البلدان لابن الفقيه

ابن الفَقيه

مقدمة كتاب البلدان لابن الفقيه الهمذاني بسم الله الرحمن الرحيم قال ياقوت الحموي وهو يردّ على من طلب إليه أن يختصر كتابه (معجم البلدان) : «حكي عن الجاحظ أنه صنّف كتابا وبوّبه أبوابا. فأخذه بعض أهل عصره فحذف منه أشياء وجعله أشلاء. فأحضره وقال له: يا هذا! إنّ المصنّف كالمصوّر. وقد صورت في تصنيفي صورة كانت لها عينان فعورتهما- أعمى الله عينيك- وكان لها أذنان فصلمتهما- صلم الله أذنيك- وكان لها يدان فقطعتهما- قطع الله يديك-. حتى عدّ أعضاء الصورة. فاعتذر إليه الرجل بجهله هذا المقدار وتاب إليه عن المعاودة إلى مثله» «1» . وينطبق ما قاله الجاحظ على من اختصر الكتاب الذي نضعه بين أيدي القراء الكرام، حيث بلغ اختصاره أحيانا حدا أدى إلى غموض الجمل وضياع الأسانيد بما لها من خطورة وأهمية في تحديد أزمان الوقائع. فقد حذف مثلا اسم الرحالة تميم بن بحر المطوعي الذي قام برحلة إلى آسيا الوسطى وحدث بأخبارها ابن الفقيه، وحذف تبعا لذلك الرحلة بكاملها. وحذف المعلومات المهمة التي أوردها ابن الفقيه نقلا عن أبي العباس المروزي عن القبائل التركية والتي نقلها ياقوت فيما بعد عن النسخة الكاملة لكتاب ابن الفقيه. كما حذف أخطر فصول الكتاب على الإطلاق ونعني به الفصل المسمى ب (ذكر بعض مدن الأتراك وعجائبها) الذي نقله

ابن الفقيه عن سعيد بن الحسن السمرقندي الذي توغل في معلوماته إلى حدود القبائل الفينية حيث مدينة بسكوف -. (Pskov) كما نرتأي أن تكون آخر المدن التي ذكرها السمرقندي-. ففي هذا الفصل. من المعلومات عن الحياة الاجتماعية لتلك القبائل ممّا لا نجده في أي مصدر آخر. نشير أولا إلى أن المخطوطة التي عثر عليها في المكتبة الرضوية بمدينة مشهد الإيرانية في ربيع 1923 تمثل نصف الكتاب الأصل بعد أن احتمل في بداية الأمر أنها كاملة. والدليل على ذلك ما ورد في الورقة الأولى منها بعد البسملة والصلاة على النبي وآله وهو: «هذا بقية القول في العراق والبصرة وأخبار دار فتحها ... » أما مختصر الكتاب فقد حققه العلامة الهولندي دي خويه وطبعه عام 1885 ضمن مسلسل المكتبة الجغرافية الذي اعتمد على نسخة قال إنه تم اختصارها على يد أبي الحسن علي بن جعفر الشزري (أو الشيزري) عام 413 هـ «1» ، فهو يضم النصف الأول من الكتاب الأصل ولكن بصورة مختصرة، ويمكن القول بصورة عامة إنه إذا كان المختصر يضم النصف الأول من الكتاب، فإن مخطوطة المكتبة الرضوية تضم النصف الثاني. وعليه فإن كلا من المختصر والأصل المخطوط يكمل بعضهما بعضا. وقد ارتأينا أن ننشرهما معا أي النصف الأول المختصر الذي نشره دي خويه ثم أتبعناه بالنصف الثاني الذي هو مخطوطة المكتبة الرضوية كما كتبها مؤلفها ابن الفقيه كاملة. ولما كانت بعض أبواب النصف الثاني من المختصر تلتقي مع المخطوطة الأصل فقد أشير إلى مواضع الالتقاء تلك بطباعتها بالحرف المحقّق (الأسود) . ولكي يطلع القارئ الكريم بصورة دقيقة على ما ذكرناه آنفا نكتب هنا أبواب مختصر البلدان جنبا إلى جنب الأبواب الواردة في النسخة الأصل ونشير إلى ما هو

موجود هنا أو مفقود هناك: الأبواب الموجودة في نسخة الرضوية أي أصل الكتاب* الأبواب الموجودة في مختصر الكتاب المطبوع غير موجود القول في خلق الأرض. غير موجود القول في البحار وإحاطتها بالأرض. غير موجود القول في البحار وعجائب ما فيها. غير موجود الفرق ما بين بلاد الصين وبلاد الهند. غير موجود القول في مكة. غير موجود القول في المدينة. غير موجود الفرق بين تهامة والحجاز. غير موجود القول في اليمامة. غير موجود القول في البحرين. غير موجود القول في اليمن. غير موجود باب تصريف الجد إلى الهزل والهزل إلى الجد. غير موجود باب في مدح الغربة والاغتراب. غير موجود القول في مصر والنيل. غير موجود القول في المغرب. غير موجود القول في الشام. غير موجود القول في بيت المقدس. غير موجود القول في دمشق. غير موجود افتخار الشاميين على البصريين. غير موجود القول في الجزيرة. غير موجود القول في الروم. غير موجود في مدح البناء. في ذم البناء. غير موجود القول في العراق.

غير موجود القول في الكوفة. غير موجود افتخار الكوفيين والبصريين عند السفّاح. غير موجود ما جاء في مسجد الكوفة. ما جاء في ذم الكوفة موجود بصورة مختصرة. القول في البصرة موجود بصورة مختصرة. ذم البصرة وفيه مناظرة بين الكوفيين والبصريين عند المأمون غير موجود القول في واسط غير موجود النبط وما جاء فيهم غير موجود القول في مدينة السلام بغداد غير موجود القول في سرّ من رأى غير موجود القول في السواد ووصفته غير موجود القول في الأهواز غير موجود في أبنية البلدان وخواصها وعجائبها توجد بعض نصوصه هنا. القول في فارس تلتقي أغلب نصوصه مع الأصل. القول في كرمان توجد أغلب نصوصه هنا. القول في الجبل وقرماسين وشبديز توجد أغلب نصوصه هنا. القول في همدان تلتقي بعض نصوصه مع الأصل. ذكر ما خصّ الله تعالى كل بلدة. من الأمتعة دون غيرها* تلتقي أغلب نصوصه مع الأصل. القول في نهاوند موجود بكامله تقريبا. القول في إصبهان موجود بكامله تقريبا. القول في قم موجود بكامله تقريبا. القول في قزوين وزنجان وأبهر تلتقي أغلب نصوصه مع الأصل. غير موجود القول في آذربيجان. القول في أرمينية* تلتقي أغلب نصوصه مع الأصل. القول في طبرستان تلتقي أغلب نصوصه مع الأصل.

مقدمة كتاب البلدان لابن الفقيه الهمذاني

القول في خراسان تلتقي بعض نصوصه مع الأصل القول في الترك غير موجود. ابن الفقيه الهمذاني ترجم له ابن النديم ترجمة موجزة جدا نقلها فيما بعد ياقوت الحموي في معجم الأدباء وأضاف إليها- لحسن الحظ- الترجمة التي كتبها له المواطن الهمذاني شيرويه بن شهردار الديلمي (445- 509 هـ) مصنف كتاب تاريخ همذان بلده لمناسبة حديثه عن والد ابن الفقيه وهي: «قال شيرويه: محمد بن إسحاق بن إبراهيم، الفقيه أبو أحمد، والد أبي عبيد الأخباري: روى عن إبراهيم بن حميد البصري وغيره. وروى عنه ابنه أبو عبد الله. وقال شيرويه: أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الأخباري أبو عبد الله، يعرف بابن الفقيه ويلقّب بحالان، صاحب كتاب البلدان. روى عن أبيه، وإبراهيم بن الحسين بن ديزيل، ومحمد بن أيوب الرازي، وأبي عبد الله الحسين بن أبي السرح الأخباري، وذكر جماعة وقال: وروى عنه: أبو بكر بن لال، وأبو بكر بن روزنة. ولم يذكر وفاته» «1» . وبما أننا لا نعرف على وجه التحديد تاريخ ولادته ولا وفاته، فلا بدّ لنا من معرفة الذين روى عنهم أو رووا عنه ممن ذكر أعلاه على أن نبحث فيما بعد فيمن حدّث عنهم ولم يذكروا هنا، حيث رأينا ياقوتا قد اختصر ذلك بقوله «وذكر جماعة» ، إضافة إلى خطأ الناسخ في بعض تلك الأسماء كقوله عن ابن الفقيه أنه أحمد بن أحمد بن محمد بن إسحاق بإضافة (أحمد) ثانية إلى اسمه. وقوله (ابن روزنة) والصواب (ابن روزبه) وقوله بن أبي السرح. ورجحنا أنه (ابن أبي السري) . أمّا أبوه فليس لدينا سوى ما ذكره شيرويه أعلاه من أنه حدّث عن إبراهيم بن

حميد البصري، وهو إبراهيم بن حميد بن تيرويه الطويل البصري المتوفى عام 219 هـ «1» . وأمّا إبراهيم بن الحسين الكسائي الهمذاني المعروف بابن ديزيل فهو محدث همذان المشهور جدا توفي عام 281 هـ- وصفه الذهبي بالرّحال «2» . ومحمد بن أيوب الرازي: هو محمد بن أيوب بن ضريس البجلي الرازي شيخ الري ومسندها ولد في حدود 200 وتوفي بالري سنة 294 هـ «3» . أما أبو عبد الله الحسين بن أبي السرح: فنرجح أنه أبو عبد الله الحسين بن أبي السري العسقلاني- نسبة إلى عسقلان وهي محلة من محال بلخ «4» - واسم أبي السري هو المتوكل. فيكون اسمه الحسين بن المتوكل بن عبد الرحمن بن حسان المتوفى عام 240 هـ «5» . أما الذين رووا عنه فهم: أبو بكر بن لال وهو أحمد بن علي الهمذاني «ورد بغداد غير مرة وحدّث بها» «6» . وقال الذهبي: «قال شيرويه: كان ثقة، أوحد زمانه، مفتي البلد- يعني همذان-، يحسن هذا الشأن. له مصنفات في علوم الحديث غير أنه كان مشهورا

بالفقه. ورأيت له كتاب (السنن) و (معجم الصحابة) ما رأيت شيئا أحسن منه. ولد سنة ثمان وثلاثمائة وتوفي في سادس عشر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين» «1» . وقد نصّ مترجموه على أن له رحلة لقي بها أبا سعيد أحمد بن محمد بن الأعرابي بمكة «2» . وممن روى عن ابن الفقيه: أبو بكر بن روزبه. وهو عبد الله بن أحمد بن خالد بن روزبه، أبو بكر الفارسي الكسروي المتوفى عام (392 هـ) «3» . والذي يهمنا من جميع من ذكرنا أنه إذا كان قد سمع من ابن أبي السري في نفس السنة التي توفي فيها أي 240 هـ على أضعف الاحتمالات وكان عمره آنذاك 10 سنوات وهو سن لا بأس به لتحمل الحديث. وكان أبو بكر أحمد بن علي بن لال قد سمع من ابن الفقيه وعمره- أي عمر بن لال- 10 سنوات أي في العام 318 هـ، فيكون ابن الفقيه حياً في السنوات الواقعة بين 230 و 318 هـ على الأقل. وعليه، فإن ما ذكره ياقوت من أن ابن الفقيه كان حيا في حدود عام 340 هـ «4» يثير الشكوك. وقد يكون خلط بينه وبين أحمد بن محمد بن إسحاق الشاشي الفقيه الذي توفي عام 344 هـ «5» . ويثار تساؤل آخر وهو: إذا كان ابن الفقيه قد بقي حيا إلى ما بعد العام

اسم المؤلف وعنوان الكتاب

290 هـ- وهو مؤكد طبعا بدليل سماع ابن لال منه- فلماذا لا نجد في كتابه (البلدان) ما يشير إلى زمن أبعد من عام 289 هـ- وهو آخر عام من خلافة المعتضد العباسي حيث ذكره ولم يترحم عليه مما يدل على أن المعتضد كان حيا آنذاك؟ المعروف أن المعتضد قد توفي لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة 289 وقيل لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة 289 هـ «1» . وعليه فإن تاريخ الانتهاء من تأليف البلدان كان في أواخر ذلك العام وأوائل 290 هـ. نرجح أنه بعد أن انتهى من تأليف كتابه هذا انهمك في عمله العلمي بوصفه محدّثا وفي تأليف أعمال أخرى التي ذكر منها ابن النديم (ص 171) كتابه: ذكر الشعراء المحدثين والبلغاء منهم والمفحمين. اسم المؤلف وعنوان الكتاب هو أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن الفقيه الهمذاني. وقد وهم ياقوت في بعض مواضع من كتابه معجم البلدان فأسماه: محمد بن أحمد «2» . فاسمه هو أحمد بن محمد ... كما في آخر ورقة من مخطوطة المكتبة الرضوية التي ننشرها. وكما هو لدى ابن النديم الذي ألّف كتابه عام 377 هـ. ولدي حسن بن محمد القمي الذي ألّف كتابه عام 378 هـ «3» . والرافعي القزويني من أعلام القرن السادس «4» . إلّا أن العجب كل العجب أن يخلط إدوارد فنديك بينه وبين جغرافي آخر هو أبو محمد الحسن بن حمد بن يعقوب الهمداني

مصادر كتاب البلدان

المعروف بابن الحائك ويعتبرهما شخصا واحدا رغم بعد الشقة في الأسماء والكنى والألقاب «1» . أما الكتاب فهو: البلدان كما هو لدى ابن النديم (ص 171) والقمي (ص 23، 56، 90) والرافعي القزويني (ص 31) رغم أننا نقرأ في الورقة الأخيرة من المخطوطة أنه كتاب (أخبار البلدان) ويبدو أن كلمة (أخبار) إضافة من ناسخ الكتاب، إذ أن مختصر الكتاب الذي اختصره فيما بعد سمّى مختصره ب (مختصر كتاب البلدان) ولم يقل (مختصر كتاب أخبار البلدان) . مصادر كتاب البلدان أهملنا مصادره التي كان يشير فيها إلى الأسماء مجردة عن أسماء الكتب كقوله «قال المدائني» أو «قال أبو عبيدة معمر بن المثنى» إذ ليس بين أيدينا مؤلفاتهم الجغرافية، ولا ندري إن كان نقل عنها مباشرة أم بالواسطة. إلّا ما هو بين أيدينا من المصادر فقد راجعناه وذكرنا مآخذه عنه. فقوله مثلًا «قال عمرو بن بحر» وجدناه في كتاب الحيوان الذي نقل منه مقاطع طويلة. كما أشار إشارة عابرة إلى البلاذري إلّا أنّ وجود كتابه فتوح البلدان بين أيدينا أتاح لنا معرفة النصوص التي نقلها ابن الفقيه عنه- وهي كثيرة- وكذلك الأمر بالنسبة لابن قتيبة الدينوري وغيره. ومما يعزز إهمالنا لبعض مصادره أنه كان يحوّر في ألفاظ أسانيد الروايات فيوهم قارئه. ففي حديثه عن (عين الجمل) قال: «وسألت بعض المشايخ عن عين جمل لم سميت بهذا الاسم؟ (هـ أ) » . والحقيقة فإن هذا الكلام للبلاذري مع تحوير طفيف جدا. قال البلاذري: «وحدثني بعض المشايخ.....» «2» . أو أن يقول (87 ب) : «وخبّر إبراهيم بن العباس ... » وحقيقة الأمر أن هذا الكلام منقول عن الجاحظ في الحيوان حيث قال الجاحظ: «وخبرني

أخبار الصين والهند

إبراهيم بن عباس ... » «1» . وسوف نفصل ذلك لدى بحثنا في منقولاته عن البلاذري والجاحظ وغيرهما. وسنتناول الآن بالبحث مصادره بقسميها الكتابي والروائي الذي سمعه والذي يبدؤه عادة بقوله: (حدثني) أو (حدّث) أو (سألناه) . وقد نسهب أحيانا في الحديث عن أحد الرواة لأهمية المعلومات التي رواها. فلنبدأ مع الكتب حسب تسلسل ورودها في الكتاب. أخبار الصين والهند من تأليف سليمان التاجر الذي سافر إلى الهند والصين أكثر من مرة بقصد التجارة «وقد اتفق الباحثون في أخبار الصين والهند على أن هذه الروايات أو الأخبار جمعت حول سنة 237 هـ أي 851 م. ويرى المستشرق فيران أن سليمان هو الذي دون الروايات بنفسه» «2» . وقد نقل ابن الفقيه عنه أخبارا تتعلق بالصين والهند. والكتاب مطبوع متداول بين أيدي القراء. المسالك والممالك نقل عنه ابن الفقيه نصا يتعلق ببناء مسجد دمشق. فإن كان المقصود كتاب ابن خرداذبة فهذا النص ليس موجودا في كتاب المسالك والممالك الذي بين أيدينا. علما بأن دي خويه يرى «أن النص الكامل لمصنف ابن خرداذبة لم يتم العثور عليه بعد» «3» . كما أنه لا يمكن معرفة ما إذا كان المقصود كتاب المسالك والممالك لجعفر بن أحمد المروزي الذي قال ابن النديم أنه أول من ألّف في المسالك والممالك كتابا ولم يتمه. وتوفي بالأهواز وحملت كتبه إلى بغداد وبيعت في طاق الحراني سنة 274 هـ «4» .

الحيوان للجاحظ

كما نستبعد أن يكون الممالك والمسالك الذي ألّفه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن نصر الجيهاني الذي عين وزيرا لنصر بن أحمد الساماني عام 301 هـ والذي وضع كتابه قريبا من عام 310 هـ- بينما كتب ابن الفقيه كتابه عام 290 هـ «1» . الحيوان للجاحظ صرح ابن الفقيه باسم الجاحظ أكثر من مرة، وقد وجدناه ينقل مقاطع طويلة عن كتابه (الحيوان) الذي لم يشر إليه بالاسم. وقد أشرنا إلى النصوص المنقولة عنه في هوامش كتابنا هذا. وإن كان استخدم أسلوبا مجحفا بحق الجاحظ إذ كان ينقل عنه أحيانا من غير أن يذكره بالاسم، أو أن يحرّف كما في قوله (وخبّر إبراهيم بن العباس) والحقيقة أن هذا كلام الجاحظ ولكن على الشكل التالي (وخبرني إبراهيم بن العباس) أو يختصر كما في النص المتعلق بالنار وهو طويل جدا وموجود في (الحيوان) . فتوح البلدان أشار إلى اسم البلاذري ثلاث مرات، إلّا أنه نقل مقاطع طويلة عنه من كتابه (فتوح البلدان) دون أن يشير ولا مرة واحدة إلى اسم الكتاب. كما أن المعلومة المتعلقة بكور طبرستان التي صدّرها ب (قال البلاذري) لم نجدها في فتوح البلدان الذي بين أيدينا. وعلينا هنا أن نذكّر بقول ابن النديم من أن للبلاذري كتابين باسم البلدان. أحدهما صغير والآخر كبير ولم يتمه «2» . ويكتفي أحيانا في نقله عن فتوح البلدان بذكر اسم الراوي من غير ذكر اسم الكتاب فهو يقول مثلا (138 ب) قال جعفر بن محمد الرازي. والحقيقة هي أن هذا النص موجود في فتوح البلدان (ص 315) حيث نتبين منه أن جعفرا هذا هو أحد شيوخ البلاذري والنص يبدأ هكذا: «حدثني جعفر بن محمد الرازي ... »

فضائل بغداد وصفتها

وهو يحوّر في بعض كلمات البلاذري أحيانا ولا يكلف نفسه بالإشارة لا إلى (فتوح البلدان) ولا (البلاذري) . ففي نص طويل متعلق بعيون الطف والقطقطانة والرهيمة وعين حمل وقد نقله ابن الفقيه بأسره من البلاذري من غير أن يذكر ذلك. (4 أ) و (4 ب) ويمكن مقارنته بالمطبوع من فتوح البلدان ص 296، نجد ما يلي: ابن الفقيه وسألت بعض المشايخ عن عين جمل لم سميت بهذا الاسم؟ فذكر أنّ جملا مات عندها فنسبت العين إليه. وذكر بعض أهل واسط أن المستخرج لهذه العين يسمى جملا. قال: وسميت عين الصيد لأن السمك كان كثيرا جدا فيها فيصطاد فسميت بهذا الاسم. البلاذري وحدثني بعض المشايخ: أن جملا مات عند عين الجمل فنسبت إليه. وذكر بعض أهل واسط أن المستخرج لها كان يسمى جملا. قالوا: وسميت العين عين الصيد لأن السمك يجتمع فيها. فضائل بغداد وصفتها من تأليف يزدجرد بن مهبندان الكسروي. قال عنه ابن النديم إنه عاش في أيام المعتضد وله من الكتب: كتاب فضائل بغداد وصفتها. وكتاب الدلائل على التوحيد من كلام الفلاسفة وغيرهم. كبير، رأيته بخطه «1» . وعن كتابه هذا قال القاضي التنوخي: «تجارينا عند القاضي أبي الحسن محمد بن صالح بن علي الهاشمي، ابن أم شيبان في سنة ستين وثلاثمائة عظم بغداد وكثرة أهلها في أيام المقتدر.... وذكرت أنا كتابا رأيته لرجل يعرف بيزدجرد بن مهبندان الكسروي كان على عهد المقتدر بحضرة أبي محمد المهلبي، كان سلّم إليّ وإلى جماعة ممن حضر، كراريس منه لننسخه وننفده إلى الأمير ركن

الدولة، لأنه التمس كتابا في وصف بغداد وإحصاء ما فيها من الحمامات وأنها كانت عشرة آلاف، ذكر في الكتاب مبلغها وعدد من يحتوي عليه البلد من الناس والسفن والملاحين وما يحتاج إليه في كل يوم من الحنطة والشعير والأقوات....» «1» . ولا تعارض بين ما ذكره ابن النديم من أن الرجل عاش في زمن خلافة المعتضد (279- 289 هـ) وقول التنوخي إنه كان في خلافة المقتدر (295- 320 هـ) فمن الممكن أن يكون قد عاش في العهدين. ويضيف رضي الدين علي بن موسى المعروف بابن طاووس (589- 664 هـ-) معلومات مهمة عن يزدجرد هذا وعلمه وأخيه بالنجوم فيقول نقلا عن التنوخي: «وممن وصف بعلم النجوم سهلون ويزدجرد من علماء الإسلام فيما ذكره التنوخي في أربع أجزاء النشوار فقال ما هذا لفظه: حدثني أبو عبد الله محمد الحارثي قال: كان ببغداد في أيام المقتدر إخوان كهلان فاضلان وعندهما من كل فن مليح، وهما من أحرار فارس. قد نشأ ببغداد وتأدبا بها وتعلما علوما كثيرة يقال لأحدهما سهلون وللآخر يزدجرد ابنا مهمندار الكسروي. ويعرفان بذلك لانتسابهما إلى الأكاسرة. وكانا ذوي نعمة قديمة وحالة ضخمة وكنت ألزمهما على طريق الأدب. وكان ليزدجرد منهما كتاب حسن ألّفه في صفة بغداد وعدد سككها وحماماتها....» «2» . وعن كتابه هذا (فضائل بغداد) نقل ابن الفقيه مقاطع طويلة جدا في إحصائيات تتعلق بعدد الحمامات والمساجد والسكك والشوارع وما يدخلها من الأقوات يوميا وما يباع فيها. وهذا الفصل مما حذفه مختصر كتاب البلدان فأتحفتنا به نسختنا الكاملة.

عيون الأخبار

عيون الأخبار لعبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (213- 276 هـ-) . وقد نقل عنه نصا يتعلق بمدح أهل خراسان فقال: «وقال عبد الله بن مسلم بن قتيبة: أهل خراسان ... » (154 ب) من غير أن يذكر الكتاب الذي نقل عنه إذ إن مؤلفات ابن قتيبة كثيرة كما هو معلوم. وقد وجدنا النص بكامله في عيون الأخبار (1: 204- 205) . الأهوية والبلدان والمياه من تأليف الطبيب والحكيم اليوناني بقراط (460- 377 ق. م) الذي يشكك المؤرخون في كونه من تأليفه «1» . ومع ذلك فإن أول ترجمة لهذه الرسالة إلى العربية تمت على يد حنين بن إسحاق (194- 260 هـ-) أو الفريق العامل معه «2» . وقد أولع الأطباء والجغرافيون المسلمون بالنقل عن هذه الرسالة. فهناك الطبيب الطبرستاني: علي بن ربّن الطبري المتوفى عام 247 هـ الذي كان أبوه مترجما «3» أيضا. ولدى مقارنة ما نقله ابن الفقيه عن رسالة (الأهوية والبلدان والمياه) التي أسماها ب (الأهوية والأبدان) ، وما نقله علي بن ربّن عنها في كتابه (فردوس الحكمة) نجد تشابها واضحا بين الاثنين سوى أن ابن الفقيه اختصر قليلا

الفلاحة

فيما طوّل فيه ابن ربّن «1» . ونحن نعرف من خلاف نقل ابن الفقيه الخبر بعثة جبل دماوند عن ابن ربّن أنه كان لديه نسخة من كتاب (فردوس الحكمة) . نشير أخيرا إلى أن المؤرخ والجغرافي اليعقوبي الذي ألّف كتابه البلدان عام 278 هـ قد نقل مقاطع طويلة من (الأهوية والمياه والبلدان) فيها كثير مما هو موجود لدى ابن ربّن وابن الفقيه «2» . كما نجد مقاطع طويلة منها أيضا في كتاب (هداية المتعلمين في الطب) للأخويني البخاري الذي تحدث عن تأثير فصول السنة على الأمزجة وختم بالقول «ويطول الحديث في هذا، فإن أردت أن تعلم هذه الحقيقة فعليك بقراءة كتاب (الأهوية والمياه والبلدان) لبقراط أو فصول بقراط» «3» . الفلاحة نقل عنه ابن الفقيه بعد انتهائه من الاقتباس من كتاب بقراط فقال «وقال فسطوس في كتاب الفلاحة ... » (102 أ) . والصواب أنه قسطوس. يقول الأستاذ فؤاد سزكين أنه قد ترجم عن اليونانية إلى العربية مباشرة عام 212 هـ- من قبل سرجيس بن هليبا الرومي، كما ترجم عن البهلوية بعنوان روزنامه. وقد استفاد العلماء العرب من الترجمتين. فعلي بن ربّن الطبري رجع على سبيل المثال إلى الرواية الفارسية. بينما رجع ابن قتيبة إلى الترجمة المباشرة عن اللغة اليونانية «4» . الطلسمات قال ابن الفقيه «وفي كتاب الطلسمات أن قباذ وجّه بليناس الرومي إلى الري فاتخذ طلسما ... » (142 ب) . يوجد كتاب في الطلاسم نقله حنين بن إسحاق إلى العربية اسمه: كتاب

فردوس الحكمة

المدخل الكبير لبليناس إلى رسالة الطلاسم. ويرى الأستاذ سزكين أن كتب أبو لونيوس التياني قد وصلت إلينا باللغة العربية تحت أسماء محرفة مثل: بليناس وبلينس وبولينياس وأبولون «1» . وقد نقل ابن الفقيه كثيرا عن كتاب الطلسمات هذا مما أحدثه من طلسمات في البلدان التي ذهب إليها. فردوس الحكمة اكتفى ابن الفقيه بالقول: «وقال علي بن ربّن كاتب المازيار: وجّهنا جماعة من أهل طبرستان ... » (145 ب) . ولم يذكر كتاب فردوس الحكمة وهو كتاب طبي معروف مؤلفه علي بن ربّن الطبري. وحكاية السفارة هذه إلى قمة جبل دماوند ذكرها فيه «2» . وقد نقلها عنه فيما بعد البيروني في الصيدنة وابن إسفنديار في كتابه تاريخ طبرستان الذي ألّفه عام 613 هـ. المسالك والممالك من تأليف أبي القاسم عبيد الله بن عبد الله المعروف بابن خرداذبه المتوفى في حدود سنة 300 هـ. وقد نقل عنه صفحات طويلة وإن لم يصرح بذلك وأشهر تلك النصوص خبر رحلة سلام الترجمان إلى سد يأجوج ومأجوج بأمر من الخليفة الواثق (227- 232 هـ) التي تناقلها- رغم ما فيها من تفاصيل أسطورية- الجغرافيون والمؤرخون المسلمون وإن كان المحققون منهم قد شككوا فيها مثل ياقوت الذي كتب بعد نقله لعدة أخبار تتعلق بالسد ومنها خبر سلّام الترجمان: «قد

كتبت من خبر السد ما وجدته في الكتب ولست أقطع بصحة ما أوردته لاختلاف الروايات فيه والله أعلم بصحته» «1» . ومثل الثعالبي المرغني (350- 429 هـ) الذي قال «والذي حكاه سلام الترجمان في ذكر السدّ من حديث الباب والعضادة ووصف القفل والمفتاح والدندانجات كالأسطوانات، غير معتمد عليه لأنه غير موافق لما نطق به القرآن من وصفه ... » «2» . ويفهم من كلام المقدسي البشاري الذي ألف كتابه عام 375 هـ أنه يعزو هذه الرحلة لابن خرداذبه حيث قال: «قرأت في كتاب ابن خرداذبه وغيره في قصة هذا السد على نسق واحد، واللفظ والإسناد لابن خرداذبه لأنه كان وزير الخليفة وأقدر على ودائع علوم خزانة أمير المؤمنين مع أنه يقول حدثني سلّام المترجم. إن الواثق بالله....» «3» كما نقلها بصورة مختصرة مؤلف مجهول كتب كتابه عام 520 هـ «4» . ومما يلفت النظر في كتاب ابن الفقيه التشابه الحرفي بين بعض نصوصه ونصوص المسالك والممالك لابن خرداذبه. وليس بإمكاننا أن نجزم هنا أنه قد نقلها عن ابن خرداذبه الذي ألّف كتابه عام 250 هـ. لأن هناك تداخلا بين كتاب ابن خرداذبه وكتاب آخر للجيهاني الوزير مما سوف نفصله فيما بعد ونكتفي بنقل قول المقدسي- طبقا لأحد مسودات كتابه أحسن التقاسيم-: «ورأيت مختصرين بنيشابور مترجمين، أحدهما للجيهاني والآخر لابن خرداذبه تتفق معانيهما غير أن الجيهاني قد زاد شيئا يسيرا» «5» .

حرب جوذرز وبيران

حرب جوذرز وبيران قال ابن الفقيه: «وقرأت في كتاب حرب جوذرز وبيران....» (154 ب) . لا يمكننا معرفة ما إذا كان هذا كتابا مستقلا أم جزءا من كتاب قسّم على كتب؟ والكتاب يتعلق بالتاريخ الأسطوري للفرس في الأعصار السحيقة وهي الفترة التي تمتاز كأمثالها من الفترات الزمنية لكل الأمم- بالغموض والتناقض وتضارب المعلومات حتى أن حمزة الأصفهاني المؤرخ المعروف شكا من ذلك فقال عن تواريخ الفرس: «وتواريخهم كلها مدخولة غير صحيحة لأنه نقلت بعد مائة وخمسين سنة من لسان إلى لسان، ومن خط متشابه رقوم الأعداد إلى خط متشابه رقوم العقود فلم يكن لي في حكاية ما يقتضي هذا الباب ملجأ إلّا إلى جمع النسخ المختلفة النقل فاتفق لي ثماني نسخ وهي.... فلما اجتمعت هذه النسخ ضربت بعضها ببعض حتى استوفيت منها حق هذا الباب» «1» . ومع ذلك يذكر الشاعر الملحمي الإيراني أسدي طوسي المتوفى عام 465 هـ- كتابا باسم كتاب بيران ويسه «2» . الإنجيل يقول ابن الفقيه: «وقرأت في الإنجيل أن المسيح عليه السلام قال: بحق أقول لكم، ليأتين قوم من المشرق ... » (158 أ) . أورد ذلك بعد ذكره لحديث ذوي الرايات السود القادمين من قبل المشرق المروي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) . وقد وجدنا في رؤيا يوحنا اللاهوتي من العهد الجديد (رؤيا 16: 12- 16) نصا يتعلق بمعركة هرمجدون التي قيل أنها ستقع في آخر

الزمان فلعله هو المقصود من خلال قرينة ما ذكر فيه وهو: (الملوك الذين من مشرق الشمس) . أما الحديث المتعلق بالرايات السود فقد وجدناه لدى نعيم بن حماد المتوفى عام 229 هـ- وللمقارنة نذكره هنا، إذ يبدو أن ابن الفقيه قد اختصره. قال نعيم: «حدثنا محمد بن فضيل وعبد الله بن إدريس وجرير، عن يزيد عن (الصواب: بن) أبي زياد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، إذ جاء فتية من بني هاشم فتغير لونه. فقلنا: يا رسول الله ما نزل؟ نرى في وجهك شيئا نكرهه. قال: إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وأن أهل بيتي هؤلاء سيقتلون (الصواب: سيلقون) بعدي بلاء وتطريدا وتشريدا حتى يأتي قوم من هاهنا من نحو المشرق، أصحاب رايات سود يسألون الحق فلا يعطونه- مرتين أو ثلاثا- فيقاتلون فينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلوها (كذا) حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤها عدلا كما ملؤوها ظلما. فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثلج فإنه المهدي «1» . ونفس الخبر موجود في دلائل الإمامة لمحمد بن جرير بن رستم الطبري الذي عاش في النصف الأول من القرن الخامس حيث نعلم منه سند الخبر بصورة أوضح وهو «عن صباح بن يحيى ومطر بن خليفة عن يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس، عن عبد الله بن مسعود....» «2» . وذكر أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني (277- 365) في كتابه الكامل في ضعفاء المحدثين «وهذا الحديث لا أعلم من يرويه بهذا الإسناد عن إبراهيم [النخعي] غير يزيد بن أبي زياد ويرويه عنه يزيد بن فضيل» «3» . وإلى هنا ينتهي بنا المطاف- وبعد أن انتهينا من الكتب- إلى الحديث عن

أبو يوسف يعقوب بن إسحاق

شيوخه الذين روى عنهم ممن ذكرهم بكلمة (حدثني) أو (سألته) أو ممن يدل نوع المعلومات على نوع من الصلة له معهم. أبو يوسف يعقوب بن إسحاق قال ابن الفقيه: «وحدثني أبو يوسف يعقوب بن إسحاق قال حدثني إبراهيم بن الجنيد، عن إبراهيم بن رويم الخوارزمي قال: فيما بين خراسان وأرض الهند نمل أمثال الكلاب السلوقية ... » (163 أ) . وفي الورقة (71 أ) : «وقال يعقوب بن إسحاق: سمعت أبي يقول: سمعت يزيد بن هارون ... » . عند بحثنا عمن يكون إسحاق هذا الذي يروي عن يزيد بن هارون الواسطي (118- 206 هـ-) فوجدناهم بالعشرات في كتب الرجال والحديث. وعليه فلن نقطع بشيء إلى حين ظهور مرجّح. أبو إسحاق إبراهيم بن محمد البيهقي له ترجمة مطولة في تاريخ بيهق وقال إن لقبه هو المغيثي نسبة إلى المغيثة وهي قرية من قرى بيهق. ثم ذكر شيوخه فقال إنهم المبرد وثعلب. وإنه هجا البحتري، وإن ابن الرومي قال فيه ... ولكنه لم يذكر سنة وفاته «1» . وقد روى عنه ابن الفقيه بقوله: «وحدثني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد البيهقي قال أنشدني حماد بن إسحاق الموصلي لأبيه....» (74 أ) . أبو عمرو عبد العزيز بن محمد بن الفضل قال ابن الفقيه: «حدثنا أبو عمرو عبد العزيز بن محمد بن الفضل، حدثنا إبراهيم بن الجنيد، حدثنا بشر بن محمد بن أبان ... » (90 أ) . لم نعثر حتى الآن على ترجمة لأبي عمرو عبد العزيز. فأما إبراهيم بن

أبو علي محمد بن هارون بن زياد

الجنيد، فهو إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد أبو إسحاق قال الذهبي: «له تصانيف وتاريخ ورحلة لم أجد له وفاة» «1» وقال في تذكرة الحفاظ: «وكأن وفاته في حدود 260 هـ-» «2» وفي سير أعلام النبلاء «أنه بقي إلى قرب سنة سبعين ومائتين» «3» . وقال الخطيب البغدادي: «إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد أبو إسحاق المعروف بالختّلي صاحب كتب الزهد والرقائق. بغدادي سكن سر من رأى» «4» . وأما بشر بن محمد بن أبان. فقد وصفه الذهبي بالواسطي السكري أبو أحمد «5» . أبو علي محمد بن هارون بن زياد قال ابن الفقيه: «وقال لي أبو علي محمد بن هارون بن زياد- وكان حكيما فيلسوفا- وقد تجارينا ذكر شبديز....» (97 ب) . لا نعرف شيئا عن أبي علي هذا. أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي قال ابن الفقيه: «وحدثني أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن بشر البلخي قال: حدثني أبي ... » (148 ب) . ولأبي حامد هذا ترجمة في تاريخ بغداد قال فيها إنه حدّث عن محمد بن يحيى الأزدي الذي توفي عام 252 هـ. وروى عنه- عن أبي حامد- عبد الصمد بن علي بن محمد بن مكرم الوكيل المعروف بالطستي (266- 346 هـ) . ولم يذكر لأبي حامد تاريخا لوفاته «6» .

تميم بن بحر المطوعي

وقال ابن الفقيه أيضا: «وحدثني أحمد بن جعفر، حدثني أبو حفص عمر بن مدرك قال: كنت عند أبي إسحاق الطالقاني يوما بمرو على الرزيق في المسجد الجامع، فقال أبو إسحاق: كنا يوما عند ابن المبارك.....» (160 ب) . أما أبو حفص عمر بن مدرك، فهو- كما في تاريخ بغداد- «القاص الرازي ويقال البلخي. وأراه بلخيا سكن الري وقدم بغداد وحدّث بها ... مات سنة 270 هـ» «1» . وفي الخبر: إبراهيم بن إسحاق بن عيسى أبو إسحاق الطالقاني المتوفى عام 215 هـ «2» . وفيه: عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي (118- 181 هـ) أحد الأئمة المعروفين «3» والغزاة المطوّعة كما كان شاعرا. تميم بن بحر المطوعي لو لم تقع مخطوطة المكتبة الرضوية الكاملة، ما عرفنا باسم تميم المطوعي هذا الذي قام برحلة إلى آسيا على بريد أنفذه إليه خاقان التغزغزي. وفي أخباره من المعلومات كل ما هو مهم وخطير. حيث نجد هذا السؤال الموجّه إليه من ابن الفقيه الذي ورد بصيغة «وسألناه عن طريق كيماك من طراز، فذكر أن الطريق ... » الذي عرفنا منه أن ابن الفقيه التقى به. ثم إن خبر تميم قد نقله ياقوت باختصار دون أن يعزوه لأحد. فقد افتتح كلامه في مادة تركستان وأورد

أبو عبد الله الحسين بن أستاذويه

خبر تميم فيها بصورة مختصرة عما هو عليه في أصل كتاب البلدان. وحين وصل إلى خبر (حجر المطر) الذي لدى الترك، ذكر اسم ابن الفقيه ونقل عنه الخبر الذي رواه عيسى بن محمد المروزي. فأوهم ياقوت قارئه أن خبر تميم منقول عن مصدر آخر. بينما الحقيقة غير ذلك وهو موجود لدى ابن الفقيه الذي التقى به وسأله تفصيلات عن رحلته تلك. ومهما يكن فليس لدينا أي معلومات عن تميم بن بحر المطوعي سوى كونه مطّوعا وهم طائفة من المتطوعين الذين كانوا يرابطون في ثغور البلاد الإسلامية لدفع هجمات الدول والقبائل التي كانت تجتاح بين الحين والآخر حدود البلاد الإسلامية كالروم والأتراك- قبل إسلامهم-. ويعرف المطّوعة هؤلاء أخبارا ووقائع مهمة عن البلاد غير الإسلامية حيث كان بعضهم يسافر إليها، وأشهر أولئك، إبراهيم بن شماس الذي كان يذهب بين الحين والآخر إلى بلاد الغزية لشراء الأسرى وكان يلتقي بملكهم جبغويه «1» . أبو عبد الله الحسين بن أستاذويه قال ابن الفقيه: «وحدثني أبو عبد الله الحسين بن أستاذويه، حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن، حدثنا هشام بن لهراسب السائب الكلبي ... » (170 أ) . لم نجد لابن أستاذويه ذكرا في كتب التراجم، اللهم إلّا أن يكون أبا عبد الله الحسين بن شاذويه الذي ترجم له النجاشي فقال: «الحسين بن شاذويه أبو عبد الله الصفار وكان صحافا فيقال الصحاف ... » «2» وقال: الرجالي ابن الغضائري إنه قمي زعم القميون أنه كان غاليا «3» . وأما شيخه أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن. فنحتمله أنه الفنديني الرازي الذي يروي عن أحمد بن سيار المروزي «4»

أبو العباس عيسى بن محمد بن عيسى المروزي

(198- 268 هـ-) وأحمد بن منصور الرمادي (المتوفى عام 265 هـ-) . أبو العباس عيسى بن محمد بن عيسى المروزي روى عنه ابن الفقيه بقوله: «وحدّث أبو العباس عيسى....» (170 ب) وليس واضحا ما إذا كان قد التقاه رغم أن المروزي كان معاصرا لابن الفقيه. وقد روى عنه أسطورة حجر المطر الذي لدى الترك والذي يستجلبون به المطر إذا خافوا من الأعداء. وقد أدى لقبه (المروزي) وكنيته (أبو العباس) إلى أن يسهو قلم العالم الحجة في الدراسات الجغرافية ونعني به أغناطيوس كراتشكوفسكي، فيرى فيه مروزيا آخر توفي قبل عام 274 هـ- بقليل فقال: «أبو عباس جعفر بن محمد بن أحمد المروزي. ابن النديم يذكر أنه أول من صنّف في المسالك والممالك ... قد تنسب إليه حكايات من وقت لآخر عند الجغرافيين المتأخرين. فابن الفقيه يروي عنه أسطورة تتعلق بحجر المطر، كما ينقل عنه روايات عديدة عن القبائل التركية» «1» . ولأهمية شخصية هذا الرجل ولكونه رحالة في البلاد ذا علاقة بالأمراء وكبار الشخصيات ولأهمية المعلومات التي قدمها- إذا أسقطنا الجانب الأسطوري منها- فسنفصل القول فيه. قال السمعاني: «أبو العباس عيسى بن محمد بن عيسى بن عبد الرحمن بن سليمان المروزي الكاتب المعروف بالطّهماني. أظن أنه من ولد إبراهيم بن طهمان. وهو إمام في اللغة والعلم وأحد أشراف خراسان بنفسه وآبائه وأسلافه» «2» . أما والده محمد بن عيسى بن عبد الرحمن بن سليمان المروزي الكاتب فقد

استوزره طاهر بن عبد الله بمدينة مرو عام 240 هـ- «1» ويظهر اسمه في الحوادث الخطيرة والشغب الذي حدث ببغداد خلال عام 255 هـ- وما بعده حيث كان مع الجيش القادم من خراسان مع سليمان بن عبد الله بن طاهر، وقبلها في أحداث عام 252 هـ- «2» . ونورد هنا ما تمكنا من جمعه من علماء هذه العائلة وشخصياتهم السياسية. عيسى بن عبد الرحمن المروزي «3» محمد بن عيسى بن عبد الرحمن بن سليمان المروزي الكاتب «وزر لطاهر عام 240 هـ-» . عيسى بن محمد بن عيسى (المتوفى سنة 298 هـ-) (كاتب الأمير إسماعيل بن أحمد الساماني) «4» . محمد بن عيسى بن محمد أبو صالح المروزي (العارض بجرجان) «5» . قال الذهبي عن عيسى بن محمد المروزي (الذي روى ابن الفقيه عنه) بعد أن

ذكر شيوخه في الحديث ومن روى عنه: «كان رئيسا نبيلا كثير الفضائل ... توفي عام 293 هـ-» «1» . كان كثير التنقل في البلاد الخراسانية ومدن الأتراك. ويبدو أنه كان يعنى بأخبار الخوارق والعجائب. فقد روى إضافة إلى ما نقله ابن الفقيه عنه من أخبار تدور حول حجر المطر- خبر المرأة التي عاشت نيفا وعشرين سنة لا تأكل ولا تشرب (!!!) حتى إنه ذكر خبرها لأبي العباس أحمد بن محمد بن طلحة بن طاهر والي خوارزم وذلك في سنة 266 هـ- ولما عجب الوالي من ذلك أمر بإحضارها ووكّل أمّه بمراعاتها وإنها بقيت عندها نحوا من شهرين في بيت لا تخرج منه فلم يروها تأكل ولا تشرب «2» . كما رحل إلى جرجان وحدّث بها «3» . وفي رواية ابن الفقيه في البلدان أنه كان ببلاد الشاش حيث التقى هناك أحد شيوخ الكتاب القدماء المدعو حبيب بن عيسى الذي وصفه بأنه جمع في كتاب أخبار وقائع نوح بن أسد وحروبه مع الترك «4» . وكانت صلته بأمير خراسان إسماعيل بن أحمد الذي حكم بين (287- 295 هـ-) «5» قد أتاحت له معرفة الكثير مما يتعلق بالبلاد الخراسانية وما وراء النهر.

قدم إلى بغداد وحدث بها. وذكر أبو سعيد أحمد بن محمد بن الأعرابي (246- 340 هـ-) مؤلف طبقات النساك المعروف بشيخ الحرم أنه سمع منه ببغداد. كما سمع منه فيها عبد الباقي بن قانع (265- 351 هـ-) «1» أما حجر المطر الذي يوجد لدى الترك ويقول ابن الفقيه إنهم «إذا أرادوا المطر حرّكوا منه شيئا يسيرا فينشأ الغيم فيوافي المطر. وإن هم أرادوا الثلج والبرد، زادوا فيه فيوافي الثلج والبرد. ويقال إنهم إذا أومأوا إلى جهة من الجهات، مطرت تلك الجهة وأبردت» (171 أ) ، فأمره لا يخلو من طرافة في عالم الفولكلور الآسيوي. فقد قال أبو دلف (الرحلة 177 ب) إنه لدى الترك الكيماك. ونقل البيروني عن كتاب النخب لجابر بن حيان (توفي عام 200 هـ-) أنه «حجر اليشب وهو حجر الغلبة تستعمله الترك ليغلبوا» «2» . ويزيد الأمر وضوحا فيقول في الآثار الباقية: وهو يتحدث عن عدة ظواهر في الطبيعة: «وفي الجبل الذي بأرض الترك، فإنه إذا اجتاز عليه الغنم شدّت أرجلها بالصوف لئلا تصطك حجارته فيعقبه المطر الغزير وقد يحمل منها الأتراك فيحتالون منها في دفع مضرة العدو إذا أحيط بهم فينسب من لا يعرف ذلك إلى السحر منهم» «3» . ونظرا للروح العلمية التي لدى البيروني فقد طلب إلى أحد الأتراك الذين حملوا إليه شيئا من تلك الأحجار أن يجلب بها المطر. فرماها إلى السماء مع همهمة وصياح فلم ينزل شيء من المطر. وعلّق على ذلك قائلا: «وأعجب من ذلك أن الحديث به يستفيض. وفي طباع الخاصة فضلا عن العامة منطبع يلاحون فيه من غير تحقق» «4»

محمد بن أبي مريم

ويبدو من كلام الكاشغري الذي كتب كتابه عام 466 هـ- أن استجلاب المطر كان من وظائف الكهان حيث قال: «إن الأمير أمر بالكاهن حتى تكهن وجاء بالريح والأمطار. وذلك معروف في ديار الترك يستجلب الريح والبرد والمطر بالحجر» «1» وبعد أن يورد شهمردان بن أبي الخير الذي ألّف كتابه بين 488 و 513 هـ- أسطورة حجر المطر- يبدو أنها نقلها عن البيروني- يشير إلى حجر جالب للريح والرعود والأمطار في واد عظيم ببلاد الهند وذلك إذا غنّى أحد في ذلك الوادي. ولذا فإن الناس يجتازونه ولا يغنون إطلاقا كما لا يتكلمون مع بعضهم» «2» . ومهما يكن فقد ظلت هذه الأسطورة حية بعد ذلك حتى أن الدنيسري الذي ألّف كتابه عام 669 هـ- نقلها وقال إن الحجر يوجد في تركستان من غير أن يحدد مكانا بعينه «3» . كما ذكرها القزويني (600- 682 هـ-) وأضاف «ورأيت من شاهد هذا» «4» . محمد بن أبي مريم ذكره ابن الفقيه- كما هو في 264 من مختصر البلدان المطبوع- وهو يتحدث عن مقدار خراج قم: «أخبرني محمد بن أبي مريم قال: مبلغ وظيفة الخراج بكورة قم....» . وهو محمد بن إبراهيم عامل مدينة قم الذي نستخلص من خلال وصول لجنة برئاسة بشر بن فرج إلى قم في رجب عام 284 من قبل المعتضد للنظر في شكاوى أهلها من ثقل الضرائب، أن محمد بن أبي مريم وأخاه أحمد قد تولى كل منهما

عمر بن الأزرق الكرماني

منصب عامل قم في الفترة الواقعة بين 282 و 284 هـ- «1» . عمر بن الأزرق الكرماني أورده ابن الفقيه بقوله: «قال عمر بن الأزرق الكرماني» (161 أ) حيث ذكر ابن الأزرق معلومات مهمة عن معبد النوبهار بمدينة بلخ الذي قيل أنه كان يوجد فيه بيت من أكبر بيوت المجوس «2» . وإن كان الأرجح أنه كان بيتا للأصنام، حيث يقول من يرى ذلك «إنّ كلمة (بهار) تأتي أيضا في الأدب الفارسي بمعنى معبد للأصنام» «3» . وحتى بعد أن هدم هذا المعبد على يد قيس بن هيثم السلمي عام 41 هـ-، ظل مكانه موثلا للكثير من الزائرين. يقول أبو بكر الواعظ الذي كان حيا عام 588 هـ- في كتابه فضايل بلخ نقلا عن المحدث عبد الله بن شوذب البلخي (86- 156 هـ-) : «روي عن ابن شوذب أنه حلول رأس السنة الشمسية كان الأكابر والأشراف من بلاد طخارستان والهند وتركستان ومن بلاد العراق والشام يأتون إلى هذه المدينة (بلخ) ويعيّدون سبعة أيام في موقع النوبهار» «4» . إن المعلومات التي قدمها ابن الأزرق عن النوبهار فريدة لا نراها في أي مصدر آخر. فمن يكون عمر بن الأزرق هذا؟ لم نجد له ذكرا في كتب الرجال والتاريخ. وهناك بصيص ضعيف من الأمل في أن يكون هو الذي روى عن المدعو ابن سيار معلومة طبية من بلاد الروم. ففي كتاب في الأدوية ومنافعها ألّف على عهد منصور بن نوح الساماني أي بين 350 و 366 هـ-، قال مؤلفه: «روى ابن الأزرق عن ابن سيار أنه قال: رأيت في بلاد الروم أنه عند ظهور

سعيد بن الحسن السمرقندي

داء الخنازير لدى شخص ما، يؤتى به ويطرح أمام الخنازير كي تأخذ الغدد وتلعقها، فتذهب الغدد. وهذا من النوادر» «1» . فكون المعلومة الطبية من بلد خارج نطاق بلاد الإسلام تجعلنا نخمن أن ناقلها كان رحّالا زار تلك التخوم. وتجعلنا نحتمل أن يكون أحمد بن سيار بن أيوب المروزي (198- 268 هـ-) الذي عرف بكثرة التجول وهو فقيه ومحدث مشهور حيث رحل إلى بخارى مع وفد لزيارة الأمير إسماعيل بن أحمد الساماني، وإلى بغداد وهو في طريقة للحج عام 245 هـ- وإلى الشام ومصر «2» . وهو على أي حال من أهالي تلك التخوم المجاورة للثغور الإسلامية. سعيد بن الحسن السمرقندي تحت عنوان «ذكر بعض مدن الأتراك وعجائبها» (172 أ) كتب ابن الفقيه فصلًا بدأه ب (قال سعيد بن الحسن السمرقندي) هو أروع فصول الكتاب، الفصل الذي لا نجد له مثيلا في معلوماته الفريدة الغزيرة. والحقيقة فإن السمرقندي قد تجاوز في أواخر كلامه بلاد الأتراك وتوغل في الغابات المتشابكة الأشجار أي إلى الشمال من نهر الفولغا باتجاه قبائل (ويسو) الذين يقول عنهم أندريه ميكيل اعتمادا على كتاب حدود العالم، إنهم يقرنون مع الأقوام اليوغورية وهذا نص كلامه: يقرنهم كتاب الحدود بالويسو الذين يحيلون إلى قوم فنيين: الفس النازلين في جنوب شرق بحيرة أونيغا» «3» . نقول هذا معتمدين على أن مدينة (سكوب) وهي آخر المدن التي ذكرها

السمرقندي هي بسكوف (Pskov) وهي «ولاية غربية من روسيا أوربا مساحتها مع بحيراتها 067، 17 ميلا مربعا. وعدد سكانها 701، 775. وبها عدة بحيرات أهمها البحيرة المسماة باسمها. وفي جهتها الجنوبية الشرقية مستنقعات كثيرة. وقسم كبير منها تغشاه غابات من الصنوبر يستخرج منها كمية وافرة من القطران. وسكانها على الأكثر من أصل روسي ولكن يوجد بينهم قبائل أخر وبعض من المسلمين. قصبة الولاية المذكورة واقعة على الضفة اليسرى من قاليكايا على بعد نحو خمسة أميال من مصبه في بحيرة بسكوف على السكة الحديدية بين بطرسبرج ووارسو تبعد 165 ميلا عن بطرسبرج إلى جنوبي الجنوب الغربي. وعدد سكانها 981، 12. ويحيط بها سور محيطة خمسة أميال. ولها قلعة في وسطها» «1» . فالمدينة التي ذكرها السمرقندي تشترك مع (بسكوف) في عدة نقاط منها كثرة البحيرات حيث قال السمرقندي: «ولهذه المدينة حمة عجيبة النفع تخرج من كهف في جبل شاهق لا يصل إنسان إلى الكهف الذي هي فيه. وإنما تجري فيه إلى عشرة أبيات مبنية بالصخر: سبعة للرجال وثلاثة للنساء. ماؤها في الشتاء شديد الحر وينقص حرّه في الصيف» . ويضيف إلى ذلك قوله: «وفي هذا الجبل ثعالب سود وحمر وبلق قلما يصطاد شيء منها لتغلغلها بين الشجر وقلة نزولها إلى السهل. وهي أصبر الحيوان على الثلج وكذلك جميع ما في هذا الجبل، لأن الثلج يقع فيه أكثر السنة» (174 ب) . كما أن الحرية الجنسية التي لفتياتهم ونسائهم تجعلهم قريبين من الأقوام المجاورين للفينيين ونعني بهم البرطاس الذين «تختار الجارية عندهم من أرادت من الرجال بصرف النظر عن سلطة الأب» «2» ومع الصقالبة الذين «إذا أحبت إحدى الفتيات رجلا، ذهبت إليه واستسلمت تماما إلى ملذاته. وهذه الممارسة شائعة

جدا حتى إن وصول الفتاة عذراء إلى الزواج يدفع إلى الشك بأنها مصابة بعاهة جسدية أو عقلية وتتعرض إلى الطلاق» «1» . وإن لغتهم غير لغة الأتراك لذلك ميزهم السمرقندي بأن قال «وأهلها يتكلمون بالسريانية» . فهل هم يتكلمون السريانية حقا أم أن عدم تشابه لغتهم مع لغات سائر الأتراك الذين ذكر منهم الواحدة تلو الأخرى هو الذي دعاه إلى ذلك؟ وفي هذه الحالة هل إن ذلك يجعلهم يقتربون من أمة البرطاس (البرداس) الذين يحتمل أندريه ميكيل أنهم «فنلنديون تفاوت تتريكهم ويتكلمون لغة خاصة بهم.... وهم مقيمون على طاعة ملك الخزر. ويغيرون على بلكار والبجناك ويغير هؤلاء عليهم ويسبونهم. ويقال لنا بأنهم ينتسبون بدينهم إلى عالم الترك وإلى الغز بوجه أدق» «2» ؟ ووجود الثعالب بأنواعها في تلك المدينة (في غاباتها بطبيعة الحال) ألا يشير إلى تجارة جلود الثعالب السود والسمور لدى الويسو التي تجعل التجار البلغار يخرجون إلى أرضهم لشراء تلك الجلود، كما يقول ابن فضلان الذي أضاف أن بلاد الويسو تقع على مسافة مسيرة ثلاثة أشهر من بلاد البلغار «3» ؟ إننا نقترب تدريجيا من روسيا البيضاء -Bielo Russe طبقا لرأي المستشرق الألماني فرهن الذي يرى أن ويسو Wisu تقع قرب موسكو غربي ورنك.Varang «4» كما نقترب من أستونيا الواقعة إلى الشمال الغربي من بحيرة بسكوف-

مطاعن على كتاب البلدان

حيث افترضنا أن السمرقندي كان يعني هذه المنطقة بحيرة ومدينة- أستونيا التي يرى الباحث -» Mikko Juva وطبقا للشواهد الأركيولوجية- أن أسلاف الفنلنديين كانوا يعيشون فيها منذ 3500 عام على الأقل» «1» . وعلى هذا فالسمرقندي هو أول جغرافي أو رحالة مسلم وصف تلك الأصقاع (أو رحل إليها؟) . أخيرا، لم نعثر على شخص يدعى سعيد بن الحسن السمرقندي فيما بين أيدينا من مصادر، سوى أن ابن شيخ الربوة قد وضع أحد عناوين فصول كتابه على الشكل التالي: في جزائر البحر الأخضر التي بالقرب من سواحله ومنهن الجزائر الخالدات وذكر الأعجوبة للسمرقندي» . ثم فصّل ذلك داخل الكتاب بقوله: إن الإسكندر أراد أن يعلم ساحل المحيط الأقصى فجهز عدة مراكب..... فساروا سنة كاملة لم يروا إلّا سطح الماء وما يخرج من حيوان عظيم الخلقة كالمنارة المشهورة....» «2» . مطاعن على كتاب البلدان كان للتقييم الذي أطلقه ابن النديم (ألف كتابه عام 377 هـ وما تلاه) ، أثره المدوي في الأوساط التي أصدرت أحكامها فيما بعد بحقه. قال ابن النديم: «ابن الفقيه الهمداني واسمه أحمد بن محمد. من أهل الأدب. لا نعرف من أمره أكثر من هذا. وله من الكتب: كتاب البلدان، نحو ألف ورقة، أخذه من كتب

الناس وسلخ كتاب الجيهاني. وكتاب ذكر الشعراء المحدثين والبلغاء منهم والمفحمين» «1» . لقد لاحظ العالم كراتشكو فسكي منذ وقت مبكر تهافت قول ابن النديم بأن ابن الفقيه سلخ كتاب الجيهاني المعروف بالمسالك والممالك فقال: «يجب أن نأخذ بعين الحذر والارتياب قول صاحب (الفهرست) أن ابن الفقيه قد (سلخ) كتاب الجيهاني. حقا إن الطابع النقلي لكتاب ابن الفقيه ليس في الوسع إنكاره، ولكن كتابه يرجع تأليفه إلى ما قبل عام 290 هـ أي قبل أن يخرج الجيهاني إلى عالم الوجود» «2» . ومع ذلك تواصلت الهجمات على ابن الفقيه واتهامه بسلخ كتاب الجيهاني. فنقل ياقوت نفس ما قاله ابن النديم «3» . وقفى على آثاره المستشرق رينو فادعى أن ابن الفقيه قد اختصر كتاب الجيهاني وأضاف «إن اختصار الكتاب ربما كان هو السبب في إهمال شأنه» «4» واستخدم المرحوم العلامة مصطفى جواد ألفاظا أقسى حين ذكر كتاب الجيهاني المسالك والممالك وقال «وهو الكتاب الذي سلبه ابن الفقيه الهمداني وسرقه» «5» .

وحقيقة الأمر ما قاله المقدسي البشاري وهو وجود تشابه بين مؤلّف الجيهاني ومؤلّف ابن خرداذبه. حيث تقول إحدى مسودات كتاب المقدسي المسمى أحسن التقاسيم: «ورأيت كتابه- أي كتاب الجيهاني- في خزائن عضد الدولة غير مترجم. وقبل بل هو لابن خرداذبه. ورأيت مختصرين بنيشابور غير مترجمين، أحدهما للجيهاني والآخر لابن خرداذبه تتفق معانيهما غير أن الجيهاني قد زاد شيئا يسيرا» «1» . ومع ذلك تظل المسألة غامضة بعض الشيء. إذ المعروف أن ابن خرداذبه قد كتب كتابه المسالك والممالك عام 250 هـ- ورأينا تشابها في نصوصه في كثير من نصوص ابن الفقيه الذي كتب كتابه أواخر عام 289 أو أوائل 290 هـ- وأن ابن الفقيه قد ذكره وكتابه بقوله (قال صاحب كتاب المسالك والممالك وهو عبد الله بن محمد بن خرداذبه ... » (ص 203 من مختصر البلدان) كما نقل عنه رحلة سلام الترجمان. ترى هل أن الجيهاني الذي ألّف كتابه فيما بعد قد أفاد من ابن خرداذبه

بحيث التبس الأمر على ابن النديم فقال إن ابن الفقيه سلخ كتابه؟ إن قول المقدسي آنفا يساعدنا على احتمال صحة هذا الرأي. أما الطعن الثاني فقد وجهه المقدسي الذي كتب كتابه عام 375 هـ- فقال: «ورأيت كتابا صنفه ابن الفقيه الهمداني في خمس مجلدات، سلك طريقة أخرى ولم يذكر غير المدائن العظمى وأدخل فيه فنونا من العلوم. مرة يزهد في الدنيا ودفعة يرغب فيها، ووقتا يبكي وساعة يضحك ويلهي. وأما كتاب الجاحظ فصغير. وكتاب ابن الفقيه في معناه غير أنه أكثر حشوا وحكايات واحتجّا بأنّا إنّما أدخلنا خلال كتبنا ما أدخلنا ليتفرج فيها الناظر إذا ملّ. وربما كنت أنظر في كتاب ابن الفقيه فأقع في حكايات وفنون» «1» . إن الانتقال من موضوع لآخر مخافة أن يملّ القارئ هو أسلوب جاحظي. ولا شك أن ابن الفقيه متأثر بأسلوبه- وينبغي عدم المبالغة في هذا التأثر-. إلّا أن ابن الفقيه نفسه قد توخّى هذا الهدف منذ البداية أي أنه جعله من أهداف الكتاب، بل جعل عنوان أحد فصوله: (باب في تصريف الجد إلى الهزل والهزل إلى الجد) . وقال في مطلع كتابه: «فكتابي هذا يشتمل على ضروب من أخبار البلدان وعجائب الكور والبنيان. فمن نظر فيه من أهل الأدب والمعرفة فليتأمله بعين الإنصاف، وليعرنا فيه حسن محضره وجميل رأيه، فإن الأجدي في المذهب شأوك وقرابة دانية ورحم ماسّة ووصلة واشجة، ويهب زللي لاعترافي واغفالي لإقراري. فإني إنما ألحقت في هذا الكتاب ما أدركه حفظي وحضره سماعي من الأخبار والأشعار والشواهد والأمثال» «2» . بل إنه يباهي بهذا التنوع الذي ضمنه كتابه فهو يعقب بعد أن ذكر جملة من

نقول عن كتاب البلدان

المواعظ والأشعار الوعظية: «ولو لم يفدك هذا الكتاب من الأخبار العجيبة والأشعار الظريفة والأمور الغريبة، لكان فيما يفيدك من أخبار البلدان وعجائب الكور والأمصار بلاغا ومقنعا. فكيف وقد أفادك علم الماضين وأخبار الأولين. وذلك علم المعنيين. ووقفك على الطريقين، وأرشدك إلى الأمرين جميعا: حكمة بالغة وموعظة موجزة. تعرفت منه أخبار الماضين وأبنية من قد سلف من الأولين. وفي هذا الخبر الذي أثبته هاهنا عبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر، ودليل على وحدانية الله تعالى، ومخبر عن آياته وقدرته. فصفّ ذهنك وفرّغ قلبك، وأقبل عليه بسمعك وتفكر فيه وفيما تضمنته من الأعجوبة. فإن فيه عبرة لأولي الألباب» (109 ب) ثم أورد بعد ذلك قصة عجيبة عن الخضر وملك بني إسرائيل. نقول عن كتاب البلدان أول من نقل عنه، حسن بن محمد القمي الذي ألّف كتابه تاريخ قم عام 378 هـ- الذي نقل عنه في اثنى عشر موضعا. والثاني هو المقدسي البشاري (335- 390 هـ-) الذي كان ازدراؤه لكتاب ابن الفقيه- كما مرّ بنا فيما مضى- مانعا له عن النقل عنه، فلم ينقل إلّا في موضع واحد (ص 27 من طبعة بيروت) . ويأتي بعد ذلك محمد بن محمود بن أحمد طوسي مؤلف كتاب عجائب المخلوقات الذي قال حاجي خليفة (2: 1127) أنه ألّفه عام 555 هـ- إلّا أن محقق الكتاب لاحظ فيه تاريخ 562 هـ- وأضاف: «على الرغم من كون اسمه: الطوسي. إلّا أنه إمّا أن يكون من أهل همدان أو عاش ردحا من الزمن فيها، كما يستفاد من الكتاب. وهو لم يشر إلى مصادره إلّا فيما ندر، ولم يشر إلى ابن الفقيه ولا مرة واحدة» «1» . ومن خلال مطالعتنا لعجائب الطوسي رأينا العجب العجاب. فالرجل قد نقل أكثر من ثلثي كتابه عن ابن الفقيه ولم يشر إليه ولا مرة واحدة. ولم يكن له من

جهد في ذلك النقل سوى ترجمته النصوص إلى الفارسية. أما أكثرهم نقلا مع التنويه بأنه ينقل عن ابن الفقيه- بصورة عامة- فهو ياقوت الحموي الذي نقل عنه في مائة وثلاثة مواضع من كتابه معجم البلدان «1» . وقد كان قلمه يزل أحيانا فيكتب: محمد بن أحمد بدلا من الصواب: أحمد بن محمد وهو الغالب في كتابه. وقد ذكرنا فيما مضى من المقدمة الموارد التي زلّ فيها قلمه. ولقد دلتنا نقوله أنه كان ينقل عن المخطوطة الأصل وليس المختصرة كما أشرنا إلى ذلك في هوامش الكتاب. ونعتقد أنه كان ينقل عن نسخة من كتاب البلدان أكمل من هذه التي يوجد نصفها تقريبا بين أيدينا. ففي مادة (شبداز) لدى ابن الفقيه وفي النسخة الأصل لم نجد بضعة أسطر كان ياقوت قد قال صراحة أنه نقلها عن ابن الفقيه (انظر مادة شبداز 3: 250) . وكان يجري تغييرا طفيفا على العبارة. فمثلا نقرأ في فصل همذان لدى ابن الفقيه: «وقرأ عليّ بعض النصارى كتابا بالسريانية» (111 أ) ونجد ياقوت كتبه هكذا: «ووجد في بعض كتب السريانيين» (همذان 4: 981) . أو قول ابن الفقيه (111 ب) : «فأجمعوا على أن تسدّ عيونها حولا ثم يفتح السد ويرسل على المدينة فإنها تغرق» . نجده لدى ياقوت: «فأجمعوا على أن مياه عيونها تحبس حولا ثم تفتر وترسل على المدينة فإنها تغرق» (مادة همذان 4: 982) . ويبدو أن كثرة نقول ياقوت عن ابن الفقيه كانت تدعوه إلى أن ينقل عنه من غير أن يذكر اسمه. فنحن نعرف بشكل أكيد أن المناظرة بين الواسطي وابن أبي السرح- قلنا إننا نرجح أن يكون ابن أبي السري- قد جرت في منزل محمد بن إسحاق بهمذان، وهو والد أحمد بن محمد بن إسحاق مؤلف كتاب البلدان (117 ب وما يليها) ومع ذلك فقد نقلها ياقوت (مادة همذان 4: 984) بطولها

وصف مخطوطة الكتاب

ونقل بقية المعلومات المتعلقة بهمذان الموجودة لدى ابن الفقيه من غير أن يذكره ولا مرة واحدة في هذه المادة. أخيرا جاء زكريا القزويني الذي كتب كتابه آثار البلاد عام 674 هـ. ونرجح أنه قد أخذ عن ياقوت نقوله عن ابن الفقيه وأودعها كتابه، بحيث يمكننا القول بما يشبه اليقين أنه لم ير كتاب ابن الفقيه. دليلنا على ذلك أنه حيثما أخطأ ياقوت في اسم ابن الفقيه، كان هذا الخطأ يتكرر في نفس المادة لدى القزويني. فقد كنا أشرنا إلى أن ياقوتا كان يسهو أحيانا فيكتب اسم ابن الفقيه هكذا: محمد بن أحمد الهمذاني. ونصادف هذا الخطأ لدى القزويني. فحين يقول ياقوت (مادة: رومية 2: 872) «فجميع ما ذكرته هاهنا من صفة هذه المدينة فهو من كتاب محمد بن أحمد الهمذاني المعروف بابن الفقيه» . نجد القزويني (ص 594 مادة رومية أيضا) يكرر نفس الخطأ فيقول: «وهذه كلها منقولة من كتاب ابن الفقيه وهو محمد بن أحمد الهمذاني» «1» . وصف مخطوطة الكتاب ضمت المجموعة الخطية التي كشف النقاب عنها في المكتبة التابعة لحضرة الإمام علي بن موسى الرضا (ع) بمدينة مشهد الإيرانية المخطوطات التالية: 1- نصف كتاب البلدان لابن الفقيه وهو الذي نقدمه بين أيدي القراء الأفاضل.

2- الرسالتين الأولى والثانية اللتين دون فيهما أبو دلف مسعر بن المهلهل رحلاته. 3- النص الكامل لرسالة ابن فضلان التي دون فيها مذاكرته عن رحلته التي قام بها عام 310 هـ- لمناطق بلغار الفولغا وبلاد الخزر والروس والصقالبة. وقد طبعت رسالتا أبي دلف، كما طبعت رحلة ابن فضلان بينما بقيت مخطوطة بلدان ابن الفقيه حتى يومنا هذا على رف الانتظار. يقول فلاديمير مينورسكي الأستاذ بجامعة لندن: «إن كاتب المجموعة الخطية هو شخص واحد قد كتبها على التوالي. ومن الممكن أن يعود تاريخ كتابتها إلى زمن يرقى إلى ما قبل الهجوم المغولي هو القرن السابع الهجري على أوجه التقريب. خطها ليس عسيرا على القراءة.... وتظهر ملاحظة بعض خصائص الإملاء أن كاتبها شخص إيراني، من قبيل استخدام (ژ) الفارسية أي ذات الثلاث نقاط. وكذلك كتابته لبعض التراكيب العربية التي لا معنى لها مثل كتابته (184 أ) (هي مدينة الإسلام وراها) بدلا من الصواب (لا إسلام وراءها) . أو كتابته (185 أ) (وبه بنو معون المهدي) بدلا من الصواب وهو (وبه يتوقعون المهدي) «1» » . ومن خلال المطالعة الدقيقة لمخطوطة البلدان نرى ما يلي: إن المخطوطة عرّضت لتشويهين: أولهما أنها كانت تملى على شخص كان يسمع فيكتب. ودليلنا

على ذلك وجود تحريف في الكلمات لا يمكن تصحيفها بالنقل من كتاب مدوّن. فيستحيل مثلًا أن يصحف كاتب ما كلمة (سهم) إلى (صهم) إذا كانت كلمة (سهم) مكتوبة أمامه وهو يقوم بنقلها. من الممكن أن تصحف إلى (شهم) أو (بهم) أو (نهم) أو (بينهم) أو أي شيء قريب. لكن أن تصحف إلى (سهم) - بالصاد- فإن ذلك يعني أن المملي- وهو غير عربي- قد قرأها مضخّمة فكتبها السامع بالصاد. وسنقدم أمثلة أخرى على ذلك. أما التشويه الثاني فقد حدث على ناسخ استنسخ المخطوطة فارتكب أخطاء في الكتابة مما يمكن صدوره عمن ينقل من كتاب مدوّن أمامه مثل كتابة (ونموق قريبا) بدلا من (وتموت) وهو الصواب. أخطأ سببها السماع المغلوط: الخطأ الصواب [111 ب] فأصيبت عينه بصهم لذهبت بسهم فذهبت [114 أ] فالماء يشرب كرفا وممزوجا صرفا [114 أ] الماء الذي يطرب كل شيء ولا ينجسه شيء يطهّر كل شيء. [119 ب] وليس فينا دقة النظر أهل البصرة نظر [110 ب] فلم يجبه بحرفه بحرف أما تصحيفات النوع الثاني وهو الكتابي الممكن حدوثه أثناء النقل من نص مكتوب يقرؤه الناسخ نفسه. فمثل (97 ب) وإذا فكرت في أمر صورة شبديز هذه وحدثها كما ذكر المعتزلي. والصواب (وجدتها) . وقوله (103 أ) فأحجج الناس جميعا. والصواب (فأحجم) . وقوله (103 أ) إن أمر نسائه سيعلموا على أمور

عملنا في الكتاب

الرجال. والصواب (سيعلو) . (103 أ) إن حق صحن الدار أن يعمر بالجزم والحاشية. والصواب (بالخدم) . و (105 أ) بنيت شديدا وتأمل بعيدا ونموق قريبا. والصواب (وتموت) . و (107 ب) فحفروا وانتطوا الماء. والصواب (وأنبطوا) . عملنا في الكتاب لما كانت المخطوطة الرضوية تمثل النصف الثاني لكتاب البلدان فقط. فقد اضطررنا إلى الاستعانة بمختصر الكتاب الذي طبعه دي خويه فوضعنا نصفه الأول في أول الكتاب ثم ألحقنا به النصف الثاني المخطوط (مخطوطة الرضوية) تجنبا لأن يكون في المكتبات كتابان أحدهما (مختصر كتاب البلدان) والثاني (النصف الثاني من مخطوطة البلدان الكاملة) . هذا أولا. ثانيا: الأبواب التي هي موجودة في المختصر والمخطوط الأصل، اخترنا إثبات ما هو في المخطوطة الأصل الكاملة. إذ لا يعقل أن نثبت ما كتب عن الترك في المختصر ومقداره صفحة واحدة ونهمل ما هو في المخطوطة الكاملة ومقداره يزيد على عشر صفحات. أو نهمل مادة طبرستان الموسعة في المخطوطة لنثبت المختصر الذي هو في المطبوع. ومع ذلك، ومن أجل فائدة من يرغب في المزيد من الدقة. فقد ارتأينا أن تطبع المواد المشتركة بين المختصر والمخطوطة الكاملة، أن تطبع بالحرف الأسود (المحقّق) ليرى القارئ مقدار الإساءة التي أساءها مختصر الكتاب حين حذف أسانيد الكتاب أو أسطرا من منتصف المواد حيث كنا نرى الجمل معلّقة أحيانا لا تعطي معنى، إضافة إلى اختصاره القطع الشعرية. وكل ذلك يتضح للقارئ من خلال ملاحظته السطور المطبوعة بالحرف الأبيض عن تلك المطبوعة بالأسود. ويكفي اختصار الكتاب نقصا أنه حذفت منه أغلب الأسانيد. كما حذف منه أهم فصول الكتاب ونعني بها تلك المتعلقة بالترك والبلغار والصقالبة. أخيرا، أرجو من السادة المحققين والأساتذة والنقاد، أن يتكرموا عليّ وهم

المتفضلون، إن كانت لديهم ملاحظات على الكتاب- سواء نشرت في الصحف والمجلات أم لم تنشر- بإرسال نسخة من تلك الملاحظات إلى دار عالم الكتب، لتتفضل مشكورة بإرسالها لي حيث أعيش الألف عام الأولى من العزلة بلا وطن ولا هوية، خارج الجغرافيا والتاريخ. والله وليّ التوفيق. الأول من فبراير 1995 يوسف الهادي

[مقدمة الكتاب] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين الطاهرين. هذا بقية القول في العراق والبصرة وأخبار دار فتحها والوقت الذي بنيت فيه، وما فيها من العجائب، والقول في الأبلة. والقول في البطائح. والقول في واسط. والقول في النبط والخوز. والقول في بغداد وأخبار كور دجلة. والقول في سرّ من رأى. القول في خراج الدنيا وما كان يحمل إلى بيت السلطان من بلد إلى بلد. القول في الأهواز وفارس ومدنها. القول في قرميسين وأخبار شبريز. القول في همذان وعجائبها. القول في نهاوند وإصبهان وقم وعجائبها. القول في الري ودنباوند وأخبار بيوراسف. القول في قزوين وأبهر وزنجان وطبرستان. القول في خراسان ومدنها وأخبارها. القول في الترك وأخبارهم وقبائلهم وشرائعهم. ذكرنا أضيف (؟) إلى ما صنّفه أحمد بن محمد الهمذاني في آخر كتابه رسالتين كتبهما إلينا أبو دلف مسعود (كذا) بن المهلهل. () في إحداهما أخبار الترك والصين بمشاهدته ذلك. والأخرى أشياء رآها وشاهدها () وأضفنا إليه كتابا جمعه أحمد بن فضلان بن راشد بن حماد مولى محمد بن سليمان الهاشمي في أخبار الترك والخزر والروس والصقالبة والباشغرد مما وقف عليه ونظر إليه. لأن المقتدر بالله أنفذه إلى بلد الصقالبة في سنة تسع وثلاثمائة باستدعاء ملكهم ذلك () والإسلام. فحدّث بجميع ما شاهده في هذه البلدان () . [1 ب] . نص ما هو مكتوب على الصفحة التي تلي صفحة العنوان. والفراغات إما كلمات مطموسة أو غير مقروءة.

بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يسّر قال، قال الفضل بن يحيى: الناس أربع طبقات: ملوك قدّمهم الاستحقاق، ووزراء فضّلهم الفطنة والرأي، وعليه أنهضهم اليسار، وأوساط ألحقهم بهم التأدّب، والناس بعدهم زبد جفاء وسيل غثاء لكع ولكاع وربيطة اتّضاع، همّ أحدهم طعمه ونومه. وقال معاوية للأحنف: صف لي الناس. فقال: رؤوس رفعهم الحظّ، وأكتاف عظّمهم التدبير، وأعجاز شهرهم المال، وأدباء ألحقهم بهم التأدّب، ثم الناس بعدهم أشباه البهائم، إن جاعوا ساموا، وإن شبعوا ناموا. وقال بزرجمهر لرجل: إن أردت أن تبلغ أحظى درجة الآداب وأهلها، فاصحب ملكا أو وزيرا، فإنهما برغبتهما في معرفة أيّام الملوك وأخبارهم، والآداب وأهلها، وقسمة الفلك ونجومه، يبعثانك على طلب ذلك. قال: فما وسيلتي إليهما؟ قال: انتحال ذلك رسم الإدراك، والطلب مادّة الوجود والآداب عند الهمّة. وقال أسامة بن معقل: كان السّفّاح راغبا في الخطب والرسائل، يصطنع أهلها ويثيبهم عليها، فحفظت ألف رسالة وألف خطبة طلبا للحظوة عنده فنلتها، وكان المنصور بعده معنيّا بالأسمار والأخبار وأيّام العرب، يدني أهلها ويجيزهم عليها. فلم يبق شيء من الأسمار والأخبار إلّا حفظته طلبا للقربة منه، فظفرت بها. وكان موسى مغرما بالشعر يستخلص أهله فما تركت بيتا نادرا، ولا شعرا فاخرا، ولا نسيبا سائرا إلّا حفظته، وأعانني على ذلك طلب الهمّة في علوّ الحال. ولم أر شيئا أدعى إلى تعلّم الآداب من رغبة الملوك في أهلها وصلاتهم عليها. ثم زهد هارون الرشيد في هذه الأربعة وأنسيتها حتى كأنّي لم أحفظ منها شيئا. دخل الشّعبيّ على الحجّاج فقال:

يا شعبيّ أدب وافر وعقل نافر. قال: صدقت أيّها الأمير. العقل سجيّة والأدب تكلّف. ولولا أنتم- معاشر الملوك- ما تأدّبنا، قال: فالمنّة في ذلك لنا دونكم. قال: صدقت، قال الشاعر، في عبيد الله بن زياد: علّمني جودك ما لم أكن ... أحسنه من جيّد الشعر فصرت في الناس أخا ثروة ... وصرت ذا جاه وذا قدر وأنشد لغيره: وكنت مفحّما دهرا طويلا، ... فصيّرني عطاؤك ذا بيان فما شكري لخلق مثل شكري ... لمن كفّاه أطلقتا لساني قال: فكتابي هذا، يشتمل على ضروب من أخبار البلدان، وعجائب الكور والبنيان، فمن نظر فيه من أهل الأدب والمعرفة، فليتأمّله بعين الإنصاف، وليعرنا فيه حسن محضره وجميل رأيه، فإن الأجدى في المذهب شاؤك، وقرابة دانية، ورحم ماسّة، ووصلة واشجة. ويهب زللي لاعترافي، وإغفالي لإقراري. فإنّي إنما ألحقت في هذا الكتاب ما أدركه حفظي، وحضره سماعي من الأخبار والأشعار والشواهد والأمثال.

القول في خلق الأرض قال الله عزّ وجلّ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ قال: وسئل النبيّ (صلى الله عليه وسلم) عن الأرض: سبع هي؟ قال: نعم، والسماوات سبع. وقرأ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ. فقال رجل: فنحن على وجه الأرض الأولى؟ قال: نعم، وفي الثانية خلق يطيعون ولا يعصون، وفي الثالثة خلق، وفي الرابعة صخرة ملساء، والخامسة ضحضاح من الماء، والسادسة سجّيل وعليها عرش إبليس، والسابعة ثور. والأرضون على قرن الثور، والثور على سمكة، والسمكة على الماء، والماء على الهواء، والهواء على الثرى، والثرى منقطع فيه علم العلماء. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهميّ: صورة الدنيا على خمسة أجزاء كرأس الطير والجناحين والصدر والذنب. فرأس الدنيا الصين، وخلف الصين أمّة يقال لها واق واق، ووراء واق واق من الأمم ما لا يحصي إلا الله. والجناح الأيمن الهند، وخلف الهند البحر، وليس خلفه خلق. والجناح الأيسر الخزر، وخلف الخزر أمّتان، يقال لإحداهما منشك وماشك، وخلف ماشك ومنشك يأجوج ومأجوج من الأمم ما لا يعلمها إلّا الله. وصدر الدنيا مكّة والحجاز والشام والعراق ومصر. والذنب من ذات الحمام إلى المغرب، وشرّ ما في الطير الذنب. وقال ابن عبّاس: الأرض كلّها أربعة آلاف فرسخ في مثل ذلك، تكون ستّة عشر ألف ألف فرسخ. وقال أمير المؤمنين (رضي الله عنه) : الأرض طولها مسيرة خمس مائة سنة: أربع مائة خراب، ومائة عمران. قال: وفي يد

المسلمين سنة. وقال أبو خلف «1» : الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ، فللسودان اثنا عشر ألف فرسخ، وللروم ثمانية آلاف فرسخ، وللعرب ألف فرسخ، ولفارس ثلاثة آلاف فرسخ. وذكر محمّد بن موسى الخوارزميّ «2» : أن دور الأرض على الفضاء تسعة آلاف فرسخ. العمران من ذلك نصف سدسها، والباقي ليس فيه حيوان ولا نبات، والبحار هي محسوبة من العمران، والمفاوز التي بين العمران من العمران. وذكر بعض الفلاسفة، أن الأرض مدوّرة كتدوير الكرة، موضوعة في جوف الفلك كالمحّة في جوف البيضة. والنسيم حول الأرض، وهو جاذب لها من جميع جوانبها إلى الفلك. وبنية الخلق على الأرض، إن النسيم جاذب لما في أيديهم من الخفّة، والأرض جاذبة لما في أيديهم من الثقل، لأن الأرض بمنزلة الحجر الذي يجذب الحديد، والأرض مقسومة نصفين بينهما خطّ الاستواء، وهو من المشرق إلى المغرب. وهذا طول الأرض، وهو أكبر خطّ في كرة الأرض. كما أن منطقة البروج أكبر خطّ في الفلك، وعرض الأرض من القطب الجنوبيّ الذي يدور حوله سهيل، إلى القطب، الشماليّ الذي يدور حوله بنات نعش. واستدارة الأرض في موضع خطّ الاستواء ثلاثمائة وستّون درجة، والدرجة خمسة وعشرون فرسخا، والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعا، والأصبع ستّ حبّات شعير مصفوفة بطن بعضها إلى بعض. فيكون ذلك تسعة آلاف فرسخ. وزعم دورتيوس «3» : أن الأقاليم السبعة على بروج السماء كبار عظام مدينتان في إقليم زحل، ومدينتان في إقليم المشتري، ومدينتان في إقليم المرّيخ، ومدينة في إقليم الشمس، ومدينتان في إقليم الزّهرة، ومدينتان في إقليم عطارد، ومدينة في إقليم القمر. وقالوا أيضا: إن الأقاليم سبعة، إقليم في أيدي العرب، وإقليم في أيدي الروم، وإقليم في أيدي الحبشة، وإقليم في أيدي الهند، وإقليم في أيدي

الترك، وإقليم في أيدي الصين، وإقليم في أيدي يأجوج ومأجوج، لا يدخل هؤلاء أرض هؤلاء، ولا هؤلاء إلى هؤلاء. فالإقليم الأول: مبتدأه من أرض المحرقة التي تدعى باليونانيّة ريامياروس، ومنتهاه أرض سرنديب، وسكّانه سود، قباح الوجوه عراة كالسباع، وأعمارهم طويلة، ودوابّهم وطيورهم أعظم من عامّة البهائم والطير، وهناك رقى وعقاقير وأحجار فيها شفاء ومنافع طبيعيّة، وفيها تنانين وهو امّ ذات سموم، وطوله خمسة آلاف وخمس مائة فرسخ، وعرضه مائتان وخمسة وثمانون فرسخا. والإقليم الثاني: مبتدأه من العرض أرض سرنديب، ومنتهاه أرض الحبشة، وهناك معدن الزبرجد والببغاء، ومنتهاه من قبل شرقيّة أرض السند قريب من كابل وزابلستان. وهناك سباع ضارية، وحشرات وطير ممتنعة، وأهلها في القبح دون الإقليم الأوّل. وفيها أيضا رقى وعقاقير، وأهلها أقصر أعمارا من الأوّل، وطوله طول الأوّل. والإقليم الثالث: مبتدأه عرض أرض الصّغد وجرجان، حتى ينتهي إلى أرض الترك وحدّ الصين إلى أقصى المشرق، ومن غربيّة نحو مصر، ومن شرقيّة السند وعدن، ومنتهى عرضه أرض الشام وفارس وإصبهان. وهناك ناس حكماء. وعرضه وطوله مثل الأوّل. والإقليم الرابع: بابل، متوسّط الأقاليم، وهو أفضلها مزاجا. ومبتدأه من إفريقية إلى بلخ إلى مشرق الأرض، وعرضه وطوله كالأوّل. والإقليم الخامس: قسطنطينيّة والروم والخزر، وعرضه وطوله كالأوّل. والإقليم السادس: فرنجة وأمم أخرى، وفيه نساء من عادتهن قطع ثديهنّ وكيّه في صغرهنّ لئلا يعظم. وعرضه وطوله كالأوّل. والإقليم السابع: الترك، ورجالهم ونساؤهم مترّكو الوجوه لغلبة البرد عليهم، وسباعهم صغيرة الأجساد، ولا يوجد هناك حشرات ولا هوامّ. ويسكنون الظلال يتّخذونها من الألواح، ينقلونها على عجل، تجرّها الثيران، وأنعامهم في

الفيافي وفي أولادهم قلّة. فمبلغ الأقاليم السبعة على مساحة الإقليم الأوّل ثمانية وثلاثون ألف فرسخ وخمس مائة فرسخ، وعرضها ألف وتسع مائة وخمسة وتسعون فرسخا. وقسمت الأرض المعمورة أربعة أقسام: أروفى «1» ، وفيه: الأندلس والصّقالبة والروم وفرنجة. وطنجة إلى حدّ مصر ولوبية وفيها: مصر وقلزم والحبشة وبربر وما والاها. والبحر الجنوبيّ، وليس في هذه البلاد خنزير برّيّ ولا أيّل ولا عير ولا تيس، وفيها تهامة واليمن والسند والهند. وأسقوتيا وفيها: أرمينية وخراسان والترك والخزر. وزعم هرمس أن طول كلّ إقليم سبع مائة فرسخ في مثله.

القول في البحار وإحاطتها بالأرض قال: البحار أربعة: البحر الكبير، الذي ليس في العالم بحر أكبر منه. وهو أخذ من المغرب إلى القلزم حتى يبلغ واق واق الصين، وواق واق الصين هو بخلاف واق واق اليمن، لأن واق واق اليمن يخرج منه ذهب سوء. وهذا البحر يمدّ من القلزم على وادي القرى حتى يبلغ بربر وعمان، ويمرّ إلى الدّيبل والمولتان حتى يبلغ جبل الصّنف إلى الصين «1» . ثم البحر المغربي الدبوريّ الروميّ، وهو من أنطاكية إلى جزائر السعادة، وخليج منه آخذ من الأندلس حتى يبلغ السوس الأقصى، وعلى ساحل هذا البحر طرسوس والمصّيصة والإسكندريّة وأطرابلس. وطول هذا البحر ألفان وخمس مائة فرسخ، من أنطاكية إلى جزائر السعادة. وعرضه خمس مائة فرسخ. والبحر الثالث الخراسانيّ الخزريّ، لقرب الخزر منه، إلى موقان إلى طبرستان وخوارزم وباب الأبواب، ومن بحر جرجان إلى خليج الخزر عشرة أيّام،

فإذا طابت. لهم الريح فثمانية أيّام في البحر، ويومان في البرّ، ويسمّى هذا البحر الدّوّارة الخراسانيّة، وقطرها مائة فرسخ، والذي يطيف بها ألف وخمس مائة فرسخ. والرابع، ما بين رومية وخوارزم جزيرة تسمّى تولية، ولم يوضع عليها سفينة قطّ. وملك العرب في يديه ألف مدينة في زماننا هذا، وفي يدي ملك النوبة ألف مدينة، وفي يدي ملك الصين أربع مائة مدينة، وستّمائة مدينة من الصين في أيدي ملوك صغار. قال: وأعلم أن بحر فارس والهند هما بحر واحد لاتّصال أحدهما بالآخر، إلّا أنهما متضادّان. قال: فأوّل ما تبتدئ صعوبة بحر فارس عند دخول الشمس السنبلة وقربها من الاستواء الخريفيّ، فلا يزال يكثر أمواجه ويتقاذف مياهه ويصعب ظهره، إلى أن تصير الشمس إلى الحوت. وأشدّ ما تكون صعوبته في آخر زمان الخريف، عند كون الشمس في القوس. وإذا كانت قرب الاستواء الربيعيّ، يبتدئ في قلّة الأمواج ولين الظهر، إلى أن تعود الشمس في السنبلة، وألين ما يكون في آخر زمان الربيع، وهو عند كون الشمس في الجوزاء. فأما بحر الهند فإنه خلافه، لأنه عند كون الشمس في الحوت وقربها من الاستواء الربيعيّ، يبتدئ في الظلمة والغلظ، وتكثر أمواجه، حتى لا يركبه أحد لظلمته وصعوبته عند كون الشمس في الجوزاء. فإذا صارت في السنبلة أضاء ظلمته، ويسهل مركبه، إلى أن تصير الشمس في الحوت، إلّا أن بحر فارس، قد يركب في كلّ أوقات السنة. فأما بحر الهند، فلا يركبه الناس عند هيجانه لظلمته وصعوبته. قال: فمن أراد الصين، أو عدن، أو شلاهط، أخذ من ناحية المغرب على اليمامة وعمان. ومن أراد السند أخذ من ناحية فارس على سيراف .

القول في البحار وعجائب ما فيها قال الله عزّ وجلّ: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ يروى عن الحسن قال: بحر فارس والروم. وقال سليمان بن أبي كريمة «1» : إذا طلعت الثّريّا ارتجّ البحر واختلفت الرياح، وسلّط الله الجنّ على المياه، وتبرّأ الله ممن يركب البحر أربعين يوما. وقال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : «من ركب البحر بعد طلوع الثريّا، فقد برئت منه الذمّة» . وسئل ابن عبّاس عن المدّ والجزر فقال: إن ملكا موكّل بقاموس البحر «2» ، إذا وضع رجله فيها فاضت، وإذا رفعها غاضت. قال كعب: ولقي الخضر ملكا من الملائكة فسأله عن المدّ والجزر فقال الملك: إن الحوت يتنفّس فيشرب الماء ويرفعه إلى منخريه فذلك الجزر، ثم يتنفّس فيخرجه من منخريه فذلك المدّ. قال: وفي البحر سمكة يقال لها الخراطيم مثل الحيّة لها منقار كمنقار الكركيّ، وفي منقارها من الشقّين كالمنشار. وفيه سمكة يقال لها الأطمر لها فرج كفرج المرأة، ووجهها كوجه الخنزير، وهو طبق من شحم وطبق من لحم. وفي البحر سمك على خلقة القرود من جلوده تكون الدرق التي تنبو عنها السيوف، ويقال إنها تحيض وترضع وكذلك السلاحف. وفيه سمك يسمّى الدّخس ينجي الغريق. وفيه سمك إذا هاج البحر خرج من قعر البحر، فيعلم البحريّون أن البحر قد هاج، يسمّى البرستوج، وهو الذي يكون بالبصرة. ويلي هذا البحر بحر يسمّى هركند، يقال إنه قاموس البحار كلّها، وفي هذا البحر جزيرة سرنديب، وفي هذه الجزيرة الجبل الذي أهبط عليه آدم، وعليه أثر

قدم آدم، وهو عظيم طويل، وعليه أنواع الأفاوية والطيب وفأر المسك، وفي بحره مغاص اللؤلؤ. وفي هذه الجزيرة ثلاثة ملوك، فالملك الأكبر منهم إذا مات قطع بأربع قطع وأحرق بالنار، ورجاله يتهافتون خلفه في النار حتى يحرقوا أنفسهم. وبعدها جزيرة الرامني وهي ثمان مائة فرسخ، وفيها عجائب كثيرة، وهي تشرع إلى بحر شلاهط والهركند، وفيها ملوك كثيرة، وبها الكركدن والكافور، وفيها معادن الذهب، وطعامهم النارجيل، ورجالهم أقوياء يصيدون الفيلة، وفيها بقمّ كثير يغرس غرسا، وحمله شبه الخرنوب، وطعمه مثل العلقم لا يؤكل. ويقال. إن عروقه شفاء من سمّ ساعة، وفيها الخيزران الكثير وجواميس عظيمة، وملوك لهم الأفاوية الطيّبة كالصّندلين والبسباسة، وليس هذا لأحد غيرهم. وبالزابج ببغات بيض وحمر وصفر، تتكلّم على ما لقّنت بكلام فصيح، عربيّة وفارسيّة وروميّة وهنديّة. ومن الطواويس خضر ورقط وبزاة بيض لها قنازع حمر، وإن بها قردة بيضا عظاما كأمثال الجواميس، وبها خلق على صورة الإنسان يتكلّم بكلام لا يفهم يأكل ويشرب. وبها من السنانير ألوان ولها أجنحة كأجنحة الخفّاش من أصل الأذن إلى الذنب. وأن فأر المسك تحمل أحياء من السند إلى الزابج، وأن الزباد أطيب رائحة من المسك، والأنثى تجلب مسكا، وإذا مشى في بيت نفحت منه رائحة المسك، وإذا لمسته بيدك عبق بيدك «1» . وذكر سليمان التاجر: أن أكثر السفن الصينيّة تحمل من البصرة وعمان، وتعبأ بسيراف، وذلك لكثرة الأمواج في هذا البحر وقلّة الماء في مواضع منه، فإذا عبّى المتاع استعذبوا الماء إلى موضع منها

يقال له مسقط، وهو آخر عمان، وبين سيراف وهذا الموضع نحو مائتي فرسخ. وفي شرقيّ هذا البحر فيما بين سيراف ومسقط من البلاد سيف بني الصفّاق وجزيرة ابن كاوان. وفي غربيّ هذا البحر جبال عمان، وفيها الموضع الذي يسمّى دردور وهو مضيق بين جبلين، تسلكه السفن الصغار ولا تسلك فيه الصينيّة، وفيه جبلا كسير وعوير، فإذا جاوزت الجبال صرت إلى موضع يقال له صحار عمان، فيستعذب الماء من مسقط من بئر بها وهناك جبل فيه رعاء غنم من بلاد عمان فتختطف «1» السفينة منها إلى بلاد الهند، وتقصد إلى كولو ملي، وفيها مسلحة لبلاد الهند وبها ماء عذب، فإذا استعذبوا من هناك الماء أخذوا من المركب الصينيّ ألف درهم ومن غيرها عشرة دنانير إلى العشرين الدينار، وملي من بلاد الهند. وبين مسقط وبين كولو ملي مسيرة شهر، وبين كولو ملي وبين الهركند نحو من شهر. ثم يختطف من كولو ملي إلى بحر الهركند، فإذا جاوزوه، صاروا إلى موضع يقال له كله بار بينه وبين هركند جزائر قوم يقال لهم لنج «2» ، لا يعرفون لغة، ولا يلبسون الثياب كواسج، لم ير منهم امرأة، يبيعون العنبر بقطع الحديد، ويخرجون إلى التجّار من الجزيرة في زواريق ومعهم النارجيل، وشراب النارجيل يكون أبيض، فإذا شرب منه فهو حلو كالعسل، فإذا ترك يوما صار مسكرا، فإن بقي أيّاما حمض فيبيعونه بالحديد، ويتبايعون بالإشارة يدا بيد، وهم حذّاق بالسباحة، فربّما استلبوا الحديد من التجّار ولا يعطونهم شيئا، ثم تخطف السفينة إلى موضع يقال له كله بار، وهي من مملكة الزابج متيامنة عن بلاد الهند، يجمعهم ملك ولباسهم الفوط، ثم يتخطف إلى موضع يقال له تيومة، بها ماء عذب والمسافة إليها عشرة أيّام، ثم إلى موضع يقال له كدرنج «3» مسيرة عشرة أيّام بها ماء عذب، وكذلك في سائر جزائر الهند إن احتفر فيها الآبار وجد فيها الماء

العذب، وبها جبل مشرف. ثم يخطف إلى موضع يقال له الصّنف، ثم إلى موضع يقال له صندرفولات «1» ، وهي جزيرة في البحر، والمسيرة إليها عشرة أيّام، ثم إلى موضع يقال له صنج إلى أبواب الصين، وهي جبال في البحر، بين كلّ جبلين فرجة تمرّ فيها السفن، ثم إلى الصين. ومن صندرفولات إلى الصين مسافة شهر، إلّا أن الجبال التي تمرّ بها السفن مسيرة سبعة أيّام، فإذا جاوزت الأبواب صرت إلى ماء عذب يقال له خانفو، يكون فيه مدّ وجزر في اليوم والليلة مرّتين «2» . وبقرب الصين في موضع يقال له صنجي وهو أخبث البحار. [كثير الموج والخب وفيه جبال كثيرة لا بدّ للمراكب من النفوذ بينها. وذلك أن البحر إذا عظم خبه وكثر موجه ظهر أشخاص] «3» شبيهون بصبيان الزنج طول أحدهم أربعة أشبار، يخرجون بالليل من الماء فيبيتون في السفينة ويدورون فيها، ولا يؤذون أحدا، ثم يعودون إلى البحر، فإذا رأوا ذلك كان علامة الريح التي تسمّى الخبّ، وهي أخبث الرياح، فيستعدّون لتلك الريح ويخفّفون المتاع. وقالوا: إذا رأوا أعلى دقل السفينة بهذا الموضع طائرا كأنه شعلة نار، فذلك عندهم من دلالة التخلّص، وإن في البحر طيرا يقال له جرشي، يكون قريبا من الساحل أعظم من الحمام، يتبعه طير يقال له جوانكرك، يشبه الحمام. فإذا ذرق الجرشي تلقّاه الجوانكرك بمنقاره فابتلعه. وأن بقرب الزابج جبلا يسمّى جبل النار لا يقدر على الدنوّ منه، يظهر بالنهار منه دخان، وبالليل لهب النار، يخرج من أسفله عين باردة عذبة وعين حارّة عذبة.

مقدمة الكتاب

جزيرة برطاييل: جزيرة قريبة من جزائر الزابج، سكانها قوم وجوههم كالمجان المطرقة وشعورهم كأذناب البراذين وبها الكركدن، وبها جبال يسمع فيها بالليل صوت الطبل والدف والصياح المزعجة، والبحريون يقولون إن الدجال فيها ومنها يخرج. وبها القرنفل ومنها يجلب، وذلك أن التجار ينزلون عليها ويضعون بضائعهم وأمتعتهم على الساحل ويعودون إلى مراكبهم ويلبثون فيها. فإذا أصبحوا ذهبوا إلى أمتعتهم فيجدون إلى جانب كل شيء من البضاعة شيئاً من القرنفل فإن رضيه أخذه وترك البضاعة. وإن أخذوا البضاعة والقرنفل لم تقدر مراكبهم على السير حتى يردّوا أحدهما إلى مكانه. وإن طلب أحدهم الزيادة فترك البضاعة والقرنفل فيزاد له فيه. وحكى بعض التجار أنه صعد هذه الجزيرة فرأى فيها قوما مردا وجوههم كوجوه الأتراك وآذانهم مخرمة ولهم شعور، هم على زي النساء، فغابوا عن بصره. ثم إن التجار بعد ذلك أقاموا يترددون إليها ويتركون البضائع على الساحل فلم يخرج إليهم شيء من القرنفل، فعلموا أن ذلك بسبب نظرهم إليهم، ثم عادوا بعد سنين إلى ما كانوا عليه. ولباس هؤلاء القوم ورق شجر يقال له اللوف يأكلون ثمرتها ويلبسون ورقها. ويأكلون حيوانا يشبه السرطان، وهذا الحيوان إذا خرج إلى البر صار حجرا صلدا. وهو مشهور يدخل في الأكحال، ويأكلون السمك والموز والنارجيل والقرنفل، وهذا القرنفل من أكله رطبا لا يهرم ولا يشيب شعره] «1» . الصين [أهل الصين يقولون بالتناسخ ويعملون بالنجوم ولهم كتب يشتغلون بها، والزنا عندهم مباح ولهم غلمان وقفوهم للواطة. كما أن الهند وقفوا الجواري على

الفرق ما بين بلاد الصين وبلاد الهند

البد «1» للزنا وذلك عند سفلتهم لا عند أهل التمييز. والملك وكلّ بالصناع ليرفع إلى الملك جميع المعمول، فما أراد من ذلك اشتراه لخزانته وإلّا يباع في السوق، وما فيه عيب يمزّقه. وحكي أنه ارتفع ثوب إلى الملك فاستحسنه المشايخ كلهم إلّا واحدا، فسئل عن عيبه فقال: إن هذا الثوب عليه صورة الطاووس وقد حمل قنو موز، والطاووس لا يقدر على حمل قنو الموز، فلو بعث الملك هذا الثوب هدية إلى بعض الملوك يقولون: أهل الصين ما يعرفون أن الطاووس لا يقدر على حمل قنو الموز. وبالصين دابة المسك، وهي دابة تخرج من الماء في كل سنة في وقت معلوم فيصطاد منها شيء كثير وهي شديدة الشبه بالظباء، فتذبح ويؤخذ الدم من سرّتها وهو المسك ولا رائحة له هناك حتى يحمل إلى غيرها من الأماكن. وبها الغضائر الصيني التي لها خواص وهي بيضاء اللون شفافة لا يصل إلى بلادنا منها شيء، والذي يباع في بلادنا على أنه صيني معمول بلاد الهند بمدينة يقال لها كولم. والصيني أصلب منه وأصبر على النار. وخزف الصين أبيض، قالوا: يترشح السم منه وخزف كولم أدكن. وطرائف الصين كثيرة: الفرند الفائق والحديد المصنوع الذي يقال له طاليقون يشترى بأضعافه فضة، ومناديل الغمر من جلد السمندل، والطواويس العجيبة، والبراذين الفرّة التي لا نظير لها في البلاد] «2» . الفرق ما بين بلاد الصين وبلاد الهند قالوا: ليس بالصين متاع أسرى ولا أحسن ممّا يحمله التجّار إلى العراق، فأما ما يبقى هناك فرديّ لا حسن له. ولباس أهل الصين كلّهم الحرير في الشتاء،

والصيف. يلبس الرجل منهم خمس سراويلات حرير لندوة أسفلهم. فأما هواؤهم، فحارّ، ولا يعرفون العمائم، وطعامهم الأرزّ، وملوكهم يأكلون خبز الحنطة واللحم، وليس فيهم كثير نخل، ويعمل نبيذهم، من الأرزّ، ولا يستنجون بالماء، ويأكلون الميتة، ونساؤهم يكشفن رؤوسهن، ويجعلن فيها الأمشاط. فربّما كان في رأس واحدة منهن عشرون مشطا من عاج، والرجال يغطّون رؤوسهم بشبه القلانس، وأهل الصين يلوطون بغلمان قد أقيموا لذلك بمنزلة الزواني للهند. وحيطان أهل الصين الخشب، وأكثرهم لا لحى لهم، حتى كأنهم لم تخلق لهم لحى. وأهل الصين يعبدون الأوثان، ولهم كتب لأديانهم. والهند لا يأكلون الحنطة، إنما يأكلون الأرزّ فقط، وتطول لحاهم حتى ربّما رأيت لأحدهم لحية ثلاثة أذرع، وإذا مات أحدهم حلق رأسه ولحيته، وهم يتلازمون بالحقوق، ويمنعون في الملازمة الطعام والشراب سبعة أيّام، وأهل الهند يقتلون ما أرادوا أكله ولا يذبحونه، يضربون هامته حتى يموت، ثم يأكلونه، ولا يغتسلون من جنابة، ولا يأتون النساء في محيض، وأهل الصين يأتون لأن آئينهم آئين المجوس. وأهل الهند لا يأكلون حتى يستاكوا ويغتسلوا، ولا يفعل ذلك أهل الصين، وبلاد الهند أوسع من بلاد الصين أضعافا، وبلاد الصين أعمر وليس لهم عنب، وليس بالبلدين جميعا نخل، وللهند السحر وهم جميعا يقولون بالتناسخ، ويختلفون في فروع دينهم، وأهل الهند أطبّاء حكماء منجّمون، ولهم خيل قليلة، وملوكهم لا يرزقون جندهم، إنما يدعوهم الملوك إلى الجهاد فيخرجون بنفقات أنفسهم. والهند لا مدائن لهم، ويلبسون القرطين ويتحلّون بأسورة الذهب الرجال والنساء، والهند تبيح الزنا ما خلا ملك قمار، فإنه يحرّم الزنا والشراب [وملكها يعاقبهم على شرب الخمر، فيحمي الحديدة بالنار وتوضع على بدن الشارب ولا تترك إلى أن تبرد. فربما يفضي إلى التلف. وينسب إليها العود القماري] «1» . وبلاد الصين أنزه وأحسن، ومدنهم عظيمة مشرفة محصنة مسوّرة، وبلادهم أصحّ وأقلّ أمراضا، وأطيب، لا تكاد ترى بها أعور ولا أعمى ولا ذا عاهة، ولهم عطاء

كديوان العرب «1» . ويقال إن بين الهند والصين ثلاثين ملكا، أصغر ملك بها يملك ما يملكه ملك العرب، وملوك الهند كلّهم يلبسون الحلي. وفي بلاد الهند مملكة يقال لها رهمى على ساحل البحر، وملكتهم امرأة وبلادها وبيّة، ومن دخل إليها من سائر الهند مات، فالتجّار يدخلونها لكثرة أرباحها، ثم تصير إلى بلاد الزابج، فلملك الكبير يقال له المهراج، تفسيره ملك الملوك، وليس بعده أحد، لأنه في آخر الجزائر، وهو ملك كثير الخير، وفيها غيضة فيها ورد، إذا أخرج من الغيضة احترق. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: فيما بين السند والهند أرض يقال لها كنام فيها بطّة من نحاس على عمود من نحاس، فإذا كان يوم عاشوراء نشرت البطّة جناحها، ومدّت منقارها، فيفيض من الماء ما يكفي زروعهم ومواشيهم وضياعهم إلى العام المقبل. وقمار من بلاد الهند، وأهل الهند تزعم أن أصل كتب الهند من قمار، وملكه مسيرة أربعة أشهر، وعبادتهم الأصنام كلّهم. وملك قمار يفترش أربعة آلاف جارية والعنبر يؤتى به من جزيرة شلاهط، والفلفل من ملي وسندان، والبقّم من ناحية الجنوب من شلاهط، والقرنفل والصندل والكافور وجوزبوا من الزابج، وهو من ناحية القبلة بقرب الصين من بلد يقال له فنصور، وماء الكافور والنيل من ناحية السند، والخيزران من بلد يقال له لنكبالوس وكله من ناحية خراسان، والقنى من عمان، والياقوت والألماس من سرنديب، وكذلك الكركدن والطاوس والببغاء والدجاج السنديّ وجميع أنواع العطر والصّيدلة. قالوا: ومبدأ بحر الصين من جبل قاف إلى أن يجيء إلى عبّادان والبصرة، وأول البحار التي تسلك إلى بلاد الصين بحر صنجى، وأوّل جبل فيه يدعى صندرفولات، وفيه حيّات ربّما ابتلعت البقر والرجل، فهو أشدّ البحار كلّها، وهو قليل المسافة، وعلى الجبل من الصيّادين خلق لهم شباك يكون في قعر البحر، فأهل المركب إذا رأوا بلاد الصين سألوا الصيّادين عن الريح فيخبرونهم بهيجان

البحر وسكونه، لأنه بحر إذا هاج فيه الريح فقليل من يسلم، وإنما يقطع في عشر أو ثمان إلى بلاد الصين إلى الأبواب، خاصّة أبواب الصين، وذلك البحر بحر كبير وفيه ملك يدعى المهراج، عظيم الملك في جزائره عجائب، وأنواع العطر، وينبت في بلاده الذهب نباتا، ويقال غلّته في كل يوم مائتا منا ذهب. [أتى رجل من الهند هذا الصنم وقد اتخذ لرأسه تاجا من القطن ملطخا بالقطران ولأصابعه كذلك وأشعل النار فيها، ووقف بين يدي الصنم حتى احترق] «1» .

القول في مكة قال، عبد الله بن عمرو بن العاص: سمّيت بكّة لأنها كانت تبكّ أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم- أي تدقّ- وقال إبراهيم بن أبي المهاجر: بكّة موضع البيت، ومكّة موضع القرية. وسمّيت بذلك لاجتذابها الناس من الآفاق. وقالوا: سمّيت بكّة لأن الأقدام تبكّ بعضها بعضها- أي تزدحم- وسمّي البيت العتيق لأنه أعتق من الجبابرة. وهي أمّ القرى، وأمّ الرّحم، لأن الرّحمة تنزل بها. ومن أسمائها: صلاح، وناسّة لقلّة الماء بها، وبنيّة الأمين. قال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : «ما من نبيّ هرب من قومه إلّا هرب إلى الكعبة يعبد الله فيها حتى يموت» وقال (عليه السلام) : «إن قبر هود وشعيب وصالح فيما بين زمزم والمقام، وإن في الكعبة قبر ثلاثمائة نبيّ، وما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود قبر سبعين نبيّاً» وقال (صلى الله عليه وسلم) : «من مات في حجّ أو. عمرة لم يعرض ولم يحاسب، وقيل له: أدخل الجنّة بغير حساب» . وقال (صلى الله عليه وسلم) : «من صلّى في الحرم صلاة واحدة كتب الله له ألف صلاة وخمس مائة صلاة» . وقال (صلى الله عليه وسلم) : «المقام بمكّة سعادة والخروج منها شقاوة» . وقال (صلى الله عليه وسلم) : «الحاجّ والعمّار وفد الله إن سألوا أعطوا، وإن دعوا أجيبوا، وإن أنفقوا أخلف عليهم لكلّ درهم ألف درهم» . وقال (صلى الله عليه وسلم) : «من صبر على حرّ مكّة تباعد منه جهنّم مسيرة مائة عام وتقرّبت منه الجنّة مسيرة مائتي عام» . وقال الكلبيّ: لمّا قال إبراهيم: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ... وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ الآية استجاب الله له فأمن فيه الخائف ورزق أهله من الثمرات، يجلب إليهم من الآفاق، وقيل قرية من قرى الشام، فيقال إنها الطائف وقال مقاتل: من نزل بمكّة والمدينة من غير أهلهما محتسبا حتى يموت دخل في

القول في مكة

شفاعة محمّد (صلى الله عليه وسلم) قال الله جلّ ذكره: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً ولم يقل مثابة للعرب دون العجم، إذ كان اسم الناس شاملًا للفريقين، فقد جعله الله مثابة للجميع، والدليل على ذلك قول الله عزّ وجلّ: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ الآية فمن شرف مكّة أمنه، ومقام إبراهيم فيه، وحجّ الأنبياء إليه، وأن أهلها في الجاهليّة كانت لقاحا لم يؤدّوا أتاوة قطّ، ولا ملكهم ملك، وكانوا يتزوّجون في أيّ القبائل شاءوا، ولا يشترط عليهم في ذلك ولا يزوّجون أحدا إلا بعد أن يشترطوا عليهم أن يكونوا حمسا على دينهم ويدان لهم وينتقل إليهم، فحمّسوا خزاعة ودانت لهم، وحمّسوا عامر بن صعصعة ودانت لهم، وحمّسوا ثقيفا ودانت لهم، سوى من حمّسوا من عدد الرجال، ثم فرضوا على العرب قاطبة أن يطرحوا أزواد الحلّ إذا دخلوا الحرم، وأن يخلعوا ثياب الحلّ، ويستبدلوا ثياب الحرم إمّا شرى أو عاريّة أو هبة، فإن أتى بذلك وإلا طاف بالبيت عريانا، وفرضوا على نساء العرب مثل ذلك، وكلّفوا العرب أن تفيض من المزدلفة، وهم بعد أعزّ العرب يتأمّرون على العرب قاطبة، وهم أصحاب الهريس والحرير والثريد والضيافة والأندية والفالوذج، وأول من ثرد الثريد منهم عمرو وهو هاشم بن عبد مناف وفيه يقول الشاعر «1» : عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... ورجال مكّة مسنتون عجاف ولهذا سمّي هاشما. ذكر البيت الحرام وما جاء فيه قال الله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ، عن وهب بن منبّه أنه قال: إن الله جلّ وعزّ لمّا أهبط آدم (عليه السلام) من الجنّة إلى الأرض حزن واشتدّ بكاؤه على الجنّة، فحباه الله بخيمة من خيام الجنّة، فوضعها له بمكّة في موضع الكعبة، قبل أن تكون الكعبة وكانت من ياقوتة حمراء، فيها قناديل من ذهب، وأنزل معها الركن، وهو يومئذ ياقوتة بيضاء، وكان كرسياً لآدم (عليه

السلام) وطول الحديث، قال: فمن فضائل البيت الحرام أنه لم يره أحد ممّن لم يكن رآه إلّا ضحك أو بكى، ومن فضائله أنه لا يسقط على ظهر الكعبة من الحمام إلا العليل منها، فإذا وقع عليه بريء، وتقبل الفرقة من الطير والحمام وغير ذلك حتى إذا تحاذت الكعبة افترقت فرقتين، ومالت عن ظهرها، ولم يطر على ظهرها طير قطّ ومن عجائب البيت والمسجد: كثرة الحمام بها، ولم يروا على طول الدهر ذرقة حمام ولا طير في المسجد ولا الكعبة ومن عجائبه: أمن الطير والوحوش والسباع بها، ودفع الله عنها شرّ الحبشة والفيلة، وحجّه النعمان بن المنذر وزاره وهو ملك نصرانيّ، فجلس في سفح أجياد فبال عليه خالد بن ثوّالة الكنانيّ فما كان عنده نكير لأهل مكّة. وماء زمزم دواء لكلّ مبتلى. وقال (صلى الله عليه وسلم) : «التضلّع من ماء زمزم براءة من النفاق» . [وكان ذرع زمزم من أعلاها إلى أسفلها ستين ذراعا] «1» وقال مجاهد في قول الله عزّ وجلّ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ قال: لو قال: واجعل أفئدة الناس تهوي إليهم لازدحمت عليه فارس والروم. قال قتادة: بنيت الكعبة من خمسة أجبل: طور سينا وطور زيتا، وأحد، ولبنان، وحراء، وثبير. وقال مجاهد: أسّس إبراهيم زوايا البيت بأربعة أحجار: حجر من حراء، وحجر من ثبير، وحجر من الطور، وحجر من الجوديّ. قال قتادة: فبنى إبراهيم البيت وجعل طوله في السماء سبعة أذرع، وعرضه اثنين وثلاثين ذراعا بين الركن الأسود إلى الركن الشامي الذي عنده الحجر من وجهه، وجعل عرض ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي الذي فيه الحجر اثنين وعشرين ذراعا، وجعل طول ظهرها من الركن الغربي إلى الركن اليماني أحد وثلاثين ذراعا، وجعل عرض شقّها اليماني من الركن الأسود إلى الركن اليماني عشرين ذراعا، وجعل بابها في الأرض مبوّب حتى كان زمن تبّع الحميري، فهو الذي بوّبها وكساها الوصائل ثياب حبرة ونحر عندها، ثم كساها النبيّ (عليه السلام) الثياب اليمانية، ثم كساها عثمان

القباطيّ، ثم كساها الحجّاج الديباج. قال: ومعاوية أول من طيّب الكعبة بالخلوق والمجمر، وأجرى الزيت لقناديل المسجد من بيت مال المسلمين، وبناه ابن الزّبير بعد ما بويع له بالخلافة، فلمّا قتل نقض الحجّاج بناءه وبناه على الأساس الأوّل، ثم وسّع المنصور مسجد الكعبة سنة ولي الخلافة، ثم زاد فيه المهديّ. قال: فطول البيت اليوم سبعة وعشرون ذراعاً، وعرضه في الحجر أحد وعشرون ذراعا، وذرع جوفها ما بين الركن الأسود إلى الركن اليماني بطن الكعبة خمسة عشر ذراعا وشبر، وما بين ركني الحجر ثمانية عشر ذراعا، وما بين الباب إلى الشاذروان خمسة أذرع، وعرض بابها أربعة أذرع وفيها ثلاث سوار اثنان منها صنوبر والوسطى ساج. وبعث عمر بن الخطّاب إلى البيت بهلالين كبيرين فعلّقا في الكعبة، وبعث عبد الملك بن مروان بالشّمستين، وبعث الوليد ابنه بقدحين، وبعث أبو العبّاس بالصّفحة الخضراء، وبعث أبو جعفر بالقارورة الفرعونيّة، وبعث المأمون بالصنم الذي وجّهه إليه ملك التّبّت وكان أسلم وله خبر طويل «1» . وذرع المقام ذراع وهو مربّع سعة أعلاه أربعة عشر إصبعا في مثله، ومن أسفله مثل ذلك، وفي طرفيه طوق من ذهب. وما بين الطرفين من الحجر من المقام بارز لا ذهب عليه، وطوله من نواحيه كلّها تسع أصابع، وعرضه عشر أصابع، وعرض الحجر حجر المقام من نواحيه إحدى وعشرون إصبعا، وسطه مربّع القادمان داخلتان في الحجر سبع أصابع، دخولهما منحرف ووسطه قد استدقّ من التمسّح به. والمقام في حوض مربّع حوله رصاص، وعلى الحوض صفائح من رصاص مكسّر، وعلى المقام صندوق ساج في طرفيه سلسلتان تدخلان في أسفل الصندوق، وعليهما قفلان. قال: وذرع المسجد اليوم مائة ألف ذراع وعشرون ألف ذراع مكسّر، وعرضه من باب النّدوة إلى الجدار الذي يلي الوادي عند باب الصّفا ثلاثمائة ذراع وأربعة أذرع، وعرض المسجد من المنارة التي عند المسعى إلى المنارة التي عند باب بني شيبة الكبير مائتا ذراع وثمانية وسبعون ذراعا، وفيه من الأساطين أربع مائة وخمس وستّون أسطوانة، طول كلّ أسطوانة عشرة أذرع،

وتدويرها ثلاثة أذرع. وعدد أبواب المسجد في الشقّ الشرقيّ خمسة أبواب، وفي الغربيّ ستّة أبواب، وفي اليماني سبعة أبواب، وفي الشقّ الشاميّ ستّة أبواب، وذرع الطواف مائة ذراع وخمسة أذرع. وحدود الحرم من طريق المدينة على ثلاثة أميال، ومن طريق جدّة على عشرة أميال، ومن طريق اليمن على سبعة أميال، ومن طريق الطائف على أحد عشر ميلا، ومن طريق العراق على تسعة أميال، ومن بغداد إلى مكّة مائتان وخمسة وسبعون فرسخا وثلثا فرسخ «1» تكون ثمانية وخمسين بريدا. ومن البريد إلى البريد عشرون ميلا، وبين كلّ بريدين مشرف وكلّ ثلاثة أميال فرسخ، ومن مكة إلى عرفات اثنا عشر ميلا.

مدينة الطائف اسمها وجّ، وسمّيت الطائف بذلك الطوف الذي أحاطه عليها قسيّ وهو ثقيف وكانت الطائف مهربا وملجأ لكلّ هارب، وبالطائف وهط عمرو بن العاص، وهو كرم كان يعرش على ألف ألف خشبة، شرى كلّ خشبة ألف درهم، والوهط عند العرب دقّ التراب، يقال تراب موهط أي مدقوق. وحجّ سليمان بن عبد الملك فمرّ بالوهط وقال: أحبّ أن أنظر إليه، فلمّا رآه قال: هذا أكرم مال وأحسنه، وما رأيت لأحد مثله، لولا هذه الحرّة في وسطه. فقيل له: ما هذه بحرّة ولكنها زبيبه، وقد كان جمع في وسط الضيعة، فلمّا رآها من بعيد ظنّ أنها حرّة سوداء فقال: لله درّ قسيّ بأيّ عشّ وضع أفرخه «1» .

القول في المدينة يروى عن النبيّ (عليه السلام) أنه قال: للمدينة عشرة أسماء هي: طيبة، والباقية، والموفّية، والمسكينة، والمباركة، والمحفوفة، والمحرّمة، والعذراء، والمسلمة، والمقدّسة، والشافية، والمرزوقة. فمن فضلها على غيرها أن وهب بن منبه قال: إني لأجد في بعض الكتب أن مهاجر النبي الأميّ العربيّ إلى بلد يقال لها طيابا، وتفسير ذلك أنها طويت بالبركة، وقدّس هواءها، وطيّب ترابها، فيها مهاجره، وموضع قبره، ومن مشى بالمدينة شمّ بها عرفا طيّبا. وقال أبو البختري: هي أرفع الأرض كلّها، ولا يدخلها طاعون ولا دجّال، وبظاهر بيدائها يخسف بالدجّال، وبها نزل القرآن وفرضت الفرائض وسنت السنن، وبها أصول الدين والسنن والأحكام والفرائض والحلال والحرام، وبها روضة من رياض الجنّة، ودعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يبارك لهم في صاعهم ومدّهم وسوقهم وقليلهم وكثيرهم، وبها آثار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومساجده وقبره وقبور أصحابه وأعمامه وأزواجه، وكلّ بلد في دار الإسلام فإنما فتح بالسيف إلّا المدينة فإنها افتتحت بالإيمان. وقال (صلى الله عليه وسلم) : «غبار المدينة دواء من الجذام» وقال: «حبّ أهل المدينة محنة فإن منافقا لا يحبّهم ومؤمنا لا يبغضهم» وقال (عليه السلام) : «أهل المدينة الشعار والناس الدثار» وقال: «المدينة معلّقة بالجنّة» . قال: ولمّا حجّ معاوية حرّك المنبر يريد أن يخرج به إلى الشام فانكسفت الشمس، فقال جابر بن عبد الله: بئس ما صنع معاوية ببلد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومهاجره الذي اختاره الله له، والله ليصيبنّ معاوية شيء في وجهه، فأصابته اللّقوة نسأل الله العافية.

مدينة الطائف

فلمّا قدم النبيّ المدينة أقطع الناس الدور فخطّ لبني زهرة في ناحية مؤخّر المسجد، وجعل للزّبير بن العوّام بقيعا واسعا، وجعل لطلحة موضع داره، ولآل أبي بكر موضع داره عند المسجد الذي صار لآل معمر، ولخالد وعمّار موضع داريهما، وخطّ لعثمان موضع داره اليوم، ويقال إن الخوخة التي في دار عثمان اليوم تجاه باب النبيّ (صلى الله عليه وسلم) كان يخرج منها إذا دخل بيت عثمان بن عفّان. ذكر مسجد المدينة قال (صلى الله عليه وسلم) : «من جاء إلى مسجدي لا يريد إلّا الصلاة في مسجدي والتسليم عليّ شهدت وشفعت له، ومن سلّم عليّ ميّتا فكأنما سلّم عليّ حيّا» وكان بناء المسجد على عهد النبيّ (صلى الله عليه وسلم) باللبن وسقفه جريد، وعمده خشب النخل، فزاد فيه عمر، ثم غيّره عثمان وبناه بالحجارة المنقوشة والقصّة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه ساجا. وبناه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وله بابان شارعان: باب عائشة والذي يقال له باب عاتكة، وباب في مؤخّر المسجد إلى دار مليكة: وأول من حصّب المسجد عمر قال: والأساس اليوم معمول بالحجارة، والجدران بالحجارة المطابقة، وعمد المسجد من حجارة حشوها عمد الحديد والرصاص، وكان طوله مائتي ذراع وعرضه مائتي ذراع، وهو معنّق ومعنّق سقف دون سقف، والمحراب والمقصورة من ساج. وتراب المدينة وهواؤها أطيب ريحا من رائحة الأفاويه بسائر البلدان، ويكتفي بالمدينة الرجل الأكول بقرصتين، ولا يكتفي في غيرها بخمسة أرغفة، وليس ذلك لغلظ فيه أو فساد في حبّه وطحنه، ولو كان كذلك لظهر في التخم، ولهم الفقه والصحبة، ولهم حبّ البان. ومنها يحمل إلى جميع البلدان- وهي حشيشة تنبت في باديتها- وجبلها أحد، قال رسول الله: رضوى رضي الله عنه، وقدس قدّسه الله، وأحد جبل يحبّنا ونحبّه، جاءنا سائرا إلينا متعبّدا، له تسبيح يزفّ زفّا ومن عجائبها جبل العرج الذي بين المدينة ومكّة، يمضي إلى الشام حتى يتّصل بلبنان من حمص، ويمرّ حتى يتّصل بجبال أنطاكية والمصّيصة، ويسمّى هناك

اللّكام، ثم يتّصل بجبال ملطية وشمشاط وقاليقلا إلى بحر الخزر، وفيه باب الأبواب يسمّى هناك القبق وعليه سبعون لسانا لا تعرف اللغة اللغة واللسان اللسان إلّا بترجمان. والعقيق خارج المدينة ولمّا رآها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «لو علمنا بهذه أوّلا لكانت المنزل» وقصر عروة بن الزبير بالعقيق، وسئل بعضهم لمّ سمّي العقيق عقيقا؟ قال: لأن سيله عقّ في الحرّة، وبها الجمّاوات الثلاث: [فمنها جمّاء تضارع التي تسيل إلى قصر أم عاصم وبئر عروة وما والى ذلك وفيه يقول أحيحة بن الجلاح: إني والمشعر الحرام وما ... حجت قريش له وما نحروا لا آخذ الخطّة الدنية ما ... دام يرى من تضارع حجر ومنه مكيمن الجماء وفيه يقول سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت: عفا مكمن الجماء من أم عامر ... فسلع عفا منها فحرّة وأقم ثم الجماء الثانية: جماء أم خالد التي تسيل على قصر محمد بن عيسى الجعفري وما والاه. وفي أصلها بيوت الأشعث من أهل المدينة، وقصر يزيد بن عبد الملك بن المغيرة النوفلي- وفيفاء الخبار من جماء أم خالد. والجماء الثالثة: جماء العاقر وبها بئر رومة- ويقال أرومة- وبئر أريس وبئر بضاعة. وبينها- جماء العاقر- وبين جماء أم خالد فسحة، وهي تسيل على قصور جعفر بن سليمان وما والاها. وإحدى هذه الجماوات أراد أبو قطيفة بقوله: القصر فالنخل فالجماء بينهما ... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون إلى البلاد فما حازت قرائنه ... دور نزحن عن الفحشاء والهون قد يكتم الناس أسرارا وأعلمها ... وليس يدرون طول الدهر مكنوني] «1»

ويقال: إن ماء بئر رومة أعذب ماء بالعقيق. وفي العقيق وقصوره وأوديته وحراره أخبار كثيرة. وللزبير بن بكار فيه كتاب مفرد «1» . [خاخ: في حدود العقيق، وهو بين الشوطي والناصفة. قال الأحوص بن محمد: طربت وكيف تطرب أم تصابى ... ورأسك قد توشّح بالقتير لغانية تحلّ هضاب خاخ ... فأسقف فالدوافع من حضير خفيّة: في أرض العيق بالمدينة قال الشاعر: وننزل من خفيّة كل واد ... إذا ضاقت بمنزله النعيم العشيرة: من أودية العقيق. قال عروة بن أذينة: يا ذا العشيرة قد هجت الغداة لنا ... شوقا وذكّرتنا أيامك الأولا ما كان أحسن فيك العيش مؤتنقا ... غضا وأطيب في آصالك الأصلا ذو الضروبة ثم ذو الغرّاء: من عقيق المدينة قال أبو وجزة: كأنهم يوم ذي الغراء حين غدت ... نكبا جمالهم وللبين فاندفعوا لم يصبح القوم جيرانا فكل نوى ... بالناس لا صدع فيها سوف ينصدع الجنينة: موضع بالعقيق] «2» . وفي عالية المدينة: قبا. ومما يلي الشام: خيبر، ووادي القرى، وتيماء، ودومة الجندل، وفدك،- وهو أقربها إلى المدينة-.

الفرق بين تهامة والحجاز

ومن عمل المدينة: مرّان، وقبا، والدثينة- ويقال الدفينة- وفلجة، وضريّة، وطخفة، وإمرة، وأضاح، ومعدن الحسن، وبئر غرس بقبا، وبئر بضاعة بالمدينة، وكانوا يستشفون بمائها. [عبلاء البياض: موضعان من أعمال المدينة وعبلاء الهرد. والهرد نبت به يصبغ أصفر. غمرة: من أعمال المدينة على طريق نجد أغزاها النبي (صلى الله عليه وسلم) عكّاشة بن محصن. فأما أعراض المدينة فأضخمها الفرع وبه منزل الوالي وبه مسجد صلى به النبي (صلى الله عليه وسلم) ] «1» . الفرق بين تهامة والحجاز قال الأصمعيّ: إذا خلفت عجلزا مصعدا فقد أنجدت، فلا تزال منجدا حتى تنحدر في ثنايا ذات عرق، فإذا فعلت ذلك فقد اتهمت، وإنما سمّي الحجاز حجازا لأنه يحجز بين تهامة ونجد. وقال ابن الأعرابي، الجزيرة ما كان فوق بقّة، وإنما سمّيت الجزيرة لأنها تقطع الفرات ودجلة، وبعد تقطع البرّ، وإنما سمّيت الموصل لأنها وصلت بين الجزيرة والشام. وقال ابن الكلبيّ: الحجاز ما يحجز بين تهامة والعروض، وما بين اليمن ونجد. وقال جعفر: أودية نجد تسيل مشرّقة وأودية تهامة تسيل مغرّبة وقد قيل: فرق ما بين الحجاز ونجد أنه ليس بالحجاز غضا فما أنبت الغضا فهو نجد وما أنبت الطّلح والسّمر والأسل- وواحده أسلة- فهو حجاز وقال الأصمعيّ: طرف تهامة من قبل الحجاز مدارج العرج، وأوّل تهامة من قبل نجد ذات عرق. وقالوا: طول تهامة ما بين جبل السّراة إلى شطّ البحر، وطول الحجاز من حدّ العرج إلى السّراة فطائف. والمدينة من نجد وأرض اليمامة والبحرين إلى عمان من العروض وتهامة تساير البحر.

[زينة: واد طوله عشرون يوما في نجد وأعلاه في السراة ويسمى عقيق تمرة. السقيا: من أسافل أودية تهامة. شعر: جبل بالحمى، ويوم شعر بين بني عامر وغطفان عطش يومئذ غلام شاب يقال له الحكم بن الطفيل فخشي أن يؤخذ فخنق نفسه فسمي يوم التخانق. قال البريق الهذلي: سقى الرحمن حزم ينابعات ... من الجوزاء أنواء غزارا بمرتجز كأن على ذراه ... ركاب الشام يحملن البهارا يحط العصم من أكناف شعر ... ولم يترك بذي سلع خمارا] «1»

القول في اليمامة

القول في اليمامة سمّيت اليمامة بامرأة من طسم بنت مرّة، وكانت منازل طسم وجديس اليمامة وما حولها إلى البحرين، ومنازل عاد الأولى الأحقاف وهو الرمل ما بين عمان إلى عدن، وكانت مساكن غسّان بيثرب، ومساكن أميم بالرمل، ومساكن جرهم بتهائم اليمن، ثم لحقوا بمكّة فنزلوا على إسماعيل، وكانت منازل العماليق موضع صنعاء اليوم ثم خرجوا فنزلوا مكّة، ولحقت طائفة منهم بالشام ومصر، وتفرّقت طائفة منهم في جزيرة العرب إلى العراق، ويقال: إن فراعنة مصر كانوا من العماليق منهم فرعون إبراهيم (عليه السلام) واسمه سنان بن علوان، وفرعون يوسف اسمه الرّيّان بن الوليد وفرعون موسى اسمه الوليد بن مصعب، وملك الحجاز رجل من العماليق يقال له الأرقم، وكان الضحّاك من العماليق غلب على ملك العجم بالعراق وهو فيما بين موسى وداود. صفة اليمامة وأوديتها اليمامة واديان يصبّان من مهبّ الشمال، ويفرغان في مهبّ الجنوب، وعيون اليمامة كثيرة فيها عين يقال لها الخضراء، وعين يقال لها الهيت، وعين بجوّ تجري من جبل يقال له الرّام، وهو جبل معترض مطلع اليمامة يحول بينها وبين يبرين والبحرين والدّوّ والدّهناء، وبجوّ عين يقال لها الهجرة ولا يشرب ماؤها لخبثه، وبالمجازة نهران وبأسفلها نهر يقال له سيح الغمر، وبأعلاها قرية يقال لها نعام، بها نهر يقال له سيح نعام، وأوّل ديار ربيعة باليمامة مبدأها من أعلاها أوّلها دار هزّان قال: واليمامة لبني حنيفة، والبحرين لعبد القيس، والجزيرة لبني تغلب، وذات النّسوع قصر باليمامة، والمشقّر فيما بين نجران والبحرين، وبتيل حجر عليه

قصر مشيّد عجيب من بناء طسم، ومعنق قصر عبيد بن ثعلبة وهو أشهر قصور اليمامة من بناء طسم على أكمة مرتفعة، والثّرمليّة حصن من حصون طسم، ويقول أهل اليمامة: غلبنا أهل الأرض شرقها وغربها بخمس خصال: ليس في الدنيا أحسن ألوانا من نسائنا، ولا أطيب طعاما من حنطتنا، ولا أشدّ حلاوة من تمرنا، ولا أطيب مضغة من لحمنا، ولا أعذب من مائنا، فأما قولهم في نسائهم فإنهنّ درّيّات الألوان كما قال ذو الرّمّة: كأنّها فضّة قد مسّها ذهب وكقول امرئ القيس: كبكر المقاناة البياض بصفرة وذلك أحسن الألوان، ويقال لا تبلغ مولّدة مائة ألف درهم إلّا يماميّة، وأمّا حنطتهم فتسمّى بيضاء اليمامة وهي عذي لا سقي، يحمل منه إلى الخلفاء، وأمّا تمره فلو لم يعرف فضله إلا أن التمر ينادى عليه بين المسجدين: يماميّ اليمامة، يماميّ اليمامة، فيباع كلّ تمر ليس من جنسه بسعر اليماميّ، وبها أصناف التمور، وبها نخلة تسمّى العمرة، ويقال إنها نخلة مريم، وجمعها العمر، والجداميّة تمر ينفع من البواسير والصفرقان- تمرة سوداء طيّبة- والحضريّ، والهجنة، والبرديّ، والصفراء، والقعقاعيّ، واللّصف، والصفر، والصفايا، والتّعضوض، والعمانيّ، والجعاب، والمرّيّ، وخرائف بني مسعود، والصّرفان، والزّغريّ، والصّنغانة، وزبّ رباح: يقال في المثل: الذّ من زبد بزب، وصرفان، جلاجل، والخيل، هذه كلّها تمور اليمامة ألوان ملوّنة. قالوا: أجود تمر عمان: الفرض، والبلعق، والخبوت، وأجود تمر اليمامة: البرديّ، والزّرقاء، والجداميّة. وأجود تمر البحرين: التعضوض. والمكرى، والآزاذ. وأجود تمر الكوفة: النرسيان، والسابريّ. وأجود تمر البصرة: الآزاذ، والقريثاء. وأمّا لحم اليمامة فإنه يطيب لطيب مراعيهم وماؤهم نمير يجلو البلغم وينقّي الصدر، وفيها قالت الشعراء: أرقّ من ماء اليمامة واليمامة صرّة نجد ومدينة نجد حجر.

[إصاد: من أودية العلاة من أرض اليمامة] «1» . [الخضارم: حجر، مصر اليمامة ثم جوّ وهي الخضرمة وهي من حجر على يوم وليلة وبها بنو سحيم وبنو ثمامة من حنيفة] «2» . [العرائس: من جبال الحمى. عنيزة: من أودية اليمامة قرب سواج. عيهم: جبل بنجد على طريق اليمامة إلى مكة، قال جابر بن حنيّ التغلبي: ألا يا لقومي للحديد المصرّم ... وللحلم بعد الزلة المتوهّم وللمرء يعتاد الصبابة بعد ما ... أتى دونها ما فرط حول مجرّم فيا دار سلمى بالصريمة فاللوى ... إلى مدفع القيقاء فالمتثلم أقامت بها بالصيف ثم تذكرت ... منازلها بين الجواء فعيهم] «3»

القول في البحرين

القول في البحرين قال أبو عبيدة: بين البحرين واليمامة مسيرة عشرة أيّام، وبين هجر مدينة البحرين وبين البصرة مسيرة خمسة عشر يوما على الإبل، وهي الخطّ، والقطيف، والآرة، وهجر. والبينونة، والزارة، وجواثا، والسابور، ودارين، والغابة، وقصبة هجر الصّفا، والمشقّر، والشّبعان، والمسجد الجامع في المشقّر، وبين الصفا والمشقّر نهر يجري يقال له العين، ومن قرى البحرين: الحوس، والكثيب الأكبر، والكثيب الأصغر، وأرض نوح، وذو النار، والمالحة، والذّرائب، والبديّ، والخرصان، والسّهلة، والحوجر، والوجير، والطّربال، والمنسلخ، والمرزي، والمطلع، والشّطّ، والقرحاء، والرّميلة، والبحرة، والرّجراجة، والعرجة، فهذه قرى بني محارب بن عمرو بن وديعة، وقرى بني عامر بن الحارث بن أنمار بن عمرو بن وديعة أضعاف هذه. وبين مكّة واليمن عشرون يوما. [سفار: بلد بالبحرين] «1» . الحزون قال أبو عبيدة: الحزن ما بين زبالة فما فوق ذلك مصعدا في بلاد نجد، وقال أبو سعيد الضّرير: الحزون ثلاثة: حزن بني جعدة وهم من ربيعة، ثم حزن يربوع، ثم حزن بني غاضرة. وأما واقصة فهي واقصة الحزون وهي دون زبالة، وإنما سمّيت واقصة الحزون لأن الحزون أطافت بها من كلّ ناحية.

والحرات

والحرّات في بلاد العرب ثمانية: حرّة بني سليم وهي سوداء، وحرّة لفلف. وحرّة بني هلال، وحرّة النار، وحرّة ليلى، وحرّة راجل، وحرّة وأقم، وحرّة ضرغد. والسّروات ثلاث: سراة بين تهامة ونجد أدناها بالطائف وأقصاها قرب صنعاء، والسروات أرض عالية وجبال مشرفة على البحر من المغرب، وعلى نجد من المشرق، والطائف من سراة بني ثقيف وهو أدنى السروات إلى مكّة، ومعدن البرم هي السراة الثانية بلاد عدوان في بريّة العرب وبها معدن البلّور، وهو أجود ما يكون في صفاء الماورد توجد القطعة فيها منا وأكثر، وقال الكنديّ: رأيت قطعة فيها مائة منا. والبراق برقة منشد ما بين بني تميم وبين بني أسد، وبرقة ثهمد لبني دارم، وبرقة ضاحك لبني دارم، وأبرق العزّاف لبني أسد، وأبرق الحنّان لبني فزارة، وإنما سمّي أبرق العزّاف لعزف الجنّ بها والحنّان لأنه يسمع الحنين بها، وأبرق النّعّار لطيّء وغسّان، وأبرق الرّوحان. والدارات في بلاد العرب سبع عشرة دارة، قال ابن حبيب، الدّور جمع دارة وكلّ أرض اتّسعت فأحاطت بها الجبال في غلظ أو سهولة فهي دارة فمن ذلك: دارة وشجى، ودارة جلجل، ودارة رفرف، ودارة مكمن، ودارة الجمد، ودارة الدّور، ودارة الكور، ودارة قطقط، ودارة صلصل، ودارة الجأب، ودارة العليق، ودارة مأسل، ودارة الخرج، ودارة رهبى، ودارة حيقور، والبهرة مثل الدارة لأن البهرة تكون في سهولة وغلظ جميعا .

القول في اليمن قال الكلبيّ: سمّيت اليمن لأن يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح أقبل بعد خروج ثلاثة عشر ذكرا من ولد أبيه، فنزل موضع اليمن فقالت العرب: تيمّن بنو يقطن فسمّيت اليمن ويقال بل سمّيت اليمن لأنها عن يمين الكعبة ولمّا جاء أهل اليمن قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : قد جاءكم أهل اليمن أرق قلوبا منكم وهم أوّل من جاءنا بالمصافحة. وقال: «الإيمان يمان والحكمة يمانية والإسلام يمان» وقال: «أهل اليمن زين الحاجّ» . وقال مجاهد في قول الله عزّ وجلّ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ قال: سبي اليمن قال: وقدم رجل على النعمان بن المنذر فقال: أخبرني عن أهل اليمن. فقال: أكثر الناس سيّدا وأكثرهم جمعا. قال: فأخبرني عن بني عامر! قال: أعجاز النساء وأعناق الظباء. قال: فتميم! قال: حجر إن وقعت عليه آذاك، وإن وقع عليك أذي. وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «إذا تعذّر على أحدكم الملتمس فعليه بهذا الوجه» وأشار إلى اليمن. وفي قوله عزّ وجلّ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ الآية قال: هم أهل اليمن، وفضائل كثيرة. قال: فاليمن ثلاثة وثلاثون منبرا قديمة، وأربعون محدثة، وسمّيت صنعاء بصنعاء بن أزال بن يقطن، وهو الذي بناها. وفي قوله عزّ وجلّ: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ قال: صنعاء. وقوله عزّ وجلّ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ قال: كان سليمان بن داود (عليه السلام) يغدو من إصطخر ويروح بصنعاء ويستعرض الشياطين بالرّيّ. قال: وصنعاء أطيب البلدان، وهي طيّبة الهواء كثيرة الماء، يشتون مرّتين، ويصيفون، مرّتين، [وكذلك أهل فران ومارب وعدن والشحر. وإذا

صارت الشمس إلى أول الحمل، صار الحر عندهم مفرطا. فإذا صارت إلى أول السرطان وزالت عن سمت رؤوسهم أربعة وعشرين، شتوا. ثم تعود الشمس إليهم إذا صارت إلى أول الميزان فيصيفون ثانية ويشتد الحرّ عليهم. فإذا زالت إلى الجنوب وصارت إلى الجدي شتوا ثانية، غير أن شتاءهم قريب من صيفهم. وكان في ظفار وهي صنعاء كذا. وظفار مشهورة على ساحل البحر ولعل هذه كانت تسمى بذلك قريب من القصور: قصر زيدان وهو قصر المملكة، وقصر شوحطان، وقصر كوكبان وهو جبل قريب منها وقد ذكر في موضعه. وكان لمدينة صنعاء تسعة أبواب وكان لا يدخلها غريب إلّا بإذن. كانوا يجدون في كتوبهم أنها تخرب من رجل يدخل من باب لها يسمى باب حقل. وكانت مرتبة صاحب الملك على ميل من بابها وكان من دونه إلى الباب حاجبان بين كل واحد إلى صاحبه رمية سهم. وكانت له سلسلة من ذهب من عند الحاجب إلى باب المدينة ممدودة وفيها أجراس، متى قدم على الملك شريف أو رسول أو بريد من بعض العمال حركت السلسلة فيعلم الملك بذلك فيرى رأيه] «1» . وأهل الحجاز واليمن يمطرون الصيف كلّه، ويخصبون في الشتاء فيمطر صنعاء وما والاها في حزيران وتموز وآب وبعض أيلول من الزوال إلى المغرب، يلقى الرجل الآخر منهم فيكلّمه فيقول: عجّل قبل الغيث لأنه لا بدّ من المطر في هذه الأيّام. وكان ابن عبّاس يقول: مجاهد عالم أهل الحجاز، وسعيد بن جبير عالم أهل العراق، وطاؤوس عالم أهل اليمن، ووهب عالم الناس. وباليمن من أنواع الخصب وغرائب الثمر وطرائف الشجر ما يستصغر ما ينبت في بلاد الأكاسرة والقياصرة، وقد تفاخرت الروم وفارس بالبنيان وتنافست

فيه، فعجزوا عن مثل غمدان، ومأرب، وحضرموت، وقصر مسعود، وسدّ لقمان، وسلحين، وصرواح، ومرواح، وبينون، وهندة، وهنيدة، وفلثوم، بريدة قال: أبعد بينون لا عين ولا أثر ... وبعد سلحين يبني النّاس بنيانا وبصنعاء غمدان قصر عجيب قد بني على أربعة أوجه: وجه بالجروب الأبيض، ووجه بالجروب الأصفر، ووجه بالجروب الأحمر، ووجه بالجروب الأخضر،- والجروب الحجارة- وابتني في داخله على ما أتقن من أساسه قصرا على سبعة سقوف، بين كلّ سقفين أربعون ذراعا، وسقفه من رخامة واحدة، وجعل على كلّ ركن تمثال أسد من شبه كأعظم ما يكون من الأسد، فكانت الريح إذا هبّت من ناحية تمثال من تلك التماثيل دخلت جوفه من دبره، ثم خرجت من فيه، فيسمع له زئير كزئير الأسد. وكان يأمر بالمصابيح فتسرج في بيوت الرخام إلى الصبح، فكان القصر يلمع من ظاهره كلمع البرق، فإذا أشرف الإنسان ليلا قال: أرى بصنعاء برقا شديدا ومطرا كثيرا، ولا يعلم أن ذلك من ضوء السّرج، فكان كذلك حتى أحرق، وعلى ركن من أركانه مكتوب: اسلم غمدان هادمك مقتول، فهدمه عثمان بن عفّان فقتل. وقالوا: إن الذي بناه سليمان بن داود وذلك أنه أمر الشياطين أن يبنوا لبلقيس ثلاثة قصور بصنعاء أحدها غمدان وسلحين وبينون وفيها يقول الشاعر: هل بعد غمدان أو سلحين من أثر ... وبعد بينون يبني النّاس بنيانا وقال أبو عبيدة: لأهل اليمن أربعة أشياء ليست لغيرهم: الركن اليماني في القبلة، وسهيل اليماني في السماء، والبحر اليماني في الجور، واليمن في البلدان، ولهم الخطّ المسند، وعقد الجمّل، والحساب، والخطّ الحميريّ، وقال الكلبيّ، علوج مصر القبط، وعلوج الشام جراجمة، وعلوج الجزيرة جرامقة، وعلوج السواد نبط، وعلوج السند سبابجة، وعلوج عمان المزون، وعلوج اليمن سامران، ويحمل العقيق من مخاليف صنعاء وأجوده ما أتي به من معدن يسمّى مقرى، وقرية

أخرى تسمّى الهام، وجبل يقال له قساس، فيعمل بعضه باليمن، ويحمل بعضه إلى البصرة، وحدث يزيد بن هارون «1» عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : قال لي جبرئيل: يا محمّد تختّم بالعقيق، فقلت: وما العقيق؟ قال: جبل باليمن يشهد لله بالتوحيد، ولي بالرسالة، ولك بالنبوّة، ولعليّ بالوصيّة، ولذريّته بالإمامة، ولشيعتهم بالجنّة، وبها معدن الجزع وهو أنواع، وجميع هذه الأنواع يؤتى بها من معدن العقيق، وأجود هذه الأنواع البقرانيّ وأثمنها، ومنه: العروانيّ، والفارسيّ والحبشيّ والمعسّل، والمعرق، وقال الأصمعيّ: أربعة أشياء قد ملأت الدنيا لا تكون إلّا باليمن: الورس، والكندر، والخطر، والعصب، فأما المعرق من الجزع فإنه يتّخذ منه الأواني لكبره وعظمه، ولهم الحلل اليمانية والثياب السّعديّة والعدنيّة والشبّ اليماني وهو ماء ينبع من قلّة جبل فيسيل على جانبه قبل أن يصل إلى الأرض فيجمد، فيصير هذا الشبّ اليماني الأبيض، ولهم الورس وهو شيء يسقط على الشجر كالترنجبين، ولهم البنك ويقال إنه من خشب أم غيلان، ومن أبنيتها القشيب الذي يقال له: أقفر من أهله القشيب وعن مكحول قال: أربعة مدن من مدن الجنّة: مكّة، والمدينة، وإيلياء، ودمشق، وأربعة من مدن النار: أنطاكية، والطّوانة، وقسطنطينيّة، وصنعاء. وبها سدّ أسعد الملك وهو سدّ بين جبلين، بحجارة مربّعة منقّشة بين الحجرين عمود من حديد من الأسفل إلى الأعلى، وقد رصّص ما بين الجبلين مقدار ميلين، وسمكه ثلاثمائة ذراع، تنصبّ إليه أودية وأنهار فيرتفع الماء حتى يسقوا مزارعهم وحدائقهم، وهو أعجب سدّ في الأرض، مكتوب عليه بالمسند أشياء كثيرة. ومن عجائب اليمن القردة وهي بها كثيرة جدّا، وفيهم قرد عظيم، في عنقه لوح يقال إنه عهد من سليمان بن داود صلّى الله عليه وعلى سيدنا محمد، ويقال: إن هذه القردة

وكّلهم سليمان بحفظ شياطين محبّسين في هذه الناحية من الجنّ ومن عجائبهم العدار وهو شيطان يتعرّض للنساء والرجال منهم، وله أير كالقرن صلابة فيجامعه في دبره فيموت من ساعته، وفي المثل: ألوط من عدار وباليمن قرية وبار وهي مسكن الجنّ، وهي أخصب بلاد الله وأنزهها، لا يقدر أحد على الدنو منها من الأنس، وقال أبو المنذر: وبار ما بين نجران وحضرموت، وزعمت العرب أن الله حين أهلك عادا وثمودا أن الجنّ سكنت في منازل وبار وحمتها من كلّ من أرادها، وأنها أخصب بلاد الله، وأكثرها شجرا، وأطيبها تمرا ونخلا وعنبا وموزا، فإن دنا اليوم من تلك البلاد إنسان متعمّدا أو غالطا حثوا في وجهه التراب، فإن أبي إلّا الدخول خبّلوه، وربّما قتلوه، وزعموا أن الغالب على تلك البلاد الجنّ والإبل الحوشيّة- والحوش من الإبل عندهم التي قد ضرب فيها فحول إبل الجنّ وهي من نسل إبل الجنّ- والهنديّة، والمهريّة، والعسجديّة، والعمانيّة، هذه كلّها قد ضرب فيها الحوش قال ذو الرّمّة: جرت رذايا من بلاد الحوش قال بعضهم: قدمنا البحرين فلحقنا أعرابيّ على ناقة له صغيرة قد أكل الجرب جنبها ومعنا إبل لم ير الناس مثلها فقلنا: يا أعرابيّ أتبيع ناقتك ببعض هذه الإبل؟ قال: والله لو أعطيتموني بها جميع إبلكم كلّها ما بعتكم. قلنا: فلك مائة دينار، فأبى، فقلنا: ألف دينار، فأبى، ونحن في كلّ ذلك نهزأ به فقال: لو ملأتم جلدها ذهبا ما بعتكم. قلنا: فأرنا من سيرها شيئا. قال: نعم، فسرنا فإذا نحن بحمير وحش قد عنّت فقال: أي الحمير تريدون أعرضه لكم؟ فقلنا: نريد عير كذا؟ فغمزها ثم زجرها فمرّت ما يرى منها شيء حتى لحقت الحمير ثم تناول قوسه فرمى فلم يخط الحمار، فلم يزل يرشقه حتى صرعه ولحقناه وقد ذبحه، فلمّا رأينا ذلك ساومناه بجدّ فقال: ليس عندي من نسلها إلّا ابن لها وابنة ولا والله لا أبيعها أبدا بشيء. وبأرض وبار النّسناس «1» ويقال: إن لهم نصف رأس وعين واحدة ويصادون

فيؤكلون. قال: وهو شيء له وجه كوجه الإنسان وإنما له يد ورجل في صدره، ويتكلّمون وهم في غياض هناك وباليمن جبل فيه شقّ يقال له شمخ، يدخل منها الرجل الضخم حتى ينفذ إلى الجانب الآخر ما خلا ولد الزنا فإنه يضيق عليه حتى لا يقدر أن ينفذ منه. قال المدائنيّ: كان أبو العبّاس السفّاح أبو الخلفاء يعجبه منازعة الناس، فحضر ذات ليلة إبراهيم بن مخرمة الكنديّ وناس من بلحارث ابن كعب وكانوا أخواله، وخالد بن صفوان فخاضوا في الحديث وتذاكروا مضر واليمن فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين إن اليمن الذين هم العرب الذين دانت لهم الدنيا، لم يزالوا ملوكا وأربابا ووزراء الملك منهم: النّعمانات والمنذرات والقابوسات، ومنهم غاصب البحر، وحميّ الدّبر وغسيل الملائكة، ومنهم من اهتز لموته العرش، ومكلّم الذئب «1» ، ومنهم البذّاخ والفتّاح والرمّاح، ومن له مدينة الشعر وبابها، ومن له أقفال الوفاء ومفاتحها، ومنهم الخال الكريم صاحب البؤس والنعيم، وليس من شيء له خطر إلا إليهم ينسب، من فرس رائع، أو سيف قاطع، أو درع حصينة، أو حلّة مصونة، أو درّة مكنونة، وهم العرب العاربة وغيرهم متعرّبة. قال أبو العبّاس: ما أظنّ التميميّ يرضى بقولك، ثم قال: ما تقول أنت يا خالد؟ قال: إن أذنت لي في الكلام تكلّمت، قال: تكلّم ولا تهب أحدا. قال: أخطأ المتقحّم بغير علم، ونطق بغير صواب، وكيف يكون ذلك لقوم ليست لهم ألسن فصيحة، ولا لغة صحيحة، ولا حجّة نزل بها كتاب، ولا جاءت بها سنّة،

وإنهم منّا لعلى منزلتين، إن جازوا حكمنا قتلوا، وإن جاروا عن قصدنا أكلوا، يفخرون علينا بالنعمانات والمنذرات والقابوسات وغير ذلك ممّا سيأتي، ونفخر عليهم بخير الأنام وأكرم الكرام محمّد عليه السلام، فلله به المنّة علينا وعليهم، لقد كانوا أتباعه به عرفوا، وله أكرموا، فمنّا النبيّ المصطفى والخليفة المرتضى، ولنا البيت المعمور والمشعر الحرام وزمزم والمقام والبطحاء مع ما لا يحصى من المآثر، فليس يعدل بنا عادل، ولا يبلغنا قول قائل، ومنّا الصدّيق والفاروق وذو النورين والوليّ والسبطان وأسد الله وذو الجناحين وسيف الله، وبنا عرفوا الدين، وأتاهم اليقين، فمن زاحمنا زاحمناه، ومن عادانا اصطلمناه. ثم أقبل خالد على إبراهيم فقال: أعالم أنت بلغة قومك؟ قال: نعم. قال: فما اسم العين؟ قال: الجحمة. قال: فما اسم السنّ؟ قال: الميذر. قال: فما اسم الأذن؟ قال: الصنّارة. قال: فما اسم الأصابع؟ قال: الشناتر. قال: فما اسم اللحية؟ قال: الزبّ. قال: فما اسم الذئب؟ قال: الكتع. قال: أفعالم أنت بكتاب الله؟ قال: نعم. قال: فإن الله عزّ وجلّ يقول إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وقال: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وقال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ فنحن العرب والقرآن علينا أنزل بلساننا، ألم تر أن الله عزّ وجلّ يقول وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِ ولم يقل الجحمة بالجحمة، والصنّارة بالصنّارة، والمَيْذَر بالمَيْذَر، وقال: جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ ولم يقل شناترهم في صنّاراتهم، وقال تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي ولم يقل بزُبّي، وقال: أَكَلَهُ الذِّئْبُ* ولم يقل أكله الكتع. ثم قال خالد: إنّي أسألك عن أربع خصال لا يجعل الله لك منها مخرجا، إن أقررت بهن قهرت، وإن جحدت بهن كفرت، قال: وما هي؟ قال: الرسول (صلى الله عليه وسلم) منّا أو منكم؟ قال: بل منكم. قال: القرآن علينا أنزل أو عليكم؟ قال: بل عليكم. قال: فالبيت لنا أم لكم؟ قال: بل لكم. قال: فالمنبر فينا أو فيكم؟ قال بل فيكم. قال: فاذهب فما كان بعد هذا فهو لكم. قال: فغلب خالد إبراهيم فأكرم أبو العبّاس خالدا وحباهما جميعا، فقام خالد وهو يقول ما أنتم إلّا سائس قرد، أو

دابغ جلد، أو ناسج برد، ملكتكم امرأة وغرّقتكم فأرة ودلّ عليكم الهدهد. [شبام: جبل عظيم بقرب صنعاء بينها وبينه يوم واحد، وهو صعب المرتقى ليس إليه إلّا طريق واحد. وذروته واسعة فيها ضياع كثيرة ومزارع وكروم ونخيل والطريق إليها في دار الملك. وللجبل باب واحد مفتاحه عند الملك، فمن أراد النزول إلى السهل استأذن الملك حتى يأذن بفتح الباب له. وحول تلك الضياع والكروم جبال شاهقة لا تسلك ولا يعلم أحد ما وراءها إلّا الله. ومياه هذا الجبل تنسكب إلى سدّ هناك، فإذا امتلأ السدّ ماء فتح ليجري إلى صنعاء ومخالفيها. وبها جبل كوكبان، إنه بقرب صنعاء عليه قصران مبنيان بالجواهر يلمعان بالليل كالكوكبين ولا طريق إليهما، قيل إنهما من بناء الجن. وبار: كانت أكثر الأرضين خيرا وأخصبها ضياعا وأكثرها شجرا ومياها وثمرا، فكثرت بها القبائل وعظمت أموالهم. وكانوا ذوي أجسام، فأشروا وبطروا لم يعرفوا حق نعم الله تعالى عليهم، فبدّل الله تعالى خلقهم وصيّرهم نسناسا لأحدهم نصف رأس ونصف وجه وعين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة. فخرجوا يرعون في تلك الغياض على شاطئ البحر كما ترعى البهائم، وهم فيما بين وبار وأرض الشحر وأطراف اليمن يفسدون الزرع فيصيدهم أهل تلك الديار بالكلاب، ينفرونهم عن زروعهم وحدائقهم] «1»

باب في تصريف الجدّ إلى الهزل والهزل إلى الجدّ قال منصور بن عمّار «1» : خرجت في ليلة قد قيّدت العيون ظلامها، وأخذ بالأنفاس حندسها، فما يسمع إلّا غطيط. ولا يحسّ إلّا نباح، فوجدت في بعض أبواب أهل الدنيا الذين قد سخّرهم زخرفها، وراقهم زبرجها، وشغف قلوبهم بهجتها، رجلا واقفا وهو يقول بصوت لم يسمع أحسن منه ولا أشجى لقلب ولا أقرح لكبد ولا أبكى لعين: أنا المسيء المذنب الخاطي ... المفرط البيّن إفراطي فإن تعاقب كنت أهلا له ... وأنت أهل العفو عن خاطي فلا والله أن ملكت نفسي، وتذكّرت ما سلف من ذنوبي، ووقفت كالواله المرعوب الحائر قد امتلأت من الله خوفا، وعملت على أنّي قد أحرزت وعظا فقلت: أيّها القائل ما أسمع والباكي على ما سلف زدنا من هذا، فإنّ دواءك قد وافق داء قديما فعسى أن يشفيه، فزاد في صوته بترجيع قوله الذي قرح، قلبي وذكّرني ذنبي، ثم قال: يا ساحرا أورطني حبّه ... وعشقه في شرّ إيراط قلت: قبحك الله واعظا وترّحك، وآجرني على وقفتي عليك وطلبي منك، وأنت تطيع الشيطان وتعصى الرحمن، ثم قلت: اللهمّ اغفر لي وتب عليه. وقال عوف بن مسكين: سمع الربيع بن خثيم في جوف الليل رجلا يقول:

بعفوك يستكين ويستجير ... عظيم الذّنب مسكين فقير رجاك لعفو ما كسبت يداه ... وأنت على الّذي يرجو قدير فقال الربيع: أسألك بحقّ من ترجوه لما تريد إلّا رددت ما تقول، فجعل يردّده، فقال الربيع: زدني يرحمك الله فقال: فقد علم الإله بما ألاقي ... من الحبّ الّذي ستر الضمير فقال الربيع: وا سوأتاه من استماعي دعاء لغير الله جلّ وعزّ. ومر سفيان الثّوريّ برجل يبكي ويقول: أتوب إلى الّذي أمسى وأضحى ... وقلبي يتّقيه ويرتجيه تشاغل كلّ مخلوق بشيء ... وشغلي في محبّته وفيه قال له سفيان: يا هذا لا تقنط كلّ هذا القنوط، ولا تيأس من الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده، وذنبك بين المقصّر والغالي، فإن كنت قد أسلفت ذنوبا فإنك من الإسلام لعلى خير كثير، استغفر الله وتب إليه، وأقلل من هذا البكاء، عصمنا الله وإيّاك، فنعم ما شغلت به نفسك، فقال الرجل: عسى قلب الممكّن من فؤادي ... يرقّ لترك طاعة عاذليه فقال سفيان: اللهمّ أعذنا من الحور بعد الكور: ولا تضلّنا بعد إذ هديتنا، أعزب عزب الله بك. وقال إبراهيم بن الفرج: مرّ خليل الناسك بغرفة مخلّد الموصليّ الشاعر وهو لا يعرفه فسمعه يقول: أسأت ولم أحسن وجئتك هاربا ... وأنّى لعبد غير مولاه مهرب فوقف الخليل ومخلّد يردّد البيت ويبكي، والخليل يبكي معه، ثم ناداه: يا قائل الخير عد، يا سائل الفضل زد، فقال مخلّد: نعم وكرامة يا أبا محمّد: غزال إذا قبّلته ولثمته ... رشفت له ريقا من الشّهد أطيب

فقال الخليل: سقاك الله حميما وغساقا. ثم قال: اللهمّ لا تؤاخذني بهذا الموقف ومضى. وخرج عمر بن الخطّاب يوما فإذا جوار يضربن بالدفّ ويغنّين ويقلن: تغنّين تغنّين ... فللهو خلقتنّ فجعل يضرب رؤوسهن بالدّرة ويقول: كذبتنّ كذبتنّ: فأخزى الله شيطانا ... رمى هذا إليكنّ وقال بعض المتعبّدين: كنت أماشي بعض الصوفيّة بين بساتين. البصرة فسمعنا ضارب طنبور يقول: يا صباح الوجوه ما تنصفونا ... أنتم زدتم القلوب فتونا كان في واجب الحقوق عليكم ... إذ بلينا بكم بأن ترحمونا قال فشهق شهقة ثم أفاق وقال: يا مغرور قل: يا صباح الوجوه سوف تموتو ... ن وتبلى خدودكم والعيونا وتصيرون بعد ذاك رميما ... فاعلموا ذاك إنّ ذاك يقينا ومر بعض الشعراء بنسوة فأعجبه شأنهن فأنشأ يقول: إنّ النّساء شياطين خلقن لنا ... أعوذ بالله من شرّ الشياطين فأجابته واحدة: إنّ النّساء رياحين خلقن لكم ... وكلّكم يشتهي شمّ الرياحين ومر حسين بن عليّ (رضي الله عنه) بنسوة فقال لهن: لولا أنتنّ لكنّا مؤمنين، فأجابته واحدة منهن وقالت: لولا أنتم لكنّا آمنين. وكان عمرو الجهنيّ ناسكا فدخل المسجد الجامع بالبصرة فوقف على حلقة النّهديّين والقرشيّين وأنشأ يقول:

ما جرت خطرة على القلب منّي ... منك إلّا استترت من أصحابي بدموع تجري وإن كنت وحدي ... خاليا أتبع الدّموع انتحابي أنت همّي ومنيتي وهواي ... ورجائي وغايتي وارتقابي قال: فتصوّب الحلق يستمنعون إليه فأقبل عليهم وقال: هذا يقوله مخلوق لمخلوق وتدعون الخيرات الحسان المقصورات في الخيام. وقال بشر بن أبي قبيصة: قلنا لأبي همّام- وقد كان غلب على عقله- تأمر في ميراثك عن أبيك؟ فأقبل علينا مغضبا وقال: يا بشر! أو يتوارث أهل ملّتين؟ قلت: ونحن أهل ملّتين؟ قال: نعم، أنتم تزعمون أن الله قضى الخير ولم يقض الشرّ، وأنا أزعم أن الله قضى الخير والشرّ، وأن من عذّبه الله عذّبه غير ظالم له، ومن رحمه فرحمته وسعت كلّ شيء. وقال عبد الله بن إدريس: مررت بابن أبي مالك وكان معتوها ذاهب العقل لا يتكلّم حتى يكلّم، فإذا كلّم أجاب جوابا معجبا، فقلت: يا ابن أبي مالك ما تقول في النبيذ؟ قال: حلال. قلت: أتشربه؟ قال: إن شربته فقد شربه وكيع وهو قدوة. قلت: تقتدي بوكيع في تحليله ولا تقتدي بي في تحريمه وأنا أسنّ منه؟ قال: قول وكيع مع اتّفاق أهل البلد معه أحبّ إليّ من مقالتك مع خلاف أهل البلد عليك. وقال عبد الله بن إدريس: مررت بابن أبي مالك فناديته فقال: ما تشاء؟ قلت: متى تقوم الساعة؟ قال: ما المسؤول بأعلم من السائل، غير أن من مات فقد قامت قيامته، والموت أوّل عدل الآخرة. قلت: فالمصلوب يعذّب؟ قال: إن كان مستحقّا فإن روحه يعذّب وما أدري لعلّ هذا البدن في عذاب من عذاب الله لا تدركه عقولنا وأبصارنا، فإن لله لطفا لا يدرك. وكان جالسا في موضع قد كان فيه رماد ومعه قطعة جصّ فكان يخطّ به فيستبين بياض الجصّ في سواد الرماد، فتبسّم فقلت له: أيّ شيء تصنع؟ قال: ما كان يصنع صاحبنا مجنون بني عامر. قلت: وما كان يصنع؟ قال: أو ما سمعته يقول:

عشيّة ما لي حيلة غير أنّني ... بلقط الحصى والخطّ في الدار مولع أخطّ وأمحو الخطّ ثم أعيده ... بكفّي والغزلان حولي ترتع قلت: ما سمعته، فتضاحك ثم قال: أما سمعت الله عزّ وجلّ يقول: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ أسمعته أم رأيته؟ يا ابن إدريس هذا كلام العرب. وقال خلف بن تميم: عدنا مريضا فقال رجل ممن كان في البيت: ناد ربّ الدار ذا المال الّذي ... جمع المال بحرص ما فعل فأجابه من ناحية البيت: كان في دار سواها داره ... علّلته بالمنى ثمّ ارتحل إنّما الدنيا كظل زائل ... طلعت شمس عليه فاضمحل وقال بعضهم: أحببت جارية من العرب ذات جمال وأدب، فما زلت أحتال في أمرها حتى التقينا في ليلة ظلماء شديدة السواد فقلت لها: طال شوقي إليك، قالت: وأنا كذلك، وإنّما تجري الأمور بالمقادير. فتحدّثنا ثم قلت: قد ذهب الليل وقرب الصبح، قالت: وهكذا تنفد اللذّات وتنقطع الشهوات، قلت: لو أدنيتني منك. قالت: هيهات إني أخاف الله من العقوبات، قلت: فما دعاك إلى الحضور في هذا الموضع الخالي؟ قالت: شقوتي وبلائي. قلت: فما أراك تذكريني بعد هذا، قالت: ما أراني أنساك وأمّا الاجتماع فما أراني أراك ثم ولّت عني وقالت: أخاف الله ربّي من عذاب ... شديد لا أطيق له اصطبارا قال: فاستحييت والله ممّا سمعت منها وانصرفت وقد ذهب عني بعض ما كنت أجد بها. قال: وكان سليمان بن عبد الملك شابّا وضيئا وكان يعجبه اللباس والخمرة، فلبس ذات يوم وتهيّأ ثم قال لجارية له حجازيّة: كيف ترين الهيئة؟ قالت: أنت أجمل الناس. قال: أنشديني على ذلك، فقالت:

أنت خير المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان أنت خلو من العيوب وممّا ... يكره الناس غير أنّك فان قال عبد الملك بن مروان يوما لجارية له: ألقيت على جلسائي صدر بيت فأعياهم إجازته. قالت: وما هو؟ قال: نروح إذا راحوا ونغدوا إذا غدوا ... فقالت: وعمّا قليل لا نروح ولا نغدو

باب في مدح الغربة والاغتراب قال الله عزّ وجلّ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ وقال: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وقال: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ وقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الآية، قال: وروى الزبير بن العوّام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيث ما أصبت خيرا فأقم، واتّق الله» وقال: «سافروا تغنموا» وقال (صلى الله عليه وسلم) : «موت الغريب شهادة» . قال أبو المليح: أتيت ميمون بن مهران وقلت له: إني أريد سفرا، فقال: اخرج لعلّك تصيب من آخرتك أفضل ما تؤمّل من دنياك، فإن موسى بن عمران خرج يقتبس نارا لأهله فكلّمه الله عزّ وجلّ، وخرجت بلقيس تطلب ملكها فرزقها الله الإسلام. وقال عمر (رضي الله عنه) : لا تلثّوا بدار معجزة- أي لا تقيموا. وقال سفيان الثّوريّ: لمّا خرج يوسف (عليه السلام) من الجبّ قال قائل منهم: استوصوا بالغريب خيرا، فقال يوسف: من كان الله معه فلا غربة عليه. وعن شريح بن عبيد قال: ما مات غريب في أرض غربة غابت عنه بواكيه إلّا بكت السماء عليه والأرض وأنشد: إنّ الغريب إذا بكى في حندس ... بكت النّجوم عليه كلّ أو ان وقال معاوية للحارث بن الحباب: أيّ البلاد أحبّ إليك؟ قال: ما حسنت فيه حالي وعرض فيه جاهي ثم أنشأ يقول:

فلا كوفة أمّي ولا بصرة أبي ... ولا أنا يثنيني عن الرّحلة الكسل وقرئ على باب خان طرسوس: ما من غريب وإن أبدى تجلّده ... إلّا سيذكر عند الغربة الوطنا وأسفل منه مكتوب: أير الحمار وأير البغل في قرن ... في است الغريب إذا ما حنّ للوطن وقال بعضهم: غرس المشقّة مع دوام الغربة يحبّبان الدعة، وحسن التعب يصيّر إلى محلّ الراحة. وقال بعضهم: اطلبوا الرزق في البعد فإنكم إن لم تغنموا مالا كثيرا غنمتم عقلا كبيرا وأنشد: لا يمنعنّك خفض العيش في دعة ... حنين نفس إلى أهل وأوطان تلقى بكلّ بلاد إن حللت بها ... أهلا بأهل وجيرانا بجيران هذا كما قيل في الأثر: ليس بينك وبين البلدان عداوة، فخير البلاد ما احتملك. وقال بعض المحدثين: وما بلد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله الأذنون غير الأصادق وقال آخر: وإذا الديار تنكّرت عن حالها ... فدع الديار وأسرع التحويلا ليس المقام عليك فرضا لازما ... في بلدة تدع العزيز ذليلا وقال آخر: إذا كنت في أرض تكرّهت أهلها ... فدعها وفيها إن رجعت معاد وقالوا: الراحة عقلة. وقال أحمد بن المعافى: إنّ التّواني أنكح العجز بنته ... وساق إليها حين زوّجها مهرا فراشا وطيّا ثمّ قال لها أتّكي ... فقصرهما لا شكّ أن يلدا الفقرا

نعوذ بالله منه، وقال آخر: أغرّك أن كانت لبطنك عكنة ... وأنّك مكفيّ بمكّة طاعم وقال الحطيئة: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... وأقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي وقالوا: قناعة الناس بالأوطان من النقص والفشل والطلب من علم التجارب والعقل. وقال أكثم بن صيفيّ: ما يسرّني أنّي مكفيّ أمر الدنيا، وأني أسمنت وألبنت. قالوا: ولم؟ قال: مخافة عادة العجز. وقالوا: لا توحشك الغربة إذا آنست بالكفاية، ولا تجزع لفراق الأهل مع لقاء اليسار. وقالوا: الفقر أوحش من الغربة، والغنى آنس من الوطن، وترك الوطن أدنى إلى فرح الإقامة. وقيل: الفقير في الأهل مصروم، والغنيّ في الغربة موصول. وقالوا: أوحش قومك. ما كان في إيحاشهم أنسك، واهجر وطنك ما نبت عنه نفسك. وقالوا: إذا عدمت أنكرك قريبك، وإن أثريت عرفك غريبك. وقال قسّ بن ساعدة: أبلغ العظات النظر إلى محلّ الأموات، وأفضل الذكر ذكر الله، وخير الزاد التقوى، وأحسن الجواب الصمت، وأزين الأمور الاحتمال، والحزم شدّة الحذار، والكرم حسن الاصطبار، وفي طول الاغتراب فوز الاكتساب. وقال آخر: تألّفوا النعم بحسن مجاورتها، والتمسوا المزيد بحسن الشكر، واغتربوا لتكسبوا، ولا تكونوا كالنساء اللاتي قد رضين بالكنّ واقتصرن على

القعود، فإن الغربة تخرّج الغمر، وتشجّع الجبان، وتحرّك المضطجع، وتزيد في بصيرة الماهر. وقال: الفقر في أوطاننا غربة ... والمال في الغربة أوطان وقال آخر: لا يألّف الوطن إلّا ضيّق العطن. وقال آخر: ما حنّ أحد إلى بلد جمع فيه شمله إلّا لوصمة في عقله، ولا تنزع بامرء نفسه إلى بلد قلّ به رفده إلّا لاستيلاء الموق عليه. وقالوا: الحنين إلى الأوطان من أخلاق الصبيان وفي طول الاغتراب فوز الاكتساب، وفي فائدة صالح الإخوان مع النزوح عن الأوطان سلوّ عن مقارنة الجيران، ولولا اغتراب الناس عن محالّهم ضاقت بهم البلدان وسئم ألّافهم الإخوان، ومن طالب أخاه بمحلّه قلّت هيبته وسئمه أهله وتمنّوا الراحة منه. قال: ولولا اغتراب المغتربين ما عرف ما بين الأندلس إلى الصين، ولا ردم الإسكندر السدود، ودوّخ الأقاليم، ومدّن المدن، وبخع له ملوكها بالطاعة، ولا قتل دارا بن دارا، ولا أسر الأساورة، ولا جمعت الملوك بين الصفائح اليمانية، والقضب الهنديّة، والرماح البلوصيّة، والأسنّة الخزريّة، والأعمدة الهرويّة، والأجرزنة «1» الأسروشنيّة، والخناجر الصّغديّة، والسروج الصينيّة، والدروع السابريّة والجواشن الفارسيّة، والقسيّ الشاشيّة، والأوتار التركيّة، والسهام الناوكيّة، والجعاب السجزيّة، والدرق المغربيّة، والأترسة التبّتيّة، والجلود الزّنجيّة، والنمور البربريّة، واللجم الخانبديّة والركب المروزيّة، والستور الصينيّة، والخيل الخزريّة، والكراسيّ القمّيّة، والشهاريّ البخاريّة والبغال الأرمنيّة، والحمير المريسيّة، والكلاب السلوقيّة، والبزاة الروميّة، والصوالجة النهاونديّة، والثياب المنيّرة

الرازيّة، والأكسية القزوينيّة، والثياب السعيديّة، والحلل اليمانية، والأردية المصريّة، والملاحم الخراسانيّة، والثياب الطاهريّة، والحلل الأندلسيّة، والدرّ العمانيّ، والياقوت السّرنديبيّ، والحرير الصينيّ، والخزّ السوسيّ، والديباج التّستريّ، والبزيون الروميّ، والكتّان المصريّ، والوشي الكوفيّ، والعتّابيّ الأصبهانيّ، ولا علم أن ببلاد المغرب ومصر عجائب لا تكون إلّا بها مثل منارة الإسكندريّة وعمود عين الشمس، والهرمان وجسر أذنة، وقنطرة سنجة، وكنيسة الرّها، وسور أنطاكية، والأبلق الفرد، وبرهوت، وهاروت، والفرس الذي في أقصى المغرب، والأسد الذي بهمذان، والسمكة والثور بنهاوند، وإيوان كسرى بالمدائن، وتخت شبديز في الطاق، وبناء قصر شيرين والدكّان، وأساطين قصر اللصوص، وعجائب رومية، والتمساح بالنيل، والرعّاد والسقنقور، وغير ذلك مما لا يحصى ولا يعدّ. وقالوا: أبعد الناس نجعة في الكسب بصريّ، وحميريّ، ومن دخل فرغانة القصوى، والسوس الأقصى، فلا بدّ أن يرى فيها بصريّا، أو حميريّا على أن أهل إصبهان والخوز معروفون بذلك، ويجد في كلّ بلد منهما صفّا قائما. وممّا قالوا في التقلّب في البلدان والتباعد في الأطراف قول أبي العتاهية في الرشيد: ولولا أمير المؤمنين وعدله ... إذا لبغى بعض البلاد على بعض وسيّارة هادون في الأرض بالهدى ... ليحكم بالإبرام لله والنّقض لئن كان ذو القرنين أدرك غاية ... لحسبك من هارون ما سار في الأرض وقال آخر في غزوة خراسان: وما كان ذو القرنين يبلغ سعيه ... ولا غزو كسرى للهياطلة الجرد وجوّاب آفاق وطلّاع أنجد ... وطلّاب وتر لا ينام على حقد وقال آخر في تقلّبه في البلاد: خليفة الخضر من يربع على وطن ... في بلدة فظهور العيس أوطاني بالشّأم داري وبغداذ الهوى وطني ... بالرّقمتين وبالفسطاط إخواني

وما أظنّ النّوى ترضى بما صنعت ... حتّى تسافر بي أقصى خراسان وقال الطائيّ: إن تراني ترى حساما صقيلا ... مشرفيّا من السّيوف الحداد ثاني اللّيل ثالث البيد والسّي ... ر نديم النّجوم ترب السّهاد كلّم الخضر لي يصيّرني بع ... دك عينا على عيار البلاد ليلة بالشام ثمّت بالأه ... واز يوما وليلة بالسّواد وطني حيث حطّت العيس رحلي ... وذراعي الوساد وهو مهادي وقال آخر في شبيه هذا المعنى: قبّح الله آل برمك إنّي ... صرت من أجلهم أخا أسفار إن يك ذو القرنين قد مسح الأر ... ض فإنّي موكّل بالعيار ويقول الشاعر للمعتصم بالله: تناولت أطراف البلاد بقدرة ... كأنّك فيها تبتغي أثر الخضر قال: وقد كانت للخلفاء فتوح ولكنّه لم يتّسق لأحد ما اتّسق للمأمون وعبد الملك بن مروان والمعتصم بالله، إلّا أن فتوح المأمون وعبد الملك كانت لمن قصد إلى ملكهما، فبلغا في ذلك ما لم يبلغه أحد في الإسلام من الملوك، وللمعتصم ستّ فتوح عظام جليلة، لم يحارب في واحدة منهن إلّا من قصد المسلمين دون ملكه خاصّة، فمن ذلك: مازيار ملك طبرستان عبد أن غلب وقتل وتمكّن من تلك القلاع والجبال المنيعة والسبل الوعرة حتى ظفر به وقتله، ومن ذلك: بابك كسر العساكر وقلّ الأجناد وقتل القوّاد وأخرب البلاد وملأ القلوب هيبة ومخافة فأخذه أسيرا وقتله وصلبه إلى جنب مازيار، ومن ذلك: فتح عمورية، وهزيمة الطاغية أمير ياطيس صاحب الضّواحي، فأسره وصلبه إلى جنب بابك ومازيار، ومن ذلك: استباحته الزّطّ حتى اجتثّ أصلهم وأباد خضراءهم، بعد أن منعوا بغداذ الميرة، وقتلوا القوّاد، وغلبوا على البلاد، وبعد أن رامهم خليفة بعد

خليفة، ومن ذلك: أمر جعفر الكرديّ وإخافته السبل فظفر به وقتله، ومن ذلك: ما كان منه في أمر الهند وشقّ الهند كلّه، حتى ظفر من عدد البروج ورؤساء الهند وإبطال المقاتلة وأخرب السواحل على يدي عمر بن الفضل الشيرازيّ. ثم خليفتنا المعتضد بالله اتّسق له من الفتوح الجليلة العظيمة مثل ذلك فمن ذلك: أسره لهارون الخارجيّ الشاري بعد أن كان قد تغلّب على البلاد ومنع الميرة من جميع الآفاق، ومن ذلك: قصده لآل عبد العزيز بن أبي دلف بناحية الجبل، حتى اجتثّ أصلهم، واستباح حريمهم، ثم ما كان من شأن رافع بن هرثمة وخلعه الطاعة، فحمل رأسه إلى مدينة السلام، ثم أمر محمّد بن زيد العلويّ بطبرستان بعد أن تمكّن من القلاع والحصون التي لا ترام، بعد أن كانت الخطبة قد انقطعت عنهم ثمان وثلاثين سنة بمقامه ومقام الحسن بن زيد، وكان دخول الحسن بن زيد إليها في المحرّم سنة 250، وتوفّي في ذي الحجّة سنة 270، وصار مكانه أخوة محمّد بن زيد، فقتل (رحمه الله) بجرجان يوم الجمعة لثمان خلون من شعبان سنة 287، ومن ذلك: عمرو بن الليث الصفّار وقتله إيّاه، ومن ذلك: فتح آمد وهي أحصن مدينة في بلاد العرب، وإيقاعه بابن الشيخ، وأخذه إيّاه أسيرا، ثم أمر وصيف الخادم وخروجه إليه بنفسه إلى تخوم أرض الروم حتى أوقع به وأخذه أسيرا، ثم قتله وصلبه «1» .

وكان الحسن بن عليّ (رضي الله عنهما) يتمثّل: من عاذ بالسّيف لاقى فرصة عجبا ... موتا على عجل أو عاش منتصفا لا تركبوا السّهل إنّ السّهل مفسدة ... لن تدركوا المجد حتّى تركبوا عنفا وقالوا: ليكن اليقين من أفضل سلاحك، والرضا بالقضاء من أفضل أعوانك والجدّ في طلب الخير من بالك، وأنشد: فلا تحسبنّ الرّزق بابا سددته ... عليّ ولا أنّي إليك فقير ففي العيس منجاة وفي الأرض مذهب ... وفي الناس أبدال سواك كثير وكتب بعضهم إلى أهله من بلاده بعيدة: كتابي إليكم من بلاد بعيدة ... تجشّمتها كي لا يضرّ بي الفقر وأنشد: اصبر لها فالحرّ صبّار ... أو اشكها إن مسّك العار دائرة دارت على عاقل ... لم يخشها والدّهر دوّار نبت بك الدار فسر آمنا ... فللفتى حيث انتهى دار ولبعضهم: تبدّل بدار غير دارك موطنا ... إذا صعبت فيها عليك المطالب فما الكرج الدّنيا ولا النّاس قاسم ... وفي غيرها للطالبين مكاسب وللطائيّ: وطول مقام المرء في الحيّ مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدّد ألم تر أنّ الشّمس زيدت محبّة ... إلى النّاس إذ ليست عليهم بسرمد وقالوا: العسر في الغربة مع العزّ، خير من اليسر في الوطن مع الذلّ. وقيل لآخر: ما العيش؟ قال: دوران البلدان، ولقاء الإخوان، ومغازلة القيان، ومرافقة

الفتيان، واستماع النغمات من الزير والمثاني. وقيل لآخر: ما السرور؟ قال: غيبة بعد غنى وأوبة تعقب منى. وقال آخر: سرى طيفها نحو امرئ متطوّح ... طليح سفار أسفع اللّون شاحب تراه كنصل السّيف أصدأ صفحة ... مقادمه والنّصل ماضي الضرائب تغرّب يبغي اليسر ليس لنفسه ... خصوصا ولكن لابن عم وصاحب وما عذر ذي العشرين والخمس قاعدا ... ولم يبل عذرا في طلاب الرغائب ومن لا يزل يخشى العواقب لا يزل ... مهينا رهينا في حبال العواقب وأشفق من اسم التنكّر مقترا ... فلم ينجه إلّا نجاء الركائب ولعبد الله بن طاهر: وا سوءتى لامرئ شبيبته ... في عنفوان وماؤها خضل وهو مقيم بدار مضيعة ... طباعه في اصطناعه الفشل راض بدون المعاش متّضع ... على تراث الآباء متّكل لا حفظ الله ذاك من رجل ... ولا رعاه ما حنّت الإبل كلّا وربّي حتّى يكون فتى ... قد نهكته الأسفار والرّحل تسمو به همّة منازعة ... وطرفه بالسّهاد مكتحل نال بلا منّة ولا ضرع ... ولا بوجه تفوته الحيل إلّا بعض أو مت بشفرته ... كفّ تمطّى بها فتى بطل حتّى متى يصحب الرّجال ولا ... يصحب يوما لأمّه الهبل وكان عمرو بن العاص يقول: عليكم بكلّ أمر مزلفة مهلكة، أي عليكم بجسام الأمور. ولمّا نظر معاوية إلى عسكر أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: من طلب عظيما خاطر بعظيمته- يعني برأسه-.

وكان يقال: من سرّه أن يعيش مسرورا فليقتنع، ومن أراد الذكر فليجتهد، ومن أراد أن يعتبر فليغترب. وقالوا: لا ينبغي للعاقل أن يكون إلّا في إحدى منزلتين: إمّا في الغاية القصوى من الدنيا والطلب لها، أو في الغاية والنهاية من الترك لها. وقال آخر: الدنيا مرعى فمن وجد الكلأ في موضع فليلزمه. ولأبي نواس: أرى النّفس قد أضحت تتوق إلى مصر ... ومن دونها جوب الحزونة والوعر وو الله ما أدري أللخفض والغنى ... أساق إليها أم أساق إلى قبري سأرمي بنفسي عن قريب أمامها ... وأترك قول العاذلين ذوي الزّجر لأنّ الّذي قد قدّر الله كائن ... ألا إنّما تجري الأمور على قدر وقال آخر: السلامة إحدى العصمتين، والمرأة الصالحة إحدى الكاسبين، واللبن إحدى اللحمين، والعادة إحدى الطبيعتين، والدعاء للسائل إحدى الصدقتين، وخفّة الظهر أحد اليسارين، والغربة إحدى اللذّتين. وأنشدني صديق لابن عبدوس الكاتب: زعم الّذين تشرّقوا وتغرّبوا ... أنّ الغريب وإن أعزّ ذليل فأجبتهم إنّ الغريب إذا أتّقى ... حيث استقلّ به الركاب جليل قالوا الغريب يهان قلت تجلّدا ... إنّ الإله بنصره لكفيل قالوا إذا مات الغريب ببلدة ... أدلي ولم يسمع عليه عويل قلت الغريب كفاه رحمة ربّه ... وغنى البكاء عن الفقيد قليل وله أيضا: يقولون لي لا تغترب قلت إنّني ... إذا ما اتّقيت الله غير غريب إذا كنت ذا عسر وحال خسيسة ... أمنت شماتات بها لقريب وإن كنت ذا مال وحال جليلة ... فأحذر أن لا يطلبون عيوبي «1»

القول في مصر والنيل قال الكلبيّ: سمّيت مصر بمصر بن أينم بن حام بن نوح، وافتتحها عمرو بن العاص، وروي في قول الله عزّ وجلّ: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ قال: مصر. قال ابن السّكّيت: سمّيت مصر لأنها الحدّ، وأهل هجر يكتبون في شروطهم اشترى جميع الدار بمصورها أي بحدودها، قال عديّ بن زيد التميميّ: وصيّر الشّمس مصرا لا خفاء به ... بين النّهار وبين اللّيل قد فصلا أي حدّا حاجزا. وقال عبد الله بن عمرو: من أراد أن ينظر إلى الفردوس فلينظر إلى مصر حين تحرث. وروي عن الضحّاك بن مزاحم عن ابن مسعود مرفوعا قال: ينادي يوم القيامة مناد من السماء يا أهل مصر فيقولون جميعا أوّلهم وآخرهم: لبّيك، فيقال: إن الله عزّ وجلّ يقول ألم أمنن عليكم بسكنى مصر، وأطعمتكم فيه الخمر «1» والخمير وصيد طير السماء وحيتان البحر والماء العذب؟ فيقولون: بلى ربّنا. وأرض مصر محدودة أربعين ليلة في مثلها، وكانت منازل الفراعنة وكان اسمها باليونانيّة مقذونية، وطول مصر من الشجرتين اللتين بين رفح والعريش إلى أسوان، وعرضها من برقة إلى أيلة وهي مسيرة أربعين ليلة في أربعين ليلة، ومن بغداذ إلى مصر خمس مائة وسبعون فرسخا، يكون ذلك أميالا ألف وسبع مائة وعشرة أميال «2» .

قال: وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: البركة عشر بركات، في مصر تسع بركات وفي الأرضين بركة واحدة. والشرّ عشرة أجزاء، بمصر جزء واحد، وفي الأرض كلّها تسعة أجزاء وأما معنى قولهم: عمر مصّر الأمصار فإنه لم يحدث إلّا البصرة والكوفة، وقد تفعل العرب هذا فتسمّي الاثنين باسم الجميع، وقال الحسن: مصّر عمر سبعة أمصار: المدينة، والبحرين، والبصرة، والكوفة، والجزيرة، والشام، ومصر. وقال أبو الخطّاب: لم يذكر الله جلّ وعزّ شيئا من البلدان باسمه في القرآن ما ذكر مصر حين قال: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ وقال عزّ وجلّ: اهْبِطُوا مِصْراً ، وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وكنّاها فقال عزّ وجلّ: وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ وسمّاها الله عزّ وجلّ الأرض فقال: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها الآية وسمّى الله جلّ وعزّ ملكها العزيز فقال: قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ وقال: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً وأخبرني شيخ من آل أبي طالب قال: رأيت بمنف من كور مصر دار فرعون، ودرت في مجالسه، ومشارفه وغرفه وصفافه فإذا كلّه حجر واحد منقور، فإن كانوا لا حكوا بينه حتى صار في الملامسة لا يستبين فيه مجمع حجرين، ولا ملتقى صخرتين، فهذا عجب، وإن كان حجرا واحدا فنقرته الرجال بالمناقير حتى تخرّقت فيه تلك المخارق إن هذا لأعجب، والنيل قد سمّاه الله بحرا قال الله: فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ واليمّ هاهنا النيل، وهي ذات عيون سفّاحة. ومن مفاخر أهل مصر مارية القبطيّة أمّ إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وتزوّج خمس عشرة امرأة، وتوفيّ (صلى الله عليه وسلم) عن تسع، وحرّم الله جلّ وعزّ مارية على الرجال بعد أن ولدت إبراهيم من بعد وفاة النبيّ (عليه السلام) كما حرّم سائر نسائه. من مفاخر مصر هاجر أمّ إسماعيل (صلى الله عليه وسلم) الصادق الوعد. وقال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : «إذا استفتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرا، فإني لهم صهر» . وقالوا: لو عاش إبراهيم ما ملكت قبطيّة أبدا. قالوا: وأرض مصر محدودة في الكتاب. إنها مسيرة أربعين ليلة في مثلها، وأرض السودان مسيرة سبع سنين، فما فضل عنهم من مائها صار

إلى مصر، وأرض مصر جزء من ستّين جزءا من أرض السودان، وأرض السودان جزء من ستّين جزءا من الأرض. ومن مفاخر مصر وسكّانها من القبط مؤمن آل فرعون، والسحرة وأصحاب التوبة النصوح، وهاجر، وآسية، وأمّ إبراهيم، وفي نسائهم ملح وهن يشبهن في الحظوة البربريّات، والقبط أحذق في الكمانكيّة «1» واللعب من السند، ومع القبط خفّة عجيبة. وبمصر جبل المقطّم، ويروى عن كعب أنه قال: جبل مصر مقدّس من القصير إلى اليحموم، وسأل كعب رجلا يريد مصر فقال: أهد لي تربة من سفح مقطّمها، فأتاه بجراب، فلمّا توفّي أمر به ففرش تحت جنبه في قبره. وقالوا: جبل الزمرّد من جبال البجة موصول بالمقطّم، والمقطّم جبل مصر. وقال ابن لهيعة: سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطّم كلّه بسبعين ألف دينار، فكتب عمرو إلى عمر فقال عمر: سله لم أعطانا بها وهي لا تستنبط، ولا تزرع فقال: إني أجد في الكتب أن فيه غرس الجنّة، فأعلم عمرو عمر ذلك فكتب إليه: إنّا لا نعلم غراس الجنّة إلّا للمؤمنين، فاقبر فيه من مات من المسلمين، ولا تبعه بشيء، فكان أوّل من قبر فيه رجل من المعافر، يقال له عامر، فقيل عمرت. ومدينة فسطاط: هي مدينة مصر سمّيت بذلك لأن عمرو بن العاص ضرب فسطاطه بذلك المكان بباب أليون، وسويقة وردان بمصر، وبمصر حائط العجوز على شاطئ النيل، بنته عجوز كانت في أوّل الدهر ذات مال، وكان لها ابن وكان واحدها فقتله السبع فقالت: لأمنعنّ السباع أن ترد النيل، فبنت ذلك الحائط حتى لا تصل السباع إلى النيل، ويقال: إن ذلك الحائط كان طلسما وكان فيه تماثيل، كلّ إقليم على هيئتهم وزيّهم، والدوابّ والسلاح، وكلّ أمّة مصوّرة في طرقها التي تجيء منها، فإذا أراد أهل إقليم غزو مصر وانتهوا إلى تلك الصور انصرفوا، ويقال: بني ذلك ليكون حاجزا بين أهل الصعيد والنوبة، لأنهم كانوا يغيرون على

أهل الصعيد ولا يستعرفون، فبني ذلك من أهل النوبة. وقيل أمر بعض الملوك أفلاطون فبني بناحية مصر ممّا يلي البرّ حائطا طوله ثلاثون فرسخا ما بين الفرما إلى أسوان حاجزا بينهم وبين الحبشة. وبالفسطاط صورة امرأة من حجر عظيمة قاعدة، على رأسها إجّانة وعلى كلّ واحدة من ركبتيها درجة إلى غرفة، تسمّى أمّ يزيد الخولانيّة. وقالوا: البطّ ترعى بمصر كما ترعى الغنم، وبها الثعابين وليس هي في بلد غيرها، وإليها حوّل الله عصا موسى، قال الله عزّ وجلّ: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ يعني أنه حوّلها ثعبانا. ومن أعاجيب مصر النمس، وليس ذلك لأحد غيرهم، وهي من عجائب الدنيا، وذلك أنها دويبّة متحرّكة كأنها قديرة، فإذا رأت الثعبان دنت منه، فينطوي الثعبان عليها يريد أن يعضّها ويأكلها، فتزفر زفرة تقدّ الثعبان بقطعتين، وربّما قطعته قطعا، ولولا النمس لأكلت الثعابين أهل مصر، وهي هناك أنفع لأهلها من القنافذ لأهل سجستان، وسجستان بلد كثير الأفاعي وفي شروطهم أن لا يقتل لهم قنفذ ولا يصاد. وبمصر أعجوبة أخرى وهي التمساح، لا يكون إلّا في النيل، ويكون في نهر السند مهران «1» ، فإذا عضّ أوغل أسنانه واختلفت، فلم يدع ما أخذه حتى يقطع بأسنانه ما قبض من شيء، وحنكه الأعلى يتحرّك ولا يتحرّك الأسفل، وليس ذلك في غيره من الدوابّ، ولا يعمل الحديد في جلده، وما بين رأسه وذنبه عظم واحد، وليس يلتوي ولا ينقبض لأنه ليس في ظهره خرز، وإذا انقلب لم يستطع أن يتحرّك، وإذا سفد الذكر الأنثى خرج من النيل فيلقيها على ظهرها ثم يأتيها مثل ما يفعل الرجل بالمرأة، فإذا فرغ أقلبها، وإن أقرّها على ظهرها صيدت، لأنها لا تقدر أن تنقلب، وذنب التمساح حاد جدا، فربّما قتل من الضربة، وربّما جرّ الثور إلى نفسه فيأكله، وله بيض مثل بيض الأوزّ، ويبيض ستّين بيضة، وله ستّون فإذا سفد ففي ستّين مرّة، فإذا خرج التمساح من بيضة خرج مثل الحرذون في خلقه وجسمه، فيعظم حتى يكون عشرة أذرع أو

أكثر، وهو يزيد كلّما عاش، وإن أخذ من جانب حنكه الأيمن، أوّل سنّ في الحنك وعلّق على من به حمّى نافض تركته من ساعته، وربّما دخل اللحم في خلال أسنانه فيفتح فاه، وله صديق من الطير يشبّه بالطيطوى، يجيئه حتى يسقط على شدقه فيخلّل بمنقاره ذلك اللحم، فيكون ذلك طعاما للطير، وترفيها للتمساح لأنه ينقّى ما في أسنانه من اللحم ويحرسه هذا الطائر ما دام ينقّى أسنانه فإن رأى صيّادا أو إنسانا يريده. أو ابن عرس فإنه عدوّه أعلمه ذلك وذلك إن ابن عرس يجيء إلى التمساح وهو نائم ويحبّ النوم على شطّ النهر فيستحمّ في الماء ويتمرّغ في الطين ثم ينتفض حتى يقوم شعره في فم التمساح فيقتله قتلا عنيفا أو يأكل ما في جوفه فلذلك الطير يحرس التمساح وإذا رأى ابن عرس مقبلا أنبه التمساح وآذنه فيهرب التمساح إلى الماء وليس هذا بأعجب من الخلد وهي دابّة عمياء فتخرج من جحرها فتفتح فاها فيتساقط الذبّان في فيها وأشداقها ولا تزال تضمّ فاها على الذبّان وتبلعه حتى تشبع ثم تدخل جحرها وليس هذا بأعجب من طائرين يراهما الناس من أدنى حدود البحر من شقّ البصرة إلى غاية البحر من شق السند أحدهما كبير والآخر صغير يقال لأحدهما جوانكرك ويسمّى الآخر جرشي فلا يزال الصغير يرنّق على رأس الكبير ويعبث به ويطوف حوله ويخرج من بين رجليه ويغمّه ويكربه حتى يتّقيه بذرقة فإذا ذرق الجرشي تلقّاه الجوانكرك فلا يخطئ أقصى حلقه حتى كأنه ردى به في بئر فإذا استوفى ذلك الذرق رجع شبعان ريّان بقوت يومه ومضى ذلك الكبير لطيّته وأمرهما مشهور ظاهر، وأعجوبة أخرى وهو إن الدّخس من دوابّ الماء مما يقايس السمك وليس بسمك يعرض للغريق فيدنو منه حتى يضع الغريق يده على ظهره فيسبح والغريق يذهب معه ويستعين بالاتّكاء عليه والتعلّق به حتى ينجّيه، وهو عند البحريّين مشهور، قالوا ومن ادّهن بشحم حرذون ثم ألقى نفسه على التمساح في الماء صاده والحرذون دويّبة تكون بمصر وزبله ينفع من وجع العين ويقاتل العقرب وإذا ظفر بالجدي أكل أذنه، وأهل مصر يعدّون كون التمساح في النيل من غرائب ما عندهم وهو كثير في خلجان سندان والزنج ولكنهم لا يعرفون له هناك هذا الطائر الذي يخلّل أسنانه، وكون التمساح موصول في نيل

مصر بوادي مهران وهو وادي السند ومن هناك أتاه. وبمصر من العجائب الفرس الذي يكون في النيل يأكل التماسيح وغيره من الدوابّ ويربّي هذا الفرس إذا كان فلوا في البيوت مع النساء والصبيان وفي سنّه شفاء من وجع المعدة. والنوبة والحبشة تتعالج به لأنهم يأكلون الأطعمة الغليظة فيشرفون على الموت من وجع المعدة فيأخذون سنّ هذا ويتعالجون به فيبرؤون وأعفاجه تبرئ من الجنون الذي يأخذ في الأهلّة. ومن عجائب النيل دابّة تسمّى ذا القرن تكون في النيل على أنفها مثل السيف الحادّ تقطع الصخرة إذا ضربتها وربّما قتلت به الفيل. وأهل مصر يعدّون النيل من أحد عجائبهم وذلك أنه مخالف لجميع الأودية التي عليها ضبع العالم وكلّ سرب ومغيض فإنّما استقباله من ناحية الشمال وليس النيل كذلك لأن مجراه من ناحية الجنوب وليست التماسيح في شيء من هذه الأودية المعروفة لا ترى بالفرات ولا دجلة ولا سيحان ولا جيحان ولا نهر بلخ، ولا فيها من الفساد والدواب الخبيثة، وشرب أهل مصر في البواقيل «1» ، وقال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : «تغور المياه كلّها وترجع إلى أماكنها، إلّا نهر الأردنّ ونيل مصر والحجرات وعرفات ومنا» . وقال ابن الكلبيّ: إذا طلع العيّوق غارت المياه كلّها ونقصت إلّا نيل مصر، ويمتدّ النيل لسبع من أيّار. وقال عبد الله بن عمرو: نيل مصر سيّد الأنهار، سخّر الله له كلّ نهر بين المشرق والمغرب، فإذا أراد الله أن يجريه أمر كلّ نهر أن يمدّه، فأمدّته الأنهار بمائها، فإذا فجّر الله به الأرض عيونا وانتهى من جريته إلى ما أراد الله، أوحى الله عزّ وجلّ إلى كلّ ماء أن يرجع إلى عنصره، وفي الخبر أربعة أنهار من الجنّة: النيل، والفرات، وسيحان، وجيحان. وقال بعضهم: النيل يخرج من خلف خطّ الاستواء من بحيرتين يقال لهما بحيرتا النيل، وهو يطيف أرض الحبشة ويجيء فيمرّ بين بحر القلزم- وهو بحر الفرما- وبين المفازة، فيجيء فيصبّ بدمياط، ويخرج إلى البحر الروميّ المغربيّ، ودمياط على البحر الروميّ المغربيّ. وقال أبو الخطّاب: قال المشتري ابن الأسود: غزوت بلاد أنبية عشرين غزاة، من السوس الأقصى، فرأيت النيل بينه وبين البحر الأجاج

كثيب من رمل، يخرج النيل من تحته. وقال بعض الفلاسفة: أقول إنه قد يكون البحر في موضع من بعض المواضع ثم ينضب الماء عنه حتى يصير أرضا يابسة ثم يعود بحرا، والعلّة في ذلك أن قرار الأرض يشبه أجسام الحيوانات والنبات، وأن لها نهاية وغاية بمنزلة الشباب والهرم ينقص ويزيد، فإذا قربته الشمس حينا طويلا حلّلته فارتفع وجفّ ذلك الموضع، فإذا بعدت الشمس هنة رطب ذلك الموضع وندي واجتمعت فيه المياه من الندى والأمطار، ذكروا أن أرض مصر كانت بحرا، وكذلك جميع الأرض عليها فنضب ذلك الماء قليلا، فجفّت تلك المواضع في مدّة من الزمان، فظهر اليبس وغرس فيه الأشجار وزرع فيه الزرع. ولما فتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص حين دخل بوونه، فقالوا: أيّها الأمير لنيلنا هذا سنّة لا يجري إلّا بها، قال: وما ذاك؟ قالوا: إذا كان لاثنتي عشرة ليلة تخلوا من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضيناهما وجعلنا عليها من الحليّ والحلل والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل. قال عمرو: إن هذا أمر لا يكون أبدا في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله، فهمّوا بالجلاء فلمّا رأى ذلك عمرو كتب إلى عمرو بن الخطّاب، فكتب إليه أنك قد أصبت وأني قد بعثت إليك بطاقة في داخل كتابي هذا- يعني رقعة- فألقها في النيل، فلمّا قدم كتاب عمر على عمرو أخذ البطاقة ففتحها، فإذا فيها من عبد الله عمر إلى نيل مصر أما بعد: فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله العزيز الغفّار الواحد القهّار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهّار أن يجريك، فألقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم، وقد تهيّأ أهل مصر للجلاء لأنهم لا تقوم مصلحتهم إلّا بالنيل، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله ستّة عشر ذراعا في ليلة واحدة، وقطع الله تلك السنّة عن أهل مصر، وقال ابن الكلبيّ: كتاب عمر إلى نيل هو الطلسم الأكبر. ومن عجائب مصر: حشيشة يقال لها الدقس، يتّخذ منها حبال للسفن، تسمّى تلك الحبال القرقس، يؤخذ من القرقس قطعة فيشعل بين أيديهم كالشمع، ثم يطفي فيمكث سائر الليل، فإذا احتاجوا إليه أخذوا طرفه فأداروه كالمخراق

فيشتعل. ومن أعاجيب مصر: الشجرة التي تدعى باليونانيّة المومقس، يرى بالليل من بعيد كأنه حريق، فإذا دنا منه الإنسان لم يجد عنده شيئا بتّة. ومن أعاجيب مصر: الرماد الذي يقال له رماد السنط، وهو خشب يوقد نهارهم كلّه، ولو جمع الإنسان ذلك الرماد لما ملأ راحته. ولهم حجارة الواحات، كلّ من تناول منها حجرا فحرّكه فكأنّما يحرّك مقلة نواتها في جوفها، ولهم القراطيس التي لا يشركهم فيها أحد، ولهم دابّة يقال لها الأسقنقور يهيج الجماع إذا أكل، وفيه أعجوبة أخرى وذلك أن ثلاثة من الحيوان للذكر منها أيران: الأسقنقور والورل والضبّ. ومن مفاخرهم: شراب العسل وهو هناك يختار على الخمر البابليّ للذّته وطيبه وشدّة أخذه، وموضع الأعجوبة فيه أنه يتّخذ في زمان مدود النيل، ويعمل من ذلك الماء الخاثر الكدر، ولو عمل من الصافي لم يخرج على صفاء هذا ولا جودته، ولا تزيده تلك الكدورة إلّا صفاء وحسنا، ولهم البلسان، ودهن الفجل، ودهن الخردل، ولهم الخيش والريش، ولهم أن كلّ واد في الأرض مخالف لواديهم، لأنه يستقبل الشمال وماؤها يجري من الجنوب، وأعجوبة أخرى أنها لا تمطر مطرا، وأعجوبة أخرى أن اسمها مصر، وعلى اسمها سمّيت الأمصار مثل: الكوفة والبصرة- وإنّما سمّيت البصرة فسطاطا على التشبيه بفسطاط مصر-. وقال الكلبيّ: كان لفرعون ما بين مصر إلى مغرب الشمس وهي مملكة إفريقية والأندلس، وإنّما هو مثل أرض واسط أربعون في مثلها وأعجوبة أخرى بمصر وهي الأترجّ، ربّما وضع الرجل الأترجّة بينه وبين صاحبه فلا يرى أحدهما الآخر لكبرها، وبمصر من الأعاجيب السمك الرّعاد، ومن صاد منه سمكة لم تزل يده ترعد وتنتفض ما دام في شبكته وشصّه، وليس هذا بأعجب من الجبل الذي بآمد، يراه جميع أهل البلد فيه صدع فمن انتضى سيفه فأولجه فيه ثم قبض على قبيعته بجميع يديه، اضطرب السيف في يديه وارتعد هو ولو كان أشدّ الناس، وفيه أعجوبة أخرى لأنه متى حكّ بهذا الجبل سيف أو سكين حمل ذلك السكّين الحديد، وجذب الأبر والمسالّ بأكثر من جذب المغناطيس، وأعجوبة أخرى أن ذلك الحجر بعينه لا يجذب الحديد، فإن حكّ عليه سكّين أو حدّ به جذب

القول في اليمن

الحديد، وفيه أعجوبة أخرى أنه لو بقي مائة سنة لكانت تلك القوّة قائمة فيه، ولو سقي كما تسقى السكاكين، والمغناطيس نفسه إذا حكّ عليه الثوم لم يجذب الحديد، وذلك شبيه بناب الأفعى، لأنهم إذا حشوا فيه حمّاض الأترجّ، ثم عضّ وانقلب لم يكن له سمّ قاتل. وقد بارك رسول الله (عليه السلام) في بنها قرية مصر. وقال أهل مصر: اتّخذ يوسف (عليه السلام) الفيّوم بالشرقي في جبل شرب أسفلها وأعلاها ووسطها بماء واحد لا تعدم الثمرة فيها رطبة شتاء ولا صيفا. قالوا: وإذا جاوزت بلاد غانة إلى أرض مصر انتهيت إلى أمّة من السودان يقال لها كوكو، ثم إلى أمّة يقال لها مرندة، ثم إلى أمّة يقال لها مراوة، ثم إلى واحات مصر بملسانة. صفة الهرمين وبمصر، الهرمين «1» الذي يرى أصحابه كأنهم دفنوا حديثا، إلّا أنهم في عمق من الأرض، وهي ثلاثة أهرام، كلّ هرم أربع مائة ذراع طول في أربع مائة ذراع عرض، في سمك أربع مائة ذراع في الهواء، مبنيّة بحجارة المرمر والرخام، غلظ كلّ حجر وطوله وعرضه عشرة أذرع مهندز مهندم، لا يستبين هندامه إلّا الحادّ البصر، منقور في كلّ حجر بالكتاب المسند، يقرأه كلّ من يقرأ المسند، كلّ سحر وكلّ عجب من الطبّ وكلّ طلسم وكلّ خلقة طير. وحدّث بعض المشايخ بمصر أنه قرئ لبعض خلفاء بني العبّاس على الهرمين مكتوب أنّي بنيتهما فمن كان يدّعي قوّة في مله فليهدمهما، فإن الهدم أيسر من البناء، فأرادوا هدمهما فإذا خراج الأرض لا يقوم به فتركوهما. وقال عبد الله بن طاهر: رأيت بمصر من عجائب الدنيا ثلاثة أشياء: النيل، والهرمين، وابن عفير. وكان ابن عفير هذا كثير العلم، واسمه سعيد بن كثير بن عفير. قالوا: ووجد في أهرام مصر حيّة من ذهب في شدقها صفيحة فضّة مكتوب فيها:

إنّي وربّ البدن والقلاص ... عملتها من خالص الرّصاص وقرئ عليه أيضا: أنّي نقبتها وكسوتها الأنطاع، ثم كسوتها الحبر اليمانية، ثم كسوتها الديباج، فمن ادّعى القوّة في ملكه فليكسها الحصر، فأراد المأمون أن يكسوها الحصر فكان «1» يخرج فيها خراج مصر أجمع. وبمصر الرمل المحبوس، والطور الذي كلّم الله عزّ وجلّ موسى (عليه السلام) بها، وهو في صحراء التيه فيما بين القلزم وأيلة، وفيها الصّرح الذي لم ير قطّ شيء مثله، وهم يقولون نحن أكثر الناس عبدا وشهدا وقتدا ونقدا، قالوا: والصوف والكتّان لنا ليس لأحد من أهل البلدان مثلها، وقالوا: ولنا الحمير المريسيّة، والبغال المصريّة، والخيل العتاق، والمطايا من الإبل، قالوا: ولنا الأودية والمراتع التي ليس لأحد مثلها، وربّما خيف على الإبل الهلاك من السمن، لأنها إذا بلغت الغاية في السمن، فربّما انصدعت كراكرها عن شحمة كالسنام، حتى يخرّ البعير ميّتا، قالوا: ولنا الشمع والعسل والريش والخيش، ولنا ضروب الرقيق والجواهر. وبمصر، الإسكندريّة، قال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : «خير مسالحكم الإسكندريّة» ، وهي من بناء الإسكندر وبه سميت، ويروى في قول الله عزّ وجلّ: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ قال: هي الإسكندريّة، وقال الحسن البصريّ: لأن أبيت بالإسكندريّة ليلة على فراشي أحبّ إليّ من عبادة سبعين ليلة، كلّ ليلة منها ليلة القدر بمقدارها. وروى زهرة بن معبد القرشيّ قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: أين تسكن بمصر؟ قلت: الفسطاط. قال: تسكن المدينة الخبيثة وتذر الطيّبة. قلت: أين؟ قال: الإسكندريّة، فإنك تجمع دينا ودنيا وهي طيّبة الموطأ، والذي نفسي بيده لوددت أن قبري فيها ولمّا همّ الإسكندر ببنائها دخل هيكلا لليونانيّين عظيما، فذبح فيه ذبائح كثيرة، وسأل أحبارها أن تبيّن له أمر المدينة هل يتمّ بناؤها، وكيف يكون؟ فرأى في المنام كأن جدار ذلك الهيكل يقول له: إنك تبني مدينة يذهب صوتها في

أقطار الأرض، ويسكنها من الناس ما لا يحصى عددهم، ويختلط الرياح الطيّبة بهوائها، ويثبت حكمة أهلها، ويصرف عنها سورة السموم والحرّ، ويطوى عنها قسوة البرد والزمهرير، ويظعن عنها الشرور حتى لا يصيبها خبل من الشيطان، وإن جلب إليها الملوك والأمم بجنودهم وحاصروها لم يدخل عليها ضرر. فبناها وسمّاها الإسكندريّة، ثم رحل عنها فيقال: إنه مات ببابل وحمل إلى الإسكندريّة فدفن بها ويقال: إنها عملت في ثلاثمائة سنة، وخمّرت نورتها ثلاث سنين، وضربت ثلاثمائة سنة. ولقد غبر أهلها سبعين سنة ما يمشون بالنهار فيها إلّا بخرق سود، فرق أن تذهب أبصارهم من بياض جدرها، وما أسرج فيها أحد سراجا بليل من ضوئها، ومنارة الإسكندريّة على سرطان من زجاج في البحر «1» . والجوف بمصر وباليمامة وهما جوفان، مثل الطوخ بالعراق، وحلوان بمصر على فرسخ من الفسطاط، وبه نخل كثير والكريون على ثلاثة فراسخ منها. فأما منارة الإسكندريّة فلها عمودان من نحاس على صورتين أحدهما من زجاج والآخر من نحاس، أما النحاس فعلى صورة عقرب، والزجاج على صورة سرطان، والمنظرة إلى جنبهما ويقال لها المنارة. وعين الشّمس على ثلاثة فراسخ من الفسطاط ومنف مساكن فرعون بينها وبين عين الشمس ثلاثة فراسخ. وقد اختلفوا في الإسكندر فزعم بعضهم أنه ذو القرنين، وقال آخرون: ليس هو ذو القرنين ابن فيلفوس، ولكنه لكثرة جولانه في الأرض وطيّه الأقاليم شبّهه من لا علم له بذي القرنين، وبينه وبين ذي القرنين المعمّر صاحب سدّ يأجوج ومأجوج وباني مدينة مرو ومنارة الإسكندريّة المركّزة على سرطان من زجاج، وباني مدينة البهت بالمغرب وتعرف بالبها، وهي مبنيّة من حجر يسمّى حجر البهت، من تطلّع فيها تاه واستغرب ضحكا حتى يتلف نفسه دهر طويل، وذو القرنين المعمّر هو الذي وقف على صاحب الصور حين دخل الظلمات، وبلغ

مكانا لم ينفذ وراءه، فصوّر فرسا من نحاس عليه فارس من نحاس ممسك على عنان فرسه بيسرى يديه، ومادّ يده اليمنى مكتوب فيها بالحميريّة ليس ورائي مسلك، فهذا عمّر عمرا طويلا حتى عاش سبع مائة سنة، وأوتي من كلّ شيء سببا، ورفع إلى السماء وكان يسمّى عيّاشا، والروميّ عمّر عمرا قليلا وكانت سيرته أخبث سيرة. وقال عطاء بن أبي خالد المخزوميّ: كانت الإسكندريّة بيضاء تضيء بالليل والنهار، فكانوا إذا غربت الشمس لم يخرج منهم واحد من بيته، ومن خرج اختطف، وكان لهم راع يرعى الغنم على شاطئ البحر، وكان يخرج من البحر شيء فيأخذ من غنمه فكّمن له الراعي في بعض المواضع حتى خرج، فإذا جارية فتشبّث بشعرها ومانعته فذهب بها إلى منزله، فآنست بهم فرأتهم لا يخرجون بعد غروب الشمس، فسألتهم عن ذلك فأخبروها أن من خرج في ذلك الوقت اختطف، فعملت لهم الطلسمات وكانت أوّل من وضع الطلسمات بمصر. ويروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: عجائب الدنيا أربع «1» . مرآة معلّقة بمنارة الإسكندريّة، كان يجلس الجالس تحتها فيرى من بالقسطنطينيّة، وبينهما عرض البحر، وفرس نحاس: عليه راكب من نحاس بأرض الأندلس باسط يده رافعها، عليه مكتوب ليس خلفي مسلك، ولا يطأ تلك البلاد أحد إلّا ابتلعه النمل. ومنارة من نحاس بأرض عاد، عليها راكب من نحاس، فإذا كان الأشهر الحرم هطل منه الماء، فشربوا منه وسقوا وصبّوا في الحياض والآبار، فإذا انقضت الأشهر الحرم انقطع ذلك الماء. وشجرة من نحاس: عليها سودانيّة من نحاس بأرض روميّة، فإذا كان أوان الزيتون صفرت السودانيّة التي من نحاس، فتجيء كلّ سودانيّة من الطيارات بثلاث زيتونات زيتونة في منقارها وزيتونتان في رجليها حتى تلقيها على الشجرة فيعصر

أهل روميّة ما يكفيهم لأدامهم وسرجهم إلى قابل. وبعين شمس من أرض مصر بقايا أساطين كانت هناك، في رأس كلّ أسطوانة طوق من نحاس، يقطر من أحدهما ماء من تحت الطوق إلى نصف الأسطوانة لا يجاوزه ولا ينقطع قطره ليلا ولا نهارا، فموضعه من الأسطوانة أخضر، ولا يصل الماء إلى الأرض، وهو من بناء هوشنك. وبالإسكندريّة موضع فيها سوار وأساطين من حجارة من بقيّة بناء قديم، وفيها سارية تعرف بسارية سليمان (عليه السلام) فيها أعجوبة، وذلك أن الرجل فيها يجيء إليها ومعه زجاج أو خزف أو غير ذلك فيلقيه على السارية ويقول: بحقّ سليمان بن داود إلّا انكسرت فيتفتّت الزجاج والخزف وليس هذا إلّا في هذه السارية، وإن لم يقل بحقّ سليمان لم ينكسر. وبمصر منف مدينة فرعون، لها سبعون بابا، وحيطان المدينة من حديد وصفر، وفيها كانت الأنهار التي تجري من تحته وهي أربعة. [انصنا: مدينة قديمة على شرقي النيل بأرض مصر. أهل هذه المدينة مسخوا حجرا فيها رجال ونساء مسخوا حجرا على أعمالهم فالرجل نائم مع زوجته، والقصّاب يقطّع لحمه، والمرأة تخمر عجينها، والصبيّ في المهد، والرغفان في التنور. كلها انقلبت حجرا صلدا] «1» . ومن كور مصر: منف، ووسيم، ودلاص، وبوصير، والفيّوم، وأهناس، والقيس، وطحا، وأسيوط، وأشمونين، قهفا، البهنسى، هو وقنى، قفط الأقصر، أسنى، أرمنت، سوان، الإسكندريّة، المليدس، الطور، مصيل، قرطسا، خربتا، اليدقون، صاوشباس، تيده، الأفراحون، لوبيا، الأوصية، منوف العليا، منوف السفلى، دمسيس، أتريب، عين شمس، فرخطشا، الجوف الشرقيّ، الجوف الغربيّ. وبمصر نهر اللاهون، ويقال: إن يوسف (عليه السلام) احتفره وهو يأخذ من

النيل، وآخر عمل مصر من حدّ النوبة أسوان، ودمقلة مدينة النوبة وبينهما مسيرة أربعين ليلة. ومن عيوب مصر أنها لا تمطر، ويكرهون المطر، والله عزّ وجلّ يقول: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ومن عيوبها الريح الجنوب التي يدعونها المريسيّة، وذلك أنهم يسمّون أعلى الصعيد إلى بلد النوبة مريس، فإذا هبّت الريح المريسيّة ثلاثة عشر يوما تباعا اشترى أهل مصر الأكفان والحنوط، وأيقنوا بالوباء القاتل والفناء العاجل نسأل الله العافية. ومن عيوبها اختلاف هوائها، لأنه في يوم واحد يختلف عليهم أهوية برد وحرّ، وإذا أجدبوا انقرضوا لأنه ليست لهم ميرة من وجه من الوجوه، والناس من عندهم يمتارون فإذا انقطعت من عندهم فنوا نسأل الله العافية. وهم قتلوا عثمان بن عفّان وعليّ بن أبي طالب وعميرا المأمونيّ. ونساء أهل مصر والقبط ضدّ نساء خراسان، لأن نساء خراسان يلدن أذكارا، ونساء القبط لا يكاد يرى منهن إلّا مئناث، وتلد الاثنين والثلاثة والأربعة، ولا نعلم ناسا في الأرض أكثر ذكرانا من آل أبي طالب. وتربة مدينة الرسول (عليه السلام) طيّبة والغالية والطيب بها يزداد على العبق وطول الأيّام طيبا، والغالية الثمينة الخطيرة بالأهواز تنقلب في أيّام يسيرة، وحمّاها على الصغير منهم والكبير لا تزايله حتى على المولود ساعة يولد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «إن مصر ستفتح بعدي فانتجعوها ولا تتّخذوها دارا فإنه يساق إليها أعجل الناس أعمارا» فحمّاها أخبث من حمّى الأهواز، ووباؤه أشدّ من ذلك. وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «انتجعوا خيرها واسكنوا غيرها، فإنها معدن السحر والزنا ودار الفاسقين، ولا تغسلوا رؤوسكم بطينها الأسود، فإنه يميت القلب ويكثر الهمّ، ويذهب بالغيرة نعوذ بالله منه» . قال: وكشف عن حجر بمصر فإذا فيه كتابة: ويلك يا مصر خرابك سيلك، ملوكك غرباء لا يسود منك فيك ولا منك في غيرك. وقال وهب المعافريّ: إذا رأيتم منبر الفسطاط قد حوّل عن مكانه فتحوّلوا منها. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: ليأتينّ على الناس زمان قتب على جمل دبر خير من دار بمصر، وقال يحيى بن محفوظ: خلق الله العقل وخلق معه المكر

وأسكنه العراق، وخلق المكر وخلق معه الجفاء فأسكنه الشام، وخلق الفقر وخلق معه القنوع وأسكنه الحجاز، وخلق الغناء وخلق معه الذلّ وأسكنه مصر، وقال كعب القرظيّ: خلق الله السرقة تسعة أجزاء سبعة منها في القبط. ومن عجائب مصر: الشبّ وهو حجر أسود مجدّر يطفو فوق الماء، والأبنوس يرسب في الماء، فأيّ شيء أعجب من خشب يرسب في الماء، وحجر يطفو على الماء؟ وضروب من الخشب ترسب في الماء: الأبنوس، والشيز، والعنّاب، والآهندال، وحجر المغناطيس عجب وإن شأن الألماس لعجب، ومن أعاجيب الحجارة الحصاة التي في صورة النواة، تسبح في الخلّ كأنها سمكة، والخرزة التي تجعل في حقو المرأة لئلّا تحبل، والحجر الذي يوضع على حرف التّنور فيساقط خبز التنّور كلّه، ويدّعون أن كعب الأرنب إذا شدّ بساق الملسوع لم يضرّه. قال: وخراج مصر وحدها يضعف على جميع خراج الروم، وحمل منها موسى بن عيسى في دولة بني العبّاس ألفي ألف ومائة ألف وثمانين ألف دينار. وعلى أعلى مصر، النوبة والحبشة والبجة. وكان عثمان صالح النوبة على أربع مائة رأس في السنة، وفي الخبر قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : من لم يكن له أخ فليتّخذ أخا من النوبة. وقال: خير سبيكم النوبة، وللنوبة كفّ ووفاء وحسن عهد، وبها الأبنوس الأبيض يتّخذ منه الأسرّة، وبها الكركدن وهو مثل العجل، وفي جبهته قرن يقاتل به، وآخر صغير أسفل منه بين عينيه، يقلع به الحشيش ويطعن الأسد بالذي في جبهته فيقتله، وله ظلف كظلف البقر، ويهرب منه الأسد والفيل، وبالنوبة الزرّافة وذكروا أنها بين النمر والناقة، وأن النمر ينزو على الناقة فتلد الزرّافة، ولا تغتذي إلّا بما تستخرجه من البحر، فخلق الباري جلّ وعزّ لها عنقا طويلا لتبلغ الموضع الذي تستخرج منه الغذاء، ومثله في الحيوان فيما يشاكله ويقرب منه في النتاج، كما يلقح الفرس الحمار، والذئب الضبع، والنمر اللبوة، فيخرج من بينهما الفهد، فالزرّافة لها جثّة جمل، ورأس إيّل، وأظلاف بقر، وذنب طير، وليديها ركبتان وليس لرجليها ركبة، وجلدها منمّر، وهو منظر عجيب

وتسمّى بالفارسيّة أشتركا وبلنك أي إنها بين الجمل والثور والنمر والزرّافة في اللغة الجمع، وسمّيت هذه الدابّة لاجتماع هذه المشابة فيها، وذكر بعض الحكماء أن الزرافة نتاجها من فحول شتّى وهذا باطل، لأن الفرس لا يلقح الجمل ولا الجمل يلقح البقرة وبالحبشة دابّة يقال لها الرعقى، تقبض على خرطوم الجمل فتصرعه وتشرب دمه ولا تأكل لحمه. والنوبة يعقوبيّة، وللصقالبة صلبان- الحمد الله على الإسلام- وكذلك أهل علوا وتكريت والقبط والشام كلّها نصارى يعقوبيّ وملكي، ونسطوريّ، ونيقلائيّ، وركوسيّ، ومرقيونيّ، وصابئ، ومنانيّ- الحمد لله على الإسلام. والنوبة أصحاب ختان لا تطأ في الحيض، ولا تغتسل من الجنابة، وهم نصارى يعقوبيّة، يهذون الإنجيل، والروم ملكانيّة يقرءون الإنجيل بالجرمقانيّة، وأهل بجة عبّاد أوثان، يحكمون بحكم التورية ودمقلة مدينة النوبة وبها منزل الملك، وهي على ساحل البحر، ولها سبع حيطان وأسفلها بالحجارة، وطول بلادهم مع النيل ثمانون ليلة، وطول علوا إلى بلاد النوبة مع المغرب مسيرة ثلاثة أشهر، ومن دمقلة إلى أسوان أوّل مصر مسيرة أربعين ليلة، ومن أسوان إلى الفسطاط خمس عشرة ليلة ومن أسوان إلى أدنى بلاد النوبة خمس ليال، وفي الشرق من بلاد النوبة البجة ما بين النيل وبحر اليمن، وهو بحر القلزم بمصر، وبحر الجار بالمدينة، وبحر جدّة بمكّة، وبحر اليمن بالشحر، وعمان وفارس والأبلّة وفيما بين أرض النوبة والبجة جبال منيعة، وهم أصحاب أوثان، وفي بلادهم معدن الزبرجد يحفر التراب من معدنه، ثم يغسل فيوجد فيه قطع الزبرجد. والبجة أصناف: فالنوبة والبجة تسمّي الله عزّ وجلّ بحير، وبالزنجيّة لمكلوجلو، والقبطيّة أبنوذه، وبالبربريّة مذيكش، ومن خلف بلاد علوا أمّة من السودان تدعى تكنة، وهم عراة مثل الزنج وبلادهم تنبت الذهب، وفي بلادهم يفترق النيل، وقد ذكرنا مخرجه، وقالوا: من وراء مخرج النيل الظلمة، وخلف الظلمة مياه تنبت الذهب في تكنة وغانة. [بلاد التبر: هذه البلاد حرّها شديد جداً. أهلها بالنهار يكونون في السراديب

تحت الأرض، والذهب ينبت في رمل هذه البلاد كما ينبت الجزر بأرضنا. وأهلها يخرجون عند بزوغ الشمس ويقطفون الذهب. وطعامهم الذرة واللوبيا، ولباسهم جلود الحيوانات وأكثر ملبوسهم جلد النمر، والنمر عندهم كثير] «1» .

القول في المغرب أسفل الأرض من الفسطاط إلى برقة ستّمائة وستّون ميلا. وبرقة مدينة حسناء في صحراء، وهي صلحيّة صالح عليها عمرو بن العاص وجبر أهلها على الجزية، وهي خصبة ممتّعة، ومن برقة إلى القيروان مدينة إفريقية ستّمائة وثمانية وثلاثون ميلا، وسمّيت بأفريقش بن أبرهة الرائش، وهو الذي بناها، وإفريقية افتتحها عقبة بن نافع بن عبد القيس الفهريّ (رحمه الله) وجّهه معاوية وهي الآن في يدي ابن الأغلب «1» ، وفي يديه أيضا: قابس، وجلولاء، وسبيطلة مدينة جرجير الملك وكان روميا، وبينها وبين القيروان سبعون ميلا- وزرود، وقفصة، وقصطلية، ومدينة الزاب، وودّان، وضفرجيل، وزغوان، وتونس، وبينها وبين إفريقية مرحلتان على البغال، واسم مدينة تونس قرطاجنّة، وهي على ساحل البحر، يحيط بسورها أحد وعشرون ألف ذراع، ومن مدينة تونس إلى الأندلس ستّة فراسخ، وإلى قرطبة مدينة الأندلس مسيرة خمسة أيّام. وفي يدي الرّستميّ الإباضيّ، وهو أفلح بن عبد الوهّاب بن عبد الرحمن بن رستم من الفرس، يسلّم عليه بالخلافة بقيروة، وسلمة، وسلمية، وتاهرت، وما والاها، وبين إفريقية وتاهرت مسيرة شهر على الإبل، ومدينة سبتة إلى جانب الخضراء. وملك سبتة اليان وفي يدي ابن صفير البربريّ خلقاية إلى وادي الرمل ووادي الزيتون وقصر الأسود بن الهيثم إلى أطرابلس.

وفي يدي الخارجيّ الصّفريّ مدينة كبيرة تدعى درعة، فيها معدن الفضّة، وهي ممّا يلي الحبشة في ناحية الجنوب، ومدينة تدعى زيز. وفي يدي إبراهيم بن محمّد بن محمود البربريّ المعتزليّ مدينة تلي تاهرت تدعى أيزرج. وفي يدي ولد إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) مدينة تلمسين، ومن تاهرت إليها مسيرة خمسة وعشرين يوما عمران كلّه، وطنجة، وفاس وبها منزله، وو ليلة، ومدركة، ومتروكة، ومدينة زفور، وغزّة، وغميرة، والحاجر وماجراجرا، وفنكور، والخضراء، وأوراس، وما يتّصل ببلاد زاغي بن زاغي، وطنجة خلف تاهرت بأربع وعشرين ليلة، وخلف طنجة السّوس الأدنى، وخلف السوس الأدنى السوس الأقصى على بحر اليمن في شرقيّ النيل، ومدينة السوس الأقصى تدعى طرقلة، ومدينة الأندلس تدعى قرطبة، وبلاد أنبية من السوس الأقصى على مسيرة سبعين ليلة في براريّ ومفاوز، وأهلها وأهل لمطة أصحاب الدرق، ينقعونها في اللبن حولا مجرّدا، فينبو عنها السيف وإن قطع السيف منها شيئا نشب السيف في الدرقة، ولم يمكن أن ينزع من الدرقة، والدرقة اللّمطيّة ليس عليها قياس. وكان سبب خروج إدريس ووقوعه إلى هذه النواحي ما حكاه صالح بن عليّ «1» قال: أخبرنا مشايخنا أن إدريس بن عبد الله بن حسن الطالبيّ أفلت من وقعة العبّاسيّين بالطالبيّين بفخّ مكّة، وذلك في خلافة الهادي، فوقع بمصر وعلى بريدها يومئذ واضح مولى المنصور، وكان رافضيّا فحمله على البريد إلى أرض المغرب، فوقع بأرض طنجة بمدينة يقال لها وليلة، فاستجاب له من بها وبأعراضها من الناس، فلمّا استخلف الرشيد أعلم بذلك فضرب عنق واضح وصلبه، ودسّ إلى إدريس الشمّاخ اليماني مولى المهديّ، وكتب له كتابا إلى

إبراهيم بن الأغلب عامله على إفريقية، فخرج حتى وصل إلى وليلة، وذكر أنه متطبّب وأنه من أوليائهم، فاطمأنّ إليه إدريس وأنس به، فشكا إليه إدريس علّة في أسنانه، فأعطاه سنونا مسموما ليلا، وأمره أن يستنّ به عند طلوع الفجر، وهرب من الليل، فلمّا طلع الفجر استنّ إدريس بالسنون فقتله وطلب الشمّاخ فلم يظفر به، وقدم على إبراهيم بن الأغلب فأخبره بما كان منه، ولحقت الأخبار بعد مقدمه بموته فكتب بذلك إلى الرشيد فولّى الشمّاخ بريد مصر، ثم ملك من بعد إدريس ابنه، وإلى هذه الغاية هي ثابتة في ولده. وفي يدي محمّد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أميّة ما وراء بحر الأندلس، وفي يديه قرطبة وبينها وبين الساحل مسيرة خمس ليال، ومن ساحل قرطبة إلى أربونة آخر الأندلس ممّا يلي فرنجة ألف ميل، وطليطلة وبها كان ينزل الملك، ومن طليطلة إلى قرطبة عشرون ليلة، وللأندلس أربعون مدينة، ويجاور الأندلس فرنجة وما والاها من بلاد الشرك، والأندلس مسيرة أكثر من شهر في شهر، وهي خصبة كثيرة الخير والفواكه وممّا يلي الشمال والروم فرنجة، والأندلس افتتحها طارق بن زياد وموسى بن نصير، فأصاب بها مائدة سليمان (عليه السلام) فيها جواهر لم ير خلق مثلها فقطع طارق قائمة من قوائم المائدة وصيّر مكانها أخرى لا تشبهها، فلمّا قدموا بها على الوليد بن عبد الملك وكان موسى وجّهها إليه فقال طارق: أنا أصبتها فكذّبه موسى فقال طارق للوليد: ادع بالمائدة فنظر إلى قائمته فإذا هي لا تشبه القوائم، فقال طارق: سله عنها، فسأله فقال: كذا أصبتها فأخرج طارق إليه القائمة فصدّقه الوليد وقوّمت المائدة مائتي ألف دينار. ومن العجائب بيتان وجدا بالأندلس عند فتحها في مدينة الملوك، في أحدهما عدد تيجان لملوكها، وفي هذا البيت وجد مائدة سليمان بن داود (عليه السلام) ، وعلى البيت الآخر أربعة وعشرون قفلا، كلّما ملك منهم ملك زاد عليه قفلا، ولا يدرون ما في البيت حتى ملك لدريق، وهو آخر ملوكهم فقال: لا بدّ أن أعرف ما في هذا البيت، وتوهّم أن فيه مالا، فاجتمعت الأساقفة والشمامسة

وأعظموا ذلك عليه فأبى فقالوا له: انظر ما يخطر ببالك من مال تراه فيه، فنحن ندفعه إليك ولا تفتحه، فعصاهم وفتح الباب فإذا في البيت تصاوير العرب على خيولهم بعمائمهم ونعالهم وقسيّهم ونبلهم، فدخلت العرب بلدهم في السنة التي فتح فيها ذلك البيت، وكان ملك الأندلس حين فتحت يسمّى لوذريق من أهل إصبهان، وبأصبهان يسمّى أهل قرطبة الأسبان، ويسلّم على الأمويّ بها السلام عليك يا ابن الخلائف، وذلك أنهم لا يرون اسم الخلافة إلّا لمن ملك الحرمين. أعراض البربر: هوارة، وزنانة، وضريسة، ومغيلة وورفجومة، وأحياء كثيرة، فدوابّ هوارة غاية في الفراهة، وكانت دار البرابرة فلسطين وملكهم جالوت، فلمّا قتله داود انتقلت البربر إلى المغرب، ثم انتشرت إلى السوس الأدنى خلف طنجة، والسوس الأقصى وهي من مدينة قمونية من موضع القيروان على ألفين وخمسين ميلا، وكرهت البربر نزول المدائن فنزلوا الجبال والرمال وبرجان وبلدان الصقالب. والإبر، شمالي الأندلس. والذي يجيء من هذه الناحية الخدم الصقالبة، والغلمان الروميّة والأفرنجيّة والجواري الأندلسيّات، وجلود الخزّ والوبر والسمّور، ومن الطيب الميعة والمصطكي، ويقع من بحرهم البسّذ، وهو الذي تسمّيه العامّة المرجان «1» ، ولهم الخيل العراب، والإبل العراب، والقسيّ العربيّة، وهم أهل غفلة وقلّة فطنة، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : نساء البربر خير من رجالهم بعث إليهم نبيّ فقتلوه، فتولّت النساء دفنه، والحدّة عشرة أجزاء تسعة منها في البربر وجزء في الناس. [ويروى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: ما تحت أديم السماء ولا على الأرض خلق شر من البربر، ولئن أتصدق بعلامة سوطي في سبيل الله أحب إليّ من أن أعتق رقبة بربري] «2» .

قالوا: وبلاد طنجة مدينتها وليلة، والغالب عليها المعتزلة، وعميدهم اليوم إسحاق بن محمّد بن عبد الحميد، وهو صاحب إدريس بن إدريس، وإدريس موافق له، وأمّ إدريس بربريّة مولّدة، وبربر أخواله، واسم أمّ إدريس كنز، وهي التي كانت تتولّى طعامه وطبيخه خوفا من السمّ. ومن وليلة إلى طنجة إلى ناحيتي مدينة السوس الأدنى مسيرة عشرين ليلة، وليس في بلادهم نخل، ولا كرم، ولا زيتون. ولهم القمح، والشعير، والأغنام، والرماك، والبقر، والعسل، وليس لهم قطن ولا كتّان، لباسهم الصوف، وزرعهم على ماء السماء، ومن آخر مدينة السوس إلى آخر طرقلة مدينة السوس الأقصى شهران، وليس وراء طرقلة أنس. ومن عجائبهم وادي الرمل ومدينة البهت، وهي في بعض مفاوزها، قال: ولمّا فرغ الإسكندر من فتح مصر أخذ متيامنا نحو المغرب حتى انتهى إلى أمّة من بني إسرائيل قوم موسى بمدينة لهم وكانوا عبّادا أتقياء، فلمّا انتهى إلى تخوم أرضهم بلغهم وروده عليهم فاجتمع عظماؤهم وأحبارهم وكتبوا إليه: بسم الله ذي الطول والمنّ، من البرجمانيّين الفقيرين إلى الله وذوي التواضع لله إلى الإسكندر المغترّ بالدنيا، أما بعد فقد بلغنا مسيرك إلينا، فإن كنت محاربا كما حاربت غيرنا لتأخذ من دنيانا، فارجع فما لك عندنا طائلة، ولا لك في قتالنا نفع، لأنّا أناس مساكين، ليست لنا أموال، ولا للملوك في أرضنا أرب، وإن كنت إنما تقصد نحونا لتطلب العلم فارغب إلى الله أن يفقّهك ويهديك، مع علمنا أنك لا تحبّ ذلك، لأن انهماكك في طلب الدنيا بلا فكرة في زوالها وانقطاعها عنك، يدلّ أنك غير راغب فيها، فأما نحن فقد خلّينا الدنيا ورفضناها، ورغبنا في الآخرة وتشوّقناها، فانصرف أيّها العبد عنّا، ولا تؤذينا وتخرّب بلادنا، ولا أرب لك فينا. فلمّا أتاه الكتاب عزم على إتيانهم في مائة فارس من علماء أصحابه وزهّادهم، وقد كان بينه وبينهم بحر رمل يجري كما يجري الماء، ويسكن كلّ يوم سبت فلا يتحرّك إلى الليل، ومدينتهم تسمّى مقيارات، وحولها تسع قريات، وهم متفرّقون فيها، وأسماؤها: عطروت، وربعون، ويمحون، وقنوا، وحسنون، وبعلى، وسبام، وبنوا، وبنعون، ودورهم مستوية، وليس فيهم رجل أغنى من

الآخر، وقبورهم على أبواب دورهم، فأقام الإسكندر على حافّة ذلك البحر حتى إذا كان يوم السبت سكن ذلك الرمل، فسلكه وسار يومه كلّه إلى اصفرار الشمس، حتى جاز النهر في أصحابه، فاستقبلوه وسلّموا عليه، فلمّا دنا منهم نزل فاجتمع إليه من أفاضلهم وعلمائهم زهاء مائة رجل، فدعوا له بالصلاح فرحّب بهم الإسكندر، ودخل معهم المدينة. فجلس على الأرض، وجلس أولئك الأحبار حوله، ثم قال: ما بال قبوركم على أبواب منازلكم؟ قالوا: ليكون ذكر الموت نصب أعيننا. قال: فهل فيكم مسكين؟ قالوا: ما فينا أحد أغنى من الآخر. قال: فمن شرّ عباد الله؟ قالوا: من أصلح دنياه وأخرب آخرته. قال: فمن أقسى الناس قلبا؟ قالوا: من أغفل أمر الموت ونسي الحساب والعقاب. قال: فالبرّ أقدم أم البحر؟ قالوا: لا بل البرّ لأن البحر إنما يحول إلى البرّ. قال: فالليل أقدم أم النهار؟ قالوا: بل الليل أقدم لأن الخلق إنما خلقوا في الظلمة في بطون الأمّهات، ثم خرجوا بعد ذلك إلى النور. قال الإسكندر: طوبى لكم، لقد رزقتم زهادة وعلما. قالوا: بل طوبى لمن وقاه الله فتنة الدنيا، وأخرجه منها سالما. قال: فإني أحبّ أن تعظوني. قالوا: وما يغني وعظنا إيّاك مع انهماكك على الدنيا وحرصك عليها بلا فكرة منك في زوالها. قال: فسلوني حوائجكم. قالوا: نسألك الخلد. قال: هل يقدر على ذلك أحد إلّا الله؟ قالوا: فإن كنت موقنا بالموت فما تصنع بقتل أهل الأرض؟ قال: نعم إني موقن بذلك غير أني لا أملك لنفسي ضرّا ولا نفعا، ثم قال: يا معشر البرجمانيّين إن الله قد خصّكم بالعلم، وحلّاكم بالزهادة، وزيّنكم بالحكمة، وصرف قلوبكم عن الشهوات، فسلوني حكمكم من زهرة الدنيا. قالوا: لا حاجة لنا في شيء من ذلك. قال: فأحبّ أن تقبلوا مني شيئا فإن معي يواقيت وجواهر حسانا. قالوا: أحضره لننظر إليه، فأمر بإخراج أسفاط فيها جواهر مثمّنة، ففتحت فلمّا نظروا إليها قالوا له: أيّها الملك ويعجبك مثل هذا؟ قال: ليس شيء من عرض الدنيا أحبّ إلينا منه. قالوا: فانطلق بنا حتى نريك ما هو أحسن منه وأكثر، وليس عليك فيها مؤونة، فانطلقوا إلى نهر عظيم فيه صنوف الجواهر واليواقيت، وفيه من الجواهر ما لم ير مثله، فقالوا: هذا أكثر أو ما معك؟

قال: بل هذا. فقالوا: بالذي نزع عن قلوبنا الشهوات، ووفّقنا لطاعته، وقوّانا على العبادة، ما تزيّنت امرأة منّا قطّ بشيء من هذا، ولا انتفعنا به بفصّ خاتم. فأقام عندهم إلى السبت الآخر حتى سكن البحر فجازه حتى أتى معسكره فيقال: إنهم القوم الذين ذكرهم الله جلّ وعزّ في كتابه فقال وقوله الحقّ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال: فلمّا ملك ناشر ينعم تجهّز وسار في جمع لا يحصى عددهم نحو المغرب، حتى إذا بلغ وادي الرمل أراد أن يجوزه فلم يجد مجازا، فأقام إلى يوم السبت، فلمّا سكن الرمل يوم السبت أرسل نفرا من أصحابه وأمرهم أن يقطعوه، ثم يقيموا من ذلك الجانب إلى السبت الآخر، ثم ينصرفوا إليه بخبر ما رأوه، فساروا يرمهم ذلك حتى هجم عليهم الليل قبل أن يقطعوه، فجرى ذلك الرمل فغرقوا فيه، فلمّا رأى ذلك ولم يرجع إليه من أصحابه أحد، أمر بصنم فنصب على حافّة الوادي، وكتب على جبهته: ليس ورائي لامرئ مذهب فلا يتكلّفنّ أحد المضيّ إلى الجانب الآخر، ثم انصرف إلى مملكته. ومن طرقلة إلى مدينة غانة مسيرة ثلاثة أشهر مفاوز وقفار، وبلاد غانة ينبت فيها الذهب نباتا في الرمل، كما ينبت الجزر ويقطف عند بزوغ الشمس، وطعامهم الذرة واللوبياء، ويسمّون الذرة الدخن، ولباسهم جلود النمور وهي هناك كثيرة. ومعدن الفضّة والذهب بموضع يقال له تدمير، بينه وبين قرطبة عشرة أيّام، ومعدن الفضّة في أعلى مدينة يقال لها جيّان، وبها معدن الزيبق في موضع يقال له فحص البلّوط، ومن معدن الزيبق إلى قرطبة خمسة أيّام، وأهلها بربر وهم في سلطان الأمويّ. ويتاخم الشرك أمّة يقال لها علجشكش وهي قريبة من البحر. وبقرطبة دار الضرب في موضع يقال له باب العطّارين، وليس في دراهمهم مقطّعة، ولهم فلوس يتعاملون بها ستّين فلسا بدرهم، ودراهم تسمّى طبليّا. وللأمويّ جند وديوان يعطيهم أرزاقهم من العرب والموالي وغيرهم. قرطبة طيّبة الهواء لا يحتاجون في الصيف إلى خبش، وبها عيون وآبار، وعندهم ثلج يقع على جبل يقال له شلير، بينه وبين قرطبة أربعة أيّام، وبقرطبة آبار طيّبة عذبة باردة،

يشربون في الصيف من تلك الآبار لشدّة بردها. ويروى عن عامر الشّعبيّ قال: إن الله جلّ وعزّ خلق خلقا خلف الأندلس ليس بينهم وبين الأندلس إلّا كما بيننا وبين الأندلس، لا يرون أن الله عصاه أحد، لا يحرثون، ولا يزرعون، ولا يحصدون، على أبوابهم شجر ينبت لهم ما يأكلون منه، وللشجرة أوراق عراض، يوصلون بعضها إلى بعض فيلبسونها، وفي أرضهم الدرّ والياقوت، وفي جبالهم الذهب والفضّة، فأتاهم ذو القرنين فخرجوا إليه فقالوا له: ما جاء بك، تريد أن تملكنا، فو الله ما ملكنا أحد قطّ، وإن كنت تريد المال فخذ. فقال: والله ما واحدة من هاتين أريد، ولكن سألت ربّي أن يسيّرني فيما بين مطلع الشمس إلى مغربها، فهذا حيث جئتكم من المطلع قالوا: هذا المغرب عندك. وبالأندلس نخل قليل، وبها زيتون كثير، وزيت وقطن وكتّان. حديث البهت: فمن عجائب الأندلس، البهت، وهي المدينة التي في بعض مفاوزها، ولمّا بلغ عبد الملك بن مروان خبر هذه المدينة وأن فيها كنوزا، كتب إلى موسى بن نصير- وكان عامله على المغرب- يأمره بالمسير إليها، ودفع الكتاب إلى طالب بن مدرك، فسار حتى انتهى إلى مدينة القيروان، وموسى مقيم بها، فأوصل كتاب عبد الملك إليه فلمّا قرأه تجهّز وسار في ألف فارس من أبطال قومه وأشرافهم، وحمل معه من الزاد لأربعة أشهر، ومن الماء لنفسه وأصحابه ما يكفيهم، وأخرج رجالا أدلّاء بذلك الطريق، فسار ثلاثة وأربعين يوما حتى انتهى إليها، فأقام ثلاثا حتى علم كنه علمه، ثم ارتحل إلى البحيرة، وكانت على ميلين من المدينة، وتفهّم أمرها ثم انصرف إلى القيروان، وكتب إلى عبد الملك بن مروان مع طالب بن مدرك، بسم الله الرحمن الرحيم: أصلح الله أمير المؤمنين صلاحا يبلغ به شرف الدنيا والآخرة، أخبرك يا أمير المؤمنين أني تجهّزت لأربعة أشهر، وسرت في مفازة الأندلس في ألف رجل من أصحابي، حتى أوغلت في طرق قد انطمست ومناهل قد اندرست وعفت فيها الآثار، وانقطعت عنها الأخبار، أحاول بلوغ مدينة لم ير الراءون مثلها ولم يسمع السامعون بمثلها، فسرنا ثلاثة

وأربعين يوما فلاح لنا بريق شرف تلك المدينة من مسيرة خمسة أيّام، فهالنا منظرها وامتلأت قلوبنا منها رعبا من عظمها وبعد إقطارها، فلمّا قربنا منها إذا أمرها عجيب هائل، ومنظرها مخيف موجل كأنّ المخلوقين لم يصنعوها، فنزلنا عند ركنها الشرقيّ فصلّينا عشاء الآخرة، ثم بتنا بأرعب ليلة بات بها أحد من المسلمين، فلمّا أصبحنا كبّرنا استئناسا بالصبح وسرورا به، ثم أرسلت رجلا من أصحابي في مائة فارس، وأمرته أن يدور مع سور المدينة ليعرف لنا موضع بابها، فغاب عنّا يومين، ثم أتانا صبيحة يوم الثالث فأخبر أنها مدينة لا باب لها، ولا مسلك إليها، فجمعت أمتعة أصحابي إلى جانب سورها وجعلت بعضها إلى بعض لأنظر من يصعد إليها فيأتيني بخبر ما فيها فلم تبلغ أمتعتنا ربع الحائط لارتفاعه في الهواء فأمرت فاتّخذ سلاليم كثيرة، ووصلت بعضها إلى بعض بالجبال ونضبتها على الحائط، وناديت في المعسكر من يتعرّف لي خبر هذه المدينة، ويصعد هذه السلاليم فله عشرة آلاف درهم، فانتدب رجل من أصحابي فتسنّم السلّم وهو يتعوّذ ويقرأ، فلمّا صار في أعلاها وأشرف على المدينة قهقه ضاحكا، ثم هبط إليها فناديناه: أخبرنا بما رأيت فيها، فلم يجبنا، فجعلنا أيضا لمن يصعد إليها ويأتينا بخبرها وخبر الرجل ألف دينار، فانتدب رجل من حمير وأخذ الدنانير وجعلها في رحله، ثم صعد فلمّا استوى على السور قهقه ضاحكا، ثم نزل إليها فناديناه: أخبرنا بما وراءك وما الذي ترى فلم يجبنا أحد، حتى صعد ثلاثة رجال كلّهم يقهقه ضاحكا ويتطيّر، فامتنع أصحابي بعد ذلك من الصعود وأشفقوا على أنفسهم، فلمّا يئست من أولئك الرجال ومن معرفة المدينة، رحلت نحو البحيرة، فسرت مع سور المدينة فانتهينا إلى مكان من السور فيه كتابة بالعربية «1» ، فوقفت حتى أمرت باستنساخه وهي: ليعلم المرء ذو العزّ المنيع ومن ... يرجو الخلود ولا حيّ بمخلود لو أنّ خلقا ينال الخلد في مهل ... لنال ذاك سليمان بن داود

سالت له العين عين القطر فائضة ... فيها عطاء جليل غير مصرود وقال للجنّ ابنوا منه لي أثرا ... يبقى إلى الحشر لا يبلى ولا يؤدي فصيّروه صفاحا ثمّ ميل به ... إلى السماء بأحكام وتجويد وأفرغوا القطر فوق السور منحدرا ... فصار صلبا شديدا مثل صيخود وردّ فيها كنوز الأرض قاطبة ... وسوف يظهر يوما غير محدود لم تبق من بعدها في الملك شارفة ... حتّى يضمّن رمسا بطن أخدود وصار في قعر بطن الأرض مضطجعا ... مضمّنا بطوابيق الجلاميد هذا لتعلم أنّ الملك منقطع ... إلا من الله ذي التّقوى وذي الجود ثم سرت حتى وافيت البحيرة عند مغيب الشمس فإذا هي مقدار ميل في ميل، وهي كثيرة الأمواج، فنظرنا فإذا رجل قائم فناديناه من أنت؟ قال: أنا رجل من الجنّ، وكان سليمان بن داود حبس والدي فوق الماء في «1» هذه البحيرة، فأتيته لأنظر ما حاله، قلنا: فما لك قائما فوق الماء؟ قال: سمعت صوتا فظننته صوت رجل يأتي هذه البحيرة في كل عام مرة فهذا أوان مجيئه. فيصلّي على شاطئ هذه البحيرة أيّاما ويهلّل الله ويمجده، قلنا: فمن تظنّه؟ قال: أظنّه الخضر، ثم غاب عنا، فبتنا تلك الليلة على شاطئ البحيرة، وقد كنت أخرجت معي عدّة من الغوّاصين، فغاصوا في البحيرة فأخرجوا منها حبّا من صفر مطبّقا رأسه بصفر، مسمورا بمسامير من صفر، فأمرت بقلع الصفر فخرج منه رجل من صفر على فرس من صفر بيده مطرد من صفر، فطار في الهواء وهو يقول: يا نبيّ الله لا أعود، ثم غاصوا ثانية وثالثة فأخرجوا عدّة من أولئك، ثم ضجّ أصحابي وخافوا أن ينقطع بهم الزاد، فأمرت بالرحيل وانصرفت بالطريق الذي سلكته، وأقبلت حتى نزلت القيروان، وكتابي منها والحمد لله الذي حفظ لأمير المؤمنين أموره وسلّم له جنده والسلام. فلمّا قرأ عبد الملك بن مروان كتاب موسى بن نصير وكان عنده الزّهريّ قال: ما تظنّ بأولئك الذين صعدوا فوق السور كيف استطيروا؟ قال: أظنّهم خبلوا

فاستطيروا لأن بتلك المدينة جفّا قد وكلوا بها. قال: فمن أولئك الذين خرجوا من الحباب ثم يطيرون؟ قال: أولئك مردة الجنّ الذين حبسهم سليمان بن داود (عليه السلام) في البحار. [بيرة: جزيرة فيها اثنتا عشرة مدينة وملكها مسلم يقال له في هذا الوقت سودان بن يوسف، وهي في أيدي المسلمين منذ دهر، وأهلها يغزون الروم والروم يغزونهم، ومنها يتوجه إلى القيروان] «1» .

القول في الشام قال: سمّيت الشام شاما لأنها شأمة للكعبة، وقالوا: سمّيت لشامات بها حمر وسود، وقال ابن الأعرابيّ: إذا جزت جبلي طيّء- يقال لأحدهما سلمى وللآخر أجأ- فقد أشأمت حتى تجوز غزّة ودمشق وفلسطين والأردنّ وقنسرين من عمل العراق. وقالوا: الشام من الكوفة إلى الرملة، ومن بالس إلى أيلة. وقال عبد الله بن عمرو: قسم الخير عشرة أجزاء فجعل منها تسعة أعشار في الشام، وجزء في سائر الأرضين. وقال وهب الذماريّ: إن الله جلّ وعزّ أوحى إلى الشام أني باركتك وقدّستك، وجعلت فيك مقامي، وإليك محشر خلقي، فاتّسعي لهم كما يتّسع الرّحم، إن وضع فيه اثنان وسعهما، وإن وضع ثلاثة وسعهم، وعيني عليك من أوّل السنين إلى آخر الدهر، من عدم فيك المال لم يعدم فيك الخبز والزيت. وروى جبير بن نفير الحضرميّ قال: شكت الشام إلى ربّها فقالت: يا ربّ فضّلت الأرضين عليّ بالجبال والأنهار وتركتني كظهر الحمار، فأوحى الله عزّ وجلّ إليها أن المسكين يشبع فيك، وعيني عليك ويدي إليك، وفي خبر آخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشام صفوة الله من بلاده، وإليه يجتبي صفوته من عباده، يا أهل اليمن عليكم بالشام فإن صفوة الله من الأرض الشام. وقال الحجّاج لابن القرّيّة: أخبرني عن مكران. قال: ماؤها وشل، وتمرها دقل، وسهلها جبل، ولصّها بطل، إن كثر بها الجيش جاعوا، وإن قلّوا ضاعوا. قال: فأخبرني عن خراسان. قال: ماؤها جامد، وعدوّها جاهد، وبأسهم شديد، وشرّهم عنيد. قال: فأخبرني عن اليمن. قال: أرض العرب وأهل بيوتات

وحسب. قال: فأخبرني عن عمان. قال: حرّها شديد، وصيدها عتيد، وأهلها بهائم، ليس بها رائم. قال: فأخبرني عن البحرين. قال: كناسة بين مصرين كثيرة جبالها، جهلة رجالها. قال: فأخبرني عن مكّة. قال: رجالهم علماء، وفيهم جفاء، ونساؤها كساة عراة. قال: فأخبرني عن المدينة. قال: رسخ العلم فيها ثمّ علا وانتشر منها في الآفاق. قال: فأخبرني عن اليمامة. قال: أهل جفاء وجلد وثروة وعدد وصبر ونكر. قال: فأخبرني عن البصرة. قال: حرّها شديد، وماؤها مالح، وحربها صالح، مأوى كلّ تاجر وطريق كل عابر. قال: فأخبرني عن واسط. قال: جنّة بين حماة وكنّة تحسدانها، ودجلة والزاب يتباريان عليها. قال: فأخبرني عن الكوفة قال: سفلت عن برد الشام وارتفعت عن حرّ اليمن، فطاب ليلها وكثر خيرها. قال: فأخبرني عن الشام. قال: عروس في نسوة جلوس كلّهن يزفنها ويرفدنها. وقال عديّ بن كعب في قوله: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ قال: الشام.

القول في بيت المقدس قال في قول الله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ قال: بيت المقدس. وقال مقاتل بن سليمان في قول الله تعالى وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ قال: هي بيت المقدس. وقوله: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ قال: إلى بيت المقدس. وقوله: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ قال: بيت المقدس. وشدّد الله عزّ وجلّ ملك داود بها، وسخّر الله له الجبال والطير يسبّحن ببيت المقدس، ووهب الله عزّ وجلّ له سليمان بها، وغفر لسليمان ذنبه، وفهّمه الحكمة في بيت المقدس، وكانت أنبياء بني إسرائيل تقرّب بها، واصطفى الله عزّ وجلّ مريم بها على نساء العالمين، وآتى الله عزّ وجلّ يحيى الحكمة بها، وسرّة الأرض بيت المقدس. وفي الخبر: من صلّى في بيت المقدس فكأنّما صلّى في السماء، وتزفّ الكعبة بجميع حجّاجها يوم القيامة إلى بيت المقدس، ويقول لها: مرحبا بالزائر والمزور، وتزفّ مساجد الله عزّ وجلّ كلّها إلى البيت المقدس، وأوّل ما انحسر عنه الطوفان صخرة بيت المقدس، وينفخ في الصور يوم القيامة بها، ويحشر الله عزّ وجلّ الخلائق إليها، وتزفّ الجنّة عند بيت المقدس، وباب السماء مفتوح على بيت المقدس، ويغفر الله عزّ وجلّ لمن أتى إلى بيت المقدس، ويخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه. قال الله عزّ وجلّ لموسى: انطلق إلى بيت المقدس فإنّ بها نوري، وناري. وتكفّل الله عزّ وجلّ لمن أتاها أن لا يفوته الرزق. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: ستهاجرون هجرة إلى مهاجر إبراهيم- يعني بيت المقدس- فمن صلّى في بيت المقدس ركعتين خرج من ذنوبه مثل يوم ولدته أمّه، وكان له بكلّ شعرة في جسده مائة نور عند الله عزّ وجلّ، وحشره الله عزّ وجلّ يوم القيامة مع الأنبياء. وقال لسليمان بن

داود حين فرغ من بنائها. سلني أعطك قال: يا ربّ أسألك أن تغفر لي ذنبي. قال الله عزّ وجلّ: لك ذلك. قال: يا ربّ وأسألك من جاء إلى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه أن تخرجه من ذنوبه كيوم ولدته أمّه. قال جلّ وعزّ: ولك ذلك. قال: وأسألك من جاءه فقيرا أن تغنيه، أو سقيما أن تشفيه. قال: ذلك لك. قال: وأسألك أن تكون عينك عليها إلى يوم القيامة. قال: ولك ذلك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشدّ الرحال إلى أفضل من ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجدي ومسجد بيت المقدس، وصلاة في بيت المقدس خير من ألف صلاة في سواه، ومن صبر على لأوائها وشدّتها جاءه الله برزقه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن يساره ومن فوقه ومن تحته فأكل رغدا ثم دخل الجنّة، وهي أوّل أرض بارك الله جلّ وعزّ فيها، وبشّر الله عزّ وجلّ إبراهيم وسارة بإسحاق بها، وبشّر الله جلّ وعزّ زكريّاء بيحيى بها، وتسوّر الملائكة المحراب على داود بها، ويمنع الدجّال عدوّ الله أن يدخلها، ويهلك يأجوج ومأجوج حول بيت المقدس، وأوصى آدم أن يدفن بها، إسحاق ويعقوب، وحمل يعقوب من أرض مصر إليها، ودفنت مريم بها، وبها موضع الصراط ووادي جهنّم والسّكينة، وإليها المحشر والمنشر، وتاب الله جلّ وعزّ على داود بها، وصدّق إبراهيم الرؤيا بها، وكلّم عيسى الناس في المهد بها، وتقاد الجنّة والنار إليها يوم القيامة. وقال كعب: من زار بيت المقدس دخل الجنّة وزاره جميع الأنبياء وغبطوه ومن صام يوما ببيت المقدس كان له براءة من النار، وما من ماء عذب إلّا يخرج من تحت الصخرة التي بيت المقدس. وقال ابن عبّاس في قوله وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً قال: أربعة أنهار: سيحان وجيحان والفرات والنيل الذي بمصر، فأما سيحان فدجلة، وأما جيحان فنهر بلخ، وأما الفرات فبالكوفة قال. وقال كعب: كان لسليمان بن داود النبي صلى الله عليه وسلم سبع مائة سرّيّة وثلاث مائة محصنة «1» ، وأن الله عزّ وجلّ أوحى إليه أن يبني بيت المقدس فكان يعمله بالجنّ

والأنس، فكان طعامهم الذي يطعمهم كلّ يوم من اللحم ستّين ألف شاة وعشرين ألف عجل وعشرين ألف فدّان، والذي يصلح لذلك من الحنطة. وقال كعب: هبط آدم بالهند فخرّ ساجدا، فوقعت جبهته على صخرة بيت المقدس. وقال كعب: لا تسمّوها إيلياء ولكنها بيت المقدس، إنما إيلياء امرأة بنت بيت المقدس. وقال كعب: من أتى بيت المقدس يسأل الله عزّ وجلّ فيها حاجة لا يسأله غيرها إلّا أعطاه الله إيّاها وقالت ميمونة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفتنا عن بيت المقدس. قال: نعم المصلّى، هو أرض المحشر وأرض المنشر ايتوه فصلّوا فيه، فإنّ الصلاة فيه كألف صلاة. قلت: بأبي وأمي أنت من لم يطق أن يأتيه؟ قال: فليهد إليه زيتا يسرج فيه. فإنه من أهدى إليه كان كمن صلّى فيه. وقال كعب: دخلت امرأة الجنّة في مغزل شعر أهدته إلى بيت المقدس. وعن ابن عبّاس قال: بيت المقدس بنته الأنبياء وعمرته الأنبياء، ما فيه موضع شبر إلّا وقد صلّى فيه نبيّ وقام عليه ملك. وقال فضيل بن عياض: لمّا صرفت القبلة نحو الكعبة قالت صخرة بيت المقدس: إلهي لم أزل قبلة لعبادك حتى بعثت خير خلقك فصرفت قبلتهم عني، فقال: أبشري فإني واضع عليك عرشي، وحاشر إليك خلقي، وقاض عليك أمري وناشر منك خلقي. وقال وهب: أهل بيت المقدس جيران الله عزّ وجلّ، وحقّ على الله ألا يعذّب جيرانه. وقال كعب: من زار بيت المقدس شوقا إليها دخل الجنّة، ومن صلّى فيه ركعتين خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وأعطي قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا، ومن تصدّق فيها بدرهم كان فداءه من النار، ومن صام فيها يوما واحدا كتبت له براءة من النار.

وقال كعب: قرأت في التورية أن الله جلّ وعزّ يقول للصخرة: أنت عرشي الأدنى، منك ارتفعت إلى السماء، ومن تحتك بسطت الأرض، ومن أحبّك أحبّني ومن أبغضك أبغضني ومن مات فيك فكأنّما مات في السماء. أنا جاعل لمن يسكنك أن لا يفوته الخبز والزيت أيّام حياته وكلّ ماء عذب من تحتك يخرج، لا تذهب الأيّام حتى يزفّ إليك البيت الحرام. وكلّ بيت يذكر فيه اسمي، يحفّون بك كما يحفّ الركب بالعروس. وقال بعضهم: ردّ الله جلّ وعزّ على سليمان ملكه بعسقلان، فمشى إلى بيت المقدس على قدميه تواضعا لله وشكرا، ويقول الله عزّ وجلّ لبيت المقدس: أنت نصب عيني لا أنساك، أنت مني بمنزلة الولد من والديه، فيك جنّتي وناري، وإليك محشري، وفيك موضع ميزاني. وقال يحيى بن كثير: لا تقوم الساعة حتى يضرب على بيت المقدس سبع حيطان: حائط من ذهب، وحائط من فضّة، وحائط من لؤلؤ، وحائط من ياقوت، وحائط من زبرجد، وحائط من نور. وبيت المقدس افتتحه عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه) . وعن وهب بن منبّه قال: أمر إسحاق ابنه يعقوب ألّا ينكح امرأة من الكنعانيّين، وأن ينكح من بنات خاله لابان، وكان مسكنه الفدان «1» ، فتوجّه إليه يعقوب فأدركه في بعض الطريق تعب، فبات متوسّدا حجرا، فرأى فيما يرى النائم كأنّ سلّما منصوبا إلى باب السماء عند رأسه، والملائكة تنزل منه وتعرج فيه، وأوحى الله عزّ وجلّ إليه أنّي أنا الله لا إله إلّا أنا إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وقد ورّثتك هذه الأرض المقدّسة وذرّيّتك من بعدك، وباركت فيك وفيهم، وجعلت فيكم الكتاب والحكم والنبوّة، ثم أنا معك حتى أردّك إلى هذا المكان، فأجعله بيتا تعبدني فيه وذرّيّتك، فيقال: إن ذلك بيت المقدس، ومات عنه داود (عليه السلام) فلم يتمّ بناءه، وأتمّه سليمان، فأخرجه

بخت نصّر، فمرّ عليه شعيا فرآه خرابا فقال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ وابتناه ملك من ملوك فارس يقال له كوشك. وقال وهب بن منبّه: لمّا أراد الله جلّ وعزّ أن يبني بيت المقدس ألقى على لسان داود فقال: يا ربّ ما هذا البيت؟ فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا داود هذا محلّة رسلي. وأهل مناجاتي، وأقرب الأرض إلى فصل القضاء يوم القيامة، ضمنت ألّا يأتيه عبد كثرت ذنوبه وخطاياه إلّا غفرت له، ولا يستغفرني إلا غفرت له وتبت عليه، قال: يا ربّ وارزقني أن آتية. فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا داود لا يخالط من التبست كفّاه بالدنيا. قال: يا ربّ أما قبلت توبتي وأعطيتني رضائي، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: أن البيت طاهر طهّرته من الذنوب، وغسلته من الخطايا، فلذلك منعتك بناءه حتى يجرى بناؤه على يدي نبيّ من أنبيائي تقي الكفّين، وقد كان داود أسّس أساس المسجد حتى ارتفعت الجدر، فأوحى الله جلّ وعزّ إليه يأمره أن يمسك عن البناء، ويعلمه أن الذي يتولّى بناءه من بعده ابنه سليمان وأنه قد جعل له اسم ذلك البناء وبشّره بما يعطي سليمان بعده من عظيم الملك، فلمّا أوحى الله جلّ وعزّ إلى داود بذلك أمسك عن البناء، فلمّا توفّي داود وملك سليمان أمر ببناء البيت، وأمر أن يجري في كل سنة من البر عشرون ألف كرّ، ومن الزيت عشرون ألف كرّ زيتون، وكان له سبعون ألف رجل أصحاب مساح ومرور، وثمانون ألف رجل ممن ينحت الحجارة، فبناه بالحجارة، وبطّنه بألواح من خشب مزخرف، وبطّن البيت الذي كان يقرّب فيه بصفائح من ذهب، ووضع في البيت الذي كان يقرّب فيه مثال ملكين من خشب منقوشين، وألبسهما صفائح الذهب، وجعلها عن يمين المذبح وعن يساره في الحائط، واتّخذ له أبوابا منقوشة بالذهب، واستتمّ عمله في ثلاث عشرة سنة، ثم وجّه إلى الصين فأتي برجل يعمل الشبه والنحاس، فاتّخذ أمتعة للبيت لا تحصى عددا، واتّخذ عمودين من نحاس، طول كلّ واحد ثمانية عشر ذراعا في غلظ اثني عشر ذراعا، واتخذ على رأسهما إجّانتين كل واحدة في طول خمسة أذرع، واتّخذ لهما أغطية وسلاسل، وعلّق فيهما أربع مائة رمّانة شبه صفّين، يقابل بعضها بعضا، واتّخذ حوضا من نحاس، يحمله اثنا عشر ثورا

مستديرا مع تماثيل وعجائب، وفصّص سقوفه وحيطانه بألوان الياقوت وسائر الجواهر، فلمّا فرغ من بنائه اتّخذ سليمان ذلك اليوم عيدا في كلّ سنة، وجمع عظماء بني إسرائيل وأحبارهم فأعلمهم أنه بناه لله جلّ وعزّ، وأن كلّ شيء فيه خالص لله، ثم قام على الصخرة رافعا يديه إلى الله جلّ وعزّ وحمده ومجّده وقال: اللهمّ أنت قوّيتني على بناء هذا المسجد، وأعنتني عليه، وسخّرت لي الجنّ والشياطين والريح والطير، اللهمّ أوزعني شكر نعمتك عليّ وعبادتك وأعنّي، وتوفّني على ملّتك، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي ذلك، اللهمّ إني أسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال فاستجبها لي يا إله العالمين، لا يطلبه مذنب بطلب التوبة إلّا غفرت له ذنبه وتبت عليه، ولا يدخله خائف إلّا أمّنت روعته وخوفه ووقّيته شرّ ما يخاف ويحذر، ولا يدخله سقيم إلّا وهبت له الشفاء والعافية، ولا يدخله فقير يطلب من فضلك إلّا أغنيته ورزقته من حيث لا يحتسب من حلال رزقك، والخامسة يا ربّ لا تصرف بصرك عمن يدخله حتى يخرج منه إلّا من أراد إلحادا وظلما يا ربّ العالمين. ويقال: إن طول مسجد بيت المقدس ألف ذراع وعرضه سبع مائة ذراع، وفيه أربعة آلاف خشبة، وسبع مائة عمود، وخمس مائة سلسلة نحاس، ويسرج فيه كلّ ليلة ألف وستّمائة قنديل، وفيه من الخدم مائة وأربعون خادما، وفي كل شهر له مائة قسط زيت، وله من الحصر في كلّ سنة ثمان مائة ألف ذراع، وفيه خمسة وعشرون ألف حبّ للماء، وفيه ستّة عشر تابوتاً للمصاحف المسبّلة، وفيها مصاحف لا يستقلّها الرجل، وفيه أربعة «1» منابر للمطوّعة وواحد للمرتزقة، وله أربع «2» مياضئ، وعلى سطوح المسجد مكان الطين خمس «3» وأربعون ألف صحيفة رصاص، وعلى يمين المحراب بلاطة سوداء مكتوب فيها خلقة محمّد صلى الله عليه وسلم، وفي ظهر القبلة في حجر أبيض كتابة بسم الله الرحمن الرحيم محمّد رسول

الله نصره حمزة وداخل المسجد ثلاث مقاصير للنساء طول كل مقصورة سبعون ذراعا، وفيه خمسون بابا داخلا وخارجا، ووسط المسجد دكّان طوله ثلاثمائة ذراع في خمسين ومائة ذراع وارتفاعه تسعة أذرع، وله ستّ درجات إلى الصخرة، والصخرة وسط هذا الدكّان وهي مائة ذراع في مائة ذراع ارتفاعها سبعون ذراعا ودورها ثلاثمائة وستّون ذراعا، يسرج فيها كلّ ليلة ثلاثمائة قنديل، وبها أربعة أبواب مطبّقة، على كل باب أربعة أبواب، وعلى كل باب دكّانة مرخّمة، وحجر الصخرة ثلاثة وثلاثون ذراعا في سبعة وعشرين ذراعا، تحتها مغارة يصلّي فيها الناس يسعها تسعة وستّون نفسا، وفرش القبّة رخام أبيض، وسقوفها بالذهب الأحمر، في دور حيطانها وفي أعلاها ستّة وخمسون بابا مزجّجة بأنواع الزجاج، والباب ستّة أذرع في ستّة أشبار، والقبّة بناها عبد الملك بن مروان على اثني عشر ركنا وثلاثين عمودا، وهي قبّة على قبّة، عليها صفائح الرصاص وصفائح النحاس مذهّبة، جدرها من داخل وخارج ملبّس بالرخام الأبيض ومن شرقيّ قبّة الصخرة قبّة السلسلة على عشرين عمودا رخاما، ملبّسة بصفائح الرصاص، وأمامها مصلّى الخضر (عليه السلام) وهو وسط المسجد، وفي الشامي قبّة النبي صلى الله عليه وسلم ومقام جبريل (عليه السلام) ، وعند الصخرة قبّة المعراج، وفيه من الأبواب: باب داود، وباب حطّة، وباب النبيّ، وباب التوبة- وفيه محراب مريم- وباب الوادي، وباب الرحمة، ومحراب زكريّاء، وأبواب الأسباط، ومغارة إبراهيم، ومحراب يعقوب، وباب دار أمّ خالد، ومن خارج المسجد على باب المدينة في الغرب محراب داود، ومربط البراق في ركن منارة القبلة، وعين سلوان في قبلة المسجد، وطور زيتا «1» مشرف على المسجد، وفيما بينهما وادي جهنّم، ومنه رفع عيسى (عليه

السلام) ، وعليه ينصب الصراط، وفيه مصلّى عمر بن الخطّاب، وفيه قبور الأنبياء، وبيت لحم على فرسخ من المدينة، وهو موضع ولد فيه عيسى، ومسجد إبراهيم على خمسة عشر ميلا، وفيه قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وسارة ونعل النبيّ صلى الله عليه وسلم عند الإمام. وكانت سلسلة قضاء الخصوم من اتّخاذ سليمان، وكان ممّا اتّخذ أيضا ببيت المقدس من الأعاجيب أن نصب في زاوية من زوايا المسجد عصا ابنوس، فكان من مسّها من أولاد الأنبياء لم يضرّه مسّها ومن مسّها من غيرهم احترقت يده، فلم يزل كذلك على ما بناه سليمان حتى غزا بخت نصّر، فخرّب بيت المقدس، ونقض المسجد، وأخذ ما كان في سقوفه من الذهب والفضّة والجواهر، فحمله معه إلى دار مملكته بالعراق، وبقي بيت المقدس خرابا حتى مرّ به شعيا النبيّ ورآه خرابا، وهو الذي قال الله عزّ وجلّ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وابتناه بعد ذلك ملك من ملوك فارس يقال له كوشك «1» . وبين بيت المقدس والرّملة ثمانية عشر ميلا، وهي من كورة فلسطين، وكانت دار ملك داود وسليمان ورحبعم بن سليمان وولد سليمان، ولمّا ملك الوليد بن عبد الملك ولّى سليمان بن عبد الملك جند فلسطين، فنزل لدّا ثم أحدث مدينة الرملة ومصرها، وكان أوّل ما بنى فيها قصره، والدار التي تعرف بدار الصبّاغين، وجعل في الدار صهريجا متوسّطا لها، ثم اختطّ المسجد وبناه، وأذن للناس في البناء فبنوا، واحتفر لأهل الرملة قناتهم التي تدعى برده، واحتفر أيضا آبارا عذبة، وولّى النفقة على بنائه بالرملة ومسجد الجامع كاتبا له نصرانيّا من أهل لدّ يقال له البطريق بن بكا، ولم تكن مدينة الرملة قبل سليمان، وكان موضعها رملة وصارت دار الصبّاغين لورثه صالح بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس، لأنها قبضت عن بني أميّة، وكانت بنو أميّة تنفق على آبار الرملة وقناتها بعد سليمان بن

عبد الملك، فلمّا استخلف أبو العبّاس أنفق عليها، ثم كان ينفق خليفة بعد خليفة، فلمّا استخلف المعتصم بالله سجلّ بتلك النفقة سجلا فانقطع الاستئمار وصارت جارية يحتسب بها العمّال فتحسب لهم. ومن كور فلسطين أيضا عمواس، وكورة لدّ، وكورة يبنا، وكورة يافا، وكورة قيساريّة، وكورة نابلس، وكورة سبسطية، وكورة بيت جبرين، وكورة غزّة، وعسقلان، وسمّيت فلسطين بفيلسين بن كسلوخيم بن صدقيا ابن كنعان بن حام بن نوح النبي (عليه السلام) وقال ابن الكلبيّ في قول الله عزّ وجلّ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قال: هي فلسطين وفي قوله الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ قال: فلسطين. وفلسطين بلاد واسعة كثيرة الخير، ويقال: إنها من بناء اليونانيّين، والزيتون التي بها من غرسهم. وقال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : «أبشركم بالعروسين غزّة وعسقلان» . وقال عمر بن الخطاب: لولا أن تعطّل الثغور وتضيق عسقلان بأهلها لأخبرتكم بما فيها من الفضل. وقال عبد الله بن سلام: لكلّ شيء سراة وسراة الشام عسقلان. وافتتحها معاوية في خلافة عمر بن الخطّاب. وعن ابن عبّاس قال: جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله إني أريد العراق، فقال (صلى الله عليه وسلم) : عليك بالشام، فإن الله جلّ وعزّ قد تكفّل لي بالشام وأهله، ثم الزم من الشام عسقلان، فإنه إذا دارت الرحا في أمّتي كان أهل عسقلان في راحة وعافية. وقال أبو أمامة الباهليّ: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : من رابط بعسقلان يوما وليلة ثم مات بعد ذلك بستّين سنة مات شهيدا، ولو مات في أرض الشرك. وخراج فلسطين خمس مائة ألف دينار.

[وكان منزل نوح عليه السلام في جبل الجليل بالقرب من حمص في قرية تدعى سحر، ويقال إن بها فار التنور. وجبل الجليل بالقرب من دمشق أيضا. يقال إن عيسى عليه السلام دعا لهذا الجبل أن لا يعدو سبعه ولا يجرب زرعه، وهو جبل يقبل من الحجاز فما كان بفلسطين منه فهو جبل الحمل وما كان بالأردن فهو جبل الجليل، وهو بدمشق لبنان وبحمص سنير، وقال أبو قيس بن الأسلت: فلولا ربنا كنّا يهودا ... وما دين اليهود بذي شكول ولولا ربنا كنا نصارى ... مع الرهبان في جبل الجليل ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... حنيف ديننا عن كل جيل] «1»

القول في دمشق قال الكلبيّ: دمشق بناها دمشق بن فالي بن مالك بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وقال الأصمعيّ: أخذت دمشق من دمشقوها أي أسرعوها. وقال كعب في قول الله عزّ وجلّ: وَالتِّينِ قال: الجبل الذي عليه دمشق وَالزَّيْتُونَ قال: الذي عليه بيت المقدس وَطُورِ سِينِينَ حيث كلّم الله موسى (عليه السلام) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ مكّة. وقال كعب: مربض ثور في دمشق خير من دار عظيمة بحمص. قال في قوله عزّ وجلّ: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ قال: دمشق. وقال كعب: معقل المسلمين من الملاحم دمشق، ومعقلهم من الدجّال نهر أبي فطرس، ومن يأجوج ومأجوج الطور. وقال هارون الرشيد للحسين بن عمّار: ولّيتك دمشق وهي جنّة تحيط بها غدر تتكفّأ أمواجها على رياض كالدراريّ، فما برح بك التعدّي لإرفاقهم أن جعلتها أجرد من الصخر، وأوحش من القفر. قال: والله يا أمير المؤمنين ما قصدت لغير التوفيق من جهته، ولكنّي رأيت أقواما ثقل الحقّ على أعناقهم فتفرّقوا في ميادين التعدّي ورأوا المراغمة بترك العمارة أوقع بإضرار السلطان، وأرادوا بذلك المشقّة على الولاة، وإن سخط أمير المؤمنين فقد أخذ بالحظّ الأوفر من مساءتي. فقال الرشيد: هذا أجزل كلام سمع من خائف. وقال الأصمعيّ: جنان الدنيا ثلاث: غوطة دمشق، ونهر بلخ، ونهر الأبلّة. وحشوش الدنيا ثلاثة: الأبلّة، وسيراف، وعمان.

وقال: عروسا الدنيا: الرّيّ ودمشق. وقال يحيى بن أكثم: ليس في الأرض بقعة أنزه من ثلاث بقاع: قهندز سمرقند، وغوطة دمشق، ونهر الأبلّة. وقال المدائنيّ: دمشق مدينتها الغوطة، وكورها: إقليم سنير وكورة جبيل، وبيروت، وصيدا، وبثنيّة، وحوران، وجولان، وظاهر البلقاء، وجبرين الغور، وكورة مآب، وكورة جبال، وكورة الشّراة، وبصرى، وعمّان، والجابية، والقريتان، والحولة، والبقاع، والسواحل منها ستّة: صيدا، وبيروت، وأطرابلس، وعرقة، وصور، منبرها إلى دمشق وخراجها إلى الأردنّ، وخراج دمشق أربع مائة ألف ونيّف، ودمشق هي أربعة أخماس صلح وخمس عنوة وهو خمس خالد بن الوليد، وفتحت سنة 14، في رجب للنصف منه في خلافة عمر بن الخطّاب. وقال البحتريّ في دمشق: أمّا دمشق فقد أبدت محاسنها ... وقد وفى لك مطريها بما وعدا إذا أردت ملأت العين من بلد ... مستحسن وزمان يشبه البلدا تمسي السّحاب على أجبالها فرقا ... ويصبح النّور في صحرائها بددا فلست تبصر إلّا واكفا خضلا ... ويانعا خضرا أو طائرا غردا كأنّما القيظ ولّى بعد جيئته ... أو الرّبيع دنا من بعد ما بعدا وقال أبو تمّام: لولا حدائقها وأنّي لا أرى ... عرشا هناك ظننتها بلقيسا وأرى الزّمان غدا عليك بوجهه ... جذلان بسّاما وكان عبوسا قد نوّرت تلك البطون وقدست ... تلك الظهور بقربه تقديسا وقالوا: عجائب الدنيا أربع «1» : قنطرة سنجة، ومنارة الإسكندريّة، وكنيسة

الرّها، ومسجد دمشق. ولمدينة دمشق ستّة أبواب: باب الجابية، وباب الصغير، وباب كيسان، وباب الشرقيّ، وباب توما، وباب الفراديس، هذه التي كانت على عهد الروم ولمّا أراد الوليد بن عبد الملك بناء مسجد دمشق دعا نصارى دمشق فقال: إنّا نريد أن نزيد في مسجدنا كنيستكم هذه، ونعطيكم موضع كنيسة حيث شئتم، فحذّروه ذلك وقالوا: إنّا نجد في كتبنا أنه لا يهدمها أحد إلّا خنق، فقال الوليد: فأنا أوّل من يهدمها. فقام عليها وعليه قباء أصفر فهدمها بيده وهدم الناس معه، ثم زاد في المسجد. فلمّا هدمها كتب إليه ملك الروم أنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها. فإن كان حقّا ما عملت فقد أخطأ أبوك، وإن كان باطلا فقد خالفت أباك، فلم يعرف الوليد جوابا فاستشار الناس وكتب إلى العراق فقال الفرزدق: أجبه يا أمير المؤمنين بقول الله جلّ وعزّ: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ - الآية إلى قوله- حُكْماً وَعِلْماً فكتب إليه الوليد بذلك فلم يجبه. والوليد «1» ممّن زاد في المساجد وبناها، فبنى المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد قبا، ومسجد دمشق، وأوّل من حفر المياه في طريق مكّة إلى الشام، وأوّل من عمل البيمارستانات للمرضى، وكان في ذلك أنه خرج حاجّا فمرّ بمسجد النبيّ (صلى الله عليه وسلم) فدخله فرأى بيتا ظاعنا في المسجد شارعا بابه فقال: ما بال هذا البيت؟ فقيل: هذا بيت عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) أقرّه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وردم سائر أبواب أصحابه فقال: إن رجلا نلعنه على منابرنا في كلّ جمعة ثم نقرّ بابه ظاعنا في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من بين الأبواب، اهدم يا غلام. فقال روح بن زنباع الجذاميّ: لا تفعل يا أمير المؤمنين حتى تقدم الشام، ثم تخرج أمرك بتوسيع مساجد الأمصار مثل: مكّة، والمدينة، وبيت المقدس، وتبني بدمشق مسجدا فيدخل هدم بيت عليّ بن أبي طالب فيما يوسّع من مسجد المدينة. فقبل منه وقدم الشام وأخذ في بناء مسجد دمشق، وأنفق عليه خراج المملكة سبع سنين. ليكون ذكرا له، وفرغ من المسجد في ثماني سنين، فلمّا

حمل إليه حساب نفقات مسجد دمشق على ثمانية عشر بعيرا أمر بإحراقها. قال في كتاب (المسالك والممالك) «1» : أنفق على مسجد دمشق خراج الدنيا ثلاث مرّات، وبلغ ثمن البقل الذي أكله الصنّاع في مدّة أيّام العمل ستّة آلاف دينار، وهذا المسجد مقعد عشرين ألف رجل، وأن فيه ستّمائة سلسلة ذهب للقناديل. قال زيد بن واقد: وكّلني الوليد على العمّال بمسجد دمشق فوجدنا فيه مغارة فعرّفنا الوليد ذاك، فنزل في الليل فإذا هي كنيسة لطيفة، ثلاثة أذرع في مثلها، وإذا فيها صندوق، وفيه سفط مكتوب عليه هذا رأس يحيى بن زكريّاء، فرأيناه فأمر به الوليد أن يجعل تحت عمود معيّن، فجعل تحت العمود المسقّط الرابع الشرقيّ ويعرف بعمود السكاسك، وقال أبو مهران رأس يحيى بن زكريّاء تحت عمود السكاسك، وقال زيد أيضا: رأيت رأس يحيى بن زكريّاء حين وضع تحت العمود والبشرة والشعرة لم تتغيّر. قالوا: فمن عجائب مسجد دمشق أن لو بقي الرجل فيها مائة سنة لكان يرى فيها في كلّ وقت أعجوبة لم يرها قبل. وقال كعب: ليبنينّ في دمشق مسجد يبقي بعد خراب الأرض أربعين عاما والمئذنة التي بدمشق كانت ناطمرا للروم في كنيسة يحيى، فلمّا هدم الوليد الكنائس وأدخلها المسجد تركت على حالها، وهدم الوليد عشر كنائس واتّخذها مسجدا، ولمّا ولّي عمر بن عبد العزيز الخلافة قال: إني أرى في مسجد دمشق أموالا أنفقت في غير حقّها، فأنا مستدرك ما استدركت منها، ورادّها إلى بيت المال، أنزع هذا الرخام والفسيفساء وأطيّنه، وأنزع هذه السلاسل وأصيّر بدله حبالا، فاشتدّ ذلك على أهل دمشق فخرج أشرافها إليه وكان فيهم يزيد بن سمعان وخالد بن عبد الله القسريّ، فقال خالد لهم: دعوني والكلام، قالوا: تكلّم، فلمّا

دخلوا عليه قال له خالد: بلغنا أنك هممت بمسجدنا بكذا وكذا. قال: نعم. قال: والله ما ذلك لك. قال: فلمن ذلك لأمّك الكافرة؟ وكانت أمّه نصرانيّة. فقال: إن تك كافرة ولدت مؤمنا، فاستحيى عمرو قال: صدقت. وورد على عمر رسل الروم فدخلوا مسجد دمشق لينظروا إليها فرفعوا رؤوسهم إلى المسجد، فنكّس رئيس منهم رأسه واصفرّ لونه فقالوا له في ذلك فقال: إنّا كنا معاشر أهل روميّة نتحدّث أن بقاء العرب قليل، فلمّا رأيت ما بنوا علمت أن لهم مدّة سيبلغونها، فأخبر عمر بذلك فقال: أرى مسجدكم هذا غيظا على الكفّار، فترك ما همّ به من أمر المسجد. والمسجد مبنيّ بالرخام والفسيفساء، مسقّف بالساج، منقوش باللازورد والذهب، والمحراب مرصّع بالجواهر المثمّنة، والحجارة العجيبة. وبنى معاوية الخضراء بدمشق في زمن عثمان بن عفّان، وأمر على الشام وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، واستخلف وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وتوفي لثمان وسبعين سنة، وهو أوّل من اتّخذ المحاريب والمقاصير والشّرط والحرس والخصيان وأصفى الأموال. وقد أنكر قوم بناء الدور والأبنية، والنفقة والتبذير عليها، وهذا طلحة بنى داره بالآجرّ والقصّة «1» وأبوابه ساج، وبنى عثمان بن عفّان بالحجارة المنقوشة المطابقة وخشب الصنوبر والساج، وحمل له من البصرة في البحر ومن عدن في البحر، وحمل له القصّة من بطن نخل، وبني الزبير أربعة أدور: دارا بمصر، وأخرى بالإسكندريّة، وأخرى بالكوفة، وأخرى بالبصرة، وأنفق زيد بن ثابت على داره ثلاثين ألف درهم. وقال كعب الحبر: أربع مدائن من مدائن الجنّة: حمص، ودمشق، وبيت جبرين، وضفار اليمن، وأجناد الشام أربعة: حمص، ودمشق، وفلسطين، والأردنّ.

ولقي كعب رجلا فقال: من أين أقبل الرجل؟ قال: من الشام. قال: أفمن أهله أنت؟ قال: نعم. قال: فلعلّك من الجند الذين ينظر الله إليهم كلّ يوم مرّتين. قال: وأيّ جند هم؟ قال: جند فلسطين. قال: لا. قال: فلعلّك من الجند الذين يلقون الله في الثياب الخضر. قال: وأيّ جند هم؟ قال: جند الأردنّ. قال: لا. قال: فلعلّك من الجند الذين يستظلّون تحت العرش يوم لا ظلّ إلا ظلّه. قال: وأيّ جندهم؟ قال: جند دمشق. قال: لا. قال: فلعلّك من الجند الذين يبعث الله منهم سبعين ألف نبيّ. قال: وأيّ جند هم؟ قال: جند حمص. قال: لا. قال: فمن أين أنت؟ قال: من قنّسرين. قال: ليست تلك من الشام، تلك قطعة من الجزيرة يفرّق بينهما الفرات. وخراج حمص ثلاثمائة ألف وأربعون ألف دينار، وأقاليمها كثيرة منها: إقليما سلمية وتدمر. قال: ولمّا هدم مروان بن محمّد حائط تدمر وصل إلى بيت مجصّص عليه قفل ففتحه فإذا امرأة مستلقية على قفاها، في بعض غدائرها صحيفة نحاس مكتوب عليه: بسمك اللهم أنا تدمر بنت حسّان، أدخل الله الذلّ على من يدخل عليّ في بيتي. قال: فو الله ما ملك مروان بعدها إلّا أيّاما حتى أقبل عبد الله بن عليّ فقتل مروان بن محمّد، وفرّق خيله، واستباح عسكره، فقيل وافق دعاءها. ويقال: إن مدينة تدمر بناها سليمان بن داود، وكانت عجيبة البناء، كثيرة الصور والتماثيل. ويقال: إنه بنى فيها دارا فيها مقاصير وأروقة وحجرات وإيوانات وغير ذلك، وأن سطح هذه الحجرات والمقاصير وغير ذلك حجر واحد بقطعة واحدة، وهو باق إلى يومنا هذا، وبها صورة جاريتين من حجارة من بقايا صور كانت بها، وقال: فيهما بعض الشعراء «1» : فتاتي أهل تدمر خبّراني ... ألمّا تسأما طول المقام قيامكما على غير الحشايا ... على جبل أصمّ من الرّخام

وإنّكما على مرّ اللّيالي ... لأبقى من فروع ابني شمام وأنشد أبو دلف فيهما لنفسه: ما صورتان بتدمر قد راعتا ... أهل الحجى وجماعة العشاق غبرا على طول الزمان ومرّه ... لم يسأما من ألفة وعناق فليرمينّ الدّهر من نكباته ... شخصيهما منه بسهم فراق وليبلينّهما الزمان بكرّه ... وتعاقب الإظلام والإشراق كي يعلم العلماء ألّا دائما ... غير الإله الواحد الخلّاق وأنشد أبو الحسن العجليّ فيهما: إنّ اللّتين صيغتا بتدمر ... وكّلتا قلبي بوجد مضمر صوّرتا في أحسن التصوّر ... لم يرهبا كرّ صروف الأعصر وتدمر صلحيّة صالح أهلها خالد بن الوليد. والسواحل من حمص الستّة: كورة اللاذقيّة، وكورة جبلة، وكورة بلنياس، وكورة أنطرطوس، وكورة مرقيّة، وكاسرة، والسّقي، وحبنة، والحولة، وعملوا، ورندك، وقبراثا. وإذا عبرت الفرات جئت إلى خشاف وناعورة، ثم إلى حلب وقنّسرين وكورها، وخراج قنّسرين أربعة آلاف دينار. وقال مشايخ أنطاكية: كانت ثغور المسلمين أيّام عمر وعثمان أنطاكية والكور التي سمّاها الرشيد العواصم وهي: كورة قورس، والجومة، ومنبج، وأنطاكية وتوزين، وبالس، ورصافة هشام، فكان المسلمون يغزون ما وراءها كغزوهم الروم، وكانت فيما بين الإسكندريّة وطرسوس حصون ومسالح للروم. وقالوا: حمص من بناء اليونانيّين، وزيتون فلسطين من غرسهم، ومدينة حمص افتتحها خالد بن الوليد صالحهم على مائة وسبعين ألف دينار، وكانت مدينة حمص مفروشة بالصخر، وهي اليوم كذلك. ومن عجائب حمص: صورة على باب المسجد الجامع بجنب البيعة على

حجر أبيض، أعلى الصورة. صورة إنسان، وأسفلها صورة عقرب، فإذا لدغ العقرب إنسانا فأخذ طينا، ووضعه على تلك الصورة، ثم أدافه بالماء وشربه سكن وجعه وبرئ من ساعته، ويقال: إن تلك الصورة طلسم للعقرب خاصّة، وكان فتح حمص قبل دمشق في أوّل ليلة من رجب سنة أربع عشرة. وبدمشق لبنان وهو الجبل الذي يكون عليه العبّاد والأبدال، وعليه من كلّ الثمر والفواكه، وفيه عيون كثيرة عذبة، وهو متّصل ببلاد الروم، وعند باب دمشق جيرون، وهي من بناء سليمان بن داود، وهي سقيفة مستطيلة على عمد، وحولها مدينة تطيف بجيرون، قال أبو عبيدة: الجيرون عمود عليه صومعة، وهو من البناء المذكور، ومن البناء المذكور الأبلق الفرد والورد أيضا، قصر بناه سليمان بن داود. قالوا: وأول من ابتنى حصن المصّيصة في الإسلام عبد الملك بن مروان على يد ابنه عبد الله، ثم بنى عمر بن عبد العزيز بها مسجدا من ناحية كفربيّا، واتّخذ فيها صهريجا وكان اسمه عليه مكتوبا، ثم إن المسجد خرب في خلافة المعتصم، وهو يدعى مسجد الحصن، وشحنوها بالرجال، وبنى المنصور فيها مسجدا جامعا في موضع هيكل كان بها، وجعله مثل مسجد عمر ثلاث مرّات، ثم زاد فيه المأمون أيّام ولاية عبد الله بن طاهر المغرب، وفرض فيها المنصور لألف رجل، وزاد فيها المهديّ ألفي رجل، ولم يعطهم شيئا لأنها قد كانت شحنت بالجند والمطّوعة. وقال أبو النعمان الأنطاكي: كان الطريق فيما بين أنطاكية والمصّيصة مسبعة، يعرض للناس فيها الأسد، فلمّا كان أيّام الوليد بن عبد الملك شكي ذلك إليه، فوجّه أربعة آلاف جاموس وجاموسة فنفع الله جلّ وعزّ بها. قال الواقديّ: ولمّا غزا الحسن بن قحطبة الطائيّ بلاد الروم سنة 163 في أهل خراسان والموصل والشام ومطوّعة العراق والحجاز خرج ممّا يلي طرسوس، فأخبر المهديّ ما في بنائها وتحصينها وشحنتها بالمقاتلة من عظيم الغناء عن الإسلام والكبت للعدوّ، وكان خرج في مرج طرسوس، فركب إلى مدينتها، وهي

يومئذ خراب، فنظر إليها وأطاف بها من جميع جهاتها، وحرز عدّة من يسكنها فوجدهم مائتي ألف، فلمّا كان سنة 171 بلغ الرشيد أن الروم قد ائتمروا بينهم للخروج إلى طرسوس لتحصينها وترتيب المقاتلة بها. فأغزى الصائفة هرثمة بن أعين، وأمر بعمارة طرسوس وبنائها وتمصيرها، ففعل فأجرى أمرها على يدي فرج بن سليم الخادم، فبنى قصبتها ومسجدها، ومسح ما بين النهر إلى النهر، فبلغ ذلك أربعة آلاف خطّة، كلّ خطّة عشرون ذراعا في مثلها، وأقطع أهل طرسوس الخطط في شهر ربيع الآخر سنة 173، ولمّا كانت سنة 180 أمر الرشيد ببناء مدينة عين زربة وتحصينها «1» ، وحوّل إليها خلقا من الخراسانيّة وأقطعهم المنازل، وفي سنة 183 أمر ببناء الهارونيّة، فبنيت وشحنت بالمقاتلة، ونسبت إليه، وأمر الرشيد ببناء مدينة الكنيسة السوداء وتحصينها، وأمر المنصور صالح بن عليّ ببناء ملطية وكانت خرابا، وكان الحسن بن قحطبة أتمّها بأمر المنصور وأعان الفعلة بنفسه وماله، وكان الحسن يقول: من سبق إلى شرفة فله كذا، فجدّ الناس في العمل حتى فرغوا من بناء ملطية ومسجدها في ستّة أشهر، وهم يومئذ سبعون ألفا وبني بها للجند الذين أسكنوها، لكلّ عرّافة بيتان سفليّان وعليّتان، والعرّافة عشرة نفر إلى خمسة عشر رجلا، وبنى لهم مسلحة على ثلاثين ميلا منها، ومسلحة على نهر يدعى قباقب يدفع في الفرات، وأسكنها أربعة آلاف مقاتل من أهل الجزيرة، وزاد كلّ واحد منهم عشرة دنانير، وأقطع الجند المزارع، وبنى حصن قلوذية، وأرض التيه بموضع يقال له حصن منصور أربعون فرسخا. وقال الحجّاج بن يوسف لزادان فرّوخ: أخبرني عن العرب والأمصار. فقال: أصلح الله الأمير، أنا بالعجم أبصر مني بالعرب. قال: لتخبرني. قال: فسل عمّا بدا لك. قال: أخبرني عن أهل الكوفة. قال: نزلوا بحضرة أهل السواد فأخذوا من ضيافتهم وسماحتهم. قال: فأهل البصرة. قال: نزلوا بحضرة الخوز. فأخذوا من مكرهم وبخلهم. قال: فأهل الحجاز. قال: نزلوا بحضرة السودان.

فأخذوا من ضيافتهم وسماحتهم. قال: فأهل البصرة. قال: نزلوا بحضرة الخوز. فأخذوا من مكرهم وبخلهم. قال: فأهل الحجاز. قال: نزلوا بحضرة السودان فأخذوا من حمقة عقولهم وطربهم، فغضب الحجّاج فقال له: أعزّك الله لست حجازيّا، إنما أنت رجل من أهل الشام. قال: فأخبرني عن أهل الشام. قال: نزلوا بحضرة الروم فأخذوا من ترفّقهم وصناعتهم وشجاعتهم. ويقال: ريف الدنيا من السمك ما بين ماهيرويان إلى عمان، وريف الدنيا من التمر ما بين اليمن إلى البصرة وهجر، وريف الدنيا من الزيتون فلسطين إلى قنّسرين. وقال المدائنيّ: قدم وفد من العراق على معاوية بن أبي سفيان فيهم صعصعة بن صوحان العبديّ، فقال معاوية: مرحبا بكم وأهلا، قدمتم خير مقدم، وقدمتم على خير خليفة، وهو جنّة لكم، وقدمتم الأرض المقدّسة، وقدمتم أرض المحشر والمنشر، وقدمتم أرضا بها قبور الأنبياء. فقال صعصعة: أما قولك يا معاوية قدمتم خير مقدم فذاك من قدم على الله والله عنه راض، وأما قولك قدمتم على خليفتكم وهو جنّة لكم فكيف بالجنّة إذا احترقت، وأما قولك قدمتم الأرض المقدّسة، فإن الأرض لا تقدّس أهلها لكن أهلها يقدّسونها، وأما قولك قدمتم أرض الحشر والمنشر فإن بعد الأرض لا ينفع كافرا ولا يضرّ مؤمنا، وأما قولك قدمتم أرض الأنبياء بها قبور الأنبياء فإن من مات بها من الفراعنة أكثر ممّن مات فيها من الأنبياء. فقال معاوية: اسكت لا أرض لك. قال: ولا لك يا معاوية، الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين. قال معاوية: يا صعصعة إني كنت لأبغض أن أراك خطيبا. قال: وأنا والله يا معاوية أبغض أن أراك أميرا. قالوا: ودومة الجندل شاميّة، وهي فصل ما بين العراق والشام، وهي على سبع مراحل من دمشق. قال: ولمّا فتح أنوشروان قنّسرين ومنبج وحلب وأنطاكية وحمص ودمشق وإيلياء استحسن أنطاكية وبناءها، فلمّا انصرف إلى العراق بنى مدينة على مثال أنطاكية بأسواقها وشوارعها ودورها وسمّاها زندخسره، وهي التي تسمّيها العرب

روميّة، وأمر أن يدخل إليها سبي أنطاكية فلمّا دخلوها لم ينكروا من منازلهم شيئا، فانطلق كلّ رجل منهم إلى منزلة إلّا رجلا اسكافا، كان على بابه بأنطاكية شجرة فرصاد، فلم يرها على بابه بروميّة، فتحيّر ساعة، ثم اقتحم الدار فوجدها مثل داره، فلمّا رأى ملك الروم ما قد فتحه كسرى من مدائنه وادعه ووجّه كسرى رجلا من مرازبته إلى أرض الروم يقبض الأتاوة. وقال عمرو بن بحر: ربّ بلد يستحيل فيه العطر، وتذهب رائحته كقصبة الأهواز «1» . وقد كان هارون الرشيد همّ بالمقام بأنطاكية وكره أهلها ذلك، فقال شيخ منهم وصدقة: ليست من بلادك يا أمير المؤمنين، قال: وكيف؟ قال: لأن الطيب الفاخر يتغيّر فيها حتى لا ينتفع منه بكبير شيء، والسلاح يصدأ فيها ولو كان من قلعة الهند. وقالوا: سيحان بأذنة، وجيحان بالمصّيصة، والبردان ويسمّى الغضبان بطرسوس، وجيحون نهر بلخ. وقال ابن شوذب: تغور المياه قبل يوم القيامة إلّا بئر زمزم ونهر الأردنّ وهو الذي قال الله عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ. وكور الأردنّ: طبريّة، والسامرة، وبيسان، وفحل، وكورة جرش، وعكّا، وكورة قدس، وكورة صور. وخراج الأردنّ ثلاثمائة ألف وخمسون ألف دينار، من الطبريّة إلى اللّجّون عشرون ميلا، ثم إلى القلنسوة عشرون ميلا، ثم إلى الرملة مدينة فلسطين أربعة وعشرون ميلا وهي على الجادّة فحاجّ الشام والثغور ينزلونها «2» . ومدينة اللجّون: فيها صخرة عظيمة مدوّرة خارج المدينة، وعلى الصخرة قبّة زعموا أنها مسجد إبراهيم (عليه السلام) يخرج من تحت الصخرة ماء كثير،

وذكروا أن إبراهيم ضرب بعصاه هذه الصخرة فخرج منها من الماء ما يتّسع فيه أهل المدينة ورساتيقهم إلى يومنا هذا. قالوا: ولنا الزيت والزيتون الذي ليس في شيء من البلدان أكثر منه في بلادنا، وقال الله عزّ وجلّ: مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ومن أبنيتهم العجيبة لدّ، وحدّثني رجل قال: قلت لأهل لدّ هذا بنته الشياطين لسليمان، قال: أنتم إذا جلّ في صدوركم البنيان أضفتموه إلى الجنّ والشياطين، هذا قبل مولد سليمان (عليه السلام) بدهور كثيرة. وعلى سبعة أميال من منبج حمّة. عليها قبّة تسمّى المدير، وعلى شفير الحمّة صورة رجل من حجر أسود، تزعم النساء أن كلّ من لا تلد تحكّ فرجها بأنف الصورة فيولد لها، وفيها حمّام يقال له حمّام الصّوابي فيه صورة رجل حجر يخرج ماء الحمّام من إحليله. قالوا: ومن عجائبنا تفّاح لبنان، وفيه أعجوبة وذلك أنه يحمل التفّاح من لبنان، وهو تفّاح جبل عذى لا طعم له ولا رائحة، فإذا توسّط نهر البليخ فاحت رائحته، وهذا شبيه بالذريرة التي بنهاوند، فإن بها قصبا يتّخذ منه الذريرة، فليست له رائحة بتّة حتى يجاز بها ثنيّة الرّكاب، وهي من نهاوند على فراسخ كثيرة، فإذا جازت الثنيّة فاحت رائحته وحمل منها إلى البلدان، وبشيراز شجرة تفّاح، التفّاحة منها نصفها حلو في غاية الحلاوة، ونصف حامض في غاية الحموضة، وليس بفارس كلّها من هذا النوع إلّا هذه الشجرة الواحدة. قالوا: من عجائب الشام أربعة أشياء: بحيرة الطبريّة، والبحيرة المنتنة، وأحجار بعلبك، ومنارة الإسكندريّة. فأما أحجار بعلبكّ فإن فيها حجرا على خمسة عشر ذراعا أقلّ وأكثر ارتفاعه في السماء عشرة أذرع في عرض خمسة عشر ذراعا في طول خمسة وأربعين ذراعا هذا حجر واحد في حائط.

القول في المغرب

وأما منارة الإسكندريّة فإنه يصعد إليها رجل على برذون حتى يبلغ أعلاها، وهي مبنيّة على سرطان من زجاج. وأما بحيرة الطبريّة فإنه يشرع إليها وينتفع بها للغسالات، فإذا منع منها هذا أنتنت. والبحيرة المنتنة لا يغرق فيها شيء، وكلّ شيء يقع فيها فإنما يطفو على رأس الماء. ومن عيوب الشام كثرة طواعينها، والناس يقولون: حمّى خيبر وطواعين الشام ودماميل الجزيرة وجرب الزنج وطحال البحرين. قالوا: ومن أقام بالموصل حولا وجد في قوّته فضلا، ومن أطال الصوم بالمصّيصة خيف عليه الجنون، ومن قدم من شقّ العراق إلى بلاد الزنج لم يزل حزينا ما أقام بها، فإن أكثر من شرب نبيذها وشرب ماء النارجيل صار كالمعتوه «1» . وقال أبو هريرة: أنا لبراغيث الشام أخوف مني لغيرها. وقالوا في قول الله عزّ وجلّ: وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ قال: من فلسطين. افتخار الشاميّين على البصريّين وفضل الحبلة على النّخلة قال أبو عبّاد محمّد بن سلمة البصريّ المعروف بابن العلّاف القارئ: إني لفي يوم من أيّام المعتزّ بالله في ديوان الخراج بسرّمن رأى مع جماعة من قرّاء البصريّين نطالب بأرزاقنا، وفينا عليّ بن أبي ناشر، إذ طلع علينا فتية من كتّاب الأنبار، ومعهم أبو حمران الشاعر، ونحن نصف البصرة وما خصّت به من أرض الصدقة التي لا يسوغ للسلطان الأعظم تبديلها، ولا للعمّال تغييرها، وما فيها من المدّ والجزر والخلجان ومقادير الساعات ومنازل القمر، فقال أبو حمران: ما من بلد إلّا وقد أعطي نوعاً من الفضل يتفرّد به، وضربا من المرافق معدولا عن غيره،

يعجب به أهله، ويطمئنّون إليه في تقريظه، فقلت له مجيبا: لئن قلت ذلك فإنّا لا نعرف مصرا جاهليّا ولا إسلاميّا أفضل من البصرة، ولا أرضا يجري عليها الأتاوة أشرف من أرض الصّدقة، ولا شجرة هي أفضل من النخلة، ولا نعرف بلدا أقرب برّأ من بحر، وحضرا من بدو، وريفا من فلاة، وملّاحا من جمّال، وقانص وحش من صائد سمك، ونجدا من غور من البصرة، فهي واسطة الأرض، وغوصة البحر، ومغيض الأقطار، وقلب الدنيا، ولقد مثّلت الحكماء الأرض بصورة طائر، فجعلوا الجؤجؤ بما فيه من القلب البصرة، والرأس الشام والروم، والجناحين المشرق والمغرب، والذنب السودان، وهم أكثر عددا من البيضان، فكفى بهذا وحده فخرا، فقال أبو حمران: كلّ فتاة بفتاها معجبه ... والخنفسى في عين أمّه لؤلؤه وقالت الأعرابيّة وهي تزفّن ابنا لها وتقول: يا قوم ما لي لا أحبّ حشوده ... وكلّ خنزير يحبّ ولده فأين أنت يا أخا البصرة عن خصب الشام والجزيرة وعن فضل المسجد الأقصى والبلاد المقدّسة، وعن عذاة داري مصر وربيعة، وعن رفيع قدر الكرمة وعن قول عمرو بن كلثوم: وعند الله يأتيه دعاها ... إلى أرض يعيش بها الفقير لأرض الشام وهي حمّى وحبّ ... وزيتون وثمّ نشا العصير وو الله للرقّة البيضاء وحدها أطيب من البصرة، وللرافقة أغذى من الأبلّة، ولحلب أخصب من الكوفة، وللخم وجذام وأفناء قبائل قضاعة أشرف من بكر وتميم وضبّة، وللحبلة أفضل من النخلة، وللعنب أحلى من الرطبة، وللزبيبة أطيب من التمرة، ولقد خصّ الله بلاد الشام من بركة الزيتون، والعواصم والجزيرة من لذّة التين ومن أنواع الفواكه بما يتهالك في أصغره النخل، ويستبشع معه الرطب والتمر، قال: فقلت لأبي حمران: قد سمعنا نشيدك ووعينا افتخارك، ولا

أحسبك سمعت قول الخليل بن أحمد في وصف البصرة إذ يقول في قصر أنس بن مالك ونهر بن عمرو وادي العقيق: يا وادي القصر نعم القصر والوادي «1» وقول ابن أبي عيينة في ذلك «2» : يا جنّة فاقت الجنان فما ... تبلغها قيمة ولا ثمن علقتها فاتّخذتها وطنا ... إنّ فؤادي بذكرها وطن زوّج حيتانها الضّباب بها ... فانظر وفكّر يا صاح في سفن وقوله أيضا في أرض البصرة: يذكّرني الفردوس طورا فأرعوي ... وطورا يواتيني إلى القصف والفتك لغرس كأبكار الجواري وتربة ... كأنّ ثراها ماء ورد على مسك وسرب من الغزلان يرتعن حوله ... كما انسلّ منظوم من الدّرّ من سلك وورقاء تحكي الموصليّ إذا شدت ... بتغريدها أحبب بها وبمن تحكي فيا طيب ذاك القصر قصرا ونزهة ... بأفيح رحب غير وعر ولا ضنك وسأل هشام بن عبد الملك خالد بن صفوان عن البصرة فقال: إذا أخبرك يا أمير المؤمنين، يخرج قانصان فيجيء هذا بالطير والظليم، وهذا بالسمك والشبّوط، ونحن أكثر الناس ساجا وعاجا وخزّا وديباجا وبرذونا هملاجا، وجارية مغناجا، بيوتنا الذهب، ونهرنا العجب، أوّله رطب وآخره عطب، فالنحل في

مكاربه كالزيتون عندكم في منابته، ثم هو في أكمامه كذاك في أغصانه، ثم هو في إبّانه كذاك في زمانه، هنّ الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، الملقحات بالفحل، يخرجن أسفاطا عظاما وأوساطا نظاما، كأنّما ملئت رياطا، ثم تفترّ عن قضبان اللّجين منظومة باللؤلؤ الأخضر، ثم يصير ذهبا منظوما بالزبرجد الأخضر، ثم يصير عسلا معلّقا في الهواء، ليس في قربة ولا سقاء، بعيدا من التراب كالشهد المذاب، ثم يصير في أكيسة الرجال فيستعان به على العيال. وأما نهرنا العجب فإنه يقبل عند حاجتنا إليه ويدبر عند ريّنا منه، وله عباب لا يحجبه، ولا يغلق عنّا دونه حجاب. فقال هشام: بلدكم أكرم بقاع الأرض يا أخا بني تميم، فلمّا رأى أبو حمران إطراب النشيد في مدح بلدي قطع عليّ كلامي، وعارضني دون مرادي فقال: والله إنّ لنا معكم بنخل بيسان ونواحي الأردنّ لأعظم الشرك في النخل، فما نعبأ به، ولا نراه طائلا فنذكره، وما نصنع بطلب الحجّة من بعد ونحن نجدها من قرب هذا الحسن بن هانئ صاحبكم الذي لا تنكرونه، وخرّيجكم الذي لا تدفعونه يقول في البصرة: ألا كلّ بصريّ يرى أنّما العلى ... مكمّمة سحق لهنّ جرين فإن يغرسوا نخلا فإنّ غراسنا ... ضراب وطعن في النّحور سخين فإن أك بصريّا فإنّ مهاجري ... دمشق ولكنّ الحديث شجون لإزد عمان بالمهلّب ثروة ... إذا افتخر الأقوام ثم تلين وبكر ترى أنّ النّبوّة أنزلت ... على مسمع في الرّحم وهو جنين ولا لمت قيسا في قتيبة بعدها ... وفخرا به إنّ الحديث فنون وأنشد أبو حمران يصف نفسه لمّا اجتمعوا عليه في المناظرة وهو وحده: حمول لما حمّلته غير ضيّق ... ذراعا بما ضاق الكرام به مسكا دعاني فأعطاني مودّة قلبه ... مودّته المثلى وفي ماله الشركا

ثم أشار إلى ابن أبي ناشر فقال: جندلتان اصطكّتا اصطكاكا ... إنّ الذّليل يكره العراكا وقد يضرط العير والمكواة في النار، ثم قال أبو حمران: لنا الزيت والزيتون، ولنا عروسا الدنيا غزّة وعسقلان، ومدينة دمشق وهي إرم ذات العماد، ولنا الأرض المقدّسة، وفي بلادنا الجبل الذي كلّم الله عزّ وجلّ عليه موسى (عليه السلام) ، وجبل لبنان من جبالنا، وبيت المقدس من بلادنا، ولنا المدن العجيبة والكور الشريفة مثل: طرسوس والمصّيصة، وملطية، والرملة، وفلسطين، وأنطاكية، وحلب، وصور، وصيدا، وطبريّة، والكرمة أفضل الأشجار والعنب سيّد الثمار، وهي ناعمة الورق، ناضرة الخضرة، غريبة تقطيع الورقة، بديعة الزوايا، مليحة الحروف، حسنة المقادير، كأنما قوّرت من سرقة حرير، واستخرجت من ثوب نسيج، كثيفة الظلّ خفيفة الفيء، لدنة الأغصان، ليّنة الأفنان، خضرة الأطراف، كريمة الأخلاق، سلسلة القياد، رفيعة جوهر الأعواد، لذيذة الجنى، قريبة المجتنى، صغيرة العجمة، رقيقة الجلدة، عذبة المذاق، سهلة المزدرد، كثيرة الماء، فاضلة المخبر على المنظر، شريفة العنصر والجوهر، وكلام كثير لم يستدرك، ثم لا يألف الغربان الناعقات الكرم كإلفها النخل، ولا يعشّش في جوانبها العصافير المؤذية بصيلانة أصواتها عند غناء النّغران وورق العيدان كتعشيشها في الأدقال وأصول الكرانيف والأكراب، ولا يتولّد منها من ضخام الدود وسمجة الحشرات والهوامّ ما يتولّد من الليف، ولا يستكنّ في أثنائه من الذرّ والفراش، ولا يتحصّن فيها من الحيّات والعقارب وعظام العناكب وذوات السموم القاتلة ما يتحصّن في رؤوس النخل، فهذا على هذا والنخل تخلف وتحيل، ولم نر كرمه حالت ولا أخلفت، واسم الكرم مشتقّ من الكرم والكرامة والإكرام والتكرّم، وقد قدّم الله جلّ وعزّ ذكره في كتابه على سائر الأشياء فقال جلّ وعزّ: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ فقدّم ذكر الكرم وجعل النخل نداء للزرع، ولله أن يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وقال جلّ وعزّ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ

وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً فجعل الكرم أصلا للجنّتين والنخل من الزوائد، وقال: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ وقال: أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ فالجنّات حدائق الكرم وقال: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا فجعل النخل في ترتيب من الخلق والكرم في مكانه من التقدّم وقال: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ فهل يعرش من الشجر شيء غير الكرم والجنّة المؤنقة مقصور عليه، والمعروشة المرفوعة العيدان على الخشب والقصب وهي في الفراديس. واحدها فردوس، والحصرم أرفع من البلح، والوكاب أطيب من البسر، والعنب ألذّ من الرّطب، والعجد أقلّ غوائل من التمر، والخمر أنفع من النبيذ، وخلّ الخمر أثقف وأحسن من خلّ الدقل، والطلاء فوق الدّوشاب، والحبلة سيّدة النخلة، لأن الحبلة خير ونفع كلّها، والنخلة شرّ وعرّ وكذلك قال بعض المحدثين: النّخل عبد وهذا الكرم سيّده ... ومن يقايس بين التّمر والعنب وذكر أبو إسحاق أنه رأى بمدينة صنعاء عنبا يقال له المختّم، فوزن منه حبّة فوجدها أكثر من أربعة أساتير، والأستار أربعة دراهم، وحمل بعض عمّال الرشيد باليمن إليه في بعض ما حجّ عنقودين في محملين على بعير، وقد يحمّل من جبال أرمينية وآذربيجان أخونة عظيمة جدّا يكون دور بعضها عشرين شبرا من خشب الكرمة. قالوا: وأطيب العنب الجرشيّ، وهو دقيق وله عناقيد تكون ذراعا، ومنه عيون البقر وهو عنب أسود عظام الحبّ، ومنه السّكّر عنب صادق الحلاوة، ومنه أطراف العذارى عنب أسود كأنه بلّوط عنقوده نحو الذراع، ومنه الضّروع عنب أبيض كبار الحبّ قليل الماء عظيم العناقيد، ومنه الكلافيّ منسوب إلى كلاف بلد في شقّ اليمن، ومنه الدّواليّ عنب أسود غير حالك، وهل نحن وإن أطنبنا في ذكر العنب، وأسهبنا في نعت منافعه ومناقبه فمعطوه ما له، أو بالغون به استحقاقه، وموفّوه ما هو له من الخصال المحمودة والخلال المرضيّة، ومن طيب الطعم وشدّة الحلاوة، وكثرة الماء، وعموم النفع ووفور الجسم، وصغر العجم، وكثرة

الأجناس والضروب والأنواع، ولو أن رجلا خرج من بيته مسافرا في عنفوان شبيبته، وحداثة سنّه، واستقرى البلدان صقعا فصقعا، يتتّبع الكروم مصرا فمصرا. حتى يهرم، وصغيرا حتى يبدن لتعرّف أجناسه وإحاطة العلم بأنواعه، بل إقليما واحدا من الأقاليم، وناحية من أقطار الأرض، لأعوزه وغلبه وعزّه وبهره، إذ كان كثرة فنونه واختلاف أنواعه لا يدرك كالسرنابا «1» ، والخمريّ بطسّوج قطربّل، والملاحيّ ببغداذ، والصّقلبيّ والأحمر بسرّمن رأى، والزّراويّ بالكوفة، والحلاوي والبيروزيّ والجرشيّ بالبصرة وأنهارها، والسّمّاقيّ بالأهواز، وعيون البقر بالشام، والمورّقيّ بالبليخ ونهر سعيد، والمختّم بالريّ، والفارسيّ والزّرجون والأسفيذمشك، والسياوشك والناشقينيّ والبازجنك، والخرجج بقزوين، والوفرباي والماني، والماسبذيّ بناحية الجبل، وأهل الطبّ مجمعون على أن العنب أكثر غذاء، وأنقى كيموسا من جميع الفواكه والثمار، وأن الإكثار منه غير ضارّ كضرر التين والخوخ وسائر الفواكه الرطبة، وأنه حارّ رطب على طبع الحياة، قليل الفضول مولّد للدم الصحيح النقيّ، وأنه ملاوم بجميع الطبائع، نافع لجميع الأسنان في كلّ البلدان، والأبيض أقلّ حرارة من الأسود، ولخمريّ قطربّل خاصّيّة في الرائحة عجيبة. وقال الثقفيّ: أطيب الطعام عنب قطيف أصابه الخريف بوادي ثقيف. وقال خالد بن صفوان: من فاته الرازقيّ في إدباره فحقّ لأهله أن يبكوا عليه. وقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) : كلوا الزبيب فإنه يأكل البلغم، ويطفئ المرّة ويذهب بالنصب، ويشدّ العصب، ويحسن الخلق. وقالوا: أنفع الأشربة شراب الكرم فإنها أفضل الأشربة، كما أن ثمرتها رأس الثمار، وشجرتها رئيس الأشجار، وإنها دواء لا داء فيه، وخير لا شرّ معه، وأن من أصحّ الدلائل على ذلك وأوضح البرهانات له وصف ربّ العالمين لها باللّذّة،

وإجماع محلّليها ومحرّميها على تقديمها في الطيب، وتفرّدها بطيب النكهة، وصفاء اللون، وسلس المذاقة، وسهولة المجرى، ولذاذة الطعم، وحسن اللون، وذكاء العرف، وحمرة البشرة، وصحّة الجوهر، وطول البقاء على الدهر، وتوليد الفرح والسرور، ونفي الهمّ والغمّ، وعلى أنها تغذو فلا تؤذي، وتنفع ولا تضرّ، وأنها أنفع المشروبات المفرّقة والمركّبة لجميع الأسنان في كلّ البلدان وفي كلّ فصل وزمان، وأنها تشارك المسكرات في منافعها وتنافيها في رذائلها، وأن من أفعالها التي هي لها دون غيرها تنظيف الأبدان ورحض الأبدان، وتوفير المخاخ وتنقية الأمشاج، وتصفية النطفة، وغسل المفاصل الربيسة من الأمشاج القذرة والكيموسات المتّسخة، وأنها تفتح السّدد المنعقدة، وتذيب الفضول الزائدة، وتولد الدم الصحيح الذي هو الحياة، وتسخن الدم الغليظ الجامد الفاسد الذي منه بدو الأدواء الفاحشة، وتذكي النار الغريزيّة، وتقوي الحرارة الطبيعيّة، وتحسن اللون، وتدفئ الكلى، وتدرّ البول، وتغسل المثانة، وتقوي الكبد والمعدة، وتهضم الطعام، وتطرد الرياح، وترقّق البلغم المالح واللّزج، ثم الخمر مع ما قد وصف لها من الطيب والحسن وصار في حيّزها من ذكاء المشمّ وصحّة الجوهر فوق كبار المعجونات في دفع المضارّ وأرفع الإيارجات في تحليل أوصاب الدماغ والأعصاب، وألطف من دهن الخروع في التمشّي في عمق المفاصل، والوغول في العظام، تجانس بنفعها العقاقير المختارة، وتنوب عن السموم المحلّلة، والضمادات المندّدة، والأطلية المقوية، وتجري مع الأدوية النافعة حيث جرت، ولا بدّ للمعجونات الكبار منها إذا ركّبت، فهي أفضل ما غيّر به الماء بعد شرب الأدوية المسهلة، وعند العلاج في الحمية، ولا تذاب الصموغ المتجسّدة، وتماع ألبان النبات الداخلة في المعجونات الرفيعة، نحو الشّليثا والترياق والتياذريطوس والهبطارعان «1» إلّا بها، وبما كان من نوعها من العقيد أو نبيذ الزبيب وخلّ

الخمر، فقالوا: آنس الله ببقائك الأيّام، وعمر بك الآداب، وأحيا بحياتك العلوم.

القول في الجزيرة سئل الشعبيّ عن الجزيرة جزيرة العرب فقال: ما بين العذيب إلى حضرموت. وقال الأصمعيّ: جزيرة العرب ما لم تظلّه فارس والروم. وقال الرياشيّ: جزيرة العرب ما بين نجران إلى العذيب. وقال أبو عبيدة: جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول، وفي العرض ما بين رمل يبرين إلى السّماوة. وقالوا: الجزيرة ما بين دجلة والفرات والموصل من الجزيرة وكذلك الرّقّة والرافقة. وقال محمّد بن الحسن: بلاد العرب الذين لا تقبل منهم الجزية، ولا يرضى منهم إلّا بالدخول في الإسلام أو السيف من العذيب إلى أبين عدن فذلك الجزيرة. قال ابن الأعرابيّ: الجزيرة ما كان فوق بقّة، وإنما سمّيت الجزيرة لأنها تقطع الفرات ودجلة وقد تقطع في البرّ. وإنما سمّيت الموصل موصلا لأنها وصلت بين الجزيرة والشام، والجزيرة من عمل سميساط إلى بلد ومن الموصل إلى الأردنّ، ويقال سمّيت الموصل لأنها وصلت بين الفرات ودجلة. ومدينة الموصل بناها محمّد بن مروان، وراوند الموصل بناها راوند بن بيوراسف. وولّى عمر بن الخطّاب عتبة بن فرقد السّلميّ الموصل سنة عشرين، فقاتله

أهل الحصن فأخذ حصنها الشرقيّ عنوة، وعبر دجلة فصالحه أهل الحصن الآخر على الجزية والأذن لمن أراد الجلاء في الجلاء، ثم فتح المرج وقراه وأرض بانهدرا وداسن وجميع معاقل الأكراد، وأوّل من اختطّ الموصل وأسكنها العرب، ومصّرها هرثمة بن عرفجة البارقيّ، وكان عمر عزل عتبة عن الموصل وولّاها هرثمة، وكان بها الحصن وبيع النصارى ومنازلهم ومحلّة اليهود، فمصّرها هرثمة ثم بنى المسجد الجامع، ثم بنى بعدها الحديثة، وكانت قرية قديمة فيها بيعتان، فمصّرها، وأسكنها قوما من العرب فسمّيت الحديثة، لأنها بعد الموصل، وافتتح عتبة بن فرقد الطيرهان وتكريت، وآمن أهل حصن تكريت على أنفسهم وأموالهم، وسار في كورة باجرمق حتى صار إلى شهرزور «1» . وتكريت من كور الموصل، وبإزائها في البريّة مدينة الحضر على برّيّة سنجار، وبينها وبين دجلة خمسة عشر فرسخا، وبينها وبين الفرات خمسة عشر فرسخا، وهي مبنيّة بالحجارة البيض، بيوتها وسقفها وأبوابها، وهي على تلّ ولها ستّون برجا كبارا، وبين البرج والبرج تسعة أبراج صغار، على رأس كلّ برج قصر، وأسفله حمّام، وقد حمل عليها نهر الثّرثار، ويشقّ المدينة ثم يخرج، وعلى حافتي الثرثار القرى والجنان، والثرثار يخرج من سنجار ويصبّ في الفرات، ويحمل عليه السفن، وكان ملك الحضر السّاطرون ثم الضّيزن، ويقال: إنه كان على الحضر باب يغلقه رجل ولا يفتحه إلّا خلق كثير، وهو الذي قال فيه عديّ بن زيد: وأخو الحضر إذ بناه وإذ ... دجلة تجبى إليه والخابور وقال: الشرقيّ بن قطاميّ: لمّا افترقت قضاعة خرجت فرقة منهم إلى الجزيرة، وعليهم ملك يقال له الضيزن بن جبهلة، أحد الأحلاف، فنزلوا مدينة الحضر، وكان بناؤها، على طلسمين ألّا يهدمها إلّا حمامة ورقاء مطوّقة بحيض امرأة زرقاء، فأخرج ضيزن كلّ امرأة عارك «2» ، وغزا الضيزن في جميع قضاعة

فأصاب خلقا من أهل شهرزور فقتلهم، وأغار على السواد فأصاب، ماه أخت سابور ذي الأكتاف، فسمع سابور بذلك فخرج وأقام عليهم سنتين، لا يظفر منهم بشيء حتى عركت النّضيرة بنت الضيزن، فأخرجت إلى الربض، فنظر إليها سابور فعشقها وعشقته فقالت له: ما لي عندك أن دللتك على ما تفتح به هذه المدينة قال لها: أجعلك فوق نسائي. قالت: فاعمد إلى حيض امرأة زرقاء فاكتب به في ورقة ثم اجعلها في عنق ورشان وسرّحه، فإذا وقع على القصر أرفضّ بأهله، ففعل فكان كما قالت، فقتل من قضاعة نحو مائتي ألف رجل، وأفنى قبائل كثيرة، وبادت إلى يومنا هذا، فقال الجديّ القضاعيّ: ألم يحزنك والأنباء تنبي ... بمقتل ضيزن وبني العبيد ثم إنه خرج بابنة الضيزن حتى عرّس بعين التمر، فلم تنم تلك الليلة، قال لها: ما لك؟ قالت: لم أنم على فراش قطّ أخشن من فراشك هذه. قال: ويلك وهل نامت الملوك على فرش قطّ أوطأ من فرشي؟ قالت: نعم، ونظر فإذا في الفراش ورقة آس وكانت قد التزقت ببطنها، فقال: بما كان أبواك يغذوانك قالت: بشهد الأبكار ولباب البرّ وصغار المعز فقال سابور: أنت لم تكافئي أبويك على حسن صنيعهما بك، ولم تفي لهما، فكيف تفين لي؟ فشدّت ذوائبها إلى ذنب فرسين جموحين ثم استحضرا فقطّعاها «1» .

ومن الموصل أيضا: الطيرهان، والسنّ، والحديثة، ومرج جهينة، ونينوى وباجلى، والمرج، وبانهدار، وباعذرا، وحبتون، وبانقلى، وحزّة، وبانعاس، والمعله، ورامين، والحناية، وباجرمى، وبابغيش، والداسن، وكفر عزّى، وخراج الموصل أربعة آلاف ألف درهم «1» . وبالموصل جبل يسمّى شعران، لكثرة أشجاره، ويقال للشجر الشعراء ويقال: بل هو جبل بباجرمى، ويسمّى جبل قنديل وبالفارسيّة تخت شيرويه، وهو من أعمر الجبال، وفيه كمثري والعنب وأنواع الطير وشجر عظام كبار يقطع فيحمل إلى العراق، والثلج فيه قائم في الشتاء والصيف، وإذا خرجت من دقوقا ظهر لك وجه منه يلي الزاب الصغير. وقال الزّهريّ: لم يبق بالجزيرة موضع قدم إلّا فتح على عهد عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه) ، على يدي عياض بن غنم فتح حرّان، والرّقّة، وقرقيسيا، ونصيبين، وسنجار، وآمد، وميّافارقين، وكفرتوثا، وطور عبدين، وحصن ماردين، ودارا، وقردى، وبزبدى، وأرزن. والرّقّة: واسطة ديار مضر، ولم يكن للرّافقة أثر، وإنّما بناها المنصور سنة مائة وخمس وخمسين على بناء مدينته ببغداذ، ورتّب فيها جندا من أهل خراسان. قال الكنانيّ في قول الله عزّ وجلّ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي قال: إلى حرّان. وفي قوله إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي قال: إلى حرّان. قال كعب في قوله عزّ وجلّ: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ قال: حرّان. وقوله أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً قال: حرَّان، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «رفعت ليلة أسري بي فرأيت مدينة فأعجبتني فقلت: يا جبريل ما هذه المدينة؟ فقال: نصيبين. فقلت:

اللهمّ اعجل فتحها واجعل فيها بركة للمسلمين» . ومن مدنها: الرّها، وسميساط، وسروج، ورأس كيفا، والأرض البيضاء، وتلّ موزن، والرّوابي، والمازحين، والمديبر، والرّصافة، وكفر حجر، والجزيرة، وتقدير خراج ديار مضر ألف ألف وستّمائة ألف درهم. ومن عمل الفرات قرقيسيا، وهي على الفرات، وعلى الرّحبة، وعلى الخابور، وهيت وعانات والحديثة والزاب. ومن كور الخابور: الصّوّر، والغدير، وماكسين، والشمسانيّة، والسّكير، وعرابان، وطابان، وتنينير العليا، وتنينير السفلى، وشاعا، وهذه المدن على الخابور. فأما كور ديار ربيعة: فنصيبين، وأرزن، وآمد، ورأس العين، وميّافارقين، قال الشاعر: بآمد مرّة وبرأس عين ... وأحيانا بميّافارقينا ومن الموصل إلى بلد سبعة فراسخ، ومن نصيبين إلى أرزن ذات اليمين سبعة وثلاثون فرسخا، ومن آمد إلى الرّقة أربعة وخمسون فرسخا، وخراج ديار ربيعة سبعة آلاف ألف وسبع مائة ألف درهم «1» . ومن عجائب الجزيرة كنيسة الرّها، والروم تقول: ما من بناء بالحجارة أبهى من كنيسة الرها، ولا بناء بالخشب أبهى من كنيسة منبج، لأنها بطاقات من خشب العنّاب، ولا بناء بالرخام أبهى من قسيان أنطاكية، ولا بناء بطاقات الحجارة أبهى من كنيسة حمص. وقالوا: إن حول مدينة الرها ثلاثمائة وستّين ديرا، وكان بالرها صورة امرأة يقال لها هيلانة قاعدة على كرسيّ لم ير في جسمها وجمالها مثلها، فعشقها رجل فمرض من حبّها، فجاء أبوه فسكر رأسها، فلمّا نظر إليها الفتى تسلّى عنها.

قالوا: ومن عجائبنا: الجبل الذي بآمد، يراه جميع أهل البلدة فيه صدع، فمن انتضى سيفه فأولجه فيه وقبض على قبيعته بجميع يديه اضطرب السيف في يديه، وأرعد القابض. وإن كان أشدّ الناس. وفيه أعجوبة أخرى: أنه متى يحكّ بذلك الجبل سكّين، أو حديد، أو سيف، حمل ذلك السيف والسكّين الحديد وجذب الإبر والمسالّ بأكثر من جذب المغناطيس. وأعجوبة أخرى: أن ذلك الحجر نفسه لا يجذب الحديد فإن حكّ عليه سكّين، أو سيف جذب الحديد. وفيه أعجوبة أخرى: وذلك أنه لو بقي مائة سنة لكانت تلك القوّة قائمة فيه. وبالرقّة دهن الخطّارة، وفيه أعجوبة وذلك أنه لا يتّخذ إلّا في حانوت بها معروف، فإن اتّخذ في غيره من الحوانيت فسد وخاصّيّته أنه نافع للرياح والنقرس. قالوا: ومخرج الخابور من رأس العين، ويستمدّ من الهرماس، ويصبّ في الفرات، ومخرج الثرثار من الهرماس، ويمرّ بالحضر، ويصبّ في دجلة قالوا: ولنا الأفراس الجزيريّة. وسأل معاوية ابن الكوّاء «1» . عن أهل الكوفة فقال: أبحث الناس عن صغيرة وأضيعهم لكبيرة، قال: فأخبرني عن أهل البصرة. قال: غنم وردن جميعا، وصدرن شتّى. قال: فأخبرني عن أهل الحجاز. قال: أسرع الناس إلى فتنة، وأضعفهم فيها، وأقلّهم غناء. قال: فأخبرني عن أهل الموصل. قال: قلادة أمة فيها من كلّ خرزة. قال: فأخبرني عن أهل الجزيرة. قال: كناسة بين المصرين، ثم سكت معاوية. فقال ابن الكوّاء: لتسألني أو لأخبرنّ أو ما عنه تحيد، قال: أخبرني عن أهل الشام قال: أطوع الناس لمخلوق، وأعصاهم لخالق لا يدرون ما بعده.

وقال الهيثم بن عديّ: كانت دار إياد ظهر الكوفة ودير الأعور ودير قرّة ودير الأعور هو دير الجماجم. وقال الأصمعيّ: كانت قريش تسأل في الجاهليّة عن خصب باعربايا وهي الموصل لقدرها عندهم، ولم ينلهم في خصبها شيء قطّ، وعن ريف الجزيرة وما يليها، لأنها تعدل في الخصب باعربايا، وفي التمر البصرة وفي السمك عمان. وخراج كور الجزيرة وديار ربيعة تسعة آلاف ألف وسبع مائة ألف وخمسة عشر ألفا وثمان مائة درهم. أرزن: ألف ألف وستّة وخمسون ألفا. آمد: ألف ألف ومائة وخمسون ألفا، ديار ربيعة: ميّار فارقين: ثمان مائة ألف وستّة وخمسون ألفا. وكذلك سائر المدن مثل: ماردين، ودارا، وبلد، وسنجار، وقردى، وبزبدى، وطور عبدين، ورأس العين، وقد أجمل خراجها. ديار مضر: حرّان سبع مائة ألف وأربعون ألفا. الرّها: ألف ألف وثلاثمائة ألف درهم. سميساط ألف ألف درهم. سروج: ستّمائة ألف درهم. قريات الفرات: ستّون ألف درهم. رأس كيفا: ثلاثمائة ألف وخمسون ألف درهم. أرض البيضاء: مائة ألف وخمسون ألف درهم. الرقّة: مائة ألف درهم وستّون ألف درهم. الرافقة والرّوابي: سبعة وخمسون ألف درهم. المازحين والمديبر: مائة ألف وخمسة وثمانون ألف درهم .

القول في الروم وإنما ذكرنا الروم في هذا الموضع لأنها تحاذي الشام والجزيرة. قال يحيى بن خالد البرمكيّ: الملوك خمسة: ملك الأثاث، وملك الدوابّ، وملك المال، وملك الفيلة، وملك الإكسير. فأما ملك الأثاث فملك الصين، وملك الدوابّ ملك الترك، وملك المال ملك العرب، وملك الفيلة ملك الهند، وملك الإكسير فملك الروم. فأرض الروم غربيّة دبوريّة، وهي من أنطاكية إلى صقليّة، ومن قسطنطنيّة إلى توليّة. والغالب عليهم روميّ وصقلبيّ، والأندلس صقالبة، والروم كلّهم: نصارى ملكانيّة، ويقرءون الإنجيل بالجرمقانيّة، وهم أصحاب بقر وخيل وشاء، ويحكمون بحكم التوراة، وهم أهل صناعات وحكم وطبّ، وهم أحذق الأمّة بالتصاوير، يصوّر مصوّرهم الإنسان حتى لا يغادر منه شيئا، ثم لا يرضى بذلك حتى يصيّره شابّا وإن شاء كهلا، وإن شاء شيخا، ثم لا يرضى بذلك حتى يجعله جميلا ثم يجعله حلوا ثم لا يرضى حتى يصيّره ضاحكا وباكيا، ثم يفصل بين ضحك الشامت وضحك الخجل، وبين المستغرق والمبتسم والمسرور وضحك الهاذي، ويركّب صورة في صورة، ولمّا توادع قباذ وقيصر ملك الروم أهدى إليه قيصر هدايا كثيرة، فكان فيما أهدى إليه تمثال جارية من ذهب، كان إذا كان وقتا من الليل يسمع لها ترنّم لا يطنّ على أذن أحد إلّا أرقده، وفسطاط عظيم من كيمخار، وسفط جوهر. وأوفد بعض الخلفاء عمارة بن حمزة «1» ، إلى ملك الروم، وكتب يتوعّده

بالخيل والرجال، قال عمارة، فانتهيت إلى مكان يحجب منه الرجل على مسافة بعيدة، فجلست حتى أتى الأذن، فسرت إلى مكان آخر فجلست حتى أتى الأذن ثلاث مرّات، ثم وصلت إلى داره فأدخلت دارا، وإذا على طريقي أسدان عن جنبي الطريق، وطريقي عليهما لا أجد من ذلك بدّا، فقلت: لا بدّ من الموت، فلن أموت عاجزا فحملت نفسي فلمّا صرت بينهما سكنا فجزت ودخلت دارا أخرى، وإذا سيفان يختلفان على طريقي، فحزرت أنه لو مرّ بينهما ذبابة لقطّعاها، فقلت: الذي سلّمني من الأسدين يسلّمني من السيفين، فاستخرت الله ومضيت، فلمّا صرت بينهما سكنا، ثم دخلت دارا ثالثة وفيها الملك فلمّا صرت إلى بهوه، إذا هو في بهو فسيح أكاد أن لا أبصره لبعد مسافة البصر بيني وبينه، فمشيت حتى انتهيت إلى قدر ثلثة فغشيتني سحابة حمراء لم أبصر شيئا فجلست مكاني ساعة، ثم تجلّت عني فقمت فمشيت، فلمّا بلغت نحو الثلثين غشيتني سحابة خضراء فغشي بصري منها، فجلست حتى تجلّت، ثم قمت فمشيت فانتهيت إلى الملك فسلّمت عليه، والترجمان بيني وبينه، فأدّيت الرسالة وأوصلت الكتاب، فأمرني بالجلوس وسألني عن الخليفة وعن أشياء من أمر الأقاليم، ثم أمر بمنزل وإقامة ما أحتاج إليه، وأمرني بالانصراف والبكور عليه، فكنت لأغبّه وآنس بي، فركبت معه يوما فانتهينا إلى حائط عليه باب وحفظه، فدخلنا فإذا أصول طرفاء فقال: أتعرف هذه الشجرة؟ فقلت: لا، وظننت أن عنده فيها معنى، فقال: هذه شجرة ينفع دخانها من الخراج وتمرئ الطعام، فقلت في نفسي: لو يعلم أنها ببلادنا حطب الأراذل منا، ثم مضى إلى حائط آخر عليه باب وحفظه، فدخل ودخلنا معه فإذا مقدار قفيز من أرض فيه كبر، فقال: أتعرف هذا؟ قلت: لا، وظننت به ظنّي الأوّل فقال: هذا نبت وهو جوارشن، وينفع من أصابه الحرق «1» ، ويدخل في أدوية الجراحات. فقلت في نفسي: لو يعلم هذا أن عندنا لا يكون إلّا في أخرب المواضع والمفاوز،

وأنه مباح لمن أراده، فلمّا آنست به قلت: أيها الملك أريد أن أسأل عن شيء قال: سل عما بدا لك. قلت: إني رأيت أسدين وسيفين وسحابتين كان من قصّتهما كيت وكيت، ولم أعرف السبب. قال: أما الأسدان والسيفان فإنهما حيلة تحتال لمن ورد علينا من رسل الملوك لنروّعهم بذلك، وإذا قرب الرجل منهم سكنت كما رأيت، وأما السحابتان فإني أعلمك خبرهما، ثم ضرب بيده إلى ثني فراشة فاستخرج قطعة ياقوت أحمر كالنعل، فإذا السحابة قد غشيتنا من ضوءها ثم ردّها واستخرج أختها من زمرّد أخضر فغشيتنا السحابة الخضراء، فلمّا أزف خروجي وأجاب عن الكتاب قال: امض بنا إلى قصري فخرجنا حتى انتهينا إلى قصر عليه حفظة فدخلنا فإذا بيوت مختومة، فأمر بباب منها ففتح، فإذا جرب بيض منضّدة حوالي البيت، ثم قال: أشر إلى ما شئت منها، فأشرت إلى جراب منها فأمر ببرنيّة فملئت منها، ثم أمر بختمها، ثم استفتح بابا آخر كالأول في طوله، فإذا جرب حمر فقال: أشر إلى ما شئت منها، فأشرت إلى جراب منها فملئت منه برنيّة ثم ختمها وانصرفنا إلى القصر، فدعا بكير ومنفاخ ورطل نحاس ورطل رصاص، فأمر بأحدهما فأذيب، وأمر أن يلقى عليه من الدواء الأبيض ما يحمل ظفر الإبهام، ثم أفرغه فخرج فضّة بيضاء، ثم أذيب النحاس وألقي عليه من الأحمر مثل ذلك فخرج ذهبا أحمر فقال: أعلم صاحبك أن هذا مالي، وأما الخيل والرجال فإنك تعلم أنهم أكثر وأكبر، فقال عمارة: فحدّثت المنصور بهذا الحديث، فكان هذا الذي حداه على طلب الكيمياء. قال عمارة: وأعجب ما رأيت في مجلسه أنه كان إذا أراد أن يصرف الناس خرجت في ظهر كلّ رجل كفّ من الحائط فيدفعه فيعلم أنه قد أمر بالقيام. وقال سيف بن عمر: كان ملك الروم الأوّل من آل بالع بن بعور، وبنى قرية دنحب، ثم ملك بعده يوبب بن زرح، ثم ملك بعده هوشم، ونزل التّيمن، ثم ملك بعده هدد بن بدد الذي قتل المدنيّين، ثم ملك سمل بن مسرق، ثم عدّة كثيرة. وقال حذيفة: كان على الروم ملك يقال له مورق سيّء السيرة، فاجتمع إليه

من المؤمنين اثنان وسبعون رجلا على أن يأمروه بالمعروف وينهوه عن المنكر فانتدب منهم رجلان لذلك فكلّماه فأمر بهما ليصلبا، فاجتمع السبعون فقال بعضهم لبعض: نقضتم العهد وأسلمتم إخوانكم للقتل، وأمركم الآن أشدّ من أمركم الأوّل، فائتمروا ليأخذوا السلاح ويفتكوا لمورق. حتى يقتلوه، فلمّا أبرز المورق بالرجلين شدّوا عليه فقتلوه، ونادوا: أيّها النّاس لا بأس فإنما غضبنا لله، فاجتمع إليهم الناس وقالوا لهم: قد قلّدناكم أمورنا، فولّوا من أنفسكم من شئتم، فملّكوا عليه رجلا يقال له فوق، فهو الذي ضرب الدنانير الفوقيّة، ثم ملك فوق وكان سيّء السيرة، فأرادت الروم أن تخلعه، فعمد إلى خزائنهم وأموالهم فرمى بها في البحر، وشحن منها السفن، وأسرعها تحملها الريح حتى جاءت بها إلى الشام، وكان شهر براز غلاما لكسرى على الشام، فخرج إلى الساحل فرأى السفن، فأمر بها فأخذت واستخرج ما فيها من الأموال، فسمّى ذلك المال كنج باذاورد، فبطلت أموال الروم منذ حينئذ، فليس في الأرض روميّ له عطاء أكثر من خمسة دنانير وعشرة دنانير هذا للشريف منهم فهم إلى يومنا هذا على هذا. وقال ابن دأب «1» عن موسى بن عقبة قال: كان عبادة بن الصامت يحدّث أن بعض الخلفاء بعثه وهشام بن العاص ونعيم بن عبد الله إلى ملك الروم يدعوه إلى الإسلام، قال: فخرجنا حتى جئنا جبلة ابن الأيهم الغسّانيّ وهو بالغوطة، فأدخلنا إليه فإذا هو على فرش مع السقف، فأجلسنا بعيدا فأرسل إلينا رسولا نكلّمه، فقلنا لا والله لا كلّمناه برسول، فأدنينا منه فكلّمه هشام ودعاه إلى الله، فإذا عليه ثياب سود فقال له هشام: ما هذه المسوح التي لبستها؟ قال: لبستها وعليّ نذر ألّا أنزعها حتى أخرجكم من الشام، قلنا: والله لنخرجنّك من فرشك ومن دار مملكتك ونملك الملك الأعظم إن شاء الله، أخبرنا بذلك نبيّنا (صلى الله عليه وسلم) ، قال: إذا أنتم السّمراء. قلنا: وما السمراء؟ قال: الذين يصومون النهار ويقومون الليل. قلنا: فنحن والله هم. قال: وكيف صومكم؟ فأخبرناه بذلك. قال: فرطن لأصحابه

وقال: قوموا وعلاه سواد ثم بعث معنا رسولا إلى ملك الروم، فلمّا دنونا من مدينته قال الذين معنا: إن دوابّنا هذه لا تدخل مدينة الملك، وكنّا على رواحل فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال، قلنا: لا والله لا ندخل إلّا عليها، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون، فأرسل أن خلّوا عنهم، فدخلنا معتمّين علينا السيوف على الرواحل، وإذا غرفة مفتوحة ينظر منها إلينا، وأقبلنا حتى أنخنا تحت الغرفة، قلنا: لا إله إلّا الله والله أكبر، قال: والله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى كأنها عذق سعفة ضربها الريح، وأرسل أنه ليس لكم أن تجهروا بدينكم على بابي، فأرسل أن ادخلوا فدخلنا، فإذا عليه ثياب حمر، وإذا كلّ شيء عنده أحمر، والبطارقة حوله فدنونا منه، فإذا هو يفصح العربيّة، فقال لنا وضحك: ما منعكم أن تحيّوني بتحيّة نبيّكم؟ فإن ذلك أجمل بكم، قلنا: تحيّتنا لا تحلّ لك، وتحيّتك التي تحيّا بها لا تحلّ لنا. قال: وما هي؟ قلنا السلام عليك. قال: فما تحيّون ملككم؟ قلنا: بهذا نحيّيه. قال: فكيف يردّ عليكم؟ قلنا: كما نقول له. قال: أفما يرثكم؟ قلنا: لا إنما يرث منا الأقرب فالأقرب. قال: وكذلك ملككم؟ قلنا: نعم. قال: فما صومكم وصلاتكم؟ فوصفنا له. قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلّا الله والله أكبر، فالله يعلم أنه انتفض سقفه حتى ظنّ هو وأصحابه أن سيسقط عليهم، ثم قال: هذه الكلمة هي التي نفضت الغرفة؟ قلنا: نعم. قال: وكلّما قلتموها نفضت سقوفكم؟ قلنا: لا. قال: فإذا قلتموها في بلاد عدوّكم تفعل ذلك؟ قلنا: لا، قلنا: وما رأيناها صنعت ذلك إلّا عندك. قال: ما أحسن الصدق، أما أني وددت أني خرجت إليكم من نصف ملكي، وأنكم كلّما قلتموها ينفض كلّ شيء. قلنا: ولم ذاك؟ قال: كان ذاك أيسر لشأنها وأجدر ألّا يكون نبوّة، وأن يكون من حيلة الناس. قال: فما كلمتكم التي تقولون لا إله إلّا الله ليس معه غيره. قلنا: نعم. قال: والله أكبر أكبر من كلّ شيء؟ قلنا: نعم. ثم سألنا سؤالا شافيا وخرجنا من عنده، وقد أمر لنا بمنزل حسن، ونزل كثير فمكثنا ثلاثا، ثم أرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه، فإذا ليس عنده أحد فاستعادنا القول، فأعدنا عليه، ودعا بشيء كهيئة الرّبعة العظيمة مذهّبة فيها بيوت صغار، عليها أبواب، ففتح بيتا فأخرج منه خرقة سوداء

حريرا، فنشرها فإذا فيها صورة، وإذا رجل ضخم العينين، عظيم الأليتين، طويل العنق، فقال: أتدرون من هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا آدم (عليه السلام) ، ثم فتح بيتا آخر فأخرج منه خرقة سوداء فنشرها، فإذا صورة بيضاء فإذا رجل له شعر كشعر القبط، أحمر العينين، عظيم الهامة، قال: أتدرون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح (عليه السلام) ، ثم فتح بيتا آخر فاستخرج خرقة مثل الأوليين، فإذا صورة بيضاء شديدة البياض، وإذا رجل حسن العينين، طويل الخدّ، شارع الأنف، مختلط شيب الرأس أبيض اللحية، والله لكأنه يتبسّم، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا إبراهيم (عليه السلام) ، ثم أخرج خرقة سوداء مثلها، فنشرها فإذا صورة وإذا والله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، وبكينا وقلنا: هذا نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وسلم) فالله يعلم أنه قام قائما ثم جلس فقال: الله لهو هو، قلنا: والله لهو هو، كأنّا ننظر إليه حيّا، فأمسك ساعة ينظر ثم قال: أما والله إنه آخر البيوت ولكني عجلته لكم لأعلم ما عندكم، فأعاده وفتح بيتا آخر فأخرج خرقة سوداء فإذا فيها صورة صحماء أدماء رجل كثير الشعر جعد قطط، غائر العينين، حديد النظر، عابس، متراكب الأسنان، مقلّص الشفة، وإلى جنبه صورة شبيه به غير أنه مدوّر الرأس عظيم الجبين في عينه قبل، فقال: هذا موسى وأخوه هارون، ثم فتح بابا آخر فاستخرج خرقة سوداء فإذا فيها صورة بيضاء أشبه ما خلق الله بصورة امرأة عجيزة وساقا، قال: هذا داود (عليه السلام) ، ثم استخرج خرقة سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا رجل أوقص طويل الرجلين قصير الظهر وإذا هو راكب على فرس لكلّ شيء منه جناح، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا سليمان، وهذه الريح تحته، ثم أخرج لنا خرقة سوداء فيها صورة صفراء وإذا رجل شديد سواد الشعر سبطه كثيرة حسن الوجه والعينين مشتبه كلّ شيء، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا عيسى (عليه السلام) ، قلنا: ومن أين هذه الصور هكذا؟ فإنّا نعمل أن هذه الصور على ما صوّرت، لأن صورة نبيّنا (صلى الله عليه وسلم) مثله، قال: إن آدم (عليه السلام) سأل ربّه جلّ وعزّ أن يريه أنبياء بنيه، فأنزل عليه صورهم فاستخرجها ذو القرنين من خزانة آدم في مغرب الشمس، فصوّرها دانيال على تلك الصور في

خرق حرير، فهي هذه بعينها، وو الله لوددت أن نفسي تطيب بالخروج من ملكي وأكون عبدا لأشرككم ملكه، ولكن نفسي لا تطيب ثم أجازنا وأحسن جائزتنا وسرّحنا. قال: ولمّا دخل أنوشروان أرض الروم وخرج منها فقد بها رجلا من متطبّبيه يسمّونه الزرسبيذ، فاشتدّ على أنوشروان ذلك، وغبر الرجل بأرض الروم سنين، حتى عرف كلامهم، وقرأ كتبهم، وعظم شأنه، فلمّا أحكم ما يريد انصرف إلى أنوشروان، فعظّم موقعه لما رجا أن يجده عنده ما يحبّ أن يعرف من حال الروم، فخلا به فسأله عن شدّة ما رأى من بأس القوم ونجدتهم، فقال الزرسبيذ: إنّا لم نزل نسمع من الملك أن النجدة قسم شريف، وقد يجمع قسمه أقساما لا تتمّ إلّا بها، وأنه لا يستحقّ أحد اسم البأس والشدّة إلّا بما يشيّعه من الصبر الذي به يحتمل الإخطار بالنفس، والأنفة التي بها يقدم على ما أقدم به، وحسن الذكر والبصيرة الذي هو ملاك ذلك كلّه، ورباطة الجأش التي بها يوطّن على ما ناله من إحراز المكرمة وحسن الثناء، وقلّ من رأيته فيهم ممن يستحقّ هذه الصفة، وذلك لمخالفتهم دينهم الذي يدينون به. قال: فكيف حظّهم من العلم؟ فوصفهم بقلّته وزعم أن مفتخرهم إنما يفتخر بكتب الفلاسفة في المنطق، وإنما هي غايتهم، قال: فأين مبلغهم من الطبّ؟ قال: أما الطبّ فمعرفتهم بالطبائع، والجواهر، وعلاج الحرارة والبرودة، وفضول المرّة والبلغم، بالعقاقير المسمّاة لهم، لا يعرفون غير ذلك ممّا بسط لأهل الهند من علاج الأرواح، والأدواء الغليظة، والرقى، والاستعانة ببعض الأرواح على بعض، قال: فالنجوم؟ قال: قلّ حظّهم منه جدّا، قال كسرى: فما بلغك فيما يدّعيه بعضهم من صنعة الذهب والفضّة، وعن الأصباغ التي يصبغ بها الجوهر، فينقل إلى غير طبائعه، وما حكي لنا عن طلسماتهم؟ قال: كان ذلك من أهمّ أمورهم عندي أن أظفر به، فلم أجد لشيء من ذلك حقيقة، فأما الطلسمات فإنها أمور قديمة، كان على الأرض من قوى بشيء لشيء قد ألّف من الكلام والرقى والعقد على تماثيل قد رأيتها بها، ممّا تقادم عمله في الأزمنة الماضية قبل مخرج عيسى

(عليه السلام) ، فأما اليوم فقد ذهب من يدّعيها وبطل من يعملها. وفي الخبر «1» : أن الروم لمّا أخربت بيت المقدس كتب الله عليهم السبي في كلّ يوم، فليس يمرّ يوم من أيّام الدهر إلّا وأمّة من الأمم المطيفة بالروم يسبون من الروم سبايا. وبحر الروم من أنطاكية إلى قسطنطينيّة، ثم يدور آخذا من ناحية الدبور، حتى يخرج خلف الباب والأبواب من ناحية الخزر، حتى يبلغ قيروان إفريقية وأطرابلس إفريقية، حتى يبلغ الأندلس إلى السوس الأقصى إلى جزائر السعادة. وأرض الروم غربيّة دبوريّة، وهي من أنطاكية إلى صقلّيّة، ومن قسطنطينيّة إلى تولية، الغالب عليها روسيّ وصقلبيّ وأندلسيّ، والصقالبة صنفان: سمر وأدم، وهو ممّا يلي البحر، ومنهم بيض فيهم جمال، وهم في البرّ، ومدينة الملك، قسطنطينيّة، وأنطاكية على ساحل البحر، وفيها مجمع البطارقة، ومن طرسوس إلى خليج قسطنطينيّة مائة ميل، فيه مسجد مسلمة بن عبد الملك حيث حصر قسطنطينيّة، ويمرّ خليج قسطنطينيّة حتى يصبّ إلى بحر الشام، وعرض الخليج بأبدس قدر غلوة، وإذا صار إلى بحر الشام فعرضه عند مصبّه أيضا قدر غلوة، وهناك صخرة عظيمة عليها برج فيه سلسلة تمنع سفن المسلمين من دخول الخليج وعمورية دون الخليج، وبينها وبين قسطنطينيّة ستّون ميلا، وذكر أن بطارقة الروم الذين هم مع الملك اثنا عشر بطريقا بقسطنطينيّة، وأن خيلها أربعة آلاف، ورجّالتها أربعة آلاف. وروي عن كعب قال: شمتت قسطنطينيّة بخراب بيت المقدس فتعزّزت وتجبّرت فدعيت المستكبرة، وقالت: إن كان عرش ربّي جلّ جلاله على الماء، فقد بنيت على الماء، فوعدها الله العذاب قبل يوم القيامة، فقال الله جلّ وعزّ لها: وعزّتي وجلالي لأنزعنّ حليك وحريرك وخمرك وخميرك، ولأتركنّك لا يصيح فيك ديك، ولا أجعل لك عامرا إلّا الثعالب وبنات آوى، ولأنزلنّ عليك ثلاث

نيران: نارا من زفت، ونارا من كبريت، ونارا من نفط، ولأتركنّك جلحاء قرعاء لا يحول بينك وبين السماء شيء، وليبلغنّ صوتك عنان السماء، فإنه طال ما أشرك بي فيك، وعبد فيك غيري، وليفترعن فيك جواري ما كدن أن ترى الشمس من حسنهن، ولأسمعنّ خرير البحر صوتك، فلا يعجز من بلغ منكم ذلك أن يمشي إلى بيت بلاطة ملكهم، فإنكم ستجدون فيه كنز اثني عشر ملكا من ملوكهم، كلّهم يزيد فيه ولا ينقص منه، فتقسمون ذلك كيلا بالأترسة قطعا بالفؤوس فتحملون ما استطعتم من كنوزها فتقسمونه بالغدقدونيّة، فيأتيكم آت من قبل الشام أن الدجّال قد خرج، فترفضون ما في أيديكم، فإذا بلغتم الشام وجدتم الأمر باطلا، وإنما هي نفحة كذوب. قال خالد بن معدان: ليس في الجنّة كلب إلّا كلب أصحاب الكهف، وحمار بلعم، واسم كلب أصحاب الكهف دين، وقال غيره: بل اسمه حمران، واسم الكهف جيرم، وأصحاب الرّقيم بقسطنطينيّة في جبل هناك في شعب وهم ثلاثة عشر رجلا. وخراج الروم مساحة كلّ مائتي مدى ثلاثة دنانير في كلّ سنة، ويأخذ عشر الغلّات فيصير في الأهراء للجيوش، ويأخذ من اليهود والمجوس من كلّ رجل دينارا في السنة، ويؤخذ له في كلّ بيت يوقد فيه كلّ سنة درهم، وديوانه مقسوم على مائة ألف وعشرين ألف رجل، على كلّ عشرة آلاف رجل بطريق، وأجلّ البطارقة خليفة الملك ووزيره، ثم اللّغثيط صاحب ديوان الخراج، ثم اللغثيط صاحب عرض الكتب، ثم الحاجب وصاحب ديوان البريد، ثم القاضي، ثم صاحب الحرس، ثم المرقّب «1» . والروم أصحاب بقر وخيل وشاء، ولهم البزيون العجيب، والديباج الروميّ، ولهم من العطر الميعة والمصطكى والجواري الروميّات، والخدم وينبت في قعر

بحرهم البسّذ، وبها القبّة التي من الرصاص وهي في بعض مفاوزها، وذكر بعضهم أنه دخلها وعيان ما فيها، ووجد على لوح بها مكتوب عليه: يا ابن آدم خف الموت، وبادر الفوت، واستكثر من ادّخار صالح الأعمال، واعلم أن ذكر الموت يهون على اللسان، وأن الموت على الفراش أشدّ من ألف ضربة بالسيف، يا ابن آدم داو الموت بالطاعة، واعلم أن ملك الموت رؤوف بأهل الطاعة. يا ابن آدم إن كنت تحبّ نفسك فصنها عن المعاصي، واحملها على التعب الذي يعقبك الراحة، وأعدّ للسفر البعيد زادا، فإنّ من رحل بلا زاد عطب. يا ابن آدم ما أقسى قلبك تعمر دارا تخرب، وتخرب دارا تبقى، يا ابن آدم خذ لنفسك من نفسك، واعرف المذاهب بالأسباب، فإن سبب العقل المداراة، وسبب المزيد الشكر، وسبب زوال النعمة البطر، وسبب المروّة الأنفة، وسبب الأدب المواظبة، وسبب البغضاء الحسد، وسبب المحبّة الهديّة، وسبب الأخوّة البشاشة، وسبب القطيعة المعاتبة، وسبب الفقر إسراف المال، وسبب العداوة المراء، وسبب المحبّة السخاء، وسبب قضاء الحوائج الرفق، وسبب المذلّة مسألة الناس، وسبب الحرمان الكسل، وسبب الريبة مصاحبة الريب، وسبب النبل العفاف، وسبب ثياب العقل المرأة الصالحة، وسبب الغناء قلّة الفساد، وسبب الغضب الصّلف، والخير كلّه يجمعه العقل، ومن لا عقل له ولا حياء فلا خير في صحبته قال: وإذا خوان موضوع هناك من ملح قدر ما يأكل عليه ألف رجل مكتوب عليه: يا ابن آدم قد أكل على هذا الخوان مائة ملك، كلّهم مصاب بعينه اليسرى، فكم كان الأصحّاء؟ يا ابن آدم قد قضم في هذه القبّة مائتا ألف ملك، وقد رام حمل هذا الخوان واللوح ألف ملك فماتوا كلّهم. قال: فدعاني قيصر فسألني عنه ففسّرته له فبكى ثم قال: لله درّ العرب ما أعظم أحلامها، وأكرم فروعها، ثم وصلني وأحسن جائزتي، ووجّه معي من أخرجني من بلاده. قال أبو المنذر: سمّيت الروم بني الأصفر لأنه لمّا مات ملكهم لم يبق منهم من يصلح للملك إلّا امرأة، فأجمعوا أن يملّكوا عليهم أوّل طالع من الفجّ فطلع

حبشيّ قد أبق من مولاه، فأخذوه فزوّجوه الملكة فولدت له ابنا فسمّي الأصفر لأنه من أسود وأبيض. ومن عجائب الروم: رومية الداخلة، فإنها عجيبة البناء، كثيرة الأهل، وبينها وبين قسطنطينيّة مسيرة سنة. وقال جبير بن مطعم: لولا صوت أهل رومية لسمع الناس وجبة الشمس من حيث تطلع وقال حسن بن عطيّة: يفتح على المسلمين مدينة خلف قسطنطينيّة يقال لها رومية فيها مائة ألف سوق، في كلّ سوق مائة ألف رجل وقال بعض العلماء: ينقّس برومية في كلّ يوم عشرون ومائة ألف ناقوس، لولا وجبة أهلها لسمع الناس تسبيح الملائكة ووقع غروب الشمس. روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: حلية بيت المقدس أهبطت من الجنة فأصابتها الروم فانطلقت بها إلى مدينة لهم يقال لها رومية. قال: وكان الراكب يسير بضوء ذلك الحلي مسيرة خمس ليال. وقال رجل من آل أبي موسى: أخبرني رجل يهودي قال: دخلت رومية وان سوق الطير فيها فرسخ. وقال مجاهد: في بلد الروم مدينة يقال لها رومية فيها ستمائة ألف حمّام. وقال الوليد بن مسلم الدمشقي: أخبرني رجل من التجار قال: ركبنا البحر وألقتنا السفينة إلى ساحل رومية فأرسلنا إليهم: إنّا إياكم أردنا، فأرسلوا إلينا رسولا. فخرجنا معه نريدها. فعلونا جبلا في الطريق فإذا بشيء أخضر كهيئة اللّج فكبّرنا فقال لنا الرسول: لم كبّرتم؟ قلنا: هذا البحر، ومن سبيلنا أن نكبر إذا رأيناه. فضحك وقال: هذه سقوف رومية وهي كلها مرصصة. قال: فلما انتهينا إلى المدينة إذا استدارتها أربعون ميلا في كل ميل منها باب مفتوح. قال: فانتهينا إلى أول باب وإذا سوق البياطرة وما أشبهه. ثم صعدنا درجا فإذا سوق الصيارفة والبزازين. ثم دخلنا المدينة فإذا في وسطها برج عظيم واسع في أحد جانبيه كنيسة قد استقبل بمحرابها المغرب وببابها المشرق وفي وسط البرج

بركة مبلطة بالنحاس يخرج منها ماء المدينة كله. وفي وسطها عمود من حجارة عليه صورة رجل من حجارة. قال: فسألت بعض أهلها فقلت: ما هذا؟ فقال: إن الذي بني هذه المدينة قال لأهلها لا تخافوا على مدينتكم حتى يأتيكم قوم على هذه الصفة، فهم الذين يفتحونها. وذكر بعض الرهبان ممن دخلها وأقام بها أن طولها ثمانية وعشرون ميلا في ثلاثة وعشرين ميلا ولها ثلاثة أبواب من ذهب. فمن باب الذهب الذي في شرقيها إلى البابين الآخرين ثلاثة وعشرون ميلا، ولها ثلاثة جوانب في البحر، والرابع في البر. والباب الأول الشرقي والآخر الغربي والآخر اليمنى. ولها سبعة أبواب سوى هذه الثلاثة الأبواب من نحاس مذهب. ولها حائطان من حجارة رخام، وفضاء طوله مائتا ذراع بين الحائطين. وعرض السور الخارج ثمانية عشر ذراعا وارتفاعه اثنان وستون ذراعا. وبين السورين نهر ماؤه عذب يدور في جميع المدينة ويدخل دورهم مطبّق برفوف النحاس، كل دفة منها ستة وأربعون ذراعا. وعدد الرفوف مائتان وأربعون ألف دفة. وهذا كله من نحاس. وعمود النهر ثلاثة وتسعون ذراعا في عرض ثلاثة وأربعين ذراعا. فكلما همّ بهم عدو وأتاهم، رفعت تلك الرفوف فيصير بين السورين بحر لا يرام. وفيما بين أبواب الذهب إلى باب الملك اثنا عشر ميلا وسوق ماد من شرقيها إلى غربيها بأساطين النحاس، مسقف بالنحاس وفوقه سوق آخر، وفي الجميع التجار. وبين يدي هذا السوق سوق آخر على أعمدة نحاس، كل عمود منها ثلاثون ذراعا. وبين هذه الأعمدة نقيرة من نحاس في طول السوق من أوله إلى آخره فيه لسان تجري من البحر، فتجيء السفينة في هذا النقير وفيها الأمتعة حتى تجتاز في السوق بين يدي التجار فتقف على تاجر تاجر فيبتاع منها ما يريد ثم ترجع إلى البحر.

وفي داخل المدينة كنيسة مبنية على اسم مار فطرس ومار فولس الحواريين وهما مدفونان فيها. وطول هذه الكنيسة ألف ذراع في خمسمائة ذراع في سمك مائتي ذراع. وفيها ثلاث باسليقات بقناطر نحاس. وفيها أيضا كنيسة بنيت باسم اصطفانوس رأس الشهداء طولها ستمائة ذراع في عرض ثلاثمائة ذراع في سمك مائة وخمسين ذراعا. وثلاث باسليقات بقناطرها وأركانها. وسقوف هذه الكنيسة وحيطانها وأرضها وأبوابها وكواؤها كلها وجميع ما فيها حجر واحد. وفي المدينة كنائس منها أربع وعشرون كنيسة للخاصة وفيها كنائس لا تحصى للعامة. وفي المدينة عشرة آلاف دير للرجال والنساء وحول سورها ثلاثون ألف عمود للرهبان. وفيها اثنا عشر ألف زقاق يجري في كل زقاق منها نهران، واحد للشرب والآخر للحشوش. وفيها اثنا عشر ألف سوق، في كل سوق قناة ماء عذب. وأسواقها كلها مفروشة بالرخام الأبيض منصوبة على أعمدة النحاس مطبقة برفوف النحاس وفيها عشرون ألف سوق بعض هذه الأسواق صغار. وفيها ستمائة ألف وستون ألف حمّام. وليس يباع في هذه المدينة ولا يشترى من ست ساعات من يوم السبت حتى تغرب الشمس من يوم الأحد. وفيها مجامع لمن يلتمس صنوف العلم من الطب والنجوم وغير ذلك، يقال إنها مائة وعشرون موضعا. وفيها كنيسة الأمم إلى جانبها قصر الملك وتسمى هذه الكنيسة صهيون، بصهيون بيت المقدس، طولها فرسخ في فرسخ وفي سمك مائتي ذراع ومساحة

هيكلها ستة أجربة، والمذبح الذي يقدس عليه القربان من زبرجد أخضر طوله عشرون ذراعا في عرض عشرة أذرع يحمله عشرون تمثالا من ذهب طول كل تمثال ثلاثة أذرع، أعينها يواقيت حمر، وإذا قرّب على هذا المذبح قربان في الأعياد لا يطفأ إلّا يصاب. وفي رومية من الثياب الفاخرة ما يليق به. وفي الكنيسة ألف ومائتا أسطوانة من المرمر الملمع ومثلها من النحاس المذهب، طول كل أسطوانة خمسون ذراعا. وفي الهيكل ألف وأربعمائة وأربعون أسطوانة، كل أسطوانة ستون ذراعا لكل أسطوانة رجل معروف من الأساقفة. وفي الكنيسة ألف ومائتا باب كبار من النحاس الأصفر المفرّغ وأربعون بابا كبارا من ذهب سوى أبواب الابنوس والعاج وغير ذلك. وفيها ألف باسليق طول كل باسليق أربعمائة وثمانية وعشرون ذراعا في عرض أربعين ذراعا، لكل باسليق أربعمائة وثمانية وعشرون ذراعا، لكل باسليق أربعمائة وأربعون عمودا من رخام مختلف ألوانه طول كل واحد ستة وثلاثون ذراعا. وفيها أربعمائة قنطرة يحمل كل قنطرة عشرون عمودا من رخام. وفيها مائة وثلاثون ألف سلسلة ذهب معلق في السقف ببكر ذهب تعلق فيها القناديل سوى القناديل التي تسرج يوم الأحد. وهذه القناديل تسرج يوم أعيادهم وبعض مواسمهم. وفيها الأساقفة ستمائة وثمانية عشر أسقفا. ومن الكهنة والشمامسة ممن يجري عليهم الرزق من الكنيسة دون غيرهم خمسون ألف، كلما مات واحد أقاموا مكانه آخر. وفي المدينة كنيسة الملك وفيها خزائنه التي فيها أواني الذهب والفضة مما قد جعل للمذبح، وفيها عشرة آلاف جرة ذهب يقال لها الميزان، وعشرة آلاف خوان ذهب وعشرة آلاف كأس وعشرة آلاف مروحة ذهب. ومن المنائر التي تدار حول المذبح سبعمائة منارة كلها ذهب، وفيها من الصلبان التي تخرج يوم الشعانين ثلاثون ألف صليب ذهب، ومن صلبان الحديد والنحاس المنقوشة المموهة بالذهب ما لا يحصى، ومن المقطوريات عشرون ألف مقطورية وفيها ألف مقطرة

من ذهب يمشون بها أمام القرابين. ومن المصاحف الذهب والفضة عشرة آلاف مصحف. وللبيعة وحدها سبعة آلاف حمّام سوى غير ذلك من المستغلات. ومجلس الملك المعروف بالبلاط يكون مساحته مائة جريب وخمسين جريبا، والإيوان الذي فيه مائة ذراع في خمسين ذراعا ملبّس كله ذهبا. وقد مثّل في هذه الكنيسة مثال كل نبي منذ آدم عليه السلام إلى عيسى ابن مريم عليه السلام، لا يشك الناظر إليهم أنهم أحياء. وفيها ثلاثة آلاف باب نحاس مموّه بالذهب، وحول مجلس الملك مائة عمود مموّهة. بالذهب على كل واحد منها صنم من نحاس مفرّغ، في يد كل صنم جرس مكتوب عليه ذكر أمّة من الأمم وجميعها طلسمات، فإذا همّ بغزوها ملك من الملوك تحرك ذلك الصنم وحرك الجرس الذي في يده فيعلمون أن ملك تلك الأمة يريدهم فيأخذون حذرهم. وحول الكنيسة حائطان من حجارة طولهما فرسخ وارتفاع كل واحد منهما مائة ذراع وعشرون ذراعا. لهما أربعة أبواب. وبين يدي الكنيسة صحن يكون خمسة أميال في مثلها في وسطه عمود من نحاس ارتفاعه خمسون ذراعا. وهذا كله قطعة واحدة مفرغة وفوقه تمثال طائر يقال له السوداني «1» ، من ذهب على صدره نقش طلسم وفي منقاره مثال زيتونه وفي كل عشرين واحدة من رجليه مثال ذلك. فإذا كان أوان الزيتون لم يبق طائر في الأرض إلّا وأتى وفي منقاره زيتونه وفي كل واحدة من رجليه زيتونة حتى يطرح ذلك على رأس الطلسم. فزيت أهل رومية وزيتونهم من ذلك. وهذا الطلسم عمله لهم بليناس صاحب الطلسمات. وهذا الصحن عليه أمناء وحفظة من قبل الملك، وأبوابه مختومة، فإذا امتلأ وذهب أصل الزيتون اجتمع الأمناء فعصروه فيعطى الملك والبطارقة ومن يجري مجراهم قسطهم من الزيت ويجعل الباقي للقناديل التي للبيع. وهذه القصة- أعني قصة السوداني- مشهورة قلما رأيت كتابا تذكر فيه عجائب البلاد إلّا وقد ذكرت فيه. وقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: من عجائب الدنيا شجرة

برومية من نحاس عليها صورة سودانية في منقارها زيتونة، فإذا كان أوان الزيتون صفرت فوق الشجرة فيوافي كل طائر في الأرض من جنسها بثلاث زيتونات في منقاره ورجليه حتى يلقي ذلك على تلك الشجرة فيعصر أهل رومية ما يكفيهم لقناديل بيعتهم وأكلهم لجميع الحول. وفي بعض كنائسهم نهر يدخل من خارج المدينة، في هذا النهر من الضفادع والسلاحف والسراطين أمر عظيم. فعلى الموضع الذي تدخل منه الكنيسة صورة صنم من حجارة وفي يده حديدة معقفة كأنه يريد أن يتناول بها شيئا من الماء. فإذا انتهت إليه هذه الدواب المؤذية رجعت مصاعدة، ولم يدخل الكنيسة منها شيء البتة .

القول في العراق قال أبو عبيدة: سمّي العراق عراقا لأنه سفل على نجد، ودنا من البحر، كعراق القربة وهو الخرز المثنيّ الذي في أسفلها وهو الذي يضعه السقّاء في صدره وقال الأصمعيّ: ما دون الرمل عراق وقال المدائنيّ: عمل العراق من هيت إلى الصين والسند والهند، ثم كذلك الريّ وخراسان، والديلم وجيلان والجبال، وإصبهان سرّة العراق، ومن ولي العراق فقد ولي البصرة والكوفة والأهواز وفارس وكرمان والهند والسند وسجستان وطبرستان وجرجان. والعراق في الطول من عانة إلى البصرة، والبصرة تتاخم الأهواز، والأهواز تتاخم فارس، وفارس تتاخم كرمان، وكرمان تتاخم كابل، وكابل تتاخم زرنج، وزرنج تتاخم الهند. وقال بعض أهل النظر: أهل العراق هم أهل عقول صحيحة، وشهوات محمودة، وشمائل موزونة، وبراعة في كلّ صناعة، مع اعتدال الأعضاء، واستواء الأخلاط، وسمرة الألوان، وهي أعدلها وأقصدها، وهم الذين أنضجتهم الأرحام، فلم تخرجهم بين أشقر وأصهب وأمهق ومغرب، وكالذي يعتري أرحام نساء الصقالبة وما ضارعها وصاقبها، وهم الذين لم تتجاوز أرحام نسائهم في النضج إلى الإحراق، فيخرج الولد بين أسود وحالك ومنتن الريح ذفر ومفلفل الشعر مختلف الأعضاء ناقص العقل فاسد الشهوة كالزنج والحبشان ومن أشبهها من السودان، فهم بين فطير لم يختمر ونضيج قد احترق. وقالوا: مناكحة الغرائب أنجب، ومناكحة القرائب أضوى. وقالوا: اغتبروا ولا تضووا. وقالوا: فارس أعقل والروم أعلم وللروم صناعات.

القول في الكوفة قال قطرب: سميت الكوفة من قولهم: تكوّف الرمل أي ركب بعضه بعضا. والكوفان: الاستدارة. وقال أبو حاتم السجستاني: الكوفة رملة مستديرة، يقال كأنهم في كوفان. وقال المغيرة بن شعبة: أخبرنا الفرس الذين كانوا بالحيرة قالوا: رأينا قبل الإسلام في موضع الكوفة فيما بين الحيرة إلى النخيلة نارا تأجج. فإذا أتينا موضعها لم نر شيئا. فكتب في ذلك صاحب الحيرة إلى كسرى فكتب إليه أن أبعث إليّ من تربتها. قال: فأخذنا من حواليها ووسطها وبعثنا به إليه، فأراه علماءه وكهنته فقالوا: يبنى في هذا الموضع قرية يكون على يدي أهلها هلاك الفرس. قال: فرأينا- والله- الكوفة في ذلك الموضع. قالوا: وأول من اختط مسجد الكوفة سعد بن أبي وقاص. وقال غيره: اختط الكوفة السائب بن الأقرع وأبو الهيّاج الأسدي. وكانت العرب تقول: أولع البرّ لسانه في الريف. فما كان يلي الفرات فهو الملطاط، وما كان يلي الطين فهو الخيف. ويروى عن أمير المؤمنين أنه قال: الكوفة كنز الإيمان وجمجمة الإسلام وسيف الله ورمحه، يضعه حيث يشاء. والذي نفسي بيده لينصرن الله جلّ وعزّ بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بالحجاز. وكان (عليه السلام) يقول: حبذا الكوفة، أرض سهلة معروفة، تعرفها جمالنا المعلوفة.

ويقال: موضع الكوفة اليوم كانت سورستان. وكان سلمان يقول: الكوفة أهل الله، وهي قبة الإسلام، يحنّ إليه كل مسلم. وقال أمير المؤمنين: ليأتين على الكوفة زمان وما من مؤمن ولا مؤمنة إلّا بها أو قلبه يحنّ إليها. وقال ابن الكلبيّ: وفد الحجّاج على عبد الملك بن مروان ومعه أشراف العراق، فلمّا دخلوا عليه تذاكروا أمر الكوفة والبصرة. فقال محمّد بن عمير العطارديّ: إن أرض الكوفة أرض سفلت عن الشام وعملها ووباءها، وارتفعت عن البصرة وحرّها وعمقها، وجاورها الفرات فعذب ماؤها وطاب ثمرها، وهي مريئة مريعة. فقال عبد الله بن الأهتم السّعديّ: نحن والله يا أمير المؤمنين أوسع منهم تربة، وأكثر منهم دربة، وأعظم منهم بريّة، وأغذّ منهم في السريّة، وأكثر منهم قندا ونقدا، يأتينا ما يأتينا، عفوا صفوا، ولا يخرج من عندنا إلّا سائق أو قائد أو ناعق. فقال الحجّاج: إن لي بالبلدين خبرا يا أمير المؤمنين. قال: هات فأنت غير متّهم فيهم. قال: أما البصرة فعجوز شمطاء بخراء ذفراء، أوتيت من كلّ حليّ وزينة، وأما الكوفة فكبر عاطل لا حليّ لها ولا زينة. فقال عبد الملك: ما أراك إلّا وقد فضّلت الكوفة. وكان عمر بن الخطّاب يكتب: إلى سيّد الأمصار وجمجمة العرب يعني الكوفة. وكان عبد الله بن عمر يقول: يا أهل الكوفة أنتم أسعد الناس بالمهديّ. وقال أمير المؤمنين للكوفة: ويحك يا كوفة وأختك البصرة كأني بكما تمدّان مدّ الأديم، وتعركان عرك العكاظيّ، إلّا أني أعلم فيما أعلمني الله عزّ وجلّ أنه ما

أراد بكما جبّار سوءا إلّا ابتلاه الله بشاغل. وكان محمّد بن عمير بن عطارد «1» يقول: الكوفة سفلت عن الشام ووبائها، وارتفعت عن البصرة وعمقها، فهي مريئة مريعة بريّة بحريّة، إذا أتتنا الشمال هبّت مسيرة شهر على مثل رضراض الكافور، وإذا هبّت الجنوب جاءتنا بريح السواد، وورده، وياسمينه وخيريّه وأترجّه، ماؤنا عذب، ومحتشّنا خصب. وكتب إليهم عمر بن الخطّاب: أني اختبرتكم فأحببت النزول بين أظهركم، لما أعرف من حكم الله ولرسوله، وقد بعثت إليكم عمّار بن ياسر أميرا، وعبد الله بن مسعود مؤذّنا ووزيرا، وهما من النجباء من أهل بدر، فخذوا عنهما واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي. وكان زياد يقول: الكوفة جارية حسناء، تصنّع لزوجها فكلّما رآها يسرّ بها. قالوا: ولنا فتوح وأيّام، فمن فتوحنا: الحيرة، وبانقيا، والفلّوجتين، ونستر، وبغداد، وعين التّمر، ودومة، والأنبار، وما فتحوا مع خالد بن الوليد في مسيرهم إلى الشام: المصيّح، وحصيد، وبشر، وقراقر، وسوى، وأراك، وتدمر، ثم شاركوا أهل الشام في بصرى ودمشق، هذا كلّه في خلافة أبي بكر، ثم كان من آثارهم في خلافة عمر: يوم جسر أبي عبيد، ويوم مهران، ويوم القادسيّة، ويوم المدائن وجلولاء وحلوان، هذا كلّه قبل أن ينزلوا الكوفة، ثم نزلوها ففتحوا الموصل، وآذربيجان، وتستر، وماسبدان، ورامهرمز، وجرجان، والدّينور، ولهم مع أهل البصرة نهاوند، ولهم بعض الريّ، وبعض إصبهان، ولهم طميس ونامية من طبرستان، ونزل الكوفة من الخلفاء والأئمّة عليّ والحسن (عليه السلام) ، ومن الملوك والخلفاء معاوية، وعبد الملك، وأبو العبّاس، وأبو جعفر المنصور،

والمهديّ، وهارون الرشيد، وكان بها عمّال العراق والدعوة لهم في العطاء قبل أهل البصرة عدّة أهل الكوفة ثمانون ألفا، ومقاتلتهم أربعون ألفا، وكان زياد يقول: أهل الكوفة أكثر طعاما، وأهل البصرة أكثر دراهم. وقال الأحنف بن قيس: نزل أهل الكوفة في منازل كسرى بن هرمز بين الجنان الملتفّة والمياه الغزيرة والأنهار المطّردة، تأتيهم ثمارهم غضّة لم تخضد ولم تفسد، ونزلنا أرضا هشّاشة في طرف فلاة، وطرف ملح أجاج في سبخة نشّاشة، لا يجفّ ثراها، ولا ينبت مرعاها، يأتينا ما يأتينا في مثل مريء النّعامة. قال: ولمّا ظهر أمير المؤمنين (عليه السلام) على أهل البصرة قال أعشى همدان: اكسع البصريّ إن لاقيته ... إنّما يكسع من قلّ وذلّ واجعل الكوفيّ في الخيل ولا ... تجعل البصريّ إلّا في النّفل وإذا فاخرتمونا فاذكروا ... ما فعلنا بكم يوم الجمل بين شيخ خاضب عثنونه ... وفتى أبيض وضّاح رفل جاءنا يخطر في سابغة ... فذبحناه ضحى ذبح الحمل وعفونا فنسيتم عفونا ... وكفرتم نعمة الله الأجلّ وقال فطر بن خليفة: نازعني قتادة في الكوفة والبصرة فقلت: دخل الكوفة سبعون بدريّا، ودخل البصرة عتبة بن غزوان فسكت. وقال أمير المؤمنين: قبّة الإسلام الكوفة، والهجرة بالمدينة، والأبدال بالشام، والنجباء بمصر وهم قليل. وقالوا: من نزل الكوفة فلم يقرّ لهم بفضل ثلاث، فليست له بدار: بفضل ماء الفرات، ورطب المشان، وفضل أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) ومن نزل البصرة. فلم يقرّ لهم بثلاث فليست له بدار: بفضل عثمان، وفضل الحسن البصريّ ورطب الأزاذ.

القول في الجزيرة

قالوا: ومن أسخياء الكوفة: هلال بن عتّاب، وأسماء بن خارجة، وعكرمة بن ربعيّ الفيّاض، ومن فتيانها: خالد بن عتاب، وأبو سفيان بن عروة بن المغيرة بن شعبة، وعمرو بن محمّد بن حمزة. وقال سعيد بن مسعود المازنيّ لسليمان بن عبد الملك: منّا أحلم الناس: الأحنف، وأحملهم بحمالة: إياس بن قتادة، وأسخاهم: طلحة بن عبد الله بن خلف، وأشجعهم عبّاد بن حصين والحريش «1» ، وأعبدهم: عامر بن عبد قيس. فقال نظّار الكوفة: منّا أشجع الناس الأشتر «2» ، وأسخاهم: خالد بن عتّاب، وأحملهم: عكرمة الفيّاض، وأعبدهم: عمرو بن عتبة بن فرقد. وقالوا جميعا: إذا كان علم الرجل حجازيّا وطاعته شاميّا وسخاؤه كوفيّا فقد كمل. افتخار الكوفيّين والبصريّين قال: اجتمع عند أبي العبّاس أمير المؤمنين عدّة من بني عليّ، وعدّة من بني العبّاس، وفيهم بصريّون وكوفيّون منهم: أبو بكر الهذليّ وكان بصريّا، وابن عيّاش وكان كوفيّا «3» ، فقال أبو العبّاس: تناظروا حتى نعرف لمن الفضل منكم. قال بعض بني عليّ: إن أهل البصرة قاتلوا عليّا يوم الجمل، وشقّوا عصا المسلمين. قال أبو العبّاس: ما تقول يا أبا بكر؟ قال: معاذ الله أن يجهل أهل البصرة، إنما كانت شرذمة منها شذّت عن سبل

المنهج، واستحوذ عليها الشيطان، وفي كلّ قوم صالح وطالح فأما أهل البصرة فهم أكثر أموالا وأولادا، وأطوع للسلطان، وأعرف برسوم الإسلام. قال ابن عيّاش: نحن أعلم بالفتوح منكم، نحن نفينا كسرى عن البلاد وأبرنا جنوده وأبحنا ملكه وفتحنا الأقاليم، وإنما البصرة من العراق بمنزلة المثانة من الجسد، ينتهي إليها الماء بعد تغييره وفساده، مضغوطة قبل ظهرها بأخشن أحجار الحجاز وأقلّها خيرا، مضغوطة من فوقها ببطيحتها، وإن كانوا يستعذبون ماءهم، ولولا ذلك ما انتفعوا بالعيش، ومضغوطة بالبحر الأخضر من أسفلها ونحن قلّلناهم على وجه المعزاء، وبعثنا إليهم من جندنا ما كان منه قوامهم، وإنما أهل البصرة بمنزلة الرسل لنا، ومحلّ الكوفة محلّ اللهوات واللسان من الجسد، وموضعها على صدور الأرضين ينتهي إليها الماء ببرده وعذوبته، ويتفرق في بلادنا ويجوز بالعذبة الزكيّة الفرات ودجلة، والبصرة من العراق بمنزلة المثانة من الجسد. قال أبو بكر: أنتم مع ما وصفت أكثر أنبياء وما لنا إلّا نبي واحد وهو محمّد صلّى الله عليه وعامّة أنبيائكم الحاكة. فضحك أبو العبّاس حتى كاد يسقط عن السرير ثم قال: لله درّك يا أبا بكر. فقال أبو بكر: وما رأيت الأنبياء مصلوبين إلّا ببلاد الكوفة. فقال ابن عيّاش: عيّرت أهل الكوفة بثلاثة مجانين من السفلة ادّعوا النبوّة بالجنون، فصلبهم الله بالكوفة، فمن يعيّر به أهل البصرة من المدّعين للعقول والشرف والروايات للحديث كثيرا، وكلّهم يزعم أنه يهدي نفسه ويضلّها، والمتنبّئ بالجنون أيسر خطبا من ادّعاء الصحيح هدى نفسه وضلالها، فلقد ادّعوا الربوبيّة في قول بعضهم. فقال أبو العبّاس: هذه بتلك أو أشدّ يا أبا بكر، فاعترض عليهم بعض العلويّة وهو الحسن بن زيد فقال: يا أبا بكر ما قاتلتم عليّا يوم الجمل؟ فقال: بلى، قاتله شرذمة، وكفّ الله عزّ وجلّ أيدينا وسلاحنا عن قتله نظرا منه لنا، ثم

رجع إلى الكوفة فقتلوه وولده وولد ولده وبني عمّه. وأخرجوا الحسن بن عليّ بعد بيعتهم له حتى هرب منهم. فقال ابن عيّاش: بل قصّر الله أيديكم بطول أيدي الكوفة وبنصرتهم عليكم، وكيف تعيّرنا بباطل رجل واحد منّا يبلغ بباطله ما عجز عنه عامّتكم، ولقد حدّثني أشياخ من النّخع أن أهل الكوفة كانوا يوم الجمل تسعة آلاف رجل مع أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وكان عليه ثلاثون ألفا مع طلحة والزبير وعائشة، فلمّا التقوا لم يكن أهل البصرة إلّا كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف. فقال أبو بكر: ومتى كان أهل البصرة ثلاثين ألفا يقاتلون أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد اعتزلهم الأحنف بن قيس في سعد والرّباب، وقد دخلنا بعد ذلك الكوفة، فذبحنا بها ستّة آلاف رجل من أصحاب نبيّهم المختار، كما يذبح الحملان، سوى من هرب بعد أن جاء أسماء بن خارجة الفزاريّ ومحمّد بن الأشعث الكنديّ وشبث بن ربعيّ التميميّ، واستعانوا بأهل البصرة وشكوا إليهم المختار وأصحابه، وما قتل من رجالهم واستباح من حريمهم، فخرجنا مع مصعب بن الزّبير حتى قتلنا نبيّهم المختار، ومن قدرنا عليه من أصحابه وأعتقناهم من الرقّ، فلنا الفضل على أهل الكوفة، ولنا المنّة عليهم وعلى أعقابهم لو كانوا يشكرون. قال ابن عيّاش: أتاكم أهل الكوفة يوم الجمل مع عليّ فقتلوكم، فأرى أهل الكوفة غالبين ومغلوبين على الحقّ، وأرى أهل البصرة غالبين ومغلوبين على الباطل. فقال أبو العبّاس: يا أبا بكر دونك فإني أرى ابن عيّاش مفوّها جدلا. قال أبو بكر: ما لهم بنا طاقة. قال ابن عيّاش: لسنا في حرب فيرى مغالبنا، وإنما نحن في كلام، فأحسن الكلام أوضحه حجّة.

فقال الحسن بن زيد: يا أبا بكر لا تغالب أهل الكوفة ولا تفاخرهم، فإنهم أكثر فقهاء وأشرافا منكم. فقال أبو بكر: معاذ الله أنّى يكون هذا وما كان فيهم شريف إلّا وفينا أشرف منه، وما كان في تميم الكوفة مثل الأحنف في تميم البصرة، ولا في عبد القيس الكوفة مثل الحكم بن الجارود في عبد القيس البصرة، ولا كان في بكر الكوفة مثل مالك بن مسمع في بكر البصرة، ولا كان في قيس الكوفة مثل قتيبة بن مسلم في قيس البصرة. قال ابن عيّاش: زدنا يا أبا بكر إن وجدت مزيدا، فعندنا أضعاف ما ذكرت ومن أنت ذاكره إن شاء الله. قال أبو بكر: كفى بهذا فخرا وعزّا وشرفا. فقال ابن عيّاش: قطع بك يا أبا بكر، إنما أهل البصرة مثل نظام البعر المستوي واسطته درّة فهي فيهم مشهورة، وأهل الكوفة مثل نظيم الدرّ فواسطته منه لها أشباه كثيرة، ذكرت الأحنف في تميم البصرة وفي تميم الكوفة محمّد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس رهن قوسه عن جميع العرب، والنعمان ابن مقرّن صاحب النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ، المقدّم على جميع جيوش المسلمين أيّام عمر بن الخطّاب، وحسّان بن المنذر بن ضرار من بيت ضبّة، وسيّدها عتّاب بن ورقاء جواد العرب، وشبث بن ربعيّ التميميّ قائد أهل البصرة وسائقهم مع مصعب بن الزبير، وعكرمة بن ربعيّ التميميّ الذي قيل فيه: وعكرمة الفيّاض ربّ الفضائل فهؤلاء سادة تميم الكوفة، والعجب لفخرك بمالك بن مسمع في بكر بن وائل على مصقلة بن هبيرة، وقد أقرّ بين يدي عليّ بن أبي طالب بشرفه وفضله، ومنهم خالد بن معمّر وشقيق بن ثور السّدوسيّ وسويد بن منجوف وحريث بن جابر والحصين بن المنذر ومحدوج المخزوميّ ويزيد بن رويم الشيبانيّ والقعقاع بن شور الذهليّ، وأما فخرك بقتيبة بن مسلم فما أنت وذاك، إنما هو

رجل من باهلة صنعه الحجّاج، والشرف من قيس في عامر بن صعصعة في بني لبيد بن ربيعة الشاعر جاهليّا وإسلاميّا، وإنما فخرت بواحد من مائة، ألا أنّي أجمل لك: أميرنا عليّ بن أبي طالب ومؤذّننا عبد الله بن مسعود وقاضيا شريح، فهات في أهل البصرة واحدا من هؤلاء الثلاثة. قال أبو بكر: أميرنا عبد الله بن عبّاس. قال ابن عيّاش: نحن بطانة عبد الله وظهارته وأنصاره وجنده عليكم، ونحن أحقّ به منكم. فقال أبو بكر: فإن كان مؤذّنكم عبد الله بن مسعود فمنّا أنس بن مالك خادم النبيّ (صلى الله عليه وسلم) . فقال ابن عيّاش: وأين أنس من ابن مسعود فتقيسه به، ولقد نزل الكوفة سوى من سمّيت لك سبعون رجلا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فنقيم لك واحدا بأنس، ثم نفتخر عليك بتسعة وستّين باقين. فقال أبو بكر: فإن كان شريح قاضيكم ففينا الحسن البصريّ سيّد التابعين، وابن سيرين في فضلهما وفقههما. فقال ابن عيّاش: إن عددت هذين وباهيت بهما، عددنا لك أويسا القرنيّ الذي يشفع في مثل ربيعة ومضر، وربيع بن خثيم، والأسود بن يزيد وعلقمة، ومسروقا، وهبيرة بن يريم، وأبا ميسرة، وسعيد بن جبير، والحارث الأعور صاحب عليّ بن أبي طالب وراويته، وأين أنت عمّن لم تر عينك مثله في زمانه من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه، ولا أحفظ لما سمع، ولا أفقه في الدين، ولا أصدق في الحديث، ولا أعرف بمغازي النبيّ صلّى الله عليه وأيّام العرب وحدود الإسلام والفرائض والغريب والشعر، ولا أوصف لكل أمر من عامر بن شراحيل الشّعبيّ؟ فقال كلّ من حضر: لقد كان كذلك، وبالكوفة بيوتات العرب الأربعة: فحاجب بن زرارة بيت تميم، وآل زيد بيت قيس، وآل ذي الجدّين بيت ربيعة، وآل قيس ابن معدي كرب الزّبيديّ بيت اليمن. وبالكوفة فرسان العرب الأربعة في

الجاهليّة والإسلام: عمرو بن معدي كرب، والعبّاس بن مرداس السّلميّ، وطليحة بن خويلد الأسديّ، وأبو محجن الثقفيّ، وأهل الكوفة جند سعد بن أبي وقّاص يوم القادسيّة، وأصحاب الجمل، وصفّين، وخانقين، وجلولاء، ونهاوند، وفرسانهم المعدودون في الإسلام: مالك بن الحارث الأشتر النخعيّ، وسعد بن قيس الهمذانيّ، وعروة بن زيد الطائيّ صاحب وقعة الديلم، وعبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث الكنديّ. فقال أبو بكر: هذا الذي سلب الحسين بن عليّ قطيفة فسمّاه أهل الكوفة عبد الرحمن قطيفة، فقد كان ينبغي أن لا تذكره. فضحك أبو العبّاس من قول أبي بكر. فقال ابن عيّاش: والذي سار تحت لوائه أهل الكوفة والبصرة وجماعة أهل العراق وبالكوفة من أحياء العرب بأسرهم ما ليس بالبصرة منهم إلّا أهل بيت واحد وهم الذين يقول فيهم عليّ بن أبي طالب: لو كنت بوّابا على باب جنّة لقلت لهمدان ادخلي بسلام «1» فقال أبو بكر: فهل فيمن سمّيت أحد إلّا قاتل الحسين بن عليّ، وأهل بيته أو خذلهم أو سلبهم وأوطأ الخيل صدورهم؟ فقال ابن عيّاش: تركت الفخر وأقبلت على التعيير، أنتم قتلتم أباه عليّ بن أبي طالب، فأما أهل الكوفة فكان منهم مع الحسين يوم قتل أربعون رجلا، وإنما كان معه سبعون رجلا فماتوا كلّهم دونه وقتل كلّ واحد منهم عدوّة قبل أن يقتل. فقال أبو بكر: إن أهل الكوفة قطعوا الرحم ووصلوا المثانة، كتبوا إلى الحسين بن عليّ إنّا معك مائة ألف وغرّوه حتى إذا جاء خرجوا إليه فقتلوه وأهل بيته صغيرهم وكبيرهم، ثم ذهبوا يطلبون دمه، فهل سمع السامعون بمثل هذا؟ فقال ابن عيّاش: ومن أهل الكوفة أبو عبد الله الجدليّ «2» الذي صار ناصرا

ما جاء في مسجد الكوفة

لبني هاشم حين حصرهم ابن الزبير، وكتب ابن الحنفيّة يستنصرهم فسار في عدّة ممّن كان مع ابن الزبير حتى صيّر الله بني هاشم حيث أحبّوا فهل كان فيهم بصريّ؟ فنهض أبو العبّاس وهو يقول: الكوفة بلاد الأدب ووجه العراق ومبزغ أهلّة وعليها الجحاش وهي غاية الطالب، ومنزل خيار الصحابة وأهل الشرف، وأن أهل البصرة لأشبه الناس بهم ثم قام. ما جاء في مسجد الكوفة قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : لقد صلّى في هذا البيت يعني مسجد الكوفة تسعون نبيّا، وألف وصيّ، وفيه فار التنّور، وخرجت منه السفينة، وفيه عصا موسى وخاتم سليمان بن داود، والبركة منه على اثني عشر ميلا، وهو أحد المساجد الأربعة التي تعظم، ولإن أصلّي فيه ركعتين أحبّ إليّ من أن أصلّي عشرا في غيره إلّا في المسجد الحرام ومسجد الرسول. وقال ليث بن أبي سليم: بلغني أن المكتوبة في مسجد الكوفة تعدل حجّة، والتطوّع يعدل عمره. وقال زادانفروخ مسجد الكوفة تسعة أجربة. ويروى عن ابن عيينة قال: مرّ إبراهيم (عليه السلام) بالقادسيّة فرأى زهرتها فقال: قدّست وسمّيت القادسيّة. ويقال إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن بالكوفة أربع بقاع قدس مقدّسة فيها أربعة «1» مساجد، قيل: سمّها يا أمير المؤمنين. قال: أحدها مسجد ظفر: وهو مسجد السّهلة، إن أطنابها من الأرض لعلى ياقوتة خضراء، ما بعث الله نبيّا إلّا صورة وجهه فيها. والثاني مسجد جعفيّ: لا تذهب الأيّام والليالي حتى تنبع منه عين. والثالث مسجد غنيّ: لا تذهب الليالي والأيّام حتى تنبع منه عين، وحوله جنينة. والرابع مسجد الحمراء: وهو في موضع بستان، لا تذهب الليالي

والأيّام حتى تنبع منه عين، تنطف ماء حواليه وفيه قبر أخي يونس بن متّى. ويقال: إن مسجد السهلة مناخ الخضر، وما أتاه مغموم. إلّا فرّج الله عنه، قال: ونحن نسمّي مسجد السهلة مسجد القرى. وبالكوفة الفرات وهو نهر من أنهار الجنّة، وفي الخبر: الفرات والنيل مؤمنان، ودجلة وبرهوت كافران. وقال عبد الملك بن عمير: الفرات نهر من أنهار الجنّة، لولا ما يخالطه من الأذى، ما تداوي به مريض إلّا أبرأه الله، فإن عليه ملكا يذود عنه الأدواء. وقال سماك بن حرب: أصبت ببصري فرأيت إبراهيم (عليه السلام) في منامي فقال: ائت الفرات فاستقبل بعينيك جرية الماء، ففعلت فردّ الله عليّ بصري. ومخرج الفرات من قاليقلا، ويدور بتلك الجبال حتى يدخل أرض الروم، ويجيء إلى كمخ وإلى ملطية، ويجيء إلى جبلتا وعيونها حتى يبلغ سميساط، فيحمل من هناك السفن، ثم يصبّ إليه الأنهار الصغار: نهر سنجة ونهر كيسوم، ونهر ديصان والبليخ، ثم يجيء إلى الرقّة، ثم يتفرّق فيصير أنهارا، فمن أنهاره: نهر سورا وهو أكبرها، ونهر الملك، ونهر صرصر، ونهر عيسى والصراتين، ونهر الخندق، وكوثى، وسوق أسد، ونهر الكوفة والفرات العتيقة. وقال المدائنيّ: اجتمع أهل العراق عند يزيد بن عمر بن هبيرة فقال ابن هبيرة: أيّ البلدين أطيب ثمرة الكوفة أم البصرة؟ فقال خالد بن صفوان: ثمرتنا أطيب أيّها الأمير منها كذا ومنها كذا. فقال عبد الرحمن بن بشير العجليّ: لست أشكّ أيّها الأمير إلّا وأنكم قد اخترتم للخليفة ما تبعثون به إليه، فقال: أجل. فقال: قد رضينا بأن تحكم لنا وعلينا، فأيّ الرطب تحملون إليه؟ قال: المشان. قال: فليس بالبصرة منه واحدة، فأيّ التمر تحملون إليه؟ قال: النرسيان. قال: وهذا فليس بالبصرة منه واحدة. قال: والهيرون والأزاذ. قال: وهذا فليس بالبصرة منهما واحدة، ثم قال: فأيّ القسب تحملون إليه؟ قال: قسب العنبر. قال: وهذا

ذكر الخورنق

فليس بالبصرة منه واحدة. قال: أفلست تعلم أنها أفضل من البصرة؟ ذكر الخورنق قالوا: ومن البناء المذكور الأبلق الفرد، وباليمن غمدان، وهو قصر من أعجب ما بنته الملوك، وقد ذكرنا خبره. وقصر نباج بناه الأخنس بن شهاب، والهرمان «1» بمصر والإسكندرية ومنارتها، ومنف مدينة فرعون، وملعب فامية بحمص، وتدمر بالشام، وإيوان أنوشروان ومأرب وشبديز والخورنق بظهر الكوفة. وكان الذي بناه النعمان بن امرئ القيس، وهو ابن الشّقيقة بنت أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان فارس حليمة، ملك ثمانين سنة وبنى الخورنق في ستّين سنة، بناه له رجل روميّ. يقال له سنمّار، وكان يبني السنتين والثلاثة ثم يغيب الخمس سنين، فيطلب فلا يوجد، ثم يأتي فيبني كذلك حتى أتت عليه ستّون سنة وفرغ من الخورنق، فصعده النعمان على دابّته فنظر إلى البحر تجاهه والبرّ خلفه، ورأى الحوت والضبّ والظبي والطير والظليم والنخل والزرع فقال: ما رأيت مثل هذا البناء قطّ، فقال له سنمّار: أما أني أعلم موضع آجرّة لو زالت زال هذا القصر كلّه. فقال له النعمان: أيعرفها أحد غيرك؟ قال: لا. قال: لا جرم لأدعنّها لا يعرفها أحد، ثم أمر فقذف سنمّار من فوق القصر فتقطّع، فضربت العرب به المثل فتقول: جازاني جزاء سنمّار، فقال الشاعر: جزاني جزاه الله شرّ جزائه ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب سوى رمّه البنيان ستّين حجّة ... يعلّي عليه بالقراميد والسّكب فلمّا رأى البنيان تمّ سحوقه ... وآض كمثل الطّود ذي الباذخ الصّعب وظنّ سنمّار به كلّ خيرة ... وفوز لديه بالمودّة والقرب فقال: أقذفوا بالعلج من فوق رأسه ... فهذا لعمر الله من أعجب الخطب «2»

وكان النعمان غزا الشام مرارا وأكثر المصائب في أهلها وسباهم، وكان من أشدّ الملوك نكاية، فجلس ذات يوم في مجلسه من الخورنق فأشرف على النّجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار ممّا يلي المغرب، وعلى الفرات ممّا يلي المشرق، والخورنق قصر بحذاء الفرات، يدور عليه في عاقول كالخندق، فأعجبه ما رأى من الخضرة والنور والأنهار والزهر، فقال لوزيره: رأيت مثل هذا المنظر؟ قال: لا، لو كان يدوم. قال: وما الذي يدوم؟ قال: ما عند الله في الآخرة. قال: فبم ينال؟ قال: بتركك الدنيا وتعبد الله، وتلتمس ما عنده، فترك ملكه من ليلته ولبس مسوحه وخرج هاربا لا يعلم به أحد، وأصبح الناس لا يعلمون بحاله فحضروا بابه فلم يؤذن لهم ثلاثة، أيّام، فلمّا أبطأ الأذن سألوا عنه فلم يجدوه، ففي ذلك يقول عديّ بن زيد «1» : وتبيّن ربّ الخورنق إذ أش ... رف يوما وللهدى تفكير سرّه حاله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضا والسّدير فارعوى قلبه وقال وما غب ... طة حيّ إلى الممات يصير ثم صاروا كأنّهم ورق ج ... فّ فألوت به الصّبا والدّبور وسمّي السّدير لأن العرب نظرت إلى سواد النخل فسدرت أعينهم أي تحيّرت فقالوا: ما هذا إلّا سدير. وقال الكلبيّ: أوّل من بنى الخورنق بهرام جور بن يزدجرد بن سابور ذي الأكتاف، وذلك أن يزدجرد كان لا يبقى له ولد، وكان بهرام أصابه جن في صغره، فسأل عن منزل مريء صحيح من الأدواء فقالت الأطبّاء: لا يبرأ حتى تخرجه من أرضك إلى بلاد العرب، ويسقى أبوال الإبل وألبانها، فوجّهه يزدجرد إلى النعمان وأمر ببناء الخورنق مسكنا له ليعالج فيه، فعولج فبرأ، فكان بهرام يكرم العرب ويركب الإبل وهو في الصّور التي تصوّرها العجم في أوانيها وبسطها وفرشها راكب بعيرا أبدا.

قصة الغريين

وقال الهيثم بن عديّ: لم يقدم الكوفة أحد إلّا أحدث في هذا القصر شيئا، يعني الخورنق، فلمّا قدمه الضحّاك بن قيس بناه وعمره، فدخل عليه شريح القاضي فقال: أبا أميّة أرأيت بناء قطّ أحسن منه؟ قال، نعم، قال: كذبت وأيّ بناء رأيته أحسن منه؟ قال: السماء. قال: وعن السماء سألتك أقسم لتسبّنّ أبا تراب «1» . قال: لا أفعل. قال: ولم؟ قال: لأنّا نعظّم أحياء قريش، ولا نسبّ موتاها، قال: جزاك الله خيرا. وأنشد لعليّ بن محمّد العلويّ «2» : كم وقفة لك بالخور ... نق لا توازى بالمواقف بين السّدير إلى الغدي ... ر إلى ديارات الأساقف فمدارج الرّهبان في ... أطمار خائفة وخائف دمن كأنّ رسومها ... يكسين أعلام المطارف وكأنّما غدرانها ... منها عشور من مصاحف وكأنّما أنوارها ... تهتزّ بالرّيح العواصف يلقى أواخرها أوا ... ئلها بألوان الرفارف بحريّة شتواتها ... برّيّة منها المصايف درّيّة الحصباء كا ... فوريّة منها المشارف قصّة الغريّين وبها الغريّان بناهما المنذر بن امرئ القيس، وهو ابن ماء السماء، وكان سبب ذلك أنه كان له نديمان من بني أسد خالد بن نضلة وعمرو بن مسعود وأنهما

ثملا من النبيذ ليلة فرادّا الملك بعض الكلام فأمر فحفر لهما حفيرتان، بجانب البئر بظهر الكوفة فدفنا فيه حيّين وفيهما يقول الشاعر: ألا بكّر الناعي بخيري بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسّيّد الصّمد يعني خالد بن نضلة، وأمر ببناء طربالين عليهما وهما صومعتان، وجعل لهما في السنة يومين: يوم بؤس ويوم نعيم، فيذبح في يوم بؤسه كلّ من يلقاه، ويغرو بدمه الطربالين ما كان من شيء آدميّ أو وحشيّ، وفي يوم بؤسه قتل عبيد بن الأبرص الأسديّ الشاعر، وكان أوّل من أشرف عليه في يوم بؤسه، فقال له المنذر: هلّا كان الذبح لغيرك يا عبيد، فقال عبيد: أتتك بحائن رجلاه فأرسلها مثلا، فقال المنذر: أجلّ بلغ أناه، فقال له المنذر: أنشدني. فقال: حال الجريض دون القريض، وبلغ الحزام الطّبيين، فأرسلهما مثلا فقال المنذر: أسمعني. فقال: عبيد المنايا على الحوايا، فأرسلها مثلا. فقال له بعض أصحاب الملك: أنشده هبلتك أمّك. فقال عبيد: وما قول قائل مقتول، فأرسلها مثلا. فقال له آخر: ما أشدّ جزعك من الموت. قال: لا يرحل رحلك من ليس معك، فأرسلها مثلا، أي لا تدخل في أمرك من لا يهتمّ بك. قال المنذر: قد أمللتني فأرحني، قال عبيد: من عزّ بزّ، فأرسلها مثلا ثم قتله. وكان سبب تركه لهذين اليومين رجل من طيّء يقال له حنظلة، همّ بقتله فتكفّل به شريك بن عمرو بن شراحيل أبو الحوفزان على أن يرجع إلى أهله ويصلح حالهم، ثم يعود إليه فانقضت السنة ولم يرجع حنظلة فهمّ الملك بشريك، فلمّا وضع السيف على عنق شريك فإذا بحنظلة قد أقبل متحنّطا متكفّنا، فلمّا رآه المنذر عجب من وفائهما فخلّى عنهما وأبطل السّنّة، وقال: لا أكون الأم الثلاثة. والغريّ في اللغة ما يبس عليه الدم من صنم وغيره. ولمّا دخل معن بن زائدة الكوفة رأى الغريين قد انهدما فأنشأ يقول: لو كان شيء مقيما لا يبيد على ... طول الزمان لما باد الغريّان قد فرّق الدهر والأيّام بينهما ... وكلّ إلف إلى بين وهجران

قالوا: وبالكوفة الحيرة البيضاء، وكانت الملوك تنزلها قبل أن بنيت الكوفة لطيب هوائها وفضلها على سائر المواضع، وإنما سمّيت الحيرة لأن تبّعا لمّا سار إلى موضع الحيرة. أخطأ الطريق وتحيّر هو وأصحابه فسمّيت الحيرة وأوّل من نزل من العرب الحيرة جذيمة الأبرش، ويقال: بل أوّل ملوكها مالك بن فهم بن غنم بن دوس من الأزد. وقال ابن عيينة: سمعت ابن شبرمة يقول: يوم وليلة بالحيرة خير من دواء سنة، وكان ابن كناسة ينشد: فإنّ بها لو تعلمين أصائلا ... وليلا رقيقا مثل حاشية البرد قال: وكان أوّل من ملك منهم في زمن ملوك الطوائف مالك بن فهم، وكان منزله فيما يلي الأنبار، ثم مات فملك أخوه جذيمة الأبرش، وكان من أفضل ملوك العرب رأيا، وأبعدهم مغارا، وأشدّهم نكاية، وأظهرهم حزما، وصار الملك من بعده في ابن أخته عمرو بن عديّ، وهو أوّل من اتّخذ الحيرة منزلا من ملوك العراق، وهم ملوك آل نصر: إليه ينسبون ثم غلب على الأمر أردشير بن بابك في أهل فارس. قالوا: وسوق يوسف بالحيرة نسب إلى يوسف بن عمرو بن محمّد بن الحكم بن عقيل الثقفيّ ابن عمّ الحجّاج بن يوسف وحمّام أعين نسب إلى أعين مولى سعد بن أبي وقّاص. وشهار سوج «1» معناه شهار طاق بجلة بالكوفة نسب إلى قبيلة بجلة، وهم ولد مالك بن ثعلبة وبجلة أمّهم وغالبتهم على نسبهم، ونسبوا إليها وغلط الناس فقالوا بجيلة. وجبّانة عرزم منسوبة إلى رجل كان يلبّن فيها، ولبنها رديّ فيه قصب وخرق، فربّما أصابها شظيّة من نار فاحترقت الحيطان.

وزرارة نسبت إلى زرارة بن يزيد بن عمرو بن عدس من بني البكّاء، وكانت منزله فأخذها معاوية بن أبي سفيان «1» . ودار حكيم بالكوفة في أصحاب الأنماط نسبت إلى حكيم بن سعد بن ثور البكّائيّ. وقصر مقاتل نسب إلى مقاتل بن حسّان بن ثعلبة. والسّوّاريّة بالكوفة نسبت إلى سوّار بن زيد العباديّ الشاعر. وقرية أبي صلابة التي على الفرات نسبت إلى أبي صلابة بن مالك بن طارق العبديّ. وأقساس مالك تنسب إلى مالك بن قيس. ودير الأعور منسوب إلى رجل من إياد من بني أميّة بن حذاقة. ودير قرّة ينسب إلى قرّة أحد بني أميّة بن حذاقة، وإليهم نسب دير السّوا والسّوا العدل. ودير الجماجم دير لإياد، وكان بين حيّين منهم قتال، وهم: بنو بهراء بن الحاف بن قضاعة، وبين بني القين بن جسر بن شيع الله بن وبرة، فقتل منهم خلق، فلمّا انقضت الوقعة دفنوا قتلاهم عند الدير، فكان بعد ذلك إذا حفروا فيه لبعض أمورهم وجدوا جماجم فيخرجونها فسمّي دير الجماجم. ويقال أيضا: إن دير كعب لإياد أيضا. ودير هند لأمّ عمرو بن هند. ودار قمام نسب إلى قمام بنت الحارث بن هانئ الكنديّ وهو عند دار الأشعث بن قيس. وبيعة عديّ نسبت إلى بني عديّ بن الدّميل من لخم.

وكانت طيزناباذ تدعى ضيزناباذ منسوبة إلى ضيزن بن معاوية بن العبيد السّليحيّ. ومسجد سماك بالكوفة منسوب إلى سماك بن مخزمة بن حمين الأسديّ. وبها محلّة بني شيطان منسوبة إلى شيطان بن زهير من زيد مناة بن تميم. ورحا عمارة نسبت إلى عمارة بن عقبة بن أبي معيط. وجبّانة سالم نسبت إلى سالم بن عمّار من بكر بن هوازن. وصحراء البردخت نسبت إلى البردخت الشاعر الضبّيّ. ومسجد بني عنز ينسب إلى بني عنز بن وائل بن قاسط. ومسجد بني جذيمة. وقصر العدسيّين في طرف الحيرة لبني عمّار بن عبد المسيح نسبوا إلى جدّتهم عدسة بنت مالك بن عوف الكلبيّ. وسكّة البريد اليوم بالكوفة كانت بيعة لأمّ خالد بن عبد الله القسريّ. ونهر الجامع من حفر خالد وقصر خالد معروف هناك. وسوق أسد منسوب إلى أخيه أسد بن عبد الله القسري. وقنطرة الكوفة أحدثها عمر بن هبيرة وأصلحها خالد بن عبد الله القسريّ. وقصر يزيد بن عمر بن هبيرة بالقرب من جسر سورا. والمدينة الهاشميّة التي بناها أبو العبّاس بحيالها وكان نزلها، ثم اختار نزول الأنبار فبنى فيها مدينتها المعروفة به، فلمّا استخلف المنصور نزل المدينة الهاشميّة بالكوفة، واستتمّ بناءها وزاد فيها، ثم تحوّل منها إلى بغداذ فبنى مدينته ومصّر بغداذ، وسمّاها مدينة السلام. وبنى المنصور بالكوفة الرّصافة، وأمر أبا الخصيب مرزوقا مولاه فبنى له القصر المعروف بأبي الخصيب على أساس قديم له، ويقال بل بناه لنفسه.

ما جاء في ذم الكوفة

وأما الخورنق فقد أتمّ بناءه النعمان لبهرام جور. وجبّانة ميمون نسبت إلى ميمون مولى محمّد بن عليّ بن عبد الله وهو أبو بشر بن ميمون صاحب الطاقات ببغداذ بالقرب من باب الشام. وصحراء أمّ سلمة نسبت إلى أمّ سلمة بنت يعقوب بن سلمة بن عبد الله امرأة أبي العبّاس أمير المؤمنين. ما جاء في ذمّ الكوفة من ذلك غدرهم بأمير المؤمنين عليه السلام حتى قتل بينهم، وخذلانهم له حتى في تجهم «1» غيره. وخذلانهم الحسين بن علي رضي الله عنهما بعد مكاتبتهم إياه، حتى قتل بين ظهرانيهم وهم ينظرون. بل هم كانوا أصحابه وقتلته. وقبل ذاك غدرهم بالحسن ومكاتبتهم معاوية ومصير أكثرهم إليه. وطعنهم الحسن وسلب متاعه. وقتل مسلم بن عقيل راسلا من إياه «2» . وغدرهم بزيد بن علي رضي الله عنهما، بعد مبايعتهم له. وكذلك فعلهم بيحيى بن عمر وغيره من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقتلوا المختار بن عبيد وقد خرج طالبا بدماء أهل البيت. وكثرة شكايتهم للعمال. شكوا سعد بن أبي وقاص فدعا عليهم أن لا يرضيهم الله بوال ولا يرضى وال عنهم. وشكوا عمار بن ياسر، والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص. وكان () «3» يقول: ما أبالي بعد السبعين لو دحيت صخرة قتلت بها عشرة من أهل الكوفة. وقال إذا كان رأس السنة فلو صعدت مسجد الكوفة وألقيت بصخرة ما خشيت أن أقتل مؤمنا. وقال عمر () «4» استعملت عليهم

الضعيف خوّفوه. وإن استعملت عليهم القوي () «1» . وقال بعض أهل الكوفة للوليد بن عقبة بعد ما عزل عنهم: جزاك الله خيرا يا با وهب، فما رأينا بعدك خيرا منك. قال: ولكني بحمد الله لم أر بعدكم شرا منكم، وان بغضكم لتلف وحبكم لكلف. وقال النجاشي: إذا سقى الله أرضا صوب غادية ... فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا التاركين على طهر نساءهم ... والنائكين بشطّي دجلة البقرا والسارقين إذا ما جنّ ليلهم ... والدارسين إذا ما أصبحوا السورا ألقى العداوة والبغضاء بينهم ... حتّى يكونوا لمن عاداهم جزرا [2 أ] وقال فيهم أيضا: لعن الله ولا يغفر لهم ... ساكني الكوفة من حيّ مضر واليمانيين لا يحفل بهم ... فهم من شرّ من فوق الغبر جلدوني ثم قالوا قدر ... قدّر الله لهم سوء القدر وكان قوم من أهل البصرة والكوفة بخراسان في بعض المغازي. فعيّر البصريون الكوفيين بشرب السويق، وعيّر الكوفيون البصريين بشرب النبيذ. فقال الشاعر في ذلك: إذا ذكر الفرات بكوا عليه ... بعيد ما تمنّاهم سحيق وقد علموا بأنّ الحرب ليست ... لأصحاب التزايد والسويق ضربناكم على الإسلام حتّى ... أقمناكم على وضح الطريق وأتت عيرهم أهل الشام بالسمن، فقال شاعرهم: () «2» غير سبع ... بقين من المحرّم أو ثمان

وادعى النبوة من أهل الكوفة جماعة منهم المختار بن عبيد. كتب إلى الأحنف بن قيس: بلغني أنكم تكذّبونني. ولئن كذبتموني فقد كذبت الأنبياء قبلي. ولست خيرا من كثير منهم. قيل لابن عمر: إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه، فقال: صدق، وحي الشيطان. قال الله تعالى يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ويروى أن المختار قال لرجل دخل إليه: اجلس على وسادة كانت في مجلسه: أتدري من قام عن هذه الوسادة آنفا؟ قال: لا، قال جبريل. وكان منهم أبو منصور الخنّاق «1» ، وكان يتولّى سبعة أنبياء من بني قريش وسبعة من بني عجل. وكان منهم المغيرة بن سعيد «2» . وسأله رجل عن أمير المؤمنين علي. فقال لا تحتمله. قال: بل أحتمله. قال فذكر آدم ومن دونه من الأنبياء فلم يذكر أحدا منهم إلّا فضّل عليا رضي الله عنه حتى انتهى إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال فقلت كذبت. قال قد أخبرتك أنك لا تحتمل. وحج راشد الهجري وأتى المدينة وذلك في ولاية زياد [2 ب] العراق، فقال للحسن رضي الله عنه: استأذن لي على أمير المؤمنين. قال: أو ليس قد مات؟ قال: لا والله ما مات، وإنه ليتنفس تنفس حيّ، ويعرق تحت الدثار الثقيل. فقال له الحسن: كذبت يا عدو الله. واتصل الخبر بزياد فقتله وصلبه على باب داره. وكانت فيهم هند الأفاكة.

وقال أصغر بن حسان المازني- مازن مذحج- وقد قدم الكوفة يلتمس الإحسان من أهلها فلم يفعلوا به جميلا، وقالوا: أقم حتى يقفل الجيش من جرجان. فلم يقم ورحل عنهم وقال: رحلت إلى قوم أؤمّل رفدهم ... وما سائل الكوفيّ إلّا مقاتله لصوص إذا مارستهم في بيوتهم ... منيت بخصم لا تزال تجادله وقالوا تربّص أوبة الجيش إنّه ... بجرجان لم نحبس عليك مجاهله وإنّ عطاء دونه ما زعمتم ... على سائل الأعراب قد راث جائله فأدنيت حرجوجا كأنّ سنامها ... من الأين (؟ ..........؟) «1» ورحت كما راح النجاشيّ منهم ... خفيفا من النقد الجياد رواحله فويل أمّها من قرية غير أنّها ... قليل بها معطي الجزيل وفاعله وفيهم يقول شاعر من بني عمرو بن عامر: يا أيها الراكب الغادي لطيّبة ... يؤمّ بالقوم أهل البلدة الحرم أبلغ قبائل عمرو إن لقيتهم ... لو كنت من دارهم يوما على أمم إنّا وجدنا فقرّوا في بلادكم ... أهل الكتاب وأهل اللوم والعرم أرض تغيّر أحساب الرجال بها ... كما رسمت بياض الرّيط بالحمر «2» وخرج جيش من أهل الكوفة إلى حبيش بن دلجة بالربذة فخافوا ورجعوا. وخرج جيش من أهل البصرة فقتلوه فقال الشاعر في ذلك: [3 أ] ألسنا بأصحاب ابن دلجة إذ عبا ... هنالك خيلا كالسّراحين ضمّرا تقاد بفرسان إذا حمس الوغى ... أحلّوا الحرام واستباحوا المنكرا فلاقتهم خيل لنا فارسيّة ... أساورة تدعو يزيد المسوّرا

فلما التقوا ولّى المشامون هرّبا ... عزيز (؟) وأخلوا عن حبيش مقطّرا ويروى عن مجاهد أنه قال: لما أوحى الله عزّ وجلّ إلى الأرض أيام نوح فقال يا أرض ابلعي ماءك، كانت أرض الكوفة آخرها ابتلاعا وأشدها تقعسا. فمن هناك سائر الأرضين تكرب على حمارين وثورين وأرض الكوفة على ستة. وقال إبراهيم التيمي: لما أمرت الأرض أن تغيض الماء، أغاضت إلّا أرض الكوفة. فلعنت فسائر الأرض تكرب على ثورين وأرض الكوفة على أربعة. وقالت أم العلاء الأوذية: مرّوا بزيد بن علي في سوق كندة على حمار قد خولف بوجهه. فقاموا إليه يبكون. فأقبل عليهم وقال: يا شرار خلق الله! أسلمتموني للقتل ثم جئتموني تبكون؟ وقال علي رضي الله عنه لأهل الكوفة: اللهمّ كما نصحتهم فغشّوني، وائتمنتهم فخانوني، فسلّط عليهم فتى ثقيف الذيال الميال يأكل خضرتها، ويلبس فروتها، ويحكم فيهم بحكم الجاهلية. وقال أبو عبد الله القشيري: قام أهل الكوفة إلى علي رضي الله عنه فقالوا: العطاء يا أمير المؤمنين. فقال: ما لهم ميث الله قلوبهم كما يماث الملح في الماء. أتطلقوني ولادة من غير زوج؟ أما والله لو تجتمعون على حقكم كما تجتمعون على باطلكم ما غلّ على أموالكم حلب شاة. اللهمّ إني قد كرهتهم وكرهوني. فأرحهم مني وأرحني منهم. قال: فأصيب في ذلك العام. وقدم رجل من أهل المدينة يكنى أبا مريم الكوفة فلقيه علي رضي الله عنه. فقال: يا أبا مريم ما أقدمك هذه البلاد؟ فقال: ما كانت لي حاجة، ولكن عهدي بك وأنت تقول: لو ولّيت هذا الأمر لفعلت وفعلت. قال: فأنا على العهد الذي عهدت. ولكني بليت بأخبث قوم في الأرض. ما دعوتهم قطّ إلى حق فأجابوني [3 ب] إليه. ولا يدعوني إلى أمر فأجيبهم إلّا اختلفوا «1» .

وقال جرير بن سيير «1» : قدمت الكوفة وقد انصرف علي بن الحسين من كربلاء، فرأيت نساء أهل الكوفة يلتدمن مهتكات الجيوب. فسمعت علي بن الحسين يقول بصوت صبي وقد نهكته العلة: ألا إنّ هؤلاء قتلونا. ورأيت زينب بنت علي رضي الله عنها وقد أومأت إلى الناس أن انصتوا. فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس، ثم قالت: الحمد لله والصلاة على نبيه. أما بعد يا أهل الكوفة. يا أهل الختل والخذل. فلا رقأت العبرة ولا هدأت الرنّة. إنما مثلكم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا. تتخذون أيمانكم دخلا بينكم. ألا وهل فيكم إلّا الصلف والصدف والشنف. ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم ان سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون؟ اي والله. فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا. فلقد فزتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا. وأنى ترحمون بعد قتل سليل خاتم الرسالة وسيد شبيبة أهل الجنة وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم. ألا ساء ما تزرون. تعسا ونكسا. فلقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت الصفقة وبؤتم بغضب من الله وضربت عليكم الذلة والمسكنة. ويلكم أتدرون أي كبد لمحمد (صلى الله عليه وسلم) فريتم؟ وأي دم سفكتم؟ وأي حرمة له أضعتم؟ لقد جئتم شيئا إدّا. تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الجبال وتخر الجبال هدّا. ولقد أتيتم بها خرقاء شوهاء طلاع الأرض والسماء. فعجبتم أن قطرت السماء دما. فلعذاب الآخرة أخزى ولا تنصرون. فلا يستخفنكم المهل، فإنه لا يخاف فوت الثار. كلّا. إن ربك لبالمرصاد. قال: فرأيت الناس حيارى ولهى قد ردّوا أيديهم في أفواههم. ودخل اليقظان بن ظهير على عائشة فقالت: ممن أنت؟ فقال: من أهل الكوفة. فقالت: وددت أن الله سلّط على أهل الكوفة عذابا مثل عذاب يوم الظلة. ولما قتل مصعب بن الزبير، وكانت امرأته سكينة بنت الحسين. أرادت

الرحيل إلى المدينة وكانت بالكوفة. فقالت لها أهل الكوفة: يا بنت رسول الله، أحسن الله صحابتك [4 أ] وفعل بك وفعل. فقالت: يا أهل الكوفة! لا أحسن الله صحابتكم. فلقد قتلتم جدي عليا وعمي الحسن وأبي الحسين وبعلي مصعبا. فأيتمتموني صغيرة وآيمتموني كبيرة. فلا أحسن الله عليكم الخلافة ولا رفع عنكم السوء. وقال عمر بن الخطاب: أعضل بيّ أهل الكوفة ما يرضون بأمير، ولا يرضاهم (أمير) ولا يصلحون لأمير ولا يصلح لهم. ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بلغه عن أهل الكوفة خصب وقيل له: ما تقول في الضب والنون يجتمعان في سفود؟ فقال إنكم لتنعتون أرضا برية بحرية. وأعجبه ذلك فقال: ما أراني إلّا سآتيهم فآمرهم بمعروف. فكتب إليه كعب: يا أمير المؤمنين لا تعجل فإنه بلغني أن بها الداء العضال وبها تسعة أعشار الشر. وبلغني أنه كان إذا كل شيء يتكلم اجتمع ثمانية أشياء في واد: الإيمان والحياء والهجرة والموت والغناء والعيّ والشقاء والصحة. فقال بعضهم لبعض: تعالوا نتفرق في الأرض. فقال الإيمان: أنا ألحق بأرض اليمن. فقال الحياء: أنا معك. قالت الهجرة: أنا ألحق بأرض الشام. قال الموت: وأنا معك. قال الغنى: أنا ألحق بأرض العراق. قال التقى: أنا معك. قالت الصحة: ما تركتم لي شيئا من البلاد إلّا وقد أخذتموه، فأنا ألحق بالبرية. قال الشقاء: وأنا معك. وقالوا: السدير ما بين نهر الحيرة إلى النجف إلى كسكر من هذا الجانب. وعيون «1» الطف منها مثل عين الصيد والقطقطانة والرهيمة وعين جمل وذواتها، وبها عيون كانت للموكّلين بالمسالح التي وراء خندق سابور الذي حفره بينه وبين العرب وغيرهم. وذلك أن سابور أقطعهم أرضها فاعتملوها من غير أن يلزمهم خراجا. فلما كان يوم ذي قار ونصر الله العرب بنبيه (صلى الله عليه وسلم) ، غلبت العرب على

طائفة من تلك العيون وبقي بعضها في أيدي الأعاجم. ثم لمّا قدم المسلمون الحيرة وهربت الأعاجم بعد أن طمّت عامة ما كان في أيديها منها وبقي الذي في أيدي العرب. فأسلموا عليه، وصار ما عمروه من الأرض [4 ب] عشرا. ولما انقضى أمر القادسية والمدائن دفع ما جلا عنه الأعاجم من أرض تلك العيون إلى المسلمين وأقطعوه، فصارت عشرية أيضا. وكان مجرى عيون الطف وأرضها مجرى أعراض المدينة وقرى نجد. وكانت صدقتها على عمال المدينة. فلما ولي إسحاق بن إبراهيم بن مصعب السواد للمتوكل ضمها إلى ما في يده. فتولى عمالة عشرها وصيرها سوادية. فهي على ذلك إلى اليوم. وقد استخرجت فيها اليوم عيون إسلامية تجري ما عمرتها من الأرضين هذا المجرى. وسألت بعد المشايخ عن عين جمل لم سميت بهذا الاسم؟ فذكر أن جملا مات عندها فنسبت العين إليه. وذكر بعض أهل واسط أن المستخرج لهذه العين يسمى جملا. قال: وسميت عين الصيد لأن السمك كان كثيرا جدا فيها، فيصطاد فسميت بهذا الاسم. وكانت عين الرحمة مما طمّتها وغوّرتها الأعاجم. فيقال إن رجلا من أهل كرمان اجتاز بها وهو يريد الحج. فنظر إليها- وكان بصيرا باستنباط المياه- فلما قضى حجه ورجع، أتى عيسى بن موسى فدلّه عليها وقال أنا أستنبطها لك. فكاتب السلطانيّ في أن يقطعه إياها وأرضها، ففعل. واستخرجها له الكرماني فاعتمل ما عليها من الأرض وغرس النخل الذي في طريق العذيب. وعلى فراسخ من هيت عيون تدعى الغرق تجري لهذا المجرى وأعشارها إلى صاحب هيت .

القول في البصرة قال أبو عبيدة معمر بن المثنى «1» : سميت البصرة لأنه كان فيها حجارة رخوة. والبصرة: الحجارة الرخوة تضرب إلى البياض. قال ذو الرمة: [تداعين باسم الشيب في متثلّم] «2» ... جوانبه من بصرة وسلام وقالوا: سميت البصرة لأنه كان فيها حجارة سود بصرة. وقال محمد بن شرحبيل بن حسنة إنما سميت البصرة لأن فيها حجارة سوداء صلبة وهي البصرة. قال خفاف بن ندبة: إن تلك جلمود بصر لا أوبّسه ... أوقد عليه فأحميه فينصدع وقال الطرماح: [5 أ] مؤلّفة تهوي جميعا كما هوى ... من النيق فوق البصرة المتطحطح وقال نافع بن كلدة: كان عمر بن الخطاب قد همّ أن يتخذ للمسلمين مصرا. وكان المسلمون قد غزوا من قبل البحرين وتوّج ونوبندجان وطاسان. فلما فتحوها كتبوا إليه: إنّا وجدنا بطاسان مكانا لا بأس به: فكتب إليهم: إن بيني وبينكم دجلة فلا حاجة لي في كل شيء بيني وبينه دجلة أن تتخذوه مصرا. فقدم عليه رجل من بني سدوس يقال له ثابت فقال: يا أمير المؤمنين. إني مررت بمكان دون دجلة فيه قصر وفيه ديادبة الأعاجم يقال له الخريبة ويسمى أيضا البصيرة. بينه وبين دجلة

أربعة فراسخ له خليج يجري فيه الماء إلى أجمة قصب. فأعجب ذلك عمر فدعا عتبة بن غزوان فبعثه في أربعين رجلا فيهم نافع بن الحارث بن كلدة. وأبو بكرة وزياد. فلما خرجوا قالت لهم أختهم: احملوني معكم. فحملوها. قال: فلما بصر بنا الديادبة «1» خرجوا هرّابا وجئنا فنزلنا القصر. فقال عتبة: ارتادوا لنا شيئا نأكله. قال: فدخلنا الأجمة فإذا زنبيلان في أحدهما تمر وفي الآخر أرز بقشره. فجبذناهما حتى أدنيناهما من القصر وأخرجنا ما فيهما. فقال عتبة هذا سمّ أعدّه لكم العدو- يعني الأرز- فلا تقربنه. فأخرجنا التمر وجعلنا نأكل منه. فإنّا لكذلك إذا نحن بفرس قد قطع. قيادة فأتى ذلك الأرز يأكل منه. فلقد رأيتنا نسعى إليه بشفارنا نريد ذبحه قبل أن يموت. فقال صاحبه أمسكوا عنه. احرسه الليلة فإن أحسست بموته ذبحته. فلما أصبحنا إذا الفرس يروث لا بأس عليه. فقالت أختي: يا أخي. إني سمعت أبي يقول إن السمّ لا يضر إذا نضج. فأخذت من الأرز تطبخه وجعلت توقد تحته ثم نادت: ألا إنّه يتفصّى عن حبيبة حمراء. ثم قالت: قد جعلت تكون بيضاء. فما زالت تطبخه حتى أنماط قشره فألقيناه في الجفنة. فقال عتبة: اذكروا اسم الله عليه وكلوه. فأكلوا منه فإذا هو طيب. قال [5 ب] : فجعلنا بعد نميط عنه قشره ونطبخه. فلقد رأيتني بعد ذلك وما أجد منه شيئا إلّا وأنا أعدّ لولدي منه. ثم إنّا التأمنا فبلغنا ستمائة رجل وست نسوة إحداهن أختي. فقلنا ألا نسير إلى الأبلة فإنها مدينة حصينة، فسرنا إليها ومعنا العنز «2» وعليها الخرق وسيوفنا. وجعلنا للنساء رايات على قصب وأمرناهنّ أن يثرن التراب وراءنا حين يرون أنّا قد دنونا من المدينة. فلما دنونا منها صففنا أصحابنا. قال: وفيها ديادبتهم وقد أعدوا السفن في دجلة. فخرجوا علينا في الحديد مسومين لا ترى منهم إلّا الحذق. قال: فو الله، ما خرج آخرهم حتى [رجع] «3» بعضهم على بعض قتلا. وما قتلوا هم

أنفسهم كان أكثر. ونزلت الديادبة فعبروا إلى الجانب الآخر. وانتهى إلينا النساء. وقد فتح الله علينا ودخلنا المدينة وحوينا متاعهم وأموالهم وسألناهم ما الذي هزمكم من غير قتال؟ فقالوا: عرّفتنا الديادبة أن كمينا لكم قد ظهر وعلا رهجه- يريدون النساء في إثارتهن التراب- قال: فاستعمل عتبة بن غزوان زيادا على قسمة الغنائم وجمعها. ورزقه كل يوم درهما. واستجمع الناس وأقبلت أعاريب بني تميم وبكر بن وائل إلينا فصرنا ثلاثة آلاف في الديوان. فتزوجنا فكان أول مولود ولد بالبصرة عبد الرحمن بن أبي بكرة. ثم قدم عتبة بن غزوان على عمر فأعلمه بما فتح الله عليه. فأرسل مكانه المغيرة بن شعبة فسار بنا فافتتح الفرات وميسان ودستميسان وأبرقيان. ثم وجّه مكانه أبا موسى الأشعري. وفي بعض الجند إن أول من اختط البصرة عتبة بن غزوان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكانت تسمى يومئذ أرض الهند. فكتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص أن حطّ قيروانك بالكوفة وابعث عتبة بن غزوان إلى أرض الهند، فإن له من الإسلام مكانا، وقد شهد بدرا- والبصرة يومئذ تسمى أرض الهند- فينزلها ويتخذها المسلمون قيروانا. ولا تجعل [6 أ] بيني وبينك بحرا. فدعا سعد بعتبة فأخبره بكتاب عمر فأجاب. وخرج من الكوفة في ثمانمائة رجل، فسار حتى نزل البصرة وضرب قيروانه وضرب المسلمون أخبيتهم. وكانت خيمة عتبة من أكسية. ثم رماه عمر بالرجال. فلما كثروا بنى رهط منهم فيها سبع دساكر من لبن. منها في الخريبة اثنتان وفي الأزد اثنتان «1» . وفي الزابوقة واحدة. وفي بني تميم اثنتان. وكان ذلك في سنة سبع عشرة. وقال أبو عبيدة في روايته: الذي بصّر البصرة لعمر بن الخطاب عتبة بن غزوان كتب إلى عمر: لا بد للمسلمين من منزل إذا شتوا، شتوا فيه. وإذا رجعوا

من غزوهم سكنوا فيه. فكتب إليه عمر: أن أوتد لهم منزلا قريبا من المراعي والماء واكتب إليّ بصفته. فكتب إلى عمر: إني قد وجدت أرضا كثيرة القضّة «1» في طرف البر إلى الريف ودونها مناقع فيها ماء وفيها قصباء. فلما قرأ عمر كتابه قال: هذه أرض بصرة قريبة من المشارب والمراعي والمحتطب. وكتب إليه أن أنزلها. فنزلها وبنى مسجدها من قصب وبنى دار إمارتها دون المسجد في الرحبة التي يقال لها رحبة بني هاشم وكانت تسمى الدهناء، وفيها السجن والديوان وحمام الأمراء بعد ذلك لقربها من الماء. فكانوا إذا غزوا نزعوا ذلك القصب ثم حزموه ووضعوه حتى يعودوا من الغزو. فإذا عادوا أعادوا بناءه. فلم يزل كذلك حتى استعمل عمر أبا موسى الأشعري وعزل المغيرة بن شعبة فبنى المسجد بلبن وكذلك دار الإمارة. فلم تزل على تلك الحال. فكان الإمام إذا أراد أن يصلي تخطّى الناس حتى ينتهي إلى القبلة. فلما استعمل معاوية زيادا على البصرة، قال زياد: لا ينبغي للأمير أن يتخطى رقاب الناس. ولكني أحول دار الإمارة إلى قبلة المسجد. فحوّل دار الإمارة من الدهناء وزاد في المسجد زيادة كثيرة وبنى دار الإمارة باللبن وبنى المسجد بالجص والآجر وسقفه [6 ب] بالساج. فلما فرغ من بنائه جعل يطوف فيه وينظر إليه ومعه وجوه أهل البصرة. فقال: هل ترون خللا؟ قالوا: لا نعلم بناء أحكم منه. قال: بلى، هذه الأساطين التي على كل واحدة أربعة «2» عقود، لو كانت أغلظ من سائر الأساطين كان أحكم لها. وقال أبو عبيدة عن يونس: ولم يؤت منهن قط صدع ولا ميل ولا عيب. وقال حارثة بن بدر الغداني: بنى زياد لذكر الله مصنعة ... بالصخر والجصّ لم يخلط من الطين لولا تعاور أيدي الرافعين له ... إذا ظنّناه أعمال الشياطين وجاء بسواريه من الأهواز. وكان ولي بناءه الحجاج بن عتيق الثقفي.

فظهرت له أموال وحال لم تكن قبل. ففيه قيل: حبذا الإمارة ولو على الحجارة. والذي اختط أيام عتبة بن غزوان مسجد البصرة حجر بن الأوزع أمره عتبة بن غزوان بذلك. وكان المنبر في وسط المسجد فأول من حوّله إلى القبلة زياد. وكان في جانب المسجد الشمالي منزويا، وذلك أنه كان دارا لنافع أخي زياد أبي أن يبيعها، فلم تزل على تلك الحال حتى ولى معاوية عبيد الله بن زياد البصرة. فقال عبيد الله لبعض وكلائه: إذا شخص عبد الله بن نافع إلى أقصى ضيعة له فأعلمني، فشخص إلى قصره الأبيض. فأعلمه ذلك. فبعث فهدم الدار وأخذ في بناء الحائط الذي يستوي به تربيع المسجد. وقدم عبد الله بن نافع فضجّ. فقال: إني أثمّن لك وأعطيك مكان كل ذراع خمسة أذرع وادع لك خوخة في حائطك إلى المسجد وأخرى في غرفتك. فرضي. فلم تزل الخوختان في حائطه حتى زاد المهدي فيه ما زاد. فدخلت الدار كلها في المسجد ثم دخلت دار الإمارة كلها في المسجد. أمر بذلك الرشيد. ولما قدم الحجاج خبّر ان زيادا بنى دار الإمارة بالبصرة. فأراد أن يذهب ذكر زياد [7 أ] منها فقال: ابنيها بالآجرّ. فهدمها. فقيل له: إنما غرضك أن تذهب ذكر زياد فما حاجتك إلى أن تعظم النفقة وليس يزول ذكر زياد عنها؟ فتركها مهدومة. قال يونس «1» : فعامّة التي حولها إنما بنيت من طينها وجمع أبوابها. فلم تكن للأمراء دار ينزلونها حتى قام سليمان بن عبد الملك فاستعمل صالح بن عبد الرحمن على خراج العراقين. فقال له صالح: إنه ليس بالبصرة دار إمارة، وحدثه بحديث الحجاج. فقال له سليمان: أعدها. فأعادها بالآجر والجص على أساسها الذي كان ورفع سمكها. فلما أعادوا أبوابها عليها قصرت. فلما مات سليمان وقام عمر بن عبد العزيز استعمل عدي بن أرطاة على البصرة، فبنى فوقها غرفا. فبلغ ذلك عمر، فكتب إليه: هبلتك أمك يا ابن أم عدي! أتعجز عنك مساكن وسعت زيادا وابن زياد؟ فأمسك عدي عن بنائها.

فلما قدم سليمان بن علي البصرة عاملا للسفاح أنشأ فوق البناء الذي كان عدي أراد أن يجعله غرفا، بناه بطين. ثم إنه تحول إلى المربد. فلما قدم الرشيد هدمها وأدخلها في قبلة المسجد. فليس اليوم للأمراء بالبصرة دار إمارة. وقال الواقدي: أنشئت البصرة سنة سبع عشرة من التاريخ، قبل الكوفة بسنة وأشهر. وأول مولود ولد بالبصرة في الإسلام، عبد الرحمن بن أبي بكرة فنحر عليه أبوه جزورا، فكفت أهل البيت وذلك لقلتهم يومئذ. وأبو بكرة أول من غرس النخل بالبصرة وقال هذه أرض نخل ثم غرس الناس من بعده. وقال هشام بن الكلبي: أول دار بنيت بالبصرة دار نافع بن الحارث ثم دار معقل بن يسار المزني. وكان عثمان بن عفان أخذ دار عثمان بن العاص الثقفي بالمدينة وكتب أن يعطى أرضا بالبصرة. فأعطي أرضه المعروفة بشاطئ عثمان حيال الأبلة وكانت سجنة فاستخرجها وعمرها وإليه تنسب [7 ب] . [وأول حمام اتخذ بالبصرة حمام عبد الله بن عثمان بن أبي العاص وهو موضع بستان سفيان بن معاوية الذي بالخريبة. ثم الثاني، حمام فيل مولى زياد ثم الثالث حمام مسلم بن أبي بكرة، وحمام منجاب ينسب إلى منجاب بن راشد الضبي. وقال الشاعر: يا ربّ قائلة يوما وقد لغبت ... كيف الطريق إلى حمّام منجاب وقصر أنس بالبصرة ينسب إلى أنس بن مالك خادم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وقدم الأحنف بن قيس على عمر بن الخطّاب فقال: يا أمير المؤمنين إنّ مفاتيح الخير بيد الله وإن إخواننا من أهل الأمصار نزلوا منازل الأمم الخالية، بين المياه العذبة والجنان الملتفّة، وإنّا نزلنا أرضا نشّاشة، لا يجفّ ثراها، ولا ينبت مرعاها، ناحيتها من قبل المشرق البحر الأجاج، ومن قبل المغرب الفلاة، فليس لنا زرع ولا ضرع، تأتينا منافعنا وميرتنا في مثل مريء النعامة، يخرج الرجل الضعيف فيستعذب الماء من فرسخين، وتخرج المرأة كذلك فتربق ولدها كما يربق

العنز، تخاف بادرة العدوّ وأكل السبع، فإلّا ترفع خسيستنا وتجبر فاقتنا نكن كقوم هلكوا، فألحق عمر ذراريّ أهل البصرة في العطاء، وكتب لهم إلى أبي موسى يأمره أن يحفر لهم نهرا. فحدث جماعة من أهل البصرة قالوا: كان لدجلة العوراء- وهي دجلة البصرة- خور، والخور طريق للماء لم يحفره أحد يجري إليها فيه ماء الأمطار، ويتراجع ماؤها فيه عند المدّ، وينضب في الجزر، وكان طوله قدر فرسخ، ونهر الإجّانة احتفره أبو موسى وقاده ثلاثة فراسخ حتى بلغ به البصرة، فكان طول نهر الأبلّة أربعة فراسخ، ثم إنه انطمّ منه ما بين البصرة وبثق الحيريّ، وذلك على قدر فرسخ من البصرة، فلمّا شخص ابن عامر إلى خراسان استخرج زياد نهر أبي موسى، فرجع ابن عامر وغضب عليه وتباعد ما بينهما وقال: إنما أردت أن تذهب بذكر النهر دوني. وكانت البصرة أيّام خالد بن عبد الله طولها فرسخان «1» وعرضها فرسخان «1» . وتذاكروا عند زياد البصرة والكوفة فقال زياد: لو ضلّت البصرة لجعلت الكوفة لمن يدلّني عليها، وقال ابن سيرين: كان الرجل منّا يقول: غضب الله عليك كما غضب أمير المؤمنين على المغيرة، عزله عن البصرة وولّاه الكوفة، وقال أبو بكر الهذليّ: نحن أكثر منكم ساجا وعاجا وديباجا ونهرا عجّاجا وخراجا، وأنشد لابن أبي عيينة في البصرة: يا جنّة فاقت الجنان فما ... يبلغها قيمة ولا ثمن ألفتها فاتّخذتها وطنا ... إنّ فؤادي لحسنها وطن وقالوا: بالبصرة أربع بيوتات ليس بالكوفة مثلها: بيت بني المهلّب، وبيت بني مسلم بن عمرو الباهليّ من قيس، وبيت بني مسمع من بكر بن وائل، وبيت آل الجارود من عبد القيس، ودخل فتى من أهل المدينة البصرة فلمّا انصرف قالوا: كيف رأيت البصرة؟ قال: خير بلاد الله للجائع والغريب والمفلس، أما الجائع

فيأكل خبز الأرزّ والصّحناء ولا ينفق في الشهر إلّا درهمين، وأما الغريب فيتزوّج بشقّ درهم، وأما المحتاج فلا عيلة عليه ما بقيت استه يخرأ ويبيع. وقالوا: بالبصرة ستّة ليس بالكوفة مثلهم: الحسن البصريّ، والأحنف، وطلحة بن عبد الله، وابن سيرين، ومالك بن دينار، والخليل بن أحمد. وبنى زياد بالبصرة دار الرزق، وحفر نهر الأبلّة ونهر معقل، وبنى داره، وبنى البيضاء والحمراء فلم يضافا إليه، وبنى سكّة فأسكنها أربعة آلاف من البخاريّة فقيل سكّة البخاريّة فأضيفت إليهم، وبنى سبعة مساجد فلم يضف إليه شيء منها: مسجد الأساورة، ومسجد بني عديّ، ومسجد بني مجاشع، ومسجد حدّان، وكلّ مسجد بالبصرة كانت رحبته مستديرة فإنه من بناء زياد، وكلّ الذي بنى فيها أو صنع فإنه نسب إلى غيره مثل: مسنّاة مصعب، ونهر عديّ ونهر بلبل، وباب الأصفهانيّ، وحفيرة مطيع، وقصر ابن عمّار، وحمّام سياه، وحمّام فيل، وحمّام منجاب، وقصر أوس، وباب عثمان، ومقبرة حصن، ومقبرة بني شيبان، ونهر مرّة، ونهر بشّار. وبنى عبيد الله بن زياد داره بها وفيها باب إلى السكّة التي تنفذ إلى سكّة اصطفانوس، وباب آخر إلى السكّة التي تعرف بالبخاريّة، وبالبصرة دور كثيرة كانت لمواليهم فأضيفت إلى دينارزاذ ودينار بنده، ولهم دار عجلان ودار القطن ونهر والس ونهر شيطان. ودخل بعض الدهاقين البصرة فرأى ما اجتمع فيها فقال: قاتلك الله فو الله ما صرت هكذا حتى أخربت بلادا وبلادا. وقال ابن الأهتم البصريّ: يأتيها ما يأتيها عفوا صفوا، ولا يخرج منها إلّا سائق أو ناعق أو قائد. وقالوا: أبعد الناس نجعة في الكسب بصريّ وخوزيّ، ومن دخل فرغانة القصوى والسوس الأقصى فلا بدّ من أن يرى بها بصريّ أو خوزيّ أو حيريّ. وأهدي إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طبق من تمر، فجعل يأكل منه البرنيّ والقريثاء

ثم قال: اللهمّ إنك تعلم أني أحبّهما فأنبتهما في أحبّ البلاد إليك، واجعل عندهما آية بيّنة، قال الحسن: فو الله ما أعلمهما في بلد أكثر منهما بالبصرة، وقد جعل الله عزّ وجلّ عندها آية بيّنة المدّ والجزر. وقال عليّ بن محمّد المدائنيّ: وفد خالد بن صفوان على عبد الملك بن مروان فوافق عنده وفد جميع الأمصار، وقد اتّخذ مسلمة مصانع له، فسأل عبد الملك أن يأذن لهم بالخروج معه إلى تلك المصانع فأذن لهم، فلمّا نظروا إليها أقبل مسلمة على وفد أهل مكة فقال: يا أهل مكّة هل فيكم مثلها؟ قالوا: لا، إلّا أن فينا بيت الله المستقبل. ثم قال لوفد المدينة: هل فيكم مثل هذا؟ قالوا: لا، إلا أن فينا قبر نبيّ الله المرسل. ثم أقبل على وفد الكوفة فقال: هل فيكم مثلها؟ فقالوا: لا، إلّا أن فينا تلاوة القرآن العظيم. ثم أقبل على وفد البصرة فقال: هل فيكم مثل هذا؟ فتكلم خالد بن صفوان فقال: أصلح الله الأمير إن هؤلاء أقرّوا على بلادهم، ولو أن عندك من له خبرة ببلادهم لأجاب عنهم قال: أفعندك في بلادك غير ما قالوا؟ قال: نعم، أصف لك بلادنا قال: هات. قال: يغدو قانصانا فيجيء هذا بالشبّوط والشيم، ويجيء هذا بالطير والظليم، ونحن أكثر الناس عاجا وساجا وخزّا وديباجا وبرذونا هملاجا وخريدة مغناجا، بيوتنا الذهب، ونهرنا العجب، تمام هذا الخبر في باب افتخار الشاميّين على البصريّين، وفضل الحبلة على النخلة] «1» . ونحن قتلنا أحمرا في جموعه ... وقد كان قتّال الكماة مظفّرا «2» غداة علا الإسكاف بالسيف رأسه ... فخرّ صريعا لليدين معفّرا وكان ابن سيرين يقول: تكون فتنة أعفى الناس فيها أهل البصرة. وقال رجل لعبد الله بن عمرو بن العاص: بلغني أنك تقول البصرة أسرع خرابا. قال: ليس كذاك قلت. إنما قلت هي أبطأ الأرض خرابا، لأنها أقومها

قبلة، وهي حيال البيت والمقام والحجر وزمزم. فهي أبطأها خرابا. وقال أبو بكر رحمه الله: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ينزل ناس من أمتي غائطا من الأرض يقال له البصرة أو البصيرة، لها نهر يقال له دجلة يعقد عليه جسر وهو من أمصار المهاجرين، ويكثر أهله. وقال كعب الأحبار: وجدت في كتب الله المنزلة إن بالبصرة كنز الله أربعون ألفا يردّون الناس إلى المهدي بعد انهزامهم عنه. قال وحج ابن عمر وحج في ذلك العام ناس كثير من أهل الكوفة واليمن، ولم يحج من أهل البصرة أحد. فقال ابن عمر: ما بال أهل البصرة؟ قالوا: أصابهم وباء. فقال: أهل البصرة خير من أهل الكوفة. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: ما رأيت أهل بلد أبكر إلى ذكر الله من أهل البصرة. وقال أبو ظبيان: سمعت ابن عمر، وأتاه رجل فقال: أخبرني عن البصرة فإنه بلغني أنها أول الأرض خرابا. فإن كان كذلك حوّلت أهلي منها. قال: فإنها أبطأ الأرض خرابا. ومدح عمر بن درّاك أهل البصرة فقال: هم أعظم الناس أخطارا وأكرمهم جوارا وأبعدهم في الأرض آثارا. أهل البصرة أعظم إمرة، وأوسع هجرة، وأعطى للبررة. وهم أعظم أعلاما، وأوفى زماما وأكثر أعلاما، وأجود كفّا، وأحسن عطفا، وأيمن لواء، وأصدق حياء، وأكرم إخاء. صبر تحت الرايات، وأكرم عند البيات. أهل البصرة أكثر عدة، وأجود عدة، وأكرم سجية، وأقسم بالسوية، وأحسن سياسة للرعية. وأقرب من ورع، وأحضر للجمع، وأقل عند الطمع. أهل البصرة أسمع وأطوع وأرضى وأمنع. وهم أطيب ثمارا، وأكثر أشجارا، وأكرم أنهارا. وأجزل عطية، وأكرم بقية، وأشد عصبية، وأكثر غنما، وأحسن سلما، وأطيب طعما، وأصدق ثبات، وأكرم هبات، وأقضى للحاجات. وأحسن أخلاقا، وأشد

القول في البصرة

إشفاقا، وأملى رواقا. وأحلم في الغضب، وأصبر في الكرب، وأجمل في الطلب. أهل البصرة أصبر للبلية، وأحمل للرزية، وأكرم خبية. وهم أحمل للديات، وأسرع في الخيرات، وأطعم في الفلوات. وهم أكنز للذهب، وأركب للقتب، وأشهر في العرب. وهم أركب للبحور وأحسن في الأمور، وأصبر في الثغور. ذم أهل البصرة: قال كعب لأبي مسلم: من أين أنت؟ قال: من أهل العراق. قال: من أيها؟ قال: من أهل البصرة. قال: إذا رأيت نخلها قد أطعم فاخرج منها. قال: فإن لم أستطع ذاك؟ قال: فإذا رأيت آجامها قد اتخذت بساتين فاخرج منها. قال: فإن لم أستطع. قال: إذا تطاول أهلها في بناء المدر فاخرج. قال: فإن لم أستطع. قال: فعليك بضواحيها وإياك وسباخها فإنه سيكون بسباخها خسف. وقال قتادة: يخسف بالدار وتنجو الدار. ويخسف بالحي وينجو الحي. وروي عن أسود العدوي، قال: قال عمر بن الخطاب: أريد أن آتي البصرة فأقيم فيها شهرا. فقال له كعب: لا تأتها «1» . فإن بها تسعة أعشار الشر والداء العضال، وبها تكون الفتن، وفيها يخرج الدجال. وعن أبي مجلز قال: ائتفكت البصرة مرتين ولتأتفكن الثالثة. وقال أبو موسى: للبصرة أربعة أسماء، الخريبة والبصيرة وتدمر والمؤتفكة. وكان كعب الأحبار يقول لتشبعن الضبع من النو «2» في مسجد البصرة والقرى حولها عامرة. وقال أبو غيلان: البصرة يسلط عليهم القتل الأحمر، والجوع الأغبر. وأما مصر فينضب [9 ب] نيلها.

وكان ابن عمر يقول: البصرة أسرع أرض الله خرابا، وأخبثه ترابا. قيل: فما بال الكوفة؟ قال: يأتي الله بأمره إذا شاء. وكان أمير المؤمنين عليه السلام يقول لتغرقنّ البصرة أو لتحرقن إلّا بيت مالها ومسجدها. وقال عبد الله الضبعي: سمعت عليا عليه السلام يقول: ويحك يا بصرة لتغرقن أو لتحرقن حتى يرى بيت مالك ومسجدك كجؤجؤ سفينة «1» . وقال قتادة: لتحرقن البصرة وأهلها كثير. قيل له: وكيف ذلك؟ قال: يظهر منافقوها على مؤمنيها فيخرجون منها رجالا وركبانا. وأنشد لمحمد بن حازم: ترى البصري ليس به خفاء ... لمنخره من النتن انتشار ربا بين الحشوش وشبّ فيها ... فمن ريح الحشوش به اصفرار يعتّق سلحة كيما يغالي ... به عند المبايعة التجار ولما افتتح أمير المؤمنين عليه السلام البصرة ارتقى منبرها فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: يا أهل البصرة! يا بقايا ثمود ويا جند المرأة ويا أتباع البهيمة. رغا فاتّبعتم، وعقر فانهزمتم. دينكم نفاق، وأخلاقكم رقاق، وماؤكم زعاق. يا أهل البصرة والبصيرة والسبخة والخريبة! أرضكم أبعد الأرض من السماء، وأقربها من الماء، وأسرعها خرابا وغرقا «2» . وكان خالد بن ميمون يقول: البصرة أشد الأرض عذابا، وأسرعه خرابا وشره ترابا. وسأل الحجاج بن يوسف، ابن القرية عن البصرة فقال: حرّها شديد، وخيرها بعيد. وماؤها ملح، وحربها صلح. مأوى كل فاجر، وطريق كل عابر. وكان الأوزاعي يقول: نظرت فيما اختلف فيه العلماء من أهل البلدان وفتنوا

به، فرأيت أهل البصرة قد فتنوا بخصلتين: الخضخضة والقدر. وفتن أهل الكوفة بخصلتين: شرب المسكر وتأخير السحور. وفتن أهل الشام بخصلتين: طاعة [10 أ] الظلمة، وأخذ الجوائز، وفتن أهل مكة بخصلتين: تزويج المتعة والدرهم بالدرهمين. وفتن أهل المدينة بخصلتين: حب السماع وإتيان النساء في الأدبار. وقال ابن شبرمة لأهل البصرة: لنا أحلام ملوك المدائن، وسخاء أهل السواد، وظرف أهل الحيرة. ولكم سفه السند وبخل الخوز وحمق أهل عمان. وقال ابن شوذب: أول منبر يصعده الدجال منبر البصرة فيقول: أيها الناس من كان غنيا زدناه، ومن كان فقيرا موّلناه. وقال عبد الله بن عباس: إذا كثرت القدرية بالبصرة ائتفكت بأهلها، وإذا كثرت السبائية «1» بالكوفة ائتفكت بأهلها. واستشار رجل ابن مسعود في سكون البصرة فقال له: إن كنت لا بدّ فاعلا، فاسكن رابيتها ولا تسكن سبختها فإنه قد خسف بها مرة، وسيخسف بها أخرى. والخسف الذي كان بها، أنه كان بها خمسة حكّام أسماؤهم: جائر وجابر وخاطئ ومخطي وحمّال الخطايا. فخرج رجل معه امرأة له حامل على حمار له حتى أتاها، فلما دخلها منعه جائر وقال: لا تدخل حتى تؤدي درهمين. فأخذ منه درهمين. فتظلم وقال: أنا رجل فقير وقد أخذ مني درهمان «2» . فما أحد يعديني على من أخذهما مني؟ فقالوا: بلى، جابر. فأتاه فشكا إليه. فقال له هات أربعة دراهم. فأخذها منه مكرها. فأتى خاطئ يشكوهما إليه، فقال: هات ثمانية دراهم. فأخذها منه فأتى مخطئ فقال: هات ستة عشر درهما. فقال أنا إنسان مسكين لا شيء لي. فضربه وضرب امرأته حتى أسقطت، وقطع ذنب حماره. فأتى حمال الخطايا فشكا إليه ما حلّ به من إسقاط امرأته وقطع ذنب حماره. فقال

مجلس الكوفيين والبصريين عند المأمون

لأصحابه: انكحوا امرأته حتى تحبل، واعملوا على حماره حتى ينبت ذنبه. فخسف الله بها. ويروى أن أمير المؤمنين عليه السلام لما دخل البصرة صعد المنبر وخطب وقال في خطبته: يا أهل البصرة! إن الله لم يقسم خيرا [10 ب] لأحد من أهل الأرض إلّا وقد جعل فيكم أكثر منه. فعابدكم أعبد الناس، وقارئكم أقرأ الناس. غير أن حكم الله فيكم وفيمن مضى قبلكم جائز بقوله عزّ من قائل وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً والله، ما ابتدأتكم بما ابتدأتكم به من المدح رغبة مني لما في أيديكم. غير أني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: أما علمت أن جبريل عليه السلام حمل جميع الأرضين على منكبه الأيمن فأتاني بها. ألا وإني وجدت البصرة أبعد بلاد الله من السماء وأقربها من الماء وأخبثه ترابا وأسرعه خرابا، ليأتينّ عليها يوم لا يؤتى منها إلّا شرفات مسجدها كجؤجؤ السفينة في لجة البحر، فقال المنذر بن الجارود: ولذاك يا أمير المؤمنين، وممّ ذاك؟ قال: إذا رأيتم آكامها خدورا، وآجامها قصورا، فلا بصرة، ثم قال: كم بينكم وبين أرض يقال لها الأبلّة؟ قالوا: أربعة فراسخ. فقال: صدقني والذي عجّل روحه إلى الجنة وأكرمه بالنبوة فقال: يا علي أما علمت أن بين البصرة وبين أرض يقال لها الأبلة أربعة فراسخ، يكون في ذلك الموضع العشور، ينبغي أن يقتل فيه سبعون ألفا هم نظراء قتلى بدر، فقيل ومن يقتلهم يا أمير المؤمنين؟ قال: إخوان الجنّ، إخوان الجنّ، ثم قال: ويحك يا بصرة! ويحا لك من جيش لا غبار له. قيل: يا أمير المؤمنين ما الويح؟ قال: الويح والويل بابان، فالويح رحمة والويل عذاب. مجلس الكوفيين والبصريين عند المأمون «1» كان المأمون يوما جالسا وعنده نفر من خاصته وذوي المنزلة عنده. فأفاض معهم في الحديث ثم قال: قد قرأت القرآن فحفظته وسمعت الحديث وعلمت

الأدب وناظرت المتكلمين، فلم يبق شيء من العلم إلّا وقد كشفت ظاهره وفتشت باطنه [11 أ] إلّا ما يتنازع فيه أهل الكوفة والبصرة، من فخر بعضهم على بعض. وقد أحببت أن تتكلموا في ذلك حتى أسمعه. فقال هشام «1» : أيّد الله أمير المؤمنين. ما زلنا نسمع أن أهل البصرة أبعد في الأرض آثارا وأكثر فتوحا وأبلغ خطيبا وأكثر أدبا، والبصرة قبل الكوفة. قال الحجاج بن خيثمة: أبقى الله أمير المؤمنين، وكيف يكون أهل الكوفة أشرف من أهل البصرة وعندنا من معايبهم والطعن عليهم ما لو سمعه أمير المؤمنين لعجب منه وسيّما ما صنف فيهم شيخ لأهل البصرة يكنونه أبا عبيدة؟ فقال أحمد بن يوسف «2» : أيد الله أمير المؤمنين، أبو عبيدة وأهل البصرة كما قال الفرزدق: جرير وقيس مثل كلب وثلّة ... يبيت حواليها يطوف وينبح. وأبو عبيدة يهودي من يهودهم كان قال لأبيه موزجير اليهودي ليس له قديم ولا حديث ولا أول ولا آخر. عاب أنسابهم وتناول أحسابهم وشتم الأمهات والآباء وذكر الأخوة والأخوات، وعاش بينهم سبعين سنة يشتم أعراضهم وينتهك أحسابهم. فقال أحمد بن هشام: أنتم لا تعتدون على أهل البصرة أنهم عابوكم ولا شتموكم بأكثر من قول أبي عبيدة. فإن أردتم الانتقام فليكن ذلك فيه، لأن الله عزّ وجلّ يقول وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ. فقال المأمون: قد كنت أعلم أن عندكم اختلافا وافتخارا. ولم أكن أحسبه بلغ هذا، والكلام كثير، وقد رأيت أن يدلي كل فريق بحجته ويكتبه كاتب حفيظ.

فقال الخليل بن هشام «1» : اكتبوا ما شئتم ولا تنسوا خذلان علي وقتل الحسين عليهما السلام. فقال العباس: لقد أمسكنا عن مساوئكم وقلنا بأحسن ما حضرنا من أمركم، فأتيتم الآن تهيجونا على أنفسكم، كقول الأخطل: [11 ب] ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر قال أحمد بن يوسف: يا أمير المؤمنين. هو أعلم بمآثر الكوفة ومفاخرهم مني. وأنا أعلم بمعايب أهل البصرة والطعن عليهم منه. فقال: قل ما أحببت. فقال أحمد: ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلّا بالله. إنّا وجدنا أهل البصرة فتقوا في الإسلام فتوقا وابتدعوا من الضلالة بدعا، وبنوا من الباطل منارا. إثم ذلك في أعناقهم، وعارة باق في أعقابهم. ولو استقصينا القول في ذلك كان كثيرا. ولكنّا نذكر بعض ما لا يجوز تركه، ونترك ما يستغنى عن ذكره. فكان من ذلك: إنهم أول شهود ردت شهادتهم في الإسلام. وهم شبل بن معبد البجلي ونافع بن الحارث وأبو بكرة نفيع بن مسروح «2» حين شهدوا على المغيرة بن شعبة، فحدّهم عمر بن الخطاب. ومنهم أول قسّامة شهدت على زور وباطل، وذلك عند الجواب حين قالت عائشة رضي الله عنها- وقد سمعت نباح كلاب الحوأب: أي مكان هذا؟ فقيل لها الحوأب. فقالت: ردّوني، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: أي نسائي تنبحها كلاب الحوأب. فجاء خمسون شيخا ممن تلقاها من البصريين فحلفوا لها ما هو الحوأب. ومنهم أول ساع سعى وغماز غمز وهو أبو

المختار يزيد بن قيس بن يزيد بن الصعو الكلابي حين كتب إلى عمر شعرا، يسعى بعماله. يقول فيه: أبلغ أمير المؤمنين رسالة ... فأنت أمين الله في الحال والأمر فأرسل إلى النعمان وابن معقّل ... وأرسل إلى حزّى وأرسل إلى نشر فأرسل إليهم يصدقوك ويخبروا ... أحاديث مال الله ذي العدّ والدّثر وقاسمهم نفسي فداؤك إنهم ... سيرضون إن قاسمتهم منك بالشّطر [12 أ] فكانت هذه أول سعاية في الإسلام، وذلك باق فيهم إلى اليوم. ومنهم أول عمال أقرّوا بالخيانة في الإسلام، لأن عمر قال لهم: إن شئتم فتشتكم وإن شئتم صالحتكم. فقالوا: تصالحنا. فقاسمهم أموالهم. منهم النعمان بن عدي بن نقلة قرشي عدويّ، وعبد الله بن معقل المزني وعبد الله بن جزي والسعد بن عمر والأحنف بن قيس وبشر بن المحيص المزني والحجاج بن عثمان الثقفي. ومنهم أول شهود ردّ شهادتهم حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ثم أخذوا على شهادتهم الجعالة والرشى. والمنذر بن الزبير وأبو مريم السلولي وغيرهما شهدوا أن أبا سفيان أقرّ عندهم أنه فجر بأم زياد، وزعم أبو مريم أنه هو كان القوّاد الذي جاء بسمية إلى أبي سفيان. فردّ معاوية بشهادة هؤلاء حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (الولد للفراش وللعاهر الحجر) . فجعل الحجر للفراش وللعاهر الولد. وهم أول من تابع إمام هدى ثم خالفوه ونكثوا بيعته وذلك أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. وهم أول من جرى عليه حكم الحرب في الإسلام حين قتلهم الله بأيدينا يوم الجمل. فقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: لا تتبعوا مولّيا ولا تجيزوا على جريح «1» . وأخذ ما في بيوت أموالهم فقسمه بيننا، فأصاب كل رجل منا خمسمائة

درهم وفي ذلك قال شاعرنا: فإذا فاخرتمونا فاذكروا ... ما فعلنا بكم يوم الجمل ابعث الكوفيّ في الخيل ولا ... تبعث البصريّ إلّا في الثقل ومنهم أول من أجار ثم غدر في الإسلام وهو المجاشعي الذي أجار الزبير بن العوام حين انصرف من وقعة الجمل ثم غدر به حتى قتل. ومنهم أول من ارتد عن الإسلام وهم بنو ناجية، تنصروا بعد الإسلام، فبعث إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه [12 ب] معقل بن قيس الرياحي فقتل المقاتلة وسبى الذرية. ومنهم من عطّل حدود الله وهو عبد الله بن عامر بخراسان في خلافة عثمان بن عفان، فقيل له: عطلت الحدود. فقال: أنا أعطيهم مالي وهم يذموني، فكيف لو ضربت ظهورهم؟ ومنهم أول من خرج على المسلمين وهم أصحاب عبد الله بن عامر بخراسان. ومنهم أول من ردّ قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (من انتفى من أبيه فعليه لعنة الله) فكان ذلك زياد وهو منهم. وهم أول من ردّ قول النبي (صلى الله عليه وسلم) (لا حلف في الإسلام) فتحالفت الأزد وبكر بن وائل. وكان الذي عقد الحلف مالك بن مسمع. فقال له الأحنف: يا مالك أحلف في الإسلام؟ فقال مالك: أدعوة في الإسلام وقد قال الله ادعوهم لآبائهم؟ - يريد أمر زياد. ومنهم أول من انهزم في الإسلام هزيمة محلية وهو سلمة بن زرعة، انهزم من مرداس الخارجي. فصاح به الصبيان في الطرقات: يا سلمة! قد جاء أبو بلال مرداس. فحرد من ذلك. وزاد عليه الأمر حتى أقام في منزله ولم يخرج حتى مات.

ومنهم أول من عرف بالتطفيل وهو الجارود بن سبرة الهذلي. كان يجيء إلى موائد الأمراء والأشراف من غير أن يدعوه. وكذلك كان إمام مسجدهم سعيد بن أسعد الأنصاري إذا كانت وليمة سبق إليها. ومنهم أول من أعلن الفاحشة وأقرّ على نفسه بالأبنة والفضيحة جحشويه «1» . وهم المقدمون على الناس بالحمق، المعروفون بالنوك. منهم هبنقة القيسي وهو الذي يضرب به المثل حتى قيل (أحمق من هبنقة) . وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان: أما بعد، فاحذر أهل بلدك فإن أكثر أهله تميم وهم بخل. وبكر بن وائل وهم كذب. وإن في الأزد لموقا. فهذا قول عمر فيهم خاصة. ولو كان عرف ذلك في أهل الكوفة لكتب إلى سعد [13 أ] بن أبي وقاص. ومن حمقهم أن أبا خيرة القشيري كان مملقا فخدعه الفرزدق وأمره أن يبيع ابنته من المهلب على أنها وصيفة له: فهيّأها ثم ذهب بها إليه وعرضها عليه، فوقعت بقلبه واستام عليه بها مائة ألف فأخذها منه بما قال. فقال الفرزدق للمهلب: إن أبا خيرة إنما باعك ابنته. قال: كذبت. فأرسل إليه فسأله، فقال نعم، لم أطمع أن أزوّجك فبعتك بيعا حلالا. فوقف على جهله فقال: قد جعلت المائة ألف مهرها. فولدت له محمدا وأبا عيينة. ومن حمقهم ما ذكره الشرقي بن القطامي قال: كان رجل من أهل البصرة جالسا مع امرأته فدعا الحجام ليحجمه، فلما وضع المحاجم على عنقه شرطه وهو غافل، فضرط. فضحكت امرأته. فأخذ السيف وضرب الحجام فقتله. فصاحت امرأته واجتمع الناس فأخذ وأتي به عبيد الله بن زياد وهو على البصرة. فقال: لم قتلت هذا؟ قال: لأنه يشرط ولا يحذر. ومن حمقهم أن شيخين من الأزد تنازعا في شيء، فقال أحدهما لصاحبه: والله لو كان غيرك. قال: فأنا غيري. قال: أنت غيرك. قال نعم. فرفع يده ولطم عينه.

ومن حمقهم أن مصعب بن الزبير لما أراد المسير إلى المختار بعث إلى الأحنف بن قيس بمائة ألف درهم وقال سر معي. فأمر الأحنف بفسطاطه فضرب في العسكر. فبلغ ذلك زبرا جارية الأحنف وكانت صاحبة أمره فقالت: ما أرسل إليّ مصعب شيئا؟ قيل: لا. فجاءت حتى دخلت على الأحنف وبكت ثم قالت: أبعد قتالك المشركين ومواقفك المحمودة في بلد العدو، تخرج إلى المسلمين ومن يطلب بثأر أولاد النبي عليهم السلام تقاتلهم؟ قال: صدقت زبرا. قوّضوا «1» فسطاطي. ففعلوا. فبلغ ذلك مصعبا فقال: ما الذي دهاه؟ [13 ب] فخبروه بقصة زبرا. فبعث إليها ثلاثين ألف درهم. فجلست بين يدي الأحنف ثم قالت: أمر قد اجتمعت إليه العرب والأشراف، ويوم من أيامهم المذكورة، له ما بعده، تغيب عنه فيخمل ذكرك ويدرس اسمك؟ قال: صدقت زبرا. أعيدوا فسطاطي، فأعيد. ومن حمق الأحنف أنه جرى بينه وبين الحتات كلام فقال له: إنك لضئيل، وإن أمّك لورهاء، وإن خالك للئيم. فقال له الأحنف: إنك لجلف جاف، وما فيك من شيء إلّا أنك ابن دارم. اسكت يا دبرة. فطرح الحتات ثيابه بين الناس وقال: هل ترون شيئا؟ فبلغ من حمق الأحنف أنه كذب كذبا كذب به قبل أن يبرح. ومن حمقه: أنّ الحسن بن علي رضي الله عنهما كتب إليه يستنصره فقال: قد بلونا حسنا وأبا حسن فلم نجد عندهما ابالة للملك ولا سببا للحرب ولا خيانة للمال الأمر هاهنا- وأشار بيده إلى الشام- فخذّل الناس عن الحسن رضي الله عنه. ثم شخص مع من شخص أمثال الحسين رضي الله عنه فقامت ركابه فكان ذلك سبب تخلفه. ومن حمقه: انه حين نزل به الموت قيل له ما تشتهي؟ فلم يقل رحمة الله. وقال: شربة من ماء الغرير. وهو ماء رديء لبني سعد. فترك ما ينفعه وتمنى ما لا يرجع إليه منه نفع في دنيا ولا آخرة.

وسئل قتادة عن الأحنف فقال: كان ممن زفّ سجاح إلى مسيلمة الكذاب. ومن حمق أهل البصرة: ان الحبل لما اضطرب عند موت يزيد بن معاوية، قام عبيد الله بن زياد على منبر البصرة فقال: أيها الناس: إنه لا بدّ لكم من إمام يقاتل عدوكم ويجبي فيئكم ويقسم بينكم. فاختاروا رجلا يلي أمركم حتى يصطلح أهل الشام على رجل فتدخلوا في اختيارهم. فقام إليه الأحنف فقال: أنت فكن ذلك [14 أ] الرجل. ثم ضرب يده على يده فبايعه وتتابعوا كلهم على ذلك. ومن حمقهم: ان سفيان بن مسعود بن عمر الأزدي دخل على عبد الملك وافدا من عند الحجاج. فأراد أن يطريه ويعظّم شأنه فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، قد خرينا من خوف الحجاج. ومن حمقهم، ان الثافال البكراوي كان فاجرا خليعا فكان أن فسق برجل كرهنا أن نسميه. ولولا أن جحشويه كشف ذلك على نفسه ما ذكرناه. فخطب الثافال بنت المفعول به، وظنّ أن تزويجها لا يحلّ له لفسقه بأبيها. فأتى الحسن البصري وهو جالس والناس عنده فقال: يا أبا سعيد ما تقول في رجل نكح رجلا، أيحلّ له أن يتزوج ابنته؟ فقال له الحسن: لعلك أردت أنه نكح أمّها؟ قال: لا. أنا أدرى ما سعيت فيه. فأعرض عنه الحسن. وليس في الأرض بصري يدخل الكتّاب إلّا وله كرسي يجلس عليه لئلا تأكل الأرض ثوبه. ومن بخلهم أن صاحب باقلي كان في بعض سككهم فأخرجوه وقالوا: تعلّم صبياننا الإسراف ويقتلهم الجوع لأنهم يشترون منك بخبزهم باقليّ. وأخرجوا غريبا كان نازلا في بعض سككهم فقال لهم: أي شيء أجرمت إليكم؟ قالوا: تأكل اللحم في كل يوم. ولقي بعضهم صاحبا له: أعرني نعلك إلى الكلأ بتعليق يريد أنه يعلقها بيده ويمشي ليظن الناس أنها منقطعة الشراك. وليس في الأرض أهل بلد أطمع ولا أدق أخلاقا وأنظر في الخطر الخسيس

منهم. فإنهم أول من جعل حب الأرز في الموازين. وأربع حبات أرز، حبة شعير. ولا نعرف ذاك في شيء من البلدان إلّا بلدهم. ومن فضل الكوفة على البصرة: ان ملوك العرب والعجم طافوا الآفاق واختاروا البلاد فوقع اختيارهم على الكوفة وما يقرب منها. من ذلك الأنبار نزلها دارا بن دارا وجذيمة الأبرش [14 ب] . ومنها بابل نزلها بخت نصر ومن كان قبله وبعده من الملوك. ومنها مدائن كسرى نزلها أردشير بن بابك ومن بعده من ملوك فارس إلى يزدجرد. ومنها الخورنق نزله بهرام جور والنعمان بن الشقيقة وغيره من ملوك العرب. ومنها الحيرة نزلها عمرو بن عدي وولده بعده إلى عمرو وقابوس ابني المنذر، والنعمان بن المنذر، وإياس بن قبيصة الطائي حتى جاء الله بالإسلام. وإنما كانت البصرة منازل ينزلها الجند مثل منجشان صاحب المنجشانية ومن أشبهه من السفلة والرعاع. وهم الذين شخصوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال الأحنف يا أمير المؤمنين. إن إخواننا من أهل مصر نزلوا منازل فرعون، وإن إخواننا من أهل الشام نزلوا في منازل ملوك الروم، وإن إخواننا من أهل الكوفة نزلوا بين حيرة النعمان ومدائن كسرى في مثل حولاء الناقة أو حدقة البعير الغاسقة في جنان خصبة وأنهار عذبة تأتيهم ما يأتيهم من رزقهم غريضا غضا. وإنّا نزلنا في سبخة هشاشة نشاشة زعفة لا يجفّ ثراها ولا ينبت مرعاها عسفتها الفلاة من خلفها وخنقها البحر الأجاج من أمامها، يأتيها ما أتاها في مثل حلقوم النعامة. فلا يزيد من الفخر عليهم بطيب المنازل إلّا بما أقرّ به صاحبهم. ولم يزل أهل البصرة يشربون الماء المالح حتى وليها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فحفر لهم نهرا من البطيحة فهم يسمونه نهر ابن عمر، وفيه يقول بشار في شعر طويل: لا نشرب الماء إلّا قال قائلنا ... نعم الأمير، فداه السمع والبصر روى من العذب ها مات مصرّدة ... قد كان أزرى بهنّ الملح والكدر

وقال شاعرنا يصف الكوفة وطيب هوائها وأن الشام ارتفعت عنها والبصرة سفلت منها: سفلت عن برد أرض ... زادها البرد عذابا وعلت عن حر أرض ... تلهب النار التهابا مزجت حرا ببرد ... فصفا العيش وطابا ولم يزل عمال العراق ينزلون الكوفة يرونها [15 أ] عذب ماء وأصفى هواء وأطيب ترابا. وكل الأرض يجعلها الله للمسلمين طهورا. ومسجدا إلّا أرض البصرة فإنه ليس يستطيع أحد أن يتيمم ولا يصلي على أرضها لقذرها وفسادها وكثرة سمارها. وما نزلها من أمراء العراق أحد إلّا الحجاج مديدة ثم تحول إلى واسط. ومسلمة بن عبد الملك أياما حين قتل يزيد بن الأسلت. فأما الكوفة فأكثر الولاة كانوا ينزلونها ويقيمون بها ولا يمضون إلى البصرة إلّا لحادثة تحدث، أو فتق يحذر. كان خالد بن عبد الله القسري يسميها الذفراء. وكذلك يوسف بن عمر. ولما ولى يزيد بن عمر بن هبيرة العراق، لم يختر شيئا على الكوفة وبنى عند قنطرتا مدينة وسماها الهبيرة وهي المعروفة بقصر ابن هبيرة. ولم يزل مقيما بالكوفة حتى جاءت الدولة الهاشمية فتحول إلى واسط. ومن الكوفة ظهرت دولة بني العباس وفيها كان وزيرهم وبها عقد لهم الملك. والكوفة بمنزلة العين من الرأس، والبصرة بمنزلة الكراع من الأديم. ثم ترك المهدي الكوفة وبنى القصر الأبيض بالحيرة وهو الذي كان النعمان بن المنذر ينزله، وبنى بها قصر أبي الخصيب على طرف النجف وفيه يقول الشاعر: يا دار غيّر رسمها ... مرّ الشمال مع الجنوب بين الخورنق والسدير ... فبطن قصر أبي الخصيب

فالدير فالنجف الأشمّ ... حيال أرباب الصليب ولا يحتج علينا أهل البصرة أن أحدا من ولاة العراق نزلها إلّا زيادا وعبيد الله ابنه. فإنها كانت وطنهما ومشتاهما. ولم يكونا على نتنها وملوحة مائها وشدة بخرها وكثرة بقّها وكدورة هوائها وفساد طينتها. يطيلان المقام بها. بل كان أكثر مقامهما بالكوفة. وبحسبك أن السمك في نهرها لا يصبر على ملوحة الماء حتى ينتقل. فإذا كان سمك البحر لا يصبر، فكيف ينبغي لذوي العقول أن يفخروا بها؟ [15 ب] ولو لم يكن من فضل بلدنا على بلدهم إلّا أنّا لا نحتاج إلى دباغ العفص وقشور الرمان في الصيف، لكان ذلك فضلا عظيما. وفي الحديث (إن الفرات ودجلة من أنهار الجنة) وقد خصنا الله بعذوبتهما وبردهما. وحرم الله على أهل البصرة أن يذوقوا منهما قطرة حتى يختلط بهما البحر الأجاج. فهم كما قال الله عزّ وجلّ «وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ. قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ » . وقدم أبو شدقم العنبري البصرة فملح عليه الماء واشتد عليه الحرّ وآذاه تهاوش ريحها وكثرة بعوضها. ثم مطرت السماء فصارت ردغاء. فقال: أشكو إلى الله ممسانا ومصبحنا ... وبعد شقّتنا يا أمّ أيوب وإنّ منزلنا أمسى بمعترك ... يزيده طبعا وقع الأهاضيب ما كنت أدري وقد عمّرت من زمن ... ما قصر أوس وما سحّ الميازيب تهيجني نفحات من يمانية ... من نحو نجد وتنعاب الغرابيب كأنهنّ على الأجدال كلّ ضحى ... مجالس من بني حام أو النوب يا ليتنا قد حللنا واديا أنفا ... أو حاجزا نصبا غضّ اليعاسيب وحبذا شربة من شنّة خلق ... من ماء صدّاء تسلي «1» كلّ مكروب وآذاه قذرها فقال أيضا:

إذا ما سقى الله البلاد فلا سقى ... بلادا بها سيحان برقا ولا رعدا بلاد تهبّ الريح فيها خبيثة ... وتزداد نتنا حين تمطر أو تندى خليلي أشرف فوق غرفة درهم ... إلى قصر أوس فانظرن هل ترى قصرا؟ وقال أعرابي قدمها فنزل إلى جانب دار محمد بن سليمان: هل الله من وادي البصيرة مخرجي ... فأصبح لا تبدو لعيني قصورها وأصبح قد جاوزت سيحان سالما ... وأسلمني أسواقها وجسورها [16 أ] ومربدها المذري علينا ترابه ... إذا شحجت أبغالها وحميرها فنضحى بها غبر الرءوس كأنّنا ... أناسيّ موتى نبش عنها قبورها وقال أبو تغلب يذكر نتنها وقذرها: يا ربّ لا تسق نازل البصرة ... فهي على كلّ حالة قذره تأتيك منها إذا نزلت بها ... روائح من روائح العذرة فقال علي بن هشام: يا أمير المؤمنين! إن أحمد بن يوسف عدد عيوب البصرة ومثالبهم وترك ما على أهل الكوفة. فلئن كان الذي ذكر من أهل البصرة على ما ذكر فما يعرفه إلّا خواص من الناس ممن نظر في الأمور وبحث عن المستور. فأما عيوب الكوفة فأوضح من النهار وأبين من الشمس، تعرفها العاتق في خدرها والعجوز في مجراها والصبيّ في كتّابه. قال المأمون: وأيّ شيء تعرف؟ قال: عليّ أول ذلك قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال على المنبر: يا أيها الملأ المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم. ما عدت دعوة من دعاكم، ولا استراح من قاساكم. كلامكم يوهن الصمّ الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الخود الكعاب. إن قلت لكم انفروا في الشتاء قلتم أمهلنا يذهب عنا الصر

والقر. وإن قلت لكم انفروا في الصيف، قلتم أمهلنا تذهب عنا حمّارة القيظ وينسلخ عنا الحرّ. أعاليل بأضاليل. أية دار بعد داركم تمنعون؟ أم عن أي إمام بعدي تقاتلون؟ في خطبة طويلة «1» . فقال أحمد بن يوسف: إن أمير المؤمنين عليه السلام لما انتقضت عليه البلاد وخالفه أكثر «2» ، اختارنا لنفسه ورضينا لنصره. فكنا إذا أحسّنا دعا لنا وأثنى علينا. وإذا أسأنا عاتبنا واستبطأنا كما يعاتب الرجل ولده. وإنك لتعلم يا أمير المؤمنين إنه انحدر من المدينة يريد البصرة فنزل ذا قار ثم بعث إلينا فخرجنا لنصره على الصعب [16 ب] والذلول. فنصرناه قبل أن نراه، وآزرناه بعد أن رآنا. فكان يقول عليه السلام: أنتم الشعار وأنتم الدثار، وفيكم محياي وعندكم مماتي. وكان يقول: اختار الله لنبيه مكة، فاختار رسول الله عليه السلام لهجرته المدينة «3» . وكان يقول على منبر البصرة: يا أهل البصرة! يا أهل الحيرة. يا أهل تدمر. يا أهل المؤتفكة ائتفكت بأهلها ثلاث مرات وعلى الله تمام الرابعة. يا جند المرأة، يا أنصار البهيمة. رغا فأجبتم وعقر فانهزمتم. أخلاقكم رقاق وعهدكم نفاق وماؤكم زعاق. وقد لعنكم الله ورسوله. فالمقيم بذنب والخارج عنها بنجاة «4» . قال علي بن هشام: فإن أهل الكوفة قتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قتله ابن ملجم وكان نازلًا في دار الأشعث وتزوج قطام التميمية. فقال أحمد بن يوسف: احتججت على نفسك. إن كان من أهل الكوفة، فكيف ينزل دار الأشعث ويترك دار قومه؟ إنما هو رجل من مصر ممن كان مع محمد بن أبي بكر رحمه الله. فلما قتله عمرو بن العاص ومضى جنده إلى علي رضي الله عنه كان ابن ملجم فيهم. قال عمرو بن الحارث: فإن أهل الكوفة قد قتلوا الحسين عليه السلام. وقد

قتلوا زيد بن علي ويحيى بن زيد عليهما السلام وغروهما وخذلوهما. قال العباسي: قد علم الناس أنه ليس في الأرض بلد أجمع أهله على حب بني هاشم إلّا الكوفة. وما قتل أحد من بني هاشم في شرق ولا غرب إلّا وحوله قتلى من أهل الكوفة تختلط دماؤهم بدمه. فأما الحسين عليه السلام فإنه كتب إلى أشرافكم. فأما منذر بن الجارود فإنه أخذ الرسول وهو عبد الله بن يقطن «1» الليثي فدفعه إلى ابن زياد فقتله، وذلك أن أنبته بحربة كانت عند ابن زياد. وكان من أمر الحسين عليه السلام ما كان. وما أكرم الله رجلا أن يسفك دمه [17 أ] معه فيكون في ذلك شرف الدنيا والآخرة. فهل سمع سامع بمثل أنصار الحسين وهم سبعون رجلا لقوا جبال الحديد حتى قتلوا حوله؟ قال الحجاج بن خيثمة: فإن الله قد أعطى أهل البصرة ما لم يعط أهل الكوفة. إن الماء يغدوا عليهم إذا غدوا إلى ضياعهم فيأخذونه إذا أرادوه. وإن استغنوا عنه حجبوه. قال أحمد بن يوسف: ما رأيت ذلك عندهم. فلم ينقطع أعناقهم من العطش فلا يشربون حسوتين إلّا بالمنجنون «2» والإبل، فإن عطب بعير وانكسرت منجنونه أو أبطأ الموكل بذلك تعطلت السقايات. وإنما يقيم لهم الماء ساعة في أول النهار وساعة في آخره. وما أحد من أهل البصرة يشرب الماء العذب إلّا أن يتصدق به عليه. ومتى كثر عليهم الماء خافوا الغرق وضربوا الفساطيط على المكان الذي يخشونه. وإن قلّ عطشوا حتى يمزجوا الماء بالخل من ملوحته. وإن المريض منهم ليقال له ما تشتهي؟ فيقول: الماء العذب. وهم يسمون ماءنا الماء الحي. وإذا قدم الغائب وكان طريقه على الماء العذب أخذ منه ليفرقه هدايا على أقاربه وأهله وإخوانه. وماؤهم صبابة المياه ومفيض الأنهار. وقال ابن عياش الهمداني لأبي بكر الهذلي يوم فاخره عند أبي العباس

السفاح: إنما الكوفة مثل اللهاة من البدن يأتيها الماء ببرده وعذوبته. والبصرة بمنزلة المثانة يأتيها الماء بعد تغييره وفساده. وكان بالبصرة رجل من أهل الكوفة يقال له أبا المعذل بن غيلان ففاخرهم يوماً فقال: ألستم تروون أن من بال في الماء القائم المبال أربعين صباحاً تغير عقله؟ قالوا: بلى. قال: فهو ذا أنتم يشرب أحدكم الماء القائم المبال فيه ثمانين سنة. فكيف تكون عقولكم مثل عقول أهل الكوفة؟ فما استطاعوا أن يجيبوه. فقال عمرو بن الحارث «1» : فإن [17 ب] لأهل البصرة الرطب الذي ليس في الدنيا أكثر ولا ألذّ منه. فقال ابن يوسف: أما الكثير ليس بزائده في الطيب. ولو كان الكثير أطيب لكان بعر الإبل أطيب من الجوز. وأما الطيب، فإن أهل العراق اجتمعوا ليلة في سمر عند يزيد بن عمر بن هبيرة فقالوا: أي البلدين أطيب تمرا الكوفة أم البصرة؟ فقال خالد بن صفوان: بل تمرنا أطيب وأعذب، ولنا على أهل البصرة فضل العنب الرازقي في طيبه السونابي «2» في حلاوته والخمري في رقته. فإذا فخر البصري بالعنب ذكر لهم عنبا يسمونه المتروري، وما رأيت الحصى قطّ يباع حتى رأيت هذا العنب يباع. قال علي بن هشام: فإن لأهل البصرة فيلسوفي الإسلام اللذين استخرجا النحو والعروض: أبو الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد. فقال عمرو بن مسعدة «3» : أما العروض فهو وإن كان علما فما يحتاج إليه كثير من الناس، وليس من علم الأشراف. وأما النحو فإن أبا الأسود احتاج إليه لفساد السنة أهل البصرة. ولم يحتج أصحابنا لفصاحتهم. ولئن كان أبو الأسود

تقدم في النحو، إنّ لأصحابنا الفصاحة في العلم بالقرآن والإعراب به والمعرفة بوجوه القراءات حتى أكثر القراء بقراءتهم يقرءون. ومنا الفقهاء والعلماء والأدباء والفصحاء والنجباء والشجعان والفرسان المذكورون والشعراء المعروفون. قال علي بن هشام: فإن أبا عمرو بن العلاء من أنبل الناس وأفصحهم لسانا. قال ابن يوسف: إن كان الناس يقولون: أبو عمرو الراوية كما يقولون حماد الرواية. فهو مثله إذ كان ديوان الشعر مجموعا في قلبه. ومن مثل المفضل في رواية أشعار الشعراء وأشعار القبائل وأيام الجاهلية وأخبارهم؟ ومنا خالد بن كلثوم «1» كان إذا علم شيئا أدّاه كما سمعه. [لا كمن] «2» كان يروي الخبر لا أصل له وربما زاد فيه ونقص منه. قال عمرو بن الحارث [18 أ] : فإن لأهل البصرة أبا بكر الهذلي أعلى الناس بالجاهلية والإسلام. قال عمرو بن مسعدة: فأين هو من قبيصة بن ذؤيب الأسدي وعبد الملك المعيطي وعبد الله بن عياش الهمداني والحجاج بن أرطاة النخعي. وهم كلموه عند السفاح، فما تأتى له الردّ عليهم. ومنا الثقة المؤتمن هشام بن محمد بن سائب الكلبي الذي ملأ الآفاق علما، وأبو مخنف لوط بن يحيى بن مخنف بن سليم الأزدي والهيثم بن عدي. قال الحجاج: أو ليس دغفل بن حنظلة الشيباني من أهل البصرة؟ قال ابن يوسف: فإن التجار العذري «3» كوفئ بهلال بن الكيس الحميري وابن لسان الحمّي التيمي ومحمد بن السائب الكلبي وهشام بن محمد والمنتوف والشرقي بن القطامي. وما منهم أحد إلّا كما قال الأول:

وما كان بين الخافقين قبيلة ... يقال اشتروهم، واحد فتبادله قال الحجاج: فإن خطباء البصرة أخطب وأبلغ. منهم: عبد الله بن الأهتم وصفوان بن الأهتم وخالد بن صفوان وشبيب بن شبه. قال عمرو: فأين هم من خطباء الكوفة مثل صعصعة بن صوحان والقعقاع بن عمرو الأسدي ومصقلة بن رقبة العبدي ومحمد بن المفضل السكوني وابنه خطباء الرشيد وخطبائك يا أمير المؤمنين. قال علي بن هشام: فإن الشعراء بالبصرة أشعر وأكثر منهم: جرير والفرزدق وذو الرمة ويزيد بن الحكم والعجاج ورؤبة وأبو النجم. فهل لأهل الكوفة مثلهم؟ قال عمرو: أما جرير فإنه أعرابي صاحب عمود وبيت شعر كان يدخل البصرة كما يدخل الكوفة. وكان أكثر دهره باليمامة. ومنا الشماخ بن مزرد ولبيد والعباس بن مرداس والكميت بن زيد الأسدي وعمرو بن شاس وضابئ البرجمي والحطيئة وأبو محجن الثقفي وأبو شمال الأسدي وأبو زيد الطائي والنجاشي الحارثي وأعشى همدان وعمرو بن معدي كرب وعدي بن حاتم وعروة بن زيد الخيل وابن [18 ب] مقبل والقطامي وكعب بن جعيل والجحاف بن حكيم وغيرهم من الشعراء المجودين. قال عمرو بن الحارث: فإن الأسخياء بالبصرة أكثر منهم بالكوفة. منهم: عبد الرحمن بن أبي بكرة وطلحة الطلحات فهل سمعت بمثلها؟ قال ابن مسعدة: فينا عدي بن حاتم الجواد بن الجواد. وعبد الملك بن بشر بن مروان ومحمد بن عمير بن عطارد. قال عمرو بن الحارث: فإنه لم يل «1» العراق أحد من أهل الكوفة، وقد وليه غير واحد من أهل البصرة منهم زياد وابنه ويزيد بن المهلب. قال ابن مسعدة: هذا الحسن بن سهل معنا في المجلس، ومن قبله علي بن

أبي سعيد كلاهما قد ولي العراق. وثالثهما الفضل بن سهل ولي المشرق والمغرب ودعي له على أكثر منابر الأرض في ولاية واحدة. فهل لأهل البصرة مثله؟ قال الحجاج: فمن أهل البصرة كتّاب أمر العراق منهم صالح بن عبد الرحمن وهو الذي قلب الدواوين من الفارسية إلى العربية وهو كاتب الحجاج بن يوسف. ومنهم المغيرة بن أبي قرّة كاتب المهلب. وشيبة بن أيمن كاتب يوسف بن عمر. وقحذم مولى أبي بكر كاتب يوسف. وهارون بن ياسين كاتب خالد بن عبد الله القسري. وجبلة بن عبد الرحمن والقاسم بن سلم وعبد ربه بن أبي أيوب وابن أبي عبيدة وعمير بن أبي معن والمغيرة بن عطية وأخوه سعيد بن عطية. قال العباس: أما صالح بن عبد الرحمن فهو مولى امرأة من أهل الكوفة من بني تميم. ولكن منّا زياد بن عبد الرحمن كاتب الحجاج. وسعد كاتب خالد. وعون كاتب خالد. ويونس بن مروة كاتب يوسف بن عمر. وعبد الجبار بن مغيث. والهيثم بن مسلم كاتبا عيسى بن موسى. وحماد بن موسى كاتب محمد بن سليمان. وكتّاب الخلفاء منا، لم يكتب لهم قط أحد من أهل البصرة. منهم يحيى بن زياد بن عبد الرحمن استكتبه المنصور وضمه إلى جعفر ابنه. وعمرو بن كليع وإبراهيم ومحمد ابنا حبيش. هؤلاء كتّاب المنصور. وكتّاب المهدي [19 أ] علي بن يقطين وعمرو بن بزيع. وكتاب الرشيد: يحيى بن سليمان ومنصور بن زياد ومجاشع بن مسعدة ويوسف بن القاسم. ثم هؤلاء كتاب أمير المؤمنين «1» : الحسن بن سهل على الخراج، وعمرو بن مسعدة على الرسائل، وأحمد بن يوسف على الديوان بالجبل وخراسان، ومحمد بن عمران على ديوان البريد بالآفاق. وثابت بن يحيى منّا وإن كان قد نشأ بالري. قال علي بن هشام: إن أبا عبيدة زعم أن عليا عليه السلام قال على منبر الكوفة فقال: إنكم تزعمون أن دابة الأرض «2» إن كنتم كاذبين فلا أماتكم الله

حتى يخرج من أصلابكم نساء زواني. قال ابن يوسف: كان علي عليه السلام اتقى الله وأرحم بعباده وأفقه في دينه من أن يقول هذا لقوم مسلمين. وأما الفجور فمعاذ الله أن يرمي به المسلمات. ولكن قد علم الله أن النهاريات والليليات لا يعرفن في شيء من البلدان إلّا بالبصرة. وليس بالبصرة شريف إلّا وقد بنى في داره دكانا تركب منه امرأته. وما بالبصرة امرأة جليلة إلّا ولها حريف من المكاريين يخرجها إلى الأعياد والمواسم وقدوم الولاة. وكل حدث يكون. وما يحل للمسلمين أن يقدموا رجلا من أهل البصرة يصلي بهم حتى يحبس كما تحبس الإبل الجلالة سبعة أيام لأن غداءه السماء. فضحك المأمون. فقال علي بن هشام: أنت بالفحش أحذق وبه أرفق. ولكن بالبصرة أربعة بيوتات من بيوتات العرب ليس بالكوفة مثلها بيت: بيت بني الجارود، وليس في عبد القيس بالكوفة مثلهم. وبيت بني المهلب وليس في أزد الكوفة مثلهم. وبيت بني مسمع ليس في بكر الكوفة مثلهم. قال عمرو بن مسعدة: أما بيت بني المهلب فإن النجاشي قال: وكنت كذي رجلين: رجل صحيحة ... ورجل بها ريب من الحدثان فأمّا التي صحّت فأزد شنوءة ... وأمّا التي شلّت فأزد عمان [19 ب] وبالكوفة بيت بني مخنف بن سليم بن مزيقياء بن ماء السماء. ليس في أزد البصرة مثله. ولهم بعد ذلك من البيوتات الشريفة ما لا يحدّ ولا يوصف. فمنهم بيت النعمان بن مقرن صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وقال النبي عليه السلام: آل مقرن من بيوتات الجنة. ومنهم حذيفة بن اليمان صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . ومنهم فرسان العرب الذين أدركوا الجاهلية والإسلام: عمرو بن معدي: كرب وقيس بن مكشوح وعروة بن زيد الخيل والعباس بن مرداس وطليحة الأسدي والأشتر بن الحارث النخعي ومصقلة بن هبيرة وإبراهيم بن الأشتر وأبو بردة بن أبي موسى.

فنحن فينا بيوتات العرب وأشراف الجاهلية وفرسان الإسلام. خير الأقاليم إقليمنا وخير الإقليم بلدنا وخير الأنهار نهرنا وخير الصحابة فقهاؤنا. ومنهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وابن مسعود وعمار بن ياسر وحذيفة اليمان، وسلمان منا. ومسجدنا المسجد الرابع في الفضل. مسجد كان من علي وسعد عامرا برهة، ومن عمار والرجال المهاجرين إلى الله من الأولين والآن. وفيه يقول السيد بن محمد الحميري: لعمرك ما من مسجد بعد مسجد ... بمكة طهرا أو مصلى بيثرب لشرق ولا غرب علمنا مكانه ... من الأرض معمور ولا متجنّب بأبين فضلا من مصلى مبارك ... بكوفان رحب ذي أواسي ومخصب مصلى به نوح تأثّل وابتنى ... به ذات حيزوم وصدر محتّب وفار به التنّور ماء وعندها ... له قيل قم يا نوح في الفلك واركب وباب أمير المؤمنين الذي به ... ممرّ أمير المؤمنين المهذّب [20 أ] وليس فينا قدري ولا خارجي. فقال المأمون للبصريين: قد نظرت في أمركم وسمعت قولكم وفهمت احتجاجكم، فما لمتكم في جدال ولا مدافعة. ولكني رأيت مثلكم في مفاخرة أهل. الكوفة كقول القائل: يا حار قد كنت في عزّ ومكرمة ... لو أنّ مسعاه من جاريته أمم ثم دعا المأمون صاحب يبت حكمته فقال: اجعل هذا الكتاب في خواص كتبنا. ثم قال علي بن صالح للقوم انهضوا. فنهضوا وانقضى المجلس والحمد لله رب العالمين .

القول في واسط وإنما ذكرنا واسط في هذا الموضع لأنها توسطت المصرين أعني البصرة والكوفة ولذلك سميت واسط. وقال يحيى بن مهدي بن كلال: بنى الحجاج بن يوسف [واسط] في سنتين وكان فراغه منها في سنة ست وثمانين. وهي السنة التي مات فيها عبد الملك بن مروان. ويروى أن ابن عمر بن عبد العزيز قال: إن الحجاج إنما بنى واسط إضرارا بالمصرين يعني الكوفة والبصرة. وقد أردت أن أهدم مسجدها وأخربها وأردّ كل قوم إلى وطنهم. فقال له أبو منبه: يا أمير المؤمنين! إن جلّ قومها فيها ولدوا وبها نشأوا، لا يعرفون غيرها، ومسجد جماعة قد قرأ فيه القرآن. فسكت. وذكر بعض أهل الكوفة قال: سألت حازما أبا عبد الله الضبي أن يشهد على دار اشتريتها بواسط فقال: لا أشهد على شيء بيع بواسط. قلت: ولم ذاك؟ قال: لأن الحجاج غصب عليها. وذكرت واسط عند أبي سفيان الحميري وقيل ليس بها فاكهة. فقال: لأنها مشؤومة بناها رجل مشؤوم. وقال أبو سفيان الحميري: ولي الحجاج العراق عشرين سنة، قدمها سنة خمس وسبعين ومات سنة خمس وتسعين في شهر رمضان ليلة سبع وعشرين. وكانت ولايته في [20 ب] أيام عبد الملك أحد عشر سنة، وفي أيام الوليد بن عبد الملك تسع سنين.

وكان قد ولي الحجاز ثلاث سنين وله ثلاثون سنة، ثم ولي العراق فمات وله ثلاث وخمسون سنة. ودفن بواسط على النيل. وهو الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن عمرو بن مسعود بن عامر بن معتب. وافتتح السند والهند بخراسان وسجستان، وولي الحجاز مكة والمدينة، وحج بالناس في حصار ابن الزبير سنة اثنين وسبعين. وقتل ابن الزبير في جمادى الآخرة وهو أول من ابتنى مدينة ألا وهي واسط، وأول من اتخذ المحامل وضرب الدراهم وكتب عليها قل هو الله أحد. وقال حميد الأرقط: أخزى الإله عاجلا وآجلا ... أوّل عبد عمل المحاملا عبد ثقيف ذاك أوّلا فأوّلا وهو أول من ضرب له الخيس، وأول من أطعم على ألف خوان على كل خوان عشرة رجال وجنب شوي وثريدة وسمكة وبرنية عسل وبرنية لبن. وكان يقول لمن يحضر غداه وعشاه: رسولي إليكم الشمس، فإذا طلعت فاغدوا إلى غدائكم وإذا غربت فروحوا إلى عشائكم. وأول من أجاز بألف ألف درهم للجحاف بن حكيم. وولي العراق بعد بشر بن هارون. وقدم الكوفة وعليه قباء هروي أصفر متقلدا سيفه متنكبا قوسا معتما بعمامة خزّ حمراء لا ترى إلّا عيناه. ولم يسلّم عليه من أصحاب ابن الأشعث إلّا الشعبي والغصبا بن يزيد «1» . وقال بعضهم: صليت خلف الحجاج بالكوفة يوم جمعة فعددت الناس خلفه فكانوا ستين نفسا. قال: وقدم الحجاج العراق سنة خمس وسبعين ووليه عشرين سنة. وبنى واسط في سنتين وفرغ سنة ست وثمانين وهي السنة التي مات [21 أ] فيها

عبد الملك. ولما فرغ كتب إلى عبد الملك: إني اتخذت مدينة في كرش الأرض بين الجبل والمصرين وسميتها واسط، فلذلك سمي أهل واسط الكرشين. وقال الأصمعي: وجه الحجاج الأطباء ليرتادوا له موضعا. فذهبوا يطلبون ما بين عين التمر إلى البحر وجوار العراق. ورجعوا إليه وقالوا: ما أصبنا مكانا أوفق من موضعك هذا في خفوف الريح وأنف البرية. وكان الحجاج قبل اتخاذه واسط أراد نزول الصين من كسكر وحفر بها نهر الصين وجمع له الفعلة ثم بدا له، فعمر واسط ونزلها واحتفر النيل والزابي وسماه زابيا لأخذه من الزابي القديم. وأحيا ما على هذين النهرين من الأرضين، وأحدث المدينة التي تعرف بالنيل ومصّرها، وعمد إلى ضياع كان عبد الله بن دراج مولى معاوية بن أبي سفيان استخرجها لنفسه أيام ولايته على خراج الكوفة مع المغيرة بن شعبة من موات مرفوض من مغايض وآجام، فضرب عليها المسنيات ثم قلع قصبها ودخلها فحازه الحجاج لعبد الملك بن مروان. وقال الوضاح بن عطاء: لقد رأيت المقصورة بواسط وإنه ليغشاها أربعون رجلا شريفا من آل أسلم بن زرعة الكلابي. وحدث علي بن حرب الموصلي عن أبي البختري وهب بن عمرو بن كعب بن الحارث الحارثي قال سمعت خالي يحيى بن الموفق يحدث عن مسعدة بن صدقة العبدي قال حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن عن سماك بن حرب قال: استعملني الحجاج بن يوسف على ناحية بادوريا. فبينا أنا يوما على شاطئ دجلة ومعي صاحب لي إذا أنا برجل على فرس من الجانب الآخر، فصاح باسمي واسم أبي. فقلت: ما تشاء [21 ب] ؟ فقال الويل لأهل مدينة تبنى هاهنا. ليقتلن فيها ظلما سبعون [ألفا] «1» . كرر ذلك ثلاث مرات ثم أقحم فرسه في دجلة حتى غاب في الماء. فلم أره. فلما كان قابل ساقني القضاء إلى ذلك الموضع فإذا أنا برجل على فرس، فصاح كما صاح في المرة الأولى، وقال كما قال وزاد: سيقتل

فيما حولها ما يستقل الحصى لعددهم. ثم أقحم فرسه في الماء حتى غاب. قال بعضهم: فكانوا يرون أنها واسط وما قتل فيها الحجاج من الناس. ويقال إنه أحصي في حظيرة الحجاج بن يوسف ثلاثة وثلاثون ألف إنسان لم يحبسوا في دم ولا تبعة ولا دين. وأحصي من قتله صبرا فكانوا مائة وعشرين ألف إنسان. وقال الحسن بن صالح بن حبي: أول مسجد بني بالسواد، مسجد المدائن بناه سعد وأصحابه، ثم وسع بعد وأحكم بناؤه. وجرى ذلك على يدي حذيفة بن اليمان بالمدائن. مات حذيفة سنة ست وثلاثين. ثم بني مسجد الكوفة ثم مسجد الأنبار. وأحدث الحجاج مدينة واسط في سنة ثلاث وثمانين أو سنة أربع، وبنى مسجدها وقصرها والقبة الخضراء. وكانت أرض قصب فسميت واسط القصب. ولما فرغ من بنائها كتب إلى عبد الملك: اتخذت مدينة في كرش الأرض بين الجبل والمصرين وسميتها واسط. فلذلك سمي أهل واسط الكرشيين. ونقل الحجاج إلى قصره والمسجد الجامع أبوابا من زندرود والدوقرة ودير ماسرجيس وسرابيط. فضجّ أهل هذه المدن وقالوا قد غصبتنا على مدننا وأموالنا، فلم يلتفت إلى قولهم. وحفر خالد بن عبد الله القسري المبارك «1» . قال وأنفق الحجاج على بناء قصره والمسجد الجامع والخندقين والسور والقصر ثلاثة وأربعين ألف درهم. فقال له كاتبه صالح بن عبد الرحمن: هذه نفقة كثيرة وإن حسبها لك [22 أ] أمير المؤمنين وجد في نفسه. قال فما تصنع؟ قال الحروب لها أحمل. فاحتسب منها في الحروب بأربعة وثلاثين ألف ألف درهم. واحتسب في البناء تسعة ألف ألف درهم. ولما فرغ الحجاج من حروبه استوطن الكوفة فأبغضه أهلها وأبغضهم، فقال لرجل من حرسه: امض فابتغ لي موضعا في كرش من الأرض أبني فيه مدينة، وليكن ذلك على نهر جار. فأقبل يلتمس ذلك حتى صار إلى قرية فوق واسط بيسير

يقال لها واسط القصب فبات بها واستطاب ليلها واستعذب أنهارها واستمرأ طعامها وشرابها فقال: كم بين هذا الموضع والكوفة؟ فقيل: أربعون فرسخا. فقال: كم منها إلى المدائن؟ قال: أربعون. قال: فكم إلى الأهواز؟ قال: أربعون. فقال: هذا موضع متوسط. وكتب إلى الحجاج بالخبر ويمدح له الموضع. فكتب إليه: اشتر لي فيه موضعا أبني به مدينة. وكان موضع واسط لرجل من الدهاقين يقال له داوردان. فساومه بالموضع فقال له الدهقان: ما يصلح للأمير؟ قال: ولم؟ قال أخبرك عنه بثلاث خصال، تخبره بها ثم الأمر إليه. قال: وما هي؟ قال: بلاد سبخة والبناء لا يثبت فيها، وهي شديدة الحر والسموم، وإن الطائر ليطير في الجو فيسقط لشدة الحرّ ميتا، وهي بلاد أعمار أهلها قليلة. فكتب بذلك إلى الحجاج فكتب إليه: هذا رجل يكره مجاورتنا فأعلمه أنّا سنحفر بها الأنهار، ونكثر فيها من البناء والغرس والزرع حتى تغدوا وتطيب. وأما ما ذكر أنها سبخة وأن البناء لا يثبت فيها فسنحكمه ثم نرحل عنه فيصير لغيرنا. وأما قلّة أعمار أهلها فهذا شيء إلى الله عزّ وجلّ لا إلينا. وأعلمه أنّا نحسن مجاورته ونقضي زمامه بإحساننا إليه. قال: فابتاع الموضع من الدهقان وابتدأ في البناء سنة ثلاث وثمانين واستتمه في سنة ست وثمانين ومات في سنة خمس وتسعين. ولما فرغ منه وسكنه أعجب به إعجابا شديدا. فبينا هو ذات يوم في مجلسه [22 ب] إذ أتاه بعض خدمه فقال له: إن فلانة- جارية من جواريه، كان مائلا إليها- أصابها لمم «1» . فغمّه ذلك ووجه إلى الكوفة في إشخاص عبد الله بن هلال «2» الذي كان يقال له صديق إبليس. فلما قدم عليه عرّفه الخبر فقال له أنا أحلّ [السحر] عنها. قال: افعل. فلما زال ما كان بها. قال له الحجاج: ويحك إني

أخاف أن يكون هذا القصر محتضرا «1» . قال: أنا أصنع فيه شيئا فلا ترى فيه أمرا تكرهه. فلما كان بعد ثالثة، جاء عبد الله بن هلال يخطر بين الصفين وفي يده قلّة مختومة. فقال: أيها الأمير تأمر بالقصر أن يمسح ثم تدفن هذه القلة في وسطه فلا ترى فيه شيئا فيما يكره. فقال له الحجاج: يا ابن هلال! وما العلامة في هذه القلة؟ قال: أن يأمر الأمير برجل بعد آخر من أشدّ أصحابه حتى يأتي على عشرة منهم فيستقلّوا بها من الأرض «2» فإنهم لا يقدرون على ذلك. فأمر الحجاج بذلك ففعل، فكان كما قال ابن هلال. وكان بين يدي الحجاج مخصرة خيزران فوضعها في عروة القلة ثم قال بسم الله الرحمن الرحيم. إن ربكم الذي خلق السماوات والأرض. ثم شال القلة فارتفعت على المخصرة، فوضعها ثم فكر منكسا رأسه ساعة. ثم التفت إلى عبد الله بن هلال فقال: خذ قلتك والحق بأهلك. قال: ولم؟ قال: إن هذا القصر سيخرب بعدي وينزله قوم ويحتفر محتفر يوما فيجد هذه القلة فيقول: لعن الله الحجاج إنما كان بدء أمره السحر. قال: فأخذها ولحق بأهله. قال: وكان ذرع القصر أربعمائة ذراع في مثلها. وذرع المسجد الجامع مائتين في مائتين. وصف الرحبة التي تلي صف الحدادين ثلاثمائة في ثلاثمائة. وذرع الرحبة التي تلي الخرازين والحوض ثلاثمائة في مائة ذراع. والرحبة التي تلي المضمار مائتين في مائة. قال: والأبواب كانت على مدينة قديمة أعجمية يقال لها الدوقرة. وقد قيل عليها وعلى غيرها فقلعت وحملت إلى واسط. وقال محمد بن خالد: كان محمد بن [23 أ] القاسم الثقفي أيام كان يتقلّد الهند والسند قد أهدى إلى الحجاج فيلا فحمل من البطائح في سفينة، فلما صار إلى واسط أخرج في المشرعة التي تدعى مشرعة الفيل فسميت به إلى الساعة «3» . ولما استوطن الحجاج واسط نفى النبط عنها وقال: لا يساكنني أحد منهم فإنهم مفسدة. وكان في طباخيه رجل منهم وكان يطبخ لونا يعجب الحجاج. فلما

أمر بإخراج النبط فقد ذلك اللون فسأل عنه فقيل إن طباخه نبطي. فلهى عنه مدة ثم قال: اشتروا لي غلاما ومروه أن يعلمه ذلك اللون. ففعلوا فلم يحكمه الغلام. فقال: ادخلوا هذا النبطي نهارا وأخرجوه ليلا. قال: فكان يأتي في كل يوم بقدره ومغرفته فيطبخ ذلك اللون ثم ينصرف. قال وكتب إلى الحكم بن ثوابة عامله على البصرة: أما بعد. فإذا نظرت في كتابي هذا فأجل من قبلك من الأنباط وألحقهم بسوادهم فإنهم مفسدة الدين والدنيا. فكتب إليه الحكم: أما بعد. فقد أخليت من في عملي من الأنباط إلّا من قرأ منهم القرآن وفقه في الدين وعلم الفرائض والسنن. فكتب إليه الحجاج: فهمت ما كتبت به فإذا نظرت في كتابي هذا فاجمع من قبلك من الأطباء فليفتشوا عروقك عرقا عرقا، فإن وجدوا فيك عرقا نبطيا قطعه. والسلام. ويروى عن مكحول أنه قال: لما أخرب بخت نصر السواد كان أشدّها بكاء كسكر. فأوحى الله إليها أني محدث فيك مسجدا يصلّى فيه. قال مكحول: فكنا نرى أنه مسجد واسط. وكان بعضهم يقول: كان الحجاج أحمق، بنى مدينة في بادية النبط وحماهم دخولها، فلما مات دخلوها من قرب. وقال المري ذكر الحجاج عند عبد الوهاب الثقفي «1» بسوء فغضب وقال: إنما تذكرون المساوئ، أوما علمتم أنه أول من ضرب درهما عليه لا إله إلّا الله. وأول من بنى مدينة في الإسلام، وأول من اتخذ [23 ب] المحامل. وان امرأة من المسلمين سبيت بالهند فنادت يا حجاجاه! فلما اتصل به ذلك أقبل يقول: يا لبيك! وأنفق سبعة ألف ألف حتى افتتح الهند، وأخذ المرأة وأحسن إليها غاية الإحسان. واتخذ المناظر بينه وبين قزوين، فكان إذا دخن أهل قزوين دخنت المناظر- إن كان نهارا- وإن كان ليلا أشعلوا النيران فتجرد الخيل إليهم. فكانت المناظر

متصلة بين قزوين وواسط. وكانت قزوين ثغراً في ذلك الوقت. وأنشد لحميد الأرقط في واسط يهجوها «1» . الله أسقاك من الفرات ... النيل ينقضّ من الصراة وأحدث يعلو المسنّيات ... نضرب غرسه بواسقات سيق إلى المدينة مسفات ... داينه الريف من الغداة بعيدة الأهل من الآفات ... طمت عليّ بقصص البغاة يهدى إليها الرزق من شتات ... من البحور ومن الفلاة وقال حمدان بن السخت الجرجاني: حضرت الحسين بن عمر الرستمي «2» وكان من أكابر قواد المأمون وقد سئل الموبذ بخراسان ونحن في دار ذي الرياستين عن النوروز والمهرجان وكيف جعلا عيدا وكيف سميا، فقال الموبذ: نعم أنبيك عنهما. إن واسط كانت تجري على سننها في ناحية بطن جوخى، فانبثقت في أيام بهرام جور وزالت عن مجراها إلى المذار، وصارت تجري إلى جانب واسط منصبّة. فغرقت القرى والعمارات التي كانت موضع البطائح وكانت متصلة بالبادية- ولم تكن البصرة ولا ما حولها إلّا الأبلّة فإنها من بناء ذي القرنين، وكان موضع البصرة قرى عادية مخسوف بها لا ينزلها أحد ولا يجري بها نهر إلّا دجلة الأبلّة- فأصاب أهل القرى والمدن التي كانت في موضع البطائح- وهم بشر كثير- وباء فخرجوا هاربين على وجوههم وتبعهم أهاليهم بالأغذية والصلاحات، فأصابوهم موتى، فرجعوا [24 أ] فلما كان في أول يوم من فروردين ماه من شهور الفرس أمطر الله عزّ وجلّ عليهم مطرا فأحياهم فرجعوا إلى أهاليهم. فقال ملك ذلك الزمان: هذا نوروز، ومعناه يوم جديد. فسمي به. وقال الملك: هذا يوم مبارك فإن جاء الله فيه بمطر وإلّا فليصب بعضكم الماء على بعض وتتبركوا به. وصيروه عيدا، فبلغ المأمون هذا القول فقال إنه لموجود في كتاب الله عزّ وجلّ بقوله

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ، فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ وقال ابن عباس في قول الله جلّ وعزّ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ ... قال: كانت قرية يقال لها داوردان وقع بها الطاعون فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها. فهلك من أقام في القرية وسلم الآخرون. فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين. فقال من بقي ولم يمت في القرية: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا. لو صنعنا كما صنعوا سلمنا، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن. فوقع الطاعون بها قابل. فهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفا حتى نزلوا ذلك المكان وهو وادي فيح، فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من معلاه أن موتوا، فماتوا، فأحياهم الله لحزقيل في ثيابهم التي ماتوا فيها. فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى، حتى ماتوا بآجالهم التي كتبت لهم. قال الهيثم بن عدي: سألت عبد الله بن هلال صديق إبليس عن اسم عامر واسط، فقال: زوبعة. قلت: فما حدثك عن الحجاج؟ قال: لقد كان كافرا بالله وما رأيته يصلي قط خاليا. وما رأيت أحدا كان أجبن منه، لقد تراءيت له ذات يوم فبلغ من جنبه أنه عجن الطين بماء القرآن وطيّن به خضراء واسط «1» . قلت: فأخبرني عن خالد بن عبد الله القسري. قال: أشجع الناس. ولقد كان به النقرس، فلو أن ذبابة سقطت [24 ب] على رجله لصاح منها. وكان له عمود حديد لا يفارقه، فتراءيت له يوما فلم يقدر على القيام ونظر إليّ وقال يا خبيث! لقد علمت أني لا أقدر على القيام. ولكن إن

كنت رجلا فادن مني. ثم حذفني بالعمود حذفة لو أصابتني لأوهنتني. ثم ظهرت ليوسف بن عمر- وكان جبانا- فأدخل رأسه في لحافه وصاح بجارية له يقال لها طائفية: ويلك بادري إليّ، فما جاءته حتى بال في فراشه ولا أخرج رأسه حتى علم أنها عنده، وظهرت لابن هبيرة فانتضى سيفه وبادر إليّ فاستترت منه، فقال: أما والله لو تظهر لعلمت أنك لا تروع أحدا بعدي. وقال بشار بن برد يهجو واسط: على واسط من ربّها ألف لعنة ... وتسعة آلاف على أهل واسط أيلتمس المعروف من أهل واسط ... وواسط مأوى كلّ علج وساقط نبيط وأعلاج وخوز تجمّعوا ... شرار عباد الله من كلّ غائط وإنّي لأرجو أن أنال بشتمهم ... من الله أجرا مثل أجر المرابط ذكر النبط وما جاء فيهم «1» قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : لا تبغضوا قريشا، ولا تسبّوا العرب، ولا تذلوا الموالي، ولا تساكنوا الأنباط فإنهم آفة الدين وقتلة الأنبياء، إذا هم سكنوا الأمصار وشيدوا الدور ونطقوا بالعربية وتعلموا القرآن، استولوا على الناس بالمكر والخديعة فعندها يبغون الإسلام غوائله. ويروى أنه كان لأبي هريرة صديق يكرمه. فقال له ذات يوم: إني قد أحببتك ولست أدري من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل السواد. فقال له أبو هريرة: تنحّ عني! فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: أهل السواد قتلة الأنبياء وآفة الدين،

وأعوان الظلمة في كل زمان، وأكلة الربا وأصحاب الأهواء. ويروى أن قوما [25 أ] أتوا أمير المؤمنين عليه السلام فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنا نسكن بأرض السواد فنصيب من مرافقها. فقال لهم علي رضي الله عنه: إنكم لتساكنون أهل الغفلة والحسد والبغي والمكر والخديعة، الذين سهمهم في الإسلام منقوص وحطهم في الآخرة قليل. سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: إذا تفقهت الأنباط في الدين، ونطقت بالعربية وتعلمت القرآن فالهرب الهرب منهم. فإنهم أكلة الربا ومعدن الرشا وأهل غش وخديعة لا سهم لهم في الإسلام. ويروى أن الشيطان عشق خنزيرة فوثب عليها فأحبلها فولدت ابنا فسمته مشنوء. فلما كثر نسله أتى سليمان فقال له أرنا أولادنا. فقال: أولادكم الأنباط الذين يستنبطون الأرض أصبر الناس على حرّ وبرد. ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : لا يدخل الجنة نبطي. وروي عن عكرمة في قوله «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ » قال: كانوا نبط. وقال عون بن عبد الله: لو كان إبليس من الإنس لكان نبطيا لأنهم أبذخ قوم إذا أمروا، وأذل شيء إذا قهروا. يغترفون الهوان ويكفّون الإحسان. ويروى عن عمر أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ثلاثة هم شرار الخلق، الشيطان الرجيم، وإمام يخشى غشمه وظلمه، والنبطي إذا استعرب. وكان يقال من أحب أن يكثر عياله ويقل خير بنيه فليتزوج نبطية. ويروى عن أبي هريرة أنه قال: إن إبليس باض سبع بيضات. ثنتان وقعتا بأرض بابل وثنتان وقعتا بميسان وثنتان وقعتا ببلاد الخوز وواحدة وقعت بهمينيا. ففي الثنتين اللتين وقعتا ببابل ذكر وأنثى. اسم الذكر شقتى والأنثى بلعث. وقال نصر بن محمد: اسم الذكر ميسان واسم الأنثى دلغث. وهما اللتان

بلبلتا الألسن ودعتا إلى الشرك وعبادة [25 ب] الأوثان. والثنتان اللتان وقعتا بميسان فذكر وأنثى. اسم الذكر هيما والأنثى همياء. لهم أذناب منكرة وقلوب قاسية وأكباد غليظة لا يتفقهون. لئام وضعة عتاة فجرة، لا يرقّون للضعيف ولا يجلّون الكبير ولا يستحيون من القبيح. والثنتان اللتان وقعتا بالخوز فذكر وأنثى اسم الذكر أبو مرة والأنثى شيلث. نسلهما أشر النسل وأقبحه كلاما وأردأه أخلاقا. ويقال إنه بعث إليهم نبي فذبحوه وأكلوه. وأما التي وقعت بهمينيا فذكر يقال له أحول. نكح جارية من الإنس فأولدها شيطانا مريدا. ويروى أن أمير المؤمنين عليه السلام قال: لا تناكحوا الأنباط ولا تسترضعوا فيهم، فإنهم يورثون أولادكم اللؤم النبطي. وقالوا في قول الله عزّ وجلّ «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا » قال: هم النبط. وقال مقاتل بن سليمان: الأنباط من ولد شناص بن إبليس وإن شناص نكح شاة لآدم عليه السلام يقال لها ورسة فولدت أبناء فسماه نباط. وقال وهب بن منبه: حبس سليمان عليه السلام نبطيا من أهل دستميسان وقيّده. فجاء أهل السجن يشكونه. فدعا به وقال: ويلك! أما يشغلك بما أنت فيه من ضيق المجلس وثقل الحديد حتى يشكوك الناس؟ فقال: لا أعود يا نبي الله. فقال: زيدوه قيدا وردوه. ففعلوا ذلك. فعاود أهل السجن يشكونه. فدعا به وقال له مثل قوله الأول. فقال: لا أعود. فقال: زيدوه قيدا آخر وردوه. ففعلوا. فلم يقم إلّا يوما حتى عاد أهل السجن يشكونه. فأحضره وقال له مثل قوله الأول وزاده قيدا. فلم يكفه ذلك. وعادوا فشكوه. فلما شكوه الرابعة، نقله عنهم إلى سجن الجن، فجاء الجن يضجون منه ويشكونه. فدعا به وأمر بضربه فضرب وزاده قيدا

آخر. فشكوه ثلاثا في كل ذلك يزيدونه «1» قيدا. فلما كان في الرابعة قال لهم: ما الذي يصنع بكم حتى ضججتم منه؟ فقالوا: يا نبي الله! أعظم ما نشكو منه السعاية والنميمة. قد تقاتلنا [26 أ] على يده. فأخرجه عنهم ودعا بصخر المارد- وكان ينقل الصخر من فارس إلى الشام- فقال له: يا صخر! اكفني مؤونة هذا النبطي وليكن معك في سلسلة. ففعل ذلك. فبينا سليمان في بعض مواكبه وقد حملته الريح، إذ عارضه صخر في الهواء والنبطي معه في سلسلة، وصخر يستغيث إلى سليمان ويستوقفه. فأمر سليمان الريح فركدت ودعا به فسأله عن شأنه فقال: يا نبي الله! اعفني من هذا النبطي واقرن معي مائة عفريت في موضعه. قال: وما الذي يصنع بك؟ قال: يا نبي الله! يدعني حتى إذا حملت الصخرة على رأسي، استقدم في سلسلتي ولفّها على صدره ثم جذبني وطرح نفسه على وجهه، فأقع على وجهي وتقع الصخرة على عنقي وظهري. فأقول له: ما شأنك؟ فيقول: أثرت- ويريد عثرت-. ثم أقوم فأجعلها على رأسي وأقول له: تأخر فكن من ورائي حتى لا تعثر، فيفعل. ثم يقبض على الطوق الذي في عنقه ويستعقد فيطرحني على ظهري وتقع الصخرة على جنبي. فأقول: ويلك! ماذا دهاك؟ فيقول: أنت شيطان من الشيوط ونهن لا نلهق بك. يريد: أنت شيطان من الشيطان ونحن لا نلحق بك. فضحك سليمان ثم قال: قد جعلتك يا نبطي عريفا على الجن النقالة فخذهم بالجد واستعجلهم في الحمل. فمضى لذلك. فقال له الجن: إن بيننا وبينك رحما ماسة فانظر لنا في ولايتك، قال لهم: وأي رحم بيننا وأنتم من الجن وأنا من الإنس؟ قالوا: إن هاهنا امتزاجا آخر لا تعرفه. قال: وما هو؟ قالوا: إنه لما ملك سليمان أتته ملكة دستميسان فسألته أن يوجه معها شيطانين يبنيان لها قصرا من وقت طلوع الشمس إلى الظهر. ففعل ذلك ووجه معها شيطانين يقال لأحدهما أكي، فبنياه لها إلى قبل الظهر. فلما فرغا منه

قالا لها: أشغلينا في عمل آخر إلى الليل، فإنا لا نجسر أن نرجع إلى سليمان. قالت: ما لي [26 ب] عمل، قد فرغتما من عملي الذي أردت. قالا: فإنّا نهدم القصر ونتشاغل بذلك إلى آخر النهار فتحتاجين أن ترجعي إلى سليمان فتعيدي عليه المسألة. فلما رأت الجدّ منهما دفعت إلى أحدهما مسحا أسود وقالت: اغسله حتى يبيضّ. وقالت للآخر: تعال حتى أشغلك في عمل آخر. واستلقت على قفاها وكشفت عن فرجها وقالت: رشّ على هذا الجرح ماء وروّحه حتى يلتحم. وكان الذي فعلت به هذا يسمى أكي. فلما روّحها ساعة ورآه لا يلتحم دعته نفسه إلى مواقعتها. ففعل وأحبلها فولدت الشيصبان وتالي وداقويه. وهم بنو عمك وقرائبك. فلينفعنا هذا عندك. فقال النبطي: هذه لعمري رحم ماسة وفي دون رعاية وحفاظ، ولن أدع القيام بشأنكم، فما الذي تشكون؟ قالوا: ما نحن فيه من التعب ونقل هذا الصخر من فارس إلى الشام. قال: أو ليس إنما تنقلونه ذاهبين فتستريحون راجعين؟ قالوا: بلى. قال: فهذا نصف الطريق. فتركهم وانطلق إلى سليمان فقال: يا نبي الله! أتظن أنك قد شغلت هؤلاء الجن الذين ينقلون الصخر وكففتهم عن التولّع ببني آدم؟ قال: نعم. قال: فاعلم أنهم يرجعون فرّغا يعبثون بالناس في طريقهم ويؤذونهم. قال: فما ينبغي أن أصنع بهم؟ قال: تحملهم الصخر من فارس إلى الشام لبناء بيت المقدس، ويحملون من الشام إلى فارس المرمر فيبنى لك به ما تريد وتكفهم عن أذى الناس. ففعل بهم ذلك.

فقالوا للنبطي: ويحك! زدتنا تعبا على تعبنا. وقد رجونا أن تخفف عنا. قال: أو ليس عملكم إنما هو بالنهار، وبالليل أنتم مستريحون؟ قالوا: بلى. قال: فإنما تعملون نصف الدهر ونصفه تبطلون. ثم انطلق إلى سليمان فقال: يا نبي الله! اعلم أن هؤلاء الجن النقّالة يعملون نهارهم. فإذا كان الليل عرجوا إلى السماء واسترقوا السمع وأتوا [27 أ] الكهان فخبروهم بذلك وعبثوا بالناس والبهائم. قال: فما الحل؟ قال: تبني حول مدينتك هذه أركانا معلقة على عددهم. فإذا فرغوا من عملهم نهارا أمرتهم فصعدوا ليلهم إلى هذه الأركان وتأمرهم بالتسبيح والتهليل إلى الصباح. فيكون لك ثواب ذلك. ومن فقدت صوته منهم عذبته فإنك تعرف أصواتهم ولا يخفى عليك شيء منها. ففعل ذلك بهم فشكوا إلى إبليس ما قد حلّ بهم فقال: ليس وراء هذه الشدّة شيء فتوقعوا الآن الفرج. فلم تمض إلّا أيام يسيرة حتى مات سليمان عليه السلام. وكان رجل من أهل السواد في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخلف. بعض عمال عمر على السواد. فأتاه غلام من العرب وهو في قرية تدعى براثا من برّ رخسابور فسأله أن يحمله فأبى، وسأله القرى فالتوى. فلما أكثر عليه قال: يا غلام! أعطه دجاجة. فانصرف الغلام وهو يقول- وكان العامل يكنى أبا جبيرة: أتيت أبا جبيرة في براثا ... فقال الحق بأهلك يا غلام وهاك دجاجة فتعشّ منها ... ولا يكثر عليّ لك الكلام فبلغ خبره عمر، فجعل على أهل السواد قرى الضيف وحمل المنقطع وإرشاد الضال. وقال ابن عباس: النبطي والأعرابي لا يقطعان أمرا دون نسائهما.

وقال المدائني: أمر بعض ملوك العجم رجلا من حاشيته فقال له: صد شرّ الطير واشوه بشر الحطب وأطعمه شر الخلق. فصاد رخمة وشواها ببعرة وقدّمها إلى رجل خوزي. فقال له الخوزي: أخطأت. اذهب فصد بومة واشوها بدفلى وأطعمها نبطيا ولد زنى. ففعل ذلك وعرفه الملك. فقال: لا يحتاج أن يكون ولد زنى. كفاه أن يكون نبطيا. وعن سعيد بن المسيب قال: كتب سليمان بن داود عليه السلام كتبا إلى الناس وإلى [27 ب] النسناس وإلى أشباه الناس وإلى أولاد الشياطين. فأما الناس فأهل الصلاح والعلم. وأما النسناس فأهل الأسواق. وأما أشباه الناس فأهل الجهل. وأما أولاد الشياطين فالنبط. وقال إسماعيل بن عبد الله: قال لي المنصور: صف لي الناس. قلت: ليسأل أمير المؤمنين عما أحب. قال: ما تقول في أهل الحجاز؟ قلت: مبدأ الإسلام وبقية العرب. قال: فأهل العراق؟ قلت: قطر الإسلام ومقاتلة الدم. قال: فأهل الشام؟ قلت: حصن الأمة وأسنة الأئمة. قال: فأهل خراسان؟ قلت: فرسان الهيجاء وأعنّة الرجاء. قال: الترك؟ قلت: إخوة السباع وأبناء المغازي. قال: فالهند؟ قلت: حكماء استغنوا ببلادهم واكتفوا بما يليهم. قال: فالروم؟ قلت: أهل كتاب وتدين، نجاهم الله عن القرب وصيّرهم إلى البعد قال: فالأنباط؟ قلت: شرار الخلق وعبيد من غلب. وقال شيبة بن عثمان: ما أحد أنقر عن صغيرة ولا أركب لكبيرة من أهل العراق لقربهم من النبط. وقال إسحاق بن طلحة بن أشعث: بعثني عمر بن عبد العزيز إلى العراق فقال أقرهم ولا تستقرأهم وعلّمهم ولا تعلّم منهم، وحدثهم ولا تستمع حديثهم. قلت: ولم ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنهم خالطوا الأنباط ففيهم غشهم ومكرهم وخديعتهم. ولما غلب أردشير على ملك النبط رأى جمالهم وعقولهم. قال: ما أخوفني

أن حدث فيّ حدث أن يعود الملك إلى هؤلاء. ففرض لهم فرضا وبعث متهم بعوثا وأغزاهم خراسان. فأهل المرو من النبط، ففيهم شحّهم وغدرهم. وقال الهيثم بن عدي: إنما سموا نبطا لأنهم استنبطوا المياه وحفروا الأنهار. فمن ذلك: الصراة، ونهر سورا، ونهر أبّا. وقد قيل إن الصراة حفرها أفريدون جشنش ونهر أبّا حفر أبّا بن المصمغان ونهر الملك حفر أقفور شاه بن بلاش، قتله أردشير بن [28 أ] بابكان. ونهر الملك حفره شابور. وكانت سرة الدنيا في يد النبط، وذلك أن الفرات ودجلة ينصبان جميعا من الشام فلم يكن أحد ينتفع بهما إلّا النبط. وكان حدّ ملكهم الأنبار إلى عانات إلى كسكر وما والاها من كور دجلة. وملك آل ساسان من المدائن إلى نهر بلخ إلى السند إلى الروم إلى حد البادية. وقال عبد الملك بن الماجشون: قلت لخالي: أخبرني عن أهل العراق. قال: أهل العراق على عقولهم جلدة رقيقة ما لم تزل عنها فلا بأس بعقولهم. فإذا زالت كشفتهم عن الترك أجمع. وقال ابن عمر: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : اللهم بارك لنا في مكّتنا، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا: يا رسول الله. وفي (؟) «1» قال: هناك الزلازل ومن هناك يطلع قرن الشيطان. ولما ملكت النبط الأرض خرجوا إلى الصحراء ومعهم العصيّ يلقونها إلى السماء ويقولون: قد غلبنا أهل الأرض فانزلوا يا أهل السماء حتى نقاتلكم. فبعث الله عليهم أهل ماه في أربعين ألفا فقتلوهم وملكوا بلادهم مائة عام. وقال ابن عياش: كان آخر ملوك النبط سنحاريب وكان ملكه ثلاثمائة سنة.

وكان بعده بخت نصر. وقال غيره: كان ملكهم ثلاثة آلاف سنة. وكان قبل إبراهيم عليه السلام. وإنما سموا النبط لأنهم أنبطوا الأرض أي احتفروا أنهارها الكبار. وقال ابن الكلبي: لما هلكت عاد قيل ثمود أرم. ثم هلكت ثمود قيل لبقايا أرم: أرمان. فهم النبط الأرمانيون. وقال بعضهم: لما سلب سليمان عليه السلام ملكه، وثبت مردة الشياطين على نساء من الإنس فولدن منهم أولادا كثيرة. فلما ردّ الله عليه ملكه، شكا الناس ذلك النسل إلى سليمان. فأمر الشياطين فعملت له بساطا طويلا عريضا. ثم أمر بذلك النسل فحملوا على البساط ثم أمر العاصف من الريح فحملهم [28 ب] حتى ألقاهم بميسان. وقال ابن عباس: لو كان الشيطان إنسيا لكان نبطيا .

القول في مدينة السلام بغداد قال بعض العلماء: بغداد تسمى بغداذ وبغدان «1» . قالوا وهي تسمى مدينة السلام أيضا. فأما الزوراء فهي مدينة المنصور خاصة. وسميت مدينة السلام لأن دجلة يقال لها وادي السلام. وقال موسى بن عبد الحميد النسائي: كنت جالسا عند عبد العزيز بن أبي دؤاد فأتاه رجل فقال: من أين أنت؟ قال من بغداد. قال: لا تقل بغداذ. فإن بغ صنم وداد عطاء. ولكن قل مدينة السلام. فإن الله هو السلام والمدائن كلّها له. وقالوا: سميت بغداد لأن كسرى أهدي له خصي من المشرق فأقطعه بغداد. وكان لقوم ذلك الخصي صنم بالمشرق يقال له البغ. فقال الخصي: بغداد. يعني ذلك الصنم أعطاه ذلك الموضع. ويقال إن بغداد كانت سوما يقصدها تجار الصين بتجاراتهم فيربحون الربح الواسع. وكان اسم ملك الصين بغ. فكانوا إذا انصرفوا إلى بلادهم قالوا: بغ داد، أي ذلك الربح الذي ربحناه أعطاناه الملك. وداد لقطة بالفارسية وهو الإعطاء. وقال قوم: سميت مدينة السلام أرادوا أنها مدينة الله. لأن الله هو السلام المؤمن. وقد جرى لها هذا الاسم على ضرب الدنانير والدراهم وما تقع به الأشرية في الكتب ويتبايع به الناس وما يقع فيها من غلّات الطساسيج من الحنطة والشعير

وما يسمى به القفيز، فيقال قفيز مدينة السلام. واسمها الأول الزوراء، والزوراء مدينة أبي جعفر. والناس يسمونها بغداد، والخلفاء يسمونها مدينة السلام. ومدينة بغداد بناها أبو جعفر المنصور سنة خمس وأربعين ومائة. وقال عبيد الله بن إسحاق: بنى أبو جعفر بغداد سنة خمس وأربعين ومائة، وارتفع بناؤها سنة تسع وأربعين. وقال إبراهيم بن الجنيد: قطن أبو جعفر بغداد سنة تسع وأربعين ومائة. وكان أسسها قبل [29 أ] ذلك بسنة أو ثنتين. وكانت «1» قديمة فمصرها وأخذ في بناء المدينة، فلما بلغه خروج محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام، ترك البناء وعاد إلى الكوفة وحوّل بيوت الأموال والخزائن إليها. فلما انقضى أمر محمد وإبراهيم رجع فاستتم بناءها وبنى سورها القديم سنة سبع وأربعين ومائة. وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائة. وقبل ذلك بنى الرصافة في جانب الشرقي للمهدي. وكانت الرصافة تعرف بعسكر المهدي لأنه عسكر به حين شخص إلى الري. فلما قدم من الري نزل الرصافة، وذلك في سنة إحدى وخمسين ومائة. وقد كان المنصور أمر ببناء قصر للمهدي. وهو المعروف بقصر الوضاح في الشرقية. فبني ونسب إلى الوضاح- والوضاح رجل من أهل الأنبار تولّى النفقة عليه فنسب إليه. وبنى المنصور مسجدي مدينة السلام، وبنى القنطرة الجديدة على الصراة وابتاع أرض مدينة السلام من أرباب القرى ببادرويا وقطربل ونهر بوق ونهر بين وأقطعها إلى أهل بيته وقواده وجنده وصحابته وكتّابه، وجعل مجمع الأسواق

بالكرخ. وأمر التجار فابتنوا الحوانيت وألزمهم الغلة. وروي أن رجلا من أهل الحيرة جاء إلى المثنى بن حارثة الشيباني فقال: ألا أدلّك على قرية يأتيها تجار من مدائن كسرى والسواد ويجتمعون بها في كل سنة يوما ومعهم من الأحوال مما لا يحد. وهذه أيام سوقهم. فإن أنت أغرت عليهم أصبت فيها مالا يكون غناء للمسلمين وتقوية على عدوهم. قال: فأي شيء يقال لهذه القرية؟ قال: بغداد. قال: وكم بينها وبين المدائن؟ قال: بعض يوم. قال: وكيف لي بها؟ قال: تأخذ طريق البرّ حتى تنتهي إلى الخنافس، فإن أهل الأنبار سيصيرون إليها ويخبرون عنك فيأمنون. ثم تعرج على أهل الأنبار وتأخذهم بالأولى وتسير ليلتك من الأنبار حتى تأتيهم صبحا فتغير عليهم وهم غارون. فخرج من أليس إلى [29 ب] الخنافس ثم عرّج حتى رجع إلى الأنبار. فلما أحسّه صاحبها تحصّن وهو لا يدري من هو- وذلك ليلا- فلما عرفه نزل إليه فأطمعه وخوّفه واستكتمه وقال: إني أريد أن أغير فابعث معي الأدلاء حتى أغير منها على المدائن. قال: أنا أجيء معك. قال: لا، ولكن ابعث معي من هو أدل منك. فبعث معهم الأدلاء. حتى إذا كانوا بالمنصف قال لهم المثنى: كم بيننا وبين هذه القرية؟ قالوا: أربعة فراسخ. فقال لأصحابه: من ينتدب للحرس؟ فانتدب له قوم. فقال: اذكوا حرسكم ونزل. فلما كان في آخر الليل أسرى إليهم وصبّحهم وهم في أسواقهم فوضع فيهم السيف، فقتل وأخذ ما شاء. ثم قال: يا أيها الناس! لا تأخذوا إلّا الذهب والفضة ولا تأخذوا من المتاع إلّا ما يقدر الرجل أن يحمله على دابته. وهرب أهل السوق. وملأ المسلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء.

ثم سار حتى وافى الأنبار وذلك في سنة ثلاث عشرة «1» . قال «2» : وخرج المنصور منحدرا إلى جرجرايا ليرتاد منزلا. ثم صار إلى بغداد ومنها إلى الموصل. ثم عاد إلى موضع بغداد. فقال: هذا موضع معسكر جيد. هذه دجلة يأتينا كل ما في البحر منها، وتأتينا أيضا فيها الميرة من الجزيرة وأرمينية وما والاها. وهذا الفرات يحمل فيه متاع الشام والرقة وذلك البلد. فنزل وضرب عسكره على الصراة واختطّ المدينة ووكّل بكل ربع قائدا. وقال سليمان بن مجالد «3» : أفسد أهل الكوفة جند المنصور فخرج نحو الجبل يرتاد منزلا- وطريق الناس يومئذ على المدائن- فخرجنا على ساباط. فتخلّف بعض أصحابنا لرمد أصابه. فأقام يعالج عينيه. فسأله الطبيب أين يريد أمير المؤمنين قال: يرتاد منزلا. قال: فأنّا نجد في كتاب عندنا أن رجلا يدعى مقلاصا يبنى مدينة بين الصراة ودجلة تدعى الوزراء. فإذا أسسها أتاه فتق من الحجاز فقطع بناءها وأقبل على إصلاح ذلك الفتق فإذا كاد أن يلتئم أتاه فتق آخر من البصرة هو أعظم عليه من الأول [30 أ] فلا يلبث الفتقان أن يلتئما. ثم يعود إلى بناءها فيتمه. فيعمر عمرا طويلا ويبقى الملك في عقبه. قال: فأخبرت المنصور بذلك. فقال: الله أكبر! والله هو. لقد لقبت مقلاصا وأنا صبي لخبر كان لي ثم انقطع ذلك اللقب عني. وقال ابن عياش «4» : لما أراد المنصور الانتقال من الهاشمية، بعث روادا يرتادون له موضعا يبني فيه مدينة، ويكون الموضع واسطا رافقا بالعامة والجند. فنعت له موضع قريب من بارمّا. وذكر له عنه غذاء وطيب. فخرج إليه بنفسه حتى

نظر إليه وبات فيه فرآه موضعا طيبا فقال لجماعة من خاصته منهم سليمان بن مجالد وأبو أيوب الخوزي وعبد الملك بن حميد الكاتب: ما رأيكم في هذا الموضع؟ قالوا: هو موضع طيب موافق صالح. قال: صدقتم هو كذلك. ولكنه لا يحتمل الجند والناس. وإنما أريد موضعا ترتفق به الرعية ويوافقها ولا تغلو عليها فيه الأسعار ولا تشتد فيه المؤونة. فإني إن أقمت في موضع لا يجلب إليه في البرّ والبحر، غلت الأسعار وقلّت المادة واشتدت المؤونة وشق ذلك على الناس. وقد مررت في طريقي بموضع قد اجتمعت فيه هذه الخصال. فأنا راجع إليه وبائت فيه. فإن اجتمع لي ما أريد من طيب الليل فهو موافق لما أريده لي وللناس. قال: فأتى موضع بغداد وعبر في موضع قصر السلام ثم صلّى العصر وذلك في صيف وحر شديد، قال: وكان في ذلك المكان بيعة. فبات أطيب مبيت وأقام يومه. فلم ير إلّا خيرا فقال هذا موضع صالح للبناء. فإن المادة تأتيه من الفرات ودجلة وجماعة الأنهار، ولا يحمل الجند والرعية إلّا مثله. فخطّ المدينة وقدّر البناء ووضع أول لبنة بيده وقال: بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ثم قال: ابنوا على بركة الله. وذكر سليمان بن مجالد «1» أن المنصور لمّا قدم القائد الذي بعث به يرتاد منزلا- وكان من ثقاته- انصرف [30 ب] راجعا حتى نزل عند الدير الذي بحذاء القصر المعروف بالخالد. ثم دعا صاحب الدير وأمره بإحضار البطريق- وكان هناك بطريق مقيم وصاحب بغداد وصاحب المخرم وصاحب دير القس وصاحب العتيقة وهؤلاء تنّاء بالناحية لكل واحد منهم ضياع حول بغداد- فلما حضروا عنده سألهم عن مواضعهم وكيف هي في الحرّ والبرد والأمطار. فكل واحد منهم قال قولا يقدر ما عنده. ثم إنه وجّه رجالا من ثقاته. فبات كل واحد منهم في قرية من القرى القريبة من بغداد، فلما عادوا إليه اتفق قولهم على طيب الموضع وصحة هوائه. فقال لصاحب بغداد وهو الدهقان الذي قريته قائمة إلى اليوم في المربعة

المعروفة بأبي العباس الفضل بن سليمان الطوسي وداره قائمة على بنائها- وكان عاقلا فهما- ما الرأي عندك فيما قد عملت عليه من البناء في أحد هذه المواضع؟ فقال: يا أمير المؤمنين! سألتني عن هذه الأمكنة وطيبها، وهي كلها طيبة والاختيار إليك فيها. فقال له المنصور: دع اختياري وأخبرني عما عندك في مكان منها. فقال: الذي أراه يا أمير المؤمنين أن تنزل في نفس بغداد. فإنك بين أربعة طساسيج. منها طسوجان في الجانب الغربي، وطسوجان في الجانب الشرقي. فاللذان في الغربي فهما قطربل وبادرويا. وأما اللذان في الشرقي فهما نهر بوق وكلواذى. فإن خرب منها طسوج أو تأخرت عمارته، كان الآخر عامرا. وأنت يا أمير المؤمنين على الصراة ودجلة. تجيئك الميرة من المغرب في الفرات ومن الشام ومصر وسائر تلك البلدان. وتحمل إليك طرائف الهند والصين والسند والبصرة وواسط في دجلة. وتجيئك ميرة أرمينية وآذربيجان وما يتصل بها في تامرّا. وتجيئك الميرة من الروم وآمد وميافارقين وأرزن والثغور الخزرية ومن الجزيرة والموصل وبلد ونصيبين إلى مشارق الشام في دجلة، وأنت بين الأنهار لا يصل [31 أ] إليك عدوك إلّا على جسر أو قنطرة. فإذا قطعت الجسر وأخربت القنطرة لم يصل إليك. وأنت بين دجلة والفرات لا يجيؤك أحد من المشرق والمغرب إلّا احتاج إلى العبور، وأنت متوسط للبصرة والكوفة وواسط والسواد. وأنت قريب من البرّ والبحر والجبل. فازداد المنصور رغبة في الموضع وأمر بالبناء فيه. وقال له ذلك الدهقان: نعم يا أمير المؤمنين، وهاهنا شيء آخر. قال: وما هو؟ قال: إن المدن تحصن بالاسوار والخنادق. وقد رزقك الله سوقا وخندقا لم يعمل مثلهما لسائر مدن الشرق والغرب. قال: وما هما؟ قال: دجلة والصراة يكتنفان مدينتك من جانبيها. فقال: صدقت يا دهقان.

قال سليمان بن مجالد «1» : ووجه المنصور في حشر الصنّاع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط والبصرة، فأحضروا. وأمر باختيار قوم من أهل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة. فجمعهم وتقدم إليهم أن يشرفوا على البناء وكان فيمن أحضر الحجاج بن أرطاة وأبا حنيفة. ثم أمر بخط المدينة وحضر الأساسات وضرب اللبن وطبخ الآجر، فبدئ بذلك. وكان أول ابتدائه في عملها سنة خمس وأربعين ومائة. وكان المنصور «2» أراد أبا حنيفة أن يتولى له شيئا من أمرها فأبى. وأراده على القضاء فأبى أيضا. فحلف المنصور أن لا بدّ له من أن يتولاه فحلف أبو حنيفة أن لا يفعل. فولّاه عدّ اللبن وأخذ الرجال بالعمل. وإنما فعل المنصور ذلك ليخرج من يمينه. فكان أبو حنيفة يتولى ذلك حتى فرغ من استتمام الحائط الذي يلي الخندق. وكان الفراغ منه سنة تسع وأربعين ومائة. وكان أبو حنيفة أول من عدّ اللبن بالقصب. قال: وأمر المنصور «3» بإحكام الأساس وأن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعا. وأن يكون أعلاه عشرين ذراعا وأن يجعل في البناء جرز القصب [31 ب] مكان الخشب. فلما بلغ السور مقدار قامة- وذلك في سنة خمس وأربعين ومائة- اتصل به خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن رضي الله عنهم. فقطع البناء حتى فرغ من أمره وأمر أخيه إبراهيم بن عبد الله. وقال جابر بن داود: كانت بغداد قديمة، وكانت في أيدي قوم من الدهاقين بعضها منسوب إلى طسوج بادرويا من الجانب الغربي. وكان الجانب الشرقي بعضه إلى طسوج نهر بوق وبعضه إلى كلواذى والفرق ما بين الطسوجين الموضع المعروف بالفارقين حتى مصّرها المنصور.

وقال علي بن يقطين: كنت في عسكر أبي جعفر حين صار إلى الصراة يلتمس موضعاً لبناء مدينته. قال: فنزل الدير الذي على الصراة في العتيقة. فما زال على دابته ذاهبا وجائيا منفردا عن الناس يفكر. قال: وكان في الدير راهب عالم فقال لي: كم يذهب هذا الملك ويجيء؟ قلت: يريد أن يبني مدينة. قال: فما اسمه؟ قلت: عبد الله بن محمد. قال: أبو من؟ قلت: أبو جعفر. قال: يلقب بشيء؟ قلت: المنصور. قال: ليس هو الذي يبنيها. قلت: ولم؟ قال: لأنّا قد وجدنا في كتاب عندنا نتوارثه قرنا عن قرن، الذي يبني مدينة في هذا المكان يقال له مقلاص. قال: فركبت من وقتي حتى تقدمت منه فقال: ما وراءك؟ قلت: خبر ألقيه إليك وأريحك هذا العناء. قال: وما هو؟ قلت: أمير المؤمنين يعلم أن هؤلاء الرهبان معهم علم، وقد أخبرني راهب هذا الدير بكيت وكيت. فلما ذكرت مقلاصا ضحك واستبشر ونزل عن دابته فسجد وأخذ سوطه فأقبل يذرع به. فقلت في نفسي لحقه اللجاج. ثم دعا المهندسين من وقته فأمرهم بخطّ الرماد. فقلت له: أظنك يا أمير المؤمنين أردت معاندة الراهب وتكذيبه. فقال: لا والله ولكني كنت ملقبا بمقلاص، وما ظننت أن أحدا عرف ذلك غيري. فاسمع حديثي بسبب [32 أ] هذا اللقب: كنا بناحية الشراة في زمان بني أمية على الحال التي تعلم. فكنت ومن كان في مقدار سنّي من عمومتي واخوتي نتداعى ونتعاشر، فبلغت النوبة إليّ يوما من الأيام وما أملك درهما واحدا فما سواه، فلم أزل أفكر وأعمل الحيلة إلى أن أصبت غزلا لداية كانت لي فسرقته ثم وجهت به فبيع واشتري بثمنه ما احتجت إليه وجئت إلى الداية فقلت لها: افعلي كذا واصنعي كذا. قالت: ومن أين لك ما أرى؟ قلت: اقترضت دراهم من بعض أهلي. ففعلت ما أمرتها به. فلما فرغنا من الأكل جلسنا للحديث، طلبت الغزل فلم تجده، فعلمت أني صاحبه. وكان في تلك الناحية لصّ يقال له مقلاص شهر بالسرقة. فجاءت إلى باب البيت الذي كنا فيه فدعتني فلم أخرج إليها لعلمي أنها قد وقفت على ما عملت. فلما ألحت وأنا لا أخرج قالت: اخرج يا مقلاص! الناس يتحرزون من مقلاصهم ومقلاصي معي في البيت. فمزح معي اخوتي وعمومتي بهذا اللقب ساعة. ثم لم

أسمع به إلّا منك الساعة، وقلت إن الراهب قال لك ذلك. فعلمت أن أمر هذه المدينة سيتم عليّ لصحة ما وقفت عليه. قال الشروي: أخبرني بعض المشايخ الموالي أن المنصور لما أراد بناء بغداد وسط المكان الذي قدر أن يجعله مدينة وأمر أن يوتد هنالك وتد وأخذ حبلا فمدّه على المقدار الذي أدار أن تكون استدارتها ثم أمر بطرح الرماد فطرح ثم نقص من مقداره أربعين ذراعا. ثم أراد خطا آخر وجعل من الخطين الخندق. وجعل فتحة أربعين ذراعا ثم عمل السور الذي خلف الفصيل وعرضه من أسفله ثمانية عشر ذراعا، وعرض أعلاه ثمانية أذرع. وجعل على ذراع منه مما يلي الخندق الشرافات فصار الباقي خمسة أذرع يمشي عليها الناس. قال حماد التركي: بنى المنصور المدينة مدورة. لأن المدورة لها معان ليست للمربعة، وذلك أن المربعة إذا كان [32 ب] الملك في وسطها كان بعضها أقرب إليه من بعض. والمدورة من حيث مسحت كان أمرها إلى وسطها مستويا لا يزيد بعضه على بعض. وبنى لها أربعة أبواب فكان إذا جاءها الجائي من المشرق، دخل من باب خراسان. وإذا جاءها من الحجاز، دخل من باب الكوفة، وإذا جاء من المغرب، دخل من باب الشام، وإذا جاء من فارس والأهواز والبصرة وواسط واليمامة والبحرين وعمان، دخل من باب البصرة. وعمل لها سورين وفصيلين، بين كل باب فصيلان، والسور الداخل أطول من الخارج. وأمر أن لا يبني إنسان تحت السور شيئا من المنازل. وأمر أن يبنى في الفصيل الثاني مع السور المنازل، لأن ذلك أحصن للسور. ثم بنى قصره في وسطها، وبنى المسجد الجامع مع القصر وعمل الشوارع على ما أراد، وأقطعها القوّاد وأنزل فيها خاصته وأهل ثقته. وجعل الطول من باب خراسان إلى باب الكوفة ثمانمائة ذراع. ومن باب الشام إلى باب البصرة ستمائة ذراع. وعدد الطاقات في السور الكبير ثلاثة وخمسون طاقا سوى الطاق المفتوح. هذا في كل صف. والطاقات الصغار التي تلي الرحبة في كل صف ست طاقات سوى طاقي

البابين. وساحة القصر أربعمائة ذراع في مثلها. وساحة المسجد الجامع مائتا ذراع في مثلها. والذي خط المسجد الحجاج بن أرطاة وجعل حوالي القصر والمسجد رحابا على تربيع القصر والجامع. وجعل الأبواب الداخلة مزواة ليست على سمت الأبواب الخارجة. فلذلك سميت الزوراء. وبين القصر وبين كل باب من الأبواب مساحة قائمة لا يزيد بعضها على بعض. وكذلك بينه وبين كل ناحية من السور وأساطين الخشب التي في المسجد الجامع كل أسطوانة قطعتين بعقبتين () «1» والغرى وضبات الحديد إلّا خمسة أو ستة عند الشنال «2» الذي يلي المنارة ثمان في كل واحدة عدة قطع معقبة محكمة. وقال بعض أهل بغداد «3» : هدمنا قطعة من السور الذي يلي باب المحول فوجدنا لبنة عليها مكتوب بمغرة: وزنها مائة وسبعة عشر رطلا فوزنّاها فوجدنا ذلك كما كتب عليها. وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي «4» : لما أراد المنصور بناء مدينته شاور أصحابه في ذلك، وكان فيمن شاوره خالد بن برمك فأشار عليه ببنائها. فلما عمل منها صدرا صالحا احتاج إلى الآجر، فعزم على نقض إيوان كسرى الذي بالمدائن. فاستشار في ذلك أيضا فأشار عليه جماعة خواصه أن يفعل. وكان فيهم خالد بن برمك فلم يقل شيئا فقال له: لم لا تكلم يا خالد وتشير بما عندك؟ قال: لا أرى ذلك يا أمير المؤمنين. قال: ولم؟ قال: لأنه علم من أعلام الإسلام يستدل به الناظر والوافد والملوك على عظم شأن أربابه وعن سلطانهم، وان الإسلام قهرهم وأزالهم عنه. وأيضا فإن فيه مسجدا لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: هيهات يا خالد! أبيت إلّا التعصب لأصحابك والميل إليهم. وأمر

بنقضه ونقض ما حوله من الأبنية. قال: فنقض شيء من ذلك وحمل آجره إلى بغداد فوجدوا أن النفقة على هدمه وحمله ومؤونته أكثر مما ينفق على الآجر الجديد إذا عمل. فرفع ذلك إلى المنصور فأمر بتركه وأحضر خالدا فعرّفه الخبر وقال له ما عندك في هذا؟ فقال: قد كنت أشرت على أمير المؤمنين أن لا تعرض لشيء من نقضه فلم يفعل، فأما الآن وقد ابتدأ بذلك فما أرى أن يكف عنه حتى يلحقه بقواعده لئلا يقال إنه عجز عن هدم ما بناه غيره. والهدم أيسر من البناء. فتبسم المنصور وأمر بترك ذلك. قال: وأمر «1» المنصور أن تجعل الأسواق في طاقات المدينة إزاء كل باب سوقا. فلم تزل على ذلك مدة حتى قدم عليه بطريق من الروم وافدا من عند الملك فأمر الربيع أن يطوف به المدينة حتى ينظر إليها ويتأملها ويرى سورها وأبوابها [33 ب] وما حولها من العمارة ويصعد السور حتى يمشي عليه من أوله إلى آخره، ويريه قباب الأبواب والطاقات وجميع ذلك. ففعل الربيع ما أمره به. فلما دخل إلى المنصور قال له: كيف رأيت مدينتي؟ قال: رأيت حسنا ومدينة حصينة إلّا أن أعداءك معك فيها. قال: ومن هم؟ قال: السوقة، يوافي الجاسوس من بعض الأطراف فيدخل لعلة ما يشتري فيتجسس الأخبار ويعرف ما يريد وينصرف من غير أن يعلم به. فسكت المنصور. فلما انصرف البطريق أمر بإخراج السوقة من المدينة وتقدم إلى إبراهيم بن الحبيش الكوفي وخراش بن المسيب اليمامي بذلك. وأمرهما أن يبنيا الأسواق ناحية الكرخ ويجعلاها صفوفا، لكل سوق صف، وأن يدفعوها إلى الناس، فلما فرغا من ذلك، حوّل السوق من طاقات المدينة ووضع عليهم الغلة على قدر الذرع. فلما كثر الناس ضاقت عليه. فقالوا لإبراهيم بن حبيش وخراش: قد ضاقت علينا هذه الصفوف ونحن نتسع. وتبني لنا أسواقا من أموالنا ونؤدي عنها الأجرة. فأجيبوا إلى ذلك، فاتسعوا في البناء والأسواق. وقال الشروي: بل كان سبب إخراج الأسواق عنها أن المنصور حين استتم

البناء، دعا إليه رسل الملوك الذين كانوا على بابه فقال: كيف ترون مدينتي هذه؟ فقالوا: ما رأينا أحسن تقديرا ولا أحكم بناء ولا أحصن أسوارا منها. فقال: هل ترون فيها عيبا؟ فقال أحدهم: نعم. سوقها في جوفها والجواسيس لا ينكر عليهم مخالطة السوقة ومبايعتهم. وقال آخر: ومن عيوبها أيضا أنه ليس لها نهر يخترقها. وقال آخر: ومن ذلك أنه لا مقبرة لها ولا ميدان فيها. فأمر المنصور فعمل لها دولاب أجري ماؤه إلى القصر، فكان يخترقها حتى يوافي القصر، وقال هذا يقوم مقام النهر. فلم يزل ساج ذلك النهر والدولاب [34 أ] يصب فيه إلى أيام محمد بن عبد الله بن طاهر ثم قلع وعطّل. قال: وأمر بإخراج السوق إلى ناحية الكرخ وباب الشعير وقطيعة الربيع وما قرب من ذلك. وعمل ميدانا في الرحبة لقواده وخاصته. وعمل المقبرة المعروفة بمقبرة قريش، وذلك في سنة تسع وخمسين ومائة. وفي هذه السنة بنى قصره الذي يشرع إلى دجلة وسماه الخلد. وأمر بعقد الجسر عند باب الشعير، وجعل النفقة لذلك على يدي حميد بن القاسم الصيرفي «1» . قال: وكان فراغ المنصور من بناء مدينة السلام ونزوله إياها ونقل الخزائن والدواوين وبيوت الأموال إليها، سنة ست وأربعين ومائة. وكان استتمامه لبناء السور والفراغ من الخندق وأحكام جميع أمر المدينة سنة تسع وأربعين ومائة. ثم شخص في هذه السنة إلى حديثة الموصل لأمر أراده ثم انصرف. وقال الشروي: لما قدم المهدي من الري وفد إليه أهل الكوفة وأهل الشام وغيرهم من وجوه الناس فهنؤه بمقدمه ولقوا المنصور فهنؤه أيضا، فأمر المهدي لعامتهم بالجوائز والخلع والحملان. وقد كان المنصور أمره أن يقيم في الجانب الشرقي من مدينة السلام وأمره ببناء الرصافة، وأن يعمل بها سورا وخندقا وبستانا. فابتدأ بعمل ذلك وجعل النهر مخترقا لها حتى يدخل المسجد الجامع. فكان الناس يشربون منه يوم الجمعة.

وقدّر شوارعها، فلم تكن في الإحكام والاستواء مثل شوارع الجانب الغربي. وقال يحيى بن الحسين: كان بناء المهدي كله بالرهوص إلّا ما كان يسكنه هو. وكذلك كان بناء موسى الهادي بعده. وكان استتمام بناء المهدي الرصافة والجامع سنة تسع وخمسين ومائة. وخرج المنصور بعد قدوم المهدي من الري بشهور إلى البردان ليعرض الجند ويسقط من لم يكن من أهل خراسان، فأحكم ما أراد من ذلك وعاد إلى بغداد [34 ب] . وقال عيسى بن المنصور «1» : وجدت في بعض خزائن أبي مبلغ النفقة على مدينة السلام والمسجد الجامع وقصر الذهب والأسواق والفصلان والخنادق والقباب والأبواب، فكان جميع ذلك أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانون درهما، يكون من الفلوس مائة ألف وثلاثة وعشرين ألف فليس. وذلك أن الأستاذ من البنائين كان يعمل يومه بقيراط [إلى خمس حبّات] «2» والروزجاري بحبتين إلى ثلاث حبّات. وقال أبو سهل بن نوبخت عند جده نوبخت «3» قال: أمرني المنصور لما أراد بناء بغداد بأخذ الطالع ففعلت، فإذا الطالع الشمس وهي في القوس. فخبرته بما تدل النجوم عليه من طول بقائها وكثرة عمارتها وفقر الناس إلى ما فيها. ثم قلت: وخلّة أخرى أسرك بها يا أمير المؤمنين. قال: وما هي؟ قلت: نجد في أدلة النجوم أنه لا يموت فيها خليفة أبدا حتف أنفه. قال: فتبسّم ثم قال: الحمد لله، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ولذلك يقول الشاعر: أعاينت في طول من الأرض والعرض ... كبغداد من دار بها مسكن الخفض

صفا العيش في بغداد واخضرّ عوده ... وعيش سواها غير صاف ولا غضّ تطول بها الأعمار انّ غداءها ... مريء. وبعض الأرض أمرا من بعض [قضى ربّها أن لا يموت خليفة ... بها، إنه ما شاء في خلقه يقضي] «1» تنام بها عين الغريب ولا ترى ... غريبا بأرض الشام يطمع في الغمض فإن جزيت بغداد منهم بقرضها ... فما أسلفت إلّا الجميل من القرض وإن رميت بالهجر منهم وبالقلى ... فما أصبحت أهلا لهجر ولا بغض وكان تحول المنصور من الهاشمية إلى بغداد والابتداء ببنائها سنة خمس وأربعين ومائة. وذلك في اليوم العاشر من مرداذماه سنة إحدى وثلاثين ومائة ليزدجرد. وآخر يوم من تموز سنة ألف وثلاثمائة وسبعين للإسكندر. والشمس يومئذ في الأسد [35 أ] ثمان درجات وعشر دقائق وزحل في الحمل درجة وأربعين دقيقة. والمشتري في القوس ست درجات. والزهرة في الجوزاء ثلاثين درجة. وعطارد في الجوزاء أربع وعشرين درجة. والراس في الجدي خمسا وعشرين درجة. قال: ووكل بالبناء قواده فقسمها بينهم أرباعا فدفع إلى الربيع الحاجب باب خراسان، وإلى أبي أيوب الخوزي وزيره باب الكوفة، وإلى عبد الملك بن حميد باب البصرة، وإلى ابن رغبان مولى محمد بن مسلمة الفهري باب الشام فبنوها. قال: وعلى المدينة ثمانية [أبواب] «2» ، خمسة منها كانت على مدينة في ظهر واسط يقال لها الزندروذ يقال إن الجن بنتها لسليمان بن داود عليه السلام. وان الأبواب من عمل الشياطين له أيضا. فنقلها المنصور من هذه المدينة إلى بغداد لمّا بناها وهي الأربعة الأبواب الداخلة من كل باب. ومنها باب البصرة الخارج، والباب الخارج من باب خراسان، حمل من الشام، يقال إنه من عمل الفراعنة،

وهو أقصرها. وباب الكوفة الخارج باب قصر خالد بن عبد الله القسري حمل من الكوفة. وباب الشام الخارج عمل للمنصور ببغداد وهو أضعفها. وكانت الحربية أيام فتنة الحسن بن سهل قبل دخول المأمون إلى بغداد أحرقوه فسقط أحد المصراعين وانصدع فضبّ من جانبيه. وقيل لرجل: كيف رأيت بغداد؟ قال: الأرض كلها بادية وبغداد حاضرتها. وحدث أحمد بن حميد بن جبلة «1» قال: حدثني أبي عن جدي جبلة، قال: كانت مدينة أبي جعفر قبل بنائها مزرعة للبغداديين يقال لها المباركة. فلما أخذها المنصور عوضهم منها عوضا رضوا به. فأخذ جدي من ذلك حصته. قال «2» : وكان شارع باب الأنبار لأهل قرية بباب الشام يسمون الترابية. قال: وقال حماد التركي «3» : كان حول مدينة أبي جعفر قبل بنائها قرى فكان إلى جانب باب الشام قرية يقال لها أخطانية على باب درب النورة إلى درب الأقفاص. وكان بعض نخلها في نفس شارع باب الشام. فلم يزل إلى أن قلع في أيام فتنة المخلوع [35 ب] وكانت هذه القرية التي يقال لها أخطانية لقوم من الدهاقين يقال لهم بنو فروة، وبنو قنورا، منهم مالك بن دينار ويعقوب بن سليمان. وحدث «4» أبو جعفر محمد بن موسى بن الفرات أن القرية التي في مربعة أبي العباس الطوسي، كانت قرية جده من قبل أمه وأنهم من دهاقين يقال لهم بنو زراري، وكانت القرية يقال لها الوردانية. وقرية أخرى قائمة إلى اليوم مما يلي مربعة أبي قرة يقال لها سرقانية «5» ولها نخل قائم إلى اليوم مما يلي قنطرة أبي

الجوز. وأبو الجوز هذا من دهاقين بغداد من أهل هذه القرية والقنطرة منسوبة إليه. وكانت «1» قطيعة الربيع مزارع لناس من أهل قرية يقال لها ماوري من رستاق الفروستج من بادرويا واسمها إلى اليوم معروف في الديوان. وكان موضع بركة زلزل وما والاها إلى ناحية مسجد الأنبار بين مزارع. وكان النهر الذي يسقي هذه المزارع في موضع باب طاق الحراني إلى باب الكرخ. وذكر بعض المشايخ قال: رأيت عند باب قطيعة الربيع قبل بنائها كرما ومعصرة. وهو المكان الذي بني به خان الطيالسة والحوانيت التي يباع فيها الكاغذ الخراساني. وقال محمد بن موسى بن الفرات الكاتب «2» : سمعت جدي يقول: كنت في ديواني يوما، فدخل إليّ رجل من دهاقين بادوريا له قدر، فرأيته مخرّق الطيلسان. فقلت من خرق طيلسانك؟ فقال: خرق والله في زحمة الناس وتضاغطهم في موضع طالما طردت فيه الظباء والأرانب. قلت: وأين هو؟ قال: الكرخ. وذكر رجل من ولد الربيع الحاجب عن أبيه أن المنصور أقطع الربيع القطيعة التي يسكنها التجار اليوم وقطيعة الحربي بين السورين في ظهر درب جميل. وأن التجار وغيرهم من مجاوريها اغتصبوا ولد الربيع عليها. وسويقة غالب وقطيعة الربيع كانتا في القديم قرية تدعى ورثالا. ويقال إن قطيعة الربيع الخارجة إنما كانت إقطاعا من المهدي للربيع. وإنما أقطعه المنصور القطيعة [36 أ] الداخلة. وقيل إن الذي خارج القطيعة من أصحاب اللبود، ودرب الطيالس إلى التوثة إلى درب الدمشقيين وما وراء ذلك إلى حدود دجلة والعتيقة من ورثالا أيضا.

والنهر المعروف بنهر القلّائين غربيه من ورثالا وشرقيه من نهر طابق. ونهر طابق إنما هو نهر بابك، منسوب إلى بابك بن بهرام من بابك، وهو قديم، وبابك هذا هو الذي اتخذ الصقر الذي عليه قصر عيسى بن علي واحتفر هذا النهر. وما كان وراء هذا النهر فهو من رستاق الكرخ. وباب الكرخ منسوب إلى هذا الرستاق لأنه الطريق إليه. ونهر عيسى غريبه من الفروستج، وشرقيه من رستاق الكرخ وفيه دور المعبدين. وقنطرة بني زريق ودار البطيخ ودار القطن وقطيعة النصارى إلى قنطرة الشوك من نهر طابق، وشرقيه وغربيه من قرية ماورى. ومسجد الواسطيين مع الموضع المعروف بظله ميشويه.- وميشويه رجل من الدهاقين نصراني- إلى أن يخرج إلى الخندق المعروف بخندق الصينيات من باب المحول إلى الياسرية. وما كان من غربي الشارع فهو من مزارع كانت منسوية إلى القرية المعروفة ببراثا. وما كان من شرقيها فمن رستاق الفروستج. وما كان من درب الحجارة وقنطرة العباس شرقيا وغريبا فهو من نهر كرخايا من قرية براثا. وإنما سمي نهر كرخايا لأنه كان يسقي رستاق الفروستج والكرخ. فلما أحدث عيسى بن علي الرحى المعروفة برحى أم جعفر، قطع نهر كرخايا وجعل سقي رستاق الكرخ من نهر رفيل. وما كان على الصراة من شرقيها فهو من بادرويا وما كان من غربيها فهو من طسوج قطربل. قال: ومن حدّ قنطرة الجديدة وشارع طاق الحراني إلى شارع باب الكرخ، منسوب إلى القرية المعروفة للعامة مقبرة باب حرب، ثم مقابر المسيّب ثم مقابر باب التبن ثم مقابر الكناسة ثم المقابر التي تلى باب الكوفة [36 ب] . وأقطع المنصور قواده في أرباض المدينة شوارع تنسب إليهم. فأول ذلك

مما يلي السور من الجانب الغربي ربض حرب بن عبد الملك البلخي، وكان يتولى شرطة جعفر بن أبي جعفر، وجعفر إذ ذاك يتقلّد الموصل. وإليه تنسب الحربية. وقتل في سنة سبع وأربعين ومائة. قتلته الترك. ويتصل بربض حرب، ربض ينسب إلى المراوزة ثم ربض الترجمان بن صالح. ثم ربض ينسب إلى عتيك بن هلال الفارسي، وله في الدولة آثار وأخبار، وله في المدينة أيضا درب ينسب إليه. ثم مربعة أبي العباس الفضل بن سليمان الطوسي. وكان من النقباء السبعين. ثم يتصل بمربعة أبي العباس الشارع المتصل بباب الشام. ثم مربعة شبيب بن وأج [المروروذي] «1» . وعن يسارها اقطاع أبي العباس الطوسي وربضه وغلاته ومستقر اقطاعه. وعن يمينها السوق النافذة إلى درب الرؤاسيين والشارع النافذ إلى بستان القس. وهذا البستان قبل أن تبنى بغداد. ثم المعطف إلى باب الكوفة. وعن يمين هذا المعطف باب الكوفة والسوق المنسوبة إلى عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد الإمام. والمقابر الشارعة بين الطريقين لأهل المدينة. وهناك الربض المنسوب إلى زهير بن المسيب الضبي، وهو النافذ إلى طريق الأنبار. وقال محمد بن عطاء الشاني: اقطاع زهير بن المسيب في شارع باب الكوفة ما بين حدّ دار الكندي إلى حدّ سويقة عبد الوهاب بن إبراهيم إلى داخل المقابر. واقطاع القحاطبة من شارع باب الكوفة إلى باب الشام. وجهار سوق الهيثم منسوب إلى الهيثم بن معاوية، بعض قواد الخراسانية وممن أقطعه المنصور في الشارع المعروف بدور الصحابة، أبو بكر الهذلي، وله درب هناك ومسجد منسوب إليه.

وقال أحمد بن الهيثم بن فراس: كانت دار البطيخ قبل أن ينقل إلى الكرخ في درب يعرف بدرب الأساكفة، وإلى جانبه درب يعرف بدرب الخير. فنقلت من هذا المكان إلى موضعها بالكرخ [37 أ] في أيام المهدي. ودخلت هذه الدروب فيما بعد في الدور التي ابتاعها أحمد بن محمد الطائي وجعلها دورا له ولحاشيته واصطبلات. وكانت القطائع التي من جانب الصراة مما يلي باب المحول، منها قطيعة لعقبة بن جعفر بن محمد بن الأشعث. ثم سويقة أبي الورد وهو عمر بن المطرف الخراساني المروزي، وكان يلي المظالم للمهدي وينظر في القصص التي تلقى في البيت الذي سماه بيت العدل في مسجد الرصافة. ويتصل بسويقة أبي الورد مما يلي الدار المنسوبة إلى الجلودي، قطيعة إسحاق الأزرق الشروي مولى محمد بن علي. وهي عن يمين هذه القطيعة. وعن يسار سويقة أبي الورد، البركة المنسوبة إلى زلزل الضارب. وكان من كرام الناس في أيام المهدي والهادي والرشيد. وكان في موضع البركة قرية يقال لها شال قنيا إلى قصر الوضاح. وكان زلزل غلاما لعيسى بن جعفر بن المنصور، فحفر هذه البركة وجعلها وقفا على المسلمين. وقصر الوضاح بناه المنصور للمهدي قبل الرصافة. والمسجد الذي يعرف بالشرقية، والشرقية أيضا قرية قديمة كانت تسمى بهذا الاسم وكذلك العتيقة وهي كسروية. والوضاح الذي ينسب إليه القصر المعروف بقصر الوضاح، رجل من أهل الأنبار تولى النفقة عليه فنسب إليه. وقد قيل إن الوضاح رجل من موالي المنصور. قال: والمنصور الذي بنى القنطرة المعروفة بالجديدة على الصراة مما يلي دور الصحابة وباب الطاق الحراني. قال: والحراني هو إبراهيم بن ذكوان بن الفضل الحراني مولى المنصور. قال: وكان لذكوان أخ يقال له الفضل أعتقه

مروان بن محمد، وأعتق ذكوان علي بن عبد الله. قال: وكان باب الشعير في القديم مرفأ للسفن التي توافي من الموصل والبصرة. وكان موضع مسجد ابن رغبان مزبلة. وذكر بعض مشايخ الدهاقين قال: اجتاز بي رجل وأنا عند [37 ب] المزبلة التي صارت مسجد ابن رغبان، وذلك قبل أن تبنى بغداد فوقف عليها ونظر إليها وقال: ليأتين على الناس زمان من طرح في هذا الموضع شيئا فأحسن أحواله أن يحمل إياه في ثوبه. فضحكت تعجبا من قوله. فما مضت الأيام حتى رأيت الأمر على ما قال. قال: وكان موضع الخلد ديرا فيه راهب. وإنما اختار المنصور نزوله وبناء قصره فيه لقلة البق. وكان عذبا طيب الهواء. وكان موضع الحبس وما والاه إقطاعا «1» لعبد الله بن الخزاعي ثم صار بعد ذلك في أيام الرشيد لمحمد بن يحيى بن خالد. ثم صار جميع ذلك لأم جعفر في أيام الرشيد وأيام الأمين. والمسجد الكبير قبالة الحبس مما يلي السجن الجديد، مسجد عبد الله بن مالك. ثم ابتنت أم جعفر في أيام الأمين القصر المعروف بالفزار وهو القصر الذي أقطعه المتوكل لمحمد بن عبد الله بن طاهر. فأقطعه محمد جماعة من أصحابه وفي قطيعة أم جعفر الزبيدية المنسوبة إليها كان ينزلها مواليها وحاشيتها. ثم يلي الحبس درب سليمان بن أبي جعفر وهو منسوب إليه وفيه كانت داره. ثم أقطع المنصور قوما من أهل خراسان يعرفون بالبغيين، وهم ممن كان في الدولة. وأصلهم من قرية من قرى مروالرود تعرف ببغ، الموضع المعروف

بالبغيين. وهذا الموضع أول الدرب المعروف بسوار مما يلي دجلة إلى آخر ربض البرجلانية. ثم قطيعة زهير بن محمد وأصحابه إلى جانب القطيعة المعروفة بأبي النجم وهو أحد قواد المنصور، وأصله من خراسان، وكانت أم سلمة بنت أبي النجم هذا عند أبي مسلم صاحب الدولة. ويتصل بهذه القطيعة الزهيرية مما يلي باب التبن، وهو ربض يعرف بأصحاب زهير بن محمد قائد من أهل أبيورد، ومع حدّ سور بغداد إلى باب قطربل وهو الباب المعروف بالباب الصغير. [38 أ] وزهير صاحب هذه القطيعة أزدي من عرب خراسان. ويتصل بالزهيرية ربض أبي النجم. ووراء ذلك الخندق الذي عليه القنطرة النافذة إلى قطيعة أم جعفر. ويتصل بالقطيعة دار إسحاق بن إبراهيم، وكانت جزيرة فأقطعها المأمون إسحاق. فأولها يتصل بدار البطيخ وآخرها بمقابر باب التبن. ويتصل بباب التبن ربض ينسب إلى أبي حنيفة أحد قواد المنصور. ثم تتصل به مربعة الفضل بن سليمان المعروف بالطوسي وهو من أهل أبيورد. وكان مخرجه في الدولة من طوس فعرف بالطوسي وكان على شرط المنصور. ثم ربض عثمان بن سهيل وكان على حرس المنصور. ثم تخرج من مربعة أبي العباس إلى مربعة الفرس وربضهم. وهؤلاء قوم من الفرس أقطعهم المنصور هذه الناحية فنسبت إليهم. ويتصل بربض الفرس، ربض الخوارزمية وهم من جند المنصور. وفي شارعهم درب يعرف بدرب النجارية. ثم ربض عمرو بن اسفندياذ. ثم ربض رشيد. ورشيد مولى المنصور، وهو أبو داود بن رشيد المحدث مولى المنصور.

ويتلوه ربض يعرف بسعيد بن حميد وهو نافذ إلى [ان] يخرج إلى طاق مناس. ويتلوه ربض سعيد بن المسيب المعروف بطاق أبي علي. وفي طرف ربض زهير قطائع تعرف بالموالي. وهم موالي أم جعفر. ويتصل بها ربض سليمان بن مجالد مولى المنصور. وقد ولي للمنصور. والمهدي ولايات. ويتصل به ربض حمزة بن مالك بن هيثم الخزاعي. ثم ربض زرّاد بن سنان وكان أحد قواد المنصور. وسويقة الهيثم بن شعبة بن ظفير مولى المنصور. وقال بعض العلماء بأمور بغداد: المنائر التي في شارع الأنبار بناها كلها طاهر بن الحسين. وذلك أنه كان حصاره الأمين كلما بلغ إلى موضع من ذلك الشارع بني فيه مسجدا أو منارة. ثم يليه ربض حميد بن قحطبة الطائي. وكان أحد النقباء. ثم ربض نصر بن عبد الله وهو الشارع النافذ إلى دجيل [38 ب] من شارع باب الشام إلى درب السقائين. وعن يمينه قطائع قوم يعرفون بالسرخسية. وفي قطيعتهم طاقات الروندي «1» ، وهو أحد الشيعة من السرخسية واسمه محمد بن الحسن. وكان صهرا لعلي بن عيسى بن ماهان على أخته. وفي الشارع المنسوب إلى أبي حنيفة، دار عمارة بن حمزة، وكان أحد البلغاء. وهو من ولد أبي لبابة مولى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . ودار عمارة إقطاع من

المنصور. وكانت من قبل أن تبنى بغداد بستانا لبعض [ال] ملوك. ويتصل بها ربض أبي حنيفة. ثم ربض إبراهيم بن عثمان بن نهيك. وهو ما بين دار عمارة ومقابر قريش. ثم طاقات العكي في الشارع النافذ إلى مربعة شبيب بن وأج في ربض يعرف بربض الحرس. والعكي اسمه مقاتل بن حكيم وأصله من الشام ومخرجه من خراسان من مرو. وهو من السبعين. وله قطيعة في المدينة بين باب البصرة وباب الكوفة ودرب ينسب إليه إلى اليوم. ويقال إن أول طاقات بنيت في الربض ببغداد، طاقات العكي، ثم طاقات الغطريف. وهو الغطريف بن عطاء، وكان أخا الخيزران خال موسى الهادي والرشيد. ثم طاقات أبي سويد، واسمه الجارود مما يلي مقابر باب الشام وقطيعته وربضه هناك. ويتصل به ربض العلاء بن موسى الجوزجاني مما يلي الدرب المعروف بأبي حية وهو الشارع النافذ إلى درب السقائين. ثم ربض أبي نعيم موسى صبيح من أهل مرو، من قواد المنصور. وفيه الموضع [الذي] يقال [له] شيرويه. وشيرويه مجوسي من دهاقين بغداد القدماء. وربض أبي عون في شارع دار الرقيق، واسمه عبد الملك بن زيد، في الدرب النافذ إلى دار عبد الله بن طاهر. وكان أبو عون من موالي المنصور وكان يتولى له مصر ثم عزل عنها. وقصر عبدويه مما يلي براثا، منسوب إلى عبدويه الأزدي. وهو من وجوه رجال الدولة. وإنما كان المهدي صيّر إليه النفقة على هذا القصر فنسب إليه. وقصر هاني منسوب إلى [39 أ] هاني بن بشير، وكان يتولى للمهدي ديوان الخراج. والرهينية كانت قطائع لقوم أخذوا رهينة من بعض البلدان في أيام المنصور، فلم يزالوا بها إلى أيام الرشيد، ثم خرجوا مع طاهر بن الحسين إلى خراسان في أيام المأمون فلم يبق منهم أحد وخربت منازلهم إلى اليوم.

والرهينية متصلة بربض نوح بن فرقد، أحد قواد المنصور. وهو في طرف بغداد مما يلي مسجد طاهر الذي بناه هناك إياك فتنة الأمين. وصحراء قيراط منسوبة إلى قيراط مولى طاهر بن الحسين.- وكان عيسى وقيراط من أشراف الموالي- وله هناك مسجد يعرف به. ودويرة مبارك مما يلي شارع باب الأنبار. ومبارك من موالي المنصور. وهناك ربض يعرف بالخوارزمية. وفي طريق باب الأنبار، ربض سعيد بن حميد بن دعلج. وكان سعيد يتولى شرط المنصور سنة ست وخمسين ومائة. وتولى البصرة بعد ذلك. وفي طرف باب الأنبار، منارة الحكم. وهو الحكم بن ميمون مولى عامر بن دلجة أحد بني السيد بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة وعامر بن دلجة ويحيى أخوهما عرقبا جمل عائشة بالبصرة فهانت الحرب. والعباسية منسوبة إلى عباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. وكان بعض القواد يذكرها ويقول: عزمي أن استقطعها من أمير المؤمنين. ثم قدم العباس على المنصور فاستقطعها منه فأقطعه إياها وجعل مؤدى خراجها بمصر. فاتخذ بها العباس زنجا كانوا ينسبون إليه فيقال زنج العباس. وهو أول من زرع فيها الباقليّ. وكان باقلّاؤها نهاية، فقال: الباقلي العباسي. وكانت تدعى جزيرة العباس لأنها بين الصراتين. ومن أجل باقلائها وجودته صار الباقليّ الرطب في كل موضع يقال له العباسي. وقال رجل من ولد عمارة بن حمزة: كانت دار عمارة ورحبته ضيقة فأراد أن يستقطع العباسية منه. فسبقه العباس بن محمد فاستقطعها فأقطعه إياها. ويروى أيضا أن موسى [39 ب] بن كعب- وكان من أجل قواد المنصور- كان ضيق الدار والرحبة. فزاره العباس بن محمد. فلما نظر إلى ضيق منزله قال: ما لمنزلك في نهاية الضيق والناس في سعة؟ قال: ندمت وقد أقطع أمير المؤمنين الناس منازلهم. وعزمي أن أستقطعه هذه الرحبة التي بين يدي المدينة- يعني

العباسية-. فسكت العباس وانصرف من عنده إلى المنصور وقال يا أمير المؤمنين! تقطعني هذه الرحبة التي بين يدي مدينتك. قال: قد فعلت. فانصرف ومعه التوقيع بإقطاعها. وصار موسى بعد خروجه إلى المنصور، فأعلمه ضيق منزله، وأنه لا قطيعة له وسأله أن يقطعه إياها. فقال له: هل شاورت فيها أحدا قبل أن تسألني؟ قال: لا. إلّا أن العباس بن محمد كان عندي اتفاقا. فأعلمته أني أريد استقطاعها منك. فتبسم المنصور وقال قد سبقك واستقطعني إياها فأجبته إلى ذلك فأمسك عنها موسى بن كعب ولم يذكرها. وذكر بعض المشيخة قال: رأيت السجلّ بإقطاع العباس وفيه: إنك سألت أمير المؤمنين إقطاعك الساحة التي كانت مضربا للبن مدينة السلام، فأقطعكما أمير المؤمنين على ما سألت وضمنت. وقصر عيسى منسوب إلى عيسى بن علي بن عبد الله وهو أول قصر بناه الهاشميون ببغداذ في أيام المنصور. وروي أن المنصور زار عيسى بن علي ومعه أربعة آلاف رجل من الجند فتغدى عنده وجميع خاصته، ودفع إلى كل رجل من الجند زنبيل فيه خبز وربع جدي ودجاجة وبيض ولحم بارد وحلوى. فانصرفوا كلهم مسمطين ذلك. فلما أراد المنصور أن ينصرف قال لعيسى: يا أبا العباس لي حاجة. قال: ما هي يا أمير المؤمنين، فأمرك طاعة؟ قال: تهب لي هذا القصر. قال: ما بي ظنّ عنك به، ولكن أكره أن يقول الناس: إن أمير المؤمنين زار عمه فأخرجه من قصره وشرّده وشرّد عياله. وبعد، فإن فيه من حرم أمير المؤمنين ومواليه أربعة آلاف نفس. فإن لم يكن بدّ من أخذه فليأمر لي أمير المؤمنين بفضاء يسعني [40 أ] ويسعهم أضرب فيه مضارب وخيما أنقلهم إليها إلى أن أبني لهم ما يواريهم. فقال له المنصور: عمّر الله بك منزلك يا عم، وبارك فيه. ثم نهض منصرفا.

وقنطرة بني زريق منسوبة إلى قوم من دهاقين بغداد كان يقال لهم بنو زريق لهم نسب معروف. وقنطرة المعبدي منسوبة إلى عبد الله بن محمد المعبدي. وكان له هناك إقطاع. وهو الذي بنى هذه القنطرة على النهر مع رحى اتخذها هناك. وكانت في هذا الدكان فصارت بعد ذلك لمحمد بن عبد الملك الزيات وجعلها بستانا فانقبضت مع ما قبض من أملاكه. اشتراها قوم من الكرخيين وغيرهم. قال: والنوبختية إقطاع من المنصور لنوبخت لما حكم بأن أمر محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن حسن عليهم السلام، لا يتمّ. وهناك درب يعرف بدرب الناووس كان فيه ناووس قديم فنسب إليه. وقال أبو زكريا: دخلت على أبي العباس الفضل بن الربيع يوما فوجدت يعقوب بن المهدي عن يمينه، ومنصور بن المهدي عن يساره، ويعقوب بن أبي الربيع عن يمين يعقوب بن المهدي، وقاسم أخوه عن يسار منصور بن المهدي. فسلمت وأومأ بيده إلى الانصراف. وكان من عادته إذا أراد أن يتغدى معه أحد من جلسائه أو أهل بيته، أمر غلاما له يكنى أبا حلبة بردّه إلى مجلس في داره حتى يحضر غداه ويدعوا به. قال: فخرجت فردني أبو حلبة فدخلت فإذا موسى بن عيسى. فقال لي: أما أنت فقد علمنا أنك رددت إلى الغداء، ولكن الشأن في غيرك. فقلت: أنت الذي لا يقدم عليك أحدا. قال: وجلسنا حتى حضرا الغداء. فأحضرني وأحضر كتابه- وكانوا أربعة: موسى بن عيسى بن أهرون. وعبد الله بن أبي نعيم الكلبي، وداود بن بسطام، ومحمد بن المختار- فلما أكلنا جاءوا بأطباق الفاكهة فقدموا إلينا طبقا فيه رطب [40 ب] . فأخذ الفضل منه رطبة فناولها يعقوب بن المهدي وقال له: إن هذا من بستان أبي الذي وهبه له المنصور. فقال له يعقوب: رحم الله أباك، فإني ذكرته أمس وقد اجتزت على الصراة برحى البطريق. فإذا أحسن موضع، وإذا الدور من تحتها والسوق من فوقها وماء غزير حادّ الجرية. فمن البطريق الذي نسبت هذه

الرحى إليه، أمن موالينا أم من أهل دولتنا أم من العرب؟ قال، فقال الفضل: أنا أحدثك حديثه. لمّا أفضت الخلافة إلى أبيك رحمه الله، قدم عليه بطريق أنفذه ملك الروم مهنئا له. فأوصلناه إليه وقربناه منه. فقال المهدي للربيع: قل له يتكلم. فقال الربيع لترجمانه ذلك. فقال هو بريء من دينه وإلّا فهو حنيف مسلم إن كان قدم لدينار ولا درهم ولا لعرض من أعراض الدنيا. ولا كان قدومه إلّا سوقا إلى وجه الخليفة. وذلك أنّا نجد في كتبنا أن الثالث من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) يملأها عدلا كما ملئت جورا. فجئت اشتياقا إليه. فقال المهدي للربيع قل للترجمان يقول له: قد سرّني ما قلت ووقع مني حيث أحببت ولك الكرامة ما أقمت، والحباء إذا شخصت، وبلادنا هذه بلاد ريف وطيب فأقم بها ما طابت لك. ثم بعد ذلك فالإذن إليك. وأمر الربيع بإنزاله وإكرامه. فأقام أشهرا ثم خرج يوما يتنزه ببراثا وما يليها. فلما انصرف اجتاز على الصراة، فلما نظر إلى مكان الأرحاء، وقف ساعة يتأمله فقال له الموكلون: قد أبطأت، فإن كانت لك حاجة فأعلمنا إياها. فقال: شيء فكرت فيه. وانصرف. فلما كان العشي راح إلى الربيع فقال له أقرضني خمسمائة ألف درهم. قال: وما تصنع بها؟ قال: أبني بها لأمير المؤمنين مستغلا يؤدي في السنة خمسمائة ألف درهم. فقال له الربيع: وحق الماضي صلوات الله عليه، وحياة الباقي أطال الله [41 أ] بقاءه لو سألتني أن أهبها لغلامك ما خرجت إلّا معه. ولكن هذا الأمر لا بد من إعلام الخليفة إياه. قال: قد علمت أن ذاك كذلك. قال: ودخل الربيع إلى المهدي فأعلمه فقال ادفع إليه خمسمائة ألف وخمسمائة ألف، بل أدفع إليه جميع ما يريد بغير مؤامرة. قال: فدفع ذلك الربيع إليه. فبنى الأرحاء المعروفة بأرحاء البطريق. فأمر المهدي أن تدفع عليها إليه. فكانت تحمل إليه إلى سنة ثلاث وستين ومائة، فإنه مات. فأمر المهدي أن تضمّ إلى مستغلّه. قال: وكان اسم البطريق طافات بن الليث بن العيزار بن طريق بن قوق بن مورق. ومورق كان الملك في أيام معاوية. وقال الخليل بن مالك: كان المنصور قد أمر بعد ثلاثة جسور: جسر يعبر الناس عليه، وجسر يرجعون فيه، وجسر في الوسط للنساء، وعقد بعد ذلك بباب

البستان جسرين: جسرا له ولولده، وجسرا لخدمه وحشمه. وعقد الرشيد بعد ذلك عند باب الشماسية جسرين. وكان لأم جعفر جسر عند مشرعة فرج الرخجي بالقرب من سويقة قطوطا. فلم تزل هذه الجسور قائمة إلى أن قتل محمد بن زبيدة، ثم عطلت إلّا الثلاثة المنصورية القديمة التي عند مجلس الشرطة فإنها باقية إلى وقتنا هذا. قال: وطاق أسماء بالجانب الشرقي منسوب إلى أسماء بنت المنصور. وهذا الطاق كان طاقا عظيما، وكان في دارها التي صارت لعلي بن الجهشيار بمشرعة الصخر أقطعه إياها الموفق ثم أقطعها أزكوتكين بن أساتكين. وعند طاق أسماء كان مجلس الشعراء. وهناك كانوا يجتمعون في أيام الرشيد. والموضع المعروف بين القصرين هو قصر أسماء بنت المنصور. وقصر عبيد الله بن المهدي والخضرية مما يلي باب الطاق منسوبة إلى خضر مولى صالح صاحب المصلى، وفيها تباع الجرار وتعمل المزملات. وسوق يحيى منسوبة [41 ب] إلى يحيى بن خالد البرمكي. وكانت إقطاعا له من الرشيد، ثم صارت بعد البرامكة لأم جعفر ثم أقطعها المأمون طاهر بن الحسين بعد الفتنة. فهي في أيدي ورثته إلّا ما بيع منها. وسويقة أبي عبيد الله منسوبة إلى عبيد الله وزير المهدي واسمه معاوية بن عمرو. وشارع الميدان خارج الرصافة وهو شارع مارّ من باب الشماسية إلى سوق الثلاثاء. وفيه قصر أم حبيب بنت الرشيد. وكان هذا القصر ودوره إقطاعا من المهدي لعباد بن أبي الخصيب ثم صار جميع ذلك للفضل بن الربيع، ثم صار لأم حبيب بنت الرشيد في أيام المأمون، ثم صار بعد ذلك لبنات الخلفاء إلى أن صرن يجعلن في قصر المهدي بالرصافة. وسوق العطش بناها شعبة الجرمي للمهدي وحوّل إليها التجار ليخرّب الكرخ. وقال المهدي عند تمام بنائها: سمّها سوق الريّ. فغلب عليها سوق

العطش. وأولها يتصل بسويقة الحرسي «1» وداره والإقطاعات التي أقطعه إياها المهدي هناك. وسويقة العباسة منسوبة إلى العباسة بنت الرشيد. ويقال إن الرشيد فيها أعرس بزبيدة ابنة جعفر سنة خمس وستين ومائة. قبل أن تنتقل العباسة إليها ثم دخلت بعد ذلك في أبنية بناها المعتصم. ودار فرج فوق سوق يحيى. وكان فرج مملوكا لحمدونة بنت عضيض أم ولد الرشيد، ثم صار ولاؤه للرشيد. وداره إقطاع من الرشيد. ولم يكن على شاطئ دجلة بناء أحكم من بنائها. ثم هدمت فيما هدم من منازل عمر بن فرج لما قبضت. وكانت دار أحمد بن أبي خالد الأحول لأبي عبيد الله معاوية بن عمرو. وهناك السويقة المنسوبة إليه. وكان أبو خالد الأحول أحد كتاب أبي عبيد الله فاشتراها أحمد بن أبي خالد من ورثة أبي عبيد الله. ودرب المفضل هو المفضل بن زمام من موالي المهدي. وسويقة نصر منسوبة إلى نصر بن مالك الخزاعي، إقطاع من المهدي. ودار الربيع مما يلي المخرم، كانت لمكين الخادم فاشتراها الربيع منه. واتصل خبرها بالمنصور فقال للربيع: أنت تريد تعملها بستانا وتذهب مني بخراجه. فقال: لا والله يا أمير المؤمنين. ولكن كلما ولد لي ابن فتحت له فيها بابا. وهي شارعة في شارع الميدان في أيدي ورثة الربيع إلى اليوم. وسويقة خالد بباب الشماسية منسوبة إلى خالد بن برمك إقطاع من المهدي ثم بنى فيها الفضل قصره المعروف بقصر الطين. وبنى أيضا فيها جعفر بن يحيى قصرا آخر.

ورحبة يعقوب منسوبة إلى يعقوب بن داود مولى بني سليم، أقطعه إياها المهدي حين استوزره. وذكر بعض المشايخ أنه رأى فيها أزاجا عتيقا تشبه الساباط كانت قبل بناء بغداد لقوم من دهاقينها. والمخرم منسوب إلى مخرم بن يزيد بن مخرم بن شريح بن مخرم بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة. كان ينزله أيام نزول العرب السواد في الإسلام فنسب إليه. وقال أبو المنذر: سمعت قوما من بني الحارث بن كعب يقولون: المخرم إقطاع من عمر بن الخطاب في الإسلام للمخرم بن شريح. وخان بني زياد منسوب إلى رجل من سواد الكوفة من النبط كان يكنى أبا زياد عمر عمرا طويلا، لأنه كان ممن وسمه الحجاج. وذلك أن الحجاج وسم النبط على أيديهم ليعرفوا من سائر الناس. وكان أبو زياد من سواد الكوفة وعاش إلى أيام المنصور. وقال رجل من طيء أنا رأيته بالكوفة في بني عكل في حانوت له يربط البقل «1» ، عليه إزار ورد والوشم على ذراعه. قال: وكان انتقاله من الكوفة مع المنصور لما انتقل إلى بغداد. فنزل في المخرم في شارع النفاطين. فقام الخان وترك بيع البقل وكان تكنى قبل مصيره إلى بغداد أبا زينب ثم تكنى بأبي زياد. ونشأ له ابن فتأدب وفصح فصار إلى همذان فأصاب مالا وتزوج هناك امرأة من العرب، وذلك أنه ادعى أنه عربي. ثم طعن في نسبه عند الرجل الذي [42 ب] تزوج إليه. فقدم الرجل بغداد فسأل عنه فأخبر بقصته ودل على أبيه فصار إليه ووقف عليه. فقال: ما ربيع منك؟ قال بنتي. فشهر عليه السيف وحال الناس بينه وبينه وقيل له: لم نفسك لأنك زوّجت من لا تعرف. وكانت الثلاثاء «2» قبل بناء بغداد تقوم في يوم معروف من الشهر وهو يوم الثلاثاء. وكان أكثر من يحضرها أهل كلواذى وأهل بغداد فنسبت إلى اليوم الذي كانت تقوم فيه.

وسويقة حجاج منسوبة إلى الحجاج الوصيف مولى المهدي. ودار عمارة في طرف شارع المخرم منسوبة إلى عمارة بن أبي الخصيب مولى روح بن حاتم، وقيل إنه كان مولى للمنصور. وكان أبو الخصيب أحد من تولى حجبة المنصور. وقنطرة على نهر المهدي منسوبة إلى بعض بنات المهدي. وخان وردان «1» . ذكر أحمد بن إسحاق برصوما قال: حدثني علي بن الحكم العقيلي قال: كان ابن سنان من قواد المنصور وكان عظيم اللحية جدا. قال فكتب عبد الله بن عياش المنتوف إلى المنصور يسأله حوائج وكان أحد ما طلب من الحاجات أن يهب له لحية وردان ليتدفأ بها في الشتاء. فوقّع له بقضاء جميع ما سأل، ووقع تحت سؤاله لحية وردان: لا، ولا كرامة. لا أهب لك لحية رجل من قوادي وجلة أصحابي. والصالحية إقطاع من المنصور لابنه صالح المعروف بالمسكين. وقباب الحسين التي خارج بغداد على طريق خراسان منسوبة إلى الحسين بن قرة الفزاري. وكان قرة ممن خرج مع ابن الأشعث فقتله الحجاج. عيسى آباذ، منسوبة إلى عيسى بن المهدي. وكان عيسى في حجر مبارك التركي، وكانت أمه الخيزران. وهو أخو الهادي والرشيد لأبيهما وأمهما، وكانت إقطاعا له. حوض هيلانة. زعم قوم أن هيلانة قيّمة كانت للمنصور حفرت هذا الحوض وجعلته للسبيل فنسب إليها. وباب المحول في الجانب الغربي إقطاع لهيلانة أقطعها إياه المنصور. وقد قيل إن [43 أ] هيلانة كانت جارية للرشيد وإليها ينسب هذا الحوض. وفيها يقول الرشيد:

أفّ للدنيا وللزينة فيها والأثاث ... إذ حثا الترب على هيلانة في الحفر حاث وحوض داود منسوب إلى داود مولى للمهدي وله إقطاع مما يلي سوق العطش. وقد قيل إن داود مولى نصير، ونصير مولى للمهدي. وذكر بعض المشايخ أنه يذكر ما بين سوق يحيى عن يمنة السوق إلى باب الشماسية منابت طرفاء قبل أن يقطع الناس فيها. وأول من أقطع فيها علي بن المهدي وهو ابن رائطة بنت أبي العباس السفاح. ثم أقطع بعده المنصور بن المهدي. وذكر أحمد بن الحارث الخراز أن بغداد صورت لملك الروم بأرباضها وأسواقها وشوارعها وبساتينها وأنهارها من جميع جانبيها الشرقي والغربي. قال: فكان كثيرا مما يحضر الصورة ويتأملها ويستحسن شارع باب الميدان ويتعجب من حسنه وحسن القصور التي فيه، ويزداد استحسانه لشارع الزرادين وسويقة نصر بن مالك إلى الثلاثة الأبواب والقصور التي في هذا الشارع. وكذلك أيضا كان يستحسن الأسواق من الخضرية إلى قنطرة بردان. وكان يقول: قد كان يجب على ملك العرب أن يجعل داره في هذا الشارع- ويجعل إصبعه على شارع الزاردين. وكان إذا شرب دعا بالصورة فيشرب على هذه الشوارع التي ذكرناها لحسن أبنيتها وقصورها. وفصيل أبي العلاء، منسوب إلى سليم أبي العلاء مولى المهدي. وقال يحيى بن دارية السوّاق: كان ببغداد في شارع الثلاثة الأبواب ثلاثمائة ملقى للسويق. وكان في قنطرة بردان وقنطرة ميمونة ورحى عبد الملك وسوق يحيى والمخرم وفي أطراف بغداد سوى الكرخ أكثر من ثلاثمائة مقلى آخر. وكان سبب كثرة السويق ببغداد أن بغداذ كانت في أيام الرشيد وما قبله إلى أيام المأمون [43 ب] عسكرا لكثرة الناس بها ومصيرهم إليها من كل بلد، وكانت الأرباض محشوة بالناس. وكان اللحم يعزّ، لأن الأغنام كانت تدخل في أيام الربيع يجلبها الأعراب من هذا الوقت من البرية. ويجلبها التجار في زمان الخريف من ناحية

الجبل. ويتعذر دخولها في الشتاء إلّا الشيء اليسير، يجلب من ناحية الكوفة. فكان ربما بيع اللحم ببغداذ على ستة أواق. فكثر استعمال الناس للسويق لهذه الحال لأنهم كانوا يأكلونه مع التمر ومع السكر ومع الدبس وغير ذلك. فلذا صار كثيرا. وقال أحمد بن أبي طاهر «1» : أخذ الطول من الجانب الشرقي من بغداد للناصر لدين الله عند دخوله مدينة السلام، فوجد مائتا حبل وخمسون حبلا. وعرضه مائة حبل وخمسة أحبل. يكون ستة وعشرين ألف جريب ومائتين وخمسين جريبا. ووجد طول الجانب الغربي مائتين وخمسين «2» حبلا. وعرضه سبعين حبلا. يكون ذلك سبعة عشر ألف جريب وخمسمائة جريب. فجميع ذلك ثلاثة وأربعون ألف جريب وسبعمائة وخمسون. وقيل لرجل: كيف وجدت بغداد؟ قال: الأرض كلها بادية وبغداد حاضرتها. وأنشد بعضهم في بغداد. بغداد يا دار الملوك ومجتنى ... صنوف المنى يا مستقر المنابر ويا جنّة الدنيا ويا مطلب الغنى ... ومنبسط الآمال عند المتاجر ووصف بعض الأدباء بغداد فقال: هي سهلية جبلية برية بحرية، صيدها غزير وخيرها كثير، طيب هواؤها، يسر فناؤها، دائم رخاؤها. فضلها على سائر البلدان كفضل ماء الأنهار على ماء البحار. فهي كما قال عمارة: ماذا ببغداد من خير أفانين ... ومن منازل للدنيا وللدّين تمسي الرياح بها حسرى إذا درجت ... وحرّشت بين أغصان الرياحين وهي محل الخلفاء ومسكن الوزراء ومأوى بني هاشم والأبناء ومقرهم ومفزعهم في الشدائد [44 أ] والرخاء، الواسعة الدور، الكثيرة القصور، الغزيرة

الأنهار، المريئة العيون، صحيحة البناء، رحبة الفناء، نزهة الهواء، رفيقة بالغرباء، مؤاتية لكل من أتاها، مغيثة لمن استغاث بها، قديمة الصحبة، طيبة التربة، مسكن من تفتّى ومعقل من تنسّك. بناها المنصور وسكنها المهدي والهادي والأمين والمأمون. جنة من جنان الدنيا. دجلة في وسطها، والصراة عن يمينها ونهر الملك أمامها ونهر عيسى مخترق لها ونهر كرخايا يتخلل طرقاتها ونهر الخندق دائر بها. لها الرومية وكلواذى والقفص وعميّ وقطربل والمزرفة وبزوغى والأجمة والغرك والشماسية. إذا غضب على جبار عات حمل إليها. وإذا رضي عنه شهر بها. مواكبها قائمة ومنائرها عالية. ونغم مغنياتها ناعمة. الظرف فيها يقتبس والشكل منها يستوصف. مكان الرئاسة ومقبس السياسة. فهي جنة مونقة وحديقة مشرقة. وعروس في مجاسدها وكللها وحجابها. شهية المنظر جميلة المخبر. صبيحة مليحة ظاهرة الوسامة، دمثة التراب، مريعة الجناب، غدقة المشارع، وطيّة المضاجع. تروق عيون الناظرين، وتسرّ قلوب المتأملين. ويعيش في أفنيتها الفقراء والمساكين. مطابقها وثيقة، وسجونها حريزة. مع كثرة أسواقها واتساع أرباضها، وفساحة رحابها وامتداد طرقها وسككها. معشوقة محببة إلى الخلفاء وولاة العهود والوزراء. دار ملكهم ومعدن صيدهم، ومنتهى غاية لذاتهم، موفّرة لغلّاتهم مباركة عليهم. شامخة البناء، عريضة الفناء، فياحة السطوح، نزهة البساتين، كثيرة الأشجار والرياحين. مفزع كل ملهوف، ومعدن كل تاجر معروف. وحسبك ببلدة قد جمع الله فيها ما فرّقه في غيرها من البلدان من أنواع التجارات وأصناف الصناعات. فهي سلة الدنيا وخزانة الأرض، معدن العلم وينبوع الحكمة. ليس لها مشتاة كمشتاة الجبال، ولا مصيف كمصيف عمان، ولا صواعق كصواعق [44 ب] تهامة. ولا دماميل كدماميل الجزيرة. ولا جرب كجرب الزنج، ولا طواعين كطواعين الشام. ولا يلحق أهلها ما يلحق أهل البحرين من وجع الطحال. ولا فيها حمّى كحمى خيبر. ولا

رداع «1» الجحفة. وليس بها ثعابين كثعابين مصر. ولا أفاعي سجستان. ولا عقارب نصيبين. ولا جرّارات الأهواز، ولا قتّالات شهرزور. وأهلها ظرفاء فضلاء فيهم الجمال ولباسهم الكمال، فهم كما قال الشاعر: ما مثل بغداد في الدنيا ولا الدين ... على تقلّبها في كلّ ما حين ما بين قطربل فالكرخ نرجسة ... تندى ومنبت خيريّ ونسرين تحيا النفوس بريّاها إذا نفحت ... وحرّشت بين أوراق الرياحين سقيا لتلك القصور الشاهقات وما ... تخفي من البقر الإنسية العين تستنّ دجلة فيما بينها فترى ... دهم السفين تغالى كالبراذين مناظر ذات أبواب مفتّحة ... أنيقة بزخاريف وتزيين فيها القصور التي تهوي بأجنحة ... بالزائرين إلى القوم المزورين من كلّ حرّاقة يعلو فقارتها ... قصر من الساج عال ذي أساطين. وقدم عبد الله بن صالح بن علي بغداد فرأى كثرة الناس بها فقال: ما مررت بطريق من طرق هذه المدينة إلّا ظننت أن الناس قد نودي فيهم «2» . وقال المنصور لبعضهم: أخبرني عن بغداد. قال: جنة بين حماة وكنّة تحسدانها، ودجلة والزاب يتباريان عليها. وكتب الحسن بن أبي الرعد إلى أبي عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب وهو مقيم بضياعه في سنجار، يشوقه إلى بغداد: يا من أقام على قرى سنجار ... واختارها دارا بأكرم دار خلّفت بغداد التي لنسيمها ... أرج من النوّار والأشجار هي جنّة الدنيا فكيف تركتها ... وقررت أرضا غير ذات قرار

أو ليس فيها ألف ألف خريدة ... في وجهها متنزّه الأبصار وانظر لقلبك لا بعينك هل ترى ... كرجالها في سائر الأمصار [45 أ] من ذا تصادفه هناك وعنده ... طرف من الأشعار والأخبار معقودة بخلائق أدبية ... في رقة الماء الزلال الجاري وحدثني بعض الأدباء قال: حججت فرأيت على بعض الأميال [بطريق مكة] «1» مكتوبا: أيا بغداد يا أسفى عليك ... متى يقضى الرجوع لنا إليك قنعنا سالمين بكلّ خير ... وينعم عيشنا في جانبيك وقال: ورأيت في غرفة بقرميسين هذين البيتين وقد كتبا في الحائط: ليت شعري عن الذين تركنا ... خلفنا في العراق هل يذكرونا أم لعلّ المدى تطاول حتى ... قدم العهد دوننا فنسونا ولما حج الرشيد وبلغ زرود التفت ناحية العراق وقال: أقول وقد جزنا زرود عشية ... وكادت مطايانا تجوز بنا نجدا على أهل بغداد السلام فإنني ... أزيد بسيري عن ديارهم بعدا وقال بعضهم: لو أن الدنيا خربت وفرق أهل [بغداد] «2» فيها لعمروها. ولما قلّد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بلد اليمن وعمل على الخروج قال: أير حل آلف ويظلّ إلف ... وتحيا لوعة ويموت قصف على بغداد دار اللهو منّي ... سلام ما سجا للعين طرف وما فارقتها لقلى ولكن ... تناولني من الحدثان صرف

ألا روح ألا فرج قريب ... ألا جار من الحدثان كهف لعلّ زماننا سيعود يوما ... فيرجع آلف ويسرّ إلف فبلغ هذا الشعر الوزير فأعفاه من التقليد. وقال بعض الأدباء: ببغداد يصفو العيش للمتعبّد ... وللقارف اللاهي وللمتورّد وهي أبيات ما فيها طائل. وقال الجاحظ: قد رأيت المدن [العظام] «1» المذكورة بالإتقان والإحكام، ببلاد الروم والشامات وغيرها [45 ب] . فلم أر مدينة قط أرفع سمكا، ولا أجود استدارة، ولا أحكم سورا وفصيلا من مدينة المنصور. كأنما صبت صبا في قالب، وأفرغت إفراغا في دريزك «2» وأنشد. يا حبّذا بغداد من بلد ... يا ليتني أوطنت بغدادا لم تر عيني مثلها بلدة ... طيبة صدرا وإيرادا إن ردّني الله إلى أهلها ... لم أتزوّد للنوى زادا وقال الكلبي: سمي المخرم مخرما، لأن مخرم بن حزن الحارثي نزله. وكانت قنطرة البردان لرجل يقال له السري بن الحطم صاحب الحطمية التي بقرب بغداد. والحربية منسوبة إلى حرب بن عبد الله البلخي وكان على شرطة جعفر بن المنصور وهو يتقلد الموصل. والزهيرية بقرب باب التبن، نسبت إلى زهير بن محمد بن أهل أبيورد.

وعيسى آباد نسبت إلى عيسى بن المهدي وهو ابن الخيزران وكان في حجر مبارك التركي. وقصر عبدويه منسوب إلى رجل من الأزد يقال له عبدويه، وكان من وجوه رجال الدولة. وأقطع المنصور عمارة بن حمزة الناحية المعروفة. وأقطع ميمون أبا بشر بن ميمون قطيعة عند بستان القس. وطاقات بشر نسبت إلى بشر بن ميمون وهو مولى لعبد الله بن علي. وأقطع أم عبيدة حاضنة المهدي، وهي مولاة لمحمد بن علي قطيعة منسوبة إليها. وإليها تنسب الطاقات المعروفة بطاقات أم عبيدة بقرب الجسر. وأقطع منيرة وهي مولاة لمحمد بن علي الموضع المنسوب إليها من الجانب الشرقي. وأقطع ريسانة قطيعة تقرب من مسجد ابن رغبان بالقرب من باب الشعير. ودرب مهرويه في الجانب الشرقي، نسب إلى مهرويه الرازي الذي كان مملوكا فأعتقه المهدي. ونزل المنصور مدينة السلام منذ يوم بناها إلى آخر خلافته ثم حج منها وتوفي بمكة. ونزلها بعده [46 أ] المهدي، ثم شخص منها إلى ماسبندان فتوفي هناك. وكان أكثر نزوله إذا كان بمدينة السلام، عيسى آباد حتى بنى فيها أبنية كثيرة. وبها توفي الهادي. نزلها الرشيد وكان قليل المقام بها، وشخص عنها إلى الرقة فأقام بها مدة ثم سار إلى خراسان فتوفي بطوس. ونزلها محمد الأمين فقتل بها.

ثم قدمها المأمون من خراسان وأقام بها ثم شخص عنها غازيا فمات بالبدندون ودفن بطرسوس. ثم نزلها المعتصم مدة من خلافته، ثم شخص عنها إلى القاطول فنزل قصرا كان الرشيد بناه. وحفر بها قاطوله الذي سماه أبا الجند لكثرة ما كان يسقي من الأرضين. وكان قد جعله لأرزاق جنده. ثم بنى بالقاطول بناء ودفع ذلك إلى أشناس التركي مولاه. ثم انتقل إلى سرمرى ونقل إليها الناس وبنى مسجدا جامعا في طرف الأسواق وسماها سرمرى. وأنزل أشناس فيمن ضم إليه من الأتراك والقواد كرخ سرمرى وهو كرخ نيروز. ونزل بعضهم بالدور المعروفة بدور العرباني. وتوفي بسرمرى في سنة سبع وعشرين ومائتين. وأقام الواثق بسرمرى وبها توفي. واستخلف المتوكل فأقام بالهاروني وبنى به أبنية كثيرة وأقطع الناس في ظهر سرمرى في الحير الذي كان المعتصم احتجزه فاتسع الناس بذلك. وبنى مسجدا جامعا فأعظم النفقة عليه وأمر برفع منارته لتعلو أصوات المؤذنين فيها. وحتى ينظر إليها من فراسخ. فجمع الناس فيه وتركوا المسجد الأول. وأمر بحمل المحدثين من النواحي فحملوا وحدثوا الناس، فحسنت له بذلك الأحدوثة. ثم بنى مدينة سماها المتوكلية وعمرها وأقطع الناس بها قطائع وسماها الجعفري في أول سنة ست وأربعين ومائتين. فانتقل إليها الناس عنها إلى سرمرى. وقال بعض الظرفاء: مجالسة التّمارين تورث المخاتلة. ومجالسة البزازين [46 ب] تورث البخل. ومجالسة العطارين تورث التجميش. ومجالسة الحناطين تورث النفاق. ومجالسة أصحاب السقط تورث الورع. ومجالسة النخاسين تورث الإفلاس. ومجالسة أهل فارس تورث الزندقة. ومجالسة أهل الأهواز تورث الغدر. ومجالسة أهل البصرة تورث صغر الهمة. ومجالسة أهل واسط تورث البذالة. ومجالسة أهل الكوفة تورث المروءة والتجمل. ومجالسة أهل بغداد تورث الفتك والظرف واللباقة والنظافة.

وقال عثمان بن أبي شيبة: سمعت أبا الحر السكوني يقول: سمعت ابن عياش يقول وقد ذكرت عنده بغداد فقال: هي دنيا وآخرة. وقال يزدجرد بن مهبنداد الكسروي: قد تكلم الناس في بلاد همذان وإصبهان والري وسائر الكور الشريفة من بلاد الجبل وخراسان وفخموا شأن مصر خاصة وقالوا بها مقدمين لها على بغداد العراق وسائر الآفاق في كثير من الأقاويل. ونحن مبطلون ذلك على معتقدي مصر خاصة، ومتوصلون إلى التفرقة بين بلدين لا يقومان في عيار، ولا يتوافيان على مقدار. فإذا فعلنا ذلك كان حكم ما لم نذكره من سائر البلدان كالري وإصبهان وسائر كور أرمينية وآذربيجان، حكم مصر المشهورة بخواصها المذكورة بأنواعها، ويستبدل الاختصار بالتطويل، وأمهات الكلام دون القال والقيل، ونعلم أن الله خلق خلقا مقسوما ما بين قنوات مختلفات حارات وباردات، رطبات ويابسات. ثم جعل تعديل الحياة هو أن لا تشاح على الصيف دون الشتاء، وعلى برد الماء دون لطف الهواء. فلو كان الزمان بردا جميعا أو حرا أبدا أو خريفا دائما أو ربيعا سرمدا، لملت الطبيعة زمانها، وثقل عليها منه فنسمها (؟) ومكانها. ولولا شدة الجوع وكرب العطش لزالت لذة الماء والتلذذ بالغذاء. وكذلك القول في الرقاد والسهر، والحركة والسكون، والحمّام والجماع، والحر والبرد، والرطوبة واليبس، ولو كلف أحدنا أكل الخبيص دائما واللبن دائما والعسل دائما، لكلفنا [47 أ] أمرا مربوطا بمكروه الطبيعة، مقرونا بأنكره وأرداه وأضناه. ولو كان الغذاء واحدا والزمان واحدا والدواء واحدا، لكان الغذاء هو الدواء والربيع هو الشتاء. فقد دللنا بذلك على أن أشرف البلدان مكانا، وأفضل البقاع زمانا، ما كان منتقلا بين أقسام الحر والبرد والرطوبة واليبس. ولا خير في زمان يكون ليلا سرمدا، ونهارا أبدا. وسندل على أن المتطاولين بالحد الواجب المتناسب من الزمان بمصر، هم الملتجئون من منائر أرضهم هذه إلى السماء. والمحوجون إلى النوم تحت السقف الواحد أبدا. والماء والهواء هما مع ذلك ركنا حياتنا وخلة لتمام خلقنا. فأيما بقعة الباث فيها الاعتدال، والاعتدال هو الانتقال، والانتقال هو الزوال من حال إلى

حال، حتى تكون دهرا قطرا، وليلها ونهارها واحدا بدائم. نجد مع ذلك الذي ينبغي منه دوام بقائه واتصاله وصفائه، هو ماء نيلهم الأعظم وعزهم الأكبر. فهو الذي لا دوام لمائه ولا اتصال لطيبه وصفائه. فإن مثل الناس بين الهواء بمصر وبين أزمان بغداد المعدلات، وبين نيلها وما فيه من الحوادث الهائلات والعجائب الطارقات، وكثيرا مما لا يطيب استماعه- فضلا عن مشاهدته- ولولا ما قد جرت لأهله العادات، وبين ماء دجلتنا والفرات وغياث السحائب الربيعيات، وأيام الشتاء المدجنات، وما في السماء من البركات، ميّلوا باطلا وأضاعوا محصولا. وقد زعم كثير من أهل النظر أنه لولا طلسم بمصر لأغرقها النيل والبحر. وأن بلدا لا تقوم أركانه، وثبات أهله وجيرانه إلّا بحيلة من المربوبين، لا يؤمن فسادها، وبعاصمة من المخلوقين تشوبها الظنون، وتزول بدونها عقد اليقين، لعلى خطر عظيم وغرر جليل. هذا وليس بين أن ترى ساكنيه عطشى يتشطحون وبين أن يكونوا في السفائن [47 ب] والزواريق يتزاورون، وفي مراكب الطوفان يذهبون ويجيئون فرقا في مواقيت معلومة من الزمان وأحوال معتادة من الأيام. ومما يزيد بعده بمقادير عقول المصريين، ويجوز لك الدليل على موازين المعدلين بين مصر ومدينة السلام، أن يعلم أن قوما قد زعموا أن الأحكام لم تكن لتملّك على قوم ملكا، وذلك الملك أنقصهم عقلا ولا أوضعهم رأيا ولا أسيرهم نهما ولا أصغرهم علما، مع تقدم الشهادات لعقول الملوك خاصة. وبالخواص التي تكون مقرونة بهم ومنسوبة إلى قرائحهم، عدل الملك في زمانه أو جاره. وإذا كان هذا هكذا، ثم وجدنا فرعون قد ملك مصر دون غيرها وغلب عليها دونما سواها (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ) ، فما ظنك بعقول قوم هذا عقل من ملّكوه عليهم. ومغرس هذه آثار ثماره، ونتائج أشجاره. ونحن قد فوضنا مصر إلى خمارويه وزدناه من الأقطار إلى حدود الأنبار. وإذا ذهبنا نقابل المصرين بما ببغداد من الفضائل: وزيرا بوزير وأميرا بأمير

وحكيما بحكيم وخطيبا بخطيب وبليغا ببليغ وأديبا بأديب وطبيبا بطبيب وحاسبا بحاسب وكاتبا بكاتب ومحاربا بمحارب ومضاربا بمضارب ومقاتلا بمقاتل ومفاضلا بمفاضل وقاضيا بقاض وفقيها بفقيه حتى يؤول الأمر بنا إلى ذكر أرباب الصناعات الشريفة والمهن اللطيفة، كنا قد تعرضنا إلى ما لا سبيل إلى استيفائه ولا دليل على إحصائه. وإلّا فمن أين للمصريين كذي الرأي والغنى والبأس والبلاء والحكم والدعاء والحيلة والدهاء والجود والسخاء والعهد والوفاء والشدة والرخاء، عدو عدائه، وأين إليها ليل من آبائه، عبيد الله بن عبد الله بن الطاهر، وكابن الطيب الحكمي وثابت بن قرة الحراني والعباسي المنطقي والمنيقط الناشي والأقليدس الذكي [48 أ] والبرذعي العدلي وأبي صالح السني، إلّا أن يظنوا أن لهم أيضا كالمبرّد المشهور أو ثعلب المذكور. ومن لم يزل ولا يزال بها من الفاضلين على الدهور وعلى السنين والشهور. وليس لهم أن يفاخرونا بهرمس في زمانه أو بمثله في زماننا. ولا بأغاتيمون في أواننا هذا، وهم يعلمون أو لا يعلمون أن بابل العراق كانت مركز العلم والعلماء ومكان الحكمة والحكماء. ولكن الملك المظفر لما غلب على ملوك العمران، نقل الحكمة والحكماء إلى بلاد المينا أو نحوها مما قد سلف. فأما مفاخرة القوم بالديار والمقاصير وسائر الأغذية والتدابير، أو مما ببغداد من سائر الفواكه والثمار وغرائب النخل والأشجار، فظنّ ما شئت أن تعدّه تجده موجودا غير مفقود وقريبا غير بعيد. زعم لي مهرويه باغبان «1» السلطان أنه يعرف بمدينة السلام نيفا وسبعين نوعا من التفاح، ثم عدّها، فتبسم أخوه شهريار ثم قال: كذا وكذا زيادة على ما قال أخوه بنحو أربعمائة نوع وتسعة أنواع. وما ظنك ببلد مع جميع ما فيه من غرائب الأشجار وأجناس النخيل والبقول والمزارع والثمار ينبت الأترج والنارنج كما ينبت الزعفران والأقحوان، كما ينبت الفستق واللوز والزعرور والموز والشاهبلوط والجوز والغبيراء والجلّوز والسدر

والحبة الخضراء واللفاح والبندق والبلوط والمقل والسبستان والهليون والريباس والفوّة والمحروث والاشترغاز والراس والانجذان والعنصل والاشقيل والداذي والبلمخية (؟) والزوبن (؟) وما لا يحصى ولا يلحق من جميع الأشياء. ولقد حدثني يونس الصيدلاني قال: ما أحصي ما يحمل من العقاقير النابتة على سواقي الأنهار ببادرويا كالشبرم والسورنجان والبنج والخربق والتربذ والمازريون والثيل والإذخر [48 ب] والأفسنتين والجعدة والفنجمشك والغافت والمرقد والحنظل، وأضعاف ما ذكرت من العقاقير التي تدخل في الأدوية. فإن شئت أن نذاكره بالسكر والجيسوان والازاد والخركان والعروسي والحمران والهيثا والهليان والبردي والمشان والطبرزد والباذنجان والقرثيا والمادبان والقرشي والبدالي والمعقلي والصيحاني والبهشكر، وصلنا من ذلك إلى خير كثير وأمر مشهور. فأما أنواع الاخبزة والاخبصة وأصناف الأشربة والانبذة وسائر الانبجات والافشرجات وأنواع الأرباب والمربيات فغير معلوم لأهل المغرب ولا معدوم في أفنية بابل وما عملت. ولا أعلم في الماضين من ملوك الزمان جميعا ملوكا دانوا بالضن بأزمانهم وانتحلوا القرى إلى الله بالاغراق في التماس اللذات الزمنيات في مطاعمهم ومشاربهم وملابسهم ومناكحهم من أولاد فارس وملوك الأكاسرة، فإنهم كانوا دون ملوك الروم والهند وسائر الأطراف، وأعلم بموافق الريف وأحذق بتدبير العيش اللطيف، وهم كانوا الأئمة في غرائب الغاذيات والعلماء بأصناف التدابير والملذذات، وكانت الأفاضل من ملوك بني ساسان خاصة تفاخر غيرها من الملوك باستيطان مدائن العراق، وبتطاول تلطف الهواء بها وصحة الماء فيها. هذا من حكم الخمرة البالية التي كانت تفاخر بها في أعيادها وتعازّ بخواصها في أيامها، وتزعم أنه لولا اعتدال الأرض والماء واتزان مناسبة الماء والهواء، ما وصلوا من طعوم شرابهم هذا، وأنواع ألوانه ونسيمه وروائحه إلى غايات لا سبيل إلى مثلها إلّا نظير لها في شكلها. وإذا كان ذلك لهم في الشراب أن يكون ذلك هو حق

الحكم لها في سائر المنابت والأشجار، وأنواع الأغذية والثمار. ولئن صح ذلك بذلك [49 أ] وهو كذلك، فسيصح أن الغاذيات التي جرت باعتدالها طبائعها، واتصلت لإمداد خلقتنا وغرائزنا خليقة ان تفرد بالخاصيات المعدلات والخصائص المكملات، فليس إسراف الهواء في اللطافة ودوامه إلّا كإسرافه في الكثافة واتصالها فيه. والاعتدال إذا هو الكمال الفاضل والزمان العادل. وقد ذكرت الجماعة المميزة من المادرائيين انهم كانوا لا يشمون بنواحي الري وإصبهان وقزوين وزنجان إلى سائر أمهات الجبال من بلاد همذان شيئا من روائح الصنيع المشوي والقديد، سواء كان ذلك من الثور أو البعير أو الفروج أو العصفور، إلّا اختلاسا ونزهما (؟) وذلك هو إمّا لكثافة الهواء في نفسه أو لغلظ الغذاء في جنسه. وإنك والحق لتشهد أن تنسّمك عندنا روائح خبز المخابز البعيدة فضلا [عن] الجديدة. فما ظنك بالحيوان المشوي في التنور والصنيع المدبر بالقدور؟ وبمثل ذلك حدثني الفطن الذكي واللبيب الحسبي، إبراهيم بن أحمد المادرائي عن الهواء بمصر، الذي يمحق رائحة المسك الأذفر والكافور والعنبر كما قال غيره. وقد علمنا أن لأهل قم الشراب الميري، ولأهل إصبهان الشاهجاني، ولأهل الري السدني، ولأهل همذان المرجاني، ولأهل قزوين الدستباني، ولأهل مصر الرساطون العسلي، ولأهل الشام الحلفي. ولكن أين فضائل هذه الأنواع جميعا لو جمعت في نوع منها من الشراب السوري والعصير البابلي والطبيخ القطربلي والمعتق الصريفيني؟ ثم رجع الكلام إلى نوعه في مصر والمصريين فنقول: فأين طرقات مصر من طرقات بغداد؟ وديارها من ديارها ورحابها من رحابها ودروبها من دروبها. وهي محال الأقذار ومزابل الطفار؟ وحدث إبراهيم بن ياسين وكان مصريا يجهّز المسك إلى مصر، إنه لا يكاد

يشم في محال مصر شيئا من المسك الأذفر ولا الكافور والعنبر. وحدثني في أثر ذلك صديقي السرخسي فقال: إن طبّاخا [49 ب] لنا أتى بقمامة فرماها إزاء باب دار منزلنا ببغداد فجلست لتأديبه قبالتها ودعوت بالمقارع، إذ أقبل رجل يسعى لشأن كأنما لم يخلق لغيره، فبحث القمامة بيده وأثار منها صوفا وزجاجا مكسّرا فالتقفه ومضى مبادرا. ثم أتى آخر في أثره ينحو نحوه فبحث باقيها وأثار منها قشور جوز وقشور «1» فأخذ منها وولى منطلقا. ثم تلاهما ثالث يقفو أثرهما فأثار القمامة وأخرج ما كان فيها من النوى فأخذها ومضى. ثم أقبل قمّام الحمّام فغربلها وتزود ما فيها ثم مضى. ثم أقبل آخر معه فنخل التراب فاستخرج منه شيئا فأخذه ومضى. ثم جاء أجير الحراث فكسح باقيها وكان ترابا ورمادا فأخذه ومضى. قال: فأمسكت عن ضرب الغلام وقلت: ذلك تقدير العزيز العليم. وما حاجتنا وما حاجتك إلى الانتصار بغير العيان والتظاهر على خصمائنا بغير ما هو لنا «2» في الزمان؟ هؤلاء المادرائيون أهلنا وأصحابنا وإخوتنا وأترابنا رؤساء مصر وسوّاسها وكتاب أعمالها وأربابها ذوو القدرة التامة والأمر النافذ والسلطان الظاهر والعز المتظاهر، يتطلّع أعظمهم قدرا وأكبرهم أمرا وأعزهم شأنا وأوسعهم سلطانا إلى قوافل الحاج ووفود المجهّزين من بغداد، حتى يستصحب لهم الخفاف الطائفية والنعال السندية والمقاريض الهيثمية والأمشاط الطاهرية والسكاكين الكتابية وكثيرا مما يصنع من الأبنوس والعاج والعام الموجود من العطر والزجاج. فما ظنك بما لا يتهيّأ حمله ولا يسهل تجهيزه ونقله؟ ولست تجد كبيرا من كبراء الأطراف ولا عظيما من عظماء ملوك النواحي كملك الديلم والطيلسان وملك السوس ومن وراء آذربيجان وسائر المتغلبين من أولياء الدولة في مشارق الأرض ومغاربها إلّا متبجحين بمن يصير إليهم ويلقاهم

من مدينة السلام. كائنا من كان أو يحمل إلى مواطنهم [50 أ] ويغشاهم وينافسون على اصطناعه ويشاحّون على ادخاره ويغارون على اقتنائه كما يستقصون على فقدانه ويتحاسدون على وجدانه. وأحسبهم يعنون بعد المجاهدة في ذلك والمبالغة في اطلاب ذلك إلى غير المنفيين من الطباخين والمستجهلين من المتطببين والمستبردين من المغنين والمسترقين من الحناطين. فقد قنع الرئيس الأعظم والملك الأكبر من الجماعة أن يقال هذه مغنية بغدادية وعاملة عراقية وزامرة زريابية وطبّالة عتقية وعوّادة بناتية أو خريجة «1» شارية، وزنبق ورحيب ومنعم وعرفان وزاعم وبدعة، وكفاهم من ذلك أن تقول الجارية رأيت بدعة وكلّمت تحفة وسمعت جدوة، وشاهدت طيابا وأعرف زريابا. كما كفاهم أن يقولوا: ماشطة طاهرية وخازنة حريمية، وكانت ستّي فلانة الفلانية. فتلك عندهم من النعم المعدودات والذخائر المقتصدات. ثم رجع الكلام إلى ذكر شبيه ما كنا فيه من ذكر المصريين، فلعل القوم أن يفاخرونا بالمعادن ويعازّونا بالزبرجد والدبيقي، فإن فعلوا، فأخلق بنا أن نقول إن ذلك شيء إن استجاز القوم المعازّة به في المعادن وفي الزبرجد والدبيقي، فكانوا قد دلّوا من أنفسهم على ضعف كبير وعجز مشهور. وإلّا فإن كان المعدن هو العلة لشرفهم فليس بمأمون زوال الشرف بزوال المعدن. وإن كان شرف المعدن إنما هو شرف لنفسه، كانت كل ذات معدنية ذات شرف بنفسها. وإن كان شرف الذهب شرفا لنفسه، فلا يكون الرصاص وحجر النار شريفا لنفسه. وإن كان شرف القوم إنما هو شيء هو لعلّتهم وعلّة المعدن معا، وقد وجدنا نصيب أبعدنا من المعدن كنصيب أقربنا منه وأوفر، ولست مع ذلك تجد الحدّ في ثمن المثقال من الذهب بمصر إلّا كالحدّ في قيمته بأقصى حجر بالتبر والطيلسان. فأما معازتهم بالقصب والدبيقي [50 ب] والملحم والخليجي، فقد قلنا ونقول: إن ذلك هو شيء لنا دونهم. فإنه لو وجب التطاول بذلك علينا لاستجاز

الحرّاثون مفاخرة أرباب الضياع، ونساجو الديباج التطاول على لابسيه. ولكان مركّب التاج بالدر والياقوت يشارك الملك الأعظم في عزه وسلطانه وفي أقصى من مكانته من شانه. حتى كون صائغ الإكليل أحق به ممن أمره ونهاه واستأجره وأعطاه. والدليل على صدقنا، أن أهل مصر لو كانوا إنما يتخذون الدبيقي ويتكلفون صنعة الملحم والتنيسي لهم ولمن هو منهم وإليهم، لهلك النسّاجون ولمات البزازون وسائر من بها من أرباب القراطيس وصناع الشمع والخيش والكرابيس. ذلك هو القول في المجهزات جميعا من خراسان وسائر بلاد الله في جميع العمران. ثم لا نجد بغداد عند ذلك إلّا كالجوهر القائم بنفسه، والبلدان دونها كالأعراض التي لا قوام لها إلّا بما هو أثبت بها وأغنى عنها. فالدنيا العراق والناس أهلها. والطاعنون على بغداد هم الطاعنون على اختيار الخلفاء. والطاعنون على الخلفاء، الطاعنون على الأنبياء، والطاعنون على الأنبياء هم الطاعنون على رب الأنبياء. وحدثني القاضي إسماعيل بن إسحاق، وكفى به محدثا. ومحمد بن يزيد وكفى به مخبرا، قال: لقد كنا نلتمس بالبصرة من جيد التمور وأنواع الأرطاب فنجد ببغداد ما لم ير مثله بأنهار البصرة جميعا. وحدثني من لا ارتياب للعقلاء في عقله ولا اشتباه عند الحكماء في فضله بعلومه وآدابه وأنسابه وإحسانه عبيد الله بن عبد الله بن طاهر متمثلا في أثر كلام مرّ في غرائب بغداد فقال: تزعم العامة أن رجلا من مجهّزي القطن كان بالشام ثم وقع إلى كورة مرو من بلاد خراسان وهو لا يظن أن القطن يكون بغير الشام فاحتمل من كثرته بمرو بما فاض عن عقله واتهم معه فهمه. ثم سأل عن البلدان التي يحتمل تجهيز ذلك إليها فقيل له بغداد. فقال: وكم في الأرض من [51 أ] بغداد. فصدق عن القصة فقال: أظن أن أهل بغداد يأكلون القطن أو تبنى لهم به المساكن والجدران. فأقبل يريد العراق لذلك.

[و] أشرف من بلاد الري ونواحيها على ما لم تر عينه مثله من الأقطان أيضا وتجهيزها، فسأل فكانت القصة سواء. ثم أقبل إلى ملتقى القوافل بقرميسين فأقبلت عليه الأرض بيضاء بالأقطان فازداد حرصا على مشاهدة بلد يأكل أهله القطن ويشربونه ويبنون به دورهم. فلما بلغ بغداد، لم يرها بنيت بالقطن ولا مصنوعة منه فقال له: ها أنت ببغداد. قال: فإذا كانت هذه بغدادكم، فأين الدنيا والآخرة؟ وقال المعروف بابن يزيد الرقي ومحمد بن نصر الدلّالان:- وهما شيخان مستوران قد أسنّا- إنّا لنركض على حميرنا في حواشي بغداد وأوساطها منذ سبعين سنة لدلالة ما يباع من المنازل والعقارات وسائر العقد والمستغلات في الليل والنهار والغدو والآصال. وإنّا لنمرّ في أيامنا بل في الزمان جميعا ببقاع ولا عهد لنا بها ودور لا معرفة لنا بشيء منها ومسالك لا تحيط بها أوهامنا ولا سلكناها قط. وكثير من الناس يقولون إن جانبي بغداد كالفرسخين، وقد غلطوا في ذلك غلطا بيّنا. وأنشد لكاتب من أهل البندينجيين يذكر فضل بغداد ويذم مصر: هل غاية من بعد مصر أجيئها ... للرزق من قذف المحلّ سحيق لم يأل كم حطّت بمصر ركابه ... للرزق من ركن لديه وثيق نادته من أقصى البلاد بذكرها ... وتعنّفته بعد بالتعويق كم قد جشمت على المكاره دونها ... مِن كلّ مشتبه الفجاج عميق وقطعت من عافي الصّوى متخوّفا ... ما بين هيت إلى محارم فيق فعريش مصر هناك فالفرما إلى ... تنّيسها فدبيرة فدبيق بحرا وبرّا قد سلكتهما إلى ... فسطاطها ومحلّ كلّ فريق ورأيت أدنى خيرها من راغب ... أنأى لطالبه من العيّوق قلّت منافعها فضجّ ولاتها ... وشكا التجار بها كساد السوق

ما إن يرى فيها العريق إذا رأى ... شيئا سوى الخيلاء والتبريق قد فضّلوا جهلا مقطّمهم على ... بيت بمكة للإله عتيق بمصارع لم يبق في أحداثها ... منهم صدى برّ ولا صدّيق إن قال فاعلهم فغير موفّق ... أو قال قائلهم فغير صدوق شيع الضلال وحزب كلّ منافق ... ومصارع للغي والتنفيق أخلاق فرعون اللعينة فيهم ... والقول بالتشبيه والمخلوق لولا اعتزال فيهم وترفّض ... من عصبة لدعوت بالتغريق يا طول شوقي واتّصال صبابتي ... ودوام لوعة زفرتي وشهيقي ذكر العراق فلم تزل أجفانه ... تهمي عليه بمائها المدفوق ونعيم دهر أغفلت أيامنا ... بالكرخ في قصف وفي تفسيق وينهر عيسى أو بشاطئ دجلة ... أو بالصراة إلى رحى بطريق سقيا لتلك مغانيا ومعارفا ... عمرت بغير البخل والتضييق ما كان أهنأه وأبعد داره ... عن أرض مصر ونيلها الممحوق لا يبعدنّ صريم عزمك بالمنى ... ما أنت بالتنفيد بالمحقوق فربا الرجوع إلى العراق وحلّها ... بمصر فريق بعد جمع فريق «1» وقال أحمد بن الطيب «2» تلميذ الكندي: مدينة السلام شريفة المكان، كثيرة الأهل، واسعة [52 أ] الشكل، بعيدة القطر، جليلة الولاية نبيهة السلطان، ينبوع الآداب ومنبت الحكم. يأتيها برد الآفاق وخطباء البلاد. ما فعل فيها من خير فمشهور وما علن فيها من شر فمستور. منها الفقهاء والقضاة والأمراء والولاة. عتاد الخلافة ودار أهل الدعوة. وإن لها لجنسا من السعادة ولأهلها نوعا من الرئاسة، وذلك أنه قلّما اجتمع اثنان متشاكلان وكان أحدهما بغداديا، إلّا كان

المتقدم في لطيف الفطنة وحسن الحيلة، ليّن المعاملة جميل المعاشرة حلو اللفظ مليح الحركات ظريف الشمائل. فأما ما ينبغي أن تفهمه من عيبها وتقف عليه من مذموم أمرها فهو أن بعض ما عددت محاسنها يعود فيصير عيبا لها وقبيحا من أمرها. وذلك أن سعتها أفرطت حتى صارت مساحتها أربعة فراسخ. والذي هذه مساحته إذا كان قريبا معتدلا يحيط به حائط طوله ثمانية فراسخ. يكون ذلك أربعة وعشرين ميلا. وإذا كان هذا هكذا واحتيج إلى حراسة هذه المدينة واحتاج سلطانها التحصن فيها، فأقل ما يحتاج إليه من الحفظة وأصحاب المجانيق والعرادات في كل ميل ألف رجل يكون جملتهم على حسب ذلك أربعة وعشرين ألف رجل. فإذا لم يحفظ هذه المدينة أهلها متبرعين ذلك أو مضطرين، فأقل ما تحتاج إليه لأرزاق وحفظتها على اختلاف أحوالهم وقائد وعريف وتابع وما يحتاج إليه لمؤن المدادين في المجانيق والعرادات ومؤن الموكلين بهم والقوام ومرمّة أسلحتهم وما يتصل بذلك من أثمان الآلات ومرمتها ما يكون لو ضرب بعضه في بعض على أحسن التقديرات عشرة دراهم كل يوم. ولكل رجل زهاء مائتي ألف درهم وأربعين ألف درهم في كل يوم. فإذا أقاموا على ذلك شهرا، احتاج هؤلاء الحفظة دون المقاتلة إلى سبعة ألف ألف درهم ومائتي ألف درهم. فإن كان المتحصّن [52 ب] مختلا فقد أتي من مأمنه ودخل عليه في حصنه. ولذلك ما أنفق محمد بن عبد الله بن طاهر في سنة المستعين والفتنة، زهاء مائة ألف ألف درهم على حفظ السور والمقاتلة. ولقد دخله خلل وهجم على المدينة من ناحية بغوبربا حتى ناحية السور ونقص من الإحاطة شيء له قدر. فهذا أحد العيوب أيضا. فإن الخليفة الذي رسم هذه المدينة التي يحامى عليها من الأطراف الشاسعة والثغور النائية. وإن القطب الذي عليه المدار والقبة التي ينفذ منها التدبير لمتوسطها بين أقصى المشرق وأبعد نهاية المغرب. وكذلك هي في توسط ما بين الشمال والجنوب. وذلك أن كثرة أهلها تدعو إلى شدة الحاجة، وإلى كثرة الميرة لها. ولذلك ما يحتاج أهلها إلى ميرة من أقصى ديار مصر. وبينها وبين ذلك مائة وعشرون فرسخا. ويحتاجون من البعد

موضع في ديار ربيعة وأشسع مكان من أعلى الموصل. وبينهم وبين أدنى تلك المواضع نحو المائة فرسخ. فلو اعترض معترض فقطع ميرة ديار ربيعة والموصل عنهم ثم كان المتحصن أفضل الأئمة عدلا فضلا عن أمير أو رئيس لاضطروا إلى إخراجه ونفيه عن جوارهم ولا سيما وهم لا يخافون لكثرة عددهم وجليل قدرهم وكثرة السلاح فيهم، وهم مستلئمون فيها. [ولهذا] السبب أيضا لا يمكن أن يتحصن بها ملك. ألا ترى إلى الملوك الذين دوّخوا البلاد وملكوا العباد، وبنوا المدن وحفروا الأنهار وعمروا الأرض وساسوا الملك وقارعوا الملوك، لما اتخذ مدينة جعل السور يحيط بالساكنين وبموضع مزدرعهم كما هو موجود بأرض بابل وبناحية سمرقند وبخارا. وأنت [53 أ] إذا ما سألت عن مدن الشرق والغرب والشمال والجنوب، وجدت الأمر على ما وصفت لك، إلّا المدن المحدثة التي بنتها العرب في الإسلام وهي الكوفة والبصرة وبغداد. ولم تؤت الملوك القدماء من قلة معرفة ولا من جهل بصواب التدبير والسياسة. فأما واسط وسرمرى فعسكران، وذلك أن واسط بناها الحجاج منزلا لنفسه ومعسكرا لجند أهل الشام، ربأ بهم من مجاورة أهل العراق ومعاملتهم. وأهل العراق حينئذ أهل الكوفة والبصرة. ولقد أحسن في اختيار الموضع لأنه جبلي سهلي بري بحري عذب الماء طيب الهواء، يوجد فيه الثلج والرطب، والقبج والسمك. وإنما كانت واسط مدينة كسكر وجؤجؤ تحضنه المياه. وواسط على حال أجمل من سرمرى وذلك أن ابن هبيرة تحصن بحصن واسط وقد انتشرت المسودة فيما بين أقصى خراسان إلى مصر، والمنصور مقيم عليه في سادات أهل خراسان وذوي البأس والنجدة من أهلها، فما وصل إليه إلّا بعد إعطائه إياه الأمان وبذل جميع ما اشترط لنفسه. فأما سرمرى فإن المعتصم تنحى إليها عن مدينة السلام لسببين أحدهما تبعيدا لمواليه الأتراك عن أمناء الدعوة من أهل مدينة السلام. والثاني أن ما دون عكبرا

وآخر ديار ربيعة إنما هو منازل الشراة. فأراد أن ينزل في وسط ديارهم فيشدّ بهم ويدفع عاديتهم. وسر مرى ضاحية لا سور يحصنها ولا خندق يمنعها ولا ميرة تقرب منها. وإنما يشرب جماعة من فيها من النهر الأعظم. وربما رأيتها إذا اشتد الحر والتهب الهجير واجتذم القيظ والراوية في بعض المواضع في بعض الأوقات بدرهمين وأكثر. هذا في السلم والأمن. فمن حق ما كان مثل هذه من المدن والكور أن يكون سكانها شجعانا انجادا أبطالا يحمون أنفسهم ويدفعون عن [53 ب] حوزتهم معاقلهم السيوف وتجارتهم الحروب. وإلّا فإن أناخ عليها منيخ واعتمد على من فيها بكلكله ما كان إلّا بمنزلة من يحرض بريبة وينازع بخروج نفسه، وليس هكذا أهل بغداد. لأن لهم آبارا يستعذبون ماءها ويستغنون عن نهرهم الأعظم بها. ولكن من جميل أمر بغداد أن السلطان آمن من أن يغلب عليها رئيس لبعض الآراء، كغلبة الطالبين كثيرا بالشيعة على أهل الكوفة، وذلك أن ببغداد من مخالفي الشيعة من يقرن بالشيعة، وبها من مخالفي المعتزلة من يقرن بالمعتزلة. وبها من مخالفي الخوارج من يقرن بالخوارج. فكل فريق يقاوم ضده ويدفعه عن أن يرئسه. فقد تركوا الرئاسة للسلطان وربحوا تسليط الفناء والتفاني بالحرب. ولكنه ربما عرضت الآفات وهجمتهم، وذلك أنه إذا اتصلت المكاره عليهم ودام فيهم جور الولاة وعوملوا من التعنت وطلب الرشى ما لا يحتمله إلّا الذليل وذو العدة القليل تهايجوا وفزعوا إلى التطوع فحدث منهم مثل الذي حدث عند خروجهم مع سهل بن سلامة «1» في أرباض الحربية. فإنه اجتمع لما تطوّع ودعا إلى إنكار المنكر، زهاء خمسمائة ألف إنسان، وكما هاجوا عند تأذيهم بمحمد بن أوس وصعاليكه القادمين مع سليمان بن عبد الله «2» . فإن الصعاليك لما أسرفوا في الفسق

والفجور، تهايجوا من جانبي مدينة السلام قاصدين منزل محمد بن أوس. فلقد كنت منصرفا في ذلك الوقت من جانب الغربي أريد الجانب الشرقي فوقفت موقفا أتبين فيه من يعدو من الجانب الغربي يريد منزل ابن أوس، واحترست من الإسراف، وظننت أن من عبر إلى أن انصرف بالغنيمة والنهب أكثر من مائتي ألف إنسان. فهذا مما ينبغي أن تعتقده في هذه المدينة. فأما القطع [54 أ] الذي مدينة السلام منه، فأفضل مواضع الأرض جميعا في الطيب والغذاء. وذلك أن أطيب حيّز الدنيا بعد الأمن والعافية والعز والسلامة والرئاسة والشرف، صلاح الماء والهواء. فأفضل أنهار هذا العالم وأعذبه ماء وأصحه هواء وأكثره خيرا، دجلة والفرات. وذلك أن الفرات يسيل إلى بغداد بجميع الشام وسواحل بحر الروم ومصر وما وراء مصر إلى المغرب، وما بين المغرب ونهاية العمران في الشمال وما يأتي به أيضا من قطع بحر الشام عرضا، حتى قرب من جزيرة نيطس وقسطنطينية. لأن الروم والأندلس والخزر والصقالبة والبربر على هذا البحر فهو يقطع عرضا فيحمل الخزر من شماله إلى جنوبه، ويحمل الأندلس من جنوبه إلى شماله. ولذلك نعجب أن يؤتي بسبي الأندلس في دجلة، والخزر في الفرات. وهذا البحر من أنطاكية إلى جزائر السعادة ومنه خليج يخرج مما يلي الأندلس حتى يبلغ السوس الأقصى، ويصير من ناحية أنطاكية إلى ناحية قسطنطينية ثم يدور حتى الخزر. وعلى ساحل هذا البحر طرسوس والمصيصة وأطرابلس وصيدا ويافا وعسقلان والإسكندرية. وعليه من ناحية قصر دمياط والفرما. وفيه قبرس وصقلية. فكلما على هذا البحر أو وصل إليه أو قرب منه فصار في جنوبه، وأريد به العراق مما يلي ديار مضر، فطريقه في الفرات، وكلما كان في شماله وعدل به إلى ناحية ديار ربيعة وبلاد الموصل وأريد به العراق فطريقه في دجلة، ولدجلة أنهار تأتي فكلما قصد به بلاد الموصل من أرمينية وآذربيجان.

والفرات ودجلة جميعا يتصلان ببحر الحبشة الذي له ذنب مما يلي العراق من ناحية الأبلة. والأبلة أشد مواضع البحر دخولا في الشمال، والأبلة كأنها راوية لهذا الذنب ويمرّ الماء على شكل مثلث يتسع كلما بعد من الزاوية التي تلي الأبلّة حتى يهجم على معظم البحر. ولهذا الذنب ساحلان وهما الضفتان يخرجان من الزاوية [54 ب] ويتسع بعدهما كلما طال امتدادهما، فأحد هذين الساحلين يقال له الأهوازي الفارسي، وهو الذي عليه دورق وماهرويان وجناباد وسينيز وسيراف وتيز ومكران والديبل، والساحل الآخر يعرف بالعربي وهو الذي عليه اليمامة وعمان ومهرة والشحر. وهذا البحر متصل بالصين. فدجلة والفرات يتصلان بالبطائح ويتصلان منهما بالأبلة ومن الأبلة يركب العراقيون في هذا البحر، فمن هذين النهرين خيرات أكثر الشرق والغرب والشمال والجنوب. وقال ابن عباس: أوحى الله إلى دانيال الأكبر أن افجر لعبادي نهرين واجعل مغيضهما البحر، فقد أمرت الأرض أن تطيعك. فأخذ خشبة وجعل يجرها في الأرض والماء يتبعه، فكلما مرّ بأرض يتيم أو أرملة أو شيخ كبير ناشدوه الله فيحيد عنهم، فعواقيل دجلة والفرات من ذلك. ومبتدأ دجلة من أرمينية الرابعة ثم تمر إلى جانب قردى وهي قرية الثمانين التي بناها نوح عليه السلام، ثم تمر بين [باسورين] «1» ثم تأخذ على بلد والموصل والحديثة والسن وتكريت وسرمرى، تصب في البطيحة حيث يغيض الفرات فيجتمعان ويمران بالبصرة ثم الأبلة ثم يصيران إلى البحر. ومخرج دجلة من جبال آمد، ومخرج الفرات من بلد الروم، حتى يصب في دجلة. وبين بغداد وواسط يتشعب شعبا كثيرة إلّا أن عموده يمضي حتى يغيب بالكوفة ويصب مما يلي جنبلاء في البطيحة. وليس عمود الذي يصب بالبطيحة يأتي بخير من بحر الحبشة الذي مرقاه الأبلة، ولكن بسعته التي تتعرج من عموده () «2» ويأخذ في

نهر الرفيل، ويأتي إلى المحول ونهر عيسى ويصب في دجلة بكرخ بغداد، فما ركب هذين البحرين أو جاورهما فهم أهل الماء العذب والهواء العدي. وأخبرني بشيء عجيب تذكره العلماء على وجه الدهر، وذلك أنهم يقولون إن أقام الغريب ببلد الموصل تبين في [55 أ] بدنه فضل قوة، وإذا أقام الغريب بالأهواز سنة تبين في بدنه وعقله نقصا. وإن الغريب إذا أقام بالتبت سنة دام سروره واتصل فرحه. وما نعرف لجميع ما قلنا سببا إلّا لصحة هواء الموصل وعذوبة مائها، ولرداءة نسيم الأهواز وتكدر جوّه. فأمّا علة التبت فغير معلومة. وقال لي علي بن الجهم إنه قد سافر أسفارا أبعد فيها، مشرقية ومغربية، وانه ألزم نفسه العناية يتعرف طيب الهواء وعذوبة الماء. فلم ير موضعا أجمع للتمام في ذلك من أرباض مدينة السلام في الجانب الغربي. وقد ظننت أن علي بن الجهم أفرط في هذا القول بالعصبية لحب الأوطان. إذ كانت هذه الناحية منزله. ولقد كنت أفكر كثيرا في نزول الملوك المدائن من أرض الفرات ودجلة، فوقفت على أنهم توسطوا مصب الفرات ودجلة. هذا على أن الإسكندر لما سار في الأرض ودانت له الأمم وبنى المدن العظام في المشرق والمغرب، رجع إلى المدائن وبنى فيها مدينة وسوّرها، وهي إلى هذا الوقت موجودة الأثر، وأقام بها راغبا عن بقاع الأرض جميعا وعن بلاده وطنا حتى مات. وقد كان [بنى] بخراسان العليا سمرقند ومدينة الصغد وبخراسان السفلى مرو وهراة. ثم بالمغرب الإسكندرية، وبنى بالهند سرنديب. وبناحية إصبهان جيّ، وبنى مدنا أخر كثيرة حول الأرض فلم يختر منزلا إلّا المدائن، وإنما سميت المدائن المدينة العتيقة لأن زاب الملك الذي بعد موسى عليه السلام أنشأها بعد ثلاثين سنة من ملكه. وحفر الزوابي وكورها وجعل المدينة العظمى المدينة العتيقة. يقول العجم: إن الضحاك الملك الذي كان له بزعمهم ثلاثة أفواه وست

أعين بنى مدينة بابل العظيمة. وكان ملكه ألف سنة إلّا يوما واحدا ونصفا، وهو الذي أسره أفريدون الملك فصيّره في جبل دنباوند. والموسم الذي أسر فيه تعتده [55 ب] المجوس عيدا وهو المهرجان. وقد بنى بهمن بن إسفنديار همينيا، وبنى شابور بن هرمزد ذو الأكتاف فيروز شابور وهي الأنبار. فأمّا لم سميت هذه الناحية من البلاد إيرانشهر ومعناه بالعربية بلاد إيران، فهو أن أفريدون قاتل بيوراسف قسم الأقاليم السبعة بين ثلاثة أولاد كانوا له. فدفع إلى إيران هذا القطع فعرف به. ولجلالة قدره وبلده حسده أخواه فقتلاه. فأما أنو شروان بن قباد- وكان من أجلّ ملوك فارس حزما ورأيا وعقلا- فإنه بنى المدائن وأقام بها هو ومن كان بعده من ملوك ساسان إلى خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فأما الملوك الأول، أعني ملوك النبط وفرعون إبراهيم، فإنهم كانوا نزولا ببابل. وكذلك بخت نصر الذي تزعم السير أنه أحد من ملك الأرض جميعا. انصرف بعد ما أحدث، يعني إسرائيل ما أحدث إلى بابل. وكفاك أن الإقليم الرابع أجمع يعرف بإقليم بابل، وحدود هذا الإقليم على ما رواه بعض القدماء- لا على ما ذكره المنجمون- وأصحاب الاثر والنظر في أمور الأقاليم بعروض البلدان ومقادير ساعاتها وارتفاع أنصاف النهار في كل بلد. فإن هؤلاء إذا حصلوا أمر بغداد قالوا: عرض وسط الإقليم الثالث، أي [انّ] «1» بعده من خط الاستواء ثلاثون درجة واثنان وثلاثون دقيقة. وعرض وسط الإقليم الرابع ست وثلاثون درجة وتسع دقائق «2» . فبغداد إذا عندهم كأنها بين وسطي الإقليمين إلّا بقدر بالاثنين والثلاثين الدقيقة التي يزيدها وسط الإقليم الثالث على الثلاثين الدرجة. وكذاك يقولون إن

ساعات وسط الإقليم الثالث أربع «1» عشرة ساعة. وساعات الإقليم الرابع أربع عشرة ساعة وخمس ساعة. فساعات بغداد عندهم كأنها وسط بين ساعات إلّا بقدر ما بين النصف الذي مع ساعات الإقليم الرابع وبين الخمس الساعة الذي مع [56 أ] ساعات بغداد على ما يقوله المنجمون المحصلون. فأمّا ما يقوله أولئك الرهط فإنهم يقولون: إن بغداد من الإقليم الرابع ويقولون إن حدود هذا الإقليم مما يلي أرض الهند، الديبل، ومما يلي أرض الحجاز، الثعلبية، ومما يلي الشام، نصيبين، ومما يلي خراسان، نهر بلخ، فقد دخل فيه ما دون النهر من خراسان والجبال كلها، والعراق ودجلة كلها، لم يعرف إلّا ببابل. وأنت تعلم أن الناس إنما ينسبون الشيء إلى الأفضل المشهور. فلو أن بابل [لم تكن] كذلك ما نسبوا الإقليم إليها. وذكر أصحاب السير أن بابل إنما سميت بابل لأن الألسن اختلفت بها وتبلبلت فيها. وأن الملوك والناس اجتمعوا فيها ثم تفرقوا منها. فأما ذورثيوس «2» الحكيم فإنه في صدر كتبه الخمسة التي في المواليد وابتداء الأعمال هذا القول: إني قد وطئت بلادا كثيرة حتى أتيت إلى البلاد العامرة ذات الأرباب الكثيرة ومصب الفرات وهي أرض بابل ذات الأبنية المنيفة والقصور المشيدة. ومع هذا فإن هذا الإقليم وسط الأقاليم السبعة والمعتدلة. وذلك الموضع الذي ينقسم الزمان أربعة أقسام فلا يخرج فيه من شتاء إلى صيف حتى يمر بنا فصل الربيع، ولا يخرج من صيف إلى شتاء حتى يمر بنا فصل الخريف. وكفى بهذا الإقليم فضيلة أن أكثر أموال المملكة تجبى منه لفضل عمارته وخيره من غير أن يحتاج له من النفقة إلّا إلى الجزء اليسير من ارتفاعه. وغيره من الأقاليم ربما احتاج إلى أن ينوبه غيره ويقوم به سواه فيكون عالا مع كزازة أهله وتباعده من الاعتدال

ولا سيما السادس والسابع والأول والثاني. فأما الثالث والخامس فلأنهما يقيدان الرابع المتوسط ويكتنفانه وهما يشبهانه في كثرة الخير وقلة المؤونة وحسن الاعتدال. ويقال إن الملك الأعظم والمدبر الأكبر ينبغي أن يكون منزله هذا الموضع أعني الإقليم الرابع. ومن الإقليم الرابع اشتراك دجلة والفرات. فإن بغداد إنما بعدت عن حقيقة قبة [56 ب] الأرض ووسط ما بين المشرق والمغرب وعشرين جزءا فقط. وهي بالحقيقة وسط ما بين خط الاستواء ونهاية العمارة في الشمال. وذلك أن المنجمين يقدرون نهاية العمارة في الشمال ستة وستين جزءا عن خط الاستواء. وبعد بغداد عن خط الاستواء، النصف، وهو ثلاثة وثلاثون جزءا. فالمدبر إذا توسط في هذا الموضع كان بعده من إفريقية وبرقة وصنعاء اليمن والشاش وفرغانة وباب الأبواب التي عملها أنوشروان حاجزا بين أرض الفرس والخزر في البحر الخراسان شبيها بالمتقارب «1» . ولو ذهب مدبر برقة وإفريقية ومخاليف اليمن ومن هو مقيم وراء النهر من خراسان لما انتظم التدبير. وكذلك لو دبرت ممالك بعد خراسان وثغر أرمينية من الإسكندرية والفرما لما صحّ ولا انتظم. ولقد كان أحد أسباب انتقاض أمر بني أمية نزولهم الشام. وذلك أنهم اضطروا إلى أن يكاتب عمال خراسان صاحب العراق لقرب المسافة في اتصال الأخبار وإمضاء التدبير. فلما ولّوا نصر بن سيار الليثي خراسان أمر أن يكاتب يزيد بن عمر بن هبيرة. فخاف نصر على مكانه. فكان نصر إذا كتب من خراسان في أمر المسودة لم ينه يزيد خبره إلى مروان، لأنه كان يحب أن يقتل نصر. ونسي يزيد أن غلبة أبي مسلم على خراسان سبب الغلبة على الجبال، وأن ذلك إذا استحكم لم تكن له همة إلّا نزول العراق فلما انطوى عن مروان بيزيد بن عمر، اجتاز نصر بن سيار أفسد وجه التدبير. ولو كان مروان بالعراق مقيما لم يحتج أن يكون يزيد بينه وبين خراسان متوسطا.

ومروان بن محمد كان شيخ [بني] مروان وعضلتهم وشيخهم وذا التجربة منهم. وكان ذاهنا فطنا وكان لذلك ينسب إلى الزندقة. وإنما سمي مروان الجعدي بالجعد بن درهم، رجل كان يرمى بالزندقة. وكان مؤدب مروان فيقولون إنه هو فتح له بابها وحمله عليها. ولم يزل مروان عاملا لخلفاء أهله من بني أمية على ثغر أرمينية دهرا طويلا يفتح الفتوح ويقارع [57 أ] الأعداء. ويروى أن المهدي سأل المنصور فقال: كيف كان يا أمير المؤمنين أمر مروان؟ فقال المنصور: لله درّ مروان. ما كان أسوسه وأعفه وأشجعه. ولكن خانه أمناؤه وطووا الأخبار عنه. ولقد كان نصر بن سيار في ذلك الوقت فارس خراسان، فلم يزل ينصح ويكاتب ابن هبيرة ومروان لا يعلم بما هو فيه. فلما طال ذلك عليه قال شعرا فيه: أرى تحت الرماد وميض نار ... وأوشك أن يكون لها ضرام فقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ بني أميّة أم نيام فلم ينفعه ذلك شيئا. فماطل ابن هبيرة نصر بن سيار حتى ذهب الفرع والأصل. وكان أمر الله قدرا مقدورا. ومن الأسباب المؤكدة لصلاح موضع بغداد أن المنصور كان أحزم ملك وخليفة ولي منذ عهد معاوية إلى هذا الوقت. وقد جال الأرض فبلغ طنجة وأقام بالبصرة ودخلها غير مرة. وكان نزوله فيها على رجل يقال له أزهر السمان. وقد كان أيضا ولي كورة من كور الأهواز أيام بني أمية. وكان في أصحاب عبد الله بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لمّا خرج على بني مروان، وبلغ معه إلى إصبهان. فكان يحج ويجاور بمكة ويدخل الكوفة فيقيم بها أيضا. وجول بلدان الجزيرة وديار بني ربيعة ومضر وكان مع أبيه وعمومته بالشراة وكان مع هذا طلّابة للأدب والعلوم محبا للسياسة بعيد الهمة. وكان جيد الرأي والتدبير. وتمثّل لما قتل أبا مسلم- وأراد بهذا البيت أنه لم يشاور أحدا-: طوى كشحه عن أهل كلّ مشورة ... وبات يناجي نفسه ثمّ صمّما

وهو الذي يقول فيه ابن هرمة وذكر أنه لا يشاور أحدا فيما يهمّ به: إذا ما أراد الأمر ناجى ضميره ... فناجى ضميرا غير مختلف العقل ولم يشرك الأدنين في جلّ أمره ... إذا انتقضت بالأضعفين قوى الجبل [57 ب] وهو الذي قال لعيسى بن موسى لمّا استرجع حين رأى أبا مسلم على طرف البساط قتيلا: يا عيسى! لا تسترجع واحمد ربك. فإنك هجمت على نعمة ولم تهجم على مصيبة وتمثّل: وما العجز إلّا أن تشاور عاجزا ... وما الحزم إلّا أن تهمّ وتفعلا فبهذا الحزم وهذه التجربة وبعد هذه الهمة والأسفار الكثيرة ومشاهدة البلدان البعيدة، رأى أن يختار هذا الموضع مدينة ومنزلا مستقرا. هذا وخراسان تنهض وفي أكناف الشام جماعة من بني أمية يحاولون طلب الملك. وبالحرمين طالبيون يرون أنهم أحق الناس بالملك. ثم لمّا عزم على بنائها ورآها أهلا، وكل بها جلة قواده ورؤسائه. فقسمها أرباعا ودفع كل ربع إلى قائد ووكله ببنائه. ولقد أمكن المنصور الإشراف على خراسان عند خلع عبد الجبار بن عبد الرحمن إياه، حتى أخذه أسيرا. كما أمكنه الإشراف على مكة والبصرة عند خلع بني عبد الله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام. حتى بلغ من ذلك مراده لتوسط الموضع. ولتوسطه أيضا أمكنه أن يوجه المهدي إلى الري وطبرستان وجرجان وأن يوجه المهدي بالهادي إلى جرجان. وأن يوجه المهدي بالرشيد إلى صائقة الروم. وأن يمضي الرشيد بنفسه يريد سمرقند. وأن يوجه المأمون لعبد الله بن طاهر إلى مصر، ويشرف على بابك بالجبال. وأن يفتح المعتصم طبرستان وعمورية ويأخذ بابك من البر. ولولا توسط بغداد لكان الأمر أعسر والمطلب أبعد والأخبار أبطأ. والله يفعل ما يشاء. ومن غريب سعادة بغداد، أنه لم يمت فيها خليفة قط حتف أنفه. وذلك أن المنصور بناها وتوفي ببئر ميمون ودفن بمكة. وتوفي المهدي بالروذراور من عمل الجبل. وتوفي الهادي بعيسى آباد. وتوفي الرشيد بطوس من أرض خراسان. وقتل

الأمين وحمل رأسه إلى خراسان، فهو في قهندز [58 أ] سمرقند. وتوفي المأمون بالبدندون ودفن بطرسوس. وتوفي المعتصم بسرمرى. وقتل المتوكل بسرمرى. وقد أقام بمدينة السلام ثلاثة من الخلفاء عمر كل واحد منهم نيفا وعشرين سنة، وهم المنصور والرشيد والمأمون. ولم يمت بها منهم أحد. وقد قيل إن نوبخت اختار لبنائها وقتا طالعه القوس وصاحبه المشتري. وذكر بطليموس في برج المدينة إليه طالع الوقت، أول البرج الذي فيه القمر في الوقت. قال: وإن جهل ذلك من أمر المدينة، فمعرفة ذلك من طالع الملك الذي ابتناها. والحق أن يكون طالع مدينة السلام وطالع منشئها واحد، وذلك لسعادتهما واتفاق جميل الوصف لهما وفيهما. وأنشد لدعبل يمدح بغداد ويذم سرمرى: بغداد دار الملوك كانت ... حتى دهاها الذي دهاها ما غاب عنها سرور ملك ... أعاره بلدة سواها ما سرّ مرّى بسرّ مرّى ... بل هي بؤس لمن رآها عجّل ربّي لها خرابا ... برغم أنف الذي بناها شعر: يا دار أقوت وخفّ عامرها ... أيّام تصطادنا جآذرها أيام نحن بجيرة خلط ... ينام قبل العشاء سامرها إذ هي مثل العروس باطنها ... دلّ يصيد الهوى وظاهرها جنة دنيا ودار مغبطة ... قلّ من النائبات واترها كدرّة البحر ضمّها صدف ... غالى بأغلى البلاد تاجرها درّت خلوف ألبانها لساكنها ... وقلّ معسرها وعاسرها وافترشت بالنعيم وانتفجت ... لهم بلذاتها خواصرها فالقوم في روضة أنف ... أشرف غبّ القطار زاهرها

من غرّه العيش في بلهنية ... لو أنّ دنيا يدوم غابرها [58 ب] دار الملوك قرّت أسرّتها ... فيها وقرّت بهم منابرها أهل القرى والندى وأندية ... المجد إذا عدّدت مفاخرها أبناء دنيا في عزّ مملكة ... عزاها لهم أكابرها (!؟) وقال يزدجرد بن مهبنداد الكسروي: قد أكثر الناس في مدينة السلام إكثارا لم يحصلوا منه دليلا، ولا أفادونا به محصولا، ولم يزيدوا على أن يقولوا بلد ولا تشبه البلدان، وما أعجب الأمر فيه، وأبعد الشأو في تحديد من به من ساكنيه. وأعظم شأنه في الشئون، وأعسر كون مثله على الدهور والسنين. كما لا يزيدون «1» على أن يقولوا: فيه مائتا ألف حمام بل الضعف أو كالضعف من ذلك. ومن المساجد كذا ومن الطرز كذا. فإذا أخذوا أو أكثرهم بتحصيل العلم في بدائع البلد وغرائب أنواعه حصلوا على خير قليل وحكم معلول. ونستفتح القول باتباع أعدل الكلام وأبين الأعلام. ولا نقول كالذي قالوه في عدة الحمامات واعتقدوه في كثرة الدور والمساجد والطرازات، إشفاقا من الإسراف على السامعين. فإنّا إذا وجدنا كثيرا من الخاصة والعامة مذعنين بعدة الحمامات وإنها مائتا ألف حمام دون ما هو فوقها من الزيادات. ثم قال آخرون بل هي مائة ألف وثلاثون ألف حمام. واقتصر المقلل على مائة ألف وعشرين ألفا. وهذا قول الشاه بن ميكال وطاهر بن محمد بن عبد الله. وكانا قد وقفا على ذلك من جهات وقتلاه علما من أمور صححت لهما ذلك حتى علماه ووقفا عليه وأتقناه. وقد قال قوم بالزيادة على هذا وقال غيرهم بالنقص فرجعنا عند اختلافهم إلى حدّ رجونا أن يكون عدلا مفروضا وحكما مقبولا. واقتصرنا من عدد

الحمامات على ستين ألف حمام استظهارا. وجعلنا العلة في ذلك أن نأخذ بأوسط ما ذكروه من إعدادها. وما وجدنا الخاصة أو أكثرهم يدعيه في اعتقاده، وهو مائة وعشرون ألف [59 أ] حمام. وبه قال الشاه وطاهر فاقتصرنا على النصف من المائة والعشرين ألفا لئلا يقبح في التقدير وتجفو عنه الأسماع. ثم نظرنا بقدر ما تحتاج إليه كل حمام من القوام الذين لا قوام لكمال الحمام بما هو دونهم. فوجدنا كل حمام يحتاج إلى أربعة نفر لا بدّ لها منهم: صاحب الصندوق والقيم والوقّاد وكناس الوقود. وربما أطاف بالحمام الواحد الضعف على هذه العدة. ولكنا ركبنا سنن الاستظهار في هذا المعنى وفي جميع ما تضمنا قصر القول به ليكون معينا على انتحاله، وأمانا من إبطاله. فإذا وجدنا عدة الحمامات على ما رتبنا ببغداد وهو ستون ألف حمام، فقد حصل عدد من ذكرناه من القوّام وغيرهم ممن لا بد للحمام منهم، مائتا ألف وأربعون ألف قيم وغيره. ثم وجدنا العيان وجدنا حكما ثانيا وهو أن نجعل على التقريب استظهارا لكل حمّام حجامين، فيحصل لنا أيضا من عدة الحجامين مائة ألف وعشرون ألف حجّام. فيكون عدة الحجامين وأصحاب الحمامات ثلاثمائة ألف وستين ألف حمامي وحجام. ثم فرضنا أيضا بهذا التقريب والممكن المقرون به لكل حمام مائتي منزل قياسا على ترتيب المنازل والحمامات المعدودة بمدينة المنصور. فإنا وجدناه بحق كل حمام بها من المنازل نيفا على أربعمائة منزل. فاستظهرنا بإسقاط ما هو أكثر من النصف وفرضنا لكل حمام مائتي منزل فاجتمع من ذلك اثنا عشر ألف ألف منزل. ثم وجدنا المنازل قد يجتمع في الواحد منها عشرون إنسانا وأكثر، وفي غيره إنسانان أو ثلاثة وما هو أقل من ذلك وأكثر. فاحتجنا إلى قسمة عدد يعتدل به العدد. فأسقطنا من العشرين نصفها وزدنا على الثلاثة ضعفها، ثم أمددنا

الاستظهار للحاشيتين معا. فنقصنا من العشرة سدسها وزدنا على الستة سدسها وجبرنا الحاشيتين ليحصل لنا أشرف نسب الأعداد وما يليق شكله بالحيوان وقسمة العمران وهو الثمانية [59 ب] من الأعداد فإنه نصف قطر المتقبلين بأمر الفروض. فاجتمع لنا في كل منزل ثمانية نفر رجالا ونساء صغارا وكبارا. فاجتمع لنا من عدد الجماعة ستة وتسعون ألف ألف إنسان. وقد قال الناس في أحوال البصرة وتفخيم شأنها أقاويل مختلفة يشبه بعضها بعضا. ففريق زعم أنها أعظم في مقدارها وأوضع في أقدارها من مدينة السلام. وقال آخرون: بل هي في قدرها سواء. وقالوا: بل هي دونها وأصغر حدّا من حدها. ولم نرد في اقتصاص أقاويلهم هذه في البصرة تمثيلا أو تجميلا بين بغداد وبلد في العالم جميعا من البلدان سواها، ولا شيئا بذلك أكثر من تفخيم أمر البصرة وانها من الأمهات العظام ومن المدائن الجليلة من بلدان الإسلام. ثم وجدنا حالا من الزمان قد ألجأ أهل البصرة جميعا كما ألجأ أهل الأبلة وسائر كور الأهواز وجميع العمران من كور دجلة ودستميسان وكسكر وآجام البريد وما بين هذه المدائن العظام وبين واسط العراق من الأنهار المشحونة بالحيوان الناطق برّا وبحرا. ثم كان بواسط من أهلها وسوادها وكور الصلح وكور المبارك ومأهولها. وفي حيّزها من القرى والبقاع المشحونة بالناس إلى مدائن النهروانات الثلاث، وما هو لكور النهروانات وبإزائها من الضياع وسقي جوخا، إلى حدود بادريا وباكسايا وحدود البندنيجين وسوادات طريق خراسان إلى بطن المدائن. ثم من كان في الجانب الغربي كمدائن الزوابي وسقي نيل الفرات وفم النيل إلى سوادات الكوفة وباروسما ونهر الملك، وما لابس الصراة إلى حدود جنبلاء إلى كثير مما لم نذكره ونحصيه، ولا نعلمه فنستوفيه. فيما بين كل بلد وقراه، وكل قرية ونظائرها ممن لا يحصي عددهم ولا يعلم كنه مددهم إلّا خالقهم، مستجيرين بمدينة السلام. فلم يلبثوا فيها ولا أغلوا منها سعرا. فإذا وجدنا هذا الحيوان الناطق [60 أ] الذين هم الناس، قد شغلوا من مساكنهم وأوطانهم مكانا من الأرض عريضا، وملأوا منها فناء فسيحا، قد ورد بهم المقدار وساقتهم الأقدار

مستجيرين محلا لا تضيق بهم دياره، ولا تمتلئ منهم أقطاره، ولا تغلوا بكثرتهم أسعاره، ولا يتحاكم في أقواتهم تجاره، ولا يعجز عن ميرتهم ممتاره. ولا يحس أهله بالواردين منهم إذا أتوا، ولا الصادرين إذا مضوا. أفتحسب أيها الإنسان أن بلدا واحدا لا تخيل علينا أقطاره، ولا يذهب عنا مقداره، ولا تشتبه علينا طرقه، ولا فضل في مسالكه، يسع أجراما فتحركه، وأجساما فتصرفه. لا مقدار لعددها ولا سبيل إلى إحصائها، ثم لا يكون كثرة الناس فيه، وتحركهم في حواشيه إلّا قريبا مما كانوا وشبيها بما عرفوا. إن هذا لشأن عجيب وأمر ظريف. وسنأخذ العيار من أخصر وجوه الكلام، ثم نجعل ذلك بين حالين لا يخرجان عن تحصيل الخاصة، كما لا يذهبان عن عقول العامة، يشتمل عليهما البرهان الموصول بحجة العيان. ونصير إلى ذكر المسجد الجامع في الجانب الغربي بمدينة المنصور فنحصله ذرعا مكسرا ثم نقسم ذلك على المصلين فيه في آخر جمعة يجمع الناس من الشهر الشريف، أو أولها، بعد أن نعلم أن كل مصل سيشغل مركزا للصلاة لركوعه وسجوده وقيامه وقعوده ويكون خمسة أشبار في شبر لا تصح الصلاة بما هو دون ذلك من المراكز. ثم نضيف إلى أرباب الصلاة ببغداد الذي سلف منا ذكرهم من أهل البصرة والأبلة وسائر الكور التي عددناها، والمدائن التي ذكرناها وما هو بين ذلك وعن يمينه وشماله ومن خلفه وقدامه. فنجعلهم ضعفا لمن ضمّت بغداد من أهلها الراتبين فيها. وإن كان بالواجب في كثير من الأقاويل أن يكونوا أضعافا مضاعفة على ما ضمته من أهلها ومساكنها. وقد قلنا إن عدد من ببغداد من الناس رجالا ونساء، صغارا وكبارا ستة وتسعون ألف ألف إنسان. [60 ب] إذا أضعفوا بمن أضيف إليهم مائة واثنان وتسعون ألف ألف إنسان ثم سقط من هذه العدة بحق النساء والصبيان والمريض وأهل الذمة. وقد ذكرنا قدر مركز المصلي وأعلمنا أنه خمسة أشبار يضبط بها ركوعه وسجوده وقيامه وقعوده في شبرين لا تطيب الصلاة في دونها. وقد حصل من ذرع المسجد الجامع الغربي دون رحابه وما زيد فيه مائتا

ذراع في مائتي ذراع، يكون مكسرا أربعين ألف ذراع، وجبرنا رحابه وهي دونه في الذرع فجعلناها في القسمة مثلها فكانت مائتي ذراع في مثلها. فصار جميع ذرع المسجد الغربي في رحابه وبنائه وأركانه وأساطينه. فأسقطنا حصتها من الذرع استظهارا ثمانين ألف ذراع مكسرة معها من أهل الصلاة بها على ما فرضنا من مركز الصلاة الواجبة من عدد الناس، اثنان وثلاثون ألف إنسان. وهذا حكم القول في المسجد الشرقي منها ونحوه. فيكون إذا جمعنا ما يسع الجانبان ورحابهما من المصلين على ما ذكرنا أربعة وستين ألف إنسان. وهو جزء واحد من ألف جزء ممن قدرنا أنه يحضر، وهو الثلث من جميع أهل مدينة السلام ومن ذكرنا. وهذا- يرحمك الله- عدة يستغرقها دون عدة الحجامين وقوّام الحمّام بمدينة السلام كما قد سلف من القول بكثير جدا. فإن الذي قرب البعيد وبسط القريب وجعل الصغير كبيرا والكبير صغيرا هو الذي استودع عقولنا الإقرار بقدرته على توسعة ما لا سبيل إلى اتساعه إلّا به، ولا حيلة في حطّه وارتفاعه إلّا عنه. والله يريكم آياته فأي آيات الله تنكرون؟ أفليس الواجب علينا الإقرار إذا بما لا يدفع الإقرار به من قدرة الله إلّا عنادا واعتداء؟ وإذا اتسع القول بأن الله عزّ وجلّ يلطف لخلقه لطفا يبسط به البعيد ويطوي به القريب، أمكن من ذلك أن الله يبسط لأقرب خلقه إليه وأعز بقاعه عنده أو على ما شاء كما شاء. [61 أ] . ولا أرى الواقفين باتساع قدرة الله يجهلون برأي العين قدر مساحة المسجد الحرام بمكة أو يحتجون عن إدراك من نفذ إليه من مشارق الأرض ومغاربها. فإنه يذكر كثير ممن لا يتهم في تمييزه وذكره، كما ليس بظنين في دينه وستره المجتمع، من عدد الحاج في المسجد الحرام ألف ألف وخمسمائة إنسان. وذلك هو الحدّ في الغاية التي لا مزيد عندهم فيها. وان الجد في الغاية لا انتقاض معها هو أن يكونوا ستمائة ألف إنسان. وقد وجدنا مساحة المسجد الحرام مع البيت طولا وعرضا ثلاثمائة ذراع في مائتي ذراع يكون ذرعا مكسرا بستين ألف ذراع. وجعلنا المصلي فيه أن يأخذ من مساحة المسجد استطارا وتقليلا ذراعا في ذراعين يكون

لركوعه وسجوده وقيامه وقعوده. فيكون قدر ما يحتاج إليه الغاية القصوى الذين قلنا انهم ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان من الذرع لما فرضنا ثلاثة آلاف إنسان. وذلك خمس العدد الذي يذكرون. وهكذا لو عملنا حساب ستمائة ألف إنسان ما كان أيضا إلّا خارجا عن صورة القياس جميعا. أفحسبت أيها الواثق بما غاب عنه من حكمة الله والمقرّ بالخفيّ عليه من قدرة الله، ان القياس أن يسع المسجد الحرام من هم أوسع من أضعافه أضعافا مضاعفة وهو برأي العين ما وسعوه قط. قد اطردت الآن وجوه الكلام بأن الله عزّ وجلّ بلطف لخلقه من لا يحتسبون ويصنع لهم من حيث لا يشعرون. ووصلنا من القول إن الله بقدرته يبسط للناس المسجد الجامع بمدينة السلام ليسع من لا يسعهم في رأي العين أضعافه ذرعا ومساحة. وإذا أمكن أن يقول إن الله عزّ وجلّ يبسط بالزيادة على قدر المساحة ذراعا واحدا، جاز أن يقول باعا. وإذا جاز أن يقول باعا واحدا جاز أن يقول [61 ب] فرسخا واحدا. وإذا جاز ذلك القول بفراسخ كثيرة. إلّا أن الله عزّ وجلّ لم يعطنا القدرة على علم ذلك ومعاينة مثله. وإذا تتابعت الآيات وتناسبت العلامات وتمكنت الدلالات، رجونا بها زوال الشبهات واستقبال الحقائق الممكنات. ونقول إنه بالواجب، متى استجاز أرباب المدائن المشهورة التي ذكرناها، والبقاع العظام التي أشرنا إليها، وأحصيناها بمدينة السلام حتى يحلّوا بها ويستوطنوا فيها، أن يضعف عدد المساكن بها وتتضاعف المنازل في حواشيها وأوساطها للعالم الوارد والداهم الوافد. وقد قلنا إن من الممكن القريب أن يكونوا في عددهم ضعفا لمن ببغداد من أهلها قياسا صحيحا وحكما لازما، كما قد قلنا بما رتبناه ونزلنا القول فيه وقرأناه، أن عدد المنازل ببغداد اثنا عشر ألف ألف منزل، وجدنا العيان قد أوجدنا أن منزلا منها لا يكاد يخلو من مصباح ينير فيه ليلا يتقد بدهن البزر. ثم لا يعسر علينا أن نقول: إن في هذه المنازل ما يوقد فيه أمنان عراقية وأرطال من دهن البزر إلى ما هو دون ذلك القدر من الدهن. فإذا ضربنا

قدر ما يحتاج إليه فيه كل منزل في كل ليلة من دهن البزر قليله بكثيره وكبيره بصغيره، فرضنا لكل منزل في كل ليلة من دهن البزر أوقيتين بأواق العراق. وقد حصل من عدد المنازل كما قدمنا اثنا عشر ألف ألف منزل سوى ما استظهرنا بإسقاطه من المستجيرين ببغداد عند خراب البصرة وسائر البقاع والمدائن العظام سنين متوالية وأعواما متتابعة. فحصل المصابيح القناديل حساب لكل منزل في كل ليلة أوقيتين من دهن البزر ألفا ألف رطل. ثم وجدنا عدد الحمامات- كما قدمنا- ستين ألف حمام، وحصة الحمام الواحد في كل ليلة من دهن البزر، ربع الرطل العراقي. فيكون بحق الحمامات أيضا في كل ليلة خمسة عشر ألف رطل أيضا [62 أ] ويكون جميع ذلك ألف ألف رطل وخمسة عشر ألف رطل. ثم أمددنا الاستظهار بمثله من الاستظهار فأسقطنا ما تحتاج إليه الحمامات، عملا على أن في المنازل ما لا مصباح فيه، وما لا يكون مصابيحه بدهن البزر، وهي خمسة عشر ألف رطل بزر. كما استظهرنا بإسقاط ما كان يحتاج إليه أرباب الكور المضافة إلى بغداد عند خراب البصرة. واقتصرنا على ما وجدناه قونا مبلغا وهو ألف ألف رطل من الزيت في الليلة الواحدة. يكون ثمنها على سعر زماننا هذا وهو أعدل الأسعار ألف ألف درهم. وفي الشهر الواحد ثلاثين ألف ألف درهم وفي السنة الواحدة ثلاثمائة ألف ألف وستين درهما. قيمتها عينا بسعر زماننا اثنان وعشرون ألف ألف وخمسمائة ألف دينار. ثم نظرنا في باب الزيت وفي قدر ما تحتاج إليه مساكن الخليفة للمصابيح والمطابخ وخبز الرقاق وسائر أنواع الخبز، ومن هو دون الخليفة وخاصته وبطانته وولده وسائر حشمه. ثم ما يحتاج إليه من ذلك أيضا ولاة العهود ومن أطاف بهم من خواصهم، ثم الوزراء وسائر الأمراء، ثم القواد ووجوه أرباب السيف، ثم الكتاب وعمالهم، ثم التنّاء «1» وأرباب النعم وسائر الوجوه. ثم وجوه التجار وأرباب الصناعات الكثيرة، ثم من هو أدنى من هذه الطبقات وأنقص من هذه الدرجات صغارا وكبارا، خواصا وعواما. وفي الواحد من الجماعات ممن ذكرنا

منازلهم واقتصصنا مراتبهم ممن يحصل في مستقره بمدينة السلام في كل يوم وليلة من الزيت ما لا يحصى جرارا ولا يعدّ رقاقا. وقد جعلنا تقدير ما يحصيه من الزيت ليوم واحد من شهر رمضان، فضربنا قدر ما يحتاج من الزيت لمطابخ أمير المؤمنين وسائر ما يستعمل فيه الزيت لمثله ومن دونه من الطبقات الفاضلة إلى أن وصلنا إلى من هو في [62 ب] أصغر الطبقات وأيسر الدرجات من الناس ببغداد. فجعلنا لكل منزل منها في كل ليلة من ليالي شهر رمضان أوقيتين من الزيت ليصلح القسمة ويأتلف الكلام. فجعل من ذلك في الليلة الواحدة ألف ألف رطل من الزيت. ثم قسمنا بحق كل حمام عشرة مساجد، ثم زدنا الاستظهار استظهارا. فأسقطنا النصف من عدد المساجد فحصل لنا لكل حمّام خمسة مساجد. فاجتمع لنا من عدد المساجد ثلاثمائة ألف مسجد. وفرضنا لكل مسجد في كل ليلة من ليالي شهر رمضان من دهن الزيت لمصابيحه- إذا ضربنا كثير ذلك في قليله وصغيره في كبيره استظهارا- رطلا واحدا. أو في المساجد ما يستغرق أرطالا كثيرة فاجتمع من ذلك في الليلة الواحدة ثلاثمائة ألف رطل زيت. ثم نظرنا في الإنفاق الممكن. فإنه ليس يعسر أن ينفق الناس في الأعياد العظام والأيام السعيدة بمثل ما رتبنا عليه طبقات الناس في الحاجة إلى الزيت، أن تكون الحاجة إلى ذلك كالحاجة إلى استعمال الصابون. وأن نجعل لكل منزل واحد- وعدد المنازل اثنا عشر ألف ألف منزل- في كل يوم من أيام شهر رمضان من الصابون رطلا. فإن أوحشك القول بذلك فأسقط من عدد الديار ما ترى به زوال الشبهة وامتناع الريبة وهو النصف من عدده ليتمكن لك التظاهر بالعيان ويزيد لك ذلك في قوة البرهان. فإن جمحت بك الظنون وحيل بينك وبين مناسبة اليقين، فلك بحق الترخيم من المنازل، الثلثان ليكون الحاصل لحصتك في اليوم الواحد من ذلك الشهر، أربعة ألف ألف رطل صابون. فيكون حقها من الزيت استظهارا، ألف ألف رطل. يكون جميع ما ذكرناه في اليوم الواحد والليلة الواحدة من أيام شهر رمضان [63 أ] لمنازل الملوك والأدنى فالأدنى من الطبقات. ولمصابيح المساجد ثلاثة ألف ألف رطل وثلاثمائة ألف رطل زيت. ويكون ثمنها

بسعر زماننا هذا ورقا، ثلاثمائة ألف ألف وثلاثين ألف ألف درهم. تكون عينا ثلاثة ألف ألف وتسعمائة ألف وستين ألف دينار. وفي السنة الواحدة عينا سبعة وأربعين ألف ألف وخمسمائة ألف وعشرين ألف دينار. ومن العام المشترك وما لا اشتباه في حاجة العامة والخاصة إليه البقول المستعملة في كل يوم في كل منزل. فإنها وإن كانت ذوات ألوان عامة وأنواع خاصة. وكان منّا من يبتاع منها بالدنانير والكثير من الدراهم، ومنا من لا يصل إلى المبايعة منها بمثل ذلك. ومنها من يغبّ الخاص منها خاصة. ومنا من لا سبيل له إلى أعم العام منها. فإذا خصصنا من أيام السنة لاستعمال العام من البقول يوما واحدا وجعلناه أول يوم من شهر رمضان أو أول يوم من شوال. ثم جعلنا الناس بين حاشيتين هما الغايتان كالخليفة ارتفاعا، أو حارس الدرب اتّضاعا، لم نخل منزلا واحدا من الحاجة إلى بقل بحبتين من الفضة في هذا اليوم الذي خصصناه دون سائر الأيام، إنزال الإقرار لأيام السنة جميعا بذلك- وعدد المنازل اثنا عشر ألف ألف منزل- فيكون قدر ما يرتفع من أخسّ أثمان البقول في يوم واحد دونما هذا دونه منها. فإنا أسقطناه لخصومه كاللفت والقنبيط والسلق والسرمج «1» . والاسفاناخ والبصل وأشباه ذلك، أربعة وعشرون ألف ألف حبة، ومبلغ الحبّات خمسمائة ألف درهم. وفي الشهر الواحد خمسة عشر ألف ألف درهم. وإنّا لمستدركون شبيها بذلك في باب الأعناب في أوانها والأرطاب في أزمانها. وبقول إذا حصل لنا على الترتيب المتظاهر والتمثيل المتناسب تقريبا، واستظهارا من عدد الناس بمدينة السلام ستة وتسعون ألف ألف إنسان. ثم أضفنا إليهم مثلهم في وقت من الزمان من [63 ب] المستجيرين بهم من أهل البصرة والأبلة وكور دجلة وسوار الأهواز والنهروانات والزوابي وسقي جوخا وكثير من أودية الفرات، اجتمع من ذلك قريبا مائة واثنان وتسعون ألف ألف إنسان. ثم وصل بنا إلى ابان الأعناب في أوسط أوقاتها وأعدل أسعارها. وأقوات الناس من

الأعناب بمقادير مختلفة جدا، تنقص وتزيد. إلّا أنني أرى أن الكبير والصغير والغني والفقير متكافئون في أكل الأعناب حتى لا يتعذر على أحد أن يروح في أوان كثرتها واعتدال أسعارها دون أكله رطلا من العنب العام. ثم ضربنا بعضا ببعض وجعلنا قدر ما يأكله كل إنسان منهم من العنب رطلا واحدا في يوم واحد، رجالا ونساء، صغارا وكبارا، فقراء وأغنياء. فكان مبلغ ذلك من أرطال العنب في يوم واحد مائة واثنين «1» وتسعين ألف ألف رطل. فكان مبلغ ما اجتمع من هذه الأرطال على أقرب الأسعار المعتدلة في الأعناب العامة حساب اثني عشر رطلا بدرهم، ستة عشر ألف ألف درهم. وفي الشهر الواحد أربعمائة وثمانين ألف ألف درهم. ثم استظهرنا بإسقاط الأطفال والأمراض ومن لا يأكل العنب بتة، فسقط لهم من عدد الأرطال ستة ألف ألف رطل. فحصل من بعد ذلك عدد الأرطال تسعون ألف ألف رطل عنب. أفحسبت أيها المعتصم بالعدل والمتفرد بصحة العقل، ان في البعض من ساعات اليوم الواحد والليلة الواحدة ما يتسع لمن ترى من قاطفي الأعناب ومعبئيها ووزّانيها وهم الذين تراهم وترى أن يضعوا من ذلك ما لا بقي به إلّا من هو في حكم القياس أضعافهم عددا. ولكن لله نعم ينعم بها، ورحمة يلطف مقدارها عن مقادير عقول المربوبين وتدبير المدبرين، هو الإقرار له بطوله فيها وقدر على ما بسط علينا منها. وستعترضك الشكوك فتستريب باليقين الباهر والبرهان المتظاهر. حتى إذا شئت أن لا تنظر بإحدى عينيك [64 أ] وتسمع بالواحدة من أذنيك. علمت أنك إذا رأيت خليفة الله أمير المؤمنين وإمام المسلمين، قد حلّ بمحل من الأرض كحلوله بمدينة السلام. ومن أطاف بأمير المؤمنين من ولاة العهود والأمراء وسائر الولد والوزراء والمتلاحقين بهذه المراتب من الوجوه والرؤساء وأرباب السيوف ووجوه الكتاب وكتابهم وخواص من حولهم وبهم من أرباب النعم والنماء وأرباب الضياع

الموسرين منهم دون المقترين من أفنائهم. ثم وجوه التجار وملوك الصيارف والبزازين والعطارين وأرباب الجواهر النفيسة وأهل الصناعات الشريفة والأغنياء جميعا من الجماعة دون الفقراء. والموسرين دون المقترين وغير المتجملين المستورين، ومن لا يشبع يده بغير الميسور من الأمر والقصد من الشأن. وقد قلنا إن ما ببغداد من المنازل اثنا عشر ألف ألف منزل. فاجعل الآن حاجزا بين منازل الملوك والأغنياء وسائر الوجوه والكبراء من المتسعين بالنعم المعتصمين بالسعة ومن هو دونهم من الضعفاء والمتجملين أهل القناعة والمستورين لتحسن به ظنوننا ويتمكن عياره في أوهامنا وعقولنا. وهو أن نفرض لكل عشرة منازل من الطبقات الصغيرات منزلا واحدا من الطبقات العاليات. فيكون عدد منازل الملوك والرؤساء والوزراء وسائر المتقدمين من الأغنياء العشرين جماعة منازل الناس. فإن أتيت دون الذي جرت عادتك في الأمر وأقمت عليه من حطيطة الأضعاف وانتحلت الاستظهار ملة ودينا ومكّنت لنفسك بالظاهر يقينا، مددنا بذلك إليك يدا طالما ناولتك البعيد وسهلت لديك الصغير. وجعلنا عدة منازل الضعفاء والخاملين وأهل التجمل والمقتصد أضعاف أضعاف منازل الملوك والأشراف، فيكون إذ ذاك عدد منازل المتقدمين من عدة منازل المتأخرين كنسبة شيء إلى مثله عشرين مرة فيحصل لنا عدد هو نصف العشر من الجميع [64 ب] . وقد قلنا إن عدد المنازل ببغداد اثنا عشر ألف ألف منزل. يكون نصف عشرها ستمائة ألف منزل. وقد يجوز أن يتفق في الأعياد العظام والأفضل من الأيام في بلاد الإسلام يوم النحر أو يوم الفطر في أوان من الزمان لا تتوالد فيه الأغنام بالعراق بحيث يلابس مدينة السلام إلّا غريبا خاصا وعشيرا شاذا كشهر خرداد ماه وشهر مرداد ماه «1» . وقد امتنع علينا أن نقول إن مائدة واحدة من المقسومين على أرفع

الدرجات وأعظم الطبقات من الملوك والرؤساء وسائر الوجوه والأغنياء خلو من جدي واحد في ذلك اليوم الواحد الذي قلنا إنه الأعياد الشريفة والأيام السعيدة، ظنا قريبا وحكما مصيبا. فيكون إذا قدر ما يباع في أسواق بغداد من الجداء في الفطر وفي النحر ستمائة ألف جدي. أفظننت أيها البحّاث المتذكر والنظّار المتفكر، أن الله لا يلطف لإيجاد ما شاء من خلقه على أجنحة الملائكة المقربين وعلى رؤوس الجن والشياطين. بل لا نظن أن وكيلا من وكلاء الوظائف وأمينا من أمناء المطابخ رجع منصرفا من أخسّ الأسواق وما لا يناسب منها باب الكرخ وباب الطاق في وقت واحد من الزمان وساعة، واحدة من النهار، فاستحلّ أن يقول لعدم الجداء بالربيع ببغداد، واننى طلبت جديا رضيعا فتعذر عليّ، والتمست مخاليف الدرّاج في غير أوانها وصغار الفراريج في دون أبانها والقبج والشفانين والصلاصل والوراشين والسمان والكراكي والطيهوج والقماري والعصافير والدباسي والغربان والعقبان أو الثعالب والذئاب والضباب والدباب أو الفيل والسمور والأرنب والخنزير، وما لا يحصى عدده ولا يحصل مدده من أنواع ما في البر والخراب وما في البحر من السلاحف والسرطانات والسقنقور والسور ما هي والصير والمارماهي والجري والزامور وكلب الماء والجرجور. وقد تعرضنا من ذلك لما لا سبيل إلى إحصائه ولا حيلة لنا في [65 أ] عدّة واستيفائه. ومتى تظن أو ظننت أن عليلا مات أو يموت بمدينة السلام بفقدان دواء معروف، أو بحسرة غذاء لطيف وكثيف، فقد ظننت محالا وأدرت في خلدك باطلا. وكذلك أيضا لا يستطيع أحد أن يقول إن عليلا أو صحيحا تاق إلى الأرطاب في الثاني من الكوانين أو إلى الكمأة في الأول من التشارين، وإلى الخلال في أيلول، وإلى البسر في القرّ والطلع في الحر، وإلى النرجس في حزيران والقثاء والخيار في آذار، فتعذر وجود ذلك عليه.

أو عساك ظننت أن وجود هذا هو شيء للخاص دون العام والغني دون الفقير والكبير دون الصغير، وان بلدا لا يمتنع فيه وجود غذاء في كل زمان وكل دواء في كل أبان، مجمّع لك الأنواع مع تفرّق الزمان، حتى يناسب بين المتضادات في أزمانها. ويؤلّف بين المتنافيات في أبانها لبلد عزيز الشأن عند الله، عظيم النصيب من لطف الله. زعم لنا جامع بن وهب وهو أحد وجوه المجهزين من الصيادلة ان قدر ما كان فقد بمدينة السلام من أنواع الصيدلة مما كان يأتي من نواحي البحر خاصة عند خراب البصرة وانقطاع سبلها ألف نوع وأربعمائة نوع وثلاثة وسبعين نوعا معدودة محصلة مبينة مفصّلة. قال: فقلنا ذلك مع أنواع العطر؟ فقال نعم مع بعض العطر. فلما رأى تعجبنا من ذلك واستفظاعنا له التفت إلينا فقال: من يذكر منكم أنه ابتاع آسا رطبا في مدة حياته؟ فقلنا جميعا بلسان واحد: ما نذكر ذلك. فقال: فاعلموا أنه يباع في دار البطيخ في كل يوم من أيام الشتاء والصيف من الآس الرطب بخمسة وعشرين ألف درهم. يكون قدر ذلك في الشهر الواحد ورقا سبعمائة ألف وخمسين ألف درهم. وفي العام الواحد تسعة ألف ألف. فإذا كانت هذه الآية في الآس بها وحده، فما ظنّك بغيره من سائر الأجناس؟ ثم [65 ب] رجع بنا النظر بعد ذكر الدواء والغذاء إلى شبيه بما كنا فيه من ذكر الجداء وقلنا: إنّا إذا كنّا قد فرضنا لكل مائدة جديا، فوصلنا من عدد الجداء إلى ما ذكرنا وهو ستمائة ألف ألف جدي في يوم واحد. فلنفرض الآن استظهارا لكل ذي مائدة جديا وأربع دجاجات وأربعة فراخ، فيكون عدد الدجاج والفراخ المستعملة في اليوم الواحد من أيام الأعياد العظام أربعة ألف ألف وثمانمائة فرخ ودجاجة. يكون ثمن كل دجاجة استظهارا درهما واحدا وثمن الفرخين درهما واحدا. فيكون ثمن الجميع من الدجاج والفراخ في اليوم الواحد أيضا، ثلاثمائة ألف ألف وستمائة ألف درهم. وقد وجدتني على كل حال حليف الاستظهار فيما ادعيت ومسامحا لك في

اعتبار ما نحوت. فظنّ ان شئت مكذّبا للعيان وطاعنا على فصول البرهان. إن الأمر الذي ذكرناه، وقمنا بحقه وفصّلناه. هو بخلاف ما أصّلناه. فاعقد الآن من جمل ذلك على أنصافها وأثلاثها وأرباعها وأسداسها. أفحسبت أنك اعتقدت من ستين ألف حمّام على عشرة ألف حمام ليعقد من ستمائة ألف جدي على مائة ألف جدي. ومن كذا على كذا ان الباقي بعد ذلك لا تراه عجبا عجيبا وشأنا غريبا. فكيف والأمر في الأصول كما نقول بكل برهان وبكل دليل. وسنذهب في نوع آخر من الكلام، فإنك والحق لتشهدان. وإنك لترى في ظاهر العيان، وعلى حكم الأيام والزمان. إن وكيلا من وكلاء الوظائف لو اعترض جميع ما في باب الطاق وسوق باب الكرخ وسائر الأسواق في غذائه من الغدوات معترضا بعشرين ألف درهم لابتياع جميع ما فيها، لما ترك بها مذبوحا بريّا ولا حيوانا بحريا، كما لا يدع فيها تفاحا ولا ريحانا ولا أترجا ولا رمانا. وإذا شئت مع ذلك من القول أن تعلم الحق عليك وتتناول الصدق إليك فألطف الاشراف [66 أ] على المطابخ للملك الأعظم وعلى ما استودعت من ذلك مجالسه ومواضع مواقده، فإنك تعاينها مشحونة بما لا تصل إلى معاينة مثله إلّا في الأسواق، ولا كصغير ما هنالك بباب الكرخ والطاق. فإن أنت أمددت الحق حقا وأضفت إلى الصدق صدقا وجمعت بين ما تراه في المساكن الملك الأعظم ببغداد وبين ما في منازل البطانة وسائر الأهل والولد والحشم وولاة العهود الوزراء وكبار الأمراء وسائر الوجوه والرؤساء وكبار التجار والأغنياء دون المقتصدين والفقراء، وصلت من معاينة ما ترى ان مادبة (؟) إنما هي من باب الكرخ والطاق وسائر الشوارع والأسواق في اليوم الواحد ما لا سبيل إلى معاينة مثله في باب الطاق ولا في شارع وزقاق. وأرى أن الظلم جميعا مجموع في ذلك، يدفعك من ذلك ما لا يندفع وفي منعك منه ما لا تمتنع. وسأريك بعين عقلك مثالا عجيبا. أنت تعبد الله بتكذيبه لولا امتحانه وأسرع مما هو أعجب مما تعجبت منه وستدين الله بالجحود به لولا برهانه وبيانه. فإنّا متى دعوناك إلى الإقرار بجملة تتباعد عن الإدراك والعقول وتنسب في الظاهر إلى

التمويه والأباطيل فيما استبشعته ثم استيقنته، هو الحكم فيما استبعدته. والدليل على ذلك، إذا وجدت بيوت الشطرنج أربعة وستين بيتا ثم جعلت في أول بيت منها حبة من الحنطة وفي الثاني حبتين وأضعفت ذلك على نظام التضاعيف حتى تأتي على آخرها بيتا، كنت مستدركا ظنا وترجيحا وحذرا وتوهما في ظاهر الحس وباطن النفس أن المجتمع لك من تضاعيف الحبة الواحدة من الحنطة في أبيات الشطرنج [لا] يكون إلّا قفيزا أو بعض القفيز الواحد. فإن ظننت الآن أن المجتمع لك من عدد الحب في ظاهر الحس ظنا وترجيحا هو قفيز أو عشرة أقفزة فأظننه أكثر. وإن ظننته كرّا أو كرّين أو عشرة أكرار أو عشرين [66 ب] كرا فأظننه أكثر. وإن ظننته مائة كرّ أو خمسمائة كر فأظننه أكثر. وإن ظننته ألف كرّ فهو أكثر. وإن توهمته عشرة ألف كرّ فهو أكثر. وإن قلت إنه مائة ألف ومائتي ألف كر، فهو أكثر. وإن قلت إنه مائتا ألف ألف ألف كرّ كان أكثر. وإن قلت إنه ثلاثمائة ألف ألف ألف كر كان أكثر وأكثر حتى تصل من أعداد الحنطة إلى عدد هو في ظاهر الحكم أن صاحب هذا العلم لو عدم البرهان عليه لاستحق من كثير من الناس الرجم. أفليس إذا دللنا على صحة ذلك وفصلناه وأشرنا إلى استدراك حقيقته وحصلناه، كان الحكم فيما دعونا إلى تصديقه وأشرنا إلى تحقيقه في أمر بغداد، فاستصعب عليك عياره بأكثر مما ذكرنا كان حقا؟ والدليل على ذلك أن حبة من حنطة إذا جعلت في بيت من بيوت الشطرنج ثم أضعفت ذلك إلى آخرها بيتا. ان المجتمع من ذلك الحب الحنطة شيء يفي بقوت ستين ألف ألف إنسان لخمسين ألف سنة، إذا كان المبتاع منه في كل يوم دائما بخمسمائة ألف دينار بأعدل الأسعار وأقربها من الرخص. وهو حساب الكرّ بثلاثين دينارا. ويكون تقدير ما يقرن في كل يوم من الحنطة من جملة ما يجتمع من الحب فوجدنا مبلغه ثماني عشر ألف ألف ألف ألف ألف ألف وأربعمائة وست وأربعين ألف ألف ألف ألف ألف وسبعمائة وأربع وأربعين ألف ألف ألف ألف وثلاثا وسبعين ألف ألف ألف وسبعمائة ألف ألف وتسع ألف ألف وخمسمائة وواحدة وخمسين ألفا وستمائة وخمس عشرة حبة.

ثم أردنا أن نعلم كيل هذا العدد من حب الحنطة بالكر المعدل، كيل مدينة السلام. فقلنا [67 أ] إن تقدير وزن القفيز الواحد من الحنطة وهو مائة وعشرون رطلا. ووزن الرطل مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم وهو تسعون مثقالا. فعلمنا على أن وزن الدرهم الواحد من الحب الفحل الممتلئ ثلاث وستون حبة استظهارا. ووزن المثقال درهم وثلاثة أسباع درهم. فيكون وزنه من الحب تسعين حبة. والرطل تسعون مثقالا. فضربنا تسعين في تسعين فكان مبلغه ثماني ألف ومائة حبة. وهو وزن الرطل الواحد. ثم ضربنا ذلك في عدد الأرطال التي هي وزن القفيز وهو مائة وعشرون رطلا. فكان مبلغ ذلك تسعمائة ألف واثنين وسبعين ألفا وهو عدد مبلغ ما يكون في القفيز الواحد من الحنطة. فجبرنا ذلك وجعلناه ألف ألف حبة استظهارا وتقريبا. ثم ضربنا ذلك في عدد قفيزات الكرّ وهو ستون قفيزا. فكان مبلغ ذلك ستين ألف ألف حبة. وهو مبلغ كيل الكر الواحد. ثم ضربنا ذلك في ألف. فكان مبلغه ستين ألف ألف ألف. ومبلغ كيله ألف كر. ثم ضربنا ذلك أيضا في ألف فكان مبلغه ستين «1» ألف ألف ألف ألف ألف. ومبلغ كيله ألف ألف ألف كر. ثم ضربنا ذلك في ثلاثمائة. فكان مبلغ ما قدّمنا ذكره. وهو مبلغ ما ارتفع به العدد من جملة حساب تضاعيف الشطرنج بالأمر المشهور عند أرباب الحساب. فبلغ ذلك بالكر المعدل ثلاثمائة ألف ألف ألف كرّ، دون الذي هو سبعة ألف ألف ألف كرّ وما زاد. ثم قيمنا الكر بأعدل بأعدل القيم ثلاثين دينارا. فكان مبلغ ذلك تسعة ألف ألف ألف ألف دينار «2» . فمن هاهنا قلنا إن الله عزّ وجلّ لو خلق هذا المقدار من الحنطة دفعة، وجعل الدنيا باقية بأهلها خمسين ألف سنة، ثم بيعت [67 ب] الحنطة بسعر الزمان الذي فرضناه في كل يوم بخمسمائة دينار بيعا دائما متتابعا على اتصال الأيام، والشهور والسنين. إن ذلك لم يكن يستغرق بيع جميع ما اجتمع من تضاعيف حبات الحنطة إلّا في خمسين ألف سنة.

والدليل على بيان ذلك أن السنة ثلاثمائة وستون يوما. فإذا ضربناها في خمسين ألف سنة، كان مبلغها ثمانية عشر ألف ألف يوم وهو مبلغ أيام خمسين ألف سنة. ثم أردنا أن نضرب عدد هذه الأيام التي هي ثمانية عشر ألف ألف يوم في الخمسمائة دينار التي ذكرنا البيع بها في كل يوم. فبسطنا غزبها «1» ليكون أظهر عند السامعين. فضربناها في خمسة أصلا، فكان مبلغه تسعين «2» ألف ألف. ثم ضربنا ذلك في مائة. فكان مبلغه تسعة ألف ألف ألف. ثم ضربنا ذلك في ألف فكان مبلغه تسعة ألف ألف ألف ألف. فهو مبلغ ما ذكرنا من جملة ثمن ما اجتمع لنا من تضاعيف حبات الحنطة بالسعر المفروض وهو ثلاثمائة ألف ألف ألف كرّ، غير ما استبطنّا من الزيادة وهو سبعة ألف ألف ألف كرّ وما زاد. فإن الذي بلغك الإقرار بأن الحبة الواحدة من الحنطة تبلغ بتضاعيفها في أعداد بيوت الشطرنج حتى يكون مبلغها ثلاثمائة ألف ألف ألف كرّ وسبعة ألف ألف ألف وما زاد، وإنها قوت لستين ألف ألف إنسان خمسين ألف سنة بعد الإنكار هو الذي يبلغك الإقرار بغرائب بغداد وبدائع مدينة السلام. وإنما تجشمنا ذكر ذلك لتعلموا أن كثيرا من الأمور تستبعد في الظنون وتستنكر في الأوهام والعقول لولا الاعتداد بأصولها والاتكال على تفصيلها. وقال أبو بكر بن عياش وذكر بغداد: هي اليوم مصر العرب. وكان بعضهم يقول: بغداد دار دنيا وآخرة. وتقدير الجوالي ببغداد مائة ألف وثلاثون ألف. وتقدير الادخار. [68 أ] ودور الضرب في كل سنة من الورق ألف ألف وخمسمائة ألف درهم. قال: ومن عجائب بغداد الدارش واللكا «3» . فالدارش يتخذ من جانب

القول في واسط

واللكا من جانب. فمتى عدل بأحدهما عن جانبه الذي يعمل فيه، لم يكن فيه شيء. وقد امتحن هذا غير مرة فما استوى إلّا في الموضع الذي رسم فيه. وان في هذا لعبرة وأعجوبة. فتبارك الله رب العالمين. ما ذكر في ذم بغداد وكراهة نزولها» وقد كره قوم من العلماء السكنى ببغداد والمقام بها وعابوها وذكروا أنها دار فتنة لكثرة ما فيها من الفساد ومن أنواع الفجور وشرب الخمور والزنى وكثرة الربى. وروى أبو عثمان النهدي قال: كنت مع جرير بن عبد الله على قنطرة قطربل فقال: ما يدعى هذا النهر؟ قلت: دجلة. قال: هذا؟ قلت: دجيل. قال: فهذا؟ قلت: الصراة. قال فهذا النخل؟ قلت: قطربل. فركب فرسه ثم أسرع حتى خرج عن القنطرة ثم قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: تبنى مدينة بين دجلة والدجيل وقطربل والصراة تجبى إليها خزائن الأرض. ينزلها الجبار، يخسف بها، فهي أسرع ذهابا في الأرض من الوتد الحديد في الأرض الرخوة. وقال أبو العالية: يكون خليفة يملك عشرين سنة إلّا شهرا ثم لا تسل عن هلكه العرب. تبنى مدينة بين قرية الخر ودجلة ولها أربعة أبواب مشيدة، وشرقي وغربي وعراقي وشامي. يظهر فيها الفسق يخسف بها. ولبني حام عليكم نزوة ويحاربونكم حرب الاستئصال. ولبني قنطورا نزوة مثل ذلك. ثم لا تسأل عن هلكه العرب. وكان بشر بن الحارث يقول: ما ابتنيت بغداد إلّا على البلاء. مرة حرق. ومرة غرق. ومرة فتن.

وقال الهذيل بن بلال عن عطاء. قال خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه [68 ب] متوجها إلى الشام فنزل بقرية يقال لها قطربل ذات نخل وبساتين، فسأل رجلا من أهلها، فقال: ما اسم هذه القرية؟ قال: قطربل. فقال علي عليه السلام لأصحابه: أرحلوا. وسار عنها فزعا حتى نزل السيلحين وقال لأصحابه: ضعوا أسلحتكم وأمتعتكم فقد نجوتم من البلاد إن شاء الله. ثم أنشأ يحدثنا عنها فقال: يا لها قرية ما يجمع الله فيها وعلى ما يقترفون. ثم حانت منه نظرة إلى قرية فيها تلّ عظيم فقال: والذي نفسي في يده لتكونن تحت هذا التل وقعة صلحية يتحدث عنها كل ناج من القتل. آية ذلك إذا شققت فيها الأنهار وبنيت القصور وسندت الدور وكثر الفجور، ولم يتناه أهلها عن منكر. فهنالك تحل بهم البلية لما ارتكبوا من الخطيّة. وقال أبو صالح الباهلي: قال لي شيخ من أهل الكتاب في أيام مروان بن محمد: هذا أوان ذهاب ملك بني أمية. قلت: وما آية ذلك؟ قال: تظهر رايات السود من خراسان فتطوي ملك بني أمية طيا. فلم نلبث إلّا قليلا حتى ظهر أبو مسلم وكان من أمر واحده الدولة ما كان. ثم لقيت ذلك الرجل في وسط أيام أبي مسلم. فقلت: قد صح ما قلت، فأين تكون دار المملكة؟ قال: أرض يقال لها بغداد. تجسّر بها الجسور ويكثر أهلها وتجتمع إليها الأموال. وخطب أمير المؤمنين رضي الله عنه بالكوفة فقال في خطبة: يا أهل الكوفة! أنتم اليوم بخير. فكيف بكم إذا حشرتم ذات نخل وكرم يجتمع إليها كل برّ وفاجر يقال [لها] بغداد، باغية طاغية. يلي بناءها رجل من ولد بني العباس رخص الشعر يقال له عبد الله تكون خلافته زمانا «1» . ثم ذكر فيها شيئا، قال: ويخرج رجل لو شئت لأنبأتكم باسمه واسم أبيه. فإذا خرج ذلك الرجل فقل لبني العباس فليلحقوا بوادي القرى كما كانوا قديما. وقال إسماعيل بن إبراهيم عن إبراهيم بن بشير قال: انصرفنا بعض الصوائف

نريد البصرة. فلما صرنا [69 أ] إلى موضع بغداد،- وليس هناك إلّا نخل وقرى ودير في موضع العتيقة، وآخر يقابله من موضع الدعالجة والباقي صحراء- وهناك راهب في صومعة. فدنوت منه وحادثته ساعة ثم قلت له: يا راهب! ما أرى لك هاهنا زرعا ولا ضرعا. فضحك ثم قال: أخبرني أبي عن جدي- وكان عالما بالكتب القديمة- ان ملك بني أمية زائل عنهم برجل يخرج من خراسان مجهول النسب، معه خلق قد سوّدوا ثيابهم. فإذا أزالوا سلطان بني أمية دفعوا الملك إلى رجل من بني العباس فيملكه عدة سنين ثم يهلك، ويقوم آخر مكانه فيبني هاهنا مدينة لا يكون على الأرض مثلها في كثرة الأموال والناس والأسواق. فضحكت تعجبا منه. فقال: لا تضحك، فإن عمرت رأيت. فما متّ حتى رأيت ما قاله لي. وقال العتبي «1» : حدثني رجل من أهل البصرة قال: اجتزت في بعض شوارع بغداد يوما في السحر وقد اشتبكت أصوات المؤذنين فأعجبني ذلك وحمدت الله عليه. فإذا هاتف يهتف بي ويقول: ما الذي يعجبك من مدينة فجر الليلة فيها سبعون ألفا، وافتض من ذلك عشرة آلاف فرج حرام. وقال إبراهيم بن عيينة: كنت مع قيس بن الربيع ببغداد، فلما انتهينا إلى باب البصرة وجزنا القنطرة قال: هذا المكان الذي يخسف به وهو ناحية دور الصحابة وما والى ذلك. وكان الفضيل بن عياض إذا ذكرت عنده بغداد، قال: أما أسواقها فكافرة وأما أسواقها فلاعنة. وقال بشر بن الحارث: جاء أبو جعفر إلى هذه البلدة فخطر عليها. وجاء بآبائنا فأسكنهم فيها. وكانوا لا يعلمون. ثم نشأ الأبناء فسألوا وفتشوا ودققوا النظر ثم أقاموا فيها مثلهم كمثل الذين قالوا: إنّا وجدنا آباءنا على أمة. وإن أراد ربك أن

يغرقهم فما يضيع. أما سمعت بقوله: فلما أسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين. وقال بشر [69 ب] : والله للخروج منها على جهد أحب إليّ من المقام فيها على حسن حال. وقال الفضيل بن عياض: لا تكونن ببغداد مؤذنا. وقال بشر: ودعت عيسى بن يونس فقال لي: يا بشر! إلى أين تنتقل، إلى تلك القرية السوء؟ وقال بعضهم المتعبد ببغداد كالمتعبد في الحشر. وأقام ابن المبارك ببغداد أياما يسيرة، فكان يتصدق كل يوم بدينار. وكتب بعضهم إلى العتّابي يستوطنه بغداد فكتب إليه: أمّا بعد. فإنك في بلاد وجدهم بالدنيا وجد من لا يرجو معادا. قد نصبت لهم الجبابرة علم التكاثر فحلبهم الفتن واحكام معان «1» القرآن فارتم تلك النحلة بالهجران والبس منها جنّة الحذر. فإن في جوارهم مشتبه لنار الحرص وغضيض الشهوات. معاينتهم ذم القناعة. بصغير النعم قد أمّ عنهم الأمل، مكر الله وهل يأمن مكر الله إلّا القوم الخاسرون؟ وقال أبو صالح شعيب بن حرب: قلت لسفيان الثوري: لي والدة ببغداد أآتها؟ قال: لا. قلت: فإن أتيتها فحضرت الصلاة أصلي فيها؟ قال: لا، إلّا الجمعة ولا يطاع فيها فإنها دار فتنة. وقال رجل لسفيان: لي قرابة ببغداد ولا بأس به. قال: يقول لرجل يسكن بغداد لا بأس به. قال أبو الأحوص: سألت سفيان عن الجلب إلى بغداد. فقال: اجلب إليها كل شيء ما خلا الكراع والسلاح.

وقال بعضهم: إني لأمشي في بغداد، فكأنما أمشي في النار. وكان ابن إدريس يقول: اخرج عليّ من ذكر حديثي ببغداد. وقال ابن الربيع: قلت لإبراهيم بن صالح أيام صحبة ابن حنبل: ادع الله له. قال: لا أفعل. قلت: لم؟ قال: هو يسكن بغداد. وجاء الوليد البغدادي القاص إلى الفضيل بن عياض ووضع يده في يده وأقبل يسأله والفضل قد أعجب به إلى أن قال له: أين المسكن؟ قال: بغداد. فانتزع يده من يده ثم قال: يجيء أحدكم يسأل عن () «1» [70 أ] كأنه من عمال الله أو من الدعاة إليه. فإذا قيل له أين المسكن قال: في عش «2» الظلمة. قال: وكان بعض الصالحين، إذا ذكرت عنده بغداد تمثّل: قل لمن أظهر التصوّف في الناس ... وأمسى يعدّ في الزّهّاد الزم الثغر والتواضع فيه ... ليس بغداد منزل العبّاد إنّ بغداد للملوك محلّ ... ومناخ للقارئ الصيّاد وسأل المعتصم أبا العيناء عن بغداد وكان سيّء الرأي فيها فقال: هي يا أمير المؤمنين كما قال عمارة بن عقيل: ما أنت يا بغداد إلّا سلح ... إذا اعتراك مطر أو نفح وإن جففت فتراب برح [وكما قال آخر] : هل الله من بغداد يا صاح مخرجي ... فأصبح لا تبدو لعيني قصورها وميدانها المذري علينا ترابه ... إذا شحجت أبغاله وحميرها فهي أم الوحول، ومطرح البقول. عذرتها في طرقها، وقذرها في وسطها

يموت أهلها في الصيف حرقا، وفي الشتاء غرقا. الميت فيها مطروح لا يجد من يحمله، والمسكين بها ما يصيب أحدا يصدّق عليه. والغريب فيها مسلور والغرب بها أهل «1» شيوخها «2» يتصافعون وشبابها يتناهدون. وصبيانها يؤاجرون. ونساؤها يزنون ويساحقون. البغاء منهم غير منكر، والقرون من رجالهم لا تستر. وهم مع هذا يتامى أمير المؤمنين. وقد قال فيهم الشاعر: أذمّ بغداد والمقام بها ... من بعد خبرة وتجريب ما عند أملاكها لمختبط ... خير ولا فرجة لمكروب يحتاج باغي النوال عندهم ... إلى ثلاث من بعد تثريب كنوز قارون أن تكون له ... وعمر نوح وصبر أيوب [70 ب] قوم مواعيدهم مزخرفة ... بزخرف القول والأكاذيب خلّوا سبيل العلى لغيرهم ... ونافسوا في الفسوق والحوب وقال آخر: أقمت ببغداد مذ أشهر ... وكنت ببغداد ذا غيرة فما إن قطعت بها شعرة ... وما ان فتتّ بها بعرة (؟) وما ان ترفّق لي حاجة ... كأني وطيت على نشرة وعاندني الخير مذ جئتها ... معاندة الضرّة للضرّة وإني بها عاشق درهما ... ومن لي يا صاح بالزهرة فعجبي بسيري إلى بلدتي ... كعجب الطفيلي بالسفرة ولو كنت ممّن يجيد الغناء ... لأحرزت مذ جئتها بدرة (؟)

فإن ردّني الله من صيفها ... سليما إلى () «1» البصرة وعدت إليها فعرسي طلاق ... ثلاثا وجاريتي حرّة (؟) وقال آخر: لقد طال في بغداد ليلي ومن يبت ... ببغداد يصبح ليله غير راقد بلاد إذا ولّى النهار تقافزت ... براغيثها من بين مثنى وواحد ديازجة شهب البطون كأنّها ... بغال بريد أرسلت في مذاود وقال آخر: زعم الناس أن ليلك يا بغداد ... ليل يطيب فيه النسيم ولعمري ما ذاك إلّا لما ... خالفهم بالنهار منه السموم وقليل الرخاء يتّبع الشدة ... عند العباد أمر عظيم وقال آخر: ترحّل فما بغداد دار إقامة ... ولا عند من يرجى ببغداد طائل محلّ أناس سمتهم في أديمهم ... وكلّهم من حلية المجد عاطل وقال بعض الصالحين: ما أحب أن أسكن أحد المصرين على أن أتصدق كل يوم على مائتي مسكين. فقيل له أي مصرين هما؟ قال: مصر وبغداد. وقال يعقوب بن إسحاق «2» : سمعت أبي يقول: سمعت يزيد بن هارون «3» - وسأله رجل أيام الفتنة، فقال: إن أبويّ يكرهان أن أخرج عن بغداد. فقال يزيد: إن أحب أبواك أن يقيما بأرض الشرك أتقيم معهما؟ قال: ثم رأيته [71 أ] بعد هذا القول مقيما ببغداد.

وقال ابن الكلبي: سميت البردان التي فوق بغداد بأربعة فراسخ بردانا لأن ملوك الفرس كانوا إذا أتوا بالسبي فنقّوا شيئا منه قالوا: برده. أي ذهبوا به إلى القرية البردان فسميت بذلك. قال: وكانت بردان الكوفة لوبرة بن رومانس أخي النعمان بن المنذر لأمّه فمات ودفن فيها. ولذلك قال مكحول بن حارية يرثيه: فما الدنيا بباقية لحيّ ... وما حيّ على الدنيا بباق لقد تركوا على البردان قبرا ... وهمّوا للتفرّق بانطلاق قال: وأنشدني الهيثم بن عيسى الكاتب لبعضهم: كفى حزنا والحمد لله أنني ... ببغداد قد أعيت عليّ مذاهبي أصاحب من لا أستلذّ صحابه ... وآلف قوما لست فيهم براغب ولم أثو في بغداد حبا لأهلها ... ولا أنّ فيها مستفادا لطالب سأرحل عنها قاليا لسراتها ... وأتركهم ترك الملول المجانب فإن ألجأتني النائبات إليهم ... فأير حمار في حر أمّ النوائب وقال آخر: اركب ببغداد وجوّل بها ... واقصد لمن شئت من الناس تجده من كان إذا جئته ... مستترا عنك بإفلاس يبدي لك الفقر ويطوي الغنى ... منك ويدنيك من الياس يخضع في المنطق من بخله ... وقلبه كالحجر القاسي وأنشد لمطيع بن إياس: حبّذا عيشنا الذي زال عنا ... حين نلنا المنى ولا حبّذا ذا أين هذا من ذاك سقيا لها ... ذاك، ولسنا نقول سقيا لهذا زاد هذا الزمان شرا وعرّا ... عندنا إذ أحلّنا بغداذا بلدة تمطر التراب على النا ... س كما تمطر السماء الرذاذا

[71 ب] فإذا ما أعاذ ربي بلادا ... من عذاب كبعض ما قد أعاذا خربت عاجلا كما خرّب الله ... بأعمال أهلها كلواذى وقال محبوب بن أبي العشنّط النهشلي: لروضة من رياض أو طرف ... من القرنة جرد غير محروث يفوح منه إذا مجّ الندى أرج ... يشفي الصداع ويشفي. كلّ ممغوث أملا وأحلى لعيني إن مررت به ... من كرخ بغداد ذي الرمّان والتوث الليل نصفان: نصف للهموم فما ... أقضي الرقاد. ونصف للبراغيث أبيت حين تساميني أوائلها ... أنزو وأخلط تسبيحا بتغويث سود مداليج في الظلماء مؤذية ... وليس ملتمس منها بمشبوث وقال بعض الكلابيين- وكان ببغداد فآذته البراغيث-: أصبحت سالمت البراغيث بعد ما ... مضت ليلة مني وقلّ رقودها فيما ليت شعري هل ازورنّ بلدة ... قليل بها أوباشها وعبيدها وهل اسمعنّ الدهر أصوات ضمّر ... تطالع بالركبان صعرا خدودها تراطن حولي كلّما ذرّ شارق ... ببغداد أنباط القرى وعبيدها وهل أرينّ الدهر نارا بأرضها ... بنفسي وأهلي أرضها ووقودها قال عياش بن باغان الرقي: مبتدأ دجلة من تحت حصن في جبل بآمد وعرضها عند منبعها أقل من عشرة أذرع، ثم تمر بجبال السلسلة. وفي جبال السلسلة عيون كثيرة يصب في دجلة ثم تخالطها أنهار عظيمة منها الخابور والزرم وغيرهما من الأنهار. ثم تصب إلى جزيرة ابن عمر التغلبي. وتخالطها أيضا أنهار كبار من نواحي [72 أ] أرمينية ثم تصير إلى بلد ثم إلى الموصل. فإذا أجازت الموصل بسبعة فراسخ، صب إليها الزاب الكبير. ومن تل فافان تحمل فيها السفن

والأطواف. فإذا بلغت السنّ، صب إليها الزاب الصغير. ثم تخالطها ببغداد أنهار من الفرات منها الصراة ونهر عيسى وغيرهما حتى تصير إلى البطائح. وروي عن كعب أنه قال: النيل نهر العسل في الجنة، ودجلة نهر اللبن والفرات نهر الخمر، وسيحان نهر الماء وهي التي ذكرها الله في القرآن. وقال أحمد بن محمد الحاسب «1» : أمر المتوكل بتسهيل أبواب دجلة من الموصل إلى بغداد وقلع الحجارة التي في الطريق لها الأبواب. فقيل له: يا أمير المؤمنين! إن عمك المأمون قد كان أمر بمثل ما أمرت فقيل له ان الله جلّ وعز إنما جعل هذه الصخور وفي هذه المواضع. وان كان فيها بعض الضرر على المجتازين لما في ذلك من الصلاح لعباده وعمارة بلاده من جهة معايشهم. وذلك انها ترد حمية الماء عن حافتي دجلة. ومقامها مقام الشكور. ويحتاج إليها أيضا لينضمّ الماء ولا يتفرق فيحمل على الأنهار. ولولا هذه الحجارة لفقر الماء دجلة حتى تخطّ وأضر ذلك بالناس وبطلت العمارة. فأمسك عما كان همّ به. قال: وبأسفل واسط تسكن جرية دجلة وتخف. وهناك تأخذ منها أنهار كسكر ونواحيها. فأما ما يأخذ منها ويسقي الجانب الشرقي، فالقناتان الشتوية والصيفية وهما اللتان عملهما المتوكل لسرمرى كانتا تدخلان المسجد الجامع وتتخللان شوارع سامرا. ثم النهر الذي قدّره أيضا وعمل على أن يدخل الخير فلم يتم. وقد كان أنفق عليه سبعمائة ألف دينار. وكان السبب في أنه لم يتم، ان المتوكل قتل قبل الفراغ منه. وقد حاول المنتصر أن يتمه، فلقصر أيامه لم يستو ذلك. ثم القاطول الكسروي يسقي [72 ب] النهروان وعليه شاذروان فوقه يسقي رستاق بين النهرين من طسوج بزرجسابور. ثم القاطول المعروف بأبي الجند، يأخذ من دجلة ويصب أسفل الشاذروان الذي أحدثه الرشيد عند عمله ذلك

الشاذروان عوضا لأهل النهروان بسبب ما سدّ عنهم الشاذروان. ثم نهر السلام يأخذ من دجلة ويسقي كلواذى ونهر بين بزرج سابور ونهر بوق. وفي الجانب الغربي، النهر المعروف بالإسحاقي في مبتدأه من تكريت وهو يسقي العمارات. والقناة القديمة يسقي أيضا العمارات. ودجيل يسقي قطربل ومسكن. [بنى الأكاسرة بين المدائن التي على عقبة همذان وقصر شيرين مقبرة آل ساسان. وعقرقوف كانت مقبرة الكيانيين وهم أمة من النبط كانوا ملوكا بالعراق قبل الفرس] «1» .

القول في سرمرى قال الشعبي: كان سام بن نوح له جمال ورواء وعقل ومنظر، وكان يصيف بالقرية التي ابتناها نوح عند خروجه من السفينة ببازبدى وسماها ثمانين، ويشتو بأرض جوخا. وكان ممره من أرض جوخا إلى بازبدى على شاطئ دجلة من الجانب الشرقي. فيسمى ذلك المكان إلى الآن سام [راه، يعني طريق سام] . وقال إبراهيم بن الجنيد «1» : سمعتهم يذكرون أن سامرا بناها سام بن نوح ودعا أن لا يصيب أهلها سوء. فأراد السفاح أن يبنيها فبنى مدينته بالأنبار بحذائها. وأراد المنصور بعد ما أسس بغداد وسمع في الرواية ببركة هذه المدينة أن يبنيها. فابتدأ بالبناء في البردان ثم بدا له وبنى بغداد. وأراد الرشيد أيضا بناءها، فبنى بحذائها قصرا وسماه المبارك وهو بحذاء أثر بناء قديم كان للأكاسرة. ثم بناها المعتصم ونزلها سنة إحدى وعشرين ومائتين. وروى ليث عن مجاهد قال: حيثما اجتمع المسلمون فهو مصر. ولم يبن أحد من الخلفاء من الأبنية الجليلة ما بناه المتوكل. فمن ذلك القصر المعروف بالعروس، أنفق عليه ثلاثين ألف ألف درهم. والمختار، خمسة ألف ألف درهم. والوحيد، ألفي ألف درهم. والمسناة [73 أ] عشرين ألف ألف درهم. والبرج ثلاثين ألف ألف درهم. والجوسق الإبراهيمي، ألفي ألف درهم. والجعفري المحدث عشرة ألف ألف درهم. والغريب عشرة ألف ألف درهم. والشيدار عشرة ألف ألف درهم. والبرج عشرة ألف ألف درهم. والصبح خمسة

ألف ألف درهم. والمليح خمسة ألف ألف. والقصر في بستان الإيتاخية عشرة ألف ألف. والتل علوه وسفله خمسة ألف ألف. والجوسق في ميدان الصخر خمسمائة ألف. والمسجد الجامع خمسة عشر ألف ألف درهم. وبركوان للمعتز عشرين ألف ألف درهم. والقلائد خمسين ألف دينار، وجعل فيها أبنية بمائة ألف دينار. والفرد في دجلة ألف ألف درهم. والقصر بالمتوكلية وهو الذي يقال له الماحوزة خمسين ألف ألف درهم. والبهو خمسة وعشرين ألف ألف. واللؤلؤ خمسة ألف ألف درهم. فذلك الجميع مائتا ألف ألف وأربعة وتسعون ألف ألف درهم. وكان المعتصم والواثق والمتوكل إذا بنى أحدهم بناء من قصر أو غيره، أمر الشعراء أن يعملوا فيه [شعرا] «1» . فمن ذلك قول علي بن الجهم في الجعفري الذي بناه المتوكل وما زلت أسمع أنّ الملوك ... تبني على قدر أقدارها وأعلم أنّ عقول الرجال ... يقضى عليها بآثارها فلما رأينا الإمام ... رأينا الخلافة في دارها بدائع لم ترها فارس ... ولا الروم في طول أعمارها وللروم ما شيّد الأولون ... وللفرس آثار أحرارها وكنا نحسّ لها نخوة ... فطامنت نخوة جبّارها وأنشأت تحتج للمسلمين ... على ملحديها وكفّارها صحون تسافر فيها العيون ... إذا ما تجلّت لأبصارها وقبة ملك كأنّ النجوم ... تفضي إليها بأسرارها تخرّ الوفود لها سجّدا ... سجود النصارى لكبّارها لها شرفات كأنّ الربيع ... كساها الرياض بأنوارها

نظمن النسانس نظم الحليّ ... أمون النساء وأبكارها فهنّ كمصطحبات برزن ... لفصح النصارى وأقطارها فمن بين عاقصة شعرها ... ومرسلة عقد زنّارها وأروقة شطرها للرخام ... وللتبر أكرم أشطارها إذا رمقت تستبين العيو ... منها منابت أشفارها [73 ب] وسطح على شاهق مشرف ... عليه النخيل بأثمارها إذا الريح هبّت لها أسم ... عتك عزيف القيان بأوتارها أطاعتك دجلة فاستنجدت ... عليك بأغزر أنهارها وفوارة ثأرها في السماء ... فليس تقصّر عن ثارها تردّ على المزن ما أنزلت ... إلى الأرض من صوب مدارها لو أنّ سليمان أدّت له ... شياطينه بعض أخبارها لأيقنّ أنّ بني هاشم ... يقدّمها فضل أخطارها فلا زالت الأرض معمورة ... بعمرك تأخير أعمارها قال: وحدثني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد البيهقي «1» ، قال: أنشدني حماد بن إسحاق الموصلي «2» لأبيه في الواثق ويصف سرمرى وصيده بها ويذكر النجف ويزعم أنه كتبها عنه كل ذي نعمة وأدب ببغداد. أوّلهم ابن أبي داود. وفيها عدة ألحان صاغها المغنّون: يا راكب العيس لا تعجل بنا وقف ... نحيّ دارا لسعدى ثم ننصرف وابك المعاهد من سعدى وجارتها ... ففي البكاء شفاء الهائم الكلف

لا تمنع العين من دمع تجود به ... في دار سعدى ولكن خلّها تكف أشكوا إلى الله يا سعدى جوى كبد ... حرّى عليك متى ما تذكري تجف أهيم وجدا بسعدى وهي تصرمني ... هذا لعمرك شكل غير مؤتلف أما أنالك أن تنهاك تجربة ... عنها وما كان من وعد ومن خلف دع عنك سعدى فسعدى عنك نازحة ... واكفف هواك وعدّ القول في لطف ما ان أرى الناس في سهل ولا جبل ... أصفى هواء ولا أغدى من النجف كأنّ تربته مسك يفوح به ... أو عنبر دافه العطار في الصدف حفّت ببرّ وبحر من جوانبها ... فالبرّ في طرف والبحر في طرف وبين ذاك بساتين يسيح بها ... نهر يجيش بجاري سيله القصف وما يزال نسيم من أيامنه ... يأتيك منه بريّا روضة أنف تلقاك منه قبيل الصبح رائحة ... تشفي السقيم إذا أشفى على التلف لو حلّه مدنف يرجو الشفاء به ... إذا شفاه من الأسقام والدنف [74 أ] يؤتى الخليفة منه كلّما طلعت ... شمس النهار بأنواع من التحف الصيد منه قريب إن هممت به ... يأتيك مؤتلفا في زيّ مختلف من كلّ أقرن ممشوق قوائمه ... وكلّ مخرجه (؟) مشقوقة الظلف وطير ماء ودرّاج يساوره ... بأن يغلّقه في جوّ مختطف (؟) فيا له منزلا طابت مساكنه ... بخير من حاز بيت العز والشرف خليفة واثق بالله همّته ... تقوى الإله بحقّ الله معترف ساس البرية فانقادت لطاعته ... طوعا بلا خرق منه ولا عنف أقام فيهم قناة العدل فانتصبت ... وسار فيهم بلا ميل ولا جنف وقال الحسين بن الضحاك في سرمرى من شعر طويل:

رحلنا غرابيب زيّافة ... بدجلة في موجها الملتطم سوانح أيقنّ أن لا قرار ... دون مباركة المعتصم فلمّا دفعن لقاطولها ... ودهم قراقيرها تصطدم سكنّ إلى خير مسكونة ... تقسمها راغب من أمم مباركة شاد بنيانها ... بخير المواطن خير الأمم كأنّ بها نشر كافوره ... لبرد ثراها وطيب النسم كظهر الأديم إذا ما السحاب ... صاب متنها وانسجم مبرأة من وحول الشتاء ... إذا بجره وانتظم (؟) فما ان يزلّ بها راجل ... بغيث سماء ولا يرتطم يمرّ على رسله آمنا ... نقيّ الشراك نقيّ القدم بجرعاء لا صيفها ساطع ... بنقع ولا آخذ بالكظم تخرّق في برّها بحرها ... فأجدف جوادنها بالسلم فللضبّ والنون في بطنها ... جوار ومرتبع للنعم إذا ما الربيع بأنوائه ... كساها زخارف ممّا نجم وعمّم أعلامها زهره ... وجلّل قيعانها والأكم غدوت على الوحش منظومة ... رواتع في نورها المنتظم ورحت عليها وأسرابها ... شوارع في غدرها تزدحم كأنّ شوادن غزلانها ... نجوم بأكنافها تبتسم فلا أين عن وطن خصّه ... عقيد السماح وأسّ الكرم وقال فيها أيضا [74 ب] : كلّ البلاد لسرّمرّى شاهد ... أنّ المصيف بها كفصل سواها فيحاء طاب مقيلها ومبيتها ... وغدوّها ورواحها وضحاها

وإذا الرياح تنفست برباعها ... وجرت بطيب نسيمها ونشاها فكأنما سبقت إليك بنفحة ... من جنّة حصباؤها وثراها وقال أيضا: على سرّمرى والمصيف تحية ... مجللة من مغرم بهواهما ألا هل لمشتاق ببغداد رجعة ... تقرّب من ظلّيهما وذراهما محلّان لقّى الله خير عباده ... عزيمة رشد فيهما فاصطفاهما وقولا لبغداد إذا ما تسنّمت ... على أهل بغداد جعلت فداهما أفي بعض يوم شفّ عينيّ بالقذى ... حرورك حتى رابني ناظراهما وقال أيضا: أحد بما تسمعه يا حادي ... وقل بترتيلك في الإنشاد جادك يا بغداد من بلاد ... إلى تمارى من قرى السواد فقبة السيب فبطن الوادي ... فالعرصة الطيبة المراد حبيب كل رائح وغاد ... يا ليت شعري والحنين زادي هل لي إلى ظلّك من معاد ... لله ما هجت على البعاد لقلب حرّان إليك صاد ... بدّل من ريفك بالبوادي بقفرة موحشة الأطواد ... مجهولة مجدبة حماد بعيدة الورد من الورّاد وقال فيها أيضا [75 أ] : سرّمرّى أسرّ من بغداد ... فاله عن ذكر ذكرها المعتاد حبذا مسرح لها ليس يخلو ... أبدا من طريدة وطراد ورياض كأنما نشر الزهر ... عليها محبّر الأبراد واذكر المشرف المطلّ ... من التلّ على الصادرين والورّاد

وإذا روّح الرعاء فلا ... تنس دواعي فواقد الأولاد «1» وقال فيها أيضا: سقى الله ما والى المصيف وما انطوى ... على سرّمرّى مستهلّا مبكرا فلم أر أيّاما تسرّ قصارها ... أسرّ من الأيام فيها وأقصرا بلاد خلت من كل ريب فلا ترى ... بلادا توازيها غذاء ومنظرا أصبّ بمشتاها ولين مصيفها ... ورقّة فصليها إذا الأفق أسفرا كأنّ حصاها بثّ في عرصاتها ... فرائد مرجان ودرّا مسطّرا تريك إذا الوسمي جاد متونها ... وعاد عليهنّ الوليّ فأمطرا رياضا تحار العين في جنباتها ... إذا صفّر الأرض الربيع وحمّرا كأنّ بها في كلّ فجّ سلكته ... نمارق زرياب ووشيا محبّرا تراعى بها عفر الظباء سواكنا ... أوامن في أكنافها أن تنفّرا سكن إلى جار حماهنّ رأفة ... فمدّ حمى من دونهنّ وحيّرا كفاهنّ روعات الطراد ذمامه ... فما تعرف الطرّاد إلّا تذكرا يهادين بالحيرين من كل مذهب ... حدائق جنّات وماء مفجّرا كأنّ مرابيع السجال خلالها ... نجوم تهادى منجدات وعوّرا تراهنّ من فرط المراح شوامخا ... من العجب ما يمشين إلّا تبخترا فلا برحت دار الإمام بغبطة ... ولا زال شانيها بأصلد أوعرا تخيّرها دون البقاع موفّق ... أصاب طريق الرشد فيما تخيّرا [75 ب] وكان المتوكل قد انتقل من سرمرى إلى الجعفري وانتقل معه عامة أهل سرمرّى حتى كادت أن تخلو. فقال في ذلك أبو علي البصير: إنّ الحقيقة غير ما تتوهّم ... فاختر لنفسك أيّ أمر تعزم

أتكون في القوم الذين تأخروا ... عن حظّهم أم في الذين تقدّموا لا تقعدنّ تلوم نفسك حين لا ... يجدي عليك تأسف وتندّم أضحت قفارا سرّمرّى ما بها ... إلّا لمنقطع به متلوّم تبكي بظاهر وحشة وكأنها ... إن لم تكن تبكي بعين تسجم كانت تظلّم كلّ أرض مرة ... عنها، فصارت بعد وهي تظلّم رحل الإمام فأصبحت وكأنها ... عرصات مكة حين يمضي الموسم وكأنما تلك الشوارع بعض ما ... أخلت إياد من البلاد وجرهم كانت مرادا للعيون فأصبحت ... عظة ومعتبرا لمن يتوسّم وكأنّ مسجدها المشيد بناؤه ... ربع أحال ومنزل متوهّم وإذا مررت بسوقها لم تنء عن ... سنن الطريق ولم تجد من يزحم وترى الذراري والنساء كأنّهم ... خلف أقام وغاب عنه القيّم فارحل إلى الأرض التي يحتلّها ... خير البرية انّ ذلك أحزم وانزل مجاورة بأكرم منزل ... وتيمّم الجهة التي يتيمّم أرض تسالم صيفها وشتاؤها ... فالجسم بينهما يصحّ ويسلم وصفت مشاربها ورق أوارها ... والتذّ برد نسيمها المتنسّم سهلية جبلية لا تجتوي ... حرا ولا قرا ولا تستوخم [76 أ] ويقال إن المعتصم ملك ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام. وكان ملكه في سنة ثمان عشرة ومائتين. وكان له من الفتوح ثمانية. وبنى ثمانية قصور. وولد له ثمانية ذكور وثماني إناث وخلف في بيت المال ثمانمائة ألف دينار وثمانية ألف ألف درهم. فمن القصور، الجوسق والقيد المللي وقصر الجص وقصر القصور وعمورية وقصر المطامير والقصر السماني والقصر الخاقاني.

والفتوح: الزط والمحمرة وبابك وعمورية والمازيار وجعفر الكردي والحسن بن خيلويه والحوف بمصر. وكتب عبد الله بن المعتز إلى بعض إخوانه يذكر سرمرى بعد خرابها ويذم بغداد وأهلها: كتبت إليك من بلدة قد أنهض الدهر سكّانها، وأقعد جدرانها. فشاهد اليأس فيها ينطق، وحبل الرجاء فيها يقصر. فكأن عمرانها يطوى، وكأن خرابها ينشر. قد وكلت إلى الهجر نواحيها وحث باقيها إلى فانيها. وتمزقت بأهلها الديار، فما يجب فيها حق جوار. فالظاعن عنها ممحوّ الأثر، والمقيم بها على طرف سفر. نهاره إرجاف، وسروره أحلام. ليس له زاد فيرحل، ولا مرعى فيربع. فحالها تصف للعيون الشكوى، وتسير إلى ذم الدنيا. بعد ما كانت بالمرأى جنة الأرض وقرار الملك، تفيض بالجنود أقطارها، عليهم أردية السيوف وغلائل الحديد. كأن رماحهم قرون الوعول، ودروعهم زبد السيول. على خيل تأكل الأرض بحوافرها، وتمدّ بالنقع ستائرها. قد نشرت في وجوهها غرر كأنها صحائف البرق، وأمسكها تحجيل كأسورة اللجين. وقرّطت عذرا كالشنوف. في جيش تتلقف الأعداء أوائله ولم تنهض أواخره. قد صب عليه ذمار الصبر، وهبت له ريح النصر. يصرّفه ملك يملأ العين جمالا والقلوب جلالا. لا تختلف مخيلته ولا تنقض [76 ب] مريرته. ولا يخطئ بسهم الرأي غرض الصواب، ولا يقطع بمطايا اللهو سفر الشباب. قابضا بيد السياسة على أقطار ملك لا ينتشر حبله، ولا تتشظى عصاه، ولا تطفى جمرته في سن شباب لم يجن مأثما، وشيب لم يراهق هرما. قد فرش مهاد عدله، وخفض جناح رحمته. راجما بالعواقب [الظنون] «1» . لا يطيش عن قلب فاضل الحزم بعد العزم. ساعيا على الحق يعمل به. عارفا بالله يقصد إليه. مقرّا للحلم ويبذله. قادرا على العقاب ويعدل فيه. إذ الناس في دهر غافل قد اطمأنت بهم سيرة لينة الحواشي خشنة المرام، تطير بها أجنحة السرور، ويهب فيها نسيم الحبور، فالأطراق على مسرّة والنظر إلى مبرّة. قبل أن تخبّ مطايا

الغير، وتسفر وجوه الحذر. وما زال الدهر مليئا بالنوائب، طارقا بالعجائب، يؤمن يومه ويغدر غده. على أنها وإن جفيت، معشوقة السكنى، رحيبة المثوى. كوكبها يقظان، وجوها عريان. وحصاها جوهر ونسيمها معطّر. [وترابها مسك أذفر، ويومها غداة وليلها سحر] «1» وطعامها هنيء، وشرابها مريء، وتاجرها مالك، وفقيرها فاتك، لا كبغدادكم الوسخة السماء، الومدة الهواء. جوّها نار، وأرضها خبار. وماؤها حميم وترابها سرجين. وحيطانها نزوز، وتشرينها تموز. فكم في شمسها من محترق، وفي ظلها من عرق. ضيقة الديار، قاسية الجوار. ساطعة الدخان، قليلة الضيفان. أهلها ذئاب، وكلامهم سباب. وسائلهم محروم، ومالهم مكتوم. لا يجوز إنفاقه، ولا يحلّ خناقه. وحشوشهم مسائل، وطرقهم مزابل. وحيطانهم اخصاص، وبيوتهم أقفاص. ولكل مكروه أجل، وللبقاع دول. والدهر يسير بالمقيم، ويخرج البؤس بالنعيم. وبعد اللجاجة انتهاء والهمّ إلى فرجة. ولكل سائلة قرار. وبالله أستعين وهو محمود على كل حال. وفي خراب سرمرى يقول ابن المعتز: غدت سرّمرى في العفاء كأنها ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل وأصبح أهلوها شبيها بحالها ... لما نسجتهم من جنوب وشمال إذا ما امرؤ منهم شكا سوء حاله ... يقولون لا تهلك أسى وتجمّل [77 أ] .

القول في السواد وصفته وأعلام حدوده وكوره وطساسيجه وسبب مساحة الأرض وتقدير خراجه وطوله وعرضه قال المدائني: السواد عشر كور، وهو من لدن القادسية إلى أول حدّ الجبل دون حلوان. والسواد الذي وقعت عليه المساحة من لدن تخوم الموصل مادّا مع الماء إلى ساحل البحر إلى بلاد عبادان من شرقي دجلة. هذا طوله. فأما عرضه: فحد منقطع الجبل من أرض حلوان إلى منتهى طرف القادسية المتصل بأرض العذيب. فهذه حدود السواد وعليها وضع الخراج. وقال الأصمعي: السواد سوادان. فسواد البصرة، الأهواز ودستميسان وفارس. وسواد الكوفة، كسكر إلى الزاب وحلوان إلى القادسية. وقال أبو معشر: إن الكلدانيين هم الذين كانوا ينزلون بابل في الزمان الأول. ويقال: إن أول من سكنها وعمرها، نوح عليه السلام. وذلك أنه نزلها بعقب الطوفان. فصار هو ومن خرج معه من السفينة إليها لطلب الرفاء. فأقاموا بها وتناسلوا فيها وكثروا من بعد نوح وملكوا عليهم ملوكا وابتنوا بها المدائن واتصلت مساكنهم بدجلة والفرات إلى أن بلغوا من دجلة إلى أسفل كسكر، ومن الفرات إلى ما وراء الكوفة. وموضعهم هو الذي يقال له السواد. وكانت ملوكهم تنزل بابل.

وكان الكلدانيون جنودهم. فلم تزل مملكتهم قائمة إلى أن قتل دار آخر ملوكهم. ثم قتل منهم خلقا فذلّوا وانقطع ملكهم. وذكر ابن الكلبي: ان مدينة بابل كانت اثني عشر فرسخا في مثل ذلك. وكان بابها مما يلي الكوفة. وكان الفرات يجري ببابل حتى صرفه بخت نصر إلى موضعه الآن مخافة أن يهدم عليه سور المدينة لأنه كان يجري معه. قال: ومدينة بابل بناها بيوراسب واشتق اسمها من اسم المشتري. لأن بابل باللسان البابلي الأول اسم للمشتري. ولما بناها جمع فيها كل من قدر عليه من العلماء وبنى لهم اثني عشر قصرا على عدد [77 ب] البروج وسماها بأسمائهم. فلم تزل عامرة حتى خرج الإسكندر فأخربها. وقال الله عزّ وجلّ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ . فروي عن الأعمش قال: كان مجاهد لا يسمع بشيء من الأعاجيب إلّا مضى حتى ينظر إليه. وانه صار إلى حضرموت حتى نظر إلى بئر برهوت، وأتى بابل فلقيه رجل من رؤساء أهلها كان عارفا به. فلما لقيه أكبره وقال له: أبا الحجاج ما تصنع هاهنا؟ قال حاجة لي إلى رأس الجالوت، أحب أن تدخلني إليه وتعرّفه من أنا. فأدخله إليه وعرّفه محلّه وموضعه وقال: له حاجة إليك. قال وما حاجتك؟ قال: تأمر بعض اليهود أن يريني هاروت وماروت. فامتنع عليه طويلا ثم قال له: أخشى أن لا تتماسك. قال: أرجو أن لا يكون إلّا ما تحب. فأرسل إلى رجل من اليهود فقال: اذهب بهذا فأدخله إلى هاروت وماروت. فقال له اليهودي: كيف تجد قلبك؟ قال: ما شئت. فانطلق به إلى مكان غامض في الصحراء، وإذا صخرة عظيمة. فتكلم عليها كلاما ذكر أنه من التوراة، فأقبلت تهتز. ثم رفعها وأزالها عن مكانها. وكانت لا يقلّها مائة رجل. وإذا تحتها شبيه بالسرب. فقال له اليهودي: تعلق بي وانظر أن لا تذكر الله. فنزل معه مجاهد، فلم يزل يهوي به حتى صارا إلى فضاء عظيم. وإذا هما مثل الجبلين العظيمين، منكوسان على رؤوسهما وعليهما الحديد من أعناقهما إلى أقدامهما مصفدين. فلما رآهما مجاهد لم يملك نفسه أن ذكر الله عزّ وجلّ. فاضطربا اضطرابا شديدا حتى كادا أن يقطعا ما عليهما من

الحديد، وخر اليهودي ومجاهد على وجوههما وقتا طويلا ثم أفاقا. فقال اليهودي لمجاهد: ألم أتقدم إليك أن لا تذكر الله؟ كدنا والله أن نهلك ولا نقدر على الخروج. فتعلق به مجاهد، فلم يزل يصعد به حتى خرجا إلى الأرض. ويقال إن عمر بن الخطاب سأل دهقان الفلوجة عن عجائب بلادهم فقال: كان بها [عجائب] «1» بجميع مدنها في كل مدينة أعجوبة ليست في [78 أ] الأخرى. فكان في المدينة التي ينزلها الملك بيت فيه صورة الأرض كلها برساتيقها وقراها وأنهارها. فمتى التوى بحمل الخراج أو غيره أهل بلد من جميع البلدان، خرق أنهارهم فغرقتهم وأتلفت زروعهم وجميع ما في بلدهم حتى يرجعوا عمّا همّوا به. ثم يسدّ بإصبعه تلك الأنهار فتنسد في بلدهم. وفي المدينة الثانية حوض عظيم. فإذا جمعهم الملك لحضور مائدته، حمل كل رجل ممن يحضر من منزله شرابا يختاره ثم صبه في ذلك الحوض. فإذا جلسوا على الشرب شرب كل واحد شرابه الذي حمله من منزله. وفي المدينة الثالثة طبل معلق على بابها فإذا غاب من أهلها إنسان وخفي أمره على أهله، وأحبوا أن يعلموا أحيّ أم ميت، ضربوا ذلك الطبل. فإن سمعوا له صوتا، فإن الرجل حي. وإن لم يسمعوا صوتا فإن الرجل قد مات. وفي المدينة الرابعة مرآة من حديد، فإذا غاب الرجل عن أهله فأحبوا أن يعرفوا خبره على صحته، أتوا تلك المرآة فنظروا فيها فيرونه على الحال التي هو فيها. وفي المدينة الخامسة اوزّة من نحاس على عمود من نحاس منصوب على باب المدينة فإذا دخلها جاسوس صوتت الأوزة بصوت يسمعه سائر أهل المدينة فيعلمون أن قد دخلها جاسوس. وفي المدينة السادسة قاضيان جالسان على الماء. فإذا تقدم إليهما الخصمان وجلسا بين أيديهما غاص المبطل منهما في الماء وثبت المحق.

وفي المدينة السابعة شجرة من نحاس ضخمة كثيرة الغصون لا تظل ساقها. فإذا جلس تحتها واحد أظلّته إلى ألف نفس، فإنها تظلهم كلهم. فإذا زادوا على ألف صاروا كلهم في الشمس. وقال يزيد بن عمر الفارسي: كانت ملوك الفرس تعد السواد اثني عشر استانا وتحسبه ستين طسوجا وتفسير الاستان إجارة وترجمة الطسوج: ناحية. وكان الملك من ملوكهم إذا عني بحيّز من الأرض عبره وسماه باسمه. وكانوا ينزلون [78 ب] السواد لما جمع الله في أرضه من مرافق الخيرات وما يوجد فيها من غضارة العيش وخصب المحل وطيب المستقر، ولما ينصب إليها من مواد الأطراف ومنافعها وسعة ميرها من أطعمتها وأدواتها وأمتعتها وعطرها ولطيف صناعاتها. وكانوا يشبّهون السواد بالقلب وسائر الدنيا بالبدن، ولذلك سموه: دل إيرانشهر، أي قلب إيرانشهر. وإيرانشهر: الإقليم المتوسط لجميع الأقاليم. وإنما سموه بذلك لأن الآراء تتشعب عن أهله بصحة الفكر والروية كما تتشعب من القلب بدقائق العلوم ولطائف الآداب والأحكام الكتابية. فأمّا ما حولها من البلاد فأهلها يستعملون أطرافهم بالمباشرة والعلاج. وخصب بلاد إيرانشهر بسهولة. لا عوائق فيها ولا شواهق تشينها ولا مفاوز موحشة ولا براري منقطعة عن تواصل العمارة والأنهار المطردة في رساتيقها وبين قراها. مع قلة جبالها وآكامها وتكاثف عمارتها وكثرة أصناف غلاتها وثمارها. والتفاف أشجارها وعذوبة مائها وصفو هوائها وطيب تربتها مع اعتدال طينتها وتوسط مزاجها وكثرة أجناس الصيد في ظلال شجرها وبين عشبها، وخلال زهرتها. من طائر [بجناح] وماش على ظلف وسابح في البحر. امنه مما ينال البلدان من غارات الأعداء وبوائق المخالفين. مع ما خصت به من الرافدين دجلة والفرات. إذ هما مادان لا ينقطعان شتاء ولا صيفا على بعد منابعهما ونزوح مبتدأهما. [فإنه] «1» لا ينتفع منهما بكثير عمارة حتى يدخلاها فيسيح ماؤهما في جنباتها وينبطح بين

رساتيقها، فتأخذ صفوه وعذوبته وترسل كدره وأجنه [إلى البحر] «1» . هذا قليل من كثير وصفها ويسير من نعت جليلها. قالوا: وأول طول السواد على ما حدّته ملوك فارس من قرية تعرف بالعلث على حدّ طسوج بزرجسابور من شرقي دجلة. وقرية في غربي دجلة مقابلتها تجري على حد طسوج مسكن. بينهما عرض دجلة إلى آخر الكورة المعروفة [79 أ] ببهمن أردشير. وهي فرات البصرة إلى جزيرة منها متصلة بالبحر تعرف بميان روذان. وهو مائة فرسخ وخمسة وعشرون فرسخا، وعرضه من عقبه حلوان إلى أن ينتهي إلى العذيب. وذلك ثمانون فرسخا يكون جملة ذلك مكسرا عشرة ألف فرسخ. والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع بالذراع المرسلة. يكون بالذراع الهاشمية تسعة آلاف ذراع وهو مائة وخمسون أشلا. يكون ذلك في مثله اثنين وعشرين ألفا وخمسمائة جريب. هذا لكل فرسخ. فإذا ضربت في عشرة آلاف، بلغت مائتي ألف ألف وعشرين ألف جريب. يسقط منها بالتخمين، آكامها وآجامها وسباخها ومجاري أنهارها ومواضع مدنها وقراها ومدى ما بين طرقها الثلاث. فيبقى مائة ألف ألف وخمسون ألف ألف جريب. يراح منها النصف ويعمر النصف على ما فيها من الكرم والنخل والشجر والعمارة الدائمة المتصلة، فيقع التخمين بالتقريب على كل جريب، قيمة ما يلزمه للخراج درهمان وذلك أقل من العشر على أن يضرب بعض ما يوجد فيها من أصناف الغلات ببعض سوى خراج أهل الذمة وسوى الصدقة. فإن ذلك لا يدخل في الخراج. فيبلغ ذلك مائة ألف ألف وخمسين ألف ألف درهم مثاقيل. وكانت غلات السواد تجري على المقاسمة في أيام ملوك فارس إلى أن ملك قباد بن فيروز فإنه مسحه وجعل على أهله الخراج. وكان السبب في ذلك أنه خرج ذات يوم متصيدا فانفرد من أصحابه في اتباع صيد طرده حتى وغل في شجر ملتف وغاب الصيد الذي تبعه عن بصره. فقصد إلى رابية يتشرّف عليها، فإذا تحت الرابية قرية كبيرة. ونظر إلى بستان قريب منه فيه نخل ورمان وغير ذلك من أصناف

الشجر، وإذا امرأة واقفة على تنور تخبز ومعها صبي لها كلما غفلت عنه مضى إلى شجرة رمان مثمر ليتناول من رمانها وهي تمنعه من [79 ب] ذلك ولا تتركه يأخذ شيئا منه. فلم تزل كذلك حتى فرغت من خبزها وجميع ما هي والصبي فيه بمشهد من الملك. فلما لحقه أصحابه ووزراؤه قصّ «1» عليهم ما رأى من المرأة والصبي ووجّه إليها من سألها عن السبب الذي لأجله منعت ولدها أن يتناول شيئا من الرمان. فقالت: إن للملك فيه حصة ولم يأتنا المستأدون «2» بعد لقبضها وهي أمانة في أعناقنا لا يجوز أن نخونها ولا نتناول من جميع ما تحت أيدينا شيئا حتى يأخذ الملك حقه. فلما سمع قباد قولها أدركته الرقة عليها وعلى الرعية وقال لوزرائه: إن الرعية في شدة شديدة وسوء حال بما في أيديهم من غلاتهم لأنهم ممنوعون من الانتفاع بشيء من ذلك حتى يرد عليهم من يأخذ حقنا منهم. فهل عندكم حيلة نفرّج بها عنهم ما هم فيه؟ فقال بعض وزرائه: نعم. يأمر الملك بالمساحة عليهم ويلزم كل جريب من كل صنف بقدر ما يخص الملك من الغلة ليؤدوا ذلك إليه، ويطلق أيديهم في غلاتهم. ويكون ذلك على قرب مخارج المير وبعدها من الممتارين. فأمر قباد بمساحة السواد والزم الرعية الخراج بعد حطيطة النفقة والمؤونة على العمارة والنفقة على كري الأنهار وسقاية الماء وإصلاح البريدات وان جميع ذلك على بيت المال. فبلغ خراج السواد في تلك السنة مائة ألف ألف وخمسين ألف ألف درهم مثاقيل. فحسنت أحوال الناس ودعوا للملك بطول البقاء لما نالهم من العدل والرفاهية. وكان «3» أول ما يعدّ من السواد، كورة استان خسروشاد فيروز، وهي كورة حلوان، خمسة طساسيج، طسوج فيروز قباذ. طسوج الجبل. طسوج تامرا. طسوج أربل. طسوج خانقين الشرقي. سقي دجلة وتامرا:

كورة استان شادهرمز، سبعة طساسيج: طسوج بزرجسابور. طسوج نهر بوق. طسوج [80 أ] كلواذى ونهر بين. طسوج جازر. طسوج المدينة العتيقة. طسوج راذان الأعلى والأسفل. كورة استان قباذ: ثمانية طساسيج: طسوج روستقباد. طسوج مهروذ. طسوج سلسل. طسوج جلولاء وجللتا «1» . طسوج الذنبين. طسوج البندنيجين. طسوج براز الروز. طسوج الدسكرة والرساتيق «2» . كورة استان بازيجان «3» : خمسة طساسيج: طسوج النهروان الأعلى. طسوج النهروان الأوسط. طسوج بادريا. طسوج باكسايا «4» . سقي دجلة والفرات: كورة استان شاذ شابور- وهي كسكر- أربعة طساسيج: طسوج الزندرود. طسوج البربون «5» . طسوج الاستان. طسوج الجواذر. كورة استان شاذ بهمن- وهي كورة دجلة- أربعة طساسيج: طسوج بهمن أردشير. طسوج ميسان. طسوج دستميسان وهو الأبلّة. قال غيلان بن سلمة الثقفي: ظلّت تحيد من الدجاج وصوته ... وصريف باب بالأبلّة مغلق وطسوج ابرقباذ. وخراج كور دجلة ثمانية ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم. سقي الفرات ودجيل: كورة استان الكاليا، أربعة طساسيج: طسوج فيروز شابور وهو الأنبار. وطسوج مسكن. قال ابن قيس الرقيات:

إن الرزية يوم مسكن والمصيبة والفجيعة. وطسوج قطربل. وطسوج بادوريا. كورة استان أردشير بابكان، خمسة طساسيج: طسوج بهرسير. طسوج الرومقان. طسوج كوثر «1» . طسوج نهر درقيط. طسوج نهر جوبر. كور استان رونق ماسيان «2» - وهي الزوابي- ثلاثة طساسيج: طسوج الزاب الأعلى. طسوج الزاب الأوسط. طسوج الزاب الأسفل «3» . كورة بهقباذ الأوسط، أربعة طساسيج: طسوج الحبة [80 ب] والبداة. طسوج سوراء وبرسيما. طسوج باروسيما. طسوج الملك. كورة استان بهقباد الأسفل، خمسة طساسيج: طسوج تستر. طسوج فرات بادقلى. طسوج السيلحين. طسوج روذستان. طسوج هرمز جرد «4» .

القول في سرمرى

تقدير السواد «1» الجانب الغربي، سقي دجلة والفرات: اسم الطسوج/ عدد الرساتيق/ عدد البيادر/ كمية الحنطة/ كمية الشعير/ الورق الأنبار/ 5/250/2300 كرّ/ 1400 كرّ/ 350000 قطربل/ 10/220/2000 كرّ/ 1000 كر/ 300000 درهم مسكن/ 6/150/3000 كرّ/ 1000 كر/ 150000 درهم بادوريا/ 10/420/3500 كرّ/ 2000 كرّ/ 100000 درهم بهرسير 10/140/1700 كر/ 1700 كر/ 150000 درهم الرومقان/ 10/240/1300 كر/ 3050 كر/ 500040 درهم كوثى/ 9/210/3000 كر/ 2000 كر/ 150000 درهم نهر درقيط/ 8/125/2000 كر/ 1000 كر/ 200000 درهم نهر جوبر/ 10/226/2700 كر/ 10000 كر/ 150000 درهم كورة الزوابي 3 طساسيج/ 12/244/1400 كر/ 7200 كر/ 1000000 درهم بابل وخطرنية/ 12 3700/3000 كر/ 5000 كر/ 350000 درهم الفلوجة العليا 15/240/500 كر/ 500 كر/ 70000 درهم الفلوجة السفلى/ 6/92/2000 كر/ 3000 كر/ 180000 درهم طسوج النهرين 3/181/300 كر/ 400 كر/ 45000 درهم عين التمر/ 3/14/300 كر/ 400 كر/ 45000 درهم الجبة والبداه 8/71/1200 كر/ 1600 كر/ 150000 درهم سوراء وبرسيما 10/250/700 كر/ 1400 كر/ 100000 درهم

اسم الطسوج/ عدد الرساتيق/ عدد البيادر/ كمية الحنطة/ كمية الشعير/ الورق باروسما ونهر الملك/ 10/664/1500 كر/ 4500 كر/ 250000 درهم السيبان والموقوف: ضياع جمعت من عدة طساسيج وصيرت ضيعة واحدة. فهي أعظم قدرا من طسوجين وتقديرا لعشرة منها./ 500 كر 5500 كر/ 150000 درهم [81 ب] فرات بادقلى 10/271/2000 كر/ 1500 كر/ 900000 درهم السيلحين وفيه الخورنق وطيزناباذ/ 34/1000 كر 1500 كر/ 140000 درهم روزمستان وهرمزجرد/ 500 كر/ 10000 درهم تستر 7/163/1250 كر/ الشعير والأرز 1000 كر/ 3000000 درهم ايغار يقطين من عدة طساسيج/ 204840 درهم سقي دجلة والفرات: كور كسكر ومنها: نهر الصلة وبرقة والريّان وكان يرتفع من خراجها وسائر أبواب مالها سبعون ألف درهم/ 3000 كر/ الشعير والأرز 20000 كر/ 200000 درهم

الجانب الشرقي:

الجانب الشرقي: اسم الطسوج/ عدد الرساتيق/ عدد البيادر/ كمية الحنطة/ كمية الشعير/ الورق بزرجسابور/ 9/260/2500 كر/ 2000 كر/ 300000 درهم الراذانين 16/362/4800 كر/ 1000 كر/ 100000 درهم طسوجا كلواذى ونهربين 3/34 1600 كر/ 1500 كر/ 1030 درهم [82 أ] طسوجا جازر والمدينة العتيقة 7/118/1000 كر/ 1500 كر/ 170000 درهم طسوجا مهرود وسلسل/ 2000 كر/ 2500 كر/ 250000 درهم جلولاء وجلولاء/ 5/66/1000 كر/ 1000 كر/ 100000 درهم الذنبين 4/230/700 كر/ 1300 كر/ 40000 درهم الدسكرة والرساتيق 7/44 2000 كر/ 2000 كر/ 70000 درهم براز الروز/ 7/86/3000 كر/ 5000 كر/ 120000 درهم البندنيجين 5/54/600 كر/ 500 كر/ 100000 درهم النهروانات 21/380 أ- النهروان الأعلى/ 2700 كر/ 1800 كر/ 350000 درهم ب- النهروان الأوسط/ 1000 كر/ 500 كر/ 100000 درهم ج- النهروان الأسفل 1000 كر/ 1100 كر/ 150000 درهم بادرايا وباكسايا/ 4700 كر/ 5000 كر/ 330000 درهم [82 ب] كور استان شاد فيروز. وهي حلوان ووظيفتها مع الجابارقة وغيرهم من الأكراد [من الورق] ألف ألف وثمانمائة ألف

درهم «1» . وكانت هيت وعانات مضافة إلى طسوج الأنبار. فلما ملك أنوشروان بلغه أن طوائف من الأعراب يعبرون على ما قرب من السواد إلى البادية. فأمر بتجديد سور مدينة تعرف بالليس «2» كان شابور ذو الأكتاف بناها وجعلها مسلحة لحفظ ما قرب من البادية. وأمر بحفر خندق من هيت يشق طفّ البادية إلى كاظمة مما يلي البصرة وينفذ إلى البحر. وبنى عليه المناظر والجواسق ونظّمه بالمسالح ليكون ذلك مانعا لأهل البادية عن السواد. فخرجت هيت وعانات بسبب ذلك السور عن طسوج شادفيروزان، لأن عانات كانت قرى مضمومة إلى هيت. ووجد في بعض كتب الفرس أن ملوك الأرض قسموا الأرض أربعة أجزاء فجزء منها مغارب الهند وأرض الترك إلى مشارق الروم. وجزء منها الروم ومغاربها وأرض القبط والبربر. وجزء منها أرض السودان وهو بين أرض البربر إلى الهند. وجزء منها من نهر بلخ إلى آذربيجان وارمينية القادسية وإلى الفرات ثم برية العرب إلى عمان وإلى كرمان وأرض طبرستان وإلى كابل وطخارستان، وهي الأرض التي سمتها الفرس بلاد الخاضعين. وهذا الجزء هو صفوة الأرض ووسطها لا يلحقه عيب ولا يناله تقصير. ولذلك اعتدلت ألوان أهله واقتدرت أجسامهم، فسلموا من شقرة الروم والصقالبة، وسواد الحبشة والزنج، وغلظ الترك، ودمامة الصين. واجتمعت فيهم محاسن جميع الأقطار، وكل «3» ما اعتدلوا في الحلية كذلك لطفوا في الفطنة والتمسك بمحاسن الأمور وشريف الأخلاق. ولم تزل طساسيج [83 أ] السواد على العدة التي ذكرنا حتى قدم الحجاج بن يوسف واليا على العراق، وكان كاتبه القادم معه والمتولي لأمره، صالح بن عبد الرحمن. فقال له الحجاج: التمس كاتبا ناصحا من الفرس عالما بكتابتهم يعمل الحساب. فوجد رجلا يقال له زاذانفروخ بن بيري فقلّده أمر الديوان. فلم يكن

صالح وأصحابه يهتدون إلى العمل. وكان زاذانفروخ وكتّابه يعملون الحساب بالفارسية، فشكا صالح ذلك إلى الحجاج وعرّفه أنه في غير شيء مع زاذانفروخ. فأمر الحجاج زاذانفروخ أن يتجشم له نقل الدواوين من اللسان الفارسي إلى اللسان العربي، ففعل ذلك وميّز النواحي وكوّر الكور. فرسم طساسيج السواد. فكان ما رسم من ذلك أن جعل السواد عشر كور. كل كورة استان وطساسيجه ستون طسوجا. وقد ذكرنا ذلك في موضعه. فلما فعل هذا ونقله إلى العربية، تصرف صالح وأصحابه فيه ووقفوا عليه. وكان بناحية كسكر مدينة عظيمة كثيرة الأهل، فخرج أهلها في الزمن الأول حذرا من الطاعون إلى بعض المواضع، فهلكوا كلهم وخربت وبقي فيها بيت أصنامهم، فبنته النصارى عمرا وسمته بنينس. ورسوم هذه المدينة وآثار سورها ثابت إلى اليوم ولم يدرس. ومن ذلك خسرو شابور وساباط بناهما شابور. ومن ذلك شهراباد وهي مدينة إبراهيم الخليل عليه السلام. وكانت مدينة عظيمة جليلة القدر راكبة البحر. فنضب البحر عنها وانحبس ماؤه، فبطلت. وموضع مجراه وسمته معروف إلى اليوم. قال: وكانت بالقرب منها أيضا مدينة كبيرة جليلة تسمى شالها. فخربتها إياد لأنها كانت تغير عليها. ويقال إن إيادا وغيرهم من العرب غلبوا عليها وملكوها في أيام سابور وخلعوا [83 ب] طاعته ونابذوه الحرب، وانتصروا بملك الروم وأطمعوه في مملكة فارس فأمدّهم بمراكب في البحر فيها مقاتلة، واتصل الخبر بسابور فرحل إليها وأقام عليها حتى فتحها فقتل فيها مائتي ألف رجل وأخربها وجمع النساء والذراري والمشايخ فأسكنهم مدينة بناها يقال لها الهفّة ونهى الرعية عن مخالطتهم ومناكحتهم. وتقدم أن لا تدخل العرب من البدو إلى الحضر فمن دخل بغير جواز قتل. قال: وكل من سخط عليه ملوك فارس نفته إلى هذه المدينة ووسمتها بالنفي

واللعن. وسمتها النبط هفاطرناي. وآثار سورها بينة لم تدرس. وكان بقربها أيضا عدة مدن منها دورى الزندورد. وفيها الليس ومنها دار سابور والهكة والهعة التي بناها سابور وجعلها لمن ينفى. ويقال: إن حدّ كورة كسكر من الجانب الشرقي في آخر سقي النهروان إلى أن يصب في البحر. وان المبارك وعبدسي والمذار. وتعيا وميسان ودستميسان وآجام البريد من كسكر. وان العرب فرقتها حيث مصرّت البصرة وكذلك إسكاف العليا والسفلى ونفر وسمر وبهندف وقرقوب. كل هذا منها. وقال المدائني: أول من مسح الأرض ووضع الدواوين وحدّ حدود الخراج والوظائف، قباذ. فصيّر ديوان الخراج بحلوان وسماه ديوان العدل. فكان كل شيء يجبى في مملكة الفرس من السواد مائة ألف ألف درهم مثاقيل. وذلك أن الملك كان يأخذ نصف الخراج ويترك النصف للناس فتصلح أحوالهم. إلى أن كانت أيام قباذ فإنه جبى السواد مائة ألف ألف وخمسين ألف ألف مثاقيل. وأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يمسح السواد وطوله من العلث في الجانب الشرقي ومن حربى في الجانب الغربي مادا إلى عبادان «1» . وهو مائة وعشرون فرسخا، وعرضه [84 أ] من عقبة حلوان إلى العذيب، وهو ثمانون فرسخا. فكان ذلك بعد أن أخرج عنه الجبال والأودية والأنهار ومواضع المدن والقرى، ستة وثلاثين ألف ألف جريب. فوضع على جريب الحنطة أربعة دراهم، وعلى جريب الشعير درهمين، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم. وعلى جريب الكرم والرطاب ستة دراهم. وختم الجزية على ستمائة ألف إنسان، وجعلها طبقات: الطبقة العالية، ثمانية وأربعون درهما. والوسطى أربعة عشرون درهما. والسفلى اثنا عشر درهما. فجبى السواد مائة ألف ألف وثمانية وعشرين ألف درهم.

وجباه عمر بن عبد العزيز مائة ألف ألف وأربعة وعشرين ألف ألف درهم. وجباه الحجاج بن يوسف على غشمه وظلمه وعسفه وخرقه ثمانية عشر ألف ألف. فقط: وأسلف الفلاحين للعمارة ألفي ألف. فحصل له ستة عشر ألف ألف. ومنع أهل السواد لما شكوا إليه خراب بلدهم من ذبح البقر لتكثر العمارة، فقال الشاعر: شكونا إليه خراب السواد ... فحرّم جهلا لحوم البقر وكان خراج العراق أيام زياد مائة ألف ألف وخمسة وعشرين ألف ألف درهم. وأيام عبيد الله بن زياد أكثر منه أيام زياد بعشرين ألف ألف. وكان في أيام ابن هبيرة مائة ألف ألف سوى طعام الجند وأرزاق الفعلة الذين يكونون في العسكر. وأحصى كسرى أبرويز خراج مملكته في سنة ثماني عشرة من ملكه، أربعمائة ألف ألف وعشرون ألف ألف درهم. ثم زاد خراجه بعد ذلك. وذكر بعض كتاب الفرس: إن العراق كان يجبى في أيام أنوشروان «1» ستمائة ألف ألف مثقال. وزعم أنه جبي في آخر أيام أبرويز تسعمائة ألف ألف مثقال وترك في أيدي الناس [84 ب] كلهم من جميع غلّاتهم مائة ألف ألف. فهلك الناس حتى ان الجارية النفيسة كانت تباع بدرهم. وجبى بعض أمراء خراسان خراسان ثمانية وعشرين ألف ألف مثقال. وجبى الجنيد بن عبد الرحمن أرض الهند خمسة وعشرين ألف ألف مثقال. وكانت جباية البصرة خمسة وسبعين ألف ألف درهم. وأرض الكوفة خمسة وعشرين ألف ألف درهم. وكان يوسف بن عمر الثقفي يحمل من خراج العراق ما بين ستين ألف ألف وسبعين ألف ألف. ويحتسب بعطاء من قبله من جند الشام بستة عشر ألف ألف

وفي نفقة البريد أربعة ألف ألف وفي الطراز ألفي ألف. وفي الطراز ألفي ألف. ويبقى في بيت المال للأحداث والبوائق عشرة ألف ألف درهم. وقال المدائني: كانت ميسان ودستميسان في ديوان حلوان من تعديل قباد تؤدي أربعة ألف ألف. وابر قباد تسعة ألف ألف. وكان يؤخذ من البر والشعير والأرز الخمس ولا يؤخذ من سائر الحبوب شيء. وكان يؤخذ من كل أربع وعشرين نخلة درهم. ومن كل سبعة عشر فارسي درهم. وقال بعض الجلساء سمعت المعتز يقول لأحمد بن إسرائيل: يا أحمد! كم خراج الروم؟ فقال: يا أمير المؤمنين! خرجنا مع جدك المعتصم في غزاته. فلما توسطنا بلد الروم، صار إلينا بسيل الخرشني وكان على خراج الروم. فسأله محمد بن عبد الملك عن مبلغ خراج بلدهم، فقال: خمسمائة قنطار وكذا وكذا قنطار. قال: فحسبنا ذلك، فإذا هو أقل من ثلاثة ألف ألف دينار. فقال المعتصم: اكتب إلى ملك الروم اني سألت صاحبك عن خراج أرضك فذكر أنه كذا وكذا، وأخس ناحية في مملكتي خراجها أكثر من خراج أرضك، فكيف تنابذني وهذا ارتفاع بلدك؟ فضحك المعتز وقال: من يلومني على حب أحمد بن إسرائيل، ما سألته قط عن شيء إلّا جاءني بقصة. وقال عبد الرحمن بن جعفر بن سليمان: قال السواد ألف ألف ألف درهم [85 أ] ما نقص مما في يد السلطان منه، فهو في يد الرعية. وما نقص من يد الرعية فهو في بيت مال السلطان. وقال الهيثم بن عدي: لم يكن بفارس كورة أهلها أقوى من أهل كورتين: كورة سهلية وكورة جبلية. أما السهلية فكسكر وأما الجبلية فأصبهان. وكان خراج كل واحدة منهما اثني عشر ألف ألف مثقال. ولم يكن بالعراق كورة مثل جوخى. كان خراجها ثمانين ألف ألف درهم حتى صرفت دجلة عن جوخى فخربت وأصابهم بعد ذلك طاعون شيرويه فأتى

عليهم. ولم يزل السواد في ادبار منذ كان طاعون شيرويه. ولم تزل فارس في ادبار منذ كان ذلك الطاعون. وكان المعروف بأبي الوزير الكاتب عمل تقديرا للدنيا وعرضه على يحيى بن خالد البرمكي في خلافة الهادي سنة سبعين ومائة. قال: أثمان الغلّات بالسواد ستة وثمانين ألف ألف وسبعمائة ألف وثمانين ألف درهم. ومن أبواب المال به أيضا أربعة ألف ألف وثمانمائة ألف درهم ومن الحلل البحرانية مائتا حلة. ومن الطين الأسود الأنباري ما يفرق في الدواوين مائتان وأربعون حملا. كسكر، من الورق أحد عشر ألف ألف وستمائة ألف درهم. كور دجلة: من الورق عشرون ألف ألف وثمانمائة ألف درهم. حلوان أربعة ألف ألف وثمانمائة درهم. الأهواز خمسة وعشرون ألف ألف درهم. ومن صنوف السكّر ثلاثمائة ألف رطل. فارس: سبعة وعشرون ألف ألف درهم. ومن ماء الورد ثلاثمائة ألف قارورة. ومن ماء الزبيب والميبة وغير ذلك من الأشربة عشرون ومائة ألف رطل. ومن السفرجل مائة ألف سفرجلة. ومن الرمان مثل ذلك. ومن الزبيب الفارسي بالكر الهاشمي سبعة أكرار. ومن السكنجبين، خمسة ألف رطل. ومن الطين السيرافي خمسة ألف رطل. كرمان: من الورق، أربعة ألف ألف ومائتا ألف درهم. ومن الثياب البمية والخبيصية [85 ب] وتسعون ألف دينار «1» . فلسطين: ثلاثمائة ألف وستون ألف دينار. ومن جميع أجناد الشام: من الزيت خمسمائة ألف رطل. ومن التفاح، مائتا

ألف تفاحة. ومن التين، عشرة ألف منّا. ومن الخروب، ثلاثون ألف رطل. مصر سوى تنيس ودمياط والأشمونين فإن مال هذه الكورة مصروف إلى شري الخيل والنفقة على الطرز ثلاثة ألف ألف وتسعمائة ألف وأربعون ألف دينار. ومن أنواع الثياب الدبيقي والقصب وغير ذلك عشرون ألف ثوب. الإسكندرية: ألف ألف وثمانمائة ألف درهم. برقة: ألف ألف درهم. إفريقية: ثلاثة عشر ألف ألف درهم. ومن البسط الكبار خمسمائة بساط ومن الزيت مائة ألف مائة ألف رطل. مكة والمدينة: ثلاثمائة ألف دينار وسبعون ألف دينار. ومن التمر الصيحاني، ألف رطل. ومن الصاح «1» خمسين رطلا. السمن والعين ثمانمائة وسبعون ألف دينار. ومن العنبر ثمانون رطلا. ومن أصناف الحلل وغيرها من الثياب أربعة ألف ثوب. ومن الورس خمسة ألف رطل. ومن الزبيب خمسمائة قفيز. اليمامة والبحرين وعمان وسيراف: من الورق ثلاثة ألف ألف درهم. ومن الثياب الصحارية، خمسمائة ثوب ومن التمر اليماني «2» مائتا ألف رطل. حوالي الكوفة والبصرة ومدينة السلام وما بين الماصرين «3» : من الورق، ألف ألف وثلاثمائة ألف وسبعون ألف درهم. ولم يثبت في هذا التقدير قزوين لأنها تفرقت في الكور.

القول في الأهواز قال المغيرة بن سليمان: أرض الأهواز نحاس تنبت الذهب، وأرض البصرة تنبت النحاس. قال ابن المقفع: أول سور وضع في الأرض بعد الطوفان سور السوس وتستر. ولا يدرى من بنى سور السوس وتستر والأبلّة. وقال ابن المنذر: السوس من بناء سام بن نوح. فأما تستر فبعض الناس [86 أ] يجعلها من الأهواز، ومنهم من يجعلها من أرض البصرة. وقال ابن عون مولى المسور: حضرت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد اختصم إليه أهل الكوفة وأهل البصرة في تستر [وكانوا] حضروا فتحها. فقال أهل الكوفة: من أرضنا. وقال أهل البصرة: بل من أرضنا. فجعلها عمر من أرض البصرة. والأهواز هي سوق الأهواز ورامهرمز وايذج وعسكر مكرم وتستر وجنديسابور والسوس وسرّق ونهر تيرى ومناذر «1» . وخراج الأهواز ثلاثون ألف ألف درهم. وكانت الفرس تقسط على خوزستان- وهي الأهواز- خمسين ألف ألف درهم مثاقيل. وبنى سابور بالأهواز مدينتين، سمى أحدهما باسم الله تعالى، والأخرى باسم نفسه وجمعهما باسم واحد وهي هرمزدارشير. وسمتها العرب سوق الأهواز.

وبنى جنديسابور وكانت غيضة. فمرّ بها واكار الحرث [يحرث] أرضا بالقرب منها. فقال له سابور: إني أريد أن أبني في هذا الموضع مدينة. فقال الأكار وكان شيخا كبيرا وكان اسمه بيل يعجب من قول: إن جاء مني كاتبا جاء في هذا الموضع مدينة «1» . فقال شابور: والله ما يتولى بناءها والنفقة عليها غيرك. ثم أمر بحمل الشيخ، فحمل وأمر بحلق رأسه ولحيته كي لا يشتغل عن التعليم، وضمّ إليه معلما وأخذه بتعليمه. وأمر بقطع الخشب من الغيضة، فقطع. ومهر الشيخ في الكتابة وحذقها وعرف جميع أمورها في سنة. فلما بلغ من ذلك غاية ما يحتاج إليه أدخله المعلم إلى سابور وعرّفه أمره وأنه قد بلغ النهاية في الكتابة. فضحك شابور وقال له: يا بيل! تعلمت الكتابة؟ قال: نعم. قال: اذهب. فقد قلدتك نفقات المدينة. وأمره أن يقوم على الفعلة. فبنى جنديسابور. فلما فرغ منها، نظر إلى بعض جوانبها يكره عليه من السيل. فنقضه وبناه بالآجر والكلس وبنى باقيها باللبن. فأهل الأهواز يسمون جنديسابور بيلاباد. باسم الشيخ الذي تولى بناءها والنفقة عليها. وفي ملك سابور بن أردشير ظهر ماني [86 ب] صاحب الزنادقة. فدعا شابور إلى مذهبه فما زال يسوّفه ويماطله حتى استخرج ما عنده فوجده داعية للشيطان. فأمر به فسلخ جلده وحشي تبنا وعلق على باب مدينة جنديسابور. فالباب إلى الساعة يسمى باب الماني. والزنادقة تحج إليه وتعظم ذلك الموضع. ويقال إن معنى نيسابور وسابور خواست وجنديسابور، إن أصحاب نيسابور لما فقدوه لقول المنجمين له أنك تشقى سبع سنين، خرج هاربا يسيح في الأرض. وخرج أصحابه يطلبونه فبلغوا نيسابور فطلبوه هناك فلم يجدوه فقالوا: نيست سابور أي ليس سابور. ثم وقع إلى سابور خواست فقالوا: سابور خواست. أي طلب سابور هناك. ثم وقعوا عليه بجنديسابور فقالوا: وندذ سابور أي وجد الملك. وبنى أردشير مدينة سوق الأهواز

قال الهيثم بن عدي: أردشير خوره حفر المسرقان ودجيل وأنهار خوزستان السبع وهي سرّق ورامهرمز من سوق الأهواز والشوش وجنديسابور ومناذر ونهر تيرى. ويقال: لا بناء بالحجارة ولا أبهى من شاذروان تستر، لأنه بالصخر وأعمدة الحديد وملاط الرصاص. ومخرج دجيل الأهواز من أرض إصبهان ويصب في بحر الشرقي. وقالوا: من أقام بالأهواز حولا ثم تفقد عقله وجد النقصان فيه بيّنا. فأما قصبة الأهواز فنقلت كل من نزلها من بني هاشم وأشراف الناس إلى طبيعتها. ولا بدّ للهاشمي قبيح الوجه كان أم حسنا من أن يكون لوجهه وشمائله طبع به من جميع قريش وجميع العرب. فلقد كادت الأهواز أن تنقل ذلك وتبدله ولقد تحيّفته «1» . وأدخلت الضيم عليه وبينت أثرها عليه. فما ظنك بصنيعها في سائر الأجناس؟ ولفساد عقولهم ولؤم طبع بلادهم، لا تراهم مع تلك الأموال الكثيرة والضياع النفيسة يحبون من البنين والبنات ما يحبه أوساط أهل الأمصار في الثروة واليسار، وإن طال ذلك والمال منبهة كما يعلم الناس. وقد يكتسب الرجل: من غيرهم [87 أ] المويل اليسير فلا يرضى لولده [حتى يفرض] له المؤدبين والحرص له على الأدب بالخطر النفيس فيما يقدر عليه. والخوزي بخلاف ذلك كله. فإنه إذا ترعرع ولده وكبر وعقل شغّله بالغربة وأبلاه بالأسفار والكسب. فهو من بلد إلى بلد ومن مدينة إلى أخرى. وليست في الأرض صناعة مذكورة ولا أدب شريف ولا مذهب محمود لهم في شيء منه نصيب وان خسؤ وقلّ ودقّ وجل. ولم ير فيها وجنة حمراء لصبي ولا صبية ولا دما ظاهرا ولا قريبا [من ذلك] وهي قتالة للغرباء وعلى ان حمّاها خاصة ليست إلى الغريب بأسرع

منها إلى القريب. ووباؤها وحمّاها في وقت انكشاف الوباء ونزوع الحمى من جميع [البلدان] . وكل محموم في الأرض فإن حمّاها لا تنزع عنه ولا تفارقه وفي بدنه منها بقية. فإذا نزعت فقد وجد في نفسه منها البراءة إلى أن تعود بما يجتمع في بدنه من الأخلاط الرديئة. وليست كذلك الأهواز، لأنها تعاود من نزعت عنه من غير حدث لأنهم ليس يؤتون من قبل التخم وللإكثار من الأكل وإنما يؤتون من عين البلدة. وكذلك جمعت سوق الأهواز الأفاعي في جبلها الطاعن «1» في منازلها المطل عليها والجرارات في بيوتها ومقابرها. ولو كان في العالم شيء هو شر من الأفاعي والجرارات لما قصرت قصبة الأهواز عن توليده وتلقيحه. ومن بلّيتها ان من ورائها سباخا ومناقع مياه غليظة وفيها أنهار تشقها مسائل كنفهم ومياه أمطارهم ومتوضآتهم. فإذا طلعت الشمس فطال مقامها وطالت مقابلتها لذلك الجبل قبل بالصخرية التي فيه تلك الجرارات. فإذا امتلأت يبسا وحرّا وعادت جمرة واحدة، قذفت ما قبلت من ذلك عليهم وقد بخرت تلك السباخ والأنهار. فإذا التقى عليهم ما انجرّ من تلك السباخ وما قذفه ذلك الجبل، فسد الهواء، ففسد بفساده كل شيء يشتمل عليه ذلك الهواء. وخبر إبراهيم بن العباس بن محمد «2» عن مشيخة من أهل الأهواز عن القوابل انهنّ ربما قبلن الطفل المولود فيجدنه في تلك الساعة محموما [87 ب] يعرفون ذلك ويتحدثون به «3» . ولقد أخبرني به زيد بن محمد وكان صدوقا وكان أقام بالأهواز حولا وحري

شدة حرّها وكثرة هوامها وحيّاتها وجراراتها بأمر فضيع «1» . ثم قال: وكيف لا يكون كذلك وطعام أهلها الأرزّ وهم يخبزون في كل يوم. فيقدّر أنه يسجر بها في كل يوم خمسون ألف تنور. فما ظنك ببلد إذا اجتمع فيه حرّ الهواء وبخار هذه النيران؟ وحلف بالله عزّ وجلّ أنه عزم مرارا أن يغرق نفسه في المسرقان لما كان يلقى من الكرب وشدة الحرّ والسموم. ويقول أهل الأهواز إن جبلهم إنما هو من غثاء الطوفان تحجّر. وهو حجر ينبت ويزيد في كل وقت. قالوا: ولنا السكّر وأنواع التمر. وهم أحذق الأمة في إيجاد أنواع السكر. ولهم الخزّ السوسي والديباج التستري. وكل طيب يحمل إلى الأهواز فإنه يستحيل وتذهب رائحته ويبطل حتى لا ينتفع منه بكثير شيء. والأهواز افتتحها أبو موسى الأشعري في ولاية عمر بن الخطاب رضي [الله] عنهما. وآخر مدينة افتتحت من الأهواز السوس. فلما افتتحها وأخذ المدينة وسبى الذرية وظفر بالخزائن. فبينا هو يحصي ما فيها كان في قلعتها نحو من ثلاثمائة خزانة. فرأى خزانة منها وعليها ستر عليه الدهن. فأمر خزّان القلعة أن يفتحوه. فجعلوا يبكون ويحلفون أنه ليس فيه شيء من الذهب والفضة. فجعل أبو موسى لا يزيده ذلك إلّا حرصا على فتحه، حتى همّ بكسر الباب. فلما رأى الخزّان ذلك قالوا له نحن نصدقك عما فيه. قال: قولوا. قالوا: فيه جسد دانيال. قال: وكيف علمتم ذلك؟ قالوا: أصابنا القحط سبع سنين متوالية حتى أشرفنا على الهلاك. وكان هذا الجسد عندنا وقوم من النصارى يستسقون به إذا أجدبوا. فيسقون ويخصبون. فأتيناهم وطلبنا إليهم أن يعيروناه فأبوا علينا فرهناهم خمسين أهل بيت منا على أن نستسقي به في عامنا ذلك ونرده. فدفعوه إلينا. فلما استسقينا به سقينا وأخصبنا فتعلقنا به وحبسناه عن أصحابه ورغبنا فيه فهو عندنا نستسقي به في الجدب. فأمر أبو موسى بفتح الباب. فإذا في البيت سرير عليه رجل ميت واضع

[88 أ] مرفقه على ركبته اليمنى، فكتب إلى عمر يعلمه فتح المدينة ويقصّ عليه خبر دانيال عليه السلام، فسأل عمر رضي الله عنه من بحضرته من المسلمين فأخبروه أنه نبيّ وأن بخت نصر لما غزا بيت المقدس وسبى أهله، كان دانيال ممن سبى، ونقل إلى أرض بابل فلم يزل بها حتى مات. فكتب عمر إلى أبي موسى يخبره بالذي انتهى إليه من أمره وأمره بأن يحنطه ويكفنه ويدفنه من غير أن يغسله. ويكون دفنه إياه في جوف الليل حتى يكون الله تعالى هو الذي يبعثه كما يبعث خلقه. فلما انتهى إليه كتاب عمر إلى أبي موسى، عمد إلى نهر من أنهار السوس فأمر بسكره فسكر، ثم حفر لدانيال في جوف النهر ثم عمد إليه فحنطه وكفنه وحمله وأربعة من المسلمين في جوف الليل فقبره في ذلك النهر ثمّ أجرى عليه الماء فلم يعلم أحد موضع قبره إلى يومنا هذا. ويقال إنه أخذ خاتما كان في إصبعه وكذلك يقال أيضا إنه وجد معه كتب فيها أخبار الملاحم وما يكون من الفتن وانها صارت إلى كعب الأحبار. وعسكر مكرم: نسبت إلى مكرم بن [معزاء الحارث] «1» أحد بني جعونة بن الحارث بن نمير. وكان الحجاج بن يوسف وجهه لمحاربة خوزاد بن بارس حين عصى ولحق بالإيذج وتحصّن في قلعة تعرف به. فلما طال عليه الحصار نزل مستخفيا ليلحق بعبد الملك بن مروان. فظفر به مكرم ومعه درّتان في قلنسوته. فأخذه وبعث به إلى الحجاج. وكانت هناك قرية قديمة فبناها مكرم. ولم يزل يبني ويزيد حتى جعلها مدينة وسماها عسكر مكرم. وقال الثوري: الأهواز تسمى بالفارسية هوز مسير. وإنما كان اسمها الأخواز فغيرها الناس فقالوا الأهواز. وأنشد لأعرابي: لا ترجعنّي إلى الأخواز ثانية ... وقعقعان الذي في جانب السوق ونهر بطّ الذي أمسى يؤرّقني ... فيه البعوض بلسب غير تشفيق

ونهر بط كان عنده مراح للبط فقالت العامة نهر بط، كما قالوا دار بطيخ. وقالوا: بل كان يسمى نهر نبط. وذلك انه كان لامرأة نبطية فخفف وقيل نهر بط «1» . وأهل الأهواز الأم الناس وأبخلهم. وهم أصبر خلق على الغربة والتنقل في البلدان. وحسبك أنك لا تدخل بلدا من سائر البلدان ولا إقليما من جميع الأقاليم إلّا وجدت في تلك المدينة صنفا من الخوز لشحهم وحرصهم على جمع المال. وذكر الأصمعي قال: الخوز هم الفعلة وهم الذين بنوا الصرح واسمهم مشتق من الخنزير. ذهب إلى أن اسمه بالفارسية خو، فجعلته العرب خوز وإلى هذا ذهبوا. وقال آخرون: معنى قولهم خوزي أي زيّهم زي الخنزير. وروى أبو خبرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ليس في ولد آدم شر من الخوز ولم يكن منهم نبي قط ولا نجيب. وقال عبد الله بن سلام: خلق الله البخل عشرة أجزاء، تسعة في الخوز وجزء في سائر الخلق. وقال علي رضي الله عنه فيما روي عنه: على مقدمة الدجّال رجل خوزي يقال له مهران. وقال عمر رضي الله عنه: إن عشت إلى قابل لأبيعنّ الخوز ولأجعلن أثمانهم في بيت المال. وفي خبر آخر: من كان جاره خوزيا واحتاج إلى ثمنه، فليبعه. وكتب كسرى إلى بعض عماله: ان ابعث إليّ بشر طعام مع شر الناس على

شر الدواب. فبعث إليه برأس سمكة مالحة مع خوزي على حمار. وقال أبو وائل: خرجنا مع ابن مسعود إلى قرية بالقادسية فجاءه رجل من الأنباط في حاجة. فالتفت عبد الله إلى أصحابه فقال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: تاركوا الترك ما تركوكم ولا تجاوروا الأنباط في بلادهم، وإذا رأيتموهم قد أظهروا إسلامهم وقرأوا القرآن وتمكنوا في المرباع واحتبوا في المجالس وراجعوا الرجال في كلامهم، فالهرب الهرب. ولا تناكحوا الخوز فإن لهم أعراقا تدعوا إلى غير الوفاء .

2/8 القول في فارس حدثنا أبو عمرو عبد العزيز بن محمد بن الفضل، حدثنا إبراهيم بن الجنيد حدثنا بشر بن محمد بن أبان عن داود بن المخير عن الصلت [89 أ] بن دينار عن عبد الله بن أبي مليكة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : أهل فارس عصبتنا. ويروى عن أنس بن مالك قال: إن الله خيّر بين خلقه، فخيرته من العرب قريش وخيرته من العجم فارس. ويروى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: أسعد الناس بالإسلام أهل فارس. وأشقى العرب به بهراء وتغلب. وقال ابن لهيعة: فارس والروم قريش العجم. وقال في قوله عز وجل وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ 2/9 تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ . قال: الناس إذ ذاك فارس والروم. وفي قوله يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ قال: فارس. ولما هدم ابن الزبير البيت، قال اطلبوا من العرب من يبنيه. فلم يجدوا. فقال استعينوا بأهل فارس فإنهم ولد إبراهيم. ولن يرفع البيت إلّا ولد إبراهيم. وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : أبعد الناس من الإسلام الروم، ولو كان معلقا بالثريا لتناولته فارس. يعني الإسلام. [قال وذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) كسرى أنوشروان فقال: ويل أمّه، ما أعمق سلمه لو كان أسلم.

وروي عن ابن عباس في قول الله عزّ وجلّ «ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد» قال: أهل فارس. وقال عليه السلام: لا تسبوا فارس فإنهم عصبتنا. وقال (عليه السلام) : إن لله جندا في أهل فارس إذا غضب على قوم انتقم بهم] «1» . وقال الشعبي: أول من استنبط الأنهار العظام أنوشروان ومادة الملك واستصلح الرعية بعده مثله. وكان أنوشروان إذا أفرض، يقدم الفارسي على رجلين من الديلم وعلى خمسة من الترك وعلى عشرة من الروم وعلى خمسة عشر من العرب وعلى الثلاثين من الهند. لأنهم كانوا 2/10 أشجع ممن ذكرنا قلوبا وأعزهم نفرا وأعظمهم ملكا وأكثرهم عددا وأوسعهم بلدا وأخصبهم جنابا وأشدهم قلوبا وأرجحهم عقولا وأحسنهم تدبيرا وأصحهم جوابا وأطلقهم ألسنا. وقال أبو البختريّ: بلغنا أن إسحاق بن إبراهيم ولد ابنا يقال له نفيس: فولد لنفيس، العيص، قبائل من فارس منهم أهل إصطخر وشابور وأردشير. والدليل على ذلك قول جرير: منابر ملك كلّها مضرية ... يصلي علينا من أعرناه منبرا وأبناء إسحاق الليوث إذا ارتدوا ... [حمائل موت لابسين السنوّرا] «2» إذا انتسبوا عدّوا الصبهبذ منهم ... وكسرى، وعدّوا الهرمزان وقيصرا وكان إدريس بن عمران يقول: أهل إصطخر أكرم الناس أحسابا، ملوك أبناء الأنبياء. وقال أردشير [89 ب] : الأرض أربعة أجزاء. فجزء منها أرض الترك ما بين مغارب الهند إلى مشارق الروم. وجزء منها أرض المغرب، ما بين مغارب الروم

إلى القبط والبرابر. وجزء منها أرض كور السواد، ما بين البرابر إلى الهند. والجزء الرابع هذه الأرض التي تنسب إلى فارس ما بين نهر بلخ إلى منقطع آذربيجان وأرمينية الفارسية إلى الفرات. ثم برية العرب إلى عمان ومكران وإلى كابل وطخارستان. فكان هذا الجزء صفوة الأرض. وهو من الأرضين بمنزلة الرأس والسرة والسنام والبطن. أما الرأس، فإن ملوك أقطار الأرض مذ كان ايرج بن أفريدون، كانت دائنة لملوكنا يسمونهم أملاك الأرض ويهدون لهم صفايا ما في أرضهم. وأما السرة، فإن أرضنا وضعت من الأرضين موضع السرة من الجسد في البسطة والكرم وفيما جمع لنا مما نرئسهم به. فأعطينا فروسية الترك وفطنة الهند وصناعة الروم، وأعطينا في كل شيء من ذلك الزيادة على ما أعطوا، وأصفينا ما حرموا بأدب الدين في أدب الملك. وأعفينا إلى مسام سيماء مشترعة في صورنا وألواننا وشعورنا 2/11 كما شوهت سائر الأمم بصنوف الشهرة من لون السواد وشدة الجعودة والسبوطة وصغر العيون وقلّة اللحى. فأعطينا الأوساط من المحاسن والشعور والألوان والصور والأجسام. وأمّا السنام، فإن أرضنا على صغرها عند بقية الأرضين هي أكثر منافع والين عيشا من جميع ما سواها. وأمّا البطن، فإن الأرضين كلها تجلب إليها منافعها من علمها ورفقها وأطعمتها وأدويتها وأمتعتها وعطرها كما تجبى الأطعمة والأشربة إلى البطن. وقال الواقدي: شاور عمر بن الخطاب رضي الله عنه الهرمزان في فارس وإصبهان وآذربيجان. فقال الهرمزان: إن إصبهان وآذربيجان الجناحان. فإن قطعت الجناحين، بقي الرأس. وإن قطعت الرأس وقع الجناحان، فابدأ بالرأس. وكان أول من جمع فارس وملكها، أردشير بن بابك بن ساسان، وهو أحد ملوك الطوائف وكان على إصطخر، وهو من أولاد [90 أ] الملوك المتقدمين قبل ملوك الطوائف. فرأى أنه وارث ملكهم فكتب إلى من بقربه من ملوك فارس ومن

نأى عنه من ملوك الطوائف يخبرهم بالذي أجمع عليه من الطلب بالملك لما فيه من صلاح أمور الرعية وإقامة الدين والسنّة. فمنهم من أقرّ له بالطاعة، ومنهم من لم يقرّ له حتى قدم عليه، ومنهم من عصاه فصار عاقبة أمره إلى القتل والهلاك. حتى استوسق له ملكه. وهو الذي افتتح الحضر. وكان ملك السواد متحصنا فيه وكانت العرب تسميه الساطرون. وفيه يقول أبو داود: وأرى الموت قد تدلّى من الحضر على رب أهله الساطرون وقد أتينا بخبره فيما تقدم. وهو أول من وضع السكك وحذف أذناب دواب البرد وبنى مدينة جور بفارس وكان موضعها صحراء. فمرّ بها أردشير فأمر ببنائها 2/12 وسماها أردشير خرّة. وسمتها العرب جور. وهي مبنية على صورة دارابجرد. ونصب فيها بيت نار. وبنى مدينة رام أردشير وبهمن أردشير خرّة وهي فرات البصرة. واستاراباذ وهي كرخ ميسان وهي من كور دجلة. ومدينة سوق الأهواز. وكانت مدة ملكه أربع عشرة سنة وستة أشهر. وقالوا: سمعوا فارس بفارس بن طهومرث وهو الذي تنسب الفرس إليه، لأنهم من ولده. وكان ملكا عادلا متحننا محتاطا على أهل عصره. وكان له عشرة بنين منهم: جمّ وشيراز وإصطخر وفسا وجنّابا وكسكر وكلواذى وقرقيسيا وعقرقوف [ودارابجرد] . فأقطع كل واحد منهم البلد الذي سمي به ونسب إليه. وإنما كانوا قبل ذلك يسكنون الخيام. ويقال إن ملكه كان ثلاثمائة سنة. ومن مدينة سوق الأهواز إلى مدينة أرّجان أول عمل فارس من هذا الوجه واحد وثلاثون فرسخا. وأرجان بناها قباذ بن فيروز لأنه لمّا استرجع الملك من أخيه جاماسف غزا الروم فافتتح مدينتين من مدن الجزيرة مما كانت في أيدي الروم تدعى واحدة آمد والأخرى ميافارقين. وأمر فبنيت فيما بين حدّ فارس والأهواز مدينة وسماها ابرقباد، وهي التي تسمى أرجان. وأسكن فيها سبي [90 ب] همدان

وكوّرها كورة وضم إليها رساتيقها من كور رام هرمز وكورة سابور وكورة أردشير خرة وكورة إصبهان. وبنى أيضا مدينة حلوان مما يلي الماهات. وبنى مدينة يقال لها قباد خرّة. وكوّر أيضا كورة أخرى بأرض ميسان وسماها شاد قباذ، وهي التي تسمى أستان العالي. ووضع لها أربعة طساسيج: طسوج فيروز شابور وهي الأنبار وكان منها هيت وعانات فأفردها يزيد بن معاوية «1» في أيامه إلى الجزيرة. وطسوج بادوريا وطسوج قطربل وطسوج مسكن. وكوّر أيضا كورة بهقباذ الأعلى ووضع لها ستة طساسيج: طسوجي النهرين وطسوج عين التمر والفلوجتين العليا والسفلى وطسوجي بابل وخطرنية. وكور أيضا بهقباد الأوسط ووضع لها أربعة طساسيج: طسوج سورا. وطسوج باروسما والجبه والبداة. وطسوج نهر الملك. وكور أيضا بهقباد الأسفل ووضع لها خمسة طساسيج: فرات بادقلى والسيلحين. وطسوج الحيرة وطسوج تستر وطسوج هرمزجرد. وفرّق كورة إصبهان على شقين: شق جي وشق التيمرة. وأمر فبنيت مدينة شهرزور وهي بأرض به. وفيما بين جرجان وإيران شهر مدينة أسماها شهر قباد. 2/13 وبأرجان قنطرة كسروية طويلة أكثر من ثلاثمائة ذراع مبنية بالحجارة على وادي أرجان. قال: وأخبرني محمد بن أحمد الأصبهاني قال: بأرجان كهف في جبل ينبع منه ماء يشبه بالعرق من حجارته فيكون منه هذا المومياي الأبيض الجيد. وعلى هذا الكهف باب حديد وحفظة ويغلق ويختم بخاتم السلطان وقاضي البلد إلى يوم من السنة يفتح فيه. ويجتمع القاضي وشيوخ البلد حتى يفتح بحضرتهم ويدخل إليه

رجل عريان ثقة. فيجمع ما قد اجتمع من المومياي ويجعله في قارورة، ويكون مقدار ذلك مائة مثقال أو دونها. ثم يخرج ويختم الباب بعد قفله إلى السنة الأخرى. ويوجه بما يجتمع منه إلى السلطان. وخاصيّته لكل كسر أو صدع في العظم. يسقى الإنسان الذي انكسر شيء من عظامه مثل العدسة فينحطّ أول ما يشربه [91 أ] إلى موضع الكسر فيجبره ويصلحه لوقته. ومن أرّجان إلى النوبندجان ستة «1» فرسخا. وفيها شعب بوان الموصوف بالحسن والنزاهة وكثرة الشجر وتدفق المياه وهو موضع من أحسن ما يعرف. فيه شجر الجوز والزيتون وجميع الفواكه النابتة في الصخر. وروى عن المبرد أنه قال: قرأت على شجرة في شعب بوان هذه الأبيات: إذا أشرف المكروب من رأس تلعة ... على شعب بوّان أفاق من الكرب وألهاه بطن كالحريرة مسّه ... ومطّرد يجري من البارد العذب وطيب ثمار في رياض أريضة ... على قرب أغصان جناها على قرب فبالله يا ريح الجنوب تحمّلي ... إلى أرض بغداد سلام فتى صبّ وإذا أسفل منه مكتوب: 2/14 ليت شعري عن الذين تركنا ... خلفنا بالعراق هل يذكرونا أم لعلّ المدى تطاول حتّى ... قدم العهد بعدنا فنسونا وذكر بعض أهل الأدب أنه قرأ على شجرة دلب تظلّ عينا حسنة بشعب بوّان هذه الأبيات: متى تبغني في شعب بوّان تلقني ... لدى العين مشدود الركاب إلى الدلب وأعطي وإخواني الفتوّة حقّها ... بما شئت من جد وما شئت من لعب يدير علينا الكاس من لو رأيته ... بعينيك ما لمت المحب على الحب

وكتب أحمد بن الضحاك الفلكي «1» إلى صديق يصف شعب بوان: كتبت إليك من شعب بوّان وله عندي يد بيضاء مذكورة، ومنة غراء مشهورة بما أولانيه من منظر أعدى على الأحزان، وأقال من صروف الزمان. وسرّح طرفي في جداول تطّرد بماء معين منسكب، أرق من دموع العشاق، حررتها لوعة الفراق. وأبرد من ثغور الأحباب، عند الالتثام. كأنها حين [91 ب] جرى آذيها يترقرق، وتدافع تيارها يتدفق. وارتجّ حبابها يتكسر في خلال زهر ورياض ترنو بحدق تولّد قصب لجين في صفائح عقيان، وسموط درّ بين زبرجد ومرجان. أثر على حكمة صانعه شهيد، وعلم على لطف خالقه دليل. إلى ظلّ سجسج أحوى، وخضل ألمى. قد غنت عليه أغصان فينانة وقضب غيدانة. 2/15 تشورت لها القدود المهفهفة خجلا، وتقيلتها الخصور المرهفة تشبها. يستقيدها النسيم فتنقاد، ويعدل بها فتنعدل. فمن متورد يروق منظره، ومرتجّ يتهدل مثمره. مشتركة فيه حمرة نضج الثمار، بنفحة نسيم النوار. وقد أقمت به يوما لخيالك منادما ولشوقك مسامرا. وشربت لك تذكارا. وإذا تفضل الله بإتمام السلامة إلى أن أوافي شيراز، كتبت إليك من خبري بما تقف عليه إن شاء الله. ومن النوبندجان إلى شيراز نيف وعشرون فرسخا. وهي «2» من كورة أردشير خرّة ورساتيقها: جور والخبر والصيحكان والبرجان والكهرجان والخواروستان وكير وسينيز وسيراف والرويحان وكان فيروز وكازرون وكران وابزر وتوّج. ومن سوق الأهواز إلى الدورق في الماء ثمانية عشر فرسخا، وعلى الظهر أربعة وعشرون فرسخا.

كورة سابور ومدينتها النوبندجان ورساتيقها: الخشن والكيمارج وكازرون وخرّه وبندر همان ودشت بارين والهنديجان والدرخوند وتنبوك والجواندان والميدان والمذار وماهان والجنيد والرامجان والشاهجان ومور ودادين وخمايجان السفلى وخمايجان العليا وتيرمردان وجنحان والسياه مص وانبوران. 2/16 كورة إصطخر والمدينة ورساتيقها: مدينة البيضاء وبهران وأسار وإيرج ومائين وخبر إصطخر ونيرز وأبرقويه والبرانجان والميان روذان والكاسكان والهزار. ومن شيراز إلى مدينة فسا ثلاثون فرسخا. ومن مدينة فسا إلى مدينة دار بجرد ثمانية عشر فرسخا ورساتيقها: كرم وجهرم ونيريز والفستجان والابجرد والانديان وجويم وفرج ويارم وطسان. كورة أرجان ورساتيقها: قاش وريشهر والسلجان والبحار وفرزن «1» . ومن شيراز إلى مدينة [92 أ] جور عشرون فرسخا وبين شيراز وسابور عشرون فرسخا. وبين شيراز وإصطخر اثنا عشر فرسخا. زموم «2» الأكراد بفارس وتفسير الزموم محال الأكراد. قال صاحب كتاب المسالك والممالك وهو عبد الله بن محمد بن خرداذبه: هي أربعة زموم: زم الحسين بن جيلويه ويسمى البازنجان، وهو من شيراز على أربعة عشر فرسخا. وزم ازدم بن جوانانه من شيراز على ستة وعشرين فرسخا. وزم القاسم بن شهريار ويسمى الكوريان، من شيراز على خمسين فرسخا. 2/17 وزم الحسين بن صالح يسمى السوران من شيراز على سبعة فراسخ. وقال المدائني: كانت إصطخر تجبى ستة عشر ألف ألف درهم. وسابور

أربعة عشر ألف ألف درهم. وأردشير خرة ثمانية عشر ألف ألف درهم. ودار ابجرد ثمانية عشر ألف ألف درهم. وكانت أرّجان بعضها إلى إصبهان وبعضها إلى إصطخر وبعضها إلى رام هرمز. فصيرت في الإسلام كورة واحدة. فصارت فارس خمس كور وهي إصطخر وشابور وأردشير خره ودارابجرد وفسا وأرجان. وفارس مائة وخمسون في فرسخا في مثلها. وافتتحت عنوة على يدي أبي موسى الأشعري وعثمان بن أبي العاص رضي الله عنهما. ويقال إن نمرود إبراهيم عليه السلام من إصطخر. ويقال بل كان من قرية يقال لها أبرقوية. وخراج فارس ثلاثة وثلاثون ألف ألف درهم بالكفاية. وذكر الفضل بن مروان «1» أنه قبلها بخمسة وثلاثين ألف ألف درهم بالكفاية على أنه لا مؤونة على السلطان. وجباها الحجاج بن يوسف والأهواز ثمانية عشر ألف ألف درهم. وكان عمرو بن الليث يجبي من خراجها إحدى وثلاثين ألف ألف درهم، ومن ضياعها تسعة عشر ألف ألف درهم، فجميعه خمسون ألف ألف درهم. ويحمل إلى السلطان في كل سنة خمسة عشر ألف ألف درهم. وجباها الناصر في سنة ثمان وسبعين ومائتين ستين ألف ألف درهم. وكانت الفرس قسطت على كور فارس أربعين ألف ألف مثاقيل.

ومن العجائب بفارس شجرة تفاح بشيراز، نصف التفاحة حلو في نهاية الحلاوة ونصفها حامض في غاية الحموضة. وليس بفارس كلها من هذا النوع إلّا هذه الشجرة الواحدة. ولهم سابور وفيها الأدهان الكثيرة ومن [92 ب] دخلها لم يزل يشم ريحا طيبة حتى يخرج منها، وذلك لكثرة رياحينها وأنوارها وبساتينها. 2/18 ولهم جور وبها يعمل الماورد الجوري وهو النهاية من الماورد. ولهم الثياب السينيزية «1» والجنابية والنوزية والسابورية. وهم أحذق الناس باتخاذ المرايا والمجامع وغير ذلك من الآلات الحديد. وقال الأصمعي: حشوش الدنيا ثلاثة: عمان والأبلة وسيراف.

2/19 القول في كرمان قال ابن الكلبي: سميت كرمان بكرمان بن فلوج من بني ليطي بن يافث بن نوح عليه السلام. ويقال إن بعض ملوك الفرس أخذ قوما فلاسفة «1» فحبسهم وقال: لا يدخل إليكم إلّا الخبز وحده وخيّروهم في إدام واحد. فاختاروا الأترجّ فقيل لهم: كيف اخترتم الأترج دون غيره؟ قالوا: لأن قشره الظاهر طيب فنشمه. وأمّا داخله ففاكهة. وأمّا حمّاضة فأدم، وأما حبّة فدهن. فأمر بهم فاسكنوا كرمان. وكان ماؤها لا يخرج إلّا على خمسين ذراعا. فهندسوه حتى أظهروه على وجه الأرض. ثم غرسوا بها الأشجار فالتفّت كرمان كلها بالشجر. فعرف الملك ذلك فقال: اسكنوهم الجبال فاسكنوها، فعملوا الفوّارات وأظهروا الماء على رؤوس الجبال 2/20 فقال الملك: اسجنوهم. فعملوا في السجن الكيمياء. وقالوا: هذا علم لا نخرجه إلى أحد. وعملوا منه ما علموا أنه يكفيهم مدة أعمارهم ثم أحرقوا كتبهم وانقطع علم الكيمياء. وقال بعض علماء الفرس: كانت الأكاسرة تجبي السواد مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف درهم سوى ثلاثين ألف ألف من الوضائع لموائد الملوك. وكانوا يجبون فارس أربعين ألف ألف. وكانوا يجبون كرمان ستين ألف ألف لسعتها. وهي ثمانون ومائة فرسخ في مثلها. وكانت كلها عامرة. وبلغ من عمارتها أن القناة تجري من مسيرة خمس ليال. وكانت كرمان ذات أشجار وعيون وأنهار. ومن شيراز إلى مدينة السيرجان، مدينة كرمان، أربعة وستون فرسخا.

وكرمان خمسة وأربعون منبرا صغارا وكبارا. ومن مدنها: القفص والبارز والمراح «1» والبلوص [93 أ] وجيرفت- وهي من أعظم مدنها- والسيرجان وبها تنزل الولاة، وهزوركند ولافث وهي الرباط وقلعة بني عبد الله. إلّا أن قصبتي البلد جيرفت والسيرجان. قال: وبكرمان مدينة يقال لها دمندان، وهي مدينة كبيرة واسعة وبها أكثر معادن كرمان، بها معادن الحديد والنحاس والذهب والفضة والنوشادر والصفر ومعدنه بجبل يقال له دنباوند، مرتفع شاهق، ارتفاعه ثلاثة فراسخ. وهذا الجبل بالقرب من مدينة يقال لها خواش. على سبعة فراسخ من المدينة. وفي هذا الجبل كهف عظيم يسمع من داخله دويّ وخرير مثل خرير الماء، ويرتفع منه بخار مثل الدخان، فليتصق حواليه. 2/21 فإذا كثف وكثر، خرج إليه أهل تلك الناحية، فيقلع في كل شهر أو شهرين. وقد وكل السلطان به قوما، حتى إذا اجتمع سائره أخذ السلطان منه الخمس وأخذ أهل البلد باقيه فاقتسموه بينهم على سهام قد تراضوا [بها] فهو النوشادر الذي يحمل إلى سائر الآفاق. وبها مدينة يقال لها خبيص، لم تمطر داخلها قط وتمطر خارجها. فربما أخرج الإنسان يده من السور فيصيبها المطر ولا تقطر داخلها قطرة. وبها خشب لا تحرقه الناس، يلقى فيها ويترك الوقت الطويل ثم يخرج منها وهو صحيح ما احترق. والنصارى يموّهون الخشب ويزعمون أنه من الخشب الذي صلب عليه- بقولهم- المسيح عليه السلام. وكان مع بعض الرهبان صليب من هذا الخشب، فافتتن به خلقا من الناس، وذلك أنه كان يلقيه في النار ساعات من النهار ثم يخرجه عنها ولم تعمل فيه شيئا. فلم يزل على ذلك حتى فطن له رجل من أهل هذه المدينة. فأتى بقطعة خشبة كانت معه ففعل بها كفعل الراهب فبطل ما كان يمخرق. وقال المأمون: لو أخذ الطحلب فجفف في الظل وطرح في النار لم يحترق.

وطائر يعرف بالسمندل «1» يدخل النار فيتمرغ فيها ثم يخرج منها كما دخل لم تحترق من ريشه ولا واحدة. وذكر طمياث الحكيم في كتاب الحيوان: إن بالمشرق طائرا يقال له بنجس في مدينة يقال لها مدينة الشمس وليس له أنثى ولا شكل يشبهه. وأهل تلك المدينة يعبدون الشمس ويسجدون [93 ب] لها عند طلوعها. وتسمى المدينة اغفطوس. وهذا الطائر يكون بها ويعرف في غيرها. فإذا أراد الله بإذنه فيجمع بمنقاره شيئا كثيرا من عيدان الدار صيني. ثم لا يزال يضرب تلك العيدان بجناحيه مكبّا على ذلك لا يفتر، حتى تشتعل نارا. فإذا علا لهبها قذف نفسه فيها 2/22 حتى يحترق وتأكله النار فيصير رمادا. فإذا كان بعد أيام يعرفون عددها، تصوّر من ذلك الرماد دودة كبيرة فلا تزال تكبر حتى تصير مثل الفرخ ثم ينبت الله له جناحين «2» وريشا وتعود صورة ذلك الطائر لا يغادر منه شيئا. وأهل هذه المدينة يذكرون أن ذلك يكون في كل خمسمائة سنة. وفي بعض مدن خراسان هوة عظيمة في جبل فيها نار تتقد ولا تطفأ شتاء ولا صيفا. وفي هذه الهوة جرذان كبار بيض تخترق النار في دخولها وخروجها، فإذا كانت خارجة من الهوة ونظرت إلى إنسان بادرت فخاضت النار مخترقة للهوة إلى مواضعها لا تؤذيها النار ولا تحرقها. ومن كرمان إلى سجستان مائة وثمانون فرسخا. ولها من المدن «3» : زالق

وكركويه وهيسوم وزرنج وبست وناشروذ والقرنين وبها أثر مربط فرس رستم المعروف بالشديد ونهرها المعروف بالهندمند. يقول أهل سجستان أنه ينصب إليه مياه ألف نهر فلا تظهر فيه زيادة. وينشق منه ألف نهر ولا يرى فيه نقصان. وفي شرط أهل سجستان على المسلمين أن لا يقتل من بلدهم قنفذ ولا يصاد. وذلك أن كل بيت ليس فيه قنفذ هو كثير الأفاعي. والقنافذ تأكل الأفاعي. ولولا ذلك لأتت عليهم. والقنافذ بسجستان مثل النمس بمصر. فلولاها لأتت الثعابين على أهل مصر. ومن مدنها الرخج وبلاد الداور، وهي مملكة رستم الشديد ملكه إياها كيكاوس. وبين مدينة سجستان إلى مدينة هراة ثمانون فرسخا. ومن شيراز إلى نيسابور مائة وعشرون فرسخا. ومن شيراز إلى داربجرد سبعة وأربعون فرسخا. ومن إصطخر إلى السيرجان، مدينة كرمان تسعة وخمسون فرسخا. ومن كرمان إلى حدّ عمل فارس ستة عشر فرسخا [94 أ] . ومن جيرفت إلى بم عشرون فرسخا. ومن جيرفت إلى أول عمل مكران واحد وأربعون فرسخا. ومن أول عمل مكران إلى المنصورة ومولتان السند ثلاثمائة وثمانية وخمسون فرسخا. ومن زرنج مدينة سجستان إلى المولتان مسيرة شهرين .

2/23 القول في الجبل ويسمى هذا الصقع بلاد البهلويين وهي همذان وماسبندان ومهر جانقذق- وهي الصيمرة- وقم وماه البصرة وماه الكوفة وقرميسين وما ينسب إلى الجبل. وليس منه: الري وإصبهان وقومس وطبرستان وجرجان وسجستان وكرمان ومكران وقزوين والديلم والطيلسان والببر. 2/24 القول في قرميسين: قال أبو المنذر هشام بن السائب الكلبي: لمّا ظفر قتيبة بن مسلم بفيروز بن كسرى يزدجرد حيث افتتح خراسان أخذ ابنته شاه آفريد «1» ومعها سفط مختوم فوجّه بها إلى الحجاج. فحملها الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك. فولدت له يزيد الناقص. وفضّ الحجاج السفط فإذا فيه كتاب بالفارسية. فدعا زادانفروخ بن بيري الكسكري فقرأه، فإذا فيه: بسم الله المصوّر، ميّز قباذ بن فيروز إقليمه ووزن المياه والترب ليبني لنفسه مدينة ينزلها فوجد أنزه بقاع إقليمه بعد أن بدأ بالعراق التي هي سرة الأقاليم ثلاثة عشر موضعا: المدائن والسوس وجنديسابور وتستر وسابور وإصبهان والري وبلخ وسمرقند وباورد وبطن بنهاوند- يعني روذراور- وماسبندان ومهر جانقذق وتل ما سير. ووجد أبرد بقاع إقليمه سبعة مواضع: قاليقلا وأردبيل وهمذان وقزوين وجوالق وخوارزم ومرو.

2/25 ووجد أوبأ بقاع إقليمه ستة مواضع: البندنيجين وبطن ماستون- وهو شابور خواست- وجرجان والخوار وبرذعة وزنجان. ووجد أقحط بقاع إقليمه ثمانية مواضع: ميسان وبادرايا ودستميسان والكلتانية وباكسايا وما سبندان والري وإصبهان. ووجد أبخل أهل إقليمه تسعة مواضع: خراسان وإصبهان وأردبيل وماسبندان وبادرايا وباكسايا وإصطخر وشيراز وفسا. وأخصب بقاع إقليمه عشرة مواضع أرمينية وآذربيجان وجور ومكران وكرمان ودستبى [94 ب] وماه الكوفة وماه البصرة وأرجان ودورق. ووجد أجمل بقاع إقليمه عشرة مواضع: الحيرة والمدائن وكلواذى وسابور وإصطخر وجنابا والري وإصبهان وقم والنشوى. ووجد أعقل سبعة مواضع: عكبرا وقطربل وعقرقوف والري وإصبهان وماسبندان ومهرجانقذق. وأفطن أهل إقليمه ستة مواضع: إسكاف العليا وإسكاف السفلى ونفّر وسمّر وكسكر وعبدسي. ووجد أحسد أهل إقليمه خمسة مواضع: جرجرايا وحلوان وسحاران «1» وهمذان وما سبندان. 2/26 ووجد أعلم أهل إقليمه بالسلاح أربعة مواضع: همذان وحلوان وإصبهان وشهرزور. ووجد أخف مياه إقليمه عشرة مواضع: دجلة والفرات وجنديسابور وماسبندان وبلخ وسمرقند وقزوين وماسورا وهي عين بقرميسين وماء ذات المطامير وماء ملّجان قرية الثلج بماسبندان.

ووجد أمكر أهل إقليمه أحد عشر موضعا: خراسان وإصبهان والري وهمذان وأرمينية وآذربيجان وماسبندان ومهرجانقذق وتستر والمذار وأرتوى. ووجود أسرى فواكه إقليمه سبعة مواضع: المدائن وسابور وأرجان والري ونهاوند وماسبندان وحلوان الجبل. ووجد أقل أهل إقليمه نظرا في العواقب أهل ثمانية مواضع: البندنيجين وما سبندان ومهر جانقذق وأردشير خرّه ورامهرمز وأرمينية وآذربيجان وطخرود «1» ، قرية من قرى قم خرج منهم في وقت موافاة العرب أربعة ألف رجل مع كل رجل خادم وسائس وخباز وطباخ إلى نهاوند ليقاتلوا العرب ويمنعوهم من المقام. فقتلوا كلهم بالاسفيذهان فلم يفلت منهم إلّا رجل واحد. ووجد أسفل أهل إقليمه أهل ستة مواضع: البندنيجين وبادرايا وباكسايا وبهندف وقهقور- بطن بماسبندان- وجرود- بطن بنهاوند-. ولم يجد ما بين المدائن إلى نهر بلخ بقعة على الجادة أنزه ولا أعذب ماء ولا نسيما من قرميسين إلى عقبة همذان. فأنشأ قرميسين [95 أ] وبنى لنفسه بناء معمدا على ألف كرم. فقرميسين كلمة فارسية معناها كرمانشاهان. وبنى الأكاسرة من المدائن إلى عقبة همذان وقصر شيرين مقبرة آل ساسان وبعقرقوف مقبرة الكيانيين. ثم نقل قباذ الأشراف من فارس وخراسان وكذلك أهل الجمال والأدب والفروسية فأسكنهم حافتي دجلة وأنزل أصحاب الصناعات بطن جوخى 2/27 وأنزل من كان من وجوه الناس الذين هم دون الأشراف، النهروانات.

وأنزل الحاكة والحجامين بادرايا وباكسايا، وأنزل التجار الأهواز، وأنزل الأطباء سيرى «1» قرية بماسبندان. فلما ميز قباذ إقليمه وعرف أهل بقاعه مسح البلاد ووقف على الحدود وعدد الفراسخ، اختار النزول بالمدائن ليقرب من الروم. وأخذ في بنائها. وابتدأ بعمل قصر ليسكنه. فكان كلما رفع من حائطه شيئا هبّت ريح عظيم فتقلعه. فلما رأى ذلك وجّه إلى بليناس المطلسم فأحضره من بلده وأمره أن يطلسم مواضع آفات إقليمه. وقال له: ابدأ بالمدائن. وجعل له على كل طلسم يعمله أربعة ألف درهم. فاتخذ له في موضع الإيوان مكان وسط القصر طلسما كبيرا وجعل حوله أحد عشر طلسما. فأمّا الكبير فللريح التي كانت تقتلع الحائط فسكنت وتمّ البناء. وطلسم للعقارب فقلّت بها. وآخر للحمى، وآخر للجرارات وآخر للسباع وآخر للبراغيث وآخر لاجتماع كلمة أهلها، وآخر ليطيع أهلها ملوكهم ما بقوا، وآخر لملوك الأقاليم أن يهابوا ملك العراق ولا يخالفوه وآخر لتعفّ نساؤهم عن الفجور وآخر لتزكو غلاتهم وثمارهم. وجعل على يمين كل طلسم منها وشماله وقدامه وورائه كنزا بينه وبينه أربعون ذراعا. ثم طلسمها وكنوزها أن تخفى عن الناس فخفيت. ويقال إنه ما بني بالآجر والجص بنية أبهى ولا أجل ولا أحكم ولا أعلى سقفا ولا أكثر ذرعا من إيوان كسرى بالمدائن. وفيه يقول البحتري من شعر طويل: وكأن الإيوان من عجب الصنعة ... جرب في جنب أرعن جلس [95 ب] 2/28 مشمخر تعلو له شرفات ... رفعت في رؤوس رضوى وقدس ليس يدرى أصنع إنس لجنّ ... سكنوه أم صنع جنّ لإنس قال: وأنشدني ابن الحاجب لنفسه يصف الإيوان: إن خانني زمن فمن هذا الذي ... لم تستبحه خيانة الأزمان

أخنى على عاد وأهلك تبّعا ... وسطا بقدرته على النعمان وأزال ملك الفرس بعد ثبوته ... وهوى بكسراها أنوشروان آثارهم تنبيك عن أخبارهم ... نطقا وليس مغيّبا كعيان هل أسمعت أذناك مثل حديثهم ... أو عاينت عيناك كالإيوان؟ قصر يكاد يردّ حسن بنائه ... عند التأمل أعين العميان تعلو له شرف كأن شخوصها ... بيض الحمائم في ذى الأغصان حفّت به كحفوف وقد أحدقوا ... بحريم بيت الله ذي الأركان وكأنها في وسط كل دجنّة ... نار تشب لعابد الرهبان أو فتية شربوا فأثر فيهم ... فعل الشراب مخيلة النشوان وضعوا الأكفّ على الحضور ورفّعوا ... فوق الرءوس أكلّة المرجان مصطفة كبنات نعش في ذرى ... عالي السموك موثّق البنيان الفت مجاورة السموك سموكه ... وترفعت عن يذبل وأبان فكأنما بين السماك وبينه ... شر فما ينيان ينتحيان صور من الآساد في جنباته ... ما ان لها اجم سوى الجدران أسد على فرس الرجال قديمة ... لو انها كانت من الحيوان 2/29 ومعسكران لكل حزب منهما ... رجل أمام مواقف الفرسان جيشان لو وقع التناجز منهما ... لم يبق من جمعيهما رجلان لولا وقوع اليأس من حركاتهم ... لظننت أنهما سيقتتلان لبسوا من الألوان أصفر فاقعا ... فأتاه ناصعه بأحمرقان ومورّد في خضرة فكأنه ... زهر تكنف حافتي بستان [96 أ] ثم رجع بنا القول في قرميسين وذكر عجائبها. قال أبو المنذر: طلسمات إيران شهر غير ظاهرة، وعند كل طلسم منها علامة إما صخرة وإمّا تمثال. وجميع ذلك من كل طلسم على أربعين ذراعا.

قال: ولما انتهى بليناس إلى طرازستان وعمل بإزاء القنطرة طلسما للغرق فسلم أهلها منه. وآخر خلف القنطرة فاستتمّ بناؤها. وآخر عن يمينها، فجرى الماء الذي عندها. وآخر عن يسارها فسلمت من السحر. وعمل بالبندنيجين طلسما للغرق فأمنوا. وآخر للقيّارة- عين القير- حتى نضبت. لولا ذلك ما أمكن أحد أن يشرب من الماء الذي هناك. وكذلك عمل آخر للنفاطة حتى انصرف شعب النفط إلى جهة أخرى عن الماء. وعمل عن يسار البندنيجين طلسما للزنابير وآخر للذبة فقلّت وكانت أكثر الأرض ذبة «1» وزنابير. وعمل بقرية من قرى ماسبندان تسمى تومان، طلسما لأجمة كانت هناك لا يسلكها أحد في الشتاء إلّا غرق في طينها. وعمل في هذه القرية أيضا طلسما لحمّة كانت هناك ماؤها شديد الحرّ، كانت تظهر في الشتاء وينقطع ماؤها في الصيف. فلما طلسمها جرى ماؤها شتاء وصيفا ولم ينقطع في وقت من أوقات السنة. ومن عجائب قرميسين أن الهواء لم يكن يهب فيها في الصيف ليلا ولا نهارا. 2/30 فشكا قباذ إلى بليناس ذلك، فعمل لها طلسما حتى هب الهواء بها على ما يهب في غيرها. وطلسم أيضا قرية بالقرب منها يقال لها كركان. وكانت تقوم بها سوق في كل عام فيتلف فيها خلق كثير بالعقارب. فقلّت العقارب فيها وخف عن أهلها ما كانوا يلقون منها. ويقال إنه لا يوجد منها عقرب. وإن وجد لم يضرّ. ومن أخذ من ترابها وطيّن بها حيطان داره في أي بلد كان، لم ير في داره عقربا. ومن أخذ منه عند لسعة العقرب إياه وشربه، عوفي لوقته. ومن أخذ منه شيئا وأخذ العقارب بيده لم يخشها.

ومن عجائبها وهو أحد عجائب الدنيا، صورة شبديز «1» . وهو في قرية يقال لها جانان ومصوّره فنطوس بن سنمار. وسنمار هو الذي [96 ب] بنى الخورنق بالكوفة. وكان سبب صورته في هذه القرية أنه كان أزكى الدواب وأعظمها خلقا وأظهرها خلقا وأصبرها على طول الركض. وكان ملك الهند أهداه إلى برويز الملك. فكان لا يبول ولا يروث ما دام عليه سرجه ولجامه ولا ينخر ولا يزبد. وكانت استدارة حافره ستة أشباره. [فاتفق أن شبديز اشتكى وزادت شكواه، وعرف أبرويز ذلك وقال: لئن أخبرني أحد بموته لأقتلنه. فلمّا مات شبديز خاف صاحب خيله أن يسأله عنه فلا يجد بدا من أخباره بموته فيقتله. فجاء إلى البهلبند مغنيه- ولم يكن فيما تقدم من الأزمان ولا ما تأخر أحذق منه بالضرب بالعود والغناء-، قالوا: كان لأبرويز ثلاث خصائص لم تكن لأحد من قبله: فرسه شبديز وسريته شيرين ومغنيه بهلبند. وقال: اعلم أن شبديز قد نفق ومات. وقد عرفت ما أوعد به الملك من أخبره بموته، فاحتل لي حيلة ولك كذا وكذا. فوعده الحيلة. فلما حضر بين يدي الملك غنّاه غناء ورّى فيه عن القصة إلى أن فطن الملك وقال له: ويحك! مات شبديز؟ فقال: الملك يقوله. فقال له: زه. ما أحسن ما تخلصت وخلصت غيرك. وجزع عليه جزعا عظيما] «2» . فأمر قنطوس بن سنمار بتصويره. فلما فرغ منه أعلم برويز بذلك. فجاء حتى وقف عليه ونظر إليه واستعبر باكيا عند تأمله إياه وقال: لشدّ ما نعى هذا التمثال إلينا أنفسنا وذكّرنا ما نصير إليه من فساد حالنا. ولئن كان في الظاهر أمر من أمور الدنيا يخلو من أمور الآخرة، إن فيه لدليلا على الإقرار بموت جسدنا وانهدام بدننا وطموس صورتنا ودرس أثرنا

للبلى الذي لا بد منه. مع الإقرار باليأس من البقاء الذي لا سبيل إليه أن يبقى من جمال صورتنا ومثال بدننا إلّا رسما يتجدد به من أمرنا من الباقين بعدنا مع ما يدرس من آثارنا وذكرنا. فمن خطر بباله هذا فلينظر إلى ما أمرنا به من هذا التمثال. وليستيقن بدروس رسمه وذهاب بهجته وإلّا فالهلاك غالب على أمره. وقد أحدث لنا وقوفنا على هذا التمثال ذكرا لما يصير إليه حالنا. وتوهّمنا وقوف الواقفين عليه بعدنا حتى كأننا بعضهم ومشاهدون لهم أو من حضر ذلك منهم من ذكر الحالتين اللتين اختلفتا بصاحبه من الحياة وصحة البدن ونفاذ الأمر وما حار إلى ذلك محارّه. ومن عجائب هذا التمثال أنه لم ير مثل صورته صورة ولم يقف عليه أحد منذ صوّر، من أهل الفكر اللطيف والنظر الدقيق إلّا استراب بصورته وعجب منها وأطال الفكر فيها. حتى لقد سمعت كثيرا من هذا الصنف يحلفون أو يقاربون اليمين انها ليست من صنعة العباد ولا تصوير المخلوقين. وسمعت رجلا من كبار المعتزلة ومناظريهم «1» يحلف بالأيمان المغلظة أنه ليس من صنعة العباد، وان لله عزّ وجلّ فيه خبيئة سوف يظهرها يوما ما. 2/31 وسمعت بعض الفقهاء العلماء يقول [97 أ] : لو أن رجلا خرج من فرغانة القصوى وآخر من السوس الأبعد، قاصدين إلى شبديز حتى ينظرا إليه ما عنفا على ذلك. وأنت إذا فكرت في أمر صورة شبديز هذه وجدتها كما ذكر هذا المعتزلي. فإنه إن كان من صنعة الآدميين، فقد أعطي ما لم يعط أحد من العالمين. فأي شيء أعجب وأظرف أو أشد امتناعا من أنه سخرت له الحجارة كما يريد، ففي الموضع الذي يحتاج إليه أن يكون أسود، أسود. وفي الموضع الذي يحتاج إليه أن يكون أحمر، أحمر. وكذلك البياض وسائر الألوان. فتبارك الله أحسن الخالقين. وقال لي أبو علي محمد بن هارون بن زياد- وكان حكيما فيلسوفا- وقد

تجارينا ذكر شبديز فوصلنا إلى هذا الفصل: ما يكون أن تكون حجرة واحدة احتفر فيها هذه الألوان في المواضع التي احتيج إليها. ولكنه لمّا فرغ من الصورة صبغها بما احتاج إليه من الأصباغ. ثم دهنها بعد ذلك بدهن كان يقف عليه. يوهم أن ذلك الألوان خلقة في الحجر غير معالجة بشيء من الأشياء. قال: وأنشدني أبو محمد العبدي الهمذاني لنفسه من ناظر معتبر أبصرت ... مقلته صورة شبديز تأمّل الدنيا وآثارها ... في ملك الدنيا أبرويز يوقن أنّ الدهر لا يأتلي ... يلحق موجودا بمهزوز أبعد كسرى اعتاض عن ملكه ... بخطّ رسم ثمّ مرموز يغبط ذو ملك على عيشة ... رنق يعانيها بتوفيز 2/32 خلّ عن الدنيا فلا طائل ... فيها لذي لب وتمييز نعمى وبؤسى أعقبت هذه ... تيك، فذو العزّ كمغروز وأنشدني الحسين بن أبي سرح لأبي عمران الكسروي: وهم نقروا شبديز في الصخر عبرة ... وراكبه برويز كالبدر طالع عليه بهاء الملك والوفد عكّف ... يخال به فجر من الأفق ساطع تلاحظه شيرين واللحظ فاتن ... وتعطو بكفّ حسّنتها الأشاجع يدوم على كرّ الجديدين شخصه ... ويلفى قويم الجسم واللون ناصع وقال آخر: شبديز منحوت صخر بعد بهجته ... للناظرين فلا جري ولا خبب [97 ب] عليه برويز مثل البدر منتصبا ... للناظرين فلا يجدي ولا يهب وربما فاض للعافين من يده ... سحائب ودقها المرجان والذهب

فلا تزال مدى الأيام صورته ... تحنّ شوقا إليها العجم والعرب وقال أبو الحسن العجلي في صورة شبديز: أباح للطرف السهاد والسهر ... ووكّل الجفن بماء منهمر طيف سرى وهنا لريّا فظهر ... يا حبّذا الطارق في وجه السحر في الليل يبدو والنهار يستتر ... تلك التي تزري بشمس وقمر وغرة زاهرة تغشي القمر ... حال بهاها الجمال فقطر شبّهتها حين تبدّت في حفر ... شيرين في حسن اعتدال وقدر كأنّما تنفث سحرا مستمر ... تكاد تسبي ناظراها من نظر بطرّة مشرقة من الطرر ... وحاجب خطّ بمسك فشطر وشاهد عقرب في الخدّ النضر ... ما أن به من ندب ولا أثر لولا الذي من أنف شيرين كسر ... شلت يدا آمره والمؤتمر لقد أتى بفعله إحدى الكبر ... ما كان أقوى قلبه حين جسر ويل أمّه لقد تعاطى فعقر ... فجاءه أمر الأمير فحبر وعمّر البهو وقد كان دثر ... وهي كهاتيك ولكن من حجر كسرى وشيرين وشيخ ذو كبر ... عليهم التيجان من فوق الوفر تسقيهم شيرين راحا بقدر ... في البهو والبهو عليه محتجر يحثّهم مدجّج على ظهر ... منصلت حربته ذات شرر كأنّما يطرد مهدوب الوبر ... أو الشبيهات يعيران البقر لا الزام إنسيا ولا الطرف أغر ... عادته صيد الظباء والعفر والترس في يمناه لما يستتر ... شاكي السلاح كالكميّ المنكدر كأنما الدرع عليه قد سمر ... وعن يمين البهو نهر قد زخر فيه صنوف الصيد من بحر وبر ... والفلك والنون فيه منشمر وفارس عن الشمال مستدر ... تكاد أن تنبض يمناه الوفر

[98 أ] ومنهم فوق الحصان قد سكر ... تكفّه شمسته من حرّ وقر (!) وفوق عقد البهو عند المختبر ... خلقان مكتوبان في خلق البشر والشرفات فوق هامات الحزر ... والملكان صعدا كما أمر في الطاق بأن بالحديد والدسر ... وفي التماثيل على الماء بقر ثلاثة من عاقر ومعتقر ... يحثّهم منازع فيه طمر وعقد طيقان ونهر محتفر ... وصاحب النهر على الماء خطر يدفعه من نهر إلى نهر ... فانظر فهذا وصف ما منه ظهر فيه لمن عمّر وعظّ وعبر ... يا أيّها السيد ذو الوجه الأغرّ شرفت كسرت وأنكرت ما ذكر (؟) ... من شرف الملك القديم والخطر قال: وأنشدني أبو نصر، رجل من أهل قصر اللصوص يذكر شبديز والبناء الذي بقصر اللصوص: يا طالبي غرر الأماكن ... حيّوا الديار ببرز ماهن وسلوا السحاب تجودها ... وتسحّ في تلك الأماكن وتزور شبديز الملوك ... وتنثني نحو المساكن واها لشيرين التي ... قرعت فؤادك بالمحاسن فمضى على غلوائه ... لا يستكين ولا يداهن واها لمعصمها المليح ... وللسوالف والمغابن في كفّها الورق الممسّك ... والمطيّب والمداهن وزجاجة تدع الحكيم إذا ... انتشى في زيّ ماجن انعظت حين رأيتها ... واهتاج منّي كلّ ساكن فسقى رباع الكسروية ... بالجبال وبالمدائن

دان يسفّ ربابه ... وتناله أيدي الحواضن وقال بعض الشعراء في شبديز وقد اجتاز بموضعه رجل من الملوك فاستحسن المكان وشرب هناك ثم أمر أن يخلق وجه شبديز وشيرين بالزعفران ففعل ذلك: كاد شبديز أن يحمحم لمّا ... خلق الوجه منه بالزّعفران [98 ب] وكأنّ الهمام كسرى وشيرين ... مع الشيخ موبذ الموبذان من خلوق قد ضمخوه جميعا ... أصبحوا في مطارق الأرجوان وأنشد لأحمد بن محمد «1» : بوستان طاق ليس في الأرض مثله ... وفيه تصاوير من الصخر محكم وبرويز فيه والمرازب حوله ... وشيرين تسقيهم وشيخ مزمزم وبهرام جور والمقاول مثّل ... وشروين فيهم قاعد متعمّم وخرّين قد أجرى وأومى بسرعة ... إلى طفلة حسّانة لا تكلّم وموبذهم في الطاق صوّر عبرة ... وهربذهم بالجهل والجور يحكم وكث يحوز الماء في النهر واقف ... ليقسم فيما بينهم ليس يظلم وأسراب عين والكلاب تحوشها ... وطرف عليه المرزبان المكرّم وصوّر فيه كلّ وحش وطائر ... من الطير والعنقاء ما الله أعلم وأسد وصيران وشاة وأعنز ... وحيتان بحر في السفين تعوّم 2/33 وما دبّ من ذرّ ونمل وعقرب ... وفيل وفيّال عليه يدمدم وقبج ودراج وظبي وأرنب ... وباز وصقر قد يصيد وقشعم ومكتب صبيان وتأديب غلمة ... وشيخ عديم قيل هذا معلّم

وصوّر فطّوس على الطاق نفسه ... عليه جناحا طائر لا يحوّم فسبحان ربّ سخّر الصخر عنوة ... فصوّر فيه كلّ شيء مقوّم لقد أبدع الرومي في الطاق بدعة ... أقرّ له بالحذق عرب وأعجم وبقرميسين الدكان الذي اجتمع عليه جماعة من ملوك الأرض 2/34 منهم فغفور ملك الصين وخاقان ملك الترك وداهر ملك الهند وقيصر ملك الروم عند كسرى أبرويز. وهو دكان من حجارة مربع مائة ذراع في مثلها من حجارة مهندمة مسمّرة بمسامير الحديد، ولا يتبين فيه ما بين الحجرين فلا يشك من رآه أنه قطعة واحدة. وأنشد لأحمد بن محمد فيه: بين القناطر والدكّان أبنية ... فاقت على كلّ آثار وبنيان دكّان صخر على تلّ بنوه فما ... ندري لجنّ بنوه أم لإنسان لأنها صخرة ملسا ململمة ... عجيبة الشأن فيها كلّ ألوان قد هندسوه فأوفوه على عمد ... وهندموه فما يخفى على جان قالوا بأنّ ملوك الأرض اجتمعوا ... عليه عند أبرويز بن ساسان وبقصر اللصوص بناء عجيب وأساطين محكمة. وقال أبو عبد الله محمد بن إسحاق «1» : رأيت الحسين بن أبي سرح في المنام بعد موته وكأني أسأله أن يملي عليّ خبر شبديز ومن صوّره وكيف صوّر فقال: اكتب، استأنسوا بملامس الصخور، ولم يستوقفوا عن صغائر الأمور. وصوروا الجواري الأبكار، في الصخور الكبار، كأن لم يسمعوا بجنة ولا نار

في أبنية البلدان وخواصها وعجائبها قال بطليموس: إن اختلاف الأمم في ألوانهم وأخلاقهم وأجسامهم وطبائعهم وجميع حالاتهم من ثلاثة وجوه: واحدها: من بعد الأرض من خط الاستواء. وهو مثل البلاد وانحرافها عن الخط يمنة أو يسرة. الثاني: من قبل طبائع البروج المحاذية لسمت تلك البلاد والغالبة على طبائعها. والثالث: بعد البلاد من مدار الشمس وقربها منه. فأمّا الأرض العامرة في ربع الأرض الشمالي، فما كان منها متيامنا وهو ما بين تغير الربيع إلى تغير الصيف، وهو الذي محاذيها من البروج ما بين الحمل إلى السرطان. فإذا توسطت الشمس وسط السماء كانت على سمت رؤوسهم فأحرقتهم. فلذلك صارت أجسادهم سودا وشعورهم قططا وجثتهم ذابلة، وطبائعهم حارة وعامة أشكالهم متوحشة لشدة حرّ أرضهم. وهم الحبشة والزنج والنوبة وأنواع السودان. وليس يكون ذلك فيهم وحدهم، ولكنه يكون في الهواء المحيط بهم. وكذلك يبس دواب أرضهم وشجرهم في جميع ذلك تحرقه أرضهم. وأما ما كان متيامنا «1» [99 أ] من الأرض فلتباعد سمت رؤوسهم عن مدار الشمس وحرارتها ومدار البروج، كان مكانهم باردا تنالهم كثرة الرطوبة. وتكون

ألوانهم بيضا وشعورهم سبطة وأجسادهم عظاما وطبائعهم إلى البرد وشكلهم متوحش لشدة برد أرضهم. وشتاؤهم شديد مفرط البرد، وشجرهم عظام ودوابهم على مثل هواء أرضهم. وهم الترك. وأما ما كان من الذين سمت رؤوسهم تحت السرطان ومن سمت رؤوسهم تحت الدينة «1» فلأن الشمس لا تستوي على رؤوسهم، ولأنهم لم يميلوا إليها جدا، فلذلك هواؤهم حسن التمزيج وموضعهم معتدل، ليس فيه برد شديد ولا حرّ شديد. وألوانهم وأجسامهم وسط، وطبائعهم ممتزجة ومراتبهم في جميع حالاتهم متقاربة. ومن كان من هؤلاء متيامنا فعامتهم أهل ذكاء وفطنة ودقة نظر وعلم بالنجوم وغير ذلك من العلوم، لقرب سمت رؤوسهم من مدار الكواكب الجارية والبروج. فمن أجل ذلك تنازعهم نفوسهم إلى طلب علم النجوم والآداب. ومن كان مشرقا فهم مذكوّون وأنفسهم شديدة وهم أهل تنافس في الشرف والزيادة. لأن المشرق فيه طبيعة الشمس. ومن يعزف منهم مغربا، فإنهم مؤنثون وأجسامهم لينة وعامة أعمالهم خفية. لأن المغرب للقمر أو لدونيّة من مهلك من المغرب. فلذلك جعل المغرب مؤنثا ليّنا. والشمال خلاف المشرق. وفي هذه الأقسام قسم مختلفة في الشبه والطبائع والأدب على نحو ما يحيط به من الهواء الحار والبارد والممتزج وذلك ينقص ويزيد في كل كوكب ومكان على نحو ارتفاع الأرض وانخفاضها. والدليل على ذلك، أن بعض الناس صاروا نواتية وهم أصحاب السفن البحرية لقرب أرضهم من البحر. وصار آخرون أهل دعة وذلك لخصب بلادهم وكثرة خيرهم. وكذلك موافقة الأقاليم للبروج التي عليها في الطبائع. فإن طبائع كل إقليم على مثل طبائع البروج التي تتولاه.

وقسمت [99 ب] الأرض العامرة على أربعة أجزاء: فأول الأجزاء: أورس، وهي بين الشمال والدبور ويوافقها من مثلثات البروج التي لها ما بين الشمال والدبور وهي مثلثة: الحمل والأسد والقوس ويدبّرها المشتري والمريخ. وجميع ما في هذا الربع من الأمم: بريطانية وعليا وجرمانية وانوليه وصقلية وطونيا. وهم أعزاء غير خاضعين، يحسنون أخذ السلاح والعمل به، وهم أصحاب زي ولباس، يحبون مجامعة الذكران ويغارون عليهم ولا يرون ذلك شينا ولا مأثما. وأنفسهم مذكّرة وليست لهم غيره على النساء، ويهون عليهم الجماع. والربع الثاني هو الذي من الجنوب والصبا. ولهم المثلثات: الثور والعذراء والجدي. ووالي تدبيرهم: الزهرة وزحل مشرقين. وطبائع هذه الكواكب على نحو طبائع الذي يدبرهم. فإنهم يسجدون لها ويسمعون الزهرة أنيس، والزحل يبسون، وفيه كهنة يخبرون عن الأشياء قبل أن تحدث. ويعظمون أمهاتهم وأخواتهم وجميع الإناث لتدبير الزهرة وزحل إياهم. وفيهم الورع، لأن الزهرة طبيعتها الورع. وبلادهم حارة ويحبون المجامعة والرقى والرقص واللهو والمجون من أجل الزهرة أيضا. ولا يجامعون الذكران، وينكحون أمهاتهم ويولدونهم ويرون أن ذلك تعظيم لهنّ. وأنفسهم عظيمة. وهم أشدّاء مقاتلون لتشريق زحل. ونصيب هذا الربع من وسط الأرض: أروميا وقيلسوسينا وتوريا وحلبايا. وهذه البلدان من الشمال والدبور. وهو الحمل والأسد والقوس. ووالي تدبيرهم المشتري والمريخ والشمس وعطارد. ولذلك صاروا أهل تدبير وصناعة وتجارة وعقل وسخاء. وكتابة. وفيهم غش وخبث. وأما الربع الثالث: فمنها: أرمينية الأولى والثانية والثالثة والرابعة. والبلدان التي بين الشمال والصبا. وهو أحد () «1» التي يقال لها الجامع. وواليها من المثلثات التي بين

الشمال والصبا وهي الجوزاء والميزان والدلو [100 أ] وأصحاب تدبيرها زحل والمشتري مشرقين، فلذلك صار الذين في هذه الكور يسجدون للشمس والمشتري وهم يشبهون المجوس وعباداتهم وآدابهم حسنة. ولهم ملاحة وقبول. ماضين للحق، مقتصدين في مجامعة النساء. ويحبون البرّ والصلة. وعامة ذلك من تشريق زحل والمشتري. فأما الربع الرابع الذي بين الحوت والميزان واليه من المثلثات: السرطان والعقرب والحوت. ومدبّرهم من الكواكب: المريخ والزهرة مغربين. فأسماء الأمم التي في هذا الربع: قونيه وميدنية وإفريقية ومور طلينا وطنجه ومراميه. فلذلك أهل هذه البلاد يملّكون رجلا وامرأة. فأما الرجل فيملك الرجال، والمرأة تملك النساء. ويحبون مجامعة الإناث وعامة نكاحهم زنى. ويحبون الزينة والمال، ويتزينون بزي النساء من أجل الزهرة. وهم أهل غش وسحر وجرأة [في إلقاء] أنفسهم في المهلكة من أجل المريخ وولايته إياهم. ونصيب هذا الربع من وسط الأرض وسقى وتمريقى والبرط السفلى واطرز المغرب ومارثها والحبشة والاسطون وهم ما بين الشمال والصبا. ولهم من المثلثات: التومين والميزان والدلو. ومدبّرهم من الكواكب: زحل والمشتري وعطارد. وهذه الكور قريبة من مدار الكواكب الخمسة الجارية إذا كانت مغربة. ولذلك هم أهل تدين وتعظيم الآلهة. يعرفون حقّها ويحبون النياحة. ولهم آداب كبيرة مختلفة وأديان متفرقة. وإذا ملكوا كانوا أذلّاء جبناء صابرين. وإذا ملكوا كانوا أهل طيب أنفس وعطية كثيرة. وخلقهم على نحو طبيعة أرضهم. وعامة ذكرانهم ضعفاء مؤنثون يتركون الجماع من حيث ينبغي ويأتون النساء من حيث لا ينبغي لتقريب الزهرة. وذكروا أن الأرض والماء وسائر الطبائع كرية. وان استدارة الأرض كلها وجبالها وبحارها أربعة وعشرون ألف ميل. وان قطرها وعمقها وعرضها سبعة آلاف وستة وثلاثين. وانهم استدركوا ذلك بأنهم أخذوا ارتفاع القطب الشمالي في مدينتين هما على خط الاستواء مثل مدينة تدمر [100 ب] والرقة، فوجدوا ارتفاع

القطب في مدينة الرقة خمسة وثلاثين جزءا وثلثا. وارتفاع القطب في مدينة التدمر، أربعة وثلاثين، بينهما زيادة جزء وثلث. ثم مسحوا ما بين الرقة وتدمر فوجدوه سبعة وعشرين ميلا. فعلموا أن لكل جزء وثلث، جزء من أجزاء الفلك الأعظم. فالظاهر من الفلك سبعة وستون «1» ميلا من الأرض، والفلك ثلاثمائة وستون جزءا على ما اتفق عليه علماء الروم والهند وبابل. وإنما قسموه هكذا، لأنهم وجدوا الفلك قد اقتسمته البروج الاثنا عشر، ووجدوا الشمس تقطع كل برج منها في شهر وتقطع البروج في ثلاثمائة وستين يوما. فبهذه القسمة والمقاييس استدركوا علم الساعات والكسوفين. وبها استخرجوا الآلات والاصطرلابات وعليها وضعوا كتبهم. وقالوا أيضا: الفلك مستدير. واستدلوا بذلك لأنه يدور على محورين وقطبين، اللذين هما القطب الشمالي. والجنوبي فأما أهل البلدان التي مالت إلى ناحية الشمال، فإنهم يرون القطب الشمالي وبنات نعش ولا يرون القطب الجنوبي ولا الكواكب القريبة منه. ولذلك صار سهيل «2» لا يرى بناحية خراسان ويرى في العراق أياما في السنة. فأما في البلدان الجنوبية فإنه يرى فيها السنة كلها. فمتى مال إلى الناحية الجنوب، غاب عنه القطب الشمالي والكواكب التي تقاربه. وهذه الكواكب التي هي قريبة من القطب تدور حوله دورانا مستديرا مستويا يرى بالعيان مثل الشمس فإنها بالصيف تطلع من وسط المشرق ثم تصعد في الفلك صعودا مستويا، ثم تهبط على مثال ذلك الدور، ثم تغيب تحت الأرض. فتدور هناك مثلما تدور هاهنا حتى تطلع. وزعموا أن البحر أيضا كريّ مدور. وبرهان ذلك أنك إذا لججت فيه غابت عنك الأرض والجبال شيئا بعد شيء حتى خفي ذلك كله، ولا ترى شيئا من شوامخ الجبال. فإذا أقبلت نحو الساحل، ظهرت [101 أ] لك قلل الجبال وأجسامها شيئا

بعد شيء. فإذا قربت من الساحل، ظهرت الأرض والأشجار. والأرض قسمان: أحدهما مسكون والآخر غير مسكون. والمسكون منه قسمان: أحدهما مفرط الحر وهو جهة اليمين لأن الشمس تقرب منه فيلتهب هواؤه. والآخر جهة الشمال وهو مفرط البرد لبعد الشمس منه. فكل مدينة موضوعة في جهة المشرق فهي أشد اعتدالا وأقل اسقاما. لأن الشمس تصفي تلك المياه التي تجري فيها. والمدن الموضوعة بإزاء المغرب، تكثر أمراض أهلها لأن مياههم كدرة متغيرة، وهواؤهم غليظ، لأنه يبقي تلك الرطوبات فيه فتغلظ مياههم. والمدن الموضوعة على جهة الجنوب تكون مياهها حارة كدرة متغيرة مالحة لينة تسخن في الصيف وتبرد في الشتاء. وأبدان أهلها رطبة لينة لما يتحلب إليها عن الرطوبات من أرضهم. وتكثر نساؤهم الإسقاط بسبب الرطوبات ولا يقدرون أن يكثروا من الطعام والشراب لضعف رؤوسهم. لأن كثرة ذلك تغمّ أدمغتهم وتغيرها. وقلما تعرض لهم الحميات الحارة. والمدن الموضوعة في جهة الشمال على إزائه فإن مياهها فاسدة رطبة ثقيلة النضج. وأهلها أقوياء أشدّاء عراض الصدور دقاق السوق رؤوسهم صحيحة يابسة وأعمارهم طويلة لصحة أبدانهم وكثرة فضول الرءوس. وتكون أخلاقهم وحشية. ويقل حمل نسائهم، لكنهن لا يسقطن لبرد الماء ويبسه ويلدن بشدة وصعوبة وتتسع لذلك صدورهن. وإنما رقّت سوقهن لارتفاع الحرارة عنها. ويكثرون الأكل ولا يكثرون الشراب. قال: وسكان ناحية الجنوب سود جعاد دقاق الكعوب كحل العيون سود الشعور خفاف اللحوم. فيهم الحفظ والذكاء والبرّ والطرب والحرص والسرقة. وسكان ناحية الصبا أقرب شبها بأهل ناحية الجنوب وهم دونهم فيما وصفت. وسكان ناحية الدبور أقرب شبها بأهل ناحية الجنوب وهم دونهم. وأهل المغرب مختلفون في هيئاتهم، فأما سكان سواحل البحر منهم فقريب

شبههم من سكان ناحية الجنوب. وسكان ناحية الصبا قريب شبههم بناحية الشمال. وأهل [101 ب] الهند ممتزجون لأن بلادهم من بلاد الشمال والجنوب. ولذلك حسنت أخلاقهم وأجسامهم ووجوههم واعتدلت. وكذلك من كانت محلته بين الشمال والجنوب وهم أعدل مزاجا وأحسن عقولا. وأهل مصر أهل غفلة وقلة فطنة. والبربر الفطنة فيهم فاشية، وليس فيهم كبر ولا لهم مكر. والروم أهل صلف وتكلف. وأهل الشام أهل غفلة وسلامة. وأهل الحجاز أهل معازف ولهو ومداعبة وتأنيث. وأهل العراق أهل فطنة وغدر. وأهل الهند أهل غفلة وشجاعة ولين. وأهل الصين أهل طلب وخفة وجبن وحذق بالصناعات. وأهل اليمن أهل غفلة وخفة ولين. وأهل خراسان أهل غفلة وبخل وحرص وشجاعة. وقال بقراط في كتاب الأهوية والأبدان: إنّ ما كان من الأمصار مقابل شرق الشمس. فرياحه سليمة وماؤه عذب وأهله قلّما يضرهم تغير الهواء. وكان يقول: المياه التي تنبع من مواضع مشرقة ومن تلاع وروابي، أفضل المياه وأصحها، وهي عذبة. وبلدها أصح البلاد، لا يحتاج إلى كثرة مزج الشراب، ولا سيما الشرقي الصيفي. لأنها تكون براقة طيبة الريح اضطرارا. وقال فسطوس في كتاب الفلاحة: أصلح مواضع البنيان أن يكون على تلّ أو كبس «1» وثيق ليكون مطلا. وأحقّ ما جعلت إليه أبواب المنازل وأفنيتها وكواها،

المشرق واستقباله الصبا. فإن في ذلك صلاح الأبدان لسرعة طلوع الشمس ومرّها عليهم. وأن توسع البيوت ويرفع سمكها وتكون أبوابها إلى المشرق. لأن ريح الجنوب أشدّ حرا وأثقل وأسقم. وأصح البلدان ما كانت على رؤوس الجبال والأماكن التي تواجه مهبّ الصبا. وما كان في قعور وأغوار ومواجهة لريح الجنوب أو الدبور، فهي مواضع رديئة مولدة للأمراض. والصواب أن تتخذ الدور بين الماء والمشرق وأن تكون شرقية، والبساتين غربية. ومن قرب منزله من النهر كان أقل انية ممن [102 أ] بعد عنه. وقالوا: لتكن دوركم شرقية وضياعكم غربية. وقال ابن كلدة: جميع خصال الدار، أن تكون على طريق نافذ وماؤها يخرج، وليس عليها متشرّف، وحدودها لها، وتكون بين الماء والسوق. وتصلح أفنيتها لحط الرجال وبلّ الطين وموقف الدواب. وإن كان لها بابان فذلك أمثل. وكان إياس بن معاوية يقول: شرقي كل بلد خير وأفضل من غربيه. وكان يقال: الجار ثم الدار، كما الرفيق قبل الطريق. وقال يحيى بن خالد: دار الرجل دنياه. فينبغي أن يتنوّق في دهليزه فإنه وجه داره ومنزل ضيفه ومجلس صديقه إلى أن يؤذن له. ومستراح خدمه وموضع مؤدب ولده ومنتهى حدّ المستأذن. ولما قدم موسى بن جعفر على المهدي، كلّمه في ردّ فدك. فقال له: أنا ناظر في ذلك، ولكن أين حدودها؟ قال: أما الأول فعريش مصر. والثاني: دومة الجندل. والثالث: أحد، والرابع: سيف البحر. فقال المهدي: هذه الدنيا كلها. فقال موسى بن جعفر: هذا كان في أيدي اليهود، فأفاءه الله على رسوله (صلى الله عليه وسلم) «1» .

وكان على رجل من ثقيف دين فطولب به. فقال له الحسن البصري: بع أرضك واقض دينك وأربح نفسك. فقال: يا أبا سعيد! إنا أهل بيت لا نبيع التراب حتى نصل إلى التراب. وقال عيسى بن بشر الكوفي: أردت شراء دار فسألت جعفر بن محمد رضي الله عنه «1» عن ذلك، فقال: اشترها. فإن الدار مكرمة. وفي بعض الخبر قال: من قدم بلدا فأخذ من ترابه وجعله في مائه وشربه، عوفي من وبائه. وقال قتيبة بن مسلم للحصين بن المنذر: ما السرور؟ قال: امرأة حسناء ودار قوراء وفرس مرتبط بالفناء. وقيل لرجل بنى دارا وأعظم النفقة عليها: ما أشدّ ما مرّ عليك في بناء هذه الدار؟ قال: أشد ذلك جمعا قائما، الفعلة. وأسهل الأمور النفقة. وقال بعضهم: سعة الدار تزيد في عقل الرجل، كما أن ضيقها ينقص من عقله. وذلك أن الرجل إذا كان ضيق المسكن فدخل إليه داخل قصف عقله عند حرمه مخافة أن تبدو منهن عورة أو يظهر منهن ما لا يحب ظهوره. فإذا كان واسع المسكن [102 ب] فجميع عقله معه. وذكر بهبود بن القردمان أنه لما فرغ من بناء الدار التي بنيت لأنوشروان بالمدينة العتيقة أعلم بذلك فأمر المنجمين باختيار يوم لينتقل إليها فيه. ففعلوا ذلك. فلما دخلها وقد نصب سريره وسدلت ستوره وهيئ له تاجه. فلما استوى

على السرير ورأى بهاءها وحسنها وجلالة فرشها وآلتها، استعبر عند ذلك باكيا لخطرة خطرت بباله من ذكر الموت وقال: إذا كان سرور الدنيا الذي يمنعه فناؤه وكثرة ما ينوبه من العاهات، فكيف بسرور الآخرة مع بقائه وخلوصه من كل مكروه؟ وإن في هذا لعبرة ينبغي أن لا تسقط على ذي حجى فيرفض الكثير الفاني القليل الباقي «1» . وما أحسبنا إلّا ونجد أشرفنا من الدنيا فيما رفضنا من مخفوض مخايلها وأشخصنا الأبصار إلى ما تطأطأ من أعلام غرورها. ونحن أحرياء أن نوجه ذلك جهته، فيكون غفرانا لما بلغته الدنيا فينا من نهمتها. ثم قال: أيها الناس! إن الذي بلغنا منه بأقصى قدرتنا لا يمتنع من الخراب والبلى بتوزيعنا إياه وفقده إيانا، وان مداه قليل الغناء عند طول الأجل منا. ثم نادى مناديه ان الملك يعزم على كل من حضر إلّا قام فأخبر بعيب ان عرفه في بناء الملك فأحجم الناس جميعا عن ذلك. فقام رجل ذميم المنظر رث الهيئة فقال: إن الملك قد عزم علينا بما عزم علينا. فلولا التأثم من عزمه لكان موضوعا عاما ما أمر به. فلذلك نستجيز أن نقول ما وافقنا وخالفه. ومن عيوب بنائه، أنه بني في غيطة من الأرض لا تقع عليه العيون حتى تقرب منه. وأولى المواضع ببناء المدن والدور، المشرف من الأرض لتعلو على ما حولها، وتنظر [ها] الوفود من بعد. ومنها: ان منزل نسائه أعلى منازله. وذلك دليل في الطيرة على أن أمر النساء سيعلو على أمور الرجال. ومنها: ان حق صحن الدار أن يعمر بالخدم والحاشية وكثرة من يدخل ويخرج. وهذا الصحن يفضل عن حاشية الملك وخواصه ويتسع عنهم. وأخرى لم أشأ ذكرها. فإن يكن الملك قد عرفها [103 أ] وإلّا فليعفني من ذكرها. فقال له أنوشروان: كأنك تقول إني لم أنفق فيما عملت من هذا درهما من بيوت أموالنا، وإنما عملت ذلك مما أفاءت علينا أطراف الأسنّة ونحور الخيل من أموال أهل حربنا وأعداء أهل ملتنا المكتنفين لحوزتنا. قال: لئن قال الملك ذلك فما أفاد رسما إلّا بإتلاف رأس من رؤوس أساورته ولا عوض

منهم بما خطر بهم فيه وعرضهم له. فهذا الذي عندي من عيوب هذا البناء. فقام رجل آخر فقال: قد سمعت مقالة هذا في عيب ما عاب في بناء الملك. وأنا أقول مثل قوله عن فضل طاعته منه، ورضا منه عنه. فقد بلغ غاية الاسخاط للذي رضاه خلاف رضاها. وإن كان الملك أباه بجهاله بما فيه، فليس بأصغر الخطأين ولا أقلهما فيما ألزمه من وزره. بل لو كان ذلك على معرفة فيما لا يشك فيه من التقصير عن شكره لكان الملك هو الجاني على نفسه. وأشد من هذا وأفحش، ان الملك عسى أن يقول: إني إنما أردت بما شيدت من هذا البناء إعزاز الدين وتفخيم أمره. فلينظر، فإن كان شيء من أمر الدنيا موافقا لأمر الدين، فقد صدق في ظنه. وكذلك العائب له. وإلّا فالعيب في ذلك لازم له دون غيره. وقام آخر فقال: قد سمعت أيها الملك ما قالا وسبقاني به. وأشد منه وأعيب أن كان خاصّة الملك وأحباؤه لم يجهلوا هذا وأغضوا عليه فلم يؤدّ أحد منهم إليه شيئا من حقه في تبيينه له أو جهلوه ولم يعرفوه. فكل أحد أغنى له وأفصح منهم له وأحق بالموضع الذي وضعهم به. ثم أطرق الناس. فقال الملك خافضا صوته: قد علمنا أن أم الفواحش لم تكن تسوغنا ما هجينا به من مجلسنا هذا حتى يكدّره علينا من طمع في ذلك من وانها «1» فقد لزمته الخبرة والخطأ. ثم سأل عن النفر المتكلمين فإذا هم قوم متظلمون: اثنان من أهل تستر والآخر من أهل أردشير خرة. فأمر بإنصافهم. وأنشد أبي لمحمد بن القاسم بن يحيى المرتجى في بناء دار [103 ب] أتمّها الله من دار وأكملها ... وبالأمان من الآفات ظلّلها لله ما هي أبهاها وأنبلها ... لله ما هي أحلاها وأشكلها هذا تلؤلؤها قبل التمام فلو ... تمّت حمت كلّ ذي طرف تأمّلها الله جلّلها نورا وجمّلها ... وبالحسين فتى الإفضال فضّلها سبحان خالقه سبحان خالقها ... سبحان من منه بالتشريف سربلها

لم يبق في الدور بل في الأرض من حسن ... إلّا وأصبح مجموعا بها ولها فالحسن خارجها والحسن داخلها ... والحسن يضحك أعلاها وأسفلها لو كمّلت صورة من حسنها بشرا ... لكمّلت وهي تمثال ممثلها كأنها غادة أهدت لمالكها ... عشقا فوشّحها حليا وكلّلها حبا أعاليها من عسجد بدعا ... صيغت وبالدرّ والمرجان فصّلها ما يبصر المرء فيها بدعة بعدت ... إلّا رأى حسرة أن لا يقتّلها كأنّها درة بيضاء أبرزها ... لا تعرف العين أخراها وأوّلها كأنّها روضة زهراء ناضرة ... جاد الحيا زهرها ليلا فأخضلها كأنّها جنة الفردوس أنزلها ... إليه ذو العرش إكراما لينزلها لم يقض في مصر أن تبدو محاسنها ... إلّا ليؤمنها من أن يزلزلها في بقعة حرة كالمسك تربتها ... فلم يكن لسوى حرّ ليجعلها لقد حبا داره منه وخوّلها ... فتى يرى الأرض نزرا أن يخوّلها لم يبنها ويوسّع باب مدخلها ... إلّا يقصدها الراجي ويدخلها فلن يساويه حر بعد يعدله ... حتى تساويها دار فتعدلها «1» [104 أ] وقد () «2» قوم البناء وذموه ورووا في ذلك أخبارا كثيرة أنا ذاكر بعضها إن شاء الله: رووا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ما أنفق الرجل من نفقة، إلّا كان خلفها على الله عزّ وجلّ ضامنا لذلك، إلّا ما كان في بنيان أو معصية. وقال عليه السلام: إذا أراد الله بعبد هونا، أنفق ماله في البنيان.

وقال عبد الله بن زحر: من كسب مالا حراما، بعث الله عليه منتصرات من الأرض. وقال مروان لأبي هريرة: اكتب لنا شيئا نذكرك به. فقال: تبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، وتجمعون ما لا تأكلون. قال: اكتب لنا غير هذا. قال: ما عندي غيره. وقال الله عزّ وجلّ في ذم البناء «أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ » . ودخل النبي (صلى الله عليه وسلم) المسجد فإذا هو بعبد الله بن رواحة وأبي الدرداء بمساحته. فقال: ما هذا؟ قال: أردنا أن نمسحه ثم نسأل في الأنصار فنبنيه مثل المسجد الذي بالشام. فقال عليه السلام: خشيبات وثمام وظلّة كظلة موسى، والأمر أعجل من ذلك. وقال إسحاق بن سويد: كانت المساجد بالقصب مدة، ثم صارت بالرهص حينا، ثم صارت باللبن زمنا، ثم صارت بالآجر. فكان أصحاب القصب خير من أصحاب الرهص «1» ، وأصحاب الرهص خير أصحاب اللبن، وأصحاب اللبن خير من أصحاب الآجر. وقيل للمسيح: لو اتخذت بيتا جديدا. قال: يكفينا خلقان من كان قبلنا. وقال حذيفة لسلمان: ألا تبني لك بيتا؟ فكأنه كره ذلك. فقال حذيفة: رويدا حتى أخبرك أنني أبني لك بيتا إذا اضطجعت فكان رأسك من هذا الجانب ورجلك من الجانب الآخر، وإذا قمت أصاب رأسك سقفه. قال: كأنك كنت في نفسي. ولما بنى معاوية الخضراء قال لأبي «2» ذر: كيف ترى هذا البناء؟ قال: إن

كنت بنيته من مال الله، فإنك من الخائنين. وإن كنت بنيته من مالك فإنك من المسرفين. وكان الثوري يقول: ما أنفقت درهما قط في بناء. وبلغ عمر أن رجلا من عمّاله يقال [104 ب] له هارون جصّص بيته. فكتب إليه: إلى هارون بن أم هارون وبيته المجصّص. وبنى ابن مسعود [بيتا] ، فقال له عمّار: بنيت شديدا وتأمل بعيدا وتموت قريبا. وبنى رجل بناء عاليا فقال له بعض الزهاد: نزلت حيث رحل الناس وأنشد: أبعد عاد ترجّون الخلود وهل ... يبقى على الدهر بيت اسّه المدر إلى الفراق وإن طالت سلامتهم ... يصير كل بني ام وإن كثروا وبنى رجل دارا فقال للحسن البصري: كيف ترى هذا البناء؟ قال: أما أهل الأرض فغرّوك، وأما أهل السماء فمقتوك. وقال الحسن لرجل بنى بنيانا عاليا: عمدت إلى رزق الله فجعلته في رأس قصر جبار. وقال المدائني: لما بنى عبيد الله بن زياد البيضاء بالبصرة أمر وكلاءه أن لا يمنعوا أحدا دخولها وأن يحفظوا كلاما إن تكلم به إنسان. فدخلها أعرابي- وكان فيها تصاوير- فتأمّلها ثم قال: لا ينتفع بها صاحبها، ولا يلبث فيها إلّا قليلا. فأتي به ابن زياد وأخبر بمقالته. فقال له: لم قلت هذا؟ قال: لأني رأيت أسدا كالحا وكلبا نابحا وكبشا ناطحا. فكان الأمر على ما قال. لم يسكنها إلّا يسيرا حتى أخرجه أهل البصرة إلى الشام ولم يعد إليها. وفي خبر آخر: أنه لما بنى البيضاء أمر أصحابه أن يسمعوا ما يقول الناس. فجاؤوه برجل فقيل له: إنه قرأ- وهو ينظر إليها-: «أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ

وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ » . فقال: ما دعاك إلى هذا؟ قال: آية من كتاب عرضت لي. فقال: والله لأعملنّ بك بالآية الثالثة: «وَإِذا بَطَشْتُمْ، بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ » . ثم أمر فبني عليه ركن من أركان القصر. وأنشد لبعضهم. يا أيّها الباني بناء يفنى ... هل أنت محتال فباني حصنا؟ من حدّث الدهر يكن محبّا ... أم للخراب يا ضعيف يبنى؟ إن كنت لا تبقى فلم تعنّى ... يكفيك بيت أن يكون كنّا [105 أ] أما ترى الدهر الذي قد أخنى ... على بني آدم كيف أفنى؟ السلف الماضين قرنا قرنا ... فلم يذر منهم أبا ولا ابنا وقال بعض الشعراء وقد نظر إلى قصور آل طاهر بالشاذياخ وقد خربت «1» : وكان الشاذياخ قصور ملك ... فزال الملك عن ذاك المناخ وكانت دورهم للهو وقفا ... فصارت للنوائح والصراخ فعين الشرق باكية عليكم ... وعين الغرب تسعد بانتضاخ كذاك يكون من صحب التراخي ... فذاك الدهر يعقبه التراخي وقال () «2» في ذلك: فإن يمس وحشا بابه فلربما ... تزاحم أفواجا لديه الركائب يحيّون بسّاما كأنّ جبينه ... هلال بدا وأنجاب عنه السحائب وما غائب من غاب يرجى إيابه ... ولكنّ من قد ضمّه القبر غائب

وقال آخر في ذلك «1» : فتلك قصور الشاذياخ بلاقع ... خراب يباب والميان مزارع وأضحت خلاء شادمهر وأصبحت ... معطلة في الأرض تلك المصانع وغنّى مغنّي الدهر في آل طاهر ... بما هو رأي العين في الناس رائع عفا الملك من أولاد طاهر مثلما ... عفا جشم من أهله فمتالع وأيامهم كانت لديهم وودائعا ... فأرهقهم دهر فردّ الودائع وقال آخر في البرامكة: أوحش النوبهار من بعد جعفر ... ولقد كان بالبرامك يعمر قل ليحيى أين الكهانة والسحر ... وأين النجوم عن قتل جعفر أنسيت المقدار أم زاغت الش ... مس عن الوقت حين قمت تقدّر كيف لم تسحر السيوف فلا ... تعمل في جعفر كما كنت تسحر؟ إنّ يحيى بن خالد وبنيه ... أصبحوا فكرة لمن يتفكّر وقال آخر منهم: مررت على ربع ليحيى بن خالد ... وباطنه يشكو الخراب وظاهره فكادت مغانيه تقول من البلى ... لسائلها عن أهلها مات عامرة وقال آخر مررت على دار لظمياء باللوى ... ودار لليلى إنّهنّ قفار فقلت لها يا دار غيّرك البلى ... وعصران ليل مرة ونهار فقالت نعم أفنى القرون التي مضت ... وأنت ستفنى والشباب معار لئن طلن أيام بحزوى لقد أتت ... عليّ ليال بالعقيق قصار

[105 ب] ومر بعض الكتاب بالدسكرة فرأى ما فيها من البنيان والمصانع والقصور وخان الآجر وحبس كسرى والمدينة فقال «1» : يا من يأمّ إلى بغداد مجتهدا ... أرح مطيّك بين الحبس والحان بين القناطر والدساكر والقرى ... فمحلّ كسراها أنوشروان تنبيك آثار الملوك بأنّهم ... كانوا ذوي بأس ذوي سلطان ولقد عجبت وفي الزمان عجائب ... ما عاينت عيناي في الإيوان إيوان كسرى شاهق شرفاته ... عالي الذرى مستوثق الحيطان ما أن به إلّا الصدى وحمائم ... مخضرة تدعو على الأغصان بعد النواعم والأوانس بدّلت ... هاما وعقبانا مع الغربان وتبدّلت بعد الأنيس فما ترى ... إلّا العزيف بها من الجنّان وقال يحيى بن معاذ: اصرف طرفك في القصور المشيدة والحصون الممردة الأركان، الشاهقة الجدران، وانظر إلى الأبواب المترفة العجيبة البنيان. كيف قد نظمت بكيد المحتالين وإنفاق المشرقين ومهارة الشابزين «2» . عريضة القواعد، محكمة الوسائد، منيفة الذرى، صعبة المرتقى. للطير في جوانبها وكور، وللقطر في معالمها ندوب. قد أنافت على الأبنية () «3» وتطاولت على الهضاب بارتفاعها. وأحكمها عاملوها وجردوا فكرهم فيها وبذنوا ذخائرهم فيها وأزاحوا علل مشيديها، وبلغوا أقصى الأمل منها. وجعلوها عدة للدهر وحصنا للزمن. فلا ينالهم فيها عناء. ولا ظفر محاول. فيها العيون الجارية والقباب العالية والحجر السامية. والخرد النواعم والأبكار الفواتن يجررن في عرصاتها الذيول، يسطع منهن ذكي المسك ويعبق العنبر. ترى باطن حيطانها كالو «4» ذابلة تبرق بماء

الطراة. قد مثل فيها التصاوير من الطير والسباع والبهائم والبسنا «1» المرسلات الشعور الفاتنات الثغور. إذا تأملها الناظر توهمها تنطق بألسنة الابتهاج. فكانت لهم مساكن مدة من الدهر، يكلفون بعمارتها، ويفنون في فنون نعمتها، ويرتعون في صحون عرصتها. حتى إذا قصدتهم العزم بانتزاع «2» ما في أيديهم من عوارف النعم، وصبحتهم المثل بخواطف التكبر. فأسلمتهم إلى مدة الفناء ونزعتهم من البقاء. فعادت القصور خلاء لا أنيس فيها ولا ديّار بها. قد أخذ الخراب في أطرافها. واستحالت إلى تحير القصد محارتها. وتنكرت له الأيام مترجمة عما تؤول إليه عواقب أمرها. فللرياح فيها هتيف، وللجن بها عزيف. تصفقها هوج الأعاصير، وتنبت في أغراضها أسهم الدمار. يوقد رمتها عين البلى. وتناولتها يد الفناء. يحار الطرف في حجراتها، وتعجب الأفكار من عرضاتها. لا أنيس فيها ولا أحد يخبر عنها، ولا عالم ينبيك عن أهلها، ولا يحدثك عن سكانها. يرتاع قلبك إذا دخلتها، وتخفق جوانحك متى تأملتها ويسترهن اعتبارك [106 أ] نقوش طيقانها وأصباغ حيطانها بعد ما كانت قرة عين الناظرين، عادت عبرة للمتأملين. وكذلك فعل الله عزّ وجلّ بالعباد وآثاره في البلاد. قال: وكان السبب في بناء قصر شيرين- وهو أحد عجائب الدنيا- أن أبرويز أمر أن يبنى له باغ «3» فرسخين في فرسخين. وأن يحصل فيه من كل صيد حتى يتناسل جميعه. ووكل بذلك ألف رجل، وأجرى على كل رجل من كل يوم خمسة أرغفة [من الخبز] «4» ورطلين لحما ودورق خمر. فأقاموا في عمله وما أمر أن يجعل فيه من الصيد سبع سنين حتى فرغوا من جميع ذلك. فلما تمّ واستحكم صاروا إلى الفلهبد المغني وسألوه أن يخبر الملك بفراغهم مما أمرهم به. فقال: افعل. ثم عمل صوتا وغناه به بين يدي الملك، وسماه باغ نخجيران أي باغ

الصيد. فطرب الملك عليه وأمر للصناع بمال فجعلوه للفهلبد. فلما سكر أبرويز قال لشيرين: سليني حاجة. قالت: حاجتي أن تصيّر في هذا الباغ نهرين من حجارة تجري فيهما الخمر «1» ، وتبني لي بينهما قصرا لم يبن في مملكتك مثله. فأجابها إلى ذلك. وكان السكر قد عمل فيه، فأنسى ما سألته ولم تجسر على أن تذكّره. فقالت للفهلبد: ذكره حاجتي وإليك عليّ أن أهب لك ضيعتي بأصبهان. فأجابها إلى ذلك وعمل صوتا أذكره فيه ما وعد شيرين وغناه إياه. فقال: أذكرتني ما كنت قد أنسيته. وأمر ببناء النهرين والقصر. فبني ذلك. ووفت شيرين للفهلبد بضمانها. فنقل عياله إلى هناك. فلذلك صار من ينتمي إليه بأصبهان. قال بعض أهل الأدب: قرأت على قصر خراب في المفاوز هذه الأبيات يا باني القصر كم أنفقت من مال ... على بنائك والبنا بالي (؟) أطمعت نفسك في سكناه مجتهدا ... فصار منك وممن يقتني خالي وعاد بعدك قصرا لا أنيس به ... لم يبق منه سوى رسم وأطلال هذا دليل على توحيد خالقنا ... أرضا (؟) «2» وينقل من حال إلى حال [106 ب] قال: وقرئ على حائط شيرين «3» . يا ذا الذي غرّه الدنيا وبهجتها ... وحسن زهرة أنوار البساتين والدور تخربها طورا وتعمرها ... باللبن والجصّ والآجرّ والطين والمال تكنزه حرصا وتمنعه ... عن الحقوق التي فيها لمسكين أما رأيت صروف الدهر ما صنعت ... بالقصر قصر أبرويز وشيرين أما نظرت إلى إحكام صنعته ... كأنه قطعة من طور سينين قد صار قفرا خلاء ما به أحد ... إلّا النعام مع الوحشية العين

من بعد ما كان أبرويز أشحنها ... بالدارعين وكتّاب الدواوين وكلّ ليث شجاع باسل بطل ... كمثل خرّيتها أو مثل شروين وكلّ رعبوبة بيضاء بهكنة ... تحكي بنغمتها صوت الوراشين وبالعجائب من ألوان زهرتها ... من بين ورد وخيريّ ونسرين لم يبق من رسمها إلّا تلؤلؤها ... أو ربع دار عفت من طور عبدين سبحان من خلق الدنيا ودبّرها ... وأنشأ الخلق من ماء ومن طين ومرّ معاوية بوادي القرى فتلا هذه الآية أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ثم قال: نزلت هذه الآية في أهل هذه البلدة وهي بلاد عاد، فأين العيون؟ فجاءنا رجل وقال: صدق الله في قوله. أتحب أن أستخرج العيون؟ قال نعم. فاستخرج ثمانين عينا. وعرف معاوية ذلك فقال: الله أصدق من معاوية. وقال محمد بن عيينة المهلبي: البئر التي بالماوية هي بئر عاد، لا يقل ماؤها ولو وردها سائر أهل الأرض. وإياها عني أبو النجم العجلي بقوله: من نحت عاد في الزمان الأوليّ وذكر الكلبي قال: بينا قوم من كلب يعرفون ببني عمد الله بن كنانه على ما لهم وقد نحروا جزورا ومعهم زهير بن جناب الكلبي، إذ أقبل رجل من بقايا عاد يقال له عبيد بن مسهر وكان أعظم الناس جسما حتى وقف عليهم فهالهم لمّا نظروا إليه. فقالوا: دونك الركاء فشرب جميعه. ثم وقع نائما. فأقام في نومه سبعة أيام، وهرب القوم فزعا وقد ثبت زهير، فلما استيقظ قال: أين قومك؟ قلت: هربوا من رهبتك. فقال: أما لينفعنك ذلك. قم اركب معي. فركب معه فدلّه على مياه كانت لعاد مندفنة، ولم يكن أحد يعرفها غيره. منها الدمقانة «1» وأثرى ونكب ورج والحالة وغير ذلك. ثم قال عبيد لزهير: أخبرني عن ريحكم. قال: زفزف تسقط

الورق. قال فأخبرني عن مطركم. قال: يزيل العود ويقلب الحجر. قال: بحسب ريحكم يكون مطركم. قال: والعرب تزعم أن بني زهير بن جناب أقوم العرب مياها. وهي التي أوقف إياهم عليها عبيد بن مسهر العادي. ولبني غاضرة مياه تعرف بلينة يقال إنها ثلاثمائة عين. ويزعم أهل السير أن سليمان بن داود عليهما السلام، خرج من بيت المقدس يريد الشام فلما صار إلى هذا الموضع الذي يقال له لينة- وهي أرض خشنة- عطش الناس، ولحق أهل العسكر أمر عظيم من ذلك. ووجه سليمان [107 أ] عليه السلام جماعة يطلبون الماء، ونزل في ذلك الموضع لعطش الناس. قال: فبينا هو كذلك إذ نظر إلى شيطان يضحك ويستغرب في الضحك، فغاط سليمان وأمر بقتله. فقال: لم تقتلني يا نبي الله؟ قال: لضحكك والناس مشرفون على الموت. فقال: إنما أضحك لعطشهم وهم على لجة بحر. قال سليمان: وكيف ذلك؟ قال: مرهم أن يحفروا. فإن الماء على ذراع. فأمرهم بذلك، فحفروا وأنبطوا الماء. وكان رجل قد حفر حفيرة لنفسه. فلما طال على ذلك الدهر، يدفن عامتها وبقي نميرها ما ذكرنا. وفيها يقول مضرس الأسدي. لمن الديار غشيتها بالإثمد ... فصفاء لينة كالحمام اللّبّد ويقال: إنه لم يمت قوم عطشا إلّا على ماء. ومات قوم من العطش الشجى في أيام الحجاج- والشجيّ منزل من منازل طريق مكة من ناحية البصرة- فاتصل خبرهم بالحجاج فقال: إني أظنهم دعوا الله حين بلغ بهم الجهد، فاحفروا في مكانهم الذي كانوا فيه، فلعل الله أن يسقي الناس. فقال رجل من جلسائه: قد قال الشاعر: تراءت له بين اللوى وعنيزة ... وبين الشجى مما أحال على الوادي ما تراءت له إلّا على ماء. فأمر الحجاج عبيدة السلمي أن يحفر بالشجى بئرا. فحفر فأنبط ماء لا ينزح.

وكانت الفلاسفة تقول: أفضل مستنبط المياه ما كان محاطا بشعاب الأودية. وأمثل منازل السفر ما اتخذ على مجامع الطرق. وأمثل الغيث ما أمرع. وقال بعض العرب: إن الله عزّ وجلّ أخفى ماء بإرم والبديعة ونعمان وعنلان لعباده المؤمنين. وهذه المياه كلها. وقال المنصور يوما لجلسائه- وقد تذاكروا البرّ والبحر-: عدوّا أربعة عشر مرحلة من أي موضع شئتم، فإنكم لا تبلغون آخر العدد حتى تصلوا إلى البحر، إن شئتم شرقا وإن شئتم غربا. وقال السدي: الجبل الذي تطلع الشمس من ورائه، ارتفاعه في السماء ثمانون «1» فرسخا. وقال [107 ب] المروزي «2» : قرأت على المأمون جواب أرسطاطاليس أستاذ الإسكندر إلى الإسكندر فيما أعلمه من فتحه البلدان وجمعه الأموال التي يتعذر عليه حملها، وعجبه من بيت ذهب ظهر له بالهند. فأجابه: إني رأيتك تعجب من عمل عملته أيدي الآدميين، وتترك التعجب من هذا السقف الرفيع الذي هو فوقك وتزيين من زيّنه بالكواكب ونصبه على الحكمة البالغة. فأما البلدان التي افتتحتها، فليكن ملكك إياها بالتودد إلى أهلها. ولا تملكها عليهم بالقهر والبغضاء. فإن طاعة المودة أحمد بدءا وعاقبة من طاعة القهر والاستكراه. وأما الأموال، فليكن حملك إياها في جلد ثور. ففهم عنه الإسكندر ما رمز به إليه في هذه اللقطة ودفن في كل بلد شيئا من الأموال، وأثبت مواضع الكنوز في جلد ثور مدبوغ وحمله إلى الروم. فهو إلى اليوم باق في خزانة الملك. فربما أمر بإخراجه وانتساخ مواضع منه، وأنفذ قوما من أصحابه وكتبها لهم فاستخرجوها. وأكثر ذلك في الجبال والمواضع التي يخفى أمرها.

واجتاز رجل من بني تميم برجل منهم وهو يغرس فسيلا. وكان الغارس شيخا. فقال له: كم أتى عليك من السنين أيها الشيخ؟ قال: قد جاوزت السبعين «1» . قال: فمثلك يعمل ما أرى؟ فأنشأ الشيخ يقول اغرس فسيلا ونم عنه فسوف ترى ... يوما فسيلك إن عمّرت عيدانا فالعرق يسري إذا ما نام صاحبه ... وليس يسري إذا ما كان يقظانا نغرس يا أخا تميم ما ترى. فإن عشنا أكلنا من تمره. وإن متنا خلفناه الأولاد. قال: إنك لبعيد الأمل. قال: اي والله. إني لبعيد الأمل، خائف لقرب الأجل. ولست ممن يفرط في عمران دار لا يدري لعله سيطول مقامه فيها. ومنها يتزود إلى الدار التي لا يدري متى يصير إليها. ولو أنّ من كان قبلنا أخذوا بمثل رأيك ما خلف الوالد لولده شيئا ولا ورث ميتا حيّ. قال التميمي: فانصرفت عنه وغبرت برهة من الدهر ثم مررت بذلك المكان. فرأيت نخلا عاليا مثمرا وآخر دونه. وإذا فتيان وأحداث، فقعدت إليهم وقلت [108 أ] : من غرس هذا النخل؟ قالوا: ذلك الشيخ. فأتيته فسلمت عليه ثم قلت: أتعرفني؟ فتأملني ثم قال: أحسبك صاحبنا المعنّف لنا على غرس ما ترى. قلت: أنا والله هو وأنشدته بيته. فعانقني وأقبل يحدثني وقال: إن الله فاعل ما يشاء. فلا يكونن خوفك ماحقا لرجائك ولا بأسك غالبا لطمعك. وإذا الفتيان بنوه وبنو بنيه. فأقمت في ضيافته أياما وانصرفت. وقال بعضهم: قرأت على باب قصر خراب «2» : كم قد توارث هذا القصر من ملك ... فمات والوارث الباقي على أثر قال: وقرأت على باب مدينة خراب: كم من مدائن بالآفاق خالية ... أمست خرابا وذاق الموت بانيها

وقال بعضهم: مررت في ربض أبي يزيد الشروي وقد خرب. وإذا على باب «1» قصره مكتوب: أفنى جميعهم وخرّب دورهم ... ملك تفرّد بالبقاء عزيز وقرئ على باب قصر: نزل الموت منزلا سلب القوم وارتحل وقال صالح المري: دخلت قصرا بالبصرة وقد باد أهله فرأيت في بعض مجالسه مكتوبا فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا . وإذا في الجانب الآخر وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ . وفي الجانب الآخر وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وفي الرابع فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا. وقرئ على حائط بيعة بالحيرة: بنيت هذه البيعة والملك عمرو بن المنذر بن الشقيقة، على يدي عمرو بن حيان. فالإله يغفر له خطيئته ويقبل نقلته إلى دار الحق. وأسفل من ذلك مكتوب: رأينا () «2» بالإنسان جمّا ... ولا تنجي من الدهر الحدود ولا تنجي من الآجال أرض ... تحلّ بها ولا قصر مشيد وحدثنا بعض إخواننا أنه قرأ على باب قصر أشناس بسرمرّى: هذي منازل أقوام عهدتهم ... في ظلّ عيش خصيب ماله خطر دارت عليهم صروف الدهر فانتقلوا ... إلى القبور فلا عين ولا أثر وقرئ على حائط قصر عاديّ: [108 ب] يموت الذي يبني ويبقى بناؤه ... ألست ترى بالله في ذاك عبرة

فيا غافلا عن حينه أين من بنى ... مدائن أضحت بعده اليوم مقفرة رمت بهم الأيام في عرصة البلى ... كأن لم يكونوا زينة الأرض مرة وما زال هذا الموت يغشى ديارهم ... يكرّ عليهم كرّة بعد كرّة فأجلاهم عنها سريعا فأصبحت ... مساكنهم في الأرض لحدا وحفرة وقرئ على باب قصر: ما حال من قد عمل القصورا ... وبات فيها آمنا مسرورا ثم غدا في رمسه مقبورا ... يقيم فيه أبدا مأسورا حتى يرى من قبره محشورا ... إمّا قرير العين أو مثبورا وعلى آخر: يا من يشيّد للخراب بناءه ... شيّد بناءك في الثرى وتحصّن وذكر رجل من الصوفية أنه قرأ على باب قصر في بعض السواحل مكتوبا: كم كان يعمر هذا القصر من ملك ... سهل المحيّا كريم الخيم والنسب دارت عليه المنايا في تقلّبها ... فصار مأواه بعد العزّ في الترب قال: ودخلت قصرا فرأيت قصرا حسنا كثير المجالس. فبينا أنا أدوره إذ دخلت مجلسا ما رأيت أحسن منه وفيه قبر عليه مكتوب: ولمّا بنيت القصر أمّلت نفعه ... وإنّي فيه باقيا آخر الدهر فلما استوى والتام بوّأت كارها ... من القصر في بيت هناك وفي قبر كذلك كان الدهر يفعل قبلنا ... ولكن تجاهلنا وحدنا عن الأمر قال: ورأيت في مجلس آخر مكتوبا: جار الزمان علينا بعد غبطتنا ... فلم يغادر لنا في القصر إنسانا وصار مأوىّ لوحش الأرض تسكنه ... أفناه ريب زمان ثم أفنانا

ولو لم يفدك هذا الكتاب من الأخبار العجيبة والأشعار الظريفة والأمور الغريبة، لكان فيما يفيدك من أخبار البلدان وعجائب الكور والأمصار بلاغا ومقنعا. فكيف وقد أفادك [109 أ] علم الماضين وأخبار الأولين. وذلك علم المعنيين. ووقفك على الطريقين وأرشدك إلى الأمرين جميعا: حكمة بالغة وموعظة موجزة. تعرفت منه أخبار الماضين، وأبنية من قد سلف من الأولين. وفي هذا الخبر الذي أثبته هاهنا عبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر، ودليل على وحدانية الله تعالى، ومخبر عن آياته وقدرته. فصفّ ذهنك وفرّغ قلبك وأقبل عليه بسمعك وتفكّر فيه، وفيما تضمنته من الأعجوبة. فإن فيه عبرة لأولي الألباب. قال عبد الرحمن بن محمد بن نصر: سمعت أحمد بن الحسن يذكر عن علي بن عاصم عن أبيه قال: كان الخضر عليه السلام يأتي شابا زاهدا من بني إسرائيل فيحدثه كما يأتي الرجل أخاه وصديقه. وكان الشاب خيّرا فاضلا. فبلغ ذلك ملك بني إسرائيل، فأرسل إلى الشام فدعاه وقال: بلغني أن الخضر يأتيك فيحدثك كما يحدث الرجل أخاه. قال الفتى: نعم. قال: فإذا جاء فائتني به. قال: كيف آتيك به أيها الملك؟ قال: والله لتأتيني به أو لأقتلنّك. قال: أجهد. ثم انصرف الفتى. فلما كان بعد أيام، أتاه الخضر عليه السلام فقال له: إن ملك بني إسرائيل قال لي كذا وكذا. قال الخضر: انطلق بنا إليه. فانطلقا حتى دخلا عليه. فوقف الخضر فقال له الملك: أنت الخضر؟ قال: نعم. فأعظمه وبجله ثم قال له: حدثني بأعجب ما رأيت في الدنيا. فقال: أعجب ما رأيت، أني مررت بمدينتك هذه، وهي مدينة لم أر على وجه الأرض مثلها حسنا وجمالا وكثرة أهل وأسواق وعمارة، فدنوت من بعض البوابين فقلت: متى بنيت هذه المدينة ومن الذي بناها؟ فقال لي: ما يذكر أحد من الناس متى بنيت ولا من بناها. فتركته ومضيت. وعبرت عنها خمسمائة عام. ثم اجتزت بها فإذا هي تلول وخرابات ولم أر أحدا أسأله عنها. فعلوت بعض تلك التلول، فإذا أنا براع يرعى غنما فنزلت إليه وسألته عن المدينة ومتى خربت. فقال: ما نعلم أنه كانت هاهنا مدينة قط، ولا نعرف غير

هذه التلول والخرابات، ولا يدرى أي شيء أمرها. فتركته ومضيت. وعبرت خمسمائة عام، ثم مررت بها [109 ب] فإذا موضعها بحر وقد زالت تلك التلول والخرابات فصارت كلها فيه. وإذا بجماعة يغوصون فيخرجون اللؤلؤ من قراره. فدنوت من بعضهم وقلت: مذ كم صار هذا البحر هاهنا؟ فضحك ثم قال: سبحان الله. ما زال هذا البحر وهذا المكان منذ كانت الدنيا. فمضيت وغبت خمسمائة عام ثم اجتزت بالموضع فإذا ذاك البحر قد غاض ماؤه وفي مكانه غيضه ملتفة بالقصب والبردي وبين ذلك القصب والبردي مناقع ماء فيها سمك كثير وصيادون يصيدون ذلك السمك في زواريق صغار. فقلت لبعضهم: أكان هاهنا بحر؟ قال: لا. ما كان هاهنا إلّا هذه الآجام وهذه المياه لا غير ذلك. فانصرفت. وعبرت خمسمائة عام ثم اجتزت بالمكان فإذا رمال متصلة بينها حمى. وإذا [هي] أكثر بلاد الله ظباء. فالتمست أن أرى إنسانا، فلم أر إلّا رجلا يصيد تلك الظباء بحبالة له. فدنوت منه وسألته عن تلك الآجام، فقال: والله ما نعرف ولا آباؤنا وأجدادنا هذا البلد إلّا على ما تراه، وما كانت فيه أجمة ولا شجر ومستنقع قط. فانصرفت متعجبا. وعبرت خمسمائة عام ثم اجتزت به فإذا هو جبل وعر وفيه كهوف يخرج منه الدخان. فلم أر أحدا أسأله عنها إلى أن رأيت رجلا متعسفا فقصدته وسألته عن تلك الرمال فقال: ما نعرف الموضع إلّا على ما ترى. فتركته ومضيت. وغبت خمسمائة عام ثم عدت فإذا مدينتك هذه في تلك المواضع. وإذا هي أحسن ما يراه الناس من قصورها ودورها وحدائقها وأسواقها. فدنوت من بعض البوابين وسألته عنها ومذ كم بنيت فقال: يا هذا! ما نعرف هذه المدينة إلّا كما تراها، ولا حدّثنا أحد من أولينا أنه يعرف ما فيها. فهذا أعجب شيء رأيته فيما أطوفه من البلدان وأخترقه من المفاوز والقفار. فوثب الملك عن سريره فسجد للخضر. فقال له: ارفع رأسك واسجد للذي خلقني وخلقك. فقال: أريد أن أصحبك وأخلي ما أنا فيه من الملك. فقال: لا تقدر على ذلك. لأني اليوم هاهنا وغدا ببيت المقدس وبعد غد بمكة. ولكن إن أردت العبادة فاصحب هذا الفتى وكن معه.

قال: فترك [110 أ] الملك مملكته وخرج هو والشاب يسيحان في الأرض. وأنشد لبعضهم [في] الزمان: ولربّ حصن قد تخرّم أهله ... ريب الزمان فبابه مسدود عدت المنون عليهم من فوقهم ... والقوم فيه آمنون هجود فتفرقت أجيادهم وجنودهم ... عنهم فكلّهم هناك شديد لم يدفعوا عنهم وإنّ سلاحهم ... متيسّر بفنائهم موجود من نسج داود النبيّ أعدّها ... للحرب يوم أعدّها داود لو أنهم سئلوا القتال لقاتلوا ... ولنيل منهم فيهم المجهود فابتزّهم ريب المنون نفوسهم ... قسرا وإنّ حماتهم لشهود حلّوا بطون الأرض بعد ظهورها ... ومضى بهم سفر هناك بعيد صارت نساؤهم حلائل غيرهم ... خلفت عليهم سفلة وعبيد فأسمع وأبصر أين عاد أصبحت ... أخلت منازلها وأين ثمود أين الذين بنوا فأصبح ما بنوا ... فيه الأفرور أو شيد «1» وقال خالد بن عمير بن الخباب السلمي: كنا مع مسلمة بن عبد الملك في غزوة قسطنطينية فخرج إلينا في بعض الأيام رجل من الروم يدعو إلى المبارزة فخرجت إليه فلم أر فارسا كان مثله. تجاولنا عامة يومنا فلم يظفر واحد منّا بصاحبه. ثم تداعينا إلى المصارعة، فصارعت منه أشدّ الناس. فصرعني وجلس على صدري ليذبحني- وكان رسن دابته مشدودا في عاتقه- وانه ليعالجني للذبح إذ حاصت دابته حيصة جرّته عني ووقع من على صدري وبادرت إليه وجلست على صدره فنفست به عن القتل، وأخذته أسيرا وجئت به إلى مسلمة فساءله فلم يجبه بحرف وكان أجسم الرجال وأعظمهم. فأراد أن يبعث إلى هشام وهو يومئذ [110 ب] بحرّان. فقلت: دلّني الوفادة به. قال: إنك لأحق الناس بذلك. فبعث

به معي، فأقبلت أكلمه وهو لا يكلمني حتى انتهينا إلى موضع من ديار مضر يعرف بالجريش وتل محرى فقال لي: ما يقال لهذا المكان؟ قلت: الجريش وتل محرى. فقال: ثوى بين الجريش وتل محرى ... فوارس من نمارة غير ميل فلا جزعون إن ضرّاء نابت ... ولا فرحون بالخير القليل فإذا هو أفصح الناس. ثم سكت فكلّمناه وهو لا يجيبنا. فلما صرنا إلى الرها قال: دعوني أصلي في بيعتها. قلنا دونك فصلي. فلما صرنا إلى حران قال: أما إنها أول مدينة بنيت بعد بابل. ثم قال: دعوني أستحمّ في حمامها وأطلي. فتركناه. فخرج إلينا كأنه برطيل فضة بياضا وعظما. فأدخلته إلى هشام وأخبرته جميع قصته. فقال له من أنت؟ قال: رجل من إياد ثم أحد بني حذافة. فقال له: أراك غريبا، لك جمال وفصاحة فأسلم تحقن دمك. قال: إن لي ببلاد الروم أولادا. فقال: ونفك أولادك ونحسن عطاءك. قال: ما كنت لأرجع عن ديني. فأقبل به وأدبر فأبي. فقال دونك فاضرب عنقه. فضربت عنقه .

2/35 القول في همذان قال أبو المنذر هشام بن السائب الكلبي: سميت همذان بهمذان بن الفلوج بن سام بن نوح عليه السلام. وهمذان وإصبهان أخوان، بنى أحدهما إصبهان والآخر همذان. فسميت كل مدينة منهما باسم بانيها. وسميت نهاوند لأنهم وجدوها كما هي. ويقال إنها من بناء نوح عليه السلام. وإنما هي نوح أوند. أي أنها من بناء نوح وهي أعتق مدينة بالجبل. قال: وقرأ عليّ بعض النصارى كتابا بالسريانية فيه أخبار الملوك والبلدان، فترجمه لي وذكر أن الذي بنى همذان ملك يقال له كرميس بن حليمون. وذكر بعض الفرس أن اسم همذان مقلوب. إنما هو ناذمه ومعناه المحبوبة. وروي عن شعبة قال: الجبال عسكر وهمذان معمعتها وهي أعذبها ماء وأطيبها هواء. وقال ربيعة بن [111 أ] عثمان: كان فتح همذان في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان الذي فتحها المغيرة بن شعبة في سنة أربع وعشرين من الهجرة. وفي خبر آخر قال: وجه المغيرة بن شعبة «1» - وهو عامل عمر بن الخطاب على الكوفة بعد عزل عمار بن ياسر عنها- جرير بن عبد الله البجلي إلى همذان في سنة ثلاث وعشرين، فقاتله أهلها وأصيبت عينه بسهم فذهبت. فقال احتسبها عند الله الذي زين بها وجهي 2/36 ونوّر لي ما شاء ثم سلبنيها في سبيله.

وجرى أمر همذان على مثل صلح نهاوند وذلك في آخر سنة ثلاث وعشرين. وقال بعض علماء الفرس: كانت همذان أكبر مدينة بالجبل وكانت أربعة فراسخ في مثلها. وكان طولها من الجبل إلى قرية يقال لها زينوآباد. وكان صنف الفاخرانيين بها وصنف الصيارفة بسيجاباد «1» . وكان القصر الخراب الذي بسيجاباد تكون فيه الخزائن والأموال. وكان صنف البزازين بقرية يقال لها بريشقان «2» . فيقال إن بخت نصر لما غلب على الأرض وأخرب بيت المقدس، بعث إليها قائدا يقال له صقلاب في خمسمائة ألف رجل. فأناخ عليها وأقام يحارب أهلها مدة وهو لا يقدر عليها. فلما أعيته الحيلة فيها وعزم على الانصراف استشار أصحابه. فقالوا له: الرأي أن تكتب إلى بخت نصر تعلمه أمرك وتستأذنه في الانصراف. فكتب إليه: أمّا بعد، فإني وردت على مدينة حصينة كثيرة الأهل منيعة واسعة الأنهار ملتفة الأشجار كثيرة المقاتلة. وقد رمت فتحها فلم أقدر عليها. وقد ضجر أصحابي المقام وضاقت عليهم الميرة والعلوفة. فإن أذن لي الملك بالانصراف، انصرف. فلما ورد الكتاب على بخت نصر كتب إليه: أما بعد، فقد فهمت كتابك وقد رأيت أن تصوّر لي المدينة بجبالها وعيونها وطرقها وقراها ومنبع مياهها وتنفذ إليّ ذلك حتى يأتيك أمري. ففعل صقلاب ما أمر به. وصور له المدينة وأنفذ الصورة إليه وهو ببابل. فلما وقف عليها جمع الحكماء وقال: أجيلوا الرأي في هذه الصورة وانظروا من أين تفتح هذه المدينة. فأجمعوا على أن تسدّ عيونها [111 ب] حولا ثم يفتح السد ويرسل على المدينة فإنها تغرق. فكتب بخت نصر إلى صقلاب بذلك وأمره بما قاله الحكماء. ففعل ذلك. فلما كان عند الحول 2/37 فتح الماء وأرسله على المدينة فهدم سورها وغرق أكثرها ودخلها صقلاب، فقتل المقاتلة وسبى الذرية وأقام بها

فوقع في أصحابه الطاعون فمات عامتهم حتى لم يبق منهم إلّا القليل. ودفنوا في أحواض من خزف فقبورهم معروفة إلى وقتنا هذا في المحال والسكك. ولم تزل همذان خرابا حتى كانت حرب دارا بن دارا والإسكندر. فإن دارا استشار أصحابه في أمره لمّا أظلّه الإسكندر، فأشاروا عليه بمحاربته بعد أن يحرز حرمه وأمواله وخزائنه بمكان منيع لا يوصل إليه ويتجرد هو للقتال. فقال: انظروا موضعا حريزا حصينا لذلك. فقالوا له: إن من وراء الماهين جبالا لا ترام، وهي شبيهة بالسد. وهناك رسم مدينة عتيقة قد خربت وباد وهلك أهلها وحولها جبال شامخة يقال لها همذان: فالرأي للملك أن يبعث إليها من يأمره ببنائها وإحكامها وأن يجعل في وسطها حصنا يكون للحرم والخزائن والعيال والأموال، وتبنى حول الحصن دور لعيال القواد والخاصة والمرازبة. ثم يوكل بالمدينة اثنا عشر ألف رجل من خاصة الملك وثقاته يحمونها ويقاتلون عنها متى رامها أحد. فأمر ببناء همذان وبنى في وسطها قصرا عظيما مشرفا له ثلاثة أوجه وسماه ساروق وجعل فيه ألف مخبأ لخزائنه وأمواله وأغلق عليه ثمانية أبواب حديد، كل باب في ارتفاع اثني عشر ذراعا. ثم أمر بأهله وولده وخزائنه فحوّلوا إليها وأسكنوها. وجعل في وسط القصر قصرا آخر صيّر فيه خواص حرمه 2/38 وأحرز أمواله في تلك المخابئ. ووكّل بالمدينة اثني عشر ألف رجل وجعلهم حرسا عليها. وذكر بعض مشايخ همذان أنها أعتق مدينة بالجبل واستدلوا على ذلك من بقية بناء قديم باق إلى اليوم. وهو طاق عظيم شاهق لا يدرى من بناه وللعامة فيه أخبار عامية يذكرون [112 أ] أنهم وجدوا في هذا الطاق حجرا مكتوب عليه: من إصطخر غدونا وفي هذا الطاق قلنا وبالشام مبيتنا. ويزعمون أن بعض أصحاب سليمان بن داود كتبه. وان سليمان بن داود عليه السلام اجتاز بهذا المكان فرأى غرابا ساقطا عليه- ويقال إن الغراب يعيش ألف سنة- فقال له سليمان: خبرني خبر هذا الطاق ومن بناه. فقال: أنا هاهنا منذ ستمائة سنة، وأقام أبي قبلي هاهنا ألف سنة وجدّي قبل ذلك بألف سنة، وهو على حالته كذا وجدناه ما تغيّر منه

شيء «1» . وأخبر بعض أصحاب الأخبار أنهم وجدوا في بعض المخابئ التي في القصر المعروف بساروق، رقعة فيها كتابة بالفارسية فترجمت فكانت: وظّف الملك على أهل مرو لبناء هذه المدينة من الطين كذا وكذا ألف وقر. قال: وإذا تفقدت طين المدينة ونظرت إلى أبنيتها القديمة رأيت الطين مختلفا ما بين أبيض وأحمر وأسود وغير ذلك. وزعموا أن الملوك كانت توظّف على رعاياها حمل الطين في وقت والماء في وقت والآجر والحجارة في وقت إلى ما يبنونه من المدن ليعرفوا بذلك سمعهم وطاعتهم. وعن بعض أهل همذان قال: قدمت على جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من الجبل. قال: من أي مدينة؟ قلت: من مدينة همذان. قال: أتعرف جبلها الذي يقال له راوند؟ قلت: جعلني الله فداك إنما يقال له أروند. قال: نعم. أما إن فيه عين من عيون الجنة. قال: فأهل البلد يرون أنها الحمّة التي على قلّة الجبل. وذلك أنّ ماءها يخرج في وقت من أوقات السنة معلوم، ومنبعه من شق في صخرة. وهو ماء عذب شديد البرد يشرب منه الواحد في اليوم والليلة مائة رطل وأكثر ولا يرتوي لكثرة ما يشرب منه، بل ينفعه. فإذا تجاوزت أيامه المعدودة التي يخرج فيها، ذهب إلى وقته من العام المقبل لا يزيد يوما ولا ينقص يوما في خروجه وانقطاعه. وقال محمد بن بشار يذكر أروند في شعر طويل [112 ب] : 2/39 ولقد أقول تيامني وتشاءمي ... وتواصلي ديما على همذان بلد نبات الزعفران ترابه ... وشرابه عسل بماء قنان سقيا لأوجه من سقيت لذكرهم ... ماء الجوى بزجاجة الأحزان

كاد الفؤاد يطير ممّا شفّه ... شوقا بأجنحة من الخفقان فكسا الربيع بلاد أهلك روضة ... تفترّ عن نفل وعن حوذان حتى تعانق من خزاماك الذرى ... بالجلهتين شقائق النعمان وإذا تبجّست الثلوج تبجّست ... عن كوثر شبم وعن حيوان متسلسلين على مذانب تلعة ... تثغو الجداء بها مع الحملان وقال أيضا تزيّنت الدنيا وطابت جنانها ... وناح على أغصانها ورشانها وأمرعت القيعان واخضرّ نبتّها ... وقام على الوزن السواء زمانها وجاءت جنود من قرى الهند لم تكن ... لتأتي إلّا حين يأتي أوانها «1» مسوّرة دعج العيون كأنما ... لغات بنات الهند يحكي لسانها لعمرك ما في الأرض شيء نلذّه ... من العيش إلّا فوقه همذانها إذا استقبل الصيف الربيع وأعشبت ... شماريخ من أروند شمّ قنانها وهاج عليهم بالعراق وأرضه ... هواجر يشوي أهلها لهبانها سقتك ذرى أروند من سيح ذائب ... من الثلج أنهارا عذابا رعانها ترى الماء مستنا على ظهر صخرة ... ينابيع يزهي حسنها واستنانها كأنّ بها شوبا من الجنّة التي ... يفيض على سكّانها حيوانها فيا ساقيي كأسي اصبحاني مدامة ... على روضة يشفي المحبّ جنانها مكللة بالنور تحكي مضاحكا ... شقائقها في غاية الحسن بأنها كأنّ عروس الحيّ بثّت خلالها ... قلائد ياقوت زهاها اقترانها تهاويل من حمر وصفر كأنّها ... ثنايا العذارى ضاحكا أقحوانها وقال أيضا [113 أ] :

سقيا لظلّك يا أروند من جبل ... وإن رميناك بالهجران والملل هل يعلم الناس ما كلّفتني حججا ... من حبّ مائك إذ يشفي من العلل لا زلت تكسى على الأنوار أردية ... من ناضر أنق أو ناعم خضل حتى تزور العذارى كلّ شارقة ... أفياء سفحك يستصبين ذا الغزل وأنت في حلل والجوّ في حلل ... والبيض في حلل والروض في حلل وقالوا: أطيب البلدان ما طاب هواؤه وعذب ماؤه وكثر كلأه. والماء مزاج الروح وصفي النفس وقوام الأبدان الناطق وغير الناطق بمجانسته لها ومعادلته إياها. ومن فضيلته أن كل شراب وإن رقّ وصفا وعذب وحلا فليس بعوض عنه ولا مغن عنه، بل يطيب بمزاجه ويعذب بمخالطته حتى يجري في العروق بلطافته، وينساب في المفاصل برقّته. مع خاصيته في ريّ الظمأ وإطفائه ضرام نار الحشا. ولولاه ما عرف فضل البستان على الجنان، ولكان وغيره سيّان. ولقد جعلته العرب مثلا فقال القطامي: فهنّ ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلّة الصادي وقال آخر: أمانيّ من سعدى عذاب كأنّما ... سقتك بها سعدى على ظمأ بردا 2/40 وذكر أبو جعفر محبرة النديم «1» أنه حمل للموفق عند خروجه إلى الجبل من ماء دجلة ألف خماسية «2» . فلما وافى همذان، وصف له ماؤها فشرب منه واستطابه وترك ماء دجلة، وجعله شرابه. وطلب «3» الشعبي على مائدة قتيبة بن مسلم- وقد قيل غيره- ماء، فلم يدر

اللبن يريد أم العسل أم الماء. فقيل له: أي الأشربة تريد؟ فقال: أعزّها مفقودا وأهونها موجودا. فقال قتيبة: اسقوه ماء. وكان أبو العتاهية عند بعض الملوك فشرب منهم رجل ماء وقال: برد الماء وطابا فقال أبو العتاهية: حبّذا الماء شرابا وقال الله عزّ وجلّ مفخما لأمر الماء أَنْهارٌ [113 ب] مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ . ألا ترى أنه لم يذكره بغير السلامة من التغيير، إذ كان [الماء] متى كان خالصا لم يحتج أن يشرب بشيء. غريب في خلقته من الصفاء والعذوبة والبرد والطيب والحسن. قال عدي بن زيد: لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصّان بالماء اعتصاري وفي قول الله عزّ وجلّ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال: عن الماء البارد في الصيف وعن الحار في الشتاء. 2/41 وقالوا في النظر إلى الماء الدائم والجاري ما قالوا. وجاء في الأثر: من كان به مرض فليأخذ درهما حلالا وليشتر عسلا ثم ليشربه بماء السماء، فإنه يبرأ بإذن الله. والريف هو الماء عند العرب. وما ظنك بشراب إذا ملح وخبث «1» أثمر العنبر وولد الدر، وإذا صفا وطاب أحيا الأنفس. وقال الله عزّ وجلّ يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ. فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها . لأن الزجاج أكثر ما يخرج به أن يقال كأنه الماء الجاري.

وقال الله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ. ويقال إنه ليس شيء إلّا وفيه ماء أو قد أصابه ماء أو قد خلق من ماء. والنطفة تسمى ماء والماء يسمى نطفة. وقال الله عزّ وجلّ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ . وقال ابن عباس: السماء موج. وقال الله تعالى وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ. وحين اجتهدوا في تسمية امرأة بالجمال والحسن والصفاء والبياض قالوا: ابنة ماء السماء. وقالوا: المنذر بن ماء السماء. ويقولون: لونه له طلاوة وماء. وفلان ليس في وجهه ماء. 2/42 وردني فلان ووجهي بمائه. قال الشاعر: ماء الحياء يجول في وجناته ووصف الراجز جملا كريما فقال: أراك في ماء المهاري منقع وقالت أم فروة في صفة الماء: وما ماء مزن أيّ ماء تقوله ... تحدّر من غرّ طوال الذوائب بمنعرج أو بطن واد تحدّبت ... عليه رياح الصيف من كلّ جانب [114 أ] نفى نسم الريح القذى عن متونه ... فما أن به عيب تراه لعائب «1» والأبيضان: الماء واللبن. والأسودان التمر والماء. وسواد العراق، ماؤه

الكثير. والماء إذا كان له عمق اشتد سواده في العين. وقال العكلي في صفة ماء: عاوده من ذكر سلمى عوّده ... والليل داج مطلخم اسوده فبتّ ليلي ساهرا ما أرقده ... مرتفعا أو قائما ما أقعده حتى إذا الليل تولّى كبده ... وانكبّ للغور انكبابا فرقده وحثّه حاد كمشي يطرده ... أغرّ أجلى مغرب مجرّده أصبح بالقلب جوىّ ما يبرده ... ماء غمام في الرصاف مقلده زلّ به عن رأس نيق صدده ... عن ظهر صفوان مزل مجسده [حتى إذا السيل تناهى مدده ... وشكّد الماء الذي يشكّده] بين نعامى ودبور تلهده ... كلّ نسيم من صبا تستورده كأنّما يشهده أو يفقده ... فهو شفاء الصاد مما يعمده وقال جرير: لو شئت قد نقع الفؤاد بشربة ... تجد الحوائم لا يجدن مقيلا بالعذب في وسط الفلاة مقيله ... قصر الأباطح لا يزال ظليلا قالوا: وفي الماء، أن أطيب شراب عمل وركّب مثل الجلاب والسكنجبين والبنفسج وغير ذلك مما يشرب من الانبجات والأفشرجات «1» فإن تمام لذته وغاية طعمه أن يجرع شاربه بعد شربه إياه جرعا من الماء يغسل بها فمه ويطيب بها نفسه. فهو في هذا الموضع كالخلّة والحمض جميعا، وهو تسويغ الطعام في المريء. وهو الموصل الغذاء في الأعضاء. فالماء يشرب صرفا وممزوجا والأشربة لا تشرب صرفا ولا ينتفع بها إلّا بممازجته. وهو بعد طهور الأبدان وغسول الأدران. وقالوا: هو كالماء الذي يطهر كل شيء ولا ينجسه شيء. ولذلك قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : الماء لا ينجسه [114 ب] شيء إلّا ما ظهر في طعمه

وريحه» . ومنه يكون الثلج والثلج يجمع الحسن في العين والكرم في البياض والصفاء وحسن الوقع من النفس. ومن فضل الجبل «2» على العراق أنك لو قلت لمريض قد نقه من علته ببغداد في أيام حزيران وتموز وبناحية الكوفة والبصرة: ما تشتهي؟ لقال: أشتهي شربة ماء بارد أو قطعة ثلج أو جليد. وقد أقسموا بالماء. قال الشاعر: غضبى فلا والله يا أهلها ... لا أشرب البارد أو ترضى وسمى الله عزّ وجلّ أصل الماء غيثا بعد أن قال «وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ » . وقال وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً. ومن الماء زمزم وهو شفاء للأدواء. ومنه ما يكون دواء من الأدواء الغليظة كالحمّات «3» . وبهمذان حمّات كثيرة نافعة من الأدواء الغليظة مثل النقرس والجرب والرياح المستصعبة وغير ذلك فينفعها منفعة تامة. 2/43 منها ماء حمّة أروند ولويذان وحمة سارقين «4» . وحمة دار نبهان وماء آست وعبد الله آباد وماء بذين وماء سامين «5» وغير ذلك. وقالوا: أحسن الأشياء: صفو هواء وعذوبة ماء وخضرة كلاء. وقالوا: أفضل المياه ماء السماء إذا أخذ في ثوب نظيف. ثم ما وقع على جبل فاجتمع على صخرة. ثم ماء الغدران العظام. ثم الماء المستنقع في الصحارى إذا لم يكن فيه عشب. ثم ماء القناة ثم ماء الحوض الكثير العمق. ثم ماء العيون

وما ينحدر من الجبال والماء الجاري النقي جيد من كل شيء. وهو جيد للحمى والزكي وجيد للمزاج والبلغم. وقالوا: لولا أن ماء همذان متفرق وهي أنهار كثيرة، في أقطارها، لكان إذا اجتمع ماؤها مثل دجلة والفرات. وقال تيادوس «1» : الماء حياة كل شيء وهلاك كل شيء وغضارة كل شيء وكاسف بال كل شيء. فأما قوله حياة كل شيء، فبه يحيا الإنسان الذي لم يخلق الله أشرف صنعة منه، والنبات والشجر وكل مأكول من الثمر وغيره. وهو غضارة هذه الأشياء ونضرتها. وأما كسوف بال كل شيء، فإذا أخذ منه الماء تغيرت نضرته وذاك كسوف باله. وأما هلاك كل شيء. فإن الغرق منه وكثرة شربه تورث الأدواء كما أن الاقتصاد فيه يذهب كل داء. وماء السماء إذا أخذ في شيء انتقي وصفّي [115 أ] وشرب منه صاحب السل واليرقان نفعهما. وإذا أخذ منه في جلم قبل أن يقع إلى الأرض وشربه من أراد الذكاء زاد في حفظه وذكائه. وإن أخذ ماء السماء وخلط مع العسل والمصطكى وشرب نفع من البهق. وماء البرد إذا أخذ وألقي على قصب فارسي مخرق واستيك به نفع من الحفر والقلح وأذهب بذلك وصلّب الأسنان. وماء الثلج إذا أخذ مع عرق إنسان ثم سقي به من الكزاز سكن فيه. وإذا أخذ مع لبن الإبل وسقي من به خفقان الفؤاد سكّنه. وإن خلط به زبد البحر ثم طلي به على الجرب، ذهب به. وإن أخذ مع رماد الزيتون فطلي بهما البهق الأسود نفعه. وإن أخذ ماء البئر أول ما ينبع ثم شربه من سقي السم، كان نافعا له، وإن أخذ أيضا ثم فتّ فيه خبز من حنطة حديثة وجعل فيه قند وأكله من به وجع الفؤاد نفعه. وأول ما يظهر من العين عند حفرها فهو نافع من الجنوب والوسواس.

وإن ظهرت عين في سبخة فطرح فيها الاسفيل «1» المشوي وأصل الكبد كان دواء للمجذومين. والعيون الكبريتية تنفع من الجرب. وماء البحر إذا أخذ مع السنبل المدقوق و () «2» ودلك به اللسان قطع البخر وطيّب رائحة الفم. وأنشد لأبي صالح الحذّاء من شعر طويل كتب به إلى ابنه- وكان غائبا- يذكر له طيب هواء همذان وحسنها ونزهتها 2/44 وعذوبة مائها ويشوّقه إليها: فارحل إلينا رحلة تنجلي ... منّا غيابات لمحزون فقد هدت سورة أيّامنا ... وانسلخت أيام تشرين وجاءنا الشهر الذي صفّدت ... فيه عفاريت الشياطين وطاب للسارين وجه السرى ... في طرق الريّ وقزوين والدهر في تقويم ساعاته ... كدرهم أبيض موزون هذا وبنت الكرم قد أكملت ... عدّتها في القار والطين عذراء ياقوتتها أبرزت ... تخطب من خدر الدهاقين قوم تراهم فترى أنّهم ... تجار عطر في الدكاكين والطير قد حنّت إلى عشّها ... بكلّ ألوان التزايين قد أقبلت واردة أرضنا ... يقدمها سرب الشفانين من بعد أن أفحمها عجمة ... غنّت بلحن غير ملحون [115 ب] 2/45 ترنّمت في الجوّ قمريّها ... تترى بترجيع الرواشين

والورق من ذكر فواخيتها ... تسعدها خضر الوراشين تبكي على فرقة ألّافها ... شجوا بدمع غير مهتون وقد بدا أروند يبدي لنا ... من سفحه كلّ التحاسين تزينت غرّة إقباله ... بوشيه أحسن تزيين وانحسرت منه رؤوس الربى ... عن ناضر أخضر مشحون والقبج من حافاته أوردت ... فراخها خوف الشواهين وللظبا سرب إذا أقبلت ... من فجّه كالخرّد العين والشاء تثغوا بين حملانها ... قد أمنت كيد السراحين والماء يجري من متون الصفا ... على الخزامى والرياحين نسيمها عند هبوب الصبا ... أطيب من نفحة نسرين والله يسقي الريّ غيثا به ... من كان من سكّان رامين إنّ لهم من فرط شكري بما ... صانوك أجرا غير ممنون أجر الألى صانوا إمام الهدى ... أعني عليّا يوم صفين 2/46 فهاكها مكنونة صغتها ... حليا لعرض لك مكنون أبكار ألفاظ وما بكر ما ... يهدى من الألفاظ كالعون تمّت ثمانين وتأريخها ... في سنة الإحدى وتسعين وقال آخر: تذكّرت أروندا وطيب نسيمه ... فقلت بقلب للفراق سليم سقى الله أروندا ومن في جواره ... ومن حلّه من ظاعن ومقيم وأيّامنا إذ نحن في الدار جيرة ... وإذ دهرنا بالوصل غير ذميم «1» وقال آخر:

سقيا لأروند ما أهنى المصيف به ... ظل ظليل وماء ينقع الكبدا وتربة كسحيق المسك نكهتها ... وجيرة كبحور تقذف الزبدا وقال آخر: قالوا ترى النيل في مصر فتألفه ... إذا ترامى على آذيّه الزبد 2/47 فقلت أحسن من نيل بمصركم ... ماء العيون على الرضواض يطّرد في جانبيه رياض الزهر زيّنها ... نسيم نوّارها والطائر الغرد ترى الخزامى يناغي الأقحوان بها ... عند الغدوّ كما ناغى أبا ولد وأنشد لوهب الهمداني: ألقى الربيع على أروندنا خلعا ... خضرا وخلعته البيضاء قد خلعا [116 أ] كساه ثوبا من النوّار تنسجه ... أيدي الربى روضها خفضا ومرتفعا «1» ملاءة نسجتها ديمة فلها ... بدائع جمة قد فاقت البدعا لها رقائق حسن ليس يفهمها ... ماذا جواهرها إلّا الذي صنعا صفر وخضر وحمر ليس يشبه ذا ... هذا ولا ذاك هذا عند ما طلعا للماء فيه خرير رجع نغمته ... في الروض ترجيع نشوان إذا سجعا ترى حدائقها كالبيض لامعة ... بين الأقاحي فضاء في الرياض معا إذا بكت مزنة من فوقها ضحكت ... شقائق أخرجت من سمطها خلعا 2/48 طور منيف عليه شملة نسجت ... خضراء فارتفعت فيه كما ارتفعا إذا الشمال عليه جرّ أذيله ... حسبته سوق عطر بينها وضعا فانظر إلى بطن أروند البهيّ ترى ... بابا إليه من الفردوس قد شرعا

واسمع إذا قرقرت قمرية طربا ... وهاج ورشانه في سفحه ودعا والثاغيات بها تدعو هوالعها ... فكلّ ثاغية قد أرقدت هلعا من لم يكن في ذرى أروند معتكفا ... فذاك عن صحبة اللذات قد خدعا ويقال إن أكثر الجبال ماؤها من أسفلها إلّا أروند فإن ماءه في أعلاه ومنابعه في ذروته. وأنشد لبعضهم في أروند: أودى الشتاء وهاج كلّ مغرّد ... وبدت معالم للربيع الأغيد عكفت على أروند كلّ سحابة ... سوداء مظلمة كلون الإثمد تبكي مدامعها ويضحك ثغرها ... عن شرق كالكوكب المتوقّد هملت بما حملت فألبست الربى ... من نسجها حللا وإن لم تعقد من كلّ أخضر كالحرير وفاقع ... غضّ وأحمر ساطع ومورّد شملت عصابة نوره هام الثرى ... فتعمّمت منها هضاب الفدفد صارت عيونا للزبى لما بكت ... فيها السحاب بأعين لم تجمد 2/49 وكأنها قمر وقد طلعت لها ... شمس الضحى من جوهر متبدّد حسنت فحسّنت الثرى ببدائع ... حسرت مساوي للشتاء الأنكد شربت من الوسميّ أول صوبه ... ومن الزلال البارد المتطرّد وكأنما لبس البقاع معصفرا ... منها ووشّح صدره بمورّد نفت الصّبا عنه القذى بنسيمها ... فكأنه لمعان متن مهنّد [116 ب] وكانوا يقولون: شتاء بغداد، وربيع همذان ومصيف أصفهان وخريف الري «1» . وقالت الحكماء: أحسن الأرض مخلوقة، الري ولها السن

والسريان «1» . وأحسنها مصنوعة، نيسابور ولها حسن الآبار. ومرو ولها الذريق والماجان، ودمشق ولها الغوطة والواديان. ونصيبين ولها هرماس. والصيمرة ولها ما يهوى الحصنان. والبصرة ولها النهران. وفارس ولها شعب بوّان. وشهر زور ولها المستشرف. وباقرحى ولها من هاهنا بستان ومن هاهنا بستان. والمدائن ولها دجلة. والسوس وتستر وهما بين أربعة أنهار: دجيل والمسرقان وماهينان ونرويان. وبلخ ونهاوند وأصفهان. وقال أبو الوفاء الهمذاني في إقبال همذان ومتنزهاتها في شعر طويل: ريّان من ماء الكروم كأنني ... غصن أمالته الصبا فثأوّدا أرمي بعينيّ الرياض وأجتني ... من حليهن لآلئا وزبرجدا ما بين أعلى معوجين ودونها ... متصوّبا طورا وطورا مصعدا وإذا علوت إلى بقاع سنينس ... وأبحت عينيك المراد الأبعدا عاينت أحسن منظر حلّ الندى ... وشماله من نسجه أن ينفدا زهراء قد زهت الرياض بنوره ... لمّا غدا على «2» الربى متسرّدا حمراء ناصعة صفراء فاقعة ... ومزعفرا في لونه ومورّدا يفترّ مبتسما كأنّ وميضه ... شرر أطارته الصبا فتوقّدا وإذا الغزالة حلّ عقد خمارها ... أهدت له منها ندى متجدّدا نور تنير له الرياض وتغتدي ... تبدو له أسرارهنّ إذا بدا وترى الجنان قد اكتسين نضارة ... وجلين درّا في الغصون منضّدا وقال أيضا [117 أ] : يا للّيالي ترميني بأسهمها ... ومالها ترة عندي ولا ثار إذا اصطفيت خليلا أو أخا ثقة ... لا تنثني منه أو تنأى به الدار

القول في الأهواز

يا أيها المغتدي نحو الجبال له ... فيما هناك لبانات وأوطار اقرء السلام على أروند من جبل ... يهيجني نحوه شوق وتذكار واخصص أماكن فيه كنت أعهدها ... فيهنّ مني علامات وآثار واربع بمرتبع كنّا نلوذ به ... قد أينعت فيه باللّذات أشجار بسفح مرجانة المحسود ساكنها ... روض أريض وماء ثمّ موّار وشعب قرّود فيه كلّ مونقة ... وفيه للهو أشجار وأنهار فسفح ترمن فالدكان مجتمع ... فحيّه كلّما حلّته أمطار مستشرف فيه للأبصار متّسع ... يروقنا زهر فيه وأنوار وفيه للقلب والأسماع ما طلبا ... من السرور إذا غرّدن أطيار يجيب ألحانها منا إذا هزجت ... وغرّدت طربا عود ومزمار تلك البلاد التي تحيا النفوس بها ... لا ما تلهّب في حافاته النار أرض ينعّم أهليها إذا نعموا ... بأن تكنّهم في الأرض آبار مجاراة عبد القاهر والحسين بن أبي سرح في مدح همذان والعراق وذمّهما وكان عبد القاهر بن حمزة الواسطي والحسين بن أبي سرح كثيرا ما يلتقيان 2/50 فيتجاريان الآداب ويتذاكران العلوم. وكان عبد القاهر لا يزال يذم الجبل وهواءه وأهله وشتاءه، لأنه رجل من أهل العراق. وكان ابن أبي سرح مخالفا له، كثير الذم للعراق والطعن على أهله. فالتقيا يوما عند محمد بن إسحاق الفقيه «1» . وكان يوما شاتيا صادق البرد كثير الثلج. وكان البرد قد بلغ إلى عبد القاهر. فلما دخل وسلم قال: لعن الله الجبل ولعن ساكنيه وخصّ الله همذان من اللعن [117 ب] بأوفره وأكثره. فما أكدر هواءها وأشدّ بردها وأذاها وأكثر مؤونتها وأقل خيرها. قد

سلّط الله عليها الزمهرير الذي يعذب به أهل جهنم، مع ما يحتاج الإنسان منها إليه من الدثار والمؤن المجحفة. فوجوهكم يا أهل همذان متشققة، وأنوفكم سائلة، وأطرافكم خضرة، وثيابكم متّسخة وروائحكم قذرة، ولحاكم دخانية «1» ، وسبلكم منقطعة، والفقر عليكم ظاهر والمستور في بلدكم مهتوك. لأن شتاءكم يهدم الحيطان ويبرز الحصان ويفسد الطرق ويشعث الآطام. فطرقكم وحلة تتهافت فيها الدواب، وتقذر فيها الثياب وتتحطم الإبل وتنخسف فيها الآبار وتغيض المياه، وتكف السطوح وتهيج الرياح العواصف، وتكون فيها الزلازل والخسوف والرعود والبروق والثلوج والدمق. فتنقطع عند ذلك السبل ويكثر الموت وتضيق المعايش. فالناس في جبلكم هذا سائر أيام الشتاء يتوقعون العذاب ويخافون السخطة والعقاب، ثم يسمونه العدو المحاصر والكلب الكلب. ولذلك كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عمّاله: إنه قد أظلكم الشتاء وهو العدو المحاصر، فاستعدوا له الفراء واستنعلوا الحذاء. وقد قال الشاعر: إذا جاء الشتاء فأدفئوني ... فإن الشيخ يهدمه الشتاء فالشتاء يهدم الحيطان، فكيف الأبدان، لا سيما شتاؤكم الملعون؟ 2/51 ثم فيكم أخلاق الفرس وجفاء العلوج وبخل أهل أصفهان ووقاحة أهل الري وفدامة أهل نهاوند وغلظ طبع أهل همذان. على أن بلدكم هذا أشدّ البلدان بردا وأكثرها ثلجا وأضيقها طرقا وأوعرها مسلكا وأفقرها أهلا. وكان يقال: إن أبرد البلدان ثلاثة: برذعة وقاليقلا وخوارزم. وهذا قول من لم يدخل بلدكم ولم يشاهد شتاءكم. وقد حدثني أبو جعفر محمد بن إسحاق المكتّب قال: لما قدم عبد الله بن المبارك همذان، أوقدت بين يديه، فكان إذا سخن باطن كفّه أصاب ظاهرها البرد. وإذا سخن ظاهرها أصاب باطنها البرد، فقال:

أقول لها ونحن على صلاء ... أما للنار عندك حرّ نار لئن خيّرت في البلدان يوما ... فما همذان عندي بالخيار ثم التفت إلى ابن أبي سرح وقال: يا أبا عبد الله! وهذا والدك يقول: النار في همذان يبرد حرّها ... والبرد في همذان داء مسقم والفقر يكتم في بلاد غيرها ... والفقر في همذان ما لا يكتم قد قال كسرى حين أبصر تلّكم ... همذان، فانصرفوا فتلك جهنّم والدليل على هذا أن الأكاسرة كانت لا تدخل همذان، لأن 2/52 بناءهم متصل من المدائن إلى أزرميدخت من أسدآباد ولم يجوزوا عقبة أسدآباد. وبلغنا أن كسرى أبرويز همّ بدخول همذان. فلما بلغ موضعا يقال له دوزخ دره ومعناه بالعربية باب جهنم أو كهف جهنم، قال لبعض وزرائه: ما يسمى هذا المكان؟ فعرّفه. فقال: انصرفوا. لا حاجة لنا في دخول مدينة فيها ذكر جهنم. وقال شاعركم وهو وهب بن شاذان الهمذاني: أما آن من همذان الرحيل ... من البلدة الحزنة الجامدة فما في البلاد ولا أهلها ... من الخير من خصلة واحدة يشيب الشباب ولم يهرموا ... بها من ضبابتها الراكدة سألتهم أين أقصى الشتاء ... ومستقبل السنة الواردة فقالوا إلى الجمرة المنتهى ... فقد سقطت جمرة جامدة وقال أيضا: يوم من الزمهرير مقرور ... عليه جبّ الضباب مزرور كأنما حشو جوّه إبر ... وأرضه وجهها قوارير وشمسه حرّة مخدّرة ... تسلّبت حين حمّ مقدور 2/53 تخال بالوجه من ضبابتها ... إذ أخذت جلدة زنابير

يرى البصير الحديد نظرائه ... منها لأجفانه سمادير وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا فقال: من أين أنت؟ فقال: من همذان. قال: أما إنها مدينة همّ وأذى، تجمد قلوب أهلها كما يجمد ماؤها. وقال شاعركم أيضا محمد بن بشار يذم بلدكم ويذكر شدة برده وغلظ طبع أهله وما يحتاجون إليه من المؤن المجحفة الغليظة [118 أ] : أتتك امارات الشتا ودلائله ... ووافاك من برد الخريف أوائله فأصبحت محزونا ودمعي كأنّه ... جمان على الخدين ينثر هامله أمامي صيف رعانيه «1» ... وتيه رحيب جوزه ومجاهله إذا البرد ردّاه رداء كأنه ... ملاء عليه قد تنوّق غاسله وهبّت له ريح الصبا ثم أعقبت ... جنوبا وهبّت بعد ذاك شمائله وجدت فؤادي طائرا من حذاره ... وقلبي كثيبا ما تكفّ بلابله وقال آخر: أتانا الزمان ببرد الشتاء ... وسال به سيله مكفهرّا وهبّت سيول شمال الرياح ... فكزّ الفقير لها واقشعرّا يقرّب من رأسه منكبيه ... ويغدو إلى ناره مشمئرّا وأحجرت الكلب هوج الرياح ... وصرّ بأذنيه للبرد صرّا وفارقت الوحش أوطانها ... إلى كلّ غور يقيهنّ «2» شرّا وكرّ الولاة على من يكون ... فلم يجد المرء منهم مفرّا وشحّ البخيل على ماله ... وزوّى له حاجبيه وهرّا وقيل لأعرابي دخل همذان ثم انصرف إلى البادية: كيف رأيت همذان؟

فقال: أما نهارها فرقّاص وأما ليلهم فحمّال. يعني أنهم بالنهار يرقصون لتدفأ أرجلهم، وبالليل حمّالون لكثرة دثارهم. ووقع أعرابي إلى همذان في الربيع فاستطاب الزمان وأنس بالأشجار والأنهار. فلما جاء الشتاء، ورد عليه ما لم يعهده من البرد والأذى فقال: بهمذان شقيت أموري ... عند انقضاء الصيف والحرور جاءت بشرّ شرّ من عقور ... ورمت الآفاق بالهرير والثلج مقرون بزمهرير ... لولا شعار العاقر النزور أمّ الكبير وأبو الصغير ... لم يدف إنسان من التخصير ولقد سمعت شيخا من علمائكم وذوي المعرفة منكم أنه يقول: يربح أهل همذان إذا كان يوم في الشتاء صافيا له شمس حارة، مائة ألف درهم، لأنهم لا يحتاجون فيه إلى الوقود. وقيمته في همذان ورساتيقها في كل يوم مائة ألف درهم. وقيل لابنة الخسّ: أيما أشدّ الشتاء أم الصيف؟ فقالت: من يجعل الأذى كالزمانة. وقيل لأعرابي: ما غاية البرد عندكم؟ فقال: إذا كانت السماء نقية والأرض ندية والريح شامية فلا تسأل عن أهل البريّة. وقد جاء في الخبر أن همذان تخرب لقلة الحطب. ودخل أعرابي همذان. فلما رأى هواءها وسمع كلام أهلها، ذكر بلاده وقال: وكيف أجيب داعيكم ودوني ... جبال الثلج مشرفة الرعان 2/54 بلاد شكلها من غير شكل ... وألسنها مخالفة لساني وأسماء النساء بها زنان ... وأقرب بالزنان من الزواني ودخل بعض الأعراب الجبل في الشتاء فجعل أنفه

يرعم «1» . فرفع يده ووجأه فقال: لا والذي جلّ وعلا، ما رأيت عضوا أنتن منك. إذا جمد كل شيء فأنت تذوب، وإذا ذاب كل شيء فأنت تجمد. أبيت إلّا خلافا. وقال شاعركم وهو أحمد بن بشار «2» . لقد أتى همذان البرد فانطلق «3» ... وارحل على شعب شمل غير متفق بئس اعتياض الفتى أرض الجبال له ... من العراق وباب الرزق لم يضق أما الملوك فقد أودت سراتهم ... والغابرون بها في شيمة السوق ولا مقام على عيش ترنّقه ... أيدي الخطوب وشرّ العيش ذو الرنق قد كنت أذكر شيئا من محاسنها ... أيام لي فنن كاس من الورق فاليوم لا بدّ من نعتي مساوئها ... كما يغصّ بها الثاوي على شرق لا خير فيها ولا في أن تقيم بها ... ولا تقلبت بين التبر والورق أرض يعذب أهلوها ثمانية ... من الشهور 2/55 كما عذّبت بالرهق تبلى حياتك ما تمنى بنافعة ... إلّا كما انتفع المجروض بالرمق فإن رضيت بثلث العمر فارض به ... على شرائط من يقنع بها يبق إذا زوى البقل هاجت في بلادهم ... من جربيائهم نشّافة العرق تبشّر الناس بالبلوى وتنذرهم ... ما لا يداوى بلبس الدرع والدرق تلفّهم في عجاج لا تقوم لها ... قوائم الفيل قبل المأقط الشبق لا يملك المرء فيها كور عمّته ... حتى تطيّرها من فرط مخترق فإن تكلّم لاقته بمسكنة ... ملء الخياشيم والأفواه والحدق فعندها ذهبت ألوانهم جزعا ... واستقبلوا الجمع واستولوا على العلق حتى تفاجئهم شهباء معضلة ... تستوعب الناس في سربالها اليقق

خطب بها غير هين من خطوبهم ... كالخنق ما منه من ملجا لمختنق أمّا الغني فمحصور يكابدها ... طول الشتاء مع اليربوع في نفق يقول أطبق وأسبل يا غلام ... وأرخ الستر واعجل بردّ الباب واندفق وأوقدوا بتنانير تذكّرهم ... نار الجحيم بها من يصل يحترق والمحلقون بها سبحان ربّهم ... ماذا يقاسون طول الليل من أرق تنسدّ أبوابهم بالثلج فهو لهم ... دون الرتاج رتاج غير منطبق والأرض تصبح والدنيا لها طبق ... تحار فيه عيون الناس في الطرق حتى إذا استحكمت بردا غدا طبق ... من الضباب فقد أوفى على طبق ينهلّ منها عليهم دائبا ديما ... بالزمهرير عذابا صبّ من أفق صبغ الثياب إذا حلّ الشتاء بها ... صبغ المآتم للحسّانة الفنق والذئب ليس إذا أمسى بمحتشم ... من أن يخالط أهل الدار والنسق 2/56 فويل من كان في حيطانه قصر ... ولم يخصّ رتاج الباب بالغلق يدعو الثبور على صبيانه فرقا ... بعد العشاء ويدعوه من الفرق وصاحب النسك ما تهدا فرائصه ... والمستغيث بشرب الخمر في غرق أما الصلاة فودّعها سوى طلل ... أقوى وأقفر من سلمى بذي العمق تمسي وتصبح والشيطان في قرن ... مستمسكا من حبال الدين بالرمق والماء كالثلج والأنهار جامدة ... والأرض أضراسها تلقاك بالدبق حتى كأنّ قرون العفر ناتئة ... تحت المواطئ والأقدام في الطرق والناس بيض اللحى تهمي أنوفهم ... فوق الشوارب كالمصدوم ذي البلق تسعين يوما وعشرا أكلمت مائة ... يدعون ليلة متّت ليلة السدق كأنهم عسكر هاج الحريق بهم ... فهم يموجون والضوضاء في فرق 2/57 كأنهم حين أفضوا في ثيابهم ... خلف الغرابيل أوهاها من الخرق فما ترى بعدها يلقون من عذب ... من الوحول التي طمّت على اللثق

والمشي شهرين بالميزان قد زهقت ... نفوسهم فرقا من خشية الزلق فكلّ غاد بها أو رائح عجل ... يمشي على أهلها غضبان ذا حنق قوم غذاؤهم الألبان مذ خلقوا ... فما لهم غيرها من مطعم أرنق لا يعبق الطيب في أصداغ نسوتهم ... ولا جلودهم تبتّل من عرق فهم غلاظ جفاة في طباعهم ... إلّا تعلّة منسوب إلى الحمق أفنيت عمري بها حولين من قدر ... لم أقو منها على دفع ولم أطلق فلما بلغ عبد القاهر هذا المكان، التفت إليه ابن أبي سرح فقال: لقد أكثرت في المقال وأسرفت في الذم وأطلت القلت وطوّلت الخطبة. ولولا ما أجزت إليه من سوء المقال وكثرة الهذيان لكنا عن مجاوبتك بمعزل وعن محاورتك في شغل. فمهما كان فينا- يا أبا علي أكرمك الله- وفي هوائنا وأرضنا وبلدنا وصقعنا. فليس فينا جفاء النبط وعجر فيه أهل [119 أ] السواد، وأخلاق الخوز، وغدر أهل الكوفة، ودقة نظر أهل البصرة، وبخل أهل الأهواز، وسوء معاشرة أهل بغداد وشدة حيلهم، وجفاء أهل الجزيرة، وغباوة أهل الشام. وأهل الجبل قد سلموا من شدة حرّ البصرة، ومن كثرة ذباب بغداد، ومن بقّ البطائح، وبراغيث الكوفة، وتغير هواء مصر، ومن جرارات الأهواز وسمائمها، 2/58 ومن عقارب نصيبين، وثعابين مصر، ومن أفاعي سجستان. وهل الخصب والخير والنعمة والدعة والأكل والشرب إلّا في الشتاء الذي تغيب فيه الهوام وتنحجر الحشرات ويموت الذباب ويهلك البعوض ويبرد الماء ويصفو الجوّ ويطيب فيه العناق، ويظهر فيه الفرش والكسوة والنعمة والملوكية والسرو «1» والخرمية. وإذا ميزت الأقاليم صقعا صقعا وبلدا بلدا وكورة كورة وطسوجا طسوجا، علمت أنه لا يخلو بلد من البلدان ولا إقليم من الأقاليم في شرق الأرض وغربها

وبرها وبحرها وسهلها وجبلها من حرّ وبرد أربعة أشهر. ولذلك قال أبو دلف: إني امرؤ كسروي الفعال ... أصيف الجبال وأشتو العراقا وألبس للحرب أثوابها ... وأعتنق الدار عين اعتناقا فاختار بفضل رأيه وجودة تمييزه أن يصيف الجبال ليسلم من سمائم العراق وذبابه وهوامّه وحشراته وسخونة مائه وهوائه. واختار أن يشتو بالعراق ليسلم من زمهرير الجبال وكثرة أنديتها ووحولها وثلوجها. وقد قال أيضا في غير هذا المعنى. بل في ضدّه لسبب دعاه إلى ذلك: ألم تر حين حال الزمان ... أصيف العراق وأشتو الجبالا سموم المصيف وبرد الشتاء ... حنانيك حالا أزالتك حالا فصبرا على حدث النائبات ... فإن الخطوب تذلّ الرجالا «1» والسبب الذي لأجله قال هذه الأبيات أنه لمّا قال القافية التي كتبناها قبلها اتصلت بعبد الله بن طاهر- وكان سيىء الرأي بأبي دلف- فقال: ألم تر أنا جلبنا العناق ... إلى أرض بابل قبّا عتاقا [119 ب] فما زلن يعسفن بالدار عين ... طورا حزونا وطورا رفاقا إلى أن وردن بأدوائها ... قلوب رجال أرادوا النفاقا وأنت أبا دلف ناعم ... تصيف الجبال وتشتو العراقا 2/59 فلما وقف أبو دلف على هذه الأبيات آلى على نفسه أن لا يصيف إلّا ببغداد ولا يشتو إلّا بالجبل. فإذا صحّ لك ما قلنا وتبين ما حكينا، ثم ميّزت وتفكرت ونظرت وأنصفت. علمت أن البرد أصلح من الحرّ. لأنك إذا أضفت البرد وهو الجبال إلى ما يقاسيه

أهل عمان وأهل البصرة وسيراف وبغداد من أذى السمائم من الهواء الكدر الغليظ والماء السخن الزعاق وكثرة الذباب والجعلان والخنافس والحيات والعقارب والجرّارات والنمل والبعوض والبق والجرجس وغير ذلك مما يطول ذكره، علمت أن العيش عيشنا والنعمة نعمتنا. وملوك الجبل لا يعدون العيش عيشا والنعمة نعمة إلّا في أيام الشتاء. لأنهم يفرشون من الفراش أسراه ويلبسون من الثياب أحسنها وأدفأها. ويلبسون الثعالب البيض والسود والحمر والفنك والسمور والقاقم والحواصل والوشق والدلق والفراء اليمانية. ويفرشون الخز الرقم والأرمني المحفور والميساني والقطوع والديباج والمرعز والسوسنجرد. ولهم المضارب والأبنية والستارات والسرادقات والقباب التركية وأثواب عدن وثياب نيسابور ومرو وأصفهان، والنعمة عندنا في الشتاء أظهر والخير أكثر. ولولا الشتاء وثلجه وبرده وريحه ومطره 2/60 لما نبت لنا في الصيف زرع ولا ذرّ ضرع ولا أخضر شجر ولا اجتني ثمر. ولذلك قال الشاعر: لولا الشتاء ولولا قبح منظره ... لما بدا من ربيع منظر حسن وفي الشتاء يستلذ الملوك شرب المدام لطول الليل وقلة الهوام. والشراب صديق النفس وحياة الأبدان والسبب إلى الزيادة في الأعمار وصحة الأجسام، وباعث الحرارة الغريزية ومرطّب الأعضاء اليابسة وطارد الهم والفكر، والزائد في ارتفاع الهمة. وله اتخذت القصور [120 أ] المشيدة والمجالس المنجدة والنمارق الممهدة، هذا في الشتاء. فإذا جاء الربيع، فلنا الأفياء الحسنة والرياض الخضرة والجنان المتصلة والمياه المطّردة والأرواح الطيبة والمواضع النزهة. ثم لنا من الأنوار والزهر في الرياض والغدران ما لا يكون في بلادكم ولا يعرف عندكم. حتى لقد جهد ملوككم وكتّابكم وذوو النعمة منكم أن يغرسوه في بساتينهم وجناتهم، فلم يستو ذاك لهم ولا أفلح عندهم. من ذلك: الزعفران

والزردلال والجاولال والكيستج والسحالة والكركيس والنستر والندير والسوسن آزاد وغير ذلك من الأنوار الجبلية التي لا تكون إلّا في بلادنا. ومما هو لنا دونكم 2/61 وينبت في بلادنا لا بلادكم، الريباس وهو من أنفع ما يؤكل. ويقال إنه يقوم مقام السكنجبين. ولنا أنواع من الفواكه ليست لكم. وإذا حمل إليكم شيء منها تفتخرون به وتتهادونه، منها: الكمثرى النهاوندي والصيني والتفاح الشيري. ولنا أيضا أشياء تتخذ من الألبان ليست لكم. بل هي مستطرف عندكم. منها اللور وشيران وأنواع الشوارير والكشك المعمول باللبن. وإذا دخل الكاتب أو العامل همذان ثم انصرف عنها إلى بلدة وسئل عما فيها قال: إذا كان خبزك من حنطة أزناو مع خبر المهروان ولحم الشراهين، فلا تسأل عن شيء آخر. وحسبك فضيلة بشيء. ينادى على الخبز بالحرمين: مكة والمدينة. في أيام الموسم والناس مجتمعون من كل فج عميق: المهرواني، المهرواني. ولقد دخل بها المعتضد، فوصف له ما يتخذ بها من الألبان فأكل منه واستطابه. فلما انصرف إلى العراق، أمر أن يحمل إليه منه. فكان يوجه به مع الفرانقيين «1» وأصحاب البرد. ولما ميّز قباد إقليم بلده، وجد أنزه بقاعه ثلاثة عشر موضعا: المدائن والسوس وجنديسابور وتستر وسابور وإصبهان والري وبلخ وسمرقند وباورد وماسبندان ومهرجانقذق وتل ماشير وبطنا بنهاوند تسمى روذراور. وهي ثلاثة فراسخ فيها ثلاثة وتسعون قرية متصلة مع جنان ملتفة وأنهار مطّردة. نباتها الزعفران وأشجارها جميع الفواكه: العنب والرمان والجوز واللوز والتفاح والكمثرى وغير ذلك.

2/62 ولقد قال بعض الدمشقيين ممن قد جال الآفاق ودار البلدان: دخلت غوطة دمشق وأبلّة البصرة واسكندرية مصر وصنعاء اليمن. ورأيت خورنق الكوفة والبرية المسماة خد العذراء وحافتي دجلة والفرات وبغداد وباب الطاق وباب [120 ب] الكرخ مع سائر الأسواق. وشاهدت شبديز قرميسين وزرنروذ إصبهان وجنديسابور الأهواز. ودخلت شابور فارس، ونظرت إلى شعب بوّان وماجان مرو وسريان الري ومستشرف باكرخى. وشاهدت سمرقند والصغد وبلخ. فما رأيت بلدا أطيب ولا أعذب ماء ولا أكثر خيرا من إقبال همذان. وما ظنك ببلد حشيشه الريحان والزعفران وشرابه العسل والسمنان وثمره العنب والرمان. قال الشاعر: بلد نبات الزعفران ترابه ... وشرابه عسل بماء قنان قال: فلما بلغ ابن أبي سرح هذا المكان قال له صاحب المنزل: يا أبا عبد الله! وأفرطت وقلت في الجبل عاله وعليّه. وهذا وقت ضيق وقد حضرت الصلاة. والصواب قطع هذه المفاخرة وترك هذه المناظرة. فقال: قد قطعت ذلك، وإن عاد عدنا. ثم قام وهو يقول: إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضرة وقال بعض الشعراء «1» : وبالقوس لمّا حلّت الشمس أظلمت ... وأطبق أروند على همذان وهبّت رياح الزمهرير فأحرقت ... بها كلّ ذي جنس من الحيوان فما أن ترى شيئا بها غير جامد ... مع النفط والنفّاط والقطران ترى الناس بين السوق والدور جمّدا ... عداهم من الترداد والجولان فطرقهم والدور مطموسة بهم ... يزيدهم طمسا 2/63 وليس بفان

ذكر حب الأوطان

ترى الطير في جوّ السماء معلّقا ... من البرد ممنوعا من الطيران وتجمد بين الحائطين كلابهم ... وكانت تباري الخيل يوم رهان وليس يقي من بردها جلد ثعلب ... بخوارزم مدبوغ بغير تواني ولا جلد سمّور ولا الفنك الذي ... يوقّى به المقرور حرّ عمان وليس يقيهم منه لفح جهنّم ... وما لهم بالزمهرير يدان أما مهربا من ذا العذار فقد وهت ... عظامي ولا تشعر به القدمان إلى الكرج الحسناء دار أميرنا ... فنوسعها حمدا بكلّ لسان مباركة حفّت بخصب ونعمة ... بماء عيون عذبة وجنان فأهل التقى والبرّ والفضل أهلها ... وليس لهم في المشرقين مدان ذكر حب الأوطان ولولا اختلاف شهوات الناس لما اختاروا من الأسماء إلّا أحسنها ومن البلدان إلّا أغذاها ومن الأمصار إلّا أوسطها. ولو كانوا كذلك لتناحروا على البلدان الغذية ولتقاتلوا على الأمصار المتوسطة، ولما وسعتهم بلاد ولا تمّ بينهم صلح. 2/64 إلّا أن رضاهم بأوطانهم، واغتباطهم بمساقط رؤوسهم مانع لهم. والقناعة ببلدانهم وإن كانت الطبيعة مجبولة عليه. وكيف لا يكونون كذلك وأنت لو حوّلت ساكني الآجام إلى الفيافي، وساكني السهل إلى الجبال، وساكني الجبال إلى السهل والبحار، وساكني أهل العمد إلى المدر، لأذاب قلوبهم وأخنى عليهم فرط النزاع. بل لو نقلت أهل القفار إلى العمران وحوّلت من في جزائر البحار إلى المدن، لم تجدهم راضين بذلك ولا قانعين. بل كنت تجدهم يحنون إلى أوطانهم ويتذكرون بلدانهم. وقد قيل في الأمثال: عمّر الله البلدان بحب الأوطان الرجال. وقال عبد الله بن الزبير: ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم.

وقال معاوية في قوم من أهل اليمن رجعوا إلى بلادهم بعد أن أنزلهم من الشام منزلا خصبا وفرض لهم في شرف العطاء: هؤلاء () «1» أوطانهم بقطيعة أنفسهم. وقد قال الله تعالى «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ » . فقرن الضنّ منهم بالأوطان إلى الضن [120 ب] منهم بالأنفس. وزوّجت أعرابية في الحضر وأسكنت قصرا. فحنّت إلى البدو وقالت: للبس عباءة وتقرّ عيني ... أحبّ إليّ من لبس الشفوف وبيت تخفق الأرواح فيه ... أحبّ إليّ من قصر منيف وبكر تتبع الأضعان نضو ... أحبّ إليّ من بغل رؤوف وكلب ينيح الأضياف ليلا ... أحبّ إليّ من ديك عيوف وبناحية الجنوب جزيرة يقال لها تاران، ينزلها قوم يقال لهم بنو خدّان «2» ، معاشهم صيد السمك وليس لهم ماء عذب ولا زرع ولا شجر. وبيوتهم من السفن المنكسرة وعظام السمك. يستطعمون الخبز ويستعذبون الماء ممن يجتاز بهم في الدهر الطويل. وربما أقاموا السنين الكثيرة لا يمرّ بهم إنسان. فإذا قيل لهم: أي شيء مقامكم في هذا البلد؟ قالوا: اليطن، اليطن، يريدون الوطن. وكذلك قالوا: من لطف النفس أن تكون 2/65 إلى مولدها مشتاقة وإلى مسقط رأسها تواقة. وقال بعض الحكماء: حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك. إذ كان غذاؤك منهما وغذاؤهما منه.

وقالوا: أرض الرجل ظئره وداره مهده. وأحب البلدان بالتوق إليه بلد منحك حليبه رضاعة. وقال آخر: إذا كان السبع يحنّ إلى أوطانه. فالإنسان أولى بالحنين إلى مكانه. وقال بقراط: فطرة الإنسان معجونة بحب الوطن. وكان أيضا يقول: يغذى كل عليل بأطعمة أرضه. فإن النفس تتطلع إلى غذائها. وقال الشاعر: تحنّ قلوصي من غداة إلى نجد ... ولم ينسها أوطانها قدم العهد وقد هجت نصبا من تذكّر ما مضى ... وأغذيتني لو كان هذا الهوى يغذي وذكّرتني قوما أحنّ إليهم ... وأشتاقهم في القرب منهم وفي البعد أولئك قوم لو لجأت إليهم ... لكنت مكان السيف من وسط اليد ودخل بعض الأعراب الحضر فاشتاق إلى البدو وقال: لعمري لنور الأقحوان بحائل ... ونور الخزامى في ألاء وعرفج [121 ب] أحبّ إلينا يا حميد بن مالك ... من الورد والخيري ودهن البنفسج وأكل يرابيع وضبّ وأرنب ... أحبّ إلينا من سماني وتدرج ونص القلاص الصهب تدمى أنوفها ... يجبن بنا ما بين قوّ فمنعج أحبّ إلينا من سفين بدجلة ... ودرب متى ما يظلم الليل يرتج وقدم خالد بن فريص الهجيمي الأهواز، فلما رأى حرّها وأذاها لحق إلى بلده وقال: نظرت وقد حال القرى دون منظري ... وقد عمّمت أجبالها بالعياطل

ألمحة برق أم شبا النار شبّها ... مقالون لم يستصحبوا بالقبائل وما نفحة من خالص المسك علّيت ... بأطيب من أرواح تلك المنازل إذا ما خزاماها جرى في فروعها ... بمذعورة (؟) أو بلّة بالأصائل وقال آخر: خليليّ قوما واشرفا القصر فانظرا ... بأعيننا هل تؤنسان لنا نجدا؟ وإنّي لأخشى إن علوناه علوة ... ونشرف بأن نزداد ويحكما وجدا وقال آخر: ألا أيها الركب المحثّون هل لكم ... بأهل العقيق والمنازل من علم؟ فقالوا: نعم، تلك الطلول كعهدها ... تلوح. وما يغني سؤالك عن علم فقلت: بلى، إن الفؤاد يهيجه ... تذكّر أوطان الأحبّة والحرم وشكا قوم من أهل خضرة «1» - وهي على ثلاث مراحل من المدينة. وكان اسمها عقرة فسماها النبي خضرة- إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وباء أرضهم فقالوا: لو تركتموها. فقالوا: معاشنا ومعاش آبائنا ووطننا. فسأل عمر رضي الله عنه الحارث بن كلدة. فقال الحارث: البلاد الوبيّة ذات الأدغال والبعوض عش الأوباء. ولكن ليخرج أهلها منها إلى ما يقاربهم من الأرض [122 أ] العذية إلى تربيع النجم وليأكلوا البصل والكراث ويباكروا السمن العربي فيشربوه وليشمّوا الطيب ولا يمشون حفاة. ولا ينامون بالنهار. فإني أرجو أن يسلموا. قال: فأمرهم عمر بذلك وأنشد: أقول وفوق البحر تحتي سفينة ... تميل على الأعطاف كلّ مميل ألا أيّها الركب الذين دليلهم ... سهيل اليماني دون كلّ دليل ألمّوا بأهل الأبرقين فسلّموا ... وذاك لأهل الأبرقين قليل

بأهلي أهل الأبرقين وجيرة ... سأهجرهم لا عن قلى فأطيل ألا هل إلى سرح ألفت ظلاله ... وتكليم أهل الأبرقين سبيل؟ وقال الفضل بن إسحاق «1» : لقيت أعرابيا فقلت: ممن الرجل؟ فقال: من بني أسد. قال: فمن أين أقبلت؟ قال: من هذه البادية. قلت: فأين مسكنك؟ قال: مساقط الحمى، حمى ضرية بأرض [لعمر الله] ما نريد بها بدلا، ولا عنها حولا. قد نفحتها العدوات وحفتها الفلوات. فلا يملولح ترابها ولا يمعر جنابها. ليس لها أذى ولا قذى [ولا عك ولا موم] ولا حمّى. فنحن فيها بأرفه عيش وأوسعه. قلت: وما طعامكم؟ قال: بخ بخ. عيشنا والله عيش تعلل جاذبه (؟) وطعامنا أطيب طعام وأهنأه وامرأة: الفت والهبيد والفطس والصلب والعنكف [والظهر] والعلهز والذآنين [والطراثيث] والعراجين والحسلة والضباب. وربما أكلنا القد واشتوينا الجلد. فما نرى أن أحدا أخصب منا. فالحمد لله على ما بسط من الرزق ورزق من حسن الدعة. أو ما سمعت بقول قائلنا وقد كان عالما بلذائذ العيش وطيبه: إذا ما أصبنا كلّ يوم مذيقة ... وخمس تميرات صغار كوانز فنحن ملوك الناس شرقا ومغربا ... ونحن أسود الناس عند الهزاهز وكم متمنّ عيشة لا ينالها ... ولو ناله أضحى به جدّ فائز [122 ب] الفث: نبات أسود. والعنكث: نبت. والذآنين. والحسل: ولد الضب. وقال بعضهم: من امارات العاقل ألفه لإخوانه وحنينه إلى أوطانه.

وقال أعرابي وقد سئل عن بلده: كيف لا أشتاق إلى رملة كنت رضيع غمامها وربيب طعامها. وقالوا: السرور لزوم الأوطان وتآلف الجيران ومنادمة الإخوان. وأنشدني صديق لي: كفى حزنا أنّي ببغداد نازل ... وقلبي بأكناف الحجاز رهين إذا عنّ ركب للحجاز استفزّني ... إلى من بأكناف الحجاز حنين وتالله ما فارقتهم قاليا لهم ... ولكنّ ما يقضى فسوف يكون وقال آخر: بأكناف الحجاز هوى دفين ... يؤرّقني وقد هدت العيون أحنّ إلى الحجاز وساكنيه ... حنين الإلف فارقه القرين وأبكي حين يهدأ كلّ خلق ... بكاء بين زفرته أنين وما جاران مؤتلفان إلّا ... ستفرق بين جمعهما المنون وأنشد لأبي هلال الأسدي: أشاقتك الشمائل والجنوب ... ومن علو الرياح لها هبوب أتتك بنفحة من شيح نجد ... تضوّع والعرار بها مشوب ومن بستان إبراهيم غنّت ... حمائم تحتها فنن رطيب فقلت لها وقيت سهام رام ... ورقط الريش «1» مطعمها القلوب كما هيجت ذا طرب حزينا «2» ... إلى أوطانه فبكى الغريب وقالوا: إذا أردت أن تعلم وفاء الرجل ودوام عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وبكائه على ما مضى من زمانه.

وقالوا: أكرم الخيل أجزعها من السوط، وأكيس الصبيان أشدّهم بغضا لكتّاب، وأكرم الصبايا أشدّها ولها إلى أولادها. وأكرم الإبل أشدها حنينا إلى [123 أ] أعطانها، وأكرم المهارة أشدها ملازمة لأمهاتها. وخير الناس أحب الناس للناس. وأفضل المماليك، الصغار لأنهم أسرع طاعة وأسرع قبولا. وروي عن حليف بن جعفر الربعي «1» قال: أردت الخروج إلى أخوالي بخراسان. فقلت: والله لا خرجت حتى أجدّد لي على سيدي [عهدا] «2» . فدخل. فو الله ما كان بين دخوله وخروجه إلّا لمحة لامح، فدخلت وسلمت فردّ السلام ورحب. فبأبي هو وأمي. ما رأيت أحدا أنس إلى أوليائه ومحبيه وشيعته منه. فضاحكني سرورا منه بي. ثم قال: ما جاء بك يا حليف؟ قلت: بأبي أنت وأمي، إني أردت الخروج إلى خراسان لزيارة أخوالي. وإني جئت مستشيرا فأشر عليّ، وأوجز وأطل. فأنت أولى مني بنفسي، لعلي أتعظ بموعظتك ووصيتك، أن تداركني عند آناء الليل والنهار فتنجيني من الموبقات وتردّ عني المعضلات. فقال عليه السلام: أما إنك لتجاوز النهر الأغر والبلدة الملعونة، شرارها شرار الخلق، وخيارها كالتمر المعلق فوق عراجين النخل أمّا الناظر لا يناله من بعد. هيهات لا يدركه إلّا بفراق التراقي. فإذا جاوزتها فلا تأسفنّ عليها. هذه بغداد. يوشك أن يبعث الله فيها غلاما منا أهل البيت «3» ولن يؤمن من أهلها إلّا القليل. أما إنك ستجاوزها إلى بلد تقطع دونه آكاما وأودية حتى تبلغ مدينة يقال لها حلوان، شرارها كالذر وخيارها كالدر. يدفع الله من شرارها بخيارها. أما إنك ستجاوز منها عقبة كؤودا تشرف على مدينة يقال لها همذان، شرارها شرار الخلق وخيارها كالشمس بين الغيم، إذا غابت لم يعرف مكانها وإذا

طلعت اهتدي إليها لحسنها. أولياء الله في شواهق جبالها. هل رأيت يا حليف طالب خير إلّا ناله؟ وهل رأيت مجانبا للشر إلّا أقصي عنه؟ كل حزب بما لديهم فرحون. كل نفس بما كسبت رهينة. ألم تر يا حليف أعمى يمشي على ظهر طريق مستقيم؟ ألم تر أعجم ينطق بالحق؟ قال حليف: بلى. قال: تلك يكشفها النور. يهدي الله لنوره من يشاء [123 ب] ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون. أما إنك ستجاوز منها جبالا وأودية حتى تشرف على مدينة يقال لها الري. إذا ذكرت القرى فنسيها الله ولا ذكرها. فإن بها مصارع الأخيار. والله لأهلها- إلّا بعضهم- أشدّ حنقا علينا من كفرة بني إسرائيل على موسى عليه السلام. يقتل فيها رجالنا ويستحلّ بها شتمنا. أفلهم فينا ثأر فيقيدونا بثأرهم؟ أم لهم قبلنا حق فيطالبونا بحقهم. منعوا حق الله من مال الله قسرا ومنعونا خمس الله فلم ننازعهم. أفحكم الجاهلية يبغون؟ الله بيننا وبينهم عند إقامة الميزان الذي لا يبخس فيه حق المحقين عند جحود المبطلين. فو الله لا تزال تلك العصابة على هذا حتى يبعث الله عليهم نقما منا أهل البيت يقوم. لا خلاق لهم. تقتل فيها رجالهم وتفنى أموالهم وتسبى ذراريهم ويتواتر الشرّ عليهم. سمعت جدي صلى الله عليه بأثره عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: هيهات هيهات معاشر الأمّة! لتأمرنّ بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليسلطنّ الله عليكم شراركم. فعندها يدعو خياركم فلا يستجاب لهم. [هاتوا برهانا] «1» ويحكم كبرهاننا. فإن لم تأتوا ببرهان فقولوا صدقت. فإن الله لا يستحيي من الحق. وإن الله عزّ وجلّ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا. ويحك يا حليف فهذه الري فلا تسكنها، ودار البلاء فلا تلجها. وإذا قاربتها فحد عنها فإنها مصرع البلاء. أما إنك ستجاوز منها أودية حتى تشرف على مدينة مدت إليها أعناقها

الشياطين من الجن والإنس يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. أولئك أهل نيسابور. أنساك الله ولا ذكّرك الاعتذار. وإن أعلام بيض «1» . سيميت بها قلوب الفجار كما يذوب الملح في الماء. فعند ذلك فليسكنها الأبرار من أوليائنا. صحبك الله يا حليف حيثما توجهت. وقال ابن عياش: كانت الفرس تقسّط على آذربيجان وطبرستان ودباوند وقرميسين ومهرجانقذق [124 أ] وقومس وحلوان والري وهمذان. ولم تكن إصبهان تدخل في هذا التقسيط ثلاثين ألف درهم. وقبّل عبيد الله بن سليمان في سنة أربع وثمانين [ومائتين من التنّائين] بمائة وسبعين ألف دينار بالكفاية على أن لا مؤونة على السلطان. وهي 2/66 أربعة وعشرون رستاقا منها: همذان. فراوار. وقهبايه وأنارمرج وشنسار وشراة العليا وشراة الميانج والاسفيدحان وقجر وأنانجر وأرغير والمفازة والأجم والأعلم وأزنارد وسمين روذ وسرد روذ، ومهروان واسفنداباد وكوزر دره ساوة. وكان منها نسا وسلقانرود وخرقان. ثم نقلت إلى قزوين وهي سبعمائة وستين قرية. وعملها من باب الكرج إلى سيسر طولا. وعرضها من عقبة أسدآباد إلى ساوة «2» . وحدّث زياد بن عبد الرحمن البلخي عن أشياخ من أهل سيسر، أنها سميت بهذا الاسم لأنها في انخفاض من الأرض بين رؤوس آكام ثلاثين. فقيل ثلاثون رأسا. وكانت سيسر تدعى صدخانية لكثرة عيونها ومنابعها. ولم تزل وما والاها مراعي لمواشي الأكراد وغيرهم حتى أنفذ المهدي إليها مولىّ له يعرف بسليمان بن قيراط- وأبوه صاحب الصحراء التي تسمى صحراء قيراط ببغداد- ومعه شريك له اسمه سلام ويعرف بالطيفوري- وكان طيفور مولى المنصور فوهبه للمهدي- ثم إن الصعاليك والدعّار انتشروا بالجبل وجعلوا هذه الناحية لهم ملجأ. فكانوا يقطعون ويأوون إليها، فلا يطلبون لأنها من حدّ همذان إلى الدينور وآذربيجان. فكتب

سليمان بن قيراط وشريكه إلى المهدي يعرفانه ما قد اجتمع في أيديهم من الأغنام والمواشي والدواب التي في المروج والحيطان. فوجّه إليهما جيشا وأمرهما ببناء حصن يأويان إليه مع الأغنام والمواشي والدواب. فبنيا مدينة سيسر وحصّناها وأسكناها الناس. 2/67 ثم ضمّ السلطان إليه رستاقا من الدينور يقال له ما ينمرج ورستاقا آخر يقال له الجوذمة من آذربيجان من كورة برزة [124 ب] وولاها عاملا مفردا. فلم يزل على ذلك إلى أيام الرشيد. فإن الصعاليك كثروا بهذه الناحية وزاد أمرهم. وكان حصن سيسر قد تشعّث. فعرف الرشيد ذلك. فأمر ببناءها وتحصينها ورتّب فيها ألف رجل [من أصحاب خاقان الحارثي السغدي- وفيها اليوم قوم من أولادهم] «1» . فلما كان في آخر أيام الرشيد تغلّب مرة بن أبي مرّة العجلي عليها، فحاول عثمان الأودي مغالبته فلم يقدر عليه [وعلى ما كان في يده من آذربيجان] «2» . ولم يزل مرة بن أبي مرة يؤدي الخراج عن سيسر في أيام الأمين على مقاطعة معلومة إلى أن وقعت الفتنة فمنع ما قوطع عليه. فلما استقر الأمر للمأمون أخذت من مرة وأخرجت عن يده وجعلت في ضياع الخلافة. ومن العجائب التي بهمذان: أسد من حجر على باب المدينة يقال إنه طلسم للبرد من عمل بليناس صاحب الطلسمات حين وجّهه قباد الأكبر لمّا أراد أن يطلسم آفات البلاد. ويقال إن الفارس كان يغرق بفرسه في الثلج بهمذان لكثرة ثلوجها وبردها. [فعمل بها الأسد وهي صورة أسد عظيم من حجارة بحذاء أروند جبلها المطلّ عليها] «3» 2/68 قلّ ثلجها وصلح أمرها. وعمل أيضا على يمين الأسد طلسما للحيات فقلّت. وآخر للعقارب فنقصت وآخر للغرق فأمنوه. وآخر للبراغيث فهي قليلة جدا بهمذان.

ولمّا عمل بليناس هذه الطلسمات بهمذان استهان به أهلها ولم يلتفتوا إليه فاتخذ على جبلهم الذي يقال له أروند طلسما مشرفا على المدينة للجفاء والغلظ فهم أجفى الناس وأغلظهم طبعا. وعمل آخر للغدر، فهم أغدر الناس. ولذلك حوّلت الملوك الخزائن عنها خوفا من غدر أهلها. واتخذ طلسما آخر للحروب والعساكر لتكثر بها فليست تخلو من عسكر أو حرب. قال: وأنشدني محمد بن أحمد المعروف بابن الحاجب لنفسه في الأسد الذي على باب همذان: ألا أيها الليث الطويل مقامه ... على نوب الأيام والحدثان أقمت فما تنوي البراح بحيلة ... كأنّك بوّاب على همذان أطالب ذحل أنت من عند أهلها ... أبن لي بحق واقع ببيان أراك على الأيام تزداد جدّة ... كأنّك منها آخذ بأمان [125 أ] أقبلك كان الدهر أم كنت قبله ... فنعلم، أم ربيّتما بلبان؟ وهل أنتما ضدّان كل تفرّدت ... به نسبة أم أنتما أخوان؟ بقيت فما تفنى وأفنيت عالما ... سطا بهم موت بكلّ مكان فلو كنت ذا نطق جلست محدّثا ... 2/69 فحدثتنا عن أهل كلّ زمان ولو كنت ذا روح تطالب مأكلا ... لأفنيت أكلا سائر الحيوان أجنّبت شرّ الموت أم أنت منظر ... وإبليس حتى يبعث الثقلان؟ فلا هرما تخشى ولا الموت تتّقي ... بمضرب سيف أو شباة سنان وعما قليل سوف تلحق من مضى ... وجسمك أبقى من حرا وأبان

وأنشدني أبو محمد عبد الله بن محمد بن زنجويه يذكر فيها الأسد وكل صورة مشهورة في الأرض «1» : أأرقت للبرق اللّموع اللّائح ... وحمائم فوق الغصون نوائح أم شاقك الطّيف الملمّ ببينه ... فظللت ترعى كلّ نجم لائح أم قد ذهلت بليث غاب رائع ... مذ كان عن همذان ليس بنازح موف على صمّ الصّخور كأنّه ... يبغي الوثوب على الغزال السانح في الصّيف تحرقه السّموم وبعدها ... برد الشتاء بزمهرير لافح وإذا الرّياح عصفن من أروندنا ... خلت الهرير بمثل ترس الرامح وإذا الرّعود تتابعت بسحابة ... لقي الزماهر بالمجنّ الكالح 2/70 وإذا الربيع تتابعت أنواؤه ... وتنفّست أنواره بروائح ألفيته متبسّما لنسيمها ... ومحيّيا أروند فعل مصافح لو كان يفهم عنك خبّر بالذي ... أفنى الدّهور وكلّ أمر فادح ولقال إنّ المرء ينقذه التّقى ... ونجاته قصد الطريق الواضح تمضي الدّهور وما يروم فريسة ... فعل الطمرّ الكسرويّ القارح شبديز إذ هو واقف في طاقه ... يعلوه برويز بحسن واضح ما إن تراه عليه في غلوائه ... يوم الهياج ولا الطمرّ بسابح برويز عن شبديز ليس ببارح ... والليث عن همذان ليس ببارح وكذا بتدمر صورتان تعانقا ... في الحسن أشبهتا ببنتي ضارح لا يسأمان من القيام وطال ما ... صبرا على صرف الزمان الكادح وبأرض عاد فارس يسقيهم ... بالعين عذبا كالفرات السائح 2/71 فإذا انقضى الشهر الحرام وطفّحت ... تلك الحياض تجفّ عين الرامح

وبأرض وادي الرّمل بين مهامه ... يلقاك قبل الحتف نصح الناصح طرف هنالك باسط بيمينه ... أن ليس بعدي مسلك للسائح وبفارس سابور صوّر عبرة ... فكأنّه يصغي لمدح المادح خذها إليك وقل مقالة عادل ... ليس الضّنين بعلمه كمسامح قد كنت قلت قصيدة سوّغتها ... من رابها بتجالد وتكافح سينيّة فجعلتها حائيّة ... فيها عجائب من صحيح فاتح فإذا أبيت جعلتها ضاديّة ... من جوهريّة ما تجنّ جوانحي] «1» وقد كان المكتفي همّ بنقل الأسد من باب همذان إلى بغداد، وذلك أنه نظر إليه فاستحسنه وكتب إلى عامل البلد [حمد بن محمد] يأمره بذلك. فأجمع وجوه أهل الناحية وقالوا: هذا طلسم لبلدنا من آفات كثيرة ولا يجوز قلعه فيهلك البلد. فكتب العامل بذلك إلى الوزير وقد كان كتب إليه أن قدّر النفقة عليه فإنّا نوجه لحمله الفيلة تحمله على عجل. 2/72 فلما ورد كتابه على السلطان بانتقاض أهل البلد من ذاك وفي الكتاب أيضا أنه لا يستوي حمله، للجبال والعقاب التي في الطريق لا سيما في الحدود. فأجابه أن أضرب عن حمله. والعامة تزعم أن الأسد مما عملته الجن لسليمان بن داود عليهما السلام. وعلى جبل نهاوند طلسمان وهما صورة ثور وسمكة من ثلج لا يذوبان شتاء ولا صيفا وهما ظاهران مشهوران يراهما الناس. ويقال إنهما للماء حتى لا يقل بنهاوند ما في ذلك الجبل. فأما ذلك الجبل فينقسم نصفين: نصف يأخذ إلى نهاوند ونصف يأخذ في الغرب حتى يسقي رستاقا يعرف برستاق الأشتر. وبنهاوند قصب تتخذ منه ذريرة وهي هذا الحنوط، فما دام بنهاوند وشيء من رساتيقها فهو والخشب بمنزلة واحدة لا رائحة له. فإذا حمل منها وجاوز العقبة [125 ب] التي يقال لها عقبة الركاب، فاحت رائحته وزالت الخشبية عنه.

وقد ذكر مثل هذا عن التفاح الشامي وأنه يحمل من الشام وليست له رائحة. ولا يزال كذلك يتخذ في الفرات فإذا انحدر فاحت رائحته وذكت. وهي شيء صحيح لا يتمارى فيه اثنان من أمر الذريرة وأمر التفاح. وبنهاوند موضع يقال له وازواز البلاغة [في رستاق الاسفيدهان] «1» فيه حجر فيه ثقب يكون فتحه أكثر من شبر يفور منه الماء في كل يوم مرة أو مرتين. فيخرج وله صوت عظيم وخرير هائل فيسقي أرضين كثيرة، ثم يتراجع حتى يدخل ذلك الثقب وينقطع. وذكر ابن الكلبي أن هذا الحجر مطلسم بسبب الماء لا يخرج إلّا وقت الحاجة ثم يغور حين يستغنى عنه. ويقال إن الأكّار يجيء إليه وقت الحاجة ومعه المرّ فيقف بإزاء الثقب ثم ينقره بالمرّ دفعة أو دفعتين فيفور الماء بدويّ شديد. فإذا سقى ما يريد وبلغ منه حاجته، تراجع إلى الثقب وغار فمه إلى وقت الحاجة إليه. قال: وهذا مشهور بالناحية ينظر إليه كل من أحب ذلك وأراد. وبنهاوند أيضا أعجوبة مشهورة. وهي صخرة عظيمة في جبلهم يقال لها كلان. فمن غاب له غائب أو أبق له آبق أو كان له عليل أو سرق منه شيء جاء إلى الصخرة ونام عندها. فإنه يرى أيّ هذه الأمور أراد على الصورة التي هو عليها من الخير وغيره. ويوجد على حافتي نهرها طين أسود للختم، وهو أجود ما يكون من الطين وأشده سوادا وتعلّكا. يزعم أهل الناحية أن السراطين تخرجه من جوف النهر وتلقيه على حافته ويقولون إنهم لو حفروا في قرار النهر وجوانبه مائة ذراع وأكثر ما وجدوا منه شيئا إلّا ما تخرجه السراطين. وحدثني رجل من أهل الأدب قال: رأيت بنهاوند فتى من الكتّاب وهو شبيه بالساهي فقلت له: ما حالك؟ فقال:

يا طول ليلي بنهاوند ... مفكرا في البثّ والوجد فمرة آخذ في منية ... لا تجلب الخير ولا تجدي ومرة أشد وبصوت إذا ... غنيّته صدّع لي كبدي قد جال هذا الدهر في جولة ... فصرت منها ببروجرد [126 أ] كأنني في خانها مصحف ... مستوحش في كفّ مرتدّ الحمد لله على كلّ ما ... قدّر من قبلي ومن بعدي وفي رستاق من رساتيق نهاوند قرية يقال لها كنخواست على تلّ لها صورة فرش من الحشيش الأخضر يراه الناس في الشتاء والصيف ناضر الخضرة لا يتغير يقال انها طلسم للكلأ فهي أكثر بلاد الله حشيشا. وبهمذان صخرة عظيمة في موضع يقال له تبنان «1» من دار نبهان. وهذه الصخرة في سفح جبل وقد نقر فيها طاقان مرتفعان يكونان على قامتين وبسطة من الأرض يقال [له] نبشت خزايان. قد نقر في كل واحد من هذين الطاقين مثل الألواح في كل واحد منها عشرون سطرا منقورة مكتوبة بكتابة تعرف بالكشتج. فيقال إن الإسكندر اجتاز بهمذان ونظر إلى هذه الصخرة وحسنها وارتفاعها وملاستها في سفح هذا الجبل، فأمر بنقر الطاقين فيها وكتب ما هو مكتوب. وقد ذكر جماعة من علماء الناحية أنهم لا يعلمون من عمل الطاقين وكتب الكتابة لأنها قديمة. وان الإسكندر اجتاز بالموضع ونظر إلى الصخرة وما عليها من الكتابة فاستحسن ذلك. وأمر بقراءة ما على اللوح فقرأت وكانت: الصدق ميزان الله الذي يدور عليه العدل. والكذب مكيال الشيطان الذي يدور عليه الجور. وهما يتعالجان «2» ويتعاقبان ويتعاوران في العباد والبلاد. فإذا رجح الصدق بالكذب رجح

العدل بالجور. وإذا حال الكذب بالصدق، مال الجور بالعدل. فأطبقت الأرض ذنوبا. فقولوا الصدق ولو بمقياس شعرة، فإنه نور من نور الله. واجتنبوا الكذب ولو بمقياس شعرة فإنه عدة من عدد الشيطان. واصدقوا من صدقكم يولد الصدق صدقا. ولا تكذبوا من كذبكم فيولد الكذب كذبا. فإن لهما من طبائعهما وجنسهما لقاحا ولهن حلبا. فحلب الصدق ولقاحه لمن تمسك به النجاة. وحلب الكذب ولقاحه لمن تمسك به الهلكة. وثمرة ذاك داء. وثمرة هذا دواء. فكونوا أيها الحكماء صدّيقين تمتلئ أفواهكم نورا، ولا تكونوا كذابين فتغلب على ألسنتكم اللعنة. 2/73 فإني افتتحت بالله كلاما كنت به صادقا فمشيت على الماء وافتتحت [126 ب] بالشيطان كلاما كنت به كاذبا فهويت في الظلمة. فجعلت توبتي من تلك الكذبة عظتي في هذه الصخرة ليتعظ بي متعظ ويأخذ عن تجربتي آخذ. فخذوا هذه الحكمة الناطقة عن هذه الصخرة الصامتة. [ووقفت أنا وعبد الله بن محمد بن زنجويه بن مهران وهو من بنك دهاقنة همذان وأصحاب ساروق وحصنها، فقرأت عليه خبر الإسكندر فأنشدني لنفسه: قدك عن القهوة والحور ... لست مع الشّيب بمعذور تقدمة الموت مشيب فهل ... أنت عن اللهو بمزجور كم لك يا عاقل من عبرة ... لو نفع الحذر لمحذور كتابة في سفح أروندنا ... في صخرة من عهد سابور الصدق ميزان الجواد الذي ... باليسر يأتي بعد معسور والمين مكيال اللّعين الذي ... أخرجنا من معدن الحور يا أيّها الناطق صدقا لقد ... ملي به فوك من النّور وأيّها الشاهد زورا لقد ... هويت في هوّة دردور إنّي افتتحت القول بالله كي ... أمشي على ساحل ممخور 2/74 فظلت فوق الماء والبحر لي ... والموج في طاعة مأمور وقلت بالشيطان قولا به ... ظللت في ظلمة ديجور

كفاك أنّي تائب واعظ ... في الحجر الصلد عن الزّور خذ هذه الحكمة عن صخرة ... تبقى إلى النفخة في الصور] «1» وقال بعض الحكماء: وجدنا الناس قبلنا كانوا أعظم أجساما وأعظم من أجسامهم أحلاما. وأشدّ قوة وأشد بقوتهم امتحانا. وأطول أعمارا وأطول بأعمارهم للأمور اختبارا. فكان صاحب الدين منهم أبلغ في أمر الدين علما وعملا من صاحب الدين منا. وكان صاحب الدنيا كذلك. ووجدناهم لم يرضوا بما قلّدوا به من الفضل حتى أشركونا معهم بأنفسهم فيما ابتغوا من علم الآخرة والأولى. فكتبوا به الكتب الباقية وكتبوا بها التجارب والفطن وبلغ اهتمامهم بذلك أن الرجل منهم كان يفتح له باب من العلم وكلمة من الصواب وهو بالبلد غير المأهول فيكتبه في صخرة من جبل وعلى باب قصر خراب، ضنّا منه بذلك وكراهية أن يسقط ذلك الباب وتشذ تلك الكلمة على من يأتي بعدهم. فكتبوا الكتب الباقية من العلم وكان صنيعهم في ذلك صنيع الوالد المشفق على الولد البار. وكانوا يعمدون إلى المواضع المشهورة والأماكن المعروفة التي هي أجدر أن تبقى على وجه الدهر وتبعد من الرءوس فيجعلون منها الشيء من الحكم والباب من العلم كما 2/75 كتبوا على قبة غمدان وعلى عمود مأرب وعلى ركن المشقّر وعلى سواري الاسكندرية وعلى إيوان الحضر وعلى الأبلق الفرد وعلى الهرمين وعلى باب الرها وعلى باب القيروان وعلى باب سمرقند وعلى صخرة همذان. المملحة بفراهان: قالوا: ومن عجائب همذان الملاحة التي برستاق يقال لها فراهان. وهي بحيرة تكون أربعة فراسخ في مثلها. فإذا كانت أيام الخريف واستغنى أهل تلك

الرساتيق عن المياه للزراعة، صوّبت سائر المياه إلى هذه البحيرة، فلا تزال تصب إليها سائر الخريف والشتاء، فإذا كان وقت الربيع واحتاج الناس إلى الماء، قطع عنها فصار [127 أ] ماؤها كلّه ملحا. فيأخذه الناس ويحمله الأكراد الجابارقة وغيرهم إلى البلدان فيباع. وزعم ابن الكلبي أن بليناس طلسم هذه البحيرة أن يكون ملحا ما لم يحظر عليها ويمنع الناس. فمتى حظر عليها ومنع الناس منها، نشفت الماء أولا ولم يكن فيها شيء من الملح. وفي هذا الرستاق قرية يقال لها الفردجان وكان فيها بيت نار عتيق. وهي أحد النيران التي غلت فيها المجوس مثل آذرخره، ونار جم الشيذ وهي الأولى ونار ماجشنسف وهي نار كيخسرو. لأن المجوس غلت في هذه النيران غلوا لا تضبطه العقول فقالوا: 2/76 كان مع زردشت ملك يشهد له عند كشتاسف أنه رسول ثم عاد نارا. وأما نار جم الشيذ فهي نار آذرخره، كانت بخوارزم فنقلها أنوشروان إلى الكاريان [في ناحية فارس] «1» . فلما ملكت العرب تخوفت المجوس أن تطفأ فصيروها جزأين: جزء بالكاريان وجزء حمل إلى فسا. لأنهم قالوا إن طفئت واحدة بقيت الأخرى. وأما آذرجشنسف، نار كيخسرو. فإنها كانت ببرزة من آذربيجان، فنظر أنوشروان في ذلك وفكّر فنقلها إلى الشيز لأنها كانت عظيمة عندهم. وفي زمزمة المجوس «2» : إن نار آذر جشنسف يوكّل بها ملك بالبركة،

وبالبركة ملك بجبل يقال له سبلان ملك. وإن هؤلاء الأملاك الثلاثة مأمورون بتأييد أصحاب الجيوش. فقال أنوشروان: لا يمكنني أن أنقل نار آذرجشنسف والبركة إلى سبلان فأجمعهنّ ثلاثتهن. فإذا فاتني هذا فإني أنقل آذرجشنسف إلى هذه البركة ليتعاون الملكان. وأمّا نار زردشت فهي بناحية نيسابور ولم تحوّل، وهي أحد الأصول من نيرانهم. ومما غلت فيه المجوس أيضا، نار آذرجشنسف وهي النار التي بالفراهان. قال المتوكّلي: فحدّثني بعض المجوس ممن رآها أن مزدق «1» لمّا غلب على قباذ قال: ينبغي أن تبطل النيران كلّها إلّا الثلاث الأوائل وتنقل هذه إليهن. ففعل. فذكر أن نار آذرجشنسف خرجت حتى صارت إلى ماجشنسف بآذربيجان فاختلطت معها فكانوا إذا أضرموها ظهرت نار آذر جشنسف حمراء وظهرت ماجشنسف بيضاء إذا دسموها بالشحم. فلما قتل مزدق 2/77 ردّ الناس النيران [127 ب] إلى أماكنها فافتقدوها بآذربيجان. فلم يزالوا يقتفون أثرها حتى وقفوا على أنها رجعت إلى الفردجان. فلم تزل في هذا البيت في هذه القرية إلى سنة اثنين وثمانين ومائتين فإنه صار إليها أبزون «2» التركي- وكان يتولى قم- فنصب على سور القرية المجانيق والعرادات حتى افتتحها وأخرب سورها وهدم البيت وأطفأ النار وحمل الكانون إلى قم فبطلت النار منذ يومئذ. وزردشت «3» شدّد عليهم بالوعيد لمّا رأى من برد بلادهم. ولذلك أمرهم بعبادة النيران، لأن أهل الكلام يزعمون أن زردشت جاء من بلخ فادعى الوحي وأنه

نزل عليه الوحي على جبل يقال له سبلان، وانه حين رأى سكان تلك الناحية الباردة لا يعرفون إلّا الأذى بالبرد ولا يضربون المثل إلّا به ولا يتوعدون إلّا به حتى يقول الرجل لعبد إذا أذنب ذنبا عظيما: لئن عدت إلى مثل هذا لأنزعن ثيابك ولأقيمنك في الريح ولأطرحنك في الثلج. فلما رأى أن موضع البرد عندهم هذا الموقع، جعل الوعيد بتضاعيفه. ويظن أن ذلك أزجر لهم. وقال عبد الله بن زياد «1» : كان سبب عبادة النار عند المجوس أنه لمّا ولد المسيح عليه السلام، رأى الملك الذي كان في وقته للفرس- وقد قيل إنه كان أردشير- كان يرقى نعشا ثم أحرق نجمه. فهاله ذلك وجزع منه، وسأل عن القصة فبلغه خبر المسيح، فأهدى إليه هدية فيها صبر وعسل مع ثلاثة رجال من أهل فارس. فانطلقوا إلى الشام حتى لقوه ودفعوا إليه الهدية، فقبلها. ثم إن المسيح أهدى إلى ملك الفرس ثلاثة أقراص من خبز شعير قربانا مع الرسل وأوصاهم بوصية. فخرجوا من الشام يريدون بلد فارس. فبينا هم في الطريق إذ قال واحد منهم: لو أكل كل واحد منا قرصا من هذه الأقراص فكان يفوز بالفضل الذي فيها، فإن هذا الرجل- يعني المسيح- لم يكن يوجه إلى إلى الملك هذه الأقراص إلّا لفضل عظيم فيها. فتتابع اثنان على ذلك وأكلا قرصيهما. وأبى الثالث أن يفعل. فقالا له: إنّا نخاف على أنفسنا من الملك أن وقف على فعلنا. فإما [128 أ] أن تأكل قرصك وإما أن نقتلك. قال فإني آكله. وأوهمهم ذلك ثم دفنه. وانطلقوا حتى صاروا إلى صاحبهم فقال لهم: ما الذي قال لكم؟ فعرّفوه ما أوصاهم به. قال: فأي شيء وجّه معكم؟ قالوا: لم يوجّه معنا شيئا. فقال: كذبتم. ما كان ليردكم بغير شيء. أصدقوني، ما الذي صنعتم بما أعطاكم؟ فصدقوه عن الأمر، وعرّفه الذي لم يأكل القرص ما فعل به ووصف له المكان الذي دفنه فيه. فقال: انطلق بنا حتى تقفنا على الموضع الذي دفنته فيه. فانطلق والملك معه. فلما صارا إلى

الموضع أوقفه عليه. فأمر أن يحفر المكان ويستخرج القرص، ففعلوا ذلك. فهاجت في وجوههم نار عظيمة منعتهم من استخراجه. فحاولوا ذلك غير مرة وهي تمنعهم. فقال أردشير: بهذه النار أرسلكم. فمن يومئذ عظّمت فارس النار وعبدتها. ورأينا جماعة من علماء المجوس يدفعون هذا ولا يعترفون به ويزعمون أن تعظيم النار قبل مولد المسيح بالدهر الطويل. وقال الجاحظ «1» : من المواضع التي عظمت النار لها، أن الله عز وجل جعلها لبني إسرائيل في موضع امتحان إخلاصهم وتعرّف صدق نياتهم. فكانوا يتقربون بالقربان، فمن كان منهم مخلصا، نزلت نار من قبل السماء حتى تحيط بقربانه فتأكله. ومن لم تأكل النار قربانه، قضوا على صاحبه أنه مذموم القلب فاسد النية. فهذا باب مما عظم الله به شأن النار في صدور الناس. ومنه قول الله عزّ وجلّ وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى: إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً. فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً. وقال في موضع آخر الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. والنار من أكبر الماعون «2» [وأعظم المرافق] ولو لم يكن فيها إلّا أن الله جل وعز جعلها الزاجرة على المعاصي لكان ذلك مما يزيد في قدرها وفي نباهة ذكرها وقال أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ؟ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ

[128 ب] جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ . وقف عند هذا القول. فإن كنت مؤمنا فتذكر ما فيها من النعمة أولا ثم النقمة آخرا، ثم قوّم مقادير النعم وتصاريفها. وقد علمنا أن الله عزّ وجلّ قد عذّب الأمم بالغرق والرياح والحاصب والصواعق والخسف وغير ذلك، ولم يبعث عليهم نارا، كما بعث عليهم ماء وريحا وأحجارا. وجعل النار من عقاب الآخرة. ونهى أن يحرق بها شيء من الحيوان والهوام [وقال: لا تعذّبوا بعذاب الله] . فقد عظّمها كما ترى. وقال عز وجل يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ . فجعل الشواظ والنحاس وهما النار والدخان من الآية. فلذلك قال على نسق الآية فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. ونار أخرى وهي نار إبراهيم عليه السلام التي ألقي فيها فجعلها الله عزّ وجلّ عليه بردا وسلاما. ونار أخرى وهي النار التي كانوا [يستمطرون بها] في الجاهلية فإنهم كانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات واحتاجوا إلى الاستمطار، اجتمعوا وجمعوا ما قدروا عليه من البقر، ثم عقدوا في أذنابها السلع والعشر المشدود في أذناب البقر [وأشعلوا فيها النيران] وضجّوا بالبكاء والدعاء والتضرع. فكانوا يرون ذلك من أسباب السقيا لهم. ولذلك قال الشاعر «1» : لا درّ درّ رجال خاب سعيهم ... يستمطرون لدى الأزمات بالعشر أجاعل أنت بيقورا مسلّعة ... ذريعة لك بين الله والمطر ونار أخرى كانوا يوقدونها عند التحالف والتعاقد، فيذكرون منافعها ويدعون الله بالحرمان والمنع من منافعها على الذي ينقض العهد ويخيس العقد. وربما دنوا من النار حتى تكاد تحرقهم. ويهوّلون بذلك على من يخافون غدره. وقال الكميت:

كما شبّ نار الحالفين المهوّل «1» ونار أخرى يوقدونها خلف المسافر الذي لا يرون أن يعود من سفره. ونار أخرى وهي نار الحرّتين، وهي نار خالد بن سنان أحد بني مخزوم من بني قطيعة بن عبس- وكان يقال نبي- ولم يكن في بني إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام نبي قبله. وهو الذي [129 أ] أطفأ نار الحرة وكانت ببلاد بني عبس حرة تسطع بالنهار دخانا وتتقد بالليل نارا، وربما ندرت منها العنق «2» فأتت على كل شيء تناله. وكان أهل تلك الأرض منها في بلاء عظيم حتى بعث الله خالد بن سنان فساقها بعصاه حتى أدخلها بئرا كانت بالحرة، ثم اقتحم معها البئر حتى غيّبها ثم خرج. وقد ذكرنا أخباره في كتاب العجائب. والمتكلّمون يدفعون أمر خالد ويقولون كان أعرابيا وبريا من أهل شرج وناظرة، ولم يبعث الله نبيا قط من العرب الذين ينزلون البادية ويسكنون بيوت الوبر. وإنما يبعثهم من القرى وساكني المدر. قال خليد عينين العبدي: وأيّ نبيّ كان في غير قومه ... وهل كان حكم الله إلّا مع النخل وأهل الكتاب يزعمون أن الله أوصاهم بالنار وقال (لا تطفئوا النار من بيوتي) . فلذلك لا تجد الكنائس وجميع بيوت العبادة تخلو من نار موقدة في سرج وقناديل ليلا ونهارا. وأما المجوس فإنهم لم يرضوا بمصابيح أهل الكتاب حتى اتخذوا للنيران البيوت والسدنة ووقفوا عليها الغلات الكثيرة. وهم يقدمون النار في التعظيم على الماء ويقدمون الماء في التعظيم على الأرض ولا يكادون يذكرون الهواء.

وما زالت السدنة تحتال للناس من جهة النيران بأنواع الحيل كاحتيال رهبان كنيسة القيامة ببيت المقدس بقولهم إنهم في بعض الأعياد يطفئون سائر القناديل التي في البيعة، وإن نارا تنزل من السماء حتى تلهب قنديلا قد جعلوه لذلك، وإن النار التي تلهبه تكون مضيئة ليست لها حرارة، فكلما ألهب منها قنديل آخر أخذت في الاحمرار والحرارة حتى تعود إلى الطبع. وكما قالت المجوس في آذر جوي وشق حين بنوا الكانون على قيّارة ونفّاطة. ونيران أخر منها: نار البرق ونار الحباحب وهي اليراعة. واليراعة دودة خضراء تكون في آخر الربيع تطير بالليل كأنها شرارة نار، فإن أخذها آخذ وجعلها في يده ونظر إليها [كانت] «1» كأنها نار. وأهل القرى يجعلونها على جباههم يلعبون بذلك. وهي بالنهار دودة خضراء. ويقال إن بطلا أراد السلطان معاقبته، فأقامه في ماء بعض النهار [129 ب] وكانت ليلة باردة كثيرة الثلج. فنظر إلى مصباح في القرية فوضع عينيه عليه، ولم يزل في الحياة حتى خمد المصباح. فلما خمد المصباح مات الرجل من وقته، وكانت حياته بنظره إلى النار. وذكر الله عزّ وجلّ فضل النار في عدة مواضع من كتابه، من ذلك قوله الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ . فجعلها أعظم من الماعون معونة وأخفها مؤونة. والماعون الأكبر الماء والنار ثم الكلأ والملح. والوجه الآخر من الامتنان بالنار قوله يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ ... الآية. وليس يريد أن إحراق العباد بالنار من والآية ونعمائه، ولكن أراد بالوعيد الصادق، إذ كان في غاية الزجر فهو من النعم السابغة والآلاء العظام. وكذلك القول في خلق جهنم إنه نعمة عظيمة ومنّة جليلة، إذ كان زاجرا عن نفسه ناهيا، وإلى الجنة داعيا.

ذكر ما خص الله تعالى كل بلدة بشيء من الأمتعة دون غيرها

ثم بالنار يعيش أصل الأرض من وجوه، فمن ذلك صنيع الشمس في البرد والماء والأرض. ولأنها صلاح جميع الحيوان عند حاجتها إلى دفع عادية البرد، ثم سراجهم الذي يستصبحون وبضيائه يميزون الأمور. وفي الأرض عيون قار وعيون زئبق وعيون نفط وكبريت، ومعادن ذهب وفضة ورصاص ونحاس وحديد. فلولا ما في بطن الأرض من أجزاء النار، ما ذاب في قعرها جامد ولما انسبك في معادنها شيء من الجواهر، ولما كان لقواها جامع ولخبثها مفرّق «1» . ثم رجع بنا القول إلى ذكر البلدان. قالوا: وفي بعض رساتيق همذان عيون ماء تنبع، فإذا جرى من مكانه وزال عن موضعه تحجّر وصار صخرا تبنى به الأبنية. وقيل أيضا إن الشب اليماني إنما هو ماء يقطر من كهوف في جبال باليمن، فإذا وقع إلى الأرض استحجر وصار شبّا وحمل إلى سائر البلدان. وكذلك النوشاذر ومعدنه كهف بكرمان. وزعموا أنه بخار يتكاثف في ذلك الكهف، فإذا اجتمع خرج إليه السلطان وأهل البلد فجمعوه وأخذ السلطان حصة منه وسلّم الباقي إلى أهل البلد فتوزّعوه على رسوم قد تراضوا بها. 2/82 ذكر ما خصّ الله تعالى كل بلدة بشيء من الأمتعة دون غيرها وقال بعض العلماء: لولا أن الله عزّ وجلّ بلطفه خصّ كل بلد من البلدان وأعطى كل إقليم من الأقاليم شيئا قد منعه غيره، [130 أ] لبطلت التجارات

وذهبت الصناعات ولما تغرب أحد ولا سافر إنسان ولتركوا التهادي فيما بينهم ولذهب الشرى والبيع والأخذ والإعطاء. إلّا أن الله جلّ وتقدس أعطى كل صقع نوعا من الخيرات لم يعطه الصقع الآخر ليسافر هذا إلى بلد هذا، فيحمل متاع أرضه. وهذا إلى مدينة هذا فيحمل عجائب مدينته. وقيل في قول الله عزّ وجلّ وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أنه أراد بها جعله في بلد دون بلد، مثل الكاغذ بسمرقند 2/83 والقرطاس بمصر. ولذلك خصّ بلاد الهند بأنواع الطيب والجواهر واليواقيت وأشباه اليواقيت وغير ذلك من الأحجار المثمنة. ولهم أصناف الطيب كالعود والعنبر والكافور والقرنفل والخولنجان والدارصيني وغير ذلك من أنواع الطيب. ولهم الصندل والتوتياء والهليلج وأنواع كثيرة لو ذكرناها لطال بها الخطب ولخرج الكتاب من الغرض الذي قصدناه. ولهم القثاء والخيزران والبقّم والصندل الأحمر والأبيض، ولهم الساج والفلفل. وفي بلادهم الطواويس والفيلة والكركدن. وقد خصّ الله أهل الصين بإحكام الصناعات وأعطاهم منها ما لم يعط أحدا، فلهم الحرير الصيني والغضائر الصيني والسروج الصيني وغير ذلك من الآلات المحكمة العجيبة الصنعة المتقنة العمل. ولهم أيضا مسك إلّا أنه ليس بجيد. وقالوا إنما يتغير في البحر لطول المسافة. ثم الروم وما قد خصهم الله به من العلوم والآداب وما قد أعطوا من الهندسة والفلسفة والحذق بالأبنية والمصانع واتخاذ الحصون وعقد القناطر والجسور وعمل الكيمياء والكساء الرومي والفرفير والبزيون. وفي بلادهم الميعة والمصطكى. ثم النوبة وما قد خصّوا به من جودة الرمي وما قد انفرد به بلدهم من العجائب. ولهم الخيل العجيبة والنجب التي تسبق الخيل. ولهم الكلاب التي تقاتل الأسد. وكذلك البجة وفي بلدهم معدن الزبرجد ومعدن الذهب، وزيّهم زي العرب كأنهم من رجال اليمن.

2/84 ولأهل المغرب البغال البربرية [130 ب] والجواري الأندلسيات والنمور الزنجية. ثم ما قد خصّ به أهل مصر، من النيل وعجائب ما فيه من طرائف السمك والتماسيح، ولهم السمك الرعّاد إذا وقع في شبكة الصياد ارتعدت يده ولم يملك من أمره شيئا حتى يخلي هذا النوع من شبكته. ولهم السقنقور وخاصيته في الجماع لا تدفع. ولهم الثياب الدبيقية والشطوية، والأردية التي تكاد سلوكها تختفي عمن نظر إليها. ويقال إن نساجيها أوسخ الناس وأقذرهم، وهم يأكلون الأطعمة الكريهة الروائح من السموك المملحة واللحوم الغثة ولا يغسلون أيديهم وتنتن روائحهم. وإذا قطعوا الثوب بعد ما قد ناله من وسخهم ودرن أبدانهم ما لا يوصف، وجد في نهاية الحسن وطيب الرائحة. وكذلك أيضا نساجي الديباج بتستر وحاكة الخز بالسوس على ما وصفنا من القذر والنتن والرائحة الكريهة والوسخ، وتخرج الثياب من أيديهم وهم ينسجون هذه الثياب التي تخفى دقة من الحسن والرائحة بغير أثر ولا تغير. وهذه خاصيته يشكل أمرها على سائر من تفقدها وأراد الوقوف على العلة فيها. ولهم أيضا ضروب أخر من الثياب، منها المسيّر، وهم أحذق الناس بعمل ثياب الصوف والأكسية. ولهم البغال المصرية والحمر المرّيسية والثياب التنيسية والاسكندرية. ولأهل اليمن الحلل اليمانية والثياب السعيدية والبرد العذيبية. والعدنية. وفي بلادهم الورس والكندر. ولهم النجائب المهرية والسيوف اليمانية. وفي بلادهم القردة والنسناس وغير ذلك من أنواع العجائب. ثم العراق وسط الأرض وخزانة السلطان ودار المملكة. وما قد أعطي أهل الكوفة من عمل الوشي والخز وغير ذلك من أنواع الثياب

والأمتعة والتمور، فإن فيها من أنواع التمور والقسوب ما قد عدم مثله بالبصرة والأهواز وبغداد والحجاز. فمن تمورهم الهيرون والنرسيان والقسب العنبري والآزاذ وغير ذلك. ثم قل في عجائب بغداد التي قد اجتمع فيها ما هو مفرّق في جميع أقاليم الأرض من أنواع [131 أ] التجارات والصناعات. فلهم الذي لا يشركهم فيه أحد: الثياب المروية والملحم والقيراطي وغير ذلك. ولهم أنواع الزجاج المحكم من الأقداح والأقحاف المخروطة والمجرودة التي تختار على البلور لرقتها وصفاء جوهرها. ولهم الدارشي واللكاء «1» وفيهما أعجوبة لا يوقف عليهما ولا يدرى ما العلة فيها. وذلك أن اللكاء إن عمل في الجانب الذي يعمل فيه الدارشي لم يستو بنفسه ولا يكون منه شيء. 2/85 وكذلك الدارشي أيضا إن عمل في الجانب الذي يعمل فيه اللكاء انفسد. وقد عمل ذلك غير مرة فكان كما قلنا في الفساد. ومثل هذه أشياء كثيرة منها القراطيس التي تعمل بمصر فإنها لا تستوي إلّا بمصر دون غيرها من سائر البلدان. وقد نقل صنّاعها المعتصم من مصر إلى سرمرّى، فما استوى لهم منها إلّا شيء رديء ولا يحرّر المكاتبة فيه. وكذلك أيضا البطيخ الناعوري، فإنه لا يكون جيدا إلّا في ضيعة من ضياع الموصل تعرف بالناعور. وقد حرص المعتضد على أن يستوي ببغداد وحمل مع بذره ترابا من تربته وماء من العين التي تسقيه فلم يفلح. فسأل عن العلة في ذلك، فقيل: التربة. قال: قد حملنا منها. قيل: فالماء. قال: قد أمرنا بحمله في السفن المقيّرة فحمل ولم ينجب. قيل: فهو الموضع. قال: هذا لا حيلة لنا فيه. ثم ما قد خصت به كور دجلة والسواد وميسان ودستميسان من عمل الستور والبسط. وقد خصت البصرة من بين البلدان بكثرة النخيل وأنواع الأرطاب والتمور.

وذكر بعضهم «1» أن جماعة من أهل المعرفة بالنخل أحصوا أصناف نخل البصرة دون نخل المدينة ودون نخل اليمامة والبحرين وعمان 2/86 وفارس وكرمان والكوفة وسوادها وخيبر وذواتها والأهواز وأعمالها، فإذا هي ثلاثمائة وثمانون ضربا من مغلّ معروف وخارجي موصوف وبديع غريب ومثمن شهير. ثم الأهواز وما قد خصوا به وأعطوا من أنواع السكر وكثرة التمور. وما بالسوس من جنديسابور من أنواع ثياب الخز والديباج وغير ذلك من أصناف الإبريسم [131 ب] والقز. ثم الجبل وعجائبه وما قد أعطي أهله من أصناف الفواكه الشتوية والعجائب البديعة. هذا إلى طيب بلدانه وكثرة مياهه واطراد أنهاره ونضارة أشجاره، وما يتخذ فيه من الألبان والشوابير التي يستعزّ بها ملوك العراق ويستظرفونها ويستهدونها. ولأهل همذان خاصة حذق باتخاذ المرايا والملاعق والمجامر والطبول وغير ذلك من الحديد المذهّب الذي قد فاقوا وفاتوا باتخاذه سائر أهل الأرض. ولأهل الري المسيّر والمنيّر والحرير. ولهم أشياء يتخذونها من الخشب يفوقون بها سائر الناس، ومنها الأمشاط والخفاف والممالح والمغارف. ولهم الأكسية البيض الطرازية. ثم بغداد الثانية، أعني إصبهان وما قد أعطي أهلها من طيب الهواء وعذوبة الماء وكثرة الصناعات وأنواع الخير. ولهم الثياب المروية والعتابية والمفحمة 2/87 والحلل الإبريسمية المنسوجة وغير المنسوجة. والثياب السعيدية «2» .

ثم فارس وكورها وبلدانها ورساتيقها وما قد خصوا به من اتخاذ الآلات الظريفة من الحديد، حتى قال بعض الحكماء وقد نظر إلى أشياء ظريفة عند بعض الملوك من آلات فارس الحديدية: لقد ألان الله لهؤلاء القوم الحديد وسخّره لهم حتى لقد عملوا ما أرادوا. وهم أحذق الناس بعمل المجامع والأقفال والمرايا وتطبيع السيف وعمل الدروع والجواشن. ولهم الثياب الجنابية «1» والسينيزية وغير ذلك. ولأهل سجستان عمل المشارب السجزية وآلات الشبه والصّفر ولهم الجعاب. ولأهل طبرستان والديلم وقزوين وزنجان من عمل الأكسية الرويانية والآملية واتخاذ الشستانك «2» والمناديل وغير ذلك من أنواع ثياب القطن والصوف ما ليس لأحد. ولأهل فارس أيضا الماورد الجوري والطين السيرافي والأدهان السابورية والثياب الكازرونية. ولأهل نيسابور الثياب الملحمة والطاهرية، ولهم الفالح والنواخح «3» وأشياء عجيبة من الثياب ليس لأحد إلّا لهم. ولأهل مرو الملحم والثياب المروية. ولأهل مرو الملحم والثياب المروية. 2/88 وبهراة فواكه ليس في البلدان [132 أ] شيء مثلها. ولهم الزبيب الكشمهاني ثلاثة ألوان: أحمر وأصفر وأخضر. وبها بطيخ يقدد ويحمل إلى بغداد. وقد كان من يحمل من بطيخها إلى

الخلفاء لشدة حلاوته. فكان يحمل في قدور نحاس. ولهم الأشتر غاز والريباس والهليون. وبخراسان الغوشنة والكليكان والرخبين والملبن. وبها معدن الفيروزج واللازورد. ولهم البنجهير، معدن الفضة. ولهم الحزم القوجية والخيل البخارية. ولهم الركب المروية ولهم الاشكر والخلنج ولهم الختو. وبالتبت، المسك التبتي والدرق التبتية. وزعموا أن كل من دخلها لم يزل ضاحكا مسرورا. وباليمن العقيق والبجاذي والجزع وغير ذلك. وبأرمينية: الفرش الأرمني والبسط والستور. فسبحان من أعطى كل بلد نوعا من الخيرات وجنسا من الصناعات ولولا ذلك ما جمعته الملوك من الصفائح اليمانية والقضب الهندية، والرماح البلوصية، والأسنّة الخزرية، والأعمدة الهروية، واللجم الحاربندية، والشعور الصبلية «1» ، والشهاري الأبرازبندية، والبغال الأرمينية، والحمير المريسية، والثياب السعيدية، والكيش الشاشية، والأوتار التركية، والجعاب السجزية، والدرق المغربية، وادبحت «2» الأندلسية، والدرر العمانية، واليواقيت السرنديبية، والكتان المصرية، والملحم الخراسانية، والوشي الكوفية. واعلم أن ببلاد المغرب ومصر وببلاد الجبل وخراسان عجائب لا تكون بغيرها. مثل: منارة الاسكندرية، وعمود عين الشمس، والهرمين، وجسر أزنة، وقنطرة سنجة، وكنيسة الرها، والأبلق الفرد، والمشقّر، وغمدان، وبرهوت، وبلهوت، ومدينة الحضر، وأبنية تدمر، وعجائب فامية، 2/89 والفرس الذي في أقصى المغرب، وما يذكر عن مدينة الصفر، ويحدّث عن قبّة الرصاص، وإيوان المدائن، وتخت شبديز، وأسد همذان، والسمكة والثور بنهاوند، وأبنية إصطخر، وعجائب

منارة ذات الحوافر

رومية، والتمساح، والرّعاد، والسقنقور، وذات الحوافر وغير ذلك من العجائب التي لا تحصى [132 ب] فتبارك الله أحسن الخالقين. منارة ذات الحوافر وكان سنب بناء (ذات الحوافر) بهمذان وهي منارة عالية في رستاق يقال له ونجر بقرية يقال لها أسفجين. 2/78 وكان السبب في بنائها، أن شابور بن أردشير قال له منجّموه إن ملك هذا سيزول وإنك ستشقى أعواما كثيرة حتى تبلغ إلى حدّ الفقر والمسكنة، ثم يعود إليك الملك. قال: وما علامة رجوعه؟ قالوا: إذا أكلت من خبز الذهب على مائدة حديد، فذاك علامة رجوع ملكك. فاختر أن يكون ذلك في شبيبتك أو في كبرك. قال فاختار أن يكون في شبيبته. وحدّوا له في ذلك حدّا، فلما بلغ الحدّ اعتزل ملكه ترفعه أرض وتخفضه أخرى إلى أن صار إلى هذه القرية، فتنكر وآجر نفسه من عظيم القرية. وكان معه جراب فيه تاجه وثيابه، فأودعه الرجل الذي آجره نفسه. فكان يحرث له نهارا ويسقي زرعه ليلا. فإذا فرغ من سقي الزرع طرد الوحش عن الزرع حتى يصبح. فبقي على ذلك سنة. فرأى الرجل منه حذقا ونشاطا وأمانة في كل ما يأمره به. فرغب فيه الرجل واسترجحه فزوّجه بعض بناته. فلمّا حوّلها إليه كان شابور يعتزلها ولا يقربها. فلما أتى لذلك شهر، شكت إلى أبيها فاختلعها منه. [وبقي شابور يعمل عنده. فلما كان بعد حول آخر سأله أن يتزوج ابنته الوسطى ووصف له جمالها وكمالها وعقلها فتزوجها. فلما حوّلها إليه كان شابور أيضا معتزلا لها ولا يقربها. فلما تمّ لها شهر سألها أبوها عن حالها مع زوجها فاختلعها منه] «1» . فلما كان حول آخر وهو الثالث، سأله أن يتزوج ابنته الصغيرة. ووصف له جمالها وعقلها وكمالها. فتزوجها، فلما حوّلت إليه، كان شابور معتزلا لها لا

يقربها. فلما تم لها شهر، 2/79 سألها أبوها عن حالها مع زوجها فأخبرته بأنها معه في أنعم عيش وأسره. قال: ولما رأى شابور صبرها عليه وحسن خدمتها له، دنا منها فعلقت منه وولدت له ابنا. فلمّا أتى على شابور أربع سنين، أحب الله أن يردّ ملكه عليه. فاتفق أن كان في القرية عرس اجتمع فيه رجالهم ونساؤهم. وكانت امرأة شابور تحمل طعامه إليه في كل يوم. ففي ذلك اليوم اشتغلت عنه إلى بعد العصر لم تحمل إليه شيئا ولا أصلحت له شيئا. فلما كان بعد العصر ذكرته فبادرت إلى منزلها وطلبت شيئا تحمله إليه فلم تجد إلّا رغيفا واحدا من جاورس «1» ، فحملته إليه وأدنته منه وهو يسقي الزرع وبينها وبينه ساقية ماء. فلما وصلت إليه لم تقدر على عبور الساقية. فمدّ إليها سابور [133 أ] المرّ «2» الذي كان يعمل به، فجعلت الرغيف عليه. فلما وضعه بين يديه وكسره وجده شديد الصفرة ورآه على الحديد فذكر قول المنجمين- وكانوا قد حدّدوا له الوقت- فتأمله فإذا هو قد انقضى. فقال للمرأة: اعلمي أيتها المرأة أني سابور، وقصّ عليها قصته ثم اغتسل في النهر وأخرج شعره من الرباط الذي كان قد ربطه عليه وقال لامرأته: قد تمّ أمري وزال شقائي. وصار إلى منزله وأمرها أن تخرج إليه الجراب الذي فيه تاجه وثيابه، فأخرجته إليه فلبس التاج وثياب الملك. فلما رآه أبو الجارية كفّر له وسجد بين يديه وحيّاه بتحية الملك. قال: وكان سابور قد عهد إلى وزرائه وعرّفهم ما قد امتحن به من الشقاء وذهاب الملك وأنّ مدة ذلك كذا وكذا سنة، وبيّن لهم الموضع الذي يوافونه إليه عند انقضاء شقائه وزوال البلاء عنه وأعلمهم الساعة التي يقصدونه فيها. فأخذ مقرعة كانت معه ودفعها إلى أبي الجارية وقال له: علّق هذه على باب القرية واصعد السور وانظر ما ترى. ففعل ذلك وصبر ساعة ثم نزل فقال: أرى أيها الملك

خيلا كثيرة يتبع بعضها بعضا. فلم يكن أسرع من أن وافت الخيل شماطيط «1» . فكان الفارس إذا رأى مقرعة سابور، نزل عن دابته وسجد له، حتى اجتمع خلق من أصحابه ووزرائه، فجلس لهم ودخلوا إليه وحيّوه بتحية الملك. فلما كان بعد أيام جلس يحدث وزراءه 2/80 فقال له بعضهم: سعدت أيها الملك وعمرت عمرا طويلا، أخبرنا ما الذي أفدته في طول هذه المدة؟ قال: ما استفدت إلّا بقرة واحدة. ثم أحضرها إليهم وقال: ها هي. فمن أراد إكرامي فليكرمها. فأقبل الوزراء والأساورة يلقون عليها ما عليهم من الثياب والحليّ وما معهم من الدراهم والدنانير حتى اجتمع من ذلك ما لا يحصى كثرة. ثم قال لأبي الجارية: دونك جميع هذا المال فخذه لابنتك. وقال له وزير آخر: أيها الملك المظفر، فما أشدّ شيء مرّ عليك وأصعبه؟ قال: طرد الوحش بالليل عن الزرع، فإنها كانت تعييني وتسهرني وتبلغ مني [133 ب] فمن أراد سروري فليصطد لي منها ما قدر عليه لأبني من حوافرها بنية يبقى ذكرها على سائر الدهر ومرّ الليالي والأيام. فتفرق القوم في صيدها. فصادوا منها ما لا يبلغه العدد. فكان يأمر بقلع حوافرها أولا أولا حتى اجتمع من ذلك مثل التل العظيم. فأحضر البنائين وأمرهم أن يبنوا من ذلك منارة عظيمة يكون ارتفاعها خمسين «2» ذراعا في استدارة ثلاثين ذراعا، وأن يجعلوها مصمتة بالكلس والحجارة، ثم تركب الحوافر حولها نظما من أسفلها إلى أعلاها مسمرة بالمسامير الحديد. ففعل ذلك فصارت كأنها منارة من حوافر. فلما فرغ صانعها من بنائها جلس شابور يتأملها فاستحسنها واستظرفها وقال للذي بناها- وهو عليها ما نزل عنها بعد-: هل كنت تقدر على بناء أحسن منها؟ قال: نعم. قال: فهل بنيت مثلها لأحد؟ قال: لا. قال: 2/81 فإن أمرك بعض الملوك

ناووس الظبية وقصر بهرام جور

بناء أحسن منها، هل في استطاعتك ذلك؟ قال: نعم. قال: والله لأتركنّك لا تبني لأحد مثلها ولا دونها ولا أحسن منها. ثم تركه عليها وانصرف هو وأصحابه سائرين. وكانت هذه البني قد بناها في فلاة ليس بقربها أحد، وإنما عمرت القرية التي فيها بعد ذلك. فقال: أيها الملك، قد كنت أرجو منك الحباء والكرامة. فإن كنت لا بدّ قاتلي فلي حاجة ما على الملك فيها مشقة. قال: وما هي؟ قال: يأمر الملك أن أعطى خشبا لأعمل لنفسي مكانا أكون فيه حتى يأتيني الموت لئلا تمزقني العقبان والنسور وسائر طيور الجو وجوارحه. قال: أعطوه ما سأل. فأعطي خشبا- وكانت معه آلة النجارة- فعمل لنفسه أجنحة من خشب جعلها مثل الريش وضمّ بعضها إلى بعض. فلما كان في بعض الليالي- وكانت ليلة ذات ريح- شدّها على نفسه [وبسطها حتى] «1» دخل الريح فيها فحملته حتى ألقته إلى الأرض صحيحا لم يصبه شيء. وهرب فلم يقدر عليه. واتصل خبره بسابور فقال: قاتله الله! ما كان أحكمه وأصنع كفيه. قال: فالمنارة قائمة في هذه القرية إلى يومنا هذا مشهورة المكان. ولشعراء همذان وغيرهم [134 أ] فيها أشعار لم نكتب شيئا منها لركاكتها وقلة الجيد فيها. وفي ذلك يقول بعضهم «2» : رأيت بناء الناس في كل بلدة ... فلم أر بنيانا كذات الحوافر بناء عجيبا لم ير الناس مثله ... ولا سمعوه في الدهور الغوابر ناووس الظبية وقصر بهرام جور وعلى فراسخ يسيرة من همذان ناووس الظبية وقصر بهرام جور بقرية يقال لها جوهسته. والقصر كله حجر واحد منقور بيوته ومجالسه وخزائنه وغرفه وشرفه

وسائر حيطانه. فإن كان مبنيا من حجارة مهندمة قد لوحك بينها حتى صارت كأنها حجر واحد، لا يتبين منها مجمع حجرين ولا ملتقى صخرتين. فهذا عجب وأمر حسن جدا. وإن كان حجرا واحدا. فكيف نقرت بيوته وخزائنه وممراته ودهاليزه وشرفات سوره. وهذا أعجب وأعظم من أن يكون من حجارة شتى لأنه عظيم جدا كبير المجالس والخزائن والغرف. وفي مواضع منه كتابة بالفارسية يقرأها من كان يعرف الخط الفارسي. وهي أخبار ملوكهم وشيء من سيرهم وتدبيرهم. وفي كل ركن من أركانه صورة جارية عليها كتابة. وعلى مقدار نصف فرسخ من هذا القصر، ناووس الظبية، وهو على تل مشرف وحوله عيون كثيرة وأنهار غزيرة. وكان السبب في أمره أن بهرام جور خرج متصيدا ومعه جارية كانت من أحظى جواريه عنده وأقربهن من قلبه «1» . فلما فرغ من صيده نزل على هذا التل فتغدى 2/90 وقعد يشرب مع الجارية. فلما أخذ فيه الشراب قال لها: تشهّي عليّ شيئا أبلغك إياه. فنظرت إلى سرب ظباء. فقالت الجارية: ان تجعل بعض ذكورة هذه الظباء مثل الإناث، وتجعل بعض إناثه مثل الذكورة، وترمي ظبية من ظبائه فتصل ظلفها مع أذنها. فورد على بهرام أمر بقي فيه متحيرا ثم قال: إن لم أفعل ذلك عيّرني الملوك وغيرهم من سائر الناس وقالوا امرأة تشهّاها شيئا ثم لم يقدر عليه. ثم أخذ الجلاهق ورمى الظبية ببندقة فأصاب أذنها، فرفعت ظلفها لتحك أذنها فانتزع سهما فخاط به أذنها مع ظلفها. ثم ركب فرسه إلى السرب فأقبل يرمي [134 ب] الذكور ذوات القرون بنشّاب له ذو شاخين فيقتلع القرون بذلك، ويرمي الإناث متعمدا رؤوسها فتنبت سهامه فيها فتصير كأنها قرون. فلما بلغ من ذلك ما أرادت الجارية انصرف فذبح الجارية ودفنها مع الظبية وبنى عليهما ناووسا من

حجارة وكتب عليه الخبر [وقال: إنما قتلت الجارية لأنها قصدت تعجيزي وكادت تفضحني] «1» . وهذا الناووس إلى وقتنا هذا معروف مشهور يسمى بناووس الظبية. أنشدني بعضهم فيه «2» : عجبت لبهرام ومن ذات ظبية ... تجوب وتغدو بين قفر السباسب وبهرام مع حوراء عين كأنّها ... أيا الشمس أصبت بين عشب المغارب فقالت له الحوراء دونك فأرمها ... وصكّ بسهم من سهام الشصائب مجامع أذنيها وأسفل ظلفها ... فلا عذر إن خالفت يا ابن الأشاهب فأرسل سهما صكّ منها الّذي بغت ... وقام إليها مغضبا بالقواضب وقال آخر في طويلة له: ولا أرى ملكا تجبو الملوك له ... بالسند والهند والمعمور بالصين 2/91 ولا أرى أردشير الفارسيّ ولا ... كسرى شهنشاه إذ يلهو بشيرين إذ قالت القينة الورهاء إذ نظرت ... إلى غزال تناغي ربرب العين ما دون جمعك ظلفيها بنافذة ... سكّا إلى قرنه بهرام يرضيني فذعّر الملك وارتجّت فرائصه ... من قول صنّاجة قالت بتهجين فراصد الظّبي حتّى حكّ سامعه ... منه بظلف على قرن وأذنين فسكّ ظلفيه بالمدرى وسامعه ... بذي غرار طرير النّصل مسنون [وقال عبد الرحمن بن الأزهر] «3» : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يدعو ويقول: اللهم لا تدركني أبناء الهمذانيات والاصطخريات، وعدّد قرى من قرى فارس الذين معهم قلوب العجم وألسنة العرب.

وذكر بعض أهل العلم أن همذان هذه التي ذكرها عمر رضي الله عنه هي قرية من قرى إصطخر وليست همذان الجبل. وفي الخبر، أن همذان لا تخرب إلّا بسنابك الخيل. ويروى عن جعفر بن محمد رضي الله عنه أنه قال: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكت عليه السماء والأرض إلّا أربعة أماكن: دمشق وال ... رة «1» وهمذان وبلخ. وروي عن كعب أنه قال: نجد في الكتب أن الأرض كلها تخرب قبل الشام بأربعين سنة. فمكة تخربها الحبشة، والمدينة، الجوع. والبصرة، الغرق. والكوفة، الترك. والجبال، الصواعق. وخراسان بأنواع العذاب. فمدينة بلخ «2» تصيبها رجفة ورعدة ثم يغلب عليها الماء فيهلك أهلها. وأما مدينة الخلم «3» فتصيبها رجفة تجعل عاليها سافلها. وأما الترمذ فإن أهلها يفنيهم الطاعون. وأما الصغانيان وباشجرد «4» فيفنون بقتل من عدوّ يغلب عليهم. وأما سمرقند فتغلب عليها بنو قنطوراء «5» بن كركر فيقتلون أهلها قتلا ذريعا. وكذلك الشاش وفرغانة وأسبيجاب وخوارزم. فتصير جميع هذه المدن خرابا يبابا كلها كأنها جوف حمار. وأما بخارا فهي أرض الجبابرة يصيب أهلها نحو ما أصاب خوارزم ثم يموتون جوعا وعطشا.

وأما مرو فيغلب على أهلها الرمل. 2/92 وأما الهراة فتمطر حيات يكون بها فناء أهلها. وأما نيسابور فيصيب أهلها رعد [135 أ] وبرق وظلم فيهلك أكثرهم. وأما الري فيغلب عليها الديلم [والطبرية] . وأما آذربيجان وأرمينية فيهلكون بالجيوش والصواعق والحروب، ويلقون من الشدائد ما لا يلقاه غيرهم. وأما حلوان فتهلك بهلاك بغداد من رياح عواصف وأمطار عظيمة. وأما الكوفة فيهلكها السفياني. وأمّا مصر فيهلكها رجل يقال له ناجية من بني جهينة. فويل لأهلها وأهل دمشق وأهل إفريقية وأهل الرملة منه، ويحاول دخول بيت المقدس فيمنعه الله منه. وأما سجستان فرياح تعصف عليهم أياما ثم تجيئهم ظلمة عظيمة تتبعها هوة عالية تتصدع لها جبالها وقلوبهم فيختلف عامتهم بذلك. وأما كرمان وإصبهان وفارس فيتلفهم الجراد وجور السلطان. وخراب السند من قبل الهند. وخراب التبت من قبل الصين. [وخراب خراسان من قبل التبت] «1» . وخراب الشام من ملحمة كبيرة تحل بها. وعند خرابها تفتح القسطنطينية على يد رجل من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وخراب الأندلس من قبل الزنج «2» . وقد قيل إن خراب مصر من انقطاع النيل.

وخراب همذان من الديلم «1» ، يدخلونها فيخربونها فلا همذان بعدها. والله أعلم.

2/93 القول في نهاوند قال أبو المنذر هشام بن السائب الكلبي: سميت نهاوند لأنهم وجدوها كما هي. ويقال إنها من بناء نوح عليه السلام، وإنما اسمها نوح أوند، فخففت، وقيل نهاوند. وهي أعتق مدينة في الجبل. قال: كانت وقعة نهاوند سنة إحدى وعشرين. ويقال إن حذيفة حاصر نهاوند فكان يقاتل أهلها. فقاتلهم يوما قتالا شديدا. فاتبع سماك بن عبيد العبسي رجلا منهم ليقتله فلما رهقه ألقى سلاحه واستسلم، فأخذه أسيرا. فأقبل يتكلم بالفارسية، فأحضروا ترجمانا فقال: يقول: اذهبوا بي إلى أميركم حتى أصالحه على المدينة وأؤدي إليه [135 ب] الجزية وأعطيك أنت ما شئت فقد مننت عليّ إذ لم تقتلني. فقال له ما اسمك؟ قال: دينار. فانطلقوا به إلى حذيفة فصالحه على الخراج والجزية من أهل نهاوند على أموالهم وأنفسهم وذراريهم وسميت نهاوند يومئذ ماه دينار «1» . وقال المبارك بن سعيد عن أبيه قال: نهاوند فتوح أهل الكوفة، والدينور من فتوح أهل البصرة. فلما كثر الناس بالكوفة احتاجوا إلى أن يزادوا من النواحي التي قد صولح على خراجها، 2/94 فصيرت لهم الدينور، وعوّض أهل البصرة نهاوند لأنها قرية من إصبهان، فصار فضل ما بين خراج الدينور ونهاوند لأهل الكوفة، فسميت نهاوند ماه البصرة والدينور ماه الكوفة [وذلك في أيام معاوية بن أبي سفيان] «2» .

وعلى جبل نهاوند طلسمان «1» وهما صورة سمكة وثور من ثلج، لا يذوبان في شتاء ولا صيف. يقال إنهما للماء لئلا يقلّ بنهاوند. فماؤهما نصفان: إليها، والنصف الآخر إلى دينور واليشتر «2» .

2/96 القول في إصبهان وأما إصبهان فقال ابن الكلبي: سميت أصفهان بأصفهان بن الفلوج بن سام بن نوح. وحدّث ابن عيينة قال: سمعت ابن شبرمة يقول له: يوم وليلة بالحيرة خير من دواء سنة. فحدثت بهذا الحديث محمد بن موسى بن الوزير، قال: نوم ليلة بأصبهان خير من دواء سنتين. ويروى عن سعيد بن المسيب أنه قال: لو لم أكن من قريش لأحببت أن أكون من فارس ثم من إصبهان «1» . [وقال الكلبي: وكان جد أبي دلف، القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل العجلي يعالج العطر ويجلب الغنم. فقدم الجبل في عدة من أهله فنزلوا قرية من قرى همذان، فأثروا واتخذوا الضياع. 2/97 ووثب إدريس بن معقل على رجل من التجار كان عليه مال فخنقه وأخذ ماله. فحمل إلى الكوفة وحبس بها في ولاية يوسف بن عمر الثقفي العراق، في زمن هشام بن عبد الملك. ثم إن عيسى بن إدريس نزل الكرج، وغلب عليها وبنى حصنها، وقويت حال أبي دلف وعظم شأنه عند السلطان، فكبّر الحصن وزاد فيه وسماها الكرج. فقيل كرج أبي دلف. فالكرج اليوم مصر من الأمصار. وكانت من قبل من رستاق إصبهان. فهي اليوم مفردة برأسها تسمى الإيغارين] «2» .

ولما ارتحلت اليهود من بيت المقدس هاربين من بخت نصر، حملوا معهم من تراب بيت المقدس ومائه فكانوا لا ينزلون منزلا ولا يدخلون مدينة إلّا وزنوا ماءها وترابها. فما زالوا حتى دخلوا أرض إصبهان، فنزلوا ووزنوا الماء والطين الذي في ذلك المكان فكان مثل الذي معهم من تراب بيت المقدس ومائه. فعندها اطمأنوا وأخذوا في الأبنية والعمارات وتوالدوا وتناسلوا وسمي المكان بعد ذلك. باليهودية وفيه يعرف إلى هذا الوقت. فأما مدينة إصبهان فاسمها جيّ وبناها الإسكندر على مجرّ حيّة [136 أ] . فالبناء قائم إلى يومنا هذا معوج. 2/98 ويقال إنه كان بنى سورها مرارا كثيرة، مربعا ومدوّرا فكان إذا فرغ منه تساقط وغيره من أبنية البلد. فآلى على نفسه أن لا يبرح أو يبنيها. فرأى في بعض الأيام حية قد جاءت فدارت حول السور مسرعة ثم انصرفت. فأمر أن يرسم السور على مجرّها. ففعل ذلك فثبت البناء ولم يقع. وإصبهان من فتوح أبي موسى الأشعري في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال الشعبي: لما انهزم يزدجرد من المدائن صار إلى نهاوند. فلما انهزم منها انتخب من عسكره ألف أسوار وألف خبّاز وألف طباخ وألف صاحب حلواء «1» ثم مضى حتى نزل مرو. فلما قتل بها صارت الأساورة إلى بلخ، فأهلها أشجع أهل خراسان. وصار الطباخون إلى هراة. فأهلها أحذق الناس بألوان الطبخ. وأقام الخبازون بمرو فأهلها أجود الناس خبزا، ولهم ضروب منه لا توجد في غير بلدهم. وصار صاحب الحلوى إلى إصبهان، فهم أحذق الناس باتخاذ الحلوى. وقال الهيثم بن عدي: لم يكن بفارس أقوى من أهل كورتين: واحدة سهلية وأخرى جبلية. أمّا السهلية فكسكر، وأما الجبلية فأصبهان. وكان خراج كل كورة

اثني عشر ألف ألف مثقال. وكانت مساحة إصبهان ثمانين فرسخا في مثلها. وهي ستة عشر رستاقا في كل رستاق ثلاثمائة وستون قرية قديمة سوى المحدثة. وهي جي وماربين، والنجان، والبراءان، وبرخوار، ورويدشت، وأردستان، وكروان، وبرزاريذ، وفريدين، وقهستان، وقامدار، وجرم كاسان والتيمرة الكبرى والتيمرة الصغرى، ومكاهن الداخلة. قال: وخراج إصبهان وقم بستة عشر ألف ألف درهم بالكفاية على أنه لا مؤونة على السلطان. وكان [136 ب] كيكاوس الملك ملّك عليها جودرز في زمن الفرس. 2/99 قمّ ويقال: إن الذي بنى مدينة قم، قمسار بن لهراسف. وروى أبو موسى الأشعري قال: سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن أسلم المدن وخير المواضع عند نزول الفتنة وإظهار السيف. فقال: أسلم المواضع يومئذ أرض الجبل. فإذا اضطربت خراسان ووقعت الحرب بين جرجان وطبرستان فأسلم المواضع يومئذ قصبة قم، تلك التي يخرج منها أنصار خير الناس أبا وأما وجدّا وجدة وعما وعمة، تلك التي تسمى الزهراء، بها قدم جبريل يوم نزل إلى قوم لوط. وهو الموضع الذي ينبع منه الماء الذي من شرب منه أمن من الداء العضال. ومن ذلك الماء عجن المسيح الطير الذي يعمل منه كهيئة الطير. ومنه يغتسل المهدي «1» . وخرج كبش إبراهيم عليه السلام، وعصا موسى وخاتم سليمان عليهم السلام. هي أعظم المدن شأنا وأكبرها سلطانا، فيها الأمن والخصب والعز والسطوة والظفر وصحة الأهل وطيب الهواء. 2/100 وبقم من الرساتيق والطساسيج: طسوج لنجروذ، وطسوج روذبار، وطسوج

ابرشتيجان، وطسوج سجاران، وطسوج سراجه، وطسوج وراكروذ. رستاق الجبل، رستاق ساوه. رستاق جرّى [وسيا، وسوميلادجرد] وغير ما ذكرنا من الطساسيج والرساتيق. [وأخبرني محمد بن أبي مريم قال:] مبلغ خراج قم ومما في ذلك من الاحتسابات وما على آل عجل ومن في ناحيتهم وعلى أهل الأطراف من الورق: ثلاثة آلاف ألف ومائتا ألف وعشرون ألف وثلاثون درهما. [وما على الضياع المنقولة إلى هذه الكورة: مائتا ألف وعشرون ألفا وثلاثمائة وثلاثون درهما] . فجميع ذلك ثلاثة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثلاثة وأربعون ألفا وثلاثمائة وثلاثون درهما. [قيمتها على صرف سبعة عشر بدينار: مائتا ألف وألفان وخمسمائة وتسعة وأربعون دينارا] «1» . ولمّا أمر قباذ بليناس بأن يطلسم آفات بلاده، مضى إلى قم فاتخذ آبارا بإزاء ملاحتها إلى جانب شجرة الملاحة طلسما ليدوم جريان عين الملاحة ولا ينقطع ما لم يحظر عليه. فإن حظر أو منع الناس جفّ ولم يجر. وهذه العين يجري ماؤها، كلما بعد عنها جمد وصار ملحا، فجاء يأخذه أهل تلك البلاد. وعمل فيها طلسما آخر ليخفي معدن ذهب وفضة كانا هناك، لأن الفلاحين كانوا يشتغلون. بهما عن أعمالهم. وعمل طلسما آخر للحيات والعقارب، وكان أهلها يلقون من ذلك أذى شديدا، فانحازت إلى جبل بالقرب منها فما يقدر أحد إلى هذا الوقت يجتاز فيه من كثرة الحيّات والعقارب. ثم مضى إلى فراهان وفيها سبخة تبتلع البعير بحمله والفرس براكبه. فاتخذ حولها طلسمين فاستراح المجتازون فيها من الغرق.

ولما ملك طهمورث بنى بأرض إصبهان في رستاق ماربين ورويدشت. وفي ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام أقحط الناس ولم يمطروا سبع سنين. فاتصل بفيروز أن رجلا مات في قرية [جوانق] من بعض الرساتيق، فخشي أن يكون مات جوعا. فأنفذ نقيبه إلى دار ذلك الرجل ففتشها ووجد فيها ثلاثة جرابي كبار مملوءة حنطة فأخبر الملك بذلك، 2/101 فأعطاه أربعة آلاف درهم وقال: الحمد لله الذي قطع المطر عن أهل مملكتي سبع سنين ولم يمت إنسان منهم جوعا. [وكانت جوانق ماهية، وكانت لقوم لهم أخطار، فسألوا فيروز أن يصير جوانق إلى إصبهان ففعل ذلك] «1» . ثم مطر الناس ماه فروردين وروز آبان فصبوا الماء بعضهم على بعض فصارت سنّة إلى اليوم في الصب بعضهم على بعض في ماه وهمذان وإصبهان والدينور وهذه الناحية. وواد بها [يسمى] زرن روذ يخرج من قرية يقال لها بناكان يمر بقرية يقال لها در ثم إلى قرية يقال لها دنبه. وتصب إلى هذه القرية مياه كثيرة، فيكثر الماء هناك ويعظم أمره ويسقي الرساتيق والقرى ثم يغور في رمل [في آخرها] ويخرج بكرمان على ستين فرسخا من الموضع الذي يغور فيه فيسقي أرض كرمان ثم يصب في البحر الشرقي. وكانت معرفتهم بهذا الماء الذي يغور في الرمل وهو الذي يخرج بكرمان. فاستدلّوا بذلك على ما ذكرنا. ولبعضهم في عذوبة ماء إصبهان: لست آسى من إصبهان على شيء ... سوى مائها الرحيق الزلال ونسيم الصبا ومخترق الريح ... وجوّ صاف على كل حال ولها الزعفران والعسل الماذيّ ... والصافنات تحت الجلال وقال آخر [137 ب] : لست آسى بأصبهان لشيء ... أنا أبكي عليه عند رحيلي

غير ماء يكون بالمسجد الجا ... مع صاف مروّق مبذول وقال بعضهم: رأيت في غرفة ببعض الخانات التي في طريق إصبهان مكتوبا: قبّح السالكون في طلب الرّ ... زق على ايذج إلى أصبهان ليت من زارها فعاد إليها ... قد رماه الإله بالخذلان ويقال إن بليناس لما أراد دخول إصبهان ليطلسم آفات مدينتها، اجتاز ببعض رساتيقها وقد أضرّ الماء بزروع أهله، 2/102 فشكوا ذلك إليه، فاتخذ لهم طلسما في جوف بئر إذا احتاجوا إلى الماء فاضت بماء غزير. فإذا استغنوا منه، تراجع إلى البئر وغار فيها حتى يحتاجوا إليه فيخرج. ثم اتخذ بأصبهان طلسما للهوام فقلّت. واتخذ بروذدشت طلسما لينضب ماؤهم في الصيف ويفيض عليهم في الشتاء فيضرّ بهم ويؤذيهم. وذلك أنهم أغضبوه. وعمل طلسمين أحدهما تحت باب من أبواب المدينة، والآخر إلى جانب شجرة بينها وبين المدينة فرسخ. فإذا فتح ذلك الباب وقع الوباء في أهل المدينة، وإذا قطع غصن من أغصان تلك الشجرة ارتفع الوباء. وعمل طلسما للفجور وفساد النساء، فليس الزنى ببلد من البلدان أظهر منه بها. وإنما دعاه إلى ذلك أن أهلها أفسدوا غلامه. ثم لم يقنع بذلك حتى عمل على طرقهم وهي سبع طرق، سبع طلسمات للخوف، فطرقهم مخوفة أبدا. ويقال: لم يبن بالجصّ والآجر بناء أبهى من إيوان كسرى الذي بالمدائن، ولا بالحجارة أحسن من قصر شيرين. وبازرميدخت أيضا بناء عجيب. ولا بني باللبن والطين أبهى ولا أحسن ولا أعجب من بناء بأصبهان في رستاق من رساتيقها يقال له نيمور. وبأصبهان قرية يقال لها انباجن، عند أهلها خرزة [خضراء آسمانجونية]

يزعمون أنها طلسم للبرد. فإذا كان أيام الربيع وخافوا على [138 أ] زروعهم وثمارهم البرد، أخرجوا تلك الخرزة 2/103 ونصبوها على قناة في موضع معروف عندهم فيسمع من جوفها دويّ كدويّ الريح. فيقال إن البرد ليجيء في صحاريهم وفي الغامر من أراضيهم، ولا يصيب العامر من أرضهم وزروعهم شيء. وزعموا أن الخرزة آسمانجونية تضرب إلى خضرة «1» . وقال زياد بن رباح: دخل رجل على الحسن البصري فقال له: من أين أنت؟ قال: من أهل إصبهان. قال: الهرب ثم الهرب من بين يهودي ومجوسي وآكل ربى. وأنشد لمنصور بن باذان: فما أنا من مدينة أهل جيّ ... ولا من قرية القوم اليهود وما أنا عن رجالهم براض ... ولا لنسائهم بالمستزيد ويقال: لو فتّش نسب رجل فيها من التجار والتنّاء لم يكن بدّ من أن تجد في أصله ونسبه حائكا أو يهوديا «2» . وذكر بعض من قد جال في البلدان وشاهد المدن أنه لم ير مدينة أكثر من زان ولا زانية من أهل إصبهان. [وأنشد أبو محمد العبدي لنفسه «3» : لمن طلل تعاجم عن جوابي ... لقد فصحت دموعك بانسكاب قف العبرات إنّ دما ودمعا ... يصوب بربعهم فمن الصواب

ألم يحزنك من ولعان دهر ... تعنّته بأطلال الرّباب ليالي من أحبّ إذ الليالي ... بقربهم كأيّام الشباب فأبدلني النّوى من حسن ليلي ... ليالي مثل أيّام الكلاب على بلد أصبهان وساكنيها ... لعائن والدّمار على الكلاب 2/104 ولا صبّ الصّبا يوما إليها ... ليسحب ذيل غادية السّحاب أحاول دهرها بالسيف طورا ... وطورا بالبلاغة والحساب فلا في ذاك يفلح قدح نجح ... ولا في ذين يغنم باكتساب وكيف ينال مثلي النّجح فيها ... وقد شحنت بأولاد القحاب] وفي بعض الخبر أن الدجّال يخرج من إصبهان. وفي الحديث أن آدم عليه السلام لما أهبط من الجنة أهبط بالهند على جبل سرنديب، وأهبطت حواء بجدّة وإبليس [اللعين] بميسان والحية بأصبهان. وزعم بعض أصحاب الأخبار أنه لم ير في مدن الجبل مدينة أعذب ماء ولا أقل هواما ولا أطيب هواء ولا أصح تربة من إصبهان. وذكروا أن الحنطة وسائر الحبوب ربما أقامت في البيوت والأهراء سنة وأكثر فلا تتغير ولا تفسد، وكذلك أيضا جميع الفواكه والمأكولات ولا تغير فيها القدور المطبوخة ولو أقامت أياما كثيرة. فأما الميت فإنه يبقى في قبره المدة الطويلة والسنين الكثيرة لا يبلى، لصحة التربة وطيب الندرة. ولهم الثياب العتابي والسعيدي والوشي وأنواع الثياب القطنية والملحم وغير ذلك. والملح الأصبهاني موصوف في جميع بلدان الدنيا وكذلك الأشنان. والله أعلم بالصواب [138 ب] .

2/105 القول في الري والدنباوند قال ابن الكلبي: سميت الريّ برويّ من بني بيلان بن إصبهان بن فلوج بن سام. قال: وكان في موضع المدينة بستان. فخرجت بنت روي يوما إليه فإذا هي بدراجة تأكل تينا فقالت: بورأنجير. يعني أن الدراجة تأكل تينا. فاسم المدينة في القديم بورأنجير. ويغيرونه أهل الري فيقولون بهزويد. وقال لوط بن يحيى «1» : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمار بن ياسر- وهو عامله على الكوفة- بعد شهرين من فتح نهاوند يأمره أن يبعث عروة بن زيد الخيل الطائي إلى الري ودستبى في ثمانية آلاف، ففعل. وسار عروة لذلك. فجمعت له الديلم، وأمدّهم أهل الري، وقاتلوه فأظهره الله عليهم فقتلهم واجتاحهم. وقال جعفر بن محمد الرازي «2» : لما قدم المهدي الريّ في خلافة المنصور، بنى مدينة الري التي بها الناس اليوم وجعل حولها خندقا 2/106 وبنى فيها مسجدا جامعا. وجرى ذلك على يد عامر بن الخصيب، وكتب اسمه على حائطها. وتمم عليه سنة ثمان وخمسين ومائة وجعل لها فصيلا يطيف به فارقين آخر وسماها المحمدية. فأهل الري يدعون المدينة الداخلة: المدينة. ويسمون الفصيل: المدينة الخارجة. والحصن المعروف بالزنبدي في داخل المدينة المعروفة بالمحمدية. وقد كان

المهدي أمر بمرمّته ونزله أيام مقامه بالري، وهو مطلّ على المسجد الجامع ودار الإمارة. ويقال إن الذي تولى مرمته وإصلاحه ميسرة التغلبي- وكان من وجوه قواد المهدي- ثم جعل بعد ذلك سجنا ثم خرب. فعمره رافع بن هرثمة في سنة ثمان وسبعين ومائتين ثم خربه أهل الري بعد خروج رافع عنها. قال «1» : وبالري أهل بيت يعرفون بآل الحريش لهم رفضة وأبنية حسنة. وكان نزولهم الري بعد بناء المدينة المحدثة. قال: وكانت الري تدعى في الجاهلية أزاري. فيقال إنه خسف بها، وهي على اثني [139 أ] عشر فرسخا من موضع الري اليوم على طريق الخوار بين المحمدية وهاشمية الري. وفيها أبنية قائمة إلى اليوم تدل على أنها كانت مدينة عظيمة. وهناك أيضا خراب في رستاق من رساتيق الري يقال له البهزان بينه وبين الري ستة فراسخ، يقال إن الري هناك كانت. وحدثني من رأى أثر الحوانيت والأسواق بها. ولا يزال الحرّاثون ومن عرفها يجدون قطع الذهب وربما وجدوا اللؤلؤ واليواقيت وغير ذلك من هذا النوع. والري العتيقة المعروفة قد خربت أيضا. وكان المهدي في حياة المنصور حيث وجهه إلى خراسان، نزل في موضع منها يقال له السيروان وبنى فيها أبنية حسنة بعضها قائم إلى هذا الوقت. وفي قلعة الفرخان بالري يقول الغطمش الضبي وكان ديوانه هناك فكان لا يعدم في كل يوم أن يصاح بالنفير:

على الجوسق الملعون بالريّ لا بني على رأسه داعي المنيّة يلمع «1» وبالري مات محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة [وعنه أخذوا الفقه] «2» . ودخلها سعيد بن جبير فلقيه الضحاك وكتب عنه التفسير. وكان عمرو بن معديكرب الزبيدي غزا الري فلما انصرف توفي فدفن فوق روزه وقوسنة بموضع يسمى كرمانشاه. وبها مات الحجاج بن أرطاة النخعي سنة ثمان وأربعين ومائة. وكان شخص إليها مع المهدي. وبها توفي الكسائي المقري واسمه علي بن حمزة، وكان شخص إليها مع الرشيد وهو يريد خراسان. وبها مات محمد وأحمد ابنا خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني. وكان موت أحمد بها في ولاية موسى بن بغا سنة سبع وخمسين ومائتين، وموت أخيه محمد في أيام المعتضد والمكتفي مقيم بالري في سنة إحدى وثمانين ومائتين. وكان محمد بن خالد في الوقت الذي اتخذ المعتصم الأتراك، وأخذ الجند والقواد أن يلبس السيوف بمعاليق ويترك الحمائل إلى الايزون من الري، ولا يطأ بساط خليفة ولا يخدم السلطان والأتراك دولة. واحتجب عن الناس. ويقال إنه لبس برقعا فأغمضت الخلفاء له عن ذلك لجلالته وعظيم خطره. فلم يزل [139 ب] على ذلك مستترا إلى أيام الموفق. فلما قلّد أحمد بن عبد العزيز حرب رافع وصار المكتفي إلى الري، لقيه محمد بن خالد وأقام مديدة ثم مات. 2/107 ولم تزل وظيفة الري اثني عشر ألف ألف درهم حتى اجتاز بها المأمون منصرفه عن خراسان يريد مدينة السلام فلقيه أهلها وشكوا إليه أمرهم وغلظ

وظيفتهم، فأسقط منها ألفي ألف درهم وسجّل بذلك لأهلها. وقال بعض العلماء: مكتوب في التوراة: الري باب من أبواب الأرض وإليها متجر الخلق. قال أبو جعفر الجمال: قلت ليحيى بن حديش: سمعت ملك بن مغول يقول: نعم دار الدنيا والآخرة الري. قال: نعم. وقال الأصمعي: الري عروس الدنيا وإليها متجر الناس وهو أحد بلدان الأرض. وقال أحمد بن إسحاق «1» : الري طيبة الهواء عجيبة البناء، بلد التجار ومأوى الفجار، وهي عروس الأرض وسكّة الدنيا وواسطة خراسان وجرجان والعراق وطبرستان. ولذلك قال بعض العلماء: أحسن الأرض المخلوقة الري ولها السرّ والسربان، وأحسنها مصنوعة جرجان وإليها تقع تجارات أرمينية وآذربيجان والخزر وبلاد برجان، لأن تجار البحر يسافرون من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق فيحملون الديباج والخزّ [الفائق] «2» من فرنجة إلى الفرما، ثم يركبون إلى القلزم فيحملون ذلك الديباج إلى الصين، ويحملون [الدار صيني والماميران] . ومتاع الصين كله حتى يصيرون إلى القلزم ثم يتحولون إلى الفرما. وهم [التجار] اليهود الذين يقال لهم الراذانية، يتكلمون بالفارسية والرومية والعربية والإفرنجية. ويخرجون من الفرما يبيعون المسك والعود وجميع ما معهم من ملك فرنجة. وربما حملوا أمتعتهم إلى قسطنطينية، وربما حملوا الرقيق الأندلسي من إفرنجة إلى أنطاكية، ثم يصيرون إلى بغداد ثم إلى الأبلة. وأما تجار الصقالبة فإنهم يحملون جلود الخزّ والثعالب من أقصى صقلبة فيجوز [ون] إلى البحر الرومي فيعشرهم صاحب الروم، 2/108 ثم يجوزون إلى خليج

الخزر فيعشرهم صاحب الخزر، ثم يصيرون إلى بحر خراسان في هذا البحر الذي يقال له بحر الصقالبة، فربما [140 أ] خرجوا بجرجان فباعوا جميع ما عندهم ليحمل جميع ذلك إلى الري. ثم أعجب من هذا، ان جميع ما بلغ إلى طبرستان من ناحية الديلم والجبل والبربر والطيلسان من الرقيق وسائر الأمتعة فإنما هو إلى الري لجلالتها وكبرها وكثرة تجاراتها. وكان عبيد الله بن زياد قد جعل لعمر بن سعد بن أبي وقاص ولاية الري أن يخرج على الجيش الذي وجهه لقتال الحسين رضي الله عنه. فأقبل يميل بين الخروج وولاية الري أو القعود: أأترك ملك الريّ والريّ رغبتي ... أم ارجع مذموما بقتل حسين وفي قتله النار التي ليس دونها ... حجاب، وملك الريّ قرة عين [وقال ابن كربويه الرازي «1» ، وكان أحد أصحاب الحسين بن أحمد العلوي بقزوين: يا منية هيّجت شوقي وأحزاني ... لا تبعديني فبعد الدار أضناني إنّي أعيذك بالأجفان يا سكني ... أن تتركيني أخا شجو وأشجان إذا بعدت يكاد الشوق يقتلني ... حتى إذا طاف طيف منك أحياني يا جفوة من حبيب أقرحت كبدي ... هلّا رثيت لنائي الدار حيران دامي الجفون نحيل الجسم محترق ... صبّ أسيف قريح القلب حرّان 2/109 أمسى بقزوين مسلوبا عزيمته ... مقسّما بين أشجان وأحزان

أقول يوم تلاقينا وقد سجعت ... حمامتان على غصنين من بان الآن أعلم أن الغصن لي غصص ... وإنما البان بين عاجل دان وقمت تخفضني أرض وترفعني ... أخرى وهدّ مسير الليل أركاني ما لي أنادي فيأبى أن يجيب فتى ... لو كان بالرّيّ لبّاني وفدّاني يا نفس لا تجزعي من ذاك واشتملي ... ثوب العزاء فإن الغائب الجاني أنا الّذي غرّه بيتان قالهما ... مضلّل ما له في جهله ثان لا يمنَعنّك خفض العيش في بلد ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان تلقى بكلّ بلاد أنت ساكنها ... أهلا بأهل وجيرانا بجيران حتّى تركت لذيذ العيش في بلدي ... فناء داري عن أهلي وإخواني وشاقني نحو قزوين منى بطلت ... نفت رقادي وأذرت دمع أجفاني فيا لها حسرة إذ عزّ مطلبها ... لم تبق منّي على روح وجثمان 2/110 أنا النّذير لكم يا قوم فاستمعوا ... مني مقالة نصح غير خوّان للموت بالرّيّ خير للمقيم بها ... من الحياة بقزوين وزنجان أنّى لها كجنان في شوارعها ... يطفحن في كلّ بستان وميدان أو كالمدينة شطّاها وشارعها ... من المصلّى إلى صحراء أزدان وهات كالسّربان اليوم مرتبعا ... من باب حرب إلى ساحات عفّان أنهارها أربع محفوفة زهر ... تحار فيهنّ عينا كلّ إنسان وشارع السّرّ يمناه ويسرته ... محفّفان بأنهار وأغصان وقصر إسحاق من فولاد منحدرا ... على الشراك إلى درب الفليسان وكم بروذة من مستشرف حسن ... إلى المضيق بها من باب باطان وكم بناهك من دار كلفت بها ... وظبية ترتعي في سفح غدران وشادن غنج كالبدر صورته ... يميس في حلل تلهو بفتّان 2/111 يا ريّ صلّى عليك الله من بلد ... ولا أغبّك دارّ (؟) القطر هتّان

حيّ الديار بها والساكنين بها ... من النساء ومن شيب وشبّان إلّا بقايا بغاة الأرض قد جحدوا ... دين المهيمن من كفر وعدوان كم حلّ عرصة نصراباد قاطبة ... من ابن زانية محض وكشخان وكم بسكة ساسان إذا ذكروا ... من ابن فاجرة نصّ وقرنان هم الألى منعوني قرب دارهم ... وباعدوني عن أهلي وخلاني وشرّدوني عن صحبي وعن ولدي ... حتى لجأت إلى أجبال قصران] وخراج الري عشرة ألف ألف درهم بالكفاية. ومن الري إلى قزوين ذات اليسار سبعة وعشرون فرسخا. ومن قزوين إلى أبهر اثنا عشر فرسخا. ومن أبهر إلى زنجان خمسة عشر فرسخا. وروي عن الصادق رضي الله عنه أنه قال: الري وقزوين وساوة ملعونات مشؤومات. وقال إسحاق. بن سليمان «1» : ما رأيت بلدا أرفع للخسيس من الري. وفي أخبار أهل البيت قالوا: إن الري كانت منابت الشؤم وستعود منابت الشؤم. وفي خبر آخر: الري ملعونة وتربتها تربة ديلمية وهي على بحر عجاج تأبى أن تقول الحق. وروى محمد بن الريان «2» عن إسماعيل الرازي قال: قال لي الحسن بن

علي بن فضال: تعرف الدولاب؟ قلت: نعم، أعرفه. قال تعرف شجرة تسمى آزاذ؟ قلت: لا. قال: فروى عن أبي عبد الله جعفر بن محمد رضي الله عنه أنه قال: إذا اتصلت حيطان المدينة بحيطان الدولاب فعندها توقعوا بلاء القوم، ثم تلا قول الله عزّ وجلّ «وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً » . قال: الري. وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد رضي الله عنه: ويل للري من جناحيها. قيل وأي شيء جناحاها «1» ؟ [140 ب] قال: طبرستان أحد جناحيها. وعن محمد الرازي «2» عن أبيه عن جده أبي إسماعيل، وكان نساجا، فاتخذ ثوبا وجوّده وقصره وحج فأتى أبا عبد الله «3» ووضعه بين يديه، فأخذه ونظر إليه ونشره وقال: هذا محكم العمل. فقال أبو إسماعيل أنا نسجته يا سيدي بيدي. فقال له أبو عبد الله: فأنت نساج؟ قال: نعم. [فقال] : مرحبا بنسّاجنا، من أين أنت؟ قال: من أهل الري. قال: أتعرف التل الأحمر؟ قال: لا. قال: هو ناء عن المدينة عند الباب الحديد لا يسلك إلّا عند ارتفاع النهار. أما إن ذلك الموضع سيعمر. ثم قال: أتعرف كناسة الدواب؟ قلت: نعم. قال: فتعرف جبل الطين الأسود؟ قال: لا. قال: الجبل الذي يقال له جبل ليلا. قلت: نعم أعرفه. قال: فتعرف باب المدينة الحديدي وسورها؟ قلت: نعم. قال: عنده مصارع القوم، يقتل من صحابة [بني] «4» العباس وشيعتهم ثمانون ألفا منهم ثمانون [ممن] يصلح للخلافة. فقلت له: جعلت فداك، ألك حاجة؟ قال: حاجتي أن تدع هذا العمل. قلت: فأي شيء أعمل؟ [قال] : كن صيقلا فقلت له: على كبر السن كيف أعمل؟

قال: سهّل الله عليك تعلّمه ونوّر قلبك ويسّره عليك. قال: فقدمت الري فتعلمته في شهر. فكان يروى عنه الحديث: عن أبي إسماعيل الصيقل عن أبي عبد الله. وكان الرشيد يقول: الدنيا أربعة «1» منازل، قد نزلت منها ثلاثة. أحدها دمشق والآخر الرقة والثالث الري والرابع سمرقند وأرجو أن أنزله. ولم أر في هذه البلاد الثلاثة التي نزلتها موضعا هو 2/112 أحسن من السربان لأنه شارع يشتق مدينة الري في وسطه نهر، فهو حسن. عن جانبيه جميعا أشجار ملتفة متصلة وفيما بينها أسواق. وخطب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يوما فقال في خطبته: احمدوا الله الذي أحصاكم عددا ووظف لكم مددا في قرارة الدنيا، فإنكم مفارقوها ومنقطعون عنها ومحاسبون بما عملتم فيها. لا تخدعنكم بقاي «2» لذاتها فإنها ثقيل مطلبها، رنق شربها. غرور حائل وشبح [141 أ] مائل وسنان قاتل، تعزّ مستدبرها وتصرع مستفيدها بغرور شهوتها ومونق لذتها وحبل مدتها، حتى إذا أنس ناقدها وقرّ شاردها، قنصته بأحبلها، فتفلته إلى ضنك المضجع ووحشة المرجع ومجاورة الأموات ومفارقة الأوقات. فهم لا يرجعون ولا يؤذن لهم فيعتذرون. قد ارتهنت الرقاب بسالف الاكتساب، وأحصيت الآثار، وقد خاب من حمل ظلما. فيا لها أمثالا كافية ومواعظ شافية لو صادفت أذنا واعية وقلوبا زاكية وألبابا حازمة وآراء عازمة. ثم قال: كيف بهم إذا خرج المشرقي، وتحرك المغربي، وحارب السجزي، وتحرك الهجري، وثار الحسيني، وغضب الحسني، وقام العلوي، وبويع الأموي، وخرج الأرمني، وماج الديلم، وضج الطبري، وقدم الهاشمي، ووافى المصري،

وظفر الخراساني، وكفر الكلبي، وبويع الزنجي، ونقض التركي، وغلب الرومي، وخرج القحطاني. عندها يخرج الروم في ألف ألف ويزيدون. ويهرب الهاشمي من الزوراء وينزلها الخراساني. فالويل لهم من المظفر العلوي، والويل لأهل البصرة والأبلّة والأهواز وواسط من المظفر العلوي أيضا. يقتل بالبصرة مائة ألف ويزيدون، وبواسط مثل ذلك، وهو السفّاح. وويل للرافقة وقرقيسيا من كلب وقيس. والويل كل الويل للزوراء من السفياني، يقتل في كل يوم واحد مائة ألف أو يزيدون، واليوم الثاني مثل ذلك، واليوم الثالث مثل ذلك في صعيد واحد، لا ينظر الله إليهم ولا يكلمهم ولهم عذاب أليم. والويل لأهل الكوفة من السفياني، والويل لأهل يثرب من الأبقع، سيبقر بطون النساء ويقتل النفس الزكية. والويل لأهل مكة من الأصهب ومن صاحب مصر يقتلهم بغير عدد حتى يجري الدماء في وادي العرفات. والويل لأهل فسطاط مصر من فرعون الثاني وهو السفياني، كيف يقتل النساء ولا يرحم الصبيان والإماء. والبلية العظمى بصخر الري، يقتل في ذلك الموضع ستون ألفا إلى الباب. والويل لأهل قزوين من الديلم، يقتل الرجال وتسبى النساء والذراري. والويل لهمذان من جانب طبرستان، والويل للري من صاحب الديلم والويل لهم من صاحب إصبهان. في كلام طويل. وبعث الحجاج إلى وفد كانوا قدموا عليه من الديلم فعرض عليهم الإسلام أو الجزية فأبوا أن يفعلوا شيئا من ذلك. فأمر أن يصوّر لهم بلدهم سهله وجبله وعقابه وغياضه فصوّرت له. فدعا من قبله من الديلم فقال إن بلادكم قد صورت لي

ورأيت فيها مطمعا فاعترفوا بما دعوتكم إليه قبل أن أغزيكم الجنود فأخرب البلاد وأقتل المقاتلة وأسبي الذرية. قالوا: أرنا هذه الصورة التي أطمعتك في بلادنا فأحضرها حتى نظروا إليها. فقالوا: قد صدقك من صوّرها غير أنه لم يصوّر لك الرجال الذين يمنعون هذه العقاب والثنايا، وستعلم ذلك لو تكلفته. فأغزاهم الجنود وعليهم ابنه محمد بن الحجاج فلم يصنع شيئا غير أنه بنى مسجدا لأهل قزوين ونصب فيه منبرا [وهو مسجد التوث الذي على باب دار قوم يعرفون بالجنيدية. وحكي أن عمّال خالد بن عبد الله القسري لعنوا علي بن أبي طالب على المنبر فقام حبيش بن عبد الله وهو من موالي الجنيد أو بني عمه فاخترط سيفه وارتفع به إلى العامل فقتله وقال: لا نحتملكم على لعن علي بن أبي طالب. فانقطع بعد ذلك اللعن عنه رضوان الله عليه] «1» . وقال محمد بن زياد المذحجي: رأيت في مسجد قزوين لوحا مكتوبا مما أمر به محمد بن الحجاج الثقفي. وأنشد جعفر بن عمر بن عبد العزيز: هل تعرف الأبطال من مريم ... بين سواس فلوى يرثم فذات أكناف فقيعانها ... فجزع فدفر واف الأحرم (؟) ما لي وللريّ وأكنافها ... يا قوم بين الترك والديلم أرض بها الأعجم ذو منطق ... والمرء ذو المنطق كالأعجم ولما ميّز قباذ إقليمه، وجد أنزه بقاعه بعد أن بدأ بالعراق التي هي سرّة الدنيا والأقاليم، ثلاثة عشر موضعا: المدائن، والسوس، وجنديسابور، وتستر، وسابور، وبلخ، وسمرقند، وباورد، وبطن بنهاوند تسمى روزراور، وما سبندان، ومهر جانقذق، وتل ما سير، وإصبهان والري. وأسرى فواكه إقليمه سبعة مواضع: المدائن، وسابور، وأرجان، ونهاوند، وماسبندان [142 أ] وحلوان، والري. وأوبأ بقاع إقليمه ستة مواضع: البندنيجين، وسابور خواست، وبرذعة، وزنجان، وجرجان، والخوار- بطن الري-.

والري سبعة عشر رستاقا منها: [الخوار] ودنباوند، وويمة، وشلمبه [هذه التي فيها المنابر] «1» . وفي كتاب الطلسمات: إن قباذ وجّه بليناس الرومي إلى الري فاتخذ بها طلسما للغرق فأمنوه، وذلك أنها على بحر عجّاج. واستطابها بليناس فعزم «2» على المقام بها فآذاه أهلها فاتخذ بها طلسما للنزول فليس يجتاز بها أحد من خراسان إلّا نزلها. وعمل طلسما آخر للغلاء فهي أبدا غالية السعر. ثم كتب بليناس إلى قباذ يخبره بما قد عمل من الطلسمات في بلاده ويستأذنه في المصير إلى خراسان. فكتب إليه قباذ: إن قباذ الأكبر قد طلسم ما وراء الري إلى بلخ وجرجان وسجستان [مائتين وخمسين طلسما] «3» وليس هناك شيء فأقبل إلينا. [وقال الشاعر: الريّ أعلى بلدة أسعارا ... لا درهما تبقي ولا دينارا تدع الغريب محيّرا في سوقها ... قد تاه ينظر هائما خوّارا في كلّ يوم ينبغي لغدائه ... أن كان يملك للغداء قنطارا 2/113 وبها أناس شرّ ناس باعة ... لا يحفظون من الغريب جوارا سيسوا بكلّ قبيحة فتراهم ... أدهى وأخبث من تحلّى العارا لا يصدقون وصدق قول فيهم ... عار وكلّ يبغض الأبرارا إن جئت تسألهم لتسقى شربة ... قالوا إليك تجنّب الأشرارا فلقد لبسنا العار حتّى ما لنا ... إلّا الفضائح ملبسا وإزارا] «4»

وفي أخبار فريدون على رواية الفرس: لما أقبل بالبيوراسف من المغرب نحو المشرق ليسجنه [بدنباوند] مرّ بكورة إصبهان- وقد طوى أفريدون أياما لم يذق طعاما- فطلب قوما يمسكونه عليه ريثما يتغدى. فجمع الملك عالما من الناس فلم يقدروا على إمساكه، فأدار سلاسله على جبل من جبال إصبهان وأوثقه بأساطين وسكك من حديد قوية. وتوثق منه حتى ظن أنه قد أحكم ما أراد. حتى إذا جلس على غذائه، اجتذب البيوراسف سلاسله مع تلك الأساطين والسكك واحتمل الجبل يجره بسحره ثم طار به في الهواء، فتبعه أفريدون فما لحقه إلّا بالمدينة المعروفة ببزورند وهي الري. فلما لحقه قمعه بمقمعة من حديد كانت في يده فسقط مغشيا عليه ورسا ذلك الجبل المنقول من إصبهان بمدينة الري. فهو الآن جبلها المطلّ عليها. فلعن أفريدون ذلك الجبل ودعا الله أن لا ينبت عليه شيئا في شتاء ولا صيف وأن لا يثبت عليه ثلج ولا تسرح عليه سارحة تؤمّه ولا أهلية ولا يأتي إليه حيوان. 2/114 فأجاب الله دعاءه. فهو كذلك [142 ب] إلى يوم التناد. ثم قاده من الري نحو محبسه على طريق الخوار، فوافاه وهو يقوده إصبهبد جرجان- وكان رجلا ذا أيد وبطش- فسار معه أياما. وعرضت لأفريدون حاجة فلم يثق بأحد يمسكه عليه فقال الأصبهبد: أيها الملك، أنا أمسكه عليك. فقال: أخاف أن لا تقوى فتعطب على يده. فقال: أرجو أن يعينني الله عليه بقدرته. وناوله أفريدون سلاسله وساربه، فلم يلتوي عليه، ومرّ يحجل في قيوده. فلما غاب أفريدون () «1» فلما أطالا المجاذبة دخلت رجلاه إلى ركبتيه في الأرض، فخدّ في ذلك المكان أخدودا عظيما جرى فيه بعد ذلك الماء فصار نهرا عظيما، وهو اليوم يعرف بوادي خوار، يعرفه أهل تلك الناحية ويسمونه بهندرود. وطعنه أفريدون وقمعه بمقمعة واحدة من يد الأصبهبد وبارك عليه وزاد في مرتبته وسماه بهند جرجان وخراسان اصبهبد.

ثم حمله إلى كورة دنباوند فسجنه هناك في جبل يسمى جبل الحدّادين في قرية اسمها قرية الحدادين أيضا. ووكل به أرمائيل ومثّل بين يديه في القلة صورة أفريدون وطلسم عليه طلسما وبنى حوله حوانيت رتّب فيها قوما حدادين يضربون مطارقهم نوائب على سنداناتهم ليلا ونهارا شتاء وصيفا لا يفترون عن ذلك وجعله في كهف عظيم في جوف القلة وأثقله بالحديد وجعل على باب الكهف عدة أبواب حديد وأسقط عن سكان هذه القرية الخراج والعشر وجميع النوائب، فليست عليهم مؤونة إلّا ضرب هذه المطارق على سندانات خالية، ويتكلمون على ضربهم بكلام موزون ويهمسون به عند ضربها لئلا يقطع البيوراسف سلاسله وأغلاله فيقال إنه يلحس أغلاله دائما ليلا ونهارا فتدق عن لحسه، فإذا ضرب «1» هؤلاء بالمطارق عادت إلى حالها في الغلظ والوثاقة. ويقال إن الطلسم الذي يمنعه من قطع السلاسل بعد لحسه إياها فهو معمول في ضرب هؤلاء الحدادين بمطارقهم. ومضى أفريدون- بعد أن حبسه في الكهف واستوثق منه- منصرفا إلى دار مملكته [143 أ] ووكل أرمائيل بحفظ البيوراسف وطعامه. فكان يذبح له في كل يوم رجلين فيغذي بأدمغتهما حيّتيه اللتين على كتفيه أعواما. ثم إن أرمائيل تحوّب من ذبح الناس فتلطّف في استنقاذهم واحتساب الأجر في إطلاقهم من القتل، فمضى إلى قرية من قرى دنباوند تسمى مندان فبنى على جبلها أبنية جليلة وقصورا عظيمة وجعل فيها بساتين وعيونا تجري في صحون تلك الدور والبساتين، وبنى في بعض تلك القصور بيتا بخشب الساج والابنوس وصور فيه جميع الصور، فلم يكن لأحد في ناحية المشرق، بناء أشرف منه ارتفاعا وحسنا ودقة نقوش وكثرة عمل وتزاويق وتصاوير وتماثيل. فما زال ذلك البنيان قائما حتى استنزل المهدي بن المصمغان من القلعة المعروفة بالهيرين- وكان قد أعطاه الأمان- فلما جاء به إلى الري أمر بضرب عنقه. فلما استخلف الرشيد وصار إلى الري أخبر بمكان ذلك البنيان فصار إليه

حتى وقف عليه وأمر بنقضه وحمله إلى مدينة السلام. وكان أرمائيل نازلا في قصوره وأبنيته التي بناها فإذا جاءوه بالأسارى من الآفاق ليذبحهم ويأخذ أدمغتهم فيغذي الحيتين، أعتق في كل يوم أسيرا وذبح مكانه كبشا وخلط دماغه بدماغ المقتول وغذا به الحيتين أعواما كثيرة. ثم بدا له في الذبح فكان إذا جاءوه بالأسارى أعتقهم وأسكنهم الجبل الغربي من قرية ميندان «1» فبقي على ذلك من حاله ثلاثين عاما يعتق في كل عام سبعمائة وثلاثين إنسانا- وقرية ميندان على جبلين بينهما واد فيه ماء عذب غزير لا ينقطع شتاء ولا صيفا، وعلى حافتي الوادي عيون تنصب إليه وشجر مثمر- فكان كلما أعتق أسيرا أعطاه دارا وأسكنه الجبل الغربي 2/115 وأمره أن يزرع لنفسه ما يريد ويبني ما يشاء. فكانوا يفعلون ذلك. وقيض الله لأرمائيل مطلسما ألمّ به فقال: أنا اطلسم الطعام الذي يتغدى به هذا الملعون فيكون يتغلغل في جوفه ويرتفع [143 ب] إلى صدره ويجري في لهواته فيشبع منه ولا يحتاج إلى غيره أبدا ويجازيك الملك على ذلك. ما الذي تجازيني عليه؟ قال: سل ما أحببت. قال: إذا أتتك رئاسة الناحية أشركتني فيها معك وفي نعمتك وعقدت بيننا قرابة لا تنقطع. فضمن أرمائيل له ذلك وطلسم مأكول الملعون ومشروبه في جوفه، فهو يتغلغل في صدره إلى بلوغ مدة [أيامه] «2» . فلما كان بعد ثلاثين حولا من مملكة أفريذون أنفذ إلى أرمائيل رسولا يأتيه بخبر البيوراسف. فلما وافاه أنزله. أرمائيل معه في قصره. فسأله الرسول عما صنع فأخبره خبر المعتقين من الذبح وإنزاله إياهم الجبل الغربي. ولمّا أمسى أمر المعتقين أن يوقد كل واحد منهم على باب الموضع الذي هو فيه نارا ففعلوا. فقال الرسول: ما هذا؟ قال: هؤلاء المعتقون من الذبح. فقال الرسول بالفارسية: وس

مانا كي ته آزاد كردي؟ أي: كم من أهل بيت قد أعتقتهم؟ وتناهى الخبر إلى أفريدون فسرّ به سرورا شديدا ومضى نحو جبل دنباوند فوقف عليه فلما تقرر عند فعل أرمائيل شرفه ورفع درجته وسماه المصمغان وأقطعه مدينة دنباوند برساتيقها وقراها وعقد له تاجا وأقعده على سرير ذهب. فهم آل المصمغان المعروفون إلى يومنا هذا تلك الناحية. وكان أفريذون سجن البيوراسف في النصف من ماه مهر وروز مهر، فلما أصبح جعله عيد المهرجان. ويقال إن طول أفريذون تسعة أرماح- والرمح بباعه ثلاثة أبوع- وعرض عجزه ثلاثة أرماح، وعرض صدره أربعة أرماح، ووسطه رمحان «1» . وقال محمد بن إبراهيم بن نافع: كنت مقيما بطبرستان في خدمة موسى بن حفص الطبري «2» أيام خلافة المأمون إذ ورد علينا قائد من قواد المأمون في مائة وخمسين فارسا ومعه كتاب المأمون إلى موسى بن حفص 2/116 يأمره بالشخوص معه إلى موضع البيوراسف [بقرية الحدادة في سنة 217] حتى يقف عليه ويتفحص عن خبره ويكتب إليه بصحة الأمر [144 أ] فيه. قال: فوافينا قرية الحدادين، فلما قربنا من الجبل الذي هو فيه، إذا نحن بدويبة في عظيم البغال. فلما رأتنا صعدت في الجبل. قال: وإذا طيور بيض كبار أكبر من النعام في خلق الفصلان. وإذا قلة الجبل مغشاة بالثلج، وإذا دود وعظام مثل الجذوع تنحط من ذلك الثلج، فإذا انفصلت الدودة عن الثلج وانحدرت إلى القرار وانسابت على الحجارة انفقأت فسال من جوفها مثل الساقية. فإذا كان ذلك

نهضت تلك الطيور إلى جلود هذا الدود فأكلتها. فلم تزل العسكر في القرية أياما يرومون الوصول إلى موضع البيوراسف ولا يهتدون لموضع الجبل في الصعود. فبينا هم كذلك إذ أتاهم شيخ قد نيف على مائة سنة فسائلهم عما قدموا له، فعرّفوه الخبر، وإذا على الجبل حوانيت كثيرة فيها قوم من الحدادين حول تلك القلّة عليهم نوائب يضربون مطارقهم على سنداناتهم ساعة بعد ساعة ويتكلمون عليها بكلام يهجسون به موزون عند ضربهم، لا يفترون ليلا ولا نهارا. فسألوا الشيخ عن الخبر، فقال لهم: هذه الحوانيت وضرب هؤلاء على السندانات، طلسم على البيوراسف لئلا ينحل عن وثاقه، وإنه لدائب بلحس سلاسله وأغلاله، فإذا ضربت هذه المطارق عادت أغلاله وسلاسله إلى ما كانت عليه من الغلظ. فإن أحببتم الوقوف على صحة هذا الحيوان المحبوس في هذه القلة حتى لا يتخالجكم فيه ريب أريتكم برهان ذلك. فقال له القائد: ما جئت لغير هذا الذي وصفت. فأحضر الشيخ سلما مخروزا محكما من الصرم وسككا من سكك الحديد وجمع شباب القرية حتى صعد منهم من صعد على تلك السلّم من قرار القلّة إلى مقدار مائة ذراع في الجبل ثم أراهم في الجانب الشرقي من القلة عند مطلع الشمس جوبة عظيمة وعليها أسكفة باب حديد عليه مسامير من حديد مذهبة مكتوب عليها [144 ب] بالفارسية ما أنفق على كل مسمار وفوق الأسكفة 2/117 كتابة تخبر أن على القلة سبعة أبواب من حديد، على كل باب أربعة أقفال قد كتب على بعض المسامير: لهذا الحيوان أمد يجري إلى غايته ونهاية لا يعدوها، فلا يعرض خلق لفتح شيء منها فيهجم من هذا الملعون على ما لا يقوم له أهل الأرض ولا حيلة لأحد عما يريد. فقال القائد «1» : ويحكم حيوان منذ آلاف من السنين يبقى بغير قوت؟ فقال الشيخ: طعامه القديم الذي تغدى به مطلسم في جوفه، فهو يتغلغل في صدره ويرتفع إلى لهواته حتى تمتلأ منه، وقد منع من إخراجه. فذلك غذاؤه. فانصرفوا

ولم يجدوا شيئا وكتب بخبره إلى المأمون فكتب أن لا تعرض له. وعن رجل من كلب قال: كان الضحاك أشد الناس غيرة، فركب يوما إلى الصيد فجاء أفريذون في خيله فدخل داره واحتوى عليه وعلى نسائه. وبلغ ذلك الضحاك فوافى منزله. فلما نظر إلى أفريذون في داره مع نسائه أدركته الغيرة فغشى عليه وسقط عن دابته. ووثب أفريذون فأوثقه ثم تتبع عماله فأخذهم وغلب على ملكه وذلك ماه مهر وروز مهر، فصيره يوم المهرجان. فقالت الأعاجم مهريان لقتل من كان يذبح في كل يوم واتخذوه عيدا. وأخذ المصمغان وقال: إنك كنت شرّ عماله وكنت صاحب الذبح، فأذبحك كما كنت تذبح الناس. فقال: إن لي بلاء. قال: وما هو؟ قال: كان يأمرني بذبح اثنين في كل يوم فكنت أذبح واحدا وأعتق الآخر. قال: وكيف نعلم صحة ما ذكرت؟ قال: اركب معي حتى أريك إياهم. فركب معه وسار حتى أشرف على جبال الديلم والشور فنظر إلى عالم قد توالدوا وتناسلوا. 2/118 فقال: هؤلاء كلهم عتقائي. فقال أفريذون: وس ما ناكي ته آزاد كردي؟ كم من أهل بيت أعتقتهم؟ اذهب فقد ملكتك عليهم. فأعطاه مملكة دنباوند. فلم يزل الضحاك [145 أ] عنده موثقا ستة أشهر ثم قتله يوم النيروز فقالت الأعاجم: امروز نوروزي اي استقبلنا الدهر بيوم جديد. فاتخذوه عيدا. وعن القاسم بن سلمان «1» قال: أبجد وهوّز وحطي كلمن وسعفص وقرشت ثخذ ضظغ، كانوا ملوكا جبابرة ففكر قرشت يوما فقال: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ، فجعله الله اژدها، فله سبعة رؤوس «2» . فهو الذي بدنباوند محبوس. وزعم بعض أهل العلم: إن المحبوس بجبل دنباوند صخر الجني الذي أخذ خاتم سليمان بن داود عليهما السلام لما ردّ الله عزّ وجلّ على سليمان ملكه، حبس صخرا في جبل دنباوند.

ولأبي تمام من شعر طويل يمدح به الافشين ويقول إنه مثل أفريذون وأن بابك الخرمي مثل الضحاك: ما نال ما قد نال فرعون ولا ... هامان في الدنيا ولا قارون بل كان كالضحّاك في سطواته ... بالعالمين وأنت أفريذون وقال علي بن ربن كاتب المازيار: وجّهنا جماعة من أهل طبرستان «1» إلى جبل دنباوند- وهو جبل عظيم شاهق في الهواء يرى من رأس مائة فرسخ وعلى رأسه أبدا مثل السحاب المتراكم لا ينحسر عنه في الصيف ولا في الشتاء، ويخرج من أسفله نهر ماؤه أصفر كبريتي تزعم جهّال الفرس أنه بول البيوراسف- فذكروا أنهم صعدوا إلى رأسه خمسة أيام وخمس ليال فوجدوا نفس قلّته تكاد تكون مائة جريب مساحة «2» . على أن الناظر ينظر إليها من أسفل الجبل مثل رأس القبة المخروطة. قالوا: وجدنا عليها رملا تغيب فيه الأقدام، وانهم لم يروا عليها دابة ولا أثرا لشيء. وان سائر ما يطير في الجو لا يبلغها، وان البرد فيها شديد والريح عظيمة الهبوب والعصوف، وانهم عدوّا في قلتها سبعين كورة «3» [يخرج] «4» منها الدخان الكبريتي، وانه كان معهم رجل من أهل تلك الناحية فعرّفهم أن ذلك الدخان تنفّس البيوراسف، ورأوا حول كل ثقب من تلك الكوى كبريتا أصفر [145 ب] كأنه الذهب 2/119 وحملوا معهم شيئا منه حتى نظرنا إليه. وزعموا أنهم رأوا الجبال حوله مثل التلال، وأنهم رأوا البحر مثل النهر الصغير، وبين البحر وهذا الجبل نحو عشرين فرسخا.

2/120 القول في قزوين وأبهر وزنجان قال بكر بن الهيثم: كان حصن قزوين يسمى بالفارسية كشوين [ومعناه الحدّ المحفوظ] «1» . قال وبينه وبين الديلم جبل كانت ملوك فارس تجعل فيه رابطة من الأساورة يدفعون الديلم إذا لم تكن بينهم هدنة، ويحفظون بلدهم من اللصوص. [ويقال: إنهم نزلوا قرية يقال لها سسين فقالوا: جش اين. ثم دخلوا قرية يقال لها فاسقين فقالوا: بس اين. ثم دخلوا قرية سروين، فأندر صاحب الجيش قال: سروين] «2» . قال: وكانت دستبى مقسومة بين الري وهمذان. فقسم منها يدعى دستبى الرازي وهو مقدار تسعين قرية، منها ما قد حازه السلطان [أعزه الله] «3» في هذا الوقت واستخلصه لنفسه. ومنها ما هو في الري، قوم تغلبوا عليه. قال وكان سبب [حيزه] «4» دخول اذكوتكين بن ساتكين التركي قزوين وتغلبه عليها في سنة ست وستين ومائتين، وأسره محمد بن الفضل بن محمد بن سنان العجلي رئيس قزوين وكبيرها، أنه تقلد البلد، فلما صار إليه أظهر العدل والنصفة

أياما ثم أزالها عن ذلك وقبض على جماعة من وجوه البلدان وأخذ ضياعهم وأموالهم. 2/121 وقسم منها يدعى الهمذاني. وكان عامل همذان في وقت افتتاح الخراج ينفذ خليفته إلى قرية من قرى دستبى يقال لها اسفنقان «1» فيجبي خراجها ويحمله إلى همدان. فما زال الأمر كذلك حتى كورت قزوين وزنجان. [وكان العدل بقزوين من جهة طاهر بن الحسين، والجور بهمذان من قبل موالي المعتصم بالله أمير المؤمنين، فتظلم رجل يقال له محمد بن ميسرة من رجل آخر من أهل قزوين يدعى أحمد بن النصر بن سعيد، فوجّه وفده إلى نيسابور يسأل الكتّاب في نقل رستاق نسا وسلقانروذ إلى قزوين. فكتب صاحب خراسان بذلك فنقلت إلى قزوين] «2» . قال: ولما زال ملك العجم وفتحت البلدان، ولي المغيرة بن شعبة الكوفة وولي جرير بن عبد الله همذان وولي البراء بن عازب قزوين، وأمر أن يغزو الديلم. وكان مغزاهم قبل ذلك من دستبى. فسار البراء بن عازب ومعه حنظلة بن زيد الخيل حتى أتى أبهر، فأقام على حصنها- وهو حصن منيع بناه شابور ذو الأكتاف. [146 أ]- وشابور أيضا بنى مدينة قزوين، ويقال إنه بنى حصن أبهر على عيون سدّها بجلود البقر والصوف واتخذ عليها دكة ثم بنى الحصن عليها-. قال: ولما نزل عليه البراء، قاتله أهل الحصن أياما ثم طلبوا الأمان فآمنهم على مثل ما آمن حذيفة بن اليمان أهل نهاوند. ثم سار إلى قزوين فأناح عليها، فطلبوا الصلح فعرض عليهم ما أعطى أهل أبهر من الشرائط 2/122 فقبلوا جميع ذلك إلّا الجزية فإنهم نفروا منها. فقال: لا بدّ منها.

فلما رأوا ذلك أسلموا «1» وأقاموا بمكانهم فصارت أرضهم عشرية. فرتّب البراء فيهم خمسمائة رجل من المسلمين منهم: طلحة بن خويلد الأسدي وميسرة العائذي وجماعة من بني تغلب [على دستبى وقزوين، فتناسلوا هناك فأولادهم وأولاد أولادهم إلى اليوم فيها، قد توارثوا الضياع- وكانت قبالة من السلطان في أيديهم الخمسين السنة والأقل والأكثر- إذ كانت] «2» أرضين وضياعا لا حق فيها لأحد. فعمروها وأجروا أنهارها وحفروا آبارها فسمّوا تنّاءها. وكان نزولهم على ما نزل عليه أساورة البصرة على أن يكونوا مع من شاءوا. وصار جماعة منهم إلى الكوفة وحالفوا زهرة بن حوية، فسمّوا حمراء الديلم، وأقام أكثرهم بمكانهم فهم هناك إلى وقتنا هذا. قال: وأنشدني رجل من أهل قزوين لجدّ أبيه- وكان ممن قدم مع البراء بن عازب لقتال الديلم-: قد تعلم الديلم من تحارب ... لمّا آتى في جيشه ابن عازب بأنّ ظن المشركين خائب ... فكم قطعنا في دجى الغياهب من جبل وعر ومن سباسب ثم غزى البراء الديلم حتى أدوا الجزية. وغزا الجيل والببر والطيلسان وفتح زنجان عنوة. وولي الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية الكوفة [لعثمان بن عفان، فغزا الديلم مما يلي قزوين، وغزا آذربيجان وجيلان وموقان والببر وطيلسان] «3» ثم انصرف.

2/123 وولي سعيد بن العاص بن أمية بعد الوليد، فغزا الديلم ومصر وقزوين فصارت مغزى أهل الكوفة. وكان موسى الهادي لما صار إلى الري أتى قزوين وأمر ببناء مدينة إزاءها فهي تعرف بمدينة موسى. وابتاع أرضا تدعى رستم آباذ فجعلها وقفا على مصالح المدينة. وكان عمرو الرومي يتولاها، ثم تولاها من بعده محمد بن عمرو. وكان مبارك التركي بنى حصنا بها وسماه المباركية وبه قوم من مواليه. وحدث محمد بن هارون الأصبهاني «1» قال: اجتاز الرشيد بهمذان وهو يريد [146 ب] خراسان، فاعترضه أهل قزوين وأخبروه بمكانهم من بلد العدو وعنائهم في مجاهدتهم وسألوه النظر لهم وتخفيف ما يلزمهم من عشر غلاتهم في القصبة، فسار إلى قزوين ودخلها وبنى مسجد جامعها واسمه إلى اليوم مكتوب على بابه في لوح حجر. وابتاع بها حوانيت ومستغلات وأوقفها على مصالح المدينة وعمارة قبتها وسورها فهي تنفق عليها ويبنى منها ما استرمّ بغلتها إلى هذا الوقت. قال: وصعد في بعض الأيام القبة التي على باب المدينة وهي عالية جدا، فأشرف على الأسواق، ووقع النفير في ذلك الوقت، فنظر إلى أهلها وقد أغلقوا حوانيتهم وأخذوا سيوفهم وتراسهم وجميع أسلحتهم وخرجوا على راياتهم وساروا نحو العدو. فاستحسن ذلك منهم وأشفق عليهم وقال: هؤلاء قوم مجاهدون يجب أن ننظر لهم. فاستشار خواصه في ذلك، فكل واحد منهم أشار بما عنده فقال هو: أصلح ما يعمل بهؤلاء أن يحط عنهم الخراج وتجعل لهم وظيفة القصبة. فجعلها عشرة آلاف درهم في كل سنة مقاطعة. وكان القاسم بن الرشيد «2» ولي جرجان وطبرستان وقزوين، فألجأ إليه أهل

زنجان ضياعهم تعززا به ودفعا لمكروه الصعاليك وظلم العمال عنهم وكتبوا له عليها الأشرية «1» وصاروا له فلاحين. وكان القاقزان عشريا لأن أهله أسلموا عليه وأحيوه بعد الإسلام، فألجأوه أيضا إلى القاسم على أن جعلوا له عشرا ثانيا سوى عشر بيت المال 2/124 فصار في الضياع أيضا. ولم تزل دستبى على قسميها: بعضها إلى الري وبعضها إلى همذان إلى أن سعى رجل من ساكني قزوين من بني تميم يقال له حنظلة بن خالد ويكنى أبا مالك، في أمرها، حتى صيرت كلها إلى قزوين. فسمعه رجل من أهل قزوين وهو يقول: كوّرتها وأنا أبو مالك. فقال له بل أتلفتها وأنت أبو هالك «2» . وقد روت الحشوية في فضائلها أخبارا كثيرة لا يصححها الثقات والحفاظ [وأنا أوردها هنا] «3» لتكون فائدة في الكتاب. قال أبو مجالد الصنعاني: قزوين وعسقلان العروسان [147 أ] شهداؤهما تزف إلى الله يوم القيامة. وروي عن أبي هريرة [وابن عباس] «4» قال: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوما فرفع بصره إلى السماء كأنه يتوقع شيئا ثم بكى حتى جرت دموعه على خده وجعلت تقطر من أطراف لحيته وهو يقول: رحم الله إخواني بقزوين- ثلاث مرات-. قلنا: يا رسول الله، من إخوانك بقزوين الذين رققت لذكرهم وترحّمت عليهم، وما قزوين هذه؟ قال: هي مدينة من أرض الديلم وستفتح عليكم ويكون بها رباط.

فمن أدرك ذلك فليأخذ نصيبه من فضل رباطها، فإنه يستشهد فيها قوم يعدلون شهداء بدر «1» . قال الحسن في قوله عزّ وجلّ قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ قال: الديلم. وقال عمار بن عبد الله «2» : سألت أبا عبد الله رضي الله عنه عن قتال الديلم فقال: ومن أحق بالقتال منهم؟ هم الذين قال الله تعالى [فيهم] «3» قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ. وعن مجاهد في قول الله تعالى فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ قال: الروم والديلم. وبعث الحجاج إلى وفد الديلم فكانوا قد جاءوه فأرادهم على أن يسلموا فأبوا. فطالبهم بالجزية فامتنعوا فأمر أن يصور له بلدهم، سهله وجبله وعقابه وغياضه وأنهاره وطرقه وبنائه، فصوّر له ذلك. فقال لهم: إن بلادكم قد صورت لي بطرقها وعقابها وأنهارها وجبالها وسهولها، 2/125 وقد رأيت فيها مطمعا، فأقرّوا لي بما دعوتكم إليه وإلّا أغزيتكم الجنود فأخربت بلدكم وقتلت رجالكم وسبيت الذراري والنساء. فقالوا: أرنا الصورة التي أطمعتك فينا وفي بلدنا. فدعا بالصورة، فلما نظروا إليها قالوا: قد صدقك الذي صورها لك غير أنه لم يصور الرجال الذين يمنعون هذه العقاب والجبال والطرق. وستعلم حقيقة ذلك لو قصدت البلد. فلم يلتفت إلى قولهم وأنفذ إليهم عسكرا عليه ابنه محمد بن الحجاج، فلم يصنع شيئا وانصرف إلى قزوين فبنى بها مسجدا ونصب فيها منبرا. قال محمد بن زياد المذحجي: رأيت في مسجد قزوين لوحا فيه مكتوب: ممّا [147 ب] أمر به محمد بن الحجاج.

وهذا المسجد الذي بناه محمد بن الحجاج هو المسجد الذي على باب دار بني الجنيد، وكان يسمى مسجد التوث «1» . فلم يزل قائما إلى أن بني للرشيد مسجدها الجامع. وحكى قوم من مشايخ أهل قزوين أنهم لحقوا عمال خالد بن عبد الله القسري وهم ينالون من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على منبر قزوين، وأن رجلا من عبد القيس [حبيش بن عبد الله وهو من موالي الجنيد أو بني عمه] «2» يسمع ذلك يوما، فاخترط سيفه ورقى إلى الذي على المنبر وقد نال منه، فقتله وقال: [لا نحتملكم على لعن علي بن أبي طالب] «3» فانقطع من ذلك [إلى] اليوم. وروي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: ستفتح عليكم الآفاق وتفتح عليكم مدينة لها قزوين، من رابط فيها أربعين ليلة كان له في الجنة عمود من ذهب أحمر له سبعون ألف مصراع من ذهب، في كل باب منها زوجة من الحور العين «4» . ولما أراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه المسير إلى صفين قال: من أحب منكم أن يخرج معنا في وجهنا هذا وإلّا فليأت قزوين فإنها باب من أبواب الجنة. قال فخرج الربيع بن خثيم إليها في أربعة آلاف. فلم يزل مقيما بها حتى انقضى أمر صفين. ويروى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: والذي نفسي بيده ليقاتلنّ قوم بقزوين لو أقسموا على الله لأبرّ اقسامهم. ويروى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: مثل قزوين في الأرض مثل جنة عدن في الجنان.

وروي أن سعيد بن جبير قدم قزوين وهو متوار من الحجاج فبات بها ليلة ثم خرج منها وقال: ليجتهد عباد المسجد أن يدركوا مثل ليلتي هذه .

2/146 القول في طبرستان قال: الببر والطيلسان والطالقان وخراسان- إلّا أهل خوارزم- من ولد اشتق بن إبراهيم عليه السلام. والكوفان والخزر والشور والاقليس من الديلم وهم بنو كماشج بن يافث بن نوح عليه السلام. وسميت جبالهم على أسمائهم إلّا الإيلام- جنس من الديلم- فإنهم من ولد بابيل بن ضبة بن أد، وموقان وجبالها وهم أهل طبرستان من ولد كماشج بن يافث بن نوح عليه السلام [148 أ] قال: وحدثني أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي «1» [قال] حدثني عبد الله بن عمرو بن بشير البلخي [قال] حدثني أبي. قال: اجتمع في حبوس كسرى خلق كثير لم ير أن يقتلهم، فشاور فيهم فقيل: غرّبهم. فقال: انظروا موضعا أحبسهم فيه. فطلبوا ونقبوا البلاد فوقعوا على جبل طبرستان، فأخبروه بذلك، فوجّه بهم إلى ذلك الجبل وخلّاهم فيه وأخذ عليهم الباب- وهو يومئذ جبل لا ساكن فيه- ثم تركهم حولا. فلما كان بعد الحول، وجّه إليهم من يقف على خبرهم. فأشرف عليهم رسوله وكلمهم فإذا هم أحياء 2/147 فسألهم: ما الذي تريدون؟ - وكان الجبل أشبا كثير الشجر- فقالوا: طبرها، طبرها. أي نريد فأسا نقطع بها الشجر ونتخذ بيوتا. فأخبر كسرى بذلك، فأمر أن يبعث إليهم ما طلبوا. ثم أمهلهم حولا آخر ثم أرسل إليهم فسألهم عن حالهم- فوجدهم قد اتخذوا بيوتا- فقالوا: زنان، زنان. أي نريد نساء. فأخبر بذلك. فأتى بمن في حبوسه من النساء فبعث بهن إليهم، فتناسلوا. فعرّب الناس هذه الكلمة فقالوا: طبرستان. وإنما هي طبرزنان أي الفؤوس والنساء. ومدينة طبرستان آمل [وبها منزلا الولاة]- وهي أكبر مدنها- ثم ممطير،

وبينها وبين آمل ستة فراسخ. ثم ترنجة «1» وهي من ممطير على ستة فراسخ. ثم سارية، ثم طميس- وهي من سارية على ستة عشر فرسخا- هذا آخر حدّ طبرستان من ناحية خراسان وجرجان. ومن ناحية الديلم على خمسة فراسخ مدينة يقال لها ناتل فإذا جزت ناتل فشالوس وهي ثغر الجبل. هذه مدن السهل. فأمّا مدن الجبل منها فمدينة يقال لها الكلار وهي أيضا ثغر الجبل. ثم تليها مدينة صغيرة 2/148 يقال لها سعيدآباذ فيها منبر. ثم الرويان وهي أكبر مدن الجبل. ثم في الجبل من ناحية حدود خراسان مدينة يقال لها تمار وشرز ودهستان. فإذا جزت الأزر وقعت في جبال ونداد هرمز. فإذا جزت هذه الجبال، وقعت في جبال شروين وهي مملكة ابن قارن. ثم الديلم ثم جيلان. فلم تزل طبرستان في يد ولد العباس يجبون خراجها ويولون أعمالها إلى أن كانت سنة ثمان وأربعين ومائتين، فخرجت من أيديهم ودخلها [148 ب] العلوية في هذه السنة. وقال البلاذري «2» : كور طبرستان ثمان كور: سارية وبها منزل العامل. وإنما صارت منزل العامل في أيام الطاهرية، وقبل ذلك كان منزل العامل بآمل. وجعلها أيضا الحسن بن زيد ومحمد بن زيد العلوي دار مقامهما. ومن رساتيق آمل: آرم خاست الأعلى وآرم خاست الأسفل، والميروان والاصبهبذ ونامية وطميس. وبين سارية وشلنبة على طريق الجبال، ثلاثون فرسخا، وعامتها من جرجان وبعضها من خراسان. وبين سارية ونامية والميروان عشرة فراسخ.

وبين سارية والبحر ثلاثة فراسخ. وبين آمل وسارية ثمانية عشر فرسخا. وبين آمل والري اثنا عشر فرسخا. وبين آمل وشالوس وهي إلى ناحية جيلان، عشرون فرسخا. وبين الجبال والرويان اثنا عشر فرسخا. ومن مدن الرويان: شالوس، والأرز، والشرز، وونداشورج، ثم جيلان. وطول طبرستان من جرجان إلى الرويان ستة وثلاثون فرسخا، وعرضها عشرون فرسخا، في يدي السكن من ذلك سنة ونام ستة وثلاثون فرسخا في عرض ستة عشر فرسخا والعرض من الجبل إلى البحر. وأول من دفعت إليه السفوح، شروين [بن سهراب] «1» وكانت قبل ذلك في أيدي الجند الذين كانوا ينزلون المسالح وغيرهم من المسلمين فأخرجها من أيدي المسلمين وأنزلت فيها قواد الجروية وأبناؤهم. فلم تزل في أيديهم إلى أن قدم الحرشي فطردهم عنها، وأراد مسحها وخرج فعسكر في مصلّى آمل ووجّه المساح، فخرجوا عليهم وقتلوا القائد الموجه معه ثم كتب «2» إلى الرشيد في ذلك فقام الرشيد بنفسه إلى الري ودعا بنداد هرمز وشيروين. فخرج بنداد هرمز عن السفوح وسلمها وضياعه التي في السهل وصار إلى الرشيد في الأمان، فصيّره اصبهبذ خراسان، ووجه عبد الله بن مالك الخزاعي فحازها وردّها إلى القواد وأصحاب المسالح. فلما ولي المأمون أخذها منهم [149 أ] وردّها إلى أصحابه. 2/149 والمسالح فيما بين أول طبرستان إلى حدّ الديلم، إحدى وثلاثون مسلحة ما بين المائتين إلى ألفي رجل. وأول مدن طبرستان مما يلي جرجان، طميش وهي على حدّ جرجان وعليها

درب عظيم ليس يقدر أحد من أهل طبرستان أن يخرج منها إلى جرجان إلّا في ذلك الدرب لأنه حائط ممدود من الجبل إلى جوف البحر من آجر وجص. وكان كسرى أنوشروان بناه ليحول بين الترك وبين الغارة على طبرستان. وفي طميس خلق كثير من الناس ومسجد جماعة ومنبر وقائد مرتّب في ألفي رجل. وبعدها في السهل مدينة المهروان وفيها أيضا منبر ومسجد وقائد في ألف رجل. وبعدها قصبة سارية، وفيها منبر ومسجد. وخارج المدينة ألف جريب أرض لبنداد هرمزد على باب مدينة سارية مما كان ابتاعه من الصوافي في أيام بيعت. فكان الذي تولّى بيعها مهاجر بن يزيد وإلى طبرستان. وبعدها مدينة آمل وفيها قائد في ألفي رجل وفيها يعمل الفرش الطبري، وفيها خلق كثير من الناس وبها منبر ومسجد. وبعدها ممطير فيها منبر ومسجد. وبين ممطير وآمل رساتيق وقرى وعمارة كثيرة. وزعم أن الرويان ليست من طبرستان وإنما هي كورة مفردة برأسها، وبلاد واسعة تحيط بها جبال عظيمة وممالك كثيرة وأنهار مطردة وبساتين متسقة وعمارات متصلة. وكانت فيما مضى من مملكة الديلم فافتتحها عمر بن العلاء صاحب الجوسق «1» بالري وبنى فيها مدينة وجعل لها منبرا. وفيما بين جبال الرويان والديلم رساتيق وقرى. يخرج من القرية ما بين أربعمائة إلى ألف رجل، ويخرج من جميعها أكثر من خمسين ألف مقاتل. 2/150 وخراجها على ما وظّف عليها الرشيد أربعمائة ألف وخمسون ألف درهم.

وفي بلاد الرويان مدينة يقال لها كجو «1» بها مستقر الوالي. وجبال الرويان متصلة بجبال الري وضياعها، ويدخل إليها مما يلي الري. وبين مدينة الري وشالوس ثمانية فراسخ. وعلى حدّ من حدود الديلم مدينة يقال [149 ب] لها شالوس أيضا في نحر العدو. وفيها منبر ومسجد، وبإزائها مقابل كجو مدينة يقال لها الكبيرة وفيها أيضا منبر. ومن مدينة شالوس إلى مدينة محدثة في بلاد الديلم يقال لها الطالقان فيها مسجد ومنبر، أربعة عشر فرسخا. وسفوح هذا الجبل متصلة بالبحر، فيها المستأمنة الذين استأمنوا إلى عمرو بن العلاء، وفيها قوم لهم ديانة قد بنوا المساجد وتزوج إليهم أهل شالوس وهم يغزون مع ولاة طبرستان الديلم ويدلّون على عوراتهم. وبنيت هذه المدينة في أيام المأمون وأنفق عليها ألف ألف درهم، ووكل بحفظها عباد بن أترب، فضمّ إليه طائفة من العرب وهم إلى اليوم بها قبائل، منهم آل عباد وأهل موسى والشعبانية. ووراء هؤلاء قوم من الديلم لم يعطوا طاعة قط، وقراهم وجبالهم متصلة بجبال أرمينية ولباب الأبواب. ثم القرية التي تجتمع فيها الولاة ومنها يغزون الديلم يقال لها مزن وكان مستقر بنداسفجان أخي بنداد هرمزد بها. وكان المازيار بن قارن لما فرغ من قتل عمومته وأكابر ولد بنداسفجان وقوادهم، لم يمكنه قتل ولد شروين بن سهراب لكثرة مالهم ورجالهم، ولأن مستقرهم من جبال طبرستان مما يلي بلاد قومس. وكان بين جبال شروين وجبال

بنداد هرمزد وبنداسفجان، دروب ومضايق ممتنعة، وفي تلك الدروب تسلك القوافل للتجارات إلى طبرستان. فأظهر المازيار لولد شروين من البرّ والإكرام والحيل بما أنسوا به واطمأنوا إليه. وكان إذا قدم عليه القادم منهم برّه ووصله وحمله وكساه. 2/151 ثم إنه أظهر غزو الديلم وذكر أنه يقيم على بلدهم حتى يفتحه. وبنى المساجد في مدنه وعمل بفريم منبرا ومكث على ذلك سنة أو نحوها ثم كتب إلى عامل خراسان يسأله أن يبعث إليه بألفي بعير لحمل السلاح ولغيره لغزو الديلم، فلم يشك أنه مجمع على ذلك. وكتب إلى ولد شروين يسألهم أن يخرجوا معه. وأمر بإخراج منبر إلى آرم وأمر الناس أن يجتمعوا فاجتمعوا وحضر ولد شروين، فخطبهم الفقيه. فلما فرغ [150 أ] [من الخطبة أمره بالانصراف إلى سارية، وأمر من حضر من ولد شروين وغيرهم أن يحضروا منزله فحضروا مستبشرين، فلما صاروا إلى منزله وحضر طعامه، أمر بأخذ سلاحهم وقتلهم جميعا. وترك الخروج إلى الديلم، ثم وجه في هذا الوقت بالسري قائدا في عشرين ألف رجل ودفع إليهم المرور والمعاول وأمر القائد أن يسير حتى ينتهي إلى الديلم وقال: أمّا أن تخرجوا إلى طاعتي أو تدفعون إليّ رهائنكم وإلّا قتلتكم وقلعت منازلكم. فأعطوه الطاعة ودفعوا إليه الرهائن، 2/152 ثم أمر أولئك المستأمنة أن يخرج منهم عشرة آلاف رجل فيخربوا مدينة الرئاسة ففعلوا ذلك. وهؤلاء المستأمنة في رستاق عظيم يقال له مزن. وإلى هذا الموضع كان انتهى عمرو بن العلاء. ومنه كانت تغزو ولاة طبرستان الديلم. وهم يتصلون بالديلم وقزوين والباب الأبواب وبلاد بابك. وهؤلاء المستأمنة ان رأوا للمسلمين قوة كانوا معهم، وإن رأوا للعدو قوة كانوا معهم. وبعد هذا الموضع جبل يتصل بقزوين وبلاد بابك يكون نحوا من عشرين

فرسخا إلى حيث انتهى الولاة وعرفاء الديلم. وما وراء ذلك لم يوصل إليه فيخبر عنه. وكانت طبرستان في الحصانة والمنعة على ما هي عليه، وكانت ملوك فارس تولّيها رجلا ويسمّونه الأصبهبذ، فلم يزالوا على ذلك حتى جاء الإسلام وافتتحت الممالك المتّصلة بطبرستان، فكان صاحب طبرستان يصالح على الشيء اليسير، فيقبل منه لصعوبة المسلك إليها وخشونتها حتى ولّى عثمان بن عفّان سعيد بن العاص بن أميّة الكوفة سنة 29، فكتب مرزبان طوس إليه وإلى عبد الله بن عامر بن كريز وهو على البصرة يدعوهما إلى خراسان على أن يملّك عليها أيّهما غلب وظفر، فسبق ابن عامر وخرج سعيد فغزا طبرستان ومعه في غزاته الحسن والحسين أبناء عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، ففتح سعيد من طبرستان طميش ونامية وصالح ملك جرجان على مائتي ألف درهم بغليّة وافية 2/153 فكان يؤدّيها إلى غزاة المسلمين، وافتتح أيضا من طبرستان الرّويان ودنباوند، وأعطاه أهل الجبال مالا، ثم ولي معاوية فولّى طبرستان مصقلة بن هبيرة بن شبل، فتوغّل بمن معه في بلاد طبرستان، فلمّا جاوز المضايق أخذها العدوّ عليهم ودهدهوا الصخور على رؤوسهم فهلكوا أجمعين وهلك مصقلة فضرب الناس به المثل، فقالوا: حتى يرجع مصقلة من طبرستان. ثم إن عبيد الله بن زياد بن أبي سفيان ولّى محمّد ابن الأشعث الكنديّ طبرستان فصالحهم وعقد لهم عقدا، ثم أمهلوه حتى دخل وأخذ عليه المضيق وقتل ابنه أبو بكر وفضخوه ثم نجا، فكان المسلمون يغزون ذلك الثغر وهم حذرون من التوغّل في أرض العدوّ. ثم ولى يزيد بن المهلّب خراسان وسار يريد طبرستان، فاستجاش اصبهبذ الديلم وقاتله يزيد، ثم إنه صالحه على أربعة آلاف ألف درهم وسبع مائة ألف درهم مثاقيل في كلّ سنة وأربع مائة وقر زعفران، وان يخرجوا أربع مائة رجل على رأس كلّ رجل ترس وجام فضّة ونمرقة حرير وفتح يزيد الرّويان ودنباوند على مال وثياب وآنية.

ولم يزل أهل] «1» طبرستان يؤدون هذا الصلح مرة ويمتنعون أخرى ويحاربون ويسالمون. فلما كان أيام مروان بن محمد، غدروا ونقضوا ومنعوا ما كانوا يحملونه. فلما صارت الخلافة إلى بني العباس [استخلف أبو العباس أمير المؤمنين، فوجّه إليهم عامله 2/154 فصالحوه ثم إنهم غدروا أيضا ونقضوا وقتلوا المسلمين في خلافة المنصور] فوجّه إليهم خازم بن خزيمة التميمي وروح بن حاتم ومعهما مرزوق أبو الخصيب. فسألهما مرزوق حين ضاق عليهم الأمر وصعب أن يضرباه ويحلقا رأسه ولحيته ليوقع الحيلة على الاصبهبذ. ففعلا ذلك وهرب بمواطاة منهما إلى الاصبهبذ فقال له: إن هذين الرجلين استغشاني. فإنهما لما أشرت عليهما أن لا يقصدا بلدك وعرفتهما صعوبة وخشونة طرقه وعقابه ففعلا بي ما ترى. فإن قبلت انقطاعي إليك وأنزلتني المنزلة التي استحقها منك دللتك على عورات العرب وكنت يدا معك عليهم، وإن لم تقبل نصحي واتهمتني انصرفت عنك إلى غيرك من الملوك. فقبله الاصبهبذ وأحسن إليه واستخصه وأظهر الثقة به والمشاورة له. فكان يريه أنه له ناصح ومشفق عليه. فلما اطلع على أموره وعوراته كتب إلى خازم وروح بما احتاجا إلى معرفته واحتال لباب القلعة حتى فتحه وأدخل المسلمين إليها فملكوها. وكان عمرو بن العلاء جزارا من أهل الري فجمع جمعا وقاتل الديلم فأبلى بلاء حسنا فأوفده [جهور بن مرار العجلي] إلى المنصور فقوّده [وجيّشه] وجعل له منزله. وتراقت به الأمور حتى ولي طبرستان واستشهد في خلافة المهدي. وافتتح محمد بن موسى بن حفص بن عمرو بن العلاء ومازيار بن قارن جبال شروين من طبرستان، وهي من أمنع الجبال وأصعبها وأكثرها شجرا وغياضا. وكان فتحهما إياها في أيام المأمون. فقلد المأمون عند ذلك مازيار، طبرستان والرويان ودنباوند وسماه محمدا وجعل له مرتبة الاصفهبذ. فلم يزل واليا عليها حتى توفي

المأمون واستخلف المعتصم، فأقرّه عليها ولم يعزله عنها. فأقام على الطاعة مدة ثم غدر وخالف وذلك [150 ب] بعد ست سنين [وأشهر] من خلافة المعتصم. فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر- وهو عامله على 2/155 خراسان والري وقومس وجرجان- يأمره بمحاربته. فوجه إليه عبد الله، الحسن بن الحسين [عمّه] في جماعة من رجال خراسان. ووجه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب في خلق من جند الحضرة، فلما قصدته العساكر، خرج إلى الحسن بن الحسين بغير عهد ولا عقد، فأخذه وحمله إلى سرمرى في سنة خمس وعشرين ومائتين فضرب بالسياط بين يدي المعتصم حتى مات وصلب في سنة خمس وعشرين ومائتين مع بابك على العقبة التي بحضرة مجلس الشرطة. وافتتحت طبرستان وتقلدها عبد الله بن طاهر، وطاهر بن عبد الله بعده «1» . وكان صاحبها قبل ذلك في أيام المنصور وبعدها، إذا أحس من عامل خراسان بضعف لم يعطه الطاعة ولم يعطه الصلح الذي فورق عليه. فلما قتل المنصور أبا مسلم وفعل تلك الأفعال، هابه اصبهبذ خراسان وكتب إليه بالطاعة ووجه رسوله بالهدايا فقبل المنصور ذلك منه وبرّ رسوله وألطفه وأقام بالحضرة يكاتب صاحبه بما يحتاج إلى علمه. وكان الاصبهبذ يوجه بالهدايا والألطاف في النيروز والمهرجان. وطالت أيام المنصور على الاصبهبذ فكتب إلى رسوله بالانصراف إليه وأمسك أن يبعث بما كان به من الهدايا. فلما خالف عبد الرحمن بن عبد الجبار على المنصور وجه إليه أبا عون القائد ومعه أبو الخصيب. فلما ظفرا بعبد الجبار وأسراه، كتب المنصور إلى أبي الخصيب بولايته قومس وجرجان وطبرستان ويكون دخوله من طريق جرجان. وكتب إلى أبي عون أن يسير إلى طبرستان ويكون دخوله من طريق قومس. وكان الاصبهبذ في مدينة يقال لها الاصبهبذان بينها وبين البحر أقل من

ميلين، فبلغه خبر [دخول] الجيش، 2/156 فهرب إلى الجبل، إلى موضع يقال له الطاق. وهذا الموضع كان في القديم [151 أ] خزانة لملوك الفرس. وكان أول من اتخذه خزانة، منوجهر، وهو نقب في موضع من جبل صعب السلوك لا يجوزه إلّا الراجل بجهد. وهذا النقب شبيه بالباب الصغير. فإذا دخله الإنسان مشى فيه نحوا من ميل في ظلمة شديدة. ثم يخرج إلى موضع واسع شبيه بالمدينة قد أحاطت بها الجبال من كل جانب، وهي جبال لا يمكن أحد الصعود إلى أقلّها ارتفاعا، ولو استوى له ذلك ما قدر على النزول. وفي هذه «1» الرحبة الواسعة مغائر وكهوف لا يلحق أمد بعضها، وفي وسطها عين غزيرة الماء تنبع من صخرة ويغور ماؤها في صخرة أخرى، بينهما نحو عشرة أذرع، ولا يعرف أحد لما بعد هذا موضعا. وكان في أيام ملوك الفرس، يحفظ هذا النقب رجلان معهما سلّم من حبل يدلّونه من الموضع إذا أراد أحدهما النزول في الدهر الطويل. وعندهما جميع ما يحتاجان إليه لسنين كثيرة. فلم يزل الأمر في هذه النقب وفي هذه الخزانة على ما ذكرنا إلى أن ملك العرب، فحاولوا الصعود إليها فتعذر ذلك، ولم يقدروا عليه إلى أن ولي المازيار طبرستان، فقصد هذا المكان وأقام عليه دهرا حتى استوى صعود رجل من أصحابه إليه. فلما صار إليه دلى حبالا وأصعد قوما فيهم المازيار حتى وقف على ما في تلك الكهوف والمغائر من الأموال والسلاح والكنوز، فوكل بجميع ذلك قيّما من ثقاته وانصرف. فكان الموضع في يده إلى أن أسر ونزل الموكّلون به أو ماتوا، وانقطع السبيل إليه إلى هذه الغاية. وذكر سليمان بن عبد الله أن إلى جانب هذا الطاق شبيها بالدكان، وانه إن صار إليه إنسان فلطخه بعذرة أو بشيء من سائر الأقذار، ارتفعت في الوقت سحابة عظيمة فمطرت عليه حتى تغسله وتنظفه وتزيل ذلك القذر عنه. وان ذلك شهر في

البلد يعرفه أهله ولا يتمارى فيه اثنان من أهل تلك الناحية في صحته، وانه لا يبقى عليه شيء من الأقذار صيفا ولا شتاء [151 ب] . قال: ولما هرب الاصبهبذ إلى الطاق وجّه أبو الخصيب في أثره قوادا وجندا، فلمّا أخبر بهم هرب إلى الديلم وعاش بعد هروبه سنة ثم مات. وأقام أبو الخصيب في البلد ووضع على أهله الخراج والجزية وجعل مقامه بسارية وبنى بها مسجدا جامعا وجعل فيه منبرا، وكذلك بآمل أيضا. وكانت ولايته سنتين «1» وستة أشهر. ثم ولى أبو العباس الطوسي. ثم أبو خزيمة، سنتين. ثم روح بن حاتم، سنتين وستة أشهر. ثم خالد بن برمك، خمس سنين [وعمل بها العجائب وظفر بخزائن ملوك فارس في الطاق وبنت المصمغان] «2» . ثم عمرو بن العلاء، أربع سنين. ثم سعيد بن دعلج، سنتين. ثم عمرو بن العلاء ثانية، سنتين. ثم تميم بن سنان، ثلاث سنين. ثم يزيد بن سويد، سنة وأربعة أشهر. ثم سعيد الحرشي، ستة أشهر. ثم مقاتل بن صالح، سنة. ثم سلم بن نافع، ستة أشهر. ثم جرير بن سنان، أربع سنين وأربعة أشهر.

ثم سليمان بن داود، أربعة أشهر. ثم هاني بن هاني، سنتين. ثم حميد بن قحطبة، سنة وستة أشهر. ثم مقاتل بن صالح أيضا ثانية، ستة أشهر. ثم إبراهيم بن عثمان ستة أشهر. ثم سعيد بن سلم، ستة أشهر. ثم الجنيد بن دعلج، ستة أشهر. ثم حماد بن عبد العزيز ستة أشهر. ثم المثنى بن الحجاج بن عبد الملك بن القعقاع، ستة أشهر. ثم يحيى بن معاذ، تسعة أشهر ثم موسى بن يحيى، تسعة أشهر. ثم عبد الله بن حازم، سنة وستة أشهر. ثم سعيد الجوهري، سنة. ثم مهرويه، سنتين. ثم عبد الله بن الحرمي، ثلاث أربع سنين. ثم عبد الله بن مالك، أربع سنين. ثم موسى بن جعفر، سنتين. ثم عبد الله بن سعيد، سنتين. ثم عبد الله بن أبي سعد، سنة. ثم محمد بن أخيه، سنة. ثم موسى بن حفص، أربع سنين. ثم محمد بن موسى، سنتين. 2/157 ثم طاهر بن الحسين.

ثم عبد الله بن طاهر. ثم طاهر بن عبد الله [152 أ] . ثم محمد بن طاهر. وكان خليفته عليها سليمان بن عبد الله بن طاهر. فخرج عليه الحسن بن زيد العلوي الحسني في سنة تسع وأربعين ومائتين. فأخرجه عنها وغلب عليها إلى أن مات وقام مكانه أخوه محمد بن زيد «1» . وذكر أبو يزيد بن أبي عتاب «2» قال: رأيت فيما يرى النائم سنة ثمان وأربعين ومائتين وأنا بمدينة الري، وقد بتنا على فكر من الاختلاف بين القائلين بالسيف وبين أصحاب الامامة. فقال القائل منا: قد قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: الخير بالسيف والخير مع السيف. فأجابه مجيب: والدين بالسيف، وقد أمر الله عزّ وجلّ نبيه (صلى الله عليه وسلم) أن يقيم الدين بالسيف. ثم تفرّقنا. فلما كان الليل وأخذت مضجعي من النوم، رأيت في منامي كأنّ قائلا يقول: هذا ابن زيد أتاكم ثائرا حردا ... يقيم بالسيف دينا واهي العمد يثور بالشرق في شعبان منتضيا ... سيف النبيّ صفيّ الواحد الصمد فيفتح السهل والأجبال مقتحما ... من الكلار إلى جرجان فالجلد وآملا ثم شالوسا وغيرهما ... إلى الجزائر من رويان فالبلد [ويصرف الخيل عنها بعد ثالثة ... من السنين إلى 2/158 الزوراء بالعمد] [فيهدم السور منها ثم ينهبها ... ويقصد الثغر من قزوين بالحرد] ويملك القطر من حرشاء ساكنه ... ما لاح في الجوّ نجم آخر الأبد قال: فورد محمد بن رستم الكاري ومحمد بن شهريار الروياني «3» ، [من آل معدان] الري في سنة خمسين ومائتين- وكانا يريان السيف- فتطلبا رجلا من

العلوية يجعلانه شيخا مقيما بطبرستان ليدفعا جور سليمان بن عبد الله. فما زالا يطلبان ويلتمسان حتى وقع اختيارهما على الحسن بن زيد الحسني رضي الله عنه فبايعاه في شهر رمضان من هذه السنة، وخرجا يوم الاثنين لسبع بقين من شهر رمضان سنة خمسين ومائتين نحو طبرستان. فخطب الحسن بن زيد يوم الفطر بالكلار والرويان ثم أخرج بعد مديدة يسيرة سليمان بن عبد الله [152 ب] عن البلد لسوء سيرته. واضطرب أمر آل طاهر بخراسان. واعتلّ الحسن بن زيد، فلما حضرته الوفاة، جعل الأمر من بعده لأخيه محمد بن زيد، فلم يزل عليها حتى دخلت سنة أربع وثمانين، وكان المعتضد كتب إلى عمرو بن الليث الصفار يأمره بالمصير إلى خراسان وأن يطلب رافع بن هرثمة الذي بلغه من معه إلى محمد بن زيد وإنه على أن يبيض «1» . فصار إلى خراسان ولقي رافع بن هرثمة فأوقع به وهزمه وأخذه قريبا من خوارزم فقتله وحمل رأسه إلى مدينة السلام 2/159 وصفت خراسان للصفار. فلما كان في سنة خمس وثمانين ومائتين، كتب المعتضد إلى الصفار يأمره بطلب إسماعيل بن أحمد ويقول في كتابه أن قد وليتك [ما] إليه من العمل. وكتب إلى إسماعيل بمثل ذلك. فسار كل منهما إلى صاحبه والتقوا بناحية نسا وأبيورد فقتل بينهما خلق كثير وانصرف كل منهما إلى بلده. حتى إذا دخلت سنة سبع وثمانين ومائتين سار إسماعيل بن أحمد نحو الصفار وعبر النهر يريده- والصفار في زهاء مائة ألف رجل مقيم بمدينة بلخ- فنزل إسماعيل على باب المدينة وحاصره فيها. فلما أجهده الحصار وضاقت عليه وعلى أصحابه الميرة والعلوفة، خرج إليه، فلما التقيا انهزمت خيل الصفار، وأخذ الصفار أسيرا مع جماعة من وجوه قوّاده فحمل إلى مدينة سمرقند وحبس هناك [ثم بعث إلى بغداد] . واتصل الخبر بمحمد بن زيد وهو بطبرستان، فطمع في جرجان وسار نحوها ونزل عليها. فردّ إليه إسماعيل رجلا من قواده يعرف بمحمد بن هارون فواقعه على

باب مدينة جرجان فهزمه وقتل خلقا من أصحابه، ووجد محمد بن زيد قتيلا وأسر ابنه زيد، [وذلك يوم الجمعة لخمس خلون من شوال سنة 287] «1» ، ولم يردّ أصحابه من الهزيمة شيء حتى وافوا طبرستان فلما اجتمعوا بها تشاوروا واتفق رأيهم على أن يجعلوا الأمر للمهدي بن زيد بن محمد- وهو يومئذ صبي لم يبلغ [153 أ] وعملوا أن يفعلوا ذلك يوم الجمعة ونادوا في الناس أن يجتمعوا للبيعة. وكان في القوّاد رجل «2» يعرف بالزرّاد قد طابقهم على ما أجمعوا عليه. فلما قربوا من باب المسجد، نشر الزراد أعلاما سودا ووضع في أصحاب محمد بن زيد السيف فقتل منهم خلقا وخطب للمعتضد بالله على منابر طبرستان وذلك في ذي القعدة سنة سبع وثمانين ومائتين. فكان بين أول ولايتهم إلى أن خرجت عنهم سبع وعشرون «3» سنة. قالوا: ومن عجائب طبرستان دويبة سوداء برّاقة 2/160 تظهر في أيام العنب فقط وتكون في عناقيده قدرها دون الخنصر طولا وفوق الخيط الدقيق جسما، فيها خطوط بيض يسميها الناس ذات ألف قائمة، ولها قوائم دقاق قصار نابتة على بطنها في صفوف فإذا تحركت فكأنها أمواج [تضطرب] وتذكر النساء ان من شربت منها شيئا منعها عن الحبل. وبطبرستان أيضا دابة في عظم الثعلب لها شعر كشعر الدلق وجناحان لاصقان بها كأجنحة الخفاش ولها أنياب وطعامها الثمر تطير من شجرة إلى شجرة كما يطير الطائر. قال: وأخبرني سليمان بن يحيى أنه رأى ثعلبا حمل من خراسان إلى المتوكل، له جناحان يطير بهما. قال علي بن ربن «4» كاتب المازيار كان بطبرستان طائر يسمونه كنكر يظهر

أيام الربيع، فإذا ظهر تبعه جنس من العصافير موشّاة الريش، فيخدمه كل يوم. واحد منها نهاره أجمع، يجيئه بالغذاء ويزقّه به. فإذا كان في آخر النهار وثب على ذلك العصفور «1» فأكله. حتى إذا أصبح وصاح، جاءه آخر من تلك العصافير فكان معه على ما ذكرنا، فإذا أمسى أكله. فلا يزال على هذا مدة أيام الربيع. فإذا زال الربيع، فقد هو وسائر أشكاله، وكذلك أيضا ذلك الجنس من العصافير فلا يرى شيء من الجميع إلى قابل في ذلك الوقت. وهو طائر في قدر الفاختة وذنبه مثل ذنب الببغاء وفي منسره تعقيف. وقد يفعل هذا البوم أيضا في الجمال فإنهن يتعلقن بغصن من أغصان الشجر ثم يصوّتن [153 ب] صوتا تعرفه العصافير- وفي طبع العصافير معاداة البوم- فإذا سمعن ذلك الصوت اجتمعن ولا يزلن يرفرفرن على البوم، فكلما أمكنه شيء منهن وثب فأخذ وهن لا يبرحن من الترفرف عليه حتى يأخذ منهن ما يريد. فإذا اكتفى طار. قال: ووجه المنصور خالد بن برمك إلى طبرستان لمحاربة الاصبهبذ والمصمغان. وكانت الأكاسرة أيام هربهم من العراق إلى مرو وقتل يزدجرد، أودعوا جبل طبرستان نفيس أموالهم لصعوبته وشدّة مسلكه وصيروا ذلك في القلاع. فلما وافى خالد بن برمك الجبل وملك قلاعه، وجد فيها من الجواهر والتيجان والمناطق والسيوف المكلّلة بالدر والياقوت والزمرّد ما لا قيمة له، وظفر من ذلك أهل البلد شيء كثير، فعظم ذلك وكبر خالد في نفوسهم، لأنه فتح هذا الفتح الجليل ما كانوا يصورونه على تراسهم ويصورون المجانيق التي كان يرميهم بها. فأمّا الاصبهبذ لما دام الحصار عليه شرب السم وسقاه جميع حرمه فمات وماتوا. وأما المصمغان فخرج ومعه نساؤه وسائر حرمه إلى خالد وجلس وأجلسهم

حوله على التراب. فرّق له خالد وأجلسه على البساط وبعث به وسائر حرمه وبناته إلى المنصور. وكان له عدة بنات- وأمهنّ بنت الاصبهبذ- فصارت واحدة منهن إلى إسماعيل بن علي وأخرى إلى المهدي وأخرى إلى العباس بن محمد، فولدت له إبراهيم بن العباس. وكانت شكلة أم إبراهيم بن المهدي [فصارت إلى عبد الصمد بن علي] «1» ثم صارت إلى المهدي فولدت له إبراهيم. وكان يسار بين يدي خالد وهو بطبرستان بعدة ألوية وهو الذي بنى المنصورة واتخذ بها سوقا ومسجدا جامعا.

2/126 القول في آذربيجان قال ابن المقفّع «1» : آذربيجان آذرباذ بن إيران بن الأسود بن سام بن نوح، ويقال آذرباذ بن بيوراسف، وافتتحها المغيرة بن شعبة في سنة 22 عنوة، ووضع عليها الخراج. وأخبرني واقد أن العرب لمّا نزلت آذربيجان نزعت إليها عشائرها من المصريّين والشاميّين، وغلب كلّ قوم على ما أمكنهم، فصار أهلها مزارعين لهم، فكانت ورثان منظرة، فبناها مروان بن محمّد بن مروان بن الحكم، وأحيا أرضها وحصّنها فصارت ضيعة، ثم قبضت عن بني أميّة، فصارت لأمّ جعفر زبيدة بنت جعفر بن المنصور، وكان الورثانيّ من مواليها، وكانت برزند قرية فعسكر بها الأفشين أيّام محاربته بابك فحصّنها وبناها، وكانت المراغة تدعى أفرازهروذ، وكانت موضع متمرّغ لدوابّ 2/127 مروان بن محمّد والي أرمينية ودوابّ أصحابه، فكانوا يسمّونها قرية المراغة، ثم حذف الناس قرية فقالوا المراغة، وكان أهلها ألجئوها إلى مروان فقبضت مع ضياع بني أميّة، وصارت لبعض بنات الرشيد، فلمّا عاث الوجناء الأزديّ وصدقة بن عليّ مولى الأزد وأفسدوا، ولّي خزيمة بن خازم أرمينية وآذربيجان في خلافة الرشيد، فبنى سورها وحصّنها ومصّرها وأنزلها جندا كثيفا، فلمّا ظهر بابك بأرمينية لجأ الناس إليها فنزلوها وتحصّنوا بها، وأما مرند فكانت قرية صغيرة فحصّنها أبو البعيث، ثم حصّنها البعيث، ثم من بعده محمّد ابنه، وبنى بها قصرا.

وأما أرمية فمدينة قديمة يزعم المجوس أن زردشت صاحبهم منها، وكان صدقة بن عليّ مولى الأزد غلب عليها وبنى بها قصورا، وأما تبريز فنزلها الرّوّاد الأزديّ ثم الوجناء بن الروّاد، وبنوا بها وحصّنوها بسور فنزلها الناس معه، وأما الميانج وجيلبايا فمنازل الهمدانيّين، وأما كورة برزة فللأوديّين، وأما نريز فكانت قرية لها قصر قديم متشعّث، فنزلها مرّ بن عمرو الموصليّ الطائيّ، فبنى بها وسكنها وولده، فصاروا يتولّونه دون عامل آذربيجان، وأما سراة ففيها جماعة من كندة من ولد من كان مع الأشعث بن قيس. وروى مكحول الشاميّ قال: أسرع الأرض خرابا أرمينية، قيل: وما يخربها؟ قال: سنابك الخيل كأني 2/128 أنظر إلى خلاخيل نساء قيس تضطرب فدار فيها الخيل. وحدّ آذربيجان من حدّ برذعة إلى حدّ زنجان، ومن مدنها: بركري، وسلماس، وموقان، وخويّ، وورثان، والبيلقان، والمراغة، ونريز، وتبريز، ويتّصل الحدّ الثاني من الجانب الشرقيّ ببلاد الديلم، والطّرم، وجيلان، ومن مدنهم: برزة، وسابرخاست، والخونج، والميانج، ومرند، وخويّ وكولسره، وبرزند، وكانت خرابا فمدّنها الأفشين ونزلها، والطريق من برزند إلى ورثان وهي آخر عمل آذربيجان اثنا عشر فرسخا، ومنها: جنزة، وجابروان، وأرمية مدينة زردشت، والشيز وبها بيت نار آذرجشنس، وهو عظيم القدر عند المجوس، ورستاق السّلق، ورستاق سندبايا، والبذّ، ورستاق ما ينهرج، ورساتيق أرم، وخراج آذربيجان ألفا ألف درهم، وورثان آخر عمل آذربيجان من ذلك الوجه .

2/129 القول في أرمينية قال أبو المنذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ: سمّيت أرمينية بأرميني بن لنطى وهو ابن يونان بن يافث. وحدّ أرمينية من برذعة إلى الباب والأبواب، وإلى حدّ الروم من ذلك الوجه، وإلى جبل القبق وملك السّرير وملك اللّكز. ومن آخر عمل آذربيجان وهو ورثان إلى أوّل عمل أرمينية ثمان سكك، ومن برذعة إلى تفليس عشر سكك، وأرمينية الأولى هي السّيجان، وأرّان، وتفليس. وافتتحها حبيب بن مسلمة ومنها برذعة وبناها قباذ الأكبر، وبنى الباب والأبواب وبناها قصورا، وإنما سمّيت أبوابا لأنها بنيت على طرق في الجبل، وهي ثلاثمائة وستّون قصرا إلى باب اللّان مائة قصر، وعشرة قصور في أيدي المسلمين إلى أرض طبرستان، وباقي القصور في أرض فيلان. وصاحب السرير إلى باب اللّان «1» . 2/130 ومن أرمينية الأولى: البيلقان وقبلة وشروان، وأرمينية الثانية: جرزان وصغدبيل وباب فيروز قباذ واللّكز، وأرمينية الثالثة: البسفرّجان ودبيل وسراج طير وبغروند والنّشوى، وأرمينية الرابعة: وفيها قبر صفوان بن المعطّل السّلميّ صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بينها وبين حصن زياد، عليه شجرة لا يعرف ما هي، حملها يشبه اللوز وطعمه أطيب من الشهد، شمشاط، وخلاط، وقاليقلا، وأرجيش،

وباجنيس، وكانت كور أرّان والسيجان في مملكة الخزر. وفي قصّة موسى: أرأيت إذ أوينا إلى الصّخرة قال: الصخرة صخرة شروان والبحر بحر جيلان والقرية باجروان. وبنى قباذ مدينة البيلقان أيضا، ومدينة برذعة، ومدينة قبلة، وبنى سدّ اللبن، وبنى على سدّ اللبن ثلاثمائة وستّين مدينة، خربت بعد بناء الباب والأبواب ثم ملك بعده ابنه كسرى أنوشروان فبنى مدينة الشابران، ومدينة مسقط، ومدينة كركرة، ثم بنى مدينة الباب والأبواب، وإنما سمّيت أبوابا لأنها بنيت على طرق في الجبل، وبنى بأرض 2/131 أرّان أبواب شكّى، وأبواب الدّودانيّة، وهم أمّة يزعمون أنهم من بني دودان بن أسد بن خزيمة، وبنى الدّرزوقيّة وهي اثنا عشر بابا، كلّ باب منها فيه قصر من حجارة، وبنى بأرض جرزان مدينة يقال لها سغدبيل، وأنزلها قوما من السغد وأبناء فارس، وجعلها مسلحة، وبنى باب اللان، وباب سمسخي، وبنى قلعة الجردمان، وقلعة شمشلدى، وبنى بلنجر وسمندر وخزران، وشكّى، وفتح جميع البلاد ما كان في أيدي الروم، وعمر مدينة دبيل وحصّنها، وبنى مدينة النّشوى وهي مدينة كورة البسفرّجان، وبنى حصن ويص وقلاعا بأرض السيسجان منها قلعة الكلاب وشاهبوش وأسنها من سياسيجيّته ذوي البأس والنجدة، وبنى الحائط بينه وبين الخزر بالصخر والرصاص وعرضه ثلاثمائة ذراع، حتى ألحقه برءوس الجبال، ثم قاده في البحر وجعل عليه أبواب حديد، فكان يحرسه مائة رجل بعد أن كان يحتاج إلى خمسين ألف رجل. وفي أخبار الفرس أن أنوشروان لمّا فرغ من سدّ ثغر بلنجر، وفنّد الفند في البحر وأحكمه، سرّ بذلك سرورا شديدا، فأمر أن ينصب له على الفند سرير من ذهب، ثم رقي إليه فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا ربّ الأرباب ألهمتني سدّ هذا الثغر وقمع العدوّ، فلك الحمد فأحسن مثوبتي، وردّ غربتي إلى وطني، ثم ركع وسجد، ثم استوى واستلقى على فراشه، وأغفي إغفاءة، فطلع طالع من البحر سدّ الأفق لطوله، وارتفعت معه غمامة سترت الضوء، 2/132 وأهوى نحو الفند فبادر الأساورة إلى قسيّهم، وانتبه الملك فزعا فقال: ما شأنكم؟ فقيل له فقال: أمسكوا

عن سلاحكم فلم يكن الله جلّ وعزّ ليلهمني الشخوص عن وطني اثني عشر حولا حتى أسدّ ثغرا يكون مرفقا لعباده وراحة لأهل إقليمه، ثم يسلّط عليّ بهيمة من بهائم البحر، فتنحّى الأساورة وأقبل الطالع نحو الفند حتى علاه ثم قال: أيّها الملك أنا ساكن من سكّان هذا البحر، وقد رأيت هذا الثغر مسدودا سبع مرّات، وخرابا سبع مرّات، وأوحى الله جلّ وعزّ إلينا معاشر سكّان البحر أن ملكا عصره عصرك وصورته صورتك يبعثه الله لسدّ هذا الثغر، فيسدّه إلى الأبد، وأنت ذلك الملك، فأحسن الله مثوبتك، وعلى البرّ معونتك، وأطال مدّتك، وسكّن يوم الفزع الأكبر روعتك، ثم غاص في البحر. وكذلك بنى مدينة شروان، فأما بلنجر داخل أرض الخزر فبناها بلنجر بن يافث. ولمّا فرغ أنوشروان من الفند الذي في البحر سأل عن ذلك البحر فقيل: أيّها الملك هذا البحر يسمّى بكردبيل، وهو ثلاثمائة فرسخ في مثله، وبيننا وبين بيضاء الخزر مسيرة أربعة أشهر على هذا الساحل، ومن بيضاء الخزر إلى السدّ الذي سدّه إسفنديار بالحديد مسيرة شهرين، قال أنوشروان: لا بدّ من الوقوف عليه، قالوا: فليس إليه طريق يسلك، وفيه موضع يقال له دهان شير، وفيه 2/133 دردور «1» لا يطمع فيه، ولا في سلوكه، ولا تنجو سفينة منه، فقال: لا بدّ من ركوبه والإشراف على هذا الدردور والنظر إلى هذا السدّ، فقالوا: أيّها الملك اتّق الله في نفسك ومن معك، فأبى وقال: إن الذي نجّاني من الخارج علينا من البحر لقادر أن ينجّينا من دردوره، فهيّئت له سفن وركب معه عدّة من الزهّاد والعبّاد، ولجّجوا في البحر أيّاما، حتى إذا وافوا موضع الدردور بقوا متحيّرين لا يرون علما يجعلوه منارا لهم، ولا جبلا يقيموه إمارة لمنصرفهم، فرجعوا على الملك باللوم، فقال أنوشروان: أخلصوا لله نيّاتكم واضرعوا إليه وابتهلوا إلى الله عزّ وجلّ، ونذر أنوشروان لئن نجّاه الله ليصدّقنّ خراج سبع سنين في أهل الفاقة من مملكته، فبينما هم كذلك إذ رفعت لهم جزيرة تعلوه الأمواج وفوق الجزيرة تمثال أسد في عظم

جبل، يدخل الماء في مؤخّره، وينحطّ من فيه إلى ذلك الدردور، فبينا هم كذلك إذ بعث الله جلّ وعزّ بقرش- سمكة أعظم من التنّين- ينساب على الماء، فطفرت في فم الأسد وسكن الدردور ونفذت السفن حتى وصل إلى ما أراد، وانصرف إلى جرجان وقضى نذره. وذكر أحمد بن واضح الأصبهانيّ أنه أطال المقام ببلاد أرمينية، وأنه كتب لعدّة من ملوكها وعمّالها، 2/134 وأنه لم ير بلدا أكثر خيرا، ولا أعظم حيوانا منها، وذكر أن عدّة ممالكها مائة وثلاث عشرة مملكة، منها: مملكة صاحب السرير بين اللان وباب الأبواب، وليس إليها إلّا مسلكان: مسلك إلى بلاد الخزر، ومسلك إلى بلاد أرمينية، وهي ثمانية عشر ألف قرية، وأرّان أوّل مملكة بأرمينية فيها أربعة آلاف قرية، وأكثرها قرى صاحب السرير. [وباب الأبواب أفواه شعاب في جبل القبق، فيها حصون كثيرة منها: باب صول، وباب اللان، وباب الشابران، وباب لازقة، وباب بارقة، وباب سمسجن، وباب صاحب السرير، وباب فيلانشاه، وباب طارونان، وباب طبرسران شاه، وباب إيران شاه. وكان السبب في بناء باب الأبواب على ما حدّث به أبو العباس الطوسي «1» قال: هاجت الخزر مرة في أيام المنصور فقال لنا: أتدرون كيف بناء أنوشروان الحائط الذي يقال له الباب؟ قلنا: لا. قال: كانت الخزر تغير في سلطان فارس حتى تبلغ همذان والموصل. فلما ملك أنوشروان بعث إلى ملكهم فخطب إليه ابنته على أن يزوّجه إياها ويعطيه هو أيضا ابنته ويتوادعا ثم يتفرغا لأعدائهما. فلما أجابه إلى ذلك، عمد أنوشروان إلى جارية من جواريه نفيسة فوجّه بها إلى ملك الخزر على أنها ابنته وحمّل معها ما يحمل مع بنات الملوك. وأهدى خاقان إلى أنوشروان ابنته. فلما وصلت إليه كتب إلى ملك الخزر: لو التقينا فأوجبنا المودة

بيننا. فأجابه إلى ذلك وواعده إلى موضع سمّاه. ثم التقيا فأقاما أياما. ثم إن أنوشروان أمر قائدا من قوّاده أن يختار ثلاثمائة رجل من أشدّاء أصحابه، فإذا هدأت العيون أغار في عسكر الخزر. فحرق وعقر ورجع إلى العسكر في خفاء ففعل. فلما أصبح بعث إليه خاقان: ما هذا؟ بيّت عسكري البارحة؟ فبعث إليه أنوشروان: لم تؤت من قبلنا فابحث وانظر. ففعل، فلم يقف على شيء. ثم أمهله أياما وعاد لمثلها حتى فعل ثلاث مرات، وفي كلها يعتذر ويسأله البحث فيبحث فلا يقف على شيء. فلما أثقل ذلك على خاقان، دعا قائدا من قواده وأمره بمثل ما أمر به أنوشروان. فلما فعل، أرسل إليه أنوشروان: ما هذا؟ استبيح عسكري الليلة وفعل بي وصنع. فأرسل إليه خاقان: ما أسرع ما ضجرت! قد فعل هذا بعسكري ثلاث مرات، وإنما فعل بك أنت مرة واحدة. فبعث إليه أنوشروان: هذا عمل قوم يريدون أن يفسدوا فيما بيننا، وعندي رأي لو قبلته رأيت ما تحب. قال: وما هو؟ قال: تدعني أن أبني حائطا بيني وبينك وأجعل عليه بابا فلا يدخل بلدك إلّا من تحب ولا يدخل بلدي إلّا من أحب. فأجابه إلى ذلك وانصرف خاقان إلى مملكته. وأقام أنوشروان يبني الحائط بالصخر والرصاص وجعل عرضه ثلاثمائة ذراع وعلوّه حتى ألحقه برءوس الجبال ثم قاده في البحر. فيقال إنه نفخ الزقاق وبنى عليها فأقبلت تنزل والبناء يصعد حتى استقرت الزقاق على الأرض، ثم رفع البناء حتى استوى مع الذي على الأرض في عرضه وارتفاعه. وجعل عليه بابا من حديد ووكل به مائة رجل يحرسونه بعد أن كان يحتاج إلى مائة ألف رجل. ثم نصب سريره على الفند الذي صنعه على البحر وسجد سرورا بما هيأه الله على يده ثم استلقى على ظهره وقال: الآن حين استرحت. ووصف بعضهم هذا السدّ الذي بناه أنوشروان فقال: إنه جعل طرفا منه في البحر فأحكمه إلى حيث لا يتهيأ سلوكه. وهو مبني بالحجارة المنقورة المربعة

المهندمة لا يقلّ أصغرها خمسون رجلا وقد أحكمت بالمسامير والرصاص. وجعل في هذه السبعة فراسخ، سبعة مسالك على كل مسلك مدينة. ورتّب فيها قوم من المقاتلة من الفرس يقال لهم الانشاستكين. وكان على أرمينية وظائف رجال لحراسة ذلك السور، مقدار ما يسير عليه عشرون رجلا بخيلهم لا يتزاحمون. وذكر أن بمدينة الباب على باب الجهاد فوق الحائط أسطوانتين من حجر على كل اسطوانة تمثال أسد من حجارة بيض، وأسفل منهما حجرين على كل حجر تمثال لبؤتين، وبقرب الباب صورة رجل من حجر وبين رجليه صورة ثعلب 2/135 في فمه عنقود عنب، وإلى جانب المدينة صهريج معقود له درجة تنزل إلى الصهريج منها إذا قلّ ماؤه، وعلى جنبي الدرجة أيضا صورتا أسد من حجارة يقولون إنهما طلسمان للسور. وأما حديثها أيام الفتوح فإن سلمان بن ربيعة الباهلي غزاها في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتجاوز الحصنين وبلنجر ولقيه خاقان ملك الخزر في جيشه خلف نهر بلنجر فاستشهد سلمان بن ربيعة وأصحابه- وكانوا أربعة آلاف- فقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلي يذكر سلمان بن ربيعة وقتيبة بن مسلم الباهليين يفتخر بهما: وإنّ لنا قبرين: قبر بلنجر ... وقبر بصين استان يا لك من قبر فهذا الذي بالصين عمّت فتوحه ... وهذا الذي يسقى به سبل القطر] «1»

وقاليقلا امرأة بنت مدينة قاليقلا فنسبت إليها، ومعنى ذلك إحسان قالي، وأما بحيرة الطّريخ فلم تزل مباحة حتى ولي محمّد بن مروان بن الحكم الجزيرة وأرمينية فحوى صيدها، ثم صارت لمروان بن محمّد فقبضت عنه. وفتح حبيب بن مسلمة لعثمان بن عفّان من أرمينية مدنا كثيرة، وولى عبد الله بن حاتم بن النعمان بن عمرو الباهليّ من قبل معاوية، ثم وليها ابنه عبد العزيز، فبنى مدينة دبيل إلى مدينة برذعة ومدنا كثيرة، ففتح حبيب بن مسلمة لعثمان بن عفّان من أرمينية: جراخ، وكسفر، وكسال، وخنان، وسمسخي، والجردمان، وكسفى بيس، وشوشيت، وبازليت صلحا، على أن يؤدّوا أتاوة عن رؤوسهم وأراضيهم، وصالح الصّناريّة، وأهل قلرجيت والدّودانيّة على أتاوة. وكانت شمكور مدينة قديمة فوجّه إليها سلمان بن ربيعة من فتحها، فلم تزل مسكونة حتى أخربها الساورديّة «1» ، 2/136 قوم تجمّعوا أيّام انصراف يزيد بن أسيد «2» عن أرمينية، فغلظ أمرهم وكثرت نوائبهم، ثم إن بغا مولى المعتصم بالله عمرها وحصّنها ونقل إليها التجّار وسمّاها المتوكّليّة «3» . وفتح سلمان بن ربيعة مدينة البيلقان صلحا، ووجّه خيله ففتحت سيسر، والمسقوان، وأوذ، والمصريان، والمهرجليان، وهي رساتيق عامرة وفتح غيرها من أرّان، ودعا أكراد البلاسجان إلى الإسلام فقاتلوه فظفر بهم فأقرّ بعضهم بالجزية وأدّى بعضهم الصدقة، ثم سار سلمان إلى مجمع الكرّ والرّسّ خلف برديج، فعبر الكرّ ففتح قبلة وصالحه شكّن والقميبران، وخيزان، وملك شروان، وسائر ملوك الجبال، وأهل مسقط والشابران، ومدينة الباب، ثم أغلقت هذه بعده، ولقيه خاقان في خيوله خلف نهر

بلنجر، فقتل (رحمه الله) في أربعة آلاف من المسلمين، وكان سلمان أوّل من استقضي بالكوفة أقام أربعين يوما لا يأتيه خصم، وقد روي عن عمر بن الخطّاب. قالوا: ولمّا فتح حبيب ما فتح من أرض أرمينية كتب بذلك إلى عثمان، فوافاه كتاب نعيّ سلمان فهمّ بأن يولّيه، ثم رأى أن يجعله غازيا لثغور الشام والجزيرة، فولّى ثغر أرمينية حذيفة بن اليمان العبسيّ ثم عزله، وسار حبيب راجعا إلى الشام، فكان يغزو الروم ونزل حمص فنقله معاوية إلى دمشق فتوفّى بها. وولّى أرمينية المغيرة بن شعبة ثم عزله، وولّى القاسم بن ربيعة الثقفيّ، 2/137 ووليّ الأشعث بن قيس لعليّ بن أبي طالب أرمينية وآذربيجان، ثم وليها غير واحد إلى أن وليها مروان بن محمّد، ففتح بلاد الخزر وأمعن فيهم. ثم جاءت الدولة العبّاسيّة فولي أبو جعفر الجزيرة وأرمينية في خلافة أخيه أبي العبّاس، ثم استخلف وولى يزيد بن أسيد السلميّ، وفتح باب اللان ورتّب فيه رابطة من أهل الديوان، ودوّخ الصّنّاريّة حتى أدّوا الخراج، ثم إن أهل أرمينية استعصوا في ولاية الحسن بن قحطبة الطائيّ بعد عزل يزيد بن أسيد، فبعث المنصور بالأمداد وعليهم عامر بن إسماعيل، فأوقع الحسن بموشايل وكان رئيسهم، وفرّق جمعه واستتبّ له الأمر وهو الذي نسب إليه نهر الحسن بالبيلقان، وباغ الحسن ببرذعة والضياع المعروفة بالحسنيّة، ثم ولي بعد الحسن عثمان بن عمارة، ثم روح بن حاتم المهلّبيّ، ثم خزيمة بن خازم، ثم يزيد بن مزيد الشيبانيّ، ثم عبيد الله بن المهديّ، ثم الفضل بن يحيى، ثم سعيد بن سلم، ثم محمّد بن يزيد بن مزيد، وكان خزيمة أشدّهم ولاية، وهو الذي سنّ المساحة بدبيل ونشوى، ولم يكن قبل ذلك. ثم وليهم خالد بن يزيد بن مزيد في ولاية المأمون، ثم ولّى المعتصم بالله الحسن بن عليّ الباذغيسيّ المعروف بالمأمونيّ الذي واصل بطارقة أرمينية ولان لهم حتى خرجوا عليه، ثم لم يزل يتولّى أرمينية عمّال كانوا يرضون اليسير من أهلها، حتى ولى المتوكّل فبعث إليها يوسف بن محمّد بن يوسف المروزيّ لسنتين من خلافته «1» . 2/138 وقالوا: أعظم حيوان أرمينية الشاء، والثيران، والكلاب، وبراذينها صغار،

وكذلك جمالها صغار. تكاد صدورها تصيب الأرض تشبه إبل الترك. وجبل القبق فيه اثنان وسبعون لسانا، كلّ إنسان لا يعرف لغة صاحبه إلّا بترجمان، وطوله خمس مائة فرسخ، وهو متّصل ببلاد الروم إلى حدّ الخزر واللان، ويتّصل ببلاد الصقالبة، وفيه أيضا جنس من الصقالبة والباقون أرمن. وقالوا: إن هذا الجبل جبل العرج الذي بين المدينة ومكّة، يمضي إلى الشام ويتّصل بلبنان من حمص: وسنير من دمشق، ثم يمضي فيتّصل بجبال أنطاكية والمصّيصة، ويسمّى هناك اللّكام، ثم يتّصل بجبال ملطية وشمشاط وقاليقلا إلى بحر الخزر، وفيه الباب والأبواب ويسمّى هناك القبق. [أخبرني أبو الهيجا اليمامي وكان أحد برد الآفاق وكان صدوقا فيما يحكي: إن بقاليقلا بيعة للنصارى وفيها بيت لهم كبير تكون فيه مصاحفهم وصلبانهم] «1» ، فإذا كان ليلة الشعانين يخرج من موضع من البيت تراب أبيض إلى الصباح، فإذا كان الصباح انضمّ موضعه إلى قابل من ذلك الوقت، فيأخذه الرهبان فيدفعونه إلى الناس وخاصّيّته للسموم والعقارب والحيّات يداف منه وزن دانق بماء ويشربه الملدوغ والمسلوع فيسكن على المكان. وفيه أعجوبة أخرى وذلك أنه إن بيع هذا التراب وأخذ عليه شيء من عرض الدنيا لم ينتفع صاحبه ولم يبرئه من وجعه. ومن عجائب أرمينية: بحيرة خلاط فإنها عشرة أشهر لا يرى فيها ضفدع ولا سرطان ولا سمكة، ثم يظهر السمك بعد ذلك شهرين وسمكه كلّه مستراث «2» . وقال أبو المنذر: اتّخذ الطلسمات كوش بن حام بن نوح، والضحّاك ذو الحيّتين، وذو القرنين، ويوسف بن يعقوب، وموسى بن عمران، وحلوان العمليقيّ، وبليناس الروميّ 2/139 وقانبوس. وحدّ آذربيجان إلى الرّسّ والكرّ بأرمينية، ومخرج الرسّ من قاليقلا، ويمرّ بأرّان فيصبّ فيه نهر أرّان، ثم يمرّ بورثان، ويمرّ بالمجمع فيجتمع هو والكرّ

وبينهما مدينة البيلقان، ويمرّان جميعا فيصبّان في بحر جرجان. والرسّ واد عجيب، وفيه أنواع من السمك، وفيه يكون الشورماهي ولا يكون إلّا في هذا الوادي، ويجيء في كلّ سنة في وقت معلوم، كمثل أصناف حيتان البحر وقواطع السمك، فإنها تجيء في أوقات معلومة كالاستور، والجراف، والبرستوج، فإن هذه الأنواع تأتي البصرة من أقاصي البحار تستعذب الماء في ذلك الإبّان، ألا إنّ البرستوج يقبل إليهم من الزنج يستعذب الماء من دجلة البصرة، يعرف ذلك جميع البحريّة، وهم يزعمون أن الذي بين البصرة وعمان أبعد ما بين البصرة والزنج، وإنما غلط الناس فزعموا أن الصين أبعد لأن بحر الزنج حفيرة واحدة عميقة واسعة، وأمواجه عظام، ولذلك البحر ريح تهبّ قويّة، ومن عمان إلى جهة الزنج شهران، فلمّا كان البحر عميقا والريح قويّة والأمواج عظيمة والخيرات ببلاد الزنج قليلة، وكان الشراع لا تحطّ وكان سيرهم مع الوتر، ولم يكن مع القوس ولا يعرفون الكنب والمكا، صارت الأيّام التي تسير فيها قسمة الزنج أقرب، 2/140 فالبرستوج يقطع أمواج البحر، ويسبح من الزنج إلى البصرة، ثم يعود ما فضل عن صيد الناس إلى بلاده، فتبارك الله أحسن الخالقين، وإنما عرف الشورماهي في هذا النهر من بين السمك لطيبه ولذّته وكثرة دسمه ورطوبة لحمه. قالوا: ولنا المنّ الكثير وهو الترنجبين، ولنا القرمز الذي ليس يشركنا فيه أحد، وهي دودة حمراء تظهر أيّام الربيع، فتلتقط ثم تطبخ ويصبغ بها الصوف، والأشق دابّة تكون بأرمينية شبه السنّور، ليّنة المفاصل وبرة الجلد، ويبلغ الثور جملة وأنيابها جيّدة للمحبّة، تؤخذ أنيابها ومخاليبها فتجفّف وتسقيه من تحبّ فإنه يحبّك حبّا شديدا. ولنا الفوّة الكثيرة، وبها معدن الزيبق والقلقند والقلقطار والأسربّ، ولهم الثيران الأرمينيّة، والشاة بلّوط، والخلنج الكثير، ويتّخذون منه عجائب، وتقطع هذه من غيضة ملتفّة بناحية برذعة، كثيرة الشجر والنبات تتّصل بالخزر وتمرّ إلى ناحية خوارزم تسمّى غيضة الرحمن. وتقرير أرمينية ألفا ألف وثلاثة وثلاثون ألفا وتسع مائة وخمسة وثمانون درهما.

2/141 وخارج الباب ملك سور واللّكز، وملك اللان، وملك فيلان، وملك المسقط، وصاحب السّرير، ومدينة سمندر، ومن جرجان إلى خليج الخزر إذا كانت الريح طيّبة ثمانية أيّام، والخزر كلّهم يهود وإنّما هوّدت من قريب «1» ، ومن بلاد الخزر إلى موضع السدّ شهران قال الله جلّ وعزّ في سورة الكهف: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ - إلى قوله-: إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ قال: كانوا يخرجون أيّام الربيع إلى أراضيهم فلا يدعون شيئا أخضر إلّا أكلوه ولا شيئا يابسا إلّا احتملوه. فقال: ما مكّنّي فيه ربّي خير فأعينوني بقوّة أجعل بينكم وبينهم ردما، قالوا: ما الذي تريد؟ قال: زبر الحديد- يعني قطع الحديد- 2/142 ثم أمر بالحديد فضرب منه لبنا عظاما، وأذاب النحاس، ثم جعل ملاط اللبن النحاس وبنى به الفجّ وسوّاه مع قلّتي الجبل، فلمّا فرغ منه أمر بالنحاس فأذيب وأفرغ عليه من فوقه فصار شبيها بالمصمت، فلمّا فرغ منه جاز تلك الأرض فقطعها في أربعة أشهر منصرفا. وفي الخبر: أنه لمّا انتهى إلى موضع السدّ اجتمع إليه خلق كثير، فقالوا له: يا أيّها الملك المظفّر إن خلف هذا الجبل أمما لا يحصيهم إلّا الله جلّ وعزّ، وقد أخربوا علينا بلادنا وزروعنا. قال: وما صفتهم؟ قالوا: هم قوم قصار صلع عراض الوجوه. قال: وكم صنف هم؟ قالوا: هم أمم كثيرة لا يحصيهم إلّا الله. قال: وما أساميهم؟ قالوا: أما من قرب منّا فهم ستّ قبائل: يأجوج، ومأجوج، وتاويل، وتاريس، ومنسك، وكمارى، وكلّ قبيلة من هؤلاء مثل جميع أهل الأرض، فأما من كان في البعد منّا فإنّا لا نعرف قبائلهم، وليس لهم إلينا منفذ إلّا من هذا

الوجه. وهذا الفجّ، فهل نجعل لك خرجا على أن تسدّه عليهم وتكفينا أمرهم. قال: فما طعامهم؟ قالوا: يقذف البحر إليهم في كلّ عام سمكتين مسيرة عشرة أيّام كلّ سمكة منهما. قال: فبنى هذا السدّ وفي الخبر قال: السدّ طريقة حمراء من نحاس، وطريقة سوداء من حديد، ويأجوج ومأجوج أربع وعشرون قبيلة، فكانت قبيلة منهم في الغزو وهم التّرك، 2/143 فردم ذو القرنين السدّ على ثلاث وعشرين قبيلة. قال مقاتل بن سليمان: وإنما سمّوا الترك لأنهم تركوا خلف الردم، قالوا: وإذا نزل عيسى (صلى الله عليه وسلم) وقتل الدجّال الملعون ظهر يأجوج ومأجوج فيقوم عيسى في المسلمين خطيبا، فيحمد الله ويثني عليه ويقول: اللهمّ انصر القليل في طاعتك على الكثير في معصيتك، فينصر الله المؤمنين عليهم، وفي خبر عن وهب بن منبّه قال: هم قوم طول، أحدهم مثل نصف الرجل المربوع منّا، لهم مخاليب في مواضع الأظفار في أيدينا، ولهم أضراس وأنياب كالسباع، ولهم آذان عظام يفترشون الإحدى ويلتحفون بالأخرى، وليس منهم ذكر ولا أنثى إلّا وقد عرف أجله، وذلك أنه لا تموت الأنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد، وكذلك الرجال منهم، وهم يرزقون التّنين في الربيع ويستمطرونه لحينه، كما يستمطر الغيث لحينه، وهم يتداعون تداعي الحمام، ويعوون عواء الذئب، ويتسافدون حيث ما التقوا كتسافد البهائم، ولمّا عاين ذو القرنين ذلك منهم انصرف إلى ما بين الصّدفين، فقاس ما بينهما وهو منقطع أرض الترك ممّا يلي المشرق، فوجد بعد ما بينهما فرسخا وهو ثلاثة أميال، فحفر له أساس حتى بلغ الماء ثم جعل عرضه ميلا، وجعل حشوه زبر الحديد أمثال الصخور، وطينه النحاس يذاب فيصبّ عليه، فصار كأنّه عرق من جبل تحت الأرض، ثم علّاه وشرّفه بزبر الحديد والنحاس المذاب، وجعل خلاله عرقا من نحاس أصفر، فكأنه برد محبّر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد، فلمّا فرغ منه 2/144 وأحكمه انصرف راجعا. وقال ابن عبّاس: الأرض ستّة أجزاء: فيأجوج ومأجوج منها خمسة أجزاء، وسائر الخلق في جزء واحد. وقال المعلّى بن هلال الكوفيّ: كنت بالمصّيصة فسمعتهم يتحدّثون أن البحر ربما مكث أيّاما وليالي لا يصفق أمواجه، ويسمع له دويّ شديد، فيقولون:

ما هذا إلّا لشيء قد آذى دوابّ البحر فهي تضجّ إلى الله تعالى، قال: فتقبل سحابة حتى تغيب في البحر، ثم تقبل أخرى وأخرى حتى عدّ سبع سحائب، ثم ترتفع إلى جانب آخر تنهزم تتبعها التي تليها، والريح تصفقها ثم يرتفعن جميعا في السماء، وقد أخرجن شيئا يرون أنه التنّين حتى يغيب عنّا ونحن نراه ورأسه في السحاب وذنبه يضطرب، فيطرحه إلى يأجوج ومأجوج فيسكن البحر لذلك. وقال المنصوريّ: إن السحاب الموكّل بالتنّين يخطفه حيث ما وجده كما يخطف حجر المغناطيس الحديد، حتى صار لا يطلع رأسه خوفا من السحاب، ولا يخرج رأسه إلّا في الفرد إذا صحت السماء، وربما احتمله السحاب فانفلت منه ووقع في البحر، فتجيء السحابة بهدّة ورعد وبرق فتدخل في البحر فتستخرجه ثانية، فربما مرّ في طريقه بالشجرة العاديّة فيقتلعها والصخرة العظيمة فيرفعها، 2/145 وكان في بعض زمان حكيم يقال له بقراطيس فشا الموت في قرى هناك ففحص عنه بقراطيس هذا فإذا بتنّين قد أخرجه السحاب وانفلت منه. فوقع ونتن، فأبلغ ذلك إلى أهل القرى فذهب بقراطيس فجمع الدراهم وجبى أهل القرى، واشترى بها ملحا فألقاه عليه حتى سكن ذلك النتن، وأسلم الله أهل البلاد، قال بقراطيس: فذهبت إليه لأنظر ما هو فوجدت طوله فرسخين وعرضه أذرع كثيرة، وجسمه مستدير ولونه مثل لون النمر، مفلّس كفلوس السمك، وله جناحان عظيمان كأجنحة السمك بالقرب من رأسه الذي يتشعّب منه الرءوس، وهذا الرأس على خلقة رأس الإنسان مثل التلّ العظيم، وله أذنان طويلتان عريضتان كآذان الفيل، ويتشعّب من ذلك الرأس ستّة أعناق، طول العنق عشرة أذرع، على كلّ عنق رأس شبيه برأس الحيّة. وحدّث سلّام الترجمان «1» أن الواثق بالله لمّا رأى في منامه كأن السدّ الذي

بناه ذو القرنين بيننا وبين يأجوج ومأجوج قد انفتح، فطلب رجلا يخرجه إلى الموضع فيستخبر خبره. فقال أشناس «1» : ما هاهنا أحد يصلح إلّا سلّام الترجمان- وكان يتكلم بثلاثين لسانا- قال: فدعا بي الواثق وقال: أريد أن تخرج إلى السدّ حتى تعاينه وتجيئني بخبره. وضمّ إليّ خمسين رجلا شباب أقوياء ووصلني بخمسة آلاف دينار، وأعطاني ديتي عشرة آلاف درهم. وأمر فأعطي كل رجل من الخمسين ألف درهم ورزق سنة، وأمر أن يهيأ للرجال اللبابيد وتغشى بالأديم واستعمل لهم الكستبانات» بالفراء والركب الخشب وأعطاني مائتي بغل لحمل الزاد والماء. فشخصنا من سر من رأى بكتاب من الواثق بالله إلى إسحاق بن إسماعيل صاحب أرمينية وهو بتفليس في انفاذنا. وكتب لنا إسحاق إلى صاحب السرير. وكتب لنا صاحب السرير إلى ملك اللان إلى فيلان شاه. وكتب لنا فيلان شاه إلى طرخان ملك الخزر. فأقمنا عند ملك الخزر يوما وليلة حتى وجّه معنا خمسة أدلّاء فسرنا من عنده ستة وعشرين يوما، فانتهينا إلى أرض سوداء منتنة الرائحة. وكنا قد تزودنا قبل دخولها خلّا نشمه من الرائحة المنكرة. فسرنا فيها عشرة أيام ثم صرنا إلى مدن خراب فسرنا فيها عشرة أيام، ثم صرنا إلى مدن خراب فسرنا فيها عشرين يوما. فسألنا عن حال تلك المدن فخبّرنا أنها المدن التي كان يأجوج ومأجوج يتطرقونها فخربوها. ثم صرنا إلى حصون بالقرب من الجبل الذي في شعبة منه السد وفي تلك

الحصون قوم يتكلمون بالعربية والفارسية، مسلمون يقرءون القرآن لهم كتاتيب ومساجد فسألونا من أين أقبلنا، فأخبرناهم إنّا رسل أمير المؤمنين. فأقبلوا يتعجبون ويقولون أمير المؤمنين! فنقول نعم. فقالوا: شيخ هو أم شاب؟ فقلنا شاب. فعجبوا أيضا فقالوا: أين يكون؟ فقلنا بالعراق في مدينة يقال لها سرّ من رأى. فقالوا: ما سمعنا بهذا قط. وبين كل حصن من تلك الحصون إلى الحصن الآخر فرسخ إلى فرسخين أقل وأكثر. ثم صرنا إلى مدينة يقال لها إيكة، تربيعها عشرة فراسخ ولها أبواب حديد يرسل الأبواب من فوقها وفيها مزارع وأرحاء داخل المدينة وهي التي كان ينزلها ذو القرنين بعسكره. بينها وبين السدّ مسيرة ثلاثة أيام وبينها وبين السدّ حصون وقرى حتى تصير إلى السد في اليوم الثالث. وهو جبل مستدير ذكروا أن يأجوج ومأجوج فيه وهما صنفان، ذكروا أن يأجوج أطول من مأجوج. ويكون طول أحدهم ما بين ذراع إلى ذراع ونصف وأقل وأكثر. ثم صرنا إلى جبل عال عليه حصن. والسد الذي بناه ذو القرنين هو فجّ بين جبلين عرضه مائتا ذراع وهو الطريق الذي يخرجون منه فيتفرقون في الأرض. فحفر أساسه ثلاثين ذراعا إلى أسفل وبناه بالحديد والنحاس حتى ساقه إلى وجه الأرض ثم رفع عضادتين مما يلي الجبل من جنبتي الفج، عرض كل عضادة خمس وعشرون ذراعا ونصفا في ذراع ونصف في سمك أربع أصابع، ودروند حديد طرفاه على العضادتين طوله مائة وعشرون ذراعا قد ركب على العضادتين على كل واحدة بمقدار عشر أذرع في عرض خمس أذرع وفوق الدروند بناء بذلك اللبن الحديد في النحاس إلى رأس الجبل، وارتفاعه مدّ البصر يكون البناء فوق الدروند نحوا من ستين ذراعا، وفوق ذلك. شرف حديد في طرف كل شرفة قرنتان تنثني كل واحدة منهما على الأخرى، طول كل شرفة خمس أذرع في عرض أربع أذرع، وعليه سبع وثلاثون شرفة. وإذا باب حديد بمصراعين معلقين عرض كل مصراع خمسون ذراعا في ارتفاع خمس وسبعين ذراعا في ثخن خمس أذرع وقائمتاهما في

دوّارة على قدر الدروند، لا يدخل من الباب ولا من الجبل ريح كأنه خلق خلقة. وعلى الباب قفل طوله سبع أذرع في غلظ باع في الاستدارة. والقفل لا يحتضنه رجلان. وارتفاع القفل من الأرض خمس وعشرون ذراعا وفوق القفل بقدر خمس أذرع غلق طوله أكثر من طول القفل وقفيزاه كل واحد منهما ذراعان، وعلى الغلق مفتاح معلّق طوله ذراع ونصف وله اثنا عشرة دندانكة «1» ، كل دندانكة في صفة دستج الهواوين، واستدارة المفتاح أربعة أشبار معلق في سلسلة ملحومة بالباب طولها ثماني أذرع في استدارة أربعة أشبار. والحلقة التي فيها السلسلة مثل حلقة المنجنيق. وعتبة الباب عرضها عشر أذرع في بسط مائة ذراع سوى ما تحت العضادتين، والظاهر منها خمس أذرع، وهذه الذراع كلها بالذراع السوداء. ومع الباب حصنان يكون كل واحد منهما مائتي ذراع في مائتي ذراع وعلى باب هذين الحصنين شجرتان وبين الحصنين عين عذبة، وفي أحد الحصنين آلة البناء التي بني بها السدّ من القدور الحديد والمغارف الحديد، على كل ديكدان «2» أربع قدور مثل قدور الصابون. وهناك بقية من اللبن الحديد قد التزق بعضه ببعض من الصدأ. ورئيس تلك الحصون يركب في كل يوم اثنين وخميس. وهم يتوارثون ذلك الباب كما يتوارث الخلفاء الخلافة. يجيء راكبا ومعه ثلاثة رجال على عنق كل رجل مرزبّة، ومع الباب درجة، فيصعد على أعلى الدرجة فيضرب القفل ضربة في أول النهار فيسمع لهم جلبة مثل كور الزنابير ثم يخمدون، فإذا كان عند الظهر ضربه ضربة أخرى ويصغي بأذنه إلى الباب فتكون جلبتهم في الثانية أشد من الأوّلة ثم يخمدون. فإذا كان وقت العصر ضربه ضربة أخرى فيضجون مثل ذلك ثم يقعد إلى مغيب الشمس ثم ينصرف.

الغرض في قرع القفل أن يسمع من وراء الباب فيعلموا أن هناك حفظة ويعلم هؤلاء أن أولئك لم يحدثوا في الباب حدثا. وبالقرب من هذا الموضع حصن كبير يكون عشرة فراسخ في عشرة فراسخ، تكسيره مائة فرسخ. قال سلام: فقلت لمن كان بالحضرة من أهل الحصون: هل عاب من هذا الباب شيء قط؟ قالوا: ما فيه إلّا هذا الشق، والشق كان بالعرض مثل الخيط دقيق. فقلت: تخشون عليه شيئا؟ فقالوا: لا، إن هذا الباب ثخنه خمسة «1» أذرع بذراع الإسكندر يكون ذراعا ونصفا بالأسود، كل ذراع واحدة من ذراع الإسكندر. قال: فدنوت وأخرجت من خفّي سكينا فحككت موضع الشق فأخرج منه مقدار نصف درهم وأشدّه في منديل لأريه الواثق بالله. وعلى فرد مصراع الباب الأيمن في أعلاه مكتوب بالحديد باللسان الأول «فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا» . وننظر إلى البناية وأكثره مخطط ساف أصفر من نحاس وساف أسود من حديد، وفي الجبل محفور الموضع الذي صب فيه الأبواب وموضع القدور التي كان يخلط فيها النحاس والموضع الذي كان يغلى فيه الرصاص والنحاس وقدور شبيهة بالصفر لكل قدر ثلاث عرى فيها السلاسل والكلاليب التي كان يمدّ بها النحاس إلى فوق السور. وسألنا من هناك؟ هل رأيتم من يأجوج ومأجوج أحدا؟ فذكروا أنهم رأوا مرة عددا فوق الجبل فهبّت ريح سوداء فألقتهم إلى جانبهم، وكان مقدار الرجل في رأي العين شبرا ونصفا. والجبل من الخارج ليس له متن ولا سفح ولا عليه نبات ولا حشيش ولا شجرة ولا غير ذلك وهو جبل مسلنطح قائم أملس أبيض.

فلما انصرفنا أخذ الأدلّاء بنا ناحية خراسان، وكان الملك يسمى اللب، ثم خرجنا من ذلك الموضع وصرنا إلى موضع يقال له طبانوين وهو صاحب الخراج فأقمنا عندهم أياما وسرنا من ذلك الموضع حتى وردنا سمرقند في ثمانية أشهر، ووردنا إلى اسبيشاب وعبرنا نهر بلخ ثم صرنا إلى أشروسنة وإلى بخارا وإلى ترمذ ثم وصلنا نيسابور ومات من الرجال الذين كانوا معنا ومن مرض منهم في الذهاب اثنان وعشرون رجلا. من مات منهم دفن في ثيابه ومن مرض خلّفناه مريضا في بعض القرى. ومات في المرجع أربعة عشر رجلا. فوردنا نيسابور ونحن أربعة عشر رجلا- وكان أصحاب الحصون زوّدونا ما كفانا- ثم صرنا إلى عبد الله بن طاهر فوصلني بثمانية آلاف درهم ووصل كل رجل معي بخمس مائة درهم. وأجرى للفارس خمسة دراهم وللراجل ثلاثة دراهم في كل يوم إلى الري. ولم يسلم من البغال التي كانت معنا إلّا ثلاثة وعشرون بغلّا. ووردنا سرّ من رأى فدخلت على الواثق فأخبرته بالقصة وأريته الحديد الذي كنت حككته من الباب. فحمد الله وأمر بصدقة يتصدق بها وأعطى الرجال كل رجل ألف دينار. وكان وصولنا إلى السدّ في ستة عشر شهرا ورجعنا في اثني عشر شهرا وأيام «1» .

2/161 القول في خراسان قال دغفل: خرج خراسان وهيطل ابنا عالج بن سام بن نوح لمّا تبلبلت الألسن، فنزل كل واحد منهما في البلد المنسوب إليه- يريد أن هيطل نزل في البلد المعروف ببلد الهياطلة وهو وراء النهر، ونزل خراسان في قلعته المعروفة بخراسان دون النهر-. وروي عن شريك [154 أ] بن عبد الله قال: خراسان كنانة الله، إذا غضب على قوم رماهم من كنانته. وفي حديث آخر قال: ما خرجت من خراسان راية في جاهلية ولا إسلام فردّت حتى تبلغ منتهاها. وحدثني أبو عبد الله الحسين بن أستاذويه [قال] حدثني أبو إسحاق بن إبراهيم بن الحسين. قال: قال أبو عبد الله محمد بن مرزوق الهاشمي. حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال: حدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: لم يتزوج إبراهيم على سارة حتى ماتت، فتزوج بعدها امرأة من العرب العاربة يقال لها قنطورا بنت مقطير. فولدت له مدين ومداين. وهو مدين ونيشان وشوح. فأمر إبراهيم أن يضم إليه من [ولد إسماعيل وإسحاق ومدين ونيسان، ويخرج عنه مدين وأشتق وسرج. فقالوا له: يا أبانا، كيف تستجيز أن تترك عندك إسماعيل وإسحاق ومدين ونيسان في الأمن والدعة وتخرجنا نحن عنك إلى الغربة] «1» والوحشة والوحدة؟ فقال بذلك أمرت.

ثم إن إبراهيم عليه السلام رحمهم فعلّمهم اسما من أسماء الله تعالى، فكانوا يستنصرون به على الأعداء ويستسقون في الجدوب. ونزلوا موضع خراسان فتناسلوا هناك وكثروا. وسمعت بهم الخزر- وهم من بني يافث بن نوح- ووقفوا على ما معهم من أسماء الله تعالى، فقالوا: ينبغي لمن علمكم هذا أن يكون خير أهل الأرض أو يكون ملك الأرض ورغبوا في مصاهرتهم، فزوّجوهم وعلّموهم الأسماء. وقال الشعبي: كأني بهذا العلم وقد تحول إلى خراسان. وقال: قرأت في كتاب حرب جوذرز و پيران، أن پيران كتب إلى جوذرز في رسالة طويلة: من پيران بن وسحان «1» خليفة أفراسياب ملك الترك من نسل طوس، إلى جوذرز بن جشواذان «2» من أهل بيت الكيان حافظ ثغور الأوثان. إني بعون الله أكافئك على سنة الوقار ورسائل السلم أيها الحكيم المتوّج من السماء عقل الحكماء. قد مرّ ما كتبت إليك أن أباك «3» كيخسرو الطلب يؤثر سياوش. فإن أفراسياب قسم الأرض وفصل الحدود كما فصلت قديما أيام منوجهر وسير الترك عن قرى أريان ونزل غرجستان العظيمة الكثيرة العدد، والطالقان الحصينة الكثيرة الجبل والمراعي مجمع [154 ب] عساكر الثغور قديما، وهراة الجمة الأموال وجشسدان دارأت «4» ؟ العامرة الكلية، وآمل وسط النهر، والترمذ الممرعة المذكورة بالغناء والأموال، وبخارا التي وضع أفريدون بها بيت النار وأنزلها الأسد المذكور، وبلخ العظيمة المنيرة الأنيقة المشهورة بالأعز المؤيدين «5» ، ذات الجبال العالية

والسهول العامرة التي تقول الكيانية إنها من بلد أريان في ناحية المشرق إلى السغد. وفي ناحية الحري من برية خوارزم إلى مصب بهروذ في البحر من مساكن قبائل الترك وأرمينية المحصنة العظيمة سرّة أريان لا ينحسر ثلجها عن جبالها ولا ماؤها عن أنهارها، ولا تخلو أرضها من الثمار الكثيرة الكريمة والزروع العميمة، وآذربيجان العامرة الزاهرة ذات العيون الكثيرة في شواهق جبالها ومستوى أرضها. في كلام له طويل. ويروى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: تفتح أمتي أرضا يقال لها خراسان عند نهرها الملعون، أوّله رخاء وآخره بلاء. وقال عبد الله بن مسلم بن قتيبة «1» : أهل خراسان أهل الدعوة وأنصار الدولة، ولم يزالوا في أكثر ملك العجم لقاحا. لا يؤدون اتاوة ولا خراجا. وكانت ملوك العجم قبل ملوك الطوائف تنزل بلخ ثم نزلوا بابل ثم نزل أردشير بن بابك فارس فصارت دار ملكهم، وصارت بخراسان ملوك الهياطلة. وهم الذين قتلوا فيروز بن يزدجرد بن بهرام ملك فارس، وكان غزاهم فكادوه بمكيدة في طريقه حتى سلك معطشة مهلكة، ثم خرجوا إليه فأسروه. فسألهم أن يمنّوا عليه وعلى من أسر معه من أصحابه وأعطاهم موثقا من الله وعهدا مؤكدا أن لا يغزوهم أبدا ولا يجوز حدودهم، ونصب حجرا بينه وبينهم صيّره الحدّ الذي حلف عليه، وأشهد على ذلك الله تعالى ومن حضره من أهله وخاصيته وأساورته. فمنّوا عليه وأطلقوه ومن أراد ممن أسر معه. فلما عاد إلى مملكته، دخلته الأنفة والحمية مما أصابه وعاد لغزوهم ناكثا الأيمان غادرا بذمته، وجعل الحجر الذي [155 أ] كان نصبه وجعله الحد الذي حلف أنه لا يجوزه محمولا أمامه في مسيره يتأوّل فيه انه لا يتقدمه ولا يجوزه. فلما صار إلى بلدهم ناشدوه الله وأذكروه به، فأبى إلّا لجاجا ونكث فواقعوه وقتلوه وحماته وكماته واستباحوا عسكره فلم يفلت منهم إلّا الشريد.

وهم قتلوا كسرى بن قباذ بن هرمزد. فهذه حال خراسان قبل الإسلام. ثم أتى الله بالإسلام فكانوا فيه أحسن الأمم رغبة وأشدهم إليه مسارعة منّا من الله عليهم وتفضلا وإحسانا منه عليهم. فأسلموا طوعا ودخلوا فيه أفواجا وصالحوا عن بلادهم صلحا. فخفّ خراجهم وقلّت نوائبهم، ولم يجر عليهم سباء ولم يسقط فيما بينهم وبين المسلمين دم. ولما رأى الله عزّ وجلّ سيرة بني أمية بعد عمر بن عبد العزيز وظلمهم العباد وإخرابهم البلاد واستئثارهم بالفيء، وعكوفهم على المعازف والملاهي واللذات، وإعراضهم عما أوجب الله عليهم فيما قلّدهم، ابتعث جلودا من أهل خراسان جمعهم من أقطارها كما يجمع قزع الخريف وألبسهم الهيبة ونزع من قلوبهم الرحمة، فساروا نحوهم كقطع الليل المظلم قد اتخذوا لبس السواد وأطالوا الشعور وشدّوا المآزر دون النساء حتى انتزعوا ملك بني أمية من أكبر ملوكهم سنا، وأشدّهم حنكة، وأحزمهم رأيا، وأكثرهم عدة وعديدا، وأعقلهم كاتبا ووزيرا، 2/162 وسلموه إلى بني العباس. وقد كان محمد بن علي بن عبد الله بن العباس قال لدعاته حين أراد توجيههم إلى الأمصار «1» : أمّا الكوفة وسوادها، هناك شيعة علي وولده. وأما البصرة فعثمانية تدين بالكفّ. [تقول كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل] «2» . وأما الجزيرة فحرورية مارقة وأعراب كأعلاج ومسلمون في أخلاق النصارى. وأما أهل الشام فليس يعرفون إلّا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان وعداوة راسخة وجهل متراكم. وأمّا مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. ولكن عليكم بأهل خراسان، فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر وهناك [155 ب] صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء ولم تتوزعها النحل ولم يقدم عليها فساد

وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة. وبعد، فإني أتفاءل إلى المشرق إلى مطلع سراج الأرض ومصباح الخلق. فلما بلغ الله إرادته من بني أمية وبني العباس، أقام أهل خراسان مع خلفائهم على أسكن ريح وأحسن دعة وأشدّ طاعة وأكثر تعظيما لسلطان وأحمد سيرة في رعيته، تتزين عندهم بالحسن ويستتر منهم بالقبح، إلى أن كان من قضاء الله ورأى خلفاؤنا الاستبدال بهم وتصيير التدبير لغيرهم. ولا نذكر ما جرى بعد ذلك والله المستعان. وقال قحطبة بن شبيب لأهل خراسان: قال محمد بن علي بن عبد الله: يأبى الله أن يكون شيعتنا إلّا أهل خراسان. لا ننصر إلّا بهم 2/163 ولا ينصرون إلّا بنا. انه يخرج من خراسان سبعون ألف سيف مشهور، قلوبهم كزبر الحديد وأسماؤهم الكنى وأنسابهم القرى، يطيلون شعورهم كالغيلان، جعابهم قصرت كعابهم. يطوون ملك بني أمية طيا ويزفّون الملك إلينا زفا. وأنشد لعصابة الجرجرائي: الدار داران: إيوان وغمدان ... والملك ملكان: ساسان وقحطان والناس فارس والإقليم بابل ... والإسلام مكة والدنيا خراسان والجانبان العتيدان اللّذا خشيا ... منها بخارا وبلخ الشا وأرّان قد ميّز الناس أفواجا ورتّبهم ... فمر زبان وبطريق ودهقان ولخراسان طيب الهواء، وعذوبة الماء، وصحة التربة، وعذوبة الثمرة واحكام الصنعة وتمام الخلقة وطول القامة وحسن الوجوه، وفراهة المركب من البراذين والإبل والشهاري والحمير، وجودة السلاح والدروع والثياب. وهم أهل التجارب وأصبرهم على البؤس وأقلّهم تنعّما وخفضا. [فأهل خراسان جنّة للمسلمين دون الترك] «1» وهم يثخنون فيهم القتل والأسر 2/164 وبهم يدفع

إليه «1» [156 أ] عن المسلمين ومعرتهم وكيدهم. وقد جاء في الحديث: تاركوا الترك ما تاركوكم. وجاء عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فيها ما لا أعلم أنه جاء مثله في شيء من البلاد إلّا في الحرمين في الأرض المقدسة. وقال: الترك أشدّ العدو بأسا وأغلظهم أكبادا. وروي عن بريدة أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : يا بريدة، إنه ستبعث من بعدي بعوث. فإذا بعثت فكن في بعث المشرق، ثم كن في بعث خراسان. ثم كن في أرض يقال لها مرو. فإذا أتيتها فانزل مدينتها. فإنه بناها ذو القرنين وصلى فيها عزير. أنهارها تجري عليها بالبركة، على كل نقب «2» منها ملك شاهر سيفه يدفع عن أهلها السوء إلى يوم القيامة. فقدمها بريدة ومات بها. وقد جهد الطاعن على أهل خراسان أن يدعي عليهم البخل ودقة النظر ويشنع بمثل قول ثمامة «3» : إن الديك في كل بلد يلفظ ما يأكله في فمه للدجاجة بعد ما قد حصل، إلّا ديكة مرو فإنها تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحبّ. وهذا كذب بيّن ظاهر للعيان لا يقدم على مثله إلّا الوقّاع البهّات الذي لا يتوقى الفضوح والعار. وما ديكة مرو إلّا كالديكة في جميع الأرض. ولأهل خراسان أجواد مبذرون لا يجارون ولا يبلغ شأوهم، منهم: البرامكة لا نعلم أن أحدا قرب من السلطان قربهم فأعطى عطاءهم وصنع صنعهم واعتقد بيوت الأموال

وخزائن الخلفاء مثل اعتقادهم. 2/165 ومن المشهور عنهم أنه لم يكن لخالد بن برمك صنيعة ولا متحرم إلّا بنى له دارا على قدر كفايته ثم وقف على أولاده ما يعينهم أبدا. ولم يكن لأحد منهم إلّا من جارية وهبها له. ومن أهل خراسان القحاطبة وعلي بن هشام وعبد الله بن طاهر، وخبّر عنه بعض قوّاده أنه فرّق في مقام واحد ألف ألف دينار. وهذا يكثر أن يملك فضلا عن أن يوهب. وأخبار البرامكة وهؤلاء الذين ذكرنا بعدهم فأكثر من أن تلحق أو تعدّ أو توصف «1» . وممن سخت حاله وسمحت نفسه مما ملك، عبد الله بن المبارك [156 ب] كان يفرق ماله على إخوانه ويؤثرهم بذخائره ويكسوهم الثياب المرتفعة ويحملهم على الدواب الفرهة ويلبس هو ثوبا بعشرة دراهم، ويعطي صاحب الحمّام دينارا وللحمامي دينارا. فأمّا الأمة التي سبق أوّلها وعفا آخرها فأهل فارس. كانوا في سالف الدهر أعظم الأمم ملكا، وأكثرهم أموالا، وأشدهم شوكة. وكانت الملوك في جميع الأطراف والأقاليم تعترف لهم بذلك، وتعظم ملكهم رتغتنم منه أن يهاديهم. وكانت العرب تدعوهم الأحرار وبني الأحرار، لأنهم كانوا يسبّون ولا يسبّون ويستخدمون ولا يستخدمون. ثم أتى الله بالإسلام فكانوا كنار خمدت وكرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، فتبدد جمعهم ومجت «2» قلوبهم، ومزقوا كل ممزّق، فلم يبق في الإسلام منهم نبيه يذكر ولا شريف يشهر إلّا أن يكون عبد الله بن المقفع والفضل بن سهل. وأهل خراسان دخلوا في الإسلام رغبة وطوعا، ثم هم أحسن الناس تقية

وأشدهم بالدين تمسكا، فمنهم المحدثون والنبل المشهورون والعلماء المتقدمون والعباد المجتهدون. فإن قال قائل: كيف تدفع فارس عن حسن التقية مع قول النبي (صلى الله عليه وسلم) : لو كان الإيمان معلقا «1» بالثريا لنالته رجال من فارس؟ قلنا له: في هذا القول دليل على رغبة الموصوفين في الدين ومسارعتهم إليه وتمسكهم بسنن النبي (صلى الله عليه وسلم) فيه. وإنما هو كقولك: لو كنت في أقاصي البلاد لزرتك، فزيد: لتجشّمت الوصول إليك رغبة في لقائك. وخبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الأمر يكون فيما بعد إنّما هو عن الله عزّ وجلّ. ولا خلف لقول الله ولا تبديل. فإذا نحن تطلبنا مصداق هذا القول في أهل فارس لم نجده أولا ولا آخرا، إلّا أن أول أمرهم في الإسلام على ما قد علمت من شدة العداوة للمسلمين ومحاربتهم إياهم حتى قهروا وهزموا وطلبوا ومزقوا، ولم تجد لهم [157 أ] بعد ذلك رجالا برعوا في العلم وعرفوا بالحفظ للأثر والتفقه في الدين والاجتهاد في العبادة إلّا أن تجد من ذلك الشيء اليسير والنبل المغمور. فإن قال قائل: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، جعله في أهل فارس فكيف جعلته في أهل خراسان؟ قلنا: إن فارس وخراسان كانتا عند العرب شيئا واحدا إلّا أنهما يتحاذّان ويتصلان، لأن لسان أهل خراسان وفارس بالفارسية، فهم يسمون جميعا الفرس. وكذلك المتكلمون بالعربية عند من لا يفصح من الأعاجم، عرب جميعا. قال الشاعر يذكر بلاد فارس: في بلدة لم تصل عكل بها طنبا ... ولا خباء، ولا عكّ وهمدان ولا لجرم ولا الاتلاد من يمن ... لكنها لبني الأحرار أوطان أرض يبنّي بها كسرى مساكنه ... فما بها من بني اللخناء إنسان وروى أبو الجلد عمر بن جيلان قال: الدنيا كلها أربعة وعشرون ألف

فرسخ. فملك السودان، اثنا عشر ألف فرسخ. وملك الروم، ثمانية آلاف فرسخ. وملك فارس، ألفا فرسخ. وأرض العرب ألفا فرسخ «1» . فذكر [فارس] ولم يذكر خراسان، وهي أوسع منها، لأنه جعل المشرق كله من فارس وكذلك الروم. ولم يذكر ما يحاذيها من بلاد العجم جعله كله للروم. وفي الحديث أن رجلا قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: 2/166 غلبتنا هذه الحمراء- يعني العجم- فقال علي رضي الله عنه: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول ليضربنكم بالسيوف على دين الله إذا غيّرتم وبدّلتم كما ضربتموهم عليه. [157 ب] . فإذا نحن طلبنا مصداق ذلك في العجم وجدناه في أهل خراسان، لأنهم هم الذين ضاربوا بالسيوف العرب وأهل الشام غضبا لدين الله وإنكارا لسيرة بني أمية حتى ابتزوهم الملك ونقلوه عن الشام إلى العراق. [وروى زيد بن أبي زياد عن إبراهيم بن علقمة] «2» عن عبد الله بن مسعود أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إن أهل بيتي يلقون من بعدي بلاء وتطريدا، حتى يأتي قوم من قبل المشرق ومعهم رايات سود يسألون الحق فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون، فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤها قسطا كما ملؤوها جورا. فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثلج. وقرأت في الإنجيل أن المسيح عليه السلام قال: بحقّ أقول لكم، ليأتين قوم من المشرق فينكبون بني إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله عليهم في ملكوت السماء، ويخرج بنو المسكونة إلى الظلمة البرّانية حيث يكون البكاء وصرير الأسنان «3» .

ومما يزيد ما قلناه في فارس وضوحا ان النبي (صلى الله عليه وسلم) كان بعث خنيس بن عبد الله بن حذافة السهمي 2/167 إلى كسرى وكتب إليه كتابا بدأ فيه بنفسه. فلما قرأه كسرى غضب ومزّقه وبعث إليه بتراب. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) : مزّق كتابي. أما انه سيمزق دينه وأمته وملكه، وبعث إليّ ترابا. أما إنكم ستملكون أرضه. فكيف يكون البقية الحسنة لمن أعلمنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنهم سيمزقون؟ لا جرم إنهم قد خملوا ودرسوا مدارس إلى يومنا هذا. [وهم] «1» أبخع الناس بطاعة سلطان، وأصبرهم على الظلم وأثقلهم خراجا وأذلهم نفوسا. وذكر جماعة من مشايخهم أنهم لم يعرفوا عدلا قط، وإن سيرتهم «2» عمر بن عبد العزيز شملت البلاد كلّها غير بلدهم، فإن عامله الذي أنفذه إليهم هلك في سيره نحوهم. ويزعم قوم من أهل السواد أنهم من أبناء أشراف فارس. وربما قال بعضهم إنهم قوافل خراسان. وإنما كانوا فإن الله قد [158 أ] أسبغ عليهم بالعرب النعمة وظاهر لهم الكرامة وأثقب لهم العز وأبدلهم بها () «3» حالا لا ينكرها غير «4» منقوص أو حاسد كفور. لأن السواد فتحته العرب عنوة، والإمام مخيّر في العنوة بين القتل والرق والفدية والمنّ، فاختاروا خير الأمور لهم وحقنوا دماءهم ومنّوا عليهم وأقرّوا الأموال في أيديهم. ثم جاوروا السلطان من بني العباس وأولياءه من أهل خراسان، فاستخلصهم

لأموره وجعلهم موضع سرّه واتخذ منهم الكتّاب والوزراء والأصحاب والندماء فصاروا به أسعد من يبذل في التمهيد المهجة والمال. وهؤلاء الذين ذكرناهم، هم المشهورون من الناس. فأما من خفي أمره ودخل في جملة الناس فلا حاجة بنا أن نقص عاليه ولا نذكر أوله وآخره، فنجعله خصما وهو مسلم، ويفتح له بالمثل أولئك الطاعنون على العرب. وقد قال الأول: كفاني نقصا أن أجرّ عداوة ... بقول أرى في غيره متوسعا وذكر علي بن محمد المدائني «1» أن أول فتوح خراسان الطبسين وهما بابا خراسان. فتحهما عبد الله بن بديل بن ورقاء في ولاية عثمان بن عفان. وإياهما عنى مالك بن الريب: لعمري لئن غالت خراسان هامتي ... لقد كنت عن بابي خراسان نائيا دعاني الهوى من أهل ودّي ولحمتي ... بذي الطبسين فالتفتّ ورائيا [ومن الري إلى دامغان ثمانون فرسخا. ومن دامغان إلى نيسابور مثل ذلك] «2» . فكان من الري إلى نيسابور مائة وستون فرسخا. ولنيسابور قهندز وهي أحد كور خراسان الجليلة، ولها من المدن: زام، وباخرز، وجوين، وبيهق، [ولها اثنا عشر رستاقا، في كل رستاق مائة وستون قرية] «3» . ومن نيسابور إلى سرخس أربعون «4» فرسخا. ومن سرخس إلى مرو مدينة خراسان ثلاثون «5» فرسخا وتسمى مرو الشاهجان. قال:

وأزرت مرو من أيّ السرايا ... وأبقت عبرة للغابرينا وسميت مرو الشاهجان لأنها كانت للملك. 2/168 ومعنى هذه الكلمة أنها روح الملك [158 ب] لأن الشاه، الملك. والجان، الروح. فقيل مزح الروح. وسميت مرو الروذ لأنه لم يكن بها بناء. فبعث إليها كسرى ناسا من أهل السواد عليهم رجل يقال له بهرامية، فبنوها وسكنوها. ولما غلب أردشير على ملك النبط فرأى جمالهم وعقولهم قال: ما أخوفني إن حدث بي حدث أن يعود الملك إلى هؤلاء. ففرض لهم فرضا وبعث منهم بعوثا وأغزاهم خراسان وفرّقهم في البلاد، إلّا من ليست عليه منهم مؤونة «1» من أهل الذلة. فأهل مرو من النبط. وعن قتادة في قول الله تعالى لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها . قال: أم القرى بالحجاز، مكة. وبخراسان، مرو. ولما ملك طهمورث بنى قهندز مرو وبنى مدينة بابل ومدينة ابرايين- وهي بأرض قوم موسى- وبنى مدينة بالهند في رأس جبل يقال له أوق. وأمرت خماني بنت أردشير بن إسفنديار لما ملكت ببناء الحائط الذي حول مرو. ويقال إن طهمورث لمّا بنى قهندز مرو، بناه ألف رجل وأقام لهم سوقا فيها الطعام والشراب. فكان إذا أمسى الرجل أعطي درهما فاشترى طعامه وجميع ما يحتاج إليه، فتعود الألف الدرهم إليه. فلم يخرج في البناء إلّا الألف درهم. وكان بمرو بيت كبير يقال له كي مرزبان. 2/169 فإذا ارتفع عن الأرض مقدار قامة، كان محمولا إلى السقف على أربعة صور. وفي جوانبه رجلان وامرأتان. وكانت فيه صورة عجيبة لا يدرى ما هي. فجاء قوم فادعوا أنه لهم وأن أباهم بناه، فنقضوه وأبلغوا بما فيه من الخشب وما كان في صوره من الذهب. وكان بيتا

عجيب الصنعة، فأصابت مرو وقراها في السنة التي هدم فيها جوائح عظام. فزعم أهل مرو أنه كان طلسما للعمران، وأنه لما [زال] «1» نال البلاد ما نالهم. ووفد على بعض الخلفاء رجل من أهل خراسان له عقل ومعرفة، فقال: أخبرني من أصدق أهل خراسان؟ قال: أهل بخارا. قال: فمن أوسعهم بذلا للخبز [والملح] «2» ؟ قال: أهل الجوزجان. قال: فمن أحسنهم [159 أ] ضيافة؟ قال: أهل سمرقند. قال: فمن أدقّهم نظرا؟ قال: أهل مرو. قال: فمن أسوأهم طاعة وأذهبهم بنفسه؟ قال: أهل خوارزم. قال: فمن أحسنهم فطنة وأبعدهم غورا؟ قال: أهل مرو الروذ. قال: فمن أصحّهم «3» عقولا؟ قال: أهل طوس ان رضي أهل نسا. قال: فمن أكثرهم جدلا وشغبا؟ قال: أهل سرخس. قال: فمن أضعفهم رأيا وتدبيرا؟ قال: أهل نيسابور. قال: فمن أقلّهم غيرة؟ قال: أهل هراة. قال: فمن أجهلهم بالخالق؟ قال: أهل بوشنج وبادغيس. قال: فمن أرماهم؟ قال: أهل خوارزم. قال: فمن أبخلهم؟ قال: أهل مرو. وأنشد: مياسير مرو من يجود لضيفكم ... بكرش فقد أمسى نظيرا لحاتم ومن رشّ باب الدار منهم بغرفة ... فقد كملت فيه خصال المكارم يسمون بطن الشاة طاووس عرسهم ... وعند طبيخ اللحم ضرب الجماجم فلا قدّس الرحمن أرضا وبلدة ... طواويسهم فيها بطون البهائم وكان المأمون يقول: استوى الشريف والوضيع من أهل مرو في ثلاثة أشياء: البطيخ البارنك والماء البارد بغير الثلج [يعني ماء اليخ] «4» والقطن اللين. 2/170 وبمرو، الرزيق والماجان: نهران كبيران حسنان منهما سقي أكثر ضياعهم ورساتيقهم. وأنشد لعلي بن الجهم:

جاوز النهرين والنهروانا ... أجلولا يؤمّ أم حلوانا؟ ما أظن النوى يسوّغه القر ... ب ولم تمخض المطيّ البطانا نشطت عقلها هبوب الر ... يح خرقاء تخبط البلدانا أوردتنا حلوان ظهرا وقرمي ... سين ليلا وصبّحت همذانا انظرتنا إذا مررنا بمرو ... ووردنا الرزيق والماجانا أن نحيّي ديار جهم وإد ... ريس ونسأل الإخوانا [159 ب] قال وحدثني أحمد بن جعفر. حدثني أبو حفص عمر بن مدرك «1» ، قال كنت عند أبي إسحاق الطالقاني يوما بمرو على الرزيق في المسجد الجامع فقال أبو إسحاق: كنا يوما عند ابن المبارك، فانهار القهندز فتناثرت منه جماجم، فتصدعت جمجمة وتناثرت أسنانها، فوزنّا سنّين منها، فكان في كل واحدة منهما منوان بأربعة أرطال. فأتي ابن المبارك بهما، فأقبل يوزنهما بيده ساعة ثم قال: أتيت بسنّين قد رميا ... من الحصن لما أثاروا الدفينا على وزن منوين إحداهما ... ينوء به الكف شيئا رزينا ثلاثون أخرى على قدرها ... تباركت يا أحسن الخالقينا فماذا يقوم لأفواهها ... وما كان يملأ تلك البطونا إذا ما تذكرت أجسامهم ... تصاغرت النفس حتى تهونا 2/171 وكل على ذاك لاقي الردى ... وبادوا جميعا فهم خامدونا وقال إبراهيم بن الشمّاس الطالقاني: قدمت على عبد الله المبارك من سمرقند إلى مرو، فأخذ بيدي فأخرجني فأطاف بي حول سور مدينة مرو. ثم قال لي: يا

إبراهيم. أتعرف من بنى هذه المدينة؟ قلت: لا أدري يا أبا عبد الرحمن. قال: فمدينة مثل هذه لا يعرف بانيها، وسفيان بن سعيد الثوري مات وليس له كفن واسمه حي إلى يوم القيامة. قال معاذ الترمذي: أربعة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ماتوا بمرو وحواليها: بريدة الأسلمي وبريدة بن الخصيب وحكم الغفاري وقثم بن العباس بن عبد المطلب. وقال البلاذري: خراسان أربعة أرباع «1» . فالربع الأول: إيرانشهر، وهي نيسابور، وقهستان، والطبسين وهراة، وبوشنج، وباذغيس، وطوس- واسمها طابران-. والربع الثاني: مرو الشاهجان، وسرخس، ونسا، وباورد، ومرو الروذ، والطالقان [160 أ] وخوارزم [وزم] «2» وآمل- وهما على نهر بلخ- وبخارا. والربع الثالث: وهو غربي النهر وبينه وبين النهر ثمانية فراسخ-: الفارياب، والجوزجان، وطخارستان العليا، [وهي الطالقان، والختّل وهي وخش، والقواديان] «3» وخست وأندرابة، والباميان، وبغلان، ووالج وهي مدينة مزاحم بن بسطام، ورستاق بنك، وبذخشان وهي مدخل الناس إلى التبت- ومن أندرابة مدخل الناس إلى كابل- والترمذ وهي في شرق بلخ، والصغانيان، وزم، وطخارستان السفلى، وخلم وسمنجان. والربع الرابع: ما وراء النهر بخارا، والشاش، والطراربند، والسغد وهوكس ونسف، والروسيان، واشروسنة، وسنام قلعة المقنّع، وفرغانة، وسمرقند،

[والشم، وأباركت، وبناكت، والترك] «1» . ولسمرقند أربعة أبواب: باب كبير. وباب الصين وباب أسروشنة وباب الحديد. وبين سمرقند وأسروشنة نيف وعشرون «2» فرسخا. وخجندة متيامنة عن أسروشنة إلى الجبل والباميان إلى ناحية كابل. ومن مرو طريقان: أحدهما إلى الشاش، والآخر إلى بلخ وطخارستان. فمن مرو إلى مدينة بلخ مائة وستة وعشرون فرسخا، وهي اثنان وعشرون منزلا قال الأحوص: تجبى له بلخ ودجلة كلها ... وله الفرات وما سقى والنيل ويقال إن لهراسف بنى مدينة بلخ وعمرها وخرب مدينة بيت المقدس وشرّد من كان بها من اليهود. وقال الضحاك: أسرع الأرض خرابا من المشرق، بلخ. ويقال إن الإسكندر بنى بلخ وقيل إنه مات [فيها] وقد قاتل ملوكا كثيرة وقهرهم وغلبهم غلبات مشهورة وهزم جنودا ذات قوة ووطئ بلدانا كثيرة وكانت مدة عمره اثنين وثلاثين سنة وسبعة أشهر لم يسترح في شيء منها. ويقال إنه ملك الأرض كلها ودانت [له] «3» سائر ملوكها. وبنى ثلاث «4» عشرة مدينة وسمّي كلها الاسكندرية. وبعضها قائم إلى اليوم. وقد غيرت بعض [160 ب] أسمائها. منها الاسكندرية التي بناها على اسم فرسه فقليوس وتفسيره. رأس الثور. ومنها الاسكندرية التي في باورنقوس. ومنها الاسكندرية التي تدعى المحصنة. ومنها الاسكندرية التي بناها في الهند. ومنها الاسكندرية التي في جاليقوس.

ومنها الاسكندرية التي في بلاد السقوياسيس. ومنها الاسكندرية التي على شاطئ النهر الأعظم. ومنها الاسكندرية التي بأرض بابل. ومنها الاسكندرية التي في بلاد السغد وهي سمرقند. ومنها الاسكندرية التي تدعى مرغيلوس وهي مرو. ومنها الاسكندرية التي في مجاري الأنهار بالهند. ومنها الاسكندرية العظمى التي في بلاد مصر. ومنها الاسكندرية التي سميت كوش وهي بلخ. فهذه مدائنه التي بناها، ومات ببابل مسموما. وببلخ، النوبهار، وهو من بناء البرامكة. 2/172 قال عمر بن الأزرق الكرماني: كانت البرامكة أهل شرف على وجه الدهر ببلخ قبل ملوك الطوائف. وكان دينهم عبادة الأوثان. فوصفت لهم مكة وحال الكعبة بها وما كانت قريش ومن والاها من العرب تدين به. فاتخذوا بيت النوبهار مضاهاة لبيت الله الحرام. ونصبوا حوله الأصنام وزينوه بالديباج والحرير وعلقوا عليه الجواهر النفيسة. وتفسير النوبهار: الجديد. وكانت سنّتهم إذا بنوا بناء حسنا أو عقدوا طاقا شريفا أن يكلّلوه بالريحان، يتوخّون بذلك أول ريحان يطلع في ذلك الوقت. فلما بنوا ذلك البيت جعلوا عليه أول ما ظهر من الريحان- وكان البهار- فسمّي نوبهار. وكانت العجم تعظّمه وتحج إليه وتهدي له وتلبسه أنواع الثياب وتنصب على قبته الأعلام. وكانوا يسمون قبته الأستن. وكانت مائة ذراع في مثلها، وارتفاعها فوق المائة ذراع بأروقة مستديرة حولها. وكان حول البيت ثلاثمائة وستون مقصورة يسكنها خدّامه [161 أ] وقوّامه وسدنته. وكان على كل أهل مقصورة من تلك المقاصر، خدمة يوم ثم لا يعودون إلى الخدمة حولا. ويقال إن الريح كانت ربّما حملت الحرير من العلم الذي فوق القبة فتلقيها بالترمذ، وبينهما اثنا عشر فرسخا. وكانوا يسمون السادن الأكبر برمكا لأنهم شبّهوا البيت بمكة وقالوا: سادنه برمكة. فكان كل من ولي منهم السدانة يسمى برمكا. وكانت ملوك الهند والصين وكابل شاه وغيرهم من الملوك تدين بذلك الدين

وتحج إلى هذا البيت. وكانت سنّتهم إذا هم وافوه أن يسجدوا للصنم الأكبر ويقبلوا برمك. وكانوا قد جعلوا للبرمك ما حول النوبهار من الأرضين سبعة فراسخ في مثلها. وسائر أهل ذلك الرستاق عبيد له يحكم فيهم بما يريد. وكانوا قد صيروا للبيت وقوفا كثيرة وضياعا عظيمة سوى ما يحمل إليه من الهدايا التي تتجاوز كل حد. وسائر أموال ذلك مصروفة إلى البرمك الذي يكون عليه. فلم يزل برمك بعد برمك إلى أن افتتحت خراسان أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقد صارت السدانة إلى برمك أبي خالد بن برمك، فسار إلى عثمان بن عفان مع دهاقين كانوا ضمنوا مالا في البلد. ثم إنه رغب في الإسلام فأسلم وسمّي عبد الله ورجع إلى ولده وأهله وبلده فأنكروا عليه إسلامه وجعلوا بعض ولده مكانه برمكا. 2/173 فكتب إليه نيزك طرخان- وهو أحد الملوك يعظم ما أتاه من الإسلام ويدعوه إلى الرجوع في دين آبائه. فأجابه برمك: إني إنما دخلت في هذا الدين اختيارا له وعلما بفضله من غير رهبة ولا خوف، ولم أكن لأرجع إلى دين بادي العوار مهتك الأستار. فغضب نيزك وزحف إلى برمك في جمع كثيف. فكتب إليه برمك: قد عرفت حبي للسلامة واني ان استجرت الملوك عليك أنجدوني، فاصرف عني أعنّة خيلك وإلّا حملتني على لقائك. فانصرف عنه. ثم استغرّه وبيّته [161 ب] فقتله وعشرة بنين له، فلم يبق له خلف سوى برمك أبي خالد، فإن أمه هربت به وكان صغيرا إلى بلاد القشمير فنشأ هناك وتعلم النجوم والطب وأنواعا من الحكمة- وهو على دين آبائه-. ثم إن أهل بلده أصابهم طاعون ووباء فتشاءموا بمفارقة دينهم ودخولهم في الإسلام، فكتبوا إلى برمك فقدم عليهم وأجلسوه في مكان أبيه، وتولى أمر النوبهار فسمّي برمكا. فتزوج برمك بنت ملك الصغانيان فولدت له الحسن وبه كان يكنى، وخالدا،

وعمرا، وأم خالد، وسليمان بن برمك من امرأة غيرها من أهل بخارا «1» . وأهدى صاحب بخارا إلى برمك جارية فولدت له كال بن برمك وأم القاسم. وللبرامكة أخبار كثيرة يطول أمرها، وإنما ذكرنا هذا الخبر بسبب بناء النوبهار. وببلخ جيحون وهو نهرهم العظيم، وبينه وبين بلخ اثنا عشر فرسخا. والترمذ على النهر. وبخارا وجبالها وعيونها وأنهارها التي من الجانب الأقصى في الشمال. والمدن التي عن يمين النهر والأنهار الصغار التي في هذه الجبال الشرقية التي من ناحية القبلة ومن ناحية الدبور تصب إلى هذا النهر أعني نهر بلخ. وهو يجيء من ناحية المشرق من موضع يقال له ريوساران وهو جبل متصل بناحية السند والهند وكابل. ومنه عين تجري من موضع يقال له عندميس واسترز من هذا الجبل. ويجتمع بمرو ويجيء إلى مرغاب ثم يمرّ إلى آمويه، 2/174 ويشق خوارزم فيصير إلى البحر الخراساني وهو بحر الخزر، ثم يدخل الصين. ونصارى خراسان تميل إلى الثنوية والشمنية، إلّا ان نسطور لما دخلها مالوا إلى مذهبه. وأصل هذا النهر من المشرق عليه معادن البلور وغيره من الأحجار النفيسة وعليه أيضا معدن ذهب جيد. ومن بلخ إلى شط جيحون اثنا عشر «2» فرسخا. فذات اليمين على الشط كورة خلج ونهر الضرغام. وذات اليسار، مرو وخوارزم واسمها بيل. فهي جانبان على نهر بلخ يشقها جيحون [162 أ] وآمل وزم وجبال الطالقان وبلنجر والجوزجان وأقاصي قرى بلخ «3» : سقى مزن السحاب إذا استهلّت ... مصارع فتية بالجوزجان

ويعبر نهر بلخ هذا إلى الترمذ- وهو معها- ويضرب سورها ومدينتها على حجر طريق الصغانيان. ومن الترمذ إلى الراشت، ثمانون فرسخا. والراشت أقصى خراسان من ذلك الوجه. وهي بين جبلين. وكان منها مدخل الترك إلى بلاد الإسلام للغارة عليهم. فعلّق الفضل بن يحيى بن خالد هناك بابا. ومن بلخ إلى طخارستان العليا ثمانية وعشرون فرسخا. وهناك قرية يقال لها قارض. وبالقرب منها قرى بسطام بن سورة بن عامر بن مساور «1» . ولمّا ان أقر ابن عامر قيس بن الهيثم على خراسان، سار قيس إلى مدينة بلخ وقدّم بين يديه عطاء بن السائب فدخلها وخرّب النوبهار. ويقال إن أول من دخل هراة من المسلمين رجل يقال له عطاء، دخل من الباب المعروف بالحسك. فسمي الرجل عطاء الحسك. وحدثني أبو يوسف يعقوب بن إسحاق «2» . قال: حدثني إبراهيم بن الجنيد عن إبراهيم بن رويم الخوارزمي قال: فيما بين خراسان وأرض الهند نمل أمثال الكلاب السلوقية. وكلبهم عظيم، لا يطاقون، ويحفرون من أماكنهم الذهب ويخرجونه، فأرضهم كلها ذهب وهي شديدة الحرّ، فهم يخافون في أحجرتهم الهاجرة. فيجيء الناس إلى أخذ ذلك الذهب ويعتمدون وقت شدة الحر ودخولهم إلى أماكنهم، فيأخذون ما يقدرون عليه ويبادرون الخروج قبل سكون الحرّ وخروجهم. فإن خرجوا ولحقوا أحدا منهم، أتوا عليه، فيكون معهم اللحم اشقاقا كبارا، فإذا كادوا أن يلحقوهم، طرحوا بعد ذلك اللحم في وجوههم فاشتغلوا به وبادروا هم بالخروج، فإذا بلغوا إلى موضع هو الحدّ لم يخرجوا منه شبرا واحدا في طلسم «3» .

فأما الطريق «1» من مرو إلى الشاش والترك. فمن مرو إلى كشماهن ثم إلى الديوان [162 ب] ثم إلى المنصف ثم إلى الاحساء وإلى بئر عثمان ثم إلى آمل: فمن مرو إلى آمل ستة وثلاثون فرسخا. ومن آمل إلى شط نهر بلخ فرسخ ويعبر إلى فربر فرسخ. 2/175 ومن آمل إلى بخارا سبعة عشر فرسخا. ولبخارا قهندز ولها من المدن: كرمينية وطواويس وفربر ووردانة وبيكند مدينة التجار. ومن بخارا إلى كول عشرة فراسخ ومما يلي الجنوب من هذا الموضع جبال الصين. ومن بخارا إلى سمرقند سبعة وثلاثون فرسخا. ولسمرقند قهندز. ولها من المدن: الدبوسية وأربنجن وكشان وكس ونسف وخجندة وهي مدينة طيبة كثيرة الخير حسنة. أنشدني رجل من أهلها: ولم أر بلدة بإزاء شرق ... ولا غرب بأنزه من خجنده هي الغراء تعجب من رآها ... وهي بالفارسية دل ببرذه ويقال إن سمرقند من بناء الإسكندر. واستدارة حائطها اثنا عشر فرسخا. وفيها بساتين ومزارع وأرحاء. ولها اثنا عشر بابا. من الباب إلى الباب فرسخ. وعلى أعلى السور آزاج وأبرجة للحرب. والأبواب الاثنا عشر من حديد «2» . وبين كل بابين منزل للبواب. فإذا جزت المزارع، صرت إلى الربض وفيه أبنية وأسواق. وفي ربضها من المزارع عشرة آلاف جريب. ويدخل المدينة ومساحتها خمسة عشر ألف جريب. ولهذه المدينة [أعني] «3» الداخلة أربعة أبواب، ومساحتها ألفان وخمسمائة

جريب. 2/176 وفيها مسجد جامع، وفيها القهندز وفيه مسكن السلطان. وفي هذه المدينة الداخلة نهر يجري. فأما داخل سور المدينة الكبير ففيه أودية وأنهار وعيون وجبال. وعلى القهندز باب حديد من داخله باب آخر حديد. وفي أخبار ملوك اليمن قالوا: لمّا مات ناشر ينعم الملك، قام بالملك من بعده شمر بن افريقيس بن أبرهة. فجمع جنوده وسار في خمسمائة ألف رجل حتى ورد العراق. فأعطاه كشتاشف بن بخت نصر الطاعة وعلم أن لا طاقة له به لكثرة جنوده وشدة صولته. فسار من العراق قاصدا لبلد الصين. فلما صار إلى بلد الصغد اجتمع أهل تلك البلاد [163 أ] وتحصنوا منه بمدينة سمرقند فأناخ عليها وأحاط بمن فيها من كل وجه وحاربهم حتى استنزلهم بغير أمان فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأمر بالمدينة فهدمت، فسميت من يومئذ شمركند أي شمر هدمها. فعربتها العرب وقالوا سمرقند. وقال في مسيره هذا: أنا شمر أبو كرب اليمانا ... جلبت الخيل من يمن وشام لآتي أعبدا مرقوا علينا ... بأرض الصين من أهل السوام فأحكم في بلادهم بحكم ... وثيق لا يجاوز بالأثام فإن أهلك ولم أرجع إليكم ... فقد هلك الملوك من آل سام بنو مهليل انتجعوا فساحوا ... وخطّوا البيت بالبلد الحرام هو البيت العتيق فعظّموه ... وإن كانت وجوهكم دوام سيملك بعدنا أبنا ملوك ... يدينون العباد بغير ذام ويملك بعدهم ملك كريم ... نبيّ لا يرخّص في الحرام محمد اسمه يا ليت يومي ... تأخّر بعد مخرجه بعام ثم سار حتى قارب الصين فمات هو وأصحابه عطشا فلم يبق منهم مخبر. وكان ملكه سبع سنين. فلم تزل سمرقند خرابا إلى أن ملك تبع الأقرن بن أبي مالك بن ناشر ينعم. فلم تكن له همّة إلّا الطلب بثأر جده شمر الذي هلك بأرض الصين. فتجهّز واستعد وسار في مائة ألف رجل من أبطال قومه. فجاء العراق

فخرج إليه بهمن بن إسفنديار وأعطاه الطاعة وحمل إليه الخراج ثم أقام له الترك في جميع مملكته. وكان طريقه على الأهواز حتى دخل في أرض خراسان فانتهى إلى النهر الأعظم فعبره بالسفن حتى وافى مدينة بخارا فطواها حتى أتى سمرقند وهي خراب فأمر ببنائها وأقام عليها حتى فرغ منها وردها إلى أفضل مما كانت عليه من العمارة. ثم سار منها إلى فرغانة وركب من هناك المفاوز فسار فيها شهرا حتى أتى بلادا واسعة كثيرة المياه والكلأ فابتنى هناك مدينة عظيمة وأسكن فيها ثلاثين من أصحابه ممن لم يستطع السير معه إلى الصين وسماها التبت. فأهلها إلى اليوم لهم زي العرب ولباسهم ولهم فروسية وبأس شديد، قد قهروا جميع من حولهم من أجناس الأتراك. وسار من هناك حتى ورد الصين [163 ب] فخرج إليه ملكها فحاربه فهزمه الأقرن وقتل خلقا من جنوده وأخرب مدينته وشن في أرضه الغارة، وطلب الملك حتى ظفر [به] «1» فقتله وغنم من أرضه غنائم لم يغنم مثلها أحد ممن كان قبله من الملوك. فيقال إن تلك «2» المدينة التي سكنها هذا الملك خراب إلى اليوم. وفي ذلك يقول تبع بن الأقرن: أنا تبّع ذو المجد من آل حمير ... ملكنا عباد الله في الزمن الخالي فدانت لنا شرق البلاد وغربها ... وأبنا عليها خير أوب وأنفال ملكناهم قسرا وسارت خيولنا ... إلى الهند بالفرسان حالا على حال ومغرب شمس الله قد وطئت لنا ... قبائل خيل غير نكس وأعزال وسوف تليها بعدنا خير أمة ... ذوو نجدة من خير دين وإفضال يدينون دين الحق لا يسلمونه ... سجود ركوع في غدو وآصال كرام ذوو فضل وعلم ورأفة ... فمن بين زهّاد كرام وأبدال يقر جميع العالمين بفضلهم ... وليسوا عن الحرب العوان بأنكال

ضراغمة بيض كأن وجوههم ... إذا ما بدوا ليلا قناديل ذيّال ثم انصرف بعده إلى أرضه وقد أدرك ثأره. ولما حضر سعيد بن عثمان بن عفان مدينة سمرقند، حلف أن لا يبرح ولا يزول حتى يدخل المدينة ويرمي القهندز بحجر صلحا أو فدية أو عنوة. فصالحهم على سبعمائة ألف درهم وأن يدخل المدينة من باب ويخرج من الآخر، وأن يمر على القهندز وأن يعطوه رهنا من أولاد عظمائهم. فدخل المدينة ورمى القهندز بحجر فثبت فيه فتطيروا لذلك وقالوا: ثبت فيها ملك العرب. وصالح قتيبة بن مسلم أهل سمرقند على أن ما في بيوت النيران وحلية الأصنام. فأخرجت إليه الأصنام فسلب حليّها وأمر بتحريقها فقال سدنتها: إن فيها أصناما من أحرقها هلك. فقال قتيبة: أنا أحرقها [164 أ] بيدي، وأخذ شعلة من نار فأضرمها فيها، فاضطرمت واحترقت، فوجد بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب خمسين ألف مثقال. وسمرقند من بلاد الصغد، ومن ورائها كرمانية ودبوس «1» وأشروسنة والشاش ونخشب وبناكت واستوركث، ابوازكت، سام، سرك، بنكت، تكت، رفكت، وسيج، برنمذ «2» . هذه كلها من مدن الشاش. وقالوا: ليس في الأرض مدينة أنزه ولا أطيب ولا أحسن مستشرفا من سمرقند. وقد شبّها الحصين بن المنذر الرقاشي فقال: كأنها السماء للخضرة، وقصورها الكواكب للإشراق، ونهرها المجرّة للاعتراض، وسورها الشمس للأطباق.

وسأل المأمون رجلا عن سمرقند فقال: يا أمير المؤمنين، كأن مدينتها دارة القمر، وكأن نهرها المجرة، وكأن ضياعها حولها النجوم. وقال الشعبي: شهدت فتح سمرقند مع قتيبة بن مسلم، فنظر على بعض أبوابها لوحا في الحائط فيه خطوط «1» كأنها عربية وليست عربية.- وكان اللوح من حجر- فتأمله طويلا ثم قال: والله إني لأظنها بعض فعالات حمير. ابغوني رجلا من الجند قريب العهد باليمن وكلام حمير: فبعث إلى عبد الله الحزامي فقال له: أتعرف هذا الخط؟ قال: نعم- أصلح الله الأمير- هذا بخط حمير الذي يقال له المسند. قال: اقرأه. فإذا هو: باسمك اللهمّ. هذا كتاب ملك العرب والعجم شمر يرعش الملك الآثم. من بلغ هذا المكان فهو مثلي، ومن جازه فهو فوقي، ومن قصر عنه فهو دوني. فأبى قتيبة أن لا يرجع حتى يطأ بلاد الصين. وبلغ ذلك ملكها فخاف فبعث إليه بإكليل مفصّل بالياقوت وبجراب من تراب بلده وقال: أبسط هذا التراب وامش عليه، فإذا فعلت فقد برّت يمينك. وضمن له خراجا في كل سنة، فقيل له ذلك منه وأقام. وقال الأصمعي: مكتوب على باب سمرقند بالحميرية: بين هذه المدينة وبين صنعاء ألف فرسخ. وبين بغداد وإفريقية ألف فرسخ. وبين سجستان [164 ب] وبين البحر مائتا فرسخ. 2/177 ومن «2» سمرقند إلى زامين سبعة عشر فرسخا. وزامين مفرق طريقين إلى الشاش والترك وفرغانة. فمن رامين إلى الشاش خمسة وعشرون فرسخا.

ومن الشاش إلى الفنجهير معدن الفضة سبعة فراسخ وإلى باب الحديد ميلان «1» . ومن الشاش إلى بارجاخ «2» أربعون فرسخا. وبارجاخ تل حوله ألف عين تجيء من المشرق إلى المغرب وتسمى بركوب آب أي الماء المقلوب صيده تدارج» سود. ومن الشاش إلى أسبيجاب اثنان وعشرون «4» فرسخا. ومن أسبيجاب إلى موضع ملك كيماك مسيرة ثمانين يوما يحمل فيها الطعام. ومن طراز إلى نوشجان السفلى ثلاثة فراسخ. ومنها إلى كرباس فرسخان «5» وهي خرمية يشتو بها الخرلخية وبقربها منشأ الخلجية. ثم إلى كول شوب أربعة فراسخ. ثم إلى حل شوب أربعة فراسخ. ثم إلى كولان، قرية غناء ذات مياه وأشجار أربعة فراسخ. ثم إلى بركى، قرية كبيرة أربعة فراسخ. ثم إلى أسبره أربعة فراسخ. ثم إلى نوركث، قرية عظيمة ثمانية فراسخ.

ثم إلى حرجوا «1» أربعة فراسخ. ثم إلى كتوال ثلاثة فراسخ. ثم إلى نوشجان الأعلى خمسة عشر يوما للقوافل على المرعى، وهو حدّ الصين، فأما لبريد الترك فمسيرة ثلاثة أيام. والطريق من زامين إلى فرغانة، ومنها إلى ساباط فرسخان. 2/178 وإلى سروشنه سبعة فراسخ. منها فرسخان في سهل وخمسة في استقبال ماء جار من ناحية المدينة. فمن سمرقند إلى سروشنة ستة وعشرين فرسخا. ومن ساباط إلى غلوك ستة فراسخ. ثم إلى خجندة أربعة فراسخ. ثم إلى صامغان خمسة فراسخ. ثم إلى خاجستان أربعة فراسخ. ثم إلى يرمقان سبعة فراسخ. ثم إلى مدينة باب ثلاثة فراسخ. ثم إلى فرغانة أربعة فراسخ. فمن سمرقند إلى فرغانة ثلاثة وخمسون فرسخا. وكان أنوشروان بناها ونقل إليها من كل أهل بيت واحدا وسماها (أز هر خانه) أي من كل بيت واحد. وخجندة من [165 أ] فرغانة. ثم إلى فنا عشرة فراسخ. وإلى مدينة أوش عشرة فراسخ. وإلى مدينة خورتكين سبعة فراسخ. وإلى العقبة مسيرة يوم وإلى اطباس مسيرة يوم. واطباس هذه مدينة على عقبة مرتفعة. ثم إلى نوشجان الأعلى إلى مدينة خاقان التغزغز مسيرة ثلاثة أشهر في قرى كبار وخصب. وأهلها أتراك فيهم مجوس يعبدون النار وفيهم زنادقة. والملك في مدينة عظيمة لها اثنا عشر بابا حديدا. وأهلها زنادقة. ومن يسارها كيماك وأمامها الصين على ثلاثمائة فرسخ. ولملك التغزغز خيمة [من ذهب] «2» على أعلى قصره تسع مائة إنسان ترى من خمسة فراسخ.

فأما ملك كيماك ففي خيام يتبع الكلأ. وبين طراز وموضعه مسيرة أحد وثمانين يوما في مفاوز «1» وجبال وأودية فيها الأفاعي وغيرها من الحيوانات القتّالة. والطراز آخر الإسلام من هذا الوجه. وروي عن عبد الله بن عمر قال: رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) يشير بيده إلى المشرق ويقول: إن الفتنة ها هنا حيث تطلع قرن الشيطان. وروي عن عكرمة أنه قال: وقد خرج من خراسان: الحمد لله الذي أخرجنا منها، لتطوى خراسان طيّ الأديم حتى يقوّم الحمار الذي كان فيها بخمسة دراهم بل بخمسين أو بخمسمائة. ويروى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: إن الدجال يخرج من المشرق من أرض يقال لها خراسان يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة. خراج خراسان «2» : الذي وظّف على عبد الله بن طاهر من خراج خراسان وللأعمال المضمومة إليها لسنتي إحدى واثنتي عشرة ومائتين: الري، عشرة آلاف ألف درهم. قومس: ألفا ألف ومائة ألف وستة وتسعون ألف درهم. جرجان: عشرة آلاف ألف ومائة ألف وستة وسبعون ألفا وثمانمائة درهم. كرمان: مائة وثمانون فرسخا في مائة وخمسين فرسخا. كانت تجبى للأكاسرة [165 أ] ستين ألف ألف درهم.

سجستان بعد المنكسر من خراج قرى مورّق والرخج وبلاد الداور وزابلستان- وهي من ثغور طخارستان- وهو تسعمائة ألف وسبعة وأربعون ألف درهم. ستة آلاف ألف ألف وسبعمائة ألف وستة وسبعون ألف درهم. الطبسين: مائة ألف وثلاثة عشر ألفا وثمانمائة وثمانون درهما. قهستان: سبعمائة ألف وسبعة وثمانون ألفا وثمانمائة وثمانون درهما. نيسابور: ألفا ألف وثمانمائة وستون درهما. نسا: ثمانمائة ألف وثلاثة وسبعون ألفا وأربعمائة درهم. أبيورد: سبعمائة ألف درهم. سرخس: ثلاثمائة ألف وسبعة آلاف وأربعمائة وأربعون درهما. مرو الروذ ورستاق بها يقال لها طنج، أربعمائة ألف وعشرون ألف وأربعمائة درهم. الطالقان «1» : أحد وعشرون ألفا وأربعمائة درهم. غرجستان: مائة ألف درهم، ومن الغنم ألفا شاة. باذغيس: أربعمائة ألف وأربعون ألف درهم. هراة وأسفزار واسفذسج «2» : ألف ألف ومائة ألف وتسعة وخمسون ألف درهم. كور طخارستان: زم: مائة ألف وستة آلاف درهم. الفارياب: خمسة وخمسون ألف درهم.

الجوزجان: مائة ألف وأربعة وخمسون ألف درهم. الختلان: خلم: اثنا عشر ألف درهم. بلخ وشعب خرة وجبالها: مائة ألف وثلاثمائة وتسعون ألفا وثلاثمائة درهم. فيروغس «1» : أربعة آلاف درهم. ترمذ: ألفا درهم. الروب وسمنجان: اثنا عشر ألف وستمائة درهم. الباميان: خمسة آلاف درهم. برخان وجوهرين والمنخان «2» : مائة ألف وستة آلاف وخمسمائة درهم. الترمذ: سبعة وأربعون ألفا ومائة درهم. القيقان «3» : ثلاثة آلاف وخمسمائة درهم. شنقان «4» : أربعة آلاف درهم. وخان «5» : عشرون ألف درهم.

الميذجان «1» : ألفا درهم. أخرون: اثنان وثلاثون ألف درهم. الكست: عشرة آلاف [166 أ] ألف درهم. الصغانيان: ثمانية وأربعون ألفا وخمسمائة درهم. باسارا: سبعة آلاف وثلاثمائة درهم. الواشجرد: ألف درهم. العندمين والوخشان «2» : اثنا عشر ألف رأس وثلاث عشرة دابة. كابل: ألفا ألف وخمسمائة درهم. ومن الوصائف ألفا رأس قيمتها ستمائة ألف درهم. وكابل من ثغور طخارستان ولها من المدن: وأذان وخواش وخشك وحبره «3» . وبكابل عود ونارجيل وزعفران وهليلج لأنها متاخمة الهند. نسف: تسعون ألف درهم. كس: مائة ألف واثنا عشر ألفا وخمسمائة درهم. البتم: خمسة آلاف درهم. الباكبين «4» : ستة آلاف ومائتا درهم. رستاق جاوان: سبعة آلاف درهم.

رستاق الديوار «1» : ألفان ومائتان وعشرون درهما. افنه: ثمانية وأربعون ألف درهم. خوارزم: أربعمائة ألف وتسعة وثمانون ألف درهم. آمل: مائتا ألف وثلاثة وتسعون ألفا وأربعمائة درهم. وراء النهر: بخارا: ألف ألف ومائة ألف وتسعة وثمانون ألفا ومائتا درهم غطريفية. السغد وسائر كور نوح بن أسد: ثلاثمائة ألف وستة وعشرون ألفا وأربعمائة درهم. منها على فرغانة، مائتا ألف وثمانون ألفا محمدية. وعلى مدائن الترك ستة وأربعون ألفا وأربعمائة درهم خوارزمية. ومن الكرابيس الغلاظ الكندجية ألف وسبعة وثمانون ثوبا. ومن المرور وصفائح الحديد ألف وثلاثمائة قطعة نصفين. فالجميع ألف ألف واثنان وسبعون ألف درهم محمدية. منها على الصغد والمعدن بالبتم ومعدن الملح بكس ألف ألف وتسعة وثلاثون درهما محمدية. وكس ونسف والبتم من كور السغد. أسروشنة: خمسون ألف ألف درهم. وثمانمائة وأربعون درهم محمدية. الشاش ومعدن الفضة: ستمائة ألف وسبعة آلاف مسيبية. خجندة: مائة ألف درهم مسيبية. فجميع خراج خراسان [166 ب] وما ضمّ إلى عبد الله بن طاهر من الكور والأعمال: أربعمائة وأربعون ألف ألف وثمانمائة ألف وستة وأربعون ألف درهم. ومن الدواب ثلاثة عشر ألف ألف دابة. 2/179 ومن الغنم ألفا شاة. ومن السبي ألفا رأس واثنا عشر رأسا قيمتها ستمائة ألف درهم. ومن المرور وصفائح الحديد ثلاثمائة قطعة نصفين.

القول في الترك روي عن حذيفة أنه قال: تغلب الترك على الكوفة، وتغلب الخزر على الجزيرة، وتغلب الروم على الشام. وروي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: لتخرجن الترك أهل العراق من بلادهم. قال: وكتب عمر رضي الله عنه إلى عماله: إذا أصبتم أحدا من الأتراك فاضربوا عنقه، فإن لهم خرجة بعد المائتين. فإذا خرجوا كانوا أشدّ كلبا على ما في أيديكم مما في أيديهم. ويروى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: الترك أول من يسلب أمتي ما خوّلوا. ويروى عن عبد الله بن عباس أنه قال: والله لتكونن الخلافة في ولدي حتى تغلب على عزّهم الحمر الوجوه الذين وجوههم كأنها المجان المطرقة. ويروى عن أبي هريرة أنه قال: لا تقوم الساعة حتى يجيء قوم عراض الوجوه صغار العيون فطس الأنوف حتى يربطوا خيولهم بشاطئ دجلة. ويروى أن معاوية قال: لا تبعثوا الرابضين اتركوهما ما تركوكم: الترك والحبشة. وفي حديث مرفوع قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : اتركوا الترك ما تركوكم. وقالوا: لا تضع الشاة بالترك أقل من أربعة، وربما وضعت خمسة أو ستة كما تصنع الكلبة. فأما اثنين وثلاثة فإنما يكون في الفرد وهي كبار جدا ولها ألايا عظام تجرها على الأرض.

قال: وبلدان الأتراك «1» : التغزغز وبلادهم أوسع بلدان الأتراك، حدّهم الصين والتبت والخرلخ والكيماك والغز والجقل «2» والبجناك والتركش وأركش وخشفاج «3» وخرخيز، وبها [167 أ] مسك. وهي من هذا الجانب [من] النهر. فأما مدينة فاراب فإن فيها مسلحة «4» للمسلمين. والأخرى أتراك الخرلخية. وجميع مدائن الترك ست عشر مدينة. وقال بعض العلماء بالترك: أجناس الترك: الخرلخ: وهم ما يكون إلى ناحية سمرقند. وهم عتاق الترك. والبذكشية: وهم أصحاب اللحى العظام. والغز والتغزغز. والكيماك: وهم الملوك، وهم أوغل في بلادهم وأعزهم عند جميع الترك. والبشناكية والشرية. والتغزغز عرب الترك، وهم أصحاب عمد يحلون ويرحلون. والبذكشية: أصحاب بناء وقرى. قال: بعث هشام بن عبد الملك رجلا إلى ملك الترك يدعوه إلى الإسلام. قال: فدخلت إليه وهو يتخذ سرجا. فقال للترجمان: من هذا؟ قال: رسول ملك العرب. قال: غلامي؟ قال: نعم. فأمر بي إلى بيت كثير اللحم قليل الخبز. فلما كان ذات يوم ركب في عشرة أنفس مع كل واحد منهم لواء وأمر أن أحمل فحملت

على دابة. فصعد تلّا وحول التل غيضة. فلما طلعت الشمس أمر واحدا من أولئك العشرة أن ينشر لواءه ويلح «1» به. ففعل. فوافى عشرة آلاف مدجّج. فقال للترجمان: قل لهذا الرسول يعلم صاحبه أن ليس في هؤلاء حجام ولا إسكاف ولا خياط. فإذا أسلموا من أين يأكلون؟ وآخر خراسان من ناحية الشاش، نوشجان الأعلى. فمن نوشجان إلى مدينة خاقان ملك التغزغز مسيرة ثلاثة أشهر في قرى كبار وخصب وأسواق. وأهلها أتراك وفيهم مجوس يعبدون النار. وفيهم زنادقة على مذهب ماني. والملك في مدينة عظيمة كثيرة الأهل والأسواق ولها ثلاثة [167 ب] عشر بابا حديدا. وعن يسارها كيماك وأمامها الصين على ثلاثمائة فرسخ. فأمّا ملك كيماك وأصحابه فبادية يتبعون مساقط القطر ويحلون ويرتحلون في طلب الكلأ. وقال علي بن ربن كاتب المازيار: أحصن مدينة بنيت على وجه الأرض، أن ملكا من ملوك الترك أتى سبخة ومستنقع ماء عادي أجاجي في طرف من أطراف سلطانه، فصرف الماء عنه ثم حفر أساسا عرضه أربعون ذراعا. ثم أمر فرفع من قرار الحفر سوران بالآجر والكلس، عرض كل سور عشرة أذرع وبينهما فضاء عرضه عشرون ذراعا. فلما انتهى بالسورين إلى وجه الأرض، طمّ الفضاء الذي بينهما بالرمل، وأقبل بينهما فكلما ارتفعا جعل الرمل في وسطهما حتى جعلهما خمسين ذراعا. ثم بنى في المدينة له ولرعيته من المنازل والقصور وحفر حولها خندقا ثم جرف إليها الماء. فلم تلبث أن عادت بعد سنة أجمة عظيمة من أعظم الآجام، وأودعها أهله ونفيس أمواله فصارت أمنع مدينة بنيت على قلل الجبال أو في قرار الأرض. وإن ملكا من ملوك الترك رامها- والترك أغلب الأمم وأشد احتيالا على نقب المدن والحصون من المواضع البعيدة- فسار إليها ونزل على فراسخ منها، وأمر

نقّابيه أن ينقبوا فنقبوا حتى بلغوها. فلما صاروا إلى الأجمة التي حولها خرج عليهم الماء في النقب. فما زالوا يحتالون فيه وهو مرة يغلبهم ومرة يغلبونه حتى استوى لهم قطعه وظنوا أنهم قد ظفروا بالمدينة. ولمّا أفضوا إلى السور وأخذوا في نقبه. فلما نقبوه خرج عليهم الرمل المنهال. فكانوا لا يخرجون منه شيئا إلّا سال من جوانبه أضعافه. فلما رأوا ذلك علموا أن لا حيلة بهم فانصرفوا خائبين. قالوا: والنعجة تضع في بلاد الترك عدة من السخول في البطن الواحدة. ربما وضعت سبعة وستة وخمسة. فامّا أربعة وثلاثة [168 أ] ، فجميع مواشيهم على هذا. والترك إذا أرادت أن تحلف رجلا أتت بصنم من نحاس فتنصبه ثم تحضر قصعة فتصيّر فيها ماء ويوضع بين يدي الصنم، ثم يجعل في القصعة قطعة ذهب وكف دخن ويؤتى بسراويل امرأة فيوضع تحت القصة. ثم يقولون: استحلف ان نقضت هذا العهد أو غدرت أو خنت فيصيرك الله امرأة تلبس سراويلها، وسلّط عليك من يقطعك قطعا مثل هذا الدخن، واصفر لونك مثل اصفرار الذهب. ثم يشرب بعد اليمين ذلك الماء. فعلى ما يفعله إنسان منهم يحنث إلّا مات وأصابته بلية. وفي بلادهم السمور والفنك الجيد. وهم أرمى الأمم كلّها بالنشاب. وإذا ولد للرجل منهم ولد، ربّاه ورعاه وعاله وقام بأمره حتى يحتلم. فإذا بلغ الحلم دفع إليه قوسا وسهاما وأخرجه عن منزله وقال له: احتل لنفسك. ثم يصير ولده عنده مثل الغريب الذي لا يعرفه. هذه سنّتهم في أولادهم. ومنهم قوم [يبيعون] «1» بنيهم وبناتهم. وتزويجهم ان جواريهم مكشفات الشعور، فإذا أراد الرجل أن يتزوج نظر إلى التي يريد وألقى على رأسها مقنعة. فإذا فعل ذلك فقد صارت امرأته لا يمنعه عنها والد ولا يدفعها أخ.

وفي بلادهم الختو الجيد، وهو جبهة دابة تصاد في بلدهم. وذكر تميم بن بحر المطوعي أن بلدهم شديد البرد. وإنما يسلك فيه ستة أشهر في السنة، وانه سلك إلى بلاد خاقان التغزغزي على بريد أنفذه خاقان إليه، وانه كان يسير في اليوم والليلة ثلاث سكك بأشد سير وأحثّه. فسار عشرين يوما في براري فيها عيون وكلأ وليس فيها قرية ولا مدينة غير أصحاب السكك وهم نزول في خيام. وانه كان البريد حمل معه زادا لعشرين يوما وذلك أنه عرف أمر تلك المدينة وان مسافتها عشرون يوما في براري فيها عيون وكلأ. ثم سار بعد ذلك [168 ب] عشرين يوما في قرى متصلة وعمارات كثيرة، أهلها كلّهم أو أكثرهم أتراك. منهم عبدة النيران على مذهب المجوس، ومنهم زنادقة. وإنه بعد هذه الأيام وصل إلى مدينة الملك وذكر أنها مدينة عظيمة خصيبة حولها رساتيق عامرة وقرى متصلة ولها اثنا عشر بابا من حديد مفرطة العظم. قال: وهي كثيرة الأهل والزحام والأسواق والتجارات، والغالب على أهلها مذهب الزنادقة. وذكر أنه حرز ما بعدها إلى بلاد الصين فميّزه ثلاثمائة فرسخ. قال: وأظنه أكثر من ذلك. قال: وعن يمينه مدينة ملك التغزغز، بلاد الترك لا يخالطهم غيرهم. وعن يسارها بلاد كيماك وأمامها بلاد الصين. وذكر أنه نظر قبل وصوله إلى المدينة بخمسة فراسخ إلى خيمة للملك من ذهب على سطح قطره تسع مائة رجل.. وذكر أن خاقان ملك التغزغز كان مخاتنا لملك الصين، وان ملك الصين يحمل إليه في كل سنة خمسمائة ألف فرند «1» . وذكر أن بين النوشجان الأعلى وبين الشاش على طراز، أربعين مرحلة للقوافل، فمن سارها على دابة وكان منفردا قطعها في شهر. قال: ونوشجان الأعلى بها أربع مدن كبار وأربع صغار. وانه حزر المقاتلة

في مدينة واحدة على شط بحيرة هناك فميّزهم نحو عشرين ألف فارس بالسلاح التام. وليس في جميع أجناس الترك أشدّ منهم، وانهم إذا اجتمعوا مع الخرلخية لحرب، كان منهم مائة رجل ومن الخرلخية ألف رجل، وعلى هذا يخرجون في جميع حروبهم. وذكر أن هذه البحيرة شبيهة بالحوض المربع، وأن حولها جبالا شامخة فيها من جميع أصناف الشجر. قال: وهناك رسم مدينة قديمة لم أجد في الأتراك من يعرف خبرها ولا من بناها ولا من كان أهلها ولا متى خربت، وانه نظر فيها إلى نهر يشقها لا يلحق غوره هناك. ورأيت فيه أنواعا من الحيوانات البحرية ما رأيت مثلها. وكذلك رأيت به طيورا لم أر في شيء من البلدان مثلها. قال: وأهل النوشجان وغيرهم بها يقدمون منهم من المدن والقرى يطوفون بها في سنة مرة واحدة في أيام الربيع ويجعلون ذلك عيدا «1» . قال: ويدخلها الماء من ناحية التبت من مائة وخمسين نهرا كبارا وصغارا. وكذلك من ناحية التغزغز والكيماك. وذكر أنه وجد ملك التغزغز حين [ذهب] «2» إليه معسكرا بالقرب من مدينته وانه حزر جيشه الذي حول سرادقه دون غيرهم فكانوا نحو من اثني عشر ألف رجل. قال: وبعد هؤلاء سبعة عشر قائدا مع كل قائد ثلاثة آلاف. قال: وبين القائد والقائد مصالح من خيام. والقواد ومن معهم من المصالح بأجمعهم محيطون بالعسكر، ولهم في إحاطتهم فرجة يكون مقدارها أربعة أبواب إلى ناحية العسكر. وجميع دواب الملك ودواب الجند ترعى فيما بين سرادق الملك ومواضع القوّاد لا تتخلص منها دابة إلى خارج العسكر. وسألناه عن طريق كيماك من طراز فذكر أن الطريق مسيرة طراز إلى قريتين في موضع يقال له كواكب عامرتين اهلينيتين ومسافتهما من طراز سبعة فراسخ.

ومن هذا الموضع ملك كيماك مسيرة ثمانين يوما للفارس المجدّ يحمل معه زاده. وان جميع ذلك صحارى وبراري ومفاوز واسعة كثيرة الكلأ والعيون. وفيه مراعي الكيماكية. وذكر انه سلك وحده هذه الطريق ووجد ملك كيماك مع عسكره في خيام وبقربه قرى وعمارات وانه ينتقل من موضع إلى موضع يتبع الكلأ. وان دوابهم كثيرة دقيقة الحوافر. وحزر من في عسكره فوجدهم نحو عشرين ألف فارس. وذكر أبو الفضل الواشجردي أن ملك التغزغز غزا ملك الصين مرتين في أيام الرشيد. وقيل ذلك في أيام المهدي [169 ب] وكانت غزوته ما بين سروشنة إلى سمرقند. وان عامل سمرقند حاربه في عدة وقائع وكانت لهم حروب شديدة. ثم إن صاحب سمرقند رزق النصر عليه فهزمه وقتل خلقا من أصحابه. ويقال إنه كان في ستمائة ألف بين فارس وراجل من أهل الصين. فغنم المسلمون غنيمة عظيمة وأسروا خلقا، فأولادهم الذين بسمرقند يعملون الكاغذ الجيد وأنواع السلاح والآلات التي لا تعمل بمدن خراسان إلّا بسمرقند. ومن عجائب بلد الترك حصى عندهم يستمطرون [به] «1» ما شاءوا من مطر وثلج وبرد وغير ذلك. وأمر هذا الحصى عندهم مشهور مستفيض لا ينكره أحد من الأتراك. وهو عند ملك التغزغز خاصة ليس يوجد عند أحد من ملوكهم غيره. وحدثني أبو عبد الله الحسين بن استاذويه. حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن. حدثنا هشام بن لهراسب السائب الكلبي عن أبي مليح عن ابن عباس قال: لم يتزوج إبراهيم عليه السلام على سارة حتى ماتت فتزوج امرأة من العرب العاربة يقال لها قنطورا بنت مقطور فولدت له مدين ومداين وهو مدين ونيسان واشتق وسرج. فأمر إبراهيم عليه السلام أن يضمّ إليه من ولد إسماعيل وإسحاق ومدين ونيسان ويخرج عنه مدين واشتق وسرج. فقالوا له: يا أبانا كيف تستجيز أن تترك عندك إسماعيل وإسحاق ومدين ونيسان في الأمن والدعة وتخرجنا نحن عنك إلى

الغربة والوحشة والوحدة؟ فقال: بذلك أمرت ولكني سأعلمكم اسما من أسماء الله تعالى لتستنصروا به على أعدائكم وتستنزلوا «1» به الغيث إذا أجدبتم. فعلّمهم إياه وخرجوا سائرين حتى نزلوا موضع خراسان فتناسلوا هناك وقهروا بذلك الاسم جميع من ناوأهم. فاتصل خبرهم بالخزر- وهم من ولد يافث بن نوح- فصاروا إليهم وحالفوهم وتزوجوا إليهم وأقام بعضهم عندهم وانصرف الباقون إلى بلدهم [170 أ] . وحدث أبو العباس عيسى بن محمد بن عيسى المروزي «2» فقال: لم نزل نسمع في الثغور الخراسانية التي من وراء النهر وغيرها من الكور الموازية لبلاد الترك الكفرة الغزية والتغزغزية والخرلخية وفيهم المملكة ولهم في أنفسهم شأن عظيم ونكاية في الأعداء شديدة، ان من الترك من يستمطر في أسفاره وغيرها فيمطر ويحدث ما يشاء من مطر وبرد وثلج ونحو ذلك. فكنا بين منكر ومصدق حتى رأيت داود بن منصور بن أبي علي الباذغيسي- وكان رجلا صالحا قد تولى خراسان فحمد أمره- وقد خلا بابن ملك الترك الغزية وكان يقال له بالقيق بن حيّويه فقال له: يبلغنا عن الترك أنهم يجلبون المطر والبرد والثلج متى شاءوا فما عندك في ذلك؟ فقال: الترك أذلّ وأحقر عند الله من أن يستطيعوا هذا الأمر. والذي بلغك فهو حق ولكن له خبر أحدثك به. كان بعض أجدادي راغم أباه.- وكان الملك في ذلك العصر- وشذّ عنه واتخذ لنفسه أصحابا من مواليه وغلمانه وغيرهم ممن يحب الصعلكة ومضى سائرا في شرق البلاد يغير على الناس ويصيد ما يظهر له ولأصحابه. فانتهى به المسير إلى بلد ذكر أهله أنه لا منفذ لأحد وراء جبل لهم. فقال لهم: وكيف ذلك؟ قالوا: لأن الشمس تطلع من وراء هذا الجبل وهي قريبة من الأرض جدا فلا تقع على شيء إلّا أحرقته. قال: أفليس هناك ساكن ولا وحش؟ قالوا: بلى. قال: فكيف يتهيأ لهم المقام على ما ذكرتم؟ قالوا: أما الناس فلهم أسراب تحت الأرض وغيران في الجبال، فإذا طلعت الشمس بادروا

إليها فاستكنّوا فيها حتى ترتفع الشمس عنهم. وأما الوحش فإنها تلقط حصى هناك قد ألهمت معرفته، فتأخذ كل وحشية حصاة من ذلك الحصى بفيها وترفع رأسها إلى السماء فتظلها عند ذاك غمامة تحجب بينها وبين الشمس. قال: فقصد جدي تلك الناحية فوجد الأمر على ما بلغه. قال: فلما بدأت الشمس في الطلوع بادرت الوحوش إلى ذلك الحصى فجعلته في أفواهها [170 ب] ورفعت رؤوسها إلى السماء فأظلتها الغمائم. قال: فحمل هو وأصحابه عليها يكدونها، فلما أدركها اللغوب ألقت ذلك الحصى من أفواهها، فأمر أصحابه بلقطه ليعرفه. ففعلوا وجاءوا به فعرفه وتتبعه هو وأصحابه في تلك البرية فأخذوه وشالوه حيال الشمس فأظلهم الغمام ونجوا من وقع الشمس وحرها. ثم جمعوا منه ما قدروا عليه وحملوه إلى بلادهم. فهم إذا سافروا وأرادوا المطر [حركوا منه شيئا يسيرا فينشأ الغيم فيوافي المطر] «1» وان هم أرادوا الثلج والبرد زادوا فيه فيوافي الثلج والبرد. ويقال إنهم إذا أومأوا إلى جهة من الجهات، مطرت تلك الجهة وأبردت. فهذه قصتهم وليس هذه من حيلتهم ولا قدرتهم ولكنها من قدرة الله تعالى. قال أبو العباس: ثم وردت مدينة الشاش واجتمع إليّ قوم من أهلها لهم افهام ومعرفة وعلم بأحوال الترك فسألتهم فقالوا عندنا من جملة الأمر ما عندك. فأما التفسير الذي ذكر بالقيق فهو أعرف به إذ كان يخرج الحديث عن آبائه. فقال: ولقيت هناك شيخا من الكتاب القدماء يقال له حبيب بن عيسى وكان قد اجتمع اخبار وقائع نوح بن أسد وحروبه مع الترك، وفهم أمور ذلك الصقع، فأخرج إليّ نسخة كتاب من عبد الله بن طاهر إلى نوح بن أسد، وفي آخره «2» نسخة كتاب المأمون إليه يأمره بالمسألة والبحث عما يتكلم به الترك في الاستمطار. قال

حبيب: فجمع نوح مشايخ البلد ومسلمي الترك فسألهم عن الأمر فلم يختلفوا في أنه حق إلّا أنهم لم يعرفوا العلة فيه. قال أبو العباس: فسمعت إسماعيل بن أحمد أمير خراسان يقول: غزوت الترك في بعض السنين في نحو عشرين ألف رجل من المسلمين فخرج إليّ منهم نحو ستين ألفا في السلاح الشاك فواقعتهم أياما. فإني يوما في قتالهم إذ اجتمع إليّ خلق من غلمان الأتراك وغيرهم من الأتراك المستأمنة فقالوا لي: إن لنا في عسكر الكفرة قرابات وإخوان قد أنذرونا وخوفونا بموافاة [171 أ] فلان- قال: وكان هذا الذي ذكروا عندهم كالكاهن وكانوا يزعمون أنه ينشئ سحاب البرد والثلج وغير ذلك فيقصد بها من يريد إهلاكهم- وقالوا: قد عزم أن يمطر عسكرنا بردا عظاما لا تصيب البردة إنسانا إلّا قتلته. فانتهرتهم وقلت لهم: ما خرج الكفر من قلوبكم بعد، وهل يستطيع هذا أحد من البشر؟ قالوا: قد أنذرناك وأنت أعلم والموعد غداة [غد] «1» عند ارتفاع النهار. قال: فلما كان من الغد وارتفع النهار نشأت سحابة عظيمة هائلة من رأس جبل كنت مستندا بعسكري إليه. ثم لم تزل تنتشر ويزيد أمرها حتى أظلت عسكري كله. فهالني سوادها ومما رأيت منها وما سمعت فيها من الأصوات الهائلة، وعلمت أنها فتنة فنزلت عن دابتي وصليت ركعتين وأهل العسكر يموج بعضهم في بعض لا يشكّون في البلاء. فدعوت الله عزّ وجلّ وعفّرت وجهي في التراب وقلت: اللهم أغثنا إن عبادك يضعفون عن محنتك، وأنا أعلم أن القدرة لك وانه لا يملك الضر والنفع إلّا أنت، إن هذه السحابة إن مطرت علينا كانت فتنة للمسلمين وسطوة للمشركين. فاصرف عنا شرها بحولك وقوتك يا ذا الحول والقوة. قال: فأكثرت [الدعاء] «2» ووجهي في التراب رغبة ورهبة إلى الله وعلما أنه لا يأتي الخير إلّا من عنده ولا يصرف السوء غيره. فبينا أنا كذلك إذ تبادر إليّ

القول في نهاوند

الغلمان وغيرهم من الجند يبشرون بالسلامة وأخذوا بعضدي ينهضوني من سجدتي ويقولون: انظر، انظر أيها الأمير. 2/180 فرفعت رأسي وإذا السحابة قد زالت عن عسكري وقصدت عسكر الترك تمطر عليهم بردا عظاما. وإذا هم يموجون وقد نفرت دوابهم وتقلعت خيمهم وما تقع بردة على واحد منهم إلّا أوهنته أو قتلته. فقال أصحابي: نحمل عليهم. فقلت: لا، لأن عذاب الله أدهى وأمر، فلم يفلت منهم إلّا القليل وتركوا عسكرهم بجميع ما فيه وهربوا. فلما كان من الغد جئنا [171 ب] إلى عسكرهم فوجدنا فيه من الغنائم ما لا يوصف. فحملنا جميع ذلك وحمدنا الله على السلامة وعلمنا أنه هو الذي سهّل لنا ذلك وملكنا إياه والحمد لله رب العالمين. ذكر بعض مدن الأتراك وعجائبها قال سعيد بن الحسن السمرقندي: منهم بادية يحلون ويرتحلون وينتجعون الغيث ويتبعون الكلأ كما تفعل البوادي في بلد الإسلام. وهم لا يدينون لملك ولا يعطون طاعة لأحد. يغير بعضهم على بعض فيسبون الحرم والذراري وربما فارق القوم منهم الحيّ الذي كانوا فيه وصاروا إلى حي آخر ومعهم من حرم أهل ذلك الحي الذين قد صاروا إليه وأولادهم قد استعبدوهم فلا يطالبونهم بهم، وهم ينظرون إليهم عبيدا لهم سنّة فيهم وشيء قد اصطلحوا عليه. ولهم مدن كثيرة في بعضها تجار وأموال وفي جميعها أسواق. فمنها مدينة التغزغز وهي أكبر مدائنهم وأحصنها ولها سور عظيم مبني بالصخر وله خندق دائر به، فيه ماء غزير، وأهلها لهم شدة وإقدام في الحرب وأكثر سلاحهم السيوف. ومن مدنهم أيضا مدينة يقال لها حيوس «1» تقرب من الشاش وهي كبيرة أيضا وأهلها بغير دين وهم شرار خلق الله يغير بعضهم على بعض ويقتل أقدرهم

ضعيفهم ولا يأمن الأخ أخاه ولا الوالد أبناءه. يأكلون جميع الحيوانات. الزنى فيهم ظاهر، يدخل الواحد منهم إلى منزل الآخر فيفترش حرمته وهو ينظر إليه لا يمتعض من ذلك ولا ينكره. وليست لهم شجاعة وفيهم جمال وأكثر رجالهم مؤنثون ويشربون الدم. وفي وسط مدينتهم بحيرة غزيرة الماء إذا مات الواحد منهم ألقي فيها. ومن مدنهم أيضا مدينة يقال لها دي «1» ، لا يقول أهلها بالحرب بل يؤدون الاتاوة إلى كل من غلبت يده عليهم وينكحون كل ما لحقوه من امرأة أو غلام أو حيوان [172 أ] . ومن مدنهم مدينة يقال لها سور «2» يقاتل أهلها أهل الشاش وأهل سمرقند، ولهم بأس شديد ونكاية عظيمة ولهم أوصاف يعرفون بها في الحرب ولا تكاد تخطئ. وفي رجالهم جمال وفي نسائهم قبح. وهم ينكرون الزنى ويقتلون من يفعله من الذكر والأنثى. ولهم نبيذ يتخذونه من عقاقير يعرفونها، يسكر الرطل الواحد بالبغدادي منه سكرا مفرطا.

ومن مدنهم مدينة يقال لها جريسم «1» أكثر غارة أهلها على المدينة التي يقال لها سور، وإذا أسروا من أهلها إنسانا قطعوه وطبخوه وأكلوه وهم همج لا يكاد بعضهم يفقه قولا ولا يعرف شيئا. وإذا خلا القوي منهم بالضعيف نكحه ولهم أيضا بأس شديد. ومن مدنهم أيضا مدينة يقال لها اغرس «2» أهلها قد خالفوا جميع الأتراك باعتدال الطبع وسلامة الناحية. يأكلون لحم أكثر الحيوان بعد الذبح ويعبدون أوثانا لهم. وفيهم علماء بمذهبهم، ولا يرون الزنى ويجتنبون الفواحش، ولهم بيت عبادة مفرط الطول والعرض والارتفاع يزعمون أنه نزل من السماء على هيئته التي هو عليها. ويقولون: إنما نعبد الأوثان لتقربنا إلى الله وتشفع لنا عنده لأنها بغير ذنوب. ولهم ملك منهم. ومن مدنهم مدينة يقال لها كرشيم «3» يأكل أهلها كلما دبّ على وجه الأرض بغير تذكية ولهم إقدام وصولة. وهم عراة كالبهائم يلقى الرجل المرأة في الطريق فيجامعها والناس ينظرون إليه. وهم أصحاب بيات وأكثر قتالهم بالنشاب المسموم ولا يعطون طاعة لأحد. ومن مدنهم مدينة يقال لها دكس «4» ، لأهلها بأس شديد وصبر على القتل. وبعضهم شديد الحب لبعض وغنيهم يعود على فقيرهم. ولهم يسار ظاهر من المواشي والخيل وغير ذلك. ومنهم تجار يخرجون إلى بلد الإسلام. ولهم وفاء

بالعهد إذا عاهدوا منهم دون جاره أو من يعرفه من غير بلده، إلّا أن الزنى عندهم غير مستنكر. ومدينتهم كثيرة [173 أ] الخير غزيرة المياه والبساتين ولهم ضروب من الفاكهة عجيبة لا تعرف في بلد الإسلام. ومنهم مدينة يقال لها كيساه «1» تقرب من بلد الخزر فأهلها يعزون على الخزر، وهم من شر خلق الله، إذا دخل الغريب مدينتهم نكحوه. وإذا وجدوا رجلا مع غلام جعلوا الغلام له أبدا. وفي بلدهم ضرب من الحيوان يأكل الناس يكون في قدر الكلب إلّا أنه شديد الضراوة على الناس قلّ من يفلت منه إذا نظر إليه سريع الخطو يسبق الخيل المضمرة. ولهم نبيذ أبيض طيب الرائحة والطعم. يأكلون الميتة والدم مثل السباع. قليلة رحمتهم، لئام الظفر قباح الوجوه قصار الأجسام. ومن مدنهم مدينة يقال لها داني «2» رجالها طوال ونساؤها قصار ومدينتهم

بين الخزر والروم فهم يقاتلون هؤلاء وهؤلاء. ولهم قوة على الخزر ولا قوّة على الروم. يأكلون جميع الحيوان ويلحسون جراحاتهم ويقاتلون بالسيوف ولا صبر لهم على النشاب. يتزوج الرجل منهم بمائة امرأة وربما ذبح الواحد منهم امرأته وولده بحضرة أبي المرأة وأمها وإخوتها وأكلها هو وهم. ولهم جبل فيه ضرب من الحيات لا يبلّ سليمها. ولهم عقارب مفرطة العظم كثيرة في منازلهم ليست تنال ربما أكلوها. وعندهم خفاش يكون الواحد منهم مثل الحمامة الكبيرة وأعظم. ومن مدنهم مدينة يقال لها سكوب «1» وأهلها يتكلمون بالسريانية ولهم شجاعة وإقدام ونساؤهم يقاتلن معهم قتالا شديدا. والزنى في نسائهم طبع مركب، تنظر الواحدة منهن إلى الرجل الذي تشتهيه فتقبض عليه ولا يملك شيئا من نفسه وتمضي به إلى جبل بالقرب من المدينة فيه غيران وكهوف فتجعله في بعض تلك الغيران ولا يسهل له الخروج. وتجيؤه بجميع ما يحتاج إليه. ولا يجوز لزوج- إن كان لها- أو أخ أو ولد منعها من ذلك. وكذا الرجل لا يمكنه الخلاص من يدها إن كانت [174 أ] امرأة أو ولدا وغير ذلك من الأهل. فمتى يأبى عليها قتلته. وكذلك [إن] منعها منه مانع، استنجدت من النساء اللواتي على مذهبها فقاتلن معها حتى يبلغن لها ما تريد لأنهن على مذهب واحد فبعضهن بعضا. فإذا ضجرت منه أو ملّته أو هويت سواه صرفته إلى منزله ثم لم يقدرها غيرها على أن يقتطعه لأنها تمنع من ذلك كان معها أو لم يكن.

ولهذه المدينة حمّة عجيبة النفع تخرج من كهف في جبل شاهق لا يصل إنسان إلى الكهف الذي هي فيه، وإنما تجري فيه إلى عشرة أبيات مبنية بالصخر: سبعة للرجال، وثلاثة للنساء. ماؤها في الشتاء شديد الحر وينقص حره في الصيف. وفي هذا الجبل ثعالب سود وحمر وبلق قلّ ما يصطاد شيء منها لتغلغلها بين الشجر وقلة نزولها إلى السهل. وهي أصبر الحيوان على الثلج وكذلك جميع ما في هذا الجبل لأن الثلج يقع فيه أكثر السنة. ولهم مدن كثيرة ولم نذكرها ومدن ما وصل إليها إنسان من المسلمين ولا غيرهم يجيؤنا بصحة خبرها لأنها واغلة في المشرق لا يبلغها أحد ولا يقصدها تاجر ولا غيره. ألقاب ملوك خراسان والمشرق والترك والنواحي الملتصقة بهم «1» : ملك نيسابور: كيان. ملك مرو: ماهويه. ملك سرخس: راذويه. ملك أبيورد: بهمنه. ملك نسا: إيران. ملك غرجستان: براز بنده. ملك مرو الروذ: كيلان. ملك زابلستان: فيروز. ملك كابل: كابل شاه. ملك الترمذ: ترمذ شاه.

ملك الباميان: شيرباميان. ملك السغد: أخشيد. ملك فرغانة: أيضا أخشيد. ملك رويشان: رويشان شاه. ملك الجوزجان: كوزكان خداه «1» . ملك خوارزم: خوارزم شاه. ملك الحبش: حبش كيلان «2» . ملك بخارا: بخارا خداه. ملك أسروشنة: أفشين. ملك سمرقند: طرخون. ملك سجستان وبلاد الداور: زنبيل [174 ب] . ملك هراة وبوشنج وباذغيس: برازان. ملك كش والرخج: نيرون. ملك ما وراء النهر: شار شاه. أما ملوك الترك: هيلوب خاقان. جبغون. خاقان شابه. خاقان سنجبر. مايوس خاقان. فيروز خاقان. ومن ملوكهم الصغار: طرخان ونيزك وجورتكين ويمرون وسهران وغورك.

§1/1