البلاغة 2 - المعاني - جامعة المدينة

جامعة المدينة العالمية

الدرس: 1 فوائد علم البلاغة، ووجه الحاجة إلى دراستها.

الدرس: 1 فوائد علم البلاغة، ووجه الحاجة إلى دراستها. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول فوائد علم البلاغة، وبيان وجه الحاجة إلى دراسته الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فهذا العلم الجديد القدر، العظيم الشأن، الذي هو بالنظر إلى سائر العلوم العربية من الأهمية بمكان، وقد زاد من أهميته أن عليه المعوّل الأكبر في تدبر معاني ومعالم ما جاء به الوحي المبين، وأن عليه المعول الأكبر أيضًا في تذوق وفهم ما خلفه أجدادنا من كنوز التراث. ومن المهم أن تكون بداية لقائي بكم عن معرفة فوائد علم البلاغة، وبيان وجه الحاجة إلى دراستها، ثم التثنية بعد بما اعتاده علماء البلاغة قبل الخوض في دراسة مباحث علم المعاني، من حديث عن الفصاحة، وعلاقتها بالبلاغة. إن علم البلاغة معدود من جملة العلوم الإسلامية كما أنه معدود في جميع علوم الأدب وتحتل البلاغة بين هذه العلوم مكانة سامية ومنزلة رفيعة، وموضع علم البلاغة من العلوم العربية موضع الرأس من الإنسان أو اليتيمة من قلائد العقيان، فهي مستودع سرها، ومظهر جلالها، فلا فضيلة لكلام على كلام إلا بما يحويه من لطائفها، ويودع فيه من مزاياها وخصائصها، ولا تبريز لمتكلم على آخر إلا بما يحوقه من وشيها، ويلفظه من درها، وينفثه من سحرها، ويجنيه من يانع ثمرها.

دراسة علوم البلاغة وقواعدها تمكن الدارس من تحقيق الأهداف والفوائد التي توخاها المؤلفون في هذا العلم، ويمكن تلخيص هذه الفوائد فيما يلي: 1 - أنها وسيلة إلى معرفة إعجاز القرآن الكريم، فإذا أغفل الإنسان علم البلاغة وأخل بمعرفة قواعدها لم يستطع أن يدرك إعجاز النظم الكريم، ولم يعرف من أي جهة أعجز الله العرب عن أن يأتوا بسورة من مثله، وكان الرأي البعيد عن الصواب رأي إبراهيم النظام صاحب مذهب الصرفة إذ قال: "إن القرآن ليس معجزًا بفصاحته وبلاغته وأن العرب كانوا قادرين على أن يأتوا بمثله، ولكن الله صرفهم عن ذلك تصديقًا لنبيه وتأييدًا لرسوله -صلى الله عليه وسلم- حتى يؤدي رسالة ربه". وقد انبرى للرد على النظام جم غفير من العلماء، منهم الجاحظ والباقلاني والفخر الرازي، وناضلوا نضالهم المحمود، الذي خلد لهم في بطون الكتب، فكتبوا الفصول الممتعة مبينين فساد رأي النظام مقررين أن إعجاز القرآن إنما كان بما حوى من وجوه بلاغية، فاق فيها كلام العرب شعرهم ونثرهم، وارتقى بذلك عن مستوى كلام البشر. وإنما كان ردهم لقوله بالصرفة من وجوه: أولها: أنه يستلزم أن يكون المعجز الصرفة لا القرآن، وهو خلاف ما عليه إجماع المسلمين. ثانيها: أن التحدي وقع بالقرآن على كل العرب، فلو كان الإعجاز بالصرفة، لكانت على خلاف المعتاد؛ أعني لكانت الصرفة إلى كل واحد ضرورة بالنسبة إليه فحسب، فيكون الإتيان بمثل كلام القرآن معتادًا له، وليس للقرآن كذلك.

ثالثها: وقد استدل به بعضهم على فساد القول بها، وهو قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88) ومن المعلوم أن القرآن تحدى العرب غير ما مرة، ولو بمثل أقصر سورة منه، ثم سجل العجز عليه وقال بلغة واثقة: أنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا ولن يفعلوا، ولو ظاهرهم الإنس والجن، فكيف لا تثور حميتهم إلى المعارضة بعد هذا، ولو كانوا أجبن خلق الله؟. رابعها: أن المعجز يظهر في كل زمان من جنس ما يغلب، ويبلغ فيه الغاية القصوى، ويوقف فيه على الحد المعتاد حتى إذا شوهد ما هو خارج عن الحد علم أنه من عند الله، والبلاغة قد بلغت في ذلك العهد حدها، وكان فيها فخارهم حتى علقت السبع بباب الكعبة تحديًا بمعارضتها، فلو أتى الرسول بما عجزوا عن مثله مع كثرة المنازعة والتشاجر والافتراق وكثرة دواعي التحدي؛ علم أن ذلك من عند الله بلا ريب. خامسها: أن العرب الذين تحداهم القرآن كانوا مضرب المثل في الحمية والأنفة وإباء الضيم، كما كانت صناعتهم البيان، وديدنهم التنافس في ميادين الكلام، فكيف لا يحركهم هذا التحدي والاستفزاز؟ وكيف لا يطيرون بعد هذه الصيحة إلى حلبة المساجلة؟. سادسها: أن القرآن فضلًا عما ذكر أثار حفائظهم، وسفه عقولهم وعقول آبائهم، ونعى عليهم الجمود والجهالة والشرك، بل وأقام حربًا شعواء على أعز ما لديهم من عقائد وعوائد، فكيف يسكتون بعد كل هذا التقريع والتشنيع ما دامت هذه المساجلة هي السبيل المتعين لإسكات خصمهم لو كان ذلك باستطاعتهم؟.

سابع هذه الوجوه في رد القائلين بالصرفة: أن العرب قد تفننوا واستفرغوا وسعهم في إيذاء النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تآمروا على قتله، وأرسلوا إليه الأذى في مهاجره، فشبت الحرب بينهم وبينه في خمس وسبعين موقعة، منها سبع وعشرون غزوة، وثمان وأربعون سرية، فهل يقول عاقل: إنهم كانوا في تشاغل عما كان يتحداهم به، غير معنيين، ولا آبهين له، أو يقول: إنهم -أو واحد منهم- حال المعارضة بمقتضى دافع الصرفة؟ ثم ألم يكف القائلين بالصرفة -قديمًا وحديثًا أعني بهم السابقين وأذنابهم من المعاصرين- شهادة أعداء القرآن أنفسهم في أوقات تخليهم عن عنادهم، فتلك الشهادة التي خرجت من فم الوليد، والفضل ما شهدت به الأعداء. ونخلص من كل هذا إلى أنه، وبدراسة الأسباب التي تكون الجملة بها بليغة، وبدراسة أنواع الأساليب الموجز منها والمطنب، وبدراسة أبواب التشبيه والاستعارة والكناية، وأبواب البديع وغير ذلك من الوجوه والألوان؛ نعرف كيف ارتفع الأسلوب القرآني إلى مستوى الإعجاز، وليس بعجيب أن يكون الهدف الأول والأسمى من دراسة علوم البلاغة الوصول إلى معرفة إعجاز القرآن، فإن علوم العربية نشأت أصلًا لتخدم هذا الكتاب المبين، وتحفظه من التحريف، وتظهر فضله على جميع الكلام الآخر. فالبلاغة من هذه الجهة لها غاية دينية تتصل بالدين والعقيدة، وهذه الغاية هي التي رأيناها عند أوائل الكاتبين في هذا العلم، بل إن كلامهم في إعجاز القرآن كان هو الدعامة التي قام عليها هذا العلم. ثاني فوائد تعلم البلاغة وقواعدها: هو استجلاء ما في القرآن الكريم من معان وأحكام وأخبار وقضايا، فلا بد للناظر في القرآن من الإلمام بقواعد هذا العلم لمعرفة ما يدل عليه التكرار، وما ينطوي عليه الحذف، وما يفيده هذا التأويل، وغير ذلك مما يتصل

بقواعد هذا العلم. فالمفسر الذي يتعرض لتفسير آية من آيات الذكر الحكيم لا بد له من الإلمام بقواعد البلاغة، والفقيه المستنبط للأحكام لا بد له من معرفة قواعد البلاغة، والمتعرض لقصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم وما يتعرض لأخبار الأمم وسيرهم، لا بد لكل هؤلاء من معرفة قواعد البلاغة وأصولها. الفائدة الثالثة: التدرب على التكلم بالبليغ من القول، فإذا أراد صاحب اللسان العربي أن ينشئ أدبًا، شعرًا كان أو نثرًا، لا يتسنى له ذلك إلا إذا ألمّ بقواعد هذا العلم، وجعله مصباحًا يهدي خطاه ويسدد قلمه بما يعرفه من تركيب الأساليب الرفيعة، وأسباب رفعتها وجمالها، أما إذا فاته هذا العلم المفرق بين كلام جيد وآخر قبيح، وبين شعر بارد وآخر رصين كان ذلك سببًا لأن يمزج الصفو بالكدر من الأساليب، ويخلط بين الرفيع والوضيع، وقد قالوا: شعر الرجل قطعة في عقله. الفائدة الرابعة: أن علوم البلاغة تعد من أمضى أسلحة الناقد الأدبي، فهي بلا شك تصقل الذوق، وتنمي في صاحبها القدرة على التفرقة بين الكلام الجيد والكلام الرديء، فهي تساعد على إدراك الجمال وتذوق الحسن في ألوان الكلام، فالناقد الأدبي وهو يتعرض لنتاج أدبي لا يستطيع الحكم على هذا النتاج إلا بمعرفة قواعد علم البلاغة، حتى يمكن إبراز ما تضمنه هذا العمل الأدبي من أسباب الجودة أو الرداءة. أما الفائدة الخامسة لتعلم البلاغة: فهي القدرة على حسن الاختيار، فإذا أراد مؤلف أن يضع كتابًا، فإن معرفته بقواعد البلاغة تعينه على أن يختار فيه من جيد المنظوم والمنثور ما يثري به مادته العلمية، ويجعله شاهدًا على ما يسوقه من معان وأفكار.

أشهر رجال البلاغة الذين ألفوا فيها.

الفائدة السادسة: وضع قواعد البلاغة ومعرفتها يحول دون الفوضى في الحكم والتخليط فيه، فإذا اختلف اثنان في الحكم على عمل أدبي ما احتكما إلى علم البلاغة، وكان في احتكامهما ما يرد المخطئ عن خطئه. ثم إن البيان في حد ذاته -وتلك هي الفائدة السابعة- فضيلة تسمو على كثير من الفضائل؛ ولذا يفتخر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: ((أنا أفصح العرب بيد أني من قريش)) ويقول أحد الشعراء: كفى بالمرء عيبًا أن تراه ... له وجه وليس له لسان أشهر رجال البلاغة الذين ألفوا فيها هذا، ومن أشهر رجال البلاغة الذين ألفوا فيها: أبو الهلال حسن بن عبد الله بن سهل العسكري، ولد في مدينة عسكر مدينة من كور الأهواز بخوزستان بين البصرة وفارس، ونشأ بها طوال حياته، ولم يبرحها إلا نادرًا. عاش حياته فقيرًا مغمورًا خامل الذهن، فلم يحظ بما هو خليق به من المجد ونباهة الشأن، كما حظي غيره من العلماء والأدباء في العصر الذي عاش فيه، وإن كان حظي بعد موته بالتقدير والاحترام بما ألف وكتب. وقد تتلمذ على طائفة من العلماء الفضلاء من أشهرهم: أبوه أبو الحسن عبد الله العسكري اللغوي، وأبو سعيد الحسن بن سعيد، وتوفي أبو هلال العسكري سنة

395 عن خمسة وثمانين عامًا. ومن أشهر مصنفاته كتاب (جمهرة الأمثال) كتاب (الفرق بين المعاني) كتاب (شرح الحماسة) كتاب (الصناعتين) وهو الكتاب الذي اشتهر به واقترن به اسمه. وكذا عبد الله بن عبد الرحمن أبو بكر الجرجاني، شيخ البلاغة، النحوي المشهور، المتكلم على مذهب الأشعري، الفقيه على مذهب الشافعي. أخذ النحو بجرجان عن أبي الحسين محمد الفارسي ابن أخت الشيخ أبي علي الفارسي، كان من كبار أئمة العربية والبيان مع الدين المتين والورع والسكون، وتوفي سنة 471 هجرية. ومن أشهر مصنفاته: (المغني في شرح الإيضاح) في نحو ثلاثين مجلدًا، و (الجمل) و (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة). ومن أشهر المؤلفين في البلاغة: سراج الدين يوسف بن أبي بكر محمد بن علي أبو يعقوب السكاكي الخوارزمي، ولد في قرية خوارزم في عهد السلطان الرابع للدولة الخوارزمية "إيل إرسلان بن إكز". كان في أول أمره حدادًا، وبقي كذلك حتى جاوز الثلاثين، ثم انصرف إلى العلم انصرافًا كليًّا، قد تتلمذ على طائفة من العلماء الفضلاء من أشهرهم: سديد الدين بن محمد الخياطي، ومحمود بن صاعد بن محمود الحارثي، وبرهان الأئمة محمد بن عبد الكريم التركستاني، وكان يجيد اللغتين: التركية والفارسية إلى جانب معرفته التامة باللغة العربية. وقد عكف السكاكي على تحصيل العلم والمعرفة فصار عالمًا محققًا في علوم شتى: كالبلاغة، وعلم الكلام، والفقه، والكيمياء، وعلم خواص الأرض، وأجرام

السماء، ولقد طبقت شهرته الآفاق حتى صار الإمام المشهور المقصود من جميع الجهات، وتوفي سنة 626 من الهجرة. ومن أهم مصنفاته (مفتاح العلوم) (شرح الجمل) وهو شرح لكتاب (الجمل) للإمام عبد القاهر الجرجاني. من أشهر الذين كتبوا في البلاغة: جلال الدين قاضي القضاة محمد بن القاضي سعد الدين عبد الرحمن القزويني الشافعي، ونسبته إلى قزوين ترجع إلى أن بعض أجداده سكنها، وهو عربي أصيل؛ إذ تعود نسبته إلى أبي دلف العجلي قائد المأمون. ولما شب تفقه على أبيه، وعلى علماء وطنه، وقد نزل مع أبيه وأخيه بلاد الروم، وتولى القضاء في بعض أعمالها، ثم قدم دمشق مع أخيه إمام الدين، الذي تقلد وظيفة قاضي القضاة ببلاد الشام، وكان ينوب عنه. وفي أثناء ذلك عكف على حلقات العلماء حتى أتقن علم اللغة، وأصول الفقه وعلوم البلاغة، وولي خطابة دمشق في جامعها الأموي الكبير، فلمع اسمه، وطلبه السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى القاهرة، فقدم عليه سنة 724 وخطب بجامع القلعة بين يديه، فأعجب به وولاه قضاء دمشق وخطابتها جميعًا، ولم يلبث أن استخدمه وولاه قضاء الديار المصرية، فنبه ذكره، وطار صيته، ثم وافته المنية، فتوفي سنة 739. ومن أشهر مصنفاته كتاب (تلخيص المفتاح) وهو تلخيص لكتاب (مفتاح العلوم) للسكاكي وكتاب (الإيضاح بتلخيص المفتاح) وهو شرح مطول لما أجمله في كتاب (تلخيص المفتاح). لكن ثمة فروقًا تميز أسلوب كلّ من عبد القاهر والسكاكي والخطيب، فلقد كان أسلوب عبد القاهر في كتابيه (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة) أسلوبًا بليغًا ممتازًا، يساعد على تربية ملكة البلاغة، ولا يفسدها، ولا عيب فيه إلا أنه

يسرف في العبارات المترادفة، حتى تطغى على تقرير القواعد، وعلى ما عني به من استخلاص أسرارها من الشواهد النثرية والشعرية. وهو فيما عني به من الأمرين الناقد الأديب والبليغ الحاذق، وقد طفر بهذا في علم البلاغة طفرة لم يسبق إليها، ولم يأت بعده من سار على هديها. ثم جاء أبو يعقوب السكاكي بعد عبد القاهر فلمح ما أشار إليه فيما سبق، من الفروق الثلاثة بين مباحث علم البلاغة: المعاني والبيان والبديع، فميز بعضها عن بعض تمييزًا تامًّا، وجعل لكل مبحث منها علمًا خاصًّا، فكان من هذه علوم البلاغة الثلاثة السابقة، ثم جاراه في تقرير قواعدها، وزاد عليه زيادات كثيرة في تقريرها، وهذا في قسم البيان من كتابه (مفتاح العلوم) وقد جرى على ترتيبه لهذه المباحث من أتى بعده من المتأخرين، فكان السكاكي عمدتهم في هذا الترتيب. ولا شك أن السكاكي بهذا يعد إلى حد ما من تلاميذ مدرسة عبد القاهر، ولكنه كان ناقدًا، ولم يكن أديبًا؛ لأن أسلوبه في كتابه لم يكن أسلوب البليغ الرصين مثل عبد القاهر؛ لأن العجمة كانت غالبة على أسلوبه، وكان الأسلوب التقريري الذي لا يعنى إلا بتقرير القواعد غالبًا عليه، فكان في أسلوبه كثير من الغموض والتعقيد، وضعف التأليف، ومثل هذا قد يفيد الناظر فيه علمًا، ولا يفيده أسلوبًا بليغًا، بل يفسد فيه ملكة البلاغة، وبهذا يكون ضرره أكبر من نفعه. وقد جاء بعد السكاكي عالمان كبيران أرادا أن يحذوا في علم البلاغة حذوه، أولهما ابن مالك النحوي المشهور في كتابه (المصباح لتلخيص المفتاح) وثانيهما الخطيب القزويني في كتابيه (تلخيص المفتاح) و (الإيضاح لتلخيص المفتاح) وثانيهما كان كالشرح للأول. فأما مصباح ابن مالك فإنه لم يهذب كثيرًا من

مفتاح السكاكي في علم البلاغة؛ لأن ملكة النحو كانت غالبة عليه، وكان هذا سببًا في إعراض المتأخرين عن كتابه، وأما تلخيص الخطيب القزويني فإنه هذب كثيرًا في مفتاح السكاكي، فقدم في مباحثه وأخر، وزاد عليه ما تجب زيادته من كتب البلاغة. وكان أسلوبه فيه أوضح من أسلوب السكاكي، ولكنه جعله أسلوبًا تقريريًّا لا يعنى إلا بجمع القواعد في أوجز لفظ حتى أسرف في الإيجاز إسراف عبد القاهر في الإطناب، وجعل من تلخيصه متنًا يحتاج إلى شروح وحواشٍ وتقارير، ولكن عيبه هذا كان موضع تقدير المتأخرين وإعجابهم، فلما فرغ من تلخيصه شعر هو أيضًا بحاجته إلى شرح، فوضع كتابه (الإيضاح) كشرح له، يجري على ترتيبه في إطناب يختصره أحيانًا من كتابي عبد القاهر، وأحيانًا من كتاب السكاكي مع شيء من التهذيب فيه، ومع كثير من النقد الذي يفصله أحيانًا، ويرمز إليه أحيانًا بقوله: "وفيه نظر" وبهذا جاء (الإيضاح) وسطًا بين إيجاز (التلخيص) وإسهاب عبد القاهر. وكان بهذا هو الكتاب المميز عن غيره من كتب البلاغة القديمة، ولا يزال حتى يومنا هذا. ولكنه على هذا لم يرزق من الحظوة عند المتأخرين ما رزق التلخيص؛ لأنهم شغفوا بالمتون حفظًا وشرحًا، وقد نظروا إلى التلخيص على أنه متن من المتون، فشغفوا بحفظه وشرحه، وكان من السابقين إلى شرحه سعد الدين التفتازاني، فوضع له شرحًا مطولًا سماه (المطول)، وشرحًا مختصرًا سماه (المختصر)، وكان سعد الدين من علماء العجم الذين تأثروا بالسكاكي في طريقته التقريرية، وفي ضعف أسلوبه لضعف سليقته العربية، بل كان هو وأمثاله ممن أتى بعد السكاكي من علماء العجم أضعف من السكاكي ذوقًا وسليقة، فمضوا في الطريقة

التقريرية إلى أن وصلوا إلى نهايتها في البعد عن الذوق الأدبي، ثم أخذوا ينشرونها هنا وهناك إلى أن غزت علماء العرب وغزت جميع العلوم من عربية إلى دينية إلى غيرها من العلوم، وصارت عنايتها بتقرير عبارات المتون أكثر من عنايتها بتقرير مسائل العلوم. ثم تهافت المتأخرون من علماء البلاغة على شرحي سعد الدين على (التلخيص) يضعون عليها الحاشية بعد الحاشية، ويضعون على الحاشية التقرير بعد التقرير، وشغف المدرسون بتلك الكتب في الجامع الأزهر وغيره من الجامعات الإسلامية في الأقطار المختلفة، يتعمقون في درسها إلى أقصى حدود التعمق، وينتقلون في درسها من المتن إلى الحاشية إلى التقرير في استقصاء غريب، وتفنن في الفهم والبحث، ولو كان هذا في صميم مسائل البلاغة لهان الخطب، ولكن أكثره في بحوث خارجة عن هذه المسائل، وفي أسلوب ركيك يفسد ملكة البلاغة، فإذا كانت فيه فائدة قليلة فإنها تضيع في هذا الخضم الذي لا فائدة فيه. وقد تأبى كتاب (الإيضاح) وطريقته السابقة على المتأخرين من علماء البلاغة، فلم يضعوا عليه من الشروح والحواشي والتقارير مثلما وضعوا على كتاب (التلخيص) اللهم إلا شرحًا ضعيفًا للإقصاء، ولما كان كتاب (التلخيص) كالأصل لكتاب (الإيضاح) كان هذا مما يدعو قارئه إلى أن يرجع في كثير من مسائله إلى ما وضع على كتاب (التلخيص) من شروح وحواش وتقارير. لكن -وهذا من شديد ما يؤسف له- إذا رجع إليها غرق في ذلك الخضم من البحوث، التي ربما ضاع به ما يكتسبه من كتاب (الإيضاح) من ذوق أدبي لأن تلك الشروح والحواشي والتقارير تغطي عليه.

تعريف الفصاحة وشروطها وعلاقتها بالبلاغة.

تعريف الفصاحة وشروطها وعلاقتها بالبلاغة وننتقل الآن بعد هذه الإلمامة عن جهود البلاغيين، وعن أهم ما كتب في علوم البلاغة، للحديث عن الفصاحة باعتبارها جزءًا وقيدًا في تعريف البلاغة، كما سنعرف فيما بعد، وللحديث أيضًا عن علاقتها -أي الفصاحة- بالبلاغة؛ إذ من المعلوم أن طائفة من البلاغيين ظلت حتى عصر عبد القاهر الجرجاني لا تفرق بين الفصاحة والبلاغة؛ لالتقائهما في الإبانة عن المعنى وإظهاره، وإن فرق بينهما المعنى اللغوي، ومن هؤلاء عبد القاهر الجرجاني نفسه، فإنه لم يكن يفرق بين المعنيين؛ حيث فسر الفصاحة في (دلائل الإعجاز) بأنها خصوصية في نظم الكلم، وضم بعضها إلى بعض على طريقة مخصوصة. ولكن طائفة أخرى من البلاغيين كانت تصر على التفريق بين المعنيين وفاء بحق المعنى اللغوي لكل منهما، ومن هؤلاء أبو هلال العسكري المتوفى سنة 395، فقد فرق بينهما موضحًا أن الفصاحة مقصورة على اللفظ، والبلاغة مقصورة على المعنى إلى أن حسم هذا الأمر معاصر عبد القاهر الجرجاني ابن سنان الخفاجي المتوفى سنة 466. الفصاحة في اللغة: هي الظهور والبيان ويوصف بها الكلمة والكلام والمتكلم. فيقال: كلمة فصيحة، وكلام فصيح، ومتكلم فصيح، والبلاغة في اللغة تنبئ عن الوصول والانتهاء والإتقان والجودة، ويوصف بها الكلام والمتكلم فقط. فيقال: كلام بليغ، ومتكلم بليغ، ولم يسمع كلمة بليغة إلا أن يقصد بالكلمة خطبة أو قصيدة، فيكون من المجاز أعني من إطلاق الجزء وإرادة الكل.

ولما كانت معرفة البلاغة متوقفة على معرفة الفصاحة لكونها مأخوذة في تعريف البلاغة، وجب علينا البدء بالتعرف على ملامح الفصاحة، ولما كانت لابن سنان الخفاجي المتوفى سنة 466 قدم راسخة في معرفة حقيقة الفصاحة، وجعلها معيارًا نقديًّا أصيلًا من المعايير البلاغية والنقدية من خلال كتابه (سر الفصاحة) فقد وجب علينا أيضًا معرفة ما أتحف به العربية من لطائف نقدية في هذا المجال؛ لنؤكد الصلة الوثيقة بين كل من الفصاحة والبلاغة من جهة، والنقد الأدبي الأصيل من جهة أخرى، ولننهي العزلة التي فرضها المتأخرون من البلاغيين على البلاغة العربية. وإليك ما قاله ابن سنان الخفاجي في هذا المجال، أورد ابن سنان الخفاجي في كتابه (سر الفصاحة) أن الفصاحة لغة: هي الظهور والبيان، ومنها قولهم: أفصح اللبن، إذا انجلت رغوته، وفصح فهو فصيح، قال الشاعر: وتحت الرغوة اللبن الفصيح وقال: "أفصح الصبح إذا بدا ضوءه، وأفصح كل شيء إذا وضح، وفي الكتاب العزيز: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ} (القصص: 34) وفصح النصارى: عيدهم، وقد تكلمت به العرب، قال حسان بن ثابت: ودنا الفصح فالولائد ينظمن ... سراعًا أكلّة المرجان قال: ويجوز أن يكون ذلك لاعتقادهم أن عيسى -عليه السلام- ظهر فيه. ولكن صاحب (البغية) يرى أن هذه الكلمة عبرية لا عربية، وهي بمعنى الصفح؛ لأن الله تعالى صفح في يوم هذا العيد عن بني إسرائيل، وأخرجهم مع موسى -عليه السلام- من مصر

وسمي الفصيح فصيحًا كأنهم سموه بيانًا؛ لإعرابه عما عبر به عنه، وإظهاره له إظهارًا جليًّا، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((أنا أفصح العرب بيد أني من قريش)) ". ثم فرق ابن سنان بين الفصاحة والبلاغة بأن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، ولكن البلاغة لا تكون إلا وصفًا للألفاظ مع المعاني، فلا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها: بليغة، وإن قيل فيها: فصيحة. وكل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغًا، كالذي يقع فيه الإسهاب في غير موضعه؛ أي في غير موضع الإسهاب؛ لأن البلاغة -كما سنذكر- تزيد عن الفصاحة بأن بها مطابقة مقتضى الحال. ثم بين ابن سنان أن الناس قد حدوا البلاغة بحدود، إذا حققت كانت كالرسوم والعلائم وليست حدودًا صحيحة، كقول بعضهم في تعريف البلاغة مثلًا: لمحة دالة. وقول آخر: البلاغة معرفة الفصل من الوصل. وقول آخر: البلاغة أن تصيب فلا تخطئ، وتسرع فلا تبطئ. وقول من قال: البلاغة اختيار الكلام وتصحيح الأقسام. ثم بدا الكلام على شروط لفصاحة اللفظة المفردة وفصاحة الألفاظ المنظومة بعضها مع بعض، فأورد ابن سنان شروطًا لفصاحة اللفظة المفردة، وجعلها أيضًا شروطًا لفصاحة الألفاظ المنظومة بعضها مع بعض، بعد أن عقد صلة وثيقة بين الفصاحة والبلاغة من جهة، وبين النقد الأدبي من جهة أخرى، وهذه الشروط هي ما يلي: أولًا: أن يكون تأليف اللفظة من حروف متباعدة المخارج؛ لأن الحروف التي هي أصوات تجري في السمع مجرى الألوان من البصر، ولا شك أن الألوان

المتباعدة المتباينة إذا جمعت كانت في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة، وقد قال الشاعر في هذا المعنى: فالوجه مثل الصبح مبيض ... والفرع مثل الليل مسود ضدان لما استجمعا حسنا ... والضد يظهر حسنه الضد ثانيًا: أن تجد لتأليف اللفظة في السمع حسنًا ومزية على غيرها، وإن تساويا في التأليف من الحروف المتباعدة، كما أنك تجد لبعض النغم والألوان حسنًا يتصور في النفس، ويدرك بالبصر والسمع دون غيره مما هو من جنسه، مثاله في الحروف: العين مع الذال مع الباء، فإن السامع يجد لقولهم: العذيب. اسم موضع وعذيبة اسم امرأة وعَذْب وعَذُب وعذبات، ما لا يجده فيما يقارب هذه الألفاظ في التأليف، وليس سبب ذلك بعد الحروف في المخارج فقط، ولكنه تأليف مخصوص مع البعد، ولو قدمت الذال أو الباء لم تجد الحسن على الصيغة الأولى في تقديم العين على الذال بضرب من التأليف في النغم، يفسده التقديم والتأخير. وليس يخفى على أحد أن تسمية الغصن غصنًا وفَنَنًا أحسن من تسميته عُسْلُوجًا، وأن أغصان البان أحسن من عساليج الشَّوْحَط في السمع، والشوحط شجر يتخذ منه القسي أو الرماح. ثالثًا: أن تكون الكلمة -كما قال الجاحظ- غير متوعرة وحشية، كقول أبي تمام: لقد طلعت في وجه مصر بوجهه ... بلا طائر سَعْلٍ ولا طائر كهل فإن كهلًا ها هنا من غريب اللغة، وقد روي أن الأصمعي لم يعرف هذه الكلمة، وليست موجودة إلا في شعر بعض الهذليين، وهو قوله: فلو كان سلمى جاره أو أجاره ... رباح بن سعد رده طائر كهل

ومن ذلك ما يروى عن أبي علقمة النحوي من قولهم: ما لكم تتكأكئون، وافْرَنْقِعُوا؛ لأنها كلمات وحشية. رابعًا: أن تكون الكلمة غير ساقطة عامية، كما قال الجاحظ أيضًا، ومثال الكلمة العامية قول أبي تمام: جَلَّيْتُ والموت مُبْدٍ حُر صفحته ... وقد تَفَرْعَنَ في أفعاله الأجل فإن تفرعن مشتق من اسم فرعون، وهو من ألفاظ العامة، وعادتهم أن يقولوا: تفرعن فلان إذا وصفوه بالجبرية، فأما قول أبي الطيب المتنبي: إني على شرفي بما في خمرها ... لأعف عما في سراويلاتها فلا شيء أقبح من ذكر السراويلات. خامسًا: مقاييس الفصاحة عند ابن سنان الخفاجي أن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح غير شاذة، ويدخل في هذا القسم ما ينكره أهل اللغة، ويرده علماء النحو من التصرف الفاسد في الكلمة، وقد يكون ذلك لأجل أن اللفظة بعينها غير عربية، كما أنكروا على أبي الشيص قوله: وجناح مقصوص تحيف ريشه ... ريب الزمان تحيف المقراض وقالوا: ليس المقراض من كلام العرب وقد تكون الكلمة عربية؛ إلا أنها قد عبر بها عن غير ما وضعت له في عرف اللغة، كما قال البحتري: تشق عليه الريح كل عشية ... جيوب الغمام بين بكر وأيم فوضع الأيم مكان الثيب، وليس الأمر كذلك، فليست الأيم هي الثيب في كلام العرب، وإنما الأيم هي التي لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا كما قال تعالى:

{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (النور: 32) وليس مراده تعالى نكاح الثيبات من النساء دون الأبكار، وإنما يريد اللواتي لا أزواج لهن، وقد يكون من الشاذ مما أنكره أهل اللغة ما جاء به حذف من الكلمة، كما قال النجاشي: فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل أراد: ولكن اسقني. وقد يكون على وجه الزيادة في الكلمة مثل أن يشبع الحركة فتصير حرفًا كما قال ابن هرمة في رثاء ابنه: وأنت على الغواية حيث ترمى ... وعن عيب الرجال بمنتزاح أي ببعيد عنه، وقد يكون لأن الكلمة بخلاف الصيغة في الجمع أو غيره، كما في قول الطرماح: وأكره أن يعيب علي قومي ... خجايا الأرذلين ذوي الحِنات فجمع إحنة على غير جمع الصحيح لأنها إحنة وإحن، ولا يقال حنات، ومن هذا الفصل أن يبدل حرف من حروف الكلمة بغيره، كما في قول شاعر: لها أشارير من لحم منمرة ... من الثعالي ووخز من أرانيها يريد من الثعالب وأرانبها. ومنها إظهار التضعيف في الكلمة مثل قول الشاعر: مهلًا أعازل قد جربت من خلقي ... إني أجود لأقوام وإن ضننوا وأما صرف ما لا ينصرف كقصر الممدود، ومد المقصور، وحذف الإعراب للضرورة، وتأنيث المذكر، وتذكير المؤنث فإن هذا وأشباهه وما يجري مجراه، وإن لم يؤثر في فصاحة الكلمة كبير تأثير؛ فإنني أوثر صيانتها عنه هكذا يقول ابن سنان؛ لأن الفصاحة تنبئ عن اختيار الكلمة وحسنها وطلاوتها، ولها من هذه الأمور صفة نقص فيجب طرحها.

سادسًا: ألا تكون الكلمة قد عبر بها عن أمر آخر يكره ذكره، فإذا أوردت، وهي غير مقصود بها ذلك المعنى قبحت، وإن كملت فيها الصفات التي بيناها، ومثل هذا قول عروة بن الورد العبسي: وقلت لقوم في الكنيف تروحوا ... عشية بتنا عندما وانى تورح سابعًا: ألا تكون الكلمة كثيرة الحروف، فإنها متى زادت على الأمثلة المعتادة المعروفة قبحت وخرجت عن وجه من وجوه الفصاحة، ومن ذلك قول أبي نصر بن نباتة: فإياكم أن تكشفوا عن رؤوسكم ... ألا إن مغناطيسهن الذوائب فمغناطيسهن كلمة غير مرضية. ومن هذا النوع أيضًا قول أبي تمام: فلأذربيجان اختيال بعدما ... كانت معرس عبرة ونكال سمجت ونبهنا على استسماجها ... ما حولها من نضرة وجمال فكلمة "فلأذربيجان" كلمة رديئة لطولها وكثرة الحروف وخروجها بذلك عن المعتاد في الألفاظ إلى الشاذ النادر. ثامنًا: أن تكون الكلمة مصغرة في موضع عبر بها فيه عن شيء لطيف أو خفي أو قليل أو ما يجري مجرى ذلك، ومثال ذلك قول الشريف الرضي -رحمه الله: يولع الطل بردينا وقد نسمت ... رويحة الفجر بين الضال والسلم فلما كانت الريح المقصودة هنا نسيمًا مريضًا ضعيفًا حسنت العبارة عنه بالتصغير، وكان للكلمة طلاوة وعذوبة.

وأما قول أبي الطيب: ظللت بين أصيحابي أكفكفه ... وظل يسفح بين العذر والعزل أي أكففت دمعي، فالتصغير فيه مختار؛ لأن العادة جارية في قلة عدد من يصحب الإنسان في مثل هذه المواضع، ولهذا كانوا في الأكثر ثلاثة، وجرى ذكر الصاحبين والخليلين في الشعر كثيرًا لهذا السبب، كما قال امرؤ القيس: خليلي مرا بي على أم جندب ... نقص لبانات الفؤاد المعذب وقال ابن نباتة: قفا فاقضيان لذة من حديثه ... علانية إن السرار مريب والذي نريد أن نخلص إليه أنه وعلى الرغم من اختلاف الأصل اللغوي لكلمتي الفصاحة والبلاغة إلا أنهما يلتقيان في الإبانة عن المعنى وإظهاره، وقد لحظ هذا كثير من البلاغيين المتقدمين، فجعلوهما في الاصطلاح شيئًا واحدًا، وعلى رأس هؤلاء البلاغيين الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) حيث عقد فصلًا في تحقيق القول على الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة، وما شاكل ذلك من ألفاظ مترادفة. يقول عبد القاهر: "ومن المعلوم أنه لا معنى لهذه العبارات غير وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها فيما كانت له دلالة، ثم تبرجها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب وأحق بأن تستولي على هوى النفس، وتنال الحظ الأوفر من ميل القلوب". انتهى. ومن ذلك يتضح أن الفصاحة والبلاغة عنده بمعنى واحد، وهو رأي الزمخشري من بعده وكذلك الفخر الرازي. وهناك رأي آخر لبعض البلاغيين المتقدمين يفرق بين الفصاحة والبلاغة في الاصطلاح تبعًا لاختلاف مدلولهما اللغوي؛ إذ يقول: الفصاحة تمام آلة البيان. هذا ذكره في (الصناعتين) فهي مقصورة على اللفظ لأن الآلة تتعلق باللفظ دون

المعنى. أما البلاغة فهي إنهاء المعنى إلى القلب، فتكون مقصورة على المعنى، وأن ابن سنان الخفاجي يرى أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفًا للألفاظ مع المعاني، فلا يقال في كلمة واحدة تدل على معنى يفضل على مثلها: بليغة، وإن قيل فيها: فصيحة. ويؤخذ عليه أن ما ذكره صحيح في جانب البلاغة، أما الفصاحة فإنها ليست مقصورة على وصف الألفاظ المفردة فقط، بل إنها تكون وصفًا للفظ وللتركيب أيضًا بدليل قوله بعد ذلك: فكل بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغًا، كالذي يقع فيه الإسهاب في غير موضعه. وخلاصة القول هنا: أن الفصاحة والبلاغة مختلفان، وهذا الرأي القائل باختلافهما هو الذي اختاره المتأخرون من مدرسة السكاكي، ومن نسج على منواله، وقد استقر على ذلك الدرس البلاغي إلى عصرنا الحاضر. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 2 الفصاحة والبلاغة.

الدرس: 2 الفصاحة والبلاغة.

معنى الفصاحة والبلاغة

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (الفصاحة والبلاغة) معنى الفصاحة والبلاغة الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه، وبعد: فقد جرت عادة البلاغيين قبل الشروع في مباحث علم المعاني أن يذكروا مقدمة في بيان معنى الفصاحة والبلاغة، وانحسار علم البلاغة في العلوم الثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع على غرار ما صنع الخطيب القزويني في كتابه (الإيضاح)، وهذا اتجاه سديد وصنيع محمود؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. وليس من الحكمة أن نشرع في تفاصيل علم من العلوم قبل أن نقف على المراد به والغرض منه، وقد وردت كلمة الفصاحة في اللغة بمعان كثيرة، كلها كما ذكرنا قبل ذلك تنبئ عن الظهور والبيان، ومن ذلك قول العرب: أفصح اللبن. أي انجلت عنه رغوته فظهر. وقولنا: سرينا حتى أفصح الصبح. أي بدا ضوءه. ومنه المثل المشهور: أفصح الصبح لذي عينين. وهذا يوم فصيح ومفصح؛ أي جلي لا غيم فيه، ولا ضباب. وأفصح به أي صرح به. ويقال: فصح الأعجمي وأفصح: إذا خلصت لغته من اللكنة واللحن وانطلق لسانه بالعربية. ومنه قوله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} (القصص: 34) أي أبين وأظهر مني قولًا. ويقال أيضًا: أفصح الصبي في منطقه إذا أبان ووضح كلامه في أول أمره. وفصح الرجل وتفصح: إذا كان عربي اللسان فازداد فصاحة. والتفصح: استعمال الفصاحة. وقيل: التشبه بالفصحاء. هكذا ذكره ابن منظور في كتابه (لسان العرب). والفصيح في اللغة المنطلق اللسان في القول، الذي يعرف جيد الكلام من رديئه، فهو طلق اللسان يكشف عن معانيه ويعبر عن مشاعره، ويعرب عن ضميره بلفظ

العيوب المخلة بفصاحة الكلمة.

فصيح. فمعنى الفصاحة كما يتضح من هذه الاستعمالات، يدور حول الظهور والبيان والبلاغة في اللغة كلمة كما قلنا تنبئ عن الوصول والانتهاء، من قولهم: بلغت الغاية إذا انتهيت إليها، ومبلغ الشيء منتهاه. ويقال: بلغ الرجل بفتح اللام كذا بلوغًا إذا وصل وانتهى إليه. ويقال: بلغ بضم اللام بلاغة إذا أتى بكلام بليغ مؤثر يصل إلى أعماق النفس، وسميت البلاغة بلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه. هكذا في (لسان العرب) في مادة بلغ. وإذا كان الأمر كذلك فنعرض للمعنى الاصطلاحي لكلمتي الفصاحة والبلاغة عند المتأخرين، فنقول: إن معنى الفصاحة يختلف باختلاف موصوفها، وهي تقع صفة للكلمة والكلام والمتكلم. تقول: كلمة فصيحة، وكلام فصيح، ومتكلم فصيح. العيوب المخلة بفصاحة الكلمة فصاحة الكلمة تعني أن تكون الكلمة جارية على القواعد المستنبطة من استقراء كلام العرب، متناسبة الحروف، كثيرة الاستعمال متداولة على الألسن، وإن شئت فقل: أن تكون الكلمة سلسلة سائغة واضحة المعنى موافقة للعرف اللغوي، وقد عرفها علماء البلاغة بقولهم: هي سلامتها من عيوب ثلاثة: تنافر الحروف، ومخالفة القياس اللغوي، والغرابة. أما تنافر الحروف، فهو -كما ذكر الخطيب القزويني في (الإيضاح) - وصف في الكلمة يوجب ثقلها على اللسان وعسر النطق بها

وكراهيتها في الأسماع، فإذا تنافرت حروف الكلمة كان ذلك عيبًا مخلًّا بفصاحتها، وهذا التنافر منه ما هو متناه في الثقل، ومنه ما هو دون ذلك. فمن الأول الذي يوجب التناهي في الثقل كلمة "الهخع" هكذا بهاء مضمومة في أوله، في قول عربي سئل عن ناقته فقال: تركتها ترعى الهخع. وقد قالوا: إنه اسم نبات ترعاه إبل. وقيل: إنه كلمة معاياه لا أصل لها. وعلى أي حال فأنت تدرك ما في هذه الكلمة من الثقل الشديد، ومن هذا القبيل أيضًا كلمات: عقجق والظش والصصا والشصاصا. ومثال الثاني الذي أقل في تناهيه في الثقل عن سابقه، كلمة مستشزرات في قول امرئ القيس: وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل المتعثكل: يعني المتراكم. غدائره: الغدائر هي الزوائد. مستشزرات إلى العلا ... تضل المدار في مسنًّا ومرسل يقول: إن ذوائب شعرها مرتفعات، ولكثرته تغيب خصله وتختفي في المفتول منه والمرسل، أو تغيب المدارى في المفتول منه والمرسل. فأنت تجد في كلمة مستشزرات هنا تنافرًا يحسه السمع، وتكرهه الأذن، وإن كان أخف في الثقل على اللسان من النوع الأول، وقد نشأ الثقل من توسط الشين المهموسة الرخوة بين التاء المهموسة الشديدة والزاي المجهورة، ومن هذا القبيل أيضًا كلمة اطلخم في قول الشاعر: قد قلت لما اطلخم الأمر وانبعثت ... عشواء تالية غُبْسًا دهاريسا اطلخم يعني: اشتد وتفاقم. عشواء: صفة لمحذوف أي ليلة عشواء شديدة الظلمة. غبسًا: جمع غبساء كعشواء. والدهاريس يعني: الدواهي.

وككلمة النُقَاخ في قول الشاعر: وأحمق ممن يكرع الماء قال لي ... دع الخمر واشرب من نقاخ مبرد ومثل كلمة سويداواتها في قول المتنبي: إن الكريم بلا كرام منهم ... مثل القلوب بلا سويداواتها وقد نشأ ثقلها من طولها كما ترى، وأيضًا من ذلك كلمة الجِرِشَّا في قول المتنبي يمدح سيف الدولة: مبارك الاسم أغر اللقب ... كريم الجرشا شريف النسب ولعلك تدرك التنافر في كلمة الجرشا بالإضافة إلى خفاء معناها، ففيها غرابة أيضًا، ولا مانع من وجود أكثر من عيب في الكلمة الواحدة، كالتنافر والغرابة معًا. ولكن ما سبب التنافر؟ وهل هناك ضابط يمكن الاحتكام إليه في الحكم على الكلمة بالتنافر أو عدمه؟ قالوا في الإجابة عن ذلك: إن التنافر يكون لتقارب مخارج الحروف جدًّا، فهي بمنزلة مشي المقيد أو لتباعد مخارج الحروف جدًّا، فهي بمنزلة الطفرة، ومع أنه لا يمكن تجاهل ما لمخارج الحروف وهيئة تأليفها من الأثر في خفة الكلمة وثقلها إلا أنه لا يجري على قاعدة معروفة مضطردة، بل هو أمر أغلبي، فقد تكون الكلمة فصيحة مع قرب مخارج حروفها، مثل كلمة: الجيش والشجر. ومثل: ذقته بفمي. فالباء والميم أحرف شفوية متقاربة المخارج، ولا ثقل فيها. وقد تكون الكلمة فصيحة مع بعد مخارج حروفها مثل: علم وأمر وألم، بل إن الكلمتين قد تتركبان من حروف واحدة، وتكون إحداهما ثقيلة دون الأخرى، وذلك مثل علم، ومَلَع، فالأولى خفيفة على اللسان، ولا ينبو عنها الذوق، بخلاف الثانية مع اتحاد حروفها. والحق أن المعول عليه في ذلك، هو الذوق العربي

السليم المكتسب بالنظر في كلام العرب وتذوق أساليبهم، فما يعده الذوق السليم ثقيلًا عسر النطق فهو متنافر، سواء أكان ذلك من قرب مخارج الحروف أو من بعدها أم من غير ذلك، وما كان خفيفًا على اللسان لا ينفر منه السمع، ولا ينبو عنه الطبع فهو فصيح. ونحن إذا احتكمنا إلى الذوق السليم في كلمة مستشزرات الواردة في معلقة امرئ القيس، نجد أنها قد عبرت عن المعنى الذي يريده الشاعر أصدق تعبير، فهو يصف شعرها بكثرته وتداخله وتشابكه، ولذلك عمد إلى كلمة فيها هذا التداخل والتشابك، وهي مستشزرات التي تداخلت أصوات حروفها، وكاد صوت التاء والشين يختفي بين صوتي الراء والسين، فهي أكثر ملاءمة للمقام الذي وردت فيه من بديلتها مرتفعات مثلًا أو مستشرفات، وصورتها توحي بصورة الشعر الذي يصفه الشاعر لا سيما بعد قوله: "أثيث كقنو النخلة المتعثكل" فالسياق يستدعي كلمة مستشزرات ويلح عليها، ولذلك جاءت معبرة عن مراده في دقة ومؤثرة في قوة. كذا قاله البعض، وذهب إليه. كما أن طول الكلمة ليس عيبًا في كل الأحوال وعلى الإطلاق، وقد وردت في القرآن الكريم كلمات طويلة، ومع ذلك، فهي خفيفة على اللسان، لا ثقل فيها مثل قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 137) وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} (النور: 55) وأظنك معي، لا تجد صعوبة في النطق بهاتين الكلمتين {فَسَيَكْفِيكَهُمُ}، و {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} ومثلهما {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} (هود: 28) فطول الكلمة ليس على إطلاقه يعد عيبًا، ولذلك نقول: إن الأحكام البلاغية يجب أن تبنى على الأعم الأغلب، ولا تبنى على القطع والإطلاق؛ لأن القاعدة لا تطرد في كل الأحوال، والذوق العربي السليم هو الحكم الفيصل في مثل هذه الأمور.

ثاني هذه الأمور المخلة بفصاحة المفردة أو اللفظة أو الكلمة بعد تنافر الحروف: مخالفة القياس اللغوي، وهي أن تجيء الكلمة على خلاف ما ثبت عن العرب الخلص، كأن تستعمل في غير ما وضعت له في عرف اللغة لا على سبيل المجاز مثل الأيم في قول البحتري: يشق عليه الريح كل عشية ... جيوب الغمام بين بكر وأيم وقد استعمل الأيم بمعنى الثيب؛ حيث جعلها في مقابل البكر، والأيم في اللغة تطلق على المرأة التي لا زوج لها بكرًا كانت أم ثيبًا، قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (النور: 32) وليس مراده تعالى نكاح الثيبات منهن دون الأبكار، وإنما أراد اللاتي لا أزواج لهن، ومنه أن تكون الكلمة مخالفة للقياس الصرفي، كما في قول أبي النجم العجلي: الحمد لله العلي الأجلل ... الواهب الفضل الكريم المجزل فإن القياس يقتضي إدغام المتماثلين، فيقول: الأجل، ولكنه فك الإدغام لضرورة الشعر مخالفًا بذلك ما تقرره القواعد الصرفية، ومنه كذلك قول أبي الطيب المتنبي: فإن يك بعض الناس سيفا لدولة ... ففي الناس بُوقَات لها وطبول فكلمة "بوقات" غير فصيحة لأن القياس يقتضي جمع بوق على أبواق جمع تكسير، ولم يرد جمعه على بوقات. ومن صور المخالفة أيضًا حذف بعض الكلمة، كما في قول الشاعر: فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل أراد: ولكن اسقني. فحذف النون، وهكذا نرى أن مخالفة الكلمة في الوضع اللغوي عيب في صيغتها يخرجها عن الفصاحة، ومن ثم عن البلاغة. ولعلك

تلاحظ أن العيب المخل بالفصاحة هنا ليس مقصورًا على مخالفة القياس الصرفي فقط، بل تعددت صوره ومواضعه ليدخل فيه كل ما ينكره أهل اللغة لمأخذ لغوي أو صرفي، أو تصرف في الكلمة بزيادة أو نقص غير معهودين؛ ولذلك سمي هذا العيب مخالفة القياس اللغوي، فالقول بأنه مخالفة القياس الصرفي قول ناقص، وإن شئت فقل: مخالفة الوضع اللغوي، أما مخالفة القياس فقط، فلا تكفي؛ إذ قد يحمله بعض الناس على القياس الصرفي فقط، وهذا خطأ؛ لأن مخالفة القياس الصرفي لا تخل دائمًا بالفصاحة، فقد تكون الكلمة مخالفة لقواعد الصرف، وهي مع ذلك فصيحة لموافقتها للوضع اللغوي، مثل كلمة استحوذ، والقياس الصرفي يقتضي إعلالها بقلب الواو ألفًا فيقال: استحاذ كاستقام واستجاب، نقول في مثلها: نقلت حركة الواو إلى الحرف الساكن الصحيح قبلها، ثم قلبت الواو الساكنة ألفًا لانفتاح ما قبلها، فتصير استحاذ، كاستقام واستجاب. وهي مع ذلك فصيحة لموافقتها ما نقل عن واضع اللغة. ومن هذا القبيل كلمات: آل، وماء، وأبا يأبى، بفتح العين في المضارع، وعور يعور، فآل، وماء أصلهما: أهل ومَو، فأبدلت الهاء همزة، وإبدال الهمزة من الهاء مخالف للقياس، وأما يأبى، فالقياس فيه كسر العين، وهي هنا الباء؛ لأن فعل بفتح العين لا تفتح عينه في المضارع إلا إذا كانت عينه أو لامه حرف حلق، كسأل وقرأ ومنع، وأما عور يعور فقد بقيت الواو على حالها، ولم تقلب ألفًا لأن الوصف منه على أفعل فعلاء، وهو أعور عوراء، فالفعل لم يستوف شرط الإعلال؛ ولذلك استعمل هكذا عور يعور، بدون إعلال. فهذه الأمثلة وما يشاكلها فصيحة الاستعمال، وإن خالفت القياس الصرفي لثبوت استعمالها لدى العرب الفصحاء، فهي موافقة لما ثبت عن الواضع.

ثالث هذه العيوب المخلة بفصاحة الكلمة بعد تنافر الحروف ومخالفة القياس اللغوي: الغرابة، وهي أن تكون الكلمة وحشية غير ظاهرة المعنى، ولا مأنوسة الاستعمال عند العرب الخلص. ويفهم من هذا أن غير العرب الخلص من المحْدثين، الذين ظهروا بعد تفشي اللحن وشيوع الخطأ في اللغة، وضعف الملكات اللغوية، هؤلاء وغيرهم من المولدين لا يعول عليهم في الحكم على الكلمة بالغرابة، وفهم معنى الكلمة الغريبة يحتاج إلى أحد أمرين: البحث، والتنقيب عنها في كتب اللغة المبسوطة. ب- التخريج على وجه بعيد لتردد الكلمة بين معنيين أو أكثر بلا قرينة معينة، فمن النوع الأول الذي يحتاج إلى البحث والتنقيب عنه في معاجم اللغة، كلمتا: تكأكأتم، وافرنقعوا، في قول عيسى بن عمر النحوي حين سقط عن راحلته، فتجمع الناس حوله، فصاح فيهم: "ما لكم تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جنة، افرنقعوا عني". ويريد اجتمعتم علي، فتنحوا عني. فقد استطاع هذا النحوي بذكائه أن يشغلهم بهاتين الكلمتين الغريبتين على سبيل المزاح والمداعبة حتى ينهض من عثرته، ويفلت من بين أيديهم، ولذلك قال بعضهم: دعوه، فإن شيطانه يتكلم بالهندية. وهذا دليل على ما في الكلمتين من غرابة تحتاج إلى مراجعة كتب اللغة المبسوطة؛ للكشف عن المعنى المراد منهما. ومن هذا النوع أيضًا كلمات الطرموق بمعنى الطين، بمعنى الإسهال والإطشاش والإبْرِغْشاش أي الشفاء، وفَدَوْكَس أي الأسد، وخنْدَرِيس أي الخمر، والابْتِشاك أي الكذب، كل هذه كلمات غريبة، قال الشاعر: وما أرضى لمقلته بحِلم ... إذا انتبهت توهمه ابتشاكا

فالغرابة في هذه الكلمات تخل بفصاحتها، ومن ثم ببلاغتها؛ لما يترتب عليها من غموض المعنى وإبهامه. ومن النوع الثاني للغرابة الذي يحتاج في فهمه إلى تخريج، لكن على وجه بعيد قول رؤبة بن العجاج يصف محاسن محبوبته: أيام أبدت واضحًا مفلجا ... أغر براقا وطرفًا أدعجا ومقلة وحاجبًا مزججا ... وفاحمًا ومرسنًا مسرجا فالمرسن: أنف الناقة، ثم أريد به مطلق أنف على سبيل المجاز المرسل، ثم أطلق على أنف محبوبته، والشاهد في قوله: "مسرجا". فقد وصف به أنف المرأة، وهو غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد به، وبالتالي فهو غير فصيح؛ ولذلك اختلفوا في تخريجه فقيل: هو من قولهم: سيوف سريجية. نسبة إلى حداد يقال له سريج يجيد صناعة السيوف. فهو يريد تشبيه أنفها بالسيف السريجي في الدقة والاستواء من نسبة المشبه إلى المشبه به، وقيل: هو مأخوذ من السراج أي المصباح أي أن أنفها شبيه بالسراج في الرونق والضياء، فهو مأخوذ من قولهم: سرج الله وجهه؛ أي: بهجه وحسنه. وعلى كلا التقديرين فهو غير ظاهر الدلالة على معناه؛ لأن مادة فعل بالتشديد إنما تدل على نسبة شيء إلى آخر، كما يقال: شرّف فلان فلانًا أي نسبه إلى الشرف. وكفره أي نسبه إلى الكفر. فهو مُشَرَّف ومُكَفَّر، أي منسوب إلى الشرف والكفر، لكن هذه النسبة لا تدل على تشبيه المنسوب بالمنسوب إليه كما أراد الشاعر؛ إذ لم يرد استعمال اللفظ فيها فدلالته على التشبيه بعيدة. والواقع أن عزل الكلمة عن الإطار التي انتظمت في سلكه هو الذي يوحي بهذا الغموض في معنى اللفظ، بل ويؤدي إلى الجرأة في إصدار أحكام تحتاج في كثير

من الأحيان إلى مناقشتها قبل الإذعان لها أو التسليم بها. وعلى هذا الأساس نجد أن كلمة مسرجًا في قول رؤبة السابق تتصف بالغرابة على النحو الذي أشرنا إليه إذا أخذت وحدها من البيت الذي وردت فيه، وفي هذا تجاهل لدلالة السياق التي تعين المعنى عند الإشكال، وهي من أبرز القرائن الدالة على مراد المتكلم. فإذا نظرنا إلى الكلمة في سياقها، فسوف نجد أنها بعيدة عن الغرابة، هذا على رأي بعض البلاغيين المحْدثين؛ لأنها لا تحتمل إلا تخريجًا واحدًا، هكذا يقولون، وهو أن الشاعر يصف أنف محبوبته بالدقة والاستواء كالسيف السريجي المشهور بدقته واستوائه، فهذا المعنى هو الذي يلائم السياق، خاصة إذا علمنا أن الشاعر يتفجع على محبوبته الموصوفة بتلك الصفات. أما تشبيه الأنف بالسراج في بريقه، فلا معنى له، كما أنه لا يتفق مع الجو النفسي الذي يسيطر على عاطفة الشاعر. إن وضع الكلمة موضعها من السياق والنظر إليها على أنها لبنة في بناء محكم الأواصر أمر ينبغي أن يوضع في الاعتبار لدى الدارسين في البلاغة والنقد؛ لأن الكلمات لا تكتسب دلالة محددة قبل أن توضع في السياق، ولله در عبد القاهر حين يقول: "وهل تجد أحدًا يقول: هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها، وهل قالوا: لفظة متمكنة ومقبولة وفي خلافه قلقة ونابية ومستكرهة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما! وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم، وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقًا للتالية في مؤداها". ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن مقياس الغرابة ينبغي ألا يؤخذ على إطلاقه، بل لا بد أن يقيد بإطار المدة الزمنية التي استعملت فيها الكلمة، فاللغة

تتطور من عصر إلى عصر، كما يتطور المتحدثون بها جيلًا بعد جيل، وقد تبدو الكلمة غريبة بالنسبة لنا في هذا العصر، لكنها ليست كذلك حين توضع في إطارها التاريخي، وقد تنبه لذلك المتأخرون من شراح (تلخيص المفتاح) حيث نصوا على أن الحكم على الكلمة بالغرابة حين تكون غير مأنوسة الاستعمال إنما هو في عرف الأعراب الخلص؛ وذلك لأن العبرة بعدم ظهور المعنى وعدم مأنوسية الاستعمال بالنسبة للعرب العرباء، سكان البادية لا بالنسبة للمولدين وإلا خرج كثير من قصائد العرب بل جلها عن الفصاحة، فإنها الآن لغلبة الجهل باللغة على أكثر علماء هذه الأزمان فضلًا عمن عداهم لا يعرفون مفرداتها فضلًا عن مركباتها. ولو نظرنا إلى الغرابة بالنسبة إلى استعمال الناس الذين لا يتمتعون بالحس اللغوي الشائع لدى العرب الخلص لكان جميع ما كتب من الغريب غير الفصيح، والقطع بخلافه، ولعلنا نقرأ في الشعر الجاهلي، وفي القرآن الكريم كثيرًا من الكلمات التي تحتاج لفهم معناها إلى البحث عنه في كتب اللغة، وهي مع ذلك فصيحة، لم يقل أحد بغرابتها؛ لأنها كانت كذلك في عصرها السالف، ولذلك ذهب ابن يعقوب المغربي إلى أن الحكم على الكلمة بالغرابة أمر نسبي، والكلمة حينئذ غير مخلة بالفصاحة بالنسبة إلى العرب الخلص؛ لأنها عندهم ظاهرة المعنى. ومنها غريب القرآن والحديث، فغرابتهما مستحسنة؛ لعدم إخلالهما بالفصاحة، فيكون ذلك باعتبار قوم وهم المُوَلَّدُون دون قوم، وهم الخلص. وواضح أنه يعني الغريب الحسن، وقد قسموا الوحشي إلى قسمين: غريب حسن، وغريب قبيح. فالنوع الأول فصيح لا يعاب استعماله على العرب لتداوله

وظهور معناه، ومنه غريب القرآن والحديث. والنوع الثاني غير فصيح قطعًا، ويعاب استعماله مطلقًا لعدم تداوله على لسان أهل البادية، ومثل ذلك جُحَيْش بالفريد أي المستبد برأيه، وجَفَخَت، والحَلْقَد أي سيئ الخلق، والابتشاك بمعنى الكذب، وقد يطلقون على هذا النوع الوحشي الغليظ أو المتوعر، وكتب اللغة زاخرة بكثير من غريب اللغة الذي يمجه الذوق، وينفر منه السمع. وزاد بعض البلاغيين شرطًا آخر في فصاحة المفرد، وهو خلوصه من الكراهة في السمع، هكذا ذكره الخطيب القزويني؛ بأن يتبرأ السمع من سماعه كما يتبرأ من سماع الأصوات المنكرة؛ لأن اللفظ من قبيل الأصوات، والأصوات منها ما تستلذ النفس بسماعه، ومنها ما تكره سماعه كلفظ الجرشا في قول المتنبي: كريم الجرشا شريف النسب فالسمع ينفر من سماع هذا اللفظ، والذوق يمجه ويبرأ منه، ولا سيما في مقام المدح، فالمتنبي كان يمدح سيف الدولة الحمداني، ويعدد مناقبه، ومناقب المدح يقتضي الإتيان بألفاظ عذبة سلسلة سائغة واضحة المعنى، والبعد بقدر المستطاع عن الكلمات الغريبة التي ينبو عنها الطبع، وينفر منها السمع، كما في كلمة الجرشا وغيرها. والحق أن هذا الشرط لم يأت بجديد فيما يتعلق بفصاحة المفرد؛ ذلك أن الكراهة في السمع إما أن تكون راجعة إلى تنافر الحروف في الكلمة أو إلى غرابتها أو إليهما معًا، فليست شيئًا آخر غيرهما، وكلمة الجرشا فيها تنافر خفيف بالإضافة إلى غرابتها، وهذه الألفاظ تتردد كثيرًا في شعر المتنبي، ويبدو أنه كان يتعمد الإتيان بها لاستعراض قدرته اللغوية في هذا المضمار.

فصاحة الكلام

فصاحة الكلام ونأتي الآن للحديث عن فصاحة الكلام، فما هي يا ترى؟ فصاحة الكلام هي خلوصه من تنافر الكلمات، وضعف التأليف، والتعقيد مع فصاحة كلماته؛ لأن فصاحة الكلمة شرط في فصاحة الكلام، فلو اشتمل الكلام على كلمة واحدة غير فصيحة لم يكن فصيحًا، ومن ثم لم يكن بليغًا. أما تنافر الكلمات، فهو وصف في الكلمات مجتمعة يوجب ثقلها على اللسان وعسر النطق بها، فالتنافر هنا ناشئ من اجتماع الكلمات عند النطق بها، وإن كانت كل كلمة منها سهلة النطق خالية من التنافر بين حروفها عند انفرادها. وقد قسم البلاغيون تنافر الكلمات إلى قسمين: تنافر ثقيل، وهو ما تكون الكلمات بسببه متناهية في الثقل على اللسان، وعسر النطق بها عند أدائها، وقد مثلوا له بهذا البيت الذي أنشده الجاحظ: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر فالتنافر واضح في الشطر الثاني، وقد زعموا أنه من أشعار الجن، وأنه لا يتهيأ لأحد أن ينشده ثلاث مرات فلا يتتعتع. ومن هذا النوع قول الشاعر: أَزَجٌ زَلُوج هَزْرَفِي زفارف ... هَزُف يَبز الناجيات الصوافنا الناجيات الصوافنا يعني: الخيل السريعة القوية، وقول غيره: سلسلسل الريق لم لم يرو حر ظما ... بل بلبل القلب لما زاده ألم

وفي هذه الأمثلة نلاحظ التنافر الشديد بين الكلمات وعدم التلاؤم، فهي تبدو عند النطق بها متعادية متجافية، لا تآلف بينها، ولا انسجام. النوع الثاني: تنافر خفيف؛ أي أن الثقل فيه أخف وطأة من سابقه، وقد مثلوا له بقول أبي تمام يمدح موسى بن إبراهيم: كريم متى أمدحه أمدحه والورى معي ... وإذا ما لمته لمته وحدي يقول: إنه كريم إذا مدحته شاركني الناس جميعًا في مدحه؛ لأنه جدير بهذا المدح لطيب معدنه ونبل أخلاقه، وإذا لمته لا يوافقني أحد على هذا اللوم؛ لأنه لا يستحق عتابا، ولا لومًا في نظرهم. والشاهد في قوله: أمدحه مع التكرار، فإن فيه ثقلًا خفيفًا لما بين الحاء والهاء من التنافر، وهما من حروف الحلق، فإذا تكررت الكلمة تضاعف ذلك الثقل، وحصل التنافر المخل للفصاحة. أما مجرد الجمع بين الحاء والهاء في أمدحه، فإنه لا يخل بفصاحة الكلام، كيف وقد وقع مثله في القرآن؟! نحو قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} (ق: 40) فكلمة {فَسَبِّحْهُ} اجتمع فيه الحاء مع الهاء، والقول باشتمال القرآن على كلام غير فصيح مما لا يجترئ عليه مؤمن، فالثقل هنا ناشئ من تكرار الفعل مع الجمع بين الحاء والهاء. ومنه أيضًا قول الشاعر: لو كنت كنت كتمت السر كنت كما كنا ... نكون ولكن ذاك لم يكن فتكرار الكاف والنون في كلمات هذا البيت أوجد ثقلًا، وإن كان خفيفًا إلى حد ما عن النوع الأول، ومنه قول الآخر: وازور من كان له زائرا ... وعافٍ عافَ العرف عرفانه

فأنت تشعر بالثقل الناشئ من توالي الكلمات على نسق معين في الشطر الثاني، وإن كانت كل كلمة على انفرادها فصيحة خالية من الثقل. هذا والفيصل في الحكم على الكلام بالتنافر وعدمه هو الذوق السليم. ثاني العيوب المخلة بفصاحة الكلام: ضعف التأليف، وهو أن يكون تأليف الكلام جاريًا على خلاف المشهور من قواعد النحو العربي عند جمهور النحاة، فإذا ورد الكلام مخالفًا لقاعدة نحوية مشهورة لدى الجمهور، فهو خارج عن الفصاحة، وإن كان صحيحًا عند بعض النحويين، أما مخالفة الكلام للمجمع عليه من القواعد فخطأ لا ضعف تأليف، وهذا الخطأ في التأليف يبعد الكلام عن الفصاحة من باب أولى، فمن صور ضعف التأليف عود الضمير على متأخر لفظًا ورتبة، قول حسان بن ثابت: فلو أن مجدًا أخلد الدهر واحدًا ... من الناس أبقى مجده الدهر مطعما فالضمير في مجده يعود على مطعم، وهو مفعول فمرتبته التأخير عن فاعله وبذلك عاد الضمير على متأخر لفظًا ورتبة، وهذا خروج بالكلام عن سنن المشهور من القواعد التي ارتضاها جمهور النحاة. ومنه قول الآخر: جزى ربه عني عدي بن حاتم ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل فالضمير في ربه يعود على عدي، وهو مفعول، وذلك ممتنع عند الجمهور، فلا يصح أن يتصل بالفاعل ضمير يعود على المفعول به نحو: ضرب غلامه زيدًا، حتى لا يعود الضمير على متأخر لفظًا ورتبة، أما عود الضمير على متأخر لفظًا دون رتبة فهو جائز، نحو قولك: ضرب غلامه زيد؛ لأن "زيد" فاعل فرتبته

التقديم، وإن تأخر لفظًا. ومن ضعف التأليف أيضًا وضع الضمير المتصل موضع الضمير المنفصل بعد إلا في قول الشاعر: وما علينا إذا ما كنت جارتنا ... ألا يجاورنا إلاك ديار وقول الآخر: ليس إلاك يا علي همام ... سيفه دون عرضه مسلول فقد وقع الضمير المتصل بعد إلا في قوله: "إلاك"، وهذا مخالف لما ارتضاه الجمهور. ومنه أيضًا: نصب المضارع بدون ناصب كما في قول الشاعر: قبيح من الإنسان ينسى عيوبه ... ويذكر عيبًا في أخيه قد اختفى وكقول طرفة بن العبد: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي فقد نصب الفعل "ينسى" والفعل "يذكر" في البيت الأول بدون ناصب، كما نصب طرفة الفعل "أحضر" بدون أداة نصب أيضًا، وليس هذا من المواضع التي تعمل فيها أن مضمرة جوازًا أو وجوبًا، وعلى هذا فإن حذف أداة النصب مع بقاء عملها في هذين البيتين مخالف لرأي جمهور النحاة، فهو ضعف تأليف، يخل بفصاحة الكلام، ومن ثم ببلاغته. ثالث الأمور المخلة بفصاحة الكلام: التعقيد، وهو أن يكون الكلام غير واضح الدلالة على المعنى المراد به. وهو نوعان؛ الأول: التعقيد اللفظي، وهو أن يكون الكلام غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد به؛ لخلل في نظمه وتركيبه لعدم ترتيب الألفاظ على وفق ترتيب المعاني؛ بسبب تقديم أو تأخير أو فصل بأجنبي بين موصوف وصفته أو بدل ومبدل منه أو مبتدأ وخبر، ونحو ذلك مما يعقد اللفظ،

ويجهد السامع في فهم المراد من الكلام. ومثاله قول الفرزدق يمدح إبراهيم بن هشام المخزومي، خال هشام بن عبد الملك بن مروان، يقول: وما مثله في الناس إلا مملكًا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه يريد أن يقول: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكًا؛ يعني ملكًا، أبو أمه أبوه، فالمعنى الذي أراد الفرزدق أن يثبته للممدوح بسيط جدًّا، وهو أن هذا الممدوح لا يشبهه أحد على الإطلاق في فضائله إلا ابن أخته هشام بن عبد الملك، وهو بذلك يمدح الاثنين معًا، ولكن الفرزدق تعسف في القول حين أسرف في ارتكاب هذه الضرورات التي أدت بالتالي إلى خفاء المعنى المراد، وذلك لعدم ترتيب الألفاظ في الذكر على موجب ترتيب المعاني في النفس. ومع أن كلًّا من هذه المخالفات في نظم الكلام جائز باتفاق النحويين إلا أن اجتماعها على هذا النحو قد أورث الكلام تعقيدًا بحيث لا يفهم مغزاه من لا يعلم قصته، فقد فصل الشاعر بين المبتدأ "أبو أمه" والخبر "أبوه" بأجنبي عنهما وهو "حي" كما فصل بين الموصوف حي وصفته يقاربه بأجنبي، وهو "أبوه". كذلك فصل بين البدل "حي" والمبدل منه مثله بكلام كثير، وقدم المستثنى "مملكًا" على المستثنى منه "حي" فازداد البيت تعقيدًا حتى ضرب به المثل في تعسف اللفظ، كما يقول عبد القاهر الجرجاني في (أسرار البلاغة). ولا يكاد يخلو كتاب من كتب البلاغة من ذكر هذا البيت شاهدًا للتعقيد اللفظي، وأيًّا ما قيل في البيت، فالبيت غير فصيح لما فيه من التعقيد اللفظي، ومن أمثلة هذا التعقيد اللفظي قول الفرزدق أيضًا: إلى ملكٍ ما أمه من محارب ... أبوه ولا كانت كليب تصاهره

أراد: إلى ملك أبوه ما أمه من محارب، فقدم وأخر حتى جعل المعنى مبهمًا والنظم مختلًّا، ومنه كذلك قول المتنبي: جفخت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل والمراد: جفخت بهم شيم دلائل على الحسب الأغر، وهم لا يجفخون بها، فقدم وأخر، وفصل بين المتلازمين حتى أورث البيت تعقيدًا لفظيًّا، ناهيك عن الغرابة في كلمة جفخت، وكلمة يجفخون، ولو قال: فخرت ويفخرون لأصبح بمنأى عن الغرابة. ومن ذلك أيضًا قول آخر: أنى يكون أبا البرية آدم ... وأبوك والثقلان أنت محمد وأصله: أنى يكون آدم أبا البرية، وأبوك محمد، وأنت الثقلان؛ أي الجن والإنس. ومنه كذلك قول الآخر يصف دارا بالية: فأصبحت بعد خط بهجتها ... كأن قفرًا رسومها قلما يريد: فأصبحت بعد بهجتها قفرًا، كأن قلمًا خط رسومها، فاختل نظمه وتعقد تركيبه، وربما ظن بعض الناس أن ضعف التأليف يغني عن التعقيد اللفظي، وهذا غير صحيح لأن التعقيد اللفظي يكون باجتماع أمور تؤدي إلى استغلاق الكلام وصعوبة الوصول إلى معناه، وإن كانت جائزة باتفاق النحاة، كالتقديم والتأخير والحذف والإضمار ونحو ذلك. فالتعقيد اللفظي غير ضعف التأليف، لكنها قد يجتمعان في مثال واحد، كما في بيت الفرزدق: إلى ملك ... إلى آخر البيت، وينفرد ضعف التأليف في مثل: ضرب غلامه زيدًا، وفي مثل: جاءني أحمد بتنوين أحمد، وينفرد التعقيد اللفظي في مثل إلا عمرًا الناسَ ضاربٌ محمد، وهذا جائز نحويًّا، وأصله محمد ضارب الناسَ إلا عمرًا؛ أي أن بينهما العموم والخصوص الوجهي؛ بحيث يجتمعان وينفرد كل منهما على حدة.

الكلام الفصيح لا بد أن يجيء ترتيب ألفاظه في النطق على حسب ترتيب المعاني في الفكر، فلا يشتمل على ما يخالف الأصل من تقديم أو تأخير أو حذف أو إضمار إلا إذا قامت قرينة تدل عليه، وبدون القرينة يكون الكلام مبهمًا معقدًا بعيدًا عن الفصاحة. الأمر الثاني: التعقيد المعنوي: وهو أن يكون الكلام غير واضح الدلالة على المعنى المراد به؛ لخلل واقع في انتقال الذهن من المعنى الأول المفهوم بحسب اللغة إلى المعنى الثاني المقصود، فلا يستطيع السامع أن يقف على المراد منه، كقول العباس بن الأحنف: سأطلب بُعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا يقول الشاعر: سأوطن نفسي على تحمل الفراق، ومقاساة الأحزان والأشواق؛ لأحظى من وراء ذلك بوصل يدوم، ومسرة لا تزول، فإن الصبر مفتاح الفرج، ومع كل عسر يسر، ولكل بداية نهاية. وقد اشتمل الشطر الثاني في هذا البيت على كنايتين، الأولى في قوله: "وتسكب عيناي الدموع" حيث كنى بسكب الدموع عن الحزن الشديد نتيجة الفراق، وقد أصاب في هذا التخريج لأن البكاء عنوان الحزن، ودليل عليه كقولك: أبكاني وأضحكني. أي ساءني وسرني. ومنه قول حطان بن المعلى، وهو أحد شعراء الحماسة: أبكاني الدهر ويا ربما ... أضحكني الدهر بما يرضى والكناية الثانية في قوله: "لتجمدا" حيث كنى بجمود العين عن السرور بلقاء الأحبة والفرح بالوصال، وقد أخطأ في هذا؛ لأن الجمود هو خلو العين من الدموع في حال إرادة البكاء منها، لا بد من هذا القيد، فلا يكون كناية عن السرور، وإنما هو كناية عن بخل العين بالدموع وقت إرادة البكاء، والدليل على ذلك وروده في الشعر كثيرًا بهذا المعنى، كقول الشاعر: ألا إن عينًا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود وكقول الخنساء: أعيني جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى

فالجمود في كلا البيتين كناية عن بخل العين بالدمع وقت الحزن والأسى، فهي عين جمود، وكذلك قول أهل اللغة: سنة جماد يعني لا مطر فيها، وناقة جماد: لا لبن فيها، ومعنى هذا أن السنة بخيلة بالقطر، والناقة لا تسخو بالدر، كذلك لو كان جمود العين يصلح أن يكنى به عن السرور لجاز أن يدعى به للرجل، فيقال: لا زالت عينك جامدة، كما يقال: لا أبكى الله عينك. وذلك مما لا شك في بطلانه، فقد اتضح لك بعد كل هذا أن التعقيد المعنوي في قول العباس بن الأحنف كامن في كلمة لتجمدا، وذلك بسبب خفاء الانتقال من المعنى اللغوي إلى المعنى المراد أو المعنى الكنائي الذي يريده الشاعر أي السرور بلقاء الأحبة، مع أن جمود العين في الاستعمال العربي الشائع إنما يكون كناية عن بخلها بالدمع حال إرادته منه، وهذا مما عقد الكلام وأبعده عن ميدان الفصاحة. ومن أمثلة التعقيد المعنوي أن تقول: نشر الملك ألسنته في المدينة أي وأنت تريد جواسيسه؛ إذ ليس من المعهود استعمال اللسان بمعنى الجاسوس؛ لأنه لا تلازم بين اللسان ومعنى الجاسوسية، وإنما المعهود استعمال اللسان بمعنى اللغة على سبيل المجاز المرسل، الذي علاقته الآلية؛ لأن اللسان آلة اللغة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (إبراهيم: 4) أي متكلمًا بلغة قومه، فاستعمال اللسان في معنى الجاسوس غير مفهوم لخفاء اللزوم بين المعنيين، وهذا تعقيد معنوي يسلب الكلام فصاحته. ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى: ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم فقد استعمل الظلم في معنى الدفاع عن النفس، والظلم تسليط الأذى على الناس لا دفع الأذى عن النفس فلا علاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى الكنائي الذي أراده الشاعر، بذلك لا ينتقل الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني

بسهولة لخفاء اللزوم بين المعنيين، ففي البيت إذن تعقيد معنوي، وإن كان من الممكن أن يجعل هذا التعبير من قبيل المشاكلة، كما في قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (الشورى: 40) بذلك يكون فصيحًا. وقد أضاف بعض البلاغيين إلى ما سبق في فصاحة الكلام خلوه من كثرة التكرار وتتابع الإضافات، والحق أنهما لا يخلان بفصاحة الكلام إلا إذا ترتب عليها ثقل في النطق، وكراهة في السمع، وبذلك يدخلان في تنافر الكلمات، وقد سبق الحديث عنه، فمن كثرة التكرار الذي يحدث ثقلًا في الكلام قول المتنبي يصف فرسًا: وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... سبوح لها منها عليها شواهد ولعلك تلاحظ الثقل الناتج عن كثرة الضمائر، وتكرار أدوات الربط في: لها منها عليها، ومن تتابع الإضافات الذي يخل بالفصاحة قول ابن بابَك: حمامة جرعى حومة الجندل اسجعي ... فأنت بمرأى من سعاد ومسمع ففيه إضافة حمامة إلى جرعى، وإضافة جرعى إلى حومة، وإضافة حومة إلى الجندل؛ بذلك ما فيه من الثقل وصعوبة النطق بهذه الإضافات المتتابعة، التي ينبو عنها الذوق، أما إذا سلم كل منهما من الثقل على لسان، والكراهة في السمع، فلا إخلال بالفصاحة لورودهما بالكلام، وقد وقع شيء من ذلك في التنزيل في قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (الشمس: 7، 8) وقوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} (مريم: 2) كما جاء في الحديث أيضًا في قوله -صلى الله عليه وسلم: ((الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)) فالأذن لا تشعر بثقل الكلمات، واللسان لا يجد صعوبة في النطق بها، على الرغم من كثرة التكرار، الأمر الذي يؤكد أن هذا أمر مرجعه إلى

فصاحة المتكلم.

الذوق. ومما حسن فيه ذلك من أقوال الشعراء ما جاء في قول ابن المعتز، وقد ساقه الإمام عبد القاهر، يقول: وظلت تدير الراح أيدي جآذر ... عتاق دنانير الوجوه ملاح وقول الخالدي يصف غلامًا له: ويعرف الشعر مثل معرفتي ... وهو على أن يزيد مجتهد وصيرفي القريض وزّان ديـ ... ـنار المعاني الدقاق منتقد فقد تتابعت الإضافات في البيت الأول في قوله: "عتاق دنانير الوجوه". وفي البيت الأخير: "وزان دينار المعاني"، مع السلامة من الثقل والاستكراه؛ لذلك جاءت مليحة لطيفة فصيحة. فصاحة المتكلم وبعد أن تحدثنا عن مصطلحي فصاحة الكلمة، فصاحة الكلام، بقي أن نعرج على فصاحة المتكلم: وقد ذكر البلاغيون أن فصاحة المتكلم -وعلى رأس هؤلاء الخطيب القزويني- ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح، فالملكة كيفية راسخة في النفس، يستطيع بها المتكلم أن يعبر عن مقصوده متى شاء في أي معنى من المعاني، كالمدح والذم والفخر والرثاء والنسيب، وغيرها بلفظ فصيح. فقد استطاع أن يعبر عن مقصوده بلفظ فصيح في غرض واحد من الأغراض السابقة دون غيره لم يكن فصيحًا؛ لعدم رسوخ تلك الصفة في نفسه، فالمدار على الاقتدار أي أن تكون لديه القدرة على التعبير الفصيح، وإن لم ينطق بالفعل؛ ليشمل حالتي النطق

والسكوت، فهو فصيح وإن لم ينطق؛ لأن لديه القدرة على التعبير عن أفكاره ومشاعره في أي غرض بلفظ فصيح. وهذه الملكة موهبة تصقلها القراءة، وحفظ القرآن، والتدرب على التعبير عن الأفكار والعواطف تعبيرًا جيدًا، يرتفع عن مستوى الكلام العادي، ويرقى إلى مكانة رفيعة، وحينئذ يصبح هذا الأسلوب عادة له، وطبيعة عنده، لا يتخلف في حال من الأحوال، ولا يتأبى عليه في غرض من الأغراض، فيكون آنذاك جديرًا بهذا الوصف، فيقال: إنه متكلم فصيح. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 3 ما يعنيه مصطلح البلاغة - علم المعاني "أحوال الإسناد الخبري".

الدرس: 3 ما يعنيه مصطلح البلاغة - علم المعاني "أحوال الإسناد الخبري".

ما يعنيه مصطلح البلاغة، سواء وقعت وصفا للكلام أو المتكلم

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (ما يعنيه مصطلح البلاغة - علم المعاني "أحوال الإسناد الخبري") ما يعنيه مصطلح البلاغة، سواء وقعت وصفًا للكلام أو المتكلم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد خلق الله أجمعين، سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن سلك طريقه إلى يوم الدين، وبعد: فنقول -وبالله التوفيق-: إن البلاغة تختلف معناها باختلاف موصوفها، وهي تقع صفة للكلام والمتكلم، ولا يوصف بها المفرد، يقال: كلام بليغ، ومتكلم بليغ، ولا يقال: كلمة بليغة. وإن قيل فيها: فصيحة. ولقد حظيت البلاغة العربية باهتمام القدماء من النقاد والأدباء والبلاغيين، فأدلى هؤلاء بآرائهم في معنى البلاغة على نحو ما أورده الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين). ومن هذه التعريفات أن البلاغة معرفة الفصل من الوصل، وما قيل من أنها الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خَطَل. والخطل في اللغة: الكلام الفاسد الكثير المضطرب. ومن أنها تصحيح الأقسام واختيار الكلام، ومن أنها وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة، ومن أنها قول تضطر العقول إلى فهمه بأيسر العبارة، ومن أنها إجاعة اللفظ وإشباع المعنى، ومن أنها حسن العبارة مع صحة الدلالة، ومن أنها دلالة أول الكلام على آخره، وارتباط آخره بأوله، ومن أنها إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ. وهذه الأقوال في تعريف البلاغة ليست تعريفات جامعة مانعة، بل هي أوصاف للبلاغة، وكل تعريف منها يتناول جانبًا من جوانب البلاغة ومقصدًا من مقاصدها، وهدفًا من أهدافها، وليس فيها -على كثرتها- تعريف يمكن الاقتصار عليه والاكتفاء به في توضيح معنى البلاغة، ولعل أقرب التعريفات إلى تعريف المتأخرين للبلاغة هو قول أبي هلال العسكري: "البلاغة كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع، فتمكنه في نفسه كتمكنه في نفسك، مع صورة مقبولة ومعرض حسن". هكذا في (الصناعتين).

فهذا التعريف مع وضوحه يشير إلى غاية البلاغة، والأثر الذي تحدثه في نفس القارئ والسامع، كما يركز على حسن الصورة فليست البلاغة إفهام المعنى فقط؛ لأن العيي يفعل ذلك، وإنما البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ، وبذلك يتفاضل القائلون، ويعلو بعض الكلام على بعضه في درجات البلاغة. وقد عرف المتأخرون البلاغة بقولهم: هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته. كذا في (الإيضاح) للقزويني. ولكي نفهم هذا التعريف لا بد من الوقوف على معنى مصطلحي الحال ومقتضى الحال حتى يتسنى لنا إدراك معنى المطابقة لمقتضى الحال، وهو التعريف المأثور للبلاغة، والذي ارتضاه المتأخرون من علماء البلاغة وتناقلوه جيلًا بعد جيل حتى وصل إلينا كما وضعه الخطيب القزويني في كتابه (الإيضاح). فالحال هو الأمر الداعي للمتكلم إلى أن يورد في كلامه خصوصية ما، ويسمى مقامًا أيضًا، فالحال والمقام متقاربا المفهوم، والتغاير بينهما اعتباري، فإن الأمر الداعي مقام باعتبار كونه محلًّا لوقوع الكلام فيه، وحال باعتبار كونه زمانًا بوقوع الكلام فيه. وثمة فرق آخر هو أن المقام يضاف إلى المقتضى فيقال: مقام التأكيد، ومقام التعريف، ومقام الحذف، ومقام الذكر. أما الحال فإنه يضاف إلى المقتضي -بالكسر- فيقال: حال الإنكار وحال خلو الذهن وحال الشك وحال الذكاء وغير ذلك. ومقتضى الحال إذن هو تلك الخصوصية التي استدعاها المقام، ويسمى أيضًا بالاعتبار المناسب. ومطابقة الكلام لمقتضى الحال هو مجيء الكلام مشتملًا على تلك الخصوصية التي اقتضاها الحال. وعلى سبيل المثال، كون المخاطب منكرًا للحكم هذا حال، يقتضي تأكيد الكلام لدفع الإنكار، فالإنكار حال، والتأكيد

هو مقتضى الحال، ومجيء الكلام مؤكدًا هو المطابقة لمقتضى الحال، وهكذا إن اقتضى الحال التأكيد كان الكلام مؤكدًا، وإن اقتضى الإطلاق كان عاريًا عن التوكيد، وإن اقتضى حذف المسند إليه حذف، وإن اقتضى ذكره ذكر. إلى غير ذلك من الأحوال والاعتبارات المعروفة في علم المعاني، والتي بها يتفاضل الكلام في ميزان البلاغة. فلا بد أن يكون الكلام مطابقًا لأحوال المخاطبين وعلى قدر عقولهم ليؤثر فيهم، ويؤدي غايته المنشودة، وأحوال المخاطبين متفاوتة، ودرجاتهم في الإدراك مختلفة، ولذلك كانت مقامات الكلام متفاوتة تبعًا لتفاوت أحوال المخاطبين، ولكل مقام مقال، كما هو معلوم، فمقام التنكير -كما ذكر الخطيب في (الإيضاح) - يباين مقام التعريف، مقام الذكر يباين مقام الحذف، ومقام القصر يباين مقام خلافه، ومقام الفصل يباين مقام الوصل، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة، وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي، ولكل كلمة مع صاحبتها مقام، وارتفاع شأن الكلام في القبول وسمو منزلته في الحسن لمطابقته لمقتضى الحال أو لاعتبار المناسب، وانحطاطه بعدم مطابقته له، وذلك كالإيجاز في مقام يقتضي الإطناب، أو الفصل حيث يجب الوصل، أو التأكيد لخالي الذهن الذي لم ينزل منزلة السائل المتردد وغير ذلك. والقرآن الكريم هو خير ما روعي فيه مقتضيات الأحوال، ولعلك تلحظ اختلاف أسلوب النظم الكريم تبعًا لاختلاف المواقف والأحوال بصورة واضحة، فهو حين يواجه المشركين المعاندين؛ يلجأ إلى الأسلوب القوي الحاسم؛ ليثير الانفعال السريع العنيف، وكثيرًا ما يتدفق الأسلوب في جمل قصيرة سريعة تهز أوتار المشاعر، وتحرك كامن العواطف، مثلًا قول الله تعالى في سورة الحاقة، وهي

سورة مكية: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا * فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} (الحاقة: 1 - 8). إن الآيات الكريمة كما ذكر الدكتور إبراهيم التلب في كتابه (دراسات في علم المعاني) تتحدث عن مصير المكذبين بيوم الدين، وما ينتظرهم من العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، تقريرًا لسنن الله الكونية في إهلاك أهل الكفر والعصيان، وانتصار أهل الهدى والإيمان لأن الجزاء من جنس العمل، فأسلوب القرآن في هذا الموقف مطابق لمقتضيات أحوال السامعين من أرباب الضلال وشياطين الكفر؛ حيث اتسم بالقوة والإثارة، والسرعة في الإيقاع مع الحزم، مما أكسبه دقة التعبير وقوة التأثير. أما إذا اقتضى المقام أسلوبًا هادئًا في مجال الإقناع والدعوة إلى التأمل والتدبر، فإننا نرى أسلوب الذكر الحكيم يتسم بالهدوء والرفق والإثارة في سبيل تحقيق الغرض من الآيات الكريمة. واقرأ معي مثلًا قول الحق -تبارك وتعالى- في سورة الرعد، وهي مدنية: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد: 2 - 4).

فمن الواضح أن هذه الآيات تسوق الدلائل المتعددة على قدرة الله تعالى بغية الوصول إلى أن الله قادر على كل شيء، وهو لذلك جدير بالعبادة وحده، وقد أوردت الآيات هذه الدلائل في أسلوب هادئ النبرات، يخاطب العقل والعاطفة معًا، ويشف عن معناه، كما يشف الروض عن عبيره؛ ولذلك جاء مقنعًا للذين يتفكرون ويعقلون. وما اختلاف أسلوب السور المكية عن السور المدنية إلا صدى لاختلاف طبيعة الموقف في مكة عنه في المدينة، فالإسلام في مكة كان يواجه أعتى قوى الشرك في محاولة مضنية لاقتلاع جذور الباطل بشتى صوره في تلك البيئة، ليرسي دعائم التوحيد على أساس سليم؛ لذلك اتسم أسلوبه في مكة بالقوة والحزم في مواجهة المشركين. أما في المدينة، فإن الوضع قد اختلف حيث توطدت أركان الإسلام، وأصبحت له دولة وساد جو الاستقرار الذي يسمح بتنظيم العلاقات الاجتماعية والسلوكية بين أفراد المجتمع الجديد. ولذلك أخذ القرآن يرشد المؤمنين إلى آداب السلوك، ويوجههم إلى الخير والصلاح، وذلك وضع يستدعي الأسلوب الهادئ المقنع الذي يصل إلى أغوار النفوس؛ ولذلك كان القرآن مثلًا أعلى للبلاغة العربية في أرقى مظاهرها، وأروع سماتها. وبذلك يتبين لنا أن الكلام الذي يوصف بالبلاغة هو الذي يشتمل على خصائص في الصياغة وأوضاع في النظم، بها يكون الكلام وافيًا ومطابقًا للمقام الذي ورد فيه، فلا بد من مراعاة هذه الأحوال والمقتضيات، والملاءمة بينهما حتى يرتقي الكلام، ويزداد حسنًا وجمالًا، ويكتسي رونقًا وبهاء، ويكون له تأثيره الفعال في نفوس المخاطبين، أما مجرد التعبير عن المعنى بعبارات تليق به دون مراعاة للخواص والمزايا التي يقع بها التفاضل في الكلام الأدبي الرفيع، فليس من البلاغة في شيء؛ لأن الغرض منه مجرد تأدية أصل المعنى بعبارات تدل عليه، دون أن تترك أي أثر في نفوس السامعين. والمعروف أن الأدب نوع من التواصل

الفكري؛ يهدف إلى نقل الإحساس بالجمال الفني إلى الآخرين، وإحداث جو من المشاركة الوجدانية بين المنشئ والمتلقي، وبقدر تأثيره في نفوس السامعين وإمتاعه لعواطفهم، وإقناعه لعقولهم يكون نجاحه في تحقيق غرضه. بقي أن تعرف أن بلاغة الكلام لا بد فيها من فصاحة كلماته، وفصاحته على وجه العموم، وذلك بأن تسلم كلماته من العيوب المخلة بفصاحته، وهي: تنافر الحروف، ومخالفة القياس اللغوي والغرابة، كما لا بد أن يسلم الكلام أيضًا في مجموعه من تنافر الكلمات، وضعف التأليف، والتعقيد اللفظي والمعنوي، وبذلك يكون الكلام بليغًا لمطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته؛ أي باشتماله على الأمرين معًا، وبذلك يخرج كل كلام غير فصيح من البلاغة، وإن طابق مقتضى الحال، وكل بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغًا لجواز أن يكون كلام فصيح غير مطابق لمقتضى الحال. ومعنى هذا أن الفصاحة شرط في البلاغة، فالفصاحة أعم، والبلاغة أخص، ومعلوم أن ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم من غير عكس، كما أن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، فإذا انتفت فصاحة الكلام انتفت بلاغته تبعًا لذلك، فثبت أن كل بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغًا. ومطابقة الكلام لمقتضى الحال هو ما يسميه عبد القاهر في (الدلائل) النظم؛ وهو توخي معاني النحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام. والمقصود بمعاني النحو الخصوصيات التي هي مقتضى الحال من التقديم والتأخير والتعريف والتنكير والحذف والذكر، وغير ذلك. إن النظم أو العلاقات بين الكلمات في التراكيب هي مناط بلاغة الكلام عند عبد القاهر، وهو سر الحسن والروعة في الكلام؛ لأن جمال الصياغة هو محك القدرة ودليل البراعة، وأمارة الحذق والمهارة، وهو الذي يتفاضل فيه الفحول، وتختلف به أقدار الكلام؛

مراتب البلاغة، وأهمية تربية الملكة على التكلم بالكلام البليغ.

ولذلك اهتم به عبد القاهر، وأوسعه شرحًا وتفصيلًا في (دلائل الإعجاز) لأنه السبيل إلى فهم بلاغة القرآن الكريم، والوقوف على أسرار إعجازه، وخروجه عن طوق البشر. مراتب البلاغة، وأهمية تربية الملكة على التكلم بالكلام البليغ ولو أخذنا في الاعتبار مراتب البلاغة في الكلام لوجدنا أن درجات الكلام البليغ تتفاوت في الحسن، ويعلو بعضه على بعض تبعًا لاستيفاء مقومات البلاغة من مراعاة الأحوال والمقتضيات التي بها يرتقي الكلام ويزداد حسنًا وجمالًا، ويعلو قدره في ميزان البلاغة؛ ولذلك قسم البلاغيون البلاغة إلى ثلاث طبقات: عليا؛ هي بلاغة القرآن الكريم. ووسطى. ودنيا تتفاوت فيها بلاغة البلغاء من البشر. يقول الخطيب القزويني في (الإيضاح): "وللبلاغة طرفان، أعلى إليه تنتهي، وهو حد الإعجاز وما يقرب منه، ويتمثل في القرآن الكريم بألفاظه ومعانيه ونظمه ومطابقته لمقتضيات الأحوال المختلفة مع دقة التعبير وقوة التأثير". ثم يقول: "وأسفل منه تبتدئ، وهو ما إذا غُير الكلام عنه إلى ما هو دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات، وإن كان صحيح الإعراب، وبين هذين الطرفين مراتب كثيرة متفاوتة في درجاتها، يعلو بعضها على بعض بحسب اختلاف المقامات ومراعاة الخصائص والاعتبارات المناسبة، والبعد عن أسباب الإخلال بالفصاحة". ويتبع البلاغة وجوه كثيرة تورث الكلام حسنًا وقبولًا، وتكسوه بهاء ونضارة، وهي المحسنات اللفظية والمعنوية، والتي أطلقوا عليها اسم البديع.

بلاغة المتكلم: ذلك أن المتكلم البليغ هو الذي يستطيع التعبير عن معانيه بعبارات صحيحة ملائمة للموضوع الذي تقال فيه ومطابقة لأحوال المخاطبين، وقد عرفها البلاغيون بقولهم: هي ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ. والملكة: كيفية راسخة في النفس، يستطيع بها المتكلم أن يعبر عن مراده تعبيرًا بليغًا في أي معنى من المعاني: كالمدح والفخر، والهجاء والغزل والرثاء، وغير ذلك من الأغراض والمقاصد، فهو بليغ، وإن لم ينطق بالفعل؛ لأن لديه القدرة على صوغ الكلام البليغ. وهذه الملكة تتكون بالمران، وتنمية الموهبة الفطرية في إدراك الفروق بين الأساليب المختلفة، ولا بد من الاطلاع على روائع التراث الأدبي، والتأمل في عيون الشعر العربي للوقوف على مظاهر الحسن فيها، والتعرف على الأسباب التي من أجلها نالت هذه المنزلة وسمت إلى تلك المكانة، وعندئذ يصبح المتكلم من الخاصة العارفين بأساليب الكلام العربي ووجوه اعتباراته. ولقد عرض الخطيب وشراح تلخيصه لمسألة: كيفية تربية الملكة لدى الناشئ. فذكر ضمن ما يجب أن يكون على ذُكر من طالب هذا العلم قول السكاكي: "ليس من الواجب في صناعة، وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل أن يكون الدخيل فيها كالناشئ عليها في استفادة الذوق منها، فلا على الدخيل في صناعة علم المعاني أن يقلد صاحبه في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق". وهذا الكلام لم يعجب بعض المحققين؛ إذ يرى هذا البعض أنه خيرًا من هذا ألا يقلد الناشئ إلى أن يتربى له الذوق، فيذوق بنفسه؛ لأن التقليد مذموم في كل علم. والحق أن هذا ما أشار

إليه الشيخ عبد القاهر في (دلائل الإعجاز) حيث ذكر ما مفاده: أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعًا من السامع، ولا يجد لديه قبولًا حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة وممن تحدثه نفسه بأنّ لما تومئ إليه من الحسن أصلًا، فيختلف الحال عليه عند تأمل الكلام، فيجد الأريحية تارة، ويعرى منها أخرى، وإذا أعجبته تعجب، وإذا نبهته لموضع المزية انتبه. فأما من كان الحالان عنده على سواء، وكان لا يتفقد من أمر النظم إلا الصحة المطلقة وإلا إعرابًا ظاهرًا، فليكن عندك بمنزلة من عدم الطبع الذي يدرك به وزن الشعر، ويميز به مزاحفه من سالمه في أنك لا تتصدى لتعريفه لعلمك أنه قد عدم الأداة التي بها يعرف. يقول: "واعلم أن هؤلاء، وإن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب، فإن من الآفة أيضًا من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلة في شيء ما لم تعرف المزية فيه، ولا يعلم إلا أن له موقعًا من النفس وحظًّا من القبول، فهذا بتوانيه في حكم القائل الأول، واعلم أنه ليس إذا لم يكن معرفة الكل وجب ترك النظر في الكل، ولأن تعرف العلة في بعض الصور فتجعله شاهدًا في غيره أحرى من أن تسد باب المعرفة على نفسك، وتعودها الكسل والهوينى. قال الجاحظ: وكلام كثير جرى على ألسنة الناس، وله مضرة شديدة، وثمرة مرة، فمن أضر ذلك قولهم: لم يدع الأول للآخر شيئًا، فلو أن علماء كل عصر مذ حرت هذه الكلمة في أسماعهم تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمن قبلهم لرأيت العلم مختلًّا". كذا ذكره الخطيب القزويني بالتفصيل في كتابه (الإيضاح).

وخلاصة القول أنه يجب أن يكون المتكلم عارفًا بقواعد البلاغة التي تورث الكلام حسنًا وبهاء، وإلا جاز حمل الكلام الصادر منه على غير جهات الحسن، كأن يحمل كلامه المؤكد مثلًا على غير نفي الشك ورد الإنكار؛ لأنه لم يقصد إلى شيء من ذلك، فلا قيمة لكلامه في ميزان البلاغة. ولقد ظهر مما سبق أن البلاغة في الكلام مرجعها إلى أمرين؛ أحدهما: الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وذلك إنما يتحقق بمراعاة مقتضى الحال. وثانيهما: تمييز الفصيح من غيره على مستوى الكلمة المفردة والتركيب كله، وذلك بمعرفة الأمور المخلة بالفصاحة: من التنافر والغرابة، ومخالفة الوضع اللغوي، وضعف التأليف والتعقيد، والبعد عن هذه العيوب حتى تتحقق الفصاحة التي هي شرط في البلاغة. وتمييز الفصيح من غيره منه ما ترجع معرفته إلى علم متن اللغة، كالغرابة، أو إلى علم الصرف والوضع اللغوي كمخالفة القياس، أو إلى علم النحو كضعف التأليف والتعقيد اللفظي، أو يدرك بالذوق السليم والحس الصادق، وهو التنافر، فلم يبق إلا التعقيد المعنوي الذي يحترز عنه بعلم البيان. أما الخطأ في تأدية المعنى المراد، فالاحتراز عنه يكون بعلم المعاني، وأما تحسين الكلام وتزيينه بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال والفصاحة، فهذا هو موضوع علم البديع. وبذلك انقسمت البلاغة عند المتأخرين إلى هذه العلوم الثلاثة: علم المعاني، وهو ما يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وعلم البيان، وهو ما يحترز به عن التعقيد المعنوي، وعلم البديع، وهو ما يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال والفصاحة.

المراد بعلم المعاني، وما يعنى به.

المراد بعلم المعاني، وما يعنى به وعادة ما يبدأ البلاغيون الحديث عن البلاغة بعلم المعاني، فما المراد به إذن؟ علم المعاني: هو علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال، واللفظ هنا يشمل: المفرد والمركب، والمراد بأحوال اللفظ هنا ما يشمل أحوال الجملة وأحوال أجزائها، فأحوال الجملة: كالفصل والوصل والقصر والإيجاز والإطناب والمساواة، وأحوال أجزائها كأحوال المسند إليه، والمسند ومتعلقات الفعل، وهي الأمور التي تعرض لها من التقديم والتأخير والحذف والذكر والتعريف والتنكير والإظهار والإضمار وغير ذلك من الخصائص والاعتبارات التي يقتضيها الحال، ويدعو إليها المقام؛ لتتحقق مطابقة الكلام لمقتضى الحال. وقد حصر البلاغيون مباحث علم المعاني في ثمانية أبواب هي: 1 - أحوال الإسناد الخبري. 2 - أحوال المسند إليه. 3 - أحوال المسند. 4 - أحوال متعلقات الفعل. 5 - القصر. 6 - الإنشاء. 7 - الفصل والوصل. 8 - الإيجاز والإطناب والمساواة.

وجه انحصار علم المعاني في هذه المباحث الثمانية أن الكلام قسمان: خبر وإنشاء، ذلك أن الكلام إما أن يكون له واقع خارجي تطابقه أو لا تطابقه، أو لا، فالخبر هو ما يحتمل الصدق والكذب لذاته؛ لأن له نسبة خارجية في الواقع إن طابقت كلام المتكلم كان الخبر صادقًا، وإن لم تطابقه كان الخبر كاذبًا مثل قولك مثلًا: سافر محمد. والعلم النافع. والأرض تدور حول الشمس. أما الإنشاء فهو ما لا يحتمل الصدق والكذب لذاته؛ إذ ليست له نسبة خارجية تطابقه أو لا تطابقه، كالأمر في قولك مثلًا: اكتب الدرس. فالأمر بالكتابة ليست له حقيقة ثابتة في الخارج؛ أي الواقع؛ لأنه يستدعي مطلوبًا غير حاصل وقت الطلب، فلا يحتمل أن يقال لقائله: صدقت أو كذبت، ومثله بقية أنواع الطلب: كالنهي والاستفهام والتمني والنداء. والخبر لا بد له من: إسناد ومسند إليه ومسند، والمسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلًا أو في معنى الفعل، كاسم الفاعل واسم المفعول والمصدر ونحو ذلك. فأحوال هذه الأربعة هي الأبواب الأربعة الأولى في علم المعاني. ثم إن الإسناد قد يكون بقصر أو بغير قصر، فهذا هو الباب الخامس في القصر، والإنشاء هو الباب السادس، ثم الجملة إذا قورنت بأخرى فالثانية إما أن تكون معطوفة على الأولى أو غير معطوفة، وهذا هو الباب السابع في الفصل والوصل، ولفظ الكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة أو غير زائد عليه، وهذا هو الباب الثامن. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن كثيرًا من أحوال اللفظ العربي يُبحث عنها في علم النحو، كالذكر والحذف والتقديم والتأخير والتعريف والتنكير، فما الفرق إذن بين تناول النحاة لمثل هذا، وتناول البلاغيين؟ هناك فرق بين طبيعة البحث بالطبع

في علم المعاني، وطبيعة البحث في علم النحو. فالبحث النحوي بحث تحليلي، يسعى للكشف عن الوظائف، والبحث البلاغي -وخاصة في علم المعاني- بحث تركيبي يسعى إلى إيضاح الدلالات والكشف عن خصوصيات التراكيب، فعلم النحو يبحث هذه الأحوال من حيث الصحة والفساد، أما علم المعاني فيبحث في سر بلاغتها ومطابقتها لمقتضى الحال. وإذا تأملنا في تعريف علم المعاني السابق، فإننا نلاحظ الشبه القوي بينه وبين تعريف البلاغة التي عرفناه آنفًا، فالبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته، ومع ذلك انفرد علم واحد من علومها، وهو المعاني بالبحث في هذه المطابقة، فهل تقتصر المطابقة بمقتضى الحال على تلك المباحث الثمانية، التي حصروا فيها علم المعاني؟ أم أنها تتعدى إلى علم البيان والبديع؟ هذا أمر يحتاج إلى إعادة نظر، والصواب في ذلك أن علوم البلاغة الثلاثة تقوم بصفة أساسية على تحقيق مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وليس علم المعاني وحده، فالمطابقة مطلوبة في كل فن من فنون البلاغة بين اللفظ والمعنى، والتركيب والغرض الذي يصاغ له، ومطابقة ذلك كله لعقول السامعين ونفسياتهم، وبدون هذه المطابقة يفقد الكلام بلاغته وتأثيره في نفوس السامعين. ومثل هذه التراكيب ذات الخصائص المستحسنة لا تصدر إلا عن متكلم بليغ يخاطب إنسانًا ذا فهم سليم وذوق رفيع؛ ولذلك يقول سعد الدين التفتازاني في (المطول): "ومما يتم به أمر البلاغة، ويظهر كون كل من المتكلم والسامع كامل المعرفة بجهات حسن الكلام ولطائف اعتباراته، وعندئذ يحدث الأثر المطلوب للكلام البليغ، فيصل إلى أعماق النفوس، ويقنع العقول، ويمتع العواطف بما يحمل من معان جليلة، وصور ساحرة ذات تأثير خلاب". فلا يكفي أن يكون

أحوال الإسناد الخبري.

المتكلم بليغًا متكلمًا من أساليب الكلام العربي ووجوه اعتباراته، بل يجب كذلك أن يكون المخاطب بهذا الكلام البليغ عارفًا بجهات الحسن وأسرار الجمال في التعبير، وإلا فلا معنى لاستحسانه، ولا عبرة بشأنه؛ لأنه ليس من أهل الذوق والمعرفة بخصائص التراكيب. أحوال الإسناد الخبري وننتقل الآن للحديث عن أول مبحث من مباحث علم المعاني، وهو أحوال الإسناد الخبري؛ إذ من المعلوم أن اللغة تتكون من ألفاظ مفردة، ترمز إلى معانيها التي وضعت لها، فالكلمات: زيد، عمرو، العلم، ناجح، قائم، نافع. لا تفيد سوى معانيها الوضعية، ونحن لا نتكلم كلمات مفردة، وإنما نستخدمها في تكوين الجمل والتراكيب بضم كلمة إلى أخرى، وبناء لفظة على لفظة حتى تفيد فائدة يحسن السكوت عليها. فعندما نقول: زيد ناجح، وعمرو قائم، والعلم نافع، فإن الكلام يفيد فائدة تامة، وكل جملة من هذه الجمل تشتمل على علاقة وارتباط بين طرفيها، وهما: المسند والمسند إليه. فالجملة الأولى مثلًا تفيد نسبة النجاح إلى زيد أو الحكم عليه بالنجاح، والجملة الثانية تفيد نسبة القيام إلى عمرو، والثالثة تفيد نسبة النفع إلى العلم وهكذا. وإذا قلت: بكر غير مجتهد، والدنيا لا تدوم. فأنت هنا تحكم على بكر بنفي الاجتهاد تحكم على الدنيا بعدم الدوام، فمفهوم المسند منفي عن المسند إليه، وهذه النسبة بين الطرفين أو الرابطة بينهما هي ما يسميه البلاغيون الإسناد، وقد عرفوه بقولهم: هو ضم كلمة أو ما يجري مجراها إلى أخرى؛ بحيث يفيد الضم أن مفهوم إحداهما ثابت لمفهوم الأخرى أو منفي عنه. فمثال ضم كلمة إلى كلمة

لإفادة هذا المعنى قولك: زيد ناجح، ونجح محمد، ونجح زيد. في حال الإثبات. وقولك: بكر غير مجتهد، وما نجح خالد. في حالة النفي. ومثال ضم ما يجري مجرى الكلمة، وهي الجملة التي تقع موقع المفرد، سواء في ذلك المسند أو المسند إليه إلى ما يجري مجرى كلمة أخرى، قولنا مثلًا: ((سبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض)) فالتسبيح والتحميد، وإن كان كل منهما قد أفاد معنى يحسن السكوت عليه إلا أنها في حكم الكلمة لوقوعها موقع المفرد، وقد يكون المسند إليه كلمة، والمسند جملة جارية مجرى المفرد، مثل: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه)) وقد يحدث العكس مثل: لا إله إلا الله كلمة التوحيد، ومثل قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (البقرة: 184). ونكرر على إثر ذلك أن المسند إليه هو المحكوم عليه، وهو يمثل المبتدأ في الجملة الاسمية، والفاعل في الجملة الفعلية، والمسند هو المحكوم به على المسند إليه، ويمثل الخبر في الجملة الاسمية أو الفعل في الجملة الفعلية. والبحث في باب الإسناد الخبري يتناول ثلاث مسائل: أغراض الخبر، وأضربه، وأحواله من حيث الحقيقة والمجاز. والمراد بأحوال الإسناد الخبري الأمور التي تعرض له مثل التأكيد وعدمه، وكونه حقيقة أو مجازًا، وهذه الأمور يمكن أن تجري في الإنشاء أيضًا، ولكن لما كانت تجري في الخبر أكثر من الإنشاء، وكان الخبر هو المقصود الأعظم عند البلاغيين والأدباء قُيد الإسناد به فقيل: أحوال الإسناد الخبري. وأما البدء بأبحاث الخبر، فقد عللوه بأن الخبر أعظم شأنًا وأعم فائدة؛ لأنه هو الذي يتصور بالصور الكثيرة، وفيه تقع الصياغات العجيبة، وبه تقع المزايا التي بها التفاضل، ولكونه أصلًا في الكلام؛ لأن الإنشاء إنما يحصل منه باشتقاق،

كالأمر والنهي أو بنقل كعسى ونعم وبعت واشتريت، أو بزيادة أداة كالاستفهام والتمني ونحو ذلك. كذا ذكره السعد في (المطول). والكلام الآن عن أغراض الخبر، ونقول: إن المخبِر عادة وغالبًا ما يقصد بخبره أحد أمرين: الأول: فائدة الخبر؛ أي إفادته الحكم الذي يتضمنه الخبر، كقولك: زيد ناجح لمن لا يعلم بنجاحه، وهذه الفائدة هي المقصد الأول من مقاصد الإسناد الخبري. الثاني: لازم الفائدة؛ أي إفادة المخاطب كون المتكلم عالمًا بالحكم، نحو قولك لمن حفظ القرآن: أنت حفظت القرآن، وإنما سمي لازم الفائدة؛ لأنه يلزم من إفادة المخاطب الحكم إفادته أن المتكلم عالم به، وهذا هو المقصد الثاني من مقاصد الإسناد الخبري. والفرق بين الحالتين أن المخاطب في الحالة الأولى يكون جاهلًا بمضمون الخبر، ويريد المتكلم أن يعلمه به، وفي الثانية يكون عالمًا بمضمون الخبر إلا أنه لا يعلم أن المتكلم عالم به، فالسامع في هذه الحالة لم يستفد علمًا بالخبر نفسه، وإنما استفاد أن المتكلم عالم به. ويتضح هذا المعنى جليّا عندما يسأل الأستاذ طلابه سؤالًا، فينبري أحدهم للإجابة عليه، فكلام الطالب هنا الغرض منه إفادة الأستاذ أن الطالب عالم بالإجابة على هذا السؤال، وليس الغرض إفادة الأستاذ بمضمون الإجابة؛ لامتناع تحصيل الحاصل، ويسمى هذا لازم الفائدة. وهذان الغرضان هما الأصل فيما يراد بالخبر، وهناك أغراض بلاغية أخرى يأتي لها الخبر، ويفهمها المخاطب من سياق الكلام وقرائن الأحوال، وهي عديدة ومتنوعة؛ لأنها تترجم عن

مشاعر المتكلمين وأحوالهم ونبضات قلوبهم، وغير ذلك من الانفعالات البشرية والآمال والآلام، التي لا تقف عند حد. ومنها: إظهار التحسر، كما في قول الله تعالى حكاية عن امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} (آل عمران: 36) فليس غرضها من هذا الخبر إعلام الله بمضمون هذا الخبر، ولا إعلامه تعالى بلازم الفائدة، وهو أنها تعلم بمضمون الخبر، وهو أنها وضعت أنثى، فالله تعالى أعلم بأن الوالدة أعلم من غيرها بما وضعت، وعليه فالغرض من هذا الخبر إظهار التحسر على خيبة رجائها، وعكس تقديرها، والتحزن إلى ربها؛ لأنها كانت ترجو وتقدر أن تلد ذكرًا يحقق رغبتها في خدمة بيت المقدس؛ حيث كانت خدمته خاصة بالذكور دون الإناث؛ ولذلك تحسرت على فوات هذا الغرض، وتستطيع أن تدرك هذا الغرض بسهولة ويسر في قول الشاعر مثلًا: ذهب الصبا وتولت الأيام ... فعلى الصبا وعلى الزمان سلام فالشاعر هنا يتحسر على أيام صباه وزهرة عمره التي ولت وأدبرت، وأسلمته إلى الشيخوخة، وهي تؤذن بدنو أجله وانقضاء حياته، فنغمة الحزن واضحة هنا في كلام الشاعر. ومن هذه الأغراض: إظهار الضعف والخشوع كقوله تعالى حكاية عن زكريا -عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (مريم: 4) فليس قصده -عليه السلام- إفادة الحكم أو لازمه، فالله -سبحانه وتعالى- عالم بهما، وعلمه محيط بكل صغيرة وكبيرة في الكون بأسره، وإنما الغرض من الخبر هنا إظهار الضعف بين يدي الله سبحانه وتعالى. ومن هذا القبيل قول الشاعر: إن الثمانين وبُلّغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

وقول آخر: إلهي عبدك العاصي أتاك ... مقرًّا بالذنوب وقد دعاك فالشاعر في البيت الأخير في موقف ضراعة وخضوع؛ ولذلك فهو يعترف بذنبه وتقصيره، لعل الله يغفر له ذنوبه. من هذه الأغراض الثانوية: الاسترحام، والاستعطاف، كقوله تعالى في شأن موسى -عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (القصص: 24) فسيدنا موسى -عليه السلام- لا يقصد إلى أن يرجو الرحمة والعطف من ربه -عز وجل. ومن هذا القبيل أيضا قول أبي نواس: تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما من هذه الأغراض أيضًا: الفخر، وذلك كقول أبي العلاء المعري: وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل فليس الغرض إفادة المخاطب الحكم أو لازمه، وإنما الغرض الفخر والاعتداد بالنفس. وكقول عمرو بن كلثوم: إذا بلغ الرضيع لنا فطاما ... تخر له الجبابر ساجدينا هو يفخر بقومه وبما لهم من القوة والبأس، ويباهي بعزهم ومنعتهم، كما يفهم من المقام. من ذلك أيضًا: الحث على شيء واستنهاض الهمم له، كقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ

وَأَنْفُسِهِمْ} (النساء: 95) وذلك تذكيرًا بما بينهما من التفاوت العظيم؛ ليتأنف القاعد بلا عذر، ويرتفع بنفسه عن انحطاط منزلته، فينضم إلى صفوف المجاهدين، ويحظى بشرف الجهاد وعظيم الثواب. وكقولك أنت: لا يستوي العالم والجاهل؛ لأن فيه تحريكًا لحمية الجاهل وحثًّا له على تحصيل العلم ليلحق بركب العلماء، ويحظى بشرف الانتساب إليهم، والارتقاء إلى منزلتهم، ولا غرو فهم ورثة الأنبياء. من هذه الأغراض أيضًا التبعية: إظهار الفرح والسرور، وذلك كقولك لمن يعلم بنجاحك هذا العام: نجحت في الامتحان والحمد لله. ومنه كذلك: المدح، كقول النابغة الذبياني يمدح النعمان بن المنذر: فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب ومن ذلك أيضًا: الذم، كقول جرير يهجو الفرزدق: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ... أبشر بطول سلامة يا مربع من ذلك أيضًا: التوبيخ والتقريع، كما في قول الله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} (الأعراف: 123) يقول الزمخشري: "آمنتم به على الإخبار؛ أي فعلتم هذا الفعل الشنيع توبيخًا لهم وتقريعًا، وإنما أفاد الخبر التقريع والتوبيخ؛ لأنه حين أخبر به من هو عالم بفائدته تولد منه بحسب القرائن والأحوال ما ناسب المقام، والمناسب للمقام هنا هو التوبيخ والتقريع".

من ذلك أيضًا: النصح والإرشاد، كقول زهير: ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم وكقول الآخر ناصحًا بالابتعاد عن الهموم ومحذرًا من آثارها الضارة: والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم من ذلك أيضًا: البشارة بالثواب لأهل الخير، كما في قوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (آل عمران: 115). ومنه كذلك: التعجب، كما في قوله: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف: 138) فهذا تعجب منهم. ومن قولهم: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (الأعراف: 138) وذلك بعد أن رأوا من الآية العظمى والمعجزة الكبرى، وقد استفيد التعجب من المقام؛ لأن من شاهد مثل تلك الآيات العظام إذا صدر عنه مثل هذا الكلام دل ذلك على قصور فهمه وعقله وسوء تقديره وفساد تدبيره. وأسرار الخبر وأغراضه كثيرة ومتنوعة، ومن يستعرض الأساليب الرفيعة في القرآن والسنة وفي الأدب العربي شعرًا ونثرًا؛ فسوف يقف على كثير من هذه الأغراض، وهي لا تجري على قاعدة ثابتة، وإنما تفهم من سياق الكلام، وقرائن الأحوال، لكن هنا سؤال يفرض نفسه: ما وجه دلالة الخبر على أغراضه؟ يرى بعض البلاغيين أن الخبر يدل على الغرض الأول، وهو فائدة الخبر دلالة حقيقية؛ لأن الفائدة تفهم من ذات الخبر بلا وسائط.

أما بقية الأغراض فيدل عليها الخبر دلالة تبعية، فهي من مستتبعات التراكيب؛ أي أنها تفهم من الخبر بمعونة سياق الكلام وقرائن الأحوال، ولا توصف بأنها حقيقة، ولا مجاز، ولا كناية. وقيل: إن الغرضين الأولين -فائدة الخبر ولازم الفائدة- يدل الخبر عليهما دلالة حقيقية؛ حيث يفهمان من نفس الجملة والتركيب، أما بقية الأغراض كإظهار التحسر والضعف والفخر فيدل عليها الخبر بطريق الكناية. وقيل: إنه يدل على هذه الأغراض الثانوية بطريق المجاز المرسل الذي علاقته اللزوم. والرأي الأول هو الأقرب إلى الصواب، فهي من مستتبعات التراكيب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 4 تابع: أحوال الإسناد الخبري.

الدرس: 4 تابع: أحوال الإسناد الخبري.

أضرب الخبر

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (تابع: أحوال الإسناد الخبري) أضرب الخبر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، كما نعوذ به من سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فمع أضرب الخبر؛ ولعل أول إشارة إلى أضرب الخبر فيما بلغنا كانت على يد أبي العباس المبرد صاحب (الكامل) وقد سأله الكندي الفيلسوف: "إني أجد في كلام العرب حشوًا، يقولون: عبد الله قائم، وإن عبد الله قائم، وإن عبد الله لقائم، والمعنى واحد. فقال المبرد: لا، بل المعاني مختلفة، فعبد الله قائم، إخبار عن قيامه، وإن عبد الله قائم، جواب عن سؤال سائل، وإن عبد الله لقائم، جواب عن إنكار منكِر". وهذه القصة -كما هو ملاحظ- هي الأصل في حديث البلاغيين عن أضرب الخبر، فقد قسم البلاغيون الخبر بحسب حال المخاطب إلى ثلاثة أضرب؛ الأول: الابتدائي، وذلك إذا كان المخاطب خالي الذهن من الحكم الذي يتضمنه الخبر، فيلقى إليه الكلام مجردًا من التأكيد باستغنائه عنه كقولك: أفلح المجتهد، وخاب الكسول؛ لأن الكلام يتمكن بسهولة إذا صادف ذهنًا خاليًا على حد قول القائل: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا والثاني: الطلبي إذا كان المخاطب مترددًا في الحكم طالبًا له، فيؤكد بمؤكد واحد استحسانًا؛ ليزيل تردده، ويبين له الحقيقة، فيتمكن الخبر في نفسه كقولك لمن يشك في نجاح زيد: إن زيدًا ناجح، وكقولهم: إن البلاء موكل بالمنطق. ومن هذا النوع قوله تعالى في شأن ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} (الكهف: 84) وذلك بعد السؤال عنه في الآية السابقة، فالمخاطب

طالب للحكم، مستشرف لمعرفته، ولذلك جاء الخبر مؤكدًا؛ ليزيل تردده ويضع يده على الحقيقة. والثالث: إنكاري وذلك إذا كان المخاطب منكِرًا للحكم الذي يتضمنه الخبر معتقدًا غيره، فيجب أن يؤكد له الخبر بحسب إنكاره قوة وضعفًا، فكلما زاد إنكاره زِيد له في التوكيد، وعلى سبيل المثال إذا كان المخاطب ينكر صدقك، فإنك تقول له: إني صادق. فإذا بالغ في الإنكار وأصر عليه تقول: إني لصادق. ومنه -هو خير ما يمثل به في هذا الباب- قول الله تعالى في شأن رسل عيسى -عليه السلام: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} (يس: 13 - 16). ولعلك ترى خطاب الرسل لأصحاب القرية قد جاء هنا مؤكدًا في المرة الأولى بإن واسمية الجملة {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} ولما اشتد تكذيب آل القرية لهؤلاء الرسل جاء الرد في المرة الثانية مؤكدًا بإن واللام واسمية الجملة والقسم {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} (يس: 16). وتأمل قول الله تعالى في الرد على منكري البعث: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (التغابن: 7) فهم ينكرون البعث، كما يحكي القرآن عنهم في أكثر من موضع، ولذا جاء الرد عليهم مؤكدًا: بالقسم، وربي، واللام، ونون التوكيد الثقيلة في جواب القسم "لتبعثن" لأن المقام يقتضي ذلك، فالبعث أمر فطري يستوجب العمل لما بعده والإيمان به،

وهو أصل من أصول الدين التي يجب على الخلق معرفتها والإيمان بها، والله -سبحانه وتعالى- يقسم عليه ويقرره أبلغ تقرير حتى يتمكن في النفس فضل تمكن، ولا يخفى ما في التعبير بالفعل {زَعَمَ} من كشف الزيف، وبيان التهافت في منطق الكافرين، فالزعم مطية الكذب إذ لا أساس له، ولا دليل عليه، فهو وهم باطل، وضلال مبين، والهوى يعمي ويصم. ووجه تسمية هذه الثلاثة بأسمائها أن الأول: سمي ابتدائيًّا لأنك تبتدئ به المعنى في النفس، والمخاطب غير متردد، ولا منكر. والثاني: سمي طلبيًّا؛ لأنك تواجه به ترددًا، فهو مسبوق بطلب كأن النفس طالبة للخبر ليزيل هذا الشك ويدفع الشبهة، ويمحو التردد. والثالث: سمي إنكاريًّا لسبقه بالإنكار من المخاطب، ويجب أن يكون المتكلم مع المخاطب كالطبيب مع المريض يشخص حالته، ويعطيه ما يناسبها، فحق الكلام أن يكون بقدر الحاجة لا زائدًا عنه، ولا ناقصًا منه، فلا يؤكد لخالي الذهن، ويؤكد بمؤكد واحد استحسانًا للمتردد، ويؤكد بمؤكد أو بأكثر وجوبًا للمنكر حسب درجة إنكاره، وبذلك تتحقق مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فكل مقام من هذه المقامات يستدعي تركيبًا خاصًّا يفيد ما يناسبه من الخصوصيات. ويسمى إخراج الكلام على هذه الوجوه الثلاثة إخراجًا على مقتضى الظاهر؛ أي ما يقتضيه ظاهر الحال، وكثيرًا ما يخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر لدواعٍ تستدعي ذلك ولأسرار تقتضيه، وهو باب من البلاغة يدق مسلكه، ويلطف موقعه، ويعظم أثره في النفس، فيتمكن منها فضل تمكن شريطة أن يكون المتكلم بليغًا خبيرًا بأسرار الجمال في هذه الأساليب. وأن يكون المخاطب ذا

فهم سليم وذوق رفيع وبصيرة نافذة حتى يكون لكلامه أثره المنشود في التأثير وإصابة الغرض، وإلا فلا قيمة للكلام، ولا وزن له من وجهة النظر البلاغية، وبيان ذلك أن المتكلم قد يفترض في مخاطبه حالًا ليس لها ثبوت في الواقع أو وجود حقيقي عنده، ويجيء بكلامه مطابقًا لتلك الحال المفترضة؛ وذلك لأسرار بلاغية تستدعي هذا الأسلوب، ويسمى ذلك الصنيع: إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، ومن صوره ما يلي: 1 - تنزيل العالِم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل بهما؛ أي الخالي الذهن، وذلك لعدم عمله بما يقتضيه علمه من العمل به والانتفاع بتوجيهاته في حياته العملية، كقولك مثلًا لتارك الصلاة مع علمه بوجوبها: الصلاة واجبة؛ توبيخًا له على عدم عمله بمقتضى علمه، فيلقى إليه الخبر كما يلقى إلى الجاهل. ومنه قولك للمتعلم حين يعق والديه: عقوق الوالدين من الكبائر. وقول الفرزدق يخاطب هشام بن عبد الملك حين تجاهل معرفة زين العابدين علي بن الحسين -رضي الله عنهما: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا فهشام بن عبد الملك يعرف أن هذا الذي التف الناس حوله هو علي بن الحسين، ولكنه تجاهله لغرض في نفسه، فخاطبه الفرزدق بهذه الأبيات منزلًا إياه منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم، ولا يخلو هذا الأسلوب من توبيخ وتأنيب للمخاطب وتعريض به. ومن تنزيل العالم بلازم الفائدة منزلة الجاهل

قولك لمن يؤذيك، وهو يعلم أنك مسلم: الله ربنا، ومحمد نبينا. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن الخبر لا يختلف في التأكيد وعدمه في مخاطبة الجاهل بفائدة الخبر ولازمها، ومخاطبة العالم بهما المنزل منزلة الجاهل، فأنت تقول لخالي الذهن: الصلاة واجبة. بدون توكيد، كما تقولها للعالم الذي نزلته منزلة الجاهل بالحكم بدون توكيد أيضًا. الصورة الثانية: تنزيل خالي الذهن منزلة السائل المتردد، وذلك إذا تقدم في الكلام ما يلوح له بالخبر ويومئ إليه، فيستشرف نفسه لمعرفته، وتتطلع للوقوف عليه، كما يفعل السائل المتردد، وحينئذ يؤكد له الحكم كما يؤكد للسائل المتردد، ومن ذلك قول الله تعالى في شأن نوح -عليه السلام: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} (هود: 37) أي لا تدعني يا نوح في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك، فهذا كلام يلوح بالخبر مع ما سبق في قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} فصار المقام مقام تردد، هل صاروا محكومًا يا رب عليهم بالإغراق؟ فقيل له: {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} بالتأكيد للرد على السؤال الافتراضي، وهذا النوع كثير في القرآن الكريم. ومنه قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (يوسف: 53) وقوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} يشير إلى أن الخبر من قبيل الاتهام للنفس وأنها أمارة بالسوء ولذلك جاء الخبر مؤكدًا؛ لأنه بمثابة جواب عن سؤال اقتضته الجملة الأولى، وهي قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} وهو سؤال عن السبب الخاص لا عن مطلق السبب.

ومن ذلك قول الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (التوبة: 103) فالأمر بالصلاة هنا يومئ إلى الخبر، وأنه من جنس النفع والخير، فصار المقام مقام تردد، وسؤال عن السبب وراء هذا الأمر، وهل في الصلاة عليهم خير لهم؟ فقيل: {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} هكذا بالتأكيد لدفع هذا التردد المفترض في المخاطبين. ويكثر مجيء الخبر مؤكدًا في كتاب الله تعالى بعد الأوامر والنواهي، كما رأيت في الآيات السابقة، وكما في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الحج: 1) فبعد الأمر بتقوى الله تعالى تهيأت النفس وتطلعت لمعرفة السبب الخاص لهذا الأمر، وكأنها توقعت أن يكون الخبر من جنس العقاب، فجاء قوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} بيانًا للسبب وراء الأمر بالتقوى. واقرأ إن شئت قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (الإسراء: 32) وقوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17). فلعلك تلاحظ أن الخالي الذهن لم ينزل منزلة مطلق سائل، بل نزل منزلة سائل عن السبب الخاص الذي يلوح إليه الكلام السابق، وذلك يكون غالبًا بعد الأوامر والنواهي التي تلوح بأسبابها فتستشرف النفس لمعرفتها استشراف الطالب المتردد، ولذلك يحصل تأكيد الخبر وفاء بحق هذه الحال الاعتبارية. وسلوك هذه الطريقة شعبة من البلاغة فيها دقة وغموض، ومن المشهور في هذا الباب ما روي عن الأصمعي أنه قال: "كان أبو عمرو بن العلاء، وخلف الأحمر يأتيان بشارًا فيسلمان عليه بغاية الإعظام، ثم يقولان: يا أبا معاذ ما أحدثت؟

فيخبرهما، وينشدهما، ويكتبان عنه متواضعين له، حتى يأتي وقت الزوال ثم ينصرفان. فأتياه يومًا فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في ابن قتيبة؟ قال: هي التي بلغتكما. قالا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب. قال: نعم، إن ابن قتيبة يتباصر بالغريب، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف. قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ. فأنشدهما: بكرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان "إن ذاك النجاح" "بكرا فالنجاح" كان أحسن. قال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية. فقلت: إن ذاك النجاح كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت: بكرا فالنجاح كان هذا من كلام المولدين، ولا يشبه ذلك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة في شيء. قال: فقام خلف فقبل بين عينيه. فهل كان ما جرى بين خلف وبشار بمحضر من أبي عمرو بن العلاء، وهم من فحولة هذا الفن إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟ ". كذا ذكر الخطيب في (الإيضاح). ولا يخفى عليك أن الهجير هنا هو الوقت من زوال الشمس إلى العصر أو شدة الحر، وأن الشاهد في البيت أن الشطر الأول يلوح بالثاني، ولذلك جاء بالثاني مؤكدًا بإن، وأن التوكيد بإن قد رفع من شأن الكلام، وأضفى عليه روعة وجمالًا، فقد ارتبط الشطر الثاني بالشطر الأول ارتباطًا قويًّا وتلاءم معه حتى كأن الكلامين قد أفرغا إفراغًا واحدًا، وكأن أحدهما قد سبك في الآخر، كذا في (الدلائل). أما قوله: "بكرا فالنجاح" فليس فيه سوى تأكيد الأمر بالتبكير عن طريق التكرار، وهذا أمر واضح لا دقة فيه، ولا خفاء، فهو إلى كلام المولدين أقرب

منه إلى كلام الأعراب البدويين الذين يعرفون طبائع اللغة وطرائق التعبير عن المعاني بالطبع والسليقة. ومنه قول بعض العرب: فغنها، وهي لك الفداء ... إن غناء الإبل الحداء والمعروف أن الإبل تنشط في سيرها بالحداء أي الغناء، فعندما قال الشاعر غنها يشتد سيرها ويزداد نشاطها أصبح السامع مترقبًا للخبر، فتستشرف نفسه لمعرفته، ولذلك ورد الخبر مؤكدًا: "إن غناء الإبل الحداء". ومنه أيضًا قول أبي نواس: عليك باليأس من الناس ... إن غنى نفسك في الياس فالشطر الأول يلوح بالخبر الذي تضمنه الشطر الثاني، ولذلك تطلعت نفس السامع إلى معرفة السبب وراء هذه النصيحة بالزهد في دنيا الناس، وعدم التعلق بالأمل المرجو منه، فكان الجواب: "إن غنى نفسك في الياس"، مؤكدًا بإن، التي تفيد ربط الجملة الثانية بما قبلها، وتجعل الكلام جيد السبك متلاحم الأجزاء قوي التأثير. الصورة الثالثة من صور إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر: تنزيل غير المنكِر منزلة المنكِر، وذلك إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار، فيؤكد له الخبر، كقول الشاعر: جاء شقيق عارضًا رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح فشقيق لا ينكر قوة بني عمه، وأنهم يملكون آلات القتال وأدوات الحرب من الرماح وغيرها، ولكن مجيئه هكذا مزهوًّا بشجاعته واضعًا رمحه على عرضه من غير تهيؤ للقتال دليل على إعجاب شديد منه، وإمارة أنه يعتقد أن بني عمه عزل لا سلاح معهم، ولذلك نزله الشاعر منزلة المنكر، وخاطبه خطاب التفات في

قوله: "إن بني عمك فيهم رماح" فأكد له الكلام ليوقد فيه الشعور بقوة شكيمتهم وقدرتهم على مواجهة الخصم إذا اقتضى الأمر ذلك. فهذا من تنزيل العالم بالحكم منزلة المنكر. ومنه أيضًا قولك للمسلم غير المواظب على أداء الصلاة: إن الصلاة لواجبة. فتؤكد له الكلام مع أنه لا ينكر وجوب الصلاة، ولكن إهماله للصلاة وإصراره على عدم العمل بمقتضى علمه جعله في نظر المتكلم بمنزلة المنكر، فاقتضى حاله تأكيد الخبر، واقرأ إن شئت قول الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (المؤمنون: 15) والموت على ما هو متعالم لدى البشر حق لا يشك فيه أحد، ولا ينكره مخلوق، ومع ذلك فقد أكد إثبات الموت بتأكيدين: إن، واللام، وإن كان مما لا ينكر لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت لتماديهم في الغفلة والإعراض عن العمل لما بعده من الحساب والجزاء، وكأنهم يعتقدون أنهم خالدون في الدنيا لا يموتون أبدًا، فهذه الآية من قبيل تنزيل العالم منزلة المنكر. ومثله قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (النمل: 80) فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم أن مهمته هي التبليغ والإرشاد إلى الطريق المستقيم، وأنه لا يستطيع أن يحمل الناس قسرًا على الإيمان، فالهدى هدى الله -عز وجل- ولكنه كان حريصًا على هدايتهم مجتهدًا في نصحهم واستمالتهم إلى الحق، مشفقًا عليهم من مغبة الضلال، ولذلك نزل منزلة من يعتقد أنه يستطيع إسماع الموتى وإسماع الصم، وينكر عدم مقدرته على ذلك، ولذلك جاء الكلام مؤكدًا. ولعلك تلاحظ أنهم شبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس؛ لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله، فلم يتأثروا بها كان سماعهم كلا سماع، كان حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الموتى، وكذلك تشبيههم بالصم الذين ينعق

بهم فلا يسمعون، وخصوصًا بعد إعراضهم وإدبارهم، كما يفهم من قوله تعالى: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} على ما أفاده الزمخشري في (الكشاف). فهذا تأكيد لحال الأصم؛ لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن يولي عنه مدبرًا كان أبعد عن إدراك صوته، وكأن الحق -تبارك وتعالى- يقول لنبيه -صلى الله عليه وسلم: رفقًا بنفسك، فهذا الحرص لا يجدي إلا مع الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته. الصورة الرابعة من صور خروج الكلام عن مقتضى الظاهر: تنزيل المنكِر منزلة غير المنكِر، وذلك إذا كان معه من الشواهد والأدلة على صدق الخبر ما إن تأمله ارتدع عن إنكاره، كما يقال لمنكر الإسلام: الإسلام حق. من غير تأكيد لعدم الاعتداد بإنكاره؛ لأنه لو تأمل الأدلة والشواهد المتناهية في الوضوح والشهرة لارتدع عن إنكاره، ورجع عن جحوده ونكرانه، وأسلم لربه عن يقين صادق وعقيدة راسخة، ولكنه لم يفعل، فجعل إنكاره كلا إنكار، ونزل منزلة غير المنكر. ومن هذا النوع قول الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (البقرة: 163) والمعروف أن المخاطبين من الكفار ينكرون وحدانية الله فكان مقتضى حالهم أن يؤكد لهم الخبر، ولكنه ورد بلا تأكيد تنزيلًا لهؤلاء المنكرين منزلة غير المنكرين؛ لأن لديهم من الأدلة الواضحة والبراهين الساطعة على وحدانية الله ما يردعهم عن إنكارهم، ويزيل جحودهم وضلالهم، وينتهي بهم إلى الحقيقة القاطعة، وهي أن الله واحد لا شريك له في ملكه، ولذلك جاء خطابهم خاليًا من التوكيد بناء على هذا التنزيل. وتأمل قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ}

(الشورى: 15) تجد أن الخطاب في قوله: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} للكافرين المنكرين للتوحيد، فظاهر الحال يقتضي تأكيد الكلام دفعًا للإنكار، ولكنه ينزلهم منزلة غير المنكرين لأن أمامهم من الأدلة على وجود الله ووحدانيته في هذا الكون -المحكم البناء والبديع الصنع- ما لو تأملوه وتفكروا في شواهده لاقتنعوا بصدق هذا الخبر، ولذلك جاء الكلام غير مؤكد؛ إشارة إلى أن إنكارهم لا يلتفت إليه فهو كلا إنكار. ومن ذلك قول الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (المائدة: 64) فاليهود ينكرون فضل الله عليهم، وأنه أعطاهم حتى صاروا أكثر أهل الأرض مالًا ويتطاولون بهذه المقالة الشنيعة {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} فيصفون يده بالبخل، ومع ذلك جاء الرد عليهم خاليًا من التوكيد: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} لأنهم لو تجردوا من الهوى وأنصفوا في الحكم لأدركوا عظيم فضل الله عليهم، فهو الكريم الذي يجود بالخير على عباده وينفق عليهم وفق ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، ولذلك نزل إنكارهم منزلة عدمه. ومنه على سبيل النفي قول الله تعالى في شأن القرآن الكريم: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 2) فإن معناه أن القرآن ليس محل شك، وهذا حكم ينكره المخاطبون من الكفار، فكان مقتضى الظاهر التأكيد، ولكن القرآن لم يعبأ بإنكارهم فنزلهم منزلة غير المنكرين؛ لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه، ولذلك جاء الخبر خاليًا من التوكيد تنزيلًا لإنكارهم منزلة عدمه، وفي ذلك من توهين حجة الخصم ما لا يخفى على المتأمل. ولعلك تلاحظ معي أن المنكر قد نزل منزلة خالي الذهن في الأمثلة المذكورة، وقد ينزل المنكر منزلة المتردد، وهذه صورة متفرعة عن صور تنزيل المنكر منزلة غير المنكر؛

مراعاة حال المتكلم.

لأن غير المنكر يشمل المتردد، كما يشمل خالي الذهن. وخذ مثلًا قول الله تعالى في تنزيل المنكر منزلة المتردد: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (المؤمنون: 16) فهم ينكرون البعث ويستبعدونه، ومع ذلك فقد أكده تأكيدًا واحدًا، بينما أكد إثبات الموت في الآية السابقة عليها تأكيدين؛ ولعل السبب في ذلك أنه لما كانت أدلة البعث ظاهرة كان جديرًا بألا ينكره أحد، بل إما أن يعترف به أو يتردد فيه، فنزل المخاطبون منزلة المترددين تنبيهًا لهم على ظهور أدلته وحثًّا على النظر فيه، كذا ذكره الخطيب في (الإيضاح). وهذه هي أهم مواقع الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر، وهي لا تحسن إلا إذا كان المتكلم بليغًا والمخاطب ذا ذوق رفيع وحس مرهف وعقل واع بجمال هذه الأساليب. مراعاة حال المتكلم عرفت أن تقسيم الخبر إلى أضربه الثلاثة: الابتدائي، والطلبي، والإنكاري إنما هو لبيان حاله من حيث التوكيد وعدمه بحسب حال المخاطب من الإنكار وغيره، سواء أكانت هذه الأضرب تحقيقية أم تذييلية، فالمتكلم ينظر إلى حال مخاطبه ويصوغ عبارته على أساس ما يقتضيه حاله من التوكيد وعدمه، ولا يعني هذا بحال أن البلاغيين بذلك قد غفلوا حال المتكلم نفسه وأنهم قصروا البحث في توكيد الخبر ودواعي توكيده على حال المخاطب فقط، فقد يكون الداعي إلى توكيد الخبر هو حال المتكلم نفسه ومدى انفعاله بالحكم الذي يقرره في كلامه، كما يكون حاله أيضًا داعيًا إلى خلو الكلام من التوكيد.

فحال المتكلم مأخوذة في الاعتبار أيضًا، وهو الذي يصوغ الكلام بعد تأثر وانفعال، فتنعكس حالته النفسية ومشاعره المختلفة على الخبر الذي هو صدى لعالمه النفسي وما يجيش به من عواطف، والشاعر عندما يعبر عن تجربته الشعرية، فإن عبارته تأتي ترجمة أمينة لمعاناته النفسية ووصفًا دقيقًا لخلجات وجدانه، فهو تارة يؤكد الكلام وينظمه مقررًا كما أحسه وكما امتلأت به نفسه حرصًا منه على إذاعته وتقريره في النفوس، وتارة يرسل الكلام إرسالًا إذ لا يقتضي المقام تقريرًا وتثبيتًا، وهذا الأمر واضح في الشعر العربي، في استطاعة القارئ المتأمل أن يقف على الكثير من هذه المواضع، فالخنساء حين ترثي صخرًا فتقول: وإن صخرًا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه إنار لم تكن معنية بالرد على منكر أو متردد، ولكنها تعبر عن مأساتها الفاجعة في فقد أخيها، والآلام التي تعانيها وتصطلي بنارها، ولذلك نجد أنها صاغت المعنى مؤكدًا كما أحسته، وكما امتلأت به نفسها، ومن هنا جاء كلامها معبرًا أصدق تعبير عن عاطفتها الحزينة، وهذا من الوضوح بمكان، وهو شائع في رثائها لأخيها صخر، تأمل من غير ذلك قول الشاعر: إنا لمن معشر أفنى أوائلهم ... قيل الكماة ألا أين المحامون فالشاعر هنا يفخر بشجاعة قومه وخبرتهم في الحروب، فهو يؤكد الكلام بدوافع نفسية، يجدها في داخله غير ناظر إلى مخاطب، وهذا من مراعاة حال المتكلم في صياغة الكلام، وهو كثير شائع في النظم الكريم، وله في النفس وقع عظيم وأثر بالغ. من ذلك قول الله تعالى على لسان إبراهيم -عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} (إبراهيم: 37) وقوله تعالى: {رَبَّنَا

إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (آل عمران: 9) وقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} (آل عمران: 193) فالتوكيد في كل هذه الآيات لإظهار غاية التضرع والابتهال إلى الله -عز وجل. وقد يكون الداعي إلى التوكيد رغبة المتكلم في تقوية مضمون الكلام عند المخاطب وتقريره في نفسه، وإن كان غير منكر له، ولا متردد فيه، كقوله تعالى في مخاطبة موسى -عليه السلام: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه: 12 - 14). وقوله في مخاطبة محمد -صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} (الإنسان: 23) فالمخاطب، وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يشك في شيء من ذلك، ولكن التوكيد يهدف إلى زيادة تقرير المعنى في نفسه حتى يبلغ به عين اليقين، وفي ذلك تثبيت لفؤاده حتى ينهض بأعباء الدعوة إلى الله في يقين راسخ، وفي ذلك ما فيه من الإيناس والتلطف في مخاطبة هؤلاء الرسل الذين هم صفوة خلق الله جميعًا. وقد يكون الداعي إلى تأكيد الحكم: إظهار صدق الرغبة فيه، وقصد ترويجه، كقوله تعالى حكاية عن المنافقين: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة: 14) فهم يخاطبون المؤمنين بقولهم: {آمَنَّا} بدون توكيد؛ لأن أنفسهم لا تساعدهم على التأكيد لعدم الباعث والمحرك من العقائد، أو لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على التوكيد والمبالغة، بينما أكدوا في خطاب إخوانهم {إِنَّا مَعَكُمْ} بصدق رغبتهم فيهم، وارتياحهم للحكم بالإضافة إلى أنه رائج عنهم متقبل منهم، فكان مظنة للتحقيق والتوكيد.

وقد يكون التوكيد للإشارة إلى مجيء الخبر على خلاف ظن المتكلم، فكأن نفس المتكلم تستبعد الخبر وتنكره، فيؤكده لها، يقول عبد القاهر في (الدلائل): "قد تدخل كلمة "إن" للدلالة على أن الظن كان من المتكلم في الذي كان أنه لا يكون، كقولك للشيء هو بمرأى ومسمع من المخاطب: إنه كان من الأمر ما ترى، وكان مني إلى فلان إحسان ومعروف، ثم إنه جعل جزائي ما رأيت، فتجعله كأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت، وتبين الخطأ الذي توهمت، وعليه قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} (آل عمران: 36) وقوله: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} (الشعراء: 117) ". وقد يأتي التوكيد لتحقيق الوعد أو الوعيد، كما في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (الحج: 38) وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الأنبياء: 101) وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} (الكهف: 107) ومثال الوعيد قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (الأنبياء: 98) وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (النساء: 145). والقرآن الكريم كثيرًا ما يشفع الوعد بالوعيد، والبشارة بالنذارة لما لذلك من أثر في تقويم النفوس وسياستها بالترهيب والترغيب، ومقام الوعد ومثله مقام الوعيد من المقامات التي تحتاج إلى توثيق القول وتأكيده؛ ليتقرر في النفوس ويتمكن منها فضل تمكن، فيزداد أنسها به وثقتها فيه، كما قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13، 14) وقال أيضًا: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} (الحجر: 49، 50) ومثل هذا كثير في القرآن الكريم.

وقد يكون الداعي إلى التوكيد: الدلالة على كمال عناية الله وإكرامه للمخاطب، مثل قوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (يس: 1 - 3) أو الدلالة على كمال غضبه وسخطه، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} (البقرة: 102) فالمتكلم هنا هو المولى -عز وجل- وهو محيط بشئون خلقه وأقدارهم في الهداية والضلال، فمنهم من يرقى إلى منازل القرب ويحظى بالعناية الربانية، ومنهم من يهوي في قرار سحيق إلى جهنم وبئس المصير. وقد يكون الداعي إلى التوكيد غرابة الخبر في ذاته، فيلجأ المتكلم إلى التوكيد ليزيل من نفس السامع ما قد يعلق بها من وحشة أو استغراب، ويهيئه لقبول الخبر والاطمئنان به، كقوله تعالى يخاطب موسى -عليه السلام- حين أوجس في نفسه خيفة من أفاعيل السحرة: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} (طه: 68) فموسى -عليه السلام- واثق تمام الثقة في وعد ربه بالإظهار والتأييد، ولا يخالجه في ذلك أدنى شك، ولكنه لما رأى كيد السحرة أحس في نفسه بشيء من الدهشة والخوف، فكان الرد الإلهي {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} مؤكدًا بإن وضمير الفصل واسمية الجملة، وذلك ليزيل من نفسه وحشة الشعور في هذا الموقف العصيب. ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (القصص: 30). وقد يكون الداعي إلى التوكيد الرد على غير المخاطب، كقوله تعالى في خطاب نبيه -صلى الله عليه وسلم- ردًّا على المنافقين الذين ادعوا شهادتهم برسالته كذبًا {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (المنافقون: 1) فقد جاء قول المنافقين: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} مؤكدًا لأنهم يشعرون في قرارة أنفسهم أن الرسول لا يثق فيهم، ولا يطئمن إلى كلامهم، ولذلك أكدوا كلامهم إظهارًا لقوة اعتقادهم، وأن هذه الشهادة

التجوز في الإسناد.

صادرة عن صميم قلوبهم. ولما كان كلامهم يخالف عقيدتهم؛ فقد كشف الله زيف هذا الادعاء، وأكد الرسالة تأكيدًا قويًّا بهذا الرد الحاسم {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (المنافقون: 1) فالمنافقون كاذبون في ادعاء أن هذا الخبر مطابق لاعتقادهم، والتوكيد هنا في مقام الرد على المنافقين وفضح أساليبهم وتعريتهم أمام المجتمع الإسلامي. وقد يكون الداعي إلى التوكيد أيضًا تهيئة النكرة للابتداء بها، وخاصة مع "إن" فإذا كانت النكرة موصوفة فهي مع إن أحسن موقعًا، كقول الشاعر: إن دهرًا يلف شملي بسعدى ... لزمان يهم بالإحسان كما يأتي التوكيد اتباعًا للاستعمال الوارد عن العرب، كقول الشاعر: إن محلًّا وإن مرتحلا ... وإن في السفر إذا مضوا مهلا التجوز في الإسناد ويأتي الحديث بعد عن التجوز في الإسناد عقب حديثنا عن مسألتي أحوال الإسناد الخبري، المتمثلتين في أغراض الخبر، وأضرب الخبر، فنقول: إن الإسناد كما تقدم معناه: بناء الجملة أو تكوين العبارة أو ضم الكلمة إلى الكلمة؛ ليتكون نظمًا معبرًا وكلامًا مفيدًا وتركيبًا جيدًا. وهذا الإسناد لا يجري دائمًا على أسلوب الحقيقة، بل قد يتم عن طريق المجاز؛ بمعنى أن يتجوز المتكلم في بناء جمله أو تكوين عباراته، وقد يتم عن طريق الحقيقة، فمن الأبنية الحقيقية قولك: جاء محمد. ضرب زيد عمرًا. ربح علي في تجارته. حمينا نساءنا. حيث تجد الفعل قد أسند إلى فاعله الحقيقي الذي فعله وقام به. وانظر إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} (لقمان: 34) وقوله -عز وجل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ} (آل عمران: 26) تجد أن الأفعال:

"ينزل، يعلم، تؤتي، تنزع، تعز، تذل" قد أسندت إلى فاعلها الحقيقي، وهو الله تعالى. ومن الأبنية المجازية قولك: ربحتِ التجارة. حمت السيوف النساء. سار الطريق. جرى النهر. أذل الحرص أعناق الرجال. تخطفهم الطريق. جمعتهم الطاعة، وفرقتهم المعصية. حيث أسندت الأفعال كما ترى إلى غير فاعلها الحقيقي، فالتجارة لا تفعل الربح، والسيوف لا تفعل الحماية، والطريق لا يسير ولا يتخطف، والنهر لا يجري، والحرص لا يفعل الإذلال، والطاعة لا تفعل الجمع، والمعصية لا تفعل التفريق؛ ولذا كان الإسناد في هذه الأمثلة إسنادًا مجازيًّا. وانظر إلى قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} (القارعة: 6، 7) وقوله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} (البقرة: 16) إنك تلاحظ أنه قد أسندت "راضية" اسم فاعل إلى ضمير العيشة، والعيشة تكون مرضية لا راضية، وأسند الربح إلى التجارة، والرابح هو صاحبها، وليست هي، فالإسناد في الآيتين إذن إسناد مجازي. ويدعو بعض الباحثين أن المجاز العقلي من ابتكارات الإمام عبد القاهر الجرجاني، ولكن عندما نرجع إلى أصول البلاغة في التراث العربي لدى الدارسين الأوائل نراهم قد اهتموا بدراسة هذا الأسلوب، وأشاروا إليه كما أشاروا إلى غيره من مسائل البلاغة وفنونها، وإن لم يسموه بهذه التسمية، فقد أشار إليه سيبويه في كتابه عند حديثه عن بيت الخنساء: ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار

إذ يقول: "فجعلها الإقبال والإدبار مجاز على سعة الكلام كقولك: نهارك صائم، وليلك قائم"، وتحدث عنه أيضًا أبو عبيدة في كتابه (مجاز القرآن) وذكر الآية الكريمة {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} (الحاقة: 21) قال: "وإنما يرضى بها الذي يعيش فيها". وقال عن الآية الكريمة: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} (النمل: 86) قال: "مجاز ما كان العمل والفعل فيه لغيره أن يبصروا فيه، ألا ترى أن البصر إنما هو في النهار، والنهار لا يبصر، كما أن النوم في الليل، ولا ينام الليل، فإذا نيم فيه قالوا: ليله نائم ونهاره صائم، قال جرير: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم" وينمو الحديث عن أسلوب المجاز العقلي عند الفراء في كتابه (معاني القرآن) إذ أشار إليه في الآيات: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (هود: 43) {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} (الطارق: 6) {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} (القارعة: 7) كذلك في قول الشاعر: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فالمعنى: لا معصوم اليوم من أمر الله، خلق من ماء مدفوق، في عيشة مرضية، واقعد فإنك أنت المطعوم المكسو. كما تحدث عنه في قول الله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} (البقرة: 16) إذ يقول: ربما قال قائل: كيف تربح التجارة؟ وإنما يربح الرجل التاجر، وذلك من كلام العرب: ربح بيعك، وخسر بيعك. فخص القول بذلك لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة، فعلم معناه. ومثله في كلام العرب: هذا ليل نائم. ومثله في كلام الله -سبحانه وتعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} (محمد: 21)، وإنما العزيمة للرجال. فهنا تراه يضيف جديدًا إلى دراسة هذا اللون هو أن يكون المخاطب عالمًا بموضع التجوز عارفًا بالإسناد الحقيقي الذي عدل عنه، وهذا يتم عن طريق السياق وقرائن الأحوال.

وتحدث الجاحظ أيضًا في (الحيوان) عن المجاز العقلي وقال: "وسمع الحسن رجلًا يقول: طلع سهيل، وضرب الليل. فكره ذلك وقال: إن سهيلًا لم يأت بحر ولا ببرد قط. ولهذا الكلام مجاز ومذهب، وقد كرهه الحسن كما ترى وكره مالك بن أنس أن يقول الرجل للغيم والسحابة: ما أخلقها للمطر. وهذا كلام مجازه قائم، وقد كرهه ابن أنس، كأنهم من خوفهم عليهم العود في شيء من أمر الجاهلية احتاطوا في أمورهم، فمنعوهم من الكلام الذي فيه أدنى تعلق". انتهى من كلام الجاحظ. فهنا نراه يشير إلى وجود أسلوب المجاز العقلي في اللغة وإلى قضية خلق الأفعال التي شغلت المسلمين في عصره، فالمعتزلة اعتقدوا أن العبد يخلق أفعاله الاختيارية، وأهل السنة يعتقدون أن الأفعال كلها مخلوقة لله. وليس هذا موضع مناقشة تلك الأمور الاعتقادية، ولكن ينبغي أن تعلم أن قولك: قام زيد. ليس مجازًا عقليًّا، بل هو حقيقة وزيد فاعل للقيام بتأثير الله -عز وجل- فيه، وفرق بين الخلق بمعنى الإيجاد والتأثير وبين الخلق بمعنى القيام بالفعل بأمر الله. بمعنى أن العرب إنما وضعت قام لفِعل العبد الواقع بخلق الله تعالى فالقيام معنى قائم بزيد ووصف له، وله فيه كسب وتحصيل، وهذا يكفي ليكون الإسناد حقيقيًّا، فالإسناد الحقيقي إذن يدخل فيه ثلاثة أقسام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 5 الحقيقة العقلية والمجاز العقلي.

الدرس: 5 الحقيقة العقلية والمجاز العقلي.

تعريف الحقيقة العقلية

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (الحقيقة العقلية والمجاز العقلي) تعريف الحقيقة العقلية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونسترضيه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا كما نعوذ به من سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله؛ وبعد: فقد توقفنا في درسنا الفائت على أن من أحوال الإسناد الخبري التجوز في الإسناد أو في النسبة وهو ما نسميه بالمجاز العقلي أو المجاز الحكمي وألمحنا إلى أن الإسناد لا يجري على وتيرة واحدة وإنما يتنوع وتتعدد طرقه فمنه ما هو حقيقة ومنه ما هو مجاز؛ لأن المتكلمين لا يلتزمون إسناد الأحداث والأفعال إلى ما هي له دائمًا وإنما يتوسعون ويتجوزون في الإسناد انطلاقًا مع الخيال واستجابة للحس وتأنقًا في أداء المعاني، ونفصل الحديث عن هذا الأمر، فأقول: لما كان إسناد الكلمة إلى الكلمة أمرًا عقليًّا يحصل بقصد المتكلم دون واضع اللغة فقد قالوا: حقيقة عقلية ومجاز عقلي؛ لرجوع ذلك إلى تصرف العقل وإرادة المتكلم، ومن الواضح أنه لا دخل للغة في هذا التجوز؛ لأنها لم تحدد للفعل فاعلًَا معينًا بحيث إذا أسند إليه كان الإسناد حقيقة، وإذا أسند إلى غيره كان مجازًا، فالحقيقة والمجاز في الإسناد عقليان لا لُغويان، والمجاز قسيم الحقيقة؛ أي: مقابل لها، فالحديث عن المجاز العقلي يستدعي الحديث عن الحقيقة العقلية. فما المراد إذن بكل منهما؟ عرف الخطيب القزويني الحقيقة العقلية تعريفًا قصر فيه الإسناد على الفعل وما في معناه فقال: الحقيقة العقلية هي إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر. هذا موجود في كتاب (الإيضاح) ويحتاج هذا التعريف إلى شرح؛ فما في معنى الفعل كالمصدر واسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل، وقوله: إلى ما هو له يعني: أن يسند

الفعل إلى ما حقه أن يسند له كالفاعل في الفعل المبني للمعلوم نحو: ضرب زيد عمرًا، والمفعول به فيما بني للمجهول نحو: ضرب عمرو، فالفعل المبني للفاعل من حقه أن يسند إلى الفاعل كما في المثال الأول، والفعل المبني للمفعول من حقه أن يُسند إلى المفعول الذي هو نائب الفاعل كما في المثال الثاني. وعلى ذلك فالإسناد في قولك: ربح محمد في تجارته، وصام العابد نهاره وقام ليله، وجرى الماء، وقام زيد، وأحسن خالد، هو من قبيل الحقيقة العقلية؛ لأنه إسناد إلى ما هو له، ومعنى: كونه له، أن معنى الفعل قائم به ووصف له، وحقه أن يسند إليه سواء أكان مخلوقًا لله تعالى كما يقول أهل السنة، أم كان لغيره كما يقول المعتزلة، وسواء أكان صادرًا عنه باختيار كضرب أم لا كمرض ومات. ويمكن القول: إن الأفعال من هذه الجهة تنقسم إلى أفعال استأثر الله بها مثل: خلق ورزق وأحيا وأمات، وإلى أفعال لغيره كسب فيها مثل: قام وقعد وأحسن وأساء، وإلى أفعال يراد من إسنادها مجرد الاتصاف بها مثل: صح ومرض ومات وعظم وتنزه. ف الطائفة الأولى إسنادها إلى الله حقيقي ولا يصح إسنادها إلى غيره على سبيل الحقيقة -سبحانه وتعالى - والطائفة الثانية منها ما يصح إسنادها إلى غير الله تعالى إسنادًا حقيقيًّا كأحسن، ومنها ما لا يصح إسنادها إلى الله تعالى مثل: قام وقعد، والطائفة الثالثة منها ما يسند إليه تعالى مثل: عظم وتنزه، ومنها ما يسند إلى غير مثل: صح ومرض ومات؛ فالفاعل في الإسناد الحقيقي يشمل مَن يقع منه الفعل حقيقة، ومَن يقع منه الفعل حكمًا، ومن يتصف به، ف من النوع الأول قوله تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} (آل عمران: 26) وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} (النجم: 43) {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (النجم:44، 45).

فالله هو الخالق لهذه الأفعال على الحقيقة من الإيتاء والنزع والإعزاز والإذلال والإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء. ومن الثاني قولك: قام زيد وقعد خالد، فالفاعل هنا فعل الفعل حكمًا بمعنى أن القيام صدر منه بأمر الله تعالى، وله فيه كسب وتحصيل. ومن الثالث: قولك: مرض زيد، وبرد الماء، وطالت النخلة؛ فالفاعل هنا متصل بالفعل والإسناد في الأنواع الثلاثة حقيقي. قوله: عند المتكلم في الظاهر -في التعريف- قيدٌ في التعريف لإدخال ما يطابق الاعتقاد دون الواقع وما يطابق الواقع دون الاعتقاد، وما لا يطابق شيئًا منهما؛ فالحقيقة العقلية بذلك أربعة أقسام: أحدها: ما يطابق الواقع والاعتقاد معًا ك قول المؤمن: أنبت الله البقلةَ، وشفى الله المريض. وثانيها: ما يطابق الواقع دون الاعتقاد، ك قول المعتزلي لمن لا يعرف حاله وهو يخفيها عنه: خالق الأفعال كلها هو الله تعالى، فالمعتزلي يعتقد أن أفعال العباد الاختيارية مخلوقة له، فهذا القول منه يطابق الواقع، لكن يخالف اعتقاد المعتزلة، والمخاطَب يجهل حاله والإسناد إلى ما هو له في الظاهر. ثالثها: ما يطابق الاعتقاد دون الواقع كقول الجاهل: شفى الطبيب المريض، معتقدًا شفاء المريض من الطبيب مع أن الواقع خلاف ذلك؛ فالشفاء من الله تعالى والطبيب سبب له، ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن بعض الدهريين: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (الجاثية: 24)، فالدهري يعتقد أن الدهر هو الذي

المجاز العقلي وعلاقاته.

يهلك حقيقة وهذا الاعتقاد باطل؛ لأن الدهر ظرف للأحداث ولا تأثير له في صنعها أو توجيهها حتى ينسب إليه شيء من ذلك. رابعها: ما يخالف الواقع والاعتقاد معًا، كالأقوال الكاذبة التي يكون القائل عالمًا بحالها دون المخاطب كقوله: سافر محمد وهو لم يسافر، فهو يخالف الواقع والاعتقاد معًا، وإنما كان من قبيل الحقيقة؛ لأن المخاطب لا يعلم بكذبه، وليس من شأن الكاذب أن ينصب قرينة تدل على كذبه حتى يفطن إليه المخاطب، بل يحرص على ترويج كذبه. المجاز العقلي وعلاقاته وننتقل بعد الحديث عن تعريف الحقيقة العقلية للحديث عن قسيمها وهو المجاز العقلي؛ فما هو يا ترى؟ المجاز العقلي: هو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتؤول. كذا في (الإيضاح)، فقوله: إلى ملابس له، يشير إلى أنه لا بد في هذا المجاز من علاقة كسائر المجازات، وهذه العلاقة هي الملابسة والارتباط بين الفعل وفاعله المجازي، أو بين الفاعل الحقيقي والفاعل المجازي على رأي آخر. وملابسة الفعل لفاعله المجازي من جهة وقوعه عليه أو فيه أو بسببه وما شابه ذلك؛ أما الفاعل المجازي فهو يلابس الفاعل الحقيقي من حيث تعلق وجود الفعل بكل منهما، والإسناد هنا إلى غير ما هو له؛ أي: إلى غير ما حقه أن يسند إليه، وبذلك تَخرج الحقيقة العقلية؛ وهذا هو أساس الفرق بين الحقيقة العقلية والمجاز العقلي.

أضِف إلى ذلك أن المجاز لا بد له من قرينة صارفة عن إرادة ظاهر الإسناد، وقد أشار إليها بقوله: بتؤول؛ لأن التأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى غيره، وبدون القرينة يبقى الإسناد على ظاهره فيكون من قبيل الحقيقة؛ ففي قول المؤمن: أنبت الربيع البقل، أسند الإنبات إلى الربيع، وفاعل الإنبات الحقيقي هو الله -سبحانه وتعالى- والربيع زمن للفعل؛ ففي إسناد الإنبات للربيع إسناد إلى غير ما هو له، فهو مجاز عقلي علاقته الزمانية، والقرينة التي تصرف عن إرادة ظاهر الإسناد هي حالُ المتكلم نفسه. وفي قول الملحد: أنبت الربيعُ البقلَ، أسند الفعل إلى الربيع، هو يعتقد أن الربيع هو الفاعل الحقيقي وهو غير متؤول، وعلى ذلك يكون الإسناد على حقيقته؛ فاشتراط التؤول في الإسناد المجازي يُخرج نحو قول الدهريين: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}؛ لأن إسناد الفعل يهلك يوافق اعتقادهم، فلا تأويل فيه فهو حقيقة عقلية عند هؤلاء الملحدين، كما يخرج الأقوال الكاذبة أيضًا إذ لا تؤول فيها؛ أي: لا قرينة؛ لأن الكاذب لا ينصف قرينة صارفة عن إرادة الظاهر من الكلام. وعلى ذلك فالمجاز العقلي لا بد له من علاقة مصححة للإسناد وهي ما تسمى ملابسة، ولا بد له من قرينة صارفة عن إرادة الإسناد الحقيقي شأنُه في ذلك شأن غيره من المجازات، ف العلاقة هي التي تصحح الإسناد، إذ لا يصح أن نسند الفعل إلى فاعل لا تربطه بالفعل صلة ولا تجمعه به علاقة. والقرينة هي التي تدل على مراد المتكلم، وبدونها يصبح الكلام إلغازًا، ويبقى المعنى في بطن الشاعر كما يقولون؛ إذ لا دليل يفصح عن المراد من حقيقة أو مجاز.

علاقات المجاز العقلي: العلاقة يمكن النظر إليها من ناحيتين: الأولى: العلاقة بين الفاعل المجازي والفاعل الحقيقي. الثانية العلاقة بين الفعل وما في معناه والمسند إليه المجازي. والرأي الأول هو المستفاد من كلام عبد القاهر حيث يقول في شأن الملابسة: هي عبارة عن الجهة التي راعاها المتكلم، حين أعطى الربيع حكم القادر في إسناد الفعل إليه. هذا ذكره في (أسرار البلاغة)، وهو الذي يفهم من كلام الزمخشري حين عرف المجاز العقلي بقوله: أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له. ذكره في (الكشاف). ومعناه: أن يسند الفعل إلى فاعل له علاقة وملابسة بالفاعل الحقيقي كما تلبست التجارة بالمشترين في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} (البقرة: 16) وأصله: فما ربح المشترون أو التجار في تجارتهم؛ فهناك ملابسة بين الفاعل المجازي التجارة، والفاعل الحقيقي المشترين، أو التجار، هذه الملابسة هي تعلق الفعل بكل منهما، فتعريف الزمخشري للمجاز العقلي ينص صراحةً على أن هذه الملابسة بين الفاعل الحقيقي والفاعل المجازي من حيث تعلق وجود الفعل بكل منهما وإن اختلفت جهة التعلق؛ ولذلك يقول سعد الدين التفتازاني في (المطول) سنة 58: والمعتبر عند صاحب (الكشاف) تلبس ما أسند إليه الفعل بفاعله الحقيقي. وذهب بعض البلاغيين إلى أن الملابسة هنا هي العلاقة بين الفعل وما في معناه والفاعل المجازي؛ ب أن يلابسه مطلق الملابسة، ويبدو أن هذا الرأي له سند عند

القائلين به ألا وهو الخطيب القزويني: وللفعل ملابسات شتَّى -يقول هكذا - يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والسبب. وهو نفس كلام الزمخشري في (الكشاف) نقله عنه الخطيب، لكن المتتبع لكلام الخطيب يرى أنه قد شرح وجهة نظره بعد ذلك وبين مراده من كلامه بما يعود إلى الرأي الأول. يقول الخطيب في (الإيضاح): وإسناده - أي: الفعل أو ما في معناه - إلى غيرهما لمضاهاته لما هو له في ملابسة الفعل مجاز، كقولهم في المفعول به: عيشة راضية، والمعروف أن العلاقة في المجاز اللغوي ت ك ون بين المنقول عنه والمنقول إليه، أو بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، فقياسًا عليه تكون علاق المجاز العقلي بين المسند إليه الحقيقي والمسند إليه المجازي طردًا للباب على وتيرة واحدة. على أن هذا الرأي أوضح من الثاني وأنسب للمقام؛ لأن هذا هو المبرر لتحول الإسناد من الفاعل الحقيقي للفاعل المجازي، فإنه يلزم أن تكون هناك علاقة بين الفاعل الحقيقي والفاعل المجازي في نفس الوقت، وبذلك يمكن النظر إلى العلاقة من أي جهة منهما. ومما تجدر الإشارة إليه: أن العلاقة بين المسند إليه الحقيقي والمسند إليه المجازي واحدة لا تعدد فيها، أما العلاقة بين الفعل والمسند إليه المجازي فهي متعددة، وهذا يرجح الرأي الثاني، ذلك أن الفعل يتعلق بالفاعل من جهة صدوره منه، ويتعلق بالمفعول به من جهة وقوعه عليه، ويتعلق بالمصدر لكونه جزءَ مفهومِه، ويتعلق بالزمان لوقوعه فيه كذلك المكان، ويتعلق بالسبب لوقوعه به أو لأجله. وعلى هذا فعلاقات المجاز العقلي بحسب ما أسند إليه الفعل أو معناه مجازًا هي: 1 - المفعولية؛ وذلك بإسناد الفعل المبني للفاعل إلى المفعول به مثل قولك: رضيت عيشة فلان، ف قد أسند الرضا في هذا المثال إلى المفعول؛ لأن

العيشة في الحقيقة والواقع مرضية لا راضية، ولو رجعنا بهذا الإسناد إلى حقيقته لقلنا: رضي فلان عيشته، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} (الحاقة: 21) حيث أَسند ما في معنى الفعل وهو {رَاضِيَةٍ} إلى مفعوله وهو الضمير العائد إلى عيشة، وأصل هذا الإسناد عيشة راض صاحبها، فالإسناد في الآية الكريمة مجازي وهو يفيد المبالغة في الرضا؛ فكأن الرضا قد تجاوز صاحب العيشة إلى العيشة نفس ها، فالعيشة ليست مرضية فقط وإنما هي راضية أيضًا، وإذا علِمنا أن المقصود بالعيشة هنا النعيم الذي يحظَى به أهل الجنة ويتقلبون في أعطافه ويسعدون بجواره، فإن وصفها بالرضا يعني أنها دائمة لا تنقطع، ما دام ثواب الرضا يشمل الطرفين، وتمام النعمة في دوامها وبقائها. ومن هذا الن ح وأيضًا قوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} (الطارق: 6) فقد أسند: {دَافِقٍ} إلى ضمير الماء؛ أي: أسنده إلى المفعول؛ لأن الماء مدفوق لا دافق فهو مجاز عقلي، وأصل الإسناد ماء دافق صاحبه، ولكن المجاز أبلغ من الحقيقة هنا لما فيه من المبالغة في الدفق، وكأن الماء لسرعة اندفاعه دافق يدفع بعضه بعضًا؛ فالعلاقة هنا هي المفعولية. ومنه قول الشاعر: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فقد أسند اسم الفاعل الطاعم الكاسي إلى ضمير المفعول، والشاعر يريد أن يقول له: إنك لست أهلًا لنيل المعالي فلا تجهد نفسك في طلبها، فإن منزلتك دون ذلك، فأنت المطعوم المكسو، فوضع اسم الفاعل موضع اسم المفعول على سبيل التجوز في الإسناد، والدليل على ذلك أن الشاعر يهجو المخاطب ولا يعقل أن يقول له: لا ترحل لطلب المكارم، ثم يقول له: إنك تطعم غيره وتكسوه، وإنما أراد أن يقول لمخاطبه اقعد عالة على غيرك مطعومًا مكسوًّا.

العلاقة الثانية الفاعلية: وتكون بإسناد الفعل المبني للمفعول أو معناه إلى الفاعل مثل قولهم: سيل مفعم، بصيغة اسم المفعول؛ أي: مملوء، مسندًا إلى ضمير السيل الذي هو الفاعل، وحق اسم المفعول أن يسند إلى المفعول الذي صار نائب فاعل وهو المكان؛ إذ من المعروف أن السيل هو الذي يفعم المكان؛ أي: يملؤه فالسيل مفعم بكسر العين والمكان مفعم بفتحها، ولكنهم تجاوزوا في الإسناد حيث أسندوا اسم المفعول إلى ضمير السيل الذي هو الفاعل، فهو مجاز عقلي علاقته الفاعلية. ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} (مريم: 61) وقوله: {مَأْتِيًّا} اسم مفعول مسند إلى ضمير الوعد الذي هو فاعل في الحقيقة والواقع؛ لأن الوعد يأتي ولا يؤتَى، وحقيقة الإسناد مأتيًا صاحبه؛ أي: يأتيه الوعد. ومنه أيضًا قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} (الإسراء: 45) فقد أسند اسم المفعول: {مَسْتُورًا} إلى ضمير الفاعل وهو الحجاب، والمعروف أن الحجاب ساتر لا مستور، فهو الفاعل الحقيقي للمسند، ولذلك سميت هذه العلاقة بالفاعلية. العلاقة الثالثة المصدرية: وتتحقق بإسناد الفعل إلى مصدره كقولهم: فلان جد جده، فالفعل جد قد أسند إلى مصدره، وحقه أن يسند إلى الفاعل ف يقال: جد فلان جد، ففاعل الجد هو الشخص الذي يجِد في عمله، ومن ذلك قول أبي فراس الحمداني: سيذكرني قومي إذا جد جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

وأصل الإسناد هنا: إذا جدوا جدهم، فالفاعل الحقيقي هو الضمير العائد على قوم أبي فراس، ولكن الشاعر عدَل عن هذا الأصل للمبالغة، فأسند الفعل جد إلى مصدره، والعلاقة هي المصدرية، أما القرينة التي ترشد إلى هذا التجوز وتدل على أن الكلام مصروف عن ظاهره، فهي استحالة صدور الفعل جد من الجد، ومنه قولهم أيضًا: شعر شاعر، وهو مجاز عقلي علاقته المصدرية وقرينته استحالة صدور الفعل من مصدره، فالكلام مبناه على التؤول. ومن ذلك أيضًا قولنا: الله جل جلاله وعظمت عظمته، ف قد أسند الفعل إلى مصدره وكان حقه أن يسند إلى فاعله الحقيقي وهو الله -جل وعلا- فيقال: جل الله جلاله وعظم عظمته، ثم عدل عن هذا الأصل؛ للمبالغة في وصفه تعالى بالجلال والعظمة. العلاقة الرابعة الزمانية: وتكون بإسناد الفعل إلى زمانه الذي وقع فيه كما في قولك: صام نهاره وقام ليله، وقولهم: نهاره صائم وليله قائم؛ فالنهار لا يصوم والليل لا يقوم، الذي يفعل ذلك حقيقةً هو العابد، إذ يصوم في نهاره ويقوم في ليله، ف إسناد الصيام والقيام إلى النهار والليل هو من قبيل إسناد الفعل إلى زمانه الذي وقع فيه. ومنه قول جرير: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم حيث أسند الوصف نائم إلى الضمير العائد على الليل مع أن الليل لا ينام، إنما هو ظرف زمان يقع فيه النوم، وقد أسند ما هو في معنى الفعل إلى زمانه مجازًا عقليًا علاقته الزمان، ومنه قولهم: يوم مشرق ونهار عاصف، وقد أسند الإشراق والعصف إلى اليوم والنهار، وحقهما أن يسندَا إلى الفاعل الحقيقي بكل

منهما، وأصل الإسناد: يوم مشرقة شمسه فيه، ونهار عاصفة ريحه فيه، فأسند الحدث إلى زمانه على سبيل المبالغة. ومنه قوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} (المزمل: 17) حيث أسند شيب الولدان إلى اليوم، واليوم لا يجعل الوليد يشيب، وإنما يجعل الولدان شيبا هو الله -سبحانه وتعالى- في هذا اليوم، فالإسناد في الآية الكريمة مجازي؛ لأن الفعل لم يسند إلى فاعله الحقيقي وهو الله، بينما أسند إلى الزمن الذي يقع فيه، فهو مجاز عقلي علاقته الزمان. ويدخل هذا النوع في الشعر العربي. وانظر إن شئتَ إلى قول طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك بالأنباء من لم تزود وقد أسند إلى الأيام قدرتها على إظهار ما يجهله الإنسان، والأيام غير قادرة على تحقيق ذلك، وإنما الفاعل الحقيقي هو الله - قدرته - وأصل الإسناد: سيبدي الله لك في الأيام ما كنت جاهلًا. وعليه قول المتنبي: كلما أنبت الزمان قناة ... ركب المرء في القناة سنانا وحقيقة الإسناد هنا أنبت الله في الزمان قناة، والقرينة هي استحالة صدور الإنبات من الزمان. وتأمل قول أبي البقاء الرندي: هي الحياة كما شاهدتها دول ... من سره زمن ساءته أزمان فالزمن لا يقدم مسرة ولا إساءة، وإنما الحوادث التي تقع في الزمن هي التي تفعل ذلك؛ فالإسناد في هذه الأبيات مجاز عقلي علاقته الزمانية؛ لأن الفاعل المجازي يشابه الفاعل الحقيقي في ملابسة الفعل؛ لأنه زمن، والكلام مبناه على التؤول

وعدم إرادة ظاهر الإسناد؛ وذلك لاستحالة صدور الفعل في الأبيات السابقة من زمانه. العلاقة الخامسة المكانية: وتحقق بإسناد الفعل أو معناه إلى مكان مثل قولهم: سار الطريق وجرى النهر، فالطريق لا يسير والنهر لا يجري، وإنما يسير الناس ويجري الماء، والطريق مكان السير والنهر بمعنى الشق في الأرض هو مكان جريان الماء، فأسند الفعل في المثالين إلى مكانه على سبيل المبالغة، وعليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (البروج: 11) وما أكثر ما تكرر هذا في القرآن الكريم، فهو مجاز عقلي علاقته المكانية، ومنه قولهم: سال الوادي؛ أي: سال الماء فيه يقول الشاعر: ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم أبطح الأبطح هو المكان المتسع يمر به السيل، ويقول ابن المعتز: سالت عليه شعاب الحي حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير ويقول الآخر: وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب وفي استطاعتك أن تقف على موضع التجوز في الأبيات المذكورة، وتتعرف على العلاقة التي صحح للتجوز، والقرينة المانعة من حمل الإسناد على ظاهره، وأثر هذا الأسلوب المجازي في بلاغة الكلام الذي ورد فيه. العلاقة السادسة السببية: وتتحقق بإسناد الفعل إلى سببه سواء أكان السبب الآمر أو السبب المؤثر أو السبب الغائي كما في قولهم: بنَى الأمير المدينة، وأصل

الإسناد بنى العمال المدينة بأمر الأمير، فأسند الفعل إلى سببه الآمر. وقد يسند الفعل إلى السبب المؤثر كما في قول عمر بن أبي ربيعة: أبَى لي عرض أن أضام وصارم ... حسام وعز من حديث وأول مقيم بإذن الله ليس ببارح ... مكان الثريا قاهر كل منزل وأصل الإسناد: أبت لي نفس أن أضام بسبب عرضي وبسبب صارمي الحسام، وعِزي الحديث، والأول المقيم في مكان الثريا، فحوَّل الإسناد إلى السبب -كما ترى- في البيت الأول وهو سبب مؤثر؛ أي: دافع ومحرك للنفس وحافز لها كي ترفض الذل وتأبى الضيم ولا ترضى بالهوان، فالشاعر هنا قد نظر إلى ماضيه وحاضره فوجد أنه أرفع مقامًا وأعلى شأنًا وأكرم نفسًا من أن يلحقه أذى أو يقع به ضيم أو هوان، وهو يملك القدرة على دفع الضيم ورد الأذى عن نفسه وعشيرته، ولا يخفَى عليك أن الإسناد إلى السبب فيه قدر من المبالغة التي يقتضيها المقام، فالإسناد المجازي هنا أبلغ من الأسلوب الحقيقي؛ لمطابقته لمقتضى الحديث. ومن ذلك قول عوف بن الأحوص: فلا تسأليني واسألي عن خليقتي ... إذا رد عافي القدر من يستعيرها وعافِي القدر ما يبقى فيها من المرق، وهو في زمن الجدب سبب لرد مستعيرها، إذ الحاجة ماسة إليه فلا يفرط فيه صاحب القدر، لكن الشاعر ينوه بكرمه الشديد في تلك الظروف، فهو كريم النفس يجود بالكثير في الوقت الذي يضن فيه غيره ببقية المرق ونحوه في القدر، والشاهد في قوله: إذا رد عافي القدر مَن يستعيرها، فهو إسناد مجازي وحقيقته إذا رد صاحب القدر من يستعيرها بسبب عافيها، ثم أسند الفعل "رد" إلى سببه وهو عافي القدر، فهو مجاز عقلي علاقته السببية.

ومنه أيضًا قول ابن الغدير: إنا لمن معشر أفنَى أوائلهم ... قيل الكماة ألا أين المحامون جمع كمي وهو المستتر بسلاحه فلا يدري من أين يؤتَى، قيل: الكماة قول الشجعان، فالشاعر هنا يفخر بشجاعته وشجاعة قومه، وبسالتهم في الحروب، وأنهم يندفعون إلى حومة الوغى ولا يخافون العدو ولا يهابون الموت في سبيل الدفاع عن شرف القبيلة والذود عن الحمى، فالذي أفنى أوائل معشره إنما هو الله تعالى؛ بسبب إقدامهم وشجاعتهم في ميادين الحروب، وتلبيتهم دعوة الداعي كلما قال الشجعان: أين المحامون عن الأهل والعرض، فأسند الفعل "أفنى" إلى سببه قيل الكماة على سبيل المجاز العقلي لعلاقة السببية كما ترى. ومن ذلك قولهم: سرتني رؤيتك؛ أي: سرني الله بسبب رؤيتك، وقولهم: محبتك جاءت بي إليك، وأصله: جئت إليك بسبب محبتك. ومنه قول أبي نواس: يزيدك وجهه حسنًا ... إذا ما زدته نظرًا وحقيقة الإسناد في هذا البيت يزيدك الله حسنًا في وجهه بسبب ما أودعه فيه من دقائق الحسن والجمال. وتأمل قول أبي الطيب في كافور الإخشيدي: أبا المسك أرجو منك نصرًا على العِدا ... وآمل عِزًّا يخضب البيض بالدم أبو المسك كنية لكافور الإخشيدي والبيض هي السيوف؛ وهو يتوجه إلى كافور بما يجيش في صدره من أماني، ويقول له: أرجو منك أن تنصرني على أعدائي،

وأن توليني عزًّا أتمكن بي منه، وأخضب سيوفي بدمائهم، وقد أسند الشاعر خضب السيوف بالدم إلى ضمير يعود على العز وهو إسناد مجازي؛ لأن العز لا يخضب السيوف بالدم، ولكنه سبب يحفز إلى المواجهة ويدفع إلى منازلة الأقران بمجموعة من الأبطال الذين يخضبون السيوف بالدم، البيت إذن مجاز عقلي علاقته ال سببية لإسناد الفعل إلى سببه المؤثر. وقد يسند الفعل إلى السبب الغائب؛ أي غايته كقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (إبراهيم: 41) وأصله: يوم يقوم الناس لأجل الحساب؛ فأسند الفعل: {يَقُومُ} إلى غايته: {الْحِسَابُ} على سبيل التجوز، وفي ذلك ما فيه من الإيجاز والمبالغة. وهذه الأمثلة كلها من إسناد الفعل إلى سببه كما علمت، فهي إذن مجاز عقلي علاقته السببية. يدخل في دائرة هذه العلاقة معظم الأمثلة التي تنضوي تحت لواء هذا الباب كما يتضح من تصفح ما تركه البلاغيون من آثار في المجاز العقلي وعلاقاته وشواهده الشعرية والنثرية، وهذا النوع من المجاز القائم على إسناد الفعل إلى سببه كثير الوقوع في القرآن الكريم، فمنه قوله تعالى في وصف الشجرة الطيبة: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} (إبراهيم: 25) وقوله سبحانه في شأن الآيات: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (الأنفال: 2) وقوله: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} (الزلزلة: 2) وقوله عن الرياح: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (الأعراف: 57). وقد أثبت الفعل في جميع ذلك لما لا يثبت له فعل إذا رجعنا إلى المعقول على معنى السبب، وإلا فمعلوم أن النخلة ليست تحدث الآكل، ولا الآيات تولد

العلم في قلب السامع لها، ولا الأرض تخرج الكامن من بطنها من الأثقال، ولكن إذا حدثت فيها الحركة بقدرة الله ظهر ما كنز فيها وأُودِع جوفها، وكذلك الرياح لا تقل السحاب على الحقيقة؛ لإثبات الفعل لغيره القادر لا يصح في منطق العقل إلا إذا كان هذا الإثبات على سبيل التؤول وعلى العرف الجاري بين الناس في أن يجعلوا الشيء إذا كان سببًا أو كالسبب في وجود الفعل من فاعله كأنه فاعل، فيسند الفعل إليه على هذا التأويل، كذا أفاده الشيخ عبد القاهر في (أسرار البلاغة). من السببية قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} (القصص: 4) فقد نسب الفعل: {يُذَبِّحُ} إلى: {فِرْعَوْنَ} لكونه الآمر به، كذلك قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} (إبراهيم: 28) والحقيقة أن الله سبحانه هو الذي أحلهم دار البوار، وإنما نسب فعل الله إلى أكابرهم؛ لأن سببه كفرهم، وسبب كفرهم أمرُ أكابِرهم إياهم بالكفر، وإن شئت فتأمل قوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (فصلت: 23) وقوله تعالى في شأن إبليس اللعين: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} (الأعراف: 27) وقد أسند الفعل في الأول إلى الظن؛ لأنه سببه كما نسب النزع في الثانية إلى إبليس وهو فعل الله تعالى في الحقيقة؛ وذلك لأن سببه هو الأكل من الشجرة، وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياهما إنه لهما لمن الناصحين، كذا ذكره الخطيب القزويني في (الإيضاح). ولا يخفَى عليك فهم المجاز في قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) وفي قوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ

عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} (المائدة: 8) وغير ذلك من أساليب المجاز الواردة في كتاب الله تعالى على اختلاف الصور والعلاقات، فهذا النوع من المجاز شائع في القرآن الكريم، وهو من أسرار بلاغته وروعة نظمه وكمال إعجازه. على أن هذه العلاقات الست التي ذكرناها هي التي أوردها الخطيب في كتاب (الإيضاح) وهو متأثر في مبحث المجاز العقلي بكلام الزمخشري في (الكشاف) في تفسيره لقول الله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (البقرة: 7) الآية. فقد ذكر الزمخشري في هذا الموضع أن للفعل ملابسات شتى، تلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والسبب، بيد أن الخطيب توقف عند هذه العلاقات الست ولم يتابع الزمخشري في مواضعَ أخرى من (الكشاف)؛ فقد أشار إلى أنواع أخرى من الملابسات؛ منها إسناد الفعل إلى الجنس كله وهو في الحقيقة مسند إلى بعضه كقولهم: بنو فلان قتلوا فلانًا والقاتل واحد منهم، ومنه قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} (الأعراف: 77) حيث أسند العقرَ إلى جميعهم وهو كما ذكر الزمخشري في تفسيره كان لبعضهم؛ لأنه كان برضاهم والراضي بالشر كفاعله، وبذلك حل العذاب للجميع. وإسناد الفعل إلى الجارحة التي هي آلته كقولك: هذا أبصرته عيني وسمعته أذني وقاله لساني، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (البقرة: 283) فالآثم في الحقيقة هو الشخص ومع ذلك أسند الإثم إلى قلبه؛ لأن كتمان الشهادة أن يضمرها لشخص ولا يتكلم بها، ولما كان إثمًا مقترفًا بالقلب أسند إليه؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ. ومنه: إسناد الفعل إلى ما له مزيد اختصاص وقربى بالفاعل الحقيقي كما في قوله تعالى: {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} (الحجر: 60) فقد أسند

الفعل: {قَدَّرْنَا} إلى ضمير المتكلمين وهم الملائكة مع أن التقدير لله وحده، وذلك من قبيل إسناد الفعل إلى ما له مزيد اختصاص وقربى من الفاعل الحقيقي كما يقول خاصة الملك: دبرنا كذا وأمرنا بكذا مع أن المدبر والآمر هو الملك لا هم، وإنما يظهرون بذلك اختصاصهم بهم وأنهم لا يتميزون عنه كذا ذكره (الكشاف). من خلال ما عرضنا نلحظ أن تعريف الخطيب للمجاز العقلي غير جامع لكل صور التجوز التي تألفها اللغة ويكثر دورانها على ألسنة الشعراء؛ فقد حصره الخطيب في إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ملابس غير ما هو له، كما حصر الحقيقة في إسناد الفعل أو معناه إلى ما هو له، وعلى ذلك يكون قولنا: الإ ن سا ن حيوان ناطق ليس بحقيقة ولا مجاز؛ لأن الإسناد فيه إلى المبتدأ فلا يدخل في نطاق تعريفه، ومعنى ذلك أن الإسناد عن د هـ إما حقيقة عقلية وإما مجاز عقلي أو واسطة بينهما كالمثال الأخير. وقد خرج عن تعريفه للمجاز العقلي صور كثيرة؛ منها: 1 - النسبة الإضافية، والمقصود بها إضافة المصدر إلى غير ما حقه أن يضاف إليه؛ مثل: أعجبني إنبات الربيع البقل، وكما في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (سبأ: 33) فقد أضيف المصدر: {مَكْرُ} إلى زمانه: {اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، وحقه أن يضاف إلى أصحابه وتقديره: بل مكرهم في الليل والنهار، ومنه قوله -عز وجل -: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (النساء: 35) والتقدير: وإن خفتم شقاق الزوجين في الحالة التي بينهما فقد أضيف المصدر: {شِقَاقَ} إلى الظرف "بين" فهو مجاز عقلي علاقته المكانية.

وأول مَن أماط اللثام عن نسبة الإضافية وصرح بأنها تدخل في نطاق المجاز الإسنادي حيث قال في (أسرار البلاغة): ومما يجب أن يُعلم في هذا الباب أن الإضافة في الاسم كالإسناد في الفعل؛ ف كل حكم يجب في إضافة المصدر من حقيقة أو مجاز فهو واجب في إسناد الفعل. 2 - النسبة الإيقاعية: أي: إيقاع الفعل على غير ما حقه أن يوقع عليه مثل قولك: أجريت النهر، فقد وقع الفعل على غير المفعول الحقيقي، وأصله: أجريت الماء في النهر، فالماء هو المفعول الحقيقي للفعل والنهر مكان له، ففي إيقاع الفعل أجريت على النهر تجوز في النسبة الإيقاعية، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} (الشعراء: 151) وأصله: ولا تطيعوا المسرفين في أمرهم، فقد أوقع ما حقه أن يقع على المفعول الصريح على المفعول المجازي؛ لمضاهاته لهم في ملابسة الفعل؛ لأنه مفعوله، وقد أشار سعد الدين التفتازاني إلى النسبة الإيقاعية وكذا الإضافية حيث قال في (المطول): إن المجاز العقلي أعم من أن يكون في النسبة الإسنادية أو غيرها، كما أن إسناد الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه المجاز، فكذا إيقاعه على غير ما حقه أن يوقع عليه، وإضافة المضاف إلى غير ما حقه أن يضاف إليه؛ لأنه جاز موضعه الأصلي. انتهى ال كلام. 3 - النسبة الوصفية: بأن يوصف الشيء بوصف محدثه وصاحبه مثل: الكتاب الحكيم والأسلوب الحكيم؛ فالحكمة في الحقيقة ليست وصفًا للكتاب، وإنما هي وصف لصاحبه وليست وصفًا للأسلوب، وإنما هي وصف لصاحبه، ومنه قوله تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} (ق: 27) فإن البعيد ليس هو الضلال وإنما هو الضال، أما الضلال فمصدر ضل، ومثله أيضًا عذاب أليم فإن الأليم؛ أي: المؤلم ليس هو العذاب، بل المعذب؛ وهكذا أسند

معنى الفعل إلى المصدر الذي لا يلابسه ذلك المسند بل يلابسه فعل آخر من أفعال فاعله، ويمكن أن يقال: إنه يلابسه بواسطة حرف الجر فهو بعيد في ضلاله وأليم في عذابه، ف يدخل هذا النوع في المجاز العقلي بمعناه عند الخطيب على هذا التقدير. الملابسة الرابعة مما لم يذكره الخطيب في الإسناد بين المبتدأ والخبر، كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (البقرة: 189)، ومنه قول الخنساء: ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار يقول عبد القاهر في بيان المجاز العقلي في هذا البيت: إنها لم ترد بالإقبال والإدبار - يعني بناقتها - غير معناهما حتى يكون المجاز في الكلمة، وإنما المجاز في أن جعلتها لكثرة ما تقبل وتدبر كأنها تجسمت من الإقبال والإدبار. ولا يرتضي عبد القاهر أن يكون بيت الخنساء من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وإن كانوا يذكرونه من هذا الباب؛ لأننا إذا قلنا: فإنما هي ذات إقبال وإدبار أفسدنا الشعر على أنفسنا، وخرجنا إلى شيء مغسول وكلام عامي مر ذ ول. انتهى كلام الشيخ عبد القاهر في (الدلائل). وهكذا استطاع عبد القاهر بحسه المرهف وذوقه الرفيع وخياله الخصب، أن يوضح المجاز في هذا البيت محتكمًا إلى الذوق الأدبي وحده، وانتهى إلى أن ما أرادته الخنساء من المبالغة في تصوير الحزن والحيرة لا يتأتى إلا بالتجوز في هذا الإسناد، وقد جاء تعريف عبد القاهر للمجاز العقلي جامعًا لكل هذه الملابسات والنسب الإسنادية؛ فقد عرفه في (أسرار البلاغة) بقوله: هو كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه في العقل بضرب من التؤول. فهو يعم إسناد الفعل أو ما في معناه وإسناد الخبر إلى المبتدأ أيضًا؛ كما رأينا في قول الخنساء السابق.

أما تعريف الخطيب فهو أضيق دائرةً من تعريف عبد القاهر؛ لأنه حصره في إسناد الفعل وما في معناه فقط، وكان حريًّا به أن يستفيد من كلام عبد القاهر في هذا الباب وهو صاحب الفضل الأكبر في تجلية هذا اللون من المجاز الحكمي. وتحرير القول فيه على نمط فريد لم يسبق إليه، وقد أشبعه عبد القاهر شرحًا وتفصيلًا في كتابيه (الأسرار) و (الدلائل) فلم يترك فيه مجالًا لمستزيد. ولذلك أرى أن تعريف عبد القاهر للمجاز العقلي هو التعريف الأمثل، ومذهبه فيه هو المذهب الجزل، وقوله هو القول الفصل؛ نعم، كانت هناك إشارات لهذا المجاز وأمثلته عند بعض المتقدمين -كما ذكرنا- كسيبويه وأبي عبيدة والفراء والجاحظ والآمدي والشريف الرضي؛ لكنها لا تعدو أن تكون بذورًا متناثرة هنا وهناك، وهي في الغالب الأعم لا تتجاوز التلميح إلى التصريح، فهي إشارات عابرة وتعليقات مقتضبة لا رابطَ بينها إلى أن جاء عبد القاهر ف قرأ حصيلة الدراسات السابقة، وجمع شتاتها، وفصل القول فيها، ووضع لها هذه التسمية المجاز الحكمي أو المجاز العقلي، وبذل جهدًا كبيرًا في الحقيقة في التفرقة بينه وبين المجاز اللغوي، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير ب بصيرته النافذة وثقافته الواسعة وخياله الرائع؛ ف المجاز العقلي تسمية وتحديدًا وتحريرًا هو من ابتكار عبد القاهر. بقي أن تعلم أنه دافع عن المجاز دفاعًا شديدًا ورد على شبه المعارضين له، وفند حججهم بأدلة قوية ونعى على هذا الصنف من الناس جهلهم بحقيقة المجاز، فقد أنكر بعض العلماء من الظاهرية وقوع المجاز في القرآن؛ لأنه يوهم الكذب والله منزه عنه هكذا قالوا، والجواب: أن الذي يمنع من صرفه عن الحقيقة إلى المجاز هو صفات الله تعالى؛ لعدم وجود قرينة المانعة، وأن كل مجاز لا بد له من قرينة صارفة عن إرادة الظاهر؛ وعلى ذلك فلا إيهامَ مع وجود القرينة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 6 تابع المجاز العقلي وبلاغته.

الدرس: 6 تابع المجاز العقلي وبلاغته.

قرينة المجاز العقلي.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (تابع المجاز العقلي وبلاغته) قرينة المجاز العقلي الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومَن والاه؛ وبعد: فقد عشنا مع علاقات المجاز العقلي الذي يكون في الإسناد وبقي أن نتكلم عن قرينة المجاز العقلي. الذي يتبادر إلى الذهن عند إلقاء الكلام هو إرادة الحقيقة، والذي يريد بكلامه المجاز لا بد أن ينصب قرينةً تدل على عدم إرادة الظاهر من الإسناد أو غيره؛ فالمجاز العقلي يحتاج إلى قرينة صارفة عن إرادة الإسناد الحقيقي، وبدون هذه القرينة يصبح الكلام إلغازًا وتعميةً، فلا يتضح المراد منه. وهذه القرينة نوعان؛ قرينة لفظية، وقرينة معنوية: أما القرينة اللفظية: فهي أن يكون في الكلام لفظ يصرفه عن ظاهره كما في قول السلطان العبدي ينصح ابنه عمرًا: أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كَر الغداة ومر العشي نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش لا تنقضي تموت مع المرء حاجاته ... وتبقي له حاجة ما بقي ألم ترَ لقمان أوصى ابنه ... وأوصيت عمرًا ونعم الوصي فمِلتنا أننا مسلمون ... على دين صديقنا والنبي فقد أسند الفعلين أشاب وأفنى إلى كر الغداة ومر العشي، كما ترى في البيت الأول، ولكن لا مانع من إرادة الحقيقة لجواز أن يكون اعتقاده كذلك وإن خالف الواقع، فإذا وصلنا إلى البيت الأخير فإننا نجد القرينة التي تدل على مراد الشاعر وذلك في قوله: فمِلتنا أننا مسلمون، فقد أفصح عن دينه وأن ملته هي الإسلام؛

أي: أنها قرينة لفظية تدل على أن الشاعر لم ينسب الفعل إلى الزمن على الحقيقة، وإنما كان متجوِّزًا في الإسناد، وهو يعتقد أن الفعل لله وحده، وأن الذي يشيب ويفني هو الله جلت قدرته. وعلى ذلك يكون الإسناد في البيت الأول من إسناد الفعل إلى زمانه، فهو مجاز عقلي علاقته الزمانية، والقرينة لفظية في البيت الأخير. وتقول أنت: شيبت رأسي الهموم والأحزان ُ، ولكن الله يفعل ما يشاء، وتقول فيه ما قيل في سابقه، وتأمل مع قول أبي النجم: قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبًا كله لم أصنع من أن رأت رأسي كرأس الأصلع ... ميز عن قنزعًا عن قنزع جذب الليالي أبطئي أو أسرعي ... ................................ وقد أسند الفعل إلى الليالي التي تتوالى ويتبع بعضها بعضًا، لكن هذا الإسناد يحتمل الحقيقة كما يحتمل المجاز في بادئ الأمر، فلما قال الشاعر بعد ذلك: أفناه قيل الله للشمس اطلعي ... حتى إذا واراك أفق فارجعي أفصح عن مراده، وأنه بنى كلامه على التؤول، ف هو مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى زمانه، والقرينة لفظية كما ترى في البيت الأخير. النوع الثاني من القرينة، القرينة المعنوية: وذلك بأن يكون مع الإسناد أمر معنوي يصرفه عن ظاهره وهي أحد أمور ثلاثة: أ- استحالة قيام المسند بالمسند إليه عقلًا مثل: محبتك جاءت بي إليك، فمن الواضح استحالة صدور الفعل وهو المجيء من الفاعل المجازي وهو المحبة، بل هي

سبب له فقط، ومن ذلك أيضًا قولك: طريق سائر ونهر جار، فالسير والجري من الحركات التي لا تكون في مثل الطريق والنهر، فلا بد من حمل الكلام على التجوز في الإسناد. ب- استحالة قيام المسند بالمسند إليه عادةً كقولك: بنَى عمرو بن العاص مدينةَ الفسطاط، فإن العادة هي التي تمنع صدور الفعل وهو البناء من الأمير وإن كان ذلك ممكنًا من جهة العقل، إذ العقل يجوز أن يبني الأمير بنفسه؛ فالاستحالة هنا من جهة العادة والعرف. ج- صدور الكلام من الموحد، وذلك كما في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم: ((وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبَطًا أو يلم)) حبطًا يعني: انتفاخًا، يلم يعني: يقارب، فهذا الكلام صادر من سيد الموحدين - صلى الله عليه وسلم- وصدوره منه قرينة على أنه لا يريد بإسناد الإنبات إلى الربيع ظاهره، والذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، وإنما هو إسناد مجازي من إسناد الفعل إلى زمانه، والفاعل الحقيقي للإنبات هو الله -سبحانه وتعالى- فعقيدة المسلم التي تنسب الأفعال إلى الله وحده قرينةٌ على المجاز في مثل هذا، ولذلك إذا كان المتكلم من الدهريين الذين يعتقدون بتأثير الدهر ويقول ون كما يحكي القرآن عنهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (الجاثية: 24) فإن كلامه يكون من قبيل الحقيقة العقلية حيث لا قرينةَ تصرفه عن ظاهره. وقد تحدث الإمام عبد القاهر عن قرينة المجاز العقلي ودورها في منع اللبس وتحديد مراد المتكلم، وكان كلامه في هذا الموضع مادة لمن جاء بعده من المتأخرين، يقول الإمام عبد القاهر في (أسرار البلاغة): واعلم أنه لا يجوز الحكم على الجملة بأنها مجاز إلا بأحد أمرين؛ فإما أن يكون الشيء الذي أثبت له الفعل مما لا يدعي أحد من المحقين والمبطلين أنه مما يصح أن يكون له تأثير في

وجود المعنى الذي أثبت له، وذلك نحو قول الرجل: محبتك جاءت بي إليك، وإما أنه يكون قد علم من اعتقاد المتكلم أنه لا يثبت الفعل إلا للقادر، وأنه ممن لا يعتقد الاعتقادات الفاسدة كنحو ما قاله المشركون وظنوه من ثبوت الهلاك فعلًا للدهر. وفي هذا النص إشارة إلى نوعي القرينة المانعة من جعل الإسناد صادرًا عن فاعله الحقيقي سواء كانت هذه القرينة مقالية أو معنوية، كما أن الأمثلة التي ذكرها الإمام عبد القاهر هي التي رددها السكاكي والخطيب وغيرهما من البلاغيين. وهنا سؤال: ما هو الفرق بين المجاز اللغوي والمجاز العقلي؟ يتردد هذا كثيرًا على مسامعنا. ينقسم المجاز قسمين؛ مجاز لغوي ومجاز عقلي؛ فالأول مثل قولك: رأيت الأسد يخطبـ وتعني بذلك رجلًا شجاعًا، فقد استعمل اللفظ المفرد أسدًا في غير معناه الوضعي لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، وكقولك أيضًا: رعينا الغيث بمعنى النبات المسبب عنه، فاستعمال الغيث في النبات هو من قبيل استعمال اللفظ في غير ما وُضع له لعلاقة السببية مع قرينة مانعة من إرادة الحقيقة، وهو نوع آخر من المجاز اللغوي مجاز مرسل، فالتجوز هنا واقع في اللفظ المفرد، وطريق التجوز هو اللغة، سواء كان لاستعارة كما في المثال الأول لعلاقة المشابهة، أو في المجاز المرسل المثال الثاني لعلاقة السببية. لماذا كان التجوز في اللغة؟ لأنه نوع من التصرف في المعنى اللغوي الكلمة المفردة؛ لنقلها من معناها الأصلي إلى معنى آخر لعلاقة وارتباط بين المعنيين، فالمتكلم قد جاز بالكلمة معناها

اللغوي الأصلي وأطلقها على غير هـ لمناسبة الدين المعنى الحقيقي والمعنى المجاز كما نرى في إطلاق الأسد على الشجاع والغيث على النبات والصراط المستقيم على الدين الحق، وهذا هو المجاز اللغوي. أما المجاز العقلي فالتجوز فيه كما عرفنا واقع في الإسناد أما طرفي الإسناد فلا دخل لهما في الحكم على الجملة بالمجاز العقلي وعدمه؛ ففي قولنا مثلًا: أنبت الربيع البقل، نلاحظ أن التجوز في إسناد الإنبات إلى الربيع وهو زمانه، أما الطرفان أنبت والربيع وهما المسند والمسند إليه، فكل منهما مستعمل في معناه الحقيقي، فالمجاز العقلي واقع في الإسناد، ةلما كان الإسناد أمرًا عقليًّا يرجع إلى قصد المتكلم الذي ينظم الكلام دون رجوع إلى اللغة في ذلك، فقد سمي هذا المجاز المجاز العقلي. والفرق بين هذين النوعين يتلخص فيما يلي: المجاز اللغوي في اللفظ أما المجاز العقلي ففي الإسناد والتركيب، المجاز اللغوي طريقه اللغة كما هو الحال في الحقيقة اللغوية، أما المجاز العقلي فطريقه العقل كما هو الشأن ف ي الحقيقة العقل ية. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن التفريق بين المجازين اللغوي والعقلي من آثار الإمام عبد القاهر فقد عقد في (أسرار البلاغة) فصلًا قسم فيه المجاز إلى قسمين، وعرف كلًّا منهما، وأنفق جهدًا عظيمًا في بيان الفرق بين النوعين. ومما قال في ذلك: واعلم أن المجاز على ضربين؛ مجاز من طريق اللغة ومجاز من طريق المعقول، فإذا وصفنا بالمجاز كلمة مفردة كقولنا: اليد مجاز في النعمة، والأسد مجاز في الإنسان، كان حكمًا أجريناه على ما جرى عليه من طريق اللغة،

ومتى وصفنا بالمجاز الجملة من الكلام كان مجازًا من طريق المعقول دون اللغة؛ لأن الأوصاف الراجعة إلى الجمل من حيث هي جمل لا يصح ردُّها إلى اللغة؛ لأن التأليف هو إسناد فعل إلى اسم أو اسم إلى اسم، وذلك شيء يحصل بقصد المتكلم فلا يصير "ضرب" خبرًا عن زيد بوضع اللغة، بل بمن قصد إثباتَ الضربِ فعلًا له. والذي يعود إلى واضع اللغة أن ضرب لإثبات الضرب وليس لإثبات الخروج، وأنه لإثباته في زمان ماضٍ وليس لإثباته في زمان مستقبل، فأما تعيين مَن يثبت له فيتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين والمعبرين عن ودائع الصدور، فإذا قلنا: فأما تعيين من يثبت له فيتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين والمعبرين عن ودائع الصدور. فإذا قلنا مثلًا: خط أحسن مما وشاه الربيع أو صنعه الربيع، كنا قد ادعينا في ظاهر اللفظ أن للربيع فعلًا أو صنعًا، وأنه شارك الحي القادر في صحة وقوع الفعل منه، وذلك تجوز به من حيث المعقول لا من حيث اللغة؛ لأنه إن قلنا: إنه مجاز من حيث اللغة صرنا كأنا نقول: إن اللغة هي التي أوجبت أن يقتص الفعل بالحي القادر دون الجماد وذلك محال. انتهى من كلام الشيخ عبد القادر في (أسرار البلاغة). ويضيف عبد القاهر قاعدةً يمكن التفريق بها بين النوعين، وذلك بالرجوع إلى الحقيقة في هذا المجاز وذاك؛ لنعرف طريقها من اللغة أو العقل، فالمجاز في حقيقة اللغة هو فرع عنه ا، فما كان طريقًا في أحدهما من لغة أو عقل فهو طريق في الآخر، والحقيقة اللغوية طريقها اللغة كما نرى في الأسد حين نستعمله في الحيوان المفترس، وعلى ذلك فالمجاز اللغوي طريقه اللغة أيضًا حين إطلاق الأسد على الشجاع الذي يشبهه، والحقيقة العقلية طريقها العقل؛ لإثبات الفعل أو معنى إلى

ما هو له مثل: أنبت الله البقل، وكذلك هو طريق المجاز فيه نحو: أنبت الربيع البقل. هذا؛ وينقسم المجاز العقلي من حيث طرفيه وهما المسند والمسند إليه أربعة أقسام: الأول: أن يكون طرفاه حقيقتين لغويتين كقولك: أنبت الربيعُ البقلَ، فالتجوز هنا في إسناد الإنبات إلى الربيع الذي هو زمانه، أما طرفا الإسناد وهما الفعل أنبت وفاعله المجازي الربيع، فكل منهما مستعمل في معناه الحقيقي الذي وضع له في اللغة، فيكون كل من الطرفين حقيقة لغوية، وقِس على ذلك قوله: صام نهاره وجرى النهر وسار الطريق، فكل من الطرفين مستعمل فيما وضع له في اللغة والتجوز في إسناد الفعل إلى غير ما حقه أن يسند إليه، وعليه قول الشاعر: أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي فكل من طرفي الإسناد مستعمل في حقيقته وهو حقيقة لغوية، والتجوز في إسناد الفعل "أشاب" إلى الزمان كر الغداة ومر العشي كما سبق أن أوضحناه من قبل. القسم الثاني: أن يكونا مجازين لغويين، وبذلك يكون المجاز في الإسناد وفي طرفيه معًا وإن اختلف طريق المجاز، فهو في الإسناد عقلي وفي طرفيه لغوي، خذ مثلًا قولك: أحيا الأرض شباب الزمان، فطرفا المجاز هنا هما أحيا وشباب الزمان، وكل منهما مستعمل في غير معناه الوضعي، فالمسند أحيا معناه الحقيقي إيجاد الحياة، والمقصود منه هنا إحداث خضرة الأرض ونضارتها، فالعلاقة بين المعنيين هي المشابهة، ذلك أنك تجعل خضرة الأرض ونضارتها وبهجتها بالنبات

والأزهار التي يهبها الله تعالى للطبيعة حياةً لها؛ أي: أنك جعلت ما ليس بحياة حياةً على التشبيه، وفي الفعل أحيا استعارة تبعية، فهو مجاز لغوي، والمسند إليه أشاب له معنى حقيقي، فهو مرحلة من مراحل العمر وطور من أطواره والمقصود منه هنا الربيع؛ أي: أن لفظ شباب الزمان مستعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة أيضًا، معنى المعنيين الحقيقي والمجازي، فكل منهما يمثل مرحلة ازدهار وابتهاج فهو مجاز لغوي أيضًا، فالطرفان إذن مجازان لغويان، وأما إسناد الفعل إلى شباب الزمان فهو مجاز عقلي علاقته الزمانية أو السببية. القسم الثالث من أقسام المجاز العقلي باعتبار طرفيه: أن يكون المسند مجازًا لغويًّا والمسند إليه حقيقة مثل: أحيا الأرض الربيع، فالمسند أحيا مجاز لغوي -كما سبق أن ذكرنا - والمسند إليه وهو الربيع مستعمل في معناه الحقيقي فهو حقيقة لغوية، ومن هذا النوع قول المتنبي يصف ممدوحه بالشجاعة والكرم: وتحيي له المال الصوارم والقَنا ... ويقتل ما تحيي التبسم والجِدا فقد جعل الشاعر الزيادة والوفور حياةً في المال كما جعل تفريقه في العطاء قتلًا، ثم أثبت الحياة فعلًا للصواري، والقتل فعلًا للتبسم، مع أن العلم بأن الفعل لا يصح منهما. ومنه قولهم: أهل النار الدينار والدرهم، فإسناد أهلك إلى الدينار والدرهم مجاز عقلي علاقته السببية، ولفظ أهلك المسند ليس حقيقة بل مجاز عن الفتنة؛ إذ الإهلاك مسبب عن الفتنة فهو مجاز مرسل علاقته المسببية، وقد أسند إلى الدينار والدرهم إسنادًا مجازيًّا، ف التجوز واقع في الإسناد وفي المسند، في الإسناد مجاز عقلي وفي المسند مجاز لغوي.

انظر إلى قول الله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (مريم: 4) تجد أن الآية أسند ت: {اشْتَعَلَ} إلى: {الرَّأْس} إسنادًا مجازيًّا؛ لعلاقة المكانية، إذ الرأس مكان للاشتعال، والذي يفعل الاشتعال حقيقة إنما هو الشعر، ولفظ المسند: {اشْتَعَلَ} مجاز لغوي؛ إذ المراد به ظهور شيب الرأس، فاستعير الاشتعال للظهور، وتفيد هذه الاستعارة عموم الشيء وإحاطته بجميع الرأس، كما تفيد المفاجأة في ظهور الشيء، فهو اشتعال وليس ظهورًا، وتفيد أيضًا حب زكريا -عليه السلام- لهذا الشيء حيث أحس به إحساسًا مشرقًا مضيئًا، الذين يصورون ظهور الشيب بالرأس تصويرًا حزينًا مؤلمًا، إذ يكون سببًا في فراق الأحبة وابتعادهن. انظر مثلًا إلى قول القائل: لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكَى وإلى قول الآخر: ل هـ منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنه في القلب أسود أسفع والأسفع: الأبيض الناصع شديد البياض، والأسود الأسفع: هو الأسود المائل إلى حمرة، وقد استعير الأسود الأسفع لما يحدثه الشيب من الهم والحزن، فإنك تجد أنهم يشعرون بالشيب شعورًا حزينًا كئيبًا؛ لأنه يؤذن بتولي الشباب ويعلن عن فراق الحبيبات. ونعود إلى المجاز العقلي لننظر في شواهد هذه الصورة التي وقع التجوز فيها في المسند وفي الإسناد، نجد منها قولهم: سال بهم الواد، حيث استعير السيلان للسيل، ثم اشتق منه سال بمعنى سار على سبيل الاستعارة التبعية، وأسند سال إلى الوادي إسنادًا مجازيًّا لعلاقة المكان، ويفيد هذا التجوز المبالغة في سرعة سير القوم، وكأن المكان قد فاض بهم ودفع، ومثله قول الشاعر: فقدنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح

وقول الآخر: سالت عليه شعاب الحي حين دَعا ... أنصاره ب وجوه كالدنانير ففي إسناد السيلان إلى الأباطح وإلى شعاب الحي مجاز عقلي علاقته المكانية، والمسند سال مجاز لغوي حيث استعير السيلان بالسيل، ولا يخفى عليك بلاغة المجاز في البيتين، وقد أبرز شدة ان دفاع المطي في الأباطح وسرعة اندفاع الأنصار إلى الداعي، وكأن الشعاب قد فاضت بهم ودفعتهم إليه، وكأن الأباطح هي التي تسيل وتمضي إلى الإبل، وما من شك في أن المجاز اللغوي قد ساهم في تحقيق هذه المبالغة بنصيب وافر. رابع هذه الأقسام: أن يكون المسند حقيقةً والمسند إليه مجازًا لغويًّا مثل: أنبت البقلَ شبابُ الزمان، فالإنبات مستعمل في معناه الحقيقي وشباب الزمان مجاز لغوي عن الربيع كما عرفت آنفًا. وهكذا تستطيع أن ترد صور المجاز العقلي إلى هذه الأنواع الأربعة، ف هي لا تخرج في كل أحواله عن واحد منها. وكما يجيء المجاز العقلي في النسب المثبتة فإنه يجيء أيضًا في النسب المنفية، هذا موضع سؤال: هل يتأكد مجاز العقل في النسب المنفية؟ نقول: نعم، ولا فرقَ في ذلك بين حالتي الإثبات والنفي، فإذا قلت في شأن العابد: صام نهاره بإسناد الفعل إلى زمانه على سبيل المجاز العقلي، فإن قولك في شأن غيره: ما صام نهاره بالنفي، يكون أيضًا من المجاز العقلي التي علاقته الزمانية، فأنت لا تجري في النفي إلا على الطريقة التي جريت عليها في الإثبات، من الحقيقة أو المجاز. ومن ذلك قول الشاعر: لقد لمتننا يا أم غَيلان في السرى ... ونمتِ وما ليل المطي بنائم

وقوله تعالى في شأن المنافقين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة: 16) فالتجوز هنا في إسناد الربح إلى التجارة؛ لأن التجارة لا تربح، وإنما الذي يربح هو التاجر بسبب التجارة، فحقيقة الإسناد كما ربحوا في تجارتهم، لكن لما كانت التجارة هي السبب في الربح أسند الفعل إليها على سبيل المجاز العقلي، والجملة منفية بـ"ما" -كما ترى - وعلى ذلك يكون قولك: ما سار الطريق، وما جرى النهر، وما بنى الأمير المدينة، وما جد جده، كل هذه الأمثلة المنفية من قبيل المجاز العقلي في النسب المنفية. وعلى نحو ما يتحقق المجاز العقلي في النسب المثبتة والمنفية، فإنه يتحقق كذلك في النسب الإنشائية؛ فمما ينبغي الإشارة إليه في هذا المقام أن المجاز العقلي ليس مختصًّا بالخبر كما قد يفهم من ذ كره ضمن أحوال الإسناد الخبري، وإنما يجري أيضًا في الإسناد الإنشائي ب مختلف علاقاته مثل قولك: صام نهار العابد وقام ليله، تستطيع أن تقول: ليصم نهار ك وليقم ليل ك، على إسناده إلى الزمان وهو من صيغ الأمر، وفي قولك: جرى النهر تقول: هل جرى النهر وليت النهر يجري على إسناده إلى المكان، وهو من صيغ الاستفهام في الأولى والتمني في الثانية. ف هذه أمثلة للمجاز العقلي في الإنشاء وم نه قوله تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} (غافر: 36) فرعون يطلب من وزيره هامان ذلك، وهامان لا يبني بنفسه وإنما يأمر العمال بالبناء ف أسند إليه الفعل ابني؛ لأنه سبب فيه، فهذا من المجاز العقلي في الأساليب الإنشائية، حيث أسند فعل الأمر إلى غير ما حقه أن يسند إليه، وعلى ذلك يمكن القول: بأن جميع الملابسات التي

عرفناها في الإسناد الخبري ترِد أيضًا في الإسناد الإنشائي أمرًا ونهيًا واستفهامًا وتمنيًا، فالمجاز العقلي يجيء في الإنشاء كما يجيء تمامًا في الخبر؛ لأنه حالة من أحوال الإسناد في الكلام، والكلام إما خبر وإما إنشاء كما هو معلوم. وهنا سؤال يفرض نفسه: هل لكل مجاز عقلي حقيقة؟ نقول: إنه باستقصاء أمثلة المجاز العقلي وشواهده نجد أن الكثير منها يمكن الرجوع به إلى أسلوب الحقيقة، وذلك بإسناد الفعل إلى فاعله الحقيقة، فيعود الفاعل المجازي إلى مكانه الأصلي قبل التجوز سببًا للفعل أو زمانًا أو مكانًا أو مصدرًا، إلى غير ذلك من الملابسات الذي تحدثنا عنه، وفي قولك: صام نهار العابد، وقام ليله، وجرى النهر، وسار الطريق، وربح تجارته، تقول: صام العابد نهاره وقام ليله، وجرى الماء في النهر، وسار الناس في الطريق، وربح التاجر في تجارته، وهذا أمر ميسور. غير أن الكلام يفقد روعته ومزيته التي اكتسبها في الإسناد المجازي. ثم إن هناك تراكيبَ مجازية يصعب على المتكلم أن يعود بها إلى أصلها في الحقيقة، إذ لم يجر العرف بإسناد الفعل فيها إلى الفاعل الحقيقة، وقد فطن الإمام عبد القاهر إلى ذلك، فذهب إلى أنه لا يجب أن يكون لكل فعل في المجاز العقلي فاعل في التقدير إذا أسند الفعل إليه صار حقيقة. يقول الإمام عبد القاهر في (الدلائل): واعلم أنه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التقدير إذا أنت نقلت الفعل إليه عدت به إلى الحقيقة، مثل أنك تقول في: {رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}: ربحوا في تجارتهم، وفي يحمي نساءنا ضرب: نحمي نساءنا بضرب، فإن ذلك لا يتأتى في كل شيء، ألا ترى أنه لا يمكن أن

تثبت للفعل في نحو: أقدمني بلدك حق لي على إنسان، فاعلًا سوى الحق؟ كذلك لا تستطيع في قوله: وصيرني هواك وبي ... يحين يضرب المثل الحين والهلاك استعير لما وصل إليه من سوء الحال فيها. وكذا قول أبي نواس: يزيدك وجهه حسنًا ... إذا ما زدته ن ظرًا أن تزعم أن لصيرني فاعلًا قد نقل عنه الفعل ف جعل للهوى كما فعل ذلك في: {رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} ويحمي نساءنا ضرب، ولا تستطيع كذلك أن تقدر ليزيد في قوله: يزيدك وجهه حسنًا فاعلًا، غيرَ الوجه. انتهى من كلام عبد القاهر. وقد توهم بعض العلماء أن عبد القاهر ينكر أن يكون لكل فعل فاعل حقيقي إذا أسند إليه صار الإسناد حقيقيًّا، وهذا التوهم بعيد عن مراد عبد القاهر، كما يتضح من النص المذكور، فهو يرى أن بعض أساليب المجاز يمكن الرجوع بها إلى الحقيقة بسهولة ويسر، وبعضها الآخر لا نستطيع أن نفعل فيه ذلك، وهو فيما ذهب إليه يحتكم إلى العرف وإلى واقع الأساليب بذوقه الرفيع وحِسه المرهف، فهذه الأمثلة لم يرِد لها فاعل حقيقي في الإسناد العرفي، ولم تجرِ على ألسنة القوم بأسلوب الحقيقة، بل شاع استعمالها هكذا على الإسناد المجازي، وعمدته في ذلك استقراءُ النصوص. يقول الخطيب القزويني في (الإيضاح): واعلم أن الفعل المبني للفاعل للمجاز العقلي واجب أن يكون له فاعل في التقدير إذا أسند إليه صار الإسناد حقيقة، وذلك قد يكون ظاهرًا كما في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} أي: فما

ربحوا في تجارتهم، وقد يكون خفيًّا لا يظهر إلا بعد نظر وتأمل كما في قولك: سرتني رؤيتك؛ أي: سرني الله وقت رؤيتك، وكما في قولك: أقدمني بلدك حق لي على فلان؛ أي: أقدمتني نفسي بلدك لأجل حق لي على فلان؛ أي: قدمت لذلك، ونظيره: محبتك جاءت بي إليك؛ أي: جاءت بي نفسي إليك لمحبتك. وهذا رد على الإمام عبد القاهر في رده السابق وقد علمت مراده، وهو لا ينازع في أن كل فعل لا بد له من فاعل، ولكنه استقرأ النصوص واحتكم إلى واقع الأساليب المجازية، فوجد أن بعضها يسهل الرجوع به إلى الحقيقة بإسناد الفعل إلى فاعله الحقيقي، وبعضها لا نستطيع أن نقدر له فاعلًا حقيقيًّا نقل عنه الإسناد إلى الفاعل المجازي؛ لأن العرف لم يجرِ بالاستعمال الحقيقي، وإنما جرى بالاستعمال المجازي وشاع هكذا على ألسنة الناس. هنا نلحظ أن السكاكي يمنع المجاز العقلي على الإطلاق على الرغم من أنه عرف المجاز العقلي في كتاب (مفتاح العلوم) بقوله: والكلام يفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التؤول إفادةً للخلاف لا بواسطة وضع؛ كقولك: أنبت الربيع البقل وشفَى الطبيب المريض. وبعد أن عرَّفه وشرح التعريف، وأخرج المحترزات، أعلن رأيه في هذا النوع من المجاز، حيث أنكره واختار جعله من باب الاستعارة بالكناية، ولعلك تسأل: إذا كان السكاكي قد أنكر المجاز العقلي فلماذا عرفه ومثَّل له وبين حده؟ والجواب: أنه فعل ذلك مجاراةً للأصحاب الذين تعرضوا له، وكأنه يقول لهم: إن كان ولا بد من القول به فهو عندي كذا وكذا. يقول السكاكي: والذي عندي نظمه في سلك الاستعارة بالكناية كجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل

الحقيقي بواسطة المبالغة في التشبيه على ما عليه مبنَى الاستعارة، وجعل نسبة الإنبات إليه قرينة للاستعارة وبجعل الأمير المدبر لأسباب هزيمة العدو استعارةً بالكناية عن الجند ي الهازم، وجعل نسبة الهَزْم إليه قرينة للاستعارة، ومعنى ذلك: أنه يشبه الربيع بالفاعل الحقيقي وهو الحي القادر، ثم يدعي أن الربيع قادر مختار، ثم يطلق لفظ المشبه الادعائي وهو الربيع الذي ادعى أنه قادر مختار على المشبه به؛ أي: الحي القادر على سبيل الاستعارة بالكناية. ف المجاز لغوي من وجهة نظره ولا مجاز في الإسناد، وهكذا صار المجاز كله لغويًّا عند السكاكي، والذي دفعه إلى ذلك -كما قال- رغبته في تقليل الأقسام، تلك الرغبة التي دفعته أيضًا إلى رد الاستعارة التبعية إلى المكنية، والرغبة في تقليل الأقسام أمر مقبول في مجال البحث والدرس، بشرط ألا يكون ذلك على حساب الخصوصيات والفوارق الدقيقة بين الطرق المختلفة، والحق أن المجاز العقلي طريقه غير طريق الاستعارة بالكناية؛ لأنها تقوم على علاقة المشابهة كغيرها من الاستعارات بخلاف المجاز العقلي؛ إذ تكفي فيه الملابسة بين الفعل وفاعله المجازي أو بين الفاعل الحقيقي والفاعل المجازي؛ لتعلق الفعل بكل منهما، وعلاقة المشابهة لا تكفي فيها هذه الملابسة وإنما تتحقق بين طرفين يشتركان في صفة هي أخص صفات المشبه به، وقد جرى العرف على أن يشبه به من أجلها، وتعورف كونها أصلًا فيه كالشجاعة في الأسد والحسن في البدء والمضاء في السيف وهكذا. فالمجاز العقلي إذن طريق من طرق التعبير والاستعارة المكنية طريق آخر، ولكل منهما مقام يقتضيه وموقف يناسبه، والمتذوق للأساليب المجازية يلمس الفرق واضحًا بين هذين النوعين، فأنت لا تستطيع مثلًا في قول الفرزدق: سقاها خروق في المسامع لم تكن ... علاطًا ولا مخلوطة في الملاغم

حيث أفاد الإسناد في السقي إلى خروق المسامع؛ تأكيدًا لهذه السببية بجعلها فاعلًا أن تحمله على الاستعارة المكنية، إ ذ لا معنى ل تشبيه هـ الخروق ب ال ساق ي، وليس هذا مراد الشاعر، بل مراده أن ذِكر قومه ونباهة شأنهم وصِيتهم البعيد الذي ملأ الأسماع كان سببًا قويًّا في أن أفسح الناس لهذه الإبل، وبالغ في هذه السببية حين أسند الفعل إلى سببه؛ تأكيدًا لهذا المعنى، وقِس على هذا البيت غيره كما في قول الآخر مثلًا: وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب ف فعل ينبت أسند إلى ضمير يعود إلى مكان، فهو من قبيل إسناد الفعل إلى مكانه، ولا يعقل أن يكون الكلام فيه على التشبيه حتى نعتبره استعارةً مكنية ً؛ إذ لا معنى ل تشبيه المكان بالفاعل الحقيقي، والفيصل في ذلك هو الذوق السليم والحس اللغوي المرهف، أما قول الهذلي: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع فإنك تستطيع بسهولة ويسر أن تدرك المشابهة بين الطرفين المنية والسبع في اغتيال النفوس بالقهر والغلبة، فهو من قبيل الاستعارة بالكناية؛ لأنها تقوم على علاقة المشابهة، فرأي السكاكي هنا بعيد عن الصواب لما فيه تجاهل للفروق الدقيقة بين الأساليب والخصوصيات الواضحة لكل منها؛ ولذلك رد عليه الخطيب وناقشه مناقشة قوية حيث قال: وفيما ذهب إليه -أي: السكاكي- نظر؛ لأنه يستلزم أن يكون المراد بعيشة في قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} (الحاقة: 21) صاحب العيشة لا العيشة، وبماء في قوله: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} (الطارق: 6) فاعل الدفق لا المني، وألا تصح الإضافة في نحو قولهم: فلان نهاره صائم وليله قائم؛ لأن المراد بالنهار على هذا فلان نفسه، وإضافة الشيء إلى

بلاغة المجاز العقلي.

نفسه لا تصح، ولا يكون الأمر بالإيقاد على الطين في إحدى الآيتين وبالبناء فيهما لهامان مع أن النداء له، وأن يتوقف جواز التركيب في نحو قولهم: أنبت الربيع البقل وسرتني رؤيتك على الإذن الشرعي؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية، وكل ذلك منتفٍ ظاهر الانتفاء. ثم ما ذكره منقوض بنحو قولهم: فلان نهاره صائم، فإن الإسناد فيه مجاز، ولا يجوز أن يكون النهار استعارة بالكناية عن فلان؛ لأن ذكر طرفي التشبيه يمنع من حمل الكلام على الاستعارة ويوجب حمله على التشويه. انتهى من كلام الخطيب القزويني في (الإيضاح). بلاغة المجاز العقلي بقي أن نتحدث عن بلاغة المجاز العقلي: فالمجاز العقلي -كما رأينا- طريق من طرق التوسع في اللغة، وفن من فنون البلاغة، له شأن رفيع ومنزلة عظيمة، ولذلك اهتم به البلاغيون وعلى رأسهم الإمام عبد القاهر الجرجاني، ف قد درس المجاز العقلي في كتابيه (أسرار البلاغة) و (دلائل الإعجاز) وبين الفرق بين المجازين اللغوي والعقلي، ويكفي أن أنقل قوله في الإشادة بالمجاز العقلي والتنويه بشأنه، حين قال: وهذا الضرب من المجاز كنز من كنوز البلاغة، ومادة الشاعر المفلق والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان والاتساع في طريق البيان، وأن يجيء بالكلام مطبوعًا مصنوعًا وأن يضعه بعيد المرام قريبًا من الأفهام. كذا في (الدلائل). وتكمن روعة المجاز العقلي في أن المتكلم بهذا الأسلوب يعدل عن الإسناد الحقيقي، وينسب الفعل إلى غير ما هو له، ف يخيل إليك أن الفعل وقع من غير

فاعله أو على غير مفعوله، وفي هذا التخييل متعة نفسية لا يفطن إليها ولا يدرك سحرها إلا صاحب الذوق البياني الرفيع، حيث يعينه الذوق على إدراك الفروق بين الأساليب المختلفة حقيقةً ومجازًا، وإن شئتَ فقارن بين قولك: صام فلان نهاره وقام ليله، وجرى الماء في النهر، وصار الناس في الطريق؛ يعني: على الحقيقة، وبين قولك على المجاز: صام نهاره وقام ليله، وجرى النهر، وسار الطريق، على المجاز، فستجد في الثاني روعة وطرافة في التعبير لا تجدها في الأول، وهذا أثر من آثار المجاز العقلي في التخييل، وهذا التخييل بحد ذاته يؤدي إلى المبالغة في إثبات الفعل لفاعله بطريق مؤكد، ف في قولك: أذل الحرص أعناق الرجال، جعلت الحرص فاعلًا للإذلال، وأصله: أذل الله أعناق الرجال بسبب الحرص، فبلغت في تأكيد المعنى حين أسندت الفعل إلى سببه، وهذا أبلغ في ذم الحرص من أسلوب الحقيقة. وفي قولك: جرى النهر، مبالغة في كثرة الفعل وطغيانه، ف قد جعلت النهر بضفافه ومائه وكل ما يحتويه يجري، مع أن الجريان للماء فقط، وإذا صح أن يقع الفعل من الفاعل المجازي وهو فرع فإن حدوثه من الأصل الذي هو الفاعل الحقيقي آكد فالمجاز العقلي إثبات للحكم بالدليل، وأنت تعرف -أو هكذا ينبغي أن تعرف- أن الدعوة المشفوعة بالبينة آكد وأقوى من دعوى لا تؤيدها بينة ولا يؤازرها دليل، هذا بالإضافة إلى ما في المجاز العقلي من الإيجاز الذي هو فن من فنون البلاغة، ولا شك أن قولك: صام نهاره أوجز وأبلغ من قولك: صام فلان في نهاره، وقولك: بنى الأمير المدينة أوجز وآكد في إثبات المعنى من قولك: بنى العمال المدينة بأمر الأمير، وقولك: سال الوادي أكثر إيجازًا وأرقى بلاغةً من قولك: سال الماء في الوادي؛ لما في المجاز من الإيجاز والمبالغة والتخييل.

نخلص من هذا إلى أن بلاغة المجاز العقلي تكمن فيما يفيده من المبالغة في التعبير، وإيجاز القول، وإثارة الخيال، عندما يسند الفعل إلى غير فاعله الحقيقي، كما ترجع بلاغة المجاز العقلي إلى أنه يفتح أمام المتكلم الميدان للتفنن في القول، وتلوين العبارة، وإخضاع الكلام لما يريد، وتشكيل البناء حسب ما يهدف إليه ويرمي، ف هو يلجأ إليه لنفي تهمة أو لتخلص من جريمة، أو لتحقيق مقصد من المقاصد، حيث يجد في إسناد الفعل إلى غير فاعله الحقيقي مَيْدانًا رحبًا لتحقيق هذه المقاصد، ويتضح لك هذا من خلال تأملك لشواهد الإمام عبد القاهر وأمثلته. انظر إلى قوله -تبارك وتعالى-: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} (الزلزلة: 2) تجد أن الفعل قد أسند إلى مكانه، وفي هذا الإسناد تخييل محرك ومثير، إذ يصور لنا الأرض فاعلةً جاهدةً تخرج أثقالها تقذف بنفسها ما بداخلها، فلا تُبقي في باطنها شيئًا. وتأمل معي الشواهد الذي أسند فيها الفعل إلى سببه أو إلى زمانه أو إلى مكانه، نحو: بنى الأمير، ونهاره صائم، وليله قائم، وطريق سائر، ولاحظ ما فيها من الإيجاز وتقليل الألفاظ، وفضلًا عما ذكرناه من إفادة الإيجاز، تجد التجوزَ في تلك الأمثلة قد أفاد المبالغة في وقوع هذه الأفعال؛ لشدة اهتمام الأمير بالبناء، وتأكيد كمال الصوم وتمام القيام، وسرعة السير في الطريق، وكثيرًا ما يلجأ المتكلم إلى المجاز العقلي لتحقيق مقصد من المقاصد كما ذكرنا، فننظر مثلًا في ذلك إلى قولهم: فلان قتله جهله، وقضى عليه غروره، فهم يريدون بهذا تبرئة القاتل من جريمة قتله ونفي التهمة عمن قضى على غيره؛ وذلك بإسناد القتل إلى جهل المقتول وقضى إلى غرور المقضي عليه وتكبره وعجرفته، فقد وجدوا في المجاز العقلي تحقيقًا لهذا المقصد.

هذا؛ والمتكلم يحتاج في استخدامه لهذا المجاز أن يهيئ العبارة له، فليس كل شيء كما يقول عبد القاهر يصلح لأن يُتعاطَى فيه هذا المجاز، بل تجدك في كثير من الأمر وأنت تحتاج إلى أن تهيئ الكلام وتصلحه لذلك بشيء تتوخاه في النظم، وكلما هيأ المتكلم العبارة لهذا المجاز، وجدته قد سارع أوقع في النفس وألطف وآكد وأبلغ، وانظر مثلًا إلى قول الشاعر عن الجمل: تجوب له الظلماء عين كأنها ... أجاجة شرب غير ملأى ولا صِفر تجده قد أسند تجوب إلى العين، والأصل يجوب الجمل بعينه الظلماء، ولكنه عدل إلى المجاز فأسند الفعل إلى آلته، ثم هيأ البيت وتوخى من النظم ما يجعل المجاز ألفظَ وأوقع في النفس؛ إذ تراه نكر العين ليتسنى له وصفها بالجملة الواقعة بعدها، ولو قال: تجوب له الظلماء عينه ما تمكن من وصفها بتلك الجملة، وعندما نكر العين وقطعها عن الإضافة إلى الجمل وصلها به بقوله: له، فبدون الضمير في له يصير الكلام لا علاقة له بالجمل، هكذا ذكره عبد القاهر في (الدلائل). وراجع ذلك في هذا المصدر لترى هذا بنفسك. وخذ مثلًا قول الخنساء -وقد سبق أن ذكرناه-: ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار فإنك تجد أن أسلوب القصر قد هيأ المجاز العقلي أحسن تهيؤ، حيث قصرت الناقة على الإقبال والإدبار، وقارِن بين هي إقبال وإدبار وقولها: وإنما هي إقبال وإدبار؛ فستضح لك قوة المبالغة المنبعثة من أسلوب القصر، ثم تأمل قول كثير -وقد ذكرناه-: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح

فإنك تجد أن اختيار هذا الجزء من الإبل الأعناق قد أضفى على العبارة جمالًا وأبرز، وجلى ما يفيده المجاز العقلي من تخييل وتصوير الأباطح متحركة، تدفع بهذه المطي دفعًا وتسيل بها سيلانًا؛ وذلك ل أن حركة الإبل عندما تسرع في السير تظهر تمام الظهور في أعناقها، ويتضح لك هذا عندما تقارن بين قولك: وسالت بالمطي الأباطح وبين ما قاله كثير: وسالت بأعناق المطي الأباطح، وهكذا تجد المجاز العقلي في حاجة إلى تهيئة العبارة وتوخي النظم، وأن الشاعر أو المتكلم إنما يراعي هذا، ويتوخى في النظم ما يلائم المجاز، ويهيئ العبارة له، فإنه يقع في النفس موقعه، ويحقق ما يقصده الشاعر من الإيجاز والمبالغة والتخييل. وفي استطاعتك أن تتبع هذا الأسلوب في صوره المختلفة وعلاقاته المتعددة، وتوازن بين حقيقة الإسناد ومجازه في كل منها؛ لتقف على أسرار بلاغة المجاز العقلي من خلال شواهده في القرآن ومأثور كلام العرب شعرًا ونثرًا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 7 أحوال المسند إليه: الحذف، والذكر.

الدرس: 7 أحوال المسند إليه: الحذف، والذكر.

حذف المسند إليه

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (أحوال المسند إليه: الحذف، والذكر) حذف المسند إليه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ ثم أما بعد: نتحدث عن أحوال المسند إليه، ونخص من هذه الأحوال أحوال حذف وذكر المسند إليه. ونبدأ بالقول: بأن موضع المسند إليه في جملة الإسناد والمحكوم عليه أو المخبِر عنه كالفاعل والمبتدأ وما أصله المبتدأ وهو -كما نعلم- أحد أركان الجملة، ويمثل هذا المحكوم عليه في جملة الإسناد، والمسمى بالمسند إليه الفعل في الجملة الفعلية، والاسم المبتدأ في الجملة الاسمية، وقد يؤتَى في الجملة الفعلية بشيء مما يتعلق بالفعل كالجار والمجرور والظرف إلى غير ذلك، وهذا مبحث وجزء ثالث من أجزاء الإسناد يختص بالجملة الفعلية، ويسمى بمتعلقات الفعل. إذن يقصد بأحوال المسند إليه الأمور التي يأتي عليها ليكون الكلام بها مطابقًا لمقتضى الحال، أما ما يعرض له لا من هذه الحيثية بل من حيث إ نه مطلق لفظ ككونه ثلاثيًّا أو رباعيًّا، فليس ذلك مما نحن بصدده؛ لأننا نريد أن نتحدث هنا عن أحوال المسند إليه التي يقتضيها المقام، ويصير بها الكلام مطابقًا لمقتضى الحال، مثل الحذف والذكر والتعريف والتنكير والتقديم والتأخير، إلى آخر ذلك. وإليك هذه الأحوال مقرونةً بما ذكره البلاغيون لكل منها من أغراض وأسرار. حذف المسند إليه: لا يصح الحذف لغةً إلا إذا وجد دليل يدل على المحذوف، فإذا لم يوجد هذا الدليل كان الذكر واجبًا متعينًا لفساد الكلام بالحذف، أما إذا دل على المحذوف

دليل كان الحذف جائزًا؛ لأن المحذوف حينئذٍ في حكم المعلوم لوجود القرينة الدالة عليه، كما أن الذكر يكون جائزًا أيضًا؛ لأنه الأصل كما يقتضي العقل والإعراب، ومما ينبغي أن يُعلم أن البلاغة لا تدلي بدلوها في الكلام إلا بعد صحته لغةً، فما منعته اللغة أو أوجبته لا يكون للاعتبارات البلاغية فيه مجال. ومن هنا يتضح أن الحذف الممنوع؛ انعدام القرينة والذكر المتعين لذلك لا تنظر إليهما البلاغة، وإنما محط نظرها هو جواز كل من الحذف والذكر لغةً لوجود القرينة، فإذا وجد بعد ذلك سر بلاغي يطلب الحذف ويرجحه على الذكر، صارت البلاغة في الحذف، وإذا وجد داع بلاغي يوجب الذكر ويستدعيه ونُكتة تتطلبه وتقتضيه كانت البلاغة في الذكر. وهذه بعض الدواعي والأسرار التي تقتضي حذف المسند إليه نعرضها فيما يلي: أولها: الاختصار والاحتراز عن العبث بِناءً عن الظاهر، فإن الكلام الذي يحذف منه المسند إليه أخصر وأوجز من نظيره الذي يذكر فيه المسند إليه، كما أن المسند إليه الذي علم من القرينة والسياق ولم يوجد سر بلاغي يقتضي ذكره يصبح ذكره حينئذٍ بمثابة الزيادة التي لا قيمةَ لها، فحذفه يصون الكلام ويبعده عن العبث من منظور البلاغة، التي ترى أن ذكر الشيء المعلوم الذي لا يظهر لذكره فائدة يعد عبثًا يتسامَى عنه كلام البلغاء. والأصل أن ذكر المسند إليه ليس عبثًا في الحقيقة، وإن كان ذكر المسند إليه ليس عبثًا في الحقيقة والواقع؛ لأنه ركن من الكلام، ولذلك جعل البلاغيون العبث المحترز عنه مبنيًّا على ظاهر الكلام المشتمل على القرينة الدالة فقط لا على الحقيقة والواقع.

يقول الخطيب القزويني في بداية حديثه عن دواعي حذف المسند إليه: أما حذفه فإما لمجرد الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر. ذكر ذلك في (الإيضاح) ولنتأمل معًا قول الشاعر: جزى الله عني صالحًا بوفائه ... وأضعف أضعافًا له في جزائه صديق إذا ما جئت أبغيه حاجة ... رجعت بما أبغي ووجهي بمائه نجد أن الأصل هو صديق، فحذف المسند إليه لدلالة البيت السابق عليه، وصار المحذوف في حكم المعلوم لوجود القرينة الدالة، ولا شك أن الكلام بحذف المسند إليه أوجز مما لو قال: هو صديق، ولو ذكر لأورث الكلام ثقلًا وترهلًا وتطويلًا ينأَى به عن الإيجاز، ويجعله في نظر البليغ عبثًا ينبغي أن يبعد عن كلام البلغاء، كما أن حذف المسند إليه جاء على خلاف الأصل فتتشوف النفس إلى ذكر الموجب له، وفي ذلك دفع إلى إعمال الفكر وتنشيط العقل وإثارة الحس؛ حتى يكشف السامع أسرار الحذف معولًا على عقله، ويدرك المراد من المعاني معتمدًا على نفسه، وحين يقع على مطلوبه منها يكون ذلك أمكن وأرسخ في نفسه من المعاني التي يجدها واضعةً من ظاهر اللفظ؛ لأن المحصول بعد التعب أعز من المنساق بلا طلب. هذه أسرار ثلاثة. ويمكن أن نضيف إليها غرضًا رابعًا للح ذف متمثلًا في المحافظة على وزن الشعر. هذا ومن تتبع مواطن الحذف يجد أن الأسرار الثلاثة الإيجاز والاحتراز عن العبث والحث على إعمال الفكر وإثارة الحس، تكمن وراء كل حذف، وليست مقصورة على حذف المسند إليه، وما أكثر ما يفيده الحذف عند تأمله من أسرار ونكات يدركها المتذوق بقلبه ولُبه، وإن لم يفصح عنها بلفظه ولسانه ورحم الله عبد القاهر الجرجاني حين قال منوهًا بشأن الحذف ومبرزًا

قيمته البلاغية: هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصد عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجد أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانًا إذا لم تبِن. انتهى من كتابه (الدلائل). 2 - يحذف المسند إليه أيضًا لضيق المقام بسبب شعر أو ضجر أو شدة أو حزن أو ألم أو خوف فوات فرصة، فإن المتكلم إذا كان على شيء من ذلك عمد إلى الإيجاز بحذف المسند إليه، أما المقام في مثل هذه السياقات يضيق بذكره فيقتضي حذفه، تأمل مثلًا قول القائل للصياد: غزال، والأصل هذا غزال، ولكنه حذف المسند إليه لضيق المقام حتى تفوت الفرصة لصيده، وعلى هذا قول المستغيث: حريق أو غريق، والأصل هذا حريق أو هذا غريق، فضيق المقام بسبب خوف فوات فرصة الإنقاذ اقتضى حذف المسند إليه والمبادرة بذكر المسند. ومن الحذف لضيق المقام بسبب الحذف والألم والشدة والضجر قول الشاعر: قال لي كيف أنت قلت عليل ... سهر دائم وحزن طويل والأصل أنا عليل، وحالي سهر دائم وحزن طويل، لكن ضيق المقام بالنظر لما عليه الشاعر من حزن وضجر بسبب العلة والمرض اقتضى حذف المسند إليه، وفي مثل هذا البيت يمكن أن يكون ضيق المقام بسبب آخر، وهو المحافظة على وزن الشاعر مع السبب المذكور آنفًا؛ لأن النكات البلاغية لا تتزاحم كما يقولون. وعلى هذا النمط جاء قول المتنبي عندما أصابته الحمى: وملني الفراش وكان جنبي ... يمل لقاؤه في كل عام عليل الجسم -يقصد: أنا عليل الجسم- ممتنع القيام ... شديد السكر من غير المدام

والأصل أنا عليل الجسم أنا ممتنع القيام أنا شديد السكر من غير المدام، لكن المتنبي حذف المسند إليه؛ لأن العليل يثقل عليه الكلام، فهو نازع إلى الإيجاز دائمًا لضيق صدره عن إطالة الكلام؛ بسبب ما يعتريه من توجع وضجر. وهكذا نلحظ أن ضيق المقام المفضي للحذف يرجع غالبًا إلى ضيق صدر المتكلم؛ نظرًا لما يحسه من آلام أو استغراب واستبعاد لما يُلقَى عليه من أخبار. كما نراه في قول السيدة سارة زوج سيدنا إبراهيم - عليه السلام - عندما دخل الملائكة المكرمون على زوجها وبشروه بأنه سيولد له ولد غزير العلم، هو إسحاق - عليه السلام - قال القرآن عنها: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} (الذاريات: 29) لم تقل: أنا عجوز، أنا عقيم؛ لما كانت تحسه من ضيق صدرها عن الإطالة في الكلام بسبب مانتابها من استغراب وتعجب واستبعاد؛ نظرًا لما كانت عليه من عقم وما لحقها ولحق زوجها من كبر. 3 - ثالث أسرار حذف المسند إليه: اختبار تنبه السامع أو اختبار مقدار تنبهه ومبلغ ذكائه؛ ذكر البلاغيون أن من دواعي حذف المسند إليه: إرادة اختبار تنبه السامع عند وجود القرينة الواضحة، مثل أن يزورك رجلان سبقت لأحدهما صحبة لك فتقول لمن معك العالم بهذه الصحبة: وفي، تريد: الصاحب وفي، فتحذف المسند إليه اختبارًا لهذا السامع؛ أي: يتنبه إلى أن المسند إليه المحذوف هو الصاحب بقرينة ذكر الوفاء، إذ هو المناسب لمعنى الصحبة والصداقة أم لم يتنبه. 4 - كما ذكروا من الدواعي كذلك إرادة اختبار مقدار هذا التنبه عند وجود القرينة الخفية، كأن يزورك رجلان أحدهما أقدم صحبةً من الآخر فتقول لمن معك العالم بهذه الصلة: جدير بالإحسان، تريد أقدمهما صحبةُ جديرٌ

بالإحسان، فتحذف المسند إليه اختبارًا لمبلغ تنبه السامع؛ أي: يتنبه إلى هذا المحذوف لهذه القرينة الخفية، وهي أن أهل الإحسان قديمو الصحبة دون حادثها أم لم يتنبه. 5 - أيضًا من دواعي حذف المسند إليه: تعين المسند إليه؛ إما لأن الخبر لا يصلح إلا له حقيقة، فيكون وضوح المسند إليه لدى المخاطب حقيقيًّا، كما في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (الرعد: 9) فإن قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو؛ أي: الله -عز وجل- ولكن لما كان هذا الخبر لا يكون إلا له حقيقة جاء الكلام على الحذف؛ لتعين المسند إليه حقيقةً، في ذلك إشارة إلى وحدانيته سبحانه وعظمته وجلاله، وإما لأن الخبر لا يصلح إلا للمسند إليه ادعاءً، فيكون وضوح أمره عند المخاطب ادعائيًّا كذلك، وهذا يكون فيمن اشتهروا بصفات بلغوا فيها الكمال ولو عند المتكلم، فيأتي بالخبر حاذفًا المسند إليه ادَّعاءً منه أن الصفة -أي: المسند- لا تكون هنا إلا للموصو ف المحذوف وهو المسند إليه، فكأنه متعين. وقد يكون في ذلك إشارة إلى تقدير المسند إليه وتعظيمه والمبالغة في اتصافه بالمسند المذكور، بادعاء أنه بلغ فيه حد الكمال فلا يكون إلا له؛ مثل قولنا مثلًا: عادل في حكومته؛ أي: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقولك: وهاب الألوف، تريد كريمًا لا تذكره ادعاءً؛ لتعينه وشهرته. قد يكون في هذا الادعاء إشارة إلى الاستخفاف بالمسند إليه وعدم الاعتداد به، كما في قول قوم موسى - عليه السلام - الذي حكاه القرآن عنهم: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (الصف: 6) أي: هذا ساحر هذا كذاب، قاصدين بذلك

الحذف أن قولهم: ساحر كذاب لا ينصرف عند إطلاقه إلا إلى موسى - عليه السلام - زعمًا منهم أن هذه الصفة لا تصلح إلا له، فهو متعين في اعتقادهم الباطل وزعمهم الكاذب لهذه الصفة: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (الكهف: 5). هذا؛ وقد يكون تعيين المسند إليه المقتضي للحذف بسبب أنه معهود بين المتكلم والمخاطب كقولك مثلًا: حضر، تريد رجلًا معينًا بينك وبين مخاطبك. وقد يحذف المسند إليه لتأتي الإنكار عند الحاجة إليه كقولك عن رجل معروف بظلمه وفسقه: فاجر ظالم، والأصل فلان فاجر، فلان ظالم، ولكنك تحذف المسند إليه ليكون الحذف سبيلًا إلى الإنكار عندما يواجهك فلان هذا باللوم أو العتب، فييسر عليك الحذف ويمكنك حينئذٍ من أن تقول له: ما قصدتك وإنما أردت غيرك، ولو ذكرت المسند إليه في مثل هذا المقام لَمَا تأتى لك الإنكار. 6 - من دواعي حذف المسند إليه: صون المسند إليه عن اللسان تعظيمًا له، أو العكس، صون اللسان عن ذكره تحقيرًا له؛ ففي حالة إرادة التعظيم للمسند إليه وتكريمه قد يحذف للإشعار بأنه بلغ من كرم المنزلة وسمو المكانة حدًّا يخشى عليه بذلك من مجرد الجريان على لسانه، فيوهم المتكلم سامعه ويشعره أن في جريان المسند إليه على اللسان وذكره تقليلًا من شأنه، ونقصًا من طهارته، وكأن اللسان شيء حقير ينبغي أن يحفظ منه المسند إليه ويصان. وإذا أريد تحقير المسند إليه قد يحذف كذلك؛ إشعارًا بأنه بلغ من المهانة والحقارة حدًّا جعل ذكره فادحًا في طهارة لسان ذاكره، وفي معنى هذا يقول الشاعر: ولقد علمتُ بأنهم نجَس ... فإذا ذكرتهم غسلت فمي

وعند التأمل ندرك أن النجاسة هنا التي يخشَى منها على المسند إليه لجريانه على اللسان أو يخشى على اللسان منها لذكره المسند إليه، أمر اعتباري افتراضي يهدف إلى الإشعار بالتعظيم أو التحقير، ولذلك عبَّر الخطيب القزويني بكلمة الإبهام عند ذكره هذا الغرض من أغراض حذف المسند إليه فقال: وأما لإيهام أن في تركه تطهيرًا له عن لسانك وتطهيرًا للسانك عنه. ومن الحذف لصون المسند إليه عن اللسان؛ تعظيمًا له قول الشاعر: أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجذع ثاقبه نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بَدَا كوكب تأوي إليه كواكبه والأصل هم نجوم سماء، فحذف المسند إليه؛ لصونه عن اللسان تعظيمًا له، ومثله قول الآخر: وعلمت أني يوم ذاك منازل كعبًا ونهدًا ... قوم إذا لبسوا الحديد تنمروا حِلقًا وقدًّا والأصل هم قوم، فحذف المسند إليه لصونه عن اللسان؛ تعظيمًا له، ومن هذا القبيل قولك: رافع راية التوحيد مقوض دعائم الشرك تريد نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. ومن الحذف لصون اللسان عن ذكر المسند إليه تحقيرًا له قول بعض العرب في ابن عم له موسر سأله فمنعه، وقال: كم أعطيتك مالي وأنت تنفقه فيما لا يعنيك، والله لا أعطينك، فتركه حتى اجتمع القوم في ناديهم وهو فيهم، فشكاه إلى القوم وذمه، فوثب إليه ابن عمه فلطمه فهجاه قائلًا: سريع إلى ابن العم يلطم وجهه ... وليس إلى داع النَّدى بسريع حريص على الدنيا مضيع لدينه ... وليس لما في بيته بمضيع

والأصل هو سريع هو حريص، ف حذف المسند إليه لصون اللسان عن ذكره؛ تحقيرًا له، وعليه قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} (البقرة: 18) وقوله سبحانه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} (القارعة: 10، 11) والتقدير هم صم؛ أي: المنافقون، هم بكم، هم عمي، وكذلك وما أدراك ما هي هي نار حاميه. هذا؛ وقد ذكر البلاغيون أنه من مألوف الأسلوب عند العرب أنهم يريدون الكلام على حذف المسند إليه في مقامات المدح والهجاء، وعند ذكر الديار والأطلال، وهي مقامات تدعو إلى الإيجاز لضيق صدر المتكلم كما يظهر لنا ذلك عند ذكر الديار والأطلال، وتدعو كذلك إلى ما يوحي به الحذف من تعدد المعاني وتباين الصفات، حتى كأن اللاحق منها شيء جديد مستقل عن السابق، ولا شك أن هذا الذي يوحي به الحذف أبلغُ في تأدية الغرض من مدح أو قدح. ومن هذا المنطلق يمكن أن يكون السر المقتضي للحذف أيضًا في الأبيات السابقة -زيادةً على ما ذُكِر- هو المبالغة في المدح أو الهجاء؛ بسبب ما أوحى به الحذف من تعدد المعاني وتميز الصفات، والنكات البلاغية -كما قلنا- لا تتزاحم. 7 - ومن دواعي حذف المسند إليه: التعجيل بالمسرة أو المساءة، ف قد ذكر البلاغيون أنه من الأسرار التي تقتضي حذف المسند إليه تعجيل المسرة إذا كان الخبر مما يسر به كقولك للسائل: دينار، وكقولك لمخاطبك: نجح، تريد ابنك نجح، فتحذف المسند إليه إذا أردت أن تعجل بذكر ما يفرح ويسر. 8 - وذكر البلاغيون أيضًا من دواعي حذف المسند إليه: إرادة تعجيل المساءة إذا كان الخبر مما يساء به، مثل قولك: راسب؛ أي: المهمل، تخاطب بذلك مَن تريد إساءته.

9 - هذا؛ وقد عد بعض البلاغيين من باب حذف المسند إليه حذف الفاعل فيما بُني فعلُه للمعلوم باعتباره أيضًا مسندًا إليه، وذلك كقوله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} (القيامة:26، 27) وقوله سبحانه: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} (الواقعة:83: 85) أي: بلغت الروح التراقي وبلغت الروح الحلقوم، وسر حذفه هنا ظهوره ظهورًا واضحًا والعلم به؛ لأن الآيات في ذكر الموت والأموات، ولا يبلغ التراقي والحلقوم عند الموت إلا الروح، وهنا سر آخر سوى ظهور الفاعل والعلم به، يتمثل في الإشارة إلى ما عليه الروح من قرب مفارقتها لصاحبها، وكأن حذفها من العبارة يشعر بذهابها. ومن ذلك أيضًا قوله تعالى حكايةً عن سيدنا سليمان - عليه السلام-: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (ص: 32) فالمراد هنا بالضمير المستكن في الفعل: {تَوَارَتْ} الشمس، لكن حذفت من الكلام لقوة الدلالة عليها، ولأنها غابت وغربت، وهذا يلائم غيابها من العبارة المتمثل في حذفها. ومنه أيضًا قوله -جل وعلا-: "لقد تقطَّع بينكَم" (الأنعام: 94) على قراءة نصب "بينكم" وحذف الفاعل المراد به والله أعلم الأمر، وهو الصلة بين القوم وشركائهم، وسر الحذف هنا الإشارة إلى أن هذه الصلة لا جدوى منها ولا فائدةَ فيها يوم لقاء الله -عز وجل-فهي صلة ساقطة لا اعتداد بها ولا قيمة لها كما يشير إلى ذلك السياق في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام: 94).

وبالتأمل نجد للحذف في هذه المواطن سرًّا عامًّا يتمثل في ظهور الفاعل ظهورًا بينًا لدلالة الكلام عليه دلالةً قويةً، حتى لكأنه مذكور بلفظه، ولعل هذا ما سوغ حذف الفاعل عند مَن أجازه، ثم لكل حذف بعد ذلك سره الخاص الذي يدل عليه المقام والسياق. 10 - جعل وا كذلك من باب حذف المسند إليه حذف الفاعل الذي بني فعله للمفعول، باعتباره هو الآخر مسندًا إليه، وذكروا من هذا الحذف أسرارًا تقتضيه منها ما يأتي: العلم به كقول الشاعر: سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئة ود هوب وكقوله -عز من قائل -: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} (الجمعة: 10) وتأمل قوله: {وقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (هود: 44) تجد أن الفعل قد بني للمفعول في قوله: {قِيلَ} و {غِيضَ} و {قُضِي} للعلم بالفاعل الحقيقي وهو الله القادر، ووراء حذف الفاعل سر آخر وهو الإشارة إلى سرعة الاستجابة والامتثال، وأن هناك قوةً خارقةً قد اختطفت الماء، فانمحى وزال. وانظر لذلك إلى قول الله -عز وجل -: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} (الأعراف: 119، 120) تجد أن وراء حذف المسند إليه دقائق ولطائف؛ أهمها الإشارة إلى قدرة الخالق فهو الغالب وليس موسى، بل لقد أوجس موسى في نفسه خيفة عندما رأى حبالهم وعصيهم، وخيل إليه من

سحرهم أنها تسعى، كقوله تعالى: {فَغُلِبُوا} بالبناء للمجهول إشارة إلى قدرة الله القاهر، وتنبيهًا على أن الغلبة كانت بتدبيره تعالى وصنعه، وبهذا يظل موسى في مرتبة العبودية العاجزة التي لا تصنع شيئًا خارقًا، وإنما يجريه الله تعالى على يديها. وتأمل قوله تعالى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ} وإشارته إلى سرعة امتثالهم بأمر الله، وكأن قوة القهار قد نزعت العناد والكفر من رؤوسهم، فانكبوا ساجدين مؤمنين برب العالمين. من هذه الأسرار لحذف المسند إليه الخوف على المسند إليه المقصود به الفاعل، كقول الشاعر: نبئت أن أبا قابوس أوعدني ... ولا قرار على زأر من الأسد كذلك ضيق المقام نظرًا لما عليه المتكلم كقول الشاعر: أُسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى ... ولا فرسي مُهر ولا ربه غمر وكذا احتقار المسند إليه المحذوف كقول الشاعر: لئن كنت قد بلغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب ومنه كذلك الخوف منه كقول القائل: ضُرب فلان، بحذف الفاعل الحقيقي وبناء الفعل للمفعول؛ خوفًا من هذا المعتدي على نفسه. ومن ذلك أيضًا الجهل به كقولك مثلًا: بني هذا المسجد عام كذا، إذا كان المسجد قديمًا لم يعلم شيء عن شخص بانيه، والمعلوم هو تاريخ البناء فقط من كتابته على الجدران مثلًا.

هذا؛ وهناك من البلاغيين من عَدَّ اتباع الاستعمال الوارد عن العرب غرضًا يقتضي حذف المسند إليه كما في الأمثال نحو قولهم: رمية من غير رام؛ أي: هي رمية موفقة ممن لا يحسن الرمي، وحُذف المسند إليه وهو الضمير اتباعًا للاستعمال الوارد عن العرب. ونحو قولهم: شنشنة أعرفها من أخذم؛ أي: هي شنشنة، والشنشنة: الطبيعة والعادة، وأخذ م: ابن قائل المثل وكان عاقًّا لأبيه -والعياذ بالله- فلما مات أخذم تواثب أبناؤه على جدهم وأوسعوه ضربًا حتى أدموه فأنشد: إن بني أدرجوني بالدم ... من يلقَى آساد الرجال يكلم ومن يكن رِدءًا له يقدم ... شنشنة أعرفها من أخذم أي: ضربهم إياه خَصلةً وعادةً يعرفها من أبيهم أخذ م فذهب الشطر الأخير مثلًا. وكما في النعت المقطوع إلى الرفع لقصد إنشاء المدح مثل: الحمد لله أهل الحمد، والتقدير هو أهل الحمد؛ قياسًا على قول العرب: الحمد لله الكريم، أو لقصد الترحم مثل: اللهم ارحم عبدك المسكين، أو لقصد إنشاء الذنب مثل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والتقدير هو، وقد اعترض على هؤلاء بأن الحذف في مثل هذه المواطن ذاتي أوجبته اللغة العربية، فكيف نجعل الموجب له سرًّا بلاغيًّا؟ فأجابوا: لأن الحذف مع وجوبه من ناحية اللغة لا يُصار إليه إلا لغرض بلاغي يقتضيه، فلو أخذنا بظاهر ما يفهم من كلامهم لجعلنا رفع الفاعل ونصب المفعول لغرض بلاغي كذلك؛ ولذا علَّق على ردهم هذا الشيخ عبد المتعال الصعيدي - رحمه الله - فقال: وهو جواب ظاهر الضعف؛ لأنه لا معنى لتوقف الحذف عن الغرض البلاغي مع وجوبه في ذاته، إذ لا بد منه، وُجد هذا الغرض أم لم يوجد. ذكر ذلك في تحقيقه على (الإيضاح) في كتاب البغية.

والخَطْب في ذلك سهل، فاتباع الاستعمال الوارد عن العرب بحذف المسند إليه لم يجب علينا لغرض بلاغي جديد، ولكن هذه الأساليب عندما قيلت في مقاماتها الأولى، كان الداعي إلى الحذف فيها أغراضًا بلاغيةً في الأساس أوضحها الاختصار والإيجاز وهو قيمة عظيمة وفضيلة من فضائل الكلام جليلة؛ لأن المتكلم بها في هذه المقامات هم العرب الذين لا يتصرفون في كلامهم بحذف أو ذكر اعتباطًا، ف هم أرباب الصناعة العربية، وأعرف الناس بأسرارها. إذا كان الأمر كذلك، أدركنا أن الحذف في هذه الأساليب كان ابتداءً لغرض بلاغي، بدليل أن ما نحسه عند حذف المسند إليه من جمال القول وقوته نستشعره عند ذكره، ولهذا إذا تكلمنا بشيء من هذا الوارد عن العرب على حذف المسند إليه، وجب عليهم أن نتبعهم في حذف ما حذفوا؛ لأننا لا نأتي بمثيل هذه الأساليب إلا في مقام تُشابه مقاماتها الأُولَى التي قيلت فيها؛ فلكي تظل محتفظة بقيمتها البلاغية وغرضها الداعي للحذف أولًا، وجب علينا بلاغةً أيضًا أن نذكرها في مقامها الثاني المشابه للأول على النحو الذي ذكرت به أولًا من حذف المسند إليه، فيتحقق بذلك ثانيًا ما تحقق أولًا. إلى غير ذلك من الدواعي والأسرار التي تقتضي حذف المسند إليه، ولا يمكننا أن ندعي حصرها أو الإحاطة بها، ولكننا نتناولها صورًا لعلها تهدينا إلى طريقة النظر في مثل هذا الباب، فالذي يتأمل الأساليب ويسترشد بالسياق وقرائن الأحوال، قد تتكشف له أسرار سوى ما ذكر، ويقع على أغراض ونكات لم تدون من قبل، والأمر أولًا وآخرًا مبني على الذوق وتلمس أسباب الحذف.

ذكر المسند إليه.

ذكر المسند إليه وننتقل ب الحديث الآن عن ذكر المسند إليه ودواعي ذلك. ذكرنا فيما سبق أن محل البحث في حذف المسند إليه أو ذكره، هو التعرف على الأسرار البلاغية التي رجحت الحذفَ على الذكر، أو الذكرَ على الحذف، ولا يكون ذلك إلا إذا جاز الحذف والذكر لغة لوجود القرينة الدالة، وقد عرفنا بعض الأسرار المقتضية للحذف، ونريد أن نذكر بعض الأسرار والدواعي التي تقتضي ذكر المسند إليه. ونذكر من ذلك: كون المسند إليه هو الأصل ولا مقتضى للعدول عنه إلى الحذف؛ أي: أن الأصل أن يدل على المسند إليه باللفظ بشرط ألا يقصد المتكلم غرضًا من أغراض الحذف؛ فإذا قصَد المتكلم غرضًا من أغراض الحذف كانت البلاغة في الحذف، أما إذا لم يقصد المتكلم ذلك عدنا إلى الأصل وهو الذكر، وكانت النكتة فيه كونه الأصل، وليس في قصد المتكلم غرض يقتضي الانصراف عن الذكر إلى الحذف. الأمر الثاني من دواعي ذكر المسند إليه: زيادة الإيضاح والتقرير للمسند إليه؛ أي: زيادة انكشافه لفهم السامع وتثبيته في نفسه؛ لأن المسند إليه المحذوف معلوم وواضح وثابت بالقرينة فكأنه مذكور، فإذا صرح به فكأنه ذكر ثانيًا؛ ف تحصل بذلك زيادة الإيضاح والتقرير، وإذا أراد المتكلم زيادة الإيضاح والتقرير للمسند إليه في نفس السامع اقتضى هذا الغرض أن يذكر المسند إليه؛ كما تقول مثلًا: هؤلاء جدو وهؤلاء نجحوا بتفوق، فتذكر المسند إليه وهو في الإشارة الثاني بقصد زيادة إيضاحه

وتقريره في ذهن السامع، وأن هؤلاء الذين ثبت لهم الجد هم أنفسهم الذين ثبت لهم النجاح بتفوق، وتكرار هؤلاء مَفاد اختصاصهم لكل واحد من الأمرين مميزًا لهم عمن عداهم، وفي هذا من الإيضاح والتقرير ما لا يخفى. وقد يكون للمسند إليه مزيد تعلق بنفس المتكلم ذاته، ويعمد إلى الذكر تجاوبًا مع ما يحسه هو تجاه المسند إليه؛ مراعاةً لحاله، وانظر معي إلى قول مالك بن الريب في قصيدته التي قالها حين استشعر دنو الأجل وهو في خراسان، قال: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بجنب الغضى أزجي القلاص النواجيا وليت الغضا لم يقطع الركب ... وليت الغضا ماشي الركاب لياليا لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا ... مزار ولكن الغضا ليس دانيا والغضا: هو شجر في ديار أهله، والشعر في هذه الحالة النفسية القاسية التي يستشعر فيها دنو الأجل، ويستشعر فيها الإحساس بالغربة، ويفيض فيها الحنين والتعلق بالأهل، تراه مرتبط النفس بالغضا أقوى ما يكون الارتباط، لذلك ذكر لفظ المسند إليه الغضا وكرره أكثر من مرة، من هذا القبيل ذكر الشاعر اسم صاحبته بتكراره أحيانًا؛ لما يحسه تجاهها من حب جارف وشوق عال، ولما يشعر به من التلذذ عند جريان اسمها على لسان؛ كقول الشاعر مثلًا: ألا ليت لُبنى لم تكن لي خلة ... ولم تلقني لبنى ولم أدر ما هي حيث ذكر لبنى في الشطر الثاني، وكان يمكنه أن يستغني عن ذكر المسند إليه اسم صاحبته بالضمير المستتر بالفعل: ولم تلقني، ولكن الشاعر يحرص على ذكر الاسم؛ لأنه يحبه ويحب أن ينطق به دائمًا وأبدًا،

ومثل ذلك قول الآخر: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر فالذكر هنا لغرض التلذذ، وأيضًا مثل التلذذ ق صد التيمن والتبرك؛ إذ أن المتكلم في ذكره المسند إليه راعى حال نفسه أيضًا مستجيبًا لما يشعر به تجاه مدلول لفظ المسند إليه كما في قولك مثلًا: نبينا - صلى الله عليه وسلم - قائل هذا القول، جوابًا لِمَن سألك: هل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا؟ فتذكره؛ تيمنًا وتبركًا بذكر اسمه، كقولك أيضًا لمن سألك قائلًا: هل الله يرضَى هذا؟ فتقول: الله يرضاه. هذا؛ وكما يكون المقتضي بذكر المسند إليه زيادة إيضاحه وتقريره، يكون كذلك الداعي للذكر الإيضاح والتقرير بالمعاني المنسوبة إلى المسند إليه والأحكام المحكوم بها عليه، وإنما يعمد البليغ إلى ذكر المسند إليه ليبرز هذه الأحكام والمعاني في صورة بينة واضحة مؤكدة، ويكون السر الإيضاح والتقرير بدون إضافة كلمة زيادة، فترى هذا السر بذكر المسند إليه ماثلًا في قول ابن الدمينة يخاطب صاحبته أميمة، معارضًا لها حين عاتبته بقولها: وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمت بي مَن كان فيك يلوم وأبرزتني للناس ثم تركتني ... لهم غرضًا أرمى وأنت سليم فلو أن قولًا يكلم الجسم قد بَدَا ... بجسمي من قول الوشاة كلوم فقد قال في جوابها: وأنت التي قطعت قلبي حزازة ... وفرقت قرح القلب فهو كليم وأنت التي كلفتني دلج السرى ... وجون القطر بالجهلتين جثوم وأنت التي أحفظت قومي فكلهم ... بعيد الرضا داني الصدود كظيم حيث ذكر الشاعر ضمير صاحبته المسند إليه في كل بيت مسندًا إليها هذه الأخبار التي بدت بذكر المسند إليه في صورة واضحة مؤكدة، وحققت في الوقت نفسه ما أراده من العتاب والتثريب.

ومما ذكر فيه المسند إليه لغرض الإيضاح والتقرير الخبر وتأكيد الحكم المحكوم به على المسند إليه أيضًا قول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الرعد: 5) حيث ترى المسند إليه يُذكر ويكرر مع كل خبر عنه ومع كل حكم عليه، وكان من الممكن أن يكتفَى بذكره أولًا ويحذف بعد ذلك، ولكنه -والله أعلم- قصد إلى تقرير هذه الأخبار وتأكيد هذه الأحكام، فهم كفروا بربهم وهم الأغلال في أعناقهم وهم أصحاب النار، وفي هذا تكرار للمسند إليه من إعلان الغضب والوعيد ما لا يخفى. ومن ذلك أيضًا قول الله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لقمان: 5) ففي إعادة ذكر المسند إليه زيادة تقرير وإيضاح، وإبراز لمكانة هؤلاء المؤمنين الذين آمنوا بالغيب وأقاموا الصلاة وأيقنوا بالدار الآخرة. من هنا نعلم أن ذكر المسند إليه كما يكون لزيادة إيضاحه وتقريره في نفسه، يكون كذلك لإيضاح الخبر عنه وتقرير الحكم عليه، وتأكيد المعاني المنسوبة إليه. وقد يجتمع هذان الغرضان لذكر المسند إليه في كلام واحد كما تراه مثلًا في قول عمرو بن كلثوم: قد علم القبائل من معد ... إذا قبب بأبطحها بنينا بأنا العاصبون إذا أطعنا ... وأنا الغا نم ون إذا عصينا وأنا المنعمون إذا قدرنا ... وأنا المهلكون إذا أوتينا وأنا الحاكمون بما أردنا ... وأنا النازلون بحيث شينا وأنا التاركون لما سخطنا ... وأنا الآخذون لما هوينا حيث تجده قد ذكر المسند إليه وكرره، والسر في ذلك هو تقرير ما أخبر به عن قومه، وتأكيد المعاني المنسوبة إليه في الوقت ذاته تجد للذكر سرًّا آخرَ يتصل

بالمسند إليه نفسه وهو زيادة إيضاحه وتقريره؛ تأكيدًا لذات قومه وإبرازًا لهذه الذات في مواجهة الأعداء الذين توهموا في نظر عمرو بن كلثوم أن قومه قد أضعفتهم الحروب وأفنتهم المعارك، كما نفهم من قوله: ألا يحسب الأعداء أنَّا ... تضعضعنا وأنا قد فنينا ترانا بارزين وكل حي ... قد أخذوا مخافتنا قرينا ومن هذا القبيل قول الخنساء في رثاء أخيها صخر: وإن صخرًا لكافينا وسيدنا ... وإن صخرًا إذا نشت لنحار وإنا صخر لتأتم الهداة به ... كأنه علَم في رأسه نار حيث نجد المسند إليه وهو صخر قد ذكر وتكرر لزيادة إيضاحه وتقريره؛ تجاوبًا مع ما تحسه نحو أخيها من شدة التعلق به، والذي يجعل من ذكره اسمه وتكراره شيئًا حبيبًا إلى نفسها، ووسيلةً من وسائل السلوى وتخفيف الآلام، كما نجد لذكر المسند إليه هنا سرًّا آخرَ يتمثل في تقرير المعاني التي نسبتها إليه، وتأكيد الأخبار التي أخبرت بها عنه. من دواعي ذكر المسند إليه أيضًا الاحتياط لضعف الاعتماد على القرينة، وذلك إذا كان هناك قرينة تدل على المسند إليه لو حذف، ولكن هذه القرينة خفية فيخشى المتكلم حينئذٍ إن هو اعتمد عليها أن يلتبس المراد على السامع، ولذلك يأخذ بالاحتياط فيذكر المسند إليه غير معول على القرينة الموجودة كما يقال مثلًا: مَن حضر؟ ومَن سافر؟ فيقال في الجواب: الذي حضر زيد والذي سافر عمرو، ولا يقال: زيد وعمرو؛ لأن السامع قد يجهل تعيين ذلك من السؤال.

الأمر الذي يلي ذلك من دواعي ذكر المسند إليه التنبيه على غباوة السامع؛ أي: تنبيه الحاضرين على غباوة المقصود بالسماع، وأنه لا يفهم إلا ما تنص عليه الألفاظ؛ لأن في الحذف تعويلًا على الذكاء والقدرة على الإفادة من السياق والقرائن، فيعمد المتكلم إلى ذكر المسند إليه وإن كان السامع فاهمًا له بالقرينة؛ لأجل تنبيه الحاضرين على غباوة السامع إما لقصد إفادة أنها وصفه أو بقصد إهانته وتحقيره، فيقال في جواب من سأل: ماذا قال عمرو؟ عمرو قال كذا. من ذلك أيضًا: الرغبة في بسط الكلام وإطالته، وذلك داع مشهور من دواعي ذكر المسند إليه، ويتأتى حيث يكون إصغاء السامع مطلوبًا للمتكلم لخطر مقامه أو لقربه من قلبه، ولهذا يطال الكلام مع الأحبة، ومن ذلك قول الله تعالى حكايةً عن سيدنا موسى - عليه السلام-: {هِيَ عَصَايَ} (طه: 18) وكان يكفي في الجواب أن يقول: عصا، لكنه ذكر المسند إليه وهو الضمير وأضاف العصا إلى نفسه؛ حبًّا في إطالة الكلام بحضرة ذي الجلال؛ لأنه تشريف، ولهذا لم يكتفِ موسى - عليه السلام - بذكر المسند إليه، بل أعقب ذلك بذكر أوصاف لم يُسأل عنها، فقال: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (طه: 18) وقد سأله سبحانه وهو بكل شيء؛ لأنه -والله أعلم- أراد لفت انتباهه إلى العصا حتى يتبينها، ويعرف أنها ليست إلا عصا يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه، فهي يابسة جامدة حالها كحال أي عصا، فإذا تلقى الأمر بإلقائها وألقاها ورآها حيةً تسعى، كان ذلك أبين في إبطال قانونها وإحالته عن وصفها بخلق الحياة والحركة فيها، وهذه هي آية الألوهية ومعجزة النبوة. كذا ذكره دكتور محمد أبو موسى في (خصائص التراكيب).

من ذلك أيضًا: التسجيل على الثابت، كأن يقول القاضي لشاهد واقعة هل أقر هذا بأنه فعل كذا؟ فيقول الشاهد: نعم، فلان هذا أقر بكذا، ويذكر المسند إليه لئلا يجد المشهود عليه سبيلًا إلى الإنكار فيما لو لم يذكر اسمه، وجعل الشيخ عبد المتعال الصعيدي - يرحمه الله - من الذكر للتسجيل على السامع حتى لا يتأتى له الإنكار قول الفرزدق في علي بن الحسين - رضي الله عنهما - حين أنكر هشام بن عبد الملك معرفته: هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العَلَم هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا من دواعي ذكر المسند إليه: إظهار تعظيم المسند إليه أو إهانته؛ فالأول نحو: أمير المؤمنين حاضر، والثاني نحو: السارق اللئيم حاضر، جوابًا لمن سأل عنهما ليفيد المتكلم سامعه أن تلك الذات المعبر عنها بهذا الاسم عظيمة، وأن هذه المعبر عنها بهذا الاسم مَهانة. من ذلك أيضًا: إظهار التعجب من المسند إليه، وذلك حيث يكون الحكم غريبًا يندر وقوعه، كما في قولك محدثًا عن إنسان سبق ذكره: فلان يصارع الأسود، أو يحمل أطنانًا من الحديد، وتذكر المسند إليه لقصد إظهار التعجب من شدة بأسه؛ إلى غير ذلك من نكات الذكر، إذ ليست سماعية حتى يمكن استيعابها، بل المدار في ذلك على الذوق السليم، فما عده الذوق داعيًا من دواعي الذكر أو الحذف أو غيرها أُخذ به وإن لم يذكره أهل البلاغة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 8 تعريف المسند إليه.

الدرس: 8 تعريف المسند إليه.

تعريف المسند إليه بالإضمار.

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (تعريف المسند إليه) تعريف المسند إليه بالإضمار إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونسترضيه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا كما نعوذ به من سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله؛ وبعد: فإن الحديث عن أحوال المسند إليه يستوجب تناول تعريفه، ونكتفي بالتعرف على ما يكتنف تعريف المسند إليه بالضمير والعلم والإشارة: وكما ذكرنا مرارًا وتكرارًا فإن المسند إليه يمثل المبتدأ في الجملة الاسمية والفاعل في الجملة الفعلية، والمسند إليه أيًّا ما كان الأمر محكوم عليه، فعندما أقول: محمد مجتهد، أكون قد حكمت بالاجتهاد على محمد، ومثلُ ذلك في الجملة الفعلية: يجتهد محمد، أكون أيضًا حكمت بالاجتهاد على محمد، فأيًّا ما كان الأمر فمحمد وهو المسند إليه هو المحكوم عليه في الجملتين. والأصل في المحكوم عليه أن يكون معينًا، إذ الحكم على المجهول لا يفيد إفادة تامة وكمال التعيين بالتعريف؛ ولذا جعل البلاغيون الغرض العام لإيراد المسند إليه معرفًا بأي نوع من أنواع التعريف قصد المتكلم إفادة المخاطب الحكم إفادةً تامة ً، فإذا لم يقصد المتكلم هذه النكتة جِيء بالمسند إليه نكرةً، والمقام هو المقتضي قصد هذه النكتة أو عدم قصدها. ومن هنا آثر النظم القرآني تنكير المسند إليه على تعريفه في قول الله تعالى مثلًا: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} (القصص: 20) هذا هو الغرض العام بإيراد المسند إليه معرفة ً، ثم لكل نوع من أنواع التعريف بعد ذلك أسرار ونكات؛ لأن المعرفة -كما نعلم نحويًّا- أقسام ستة؛ الضمير، العلم، اسم الإشارة، اسم الموصول، المعرف بأل، المضاف إلى واحد من هذه الخمسة المذكورة. ونعرض فيما يلي لأهم ما ذكره البلاغيون من أغراض وأسرار تعريف المسند إليه بالضمير، ثم بالعلم ثم باسم الإشارة، ولنبدأ تعريف المسند إليه بالإضمار.

يؤتى بالمسند إليه ضميرًا إذا كان الحديث في أحد المقامات الثلاثة التكلم أو الخطاب أو الغيبة، فإذا كان المتكلم متحدثًا عن نفسه كان المقام للتكلم، ينبغي أن يقول: أنا، كقول بشار بن برد: أنا المرعث لا أخشى على أحد ... ذرت بي الشمس للقاصي وللداني يصف نفسه بأنه مشهور ذائع الصيت، والمرعث: لقبه برعثة كانت له في صغره وهي القرط، يعلق في شحمة الأذن، وذرت الشمس؛ أي: طلعت كنايةً عن شهرته ووضوح أمره، ومثله قول المتنبي أيضًا: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي مَن به صمم وإذا كان المتكلم يخاطب مشاهدًا حاضرًا كان المقام للخطاب، فينبغي أن يقول: أنت مثل قول أمامة الخثعمية تخاطب ابن الدمينة -وقد سبق ذكره- وكان يتغزل بها: وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمت بي مَن كان فيك يلوم تقول له: أنت الذي أخلفت ما وعدتني بالوفاء به، ونقضت ما عاهدتني عليه، وأشمت بي كل من كان يلومني ب حبك ويخطئني في الولع بك؛ لأنك لم تقم بما توجبه المحبة على المحب من الوفاء بعهد حبه. وإذا كان المتكلم يتحدث عن غائب ورد له ذكر في الكلام على أي صورة من صور تقدم مرجع الضمير في الغيبة، كان المقام للغيبة، فينبغي أن يقول هو مثل قول أبي تمام في قصيدة يمدح بها المعتصم بالله: بيمين أبي إسحاق طالت يد العلا ... وقامت قناة الدين واشتد كاهله والبحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله

وعلى ما سبق ذكره فإن ضمير الغائب لا بد له من مرجع يعود عليه، وهذا المرجع يجب أن يتقدم على الضمير لفظًا تحقيقًا كما في قول الله تعالى: {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (الأعراف: 87) وكما في قول الشاعر: من البيض الوجوه بني سنان ... ولو أنك تستضيء بهم أضاءوا هم حلوا من الشرف المعلى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا وكنحو قولك: جاءني زيد وهو يضحك، أو تقديرًا بأن يتأخَّر المرجع عن الضمير في اللفظ، ولكن رتبته التقديم فيعد بذلك متقدمًا لفظًا وتقديرًا نحو: في داره زيد، ومن هذا القبيل قوله: نعم رجلًا زيد، على رأي مَن يجعل المخصوص بالمدح أو الذم في باب نعم وبئس مبتدأً، والجملة قبله خبرًا مقدمًا، فمرجع الضمير هنا على هذا الرأي هو المخصوص بالمدح وهو زيد، وقد تأخر لفظًا لكنه متقدم رتبةً؛ لكونه مبتدأ ً. وهذه صورة من صور تقدم مرجع ضمير الغيبة. وهناك صورة ثانية تتمثل في أن يتقدم مرجع الضمير معنى بأن يتقدم على الضمير لفظ من جنسه تدل عليه قرينة؛ فمثال ما دل عليه لفظ قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) فالضمير هنا للعدل، وقد تقدم معناه في لفظ: {اعْدِلُوا} من ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} (النور: 28) فالضمير للرجوع وقد تقدم معناه في لفظ "ارجعوا ". ومثال ما دلت عليه قرينة قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} (النساء: 11) فالضمير المستتر في الفعل: {تَرَكَ} وهو مسند إليه مرجعه المتوفى قد دلت عليه قرينة الحال، وذلك أن الكلام في الآية عن الميراث فالمرجع متقدم معنًى.

ومن أمثلة ما دلت عليه قرينة الحال قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (ص: 32) فإن قرينة ذكر العشي والتواري بالحجاب مع سياق الكلام الدال على فوات وقت الصلاة تدل على أن الضمير يرجع إلى الشمس، وقد يرد الضمير في الكلام ولا يتقدم له مرجع في اللفظ تحقيقًا ولا تقديرًا، ولا يتقدم له مرجع في المعنى، وحينئذٍ يقال: إن مرجعه متقدم حكمًا، ويتمثل هذا في مرجع ضمير الشأن والقصة وضمير رب، كذا قيل في التقدم الحكمي. مثال ضمير الشأن قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: 90) ومثال ضمير القصة قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} (الحج: 46) ومثال ضمير رب قولك: ربه فتن ًا، فالمرجع في كل ذلك متأخر لفظًا متقدم حكمًا، ونكتة التأخير كما قالوا: البيان بعد الإبهام أو التفصيل بعد الإجمال. هذا؛ وقد قيل: إن مقامات الإضمار هذه مباحث لغوية لا تعلق لها بالبلاغة، فإن مقام التكلم يوجب ضمير المتكلم، ومقام الخطاب يوجب ضمير الخطاب، ومقام الغيبة يوجب ضمير الغيبة، ومِثل هذا لا يتحدث عنه في البلاغة. ولرد ذلك نقول: إن التعبير بهذه الضمائر في مقاماتها وإن كانت لغوية، فهي لا تخلو من أسرار ومزايا بلاغية تكمن وراء هذه التعبيرات يدركها كل من يتأمل السياقات ويترسم الأساليب، كما نرى ذلك في ضمير المتكلم، حيث يشعر بالاعتداد بالنفس ولذلك يؤتى به غالبًا في مقام الفخر على ما مر بنا في قول عمرو بن كلثوم: وقد علم القبائل من معد ... إذا قبب بأبطحها بنينا بأنا العاصمون إذا أطعنا ... وأنا الغانمون إذا عُصينا

وأنا المنعمون إذا قدرنا ... وأنا المهلكون إذا أوتينا وأنا الحاكمون بما أردنا ... وأنا النازلون بحيث شينا وأنا التاركون لما سخطنا ... وأنا الآخذون لما هوينا وانظر مثلا إلى قول الله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه:11: 14) فإنك تجد أن التعبير بضمير التكلم: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ}، {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ}، {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} أفاد من الإيناس والتلطف ما لا يفيده غيره خاصةً وأن الله -تبارك وتعالى- ينادي موسى أول مرة؛ فالمقام يحتاج إيناسًا وتلطفًا، وخذ مثلًا قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) وتأمل إيثاره التعبير بضمير التكلم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} (الإنسان: 23) {وَإِنَّا لَهُ} (يوسف: 11) وما وراء ذلك من تأكيد الحفظ وبث الطمأنينة في نفس المؤمن. ثم تأمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)) وما وراء التعبير بصيغة التكلم عن الاعتداد بالنفس وتمام الثقة وبث الطمأنينة في نفوس المؤمنين، وكذا القول في بيت عمرو بن كلثوم: ورثنا المجد قد علمت معد ... نطاعن دونه حتى يبينا ونحن إذا عماد الحي خرت ... على الأحفاظ نمنع مَن بُلينا إذ لا يخفَى عليك ما يكمن وراء التعبير بضمير التكلم في الأبيات من الفخر والاعتداد بالنفس. ونرى مثل هذا في التعبير بضمير المخاطب عند خروجه عن أصله، حيث إنه وضع في الأصل لمعين كسائر المعارف، ولكن الأصل في المعين المقصود بضمير

المخاطب أن يكون مشاهَدًا حاضرًا كما تقتضي حقيقة الخطاب؛ لأن الخطاب توجيه الكلام إلى حاضر المشاهد، ومع ذلك قد يخرج الضمير عن هذا الأصل فيخاطَب به غيرُ المشاهد، والنكتة في ذلك تتمثل في الإشارة إلى أنه حاضر في القلب قريب من الخاطر كأنه نصب العين، مثل قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة:5: 7) ومثل قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ} (الأنبياء: 87) كما يخاطب به غير المعين بأن يراد مطلق مخاطب، وذلك حيث يراد تعميم الخطاب وتوجيهه إلى كل مَن يتأتَّى خطابُه، فالسر البلاغي في مثل هذا إرادة العموم، وإن الأمر المسند إلى ضمير المخاطب في الكلام مقصود به كل مَن يتأتى خطابه. مثل قول المتنبي: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا وقول بشار بن برد: إذا أنت لم تشرب مرارًا على ال ظم ا ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه وقول الشاعر: إذا ما كنت ذا قلب قنوع ... فأنت ومالك الدنيا سواء وقول الآخر: إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها ... هوانًا بها كانت على الناس أهون فليس المراد بالمخاطب في هذه الأبيات إنسانًا معينًا، بل المراد كل من يتأتى خطابه، والسر هو التعميم في الخطاب إشعارًا بأن الأمور المتحدث عنها لها من الثبات في نفسها ما يجعلها صالحة لأن يخاطب بها كل إنسان. ومن هذا القبيل قولك: فلان لئيم إذا أكرمته أهانك وإن أحسنت إليه أساء إليك، فليس المراد بالضمير في قولك: إن أكرمت وإن أحسنت مخاطبًا معينًا

حاضرًا كما هو الأصل في الخطاب، وإنما المراد مطلق مخاطب على معنى أي فرد من أفراد هذا المطلق: أكرم فلانًا اللئيم أو أحسن إليه، وقابله فلان هذا بالإهانة والإساءة. وفي هذا إشارة إلى أن سوء معاملة اللئيم لا يختص بها واحد دون آخر، ومن أجل ذلك كان الخطاب عامًّا يشمل كل مَن يمكنك خطابه. وقد ذكر البلاغيون من شواهد هذه الخصوصية -أعني: إرادة العموم عند التعبير بضمير المخاطب- قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} (السجدة: 12) المراد بالخطاب هنا كل من يتأتى منه الرؤية للإشارة إلى أن حالة المجرمين في ذلك اليوم من تنكيس الرء وس خوفًا وخجلًا ورثاثة الهيئة واسوداد الوجه؛ وغير ذلك من سمات الخزي والخذلان المفادة من التصريح بتنكيس الر ؤ وس، ومن حذف جواب "لو" في الآية الكريمة، قد تناهت في الظهور والاتضاح والفظاعة لأهل المحشر، فلا يختص بها راء دون راء، بل كل من يتأتى منه الرؤيا داخل في الخطاب، بحيث لا يُختص بهذا الخطاب مخاطبٌ دون مخاطب ٍ. وهذا معنى العموم الذي هو نكتة العدول بالخطاب عن أصل وضعه، وفي هذا التعميم المشعر بظهور حال المجرمين ظهورًا واضحًا، إشارةٌ أيضًا إلى التنفير والتحذير من سلوك المجرمين الذي أدَّى بهم إلى هذا المصير. ومن قبيل العدول بضمير المخاطب عن أصل وضعه للعموم قوله - صلى الله عليه وسلم-: ((بشروا المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة))، فليس المراد بالمخاطبين هنا جماعة معينين، وإنما المراد كل فرد من المسلمين يتأتى منه التبشير هو مأمور أن يبشر هؤلاء المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة، وفي ذلك نهاية التكريم لهم وغاية الرضا عنهم.

تعريف المسند إليه بالعلمية.

تعريف المسند إليه بالعلمية التعريف بالعلمية، فإنه يؤتى بالمسند إليه معرفًا بالعل م ية لأغراض بلاغية؛ منها: أولًا: إحضار المسند إليه بعينه وشخصه في ذهن السامع ابتداءً باسم مختص به، فهناك بين المقامات ما يقتضي إحضار المسند إليه في ذهن السامع ابتداءً باسم مختص به، ولا يكون ذلك إلا بالعلم؛ لأنه يحضر مسماه في ذهن السامع ابتداء بخلاف ضمير الغائب مثلًا، فإنه وإن أحضر شخصه في ذهن السامع لكنه إحضارٌ يأتي ثانيًا بعد إحضاره بالمرجع أولًا، مثل: جاءني زيد وهو راكب. والعلم نص في مسماه فلا يقع فيه التباس؛ لأنه موضوع للذات المشخصة المعينة بخلاف الضمير فليس نصًّا في معناه من حيث ذاته، بل هو موضوع ل كل غا ئب، فالذي يتحقق به إحضار المسند إليه بشخصه بمجرد النطق باللفظ والعلم، وهذا الغرض وإن كان من استعمال العلم في معناه الأصلي فهو أيضًا من وجوه البلاغة إذا اقتضاه المقام. ومن شواهد هذا الغرض قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) على جعل ضمير الشأن مبتدأً أولًا ولفظ الجلالة مبتدأً ثانيًا، والجملة من الأخير وخبره خبر المبتدأ الأول يكون فيه الشاهد، وهو إيراد المسند إليه علمًا للن قط ة المذكورة، وهي إحضار المسند إليه في ذهن السامع ابتداء باسم مختص به لاقتضاء المقام لها حيث إنه مقام بيان للتوحيد وتقرير لوحدانية الله -عز وجل - والتعبير بلفظ الجلالة أعون على ترسيخ ذلك في ذهن السامع.

ومن شواهده أيضًا: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} (آل عمران: 36) وقوله كذلك: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124) وقوله أيضًا: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8) وقوله -جل شأنه-: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (الرعد: 2). إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي نلحظ فيها أن المسند خاص بالله -عز وجل -. ومن شواهده أيضًا قول مالك بن عويمر الهذلي من قصيدة له في رثاء أبيه وكان يكنَّى أبا مالك، والكنية كما هو معلوم من أنواع العلم: أبو مالك قاصر فقره ... على نفسه ومشيع غناه ف هـ نا يصف الشاعر أباه بكرم الطبع، وأنه إذا أعوز ورقت حاله حبس فقره على نفسه، فلا يسأل أحدًا، وإن أيسر واتسعت ذات يده أشرك صحبه في ماله وأعطى منه كل الناس، والشاهد تعريف المسند إليه أبو مالك بالعل م ية بقصد إحضار مدلوله بشخصه حتى لا يلتبس بغيره، ومثل ذلك قول الحارث بن هشام معتذرًا عن فراره يوم بدر عن أخيه أبي جهل: الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى علو فرسي بأشقر مزبد وشممت ريح الموت من تلقائهم ... في مأزق والخيل لم تتبدد فالشاعر هنا يعتذر لنفسه، إذ فرَّ من الميدان في وقعة بدر، فيقول: إنه لم يترك مكانه في ميدان الحرب إلا بعد أن ثخن بالجراح، فَعَلَا دمُه فرسَه، والأشقر لون الدم الذي سال منه حتى علا فرسه، وهو لون أحمر يضرب إلى الصفرة والمزبد وصف آخر للدم، والشاهد التعبير عن المسند إليه الذات العلية بلفظ الجلالة الله، وهو علم لاستحضار مدلوله في ذهن السامع ابتداء باسم مختص به حيث إن المقام مقام اعتذار، وفي تفويض الشاعر عِلم حاله إلى الله وحده دليلٌ على صدق

ما أراد من أنه لم يفر جبنًا، وإنما فر بعد أن أبلى بلاءً حسنًا، حتى سالت دماؤه فغمرت فرسه. ومن أسرار ودواعي التعريف بالعل م ية تعظيم المسند إليه أو إهانته كما في الألقاب والكنى الدالة على معنى محمود أو مذموم، مثال الأول أن تقول: أبو المعالي حضر وقدم علينا نصر الدين، ومثال الثاني أن تقول: أنف النا قة ذهب ونازعنا أبو جهل، فالتعريف في المثالين الأولين لتعظيم المسند إليه، والتعريف بالعل م ية كذلك في المثالين الأخيرين للإهانة والتحقير للمسند إليه. وقد كان لقب أنف الناقة مكروهًا ولا يحب أهله الانتساب إليه حتى قال الشاعر: قوم هم الأنواف والأذناب غيرهم ... ومَن يسوي بأنف الناقة الذنبا فصاروا بذلك يفخرون بالانتساب إلى أنف الناقة، وكان الرجل من نمير يفخر بنسبته إليها، ويمد صوته عند النطق بهذه النسبة وغيره مفتخرًا بذلك، ولما قال الشاعر: فغض الطرف إنك من نُمير ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابًا صار يكره وينفر من تلك النسبة، وكذا كان وقع الشعر في نفوس متلقيه ومستمعيه. هذا؛ وكما يعرف المسند إليه بالعلمية لقصد تعظيمه أو تحقيره، يعرف كذلك بالعلمية لقصد تعظيم غيره أو تحقيره، مثل: أبو الفضل صديق ك، وأبو الجهل رفيق ك، فالتعظيم للأول للمخاطب والتحقير في الثاني للمخاطب كذلك وهو غير مسند إليه، ولكن انسحب عليه التعظيم أو التحقير لصلته بالمسند إليه، وكل قرين للمقارن ينسب.

ومن دواعي تعريف المسند إليه بالعل م ية قصد التبرك به إن كان مما يتبرك بذكر اسمه، أو قصد التلذذ بذكره تعريف المسند إليه بالعل م ية للتبرك مثل: الله ربنا ومحمد - صلى الله عليه وسلم - نبينا، إذا تقدم لهما ذكر في حديث سابق فيعاد ذكرهما؛ تيمنًا وتبركًا به، وكما يكون تعريف المسند إليه بالعل م ية للتبرك يكون كذلك للاستلذاذ وذلك في حق المعشوقات من المخلوقات؛ لأن النفوس ترتاح لذكر بعض الأسماء، ولذلك نرى الشعراء يكثرون من ذكر أسماء صواحبهم لهذا الغرض كما قال: بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلَى من البشر فمقتضى سياق الكلام أن يقول: أم هي، إذ للمقام للضمير لتقدم مرجعه، لكنه أورده عَلَمًا بقصد التلذذ بذكر اسم صاحبته، ومثله كذلك قول الآخر: ألا ليت لبنَى لم تقل لي خلة ... ولم تلقني لبنى ولم أدر ما هي فالمسند إليه في قوله: لم تلقني لبنى، جاء معرفًا بالعل م ية مع أن مقتضى الظاهر أن يعرف بالضمير لتقدم مرجعه، ولكن الشاعر أورده علمًا لقصد التلذذ. ومن هنا وجدنا المتنبي حين مدح عضد الدولة فناسخرو قد ذكر له أسماء كلها من قبيل التعريف بالعلمية؛ لأنه جمع فيها للم م دوح بين الاسم والكنية واللقب واسم بلده فارس، ثم بين أنه لم ي وردها ليزداد بها الممدوح معرفةً فوق شهرته، فهو مستغنٍ عن التعريف، وإنما ذكرها استلذاذًا بلفظها وسماعها، وذلك حيث قال: وقد رأيت الملوك قاطبةً ... وسرت حتى رأيت مولاها أبا شجاع بفارس عضد الدولة ... فناسخرو شاه شاه أسامي لم تزده معرفة ... وإنما لذةً ذكرناها

تعريف المسند إليه باسم الإشارة.

ومن دواعي وأسرار تعريف المسند إليه بالعلمية قصد التسجيل على السامع؛ حتى لا يكون له سبيل إلى الإنكار كأن يقول القاضي مثلًا لرجل: هل أقر عمرو بذلك لزيد؟ فيقول الرجل: نعم، عمرو أقر بذلك لزيد، فيعيد المسند إليه باسمه ب قصد أن يسجل على السامع، فلا يتمكن من الإنكار بعد ذلك. ومن الأغراض التي يعرف المسند إليه بالعلمية من أجلها قصد المتكلم التفاؤل مثل: سعد في دارك، أو قصد التطير مثل: السفاح في دارك أو في دار فلان، إلى غير ذلك من أسرار وأغراض ينشدها البليغ من وراء تعريف المسند إليه بالعلمية. تعريف المسند إليه باسم الإشارة نكات ودواعي تعريف المسند إليه بالإشارة: يؤتَى بالمسند إليه اسم إشارة لأغراض بلاغية؛ أهمها: قصد تمييز المسند إليه أكمل تمييز؛ لأن اسم الإشارة يميز المشار إليه أكمل تمييز ويحدد المراد منه تحديدًا واضحًا؛ لأن التمييز الأكمل هو ما كان بالعين والقلب، ولا يحصل ذلك إلا باسم الإشارة، وهذا بالنسبة لما تحته من المعارف، ويكون الكلام في مقام لا يمكن فيه التعبير بما فوقه من المعارف، وأيضًا وجود ما هو أعرف منه لا ينافي أن يكون في اسم الإشارة خصوصية وهي تمييز المشار إليه أكمل تمييز يفوق فيها ما سواه؛ وذلك إذا كان المشار إليه حاضرًا محس ًّا بحاسة البصر أو منزلًا تلك المنزلة.

وعلى الرغم من أن هذه الخصوصية باسم الإشارة من معناه الأصلي، فهناك من المقامات ما يستدعي إبراز العناية بأمر المسند إليه وتقرير الحكم المحكوم به عليه وتأكيده، وخير ما يحقق هذا المطلوب تمييز المسند إليه أكمل تمييز؛ لذا يلجأ المتكلم في هذا المقام إلى تعريف المسند إليه بالإشارة ليتحقق لكلامه المطابقة لمقتضى الحال؛ نظرًا لهذه الخصوصية الكامنة في اسم الإشارة، نرى ذلك مثلًا في مقام المدح؛ لأن التمييز الأكمل أعون على كمال المدح وأدل على العناية بأمر ممدوح كقول ابن الرومي يمدح أبا الصقر الشيباني وزير المعتمد: هذا أبو الصقر فردًا في محاسنه ... من نسل شيبان بين الضال والسلم ويذكر أن الممدوح فذ في خلقه وخلقه لا يدانيه فيهما أحد، وأنه سليل قوم ذوي شمم وإباء يعيشون بين أشجار الضال والسلم وهما نوعان من أشجار البادية، وهم يسكنون البادية وسكناها عند العرب يعني الوصف بالعز والمجد؛ لأنها لا تخضع لسلطان حاكم ولا تدين لسلطة قانون كما يوجد في الحضر؛ ولذا قال أبو العلاء المعري: الموقدون بنجد النار بادية ... لا يحضرون وفقد العز في الحضر ومن تعريف المسند إليه باسم الإشارة في مقام المدح لتميزه أكمل تمييز قول الحطيئة: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا فهنا يمدح الحطيئة هؤلاء القوم ويذكر أنهم أشراف ماجدون إن طلبوا مجدًا تلمسوه من أشرف السبل وأهداها، وأنهم أوفياء العهد لا يعرفون الغدر، وأنهم أقوياء العزيمة إن أبرموا أمرًا عقد عليه الخناصر فلا يتقاعسون.

والشاهد في البيتين تعريف المسند إليه بالإشارة؛ هذا في بيت ابن الرومي، وأولئك في بيت الحطيئة قصدًا إلى تمييزه أكمل تمييز لاقتضاء مقام المدح لهم. ويمكن أن نعد من شواهد هذا الغرض أيضًا قول الفرزدق في علي بن الحسين سبق ذكره عندما تجاهله هشام بن عبد الملك: هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم إلى آخر هذه الأبيات. فقد رد الفرزدق إنكار هشام بهذه الصفات وغيرها التي مدح بها علي بن الحسين في قصيدته، وجاءت مقررة مؤكدة بسبب تمييز المسند إليه أكمل تمييز، وذلك يرجع إلى تعريف المسند إليه بالإشارة وتكراره في الكلام الذي يشعر السامع أن هذه الصفات للم م دوح ذائعة شائعة فكيف يجهل الموصوف بها أو ينكر؟! ويمكن أن نعد من شواهد هذا الغرض قول الشاعر: وإذا تأمل شخص ضيف مقبل ... متسربل سربال ليل أغبر أومى إلى الكوماء هذا طارق ... نحرتني الأعداء إن لم تنحر فهنا يصف الشاعر ممدوحه بالجود، وأنه لا يرى شبح ضيف في جوف الليل إلا بادر إلى ناقته ينحرها لهم، وأومى تخفيف أومأ؛ أي: أشار، والكوماء الناقة الضخمة، والشاهد تعريف المسند إليه بالإشارة لتمييزه أكمل تمييز. وأبين من ذلك قول الله تعالى في حادثة الإفك: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} (النور: 12) قال: هذا، ولم يقل: هو؛ ليبرز المسند إليه ويحدده فيقع الحكم عليه بأنه إفك مبين بعد هذا التمييز والتجسيد، وفي ذلك كما يقول الدكتور أبو موسى في (خصائص التراكيب): كبير قدر من قوة الحكم وصدق اليقين من أنه إفك مبين.

وتأمل قوله -عز وجل- بعد ذلك: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: 16) تجد تميز الحدث وكمال إبرازه بالإشارة إليه أن نتكلم بهذا: {سُبْحَانَكَ هَذَا}، قد جعل الحكم عليه بأنه بهتان عظيم يقع موقعه في الأنفس، ولا يخفى عليك ما وراء الإشارة من تحقير وإهانة لمن خاض في هذه الحادثة. ومن دواعي تعريف المسند إليه بالإشارة أيضًا قصد التعريض بغباوة السامع، وأن الأشياء لا تتميز عنده إلا بالإشارة الحسية كقول الفرزدق يهجو جريرًا ويفتخر عليه: أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمع ت نا يا جرير المجامع فهنا يخاطبه قائلًا: أولئك الذين عرفت ما لهم من القدر العظيم، وعلمت ما بلغوه من الشرف الرفيع، هم آبائي الذين أعتز بهم وأفخر، فهل تستطيع يا جرير ولن تستطيع أن تأتي بأمثالهم من آبائك إذا جمعتنا مجامع الفخر والمساجلة؟ فالأمر في قوله: فجئني؛ للتعجيز، والشاهد في البيت هنا أولئك آبائي حيث عرف المسند إليه بالإشارة؛ قصدًا إلى التعريض بغباوة السامع، وأنه لا يدرك إلا المحس لحاسة البصر؛ لأن المشار إليهم غائبون لموتهم، وفي التعريف بالإشارة أيضًا تعظيم للآباء. وهذا سر آخر، ومعلوم أن النكات البلاغية لا تتزاحم. ومن هذا قصد تعظيم المسند إليه أو تحقيره بتعريفه باسم الإشارة الموضوع للقريب، بيان ذلك: أن أسماء الإشارة -كما نعلم- منها ما هو موضوع ليشار به إلى القريب مثل قولك: هذا زيد، ومنها ما هو موضوع للبعيد مثل: ذلك عمرو، ومنها ما هو للوسط بين القرب والبعد مثل: ذاك بشر، فيعرف المسند إليه

بالإشارة للقريب بسر بلاغي يتمثل في تعظيمه؛ تنزيلًا لقربه من النفس منزلة قرب المسافة والمكانة؛ فيعبر عنه حينئذٍ باسم الإشارة الموضوع للقريب؛ تحقيقًا لهذا الغرض كما في قول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9) ووجه إفادة التعظيم من اسم الإشارة الموضوع للقريب أن المحبوب يكون عادة مخالطًا للنفس، حاضرًا في الذهن، لا يغيب عن الخاطر، فإرادة تعظيمه يناسبها القرب المكاني. وكما يعرف المسند إليه بالإشارة للقريب للتعظيم يعرف بها أيضًا بقصد التحقير؛ تنزيلًا لدنو منزلته وانحطاط مرتبته منزلة قرب المسافة؛ فيعبر عنه حينئذٍ باسم الإشارة الموضوع للقريب؛ تحقيقًا لهذا الغرض، كما في قول الله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 64) وقد أشير إلى الحياة الدنيا بالقريب إشعارًا بهوانها وحقارتها، فلا ينبغي للمؤمن أن يجعلها غاية أو أن يتخذها هدفًا. من هنا قال - صلى الله عليه وسلم-: ((لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى الكافر منها جرعة ماء)) وكما في قوله تعالى حكايةً لقول المشركين: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} (الأنبياء: 36) مشيرين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قصدًا إلى إهانته في زعمهم -قبحهم الله -. ومن هذا القبيل قول الشاعر: ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثى له أحد فقد عرف المسند إليه في الموضعين من البيت الثاني باسم الإشارة الموضوع للتحقير، ووجه دلالته على التحقير أن التحقير عادة لا يمتنع على الناس، بل

يكون قريب الوصول إليه مبتذلًا، فتحقيره حينئذٍ يناسبه القرب المكاني على هذا التقدير. ومن التعريف باسم الإشارة الموضوع للقريب لقصد التحقير، هكذا نلحظ أن الإشارة للقريب كانت وسيلة للتعظيم في مواطن عديدة، ووسيلة للتحقير في مواطن أخرى، ولا ضير في ذلك، فالجهة منفكة والوجهة مختلفة. ومن دواعي تعريف المسند إليه بالإشارة قصد تعظيم المسند إليه أو تحقيره بتعريفه باسم الإشارة الموضوع للبعيد، فما قلناه في التعريف باسم الإشارة الموضوع للقريب من حيث الدلالة على التعظيم أو التحقير نقوله كذلك في التعريف باسم الإشارة الموضوع للبعيد من حيث دلالته على تعظيم المشار إليه مرة في مقام، ول دلالته على تحقيره في مقام آخر. ولكل دلالة وجهتها، فالجهة منفكة والوجهة مختلفة -كما قلنا آنفًا- ومن هذا المنطلق نجد تعريف المسند إليه بالإشارة للبعيد تفيد تعظيمه تنزيلًا لبعد درجته وعلو مرتبته منزلة بعد المسافة؛ ف يعبر عنه حينئذٍ باسم الإشارة الموضوع للبعيد للدلالة على قصد التعظيم، كما في قول الله تعالى حكايةً عن امرأة العزيز ردًّا على أولئك النسوة اللاتي لمنها: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} (يوسف: 32) لم تقل: هذا مع إنه قريب حيث كان حاضرًا في المجلس؛ رفعًا لمنزلته في الحسن، وتمهيدًا للعذر في الافتتان به. ومثله قوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الزخرف: 72) وقوله سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 2) ف تعريف المسند إليه فيهما بالإشارة للبعيد للدلالة على تعظيم شأنهما، ووجه الدلالة على

التعظيم أن العظيم عادة بعيد المنزلة عالي المكانة، وينزل البعد المعنوي هذا منزلة البعد الحسي الموضوع له اسم الإشارة؛ ولذلك يعبر عنه باسم الإشارة الموضوع للبعيد بعدًا حسيًّا، فيفيد البعد المعنوي المشعر بالتعظيم. هذا؛ وكما يعرف المسند إليه بالإشارة للبعيد لقصد التعظيم يعرف بها أيضًا لقصد التحقير تنزيلًا لبعده عن ساعة الحضور والخطاب منزلة بعد المسافة؛ فيعرف حينئذٍ بالإشارة من بعيد للدلالة على معنى التحقير، خذ مثلًا في ذلك قول الله تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الماعون:2، 3) وكما تقول لشخص يحضر مجلسك: ذلك الرجل وشَى بي عند الأمير، ووجه الدلالة هنا على التحقير أن الحقير عادة تنفر منه النفس، وهو بعيد عن القلب والخاطر لا يلتفت إليه لحقارته، فينزل هذا البعد المعنوي منزلةَ البعد الحسي الموضوع له اسم الإشارة، ولذلك يشار إليه بما يشار به إلى البعيد حسًّا؛ فتفيد الإشارة البعد المعنوي المشعر هنا بالتحقير. ومن هذا القبيل قوله تعالى في شأن الناس يوم البعث بعد النفخ في الصور: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (المؤمنون: 102، 103) حيث نرى الإشارة إلى البعيد في الآية الأولى أفاد للتعظيم، وهي بعينها في الآية الثانية أفادت التحقير، لكن باعتبارين مختلفين، وفي ذلك يقول الخطيب القزويني في (الإيضاح) مع البغية: وربما جُعل البعد ذريعة إلى التعظيم كقوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} (البقرة: 1، 2) ذهابًا إلى بعد درجته ونحوه: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} (الزخرف: 72) ولذا قالت: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} ولم تقل: فهذا وهو حاضر؛ رفعًا لمنزلته في الحسن، وتمهيدًا للعذر في الافتتان به، وقد يجعل ذريعة إلى التحقير كما يقال: ذلك اللعين فعل كذا.

ومن أسرار وأغراض تعريف المسند إليه بالإشارة قصد التنبيه إلى أن المشار إليه الموصوف بعدة أوصاف حقيق من أجل هذه الصفات لما يذكر بعد اسم الإشارة من جزاء، كما في قول الله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة: 5) بعد قوله -عز وجل-: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2) {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة: 4) فالمشار إليه في الآية بأولئك هم المتقون، وقد ذكر عقيبه أوصاف هي الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق من الرزق والإيمان بما أنزل والإيقان بالآخرة، وإنما أشير إليهم بأولئك مع أن المقام للضمير لوجود مرجعه؛ تنبيهًا على أن المشار إليه م -وهم هنا المتقون- أحقاء من أجل الأوصاف التي وصفوا بها بما يذكر بعد اسم الإشارة من الجزاء؛ وهو الفوز بالهداية في الدنيا وبالفلاح في الآخرة. ووجه تنبيه اسم الإشارة على أن المشار إليه حقيق وجدير بهذا الجزاء بسبب ما وصف به، هو أن اسم الإشارة موضوع للدلالة على المشار إليه، والمشار إليهم في الآية التي معنا هم الذوات مع ملاحظة الأوصاف السابقة؛ لأن كمال التمييز الدال عليه اسم الإشارة إنما يكون بمراعاة هذه الأوصاف، وتعليق الحكم على موصوف يشعر بغلبة الوصف، يعني: أن الأوصاف المذكورة هي العلة في استحقاقهم هذا الجزاء المتمثل هنا في الهداية والفلاح، أما الضمير فإنه لا يفيد مراعاة هذه الأوصاف في الغلبة وإن كانت موجودة؛ لأنه موضوع للذات المجردة عن أي اعتبار، لهذا كان المقام للإشارة لا للضمير. ونظير ما جاء في صدر سورة البقرة بهذا الخصوص كثيرٌ في النظم القرآني ارجع إلى قوله تعالى مثلًا: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} (المؤمنون: 10) في سورة البقرة: {أُولَئِكَ هُمُ

الْخَاسِرُونَ} (العنكبوت: 52) في سورة الرعد: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} (الرعد: 5) وتأمل ما قبله وما بعده؛ ليتضح لك ما قلناه. ويعرف المسند إليه بالإشارة أيضًا لقصد إبراز المعقول في صورة المُحَس؛ فإن المتكلم قد يعظم المعنى في نفسه حتى يخيل إليه أنه صار شيئًا محسًّا يشار إليه بالبنان؛ ف يعمد إلى تعريفه بالإشارة التي تجسد الأمر المعنوي وتبرزه في صورة مرئية مشاهدة، مثل قوله سبحانه على لسان المنكرين للبعث: {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 82، 83). وهذا الغرض لتعريف المسند إليه بالإشارة شائع ذائع في الشعر والكلام الجيد، وفي القرآن كثير، ولو رجعنا إلى آية الإفك التي استشهدنا بها على تمييز المسند إليه أكمل تمييز بواسطة تعريفه بالإشارة، لوجدنا الإشارة فيها أيضًا قد أبرزت الأمور المعنوية وجسدتها في صورة حسية. ونظير ما سبق ما جاء في قول الله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (النور: 44) فالإشارة قد أبرزت التقلي ب في صورة محسوسة مرئية ولكنها بعيدة؛ ذلك لأنه لا يأخذ العظة منها إلا النفوس المؤمنة القوية المهيأة للوعي والإدراك، ومثله قوله تعالى: {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ومثله قوله تعالى: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} (يوسف: 37). هذا؛ ومن مزايا اسم الإشارة أنك تجده في كثير من الأساليب يلخص الكلام، إذ يستطيع به المتحدث أن يطوي جملًا كثيرة ً، بل وربما صفحات كاملة دون حاجة

إلى إعادتها؛ لأن اسم الإشارة يقوم مقامَ هذه الإعادة ويغني عنها، وانظر مثلًا في ذلك إلى قول الله تعالى {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (الإسراء: 39) تجد أن اسم الإشارة: {ذَلِكَ} قد أغنى عن آيات عديدة حوت كثيرًا من الأوامر والنواهي، وهذا كثير في النظم الكريم وفي الأساليب الرفيعة، وهو لا يخفَى على الناظر الدقيق والمتأمل الواعي. ومن مزايا اسم الإشارة أيضًا أنه يقوم مقام أدوات الربط، فَيَصِلُ بين الجمل المستأنفة والجمل المتقدمة على نحو ما نرى في الآيات الكريمة: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ * هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} (ص: 48، 49) {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ * هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} (ص: 54، 55). إلى غير ذلك من الأغراض والمزايا والمعاني اللطيفة التي تكمن وراء التعريف بأسماء الإشارة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 9 تابع: تعريف المسند إليه.

الدرس: 9 تابع: تعريف المسند إليه.

تعريف المسند إليه بالاسم الموصول

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (تابع: تعريف المسند إليه) تعريف المسند إليه بالاسم الموصول الحمد لله رب العالمين، وصلاةً وسلامًا على سيد خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ومَن سلك طريقه إلى يوم الدين؛ وبعد: فنستكمل الحديث عن تعريف المسند إليه بباقي أنواع المعارف التعريف بالموصولية، وبالاسم المقترن بأل، وبالإضافة لكل واحد مما سبق ذكره من سائر أنواع المعارف، ونبدأ بأسرار ووجوه تعريف المسند إليه بالموصولية. يؤتى المسند إليه اسم الموصول بأسرار يقصدها المتكلم منها عدم علم المخاطب بالأحوال المختصة بالمسند إليه سوى الصلة، والمراد باختصاص الأحوال بالمسند إليه عدم عمومها لغالب الناس لا عدم وجودها في غيره. هذا؛ ومعلوم أن الموصول اسم يعين مسماه بواسطة جملة تأتي بعده تسمى بجملة الصلة، وقد يكون المخاطب لا يعلم شيئًا عن ذات المسند إليه سوى مضمون هذه الجملة؛ لذا يعمد المتكلم في هذا المقام إلى التعبير عن ذات المسند إليه باسم الموصول فيتعين بواسطة الصلة لدى المخاطب، ويتسنى بتعريفه بالموصولية للمتكلم والإخبار عنه والحكم عليه، كأن ترى عند أحد أصدقائك رجلًا لا عهد له به من قبل فت ق ول له في الغد: الذي كان عندك أمس رجل عالم، أو لا عهد لك أنت به من قبل، حيث لا تعرف عنه سوى مضمون الصلة، فتورده معرفًا بالموصولية حتى تتمكن من الإخبار عنه أو الحكم عليه. ثاني الوجوه للتعبير عن المسند إليه باسم الموصول: استهجان التصريح بالاسم الدال على المسند إليه بأن كان مشعرًا بما تقع نفرة النفس منه أو قبح التلفظ به؛ لذا يعمد المتكلم إلى تعريف المسند إليه بالموصولية؛ دفعًا لقبح التلفظ باسمه، ونفور النفس من سماعه، مثل قولهم: الذي يخرج من السبيلين ناقض للوضوء، والخارج هو البول والغائط، وغيرهم، فمن هنا عبروا باسم الموصول؛ تحاشيًا للنطق بما يقبح التلفظ به، وتجنبًا لإسماع المخاطب ما تشمئز منه نفسه وتأباه أذنه.

ومن تعريف المسند إليه بالموصولية استهجانًا لذكر اسمه قول حسان بن ثابت - رضي الله عنه - يخاطب أم المؤمنين - رضي الله عنها - ويبرئ نفسه مما نُسِبَ إليه في حديث الإفك: فإن الذي قد قيل ليس بلائط ... ولكنه قول امرئ بي ماحل ومعنى ليس بلائط؛ أي: ليس بلازم ولا لاحق، ومعنى الماحل الذي يمشي بالنميمة، حيث استهجن حسان أن يذكر اتهام عائشة - رضي الله عنها - في حادثة الإفك فعبر عنه باسم الموصول مشيرًا بما تضمنته الصلة من فعل القول المبني للمجهول، وقد قيل: أن هذا الاتهام قول ساقط لا يصدر مثله عن عاقل، كما أشار بالتعبير بالزعم في بيت آخر؛ لأن هذا القول كذب وافتراء، وذلك في قوله: فإن كنتُ قد قلت الذي زعمتم ... فلا رفعت صوتي إلي أناملي ومن دواعي تعريف المسند إليه بالموصولية: زيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام، كما في قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} (يوسف: 23) فالغرض المسوق له الكلام هو تقرير نزاهة سيدنا يوسف - عليه السلام - وعِفته، والتعبير باسم الموصول أدل على هذا الغرض مما لو قال: وراودته زُليخا أو امرأة العزيز؛ لأن هذا التقدير الأخير يقرر الغرض فقط ولا يزيده تأكيدًا، بينما اشتملت الصلة المعبر عنها بالموصول على ما تفيده هذه الزيادة في التقرير؛ لأنه في بيتها وتمكن من أداء ما طلبت منه، حيث هيأت له كل أسباب التمكن ومع ذلك عف وامتنع، فكان ذلك غاية في نزاهته عن الفحشاء. ومن منطلق قول البلاغيين: النكات البلاغية لا تتزاحم، يمكننا أن نقول للتعريف بالموصولية هنا سر ثاني يتمثل في التقرير للمسند الذي هو المراودة، وأنها وقعت منها لا محالة؛ لأن وجوده - عليه السلام - في بيتها مع ما لها من سعة السلطان وقوة النفوذ ومع فرط الاختلاط والألفة، دال على وقوع المراودة وصدور الاحتيال منها.

ويصح أن يكون لتعريف المسند إليه بالموصولية سر بلاغي آخر، وتقرير المسند إليه نفسه الذي هو امرأة العزيز المعبر عنه في الآية باسم الموصول التي، وأنها هي بذاتها التي راودته لا امراة أخرى؛ إذ لو قيل: وراودته زليخا، لم يعلم يقينًا أنها المرأة التي هو في بيتها بخلاف التعبير بالموصول، فإنه لا احتمال فيه؛ لأنه معلوم من الخارج أن التي هو في بيتها إنما هي زليخا امرأة العزيز لا غير. هذا؛ ويصح أن يكون الغرض للتعبير بالموصول أيضًا استهجان التصريح بالاسم إما لأن العادة جرت على استهجان التصريح بأسماء النساء، وإما لشناعة الفعل المنسوب إليها؛ لأن مَن تقبل على فعل الفاحشة تنفر منها النفوس السليمة، وتأبَى نسبتها إلى زوجها، لا سيما مع كونه من ذوي المكانة والخطر في المجتمع. ومن الأغراض البلاغية التي تقتضي تعريف المسند إليه بالموصولية: التفخيم والتهويل؛ فإن قصد تفخيم المسند إليه وتهويل أمره يمكن أن يُفاد من الموصولية؛ لما في بعض أسماء الموصول من إبهام وغموض يشعر بالتفخيم والتهويل؛ كما في قول الله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} (طه: 78) أي: غمرهم ماء غزير لا يدركه وهم ولا يحده وصف. وكقوله سبحانه: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} (النجم: 16) أي: يغشاها أمور عظيمة الله وحده بها عليم. ومن أجل تحقيق هذا المعنى عبر في الآيتين بـ"ما" الموصولية؛ لأن في إبهامها تفخيمًا وتهويلًا لا يفي به التصريح فيما لو قيل: غشيهم من اليم مقدار كذا، أو إذ يغشى السدرة أشياء كثيرة مثل كذا؛ لأن في الموصول إشارةً إلى أن تفصيل المسند إليه وبيانه مما لا تفي به عبارة ولا يحيط به عقل مخلوق، ولله در الإمام الزمخشري حين قال معقبًا على قول الله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}

وذلك في (الكشاف): وقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله أشياء لا يكتنهها النعت ولا يحيط بها الوصف. ومن دواعي تعريف المسند إليه بالموصولية أيضًا: تنبيه المخاطب على خطأ وقع منه أو من غيره، وذلك إذا كانت الصلة ما يشعر بهذا الخطأ، فإذا أراد المتكلم تنبيه المخاطب إلى خطئه أتى بالمسند إليه اسمًا موصولًا؛ تحقيقًا لهذه النكتة البلاغية مثل قول عبدة بن الطيب من قصيدة يعظ فيها بنيه: إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا فهنا ينبه الشاعر إلى خطئهم في ظنهم أن هؤلاء الناس إخوان وأصدقاء وهم في الحقيقة مخدوعون فيهم؛ لأن صدورهم تغلي حقدًا عليهم ولا يشفيها إلا أن تصيبهم أحداث الدهر بالنكبات والرزايا والهلاك، ولو صرَّح الشاعر بأسماء هؤلاء الأعداء لبنيه بالموصول لَمَا أفاد التعبير به من تنبيههم إلى خطئهم، ومما أفاد هذا الغرض في آي الذكر الحكيم قول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: 194) فإنك إذا تأملتَ تجد أن جملة الصلة: {تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} تفيد تنبيه المشركين إلى خطئهم في عبادتهم غير الله تعالى. هذا؛ وكما يعرف المسند إليه بالموصولية لتنبيه المخاطب على خطأ وقع منه، يعرف كذلك بالموصولية لتنبيه المخاطب على خطأ وقع من غيره، مثل قول الشاعر: إن التي زعمتْ فؤادك مَن لها ... خلقت هواك كما خلقت هوًى بها

ففي التعبير بالموصول تنبيه على خطئها في زعمها أن قلبه زهَدَ فيها، كما أن فيه إيماءً إلى أن الخبر من نوع المحبة والوفاء. ومن أسباب تعريف المسند إليه بالموصولية: تشويق المخاطب إلى الخبر ليتمكن في ذهنه فضلَ تمكنٍ، وذلك حيث يكون مضمون الصلة أمرًا غريبًا؛ كما في قول أبي العلاء المعري: والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدَث من جماد فقد عبر عن المسند إليه باسم الموصول بقصد تشويق المخاطب إلى الخبر؛ لما في مضمون الصلة من ذلك الأمر الغريب، وهو إيقاع البرية كلها في حَيرْة وارتباك؛ فإن مثل هذا الأمر الغريب مما يشوق النفس إلى أن تعرف ذلك الذي أوقع البرية كلها في هذه الحيرة، ومثل قول ك: الذي يصيد الأسود في مرابضها فلان، والذي يصيد الأفاعي في أوكارها فلان؛ وأشباه ذلك مما تضمن أمرًا غريبًا لا يقره الإلف والعادة. ومن الأغراض البلاغية بتعريف المسند إليه والموصولية: أن يقصد المتكلم إخفاء الأمر المتحدث عنه عن غير المخاطب، مثل قول الشاعر: وأخذت ما جاد الأمير به ... وقضيت حاجاتي كما أهوى وقد يقصد إخفاء اسم المتحدث عنه؛ رغبةً في هدايته واستمالة له، نحو: الحق والهدى؛ كما في قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (البقرة: 204) قوله -عز وجل -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} (الحج: 8) وقوله -تبارك وتعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} (لقمان: 6).

ومن دواعي تعريف المسند إليه بالموصولية أيضًا قصد الإيماء إلى وجه بناء الخبر؛ أي: الإشارة إلى نوع الخبر المراد إسناده إلى المسند إليه المعبر عنه باسم الموصول، من حيث كونه مدحًا أو ذمًّا أو نجاحًا أو إخفاقًا أو ثوابًا أو عقابًا، فإن المتكلم في بعض المقامات قد يقصد إشعارَ السامع بنوع الخبر قبل النطق به فيقتضيه هذا القصد أن يعرف المسند إليه بالموصولية؛ ليتحقق له الإيماء إلى نوع الخبر؛ نظرًا لما يكون في الصلة من مناسبة للخبر، تشعر بنوعه وطريق إسناده إلى الموصول قبل النطق به؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} (الكهف: 107) ففي مدلول الصلة وهو الإيمان والعمل الصالح ما يشير إلى أن الخبر المحكوم به من نوع الإثابة والإمتاع. وكقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60) وفي مضمون الصلة أيضًا وهو الاستكبار عن العبادة إيماء وإشارة إلى أن الخبر المترتب عليه من جنس الإذلال والعقوبة. ومن ذلك قولهم: إن من يصبر ويتأنَّى ينال ما يتمنى، ومن يستمرئ مرعى الكسل يجانبه الأمل، ففي الأمل إيماء إلى أن الخبر من نوع الفوز والنجاح، وفي الثاني إشارة إلى أن الخبر من جنس الإخفاق والحرمان. وهكذا يؤتَى بالمسند إليه معرفًا بالموصولية للإشارة إلى نوع الخبر المراد إسناده إليه أو الحكم به عليه، فيفطن المخاطب من فاتحة الكلام إلى ما تدل عليه خاتمته، والمرجع في ذلك إلى الذوق السليم. هذا؛ وقد يكون الإيماء إلى نوع الخبر مقصودًا لذاته -كما سبق - وقد لا يكون مقصودًا لذاته، بل المقصود جعله وسيلة وواسطة لغرض آخر وهو التعريض بتعظيم شأن الخبر، أو التعريض بإهانته، أو التعريض بتعظيم شأن غير الخبر، أو التعريض بإهانة وتحقير غير الخبر.

قول الفرزدق يفتخر على جرير: إن الذي سمك السماء بنَى لنا ... بيتًا دعائمه أعز وأطول أي: إن الذي رفع السماء ذلك البناء الضخم بنى لنا مجدًا وشرفًا لا يطاولهما شيء، والشاهد هو تعريف المسند إليه بالموصولية في قوله: الذي سمك السماء، فإن في الموصول إشارةً إلى أن الخبر المبني عليه من جنس الرفعة والبناء، ولكن هذه الإشارة وهذا الإيماءُ إلى نوع الخبر ليس مقصود الشاعر، وإنما هدفه التعريض بتعظيم بيته وتفخيمه من حيث إ ن بانيه هو ذلك الذي رفع السماء. ومثال ما فيه تعريض بالتهوين من شأن الخبر قولك مثلًا: إن الذي لا يحسن الفقه صنَّف فيه، في الموصول إشارة إلى أن الخبر من جنس التأليف لكن ليس هذا هو الغرض الأساسي، وإنما المقصود هو التوسل بهذه الإشارة إلى التعريض بتحقير الخبر؛ وهو أن ما ألفه وصنفه في الفقه. ومثال ما فيه تعريض بتعظيم شأن غير الخبر قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف: 92) ففي التعبير عن المسند إليه باسم الموصول إشارة إلى نوع الخبر، وأنه من جنس الخسران، وذلك أن شعيبًا نبي تكذيبه يؤدي إلى الخيبة والخسران، لكن هذا الإيماء إلى نوع الخبر ليس مقصودًا لذاته، بل هو وسيلة إلى التعريض بتعظيم شأن غيره، وهو شعيب - عليه السلام- لأن تكذيبه هو سبب خسرانه، ولفظ شعيب واقع في سياق الصلة لا في سياق الخبر، ف التعريض إذن لتعظيم شأن غير الخبر. ومثال ما فيه تعريض بتحقير غير الخبر قولهم: إن الذي يتبع الشيطان خاسر، ففي الصلة إيماء إلى أن الخبر من نوع الخسران والبَوار؛ لأن الشيطان ضال مضل فاتباعه ضرب من الخسران والضلال والهلاك، غير أن الغرض التعريض بتحقير

شأن الشيطان من حيث إن اتباعه يؤدي إلى هذا المصير البغيض، ولفظ الشيطان وقع كذلك في جملة الصلة لا في جملة الخبر، والتعريض حينئذٍ بالتهوين والتحقير من شأن غير الخبر. والذي يتأمل كلام السكاكي قد نقله عنه القزويني يرى أن الإيماء إلى نوع الخبر الذي هو أحد أغراض تعريف المسند إليه بالموصولية قد يكون ذريعةً ووسيلةً إلى تحقيقه وتقريره، وذلك إنما يكون حيث تكون الصلة كالسبب للخبر أو كالدليل على ثبوته كما في قول الشاعر يشكو ويتوجع من جفاء حبيبه: إن التي ضربت بيتًا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول غالت يعني: أكلت، يقول: إن التي نزعت إلى الكوفة واتخذت بها موطن إقامة دائمة، وانحلت عُرى العلاقة بيني وبينها، ففي الموصول إيماء إلى وجه بناء الخبر، وأنه من نوع زوال المحبة وانقطاع المودة والجفاء من جانبها هي، كما يدل على ذلك قوله بعد هذا البيت معزيًا ومسليًا نفسه؛ حتى يهون عليها تشبثه بحبها، حيث قال: فعدِّ عنها ولا تشغلك عن عمل ... إن الصبابة بعد الشيب تضليلٌ لأنها هي التي هجرت الوطن، والإنسان لا يهجر وطنه إلى غيره عادة إلا إذا كان كارهًا لأهله راغبًا عنهم، ومع ما في الموصول من هذه الإشارة إلى نوع الخبر هو كالدليل على تحقيق هذا الجفاء وتقريره، فالإيماء هنا وسيلة إلى تحقيق الخبر عند السكاكي. من هنا ندرك أن هناك فرقًا واضحًا بين الإيماء إلى وجه بناء الخبر وتحقيق الخبر؛ فالإيماء إشعار بالخبر ودلالة عليه، أما تحقيق الخبر فمعناه ثبوته وتقريرُه في الواقع، فهذا غير ذاك، وقد يجتمعان كما في البيت: إن التي ضربت بيتًا مهاجرة، وقد ينفرد الإيماء كما في بيت الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا،؛ لأن الإيماء إلى الخبر أعم من تحقيقه وإفادة الجزم به.

تعريف المسند إليه بـ"أل".

تعريف المسند إليه بـ"أل" وننتقل الآن للحديث عن سر التعريف بـ"أل ": فإن المسند إليه يعرف بـ"أل " لغرضين: أحدهما: الإشارة بها إلى معهود خارجي، وهي التي يكون مدخولها معينًا في الخارج، وتسمى اللام حينئذ لام العهد الخارجي. ثانيهما: الإشارة بها إلى الحقيقة، وهي التي يكون مدخولها موضوعًا للحقيقة والماهية، وتسمى اللام حينئذ لام الحقيقة أو لام الجنس، ولكل من اللامين أقسام ثلاثة بالنظر إلى مدخولها. أقسام لام العهد الخارجي، وسر التعبير عنها: 1 - هناك لام العهد الخارجي الصريحي، وهي التي يتقدم لمدخولها ذِكر صريح في الكلام، كما في قولك مثلًا: صنعت في طالب معروفًا ولم يحفظ الطالب هذا المعروف، فإتيان المسند إليه وهو لفظ الطالب معرفًا بـ"أل " للإشارة بها إلى معهود خارج عهدًا صريحًا لتقدم ذكره صراحةً في قولك: صنعت في طالب معروفًا، ومثاله أيضًا قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} (النور: 35) فلفظ المصباح والزجاجة كل منهما مسند إليه، وقد أتيَا معرفين بـ"أل " إشارةً إلى معهود خارجي، وهذا المعهود قد صرح به قبلًا في قوله سبحانه: {فِيهَا مِصْبَاحٌ}، {فِي زُجَاجَةٍ} ولذا سميت اللام هنا لام العهد الخارجي الصريحي.

2 - وهناك لام العهد الخارجي الكنائي وهي التي يتقدم لمدخولها ذكر كنائي؛ أي: غير مصرح به كما في قول الله تعالى في شأن أم مريم: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} (آل عمران: 35، 36) فلفظ الذكر مسند إليه؛ لأنه اسم ليس فهو في الأصل مبتدأ، وقد جاء معرفًا بـ"أل " للإشارة بها إلى معهود خارجًا عهدًا كنائيًّا لعدم التصريح بلفظه، وإنما ذكر كنايةً في قوله تعالى حكاية عن أم مريم: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} فإن لفظ ما مبهم يعم الذكور والإناث، لكن التحرير وهو أن يعتق الولد ليكون وقفًا على خدمة بيت المقدس كان خاصًّا بالذكور فقط، فـ"ما" حينئذ كناية عن الذكر لاختصاص التحرير بالذكور، والمراد بالكناية هنا الخفاء؛ لأن فهم الذكر من لفظ "ما" الذي يطلق على الذكر والأنثى فيه نوع خفاء؛ لعدم التصريح. ويصح أن يكون المراد بالكناية المعنى الاصطلاحي عند البلاغي وأن المطلوب بها موصوف؛ لأن التحرير من الصفات المختصة بالذكور فهو إذن ملزوم والذكر لازم له، وقد أطلق اسم الملزوم وهو لفظ: {مَا فِي بَطْنِي} الموصوف بالتحرير وأريد اللازم وهو الذكر، ومن أجل هذا سميت اللام هنا لام العهد الخارجي الكنائي. 3 - النوع الثالث: لام العهد الخارجي العل م ي، وهي التي لا يتقدم لمدخولها ذكر مطلقًا لا صريحًا ولا كناية ً، ولكن للمخاطب عهد به سواء كان حاضرًا بالمجلس أو غائبًا عنه؛ كأن تقول في شأن رجل حاضر: أبدع الرجل في خطبته، وتسمى اللام حينئذ لام العهد العلمي الحضوري؛ لأن المتكلم اعتد فيها على ما عند المخاطب من علم بشأن هذا الحاضر في المجلس، وكأن تقول في شأن رجل

غائب: حاضرنا الرجل فأبدع في محاضرته فالمسند إليه في المقامين جاء معرفًا ب ـ"أل " للإشارة بها إلى معهود خارجًا عهدًا علميًّا لتقدم عهد المخاطب به، ومنه في غير المسند إليه قول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح: 18) فالمراد بالشجرة شجرة معهودة عهدًا علميًّا حيث لم يتقدم لمدخولها ذِكر لا صريحًا ولا كناية وإن كانت غير مسند إليه. أقسام لام الحقيقة: فهي تنحصر فيما يسمى بلام الحقيقة، أو لام الجنس، وكذا لام العهد الذهني، ولام الاستغراق. فلام الحقيقة أو لام الجنس: هي التي يكون مدخولها مرادًا به الحقيقة نفسها بغض النظر عما ينطوي تحتها من أفراد، كما في قولهم: الرجل خير من المرأة؛ أي: حقيقة الرجل خير من حقيقة المرأة، وهذا لا ينافي أن يكون بعض أفراد جنس النساء خيرًا من بعض أفراد جنس الرجال؛ لأن المنظور إليه في الخيرية والمفاضلة إنما هو الحقيقة لا الفرض، ومنه قولهم: أهلك الناسَ الدينارُ والدرهم، فالمسند إليه جاء معرفًا ب ـ"أل " للإشارة بها إلى الحقيقة والجنس بغض النظر عن الأفراد؛ لأن الحكم المذكور على جنس هذين النقدين لا على نقد بعينه. ومثله قول أبي العلاء المعري: والخِل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء وي خ فيها مع الكدر فالحكم بالتشبيه هنا على حقيقة الخل لا على خل معهود، ومنه في غير المسند إليه قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء: 30) يراد حقيقة الماء لا ماء معين، ونحوه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} (الأنعام: 89).

أما لام العهد الذهني: فهي التي يكون مدخولها مرادًا به فرد مبهم من أفراد الحقيقة لقرينة دالة على ذلك؛ أي: أن الفرد المبهم مستفاد من قرينة خارجية لا من المعرف باللام؛ لأنه موضوع بالحقيقة، بخلاف النكرة فإنها تدل على الفرد المبهم ابتداء بذاتها. ومن أمثلة هذه اللام كلمة الذئب في قوله تعالى على لسان يعقوب - عليه السلام-: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} (يوسف: 13) فالقصد هنا إلى فرد مبهم من حقيقة الذئب، والقرينة على ذلك قوله: {أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} فليس المراد الحقيقة نفسها؛ لأن الحقيقة من حيث هي أمر لا وجود له خارجًا حتى يتحقق منه أكل أو شرب، وإنما يتأتَّى ذلك من الأفراد، كما أنه ليس المراد حقيقة من حيث وجودها في جميع الأفراد؛ لاستحالة أن تجتمع الذئاب كلها على أكله، ولا الحقيقة من حيث وجودها في فرد بعينه، إذ لا عهد في الخارج بذئب معين، لتعين أن يكون المراد فردًا مبهمًا من أفراد الحقيقة. ومن أمثلة هذه اللام كلمة الغراب في قول الشاعر: فمَن طلب العلوم بغير كد ... سيدركها إذا شاب الغراب فليس المراد الحقيقة نفسها؛ لاستحالة قيام الشيب بما لا وجود له في الخارج، ولا الحقيقة في ضمن جميع أفرادها لعدم الداعي إليه، ولا الحقيقة من حيث وجودها في فرد بعينه إذ لا عهد بغراب معين، فتعين أن يكون المقصود فردًا غير معين من أفراد الحقيقة بقرينة قوله: شَاب َ. ومن هذا القبيل في غير المسند إليه قولك: أدخلُ السوق، فليس المراد حقيقة السوء لاستحالة الدخول فيما لا وجود له خارجًا، ولا سوقًا بعينها، إذ ليس بينك وبين مخاطبك سوق معينة، ولا جميع أفراد حقيقة السوق لاستحالة

الدخول في جميع أفراد هذه الحقيقة، فتعين أن يكون المراد فردًا ما من أفرادها، ومنه قول الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمة قلت لا يعنيني فالشاعر لا يريد حقيقة اللئيم لاستحالة المرور بما لا وجود له في الخارج ولا لئيمًا بعينه، إذ لا عهد له به، ولا الحقيقة في ضمن جميع أفرادها؛ لعدم تأتي المرور بكل لئيم، فتعين أن يكون المراد فردًا غير معين من أفراد الحقيقة. هذا؛ ولك أن تسأل قائلًا: كيف سُميت هذه اللام لام العهد الذهني مع أن مدخولها فرد غير معين، فلا عهد فيه لازمًا ولا خارجًا؟ وأجيبك: بأنه معهود في الذهن باعتباره أحد أفراد الحقيقة المعهودة في الذهن، بمعنى أنها معلومة متميزة عما عداها من الحقائق، فعهديته تبع لعهدية الماهية، وصح ب هذا الاعتبار اعتبار الفرد المبهم معهودًا ذهنيًّا، وصح تسمية هذه اللام الداخلة عليه بلام العهد الذهني. لام الاستغراق: وهي التي يكون مدخولها مرادًا به جميع الأفراد المندرجة تحت الحقائق عند قيام القرينة الدالة على ذلك؛ أي: على أن ليس القصد إلى الحقيقة نفسها ولا من حيث وجودها ف ي فرد مبهم لتخرج لام الجنس ولام العهد الذهني، وسميت لام الاستغراق لاستيعابها وشمولها جميع أفراد الحقيقة، وتكون لام الاستغراق هذه للاستغراق الحقيقي والعرفي. فالاستغراق الحقيقي هي ما يكون م د خو ل ها مرادًا به كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب الوضع كما تقول: الغيب يعلمه الله، فإن القصد فيه إلى جميع الأفراد التي يتناولها لفظ الغيب وضعت؛ أي: كل أفراد الغيب لا تخفى على الله، وكما في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

الصَّالِحَاتِ} (العصر: 2، 3) فإن القصد فيه إلى جميع الأفراد التي يتناولها لفظ الإنسان بحسب الوضع؛ أي: كل فرد من أفراد الإنسان، ومنه في غير المسند إليه قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (السجدة: 6) أي: محيط علمًا بكل مغيب وكل مشاهد. وهذا الاستغراق والشمول لا بد عند إرادته من نصب قرينة تدل عليه، وهذه ال قرينة ال دالة على الاستغراق إما أن تكون حالية وإما أن تكون مقالية؛ فالحالية كما في قولنا: الغيب يعلمه الله، فالقرينة هنا على إرادة الاستغراق حالية؛ لظهور أن ليس المراد حقيقة معنى الغيب وماهيته؛ إذ ليس ذلك مما استأثر الله بعلمه، ولا أن يكون المراد فردًا مبهمًا أو معينًا من أفراد الغيب، فحاشا لله العليم بخفايا الأمور أن يقتصر علمه على بعض الغيوب؛ فتعين إذن أن يكون المراد جميع الأفراد بقرينة الحال، والقرينة المقالية كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} فالقرينة هنا على أن المراد هنا عموم الأفراد، لا الحقيقة نفسها ولا فرد مبهم أو معهود في أفرادها القرينة، بدليل صحة الاستثناء في قوله سبحانه بعد: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فهذا أمارة العموم؛ لأن شرط الاستثناء دخول المستثنى في المستثنى منه لو سكت عن ذكر المستسنى، ودخوله فيه فرع عمومه الدال على الاستغراق والشمول، وهذا الدخول شرط صحة الاستثناء، فتعين أن يكون المراد جميع الأفراد بقرينة صحة الاستثناء المذكور. أما لام الاستغراق العرفي فهي تلك التي يكون مدخولها مرادًا به كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف والعادة؛ كما في قولك مثلًا: امتثل الطلاب أمر الأستاذ، ف ـ"أل " في الطلاب يراد بها الاستغراق العرفي؛ لأن مدخولها أريد به

جميع الأفراد التي يتناولها اللفظ بحسب العرف وما جرت به العادة لا جميع الأفراد حقيقة ً. هذا؛ وبالتأمل فيما سبق ندرك أمرين مهمين: أولهما: أن حمل "أل " التي للعهد الذهني على الفرد المبهم والتي للاستغراق على جميع الأفراد مشروط بالقرينة الدالة على ما حملتَا عليه، أما بدون القرينة فكلتا اللامين محمولة على الحقيقة؛ لأن مدخولها موضوع للحقيقة؛ فإذن فالنظر إلى الفرد المبهم في لام العهد الذهني وإلى جميع الأفراد في لام الاستغراق إنما هو بالقرينة لا بالوضع. ثانيهما: المعرف بلام العهد الذهني موضوع للحقيقة، وإنما يُحمل على الفرد المبهم عند قيام القرينة الدالة عليه، فهو إذن ذو شبهين من جهتين: يشبه النكرة من جهة المعنى ويشبه المعرفة من جهة اللفظ؛ أما شبهه بالنكرة فلأن مفاد كل منهما بعض غير معين، إلا أنه يدل على هذا البعض بالقرينة، والنكرة تدل عليه بالوضع؛ ولهذا يعامل معاملة النكرة من جهة المعنى فيوصف بالجملة على نحو ما توصف النكرة كما في قول الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني ... ............................... وأما شبهه بالمعرفة فلجريان أحكام المعارف عليه غالبًا فهو يقع مبتدأً، كما في قولك: الذئب في حديقتي، ويكون ذا حال كما في قولك: رأيت الذئب خارجًا من حديقتك يطارده كلب، ويأتي موصوفًا بالمعرفة كقولك: السوق ذات السلع الجيدة يقصدها الناس. إلى غير ذلك من أحكام.

تعريف المسند إليه بإضافته إلى أحد المعارف السابقة.

تعريف المسند إليه بإضافته إلى أحد المعارف السابقة هذا؛ ويعرف المسند إليه أحيانًا بالإضافة إلى أحد المعارف الخمسة السابقة؛ ضمير علم إشارة موصول محلَّى ب ـ"أل " أيضًا لأغراض بلاغية؛ منها: قصد الإيجاز والاختصار، وذلك إذا كان المقام مقتضيًا للإيجاز، ولا يجد المتكلم طريقًا من طرق التعريف أقصر ولا أوجز من الإضافة، لهذا يعمد إلى تعريف المسند إليه بالإضافة المحققة للاختصار الذي يتطلبه المقام ويقتضيه الحال، كما في قول جعفر بن علبة الحارثي وكان مسجونًا بمكة في جناية، فزارته محبوبة مع ركب من قومها باليمن فلما رحلت أنشد متألمًا متحسرًا: هواي مع الركب اليمانين مصعد ... جنيب وجسماني بمكة موثَق عجبت لمسراها وأنَّى تخلصت إلي ... وباب السجن دوني مغلق ألمت فحيت ثم قامت فودعت ... فلما تولت كادت النفس تزهق والشاهد قوله: هواي في البيت الأول، حيث عرف المسند إليه بالإضافة؛ قصدًا إلى الإيجاز في الكلام والاختصار في القول لضيق المقام؛ نظرًا لما كان يحسه الشاعر من ضيق صدره وشديد ألمه وتحسره؛ لكونه سجينًا والحبيب راحل، وأيضًا لضيق الشاعر، ولا شك أن الإضافة أخصر مما لو قال: الذي أهواه أو المهوى لي. ويعرف المسند إليه بالإضافة أيضًا بقصد تعظيم شأن المضاف أو المضاف إليه أو غيرهم؛ وذلك إذا كانت الإضافة متضمنة التعظيم وأراد المتكلم نسبته للمضاف أو المضاف إليه أو غيرهما، فيلجأ لتحقيق قصده إلى تعريف المسند إليه بهذه الإضافة، مثال ما فيه تعظيم المضاف قول الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ

يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (الفرقان: 63) وقوله سبحانه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} (الجن: 19) وقوله -جل وعلا-: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} (مريم: 30) وقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (الحجر: 42). ففي الإضافة إلى لفظ الجلالة في كل ما سبق تشريف للمضاف وتعظيم لشأنه. مثال ما فيه تعظيم المضاف إليه قولك مثلًا: خادمي حضر، سيارتي في انتظاري، ففي هذا التعظيم للمضاف إليه بأن له خادمًا وسيارة ً. ومثال ما فيه تعظيم غير المضاف والمضاف إليه قولك: رئيس الجمهورية عند فلان، ف في الإضافة تعظيم غير المضاف والمضاف إليه، وهو فلان هذا الذي يوجد عنده رئيس الجمهورية مثلًا. وقد يعرف المسند إليه بالإضافة أيضًا للعكس؛ أي: لقصد تحقير شأن المضاف أو المضاف إليه أو غيرهم، فمثال الأول قولك: ولد اللص حضر بالإضافة تحقير للمضاف؛ لأن أباه لِص، ومثال الثاني قولك: صديقُ خالدٍ عاق لوالديه فيه تحقير المضاف إليه؛ لأن صديقه من العاقين -نعوذ بالله من ذلك - ومثال الثالث قولك: ولد اللص جليس زيد، ففي الإضافة إهانة لزيد؛ لأن ابن اللص من جلسائه، وزيد هذا ليس مضافًا ولا مضافًا إليه، يمكن أن يكون فيه تحقير للمضاف لو قصد المتكلم ذلك. وقد يأتي المسند إليه معرفًا بالإضافة ويكون الغرض البلاغي من ذلك إغناء الإضافة عن تفصيل متعذر؛ إغناء الإضافة عن تفصيل متعذر، كأن يقتضي التعبير عن المسند إليه بأسماء لمعدودين يتعذر حصر عددهم، لذا يلجأ المتكلم إلى الإضافة؛ لأنها تغنيه عن عد ما يستحيل عده كقولك مثلًا: أهل مصر كرام، فقد لجأت إلى الإضافة في المسند إليه لاستحالة تعداد كل مَن كان مصريًّا وتسميته باسمه.

ومن ذلك قول الشاعر مروان بن أبي حفصة: بني مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غيل خفَّان أشبل فبنو مطر قوم الشاعر أراد تشبيههم عند اللقاء بالأسود الكواسر في القوة والجرأة، والغيل: الشر المجتمع، والخفان: مأسدة قرب الكوفة، والأشبل: أولاد الأسود، والشاهد في قوله: بني مطر، حيث عرف المسند إليه بالإضافة لكونها مغنيةً عن تفصيل متعذر. ومما يعرف المسند إليه لأجله بالإضافة إغناء الإضافة عن تفصيل مرجوح؛ وذلك إذا كان التفصيل والتعبير عن المسند إليه بالأسماء دون الإضافة ممكنًا ومتيسرًا، ولكنه يوقع المتكلم في محذور، ومن هنا كان تعريف المسند إليه بالإضافة أرجح من التفصيل والتعبير بالأسماء كقول الشاعر الحارث الجرمي: قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي حيث عرف الشاعر المسند إليه بالإضافة فقال: قومي، وكان في وسعه أن يعبر عن قومه بأسمائهم بدلًا من الإضافة، ولكن التفصيل المتمثل في التعبير بالأسماء يؤدي إلى محذور، هو حقدهم عليه ونفورهم منه، وهو يريد تأليفهم لا تنفيرهم، وهم قومه وقرابته وعشيرتُه، ولذلك تشعرنا إضافة القوم للشاعر بما يعانيه من آلام وأحزان؛ فالقاتل والمقتول كلاهما منه؛ فماذا يفعل؟ إنه إن أراد الثأر فسيثأر من نفسه لنفسه، ولله در الشاعر القائل: وظلم ذوي القربَى أشد مضاضةً ... على النفس من وقع الحسام المهند وقد يقصد البليغ بالإضافة بحق المسند إليه اعتبارًا لطيفًا كما في قول الشاعر: إذا كوكب الخَرقاء لاح بسُحرة ... سُهيل أذاعتْ غزلَها في الأقارب والخرقاء الحمقاء وسهيل بدل من كوكب وهو نجم يطلع في بدء الشتاء وقتَ السحر، وقد أضافة الشاعر إلى المراة الحمقاء لأدنى ملابسة وأقل مناسبة، وهي

أنها لا تتذكر دائمًا كسوة الشتاء إلا عند طلوعه وهو لا يطلع إلا في بدء الشتاء وقت السحر، وفي هذه الإضافة الإشارة إلى اعتبار لطيف هو أن الإهمال والخمول عادة هذه المرأة ودَيْدنها، وأنها غافلة عن القيام بشئونها، ولا تفيق إلا على ضوء هذا النجم، وكأنما خلق لها، فعند رؤيته تسارع بتوزيع غزلها على قريباتها ليغزلنه لها. كما يعرف المسند إليه بالإضافة إذا اقتضى المقام الحس على الشفقة والاستعطاف، وكان في الإضافة ما يحقق المقتضى، مثل أن تقول لأستاذك: ابنك يطلب منك إعادة شرح هذه المسألة، أو تقول: تلميذك فلان يريد كذا، ومنه في غير المسند إليه قول الله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (البقرة: 233) يقول الإمام الزمخشري: إن قلتَ: كيف قيل: {بِوَلَدِهَا} و {بِوَلَدِهِ}؟ قلت: لما نُهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد؛ استعطافًا لها عليه، وأنه ليس بأجنبي منها، فمن حقه أن تشفق عليه وكذلك الولد. انتهى من (الكشاف) فالإضافة في الآية للاستعطاف مع مراعاة أنها واقعة في غير المسند إليه. إلى غير ذلك من النكات والأسرار التي تقتضي تعريف المسند إليه بالإضافة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 10 تنكير المسند إليه، ووصفه بأحد التوابع.

الدرس: 10 تنكير المسند إليه، ووصفه بأحد التوابع.

تنكير المسند إليه

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (تنكير المسند إليه، ووصفه بأحد التوابع) تنكير المسند إليه الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ ثم أما بعد: فنعيش في ظلال أحوال المسند إليه لنجيل النظر في أسرار تنكيره ووصفه بأحد التوابع من الوجهة البلاغية. يؤتَى بالمسند إليه منكرًا؛ لإفادة أنه فرد غير معين من أفراد جنسه، أو لإفادة النوعية، فإذا قلت: جاءني رجل، صلح هذا القول بإرادة الإفراد؛ أي: جاءني رجل لا رجلان، وصلح لإرادة النوعية؛ أي: جاءني رجل لا امرأة، وهذه الإفادة إفادة أصلية للنكرة، وقد تتمحض النكرة في الدلالة على العدد وذلك إذا وصفت به كقولك مثلًا: جاءني رجل واحد ورجلان اثنان. من ذلك قول الله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النحل: 51). وقد تتمحض لإفادة النوعية؛ أي: الجنس، كما في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأنعام: 38) فقد محض الوصف في الأرض ويطير بجناحيه النكرتين "دابة وطائر" لإفادة الجنس. ولتفصيل ذلك نقول: إن المراد بالإفراد الدلالة على فرد منتشر شائع غير معين سواء أكانت النكرة بلفظ المفرد أم بلفظ الجمع، فإذا كانت بلفظ المفرد دلت على واحد، وإن كانت بلفظ المثنى دلت على مطلق اثنين، وإن كانت بلفظ الجمع دلت على مطلق جمع مثل: لقيني رجلان وتبعني رجال؛ فأنت ترى المسند إليه في الأحوال الثلاثة غير معين، سواء أكان واحدًا مثل: جاءني رجل أو اثنين أو جمعًا، وهو في الأمثلة الثلاثة يسمى عند البلاغيين فردًا بالنظر إلى مفهوم لفظ النكرة المعبر بها عن المسند إليه، وبهذا ندرك أن الإفراد ليس مقصورًا على الواحد كما يتبادر إلى الذهن، بل يشمل الواحد والاثنين والجماعة، فالمدار على عدم التعيين.

وعلى الرغم من أن الدلالة على غير معين معنى أصلي للنكرة، فإن المقام قد يقتضيه من أجل ذلك ينكر المسند إليه إما لأن الغرض لم يتعلق بتعيينه، وإما لأن المتكلم لم يعلم جهة من جهات التعريف، فيلجأ في المقامين إلى تنكير المسند إليه قاصدًا بالحكم فردًا غير معين من الأفراد التي يسقط عليها مفهوم اللفظ. مثال الأول: قول الله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} (القصص: 20) فقد أتى بالمسند إليه: {رَجُلٌ} في الآية منكرًا للقصد فيه إلى رجل ما من أفراد مفهوم لفظ رجل؛ لأن الحكم بالمجيء لم يثبت لغير فرد واحد من هذا الجنس، فهو وإن أمكن تعيينه لكن ليس هناك غرض يتعلق بتعيينه ويقتضي تعريفه، بل الغرض أن يعلم موسى بائتمار القوم ليقتلوه، ولذا خرج خائفًا سائلًا ربه النجاة من القوم الظالمين، وهذا الغرض قد تحقق، ولا حاجة بعد ذلك إلى تعريف وتعيين من جاء بهذا النبأ وأسدى إليه النصح. ونظير ما سبق ما جاء في قول الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} (غافر: 28). والمثال الثاني قولك: قابلني في المسجد رجل وسأل عنك، تقول ذلك إذا لم تعرف اسمه ولا شيئًا يتعلق به، فالقصد فيه حينئذ إلى فرد ما من أفراد مفهوم لفظ رجل. قد ينكر المسند إليه أيضًا لقصد النوعية؛ وذلك بأن يقصد المتكلم بالحكم نوعًا خاصًّا من أنواع الجنس غير ما يتعارفه الناس، فيعمد إلى تنكير المحكوم عليه؛ لأن النوعية معنى أصلي في النكرة، فإذا اقتضاها المقام صارت غرضًا يقتضي

تنكير المحكوم عليه المتمثل في المسند إليه، ك قول الله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} (البقرة: 7) فقد نكر المسند إليه؛ لأن المقصود نوع من الأغطية غير ما يتعارفه الناس؛ وهو غطاء التعامي عن آيات الله؛ أي: الإعراض عنها، ولو عرف المسند إليه فقيل: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} (البقرة: 7) ل انصرف اللفظ إلى المعنى المتعارف الذي هو الغطاء المعروف مع أنه ليس مرادًا، وليس القصد إلى فرد واحد من أفراد الغشاوة ب أن يكون المعنى وعلى أبصارهم غشاوة واحدة لا غشاوتان مثلًا؛ لأن الفرد الواحد منها لا يمكن أن يقوم بالأبصار المتعددة، فيتعين إذن أن يكون التنكير هنا للنوعية؛ لأنه هو الذي يقابل أبصارهم المتعددة. ويرى بعض البلاغيين أن التنكير في الآية للتعظيم، وأن المراد غشاوة عظيمة؛ لأنها تحجب أبصارهم حجبًا تامًّا، وتحول دون إدراكها الأدلة على معرفة الله تعالى. وإذا كان ت النكات البلاغية لا تتزاحم -كما قلنا مرارًا- فيجوز أن يكون للتنكير هنا السران معًا التعظيم وقصد النوعية؛ لأن الغشاوة العظيمة التي هي غطاء التعامي عن آيات الله نوع خاص من أنواع الأغشية وليست من الأغطية المعروفة، ومن التنكير لقصد النوعية قول الشاعر: لكل داء دواء يُستطب به ... إلا الحماقة أعيت مَن يداويها فتنكير المسند إليه دواء بقصد النوعية؛ إذ ليس المراد المطلق دواء، وإنما المراد نوع خاص منه وهو الملائم للداء، وقد ينكر المسند إليه ب قصد تعظيمه؛ أي: أن يقصد المتكلم التنبيه على أن المسند إليه بلغ في ارتفاع الشأن درجة عظيمة هي أجل من أن توصف مثل قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179) أي: ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة؛ لأن فيه منعًا لهم عما كانوا عليه في

الجاهلية من قتل جماعة بواحد متى اقتدروا؛ فالقصاص فيه حَقن لدماء هؤلاء جميعًا، وأي حياة أعظم من هذه الحياة؟ ففرق بين التعظيم هنا والتعظيم فيما سبق. هذا؛ ويصح أن يكون السر في التنكير في الآية الكريمة التي معنا: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} قصد النوعية؛ أي: إفادة نوع خاص من الحياة وهو امتدادها الحاصل للهام بالقتل والمهموم بقتله بالارتداع عن القتل للعلم بالقصاص؛ فإن الإنسان إذا هم بالقتل تذكر الاقتصاص فارتدع عنه، فعصَم صاحبه من القتل، وهو من القود، وامتدت حياتهم إلى أجل، وهذا الامتداد نوع خاص من الحياة. ومن تنكير المسند إليه ل لتعظيم كلمة يسر في قول الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الشرح: 5، 6) منه أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم-: ((إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحكمة ً))؛ أي: سحرًا عظيم ًا وحكمة بليغة. وقد يقصد من تنكير المسند إليه العكس؛ أي: تحقيره ب أن يقصد المتكلم التنبيه على أن المسند إليه بلغ في انحطاط الشأن درجةً لا يُعتد بها، ولا يمكن معها أن يعرف كقوله: شعور بالكرامة منجاة من مواقف الذل؛ أي: شيء ضئيل من الشعور بالكرامة عند الحر يقيه مواطن الهوان ويجنبه مواقفَ الصغار، وكقول إبراهيم بن العباس وكان عاملًا على الأهواز من قِبل الواثق بالله ثم عزل في وزَارة محمد بن عبد الملك الزيات، فقال مخبرًا عما صار إليه حاله من تخلي الأصحاب وتسلط الأعداء: فلو إذ نبا دهر وأُنكر صاحب ... وسلط أعداء وغاب نصير تكون على الأهواز داري بنجوة ... ولكن مقادير جرت وأمور

فقد نكر كلمة الدهر ليشعر أنه دهر منكر مجهول، وليس هو الدهر الذي عهده أيام نعمته وولايته على الأهواز، كما نكر صاحب للتحقير وقال: أ ُ نكر بالبناء للمجهول، ولم يقل: أنكرت صاحبًا حتى لا يسند إنكار الصاحب إلى نفسه صريحًا في اللفظ، وإن كان هذا الصاحب صاحبًا حقيرًا لئيمًا، ونكَّر أيضًا أعداء في قوله: وسلط أعداء، لبيان أن هؤلاء قد أصبحوا أداةً في أيدي غيرهم، فهم لا يستطيعون عداوتي إلا إذا دُفِعوا إليها من مجهول ساقط. هذا؛ وقد اجتمع التعظيم والتحقير في قول الشاعر: ولله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والخلاعة جانب يريد الشاعر أن يقول: إن الجانب الأكبر من تفكيره وعلمه مبذول في طاعة الله ومرضاته، أما اللهو والعبث فلهما مني الجانب الأدنى؛ ولذلك نكَّر الجانب الخاص بالله لتعظيمه في الشطر الأول من البيت، ونكر الجانب الآخر لتحقيره في الشطر الأخير من نفس البيت، ومثله قول الآخر: فتًى لا يبالي المدلجون بناره ... إلى بابه ألا تضيء الكواكب يصم عن الفحشاء حتى كأنه ... إذا ذكرت في مجلس القوم غائب له حاجب عن كل أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب فإنك ترى كلمة حاجب في البيت الأخير وقعت مسندًا إليه وتكررت منكرةً في شطري البيت، وتنكيرها في الشطر الأول للتعظيم، وفي الشطر الثاني للتحقير والتقليل، وبذلك اجتمع التعظيم والتحقير في بيت واحد، فالشاعر يريد أن يصف ممدوحه بالنزاهة والطهر، وأنه بلغ منهما مبلغًا بحيث لو هم بفعل ما يشين حال دون ذلك مانع حصين وحاجب عظيم، ومع ذلك فممدوح هـ مَحط رجال قاصديه من ذوي الحاجات، لا يحول بينهم وبينه أدنى حاجة، والذي يدل على إرادة التعظيم أولًا والتحقير ثانيًا أن المقام مقام مدح وتنويه بنبالة الممدوح وكرمه.

ويؤتَى بالمسند إليه منكرًا أيضًا لإفادة التكثير مثل قولهم: إن له لإبلًا وإن له لغنمًا؛ أي: إن له لإبلًا كثيرة وغنمًا وفيرة، ومن هذا القبيل على ما ذهب إليه الزمخشري قول الله تعالى حكايةً عن سحرة فرعون: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} (الأعراف: 113) يريدون معنى التكثير؛ أي: إن لنا قدرًا وفيرًا من الأجر. ويحق لك أن تسأل: كيف يفيد التنكير هنا التكثير مع أن الأصل في النكرة الإفراد؟ وللإجابة أقول: إن التنكير يشعر بعدم الإحاطة بالمنكر، وهذا يدل على أنه كثير بالغ الكثرة، ومن هنا كانت إفادة التنكير للتكثير كما أن المقام وصيغة الكلمة لهما دخل، ومن التنكير لهذا الغرض قول الشاعر: وفي السماء نجوم لا عداد لها ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر أي: نجوم كثيرة، وقد اجتمع التكثير والتعظيم في قول الله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} (فاطر: 4) وقد نكر المسند إليه وهو رسل بقصد إفادة التعظيم والتكثير باعتبارين مختلفين؛ فعلى اعتبار أنهم أصحاب شأن عظيم يحملون آيات عظامًا لمن أرسلوا إليهم يكون التنكير للتعظيم، وعلى اعتبار أنهم ذوو عدد كثير يكون التنكير للتكثير، ومما أفاد تنكير المسند إليه فيه التكثير والتعظيم معًا قول الشاعر: له هِمم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر فقد أفاد تنكير همم التكثير والتعظيم؛ أي: همم كثيرة عظيمة؛ ولذا قال: لا منتهى لكبارها أجل من الدهر، فدل الأول على الكثرة، ودل الثاني على التعظيم والتفخيم. ويؤتى بالمسند إليه منكرًا أيضًا لإفادة التقليل كما في قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ُوَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} (التوبة: 72) أي:

شيء قليل من رضوان الله خير مما ذكر في صدر هذه الآية من الجنة ونعيمها، وإنما كان الرضوان وإن قل أكبر من كل ما في الجنة من النعيم؛ لأن المراد إعلامهم بأنه أكبر من كل نعيم يأتي بلا إعلام، أو أن ما عَدَا الرضوان من صنوف النعيم مسبب عنه ولأنه من ثمراته ونتائجه، يقول الخطيب القزويني: وشيء من رضوانه أكبر من ذلك كله؛ لأن رضاه سبب كل سعادة وفلاح، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعيم، وإنما تهنأ له برضاه، كما أنه إذا علم بسخطه تنغصت عليه ولم يجد لها لذة وإن عظمت. ونظير ذلك قوله تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} (مريم: 15) وقد أفاد تنكير المنسد إليه سلام التقليل؛ لأنه من قبل الله تعالى والقليل منه كثير ومغن عن كل تحية، ولذا جاء معرفًا في قصة عيسى - عليه السلام-: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} (مريم: 33)؛ لأنه ليس واردًا من جهة الله، بل هو من قول عيسى - عليه السلام- ولهذا الغرض تجد أن السلام لم يرد من جهة الله تعالى في النظم الكريم إلا منكرًا، فارجع مثلًا إلى قول الله تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (يس: 58) {اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا} (هود: 48) {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} (الصافات: 130) وهكذا. ومن تنكير المسند إليه لإفادة التقليل قولهم: كلمات تتضمن حكم ًا خير من سفر يمتضخ هُراء، فقد نكر المسند إليه كلمات ل إفادة معنى التقليل وللمقام أيضًا نصيب في إفادة هذا المعنى، كما أن للكلمة ذاتها نصيبًا في هذه الإفادة -كما قلنا- في إفادة التنكير بالتكثير؛ إذ لا مانع من أن يجتمع في المثال الواحد عدة دلالات على معنى واحد، ومن هنا كان التنكير في قوله تعالى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} (االأنبياء: 46) لإفادة التقليل كما ذهب السكاكي

بمعونة المقام وبناء المصدر للمرة وبالكلمة نفسها، خلافًا للخطيب القزويني الذي ظن أن إفادة التنكير يجب أن تكون بمعزل عن مثل هذه الدلالات، كما يدل على ذلك كلامه في (الإيضاح). ومن تنكير المسند إليه لإفادة التقليل قوله تعالى على لسان إبراهيم - عليه السلام- لأبيه: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} (مريم: 45) فقد جاء المسند إليه: {عَذَابٌ} منكرًا لإفادة التقليل؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - إذا كان يروعه أن يمس أباه قدر ضئيل من العذاب فكيف بالكثير الجسيم؟! وإلى هذا ذهب الزمخشري معللًا إرادة التقليل بأن إبراهيم - عليه السلام - لم يخلِ الكلام من حسن الأدب مع أبيه، حيث إنه لم يصرح فيه أن العذاب لاحق لاصق به، ولكنه قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} فذكر الخوف والمس ونكَّر العذاب، وذهب بعض البلاغيين منهم السكاكي إلى جواز إرادة التهويل والتعظيم من هذا التنكير، ومع أن النكات البلاغية لا تتزاحم فإن ما ذهب إليه الزمخشري أدق وألطف لمناسبته الواضحة للمقام. إلى غير ذلك من الأغراض التي تقتضي تنكير المسند إليه كأن يمنع من تعريفه مانع كما في قول الشاعر: إذا سئمت مهنده يمين ... بطول الحمل بدله شمالًا حيث نكر لفظ يمين وهو المسند إليه؛ تحاشيًا من أن ينسب السآمة بصريح اللفظ إلى يمين الممدوح فيما لو قال: يمينه بالإضافة، ومع أن المراد بيمين في قول الشاعر: هو يمين الممدوح فإن إسناد السآمة إليها معرفة فيه جفوة تتنافَى مع مقام المدح، وكأن ينكر المسند إليه لإرادة إخفائه عن المخاطب؛ خوفًا عليه، مثل أن تقول لآخر: قال لي رجل: إنك انحرفت عن الحق فتخفي اسمه لئلا يلحقه أذى من هذا المخاطب؛ لأنه نسب إليه ما لا يحب.

توابع المسند إليه.

هذا؛ وما يسري على المسند إليه من تنكير للأغراض البلاغية -السالف ذكرها- يسري على غيره فكثير من الأغراض التي ذكرناها لتنكير المسند إليه تأتي في غيره كما في قول الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} (الزمر: 29) فالمضروب به المثل في الموضوعين فرد من أفراد الرجال، وهو غير مسند إليه فيهما. ومن تنكيره لإفادة النوعية قول الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة: 96) فليس المراد مطلق حياة، إذ لا معنى لأن يحرص الإنسان على شيء قد استوفاه بالفعل إنما يحرص على شيء لم يحصل له بعد، فالمراد إذن نوع خاص من الحياة وهو الحياة الممتدة الزائدة، وكأنه يقول: ولتجدنهم أحرصَ الناس وإن عاشوا على أن يزدادوا إلى حياتهم في ماضيهم وحاضرهم حياةً مستقبلة ً؛ ولهذا نكَّر لفظ الحياة؛ للدلالة على هذا النوع منها وهو غير مسند إليه وهكذا. توابع المسند إليه هذا؛ وقد عرض الخطيب القزويني وسائر علماء البلاغة لتوابع المسند إليه، يستجلون أسرارها ويستنطقونها، ويستخرجون منها ما فيها من وجوه بلاغية، وهذا من ثم يستوجب البحث عن شيء من سر بلاغة هذا حتى نلمَّ بهذا الباب من أبواب البلاغة. فقد يتبع المسند إليه بتابع كالوصف والبدل والتوكيد والعطف وذلك لغرض يقصد إليه البلاغي، وشأن المسند إليه في هذا شأن غيره من أجزاء الجملة كما لا يخفى عليك أن الأحوال التي ذكرناها للمسند إليه تجري أيضًا على غيره من أجزاء الكلام.

ولنبدأ حديثنا عن الوصف: يوصف المسند إليه أو المسند أو أحد متعلقات الفعل بدواع بلاغية كثيرة؛ منها: أن يكون الوصف مفسرًا وكاشفًا عن معنى الموصوف كما في قول أوس بن حجر يرثي نضارة بن كِلدة: أيتها النفس أجملي جزعًا ... إ ن الذي تحذرين قد وقعا إن الذي جمع الشجاعة والنـ ... جدة والبِر والتقى جمعا الألمعي الذي يظن به الظـ ... ن كأن قد رأى وقد سمعا أودَى فلا تنفع الإشاحة من ... أمر لمرء يحاول البدعا فقول: الألمعي، صفة كاشفة وموضحة للمسند إليه الذي جمع الشجاعة والنجدة والبر والتقى؛ ولذا حكي أن الأصمعي لما سئل عن الألمعي أنشد تلك الأبيات ولم يزد، واقرأ في ذلك إن شئتَ قول الله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (المعارج: 19 - 21) ف قوله: {هَلُوعًا} حال من نائب الفاعل وهو وصف كاشف ومفسر وموضح لحقيقة الإنسان، يقول الزمخشري: الهلع سرعةُ الجزع عند مس المكروه، وسرعة المنع عند مس الخير من قولهم: ناقة هلوع؛ أي: سريعة السير، وعن أحمد بن يحيى قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلعُ؟ قلت: قد فسره الله تعالى. ومنها أن يكون الوصف مخصصًا للموصوف، ومعنى تخصيصه له تحديده ورفع احتمال غيره في المعارف وتقليل الاشتراك في النكرات، كقولك: زيد التاجر حضر، ومحمد العالم ذهب، ورجل فقير عندي، وامرأة مؤمنة تزوجت. ومنها أن يكون الوصف مشعرًا بمدح كما في قول الله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 1) وقوله -عز وجل-: {اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} (الحشر: 24)

وقوله -جل وعلا -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128) أو بذم كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (النحل: 98) أو تأكيد لإظهار الفرح والسرور أو التأسف ونحو ذلك كقولك: أمس الدابر كان يومًا عظيمًا. ومنها: أن يكون الوصف بيانًا للموصوف ومحددًا للمراد منه كما في قول الله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النحل: 51) وذلك أن الاسم النكرة الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين؛ الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أن المعني به منهما والذي سِيق له الحديث هو العدد، شفع بما يؤكده، فدل به على القصد إليه والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت: إنما هو إله ولم تؤكده بواحد، لم يحسن وخيل أنك تثبت الألوهية لا الوحدانية. وكذا إذا أريدت الدلالة على أن المعني به منهما الجنسية شفع بالصفة التي تبين ذلك، كما في قول الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأنعام: 38) فقد شفع لفظ {دَابَّةٍ} بـ {فِي الْأَرْضِ} ولفظ: {طَائِرٍ} ب ـ {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} لبيان أن القصد بهما إلى الجنسية لا إلى العدد، وفي ذلك زيادة لمعنى التعميم والإحاطة، كأنه قيل: وما من دابة قط في جميع الأراضين السبع، ولا طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم. ومنها إفادة الترحم وطلب المغفرة كما في قول الشاعر: إلهي عبدك العاصي أتاك ... مقرًّا بالذنوب وقد دعاك فقد وصف العبد التائب المقر بالذنوب بالعاصي؛ استعطافًا وطلبًا للمغفرة والرحمة.

هذا؛ وعندما تقع الجملة صفة للنكرة يشترط فيها أن تكون خبرية؛ لأنها في المعنى حكم على صاحبها كالخبر، فلا يستقيم أن ت ك ون إنشائية، أما قول عبد الله بن رؤبة التميمي: حتى إذا جن الظلام واختلط ... جاءوا بمَزق هل رأيت الذئب قط جن الظلام؛ أي: أقبل أوله واختلاطه إنما يكون بعد ذهاب نور النهار كله، والمزق هو اللبن المخلوط بالماء، وهو مصدر بمعنى اسم المفعول، والشاعر يصف قومًا أضافوه فأطالوا عليه ثم أتوه بهذا المزق، فمعناه جاءوا بمزق يقال عند رؤيته: هل رأيت الذئب قط؟ فالجملة الاستفهامية ليست صفة وإنما هي مقول للصفة المحذوفة كما هو واضح. من التوابع التأكيد: يؤكد المسند إليه وكذا المسند أو أحد متعلقات الفعل ليتحقق بهذا التأكيد أغراض بلاغية يقصد إليها المتكلم؛ منها إبراز المؤكد وزيادة تقرير المعنى في ذهن السامع كقولك: هو يعطي الجزيل ويدفع الشدائد، فتقديم المسند إليه على خبره الفعلي في المثالين قد أفاد تأكيد المعنى وتقريره وإبراز المسند إليه لوقوعه في ابتداء الكلام، فانشغل الذهن به وتطلع إلى خبره، وأيضًا ب تكرير الإسناد؛ لأن الفعل أسند إلى الضمير المذكور مرتين؛ مرة باعتباره مبتدأً ومرة باعتباره فاعلًا. ومنها: أيضًا دفع توهم التجوز كقولك: قطع الأمير نفسه السارقة، فلو لم تقل: نفسه، لجاز أن يتوهم أن القاطع غيره بأمره على ما جرت به العادة في ذلك. ومنها: دفع توهم السهو كقولك: نجحت أنا، وأقبل زيد زيد، وجاءني محمد محمد، وقلت أنت هذا القول؛ فهذا التأكيد يدفع توهم السامع أن المتكلم سَهَا في إثبات الحكم لغير ما هو له.

ومنها: دفع توهم عدم الشمول كقولك: عرفني الرجلان كلاهما، وجاءني القوم كلهم؛ فإنك لو قلت: عرفني الرجلان وجاءني القوم بلا تأكيدـ لتوهم أن أحد الرجلين هو الذي عرفك وأن بعض القوم قد جاء والبعضُ لم يأت ِ، ولكنك لم تعتد بمن لم يعرفك ولا بمن لم يأت فأطلقت الكل وأردت البعض على سبيل المجاز، ودفعًا لهذا التجوز وهذا التوهم جاء التوكيد لإفادة الشمول والعموم، ومن ذلك قول الله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} (آل عمران: 93) وقوله -عز وجل-: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} (طه: 56) وقوله -عز وجل-: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} (القمر: 41، 42) وقوله -تبارك وتعالى-: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} (الحجر: 30، 31). ولا يخفى عليك ما في الآية الأولى من إشارة إلى عظم النعمة، حيث أحل لهم كل الطعام، كما لا يخفى عليك ما في الآيات الأخرى من إشارة إلى فظاعة تكذيب فرعون وقومه، فقد كذبوا بالآيات كلها وإلى فظاعة استكبار إبليس اللعين حيث سجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا هو أبى واستكبر وكان من الكافرين. هذا؛ ولفظ كل تارة يقع تأكيدًا وذلك عندما يستخدم مع المعارف كما في الشواهد المذكورة، ومعنى وقوعها تأكيدًا: أن الشمول مفاد بدونها فهي تأتي لتوكيده ودفع توهم غيره -كما رأيت - وتارة تقع تأسيسًا وذلك عند إضافتها إلى النكرات كما في قول الله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) وقوله -عز وجل-: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}

(الإسراء: 12) وقوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} (الأنبياء: 96) ومعنى وقوعها تأسيسًا: أنها هي التي تفيد الشمول وتؤسسه فهو لا يفاد أصلًا إلا بها، وهذا واضح في الآيات الكريمة؛ إذ بدون "كل" لا تجد فيها شمولا. من التوابع أيضًا عطف البيان: ويقصد البلاغي إلى عطف البيان لأغراض بلاغية، أهمها إيضاح المعطوف عليه باسم مختص به كقولك: قدم صديقك خالد، فخالد عطف بيان للصديق فقد أوضحه وبينه؛ لأن المخاطب له أصدقاء كثيرون فعندما تقول له: جاء صديقك لا يدري أيهم، وعندما تقول: خالد، لقد وضحت وبينت إذا حصرت المجيء في خالد دون غيره من الأصدقاء. وقد يكون عطف البيان غير مختص بمتبوعه، ولكن يحصل الإيضاح والاختصاص بمجموعهما كما في قول الشاعر: والمؤمن العائذات الطير يمسحها ... ربان مكة بين الغَيل والسند ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه ... إذن فلا رفعتَ صوتًا إلي يدي والمؤمن الواو هنا للقسم، والمراد بالمؤمن الله -عز وجل- والعائذات جمع عائذة من العوذ وهو الالتجاء وتعرب مفعولًا به للمؤمن أو مضافًا إليه، وللطير عطف بيان على العائذات، والغيل بفتح الغين وسكون الياء، والسند ب فتح السين والنون موضعان في جانب الحرم فيهما الماء، وجواب القسم قوله: ما إن أتيت بشيء، وإنَّ فيه زائدة للتأكيد.

والمعنى: والله الذي آمن الطير الملتجئة للحرم، والساكنة به للأمن من الاصطياد والأخذ، وقد حصل لها ذلك؛ إذ لا يجوز لأحد أخذها، بل الركبان القاصدون مكة المارون بين الغيل والسند تمسحها ولا تتعرض لها؛ فالطير عطف بيان للعائذات وهو غير مختص بها؛ لأن العائذات صادق على الطير وعلى غيره مما يعوذ بالحرم ويؤمنه الله -سبحانه وتعالى- فيه، وعند التأمل تجد أن عطف البيان في المثال الأول غير مختص أيضًا بمتبوعه؛ لأن الصداقة تطلق على خالد وعلى غيره؛ ولذا فالمهم أن يكون عطف البيان أخص من متبوعه؛ حتى يتحدد ويتضح ذلك المتبوع في ذهن السامع عندما ينصرف إلى تابعه. ومنها: مدح المتبوع والدلالة على عظم شأنه كما في قول الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} (المائدة: 97) فالبيت الحرام عطف بيان للكعبة قصد به المدح والدلالة على عظم شأنها لا الإيضاح؛ لأن الكعبة أظهر من نار على علم، فليست في حاجة إلى إيضاح وبيان، وكان البيت الحرام مدحًا وتعظيمًا؛ لأن فيه دلالةً على أن هذا البيت موصوف بالحرمة والاحترام والمنع من كل امتهان وانتهاك. ومنها: ذم المتبوع والدلالة على حقارته كما في قول الله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} (إبراهيم: 15 - 17) فالصديد بيان للماء قصد به الذم والدلالة على حقارته وامتهانه وقبحه؛ وذلك حتى ينزجر ذلك الجبار ويقلع عن عناده. ومن التوابع البدل: ويقع الإبدال من المسند إليه أو المسند أو أحد المتعلقات لأغراض بلاغية يقصد إليها المتكلم ويقتضيها المقام، أهمها زيادة التقرير والإيضاح؛ كقولك: جاء زيد

أخوك، فأخوك بدل من زيد، وقد دل على تقريره وإبرازه؛ لأن مفهومه هو مفهوم زيد، ومنه قول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 6، 7) فصراط الذين أنعمت عليهم بدل من: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وفيه بيان وإيضاح وزيادة تقرير لكون الصراط المستقيم هو صراط المنعم عليه بالإيمان والرضوان. ومنها: التفصيل بعد الإجمال، والإيضاح بعد الإبهام؛ كما في قول الله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (الفرقان: 68، 69) ف قوله: {يَلْقَ أَثَامًا} فيه إجمال للعقاب، وقوله بعده: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} بدل من القول الأول وفيه تفصيل وإيضاح لما أجمل فيه. ولا يخفى عليك ما للبيان والتفصيل بعد الإجمال من وقع في النفس؛ لأنه عند الإجمال تتطلع النفس وتستشرف إلى التفصيل، فعندما يأتي التفصيل يكون له وقعه وأثره، حيث أتى والنفس إليه متطلعة وله مترقبة، ومنه قول الشاعر: وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلَّت ف في قوله: ذي رجلين إبهام وإجمال أزاله ووضحه البدل في قوله: رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت، ومثله قول الآخر: بلغنا السماء مجدنا وثناؤنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا وفي قوله: بلغنا، إجمالًا، وقد جاء البدل مجدنا وثناؤنا مفصلًا وموضحًا لهذا الإجمال، ولا يخفى عليك أن البدل في البيت الأخير بدل اشتمال، وفي الشواهد السابقة بدل مطابق، ومن بدل الاشتمال أيضًا قولُك: سلب عمرو ثوبه، وأعجبني المعلم علمه، والغرض البلاغي من البدل في المثالين هو الإيضاح هو

التفصيل بعد الإبهام والإجمال؛ لأن قولك: سلب عمرو، وأعجبني المعلم فيه إبهام وإجمال يظل معه المخاطب متعلقًا إلى إيضاحه ومستشرفًا إلى تفصيله؛ وعندئذ يأتي البدل ثوبه وعلمه موضحًا ومبينًا، فيقع المعنى في النفس موقعًا حسنًا ويثبت فيها ويرسخ. ومن بدل البعض قولك: جاءني القوم أكثرهم وفيه -كما ترى- زيادة إيضاح وتقرير وبيان لما في المسند إليه وهو القوم من إجمال. ومن الأغراض البلاغية للبدل القصد إلى المبالغة والتفنن في بناء العبارات، ويكثر هذا في بدل الغلط كما في قول البحتري: ألمع برق سرى ... أم ضوء مصباح أم ابتسامتها ... بالمنظر الضاحي حيث أراد المبالغة في وصف الابتسامة ومدى وقعها عليه فتفنن في العبارة كما ترى، ومنه أيضًا قوله أيضًا في وصف الإبل الأمضاء: كالقسي المعطفات ... بل الأسهم مبرية بل الأوتار فقد قصد إلى المبالغة في وصف الإبل المهازيل، فتفنن في التشبيه مترقيًا عن طريق الإضراب من الدقيق إلى الأدق. وبهذا يتضح لك أن نظرة البلاغي للتوابع تختلف عن نظرة النحوي، وما ذكرناه من كل الشواهد والأمثلة السابقة إنما هو على وجه التمثيل وإلا فالكلام في ذلك أكثر من أن تحصره محاضرة. والبلاغي دائمًا ينظر إلى ما وراء هذه التوابع من دقائق وأغراض ومزايا جمالية، أما النحوي فينظر إلى أحكامها وكيفية استعمالها في الكلام؛ ولذا نجد النحوي مثلًا يسوي بين البدل المطابق وعطف البيان فيجعلهما شيئًا واحدًا، وليس الأمر

كذلك عند البلاغي، بل هما مختلفان ولكل منهما مقامات خاصة به ومقاصد يقصد إليها على نحو ما رأينا فيما سبق من شواهد. من التوابع كذلك عطف النسق: ويستخدمه البلاغي ليحقق أغراضًا بلاغية ومقاصد يقصد إليها، وهذه الأغراض تراها كامنة وراء حروف العطف؛ وهي الواو ثم والفاء ولا وبل ولكن وحتى وأو وما، وما بين تلك الحروف من فروق دقيقة، فالواو لمطلق الجمع، والفاء للترتيب مع التعقيب، وثم للترتيب مع التراخي، وبل للإضراب وصرف الحكم عن محكوم له إلى آخر، ولا للعطف ونفي الحكم عما بعدها، ولكن عكس لا، وحتى للتدرج إلى الأعلى أو إلى الأدنى، وأو للتخيير أو للإباحة أو للشك أو للتشكيك؛ والبلاغي يستغل تلك المعاني ليحقق أغراضًا بلاغية يهدف إليها تقول مثلًا: جاءني زيد وعمرو وخالد، فتفيد تفصيل المسند إليه مع الإيجاز، حيث أفادت الواو اشتراك زيد وعمرو وخالد في المجيء؛ ففصلت المسند إليه وأغنت عن قولك: جاءني زيد وجاءني خالد وجاءني عمرو، وهذا هو وجه الإيجاز في المثال، وتأمل قول الله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (القصص: 8) تجد أن: {فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} قد ذكرَا مفصلين معطوفًا أحدهما على الآخر، ثم عطف عليهما بقية القوم إجمالًا: {وَجُنُودَهُمَا}؛ وذلك لغرض بلاغي وهو أن فرعون وهامان كانَا السبب في الخطيئة دون جنودهما.

وتقول: جاء زيد فعمرو، فتفيد تفصيل المسند وهو المجيء مع الإيجاز والإنباء بالتعقيب؛ إذ المراد جاء زيد وجاء عمرو بعده مباشرة، وتقول: جاء زيد ثم عمرو، فتومئ إلى ما بين المجيئين من تراخ بالإضافة إلى إفادة التفصيل والإيجاز، وكذا تقول: اشتدت العاصفة ثم هدأت، مشيرًا بالحرف ثم إلى امتدادها، وأنها لم تكن إلا بعد زمن طويل، وقد تريد التدرج بالمعاني علوًّا أو دنوًّا، فتستعمل حتى في عطف تلك المعاني. انظر مثلًا إلى قول الشاعر: قهرناكم حتى الكُماة فأنتم ... تهابوننا حتى بنينا الأصاغر حيث ارتفع بقهرهم إلى أعلاهم حتى الكماة، ثم انخفضت بهيبتهم إلى ما لا يخيف: حتى بنينا الأصاغر، وهذا معنى جميل وتموج رائع؛ إذ بدأ بالأدنى مرتفعًا بالقهر حتى انحدر بالإخافة منتهيًا إلى أدنى ما يمكن أن يخيف. وقد يلجأ البلاغي إلى عطف النسق؛ ليرد السامع عن الخطأ في الحكم إلى الصواب بأخصر طريق فيقول مثلًا: جاء زيد لا عمرو لمن اعتقد أنهما جاءا معًا، أو أن الذي جاء عمرو دون زيد، وكذا تقول: ما جاء زيد لكن عمرو وما جاء زيد بل عمرو، لمن اعتقد مجيئهما معًا أو مجيء زيد دون عمرو. وقد يُراد بالعطف التشكيك كما في قول الشاعر: وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها فقد عطف بأو ليشكك السامع وعندئذ ينظر في أمره ويتأمل حتى يصل إلى الخبر اليقين، ويعرف أفاجر الشاعر أم تقي. وقد يراد به الإبهام استمالةً للمخاطب؛ وترغيبًا له في الحق والاهتداء كما في قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (سبأ: 24)

ومنه قول الشاعر: نحن أو أنتم الألى ألفوا الحق ... فبعدًا للمبطلين وسحقًا فقد استخدمت أو للإبهام فلا يواجه الضال بضلاله، فيكون في هذا تنفير له من قبول الحق والهداية. وبهذا يتضح لك أن البلاغي يجد في معاني حروف العطف وسائل لتحقيق مآربه وإبراز أهدافه البلاغية السامية التي يهدف إليها ويقصد. تعقيب المسند إليه بضمير الفصل: ونختم بتعقيب المسند إليه بضمير الفصل، وقد يعقب المسند إليه بضمير الفصل فيفيد ذلك القصر؛ أي: قصر المسند على المسند إليه كقولك مثلًا: زيد هو المنطلق، وخالد هو الذي يجود بماله، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (التوبة: 104) فالمعنى لا يقبل التوبة عن عباده إلا الله، أو يفيد قصرًا مسند إليه على المسند كقولك: الكرم هو التقوى والحسب هو المال؛ أي: لا كرم إلا بالتقوى ولا حسب إلا بالمال، وقد يكون ضمير الفصل لمجرد التوكيد؛ وذلك إذا كان القصر مفادًا بغيره ب أن تكون الجملة معرفة الطرفين مثلًا كما في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات: 58) وقوله -عز وجل-: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (المائدة: 117) وقوله -عز وجل -: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (الحشر: 20). والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 11 تقديم المسند إليه، ومذاهبه.

الدرس: 11 تقديم المسند إليه، ومذاهبه.

تقديم المسند إليه

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (تقديم المسند إليه، ومذاهبه) تقديم المسند إليه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونسترضيه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا كما نعوذ به من سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله؛ وبعد: فيأتي البليغ بالمسند إليه مقدمًا لأغراض منها ما يلي: أولها: كون التقديم هو الأصل ولا مقتضى للعدول عنه، وإنما كان الأصل في المسند إليه التقديم؛ لأن مدلوله الذات المحكوم عليها، والمسند هو الوصف المحكوم به، فهو مطلوب لأجل المسند إليه، ف تعقل الذات المحكوم عليها سابقٌ على تعقل الوصف المحكوم به ضرورةً؛ لأن الوصف إنما جاء لأجل الحكم به على الذات، وهذا وإن كان اعتبارًا نحويًّا لا ينافي أن يكون غرضًا بلاغيًّا إذا لم يعارض بغرض من أغراض التأخير مثل قولنا مثلًا: محمد حضر، ف قد قدم المسند إليه؛ لأن الأصل فيه هو التقديم؛ إذ هو المحكوم عليه بالحضور، فينبغي ذكرُه أولًا. وإنما شرطوا في الجملة الاسمية عدم وجود نكتة أخرى تتطلب التأخير؛ لأن الأصالة وحدها نكتة ضعيفة لا تنهضه سببًا مرجحًا للتقديم مع وجود داعي التأخير، بحيث لو وجد لترجح التأخير على التقديم كما في الفاعل مثلًا، فإن الأصل فيه أن يقدم؛ لأنه الذات المحكوم عليها، غير أن الأصالة عارضها نكتة أخرى تقتضي تأخيرُه؛ وهي أن الفعل عامل في الفاعل الرفع، ومرتبة العامل التقدم على المعمول ورجح جانبه عليه أو لأن العامل علة في المعمول والعلة مقدمة على المعلول. ويُقدَّم المسند إليه أيضًا بقصد إرادة تمكن الخبر في ذهن السامع؛ وذلك حيث يكون في المسند إليه ما يشوق إلى الخبر بأن يكون موصولًا أو موصوفًا بما يوجب

الدهشة والاستغراب، ويجعل النفس متطلعة إلى سماع الخبر حتى إذا سمعته تمكن منها أي تمكن؛ كما في قول أبي العلاء المعري: والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد وقدم المسند إليه وهو الذي؛ لأن فيه تشويقًا إلى الخبر؛ إذ قد اتصل به ما يدعو إلى الدهشة وهو قوله: حارت البرية فيه، ومثل هذا الأمر الغريب يثير في النفس عواملَ الشوق إلى معرفة ذلك الذي أوقف البرية كلها موقفَ الحائر المدهوش، فإذا ذكر تمكن منها فضلَ تمكن ٍ، ورسخ رسوخًا لا يرقى إليه شك، ومنه قول الشاعر: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر فق د قدم المسند إليه وهو ثلاثة؛ لأن فيه ما يشوق النفس إلى الخبر لاتصافه بما يدعو إلى الاستغراب والعجب؛ وهو قوله: تشرق الدنيا ببهجتها؛ فإن إشراق الدنيا كلها مما يدفع النفس إلى أن تعرف ذلك الذي جعلها تتألق وتضيء، فإذا عرفت ذلك تمكن منها واستقر، وهكذا يقدم المتكلم المسند إليه إذا أراد تمكن الخبر في ذهن السامع، بشرط أن يكون في المقدم ما يشوق إلى معرفة المؤخر، كما يقدم المتكلم المسند إليه لإرادة المبادرة بإدخال السرور على قلب السامع؛ ليتفاءل من حصول الخبر أو لإرادة المسارعة بإدخال ما يسوء على قلبه ليتطير بحصول الشر؛ لأن السامع كما جرت العادة يتفاءل أو يتشاءم غالبًا بأول ما يقرع سمعه من الكلام، وهذا فيما إذا كان لفظ المسند إليه مشعرًا بما يُتفاءل به أو بما يتشاءم منه.

المذاهب في إفادة تقديم المسند إليه.

ومن أغراض تقديم المسند إليه أيضًا إشعار السامع أن المسند إليه لا يغيب عن خاطره؛ أي: إرادة المتكلم أن يشعر السامع بأن المسند إليه حاضر في قلبه لا يغيب عنه إما لشدة الحاجة إليه؛ كقول المتكلم الجائع مثلًا: الرغيف يكسر حدة الجوع، وإما لأن المتكلم يستلذه مثل: ليلى رأيتُها، وإما لأنه يُتبرك به مثل: الله آمنت به ربًّا أومحمد آمنت به نبيًّا ورسولًا. كذا يقدم المسند إليه بغرض التعجيل بتعظيمه أو تحقيره وذلك إذا كان اللفظ مشعرًا بما يدل عليهما، مثل: أبو الفضل عندنا وأبو الجهل رحل عنا، ومثل: ال رجل ال فاضل مر بنا وفتى سفيه سألني. وهكذا. كما يقدم المسند إليه أيضًا بغرض إفادة تخصيص المسند إليه بالمسند، وهذا أهم ما في الباب، أو إفادة تقوي الحكم وذلك إذا كان المسند فعلًا رافعًا لضمير المسند إليه المقدم. المذاهب في إفادة تقديم المسند إليه وفي إفادة تقديم المسند إليه هذا الغرض التخصيص أو التقوي مذهبان: أحدهما: للإمام عبد القاهر وجمهور البلاغيين. والآخر: للشيخ السكاكي. أولًا: مذهب الإمام عبد القاهر: يذهب الإمام عبد القاهر الجرجاني ويتبعه في ذلك جمهور البلاغيين إلى أن المسند إليه إذا تقدَّم على خبره الفعلي مسبوقًا بنفي، أفاد التخصيص حتمًا، لا فرق في

ذلك بين أن يكون المسند إليه اسمًا ظاهرًا مثل: ما زيد فعل هذا، أو ضميرًا مثل: ما أنا فعلت هذا، أو أن يكون نكرة مثل: ما رجل فعل هذا. ومعنى التخصيص انتفاء الفعل عن المسند إليه المتقدم وإثباته لغيره؛ هذا إذا كان معرفة، أما إذا كان المسند إليه نكرة فالتخصيص فيها معناه انتفاء الفعل عن الجنس أو عن فرد واحد منه وثبوته لغير الجنس أو لغير الفرد الواحد منه، ولنطبق هذا على ما سبق من أمثلة. أنت عندما تقول: ما زيد فعَلَ هذا كما في المثال الأول، فإنه يعني انتفاء الفعل عن زيد خاصة وثبوته لغيره، فقوله ردًّا على من زعم انفراد المسند إليه وهو زيد بالفعل دون غيره، فيكون قصر قلب، أو ردًّا على من زعم اشتراك ذلك الغير مع المسند إليه بالفعل فيكون قصر إفراد، والمراد بالغير شخص معين هو موضوع النزاع؛ لأن التخصيص إنما هو بالنسبة إلى مَن توهم المخاطب انفراد المسند إليه بالحكم دونه، أو ردًّا على مَن توهم اشتراكه مع المسند إليه فيه، فهو قصر إضافي بالنسبة إلى معين لا بالنسبة لجميع الناس ويسمى ذلك قصر تعيين. ومعنى التخصيص في المثال الثاني: ما أنا فعلت هذا، انتفاء الفعل عن المتكلم خاصةً وثبوته لغيره، تقول: هذا المثال الذي ذكرناه ردًّا على من زعم انفرادك بالفعل دون غيرك فيكون قصر قلب، أو على مَن زعم اشتراك الغير معك في هذا الفعل فيكون قصر إفراد، ومعنى التخصيص في المثال الثاني: ما رجل فعل هذا، انتفاء الفعل عن جنس الرجل وثبوته لغير هذا الجنس، أو عن العدد عن فرد واحد منه وثبوته لغيره، فالأول ترد به على من زعم أن الذي فعل الفعل رجل لا امرأة، فتقول: ما رجل فعل هذا، فيفهم أن الذي فعل امرأة، وهذا تخصيص للجنس، وفي الثاني ترد به على مَن زعم أن الذي فعل الفعل رجل واحد لا

رجلان ولا أكثر، فتقول له: ما رجل فعل هذا، فيفهم أن الذي فعل رجلان أو أكثر، وهذا تخصيص للوحدة. ولعلك تلحظ في الأمثلة السابقة أن المسند إليه وقع بعد النفي مباشرة دون فصل، وهذا ليس بشرط؛ فيجوز أن يفصل المسند إليه عن النفي السابق عليه ببعض المعمولات مثل: ما زيد أنا ضربته، وما في المنزل أنا صليت، وما يوم الجمعة أنا سافرت؛ فهذا كله مما يفيد التخصيص قطعًا عند الإمام عبد القاهر الجرجاني، والتقديم في مثل هذه التراكيب التي ذكرتها لك لا تقال إلا في مقام تحقق فيه الفعل وتريد أنت نفيه عن الاسم المتقدم، فيلزم ثبوته لغير هذا المتقدم؛ لأن الفعل واقع، وكل فعل لا بد له من فاعل، ومن هنا قالوا عن مثل: ما أنا فعلت هذا، أنها تفيد ثلاثة أشياء؛ أن الفعل مثبوت وموجود لا شك فيه، وأنه منفي عن الاسم المتقدم، وأنه ثابت لغير المتقدم على حسب النفي عمومًا وخصوصًا، فلا تقول: ما أنا سعيت في حاجتك، بتقديم الاسم إلا إذا كان السعي في الحاجة واقعًا ولا جدالَ فيه، وأنك تنفيه عن نفسك وتثبته لغيرك، وكذلك إذا قلت: ما أنا ضربت زيدًا، لم تقله إلا وزيد مضروب والمخاطب يدعي أنك الضارب له، فتنفي ذلك عن نفسك وتثبته لغيرك. ومن أبين الأساليب على أن هذا التقديم يقتضي وجود الفعل ونفيه عن المسند إليه المقدم وإثباته لغيره قول المتنبي: وما أنا أسقمت جسمي به ... ولا أنا أضرمت في القلب نارًا فالسقم ثابت موجود، ولكن الشاعر يريد أن ينفي عن نفسه أنه الجالب له، ويثبت ذلك للهم الذي اعتراه وحَل به، ومثله في الوضوح قوله أيضًا: وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله ... ولكن لشعري فيك من نفسه شعر

فتقديم المسند إليه يدل على أن الشعر ثابت، ولكن الشاعر يريد أن ينفي عن نفسه أن يكون القائل له وحده، ويثبت أن فضائل الممدوح ومحاسنه كان لها الفضل في كثير منه؛ لأنها الملهمة فكأنها القائلة. هذا؛ وإذا كانت التراكيب المذكورة التي تقدم فيها المسند إليه على خبره الفعلي مسبوقًا بنفي مقيدة لنفي الحكم عن المسند إليه وإثباته في الوقت نفسه لغيره إذا كان ذلك كذلك، فينبغي أن تعلم أن نفي الحكم عن المسند إليه إنما يدل عليه منطوق العبارة -ي عني: ألفاظها - أما ثبوته لغيره فهو المعنى المفهوم منها والمفاد من معناها وفحواها، ولهذا لا يصح أن يقال مثلًا: ما أنا قلت هذا الشعر وحدي ولا غيره؛ لأن منطوق "لا غيري" يتناقض معناه مع مفهوم العبارة المذكورة؛ إذ إ ن المفهوم ما أنا قلت هذا الشعر ثبوته للغير، ومعنى "لا غيري" نفيه عني وهما بذلك متنافيان. كما ينبغي أن تعلم أن ثبوت الحكم يجب أن يكون على الوجه الذي انتفى به عن المسند إليه من العموم والخصوص، كما يقتضي التخصيص، فإذا كان المنفي عن المسند إليه خاصًّا كان الثابت لغيره كذلك كما في قولك مثلًا: ما أنا قلت هذا الشعر، انتفى فيه عن المسند إليه شيء خاص هو قول شعر معين، فيجب أن يثبت لغيره قول هذا الشعر بعينه؛ تحقيقًا لمعنى الاختصاص، وإن كان المنفي عن المنسد إليه عامًّا كان الثابت لغيره كذلك، ولهذا لا يصح أن يقال: ما أنا رأيت كل رجل، ولا: ما أنا ضربت كل رجل إلا زيدًا، وثبوت الرؤية أو الضرب على هذا الوجه محالٌ؛ إذ ليس في طوق إنسان أن يرى جميع الرجال أو أن يضرب كل الرجال.

ومثَّل الخطيب القزويني لِمَا لا يصح بقوله: ما أنا رأيت أحدًا من الناس، وما أنا ضربت إلا زيدًا، بحمل النكرة الواقعة في سياق النفي على الاستغراق الحقيقي، أما إذا حُملت على الاستغراق العرفي بأن يقصد بلفظ "أحد" ما يمكنه رؤيته أو ضربه فلا يكون المثال فاسدًا بل يكون صحيحًا. هذا كله إذا وقع المسند إليه بعد النفي كما اشترط الإمام عبد القاهر. فإذا لم يقع المسند إليه بعد النفي بأن كان مثبتًا لا يوجد فيه نفي أصلًا، مثل: محمد سعى في حاجتك، وأنا كتبت في شأنك، ورجل اهتم بأمرك، أو وجد في الكلام نفي، لكنه تأخر عن المسند إليه ولم يتقدم على نحو ما ذكرنا، ففي هاتين الصورتين يفيد تقدم المسند إليه التخصيص احتمالًا لا حتمًا إذا كان معرفة ضميرًا أو اسمًا ظاهرًا كما في الأمثلة السابقة، حيث يجوز أن يراد من التركيب التخصيص، وأن يراد منه تقوي الحكم حسبما يتطلبه المقام، فإن كان المتكلم في مقام الرد على منازع في الحكم كان الكلام مفيدًا للتخصيص، وإن كان القصد إلى مجرد الحكم على المسند إليه من غير نظر إلى التعرض للرد على معارض، كان الكلام مفيدًا لتقوي الحكم وتقريره في ذهن السامع. ولتوضيح ذلك أقول: إذا قلت في حالة الإثبات -أي: انعدام النفي من الكلام- محمد سعى في حاجتي، فإن كنت قد أردت بهذا القول الرد على مَن زعم انفراد الغير بالسعي دون محمد، أو على من زعم اشتراك الغير معه في السعي، فالتركيب حينئذٍ مفيد للتخصيص؛ أي: قصر السعي على محمد دون هذا الغير، ويسمى القصر في الزعم الأول قصر قلب وفي الثاني قصر إفراد.

ومن الواضح الجلي في إفادة تقديم المسند إليه التخصيص في حالة الإثبات هذه قولهم في المثل المشهور: أتعلمني بضب أنا حرشته، حرش الضب واحترشه؛ أي: صاده بالحيلة المعروفة، وهو أن يحرك الصائد يده على باب جحره؛ ليظنه حي ًّا فيخرج ذنبه ليضربها فيأخذه، وهذا المثل يضربه العالم بالشيء لمن يريد تعليمه إياه، فتقديم المسند إليه هنا يفيد التخصيص؛ أي: أن حرش الضب مقصور على المتكلم ومنفي عن غيره بمعنى: ما حرشه إلا أنا، وعليه قول الله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} (التوبة: 101) أي: لا يعلمهم إلا نحن ولا يطلع على أسرارهم غيرنا؛ لإبطانهم الكفر في سويدوات قلوبهم، أما إن أردت بقولك: محمد سعى في حاجتي، مجرد إثبات الحكم للمسند إليه ولم تقصد الرد على معارض، كان الكلام مفيدًا لتقوي الحكم وتقريره في ذهن السامع لا غير. ونظير ما سبق قولك: محمد يعطي الجزيل، فأنت لا تريد بهذا القول أن غيره لا يعطي الجزيل حتى يكون مفيدًا للتخصيص، بل تريد أن تحقق للسامع، وتؤكد له أن إعطاء الجزيل دأبه وعادته، وأن هذا الوصف قد تمكن من نفسه فضل تمكن. ومن الأساليب التي دل المقام والسياق على أن التقديم فيها مفيد للتقوي فقط بمعونة السياق قول الشاعر: هم يفرشون اللبد كل طمرة ... وأجرد سباح يبذ المغاليا اللبد الشعر المتبلل الذي يوضع على ظهر فرس تحت السرج، والطمرة: هي الفرس الكريمة، والأجرد: القصير الشعر، والسباح الذي يشبه جريه السباحة في اللين، يبذ يعني: يغلب، المغاليا يعني المبالغ في العدو والسير، لا يريد الشاعر أن

يخصهم بهذه الصفة ويدعي أنها لا تكون لغيرهم، وإنما أراد بيان أنهم فُرسان يمتطون صهوات الخيل ويقتنون الجياد منها. ومثل ذلك قول الآخر: وهم يضربون الكبش يبرق ... بيضه على وجهه من الدمائل سبائب ف الكبش هو رئيس الجيش، والبيض واحده بيضة، وهي الخوذة التي توضَع على الرأس، والسبائب طرائق الدم، فالشاعر يريد أن ينبه السامع إلى شجاعته ليحقق الأمر ويؤكده، ولا يدع مجالًا للشك فيه، ولا يريد أن يدعي له الانفراد بهذه الصفة، وأن هذا الضرب لا يكون إلا منهم، فالقصد إلى تقوية الحكم إذن لا إلى التخصيص، ومن البين في ذلك قول عروة بن أبي أذنية: سليمى أزمعت بينا ... فأين تقولها أين فالقول هنا بمعنى الظن، أم يريد الشاعر أن يجعل إزماع الفراق خاصًّا بسليمى وأنه مقصور عليها دون سواها، ولا أن يرتب على ذلك أنه لم يزمع الفراق أحد من جماعتها سواه؛ إذ ذلك محال، ولكنه أراد بتقديم ذكرها أن يؤكد ويقوي الحكم، وأبين من هذا كله في إفادة تقوية الحكم دون التخصيص قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (الفرقان: 3) فالمراد تأكيد أنهم خلق الله فليسو أهلًا للعبادة، ومحال أن يراد هنا التخصيص؛ لأن خلق الله ليس مقصورًا عليهم، فهو سبحانه يخلقهم ويخلق غيرهم، وهو خالق كل شيء. ومثل حالة الإثبات حالة النفي المتأخر -كما قلنا عن المسند إليه- كما تقول: علي ما سعى في حاجتي، فإن كان القصد الرد على مَن زعم انفراد الضمير بعدم السعي دون علي أو على من زعم اشتراك الغير معه في عدم السعي، فالترتيب للتخصيص؛ أي: قصر عدم السعي على علي، والأول قصر

قلب، والثاني قصر إفراد، وإن كان القصد إلى مجرد الإخبار لعدم السعي من غير قصد إلى الرد على منازع فالترتيب للتقوي؛ وهكذا تنحو هذا النحو من الترديد بين التخصيص والتقوي في كل تركيب لم يقع فيه المسند إليه معرف بعد النفي مثبتًا كان الكلام أو منفيًا، والحَكم في ذلك هو المقام والسياق. فإن كان المسند إليه نكرة كما في الصورتين السابقتين وهما الإثبات أو تأخر النفي أفاد التقديم التخصيص قطعًا؛ ليكون مسوغًا للابتداء بالنكرة، ويكون التخصيص على نوعين؛ تخصيص الجنس أو الواحد كقولك: رجل جاءني؛ أي: لا امرأة أو رجلان؛ لأن الأصل في النكرة أن تكون لواحد من الجنس، ويقع القصد بها تارةً إلى الجنس فقط وذلك حين يكون المخاطب بالمثال السابق قد عرف أن قد أتاك آت ولم يدرِ جنسه أرجل هو أم امرأة، أو اعتقد أنه امرأة، وتارةً إلى الوحدة فقط، كما إذا عرف المخاطب أن قد أتاك من هو من جنس الرجال ولم يدرِ أرجل هو أم رجلان أم أكثر؟ فتقديم النكرة على الفعل يفيد قصره عليها بأحد الاعتبارين اللذين سبق ذكرهما الجنس أو الوحدة، ومرد الفصل بين المقامين يرجع لحال المخاطَب؛ فإن كان النزاع في الجنس فالقصر عليه والتخصيص له، وإن كان النزاع في العدد فالتخصيص للعدد واحدًا أو مثنى أو جمعًا. ويلحق بالجنس النوع بحسب الوصف كقولك: رجل طويل جاءني ردًّا على مَن ظن أنه قد أتاك قصير، وهذا كله هو المفهوم من كلام الإمام عبد القاهر في (دلائل الإعجاز) حيث يقول في وإذ قد عرفت الحكم في الابتداء بالنكرة في الاستفهام فابن الخبر عليه، فإذا قلت: رجل جاءني لم يصلح حتى تريد أن تعلمه أن الذي جاءك رجل لا امرأة،

ويكون كلامك مع من قد عرف أن قد أتاك آت، فإن لم ترد ذلك كان الواجب أن تقول: جاءني رجل، فتقدم الفعل، وكذلك إن قلت: رجل طويل جاءني، لم يستقم حتى يكون السامع قد ظن أنه قد أتاك قصير، ونزلته منزلةَ مَن ظن ذلك. وخلاصة مذهب عبد القاهر يدور -كما ترى- في الغالب حول أداة النفي؛ ف إن كانت سابقة على المسند إليه أيًّا كان نوعه أفاد الكلام التخصيص قطعًا، وإن لم تسبقه أداة نفي بأن تأخرت عنه أو لم توجد في الكلام أصلًا فننظر إلى المسند إليه؛ إن كان معرفة ظاهرًا أو ضميرًا احتمل الكلام التخصيص والتقوي، فتارةً يفيد التخصيص، وتارةً يفيد التقوي، وتارةً يفيد التقوية فقط، حسبما يقتضي المقام، وإن كان المسند إليه نكرة أفاد تقديمها التخصيص قطعًا، وبهذا تدرك أن تقديم المسند إليه النكرة على الفعل مفيد للتخصيص دائمًا بغض النظر عن النفي تقدم أو تأخر، أو لم توجد بأن كان الكلام على الإثبات، وفي هذا الحكم للنكرة يتفق السكاكي مع عبد القاهر -كما سنعلم ذلك إن شاء الله من مذهبه-. هذا هو مذهب عبد القاهر الجرجاني. غير أن هناك أساليبَ قد وردت متحققًا فيها شرطه لإفادة التخصيص ومع ذلك لم تفد مثل قوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} (الأنبياء: 39، 40) فقوله: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}، {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} قدم فيه المسند إليه على الخبر الفعلي، وهو مسبوق بحرف النفي، ومع هذا أفاد التقوية فقط؛ لأن التخصيص يقتضي أن غيرهم يُنصر من عذاب الله وينظر حتى تأتيه الساعة وذلك لا يكون. انتهى من كلام الشيخ أبو موسى في كتابه (خصائص التراكيب).

ويمكن أن يجاب عن مثل هذا بحمل ما قرره عبد القاهر على الكثير الغالب وإن لم يقصده هو؛ لأن القواعد في جلها أو كلها أغلبية حتى لا نكاد نجد قاعدةً عامةً لم تنخرم، ومن هنا قال علماء الأصول: ما من عام إلا وخُصِّص حتى هذه القاعدة قد خصصت بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (العنكبوت: 62). هذا؛ وإن أدركتَ معنى التخصيص فيما سبق بأنه قصر نفي الفعل على المسند إليه المتقدم وإثباته لغيره في حالة النفي، أو قصر الفعل على المسند إليه ونفيه عن غيره في حالة الإثبات؛ فالسؤال الذي يفرض نفسه: ما معنى التقوية؟ وما هو سببها؟ نقول: إن التقوية تأكيد الحكم الإسنادي وتقريره في ذهن السامع، والسر في إفادة تقديم المسند إليه على خبره الفعلي توكيد الحكم وتقويته، أن الاسم لا يؤتى به معرًّى عن العوامل إلا لحديث قد نوي إسناده إليه فإذا قلت: عبد الله مثلًا، فقد أشعرت قلبَ السامع أنك أردت الحديثَ عنه، فإذا جئت بالحديث -وهو الفعل- فقلت: قام أو فعل كذا دخل على القلب دخول المأنوس وقبله قبول المطمئن؛ لأنك قد وطَّأت له وقدمت الإعلان فيه، وذلك لا محالةَ أشد لثبوته وأمنع للشك فيه، هذا ما يراه الإمام عبد القاهر. والأوضح في بيان سبب التقوية أن يقال برأي السكاكي من أن السبب يتمثل في تكرر الإسناد، حيث نجد الفعل قد أسند إلى الاسم المتقدم مرتين؛ مرةً بطريق غير مباشر؛ لأن فاعله ضمير يعود على الاسم المتقدم، ومرةً بطريق مباشر؛ لأن الجملة من الفعل والفاعل خبر عن هذا الاسم المتقدم؛ ففي قولك مثلًا: زيد قام تَسند القيام إلى زيد مرتين، مرةً باعتبار أنه مرجع الضمير المستتر الذي أعربته فاعلًا لقام، ومرةً باعتبار أن الجملة كلها من الفعل والفاعل خبر عن المبتدأ زيد،

وهذا التكرار للإسناد هو سبب وسر التقوية والتأكيد؛ ولذلك قالوا: إن قولهم: أنت لا تكذب، أقوى في نفي الكذب من قولهم: لا تكذب أنت؛ لتكرر الإسناد في الأول دون الثاني. ومن هنا يعلم أن كل تركيب مفيد للتخصيص قطعًا أو احتمالًا هو بعينه مفيد للتقوي، وإن كان غير مقصود لوجود مقتضى التقوي وهو تكرر إسناد الناشئ من تقديم المسند إليه على الخبر فعلًا، أما التقوي فلا يلزمه التخصيص لتوقف التخصيص على شروط معينة لا يلزم تحققها من وجود تكرر الإسناد. وقد استشهد الإمام عبد القاهر على أن تقديم المسند إليه على خبر الفعل يقتضي التأكيد والتقوية للحكم بأقوال البلغاء واستعمالاتها؛ حيث نجدهم يستعملون هذا الأسلوب في المقامات التي تحتاج إلى تأكيد، فدل ذلك على أن هذا الأسلوب -تقديم المسند إليه على خبره الفعلي- يفيد التأكيد ويحقق التقوية، وهذه المقامات والمواطن تتمثل في الآتي: 1 - إذا سبق إنكار للمنكر كأن يقول قائل: لا أعلم ما تقول، فتقول له: أنت تعلم أن الأمر على ما أقول، فتقدم المسندَ إليه أنت، وعليه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 75) لأن الكاذب لا سيما في الدين لا يعترف بأنه كاذب وينكر كذلك علمُه بأنه كاذب، ومعلوم أن الإنكار يقتضي توكيد الحكم فقُدِّم المسند إليه لرد هذا الإنكار. 2 - أنه يجيء فيما اعترضه شك نحو أن يقول لك قائل: كأنك لا تعلم ما قاله فلان، ويظهر شكه في علمك، فتقول: أنا أعلم ما قال ولكني أداريه. 3 - أنه يأتي في تكذيب مدع ي ك قوله -عز وجل-: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} (المائدة: 61) فإن قولهم: {آمَنَّا} دعوى منهم أنهم

لم يخرجوا بالكفر فالموضع موضع تكذيب، وهو من قبيل رد الإنكار أيضًا؛ لأنهم ينكرون الكفر. 4 - أنه يأتي فيما القياس في مثله ألا يكون؛ أي: فيما يقتضي العقل والمنطق ألا يكون نحو قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (الفرقان: 3) فإنهم وإن كانوا لا ينكرون أنها مخلوقة؛ فإن عبادتها تقتضي أنها غير مخلوقة؛ لأ ن العقل يقتضي أن يكون المعبود خالقًا لا مخلوقًا. 5 - كما يجيء هذا الأسلوب في كل خبر كان على خلاف على العادة وفيما يستغرب كما تقول: فلان يدعي العظيم وهو يعي ي باليسير، ويزعم أنه شجاع وهو يفزع من أدنى شيء؛ فكل ذلك أمر مستغرب جاء على خلاف العادة، فهو يحتاج إلى التأكيد وإبعاد الشك عن السامع. 6 - يجيء هذا الأسلوب كذلك في المدح والفخر نحو: هو يقري الضيف، وكقول طرفة: نحو في المشتات ندعو الجفَلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر 7 - ويأتي هذا الأسلوب كثيرًا في الوعد والضمان كقولك: أنا أعطيك، أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر؛ وذلك لأن مِن شأن مَن تعده أن يعترضه الشك في تمام الوعد وفي الوفاء به، فهو أحوج إلى التأكيد. ننتقل بعد هذا إلى مذهب الإمام السكاكي في تعريفه تقديم المسند إليه وإفادته ل لتخصيص: وإن كان السكاكي يتفق مع عبد القاهر في أن تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي يفيد التخصيص، فله مذهب يخالف مذهب الإمام، لا يعول فيه على نفي تقدم أو تأخر، وجد أو لم يوجد، وإنما المدار في إفادة التخصيص مشروطة عنده بشرطين:

الأول: أنه يجوز تقدير كون المسند إليه في الأصل مؤخرًا على أنه فاعل معنى فقط لا لفظًا ومعنًى؛ ذلك أنه عند التأخير يعرب توكيدًا للفاعل الاصطلاحي؛ أو بدلًا منه، نحو: أنا قمت، فإنه يجوز أن يكون أصله: قمت أنا، فيكون أنا توكيدًا أو بدلًا من الضمير في قمت الذي هو الفاعل، والتوكيد والبدل كلاهما فاعل في المعنى إذا كان المبدل فاعلًا اصطلاحيًّا كما هنا. الشرط الثاني: أن يقدر كونه كذلك؛ أي: أن يعتبر المتكلم المسند إليه مؤخرًا على أنه فاعل في المعنى قبل النطق به، ثم يقدمه عند التلفظ قاصدًا التخصيص، وعند انتفاء الشرط الأول بأن كان المسند إليه اسمًا ظاهرًا كقولنا: محمد قام لا يفيد التقديم إلا تقوية الحكم؛ لأننا لو قدرنا أن لفظ محمد مؤخر في الأصل، وأن الكلام قام محمد لكان فاعلًا في اللفظ والمعنى لا في المعنى فقط كما يريد السكاكي، والأمر كذلك حين ينتفي الشرط الثاني بأن قدر الكلام في مثل: أنا قمت، على الابتداء من أول الأمر بدون تقدير تقديم أو تأخير؛ فإن التقديم حينئذٍ لا يفيد إلا التقوي، ومثل ذلك: ما أنا قمت وما زيد قام، وقياسًا على الاسم المعرفة المظهر بحيث انتفاء الشرط الأول فيه يكون حال المسند إليه النكرة في نحو: رجل جاءني، أنه لا يفيد التخصيص؛ إذ لا يجوز تقدير كونه في الأصل مؤخرًا على أنه فاعل في المعنى؛ لأنك إذا قلت: جاءني رجل، فهو فاعل لفظًا ومعنًى مثل: قام محمد، فيجب ألا يفيد إلا التقوي. لكن السكاكي استثنى مثل هذا التركيب فجعله مفيدًا للتخصيص قطعًا، واعتبر وجود شرطي التخصيص فيه وقدر جوازًا أن أصل: رجل جاءني، جاءني رجل، على أن يكون رجل بدلًا من الضمير المستتر في الفعل؛ ليكون فاعلًا في

المعنى على هذا التقدير، ثم قدر تقديمه لإفادة التخصيص، أو يلزم على هذا الغرض عَوْد الضمير على متأخر لفظًا ورتبةً؛ لأن هذا مغتفر في البدل كقولهم: ظرف خالدًا، ولا غرابةَ فيما ذهب إليه السكاكي من هذا الإعراب؛ فقد نَحَا بعض العلماء هذا النحو في قول الله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُو} (االأنبياء: 3) وأعربوا: {الَّذِينَ ظَلَمُو} بدلًا من واو الجماعة، وقد ارتكب السكاكي هذا الوجه البعيد من الإعراب فيما يكون فيه المسند إليه نكرة لا مسوغ لها؛ ليتوسل به إلى ذلك المسوغ، وهو التخصيص، ولولا ارتكابه لهذا الوجه؛ ل انتفى التخصيص وبقيت الكرة بلا مسوغ، وهو مضطر إلى اعتبار التخصيص في النكرة لأجل صحة الابتداء به، ولا يتأتى ذلك إلا من هذا الطريق، وهو تقدير كون المسند إليه مؤخرًا في الأصل على أنه فاعل معنًى فقط؛ ولذلك لم يلجأ إلى هذا التخريج البعيد في المعرف؛ ل صحة وقوعه مبتدأً بلا حاجة إلى مسوغ، فلا شيوع فيه حتى يحتاج إلى تخصيص. خلاصة مذهب السكاكي: بتطبيق ما اشترطه لإفادة تقديم المسند إليه على خبر الفعل ل لتخصيص، وما استثناه من هذا الشرط يتبين لنا أن المسند إليه إذا كان نكرة لا مسوغَ للابتداء بها تعين الكلام للتخصيص، وإذا كان معرفةً اسمًا ظاهرًا تعين الكلام للتقوي، وإن كان المسند إليه ضميرًا كان الكلام محتملًا للتخصيص والتقوي، ولا فرقَ في ذلك كله بين أن يكون الكلام مثبتًا أو منفيًا تقدم النفي على المسند إليه أو تأخر. هذا ملخص مذهب السكاكي الذي يفترض فيمن يريد الكلام بنحو هذا الأسلوب أن يقف قبل النطق مستحضِرًا ما يريد صياغته مقدرًا ما يريد أن ينطق

به مقدمًا، وهذه افتراضات مستبعدة؛ لأن أحوال الصياغة وما فيها من دقائق عجيبة وخفية ما هي إلا استجابات تلقائية لخواطر المتكلم ومقاصده، فصنيع السكاكي بما اشترطه يتنافَى مع فكرة اللغة العربية ويثري أدائها لمعانيها. كذا ذكره الشيخ أبو موسى في (خصائص التراكيب). ويبقى بعد ذلك القول: بأن أصل المسألة التي دار حولها كلام عبد القاهر والسكاكي - رحمهما الله - تتمثل في تقديم المسند إليه على خبره الفعلي، ولك أن تسأ ل قائلًا: ألا يأخذ الاسم المشتق حكم الفعل باعتباره متحملًا للضمير مثله؟ الجواب: أنه إذا كان الخبر عن المسند إليه اسمًا مشتقًّا مثل: محمد كاتب، فهناك من البلاغيين من أعطاه حكم الفعل فيما سبق من أحكام، وهناك من قصر الأحكام السابقة على الفعل دون الاسم المشتق، والحق أن الفيصل هو السياق، فتارةً يقتضي هذا السياق معاملة الاسم المشتق معاملة الفعل فيفيد الإخبار به عن المسند إليه التخصيص أو التقوي، وتارةً لا يفيد، ومن البين في إفادة الخبر المشتق للاختصاص قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَا قَوْم أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} (هود: 91، 92) وقوله سبحانه حكايةً عن قوم شعيب: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} مفيد التخصيص، وهو قصر نفي العزة عن شعيب وإثباتها لرهطه، كأنهم قالوا: العزيز علينا يا شعيب رهطك لا أنت؛ لكونهم من أهل ديننا؛ ولذلك قال - عليه السلام - في جوابهم: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} أي: من نبي الله.

تقديم المسند إليه لإفادة العموم: إذا كان المسند إليه من ألفاظ العموم كلفظي كل وجميع، فتقديمه على النفي لدى البلاغيين يفيد عموم السلب، ويريدون بعموم السلب شمول النفي لكل فرد من أفراد المسند إليه، ويتحقق ذلك بأن يتقدم لفظ العموم على أداة النفي لفظًا ورتبةً مثل قولك: كل طالب لم يرسب، فأداة العموم في المثال المذكور تقدمت على النفي لفظًا وهو ظاهر، ورتبةً لأنها وقعت مبتدأ والجملة المنفية بعدها خبر عنه ومرتبة المبتدأ التقدم على الخبر، فالتركيب حينئذٍ مفيد للعموم. إن الرسوب في المثال المذكور منفي عن جميع الطلاب بغير استثناء، يؤيد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم-: ((كل ذلك لم يكن)) جوابًا عن سؤال ذي اليدين وهو صحابي لُقب بذلك لطولٍ كان في يديه: "أقصرت الصلاة أم نسيتَ يا رسول الله؟ ". ومعنى القول الكريم لم يقع واحد من القصر والنسيان، فالنفي شمل الأمرين جميعًا. ومما يدل على أن المعنى هكذا ما روي أن ذا اليدين لما سمع إجابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "بل بعض ذلك قد كان "، ومعلوم أن الثبوت للبعض ينافي النفي عن كل فرض فإذا قال ذو اليدين للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "بل بعض ذلك قد كان" يكون قوله هذا لعلمه أن مراد النبي الكريم نفي كل واحد من الأمرين، ولو لم يكن مراده ذلك ما صح قول ذي اليدين ردًّا عليه. ومما يدل على أن النفي للأمرين جميعًا ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من طريق آخر أنه قال مجيبًا ذا اليدين: ((لم أنسَ ولم تَقْصُر)) فهذا الخبر إن صح نص صريح في نفي الأمرين جميعًا.

ومن شواهد عموم النفي أو عموم السلب قول أبي النجم: قد أصبحت أم الخيار تدعي ... عليَّ ذنبًا كله لم أصنع برفع كله على أنه مبتدأ خبرُه الجملة لم أصنع، وتقدم المسند إليه وهو من ألفاظ العموم على النفي؛ ليكون المعنى أنه لم يأتِ بشيء مما ادَّعت عليه هذه المرأة فهي من ثم متجنية، وهذا ما يقتضيه عموم السلب، وعلة إفادة عموم السلب أو شمول النفي عند تقدم أداة العموم لفظًا ورتبةً على النفي أنك إذا بدأتَ بأداة العموم كنت قد بنيت النفي عليها، وسلطت الكلية عليه وأعملتها فيه؛ وذلك يقتضي ألا يشذ عن النفي شيء؛ وهكذا يقدَّم المسند إليه لقصد إفادة النفي الشامل لجميع أفراده إذا كان من ألفاظ العموم مثل كل وجميع، وكان مصحوبًا بأداة نفي. أما إذا تأخر المسند إليه على أداة النفي بأن وقعت أداة العموم في حيز النفي؛ أي: وقعت بعد النفي لفظًا ورتبةً أو رتبةً فقط لم يكن النفي عامًّا شاملًا، بل يفيد الكلام حينئذ ثبوت الحكم لبعض الأفراد دون بعض، كما يجوز أن يفيد النفي عن جميع الأفراد كالحالة الأولى، والمقام يضيء لنا في ذلك الكلام. هذا ما يراه بدر الدين بن مالك. أما الشيخ عبد القاهر فيرى أن النفي في هذه الحالة لا يكون إلا لبعض الأفراد دون بعض، وليس شاملًا لجميع الأفراد كالحالة الأولى؛ فلا فرقَ في ذلك بين أن تكون أداة العموم معمولة لأداء النفي أولًا، ولا بين أن تكون معمولة للفعل المنفي أولًا، ولا بين أن يكون الخبر فعلا أولًا؛ فالمدار في إفادة عموم شمول النفي على أن تقع أداة العموم بعد النفي لفظًا ورتبةً، مثل قول أبي الطيب المتنبي: ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن

وقول أبي العتاهية: ما كل رأي الفتى يدعو إلى رشد ... إذا بدا لك رأي مشكل فقف يريد الشاعر أن يقول: ليس كل ذي رأي على حق فقد يصيب وقد يخطئ، فإذا ما أشكل عليك رأي فتريثْ في الأمر حتى تستشيرَ فيه، فرأيان خير من رأي، ونحو قولك: ما نجح الطلاب كلهم، وما نجح كل الطلاب، ومثل قولك: لم أطالع الصفحات كلها، ولم أطالع كل الصفحات؛ ففي كل هذه الأمثلة وقعت أداة العموم بعد أداة النفي لفظًا ورتبة ً، غير أنها في المثال الأول والثاني -يعني: بيتي المتنبي وأبي العتاهية- معمولة للنفي إذا جعلنا "ما" حجازية وللابتداء إن جعلت تميمية، وهي في المثال الثالث والرابع والخامس والسادس معمولة للفعل المنفي كما تراه واضحًا. وإذا وقعت أداة العموم بعد النفي رتبةً فقط مثل قولهم: كل الصفحات لم أطالع، والصفحات كلها لم أطالع؛ بنصب كل فيهما باعتبارها معمولًا للفعل المعمول متأخرًا في الرتبة عن عامله؛ فإن النفي هنا يتوجه إلى الشمول خاصة ً، وهو ما يسمى بسلب العموم. كما يفيد الكلام ثبوت الحكم لبعض ما أضيف إليه كل إن كانت كل فاعلًا لفظًا ومعنًى، مثل: ما نجح كل الطلاب، أو فاعلًا معنى فقط بأن كان التوكيد للفاعل مثل: ما نجح كلهم، أو أفاد تعلقه بهذا البعض إن كانت كل معمولًا في المعنى واللفظ مثل: لم أطالع كل الصفحات، أو معمولًا في المعنى فقط مثل: لم أطالع الصفحات كلها، وعلة إفادة سلب العموم؛ أي: عدم الشمول عند تقدم النفي على أداة العموم أنك إذا بدأتَ بالنفي كنت قد بنيت الكلية عليه، وسلطت النفي عليها وأعملته فيها؛ وذلك يقتضي أن يخرج البعض عن الحكم.

وهكذا نجد عموم النفي عند تقدم أداة العموم متفق عليه، أما نفي العموم -أي: توجه النفي للشمول وثبوت الحكم للبعض عند وقوع أداة العموم في حيز النفي- فمختلف فيه بين بدر الدين بن مالك الذي يرى أن الحكم ليس على إطلاقه، فهذه الإفادة ليست قطعية بل احتمالية، وبين عبد القاهر الذي يرى أن نفي العموم أمر قطعي كعموم النفي. والحق أن الصواب فيما عليه ابن مالك؛ لوجود أساليب كثيرة وقعت فيها أداة العموم بعد النفي لفظًا ورتبةً، ومع ذلك أفادت عموم السلب لا سلب العموم كما قرر عبد القاهر. ومن هذه الأساليب التي اعترض بها البلاغيون على عبد القاهر قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد: 23) وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (البقرة: 276) وقوله -عز وجل-: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} (القلم: 10) إذ ليس معقولًا أن يحظى بهذا الحب أو بهذه الإطاعة بعض هؤلاء، وإنما الكل في غضب الله عليهم سواء، وقد أجيب عن هذا: بأن عبد القاهر كلامه مبني على أصل الوضع، وإفادة هذه الأبيات لعموم السلب، ونفي الحكم عن كل فرد ليس من أصل الوضع، بل من قرائن خارجية هي تحريم الاختيال والكفر وإطاعة الحلَّاف المهين؛ وإذن فالآيات المذكورة مصروفةٌ عن ظاهرها بهذه القرائن الخارجية، وإلا فإن التركيب في ذاته بغض النظر عن القرائن لا يفيد العمومَ اطرادًا للقاعدة. والأفضل من ذلك أن نقول: إ ن القاعدة البلاغية ينبغي أن تبنى على الأغلب والأكثر، وألا تبنى على التعميم والإطلاق، وعبد القاهر عندما تحدث عن ألفاظ العموم وتقديمها على النفي، إنما

بنَى أحكامه المذكورة التي تحدثنا عنها على القطع والإطلاق مما جعل البلاغيين يستدركون عليه ذلك، وينبهون إلى أن تلك الأحكام ينبغي أن تكون أكثريةً لا قطعية ً، انظر إلى قول عبد القاهر: إنا إذا تأملنا وجدنا إعمال الفعل في كل والفعل منفي لا يصلح أن يكون إلا حيث يراد أن بعضًا كان وبعضًا لم يكن. هذا في (الدلائل). تجده قد وضع القاعدة وضعًا قاطعًا دون أن يحتاط؛ ولذا استدرك عليه العلامة سعد الدين في (المطول) قائلًا: وفيه نظر؛ لأنا نجده حيث لا يصلح أن يتعلق الفعل ببعض كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} وقوله: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} فالحق أن هذا الحكم أكثري لا كلي. فسعد الدين قد جعل القاعدة غالبةً لا لازمةً؛ لأن الآيات الكريمة التي ذكرها ومِثلها كثير في النظم الكريم تقدم فيها النفي على كل؛ وهذا يعني لو سلمت القاعدة أن الله -جل وعلا- لا يكره كل مختال وكل كفار، وإنما يكره البعض دون البعض، والنبي - عليه السلام - ليس منهيًّا عن طاعة كل حلاف، بل منهي عن طاعة البعض دون البعض الآخر، وهو ما لا يكون. انتهى من (خصائص التراكيب). أريد أن أقول: إن القاعدة البلاغية ينبغي أن تكون أغلبيةً أكثريةً ولا تبنَى على القطع والإطلاق؛ إذ ربما يأتي في الكلام البليغ والتعبيرات الجيدة ما يخالفها مما يكون قد خفي على واضع القاعدة، وإنما أطلنا الكلام عن تقديم المسند إليه؛ لأن الكلام فيه يغني عن الكلام عن تأخير المسند؛ ذلك أن أغراض تأخير المسند هي عينُها أغراض تقديم المسند إليه. والله تعالى أعلى وأعلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 12 أحوال المسند.

الدرس: 12 أحوال المسند.

أغراض حذف المسند وذكره

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (أحوال المسند) أغراض حذف المسند وذكره الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه؛ وبعد: فعلى إثر فراغنا من الحديث عن أحوال المسند إليه، أستعرض في عجالة أهم ما يعتري أحوال المسند الذي يعني الخبر في الجملة الاسمية والفعل في الجملة الفعلية. ونبدأ بالحديث عن أغراض حذفه وذكره. على ما هو المتعارف، فإن المسند يحذف عند وجود القرينة الدالة على حذفه؛ ليفيد أغراضًا بلاغية متعددة. هذه الأغراض لا يمكن الإحاطة بها؛ لأنها دقائق ولطائف تكمن وراء العبارات والصيغ، ولا يدركها إلا المتأمل الواعي، والذوَّاقة الخبير بالنظم وأحواله. ونحن عندما نتحدث عن أغراض الحذف، إنما نذكر بعضًا من تلك الدقائق، وأنت عندما تتأمل النظم الجيد، والأساليب الرفيعة، لا تقف عند ذاك البعض الذي نذكره، بل عليك أن تطيل النظر والبحث والتنقيب؛ حتى تصل إلى دقائق أخرى كثيرة قد لا تحيط بها في تلك الدراسة العاجلة. ومما سبق، في باب حذف المسند إليه، فإن وراء كل حذف سواء كان المحذوف مسندًا إليه أو مسندًا أو أحد متعلقات الفعل، ثلاث مزايا بلاغية، هي: الإيجاز، والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر، وإثارة حس مخاطب، وإيقاظ مشاعره؛ كي يقف على المطوي من العبارة، ويحيط به. وبالإضافة إلى تلك المزايا التي تكمن وراء كل حذف، نجد لحذف المسند أغراضًا بلاغيةً أخرى، أهمها: ضيق المقام، كما في قول ضابئ بن الحارث البرجمي،

وكان الخليفة عثمان -رضي الله عنه- قد حبَسَه في المدينة؛ لهجائه بني نهشل، ورميه أمهم. فضاق ضابئ بسجنه، وقال معبرًا عن آلامه وواصفًا ومصورًا أحزانه: ومن يك أمسى بالمدينة رحلُه ... فإني وقيار بها لغريب رحله: يعني: منزله ومأواه، وقيار: اسم فرسه، وقوله: فإني وقيار بها لغريب، محل الشاهد هو: من عطف الجمل. كذا ذكره في (الإيضاح). فقد أراد الشاعر هنا أن يبين عما في نفسه من أن من أمسى بالمدينة مستقرًا له منزله الذي يأوي إليه، وأهله وأصحابه الذين يأنس بهم، ويسكن إليهم، طابت نفسه، وحسن حاله، ورضي بعيشته، أما أنا وقيار فإنا بها لغريبان، وأنَّى للغريب أن يسعد ويهنأ، فالشاعر حزين مكروب؛ قد ضاق صدره لغربته وحبسه، وتتجدد آلامه كلما تذكر مع الذنب الذي ارتكبه الأهل والأصحاب والمنزل الهنيء، وكلما مر بخياله الانطلاق والحرية، ولذا تراه قد طوى المسند إلى قيار في الشطر الثاني، وتقديره: فإني لغريب بها وقيار، غريب بها أيضًا، فطيه: ينبئ بالحال الكئيبة التي يعيشها، فهو -كما تراه- قد طوى جواب الشرط، وتقديره: ومَن يك أمسى بالمدينة رحله فهو مسرور طيب النفس، مستريح البال، طواه لنفس السبب، وكأن الكلمات لا تسعفه؛ كي يذكر جواب الشرط وخبر قيار، ثم كيف يذكر الجواب وهو من جنس السعادة والهناء. إن لسانه ليتوقف عاجزًا عن النطق به؛ لأن في الإفصاح عنه زيادة لآلامه وأحزانه. وتأمل؛= كيف قدم قيارًا، فقال: وإني وقيار، ولم يقل: فإني لغريب بها وقيار؛ وذلك للإشارة إلى أن قيارًا ولو لم يكن من جنس العقلاء قد بلغه هذا الكرب، واشتدت عليه تلك الغربة حتى صار مساويًا للعقلاء في التشكي منها، ومقاساة شدائدها. فتقديم قيار وإقحامه بين جزئي الجملة ينبئ بالتسوية بينهما في التحسر،

ومقاساة الألم، وينبئ بالتالي بشدة ما يلاقيه الشاعر، فلم تعد الآلام مقصورةً عليه، بل تجاوزته إلى جواده، فصار الجواد يشعر بما يشعر به ضابئ صاحبُه من ألم وضيق. ومن ذلك قول عمرو بن امرئ القيس الخزرجي يخاطب مالك بن العجلان حين رد قضاءَه في واقعة للأوس والخزرج: يا مال والسيد المعمم قد ... يبتره بعض الرأي والسرف نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف مال: منادي مرخم، والأصل: يا مالك، وترخيم المنادَى مما يبرز حالَ المتكلم، وينبئ بآلام الشاعر وأحزانه. والمعمم: الذي عممه قومه، وارتضوا حكمه ورأيه. ويبتره: يعني: يقطعه، يريد: نحن بما عندنا من الرأي راضون؛ لأن رأينا هو الصواب والحق، وأنت بما عندك من رأي راض وقد قضيت به وحكمت، على الرغم من منافاته للصواب، ومجانبته للحق، فالرأي مختلف، والحق بجانب الشاعر، والصواب في رأيه. وعلى الرغم من ذلك لم يأخذ به مالك ولم يقض لعمرو، وهذا هو ما يؤلم الشاعر ويحزنه. ومما يضاعف آلامه ويزيد أحزانه؛ أن القاضي ذو رأي وصاحب عقل راجح، أنه السيد المعمم قد عممه الجميع وارتضوا رأيه، ولكن لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة. فالسيد المعمم ذو العقل الراجح قد يبتره بعض الرأي، ويخونه التوفيق فيقضي بغير الصواب، وهذا ما قد حدث، وهذا هو الذي يؤلم عمرًا ويحزنه، ولذا تراه قد طوى المسند من الشطر الأول في البيت الثاني، فلم يقل: نحن بما عندنا راضون، بل حذف الرضا من جانبهم؛ لدلالة رضا المخاطب برأيه في الشطر الثاني عليه، حذف الرضا من جانبهم؛ لدلالة رضا المخاطب في الشطر

الثاني عليه هذا الحذف ينبئ بآلام الشاعر وضيقه، وكأنه يأبَى أن يصرح بنسبة الرضا إليهم في اللفظ؛ فهم مقتنعون بصواب رأيهم غير راضين بما حكم به مالك ذو الرأي والعقل، فحذف المسند يبرز لك حالتهم تلك. وانظر إلى قول المتنبي: قالت وقد رأت الصراري مَن به ... وتنهدت فأجبتها المتنهد يريد: لما رأت حالي وما وصلت إليه بسبب حبها، تساءلت متنهدةً: مَن فعل بك هذا؟ ومن وراء حالتك هذه؟ فأجبتها: المتنهد، أي: فعل بي ما ترين أنت، فأنت الذي أهواها. الشاعر قد حذف المسند وطواه، فلم يقل: صنع ما ترين المتنهد، بل قال: المتنهد، والمتنهد: هي السائلة، وكأن ألم العِشق قد أوصله إلى حالة لم يستطع معها أن يكمل الجواب. وكأن الشاعر أيضًا قد أراد بهذا الحذف أن يبادر بذكر المتنهد، وأن يفصح لها عن حبه؛ فهي التي بلغت به إلى تلك الحالة، وقد وجدها فرصة عندما سألته: من به؛ لكي يسارع هو بالإفصاح عن حبه، فحذف المسند يحقق تلك المسارعة. ولو ذكره فقال: فعل هذا بي المتنهد، لكان هناك تباطؤ في الإعلان عن حبه. ولا يخفَى عليك ما وراء الالتفات في البيت من دلالة المحب، وتمنعه. فهي تخاطبه ولم تقل له: مَن بك؟ بل التفتت. فقال: من به؟ دلالًا وتمنعًا. وقيل: المسند المحذوف: اسم، والمعنى: من المطالب به، فأجبتها: المتنهد، أي: المطالب به. وعندئذٍ يكون الضمير في به عائدًا إلى الاصفرار، فلا التفاتَ. وقد يفيد حذف المسند تعظيم المسند إليه، على نحو ما ترى في قول الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} (التوبة: 74). وقوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} (التوبة: 62).

فالأصل: إلا أن أغناهم الله من فضله وأغناهم رسوله، والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك. فحذف المسند في الموضعين؛ لدلالة المذكور عليه، وحذفه يفيد تعظيم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو المسند إليه، إذ جعل إرضاءه من إرضاء الله، وإغناءه من إغنائه تعالى، وهذا تعظيم ما بعده تعظيم. وتأمل؛ تقديم المسند إليه: {رَسُولُهُ}، وإيلاءه لفظ الجلالة، ففيه تنبيه ولفت إلى تعظيم رسول الله -صلوات الله عليه- ودلالة على أنه من الله بمكان. ومن البلاغيين من يرى أنه لا حذف في الآيتين مجوزًا أن تكون جملة واحدة، وتوحيد الضمير في: {مِنْ فَضْلِهِ}، و {يُرْضُوهُ}، ينبئ بأنه لا تفاوتَ بين إغناء الله وإغناء رسوله، ولا بين إرضاء الله وإرضاء رسوله؛ فهما في حكم مغن واحد ومرضٍ واحد، كما تقول: إحسان عمرو وكرمه غمرني. وتفرد الضمير جاعلًا الإحسان والكرمَ بمعنًى واحدٍ، ولا يخفى عليك ما في هذا أيضًا من تعظيم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورفعة بشأنه. كذا ذكره في (الإيضاح). ومثل هذا وعلى طريقته قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} (المائدة: 69) حيث قدم: {الصَّابِئُونَ} على خبر إن، وهو مبتدأ، أي: الصابئون كذلك؛ وذلك لأن الصابئين أشد هذه الفرق. ويُظن أنهم لا يستوون مع غيرهم، فأقحم للدلالة على التساوي كما في الشواهد التي مضت. وقد ترى سر التأثير ومرجع المزية في حذف المسند كامنًا في تكاثر المعنى؛ نظرًا لكثرة الوجوه التي تصلح لتقدير المحذوف.

ومن ذلك: قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (الأنفال: 41) وقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}: مبتدأ وخبره محذوف، والتقدير: فحق أو فواجب أو فثابت. قال الزمخشري: كأنه قيل: فلا بد من ثبات الخمس فيه لا سبيل إلى الإخلال به والتفريط فيه، من حيث إنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات. كقولك: ثابت، واجب، حق، لازم، وما أشبه ذلك، كان أقوى للإيجاب من النص على واحد. وتأمل قول الله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} (الرعد: 33) تجد أنه قد حذف المسند وتقديره: أفمن هو قائم كمَن ليس كذلك، والقائم على كل نفس هو الله -جل وعلا- فهو متولي أمر كل نفس وحافظ شأنها. ومن ليس كذلك هو المعبود بالباطل من دون الله -عز وجل-. والحذف هنا يشعر بتعظيم الله -تبارك وتعالى- وتحقير وازدراء تلك المعبودات، وينبئ بأنه لا وجه للمقارنة بين الخالق القادر القائم على كل نفس وبين تلك المعبودات. فينبغي عدم الجمع بينهما ولو في اللفظ. وكذا القول في الآيات الكريمة: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 22) والتقدير: كمن قَسَا قلبه، وكان صدره ضيقًا حرجًا. ومثله: قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الزمر: 24) أي: كمن ينعم في الجنة. وقوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} (فاطر: 8) أي: كمن لم يزين له، أو كمن هداه الله، فالحذف في الآيات يشعر بأنه لا وجه للمقارنة بين الاثنين، فهذا قد شرح الله صدره للإسلام، وذاك قد أمسى قلبه وأضحى صدره ضيقًا حرجًا، وهذا يتقي

بوجهه سوء العذاب. هذا يتقي بوجهه سوء العذاب، وذاك ينعم في الجنة، هذا قد زين له عمله السيئ فرآه حسنًا، وذاك قد هداه الله للخير والعمل الصالح. فحذف المسند كما ترى ينبئ بالتباعد بين الفريقين، ويوحي بالمسافات المتناهية بينهما، ويجعل الذهن يتشبع ويمتلئ بصورة المسند إليه فتقر في القلب، وترسخ في العقل. ولا يخفى عليك أن الحذف في الآيتين الأخيرتين قد أفاد تعظيم المسند المحذوف ورفعة شأنه، كما أفاد تحقير المسند إليه المذكور وانحطاطه، وذلك عكس ما أبصرت في الآيتين السابقتين، إذا أفاد الحذف فيهما تعظيم المسند إليه المذكور وعلو منزلته، وتحقير المسند المحذوف وانحطاطه، وازدياد وازدراء النفوس له. وقد يحذف المسند اتباعًا للاستعمال الوارد عن العرب كقولك: خرجت فإذا زيد، لولا زيد لهلك الناس، لعمرك لأفعلن، كل رجل وضيعته، والتقدير: فإذا زيد حاضر، لولا زيد موجود، لعمرك يميني كل رجل مقترنان، وقد ذكر النحاة أن الأساليب العربية جرت على إسقاط المسند في هذه المواضع، وهي: إذا الفجائية، ولولا، والقسم الصريح، وواو المصاحبة، وكذا مع الحال الممتنع كونها خبرًا، نحو: ضربه زيدًا قائمًا. أي: ضربه زيدًا حاصل إذا كان قائمًا. وذكر سيبويه أن الحروف الخمسة التي تعمل فيما بعدها عمل الأفعال، وهي: إن، ولكن، وليت، ولعل، وكأن، يحسن السكوت عليها، مع إضمار خبرها. من ذلك: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للمهاجرين، وقد شكروا عنده الأنصار: ((أليس قد عرفتم أن ذلك لهم؟ قالوا: بلى. قال -عليه الصلاة والسلام-: فإن ذلك))، يريد: فإن ذلك مكافأة لهم.

وقول عمر بن عبد العزيز لرجل من قريش جاء يكلمه في حاجة له، فجعل يمت بقرابته، فقال له عمر: فإن ذلك، أي: فإن ذلك لك، ثم ذكر الرجل حاجته، فقال عمر: لعل ذلك، أي: لعل ذلك ييسر لك ويقضى، وتقول لمن قال لك: هل لك أحد ينصرك، إن الناس إلب عليك، تقول: إنْ زيدًا، وإنْ عمرًا، وإنْ ولدًا، وإنْ مالًا. وعليه قول الأعشى: إن محلًّا وإن مرتحلًا ... وإن في السفر إذا مضوا مهلًا يريد: إن لنا محلًّا في الدنيا، وإن لنا مرتحلًا عنها إلى الآخرة. ومحِلًّا ومرتحلًا: مصدران ميميان بمعنى الحلول والارتحال. والسفر: اسم جمع بمعنى: المسافرين. والمراد بهم في البيت: الموتى. والمهل: مصدر بمعنى: الإمهال وطول الغيبة، والمعنى: إن في غيبة الموتى طولًا وبعدًا؛ لأنهم مضوا مضيًا لا رجوع معه إلى الدنيا. ومنه قول الآخر: ليت أيام الصبا رواجعًا، يريد: ليت أيام الصبا لنا رواجعا، أو أقبلت رواجعا. وتقول لمن قال لك: هل أحد يشبه عمرَ في عدله؟: كأن فلانًا. ولمن قال لك: الخسارة فادحة، والخطب جلل، الناس جميعًا ضدك، لكنْ مالًا، ولكنْ ولدًا، يريد: كأن فلانًا يشبهه، لكنّ لي مالًا ولي ولدًا. والعفو في هذا الموضع أفاد الإيجاز ونقاء الجمل وترويقها. أو كما قال البلاغيون: الاحتراز عن العبث. فالذي حذف قد وجدت القرينة الدالة عليه، والمقام مقام إيجاز، ولمح. وذكر ما قد دل الدليل عليه في مثل هذا المقام يعد عبثًا. تأمل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: ((فإن ذلك))، قول عمر: لعل ذلك. فستدرك قوة لمح المتكلم، وحسن اقتداره على تصفية العبارة وترويقها من زوائد لا يستدعيها المقام. تأمل قولك: ضربي زيدًا قائمًا. ووازن بينه وبين قولك: ضربي زيدًا

حاصل إذا كان قائمًا. فستجد أن المحذوف أكثر من المذكور، وعلى الرغم من ذلك، فقد ازداد المثال جمالًا؛ بسبب الحذف، وبَدَا موجزًا أنيقًا. وأراك تشعر بما وراء قول القائل: إنَّ مالًا وإن إبلًا ولكن ولدًا. من اعتداد واعتزاز وقوة لا تكون لو قدر المحذوف فقيل: إن لنا مالًا ولكن لنا ولدًا؛ لأن استرخاء العبارة عندئذ يوحي بفتور الشعور، وضعف المعنى. وتأمل بيت الأعشى الذي سبق ذكره: إن محلًّا وإن مرتحلًا ... وإن في السفر إذا مضوا مهلًا تجد أن الشاعر يصف سرعة الخاطفة في الحلول والارتحال، وكأن هذه السرعة التي يحسها بزوال الدنيا قد انعكست على عبارته، فطوى فيها كثيرا من الكلمات؛ لأن سياق المعنى في البيت طي وإضمار واختصار، حلول يخطفه الارتحال، وارتحال دائم وسفر لا أوبة له، كذا في (خصائص التراكيب)، وقد يفيد حذف المسند التأكيد والاختصاص، كما في قول الله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} (الإسراء: 100). فالتقدير: لو تملكون تملكون، فأضمر المسند تملك الأول إضمارًا على شريطة التفسير، ولما أضمر الفعل انفصل الضمير أنتم، فأنتم: فاعل الفعل المضمر، و {تَمْلِكُونَ}: تفسيره. ودليل الحذف: لو؛ لأن "لو" لا تدخل إلا على الأفعال. قال الزمخشري في (الكشاف): وهذا هو الوجه الذي يقتضيه علم الإعراب. فأما ما يقتضيه علم البيان فهو أن: {أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ}، فيه دلالة على الاختصاص، وأن الناس هم المختصون بالشح المتبالغ. ونحوه: قول حاتم: لو ذات سوار لطمتني، قالها عندما لطمته أَمة قد جاءته ببعير؛ ليفصده فنحره. ويعني بذات السوار: الحرة من النساء.

ونحوه كذلك: قول المتلمس: ولو غير إخواني أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما العرانين: مفردها: عرنين، وهو الأنف كله، أو ما صلب منه. والميسم: العلامة أو السمة؛ وذلك لأن الفعل الأول لما أسقط لأجل المفسر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر. كذا في (الكشاف). ومن هنا، أفاد حذف المسند في الشواهد المذكورة الاختصاص والتوكيد. وقد اعتُرض على الزمخشري: بأن الاختصاص إنما يكون في الجملة الاسمية التي يقدم فيها المسند إليه على الخبر الفعلي، كما عرفنا. تقول: محمد يفعل كذا، قوله -عز وجل-: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} (نوح: 17) والشواهد المذكورة ليست كذلك؛ لأنها جمل فعلية. ويدفع هذا الاعتراض أمران: أولهما: أنه لما أسقط الفعل برز الكلام في صورة الجملة الاسمية المبتدأ والخبر. كما ذكره الزمخشري. ثانيهما: أن الاختصاص قد عُلق بلون، وهو حرف امتناع لامتناع كما هو معلوم. أيضًا، من أحسن مواقع حذف المسند: ما ترى الجملة فيه قد بنيت على كلمة واحدة، كما في قول الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} (سبأ: 51) أي: فلا فوتَ لهم. فحذف المسند وبقيت كلمة واحدة: {فَلَا فَوْتَ}. وهذه الكلمة تراها كالطود الشامخ، والحادث المنيع الذي

قضى على كل أمل لهم في الفوت والتفلت. ولا يخفى عليك ما في حذف جواب الشرط، وبناء الفعل: أخذوا للمجهول من إفادة التهويل والتفظيع. ومن ذلك: قول الله تعالى: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} (الشعراء: 49، 50) حيث أجاب السحرة وعيد فرعون وتهديده لهم بكلمة واحدة: {لَا ضَيْرَ}. أي: لا ضير علينا فيما تصنعه بنا: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ}. وهذا ينبئ بقوة الإيمان، وصدق اليقين إذا أجابوا توعده بكلمة واحدة، وكانت كالسهم النافذ الذي بدد كل وعيد وشتت كل تهديد. وقد يأتي الكلام على الحذف، ثم تراه يحتمل أن يكون المحذوف هو المسند أو المسند إليه، على نحو ما ترى في قول الله تعالى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: 18) ففي هذه الآية الكريمة يحتمل أن يكون المحذوف المسند إليه، وتقديره: فصبري صبر جميل أو فشأني وأمري صبر جميل. ويحتمل أن يكون المحذوف المسند، وتقديره: فصبر جميل أولَى بي، أو فصبر جميل أجمل. والصبر الجميل: هو الذي لا شكوى معه. وغير الجميل ما كان معه شكاية، ولكنه خير من عدمه. فيصح تفضيل الصبر الجميل عليه. والأرجح، أن يكون المحذوف هو المسند إليه، إذ الآية الكريمة مسوقة لمدح يعقوب -عليه السلام- وحين يكون المحذوف والمسند إليه يكون الكلام دالًّا على حصول الصبر له. إذ التقدير: فأمري أو فصبري صبر جميل. أو على جعل المحذوف هو المسند، فليس في الكلام ما يدل دلالةً مباشرةً على حصول الصبر ليعقوب -عليه السلام- إذ تقديره: فصبر جميل بي أو فصبر جميل أجمل.

كذا ذكره سعد التفتازاني في (المطول). ومن ذلك: قول الله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} (النور: 1) ويحتمل أن يكون المراد: هذه سورة أنزلناها. فيكون المحذوف هو المسند إليه، ويحتمل أن يكون: فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها. فيكون المحذوف هو المسند. وكذا قوله -جل وعلا-: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} (النور: 53). هذه الآية نزلت في شأن المنافقين الذين ذهبوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرهم أن يخرجوا من أموالهم لخرجوا. فنزلت هذه الآية الكريمة: {قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ}. وهي تحتمل حذف المسند إليه، فيكون المعنى: أمركم أو الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب، كطاعة الخلص من المؤمنين الذين طابق باطن أمرهم ظاهره، لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها، أو طاعتكم طاعة معروفة، أي: بأنها بالقول دون الفعل. وتحتمل حذف المسند، فيكون المعنى: طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة. وما من ريب في أن الكلام إذا احتمل حذف المسند أو المسند إليه يكون أوفر معنًى، وأغزر دلالةً؛ لأنه يحتمل وجهين. ووفرة التأويلات من فضائل الكلام الجيد. على حد ما ذكر الدكتور أبو موسى في (خصائص التراكيب). هذا، وتقدير المحذوف أو القول بالحذف يحتاج من الدارس إلى تأمل دقيق ونظر واع؛ حتى لا يتناقض مع صحة المعنى واستقامته، انظر مثلًا إلى قول الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ} (النساء: 171) فالمراد: النهي عن التثليث. أي: لا تقولوا بالتثليث، انتهوا عنه يكن خير لكم؛ فالله واحد لا شريك له. الآية الكريمة فيها حذف، ويحتمل أن يكون المحذوف

المسند، والتقدير: لنا آلهة ثلاثة، أو في الوجود آلهة ثلاثة. فحذف المسند: لنا أو في الوجود، ثم حذف الموصوف: آلهة. فصارت الآية: {لَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ}. أو التقدير: لا تقولوا لنا، أو في الوجود ثلاثة آلهة. فحذف الخبر ثم التمييز المضاف إليه فصارت الآية: {لَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ}. ويحتمل أن يكون المحذوف المسند إليه، وتقديره: ولا تقولوا الله، والمسيح، وأمه ثلاثة. أي: لا تعبدوهما كما تعبدون الله، ولا تسووا بينهم في الرتبة والصفة. كقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (المائدة: 73). وذلك أنهم إذا أرادوا التسوية بين اثنين، قالوا: هما اثنان. . وإذا أرادوا إلحاق واحد باثنين، قالوا: هم ثلاثة. ولا يصح أن يكون التقدير: ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة؛ لأن في هذا التقدير تقرير لثبوت آلهة، إذ النفي إذا سلط على جملة لا يتوجه إلى أحد طرفيها وإنما يتوجه للحكم المستفاد من الطرفين. فإن قلتَ: ليس أمراؤنا ثلاثة. فإنك تثبت بهذا القول أن لكم أمراء وتنفي أن يكون عددهم ثلاثة، فجائز أن يكون عددهم أقل من ثلاثة أو أكثر؛ ولذا فإن التقدير: لا تقولوا آلهتنا ثلاثة. فيه إثبات أن عدد الآلهة اثنان أو أكثر من ثلاثة، وهذا إشراك -والعياذ بالله-. قوله الله -عز وجل- بعده: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يناقضه. وتأمل معي، قول الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة: 30) في قراءة من حذف التنوين، تنوين عزير. فلا يجوز أن يقدر مسند محذوف، وأن تعرب: {عُزَيْرٌ}: مبتدأ، و {ابْنُ}: صفته. ويكون التقدير: عزير بن الله معبودنا. هذا خطأ وإشراك؛ لأن فيه إثبات وتقرير الصفة للموصوف، أي: صفة ابن الله ثابتة لعزير. ولا يخفى عليك ما في هذا من فساد. والصواب: أنه لا حذف في الآية، وأن:

{عُزَيْرٌ}: مبتدأ، وخبره: {ابْنُ اللَّهِ}، وأن التنوين، تنوين عزير مراد لذاته، وقد حذف لالتقاء الساكنين أو أنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، كآزر. كذا ذكره الخطيب القزويني في (الإيضاح). وقد يحذف كل من المسند والمسند إليه، كما في قولهم: أهلك والليل. يريدون: الحق أهلك وبادر الليل؛ حتى لا يحول بينك وبينهم. فالمقام يقتضي السرعة الخاطفة؛ ولذا حسن حذف المسند والمسند إليه. ومن لطيف ذلك قول الله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} (النحل: 30) أي: أنزل ربنا خيرًا. فحذف الفعل والفاعل، وحذفهما ينبئ بسرعة استجابة هؤلاء المتقين وقوة إيمانهم وامتثالهم لأمر ربهم. وفرق بين إجابة المتقين في هذه الآية، وإجابة الكفرة في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (النحل: 24) أي: ذلك أساطير الأولين. يقول الزمخشري في (الكشاف): فإن قلت: لم نصب هذا ورفع الأول؟ قلت: فصلًا بين جواب المقر، وجواب الجاحد. يعني: أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بينًا مكشوفًا مفعولًا للإنزال. فقالوا: {خَيْرًا}. أي: أنزل ربنا خيرًا. وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال، فقالوا: هو أساطير الأولين. وليس من الإنزال في شيء. ومثله: قوله -عز وجل-: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (سبأ: 23) أي: قال ربنا الحق. فحذف المسند والمسند إليه وهو الفعل والفاعل؛ إسراعًا إلى الإفصاح عن الجواب، إذ المقام مقام إيجاز، يتطلب أن تكون الإجابة إشارة أو لمحًا. كيف لا؟! وقد فزع عن قلوبهم من الكلمة الواحدة بل الإشارة في مثل هذا المقام تغني عن الكلمات الكثيرة. وتأمل قول الله

تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} (الشمس: 11: 13) أي: ذروا ناقة الله واحذروا سقياها. تجد أن الحذف هنا ينبئ بلهفة صالح -عليه السلام- وشدة حرصه على هداية قومه ونجاتهم؛ ولذا صاح بهم محذرًا: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}. وانظر إلى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لجابر: ((ما تزوجتَ؟ فقال: ثيبًا. فقال -صلى الله عليه وسلم-: فهلَّا جارية تلاعبها وتلاعبك؟)). أراد -عليه السلام-: فهلَّا تزوجت جارية. فحذف الفعل والفاعل؛ لدلالة الكلام عليهما. وفي هذا الحذف تنقية للعبارة وتصفية لها مما أقيم عليه الدليل؛ حتى لا يكون ذكرُه عبثًا وفضولًا. وقد يحذف المسند والمسند إليه ويقام المصدر مقامَهما، كما في قول الله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (محمد: 4) أي: فاضربوا رقابهم ضربًا. فحذف الفعل وفاعله، وهذا الحذف يلائم السياق؛ إذ الضرب المأمور به هو الضرب السريع الخاطف فور اللقاء. وتأمل هذه الفاءات: {فَإِذا لَقِيتُمُ}، {فَضَرْبَ}، {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا} (محمد: 4) وما تقتضيه من التعقيب والسرعة الخاطفة. ومن حذف المسند والمسند إليه: حذف القول وفاعله، وهو كثير في كتاب الله تعالى. من ذلك: قوله -جل وعلا-: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (الكهف:47، 48). أي: فيقال لهم: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا}. ولعلك تشعر بما وراء هذا الحذف من تأنيب وتعنيف شديد، ويساعد في إبراز هذا التعنيف الالتفات من الغيبة إلى الخطاب: {وَعُرِضُوا}، {جِئْتُمُونَا}. ومنه قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا}

قرائن حذف المسند.

(الأحقاف: 34) أي: فيقال لهم: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}. ولا يخفى عليك ما وراء الحذف هنا من سرعة إبراز السخرية والتهكم بهؤلاء الكفرة الذين لم يجدوا بُدًّا من الإذعان والإقرار بعد فوات الأوان، بلى وربنا. قرائن حذف المسند هذا، ولا بد لكل حذف -كما ذكرنا ذلك في المسند إليه فيما سبق- من وجود القرينة التي تدل على المحذوف، وترشد إليه وإلا كان الحذف عبثًا. ومن القرائن الدالة على حذف المسند: وقوع الكلام جوابًا عن سؤال محقق، كما في قول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: 25) أي: خلقهن الله. وقريب منه قوله -جل وعلا-: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (العنكبوت: 63). أو عن سؤال مقدر، كما في قول الحارث بن ضرار النهشلي يرثي أخاه يزيدًا: ليبكِ يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح الضارع: الذليل. والمختبط: الذي يأتي إليك المعروف من غير وسيلة. وتطيح: بمعنى تذهب وتهلك. والطوائح: جمع مطيحة على غير قياس. وقياسه: مطاوح أو مطيحات. يصف يزيدًا بأنه كان ملجئًا للذليل، وعونًا للمحتاج الذي أطاحت به المطيحات. فكلمة: ليبك بالبناء للمجهول، ويزيد: نائب فاعل. فلما حذف الفاعل، وأقيم المفعول به مقامه، انبعثت من الجملة سؤال، تقديره: مَن يبكيه؟ فجاء الجواب: ضارع لخصومته، وقد حذف منه الفعل؛ لدلالة السؤال المقدر عليه. والمعنى: يبكيه ضارع.

وفضل هذا التركيب، أي: البناء للمجهول: ليُبكَ يزيد ضارع، على البناء للمعلوم ليَبك يزيد ضارع، من عدة أوجه، هي: أولًا: تكرار الإسناد، حيث أسند البكاء إلى الفاعل مرتين إجمالًا، وذلك عند البناء للمجهول، ثم تفصيلًا، وذلك عند ذكر الفاعل ضالع فاعلًا للبكاء المقدر، وتكرار الإسناد أبلغ في مقام الرثاء وآكد. ثانيًا: بيان وإيضاح بعد الإبهام، والإيضاح بعد الإبهام يكون أوقع في النفس، وأوقع أثرًا. ثالثًا: وقوع يزيد فيه نائب فاعل، فيكون ركنًا أُسند فيه الفعل المبني للمجهول، وكونه ركنًا أولى من جعله فضلة للتركيب الآخر؛ إذ مدار الحديث إنما هو عنه، وعلى الرغم من هذا، فإن التركيب الآخر لا يخلو من مزية، وهي: تقديم المفعول يزيد، فقد جعل النفس تشتاق إلى معرفة الفاعل ضارع، وتتطلع إليه، فعند مجيئه يقع في النفس موقعًا حسنًا. ومن وقوع الكلام جوابًا عن سؤال المقدر: قول الله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ} (النور: 36، 37)، وقوله -عز وجل-: " كَذَلِكَ يُوحَى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (الشورى: 3) وذلك في قراءة مَن قرأ ببناء الفعل للمجهول في الآيتين. ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} (الأنعام: 100). وذلك على جعل: {لِلَّهِ} شركاء مفعولين للفعل جعل، والجن: مفعول به لفعل محذوف، دل عليه سؤال مقدر، والمعنى: مَن جعلوا لله شركاء؟ فيجاب الجن.

أسباب ذكر المسند في الكلام.

ومن ذلك أيضًا: باب نعم وبئس، على جعل المخصوص بالمدح أو بالذم مبتدأ خبره محذوف. نحو: نعم الرجل عمرو، وبئس الرجل زيد. كأنه قيل: مَن الممدوح؟ ومن المذموم؟ فأجيب: زيد المذموم وعمرو الممدوح، فكل من زيد وعمرو: مبتدأ محذوف الخبر، والقرينة: وقوع المخصوص في جواب سؤال مقدر. أسباب ذكر المسند في الكلام وننتقل للحديث عن ذكر المسند: فقد ذكر البلاغيون أن المسند يذكر في الكلام؛ لكون ذكره هو الأصل، وليس في الكلام ما يقتضي العدول عنه. وذلك كقولك ابتداء: زيد صالح. وتذكر المسند؛ لأنه ليس في الكلام ما يدعو إلى حذفه. وملاحظة مقتضَى المقام هنا هو المزية البلاغية. قالوا: ويذكر للاحتياط لضعف التعويل على القرينة، أي: أن في الكلام قرينة تدل على المحذوف لو حذف، إلا أنه ليس لها من القوة والإيضاح ما يلهم السامع المعنى، ويضعه من أول الأمر بين عينيه، وذلك كقولك لِمَن سأل: من أكرم العرب وأشجعهم في الجاهلية؟ فتقول في جوابه: عنترة أشجع العرب، وحاتم أجودهم. فتذكر أشجع، وأجود؛ خشيةَ أن يلتبس على السامع، إذا قلت: عنترة وحاتم، من غير أن تعين صفة كل واحد منهم، فلا يدرَى أيهم الأشجع والأجود؟ وقد ذكر العلامة سعد الدين مثالًا لهذا الغرض، هو قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (الزخرف: 9). حيث ذكر المسند في قوله: {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}، مع دلالة السؤال عليه؛ احتياطًا لضعف التعويل على القرينة.

وقد يذكر المسند للتعريض بغباوة السامع، كقوله تعالى: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} (االأنبياء: 63). وذلك في جواب قولهم: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} (االأنبياء: 62). فلو قال: بل هذا، لكان المسند مفهومًا لدلالة السؤال الصريح عليه، إلا أنه -عليه السلام- عدَل عن الحذف؛ لأن في الحذف تعويلًا على ذكاء المخاطب، وتنويهًا بفهمه. ألا ترى أن المولى -عز وجل- إذا خاطَب العرب والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي؟ وإذا خاطب بني إسرائيل، أو حكى عنهم جعل الكلام مبسوطًا؟ ومثله: قولك: محمد نبينا. في جواب مَن قال: من نبيكم؟ فتذكر المسند، ولو حذفته لدل عليه السؤال دلالةً واضحةً، ولكنك ذكرته؛ تعريضًا بالسامع، فإنه لو كان له فهم لم يسأل عن نبينا؛ لأنه أظهر من أن يُتوهم خفاؤه، فيجاب بذكر أجزاء الجملة؛ إعلامًا بأن مثله لا يكفي معه إلا التنصيص؛ لعدم فهمه بالقرائن الواضحة. وقد يذكر ليتعين بالذكر كونه فعلًا، فيفيد التجدد والحدوث؛ لأن الفعل في أصل وضعه يدل على ذلك، أو ليتعين كونه اسمًا فيفيد الثبوت والدوام. تقول: زيد منطلق، وعمرو ينطلق. فلو حذفت المسند الثاني، وقلت: زيد منطلق وعمرو. لفهم انطلاق عمرو من الكلام الأول. ولكنك آثرت ذكر المسند؛ لتدل بصيغة الفعل على أنه يتجدد منه شيئًا فشيئًا، فهو ينطلق انطلاقًا عقب انطلاق. وتقول: زيد ينطلق وعمرو منطلق. فتذكر المسند فيهما، ولو حذفت الثاني لفهم من الكلام السابق انطلاق عمرو فقط، ولم يفهم منه الاستمرار. فأردت أن تنص على استمرار انطلاق عمرو، فذكرت المسند. قد يذكر المسند لزيادة تقرير الكلام، وتثبيت معناه وتوضيحه حين يتعلق الغرض بذلك كما سبق أن ذكرنا، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ

وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}. فإن المسند لو حذف لدل عليه السؤال، وقد جاء كذلك في آيات أخرى إلا أن المقصد من ذكره هنا زيادة تقرير خلق الله للسموات والأرض. ومثله: قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (يس: 78، 79) وقد ذكر المسند في قوله: {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا}. وفي السؤال ما يدل عليه كما ترى. والمقصود من الذكر: أن يتقرر أن الله أحياها، وفيه إشارة أخرى، وأنه لا يُسأل عن الإحياء بعد الموت أعني: عن إمكانه. سؤال مستبعد منكر إلا مَن في عقله غشاوة تحجبه عن الإدراك النافذ والرؤية الصادقة. ومثله: لا يعول في خطابه على ذكاء، وهذه إشارة تجدها أيضًا في الآية السابقة: {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}. وفي الآية لمحة ثالثة، نراها في قوله: {الَّذِي أَنْشَأَهَا} وكان يمكن أن يقال: يحييها الله، ولكن هذه الصلة تضمنت البرهان الصادق على جواب سؤالهم، وكأنه قال: يحييها الله بدليل أنه أنشأها أول مرة، وهذا أسلوب عجيب كما ترى. فقد قرر القضية بذكر المسند، وأقام بُرهانًا بذكر الموصول، فأصاب في الإفحام. وأدمج القضية ودليلها في أنفذ عبارة وأبينها، وكأنه يجمع بين الإيجاز الشديد وذكر ما يمكن حذفه. وهكذا الأساليب العالية لا تتبين فيها موضع إطناب من وجه إلا وترى إيجازًا خفيًّا من وجه آخر. وإذا تأملت قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (النحل: 90). وجدته كلامًا في غاية الحسن، وجدته أيضًا يقرر بعضُه بعضًا، ويدل بعضه على بعض. فالإحسان داخل في العدل، وإيتاء ذي القربى داخل في الإحسان، وكذلك الفحشاء داخل

في المنكر. ولو قال: إن الله يأمر بالعدل لأفاد كل هذه المعاني؛ لدخول الإحسان وإيتاء ذي القربى في العدل، ولأفاد أيضًا النهي عن الفحشاء والمنكر؛ لأن مَن يأمر بالعدل ينهى عن ضده. والفحشاء والمنكر يدخلان في هذا الضد، إلا أن الآية الكريمة نصت على كل معنى من هذه المعاني، فذكرتْ العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والنهي عن الفحشاء والمنكر، وكان لهذا التنصيص زيادة في التقرير والتثبيت، وكان الكلام كما ترى. ولهذه القيمة البلاغية، عمَد القرآن في كثير من المواطن إلى أسلوب التكرار؛ ليوثق المعاني في النفوس. فجاء المسند مكررًا في مواضع كثيرة جدًّا، من ذلك: قوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التكاثر:3، 4) يكرر هنا وعيدًا، ويؤكد ليثبت الخوف في أرجاء النفس، ويملؤها بالإشفاق والحذر؛ فتنكف عن إصرارها على العناد والكفر. من ذلك: قول الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الشرح:5، 6) كرر الوعد وأكده؛ ليرسل في النفس أطياف الأمل فتتبدد أشباح اليأس. هكذا نجد أن التكرار أشبه ما يكون بدندنة تستعذبها النفس المليئة، أو المستفزة شاجية كانت أو طروبة، وهذا يفسره من بعض جوانبه قولهم: إن باب الرثاء أولى ما تكرر فيه الكلام؛ لمكان الفجيعة وشدة القرحة التي يجدها المتفجع. وقيل لبعضهم: متى تحتاج إلى الإكثار؟ فقال: إذا عظم الخطب. ولقد كانت الخنساء تلح على مقاطع من المعنى كأنها جذور غارت في ضميرها، فتجد في هزها ما يخفف آلامها الكظيمة، خذ مثلًا: طلب البكاء من عينيها تجده يشيع في ديوانها، وهو في حقيقته مظهر استسلامها لأساها، وعجزها عن فلسفة التصبر التي كانت من الممكن أن تكفكف بعض دموعها.

تقول: أعيني جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى ألا تبكيان الجواد الجميل ... ألا تبكيان الفتى السيدا وتقول: وابكِ أخاك ولا تنسي شمائله ... وابك أخاك شجاعًا غير خوار وابك أخاك لأيتام وأرملة ... وابك أخاك لحق الضيف والجار فانظر في هذا السياق إلى كلمة: أخاك، وتأمل ما فيها من إحساس بفقد الكلأ والحماية، وتأمل ما تضمره هذه الإضافة من حنين تفجر كوامن الحزن. هكذا، نجد أن ذكر المسند في الكلام يثير في النفس الكوامن. أستودعكم الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم.

الدرس: 13 تابع: أحوال المسند - أحوال متعلقات الفعل.

الدرس: 13 تابع: أحوال المسند - أحوال متعلقات الفعل.

أغراض تنكير المسند

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (تابع: أحوال المسند - أحوال متعلقات الفعل) أغراض تنكير المسند الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: فنتعرف على أغراض تنكير المسند، وأغراض تعريفه، ثم عن سر إيراده مفردًا أو جملةً، وفعلًا أو اسمًا، ثم الغرض وراء تقييده لو كان فعلًا بإن وإذا، ثم أخيرًا عن بعض أحوال متعلقات الفعل، ونخص من ذلك: تقييده بمفعول ونحوه. من أحوال المسند: أنه يرد أحيانًا نكرة، وأحيانًا معرفة. وتنكيره أو تعريفه إنما يكون لإفادة أغراض يقصد إليها البلاغي. فمن أغراض تنكيره: عدم إيراد التخصيص أو العهد، كقولك: محمد كاتب، وعمرو شاعر. إذا أردت مجرد الإخبار عنهما بالكتابة والشعر، أما إذا أردت التخصيص، فإنك تقول: محمد الكاتب، وعمرو الشاعر. كذلك إذا أردت كاتبًا أو شاعرًا معهودًا، قلت: فلان الكاتب أو الشاعر، فتعرف المسند في الحالتين. ومنها: إرادة التفخيم والتعظيم، كما في قول الله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2). أي: هو هدى. فتنكير المسند: {هُدًى} أفاد تعظيم هداية القرآن، وتفخيمها، وأنها بلغت درجة لا يمكن إدراك كنهها، ومثله قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأنعام: 155). وقوله -عز وجل-: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} (فصلت: 44). ولا يخفى عليك ما في تنكير المسند في الآيتين من إفادة التفخيم والتعظيم، {كِتَابٌ}، {قُرْآنًا}، {هُدًى}، {شِفَاءٌ}، {وَقْرٌ}، {عَمًى}، التنكير أفاد تفخيم القرآن، وتعظيم هدايته، والتنويه بشأنه.

أغراض تعريف المسند.

ومن ذلك أيضًا: إفادة التحقير والتهوين، كما في قول الشاعر: غدرت بأمر كنت أنت دعوتنا ... إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد وقد يترك الغدر الفتى وطعامه ... إذا هو أمسى حلبة من دم الفصد فتنكير المسند: حلبة، أفاد التحقير، والمعنى: أن الوفي لا يغدر ولو أخنى عليه الدهر، وأمسى طعامه بهذه الحقارة حلبة من دم الفصد. إلى غير ذلك من تنكير المسند. أغراض تعريف المسند وكما أن تنكير المسند يكون لوجوه بلاغية يأتي لتحقيقها، فإن تعريفه يكون كذلك لأغراض شتى، منها على سبيل المثال: إرادة العهد، بمعنى: أن يكون المسند معلومًا للمخاطب معهودًا له، ولكنه لا يعلم المسند إليه، وذلك بأن يعلم مخاطبك أن انطلاقًا وقع، ولكنه لا يدري ممن. فتقول له: زيد المنطلق. فتعريف المسند هنا أفاد إرادة العهد أي: الانطلاق المعهود لدى صاحبك، فإذا كان لا يعهد انطلاقًا ولا يعلمه، قلت له: زيد منطلق. تريد مجرد إخباره بوقوع انطلاق من زيد؛ ولذا كان من الخطأ أن تقول: زيد المنطلق وعمرو؛ لأنك تتحدث عن انطلاق معروف للمخاطب ومُعين. فإذا أثبته لزيد لا يصلح لك أن تثبته ثانيةً لعمرو؛ لأن هذا تناقض. فالصواب إذن أن تقول: زيد منطلق وعمرو. أو تقول: زيد وعمرو المنطلقان. ويتضح لك هذا أكثر، عندما تقول مثلًا: امرئ القيس هو القائل: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول وحومل

إذ لا يصح أن تقول: امرئ القيس هو القائل هذا البيت، وأبو ذؤيب الهذلي مثلًا؛ لأنك إذا قلت هذا، حاولت محالًا، وقلت ما ليس بقول. ومن أغراض تعريف المسند: إفادة قصره على المسند إليه سواء عرف المسند بـ"أل" أو بالموصولية أو جاء مقيدًا. تقول مثلًا: زيد الشاعر، وعمرو الشجاع، وحاتم الجواد تريد بهذا قصر المسند على المسند إليه قصرًا ادعائيًّا؛ بهدف المبالغة في الوصف، ويكون ذلك غالبًا في مقامات المدح، والفخر، والرثاء، ونحوها. وانظر مثلًا إلى قول المتنبي: ودع كل صوت دون صوتي فإنني ... أنا الصادح المحكي والآخر الصبا أراد المبالغة في قوة شاعريته، فقصر الصياح بمعنى: إنشاد الشعر عليه قصرًا ادعائيًّا، فهو الصائح وغيره من الشعراء يرددون صوته، وينهجون نهجه. ومن الخطأ أيضًا أن تقول في مثل هذا: عمرو الشجاع وخالد. إذ كيف تخص عمرًا بالشجاعة ثم تشرك فيها غيره؟ فالصواب أن تقول: عمرو وخالد الشجاعان، أو تنكر المسند فتقول: عمرو شجاع وخالد. ومِن ذلك: قول ابن الدمينة: ونحن التاركون على سليل ... مع الطير الخوامع يعترينا الخوامع: يعني الجياع، يريد: أنهم هم الذين قتلوا سليلًا وتركوهم طعامًا للطير الخوامع، هم الذين فعلوا ذلك دون سواهم. وتأمل مع ذلك قول عمرو بن كلثوم: وقد علم القبائب من معد ... إذا قبب بأبطحها بنينا بأنا العاصمون إذا أُطعنا ... وأنا الغارمون إذا عصينا وأنا المنعمون إذا قدرنا ... وأنا المهلكون إذا أوتينا وأنا الحاكمون بما أردنا ... وأنا النازلون بحيث شينا

تجد أنه يفخر بقصر تلك الصفات عليهم قصرًا حقيقيًا ادعائيًّا، بمعنى: أنها لا تتعداهم ولا تتجاوزهم إلى غيرهم، على سبيل المبالغة والادعاء. وخذ عندك مثلًا: قول الله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} (طه:67، 68). أي: أنت الأعلى لا هُم. فتعريف المسند أفاد قصره على المسند إليه قصرا إضافيًّا. بمعنى: أنه لا يتعداه إلى هؤلاء السحرة. ومن صور وأغراض تعريف المسند: أن يعرف بالموصولية، فيفيد بالإضافة إلى قصره على المسند إليه دقائق ولطائف يدركها اللمَّاح الذواقة الخبير بالأساليب الرفيعة والتعبيرات الجيدة، انظر إلى قول المتنبي: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي مَن به صمم أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسخر الخلق جراها ويختصم تجد أن تعريف المسند بالموصولية، أفاد بالإضافة إلى قصر مدلول الصفة على المتنبي اشتهار جملة الصلة وانشغال الناس بها، هي أمر معروف بين الناس جميعًا يعرفونه ولا أحد يجهله. وتأمل الآيات الكريمة: {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (المؤمنون:78: 80). وتأمل قوله -عز وجل-: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (االأنبياء: 33). فإنك تجد المسند في الآيات الكريمة مقصور على المسند إليه قصرًا حقيقيًّا، ثم إن إيثار التعريف بالموصولية أفاد انشغال الخلق بتلك الأمور المثارة في جملة الصلة، واشتهارها بينهم وخوضهم فيها، وترددها على الأسماع. فتلك ميزة يمتاز بها التعريف بالاسم الموصول.

ومن صور وأغراض تعريف المسند: أن يقيد بقيد فيفيد تعريفه عندئذ قصره مقيدًا بذلك القيد على المسند إليه. وكأنه -أي: المسند- قد صار نوعًا خاصًّا، وجنسًا برأسه. تقول مثلًا: زيد الكريم حين يبخل الناس، وهو الوفي حين لا تظن نفس بنفس خيرًا، وهو المِقدام حين تفر الأبطال. فالمقصور ليس مطلق الكرم وإنما هو نوع خاص منه، وكذا الوفاء والشجاعة في المثالين الأخيرين. ومن ذلك قول الأعشى: هو الواهب المئة المصطفاة ... إما مخاضًا وإما عشارًا المخاض: هي الحوامل من نوق، اسم جمع، ويقال: الواحدة بنت مخاض. والعُشار: جمع عشراء، وهي من النوق، كالنفساء من النساء، أو التي مضى لحملها عشرة أشهر. فإنه قصر هبة المائة من الإبل في إحدى الحالتين مخاضًا أو عشارًا لا هبتها مطلقًا، ولا المائة المطلق؛ فالهبة مقيدة بالمائة المصطفاة، والمائة مقيدة بكونها إما مخاضًا وإما عشارًا. ومن ذلك: إفادة التقرير، وبيان أن ثبوت المسند للمسند إليه أمر مقرور بارز وظاهر ظهورًا لا يخفَى على أحد. كما في قول حسان: وإن سنام المجد من آل هاشم ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد أراد بتعريف العبد تقرير صفة العبودية لوالده، وأنها أمر مشهور وذائع لا يخفى على أحد، ولم يرد قصر العبودية على الوالد لا حقيقةً ولا ادعاءً، ومثل ذلك: قول الخنساء في رثاء صخر: إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا

لم ترد قصر صفة الحسن على بكائها صخرًا، وإنما أرادت أن تقرر لبكائه صفة الحسن، وأن تجعل حسن بكائه بينا ظاهرًا لا يجهله أحد ولا ينكره منكر. ومن صور وأغراض تعريف المسند: الإشارة إلى بلوغ المسند إليه في الاتصاف بالمسند مبلغَ الكمال، كقولك: هو البطل المحامي. تريد أن تقول للمخاطب: هل تصورت البطل المحامي؟ وكيف يكون الإنسان حين يبلغ في هذه الصفة مبلغها الأعلى؟ إذا تصورت هذا في نفسك فعليك بفلان فإنه الذي تجد فيه هذه الصفة كما تمثَّلتها وتخيلتها. وكذا تقول: والحامي لكل حمى، والمرتجَى لكل ملمة، والدافع لكل مكروه. ومن ذلك: قول ابن الرومي: هو الرجل المشروك في جل ماله ... ولكنه بالمجد والحمد مفرد يريد منك أن تسبَح بخيالك في تصور رجل لا يتميز عن طالب معروفه، فهو وهم سواء يأخذون من المال ما يشاءون، وإذا حصلت صورته في مخيلتك فاعلم أنه ذلك الرجل. ومثل ذلك قول الفرزدق في هجاء الحجاج: فلولا بنو مروان كان بن يوسف ... كما كان عبدًا من عبيد إياد زمان هو العبد المقر بزلة ... يراوح أبناء القرى ويغادي أراد بقوله: هو العبد؛ بلوغ الغاية القصوى في الاتصاف بصفة العبودية، وذُل الرق في هذا الزمان حتى خلصه بنو مروان من قيدها، فصار له شأن وكيان. ومن صور وأغراض تعريف المسند: إفادة تعظيم المسند إليه، وذلك عند إضافة المسند إلى ما يكسبه التشريف والتعظيم، ويسمو به، ويرفع شأنه. كما في قول الله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} (مريم: 30). وقوله -جل وعلا-:

{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29). فقد اكتسب المسند إليه بإضافة المسند إلى لفظ الجلالة التعظيم، وعلو منزلته ورِفعة شأنه. ولا يخفى عليك ما في تنكير: {أَشِدَّاءُ} و {رُحَمَاءُ} من تفخيم وتعظيم. وذكر البلاغيون: أن من أغراض تخصيص المسند بالوصف أو الإضافة تربية الفائدة وتكثيرها وجعلها أتم وأكمل أو بمعنى آخر: تكثير المعنى، والدلالة على غزارته؛ لأن زيادة المبنى كما قالوا تدل على كثرة المعنى. تقول مثلًا: امرؤ القيس شاعر فارس، وزهير شاعر حكمة. قد كثر المعنى في الأول بالوصف، وتمت الفائدة في الثاني بالإضافة، ومنه قول الشاعر: حمي الحديد عليهم فكأنه ... ومضان برق أو شعاع شموس وقول الآخر: وكنت امرأً لا أسمع الدهر سبة ... أسب بها إلا كشفت غطاءها فقد خصص المسند في البيت الأول بالإضافة ومضان برق أو شعاع شموس، وخصص في البيت الثاني بالوصف "امرأ لا أسمع الدهر سبة أسب بها". ومنه قول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: 40). قد خصص المسند بالإضافة في قوله: {أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} (الأحزاب: 40) لتكثير الفائدة، وعمومها. فهو -عليه السلام- ليس أبًا لأحد منهم، ثم عرف المسند بالإضافة في قوله: {رَسُولَ اللَّهِ}، و {خَاتَمَ النَّبِيِّينَ}؛ لإفادة التعظيم، وشهرة اتصافه -صلى الله عليه وسلم- بتلك الصفة.

أسرار تقديم المسند.

أسرار تقديم المسند وننتقل بعد الحديث عن أسرار تنكير وتعريف المسند إلى الحديث عن أسرار تقديمه. ذلك أن الأصل في المسند إليه إذا كان مبتدأً أن تكون رتبته التقديم، نحو: زيد قائم، وعمرو منطلق. وإذا كان فاعلًا فرتبته التأخير، أي: الوقوع بعد الفعل، وهو المسند. نحو: قام زيد، ويعطي محمد الجزيل، فإذا قدم المسند إليه على خبره الفعلي، كان ذلك لأسرار بلاغية على نحو ما عرفنا سابقًا في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي. وكذلك إذا قدم المسند على المسند إليه الذي رتبته التقديم وهو المبتدأ؛ فإن هذا التقديم يكون لأسرار ومزايا بلاغية. أهمها: إفادة القصر، أي: قصر المسند إليه على المسند المقدم. كما في قول الله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6). فالمعنى: أن دينكم الذي هو الإشراك مقصور على كونه لكم، لا يتجاوزكم إلي. وديني الذي هو التوحيد مقصور على كونه لي، لا يتجاوزني إليكم. فالمقصور عليه هو المسند المقدم، والمقصور هو المسند إليه المؤخر، وكذا القول في الآيات الكريمة: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (االأنبياء: 97). وقوله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} (الغاشية:25، 26). وقوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} (القيامة:29، 30). وقوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} (القيامة: 12). فالتقديم في هذه الآيات الكريمة أفاد قصر المسند إليه المؤخر على المسند المقدم،

ومن ذلك: قول الله تعالى في وصف خبر الجنة: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} (الصافات:45: 47). فالتقديم الجار والمجرور في قوله: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} أفاد نفي الغول عن خمر الجنة وإثباته لخمور الدنيا. أو بمعنى آخر: أفاد قصر عدم الغول على خمر الجنة، بحيث لا يتجاوزه إلى خمور الدنيا. ولو قيل: لا غول فيها؛ لأفاد ذلك مجرد نفي الغول عن خمر الجنة دون تعرض لخمور الدنيا. ولذا جاء قوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 1، 2). كذا بدون تقديم، إذ المراد: نفي الريب عن القرآن دون تعرض لغيره من الكتب السماوية. ولو قيل: لا فيه ريب؛ لأدى هذا إلى في الريب عن القرآن، وإثباته لغيره من الكتب السماوية، وهو غير مراد، ومن أقوالهم: قول أبي العلاء: تعَب كلها الحياة فما أعجب ... إلا من راغب في ازدياد فقد أفاد التقديم قصر الحياة على التعب قصرًا ادعائيًّا، أي: أن ما فيها من فترات الراحة والأنس والمسرة لا اعتداد به، ومن ذلك قول الآخر: رضينا قسمة الجبار فينا ... لنا علم وللأعداء مال وقول الآخر: وليس بمغنٍ في المودة شافع ... إذا لم يكن بين الضلوع شفيع وقول آخر: إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت ولا يخفى عليك معرفة موطن التقديم، والمقصور والمقصور عليه في هذه الأبيات، وأن الأصل في كل ما ذكرنا من أمثلة الحياة كلها تعب إلى آخر ذلك.

ومن أسرار تقديم المسند ونكاته البلاغية: التنبيه من أول الأمر على أن المسند خبر لا نعت. كما في قول حسان بن ثابت -رضي الله عنه- في مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم-: له هِمم لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر فإنه لو قال: همم له لا منتهى لكبارها؛ لتُوهم أن الجار والمجرور له نعت لا خبر؛ لأن النكرة تحتاج إلى الوصف حتى تكون مسوغًا للابتداء بها، ولتوهم أيضًا أن الخبر هو الجملة بعده، وهذا لا يتفق مع غرض المدح؛ لأن الشاعر يريد مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا مدح هممه. ومن ذلك: قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (البقرة: 36). حيث قُدِّم الجار والمجرور: {لَكُمْ} على المسند إليه: {مُسْتَقَرٌّ}؛ لدفع توهم أنه نعت وليس بخبر. ومن نكات تقديم المسند البلاغية: إفادة التشويق إلى ذكر المسند إليه. كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال))، وكقول محمد بن وهيب في مدح أبي إسحاق: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر وقول الآخر: ثلاثة يذهبن الغم والحزن ... الماء والخضرة والوجه الحسن وقول آخر: ثلاثة ليس لها إياب ... الوقت والجمال والشباب

المسند المفرد والجملة، والمسند الفعل والاسم.

وقول ابن الرومي: وكالنار الحياة فمن رماد ... أواخرها وأولها دخان فتقديم المسند في هذه الشواهد وفيما جاء على شاكلتها أفاد التشويق إلى معرفة المسند إليه، والإفصاح عنه. ولا يخفى عليك القصر في البيت الأخير، أي: قصر الحياة على كونها نارًا لا استقرارَ فيها. ويفيد تقديم المسند أيضًا إشاعة روح التفاؤل كما في قول الشاعر: سعدت بغرة وجهك الأيام ... وتزينت ببقائك الأعوام فالمسند، وهو الفعل سعدت، قد قدم ليفيد التفاؤل؛ لأنه من جنس السرور والسعادة، وكذلك تزينت، قدم على المسند إليه، والأعوام لنفس الغرض. ومن أسرار تقديم المسند: إظهار التألم والتضجر. كما في قول المتنبي: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوًا له ما من صداقته بُد إلى غير ذلك من الأغراض التي تقتضي تقديم المسند على المسند إليه. المسند المفرد والجملة، والمسند الفعل والاسم ومن المباحث التي من المهم أن نعرض لها ونحن نذكر أحوال المسند: إتيانه مفردًا أحيانًا، وجملةً أحيانًا أخرى، وإيراده فعلًا أحيانًا، واسمًا أحيانًا أخرى. فالمسند يرد مفردًا في نحو: محمد عالم، وزيد كريم. لمجرد الإخبار عن المسند إليه قد يرد جملة بها ضمير يعود إلى المبتدأ، وهذا الضمير ليس مسندًا إليه، نحو: محمد أبوه عالم، علي أجداده ملوك، وهذا المسند يسميه البلاغيون مسندًا سببيًا، أي: أن المسند إليه بسبب من المسند، ومرتبط به بروابط قوية.

وقد يرد المسند جملة بها ضمير يعود إلى المسند إليه متقدم، وهذا الضمير يكون مسندًا إليه أيضًا، نحو: محمد يعطي الجزيل، خالد يحمل السلاح، والمقام هو الذي يحدد نوع المسند الذي ينبغي على المتكلم أن يستعمله، فإذا أراد المتكلم مجرد الإخبار عن المسند إليه أورد المسند مفردًا، فيقول: محمد عالم، علي جواد. وإذا أراد وصله بآبائه، وأنه ورثه المآثر والأمجاد عنهم، أورده سببًا، فيقول: محمد أبوه كريم، وخالد آباؤه أبطال، وهكذا. وإذا أراد تقوية الحكم أورده جملة غير سببية، فيقول: محمد يعطي الجزيل، خالد يجود بماله، هم يضربون الكبش، إلى آخر ذلك. ويرد المسند فعلًا وقد يأتي اسمًا، إذ لا يخفى عليك الفرق بين الاسم والفعل، الفعل: يدل على حدث وقع في زمن، نحو: قام، ويقوم. والاسم: يدل على حدث مجرد من الزمن، نحو: قائم، وذاهب، وراكع، وساجد، كما أن الفعل المضارع يفيد: الثبوت والتجدد، والاسم يفيد: الثبوت والدوام، نحو: زيد ينطلق وزيد منطلق. فالأول: أفاد انطلاقًا يتجدد، والثاني: أفاد انطلاقًا ثابتًا. ولذا؛ فإن المتكلم عندما يورد المسند فعلًا، هو يقصد إما تقييده بأحد الأزمنة، نحو: فاز المجد، ويجاهد الجندي. فالأول: أفاد حدوث الفوز في الزمن الماضي، والثاني: أفاد حدوث الجهاد في زمن الحال، واستمرار حدوثه في الزمن المستقبل، وأما إفادة الحدوث والتجدد، فذلك إنما يكون في الفعل المضارع، فهو يفيد التجدد الاستمراري بمعونة السياق وقرائن الأحوال.

وغالبًا ما يكون ذلك في مقامات المدح والفخر، وانظر مثلًا إلى قول طريف بن تميم: أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليَّ عريفهم يتوسم العريف: هو القيم الذي يقوم بأمر القوم، يقول: إنه شجاع مِقدام، له موقف مع كل قبيلة، فالقبائل جميعها تطلبه، وكلما وردت سوق عكاظ قبيلة بعثوا عريشهم يتفرس الوجوه، ويتوسمها؛ لعله يهتدي إليه فيثأر منه، وتلاحظ أن الشاعر قد استخدم الفعل المضارع يتوسم؛ لإفادة التجدد والحدوث. فالعريف دائم المراجعة والتأمل، وإعادة النظر في وجوه القوم، يحدث منه التوسم شيئًا فشيئًا، ولو قال: بعثوا إليَّ عريفهم متوسمًا لَمَا تحققت هذه الإفادة، ولما كان هناك إشعار بحالة التجدد هذه. ومن ذلك: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (فاطر: 3). فالرزق من الله متجدد مستمر، يتجدد بتجدد العباد، لا ينقطع ولا يزول. وهذا يلائمه التعبير بالفعل: {يَرْزُقُكُمْ}، ولو قيل: هل من خالق غير الله رازقكم، لما أفيدت هذه الإفادة. ومنه: قول الله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (الرعد: 39). وقوله -عز وجل-: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} (ص: 18). فالمحو والإثبات يتجددان، وهما مستمران. وتسبيح الجبال يحدث آنًا بعد آن، ويقع حينًا بعد حين، وهذا يناسبه التعبير بالفعل الذي آثره النظم الكريم: {يَمْحُو}، {يُثْبِتُ}، {يُسَبِّحْنَ}. وعندما يورد المتكلم المسند اسمًا فإنه يقصد به إفادة الثبوت والدوام، وذلك يكون بمعرفة السياق وقرائن الأحوال. إذ الاسم يدل على الحدث مجردًا من

الزمان، والمتكلم قد يسوقه في سياق ترشد قرائنه إلى إفادة الثبوت والدوام والاستمرار، انظر مثلًا وتأمل إلى قول النضر بن جؤبة: قالت طريفة ما تبقى دراهمنا ... وما بنا سرف فيها ولا خرق إنا إذا اجتمعت يومًا دراهمنا ... ظلت إلى طرق الخيرات تستبق لا تألف الدرهم المضروب صرتنا ... لكن يمر عليها وهو منطلق والدرهم المضروب: هو المسبوك هنا تجد أن الشاعر يمدح قومه بالكرم والعطاء، فهم لا يبقون من المال بقية، وصرتهم لا تألف الدرهم، وإنما يمر عليها الدرهم منطلقًا ومندفعًا إلى الخيرات. مثل هذا المقام، يلائمه التعبير بالاسم: منطلق؛ لأنه يفيد انطلاق الدرهم انطلاقًا ثابتًا ومستمرًا، ولو قال: يمر عليها وهو ينطلق، لكان المعنى: أن انطلاقه يتجدد، وهذا يعني: أنهم يمسكونه زمنًا ما. ولا يخفى عليك عدم مناسبة ذلك لمقام المدح. والبيت يروَى برفع الدرهم وبنصب الصرة، وبنصب الدرهم، ورفع الصرة. والرواية الثانية أبلغ؛ لأنها تدل على غِناهم، وأن الدراهم تمر، والصرة لا تألفها. أما الرواية الأخرى: ففيها إيهام أنهم فقراء، وأن الصرة خالية لا يألفها الدرهم المضروب، وخذ عندك قول الله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} (الكهف: 18) إذ لا يخفى عليك ما يفيده الاسم هنا: {بَاسِطٌ} من ثبوت البسط ودوامه واستمراره، وأنه لو قيل: يبسط ذراعيه، لما أدَّى هذا الغرض. وتأمل مع ذلك قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} (الملك: 19) إنك تجد أنه لما كان الأصل في الطيران هو صف الأجنحة، فقد عبر عنه بالاسم الذي يفيد الثبوت والدوام، ولما كان القبض طارئًا على البسط فقد عبر عنه بالفعل الذي يفيد الحدوث والتجدد.

يقول الزمخشري: فإن قلت: لما قيل: {وَيَقْبِضْنَ} ولم يقل: قابضات، قلت: لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك. فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى: أنهم صافات، ويكون منهن القبض تارة، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح. وكذا ذكره صاحب الكشاف. والجملة في هذا الحكم كالمفرد، فإذا كان الاسم يفيد الثبوت والدوام في نحو قولك: زيد منطلق، وكذلك الجملة الاسمية. وإذا كان الفعل يفيد التجدد والحدوث في نحو قولك: ينطلق زيد، فكذلك الجملة الفعلية. ولكون الجملة الاسمية تفيد الثبوت والدوام كانت آكد من الجملة الفعلية، ومن أجل هذا فإنه يحسن إيثار التعبير بالجملة الاسمية في المقامات التي تتطلب التأكيد، تأمل قول الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة: 14). تجد أن المنافقين لكونهم قد أظهروا الإيمان؛ خوفًا ومداراةً للمؤمنين وليس عن يقين راسخ وثابت. وقد عبروا عنه بالجملة الفعلية: {آمَنَّا}، ولما كان الكفر ثابتًا وراسخًا في عقولهم قد خاطبوا شياطينهم بالجملة الاسمية المؤكدة: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}. وقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} (الأعراف: 193) كان الوثنيون الذين عبدوا الأصنام من عادتهم أنهم لا يدعون تلك الأصنام إذا نزلت بهم شدة، بل يدعون الله. وإذا ناسب التعبير عن صمتهم في الجملة الاسمية المفيدة للثبوت والدوام، وتأكيد الحكم، ولما كان الدعاء غير معتاد، فقد عبر عنه بالجملة الفعلية التي لا تفيد ثبوتًا. والمراد: سواء عليكم أأحدثتم الدعاء على غير عادة أم بقيتم مستمرين على عادة صمتكم.

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} (هود: 69). فالأصل: نسلم سلامًا، فقال: سلام عليكم. تلاحظ أن تحية إبراهيم -عليه السلام- جاءت بالجملة الاسمية، وتحيتهم جاءت بالجملة الفعلية، وكأنه -عليه السلام- أراد أن يجيبهم بأحسن مما حيوه به؛ أخذًا بآداب التحية في قول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: 86). وخذ قول الله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} (االأنبياء: 55). أرادوا: أحدث منك مجيء بالحق، ولم تكن كذلك، أم أنت مستمر في لعبك الذي عهدناه فيك. عبروا عن مجيئه بالحق بالفعل الذي يفيد التجدد، وعن اللعب بالجملة الاسمية التي تفيد تأكيد لعبه واستمرار أحوال لهوه في اعتقادهم. ولا يخفى عليك ما وراء ذلك من عنادهم وإعراضهم عن الإذعان للحق وقبول الهداية. ومثال ذلك أيضًا: قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (البقرة: 8). فقولهم: {آمَنَّا} إخبار بوقوع الإيمان وإحداثه، ولكونهم كاذبين في دعواهم، فقد نفاها الله -عز وجل- بالجملة الاسمية المؤكدة: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}. وقوله -عز وجل-: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (المائدة: 37). فقد أرادوا حدوث خروج، فأجيبوا بدوام البقاء واستمرار العذاب. ومن ذلك: قوله أيضًا: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة: 43) حيث عبر عن الصادقين بالفعل؛ لأنهم يحدثون صدقًا بعد صدق في كل موطن، وعبر عن الكاذبين

بالاسم؛ لأن ما صدر منهم كذب مستمر، وجارٍ على عادتهم الدائمة المستمرة، وناشئ عن رسوخ في الكذب والثبات. هذا وقد اهتم البلاغيون بتقييد الفعل بأدوات الشرط: "إن" و"إذا"؛ لما يكمن وراء تقييد المسند: وهو الفعل بهما من اعتبارات بلاغية وملاحظات دقيقة. قال البلاغيون: إنّ "إنْ" و"إذا" للشرط في الاستقبال بمعنى: تقييد حصول الجزاء على حصول الشرط في الاستقبال، نحو: إن تزرني أكرمك، إذا جاءك الفقير فأحسن إليه. وتختلف "إن" عن "إذا"، في أن "إذا" تستعمل في الشرط المقطوع لقبوله، وذلك بأن يكون الشرط مجزومًا بوقوعه في المستقبل، نحو: إذا غربت الشمس حل الظلام، إذَا أذن المؤذن أسرع المسلم للصلاة، أو يظن ظنًّا قويًّا وقوعه فيه، نحو: إذا جئتني أكرمتك، إذا كنت تعتقد اعتقادًا قويًّا أنه سيأتي، وترجح مجيئه على عدم مجيئه، ولذا كان الغالب في الفعل المستعمل مع "إذا" أن يكون بلفظ الماضي؛ للإشعار بتحقيق الوقوع، أما "إنْ" فتستعمل في الشرط غير المقطوع بوقوعه، بأن يتردد في وقوعه في المستقبل، أو يُظن عدم وقوعه، ويترجح على الوقوع، أو يكون مما لا يقع إلا نادرًا، كما سنرى في الشواهد. فإذا كان الشرط مجزومًا ومقطوعًا بعدم وقوعه في المستقبل فلا تُستعمل فيه "إن" ولا "إذا" إلا لنكتة بلاغية، وانظر مثلًا إلى قول الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} (الأعراف: 131). تلاحظ أنه قد استعملت "إذا" في جانب الحسنة، و"إن" في جانب السيئة؛ وذلك لأن مجيء الحسنة أمر مقطوع به محقق الوقوع، إذ المراد بالحسنة الحسنة المطلقة عن التقييد بنوع معين؛ ولذا عُرِّفت تعريف الجنس لتشمل كل فرد من أفراده، وكل نوع من أنواع الحسنات، وشأن هذا أن يقع كثيرًا؛ لاتساعه، وكثرة أفراده

وأنواعه، ولكون مجيء الحسنة محققًا ومقطوعًا بوقوعه، فقد عبر عنه بلفظ الماضي: {جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ}، أما إتيان السيئة فغير محقق الوقوع، إذ نادرًا ما تقع السيئة بالنسبة إلى الحسنة؛ ولذا استعملت "إنْ" معها، ونكِّرت السيئة؛ لإفادة التقليل، فعبر عن الإصابة بلفظ المضارع: {تُصِبْهُمْ} المشعر لعدم تحقق الوقوع. وتأمل قول الله تعالى في آية أخرى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (الروم: 36). تجد أنه نكرت الرحمة: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً}، وعبر عن الإذاقة بالماضي: {أَذَقْنَا}، واستعملت "إذا"؛ وذا للدلالة على أن إذاقة الناس قدرًا قليلًا من الرحمة أمر مقطوع به، ثم استعملت "إن" والمضارع: {تُصِبْهُمْ}، ونكرت السيئة {تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}؛ لإفادة أن إصابة السيئة لهم أمر غير مقطوع به، فالله -عز وجل- لا يؤاخذهم بما كسبوا بل يعفو عن كثير: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (فاطر: 45). وتأمل معي قول الله تعالى: {إِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الروم:33، 34)، وتأمل مع ذلك قوله -عز وجل-: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} (فصلت: 51) تجد أن قوله -عز من قائل-: {أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً}، {أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ} مقطوع بوقوعه، وهذا واضح كما بينا في الآيتين السابقتين؛ ولذا استعملت إذا في الموضعين، أما قوله تعالى:، {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} (المعارج: 20). قد يلتبس عليك التعليق بـ"إذا" فيهما، وتقول: إن مس الضر أو الشر ينبغي أن

يكون نادرًا وغير مقطوع بوقوعه، فالموضع هنا موضع إن لا إذا، ولكن هذا الالتباس سرعان ما يزول عندما تتأمل السياق في الآيتين، وتعرف أن الحديث عن الإنسان الكافر الذي إذا مسه شر أو ضر دَعَا ربه منيبًا إليه، دعاه دعاءً عريضًا، فإذا ما أنعم الله عليه أعرض ونأى بجانبه وكفر بأنعم ربه. ولهذا توعدهم الله -عز وجل-: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 55). فمثل هذا الكافر ينبغي أن يكون مس الضر أو الشر له في حكم المقطوع به، وتلاحظ التعبير بلفظ المس في الآيتين هو أقل من الإصابة أو الإذاقة، ثم تنكير الضر وتعريف الشر بـ"أل" الجنسية المفيدة أي نوع من أنواع الشر، فإذا ما أضفتَ ذلك إلى الإنسان المتحدث عنه، وقد وقفت على حقيقته تيقنت أن الشرط ينبغي أن يكون مجزومًا به ومقطوعًا بوقوعه. وعندما تتأمل الشعر الجيد، تجد للتعليق بهاتين الأداتين موقعًا لطيفًا، ومذاقًا حلوًّا. اقرأ مثلًا قول أبي الطيب المتنبي: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أكرمت اللئيم تمردا تجده قد استخدم إذا في جانب إكرام الكريم، فدل على أنه أمر محقق، وينبغي أن يوجد دائمًا وأن يقع كثيرًا، ثم استخدم إن في جانب إكرام اللئيم، فدل على أنه نادرًا ما يقع؛ لأن النفوس تنفر من اللئام وتأبَى إكرامهم. واقرأ قول الله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزلزلة: 1) وقوله -عز وجل-: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} (النصر: 1: 3) تجد التعليق بـ"إذا" في الأداتين أفاد تحقيق وقوع الشرط، فزلزلة الأرض وإخراجها أثقالها في ذلك اليوم

من الأحداث الثابتة المحققة، ومجيء نصر الله الذي وعد به -سبحانه وتعالى- حق ثابت لا ريب فيه، ولا يتردد في إثباته مؤمن، فقد جاء كما وعد -جل وعلا-. وخذ قوله تعالى: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} (آل عمران: 111). وقوله -عز وجل-: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} (الممتحنة: 2) وقد أفاد التعليق بـ"إن" ضعف شوكة الكفرة، وعدم جرأتهم على قتال المؤمنين؛ فقتالهم أمر نادر الوقوع غير مقطوع به، وكذا الظفر بالمؤمنين، أي: ظفر هؤلاء الأعداء بالمؤمنين أمر غير محقق وغير مقطوع به: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ} (الممتحنة: 2) أي: يظفروا بكم، ثم تأمل قوله: {وَوَدُّوا} بالماضي عطفًا على المضارع: {يَكُونُوا} و {يَبْسُطُوا}، وما ينبئ به استعمال الماضي في موضع المضارع من رغبة الكفرة وتمنيهم وحرصهم الشديد على أن يتحقق هذا الفعل. كأنه قيل: ودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم عن دينكم، هم يتمنون لكم مضار الدنيا والآخرة من قتل الأنفس، وتمزيق الأعراض، وردكم كفارًا، وردكم كفارًا أسبق المضار عندهم لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه. هذا هو رأي الزمخشري، ويرى الخطيب: أن: {وَوَدُّوا} ليس معطوفًا على الجزاء، بل هو معطوف على الجملة الشرطية، كما في عطف: {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} (آل عمران: 111) في الآية السابقة؛ وذلك لأنه ليس في تقييد: {وَوَدُّوا} بالشرط فائدة؛ إذ ودادتهم أن يرتدوا كفارًا حاصلة، وإن لم يظفروا به. ذكر ذلك الخطيب القزويني في كتاب (الإيضاح).

أحوال متعلقات الفعل، والأسرار البلاغية التي تكمن وراء الصيغ والعبارات.

أحوال متعلقات الفعل، والأسرار البلاغية التي تكمن وراء الصيغ والعبارات وننتقل بعد إنهائنا الحديث عن أحوال المسند إلى الحديث عن أحوال متعلقات الفعل: وكلمة متعلقات: بداية تقرأ بكسر اللام، وتقرأ بفتحها، والكسر أرجح؛ إذ يقال: تعلق المفعول بالفعل، وتعلق الجار والمجرور بالفعل، فالمفعول متعلق بالفعل، والجار والمجرور متعلق به. والمراد بمتعلقات الفعل ما يتصل بالفعل ويتعلق به من: فاعل، ومفعول، وجار ومجرور، وظرف، ومصدر، وحال، وتمييز، وغير ذلك. فالفعل يلابس هذه المتعلقات ويتصل بها، فيتحقق بهذا الاتصال أو بتركه كثير من الأغراض البلاغية. ثم إن هذه المتعلقات يكمن وراء بنائها وتركيبها مع الفعل كثير من المزايا والدقائق اللطيفة. وعلى الدارس أن يلم بتلك المزايا، وأن يعلم كيف يقدَّم المتعلق على الفعل أو يتأخر عنه، وما أغراض تقديمه أو تأخيره؟ وإذا وجد أكثر من متعلق، فكيف تصاغ الجملة، وما وموضع كل متعلق فيها، ومتى يحذف؟ فوراء ذلك كثير من الأسرار والدقائق والمزايا التي ينبغي للدارس أن يقف عليها ويحيط بها، ويلحق بالفعل -كما هو معلوم- ما هو بمعناه: كاسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، وأفعل التفضيل، وغيره من المشتقات. أولًا: تقييد الفعل بالمفعول ونحوه: إنك إذا أردت أن تخبر عن مجرد وقوع الحدث وحصوله دون إشارة لفاعله الذي صدر منه، أو مفعوله الذي وقع عليه، قلتَ: وقع ضرب، أو حدث مجيء، أو

تحقق نجاح، فتجعل مصدر الحدث فاعلًا لفعل عام، إذ مرادك أن تخبر عن وقوع الحدث وحصوله من غير إفادة تعلقه بفاعل أو مفعول أو نحوهما، فأنت في غنًى عن ذكر الفاعل والمفعول، أما إذا أردت أن تقيد وقوع الفعل من فاعل، فعليك أن تذكر ذلك الفاعل، فتقول مثلًا: ضَرب محمد، جاء زيد، نجح خالد، وإذا أردت أن تقيده بمفعول ونحوه قلت: ضرب محمد اللص، جاء زيد من البيت، نجح عمرو في الاختبار، اندفع خالد اندفاعًا، وهكذا. يقول الإمام عبد القاهر: وها هنا أصل يجب ضبطه وهو: أن حال الفعل مع المفعول الذي يتعدى إليه حاله مع الفاعل، وكما أنك إذا قلت: ضرب زيد، فأسندتَ الفعل إلى الفاعل، كان غرضك من ذلك أن تثبت الضرب فعلًا له، لا أن تفيد وجود الضرب في نفسه وعلى الإطلاق. وكذلك إذا عديت الفعل إلى المفعول فقلت: ضرب زيد عمرًا، كان غرضك: أن تفيد التباس الضرب الواقع من الأول بالثاني، ووقوعه عليه. ألا ترى أنك إذا قلت: هو يعطي الدنانير، كان المعنى: على أنك قصدت أن تعلم السامع أن الدنانير تدخل في عطائه، أو أنه يعطيها خصوصًا دون غيرها، وكان غرضك من الجملة بيان جنس ما تناوله الإعطاء لا الإعطاء في نفسه، ولم يكن كلامك مع مَن نفَى أن يكون منه إعطاء بأي وجه من الوجوه كان، بل مع مَن أثبت له إعطاء، إلا أنه لم يثبت إعطاء دنانير. فاعرف ذلك فإنه أصل كبير عظيم النفع. انتهى من (الدلائل). وذكر الخطيب: أن تقييد الفعل بمفعول ونحوه إنما يكون لتربية الفائدة أي: تكثيرها، تقول: ضربت، فتفيد نسبة الضرب إليك ووقوعه منك، وتقول: ضربت زيدًا، فتفيد: وقوع الضرب منك على زيد، وتقول: ضربت زيدًا ضربًا شديدًا يوم الجمعة أمام الناس، فكلما زدت قيدًا ازدادت الفائدة، وأنت لا تزيد

هذه القيود هكذا عَبَثًا، وإنما المقام هو الذي يملي عليك تلك الزيادة ويقتضيها، فأنت إذا أردت أن تخبر عن رؤيتك لزيد تقول: رأيت زيدًا. فإذا أردت أن تؤكد تلك الرؤية، قلت: رأيته بعيني، فزيادة الجار والمجرور أفادت تأكيد الرؤية التي اقتضاها المقام. وتأمل معي قول الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) تجد أن القول لا يكون إلا بالفم، والقلب لا يكون إلا في الجوف، ولما كان المقام مقام إنكار وزجر لمن يظاهر زوجه قائلًا لها: أنت عليَّ كظهر أمي، ولمن يجعلون الدعي ابنًا ويسوون بينه وبين الابن، فقد ذكر هذين القيدين في جوفه بأفواهكم؛ تأكيدًا للإنكار، ومبالغةً في الردع والزجر، ثم انظر إلى هذا القيد: {لِرَجُلٍ}، وتأمل فرق: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}، وبين: ما جعل الله من قلبين في جوف، فستراه دقيقًا لطيفا، أن ذكر هذا القيد لرجل، وتقييد الجعل به أبلغ في الإنكار، وآكد في الرجع والزجر؛ إذ المرأة قد يتصور وجود قلبين في جوفها: قلبها وقلب جنينها عندما تكون حاملًا، أما الرجل فلا يتصور وجود قلبين في جوفه بحال من الأحوال؛ ولذا كان تقييد الجعل به أشدَّ في الإنكار وأقوى في الزجر والردع. وكذا القول في قول الله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} (النور: 15). فقد ذكر هذين القيدين: {بِأَلْسِنَتِكُمْ}، {بِأَفْوَاهِكُمْ}، فأكد الإنكار والزجر، إذ الآية في سياق الحديث عن أولئك الذين خاضوا في حادثة الإفك، والتلقي لا يكون إلا بالألسنة والقول لا يكون إلا بالأفواه، فذِكر هذين القيدين فيه مزيد من الردع والتوبيخ الذي اقتضاه المقام.

واقرأ قوله تعالى: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (الكهف: 75). تجد أن زيادة الجار والمجرور: {لَكَ} فيه مزيد من تأكيد اللوم وتقريره، وقد اقتضى المقام ذلك؛ إذ موسى -عليه السلام- قد اتبع العبد الصالح الخضر ليتعلم منه، وقال له الخَضِر: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} (الكهف: 70) ولكن موسى أنكر خرق السفينة: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} (الكهف: 71) فذكَّره الخضر: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (الكهف: 72) فاعتذر موسى -عليه السلام- ثم انطلقا، فلما قتل الخضر الغلامَ أنكر موسى -عليه السلام- مرة ثانية: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} (الكهف: 74) فذكَّره: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (الكهف: 75). تلاحظ أن القيد: {لَكَ} فيه إبراز وإيضاح وتأكيد للوم الذي اقتضاه المقام؛ لأن موسى -عليه السلام- قد وعد العبد الصالح ألا يسأله عن شيء يحدث، ولكنه لم يستطع صبرًا، فأنكر خرق السفينة، ولامه العبد الصالح على عدم صبره، ثم أنكر قتل الغلام، فأكد العبد الصالح اللوم بالجار والمجرور: {لَكَ}، وبهذا يتضح: أن تلك القيود لا تزاد عبثًا وإنما تزاد لداع يقتضيه المقام. وينبغي على الدارس أن يكون بصيرًا بتلك المقامات وأن يقف على معاني تلك القيود، وما يكمن وراءها من دقائق، وما يكون وراء استعمالها وتقييد الفعل به من لطائف وأسرار. انظر إلى قول الله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} (الإسراء: 97) وقوله تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} (الصافات: 113). وتأمل القيد {عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} وما يفيده من

استعلاء البركة وإحاطتهما بهما، ثم قارن بينه وبين القيد في الآية الأولى على وجوهه، وتبين كيف أبرز ذلك القيد أولئك الكفرة وقد علوا وجوههم. إن الحرف: {عَلَى} يفيد الاستعلاء، ولكنه استعلاءُ تعظيمٍ في آية الصافات، واستعلاء خزي وإهانة في آية الإسراء. وتأمل فرق ما بين اللام وعلى في الآيات الكريمة: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286)، {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} (االأنبياء: 101)، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} (الصافات: 171)، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} (هود: 40). تجد أن اللام قد ذكرت عند سبق النفع، و {عَلَى} قد ذكرت عند سبق الضر؛ وذلك لأنك تلحظ في اللام معنى التملك والانتفاع، وتلحظ في: {عَلَى} معنى القهر والاستعلاء؛ ولذا يقول القائل: على أنني راض بأن أحمل الهوى ... وأخلص منه لا علي ولا لي وتأمل فرق ما بين "على" و"في" في الآيات الكريمة: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لقمان: 5)، {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (سبأ: 24)، {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} (الكهف: 101). تجد أن "على" تحمل معنى العزة والارتفاع، و"في" تحمل معنى الذل والانحطاط، وكأن المؤمن مستعلٍ على جواد يركضه حيث شاء، والكافر منغمسٌ في ظلام مرتبك فيه لا يرى ولا يعرف أين يتوجه، وقد تجد في "في" معنى العزة والرفعة؛ وذلك عندما يكون الانغماس في النعيم والعز والغرفات والمقام الأمين: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (سبأ: 37)، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ

أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (الدخان: 51، 52). ففرق بين انغماس في جنات وعيون ومقام أمين، وغرفات ورحمة، وبين انغماس في ضلال أو غطاء عن ذكر الله أو عذاب مهين. وتأمل بذلك ما جاء في قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (آل عمران: 107)، {الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} (سبأ: 38). إلى غير ذلك من المعاني الدقيقة التي تراها كامنة وراء استخدام حروف الجر في القرآن والتراكيب الجيدة، وشأن الجار والمجرور شأن سائر المتعلقات، هي لا تذكر إلا إذا اقتضاها المقام ودعا إليها داع، انظر إلى ذكر المفعول المطلق، وإفادته للتأكيد في قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} (الفرقان: 21)، وقوله -عز وجل-: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} (الفرقان: 36)، وقوله: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} (الفرقان: 38، 39). فتقييد الفعل بالمفعول المطلق في الآيات الكريمة: {عَتَوْا عُتُوًّا}، {دَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}، {تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} قد أدى إلى المبالغة وتوكيد وقوع هذه الأفعال. والمقام قد اقتضى ذلك، فهؤلاء لا يرجون لقاء الله ويطلبون إنزال الملائكة عليهم ويطلبون رؤية ربهم، وهذا عتو ما بعده عتو، وأولئك كذبوا واستكبروا، منهم من قال: أنا ربكم الأعلى، ومنهم من قال: من أشد منا قوة، منهم مَن عقر الناقة وعتى عن أمر ربه، فاستحقوا لهذا أن يضاعف لهم العذاب، وأن يؤخذوا أخذ عزيز مقتدر.

وتأمل ذكر الحال في قول الله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} (النمل: 19). وكيف أبرزت الفعل وبينت كيفية وقوعه من سليمان -عليه السلام- فهو تبسم واضح قد قوي حتى وصل إلى حد الشروع في الضحك، وانظر إلى الحال أيضًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (الأحزاب: 45). وكيف أفصحت عن مهمة النبي -صلى الله عليه وسلم-وبينت الهدف والغاية من إرسال الرسل. وتأمل ذكر الحال في قول الشاعر: دنوت تواضعًا وعلوت مجدًا ... فشاناك انخفاض وارتفاع وكيف أبرزت ما يقصده الشاعر، وبينت المراد من الدنو، ثم انظر كيف يكون المعنى لو لم تذكر هذه الحال، فقيل: دنوت وعلوت وعلوت فشاناك انخفاض وارتفاع، إن المعنى يكون ملبسًا ومشكلًا. بهذا يتبين لك أن تلك القيود لا تذكر إلا لمعنى يقتضيه المقام ويدعو إليه الداعي. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 14 تابع: أحوال متعلقات الفعل.

الدرس: 14 تابع: أحوال متعلقات الفعل.

أغراض حذف المفعول

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (تابع: أحوال متعلقات الفعل) أغراض حذف المفعول إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونسترضيه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، كما نعوذ به من سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فحديثنا -بمشيئة الله تعالى- عن باقي أحوال متعلقات الفعل، وأعني بذلك: أغراض حذف المفعول، وتقديم المفعول ونحوه من المتعلقات على العامل، وسر تقديم بعض المتعلقات على بعض. فقد أبرز الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) ما يكمن وراء حذف المفعول به من دقائق ولطائف، وعندما ترجع إلى كتابه المذكور؛ يتبين لك أن كل مَن جاء بعده من البلاغيين قد استمدوا وأفادوا من حديثه عن المفعول، ومن تجليته لما يكمن وراء حذفه من مزايا وأسرار بلاغية. ومعلوم أن الفعل اللازم لا يحتاج إلى مفعول، نحو: فرح محمد، وسعد علي، وبكَى عمرو، وشقي الكافر؛ ولذا لا يدخل معنا في حذف المفعول؛ إذ لا مفعول له أصلًا، إلا إذا عديته بالهمزة أو بالتضعيف، فقلت: أسعدت عليًّا، وأبكيتُ عمرًا، وأشقيت فلانًا، فعندئذ يصير الفعل متعديًا ويجري عليه ما يجري على الفعل المتعدي من أحكام. والفعل المتعدي: له مفعول يقع عليه، ولا يحذف ذلك المفعول، ويرد الفعل بدونه إلا لأغراض بلاغية وأسرار دقيقة يقتضيها المقام، منها: أن يكون الغرض من التركيب إثبات المعنى الذي اشتق منه الفعل لفاعله، أو نفيه عنه، من غير نظر إلى تعلقه بمفعول معين، وعندئذٍ يكون الفعل المتعدي كاللازم في أنك لا ترى له مفعولًا لا لفظًا ولا تقديرًا، تقول: فلان يحل ويعقد، ويعطي ويمنع، ويأمر وينهى، ويضر وينفع، وتقول: محمد يعطي، ويبذل ويضيف

ويقري. فالمراد من ذلك: إثبات المعاني التي اشتقت منها الأفعال لفاعليها دونما نظر إلى تعلقها بمفعول ونحوه. وكأنك تريدأن تقول صار فلان بحيث يكون منه الحل والعقد، والإعطاء والمنع، والأمر والنهي، والضر والنفع، والإعطاء والإبذال، والإقراء والضيافة، صار أهلًا لذلك. ولو أثبت المفعول، فقلت مثلًا: يعطي الذهب أو الدراهم؛ لضاع هذا الغرض؛ إذ ينصرف الذهن إلى نوع المعطى لا إلى جنس الإعطاء؛ ولذا فإنك عندما تريد بِطِي المفعول هذا الغرض، وهو: إثبات المعنى في نفسه للفاعل، فإنك لا تنظر إلى المفعول المطوي، ولا تلتفت إليه ولا تخطره ببالك، ولا تقدره؛ إذ المقدر كالمذكور، ومما ورد في النظم الكريم قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر: 9). فالمعنى -والله تعالى أعلم-: هل يستوي مَن له علم ومن لا علم له، من غير أن يقصد النص على معلوم. وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} (النجم:43، 44)، {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} (النجم: 48). فالمراد: أنه هو الذي منه الإضحاك والإبكاء، والإحياء والإماتة، والإغناء والإقناء، دون قصد إلى مفعول يقع عليه الفعل. وكذا قوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} (البقرة: 258). أي: يكون منه الإحياء والإماتة دون نظر إلى مَن أحيا ولا إلى مَن أمات. وقوله -عز وجل-: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} (البقرة: 17). فالمفعول المطوي في: {يُبْصِرُونَ} من قبيل المتروك المطروح الذي لا يلتفت إليه، ولا يخطر بالبال، ولا يقدر. إذ المراد: وتركهم في ظلمات لا يتأتى الإبصار منهم. وقوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 22). أي: وأنتم يقع منكم العلم وتتصفون به.

وقوله كذلك: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الأنعام: 110). أي: ونتركهم في ضلالهم يترددون حائرين متصفين بالعمى، وهكذا كل موضع كان القصد فيه أن يثبت المعنى في نفسه فعلا للشيء، وأن يخبر بأن من شأنه أن يكون منه أو لا يكون إلا منه أو لا يكون منه، فإن الفعل لا يعدى هناك؛ لأن تعديته تنقض الغرض، وتغير المعنى. كذا في (الدلائل). فمثال الإخبار بأن الفاعل مِن شأنه أن يكون منه الفعل قولك: هو يعطي، إذا أريد التوكيد وتقوية الحكم لا القصر. وقولك: يعطي محمد، ويكرم خالد. ومثال الإخبار بأن الفعل لا يكون إلا من الفاعل: قولك: هو يعطي، هو يحل ويعقد، إذا أردت بتقديم المسند إليه القصر. ومثال الإخبار بأن الفعل لا يكون من الفاعل: قولك: هو لا يعطي، فلان لا يحل ولا يعقد، وتأمل بعدئذ قول الله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} (القصص:23، 24). تجد أن المفعول قد طُوي في أربعة مواضع، إذ المعنى: وجد عليه أُمةً من الناس يسقون غنمهم أو مواشيهم، وامرأتين تذودان غنمهما؛ حتى يصدر الرعاء، وقالتَا: لا نسقي غنمنا، فسقى لهما غنمهما، ولكن هذا التقدير غير مراد؛ فالمفعول لا يلتفت إليه في الآيات، ولا يخطر بالبال ولا يُنوَى؛ لأن إرادته وتقديره يؤديان إلى خلاف المراد. يقول الإمام عبد القاهر: لا يخفى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كله إلا أن يترك ذكره، ويؤتَى بالفعل مطلقًا؛ وما ذاك إلا أن الغرض في أن يعلم أنه كان من

الناس في تلك الحال سَقْي، ومن المرأتين ذود، وأنهما قالتَا: لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء، وأنه كان من موسى -عليه السلام- من بعد ذلك سقي. فأما ما كان المسقى أغنمًا أم إبلًا أم غيرَ ذلك؟ فخارج عن الغرض وموهم خلافَه؛ فذلك أنه لو قيل: وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما، جاز أن يكون لم ينكر الذود، لا من حيث هو ذود، بل من حيث هو ذود غنم حتى لو كان مكان الغنم الإبل لم ينكر الذود، ثم إنك إذا قلت: ما لك تمنع أخاك؟ كنتَ منكرًا المنع، لا من حيث هو منع بل من حيث هو منع أخ. انتهى من كلام عبد القاهر في (الدلائل). وقد يكون الغرض من طي المفعول والسكوت عنه هو إثبات المعنى في نفسه للفاعل دون قصد إلى مفعول معين، إلا أن هذا الإثبات المطلق يستلزم إثباتًا مقيدًا، انظر مثلًا إلى قول البحتري يمدح الخليفة المعتز، ويعرِّض بالمستعين: شجو حساده وغيظ عُداه ... أن يرى مبصرٌ ويسمع واع فالمعنى: إنما يؤلم حساده، ويغيظ أعداءَه أن يوجد في الدنيا مَن يرى ويسمع، من يرى مبصر ويسمع واعْ؛ لأنه إذا وجد من يرى ويسمع فسوف يرى قطعًا مآثرَه وأمجاده، وسوف يسمع لا محالة عن محاسنه وسيرته، فقد اشتهرت محاسنه وذاعت مآثره، بحيث لا تخفى على من يسمع ويرى؛ لأنها ملأت الآفاق، وحلت بكل موضع. والذي يحزن حساده ويغيظ أعداءَه -يعرِّض بالمستعين- أن يوجد من يرى ومن يسمع؛ لأن وجوده يستلزم أن يسمع أخبار المعتز، وأن يرى فضائله ومحاسنه. ولذا يذكر الخطيب: أن الفعل مطلقًا قد جُعل كنايةً عن الفعل مقيدًا بمفعول مخصوص، إذ بين مجرد الرؤية والسماع، وبين رؤية المحاسن وسماع الأخبار تلازم وارتباط. كذا كذا ذكره الخطيب في (الإيضاح)

ومن جيد ذلك قول عمرو بن معد يكرب: فلو قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت فهنا يقصد قومه بالجبن والفرار، وأنهم لم يبلوا في الحرب بلاء، ولم يصنعوا شيئًا يستحقون به الحمد والثناء. فما كان منه قد حبس لسانه وقطعه عن النطق مشيدًا بهم، ولو كان منهم جهاد وبلاء حسن لنطق وأشاد به. هذا هو المعنى، وتجد الشاعر قد سكت عن المفعول وطواه في قوله: ولكن الرماح أجرت؛ لأن غرضه: أن يثبت أنه كان من الرماح إجرار وحبس للألسنة عن النطق، ولو قال: أجرتني لجاز أن يتوهم أنها أجرت لسانه هو دون ألسنة غيره، وأن الرماح قد صنعت شيئًا لو أبصره غير عمرو؛ لأشاد به ونطق، فلما كان في تعدية أجرت ما يوهم ذلك، وقف فلم يعد البتة ولم ينطق بالمفعول؛ لتخلص العناية لإثبات الإجرار للرماح، ويصحح أنه كان منها، وتسلم بكليتها لذلك. كذا في (الدلائل). ويرى الخطيب: أن غرض الشاعر أن يثبت أنه كان من الرماح إجرار وحبس للألسنة عن النطق بمدحهم والافتخار بهم؛، حتى يلزم بطريق الكناية مطلوبه، وهو أنها أجرت لسانه هو، فإثبات الإجرار للرياح مطلقًا يستلزم إطلاقه مقيدًا. كذا في (الإيضاح). ولا يخفى عليك، أن الاعتداد بالمعنى المكنى به أولى وأبلغُ في تحقيق مراد الشاعر من الاعتداد بالمعنى المكنى عنه؛ ولذا كان رأي عبد القاهر أدق، وعباراته وتحليلاته لطي المفعول أولى بالقبول، وما كان أغنى الخطيب عن القول بالكناية، وعن ذلك التحديد القائل للمغزى من الحذف. إن ما ذكره مستمد من كلام عبد القاهر، ومحاولة لإيجازه وتحديده، ولكنه إيجاز مخل، وتحديد قد قتل روح التذوق والاستمتاع.

هذا، وقد يُقصد بحذف المفعول الإيضاح بعد الإبهام، وهذا غرض جليل؛ لأن الشيء إذا أُبهِم تطلعت النفوس إليه واشتاقت لمعرفته، فإذا ما بين بعد ذلك وقع في النفس موقعًا حسنًا، وترك فيها أثرًا طيبًا. ويكثر هذا الحذف في مفعول المشيئة أو الإرادة الواقعة بعد "لو"، و"إن" ونحوهما من أدوات الشرط. كما ترى في قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9). إذ المعنى: ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين. فحذف مفعول: {شَاءَ}؛ لدلالة جواب الشرط عليه، وفي هذا الحذف إبهام يعقبه إيضاح وتبيين؛ لأن المخاطب إذا سمع قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ} (النحل: 93). تعلقت نفسه بشيء قد أبهم وهو مفعول: {شَاءَ}، وتطلعت إلى معرفته، فإذا ما ذكر الجواب: {لَهَدَاكُمْ} استبان ذلك الشيء، وعرف بعد أن كان قد أبهم؛ ولذا كان أوقع في النفس وأبلغ وأشد تأثيرًا. وكذا القول في الآيات الكريمة: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (الأنعام: 35)، {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (الشورى: 24)، {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} (الشورى: 32، 33)، {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (السجدة: 13) فقد حُذف مفعول المشيئة في الآيات الكريمة وتقديره: لو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم، لئن يشأ الله الختم على قلبك يختم، لئن يشأ الله إسكان الريح أسكنها، لو شئنا إتيان كل نفس هداها لآتينا. ولا يخفى عليك ما في حذف المفعول، ثم دلالة الجواب عليه من الإيضاح بعد الإبهام؛ فهذا مما يجعل المعنى يقر في النفس ويثبت ويقع منها موقعًا حسنًا.

ومن ذلك قول طرفة بن العبد: فإن شئتَ لم ترقل وإن شئت أرقلت ... مخافةَ ملوى من القد مُحصد لم تَرقل: لم تسرع، والمَلوى: هي الصوت المفتول المحكم، كذلك المحصد، والقد: أي: الجلد المشقوق. يتحدث طرفة عن ناقته فيقول: إن شئت الإرقال أرقلت، وإن شئت عدم الإرقال لم ترقلي، فطوى مفعول المشيئة في الموضعين، كما ترى وفي طيه إبهام أزاله وأبهمه جواب الشرط، ومثله قول البحتري: لو شئتَ لم تفسد سماحة حاتم ... كرمًا ولم تهدم مآثرَ خالد يصف ممدوحه: بأنه قد بلغ الغاية في الكرم والمجد، حتى فاق شهرة حاتم وخالد فيهما. والأصل لو شئت عدم إفساد سماحة حاتم وعدم هدم مآثر خالد لم تفسد ولم تهدم، فأبهم بحذف المفعول ثم بين بجواب الشرط. يقول عبد القاهر: الأصل: لا محالة، لو شئت ألا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، ثم حذف ذلك من الأول؛ استغناءً بدلالته في الثاني عليه، ثم هو على ما تراه وتعلمه من الحسن والغرابة، وهو على ما ذكرت لك من أن الواجب في حكم البلاغة ألا ينطق بالمحذوف ولا يظهر إلى اللفظ. فليس يخفى أنك لو رجعتَ فيه إلى ما هو أصله، فقلت: لو شئت ألا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها صِرت إلى كلام غث، وإلى شيء يمجه السمع وتعافه النفس، وذلك أن في البيان إذا ورد بعد الإبهام وبعد التحريك له أبدًا لطفًا ونبلًا لا يكون إذا لم يتقدم ما يحرك. وأنت إذا قلت: لو شئت، علِم السامع أنك قد علقت هذه المشيئة في المعنى بشيء، وهو يضع في نفسه أن ها هنا شيئًا تقتضي مشيئته له أن يكون أو لا يكون، فإذا قلت: لم تفسد سماحة حاتم، عرف ذلك الشيء. كذا في (الدلائل).

ثم اقرأ قول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (الأنفال: 31). أي: لو نشاء أن نقول مثل هذا لقلناه. وقوله -عز وجل-: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الأنعام: 39). أي: مَن يشأ إضلاله يضلله، ومن يشأ أن يجعله على صراط مستقيم يجعله، فلن يخفى عليك ما في حذف المفعول من دقة وجمال؛ مردهما إلى ما يتركه الإيضاح بعد الإبهام في النفس من وقع طيب وأثر حسن، هذا إذا لم يكن في تعلق فعل المشيئة أو الإرادة بالمفعول به غرابة، وذلك بأن يكون المفعول من الأمور العجيبة الغريبة، أو من الأمور البعيدة التي نادرًا ما تقع. فإن كان الأمر كذلك وجب ذِكر المفعول؛ ليتقرر في نفس السامع ويأنس به. انظر مثلًا إلى قول أبي الهندام الخزاعي في النساء: قضى وطرًا منك الحبيب المودع ... وحل الذي لا يُستطاع فيدفع ولو شئت أن أبكي دمًا لبكيته عليه ... ولكن ساحة الصبر أوسعُ لما كان بكاء الدمع من الأمور العجيبة الغريبة، وكانت إرادة الإنسان بأن يبكي دمًا أعجبَ وأغربَ، فقد ذكره الشاعر؛ ليتقرر في نفس الشاعر ويأنس به؛ لأنه عندئذٍ يكون قد ذكره مرتين؛ مرة مفعولا للمشيئة، ومرة جوابًا للشرط، والشيء إذا كرر فإنه يتقرر في النفس وتأنس به وتسكن إليه، خاصةً وأن غرابة المفعول تقتضي هذا التقرير، ويكون الإنسان مخبِرًا عن عزة نفسه مفتخرًا بعلو مكانته: لو شئت أن أرد على الأمير لرددت، ولو شئتُ أن ألقَى الخليفة كل يوم للقيته، تراه قد ذكر مفعول المشيئة؛ لكونه من الأمور المستبعدة التي تكبرها النفس، ولا تقرها بسهولة. فالأمر إذن يحتاج إلى تقرير وتأكيد؛ ولذا ذكر المفعول، وكرر ذكره ثانيةً في الجواب.

ومن ذلك: قوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (الزمر: 4). فاتخاذ الله ولدًَا من الأمور الغريبة العجيبة، وقد آثر النظم الكريم التعبير عن ذلك بأسلوب الشرط "لو": هو حرف امتناع لامتناع ردعًا وزجرًا لأولئك الذين قالوا: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} (البقرة: 116) {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة: 30) {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة: 30) وقال المشركون: الملائكة بنات الله. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. فلو كان المفعول بهذه الغرابة ورد ذكره بهذه الإرادة -كما ترى -. أما قول أبي الحسين علي بن أحمد الجوهري أحد شعراء الصاحب بن عباد: فلم يبقِ من الشوق غير تفكري ... فلو شئتُ أن أبكي بكيت تفكرًا فليس مفعول المشيئة فيه غريبًا؛ لأن المراد بالبكاء المذكور بعد شئت بكاء الدمع لا بكاء التفكر المذكور في الجواب، فالشاعر لم يرد أن يقول: فلو شئت أن أبكي تفكرًا بكيت تفكرًا، ولكنه أراد أن يقول: أثناني النحول حتى لو شئت بكاء فبريت جفوني، وعصرت عيني؛ ليسيل منهما دمع لم أجده، ولخرج بدل الدمع التفكر، فالبكاء الثاني لا يصلح أن يكون تفسيرًا للبكاء الأول لو حذف. ومراد الشاعر لا يتم إلا بذكر مفعول المشيئة، وليس المعنى هنا في هذا البيت كالمعنى في بيت أبي الهندام؛ لأن البكاء هناك في الموضعين بكاء دم، أما هنا، فالأول: بكاء دموع، والثاني: بكاء تفكر. فلا يصلح الثاني دليلًا على الأول، ونظيره أن تقول:، لو شئت أن تعطي درهمًا أعطيت درهمين، فالثاني وهو جواب الشرط، لا يصلح أن يكون تفسيرًا للأول، وهو مفعول شئت؛ لأن الأول إعطاء درهم، والثاني إعطاء درهمين.

ولا نبعد إذا قلنا: أن الغرابة في بيت الجوهري في جواب الشرط بكيت تفكرًا، وأنه لغرابته لا يدل على مفعول المشيئة لو حذف؛ ولذا وجب ذكره حتى لا يضيع غرض الشاعر كما بينا. قد يقصد بحذف المفعول تهيئة العبارة لوقوع الفعل على صريح لفظ المفعول؛ إظهارًا لكمال العناية بوقوعه عليه، انظر إلى قول البحتري يمدح المعتز: قد طلبنا فلم نجد لك ... في السؤدد والمجد والمكارم مثلًا يريد أن يقول: قد بحثنا لك عن شبيه في صفاتك العالية، فأجهدنا البحث، وأضنانا دون أن نعثر على هذا الشبيه، فأنت فردٌ في صفاتك لا نظير لك ولا مثيل. وتجد الشاعر قد حذف مفعول طلب؛ ليتسنى له أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل؛ لأن نفي الوجود هو الأصل في المدح والغرض منه، أما الطلب فكالشيء يذكر ليبنَى عليه الغرض، ويؤكد به أمره. ولو قيل: قد طلبنا لك مثلًا في السؤدد والمجد والمكارم، فلم نجده لوقع الفعل طلب على صريح لفظ المفعول، والفعل المنفي الذي هو الغرض الأصلي للمديح فلم نجد على ضميره. وفرق بين أن يقع الفعل على صريح اللفظ، وأن يقع على ضميره. من أجل هذا؛ حذف الشاعر مفعول طلب؛ لأن حذفه يمكنه من أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المفعول، وشيء آخر تراه وراء حذف المفعول في البيت وهو: البيان والإيضاح بعد الإبهام، فحذف مفعول طلب قد جعل السامع يشغل به ويبحث عنه، فلما ذكر مع الفعل الثاني فلم نجد وقع في نفسه موقعًا حسنًا؛ لأنه جاء والنفس متطلعة إليه ومنشغلة به. ومزية ثالثة تجدها وراء هذا الحذف وهي: مراعاة الأدب في مقام المدح، فالشاعر كان حذرًا ولطيفًا؛ إذ تحاشى أن يواجه الممدوح بأنه يطلب له نظيرًا، ويبحث عن

مثيل له، بل أشار إلى ذلك إشارةً خاطفةً، ولم يمد القول، وكأنه يريد أن يطويه سريعًا؛ ليصل إلى الغرض الأصلي من المدح وهو: نفي وجود المثل. كذا في (الإيضاح). وتأمل معي قول ذي الرمة يمدح بلال بن أبي بردة، وينفي عن نفسه مدح اللئام: ولم أمدح لأرضيه بشعري ... لئيمًا أن يكون أصاب مالًا ولكن الكِرام لهم ثنائي ... فلا أجزي إلى ما قيل قال تجد أنه لما كان الغرض الأصلي أن ينفي عن نفسه مدح اللئام، وكان الإرضاء تعليلًا له، فقد ذكر الشاعر المفعول في الموضعين؛ وذلك ليقع نفي المدح على صريح لفظ اللئيم، ويقع الإرضاء على ضمير، ولو أنه حذف مفعول أمدح فقال: ولم أمدح لأرضي بشعري لئيمًا لما تحقق غرضه، ولتوهم متوهم أنه يريد أن ينفي عن نفسه إرضاء اللئيم، وأن هذا هو أصل كلامه وغرضه منه، وليس هذا في الحقيقة مراد الشاعر، بل مراده أن ينفي عن نفسه مدح اللئام؛ ليوقع في نفس ممدوحه أن ما يسمعه من شعر لا يعرف إلا الكرام، وأنه ليس موكلًا إلا بهم. فالمقام في بيت البحتري قد اقتضى أن يحذف مفعول طلبه؛ ليقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل، واقتضى في بيت ذي الرمة أن يذكر مفعولًا لأمدح ولأرضي؛ ليقع نفي المدح على صريح لفظ اللئيم أيضًا. وقد يقصد بحذف المفعول دفع توهم غير المراد ابتداءً، ووقوع المعنى الذي يريده المتكلم في نفس مخاطبه من أول الأمر، كما في قول البحتري يمدح أبا الصقر الشيباني في قصيدته التي مطلعها: أعن سَفهٍ يوم الأبيرق أم حلم ... وقوف بربع أو بُكاء على رسم

قال مخاطبًا أبا الصقر: وكم زدت عني من تحامل حادث ... وصورة أيام حززنا إلى العظم يريد أن يقول: إن الممدوح طالما دفع عنه عوادي الزمن، ورد عنه طغيان أيام ضربته فأوجعته، حتى بلغت في قسوتها الغاية فقوله: حززنا إلى العظم، كناية عن بلوغها الغاية في شدة، وتلاحظ أن الشاعر قد حذف مفعول حز وتقديره: حززنا اللحم إلى العظم، وهو يريد بهذا الحذف أن يقع المعنى في نفس السامع ابتداءً، إذ لو ذكر المفعول فقال: حززنا اللحم؛ لتوهم أن الحز كان ضعيفًا، وأنه أصاب بعض اللحم مما يلي الجلد ولم يصل إلى العظم، فما دفعه عنه الممدوح إذن شيء يسير، وليس صورة أيام وأحداث قد تحاملت عليه، فإذا ما وصل السامع إلى قوله: إلى العظم، اندفع هذا التوهم وزال. ولكن الشاعر الحاذق هو الذي يوقع المعنى في ذهن سامعه من أول وهلة ولا يجعله يتصور في أول الأمر شيئًا غير مراد، ثم ينصرف إلى المراد. يقول عبد القاهر: الأصل لا محالة: حززنا اللحم إلى العظم، إلا أن في مجيئه به محذوفًا وإسقاطه له من النطق وتركه في الضمير مزية عجيبة وفائدة جليلة، وذلك أن مَن حذق الشاعر أن يوقع المعنى في نفس السامع إيقاعًا يمنعه به من أن يتوهم في بدء الأمر شيئًا غير المراد، ثم ينصرف إلى المراد، ومعلوم أنه لو أظهر المفعول فقال: وصورة أيام حززنا اللحم إلى العظم لجاز أن يقع في وهم السامع إلى أن يجيء إلى قوله: إلى العظم، أن هذا الحز كان في بعض اللحم دون كله، وأنه قطع ما يلي الجلد ولم ينته إلى ما يلي العظم، ولما كان كذلك ترك ذكر اللحم وأسقطه من اللفظ؛ ليبرئ السامعَ من هذا، ويجعله بحيث يقع المعنى منه على أنف الفهم، أي: في أوله؛ لأن أنف الشيء أوله.

ويتصور في نفسه من أول الأمر أن الحز مضى في اللحم حتى لم يرده إلى العظم. انتهى من كلام عبد القاهر في (الدلائل). قد يحذف المفعول؛ لإرادة التعميم والامتناع عن أن يقصره السامع على ما يذكر دون غيره، انظر مثلًا إلى قول الله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} (يونس: 25) تجد أن المفعول قد حذف؛ لإفادة العموم، وأن الدعوة ليست مقصورةً على أحد دون آخر، بل تتعدَّى إلى كل من تتأتَّى دعوتهم، فالمراد -والله أعلم- يدعو كل أحد تصلح دعوته إلى الجنة. وتقول أنت لصاحبك: قد كان منك ما يؤلم، أي: ما الشأن في مثله أن يؤلم كل أحد، فحذفك المفعول أفاد التعميم؛ مبالغةً في إيلام ما كان منه، فهو من الشدة بحيث يؤلم كل أحد. ولو ذكرت المفعول، فقلت: قد كان منك ما يؤلمني؛ لفاتت تلك المبالغة المطلوبة. وتأمل قول البحتري: إذا بعدت أَبْلت وإذ قربت شفت، وهجرانها يبلي ولقيانها يشفي، تجده قد حذف المفعول في أربعة مواضع، والتقدير: إذا بعدت عني أبلتني وإن قربت مني شفتني فهجرانها يبليني ولقيانها يشفيني، والحذف -كما ترى- قد أفاد المبالغة وعموم الفعل، وصور أن بعدها يبلي كل أحد فهو البِلَى والداء المضني، وأن قربها ولقيانها هو الشفاء والبُرء من كل داء. واقرأ مع ذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الحجرات: 1). يقول الزمخشري: وفي قوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا} من غير ذكر مفعول، وجهان؛ أحدهما: أن يحذف ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدم، والثاني: ألا

يقصد قصد مفعول ولا حذفه، ويتوجه بالنهي إلى نفس التقدمة، كأنه قيل: لا تقدموا على التلبس بهذا الفعل ولا تجعلوه منكم بسبيل، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} (المؤمنون: 80). ويجوز أن يكون من قدم بمعنى: تقدم. كذا في (الكشاف). وقد يحذف المفعول؛ حتى لا يقع عليه الفعل؛ وذلك لمزية بلاغية وهدف يقصد إليه المتكلم. وانظر في ذلك إلى قول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} (الفرقان: 41). فالأصل: أهذا الذي بعثه اللهُ رسولًا، فحذف المفعول وهو الضمير العائد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا الحذف ينبئ بحقد المشركين على النبي -صلوات الله وسلامه عليه- ويصور مدى كراهيتهم له، حتى كأنهم لا يطيقون النطق بالبعث واقعًا عليه، فهم يتحاشون مجرد النطق بالبعث منسوبًا إليه، فضلًا عن الإيمان بذلك والتصديق. وخذ قول الله تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: 1: 3). فقد حذف المفعول، وهو الضمير العائد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما تقديره: وما قلاك؛ وذلك لصونه عن نسبة القلي إليه؛ متحاشيًا لوقوع الفعل: {قَلَى} على ضمير المخاطب، ولو كان هذا الفعل منفيًا؛ لأن في ذلك ما يوحش بخلاف: {وَدَّعَكَ} فليس التوديع كالقلي. وحذف المفعول في الآية له مزية أخرى وهو رعاية الفاصلة والمحافظة على التنغيم الصوتي؛ لما له من قوة تأثير في النفوس، وذلك عندما يقتضيه المقام ويتطلبه المعنى، وهذا هو شأن الفواصل في النظم الكريم، هي تأتي تابعة للمعنى ومحققة لما يقتضيه المقام. وعندما يتطلب المعنى ويقتضي المقام التخلي عن تتابع الفواصل؛ تجد الفاصلة قد قطعت وما يقتضيه المعنى قد أُقِر وأثبت، واقرأ قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي

أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} (الكهف:1، 2). فقد حذف مفعول: {لِيُنْذِرَ} والأصل: لينذر الذين كفروا بأسًا شديدًا؛ وذلك حتى لا يقع الإنذار على الذين كفروا فيكون في هذا تنفير لهم من قبول الهدى والإيمان بالحق. فحذف المفعول فيه ترغيب لهم في قبول الهداية والإيمان، واستمالة لهم نحو الحق والنور المبين. ومن ذلك قول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} (الأعراف: 143). فالمراد: -والله أعلم- أرني ذاتك، فحذف المفعول؛ حتى لا تقع عليه الرؤية؛ إذ الذات العلية لا تقع عليها الرؤية المحيطة كما تقع على الأشياء، وإنما هي تجليات؛ ولذا قال موسى -عليه السلام-: {رَبِّ أَرِنِي}؛ ليفيد قصده دون أن تقع الرؤية على الذات الإلهية؛ لأن هذا شيء لا يليق بالجلال. ففي مثل هذه الأمور الهائلة، وفي تلك المقامات الربانية ينبغي أن يكون الطلب تلميحًا وإيماء، ولا يليق أن يكون تصريحًا مكشوفًا. كذا في (الخصائص والتراكيب). وقد يحذف المفعول؛ استهجانًا لذكره والتصريح به. كما ترى في قول عائشة -رضي الله عنها-:، ((كنت أغتسل أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد، فما رأيت منه ولا رأى مني)). تريد رؤية العورة. وقد يحذف لمجرد الاختصار والإيجاز؛ حيث تدل عليه القرينة دلالة بينة جلية. فيعد ذكره عندئذٍ عبثًا، كما تقول: أصغيت إليه، تريد: أذني، وأغضيت عنه، تريد: بصري.

تقديم المفعول على العامل.

ومنه: قول الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (الإسراء: 110). فالدعاء في الآية، بمعنى التسمية، والأصل: قل ادعوه الله أو ادعوه الرحمن، فحذف المفعول إيجازًا واختصارًا. وقد يحذف المفعول لتعينه، كما في قولك: نحمد ونشكر، تريد: نحمد الله ونشكره، فتسكت عن ذكر لفظ الجلالة؛ لتعينه وانصراف الفعلين له تعالى لا لغيره. وقد يحذف المفعول لصون اللسان عن النطق به، كما تقول: لعن الله وأخذه، تريد الشيطان، فتحذفه؛ صونًا للسانك عن النطق به. إلى غير ذلك من الأسرار الدقيقة التي تراها كامنة وراء طي المفعول وإسقاطه والسكوت عنه؛ فهي لا تخفى على صاحب الذوق السليم وذي الطبع العربي القويم عندما يقرأ وينظر في التراكيب الجيدة والأساليب الرفيعة. تقديم المفعول على العامل وإذا ما انتقلنا للحديث عن تقديم المفعول ونحوه من المتعلقات على العامل؛ لوجدنا أن تقديم المفعول ونحوه من المعمولات: كالجار والمجرور، والظرف، والمصدر، والحال، على العامل يفيد غالبًا الاختصاص، أي: قصر العامل المؤخر على معموله المقدم. تقول: زيدًا أكرمتُ، وبمحمد مررت، وضاحكًا جاء زيد، وإشفاقًا أعطيت، فتفيد بذلك قصر الإكرام على زيد والمرور على كونه بمحمد، وقصر مجيء زيد على هيئة الضحك، وإعطائك على كونه من أجل الإشفاق. ومن ذلك: قول الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5). أي: نخصك بالعبادة فلا نعبد غيرك. ونخصك بالاستعانة فلا نستعين إلا بك.

فتقديم المفعول: {إِيَّاكَ} في الموضعين قد أفاد القصر، أي: قصر العبادة والاستعانة عليه تعالى، وكذا القول في الآيات الكريمة: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} (آل عمران: 158)، {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التوبة: 129)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة: 172). فتقديم المعمولات: {إِلَى اللَّهِ}، و {عَلَيْهِ}، و {إِيَّاهُ}، في الآيات الكريمة السابقة قد أفاد الاختصاص. ومن ذلك أيضًا قول شوقي: بالعلم والمال يبني الناس ملكهم ... لم يبن ملك على جهل وإقلال فتقديم الجار والمجرور بالعلم أفاد قصر بناء المُلك على كونه بالعلم والمال. ومثل ذلك قول الآخر: إذا شئت يومًا أن تسود عشيرة ... فبالحلم سُدْ لا بالتسرع والشتم وقول غيره: على الأخلاق خطوا الملك وابنوا ... فليس وراءها للعز رُكن فقد قصر السيادة في البيت الأول على الحلم، بحيث لا تتعداه إلى التسرع والشتم، وقصر بناء الممالك وخطها في البيت الثاني على الأخلاق فليس وراءها للعز ركن. والعامل المقدر في كل ما ذكرنا كالمذكور. وقولك: زيدًا عرفتُه، إن قدرت المفسر بعد المنصوب أي: زيدًا عرفته: أفاد الاختصاص. وإن قدر قبله أي: عرفت زيدًا عرفته، أفاد: التوكيد وتقوية الحكم. أما قول الله تعالى: "وَأَمَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى" (فصلت: 17). في قراءة مَن قرأ بنصب "ثمود"، فلا يفيد إلا الاختصاص؛ لأنه لا يتأتى أن يقدر المفسر

قبل المنصوب. فلا يقال: أما فهدينا ثمود؛ لأنه لا يتأتى أن يقدر المفسر قبل المنصوب. فلا يقال: أما فهدينا ثمود، ولكون تقديم المعمول على عامله يفيد غالبًا الاختصاص، كان من الخطأ أن تقول: ما زيدًا ضربتُ ولا غيره؛ لأن تقديم المفعول وإيلاءه أداة النفي أفاد نفي الضرب عن زيد وإثباته لغيره، فقولك: بعده ولا غيره يناقضه ويدفعه أي: أن عجز الجملة يتناقض مع صدرها. ونحوه قوله: ما بهذا أمرتك ولا بغيره؛ لأن قولك: ما بهذا أمرتك أفاد نفي الأمر عن الجار والمجرور المقدم وإثباته لغيره، وقولك بعده: ولا بغيره يناقضه، والصواب أن يقال: ما ضربت زيدًا ولا غيرَه، ما أمرتك بهذا ولا بغيره، بدون تقديم أو يقال: ما زيدًا ضربت ولكن أكرمتُ؛ لأن تقديم المفعول أفاد نفي الضرب عن زيد وإثباته لغيره. وقولك: ولكن أُكرمك، رجوع عن إثبات الضرب لغير زيد، فالصواب أن تقول: ما ضربت زيدًا ولكن أكرمته، أو تقول: ما زيدًا ضربت ولكن عمرًا، وهو مبني -كما قلنا- على إفادة التقديم للاختصاص. وتأمل مع ما ذكرنا قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143). فإنك تجد: أن الجار والمجرور قد أُخِّر على شبه الفعل في قوله: {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، وقدم عليه في قوله: {عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}؛ وذلك، لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم دون إفادة اختصاصهم بتلك الشهادة، وفي الثاني المراد إفادة اختصاصهم بكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- شهيدًا عليهم وليس مجرد إثبات شهادتهم. يقول الزمخشري في (الكشاف): وروي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا -وهو أعلم- فيؤتى

بأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- فيشهدون، فتقول الأمم: مِن أين عرفتم؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتَى بمحمد -صلى الله عليه وسلم- فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم، وذلك قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (النساء: 41). وقيل: المعنى: لتكونوا شهداءَ على الناس في الدنيا بما لا يصلح إلا بشهادة العدول الأخيار: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} يزكيكم ويعلم بعدالتكم، فإن قلتَ: لِمَ أخرت صلة الشهادة أولًا، وقدمت آخرًا؟ قلت: لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- شهيدًا عليهم. ثم اقرأ قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (الروم: 27)، وقوله: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} (مريم: 9). تجد: أن الجار والمجرور قد أخِّر في الآية الأولى؛ لأنه لا معنى للدلالة على الاختصاص فيها؛ إذ كون الإعادة أهون من البدء أمر مسلم به لا ينكره أحد، أما في الآية الثانية فقد قدم الجار والمجرور؛ للدلالة على الاختصاص؛ لأن المقام يقتضي ذلك. وقد يفيد التقديم بالإضافة إلى الاختصاص مزية أخرى وهي: المحافظة على الفواصل والاستمرار في التنغيم الصوتي، على نحو ما ترى في قول الله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} (الحاقة:30: 32). فتقديم المفعول: {الْجَحِيمَ} على الجار والمجرور: {فِي سِلْسِلَةٍ} يفيد الاختصاص والمحافظة على الفاصلة واستمرار النغم الصوتي المؤثر في الأنفس. ومثله: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر:1: 5).

وقد يقدم المعمول؛ لكونه محل الإنكار كما في قول الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} (الأنعام: 164). فمحل الإنكار هو: كون الله غير الله بمثابة أن يُبغَى ربًّا؛ ولذا قدم فولي همزة الاستفهام. وقد يكون التقديم للتوكيد والاهتمام بالمقدَّم وتقوية الحكم. كما في قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} (الضحى: 9، 10) فتقديم {الْيَتِيمَ}، و {السَّائِلَ} فيه تأكيد النهي وتقرير الحكم؛ إذ لا معنى لقصر النهي على القهر على اليتيم، والنهي عن النهي عن السائل. ولا يخفى عليك ما وراء التقديم بمجيء الفاصلة في الآيتين على حرف الراء، وما ينبئ به من شدة الزجر وقوة التحذير. وتقول عن الصلاة: لا تغفل، الزنا لا تقرب، فيفيد التقديم المبالغة في النهي وشدة التحذير. وعلى نحو ما يقع تقديم المعمولات على العامل، ويكون ذلك لنكتة بلاغية. فإنه يقع بين المعمولات نفسها، بأن يقدم بعضها على بعض ويكون ذلك أيضًا لنكتة بلاغية؛ ذلك أن الأصل في صياغة الكلام وبناء الجمل وتأليف العبارات أن يتقدم الفاعل على المفعول ونحوه من المتعلقات، وأن يتقدم المفعول الأول على الثاني والثاني على الثالث. ويقال مثلًا: أكرم محمدٌ خالدًا، وأعطى حاتم الفقير درهمًا، وأعلمت عمرًا ابنه ناجحًا. وقد يخالف هذا الأصل فيقدم أحد المتعلقات على الفاعل، أو تقدم بعض المتعلقات على بعض؛ وذلك لأسرار بلاغية يقصد إليها البلاغي، ويقتضيها المقام. فإذا كان الغرض من الكلام مثلًا معرفة وقوع الفعل على المفعول، وانشغل الناس بذلك، قُدم المفعول على الفاعل. فيقال مثلًا: قتل الخارجي عمرًا، وأمسك بالمجرم الشرطي؛ وذلك أن الناس منشغلون بأمر الخارجي والمجرم، والغرض من الكلام متوجه إليهما.

وتأمل قول الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (الأنعام: 151) وقوله -عز وجل-: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (الإسراء: 31) تجد في الآية الأولى: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} حيث قدم ضمير المخاطبين على ضمير الأولاد. وفي الثانية: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}، قدم ضمير الأولاد على ضمير المخاطبين وسبب ذلك أن الخطاب في الأولى للفقراء بدليل قوله تعالى: {مِنْ إِمْلَاقٍ} فكان رزقهم أهم عندهم من رزق أبنائهم؛ إذ هم في حاجة إليه ولذا قدم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم، والخطاب في الآية الثانية للأغنياء بدليل قوله تعالى: {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} فإن الخشية إنما تكون مما لم يقع، فكان رزق أولادهم هو المطلوب دون رزقهم؛ لأنه حاصل؛ ولذا قدم برزق أولادهم على الوعد برزقهم. واقرأ قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} (النمل:67، 68) وقارنه بقوله -عز وجل-: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} (المؤمنون:81: 83). فإنك تجد في الآية الأولى: {وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا}، وفي الثانية: {وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا}؛ وذلك لأن السياق في الآية الأولى ينبئ بأن مصب الإنكار وموضعه والجهة التي نظر إليها الكفرة وقصدوها بإنكارهم إنما هي البعث، فبعثهم وإخراجهم بعد موتهم وصيروتهم ترابًا هم وآباؤهم، هو الغرض الذي تعمم بالكلام وقصد: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} ولذا قدم اسم الإشارة المشار به إلى البعث، إذ هو الغرض المقصود والمساق له الكلام. أما

في الآية الثانية: فالسياق ينبئ بمدى تمسكهم بعقائد الآباء وحرصهم على محاكاتها وتقليدهم فيها. فموضع الإنكار ومصبه والجهة المنظور منها هي المبعوثون لا البعث فهم سياق الحديث والغرض الذي تعمد به وقصد. فلما كان الغرض المقصود في الآية الأولى هو البعث، قدم اسم الإشارة، ولما كان الغرض المقصود في الآية الثانية هم المبعوثون، قدم ما يدل عليهم: {نَحْنُ وَآبَاؤُنَا}. وقد يكون الغرض من تقديم أحد المعمولات على الآخر هو: أن تأخيره يخل بالمعنى ويوهم خلاف المراد، كما في قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} (غافر: 28). فقد وصف الرجل بثلاث صفات: الإيمان، وكونه من آل فرعون، وكتمانه إيمانه. وقدم: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} على: {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}؛ لأنه لو أخّر فقيل: وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون؛ لتُوهم أن الجار والمجرور متعلق بالفعل: {يَكْتُمُ}، وأن الرجل يكتم إيمانه خوفًا من آل فرعون، فهذا إخلال بالمعنى المراد؛ إذ لا يفهم منه عندئذ أن الرجل كان من آل فرعون بل يتوهم أنه كان يكتم إيمانه؛ خوفًا منهم، ففي هذا ضياع للهدف والغرض من الآيات. إذ المراد: إبراز عناية الله تعالى ورعايته لموسى بأن جعل من آل فرعون من يدافع عنه، ويجادلهم فيه، ويناقشهم من أجله. وقد يقدم أحد المتعلقات؛ لإفادة التبكيت والتوبيخ كما في قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْم اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (يس:20، 21) حيث قدم الجار والمجرور: {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} على الفاعل: {رَجُلٌ}؛ لأن في هذا التقديم زيادةً في

تبكيت أولئك القوم وتوبيخهم، قد كانوا قريبين من الرسل وشاهدوا منهم ما لم يشاهده ذلك الرجل الذي كان في أقصا المدينة، وعلى الرغم من ذلك فقد نصح لهم بما لم ينصحوا به أنفسهم. وقد يكون التقديم من أجل المحافظة على الفاصلة. كما في قوله تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} (طه:66: 68). حيث قدم المفعول: {خِيفَةً} والجار والمجرور: {فِي نَفْسِهِ} على الفاعل؛ لأنه لو قدم عليهما فقيل: فأوجس موسى في نفسه خيفةً، أو فأوجس موسى خيفةً في نفسه، لكان في ذلك خروج على النسق الصوتي وإخلال بموسيقى النظم، وما لها من وَقْع في النفس وأثر في المعنى. إلى غيره من الاعتبارات والمزايا البلاغية التي تلاحظ في تقديم بعض المتعلقات على بعض. إلى هنا، ينتهي حديثنا عن متعلقات الفعل؛ ونكون بذلك قد أنهينا حديثنا أيضًا عن أجزاء جملة الإسناد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 15 الأساليب الإنشائية.

الدرس: 15 الأساليب الإنشائية.

التعريف بالأسلوب الإنشائي

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (الأساليب الإنشائية) التعريف بالأسلوب الإنشائي الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد: حديثي عن قسيم الخبر وهو الإنشاء. وكنت قد وقفت بك -فيما سبق- على الأسلوب الخبري، وأحوال الإسناد الخبري، وأحوال أجزاء الجملة من مسند ومسند إليه، ومتعلقات الفعل. وعرفتَ ما يمتاز به هذا الأسلوب إنه مبني على الحكاية، ويقصد به الإخبار والإعلان بمضمون الجملة الخبرية. وبجانب هذا الأسلوب الخبري توجد الأساليب الإنشائية التي يقصد بها إنشاء الكلام وإيجاده ابتداءً. فليس الهدف منها الإعلان وحكاية الخبر، وإنما هي عبارات تُصاغ ابتداءً وتنشأ إنشاءً؛ ليطلب بها مطلوبًا. وتمتاز الأساليب الإنشائية؛ للحث وإثارة الذهن وتمشيط العقل وتحريك المخاطب. ولمزيد من الإيضاح، والتفرقة بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي، فانظر إلى هذه الشواهد يقول الغنوي في رثاء أخيه: أخ كان يكفيني وكان يعينني ... على نائبات الدهر حين تنوب عظيم رماد القدر رحب فناؤه ... إلى سند لم تحتجبه غيوم حليف الندى يدعو الندى فيجيبه ... سريعًا ويدعوه الندى فيجيبُ السند: هو ما ارتفع عن الوادي وسفل عن الجبل. والغيم: هو البطن المنخفض من الأرض. وحليف الندى: أي: بينه وبين الندى، وهو: الكرم حلف وعهد. عندما تتأمل هذه الأبيات تجد أن الشاعر يحكي عن أخيه ويخبر بأنه كان يأخذ بيده في أوقات الشدة، وكان كريمًا تقصده الضيوف فلا يحتجب عنهم؛ لأن الكرم خُلقه وشيمته. فهما حليفان لا يفترق أحدهما عن الآخر، ولا يتخلف عن

إجابة دعواه. وهذا الذي يخبر به الغنوي قد يطابق الواقع، فيكون صادقًا وقد يخالفه فيكون كاذبًا. وقارن بين رثاء الغنوي في الأبيات المذكورة وبين قول الخنساء في رثاء أخيها صخر: أعيني جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى؟ ألا تبكيان الجواد الجميل؟ ... ألا تبكيان الفتى السيدا؟ تجد: الأسلوب هنا يختلف؛ الخنساء لا تخبر وإنما تنادي، وتأمر، وتنهى، وتسأل، هي تحض عينيها وتحثهما على بكاء صخر. هذه هي الأساليب الإنشائية، وهي وإن كان لها واقع في نفس الخنساء إلا أنه لا يقصد بتلك الأساليب مطابقة هذا الواقع أو مخالفته، وإنما يقصد بها إنشاء تلك المعاني. كذلك القول في قول البحتري: فيا ليت طالعة الشمسين غائبة ... ويا ليت غائبة الشمسين لم تغب وقول الآخر: ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدح فما أرضَى لكم كلمي هؤلاء الشعراء لم يريدوا الإخبار، وإنما قصدوا إلى إنشاء تلك المعاني. ولذا ساغ للبلاغيين أن يقسموا الكلام إلى قسمين: القسم الأول: الخبر: يقال عنه: أنه قول يحتمل الصدق والكذب لذاته. كقولك: جاء زيد، وذهب خالد، ونجح عمرو. فتلك أخبار تحتمل الصدق والكذب. وقيدوه بقولهم: لذاته أي: لذات القول؛ لينبهوا إلى تلك الأقوال التي لا تحتمل إلا الصدق، كأخبار القرآن الكريم، الحديث الشريف وكالأقوال الثابتة، نحو:

السماء فوقنا، والأرض تحتنا، والواحد نصف الاثنين. فتلك الأخبار لا تحتمل سوى الصدق، ولكن هذا الاحتمال ليس لذات القول وإنما بالنظر إلى قائله وهو الله تعالى والرسول -صلى الله عليه وسلم- وباعتبار ثبات الأقوال في الأخبار التي تتضمن أقوالًا ثابتةً. وننبه أيضًا إلى الأخبار التي لا تحتمل إلا الكذب، كأخبار مُسيلمة الكذاب، فمثل هذه الأقوال لا تحتمل إلا الكذب ليس لذات القول، بل باعتبار من قالها؛ ولذا قيدوا احتمال الخبر للصدق والكذب أي: لذاته، أي: بغض النظر عن قائله، ومرجع احتمال الخبر للصدق والكذب إلى تطابق النسبتين الكلامية والواقعية أو عدم تطابقهما، فقولك: نجح عمرو، له نِسبتان؛ كلامية: يفيدها النطق بالخبر والإعلام به، وخارجية: وهي ما عليه الواقع. فإن تطابقت النسبتان كان الخبر صادقًا وإن تخالفتَا كان كاذبًا. القسم الثاني: هو الإنشاء وقد عرفوه بقولهم: قول لا يحتمل الصدق والكذب. وذلك أساليب الإنشاء يقصد بها إنشاء المعاني -كما قلنا- وصوغها ابتداءً؛ ليطلب بها مطلوبًا معينًا. وهذا لا يعني أن أساليب الإنشاء ليس لها نسبة خارجية حتى ينظر في مطابقتها للنسبة الكلامية، فيكون المعنى على الصدق أو عدم مطابقتهما، فيكون المعنى على الكذب أو عدم مطابقتها. بل لها نسبة خارجية وهي قيام المعنى الإنشائي من تمن، أو أمر، أو نهي، أو استفهام، أو نداء في نفس المتكلم. ولكن ليس المقصود من الجملة الإنشائي الإخبار بمطابقة هذه النسبة بالنسبة الكلامية، وإنما المقصود هو إنشاء المعنى وابتداؤه.

أقسام الأسلوب الإنشائي.

وبتأمل الأساليب نجد المعاني الإنشائية قد ترد في أسلوب الخبر، كقولك مثلًا: غفر الله لك، وفرج كربك وأثابك. وكقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يجتمع دينان في جزيرة العرب))، كما أن المعاني الخبرية قد ترد في أسلوب الإنشاء، نحو قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 29)، وكقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن كذَب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار))، ولك أن تخبر عن أساليب الإنشاء فتقول: تمنيت لك الخير، وأمرت خالدًا بالمعروف، ونهيته عن المنكر، واستفهمته عن موعد الاختبار، وناديت عمرًا فأقبل إليَّ، ورجوت لك الخير والصلاح، وأقسمت بالله أن أبر والدي، وعندئذٍ يأخذ الأسلوب طابع الحكاية والخبر، فيكون كلامًا يحتمل الصدق والكذب. أقسام الأسلوب الإنشائي هذا وينقسم الإنشاء إلى قسمين: إنشاء طلبي، وإنشاء غير طلبي. أما الإنشاء الطلبي: فهو ما يستدعي مطلوبًا غير حاصل وقتَ الطلب، ويشمل أساليب الأمر، والنهي، والتمني، والاستفهام، والنداء. كما في قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر: 94)، وقوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران: 169)، وقول عمر يوصي ابنَه عبد الله -رضي الله عنهما-: "يا بني، اتقِ الله، فإن من اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن شكره زاده". كذا قوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (الفجر: 24)، وقوله -جل وعلا-: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} (البقرة: 142) إلى غير ذلك.

فإن هذه الشواهد قد اشتملت على أساليب إنشائية يطلب بها أمر غير حاصل وقت الطلب، فالله --عز وجل-- يأمر نبيه: {فَاصْدَعْ}، {وَأَعْرِضْ}، والأمر: طلب للفعل. وينهاه: رلَا تَحْسَبَنَّ}، والنهي: طلب الكف عن الفعل. وعمر ينادي عبد الله: "يا بني"، في النداء طلب الإقبال. والكافر يتمنى: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ}، والتمني: هو طلب المحبوب الذي لا طمع فيه. والسفهاء يسألون: {مَا وَلَّاهُمْ}، والاستفهام: طلب الفهم. فهذه الأساليب قد طلب بها -كما ترى- أمور غير حاصلة أثناء الطلب؛ ولذا كان الإنشاء فيها إنشاء طلبيًّا، فإذا استعملت تلك الأساليب الأمر والنهي والتمني والاستفهام والنداء في أمور حاصلة وقت الطلب وجب تأويلها بالطلب بحسب القرائن وما يناسب المقام، قوله تعالى مثلًا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} (الأحزاب: 1)، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (النساء: 136) وقول عمر السابق: "يا بني، اتق الله". تجد بتأمل هذه الأساليب أن التقوى والإيمان المأمور بهما حاصلان وقت الطلب. فالمعنى فيهما على طلب دوام الإيمان واستمرار التقوى. أما الإنشاء غير الطلبي: فهو ما لا يستدعي مطلوبًا، وله صيغ كثيرة؛ منها القسم قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} (الأنبياء: 57)، وأفعال المدح والذم كقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} (الذاريات: 48)، وقوله -عز وجل-: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} (الجمعة: 5)، والترجي كما في قوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} (المائدة: 52)، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف: 6).

والتعجب كما في قول الشاعر: بنفسي تلك الأرض ما أطيب الرُّبا ... وما أحسن المُصطاف والمتربعا فالربا: ما ارتفع من الأرض، والمصطاف: مكان الصيف، والمتربع: مكان الربيع. والمعنى: أفدي بنفسي تلك الأرض؛ لطيب رُباها العجيب، ولجمال فصليها. ومن ذلك ألفاظ العقود كقولك: بعت، واشتريت، ومنها: رب، وكم الخبرية؛ لدلالتهما على إنشاء التقليل أو التكثير كما في قول القائل: رب أخ لك لم تلده أمك، وكما في قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 249). ولكن البلاغيين اهتموا بدراسة أساليب الإنشاء الطلبي وأهملوا دراسة أساليب الإنشاء غير الطلبي؛ وحجتهم في ذلك: أن الإنشاء الطلبي غني بالاعتبارات والملاحظات البلاغية، وأن أساليبه وهي: الأمر، والنهي، والتمني، والاستفهام، والنداء قد ترد ويراد بها غيرُ معانيها. فالأمر لطلب حصول الفعل، وقد يرد للتهديد ونحوه. استفهام لطلب الفهم، وقد يرد للإنكار وغيره، وهكذا. فتلك الأساليب الطلبية يتولد منها بحسب القرائن والسياق معان بلاغية متعددة. أما أساليب الإنشاء غير الطلبي فقد أهملوها؛ لأمرين: 1 - أن أكثر هذه الأساليب في الأصل أخبار نُقلت إلى معنى الإنشاء. 2 - أنها لا تُستعمل إلا في معانيها التي وُضِعت لها، فالقسم لا يفيد إلا القسم، والتعجب والتعجب لا يرد بغير التعجب. وهذا لا يعني أن تلك الأساليب خالية من الاعتبارات البلاغية والمزايا الجمالية، بل تكمن وراءها أيضًا ملاحظات بلاغية واعتبارات دقيقة، لكن ليس بالقدر الذي هو موجود في الإنشاء الطلبي.

أسلوب الأمر.

أسلوب الأمر ولنجارِ في تناولنا لأساليب الإنشاء البلاغيين، ولنبدأ بالحديث عن أسلوب الأمر: للأمر صيغ أربع، وهي: 1 - فعل الأمر: كقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال: 60)، وقوله -عز وجل-: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} (هود: 37). 2 - الفعل المضارع المقرون بلام الأمر: كما في قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (الطلاق: 7)، وقوله -عز وجل-: {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} (البقرة: 282). 3 - اسم فعل الأمر: نحو: صه بمعنى: اسكت، ومَه بمعنى: اكفف، وعليك بمعنى: الزم. ومنه: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105). 4 - المصدر النائب عن فعل الأمر: كقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (النساء: 36) أي: وأحسنوا بهما، وقوله: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} (محمد: 4) أي: فاضربوا الرقاب، فمنه قول ابن الفجاءة: فصبرًا في مجال الموت صبرًا ... فما نيل الخلود بمستطاع وكقوله -عليه السلام-: ((رفقًا بالقوارير))، وتقول: سعيًا في الخير، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر ورميًا بالرمح، وضربًا بالسيف، وحمدًا لله وشكرًا.

وقد قالوا في تحديد مفهوم الأمر: هو طلب حصول الفعل على جهة الاستعلاء. هذا هو مفهوم الأمر حيث يكون من الأعلى إلى الأدنى. فالأعلى يطلب ممن هو دونه حصول الفعل وتحقيقه ويبعثه ويحثه عليه. وهذا هو الأصل فيه؛ لأنه هو المتبادَر إلى الذهن عند سماع الأمر كما ذكر الخطيب. وقد تستعمل صيغ الأمر في غير هذا الأصل الذي وُضعت له، فتفيد الإباحة أو الدعاء أو التهديد أو التمني أو الحث والإثارة أو الاستمرار والدوام على تحقيق الفعل، إلى غير ذلك من المعاني التي تفيدها هذه الصيغ بمعونة السياق وقرائن الأحوال. وقد اهتم البلاغيون بالحديث عن هذه المعاني وتجليتها والكشف عن دقائقها، ومزاياها في التعبير فذكروا أن الأمر يأتي أحيانًا للإباحة، وذلك عندما تستعمل صيغة الأمر في مقام يتوهم فيه السامع حاظر شيء عليه. ومن جميل ذلك قول كثير عزة: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت القلي: يعني البغض والكراهية، أي: أنت لست ملومةً ولا مخليةً: أي: مكروهة. فكثير يبيح لعزة أن تسيء إليه أو تحسن فهو راضٍ في الحالين غاية الرضا. فسر جمال هذا التعبير -أي: التعبير بصيغة الأمر في مقام الإباحة في هذا البيت- أنه يكشف لنا عما أصاب الشاعر من عشق وهيام، وقد وصل به إلى منتهاه، حتى صار يطلب منها الإساءة كما يطلب منها الإحسان ويلح في ذلك إلحاحًا، وكأن الإساءة أمر مطلوب مرغوب. فالإنسان عندما يصل به الحب إلى حد الإفراط يصير كل فعل يصدر عن حبيبه لا يراه إلا جَمالًا. وبهذا يتضح لك أن استعمال الشاعر لصيغة الأمر في مكان الإباحة يكشف عن مكنون نفسه، ويبرز ما بداخله بأخصر طريق وأجمله.

واستعمال الأمر في معنى الإباحة كثير في آي الذكر الحكيم، من ذلك قول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (البقرة: 187) فالمراد من الأمر في الآية الكريمة إباحة الأكل والشرب في ليالي رمضان حتى طلوع الفجر. في التعبير بصيغة الأمر مكان الإباحة حثٌّ على تناول السحور، وكأنه أمر مطلوب مرغوب فيه، ومثل ذلك: قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10) وفيه: حثٌّ على العمل، وابتغاء الرزق. ويأتي الأمر للتخيير بين شيئين أو أشياء بحيث يختار منها السامع. كما في قول بشار: فعش واحدًا أو صِلْ أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانب فهو يخير مخاطبه بين أمرين: العيش واحدًا منعزلًا، أو صلة الإخوان ومخالطتهم مع التجاوز عما يكون منهم من إساءات؛ فتلك لا بد منها على حد قول الآخر: وليس بمستبقٍ أخًا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب هذا، والفرق بين الإباحة والتخيير: أن الإباحة إذن في الفعل وإذن في الترك، فهو إذنان معًا. أما التخيير: فهو إذن في أحدهما من غير تعيين؛ ولذا فالتخيير لا يجوز الجمع بين الشيئين والإباحة تجوزه. ويأتي الأمر للتهديد ويكون في مقام عدم الرضا بالمأمور به، كما تسمع من الرئيس يقول لأحد مرؤوسيه: افعل ما بَدَا لك، أو من السيد يقول لعبده: دم على عصيانك فالعصا أمامك، فليس المراد من الأمر في الموضعين الامتثال أي: فعل ما أمر به، ولكن المراد هو التهديد والوعيد.

وتأمل مع ذلك قول الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} (إبراهيم: 30). وقد أخبر الله -عز وجل- عنهم أنهم أشركوا به وجعلوا له أندادًا ليضلوا عن سبيله، ثم جاء الوعيد والتهديد: {تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} (إبراهيم: 30)، فليس المراد بالأمر في الآية الامتثال. كأن الله تعالى لما ارتكب هؤلاء ما لا يغفر وهو الشرك أراد بهم أن يقوى طغيانهم، ويشتد إعراضهم، ويزدادوا تمتعًا بشهواتهم، فإذا ما تم لهم ذلك كان عقابهم أشد وأقوى. فليس الأمر مرادًا -كما ترى- بل المراد: هو الزجر والوعيد حتى يقلع هؤلاء عما هم فيه من عناد ومكابرة. وتدبر الالتفات من الغيبة في قوله: {جَعَلُوا}، {لِيُضِلُّوا} إلى الخطاب في قوله: {تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ} فهو التفات الغاضب المتوعد. وعلى نحو ما ذكر يُحمَل قوله -عز وجل-: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} (التوبة: 64)، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (فصلت: 40) فليس المراد -كما ترى- بالأمر: {اعْمَلُوا} أن يمتثلوا فيعملوا ما يشاءون، بل المراد الزجر والتهديد حتى يقلعوا عن الإلحاد، ويكفوا عن العناد، وكأن الله سبحانه لشدة غضبه عليهم يأمرهم بما يوجب عقابهم؛ لينكل بهم أشد تنكيل، وهذا هو سر بلاغة التعبير بالأمر في مقام الوعيد والتهديد. ويأتي الأمر كذلك للتعجيز والتحدي، ويكون في مقام إظهار عجز من يدعي قدرته على فعل أمر ما وليس في وسعه ذلك. كما في قول الله تعالى: {وَإِنْ

كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (البقرة: 23). فليس المراد بالأمر في الآية الكريمة التكليف والإلزام والإتيان بسورة من مثله، وإنما المراد إظهار عجزهم عن الإتيان؛ لأنهم إن حاولوا ذلك الإتيان بعد سماع صيغة الأمر ولم يمكنهم ذلك، بَدَا عجزهم وظهر. وسر بلاغة التعبير بالأمر في مقام التعجيز إبراز قوة التحدي والتسجيل عليهم؛ ليتعظوا ويقلعوا عما هم فيه من عنادٍ ومكابرةٍ. ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111)، وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 168)، وقوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} (لقمان: 11). فلا يخفَى عليك ما في هذه الآيات من قوة التحدي والتسجيل على المخاطبين وإبراز عجزهم، وفي ذلك لفتهم إلى النظر في حالهم، والتفكر فيما هم فيه من عناد ومكابرة، وسوء تقدير. وتأمل قول المهلهل مخاطبًا آل بكر، ومعلنًا شدة غضبه لقتلهم أخاه كليبًا: يا آل بكر انشروا لي كليبًا ... يا آل بكر أين أين الفرار فهو يهددهم بالويل والثبور، ويطلب منهم إعادة كُليب إلى الحياة؛ وإعادة كليب إلى الحياة من المحال. فالأمر في قوله: انشروا لي؛ للتعجيز. وسر بلاغة التعبير بأسلوب الأمر في البيت: إشعارهم بأنه لا منجى لهم ولا مهرب، وأنه آخذ بثأره منهم لا محالة. ومثله قول الآخر: أروني بخيلًا طال عمرًا ببخله ... وهاتوا كريمًا من كثرة البذل

لأنك تجد أن الشاعر هنا يتحدى المخاطبين أن يوقفوا على بخيل قد امتد عمره وطال أجله بسبب بخله، وأن يبرزوا له كريمًا قد مات من كثرة البذل والعطاء. وتشعر بما وراء ذلك من التنفير من البخل، والحث على الكرم والعطاء. ويأتي الأمر للإهانة والتحقير: ويكون هذا في مقام عدم الاعتداد بالمخاطب، وقلة الاكتراث، وقلة اللامبالاة والاكتراث به. كما في قول الله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان: 49). فالكافر لا يمكنه الذوق؛ لأنه يعاني غصص العذاب وآلامه ومحنه، وتلك حال لا يستطيع فيها أن يذوق إلا الحميم والغسلين. ولا يخفى عليك ما وراء أسلوب الأمر من الإهانة والتحقير والتهكم والاستهزاء بهؤلاء الذين انحرفوا عن العقل، وحادوا عن المنهج القويم. وتنبعث تلك السخرية من قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}. ولا عزة ولا كرامة وإنما ذِلة ومهانة، ومثل قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (النساء: 138). فالأمر بالتبشير في الآية يحمل معنى الإهانة والتحقير لهؤلاء المنافقين. وتأمل قول الشاعر: فدع الوعيد فما وعيدك ضائري ... أطنين أجنحة الذباب يضير فأمره بترك الوعيد يشعر بمدى الحقارة والاستهزاء بهذا الذي يتوعد ويهدد وليس في إمكانه أن يحقق هذا الوعيد؛ فوعيده طنين كطنين أجنحة الذباب. وأنَّى لمثل هذا الوعيد أن يضير، بل كيف يتوعد مَن هذا شأنه؟! ويأتي الأمر كذلك ويراد به التسوية ويكون ذلك في مقام توهم رجحان أحد الأمرين على الآخر. كما في قول الله تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} (التوبة: 53). أي: يستوي عدم القبول منكم، سواء أكانت النفقة صادرةً

عن طواعيةٍ، أو عن كراهيةٍ؛ وذلك أنه سبحانه قد علم من حالهم عدم الاهتداء، وربما يتوهم المخاطب أن الإنفاق طوعًا مقبول، فدفع ذلك بالتسوية بينهم. ومثل ذلك: قول الله تعالى: {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الطور: 16)، وقوله: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا} (الإسراء: 107) أي: يستوي الصبر وعدمُه في عدم النفع؛ وذلك دفعًا لما قد يتوهم من أن الصبر نافع للكفار في عذاب يوم القيامة. وتشعر في الآية الثانية فضلًا عن التسوية بين الإيمان وعدمه بمعنى الاحتقار والازدراء، وقلة المبالاة، أي: آمنوا أو لا تؤمنوا فقد آمَن به مَن هم أفضل منكم وأعظم؛ ولذا استوى إيمانكم وعدم إيمانكم. ويأتي الأمر ليفيد التمني: ويكون ذلك في مقام طلب الشيء المحبوب الذي لا قدرةَ للطالب عليه، ولا طمع له في حصوله. كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} (المؤمنون: 107). وقد طلبوا الخروج من النار. ولات حين خروج؛ إنه محال ولا طمع لهم في حصوله، ولكنه التمني. وانظر إلى قول امرئ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل فالشاعر قد كثرت همومه، تكالبت عليه الشدائد حتى أصابه الأرَق، وهجره النوم. هو يتمنى أن ينجلي ذلك الليل وينأى بظلامه عنه حتى يستقبل الصباح، وينعم بضيائه، ثم عاد على ذلك بالنقل، فقال: وما الإصباح منك بأمثل. فأنت وهو سواء، وإنما طلب انجلاء الليل مع هذا؛ لأن في تغير الزمن راحةً على كل حال، وليس الغرض من صيغة انجلى: طلب الانجلاء من الليل؛ لأن الليل ليس مما يخاطب ويؤمر. وإنما يتمنى الشاعر ذلك تخلصًا مما يعاني.

ويفيد الأمر أحيانًا الدعاء: وهو الطلب على سبيل التضرع والخضوع، ويكون في أسلوب الأمر إذا صدر من الأدنى إلى الأعلى منزلةً، كما في قول الله تعالى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه:25: 32)، وقوله -عز وجل-: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} (آل عمران: 193)، وقوله -جل وعلا-: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (البقرة: 126). فالأمر في هذه الآيات الكريمة ونحوها المراد منه التضرع إلى الله والتوجه إليه والدعاء له؛ لأن الله -جل وعلا- لا يأمره أحد من خلقه. وسر التعبير بأسلوب الأمر في مقام الدعاء في الآيات الكريمة هو إظهار كمال الخضوع لله -عز وجل- وبيان شدة الرغبة في تحقيق تلك الأفعال حتى كأنها أمور مطلوبة من الله -تبارك وتعالى-. ومن المعاني التي يفيدها الأمر: الالتماس، ويكون عند خطاب مَن يساويك في الرتبة والمنزلة، والطلب منه على سبيل التلطف، وبدون تضرع ولا استعلاء. على نحو ما ترى في قول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحَومل وهو يخاطب صاحبيه، ويطلب منهما الوقوف في هذا المكان العزيز على نفسه؛ ليذرفَا معه الدمع قضاءً لحق هذه الذكرى الغالية. وهو طلب جاء لصاحبيه بأسلوب الأمر، وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يراد بصيغة الأمر الالتماس لا الإلزام والتكليف؛ لأن خطاب الند ندَّه لا يراد به معنى الإلزام.

ويأتي الأمر كذلك للنصح والإرشاد: وذلك إذا تضمن نصيحة لم تكن على وجه الإلزام، كما في قول الله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17)، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لعلي -رضي الله عنه-: ((إن أردت أن تسبق الصديقين؛ فَصِلْ مَن قطعك، واعط مَن حرمك، واعف عمن ظلمك)) ففي الآية الكريمة يوصي لقمان ابنه بتلك الفضائل. في الحديث ينصح -صلى الله عليه وسلم- عليًّا -رضي الله عنه- أن يتحلى بتلك الخصال الحميدة. ولا يقال: إن الأمر هنا للوجوب، إذ المأمور به واجب؛ لأن المأمور به إنما يكون واجبًا إذا وردت تلك الأوامر في مقام الأمر والإلزام من الله -عز وجل-. أما ورودها هنا على لسان لقمان في الآية، وعلى لسان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في الحديث، فإن المقام يقتضي أن تكون للنصح والإرشاد. ومن هذا القبيل: تلك الأوامر التي ترد على ألسنة الوعاظ والمرشدين والموجهين؛ فهم يريدون منها النصح والإرشاد، وأن يعبروا عما يضمرونه من حب وإخلاص لأتباعه. وهذا هو سر التعبير في أسلوب الأمر في مقام الإرشاد والنصح. ويأتي الأمر كذلك للإكرام: كما في قول الله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} (الحجر: 46). وهذا مراد به الإكرام للمؤمنين، وهو شائع بين الناس. فإنك تقول لضيفك وهو مستمر في الأكل والشرب: كُلْ، واشرَبْ، وقد تقسم عليه أن يأكل ولا تقصد إلا زيادة إكرامه، وأن تصور ما في خلجات نفسك من حب له وسرور به. وقد يأتي الأمر بتصوير حال المتكلم والدلالة على ما هو فيه من الحيرة والتخبط: كما في قول الله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} (الأعراف: 50). فأصحاب النار يعلمون يقينًا أن ما في

الجنة محرم عليهم، ولكنهم لفرط ما هم فيه من هول وعذاب كأنهم قد فقدوا عقولهم، فصاروا يطلبون ما لا سبيلَ إلى تحقيقه. ومثل ذلك: قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} (المؤمنون:99: 100)، وقوله: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} (المؤمنون:106: 107). وكأن الكافر وقد حضره ملك الموت، وأبصر زبانية العذاب، أصابه الهول، فصار يطلب ما لا سبيل إلى تحقيقه، ولا يدري ماذا يقول؟ وكذا في الآية الثانية، كأن الأشقياء لشدة ما ذاقوا من العذاب في جهنم أصبحوا في حيرة وتخبط، فصاروا يطلبون ويتمنون ما لا سبيل إلى تحقيقه. وقد يأتي الأمر للإثارة والإلهاب والتهييج: وذلك عندما يوجه إلى المأمور الواقع منه الفعل، والذي لا يتصور أن يكون منه خلافه. كما في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} (الأحزاب: 1)، وقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (هود: 112)، وقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30). إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي يوجه فيها الأمر بما هو حاصل، أو النهي عن غير الحاصل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-. فإن الغرض من الأمر أو النهي عندئذ:= هو الإثارة والتهييج والإلهاب؛ حتى يزداد المخاطب تمسكًا بما هو عليه من الحق واليقين، ويستمر ويداوم؛ ولذا قالوا: إن التعبير بالأمر في مثل هذه الآيات وكذا النهي يفيدان طلب الدوام والاستمرار، أي: طلب دوام التقوى والاستقامة، والابتعاد عن الكفار، وعن الطغيان.

وقد يأتي الأمر تصويرًا للحدث وبيانًا لكيفية وقوعه انقيادًا وإظهارًا لقدرة الله تعالى، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11)، وقوله: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} (البقرة: 243)، وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس: 82). فالأمر في الآيات الكريمة: راِئْتِيَا}، رمُوتُوا}، ركُنْ}، يصور حالَ الحدثِ وسرعةَ وقوعِه، وانقياده لأمر الله تعالى. في هذا من الدلالة على القدرة البالغة ما لا يخفى على صاحب الذوق الرفيع. وتأمل ما في الآيات من أمر يعقبه استجابة سريعة، ثم قارن بينه وبين أن تقول: فأماتهم الله ثم أحياهم، إنما أمره إذا أراد شيئًا يكون، فأمرهما بالطاعة فأطاعتَا، فستجد أن تصوير الحدث وبيان كيفية وقوعه وانقياده الخاطف لقدرة الله تعالى قد ولَّى وذهب من هذه الأقوال. وقد يأتي الأمر بالفعل مرادًا به الحث على الاتصاف بصفة معينة: كما في قولك: مُت وأنت كريم، مت وأنت تقي، صلِّ وأنت خاشع، واقرأ وأنت يقظ. فأنت في هذه الأقوال لا تريد أمره بالموت ولا الصلاة ولا القراءة، وإنما تريد أن تحثه على تلك الصفات المذكورة، وهي: الكرم، والتقوى، والخشوع، واليقظة، وأن يحافظ ويستمر على الاتصاف بها، ويحرص على ذلك طوال حياته، فهذا هو الأولى به واللائق بأمثاله من الكرماء الأتقياء. ومثل الأمر في ذلك: أسلوب النهي، تقول: لا تصلِّ إلا وأنت خاشع، لا تمت إلا وأنت كريم. ومرادك من هذا النهي أن تحثه على الخشوع والكرم، لا أن تنهاه عن الصلاة والموت.

وقد يرِد الأمر ولا يراد به مأمور معين، وإنما يراد به كل من يتأتَّى منه الخطاب. كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((بشروا المشائين إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة))، فهو -صلى الله عليه وسلم- لا يريد بهذا مخاطبًا معينًا، إنما أراد عموم الأمر؛ حتى كأن كل فرد من أفراد الأمة مبشر لهؤلاء، وفي هذا تكريم للمشائين إلى المساجد، وتنويه بشأنهم، وبرضا الله تعالى عنهم، وتجليه عليهم بالرحمة والغفران والنور التام. إلى غير ذلك من الأغراض والمعاني البلاغية التي يفيدها أسلوب الأمر، وهي كثيرة يطول حصرها، وما نريده الآن هو أن نقف على وجه دلالة أسلوب الأمر على تلك المعاني. وقد ذكر كثير من البلاغيين: أن هذه المعاني التي يفيدها أسلوب الأمر معان مجازية، بمعنى: أن الأسلوب قد انتقل من الدلالة على الأمر إلى إفادة تلك المعاني، وكل مجاز لا بد فيه من علاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي. وقد خاض البلاغيون ووجدوا في التماس تلك العلاقات. فالعلاقة بين الأمر والإباحة هي الإطلاق والتقييد؛ لأن الأمر إذن المقيد، والإباحة لمطلق الإذن. فاستعمال الأمر في الإباحة مجاز مرسل. ويجوز أن تكون العلاقة التضاد؛ لأن إباحة كل مِن الفعل والترك تُضاد الإيجاب، والعلاقة بين الأمر والتهديد شبه التضاد، وبين الأمر والإهابة اللزوم. وهكذا. وبعضهم يجعل استعمال الأمر في تلك المعاني من قبيل الكناية، وبعضهم يجعله من قبيل مستتبعات التراكيب، وكذا القول في المعاني البلاغية التي يفيدها أسلوب النهي أو أساليب الاستفهام الآتي بيانها -إن شاء الله-. والذي نراه أن دلالة الأمر وكذا النهي والاستفهام على تلك المعاني هي من مستتبعات الكلام، بمعنى: أن السياق وقرائن الأحوال هي التي تحدد تلك المعاني

أسلوب النهي.

المرادة، وأنه لا داعي للخوض في التماس علاقات واهية بين تلك المعاني وبين أساليب الأمر والنهي والاستفهام؛ لأنه على الرغم من وَهن هذه العلاقات فإنه لا فائدة للدرس البلاغي من ورائها، فالأولى أن تُصرف الهمم، وأن توجه الأذهان إلى معرفة المزايا والأسرار الكامنة وراء استعمال الأساليب الإنشائية في الدلالة على هذه المعاني، والوقوف عليها من خلال سياقات الكلام، ومعرفة قرائن أحواله، لا أن تُبدد في اللهث وراء التقاط علاقات لا تنمي ذوقًا ولا تفيد شيئًا. أسلوب النهي وننتقل بعد أسلوب الأمر إلى الحديث عن أسلوب النهي. فأسلوب النهي: هو كل أسلوب يُطلب به الكف عن الفعل على جهة الاستعلاء والإلزام، فيكون من جهة عليا ناهية إلى جهة دنيا منهية. وله صيغة واحدة وهي المضارع المقارون المقرون بلا الناهية. كقولك: لا تصاحب الأشرار، لا تفعل السوء، لا تكف عن البذل والعطاء. ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (الإسراء: 31)، وقوله: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} (الأعراف: 56)، وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} (البقرة: 187). فقد أفاد النهي في الآيات الكريمة طلب الكف عن قتل الأولاد، وعن الإفساد في الأرض، وعن اقتراب حدود الله. وصيغته -كما ترى- هي المضارع المقرون بلا الناهية. والذي تهتم به الدراسات البلاغية ليس هو طلب الكف عن الفعل، وهو المعنى الأصلي لتلك الصيغة، وإنما تهتم بما وراء ذلك من معان بلاغية، تفيدها أسلوب النهي.

وأهم هذه المعاني: الدعاء، وذلك عندما تكون تلك الصيغة صادرة من الأدنى إلى الأعلى. كما في قول الله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (البقرة: 286). فالمقام مقام ضراعة وخضوع، والمؤمنون يبتهلون إلى الله تعالى بهذا الأسلوب على سبيل التضرع والتذلل. فالمقصود منه: الدعاء والابتهال. وسِر التعبير بصيغة النهي في مقام الدعاء في الآية الكريمة: هو بيان رغبة هؤلاء المؤمنين في أن يتجلى الله عليهم بالرحمة والغفران، وإظهار كمال ضراعتهم وتذللهم إلى الله -جل وعلا-. ومن ذلك: قول الله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (آل عمران: 8) وقوله: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران: 194) إلى غير ذلك من الآيات التي يتضرع فيها المؤمن إلى الله داعيًا وراجيًا بهذا الأسلوب الذي يُصور صدق رغبته، وشدة حرصه على أن يحقق الله له دعاءه ويجيب طلبه. ويأتي النهي لإرادة معنى الالتماس: وذلك إذا كان النهي من المساوي والند بدون استعلاء ولا خضوع ولا تذلل. كقولك لنظيرك: لا تفعل هذا. ومنه: قول الله تعالى على لسان هارون يخاطب أخاه موسى -عليهما السلام-: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} (طه: 94). فالنهي في قوله: {لَا تَأْخُذْ} المراد به: الالتماس؛ لأنه ليس فيه استعلاء وإلزام، ولا تذلل وخضوع، حيث وجه من هارون إلى موسى وهما متساويان في الرتبةِ والمنزلةِ، فهو يلتمس منه بهذا النهي عدم إنزال العقوبة به؛ فقد خشي إن خرج عليهم أن يتفرقوا وفي إيثار التعبير بنسبته إلى الأم: {يَا ابْنَ أُمَّ} على الرغم من كونه أخيه لأبيه وأمه استعطاف لموسى وترقيق لقلبه.

والسر البلاغي وراء التعبير بصيغة النهي في مقام الالتماس في الآية الكريمة هو إظهار حرص هارون على ترقيق قلب أخيه، ورغبته القوية الأصيلة في العفو والتسامح، وقد كان له عذر. ومن ذلك قول المتنبي في سيف الدولة: فلا تبلغاه ما أقول فإنه ... شجاع متى يذكر له الطعن يشتقي فهو يلتمس من صاحبيه أن يكتمَا عن سيف الدولة ما يقول في وصف شجاعته وحسن بلائه في الحروب. وقد عبر بأسلوب النهي في هذا المقام، مقام الالتماس؛ إظهارًا لشدة حرصه على كتمان هذا الأمر عن سيف الدولة، ففي ذلك ما فيه من تهويل وتفخيم لشجاعته وقوة فتكه بأعدائه. ويأتي النهي لإفادة النصح والإرشاد: كما في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101). فليس المراد بالنهي عن السؤال في الآية الكريمة الإلزام وطلب الكف، وإنما أريد به النصح والإرشاد، وقد جاء بصيغة النهي؛ رغبةً في الاستجابة والامتثال، ومنه قول أبي العلاء: ولا تجلس إلى أهل الدنايا ... فإن خلائق السفهاء تعدي فهو ينصح مخاطبه ويرشده إلى الابتعاد عن السفهاء، وأهل الدنايا. قد عبر بصيغة النهي؛ لبيان رغبته وحرصه على أن يمتثل المخاطب ويستجيب لنصحه وإرشاده. ويأتي النهي كذلك للحث على الفعل: كما في قول الخنساء -وقد مضى-: أعيني جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى؟ فهي تحث عينيها على البكاء، وأن تجودَا بالدمع وألا تبخلَا به؛ فإنهما تبكيان صخر الندى. فالتعبير بالأمر والنهي في هذا المقام يظهر شدة حزنها، ورغبتها القوية في أن يتحقق ما تريده، وتفيض عيناها بالبكاء؛ وفاءً لحق هذا المقام.

ويأتي النهي كذلك ليفيد معنى التمني: كما في قول الشاعر: يا ليل طُل يا نوم زل ... يا صبح قف لا تطلع وهو يتمنى أن يمتد الليل ويطول وألا يطلع النهار؛ وذلك حتى يطول اجتماعه بحبيبته والتحدث إليها. ويأتي كذلك ليفيد التحقير والإهانة: كما في قوله تعالى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} (المؤمنون: 108). فالأمر والنهي في الآية الكريمة يحملان معنى الإهانة والتحقير لهؤلاء الذين غَلبت عليهم شقوتهم في الدنيا، وكانوا قومًا ضالين، ثم جاءوا يوم القيامة يتمنون الخروج من جهنم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} (المؤمنون: 107) وكانت تلك الإهانة: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}. وليفيد أيضًا التوبيخ: كما في قول أبي الأسود الدؤولي: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم فالمراد بأسلوب النهي لا تنه، توبيخ من ينهى الناس عن الشر والسوء ولا ينتهي هو عنه. ومنه: قول الآخر: لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا ويأتي النهي كذلك لتحقيق معنى التهديد: كما في قول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (التوبة:65، 66) فليس المراد نهيهم عن الاعتذار والتوبة، وإنما المراد التهديد والتحذير حتى يقلعوا عن غيهم وعنادهم، ويسلكوا مسلك الحق والهدى.

وليفيد كذلك معنى التيئيس: كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التحريم: 7). فلا معنى لنهيهم عن الاعتزال في ذلك اليوم، وإنما هو التيئيس، وإعلامهم أنه لن يُقبل منهم ولن يلتفت إليهم، فليس أمامهم إلا الجزاء على كفرهم وضلالهم. ويأتي النهي أحيانًا مفيدًا لمعنى التفظيع والتهويل: كما في قوله تعالى: "وَلَا تَسْأَلوا عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ" (البقرة: 119). في قراءة مَن قرأ بالنهي، وجزم المضارع أي: لا تسأل عن فرط ما هم فيه من العذاب، وما آل إليه أمرهم من النكال، فإنه لا يستطيع أحد أن يصف لك هول ما هم فيه، أو لا تستطيع أنت سماعه لفظاعته وشناعته، وقد يكون التهويل في النعيم والخير، كأن تقول: لا تسل عن فلان، وتريد فلانًا الذي حل به من الخير والنعيم ما لا يوصف؛ لكثرته ووفرته. وقد ينهى عن النهي مقيدًا بقيدٍ أو موصوفًا بوصفٍ، ولا يكون الغرض النهي عن الفعل في هذه الحالة، بل النهي عن الفعل مطلقًا، ويكون القيد أو الوصف عندئذٍ للمبالغة في التنفير والتحذير. كقولك مثلًا: لا تضيع دينك بكسرة خبز، ولا تضيع حق جارك الصالح، أنت لا تريد عن ضياع الدين في هذه الحالة، أو عن ضياع حقوق الجار الصالح فقط، كأنك تبيح له أن يضيع دينه إذا غلَا ثمنه، وأن يضيع حقوق جاره غير الصالح، وإنما تريد حثه على التمسك بدينه، وحفظ حقوق جاره مطلقًا. قد قيدت التضييع بكسرة الخبز ووصفت الجار بالصلاح؛ لأن في ذلك مزيدًا من التنفير والتقبيح. ومن ذلك: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (آل عمران: 130)، وقوله: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (النور: 33)، وقوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ

بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} (النساء: 2)، وقوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} (النساء: 6) فالأفعال المنهي عنها في الآيات الكريمة قد قُيدت بقيود من شأنها أن تبعث على التنفير، وأن تبرز فظاعة تلك الأفعال وشناعتها. وليس المراد النهي عن الأفعال المذكورة في الحال التي قُيدت بها فقط دون ما عداها، وإنما المراد النهي المطلق، وقد جيء بالقيد للتبشيع والتنفير كما قلتُ. انظر مثلًا إلى آية النهي عن الربا: تجد هذا النهي قد قيد بكونه أضعافًا مضاعفة، والمراد النهي عن أكل الربا مضاعفًا وغيرَ مضاعفٍ؛ ولكنه جيء بهذا القيد تبشيعًا للصورة وتنفيرًا للنفوس، وهكذا في سائر ما ذكرنا من الآيات. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 16 تابع: الأساليب الإنشائية.

الدرس: 16 تابع: الأساليب الإنشائية.

أسلوب الاستفهام

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (تابع: الأساليب الإنشائية) أسلوب الاستفهام الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ثم أما بعد: فنبدأ بالحديث عن أسلوب الاستفهام: من المعلوم أن الهمزة والسين والتاء إذا زيدت في الفعل الثلاثي أفادت معنى الطلب؛ يقال: استزاد أي طلب الزيادة، واستغفر أي طلب المغفرة، واستفهم أي طلب الفهم؛ فالاستفهام يعني: طلب الفهم؛ ولذا قالوا في تعريفه: الاستفهام هو طلب العلم بشيء لم يكن معلومًا من قبل بأدوات خاصة، وهذه الأدوات هي: الهمزة وهل ومَن وما وكيف وكم وأين وأيان ومتى وأنى وأي، وقد عرفت أن الجملة الخبرية التي تدخل عليها هذه الأدوات تتكون من أجزاء هي المسند والمسند إليه وأحد المتعلقات، وبضم هذه الأجزاء وإسناد بعضها إلى بعض تتكون الجملة التي تفيد حكمًا معينًا بهذا الضم أو بذاك الإسناد. وعندما تدخل هذه الأدوات على الجملة الخبرية يكون الاستفهام بها عن أحد أمرين؛ إما عن النسبة أي الإسناد أو الحكم المفاد من الجملة، ويُسمى تصديقًا، وإما عن أحد أجزاء الجملة ويسمى تصورًا؛ فالتصديق هو إدراك النسبة بين الشيئين ثبوتًا أو نفيًا، والتصور هو إدراك أحد أجزاء الجملة المسند أو المسند إليه أو أحد المتعلقات. وأدوات الاستفهام بحسب المستفهم عنه ثلاثة أنواع: ما يطلب به التصور تارة والتصديق تارة أخرى، وهو الهمزة وحدها. ما يطلب به التصديق فقط وهو هل. ما يطلب به التصور فقط وهو بقية الأدوات.

ولأجل ما ذكرنا كان لبناء جملة الاستفهام مع "الهمزة وهل" ضوابط واعتبارات دقيقة، ينبغي الوقوف عليها والإحاطة بها، أما بقية الأدوات فلكونها لطلب تصور أشياء محددة؛ فإنهم لا يلتزمون في بناء الجملة معها شيئًا زائدًا عن الضبط العام في النظام الإعرابي ووجوب تصدر هذه الأدوات. ونبدأ بالحديث عن الهمزة: وكما ذكرنا فإنه يطلب بها إما التصديق أي إدراك النسبة الواقعة بين الطرفين ثبوتًا أو نفيًا، وذلك عندما يكون السائل عالمًا بأجزاء الإسناد ويجهل الحكم أو مضمون الجملة، فهو يسأل ليقف على هذا الحكم، وإما التصور؛ أي إدراك أحد أجزاء الجملة عندما يكون السائل عالمًا بالحكم ولكنه يجهل أحد أجزاء البناء، فإذا كانت الهمزة لطلب التصديق كان جواب الاستفهام بنعم أو لا، ولا يذكر معها معادل، ويليها غالبًا الفعل إن وجد، تقول: أنجح خالد؟ أعمرو شجاع؟ إذا كنت تتصور أجزاء الكلام نجح وخالد وعمرو وشجاع، وتتصور النسبة بين أجزائه؛ أي بين نجح وخالد، وبين عمرو وشجاع، ولكنك تجهل وقوع هذه النسبة، أو: أواقعة هي ومحققة أم غير واقعة؟ ولذا يجاب سؤالك بنعم أو بلا؛ أي بتحقق هذه النسبة ووقوعها أو بعدم تحققها، ومن ذلك قول الشاعر: أأترك إن قل الدراهم خالدٍ ... زيارته إني إذن للئيم فالجواب هنا بالنفي؛ أي لا لن أترك زيارته إن قل ماله؛ لأن السؤال عن التصديق؛ إذ المتكلم يعرف الفعل ويتصور الفاعل وهو المتكلم نفسه، ويعلم المفعول وهو زيارة خالد، كما أنه يتصور النسبة بين تلك الأجزاء، ولكنه

يتساءل: أتقع منه أم لا تقع، فإن ذُكر المعادل "أم" بعد همزة التصديق هذه كانت أم منقطعة بمعنى بل، وكانت بعدها همزة أخرى مقدّرة كما في قول الشاعر: ولست أبالي بعد فقدي مالكًا ... أموتي ناءٍ أم هو الآن واقع فالسؤال بالهمزة عن نسبة، وأم للإضراب عن الكلام السابق؛ أي عن هذا التساؤل، وبعدها همزة مقدرة يُسأل بها سؤال آخر، والمعنى: أموتي ناء بل أهو الآن واقع، وإذا كانت الهمزة للتصور وجب أن يليها المستفهم عنه، ويُذكر للمستفهم عنه غالبًا معادل بعد أم المتصلة، وقد يستغنى عن ذكر المعادل إذا وجد ما يدل عليه، ولا يكون جواب الاستفهام عندئذ بنعم أو بلا، وإنما يكون بتعيين المستفهم عنه، تقول في السؤال عن الفاعل: أمحمدٌ جاء أم عمرو؟ فيكون الجواب: محمد أو عمرو؛ أي بتعيين من جاء منهما، ولا يقال عندئذ: نعم أو لا، ففي السؤال عن الفعل: أجاء محمد أم تخلف؟ فيقال: جاء أو تخلف، وعن المفعول: أعمرًا ضربت أم زيدًا؟ فيجاب: عمرًا أو زيدًا، وعن الظرف: أفي البيت زارك عمرو أم في المدرسة؟ فيجاب: في البيت أو في المدرسة، وقد يستغنى عن المعادِل إذا دل عليه دليل، كما في قوله تعالى: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء: 62) فالسياق وقرائن الأحوال تدل على أن المسئول عنه هو الفاعل؛ حيث أشاروا إلى الفعل بهذا، فهو معلوم لهم وهم يشاهدون الأصنام محطمة ويجهلون الفاعل؛ ولذا ولي الفاعل الهمزة: أأنت، والمعنى: أأنت فعلت هذا أم غيرك؟ وقد أجابهم -عليه السلام- معينًا لهم الفاعل على سبيل التهكم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ} (الأنبياء: 63). وينبغي أن يُراعي عند ذكر المعادل بعد أم المتصلة أن يكون موافقًا لما بعد الهمزة، وألا يتناقض معها، على نحو ما ترى في الآيات الكريمة: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ

أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (يوسف: 39) {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} (مريم: 78) {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} (البقرة: 140) {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} (الدخان: 37) {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} (النمل: 40) حيث تجد أن ما بعد أم مماثل لما بعد الهمزة؛ ولذا كان من الخطأ أن تقول: أزيدًا أكرمت أم أهنت؟ أأكرمت زيدًا أم عمرًا؟ أجاءك خالد أم علي؟ لتناقُض ما بعد الهمزة مع ما بعد أم المتصلة، وهو ليس تناقضًا في تركيب العبارة فحسب، بل تناقض واضطراب في الإدراك والوعي. إذ تقديم المفعول مثلا في قولك: أزيدًا أكرمت؟ ينبئ بأنك تجهل المفعول، وتتصور الفعل وهو الكرم، والفاعل وهو المخاطب، فلو قلت بعد ذلك: أم أهنت؟ أو قلت: أم خالد؟ بالرفع تناقضت العبارة وتناقض فهمك واضطرب إدراكك لما تقول، وعليك أن تعلم أن الفعل إذا حُدد وعُين كان الشك في الفاعل والجهل به كقولك: أأنت بنيت هذه الدار؟ ولا يصح قولك: أبنيت هذه الدار؟ لأن تحديد الفعل وتعيينه بالإشارة إليه يجعله معلومًا، ويجعل الشك في الفاعل، وتقديم الفعل وإيلاؤه الهمزة ينفي ذلك، ويجعل الشك في الفعل، وهذا تدافع وتناقض، فإذا أردت الاستفهام عن الفعل ينبغي عليك ألا تحدده بل تتركه بلا تحديد كأن تقول: أبنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟ أقلت الشعر الذي عزمت على قوله؟. ولا يصح أن تسأل عن فاعل هذا الفعل غير المحدد، فلا تقول: أأنت بنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟ أأنت قلت الشعر الذي عزمت على أن تقوله؟ لأن تقديم الفاعل يدل على أن الفعل قد وقع والمطلوب معرفة فاعله، وقولك: التي كنت على أن تبنيها، الذي كنت على أن تفعل، يدل على أن الشك في الفعل

وهذا تناقض فالسؤال عن الفاعل يقتضي بالضرورة معرفة فعل محدد معين حتى يقال في الجواب: فعله فلان، ولا يعقل أن يُسأل عن فاعل فعل غير محدد، فلا يقال: أأنت أكلت طعامًا؟ أأنت رأيت اليوم إنسانًا؟ أأنت قلت شعرًا؟ وإنما يسأل في مثل هذا عن الفعل فيقال: أأكلت طعامًا؟ أرأيت اليوم إنسانًا؟ أقلت شعرًا؟ وقد يكون السؤال بالهمزة عن الفعل، ويلي الهمزة غيره لغرض بلاغي وهو المبالغة في الإنكار وتأكيد الردع والزجر، وذلك عندما يلي الهمزة أو يُعطف على ما وليها الفاعل أو المفعول أو ظرف الذي ليس للفعل غيره، كقولك: أفي ليل وقع هذا أم في نهار؟ فأنت لا تسأل عن الظرف وإنما تُنكر وقوع الفعل، ولم يلِ الفعل الهمزة كما ترى، بل وليها عطف على ما وليها الظرف الذي ليس للفعل ظرف سواه، فإذا ما انتفى الظرف الذي لا ظرف يقع فيه الفعل غيره؛ كان هذا أبلغ في انتفاء الفعل وأشد إنكارًا وأقوى ردعًا لمن يدعي وقوعه، ومن ذلك قول الله تعالى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} (الأنعام: 143) وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: 59)، فالمعنى على إنكار التحريم والإذن، وقد ولي الهمزة غيرهما مبالغة في الإنكار والزجر؛ لأنه إذا انتفي المفعول الذي ليس للفعل مفعول غيره في الآية الأولى، والفاعل الذي ليس للفعل فاعل سواه في الآية الثانية؛ كان ذلك أبلغ في انتفاء الفعل وأشد ردعًا وأقوى زجرًا لمن ادعى وجوده وثبوته كذا في (دلائل الإعجاز).

من أدوات الاستفهام "هل".

من أدوات الاستفهام "هل" ونثني بعد الحديث عن الهمزة بالحديث عن هل: التي تأتي دائمًا لطلب التصديق فحسب: تقول مثلا: هل قام زيد؟ وهل عمرو ناجح؟ فتسأل عن نسبة القيام للأول والنجاح للثاني؛ ولذا يكون جوابك: نعم أو لا؛ أي بإفادتك ثبوت النسبة أو نفيها، ولما كانت هل لطلب التصديق فحسب فقد ترتب على ذلك ما يأتي؛ أولًا: امتناع أن يذكر بعدها معادل بأم المتصلة، فلا يقال: هل زيد قائم أم عمرو؟ لأن هل تدل على أن مضمون الجملة -وهو النسبة غير معلومة، وأن السؤال عنها ووقوع المفرد بعد أم دليل على أن أم متصلة، وأم المتصلة تدل على أن مضمون الجملة معلوم، وأن المطلوب هو تعيين أحد الأمرين؛ المفرد الذي قبلها أو المفرد الذي بعدها، فالسؤال عن ذلك إنما يكون بهمزة التصور: أزيد قائم أم عمرو؟ فالجمع بين هل وأم المتصلة في مثالٍ واحد يؤدي إلى التناقض. فإذا وردت أم المتصلة بعد هل، وكان بعد أم المفرد وجب تأويله بالجملة، وجعل أم منقطعة للإضراب مع استفهامٍ آخر مقدر؛ من ذلك ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لجابر: ((هل تزوجت بكرًا أم ثيبًا؟)) فالمعنى: بل هل تزوجت ثيبًا! ولذا لو قيل في المثال المذكور: هل قام زيد أم عمرو؟ إن المعنى: بل هو قام عمرو؛ لجاز ذلك وصح. ثانيًا: يقبح استعمال هل في كل تركيب يتقدم فيه المسند إليه على الخبر الفعلي أو المفعول على الفعل، كقولك: هل زيد قام؟ وهل زيدًا أكرمت؟ ووجه قبحه عند

الجمهور أن التقديم في هذين الحالين قد يكون للاختصاص، والاختصاص يقتضي وقوع النسبة والعلم بها، وأن المراد هو السؤال عن الفاعل أو المفعول، وهل لا يُؤتى بها لهذا، بل هي للتصديق؛ أي طلب العلم بالنسبة، فإذا كانت النسبة معلومة عند دلالة التقديم على الاختصاص كانت هل لطلب حصول الحاصل، وهذا عبث! وظاهر هذا الوجه المنع، ولكنهم عدّوه قبيحًا لاحتمال أن يكون التقديم لمجرد الاهتمام بالمقدم، فيكون التقديم على خلاف الغالب، لا للتخصيص الذي يقتضي العلم بالنسبة أو لاحتمال تقدير فعل محذوف دلّ عليه المذكور، فيكون الفعل الظاهر قد مُنع من العمل بلا شاغل عنه، وذلك قبيح. ورجح العلامة سعد الدين التفتازاني أن وجه عدم امتناعه هو الاحتمال الثاني دون الأول؛ لأننا لو قلنا: إن التقديم في هل زيد قام وهل زيدا أكرمت؟ للاهتمام لم يكن هناك وجه لعدّه قبيحًا، وإلا للزم أن يكون التقديم للاهتمام قبيحًا مطلقًا ولا قائل به، كذا في (المطول). ورجح السكاكي جواز ذلك بلا قبح؛ لعدم إفادته التخصيص، ولأنه ليس مقدمًا عن تأخير، وسبب ذلك وإن لم يذكره السكاكي يرجع إلى طبيعة هل وأصلها، لا إلى دلالة الاختصاص التي يحتملها التقديم، وقد قالوا: إن هل في الأصل بمعنى قد، وترد أحيانًا مسبوقة بالهمزة، فيقال: أهل جاء زيد؟ ومن ذلك قول الشاعر: سائل فوارس يربوع بشدتنا ... أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم الأكم: هو الموضع الذي يكون أشد ارتفاعًا مما حوله، فلما طالت ملازمتها الهمزة تشربت منها معنى الاستفهام، فسقطت الهمزة وبقيت هل دالة عليها، ولما كانت "قد" لا تدخل إلا على الأفعال كانت كذلك هل التي بمعناها، وعلى ذلك إذا وجد الفعل في التركيب وجب مراعاة معنى هل الأصلي في لزوم إيلائها

الفعل، وإن لم يوجد الفعل أصلًا في التركيب روعي في هل معنى الاستفهام الذي استمده من الهمزة، فجاز دخولها على الاسم؛ ولذا لا يقبح أن يقال. انتهى من (المطول). وكما يقبح دخول هل على المعرفة وبعدها فعل؛ فإنه يقبح دخولها على النكرة المتلوة بفعل نحو: هل رجل سافر؟ لنفس الأسباب المذكورة، والقبح هنا في تقديم النكرة باتفاق البلاغيين؛ لأنه يفيد الاختصاص، حتى على مذهب السكاكي، إذ يرى أن الأصل: هل سافر رجل؟ فرجل فاعل في المعنى، إذ هو بدل من الضمير المستتر في سافر، وقد قُدم من تأخير. ثالثًا: ومن خصائص هل، أنها إذا دخلت على الفعل المضارع خلصته للاستقبال، هذا هو الأصل فيها؛ ولذا لا يجوز أن تقول: هل يقوم زيد الآن؟ لأن في ذلك تدافعًا في بناء الجملة؛ إذ هل تمحضها للاستقبال، والتقييد بلفظ الآن يجعلها للحال، وكأنك تقول: هل يقوم بعد الآن؟ ثم تقول: الآن، وهذا تناقض واضطراب، وكذا إذا دلت قرينة حالية على أن المضارع مراد به الحال، كقولك: هل تسيء إلى صاحبك؟ إذا دل الحال على وقوع الإساءة، ولهذا لا تقع هل موقع الهمزة في مثل قوله تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} (هود: 28) وقوله: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} (الصافات: 95) وكل ما دل فعله على الحال. رابعًا: ولكون هل لها مزيد اختصاص بالأفعال؛ فإنه لا يعدل عن الفعل إلى الاسم بعدها إلا لنكتة بلاغية، وهي أن يجعل ما يحدث ويتجدد الذي هو مفاد الجملة الفعلية، أو يجعل ما سيوجد بمعنى هل تخلُّص المضارع في الغالب

للاستقبال في معرض الكائن الحاصل، الذي هو مفاد الجملة الاسمية؛ اهتمامًا بشأنه واعتناء بأمره، وذلك بناء على قول البلاغيين: إن الجملة الفعلية تفيد التجدد والحدوث، والجملة الاسمية تفيد الثبوت والدوام، تأمل مثلًا قول الله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (الأنبياء: 80)، وقوله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (الأنبياء: 108). تجد أن قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أدل على طلب حصول الشكر والإسلام من قولك: فهل تشكرون؟ فهل تسلمون؟ أو فهل أنتم تشكرون؟ أو فهل أنتم تسلمون؟ وذلك لأن الجملة الاسمية تفيد التوكيد، وتدل على معنى أوفى مما تدل عليه الجملة الفعلية، ولأن إبراز ما يحدث ويتجدد في معرض الحاصل الثابت أقوى دلالة على الاهتمام بشأنه وكمال عنايته بحصوله من إبقائه على أصله، وكذا في قولك: أفأنتم شاكرون؟ أفأنتم مسلمون؟ وإن كانت صيغته للثبوت كما ترى؛ لأن "هل" نزاعة إلى الفعل وأدعى له من الهمزة فتركه معها أدل على كمال العناية بحصوله وشدة الاهتمام بوقوعه. ولهذا قال البلاغيون: إن قولك: هل زيد منطلق، أقوى دلالة على طلب حصول الانطلاق والاهتمام بوقوعه، من أن تقول: أزيد منطلق؟ وقالوا: إن العدول عن الهمزة إلى هل، في مثل هذا المثال لا يحسن إلا من البليغ؛ لأنه هو الذي يلتفت إلى تلك الدقائق ويراعي هذه النكات البلاغية، ويقدر على تطويع الكلام وتكييف العبارات وصياغتها على حسب ما يقتضيه المقام.

بقية أدوات الاستفهام.

بقية أدوات الاستفهام أما بقية أدوات الاستفهام، فهي كما قلنا للتصور فقط، فيسأل بها عن معانيها، ويكون الجواب عنها بتعيين المستفهم عنه؛ ولذا لا يلتزم في بناء الجملة معها سوى الضبط العام في النظام الإعرابي لصياغة الجمل، مع مراعاة تصدر تلك الأدوات كما قلنا، فليس وراء بناء الجمل مع تلك الأدوات دقائق ينبغي مراعاتها كما هو الحال بالنسبة للهمزة وهل. فـ"من" يطلب بها تصور من يعقل أو من يعلم، كقولك: من عندك؟ من فتح بلاد الأندلس؟ فيقال في الجواب: زيد والقائد البطل طارق بن زياد، ولك أن تقول في جواب الأول: العالم الصادق، وفي جواب الثاني: القائد البطل، الذي لا تخفى على أحد بطولاته وتفانيه في نشر دين الله، أي: أن الجواب يكون إما بذكر الذات المستفهم عنها، أو بذكر الأوصاف الخاصة بالمستفهم عنه المشخِّصة له، ومن ذلك قول الله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 49، 50) فقد أجاب موسى -عليه السلام- ببيان الصفات الخاصة برب العزة المنفرد بها سبحانه وتعالى. وانظر إلى قوله جل وعلا: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء: 59، 60) وقوله عز من قائل: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (فصلت: 15) فواضح من الآيتين أن الجواب قد اشتمل على ذكر الذات المستفهم عنها.

و"ما" يستفهم بها عن غير العقلاء، ويُطلب بها بيان الذات غير العاقلة، كقوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (طه: 17، 18) وقوله: {قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} (الشعراء: 70، 71) كما يطلب بها بيان حقيقة المسمى وصفته، كقولك: ما زيد؟ فيجاب عالم أو طويل، ومنه قوله عز وجل: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} (الأنبياء: 52، 53) وقوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} (الشعراء: 23، 24) فالمراد بالاستفهام في الآيتين بيان حقيقة المسمى وصفته التي يُعرف بها، وقد جاء الجواب على خلاف ما يقتضي الاستفهام في الآية الأولى، وعلى خلاف ما يريد السامع ويتوقع في الآية الثانية، ويُطلب بها أيضًا إيضاح الاسم، نحو: ما العسجد؟ فيجاب: الذهب. أما "متى" فيستفهم بها عن الزمان ماضيًا كان أو مستقبلا، كقولك: متى حضرت؟ ومتى تسافر؟ ومنه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (النمل: 71). "أيان" يستفهم بها عن الزمان المستقبل، وتستعمل في مواضع التفخيم والتهويل، كقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} (الذاريات: 12). "أين" يسأل بها عن المكان، كقوله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} (القيامة: 7 - 10).

و"كيف" يُسأل بها عن الحال، كما في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} (البقرة: 28). وأما "أنى" فتكون بمعنى كيف كقوله عز من قائل: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} (آل عمران: 40) وبمعنى من أين كقوله: {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} (آل عمران: 37) وبمعنى متى كما في قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (البقرة: 223) فأنى في الآية الكريمة تحتمل المعاني الثلاثة، أي متى شئتم وكيف شئتم ومن أين شئتم، على أن يكون الإتيان في موضع الحرث. و"كم" يُستفهم بها عن العدد كقوله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} (الكهف: 19) ويسأل بها أيضًا عن تمييز الزمان أو المكان أو الحال أو العدد، وكذا عن تمييز العاقل وغير العاقل، فهي تكتسب معنى ما تضاف إليه، فتقول في السؤال بها عن تمييز الزمان: في أي يوم عاد البطل؟ وعن المكان: في أي مكان نلتقي؟ وعن الحال: على أي حال تركت أباك؟ وعن العدد: إلى أي عدد بلغت دراهمك؟ وعن العاقل: أي الرجلين أكبر سنًّا، وعن غير العاقل: أي جواد امتطيت؟ تلك هي معاني أدوات الاستفهام، وهي وإن كانت لا تخلو من فوائد ودقائق واعتبارات بلاغية -وبخاصة بناء الجمل مع الهمزة وهل- إلا أن جل اهتمام البلاغيين يتجه إلى المعاني البلاغية التي تفيدها أساليب الاستفهام؛ كالإنكار والتعجب والاستبعاد والتهديد والتهكم والتحقير، ونحو ذلك من مستتبعات التراكيب.

وإنما قلنا: من مستتبعات التراكيب؛ لأن الاستفهام قد دخلته هذه المعاني، وشابته وصار بإفادته لها استفهامًا غير محض؛ إذ التنبيه وإيقاظ المخاطب، وحثه على التأمل الذي هو لب الاستفهام؛ لا يفارقه عند إفادة تلك المعاني، التي منها الاستبطاء، كما في قول الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} (البقرة: 214) فالخطاب في الآية الكريمة للصحابة -رضوان الله عليهم- والمعنى: أحسبتم أن تدخلوا الجنة بلا ابتلاء وتمحيص، وقد جرت سنة الله أن يبتلي عباده! فقد ابتلى الأمم قبلكم ابتلاءً شديدًا، ومستهم البأساء والضراء حتى قال الرسول -وهو أعلم الناس بالله وأوثقهم بنصره- وقال الذين آمنوا معه لشدة ما حلّ بهم ونزل: متى نصر الله؟ فقد استطالوا مدة العذاب واستبطئوا مجيء النصر، وسر التعبير بأسلوب الاستفهام في مقام الاستبطاء هو إظهار المعاناة من طول الانتظار وجذب انتباه السامع ودعوته للمشاركة والنظر فيما نزل وحل، ولا يخفى عليك ما للسياق في الآية الكريمة من إبراز وتصوير لحال هؤلاء القائلين وما حل بهم من ابتلاء وشدة، جعلتهم يتطلعون إلى فرج الله ونصره، الذي طال انتظارهم له. ومن ذلك أن تقول وقد اشتد الحر وأنت صائم: متى يؤذن لصلاة المغرب؟ فأنت لا تجهل موعد الأذان والإفطار، ولكنك تصور حالتك وطول انتظارك وترقبك لهذا الوقت، وتدعو المخاطب ليشاركك ما تعاني منه وتتطلع إلى تفريجه، ومثل قولك وقد طال انتظارك للقطار: متى يصل القطار! وقولك لصاحب لك تدعوه كثيرا للحضور وهو يماطل ويتأخر ولا يجيب دعوتك: كم دعوتك! فأنت تستبطئ إجابته وتحثه على مراجعة نفسه ومعرفة تقصيره وخطئه، ومن ذلك قول المتنبي: حتى ما نحن نساري النجم في الظلم ... وما سراه -أي النجم- على خف ولا قدم

نساري من السري وهو السير ليلا، يقول: إلى متى نسري مع النجم في الليل وهو لا يسري على خف كالإبل ولا على قدم كالناس! فهو لا يتعب مثلنا ومثل خطايانا، فالمتنبي لا يسأل عن الزمان ولكنه يستبطئ مجيء هذا اليوم الذي يصل فيه إلى هدفه ويُحقق بغيته، وقد يراد من الاستفهام معنى الاستبعاد، وهو عد الشيء بعيدًا، والفرق بينه وبين الاستبطاء أن الاستبعاد متعلقه غير متوقع، أما الاستبطاء فمتعلقه متوقع، والمستفهِم يتطلع إلى وقوعه ومجيئه، ومن الاستفهام الذي جاء مفيدًا الاستبعاد قوله تعالى: {قَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} (ق: 2، 3) فالكفرة يستبعدون البعث وينكرون وقوعه، وقد عبروا عن هذا الاستبعاد بصيغة الاستفهام التي طوي فيها البعث المستفهم عنه، والتقدير: أنُبعث إذا كنا ترابًا ذلك رجع بعيد! وكأنهم يريدون أن يظل البعث هكذا سؤالا مثارًا وتعجبًا مقامًا، يسأله كل كافر ويتعجب من وقوعه كل جاحد عنيد. ومنه قوله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} (الدخان: 13، 14) إلى غير ذلك. ومن المعاني التي يفيدها الاستفهام: التحسر والتألم، وذلك في مقام يظهر فيه المستفهم حزنه وتألمه وتحسره على ما فاته، تأمل قول حافظ إبراهيم في وصف حريق: سائلوا الليل عنهم والنهار ... كيف باتت نساؤهم والعذارى ويتحسر ويتفجع لهؤلاء المنكوبين، الذين ساءت أحوالهم وأتى الحريق على ما يملكون من متاع ومأوى، فباتوا هم وأهلهم في العراء، وقد لجأ الشاعر إلى أسلوب الاستفهام ليُلهب الناس ويثير حميتهم لمساعدة المصاب لتبديد ما ألمّ به

وأصابه. ومن ذلك قول الله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} (القيامة: 7 - 10)، فالاستفهام في الآية يفيد تحسّر الإنسان وندمه على ما فاته في الدنيا، واستبعاده الفرار في ذلك اليوم: {كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} (القيامة: 11، 12) ويأتي الاستفهام ويراد به التعجب، كما في قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} (النمل: 20) فسليمان -عليه السلام- كما تفقد الطير ولم يجد الهدهد تعجب كيف لا يراه وهو لا يغيب إلا بإذنه، ولذا توعده بالعذاب الشديد إذا لم يكن غيابه هذا لسبب قوي يدعو إليه: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} (النمل: 21). ومثل ذلك قوله تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} (هود: 72) تعجبت امرأته من بشارة الملائكة لإبراهيم -عليه السلام- بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، كيف تلد وهي عجوز وقد عاشت حياتها عقيمًا وهذا بعلها قد صار شيخا!! إنه لأمر عجيب، ولذلك تساءلت الملائكة متعجبة من تعجبها: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ} (هود: 73) وقد يأتي ويراد به التنبيه إلى ضلال كما في قوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (التكوير: 26، 27) فهو تنبيه للكفرة إلى خطأ ما يقولون وضلال ما يعتقدون وباطل ما يعبدون من دون الله، ويتضح لك هذا التنبيه عندما تتأمل سياق الآيات الكريمة: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} (التكوير: 15 - 21) إلى آخر الآيات.

ويأتي الاستفهام ويفيد معنى التهويل، كما في قول الله تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} (الحاقة: 1 - 3)، {الْقَارِعَةِ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} (القارعة: 1 - 3) {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} (الهمزة: 4، 5) فالاستفهام في الآيات الكريمة يكشف عن أهوال يوم القيامة، ويصور ويبرز فظاعة العذاب وشدته. ويأتي ليفيد معنى الوعد والتهديد، كقولك لمن يسيء إليك: ألم أؤدب فلانًا! تريد بذلك تهديده وتوعده حتى يقلع عن إساءته، ومنه قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} (المرسلات: 15 - 17) ولا يخفى عليك ما يفيده الاستفهام من توعد للكفرة، وحث لهم على الإقلاع عن كفرهم والانصياع لصوت الحق حتى لا يصيبهم ما أصاب الأولين من إهلاك وتعذيب. ويأتي ويفيد الأمر والحث على الفعل، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (هود: 14) وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر: 17) وقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} (آل عمران: 20) وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة: 91) وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} (الحديد: 11) فالمراد بالاستفهام في هذه الآيات الأمر، وقد جاء في صيغة الاستفهام؛ لأن في ذلك إغراء للمخاطب وحثًا له على الاستجابة وقبول الأمر. يأتي الاستفهام أيضًا ويراد به التقرير، بمعنى طلب الإقرار أو بمعنى التحقيق والإثبات، فمن الأول قوله تعالى: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا

يَا إِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء: 62)، ومثله قوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (المائدة: 116) فهو تقرير بما يعرفه عيسى -عليه السلام- من هذا الحكم، وهو أنه لم يصدر منه هذا القول، وفيه توبيخ وتبكيت لمن اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، ومنه قوله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} (الشعراء: 18) فالمراد بالاستفهام تذكير موسى -عليه السلام- بنشأته وتربيته فيهم، وحمله على الإقرار بذلك أملًا من فرعون في أن يُقلع ويكف عما جاء به من قِبل الله، ولكن أنى له ذلك وموسى رسول رب العالمين!!. ومن الثاني: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} (الضحى: 6، 7) {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} (الشرح: 1، 2) {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} (الفيل: 2) {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} (الإنسان: 1) فالمراد بالاستفهام في الآيات التقرير؛ بمعنى التحقيق والإثبات، ومجيء التحقيق في صورة الاستفهام فيه تنبيه للمخاطب وحث له على تدبر الأمر وتأمله. ويأتي الاستفهام ويراد به معنى الإنكار، وقد يكون هذا الإنكار توبيخيًّا، وقد يكون تكذيبيًّا؛ فالأول إنكار وتوبيخ على أمر قد وقع في الماضي، بمعنى: ما كان ينبغي أن يقع، أو على أمر يخشى المستفهم أن يقع في المستقبل، بمعنى: ينبغي ألا يكون، فالإنكار أو النفي في التوبيخي موجه إلى الانبغاء، والمعنى: ما كان ينبغي في الماضي وينبغي ألا يكون في المستقبل، تأمل قوله تعالى: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} (الكهف: 37) فالمعنى: ما كان ينبغي أن يقع هذا الكفر وقد خلقك الله وسوّاك وأنعم عليك من نعمه التي تباهي بها وتفتخر، ومثله قوله: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} (يوسف: 89) وقوله: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ

الْخَالِقِينَ} (الصافات: 125) فالاستفهام في كل ذلك للتوبيخ على أمر واقع، والمراد: ما كان ينبغي أن يقع منكم ما وقع. والثاني: وهو الإنكار التكذيبي ويسمى بالإنكار الإبطالي، إذا كان التكذيب في الماضي وكان الاستفهام بمعنى لم يكن، وإذا كان في المستقبل كان بمعنى لن يكون، وتأمل في ذلك قول الله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} (الإسراء: 40) تجد أن الاستفهام في الآية يفيد تكذيبهم وإبطال ما قالوه، والمعنى: لم يكن من الله تعالى اصطفاء ولا اتخاذ، وقد يأتي الاستفهام بمعنى النفي، كما في قول الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن: 60) والمعنى: ما جزاء الإحسان إلا الإحسان، تلك حقيقة مقررة، لا يُعارض فيها عاقل، ولكن فرق بين الدلالة عليها بالاستفهام والدلالة عليها بطريق النفي المعهود؛ إن في الاستفهام تحريكًا للفكر وتنبيهًا للعقل وحثًّا على النظر والتأمل، وهذا هو الفرق بين النفي الصريح وبين النفي عن طريق الاستفهام. انظر مثلا إلى قوله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} (الفتح: 11) فالمعنى لا محالة: لا أحد يملك لكم من الله شيئا، ولكن الدلالة على هذا المعنى بالاستفهام فيها تنبيه لهؤلاء المخلّفين وحث لهم على تدبر أحوالهم ومراجعة أنفسهم والانقياد للحق واتباع سبيل الرشاد. وهكذا القول في الآيات الكريمة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} (البقرة: 114)، وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ

كَذِبًا} (الأنعام: 21) وقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} (الأحقاف: 35). وقد يأتي الاستفهام للتشويق وذلك عندما يقصد المتكلم إلى ترغيب المخاطب واستمالته، كما في الآيات الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الصف: 10) {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} (آل عمران: 15) {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} (النازعات: 15، 16) {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (النازعات: 18، 19). فلا يخفى عليك ما في الآيات الكريمة من ترغيب للمخاطب وتشويق له إلى معرفة الجواب، فهو يفكر فيه وينشغل به وينتظره في ترقب وتطلع، وعندئذ يأتي الجواب فيقع في نفس المخاطب موقعًا حسنًا؛ لأنه جاء والنفس مهيّئة له ومتلهفة إلى معرفته. ومن المعاني التي يفيدها الاستفهام: التعظيم كما في قول المتنبي: من للمحافل والجحافل والسرى ... فقدتْ بفقدك نيّرًا لا يطلع فهو يريد تعظيم المخاطب، والإشادة بفضله وأن المحافل وهي المجامع والجحافل وهي الجيوش والسرى أي السير ليلا، والزحف إلى الأعداء؛ هذه الأمور قد فقدت بفقده نيرًا لا يطلع، ومن التحقير كما في الآيات الكريمة: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} (الشعراء: 69، 70) وقوله: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} (الفرقان: 41) وقوله: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} (الأنبياء: 36)

ومن ذلك: التهكم كما في قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} (هود: 87)، فهم يسخرون منه ويتهكمون بما جاء به، وقد عبروا عن ذلك بصيغة الاستفهام ليدلوا على ثباتهم على الكفر ووقوفهم الصامد في الضلال والمكابرة. ومنها: التمني، وذلك عندما يطلب السائل الأمور المحالة أو البعيدة الحصول، كما في قوله تعالى: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} (الأعراف: 53) {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} (الشورى: 44) {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} (غافر: 47) وكأنهم لفرط ما هم فيه من هول العذاب صاروا يسألون غير الممكن، كما يسأل عن الشيء الذي لا محالة في وجوده، إلى غير ذلك من الأغراض البلاغية التي يفيدها الاستفهام، هي أكثر من أن يحاط بها؛ لأنها معان تستنبط من السياق وتأمُّل أحواله، والمعول عليه في ذلك هو سلامة الذوق وتتبع التراكيب الجيدة، ولا ينبغي لك أن تقتصر أنت في ذلك على معنى سمعته أو مثال وجدته من غير أن تتخطاه إلى غيره، بل عليك التصرف واستعمال الرويّة لمعرفة هذه الأسرار والنكات. وكثيرًا ما تجد أسلوب الاستفهام يفيض بأكثر من معنى بلاغي، تأمل مثلا قول الله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة: 28) فإنك تجد الاستفهام يفيد الإنكار التوبيخي؛ أي لا ينبغي أن يكون منكم كفر، وقد علمتم قصة خلقكم وحياتكم، كما يفيد التعجيب من وقوع هذا الكفر والحث على الإقلاع عنه والإقبال على الهدى والإيمان؛ لأن في خلق السموات والأرض وفي خلق

أسلوب: النداء، والتمني، ووقوع الخبري موقع الإنشائي.

الإنسان من العبر والعظات والأدلة على قدرة الله ما لو تأمله الكافر وتدبره لأقلع عن كفره وضلاله، فوجود الكفر منه بعدئذ يدعو إلى التعجب والإنكار. ومثل ذلك قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44) وقوله: {أَيْنَ الْمَفَرُّ} (القيامة: 10) وقوله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} (ق: 30). أسلوب: النداء، والتمني، ووقوع الخبري موقع الإنشائي ومن أساليب الإنشاء الطلبي: أسلوب النداء: والنداء: هو طلب الإقبال بحرف نائب مناب كلمة أدعو، والغاية منه أن يصغى من تناديه إلى أمرٍ ذي بال؛ ولذا غلب أن يلي النداء أمر أو نهي أو استفهام أو إخبار بحكم شرعي، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر: 1 - 4) وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (المائدة: 87) وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (التحريم: 1) وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق: 1) وهكذا، ودلالة النداء على الطلب دلالة مطابقة على أرجح الأقوال؛ لأنه طلب الإقبال بمعنى "أقبل"؛ فهو بمعنى أقْبِل؛ الأمر. وحروف النداء هي: الهمزة وأي ويا وآ وآي وأيا وهيا ووا، وأكثرها استعمالًا في نداءات القرآن هو يا، وهذه الأدوات منها ما يُنادى به القريب وهي الهمزة وأي، وما ينادى به البعيد وهي بقية الأدوات.

وإذا كان النداء هو طلب الإقبال، فإن الأصل فيه أن يكون للقريب الذي لا يجاوز امتداد صوت المنادي، ولكنهم توسعوا فيه فنادوا البعيد الذي لا يمكن أن يسمع صوت المنادي، أو بمعنى آخر: الذي لا يمكن أن يصل إليه صوته، وجعلوا لندائه أدوات، ولنداء القريب أدوات، ولم يتوقفوا عند نداء البعيد الذي لا يصله صوت المنادي، بل اتسع تصرفهم في النداء، فنادوا غير الحي العاقل كالناقة والطير والوحش، ومشاهد الطبيعة من برق وسحاب وأقمار وشموس وأشجار وأرض وسماء وجبال إلى غير ذلك، وقد يُنزّل البعيد منزلة القريب فينادى بالهمزة وأي لغرض بلاغي، وهو الإشعار بأنه حاضر في القلب لا يغيب عن الخاطر، حتى صار كأنه حاضرٌ مشاهد، ومن ذلك قول الشاعر: أسكان نعمان الأراك تيقنوا ... بأنكم في ربع قلبي سكان فهو ينادي سكان هذا الوادي، وقد عبر بالهمزة الموضوعة لنداء القريب لينبئ بأنهم قريبون منه لا يتركون فكره ولا يبرحون خياله. كما قد ينزّل القريب منزلة البعيد فينادى بغير الهمزة وأي لأغراض بلاغية؛ أهمها الإشعار ببعد منزلته وعلو مكانته، فينزّل بعد المنزلة وعلو المكانة منزلة البعد المكاني، كما في قول الله تعالى: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (مريم: 44، 45) الإشعار بأن المنادى وضيع المنزلة منحط المكانة، وكأنه بعيدٌ عن القلب فينزل هذا البعد النفسي منزلة البعد المكاني، ومنه قول الفرزدق في هجاء جرير: أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع

التنبيه على عظم الأمر المدعو له وعلو شأنه وإظهاره، حتى كأن المنادى مقصر فيه غافل عنه مع شدة حرصه على الامتثال، كما في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (المائدة: 67) أن يكون المنادى نائمًا أو ساهيًا، فيكون كلٌّ من النوم والسهو بمنزلة البعد الذي يقتضي علو الصوت، كقولك: هيا عمر استيقظ، أيا خالد تنبه، الإشعار بغفلة المنادى عن الأمر العظيم الذي يقتضي اليقظة والانتباه، كقولك: هيا فلان تهيأ للحرب. ويأتي أسلوب النداء مفيدًا لمعان بلاغية كثيرة، تفهم من السياق وقرائن الأحوال؛ من ذلك الإغراء وهو الحث على طلب الأمر الذي ينادى له، كقولك لمن يتظلم: يا مظلوم تكلم، فأنت تريد بهذا النداء إغراءه وحثه على بث الشكوى وإظهار التظلم. الاختصاص: وهو تخصيص حكم عُلّق بضمير باسم ظاهر، صورته صورة المنادى أو المعرف بأل أو بالإضافة أو بالعلمية، كما في قولك: أنا أفعل كذا أيها الرجل، ونحن نقول كذا أيها القوم، واغفر اللهم لنا أيتها العصابة، فالمراد بالمنادى هو المتكلم نفسه، والمعنى: أنا أفعل كذا متخصصًا من بين الرجال، ونحن نقول كذا متخصصين من بين الأقوام، واغفر اللهم لنا متخصصين من بين العصائب، وهكذا. الاستغاثة: كقولك: يا الله أي أقبل علينا لإغاثتنا. التعجب: كقولك وقد شربت ماء باردا: يا للماء، تريد التعجب من برودته وحلاوته.

الزجر: كما في قول الشاعر: يا قلب ويحك ما سمعتَ لناصح ... أما ارعويت ولا اتقيت كلاما الوعيد: كما في قول المهلهل: يا آل بكر انشروا لي كليبا ... يا آل بكر أين أين الفرار التنبيه: وقد يأتي حرف النداء لمجرد هذا التنبيه، كما في قول الله تعالى: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} (النساء: 73)، وقوله -صلى الله عليه وسلم: ((يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)). التحسر والتحزّن: وذلك عند نداء الأطلال والمنازل والمطايا والقبور والأموات والويل والحسرة وما إلى ذلك، كما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} (الفرقان: 27 - 29) ومثل قوله: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} (الزمر: 56). التمني: وقد قالوا في تعريفه: هو طلب أمر تحبه النفس وتميل إليه وترغب فيه، ولكنه لا يُرجى حصوله إما لكونه مستحيلًا أو لكونه بعيدًا، لا يطمع في نيله، والأداة الموضوعة له هي "ليت" تقول في تمني الأمر المحبوب الذي لا طمع فيه لكونه مستحيلا لا يمكن حصوله: يا ليت الشباب يعود يومًا، ومن ذلك قوله: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} (مريم: 23) وقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} (الفرقان: 27).

وتقول في تمني الشيء المحبوب الذي يمكن حصوله، ولكنه غير مطموع فيه لبعد مناله: ليت لي مالًا فأحج به! ومن ذلك قول الله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (القصص: 79)، فقد تمنوا أن يكون لهم مثل تلك الكنوز التي تنوء مفاتحها بالعصبة أولي القوة، وهي أمنية محببة لنفوسهم وليست مستحيلة، بل هي ممكنة الوقوع ولكنهم لا يطمعون فيها لبعد منالها. هذا، وقد يقع الأسلوب الخبري في موقع الأسلوب الإنشائي؛ وذلك لأغراض بلاغية يقصد إليها البليغ؛ أهمها: التفاؤل وإظهار الحرص والرغبة في وقوع المعنى الإنشائي وتحقيقه، إدخالًا للسرور على المخاطب ويكون ذلك في الدعاء بأن يقصد المتكلم طلب الشيء، وتكون صيغة الأمر هي الدالة عليه أو طلب الكف، وتكون صيغة النهي هي الدالة عليه، فيعدل عنهما إلى صيغة الإخبار بالماضي الدالة على تحقق الوقوع، وفيه إشعار بأن الدعاء للمخاطب قد حصل وتحقق، من ذلك قول الشاعر: إن الثمانين وبُلّغتها قد ... أحوجت سمعي إلى ترجمان ومن هذه الأغراض التي يعبر فيها بالخبر عن الإنشاء: الاحتراز عن صورة الأمر أو النهي المشعرة بالاستعلاء تأدبًا مع المخاطب؛ حيث يقتضي المقام ذلك التأدب، كقولك لمعلمك: ينظر إلي أستاذي لحظة، لا يعاقبني أستاذي. ومن ذلك حمل المخاطب على تحقيق المطلوب وتحصيله وذلك كقول الصديق لصديقه: تزورني غدًا، وكقول الأستاذ لتلاميذه: تأتوني كل صباح، بدلا من

زُرني وائتوني بصيغة الأمر، وذلك لأن التعبير بصيغة الخبر يحتمل الصدق والكذب، فلو أن الصديق لم يحضر لزيارة صديقه ألصق به الكذب، ونسبه إليه، وكذا التلاميذ إذا لم يأتوا كل صباح، كما أخبر أستاذهم نسبوه إلى الكذب وألصقوه به. وقد يقع الإنشاء في موقع الخبر لأغراض أهمها: الاهتمام بالشيء كما في قول الله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 29) والمعنى: وبإقامة وجوهكم عند كل مسجد، فعدل عن الخبر إلى صيغة الأمر؛ تنبيهًا إلى وجوب الاهتمام بالمأمور به والحرص على تحقيقه. من ذلك: الرضا بالواقع حتى كأنه مطلوب، كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم: ((من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)). ومنه: الاحتراز عن مساواة اللاحق بالسابق، كما في قول الله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (هود: 54) فالمعنى: إني أشهد الله وأشهدكم، فعدل عن ذلك إلى ما عليه النظم الكريم، من التعبير بصيغة الأمر: {وَاشْهَدُوا} احترازًا عن مساواة شهادتهم بشهادة الله -عز وجل. وفيه أيضًا تعظيم لهود -عليه السلام- وإعلاء لشأنه وتحقير لهؤلاء الكفرة المشركين، حتى يخضعوا ويذعنوا ويستجيبوا لما يأمرهم به. ولعلنا بهذا نكون قد طوفنا معا حول ما عُرف لدى البلاغيين بأساليب الإنشاء، ووقفنا على كثير من الأسرار والنكات البلاغية التي تكتنفها هذه الأساليب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 17 مبحث القصر.

الدرس: 17 مبحث القصر.

تعريف القصر، وبيان أنواعه

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (مبحث القصر) تعريف القصر، وبيان أنواعه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونسترضيه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فمع مبحث آخر من مباحث علم المعاني وهو "القصر"؛ نتعرف عليه ونقف على أنواعه ووجه بلاغته: أسلوب القصر من الأساليب الغنية بالاعتبارات الدقيقة والملاحظات العديدة، فهو فنٌّ دقيق المجرى لطيف المغزى جليل المقدار كثير الفوائد غزير الأسرار، تأمل معي مثلًا قول عبد الله بن قيس الرقيات: إنما مصعبٌ شهاب من الله ... تجلت عن وجهه الظلماء تجده يفيد المبالغة في وصف مصعب بالشجاعة والإقدام بعبارة مختصرة وأسلوب موجز، وقد آثر الشاعر التعبير بـ"إنما" ليدل على أن اتصاف مصعب بصفة الشجاعة أمر ظاهر بيّن؛ فتلك خصوصية من خصوصيات "إنما"، وبهذا يتضح لك أن أسلوب القصر في البيت قد حقق ثلاث مزايا: الإيجاز والمبالغة والدلالة على شهرة مصعب وذيوع شجاعته. ويرجع ثراء أساليب القصر وكثرة فوائدها إلى تنوّع طرقها وما بين تلك الطرق من فروق دقيقة واعتبارات وملاحظات لطيفة. القصر في اللغة: معناه الحبس، يقال: قصرته أي حبسته، وهو مقصور أي محبوس، قال تعالى: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} (الرحمن: 72)؛ أي محبوسات قد قصرن نظرهن على أزواجهن، فالمرأة قاصرة الطرف هي التي تحبس طرفها على بعلها، وتخصه به فلا تمده إلى غيره.

وهو في اصطلاح البلاغيين: تخصيص شيء بشيء بطريق مخصوص، فعندما نقول: زهير بن أبي سلمى شاعرٌ لا كاتب، فإننا نخص زهيرًا بصفة الشعر؛ بحيث لا يتجاوزها إلى صفة الكتابة، فزهيرٌ مقصور والشعر مقصور عليه، وقد قيد البلاغيون التخصيص بالطريق المخصوص، ليخرج كل ما أفاد القصر بغير تلك الطرق المخصوصة، فقولنا: زيد مقصور على العلم، وجاء محمد وحده، وعليّ يختص بالشعر، وخالد ينفرد بالشجاعة، وكذا قول أبي ذؤيب: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيتَ كل تميمة لا تنفع هذه الأقوال -ومثلها قول الله تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} (البقرة: 105) - هي وإن أفادت اختصاص شيء بشيء إلا أنها لا تدخل في نطاق دراسة البلاغيين، وميدان بحثهم؛ لأن التخصيص فيها ليس وراءه اعتبارات بلاغية تستدعي إفراد البحث بها، كما أنه لم يتم بالطريق المعهود التي حددوها، وهي التقديم كما في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) والعطف نحو: محمد كاتب لا شاعر، وإنما، كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} (النازعات: 45) والنفي والاستثناء، كقوله عز وجل: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} (فاطر: 23) وأضاف بعضهم تعريف المسند أو المسند إليه بأل الجنسية، وتوسط ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر نحو: محمد الجواد، وعليّ هو العالم؛ فهذه الطرق هي الغنية بالاعتبارات والملاحظات دون غيرها، والبلاغيون في دراستهم لأسلوب القصر ينظرون إلى غرض المتكلم من الاختصاص، وإلى حال المخاطب التي وقف عليها المتكلم فأحدث هذا التخصيص، وإلى طريق القصر أي المقصور والمقصور عليه، ثم إلى طرق القصر المشهورة وما بينها من فروق واعتبارات.

فالقصر -كما عرّفوه- تخصيص شيء بشيء بطريقٍ مخصوص، والشيء الأول هو المقصور، والثاني هو المقصور عليه، ومعنى اختصاص المقصور بالمقصور عليه ألا يتجاوزه ويتعداه إلى غيره، ففي قولنا: ما شاعر إلا امرؤ القيس، قصر للشاعرية على امرئ القيس؛ بحيث لا تتعداه إلى غيره، وهذا الغير الذي انتفت عنه صفة الشعر إن كان عامًّا فالقصر حقيقيّ، وإن كان معينًا فالقصر إضافي، والعام إن كان مطابقًا للواقع الخارجي فالقصر حقيقي تحقيقي، وإن كان مبنيًّا على الادعاء والمبالغة فهو حقيقي ادعائي، ثم القصر الإضافي يُنظر فيه إلى حال المخاطب؛ فهو إما أن يكون مترددًا في إثبات المقصور للمقصور عليه ونفيه عن المنفي عنه، وإما أن يكون معتقدًا الشركة؛ أي اشتراك المنفي عنه والمقصور عليه في المقصور، وإما أن يعتقد العكس؛ أي إثبات المقصور للمنفي عنه ونفيه عن المقصور عليه. فالأول قصر التعيين والثاني يسمى قصر الإفراد والثالث يسمى قصر القلب، وبالنظر إلى طرق القصر - وبالنظر إلى طرفي القصر أي المقصور والمقصور عليه، لابد أن يكون أحدهما موصوفًا والآخر صفة؛ ولذا فالقصر إما أن يكون قصر صفة على موصوف باعتبار الطرفين، أو قصر موصوف على صفة. هذا وليست طرق القصر سواء في الدلالة عليه، بل بينها فروق دقيقة، تحتاج من الدارس لكي يقف عليها إلى تأمل واعٍ ونظر دقيق، ثم إن تحديد المقصور والمقصور عليه ليس بالشيء الهيّن، بل يحتاج من الدارس أيضًا إلى نظر وتأمل في أسلوب القصر، فمثلًا قولك: إنما ضرب محمد زيدًا، يفيد قصر الضرب الواقع من محمد على زيد، وقولك: إنما ضرب زيدا محمد، يفيد قصر الضرب الواقع على زيد، على فاعله محمد، وبينهما فرق كبير.

ونبدأ بأقسام القصر باعتبار عموم الاختصاص لكل ما عدا المقصور عليه وعدمه، وهو بهذا الاعتبار أو باعتبار حال المتكلم من الاختصاص، ينقسم إلى قسمين: قصرٌ حقيقي وقصرٌ إضافي؛ فالقصر الحقيقي ما كان غرض المتكلم منه أن يختص المقصور بالمقصور عليه؛ بحيث لا يتعداه إلى غيره أصلًا، وهذا يعني أن المنفي عنه يكون عامًّا فالمقصور مختص بالمقصور عليه منفي عن كل ما عداه، كما في قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (الأنعام: 59) ففي الآية طريقان من طرق القصر؛ الأول: التقديم {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} حيث قدم المتعلق وهو هنا الظرف، وهو في موقع الخبر، والثاني: النفي والاستثناء {لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} فمفاتح الغيب عنده وليست عند غيره، وعلمها مقصور عليه تعالى، منفي عن كل ما عداه، وتكرار القصر أفاد تأكيد هذه الحقيقة وتقريرها؛ وهي أن العلم بالغيب مختصّ به تعالى لا يتعداه إلى أحد من خلقه. ومنه قولنا: ما خاتم الأنبياء إلا محمد، فالمراد أن ختم النبوة مقصور على محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يتعداه إلى غيره من الرسل، ومنه كذلك قوله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} (آل عمران: 64) فالمراد قصر العبادة على الله تعالى؛ بحيث لا تتعداه إلى غيره مطلقًا، هذا عن القصر الحقيقي، أما القصر الإضافي فهو أن يختص المقصور بالمقصور عليه بالنسبة إلى شيء معين؛ أي بالإضافة إليه، بحيث لا يتجاوزه إلى ذلك المعين، كما في قولنا مثلا: زهير شاعر لا كاتب، فالمراد قصر زهير على صفة الشعر؛ بحيث لا يتجاوزها إلى

صفة معينة محددة، وهي صفة الكتابة، وهذا لا ينافي أن يكون لزهير صفات أخرى كالخطابة مثلا، ففي القصر الإضافي يكون المنفي معينا محددا، والمراد ألا يتجاوز المقصور المقصور عليه إلى هذا المنفي المعين، وإن أمكن أن يتجاوزه إلى غيره، ومنه قولنا: الشاعر ذو الرمة لا زياد، فصفة الشعر مقصورة على ذي الرمة، لا تتعداه إلى زياد، وإن صح أن تتعداه إلى نصيب والكميت وجرير والفرزدق وغيرهم من الشعراء. هذا، وينقسم القصر الحقيقي إلى قسمين: حقيقي تحقيقي، وحقيقي ادعائي، فالتحقيقي ما كان المنفي فيه عامًّا يتناول كل ما عدا المقصور عليه من حيث واقع الحال وحقيقة الأمر، كما في الشواهد التي مرت بنا، وكما في قولك: ما أكرمت إلا زيدًا، إذا كان الإكرام لم يقع منك إلا على زيد في واقع الأمر وحقيقته، ومنه قولنا: لا يحج إلى مكة إلا المسلمون، فالواقع يطابق هذا؛ لأن الحج إلى مكة مقصور على المسلمين، ومنفي عن كل من عداهم من أصحاب الملل الأخرى، ومنه قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الملك: 1) فصفة الملك مختصة بالله تعالى في الحقيقة والواقع، ومنفية عن كل ما عداه، ومنه كذلك قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) فالعبادة وطلب العون مختصان بالله ومنفيان عن كل ما عداه في واقع الأمر وحقيقته، ومنه قوله عز وجل: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (آل عمران: 135)، فغفران الذنوب مختص بالله تعالى منفي عما عداه في الواقع والحقيقة.

ونلاحظ أن المقصور في جل الشواهد المذكورة صفة، والمقصور عليه موصوف، فالقصر الحقيقي التحقيقي يقع كثيرًا في الكلام إذا كان المقصور صفة ويقل في قصر الموصوف على الصفة لماذا؟ لأن الغالب في الموصوف أن يتصف بعدة صفات، ولا يوقف على صفة واحدة، أما الصفة فيجوز وقفها على موصوف واحد وحصرها فيه، وقد غالى بعض البلاغيين فقالوا: إن قصر الموصوف على الصفة قصرًا حقيقيّا تحقيقيًّا لا يتأتى؛ لأنه ما من موصوف إلا وله صفات كثيرة، تتعذر الإحاطة بها أو تتعسر، فإذا قلنا: ما زهير إلا شاعر، وما زياد إلا كاتب، لا يتأتى أن يكون زهير مقصورًا على صفة الشعر لا يتجاوزها إلى غيرها، ولا أن يكون زياد موقوفًا على الكتابة لا يتعداها إلى غيرها، كيف وهما يأكلان ويتكلمان ويمشيان ويتصفان بالحياة وبالبياض أو السواد وبالقصر أو الطول وبالذكاء أو الغباء، إلى آخر ما يمكن أن يتصف به حي. بل إن البعض خرج بالمسألة عن نطاق الدراسة البلاغية فقالوا: إن الصفة المنفية لها نقيض البتة، وهذا النقيض من الصفات، فإذا نفيت جميع الصفات لزم ارتفاع النقيضين، واحتدم النقاش واشتد الأخذ والرد، ودخلت المسألة في مماحكات كلامية ينبغي أن ينزه عنها الدرس البلاغي؛ لأنها من الشوائب التي تعكر صفوه وتكدر عذْبه، ولو تنبه هؤلاء إلى قول عبد القاهر في (الدلائل): "واعلم أن قولنا في الخبر إذا أخِّر نحو: ما زيد إلا قائم، أنك اختصصت القيام من بين الأوصاف التي يتوهم كون زيد عليها، ونفيت ما عدا القيام عنه، فإنما نعني أنك نفيت عنه الأوصاف التي تنافي القيام والتي هي منه بسبب، نحو أن يكون جالسًا أو مضطجعًا أو متكئا أو ما شاكل ذلك، ولم تُرِد أنك نفيت ما ليس من القيام بسبيل؛ إذ لسنا ننفي عنه بقولنا: ما هو إلا قائم، أن يكون أسود أو أبيض أو طويلًا أو قصيرًا أو عالمًا أو جاهلًا، كما أنا إذا قلنا: ما قائم إلا زيد، لم تُرِد أنه

ليس في الدنيا قائمٌ سواه، وإنما تعني ما قائم حيث نحن وبحضرتنا وما أشبه ذلك". انتهى من (الدلائل). أقول: لو تنبهنا وتنبه البلاغيون إلى هذا القول، ما خرجوا بالمسألة عن نطاق الدرس البلاغي، وما خاضوا بها الخوض الذي خاضوه. وخلاصة القول: أن المنفي عنه في القصر الحقيقي التحقيقي ما هو بسبيل من المقصور عليه، وواقع في دائرته ويتبادر إلى الذهن عند سماع أسلوب القصر، فإذا قلت: ما شاعر إلا زيد، فإنك لا تعني نفي الشاعرية عن كل من ولدته حواء في كل العصور وكل الأمم، إنما تعني نفي الشاعرية في حدود ما يشير السياق والقرائن، كذا ذكره أبو موسى في (دلالات التراكيب). وكذا إن قلت: ما زهير إلا شاعر، لا يعني أنك تنفي عن زهير كل صفة غير الشعر، وإنما يعني أنك تنفي عنه كل ما هو بسبيل من صفة الشعر، كالخطابة والكتابة، وكل ما هو في نطاق القول والإبداع مما يحدده السياق وتشير إليه القرائن، أما القصر الحقيقي الادعائي فهو أن يختص المقصور بالمقصور عليه بحيث لا يتعداه إلى غيره ادعاء ومبالغة، فالمقصور يختص بالمقصور عليه وينفي عن كل ما عداه مما هو بسبيل منه نفيًا يقوم على المبالغة والتجوّز، ولا يقوم على المطابقة الحقيقية للواقع كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28)، فقد قُصرت خشية الله على العلماء، ونُفيت عن كل من عداهم، ولا يعني هذا أن غير العالم لا يخشى الله تعالى، بل قد يكون غير العالم أشد خشية لله من العالم، ولكن سياق الآيات في التنويه بشأن العلماء وتعظيم منزلتهم والحث على النظر والتأمل.

واقرأ معي في ذلك الآية من أولها، يقول فيها جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 27، 28)، ولذا كانت خشية الله مقصورة على العلماء دون غيرهم؛ لأن خشية غيرهم لا يُعتد بها في هذا المقام، وليست هي بمنزلة خشية العلماء، ومن هذا قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} (المائدة: 25) فقد أثبت موسى -عليه السلام- ملكيته لنفسه ولأخيه، ونفاها عن كل ما عداهما، والمراد لا أملك في سبيل الله والدفاع عن كلمة الحق إلا نفسي وأخي، والسياق يرشد إلى أنه كان هناك رجلان يخافان الله، قد أنعم الله عليهما بالإيمان، ولكن موسى لم يعتد بإيمانهما؛ نظرًا لتقلب قومه وتغير أحوالهم؛ ولذا قال: {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (المائدة: 25). ومن ذلك قولنا: ما شاعرٌ إلا زهير، وما الرثاء إلا رثاء الخنساء، فقد بنى القصر على الادعاء والمبالغة وبعدم الاعتداد بغير زهير في الشعر وبغير الخنساء في الرثاء الحزين المؤلم، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) فقد قصر الحسد بمعنى الغبطة على هاتين الصفتين، ونفى ما عداهما ادعاءً ومبالغة، هذا كلام البلاغيين، لكن بحق ما جاء في كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- لا يليق أن نستخدم كلمة ادعاءً، والسر في هذا الحديث الأخير أن الغبطة تكون في غير الاثنتين المذكورتين ولكنه نزل غيرهما منزلة العدم على سبيل الادعاء. هذا والقصر الادعائي كثير في كلام العرب، ويرد في مقامات المبالغة والمدح والتعظيم، نحو قولهم: ما مؤدب إلا فلان، ما عالم إلا فلان، ما شاعر إلا امرؤ

القيس، ما خطيب إلا صحار العبدي، ما كاتب إلا فلان، هكذا يبنون كلامهم في ذلك على المبالغة وعدم الاعتداد بغير المذكور في تلك الصفة. هذا وينقسم القصر باعتبار المخاطب إلى قصر إفراد وقلب وتعيين؛ فقد تقدم أن القصر الإضافي: ما يكون المنفي فيه معينًا ومحددًا؛ يعني أن يختص المقصور بالمقصور عليه بالإضافة إلى معين، فالمقصور فيه يختص بالمقصور عليه لا يتجاوزه إلى ذلك المعين، كما في قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} (فاطر: 22، 23) حيث قصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- على صفة الإنذار، دون أن يملك تحويل القلوب عما هي عليه من العناد والمكابرة، وكما في قول الشاعر: إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب فقد قصر الشاعر الشكوى على الله -عز وجل- بحيث لا تتعداه إلى غيره من الناس، وهذا القصر الإضافي ينقسم باعتبار حال المخاطب واعتقاده -الذي وقف عليه المتكلم- إلى ثلاثة أقسام: قلب وإفراد وتعيين؛ فقصر القلب هو تخصيص أمر بأمر مكان آخر، ويخاطب به من يعتقد العكس كقولك: جاءني زيد لا عمرو، مخاطبًا من يعتقد أن عمرًا هو الذي جاءك دون زيد، فأنت تعكس وتقلب ما يعتقده؛ ولذا سُمي قصر قلب، ومنه قول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} (البقرة: 13) لأن المنافقين يعتقدون أن المؤمنين هم السفهاء دونهم، فقلب الله -عز وجل- اعتقادهم وبيّن أن المنافقين هم السفهاء ولكن لا يعلمون.

ومن ذلك قول الله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المائدة: 75) فالنصارى يعتقدون أن الله حلّ في عيسى، وأنه يخلد؛ فكفرهم الله -عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (المائدة: 72) فقلب -جل وعلا- لذلك اعتقادهم: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (المائدة: 75) فالمسيح مقصور على كونه رسولا يخلو كما خلت الرسل من قبله، ولا يتجاوز ذلك إلى كونه إلها كما اعتقده الكفرة؛ ولذا فالقصر في الآية الكريمة قصر قلب، وتأمل قول أبي تمام: والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشهب تجده قد قصر العلم على كونه في قوة الجيش والعتاد، ونفاه عن كونه في علم المنجمين الذين نصحوا المعتصم بألا يُقبل على الجهاد في ذلك الوقت؛ لأن النجوم بزعمهم تنبئ بأن يتريث ولا يتعجل، ولكن المعتصم لم يعبأ بما قالوا وأقبل إلى الجهاد فانتصر وفتح عمورية. وأنشد أبو تمام هذه القصيدة مشيدًا بنصره ومشيرًا إلى قصور علم المنجمين، فالقصر في البيت المذكور قصر قلب؛ لأنهم اعتقدوا أن العلم في السبعة الشهب، لا في قوة الرماح والجيش، فنفى أبو تمام هذا وأثبت عكسه كما ترى. النوع الثاني من أنواع القصر باعتبار المخاطب: قصر الإفراد، وهو تخصيص أمر بأمر دون آخر، ويُخاطب به من يعتقد الشركة، كقولك: محمد الجواد لا علي، لمن اعتقد أنهما يشتركان في صفة الجود، ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} (المائدة: 73) فهم يعتقدون الشركة، وأن الله ثالث ثلاثة، وأفاد

أسلوب القصر أن الإله واحد {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} فهو قصر إفراد، وتأمل قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: 144) فالصحابة -رضوان الله عليهم- لشدة تعلقهم وحبهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- أُنزلوا منزلة من يعتقد أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين صفتي الرسالة والخلد، فجاء أسلوب القصر مفيدًا أنه -عليه الصلاة والسلام- مقصور على صفة الرسالة، فهو رسول يخلو كما خلت الرسل من قبله، لا يتجاوز صفة الرسالة إلى التخليد في الدنيا. وخذ قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} (فاطر: 22، 23) فلما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتمنى هداية قومه، حريصًا -بل شديد الحرص- على قبولهم الهداية نُزّل -عليه الصلاة والسلام- منزلة من يعتقد أنه يجمع بين صفتي الإنذار والقدرة على خلق الهداية في النفوس، التي أصرت على الضلال والمكابرة، فجاء أسلوب القصر: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} محددًا مهمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقاصرًا إياه على صفة الإنذار لا يتعداها إلى القدرة إلى إسماع من في القبور. ويُشترط في قصر الموصوف على الصفة إفرادًا: عدم تنافي الوصفين -بالطبع- حتى يتصور اجتماعهما لموصوف واحد في ذهن المخاطب، فلا يقال في قولك: محمد أبيض لا أسود، إنه قصر إفراد؛ إذ لا يتصور أن يعتقد معتقد أن محمدًا يتصف بالبياض والسواد معًا، كما اشترط الخطيب القزويني في قصر الموصوف على الصفة قلبًا تنافي الصفتين حتى يكون إثبات إحداهما مشعرًا بانتفاء الأخرى، كقولك: محمدٌ طويل لا قصير، زيد ذكي لا غبي، عمرو شجاع لا جبان، حاتم كريم لا بخيل، ورد عليه بأن قصر القلب يرد كثيرًا في الصفات غير المتنافية، كما مر بنا في كلام عبد القاهر من أن المنفي من الصفات ما كان له تعلقٌ، وهو من المقصور عليه بسبب، فلا وجه إذن لهذا الاشتراط.

ثالث هذه الأقسام في القصر الإضافي: قصر التعيين، وهو تخصيص أمر بأمر دون آخر، ويخاطب به المتردد بين الشيئين، كقولك لمن يتردد شاكًّا في الناجح أعمرو أم بكر: إنما الناجح عمرو، وقولك لمن يشك في أمر زيد أمقيم أم مسافر: زيد مقيم لا مسافر، وتأمل معي قول الشاعر: فإن كان في لبس الفتى شرف له ... فما السيف إلا غمده والحمائل تجده قصرًا إضافيًّا صالحًا لأن يكون قصر قلب أو إفراد أو تعيين، وذلك حسب تصورك لحال المخاطب، فإن كان يعتقد أن الشرف في اللبس والزينة دون الفضائل النفسية فهو قصر قلب، وإن اعتقد أن الشرف فيهما معًا فهو قصر إفراد، وإن تردد وشك في مرجع الشرف أئلى اللبس والزينة يرجع أم إلى الفضائل النفسية فهو قصر تعيين، والأرجح هو أن يكون قصر تعيين؛ لأن الشاعر يريد أن يقرر أن مَردّ الشرف إلى ما يتصف به الإنسان من الفضائل لا إلى الشكل والزينة، فهذا من الأمور الواضحة الجلية، ولا يرتاب فيها إلا من ارتاب في الأمور البدهية، كمن يرتاب مثلا في مزية السيف وجودته؛ أئلى حدته وشدة قطعه ترجع أم إلى غمده والحمائل، فمن ارتاب في هذا الأمر البين فقل له موبخًا ومشيرًا إلى ضعف عقله وقلة تفكيره وشدة غبائه: ما السيف إلا غمده والحمائل. هذا ومراد البلاغيين بحال المخاطب، ما وقف القارئ للتعبيرات الجيدة عليه من قرائن الأحوال وسياقات الكلام، فالسياق وما به من قرائن هو الذي يبرز لك حال المخاطب، تأمل قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (آل عمران: 144) وقوله عز وجل: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} فالعبارة واحدة والبناء هو البناء، وعلى الرغم من ذلك نقول: إن القصر في الآية الأولى قصر إفراد، وفي الثانية قصر قلب، والذي

جعلنا نقول هذا القول الوقوف على أحوال المخاطبين من خلال تأمل سياق الآيتين. اقرأ سياق الآية الأولى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران: 142 - 144)، فهو ينبئك بمدى حب الصحابة -رضي الله عنهم- للرسول -عليه الصلاة والسلام- وتغلغل هذا الحب في نفوسهم إلى درجة أنهم قد غفلوا عن أمر موته ولم يخطروه ببالهم، وها هو ذا عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- يقول: "فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها". وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرفت حتى ما تقلني رجلاي،، وحتى هوِيت إلى الأرض"، فلشدة حب الصحابة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعلقهم به نُزلوا منزلة من يستبعد موته، وكأنهم يعتقدون أنه يجمع بين الرسالة والتبري من الهلاك؛ ولذا كان القصر قصر إفراد، ثم اقرأ سياق الآية الثانية {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المائدة: 73 - 75) فستقف منه على حال هؤلاء، فهم اعتقدوا أن عيسى -عليه السلام- إله وأن الله ثالث ثلاثة؛ ولذا كان القصر هنا قصر قلب؛ حيث قلبَ اعتقادهم وأفاد أن المسيح مقصور على كونه رسولًا يخلو كما خلت الرسل من قبله، لا يتجاوز ذلك إلى مرتبة الألوهية التي اعتقدوها.

أقسام القصر باعتبار طرفيه: المقصور، والمقصور عليه.

ويتكون حال المخاطب لدى المتكلم وترسم في ذهني من خلال خبرته ومعرفته بشئون مخاطبه؛ فعند التأمل تجد أن حال المخاطب تؤول إلى المتكلم وما قد علمه ووعاه عن مخاطبه، وفي كثير من الشواهد لا تستطيع أن تحدد مخاطبًا أو تعين حالًا له، بل تجد القصر منظورًا فيه إلى حال المتكلم وما يحكيه عن نفسه، فهذا مظهر جديد من مظاهر القصر وصورة أخرى من صوره، تأمل مثلًا قول الشاعر: وكنت امرأً ألقى الزمان مسالمًا ... فآليت لا ألقاه إلا محاربًا تجد القصر فيه قصر قلب، فالشاعر قد تغير وتبدل، وانقلب من امرئ يلقى الزمان مسالمًا إلى امرئ لا يلقاه إلا محاربًا، وأنت إن ذهبت تفتش عن حالٍ هنا لا تجد إلا حال المتكلم وحديثه عن نفسه. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. أقسام القصر باعتبار طرفيه: المقصور، والمقصور عليه هذا وينقسم القصر باعتبار طرفيه المقصور والمقصور عليه، إلى قصر صفة على موصوف وقصر موصوف على صفة، والمراد بالصفة هنا الصفة المعنوية، التي هي معنى قائم بالغير؛ سواء أكان هذا فعلًا أو مصدرًا أو مشتقًّا أو ظرفًا أو جارًا ومجرورًا أو غير ذلك، وليس المراد بها النعت النحوي؛ لأنه لا يقع قصر بين نعت ومنعوته، كقولك: جاء رجل فاضل، ففاضل نعتٌ نحوي للرجل، لا يفصل بينهما ولا يتصور بينهما قصر، كما أن المراد بالموصوف هنا كل ما قام به غيره وإن كان هو في نفسه صفة، تقول في قصر الصفة على الموصوف: ما شاعرٌ إلا زهير، ما كتب فلان إلا الشعر، ما أكرمت إلا زيدًا، وفي قصر الموصوف على الصفة: ما شوقي إلا شاعر، إنما أنت والٍ، محمد فارس لا كاتب، ما حاتم بخيلًا بل جواد. فقصر الصفة على الموصوف معناه: ألا تتجاوز الصفة ذلك الموصوف إلى موصوف آخر أصلًا إذا كان القصر حقيقيًّا، أو إلى موصوف آخر إذا كان القصر إضافيًّا، ولا يمنع هذا أن يتصف الموصوف المقصور عليه بصفات أخرى غير تلك الصفة

المقصورة، تقول: الله هو الخالق، فتُقصر صفة الخلق على الله -سبحانه وتعالى- قصرًا حقيقيًا تحقيقيًّا، ومنه قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) حيث قصرتَ صفة العبادة وكذلك صفة الاستعانة على الله قصرًا حقيقيًّا تحقيقيًّا، ومن ذلك قوله جل وعلا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (الأنعام: 59) حيث قصر العلم بمفاتح الغيب على الله تعالى قصرا حقيقيًا تحقيقيًّا، فهو قصر صفة على موصوف. ومن ذلك قول أبي تمام: لا يطرد الهم إلا الهم من رجل ... مُقَلْقِلٍ لبنات القفرة النُّعُب فالمراد بالهم الأول: ما يجده الرجل في صدره من أحزان، والمراد بالهم الثاني: الهمة والعزيمة، ومقلقل من القلقلة وهي الحركة العنيفة، وبنات القفرة: الإبل التي تقطع القفار، والنعب: مفردها نعوب، والنعبان: تحريك الناقة رأسها في السير، وهذا دليل النشاط والقوة، قصر هنا طرد الهم وهو صفة على الهم من رجل مقلقل لبنات القفرة وهو موصوف قصرًا حقيقيًّا ادعائيًّا؛ لأن الناس يطردون همومهم بأمور كثيرة، ولكن الشاعر لم يعتد بشيء منها إلا بالرحلة التي غيرته وأضنته، والتي كانت سببًا في حزن صاحبته وانسكاب عبرتها، فأراد أن يبين لها أن تلك الرحلة هي الوسيلة الوحيدة لطرد الهموم والأحزان، فهو لم يعتد بغير الرحلة في طرد همومه وأحزانه، على الرغم من وجود وسائل كثيرة لطرد الهموم؛ ولذا كان القصر حقيقيًّا ادعائيًّا، ومن ذلك قول الآخر: إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب حيث قصرَ صفة الشكوى على الله تعالى؛ بحيث لا تتجاوزه إلى الناس، وهو قصر إضافي، ومنه قول المتنبي في رثاء جدته: ولم يسْلِها إلا المنايا وإنما ... أشد من السقم الذي أذهب السقم

فقد قصر سلوها على المنايا قصرَ صفة على موصوف قصرًا حقيقيًا تحقيقيًّا؛ لأن جدته كانت قد اشتاقت إليه في غيبته، فلما وصلها كتابه قبّلته وفرحت، ثم أخبرت كذبًا أنه قد مات، فحمت ومات، فرثاها بتلك القصيدة. أما قوله: "وإنما أشد من السقم الذي أذهب السقم"، فلك أن تجعله قصر صفة على موصوف؛ أي قصر أشد من السقم على الذي أذهب السقم، والمراد بأشد من السقم صفات الكآبة والألم والفقدان والوجع، التي تغلب السقم وتقهره وتعلوه؛ لأنه لا يقهر الشيء إلا ما هو أشد منه وأقوى، فهو يتخيل صفات كآبة أقوى من السقم، ويقصرها على ما أذهب السقم وهذا إغرام في الخيال، كذا في (دلالات التراكيب)، ولك أن تجعله من قصر الموصوف على الصفة؛ أي القصر الذي أذهب السقم وهو المنايا على كونه أشد من السقم، ويكون طريق القصر عندئذ هو التقديم، وإنما ملغاة كما في قول الشاعر: أسامي لم تزده معرفة ... وإنما لذة ذكرناها وقصر الموصوف على الصفة معناه: ألا يتجاوز الموصوف تلك الصفة إلى صفة أخرى أصلًا إذا كان القصر حقيقيًا، أو إلى صفة أخرى معينة إذا كان القصر إضافيًّا، وهذا لا يمنع أن تكون تلك الصفة المقصور عليها وصفًا لموصوف آخر غير المقصور، فقولك: ما عمرو إلا شجاع، قصر لعمرو على صفة الشجاعة؛ بحيث لا يتعداها إلا صفة أخرى، أما الشجاعة فليس هنالك ما يمنع من أن يتصف بها غير عمرو، وتقول: زيدٌ كاتب لا شاعر، فتقصر زيدًا على صفة الكتابة بحيث لا يتجاوزها إلى صفة الشعر، فهو قصر إضافي وتقول: ما شوقي إلا شاعر، فتقصر شوقيًا على صفة الشعر بحيث لا يتجاوزها إلى صفة أخرى، فهو قصر حقيقي.

ولا يقال: كيف يوقف الموصوف على صفة واحدة؟ فإن هذا محال ولا يتأتى؛ لأننا نقول: المراد بالصفات المنفية هي تلك الصفات التي تتصل بالمعنى المذكور، فالصفة المقصور عليها في المثال صفة الشعر، ومعنى قصر شوقي عليها قصرًا حقيقيًا أنك نفيت عنه كل ما يتصل بها ويدور في فلكها، أو كما يقول عبد القاهر: "كل ما هو بسبيل منها"، كالكتابة والخطابة والفقه والحديث والنحو وما إلى ذلك، فهو ليس بارعًا في فرع من فروع المعرفة إلا في الشعر الذي قُصر عليه، وليس المراد أنك نفيت عنه كل صفة يمكن أن يوصف بها، ككونه مصريًّا أو فقيرًا أو سليمًا أم معافى أو أبيض أو كريمًا أو شجاعًا، ليس هذا مرادًا بل المراد كما قلنا: ما هو بسبيل من صفة الشعر المقصور عليها. ومن شواهد قصر الموصوف على الصفة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} (فاطر: 22، 23) حيث قصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- على صفة الإنذار، لا يتجاوزها إلى أن يملك تحويل القلوب المشركة عما هي عليه من العناد والمكابرة، ومنه قوله أيضًا -صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله -عز وجل- يعطي)) فقد قالوا في معناه: كان بعض الصحابة يسمع الحديث ولا يفهم منه إلا الظاهر الجلي، ويسمعه آخرون منهم فيستنبطون منه المسائل الكثيرة، والرسول -صلى الله عليه وسلم- حين يحدّثهم يكون كلامه مقسومًا بينهم، شركة بين الجميع، أما الفهم والاستنباط فهو من عطاء الرحمن، ففي الحديث قصرٌ للرسول -صلى الله عليه وسلم- على كونه قاسمًا لا يتجاوز تلك الصفة إلى الإعطاء، فالإعطاء هو تحقيق الفهم من الله تعالى، وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- لفرط اعتقادهم في هدايته -عليه الصلاة والسلام- رأوا أنه يقسّم ويعطي؛ ولذا بيّن لهم -صلى الله عليه وسلم- أنه لا يملك إلا القسْم وأما الإعطاء فمن الله تعالى، فالقصر إذن قصر موصوف على صفة قصرًا إضافيًا إفراديًّا.

ومنه قول دريد بن الصمة: وهل أنا إلا من غُزيّة إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد حيث قصر الشاعر نفسه على كونه من تلك القبيلة لا يتعداه إلى غيرها من القبائل، فهو قصر حقيقي تحقيقي، كذلك قول شوقي: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا فقد قصر الأمم على الأخلاق قصر موصوف على صفة قصرًا حقيقيًا ادعائيًّا؛ لأن هناك أمورًا كثيرة تكون بها الأمم كالقوة والمال والرقي والحضارة وغير ذلك، ولكن الشاعر لم يعتد بها وجعل الأمم مقصورةً على صفة الأخلاق لا تتعداها إلى غيرها، فإذا وُجدت الأخلاق وسادت كانت الأمم، وإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا. ومنه قول الآخر: هل الجود إلا أن تجود بأنفس ... على كل ماضِ الشفرتين صقيل حيث قصر الجود على الجود بالأنفس قصر موصوف على صفة قصرًا حقيقيًا ادعائيًّا، فالشاعر لم يعتد بما عدا الأنفس مما يمكن أن يُبذل كالمال والرأي والجهد، إلى غير ذلك من ضروب البذل، وجعل الجود مقصورًا على كونه بالأنفس فقط؛ إذ الجود بالنفس أسمى غاية الجود، ولا يخفى عليك أن قصر الموصوف على الصفة يفيد بلوغ الموصوف الغاية ووصوله حد النهاية في تلك الصفة، فقولك: ما زهير إلا شاعر، يفيد كمال المبالغة في شاعريته، وأنه قد بلغ الغاية في الشعر ووصل إلى حد جعلنا لا نعتد بالصفات الأخرى التي يمكن أن يتصف بها؛ وذلك لقصور تلك الصفات عن صفة الشعر التي تفوّق فيها ووصل إلى حد النهاية.

ولذا كان قولنا: ما زهير إلا شاعر، أبلغ في وصفه بالشاعرية من قولنا: ما شاعر إلا زهير، أو بمعنى آخر: يكون قصر الموصوف على الصفة أبلغ وأكمل وأقوى في اتصاف الموصوف بتلك الصفة، من قصر الصفة على الموصوف؛ لاحتمال كون هذه الصفة التي قصرت على الموصوف دون المستوى الأمثل؛ إذ لم تصل إلى حد الكمال، كل ما هنالك أنها وُجدت في زهير دون غيره من الناس، وكما قلنا: فالمراد بالصفة الصفة المعنوية، التي هي معنى قائم بغيره، كما أن المراد بالموصوف ما قام به غيره وإن كان هو في نفسه صفة. وقد نظر البلاغيون في جملة القصر ووضعوا لها ضوابط تعينك على تحديد كلٍّ من الصفة والموصوف؛ حيث ذكروا أن القصر إذا وقع بين ركني الجملة الاسمية فإن قصر المبتدأ على الخبر يكون من قصر الموصوف على الصفة، كقولك مثلا: ما زيد إلا أخوك، وإنما محمد كاتب، وقوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد: 20) وقولك: إنما زيد في الدار، وما الجود إلا أن تجود بالنفس، إلا إذا كان الخبر اسمًا جامدًا والمبتدأ مشتقًّا، فإن القصر يكون من قصر الصفة على الموصوف، كقولك: ما الكاتب إلا زيد، وما القائم إلا عمرو؛ لأنك أردت الحكم على الكاتب بأنه زيد وعلى القائم بأنه عمرو، فالكاتب مبتدأ خبره زيد والقائم مبتدأ خبره عمرو، والقصر قصر صفة على موصوف. وقصر الخبر على المبتدأ مِن قصر الصفة على الموصوف، كقوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} (المائدة: 99) وقوله عز وجل: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (الرعد: 40) فقد قُصرت مهمة الرسول على البلاغ قصر صفة على موصوف، أما قوله: {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} فهو قصر للمبتدأ وهو {الْحِسَابُ} على الخبر وهو {وَعَلَيْنَا} قصر موصوف على صفة قصرًا حقيقيًّا تحقيقيًّا، وإذا

وقع القصر بين أجزاء الجملة الفعلية، فإن قصر الفعل على الفاعل يكون من قبيل قصر الصفة على الموصوف، كقولك: ما كتب إلا محمد، لا ينال العلا إلا المُجد، ومنه قول الشاعر: لا يطرد الهم إلا الهم من رجل وقوله جل وعلا: {لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (الأنعام: 59) وقوله: {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام: 47) وقوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (آل عمران: 135) وقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28). وقصر الفعل على المفعول كقولك: ما ضرب محمد إلا زيدًا، وإنما أكرم زيد عمرًا، وكما في الآيات الكريمة: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} (المائدة: 117) {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} (الأنعام: 26) {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} (النجم: 23) وكقولهم: إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، يجوز أن يُعد من قبيل قصر الصفة على الموصوف؛ أي قصر الفعل الواقع من الفاعل على المفعول، فيكون المعنى عندئذ: ما مضروب محمد إلا زيد، ما مُكْرَم زيد إلا عمرو، ما مقولي إلا ما أمرتني به، ما مُهْلِكُهم إلا أنفسهم، ما متبعهم إلا الظن، ما مأكول الذئب إلا الغنم القاصية، فتأول الصفة المقصورة اسم مفعول؛ لأن الحدث لم يقع من المفعول المقصور عليه وإنما وقع عليه. ويجوز أن يُعد من قبيل قصر الموصوف على الصفة؛ أي قصر الفاعل على الفعل الواقع على المفعول؛ ففي الأمثلة المذكورة قصر محمد على ضرب زيد، وزيد على إكرام عمرو، وعيسى -عليه السلام- على قول ما أمره الله به، إلى آخر تلك الشواهد، والأولى من هذين الوجهين أن يُجعل الفعل مقصورًا على تعلقه بالمفعول، تقول في الشواهد المذكورة: قصَر ضرب محمد على تعلقه بزيد،

وإكرام زيد على تعلقه بعمرو، وقول عيسى على تعلقه بما أمره الله به، وأكل الذئب على تعلقه بالغنم القاصية، وهكذا في بقية الشواهد المذكورة، وأما قصر الفاعل على الظرف، نحو: ما سافر خالد إلا يوم الخميس، أو على المفعول لأجله: ما زرتك إلا محبة، وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) أو على المفعول المطلق نحو: ما قلت إلا قول المخلصين، ما حججت إلا حجتين، وقوله تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} (الجاثية: 32) أي ظنًّا ضعيفًا، أو على التمييز كقولك: ما طاب محمد إلا نفسًا، أو على الجار والمجرور نحو: ما عملت إلا في بيتي وما دفعت إلا عنك، أو على غير ذلك من المتعلقات التي يقع فيها القصر، فإن القصر فيها يكون إما من قصر الموصوف على الصفة أو من قصر الصفة على الموصوف، بالاعتبارات الموضحة في قصر الفاعل على المفعول. وقصر صاحب الحال على الحال من قصر الموصوف على الصفة، نحو: ما جاء عليّ إلا راكبًا، وما لقيته إلا ضاحكًا، ما انتصر المسلمون إلا وهم متحدون، وقصر الحال على صاحبها من قصر الصفة على الموصوف، نحو: ما جاء راكبًا إلا خالد، ما لقيني مرحبًا إلا عمرو، وما انصرف غاضبًا إلا زيد، وأما المفعول المطلق المؤكد لعامله والمفعول معه فلا يتأتى فيهما القصر، إذ لا يقال: ما ضربت إلا ضربًا، ولا ما سرت إلا والنيل وهكذا. السؤال إذن: ما الفرق بين القصر الحقيقي الادعائي والقصر الإضافي؟ هو على نحو ما مر بنا؛ أن القصر الحقيقي الادعائي: المنفي فيه عام؛ إذ يشمل كل ما عدا المقصور عليه ادعاءً ومبالغة، فقولك: ما شاعر إلا زهير، قصر لصفة الشعر على زهير بحيث لا تتعداه إلى غيره من الشعراء، على سبيل المبالغة، وكذا قولك: ما زهير إلا شاعر، قصرٌ لزهير على صفة الشعر لا يتعداها إلى غيرها أصلًًا، وهذا يعني أنه

قد تفوق في هذه الصفة وبلغ فيها الغاية إلى درجة جعلتك لا تعتد بأي صفة أخرى غيرها. أما القصر الإضافي: فالمنفي فيه محدد وليس عامًّا، تقول: زهيرٌ شاعر لا كاتب، فتقصر زهيرا على الشعر وتنفي عنه الكتابة -إفرادًا أو قلبًا أو تعيينًا- حسب اعتقاد المخاطب. هذا وعند التحقيق والتأمل، تجد أن القصر الإضافي بأنواعه الثلاثة؛ إما أن يكون تحقيقيًّا، وإما أن يكون ادعائيًّا، لأن قولك: حاتم جواد لا علي، إذا كان مطابقًا للواقع بمعنى أن يكون حاتم هو الكريم فعلًا وعلي هو البخيل؛ كان القصر تحقيقيًّا، وإن كان عليٌّ كريمًا، ولكنك لم تعتد بكرمه لأمر ما؛ فجعلت حاتما هو الجواد دونه؛ كان القصر ادعائيًّا مبنيًا على المبالغة، وكذا القول في قصر الموصوف على الصفة، كقولك: زهير شاعر لا كاتب، إن كان فعلا لا يجيد الكتابة ولا يعرف طرقها وفنونها كان القصر تحقيقيًّا، وإن كان يعرفها ولكنك لا تعتد بتلك المعرفة لكونه في الشعر أفصح وأبلغ؛ كان القصر مبنيًا على الادعاء والمبالغة. إلى هنا نتوقف لنستكمل -بمشيئة الله تعالى- في اللقاء التالي باقي الكلام عن أسلوب القصر؛ هذا الأسلوب الغني بالاعتبارات اللطيفة -كما ذكرنا، وكما رأينا.

الدرس: 18 تابع: مبحث القصر.

الدرس: 18 تابع: مبحث القصر.

العطف بـ"لا" و"بل" و"لكن"

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (تابع: مبحث القصر) العطف بـ"لا" و"بل" و"لكن" الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فنلتقي هذه المرة مع طرق القصر؛ لنتعرف على دقة استعمالاتها، ووجوه دلالاتها على القصر، والفرق فيما بينها: عرفت -فيما سبق- أن طرق القصر التي اصطلح عليها البلاغيون أربعة: العطف، والنفي والاستثناء، وإنما، والتقديم، وأضاف بعضهم طريقين آخرين وهما توسط ضمير الفصل وتعريف أحد ركني الإسناد بأل، وقد اشتهرت هذه الطرق عند البلاغيين. وآنَ لنا أن نتعرف على تلك الطرق وما يكمن وراء دلالاتها على القصر من مزايا وأسرار بلاغية: أولًا: العطف بلا وبل ولكن. تقول: زيدٌ كريم لا عمرو، وفلانٌ جواد لا بخيل، وهو يدعوك إلى الخير لا إلى الشر، وخالد ينصحك مخلصًا لا مرائيًا، وجاء خالد لا عمرو، وليس حاتم بخيلًا بل جواد، ولم ينصحني عمرو لكن صديقه، فتجد أن القصر قد أفيد بأحد الحروف المذكورة، وواضح أن طريق العطف يُصرّح فيه بكل من المثبت والمنفي؛ أي المقصور عليه والمنفي عنه، ولذا كان أقوى طرق القصر وآكدها؛ لأن غيره من الطرق لا يُصرح فيها بالنفي بل يفهم ضمنًا كما سنرى، وعلى الرغم من أن فائدة التأكيد أقوى في هذا الطريق فإن مزية الإيجاز فيه تتضاءل للتصريح فيه بالإثبات والنفي كما قلت. و"لا" صالحة لكل أنواع القصر، والمقصور عليه بها هو المقابل لما بعدها، ويشترط لدلالتها على القصر: أن يكون المعطوف بها مفردًا، وألا يتقدمها نفي أو نهي، وألا يكون ما بعدها داخلًا في عموم ما قبلها، تقول: زيدٌ شاعر لا غير، فتفيد

قصر زيد على صفة الشعر قصرًا حقيقيًّا، وتقول: زيدٌ شاعر لا كاتب، فتفيد قصره على الشعر قصرًا إضافيًّا، وتأمل قول أبي تمام: بيض الصفائح لا سود الصحائف ... في متونهن جلاء الشك والريب بيض الصفائح: كناية عن السيوف، سود الصحائف: كناية عن كتب المنجّمين، متونهن: يعني جوانبهن، جلاء: يعني كشف وإزالة، الريب: الظنون، يقول: إن السيوف البيضاء هي التي تزيل الشك وتظهر الحقيقة، أما صحائف المنجمين السوداء فإنها تضيّع الحقائق وتنشر الأباطيل، والبيت من قصيدة له في فتح عمورية، فالشاعر هنا قد قصر السيوف التي حققت النصر وفتحت عمورية على كونها بيض الصفائح مشرقة لامعة، ونفى عنها كونها سود الصحائف، فالمقصور عليه -كما ترى- هو المقابل لما بعد "لا"، ثم قصر جلاء الشك والريب على كونه في متون هذه السيوف؛ أي جوانبهن، ونفاه عن كتب المنجمين، وطريق هذا القصر هو التقديم الآتي بيانه، ولا يخفى عليك ما وراء أسلوبي القصر في البيت من توبيخ وتحقير لهؤلاء المنجمين، وما تُخبر به صحفهم، وقد سبق أن ذكرنا ما في قصيدة أبي تمام من قوله: والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشهب وانظر معي إلى قول الآخر: عمر الفتى ذكره لا طول مدته ... وموته خزيه لا يومه الداني فقد قصر عمر الفتى وحياته على ما يخلّفه من أثر طيب وذكر حسن، ونفاه عن طول مدته وامتداد أجله في الدنيا، كما قصر الموت على ما يَرضى به بعض الأحياء من خزي وهوان، ونفاه عن اليوم الداني ومفارقة الحياة؛ ولعلك تَشعر بما وراء القصر من حثٍّ على الأعمال الصالحة التي تنفع الإنسان وتبقى بعد

حياته، ومن تنفير من الذل والهوان والخزي، فلا يقبل مثل هذا ويرضخ به إلا فاقد الحياة. و"لا" صالحة لكل أنواع القصر كما مضى، تقول في قصر الصفة على الموصوف: زهير شاعر لا عمرو، وفي قصر الموصوف على الصفة: زهير شاعر لا كاتب، وفي القصر الحقيقي: زهير شاعر لا غيره، وفي القصر الإضافي: خالد جواد لا عمرو، فيكون قصر قلب أو إفراد أو تعيين حسب اعتقاد المخاطب، على نحو ما مر بنا. فإذا سبقت "لا" بنفي نحو: ما جاء زيد ولا عمرو، أو نهي نحو: لا تفعل هذا ولا ذاك، أو كان المعطوف بها جملة نحو: زيد مِقدام لا أبوه كريم، والفقير يُعطى من الصدقة، لا أحد ينكر هذا، أو كان ما بعدها داخلًا في عموم ما قبلها، نحو: عاد الحجاج لا إبراهيم، ونجح الطلاب لا خالد، يعني اختل شرط من شروط استعمال "لا" للقصر فعندئذ لا تدل على القصر؛ لأنها لا تفيد إثبات أمر لآخر ونفيه عن غيره، كما هو واضح في الأمثلة. و"بل" تفيد القصر إذا وليها مفرد، وتقدمها نفي أو نهي؛ لأنها في هذه الحال تقرر حكم ما قبلها، وتثبت ضده لما بعدها، فتتضمن النفي والإثبات، وذلك عماد القصر، فقولك: ما جاء زيد بل عمرو، يفيد نفي المجيء عن زيد وإثباته لعمرو، فالمقصور عليه بـ "بل" هو ما بعدها، ويرى البلاغيون أنها صالحة للقصر الإضافي إفرادًا وقلبًا وتعيينًا، ولا تصلح للقصر الحقيقي؛ لأن المنفي معها يكون أمرًا محددًا دائمًا، فإن جاء عامًّا لا يكون منفيًّا، بل يكون مسكوتًا عنه، نحو: ما جاءني أحدٌ بل زيد، فلا تفيد هذه الجملة سوى إثبات المجيء لزيد، أما ما قبل "بل" -وهو أحد- فمسكوت عنه، والمسكوت عنه لا يوصف بنفي ولا إثبات، بل يرى الجمهور أن ما قبل "بل" مسكوت عنه، حتى ولو كان محددًا،

نحو: ما جاءني زيد بل عمرو، ما زيد قائمًا بل قاعد؛ ولذا فهي لا تفيد قصرًا، ويرى البعض أن النفي لما قبل بل ولما بعدها فقولك: ما جاء زيد بل عمرو، يفيد نفي المجيء عنهما معًا؛ ولذا فهي لا تفيد القصر؛ لأن النفي والإثبات غير محقق. والصواب أن بل تفيد القصر في حال النفي خلافًا للإثبات، وتفيد في حال النفي بأنواعه: الإضافي قلبًا وإفرادًا وتعيينًا، والحقيقي تحقيقيًا وادعائيًا، وهذا ما يُفهم من الأساليب والتعبيرات، ولا يمكن دفعه ولا إنكاره، تقول: ما جاء زيد بل عمرو، فيكون قصر صفة على موصوف قصرًا إضافيًا، وتقول: ما زيد قائمًا بل قاعد، فيكون قصر موصوف على صفة قصرًا إضافيًّا، وتقول: ما جاءني أحد بل عمرو، فيكون قصرًا حقيقيًّا، ولا وجه لكون ما قبلها مسكوتًا عنه، ولا لتوجه النفي لما بعدها. ومن شواهد القصر بـ"بل" قول الشاعر: ليس اليتيم الذي قد مات والده ... بل اليتيم يتيم العلم والأدب فقد قصر الشاعر اليتيمَ على صفة الحرمان من العلم والأدب، ونفاه عن فقدان الوالد قبل بلوغ مبلغ الرجال، فهو قصر موصوف على صفة قصرًا إضافيًّا، أو إن شئت قلت: قصر قلب؛ لأنه قلب ما هو راسخ في الأذهان من أن اليتيم هو الذي قد مات والده قبل بلوغ سن الرجال، وفيه حث على التزود بالعلم والتحلي بالأخلاق والآداب الرفيعة، ففاقدهما هو اليتيم. و"لكن" تفيد القصر إذا سبقها نفي أو نهي ووليها مفرد، يعني كـ "بل" مثل قولنا: ما أكرمني زيد لكن عمرو، فقد قُصر الإكرام على عمرو ونفي عن زيد، فالمقصور عليه بـ"لكن" هو الواقع بعدها مثل بل تمامًا، وهي صالحة للقصر

الإضافي قلبًا وإفرادًا وتعيينًا، حسب اعتقاد المخاطب، وصالحة كذلك للقصر الحقيقي بنوعيه، ويرى بعض البلاغيين أنها لا تصلح للقصر الحقيقي؛ لأن المنفي معها دائمًا يكون أمرًا خاصًّا. ويشترط البعض بالقصر بـ"لكن" بالإضافة إلى ما ذُكر ألا تقترن بالواو، وهذا ليس بشيء؛ لأنا نراها في الأساليب الجيدة والتراكيب الممتازة قد اقترنت بالواو وأفادت القصر، انظر مثلًا إلى قول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: 40) فقد قصر النبي -عليه الصلاة والسلام- على الرسالة والختم لا يتجاوزهما إلى أبوة زيد -يعني ابن حارثة- قصر موصوف على صفة قصرًا إضافيًّا، و"لكن" هنا مقرونة بالواو كما ترى، ومنه قول الشاعر: إن الجديدين في طول اختلافهما ... لا يفسدان ولكن يفسد الناس فقد قصر الإفساد على الناس، ونفاه عن الجديدين وهما الليل والنهار، ومنه قول عروة بن الورد: وما شاب رأسي من سنين تتابعت ... عليّ ولكن شيبتني الوقائع حيث قصرَ التشبيب على الوقائع، ونفاه عن تتابع السنين. ومن مجيء "لكن" مفيدة للقصر وهي غير مقرونة بالواو قول الشاعر: ما نال في دنياه وانٍ بغية ... لكن أخو حزم يجِدّ ويعمل فقد قصر نيل البغية على أخو حزم ونفاها عن المتراخي والكسول، وفيه حثٌّ على الجد والاجتهاد، فالدنيا كفاح وميدان تسابق، والذي يصل إلى هدفه ويحقق غايته هو الجاد الذي يكد ويكدح ويسابق ويغالب.

ثاني طرق القصر: النفي والاستثناء.

ثاني طرق القصر: النفي والاستثناء تقول: ما القادم إلا زيد، وما أنت إلا مصيب، فتفيد قصر الصفة على الموصوف في الأول والموصوف على الصفة في الثاني، ويُستخدم هذا الطريق فيما ينكره المخاطب ويدفعه، أو فيما يشك فيه ويرتاب، يقول عبد القاهر: "وأما الخبر بالنفي والإثبات: ما هذا إلا كذا، وإن هو إلا كذا، فيكون للأمر ينكره المخاطب ويشك فيه، فإذا قلت: ما هو إلا مصيب، أو ما هو إلا مخطئ، قلته لمن يدفع أن يكون الأمر على ما قلته، وإذا رأيت شخصًا من بعيد فقلت: ما هو إلا زيد، لم تقله إلا وصاحبك يتوهم أنه ليس بزيد، وأنه إنسان آخر، ويجِدّ في الإنكار أن يكون كذلك". انتهى من كلام عبد القاهر في (دلائل الإعجاز). تأمل مع ما سبق قول الله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} (الأنعام: 50) تجده قد قصر الاتباع على الوحي لا يتجاوزه إلى غيره، فهو قصر حقيقي، وقد أوثر التعبير بالنفي والاستثناء؛ إذ المخاطبون يُنكرون ذلك ويدفعونه، فهم يعتقدون أنه شاعر أو ساحر أو كاهن، لا يُقرون بالوحي، بل يقولون: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}، فلما كان المشركون منكرين أن يكون الرسول -عليه الصلاة والسلام- متبعًا لوحي يوحى إليه ويجحدون ذلك ويدفعونه، جاء القصر بـ"إن وإلا" ليبدد هذا الإنكار ويدفع ذلك الجحود. ومثله قول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} (آل عمران: 62) وقوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}

(الأنعام: 25)، فقد جاء القصر بالنفي والاستثناء في الآيتين؛ لأن المخاطب ينكر الحكم ويدفعه؛ إذ الكفرة لا يُقرون بالوحدانية، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يدفع وينكر كون ما جاء به أساطير الأولين، ويُوقن إيقانًا راسخًا أنه حقٌّ من عند الله، فهذا الطريق -طريق النفي والاستثناء- يستخدم عندما ينكر المخاطب ويجحد الحكم، أو عندما يُنزل تلك المنزلة. ومثل النفي في إفادة القصر النهيُ والاستفهام، كما في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 135) فقد قصر غفران الذنوب على الله -سبحانه وتعالى- قصر صفةٍ على موصوف قصرًا حقيقيًّا تحقيقيًّا، وطريقه هو النفي والاستثناء؛ لأن الاستفهام في الآية الكريمة مرادٌ به النفي؛ إذ المعنى: لا يغفر الذنوب إلا الله، ومثله قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن: 60)؛ حيث قصر جزاء الإحسان على الإحسان قصر موصوف على صفة، وطريقه هو النفي والاستثناء؛ لأن الاستفهام بمعنى النفي، وتقول: لا تفعل إلا الخير، لا تصاحب إلا الوفي، لا تعتمد إلا على الله، فتقصر الفعل على الخير والمصاحبة على الوفي والاعتماد على الله، وطريق القصر -كما ترى- هو النهي والاستثناء، والمقصور عليه في طريق النفي والاستثناء هو المستثنى؛ أي الواقع بعد أداة الاستثناء، سواء تقدم أو تأخر، تقول: ما جاء إلا زيد فتقصر المجيء على زيد، ويقول زهير: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجّم فقد قصر الحرب على الذي علموه وذاقوه من ويلاتها قصر موصوف على صفة،

ويقول المتنبي: لا يدرك المجد إلا سيدٌ فطن ... لما يشق على السادات فعّال حيث قصر إدراك المجد على السيد الفطن، الذي يستطيع إدراك ما يشق على السادة الكرماء، وتقول: لا أختار الوفي إلا منكم، ولا أختار منكم إلا الوفي، فتفيد بالأول قصر اختيارك الوفي على كونه منهم، ففيه مدح لهم وتنويه بشأنهم، وأن من أراد الوفي فعليه بالاتجاه إليهم فهم جميعًا أوفياء، وتفيد بالثاني قصر اختيارك منهم على الوفي، فهذا يعني أن فيهم الوفي وغير الوفي، فأنت تختار الوفي وتترك غيره، ولا يخفى عليك بعد ما بين القولين والأدخل منهما في باب القصر. وتأمل معي قول الشاعر يمدح بني هاشم: لو خير المنبر فرسانه ... ما اختار إلا منكم فارسا تجده قد قصرَ اختيار الفارس على كونه منهم، وهذا يعني أنهم جميعًا فرسان، وأن المنبر لا يتجه إلا إليهم حين يُتاح له أن يختار فارسه. ولو قال الشاعر: ما اختار منكم إلا فارسًا، لتغير المعنى؛ إذ يصبح المراد قصر اختيار المنبر منهم على الفارس دون غيره، فهم ليسوا جميعًا فرسانًا، وتلاحظ في البيت تقديم "إلا" وما وليها على المفعول فارسًا، وهو جزء من المقصور -كما عرفت- إذ المراد قصر اختيار المنبر فارسه عليهم دون غيرهم، وهذا التقديم قد منعه بعض البلاغيين، وقالوا: إنه يؤدي إلى قصر الفعل قبل تمامه، وذهب البعض إلى أنه كلامان، وليس كلامًا واحدًا، فالمفعول المؤخر مفعول لفعل محذوف دل عليه المذكور، والمعنى: ما اختار إلا منكم اختار فارسًا، وتقول: ما أعطيت إلا زيدًا درهمًا، والمعنى: ما أعطيت إلا زيدًا أعطيته

درهمًا، وكأنك لما قصرت الإعطاء على زيد شعرت بحاجة السامع إلى نوع العطاء، فأردت أن تبينه فقلت: درهمًا، وحذفت الفعل والفاعل لدلالة ما تقدم عليهما، وبعضهم أجازه إذ صرح بالمستثنى منه كأن يقال: ما ضرب أحدٌ أحدًا إلا زيد عمرًا، فزيد مستثنى من أحد الأول وعمرو مستثنى من أحد الثاني. ومنهم من أجاز ذلك التقديم مطلقًا من غير تصريح بالمستثنى منه، وإن كان هذا التقديم قليلًا في التعبيرات الجيدة، وحجتهم أن أداة الاستثناء لا يخرج بها إلا شيء واحد وهو ما يليها، فلا يقع لبس فيما بعدها، فإذا قلت: ما ضرب إلا محمد زيدًا، لا يتوهم أن محمدًا هو المستثنى وهو المقصور عليه، وكذا قولك: ما شرب إلا اللبن محمد، لا يتوهم أن اللبن هو المقصور عليه المستثنى، وهذا هو الأولى بالقبول لوروده في التعبيرات الجيدة. وخلاصة الأمر: أن المقصور عليه هو ما يلي أداة الاستثناء، سواء تقدمت به الأداة أو تأخرت، فالراجح أنه لا مانع من هذا التقديم لوضوح المراد وزوال اللبس بمعرفة موضع المقصور عليه. والذي ينبغي معرفته أن النفي والاستثناء هو رأس باب القصر، وهو الطريق الأم بين طرقه؛ إذ نراهم يقيسون عليه غيره فيقولون مثلا: قولك: إنما زهير شاعر، معناه: ما زهير إلا شاعر، وقولك: لك هذا، معناه: ما هذا إلا لك، فلا منازعة في أن النفي والاستثناء، يدل على القصر، ولم يذهب أحد من البلاغيين إلى خلاف ذلك؛ لأن دلالة طريق النفي والاستثناء على القصر دلالة واضحة وضوحًا تامًّا وظاهرة ظهورًا قويًّا. وعلى الرغم من هذا ترى البلاغيين يتحدثون عن وجه هذه الدلالة فيقولون: إن وجه دلالة النفي والاستثناء على القصر هو أن النفي في الاستثناء المفرّغ هو الذي تُرك فيه المستثنى منه، ففُرغ الفعل الذي قبل إلا وشغل عنه بالمستثنى المذكور بعدها نحو: ما ضرب إلا زيد وما فعل زيد إلا هذا وما كسوته إلا جبة، يقولون: النفي في هذا الاستثناء متوجه إلى مقدر عام وهو المستثنى منه؛ لأن "إلا" للإخراج

ثالث طرق القصر الاصطلاحي "إنما".

والإخراج يقتضي مخرجًا منه، ولابد أن يكون عامًّا ليتناول المستثنى وغيره، فيتحقق الإخراج. وأن يكون مناسبًا للمستثنى في جنسه وصفته، فيقال في الأمثلة المذكورة: ما ضرب أحدٌ إلا زيد، ما فعل زيد شيئًا من الأشياء إلا هذا، ما كسوته من اللباس إلا جبة، وإذا كان النفي متوجهًا إلى هذا المقدّر العام المناسب للمستثنى في جنسه وصفته؛ فعندما توجب من ذلك المقدّر شيئًا بـ"إلا" أو غيرها من أدوات الاستثناء يكون القصر؛ لأن ما عدا هذا المثبت يظل باقيًا على صفة الانتفاء، وكل قصر يفيد إثباتًا ونفيًا؛ أي إثبات المقصور للمقصور عليه ونفيه عما سواه على الإطلاق في القصر الحقيقي، أو عن معين في القصر الإضافي. وخلاصة القول: أن الاستثناء المفرّغ كقولك: ما جاء إلا زيد، قصر اصطلاحي باتفاق البلاغيين، والاستثناء التام المنفي كقولك: ما جاء أحد إلا زيد، قصر اصطلاحي على الراجح، والاستثناء التام الموجب كقولك: قام القوم إلا زيد، يفيد القصر وليس قصرًا على الراجح من أقوالهم. ثالث طرق القصر الاصطلاحي "إنما" ودلالتها على القصر دلالة وضعية، وعلى الرغم من ذلك لم يفت البلاغيون أن يتحدثوا عن وجه دلالتها على القصر، فقد ذكروا أنها تدل على القصر لتضمنها معنى "ما وإلا" واستدلوا على ذلك بوجوه منها: أ- قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} (البقرة: 173) بالنصب؛ حيث ذكر المفسرون الذين يُحتج بهم في اللغة كابن عباس ومجاهد ونحوهما من الصحابة والتابعين أن المعنى: ما حرم عليكم إلا الميتة، وهو المطابق لقراءة الرفع؛ حيث يُفاد القصر في هذه القراءة -قراءة الرفع- بتعريف الطرفين؛ فالآية فيها ثلاث قراءات، وكلها تفيد القصر.

القراءة الأولى: "إنما حَرمَ عليكم الميتةُ" ببناء حَرم للمعلوم ورفع الميتة، خبر لمبتدأ محذوف، وعلى هذه القراءة تكون "ما" اسما موصولا وعائده محذوف، والمعنى: إن الذي حَرّمه عليكم هو الميتة، وهو قصرٌ في التحريم على الميتة وما بعدها، وطريق القصر تعريف الطرفين. والقراءة الثانية: "إنما حُرّم عليكم الميتة" ببناء حُرم للمفعول ورفع الميتة، وعلى هذه القراءة فـ"ما" اسم موصول، والمعنى: إن الذي حُرم عليكم هو الميتة، وهو قصرٌ طريقه تعريف الطرفين، ويصح أن يكون "ما" على هذه القراءة كافة لإن، والمعنى: ما حرم عليكم إلا الميتة، وهذا قصر أيضًا للتحريم على الميتة وما تلاها، وطريقه "إنما". والقراءة الثالثة: "إنما حرم عليكم الميتةَ" ببناء حرم للفاعل ونصب الميتة، فما كافة لإن، والمعنى: ما حرم عليكم إلا الميتة، فهو قصر طريقه "إنما"، وبهذا يتضح لك تطابق القراءات الثلاث في إفادة القصر، سواء أكانت "ما" كافة لـ"إن" أو موصولة. ب- قول من يحتج بقولهم مِن النحاة، وهم من أخذوا اللغة من كلام العرب مشافهة: إن "إنما" لإثبات ما يذكر بعدها ونفي ما سواه؛ أي لإثبات الحكم المتضمن لما بعدها ونفي ما سوى ذلك الحكم، وهذا القول من النحاة يقتضي تضمنها الإثبات والنفي، كـ"ما وإلا"، سواء في قصر الموصوف على الصفة كقولك: إنما زيد قائم، فهو لإثبات قيام زيد ونفي ما عداه من القعود ونحوه، وإما في قصر الصفة على الموصوف، كقولك: إنما يقوم زيد، فهو لإثبات قيام زيد ونفي ما سواه من قيام عمرو وخالد وبكر وغيرهم، وهذا هو القصر الذي يدل عليه النفي والاستثناء.

ج- صحة انفصال الضمير معها: كقولك: إنما يقوم أنا، وإنما يُكْرَم أنت، وإنما يُعطى نحن؛ وذلك لأنه متى أمكن اتصال الضمير فلا يُعدل إلى انفصاله إلا لغرض، فلا يجوز أن تقول: يُكرم أنت ولا يقوم أنا ولا يُعطى نحن؛ لإمكانك أن تقول: تكرم وأقوم ونكرم ونعطى، فلما صحّ انفصال الضمير مع إنما دل ذلك على أنها بمعنى "ما وإلا"؛ لأن "إلا" لا يليها سوى الضمير المنفصل، كقولك: ما يقوم إلا أنا وما يكرم إلا نحن، وكقول عمرو بن معد يكرب: قد علمت سلمى وجاراتها ... ما قطر الفارس إلا أنا قَطَّر بمعنى صرعه صرعة شديدة. ومن ورود الضمير منفصلا بعد "إنما" قول الفرزدق وهو من الذين يستشهد بشعرهم على صحة التراكيب وبلاغتها: أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ... أدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي الذائد: من الذود وهو الدفاع، والذمار: ما يلزم الشخص حمايته من أهلٍ ومال ونحوهما، مأخوذ من الذمر وهو الحث، فقد قصر الشاعر الدفاع عن أحسابهم عليه هو أو مثله؛ قصر صفة على موصوف قصرًا حقيقيًّا ادعائيًّا، ولو قال: إنما أدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي لكان قصرًا لدفاعه عن كونه عن أحسابهم، لا عن أحساب غيرهم قصر موصوف على صفة، ويكون قوله: "أنا أو مثلي"، توكيدًا لا مقصورًا عليه، وليس هذا مراد الشاعر؛ لأنه قصد إلى الفخر والاعتداد بنفسه وأنه هو المدافع عن أحسابهم دون غيره، ولم يقصد أنه يدافع عن أحساب قومه دون أحساب غيرهم؛ لأن هذا يتنافى ومقام المدح والفخر، تقول: إنما يفهم البلاغة المتذوق، فتجده أبلغ من قولك: إنما يفهم المتذوق البلاغة؛ لأن الأول أفاد قصر فهم البلاغة على الذوّاقة دون غيره، والثاني أفاد قصر فهم المتذوق على البلاغة دون غيرها من العلوم؛ فالأول هو المناسب لمقام المدح والتعظيم كما ترى.

هذا، والمقصور عليه بـ"إنما" هو المؤخر دائمًا، تقول في قصر العلم على محمد: إنما العالم محمد، وفي قصره على العلم: إنما محمد عالم، وتأتي "إنما" لإفادة كل أنواع القصر، فهي تفيد القصر الحقيقي بقسميه التحقيقي والادعائي، كما تفيد القصر الإضافي بأنواعه ثلاثة: القلب والإفراد والتعيين، اقرأ معي قول الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة: 91) تجد إرادة الشيطان قد قُصرت بـ"إنما" على إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين في الخمر والميسر، وصدهم عن الذكر والصلاة، فهو قصر صفة على موصوف قصرًا حقيقيًّا غير تحقيقي؛ لأنه مبني على المبالغة؛ إذ الشيطان يسلك كل طريق لكي يبعد العبد عن طاعة ربه. ولما كانت هذه الأمور -وهي الخمر والميسر والصلاة والذكر- من الخطورة بمكان، فقد قصرت إرادة الشيطان عليها، وكأن ما عداها لا يُعتد به إذا ما قُورن بها، ولما كانت "إنما" تستعمل في الأمور المعلومة التي لا تُنكر ولا تُدفع فقد أوثرت بالتعبير هنا لتنبئ بأن هذا الأمر من الأمور المعلومة، التي لا يُنكرها أحد ولا يدفعها مدافع، ومثل ذلك قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 169) حيث قصر ما يأمر به الشيطان على السوء والفحشاء والقول على الله بغير علم قصرًا حقيقيًّا، وقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28)؛ حيث قصر خشية الله على العلماء قصرًا حقيقيًا غير تحقيقي، وقوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 181)؛ إذ أراد أنّ من بدل الوصية وحرّفها وغيّر حكمها فالإثم واقع عليه وحده، والله -سبحانه وتعالى- مطّلع عليه وكاشف

رابع طرق القصر: التقديم.

أمره، وواضح أن القصر في الآية قصر صفة الإثم أو العقاب على الذين يُبدلون قصر صفة على موصوف قصرًا حقيقيًا تحقيقيًّا. وتأمل قول الله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (الرعد: 7) تجد أنه قصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- على صفة الإنذار، لا يتعداها إلى الإتيان بالآيات، فهو قصر إفراد؛ إذ يعتقد الكافرون أنه -عليه الصلاة والسلام- يجمع بين صفتي الإنذار والإتيان، وقد ذكر عبد القاهر "إنما" لا تستعمل إلا في قصر القلب، والصواب -ما ذكرنا- وهي أنها تستعمل في كل أنواع القصر -كما رأينا وكما هو عليه جمهور البلاغيين. رابع طرق القصر: التقديم الطريق الرابع من طرق القصر: طريق التقديم: وهو بابٌ واسع من أبواب البلاغة، تكمن وراءه العديد من المزايا والأسرار البلاغية، ومرادنا هنا أن نبرز دلالة التقديم على القصر؛ ففي قولك: ما أنا قلت هذا الشعر، دل تقديم المسند إليه وإيلاؤه أداة النفي على القصر؛ أي نفي قول الشعر عن المسند إليه المقدم، وإثباته لغيره، ومن ذلك قول المتنبي: وما أنا أسقمت جسمي به ... ولا أنا أضرمت في القلب نارا وقوله أيضًا: وأما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله ... ولكن لشعري فيك من نفسه شعر فتقديم المسند إليه المنفي على الخبر الفعلي، يفيد غالبًا الاختصاص؛ ولذا كان من الخطأ أن نقول: ما أنا قلت هذا ولا قاله أحدٌ غيري، أو تقول: ما أنا قلت شعرًا، أو ما أنا أكرمت إلا زيدًا، وكذا تقديم المسند إليه المثبت على الخبر الفعلي

كقولك: أنا سعيت في حاجتك، ومحمد يقري الضيف، فإنه يفيد القصر أو التقوية وتأكيد الحكم -حسبما يقتضيه السياق وقرائن الأحوال، والنكرة في هذا كالمعرفة، تقول: ما رجل جاءني، فيفيد تقديم النكرة القصر؛ أي نفي المجيء عن جنس الرجال وقصره على جنس النساء، والمعنى: ما رجل جاءني بل امرأة، أو نفيه عن الواحد لإثباته لغيره، والمعنى: ما رجل جاءني بل أكثر، وتقول: رجل جاءني، فيفيد تقديمها تقوية الحكم وتأكيده أو القصر؛ أي: قصر المجيء على جنس الرجال، ونفيه عن جنس النساء، والمعنى: رجل جاءني لا امرأة، أو قصره على العدد، والمعنى: رجل جاءني لا رجلين. ومن تقديم المسند الذي أفاد تقديمه القصر قوله جل وعلا: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) وقوله: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} (الصافات: 47) وقوله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الشورى: 49) ومنه قول عمرو بن كلثوم: لنا الدنيا ومن أضحى عليها ... ونبطش حين نبطش قادرينا وقول الآخر: رضينا قسمةَ الجبار فينا ... لنا عِلمٌ وللأعداء مال وقول آخر: لنا القلم الأعلى الذي بِشُباتِه ... يصاب من الأمر الكلى والمفاصل وشُبات كل شيء: حدة طرفه، وجمعها شبوات، والمراد: أنهم يُصيبون المحز، بما يكتبون ويقولون، فالبيت كناية عن الفصاحة وإجادة القول، ومن تقديم أحد المتعلقات على الفعل قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) وقوله جل وعلا: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (هود: 123) ومنه قول شوقي في مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم: بك يا بن عبد الله قامت سمحة ... بالحق من ملل الهدى غراء وقول الآخر: إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب وتقول: ما بهذا أمرتك، ما زيدًا أكرمت، فيكون كلامًا مستقيمًا، لأنك قصرت الأمر والإكرام المنفيين على المقدم؛ أي نفيت الأمر عن الجار والمجرور المقدم وأثبته لغيره، ونفيت الإكرام عن زيد وأثبته لغير زيد، فإن قلت: ما بهذا أمرتك ولا بغيره، ما زيدًا أكرمت ولا أحدًا من الناس، قلت ما ليس بقول، هذا والمقصور عليه بهذا الطريق هو المقدم دائمًا، عكس "إنما"، وهو صالح لكل أنواع القصر فقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) قصر للعبادة على الله قصر صفة على موصوف قصرًا حقيقيًّا تحقيقيًّا. وقول عمرو: لنا الدنيا ومن أضحى عليها قصر للدنيا ومن عليها على كونها لهم قصر موصوفٍ على صفة قصرًا حقيقيًّا ادعائيًّا، وقول الآخر: إلى الله أشكو لا إلى الناس قصر إضافي صالح أن يكون قلبًا أو إفرادًا أو تعيينًا حسب اعتقاد المخاطب.

من طرق القصر التي أقرها بعض البلاغيين: ضمير الفصل، وهو أن يعقب المسند إليه بضمير الفصل بتخصيصه بالمسند؛ بمعنى جعل المسند مقصورًا على المسند إليه، كقولك: زهيرٌ هو الشاعر، ففيه قصرٌ لصفة الشعر على زهير، لا تتعداه إلى غيره، وطريق القصر هو الفصل بالضمير، وهذا الضمير حرف باتفاق جمهور النحاة وليس اسمًا، والقائلون بأنه اسم أكثرهم على أنه لا محل له من الإعراب، وهو يقع كما ترى بين المبتدأ والخبر كما في المثال المذكور، أو بين ما أصلهما المبتدأ والخبر كقولك: صار امرؤ القيس هو الشاعر، وعلمت أن حاتمًا هو الكريم، والمقصور عليه بهذا الطريق هو المبتدأ والمقصور الخبر. وتلاحظ في الأمثلة المذكورة أن ضمير الفصل قد أفاد بالإضافة إلى القصر تأكيد نسبة الخبر إلى المبتدأ، وتلك الإفادة تراها وراء كل أسلوب من أساليب القصر، كما أفاد أيضًا الدلالة على أن ما بعد المبتدأ خبر له، وليس صفة؛ لأن قولك: زهير الشاعر، فيه إيهام أن الشاعر صفة لزهير، فإذا قلت: زهير هو الشاعر اندفع هذا التوهم، وأصبحت الجملة دالة دلالة بينة على أن الشاعر خبر لزهير لا صفة. ومن شواهد القصر بضمير الفصل قول الله تعالى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (المائدة: 117) والتوفية في الآية بمعنى الرفع، وقد جاءت التوفية في كتاب الله على ثلاثة أوجه؛ بمعنى الموت كما في قوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى

من طرق القصر: تعريف المسند أو المسند إليه بـ"أل" الجنسية.

إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (الزمر: 42). وبمعنى النوم كما في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} (الأنعام: 60) وبمعنى الرفع كما في هذه الآية: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} (المائدة: 117). وفي الآية الكريمة قصر لصفة المراقبة بمعنى المراعاة والحفظ والعلم على موصوف وهو الله تعالى، وطريق القصر هو ضمير الفصل أنت، ولو لم يكن ضمير الفصل في الآية الكريمة للدلالة على القصر بأن كان مثلًا مبتدأ ثانيًا أو تأكيدًا لما حسُن؛ لأن الله لم يزل رقيبًا عليه في جميع الأحوال، وإنما الذي حصل بتوفيته عيسى -عليه السلام- وقد كان شهيدًا عليهم يراقبهم ويأمرهم بعبادة الله؛ أنه لم يبقَ لهم رقيب غير الله؛ ولذا ينبغي أن يتعين إعرابه فصلًا دالًا على القصر. من طرق القصر: تعريف المسند أو المسند إليه بـ"أل" الجنسية ومن طرق القصر المعروفة لدى البلاغيين: تعريف المسند أو المسند إليه بأل الجنسية: إذا كان المبتدأ والخبر معرفتين فالراجح أن السابق منهما هو المبتدأ واللاحق هو الخبر، تقول: محمد الشجاع، فتخبر عن محمد بالشجاعة، وتقول: الشجاع محمد، فتخبر عن الشجاع بمحمد، وتقول: زيد أخوك وأخوك زيد، فالأول إخبار عن زيد بأنه أخوه، والثاني إخبار عن أخيه بأن اسمه زيد، وعندما يكون أحد طرفي الإسناد معرفًا بأل التي للجنس فإن هذا التعريف يدل على القصر؛ إذ هو طريق من طرقه عند بعض البلاغيين كما عرفت، تقول: محمد الكريم والكريم محمد، فتفيد بهذا قصر الكرم على محمد في الموضعين، فالمقصور هو المعرف بأل الجنسية؛ سواء تقدم أو تأخر، والمقصور عليه هو الآخر، وتقول: خالد الأمير، والأمير خالد؛ فتفيد قصر الإمارة على خالد قصرًا حقيقيًا تحقيقيًا إذا لم يكن ثمة أمير سواه. وتقول: محمد الشجاع، والشجاع محمد؛ فتفيد قصر الشجاعة على

محمد قصرًا حقيقيًّا ادعائيًّا؛ لأنك تجعله الكامل في الشجاعة، ولا تعتد بشجاعة غيره لقصورها عن رتبة الكمال وهكذا. فإن كان طرفا الإسناد معرفين بأل الجنسية، كقولك: العالم المنطلق، فإن السياق هو الذي يحدد المقصور والمقصور عليه؛ إذ هو صالح لقصر العلم على المنطلِق، ولقصر الانطلاق على العالم، والسياق هو الذي يحدد ويعين المراد، والمقصور بهذا الطريق هو المعرف بأل أو الذي يحدده السياق، إذا كان الطرفان معرفين معًا بها، وقد يكون على إطلاقه كما في الأمثلة السابقة وقد يقيد بقيد كقولك: محمد المطاع في قومه، وأنت القائد الجريء؛ حيث قُصِرت الطاعة المقيدة بالجار والمجرور على محمد، وقُصرت القيادة المقيدة بالجرأة على المخاطب. ومن ذلك قولهم: هو الوفي حين لا تظن نفس بنفس خيرًا، وهو الجواد حين يبخل الناس، ومنه قول الأعشى: هو الواهب المائة المصطفاة ... إما مخاضًا وإما عشارًَا فالشاعر قد قصر الهبة على الممدوح ليس مطلقًا وإنما مقيدة بكونها من النوق، وبكونها مائة وبكونها مصطفاة وبكونها إما مخاضًا وإما عشارا، وهذا أبلغ في مقام المدح من قصر الهبة المطلقة كما لا يخفى. ومن أهم ما ينبغي أن تتجه إليه عناية الدارس لأسلوب القصر: أن يقف على ما بين طرقه من فروق وأوجه اختلاف؛ فإن هذه الطرق على الرغم من اشتراكها في الدلالة على معنى القصر فإنها تختلف من عدة أوجه، وأهم هذه الأوجه:

1 - أن دلالة التقديم وضمير الفصل وتعريف الطرفين أو أحدهما "بأل" الجنسية على القصر، ليست دلالة وضعية وإنما هي دلالة تذوقية، تفهم من فحوى الكلام وسياقاته وقرائن أحواله، وكذا توسط الضمير بين طرفي الإسناد قد يكون لتأكيد مضمون الكلام ويعرب مبتدأ ثانيًا، فليس دائمًا لإفادة الاختصاص، وتعريف الطرفين أو أحدهما بأل الجنسية قد يكون للتقرير وتأكيد نسبة المسند إلى المسند إليه، وقد يكون لغير ذلك، أما النفي والاستثناء وإنما والعطف بـ لا وبل ولكن فدلالتها على القصر دلالة وضعية. 2 - أن الأصل في طريق العطف بـ لا وبل ولكن، النص على المثبت والمنفي معًا، تقول: زهير شاعر لا كاتب، ما شوقي كاتبًا بل شاعر، ما عمرو جواد لكن حاتم، ولا يُترك النص على المثبت والمنفي في هذا الطريق إلا كراهة الإطناب في مقام الإيجاز، أما بقية الطرق فالأصل فيها أن يُنص على المثبت فقط دون المنفي، تقول: ما شاعر إلا زهير، وما زهير إلا شاعر، إنما أنت أبٌ، إياك أكرمت، محمد الشجاع، خالد الوفي، وهكذا، فبهذه الطرق قد نص على المثبت فقط، أما المنفي فمفهوم من القصر بمعرفة سياقات الكلام. 3 - اجتماع طريقين من طرق القصر: لا يجوز أن يجتمع طريق النفي بلا العاطفة وطريق النفي والاستثناء؛ لأن لا موضوعة لأن يُنفى بها ما أوجب للمتبوع، كقولك: زيد كريم لا شجاع، فهي موضوعة للنفي ابتداء، لا لأنْ تعيد بها النفي في شيء قد نفيته، أما بقية الطرق فتجتمع والنفي بـ لا، تقول في اجتماعه وإنما: إنما زيد كريم لا شجاع، وفي اجتماعه والتقديم: إلى الله أشكو لا إلى الناس، وفي اجتماعه والتعريف بأل: زيد الكريم لا عمرو؛ وذلك لأن النفي في هذه الطرق ليس نفيًا صريحًا، بل نفيت بها ما قد فُهم نفيه في الجملة

المتقدمة بغير أداة، والقصر عندئذ طريق "إنما" والتقديم والتعريف بأل، أما العطف بـ"لا" فلتأكيد القصر. وقد تجتمع "إنما" وضمير الفصل أو التعريف بأل، فيقال: إنما الجواد أنت، إنما العالم هو محمد؛ إذ المقصور عليه بالتعريف أو بضمير الفصل هو الخالي من أل، والمقصور عليه بـ"إنما" هو المؤخر، فلا تناقض في بناء العبارة كما ترى، بل إن طريقي القصر يؤكد كل منهما الآخر، فإن قلت: إنما أنت الجواد، إنما محمد هو العالم، تدافع الطريقان، ولو جعلت ضمير الفصل أو التعريف للتأكيد وتقوية الحكم وتقريره فلا تدافع؛ إذ يكون القصر مدلولًا عليه بإنما، والتعريف وضمير الفصل مؤكدان له، وقد تجتمع طريق "إنما" وطريق التقديم كقولك: إنما زيد أكرمت، وإنما بهذا أمرتك، وإنما عليك المعول، وعندئذ يتحتم إلغاء دلالة أحد الطريقين على القصر ويبقى الآخر؛ وذلك لأنه لا يمكن أن يلائم بين طريق إنما وطريق التقديم؛ إذ المقصور عليه بـ إنما هو المؤخر والمقصور عليه في التقديم هو المقدم، الذي يحدد ذلك هو السياق وقرائن الأحوال وما يقتضيه المعنى. 4 - أن الأصل في طريق النفي والاستثناء أن يُستعمل فيما شأنه أن يجهله المخاطب وينكره، والأصل في إنما أن تستعمل فيما شأنه أن يعلمه المخاطب ولا ينكره، وقد يأتيان على خلاف ذلك على سبيل التنزيل، هذا وقد صرح الشيخ عبد القاهر بأن أفضل مواقع إنما هو التعريض؛ لأنها فيه أقوى ما تكون وأعلق ما ترى بالقلب، فقد علمت أن الحكم الذي تستعمل فيه إنما من شأنه أن يكون معلومًا لا يجهله أحد، ولا ينكره منكر؛ لذلك امتازت عن بقية طرق القصر بأنها تُستعمل في كلام لا يكون الغرض منه إفادة الحكم للعلم به، وإنما يكون الغرض التلويح به إلى معنى آخر على سبيل التعريض، تقول لمن يهمل في مدارسة العلم

ولا يجتهد في تحصيله: إنما ينال العلا من اجتهد، فأنت لم تُرد أن تعلمه هذا الحكم لوضوحه وظهوره، وإنما قصدت أن تلوّح له بإهماله وأنه لن يحقق رغبته في نيل العلا إلا بالجد. ومثل ذلك ما جاء في قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الرعد: 19)، فالمعنى: إنما يتذكر الحق ويعقله أرباب العقول السليمة والفِكَر السديدة، وليس الغرض من الآية أن يعلم السامعون هذا المعنى الظاهر، بل ترمي من وراء ذلك إلى التعريض بذم الكفار، ومثل ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} (فاطر: 18) وقوله جل وعلا: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} (النازعات: 45). والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 19 باب: الفصل والوصل.

الدرس: 19 باب: الفصل والوصل.

باب: الوصل والفصل بين المفردات

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع عشر (باب: الفصل والوصل) باب: الوصل والفصل بين المفردات إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونسترضيه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، كما نعوذ به من سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، وبعد: فحديثنا عن باب الفصل والوصل: وباب الفصل والوصل بين المفردات أو بين الجمل بابٌ دقيق المجرى لطيف المغزى جليل المقدار كثير الفوائد غزير الأسرار. وقد تنبّه العلماء قديمًا لدقة هذا الباب، وجعلوه البلاغة بأسرها؛ حيث سُئل أحدهم عن البلاغة فقال: البلاغة معرفة الفصل من الوصل، كذا ذكره الجاحظ في (البيان والتبيين)، وقال عبد القاهر في (الدلائل): "واعلم أنه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول فيه: إنه خفي غامض ودقيق صعب، إلا وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدق وأصعب". والوصل معناه العطف، أي عطف الكلام بعضه على بعض، سواءٌ أكان هذا العطف للمفردات أم للجمل، وسواءٌ أكان بالواو أو بغيرها كالفاء وثم وأو، والفصل هو ترك العطف، هذا ما ذكره السكاكي. ولكن البلاغيين جرت عادتهم في حديثهم عن الفصل والوصل أن يتجاوزوا عطف المفردات وعطف الجمل التي لها محل من الإعراب، معللين ذلك بأن عطف المفردات وكذلك الجمل التي لها محل من الإعراب أمره هيّن ويسير؛ إذ لا يُقصد به سوى مجرد التشريك في الحكم الإعرابي، أما دقة الفصل والوصل فإنما تظهر في الجمل التي لا محل لها من الإعراب. كما تجاوز البلاغيون العطف بغير الواو قائلين: إن الواو من بين حروف العطف هي التي لا تفيد سوى مجرد الإشراك في الحكم ومطلق الجمع، فالعطف بها دقيق مشكِل، أما غيرها من حروف العطف فتفيد مع التشريك في الحكم معانيَ أخرى؛ فالفاء تفيد الترتيب والتعقيب، وثم تفيد الترتيب والتراخي، وأو تفيد

تردد الفعل بين شيئين أو التخيير أو الإباحة؛ ولذا لم يشكَل العطف بتلك الأحرف، وهذا الذي ذكروه وإن كان لا يخلو من الصحة، إلا أننا لا نُعدم وجوهًا دقيقة وأسرارًا خفية نجدها كامنة وراء العطف بغير الواو، كما أننا لا نُعدم وجوهًا أدق وأسرارًا أخفى تكمن وراء عطف المفردات والجمل التي لها محل من الإعراب، انظر مثلًا إلى قول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 12 - 14). تجد أن الجمل قد وُصِلت في الآيات الكريمة بحرفي العطف ثم والفاء، ووراء الوصل بهذين الحرفين تكمن الدقائق واللطائف، فقد بدأت بالخلق الأول خلق آدم -عليه السلام- من طين، ولما أُريد وصله بالخلق الثاني -خلقِ التناسل- عطف عليه بـ ثم، لما بينهما من التراخي، ثم تحدثت الآيات عن أطوار الخلق فوصلت خلق العلقة بالنطفة بـ ثم لما بينهما من التراخي ثم توالت الأطوار؛ خلق المضغة فالعظام فكساء العظام لحمًا، موصولةً بالفاء حيث لم يكن هناك تراخٍ بينها، ثم وصل تسويته إنسانًا بكساء العظام لحمًا بحرف العطف ثم، إشارة إلى التراخي بينهم، كذا ذكره العلوي في (الطراز). فإنك عندما تتأمل ما عطف بـ ثم، تجده أدق وأبعد مما عطف بالفاء، فقد نزّل الاستبعاد عقلًا أو رتبةً منزلة التراخي والبعد الحسي، فعطف بـ ثم، ونزّل القرب عقلًا أو رتبة منزلة القرب الحسي فعطف بالفاء، انظر في ذلك (روح المعاني) للألوسي ثم جاء قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 14)

معطوفًا بالفاء على تلك الجمل التي جلّت أطوار الخلق في هذا النظم المبدع؛ لتنبه الإنسان إلى ما يجب عليه من المبادرة والإسراع إلى تعظيم الله -عز وجل- والإشادة بحسن خَلقه وعجيب صنعه؛ ولهذا نطق أكثر من صحابي بختام الآيات الكريمة: تبارك الله أحسن الخالقين، قبل أن يمليها النبي -صلى الله عليه وسلم- لكاتب الوحي، ويبتسم النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلا: ((هكذا نزلت)). على أن السياق هو الذي يحدد كيفية الوصل بين الجمل، ويُعيّن حرف العطف الذي يتحتم استخدامه دون غيره، انظر مثلًا إلى قول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} (الكهف: 57) ثم تأمل مع ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (السجدة: 22)، تجد أن سياق الآية الأولى يتحدث عن الكفرة الذين ما زالوا يَحيون يعاندون ويكابرون ويرفضون قبول الهداية: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} (الكهف: 57) فهؤلاء يُعرضون عن الآيات فور تذكيرهم بها؛ ولذا ناسب العطف بالفاء التي تفيد التعقيب {ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا}. أما سياق الآية الثانية فيتحدث عن المجرمين الذين انتهت حياتهم وماتوا على الكفر: {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} (السجدة: 20، 21) فهؤلاء قد استمر تذكيرهم في الدنيا بالآيات، وامتدّ زمانًا بعد زمان، ثم أعرضوا عنها إعراضًا نهائيًّا بالموت، وهذا يلائمه العطف بـ ثم التي تفيد الامتداد والتراخي. وبهذا يتضح أن العطف بغير الواو يكمن وراءه من الدقائق والأسرار واللطائف ما ينبغي إظهاره وتجليته، ولا يمكن إغفاله أو التغاضي عنه.

أما عطف المفردات -الذي لم يدخله جمهور البلاغيين في باب الفصل والوصل- فلا يخلو هو الآخر من نكات وأسرار؛ ذلك أن القول بأن المفردات يُعطف بعضها على بعض بالواو لمجرد أنها متناسبة متجانسة كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام: 162) باعتبار أن الصلاة والنسك والمحيا والممات أسماءٌ متناسبة، وكذا قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) فالفواحش والإثم والبغي والشرك والقول على الله ما لا يعلمون ألفاظٌ متجانسة متناسبة. ومثله قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (البقرة: 285) فالله والملائكة والكتب والرسل أسماءٌ بينها تناسب وتآلف، وعليه، فهذا الذي ذكره البلاغيون بشأن الاقتصار على الجمل التي لا محل لها من الإعراب، والادعاء بأن المفردات بـ ثم ليس بينها سوى العطف لمجرد كونها متناسبة غير سديد، والأسلم لقائله من البلاغيين أن التناسب بين الألفاظ والتلاؤم والتجانس بين الكلمات مطلوبٌ، سواء أعطفت هذه الكلمات أم لم تعطف، وقد ذكروا ذلك في علم البديع وسمّوه مراعاة النظير، فالمتكلم ينبغي له أن يُراعي التناظر والتجانس والتآلف بين ألفاظه، وألا يُباعد في القول؛ ولذا عاب النقاد قول أبي تمام يمدح أبا الحسين محمد بن الهيثم: لا والذي هو عالمٌ أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم حيث جمع بين مرارة النوى وكرم أبي الحسين، وهما متباعدان لا تجانس بينهما، والذي أوقع أبا تمام في هذا العيب هو محاولته التخلص من الغزل والانتقال إلى المديح، ولكنه لم يحسن التخلص ووقع فيما وقع فيه من عدم التجانس بين مرارة

الفراق وكرم الممدوح، الأمر الذي يعني أن التناسب والتجانس والتآلف بين الألفاظ ليس مقصورًا على كونها معطوفة، بل لابد من مراعاة النظير بين المفردات؛ سواء أكانت معطوفة أم غير معطوفة. وقول البلاغيين: إن الصفات لا يُعطف بعضها على بعض إلا إذا كانت متضادة، كما في قول الله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد: 3) أما إذا كانت غير متضادة فإنها تُذكر بالعطف كما في قوله عز وجل: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (الحشر: 23، 24) واتكاؤهم في ذلك على ما جاء في قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} (التحريم: 5) وأن الصفات قد توالت بلا عطف إلا {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} فقد عطفتا لما بينهما من التضاد، ونظيره كذلك ما جاء في قول الله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (التوبة: 112) حيث توالت الصفات بالعطف ما عدا صفتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد جاءت الواو بينهما لأنهما متضادان. قولهم هذا تعسف ظاهر، فقد ترد الصفات متضادة وبدون عطف، كما في قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} (الواقعة: 1 - 3) وكما في قول امرئ القيس: مكر مفر مقبل مدبر معًا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل كما ترد الصفات غير متضادة ومعطوفة مثل الآية المذكورة: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} (غافر: 3) ومثل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا

ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (آل عمران: 16، 17) وقوله عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} (الأحزاب: 35) إلى آخر الآية، وكان الأولى من ذلك والأجدر أن تهتم الدراسات البلاغية بالبحث عن الأسرار الكامنة وراء الواو، وأن تكشف وتجلي سر مجيئها حين تأتي، وسر تركها حين تترك؛ فهذه الواو تفيد التغاير، وعندما تأتي بين الصفات فإنها تفيد كمال اتصاف الموصوفين بكل صفة منها على حدة. انظر إلى قوله تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ} (آل عمران: 17) تجد أن الواو دلت على كمالهم في كل واحدة منها، هكذا ذكره الزمخشري في (الكشاف)، وعندما تُترك الواو وتأتي الصفات متوالية بالعطف، فإنها تفيد كمال اجتماعها في الموصوف، خذْ مثلًا قول الله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ} (التوبة: 112) إلى آخر الآية، وقوله: {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ} (التحريم: 5) وتأمل فستجد أن ترك الواو أفاد أن هذه الصفات مجتمعة في الموصوفين، وكأنها صفة واحدة، فذكْر الواو بين الصفات يفيد أنهم كاملون في كل صفة على حدة، وتركها يفيد أنها مجتمعة فيه، كذا ذكره الزمخشري أيضًا. وعلى هذا فقول امرئ القيس: مِكَرٍّ مفر مقبل مدبر معًا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل يفيد أن هذه الصفات قد اجتمعت في الجواد في وقت واحد، من غير أن تكون مستقلّة متغايرة، ولو أنه قال: مِكر ومفر ومقبل ومدبر لما صح أن يقول: "معًا"، وكذا القول في الآية الكريمة: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} (الواقعة: 2، 3) أي تخفض وترفع في زمنٍ واحد، ويقع منها الفعلان معًا، ولو قيل

باب: الوصل والفصل بين الجمل.

في غير القرآن: خافضة ورافعة لم يفد ذلك، وكذا قولنا: فلان كاتب شاعر، يخالف: فلانٌ شاعر وكاتب؛ فالأول أفاد اجتماع الكتابة والشعر، والثاني أفاد كمال اتصافه بكل صفة على حدة، وهكذا. باب: الوصل والفصل بين الجمل وننتقل بعد الحديث عن المفردات للحديث عن باب الوصل والفصل بين الجمل: قد ذكرنا وعرفنا فيما سبق أن الجمل نوعان: جمل لها محل من الإعراب، وجمل لا محل لها من الإعراب، كما عرفنا أن الجمل التي لها محل من الإعراب حكمها حكم المفرد؛ لأنها تقع موقعه وتأخذ حكمه الإعرابي، فالعطف عليها يكون بمثابة العطف على المفرد، وهذه حقائق يؤكدها الإمام عبد القاهر، فيقول: "الجمل المعطوف بعضها على بعض على ضربين؛ أحدهما: أن يكون للمعطوف عليها موضعٌ من الإعراب، وإذا كانت كذلك كان حكمها حكم المفرد؛ إذ لا يكون للجملة موضع من الإعراب حتى تكون واقعةً موقع المفرد، وإذا كانت الجملة الأولى واقعة موقع المفرد كان عطف الثانية عليها جاريًا مجرى عطف المفرد، وكان وجه الحاجة إلى الواو ظاهرًا والإشراك بها في الحكم موجودًا"، انتهى من (دلائل الإعجاز). وهذا لا يعني أن الجمل التي لها محل من الإعراب لا تخضع لما تخضع له الجمل الأخرى التي ليس لها محل من الإعراب، بل هي خاضعة لما تخضع له، وما يجري على هذه من أحكام الفصل والوصل يجري على تلك، بالإضافة إلى أن الجمل التي لها محل من الإعراب تختص بخضوعها لهذا الحكم الظاهر، وهو وقوعها موقع المفرد، فإذا أردنا إشراك الجملة الثانية للأولى في حكمها الإعرابي عطفنا بالواو مع مراعاة المناسبة أو الجهة الجامعة التي تسوغ العطف، وإذا لم نرد

التشريك في الحكم الإعرابي يمتنع العطف، ففي قول الله تعالى مثلا: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} (البقرة: 245) نرى أن جملة {يَقْبِضُ} وقعت خبرًا للفظ الجلالة، وجملة {وَيَبْسُطُ} عطفت عليها بالواو؛ لأن القصد مجرد إشراك الثانية للأولى في الحكم الإعرابي، وهو وقوعها خبرًا للمبتدأ. وبين الجملتين تناسبٌ؛ إذ المسند إليه في كلٍّ منهما واحد وهو الله -عز وجل- وبين المسندين أيضًا {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} تضاد، فهما متناسبان، وسرّ بلاغة الوصل في هذا الموطن أن الآية الكريمة تصوِّر عظمة القادر وأنه بيده الأمر وإليه المرجع، فالجمع بين القبض والبسط مما يحقق ذلك، ولو ترك العطف فقيل في غير القرآن: والله يقبض يبسط -بدون الواو- لكان ذلك موهمًا أن قولنا: يبسط، رجوعًا عن قولنا: يقبض، وإبطال له، وبالطبع ليس الأمر كذلك. أما إذا لم يُقصد تشريك الجملة الثانية للأولى في الحكم الإعرابي، فإنه يتعين فصلهما؛ لأن الوصل عندئذ يُوهم خلاف المراد، تأمل قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (البقرة: 14، 15) تجد أن جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} قد فصلت عن جملة {إِنَّا مَعَكُمْ}؛ حيث لم يقصد التشريك بينهما في الحكم الإعرابي، فجملة {إِنَّا مَعَكُمْ} مقول القول، وجملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} إخبارٌ من الله -عز وجل- ولو وصلت بالأولى لأدى هذا الوصل إلى توهم أنها من مقول المنافقين، فدفعًا لهذا التوهم تعيّن الفصل بينهما. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11، 12)

فجملة {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} لم يُقصد تشريكها في الحكم الإعرابي لجملة: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} لأنها ليست من مقولهم، بل هي من كلام رب العزة سبحانه، إخبارًا منه تعالى، ولذا وجب الفصل بينهما حتى لا يُتوهم غير المراد. ومثله قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} (البقرة: 13) فقد فصل {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} عن {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}، حتى لا يتوهم أنها من كلام المنافقين؛ إذ هي من كلام رب العزة سبحانه إخبارًا منه تعالى، والوصل يُوهم أنها من مقول المنافقين، وهو ما لا يخفى فساده. وخلاصة القول: أن الجمل التي لها محل من الإعراب إذا قُصد إشراكها في الحكم الإعرابي وصلت، وقد ترد نادرًا بلا وصل، وإذا لم يُقصد التشريك وجب فصلها؛ إلا أن الوصل عندئذ يُوهم خلاف المراد، وهذا الحكم يختص -كما هو واضح- بالجمل التي لها محل من الإعراب، ثم هي من بعد ذلك تخضع لأحكام فصل ووصل الجمل التي ليس لها محل من الإعراب. وكان البلاغيون قد ذكروا أن الفصل بين الجمل ينحصر في خمسة مواضع، هي: كمال الاتصال، كمال الانقطاع، شبه كمال الاتصال، شبه كمال الانقطاع، التوسط بين الكمالين مع وجود المانع من العطف، وهو عدم الإشراك في الحكم الإعرابي.

ونبدأ بكمال الاتصال. هو أن تتفق الجملتان في الإنشائية أو الخبرية -لفظًا ومعنى أو معنى فقط- ويكون بينهما من الاتصال والاتحاد والتلاحم ما يمنع العطف بالواو؛ لأن العطف وصلٌ خارجي، وهذه الجمل قد صار ما بينها من التلاحم والاتصال والترابط أقوى وأشد من الربط الخارجي، وترجع قوة اتصال تلك الجمل وشدة ترابطها إلى أمور ثلاثة: الأول: أن تكون الجملة الثانية مؤكدة للأولى تأكيدًا لفظيًّا أو معنويًّا، انظر إلى قول الله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (الطارق: 17) تجد أن الجملة الثانية {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} توافق الجملة الأولى في اللفظ والمعنى، وأنها توكيد لفظي لها؛ ولذا صارت الصلة قوية بين الجملتين، فلا تحتاج إلى ربط بالواو؛ لأن التوكيد والمؤكد كالشيء الواحد، ومن ثم ترك العطف لعدم صحة عطف الشيء على نفسه، وتأمل قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2) تجد أن الجملة الأولى {ذَلِكَ الْكِتَابُ} أفادت أن القرآن الكريم هو الكتاب الكامل، الذي بلغ الغاية القصوى في كمال الهداية، وترجع هذه الإفادة إلى تعريف الطرفين؛ تعريف المسند إليه باسم الإشارة الدال على البعيد {ذَلِكَ}، إشارة إلى بعد المنزلة وعلو المكانة، وتعريف المسند بالألف واللام {الْكِتَابُ}، وجملة {لَا رَيْبَ فِيهِ} تفيد نفي الريب عنه، وأنه لا يتطرق إليه شك، وهذا تقريرٌ وتأكيد لمعنى الجملة الأولى؛ إذ يلزم من بلوغ القرآن الكريم درجة الكمال ألا يكون محلًّا للريب والشك، فجاءت جملة {لَا رَيْبَ فِيهِ} مقررةً لهذا المعنى ومؤكِّدة له.

وجملة {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} تفيد بلوغ القرآن في الهداية مبلغًا لا يُدرك كنهه، حتى كأنه هداية محضة، وهذا مأخوذٌ من تنكير {هُدًى} الذي يدل على التعظيم، ومن أنه لم يقل: هادٍ، بل {هُدًى}، و {هُدًى}: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي هو هدى، فهو الهداية نفسها، ولا يخفى عليك تأكيد هذه الجملة لمعنى الجملة الأولى {ذَلِكَ الْكِتَابُ}؛ ولذا تُرك العطف بين هذه الجمل؛ لأن بينها اتصالا قويا، فهي لا تحتاج إلى ربط بالواو. وقول الله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة: 14)، فإنك ترى أن جملة {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} جاءت مؤكِّدة لجملة {إِنَّا مَعَكُمْ}؛ لأنهم ما داموا مستهزئين بالإسلام وأهله فهم مستمرون في معية شياطينهم، ولاحظ أن الجملتين قد وقعتا مقولًا للقول، وهذا يُؤكد ما قلناه من أن الجمل التي لها محل من الإعراب، تخضع لمواضع الفصل والوصل التي تخضع لها الجمل التي ليس لها محل من الإعراب، وتأمل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (البقرة: 6 - 9) تجد أن جملة {لَا يُؤْمِنُونَ} جاءت مؤكّدة لجملة: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ}؛ لأن معنى الثانية: يستوي عندهم الإنذار وعدمه، وجملة {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} تأكيد ثانٍ أبلغ من التوكيد الأول؛ لأن من كان حاله إذا أنذر مثل حاله إذا لم يُنذر، كان في غاية الجهل وكان مطبوعًا على قلبه لا مَحالة؛ ولذا تُرك العاطف بين هذه الجمل الثلاث لما بينها من كمال الاتصال.

كما تجدُ أن جملة: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (البقرة: 9) جاءت مؤكِّدة لجملة: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (البقرة: 8) لأن من يُضمر خلاف ما يُظهر فإنه يخادع، وانظر إلى قوله عز وجل: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} (لقمان: 7) تجد أن جملة: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} جاءت مؤكدة لجملة: {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا}؛ لأن معنى {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} أنه لم يسمعها مصادفة أو قصدًا لعدم سماعها، ومعنى الثانية: أنه لم يسمعها لفساد سمعه، فلما كانت الثانية مقرِرة ومؤكدة للأولى تُرك العطف لما بينهما من كمال الاتصال. وعلى ما ألمحنا: فإن الجملة الثانية المؤكدة للأولى، إما أن تكون بمثابة التوكيد اللفظي وهو ما يكون مضمون الجملة الثانية فيه مؤكدًا لمضمون الجملة الأولى لاتفاق مفهوميهما كما رأينا في قوله: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (الطارق: 17) وكما في الآية الكريمة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2) فجملة {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} يتفق مفهومها مع جملة {ذَلِكَ الْكِتَابُ}؛ لأن الكمال فيهما كمالٌ في الهداية كما رأينا، وإما أن تكون الثانية مُنزّلة من الأولى منزلة التوكيد المعنوي، وهو أن يختلف مفهوم الجملتين، ويكون معنى الثانية مقرِرًا لمعنى الأولى على نحو ما رأينا في الشواهد المذكورة، وهذا يعني أن الجملة الثانية تَتضمن معنى جديدًا ولكنه يؤكد معنى الأولى. وتأمل قوله في الآية التي ذكرناها: {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} (لقمان: 7) تجد أن الجملة الثانية تحمل معنى جديدًا يخالف معنى الأولى، ولكنه يؤكده ويقرره، ومثله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 2) فجملة {لَا رَيْبَ فِيهِ} تحمل معنى جديدًا هو نفي الريب عن القرآن، وهذا المعنى يُؤكد ويقرر معنى الجملة الأولى {ذَلِكَ الْكِتَابُ}.

ومن أقوالهم في هذا قول المتنبي: وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدًا فالشطر الأول لم يعطف على الشطر الثاني؛ لأنهما قد اتحدا في المعنى واللفظ، ومن ثم فلا حاجة إلى وصلهما بالواو لقوة الرابطة وشدة الاتصال بينهما. الصورة الثانية: أن تكون الجملة الثانية مُنزلة من الأولى منزلة بدل الكل أو البعض أو بدل الاشتمال. من ذلك قوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (الشعراء: 132 - 134) فقد فُصِلت الجملة الثانية {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ} عن الأولى {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ}؛ لأن الثانية بمثابة بدل البعض من الأولى؛ حيث إن النعم الأربع المذكورة بعضٌ من النعم التي يعلمونها، فبين الجملتين ترابطٌ قوي وكمال اتصال لا تحتاج معه إلى ربط بالواو، ومثل ذلك قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد: 2) فقوله: {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ} بدل بعض من قوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}؛ لأن تدبير الأمر يشمل تفصيل الآيات وغيره. وخذ قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (المؤمنون: 81، 82) تجد أن الجملة الثانية بمثابة بدل الكل من الجملة الأولى، وقوله عز وجل: {قَالَ يَا قَوْم اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (يس: 20، 21) فُصِلت فيه الجملة الثانية: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} (يس: 21) عن الأولى: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} لأن الثانية بمنزلة بدل الاشتمال من الأولى؛ إذ المراد من الأولى حمل المخاطبين على اتباع الرسل، والجملة الثانية أوفى بهذا لأن معناها: لا

تخسرون شيئًا من دنياكم وتربحون صحة دينكم، فيكون لكم جزاء الدنيا وجزاء الآخرة، ولا يخفى عليك أن الجملة الثانية التي هي بمثابة البدل أوفى بتأدية المعنى من الأولى، فقوله: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أوفى بتأدية المعنى المراد من قوله: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} حيث دلت على المعنى بالتفصيل من غير إحالة إلى علمهم وهم المعاندون. وانظر في قول القائل: أقول له ارحل لا تقيمن عندنا ... وإلا فكن في السر والجهر مسلما تجد أن قوله: "لا تقيمن" بدل اشتمال من قوله: "ارحل"، وقوله: "لا تقيمن" أوفى بتأدية المراد؛ إذ المقصود إظهار شدة الكراهية لإقامته بسبب خلاف سره العلن، وقوله: "لا تقيمن"، يحقق ذلك؛ لأنك إذا قلت: لا تقم عندنا، لم تقصد كفه عن الإقامة فحسب، وإنما تقصد إظهار الكراهة لإقامته. الصورة الثالثة من صور كمال الاتصال: أن تكون الجملة الثانية بيانًا للجملة الأولى، كما في قوله تبارك وتعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} (طه: 120) ففي الجملة الأولى خفاء وإبهام، وفي الثانية بيان وإيضاح له، والبيان والمبين كالشيء الواحد، فلا يُعطف أحدهما من ثَمَّ على الآخر؛ لما بينهما من قوة الترابط وكمال الاتصال. وتكمن بلاغة هذه الصورة في أن البيان بعد الإبهام وقعًا في النفس وأثرًا حسنًا، فالشيء إذا أبهم تطلّعت إليه النفس واشتاقت لبيانه، فإذا ما جاء البيان صادف نفسًا يَقظة متطلعة فيتمكن فيها فضل تمكن، ومن شواهده كذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (فاطر: 3) فجملة الاستفهام بيانٌ لقوله:

{اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}، ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} (الأعراف: 48) فإن جملة {قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ} بيانٌ لجملة {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ}. وانظر إلى قول لبيد: ذهب الذين يُعاش في أكنافهم ... وبقيتَ في خلَف كجلد الأجرب يتآكلون مغالة وخيانة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغبِ تجد أن قوله: "يتآكلون مغالة وخيانة" بيانٌ لقوله: "بقيت في خَلَف كجلد الأجرب". وخذْ مثلًا قوله تعالى: {وإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} (البقرة: 49) فإنك تجد أن جملة {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} والجملة المعطوفة عليها {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} بيان وإيضاح لجملة {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}؛ ولذا لم يُعطفا عليها بالواو لما بينهما من شدة ترابط وقوة تلاحم وكمال اتصال. ثم انظر إلى قوله عز جل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (إبراهيم: 6) تجد أن الواو في هذه الآية قد وَصلت جملتي {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} وذلك لأن المقام هنا مقام تذكير بنعم الله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وهذا يقتضي تعداد النعم، فجعل الإنجاء من سوء العذاب نعمة،، وإنجاء الأبناء من التذبيح نعمة أخرى، وكأن التذبيحَ جنسٌ آخر لأنه أوفى على جنس العذاب وزاد عليه،

ثم جاء إنجاء النساء من الاستحياء نعمةً ثالثة، أما في سورة البقرة فليس المقام مقام تذكير بالنعم، بل هو سرد للقصة وعرضٌ لها، وهذا قد اقتضى أن تكون الجملة الثانية وما عطف عليها: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} (البقرة: 49) بيانًا وتفسيرًا للجملة الأولى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} وليستا جنسين آخرين مغايرين لسَوم العذاب. يقول الزمخشري: "فإن قلت: في سورة البقرة: {يُذَبِّحُونَ} وفي الأعراف {يُقَتِّلُونَ} (الأعراف: 141) وها هنا {وَيُذَبِّحُونَ} مع الواو فما الفرق؟ قلتُ: الفرق أن التذبيح حيث طُرح الواو جُعل تفسيرًا للعذاب وبيانًا له، وحيث أُثبت جُعل التذبيح لأنه أوفى على جنس العذاب وزاد عليه زيادةً ظاهرة، كأنه جنس آخر"، انتهى من (الكشاف). وهذا هو شأن الواو عندما تأتي بين الجمل التي بينها كمال اتصال وقوة ترابط؛ لأن ما فيها من معنى التغاير الذي لا يبرحها ينعكس على هذه الجمل، فيوهم أنها معانٍ متمايزة ومختلفة، فوراء ذلك تكمن الأسرار والدقائق اللطيفة، وانظر إلى قول الله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (الشعراء: 153، 154) ثم إلى قوله -عز وجل- في نفس السورة عن قوم شعيب: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (الشعراء: 185 - 187) تجد أن الواو قد ذُكرت بين جملتي: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} (الشعراء: 153، 154) في مقالة أصحاب الأيكة لشعيب، وتُركت في مقالة ثمود لصالح.

ويُعلل الزمخشري ذلك بقوله: "فإن قلت: هل اختلف المعنى بإدخال الواو ها هنا وتركها في قصة ثمود؟ قلتُ: إذا أُدخلت فقد قصد معنيان كلاهما منافٍ للرسالة عندهم؛ التسحير والبشرية، وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحرًا ولا يجوز أن يكون بشرًا، وإذا تُركت الواو لم يُقصد إلا معنى واحد وهو كونه مسحّرًا، ثم قرر بكونه بشرًا مثلهم". كذا في (الكشاف). وكأن أصحاب الأيكة أرادوا أن يُعددوا في مقالتهم الأسباب المنافية للرسالة؛ ولذا أضافوا: {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (الشعراء: 186) فصارت الأسباب ثلاثة: كونه مسحرًا وكونه بشرًا وكونه من الكاذبين، أما ثمود فكأنهم لم يقصدوا تعدادًا لهذه الأسباب؛ ولذا ذكروا سببًا واحدًا وهو كونه مسحرًا، ثم قرروه بكونه بشرًا. وخذ قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} (هود: 58) وقوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (الأحزاب: 7) وتأمل، فإنك تجد أن جملة {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} جاءت مؤكّدة ومقررة للجملة قبلها: {نَجَّيْنَا هُودًا}، وكذا جملة {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} جاءت مؤكدة لقوله: {أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} فبين الجملتين كمال اتصال، وعلى الرغم من ذلك لم تترك الواو، بل جيء بها لغرض لطيف وسر دقيق وهو التنويه بشأن الميثاق والتفخيم والتهويل من شأن العذاب؛ ولذا وَصف كلًّا منهما بالغلَظ، فالعطف بالواو مع الوصف بالغلظ يُوهم أن الميثاق المأخوذ من النبيين صار كأنه ميثاق آخر مغاير للأول، وأن العذاب الذي نُجي منه هود ومن معه صار كأنه عذابٌ آخر غير الأول، وفي هذا ما يُنبئ بعظم الميثاق ويومئ إلى هول العذاب وفظاعته.

وتأمل معي الآيات الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر: 18)، وقوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (البقرة: 198)، وقوله: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 42)، وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الرعد: 5)، وقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لقمان: 5)، فإنه لا يخفى عليك مجيء الواو في هذه الآيات بين جملٍ بينها قوة ترابط وشدة تلاحم وكمال اتصال، وأن هذا المجيء يُنبئ بمعانٍ دقيقة وأسرار لطيفة، فتكرار الأمر بالتقوى وعطف أحدهما على الآخر، يؤذن بأن الأمر الثاني غير الأول، ووراء ذلك إعلاء بشأن التقوى وحث عليها، وكذا وصل الأمرين بالذكر: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} {وَاذْكُرُوهُ} إعلاء لشأن الذكر وحض عليه، وكأن الأمر الثاني غير الأول، وفي عطف الاصطفاء على الاصطفاء: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ} إيهامٌ بأنهما متغايران، وكأن الله اصطفاها أولًا، ثم رجع فاصطفاها ثانيًا، وفي هذا مزيد تكريم. ومثله عطف الفلاح على الهدى في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} (البقرة: 5) {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وفي آية الرعد أبرزت الواو ثلاث صور متغايرة للذين كفروا، في كل صورة منها من البشاعة والشناعة ما يجعلها شيئًا قائمًا برأسه مستقلًّا عن غيره. وهكذا، يتضح لنا أن مجيء الواو بين الجمل التي قد اشتد ترابطها وقوي تلاحمها وكمل اتصالها، وراءه من الأسرار واللطائف ما لا يخفى على المتأمل الواعي والناظر الدقيق.

الموضع الثاني من مواضع الفصل بين الجمل: كمال الانقطاع بلا إيهام، وهو أن يكون بين الجملتين تباين تام وانقطاع كامل، ويرجع ذلك إلى اختلافهما إنشاء وخبرًا، لفظًا ومعنى، أو معنى فقط، أو إلى فقدان المناسبة بينهما، ويجب أن تعلم أن البلاغيين لا يجوّزون بهذا تفكيك الكلام وتنافر جمله وعدم ارتباط أجزائه وتباعد معانيه؛ بحيث لا يضمه سياق ولا يجمعه قِران، كما أنهم لا يقصدون بكمال الانقطاع جواز الجمع بين الجمل المتشاردة؛ لأن هذه الجمل لا يضمها سياقٌ واحد ولا يجمعها قران واحد، سواء أعطفت أم لم تُعطف، وإنما يريدون به فقدان المناسبة الخاصة التي تسوغ العطف وتجوز الوصل. ذكر البلاغيون أن كمال الانقطاع إنما يتحقق في ثلاث صور: الصورة الأولى: أن تختلف الجملتان خبرًا وإنشاءً، لفظًا ومعنى، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (فصلت: 34) فالجملة الأولى {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} خبرية لفظًا ومعنى، والجملة الثانية {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إنشائية لفظًا ومعنى، والفصل بينهما لا يوهم خلاف المقصود؛ ولذا وجب الفصل بينهما، ونظير ذلك قوله تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9) وقوله عز وجل: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} (الأنعام: 101) وقوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام: 99) فقد فُصل بين الجمل في هذه الآيات الكريمة لاختلافها إنشاءً وخبرًا، لفظًا ومعنى؛ ولأن الفصل بينها لا يُوهم خلاف المقصود.

وانظر في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (الأنعام: 151) وقوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (التوبة: 103) وقوله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (التوبة: 84)؛ تجد أن الجمل الخبرية: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ} {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ} {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ} قد فُصلت عن الجمل الإنشائية قبلها، وهذا الفصل إما أن يكون سببه كمال الانقطاع؛ حيث اختلفت الجملتان خبرًا وإنشاء لفظًا ومعنى، وإما أن يكون سببه شبه كمال الاتصال الآتي بيانه؛ حيث وقعت الجملة الثانية جوابًا لسؤال أثارته الأولى. من ذلك قول الشاعر: وقال رائدهم ارسوا نزاولها ... فكل حدس امرئ يجري بمقدار حيث فصل جملة "نزاولها" عن جملة "ارسوا" لكمال الانقطاع، ومثله قولك: لا تدن من الأسد يأكلُك، برفع يأكل. الصورة الثانية: أن تختلف الجملتان إنشاء وخبرًا معنى فقط، وتتفقا لفظًا؛ كقولنا: مات فلان -رحمه الله- وقال عمر -رضي الله عنه- فجملة رحمه الله، ورضي الله عنه كلٌّ منهما خبرية لفظًا وإنشائية معنى؛ لأنهما دُعائيتان؛ ولذا فُصل بين كل منهما وبين الجمل السابقة لاختلاف الجملتين خبرًا وإنشاء معنى فقط، ومن ذلك قول الشاعر: وقال إني في الهوى كاذبٌ ... انتقم الله من الكاذب فجملة "انتقم الله" جملة دُعائية، فهي خبرية لفظًا إنشائية معنى؛ ولذا فُصل بينها وبين جملة: "قال: إني في الهوى كاذب".

هذا ويشترط للفصل ألا يوهم خلاف المراد، كما في الأمثلة المذكورة، فإن أوهم خلاف المراد وجب الوصل، كقولك لصديق لك: أشفي أخوك؟ فيجيبك: لا، وعافاك الله. الصورة الثالثة: أن تتفق الجملتان خبرًا أو إنشاء، لفظًا ومعنى، ولكن يُفقد الجامع بينهما؛ أي لا توجد المناسبة المعِينة الخاصة التي تصحح العطف، وذلك نحو قول أبي العتاهية: الفقر فيما جاوز الكفاف ... من اتقى الله رجا وخاف فقد اتفقت الجملتان في الخبرية لفظًا ومعنى، ولكن لم توجد المناسبة التي تسوّغ عطف الثانية على الأولى؛ ولذا فُصل بينهما ومثله قول الآخر: إنما المرء بأصغريه ... كل امرئ رهن بما لديه فلا يوجد الجامع الذي يصحح عطف الجملتين على الرغم من اتفاقهما في الخبرية لفظًا ومعنى؛ ولذا فُصل بينهما في البيت، ويعني البلاغيون بالجامع أو التناسب بين الجملتين أن يكون المسند إليه في إحداهما بسببٍ من المسند إليه في الأخرى، وكذلك المسند. هذا ما أجمع عليه البلاغيون، والجمهور يرى أن تتوفر المناسبة أيضًا في المتعلقات. الذي نريد أن ننبه إليه الآن هو أن البلاغيين لا يَعنون بفقدان الجامع جواز الجمع بين جمل شاردة متنافرة، لا يتأتى أن يضمها سياق واحد، وأن يُعد الفصل بين تلك المتنافرات مبررًا لوضعها في قران وجمعها في سياق واحد، بل إن مرادهم -كما قلنا مرارًا- لفقدان الجامع المناسبة الخاصة التي أشرنا إليها، لا المناسبة العامة التي ينبغي توافرها بين الجمل سواء عُطفت أو لم تعطف.

إذن نخلص من هذا إلى أن الاستئناف ثلاثة أنواع: استئناف بالواو أو الفاء، واستئناف بغير الواو والفاء، وهو ما يكون في تلك الجمل التي تتفق إنشاء أو خبرًا لفظا ومعنى، ولا يوجد بينهما الجامع المسوغ للعطف، فتأتي الجملة الثانية وقد استؤنفت أي ابتدئ بها معنى جديد، واستئناف بياني، وهو شبه كمال الاتصال. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 20 تابع: باب الفصل والوصل.

الدرس: 20 تابع: باب الفصل والوصل.

باقي مواضع الفصل بين الجمل

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العشرون (تابع: باب الفصل والوصل) باقي مواضع الفصل بين الجمل الحمد لله وكفى وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى، ثم أما بعد: فكنا قد بدأنا الحديث عن الفصل والوصل، وتحدثنا خلال ذلك عن موضعين من مواضع الفصل بين الجمل، وهما: كمال الانفصال، وكمال الانقطاع، ونستكمل باقي مواضع الفصل بين الجمل، لنُثني بعد ذلك بالحديث عن مواضع الوصل، فإنه يُفصل بين الجمل -من غير ما ذكرنا من كمال الاتصال وكمال الانقطاع- بما أطلق عليه البلاغيون شبه كمال الاتصال أو ما يسمى بالاستئناف البياني، وهو أن تكون الجملة الأولى متضمّنة لسؤال تقع الجملة الثانية جوابًا له، كما في قول الله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (هود: 46)، فالجملة الأولى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أثارت سؤالًا فحواه: كيف لا يكون من أهلي وهو ابني، وجاءت الجملة الثانية جوابًا لهذا السؤال المثار: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}. ولكون الجملة الثانية جوابًا لسؤالٍ تتضمنه الجملة الأولى وينبعث منها، كانت مرتبطةً به ارتباطًا وثيقًا كما يرتبط الجواب بالسؤال، ومن ثَمّ تُرك العطف بينهما لأن الجواب لا يُعطف على السؤال، لما بينهما من ترابط وثيق وصلة قوية. وانظر مثلًا إلى قول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} (القارعة: 8 - 11) وقوله -عز وجل: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} (البلد: 12، 13) وقوله: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (الحج: 72) تجد الجواب قد فُصل عن السؤال المصرح به في هذه الآيات الكريمة، وفَصل الجواب عن السؤال المصرح به إما لكمال الاتصال لما بين السؤال والجواب من صلةٍ قوية، وإما لكمال الانقطاع لأن جملة السؤال إنشائية وجملة الجواب خبرية، وكما فُصِل الجواب

عن السؤال المصرح به فإنه يُفصل كذلك عن السؤال المقدر الذي اقتضته الجملة الأولى، وأثارته في ذهن المخاطب. وقد ذكر البلاغيون أن سبب الفصل عندئذ هو الاستئناف البياني؛ أي شبه كمال الاتصال، وليس لكمال الاتصال الذي مر؛ لأن الجواب ليس بيانًا للجملة الأولى، بل لشيءٍ ينبعث منها وهو السؤال الذي أثارته واقتضته، ومن ثم وقد سمي الاستئناف ها هنا استئنافًا بيانيًّا، وهو غير الاستئناف بالواو أو الفاء، أو الاستئناف بالجملة أي القطع؛ لأنه استئناف يوضّح ويبين جواب السؤال المثار المنبعث من الجملة الأولى، فالجملة الثانية ليست منفصلةً عن الأولى في الواقع ولا منقطعةً عنها، بل مبينة وموضحة لشيء فيها؛ ولذا سُميت الثانية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. هذا، والسؤال المنبعث من الجملة الأولى قد يكون عن السبب العام، كما في قول الشاعر: قال لي: كيف أنت قلت: عليل ... سهرٌ دائمٌ وحزنٌ طويلٌ فجملة "قلت عليل" أثارت سؤالًا عن سبب العلة، تقديره: ما سبب علتك؟ وجاءت الجملة الثانية "سهر دائم وحزن طويل" جوابًا له، أما جملة "قلت عليل" فمفصولة عن السؤال المصرح به قبلها لكمال الاتصال أو لكمال الانقطاع، كما أوضحنا، ومن ذلك قول أبي العلاء المعري: وقد غرضتُ من الدنيا فهل زمني ... معطٍ حياتي لِغِرٍّ بعدما غرض جربت دهري وأهليه فما تركت ... لي التجارب في ودِّ امرئ غرضًا تساؤلًا عن سبب سأمه وضجره، فكأن قائلا قال له: لم تقول هذا ويحك؟! وما الذي جعلك تطوي عن الحياة إلى هذا الحد كشحك؟ فأجاب بالبيت الثاني عن هذا التساؤل المنبعث من البيت الأول: جربت دمعي وأهليه فما تركت ... لي التجارب في ودِّ امرئ غرضًا

لذا فصل -أو قل ترك- العطف بينهما لما بين السؤال والجواب من اتصالٍ وثيق وترابط قوي، وخذ عندك قول الله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (يوسف: 30) تجد أن جملة {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} قد أثارت سؤالًا عن سبب تلك المراودة وهو سؤال عن السبب العام، وقد جاء جوابه: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} (يوسف: 30) ثم إن هذا الجواب أثار تساؤلًا آخر فحواه: وما رأيكن في هذا؟ فأجيب: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وتلاحظ أن هذا التساؤل الثاني ليس عن السبب، بل هو عن رأيهن فيما صنعته امرأة العزيز من المراودة الناجمة عن حبها فتاها. وقد يكون السؤال المثار عن السبب الخاص؛ أي عن سبب معين محدد، كما في قول الشاعر: إذا ما الدهر جرّ على أناس ... كلاكله أناخَ بآخرين فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيَلقى الشامتون كما لقينا فقد انبعث من شطر البيت الثاني تساؤلٌ عن سببٍ معين، وكأن سائلًا سأل: لمَ نقول لهم: أفيقوا؟ هل سيلقوا كما لقيتم؟ فأجيب: "سيلقى الشامتون كما لقينا"، ومن هذا قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (يوسف: 53)؛ حيث فصلت: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} عما قبلها؛ لأنها وقعت جوابًا لسؤال تضمنته وهذا السؤال عن السبب الخاص؛ إذ فحواه: لم نُفيت التبرئة عن النفس؟ هل النفس أمارة بالسوء؟ فجاء الجواب: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}، ومنه أيضًا قوله عز وجل: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ

خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام: 138، 139) فقد فُصلت الجملتان {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} عما قبلهما لشبه كمال الاتصال؛ حيث وقعت كلٌّ منهما جوابا لسؤال اقتضته الجمل قبلها، وكأن سائلًا سأل: لم هذه الافتراءات؟ ولم تلك الأوصاف الجائرة؟ هل يُجزون عن ذلك؟ فجاءت الإجابة: {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ}. وواضحٌ أن السؤال المثار في الآيتين عن السبب الخاص، وقد يكون السؤال المنبعث من الجملة الأولى من غير سبب، كما في قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} (الذاريات: 24 - 28) فقد فُصلت الجمل {قَالَ سَلَامٌ} {قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} {قَالُوا لَا تَخَفْ} عما قبلها؛ لأنها أجوبة لما تضمنته تلك الجمل من أسئلة أثيرت في ذهن السامع، وكأنه سأل: فماذا قال إبراهيم؟ فأجيب: قال سلام، قال: ألا تأكلون، وماذا قالت الملائكة؟ قالوا: لا تخف وبشروه، ومثل هذا كلّ ما تراه في التنزيل من لفظ "قال" مفصولا عما قبله، غير معطوف عليه بعاطف. وإما جاء مندرجًا تحت شبه كمال الاتصال، ومن ثم وجب الفصل بين جملتيه، قول الشاعر: زعم العوازل أنني في غمرة ... صدقوا ولكن غمرةً لا تنجلي

فالجملة الأولى: زعم العوازل أنني في غمرة، حرّكت السامع وأثارت في ذهنه سؤالًا: أصدقوا في ذلك الزعم أم كذبوا؟ فأُخرج الكلام مخرجه لو كان ذلك قد قيل له ففصل جملة صدقوا، ومن الشواهد على ذلك أيضًا قول أبي تمام: ليس الحجابُ بمقصٍ عنك لي أملا ... إن السماء تُرجّى حين تحتجب فكأن سائلا سأله: كيف لا يحول الحجاب بينك وبين تحقيق آمالك ومآربك؟ فأجاب: إن السماء تُرجى حين تحتجب، ومنه قول الآخر: يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إن الكريم يرى في ماله سبلا وكأن المخاطب عندما سمع الشطر الأول سأله: وما رأي الكريم في ماله؟ فأجاب: إن الكريم يرى في ماله سبلا، ومنه كذلك قول الآخر: فغنها وهي لك الفداء ... إن غناء الإبل الحداء فعندما قال الشاعر: "فغنّها وهي لك الفداء"، توهم أن سائلا سأله: وما غناء الإبل؟ أغناؤها الحداء أم أنك تقصد شيئًا آخر غير الحداء؟ فأجاب: إن غناء الإبل الحداء. وترجع بلاغة هذا الأسلوب إلى ما يفيده من إثارة المخاطب وتحريك ذهنه، فهذا السؤال المنبعث من الجملة الأولى قد انبعثَ في ذهن المخاطب أو في ذهن المتكلم، الذي أدرك أن الجملة ينبعث منها هذا السؤال، وأن المخاطبَ ينتظر جوابًا له وبيانًا، فعندما يأتي البيان ويرِد الجواب يقع في النفس أحسن موقع وأفضله؛ ولذا قال خلف الأحمر لبشار وقد استمع لبيتيه: بكِّرا صاحبي قبل الهجير ... إن ذاك النجاحَ في التبكير "لو قلت يا أبا معاذ: بكّرا فالنجاحُ، كان أحسن فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية، ولو قلت: بكّرا فالنجاح، كان من كلام المولدين"، ومراده أن التكرار -أي تكرار فعل الأمر- أفاد التأكيد بوجهٍ ظاهر، لا دقة فيه، أما ما صنعه

فقد أفاد التوكيد بوجه خفي دقيق، مرجعه إلى انبعاث السؤال من الجملة الأولى، وإجابة الجملة الثانية عنه. وقد أجمل القزويني سرّ بلاغة هذا الأسلوب في قوله: "وتنزيل السؤال بالفحوى منزلة الواقع لا يصار إليه إلا لجهات لطيفة؛ إما لتنبيه السامع على موقعه، أو لإغنائه أن يسأل، أو لئلا يُسمع منه شيء، أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه، أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللفظ، وهو تقدير السؤال وترك العاطف أو لغير ذلك مما ينخرط في هذا السلك". انتهى. هذا، ومن الاستئناف ما يأتي بإعادة اسم ما استؤنف عنه، كقولك: أحسنتَ إلى زيد، زيدٌ حقيق بالإحسان، ومنه ما يُبنى على صفته كقولك: أحسنتُ إلى زيد، صديقك القديم أهلٌ لذلك، وهذا أبلغ لانطوائه على بيان سبب الإحسان، وقد تأتي الجملةُ المستأنفة -أي جملة الجواب- بلا حذف شيء منها، كما في قول المتنبي: وما عفَت الرياح له محلا ... عفاه من حدا بهم وساق فلما نفى المتنبي العفاء عن الرياح، كان مظِنة أن يُسأل عن الفاعل: من هو؟ أو ما هو؟ فأجاب عن ذلك: "عفاه من حدا بهم وساق"، وقد يحذف صدر الاستئناف لقيام قرينة عليه، ويكثر هذا عند ذكر الشعراء للديار والأطلال، وكذا عند المدح أو الفخر أو الرثاء أو الهجاء؛ حيث يقطع الكلام ويستأنف معنى جديد، ومن ذلك قول الشاعر: اعتاد قلبكَ مِن ليلى عوائده ... وهاج أهواءك المكنونة الطلل ربعٌ قواءٌ أذاع المعصرات به ... وكل حيرانَ سارٍ ماؤه خضل المعصرات: يعني السحاب، أذاع به: أي ذهبَ، والخضل: الكثير، والقواء:

الموحِش، فلما ذكر الشاعر هنا أن الطلل قد هاج أهواءه المكنونة، اشتاقت النفس إلى معرفة خبر هذا الطلل وصفته، وكأنها ساءلت: ما خبر هذا الطلل؟ وما صفته؟ فاستأنف الشاعر حديثًا عنه، وبنى الكلام على حذف صدر الاستئناف وهو المسند إليه، فقال: "ربعٌ قواءٌ أذاع المعصرات به"، ونظيره كثير مما يقطع فيه الشعراء كلامهم ويستأنفون معانٍ أخرى فيحذفون عندئذ صدر الاستئناف لدلالة الأدلة عليه، فإن قلتَ: ألا يؤدي حذف صدر الاستئناف إلى احتياج جملة الاستئناف إلى ما قبلها؟ وعندئذ لا يكون انفصالها تامًّا واستقلالها كاملًا، قلت: ليس كل حذف يؤدي إلى الاحتياج وعدم الاستقلال، بل إن الحذف في الشواهد المذكورة قد ساعد على استقلال الجمل المستأنفة وعدم احتياجها إلى ما قبلها، ويتضح لك هذا عندما تقدر المحذوف فتقول فيما جاء من ذلك من أقوال الشعراء: ذاك ربع قواء، تلك دار لمروة، هم بناة مكارم، هو فتى غير محجوب الغنى، هم نجوم سماء، إذ تجد أن اسم الإشارة والضمير قد جعل تلك الجمل مرتبطة بما قبلها محتاجة إليه، أما الحذف فيجعلها مستقلة عنه. ومما حُذف فيه صدر الاستئناف في آي الذكر الحكيم قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (النور: 36، 37) بقراءة "يُسبّح" مبنيّا للمفعول، وكأن سائلًا سأل: من يسبح؟ فأجيب: رجال بحذف صدر الاستئناف وهو هنا المسند، ومن ذلك أسلوب نعمَ وبئس، مثل: نعم الرجل خالد وبئس رجلًا عمرو، على اعتبار أن المخصوص بالمدح أو الذم خبرٌ لمبتدأ محذوف، وكأن سائلًا سأل: من الممدوح ومن المذموم؟ فأجيب: الممدوح خالد والمذموم عمرو، وقد يحذف الاستئناف كله، ويقوم ما يدل عليه مقامه كقول الحماسي: زعمتم إن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف

فقد أثار صدر البيت سؤالًا تقديره: أكذبنا أم صدقنا؟ فأجيب: كذبتم في زعمكم، وقد حُذف هذا الجواب وأقيم قوله: "لهم إلف وليس لكم إلاف"، مقامه لدلالته عليه. ويجوز اعتبار قوله: "لهم إلف وليس لكم إلاف"، جوابًا لسؤال اقتضاه الجواب المحذوف، وكأنه لما قيل: كذبتم، قالوا: لم كذبنا؟ قال: لهم إلف وليس لكم إلاف، فيكون في البيت على هذا استئنافان، ويجوز أن يكون الفصل في البيت لشِبه كمال الانقطاع. وقد يُحذف الاستئناف كله لدلالة السياق عليه، كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} (الذاريات: 47، 48) أي نعم الماهدون نحن، وقوله عز وجل: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (ص: 44) أي نعم العبد أيوب. هذا، وقد تأتي الجملة الواقعة موقع الجواب بالفاء أو الواو، وتسمى الفاءُ حينئذ بفاءِ الاستئناف، وكذا الواو تسمى بواو الاستئناف، ولكن الاستئناف بهما يختلف عن الاستئناف البياني؛ لأن الاستئنافَ بالواو يُؤذن باستقلال الكلام وانفصاله، إذ يكون المراد عطف القصة على القصة أو عطف جمل مسوقة لغرضٍ على جمل مسوقة لغرضٍ آخر، ومن ذلك قوله تعالى: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (سبأ: 31 - 33) حيث جاءت الآية الثانية بدون الواو، فأفاد ذلك أنها متولَّدة عن الآية الأولى إذ وقعت جوابًا لسؤال تضمنته، وجاءت الآية الثالثة بالواو، فآذنت بالاستقلال، وصار الكلام معها من قبيل عطف القصة على القصة.

وانظر إلى قول أبي تمام: لا تُنكري عطل الكريم من الغِنا ... فالسيل حربٌ للمكان العالي تجد أن الفاء قد جعلت الكلام مرتبًا بعضه على بعض، وخذْ قوله تعالى: {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} (القصص: 23 - 25) تجد أن الفاءات {فَسَقَى لَهُمَا} {فَقَالَ رَبِّ} {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا} قد جعلت الكلام مرتبًا بعضه على بعض، أما الاستئناف البياني فالكلام فيه يتولد بعضه من بعض؛ إذ ينبعث من الجملة الأولى سؤالٌ وتقع الثانية جوابًا له، فالثانية مرتبطة بالأولى ارتباط الجواب بالسؤال، وهو ارتباط داخلي وثيق، وليس ارتباطًا لفظيًّا ظاهرًا، كما في الاستئناف بالفاء، ولا استقلالًا وتباينًا كما في الاستئناف بالواو. رابع مواضع الفصل بين الجمل: شبه كمال الانقطاع، وقد عرفوه بقولهم: أن تكون الجملة مسبوقة بجملتين، يصح وصلها بالأولى منهما؛ لوجود المناسبة التي تُسوّغ الوصل، ولا يصح عطفها على الثانية، فيُترك العطف دفعًا لتوهم العطف على الثانية، وتُصبح الجملة الثالثة بمنزلة المنقطعة عن الأولى لهذا الحائل. من ذلك قول الشاعر: وتظن سلمى أنني أبغي بها ... بدلًا أراها في الضلال تهيم فقد فصل جملة "أراها في الضلال" عن الجملة الأولى "تظن سلمى"؛ لأن عطفها عليها يُوهم أنها معطوفة على جملة "أبغي بها بدلًا"، فتكون بهذا من مظنونات

سلمى، وهي من كلام الشاعر لا من مظنوناتها، فدفعًا لهذا التوهم وجبَ الفصل، ومثله قول الآخر: يقولون إني أحمل الضيم عندهم ... أعوذ بربي أن يضام نظيري فصل جملة "أعوذ بربي" عن جملة "يقولون" مع جواز عطفها عليها، حتى لا يُتوهم عطفها على جملة "أحمل الضيم"، فتكون من مقولهم، وهي ليست منه، بل هي من كلام الشاعر، ويمكن أن يكون من هذا الموضع قول الحماسي: زعمتم أن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف فيكون فصل جملة "لهم إلف" عن جملة "زعمتم"، دفعًا لتوهم عطفها على جملة "إن إخوتكم قريش"؛ إذ هي ليست من زعمهم، بل من كلام الحماسي، وانظر في قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (البقرة: 14، 15) فقد مرّ بك امتناع عطف جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على جملة {إِنَّا مَعَكُمْ} أو على جملة {قَالُوا}، أما عطفها على جملة الشرط، وجوابه {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا} فجائز، ولكن يَمنع منه توهم عطفها على إحدى الجملتين المذكورتين، وكذا القول في الآيات الكريمة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} (البقرة: 11 - 13) ولا يخفى عليك أنه يُمكن رد سبب الفصل في هذه الشواهد إلى شبه كمال الاتصال، كما نبه كثيرٌ من البلاغيين، والنكات البلاغية لا تتزاحم.

الموضع الخامس من مواضع الفصل بين الجمل: الفصل لعدم الاشتراك في القيد؛ أو كما عرّفه بعض البلاغيين بالتوسط بين الكمالين، مع وجود المانع من العطف، وهو عدم الاشتراك في الحكم، وقد استشهدوا لهذا بقول الله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فقد فصل جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} عن جملة {قَالُوا}؛ لأن قولهم مقيدٌ بوقت خلوهم إلى شياطينهم، أما استهزاء الله بهم فدائمٌ في كل آن، وليس مقيدًا بهذا الوقت؛ ولذا وجب الفصل لعدم الاشتراك في القيد. وأما فصل هذه الجملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} عن جملة {إِنَّا مَعَكُمْ} فلعدم قصد التشريك في الحكم الإعرابي كما مر بك في الجمل التي لها محل من الإعراب. بقي أن أذكّرك بما نبهتك إليه: من أن الجمل التي لها محل من الإعراب، تخضع لما تخضع له الجمل التي لا محل لها من الإعراب، من مواضع الفصل المذكورة، ولننظر مثلًا في ذلك إلى قول الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (يوسف: 30) تجد أن الجمل الثلاث {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ} {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ} قد وقعت مقولًا لقول النسوة، فلها من الإعراب محل، وقد فُصل بينها لشبه كمال الاتصال؛ إذ أثارت الجملة الأولى سؤالًا فحواه: ما سبب تلك المراودة؟ فجاء التعليل: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا}، وكذا تضمنت الجملة الثانية سؤالًا تقديره: وما رأيكن؟ فأجيب بالجملة الثالثة: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، وارجع إلى ما سقناه من شواهد في مواضع الفصل المذكورة، ليتضح لك أن الجمل جميعها سواء في تلك المواضع، وأنك لا تستطيع قصر هذه المواضع على الجمل التي لها محل من الإعراب.

مواضع الوصل بين الجمل.

مواضع الوصل بين الجمل ذكر البلاغيون موضعين للوصل بين الجمل، هما التوسط بين الكمالين وكمال الانقطاع مع الإيهام، والمراد بالكمالين في قولهم: التوسط بين الكمالين كمال الاتصال وكمال الانقطاع، وقد عرّفوه بقولهم: أن تتفق الجملتان خبرًا أو إنشاء، لفظًا ومعنى أو معنى فقط، مع وجود المناسبة المسوّغة للوصل فيما بينهما؛ بحيث لا يمنعُ من العطف مانع، فمثال اتفاقهما في الخبرية لفظًا ومعنى قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13، 14) وقوله عز وجل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران: 26، 27). فقد اتفقت الجملتان: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} في الخبرية لفظًا ومعنى، ووُجدت المناسبة المسوغة للعطف، ولم يمنع من العطف مانع؛ ولذا وُصل بينهما كما ترى، فكذا القول في الآيتين {قُلِ اللَّهُمَّ} إلى آخر الآيتين، ولا يخفى عليك ما يفيده الجمع بين الجمل في الآيتين، من إبراز قدرة الله -عز وجل- في أسمى معانيها، وتأمل: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ} {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}

{تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} لا يقدر على تلك الأضداد إلا الخالق القادر المهيمن ذو السلطان والملك. ومثال ما اتفقت فيه الجملتان في الإنشائية لفظا ومعنى قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31) فقد اتفقت الجمل {خُذُوا زِينَتَكُمْ} {وَكُلُوا} {وَاشْرَبُوا} {وَلَا تُسْرِفُوا} في الإنشائية لفظًا ومعنى، ومن ثم وُصل بينها، ومما اتفقت فيه الجملتان في الإنشائية معنى، قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (البقرة: 83) ففي الآية ثلاث جمل: الأولى {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}، والثانية: حذف فيها فعل الأمر وتقديرها: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، والثالثة: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، والجملتان -الثانية والثالثة- إنشائيتان لفظًا ومعنى كما ترى، أما الأولى فخبرية لفظًا إنشائية معنى؛ لأنها تعني النهي؛ أي لا تعبدوا إلا الله، وبهذا يكون اتفاق الجمل الثلاث في الإنشائية في المعنى فقط دون اللفظ. ومما اتفقت فيه الجملتان في الخبرية معنى قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (هود: 54) فجملة {وَاشْهَدُوا} إنشائية لفظًا خبرية معنى؛ إذ المراد: إني أشهد الله وأشهدكم، وبهذا يكون اتفاق الجملتين في الخبرية معنى لا لفظًا، وإنما عُدت مثل هذه الجمل توسطًا بين الكمالين؛ لاتفاقها في الخبرية أو الإنشائية مع وجود المناسبة المسوِّغة للوصل، فليست من قبيل كمال الانقطاع الذي عَرَفته، كما أنها ليست من قبيل كمال الاتصال لعدم وجود الروابط والصلات القوية بينها، والتي عرفناها في صور كمال الاتصال؛ ولذا سَمَى البلاغيون هذا الموضع بالتوسط بين الكمالين.

الموضع الثاني من مواضع الوصل بين الجمل: كمال الانقطاع مع الإيهام؛ كقولك لتاجر مثلًا: أتبيع هذه السلعة؟ فيجيبك: لا، وعافاك الله، وقولك لصديق لك: أشُفي والدك؟ فيجيب: لا، ولطف الله به، وقولك: أتاب العاصي؟ فتجاب: لا، ويهديه الله، فبين الجملتين كما ترى كمال انقطاع؛ لأن جملة "لا" خبرية لفظًا ومعنى، والجمل: عافاك الله، لطف الله ب، يهديه الله خبرية لفظًا إنشائية معنى، وكمال الانقطاع يُوجب الفصل بين الجملتين، إلا أن الفصل ها هنا يوهم خلاف المراد؛ إذ يُتوهم أن المجيب يدعو بعدم العافية وعدم اللطف وعدم الهداية، وأنه قد أجاب بجملة واحدة منفية، سُلّطت فيها "لا" على ما بعدها، وليس بجملتين، فدفعًا لهذا الإيهام يجب الوصل بين الجملتين؛ ولذلك إذا اندفع هذا الإيهام بأن يسكت المتكلم قليلًا بعد النطق بالحرف "لا"، أو يذكر الجملة المنفية كاملة فيقول: لا أبيعه، ثم يذكر الجملة الدعائية "عافاك الله" عندئذ يجب الفصل؛ إذ لا إيهام. إذا وجدت المناسبة أو الجامع المسوّغ للوصل، وكذا عند قصد التشريك في الحكم الإعرابي، فما مراد البلاغيين بهذا الجامع أو بتلك المناسبة إذن؟ يريد البلاغيون بذلك أن يكون المسند إليه في الجملة الأولى بسببٍ من المسند إليه في الجملة الثانية، وكذا المسند فيهما، يقول عبد القاهر: "واعلم أنه يجب أن يكون المحدَّث عنه في إحدى الجملتين بسبب من المحدَّث عنه في الأخرى، كذلك ينبغي أن يكون الخبر عن الثاني مما يجري مجرى الشبيه والنظير أو النقيض للخبر الأول، فلو قلتَ: زيدٌ طويل القامة وعمرو شاعر، كان خُلفًا؛ لأنه لا مشاكلة ولا تعلق بين طول القامة وبين الشِّعر، وإنما الواجب أن يقال: زيد كاتب وعمرو شاعر وزيد طويل القامة وعمرو قصير.

وجملة الأمر أنها -يقصد الواو- لا تجيء حتى يكون المعنى في هذه الجملة لِفقًا لمعنى في الأخرى ومضامًّا له، مثل: أن زيدًا وعمرًا، إذا كانا أخوين أو نظيرين أو مشتبكي الأحوال على الجملة؛ كانت الحال التي يكون عليها أحدهما من قيام أو قعود أو ما شاكل ذلك مضمومة في النفس إلى الحال التي عليها الآخر من غير شك، وكذا السبيل أبدًا، والمعاني في ذلك كالأشخاص، فإنما قلت مثلًا: العلم حسن والجهل قبيح؛ لأن كون العلم حسنًا مضموم في العقول إلى كون الجهل قبيحا، واعلم أنه إذا كان المخبَر عنه في الجملتين واحدًا كقولنا: هو يقول ويفعل، ويضر وينفع، ويسيء ويحسن، ويحل ويعقد، وأشباه ذلك ازداد معنى الجمع في الواو قوةً وظهورًا، وكان الأمر حينئذٍ صريحًا". انتهى. هذا، وقد اختلف البلاغيون في المتعلَّقات؛ إذ ينبغي أن يعتبر فيها التناسب أيضًا، والصواب أنه لا يعتبر فيها ذلك إلا إذا كانت مقصودة بالذات، ومرادة في الجملتين، كقول الله تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} (غافر: 41)، هذا وقد تكون المناسبة بين الجمل دقيقةً خفية، وعندئذ تحتاج إلى تأمّل السياق ومعرفة قرائن الأحوال به، وانظر مثلًا إلى قول الله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (الغاشية: 17 - 20) تجد أن المناسبة بين الإبل والسماء والجبال والأرض لا تتضح لك إلا بالتأمل وإطالة النظر؛ إذ عند التأمل تعرف أن أهل الوَبر تكون عنايتهم مصروفة إلى الإبل؛ حيث ينتفعون بها في جلّ معاشهم وانتفاعهم بها لا يحصل إلا بأن ترعى وتشرب، وذلك يكون بنزول المطر، فيكثر تقلب وجوههم في السماء، ثم لابد لهم من مأوى يتحصنون به، ولا شيء لهم

في ذلك كالجبال، ثم لا غنى لهم لتعذر طول مكثهم في منزل عن التنقل من أرضٍ إلى سواها، بهذا يتضح لك أن الإبل والسماء والجبال والأرض متناسبةً في ذهن البدوي وأخيلة أهل الوبر. كما أنه قد يتحد كل من المسند والمسند إليه ولا تجد مسوغًا للفصل على نحو ما ترى في قولك: انظر إلى غزارة علم عمرو، وانظر إلى هذا القطع في ثوبك، فمثل هاتين الجملتين لا يجمعهما سياق واحد، لا منفصلتين ولا موصولتين، على الرغم من اتحاد المسند والمسند إليه في كلٍّ منهما، وقد يختلف كلٌّ منهما في الجملتين وتوجد المناسبة المسوِّغة للوصل، على نحو ما ترى في قوله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} (يوسف: 88) فالمسندُ إليه فيهما الضر، وإخوة يوسف مختلفان لا تناسب بينهما، وكذلك المسندان المس والمجيء، وعلى الرغم من هذا وصلَ بين الجملتين لوجود المسوّغ للوصل وهو أن المسّ سببٌ في المجيء. وهذا -في حد ذاته- من محسنات الوصل؛ إذ من محسناته أن تتناسبَ الجملتان في الاسمية والفعلية، وفي المُضي والمضارعة، وفي الأمر والنهي، وفي الإطلاق والتقييد، انظر إلى قوله تعالى مثلًا: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13، 14) تجد تناسب الجملتين في الاسمية، ومنه قول الشاعر: أُسودٌ إذا ما أبدت الحرب نابها ... وفي سائر الدهر الغيوث المواطر ومن تناسبهما في المضي قوله تعالى: {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 26) وقول الشاعر: أعطيت حتى تركت الريح حاسرةً ... وجُدت حتى كأن الغيث لم يَجُد

ومن تناسبهما في المضارعة قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} (آل عمران: 26)، ومن تناسبهما في الأمر والنهي قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (الأعراف: 31)، وقوله عز وجل: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير} (لقمان: 17 - 19). ومن تناسبهما في التقييد قول الشاعر: دنوتَ تواضعًا وعلوت مجدًا ... فشاناك انحدارٌ وارتفاع وإنما يعد التناسب فيما ذُكر من محسنات الوصف: ما لم يدع داعٍ إلى المخالفة، فلو دعا داعٍ إلى المخالفة كان الحسن في تلك المخالفة التي دعا إليها هذا الداعي واقتضاها المقام، انظر مثلًا إلى قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (النساء: 142) فقد آثر التعبير بالمضارع {يُخَادِعُونَ}؛ ليفيد أن خداع المنافقين حادث متجدد وبالاسم {خَادِعُهُمْ}؛ ليفيد أن فعل الله ثابت ودائم في جميع الأحوال، وفي هذا زيادة في التنكيل والتعذيب، ومن ذلك قوله تعالى: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} (البقرة: 87) يقول الزمخشري في بيان السر البلاغي للمخالفة في الآية: "فإن قلتَ: هلا قيل: وفريقًا قتلتم؟ قلتُ: هو على وجهين؛ أن تراد الحال الماضية؛ لأن الأمر فظيع، فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب، وأن يُراد: وفريقًا تقتلونهم بعد؛ لأنكم تحومون حول قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- لولا أني أعصمه منكم". انتهى.

وبهذا يتضح لك أن المقام قد يقتضي عدم تناسب الجملتين فيما ذُكر، وعندئذ يكون الحسن فيما اقتضاه المقام ودعا إليه الحال. على أن ما ذكرناه آنفًا من أن الواو لما فيها من معنى المغايرة، فهي تؤذن بالاستقلال، يعني أن القائل عندما يقول: جاء زيد وغلامه يسعى بين يديه، قد أخبر إخبارين؛ أخبر بمجيء زيد ثم بحاله عند المجيء، وهذا من شأنه أن يُؤكد جملة الحال، وأن يفيد شدة لصوقها بصاحبها، أما إذا قال القائل: جاء زيدٌ غلامه يسعى بين يديه، فهو يُخبر خبرًا واحدًا؛ يخبر عن مجيءٍ هذه حاله وتلك هيئته، تأمل قول عبد القاهر: "وإذ قد عرفت هذا فاعلم أن كل جملة وقعت حالًا، ثم امتنعت من الواو؛ فذاك لأجل أنك عمدت إلى الفعل الواقع في صدرها، فضممته إلى الفعل الأول في إثباتٍ واحد، وكل جملة جاءت حالًا ثم اقتضت الواو، فذاك لأنك مستأنف بها خبرًا وغير قاصد إلى أن تضمها إلى الفعل الأول في الإثبات". تفسير هذا: أنك إذا قلت: جاءني زيدٌ يسرع، كان بمنزلة قولك: جاءني زيدٌ مسرعًا، في أنك تثبت مجيئًا فيه إسراعٌ، وتصل أحد المعنيين بالآخر، وتجعل الكلام خبرًا واحدًا، وتريد أن تقول: جاءني كذلك، وجاءني بهذه الهيئة. وإياك أن يلتبس عليك الأمر، تظن أن جملة الحال قد انفصلت بهذه الواو عن صاحبها، وتباعدت عنه، إن الأمر على عكس هذا؛ لأن هذه الواو قد قربت الحال من صاحبها وأبرزتها جلية واضحة شديدة الالتصاق به، مؤكدة الانتساب إليه، وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أن الجملة الحالية قد يجب اقترانها بالواو وقد يمتنع وقد يجوز، فإذا كانت الحال جملة فعلية فعلها مضارع مثبَت غير مقرون

بـ"قد" امتنع اقترانها بالواو، كما في قول الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 28) وقوله عز وجل: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} (المدثر: 6) وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الأنعام: 110) وقوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} (الليل: 17، 18)، أما ما جاء من نحو قول العرب: قمت وأصك عينه، وقول عنترة: علفتها عرضًا وأقتل قومها ... زعمًا لعمرو أبيك ليس بمزعم فقيل: إن ما في المثال شاذّ، وما في البيت إنما هو وما جاء على شاكلته ضرورة، وقيل: إنه على حذف المبتدأ والتقدير: قمت وأنا أصك، علقتها عرضًا وأنا أقتل، وهكذا، وإن كان المضارع مقرونًا بـ "قد" وجب اقتران الجملة بالواو، كما في قول الله تعالى: {وإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْم لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} (الصف: 5) وكقولك: لمَ لم تستعد وقد ترحل غدًا؟ وإن كان المضارع منفيًّا جاز أمران؛ اقتران الجملة بالواو وترك الواو، والمضارع المنفي يظل مضارعًا إذا كان النفي بغير لمْ ولمّا، أما المنفي بلم أو لما فهو ماضٍ معنى؛ لأن لمْ ولمّا يقلبانه إلى الماضي وهو أي المنفي بلمْ ولمّا، مما يجوز فيه الأمران أيضًا، فمما جاء بالواو قوله تعالى: {فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ} (يونس: 89) في قراءة من قرأ بتخفيف النون؛ أي: لا أخوّف به. وقولهم: يصيب ولا يدري، ويقول ولا يفعل، وهكذا، فـ "كان" في هذه الشواهد تامة بمعنى وجد، وقد اقترنت الجملة الحالية بالواو كما ترى وفعلها مضارع منفي، ومما جاء بغير الواو قوله: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} (المائدة: 84) وقوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (النساء: 75)، وكذلك إذا كانت الجملة

الحالية جملة فعلية فعلها ماضٍ لفظًا أو معنى، جاز الأمران أيضًا؛ اقترانها بالواو وعدم اقترانها، والماضي لفظًا لا يقع حالًا إلا وهو مقرون بـ"قد" ظاهرة أو مقدرة، والماضي معنى هو المضارع المنفي بلمْ أو لمّا، فمما جاء بالواو قوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} (آل عمران: 40) وقوله: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} (مريم: 8) ومما جاء فعلها ماضيًا معنى وقد اقترن بالواو أيضًا قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} (الأنعام: 93) وقوله: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (مريم: 20)، وإذا كانت جملة الحال اسمية فالأولى أن تأتي بالواو كقولك: جاء زيدٌ وعمرو أمامه، وأتاني وسيفه في يده، وكقول امرئ القيس: أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال وقد يأتي بدون الواو كقولك: كلمته فوهُ إلى فيّ، ورجع عوده على بدئه، فإن كان المبتدأ في الجملة الحالية ضميرَ صاحب الحال وجبت الواو، ولا تصلح جملة الحال بدونها البتة، كقولك: جاء زيد وهو راكب، ودخلت عليه وهو يُملي الحديث، فلا يجوز أن تقول: جاء زيد هو راكب، ولا دخلت عليه هو يملي الحديث، ومن ذلك قول الله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 22) وقوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (البقرة: 187) وإن كان الخبر في الجملة الحالية ظرفًا أو جارًّا ومجرورًا، وقُدّم على المبتدأ كثر فيها أن تجيء بغير الواو، كقولك: قَدِم المقاتل على كتفه سيف، وأقبل في يده سوط، ويقلّ مجيئها عندئذ بالواو، كقولك: جاء وعليه

ثوب، ومرّ وفي يده سيف، وقد جاءت في النظم الكريم بالواو وبدونها، كما في قوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} (الحجر: 4) وقوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} (الشعراء: 28). إلى هنا ينتهي حديثنا عن باب الفصل والوصل، وقد عرفنا كم كان له من أهمية جليلة في معرفة أسرار ووجوه الفصل بين الجمل والمفردات أو الوصل فيما بينها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدرس: 21 مبحث: الإيجاز، والمساواة، والإطناب.

الدرس: 21 مبحث: الإيجاز، والمساواة، والإطناب.

الإيجاز، وأنواعه

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي والعشرون (مبحث: الإيجاز، والمساواة، والإطناب) الإيجاز، وأنواعه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فأقول -وبالله التوفيق-: إنه من المعلوم أن لكل مقامٍ مقالا، والبلاغة -كما عرّفها البلاغيون- مطابقةُ الكلام لمقتضى الحال، فالحال قد تقتضي الإيجاز في القول وطي الكلمات، وعندئذ تكون البلاغة في أن يُوجز المتكلم ويختصر كلامه، وقد تقتضي الإطناب وإطالة القول، وعندئذ تكون البلاغة في الإسهاب وإشباع القول وإطالة الكلام؛ ولذلك قال أعرابية عندما سُئل عن البلاغة: البلاغة الإيجاز في غير عجز والإطناب في غير خطل، وسأل معاوية سحار العبدي: "ما تعدون البلاغة فيكم؟ فقال سُحار: الإيجاز، قال معاوية: وما الإيجاز؟ فأجاب: أن تجيب فلا تبطئ وتقول فلا تخطئ". كذا ذكره الجاحظ في (البيان والتبيين). وقال عبد الله بن المقفع: "البلاغةُ اسم جامع لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة؛ فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابًا، ومنها ما يكون شعرًا، ومنها ما يكون سجعًا وخطبًا، ومنها ما يكون رسائل؛ فعامة ما يكون في هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة، فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين فالإكثار في غير خطَل والإطالة في غير إملال، وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته، فقيل له: فإن ملّ السامع الإطالة التي ذكرت أنها حق ذلك الموقف؟ قال: إذا أعطيت كل مقام حقه، وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام، وأرضيت من يعرف حقوق الكلام- فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو؛ فإنه لا يُرضيهما شيء، وأما الجاهل فلست منه

وليس منك، ورضا جميع الناس شيء لا تناله، وقد كان يقال: رضا الناس شيء لا ينال"، كذا في (البيان والتبيين) للجاحظ. وقد امتدحوا الإيجاز كثيرا فقالوا: البلاغة إجاعة اللفظ وإشباع المعنى، البلاغة لمحةٌ دالة، البلاغة كلمةٌ تكشف عن البقية، ولعل السبب في هذا يرجع إلى أمية العرب، وإلى أنهم أمة صافية الذهن دقيقة الحس سريعة الفهم، والعربي تكفيه الإشارة وتغنيه اللمحة، وغير العربي يحتاج إلى الإطالة وإشباع القول، وبهذا علل الجاحظ إيجاز القرآن الكريم عند خطاب العرب والأعراب، والبسط والإطالة عند خطاب بني إسرائيل، يراجع في ذلك (الحيوان) للجاحظ. وبهذا يتضح لك أن للإيجاز مقامات تقتضيه ومواضع تلائمه، كالحكم والأمثال، كما أن للإطناب مقامات تقتضيه ومواضع تلائمه، كالمدح والفخر والوعظ، وما يحسن فيه الإيجاز لا يحسن فيه الإطناب، وكذلك ما يحسن فيه الإطناب لا يحسن فيه الإيجاز، وعبد القاهر وإن لم يعقد في كتابه (الدلائل) بابًا للإيجاز والإطناب والمساواة على طريقة البلاغيين بعده، إلا أن ذلك لا يمنع من القول بأنه الذي وضع اللبنات الأولى والأساس الأول لهذا الباب، فقد كرر القول عن الإيجاز والإطناب، كما عقد لإيجاز الحذف فصلًا مستقلًّا، وأشار في غير ما موضع لجمال الإيجاز، أما الإطناب فقد عرض لصور منه كالتكرار الذي تكلم عنه في باب التأكيد والإيضاح، وفي مواضع أخرى متفرقة، كما تحدّث عن البيان بعد الإبهام، وهذا يجعلنا نؤكد على أنه لم يغفل مكانة هذا الباب. ونبدأ بالإيجاز الذي عرفه البلاغيون: بأنه اندراج المعاني المتكاثرة تحت اللفظ القليل، أو عرض المعاني الكثيرة في ألفاظٍ قليلة مع الإبانة والإفصاح، ليسهل تعلقها بالذهن وتذكرها عند الحاجة إليها في المناسبات المختلفة،

وهو نوعان: إيجاز قِصَر وإيجاز حذف. فإيجاز القِصَر: هو الدلالة على المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة؛ أي تضمين العبارات القليلة القصيرة معانٍ كثيرة غزيرة، دون أن يكون في تراكيبها لفظٌ محذوف، كما في قول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) فقد جمع في هذه الآية الكريمة جميع مكارم الأخلاق؛ لأن في العفو الصفح والإغضاء ومسامحة من أساء والرفق في كل الأمور، وفي الأمر بالعرف صلة الأرحام ومنع اللسان عن الكذب والغيبة، وغض الطرف عن كل محرم والقيام بمتطلبات الدعوة إلى الله عز وجل، وفي الإعراض عن الجهال الصبرُ والحلم وكظم الغيظ؛ فهذه إذن ألفاظ قليلة وقد فاضت معانيها إلى الغاية، وزادت عن الحد إلى غير نهاية، ومن ذلك قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (الأعراف: 54) فقد دلت هذه الجملة من الآية الكريمة على استقصاء جميع الأشياء والشئون، حتى روي أن ابن عمر -رضي الله عنهما- قرأها فقال: "من بقي له شيء بعد هذا فليطلبه!! ". ومنه قول الله عز وجل: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} (الأنعام: 82)، فهذه الجملة يدخل تحتها كل أمر محبوب، وينتفي بها كل صنوف المكاره، ومنه قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} (التوبة: 41) فتلك ثلاث كلمات حوت معانٍ غزيرة؛ إذ شملت الأمر بالنفير العام للجهاد، وقطعت جميع الحُجج والذرائع المعوقة عن الجهاد، ومن ذلك قوله أيضًا: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: 31)، فقد دلت هذه الآية الكريمة على جميع ما أخرج من الأرض قوتًا ومتاعًا للناس والدواب؛ من عشب وشجر وحطب ولباس ونار وماء وغير ذلك، وانظر إلى قوله -عز من قائل- في وصف إنهاء الطوفان: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (هود: 44) فقد

قصت هذه الكلمات القصةَ مستوعبة؛ بحيث لم يخل بشيء منها بأوجز عبارة وأخصر قول. ومن المشهور في هذا الباب قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 179) إذ المراد به أن الإنسان إذا علم أنه متى قتل قُتل، كان ذلك داعيًا قويًّا له إلى أن يكف عن القتل ولا يُقدم عليه، فأوجب ذلك حياة الناس، ومن شواهد إيجاز القصر أيضًا قول الله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر: 18) أي: لا شفاعة ولا طاعة، فليس المراد نفي طاعة الشفيع بمعنى أن الشفيع يوجد ولكن لا يطاع، بل المراد أنه لا شفاعة أصلًا، وانظر إلى قول الشريف الرضي: مالوا إلى شعب الرحال وأسندوا ... ........... شعب الرحال: خشبها، إشارة إلى ركوبهم عليها ورحيلهم للقتال. أي للطعان إلى قلوب تخفق؛ أي تضطرب لفراق الأحبة، فإنه أراد أن يصف هؤلاء القوم بالشجاعة في أثناء وصفهم بالغرام، فعبّر عن ذلك بقوله: ............... وأسندوا ... أيدي الطعان إلى قلوب تخفق وإلى قول أبي تمام: وظلمتَ نفسك طالبًا إنصافها ... فعجبتُ من مظلومة لم تظلم أراد أكرهتها على تحمل الصعاب والمشاق، فأنصفتها بذلك؛ إذ أوجبت لها مجدًا عريقًا وذكرًا حسنًا، فصارت بهذا الصنيع مظلومةً لم تظلم، ومن ذلك قول الآخر: وإن هو لم يحمل عن النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل

فقد جمع في البيت الصفات الحميدة من شجاعة وسماحة ومروءة ونجدة وإغاثة ملهوف وغير ذلك؛ لأن هذه الصفات من ضيم النفس؛ إذ تجد بحملها مشقة وعناء، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أوتي جوامع الكلم، والكلام الجامع هو الذي تتكاثر معانيه وتقل ألفاظه، ومن جوامع كلمه -عليه الصلاة والسلام: ((لا ضرر ولا ضرار)) ((إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع)) ((إن الله لا يمل حتى تملوا)) ((المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وعودوا كل جسم ما اعتاد)) فتلك ألفاظ قليلة حوت معاني كثيرة، يطول بك القول لوصفها والإحاطة بها. ومن إيجاز الكُتاب ما كتبه عمرو بن مسعدة إلى المأمون بشأن رجل يهمه أمرَه إذ قال في كتابه: "كتابي هذا كتاب واثق لمن كتب إليه، معنيّ بمن كتب له، ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله". ولا يخفى عليك في كل ما ذكرنا ما تضمنته هذه العبارات الوجيزة، من معان غزيرة، صيغت في عبارات قليلة وألفاظ موجزة، وهذا هو شأن إيجاز القِصَر، الذي يجري مجرى الأمثال في الجمع بين الإيجاز والجمال والقوة. أما إيجاز الحذف فقد عرّفه البلاغيون: بأنه التعبير عن المعاني الكثيرة في عبارة قليلة، بحذف شيء من التركيب مع عدم الإخلال بتلك المعاني، ولابد في كل حذف من وجود أمرين: داعٍ يدعو إليه، وقرينة تدل على المحذوف وترشد إليه وتعيّنه، والمحذوف إما أن يكون جزء جملة أو كلمة أو جملة أو أكثر من جملة، فحذف جزء الكلمة، كما في قول الله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (مريم: 20) فالأصل: ولم أكن بغيًّا، فقد حذفت النون تخفيفًا، وقوله عز وجل: "ونادوا يا مالِ ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون" بقراءة من قرأ

بترخيم المنادى، والأصل: يا مالك، فحذفت الكاف؛ إشارة إلى ما هم فيه من ألم وعذاب وضيق وحزن، ومنه قول لبيد: دَرَس المَنَا بِمَتالع فأبان ... ..... أراد: درس المنازل. قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي أراد: يا أميمة، فحذف حرف النداء ورخّم المنادى فحذف منه التاء. أما حذف الكلمة فله صور كثيرة أهمها حذف الحروف، كحرف الهمزة مثلًا في قول الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} (محمد: 15) إذ المراد: أمثل الجنة التي وعد المتقون كمن هو خالد في النار؟ فحذفت الهمزة، وفي حذفها زيادة تصوير لعناد المعاندين ومكابرة المكابرين الذين يسوّون بين الحق والباطل، وبين من يتمسك بالبينة ومن يتبع هواه. ومنه قول الله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 22) إذ المراد: أوَتلك نعمة؟ وقوله كذلك: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} (البقرة: 124) أي: أوَمن ذريتي؟ فحذفت الهمزة في الموضعين، وهو كحذف "لا" النافية أيضًا، كما في قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} (يوسف: 85) أي: لا تفتأ تذكر، وكحذف حرف النداء كما في قول الله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} (يوسف: 29) إذ المراد: يا يوسف أعرض، فحذف حرف النداء.

ومن إيجاز حذف الكلمة: حذف المسند إليه أو المسند أو أحد متعلقات الفعل، كالمفعول والجار والمجرور والحال، إلى غير ذلك. ومما تحذف فيه الكلمة: المضاف، كما في قول الله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} (يوسف: 82) أي أهل القرية وأصحاب العير، فحذف المضاف في الموضعين، وحذفه يشير إلى شهرة السرقة وذيوعها، وكأنهم يريدون أن أمر سرقته قد اشتُهر وذاع، إلى حد أنك لو سألت الجمادات لأجابت، ولو سألت الحيوانات لنطقت وأخبرت، ومن ذلك قول الله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} (البقرة: 171)؛ إذ المراد: ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، فحُذف المضاف وهو داعي؛ رفعًا لشأنه وتنزيهًا له عن أن يقرن في اللفظ بهذا الذي ينعق بما لا يسمع، وأن يضاف إلى الذين كفروا، وحذف المضاف يقع كثيرًا في النظم الكريم، على نحو ما نرى في قول الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج: 78) أي في سبيل الله، {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (النساء: 160) أي تناول طيبات، {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (الأحزاب: 21) أي يرجو رحمة الله ونعيم اليوم الآخر، {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} (الإنسان: 10) أي من عذابه. وقد ظهرت هذه المضافات في الآية الكريمة: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء: 57) ومنه قوله عز وجل: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} (يوسف: 32) أي في مراودته. ومن مظاهر حذف الكلمة: حذف المضاف إليه كما في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} (الأعراف: 142) أي بعشر ليالٍ، وقوله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (الروم: 4) أي من قبل الغلب

ومن بعده. ومنه: حذف الموصوف، كما في قوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} (ص: 52) أي حورٌ قاصرات الطرف، وقوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} (مريم: 60) أي وعمل عملًا صالحًا، فاكتفى بالصفة عن الموصوف في الآيتين لذيوع الصفة وشهرتها. ومن ذلك: حذف الصفة كما في قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (الكهف: 79)؛ أي يأخذ كل سفينة صالحة بدليل قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} والحذف هنا يوحي بجبروت هذا الملك وإفساده وشدة ظلمه، فغصبه ليس قاصرا على الصالح من السفن، بل تجاوزه إلى غير الصالح، فغايته هو الغصب والاستيلاء. ومن ذلك: حذف القسم كما في قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} (الأحزاب: 60) أي: تالله لئن لم ينته، وقوله: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} (يوسف: 32) أي: والله لئن لم يفعل، فحذف القسم في الموضعين. ومن ذلك -غير أنه من قبيل حذف الجملة وإن كانت جزءا من كلام آخر- حذف جواب القسم كقوله تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (الفجر: 1 - 5) فقد حذف جواب القسم لوضوحه وبيانه، وتقديره: لتبعثن. وحذف جملة الشرط كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) وقوله: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} (مريم: 43) والتقدير: فإن تتبعوني يحببكم الله، وفإن تتبعني أهدك صراطًا سويّا.

ومنه حذف جواب الشرط كما في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (يس: 45) أي أعرضوا بدليل قوله بعده: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (يس: 46) وهذا الحذف يشير إلى أنه كان ينبغي لهم أن يستجيبوا ويقبلوا النصح فيحققوا التقوى، وما كان ينبغي لهم الإعراض والتولي، وكأن طيه من اللفظ ينبئ بضرورة التخلي عنه وإسقاطه من الأذهان والمسارعة إلى قبول الهداية والحق، ومن ذلك قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (الزمر: 73) والتقدير: حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها سعدوا وحصلوا على النعيم المقيم، الذي لا يحيط به الوصف. وبلاغة حذف الجواب هنا تكمن في أن النفس تذهب في تقدير الجواب المحذوف كل مذهب، وفي الدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف ولا تتسع له العبارة، وتأمّل ما وراء هذه الواو {وَفُتِحَتْ} من تكريم وتشريف لهؤلاء الذين اتقوا، فقد فُتحت لهم أبواب الجنة قبل أن يأتوها تكريمًا لهم وتعظيمًا لشأنهم، ثم انظر إلى وصف الذين كفروا: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (الزمر: 71) تجد أن {فُتِحَتْ} قد جاءت بدون واو، فهو جواب "إذا" ومجيئها بدون الواو يشير إلى شدة مواجهتهم بالعذاب، فأبواب جهنم مغلقة لا تفتح إلا عند وصولهم إليها {إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} حتى تواجههم بصنوف العذاب وألوان الآلام، أما أبواب الجنة فتفتّح قبل مجيء الذين اتقوا وتجهّز قبل وصولهم وتعد، تكريمًا لهم وتعظيما {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} (ص: 50).

ومنه قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (السجدة: 12) وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} (الأنعام: 27) والتقدير: أرأيت أمرًا عظيمًا، والتقدير: لرأيت أمرًا عظيمًا وشيئًا فظيعًا لا يحيط به الوصف، فقد حذف الجواب هنا قصدًا إلى إفادة التهويل والتفظيع، ومنه قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} (الرعد: 31) والتقدير: لو أن قرآنا أوتي تلك القوة الخارقة، لكان هذا القرآن، فحَذْف جواب لو هنا يشير إلى وضوحه وظهوره وانصراف الأذهان إليه، لمجرد التلفظ بجملة الشرط. ومما حذفت فيه الجملة: جواب الاستفهام، كما في قول الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (التوبة: 127) فحذف جواب الاستفهام وتقديره: لا يرانا من أحد، بدليل قوله: {ثُمَّ انْصَرَفُوا} لأنهم لم ينصرفوا إلا بعد تأكدهم من أنه لا أحد يراهم، والحذف هنا يشير إلى حذرهم ومبلغ حيطتهم، وكأن الجواب كان همسًا في الآذان وليس أصواتًا مسموعة. ومن حذف جزء الجملة: حذف الجملة المعطوفة على ما قبلها، كما في قول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} (الحديد: 10) أي: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن أنفق من بعده وقاتل، فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه. ومن حذف الجملة التامة التي تفيد معنى مستقلّا: قول الله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (البقرة: 60) والتقدير: فضرب فانفجرت، فحذفت جملة ضرب، وحذفها يشير إلى سرعة إجابة موسى -عليه السلام- وامتثاله لأمر ربه، ومنه قول الله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (الأنفال: 8) والمعنى:

فعل ما فعل من كسر قوة أهل الشرك ليحق الحق ويبطل الباطل، وقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 127) وحُذفت جملة الحال، والتقدير: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، وهما يقولان: ربنا تقبل منا، وهذا الحذف يصور لنا المشهد حيّا بارزًا مُشاهدًا، وكأنك تراه الآن وتشاهد إبراهيم وإسماعيل وهما يدعوان بهذا الدعاء، فكم في الانتقال هنا من الخبر إلى الدعاء من إعجاز فنيٍّ بارز، يكمن وراء طي جملة الحال. وقد يكون المحذوف من الكلام البليغ أكثر من جملة: كما في قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} (يوسف: 45، 46) والتقدير: فأرسلوني إلى يوسف لأستعبره الرؤيا، فأرسلوه إليه، فأتاه وقال له: يوسف أيها الصديق أفتنا، ومثله قول الله تعالى: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} (الفرقان: 36)، والتقدير: فآتيناهم فأبلغاهم الرسالة فكذبوهما فدمرناهم، ويكثر هذا الحذف في النظم القرآني ولا سيما في ميدان القصص؛ حيث يُستغنى عن التفصيلات الجزئية التي تُعرف من السياق وتفهم من قرائن الأحوال، ففي تخطيها وصول إلى العناصر الجوهرية في القصة وإبرازها جلية واضحة، وفي تخطيها أيضًا حثٌّ للمخاطب وتحريك لمشاعره وإثارة لذهنه؛ إذ يفهم تلك المشاهد المطوية ويقف عليها من خلال تأمله وتدبره أحداث القصة ووقوفه على سياقها وقرائن أحوالها. وهكذا يطال الحذف الكلمة والجملة غير التامة والجملة التامة، لكن لابد في حذف أيٍّ من قرينة تدل على المحذوف وترشد إليه وتعينه، وإلا كان الحذف عبثًا وضربًا من الهذيان؛ إذ يؤدي عندئذ إلى اللبس والإشكال وعدم فهم المراد، كما في قول الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق: 4)، فقد

المساواة والإطناب.

حذف خبر {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} لدلالة خبر {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} عليه وتعيينه له، والتقدير: واللائي لم يحضن، فعدتهن ثلاثة أشهر كذلك. ومن ذلك قول الله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (فاطر: 4)؛ حيث حذف جواب الشرط وتقديره: وإن يكذبون فاصبر، ودلت عليه القرينة اللفظية وهي {فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ}، فهذه الجملة ليست هي جواب الشرط وإنما هي علة لجواب الشرط المحذوف، وفيها تسلية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كي لا يحزن لإعراضهم وتكذيبهم. ومن ذلك قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} (الحديد: 10) فقد دل المذكور من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، على المحذوف، والتقدير: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن أنفق من بعده وقاتل. المساواة والإطناب وبعد الانتهاء من الكلام عن الإيجاز بأنواعه وأضربه، يأتي دور الكلام عن المساواة: وهي -على حد ما ذكر البلاغيون- تأدية المعنى المراد بعبارة مساوية له؛ بأن تكون الألفاظ على قدر المعاني، لا يزيد بعضها عن بعض ولا ينقص، وقد اتخذوا من متعارف الأوساط مقياسًا يقيسون عليه الكلام، فالكلام إذا قل عن متعارف الأوساط كان إيجازًا، وإذا زاد عنه كان إطنابًا، وإذا جاء على حد متعارف الأوساط فهو المساواة، وهو في باب البلاغة لا يُحمد ولا يُذم، واستشهدوا لها بنحو قوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (فاطر: 43) وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (الأنعام: 68) وقوله -صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات))، وقول طرفة بن العبد: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود

وقول زهير: ومهما يكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم هذا، ولم تسلم هذه الشواهد التي استشهد بها البلاغيون للمساواة؛ لأنك عند التأمل تجدها راجعة إما إلى الإيجاز أو إلى الإطناب، فمثلًا في الآية الأولى إذا رجعت إلى سياقها في النظم الكريم: {اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} (فاطر: 43) تراه قد وقعت تذييلا، والتذييل من أنواع الإطناب، كما أنها أسلوب قصر، والقصر من الإيجاز، وقول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} (الأنعام: 68) وكذا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات)) لا يخفى عليك رجوعهما إلى إيجاز القِصَر؛ لأن المعاني التي تكمن في الآية الكريمة والحديث الشريف معانٍ كثيرة غزيرة، وألفاظهما قليلة كما ترى، فهو من إيجاز القِصَر كما مر بنا، وتجد في الشطر الأول من بيت طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا إيجازًا بحذف الجار والمجرور، والتقدير: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا به. وفي بيت زهير تجد قوله: وإن خالها تخفى على الناس اعتراضًا بين الشرط وجوابه، وهكذا تستطيع أن ترجع ما استشهد به البلاغيون للمساواة إما إلى الإيجاز وإما إلى الإطناب، فالأَولى أن تُجعل المساواة قاصرة على كلام الأوساط؛ لأنها نادرة الوقوع في التعبيرات الجيدة والكلام البليغ، ولأن البلاغيين قد جعلوها خالية من جميع الاعتبارات البلاغية، وقالوا: إنها لا تُحمد ولا تُذم في باب البلاغة.

الذي يعنينا بعد الكلام عن الإيجاز "الإطناب"، وهو في اللغة: مصدر أطنب، يقال: أطنب في كلامه، إذا بالغ فيه وطول ذيوله، وفي عرف البلاغيين معناه: زيادة اللفظ على المعنى لفائدة، أو عرض المعنى في عبارة زائدة؛ بحيث تحقق الزيادة فائدة، كما في قول الله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (مريم: 4)، فقد أراد زكريا -عليه السلام- أن يخبر بكبره وتقدم سنه، فجعل الألفاظ زائدة على المعاني لفائدة، وهي إظهار ضعفه وتأكيد الوهن؛ لأنه لو قال: رب إني قد كبرت لأفاد ذلك الإخبار بتقدم العمر فقط، دون ظهور الضعف، إذ قد يكون مع تقدم سنه قويّا نشيطًا. ومن ذلك قول الله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (طه: 17، 18) فقد كان يكفي في الجواب أن يقول موسى -عليه السلام: عصا، ولكنه أطنب وفصّل، فأضاف العصا إليه وذكر وظائفها بعضها مفصلًّا: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي}، وبعضها مجملًا: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}، ولعله كان يطمع في أن يُسأل عن هذه المآرب فيجيب عنها، وبهذا يمتد الحديث ويطول؛ لأنه في مقام رب العزة سبحانه، وهو مقامٌ يحلو فيه الإطناب؛ لأنه مقام تعظيم وتشريف، فالزيادة في الجواب -كما ترى- تحققُ فائدة، فإذا لم تحقق الزيادة فائدة في الكلام كان تطويلًا أو حشوًا؛ وذلك أنها إذا كانت غير مُتعينة كالمترادفين مثلًا نحو: الكذب والمين، والنأي والبعد، وأقوى وأقفر، ونوم ونعاس، وحظ ونصيب- سُميت الزيادة تطويلًا، من ذلك ما جاء في قول عدي بن الرقاع: وقددت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذبًا ومينا

قددت: أي قطعت، والفاعل مستتر يعود إلى الزُّباء ملكة تدمر، والأديم: هو الجلد، والراهشان: عرقان في باطن الذراع، والضمير المضاف إليه يعود لجذيمة بن الأبرش ملك الحيرة وقصتهما مشهورة، فالكذب والمين بمعنى واحد، ولا يتغير المعنى بإسقاط أحدهما، وإذا كانت الزيادة متعينة سميت حشوًا، والحشو نوعان: حشو يفسد به المعنى، كقول المتنبي: ولا فضل فيها للشجاعة والندى ... وصبر الندى لولا لقاء شعوب فكلمة "الندى" في البيت حشو أفسد المعنى؛ إذ المراد لا فضل في الحياة للشجاعة والصبر والندى، لولا الموت واعتقاد الشجاع والصابر والجواد أنهم ملاقو الموت، وهذا صحيح بالنسبة للشجاعة والصبر، فاسد بالنسبة للندى؛ إذ الشجاع لو علم أنه مخلّد لن يصيبه الموت لكان إقدامه وشجاعته لا فضل فيهما؛ لأنه أقبل على البطولة وهو على يقين بأن الموت لن يصيبه، وكذا الصابر عندما يعلم أنه لن يموت يكون صبره لا فضل فيه، وإنما تظهر مزية الشجاعة والصبر عندما يعلم صاحبهما أن الموت أمامه، ثم يقبل أو يصبر فعندئذ يكون للإقدام مزية وللصبر فضل، أما الندى فتظهر مزيته ويبدو فضله إذا عَلم صاحبه أنه مخلد ولن يموت؛ لأن علمه بأن الموت لن يلقاه يدعوه إلى الإمساك وادخار المال كي ينتفع به؛ إذ هو مخلد، فإذا جاد به عندئذ ظهر لجوده فضل وبدت له مزية، أما إذا علم أن الموت أمامه وسيلقاه -لا محالة- فهذا يدعوه إلى البذل والعطاء، ولا فضل للندى عندئذ، أما الحشو الذي لا يفسد المعنى فهو كما في قول زهير، وقد مثّلوا به: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم

فكلمة "قبله" مستغنى عنها، فهو حشو، ولكن ذكرها لا يفسد المعنى، ومثله قول الآخر في رثاء أخٍ له: ذكرت أخي فعاودني ... صداع الرأس والوصب فلفظ "الرأس" في البيت حشو لا فائدة فيه؛ لأن الصداع لا يكون إلا في الرأس، وليس بمفسدٍ للمعنى، ومما تجدر الإشارة إليه أن الحكم بزيادة كلمة وعدم فائدتها تابع للمقام والحال التي قيلت في جوِّها الكلمة، أن تقطع بعدم الفائدة إلا إذا أحطت بالسياق وعرفت قرائن أحواله، وعندما تتأمل الأبيات التي استشهد بها البلاغيون للحشو غير المفسد- يتضح لك أن تلك الكلمات التي حكوا بزيادتها وحشوها قد أفادت معنى اقتضاه المقام، فتأمل مثلا عبارة: "دمعًا جرى من مقلة" في قول البوصيري: أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعًا جرى من مقلة بدم مع ما هو معلوم من أن الدمع لا يجري إلا من مقلة العين، فقوله: "من مقلة" حشو لا فائدة فيه، كذا قالوا، وكذا في قول الآخر: وأعلم علم اليوم والأمس قبله وقول الآخر: عاودني صداع الرأس تجد أن تلك الكلمات "مقلة، الرأس" قد أفادت تأكيدًا اقتضاه المقام، وهذا التأكيد لا يُفاد بطيها؛ ولذا لا نُوافق من قال: بأنها حشو ولا فائدة فيها، ونحن نقول: ذقته بفمي ورأيته بعيني وسمعته بأذني ووطئته بقدمي، ولا يقول أحدٌ: إن تلك الكلمات "بفمي، بعيني، بأذني، بقدمي" زائدة؛ لأنها أفادت تأكيدًا اقتضاه المقام، واقرأ إن شئت قول الله عز وجل: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ

صور الإطناب.

بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (النور: 15) تجد أن التلقي لا يكون إلا بالألسنة، والقول لا يكون إلا من الفم، ولا يقول قائل: إن هذه الألفاظ زائدة وليس وراءها فائدة؛ لأن المقام قد اقتضاها، والمعنى قد تطلبها. وبهذا يتضح لك أن الأمر يحتاج إلى مراجعة دقيقة للسياق، والوقوف على قرائن أحواله، فالنظرة السريعة العاجلة تجعلك تظن أن الكلمة زائدة ولا معنى لها في النظم، فهي حشو ولكن عند التأمل ومراجعة السياق مراجعة دقيقة واعية، يظهر لك أن المقام قد اقتضاها، وأن هناك معنى دقيقًا يكمن وراءها، ولو طويت لما أفيد ذلك المعنى. صور الإطناب هذا، ويقع الإطناب في الكلام على أنواع مختلفة؛ أهمها: الإيضاح بعد الإبهام، وهو أن يجمل المعنى ويبهم ثم يفصّل ويبين، فيبدو في صورتين مختلفتين، وعندئذ يقع في النفس أطيب موقع، ويتمكن لديها أفضل تمكّن؛ لأن المعنى إذا أُلقي على سبيل الإجمال والإبهام تطلعت النفس وتشوفت إلى معرفته على سبيل التفصيل والإيضاح، فعندما يأتي هذا التفصيل وذاك الإيضاح يكون أشدّ وقعًا وأقوى أثرًا؛ لأنه جاء والنفس عنه تبحث وإليه تتطلع، وهم يقولون: إن الشيء إذا نيل بعد طلب ومشقة وبحث وتنقيب يكون أوقع في النفس وأشد تأثيرًا، ويحدث لها بالوقوف عليه لذةً ومتعة.

من ذلك قول الله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} (الحجر: 66) فقد أبهمت الآية ما قُضي به إلى لوط -عليه السلام- {ذَلِكَ الْأَمْرَ} ثم فصلته وبينته {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} ففي الإبهام إثارة للمخاطب وتحريك لفكره، فيتطلع إلى إيضاح ما أبهم، وعندئذ يأتي الإيضاح، فيتقرر المعنى في ذهن المخاطب ويقع موقعه، وفي هذا تفخيم وتهويل للعذاب الذي حل بهم؛ لأنه ذُكر مرتين؛ مرة على طريق الإجمال والإبهام ومرة على طريق التفصيل والإيضاح، والشيء إذا ذُكر مرتين كان آكد في النفس وأشد تعلقًا والتصاقًا بالنفس، ومن ذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (الصف: 10، 11) فقد أجملت التجارة التي تنجي من العذاب ثم فُصلت بعد ذلك وبُينت. ومن صور الإطناب: ذكر الخاص بعد العام، أو العام بعد الخاص، فمن الأول قول الله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 4) فالروح وهو جبريل -عليه السلام- قد ذُكر مرتين؛ مرة مندرجًا تحت العام وهو الملائكة، ومرة وحده، وكأنه جنس آخر غير جنس الملائكة المعطوف عليهم، وهذا تكريم له وتعظيم لشأنه؛ ففي الآية إذن إطناب طريقه ذكر الخاص بعد العام، والغرض منه التنويه بشأن الخاص حيث يُذكر مرتين، ومن ذلك قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (البقرة: 238) فالصلاة الوسطى داخلة في عموم الصلوات، وقد خُصت بالذكر بعد العام تنبيهًا إلى مزيتها وزيادة فضلها.

ومن صور الإطناب أيضًا: التكرار، ويأتي لأغراض كثيرة؛ منها إبراز المعنى وتقريره في النفس، كما في قول الله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التكاثر: 3، 4) فقد أكد الإنذار بتكراره؛ ليكون أبلغ تحذيرًا وأشدّ تخويفًا، وفي العطف بالحرف "ثم" ما ينبئ بأن الإنذار الثاني أقوى وأشد من الإنذار الأول، ثم نزّل بُعد المرتبة منزلة البعد الزمني، فعطف بـ ثم، وفي هذا دلالة على التدرج في الارتقاء. ومنها: استمالة المخاطب وترغيبه في قبول النصح والإرشاد، كما في قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْم اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْم إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (غافر: 38، 39) ففي تكرار {يَا قَوْم} استمالة لأنفسهم، وترغيب لهم في قبول الحق والاهتداء، ووراء حرف النداء "يا" الموضوع لنداء البعيد تعظيم لهم وتشريف ورفع لمنزلتهم، وفي إضافة القوم إليه {يَا قَوْم} ما يبدد كل شك ويزيل كل ارتياب في نصحه وإخلاصه لهم. منها: التذكير بنعم الله التي لا تحصى ولا تعد، كما في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (الرحمن: 13). فقد ذكر -جل وعلا- نعمه نعمة بعد نعمة في هذه السورة وعقّب كل نعمة بهذا الاستفهام الذي يفيد التنبيه إلى نعمه الكثيرة والتذكير بها. فإن قيل: قد عقب بهذا الاستفهام ما ليس بنعمة كما في قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} (الرحمن: 35) وقوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} (الرحمن: 43، 44) قلت: العذاب وجهنم وإن لم يكونا من آلاء الله، فإن ذكرهما ووصفهما على طريق

الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات، يعد من الآلاء والنعم؛ لأن التحذير من المعصية والزجر عنها نعمة منه تعالى؛ إذ ينجم عن التحذير والزجر ابتعاد المؤمن عن المعاصي وعدم اقترابه منها، كذا ذكره القزويني في (الإيضاح). من أغراض التكرار أيضًا: المبالغة في التحذير والتنفير، كما في قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (المرسلات: 15) التي تكررت في سورة المرسلات عقب جملة من القصص والتذكير بنعمه تعالى؛ حيث أعقب كل قصة بهذا الوعيد: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}، وفي هذا ما فيه من التنفير والتحذير. ومنها: الحث على التذكر والتدبر وأخذ العظة والعبرة، كما في قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر: 17). ومنها: أن يكرر اللفظ لطول في الكلام، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل: 110). ومن صور الإطناب: الإيغال، وهو ختم الكلام شعرًا أو نثرًا بما يفيد فائدة يتم المعنى بدونه، كما في قول الخنساء: وإن صخرًا لتأتم الهداة به ... كأنه عَلم في رأسه نار فقولها: "في رأسه نار" إطناب؛ لأنها شبهت أخاها صخرًا بالعلم وهو الجبل المرتفع المعروف، ووجه الشبه هو الاهتداء في كلٍّ، وقد تم التشبيه عند قولها: "كأنه علم" فختمت البيت بما يفيد قوة المبالغة في التشبيه؛ إذ النار في رأس الجبل تزيده وضوحًا وانكشافًا، وهذا أدعى لتمام الهداية وكمالها.

ومن صور الإطناب أيضًا: التذييل، وهو تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها لإفادة التوكيد، فيختلف التذييل عن الإيغال: أن الإيغال يكون بالجملة وبغير الجملة، أما التذييل فلا يكون إلا بالجملة، والإيغال يفيد التوكيد وغيره من الأغراض التي يأتي لها، أما التذييل فهو للتوكيد خاصة، والتذييل كما هو معروف ضربان: تذييل يجري مجرى المثل، كما في قول الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء: 81) فقوله: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} تذييل أتى به لتأكيد الجملة قبله، وهو جارٍ مجرى المثل؛ بمعنى أن الجملة الثانية مستقلة بمعناها عن الجملة الأولى، وجارية على الألسنة كما تجري الأمثال التي كثر استعمالها وفشا، فهي لا تحتاج إلى إفادة معناها إلى الجملة السابقة. وهناك من التذييل ما لم يجرِ مجرى المثل، وهو ما لا يستقل معناه، بل يتوقف على ما قبله، كما في قول الله تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (سبأ: 16، 17) فقوله: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} تذييل غير جار مجرى المثل؛ لأن معناه لا يُفهم إلا بما قبله. ومن صور الإطناب أيضًا ما أسموه: بالتكميل، ويسمى أيضًا بـ الاحتراس، وهو أن يُؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفع ذلك التوهم، كما في قول طرفة بن العبد: فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي

فقوله: "غير مفسدها"، احتراس عن المطر الذي يسبب الخراب والدمار؛ لأن الديمة هي المطر المسترسل، وتهمي بمعنى: تسيل، والمطر إذا كثر وزاد عن حده سبب الخراب والدمار، فدفع الشاعر هذا التوهم بقوله: "غير مفسدها"، ومما جاء من هذا النوع في النظم الكريم قول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} (النساء: 95) فقوله جل وعلا: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} احتراس يدفع توهم أن القاعد بعذر داخل في مفهوم عدم الاستواء المذكور، ومثله قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} (النمل: 12) فقوله: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} احتراس من نحو البهق والبرص. هذا، ومن صور الإطناب أيضًا: التتميم، وهو أن يؤتى في كلام لا يوهم خلاف المقصود بفضلة، مثل المفعول أو الحال أو الجار والمجرور، ونحو ذلك مما ليس بجملة مستقلة، ولا ركن من أركان الكلام، وذلك لإفادة نكتة بلاغية كما في قول الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان: 8) وقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} (البقرة: 177) وقوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) فإن قوله عز من قائل: {عَلَى حُبِّهِ} {مِمَّا تُحِبُّونَ} فضلة، وتركها لا يجعل الكلام موهمًا خلاف المقصود، وقد أتي بها في النظم الكريم لنكتة بلاغية، وهي إفادة المبالغة في مدح هؤلاء الذين يُؤثرون على أنفسهم ويطعمون وينفقون مالًا قد أحبوه وطعامًا قد اشتهوه وأرادوه.

ومن ذلك أيضًا: الاعتراض، وهو أن يؤتى في أثناء الكلام الواحد أو بين كلامين متصلين في المعنى، بأن يكون ثانيهما تأكيدًا لأولهما، أو بيانًا له أو بدلًا أو معطوفًا بجملة أو أكثر، لا محل لها من الإعراب، لنكتة سوى دفع الإيهام، وذلك كالتنزيه في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} (النحل: 57) فجملة {سُبْحَانَهُ} جملة اعتراضية الغرض منها تنزيهه تعالى عن اتخاذ البنات، و"سبحان" جملة لأنها واقعة موقع المصدر الذي هو التنزيه، والمعنى: أنزهه تنزيهًا، وكالتعظيم في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} (الواقعة: 75 - 77) فقد اعتُرض بين القسم وجوابه بقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} وداخل هذا الاعتراض اعتراض آخر بين الصفة والموصوف، وهو {لَوْ تَعْلَمُونَ} وقد أريد بالاعتراضين تعظيم القسم وتفخيم أمره، وفي ذلك تعظيم للمقسم عليه وهو القرآن الكريم، وتنويه برفعة شأنه. ومما جاء في التعريض قول الشاعر: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان فالشاعر يخبر بتقدم سِنه وضعف سمعه، حتى صار يحتاج إلى من يسمعه القول، وجملة "وبلغتها" جملة معترضة أريد بها الدعاء للمخاطب بطول العمر، وإثارة عطفه على الشاعر. تلك هي أهم صور الإطناب. وبها ينتهي درسنا، وبانتهائه ننهي هذا المنهج المقرر عليكم هذا العام. مع خالص تمنياتي لكم بالنجاح، وبدوام التوفيق والسداد، أستودعكم الله دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

§1/1