقى المعلم في القرية ولا في المدينة الواحدة أكثر من عامين متواليين. ولا يظن الناس أنني أقول هذا من أجل أنني في قرية، لا، بل من أجل المصلحة العامة، فلتنظر الوزارة في قضية «معلم القرية» بالرحمة والعدل والمصلحة، ولتنصف هؤلاء المساكين. علي الطنطاوي (السلمية) * * *

صفات الزعيم الحقيقي

كلمة بمناسبة كثرة الزعماء صفات الزعيم الحقيقي نشرت سنة 1932 (¬1) قال لي مرة صديق فَكِه خفيف الروح: إذا نحن احتجنا إلى أوربا في شيء واضطررنا إلى استيراده منها فإن لدينا بحمد الله شيئاً واحداً يزيد على حاجتنا ونستطيع أن نصدّره إلى بلاد الله جمعاء. قلت: وما ذاك يا صديقي؟ قال: الزعماء! فضحكت، ولكني رأيت وراء مقالته هذه الفَكِهة حقيقةً تُضحك، وشرُّ البلاء ما يُضحك! وذلك أن الزعامة عندنا انحطت عن معناها الأصلي وأصبحت مباحة للناس أجمعين، فليس بين المرء وبين أن يكون زعيماً إلا شهر في منفى (وهذا خير طريق للزعامة)، أو أسبوع في سجن، أو صياح في محفل، أو هتاف في مظاهرة ... حتى بلغ الأمر من الفساد حداً نسي معه الناس أن الزعامة تكون بغير هذا أو يلزم لها غير هذا! في حين أن للزعيم ¬

_ (¬1) في «ألف باء» بتاريخ 29/ 6/1932 (25 صفر 1351).

الحقيقي صفات أصلية نستعرضها فيما يأتي من كلام، ليعلم الناس الزعيم «الأصلي» من الزعيم «الزائف»: أولها أن الزعيم يكون ذا مواهب أسمى من مواهب الجمهور يستطيع أن يعبّر بها عن رغباتهم ويمتلكهم بها. ومن هذه المواهب، بل من أشدها ضرورة للزعيم ومما لا يمكن أن يكون بدونه زعيماً، موهبة الخطابة وما يتصل بها: من ذكاء متوقد، وبديهة حاضرة، وثقافة واسعة، واطلاع على أساليب البلغاء. وليس كل من صاح ووجد له حنجرة متينة وصوتاً عالياً وكان يعرف القراءة في الورق خطيباً، بل الخطيب هو الذي لو قال لمستمعيه إن ليلكم هذا نهار لقالوا: نعم! وليذكروا أن خطبة من طارق فتحت الأندلس، وخطبة من نابليون طأطأت لها جبال الألب رأسَها حتى وطئها جيشه. هذه هي الصفة الأولى اللازمة للزعيم، والثانية: أن يجعل مبدأه الذي يدعو إليه ديناً يدين به الناس وشريعة يعتقدونها، فلا يكفي أن يموج الشعب ويثور، بل يجب أن يعلم لماذا يثور وأن يُقْدم على التضحية بإيمان ثابت وعزم أكيد. والصفة الثالثة للزعيم: أن يكون في نفسه مثالاً للتضحية، فلا يستأثر دون قومه بشيء، ولا يعمل من أجل منفعة شخصية أو أجر يناله، بل يسعى ليُفهم الناس كلهم أنه أول الناس إيماناً بما يدعو إليه وأكثرهم تضحية في سبيله. فَلْنَزِنْ زعماءنا بهذا الميزان ولْنَقِسْهم بهذا المقياس، ثم لننظر كم يبقى منهم! * * *

على أنقاض آمالي: أنشودة الظلام

على أنقاض آمالي أنشودة الظلام نشرت سنة 1932 (¬1) نفضت يدي من آمالي، وجلست على شاطئ الماضي أستعرض هذه الآمال التي لفّها العدم بضبابه الكثيف وهي تمر بي كما يمر فلم من أفلام السينما، مغسولةً صفحاتُها بماء قلبي الذي صببته عليها من عيني يوم ودعتها، فأراها تتغلغل في الظلام ليلقيها القدر في هوة الفناء، ونظرت إلى الأمام فلم أرَ فيه إلا ظلاماً حالكاً، فأخذت قلمي لأكتب صفحة جديدة من سِفْر الأحزان. وما سفر الأحزان إلا مذكراتي التي تصف آلام «ابن العشرين»، والتي نشرتُ بعضاً منها في الصحف فضاع، وحفظت بعضاً منها في الصندوق فتمزق، وأبقيت بعضاً منها في رأسي، فأنستني المصائبُ الجديدة مصائبي القديمةَ فلم يبقَ في رأسي منه شيء ... وهذه هي الصفحة: ¬

_ (¬1) نشرت هذه المقالة في العدد الثاني من مجلة «بلاغة الشباب» الصادر في الأول من تموز سنة 1932 (26 صفر 1351).

كنت أعيش بآمالي وأبصر على نورها طريقَ المستقبل الزاهر، وكانت وضّاءة لامعة كصفحة النهار الواضح، وكنت أجهل معنى الكآبة وأبتلع الدنيا كلها بابتسامة ساحرة طَرِبة ... وتوفي والدي، فبدت سحابة سوداء في آمالي المنيرة، وتألمت وحزنت، ولكني عدت فابتسمت، ولم أيأس لأني أجهل ما هو اليأس. وعصفت الرياح بآمالي فقذفتني من هنا إلى هناك، وتعبت وسمّاني الناس متقلباً، وسقطت مرة على الشَّوك فخُدشت ذراعي، ووقعت مرة في الماء فابتلت ثيابي، وهدأت الرياح قليلاً فأسفت لما حل بي، ولكني لم أيأس لأني أجهل ما هو اليأس. وفارقتني أمي، أمي التي أوليتها حبي وصببت ماء قلبي على قدميها، فارقتني إلى الأبد، فنظرت في آمالي، فإذا الظلام قد اشتملها كما يشتمل الليل الدنيا. وطال حزني وحزّ الألم في نفسي، ولكني لم أيأس لأن لديّ مصباحي الخافت يضيء لي موطئ قدمي في هذه الظلمة الحالكة. وحافظت على المصباح، وحنيت عليه بضلوعي وأحطته بذراعي، ولكن حريتي ودراستي العالية قد أودى بهما اضطراري للعيش، فانطفأ المصباح ... وتعلمت ما هو اليأس! * * * عَمَّ الظلام وغطى كل شيء، فلم أعد أرى أو أسمع إلا هذه الكلمة التي يشيّعني بها أصدقائي وخصومي: «مسكين» ...

فتقدمت وسط الظلام أبحث عن الهوة التي أسقط فيها فتكون خاتمة هذا المطاف الأليم! إن نفسي كبيرة كهذا الليل تتسع لكل شيء، ولكنها مظلمة كهذا الليل لا تتسع لشيء، وإن أبناء الأمل لا يفهمونني، بل هم يزورونني ويفرّون مني. سأتركهم وأتغلغل في ظلامي السرمدي، إنه يستر خطيئاتي عن الناس ويستر عني شرورهم وآثامهم، وليته كان يقوى على ستر هذه الطيوف المريعة التي تتراءى لي وسط الظلام! * * * وداعاً يا أصدقائي ... إنكم لن تعرفوني بعد اليوم! * * *

تحرير الرجل من ظلم المرأة!

تحرير الرجل من ظلم المرأة! نشرت سنة 1932 (¬1) ما لكم تعجبون من هذا العنوان؟ أتحسبوني أهزل؟ لا؛ ما في الأمر هزل، وإنما هي إحدى قريباتنا عادت من مصر بعد أن لبثت فيها أربع سنين برأس غير رأسها الذي ذهبت به. لا أعني أنها استبدلت به رأس رجل بعملية جراحية، ولكن أعني أنها استعارت مخّ رجل من هؤلاء الذين يغالون في الانتصار للمرأة حتى يجاوزوا بها حد المساواة بالرجل إلى حكمه والتفوق عليه! وليست قريبتنا هذه عالمة ولا كاتبة (وذلك ما نحمد الله عليه!) ولكنها تقرأ من الجرائد والمجلات ما يدور حول ما يسمونه «حرية المرأة»، وتبالغ في العصبية لهذه الآراء وتلحّ في إذاعتها ونشرها، ولا تبالي بالقوانين الطبيعية التي جعلت بين الجنسين اختلافاً ... بل هي تفهم أن المرأة مظلومة فيجب أن تتحرر، وأن الرجل ظالم فيجب أن يقاوَم. ولا تنحصر هذه المقاومة -في رأيها- في إصلاح أخطائه، ¬

_ (¬1) في «ألف باء» بتاريخ 5/ 7/1932 (1 ربيع الأول 1351).

بل تشمل أطراف الحياة العائلية كلها فتقلبها رأساً على عقب: كانت تطيعه هي، فيجب أن يطيعها هو الآن! وكان له الرأي في لبسها وزيّها، فيجب أن تخرج على رأيه وتتبع دور الأزياء الباريسية، وترهق زوجها في كل ما تطلبه من الأزياء الجديدة! وكان يحدد لها مصروفها وميعاد غيابها عن المنزل، فيجب أن تحدد له مصروفه وميعاد غيابه، حتى إذا تأخر أو ذهب من غير أن يستأذنها أدَّبَتْه بلسانها ويدها ... وعند اللزوم بالمقشة أو بالقبقاب، ولا مؤاخذة! * * * هذه هي حرية المرأة كما تفهمها فتاة ذكية الفؤاد محدودة الثقافة من أسرة كبيرة. وإنه ليحزننا أن تُمسَخ هذه الدعوة المباركة -الدعوة إلى تعليم المرأة وتثقيفها- حتى تصبح على هذا الشكل، وتضيع جهود العقلاء من أنصار المرأة والعاقلات من النساء ممّن نادى بوجوب تعليم البنت وتثقيفها الثقافة الحقيقية. وأنا لا أنكر على المرأة أنها ذات مواهب وأنها قد تبلغ من النبوغ في فروع المعرفة حدَّ السُّمُوّ، ولو شئت لضربت الأمثال بكاتبات هنّ في نظري من جِلّة الكتّاب وأكابرهم ... كل هذا نفهمه، ولكننا لا نستطيع أن نقبل بهذا التجديد الذي تزعمه قريبتي إذا كان ينحصر في «الموضة» والبذخ. ولسنا نلومها أو نلوم مثيلاتها من الفتيات، ولكنّا نلوم المحيط، ولا سيما الهيئات النسائية التي يُنتظَر منها أن تعمل على بثّ الثقافة بين النساء،

وأن تكوّن عقولَهنّ قبل تكوين ثيابهن، وأن تنشر فكرة التجديد صحيحة سالمة لا مشوَّهة مبتورة، وأن لا تعمد إلى مخالفة الحياة وقوانينها الصالحة، بل تخضع لهذه القوانين. وإن قوانين الحياة الصالحة لتنكر -بلا شك- استبدادَ الرجل الحاضر وظلمَه وقسوتَه على المرأة، وتريد أن تقسم بينهما الأعمالَ بحسب الاستعداد الجسمي والعقلي، والمُتَعَ والملاذَّ البريئة بالتساوي. ولكن للرجل (وهذه هي ميزته الوحيدة) حق الإشراف على تنفيذ هذه القوانين وتطبيقها، وهي لها حق الاعتراض. وليس له أن يدعها في الدار وحيدة متألمة ليسمر مع رفاقه في ... حيث لا أدري، وكذلك لا تتركه هي في البيت وتذهب مع رفيقاتها، أما الأولاد فيقومان معاً بتربيتهم وتعليمهم، ومن هنا نشأت ضرورة تعليم الأم المبادئ الأولية للعلوم وتثقيفها الثقافة الحقيقية. هذا هو الحق، وبناءُ الأسرة السعيدة لا يقوم على غير هذا، أما النزوات الفكرية واتّباع مصادر «الموضة» في باريس وما يصدر عنها من سخف وبلادة فلا يعمل إلا على هدم الأسرة. وإذا ما أصرّ النساء -بعد ذلك- على اتّباع الرأي الذي يسمونه الدعوة إلى «حرية المرأة» فيجب على الرجال أن يهيئوا -منذ الآن- لجان المطالبة بحقوق الرجل وتخليصه من ظلم المرأة! * * *

نريد خصومة موضوعية لا شخصية

نريد خصومة موضوعية لا شخصية نشرت سنة 1932 (¬1) أعني بالخصومة الموضوعية: الخصومة في الرأي والمذهب، وأن تكره مِن خصمك رأيه أو تحارب هذا الرأي. وأعني بالخصومة الشخصية: أن يمتد هذا الكره من رأي خصمك الذي تراه أنت مخطئاً أو باطلاً إلى شخص هذا الخصم، فتعاديه وتبغضه. فنحن نريد أن تكون خصوماتنا الدينية أو السياسية أو العلمية خصومات موضوعية، الخلاف فيها على موضوع من الموضوعات: سواء أكان ذلك الموضوع مذهباً في السياسة أم اجتهاداً في الدين أم رأياً في العلم، نتجادل فيه ونتخاصم، فإذا التقينا مع صاحب هذا المذهب الذي نحاربه أو الاجتهاد الذي نخالفه أو الرأي الذي ندفعه لم يكن بيننا عداوة ولا بغض، لأننا لا نحارب شخصاً وإنما نحارب رأياً. هذه مسألة مفروغ منها، قد يكون من الخطأ أن ندوّنها في مقالة وننشرها في الناس لولا أن الناس عندنا لا يريدون أن يفهموها ولا أن يعملوا بها، على الرغم من صحتها ووضوحها. فنحن لا نفرق بين الرأي وصاحب الرأي، ونحن لم نتعلم بعدُ ¬

_ (¬1) في «ألف باء» بتاريخ 18/ 8/1932 (15 ربيع الثاني 1351).

حرّيةَ النشر ولم نتعلم فن النقد الأدبي، بل إن لدينا كثيراً من الناس إذا هم عجزوا عن الجدال بالمنطق والحجة لا يعجزون عن الجدال بالسباب والعداوة، وإذا هم أرادوا الرد بالقلم لا باللسان والكف -وقلّما يريدون ذلك- فلا يردّون على الرأي الذي ساءهم، وإنما يتخذون ردهم وسيلة إلى نشر ترجمة مَن نقدهم ترجمة مشوَّهة مكذوبة، وإلى تحليله تحليلاً نفسياً أحمق يخلقونه فيه كما يريدون لا كما خلقه الله! وكل هذا بعيد عن هذه الخصومة الموضوعية التي ندعو إليها ... ونخجل أن ندعو إليها لأن المفروض في الطبقة المثقفة من الناس أن تفهمها من نفسها وتنكر غيرها من ضروب الخصومة. وإذا كنت أنقد أنا مثلاً رجال «الحزب الفلاني» فليس معنى هذا أن بيني وبينهم عداوات أو تِرات، وليس معنى هذا أنني أقصّر في احترام العالم منهم لعلمه والمخلص لإخلاصه ... ولكن معناه أنني أعتقد أنهم أساؤوا بمجموعهم إساءة قد يكون مصدرَها تعمّدُ الإساءة، أو قد يكون مصدرَها الغفلةُ وحسن الظن، وقد يكون مصدرَها اجتهادٌ أخطؤوا فيه، فأنا أنقد هذا الاجتهاد وأحاربه وأكشف عن سيئاته، بل أنا أزدريه لأنني أراه باطلاً، وأزدري كل باطل، وهذا لا ينافي احترامي لأشخاصهم وإجلالي بعضاً منها. * * * هذا مثال من الخصومة الموضوعية، وأساسها أن تفرق بين الرأي وصاحبه، وأن تقتصر في دفاعك عن رأيك ومحاربتك لرأي خصمك على الحجّة التي تزيّف هذا الرأي من غير أن تتصل بصاحبه، وأن تحترم الرأي المصيب وإن كان صاحبه أسخف

الناس، وأن تزدري الرأي الفائل ولو كان صاحبه أعقل الناس. فإذا نحن اتفقنا على هذا، وإذا نحن امتنعنا عن الخصومة الشخصية وترفَّعْنا عن السباب والشتائم، تقدمت الحركة الفكرية في البلاد، وولَّدَت هذه المجادلاتُ المنطقية كثيراً من الحقائق. ويجب أن نتعود احترام الحقيقة ولو ظهرت بجانب خصمنا، أما إذا لم يكن شيء من هذا، ولم يمتنع من نخاصمه من التعرض للشخصيات واللجوء إلى غير الردود المنطقية، فإنّا لا نرى بداً من الدفاع عن أنفسنا بمثل هذا الأسلوب. ولا يجب أن يقتصر هذا التعديل في سير مجادلاتنا على السياسة وحدها، بل يتعداها إلى الأدب أيضاً، فالبَلِيّة فيه تكاد تكون أشمل، وذلك أن الحركة الأدبية -على الرغم من ضعفها في الشام- خالية من النقد الذي لا يقوم أدب أمة إلا عليه، وإذا ظهر ناقد وكتب عن أديب فإنه يكتسب عداوة هذا الأديب وعداوة أصدقائه. وقلَّ عندنا الأديبُ الذي يفهم النقد على وجهه أو الناقدُ الذي يسوقه على وجهه، في حين أن النقاد في بلاد الغرب هم الذين يرفعون قيمة الكتب بنقدهم، وهم الذين يبنون الأدب الحديث. وما يقال في الأدب يقال في الدين والعلم ... والخلاصة أننا حيال قضية قد يكون بقاؤها على حالها سبباً في ركود الحركة الأدبية والفكرية في البلاد، فيجب على الكتّاب والمعلمين إصلاحها وتهذيبها، وهي قضية «الخصومة» وما ينشأ عنها من منازعات وسيئات، وقد كان ينشأ عنها تقدم الفكر وظهور الحقيقة وزيادة التآلف لو كانت خصومة موضوعية شريفة. * * *

مشاهدات وأحاديث: صحفي

مشاهدات وأحاديث (1) «صحفي»! نشرت سنة 1932 (¬1) [والآن يا أصدقائي القرّاء، هذه فصول «لاسياسية» أقدّمها إليكم بعدما فارقتكم شهرين من أجل الامتحان، فإذا انتهيتم من قراءة «الفصول السياسية» والأخبار المهمة -التي ليس لموظف مثلي أن يقترب منها- وبقي عندكم وقت فارغ، أو أحببتم أن تروا لوناً آخر من ألوان الكتابة الصحفية غير السياسة والأخبار (قد لا يكون سخيفاً دائماً) فاقرؤوا هذه الفصول القصيرة بين الآونة والأخرى!] كان على درجة من الاطلاع والعلم لا بأس بها. لولا أنه كثير الفخر بهذا العلم، فلا يدع مجلساً يُذكر فيه العلماء والمثقفون إلا وتحدث فيه عن نفسه: بأنه درس كثيراً من العلوم في الصف السادس الابتدائي، منذ عشر سنوات، وعلى الرغم من أن هذه العلوم الجليلة قد تبخرت من رأسه فقد بقي مجيداً للقراءة ¬

_ (¬1) في «ألف باء» بتاريخ 6/ 11/1932 (7 رجب 1351).

والكتابة، يقرأ المقالة ذات العمودين ولا يخطئ إلا عشرين خطيئة، لا في النحو والصرف، فهذا مُغتفَر له، بل في التهجية، ولا مؤاخذة! أما أخلاقه فلم يكن فيها من عيب إلا أنها على غاية من ... وأنها نموذج كامل للـ ... * * * مرّت سنوات لم أره فيها، ولم أفكر فيه لأن صلتي به لم تكن تتعدى حد السلام، ولأنه خالٍ من كل ميزة علمية أو أخلاقية أذكره بها. ثم رأيته منذ أيام بعد غيبة هذه السنين، فسلمت عليه كعادتي فلم يردّ عليّ كعادته، ولحظت أنه يسير منتفخاً كالكرة شامخاً بأنفه إلى أعلى! فعجبت من شأنه وعزمت على التحدث إليه لأرى أي عَظَمة أُفيضت عليه: أأصاب إرثاً من قريب له في أميركا (بلد المال)، أم صار زعيماً في الشام (بلد الزعامات)؟ وإذا كان زعيماً فلماذا لا تصدّره الشام إلى بلاد الله الأخرى -كما تصدّر كلُّ بلد ما تنتجه- فتعوّض بإصدار هذا النوع ما خسرته من «القمر الدين»، ولا تنتبه البلاد الأخرى إلى أنه «مغشوش» لأن الغش فيه فنيٌّ يصعب اكتشافه؟! ولحقت به ففتحت معه باب الحديث: ها، سلامات سيد؟ ... سيد؟ - «فلان»! سلامات. - كيف الحال، إن شاء الله بخير؟ لم أرك منذ مدة، هل كنت مسافراً؟ ماذا تعمل في هذه الأيام؟ - والله ... صحافي.

- صحافي؟ ها، لعلك درست في هذه السنين وأحطت بما لا بد منه للصحافي من ثقافة واطلاع و ... - درست؟ أنسيت أني متخرج من ... - من الصف السادس الابتدائي. أعرف ذلك، ولكن الصحافة تحتاج إلى أكثر من هذه المعلومات. وكما أنه لا يجوز لامرئ أن يكون معلماً أو محامياً أو طبيباً إلا بعلم وشهادة، فكذلك لا يجوز لأي إنسان، جاهلاً كان أو ... وكنت أريد أن أمضي في حديثي لأكشف النقطة التي خفيت عليّ كثيراً، لولا أنه فاجأني بقهقهة مريعة أرعبتني، وضربة على كتفي جعلتني أقف مبهوتاً، ثم قال: شو هالحكي؟ بلا علم بلا ثقافة ... نحن في الشام! فأدركت حقيقة الواقع المؤلمة، وانصرفت عنه وأنا أقول: ولهذا صارت الشام دون بلاد الله. اللهمّ زد في صحافيينا المحترمين وبارك! (¬1) * * * ¬

_ (¬1) لا نحتاج إلى إيضاح بأننا لا نعني بهذا كل صحافيّي البلد، بل مَن قفز منهم من رَعْي الخَروف أو من صندوق الحروف إلى رئاسة التحرير. وتبارك الخالق المبدع!

مشاهدات وأحاديث: عندنا نهضة، ولكنها ضعيفة

مشاهدات وأحاديث (3) عندنا نهضة، ولكنها ضعيفة نشرت سنة 1932 (¬1) موضوع مقالتنا: «النهضة الجديدة في سوريا». ولسنا نريد الإلمام به من جوانبه كلها، فهذا شيء يطول بنا ويَعرُض ولا تتسع له عشر مقالات، ولكنا نريد أن نبين علاقة هذه النهضة بالأدب الذي يغذّيها ويقوّيها ويسدد خطاها. ولا نزعم أن لرأينا الذي سندلي به قيمة الحقيقة الثابتة، ولكنه رأي، وعند احتكاك الآراء تظهر حقائق الأشياء. ونبرأ إلى الله والناس من أن يكون لنا غرض في نصرة حزب أو عداء آخر، ومن أي غرض شخصي يمكن أن تُساق له مثل هذه المقالات. تقوم النهضات على أسس ثلاثة: سياسية وأدبية واجتماعية، أو هي -على الأصح- أدوار ثلاثة لا بد من أن تمر عليها كل نهضة؛ ففي «الدَّور السياسي» تأخذ النهضة شكل الثورة الفكرية ويعمّ الغليان الأفكار الشعبية كلها فتتجه نحو غاية واحدة، وأكثر ما تتجلى هذه الغاية (في مثل هذه الأدوار) في النقمة على ¬

_ (¬1) في «ألف باء» بتاريخ 16/ 11/1932 (17 رجب 1351).

الأوضاع الحاضرة، وتتخذ لها مظهرين: مظهر الاشمئزاز الشعبي الذي يخفت طويلاً ثم ينفجر بصورة مريعة، ومظهر النضال الشعبي المنظَّم الذي يسير بهدي الزعماء الوطنيين. على أن هذا الدور وإن بدا مستقلاً عن الدور الأدبي فإنه لا يستقل عنه في الحقيقة أبداً، وللأدب عملٌ في إنشائه وتهيئة الأفكار له (كما عمل أدب روسو وفولتير ومونتسيكو في إنشاء الثورة الفرنسية)، وعملٌ في تنظيمه (كما ينظم خطب الزعماء ومقالاتهم، وما هذه الخطب وهذه المقالات إلا أعمال أدبية). فأنتم ترون أن الدور الأول للنهضات -وإن كان سياسياً في مظهره- فإن العامل الذي يغذيه وينشئه هو الأدب. أما الدور الثاني فأدبي بحت يبدأ بعد هدوء هذه الثورة، ويتولى فيه الشعراء والكتّاب تجسيمَ آمال الأمة والإشادة بظفرها، ونبش تاريخها وإحياء ما فيه من مواقف مشرّفة وصفحات ناصعة، وتقويم اعوِجاج النهضة والأخذ بيدها، لتسلك على ضوء التاريخ والتجارب الحكيمة أقومَ المسالك إلى بلوغ الغاية. أما الدور الثالث فهو ثمرة النهضة ونتيجة هاتين المرحلتين، وفيه تتغلغل النهضة في النظم والعادات الاجتماعية فتهذّبها وتصلح أخطاءها، وتنشئ المجتمع نشأة جديدة وتعيد إليه الشباب والحياة. * * * وإذا نحن نظرنا إلى النهضة السورية (التي بدأت تجتاز الدور السياسي منذ أيام جمال باشا) وقسناها بهذا المقياس وجدناها

مضطربة خلواً من العامل الأدبي، ينطبق عليها قول المؤرخ الفرنسي هوفلاك عن الصين في عهدها الماضي، إذ يقول: "كنتَ لا تسمع أنّى سرت وحيث توجهت إلا أصوات التذمر والشكوى، ترتفع ثم تنخفض وتصير همساً، ثم تعلو حتى تكون ضجة وحشية هائلة. كان الشعب يُصيخ للمثقفين من أبنائه، ولكن هؤلاء المثقفين كانوا عاجزين عن تعيين أغراضهم وتوجيهها وجهة معروفة. المصلحون يَشْكون الاستبداد، والأدباء يشكون ركود الأدب، والأفراد يشكون الاضطراب والحيرة ... وكل أولئك هَاوٍ إلى قرارة المنحدر". ولم يقتصر الأمر عندنا على ضلال الأدب وِجْهَةَ الصواب، بل تعداه إلى الوقوف، إلى السكون المطلق، حتى إنك لتشكّ (وأنت في شكك على حق) بوجود أدباء في سوريا! وهكذا ضعفت نهضتنا واضطربت لأنها فقدت ما هو منها بمثابة العمود الفقري من الإنسان، وهو الأدب. ولا أريد بالأدب القصائد والمقالات فقط، بل أريد «الحركة الفكرية» بمعناها الواسع. أريد أن تُبنى نهضتنا على أساس فكري واضح وعلى ركن من الثقافة رَكين، وأن يُبدَأ بوضع هذا الأساس في المدارس وفي أدمغة الأطفال لينشأ جيل جديد يفهم النهضة على وجهها الصحيح. هذا ما نريد من زعمائنا أن ينتبهوا له، ومن أجل هذا كتبنا في دعوة الطلاب إلى الاشتغال بدروسهم، وقلنا لهم إن وطنية الطالب في درسه وعلومه وإن المستقبل يجب أن يُبنى على العلم، فاتُّهِمْنا بالرجعية! ومن أجل هذا دافعنا عن الجامعة وسفَّهْنا رأيَ من يدعو إلى إغلاقها -على ما قد يكون لهذا الداعي من حجج-

لأن الروح الجامعية، روح البحث الحر المفروض وجودها في كل جامعة، ضروريةٌ لبناء نهضتنا الآتية، فاتُّهِمْنا بموالاة أشخاص والدفاع عنهم! وأنا الذي لم ينتسب عمرَه إلى حزب ولم يأخذ على مقالة أجراً لا بالواسطة ولا مباشرة، ولم يؤجّر قلمه هذا الضعيفَ لمخلوق! * * * والخلاصة أن في سوريا نهضة لا يمكن إنكار وجودها، ولكنها ضعيفة مضطربة، فيجب أن تُقوّى بالأدب وتُغذّى بالحركة الفكرية، ليتسنى لها البقاء والنجاح ولا يعتريها الفشل والخذلان الذي سيحيق بها حتماً إذا بقيت سائرة في طريقها الحاضرة: لا أدباء يرسمون لها الخطط ويحفزون لها الهمم، ولا زعماء يقودونها ويوحّدون صفوفها ويعبّرون عن مقاصدها، ولا مصلحين يعالجون أدواءها الاجتماعية ويفتّشون على أدويتها ... هذا هو اللب، وما عداه فقشور يابسة وزَبَد يذهب جفاء! * * *

إلى المبشرين

إلى المبشرين هذا الطاعون، التبشير، إذا كان المقصود منه النصارى فنصارى البلاد التي أشرق فيها فجر النصرانية أعرف بنصرانيّتهم وإنجيلهم من هؤلاء، وما هم في حاجة إلى تبشيرهم! وإن كان القصد منه المسلمون فليعلم هؤلاء أن ردّ الأرض إلى الشمس أسهل عليهم من ردّ مسلم واحد عن دينه! ولم نسمع إلى الآن بمسلم حقيقي واحد ارتدّ عن دينه. ولو أن هؤلاء المبشرين على شيء من العلم أو كانوا من أتباع المنهج العلمي في المناقشة لسوّينا حسابنا معهم منذ عهد بعيد، ولأقنعناهم بالحجة والبرهان بأن الحق معنا فيما نختلف فيه معهم، وأنا -الشاب القليل الاطلاع- أتحدى الآن أكبر مبشّر وأدعوه للمناظرة علناً، على أن يكون المنطق والبحث العلمي عماد هذه المناظرة، فإذا قَبِل بهذا الشرط فإني أقبل بأي شرط يشرطه عليّ إن كنت مغلوباً، وله أن يعيّن هو زمان المناظرة ومكانها! ثم ما هذه الجَرَاءة التي رُكبت في طباع هذه المخلوقات: الجراءة على الله والحق والتاريخ؟ لا يبالون في سبيل مبدأ من مبادئهم: أغضب الله، أم دِيس الحق، أم هُدم التاريخ! ويحسبون أن كلمة سخيفة في كتاب سخيف تهدّ أكبر حقائق الدنيا وتبدل

الباطل حقاً وتحيل الظلام نوراً! أما إننا لا نريد أن نثبت لهم الصواب، وليس يؤذينا ضلالهم ولا ينفعنا إيمانهم، وسواء لدينا أأخرسهم الحق أم أنطقهم الباطل، ما داموا في الهوان علينا حيث هم في الهوان على الحق، ولكنا نريد أن نقول: لو أن السيادة كانت لنا في بلادنا لما تجرؤوا على مثل ما تجرؤوا عليه، ولما استطاعوا أن يأكلوا خبزنا ويسبّوا ديننا، ولو أننا شعب حي لا يبعث بأبنائه إلى أعدائه لبقيت مدارسهم خالية، يبشرون الجدران لا الصبيان، ويبثّون سمومهم في المقاعد لا في القصائد ... فلنتعلم كيف نكون شعباً حياً! (¬1) * * * ¬

_ (¬1) كُتبت هذه الكلمة سنة 1932 ولم تُنشَر قط، إنما أخذتها عن أصل مخطوط. ولو أنني رأيتها بنت يومها، تولد في أوله وتموت في آخره، لأعرضت عنها وما نشرتها، ولكني وجدت اليوم كالأمس، وإنما كانت الشام مغلوبة وفرنسا غالبة فصارت أميركا الغالبةَ والعراقُ المغلوبَ. وحيث كنا المغلوبين والأجنبيُّ الغالبَ استأسد في أرضنا المبشِّرون، وإنما هم أُسّ الاستعمار وأساسه المتين، فحيناً تجدهم له سابقين وحيناً به من اللاحقين! (مجاهد).

من هو السنوسي؟

من هو السنوسي؟ نشرت سنة 1933 (¬1) منذ تسعة أعوام أو قريب منها، وفي يوم صائف شديد الحر لا أزال أذكره، كنت في سوق الحميدية أشتري شيئاً لوالدي المريض في الدار، فإذا بقريب لي مدير مدرسة يجوز بي هو وتلاميذه ويدعوني للذهاب معهم لزيارة السنوسي. لم أكن أعرف أي شيء هذا السنوسي ولم أفكر في السؤال عنه، بل سرت معهم إلى دار الأمير سعيد في الجسر (¬2) وكانت تعجّ -على سعتها- بوفود المغاربة ذوي البرانس الكبيرة، وغير المغاربة من وجوه الشاميين وكرامهم، حتى ما نجد فيها مكاناً نمرّ ¬

_ (¬1) في «الجزيرة» بتاريخ 1/ 4/1933 (5 ذي الحجة 1351). (¬2) الجسر الأبيض، وهي منطقة قريبة من الصالحية، سُمِّيَت كذلك لجسر أقيم فيها فوق نهر تورا، أحد فروع بردى، وكانت تعتبر يومئذ خارج دمشق يوم كانت دمشق محصورة بسورها القديم. والأمير سعيد هو حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، وقد أعلن نفسه رئيساً للحكومة العربية في سوريا عقب انسحاب الأتراك منها، واستمر أياماً قليلة انتهت بدخول فيصل بن الحسين إلى دمشق، حيث أقاله وأحلّ محله رضا باشا الركابي (مجاهد).

منه، فوقفنا في الدهليز حتى طلع علينا السنوسي، وكان متوسط القامة نحيفاً أبيض اللون، له أنف أقنى كبير وشفتان رقيقتان، يلبس الثياب المراكشية، فقال شيئاً لا أذكره الآن. ولما انصرفنا سألت عنه ماذا يكون، فقال لي أحد الشيوخ: إنه شيخ الطريقة السنوسية. قلت: شيخ طريقة؟ أهذا كل شيء؟ وهززت رأسي ساخراً ولم أجب. ومرت سنون طويلة رأيت فيها من ألوان المصائب والعِبَر ما أنساني السنوسي وتلك الزيارة، حتى كان الأسبوع الماضي وقرأنا نبأ وفاته الذي روّع الناس وآلمهم، فأخذت القلم لأكتب عنه، ولكن رددته إلى مكانه وسألت عن السنوسي من جديد: ماذا يكون؟ فقالوا: زعيم عصابة مجاهدة كعمر المختار. أهذا كل شيء؟ ليبقَ القلم مكانه إذن، ولننتظر من يكتب عنه. وكتبوا وقرأنا، فما ازددنا بالرجل معرفة ولا عرفنا من سيرته شيئاً! وهكذا نحن أبداً، نمدح ونرثي، ولكن كل رثاء ككل رثاء وكل مديح ككل مديح: ألفاظ رنّانة وخيالات ضخمة، أما الحقيقة وتصويرها والنفس وتحليلها فشيء لا نعرفه. وهكذا جهل الناس السنوسي حتى ما يظنّونه إلا زعيم عصابة أو شيخ طريقة، فأحببت أن أعرّفهم به في هذه الكلمة الصغيرة كما عرفته أنا، وإن كان ذلك لا يشفي غليلاً. * * *

كان السنوسي إلى سنة 1916 صاحبَ الكلمة النافذة التي لا مَرَدَّ لها من حدود مصر إلى شاطئ الأطلسي، وكان اسمه مصدر الرعب والإجلال، وكانت الزوايا السنوسية منتشرة في الصحراء تبث فيها الروح والحياة، وكان السنوسيون أينما أرسلوا رُسُلهم شادوا زاوية. والزاوية مسجد ومأوى وقلعة ومدرسة في آن معاً، وشيخ الزاوية هو القائد والقاضي والمدرّس والواعظ ... إن الزوايا هي مراكز الحياة في الصحراء. كان جد السنوسي تلميذاً للسيد أحمد بن الإدريسي الذي قدم مكة من مراكش وأقام فيها يعظ ويعلّم، وكان ذلك سنة 1240 هجرية، ثم بَثَّ تلاميذه في الآفاق لينشروا طريقته في الناس. وكان السنوسي رسوله إلى طرابلس، فلم ينشر الطريقة كما كان ينشرها شيخه، بل أسس جمعية نظامية متينة البناء تشبه في متانة تكوينها الجماعات الكبرى في أوربا: الفاشستية مثلاً، وتشبه من ناحية أخرى نظام الفرسان الذي عرفته أوربا في القرون الوسطى. وكانت خطته قتال الفرنسيين ثم الطليان، أما الإنكليز فكان ينوي تأجيل المعركة معهم، فلما قامت الحرب العامة أرسل أنور باشا إلى السنوسي الكبير -بإيعاز من السفارة الألمانية- يطلب إليه أن يغزو مصر تمهيداً للثورة فيها، فأبى السنوسي ذلك، وبعث باليوزباشي جمال (جمال باشا فيما بعد) إلى القسطنطينية على مركب شراعي فقرر فيها أن السنوسي الذي يقاتل الطليان لا يقوى على قتال الإنكليز معهم. ولكن القيادة العليا أصرت على رأيها، وذهب نوري شقيق أنور باشا إلى ليبيا وأجبر السنوسي على الهجوم، فكانت النتيجة الفشل لأن مصر لم تُرِدْ (أو لم تستطع)

القيام ضد إنكلترا. وعلى الأثر سافر السنوسي إلى القسطنطينية في غواصة ليبرّر موقفه بعد هذه الخيبة، ولم يعد بعد ذلك إلى ليبيا قط، ولم يرَ بعد ذلك صفحة الصحراء التي بَثَّ فيها من روحه روحَ الحياة. ولكنه لم يهدأ ولم يلجأ إلى الضعف والاستسلام، بل شرع يعمل، وماذا يضره أن يعمل في غير الصحراء؟ أليست كل البقاع ميادين جهاد في سبيل الله؟ وماذا يضره أن يحارب غير الطليان؟ أليسوا جميعاً أعداء الله؟ بلى، وبقي إلى ما بعد سنة 1924 مواصلاً للخليفة حتى نفاه الاتحاديون، فلبث يتنقل من سوريا -حيث أخرجه حكام البلاد، الفرنسيون- إلى فلسطين -حيث طرده ولاة الأمر، الإنكليز- إلى الحجاز وعسير حيث استمر على جهاده إلى أن أدركته الوفاة. ولكنه لم ييأس قط ولم يعترِ عزيمتَه وهن، واسمعوه يحدّث مندوب جريدة «الفوسته تساتيونج» الذي قدم عسير سنة 1927 ليفوز بهذه الكلمات: "نحن السنوسيين نعيش أحراراً ونموت أحراراً، ونقاتل الاستعمار الأوربي إلى الموت. قد لا نكون اليوم ظافرين، ولكن الحرب سجال، وسيأتي يومنا. هناك دول تَعِدنا بالمال الوافر إذا نحن أغمدنا سيوفنا، ولكنهم لو وزنوا جبال السّراة ذهباً وجعلوا كثبان الصحراء ألماساً لما نالوا منا مرادهم. لا يزال السنوسيون يقاتلون الطليان في طرابلس، وليس بينهم وبين البحر إلا مدة ثلاثة أيام، فإذا سرناها قذفنا الطليان في البحر! والآن: أيطالبوننا نحن السنوسيين بقبول الجنسية الإيطالية؟ كلا، لم نقبل، ولن نقبل أبداً. أهون علينا أن تُقطَع رقابنا من أن نحمل

جنسية إيطالية! إذا عدتَ إلى أوربا فقل للطليان إنهم لم يدركوا روح الإسلام، ولَرُبّ دولة كبيرة تصبح غداً صغيرة. هذه ألمانيا قد هُزمت وهذه روسيا قد قُسمت، ولكنهما نهضتا من جديد ... إن إيطاليا اليوم قوية والمسلمين ضعاف، ولكن الغد بيد الله". * * * إن ألف نفس كهذه النفس -ولو كان أصحابها عُزْلاً- تكفي لإنقاذ أعرق البلاد الإسلامية من الاستعمار. فعليك أيها البطل العظيم رحمة الله، وعلى المسلمين النائمين المتواكلين رحمة الله أيضاً. إنك ميت وإنهم ميتون! (¬1) * * * ¬

_ (¬1) هذا السنوسي هو الشيخ أحمد الشريف، حفيد مؤسس الحركة الشيخ محمد بن علي السنوسي المتوفى سنة 1859، وقد خلف عمَّه الشيخ محمد المهدي في قيادة الحركة السنوسية سنة 1902. وكان الشيخ أحمد هذا من كبار المجاهدين؛ قاد عشرات المعارك ضد الطليان والإنكليز والفرنسيين في ليبيا وتشاد ومصر والسودان، وقد بالغ الأمير شكيب أرسلان -في كتابه «حاضر العالم الإسلامي» - في وصف شجاعته وعلوّ همّته وأثنى عليه ثناء جميلاً طويلاً. وكما رأيتم في هذه المقالة فقد اضطر إلى مغادرة ليبيا إلى الأستانة، فتنازل عن قيادة الحركة لابن عمه محمد إدريس بن محمد المهدي (وهو الذي صار -من بعدُ- ملكاً لليبيا بعد الاستقلال) وأقام في الحجاز في ضيافة الملك عبد العزيز حتى توفي بالمدينة ودفن فيها، رحمه الله. والسنوسية حركة إصلاحية تأثر مشايخها بحركة الإمام محمد بن عبد الوهاب، ولا سيما في العقيدة، إلا أنهم تبنوا أسلوب الدعوة =

¬

_ = بالحكمة والموعظة الحسنة وكرهوا التغيير بالقوة والعنف، ومنهجهم الفقهي يجمع بين الفقهين المالكي والحنبلي، وإن كانوا أقرب إلى تبني الاجتهاد ومحاربة التقليد. والسنوسيون يبالغون في الاهتمام بالعبادات ويَدْعون إلى الزهد، وهذا الجانب في دعوتهم جعلهم قريبين من الصوفية، لكن هذا القرب لم يمنعهم من أن يكونوا شديدي العداء لانحرافات الصوفية والإنكار على بِدَعهم وشركيّاتهم. وقد بلغت الدعوة السنوسية مبلغاً عظيماً من القوة وانتشرت زواياها من مصر إلى مراكش ومن البحر الأبيض إلى جنوب الصحراء، بل لقد جاوزت الشمال الإفريقي وصولاً إلى الهند وإلى الملايو في الشرق الأقصى. وللسنوسيين دور عظيم الأثر في الجهاد الإسلامي في الشمال الإفريقي، ومن أشهر قادتهم عمر المختار الذي كان تلميذاً للشيخ المهدي السنوسي. ومن شاء الاطلاع على القصة الكاملة لهذه الدعوة المباركة فليقرأ الكتاب الوافي للدكتور محمد علي الصلابي: «الثمار الزكية للحركة السنوسية» (مجاهد).

خذوا الصواب من قلب الخطأ

المؤمن لا يُلدَغ من جحر مرتين خذوا الصواب من قلب الخطأ نشرت سنة 1933 (¬1) إذا كانت أعمال الإنسان وتصرفاته لا تخلو من خطأ مقصود أو غير مقصود، فما من خطأ إلا وفيه عبرة، والناسُ عِظةٌ للناس. ولعل من أفظع الخطيئات التي ارتكبناها في جهادنا ونضالنا الوطني (إذا لم نقل إنها أفظعها على الإطلاق) الاشتراك في الحكم متعاونين مع السلطة المحتلة التي رسمت لمن يتقدمون إلى المناصب الحكومية -من أي عنصر كانوا- خطة لا يسيرون على غيرها ودائرة لا يتجاوزون حدودها، فلم يبقَ أقلُّ فرق بين وطني مخلص مجاهد وخائن خانع مستسلم؛ كما يفعل هذا يفعل ذاك، والحرية للاثنين واحدة، وجُلّ ما هنالك أن الأول متى أُلقيَت إليه الأوامر من الملأ الأعلى يقول أولاً «لا» ثم يخضع، أما الثاني فيخضع لفوره! والنتيجة واحدة. دعونا نستعرض شيئاً من حوادث الماضي والرجال الذين ¬

_ (¬1) في «الجزيرة» بتاريخ 27/ 4/1933 (2 محرم 1352).

برزوا فيها (مع احترامنا لأشخاصهم) لنرى كيف تقدموا إلى المناصب وكيف خرجوا منها، ثم نستخلص من هذا العرض مبدءاً نقرّه ونعمل بموجبه ونسير على مقتضياته: (1) كانت الثورة في الشمال قائمة على قدم وساق يقودها إبراهيم هنانو وصبحي بركات، وقد أبى بركات أن يخضع وأن يستسلم فاضطرت السلطة المحتلة أن تعقد معه معاهدة الند للند، وجاءت به فجعلته رئيساً للبلاد السورية. فأكبر الناسُ فيه ذلك الإباءَ، ولا ننسى كيف احتفى به الدمشقيون حتى إنهم حلّوا جوادَي المركبة التي ركبها من محطة القطار وراحوا يجرّونها بأنفسهم! (2) وقدّمت الكتلة الوطنية إلى منصب الحكم الشيخ تاج الدين الحسني، وأقامت له المظاهرات والمهرجانات في كل مكان، ولما أُعلنت الانتخابات للجمعية التأسيسية أطلقوا عليه لقب «تاج القائمتين»، أي القائمة الحكومية والقائمة الوطنية. (3) وعندما تألفت الحكومة الحالية قدمت الكتلة الوطنية اثنين من رجالها للاشتراك في الحكم، هما جميل مَرْدَم ومظهر أرسلان، وراحت صحفها تتغنى بهذه "الخطوة الواسعة نحو الاستقلال التام الناجز" ... وأخيراً كانت نهاية الكل واحدة، وبقدر ما كان الاحتفاء بهؤلاء الرجال عظيماً كانت النقمة عليهم شديدة، فأية عبرة يجب أن نستخلص من عرض هذه الحوادث ورجالها أمام الأنظار؟ تُرى ألم يكن من الأفضل أن لا يتقدم هؤلاء الرجال إلى مناصب الحكم؟ ألم يكن الأفضل أن يبقوا في صفوف المعارضين فلا تخسرهم الأمة إلى الأبد؟ ألم يكن الأفضل أن يبقى الوطنيون على سياستهم السلبية مُعْرضين عن هذه التجارب العقيمة التي

أضعنا فيها رجالاً وأموالاً وأرواحاً، وأضعنا وقتاً ثميناً بألاعيب لا نجد ما نقوله فيها غير أنها صبيانية؟! ما ضرَّنا لو بقي هؤلاء الرجال في الجبهة الوطنية، يَلوح كل منهم بصفاته البارزة كلما اقتضى الأمر؟ ولكنه الخطأ الفاضح بوضع الشيء في غير موضعه أدّى إلى الحال التي نحن فيها، وإلى تلك العقيدة التي تقول بها أوربا وتتخذها مبدأ تسير عليه في سياستها الشرقية، وهي أننا قوم تستهوينا المناصب فننقاد إليها صاغرين. المبدأ الذي يجب أن نسير عليه بعد الآن لتبقى لهذه البقية من الجبهة الوطنية مَنَعتها وقوتها ووَحدتها هو الابتعاد عن مناصب الحكم والرجوع إلى السلبية المطلقة، ما لم يعلن الجانب الفرنسي بصراحة وبصورة رسمية مشروعَه لحلّ القضية السورية كاملاً، فنناقشه إذ ذاك على صفحات الجرائد على المكشوف بلا مفاوضة ولا مفاوضين. وما دمنا قد سلخنا ثلاث عشرة سنة ونحن على ما نحن، فلا بأس بثلاث عشرة سنة أخرى، ومضروبة بثلاثة عشر، والأمر يومئذ لله والنصر بيده يؤتيه من يشاء من عباده المخلصين (¬1). * * * ¬

_ (¬1) ما أشبه اليوم بالأمس؛ كانت الشام فصارت غيرها من البلدان وذهب رجال وجاء رجال، والحال هو الحال. غيّروا ما شئتم ممّا في هذه المقالة من أسماء، ويا للغرابة: ستبقى النتيجة ذاتها، وستحصلون على مقالة صالحة للنشر في صحف الغد! (مجاهد).

رسالة مختصرة إلى «المجمع الأدبي»

من رسائل الصيف (¬1) رسالة مختصرة موجهة إلى «المَجْمَع الأدبي» نشرت سنة 1933 (¬2) أكتب إليك هذه الرسالة مَوْهِناً (¬3)، وقد بلغتُ الدار مُذ هُنَيّة فألقيت بنفسي على كرسي من الكراسي ساغِباً لاغِباً (¬4) وأخذت القلم بيدي ورحت أكتب إليك، وأنا أسرع وأهذي كما يسرع ويهذي من أكلته الحُمّى، ورحت أفكر خلال ذلك في ليلتي وكيف كنت أمرح مع الرفاق وأمزح، بل كنت أشدَّهم مرحاً وأكثرهم مزحاً، ثم اكتأبت فجأة وخَثَرَت نفسي، وخالطني ¬

_ (¬1) في كتاب «من حديث النفس» مقالة عنوانها «من رسائل الصيف»، قال في أولها: "هي سلسلة كنت أنشرها في «ألف باء» سنة 1933، لم يبقَ لديّ منها إلا هذه الرسالة ورسالة أخرى، وقد ضاع سائرها فيما ضاع من مقالاتي". فهذه هي الأخرى، ولم أوفق في العثور على سواهما (مجاهد). (¬2) في «ألف باء» بتاريخ 1/ 9/1933 (11 جمادى الأولى 1352). (¬3) أي بعد وَهْن، والوَهْن نصف الليل. (¬4) ساغب لاغب (وسَغْبان لَغْبان): أي تَعِب وجائع.

الشعور بالاستيحاش وأني غريب عن القوم، وسَرَتْ إليهم كآبتي فوَجَموا، وساءني وجومهم وزعمت أن فيه معنى النَّفرة مني وإنكاري، فاعتقدت أن انسحابي واجب، وقمت أريد الذهاب ولا أحسن له الاعتذار، ولا أستمع لما يُلقون من أسئلة وعبارات بل أمضي مسرعاً لا أعقِّب، أحمدُ الله في نفسي على أنّي نجوت منهم ونجوا مني، وإن كنت أعلم أنهم سيضحكون مني ما شاؤوا ويتندرون بي ما أرادوا. وهذا أنا أبداً؛ ألتقي بالناس وأُخلص لهم الود وأجاريهم في تفكيرهم وأحاديثهم، حتى إذا حسبتُني قد سكنت إليهم واطمأننت إلى صحبتهم هاج نفسي شيء من الأشياء فعادت إلى نِفارها، ورجعت إلى أنسي بالعزلة واستيحاشي من الناس، حتى غدوت أعتقد أني إنسان متوحش، وحتى غدا من أصعب الصعب عليّ أن أضطر إلى لقاء إنسان لم ألقَه أو التعرف إلى كبير من الناس ... وها أنَذا أفكر الآن كيف أجيب الدعوة التي تفضل عليّ بها أستاذنا العلامة الجليل محمد كرد علي للتعرف بأديب كبير يزوره. وأذكر أن واحداً من أجلّ وأكبر رجالنا تفضل مرة فدعاني، وذلك إبّان ازدهار دعوتي إلى العقال ونجاحها، وقد كُتب لها أن تنجح أمداً ليس بالقصير (¬1)، أقول إن هذا الرجل العظيم بعث يَسْتزيرُني، فتباطأت وتعلّلت -على رغبة في نفسي إلى زيارته- ثم لم أجد مخلصاً فضربت له موعداً ... ولك أن تثق أنّي قضيت ليلاً بطوله أفكر كيف ألقاه وماذا أقول له! ¬

_ (¬1) أخبار «الدعوة إلى العقال» في الحلقة 51 من «الذكريات»، فمن أحبَّ الاطّلاع عليها بتفصيلاتها فليرجع إليها هناك (مجاهد).

أفكر في هذا، وإنك لتعلم -كما يعلم كثير من الناس- أنه يُطلَب إليّ أن ألقي الخطبة ارتجالاً في أمر لم أُعِدَّ له شيئاً، فلا أتهيّب ولا أجزع ولا أحس بأن لفظاً أريده ناء عني، وأريد أن أقابل رجلاً ليس بيني وبينه أسباب متينة فأجزع وأعجز، ولا أجد لفظاً أردّ به هذه الجمل الطويلة العريضة التي يلقيها في وجهي مسلّماً ومجاملاً! فأنا جريء جداً إذا كتبت أو خطبت، ولكني خجول مضحك عَيٌّ إذا تكلمت أو قابلت إنساناً لا أعرفه، فكيف ألقى هذا الرجل الكبير؟ لقد فكرت في ذلك ليلة بطولها، ثم ذهبت قبل الموعد بساعات فانتظرت حول المكان، يقذفني شارع ليتلقاني شارع، ثم جاء صاحبي ودخلنا، فلم أدرِ كيف أجلس ولا عرفت كيف أسلّم عليه، ودارت الغرفة من حولي فاصطدمت بنَضَد عليه آنية، وحاولت الكلام فجاء متقطعاً خافتاً ... وخرجت ألعن فيّ هذا الحياء وأشتم من دَلَّ هذا الرجل عليّ، وأود لو تفتّحت لي الأرض فغصت فيها أو أويت إلى ركن مظلم لا ألقى فيه إنساناً! * * * لقد فكرت في هذا كله والقلم في يدي أريد أن أكتب إليك، وفي يدي الأخرى دعوة معالي الأستاذ الرئيس، تميل نفسي إلى إجابتها والتعرف بالكاتب الكبير، ثم أخشى الفضيحة فأنفر منها وأزمع الاعتذار إليه! فكرت في هذا كله فأحسست في نفسي الألم والضيق، فقمت أفتح شبّاكي وأطلّ منه على شارع بغداد المظلم الموحش، الذي حَرَمته «البلدية» من نور يكشف ما فيه من خزي

وبلاء (¬1)، ويلمس وجهي نسيم الليل العليل، فأنشَقُه (¬2) وأبالغ في نشقه. لعلك تعجب يا صديقي من هذا الاندفاع وتظنني أمزح -لما تعلمه فيّ من الكلام والجدل، وما تعرفه من الصراحة (بل الوقاحة أحياناً) - ويعجب رفاقي الذين يقرؤون هذه الرسالة منشورة في «ألف باء». ولست أدري لماذا أنشرها على الناس، ولكنني أدري أنني أريح نفسي بنشرها وألقي عن عاتقي عبئاً يثقله! نعم، قد تعجبون، ولكن لا عجب، فأنا أندفع في الكلام والمزاح أحياناً لأدفع عن نفسي هذه العقيدة وأريها أني لست جافياً أبداً، ولكن لا أخلو إلى نفسي مرة عقب هذا الاندفاع إلا كان بيننا حساب طويل أخرج منه كسيراً محطماً! وإني لأغبط هؤلاء الأشخاص المرحين الذين لا يعرفون الألم إلا بأفواههم (كشاعرنا أنور العطار)، أغبطهم طويلاً وأتمنى أن لو كنت مثلهم. وليس مردّ هذا الجفاء إلى نفسي دائماً، بل إن هنالك من يَضطرني إليه، كبعض إخواننا أعضاء الهيئة الإدارية في «المجمع الأدبي»، فقد انتُخبت معهم فيمن انتُخب، ¬

_ (¬1) يبدو أنه كان "شارع العشاق" في تلك الأيام! وقد مرّ في مقالة «احتجاجاتنا كطبولنا» في هذا الكتاب قوله: "لبثت ساعة في شرفتي أطلّ على هذه الخمائل فترجع بي إلى الماضي، وأرى صورَه تَتَابَعُ أمام عيني فتلهيني عن الشارع الفيّاض بالآنسات والآنسين المتكشّفات والمتكشّفين ... " (مجاهد). (¬2) نَشِقَ (كفرح): أي استنشق الهواء.

فأكرهت نفسي على الخروج من عزلتها والاندماج في هذه الكتلة الطيبة. ولا أنكر أن قد خالطني بَدِيّاً بعضُ الزّهو والسرور على أن كنت مع المنتخَبين، ثم مللت وضقت ذرعاً بهذا الانتخاب ووددت لو قدرت على الانسحاب، ولكني خشيت أن أصرّح بهذا وأكرهت نفسي كرّةً أخرى على العمل معهم، وحاولت أن أندمج بهم ولكني لم أفهمهم قط، وكنت منهم كالزيت من الماء: تمعسه معساً (¬1) ثم يأبى إلا الافتراق عن رفيقه، وإنه لَمَعَهُ في إناء واحد (¬2). وكأني بإخواننا وقد أقاموا على ألسنتهم حارساً من أغراضهم فلا يتكلمون إلا بما فيه صلاحها، وعجزت عن هذا فقلت ما أعتقد، وآذيت مَن قلت له بما قلت واتخذته بذلك عدواً! ورأيتهم يبتّون في الأمور بما يريدون، لا يبالون بكثرة ولا بقلّة ... فآمنت بأني غريب فيهم، وعدت إلى عزلتي مُوقناً بأني امرؤ مستوحش بالناس لا أستطيع أن أسيغهم ولا يستطيعون أن يُسيغوني، ونفضت يدي من هذا المجمع ومن غيره من المجامع والجمعيات جملة. ¬

_ (¬1) عربية معناها الدلك الشديد. (¬2) خبر هذا «المَجْمَع» مفصَّل بتمامه في الحلقة السادسة والستين من «الذكريات»، وفيها قال: "جمع هذا «المجمع الأدبي» المتفرقين وحاول أن يؤلّف بين المختلفين. ماذا يجمع بين علي الطنطاوي وسعيد الأفغاني، وبين ميشيل عفلق وأنور حاتم؟ إن الماء والزيت تخضّهما فيختلطان، ولكن حين تدَعهما يفترقان، وكذلك كان". وانظر أيضاً المقالة الآتية في هذا الكتاب، وقد ذكرها ونقل أجزاء منها في حلقة الذكريات تلك نفسها (مجاهد).

والعجيب يا صديقي أنّي كلما خالطتني هذه العقيدة ازددت قوة على قوتي، وأحسست روحاً سامية تحلّ في روحي، فأزهد في الناس وفي كل ما يعتزّون به، وأغتدي وأنا آنَسُ بالفقر وأحب الظلام، وأشعر أن نفسي تتصل بعالم آخر تطلب عنده ما أعجزها وجوده في هذا العالم، عالم المجامع والجمعيات والمكر والنفاق. تتصل بعالم الخير والحق والجمال، تتصل بالله، والله حسبنا ونعم الوكيل. * * *

نحطمهم كما يحطم النسر أمة من الذباب

المجمع الأدبي وخصومه نَحْطِمُهم كما يَحْطِم النسرُ أمةً من الذباب بضربة من جناحه نشرت في «القبس» سنة 1933 تفنّدني فيما ترى مِن شراستي ... وشدّةِ نفْسي أمُّ عمروٍ ولا تدري فقلت لها: إنّ الكريمَ وإنْ حلا ... لَيلقى على حالٍ أمرَّ من الصّبرِ وفي اللينِ ضَعفٌ والشراسةُ قوّةٌ ... ومَن لا يهَبْ يُحمَلْ على مَركَبٍ وَعْرِ وما بي على مَن لانَ لي منْ فظاظة ... ولكنّني فظٌّ أبِيٌّ على القَسْرِ وبعد، فقد طالما لِنَّا لهؤلاء الذين ينخرطون في أمر الأدب، ويدخلون فيه وما هم من أهله، ويتجرؤون على هذا المَجمع وينطحون صَفاتَه (¬1)، ولم نحب أن يكون بيننا وبينهم جدال خشيةَ ¬

_ (¬1) الصفاة الصخرة، ومثلها المَرْوة والصَّفْوان والمَروان، كلها بمعنى واحد.

أن يُظَنّ أنّا منهم أو أنهم منّا، فخلّينا بينهم وبين ما يريدون، وكنا وإياهم كما قال الأول: وكمْ قائلٍ: ما لي رأيتُكَ راجلاً؟ ... فقلت له: مِنْ أجلِ أنّكَ راكبُ حتى إذا أكثروا علينا وحسبوا سكوتَنا عجزاً وترفّعَنا جُبْناً، لم نجد بُدّاً من أن نريَهم شيئاً من غِلظتنا كما أريناهم أشياء من ليننا. ونحن ما أنشأنا هذا المجمع الأدبي إلا لأن طائفة من الناس ادّعت هذا الأدب (وما الدعيّ كالصحيح النسب)، وبَعْبعَت فيه بغير علم، وظنَّت أن كل مَن أمسك بقلم وخطّ في صحيفة كان كاتباً نحريراً. ووَقَر هذا الظن في نفوسها، وآمن كل واحد منها إيماناً لا شك فيه في أنه أديب، حتى إن أحدهم ليوافق على أن الواحد ثلث الاثنين أو ربعها، ولا يوافق على أنه نصف أديب ولا ثلاثة أرباع أديب، ولا أقل بجزء من ألف جزء من الأديب! وإذا أنت سألته: ما الدليل على أنك كاتب أديب؟ قال: لأني نشرت كيت وكيت في جريدة كذا وكذا. فإن قلت: فلماذا نشرت ما نشرت؟ قال: لأني أديب. فهو أديب لأنه نشر مقالات، وهو قد نشر مقالات لأنه أديب! أمّا أن يقرأ كما يقرأ الأدباء من بني آدم ويدرس كما يدرسون، فيتقن النحو والصرف ويتمكن من اللغة ويدمن النظر في آثار البلغاء ويمسك بأسباب البيان، فذلك شيء لا يفكر فيه ولا يُجريه في باله! وكثرت هذه الطائفة وانتشر بلاؤها، وملأت الصحفَ بآثارها والمجامعَ والمجالس بأحاديثها، وطفقَت تكتب في الأدب، وما كتابتها إلا كصلاة حارثة الذي قال فيه الشاعر:

ألم ترَ أنّ حارثةَ بنَ بدرٍ ... يُصَلّي وهْوَ أكفرُ من حمارِ فأنشأنا هذا المجمع وانتخبنا له خير أدباء الشبان، وقلنا للناس: هذا عملنا، فمَن عمل مثله فهو مثلنا، ومن عمل خيراً منه فهو خير منّا، ومن عمل دونه فهو دوننا، لا فضل لأحد على أحد إلا بفضل عمله. وحفظنا لشيوخ الأدب في البلد أقدارَهم، ولم يفكر واحدٌ منّا في انتقاصهم والتسميع بهم (¬1). نستغفر الله، أننتقص شيوخنا وأساتذتنا؟ إنّا إذن لقوم سوء. ولا نزعم لأنفسنا احتكار الأدب ولا الاستئثار به، وهل الأدب بضاعة تُحتكَر؟ ولسنا سماسرة نتاجر به، وليس الأدب ممّا يُتاجَر به. نقول هذا صادقين ونعلنه، فمَن لم يفهمه أو لم يُرِد أن يفهمه فما علينا من إثمه شيء: عليَّ نحتُ القوافي من معادنِها ... وما عليَّ إذا لم تفهم «البشرُ» أو «البقر» كما قال الشاعر! وما علينا شيء من الإثم إذا كان في البلد قوم لا يرضون عن المجمع إلا إذا انتخبناهم أعضاء فيه، ولا نقدر على انتخابهم لأن صلتهم بالأدب صلة جهل لا صلة علم، وصلة عداء لا صلة ودّ. وليس في طوقنا إرضاء الناس جميعاً، ولكنْ في طوقنا أن نعمل ما نستطيع، وأن نسمع ونطيع لكل ناقد ناصح ينطق بالحق ويَهدي للّتي هي أحسن، ويدلنا على سبل الخير وينبهنا إلى مواطن الخطأ، ونقول له مقالة الرجل العظيم عمر: «رحم الله امرءاً أهدى إليّ عيوبي». ¬

_ (¬1) سمّع به: أشاع عنه قَالةَ السوء.

أما الذين لم يتعلموا من «النقد» إلا باب السبّ والشتم فلا نحفل بهم، ولا نقيم لهم وزناً، ولا نرد عليهم، ولا نقابل قولهم بمثله: ومَنذا يعَضُّ الكلبَ إن عَضّهُ الكلبُ بل نقنع من رضا الناس برضا عقلائهم وذوي الرأي فيهم: إذا رَضِيَتْ عنّي كرامُ عَشيرتي ... فلا زال غَضباناً عليَّ لئامُها * * * هذا منطق المجمع وذاك منطق خصومه؛ ندعوهم إلى نقدنا النقد الصحيح فيسبّوننا السبّ البذيء، ونقول لهم: اعملوا ونحن معكم، فيقولون لنا: اعملوا أو لا تعملوا فنحن عليكم. فاحكموا -يا أيها القراء- بيننا. دُلّونا على الرجل العالِم البليغ بين خصوم المجمع وأنا أناظره علَناً، وأَعِده أمامكم وعداً صادقاً أنني أخضع للحق إن ظهر أن معه الحق. دُلّونا على العاقل بينهم يأخذ على المجمع زلّة أو يخالفه في مسألة، يثبت أنه هو المصيب فيها ونحن المخطئون، لندَع خطأنا ونعود إلى صوابه. يقولون: حفلة المازني ... أنا لم أحضر الحفلة التي أقامها المجمع لتكريم المازني في دمشق ولكن إخواني حضروها، فقولوا لي ما الذي أخذتموه عليها حتى أميل معكم إلى الحق الذي تقولونه، أو تميلوا أنتم عن الباطل الذي تفترونه. أما السبّ والشتم فنحن والله أقدر عليه لو أردناه، ولا يُعجِزنا إذن أن نكيل لهم الصاع سبعة أَصْوُع وأن نَحْطِمهم كما

يَحْطم النسر أمّةً من الذباب بضربة من جناحه: ولي فرَسٌ للحِلْم بالحِلْم مُلجَمٌ ... ولي فرسٌ للجهل بالجهل مُسرَجُ فمَنْ رامَ تقويمي فإني مقوَّمٌ ... ومَنْ رامَ تعويجي فإني مُعَوَّجُ ولكنّا لا نحب أن نعجّل عليهم بالشر، وما نحب أن نكون من الجاهلين. على أن سبل النقد واضحة لمن يعرفها، وللنقد قواعد يُعتمَد عليها وآداب يُرجَع إليها. وفي المجمع كتّاب وفي المجمع شعراء، فهَلُمّوا انقدوا كتابتهم وشعرهم وبيّنوا مواضع النقص ومواطن الخطأ والانحراف فيها. أما ما كتبه خصوم المجمع إلى الآن فليس من النقد الصحيح في شيء، وإنما هو هجاء بذيء ولغط وهذَيان. وليس من النقد الفني ما جاء في مجلة «الدهور» على التخصيص، وما هو إلا مجموعة من الخطأ في الفكر واللحن في اللغة والركاكة في التعبير، نَمُرّ به مَرَّ الكِرام، وندعو «الزهور» وأهلها إلى نقدنا ولكن بعد أن يتعلموا فنّ النقد ويقيموا ألسنتهم في اللغة! فيا قوم، يا خصوم المجمع، استحيوا فالحياء من الإيمان. واكتموا حسدكم واكظموا غيظكم، واستروا نقدكم هذا كما تستر الهرّة ما يخرج منها وتغطّيه بالتراب! ستر الله علينا وعليكم، ونجّاكم من تأديبنا ونجّانا من سلاطتكم، ورزقنا وإياكم العقل والعلم، وعلّمَنا وإياكم الحكمة والمنطق. * * *

الشرف

كلمة صغيرة في الأخلاق الشَّرَف نشرت سنة 1933 (¬1) كثيرون ممن أعرف يَلقونني بالبِشْر ويبذلون لي الود، ويبدون لي الإخلاص من نفوسهم، ويرون رأيي ويسدّدونه؛ حتى إذا سكنت إليهم واطمأننت وكشفت لهم دخيلة أمري وأرسلت نفسي على سجيّتها في الصراحة، ذهبوا يسمّعون بي وينشرون في الناس ما كشفت لهم من دخائل، بل ربما زادوا ولفَّقوا عليّ ما يصغّرني في عيون الناس! وإذا وقع في كلامي اسم إنسان فذكرته بخير أو بِشَرّ كتموا الخير فوَأَدوه، وأخذوا الشر فكبّروه ثم صبّوه في أذنه. وربما كان بين من نذكرهم -إذا أخذنا في النقد الأدبي- من له علينا في وظيفته سلطان، والنقد لا يعرف كبيراً ولا صغيراً ولا يؤلم أديباً حقاً ما دام نقداً حقاً، ولكن ما حيلتنا فيمَن يحرّفه فينقله سباباً على أنه نقد، وكذباً على أنه حقيقة، وسعاية على أنها نصيحة؟ وفيمن يسمع هذا كله فيحقده في نفسه ثم يجزينا به شراً؟ في حين أنّا بُرآء من كثير مما يُروَى عنّا، وما ذنبنا إلا العزلة وعزة النفس! ¬

_ (¬1) في «ألف باء»، بتاريخ 4/ 10/1933 (15 جمادى الآخرة 1352).

وكثيرون ممّن أعرف لا يتورعون عن أن يعبثوا بالأمانة قد ائتُمنوا عليها ويسرقوا منها. ولست أعني بالأمانة صِرافة المال وحدها، بل إنني أَعُدّ من الأمانة متاع الدكان في يد الأجير، ومال الحكومة في يد الجابي، وحرمة القانون في يد الشرطي، وحق العدل في يد القاضي؛ فإذا انتفع الأجير بمتاع الدكان بالعارِيّة أو بالسرقة، أو زاد الجابي على الضريبة قرشاً له أو عَلَفاً لدابته يَتَغَفَّل عليها المكلف الجاهل، أو أغضى الشرطي على مخالفة من أجل صداقة أو لذة أو منفعة أو رهبة، أو مال القاضي لأحد الخصمين لمثل تلك الأسباب، فقد خان الأمانةَ وكان لصاً خائناً. وكثيرون ممّن أعرف لا يجدون في الكذب والنفاق سُبَّة ولا عاراً؛ أكون معهم في نقد رجل فيفيضون في النقد والشتم ما دار في فمهم لسان، ولا يَدَعون كلمة سوء إلا أودعوه إياها، فإذا لقوه مدحوه وتزلفوا وبشّوا في وجهه وزعموا أنهم من أصدقائه وأحبابه! وكثيراً ما سمعت لَعْن مقالة والسخرية بها من إنسان، ثم سمعته يثني عليها ويطريها! حتى لقد أصبحت الصراحة وأصبح الحق عجيباً، ولقد لامني أكثر من واحد على أنّي أواجه المرء بما آخذه عليه وأقذف بشتمه في وجهه، وهم لا يرون بأساً بالغيبة ولا بالكذب! * * * إن هذه الأخلاق منتشرة فينا انتشاراً مخيفاً يجعلنا نعتقد أن الشرفاء قليلون في هذه الحياة، وأن الشرف منكَر مستهجَن لا ينال صاحبه إلا الحرمان؛ فإذا كان تاجراً قلَّ زبائنُه وساءت سمعته، وإذا كان صحافياً فَقَدَ معونة أهل المال وعطف القراء وأضحى

مفلساً منبوذاً، وإذا كان موظفاً، معلماً مثلاً، حُرم الترقّي والنقل إلى المدن ولم ينفعه شفيع. ومثل هذه الحال حالُ الشريف في كل منزلة من منازل الحياة عندنا، بل لقد انتشرت في الناس فكرةٌ هَدّامة للأخلاق ما أدري من أين مصدرها؛ هي قولهم: ما دخل الأخلاق بالسلوك؟ كلٌّ على حدة. وماذا يضر المعلمَ سوءُ خلقه إذا كان حسن التعليم، والوطنيَّ إذا كان صادق الوطنية، والتاجرَ إذا كان حسن المعاملة؟ ولا يدرون أن الشرف أول شرط للرجل الصالح في الحياة، فإذا فقده فَقَدَ كل شيء. وأنت لا تستطيع أن تبعث بنتك لتتعلم العلم وتخسر عفافها وعرضها، ولا تقول يومئذ: لا دخل للأخلاق بالسلوك! * * * فيا أيها الناس، انتبهوا لأمر الشرف، وانبذوا النمّامين والكذّابين والمرائين والخائنين واللصوص، لصوص الأموال ولصوص الأعراض، أو فانتظروا الفناء، فإن البناء لا يقوم على غير أساس، وأساس بناء الأمة الأخلاق: وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بَقِيَتْ ... فإن هُمو ذهبت أخلاقُهم ذهبوا * * *

الأدب القومي

الأدب القومي نشرت سنة 1933 (¬1) كنت غائباً عن دمشق أقيم في قرية (¬2) متعزّلاً الحركة الأدبية، فلم أرَ إلاّ اليوم كتاب الأستاذ أمين الريحاني «أنتم الشعراء»، ولم ¬

_ (¬1) نُشرت في «ألف باء» بتاريخ 13/ 10/1933 (23 جمادى الآخرة 1352). ولم أعثر على أصل المقالة، إنما عثرت على نسخة منها في دفتر مخطوط فيه بعض المقالات القديمة، وقد أشار إليها جدي رحمه الله في ذكرياته المنشورة فقال: "كان الغالب على أدب الشباب في تلك الأيام (سنة 1933) هو المذهب الرومانسي، فحملت على هذا المذهب بسلسلة من المقالات عنوانها «الأدب القومي» (وأول من جرت كلمة القومية على قلمه فيما أعلم هو محب الدين الخطيب، وهو من أوائل من دعا إلى إحياء لغة العرب وتاريخها وأمجادها، رداً لفتنة «التتريك» التي جاء بها الاتحاديون). فمن هذه المقالات مقالة نُشرت في «ألف باء» يوم الجمعة 13/ 10/1933، فُقدت فيما فُقد من كتاباتي لأن عدد الجريدة لم يُحفَظ ولأن المقالة (وكل ما كتبتُ في تلك الأيام) لم أودعه كتاباً من كتبي، ولكني وجدت نسخة عنها في دفتر كتبه أخي بخطه" (الذكريات 2/ 346 - 348) (مجاهد). (¬2) لعلها «سَقْبا»، وهي من قرى الغوطة، وقد أمضى تلك السنة معلماً في مدرستها الابتدائية، وأخباره فيها في الجزء الثاني من «الذكريات»، أكثرها في الحلقة 61 وقليل منها في الحلقة 65 (مجاهد).

أتعرّف الضجّة التي أثارها خطابه والخلاف الذي قام بين الأدباء بشأن الأدب القوي والأدب الباكي إلا على السماع. والكتاب، وإن كان -بعد هذا الإعلان الضخم الذي امتلأت به أسواق لبنان- أقلَّ مما كان يرقب الناس وأضأل، وإن كان الأستاذ يوصي الشعراء بإكرام سيبويه ونفطويه والكسائي، ثم يخالف سيبويه ونفطويه والكسائي وإخوانهم أجمعين مخالفة ترتجف لها عظامهم في قبورهم! وإن كان الأستاذ يسلك في كتابه أسلوباً لا يصيب من القارئ موطن الإحساس من نفسه ... أقول إن الكتابَ -وإن كان فيه هذا كله- صحيحُ الفكرة، والدعوة إلى الأدب القويّ التي بدأ يتولاّها مثل أحمد أمين في مصر وأمين الريحاني هنا، وأدعو إليها أنا (على ضعف قلمي)، دعوة صالحة مباركة. ذلك أننا نشكو من شبّاننا «الناهضين» هذا التأنّث، ونحس أنهم يُعوزهم الصبر على مقارعة الحياة والنضال على البقاء، ولا نجد للمستقبل في شبّاننا ذخراً، ونؤمن بأن علاج هذا الداء هو الأدب. لأن الأديب لسان الأمة الناطق بمفاخرها الذائد عن حِماها، ألمُه لآلامها وسرورُه بسرورها. بل هو منها بمثابة القلب، فهل يُعقل أن يعيش القلب مبتوراً متفرداً، لا تربطه بالجسد رابطة ولا يتصل إليه بسبب؟ الأدباء قادة الأمة، والأمة كلها في نضال على الحياة، على الحرية، فيجب أن ينقلب الوطن كله إلى ثكنة يحارب فيها الأديبُ بشعره ونثره، والمدرّسُ بتربيته وتعليمه، والتاجرُ بدكانه وبضائعه، والصانعُ بصناعته وأدواته، والمرأةُ ببيتها وأولادها،

والأولادُ بدروسهم وكتبهم ... فكيف يفرُّ الأديب من المعركة -وهو الجندي الأول فيها- وينسى الأمة ويستسلم إلى الضعف، ويصبّ مواهبه وقوّته على قدمَي امرأة، يحيا بابتسامة منها ويفقد الأمل إذا هي عبست أو أعرضت؟ من الذي علّقَ حياتك وأملك -أيها الأديب- على ابتسامة امرأة، قد تكون ساقطة، وقد تكون مبغضة لك ساخرة بك مُحِبّة لدراهمك؟ من الذي سدَّ في وجهك سبيل النور وحجبك عن ملذات الحياة ومفارحها ولم يُرِك إلا آلامها وأحزانها؟ لماذا ترى سواد الليل ولا ترى بياض الضحى؟ لماذا تصف بكاء السماء بالمطر في الشتاء وتدَع ضحك الأرض بالزهر في الربيع؟ وكيف تنسى رجولتك في حبك؟ أَحِبَّ ولكن لا تنسَ دينك ولا رجولتك في حبك. ابقَ رجلاً، انتصب قائماً على قدميك وشدّ عضلاتك وقُل لمن تحب (بالحلال): تعالي! لا أن تجيئها خاملاً متهافتاً ضعيفاً، تجثو على قدميها وتقول لها من خلال دموع الضعف في عينيك: أنا أحبك! إن المرأة لو خُيِّرت لما اختارت إلا الرجل القوي في جسده وفي روحه، الذي يعمل على تحقيق أمله في مستقبله، أمّا الرجل الأصفر النحيل البائس اليائس الميت من قبل الممات، فماذا تصنع به؟ هذا يحتاج إلى ممرّضة لا إلى حبيبة! * * * ثم إن للشاعر مجالاً يُظهر فيه عاطفته غير نفسه؛ هنالك الأمة بماضيها ومستقبلها، فليفكر بعقل الأمة وليحسّ بحسّها،

وليحترم عقله وليقدّس واجبه، فليس يكفي الشاعر أن يقول: هذه عاطفتي، ثم يأتي بكل مخدِّر للحس الوطني وكل بليّة خلقها الله، ويزعم أن هذا هو العاطفة، وأن عاطفة الشاعر فوق النقد وفوق العقل! وليس يجوز لشاعرنا أن يقول بمقالة شعراء الفرنجة: «الفن للفن»، كلا، فهذا هو القياس مع الفارق. للفرنجة مدافع وأساطيل وطيارات، فليستتر شعراؤهم بها وليغنّوا، أما نحن فمدافعنا وأساطيلنا وطياراتنا إنما هي في الأدب والشعر، وفي الإيمان قبلهما؛ فليكن لنا من كل مقالة مدفع، ومن كل قصيدة أسطول، ومن الإيمان قوة دونها قوة الطيارات. حسبنا بكاءً ويأساً ورثاء للماضي وفزعاً من المستقبل وتبرّماً بالحياة، وتصديقاً بالحب العذري وقاعدة «الفن للفن» وما إلى ذلك من سخف وبَلادة! * * * إننا نحتاج إلى الأديب الذي عرف آمال الأمة وآلامها، وأدرك ما يَسُرّها ويسوؤها، ثم تقدم لتصوير آلامها وتقويتها على تحقيق آمالها. نحتاج إلى الأديب الذي قتل التاريخ علماً وغاص على خفاياه ومعضلاته فأوسعها فهماً، ثم عمد إلى مواطن الفخر ومواقف الأسى فصاغها قصيدة عصماء، كل بيت منها بمثابة قطرة من الدم تُهراق على مذبح الحرية والاستقلال. نحتاج إلى الأديب الذي آمن بعقيدة سامية فيها مصلحة الوطن، ثم وقف نفسَه على الدفاع عنها وتأييدها. نحتاج إلى الأديب الذي ترفّع بنفسه عن

أقوال الناس، فلا يثيره مدح ولا ذم، ولا يستفزّه نقد ولا تقريظ، ما دام سالكاً الطريق القويم والصراط المستقيم. نريد من شبّاننا الذين يتلقون الأدب أن يتحامَوا أدب لامارتين وموسّه والمجنون (¬1)، وأن يتحاموا أغاني عبد الوهاب الباكية اليائسة، وأن يقرؤوا أدب القوة ويسمعوا أناشيد الحماسة، وأن يعلموا أن المثل الأعلى لأدبنا اليوم ليس «الفن للفن» ولكن «الفن للحياة»، وليس «العاطفة» بل «الواجب»! * * * ¬

_ (¬1) إذا أُطلق اسم «المجنون» في كتب الأدب فهو مجنون بني عامر المشهور بمجنون ليلى، واسمه -على الأشهر- قيس بن الملوَّح (مجاهد).

الأدب القومي أيضا

الأدب القومي أيضاً نشرت سنة 1933 (¬1) [قرأنا -ولمّا نمسح القلم من مقال «الأدب القومي» - فاتحة عدد الأمس التي تكلم فيها الأستاذ يوسف (¬2) عن فلسطين وأنذر العرب «داهية دَهياء لا ينادى وليدها»، فأحببت أن أعلق عليها بهذه الكلمة.] أريد أن أخاطب بهذه الكلمة أدباء العربية جميعاً، وأريد أن يتريّث إخواننا الأدباء العاطفيون في الحكم عليها، ولا يثوروا ثورتهم المعروفة على كل من يقدح في عاطفتهم المقدَّسة، فلست ¬

_ (¬1) نُشرت في «ألف باء» بتاريخ 15/ 10/1933 (25 جمادى الآخرة 1352)، بعد المقالة السابقة بيومين. وفي الحلقة الثانية والستين من «الذكريات» إشارة إلى هذه المقالة؛ قال: "كأني كنت (وكان غيري ممّن يكتب عن هذه القضية) نحس بالخطر الذي يتربص بفلسطين وأهلها، ما اطّلعنا على الغيب ولكن المقدمات أشعرَتنا بالنتائج. فكتبت وكتب مَن هو أكبر مني في البلاغة قدراً وأعلى في البيان مكاناً وأعرف بالسياسة ظواهرها وخفاياها، نصرخ في قومنا كما كان يصرخ في القبيلة النذير العريان ... " (الذكريات 2/ 324) (مجاهد). (¬2) يوسف العيسى، وهو صاحب جريدة «ألف باء»، راجع الحديث عنه في الذكريات: 1/ 398 وما بعدها (مجاهد).

أنكر عليهم أن يحسّوا وأن يتألموا، وأن يصفوا هذا الألم العبقري ويُخرجوا للناس في وصفه الآيات البيّنات، ولكني أسألهم: أيهيج نفوسَكم ويؤلمكم ويسوّد الدنيا في عيونكم حبيبٌ يُعرِض عنكم، أو ليلة وصال منه تخسرونها، أو ابتسامة يُحجَب عنكم نورها، ولا يؤلمكم أمة في فلسطين تضيع بقَضّها وقَضيضها، يهاجمها في عقر دارها أذلّ شعب وأهونه على الله والتاريخ؟ ألا يؤلمكم أن تُمحى صفحة بيضاء من سجلّ حياة أمتنا على وجه الأرض؟ ألا يحرك شعوركم وعاطفتكم هذا كله يا أدباء العربية؟ فأين هي إذن «القصائد الفلسطينيات»؟ وأين «الروايات الفلسطينيات»؟ أين الأقلام الحرّة المؤمنة التي يتطوّع أصحابها ليكونوا جنوداً في معركة فلسطين: تصف نكبة فلسطين وتحرّك الدنيا لنصرة فلسطين، بل تهزّ قبل ذلك أهل فلسطين وجيران فلسطين ليتداركوا فلسطين قبل أن يأتي يوم يندمون فيه، وليس ينفع في ذلك اليوم الندم؟ إننا نعلم أن الشعراء أرقّ الناس شعوراً وأدقّهم إحساساً، وأن الشعر من الشعور، فعلامَ لا نسمع هذا الشعر؟ أليس هذا كله ثمرة انصرافنا عن الأدب القومي وتقليدنا تقليداً أعور هؤلاء الشعراء الرومانسيين من الفرنسيين وغير الفرنسيين الذين يرون الدنيا كلها في نفوسهم، ويعيشون للهوى والعاطفة؟ في حين أن هذا المذهب قد مات اليوم في وطنه، وأن كثيراً من أولئك الشعراء أنفسهم كانوا في مقدمة المدافعين عن أوطانهم، وكانوا إذا جَدَّ الجِدُّ نبذوا هذه الترّهات جانباً وتقدموا للنضال، حتى إذا انجلى الغبار وأمِنَ الناس استسلموا إلى هذه الأحلام وهم نيام،

فكان هذا الأدب مجموعة هذيانهم في أحلامهم. أنا أراهن على أن أكثر الناس لا يدرون من أمر فلسطين إلا قليلاً ولا يعلمون عن نكبتها شيئاً، فلينظم الشعراء القصائد في نكبة فلسطين، وليتغنَّ المغنّون بشعر فلسطين، ولتؤلَّف اللجان في كل بلد عربي، في كل بلد مسلم لإنقاذ فلسطين، ثم انظروا ما يكون: مَن يقرأ هذا كله أو يسمعه ثم يقيم آمناً في داره يأكل ويشرب ويلهو ويلعب، ولا يقول لأولاده وبناته: اقتصدوا في نفقاتكم ووفّروا ما تشترون به الحياة لإخوانكم، لنجتزئ بالثوب عن الثوبين، وباللون من الطعام عن اللونين، ثم ندفع هذا وذاك ثمناً لحياة فلسطين ... وقد دفعه أجدادنا في حطين يقودهم صلاح الدين؟ لقد مرّ على دخول الإنكليز فلسطين خمس عشرة سنة، ودخول اليهود معهم، حشرات متعلقات بأذنابهم. أفما تكفينا خمس عشرة سنة (¬1) لنصحو من نومنا ونفتح عيوننا، فنبصر الماء يجري من تحتنا وبوادر النار من حولنا، والهوة السحيقة أمامنا نمشي إليها بأقدامنا؟ إن كل عربي وكل مسلم على وجه الأرض مسؤول عن نكبة فلسطين ومُلام إن قصر بالدفاع عنها. لم تأتِ الآن معركة الدم والحديد، فلنحارب بالمال، لنردّ عدوان اليهود بالفكر السديد، بالخُطَط المدروسة، بالاتحاد، وقبل هذا كله وبعد هذا كله بالعودة إلى الله، لأن العدوّ مهما كبر ومهما كبر مَن يعينه وينصره فالله أكبر، فمن كان مع الله لم يخَف أحداً. ¬

_ (¬1) دخل الإنكليز فلسطين سنة 1918، عقب هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (مجاهد).

لنبدأ بجمع المال لإنقاذ فلسطين، ليقدّم كلٌّ ما يستطيع لا يخجل به مهما قلّ. أنا رجل مفلس، ولكني أستطيع أن أقدّم نصف ليرة كل شهر، فليقدم كلٌّ ما يستطيع. إن السائل الذي يمدّ يده إلى الناس يستطيع أن يقدّم نِكلة في الشهر، فليقدّمها. نكلة في الشهر، وقرش في الشهر، وفرنك في الشهر، وربع ليرة في الشهر، ونصف ليرة في الشهر (¬1) ... تجمع مبلغاً ضخماً من المال يكون له أثره في إنقاذ فلسطين. * * * الأدب، ثم المال، ثم الدم ... هذه هي أركان الحياة؛ فإذا كان فينا مخلصون فليسيروا في هذا الطريق بخطوات سريعة وثابتة. يا أيها الناس، إخوانكم يُطرَدون من ديارهم ويموتون، فاشتروا حياتهم بمالكم. إن شبح الموت يلوح في أدنى الأفق، ولا يجوز الصبر يوماً واحداً. إن النار إذا بلغت فلسطين فإننا نحترق لا محالة. * * * ¬

_ (¬1) «النكلة» نصف قرش سوري، ولم أدركها، و «الفرنك» خمسة قروش، وقد أدركته مدّةَ طفولتي وشبابي. وكانت الليرة عشرين فرنكاً (أو مئة قرش)، وقد انقرض ذلك كله اليوم وصارت الليرة هي أصغر قطعة نقدية في البيع والشراء (مجاهد).

بالأسلوب التلغرافي: ترقي الموظف

بالأسلوب التلغرافي تَرَقّي الموظف نشرت سنة 1933 (¬1) قال لي صديق وأنا آيِبٌ من قريتي أمس: من أين أقبلت؟ أرى عليك وَعْثاء السفر. قلت: من قريتي. فابتسم الخبيث، وخالني أمزح فقال: ألك قرية؟ لقد أيْسَرْتَ بعدي! - ما أيسرت بعدك، وإني لمعلم صبيانها لا ربّ أرض فيها (¬2). - وما كان أغناك عن أن تعلم صبيان قرية وفي دمشق متسعٌ لمن شاء أن يُجَنّ فيعلم الصبيان؟ - أتقول عني مجنون؟ قبّحك الله! ¬

_ (¬1) في «ألف باء» بتاريخ 4/ 11/1933 (16 رجب 1352). (¬2) هي سَقْبا التي علّم فيها علي الطنطاوي تلك السنة. راجع الحاشية في ص 280 (مجاهد).

- فكيف تدع دمشق إذن إلى قرية؟ - وَيْكَ! إنها الوظيفة. - هَبْها كذلك، ألا تسعى في نقلك إلى دمشق، وقد نقلوا إليها حتى الحِـ ... - أنا أسعى؟ لست أستطيع يا صاحبي. - وعلامَ لا تستطيع؟ جدَّ في وظيفتك وأخلص فيها. - أنت مغفل! أهي بالجِدّ والإخلاص؟ - إذن بماذا؟ - بصفتين: أولاهما وخيرهما النفاق، فما بالك بشرّهما؟! * * *

بالأسلوب التلغرافي: نحن وفلسطين

بالأسلوب التلغرافي نحن وفلسطين نشرت سنة 1933 (¬1) - أتدري ماذا صنعنا من أجل فلسطين؟ قلت: وما يدريني؟ فأخذ سمت الزهو والفخار وقال: احزِرْ. قلت: أحسبكم قد جمعتم لهم ذهباً عربياً تحاربون به الذهب الصهيوني، وتنشئون به جمعية تشتري كل أرض تُعرَض للبيع وتقطع السبيل دونها على الجمعيات الصهيونية، وهذا خير ما تصنعون، فليس يَفِلّ الحديدَ إلا الحديدُ، وليس يغلب الذهب إلا الذهب. - لا، ما جمعنا شيئاً. - إذن فأنتم قد أقسمتم بأغلظ الأيمان، وأعطيتم العهود الشِّداد، أنكم لا تشترون ولا تتوسطون في شراء بضاعة صهيونية أو إنكليزية، وأنكم تسيرون عراة إذا أعجَزَكم ما تسترون به ¬

_ (¬1) في «ألف باء» بتاريخ 5/ 11/1933 (17 رجب 1352).

أجسادكم إلا منها، لتُروا العالم أنكم أمة من الأحياء، وأنكم لستم من الجنون بحيث تشتمون عدوكم ثم تعطوه من مالكم ما يشتري به السيفَ الذي به يذبّحكم! - لا، ما أقسمنا هذا القَسَم ولا قاطَعْنا. - أحسبكم إذن تريدون أن تساعدوهم بسواعدكم، وهذا حسن، ولعلكم بعثتم إلى إخوانكم في فلسطين بعثاً يكون معهم لله وللدم، لا للاستغلال الحزبي والفخر الكاذب! - لا، لا ... احزر. - لست أستطيع الحَزْر. - لقد خطبنا في «الأموي» خطباً كالنار! - حسبك؛ لقد فهمت، فاسمع ما صنع زميلكم من قبل: خرج بإبل له كثيرة يرعاها، فاعترضه قاطع طريق فذهب بها، ووقف صاحبنا ينظر إليه، ثم عاد إلى أمه يقول: «أوسعته شتماً وأَوْدَى بالإبل»! وأنتم أوسعتموهم خطباً ومظاهرات وأَوْدَوا بفلسطين ... يا للعار! * * * أمَا إن الخطب والمظاهرات تبني مجداً، ولكن في الهواء! فابنوا يا أيها الناس مجداً في الأرض ثابتاً، أو فاصمتوا. إن قضية فلسطين تحتاج ذهباً وسواعد لا خطباً ومظاهرات! * * *

التربية الوطنية والدينية

نقد «مجلة المعلمين والمعلمات» التربية الوطنية والدينية نشرت سنة 1933 (¬1) [سادتي الأساتذة الأجلاء التنوخي وصليبا وعيّاد (¬2): أما وقد سُجِّل عليكم أنكم القائمون على تحرير مجلة المعلمين والمعلمات، وغدوتم مسؤولين عند الله والناس عن هذه المجلة وعن الحركة الإصلاحية في التربية، فليس لكم بد من أن تولوها من العناية أكثر من منحكم إياها أسماءكم الكبيرة لتتكئ عليها في نهوضها وظهورها للناس، وأكثر من منحكم إياها مقالة كل شهر تكتبونها على عجل كتابةَ مَنْ يودّ الخلاص من تكليف لا كتابةَ مَنْ يكتب لنفسه. وإذا كان الناس يجدون للسيد محمود مهدي (¬3) العذر ¬

_ (¬1) في «ألف باء» بتاريخ 27/ 12/1933 (10 رمضان 1352). (¬2) هم عز الدين التَّنوخي وجميل صليبا وكامل عَيّاد، ولهم جميعاً أخبار متفرقة في «الذكريات» فمن شاء اطّلع عليها هناك (مجاهد). (¬3) هو محمود مهدي الإسطنبولي، رفيق علي الطنطاوي في شبابه وكهولته. وكانت في علاقتهما طرافة، فلا يلتقيان لقاء إلا وينتهي =

في ظهور المجلة بهذا الشكل (لأنه كان منفرداً بالنهوض بها) فلا والله لا يجدون لكم عذراً، وإن لم تقم مجلة المعلمين على عاتقكم -وأنتم خير من ينهض بها في دمشق- لا تَقُمْ لها قائمة. وأنتم يا سادتي تهتمون بنهوضها وتقدمها ويسركم أن تسمعوا الآراء في ذلك، ثم يكون إليكم تمحيصها وقبولها أو رفضها. وهذا رأي أراه صواباً إلى حين أسمع البرهان على غير ذلك، فإذا تفضلتم بقراءته أكون لكم شاكراً ويكون لكم الفضل.] إننا نسوق هذه الكلمة إلى كُتّاب مجلة المعلمين والمعلمات وقُرّائها صريحة واضحة، لا نسلك فيها سبل التعريض ولا نُجَمجم فيها القول، آملين ممن يرى فيها رأينا أن يعمل بهذا الرأي ويأخذ في إذاعته، وممّن يخالفنا فيه أن يقرع بحجّته حجّتَنا ويأكل بدليله دليلنا. وذلك أننا نعتقد أن في مباحث التربية ما هو لازم لنا لا مناص لنا من نشره والعمل به، فهو بمثابة الغذاء الذي ما منه بُدّ. وفيها ما هو بمثابة الحلوى، فيها لذة وفيها متعة، ولكن المرء يعيش وإن لم يأكلها. وفيها ما هو بمثابة الدواء، نأخذ منه ولكن ¬

_ = بخلاف؛ فقد كان محمود مهدي يترك كل المسائل التي يتفق الاثنان عليها ويتحرى القليل الذي يختلفان فيه فيثيره، وكان محباً للجدال طويل النّفَس فيه، فلا يزال يجادل حتى ينتهي اللقاء بخصام. ثم يلتقيان من بعد فيعودان إلى المودة والصفاء، فيتكرر الأمر في المرة الثانية كما كان في الأولى، وهكذا في كل لقاء على مر السنين. رحم الله الاثنين (مجاهد).

بقَدْر مقدور لعلّة معروفة. ومنها ما هو بمثابة السم، كيفما تأخذه لا يأتي بخير (¬1). أما النوع الثاني والأخير فخيرٌ لنا أن ندع البحث فيه في المجلة، وأن لا نملأ به صفحاتها ونهمل من أجله النوع الأول والثالث، وهما كل ما نحتاج إليه اليوم. على أنّ جُلّ ما يُنشَر في المجلة هو من النوع الثاني والأخير! فطريقة تدريس الرسم شيء لذيذ ممتع ولكنه كلذة الحلوى، لا تصلح للجائع الذي لا يجد الخبز. وترجمة بحوث التربية من الفرنسية شيء حسن، ولكنه ثوب خُلق لغيرنا، فلنصلح أكمامه وجيوبه حتى تصلح لنا قبل أن نلبسه واسعاً نضيع وسطه أو ضيّقاً يتمزق من دوننا! وليُعلَم أن هذه البحوث تختلف عن البحوث العلمية في الكيمياء وأمثالها، ولا يجوز أن نطلق عليها اسم «العلم» وننقلها على أنها حقيقة لا تتبدل، فهي تتبدل بتبدل العادات والسجايا الوطنية والدينية التي تنشأ عنها قواعد التربية. ولا شك أن كثيراً من هذه البحوث مما لا نستسيغه ولا يتواءم وعاداتنا وسجايانا الوطنية والدينية، كما لا يستسيغ الألماني بحوثَ التربية الأميركيةَ والفرنسيُّ اليونانيةَ والإسبانيُّ الإيطاليةَ. وأما النوع الثالث فهو ضروري لنا ضرورة الدواء للجسم ¬

_ (¬1) الأشهر والأصح أن «كيفما» لا تجزم الفعلين بعدها؛ هذا هو مذهب سيبويه وعامة البصريين، وخالف فريق من الكوفيين فاختاروا الجزم، وله عندهم شروط ليس هنا محل تفصيلها. وإنما أدرجت هذه الملاحظة خشية أن يظن بالشيخ اللحنَ بعضُ من يتلقّون في المدارس خلاف ذلك (مجاهد).

العليل، ولكن لا نكاد نجد منه في المجلة شيئاً يُذكَر. وأنتم ترون هذه الآفات تفتك بأخلاق أبنائنا وتجعل من بعضهم -وهم رجال الزمن الآتي وعماد صرحه- عنصراً ثالثاً، فيه لين وضعف ويختلف عن عنصرَي البشر المعروفَين! وترون هذه العادات السيئة تهدم علينا المدرسة الأولى، مدرسة الأم، وتجعلها عاملاً على الفساد وغرس بذور الشر في نفوس النشء! وترون هذا التدهور العلمي المريع في إخواننا المعلمين، حيث ينصرف أكثرهم عن المطالعة والدرس ويودّعهما وداعاً لا لقاء بعده من يوم يودّع المدرسة، فلا تمر عليه سنة بعد ذلك إلا ازداد فيها جهلاً ... هذا كله نراه عياناً ونحس خطره، ثم لا نحرك قلماً في نقده وبيان علاجه؟ وأما النوع الأول فهو ركن التربية، بل ركن الحياة؛ وهو التربية الوطنية والدينية. وإن من آكد الواجبات على المشرفين على الحركة التعليمية في هذا البلد، من رجال العلم ورجال الأمر، أن يعتنوا بها ويرفعوا من شأنها، ويجعلوها المبدأ الذي عنه يَصدرون والغاية التي إليها يسعون. التربية الدينية والوطنية هي التي تحفظ لنا كياننا قائماً، وتجعل منا أمة حية متماسكة البنيان ثابتة الدعائم. وأعني بها تلك التي تحل فيها الحقائق الوطنية والدينية المحل الأول، وتكون الغاية منها إخراج رجال صِلاب يصلب بهم صرح الوطن، لا رجال مائعين يذوبون في فكرة الإنسانية. ولست أنكر أن فكرة الإنسانية من أجمل السخافات وأحلاها، ولكنها لا تخرج عن أنها سخافة. «الإنسان أخو الإنسان»؟ كلام

حلو، ولكن هل له من حقيقة؟ النحّاس (رئيس وزراء مصر) أخو السير بيرسي لورين؟ غاندي أخو الملك جورج؟ الشيخ أمين الحسيني أخو اللورد بلفور؟ أنا أو أنت يا صديقي القارئ المسكين أخو الكونت دومارتيل؟! (¬1) ليس في الدنيا فكرة إنسانية ما دام القائلون بها كذلك الذي كان يذبح العصافير في يوم بارد، فقال عصفور (رأيه كرأي بعض إخواننا): أما ترى شفقة هذا الإنسان وبكاءه علينا؟ فقال الآخر: ويحك، لا تنظر إلى الدموع في عينيه، بل انظر ما تصنع يداه! وليس في الدنيا فكرة علمية في التربية والتاريخ، وكبارُ العلماء يدوسون أقدس شيء في هذه الفكرة ليصلوا إلى تحقيق مأرب وطني. ومهما يكن من أمر الإنسانية والعلم ودخلهما في التربية فإنهما لا تغنيان عنّا من الحياة شيئاً، فيجب أن نحيا أمةً مستقلة قوية قبل كل شيء. ولا حياة لنا إلا إذا ارتكزت برامجنا في التربية والتعليم على مبدأين عظيمين: الله والشعب، أي الدين والتاريخ، حتى لا يكون في هذه البرامج بحث أو كلمة تخالف الدين أو تُضعف أثره في نفس صاحبه، ولا يكون في المعلمين معلم واحد يعمل على هذه المخالفة أو هذا الإضعاف، ولا يكون فيها صفحة واحدة من تاريخ أجنبي -مهما كان هذا التاريخ- إلا بعد أن نحيط ¬

_ (¬1) الكونت دومارتيل هو المفوَّض السامي الفرنسي في سوريا، وقد عُيِّن خَلَفاً لسَلَفه، المسيو بونسو، قبل نشر هذه المقالة بأربعة وسبعين يوماً (مجاهد).

بتاريخ أمتنا كله ونفقهه حق الفقه، وأن تكون رواية هذا التاريخ بأسلوب يبعث الفخر بمواقفه الظاهرة والتأثر بمآسيه، وأن تُشرَح فيه عظمة العلماء شرحاً يجعل منهم في نظر التاريخ مصابيح للإنسانية خالدة وينقش أسماءهم على صفحات قلبه. * * * هذا ما أرجو أن تعنى به مجلة المعلمين والمعلمات، أنشره موجزاً، وأرقب من الأساتذة الأجلاء القائمين عليها رأيهم فيه. * * *

نصائح لمن كان يتعلم الوطنية

نصائح لمن كان يتعلم الوطنية نشرت سنة 1933 (¬1) أنا أتناول موضوعاً بالدرس والبحث، لا أشخاصاً بالسباب والمهاترة. وما كان السباب خلقاً صالحاً ولا وسيلة لبلوغ الغايات صالحة، ولا يصبح المرء ظافراً إذا شتم وسبّ ولكن إذا دلّلَ وأثبت. ثم إن النصيحة إذا صدرت عن الإخلاص المجرَّد ولم يكن مبعثها رهبة ولا رغبة (وهذا ما نرجو الله أن يهبه لنا) فإنها لا تخرج عن واحد من أمرين: إما أن تكون نافعة معقولة، وإذن فعلى العاقل قبولها شاكراً، وإما أن يكون الناصح قد أخطأ في اجتهاده فكانت سيئة ضارة، وإذن فتُرَدّ ويُشكَر صاحبها على إخلاصه واجتهاده. وقد جعلت العنوان «نصائح لمن كان يتعلم الوطنية» حتى يبقى قاصراً على هؤلاء الشبّان من طلاب وغير طلاب، الذين لا نشك اليوم في إخلاصهم ولكنّا نشك في صحة فهمهم معنى ¬

_ (¬1) في جريدة «ألف باء»، وقد اقتُطعت المقالة من صفحة الجريدة فلم أعرف اليوم والشهر اللذين نُشرت فيهما (مجاهد).

الوطنية. ولا يلزم نصحنا لهم أن نكون خيراً منهم أو أعقل، لا، فما نريد الآن أن ندّعي شيئاً من هذا، وما نريد إلا الإصلاح ما استطعنا. * * * ويحسن بنا -قبل أن نتوغل في الموضوع- أن نتساءل: ما هي الوطنية؟ أهي كل عمل ينفع الأمة ويعود على الوطن بالخير والفائدة، أم هي قاصرة على الانتساب لحزب من الأحزاب وعلى الصياح والتهليل والهتاف؟ هنا تبدأ مسألتنا: فعلى الرغم من صحة الرأي الأول نجد أن الثاني -على فساده- هو المعروف بيننا، الذي يقرّه الناس بأفعالهم وإن لم يكن هناك من يجرؤ على الدفاع عنه وتأييده، بل ربما سعوا إلى البراءة منه. غير أننا نُثبت سَلَفاً أن الناس يفهمون الوطنية هذا الفهم المقلوب بما نجده من احترامهم لأناس ليس لهم من فضيلة إلا السعي في إغلاق المدينة أو تسيير المظاهرة، أو تشقيق الحناجر بالهتاف في كل مناسبة وفي غير مناسبة. ويكفي أن يُطرَد طالب أو يُضرَب إنسان حتى تغلق المدينة. ونحن لا نريد السكوت على طرد طالب ظلماً أو ضرب إنسان اعتداء، ولكننا إذا أغلقنا المدينة لمثل هذا الحادث التافه فماذا نصنع إذا وقع لنا من الحوادث ما فيه روعة وجلال؟ وإذا كنت تطلق مدفعك على هرة فماذا تعمل إذا عدا عليك الأسد؟ هذه الأولى، فأنا أودّ لو احتفظ إخواننا بقوتهم ليوم الحاجة ولم يضعوا السيف في موضع العصا.

والثانية: أن الوطنية ليست تقتصر على هذا اللون من ألوان العمل، بل هي تتسع لأكبر منه فتشمل التجارة والصناعة والعلم، بل ربما كان المدرّس على منبره والتلميذ على مقعده والتاجر في دكانه والصانع في مصنعه أكثرَ وطنية من تلميذ يدع دروسه ويعطل مستقبله. لماذا؟ قال: ليصيح في الطرقات وتكتب اسمَه الجرائد! ومن أستاذ ضعيف يريد أن يتودد إلى طلابه خشية من شغبهم عليه فيحثّهم على الإضراب والفوضى من وراء ستار، وصحفي يريد أن يروّج جرائده فيختلق الأخبار أو ينفخها كما يُنفَخ بالون العيد! هذه هي النصيحة الثانية، وهي أن ينظر كل مواطن إلى النقطة التي هو فيها، فيسعى إلى خدمة الوطن فيها، دون أن يدعها فيضيع وتضيع أمته. والثالثة: أن الوطنية ملك للناس أجمعين وبابها مفتوح على مصراعيه لكل داخل، لا كما هي الحال عندنا: محصورة في فئة واحدة يكون الرجل وطنياً إذا انضوى تحت لوائها، وإلا فلا يُعَدّ إلا رجعياً خائناً مهما كان له في خدمة الوطن من مواقف حميدة وأعمال مجيدة! والرابعة: أن الشرف قبل الوطنية، فليس يجوز للشاب الناشئ أن ينحط عن منزلته الشريفة ويأتي ما لا يأتلف مع الأخلاق الفاضلة، ولو كان في ذلك نجاح القضية الوطنية. وليس في هذا شيء من الأنانية أو حب الذات، وإنما هو الواجب، إذ إن الأمة الشريفة تستطيع في كل ساعة أن تسعى إلى غايتها، أما إذا خسرت

الأمة أخلاقها فقد خسرت كل شيء. والخامسة: أن لا يلجأ الشبّان الذين يتعلمون الوطنية -في الدفاع عن وطنيتهم- إلى طرق السباب والشتائم، وأن لا يَدَعوا الحزب الذي ينتسبون إليه يستغل جرأتهم عليها فينتقم بهم من أعدائه ويبعث بهم إليهم يسبّونهم ويشتمونهم. وليعلموا أن من تصدر عنه البذاءة لا يحقّر الناس، وإنما يحقر نفسه ويدل على قلة تربيته وانحطاط أخلاقه. والسادسة: أن الوطنية هي العلم قبل كل شيء، فإذا كان هؤلاء الإخوان يُخلصون للوطن حقاً فليسعَوا لتحصيل العلم والتعمق في الثقافة، حتى إذا أصبحوا رجالاً أولي علم واطّلاع وكان لهم مواهب سامية سَدّوا هذا الفراغ الذي نحسه اليوم في كراسي الزعامة الوطنية الصحيحة، واستطاعوا أن ينهضوا ببلادهم إلى المكانة التي تتطلبها. * * * هذا، وإن مَرَدّ أدوائنا كلها إلى الغرور، فإننا لا نحب أن نعترف لعدونا بشيء، ولا نزال نحسب أن كل صفة حسنة هي لنا وكل سيئة لغيرنا؛ فنعتقد أن لغتنا أوسع اللغات وننام عن توسيعها والسير بها في طريق التقدم كما يفعل الفرنجة بلغاتهم، وأن حضارتنا أعظم الحضارات ولا نسعى لإعادتها ... إلى آخر ما هنالك مما لا يتسع له استطراد في مقال صغير، ونتجاوز بذلك الغرور حدَّ العصبية القومية إلى العصبية الحزبية، فننظر إلى كل شخص من الأحزاب الأخرى التي لا تقول بقولنا نَظَرَنا إلى رجل

قد استكمل صفات النقص وتبرأ من صفات الكمال، ونحسب أن القضية الوطنية لا تنهض إلا على عاتق الحزب الذي نحن منه ... وليست هذه الوطنية، وطنية الاحتكار، إلا مظهراً من مظاهر الانحطاط في السويّة العامة، ولا بد من الانصراف عنها يوم ترتقي هذه السوية ويفهم الناس معنى الوطنية الصحيحة، وهذا يومٌ ما أحسبه بعيداً. وليسمح القراء أن نعيد عليهم قولنا: إننا لا نتعرض في هذه الكلمة لأشخاص، وإنما نبشّر بمذهب وطني جديد يخلّصنا من هذه الوطنية المحتكَرة. ولا أقول الآن أكثر من هذا. * * *

عند الحلاق

عند الحلاق نشرت في دمشق سنة 1933 (¬1) ذهبت أمس إلى الحلاق، وتخيَّرت آخر ساعة من النهار كي يخلو لي المكان، فوجدت عنده شاباً، وكرهت أن أدخل فأنظره، وأنا أكرهُ الناسِ للانتظار، فهممت بالرجوع، ولكن الحلاّق أومأ إليّ أن: ادخل، لن يلبث حتى يقوم فقد أوشك أن ينتهي. فدخلت. وكان الشاب قد انتهى حقاً، وكان قَذاله وعِذاره وسالفته مقصوصة، وكانت جُمّته مُرَجَّلة مُصفَّفة (¬2)، وكان وجهه كالمرآة الصقيلة ما فيه -والحمد لله- أثر من لحية أو شاربين! فما باله لا يزال قاعداً على الكرسي؟ وماذا ترى الحلاق صانعاً به بعدُ؟ ثم اطمأننت وقلت: قد انتهى وإنه لقائم، وقعدت أرقبه، فلم يَرُعْني إلا الحلاق يُقبل على شعره فينفشه نفشاً، وهو ساكت لا ينكر ¬

_ (¬1) استخرجت هذه المقالة من كتاب «في بلاد العرب» وعليها السنة التي نشرت فيها، ولم أعلم في أي مجلة أو جريدة وفي أي يوم أو شهر نُشرت (مجاهد). (¬2) العِذار ما نبت على الخد من اللحية، والقَذال شعر أعلى الرأس، والجمة هي الشعر المجتمع في مقدمة الرأس (مجاهد).

عليه، فقلت: لعله قد بدا له فأحب أن يقصر من هذا الشعر، ولن يطول أمد هذا التقصير، وإني منتظر. وانتظرت والحلاق ماضٍ في عمله، حتى إذا تم النفش غدا على رأس صاحبنا شجرةٌ ذات فروع، فعجبت كيف كان هذا الشعر كله مصفَّفاً مستقراً، ورثيت له إذ يحمل على رأسه أبدَ الدهر هذا الحمل الثقيل، وأعجبني منه أن يزمع الخلاص منه. ولكنه لم يقصّه كما قدَّرت أن يفعل، بل أشار إلى الحلاق فعمد إلى هنات سوداء -لا والله ما عرفتها من قبل وسنّي سنّي! - فأدخلها النار حتى احمرّت، ثم أدناها منه، فأشفقت أن يصيبه منها أذى، ثم فكرت فقلت: لعله مريض يكتوي، وقديماً قالت العرب: «آخر الدواء الكَيّ». ونظرت فإذا هو يقبض على شعره بإحدى هناته تلك ويديره عليها، ثم يستلّها منه استلالاً، ثم يفعل مثل ذلك، وأنا أعجب منه. حتى انتهى، فإذا صاحبنا قد عاد جَعْدَ الشعر وقد كان سَبْطاً، فقلت: إنّا لله! رجل أصله من البربر فهو يجب أن يتشبه بأصله، والتمست له المعاذير. وحسبته قد انتهى وظننت أنه قائم، ولكنه لم يقم بل أشار إلى الحلاق، فضمخ رأسه بماء «كلونية» وأقبل فسرّحَه تسريحاً، وعاد فمسَّه بدهن استخرجه من حُقّ صغير، فصار لرأسه وميض ولمعان، فقلت: الحمد لله، قد انتهى. ونزعت عني طربوشي، ثم أعدته إلى رأسي حين لم يقم، ولبثت أنتظر، وجاء الحلاق بكُمَّة (¬1) فوضع فيها رأسه وشدّها من حوله شداً، فقلت: مُصَدَّع ¬

_ (¬1) الكمة غطاء يحتوي الرأس، كالقلنسوة أو الطاقية (مجاهد).

متألم فهو يخفف من صداعه. ثم أخذ الحلاق الملقط، وعمد إلى حاجبيه فجعل ينتِش منهما نتشاً، وأنا أرثي له وأُلحّ عليه بالنظر، علّ عينه تقع على عيني فأبذل له عوني ونصرتي، فإن هذا الحلاق لا يكاد يرحمه! فلا يبصرني. ثم أدركَت الحلاقَ رحمةٌ فعفا عنه وأبقى عليه، فنظرت فإذا حاجباه خطّان كأنهما خُطّا بقلم، فقلت: سبحان الله! أي فتاة تُعطى مثل هذين الحاجبين ثم لا تنزل راضيةً عن سنين من عمرها؟! وفتح الحلاق خريطة فاستخرج منها كُبَّة، أخذ منها خيطاً لَفَّه بين أصابعه وجعل في وسطه فرجة تضيق وتتسع كلما شدّها أو أرخاها، وأمَرَّ هذا الخيطَ على وجهه ووجهُه يتمعّر ويُخيَّل إليّ أنه يقاسي ألماً شديداً، ثم كَفَّ عنه، فلا والله ما ترك في جبينه زَغَبة (¬1) إلا اجتثّها هذا الخيط. فقلت: قد انتهى، ولم يبقَ في وجهه ما يذهب به إلا أن يكون أنفه، فيكون كباغي الجمال بجدع الأنف! ولكن سرعان ما خاب ظني في أنه انتهى، ورأيت الحلاق يدلك وجهه دلكاً ويقرصه قرصاً، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، قد جُنَّ الرجل، وإلا فماذا يكون هذا القرص من الحِلاقة؟ ثم كفّ، فنظرت في وجه الشاب فإذا عليه حمرة الخجل، وأنعمت النظر والتفكير فعلمت أنها حمرة الصحة والحياة أو حمرة الدلك والقَرْص، ¬

_ (¬1) الزغبة من الشعر كل صغير دقيق منه (وهي من الريش كذلك) (مجاهد).

فهممت أن أقوم إليه فألتزمه وأهنّئه على هذا الاختراع: يصيب الناسُ الصحةَ بالغذاء وبالرياضة ويصيبها هو بالدلك وبالقرص! ثم تخاذلت ورحت أنظر مشدوهاً إلى الحلاق وهو يصبغ وجهه بالأبيض والأحمر، ورأيتني لا أطيق احتمال هذا منه -وأنا أكره من النساء أن يفعلنه- وعجبت كيف لا ينكره هو وكيف لا يُغضبه أن يُعامَل كامرأة! ولكنه لم ينكر شيئاً، بل أشار إلى الحلاق، فجاء بإصبع حمراء فمسّ به شفتيه كما تفعل فتيات السينما سواءً بسواء! فلم أستطع المكث بعد هذا، وقمت فجلت في السوق جولة، ثم عدت لمّا فارق الكرسي. * * * وبعد، فما أدري كيف أصفه؟ ولو أنت عرضته على الناس بزينته تلك ما عرفوا أرجل هو أو امرأة! ثم كانت الطامة الكبرى، فقد اقترب مني الشاب يسلم عليّ ويزعم أنني أعرفه. قلت: أنا أعرفك؟ لا، أراك مخطئاً. قال: كيف؟ أنا تلميذك منذ كذا سنين في مدرسة كذا، وأنا اليوم معلّم. قلت: أنت معلم؟! ونَدَّتْ مني صرخة تعجب ولم أُجب. * * *

الأستاذ شفيق جبري والوظيفة

الأستاذ شفيق جبري والوظيفة نشرت سنة 1934 (¬1) [قال ابن هُبَيرة: ما رأيت أكرم من الفَرَزدق، هجاني أميراً، ومدحني معزولاً!] وبعد، فقد كان على أصدقاء الأستاذ (أو أولئك الذين يتظاهرون بهذه الصداقة، والذين طالما فخروا بها وطالما أفادوا منها) أن يكتبوا عنه ويصفوا للناس أدبه، لا علينا نحن الذين لم يكن بيننا وبين الأستاذ إلا الصلة الرسمية؛ من حيث كان رئيساً لديوان المعارف وكنّا من معلمي المدارس القروية الابتدائية، وصلة الأدب؛ من حيث هو قائد من قُوّاده الأكابر ونحن من جنوده الأصاغر. ¬

_ (¬1) نُشرت هذه المقالة في جريدة «ألف باء» يوم الأحد 8 نيسان 1934 (23 ذي الحجة 1352)، وعلى أصلها المحفوظ تعليق بخط جدي رحمه الله قال فيه: "كنت آتياً من زاكية على الدراجة، فلمحت الأستاذ يسير وحده في شارع بغداد في حر الظهيرة، فعكفت على التفكير في أمره، ثم ذهبت فكتبت هذه الكلمة التي أغضبتُ بها عليّ رجال المعارف". وزاكية هي القرية التي درّس علي الطنطاوي في مدرستها في تلك السنة، وأخباره فيها في أول الجزء الثالث من «الذكريات» (مجاهد).

وإذا كان قبل اليوم ما يمنعني من الثناء على الأستاذ والتحدث عن أدبه، وإذا كان قبل اليوم ما يحفزني إلى نقد آثاره والإيغال في هذا النقد حتى أجاوز به حدَّ النقد، وإذا كانت عزة النفس وخشية أن يُظَنّ بي المَلَق والتزلف (وأنا من أكره الناس لهما) ... إذا كان هذا ما منعي قبل اليوم من الثناء وساقني إلى النقد، فإن الوفاء والحق يوجبان عليّ اليوم أن أتكلم عن أدب الأستاذ فأطيل الكلام ولا أتحرج من الثناء. وإذا كان لجبري «الموظف الكبير» خصوم وأصدقاء وناقمون عليه وراضون عنه، فما لجبري «الأديب الكبير» خصم ولا عليه ناقم، إلا أن تكون خصومة أدبية في الظاهر ومردّها إلى الوظيفة وما يتصل بالوظيفة. وقد ذهبت تلك الوظيفة وذهبت معها تلك الخصومات، وأصبح من الواجب على كل من يمتُّ إلى الأدب بصلة أن يهنّئ الأستاذ بانقطاعه إلى الأدب، ويهنئ الأدب بانقطاع الأستاذ إليه ونجاته من هذه الوظيفة التي كانت - مذ كانت- بَلِيّة على الأدباء، مُقَيِّدةً أفكارَهم وعواطفهم، معترِضةً سبيلَهم إلى الخلود، صارِفةً نفوسَهم السامية إلى غير ما خُلقت له وفُطرت عليه. وذهاب الوظيفة قد يكون رُزْءاً ومصيبة على الموظفين الذين لا يرتفعون عن سواد الناس إلا على قوائم الكرسي، أما الموظفون الذين ترفعهم نفوسهم ومواهبهم وآثارهم فلا يزيدهم فَقْدُ الوظيفة إلا رِفعة وسُمُوّاً. وقد خسر المتنبي الوظيفة التي كان يحلم بها، ولكنه ربح الخلود على الدهر والجلوس على عرش الشعر ألف سنة. وقد انتهت أيام حافظ إبراهيم في الوظيفة، ولكنه

بدأ في الشعر أيامَ الشباب من جديد. ومهما يكن من أمر الوظيفة، فإنها لا تجعل الناس يقولون عن صاحبها: هذا مؤلف «خطط الشام» وهذا مؤلف «الجاحظ» و «المتنبي» ... ولو كان صاحبها وزيراً أو رئيس ديوان (¬1). وقد نسي التاريخ أو كاد ينسى ملوك اليونان وكبار موظفيها، ولكنه لن ينسى أبداً الشحّاد هوميروس، وقد نسي التاريخ -كما يقول تيوفيل كويته- اللآلئ التي في تاج الملك الأكبر لويس الرابع عشر، ولكنه لم ينسَ الرُّقَع التي في حذاء كورنيل! فليهنأ سيدي الأستاذ وليهدأ بالاً، وليعكف على الأدب فالأدب سبيل الخالدين. وما دام يرى الأدب أُلْهِيَّة فَلْيَلْهُ به ما شاء أن يلهو. ولكنا -على رأينا- لا نراه لَهْواً أبداً، ولا نرى لَهْوَ الأستاذ إلا الجِدّ كل الجد. وإذا كان شعر جبري وأدب جبري هو ما يسميه الأستاذ جبري لهواً، فما خلافنا مع الأستاذ إلا خلافاً في اللفظ! (¬2) * * * ¬

_ (¬1) الكتابان الأخيران لشفيق جبري، أما الأول (خطط الشام) فهو لمحمد كرد علي. وكلاهما كانت له صلة بالمعارف في وقت من الأوقات، فقد ولي كرد علي وزارة المعارف مرتين وعمل شفيق جبري رئيساً لديوانها (مجاهد). (¬2) أردت -وأنا أُعِدّ هذا الكتاب للنشر وأختار مادّته- أن أستبعد من المقالات القديمة ما كان مرتبطاً بحادثة عابرة ذهبت أهميتها أو بمناسبة محدودة أفقدتها الأيامُ قيمتَها. ولعل هذه المقالة القصيرة من هذا النوع، لكن أمرين شجّعاني على ضمها إلى الكتاب؛ أولهما =

هذا وما نريد أن نصف أدب جبري في هذه الكلمة الوجيزة، ولكنا نريد أن نقول على رؤوس الأشهاد، لا عن رغبة ولا عن رهبة: بأن الأستاذ جبري الشاعر الكبير، والباحث المدقِّق، والمنفرد بالمَراثي الوصفية التحليلية، والعربي الوفيّ للعربية، لا يمكن أن يزيده فَقْدُ الوظيفة إلا سُمُوّاً في الأدب ودُنُوّاً من الخلود ... بل إن الأستاذ جبري مُذ أُغلق دونَ اسمه سجلُّ الوظيفة قد فُتِحَ لاسمه سجلُّ الخلود. * * * ¬

_ = أن فيها تعبيراً صريحاً واضحاً عن واحدة من أظهر صفات علي الطنطاوي رحمه الله، وهي الوفاء، ومعها يظهر خُلُق الاستقامة والصدق وكراهية التزلف والنفاق، وكلها من صفاته البيّنة كذلك. أما الأمر الآخر فهو من باب الإنصاف لجبري، وقد قرأتم فيما مضى من هذا الكتاب رسالة «الأدب القومي» التي نشرها جدي سنة 1930، وعلمتم أنه إنما نشرها رداً على محاضرات ألقاها شفيق جبري في مدرسة الآداب العليا في تلك السنة ووصف فيها الأدب بأنه «ألهيَّة» شريفة. هذا كله مفصَّل في «الذكريات» (الحلقة 55 في الجزء الثاني)، وفي تلك الحلقة شهد للرجل بأنه ما جاوز بمذهبه هذا أن يلقيه على الطلاب بلسانه، ثم حمل على من جعل ذلك مذهباً يعيش له فقال: "لقد أنكرنا على أستاذنا شفيق جبري لأنه قال (قولاً) إن الأدب أُلهيّة شريفة، فكيف لا ننكر على من جعله (فعلاً) أُلهية ولكنها ليست شريفة ولا عفيفة ولا نظيفة؟ " (الذكريات: 2/ 229). ذلك ما قاله في حلقة الذكريات تلك (وبعده كلام ثمين يستحق أن يُكتَب بماء الذهب فاقرؤوه)، وهنا شهادة أخرى تزيد الرجل إنصافاً، ولعل فيها خاتمة القول في هذه المسألة (مجاهد).

إن في هذا لعبرة

إن في هذا لعبرة نشرت سنة 1934 (¬1) قرأ الناس في الجرائد منذ أيام خبراً ارتابوا فيه وشكّوا في وقوعه وترددوا في تصديقه، فلما بدا لهم أنه واقع حاروا فيه وعجبوا منه وارتاعوا! قرؤوا أن فتى من فتيان أسرة مجيدة، معروفة بالدين والشرف، سأل أباه شيئاً فمنعه إيّاه، فقال له كلمة فردّها عليه، فخاطبه باللغة التي ليس لها ردّ، لغة الرصاص! أطلق عليه مسدسه ما يريد إلا قتله، ولكن الله سلّم، ونجا الأب وقدّر الله له الحياة، ولله الحمد على ما قدّر. وليس لنا أن نمرّ بهذه الحادثة من غير أن ندلّ على مكان العبرة منها. وليس عندنا شك أن الأمير شفاه الله (¬2) يحبّ قَوْلة الحق ويحب أن يسمعها له أو عليه، ويؤْثر ما في بيانها من مصلحة الأمة على ما في كتمانها من سرور نفسه وراحة باله. ومكان العبرة في هذه القصة إنما هو في نشأة هذا الفتى ¬

_ (¬1) أخذتها عن أصل مخطوط وعليه سنة نشرها، ولم أعلم أين نشرت ولا متى نشرت على التفصيل (مجاهد). (¬2) هو الأمير سعيد الجزائري، حفيد الأمير عبد القادر.

وطريقة تعليمه وأسلوب تربيته، فلو أن أباه سلّمه إلى مُرَبٍّ مسلم ونشّأه نشأة إسلامية وبعث به إلى مدارس إسلامية لما رأى منه ما رأى، ولكان يَوَدّ أن تُقطع يمينه قبل أن يسدّد بها المسدسَ إلى صدر أبيه، لأن من واجبات المسلم أن يعرف لصاحب الفضل فضله ويجزيه بالخير خيراً، وأن يمعن في بِرّ أبويه والإحسان إليهما، ولأن على المسلم أن ينفض يديه من الدنيا كلها ويُعرض عنها إذا حالت بينه وبين برّ والديه، ولأن المال لا قيمة له في نظر المسلم بجنب حق أبويه عليه وإحسانهما إليه. هذه أخلاق المسلم وهذه سيرته، ولكن الأمير -سامحه الله- لم يختَرْ لولده مَن ينشّئه عليها ويأخذه بها، وآثر أن يبعث به إلى من يفتنه عن دينه ويغلبه على عاطفته، ففعلوا، وأعادوه إليه عدواً بيده المسدس! ينتزع الولد بيده حياة أبيه ولا يتردد ولا يضطرب، لأن مَن علّمه وربّاه نزع من نفسه عاطفة الابن، وخشية المؤمن، ورأفة الإنسان! (¬1) * * * فيا قومنا، اعتبروا واختاروا لأولادكم خير المربّين وأفضل المعلمين، واعلموا أن الله سائلكم عنهم وأنه مجازيكم بأعمالهم، فإن أحسنتم الاختيار وحفظتم وصيّة الدين كان جزاؤكم هَناءة في الدنيا وسعادة عند الله، وإن آثرتم الدنيا وسلّمتم أولادكم إلى من يفسد عليهم عقائدهم وأخلاقهم كان جزاؤكم شقاء في الدنيا وعذاباً في الآخرة! ¬

_ (¬1) درّس الأمير سعيد ابنَه في مدارس النصارى والمبشرين.

واعلموا أن أحمق الناس من يتداوى بالسمّ ويتبرّد بالنار ويطمئنّ إلى العدو، وأحمق منه من يأتمن على شاته الذئب! وأحمق منهم جميعاً الرجل يسلّم ابنه لمن يكفر بدينه ولا يتبع ملّته. يا قومنا انتبهوا، فقد نبهكم مسدس الفتى، قبل أن يُطلق غيرُه مِن ناشئة المدارس الأجنبية الرصاصةَ التي لا ينفع بعدها انتباه! * * *

قصة رمزية: ورقة الخمسين

قصة رمزية ورقة الخمسين نشرت سنة 1935 (¬1) فتحت ساكناتُ الصندوق العام في «المصرف السوري» عيونَهنّ ينظرنَ مَنْ هذا القادم عليهن، فإذا «ورقة» من ذوات الخمسين ليرة سورية، مريضة قد حطمتها الأدواء و «مزقتها» الآلام، فلم تكد تستقر في الصندوق حتى أخذتها غَشْية، فدنا منها قرش مثقوب (¬2) فنظر إليها وانفجر ضاحكاً ... وكان يعاشر الصِّبْيَة أبداً ويشاركهم في ألعابهم فجعله ذلك شاطراً خبيثاً. وساء ضحكه الحاضرين، وكان فيهم «مجيدي» شيخ وقور (¬3)، اعتزل الناس منذ عامين اثنين وترك المجتمع ولبث يذكر ¬

_ (¬1) في «الجزيرة» بتاريخ 15/ 1/1935 (9 شوال 1353). (¬2) القرش الذي سكّته سلطة الانتداب الفرنسية سنة 1933 كان مثقوباً في وسطه (مجاهد). (¬3) «المجيدي» عملة عثمانية بقيت شائعة في أيدي الناس إلى وقت قريب من وقت نشر هذه المقالة، والظاهر من سياقها أنه ألغي قبل نشرها بسنتين. وكان يعادل عشرين قرشاً، وربما صُرف بخمسة =

أيامه الخاليات، أيام كان له الحول والطول، ويُعجب كيف ذهب ابنه «نصف المجيدي» إلى باريس فعاد منها ببزّة غير بزته وطابع غير طابعه، فلم يلبث أن غلبه على مكانه وادّعى أنه وارثه في أرضه. وانبرى هذا الشيخ، لذلك الصبي يلومه ويقرّعه، فسكن القرش وهدأ، فقال له: ويل لك أيها الولد الخبيث! أتهزأ بهذه العجوز المسكينة وأنت تعلم أنها تعدل خمسة آلاف من مثلك؟ أم غَرَّك منها حِلْمُها وكرمها؟ أم أنت أحمق مغرور كشاب قرأ كتاباً في الأدب وكتب مقالتين في جريدة، فلم يعد يقنعه إلا أن يكون أول أديب في البلد، فإذا رأى الناس يعظّمون شيوخ الأدب ويُجِلّونهم، ولا يحفلون به هو ولا يأبهون له، جُنّ جنونه وطار صوابه، فأقبل على هؤلاء الشيوخ يسبّهم وينتقصهم ويُسَمِّع بهم، ولو هو عقل لقرأ مثل ما قرؤوا وعمل مثل ما عملوا، ثم طمع أن يُعظَّم كما عُظِّموا. وكان في الحاضرين «فرنك» قدم من أوربة حديثاً، وهو شاب متأنّق لا يفتأ كلما تكلم ينظر في ثيابه ويهزّ عطفيه ويمرّ المشطَ في شعره، فتنحنح على الطريقة الحديثة وقال: لا تسمعوا ما يقول، إنه رجعي، أؤكد لكم أنه رجعي. ¬

_ = وعشرين، أي أن قيمته كانت بين ربع ليرة ذهبية وخُمس ليرة. واسمه الأصلي «الريال المجيدي»، سُمِّي كذلك نسبة إلى السلطان عبد المجيد الذي ضربه سنة 1844 (1260هـ)، ثم اختصره الناس إلى «المجيدي» فحسب، ورغم أن السلاطين اللاحقين داوموا على ضربه بأسمائهم إلا أن الاسم الأول بقي في أذهان الناس وعلى ألسنتهم بلا تغيير (مجاهد).

- أنا رجعي؟ - نعم، أنت. إنك تعود بنا إلى القرون الوسطى! - يا للتقليد الأعور! إن صاحبكم لا يدري ماذا يقول. - بلى، أدري. إن القرون الوسطى هي الجهل وهي التعصب وهي الظلام. - ذاك في أوربا، أما في الشرق الإسلامي فهي العلم وهي الحضارة وهي النور. * * * وسكتوا جميعاً لأن الورقة العجوز قد حشرجت وتلاحقت أنفاسها، فحفّوا بها واجمين لروعة الاحتضار وجلال الموت، ثم أدركتها قوة فرفعت رأسها وشكرت لهنّ ما صنعن بها، فقال لها «المجيدي»: من أين أنت يا أختاه؟ وما هو شأنك؟ فهمهمت (¬1)، ثم أنشأت تقصّ حديثها بصوت خافت. قالت: لست بحمد الله متكبّرة ولا مزهوّة، وإنكم لأكرم مني عنصراً وأسمى محتداً، وما أنا إلا واحدة من غمار المخلوقات. لقد كانت أمي قشرة شجرة تحنو على شجرتها وتدفع عنها عادية الحَرّ والقَرّ (¬2) ولفح الريح ووهج الشمس، وكانت تُظهر للناس حقيقتها، فلا تخدعهم عن نفسها بثوب برّاق ولا زينة مستعارة. ¬

_ (¬1) الهمهمة هي الكلام الخفي. (¬2) القر -بفتح القاف وبالضم- البرد، ولكنهم أوجبوا الفتح مع «الحَر» للمشاكلة (مجاهد).

ونشأتُ إلى جانبها على أحسن ما تكون عليه بنت بارّة، تطيع والدتها وتحافظ على هناءتها وتسرع في تلبية أمرها، ولبثنا على ذلك حقبة من الدهر حتى قيل لن يتفرَّقا، ثم كان اليوم الذي لست أنساه، فما راعنا إلا جنس من الوحش من أشدّها وأضراها، ما رأيته من قبل ولا سمعت به ولا هو بالذئب ولا هو بالضبع، فإن الذئب لا يعدو على الفريسة إلا إذا عضه الجوع بنابه ثم لا يقرب منا معشر الجمادات ولا يمسنا بسوء، أما هذا الوحش الضاري (الذي علمت بعدُ أنه يسمّى الإنسان) فيفترس جائعاً وشبعانَ، ويفترس كل شيء بأنياب من حديد وفولاذ وبارود ورصاص، يقضم بها الصخر ويشرب بها البحر، ويأكل بها أخاه الإنسان. أقول: جاءنا رجال بأيديهم المعاول، فنزلوا بها علينا قطعاً قطعاً وكسراً كسراً، فقُتلت أمي المسكينة مع من قتل وحُملتُ أنا أسيرة، فما زالوا يجرّبون بي الوسائل ويسلكون معي سبيل اللين وسبيل الشدة، يسقونني الماء ويعرضونني على النار، حتى لنت لهم وخرجت من شدتي وعصبّيتي، فأذابوني وأخرجوني شيئاً آخر أنكرت معه نفسي وأصلي، وقالوا لي: أنت اليوم ورقة من أمّة الورق ولست قِشْرة من أمة القِشْر! وهذا دأبهم أبداً إذا غلبوا أمة ضعيفة، لا ينفكّون يزينون لها جديدهم ويزهّدونها في قديمها ويغرسون ذلك في قلوب ناشئتها وصغارها، حتى إذا آمنوا به واستيقنته أنفسهم سلخوهم من أصلهم وأخرجوهم من جلودهم وعادوا بهم أمة من الشياطين، لا هم منها ولا هي منهم، ولكنهم يفكرون برؤوسها ويمشون بأقدامها. لست أدري كم أحييت من الليالي باكية حزينة على ما

خسرت من أصلي ولغتي وديني، ولكن حين لم يعد ينفع البكاء، فاستسلمت للقدر وخضعت لمشيئة الله. ولما رأوا أني ثابتة على ورقيّتي لا أحاول الخروج عنها والانسلاخ منها أنعموا عليّ بهذا الثوب المبرقَش وهذه التزاويق، وقالوا لي: قد جعلناك بخمسين من الجنيهات الذهبية، فسيري في الأرض وانشري في الناس هذه الوكالة وتكلمي باسم هذه الخمسين جنيهاً. قلت: ولكنهم لم يوكلوني ولم يفوضوني، فكيف أدّعي أنني وكيلة بخمسين ذهباً، وأنا وخمسون من مثلي بقرش! قالوا: عَدّي عن هذا، فما هو من شأنك وما عليك إلا أن تسمعي فتطيعي، ولئن فاتك أن يكون وراءك ذهب فإن وراءك جيشاً، فقرّي نفساً وسيري على بركات الله! (¬1) ¬

_ (¬1) في الماضي تعامل الناس في الولايات العثمانية بالليرات الذهبية، وقد أصدر العثمانيون بعض الإصدارات النقدية الورقية التي لم تلقَ رواجاً بين الناس، رغم أنها كانت مغطاة بالذهب بنسبة مئتين بالمئة وقابلة للاستبدال الفوري بالليرات الذهبية عند الطلب. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى ومع الانهيار العسكري والاقتصادي للدولة أبطل الاتحاديون التعامل بالذهب وفرضوا النقد الورقي غير المغطى، لكن الناس تهرّبوا منه وأصروا على التعامل بالعملة الذهبية التي زادت قيمتها مع ازدياد الطلب. وبعد احتلال سوريا أصدر الفرنسيون عملات ورقية غطاؤها من الفرنكات الفرنسية وليس من الذهب، وحدّدوا أجلاً قصيراً لمبادلة الليرة الذهبية القديمة (التي أُلغيت وصار التعامل بها غيرَ قانوني)، فسحبوا النقد الذهبي كله وأحلّوا محله ليرات ورقية أصدرها «المصرف السوري» بأمر المندوب السامي الفرنسي، وقد أُخضع هذا النقد الورقي الجديد للتداول الإلزامي وكان غير قابل للتعويض بالذهب! (مجاهد).

فضممت عليّ ثيابي وأصلحت من هندامي ونزلت إلى السوق، وكان ذلك في باريس، بلد الرقة والجمال والعلم والحرية ... وأشياء أخرى يضيفونها إليها لم أحفظها، لأن لذع النار علّمني ألا أقف وراء الستار وأن أنفذ الى الصميم، فلما فعلت علمت أن وراء هذه الرقة طوفاناً من الفساد الأخلاقي، ووراء هذه الحرية إباحية لا حد لها واختلاطاً في الأنساب واستهتاراً بالأعراض ونشراً للأمراض، وأن وراء هذا العلم كثيراً من الكفر وكثيراً من الظن وكثيراً من الدسائس، وأن وراء هذا الجمال الجسمي أقبح القبح النفسي. وكان أول من عرفته في باريس طالباً سورياً يدرس فيها وله على الحكومة راتب، فدفعوني إليه من راتبه، وأوصوه أن يحتفظ بي ويحسن صحبتي وأن يبتعد بي عن مواطن الريبة وأماكن الفجور، وأفهموه أنني من أصل وضيع ولكني شريفة، لا أعرف إلا جوّ الغاب الراقي الصادق وجو المعمل الجاد العامل، وأن الظروف اضطرتني إلى التدني من ذلك الجو إلى جو باريس ... فوعدهم خيراً. وقلت: الحمد لله، فقد كُتبت لي السعادة إذ صرت صديقة طالب هجر بلاده وترك أهله ليطلب العلم الصحيح ثم يرجع به إلى بلده فيحمي به أمته ويوقظ به قومه وينير لهم طريق المجد والعلاء، وقد كُتب لي أن أدخل هذه الجامعة التي يمدحونها ويعتزون بها وأسمع هذه المحاضرات القيّمة، وأمد رأسي من جيب صاحبي فأرى هؤلاء العلماء الأجلاء الذين سمعت الحديث عنهم في المعمل. وأغمضت عيني لأنام تلك الليلة، ولكني لم أكد أغفو حتى

نبهني صاحبي بقسوة وغلظة، فلما صحوت أنبأني أني سأفارقه، وأنه كان ينتظرني من أمد طويل ليدفع بي إلى اليد الممدودة إليه. فقلت في نفسي وأنا أخرج: لا بأس، إنه سيدفع بي إلى يد طالب من إخوانه أو إلى أستاذ من أساتيذه، أو يدفع بي إلى يد تاجر شريف ثمنَ شيء لا بد له منه. ونظرت إلى تلك اليد، فعَرَتْني رجفةٌ شديدة وغطى الحياء على عيني حتى ما عدت أبصر، وودت أن لو متُّ وكنت نَسْياً منسيّاً ولا أرى صاحبي الطالب الشرقي الشريف يدفع بي إلى يد ... وأدخلتني «صاحبة» تلك اليد إلى الصندوق مُغمىً عليّ، ولبثت على تلك الحال مدة لست أدري كم هي، ثم فتحت عيني على أخوات لي كثيرات ملوَّثات بالأقذار يحففنَ بي ويسألنَني ما شأني، فلما قصصت عليهن القصص وجدت شأنهن جميعاً مثل شأني، ووجدت الغربيّات منهن يسخرنَ من غفلتي ويرين مثل هذا تمدناً وحضارة، فلعنت التمدن والحضارة. وفي اليوم الثاني نُقلتُ إلى صندوق شاب آخر أوربي صميم يبيع الدخان، فلم يطل به الأمر حتى هيأ عدة السفر لأنهم بعثوا به أستاذاً إلى ... إلى سوريا! ثم شَرِقت بريقها وحشرجت وجادت بروحها. * * * وفتح مدير المصرف صندوقه، فلما رآها ميتة «ممزَّقة» أعضاؤها أمر بها فأُلقيت في دُرْج اتخذوه مقبرة لأمثالها، وكتب في دفتر الصندوق: «خمسون ليرة سورية ربح صاف للمصرف»! * * *

أبناؤنا وتاريخنا

أبناؤنا وتاريخنا نشرت سنة 1935 (¬1) قالت لي أمس بُنَيَّةُ قريباتٍ لنا جئن يَزُرننا: أي شيء هي الخنساء؟ قلت: هي امرأة. فما يدريك أنت بالخنساء؟ فضحكت وقالت: وما يدريني؟ أنا من مدرسة الخنساء. قلت: ويحك يا بنية! لا أكاد أفهم عنكِ، فما هي مدرسة الخنساء؟ فزادها سؤالي ضحكاً، وانطلقت تثب وتقفز، وتشير بيديها وهي تقول: أنت لا تفهم! هي مدرستنا، مدرستنا، صار اسمها مدرسة الخنساء. ثم عادت إليّ فسألتني: والآن، هل فهمت؟ قل لي: لماذا سمَّوا المدرسة باسم الخنساء؟ قلت: لأنها كانت عظيمة. ¬

_ (¬1) في «مجلة المعلمين والمعلمات» الصادرة بتاريخ 1 شباط 1935 (26 شوال 1353).

قالت: يعني ماذا؟ قلت: إنها كانت شاعرة، تنظم الشعر. قالت: مثل المحفوظات؟ قلت: نعم، ثم إنها كانت امرأة عاقلة، مسلمة، جريئة ... قالت: أريد أن أكون مثل هذه الخنساء. قلت: إذن فكوني من اليوم عاقلةً مسلمة جريئة. قالت: وأعمل محفوظات؟ قلت: لا، ليس الآن. * * * وجلست أفكر في هذه السنّة الحسنة التي استنّتها وزارتنا الجليلة، وأفكر في أن كل تلميذة في هذه المدرسة ستسأل عن الخنساء وستتعلم كثيراً من الفضائل وكثيراً من السجايا، وأن كل تلميذ في مدرسة الصديق والفاروق وخالد بن الوليد -رضي الله عنهم- سيسأل عن خالد والفاروق والصديق، حتى يعلموا جميعاً أن هؤلاء الأبطال الذين ملكوا زمام الدهر وكانوا سادة الدنيا وأساتذة العالم، والذين هم فخر الإنسانية وخلاصتها، إنما هم أجدادهم وأسلافهم، الذين يجب عليهم أن يفخروا بهم ويسيروا على سَننهم ويبعثوا مجدهم بعثاً جديداً. وإني لفي ذاك وإذا بالباب يُدَق، وإذا بصديق لي من كرام الحجازيين جاء يزورني، فاستقبلته وحييته وملت معه بالحديث

يميناً وشمالاً، ثم قلت له: ألك في أن تسمع طفلة صغيرة تسأل عن الخنساء وتَتَقصّى حديثها، وترجو أن تكون مثلها؟ قال: ما أرغبني في ذلك! فناديت: يا فلانة، أقبلي. فجاءت تعدو، وجاء معها أخ لها في الصف الخامس، أي أنه سيكون مشهوداً له بعد ثلاثة أشهر بأنه أكمل الدراسة الابتدائية. فسرّني أن يأتي معها وقلت في نفسي: لعل الصغيرة تعجز أو تجبن عن الجواب، فيجيب هذا ولا تَسْوَدُّ وجوهنا أمام ضيفنا. وآنسها الضيف ولاطفها ثم قال: يا بنيّة، بلغني عنكِ أنك تحبين التاريخ، وإني سائلك سؤالاً هيناً، فإذا أنت عرفتِه فلك هذه السُّكَّرة. وأخرج لها سكَّرة محشوَّة سال لها لعاب الطفلة، فقالت: سَلْ. فقال: وإني مسهلٌّ عليك السؤال، ما اسم والد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري. قال: من هو أبو بكر؟ قالت: ما هذا تاريخنا. نحن لم نصل إلى هذا، سلني عن الحثّيين، عن العبرانيين، عن ... فكاد يطير عقل الرجل من رأسه، وما من رجل عربي مسلم لا يطير لمثل هذا عقله، وقال لي: أفتقرأ ناشئتكم تاريخ الحثّيين والعبرانيين قبل أن تعرف سيرة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن

تعرف من هو أبو بكر؟ قلت وأنا أرشح عرقاً: هذه طفلة لا تفهم، سَلْ هذا فهو في الصف الابتدائي الأخير. فقال لهذا: تعال يا بني، أخبرني عن سيرة محمد بن القاسم الثقفي، الفاتح العظيم. قال: هذا ما قرأناه، ولكن إن شئت أخبرتك عن سيرة نابليون. فحوقل الرجل واسترجع، وقال: إذن فاحكِ لي تاريخ سيف الدولة صديق الشعراء ومشجع الأدباء. قال: ما درسناه، ولكن إن شئت حكيت لك تاريخ لويس الرابع عشر، فإنه صديق الشعراء ومشجع الأدباء، ولولاه ما نشأ -من بعد- مونتسكيو وروسو وفولتير. قال: ومن هؤلاء؟ قال: أدباء وكتاب. قال: أظنك تعرف عنهم مثلما تعرف عن ابن خلدون والغزالي. قال: أما هذان فما أعرفهما. قال: فتعرف عنهم إذن مثلما تعرف من سيرة أبي حنيفة والشافعي؟ قال: إذن أسقط في الامتحان! إن كل ما أعرف عن أبي حنيفة

والشافعي أنهما أبو حنيفة والشافعي. ولكن أعرف تاريخ الحضارة الأوربية في القرون الوسطى، وأعرف وقائع نابليون كلها. قال الرجل: مثلما تعرف عن وقعة اليرموك والقادسية؟ قال: ليس في تاريخنا يرموك ولا قادسية. قال الرجل: حسبك، حسبك! ونظر إليّ نظرة كانت أبلغ من خطبة، ومسح دمعة الشرف التي سالت على خده، ثم قام مودّعاً وأنا أودّ لو تبتلعني الأرض. * * *

الراتب، أم الواجب؟

الراتب، أم الواجب؟ نُشرت سنة 1935 (¬1) صديقنا «فلان» (¬2) موظف صغير، ذو أسرة كبيرة وراتب قليل، ثم إنه ليس له إلا هذا الراتب، وليس في جيبه أو صندوقه وَفْر ورقة سورية (¬3) أو ما دونها، وليس يعرف إلا هذا المورد مورداً يعيش منه هو وأسرته، فهو امرؤ عليه الطاعة والرضا وكفّ لسانه عن الكلام وقلمه عن النقد، وعليه الابتعاد عن كل ما يزلزل به هذه الوظيفة ويحرمه هذا الراتب. ¬

_ (¬1) في «القبس» بتاريخ 28/ 11/1935 (1 رمضان 1354). (¬2) «فلان» هو علي الطنطاوي، فهو في هذه المقالة يتحدث عن نفسه! وقد صنع ذلك غيرَ مرة في كتاباته؛ انظر على سبيل المثال مقالة «قصة معلم» (وهي في كتاب «من حديث النفس»)، وقد نشرها سنة 1935، في السنة نفسها التي نشر فيها هذه المقالة (مجاهد). (¬3) «الورقة» هو الاسم الدارج في الشام للّيرة، وهما مترادفتان، فربما قالوا: هذا الكتاب بخمس ليرات، وربما قالوا: هو بخمس وَرَقات. ولعل مبدأ استعمال هذه اللفظة هو تداول النقد الورقي في أول عهده، بعدما درج الناس على قِطَع النقد المعدنية (الذهبية والفضية وغيرها) أزمنة طويلة، وقد فُرض الورق عليهم أيامَ الانتداب كما قرأتم في الحاشية التي مضت في صفحة 307 (مجاهد).

ولكن صديقنا هذا واحدٌ من هذه الأمة، يشعر بشعورها ويَالَم لألمها ويهتم بأمرها، ويحاول أن يقوم بقسطه من خدمتها. ثم إن صديقنا فلان أديب، أو هم يقولون إنه أديب وإنه كاتب. والأديب لا يستطيع أن يطمئن إلى هذه الحياة الخاملة الرَّخِيّة، وللأديب آمال في نفسه وفي أمته لا يقدر أن يضحّي بها ويشهد مَصْرعها. والأديب يعيش من نفسه في عالَم، فيأنس بخيالاته وأفكاره، وينعم بمجده الأدبي ويثق بخلوده، كما يثق بنسيان التاريخ هؤلاء الذين غلطت فيهم الأيام فجعلتهم موظفين كباراً، وألقت في أيديهم مقاليد الحكم وجعلت لهم السيادة والأمر، فهو يراهم في عينه صغاراً أقزاماً، لأنه نزع عن ناظرَيه العدسة المكبِّرة التي كان يراهم بها جبابرة عمالقة كما كان يراهم سائر الناس، وغدا يحس أن من الغضاضة عليه وعلى أدبه أن يضع عاطفته ومواهبه وأدبه في رضا هؤلاء الموظفين الكبار، وغدا يحسّ أنه خائن لهذه الأمة كافر بنعمتها إذا هو وَأَدَ قلمه وأمسك عليه لسانه، وعطّل هذه الهبة البيانية التي وهبها الله له أو استعملها في هذا الأدب اللاهي العابث وترك أمته وشأنها، لا يأبه لها ولا يحفل بها. فهو بين واجبين اثنين: واجب الوطن وواجب الأسرة، واجب الشرف وواجب الخبز! فهل يقول كل ما يعتقد، ويطلق قلمه ولسانه فيفي حق أدبه وحق وطنه وحق دينه، ولو أضاع وظيفته وعرّضَ أسرته لما تتعرض له أسرة كبيرة ليس لها مورد قرش؟ وكيف يعيش إذن هو وأسرته؟ أم يحافظ على راتبه ويتمسك بوظيفته، ويداري ويساير

ويسادّ ويقارب، ولو سكت عن بيان الحق وأهمل واجب الوطن، وأضاع أدبه وأمات قريحته وعطّلَ ملكته البيانية؟ * * * هذا ما أرجو من قرّاء «القبس»، أن يوافوا «القبس» بآرائهم فيه؛ فإن هذا الموضوع يستحق أن تُبدى فيه الآراء. علي الطنطاوي ليسانسيه في الحقوق معلم ابتدائي في وزارة المعارف * * *

رسالة الطالب

رسالة الطالب نشرت سنة 1935 (¬1) لما كنت في مكة في العام الماضي زرت المعهد السعودي (وهو في الحجاز بمثابة المدرسة التجهيزية في الشام)، وكان معي مدير المعارف الحجازية، فدار بي على الصفوف وأراني الدروس، فسمعت المحاضرات وسألت الطلاب، فما وجدت إلا علماً صحيحاً وأذهاناً جديدة، ورجولة كاملة وعروبة صادقة. ولقد سألت -فيمن سألت من الطلاب- فتى أدهشني بسرعة جوابه واستقامة منطقه وكثرة أدبه، فسألت مَن هو لأعرف عن أيّ دَوْحة تفرّع هذا الغصن، فإذا هو ابن الأمير فيصل، نائب الملك عبد العزيز في الحجاز. وإذا في المدرسة كثير من أبناء الملك وأحفاده، لا يفرّقهم عن أصغر ولد من أبناء العامة فارق ولا تميّزهم منهم ميّزة، فسررت مما رأيت، وخطبت المدرّسين والطلاب خطبة شكرت فيها وأثنيت، وذكّرت وأنذرت، وقايَسْت وبيّنت، ثم صافحت أقرب معلم إليّ عن إخواني المعلمين في الشام وأدنى تلميذ مني عن إخوتي الطلاب في دمشق، وانصرفت. فلما كان بعد أيام أقبل علينا ونحن في فندق مكة الرسمي ¬

_ (¬1) في مجلة «رسالة الطالب».

-حيث أنزلنا الملك ضيوفاً عليه- أقبل علينا وفدٌ من الطلاب النابهين، جاؤوا يحملون إليّ تحيّات إخوانهم وسلامهم. فاستقبلتهم في بهو الفندق الفخم وحدثتهم وحدثوني، فإذا أنا بين فِتية يعرفون أدباء سوريا وعلماءها، ويَتْلون عليّ من شعر خير الدين ومَرْدَم والبِزِم وجبري (¬1)، ويحدثونني عن كُرْد علي ومصنفاته (¬2)، ومعروف ورواياته (¬3)، ويقرؤون عليّ من شعر العطار والزركلي والمحاسني (¬4). وإذا هم أَعرَف بما كتبت وألّفت مني أنا! فامتلأت نفسي سروراً بهم وإكباراً لهم، لحرصهم على الأدب واهتمامهم بأهله، وعطفهم على أدبنا وعنايتهم بأدبائنا. ثم أهدوا إليّ طائفة صالحة من الكتب التي أخرجها أدباء الحجاز الشباب، ثم تكرّموا فدعوني إلى حفلة تكريمية تقام مساء الغد، فحاولت أن أشكر لهم فضلهم عليّ واجتهدت في أن أتخلص من ¬

_ (¬1) خير الدين الزِّرِكْلي، وخليل مَرْدَم بك، ومحمد البزم، وشفيق جبري؛ شعراء الشام الأربعة الكبار يومئذ. انظر الذكريات 1/ 165 - 166 (مجاهد). (¬2) محمد كرد علي، له في «الذكريات» أخبار كثيرة، سمّاه مرة «أستاذ أساتذتنا» ووصفه في مرة أخرى بأنه «أستاذنا وأستاذ كل من خطّ في الشام بقلم في مطلع هذا القرن الميلادي»، انظر جملة من أخباره في أول الحلقة 37 من الذكريات (مجاهد). (¬3) معروف الأرناؤوط، أشهر رواياته «سيد قريش»، وانظر أخباره في الحلقة 35 من «الذكريات» (مجاهد). (¬4) أنور العطار وسليم الزركلي وزكي المحاسني، شعراء من رفاق علي الطنطاوي في «مكتب عنبر»، ولهم أخبار متفرقة في «الذكريات» (مجاهد).

الحفلة، فلم أوفَّق إلى الشكر ولم أفلح في الاعتذار، وودعتهم وأنا بين حيرة وخجل وسرور وإشفاق! فلما كان الغد وجدنا حديقة الفندق الواسعة تزخر بالناس وتتوقد بالأنوار الكهربائية، وإذا فيها «مائدة شاهي» طولها عشرون ذراعاً ... فلما استقر بنا المجلس قام الخطباء واحداً بعد واحد، فما تركوا شيئاً يُقال عن الوفد السوري وعن سوريا والعروبة إلا قالوه، ثم طلبوا إليّ أن أتكلم، فقمت مرغماً وهم يصفقون بأيديهم، وأنا أصفق بقلبي من الهيبة والسرور. حتى إذا علوتُ المنبر الذي أعدّوه للخطابة ذكرت أن خطيباً من خطبائهم سمّانا «أبناء الأعمام»، وآخر سألني عن مجد أمية، وثالثاً اعتزّ بالصحراء، ورابعاً أسِفَ على أنّا لا تظللنا رايةٌ حرة، فقلت: يا أشبال الحرم ويا فتية الكعبة، ويا أبطال زمزم والحَطيم (¬1)، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لقد أكرمتمونا وتفضلتم علينا، وأنتم أكرم الناس وأنتم جيران الله وسَدَنة بيته وسكان حرمه، فلا عجب أن خرج الذهب من معدنه وظهر الدرّ في موطنه، فعليكم سلام الله، وسلام العروبة، وسلام الإسلام. إنما قمتُ -أيها الطلاب الحجازيون- لأحمل إليكم «رسالة ¬

_ (¬1) الحطيم هو حِجْر إسماعيل، أو هو ما بين الركن الأسود والباب، وهذا الذي اختاره حَمَد الجاسر في كتابه «معالم الجزيرة»، قال: "سُمّي كذلك لأن الناس يحطم بعضهم بعضاً فيه وهم يزدحمون للدعاء". وقال ياقوت: "هو ما بين الركن الأسود والباب إلى مقام إبراهيم، ويقال للحِجْر الحطيم أيضاً" (مجاهد).

الطلاب» الشاميين وحبهم وإخلاصهم، ولتعلموا أن على ضفاف بردى وسفوح قاسيون وفي جنّات الغوطة إخواناً لكم لا تعرفونهم ولا يعرفونكم، ولكنّما تجمعكم بهم وحدة الدين ووحدة اللغة، ووحدة الذكريات ووحدة الأماني، يجمعكم القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهذه القبلة، فاقبلوا تحياتهم وحبهم. إن إخوانكم في الشام ثابتون على المبدأ، مقيمون على العهد، يحملون رسالة الماضي الفخم إلى المستقبل المأمول، لا يثنيهم عن إيفائها ظلام الحاضر وشدة الدهر وكثرة المصائب ورقّة الحال، ولا يثنيهم عن إيفائها جبّار من الإنس ولا عفريت من الجانّ. إنهم إخوانكم شئتم أم أبيتم، ليسوا أبناء أعمامكم ... إنما أبناء العم أولئكم اليهود، الذين خانوا القرابة وبتروا الصلة وجاهروا بالعداوة والبغضاء، فجزيناهم بالعداء عداء وبالاعتداء اعتداء، حتى يأتي الله بأمره ويحكم بيننا وبينهم، وهو خير الحاكمين. أما رسالة الطلاب الشاميين التي أحملها إليكم: فإنهم لا يفرّقون بين بلد وبلد وقطر وقطر، إنما قوميتهم العروبة وجامعتهم الإيمان: المسلم أخو المسلم، والعربي شقيق العربي. إنهم مثلكم أبناء الصحراء، أبناء الرمال، أبناء الشمس ... هذه الصحراء التي أنبتت حضارة ما رأى مثلَها التاريخُ ولا سمع بمثلها، وهذه الرمال التي خرج من كل حبة فيها جندي، وسيخرج منها جندي ما بقيت في الجزيرة رمال. وهذه الشمس التي طهّرت العربَ من كل رذيلة، وصهرتهم فأخرجت عقولاً من النور، وأجساماً من الحديد، وسيوفاً من الصواعق، وحِراباً من جهنم!

أفتسألون -بعد- عن مجد أمية: أين مجد أمية؟ إن مجد أمية على سواعدنا، إنه في رؤوسنا، إنه أمانة في أعناقنا حتى نؤدّيه كاملاً غيرَ منقوص. إن رسالة الطالب السوري: قوة في الجسم، وسُمُوٌّ في النفس، وإخلاص للعلم، ووفاء للعروبة، وثبات على الإسلام. * * * هذه هي القصة التي ذكرتُها حينما سألني الإخوان الكرام أن أكتب كلمة لمجلة «رسالة الطالب»، فهل استطعت أن أنقل رسالتكم -أيها الطلاب- لإخوانكم الذين لم تعرفوهم؟ * * *

من آثار المؤلف 1 ـ أبو بكر الصديق 1935 2 ـ قصص من التاريخ 1957 3 ـ رجال من التاريخ 1958 4 ـ صور وخواطر 1958 5 ـ قصص من الحياة 1959 6 ـ في سبيل الإصلاح 1959 7 ـ دمشق 1959 8 ـ أخبار عمر 1959 9 ـ مقالات في كلمات 1959 10ـ من نفحات الحرم 1960 11ـ سلسلة حكايات من التاريخ (1 ـ 7) 1960 12ـ هتاف المجد 1960 13ـ من حديث النفس 1960 14ـ الجامع الأموي 1960 15ـ في أندونيسيا 1960 16ـ فصول إسلامية 1960 17ـ صيد الخاطر لابن الجوزي (تحقيق وتعليق) 1960 18ـ فِكَر ومباحث 1960

19ـ مع الناس 1960 20ـ بغداد: مشاهدات وذكريات 1960 21ـ سلسلة أعلام التاريخ (1ـ 5) 1960 22ـ تعريف عام بدين الإسلام 1970 23ـ فتاوى علي الطنطاوي 1985 24ـ ذكريات علي الطنطاوي (1ـ 8) 1985ـ 1989 25ـ مقالات في كلمات (الجزء الثاني) 2000 26ـ فتاوى علي الطنطاوي (الجزء الثاني) 2001 27ـ فصول اجتماعية 2002 28ـ سيّد رجال التاريخ (محمد صلى الله عليه وسلم) 2002 29ـ نور وهداية 2006 30ـ فصول في الثقافة والأدب 2007 31ـ فصول في الدعوة والإصلاح 2008 32ـ البواكير 2009 * * *

§1/1